You are on page 1of 59

‫المقدمة‬

‫‪1‬‬
‫مقدمة‪:‬‬

‫برز األدب العربي بشعراء وأدباء كثيرين‪ ،‬فال يكاُد يخلو ديوان شاعر أو عمل‬
‫أدبّي لكاتٍب أو روائّي من الرمز‪ ،‬لهذا أصبح هذا األخير أسلوبا فنًيا ليظهر مفهومه في‬
‫األدب‪ ،‬فُيخّص ص له دراسات ومقاالت وأبحاث خاصة‪ ،‬ويعود السبب في دراسته أّنها‬
‫تجعل الباحث يستنتج فكرة األديب ومقصده الحقيقي من وراء عمله األدبّي ‪ ،‬فيضيف في‬
‫األدب خصوصية معينة تختلف من شاعر آلخر‪ ،‬فيعود استخدامه إلى أّنه ثّم ة عالقة‬
‫طردّية بين الحالة النفسّية والشاعر أو األديب‪.‬‬

‫وبذلك تنوع األدب بأساليبه التعبيرية سواء أكان ذلك في الشعر أو النثر‪ ،‬وللرمز فاعلية‬
‫في القصائد القديمة كغيره من األساليب والصور البيانية كاالستعارة والتشبيه والكناية‪،‬‬
‫غير أنه لم يأخذ مكانته الحقة في قصائد الجاهلين‪.‬‬

‫ومع بداية القرن التاسع عشر أخذت الحياة األدبية طريقا أخر باستعمال الشعراء الرمز‬
‫للتعبير عن أالمهم وطموحاتهم ومتناقضات حياتهم‪ ،‬فكانت قصائدهم مشحونة به‪ .‬ويعد‬
‫توظيف ا لرمز من القضايا الجديدة التي عرفتها القصيدة المعاصرة‪ ،‬فهو من جهة يدل‬
‫على إظهار وتبيان قدرات الشاعر‪ ،‬وبراعته في توظيفها أو تفجيرها‪ ،‬ومن جهة أخرى‬
‫أوجد هذا الرمز نوعا من اإليقاع الداخلي للقصيدة في حد ذاتها وقد برز الكثير من‬
‫الشعراء الذين لجأوا إلى توظيف الرمز في شعرهم نذكر منهم الشاعر "محمود درويش"‬
‫الذي جعلنا منه عنوانا لبحثنا ‪ .‬وفي هذا البحث الذي بين أيدينا تطرقنا إلى دراسة الرمز‬
‫في" ديوان أوراق الزيتون" لـ "محمود درويش "‪ ،‬وقد سخرنا خطة بحث لتكون معلما لنا‬
‫تنير درب االنجاز في عالم الرمز ‪ .‬من أجل الوصول إلى الرمز في الشعر العربي‬
‫المعاصر ومن ثمة في شعر محمود درويش‪ ،‬حاولنا اإلجابة على جملة من التساؤالت‪:‬‬

‫‪2‬‬
‫ما هي تداعيات الرمز عند محمود درويش ؟‬

‫ما هي أساليبه المفصلة في أشعاره وفي ديوان أوراق الزيتون باألخص ؟‬

‫ولإلجابة على هذه التساؤالت قسمنا بحثنا إلى فصلين مسبوقين بالمقدمة‪ ،‬مقدمة ب‬
‫فالفصل األول‪ :‬شمل جانب نظري للموضوع الذي عنوانه‪ ":‬الرمز واستخدامه في الشعر‬
‫العربي المعاصر"‪ ،‬فقمنا بالتعريف بالكاتب محمود درويش وسيرته الشعرية مع أسلوبه‬
‫ومؤلفاته واألجدر بالذكر التعريف بالرمز لغة واصطالحا ‪ ،‬ثم الحديث عن أنواعه في‬
‫الشعر العربي المعاصر ‪ .‬أما الفصل الثاني ‪:‬فشمل الجانب التطبيقي الذي عنوانه ‪ :‬تجلي‬
‫الرمز في ديوان "أوراق الزيتون" لمحمود درويش تحدثنا عن تداعيات الرمز في شعر‬
‫محمود درويش‪ ،‬ثم عن إبداعية درويش في الرمز ‪ .‬لنختم رحلة بحثنا في عالم الرمز‬
‫بخاتمة جمعنا فيها ما تم كنا من الوصول إليه ‪ .‬وقد اشتمل بحثنا هذا على جملة من الكتب‬
‫وضحت لنا الرمز واستخداماته المختلفة ومن أهمها ‪ :‬كتاب "الغموض في الشعر العربي"‬
‫إلبراهيم رماني‪ ،‬كتاب" األدب المقارن" لمحمد غنيمي هالل‪ ،‬كتاب "اتجاهات والحركات‬
‫في الشعر العربي الحديث" سلمى الخضراء الجيوسي وغيرها من الكتب ‪ .‬وقد واجهتنا في‬
‫جمع مادة هذا العمل مجموعة من الصعوبات منها ما تعلق بقلة المراجع ومنها ما تعلق‬
‫بالموضوع في حد ذاته كونه موضوع يكتنفه الكثير من الغموض‪ ،‬وهو أحد قضايا الشعر‬
‫المعاصر مع إتباع المنهج التحليلي ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الفصل االول‪:‬الرمز واستخداماته في الشعر المعاصر‬

‫‪-‬التعريف بالشاعر محمود درويش‬

‫*سمات التجربة الشعرية لمحمود درويش‬

‫*سمات أسلوب محمود درويش‪.‬‬

‫*مؤلفاته‪.‬‬

‫*مفهوم الرمز‪-‬لغة‪.‬‬

‫‪-‬اصطالحا‪.‬‬

‫*أنواع الرمز‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫التعريف بالشاعر‪:‬‬
‫ول ــد محم ــود درويش في ‪13/03/1941‬في قري ــة الرب ــوة قض ــاء الجلي ــل‪ .‬نش ــأ في عائل ــة‬
‫تتكـ ــون من خمسـ ــة أوالد وثالث بنـ ــات ‪.‬في عـ ــام ‪1948‬م ‪ ,‬نـ ــزح درويش مـ ــع عائلتـ ــه الى‬
‫جنوب لبنان ‪ ,‬ثم عاد بعدها ليسكن في قريـة ديـر السـد حيث تلقى تعليمـه االبتـدائي ‪ ,‬وتعلم‬
‫مدة قصيرة في قرية البعنـة ‪ ,‬بعـدها اسـتقر يـف قريـة الجديـدة القريبـة من قريتـه الربـوة ‪ .‬ثم‬
‫تلقى درويش تعليمه الثانوي يف كفر ياسين ‪.‬‬

‫وبع ــدها عم ــل في الص ــحافة الش ــيوعية ومنه ــا عمل ــه مش ــرفا على تحري ــر مجل ــة الجدي ــد ‪.‬‬
‫اعتقــل عــدة مــرات وذلــك بســبب مواقفــه ونشــاطاته السياســية ‪ ,‬ثم تــرك البالد عــام ‪2010‬م‬
‫متوجه ــا الى موس ــكو في بعث ــة دراس ــية ‪ ,‬وع ــاد بع ــد ذل ــك الى مص ــر ثم الى لبن ــان ‪ .‬حيث‬
‫ت ــرأس مرك ــز األبح ــاث الفلس ــطينية‪ ,‬وش ــغل منص ــب رئيس تحري ــر مجل ــة ش ــؤون فلس ــطينية‪,‬‬
‫ورئيس رابطة الكتاب والصحفيين الفلسطينيين‪ ,‬في عام ‪1980‬م أسس مجلة الكرم الثقافية‬
‫في بيروت‬

‫‪ .‬كـان محمـود درويش مقربـا من منظمـة التحريـر الفلسـطينية الـتي انتخب فيهـا عـام عضـو‬
‫في اللجنة التنفيذية ‪ ,‬ثم مستشارا للرئيس ياسر عرفات‪.‬‬

‫درويش ‪:‬‬ ‫*السيرة الشعرية عند محمود‬

‫بدأ محمود درويش كتابة الشعر في المرحلة ابتدائية‪,‬و عرف بوصفه أحد أدباء المقاومة‪.‬‬
‫و ل ــدى درويش م ــا يزي ــد عن ث ــالث ديوان ـًا من الش ــعر والن ــثر باإلض ــافة إلى ثماني ــة كتب‪ ,‬و‬
‫ترجم شعره إلى عدة لغات‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫حيث ب ـ ــدأ درويش مس ـ ــيرته الش ـ ــعرية رس ـ ــميًا ع ـ ــام‪1960‬م بص ـ ــدور مجموعت ـ ــه الش ـ ــعرية‬
‫عصافيري بال أجنحة امتزج فيها المحور الوطني بالمحور الرومانسي‪ ,‬ثم كــان االنعطــاف‬
‫واضــحًا في مجموعتــه الثانيــة أوراق الزيتــون عــام‪ 1964‬م الــتي اهتم فيهــا بالجــانب الجميــل‬
‫على حساب الجانب المضمون‪,‬‬

‫كمــا حــاول الفصــل بين المشــروع الجميــل وبين مصــطلح شــاعر المقاومــة لقــد تجــاوزت‬
‫التجرب ــة الش ــعرية ل ــدى محم ــود درويش أربعين عامـ ـًا‪ ,‬وه ــذا ب ــدوره يق ــو دن ــا الى التط ــور‬
‫الحاصــل في شــعريته‪ ,‬من خالل األحــداث الــتي عاشــها والنضــج الحاصــل لديــه‪ .‬قسـم النقــاد‬
‫المراح ــل الش ــعرية ل ــدرويش إلى ع ــدة أقس ــام تجم ــع بينه ــا عالق ــة الش ــاعر بوطن ــه وبقض ــيته‬
‫القضــية الفلســطينية وبــالمنفى وتــرك الــديار وكــل ذلــك يــف ظــل عالقتــه بالــذات‪ .‬وقــد قســم‬
‫محمد الجزار شعر در ويش إلى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫المرحلـ ــة األولى ‪ :‬وهي مرحلـ ــة تواجـ ــده في الـ ــوطن‪ ,‬الـ ــتي تشـ ــمل بـ ــدايات تكـ ــوين وعي‬
‫درويش بقضية وطنه وتشكيل انتمائه لهذا الوطن في ظل االحتالل ‪.‬‬

‫أم ــا المرحل ــة الثاني ــة‪ :‬فهي مرحل ــة ال ــوعي الث ــوري وال ــتي امت ــدت إلى ع ــام ‪1982‬م حيث‬
‫الخــروج من بــيروت وفيهــا تم تنظيم مشــاعر درويش الجمعيــة الــتي كــانت قــد تكــونت لديــه‬
‫في المرحلة األولى ‪.‬‬

‫أما المرحلة الثالثة ‪ :‬فهي مرحلة الوعي الممكن والحلم الممكن‪.‬‬

‫*ِس مات الّتجربة الِّش عرّية ‪:‬‬

‫تنّقل ِش عر محمــود درويش في مراحــل تدريجّي ة حّتى وصــل ذروتــه األدبّي ة‪ ،‬فكــانت بدايتــه‬
‫الِّش عرّية مصــحوبة بالبســاطة‪ ،‬ســواء في المعــاني أم األفكــار المحــدودة‪ ،‬أم حّتى في تعبــيره‬
‫الفنّي الُم باشر الذي رافقه الّتصـوير الشـعرّي الّتقليـدّي ‪ ،‬ومن الجـدير بالـِّذ كر أّن درويشـًا كـان‬

‫‪6‬‬
‫ِش‬
‫ُم تــأثّر ًا بأشــعار من َقبلــه‪ ،‬مثــل شــعر عمــر بن أبي ربيعــة‪ ،‬والُم تنــبي في عر الُم فــاخرة‪ ،‬ثّم‬
‫انتقــل إلى مرحلــة ناضــجة فنّي ًا‪ ،‬إذ أصــبحت أشــعاره تميــل إلى كونهــا أكــثر ِر ّق ة؛ وذلــك إث ـَر‬
‫تأُثره بُش عراء الحركة الّر ومانسّية‪ ،‬مثل‪ :‬علي محمود طه‪ ،‬وإ براهيم نــاجي‪ ،‬وغيرهمــا‪ .‬وفي‬
‫آخـر سـنوات حياتــه كــان لــدرويش تحـّو ل آخـر في ِش عره‪َ ،‬فَع مــد إلى الجمــال األّخ اذ والُم بـدع‬
‫في ِش عره‪ ،‬فكان للُحّب حيز واضح في ِش عره‪ ،‬إاّل أّن ه اسـتخدمه كُم فـردة عاّم ة وشـاملة فيـه‪،‬‬
‫باإلضافة إلى أّنه ربطه ربطًا وثيقـًا بقضـّية وطنـه‪ ،‬لـذلك َو َص ف الُحّب بأّن ه طريـق محفـوف‬
‫بالّش وك ُم شيرًا بذلك إلى الّنضال‪.‬‬

‫ش ــهد لتطـ ـّو ر ِش عر محم ــود درويش الك ــاتب عميش الع ــربّي في كتاب ــه "القيم الجمالّي ة في‬
‫شـ ــعر درويش"‪ ،‬فقـ ــال فيـ ــه‪" :‬فقـ ــد سـ ــاقت ضـ ــرورة الّتجـ ــاوب مـ ــع الواقـ ــع المفـ ــروض بـ ــوادر‬
‫االستعداد لتدّر ج الُّر ؤية الِّش عرّية الّد رويشّية نحو االكتمال الفنّي ‪ ،‬مما يحول له َتَبُّو ء الّس معة‬
‫اّلالئقة به بين أعالم الِّش عر العربّي الُم عاصر‪.‬‬

‫لذا ُع ّد ِش عر محمــود درويش أنموذجـًا ِم ثالّي ًا للّش اعر العــربّي خاّص ة في تّط وره على مــدى‬
‫مراحــل حياتــه‪ ،‬ومن األمــور الــتي ســاهمت في ُنمــو ِش عره قض ـّية وطنــه كــذلك مــا ُيواجهــه‬
‫العصــر من اختالفــات في القيم‪ ،‬واألنظمــة‪ ،‬والمــوازين‪ ،‬باإلضــافة إلى حــال اإلنســان الجديــد‬
‫الذي ال ُيدرك قيم العدل‪ ،‬والُح رّية‪ ،‬والحّق ‪ ،‬واالستقرار‪ ،‬وإ ضاعته طريقه الّص حيح وفقدانــه‬
‫لقيم ــه‪ ،‬وُيمكن تقس ــيم المراح ــل االنتقالّي ة لِش عر محم ــود درويش ال ــتي م ـّر فيه ــا على الّنح ــو‬
‫الّتالي‪:‬‬

‫‪ -‬المرحلة الّر ومانسّية‪ :‬كانت ُم تمّثلة في مرحلة الّس تينّيات‪.‬‬

‫‪-‬المرحلة اإلنسانّية‪ :‬كانت ُم تمّثلة في مرحلة الّس بعينّيات‪.‬‬

‫‪-‬المرحلة الُو جودّية والفلسفّية‪ :‬كانت قد بدأت من الّثمانينّيات وحّتى نهايته‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫*سمات أسلوب وُلغة محمود درويش‬

‫تتمّيز قصائد محمود درويش باحتوائها على الّد الالت الكثيفة والُم بهمة التي ال يستطيع‬
‫القارئ فهم المعنى الُم راد منها سريعًا إاّل بعد الّتمحيص الذي يسبقه ُم عاناة في تأويل‬
‫المعنى‪ ،‬ثّم الّتفاعل مع أشعاره تفاعًال جّيدًا ُيفضي إلى الّد خول إلى تفاصيل حياته‪،‬‬
‫والخوض في األحداث الُم ترابطة التي ُيعّبر عنها في ِش عره‪ ،‬ثّم الُو قوف على الُبنية‬

‫الخارجّية له تحت مظّلة "المعنى والمبنى"‪ ،‬ثّم "المعنى‪ ،‬والمعنى الُم راد من المعنى"؛ ألّن‬
‫درويش كان يبتعد كّل البعد عن إظهار الُم فردات إظهارًا تسهل معه معرفته أبيات ِش عرّية‬
‫لمحمود درويش من قصيدة أِح ُّن إلى ُخ بز ُأّم ي‪:‬‬

‫أِح ّن إلى خبز أّم ي‬

‫و قهوة أّم ي‬

‫و لمسة أّم ي‬

‫و تكبر في الّطفولة يومًا على صدر أمي‬

‫وأعشق عمري ألّني إذا مّت ‪ ،‬أخجل من دمع أمي!‬

‫من قصيدة أّيام الُحّب الّس بعة‪:‬‬

‫االثنين‪ :‬موشح أمُّر باسمك‪،‬‬

‫إذ أخلو إلى نفسي كما يمُّر دمشقّي بأندُلس‬

‫هنا أضاء لك اُلليمون ملح دمي‬

‫‪8‬‬
‫وهاُهنا وقعت ريح عن الفرس أمُّر باسمك‪،‬‬

‫ال جيش ُيحاِص رني وال بالد‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كأّني آخر الحرس أو شاعر يتمّش ى في هواجسه‬

‫*مؤلفات محمود درويش‪:‬‬

‫ارتبــط محمــود درويش بالشــعر منــذ بدايــة نشــأته‪ ،‬فكتب األشــعار في مقاومــة االحتالل حّتى‬
‫أصـبح شـاعر المقاومـة الفلسـطينية دون منـازع‪ ،‬كتب الشـعر والنـثر‪ ،‬ولـه عـدد من الـدواوين‬
‫الشعرية التي تغّز ل فيها بالوطن‪.‬‬

‫‪-‬ومن مؤلفاته‪:‬‬

‫‪-‬عصافير بال أجنحة‪ :‬وهو الديوان األول لمحمود درويش‪ ،‬تّم نشُر ه عام ‪1960‬م‪ ،‬وهــو لم‬
‫‪2‬‬
‫يتجاوز حين ذاك العشرين عاًم ا‪.‬‬

‫‪-‬ذاكـ ــرة النسـ ــيان‪ :‬أحـ ــد مؤلفـ ــات محمـ ــود درويش الـ ــتي كتبهـ ــا أثنـ ــاء حصـ ــار بـ ــيروت عـ ــام‬
‫‪1982‬م‪ ،‬وقد كتب هذا الديوان بأسـلوب سـردي شـعري قصصـي‪ ،‬ويعـّد وصـًفا أدبًّي ا تحليلًّي ا‬
‫لما جرى في بيروت ذلك اليوم‪.‬‬

