Professional Documents
Culture Documents
D 8 B 9 D 985 D 98 A
D 8 B 9 D 985 D 98 A
تمهيــــد:
تعد السعادة من أهم المحاور التي انشغل بها الفكر اإلسالمي إلى جانب إشكالية العقل
والنقل وإشكالية الظاهر والباطن والتوفيق بين الدين والفلسفة وخلق العالم وخلق
القرآن وحشر األجساد وعلم هللا بالكليات والجزئيات ،بله عن األصول الجدلية التي
ناقشها علماء الكالم بعد الفتنة الكبرى وخاصة من قبل المرجئة والخوارج
والماتريدية والمعتزلة واألشاعرة كالتوحيد والوعد والوعيد والعدل والمنزلة بين
المنزلتين واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
واليعني هذا أن مبحث السعادة مقتصر على الفكر اإلسالمي فقط ،بل تنوولت السعادة
قديما من قبل الفلسفة اليونانية ،وحديثا مع الفلسفات اإلنسية والفلسفات المعاصرة،
وقلما نجد فيلسوفا لم يتناول السعادة في كتبه الفلسفية أو يعالجها ضمن نسقه الفلسفي.
وغالبا ماكانت السعادة تدرس في مبحث األكسيولوجيا( القيم) إلى جانب العدل
والخير والحق والجمال.
إذًا ،ما هي السعادة لغة واصطالحا؟ وهل تقترن السعادة بالجسد أم بالعقل أم بالقلب أم
بكل هذه العناصر قاطبة؟ وهل تكون السعادة باالنعزال والخلوة والتفرد أم بالتجمع
والتمدن والتعاون؟ وبتعبير آخر :هل السعادة هي سعادة المدينة أم سعادة الفرد؟ وهل
هي سعادة فردية أم جماعية؟ تلكم هي األسئلة التي سوف نحاول اإلجابة عنها في
موضوعنا هذا.
تشتق كلمة السعادة من فعل سعد وأسعد ،ومن توابعها المعجمية السعد والسعودة
والسعود .ومن ثم ،فكلمة ”:السعد – عند ابن منظور صاحب ” لسان العرب” –
اليمن ،والسعودة :النحوسة ،والسعادة :خالف الشقاوة،وقد سعد يسعد سعدا وسعادة،
فهو سعيد:نقيض شقي ،وسعد :فهو مسعود ،والجمع سعداء .قد سعده هللا وأسعده
وسعد جده وأسعده:أنماه .والسعد والسعود :الكواكب التي يقال لها لكل واحد منها سعد
كذا ،واإلسعاد :المعونة .والمساعدة :المعاونة .وساعده مساعدة وسعادا وأسعده:أعانه.
واستسعد الرجل برؤية فالن:أي عده سعدا .وسعديك :أي إسعادا لك بعد إسعاد.
وساعدة الساق شظيتها .والساعد :ملتقى الزندين .وجمع الساعد سواعد :مجرى المخ
في العظام؛ والسواعد :مجاري الماء إلى النهر أو البحر .والساعدة :خشبة تنصب
لتمسك البكرة ،والساعد :إحليل خلف الناقة وهو الذي يخرج منه اللبن؛ وقيل:
السواعد عروق في الضرع يجيء منها اللبن إلى اإلحليل .وسعيد المزرعة :نهرها
1
الذي يسقيها .والسعيدة :اللبنة لبنة القميص.”.
ونفهم من هذه الدالالت اللغوية أن السعادة نقيض الشقاء والبؤس والنحس ،وأنها
بمعنى الرضى والبركة والخير والنماء واليمن واالرتواء واإلشباع ،وتحيل كذلك
على المساعدة والعمل واألساس والتعاون .وبهذا ،تكون السعادة هي تحقيق اللذة
والخير عن طريق التدبير والعمل المثمر والتعاون الجماعي.
من الصعب جدا تعريف السعادة تعريفا شامال وموحدا؛ ألن مفهوم السعادة يختلف
من فيلسوف إلى آخر ،كما أن السعادة مفهوم مجرد يتجاوز نطاق ماهو حسي وماهو
معقول إلى ماهو خيالي .وبالتالي ،يصعب اإلحاطة بكل ماهو خيالي ،وتطويقه بكل
دقة وضبط ،وحصره في مجموعة من التعاريف والخاصيات .لذا ،ينتج عن هذا
المفهوم مجموعة من اإلشكاليات ومجموعة من األجوبة التي يصعب تحديدها .وقد
صدق شامفور حينما قال ”:السعادة ليست باألمر الهين ،فمن الصعب أن نعثر عليها
في دواخلنا ،ومن المستحيل أن نعثر عليها في الخارج”.
