You are on page 1of 11

‫مفهوم السعادة في الفكر اإلسالمي‬

‫‪ 19‬مارس ‪2008‬‬ ‫د‪ .‬جميل حمداوي‬

‫الدكتور جميل حمداوي‬

‫تمهيــــد‪:‬‬

‫تعد السعادة من أهم المحاور التي انشغل بها الفكر اإلسالمي إلى جانب إشكالية العقل‬
‫والنقل وإشكالية الظاهر والباطن والتوفيق بين الدين والفلسفة وخلق العالم وخلق‬
‫القرآن وحشر األجساد وعلم هللا بالكليات والجزئيات ‪ ،‬بله عن األصول الجدلية التي‬
‫ناقشها علماء الكالم بعد الفتنة الكبرى وخاصة من قبل المرجئة والخوارج‬
‫والماتريدية والمعتزلة واألشاعرة كالتوحيد والوعد والوعيد والعدل والمنزلة بين‬
‫المنزلتين واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬

‫واليعني هذا أن مبحث السعادة مقتصر على الفكر اإلسالمي فقط‪ ،‬بل تنوولت السعادة‬
‫قديما من قبل الفلسفة اليونانية‪ ،‬وحديثا مع الفلسفات اإلنسية والفلسفات المعاصرة‪،‬‬
‫وقلما نجد فيلسوفا لم يتناول السعادة في كتبه الفلسفية أو يعالجها ضمن نسقه الفلسفي‪.‬‬
‫وغالبا ماكانت السعادة تدرس في مبحث األكسيولوجيا( القيم) إلى جانب العدل‬
‫والخير والحق والجمال‪.‬‬

‫إذًا‪ ،‬ما هي السعادة لغة واصطالحا؟ وهل تقترن السعادة بالجسد أم بالعقل أم بالقلب أم‬
‫بكل هذه العناصر قاطبة؟ وهل تكون السعادة باالنعزال والخلوة والتفرد أم بالتجمع‬
‫والتمدن والتعاون؟ وبتعبير آخر‪ :‬هل السعادة هي سعادة المدينة أم سعادة الفرد؟ وهل‬
‫هي سعادة فردية أم جماعية؟ تلكم هي األسئلة التي سوف نحاول اإلجابة عنها في‬
‫موضوعنا هذا‪.‬‬

‫‪ .1‬مفهـــوم السعادة في اللغة‪:‬‬

‫أ‪ -‬السعـــادة لغة‪:‬‬

‫تشتق كلمة السعادة من فعل سعد وأسعد ‪ ،‬ومن توابعها المعجمية السعد والسعودة‬
‫والسعود‪ .‬ومن ثم ‪ ،‬فكلمة ‪ ”:‬السعد – عند ابن منظور صاحب ” لسان العرب” –‬
‫اليمن‪ ،‬والسعودة‪ :‬النحوسة‪ ،‬والسعادة ‪ :‬خالف الشقاوة‪،‬وقد سعد يسعد سعدا وسعادة‪،‬‬
‫فهو سعيد‪:‬نقيض شقي‪ ،‬وسعد‪ :‬فهو مسعود‪ ،‬والجمع سعداء‪ .‬قد سعده هللا وأسعده‬
‫وسعد جده وأسعده‪:‬أنماه‪ .‬والسعد والسعود‪ :‬الكواكب التي يقال لها لكل واحد منها سعد‬
‫كذا‪ ،‬واإلسعاد‪ :‬المعونة‪ .‬والمساعدة‪ :‬المعاونة‪ .‬وساعده مساعدة وسعادا وأسعده‪:‬أعانه‪.‬‬
‫واستسعد الرجل برؤية فالن‪:‬أي عده سعدا‪ .‬وسعديك‪ :‬أي إسعادا لك بعد إسعاد‪.‬‬
‫وساعدة الساق شظيتها‪ .‬والساعد‪ :‬ملتقى الزندين‪ .‬وجمع الساعد سواعد‪ :‬مجرى المخ‬
‫في العظام؛ والسواعد‪ :‬مجاري الماء إلى النهر أو البحر‪ .‬والساعدة‪ :‬خشبة تنصب‬
‫لتمسك البكرة‪ ،‬والساعد‪ :‬إحليل خلف الناقة وهو الذي يخرج منه اللبن؛ وقيل‪:‬‬
‫السواعد عروق في الضرع يجيء منها اللبن إلى اإلحليل‪ .‬وسعيد المزرعة‪ :‬نهرها‬
‫‪1‬‬
‫الذي يسقيها‪ .‬والسعيدة‪ :‬اللبنة لبنة القميص‪.”.‬‬

‫ونفهم من هذه الدالالت اللغوية أن السعادة نقيض الشقاء والبؤس والنحس‪ ،‬وأنها‬
‫بمعنى الرضى والبركة والخير والنماء واليمن واالرتواء واإلشباع‪ ،‬وتحيل كذلك‬
‫على المساعدة والعمل واألساس والتعاون‪ .‬وبهذا‪ ،‬تكون السعادة هي تحقيق اللذة‬
‫والخير عن طريق التدبير والعمل المثمر والتعاون الجماعي‪.‬‬

