You are on page 1of 18

‫د‪ .

‬عبد الحميد عبد الواحد‬


‫‪abdelhamid.abdelwahed@yahoo.fr‬‬

‫تتضمّن هذه الورقة جملة من قضايا اللّسان العربي تتعلّق بواقعه‬


‫وتطور وسائل اال ّتصال‪.‬‬‫ّ‬ ‫ومستقبله في عصر أبرز سماته العولمة‬
‫واليمكن لهذه القضايا أن تح ّل إالّ بعد طرحها ومناقشتها وإبداء الرّ أي‬
‫بشأنها وبشأن حلولها المقترحة ‪.‬‬
‫وهذه القضايا في اعتقادنا اليمكن لها أن تح ّل في نطاق إعمال‬
‫نظر فردي أو انتقادات أواقتراحات فرديّة‪ ،‬وإ ّنما الب ّد أن تتضافر الجهود‬
‫لحلّها‪ ،‬وأن تتوفّر لهذا الح ّل إرادة سياسية ونظرة علميّة دقيقة‬
‫موضوعيّة‪.‬‬
‫ّأوال‪:‬حقيقة الوضع اللّساني‬
‫إنّ اللّسان‪ la langue‬من منظور لساني ليس أمرا ممّا يقع‬
‫عليه اإلجماع في تحديده أو ضبط مفهومه‪.‬وال يهمّنا من اللّسان كونه‬
‫أداة تعبير أو أداة تواصل أو بنية لسانيّة أو نظاما عالمتيّا ‪ ،‬كما ال يهمّنا‬
‫من شأنه بعده الوظيفي أو األبعاد الوجدانيّة وال ّنفسيّة واالجتماعية‬
‫المتعلّقة به‪ ،‬وإ ّنما يهمّنا أساسا باعتباره واقعا لسانيا ينتمي إلى مجموعة‬
‫لسانيّة هي المجموعة اللّسانية العربيّة التي تمت ّد على خريطة جغرافيّة‬
‫شاسعة تضرب في العمق ال ّتاريخي لل ّشعوب العربيّة‪ .‬واللّسان العربي‬
‫للطفل العربي‬‫هو اللّسان الرّ سمي لكافة الدّول العربية‪ ،‬وهو اللّسان األ ّم ّ‬
‫وإن بكثير من التجوّ ز‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫هذه حقيقة اللّسان العربي في واقعه اليوم‪ ،‬وهو ليس بمعزل عن‬
‫جملة من القضايا االجتماعيّة واالقتصاديّة والسياسية سواء تعلّقت‬
‫بالدّاخل أو بالخارج‪.‬‬
‫وضع اللّسان العربي اليوم ليس بمعزل عن وضع البالد العربيّة‬
‫عموما‪ .‬وحالة البالد العربيّة قد تكون في غنى عن الوصف إذا ما نظرنا‬
‫إليها من زوايا عدّة ‪ ،‬ويكفي أن نشير في هذا الصّدد إلى ال ّتخلّف الذي‬
‫تعيشه هذه البالد‪ .‬وهذا ال ّتخلّف يظهر في جوانب حياتيّة عديدة‪ .‬هذا إلى‬
‫جانب حالة ال ّتبعيّة التي اليمكن إنكارها سواء منها االقتصاديّةأو‬
‫الثقافية والفكريّة أيضا‪ ،‬وفضال عن هذا حالة ال ّنقل ‪le‬‬ ‫السّياسية بل ّ‬
‫ّ‬
‫والثقافي‬ ‫‪ transfert‬التي نعيشها‪ :‬ال ّنقل ال ّتكنلوجي والمعرفي والعلمي‬
‫وغيرها‪ .‬وبإيجاز إنّ وضع اللّسان العربي في واقعنا اليوم هو وضع‬
‫وتطور التكنولوجيات‬ ‫ّ‬ ‫اإلنسان العربي في عصر أبرز سماته العولمة‬
‫الحديثة واال ّتصال واإلعالم‪.‬‬
‫وإذا كان اللّسان العربي هو المدخل إلى تخلّفنا وعدم قدرتنا على‬
‫مواكبة ال ّنمو والخروج من ال ّتخلّف‪ ،‬فإنّ اللّسان عند ال ّشعوب المتقدّمة‬
‫الطريق إلى الهيمنة‪ ،‬وهو البوّ ابة التي تدخل منها األطماع وبسط‬ ‫هو ّ‬
‫ال ّنفوذ على ال ّشعوب الفقيرة‪.‬والنفوذ والحال هذه ليس نفوذا اقتصاديا أو‬
‫سياسيا وحسب‪ ،‬وإ ّنما ثقافيّا وفكريّا باألساس‪.‬فاللّسان األقوىهولسان‬
‫األقوى‪،‬وهذه القوّ ة هي التي تعمل على رواج هذا اللّسان أوذاك‪،‬وال ّتقليل‬
‫من شأن بقيّة األلسن‪.‬‬
‫وتبعا لك ّل هذا يمكننا أن نتبيّن القيمة التي يحتلّها اللّسان في حياة‬
‫اإلنسان عموما وفي حياة ال ّشعوب والصّراع القائم بينها ومسار ال ّنفوذ‬
‫االقتصادي والسّياسي ّ‬
‫والثقافي‪.‬‬
‫إنّ الوضع الذي تعانيه البالد الفقيرة التي كانت مستعمرة سابقا‬
‫إزاء الدّول الغنيّة يجعل وضعها اللّساني عموما يعاني من حالت تف ّكك‬
‫وتش ّتت‪ ،‬كما يسم هذا الوضع بقطيعة موجودة بين اللّسان الرّ سمي‬
‫واللّسان الذي يتكلّم به مجموع ال ّناس‪ ،‬وبال ّتعدّد اللّساني وتعدّد اللّهجات‬
‫ّ‬
‫والطائف ّية والدّينية‪ ،‬وبتعدّد سجالّت االستعمال‬ ‫تبعا لتعدّد األقلّيات العرقيّة‬
‫ّ‬
‫والهوّ ة القائمة بين لغة المدرسة أوالثقافة أو العلم ولغة الحياة‬
‫االجتماعيّة‪ .‬ومن هنا يبرز الصّراع بين األلسن القوميّة واأللسن‬
‫األجنبية‪ ،‬ومن هنا يظهر تخلّف هذه األلسن الم َهي َمنُ عليها ومحاولة‬
‫جعلها غير قادرة على مواكبة العصر والم ّد الحضاري وال ّتكنلوجي‬
‫والعلمي إلخ‪ ...‬كما يمكن لهذه األلسن أن تعاني الكثير من ال ّتخلّف في‬
‫طرق تعليمها أو تدريسها‪،‬وفي قدرتها على نقل المفاهيم والمصطلحات‬
‫ونقل المعارف الغربيّة المتقدّمة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫وتبعا لك ّل هذا قد نكون مبالغين إذا قلنا إنّ اللّسان يقع في قلب ك ّل‬
‫القضايا االجتماعيّة واالقتصاديّة وال ّسياسيّة والعلميّة والفنيّة‪،‬وهو صورة‬
‫تعكس حقيقة الواقع اإلجتماعي وال ّنفسي لألفراد أو لمجموعة لسانيّة ما‪،‬‬
‫كما تعكس البنى الفكريّة أو الذهنيّة لهؤالء األفراد ‪ ،‬بل تعكس الحاالت‬
‫العصبيّة والمرضيّة ودرجة الوعي والخلفيات األيديولوجيّة واألذواق‬
‫الفنيّة والمعتقدات الدّينية وغيرها‪.‬‬
‫إنّ اللّسان العربي واللّسان عموما هو أداة لل ّتعبير وأداة لل ّتفكير‪،‬‬
‫وهو أداة لمحاربة الجوع والفقر أو لتكريسهما‪ ،‬وهو أداة لمواجهة‬
‫اآلخر‪ ،‬لمواجهة الغرب والهيمنة أو العولمة‪ ،‬ومواجهة مشاكل ال ّنقل‬
‫وتبعاته‪ .‬واللّسان مثلما هو أداة نفوذ وتسلّط وهيمنة هو أداة تواصل‬
‫منفعي وربّما استعماري‪ ،‬وهو أداة لنقل األفكار والفلسفات‬
‫واأليديولوجيات ّ‬
‫والثقافات‪.‬‬
‫وليس غريبا أن يكون اللّسان في عالمنا المعاصر اليوم نقطة‬
‫االستقطاب التي تتمحور حولها ج ّل المشاكل التي نحياها‪.‬وليس غريبا‬
‫أن يكون اللّسان اليوم من أبرز وأه ّم القضايا الم ّتصلة بال ّتقدّم وال ّتخلّف‬
‫وال ّتواصل بجميع أنواعه‪،‬وهو الورقة الرّ ابحة في سوق ال ّشغل‬
‫والمضاربة‪.‬‬
‫وال سبيل إلى ال ّنظر نظرة صائبة دقيقة إلى مشاكلنا العربيّة اليوم‬
‫باعتبارنا دوال متخلّفة أو نامية تسعى إلى ال ّتقدّم بمعزل عن ال ّنظر إلى‬
‫اللّسان وإلى ك ّل المشكليات التي تنشأ عنه‪.‬وإنّ هذه المشكليات في‬
‫مجملها هي ما يفرضه الواقع المعيش الذي نحياه‪ ،‬وهي نبذة من مشاكلنا‬
‫اللّسان ّية‪،‬ذلك أنّ هذه المشاكل اللّسانيّة إذا ما ت ّم ربطها بمشاكلنا الحياتيّة‬
‫فلن تنتهي ولن نجد لها حالّ‪ .‬وعليه إنّ وضعنا عموما ليس بمعزل عن‬
‫وضع اللّسان العربي‪ ،‬بل إنّ هذا اللّسان لهو المرآة الصّادقة التي تعكس‬
‫حقيقة وجودنا‪.‬‬
‫نلخص مجمل هذه المشاكل المتولّدة عن‬ ‫وتبعا لك ّل هذا بإمكاننا أن ّ‬
‫وضع اللّسان العربي في مجموع ال ّنقاط ال ّتالية التي تبدو لنا األبرز‬
‫واألوكد للتطارح وال ّنقاش‪.‬‬
‫ثانيا‪:‬المعرفة بحقيقة اللّسان العربي‬
‫إنّ اللّسان العربي ليس ظاهرة غريبة أو جديدة على فكرنا‬
‫وحضارتنا‪ .‬ويعتبر اللّسان العربي‪،‬من دون مهاترة وال مبالغة‪،‬من أه ّم‬
‫األلسن التي حظيت بالدّراسة وال ّتأليف‪.‬ولع ّل الكثير من المناهج المتداولة‬
‫قديما على غاية من األهمية إذا ما نظرنا إليها في ضوء علوم اللّسان‬
‫الحديثة‪ .‬وقد يكون اللّسان العربي من األلسنة القليلة عبر تاريخها ممّا‬