ومن ناحية أخرى ،فالسعادة في المفهوم الفلسفي العام هي حالة إرضاء وجودي قد
يكون ماديا أو عقليا أو وجدانيا ،وتترابط هذه السعادة بالخير والعدل والواجب والعقل
والقلب والجمال والوجود والفضيلة والكمال .كما أن السعادة هي أقصى المراتب التي
ينبغي أن تصل إليها الذات البشرية الكائنة من أجل فرض إنيتها وتحقيق وجودها
األنطولوجي واألكسيولوجي ( األخالقي).
ومن المعلوم أن السعادة تختلف من حقل معرفي إلى آخر ،فتختلف من السيكولوجيا
إلى السوسيولوجيا ،ومن البيولوجيا إلى السياسة ،ومن الميتافيزيقا إلى اإلسطيطيقا
(علم الجمال).
تقوم السعادة البشرية على إرواء رغبات الجسد واستهواء نوازع النفس الشهوانية،
كما ترتكن هذه السعادة إلى إشباع العقل بلذة الفلسفة والمنطق وامتالك المعارف
والعلوم والفنون ،كما تتجاوز هذه السعادة ماهو حسي وعقلي إلى ماهو لدني وحدسي
وعرفاني وجداني من خالل إشباع الروح وتهذيبها بالنور الرباني واللقاء اإلشراقي.
.1سعــــادة الجسد:
كثير من الناس و رعاع القوم يعتقدون أن السعادة الحقيقية هي أن يشبع المرء غرائز
الجسد وشهوات الذات ،وأن يفرط في األكل والشرب واالستمتاع بمتع الغرائز
وشهوات الحس .بيد أن هذه السعادة المادية الخسيسة يجاري فيها الحيوان اإلنسان،
بل يتفوق عليه كثيرا .ومن ثم ،يصبح اإلنسان بناء على ذلك حيوانا ماديا ليس إال.
هذا ،و اليمكن أن يتميز اإلنسان عن باقي الكائنات األخرى غير الناطقة وغير العاقلة
إذا كان ميسم التمييز والتفريد هو إشباع اللذات والرغبات الجسدية وإرواء النزوات
وإرضاء غرائز الشهوة البشرية المتقدة .ومن هنا ،يتحول عالم اإلنسان ومدينته إلى
مملكة للفوضى وغابة للتصارع الحيواني والتطاحن الوحشي حول تحقيق المتع
الجسدية والنفسية سواء أكانت شعورية أم الشعورية وإشباع كل نوازع الذات
وشهوات الحس.
ويذهب أحمد بن مسكويه (421-320هـ) إلى أن الذين يربطون حياتهم فوق هذه
البسيطة بالمتع المادية وإتيان الملذات الدنيئة وإمتاع النفس الحسية فهم أشبه
بالحيوانات التي التعرف في هذه الحياة إال بإرواء أجسادها وإشباع رغباتها .بقول
ابن مسكويه ”:وقد ظن قوم أن كمال اإلنسان وغايته هما في اللذات الحسية ،وأنها
هي الخير المطلوب والسعادة القصوى.
وظنوا أن جميع قواه األخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات ،والتواصل إليها،
وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وهبت له ليرتب بها األفعال ويميزها ،ثم
يوجهها نحو هذه اللذات ،لتكون الغاية األخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية
الجسمانية.
وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع ،وجهال الناس السقاط… وسيظهر عند
ذلك أن من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية ،وجعلها غايته ،وأقصى سعادته ،فقد
رضي بأخس العبودية ،ألخس الموالي .ألنه يصير نفسه الكريمة…عبدا للنفس
الدنيئة ،التي يناسب بها الخنازير ،والخنافس ،والديدان ،وخسائس الحيوانات التي
2
تشاركه في هذا الحال”.
إذًا ،يهاجم ابن مسكويه رعاع الناس الذين اليرون السعادة إال في متعة األكل
وحالوة الشراب وعسلية الجماع وإشباع الغرائز ،فهؤالء يحطمون نفسيتهم البشرية
الناطقة الحية بسفاسف األمور الدنيئة وبمتع الدنيا ولذات العاجلة ،ويربطونها أيضا
بالنفس الحيوانية الساقطة القابلة للزوال باندثار الجسد ،ويكون مصيرها وجزاؤها
مرتبطا بمصير الدناءة والجسد الراغب ،وال تشريف لهذه النفس وال تمجيد ،مادامت
قد اختارت نطاق الذات وإسار الجسد وقيد الرغبة المادية الفانية الزائلة.