‫ب‪ -‬السعــادة اصطالحا‪:‬‬

‫من الصعب جدا تعريف السعادة تعريفا شامال وموحدا؛ ألن مفهوم السعادة يختلف‬
‫من فيلسوف إلى آخر‪ ،‬كما أن السعادة مفهوم مجرد يتجاوز نطاق ماهو حسي وماهو‬
‫معقول إلى ماهو خيالي‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يصعب اإلحاطة بكل ماهو خيالي ‪ ،‬وتطويقه بكل‬
‫دقة وضبط‪ ،‬وحصره في مجموعة من التعاريف والخاصيات ‪ .‬لذا‪ ،‬ينتج عن هذا‬
‫المفهوم مجموعة من اإلشكاليات ومجموعة من األجوبة التي يصعب تحديدها‪ .‬وقد‬
‫صدق شامفور حينما قال‪ ”:‬السعادة ليست باألمر الهين ‪ ،‬فمن الصعب أن نعثر عليها‬
‫في دواخلنا‪ ،‬ومن المستحيل أن نعثر عليها في الخارج”‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فالسعادة في المفهوم الفلسفي العام هي حالة إرضاء وجودي قد‬
‫يكون ماديا أو عقليا أو وجدانيا‪ ،‬وتترابط هذه السعادة بالخير والعدل والواجب والعقل‬
‫والقلب والجمال والوجود والفضيلة والكمال‪ .‬كما أن السعادة هي أقصى المراتب التي‬
‫ينبغي أن تصل إليها الذات البشرية الكائنة من أجل فرض إنيتها وتحقيق وجودها‬
‫األنطولوجي واألكسيولوجي ( األخالقي)‪.‬‬

‫ومن المعلوم أن السعادة تختلف من حقل معرفي إلى آخر ‪ ،‬فتختلف من السيكولوجيا‬
‫إلى السوسيولوجيا‪ ،‬ومن البيولوجيا إلى السياسة‪ ،‬ومن الميتافيزيقا إلى اإلسطيطيقا‬
‫(علم الجمال)‪.‬‬

‫‪ .1‬سعـــادة الجسد أم سعادة العقل أم سعادة القلب؟‬

‫تقوم السعادة البشرية على إرواء رغبات الجسد واستهواء نوازع النفس الشهوانية‪،‬‬
‫كما ترتكن هذه السعادة إلى إشباع العقل بلذة الفلسفة والمنطق وامتالك المعارف‬
‫والعلوم والفنون‪ ،‬كما تتجاوز هذه السعادة ماهو حسي وعقلي إلى ماهو لدني وحدسي‬
‫وعرفاني وجداني من خالل إشباع الروح وتهذيبها بالنور الرباني واللقاء اإلشراقي‪.‬‬
‫‪ .1‬سعــــادة الجسد‪:‬‬

‫كثير من الناس و رعاع القوم يعتقدون أن السعادة الحقيقية هي أن يشبع المرء غرائز‬
‫الجسد وشهوات الذات‪ ،‬وأن يفرط في األكل والشرب واالستمتاع بمتع الغرائز‬
‫وشهوات الحس‪ .‬بيد أن هذه السعادة المادية الخسيسة يجاري فيها الحيوان اإلنسان‪،‬‬
‫بل يتفوق عليه كثيرا‪ .‬ومن ثم‪ ،‬يصبح اإلنسان بناء على ذلك حيوانا ماديا ليس إال‪.‬‬

‫هذا‪ ،‬و اليمكن أن يتميز اإلنسان عن باقي الكائنات األخرى غير الناطقة وغير العاقلة‬
‫إذا كان ميسم التمييز والتفريد هو إشباع اللذات والرغبات الجسدية وإرواء النزوات‬
‫وإرضاء غرائز الشهوة البشرية المتقدة‪ .‬ومن هنا‪ ،‬يتحول عالم اإلنسان ومدينته إلى‬
‫مملكة للفوضى وغابة للتصارع الحيواني والتطاحن الوحشي حول تحقيق المتع‬
‫الجسدية والنفسية سواء أكانت شعورية أم الشعورية وإشباع كل نوازع الذات‬
‫وشهوات الحس‪.‬‬

‫ويذهب أحمد بن مسكويه (‪421-320‬هـ) إلى أن الذين يربطون حياتهم فوق هذه‬
‫البسيطة بالمتع المادية وإتيان الملذات الدنيئة وإمتاع النفس الحسية فهم أشبه‬
‫بالحيوانات التي التعرف في هذه الحياة إال بإرواء أجسادها وإشباع رغباتها ‪ .‬بقول‬
‫ابن مسكويه‪ ”:‬وقد ظن قوم أن كمال اإلنسان وغايته هما في اللذات الحسية‪ ،‬وأنها‬
‫هي الخير المطلوب والسعادة القصوى‪.‬‬

‫وظنوا أن جميع قواه األخرى إنما ركبت فيه من أجل هذه اللذات‪ ،‬والتواصل إليها‪،‬‬
‫وأن النفس الشريفة التي سميناها ناطقة إنما وهبت له ليرتب بها األفعال ويميزها‪ ،‬ثم‬
‫يوجهها نحو هذه اللذات‪ ،‬لتكون الغاية األخيرة هي حصولها له على النهاية والغاية‬
‫الجسمانية‪.‬‬

‫وهذا هو رأي الجمهور من العامة الرعاع‪ ،‬وجهال الناس السقاط… وسيظهر عند‬
‫ذلك أن من رضي لنفسه بتحصيل اللذات البدنية‪ ،‬وجعلها غايته‪ ،‬وأقصى سعادته‪ ،‬فقد‬
‫رضي بأخس العبودية‪ ،‬ألخس الموالي‪ .‬ألنه يصير نفسه الكريمة…عبدا للنفس‬
‫الدنيئة‪ ،‬التي يناسب بها الخنازير‪ ،‬والخنافس‪ ،‬والديدان‪ ،‬وخسائس الحيوانات التي‬
‫‪2‬‬
‫تشاركه في هذا الحال‪”.‬‬