‫‪3‬‬
‫حظا وافرا من ال ّتحليل‪.‬غيرأنّ ك ّل هذا اليشفع للّسان العربي أن‬ ‫نال ّ‬
‫يستفيد من علوم العصر ومن اللّسانيات الحديثة على وجه الدّقة‪.‬‬
‫إنّ اللّسانيات الحديثة يمكن اعتبارها من أه ّم وأوسع العلوم‬
‫اإلنسانيّة انتشاراعلى اإلطالق‪،‬وليس ثمّة علم آخر يضاهيها ف ي‬
‫استقطابها للكثير من المعارف األخرى اإلنسانيّة منها والصّحيحة‪ ،‬وفي‬
‫استقطاب هذه المعارف لها ‪.‬ال يخفى أنّ السانيات الحديثة شديدةاال ّتصال‬
‫بالرّ ياضيات واإلحصاء والمنطق وعلم ال ّنفس وعلم االجتماع‬
‫واألنثروبولوجيا واألتنولوجيا وال ّتاريخ واألدب والسّ ياسة‪ ،‬بل هي شديدة‬
‫اال ّتصال بوسائل اال ّتصال الحديثة واإلعالميّة‪ .‬والأحد يستطيع أن ينكر‬
‫ّ‬
‫والثورة‬ ‫في هذا المجال األهمية البالغة التي تحتلّها اللّسانيات‬
‫المعرفيّةالتي أنشأتها بال ّنظر إلى اللّسان في ح ّد ذاته أو في ما ي ّتصل به‬
‫من قريب أو من بعيد‪.‬‬
‫إنّ اللّسانيات الحديثة‪،‬وإن كانت مشارب ش ّتى ومدارس عدّة‪ ،‬لها‬
‫من القوّ ة أن تعبّر عن الكثير من المفاهيم والحقائق التي هي أقرب إلى‬
‫ّ‬
‫الثبات منها إلى ال ّتحوّ ل كال ّنظر إلى بنية اللّسان في ح ّد ذاته‪،‬وال ّنظر إلى‬
‫وظيفته ال ّتواصليّة والمعرفيّة‪،‬وال ّنظر إليه باعتباره ظاهرة شفويّة أو‬
‫مكتوبة‪ ،‬وبال ّنظر إليه باعتباره نظام عالمات أو إشارات‪ ،‬وبال ّنظر إليه‬
‫باعتباره حقيقة أو مجازا‪.‬‬
‫إنّ اللّسان العربي بك ّل تح ّققاته وفي جميع تجلّياته هو بحاجة ماسّة‬
‫اليوم إلى أن يكون خاضعا لل ّتحليل اللّساني‪،‬وقد ي ّتفق هذا ال ّتحليل اللّساني‬
‫الحديث مع بعض ال ّتحاليل القديمة أو الي ّتفق‪.‬المه ّم إخضاع هذا اللّسان‬
‫للدّراسة والوصف وفق مناهج جديدة قد تختلف كثيرا أو قليال عن‬
‫المناهج ال ّنحوية القديمة‪ ،‬وذلك بتطبيق أدوات جديدة والقيام بإجراءات‬
‫حديثة‪ ،‬وتسليط جملة من المفاهيم التي لم تكن سائدة‪،‬واإلنطالق من‬
‫افتراضات أوفرضيات مبتكرة ابتكرها العلم الحديث‪،‬وهذا في الحقيقة‬
‫ليس عيبا يجب أن نحترز منه‪ ،‬وإ ّنما هو ضرورة علمية ومعرفيّة تمليها‬
‫متطلّبات العلم والموضوعيّة‪ ،‬بل إنّ هذه المناهج الحديثة لعلّها وحدها‬
‫القادرة على أن تم ّكننا من إعادة قراءة تراثنا اللّساني قراءة جديدة تعيد‬
‫له االعتبار وتقيّمه ال ّتقييم العلمي الصّحيح‪ ،‬وتبرز ماهو خاف فيه وتعيد‬
‫له إشراقته‪ ،‬من دون أن نبالغ في الفصل بين القديم والحديث‪ ،‬ومن دون‬
‫الثنائية‪ ،‬ذلك أنّ المنهج‬‫المبالغة في الدّعوة إلى ال ّتوفيق بين طرفي هذه ّ‬
‫مه ّم في العلوم عموما وفي العلوم اإلنسانيّة خصوصا‪،‬وليس ثمّة منهج‬
‫الي ّتخذ من علوم عصره أداة لبلوغ الغايات العلميّة المفترضة‪.‬إنّ‬
‫اللّسانيات الحديثة يجب أن يستفاد منها في ك ّل المجاالت‬
‫المعرفيّة‪،‬وباألساس في فهم اللّسان وبنيته والعالقات القائمة بين مكوّ ناته‬
‫أوعناصره‪ ،‬والب ّد للدّرس اللّساني أن يكون مفيدا في جميع المستويات‬

‫‪4‬‬
‫اللّسانية‪ ،‬وأن اليهت ّم بجانب على حساب جانب آخر‪ .‬فاالهتمام بالجانب‬
‫الصّوتي والصّوتي الوظيفي مه ّم‪ ،‬كما أنّ الجانب الصّرفي والصّرفي‬
‫ال ّتركيبي مه ّم أيضا‪ ،‬هذا فضال عن الجوانب ال ّتركيبيّة والمعجميّة‬
‫والدّاللية بل ال ّتداولية والبالغية‪.‬وك ّل هذا ممّا تنشأ عنه انعكاسات مهمّة‬
‫في الكثيرمن الجوانب التي قد تتعرّ ض لمسائل تطبيقية كال ّترجمة وإنشاء‬
‫القواميس والمعالجة اآلليّة‪.‬‬
‫ومن المسائل التي هي بحاجة إلى اللّسانيات لحلّها وضع اللّسان‬
‫العربي في البالد العربيّة في عالقته بألسن أخرى أو مستويات لسانيّة‬
‫مختلفة‪،‬ومن ضمن وضع اللّسان العربي اليوم عالقة الفصيح‬
‫بالعاميّ ‪،‬وعالقة الفصيح أو العامي باللّسان أو األلسن األجنبيّة‪.‬‬

