You are on page 1of 9

‫مراجعة‬

‫التوجه النظري للعالج النسقي‪:‬‬


‫لقد تطلب البناء النظري للمقاربة األسرية النسقية استعارة العديد من المفاهيم و‬
‫ذلك ضمن ميادين كثيرة و متنوعة مثلما ت ّمت اإلشارة إليه‪ ،‬أهمها هي السبرانية لـ ‪N. Weiner‬‬
‫‪ ،‬و التي كانت المنطلق في بروز المقاربة النسقية‪ ،‬و تتلخص أهم مبادئ هذه المقاربة في تلك‬
‫الخاصة بالنظرية العامة لألنساق لـ ‪ Bertalanffy‬و أيضا مبادئ نظرية االتصال التي استنبطت‬
‫من خالل أعمال مدرسة ‪ Palo Alto‬بزعامة ‪ ،Bateson‬و هي كلها مبادئ أساسية في فهم‬
‫الديناميكية العالئقية و أسس التواصل في إطار النسق األسري‪.‬‬

‫مبادئها‪:‬‬ ‫‪.1‬النظرية العامة لألنساق و‬


‫يعتبر النسق على أنه نموذج رياضي تم تطبيقه (‪ )extrapolé‬على المجموعات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬و هو مجموعة من العناصر و سماتها (خصائص العناصر)‪ ،‬و هو يتواجد في وسط‬
‫حيث يحافظ مع هذا األخير على التفاعالت و يشكل تحت أنظمة (أنساق) التي لها عالقات فيما‬
‫بينها‪ .‬و يقوم النسق على مبادئ جامعة نذكر منها‪:‬‬
‫‪ -‬مبدأ الكلية )‪: (Principe de totalité‬‬
‫يعتبر النسق المفتوح على أنه "كل" في انسجام وظائفيته‪ ،‬هو يملك إذن ميزة خاصة و‬
‫هي أنه وحدة لها قيمة أكبر من مجموع أجزائها‪.‬‬

‫‪ -‬التغذية المرتدة )‪:(Rétroaction‬‬


‫يدخل مبدأ التغذية المرتدة فكرة التأثير المتبادل داخل نفس النسق‪ ،‬و هو ما يقودنا إلى‬
‫فكرة السببية الدائرية‪.‬‬
‫تسمح السببية الدائرية بتوضيح أن سلوك الفرد يكمن أثره في سلوك اآلخر‪ ،‬و الذي‬
‫األول‪ ،‬هذا داخل دائرة أو حلقة و التي عادة ما يستحيل معرفة بدايتها‬
‫يؤثر بدوره على سلوك ّ‬
‫و نهايتها‪ .‬إذ غالبا ما نفضل أن نحدد المعنى الذي نعطيه لألحداث باإلستعانة بالسببية الخطية‬
‫كأن نقول أن (أ) هو سبب حدوث (ب)‪ ،‬غير أن هذه الطريقة لدراسة العالم الفيزيائي ال يمكن‬
‫تطبيقها على الكائنات الحيّة‪ ،‬فإذا أردنا أن نتوصل إلى فهم أنساقها البد أن ندمج التفاعالت مما‬
‫يسمح بالسببية الدائرية‪.‬‬

‫‪ -‬المحصلة المساوية )‪:(Equifinalité‬‬


‫إن النسق المنفتح يكون أكثر مرونة من النسق المنغلق فيما يتعلق بالطريقة التي يتعامل‬
‫بها مع المدخالت اآلتية إليه‪ .‬و ما يميّز النسق المنفتح أن الناتج النهائي يمكن تحقيقه و إنجازه‬