‫إذًا‪ ،‬يهاجم ابن مسكويه رعاع الناس الذين اليرون السعادة إال في متعة األكل‬
‫وحالوة الشراب وعسلية الجماع وإشباع الغرائز‪ ،‬فهؤالء يحطمون نفسيتهم البشرية‬
‫الناطقة الحية بسفاسف األمور الدنيئة وبمتع الدنيا ولذات العاجلة‪ ،‬ويربطونها أيضا‬
‫بالنفس الحيوانية الساقطة القابلة للزوال باندثار الجسد‪ ،‬ويكون مصيرها وجزاؤها‬
‫مرتبطا بمصير الدناءة والجسد الراغب‪ ،‬وال تشريف لهذه النفس وال تمجيد‪ ،‬مادامت‬
‫قد اختارت نطاق الذات وإسار الجسد وقيد الرغبة المادية الفانية الزائلة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فالفضيلة العليا والكمال األسمى والسعادة الحقيقية التنال باللذات الحسية‬
‫والرغبات المادية ‪ ،‬وإنما بالعقل الذي يعد أفضل مرتبة من الجسد‪ .‬وقد أورد فخر‬
‫الدين الرازي في كتابه” النفس والروح” عدة حجج للتسفيه بسعادة البدن المرتبطة‬
‫بدفع اآلالم وقضاء الحاجات مع تفضيل سعادة العقل والذهن التي تحقق لإلنسان‬
‫سموه وكماله وترفعه إلى مراقي الفضيلة والخير األسمى‪ .‬يقول الرازي في الحجة‬
‫الثالثة‪ ” :‬إن اإلنسان يشاركه في لذة األكل والشرب جميع الحيوانات‪ ،‬حتى الخسيسة‬
‫منها‪ .‬فلو كانت هي السعادة والكمال‪ ،‬لوجب أال يكون لإلنسان فضيلة في ذلك على‬
‫الحيوانات(…)”‪.‬‬

‫ويقول في الحجة الرابعة‪ ”:‬إن هذه اللذات الحسية‪ ،‬إذا بحث عنها‪ ،‬فهي ليست لذات‪،‬‬
‫بل حاصلها يرجع إلى دفع اآلالم‪ ،‬والدليل عليه أن اإلنسان كلما كان أكثر جوعا‪ .‬كان‬
‫االلتذاذ باألكل أتم‪ .‬وكلما كان الجوع أقل كان االلتذاذ باألكل أقل(…) ولما ثبت أن‬
‫هذه اللذات الجسمانية الحاصل لها إال بدفع األلم‪ ،‬فنقول‪ :‬سعادة اإلنسان ليست عبارة‬
‫عن دفع اآلالم‪ ،‬ألن هذا المعنى كان حاصال عند عدمه‪ ،‬فثبت أن السعادة الحقيقية‬
‫لإلنسان أمر مغاير لهذه األحوال(…)”‬

‫و يقول في الحجة الثامنة‪ ” :‬كل شيء يكون في نفسه كماال وسعادة‪ ،‬وجب أال‬
‫يستحيي من إظهاره‪ ،‬بل يجب أن يفتخر بإظهاره‪ .‬يتبجح بفعله‪ .‬ونحن نعلم بالضرورة‬
‫أن أحدا من العقالء اليفتخر بكثرة األكل وال الشرب(…) وكل هذا يدل على أن ذلك‬
‫‪3‬‬
‫الفعل ليس من الكماالت وال من السعادات‪”.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬نستنج بأن الفالسفة قد استهجنوا سعادة الجسد وربطوها بسعادة الحيوان‬
‫والبهائم‪ ،‬واعتبروا أن سعادة اإلنسان المتكاملة تتكئ على ميسم العقل والحكمة أوال‪،‬‬
‫واالهتداء بهدي الشريعة وآيات الذكر الحكيم ثانيا‪.‬‬

‫‪ .1‬سعـــــادة العقــــل‪:‬‬

‫إذا كان رعاع القوم وجهالهم يرون أن السعادة تكمن في إشباع لذات الجسد ورغبات‬
‫الحس‪ ،‬فإن الفالسفة المسلمين يرون أن السعادة الحقيقية تتجلى في إرواء لذة العقل‬
‫وإشباع الذهن المنطقي بالعلوم والمعارف والفنون وخاصة النظرية منها‪ .‬ويعني هذا‬
‫أن الفالسفة بما فيهم الكندي والفارابي وابن مسكويه وابن رشد يرون أن السعادة‬
‫الحقيقية تتمثل في طلب الفلسفة والحكمة ومزاولة العلوم المنطقية والنظرية قصد‬
‫الوصول إلى الحقيقة البرهانية اليقينية الصادقة‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فالسعادة العقلية أفضل‬
‫بكثير من السعادة الجسدية والرغبات الحسية الدنيئة المرتبطة بإشباع غرائز النفس‬
‫وشهوات االنفعال وأهواء الذات الخسيسة‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فالسعادة هي أسمي ما يتمنى‬
‫المرء أن يدركها‪ ،‬فهي الفضيلة والكمال‪ .‬وينبغي لإلنسان أال يبحث عن السعادة إال‬
‫من أجلها مادامت تقترن بالخير وتمام الخلق وأنها أفضل الغايات‪ ،‬كما أنها هي نهاية‬
‫الكمال اإلنساني حيث اليحتاج اإلنسان بعدها ألي شيء‪ ”:‬أما أن السعادة هي غاية‬
‫مايتشوقها كل إنسان‪ ،‬وأن كل من ينحو بسعيه نحوها؛ فإنما ينحوها على أنها كمال‬
‫ما؛ فذلك ماال يحتاج في بيانه إلى قول‪ ،‬إذ كان في غاية الشهرة‪ ،‬وكل كمال وكل‬
‫غاية يتشوقها اإلنسان‪ ،‬فإنما يتشوقها على أنها خير ما‪ ،‬فهو المحالة مؤثر‪ .‬ولما كانت‬
‫الغايات التي تتشوق على أنها خيرات مؤثرة كثيرة‪ ،‬كانت السعادة أجدى الخيرات‬
‫‪4‬‬
‫المؤثرة‪”.‬‬