‫‪La diglossie‬‬ ‫ثالثا‪:‬الثّنائية اللّسانيّة‬


‫الثنائية اللّسانية هي ما يعبّر عنه بااللتقاء الحاصل بين اللسان‬ ‫إنّ ّ‬
‫العربي الفصيح واللّهجة أو اللّهجات الدّارجة‪.‬هذه ّ‬
‫الثنائيّة اللّسانية تفرض‬
‫نفسها على الواقع العربي بمختلف مقوّ ماته‪.‬وذلك منذ فترات تاريخيّة‬
‫طويلة‪،‬من دون أن يوجد لهذه ّ‬
‫الثنائية ح ّل‪،‬إن ك ّنا حقّا بحاجة إلى ح ّل‪.‬إنّ‬
‫الثنائية ‪،‬إن صح ال ّتعبير في اعتبار مايمكن قوله عيبا‪،‬هي‬ ‫عيب ّ‬
‫االختالف في درجات االستعمال للّسان واختصاص اللّسان أو اللّهجة في‬
‫الوظيفة االجتماعية بدور يجعله مميّزا من دور بقيّة االستعماالت‬
‫األخرى‪ .‬وليس خافيا اليوم في مجموعاتنا اللّسانية العربيّة تقاسم‬
‫الوظائف التي يقوم بها اللّسان الفصيح واللّهجات المحلية‪ ،‬وكأنّ اللسان‬
‫الفصيح من وظيفته أن ُي ّت َخ َذ وسيلة رسمية لل ّتعبير‪،‬وأن يكون لغة‬
‫الثقافية والخطب الدّينية‬ ‫المناسبات والوظائف الرّ سميّة وال ّنشاطات ّ‬
‫والمحاضرات األدبية والفكرية وما شابهها‪،‬في الوقت الذي تشغل‬
‫اللّهجات المحلية بقيّة المهام اليوميّة التي يحياها الفرد في المجتمع‪.‬‬
‫الثنائيّة ال تظهر‪،‬في حقيقة األمر‪،‬في توزيع المهام بين‬ ‫ومشكلة ّ‬
‫الفصيح والعاميّ ‪،‬وإ ّنما تظهر في الهوّ ة الفاصلة بين االستعمالين وفي‬
‫للطفل المصري أو المغربي أو‬ ‫اعتبار اللّهجة الدّارجة هي اللّسان األ ّم ّ‬
‫الطفل في انتقاله من البيت أو ال ّشارع إلى‬ ‫الجزائري وهي ما يميّز لغة ّ‬
‫المدرسة‪ ،‬وأثر هذا االنتقال عليه في ال ّتحصيل اللّغوي والمعرفي‪،‬وكأنّ‬
‫الطفل العربي عندما يؤ ّم المدرسة يشرع في تعلّم لسان جديد أو أجنبيّ‬ ‫ّ‬
‫يختلف عمّا كان قد اكتسبه سابقا ‪.‬صحيح أنّ الرّ وابط األسريّة اللّسانية‬
‫التي تربط الفصيح بالعاميّ اليمكن مقارنتها بما يحصل في التقاء لسانين‬
‫مختلفين‪ ،‬إالّ أنّ الواقع يفيد أنّ الكثير من االختالفات الحاصلة بين‬
‫يؤثر تأثيرا سلبيّا بالغا في الكثير من‬ ‫االستعمالين(أي الفصيح والعاميّ ) ّ‬

‫‪5‬‬
‫الطفل في التعلّم وفي ال ّنجاح وفي اكتساب اللّغة‬ ‫الحاالت على قدرات ّ‬
‫االكتساب السّليم‪.‬إنّ البنيتين اللّسانيتين للفصيح والعاميّ ‪ -‬بالرّ غم من‬
‫القرابة األسرية اللّسانية التي تربط بينهما‪ -‬هما على درجة عالية من‬
‫ال ّتشابه واالختالف في الوقت نفسه‪ .‬وإلى اليوم لم تؤخذ هذه االختالفات‬
‫وال ّتشابهات في البالد العربيّة بكثير من الحزم والج ّد‪.‬فبقيت العاميّة‬
‫مهمّشة والاعتداد بها‪،‬وهي مبعدة رسميّا وثقافيّا‪ ،‬ومازال الوهم ال ّشائع‬
‫عند الكثير من ال ّناس بل الكثير من المث ّقفين والك ّتاب أنّ الدّارجة ما هي‬
‫إالّ صورة محرّ فة للفصيحة وأن المجال لالعتداد بها ‪ ،‬والسبيل إلى‬
‫دراستها أو مقارنتها بالفصيحة‪.‬إالّ أ ّنها وبالرّ غم من هذا تظ ّل تعايش‬
‫وتنزل منزلة الدّون‪ ،‬في الوقت الذي تخرق‬ ‫ّ‬ ‫الفصيحة وتركن إلى ظلّها‬
‫فيه ك ّل الفئات االجتماعيّة‪،‬وك ّل االستعماالت اللّسانية باعتبارها طاقة‬
‫تعبيريّة‪،‬عاجزين عن رفضها وعاجزين عن االعتراف بها‪.‬‬
‫يتمثل في القدرة على تضييق‬ ‫الثنائيّة في اعتقادنا ّ‬
‫إنّ المشكل في ّ‬
‫الهوّ ة القائمة بين الفصيح والعاميّ أو بين االستعمال الفصيح واالستعمال‬
‫العامي‪.‬وتضييق هذه الهوّ ة ال يمكن أن يكون إالّ عبر ال ّتمدرس ونشر‬
‫الثقافة والعلوم ‪.‬وال ّتمدرس اليمكن أن يكون ناجحا إالّ باألخذ بعين‬ ‫ّ‬
‫االعتبار هذا ال ّتداخل الحاصل بين الفصيح والعامي‪ ،‬ومحاولة اإلكثار‬
‫من المتشابهات وال ّتقليل من االختالفات‪ .‬وال يمكن لهذا األمر أن يت ّم إالّ‬
‫باالعتراف بالعاميّ وال ّنظر إ ليه باعتباره استعماال جديرا باالهتمام‬
‫وبدون مر ّكبات او شعور بال ّنقص‪،‬وإيالئه المكانة التي يستحقّها باعتباره‬
‫يمثل أكبر ال ّشرائح االجتماعيّة في واقعنا العربي إن لم نقل‬‫لسانا منطوقا ّ‬
‫ك ّل ال ّشرائح‪،‬وباعتباره اللّسان األ ّم في االكتساب اللّغوي عند ال ّناشئة‬
‫العربيّة عموما‪.‬‬
‫وما االعتراف بالعاميّ في هذا المجال إالّ باب للدّ خول إليه‬
‫ودراسته الدّراسة العلميّة‪،‬بالضّبط كما تدرس ثقافةاالنسان وتاريخيته‬
‫واجتماعيته‪ .‬ودراسة العاميّة يجب أن يستفاد منها في هذا ال ّشأن في‬
‫الطبيعي للّسان‬‫تعليميّة األلسن والمواد‪.‬وك ّل ذلك بالتأكيد على االستعمال ّ‬
‫الفصيح‪،‬وجعل هذا اللّسان اللّ َ‬
‫سان السّائدَ في سنوات المدرسة ال ّتحضيريّة‬
‫المتأخرة من مرحلة رياض األطفال ‪ ،‬وجعل اللّسان‬ ‫ّ‬ ‫أو المستويات‬
‫ّ‬
‫الفصيح لسانا طبيعيّا عند الطفل وعند المربي في قاعات ال ّتدريس‪.‬‬
‫ك والسبيل إلى إنكار ذلك‪،‬‬ ‫إنّ اللّسان الدّارج لسان طبيعي وال ش ّ‬
‫إالّ أنّ تأثيراته سلبيّة على اللّسان الفصيح وتعلّم األطفال لهذا اللّسان‪.‬‬
‫وتبرز هذه ال ّتأثيرات السّلبية عادة في ال ّتحصيل اللّغوي وال ّتحصيل‬
‫المعرفي‪.‬وإنّ ح ّل معضلة ّ‬
‫الثنائيّة ال يكمن في اعتقادنا في ال ّتقليل من‬
‫شأنها وإ ّنما في محاولة السّيطرة عليها والعمل على نشر العربيّة‬
‫الفصيحة لتح ّل شيئا فشيئا في مواضع ظلّت العاميّة تحتلّها منذ قرون‬