‫‪-‬كزهر اللوز أو أبعد‪ :‬استطاع محمود درويش في هذا الــديوان أن يتالعَب باللغــة ويمنَح هــا‬
‫مزيًد ا من األناقة والجاذبّية‪ ،‬فقد سأل الشعر بأسلوب بالغي وتمّر د على الصــورة والمعــنى‪،‬‬
‫‪3‬‬
‫ولم يستخدم المعاني الممّلة المتعاَر ف عليها والمكّر رة‪ ،‬تّم نشره ألّو ل مرة عام ‪2003‬م‪.‬‬

‫وعاد في كفن"‪ ،http://www.adab.com ،‬اّطلع عليه بتاريخ ‪.2019-5-15‬‬ ‫‪1‬‬

‫ورد أكثر"‪ ،www.abjjad.com ،‬اّطلع عليه بتاريخ ‪ .2019-5-11‬بتصّر ف‪.‬‬ ‫‪2‬‬

‫"هكذا قالت الشجرة المهملة"‪ ،www.adab.com ،‬اّطلع عليه بتاريخ ‪.2019-5-15‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪9‬‬
‫‪-‬يوميات الحزن العادي‪ :‬أحد مؤلفات محمود درويش‪ ،‬وهو كتاب ُيَص ّنف مــع كتب السـيرة‬
‫الذاتيــة كتب فيــه محمــود درويش ذكريــات طفولتــه الــتي عاشــها في فلســطين قبــل التهجــير‪،‬‬
‫والــتي تتســم بــالحزن بســبب مــا يكابــده الشــعب الفلســطيني من أفعــال االحتالل الشــرس‪ ،‬حــتى‬
‫أصبحت حياته روايًة من القهر والحزن‪ ،‬تّم نشُر ه ألول مرة عام ‪1973‬م‪.‬‬

‫‪-‬أثــر الفراشــة‪ :‬يحــوي الكتب بعًض ا من يومّي ات محمــود درويش كتبت بين صــيف ‪2006‬‬
‫وصــيف ‪2007‬م‪ ،‬وفي الكتــاب عــدد من النصــوص الشــعرّية تتحـّد ث عن األحالم اإلنســانّية‪،‬‬
‫وأحالم محمود درويش خاّص ة التي لم تكن كباقي األحالم‪ ،‬إّنها أحالم مثقلة بــالواقع المريــر‬
‫وأسيرة القضية والخوف والحزن والقلق‪ ،‬تّم نشره عام ‪2007‬م‪.‬‬

‫‪-‬حالـ ــة حصـ ــار‪ :‬في هـ ــذا الـ ــديوان خـ ــاَطَب درويش الحرّي ة والحب‪ ،‬واسـ ــتخدم لـ ــذلك لغَت ه‬
‫الخاصة المليئة باألحاسيس التي صاغها بناء على ما مَّر بـه في حياتـه‪ ،‬تّم نشـُر ه ألّو ل مـّر ة‬
‫عام ‪2002‬م‪.‬‬

‫‪ -‬لم ـ ــاذا ت ـ ــركت الحص ـ ــان وحيـ ـ ـًد ا‪ :‬في ه ـ ــذه المجموع ـ ــة الش ـ ــعرّية َي ذكر درويش المك ـ ــان‬
‫والجغرافيــا والتــاريخ وكيــف أّنهــا محّط ات للجســد والــروح‪ ،‬وهــو عبــارة عن ســيرة ذاتيــة في‬
‫صيغة ملحمّية‪ُ ،‬نشر ألّو ل مرة عام ‪1995‬م‪.‬‬

‫‪-‬حيرة العائد‪ :‬في هذا الكتاب يوجُد مقاالت كتبها درويش في مناسـبات متعـّد دة‪ ،‬وذكـر فيهـا‬
‫شخصـّيات عديــدة مثــل‪ :‬فــدوى طوقــان ونــزار قبــاني وإ ميــل حبيــبي وغــيرهم‪ ،‬تم نشــره ألول‬
‫مرة عام ‪2007‬م‪.‬‬

‫ورد أكثر كتاب يجمع قصائد محمود درويش ومقاالته‪ ،‬منذ بداياته حّتى آخر ديــوان نشــره‪،‬‬
‫ويبّين عالقته بوطنه وعروبته ويبّين التجربة اإلبداعّية للشاعر‪.‬‬

‫‪-‬ال أريد لهذه القصيدة أن تنتهي‪ :‬وهو الــديوان األخـير للشـاعر محمــود درويش‪ ،‬وقـد قّس مه‬
‫إلى ثالثــة أقســام‪ :‬القســم األول بعنــوان العب الــنرد والقســم الثــاني لم َيْح ت ـِو إال على قصــيدة‬

‫‪10‬‬
‫"ألريد لهذه القصيدة أن تنتهي" وُيرّج ح أّنها آِخ ُر مؤلفات محمــود درويش زمانًّي ا‪ ،‬أمــا القســم‬
‫الث ــالث فيضـ ـّم مجموع ــة من القص ــائد ل ــدرويش وقص ــيدتْي ن‪ ،‬واح ــدة ل ــنزار قب ــاني واألخ ــرى‬
‫إلميل حبيبي‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫مفهوم الرمز‬

‫تعريف‪:‬‬

‫أ‪ /‬لغة‪:‬‬

‫جاء في لسان العرب "البن منظور " أن الرمز تصويت حفي باللسان كالهمس‬
‫وتحري ــك الش ــفتين‪ ،‬بكالم غ ــير مفه ــوم باللف ــظ من غ ــير إبان ــة بالص ــوت‪ ،‬وإ نم ــا ه ــو إش ــارة‬
‫بالشــفتين‪ ،‬وقيــل الرمــز إشــارة وإ يمــاء بــالعين‪ ،‬والحــاجبين‪ ،‬والفم والشــفتين والرمــز في اللغــة‬
‫كل ما أشرنا إليه مما بيان بلقط بأي شيء أشرت إليه بيد وبعين ورمز يرمز رمزا‪.1‬‬

‫وقــد ورد لف ــظ الرم ــز في الق ــرآن الك ــريم بص ــيغة المص ــدر في مع ــرض الحــديث عن‬
‫قصــة ســيدنا زكريــا عليــه الســالم في قولــه تعــالى "قــال ربي اجعلــني أيــة قــال آيتــك أال تكلم‬
‫الناس ثالثة أيام إال رمزا وأذكر ربك كثيرا وسبح بالعشي واإلبكار‪ "2 .‬أي إشــارة بنحــو يــد‬
‫ورأسه وأصله التحرك‪ ،‬وربما أطلق الرمز على ما يشير إلى شيء أخر‪.‬‬

‫ب‪ /‬اصطالحا‪:‬‬

‫يعت ــبر الرم ــز من بين المف ــاهيم ال ــتي يش ــترك فيه ــا أك ــثر من مج ــال وأك ــثر من علم‪،‬‬
‫ولهذا جاءت تعريفات مختلفة له حسـب توجهــات أصــحابها‪ ،‬سـواء كــانت في المجـال العلمي‬
‫والمجال األدبي ويعـرف "قدامـة بن جعفـر" الرمـز قـائال‪":‬الرمـز هـو أخفى من الكالم وأصـله‬
‫الص ــوت الخفي ال ــذي ال يك ــاد يفهم عن ــد كاف ــة الن ــاس ويض ــيف ق ــائال ‪":‬أن المتكلم يس ــتعمل‬
‫الرمــز في كالمــه عمــا يريــد طيــه عن جميــع النــاس واإلفضــاء بــه بعضــهم‪،‬فيجعــل للكلمــة أو‬
‫الحرف اسما من أسماء الطير أو الوحش أو سائر األجناس‪.‬‬

‫أبوالفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور اإلغريقي‪ ،‬لسان العرب‪ ،‬م‪،5‬دار الصادر‪ ،‬ط‪،4‬بيروت‪،2005‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪. 223 -222‬‬

‫‪2‬ا لقران الكريم _سورة آل عمران‪ ،‬اآلية ‪.41‬‬

‫‪12‬‬
‫ف ــالرمز هوتعم ــد اس ــتخدام وكلم ــة وعب ــارة لت ــدل علي ش ــيء أخ ــر وبص ــفته ركن من أرك ــان‬
‫الثالثية (رمز _إيقونة _إشارة )التي طرحها" شارل سان درس بيرس "في تصــوره للعالمــة‬
‫تدل على موضوعها المجرد الواضع دون أن تكون هناك عالقة شبه ومجاورة‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كما هي مع تسمية اإليقونة والشاهد ‪.‬‬

‫مفهـ ــوم الرمز في األدب هو اإليحاء‪ ،‬أْي التعبير غ ير المباش ر عن الن واحي النفس ّية‬
‫المستترة‪ ،‬أّما الرمزية فهي أن توحَي بأفكاٍر أو عواطف باستعمال كلم ات خاّص ة في نظ ام‬
‫دقيق لنق ل المع نى بت أثير خفّي أو غ امض‪ ،‬بحيث ينطل ق المع نى في آف اق واس عة ج ًد ا‪،‬‬
‫فالرمزية هي التعب ير عن األفك ار والعواط ف‪ ،‬ولكن بطريق ة غ ير مباش رة‪ ،‬إّن م ا بواس طة‬
‫وض ع توقع ات لماهية األفك ار والعواط ف‪ ،‬وذل ك بإنعاش ها في عق ل الق ارئ من خالل‬
‫االستعمال الرمزي غير الواضح لها‪.2‬‬
‫و لفظ الرمز هنا كما شرحه األستاذ حمد حسن محصي بمعنى أن تعج ز عن تكليمهم بغ ير‬
‫‪3‬‬
‫علة فتتفاهم معهم إال باإليماء و االشارة‪.‬‬

‫وقــد تفطن أرســطو لهــذه النقطــة فعمــد إلى تقســيمه " ذلــك التقســيم الــذي رد الرمــز إلى ثالثــة‬
‫مســتويات رئيســية الرمــز النظــري والنطقي وهــو الــذي يتجــه بواســطة العالقــة الرمزيــة إلى‬
‫المعرفة والرمز العلمي وهو الذي يعني الفعل‪ ،‬والرمز الشعري والجمالي وهــو الــذي يعــني‬
‫‪4‬‬
‫حالة باطنية معقدة من األحوال النفس وموقفا عاطفيا أوجدانيا‪.‬‬

‫‪-‬نسيمة بوصالح‪ ،‬تجلي الرمز في الشعر الجزائري المعاصر‪ ،‬رابطة إيداع الثقافة الوطنية‪ ،‬الجزائر ‪ ، 2003‬ص‬ ‫‪1‬‬

‫‪. 70_71‬‬
‫سيب النشاوي (‪ ،)1984‬مدخل إلى دراسة المدارس األدبية في الشعر العربي المعاصر (الطبعة األولى)‪ ،‬الجزائر‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫ديوان المطبوعات الجامعية‪ ،‬صفحة ‪ .461-460‬بتصّر ف‪.‬‬


‫املصحف الشريف مع أسباب النزول و فهرس املواضيع و األلفاظ ‪ ،‬حتقيق حممد حسن محصي‪،‬طبع دار‬ ‫‪3‬‬

‫اهلدى‪،‬عني مليلة اجلزائر ص ‪55‬‬


‫عاطف حمد ديب شعبو في النقد الفكر األسطوري والرمزي المؤسسة الحديثة للكتابة لبنان ‪،2006‬ص‪3:‬ودت نصر‪،‬‬ ‫‪4‬‬

‫الرمز الشعري عند الصوفية‪ ،‬دار األندلس ودار الكندي‪ ،‬بيروت ‪،1978‬ص‪. 19:‬‬

‫‪13‬‬
‫ومن بين التعريفــات الــتي تحــدد الرمــز في مجالــه العــام مــا جــاء في "معجم أكســفورد ""على‬
‫أنــه مــا يــدل على شــيء غــير ذاتــه‪ ،‬أو على شــيء مكمــل لذاتــه أي أنــه يمثــل أشــياء خارجــة‬
‫عنه‪ ،‬ويصورها شـريطة أن يكـون هـذه األشـياء مرتبطـة بـالرمز ذاتـه بطريقـة مالئمـة ودون‬
‫‪1‬‬
‫تعسف" ‪.‬‬

‫وهنا تكون العالقة بين الرمز والمرموز إليــه محــددة وواضــحة وبســيطة‪ ،‬ومصــطلحا‬
‫عليهــا كداللــة اللــون األسـود على الحـداد عنــد بعض الشـعوب‪ .‬ومن بين التعريفــات أيضــا مــا‬
‫جــاء في معجم المصــطلحات العربيــة في اللغــة واألدب على أنــه "كــل مــا يحــل محــل شــيء‬
‫آخــر في الداللــة عليهــا ال بطريــق المطابقــة التامــة وإ نمــا باإليحــاء‪ ،‬وبوجــود عالقــة عرضــية‬
‫متعارف عليها‪ ،‬وعادة ما يكون الرمز بهذا المعني ملموسـا‪ ،‬يحـل محـل المجـرد كـالرموز‬
‫الرياضة مثال تشير إلى أعداد ذهنية "‪. 2‬‬

‫والحمامــة وغصــن الزيتــون رمــزا للســالم‪ ،‬وللرمــز إذا تعريفــات متعــددة‪ ،‬غــير أن مــا‬
‫يهم في هــذه الدراســة هــو الرمــز األدبي بصــفة عامــة‪ ،‬والرمــز الشــعري بصــفة خاصــة‪ ،‬فهــو‬
‫مقابل لإلشارة‪ ،‬إذ يكون مجددا وذا معنا مصطلحا عليه يحيـل إلى وجـود عالقـة بين الشـيء‬
‫والرمز وأن يكون تجريديا عقليا كما والحال في الرموز الرياضية وغيرها‪.‬‬

‫تصــدي الكثــير من األدبــاء والدارســين لتحديــد معــنى الرمــز المنظــور األدبي‪ ،‬فعرفــه"‬
‫بــول فــبرلين بقولــه‪ " :‬إن الرمــز فن التعبــير عن األفكــار والعواطــف " ليس بوصــفها مباشــرة‬
‫وال بتعريفهــا من خالل مقارنــات أو تشــبيهات مفتوحــة وواضــحة بصــورة محسوســة‪ ،‬ولكن‬
‫باقتراح مـا هي هـذه األفكـار والعواطـف بإعـادة خلقهـا في ذهن القـارئ من خالل اسـتخدام‬
‫‪3‬‬
‫الرموز "‪.‬‬

‫ا حمد ديب شعبوفي النقد الفكر األسطوري والرمزي المؤسسة الحديثة للكتابة لبنان ‪،2006‬ص‪. 3:‬‬ ‫‪1‬‬

‫مجدي وهبة وكامل المهندس‪ ،‬مصطلحات العربية في اللغة واالدب‪ ،‬ط‪،2‬بيروت‪، 1984،‬ص‪. 181:‬‬ ‫‪2‬‬

‫رجاء عيد‪ ،‬لغة الشعر‪ ،‬قراءة في الشعر المعاصر‪ ،‬دار منشاة المعارف االسكندرية ‪2007‬م‪ ،‬ص‪. 192:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪14‬‬
‫ومن خالل تعريف" فيرلين" هذا بين لنا‪ ":‬إن الرمــز مجــال العواطــف واألفكــار وال‬
‫األشــياء المحسوســة إذ يعمــد الشــاعر للتوجــه إلى داخلــه لمحاولــة بيــان مــا في نفســه‪ ،‬ويعــبر‬
‫عن ــه بطريق ــة رام ــزة‪ ،‬وليس بطريق ــة مباش ــرة "ف ــالرمز هن ــا معن ــاه اإليح ــاء أي التعب ــير غ ــير‬
‫المباشر عن النواحي النفسية المسـتقرة الـتي ال تقـوى على أدائهـا اللغـة في داللتهـا الوضـعية‬
‫‪1‬‬
‫والرمز هو الصلة بين الذات واألشياء "‪.‬‬

‫كم ــا يع ــرف "تن ــدال "الرم ــز ك ــذلك بأن ــه ‪":‬تن ــاظر م ــع الش ــئ غ ــير م ــذكور‪ ،‬يت ــألف من‬
‫عناصـ ــر لفظيـ ــة يتجـ ــاوز معناهـ ــا الحـ ــدود الحرفيـ ــة ليجسـ ــد ويعطي مركبـ ــات من المشـ ــاعر‬
‫‪2‬‬
‫واألفكار ‪.‬‬

‫" إذن الرمـ ـ ــز األدبي يقـ ـ ــوم على التعبـ ـ ــير عن الحـ ـ ــاالت النفسـ ـ ــية والفكـ ـ ــرة باألشـ ـ ــياء‬
‫المحسوسة التي ترمز لهذه الحالة ودعامة الرمز الذي تمثله في هذه الحالة العالقة اإليحاء‪،‬‬
‫إذ يعت ــبر من أهم ميزات ــه‪ ،‬الن الرم ــز الش ــعري ال يف ــترض عالق ــة بين الش ــيء والرم ــز ب ــل‬
‫يسعى إلى‪:‬‬

‫استش ــارة ح ــاالت إيحائي ــة داخلي ــة وه ــذا م ــا ي ــؤدي إلى تفس ــير الرم ــز بع ــدة تفس ــيرات‬
‫تجعل النص قابال لعدة قراءات ‪.‬‬

‫محمد غنيمي هالل‪ ،‬األدب المقارن‪ ،‬دار نهضة مصر‪ ،‬القاهرة ‪1998‬م‪ ،‬ص‪. 315:‬‬ ‫‪1‬‬

‫هاني نصر ااهلل‪ ،‬البروج الرمزية‪ ،‬دراسة في رموز السياب الشخصية والخاصة‪ ،‬عالم الكتب الحديث للنشر والتوزيع‬ ‫‪2‬‬