‫ويرى الفارابي أن السعادة التكون بالمنافع الحسية ولذة التملك ‪ ،‬بل بالفلسفة التي‬
‫ننال بها السعادة والكمال والفضيلة الكلية الكبرى‪ ،‬وال تتم الفلسفة إال بتشغيل العقل‬
‫والمنطق اللذين يساعدان العارف الحكيم على التمييز بين األشياء وإدراك الصواب‬
‫من الخطإ واصطفاء الخير من الشر والحق من الباطل‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فالعقل هو السبيل‬
‫الوحيد لتحقيق السعادة وإدراك الفضيلة وتذوق الحكمة اليقينية على غرار التصور‬
‫األفالطوني واألرسطي للسعادة‪ .‬ويعد المنطق وهو آلة تعصم الذهن من الوقوع في‬
‫الخطإ من اآلليات المهمة لتحقيق السعادة الدنيوية واألخروية‪ .‬وفي هذا الصدد يقول‬
‫الفارابي‪ ”:‬ولما كانت السعادات إنما ننالها متى كانت لنا األشياء الجميلة قنية؛ وكانت‬
‫األشياء الجميلة إنما تصير قنية بصناعة الفلسفة فالزم ضرورة أن تكون الفلسفة هي‬
‫التي بها ننال السعادة؛فهذه هي التي تحصل لنا بجودة التمييز‪ ،‬وكانت جودة التمييز‬
‫إنما تحصل بقوة الذهن على إدراك الصواب‪ .‬كانت قوة الذهن حاصلة لنا قبل جميع‬
‫هذه‪ .‬وقوة الذهن إنما تحصل متى كانت لنا قوة بها نقف على الحق إنه حق بيقين‬
‫فنعتقده‪ ،‬وبها نقف على ماهو باطل إنه باطل بيقين فنجتنبه‪ ،‬ونقف على الباطل الشبيه‬
‫بالحق فال نغلط فيه‪ ،‬ونقف على ماهو حق في ذاته وقد أشبه الباطل‪ :‬فال نغلط فيه وال‬
‫ننخدع فيه‪ .‬والصناعة التي بها نستفيد هذه القوة تسمى صناعة المنطق‪.‬‬

‫وهذه الصناعة هي التي بها يوقف على االعتقاد الحق؛ أي ماهو‪ ،‬وعلى االعتقاد‬
‫الباطل؛ أي ماهو(…) ولما كانت الخيرات التي هي لإلنسان؛ بعضها أخص وبعضها‬
‫أقل خصوصا‪ ،‬وكان أخص الخيرات باإلنسان عقل اإلنسان؛ إذ كان الشيء الذي به‬
‫‪5‬‬
‫صار إنسانا هو العقل”‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬يعتبر الفالسفة أن السعادة المطلقة هي سعادة العقل الذي به يدرك اإلنسان‬
‫ذاته ووجوده‪ ،‬وبه يدرك خالق هذا العالم وصانعه وفاطره من خالل تدبر‬
‫المصنوعات والمخلوقات الدالة على وجود هللا ووحدانيته‪.‬‬

‫‪ .1‬سعـــــادة الروح‪:‬‬

‫إذا كان الفالسفة يحصرون السعادة في العقل وممارسة الحكمة والفلسفة وتشغيل‬
‫المنطق للوصول إلى السعادة اليقينية الحقيقية‪ ،‬فإن المتصوفة كابن عربي وابن سينا‬
‫والغزالي والسهروردي يرون أن السعادة الحقيقية المثالية هي سعادة الروح ‪،‬‬
‫وتطهير النفس اإلنسانية من براثن الجسد والحس‪ ،‬وتجاوز العقل والظاهر نحو‬
‫استكناه الباطن واستجالء الوجدان والروح‪ ،‬وتحلية النفس من كل قيود الحس‬
‫وشواغل الدنيا استعدادا للخلوة واللقاء الرباني واالرتماء بين أحضان الذات المعشوقة‬
‫والخضوع لها شوقا وحبا‪ ،‬واالستسالم لها شوقا وحنينا‪ ،‬والميل إليها رغبا ورهبا‪.‬‬
‫بيد أن السعادة الصوفية ال تنال بسهولة ويسر ‪ ،‬بل البد من الصعود والترقي في‬
‫مجموعة من المراقي والمدارج الصوفية عبر المرور بالعديد من المقامات واألحوال‬
‫عبر السفر الروحاني إما بواسطة شيخ عارف وإما بواسطة قطب عالم وإما بصحبة‬
‫صاحب مجرب‪ .‬والبد للمريدين أن يمروا من ثالث مراحل كبرى وهي‪ :‬التحلية‬
‫والتخلية واللقاء‪ .‬وتتطلب كل مرحلة نوعا من الصبر والتجلد وبذل المجهود الكبير‬
‫من أجل نيل رضى هللا واالستمتاع باللقاء والكشف الرباني‪.‬‬

‫ويرى ابن سينا أن السعادة الحقيقية التكون ال بالحس وال بالبرهان‪ ،‬بل تكون بالتحلل‬
‫من إسار الجسد واالتصال بالعالم القدسي النوراني‪ ،‬والسبيل في ذلك هو القلب‬
‫والروح وتطهير النفس الناطقة‪ ،‬وفي هذا يقول ابن سينا‪ ”:‬وأما إذا انفصلنا عن‬
‫البدن‪ ،‬وكانت النفس منا قد تنبهت‪ ،‬وهي في البدن‪ ،‬لكمالها الذي هو معشوقها‪ ،‬ولم‬
‫تحصله وهي بالطبع نازعة إليه‪ ،‬إذ عقلت بالفعل أنه موجود‪ ،‬إال أن اشتغالها بالبدن‪،‬‬
‫كما قلنا‪ ،‬قد أنساها ذاتها ومعشوقها… عرض لها حينئذ من األلم بفقدانه كفء‬
‫مايعرف من اللذة التي أوجبنا وجودها‪ ،‬ودللنا على عظم منزلتها‪ ،‬فيكون ذلك هو‬
‫الشقاوة والعقوبة…فيكون مثلنا حينئذ مثل الخدر(…) أو الذي عمل فيه نار أو‬
‫زمهرير‪ ،‬فمنعت المادة المالبسة في وجه الحس من الشعور به فلم يتأذ‪ ،‬ثم عرض أن‬
‫زال العائق فشعر بالبالء العظيم‪.‬‬