‫‪6‬‬
‫ّ‬
‫الطفولة أي من الرّ وضة‬ ‫عديدة‪،‬وال يكون ذلك إالّ بداية من سنّ‬
‫والمدرسة‪.‬‬
‫‪Le bilinguisme‬‬ ‫رابعا‪:‬االزدواجيّة اللّسانيّة‬
‫الظاهرشبيها بأمر ّ‬
‫الثنائيّة يختلف‬ ‫إنّ أمر االزدواجيّة وإن بدا في ّ‬
‫عنه اختالفا شديدا‪،‬وإن كان ك ّل منهما "مضر"‪ ،‬وإن اعتبرت‬
‫االزدواحيّة أكثر ضررا‪ .‬إنّ االزدواحيّة في عرف اللّسانيين هي التقاء‬
‫لسانين مختلفين قد يكونا من أسرة لسانيّة واحدة أو من أسرتين‬
‫مختلفتين‪ .‬وقد تكون االزدواجيّة أيضا ظاهرة فرديّة أو جماعيّة‪.‬‬
‫واالزدواجيّة السّائدة في بلداننا العربيّة هي ازدواجيّة جماعيّة مفروضة‬
‫علينا فرضا‪.‬ولع ّل تبعاتها األولى تعود إلى أسباب تاريخيّة أوإن شئنا‬
‫استعماريّة‪.‬هذه االزدواجيّة التحمل إلينا استعماال لسانيا فحسب‪ ،‬وإ ّنما‬
‫تحمل إلينا فكرا مغايرا وثقافة مختلفة ورؤية للكون واألشياء الت ّتفق في‬
‫مجمل ظواهرها مع رؤيتنا نحن‪ .‬إنّ اللّسان األجنبي بالرّ غم ممّا فيه من‬
‫إيجابيات التنكر مشبّع ومحمّل بالكثير من الهيمنة وحبّ السّيطرة‬
‫وال ّتسلّط‪.‬وهو ال يحمل في طيّاته الكثير من االنبهار بالغرب‬
‫وبأصحابه‪،‬وإ ّنما يحمل الكثير من األفكار المسبقة واألحكام القيم ّية على‬
‫لساننا العربي وعلى ثقافتنا وحضارتنا وتاريخنا وواقعنا بمختلف‬
‫تجلّياته‪.‬‬
‫الطويل ينتج عنه صراع قد‬ ‫إنّ االحتكاك بين األلسن في تاريخها ّ‬
‫يحت ّد أو يخفت حسب الوضع السّياسي واالقتصادي واالجتماعي‪،‬وحسب‬
‫طبيعة العالقة التي تربط بين هذه األلسن‪ .‬وإنّ هذا االحتكاك قد يكون‬
‫مهادنا في حاالت كثيرة‪ ،‬وقد يبلغ ح ّد ال ّتصادم في حاالت أخرى‪.‬وفي‬
‫حاالت ال ّتصادم يشت ّد الصّراع‪،‬وكك ّل صراع يشهد الصّراع اللّساني‬
‫غالبا ومغلوبا‪،‬وقد يطمس الغالب ك ّل مقوّ مات المغلوب‪،‬ممّا يجعل لسان‬
‫الغالب يح ّل مح ّل لسان المغلوب‪،‬وممّا يؤ ّدي في ال ّنهاية إلى اضمحالل‬
‫لسان المغلوب وربّما ال ّتالشي والموت‪.‬إنّ فرض إرادة المعتدي على‬
‫المعتدَ ى عليه ال يكون في مستوى السّلطة وحدها ‪،‬وإ ّنما يكون في‬
‫الطريق إلى‬ ‫المستوى اللّساني أيضا‪.‬وقد تكون الهيمنة الماديّة هي ّ‬
‫الثقافية والفكرية‪،‬وقد يحصل العكس فتكون‬ ‫الهيمنة اللّسانيّة ومن ثمّة ّ‬
‫الهيمنة اللّسانية هي البوّ ابة العظمى على باقي مقدّرات الشعوب‪.‬وفي ك ّل‬
‫الحاالت إنّ الصّراع اللّساني والهيمنة السّياسية خطران قد تتر ّتب عنهما‬
‫خرائط جغرافية وسياسية وبشرية لم تكن موجودة في السّابق أي قبل‬
‫الصّراع‪.‬‬
‫إزاء هذا الوضع اللّساني الم ّتسم باالزدواجية اللّسانية‪ ،‬وبال ّنظر‬
‫إلى المخاطر أو المضار المحتملة التي يمكن أن تنشأ عن هذه‬