‫‪1‬‬
‫من خالل مجموعة متنوعة من الطرق المختلفة‪ ،‬ولو أغلق أحد الطرق‪ ،‬أو فشل أحد المكونات‬
‫في أداء وظيفته فإن هناك طرقا بديلة ومكونات أخرى متاحة‪ .‬و بمعنى آخر يمكن الوصول‬
‫إلى نفس الهدف بطرق مختلفة و هو ما يسمى بمبدإ المحصلة الواحدة (المساوية)‪ ،‬حيث يمكن‬
‫أن تؤدي عمليات كثيرة مختلفة إلى نفس النتائج أو نفس المحصلة ‪.‬‬
‫يعتبر النسق أحسن شرح لهذا المبدأ‪ ،‬و لفهمه البد من تحليل التفاعالت التي تحدث‬
‫داخل النسق خالل مالحظتنا له و ليس في أصلها‪.‬‬

‫‪ -‬مبدأ التوازن الحيوي )‪:(Homéostasie‬‬


‫إن البحث عن التوازن الذي تمليه الحاجة إلى البقاء على الحالة األصلية هي‬
‫معلومة مهمة تسمح بفهم حاجة النسق اإلنساني للتوازن الحيوي من أجل ضمان هويته و بقائه‪،‬‬
‫غير أن الجانب السلبي هو وجود مقاومة أمام التغيير م ّما يكبح اإلمكانيات التكيّفية للنسق‬
‫لتغييرات في نسق أكبر‪.‬‬
‫فقد أدخل ‪ Jackson‬مفهوم "التوازن الحيوي األسري" بعد أن الحظ أنه إذا‬
‫سنت حالة المريض فإن لهذا غالبا انعكاس خطير على أسرة المريض العقلي (اكتئاب ‪،‬‬ ‫تح ّ‬
‫حادث عرضي سيكوسوماتي‪ ،‬إلخ) فاستنتج أن هذه العرضية التي يحملها مختلف أعضاء‬
‫النسق إنما ترجع إلى "ميكانيزمات توازنية" التي يكمن دورها في إرجاع النسق المضطرب‬
‫إلى توازنه المرهف (‪.)délicat‬‬
‫‪ -‬مبدأ االتجاه نحو الحياة و النمو )‪ (néguentropie‬و مبدأ االتجاه نحو االنحطاط )‪(entropie‬‬
‫‪:‬‬
‫يتحكم في النسق إ ّما مبدأ االنحطاط (حالة من الالتنظيم المتزايد ونقص في الطاقة)‪ ،‬و‬
‫معناه أنه يسير إلى نهايته‪ .‬أو مبدأ النمو (زيادة معتبرة في الطاقة) وهو ما يدفعه إلى النمو‪ ،‬و‬
‫يكون في هذه الحالة مدفوعا من الخارج أي مع مساعدة المحيط‪ ،‬وعليه فإن كل نسق يسير إ ّما‬
‫نحو الزوال أو يتحتّم عليه النمو‪ ،‬إن من خصائص نسق األسرة أنه ينمو ويتسع مع دخول‬
‫عناصر جديدة‪ ،‬فنسق األسرة بدون أطفال غير نسقها بعد قدوم عدّة أطفال‪ ،‬و ال شك بأن هناك‬
‫قوانين تستحدث و أخرى تستبدل تبعا لهذه العناصر‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫‪.2‬نظرية االتصال و مبادئها‪:‬‬
‫تم بناء هذه النظرية انطالقا من أعمال ‪ Bateson‬ومجموعة باحثي مدرسة ‪Palo Alto‬‬
‫التي ظهرت حوله في سنة ‪ 1957‬أين ت ّمت دراسة اآلثار البراغماتية لالتصال اإلنساني ‪-‬‬
‫بمعنى آثاره على السلوك ‪ -‬مع التركيز خصوصا على اضطرابات هذا السلوك‪ .‬فكانت إذن‬
‫هي أولى المدارس التي قامت بدراسة اضطرابات االتصال في األنساق األسرية‪.‬‬
‫و في عام ‪ 1967‬نشرت مجموعة باحثين من معهد األبحاث العقلية خالصة خبرتهم‬
‫في كتاب "برجماتيات االتصال اإلنساني" » ‪« Pragmatics Of Human Communication‬‬
‫‪ ،‬و الذي يمثل توليفة من نظرية االتصال و نظرية األنساق و األمراض النفسية مع لمسات من‬
‫الفلسفة و األدب و الرياضيات‪ .‬حيث قام كل من ‪Watzlawick, Helmick Beavin, and‬‬
‫‪ Jackson‬باقتراح عدد من مبادئ االتصال اإلنساني أو كما تسمى بالمسلمات الخمسة لالتصال‪،‬‬
‫و هي‪:‬‬