‫وأما إذا كانت القوة العقلية بلغت من النفس حدا من الكمال‪ ،‬يمكنها به إذا فارقت البدن‬
‫أن تستكمل االستكمال التام الذي لها أن تبلغه‪ ،‬كان مثلها مثل الخدر الذي أذيق‬
‫المطعم األلذ وعرض للحال األشهى‪ .‬وكان ال يشعر به فزال عنه الخدر‪ ،‬فطالع اللذة‬
‫العظيمة دفعة‪ .‬وتكون تلك اللذة ال من جنس اللذة الحسية والحيوانية بوجه‪ ،‬بل لذة‬
‫تشاكل الحال الطيبة التي للجواهر الحية المحضة‪ ،‬وهي أجمل من كل لذة وأشرف‬
‫‪6‬‬
‫فهذه هي السعادة وتلك هي الشقاوة‪”.‬‬

‫ويصرح السهروردي بأن السعادة الصوفية لن تكون إال بالجذبة واالقتداء بقطب‬
‫المشيخة وتزكية النفس واالقتداء بالنبي ( صلعم) واألخذ بتجربة الشيخ العارف قصد‬
‫الوصول إلى مرتبة الكشف والتجلي واللقاء بالذات الربانية المعشوقة ‪ .‬ومن ثم‪ ،‬ال‬
‫تتحقق السعادة الكلية إال بالكشف والوصال والتجلي‪ ”:‬والسالك الذي تدورك بالجذبة‬
‫هو الذي كانت بدايته بالمجاهدة والمكابدة والمعاملة باإلخالص والوفاء بالشروط‪ ،‬ثم‬
‫أخرج من وهج المكابدة إلى روح الحال‪ ،‬فوجد العسل بعد العلقم‪ ،‬وتروح بنسمات‬
‫الفضل‪ ،‬وبرز من مضيق المكابدة على متسع المساهلة‪ ،‬وأونس بنفحات القرب وفتح‬
‫له باب من المشاهدة فوجد دواءه وفاض وعاؤه‪ ،‬وصدرت منه كلمات الحكمة ومالت‬
‫إليه القلوب‪ ،‬وتوالى عليه فتوح الغيب وصار ظاهره مسددا وباطنه مشاهدا…‪ .‬ومن‬
‫صح في المقام الذي وصفناه هو الشيخ المطلق والعارف المحقق والمحبوب المعتق‪،‬‬
‫نظره دواء وكالمه شفاء‪ ،‬باهلل ينطق وباهلل يسكت‪ ،‬كما ورد” وال يزال العبد يتقرب‬
‫إلي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته كنت له سمعا وبصيرا ومؤيدا‪ ،‬بي ينطق وبي‬
‫‪7‬‬
‫يبصر”‪ ،‬فالشيخ يعطي باهلل ويمنع باهلل‪”.‬‬
‫ويذهب ابن عربي إلى أن السعادة التدرك بالحس والعقل‪ ،‬بل بالقلب ووجدان العارف‬
‫ورؤيا الولي الصالح ‪ ،‬أي إن السعادة تكون بالتجربة الصوفية وقلب العارف‬
‫واستحضار الباطن والتغزل بالذات المعشوقة عير العرفان و التجلي والكشف‬
‫الرباني‪ ”:‬اعلم أن القلب‪ -‬أعني قلب العارف باهلل‪ -‬هو من رحمة هللا…‪ .‬وأن الحق‬
‫تعالى إذا وسعه القلب اليسع معه غيره من المخلوقات فكأنه يملؤه‪ .‬ومعنى هذا أنه‬
‫العارف إذا نظر إلى الحق عند تجليه له اليمكن له أن ينظر معه إلى غيره…‪.‬‬

‫وإذا كان الحق يتنوع بتنوع تجليه في الصور فبالضرورة يتسع القلب ويضيق بحسب‬
‫الصورة التي يقع فيها التجلي اإللهي‪ ،‬فإنه اليفضل شيء عن صورة ما يقع فيها‬
‫التجلي…‪..‬‬
‫‪8‬‬
‫فالحق الذي في المعتقد هو الذي وسع القلب صورته‪ ،‬وهو الذي يتجلى له فيعرفه‪”.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬يستند مفهوم السعادة عند الصوفية إلى استقراء أحوال القلب ونشدان اللذة‬
‫الروحانية وتفجير المعرفة اللدنية الوجدانية التي تتجاوز الظاهر إلى الباطن‪ ،‬وتتعدى‬
‫النص والعقل معا إلى العرفان والحدس الجواني‪.‬‬