‫‪2006‬م‪ ،‬ص‪.11:‬‬

‫‪15‬‬
‫‪2‬انواع الرموز في الشعر العربي المعاصر‪:‬‬

‫لقد عمـد الشـاعر المعاصـر إلى توظيـف الرمـز في قصـائده‪ ،‬وذلـك بهـدف زيـادة الغمـوض‬
‫واإليحـاء والعمـق فيهـا‪ ،‬ولكن هـذا التوظيـف يتطلب منـه التعامـل مـع الـتراث حين يعـود إليـه‬
‫ويحاوره ويستلهم منه رموزا فنية دائمة سواء كان هذا التراث دنيا‪ ،‬أوأسطوريا‪ ،‬أوتاريخيــا‬
‫أوطبيعيــا ‪....‬الخ‪ ،‬وهــذا مــا يزيــد من تــراث القصــيدة وتأثيرهــا في نفســية القــارئ وهــذه هي‬
‫الطريقة المثلى الصياغة رؤية الشاعر للعالم وموقفه من الحياة ‪ .‬ويجب علينا أن نشير إلى‬
‫التقــاطع الحاصــل بين هــذه الرمــوز الــذي أوجب علينــا أن نجتهــد في وضــع هــذا الرمــز دون‬
‫سواه إنطاقا من رؤية خاصة ولعل من أكثر الرموز أاستخداما في الشعر المعاصر‪.‬‬

‫أ_الرمز األسطوري‪:‬‬

‫األسطورة عبارة عن قصة مكونة من عناصر إلهية خالصة‪ ،‬ومن دون أي أســاس تــاريخي‬
‫وق ــد اتخ ــذت من المف ــاهيم المعاص ــرة في النق ــد الع ــربي مع ــنى يتوس ــط األس ــطورة والقص ــة‬
‫الشــعبية ذات األصــول التاريخيــة إال أننــا نعتقــد أن الحكايــة الشــعبية ذات األصــول التاريخيــة‬
‫إذا وظفت توظيف ــا رمزي ــا‪ ،‬األس ــطورة في أص ــلها رم ــز لق ــوى الطبيع ــة المختلف ــة والظ ــواهر‬
‫الكونية المحيطة باإلنسان أصبحت تشكل معتقــدا دينيــا عنــده غــير جاهليتــه من وجـوده على‬
‫‪1‬‬
‫األرض ‪.‬‬

‫نسيمة بوصالح‪ ،‬تجاني الرمز في الشعر الجزائري المعاصر‪ ،‬ص‪.113‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪16‬‬
‫ق ــد يحي ــل الرم ــز أحيان ــا إلى ح ــدث أس ــطوري وقص ــة ع ــابرة في امت ــداد الت ــاريخ البش ــري‬
‫العري ــق أوفي ت ــاريخ أم ــة من األمم‪ ،‬فيكتفي الك ــاتب أو الش ــاعر ب ــإدراج لفظ ــة أو مجموع ــة‬
‫‪.‬‬ ‫ألفاظ أو تراكيب تعكس أشعة هذه األسطورة أو تلك‪ ،‬من دون عناء بتقديمها كاملة‬

‫إن الرم ــز األس ــطوري ه ــو ال ــذي يجع ــل من األس ــطورة رقع ــة واس ــعة تتح ــرك فيه ــا لواحق ــه‬
‫‪1‬‬
‫وأجزاءه‪.‬‬

‫فاألس ــطورة ب ــرأي ص ــرعة ديني ــة أبتكره ــا الس ــلطان من الكهن ــة والمل ــوك لتفس ــير الظ ــواهر‬
‫الكونيـ ــة تفسـ ــيرا تسـ ــتطيع العقـ ــول إدراكـ ــه واالقتنـ ــاع بـ ــه‪ ،‬فاألسـ ــطورة دين ميت أمـ ــا الـ ــذي‬
‫استخدمت من أجله األسطورة حقيقة فهو يجاوز هــذه الوظيفــة التوصــيلية إلى وظيفــة أخــرى‬
‫أكــثر تعقيــد أوغموضــا‪ ،‬وهي الوظيفــة الجماليــة التأثيريــة األدبيــة‪ ،‬والــتي تنشــأ غالبــا بتجــاوز‬
‫االس ــتعماالت الجــاهزة للكالم‪ ،‬وب ــالتوظيف االســتثنائي اللغ ــة ‪.‬ل ــذلك اتخــذ الشــاعر المعاص ــر‬
‫األسـ ــطورة كإطـ ــار رمـ ــزي دال‪ ،‬وكـ ــذلك محاولـ ــة منـ ــه تسـ ــيير وتفسـ ــير مـ ــا يستعصـ ــي على‬
‫‪2‬‬
‫اإلنسان فهمه من ظواهر كونية تفسيرا يقوم على مفاهيم أخالقية روحية ‪.‬‬

‫كمــا نجــد أن لألســطورة وظيفــة نفســية ترتبــط بــأحالم البشــر وتصــويرا تهم الرمزيــة‪ ،‬وإ لى‬
‫مخاوفــه وأمالــه‪ ،‬فهي بوصــفها الصــورة المجســدة للتجربــة اإلنســانية في احتكاكهــا بمختلــف‬
‫أشــكال الحيــاة‪ .‬وقــد ســيطرت فكــرة المــوت على معظم الشــعر العــربي‪ ،‬وهــذا يجعلنــا ال نجــد‬
‫أي د غرابــة في وجــوده إذا راح المبــدعين يبحثــون عن رمــوز الخصــب والحيــاة في الثقافــة‬
‫القديمة ووجدوا ضالتهم في أسطورة العنقاء‪.‬‬

‫يقول" نور الدين درويش‪:‬‬


‫"أطلـــــــق النار ‪.....‬‬

‫إيمان محمد أمين الكيالني‪ ،‬بدر شاكر السياب‪ ،‬دراسة أسلوبيه لشعره دار وائل للنشر‪ ،‬األردن‪،2008 ،‬ص‪.127:‬‬ ‫‪1‬‬

‫إيمان محمد أمين الكيالني‪ ،‬بدر شاكر السياب‪ ،‬دراسة أسلوبية لشعره‪ ،‬دار وائل للنشر‪ ،‬األردن‪ ،2008 ،‬ص‪129:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪17‬‬
‫اقرأ على جسدي أية البطــش واشف عليك يا سيدي بالكحول‬
‫ولكننـــي صرت عنقاء ‪......‬‬
‫‪1‬‬
‫أولد من رحم الــموت ‪.......‬‬

‫يتبـ ــاهى الشـ ــاعر بالعنقـ ــاء‪ ،‬هـ ــذا الطـ ــائر األسـ ــطوري ليتحـ ــدى المـ ــوت والمهم في الرمـ ــز‬
‫األسطوري ليس في استعماله لألسطورة بقدر ماهي استنباط لقيمهــا األســطورية الكامنــة في‬
‫كينونتها الجوهريــة‪ ،‬كمــا أن تقبــل الرمــوز يتم عن طريــق الالشـعور‪ ،‬كمــا يؤكــد " يونــع "هــذا‬
‫دليل على أن الرمز األسطوري واستغالله في التعبير الفني‪ ،‬ليس مجرد إسقاط في تأمالتنــا‬
‫الذاتية على واقعنا‪ ،‬بقدر ما هو تمثل وجداني‪.‬‬

‫ب_الرمز األدبي ‪:‬‬

‫الرم ــز األدبي‪ ،‬ليس إش ــارة إلى مواض ــعه أو اص ــطالح‪ ،‬إنم ــا أساس ــه عالق ــة اندماجي ــة بين‬
‫مستوى األشياء الحسية الرامزة‪ ،‬ومستوى الحاالت المعنوية المرموز إليها‪.‬‬

‫فهو يقوم على أساس مبدأ من التشابه الج وهري بين ش يئين من غ ير تقيد بح رف أو ع ادة‬
‫وعليه فداللته وقيمته تنبثق من داخله‪ ،‬وال تضاف إليه من الخارج‪.‬‬
‫والرمز األدبي له معنى ظاهر مباشر‪ ،‬وأخر باطني وغير مباشر‪ ،‬إال أنه ثنائي كما يق ول‬
‫‪2‬‬
‫"فلونس كين "‪.‬‬

‫يتضمن الحقيقي والغير الحقيقي‪ ،‬الواقعي والخيـالي ‪:‬بمعـني أن الحقيقي هـو الـذي يعتمـد فيـه‬
‫على األســلوب المباشــر أمــا بالنســبة للخيــالي مثــل اســتعمال الصــورة والبيــان والبــديع لتجــاوز‬
‫واقعه ال يرتبط به كمشكلة ومماثلة‪ ،‬بل استكناه له وتحطيم لعالقاته‪ ،‬وإ عادة تشكيل له عــبر‬
‫ح ــدس ش ــعري‪ ،‬ورؤي ــة ذاتي ــة‪ ،‬ه ــو تك ــثيف للواق ــع ال تحلي ــل ل ــه كش ــف عن لمع ــنى الب ــاطن‬
‫والمغزى العميق‬

‫المرجع السابق ص‪.116:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪ 2‬إبراهيم رماني‪ ،‬الغموض في الشعر العربي الحديث‪ ،‬منشورات وزارة الثقافة‪ ،‬الجزائر‪2007ً ،‬ص‪.274:‬‬

‫‪18‬‬
‫إّن مفهــوم الرمــز في األدب هــو اتجــاه نفس ـّي من وجــدان الكــاتب اســتخدمه ألســباب مهمــة‬
‫ومن أبرز هذه األسـباب أن ثمـة قضـية ال يسـتطيع أن يبـوح بهـا‪ ،‬فهـو حـريص على إخفائهـا‬
‫خلف القناع الذي استخدمه بواسطة الرمز‪ ،‬فأضاف الرمز لوًنا جمياًل للتعبير في األدب إذا‬
‫ف ــالرمز األدبي يعتم ــد اإليح ــاء واإلث ــارة‪ ،‬ويق ــوم على عالق ــات خاص ــة وليس حس ــية مباش ــرة‬
‫فالعالقة فيـه ذاتيـة تتجلى فيهـا الصـلة بين الـذات واألشـياء‪ ،‬وليس بين بعض األشـياء‪ ،‬وبهـذا‬
‫يمكن تحدي ــد الرم ــز األدبي بأن ــه كلم ــة أو عب ــارة أو تعب ــير أخ ــر يمتل ــك مركب ــا من المع ــاني‬
‫المترابطة‪. 1‬‬

‫فالرمز األدبي أيضا تركيب لفظي يستلزم مستويين مستوى الصور الحسية التي تؤخذ قالبــا‬
‫للرمز‪ ،‬ومستوى الحاالت المعنوية التي نرمز إليها بهذه الطريقة الحسية ‪.‬‬

‫ج_الرمز الديني‪:‬‬

‫إلى جانب الرمز األدبي نجد نوعا آخر في الشعر العربي المعاصر إال وهو الرمز الــديني‪،‬‬
‫وقد اسـتخدمه الشـعراء عـبر العـالم‪ ،‬وكـان القـران الكـريم والكتـاب المقـدس حاضـرا بقـوة في‬
‫الشــعر العــالمي "فلم يكن غريبــا إذا أن يكــون المــوروث الــديني مصــدرا أساســا من المصــادر‬
‫التي عكف عليها شعراؤنا المعاصرون‪ ،‬واستمدوا منها شخصيات تراثية عبروا من خاللها‬
‫‪2‬‬
‫على جوانب من تجاربهم الخاصة‬

‫وه ــو ال ــذي ُيض ــفي على النص أبع ــاًد ا نفس ــية وروحاني ــة عالي ــة تتوّغ ل في مكنون ــات النفس‬
‫الَّد اخلَّية فُتؤثر في الخطاب وأنماطه اإليحائية‪.‬‬

‫ففي ما يخص توظيف قصص األنبياء‪ ،‬نجد الشعراء يقفون على قصـة سـيدنا يوسـف عليـه‬
‫السالم يقول نور الدين درويش‪:‬‬

‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪. 275:‬‬ ‫‪1‬‬

‫علي عشري زيد‪ ،‬استدعاء الشخصيات التراثية في الشعر العربي المعاصر‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪،1997 ،‬‬ ‫‪2‬‬

‫ص‪.76 :‬‬

‫‪19‬‬
‫للغرفة الخضراء نافذة تطل على جهنم ‪.‬‬

‫وعلى امتداد الجرح تسبح عقرب‪.‬‬

‫وبآخر األسوار قافلة تبشر بالعذاب ‪ .‬وبداخل التابوت مأتم ‪.‬‬

‫وعيون أمي ال تكف عن السؤال‪.‬‬

‫هذا قميصي قد منا دبر‪.......‬‬

‫وتلك صحيفتي ‪ .‬أماه أين جريمتي ؟‬

‫‪1‬‬
‫وأنا المصادر في الحضور وفي الغياب‪.‬‬

‫إن الشاعر هنا وقـع بين الخطيئـة والعـذاب‪ ،‬فلم يجـد أيـة وسـيلة إلثبـات براءتـه إال قميصـه‪،‬‬
‫فقــد شــبه كــل هــذا بقصــة ســيدنا يوســف عليــه الســالم مــع زوج عزيــز مصــر إذا راودتــه على‬
‫نفسه‪ ،‬فوجهت له اتهامات بالخطايا وهو بــرئ تمامــا ولم يسـتطيع إثبــات براءتــه إال بقميصــه‬
‫الذي استعاره الشاعر في هذا المقام ليقي كال من الخطيئة والعذاب ‪.‬‬

‫أما ناصر لوحشيي فقد تعرض للرمز نفسه لكن في موقع أخر من القصة يقول‪:‬‬

‫بدء النسيم دنا سرا فأيقظني ‪.....................‬فرحت أسترجع الذكرى وأفترق‪.‬‬

‫هو الصبي وذي األشواق تأخذني‪..............‬أ مد راحتي السكري وأنصرف ‪.‬‬

‫مـ ـ ــابين كـ ـ ــر وفـ ـ ــر رحت مرتقبـ ـ ــا ‪........................‬قميص يوسـ ـ ــف كي يمتص مـ ـ ــا‬
‫‪l‬ذرفوا ‪.‬‬

‫وهنـا نجـد أن" قميص يوسـف" هـو الفاصـل بين الفـرح والحـزن فهـو الـبرزخ بينهمـا‪ ،‬فمثلمـا‬
‫حم ــل ل ــه ال ــبراءة من الخطيئ ــة ه ــا ه ــو يرج ــع البص ــر يعق ــوب الض ــرير‪ ،‬وانطالق ــا من ه ــذه‬

‫محمد غنيمي هالل‪ ،‬األدب‪ ،‬المقارن‪ ،‬ص‪87:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪20‬‬
‫الداللة القرآنية يضع الشاعر قميص يوسف نصب عينيه‪ ،‬علة يمتص مــا ذرفت األعين من‬
‫دمع فيعد مشهد الفرح الندي لقلب الشاعر‪.‬‬

‫أمــا "يوسـف وغليسـي" كــان أكــثر شـعراء اإلبـداع معانقــة باسـم يوسـف عليــه السـالم‪ ،‬وسـنقف‬
‫عند النص الذي فيه بعض الخرق والتجاوز ‪.‬‬

‫كانت زليخة عن نفسي تراودني ‪.................‬واليوم ترحل في األفاق وهي هنا!‬

‫كانت زليخة لي في ملجآي وطن ‪ .................‬واليوم في وطني أستوطن الوطنا!‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫خابت زليخة واألوجاع نائمة ‪ ................‬آه أيا وجعا في القلب دقنا!‬

‫‪ .‬الــذي نجــد هنــا زليخــة خــرجت عن إطــار الخيانــة الــذي أتســمت بــه في النص القــرآني إلى‬
‫عالقــة اتصــال منشــودة في النص الشــعري مســتغال تطــابق االســمين‪ ،‬فزليخــة في هــذا النص‬
‫عبارة عن وطن مفقود ‪.‬‬

‫أما" محمد توامي" أحال نصه "سناء"على قصة سيدنا محمد عليه الصالة والسالم قائال ‪:‬‬

‫وفي ذات يوم يقال تلبد بالوهج‪.‬‬

‫أو‬

‫بالكرم العربي الجميل‪.‬‬

‫أخلت قريش منازلها‪.‬‬

‫وهيأت أعذارها‪.‬‬

‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.89:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪21‬‬
‫وجاءت لتشهد هذا الفتى الهاشمي‪.‬‬

‫المخصب بحزنه النبوي‪.‬‬

‫وبما ملك قلبه من الحب‪.‬‬

‫ومن عنفوان النخيلي‪.‬‬

‫عالمته ما تيسر من صورة االختالف القوافل‪.‬‬

‫في وجهة النبع ‪.‬‬

‫وعند ابتداء الهبوب ‪.‬‬

‫لم يكن له قبائل أو‬

‫في (غير القبائل ) أسما‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫غير الجنوب‪.‬‬

‫أفتتح" تــوامي" المقطــع بمــا يشــبه المعجــزات‪ ،‬وهي الــتي رافقت مولــد الرســول عليــه الســالم‪،‬‬
‫لكن يختم قصته هذا الفتى الهاشمي بما يشبه الخرق أو المفاجأة‪ ،‬فما هــذا البــني إال الجنــوب‬
‫وإ ال الوطن‪ ،‬فيتشابه‪ ،‬الوطن واألنبياء في الميالد ‪.‬‬

‫وسنقف أيضا عند يثرب" لمحمد توامي " وغارثور عند نور الدين درويش‬

‫يقول توامي‪:‬‬

‫هب على مسامعنا عصف ريح‪.‬‬

‫وانزوى العاشقون‪.‬‬

‫نسيمة بوصالح‪ ،‬تجلي‪ ،‬الرمز في الشعر الجزائري المعاصر‪ ،‬ص‪. 95:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪22‬‬
‫لتعفو على موعد بشفاه الحيارى‪.‬‬

‫ويثرب تفتح نص فخذيها للريح‪.‬‬

‫تجمع شمل ظفائرها‪.‬‬

‫وشعبت أنوثتها‪.‬‬

‫وتقبع في الرمل‪. 1‬‬

‫يــثرب الــتي لطالمــا ناصــر النبــوة‪ ،‬وجمعت شــمل األنصــار والمجاهــدين‪ ،‬يجســد الشــاعر كــل‬
‫أشــكال الســواد الــذي يضــم واقعــه ومدائنــه الــتي لم تعــد تتــذكر شــكل األنبيــاء الــذين طــافوا بهــا‬
‫يوما‪.‬‬