‫‪ -‬المسلمة األولى‪:‬‬
‫"استحالة عدم االتصال ‪"L’impossibilité de ne pas communiquer‬‬
‫إذا اعتبرنا التواصل على أنه عبارة عن نقل معلومة و نهتم بالسياقات التي تعمل على‬
‫إرسال و على استقبال الرسالة‪ ،‬فيمكن أن نؤكد أن كل السلوكات لها قيمة رسالة‪ ،‬سوا ًء كانت‬
‫حاملة للمعلومة‪ ،‬و هذا بصفة مستقلة عن نية المرسل أو المستقبل‪.‬‬
‫فالنمط اللّفظي ال ينقل إالّ جزء صغير من المعلومة بين األشخاص‪ ،‬لكننا عادة ما نكون‬
‫أكثر انتباها ِلما نقول مما نحن انتباها ِلما نفعل‪ ،‬و كل واحد منا يعلم أهمية االيماءات و النبرات‬
‫و صمت اآلخرين‪.‬‬
‫كما نعلم من جهة أخرى أن ليس هناك سلوك مضاد‪ ،‬فكل ما نقوم به من سلوكات حتى‬
‫السلوك السلبي )‪ (passif‬مثل التفكير هي عبارة عن سلوكات و النتيجة المنطقية لما سبق أنه‬
‫ال يمكننا أن ال نتواصل‪.‬‬
‫‪ -‬المسلمة الثانية‪:‬‬
‫"مستويات االتصال من جانبي المحتوى و العالقة‬
‫‪" Niveaux de la communication contenu et relation‬‬
‫لقد درس ‪ Bateson‬طويال ظاهرة التشفير )‪ (le codage‬في عملية التواصل عند‬
‫اإلنسان‪ ،‬و نقصد بالتشفير الترجمة الداخلية لألحداث الخارجية‪ ،‬ففي النظام اإلدراكي‪ ،‬يمكن‬
‫لحواسنا أن تستثار بعدّة مظاهر تحيط بنا‪ .‬و هو ما يحفّز على ظهور سياقات معقدة من‬
‫التحوالت‪.‬‬
‫إذ نجد أن هناك نوعين من التشفير الذي يستعمل من طرف اإلنسان في تفاعالته مع‬
‫العالم الذي يحيط به‪ :‬تشفير المحتوى )‪ (digital‬أي معنى الكلمات و اإلشارات المفهومة و‬

‫‪3‬‬
‫تشفير العالقة )‪ (analogique‬بمعنى اإلشارات المظهرية كاألفعال و اللّغة المنطوقة و الحركات‬
‫و اإليماءات و الهيئات الجسدية و األداءات‪.‬‬
‫فكل اتصال له مضمون و له جانب عالئقي‪ ،‬علما بأن الجانب العالئقي يؤثر في‬
‫المضمون‪ ،‬وأحيانا ما يصنف المضمون طبقا للجانب العالئقي‪ ،‬الذي يمثل كذلك نوعا من‬
‫االتصال البعدي ‪. Metacommunication‬‬