‫‪ .1‬هل السعادة فردية أم جماعية؟‬

‫يرى المتصوفة والزهاد أن السعادة ذات طابع فردي ‪ ،‬تكون حقيقة مستشعرة من‬
‫خالل التخلص من شوائب الحس وإسار الجسد وقيود المادة وشرور الدنيا‪ ،‬واالنعتاق‬
‫من كل ما يمت بصلة إلى الحياة العاجلة واستبدالها بالحياة األخروية اآلجلة‪ .‬لذلك‬
‫نجدهم يهربون من شواغل الدنيا ويزهدون في الحياة وينعزلون في الفيافي والجبال‬
‫والمغارات والكهوف والصوامع‪ ،‬يعبدون هللا ويناجون الذات الربانية تاركين الدنيا‬
‫ألصحاب الدنيا الذين يريدون السلطة والثراء واالستمتاع بمباهج الحياة ولذات‬
‫العاجلة‪ .‬و الهدف من هذا االنعزال والخلوة العرفانية هو التقرب من هللا واالعتكاف‬
‫قصد االستمتاع باألنوار القدسية الربانية والحصول على االنكشاف اإللهي عبر‬
‫التجلي واإلشراق واإللهام العرفاني والوصال اللدني‪ .‬ويمارس هؤالء هذه السعادة‬
‫االنعزالية حبا واختيارا ورغبة في الفوز بالجنة والرضى الرباني ‪ .‬ويقول ابن سينا‬
‫عن هؤالء بأنهم‪ ”:‬العارفون المنزهون…‪ .‬الذين انفكوا عن الشواغل‪ ،‬فخلصوا إلى‬
‫عالم القدس والسعادة‪ ،‬وانتقشوا بالكمال األعلى‪ ،‬وحصلت لهم اللذة العليا…”‪ 9.‬إذًا‪،‬‬
‫يقرن ابن سينا السعادة الحقيقية بالتخلص من الدنيا وشواغل الحياة وهموم العاجلة‪،‬‬
‫وأن التفرد والزهد الصوفي عنده هو المالذ األخير والحقيقي لنيل الفضيلة والكمال‬
‫والسعادة المطلقة‪.‬‬

‫ويذهب الغزالي في كتابه ” المنقذ من الضالل” إلى أن سعادة اآلخرة التكتمل إال‬
‫بالخلوة والعزلة والمكاشفة والتقوى و استعمال القلب في إدراك الحقائق الربانية بدال‬
‫من تشغيل العقل الفسلفي الذي يقصر عن إدراك كنه الغيبيات واسكناه الذات الربانية‬
‫المعشوقة‪ ”:‬ظهر لي أنه المطمح لي في سعادة اآلخرة إال بالتقوى وكف النفس عن‬
‫الهوى‪ ،‬وأن رأس ذلك كله قطع عالقة القلب عن الدنيا بالتجافي عن دار الغرور…‬
‫ثم الحظت أحوالي‪ ،‬فإذا أنا منغمس في العالئق‪ ،‬وقد أحدقت بي من الجوانب ؟‬
‫والحظت أعمالي‪ -‬وأحسنها التدريس والتعليم‪ -‬فإذا أنا فيها مقبل على علوم غير مهمة‬
‫وال نافعة في طريق اآلخرة… و كانت حوادث الزمان‪ ،‬ومهمات العيال‪ ،‬وضرورات‬
‫المعاش‪ ،‬تغير في وجه المراد‪ ،‬وتشوش صفوة الخلوة…‬

‫وانكشف لي في أثناء هذه الخلوات أمور اليمكن إحصاؤها واستقصاؤها‪ ،‬والقدر‬


‫الذي أذكره لينتفع به‪ :‬إني علمت يقينا أن الصوفية هم السالكون لطريق هللا تعالى‬
‫خاصة‪ ،‬وأن سيرتهم أحسن السير‪ ،‬وطريقهم أصوب الطرق‪ ،‬وأخالقهم أزكى‬
‫األخالق…‪.‬‬

‫ثم إني لما واظبت على العزلة والخلوة…بان لي ذلك على الضرورة من أسباب ال‬
‫أحصيها‪ ،‬مرة بالذوق‪ ،‬ومرة بالعلم البرهاني‪ ،‬ومرة بالقول اإليماني‪ ،‬أن اإليمان خلق‬
‫من بدن وقلب… وأن البدن له صحة بها سعادته ومرض فيه هالكه‪ ،‬وأن القلب كذلك‬
‫له صحة وسالمة… وله مرض فيه هالكه األبدي واألخروي… وكما أن أدوية البدن‬
‫تؤثر في كسب الصحة بخاصية فيها اليدركها العقالء ببضاعة العقل‪ ،‬بل يجب فيها‬
‫تقليد األطباء الذين أخذوها من األنبياء الذين اطلعوا بخاصية النبوة على خواص‬
‫األشياء‪ ،‬فكذلك بان لي على الضرورة بأن أدوية العبادات بحدودها ومقاديرها‬
‫المحدودة المقدرة من جهة األنبياء اليدرك وجه تأثيرها ببضاعة عقل العقالء‪ ،‬بل‬
‫‪10‬‬
‫يجب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك الخواص بنور النبوة الببضاعة العقل‪”.‬‬

‫لكن الفالسفة اليؤمنون باالنعزال وسعادة الخلوة والتفرد بعيدا عن االجتماع المدني ؛‬
‫ألن اإلنسان كما قال أرسطو حيوان اجتماعي اليمكن أن يعيش بمفرده‪ ،‬فالبد أن‬
‫يندمج داخل المجتمع‪ ،‬وكما قال ابن خلدون‪ :‬اإلنسان مدني بطبعه ‪ ،‬يتعاون مع أخيه‬
‫اإلنسان ويجتمع به درءا للوحدة والعزلة وميال إلى خدمة المجتمع وتدبير المدينة‪.‬‬