‫الرمز التاريخي‪ :‬والذي ُيقصد فيه توظيف العديد من األحداث التاريخّية‪ ،‬أو األماكن التي‬
‫ارتبطت بأحداث تاريخَّي ة مشهورة‪ ،‬أو وقائع مهمة في العمل األدبي‪ .‬الرمز الديني‪ :‬وهو‬
‫الذي ُيضفي على النص أبعاًد ا نفسية وروحانية عالية تتوّغ ل في مكنونات النفس الَّد اخلَّية‬
‫فُتؤثر في الخطاب وأنماطه اإليحائية‪.‬‬

‫وهناك نوع أخر من الرموز يتداول كثير بين الشعراء إال وهو‪:‬‬

‫ه_الرمز الطبيعي‪:‬‬

‫وهــذا النــوع من الرمــوز يجــد الشــاعر حريــة كبــيرة في التصــرف فيــه‪ ،‬إذ يــدخل في إطــار‬
‫الرمز الخاص الذي قد يحمل داللة تختلف من شاعر إلى أخر‪ ،‬عكس الرمــز العــام الــذي"لــه‬
‫‪ 2‬داللــة حاضــرة في وعي الجماعــة يحــالون عليــه بشــي من اآلليــة كمــا صــادفوا هــذا الرمــز‬
‫"‪ . 2‬وله ــذا اختل ــف في تأوي ــل الرم ــوز الطبيع ــة‪ ،‬ألنه ــا تتغ ــير دائم ــا‪ ،‬ف ــالرمز الواح ــد يتغ ــير‬

‫المرجع السابق‪ ،‬ص‪.97:‬‬ ‫‪1‬‬

‫نسيمة بوصالح‪ ،‬تجلي‪ ،‬الرمز في الشعر الجزائري المعاصر‪ ،‬ص‪76:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪23‬‬
‫مدلوله‪ ،‬من قصيدة إلى أخرى عند الشعر الواحد إال أن هنــاك بعض الرمــوز الطبيعيــة يكــاد‬
‫يك ـ ــون له ـ ــا مع ـ ــنى إيح ـ ــائي مش ـ ــترك عن ـ ــد كث ـ ــير من الش ـ ــعراء "فنع ـ ــثر في ـ ــه مثال على القمح‬
‫للخصوص ـ ــبة‪ ،‬والحج ـ ــر للجم ـ ــاد والم ـ ــوت‪ ،‬والبح ـ ــر للمغ ـ ــامرة والمس ـ ــتقبل والن ـ ــار للث ـ ــورة‬
‫واالنقالب‪،‬والرماد للنهاية والعدم والليل للحزن والتأمل‪ ،‬والمرأة للذات والوجــود والرمــل ‪3‬‬
‫‪3‬‬
‫للزمن الشجر للحياة والخمر لالمتالء ‪.‬‬

‫براهيم رماني‪ ،‬الغموض في الشعر العربي الحديث‪ ،‬ص‪347:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪24‬‬
‫الفصل الثاني‬
‫*تداعيات الرمز عند محمود درويش‬

‫*إبداعية الرمز عند محمود درويش‬

‫‪25‬‬
‫تداعيات الرمز عند محمود درويش‪:‬‬

‫يعتبر توظيف الرمز سمة شعرية عند محمود درويش جعلت درويش يستلهم‬

‫اللغــة في شــكلها العــادي‪ ،‬ويح ولهــا إلى قــالب جمــالي فــني‪ ،‬وقــد ســاعده "هــذا التهيــأ الخالق‬
‫لدى‬
‫الشاعر لتحويل العادي والواقعي إلى جمالي فني‪ ،‬وفي عملية التحويل هذه توسل "الشاعر"‬
‫بالعديد من المكونات الثقافية كاألسطورة والرمز‪ ،‬كما استعان كذلك ببعض مفدرات‬
‫الخطاب الثقافي الراهن‪ ،‬األمر الذي منع التعبير الشعري عن االلتزام لديه قدرا كبيرا من‬
‫‪1‬‬
‫‪1‬‬ ‫‪ .‬الجمالية النابعة من توظيف هذه المكونات‬

‫فاستعانة محمود درويش باألسطورة والرمز جعلت شعره يعرف منحا فنيا موازيا‬
‫للرسالة التي أراد هذا الشعر أن يحققها‪ ،‬ومحمود درويش كان مدركا منذ بداياته الشعرية‬
‫األولى مدى جمالية الرمز بأنواعه المختلفة‪ ،‬والسيما األسطوري والديني والتاريخي‪،‬‬
‫ومدى خدمته إلغراضه الشعرية فظهرت قصائده األولى تحمل دالالت رمزية فها هو في‬
‫قصيدته "في انتظار العائدين" من ديوان عاشق من فلسطين‪،‬يستند إلى الرمز األسطوري‬
‫متخذا من أسطورة" أوليس" وانتظار أبنه تلماك عودته رمزا لشعبه وحلم العودة إلى‬
‫الوطن يقول ‪:‬‬
‫أكواخ أحبابي على صدر الرمال‪.‬‬
‫وأنا مع األمطار ساهر‪.‬‬
‫وأنا ابن وليس الذي انتظر البريد من الشمال‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪ .‬ناداه بحار لكن لم يسافر‪.‬‬

‫)محمود فكري الجزار‪،‬الخطاب الشعري عند محمود درويش‪،‬دار إيتراك‪ ،‬القاهرة‪ ، 2001 ،‬ص‪260 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫محمود درويش‪ ،‬ديوان محمود درويش‪ ،‬األعمال األولى‪ ،‬ج ‪،1‬ص‪1 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪26‬‬
‫هذا نموذج لتوظيف الرمز عند محمود درويش في بدايته األولى‪ ،‬وإ ن لم يكن هذا‬
‫التوظيف عميقا للرمز يستغرق القصيدة بأكملها‪ ،‬إال أنه يظهر مدى إمكانيات درويش‬
‫الشعرية‪ ،‬وقدرته على ربط الراهن بالتاريخ واألسطورة كما أنه لم يهدف إلى الغموض‬
‫واإلبهام في رموزه‪ ،‬بل كانت على قدر كبير من الوضوح‪ ،‬لكن ليس ذلك الوضوح الذي‬
‫يجعل من الرمز مجرد عالمة متفق عليها وال يترك مجال لتعدد القراءات وتنوع‬
‫الدالالت‪ ،‬ومحمود درويش نفسه يعترف أن الرمز عنده اليكون مبهما يقول ‪:‬‬
‫"الرمز عندي كما أراه ليس مبهما‪ ،‬إذ من الممكن اكتشافه بسرعة هو أوال وأخير‬
‫‪1‬‬ ‫‪ 1.‬بديل للتعبير المباشر"‬
‫كما أن هناك سبب أخر جعل من رموز درويش غير مبهمة إال وهو أن هذا الشعر‬
‫موجه إلى الجماهير إذا كثيرا ما ألقي درويش أشعاره على الجمهور ‪ ،‬فكان من غير‬
‫الممكن أن يلجأ إلى اإلبهام‪ ،‬دون مراعاة فهم القارئ وثقافته "فرغم لجوءه إلى الرموز‬
‫واألساطير والقصص الشعرية في بناء قصائده‪ ،‬فإنه لم يفقد وضوحه الفني‪ ،‬وذلك ألنه‬
‫شاعر مرتبط بالجماهير العربية في األرض المحتلة‪ ،‬وهو يريد لشعره أن يصل إلى هذه‬
‫‪2‬‬ ‫‪ .‬الجماهير ويساهم في التعبير عنها"‬
‫كما انه في هذه المرحلة كان مقيما بفلسطين ‪ ،‬وكان أكثر احتكاكا بالجمهور‪،‬‬
‫والجدير بالذكر أن أشعار درويش في أعماله األولى لم تحتفي كثيرا بالرمز فزغم‬
‫‪2‬‬
‫استعماله له إال أنه لم يكن ميزة ظاهرة في أشعاره األولى على عكس دواوينه األخيرة ‪.‬‬

‫ينظر _رجاء النقاش‪ ،‬محمود درويش‪ ،‬شاعر األرض‪،‬د المحتلة‪ ،‬دار هالل‪ ،‬ط ‪،،2‬بيروت‪ ، 1971 ،‬ص ‪1‬‬ ‫‪1‬‬

‫نفس المرجع نفس الصفحة‬ ‫‪2‬‬

‫‪27‬‬
‫إذ تميزت بتوظيف الرموز المختلقة بشكل مكثف عميق‪ ،‬حيث ارتقت القصيدة العربية‬
‫إلى مستويات إبداعية مبتكرة متطورة تتوازى مع أعظم األشعار العالمية في القرن‬
‫‪ .‬العشرين "‬
‫وهذه الكثافة في استعمال الرمز كانت ناتجة عن تغير مسارات القضية الفلسطينية من‬
‫جهة واستقاللية الشاعر وإ دراكه مدى عمق قضيته وخاصة بعد خروجه من فلسطين‬
‫‪1‬‬
‫والتجائه‬
‫إلى مصر ثم إلى لبنان ‪ 1972‬م نتيجة المضايقات واالعتقاالت التي تعرض لها‬
‫لقد عرف محمود درويش تطورت أسلوبية وفنية كثيرة اختزلت تطورات الشعر‬
‫العربي المعاصر‪ ،‬كما استطاع أن يرتقي بالقصيدة إلى مستوى إنساني‪ ،‬إذ"بدأ درويش‬
‫بقصيدة عن فلسطين ووصل بعد بحث إلى مشروع شعري إنساني بعيد عن االنغالق‬
‫يتأمل المعلقات السبع القديمة وهو يكتب "الجدارية "‪،‬ويرى إلى التراث الشعري اإلنساني‪،‬‬
‫وهو يقترب من الشعر الخاص في ديوانه "ورد أقل"ويزداد اقترابا في ديوانه " كزهر اللوز‬
‫أو أبعد منه"حيث يظهر الفلسطيني جوهر إنساني يقاسم غيره من البشر الحب الشجن‪،‬‬

‫‪2‬‬
‫‪ .‬وانتظار المستقبل والخوف الذي البد منه في لحظة التالشي القادمة "‬

‫فعرف الشاعر بذلك روعة التجديد الشعري‪ ،‬حتى بانت القصيدة أداة من أدوات‬
‫التعبير الجمالي تعتزل مضامين متعددة وعرف كيف يوصلها بطرق مختلفة بتكثيف‬
‫الصور والرموز‪ ،‬هذا ما سيتبين لنا في بحثنا عن الرموز المتعدد المختزنة في ديوان"‬
‫‪3‬‬
‫أوراق الزيتون في المحطة اآلتية "‪.‬‬

‫ينظر _محمودا لشيخ‪ ،‬الشعر والشعراء‪ ،‬دار اليازوري‪ ،‬األردن ‪، 2007‬ص‪40 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫حمدي السكوت _قاموس األدب العربي الحديث‪،‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪ ، 2007 ،‬ص‪5 :‬‬ ‫‪2‬‬

‫احمد الزغيي‪ ،‬أسلوبيات القصيدة المعاصر _دار الشروق‪_ ،‬األردن ‪_ 2007‬ص‪104 :‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪28‬‬
‫*إبداعية الرمز عند محمود درويش ‪:‬‬

‫قد احتل الرمز مكانة مهمة واعتبرها مثاال للتعبير عما يختلج في النفس‬
‫بدعوى أن اللغة العادية ال تستطيع احتواء التجربة الشعرية بمعنى أخر‪،‬‬
‫ومنه أصبح بإمكان الشاعر فتح مجال أوسع أمام القارئ للتفكير‪ ،‬فمهما كان مصدر هذا‬
‫الرمز"تاريخي‪ ،‬ديني‪ ،‬أسطوري طبيعي "المهم هو الوصــول إلى الغــرض المنشــود‪ ،‬محاولــة‬
‫إبرازه من السر إلى العلن ‪.‬‬

‫فهو يرتكزعلى أسس لضمان الوصول الى الهدف المنشود له ‪:‬‬


‫‪-‬‬

‫الرم ــز الت ــاريخي‪ :‬المقص ــود من ــه توظي ــف شخص ــيات تراثي ــة ومواق ــف تاريخي ــة م ــع ربطه ــا‬
‫بأحداث واقعية‪ ،‬وبـذلك يمـتزج الماضـي بالحاضـر وينصـهر الـتراث في الحـديث‪ ،‬وقـد حـول‬
‫ش ــعراء الحداث ــة إع ــادة الطاق ــة الخارق ــة لتل ــك الرم ــوز والشخص ــيات ومنحه ــا ق ــدرتها الغ ــير‬
‫الطبيعيــة الــتي فقــدتها في عصــرنا الحاضــر‪ ،‬وذلــك بإيحــاء أبطــال التــاريخ وبعثهم من جديــد‪،‬‬
‫ومن ثم يجسدون من خالل هؤالء األبطال أفكارهم ومشاعرهم‪.‬‬
‫‪ .‬ويعد التاريخ من بين المصادر التي أخـذ منهـا الشـاعر شخصـياته بغـرض التعبـير عن أي‬
‫موقف يريده‪ ،‬وبأسـلوب أكـثر نضـجا واكتمـاال‪ ،‬إذا إشـتغل الشـاعر مـا تـوفر لـه من معطيـات‬
‫تراثية‪" ،‬و يعد الحجاج بن يوسف أكثر الشخصــيات هــذا النــوع شـيوعا في شـعرنا المعاصــر‬
‫ربما ألنـه أكـثر هـذه الشخصـيات تمـثيال لمعـنى البطش و اإلسـتبداد فهـو في رؤيـا شـعرائنا ‪،‬‬
‫رم ــز لك ــل ق ــوة باطش ــة تعم ــل على قم ــع الح ــق ب ــالقوة وعلى الفص ــل االول‪ :‬مفه ــوم الرم ــز‬
‫وأنواعه ‪ 26‬إخماد كل صوت يحاول أن يرفع في وجــه طغيانــه ‪،‬يقــول الشــاعر أدونيس في‬
‫قص ــيدته " م ــرآة الحج ــاج"‪ :‬وص ــعد المن ــبر‪ ...‬في قوس ــه‪ ،‬وف ــوق وجه ــه لث ــام‪ .‬وق ــال بالس ــهام‬
‫والقنــاع‪ ،‬ال بالصــوت والكالم‪ .‬أنــا بن جال وطالع الثنايــا‪ ..‬أنــا هــو الســؤال ونبراســه أنــا هــو‬
‫الف ـ ــراس (‪( 1‬وي ـ ــل لمن يك ـ ــون من فرائس ـ ــي ‪ .‬ونلمح رم ـ ــزا آخ ـ ــر من رم ـ ــوز الت ـ ــاريخ أو‬
‫بــاألحرى من الرمــوز الشــعبية الــتي ســادت في وقت مضــى‪ ،‬وهي قصــص شــعبية يعــود بنــا‬

‫‪29‬‬
‫الزمن إلى الوراء فيمتزج الواقع بالحلم والحقيقة بالخيــال وهــو رمــز شــهريار الــذي إســتعمله‬
‫أحم ــد حي ــدوش في قص ــيدة أن ــا وأنت ب ــالمعنى ال ــذي تناولت ــه الدراس ــات العربي ــة أو ال ــتراث‬
‫العــربي فيقــول في هــذا الصــدد‪ - 1 :‬علي عشــري زايــد‪ ،‬اســتدعاء الشخصــيات التراثيــة في‬
‫الشعر العربي المعاصر‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،‬القاهرة‪، 1997‬ص ‪، 124‬وما بعــدها‪ .‬الفصــل‬
‫االول‪ :‬مفهوم الرمز وأنواعه ‪ 27‬أنا الباحث عن قصص تهدهدني‪ .‬وما أنـا إال طفـل يعشـق‬
‫القصص‪ .‬ولست شهريار!! لن تمـوتي بعـد حكايـات وحكايـة‪ ،‬مـا أفعلـه سـيدتي سـأطلب منـك‬
‫القصـص من البدايـة إلى النهايـة (‪( 1‬ومن النهايـة إلى البدايـة فرمـز شـهريار الرجـل الحامـل‬
‫للضغائن والكره ضد أي أثنى على وجه األرض فهو ينبذ المرأة بسـبب حكايتـه مـع زوجتـه‬
‫الخائنــة‪ ،‬ولقــد وظفــه الشــاعر لكي يــزرع الطمأنينــة في نفس حبيبتــه الخائفــة منــه ويخاطبهــا‬
‫قائال‪ :‬مـا أنـا إال طفـل يعشـق القصـص ولسـت شـهريار‪ ،‬فهـو يشـبه شـهريار بعشـقه للقصـص‬
‫وليس مثله ظالما لألنوثة فيوضح‪ :‬أنت شهريار بظلمك وقصك وأنـا شـهريار من نـوع آخـر‬
‫ولقــد ذكــرت قصــة شــهريار وشــهرزاد في حكايــة ألــف ليلــة وليلــة والحكايــة تحليلنــا إلى زمن‬
‫غابر وبالتالي ‪- 1‬أحمد‪ ،‬حيدوش‪ ،‬أنفاس الليل ‪ ،‬قصــيدة أنــا وأنت‪،‬ص ‪ .18‬الفصــل االول‪:‬‬
‫مفهوم الرمز وأنواعه ‪ 28‬رمــز شـهريار اسـتقاه الشـاعر من التــاريخ الــذي رجـع أغــوار إلى‬
‫الماض ــي ليرب ــط تجرب ــة الماض ــية‪ .‬و بالت ــالي يك ــون الش ــاعر ب ــذلك ق ــد وظ ــف تل ــك الرم ــوز‬
‫التاريخية بدالالت متنوعة وألفاظا دقيقة تخدم المعنى اإلجمالي للرمـز التـاريخي‪ .‬و من هنـا‬
‫تكمن قــدرة الشــاعر على اإليحــاء القويــة والهادفــة من خالل اإلشــارة إلى أشــخاص تاريخيــة‬
‫فيقارن نفسه بهذه األخيرة ليعطي لنا مفهوما إيجابيا للرجل على أنه ليس شهريار الظالم‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫رموز تاريخية أدبية أخرى‪:‬‬
‫تحضر في الديوان رموز تاريخية أدبية أخرى غير تلك التي تعود إلى عصر غرناطة‬
‫في أيامها اإلسالمية األخيرة‪ ،‬وأبرز هذه الرموز العربية هي المتنبي‪ ،‬والمتنبي شخصية‬
‫تاريخية غلب عليها الطابع األدبي‪ .‬وقد لفتت هذه الشخصية أنظار الشعراء والدارسين‪.‬‬
‫وقد توقف أمام توظيفها في الشعر على عشري زايد وخالد الكركي الذي عاد وأنجز كتابًا‬
‫‪1‬‬
‫خاصًا حول استحضار المتنبي في الشعر العربي الحديث‪،‬‬
‫بدو أن أسهل أسلوب في الهجوم على الشخصيات التاريخية هو انتزاع األخيرة من‬
‫ظروفها السياسية وصالتها االجتماعية وظرفها التاريخي المحيط‪ ،‬في محاولٍة منها‬
‫للخروج من األنماط التقليدية للنقد‪ ،‬والبحث عما ُتسميه نهجًا موضوعيًا للدراسة‪ ،‬لكنه‬
‫يثبت دومًا أنه نهٌج يعوزه التحليل العلمي‪ .‬لتظهر هذه الرموز أخيرًا معزولًة ومنعزلًة عن‬
‫مجتمعاتها‪ .‬غير أن تجارب هذه الشخصيات بالذات سياسيًة كانت أم فلسفيًة أم أدبيًة‪،‬‬
‫انبثقت من ظرفها الزماني والمكاني المحددين تاريخيًا‪ ،‬بل إنها التزمت قضايا خارجًة عن‬
‫الشعور باألنا‪ .‬وإ ن بدا بعضها دينيًا أو أدبيًا لكن جوهرها ظل اجتماعيًا‪ ،‬وفي أحيان كثيرة‬
‫سياسيًا‪ ،‬كصالح الدين األيوبي الذي واجه جيوش اإلفرنج ذات الطابع الديني (الصليبي)‬
‫في الشام‪ ،‬في الوقت الذي سقطت فيه مصر بأيديهم‪ ،‬وكان لدخوله مصر ِف عًال توحيديًا بين‬
‫الشام ومصر(يكاد يكون الوحيد في عصور االنحطاط ـ هادي العلوي)‪ .‬ويكمن أهم ما في‬
‫شخصية صالح الدين األيوبي‪ :‬أن ِف عله ليس ذاتيًا فرديًا‪ ،‬وإ نما تجسيد للقوة الكامنة في‬
‫شعوب المنطقة في حينه‪ ،‬وإ رادتهم في مواجهة الغزو الخارجي‪.‬‬
‫وفي تجنٍب مقصود في مقالنا لعرض شخصيات وقصٍص مؤثرة في تاريخ منطقتنا‪،‬‬
‫كالمعلم الثالث ابن سينا‪ ،‬وإ ضافاته في الطب والفلسفة واللغة العربية ذاتها بمفردات‬