وهكذا ،فالفضيلة العليا والكمال األسمى والسعادة الحقيقية التنال باللذات الحسية
والرغبات المادية ،وإنما بالعقل الذي يعد أفضل مرتبة من الجسد .وقد أورد فخر
الدين الرازي في كتابه” النفس والروح” عدة حجج للتسفيه بسعادة البدن المرتبطة
بدفع اآلالم وقضاء الحاجات مع تفضيل سعادة العقل والذهن التي تحقق لإلنسان
سموه وكماله وترفعه إلى مراقي الفضيلة والخير األسمى .يقول الرازي في الحجة
الثالثة ” :إن اإلنسان يشاركه في لذة األكل والشرب جميع الحيوانات ،حتى الخسيسة
منها .فلو كانت هي السعادة والكمال ،لوجب أال يكون لإلنسان فضيلة في ذلك على
الحيوانات(…)”.
ويقول في الحجة الرابعة ”:إن هذه اللذات الحسية ،إذا بحث عنها ،فهي ليست لذات،
بل حاصلها يرجع إلى دفع اآلالم ،والدليل عليه أن اإلنسان كلما كان أكثر جوعا .كان
االلتذاذ باألكل أتم .وكلما كان الجوع أقل كان االلتذاذ باألكل أقل(…) ولما ثبت أن
هذه اللذات الجسمانية الحاصل لها إال بدفع األلم ،فنقول :سعادة اإلنسان ليست عبارة
عن دفع اآلالم ،ألن هذا المعنى كان حاصال عند عدمه ،فثبت أن السعادة الحقيقية
لإلنسان أمر مغاير لهذه األحوال(…)”
و يقول في الحجة الثامنة ” :كل شيء يكون في نفسه كماال وسعادة ،وجب أال
يستحيي من إظهاره ،بل يجب أن يفتخر بإظهاره .يتبجح بفعله .ونحن نعلم بالضرورة
أن أحدا من العقالء اليفتخر بكثرة األكل وال الشرب(…) وكل هذا يدل على أن ذلك
3
الفعل ليس من الكماالت وال من السعادات”.
وهكذا ،نستنج بأن الفالسفة قد استهجنوا سعادة الجسد وربطوها بسعادة الحيوان
والبهائم ،واعتبروا أن سعادة اإلنسان المتكاملة تتكئ على ميسم العقل والحكمة أوال،
واالهتداء بهدي الشريعة وآيات الذكر الحكيم ثانيا.
.1سعـــــادة العقــــل:
إذا كان رعاع القوم وجهالهم يرون أن السعادة تكمن في إشباع لذات الجسد ورغبات
الحس ،فإن الفالسفة المسلمين يرون أن السعادة الحقيقية تتجلى في إرواء لذة العقل
وإشباع الذهن المنطقي بالعلوم والمعارف والفنون وخاصة النظرية منها .ويعني هذا
أن الفالسفة بما فيهم الكندي والفارابي وابن مسكويه وابن رشد يرون أن السعادة
الحقيقية تتمثل في طلب الفلسفة والحكمة ومزاولة العلوم المنطقية والنظرية قصد
الوصول إلى الحقيقة البرهانية اليقينية الصادقة .وبالتالي ،فالسعادة العقلية أفضل
بكثير من السعادة الجسدية والرغبات الحسية الدنيئة المرتبطة بإشباع غرائز النفس
وشهوات االنفعال وأهواء الذات الخسيسة .ومن ثم ،فالسعادة هي أسمي ما يتمنى
المرء أن يدركها ،فهي الفضيلة والكمال .وينبغي لإلنسان أال يبحث عن السعادة إال
من أجلها مادامت تقترن بالخير وتمام الخلق وأنها أفضل الغايات ،كما أنها هي نهاية
الكمال اإلنساني حيث اليحتاج اإلنسان بعدها ألي شيء ”:أما أن السعادة هي غاية
مايتشوقها كل إنسان ،وأن كل من ينحو بسعيه نحوها؛ فإنما ينحوها على أنها كمال
ما؛ فذلك ماال يحتاج في بيانه إلى قول ،إذ كان في غاية الشهرة ،وكل كمال وكل
غاية يتشوقها اإلنسان ،فإنما يتشوقها على أنها خير ما ،فهو المحالة مؤثر .ولما كانت
الغايات التي تتشوق على أنها خيرات مؤثرة كثيرة ،كانت السعادة أجدى الخيرات
4
المؤثرة”.