‫ويرى ابن مسكويه أن السعادة التتم إال باالجتماع والتعاون والمشاركة في بناء‬
‫المجتمع بدال من الفرار والهروب إلى األماكن المنعزلة من أجل االختالء‬
‫واالعتكاف؛ ألن هللا اليمكن أن يحاسب هؤالء مادامت أفعالهم معطلة‪ .‬وبالتالي‪،‬‬
‫فالمؤمن القوي أحسن من المؤمن الضعيف‪ ،‬أي إن الذي يتعارك داخل المدينة‬
‫ويساهم في تدبيرها وبنائها أفضل من الذي يهرب بعيدا ليتقرب من هللا ؛ ألن أفعاله‬
‫غير خاضعة لالمتحان والمحاسبة‪ ،‬و يقول ابن مسكويه في هذا السياق‪ ”:‬كيف يؤثر‬
‫العاقل لنفسه التفرد والتخلي وتعاطي مايرى الفضيلة في غيره؟ فإذا‪ ،‬القوم الذين رأوا‬
‫الفضيلة في الزهد وترك مخالطة الناس وتفردوا عنهم‪ ،‬إما بمالزمة المغارات في‬
‫الجبال‪ ،‬وإما ببناء الصوامع في المفاوز‪ ،‬وإما بالسياحة في البلدان‪ .‬اليحصل لهم‬
‫شيء من الفضائل اإلنسانية… وذلك أن من لم يخالط الناس ويساكنهم في المدن‬
‫التظهر فيه العفة وال النجدة وال السخاء وال العدالة‪ ،‬بل تصير قواه وملكاته التي‬
‫ركبت فيه باطلة ألنها التتوجه ال إلى الخير وال إلى شر‪ ،‬فإذا بطلت ولم تظهر أفعالها‬
‫الخاصة بها صاروا بمنزلة الجمادات أو الموتى من الناس‪.‬‬

‫ولذلك يظنون ويظن بهم أنهم أعفاء وليسوا بأعفاء‪ ،‬وأنهم عدول وليسوا بعدول‪.‬‬
‫وكذلك في سائر الفضائل‪ ،‬أعني أنه إذا لم يظهر منهم أضداد هذه التي هي الشرور‬
‫ظن بهم الناس أنهم أفاضل‪ .‬وليست الفضائل أعداما‪ ،‬بل هي أفعال وأعمال تظهر عند‬
‫مشاركات الناس ومساكنتهم وفي المعامالت وضروب االجتماعات‪ .‬ونحن إنما نعلم‬
‫ونتعلم الفضائل اإلنسانية التي نساكن بها الناس ونخالطهم‪ ،‬لنصل منها وبها إلى‬
‫‪11‬‬
‫سعادات أخر”‪.‬‬

‫ويرى الفارابي في كتابه” آراء أهل المدينة الفاضلة” أن السعادة التتم إال بالمدينة‬
‫وتدبيرها على أحسن وجه ‪ ،‬والمدينة أعم من االجتماع وأحسن منه‪ ،‬وإذا تحققت‬
‫المدينة الفاضلة تحققت السعادة‪ ،‬والمدينة الفاضلة هي التي تنبني على اإلعماروالعمل‬
‫الجاد واالجتماع الفاضل والتمدين والتعاون والتدبير الحسن واالحتكام إلى العقل‬
‫والمنطق وحب الفلسفة والحكمة‪ ،‬ويقودها ملك أو فيلسوف ‪ ،‬وتظهر كالجسد الواحد‬
‫في تعاونها وتضامنها‪ ،‬وفي هذا السياق يقول المعلم الثاني‪ ”:‬ينبغي أن تنشأ مدينة…‬
‫يوجد فيها وفي أمثالها العدل بالحقيقة‪ ،‬والخيرات التي هي بالحقيقة خيرات كلها‪.‬‬
‫وتكون هذه المدينة مدينة اليفوتها شيء مما ينال به أهلها السعادة إال وجد فيها‪ .‬وأن‬
‫هذه المدينة يلزم من فيها إن كان مزمعا أن يوجد فيها جميع ماتنال به السعادة‪ ،‬أن‬
‫تكون المهنة الملكية التي فيها هي الفلسفة على اإلطالق‪ ،‬وأن الفالسفة يكونون أعظم‬
‫أجزائها‪ ،‬ثم يليهم سائر أهل المراتب” ‪.12‬‬

‫أما المدينة الجاهلة حسب الفارابي فهي مدينة الظنون واألوهام والمعتقدات الفاسدة ‪،‬‬
‫حيث يهتم أصحابها باللذات الحسية والمتع الجسدية ‪ ،‬وهناك مضادات أخرى للمدينة‬
‫الفاضلة كالمدينة الفاسقة والمدينة المبدلة والمدينة الضالة‪ .‬يقول الفارابي موضحا‬
‫معالم المدينة الفاضلة‪ ”:‬فالخير األفضل والكمال األقصى إنما ينال أوال بالمدينة‪ ،‬ال‬
‫باالجتماع الذي هو أنقض منها‪ .‬ولما كان شأن الخير في الحقيقة أن يكون ينال‬
‫باالختيار واإلرادة‪ ،‬وكذلك الشرور إنما تكون باإلرادة واالختيار‪ ،‬أمكن أن تجعل‬
‫المدينة للتعاون على بلوغ بعض الغايات التي هي شرور‪ ،‬فلذلك كل مدينة يمكن أن‬
‫ينال بها السعادة‪ .‬فالمدينة التي يقصد باالجتماع فيها التعاون على األشياء التي تنال‬
‫بها السعادة في الحقيقة‪ ،‬هي المدينة الفاضلة‪ .‬واالجتماع الذي به يتعاون على نيل‬
‫السعادة هو االجتماع الفاضل‪ .‬واألمة التي تتعاون مدنها كلها على ماتنال به السعادة‬
‫هي األمة الفاضلة‪ .‬وكذلك المعمورة الفاضلة‪ ،‬إنما تكون إذا كانت األمم التي فيها‬
‫تتعاون على بلوغ السعادة‪.‬‬