‫‪ -‬المسلمة الثالثة‪:‬‬
‫" تنقيط سلسلة األفعال ‪"Ponctuation de la séquence des faits‬‬
‫من بين الخصائص األساسية لالتصال هي أنه عبارة عن تفاعل أو تبادل للرسائل بين‬
‫األشخاص‪ ،‬حيث يكون هذا االتصال على شكل سلسلة مستمرة من التبادالت و هي ما يطلق‬
‫عليها ‪ Bateson‬و ‪ Jackson‬بـ "تنقيط سلسلة األفعال" و يعتبران كل عنصر من السلسلة على‬
‫أنه مثير و استجابة و تعزيز في آن واحد‪ .‬إذ يعتبر عنصر معين من سلوك (أ)"مثير" بما أنه‬
‫سيتبع بعنصر من (ب) و الذي سيتبع بدوره بعنصر آخر من (أ)‪ ،‬ومن جهة أخرى فإنه بما أن‬
‫العنصر الخاص بـ (أ) هو موجود بين عنصرين من (ب) فهو يعتبر "إستجابة"‪ ،‬و نفس الشيئ‬
‫للعنصر الخاص بـ (أ) الذي يعتبر على أنه "تعزيز" بما أنه يتبع عنصرا قد صدر عن (ب)‪.‬‬
‫و عليه فالتبادالت التي نفحصها اآلن تشكل سلسلة تتداخل الروابط فيها لتشكل ثالثيات تشبه‬
‫كل رابطة منها بتسلسل من "مثير‪-‬إستجابة‪ -‬تعزيز"‪.‬‬
‫فطبيعة العالقة تتوقف على عالمات الترقيم و الوقف )‪ (Punctuation‬لفهم التتابع‬
‫االتصالي بين المتواصلين‪ .‬كما يرى )‪ (Watzlawick & al, 1972‬أن تنقيط سلسلة األعمال‬
‫تهيكل السلوكات وهي بذلك أساسية لمواصلة التفاعل‪.‬‬

‫‪ -‬المسلمة الرابعة‪:‬‬
‫"االتصال اللّفظي و غير اللّفظي ‪"Communication digitale et analogique‬‬
‫تتصل الكائنات اإلنسانية على هيئة رقمية )‪ (Digital‬ثنائية منفصلة (إما ‪ ...‬و إما) و‬
‫على هيئة تناظرية )‪ .(Analogically‬يشبه االتصال الرقمي االتصال الرمزي في أنه يعتمد‬
‫على رموز محددة بشكل تعسفي ألنها ربما ال ترتبط بالشيء الذي ترمز له‪ ،‬فليس هناك صلة‬
‫خاصة أو رابطة معينة بين حروف كلمة (قطة) و القطة‪ .‬واالتصال الرقمي يصف‬
‫الموضوعات أو يتكلم عنها‪ ،‬و لكنه غير مناسب للتعامل مع العالقات‪ .‬أ ّما االتصال التناظري‬
‫فهو مثل اتصال "العالمات" يعتقد أنه أقدم و يرتبط مباشرة بالشيء‪ .‬و الكلمات في معظم‬
‫الحاالت هي (رموز‪ )Symbolic -‬رقمية‪ ،‬أما االتصال غر اللفظي (العالمات) فهو تناظري‪.‬‬
‫وا إلنسان وحده دون سائر المخلوقات هو الذي يستطيع أن يقوم باالتصال الرقمي و االتصال‬
‫التناظري ‪.‬‬
‫يتميّز االتصال اإلنساني إذن بوجود نمطين‪ ،‬فاإلنسان يتواصل بطريقة لفظية ذات أهمية‬
‫كبيرة في تبادل المعلومات و نقل المعارف عبر الزمن‪ ،‬كما أنه يتواصل بطريقة غير لفظية‬
‫‪4‬‬
‫أي حركات الجسم‪ ،‬اإليماءات‪ ،‬التغيّرات في نبرة الصوت‪ ،‬إيقاع و تواتر الكلمات وكل‬
‫التظاهرات غير اللّفظية التي تسمح بها العضوية‪.‬‬
‫‪ -‬المسلمة الخامسة‪:‬‬
‫"التفاعالت التناظرية والتكاملية ‪"Interaction symétrique et complémentaire‬‬
‫هي عالقات قائمة إ ّما على المساواة أو على االختالف‪ ،‬في الحالة األولى يميل‬
‫الرفقاء إلى تبني سلوك متطابق‪ ،‬يمكن إذن أن يطلق على تفاعالتهما على أنها تناظرية‪ ،‬في‬
‫الحالة الثانية يك ّمل الواحد سلوك اآلخر لكي يكونان جشتالت من نوع مختلف‪ ،‬يطلق عليها‬
‫تكاملية‪ .‬تتميّز إذن التفاعالت التناظرية بالمساواة و تقليل اإلختالف‪ ،‬في حين تقوم التفاعالت‬
‫التكاملية على زيادة اإلختالف‪.‬‬
‫نجد في العالقة التكاملية مرتبتين مختلفتين‪ ،‬حيث يحتل أحد الرفقاء وضعية‬
‫مرتفعة و يحتل اآلخر الوضعية المرافقة أي السفلى‪ ،‬ال يرمي ذلك إلى معنى "جيد" أو "سيئ"‪،‬‬
‫"قوي" أو "ضعيف" ‪ .‬يحدّد السياق االجتماعي و الثقافي في بعض الحاالت عالقة تكاملية‬
‫كعالقة أم‪-‬طفل‪ ،‬طبيب‪-‬مريض‪ ،‬مدرس‪-‬طالب‪ ،‬أين يطغى على العالقة طابع التضامن‬
‫والتكامل‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫المحاضرة رقم ‪1‬‬