ويرى الفارابي أن السعادة التكون بالمنافع الحسية ولذة التملك ،بل بالفلسفة التي
ننال بها السعادة والكمال والفضيلة الكلية الكبرى ،وال تتم الفلسفة إال بتشغيل العقل
والمنطق اللذين يساعدان العارف الحكيم على التمييز بين األشياء وإدراك الصواب
من الخطإ واصطفاء الخير من الشر والحق من الباطل .ومن هنا ،فالعقل هو السبيل
الوحيد لتحقيق السعادة وإدراك الفضيلة وتذوق الحكمة اليقينية على غرار التصور
األفالطوني واألرسطي للسعادة .ويعد المنطق وهو آلة تعصم الذهن من الوقوع في
الخطإ من اآلليات المهمة لتحقيق السعادة الدنيوية واألخروية .وفي هذا الصدد يقول
الفارابي ”:ولما كانت السعادات إنما ننالها متى كانت لنا األشياء الجميلة قنية؛ وكانت
األشياء الجميلة إنما تصير قنية بصناعة الفلسفة فالزم ضرورة أن تكون الفلسفة هي
التي بها ننال السعادة؛فهذه هي التي تحصل لنا بجودة التمييز ،وكانت جودة التمييز
إنما تحصل بقوة الذهن على إدراك الصواب .كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع
هذه .وقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة بها نقف على الحق إنه حق بيقين
فنعتقده ،وبها نقف على ماهو باطل إنه باطل بيقين فنجتنبه ،ونقف على الباطل الشبيه
بالحق فال نغلط فيه ،ونقف على ماهو حق في ذاته وقد أشبه الباطل :فال نغلط فيه وال
ننخدع فيه .والصناعة التي بها نستفيد هذه القوة تسمى صناعة المنطق.
وهذه الصناعة هي التي بها يوقف على االعتقاد الحق؛ أي ماهو ،وعلى االعتقاد
الباطل؛ أي ماهو(…) ولما كانت الخيرات التي هي لإلنسان؛ بعضها أخص وبعضها
أقل خصوصا ،وكان أخص الخيرات باإلنسان عقل اإلنسان؛ إذ كان الشيء الذي به
5
صار إنسانا هو العقل”.
وهكذا ،يعتبر الفالسفة أن السعادة المطلقة هي سعادة العقل الذي به يدرك اإلنسان
ذاته ووجوده ،وبه يدرك خالق هذا العالم وصانعه وفاطره من خالل تدبر
المصنوعات والمخلوقات الدالة على وجود هللا ووحدانيته.
.1سعـــــادة الروح:
إذا كان الفالسفة يحصرون السعادة في العقل وممارسة الحكمة والفلسفة وتشغيل
المنطق للوصول إلى السعادة اليقينية الحقيقية ،فإن المتصوفة كابن عربي وابن سينا
والغزالي والسهروردي يرون أن السعادة الحقيقية المثالية هي سعادة الروح ،
وتطهير النفس اإلنسانية من براثن الجسد والحس ،وتجاوز العقل والظاهر نحو
استكناه الباطن واستجالء الوجدان والروح ،وتحلية النفس من كل قيود الحس
وشواغل الدنيا استعدادا للخلوة واللقاء الرباني واالرتماء بين أحضان الذات المعشوقة
والخضوع لها شوقا وحبا ،واالستسالم لها شوقا وحنينا ،والميل إليها رغبا ورهبا.
بيد أن السعادة الصوفية ال تنال بسهولة ويسر ،بل البد من الصعود والترقي في
مجموعة من المراقي والمدارج الصوفية عبر المرور بالعديد من المقامات واألحوال
عبر السفر الروحاني إما بواسطة شيخ عارف وإما بواسطة قطب عالم وإما بصحبة
صاحب مجرب .والبد للمريدين أن يمروا من ثالث مراحل كبرى وهي :التحلية
والتخلية واللقاء .وتتطلب كل مرحلة نوعا من الصبر والتجلد وبذل المجهود الكبير
من أجل نيل رضى هللا واالستمتاع باللقاء والكشف الرباني.