‫والمدينة الفاضلة تشبه البدن التام الصحيح‪ ،‬الذي تتعاون أعضاؤه كلها على تتميم‬
‫حياة الحيوان‪ ،‬وعلى حفظها عليه‪ .‬وكما أن البدن أعضاؤه مختلفة متفاضلة الفطرة‬
‫والقوى‪ ،‬وفيها عضو واحد رئيس وهو القلب‪ ،‬وأعضاؤه تقرب مراتبها من ذلك‬
‫الرئيس… وكذلك المدينة‪ ،‬وأجزاؤها مختلفة الفطرة‪ ،‬متفاضلة الهيآت‪ .‬وفيها إنسان‬
‫هو رئيس وآخر يقرب مراتبها من الرئيس…ثم هكذا تترتب أجزاء المدينة إلى أن‬
‫تنتهي إلى آخر يفعلون أفعالهم على حسب أغراضهم‪ ،‬فيكون هؤالء هم الذين يخدمون‬
‫‪13‬‬
‫وال يخدمون ويكونون في آخر المراتب‪ ،‬ويكونون هم األسفلين‪”.‬‬

‫يتجاوز الفارابي أو المعلم الثاني طرح ابن سينا وطرح الزهاد الذين يقرنون السعادة‬
‫والكمال بالتفرد وترك شواغل الدنيا واالتكال على هللا قصد نيل مرضاة سبحانه‬
‫تعالى ‪ ،‬وذلك بربط السعادة بتدبير المدينة وتفعيلها لتكون مدينة صالحة فاضلة‬
‫قوامها العقل والحكمة واالستهداء بالشرع الرباني‪ ،‬واليمكن بالتالي‪ ،‬أن يتحقق” خير‬
‫اإلنسان إال داخل المدينة‪ .‬ولن يبلغ اإلنسان السعادة إذا ماهو اقتصر على مجهوده‬
‫الفردي في تقويم نفسه واتباع طريق الخير ونواهي األخالق وأوامر الدين‪ .‬فما تنهي‬
‫عنه األخالق وما يأمر به الدين‪ -‬حسب الباحث المغربي بنعبد السالم بن عبد العالي‪-‬‬
‫قد يظل مجرد شعارات جوفاء إن لم تعاضده تنظيمات السياسة‪ .‬إن زوال الشرور‬
‫عن المدن وعن األمم مرهون بوجود مجتمعات متفاضلة األجزاء ترتبط مراتبها‬
‫بالمحبة وتجتمع في الرأي‪ ،‬ويحتل كل منها مكانته الالئقة به ليعمل الكل في انسجام‬
‫وتناسق‪ .‬ولن يكون ذلك ممكنا إال إذا كانت هناك رئاسة ترتب المدينة وتحفظ‬
‫تماسكها‪ .‬وينبغي أن تقوم هاته الرئاسة على آراء صائبة وتعتمد البراهين اليقينية‪،‬‬
‫وهذا ال يتأتى إال بمعرفة الفلسفة وإتقانها وإدراك ماعليه الكون ومدبره‪ .‬ولكن من‬
‫شأن هذا أن يجعل رئيس المدينة بعيدا عن العامة اليتكلم بلغتها‪ ،‬لذا وجب على هذا‬
‫‪14‬‬
‫الحاكم الحكيم أن يكون أيضا نبيا وواضع نواميس‪”.‬‬

‫وعليه‪ ،‬فإذا كان المتصوفة قد انشغلوا بالخلوة والزهد الفردي‪ ،‬فإن الفالسفة الذين‬
‫تأثروا بفلسفة أفالطون وأرسطو السياسية واالجتماعية ‪ ،‬كانوا اليحبذون عرفانية‬
‫التفرد والخلوة واالنعزال عن الناس‪ ،‬واالبتعاد السلبي عن المشاركة في تدبير المدينة‬
‫والمساهمة في تسيير دواليبها وإصالحها على جميع األصعدة والمستويات ‪ ،‬والسيما‬
‫أن المدينة في حاجة ماسة إلى أبنائها المثقفين لتفعيلها وتنشيطها وتقوية أركانها‬
‫والحفاظ على أمنها وتنوير أبنائها‪.‬‬

‫خاتمــــة‪:‬‬

‫نستنتج مما سلف ذكره أن السعادة عند عامة الناس مرتبطة بإشباع رغبات الجسد‬
‫وإرواء الذات الحسية المادية عن طريق األكل والشرب وإمتاع الغرائز وإشباع‬
‫الشهوات واللذات الحسية‪ ،‬بينما السعادة عند الفالسفة مقترنة بالعقل والمنطق‬
‫واالشتغال بالفلسفة من أجل معرفة المعقوالت والخالق الصانع‪ .‬أما السعادة عند‬
‫المتصوفة فتنبني على الباطن والعرفان الروحاني والمعرفة اللدنية واالرتماء بين‬
‫أحضان الذات المعشوقة انكشافا ووصاال وتجليا‪ .‬لكن السعادة الحقيقية اليمكن أن‬
‫تقتصر على عنصر دون آخر‪ ،‬فالسعادة في الحقيقة هي نسق متكامل ‪ ،‬فاإلنسان‬
‫اليمكن أن يعيش بالقلب وحده‪ ،‬وال بالجسد وحده‪ ،‬وال بالعقل وحده‪ ،‬أي إن اإلنسان‬
‫جسد وعقل وقلب‪ .‬ومن ثم‪ ،‬البد أن يستمتع اإلنسان باعتباره كائنا بشريا بالمكونات‬
‫الثالث للسعادة الحقيقية‪ ،‬ألن اإلنسان ذو نوازع مادية وعقلية وروحانية‪ ،‬وعليه أن‬
‫يوفق بين هذه المظاهر الثالثة بكل توازن ووسطية بدون تقتير وال تفريط‪.‬‬

‫وإذا كانت السعادة عند الصوفية والزهاد ذات طابع فردي قوامها التخلي عن شواغل‬
‫الدنيا وهموم حياة العاجلة‪ ،‬فإن الفالسفة يربطون السعادة باالجتماع وتدبير المدينة‪،‬‬
‫ولكن السعادة الفضلى قد تتحقق بالتفرد تارة‪ ،‬وقد تتحقق كذلك باالجتماع و االنصهار‬
‫في وحدة المدينة تارة أخرى‪.‬‬

You might also like