‫المفهوم النسقي لألسرة و العالجات النسقية األسرية‪:‬‬


‫لطالما كانت دراسة األسرة من مهام علم االجتماع باعتبارها الوحدة األساسية للبناء‬
‫االجتماعي‪ ،‬فنجد ‪ C. Lévi-Strauss‬مثال و هو من أشهر العلماء الذين اهتموا بموضوع‬
‫األسرة‪ ،‬يرى أن كلمة أسرة تدل على جماعة اجتماعية ترمي إلى ثالثة خصائص على األقل‪،‬‬
‫جراء هذا االرتباط‪،‬‬‫و هي "أنها تستمد أصلها من الزواج‪ ،‬و تضم أب و زوجة و أطفال ولدوا ّ‬
‫كما يحتمل وجود أقارب آخرين مجتمعين ضمن هذه النواة‪ ،‬كما يرتبط أفراد األسرة بروابط‬
‫قانونية‪ ،‬و حقوق و واجبات ذات طبيعة اقتصادية و بشبكة دقيقة لحقوق و محرمات جنسية‪ ،‬و‬
‫مجموعة متغيّرة و متنوعة من المشاعر مثل الحب و الحنان و االحترام والخوف‪ ،‬إلخ" و هو‬
‫يرى أن األسرة طالما ت ّميزت بهذه الخصائص منذ أبعد العصور و في جميع المجتمعات‬
‫اإلنسانية )‪.(Lévi-Strauss, 1979‬‬
‫"فاألسرة في طبيعتها اتحاد تلقائي تؤدي إليه االستعدادات و القدرات الكامنة في الطبيعة‬
‫البشرية النازعة إلى االجتماع وهي بأوضاعها ومراسيمها عبارة عن مؤسسة اجتماعية تنبعث‬
‫عن ظروف الحياة الطبيعية التلقائية للنظم واألوضاع االجتماعية‪ .‬وهي ضرورة حتمية لبقاء‬
‫الجنس البشري ودوام الوجود االجتماعي فقد أودعت الطبيعة في اإلنسان هذه الضرورة بصفة‬
‫فطرية‪ .‬ويتحقق ذلك بفضل اجتماع كائنين ال غنى ألحدهما عن اآلخر وهما الرجل والمرأة‬
‫يقرها المجتمع هو األسرة"‪.‬‬
‫واالتحاد الدائم المستقر بين هذين الكائنين بصورة ّ‬
‫يبدو واضحا أن األسرة جماعة اجتماعية أساسية و دائمة‪ ،‬و نظاما اجتماعيا رئيسيا‪ ،‬و‬
‫ليست األسرة أساس و جود المجتمع فحسب‪ ،‬بل هي مصدر الدعامة األولى لضبط السلوك‪ ،‬و‬
‫اإلطار الذي يتلقى فيه اإلنسان أولى دروس الحياة االجتماعية‪ .‬و قد تغيّرت األسرة بصورة‬
‫مرت على المجتمعات‬ ‫عامة بالتغ ّيرات التاريخية االجتماعية و اإلقتصادية و العمرانية التي ّ‬
‫في مختلف أنحاء العالم فتغيّر بناؤها أو تقلصت وظائفها‪ ،‬إالّ أن األسرة بمعناها الضيّق و‬
‫المحدود و التي هي أصل تسميتها األسرة النواة ظلّت مصدر التناسل و مصدر الرعاية األولية‬
‫المباشرة‪ .‬و من هنا فكل شخص ينتمي بشكل ما ألسرة واحدة على األقل‪ ،‬و لذلك تعد األسرة‬