ويرى ابن سينا أن السعادة الحقيقية التكون ال بالحس وال بالبرهان ،بل تكون بالتحلل
من إسار الجسد واالتصال بالعالم القدسي النوراني ،والسبيل في ذلك هو القلب
والروح وتطهير النفس الناطقة ،وفي هذا يقول ابن سينا ”:وأما إذا انفصلنا عن
البدن ،وكانت النفس منا قد تنبهت ،وهي في البدن ،لكمالها الذي هو معشوقها ،ولم
تحصله وهي بالطبع نازعة إليه ،إذ عقلت بالفعل أنه موجود ،إال أن اشتغالها بالبدن،
كما قلنا ،قد أنساها ذاتها ومعشوقها… عرض لها حينئذ من األلم بفقدانه كفء
مايعرف من اللذة التي أوجبنا وجودها ،ودللنا على عظم منزلتها ،فيكون ذلك هو
الشقاوة والعقوبة…فيكون مثلنا حينئذ مثل الخدر(…) أو الذي عمل فيه نار أو
زمهرير ،فمنعت المادة المالبسة في وجه الحس من الشعور به فلم يتأذ ،ثم عرض أن
زال العائق فشعر بالبالء العظيم.
وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حدا من الكمال ،يمكنها به إذا فارقت البدن
أن تستكمل االستكمال التام الذي لها أن تبلغه ،كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق
المطعم األلذ وعرض للحال األشهى .وكان ال يشعر به فزال عنه الخدر ،فطالع اللذة
العظيمة دفعة .وتكون تلك اللذة ال من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه ،بل لذة
تشاكل الحال الطيبة التي للجواهر الحية المحضة ،وهي أجمل من كل لذة وأشرف
6
فهذه هي السعادة وتلك هي الشقاوة”.
ويصرح السهروردي بأن السعادة الصوفية لن تكون إال بالجذبة واالقتداء بقطب
المشيخة وتزكية النفس واالقتداء بالنبي ( صلعم) واألخذ بتجربة الشيخ العارف قصد
الوصول إلى مرتبة الكشف والتجلي واللقاء بالذات الربانية المعشوقة .ومن ثم ،ال
تتحقق السعادة الكلية إال بالكشف والوصال والتجلي ”:والسالك الذي تدورك بالجذبة
هو الذي كانت بدايته بالمجاهدة والمكابدة والمعاملة باإلخالص والوفاء بالشروط ،ثم
أخرج من وهج المكابدة إلى روح الحال ،فوجد العسل بعد العلقم ،وتروح بنسمات
الفضل ،وبرز من مضيق المكابدة على متسع المساهلة ،وأونس بنفحات القرب وفتح
له باب من المشاهدة فوجد دواءه وفاض وعاؤه ،وصدرت منه كلمات الحكمة ومالت
إليه القلوب ،وتوالى عليه فتوح الغيب وصار ظاهره مسددا وباطنه مشاهدا… .ومن
صح في المقام الذي وصفناه هو الشيخ المطلق والعارف المحقق والمحبوب المعتق،
نظره دواء وكالمه شفاء ،باهلل ينطق وباهلل يسكت ،كما ورد” وال يزال العبد يتقرب
إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته كنت له سمعا وبصيرا ومؤيدا ،بي ينطق وبي
7
يبصر” ،فالشيخ يعطي باهلل ويمنع باهلل”.
ويذهب ابن عربي إلى أن السعادة التدرك بالحس والعقل ،بل بالقلب ووجدان العارف
ورؤيا الولي الصالح ،أي إن السعادة تكون بالتجربة الصوفية وقلب العارف
واستحضار الباطن والتغزل بالذات المعشوقة عير العرفان و التجلي والكشف
الرباني ”:اعلم أن القلب -أعني قلب العارف باهلل -هو من رحمة هللا… .وأن الحق
تعالى إذا وسعه القلب اليسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه .ومعنى هذا أنه
العارف إذا نظر إلى الحق عند تجليه له اليمكن له أن ينظر معه إلى غيره….
وإذا كان الحق يتنوع بتنوع تجليه في الصور فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب
الصورة التي يقع فيها التجلي اإللهي ،فإنه اليفضل شيء عن صورة ما يقع فيها
التجلي…..
8
فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته ،وهو الذي يتجلى له فيعرفه”.
وهكذا ،يستند مفهوم السعادة عند الصوفية إلى استقراء أحوال القلب ونشدان اللذة
الروحانية وتفجير المعرفة اللدنية الوجدانية التي تتجاوز الظاهر إلى الباطن ،وتتعدى
النص والعقل معا إلى العرفان والحدس الجواني.