‫‪7‬‬
‫االزدواجية هل يجب أن نتن ّكر جملة وتفصيال لالزدواجية وبال ّتالي‬
‫للّسان األجنبي ح ّتى نكون في مأمن من هذه المخاطر؟‬
‫إنّ أمننا اللّساني الذي يجب أن نرعاه ال يمكن أن يت ّم بالرّ فض‬
‫القطعي للالزدواجية عامّة‪،‬والبالرّ فض القطعي لك ّل لسان أجنبي وإ ّنما‬
‫يجب أن يت ّم في اعتقادنا بإيالء اللّسان العربي المكانة التي يستحقّها‪،‬‬
‫وذلك بال ّتشجيع على دراسته ودراسة إمكانياته وبتطويره وترويجه‬
‫أونشره ال ّنشر السّليم‪،‬وجعله لسانا قادرا على ال ّتعبير عن ك ّل المتطلّبات‬
‫صة منها المعرفيّة والعلمية وال ّتكنولوجية‪،‬وأن يكون لسانا‬ ‫الحياتيّة‪،‬وخا ّ‬
‫ف ّعاال في نقل المعارف وترجمتها واستيعابها‪ ،‬وأن يكون لسان العلم‬
‫والثقافة واألدب‪ ،‬وأن يكون لسان المدرسة واإلعالم ومختلف الهيآت‬
‫السياسية والثقافية‪ ،‬وأن يبلغ في كل هذا مستوى القدرة على الرواج‬
‫والتأثير والتأثر واالستفادة واإلفادة واألخذ والعطاء‪ .‬وبكلمة أن يكون‬
‫اللسان العربي لسان العلم والتكنولوجيا واالتصاالت الحديثة‪ ،‬وأن تكون‬
‫له مكانة أو موضع قدم من ضمن بقية األلسن المعترف بها في العالم‪،‬‬
‫أي أن يكون لسانا رائدا قادرا على استيعاب كل المفاهيم الحديثة وكل‬
‫التقنيات الحديثة‪ ،‬وأن يحقق بشأن هذه األغراض إضافته النوعية‪ .‬وهذا‬
‫ال يت ّم وال شك لمن كان فاقد القدرة خاوي القوى‪،‬كما ال يت ّم لمن كان‬
‫لسانه لسانا مهل َهالا ضعيفا يعبر عن النقص واالنبهار والتبعية‪.‬‬
‫إنّ اللّسان األجنبي في طلب المعرفة والعلوم مفيد وال شك‪ ،‬وهو‬
‫صالح أن يكون أداة عمل ونافذة منها يعبر الطالب والعالم إلى ثقافات‬
‫وحضارات أخرى بشرط أن ال يكون ذلك على حساب اللسان القومي‬
‫والمق ّدرات القومية‪ .‬وضعف اللسان وقوته مرهونان بقوة صاحب اللسان‬
‫أو ضعفه‪.‬‬
‫إنّ هذا الوضع اللّساني في البالد العربية المتسم بالثنائية من جهة‬
‫وباالزدواجية من جهة ثانية قد تكون له انعكاسات مه ّمة على حاالت‬
‫أخرى من حاالت لساننا العربي في وضعه الراهن‪ .‬ومن أبرز وأه ّم هذه‬
‫الحاالت حالة التعريب ونقل العلوم والمعارف وإيجاد المصطلحات‬
‫الكفيلة بهذا‪.‬‬
‫خامسا‪:‬اللّسان العربي والتعريب‬
‫إن مسألة التعريب مسألة قديمة جديدة‪ ،‬وهي مسالة شائكة قد‬
‫تزداد ح ّدة أوتخف تبعا للوضع اللّساني في بلد عربي ما‪.‬ومسألة‬
‫التعريب وإن كانت متفاوتة من بلد عربي إلى آخر مسألة تفرض نفسها‬
‫على جميع المجاالت المعرفية واالقتصادية والتكنولوجية‪ .‬وبالقدر الذي‬
‫تهيمن فيه االزدواجية أو اللّسان األجنبي تطرح فيه قضية ال ّتعريب‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫وتزداد هذه القضية تعقيدا بالقدر الذي يحل فيه اللّسان األجنبي مح ّل‬
‫اللّسان العربي أو يزاحمه فيه‪.‬‬
‫لقد بدأت المطالبة بالتعريب تاريخ ّي ا منذ أيام االستعمار المباشر‬
‫الذي شهدته الساحة العربية‪ ،‬سواء في المشرق أو في المغرب‪.‬وظ ّل‬
‫التعريب منذ ذلك الوقت مطلبا وطنيا ُملحّ ا يمسّ شخصية البالد‬
‫ومقوّ ماتها‪.‬‬
‫وليس المقصود بالتعريب تعريب المعارف الواردة علينا من‬
‫الغرب وإ ّنما هو تعريب الهيآت والمؤسّسات الخاصة والعامة وتعريب‬
‫الحياة االجتماعيّةواالقتصادية والسياسية ّ‬
‫والثقافية والتربوية‪،‬أي تعريب‬
‫اإلدارة والمدرسة والكلية‪،‬وتعريب ّ‬
‫الثقافة والعلوم واإلعالم وتعريب‬
‫ال ّشارع‪.‬إنّ مسألة ال ّتعريب في البلدان العربية تبرز من خالل وضع‬
‫غير طبيعي يتمثل في حلول اللّسان األجنبي مزاحما للسان العربي‪،‬وذلك‬
‫في المطبوعات الرسمية وفي وسائل اإلعالم وفي الالفتات وأسماء‬
‫الشوارع والمدن والمؤسسات وفي التعليم والخطاب اليومي لدى المثقفين‬
‫والعامة‪.‬‬
‫إن مسالة التعريب تشير إلى أن الوضع اللساني في الكثير من‬
‫البلدان العربية وضع غير طبيعي يشبه وضع المعاق الذي يتحرك‬
‫بعكازين اثنين وال سبيل إلى أن يتخلىعن أيّ منهما‪ .‬إن ال ّتعريب في هذه‬
‫البلدان التي تعاني منه يملي عليها اليوم وضع استراتيجيات لتطبيقه في‬
‫محاولة للتخلص من وضعية االزدواجية التي تعيشها‪ .‬إال أن هذه‬
‫اال ستراتيجيات وإن نجحت في بعض البلدان العربية فهي لم تنجح في‬
‫الكثير من البلدان ألخرى‪ .‬ولقد مرّ ت عقود على االستقالل ومازالت‬
‫بلدان عربية كثيرة ترزح تحت وطأة المطالبة بالتعريب والعجز عن‬
‫تحقيقه كامال‪ ،‬بل إنّ بعضا من هذه البلدان شهدت تطوّ را ث ّم انتكاسة في‬
‫هذا التحقيق‪ ،‬بل شهدت ردة في ذلك‪ .‬وليس أدل على هذا من وضع‬
‫التعليم في هذه البلدان‪،‬إذ شهد التعليم ومازال يشهد الكثير من‬
‫االضطراب وعدم االستقرار في ما يتعلق بلغة التدريس وتعريب المواد‬
‫والبرامج التعليمية‪ ،‬وكثيرا ما لوحظ تقلص هذه الظاهرة ورواجها تبعا‬
‫للرغبات الفردية أو الظروف السياسية المواتية‪.‬‬
‫ولع ّل مما تجدر اإلشارة إليه في هذا الصدد غياب اإلرادة‬
‫السياسية الحقيقية في إنجاز التعريب‪ .‬وفي مقابل هذا يظل االستقالل‬
‫السياسي الحقيقي وإيجاد خطة واضحة للتعريب والتمسك بهذه الخطة‪،‬‬
‫والحرص على إنجاحها هي الرهانات الحقيقية لتعريب البالد‬
‫ومؤسساتها‪ ،‬وما الوضع الذي تحياه هذه البلدان اليوم إال انعكاس‬
‫للوضع اللّساني وما حالة ال ّتعريب إالّ انعكاس بدورها لهذا الوضع‬
‫اللّساني المشار إليه‪ .‬فلنعمل على تغيير هذا الوضع أي الوضع اللساني‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫حتى نتمكن من تغيير بقية األوضاع التعليمية واالجتماعية واإلدارية‬
‫واإلعالمية‪.‬‬
‫إنّ عملية ال ّتعريب مرهونة بما سبق أن ذكرناه‪،‬وهي مرهونة‬
‫أيضا بوسائل تقنية ال بد من توفّرها هي حسن الترجمة أو القدرة عليها ‪.‬‬
‫صعوبات التي تعترض ال ّت عريب والترجمة صعوبات عدة‬ ‫ومن أه ّم ال ّ‬
‫أه ّمها المصطلح‪.‬‬
‫سادسا‪:‬وضع المصطلح العربي‬
‫إن عمل ّي ة وضع المصطلحات للقدرة على الترجمة والتعريب‬
‫ونقل المعارف والعلوم وسيلة ال غنى عنها‪ .‬والمصطلح هو لغة خاصة‬
‫أي لغة أهل االختصاص‪ ،‬وهو فرع من فروع اللّسان المتداول بين‬
‫أفراد المجموعة اللّسانية الواحدة‪ .‬والمصطلح هو أداة تعبير دقيقة لنقل‬
‫المفاهيم أو المتصوّ رات العلمية والثقافية والتكنولوجية‪ .‬والمصطلح دليل‬
‫لساني ‪ un signe linguistique‬م ّتفق بشأنه بين أهل االختصاص‬
‫الواحد أو أهل الصناعة الواحدة‪.‬وهو بعبارة القدامى مفتاح العلوم‪ .‬وذلك‬
‫م ّما يدلّل على أهميته وضرورته للدخول إلى العلم المخصوص‪.‬‬
‫وداللة االصطالح هي العالقة الرابطة بين داله ومدلوله‪ ،‬وهو ال‬
‫يختلف في هذه الحالة عن الدليل اللساني بوجه عام‪ .‬بيد أن داللة‬
‫المصطلح أوضح من ال ّد اللة العادية‪ ،‬وهي أرسخ داخل مجال‬
‫االختصاص من دالالت الكلمات العادية التي يتح ّدد معناها تبعا لل ّسياق‬
‫الذي ترد فيه‪.‬‬
‫إن العالقة بين دال المصطلح ومدلوله هي عالقة تواشج وترابط‬
‫ما أن يحضرأحدها حتى يستحضر بالضرورة اآلخر‪،‬وبطبيعة الحال ال‬
‫يمكن ألحدهما أن يقوم مقام اآلخر‪ .‬وألهمية المصطلح و القيمة الداللية‬
‫التي يكتسبها قد تغدو المعرفة االصطالحية هي المعرفة العلم ّية‪،‬إذ ال‬
‫علم بدون مصطلح وال استحضارلمصطلح بدون استحضار العلم‬
‫والمفاهيم المتعلقة به‪.‬‬
‫ّ‬
‫تتوزع‬ ‫وال يخفى أن المصطلحات كثيرة وعديدة ومتنوعة‪ ،‬وهي‬
‫على مجاالت علمية ومعرفية ع ّدة‪ ،‬ويمكن لكل مجال من هذه المجاالت‬
‫أن يكوّ ن معجما اصطالحيا خاصا به‪.‬والمعجم االصطالحي ماهو إال‬
‫معجم قطاعيّ ينهل من المعجم العام للّسان العربي‪ ،‬وهو صورة للمعجم‬
‫الذهني‪ le lexique mental‬الموجود لدى األفراد الناطقين باللسان‬
‫العربي بوجه عام‪ .‬و ُتع ّد المعاجم القطاع ّية اليوم ضرورة ملحة إلمكانية‬
‫نقل العلوم والتكنولوجي ات الحديثة‪ ،‬وللمساعدة على إنجازعملية‬
‫التعليم‪،‬وللتطوير العلمي والمعرفي المطلوب في البالد العربية‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫صعوبة في وضع المصطلح ‪ -‬مما يجعل المصطلح معضلة‪-‬‬ ‫إن ال ّ‬
‫هي حقيقة وضعه على ماهو عليه اليوم في مختلف البلدان العربية ‪.‬‬
‫ولع ّل من أبرز ما يم ّيز وضع المصطلح العلمي ما يمكن إجماله في‬
‫النقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬فوضى المصطلح واضطرابه وتع ّدده من بلد إلى آخر‪.‬بل بين‬
‫مختص وآخر‪،‬وقد ال نبالغ عندما نشير إلى أن هذا االضطراب قد نجده‬
‫عند الباحث الواحد‪.‬‬
‫‪ -2‬تشتت المصطلح وعدم القدرة على توحيده والضعف في عقد‬
‫الندوات المتعلقة به‪.‬‬
‫‪ -3‬المحاوالت الفردية الغالبة على وضع المصطلح‪ ،‬وغياب المؤسسات‬
‫والهياكل القادرة على تقنين هذه العملية‪،‬ووضع استراتيجيات عامة‬
‫وإرساء ما يس ّمى ببنوك المعلومات‪.‬‬
‫‪ -4‬عدم القدرة على التفاعل والتعاون بما فيه الكفاية بين المؤسسات‬
‫القليلة القائمة بهذا األمر كالمجامع اللغوية‪ ،‬وعدم القدرة على الوصول‬
‫بالمصطلح إلى ما يس ّمى بعلم المصطلح باعتباره علما ناشئا‪ ،‬وعدم‬
‫االهتمام بتدريس هذا العلم والتأليف فيه‪.‬‬
‫‪ -5‬القصور في فهم داللة المصطلح في معينه الحقيقي وفي مفهومه‬
‫العلمي الدقيق كما جاء في اللّسان ال ّدخل أي في لسانه األصلي‪ ،‬ثم‬
‫اختالف مصادر المصطلح الواحد أو مرجعياته‪.‬‬
‫إنّ إمكانية الخروج من هذا الوضع المتردّي للمصطلح العلمي في‬
‫بالدنا العربية اليوم رهين بمحاولة تجاوز العيوب التي أشرنا إليها‪،‬‬
‫الثغرات ّ‬
‫الثقافية أو العلم ّية‪ .‬وس ّد‬ ‫ورهين بصورة عامة بما يسمى بس ّد ّ‬
‫الثغرات ال يتم إال باألخذ بزمام العلوم والتكنولوجيا والفنون‪ ،‬ومحاولة‬ ‫ّ‬
‫بلوغ درجة َت َم ُّثل هذه العلوم واستيعابها واإلبداع فيها‪ ،‬وعدم االكتفاء‬
‫بالنقل واللهاث وراء النتاج المعرفي الوارد علينا من الغرب‪ .‬وال ّتمسك‬
‫بأسباب ال ّتقدم وحدها كفيل بتطوير الطاقة التعبيرية في اللسان العربي‪.‬‬
‫إن معضلة المصطلح على ما وصفناها أو ق ّدمنا لها ليست في‬
‫الحقيقة بمعزل عن األسباب التي ذكرناها‪ ،‬كما أنها ليست بمعزل أيضا‬
‫عن قضايا أخرى نظرية وتطبيقية تتعلق بالمعجم ووضع القواميس‪.‬‬
‫سابعا‪:‬وضع المعجم العربي‬
‫من المعلوم أن ك ّل لسان طبيعي يتح ّدد بنحوه من جهة وبمعجمه‬
‫من جهة أخرى‪.‬والعالقة بينهما عالقة طبيعية ال يمكن الفصل بين‬
‫طرفيها‪.‬والمعجم باعتباره المخزون المفرداتي لألفراد يمثل قدرة المتكلم‬