‫عنوان الكتاب " الصائح المحكي‪ :‬صورة المتنبي في الشعر العربي الحديث "‬ ‫‪1‬‬

‫( بيروت‪.)1999 ،‬‬

‫‪31‬‬
‫أصبحت ملَك ها‪ ،‬وجابر بن حيان وموقفه من الوجود الموضوعي للكون ووحدة حركته‪،‬‬
‫ومقامات بديع الزمان الهمذاني كظاهرة اجتماعية فنية بطلها الشحاذ أبو الفتح اإلسكندري‪،‬‬
‫وإ خوان الصفا ورسائلهم في الشهادة‪ ،‬والمتنبي الذي كان أحد اسباب تعلقه بسيف الدولة‬
‫الحمداني أن األخير كان مقاتًال لجيوش الروم في شمال بالد الشام في حينه‪ ،‬بل إن‬
‫المتنبي قاتل معه‪ ،‬وابن حزٍم في أدب الحب وطوق الحمامة‪ ،‬وبخالء الجاحظ األثرياء‪،‬‬
‫والنزعة الزهدية كشكٍل من أشكال االحتجاج السلبي على الصراع السياسي المحتدم في‬
‫العصور اإلسالمية األولى‪ ،‬وكنواٍة ستنتج عنها حركة التصوف ببعدها الفلسفي المعقد‬
‫إيديولوجيًا والمنخرط في المجتمع والسياسة‪ ..‬وغيرهم كثيرون‪ ،‬والذين تم انتقاؤهم هنا‬
‫لضرورة إعادة عالقة المفكرين والحركات االجتماعية إلى مكانها الصحيح ضمن ظروف‬
‫تتصل بالوعي والواقع االجتماعي‪ ،‬وهي عالقة هؤالء المفكرين مع مجتمعاتهم‪ ،‬وليس‬
‫حكامهم‪.‬‬

‫األمثال الشعبية دفاعًا‬


‫عن تجارب الشعوب‬
‫إننا سنستعير من الشهيد حسين مروة ثالث إضاءات على شخصيات مبتدَع ة اقترنت بها‬
‫الرذائل‪ُ ،‬تبرز أن شعوب المنطقة منذ القدم قادرة على الدفاع عن نفسها بابتداع أمثاِلها‬
‫التي تنكر الخيانة والنكث الوعد والظلم‪:‬‬
‫أبو رغال‪ :‬هو رجل في اليمن خان قومه بوشايته بهم‪ .‬ومضت األيام‪ ،‬ومضى معها القوم‬
‫واألعداء‪ ،‬وظل أبو رغال ملعونًا مصلوبًا كأقدم خائن ربما على خشبة التاريخ‪ ،‬وتشير‬
‫قصته إلى أن شعوب المنطقة نبذت الخيانة في ُع رفها ولعنت الخائنين إلى األبد‪.‬‬
‫عرقوب‪ :‬الذي وعد أخاه مرًة في الحجاز بتمر من نخلة قرب يثرب‪ ،‬فنكث بوعده سنتين‬
‫اثنتين‪ ،‬لكن الناس لم يمهلوه سنًة ثالثة‪ ،‬بل عاقبوه وصلبوه كذلك على خشبة التاريخ‬
‫كعرقوب الذي (َيعُد أخاه بيثرب)! وصار َم ثًال إلشارة إلى من ينكث عهوده كصفٍة ليست‬
‫من صفات الشعوب المحمودة‪.‬‬

‫‪32‬‬
‫سنمار‪ :‬الذي َب رع في البناء والزخرفة في الحيرة وسط العراق‪ .‬وكان أن بطش الملك به‬
‫بعد أن أنهى بناء قصر رائع‪ ،‬حتى ال يبني مثله لسواه‪ ،‬فرماه من أعلى قصره‪ .‬فأنكر‬
‫الناس أن ُيجازى سنمار بالسوء والطغيان‪ .‬وإ ذ صلبوا الملك الظالم على خشبة التاريخ‪،‬‬
‫فإنهم أَّد وا للبَّناء المظلوم حقه بتخليد اسمه‪.‬‬
‫ولو أن للخيانة والنكث بالوعد والظلم معانَي غير بغيضة لدى شعوبنا‪ ،‬لما خرجت علينا‬
‫باألمثال والحكايات والقصص الجميلة هذه‪.‬‬
‫الشعوب تدافع عن رموزها االجتماعية‪ ،‬على سبيل المثال‪:‬‬
‫تغّن ت جماهير المظلومين بأهاجي يزيد بن مفرغ الحميري الموجعة لبني زياد أثناء إمارة‬
‫عبيد اهلل بن زياد على البصرة‪ ،‬وإ مارة أخيه على سيجستان في عهد يزيد بن معاوية‪،‬‬
‫وكانت أهاجيه ذات طابٍع سياسي اجتماعي‪.‬‬
‫كان يكتب أشعاره على حيطان الخانات في طريق هربه من سيجستان إلى البصرة‪،‬‬
‫وكانت هذه األشعار تصل إلى البصريين قبل أن يصل ابن مفرغ إلى البصرة‪ ،‬ويتناقلونها‬
‫سرًا بينهم للتنفيس بها عن مخزون الحقد والمعاناة من جور الحاكمين الظالمين‪.‬‬
‫وحين وقع الشاعر في قبضة بني زياد‪ُ ،‬أرِغ م على محو أشعاره بأظافره عن حيطان‬
‫المحطات طوال الطريق من سيجستان إلى البصرة حتى حفيت أظافره‪ ،‬وسالت الدماء من‬
‫أصابعه‪.‬‬
‫وفي البصرة اشتد التنكيل به وتعذيبه‪ ،‬ولم ينقذه من جحيم العذاب والسجن سوى تعاظم‬
‫االستنكار واالحتجاج من قبائل اليمن وقريش والوفود التي توالت على يزيد في الشام‬
‫تنذره أن يطلق سراح الشاعر من السجن‪ ،‬وهذا ما حصل‪.‬‬
‫من شعره المنِّد د بالجائر عبيد اهلل بن زياد مستعرضًا جرائم حكمه‪ ،‬عندما ثار العراقيون‬
‫بقيادة عبد اهلل بن الزبير عليه‪:‬‬
‫بما قدمت كفاك‪ ،‬ال لك مهرب‬
‫إلى اي قوم‪ ،‬والدماء تصيب‬

‫‪33‬‬
‫فكم من كريم قد جررَت جريرة‬
‫عليه‪ ،‬فمقبور‪ ،‬وعان يعذب‬
‫ومن حرة زهراء قامت بسحرة‬
‫لتبكي قتيًال‪ ،‬أو فتى يتأوب‬
‫فصبرًا‪ ،‬عبيد بن العبيد‪ ،‬فإنما‬
‫يقاسي األمور المستعّد المجرب‬
‫وذق كالذي ذاق منك معاشر‬
‫لعبت بهم‪ ،‬إذ أنت بالناس تلعب‪.‬‬
‫في الثقافة الطليعية‬
‫ال يتوقف معيار الحديث أو القديم في الثقافة على إحالل شخصيات ورموز جديدة‪ -‬إن‬
‫ُو ِج َد ت‪ -‬بالهجوم على قوالب وشخصيات تاريخية‪ .‬إنما يتوقف المعيار الذي يحدد ماهية‬
‫الثقافة في عالقتها مع الواقع االجتماعي‪ ،‬سواء في حالة نهوضه أم نكوصه‪ .‬وليست‬
‫المسألة قضية ضرورة البحث في شخصيات تراثنا التاريخية بقدر ما هي قضية الموقف‬
‫من التراث برَّم ته وعالقته األصيلة بالحاضر‪ -‬حتى في مرور هذه العالقة بحاالت انقطاع‬
‫قصيرة نسبيًا‪ ،-‬والبناء على العناصر الحية في تراثنا وتالقيها مع القوى الحية في‬
‫حاضرنا بشكٍل يكشف للشعب ظروفه المحيطة ويثيره لتغيير واقعه المترِّد ي‪ ،‬أو بالعكس‪.‬‬
‫وهنا بالضبط يكمن جوهر توصيفنا لمثقف‪ -‬إن صح وصفه بالمثقف‪ -‬أنه طليعي تقدمي‬
‫أو رجعي‪.‬‬
‫يقول الفيلسوف الهنغاري الشهير جورج لوكاش عن الثقافة في معرض حديثه عن‬
‫(غوركي)‪» :‬إنها‪ -‬أي‪ :‬الثقافة‪ -‬قبل كل شيء إدراٌك للعظمة اإلنسانية‪ ،‬والقدرُة على رؤية‬
‫هذه العظمة أينما تظهر في الحياة‪ ،‬حتى إن كانت مستترًة ناقصَة الشكل‪ ،‬لم يكتمل بعد‬
‫تعبيُر ها الواضح‪ .‬إنها القدرة على تكّش ف نمو اإلنسانية وممارسة تجربتها بتفهم داخلي‪،‬‬
‫وإ نها القدرة على استشفاف كل جديد في أولى مظاهره‪ ،‬وكل ما يحمل بذور المستقبل»‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫أص ــبح الت ــاريخ ب ــدوره منجم ــا غني ــا يس ــتلهم من ــه الرم ــوز األقنع ــة ليع ــبر به ــا عن األش ــياء‬
‫يريـ ــدها المبـ ــدع‪ ،‬كـ ــان اسـ ــتخدام الشـ ــاعر المعاصـ ــر للرمـ ــز التـ ــاريخي لم يقتصـ ــر فقـ ــط على‬
‫الشخصــيات التاريخيــة‪ ،‬وإ نمــا اســتخدام شخصــيات أدبيــة ارتبــط اســمها بقضــايا معينــة‪ ،‬ومــا‬
‫يلفت نظرن ــا عن ــد ش ــعراء إب ــداع ك ــثرة اس ــتعمال األوراس‪ ،‬وفي ه ــذا الص ــدد يق ــول" ص ــالح‬
‫سويعد‪:‬‬

‫" أوراس إي وطن الالال‪......‬‬

‫أبدأ ‪.......‬لن ‪........‬ال‪.‬‬

‫كال‪.......‬أصغر‪.‬‬

‫يا كعبة حبى األسمر ‪.‬‬

‫يا من هز الكون واقعد ‪.‬‬

‫فتعرى شانئنا األبتر‪.1‬‬

‫ويقول "عبد الوهاب زيد"‪:‬‬

‫إني الم ـ ــؤورس أبقى رغم م ـ ــا زعم ـ ــوا في ال ـ ــدرب يحفظ ـ ــني ربي ويرع ـ ــاني ق ـ ــال الش ـ ــاعر‬
‫باسـتعمال لفظــه "المــؤورس "للتعبــير عن ثورتــه‪ ،‬معظم االســتعماالت اإلبداعيــة لهــذا المكــان‪،‬‬
‫سرت في هذا االتجاه وظل معه األوراس رقعة جغرافية‪ ،‬بحدودها وجبلها‪.‬‬

‫وم ــا عش ــته من حكاي ــات النض ــال‪ ،‬وحال ــة ه ــذه المعطي ــات دون أن يجع ــل االوراس‪ ،‬مكان ــا‬
‫لالنفتـاح الكتابـة للممارسـة الرؤيـا النفجـار الداللـة وبدايـة رحلـة الكشـف عن أسـرار غامضـة‬
‫مترسبة في أعماق الرمز وباطن التجربة وهناك نص" لحسين عبروس" يقول فيه‪:‬‬

‫ابراهيم رماني‪ ،‬الغموض في الشعر العربي الحديث‪ ،‬ص‪65:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪35‬‬
‫فلسطين سيدة‪.‬‬

‫تضع الجسر في مشطها‪.‬‬

‫في الظالم‪.‬‬

‫وتحفر في جبهة الطيور‪.‬‬

‫ضوء الجدائل‪.‬‬

‫حين تنام‪.‬‬

‫تصوغ خطىا الرحلين‪.‬‬

‫أغاني الوداع‪.‬‬

‫ترقص قلب المسافر‪.‬‬

‫في زهرة العشق عند الخيام فيورق بالطيور نبض الكالم‪.‬‬

‫على قبلة من جليد‪.‬‬

‫تذوب على قدميها‪.‬‬

‫قصائد شعر تزين خاصرتها يألف حزام‪.‬‬

‫فيلتهب العرس فوق الجراح التي ال تنام ‪.1‬‬

‫فلســطين هنــا ليســت إطــار محــدد المعــالم‪ ،‬أينمــا هي حركــة انفعاليــة‪ ،‬وتجــاوز للمكانيــة‪ ،‬نحــو‬
‫داللتها الروحية إذا المكان شبكة من العالقات المترابطة‪.‬‬

‫يمان محمد أمين الكالني‪ ،‬بدر شاكر السياب دراسة أسلوبية للشعر‪ ،‬ص‪199.‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪36‬‬
‫الرموز الطبيعي@@ة‪ :‬ارتبــط الشــعراء منــذ القــديم بالطبيعــة و بظواهرهــا المختلفــة الــتي بهــرتهم‬
‫فوقف ــوا ع ــاجزين أم ــام جماله ــا و قوته ــا ‪ ،‬فم ــا ك ــان منهم إلى أن ح ــاولوا االس ــتلهام منه ــا أو‬
‫محاكاتها‪.‬‬
‫األمر الذي جعل أفالطون يطردهم من مدينتــه الفاضــلة ألنــه رأى أنهم يشــوهونها بمحاكــاتهم‬
‫الناقصــة فمهمــا بلغت قــوة تعبــيرهم لن يصــلوا إلى تقليــدها كمــا هي‪ ،‬و رغم ذلــك فــإن هنــاك‬
‫‪1‬‬
‫من يرى أن " العودة إلى الطبيعة عودة إلى الفطرة و الذات‪.‬‬
‫" ‪ .‬و يع ــد محم ــود درويش من الش ــعراء ال ــذين تع ــاملوا م ــع الطبيع ــة معامل ــة خاص ــة حيث‬
‫أضـ ــفى على عناصـ ــرها صـ ــفات إنسـ ــانية مختلفـ ــة‪ ،‬فـ ــالقمح عنـ ــده وفي و الغصـ ــن حـ ــزين و‬
‫الزيتـون يبكي ‪ ،‬و العشـب يتعـذب‪ ،‬فتجـاوز بـذلك الشـعر الوصـفي إلى مـدلوالت جديـدة‪ ،‬إلى‬
‫امتزاج المادي بالمعنوي و المحسوس بالمجرد‪.‬‬
‫‪ .‬أ‪ -‬الزيت ـ ــون األص ـ ــالة و التش ـ ــبث بالج ـ ــذور‪ :‬ص ـ ــاغ محم ـ ــود درويش رم ـ ــوزه من طبيع ـ ــة‬
‫فلس ــطين حيث تول ــد كلمات ــه من ك ــل ش ــيء في فلس ــطين‪ ،‬من ال ــتراب و رائح ــة البرتق ــال و‬
‫الياس ــمين و أش ــجار الزيت ــون ال ــتي جع ــل منه ــا رم ــزا يص ــور التش ــبث بالج ــذور الموغل ــة في‬
‫أرض أجداده‪.‬‬
‫لو يذكر الزيتون غارسه‬
‫لصار الزيت دمعا!‬
‫يا حكمة األجداد‬
‫لو من لحمنا نعطيك درعا‬
‫! سنظل في الزيتون خضرته‬
‫‪2‬‬
‫و حول األرض درعا‬
‫فجعل من الزيتون و خضرته رمزا للتحدي و الصمود في وجه االحتالل ‪.‬‬