يرى المتصوفة والزهاد أن السعادة ذات طابع فردي ،تكون حقيقة مستشعرة من
خالل التخلص من شوائب الحس وإسار الجسد وقيود المادة وشرور الدنيا ،واالنعتاق
من كل ما يمت بصلة إلى الحياة العاجلة واستبدالها بالحياة األخروية اآلجلة .لذلك
نجدهم يهربون من شواغل الدنيا ويزهدون في الحياة وينعزلون في الفيافي والجبال
والمغارات والكهوف والصوامع ،يعبدون هللا ويناجون الذات الربانية تاركين الدنيا
ألصحاب الدنيا الذين يريدون السلطة والثراء واالستمتاع بمباهج الحياة ولذات
العاجلة .و الهدف من هذا االنعزال والخلوة العرفانية هو التقرب من هللا واالعتكاف
قصد االستمتاع باألنوار القدسية الربانية والحصول على االنكشاف اإللهي عبر
التجلي واإلشراق واإللهام العرفاني والوصال اللدني .ويمارس هؤالء هذه السعادة
االنعزالية حبا واختيارا ورغبة في الفوز بالجنة والرضى الرباني .ويقول ابن سينا
عن هؤالء بأنهم ”:العارفون المنزهون… .الذين انفكوا عن الشواغل ،فخلصوا إلى
عالم القدس والسعادة ،وانتقشوا بالكمال األعلى ،وحصلت لهم اللذة العليا…” 9.إذًا،
يقرن ابن سينا السعادة الحقيقية بالتخلص من الدنيا وشواغل الحياة وهموم العاجلة،
وأن التفرد والزهد الصوفي عنده هو المالذ األخير والحقيقي لنيل الفضيلة والكمال
والسعادة المطلقة.
ويذهب الغزالي في كتابه ” المنقذ من الضالل” إلى أن سعادة اآلخرة التكتمل إال
بالخلوة والعزلة والمكاشفة والتقوى و استعمال القلب في إدراك الحقائق الربانية بدال
من تشغيل العقل الفسلفي الذي يقصر عن إدراك كنه الغيبيات واسكناه الذات الربانية
المعشوقة ”:ظهر لي أنه المطمح لي في سعادة اآلخرة إال بالتقوى وكف النفس عن
الهوى ،وأن رأس ذلك كله قطع عالقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور…
ثم الحظت أحوالي ،فإذا أنا منغمس في العالئق ،وقد أحدقت بي من الجوانب ؟
والحظت أعمالي -وأحسنها التدريس والتعليم -فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة
وال نافعة في طريق اآلخرة… و كانت حوادث الزمان ،ومهمات العيال ،وضرورات
المعاش ،تغير في وجه المراد ،وتشوش صفوة الخلوة…
ثم إني لما واظبت على العزلة والخلوة…بان لي ذلك على الضرورة من أسباب ال
أحصيها ،مرة بالذوق ،ومرة بالعلم البرهاني ،ومرة بالقول اإليماني ،أن اإليمان خلق
من بدن وقلب… وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هالكه ،وأن القلب كذلك
له صحة وسالمة… وله مرض فيه هالكه األبدي واألخروي… وكما أن أدوية البدن
تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها اليدركها العقالء ببضاعة العقل ،بل يجب فيها
تقليد األطباء الذين أخذوها من األنبياء الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص
األشياء ،فكذلك بان لي على الضرورة بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها
المحدودة المقدرة من جهة األنبياء اليدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقالء ،بل
10
يجب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة الببضاعة العقل”.
لكن الفالسفة اليؤمنون باالنعزال وسعادة الخلوة والتفرد بعيدا عن االجتماع المدني ؛
ألن اإلنسان كما قال أرسطو حيوان اجتماعي اليمكن أن يعيش بمفرده ،فالبد أن
يندمج داخل المجتمع ،وكما قال ابن خلدون :اإلنسان مدني بطبعه ،يتعاون مع أخيه
اإلنسان ويجتمع به درءا للوحدة والعزلة وميال إلى خدمة المجتمع وتدبير المدينة.