‫‪11‬‬
‫المستمع في لسان ما‪.‬وهذه القدرة التعبيرية عند األفراد ال بد أن ينشأ‬
‫بينها وبين ال ّتصورات الذهنية المختلفة توازن‪.‬وقد يختل هذا التوازن‬
‫كلّما حدثت هوّ ة بين هذين الطرفين‪.‬‬
‫الهوة في حدوث مفاهيم جديدة ال نجد لها ما يقابلها‬ ‫وتتمثل هذه ّ‬
‫الهوة كثيرا ما تحدث‬ ‫من مصطلحات في لسان مع ّين‪.‬وال يخفى أنّ هذه ّ‬
‫في البالد العربية‪ .‬وذلك بالنظر إلى كثرة المفاهيم الواردة علينا يوميا‪،‬‬
‫بسبب المعلومات العلمية والتكنولوجية والفنية التي ال تفتأ تتزايد يوما‬
‫بعد يوم‪،‬وال نجد لها المقابالت المالئمة نتيجة الزخ م المعرفي الذي‬
‫يغزونا من جهة ونقص في الطاقة التعبيريّة من جهة ثانية‪.‬‬
‫إن القدرة ال ّتعبيرية في البالد العربية ال ب ّد أن يعكسها اللّسان‬
‫ال ُمس َتعمل‪.‬وهذا اللّسان ال ُمس َتع َمل ال ب ّد له من مواكبة العصر وعالم‬
‫المعرفة والعلوم المعاصرة‪.‬والقاموس العربي باعتباره نموذجا تطبيقيا‬
‫للمعجم العربي ال بد أن يستجيب لمتطلبات اإلنسان العربي سواء كان‬
‫صغيرا أو كبيرا‪،‬متعلّما أو غير متعلم‪.‬وكل هذا بغاية تلبية حاجيات‬
‫المستهلك والقدرة على تغطية المادة المعجمية لكل المتطلبات الحياتية‪.‬‬
‫إن القاموس‪ le dictionnaire‬باعتباره صورة للمعجم العربي ال‬
‫بد أن يمثل هذا المعجم أفضل تمثيل وال بد له أن يشمل كل ما يجول‬
‫وكل ما ينقل في المجاالت المعرفية والعلمية والتكنولوجية والفنية‪.‬وكل‬
‫هذا يملي علينا إعادة النظر في طبيعة القواميس الشائعة بيننا‪،‬وذلك في‬
‫ما يتعلق بالنقاط التالية‪:‬‬
‫‪ -1‬طبيعة المادة اللغوية المعتمدة‪ :‬إذ ال ب ّد للقاموس في هذه‬
‫الحال أن يحتوي كل ما يع ّبرعن المتطلبات الالزمة في حياتنا المعاصرة‬
‫وفي جميع المجاالت‪ ،‬وبال ّتالي على هذه المادة أن تغطي ما يمكن أن‬
‫نطلق عليه العربية المعاصرة‪،‬ومن ث ّمة ال ب ّد من تحديد هذه العربية‬
‫باالعتماد على مدوّ نة أو مدونات قائمة على حقيقة اللّسان باعتباره لسانا‬
‫طبيعيا‪.‬كما ال ب ّد من إعادة وضع قواميس حديثة تتخلّص من الكثير من‬
‫الوحدات المعجمية التي لم تعد صالحة وق ّل استعمالها أوأن فائدتها غدت‬
‫هزيلة‪،‬كما ال ب ّد لهذا القاموس أن يعكس كل المتطلّبات الحيات ّية‬
‫الهوة التي سبق أن أشرنا‬ ‫ّ‬ ‫الجديدة‪،‬ح ّتى يس ّد هذا القاموس الحديث‬
‫إليهاالمتعلّقة بالقدرة ال ّتعبيرية من جهة وتغطية التصوّ رات والمفاهيم‬
‫المستحدثة من جهة ثانية‪.‬‬
‫‪ -2‬ترتيب المادة القاموسية‪ :‬من المعلوم أن ترتيب القواميس‬
‫ومنذ قرون بعيدة قائم على ال ّترتيب المتعلق بالحروف األصول‪ ،‬حتى‬
‫وإن اختلفت هذه القواميس في الظاهر‪.‬وهذا‪ -‬وال شك‪ -‬يس ّبب عسرا في‬
‫العثور على الوحدة المعجمية المطلوبة داخل القاموس‪ ،‬وخاصة بالنسبة‬

‫‪12‬‬
‫إلى الناشئة أو بالنسبة إلى ذوي المستوى التعليمي المحدود‪ .‬إذ ال ب ّد من‬
‫معرفة مسبقة باالشتقاق‪ ،‬أي اشتقاق الكلمات التي نريد البحث عنها‪ ،‬كما‬
‫ال بد من معرفة الكثير من التصاريف التي تمسّ الكلمات المعتلّة‬
‫وأصولها االفتراضية والتغ ّيرات الطارئة عليها‪.‬إنّ ترتيب القواميس‬
‫عندنا مازال يعاني االضطراب‪،‬وهو بحاجة ما ّسة إلى المراجعة‬
‫والبحث‪.‬‬
‫‪ -3‬طبيعة الشروح المقدمة‪ :‬إن المادة المق ّدمة في القاموس هي‬
‫بحاجة إلى شرح أو تفسير‪.‬وقد تكون هذه الغاية األساسية للقاموس‪.‬‬
‫وال ّتفسير كما هو معلوم يأخذ أشكاال عدة مختلفة‪ ،‬كأن نف ّسر بالمترادف‬
‫ض د‪ ،‬كما يمكن أن نفسر بالصورة أو بالرسم‪ ،‬أو أ ن‬ ‫أو بالمقابل أو بال ّ‬
‫نف ّسر بالشاهد‪.‬والتفسير قد يكون بكلمة‪،‬أو بعبارة أو جملة أو أكثر من‬
‫ذلك‪.‬هذه التفاسير المختلفة موجودة في قواميسنا ال محالة إال أن الكثير‬
‫منها مشابه لل ّتفاسير الموجودة في القواميس القديمة‪،‬ومازال الكثير من‬
‫القواميس المعاصرة في هذا الصدد تستشهد باألمثال القديمة والشعر‬
‫القديم واآليات القرآنية والحديث النبوي‪.‬وقد يكون هذا بعيدا عن الكثير‬
‫من التصوّ رات المعاصرة والمفاهيم الحديثة‪.‬وكل هذا من شأنه أن يزيد‬
‫الهوّ ة ا ّتساعا بين اللّسان باعتباره طاقة تعبيرية والتصوّ رات العلمية‬
‫والمعرفية التي نعمل على تقريبها أو نقلها‪.‬‬
‫إن معالجة وضع القاموس العربي اليوم هي بحاجة إلى إلمام‬
‫تطور الدرس اللساني الحديث‪،‬وهي‬ ‫نظري بالمسائل المعجمية وبواقع ّ‬
‫بحاجة إلى الفصل بين الصناعة القاموسية ‪la lexicographie‬‬
‫والمعجمية ‪ . la lexicologie‬وك ّل هذا بغاية أن يستجيب القاموس‬
‫العربي المنشود لمتطلبات العصر والمستج ّدات الوافدة علينا‪،‬واإلفادة من‬
‫ش ّتى العلوم والمعارف والصناعات والفنون‪ .‬إن وضع القاموس العربي‬
‫في ضوء الوضع اللساني‪ ،‬كما ق ّدمنا له‪،‬ليس بمعزل عن قضايا نظرية‬
‫وتطبيقية‪ ،‬كما ليس بمعزل عن مسائل وتقنيات حديثة لع ّل من أبرزها‬
‫تكنولوجيات اال ّت صال واإلعالمية والترجمة اآللية والقواميس‬
‫اإللكترونية‪.‬‬
‫ثامنا‪:‬اللّسان العربي واإلعالمية‬
‫إن تكنولوجيا اإلعالمية والتق ّدم المطرد للحواسيب قد فتح مجاال‬
‫واسعا في استغالل األلسن الطبيعية والتعامل معها‪،‬من ذلك المعالجة‬
‫اآللية والترجمة اآللية والقواميس اإللكترونية كما أسفلنا القول‪.‬وال يخفى‬
‫أن هذه التقنيات الحديثة تعاملت وبشكل أساسي مع األلسن الهندية‬
‫األوربية وعلى رأسها اللّسانان اإلنكليزي والفرنسي‪،‬وذلك بحكم الهيمنة‬
‫االقتصادية والمعرفية والسياسية للدول الكبيرة التي تتخذ من هذه األلسن‬