‫‪ .‬ب‪ -‬البرتقال‪ ،‬األرض و االنتماء‬

‫‪ 1‬خالدة سعيد ‪ ،‬حركية اإلبداع ‪ ،‬ط‪، 2‬دار العودة ‪ ،‬بيروت ‪، 1982 ،‬ص‪.32:‬‬
‫‪ 2‬محمود الدرويش‪ ،‬الديوان ‪ ،‬ص‪.49-48 :‬‬

‫‪37‬‬
‫يعطي الشــاعر محمــود درويش في قصــائده البرتقــال ‪ ،‬أبعــادا و دالالت مختلفــة تخرجــه عن‬
‫إط ــاره كث ــيرة تتم ــيز به ــا دول ح ــوض البح ــر األبيض المتوس ــط إلى رم ــز يرتب ــط ب ــاألرض‬
‫الفلسطينية إذ يقول‪:‬‬
‫أحب البرتقال – و أكره الميناء‬
‫و أردف في مفكرتي‬
‫على الميناء‪.‬‬
‫وقفت – و كانت الدنيا عيون شتاء‬
‫‪1‬‬
‫و قشر البرتقال لنا ‪ ،‬و خلفي كانت الصحراء‬
‫بهــذه الطريقــة يعــبر درويش عن مــدى حبــه لوطنــه الــذي أجــبر على مغادرتــه فــذكر المينــاء‬
‫للداللــة على بدايــة الغربــة و التهجــير و قــال بأنــه قشــر البرتقــال لنــا ليــوحي بهــا إلى ضــياع‬
‫أرضهم‪ ،‬و يحمل البرتقال معاني جديدة في قوله‪:‬‬
‫من البرتقالي يبتدئ البرتقال‬
‫فـيرمز إلى البرتقـال هنـا إلى فلسـطين الـتي يمكن اسـترجاعها إلى بالبرتقـالي الـذي هـو لـون‬
‫النار‪.‬‬
‫الرمــز الــديني‪ :‬عمــد الشــاعر العــربي المعاصــر العــربي الى االتكــاء على الــتراث الــديني في‬
‫أشعاره ليستلهم منه رموزه و أقنعته الفنية الـتي رأى فيهـا مصـدرا ال ينبض بمـا يمنحـه من‬
‫تنـ ــوع سـ ــواء بمـ ــا تقدمـ ــه الـ ــديانات السـ ــماوية كاإلسـ ــالم و المسـ ــيحية و اليهوديـ ــة أو تـ ــراث‬
‫الحضــارات القديمــة كالفرعونيــة و اإلغريقيــة و البابليــة و اآلشــورية و الفينيقيــة الــتي كــانت‬
‫المنطقــة العربيــة من مواطنهــا " فالشــعر المعاصــر يكتــظ بــالرموز الدينيــة المختلفــة واالنتمــاء‬
‫للمصــادر ‪ ،‬و هي متفاوتــة في حضــورها و تأثيرهــا في بنــاء القصــيدة‪ ،‬فمن الرمــوز الدينيــة‬
‫التي ينتظم في إطارها األنبياء و الرسل الـذين وجـد الشـعراء العـرب فيهم دالالت متعـددة و‬
‫خصبة للتوظيف الشعري و بخاصةّ ى هلال عليـه النـبي صـل و سـلم و المسـيح عليـه السـالم‬
‫و أيــوب الــذي تــفّ رد بداللــة الصــبر على البالء و المــرض‪ ،‬كمــا ينتظم في إطارهــا رمــوزا‬
‫إنجيلية مثل لغازل رمز االنبعاث الكاذب و يهودا االســخريوطي رمــز الخيانــة و مــريم رمــز‬

‫‪1‬‬
‫محمود درويش ‪ ،‬الديوان ‪ ،‬ص‪.89:‬‬

‫‪38‬‬
‫المعانات من القيم السائدة‪ ،‬فضال عن رموز قرآنية و توراتية كالخضر و قابيل و هابيل و‬
‫‪1‬‬
‫رموز ‪ 76‬مقدسة عند بعض الشعوب الوثنية مثل ‪ " :‬زداد سث و بودا‬
‫" إذا كان الشاعر العربي عامة قد لجأ إلى التراث الديني سـيمتد منـه رمـوز الخدمـة الجـانب‬
‫حيث يضفي عليها أبعادا فنية و أسنانية‪ ،‬فإن األمر يختلف تماما بالنسبة للشاعر الفلســطيني‬
‫الــذي هيمن الرمــز الــديني على مختلــف أعمــالهم و هــذا انطالقــا من أن فلســطين هي أرض‬
‫مقدسة و أرض النبوات و الرساالت‪ ،‬و أبناؤها هم أحق من غيرهم بهذا التراث‪.‬‬
‫أ‪ /‬الشخصيات الدينية‪:‬‬
‫حفــل الشــعر العــربي المعاصــر بشخصــيات دينيــة كثــيرة وظفهــا الشــعراء في أعمــالهم‪ ،‬حيث‬
‫راحـ ــوا يسـ ــقطون عليهـ ــا حـ ــاالتهم النفسـ ــية ‪ ،‬أو يعلقـ ــون عليهـ ــا رؤيتهم للحيـ ــاة انطالقـ ــا من‬
‫تجربتهم الذاتية و معايشتهم لواقعهم بكل ما يحمله من تناقضات و مآسي‪ ،‬و قد تــأثر األدب‬
‫الفلســطيني عامــة بــالتراث الــديني المتنــوع الــذي حظيت بــه فلســطين ‪ ،‬باعتبارهــا األرض‬
‫التي " شهدت والدة الديانات السماوية الثالثة إضافة للديانات األخــرى " للنصــوص المســتمدة‬
‫من التوراة و اإلنجيل و القرآن دور كبير في إضفاء مســحة إنســانية و فنيــة على أعمــالهم‪.‬‬
‫فحفل شـعرهم برمـوز متنوعـة أفـاد منهـا الشـاعر محمـود درويش في بنـاء قصـائده و تعميـق‬
‫رؤيته للعالم و نقل تجربته المريرة الحافلـة بالمعانـاة و النضـال و من بين الشخصـيات الـتي‬
‫وظفها نجد المسرح ‪ ،‬أيوب‪ ،‬يوسف ‪ ،‬نوح ‪.‬‬
‫أ‪ -‬المسيح‪ :‬تعد فلسطين مهد المسيح عليه الســالم ‪ ،‬و مركــزا دينيــا مقدســا‪ ،‬يحج إليــه آالــف‬
‫المسيحيين في كل سنة إحيــاء يــوم ميالده ‪ ،‬و نجـد كــذلك " للــتراث المسـيحي حضــورا فعلمــا‬
‫في وجــدان الجمــاهير و خاصــة الفلســطينية و قــد كــان لهــذا الحضــور الوجــداني تــأثير كبــير‬
‫على األدباء و الشعراء منها و بغض النظر عن انتمائها الطـائفي"‪ 2‬خاصـة حيث تحلت في‬
‫نصوص ــهم الش ــعرية كم ــا وج ــد الش ــاعر الع ــربي في حي ــاة المس ــيح م ــا يع ــني تجربت ــه‪ ،‬فش ــاع‬
‫مقابــال للتضــحية و الفــداء اســتخدام شخصــية المســيح بين الشــعراء حــتى غــدا المســيح عنــد‬
‫بعضــهم رمــزا نمطيــا‪ " 3‬تحمــل الشــقاء في ســبيل اآلخــرين‪ - .‬و بخصــوص اســتعمال الشــعر‬
‫الحديث لهذا الرمز يرى رجاء النقاش " أن محمود درويش هو أحد الشـعراء ‪ ،‬الخمسـة من‬

‫‪ . 1‬حصة البادي‪ ،‬التناص في الشعر العربي الحديث‪ ،‬ط‪، 1‬دار كنوز المعرفة العلمية ‪ ،‬عمان ‪، 2009 ،‬ص‪39:‬‬
‫‪ 2‬نزيه أبو نضال ‪ ،‬جدل الشعر و الثورة ‪ ،‬ص‪148:‬‬
‫‪3‬نسيب نشاوي‪ ،‬مدخل إلى المدارس األدبية في الشعر العربي المعاصر‪ ،‬مطابع الف باء ‪ ،‬األديب‪ ،‬دمشق ‪، 1980 ،‬ص‪.587:‬‬

‫‪39‬‬
‫الجيل الجديـد اسـتخدموا رمـز الصـليب فأحسـنوا اسـتخدامه و هم السـياب ‪ ،‬أدونيس ‪ ،‬صـالح‬
‫عبد الصبور‪ ،‬و خليل الحاوي‪"1،‬‬
‫فالمسيح عند محمود درويش في قصيدته " مزامير "‪ 2‬قراءات متعددة‬
‫تدحرجت عن الصليب الممتد كالصحو‪.‬‬
‫في أفق ال ينحني‪.‬‬
‫إلى أصغر جبل تصل إليه الرؤيا‪.‬‬
‫أصبحت شديد االنحناء‪.‬‬
‫كسماتك التي ترافق نوافذ الطائرات‪.‬‬
‫سيتحدث الشاعر هنا بصوت المسيح ‪ ،‬فيتدحرج عن الصليب ليمد بصره و يرى ما حوله‬
‫فيجــد نفســه غريبــا في أرضــه فتغيب خطواتــه في ظــل المكــان الــذي صــار ال يعرفــه فيعكس‬
‫ب ــذلك االغ ــتراب ال ــذي يعيش ــه غم أن قدمي ــه نزي ــه أب ــو نض ــال ‪ ،‬ج ــدل الش ــعر و الث ــورة ‪،‬‬
‫تالمس تراب أرضه التي صار ال يعرفها بعد أن نهبها االحتالل فجعل الشاعر من غربــة‬
‫المســيح بين أهلــه و مــا ألقــاه من عــذاب على أيــديهم رمــزا للغربــة و االاللم الــتي يعــاني مهــا‬
‫الفلسطيني اليوم‪.‬‬
‫‪ .‬ب‪ -‬أي ــوب علي ــه الس ــالم‪ :‬يس ــتدعي محم ــود درويش شخص ــيات من الق ــرآن تحم ــل م ــاني‬
‫الص ــبر و المقاوم ــة فيوظ ــف شخص ــية " أي ــوب علي ــه الس ــالم " ذل ــك ال ــذي يرم ــز إلى تحم ــل‬
‫العــذاب بــال ســبب ســوى اإلرادة اإللهيــة الختبــار قــوة صــبره و إيمانــه و هــو يوظفــه بشــكل‬
‫مختلف‪.‬‬
‫رمــز شــائع بين الشــعراء ‪ ،‬إذ نجــده عنــد محمــود درويش في قصــيدته " أبي‪ 3‬يوظفــه بشــكل‬
‫مختلف‬
‫" يوم كان اإلله يجلد عبده‬
‫قلت ‪ :‬يا ناس ! نكفر‬
‫! فروي لي أبي ‪ ..‬و طأطأ زنده‬
‫في حوار مع العذاب‬

‫‪1‬‬
‫فتيحة محمود‪ ،‬محمود درويش و مفهوم الثورة في شعره‪ ،‬ب ط‪ ،‬المؤسسة الجزائرية للطباعة ‪ ،‬الجزائر‪، 1987 ،‬ص‪1987:‬‬
‫‪ 2‬محمود درويش‪ ،‬الديوان ‪ ،‬ص‪365:‬‬
‫‪ 3‬محمود درويش‪ ،‬الديوان ‪ ،‬ص‪139:‬‬

‫‪40‬‬
‫كان أيوب يشكر‬
‫خالق الدود ‪ ..‬و السحاب‬
‫خلق الجرح لي أنا‬
‫ال لميت ‪ ..‬و ال ضم‬
‫فرع الجرح و األلم‬
‫و أعني على الندم‬
‫فالشــاعر لم يلــتزم بقصــة أيــوب كمــا وردت في القــرآن " و أيــوب إذ نــادى رّب ه أني ّم ســني‬
‫اّلضر و أنت أرحم الراحمين فاستجبنا له فكشفنا ما بــه من ّض ر وآتينــاه أهلــه و مثلهم معهم‬
‫رحمــة من عنــدنا و ذكــرى للعابــدين ‪ ، "1‬و إن للداللــة على قــوة الجلــد و الصــبر فيــأتي هــذا‬
‫الرمز بطريقة و وعظية من أبّ ما قام تحويرها و جعل من أيوب رمزا البنه‪ .‬ج‪ -‬يوســف‬
‫عليــه الســالم‪ :‬يســتدعي الشــاعر في قصــيدته " أنــا يوســف يــا أبي " مالمح من شخصــية النــبي‬
‫يوس ــف علي ــه الس ــالم و م ــا ت ــعّ رض ل ــه من حس ــد و حق ــد من ط ــرف إخوت ــه حيث ج ــاء في‬
‫القــرآن حــديث يوســف ألبيــه ‪" :‬إذ قــال يوســف ألبيــه يــا أبــتي إني رأيت أحــد عشــر كوكبــا و‬
‫الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين قال يا بني ال تقصص رؤيــاك على إخوتــك فيكيــدوا لــك‬
‫كيــدا إّ ن الشـيطان لإلنسـان عــدو مــبين‪ .، 2‬فينتحـل الشـاعر شخصــية يوسـف عليــه السـالم و‬
‫يقول على لسانه‪ :‬أنـا يوسـف يـا أبي يـا أبي يـا أبي إخـوتي ال يحبونـني ال يريـدونني بينهم يـا‬
‫أبي يعتدون علي و يرمونني بالحصى و الكالم يريدونني أن أموت‪.‬‬
‫‪ .‬ب‪ /‬القصص الديني ‪ :‬إلى جـانب توظيـف الشخصـيات الدينيـة في األعمـال الفنيـة فقـد مـال‬
‫الش ــاعر الع ــربي المعاص ــر إلى توظي ــف القص ــص ال ــديني ليجع ــل منه ــا مع ــادال موض ــوعيا‬
‫األحــداث و النكســات الــتي تعرضــت إليهــا األمــة العربيــة عــبر تاريخهــا الطويــل فنقلت تلــك‬
‫القصــص صــورا كثــيرة للعالقــات ااالنســانية و القيم األخالقيــة الــتي تنــازعت النفس البشــرية‬
‫منذ القديم‪ ،‬و قد أفاد الشاعر العربي من قصص كثيرة في شعره‪ ،‬كقابيل و هابيــل و حادثــة‬
‫صلب المسيح و هجرة هــاجر و غيرهــا من القصــص الدينيــة الــتي تختلــف طريقــة اسـتلهامها‬
‫من شاعر إلى شاعر آخر‬

‫‪1‬‬
‫سورة األنبياء‪ ،‬اآلليات ‪84-83 ،‬‬
‫‪2‬‬
‫سورة يوسف‪ ،‬اآلية ‪04‬‬

‫‪41‬‬
‫‪ .‬أ‪ -‬قصة قابيل و هابيل ‪ :‬تعد قصة قابيل و هابيل من القصص الشائعة االستخدام في‬
‫الشعر المعاصر حيث وظفها العديد من الشهداء بداالت متعددة لما تحمله من أبعاد إنسانية‬
‫و قيم خالدة و قد وردت في القرآن الكريم قصة بني آدم في قوله تعالى ‪":‬واتل عليهم نبأ‬
‫ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من اآلخر قال ألقتلنك قال انما‬
‫‪1‬‬
‫يتقبل اهلل من المتقين"‬
‫فنجـد قصـة قابيـل و هابيـل في شـعر محمـود درويش ترمـز إلى رمـوز أخـرى فقابيـل معـادل‬
‫للعدو الصهيوني ففي قصيدته " الموت مجانا‪ 2‬يقول ‪:‬‬
‫يا كفر قاسم ليس فانيا أخي‬
‫إني شهيد األصدقاء‬
‫إني أخاف على المحبة من أساطير الشقاء فلتر جيدا إلى الشمس تحنت بالدماء‬
‫فالشــاعر يــذكر اســم قــاين الــذي هــو قابيــل كمــا ورد في النص التــوراتي ليجعــل منــه معــادال‬
‫للعدو الصهيوني الذي قـام بـاقتراف مجـزرة كفـر قاسـم و يقطـع هابيـل ألواصـل األخـوة الـتي‬
‫جمعتــه مــع هابيــل رغم اشــتراكهما في األبــوة برفضــه األخــوة الــتي تجمــع بينهمــا ‪ .‬و يؤكــد‬
‫على‬
‫‪3‬‬
‫هذه الجريمة في مقطع آخر من قصيدته " مديح الظل العالي"‬

‫أنا أّ ول القتلى وآخر من يموت‬


‫إنجيل أعدائي و توراة الوصايا البائسة‬
‫كتبت على جسدي‬
‫فــيرمز إلى أّ ول القتلى الــذي هــو هابيــل إلى الفلســطيني الــذي تــوالت عليــه النكبــات منــذ أن‬
‫أعلنت الحرك ــة الص ــهيونية قي ــام دولته ــا على أرض فلس ــطين و على أجس ــاد أبنائه ــا راحت‬
‫تزرع كيانها انطالقا من مبررات دينية‬
‫‪ .‬ب‪ -‬سفينة نوح ‪ :‬اشتملت قصة نوح عليه السـالم مـع قومـه على أحـداث كثـيرة اسـتوقفت‬
‫الشاعر محمود درويش الــذي راح ن جديــد و اّن يحـاول اإلفـادة من الــدالالت الرمزيــة الــتي‬

‫‪1‬‬
‫سورة المائدة ‪ ،‬اآلية ‪27‬‬
‫‪ 2‬محمود درويش ‪ ،‬الديوان ص ‪212‬‬
‫‪ 3‬محمود درويش – الديوان ص ‪103‬‬