ويرى ابن مسكويه أن السعادة التتم إال باالجتماع والتعاون والمشاركة في بناء
المجتمع بدال من الفرار والهروب إلى األماكن المنعزلة من أجل االختالء
واالعتكاف؛ ألن هللا اليمكن أن يحاسب هؤالء مادامت أفعالهم معطلة .وبالتالي،
فالمؤمن القوي أحسن من المؤمن الضعيف ،أي إن الذي يتعارك داخل المدينة
ويساهم في تدبيرها وبنائها أفضل من الذي يهرب بعيدا ليتقرب من هللا ؛ ألن أفعاله
غير خاضعة لالمتحان والمحاسبة ،و يقول ابن مسكويه في هذا السياق ”:كيف يؤثر
العاقل لنفسه التفرد والتخلي وتعاطي مايرى الفضيلة في غيره؟ فإذا ،القوم الذين رأوا
الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس وتفردوا عنهم ،إما بمالزمة المغارات في
الجبال ،وإما ببناء الصوامع في المفاوز ،وإما بالسياحة في البلدان .اليحصل لهم
شيء من الفضائل اإلنسانية… وذلك أن من لم يخالط الناس ويساكنهم في المدن
التظهر فيه العفة وال النجدة وال السخاء وال العدالة ،بل تصير قواه وملكاته التي
ركبت فيه باطلة ألنها التتوجه ال إلى الخير وال إلى شر ،فإذا بطلت ولم تظهر أفعالها
الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات أو الموتى من الناس.
ولذلك يظنون ويظن بهم أنهم أعفاء وليسوا بأعفاء ،وأنهم عدول وليسوا بعدول.
وكذلك في سائر الفضائل ،أعني أنه إذا لم يظهر منهم أضداد هذه التي هي الشرور
ظن بهم الناس أنهم أفاضل .وليست الفضائل أعداما ،بل هي أفعال وأعمال تظهر عند
مشاركات الناس ومساكنتهم وفي المعامالت وضروب االجتماعات .ونحن إنما نعلم
ونتعلم الفضائل اإلنسانية التي نساكن بها الناس ونخالطهم ،لنصل منها وبها إلى
11
سعادات أخر”.
ويرى الفارابي في كتابه” آراء أهل المدينة الفاضلة” أن السعادة التتم إال بالمدينة
وتدبيرها على أحسن وجه ،والمدينة أعم من االجتماع وأحسن منه ،وإذا تحققت
المدينة الفاضلة تحققت السعادة ،والمدينة الفاضلة هي التي تنبني على اإلعماروالعمل
الجاد واالجتماع الفاضل والتمدين والتعاون والتدبير الحسن واالحتكام إلى العقل
والمنطق وحب الفلسفة والحكمة ،ويقودها ملك أو فيلسوف ،وتظهر كالجسد الواحد
في تعاونها وتضامنها ،وفي هذا السياق يقول المعلم الثاني ”:ينبغي أن تنشأ مدينة…
يوجد فيها وفي أمثالها العدل بالحقيقة ،والخيرات التي هي بالحقيقة خيرات كلها.
وتكون هذه المدينة مدينة اليفوتها شيء مما ينال به أهلها السعادة إال وجد فيها .وأن
هذه المدينة يلزم من فيها إن كان مزمعا أن يوجد فيها جميع ماتنال به السعادة ،أن
تكون المهنة الملكية التي فيها هي الفلسفة على اإلطالق ،وأن الفالسفة يكونون أعظم
أجزائها ،ثم يليهم سائر أهل المراتب” .12
أما المدينة الجاهلة حسب الفارابي فهي مدينة الظنون واألوهام والمعتقدات الفاسدة ،
حيث يهتم أصحابها باللذات الحسية والمتع الجسدية ،وهناك مضادات أخرى للمدينة
الفاضلة كالمدينة الفاسقة والمدينة المبدلة والمدينة الضالة .يقول الفارابي موضحا
معالم المدينة الفاضلة ”:فالخير األفضل والكمال األقصى إنما ينال أوال بالمدينة ،ال
باالجتماع الذي هو أنقض منها .ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال
باالختيار واإلرادة ،وكذلك الشرور إنما تكون باإلرادة واالختيار ،أمكن أن تجعل
المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور ،فلذلك كل مدينة يمكن أن
ينال بها السعادة .فالمدينة التي يقصد باالجتماع فيها التعاون على األشياء التي تنال
بها السعادة في الحقيقة ،هي المدينة الفاضلة .واالجتماع الذي به يتعاون على نيل
السعادة هو االجتماع الفاضل .واألمة التي تتعاون مدنها كلها على ماتنال به السعادة
هي األمة الفاضلة .وكذلك المعمورة الفاضلة ،إنما تكون إذا كانت األمم التي فيها
تتعاون على بلوغ السعادة.
والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح ،الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم
حياة الحيوان ،وعلى حفظها عليه .وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة
والقوى ،وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب ،وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك
الرئيس… وكذلك المدينة ،وأجزاؤها مختلفة الفطرة ،متفاضلة الهيآت .وفيها إنسان
هو رئيس وآخر يقرب مراتبها من الرئيس…ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن
تنتهي إلى آخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم ،فيكون هؤالء هم الذين يخدمون
13
وال يخدمون ويكونون في آخر المراتب ،ويكونون هم األسفلين”.