‫‪13‬‬
‫وسيلة تبليغ واتصال‪ .‬كما أن اللّسان العربي مثله مثل بقية ألسن البلدان‬
‫المُتخلّفة هو عرضة لهيمنة اللّسان األجنبي الوافد علينا عبر هذه‬
‫التكنولوجيات الحديثة واإلعالميات ووسائل االتصال‪.‬وهوبحاجة والحالة‬
‫هذه إلى ّ‬
‫تمثل المجاالت المختلفة وتطوير أساليبها باالعتماد على قدراته‬
‫الذاتية‪.‬‬
‫إنّ اإلعالمية اليوم قادرة على استيعاب التحليل اللساني ومراعاة‬
‫االنتظام في األلسن الطبيعية‪.‬وهي قادرة على تفكيك البنية اللّسانية‬
‫والوقوف على أنظمتها وقوالبها‪.‬وكل هذا مفيد في تحليل الخطاب وتأليفه‬
‫أو إعادة تأليفه‪.‬وهذا من شأنه أن يجعل الحاسوب قادرا على ال ّتصحيح‬
‫الذاتي وعلى إعطاء التراكيب السليمة‪،‬وإعطاء المترادفات‪،‬والتعرّ ف‬
‫على الوحدات المعجمية أو الكلمات‪،‬واستخراج العبارات والتراكيب‬
‫وترجمة النصوص‪.‬كما أن اآللة قادرة على تخزين المعلومات وترتيبها‬
‫وتصنيفها‪ .‬ومن هذه المعلومات الرصيد المعجمي أو المفردات المتمثلة‬
‫في بعض القواميس مهما كبر حجمها‪،‬والتصرّ ف في المادة القاموسية‬
‫تبعا لمتطلبات األفراد أو االستعمال‪ .‬ويكون الحاسوب في هذه الحاالت‬
‫قادرا على انتقاء الوحدات المعجمية وتقديمها في لحظات وجيزة‬
‫ومقارنة بعضها ببعض‪ ،‬وتقديم التفاسير الالزمة‪ ،‬وتقديم جداول‬
‫واحتماالت كثيرة معروضة لالختيار‪.‬كما يمكن له أن يق ّدم ترتيبات عدة‬
‫للمادة ومداخل كثيرة بحيث يصبح أداة ط ّيعية لالستعمال ال تقارن بأي‬
‫حال من األحوال في سرعتها وجدواها بالطرق القديمة المعروفة‬
‫وبطبيعة الوثيقة الورقية‪ .‬كما يمكن للحاسوب أن يقدم المساعدة وإن‬
‫ارتكب اإلنسان خطأ في تقديم كلمة أو معلومة إذ له من القدرة أن‬
‫يصحّ ح أو أن يعالج ذلك تبعا للبرمجيات أو القواعد التي يحتفظ بها‪.‬إنّ‬
‫الحاسوب اليوم ال يهتم بالقدرة الفائقة على ال ّتخزين وحفظ األرصدة‬
‫المعرفية والمفرداتية فقط‪،‬وإنما له من القدرة على إيجاد القواميس‬
‫اإللكترونية‪ .‬وتع ّد هذه القواميس ثورة في عالم المعرفة والتكنولوجيات‬
‫الحديثة‪.‬‬
‫إن المعلوماتية اليوم التي تأسست باألساس في البلدان المتقدمة‬
‫صناع ّيا‪ ،‬واهتمت بالتالي باأللسن الهندية األوروبية في المقام األول‪،‬‬
‫وأخضعت هذه األلسن ذاتها للتحليل والتأليف لتع ّد بحاجة إلى دراية من‬
‫قبل العرب لتحليل لسانهم واتخاذه أداة للتحليل‪.‬إنّ تحليل اللّسان العربي‬
‫والوقوف على طبيعته أو بنيته ليس أمرا هينا‪ ،‬وذلك لالختالف القائم‬
‫بينه باعتباره لسانا سام ّيا وبين األلسن الهندية األوروبية المنحدرة من‬
‫أصول التينية ويونانية‪ .‬هذا اللسان العربي قد يختلف قليال أو كثيرا عن‬
‫بقية األلسن الهندية األوربية في تراكيبه وصيغه ومعجمه واشتقاقاته بل‬
‫في أصواته أيضا‪ .‬وعلينا نحن العرب إيجاد خصائص هذا اللسان ال من‬
‫منظور لساني فحسب‪.‬ولكن من منظور معلوماتي أيضا‪ .‬ولع ّل أبرز‬

‫‪14‬‬
‫خصائص هذا اللسان المتعلقة بالجوانب اإلعالمية ما يمكن إجماله في ما‬
‫يلي‪:‬‬
‫‪-1‬النظام األبجدي‪ :‬وهو نظام أقرب إلى الجانب الصوتي منه إلى‬
‫الجانب الكتابي‪ .‬ذ لك أن الحرف العربي ما هو إال صوت أو‬
‫صوتم‪،Phonème‬وما الكتابة العادية إال صورة لألصوات المنطوقة‪.‬‬
‫غير أن ما يمكن اعتباره عسيرا في األبجدية العربية أو في نظامها‬
‫الصوتي أو الصوتمي هو الحركات أو الصوائت باعتبارها أصواتا وإن‬
‫كانت محدودة‪ ،‬وهي ال تظهر في مستوى الخ ّط أو الكتابة‪،‬وهي تق ّدم‬
‫نظاما عسيرا في التعامل مع اآللة وذلك في ما يخصّ ضبط الكلمات‬
‫والجمل وال ّنصوص‪.‬‬
‫الظاهرة اإلعرابية وإن م ّيزت ثراء‬ ‫ّ‬ ‫‪-2‬الظاهرة اإلعرابية‪ :‬إنّ‬
‫اللّسان العربي وتراكيبه بالنظر إلى مجال الحرية الواسع الذي تتمتع به‬
‫الكلمات داخل التركيب سواء بال ّتقديم أو بال ّتأخير أو الحذف أو‬
‫اإلضمار‪،‬فإنها ظاهرة تع ّد عسيرة وهي بحاجة إلى حلول في مستوى‬
‫المعالجة اآللية‪ ،‬ذلك أن األلسن الطبيعية التي تأسست عليها اإلعالمية‬
‫هي في األساس ألسن غير إعرابية‪ .‬وظاهرة اإلعراب ظاهرة تركيبية‬
‫وظيفية قائمة على المحالّت اإلعرابية‪ ،‬وهي ظاهرة داللية بهذا المعنى‬
‫ألنها تتضمن المعاني األساسية في العربية أي الفاعلية والمفعولية‬
‫واإلضافة‪،‬أي حاالت الرفع والنصب والجرّ ‪.‬بيد أنها وفي اآلن نفسه‬
‫ظاهرة صوتية ألن اإلعراب والتنوين يتحقق بأصوات سواء كانت‬
‫حروفا أو حركات‪ ،‬وال بد للحاسوب أن يأخذ كل هذا بعين االعتبار‪.‬‬
‫‪-3‬الطبيعة االشتقاقية للسان العربي‪،‬باعتبار االشتقاق قوّ ة توليدية‬
‫هائلة ال نجدها في أغلب األلسن الهندية األوروبية‪ .‬واالشتقاق قائم‬
‫باألساس على الحروف األصول‪ .‬والحروف األصول تمسّ الجانب‬
‫الصوتي والداللي كما تمسّ الجانب ال ّتصريفي المتعلّق بتصريف‬
‫الكلمات أسماء كانت أو أفعاال‪،‬وهي تمسُّ أيضا الجانب المعجمي في ما‬
‫يتعلّق بترتيب المادة المعجمية في القاموس‪ .‬كل هذه المسائل المتعلقة‬
‫بطبيعة اللسان العربي باعتبارها خصائص لسانية تتم ّيز في الكثير من‬
‫باالطراد واالنتظام‪،‬تجعل اللّسان العربي لسانا طبيعيا وإن‬ ‫ّ‬ ‫حاالتها‬
‫اختلف عن الكثير من األلسن األخرى‪ ،‬لسانا قابال نظريا للمعالجة اآللية‬
‫والتحليل اآللي‪ ،‬وذلك بالتأسيس لنظم خاصة للمساهمة في معالجة‬
‫المنظومة العا ّمة لهذا اللّسان‪،‬وإن بدت هذه المنظومة مختلفة عن‬
‫المنظومات السائدة المتعلقة باأللسن الهندية األوروبية‪.‬إنّ العيب في‬
‫التحليل المعلوماتي بشأن العربية لعلّه يتمثل في اعتماده نظما غربية في‬
‫محاولة لتطبيقها تطبيقا آليا على اللّسان العربي‪ ،‬وهذا من شأنه أن‬
‫يفرض خصائص هذه األلسن على اللّسان العربي‪،‬وإهمال بعض‬