‫‪42‬‬
‫تق ــدمها دون أن يعي ــد تركيبه ــا م م ــا اعتم ــد على ذكائ ــه و قدرت ــه على قلب دالل ــة القص ــة و‬
‫خلــق مفارقــة بين طلب التجــارة و رفض الرحيــل على متن الســفينة الــتي كــانت دائمــا ترمــز‬
‫إلى السالمة و النجاة أّ ما عند محمود درويش في قصيدته "مطر" تكتسي دالالت أخرى‬
‫‪ .‬يا نوح‬
‫هبني غصن زيتون و والدتي حمامة‬
‫! إن‬
‫كانت نهايتها صناديق القمامة !‬
‫يا نوح الترحل بنا‬
‫إن جذورنا ال تعيش بغير ارض‬
‫‪ . . .‬و لتكن أرض قيامة‪. 1‬‬
‫‪ .‬من خالل قراءتنا لهذه األبيات نالحظ تأثر الشاعر بالقصة التي وردت في التوراة فهنــاك‬
‫إشــارة إلى الحمامــة و غصــن الزيتــون ‪ ،‬و قــد عمــد الشــاعر في توظيفهــا إلى تحويلهــا حيث‬
‫تحولت من رمز للنجاة إلى رمز للمـوت ألّنهـا في نظـره سـتنقله من وطنـه إلى مكـان آخـر ‪،‬‬
‫ألن هــو الحقيقيّ ه يــرى المــوت في أرضــه ســالمة و الخــروج منهــا بالنســبة إليــه فاســتطاع‬
‫بفض ــل ه ــذه المف ــارق أن يرم ــز إلى العالق ــة الوطي ــدة بين ــه و بين أرض و ارتباط ــه العمي ــق‬
‫بجذوره الضاربة في أعماق تربتها‬
‫‪ .‬الرمز األسطوري‪:‬‬
‫عاد الشعر العربي المعاصر إلى التراث العالمي‪ ،‬يستقي منـه بعض عناصـر بنيتـه الفنيـة‪،‬‬
‫فشكلت برية منبعا لإلبداع‪ ،‬بّ ث األساطير اليونانية‪ ،‬الفينيقية و الع فيهــا الشـاعر من روح‬
‫عصــره و همومهــا‪ّ .‬م مــا جعلهــا تنبض بالحيويــة و الّج دة‪ ،‬فجعــل من شخصــيتها و أحــداثها‬
‫وعاءا جائرا يصب فيه أفكاره و عواطفه بطريقة يتجاوز بها واقع تجربته الذاتيــة إلى حقــل‬
‫إنس ــانية عام ــة ‪ ،‬و ه ــو م ــا يعطي ألعمال ــه البع ــد ال ــدرامي و الموق ــف المتكام ــل من ال ــذات و‬
‫الوجود نظرا لما تتميز به األساطير و ما تمنحه من خصـوبة و طاقـة إيحائيـة متجـددة يعـبر‬
‫بها كل شاعر بطريقته الخاصة ‪– .‬‬

‫‪1‬‬
‫محمود درويش – الديوان ص ‪115‬‬

‫‪43‬‬
‫و قــد حصــر الــدكتور " أنس داوود "‪ 1‬الغايــة من اســتخدام األســطورة في الشــعر العــربي في‬
‫ثالث نقاط نلخصها فيما يلي ‪:‬‬
‫‪*-‬مــا وجــده شــعراؤنا من حاجــة الشــعر العــربي إلى الخــروج من دائــرة الغنائيــة الذاتيــة و‬
‫الدخول به إلى دائرة الموضوعية التي لها وجود مستقل ‪.‬‬
‫*‪-‬تحقيــق اإلحســاس بوحــدة الوجــود اإلنســاني حيث يجــدون في األســاطير الماضــية تعبــيرا‬
‫عن الحاضر المعاش ‪.‬‬
‫*‪-‬االقتصاد في لغة الشعر بتركيز التعبير و تكثيف الداللة ‪.‬‬
‫أ‪ -‬أسطورة السندباد ‪ :‬لقيت شخصية السندباد اهتماما واضحا لدى الشعراء المعاصرين‬
‫إذ يعتبر البعض أن الشاعر صالح عبد الصبور‪ 2‬هو أول من استفاد من توظيفه نبأ‬
‫قصائده ‪ ،‬و إذا كان الشاعر العربي عامة قد وظف شخصية السندباد الصبور من حاجته‬
‫الخاصة للتعبير عن انفعاالته ‪ ،‬ورغم شهرة السندباد و شيوعه عند الشعراء المعاصرين فا‬
‫ّن محمود كملحمة سريعة ‪ .‬درويش لم يحفل منها كثيرا في أشعاره فتبدو في قصيدته "‬
‫المناديل"‬
‫ما لوحت ام ودم سال‬
‫في أغوار وادي‬
‫و بكى لصوت ما حتمين‬
‫‪ .‬في شارع السندباد‬
‫ّر دي سألتك شهقه المنديل مزمارا‬
‫ينادي فرحي بأن ألقاك‬
‫‪3‬‬
‫وعدا كان يكبر في أبعادي‬
‫ليس ــت رحل ــة الس ــندباد هن ــا رحل ــة استكش ــافية و إنم ــا هي رحل ــة إلى المجه ــول لم يختره ــا‬
‫الفلس ــطيني ألن ــه هج ــر من أرض ــه فض ــاع و تش ــتت بين دول الش ــرق و الغ ــرب تحت وط ــأة‬
‫العدوان و القهر الذي سلطه االحتالل اإلسـرائيلي عليــه ّثم راح ينشـد أمــل العــودة و تحقيــق‬
‫حلم الرجوع من منفاه إلى جذوره‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫أنس داوود – األسطورة في الشعر العربي الحدبث – مكتبة عين الشمس – القاهرة ‪ ،‬بدون تاريخ ص ‪19‬‬
‫‪2‬‬
‫يراجع فايز الداية ‪،‬جماليات األسلوب ط‪ – 2‬دار الفكر – دمشق –دار الفكر المعاصر – بيروت ‪ 1996‬ص ‪208‬‬
‫‪3‬‬
‫محمود درويش – الديوان – ص ‪12‬‬

‫‪44‬‬
‫‪2‬أس@@طورة األرض ‪ :‬ارتبطت األس ــاطير ب ــالعهود القديم ــة حين ك ــان الج ــانب ال ــروحي فيه ــا‬
‫يغلب على التفكــير اإلنســاني ‪ّ ،‬م مــا دفــع بــالبعض إلى التشــكيك في إمكانيــة عــودة األســاطير‬
‫في عص ــرنا الح ــالي ‪ .‬ف ــإذا ك ــانت ع ــودة الش ــاعر الع ــربي إلى األس ــاطير القديم ــة هي بمثاب ــة‬
‫بحث عن جــذور أو روابــط الصــلة بالماضــي أو بســبب تــأثيره لمــا وصــلنا من الغــرب فــاّ ن‬
‫معايشــته لواقعــة ظّ ل هاجســه األّ ول حيث " ازداد الــوعي بضــرورة تأصــيل حداثــة حقيقيــة‪،‬‬
‫ينبغي له ـ ــا االنطالق من الواقعي ـ ــة ‪...‬و بم ـ ــا أّ ن التأص ـ ــيل يكمن في ص ـ ــياغة ش ـ ــعر يل ـ ــبي‬
‫‪1‬‬
‫الحاجة الحضرية أللمة و يجعل من ذاته المبدعة أسطورة ‪.‬‬
‫" ‪ .‬و إذا كــانت عــودة محمــود درويش إلى األســاطير القديمــة الموروثــة من العهــود القديمــة‬
‫في ش ــعره للتعب ــير عن مواق ــف معين ــة في وقت من األوق ــات ف ــاّ ن األرض ش ــكلت مح ــورا‬
‫أساسيا في معظم قصائده ألّنها كما يقول في إحدى قصائده ‪:‬‬
‫‪ . . .‬و لكّنها وطني‬
‫من الصعب أن تعزلو‬
‫عصيرا لفواكه عن كريات دمي‬
‫و لكنها وطني من الصعب أن تجدوا فارقا واحدا‬
‫بين حقل الذرة‬
‫و بين تجاعيد كفي‬
‫و لكنها وطني‪. . . 2‬‬

‫إن هذه الصور نابعة من عمق التجربة الحزينــة الــتي يعيشـها الشـاعر في واقعــه األليم الــذي‬
‫ال يريـد مغادرتـه فهـو" الحـزن الـذي تنحـل فيـه الـذات في العـالم و يكـون معـه المعي العميـق‬
‫بغي ــاب الج ــوهر و اإلرادة الحقيقي ــة في استحض ــاره ‪ . . .‬لكن ــه ال يف ــرط في القض ــية و ال‬
‫يلغي الواقع أبدا‪" 3‬‬
‫‪ .‬و في مقطوعة أخرى تتجدد روحه مع تراب األرض فيقول‪:‬‬
‫أسّ مي التراب امتدادا لروحي‬
‫أسّ مي يدي رصيف الجروح‬
‫‪1‬‬
‫إبراهيم رماني – الغموض في الشعر العربي الحديث – ص ‪.295‬‬
‫‪2‬‬
‫محمود درويش ‪-‬الديوان – ص ‪.126‬‬
‫‪3‬‬
‫ابراهيم ر محمود درويش – الديوان‪ -‬ص ‪.126‬‬

‫‪45‬‬
‫أسّ مي الحصى أجنحة‬
‫أسّ مي العصافير لوزا وتين‬
‫أسمي ضلوعي شجر‬
‫و أنسل من تينة الصدر غصنا‬
‫و أقذفه كالحجر‬
‫‪1‬‬
‫و أسنق ذبابة الفاتحين‬
‫و من هــذه المقطوعــة تتجلى العالقــة العضــوية بين الشــاعر و أرضــه ‪ ،‬حيث تغــدو عالقــة "‬
‫قائمــة على قــوة االلتحــام ‪ ،‬فيعتــبر اتحــاده و التجــدر و التشــبت بأصــول األرض ممــا يجعــل‬
‫الش ــاعر ش ــجرا متأص ــل في أعم ــاق أرض ــه "‪ 2‬بأرض ــه أق ــوى س ــالح يص ــوبه نح ــو األع ــداء‬
‫فيجعل من االرتباط باألرض السبيل األوحد إلى تحقيق النصر و تدمير دبابة الفاتحين ‪.‬‬
‫أ_ الرمز الطبيعي ‪:‬‬
‫لجأ الشاعر محمود درويش إلى الرمز الطبيعي يوظفه في ديوانه هذا أذ لعبت الطبيعة‬
‫دورا كبيرا في تقديم أفكار درويش‪ ،‬ومن الرموز الطبيعية نذكر "استعمال شجر البرتقال‬
‫والصفصاف للتا كيد على األصالة والثبات والصمود حيث يقول في قصيدته "عن‬
‫الصمود"‪:‬‬
‫ويفتح اآلفاق لألشباح ‪.‬‬
‫وغابة الصفصاف لم تزل تعانق الرياح !‪.‬‬
‫ماذا جنيا نحن يا أما !‬
‫حيث نموت مرتين‪.‬‬
‫فمرة‪ .‬نموت في الحياة‬
‫ومرة نموت عند الموت ‪.‬‬

‫وقــد أســتخدم الصفصــاف رمــزا من الرمــوز الفلســطينية وذلــك للداللــة على المعــنى واالرادة‬
‫الفلسطينية الصلبة الن شجر الصفصاف يستخدم كمصدات للرياح في المزارع الفلسطنية ‪.‬‬
‫كما إستخدم درويش الصفصاف في الشهداء بإعتباره شهدا على شموخ الشــهداء كمــا حــاول‬
‫‪1‬‬
‫محمود درويش – الديوان‪ -‬ص ‪.618‬‬
‫‪2‬‬
‫أحمد أبو حاقه – االلتزام في الشعر العربي – ص ‪.64‬‬

‫‪46‬‬
‫الشــاعر الوصــول إلى رمــزه األكــبر وهــو الــوطن من خالل توظيــف عناصــر الطبيعــة رمــزا‬
‫لهذا الوطن بقوله ‪:‬‬

‫ياصديق ـ ـ ــي‬

‫! لن يصب النيل في الفولغا‬

‫!‪ .‬وال الكونغو‪ ،‬وال األردن في نهر الفرات‪. .‬‬

‫كل نهر له نبع ‪......‬ومجري ‪......‬وحياة‪.‬‬

‫ياصديقي ‪.! ...........‬‬

‫أرضنا ليست بعاقـ ــر‬

‫‪ .‬كل ارض لها ميالده ـ ـ ــا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كل فجر وله موعد ثائ ـ ــر ‪.‬‬

‫فالشــعب لــه الحــق في الحيــاة الهادئــة والبســيطة على حجــر يســمى وطنهم‪ ،‬وقــد اســتخدم هــذا‬
‫الشاعر نهر الفرات رمزا لألرض األصلية للشــعب‪ ،‬ورغبتــه في االســتقرار في هــذا الــوطن‬
‫واالنته ــاء من ك ــابوس االحتالل‪ ،‬فه ــو ح ــق من حق ــوقهم‪ ،‬وك ــذلك ه ــو األم ــل ال ــذي يحلم ب ــه‬
‫الفلسطينين بعد الشقاء والتهجير‪ ،‬تتحول دموع السبي واألحزان إلى دموع الفرح والخير ‪.‬‬

‫وتعتبر صورة النباتات من أكثر الصور حضورا في شعر درويش حتي يجعلنـا نتخيـل نمـو‬
‫الزيتــون‪ ،‬والياســمين والعنب والبرتقــال والقمح على ســطوره قبــل نمــو الحــروف والكلمــات‪،‬‬
‫وس ــنتناول مجموع ــة من النبات ــات‪ ،‬ونرب ــط بينه ــا وبين رمزيته ــا عن ــد محم ــود درويش ن ــذكر‬
‫منها قوله في قصيدته‪:‬‬

‫محمود درويش _ديوان محمود درويش _األعمال األولى‪ ،‬ج‪،1‬ص‪.53:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪47‬‬
‫لو يذكر الزيتون غارســه‪.‬‬

‫لصار الزيت دمعـ ــا يا حكمة األجـ ـ ــداد‪.‬‬

‫لومن لحمنا نعطيك درعـا‪.1‬‬

‫وقــد تمــيزت شــجرة الزيتــون في شــعر درويش عن غيرهــا منــذ بــدايتها ليس‪ ،‬لقدســيتها‪ ،‬بــل‬
‫االشــتهار فلســطين بهــا‪،‬وقــد مثلت لــه شــجرة الزيتــون‪ ،‬وطنــا بكــل أبعــاده ســمى ديوانــه أوراق‬
‫الزيتون‪ ،‬مما يميز هذه الشجرة أنها تحمل معنى القدسية واألزلية والخلود وشــجرة الزيتــون‬
‫من مقومــات وجــود اإلنســان الفلســطيني على أرضــه‪ ،‬ولم يــرد ذكــر نبــات أكــثر من الزيتــون‬
‫في كتــاب ااهلل تعــالى"فهي شــجرة جعلهــا ااهلل مصــدر رزق‪ ،‬ومصــدر صــحة لإلنســان‪ ،‬فيقــول‬
‫أحــد األطبــاء "لــوال شــجرة الزيتــون لمــات أكــثر النــاس بالســرطان "‪،‬وقــد جعــل ااهلل الطبيعــة‬
‫تتزن بها لخضرتها وجذورها تتشبت بـاألرض كمـا اإلنسـان‪ ،‬وقـد اسـتعمل درويش الزيتـون‬
‫رمزا لألرض المغتصبة‪.‬‬

‫واخضراره الدائم رمز للحياة‪ ،‬والمقاومة المستمرة في األرض المغتصبة ‪ .‬ويعود محمــود‬
‫درويش من جديـد السـتعمال البرتقـال ليس للـتزيين‪ ،‬بـل ليـدعنا نشـتم رائحـة الـوطن‪ ،‬ونتأمـل‬
‫شكلها حينا أخر‪ ،‬فيقول واصفا ذلك‪:‬‬

‫في ثقوب السجن القيت عيون البرتقال‪.‬‬

‫وعناق البحر واألفق الرحيب‪.‬‬

‫‪ .‬فإذا أشتد سواء الحزن في إحدى الليالي ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أتعزى بجمال الليل‪ ،‬في شعر حبيبي ‪.‬‬

‫محمود درويش _ديوان محمود درويش _األعمال األولى‪ ،‬ج‪،1‬ص‪.48 :‬‬ ‫‪1‬‬

‫محمود درويش _ديوان محمود درويش _األعمال األولى‪ ،‬ج‪،1‬ص‪73:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪48‬‬
‫وقــد عــرف درويش البرتقــال أيضــا كرمــز من الرمــوز الفلســطينية في شــعره ألول مــرة عــام‬
‫‪1964‬عنــد مــا كتب أشــعار ديوانــه أوراق الزيتــون‪ ،‬فقــد اشــتهرت فلســطين بزراعتهــا‪ ،‬وهي‬
‫تدور في شعره حاملة دالالت مختلفة‪ ،‬وقد اقترنت باإلنسان أو بشيء من أعضائه كالعيون‬
‫أو القلب‪ ،‬ورمز البرتقال عنـد درويش يعـبر عن حـال الشـعب الفلسـطيني المتشـتت في بقـاع‬
‫األرض‪ ،‬ولكن هذا التناثر لإلنسان الفلسطيني‪ ،‬ما هو إال تناثر االنبعــاث من جديــد‪ .‬وكــذالك‬
‫الحنين إلى الوطن من خالل رائحة البرتقال‪ ،‬ولونه و وهج البرتقال بقوله‪:‬‬

‫أعدموا غوليان في الليل‪.‬‬

‫وزهر البرتقال‬

‫‪1‬‬
‫ولم يزل ينشر عطرا ‪.‬‬

‫فاستعمل البرتقال كرمز تشكيلي طبيعي قد تساوى مع اإلسهام السياسي الحياتي الذي أحــال‬
‫البرتقال إلى رمز فلسطين لوطن مغتصب وشعب متشرد‬

‫‪ .‬وق ــد ج ــال محم ــود درويش بين دوابي فلس ــطين وجباله ــا وس ــهولها‪ ،‬وأش ــم رائح ــة نباته ــا‪،‬‬
‫وتجدر ذلك في فكره وفلسفته وعدها صنو اإلنسان في الدفاع عن األرض‪ ،‬مما وقــع عليهــا‬
‫من ظلم وعدوان وامتدت أفكاره إليها‪ ،‬لمست يداه تلك األرض‪ ،‬فجعل النبات‬