‫المهد الحقيقي للطبيعة اإلنسانية فضال عن أن تجربة الحياة خاللها ضرورية لتحويل المولود‬
‫إلى مخلوق إنساني يعيش في انسجام مع اآلخرين‪.‬‬
‫ولألسرة وظائف عدّة‪ :‬كالوظيفة البيولولجية التي تعتبر من أهم وظائف األسرة وهي‬
‫عبارة عن اإلنجاب و التناسل و حفظ النوع (نفس المرجع السابق)‪ ،‬فاألسرة هي الوسط الذي‬
‫اص طلح عليه المجتمع لتحقيق غرائز اإلنسان ودوافعه الطبيعية واالجتماعية‪ .‬وذلك مثل حب‬
‫الحياة‪ ،‬وبقاء النوع وتحقيق الغاية من الوجود االجتماعي‪ ،‬وتحقيق الدوافع الغريزية والجنسية‬
‫والعواطف واالنفعاالت االجتماعية مثل عواطف األبوة واألمومة واألخوة والغيرية‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫ووظيفة اقتصادية‪ ،‬إذ تبدو هذه الوظيفة واضحة إذا رجعنا إلى تاريخ األسرة‪ .‬فقد كانت‬
‫قائمة في العصور القديمة بكل مستلزمات الحياة واحتياجاتها‪ .‬وكانت تقوم بكل مظاهر النشاط‬
‫االقتصادي وهو االقتصاد المغلق أي اإلنتاج لغاية االستهالك فإن االستبدال لم يكن قد ظهر‬
‫بعد أو اتسع نطاقه‪ .‬وكان كل إنتاج أفراد األسرة رهن استهالكها‪ .‬وعندما اتسع نطاق األسرة‬
‫واستقرت أوضاعها‪ ،‬أصبح معظم اإلنتاج العائلي من خصائص المرأة‪ ،‬بينما ساهم الرجل‬
‫بنصيب كبير في األعمال اإلنتاجية خارج نطاق األسرة‪ ،‬أي أنه كان يعمل تابعا لهيئات أو‬
‫مؤسسات أخرى‪.‬‬
‫إضافة إلى الوظيفة االجتماعية التي تسمح بالتطبيع االجتماعي‪ ،‬ونقل التراث‬
‫االجتماعي من جيل آلخر‪ ،‬وبمعنى آخر تعليم الفرد االمتثال لمطالب المجتمع‪ ،‬واالندماج في‬
‫ثقافته‪ ،‬و اتباع تقاليده و الخضوع اللتزاماته‪ ،‬ومجاراة اآلخرين بوجه عام‪.‬‬
‫نرى من خالل التعاريف السابقة أنه تم التطرق إلى األسرة من منظور الفكر‬
‫األنثربولوجي واالجتماعي‪ ،‬الذي ال يصبح للفرد فيه وجود إالّ ضمن هذه الوحدة الواسعة‪ ،‬و‬
‫من جهة أخرى فإننا نعلم أن علم النفس لم يحاول فهم الفرد إالّ انطالقا من الواقع الضمن نفسي‬
‫أو انطالقا من دراسة بعض العالقات داخل األسرة كالعالقة أم‪-‬طفل‪ ،‬دون إمكانية اإللمام بكل‬
‫العناصر العالئقية في المحيط األسري للفرد‪ ،‬ومع تطور المنظور النسقي وتطبيقه على األسرة‬
‫أصبح في متناول المختصين أدوات تسمح لهم بإبراز أبعاد جديدة للظاهرة النفسية من خالل‬
‫دراسة خصائص النسق األسري‪.‬‬