‫‪15‬‬
‫خصائص هذا اللّسان لصالح خصائص أخرى مختلفة‪،‬من ذلك تحديد‬
‫طبيعة بنية الجملة والتراكيب والحديث عن مراتب الكلمات ومحالتها‪،‬‬
‫ومن ذلك الصيغ الصرفية وحقيقة االشتقاق القائم على الحروف‬
‫األصول وتوليد الكلمات بعضها من بعض والزيادات الحاصلة في‬
‫الكلمات‪،‬ومن ذلك أيضا المعاني النحوية والمقوالت النحوية والشبكات‬
‫الداللية الرابطة بين الكلمات‪.‬‬
‫إنّ نجاح اللّسان العربي في عالقته باإلعالمية سواء باعتباره أداة‬
‫للتحليل أو أداة قابلة للتحليل رهين اليوم بمدى استيعاب التكنولوجيات‬
‫الحديثة وعلى رأسها اإلعالمية‪ ،‬والقدرة على تمثل واستيعاب هذه‬
‫التكنولوجيات وعدم تطبيقها على اللسان العربي تطبيقا آل ّيا‪،‬وإ ّنما البدّ‬
‫من ال ّنظر إلى خصائص اللّسان العربي باعتباره لسانا طبيعيا له ما‬
‫يميزه من الكثير من األلسن و له الكثير مما يربطه بالسن أخرى‪.‬وكل‬
‫هذا البغاية فهم اللّسان العربي وطبيعته فقط ‪ ،‬وإ ّنما بغاية المساهمة في‬
‫تطوير التكنولوجيات المعلوماتية واألنظمة المعلوماتية والتحليل‬
‫المعلوماتي أيضا‪.‬وال يتحقق كل هذا في اعتقادنا إال بتوفر شرطين‬
‫أساسين‪ :‬امتالك ناصية المعلوماتية وامتالك ناصية التحليل اللساني‪.‬‬
‫هذا في ال ّنهاية أبرز وأه ّم ما يمكن أن نذكره في ما يتعلق بحقيقة‬
‫اللّسان العربي في وضعه الراهن والتحديات التي يواجهها واآلفاق‬
‫المستقبلية التي يصبو إليها‪ .‬وضع لساني أبرز ما يميزه تخلفه‪ ،‬وتخلفه‬
‫مرهون بالتخلف االقتصادي والمعرفي والتعليمي والتكنولوجي‬
‫واالجتماعي أيضا‪.‬تخلّف يجعلنا نتوق إلى ماهو أفضل‪.‬وهذا التوق لن‬
‫يتحقّق إالّ بإرادة سياسية ووعي جماعي وفردي مرتفع ورغبة ملحّ ة في‬
‫اللحاق بركب ال ُّدول المتق ّدمة من دون تبع ّية وال تقليد‪،‬والمساهمة في‬
‫الثقافية واستقالل األمم‬ ‫الحضارات الكونية والحفاظ على الهو ّيات ّ‬
‫وال ّشعوب‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫قائم ـة المراجع‪:‬‬
‫‪ -1‬العربيـــة‪:‬‬
‫* البكوش (الطيب) ‪" :‬إشكاالت الفصحى والدارجة"‪،‬ضمن قضايا‬
‫اللغة العربية المعاصرة‪ .‬المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم‪.‬‬
‫تونس ‪.1991‬‬
‫* د‪ .‬حجازي (محمود فهمي)‪ :‬األسس اللغوية لعلم المصطلح‪.‬‬
‫مكتبة غريب‪ .‬القاهرة (بدون تاريخ)‬
‫* زكري (منير)‪" :‬من قضايا اال ّتصال اللغوي"‪،‬ضمن واقع‬
‫اللغات ومستقبلها في تونس‪ .‬المعهد العالي للغات‪ .‬مركز النشر‬
‫الجامعي‪ .‬تونس ‪.2111‬‬
‫* د‪ .‬السويسي (محمد)‪" :‬اللّغة العربية في مواكبة الفكر العلمي"‪،‬‬
‫ضمن قضايا اللغة العربية المعاصرة‪ .‬المنظمةالعربيّة للتربية والثقافة‬
‫والعلوم‪ .‬تونس ‪.1991.‬‬
‫* د‪ .‬عبد الواحد (عبد الحميد)‪:‬‬
‫‪ "-‬أثر اللهجة الدارجة في تعلّم العربية الفصحى"‪ ،‬ضمن منهجية‬
‫تدريس اللغة األم بالتعليم األساسي‪ .‬المعهد القومي لعلوم التربية‪ .‬تونس‬
‫‪.1995‬‬
‫الطفل‪ .‬لغة ّ‬
‫الطفل"‪ .‬الحياة الثقافية‪ .‬وزارة الثقافة‬ ‫‪" -‬كتاب ّ‬
‫بالجمهورية التونسية‪ .‬العدد‪ 99‬تونس سبتمبر‪.1991‬‬
‫‪ " -‬قاموس الطفل والمستحدثات المعاصرة"‪ .‬مجلة القلم السلسلة‬
‫الرّ ابعة العدد ‪ 3‬صفاقس ‪.2111‬‬
‫‪ " -‬من إشكاالت نقل المصطلح اللّساني"‪ ،‬ضمن الترجمة‪ :‬التنوع‬
‫اللساني والممارسة الجارية‪ .‬سلسلة اللّسانيات العدد ‪ .11‬مركز‬
‫الدراسات والبحوث االقتصادية واالجتماعية‪ .‬تونس ‪.2111‬‬
‫‪ " -‬نحن واللّسانيات"‪ .‬مجلة القلم‪ .‬السلسلة ‪ 4‬العدد ‪ 5‬اللجنة‬
‫الثقافية الجهوية‪ .‬صفاقس ‪.2111‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ " -‬التواصل اللساني ووسائل االتصال الحديثة"‪ .‬مجلة القلم‬
‫الثقافية الجهوية صفاقس ‪2114‬‬‫السلسلة ‪ 4‬العددان ‪ 11‬و ‪ .12‬اللجنة ّ‬
‫و ‪.2115‬‬
‫* د‪ .‬نبيل(علي)‪ :‬العرب وعصر المعلومات‪ .‬عالم المعرفة العدد‬
‫‪ .114‬الكويت ‪.1994‬‬
‫* د‪ .‬فيصل( شكري)‪" :‬قضايا اللغة العربية المعاصرة"‪ ،‬ضمن‬
‫من قضايا اللغة العربية المعاصرة‪ .‬المنظمة العربية للتربية والثقافة‬
‫والعلوم‪ .‬تونس ‪.1991‬‬
‫* قاسم(رياض زكي)‪" :‬اللّغة واإلعالم‪:‬بحث في العالقات‬
‫التبادل ّية"‪.‬المستقبل العربي‪.‬السّنة ‪ 21‬العدد ‪ 324‬بيروت‪.‬شباط‪/‬فبراير‬
‫‪. 2112‬‬
‫* مونان (جورج)‪ :‬المسائل النظرية في الترجمة‪ .‬ترجمة لطفي‬
‫زيتوني‪ .‬دار المنتخب العربي‪ .‬بيروت لبنان ‪.1994‬‬

‫‪ -2‬الفرنسية‪:‬‬
‫‪*Jakobson, R. : « Aspects linguistiques de la traduction », in‬‬
‫‪Essais de la linguistique générale. T1.Traduction‬‬
‫‪Ruwet.N.Ed.Minuit, Paris1963.‬‬
‫‪* Kouloughli, D.E. :‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪« Pour une grammaire de transfert :‬‬
‫‪Dialectes/arabe standard », in Analyses. Théories, n°2-3,‬‬
‫‪Paris1979‬‬
‫‪-‬‬ ‫‪« Grammaire de transfert dans le domaine‬‬
‫‪arabe », in L’arabisant, n°14, Paris1980.‬‬

‫‪18‬‬

You might also like