يتجاوز الفارابي أو المعلم الثاني طرح ابن سينا وطرح الزهاد الذين يقرنون السعادة
والكمال بالتفرد وترك شواغل الدنيا واالتكال على هللا قصد نيل مرضاة سبحانه
تعالى ،وذلك بربط السعادة بتدبير المدينة وتفعيلها لتكون مدينة صالحة فاضلة
قوامها العقل والحكمة واالستهداء بالشرع الرباني ،واليمكن بالتالي ،أن يتحقق” خير
اإلنسان إال داخل المدينة .ولن يبلغ اإلنسان السعادة إذا ماهو اقتصر على مجهوده
الفردي في تقويم نفسه واتباع طريق الخير ونواهي األخالق وأوامر الدين .فما تنهي
عنه األخالق وما يأمر به الدين -حسب الباحث المغربي بنعبد السالم بن عبد العالي-
قد يظل مجرد شعارات جوفاء إن لم تعاضده تنظيمات السياسة .إن زوال الشرور
عن المدن وعن األمم مرهون بوجود مجتمعات متفاضلة األجزاء ترتبط مراتبها
بالمحبة وتجتمع في الرأي ،ويحتل كل منها مكانته الالئقة به ليعمل الكل في انسجام
وتناسق .ولن يكون ذلك ممكنا إال إذا كانت هناك رئاسة ترتب المدينة وتحفظ
تماسكها .وينبغي أن تقوم هاته الرئاسة على آراء صائبة وتعتمد البراهين اليقينية،
وهذا ال يتأتى إال بمعرفة الفلسفة وإتقانها وإدراك ماعليه الكون ومدبره .ولكن من
شأن هذا أن يجعل رئيس المدينة بعيدا عن العامة اليتكلم بلغتها ،لذا وجب على هذا
14
الحاكم الحكيم أن يكون أيضا نبيا وواضع نواميس”.
وعليه ،فإذا كان المتصوفة قد انشغلوا بالخلوة والزهد الفردي ،فإن الفالسفة الذين
تأثروا بفلسفة أفالطون وأرسطو السياسية واالجتماعية ،كانوا اليحبذون عرفانية
التفرد والخلوة واالنعزال عن الناس ،واالبتعاد السلبي عن المشاركة في تدبير المدينة
والمساهمة في تسيير دواليبها وإصالحها على جميع األصعدة والمستويات ،والسيما
أن المدينة في حاجة ماسة إلى أبنائها المثقفين لتفعيلها وتنشيطها وتقوية أركانها
والحفاظ على أمنها وتنوير أبنائها.
خاتمــــة:
نستنتج مما سلف ذكره أن السعادة عند عامة الناس مرتبطة بإشباع رغبات الجسد
وإرواء الذات الحسية المادية عن طريق األكل والشرب وإمتاع الغرائز وإشباع
الشهوات واللذات الحسية ،بينما السعادة عند الفالسفة مقترنة بالعقل والمنطق
واالشتغال بالفلسفة من أجل معرفة المعقوالت والخالق الصانع .أما السعادة عند
المتصوفة فتنبني على الباطن والعرفان الروحاني والمعرفة اللدنية واالرتماء بين
أحضان الذات المعشوقة انكشافا ووصاال وتجليا .لكن السعادة الحقيقية اليمكن أن
تقتصر على عنصر دون آخر ،فالسعادة في الحقيقة هي نسق متكامل ،فاإلنسان
اليمكن أن يعيش بالقلب وحده ،وال بالجسد وحده ،وال بالعقل وحده ،أي إن اإلنسان
جسد وعقل وقلب .ومن ثم ،البد أن يستمتع اإلنسان باعتباره كائنا بشريا بالمكونات
الثالث للسعادة الحقيقية ،ألن اإلنسان ذو نوازع مادية وعقلية وروحانية ،وعليه أن
يوفق بين هذه المظاهر الثالثة بكل توازن ووسطية بدون تقتير وال تفريط.
وإذا كانت السعادة عند الصوفية والزهاد ذات طابع فردي قوامها التخلي عن شواغل
الدنيا وهموم حياة العاجلة ،فإن الفالسفة يربطون السعادة باالجتماع وتدبير المدينة،
ولكن السعادة الفضلى قد تتحقق بالتفرد تارة ،وقد تتحقق كذلك باالجتماع و االنصهار
في وحدة المدينة تارة أخرى.