‫ذلك أن مفهوم النسق يستند على فكرة أن الكل ال يمكن فهمه إالّ من خالل دراسة أجزائه‬
‫في عالقتها بعضها ببعض‪ ،‬وفي عالقتها بالعملية الكلية لآلداء‪ ،‬حيث يعرف النسق طبقا لذلك‬
‫بأنه "نظام معقد لعناصر متفاعلة بعضها مع بعض " ‪ (1968) Bertalanffy‬أما ‪Peer‬‬
‫سع مفهوم النسق إلى درجة أكبر حيث يقول " إن أي شيئ يتكون من أجزاء مرتبطة‬ ‫(‪ )1964‬فيو ّ‬
‫مع بعضها البعض يمكن أن يطلق عليها إسم نسق" ‪.‬‬
‫ويضيف )‪ (Benoit et al, 1988, p 490‬عناصر جديدة للتعريف حيث يرى أن النسق‬
‫هو عبارة عن "وحدة مكونة من عناصر ( و السمات المرتبطة بها ) والتي هي في تفاعل"‬
‫كما أنه يؤكد على إدماج العنصر الزمني‪.‬‬
‫مكون من أفراد‬
‫وعليه فإن األسرة تعتبر من المنظور النسقي على أنها " نسق مفتوح‪ّ ،‬‬
‫ذوي خصائص معلومة متعلقة باألدوار و الوظائف و الذين يتميزون من جهة أخرى بميزات‬
‫خاصة‪ ،‬ومثل أي نسق فإن األسر تقع تحت وطأة ميكانزمات )‪ (morphogénèse‬أي كيف‬
‫يتطور النسق ويخلق تركيبات جديدة‪ ،‬و ميكانزم )‪ (morphostase‬وهو كيفية المحافظة على‬
‫التوازن‪ ،‬إذ يعتبر توازن النسق األسري في السياق العالجي على أنه مضمون من طرف‬
‫المريض المعيّن‪.‬‬
‫انطالقا من فكرة أن األسرة هي عبارة عن نسق‪ ،‬فإن العالج األسري النسقي هو عبارة‬
‫عن كفالة نفسية شاملة لألسرة انطالقا من طلب عالج موجه من طرف أو من أجل أحد أفراد‬
‫‪7‬‬
‫نسق األسرة‪ ،‬حيث يعمل الفريق المعالج على االستجابة لهذا الطلب بإعادة صياغته ضمن‬
‫إطار أكبر و باالهتمام بالشبكة المنسوجة من طرف األسرة‪ ،‬فيعمل الفريق المعالج على وضع‬
‫فرضيات عالجية انطالقا من مصادر نظرية دقيقة‪ ،‬كما يقوم باقتراح نظام للحصص العالجية‬
‫باإلضافة إلى استعمال تقنيات عالجية خاصة وتقييم نتائج العالج النفسي‪.‬‬
‫إذ يعتبر العالج األسري النسقي على أنه "عالج يتماشى مع النسق الطبيعي‪ ،‬أين يقوم‬
‫المعالج أو الفريق المعالج بالتوريط المباشر لألسرة أو لبعض العناصر المهمة من أسرة‬
‫المريض المع ّين‪ ،‬من أجل إحداث التغيير داخل النسق األسري" )‪.(Bloch , 1994, P 22‬‬
‫وعليه فال يكون للعرض معنى و وظيفة إالّ إذا تم وضعه في إطار إجمالي ودائري‪ ،‬إذ أنه يعبّر‬
‫عن اختالل عالئقي ال يشعر به بالضرورة أفراد األسرة و يعمل المفحوص المعيّن على‬