‫مــدافعا‪،‬واألرض مقاومــة وقــد تطــرق درويش إلى كــل النباتــات الفلســطينية‪ ،‬ولم يــترك شــيئا‬
‫من الشـ ــجر الـ ــذي رآه‪،‬وحـ ــتى ولـ ــو لم يـ ــره‪ ،‬ممـ ــا اشـ ــتهرت بـ ــه أرضـ ــه إال وذكـ ــره‪ .‬أشـ ــجار‬
‫الزيت ــون‪ ،‬البرتق ــال والعنب والصفص ــاف والتف ــاح والل ــوز وال ــورد والياســمين وتغ ــني ب ــالقمح‬
‫والسنابل والزعـتر‪ ،‬وكـل هـذه النباتـات نجـدها شـاهدة على األرض والـذكريات‪ ،‬فمن المـوت‬
‫تنبثق الحياة‪ ،‬ومن االنكسار يتولد االنفجار ويبدأ الربيع واإلخصاب‪.‬‬

‫نفس المرجع ص‪77:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ .‬ب_الرمز الديني ‪:‬‬

‫نعــني بــالرمز الــديني تلــك الرمــوز المشــتقة من الكتب الســماوية‪ ،‬باعتبــار أن لكــل مبــدع أو‬
‫شاعر خلفية دينية ومعتقدات راسخة في داخله‪ ،‬يمكن أن نقول من هذا المنطلق أن الشــاعر‬
‫ال يستطيع أن يتملى من دينه وعقيدته فنرى في جل ما يقدمــه الشــعراء تلــك المســحة الدينيــة‬
‫فهم ال يكتب ــون بعي ــدا عن مجتمعهم وخلفي ــاتهم اإليديولوجي ــة والش ــاعر محم ــود درويش ك ــان‬
‫كغــيره من الشــعراء يحــاول ترســيخ عقيدتــه‪ ،‬وهــذا مــا نلمحــه في أعمالــه‪ ،‬فهــو لم يخــرج من‬
‫دينه اإلسالمي بتعاليمه وواجباتـه وعلى هـذا األسـاس جـاءت الرمـوز الدينيـة الـتي اسـتخدمها‬
‫درويش متنوع ــة المص ــادر فه ــو كغ ــيره من الش ــعراء وج ــد في ال ــدين وجه ــا أخ ــر من وج ــوه‬
‫المقاومة‪ ،‬وتحقيق الحرية واألمن ولهذا نجدهم ربطوا بين الدين والثــورة وتغيــير الحيــاة بين‬
‫الدين والكفاح من أجل المستقبل ‪ .‬فنجد درويش قد وظف هذا النوع من الرموز في ديوانــه‬
‫بقوله‪:‬‬

‫كفاك يا صديقي‪،‬‬

‫ذئبان جائعان مصي بقايا دمنا‪،‬‬

‫وبعدنا الطوفان‬

‫وإ ن سخبت مرة‪،‬‬

‫ال تتركي الجثمان‬

‫وإ ن سئمت بعده‪ ،‬فعندك الديدان‬

‫‪1‬‬
‫إنا خلقنا غلطة‪ ،‬في غفلة من الزمان ‪.‬‬

‫(محمود درويش‪ ،‬ديوان محمود درويش‪ ،‬األعمال األولى‪،‬ج‪،1‬ص‪50:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪50‬‬
‫فالذات في رغبتها في الحياة ال خوف من الموت‪ ،‬وبهدف ترغب في تحقيقه‪ ،‬وهو مشــاهدة‬
‫هــذا الطوفــان وهــو يغــرق األرض مجــددا‪ ،‬كمــا حــدث زمن ســيدنا نــوح عليــه الســالم‪ ،‬فلعلهــا‬
‫تنطق من أدران العاقلين‪ ،‬وهنا يظهـر اسـتخدام الشـاعر للقـرآن الكـريم في قصـة سـيدنا نـوح‬
‫واختار القصيدة هذه األخيرة دون غيرها من القصص األخرى لما في هذه القصة من عبر‬
‫في تطهير األرض الفلسطينية من أدران العدو‪،‬‬

‫كما استخدم الشاعر الزيتون في قوله‬

‫ستظل في الزيتون خضرته وحول األرض درعا‬

‫إنا نحب الورد لكن نحب القمح أكثر ونحب عطر الورد‬

‫‪1‬‬
‫‪ 2‬ولكن السنابل منه أطهر ‪.‬‬

‫وفي القران الكريم نجد اآلية "التين والزيتون وطور سنين "‬

‫"وكذلك اآلية "كمثل حبة أنبتت سبع سنابل "‪.‬‬

‫وقـد اختـيرت كلمتـا الـتين والزيتـون وكلمـة سـنابل بـدل إسـتبدلهما بـأنواع أخـرى من النباتـات‬
‫لما فيها من الداللة على الثبات وهنا نعلم الخلود من حلقة القمح التي انبتت سنابل عــدة بعــد‬
‫موتها والتين والزيتون داللة على البقاء والصمود في وجه الرياح العاتيات‪.‬‬

‫كما استند الشاعر إلى رمز المسيح الصلب رمزا للفلسطينيين وما يعانيــه من ويالت‬
‫االحتالل اإلسرائيلي ذلك في قوله في قصيدته ‪:‬‬

‫الصوت في شفتيك ال يطرب‬

‫والنار في رئتيك ال تغل ـ ــب‬

‫المرجع السابق ص‪51‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪51‬‬
‫وأبو أبيك على حذاء مهاجر‬

‫يصلب وشفاهها تعطي سواك‬

‫ونهدها يخلب‬

‫‪1‬‬
‫فعالم ال تغضـ ـ ـ ــب‬

‫فمحمود درويش انتبه إلى العالقة بين رمز المسيح الصليب الذي قتل اليهود‪ ،‬وبين‬
‫الواقــع الفلســطيني‪ ،‬الــذي يقتــل اليهــود كــذلك على صــليبه الفلســطيني‪ 2‬وقــد اســتخدم الســواك‬
‫رمــزا لإلســالم‪ ،‬على أن هــذا الشــاعر إســالمي وإ نســاني بالدرجــة األولى‪ ،‬ممــا جعــل حضــور‬
‫جنازتـه كـل من المسـيح واإلسـالم‪ ،‬وكـذلك محنـة الفـرد الفلسـطيني والرغبـة في التخلص من‬
‫العدو الصهيوني‪.‬‬

‫ج_الرمز التاريخي ‪:‬‬

‫الرمز التاريخي هو ذلك التراث التاريخي والسياسي واألدبي الذي عــاد إليــه الشــاعر‬
‫العـربي وأسـتمد منـه رمـوزا حيـة ال عـادة تشـكيل الواقـع‪ ،‬وفـق رؤيتـه وتصـوره وموقفـه من‬
‫الحياة للتعبير عما هو سائد في هذا الواقع وما تعانيــه البشـرية نتيجـة الــدمار والضــياع الــذي‬
‫تســبب فيــه االســتعمار‪ ،‬وكــان الهــدف من اســتعمال الرمــز التــاريخي من طــرف الشــعراء هــو‬
‫إقامة عالقات التو اصل الماضي والحاضر ‪.‬‬

‫ومن الش ــعراء الـ ــذين تعـ ــاملوا وظفـ ــوا هـ ــذا الرمـ ــز في شخصـ ــيات وح ــوادث تاريخيـ ــة نـ ــذكر‬
‫محمود درويش‪ ،‬هذا الشاعر الذي ولدت فيه كل مشاعر األلم والمرارة والحصــر والضــياع‬
‫بسبب ما أصاب بالده وشعبه وما لحقه من دمار ويأس نتيجة االســتعمار الوحشــي الــذي ألم‬
‫بهم‪ ،‬ونزع منهم كــل أمــالهم في الحريــة ‪ .‬وقـد استحضــر الشـاعر بعض الرمــوز واألسـاطير‬

‫محمود درويش‪ ،‬ديوان محمود درويش‪ ،‬األعمال األولى‪ ،‬ج‪، 1‬ص‪65:‬‬ ‫‪1‬‬

‫(محمد فكري الجزار الخطاب الشعري عند محمود درويش‪ ،‬ص‪268:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪52‬‬
‫القديمة ووظفها في سياقات القصيدة لتعميق رؤية معاصرة يراها الشاعر في القصــيدة الــتي‬
‫يطرحها‪ ،‬ومن الرموز التي وظفها قوله في قصيدته‪:‬‬

‫يا دامي العينين والكفين‪.‬‬

‫إن الليل زائر‪.‬‬

‫ال غرفة التوقيف باقية‬

‫ال زرد السالسل نيرون مات‪.‬‬

‫ولم تمت روما بعينيها تقاتل‪.‬‬

‫وحبوب سنبلة تجف‪.‬‬

‫ستمأل الوادي سنابل‪.‬‬

‫في هــذه األبيــات صــورة إنســانية رائعــة رســمها محمــود درويش مخــاطب اإلنســان بــالزوال‬
‫والتعسف ‪ ،‬ويضيق على أن مظاهر االضطهاد كغرفة التوقيــف وزرد السالســل والليــل هنــا‬
‫رمز للظلم‪ ،‬تكافح بعينيها ضد الظلم واالضطهاد وفي الطاغية تماما كما حدث" لنيرون‬

‫"الــذي مــات أمــا مدينتــه رومــا ظلت حيــة مهمــا تعــرض المظلــومين لالضــطهاد فــإن عــزمهم‬
‫على مواصــلة الكفــاح للحيــاة‪ ،‬يقــول الشــاعر أنــه تمامــا كمــا تمال ســنبلة تجــف الــوادي ســنابل‬
‫سيتضاعف‬

‫‪ .‬كما عمد الشاعر إلى توظيف رمز السيف اليماني في ديوانه تأكيد على البطولــة العربيــة‬
‫وذلك في قوله‬

‫وزجاجة الكونياك‬

‫والخيام‪ ،‬والسيف اليماني‬

‫‪53‬‬
‫عبثا تخدر جرحك المفتوح‬

‫‪1‬‬
‫عربدة القناني ‪.‬‬

‫ويعتبر السيف هنـا رمـزا للشـجاعة والنصـر وعنـوان البطولـة والشـهامة الـتي تحتفـظ للعـرب‬
‫عــزتهم وكــرامتهم ومجيء هــذا الرمــز في ســياق األبيــات يعــني العــزة والمنعــة في الماضــي‪،‬‬
‫وكل مظــاهر الفروسـية والرجولــة كمــا حـاول الشـاعر رسـم صــورة عن الصــراع الفلسـطيني‬
‫في قوله‬

‫أمس التقينا في طريق الليل‬

‫من حان لحان شفتاك‬

‫حاملتان كل أنين‬

‫غاب السنديان‬

‫ورويت لي للمرة الخمسين‬

‫‪2‬‬
‫‪.‬‬ ‫حب فالنة‪ ،‬وهوى فالن‬

‫ويقص ـ ــد بالخمس ـ ــين هن ـ ــا رم ـ ــز لس ـ ــنة االحتالل الص ـ ــهيوني وتع ـ ــرض الش ـ ــعب الفلس ـ ــطيني‬
‫لالضــطهاد والحرمــان والرغبــة في الــدفاع عن الــوطن‪ .‬كمــا وظــف محمــود درويش رمــزا‬
‫اكتشفه حديثا وهو لوركا رمز الشاعر الثائر والغجري الشريد في قوله‪:‬‬

‫هكذا الشاعر‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪.‬محمود درويش‪ ،‬ديوان محمود درويش ص‪65:‬‬
‫محمود درويش‪ ،‬ديوان محمود درويش ص‪.66‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪54‬‬
‫زلزال ‪......‬‬

‫وإ عصار مياه وريـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاح‪.‬‬

‫إن زأر يهمس الشارع للــشارع‪.‬‬

‫قد مرت خطاه‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫فتطاير يا حجـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر‪.‬‬

‫أعت ــبر الش ــاعر كزل ــزال للحداث ــة‪ ،‬فه ــو رم ــز العولم ــة‪ ،‬يجب أن يخض ــع الش ــاعر للتخطي ــط‬
‫المحكم‪ ،‬وضــبط مســبق مثلــه في ذلــك مثــل النحــاة‪ ،‬المــاهر‪ ،‬الــذي يســتطيع أن يــرى بخيالــه‬
‫التمث ــال ك ــامال قب ــل ان يض ــرب الض ــربة األولى على الص ــخرة وك ــذلك الش ــاعر الفن ــان كم ــا‬
‫يقول درويش‪:‬‬

‫هكذا الشاعر موسيقى‪،‬وترتيل صالة ‪.‬‬

‫وعلى ه ــذا يك ــون الرم ــز الت ــاريخي ق ــد إعن ــتى حق ــا ب ــدالالت الحاض ــر‪ ،‬وأص ــاف أغ ــراض‬
‫إنس ــانية دائم ــة إلى ج ــانب غرض ــه المح ــدود في س ــياق ال ــتراث‪ ،‬فالش ــاعر يع ــبر عن تجرب ــة‬
‫إنســانية واســعة على صــهر رمــوزه ضــمن ســياق التجربــة الكليــة المتــه واســتخدام األســطورة‬
‫في التعب ـ ــير عن األلف ـ ــاظ الرمزي ـ ــة ال ـ ــتي ال يمكن بغ ـ ــير ه ـ ــذه الطريق ـ ــة وض ـ ــعها في الحق ـ ــل‬
‫اإلنساني ‪.‬‬

‫محمود درويش‪ ،‬ديوان محمود درويش ص‪57‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪55‬‬
56
‫خاتمة‬

‫‪57‬‬
‫خاتمة‪ :‬توصلنا من خالل دراسـتنا للرمـز في الشـعر العـربي المعاصـر ‪،‬ومن خالل دراسـة‬
‫الرمــز الشـعري في ديــوان "أوراق الزيتــون "لمحمــود درويش أنموذجـا إلى جملــة من النتــائج‬
‫ندرجها على شكل نقاط فيما يلي ‪:‬‬

‫إن الرم ــز وس ــيلة من وس ــائل التعب ــير ال ــتي تس ــمح للش ــاعر ب ــان يقض ــي عم ــا في‪ ‬داخل ــه‬
‫والتعبير عن أحاسيسه ووجدانه بطريقة غير مباشرة‪.‬‬

‫كما انه مشروع إبداعي كشـف يتضـمن رؤيـة الشـاعر للعـالم حولـه حيث تهـدم‪ ‬الحـواجز‬
‫ما بين الحلم والواقع والذات والموضوع وكذلك استبطان للداخل وغوصا في أعماق الــذات‬
‫‪.‬‬

‫‪-‬طريقت ــه في اس ــتخدامه للرم ــز والدالل ــة ال ــتي ي ــرغب في تحميله ــا إي ــاه وخاص ــة في الرم ــز‬
‫الطبيعية التي تختلف إيحاءاتها ‪.‬‬

‫يعتبر "محمود "من رواد هذا الفن بحيث مكانة بارزة داخل خريطة الشعراء‪ ‬المحــدثين‪،‬‬
‫وتعت ــبر قص ــائده بمثاب ــة تأص ــيل ف ــني في حرك ــة الش ــعر حيث عم ــل على أعن ــاء تجربت ــه في‬
‫كتابة القصيدة الجديدة‪.‬‬

‫اهتم محم ــود درويش بتوظي ــف الرم ــز الش ــعري بأنواع ــه المختلف ــة لكن ليس توظيف ــا مبهم ــا‬
‫غامض ــا وذل ــك ألن ــه ه ــدف إلى إيص ــال رســالة محــددة إلى الق ــارئ ه ــذا من جه ــة ومن جه ــة‬
‫أخرى إلقاء محمود درويش لقصائده على جمهوره المختلف المستويات‪.‬‬

‫وقــد حاولنــا اإلحاطــة بمفهــوم الرمــز وأنواعــه وكيفيــة تعامــل "محمــود درويش "مــع الرمــوز‬
‫وطريقة توظيفه لها في قصائده وبـالرغم من هـذا تبقي العديـد من الظـواهر والجـوانب خفيـة‬
‫تحتاج إلى دراسة وتعمق كبـيرين ويبقي الرمـز عنـد "محمـود درويش "وغـيره مفتوحـا ودائم‬
‫الدراسـ ـ ــة والتحديـ ـ ــد ‪ .‬ونأمـ ـ ــل ممن بعـ ـ ــدنا اإلحاطـ ـ ــة بهـ ـ ــذا الموضـ ـ ــوع بمزيـ ـ ــد من التعمـ ـ ــق‬
‫والتحليل ‪،‬واإلجابة على األسئلة بأكثر دقة وتمعن ‪.‬‬

‫‪58‬‬
‫وفي النهاية ما علينـا إال أن نقـول أن الرمـوز تختلـف بـاختالف أشـكال بنائهـا‪ ،‬فمنهـا رمـوز‬
‫تســتغرق القصــيدة كلهــا‪ ،‬وتشــكل محاورهــا‪ ،‬وأخــرى ُتعــد جــداول صــغيرة تتــدفق من شــعاب‬
‫جانبيـ ــة‪ ،‬وتصـ ــب في المجـ ــرى الكبـ ــير لتلتحم بـ ــه‪ .‬وبوسـ ــعنا أن نقسـ ــم الرمـ ــوز إلى نـ ــوعين‬
‫رئيسيين‪ :‬أولهما‪ -‬الرمز الجـزئي وهـو أسـلوب فـني تكتسـب فيـه الكلمـة المفـردة أو الصـورة‬
‫الجزئي ـ ـ ــة قيم ـ ـ ــة رمزي ـ ـ ــة من خالله ـ ـ ــا تتفاع ـ ـ ــل م ـ ـ ــع م ـ ـ ــا ترم ـ ـ ــز إلي ـ ـ ــه؛ في ـ ـ ــؤدي ذل ـ ـ ــك إلى‬
‫إيحائها ‪،‬واستثارتها لكثير من المعاني الخبيئة‪ ،‬وتشع هـذه الصـور وتلـك الكلمـات الرتباطهـا‬
‫بأحــداث تاريخيــة‪ ،‬أو تجــارب عاطفيــة‪ ،‬أو مواقــف اجتماعيــة أو ظــواهر طبيعيــة‪ ،‬أو أمــاكن‬
‫ذات م ــدلول ش ــعوري خ ــاص‪ ،‬أو إش ــارات أس ــطورية معين ــة وتراثي ــة عام ــة‪ .‬والش ــاعر في‬
‫تعامله مع هذه األشياء يـرتقي بمـدلولها المتواضـع عليـه إلى مـدلولها الرمـزي والرمـز الكلي‬
‫الذي يشمل القصيدة بأكملها‬

‫‪59‬‬

You might also like