‫الخروج من الصراع‪ ،‬فعلى الفريق المعالج أن يدفع األسرة إلى بناء نظرة مغايرة وعلى جعلها‬
‫قادرة على إحداث التغيير‪.‬‬
‫يكمن إذن هدف العالج من خالل المنظور النسقي في إنشاء سياق يسهل المرور من‬
‫الحدود الضيقة و توسيع اآلفاق‪.‬‬
‫إذ يعتبر أصل المشكلة التي تعاني منها األسرة أنه محاولة غير ناجعة لحل صعوبات‬
‫سابقة‪ ،‬ذلك أن القواعد األسرية تقف أمام البحث عن طرائق أخرى أكثر فعالية‪ ،‬و لذا فإن تدخل‬
‫المعالج ال يهدف إلى فهم األسباب الخفية اآلتية من الماضي‪ ،‬و ال حتى تطور و نمو أفراد‬
‫األسرة‪ ،‬و إنما يهدف مثلما سبق ذكره إلى تغيير القواعد التي تحمل طرائق حلول خاطئة‪ .‬ألن‬
‫حلقات التغذية الرجعية )‪ (rétroaction/feed-back‬تُبقي نماذج غير وظيفية لالستجابة للوضعية‬
‫المشكلة‪ ،‬فَتَدَ ُخل المعالج يهدف إلى وضع حلقات مختلفة للتغذية الرجعية للوصول إلى نماذج‬
‫ناجعة لحل الوضعية المشكلة‪.‬‬
‫فمن وجهة العالجات األسـرية وحسـب ‪ )1965( Jackson‬و‪(1975) Minuchin et al‬‬
‫فإن األسـرة عبارة عن " نسـق بينيشـخصـي له خصـائص سـبرانية‪ ،‬و تكون العالقات ما بين‬
‫عناصـر النسـق الخطية (و ال دائرية) و إنما دورية بدال من كونها سـببية‪ ،‬باإلضـافة إلى وجود‬
‫آليات معقدة و متشــابكة للتغذية الرجعية و نماذج متكررة للتفاعل ما بين عناصــر النســق‪ ،‬و‬
‫عليــه يمكن ا لنظر إلى األعراض على أنهــا مجرد نوع من أنواع الســــلوكــات التي تعمــل‬
‫كميكانيزم توازني لتعديل التفاعالت األسرية"‪.‬‬

‫تعتبر األسرة في أية ثقافة نسقا أو نظاما يتكون من مجموعة من العناصر (األفراد)‬
‫تربطها عالقات وظيفية تفاعلية‪ ،‬يدخلها الفرد عن طريق الزواج أو الوالدة لتحقيق أهداف‬
‫مشتركة و أخرى فردية‪.‬‬
‫و يرى )‪ (Broderick, 1993‬من وجهة المقاربة النسقية أن األسرة هي عبارة عن "نسق‬
‫مفتوح‪ ،‬تحكمه قوانين‪ ،‬كما أنه منظم و موجه نحو بلوغ هدف معين"‪ ،‬و لتحقيق هدفه فإن‬
‫النسق يتميّز حسب ‪ )1971( G. Bateson‬بأنه وحدة مع وجود بنية للتغذية الرجعية قابلة على‬
‫‪8‬‬
‫معالجة المعلومة داخل النسق األسري و بين األسرة و الخارج أي أنساق المحيط من خالل‬
‫سياقات انتقائية‪ ،‬فاألسرة هي إذن نسق ديناميكي في محاولة مستمرة للبقاء و التوازن أمام‬
‫التغيّرات و الضغوط الداخلية والخارجية‪.‬‬

‫‪9‬‬

You might also like