You are on page 1of 328

‫مجلس األمناء‬

‫الرتتيب األلفبايئ)‬ ‫(بحسب‬

‫إندونيسيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬إظهار نوري‬

‫مصر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬أحمد الجزار‬

‫تونس‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬توفيق بن عامر‬

‫لبنان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬جاد حاتم‬

‫الجزائر‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬زعيم خنشالوي‬

‫المغرب‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬سيدي علي ماء العينين‬

‫اليمن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عبد الله الفالحي‬

‫األردن‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عامر عدنان الحافي‬

‫ماليزيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬عزم الدين إبراهيم‬

‫السودان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬الصادق الفقيه‬

‫سلطنة عمان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فؤاد السجواني‬

‫بلغاريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬فيلين بيليف‬

‫العراق‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد حسين آل ياسين‬

‫تركيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمود إرول قليج‬

‫باكستان‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد طاهر القادري‬

‫السنغال‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد المختار بن أحمد جيي‬

‫سوريا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد أحمد علي‬

‫بروناي‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬مول بادي‬

‫موريتانيا‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬محمد سالم الصوفي‬

‫إيران‬ ‫أ‪.‬د‪ .‬يد الله يزدن بناه‬


‫رئيس التحرير‬
‫محمود حيدر‬

‫المجلس العلمي االستشاري‬


‫مصطفى الن ّ‬
‫شار‬ ‫سيد علي الموسوي‬

‫مدراء التحرير‬

‫إحسان الحيدري ـ الهذيلي المنصر ـ محمدعلي ميرزائي‬


‫إدريس هاني ـ غيضان الس ّيد علي‬

‫مجلس التحكيم العلمي‬


‫تونس‬ ‫محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مصر‬ ‫صابر أبا زيد‬
‫موريتانيا‬ ‫محمد يحيى باباه‬ ‫العراق‬ ‫جعفر نجم نصر‬
‫إيران‬ ‫حبيب الله بابائي‬ ‫األردن‬ ‫أمين يوسف عودة‬
‫المغرب‬ ‫كنزة القاسمي‬ ‫لبنان‬ ‫هدى نعمة مطر‬
‫الجزائر‬ ‫ياسين بن عبيد‬ ‫سوريا‬ ‫بكري عالء الدين‬

‫التصميم واإلخراج الفني‬ ‫المدير المسؤول سكرتير التحرير‬

‫‪Red Design Company‬‬ ‫خضر إبراهيم حيدر‬ ‫قاسم الطفيلي‬

‫تواصل‬
‫‪ /‬اإليميل‪ilmolmabdaa@gmail.com :‬‬ ‫الموقع اإللكتروني‪www.ilmolmabdaa.com :‬‬
‫‪00989 – 355471498 / 009611 – 3867158 / 00964 – 7801877152 / 009611 – 305347‬‬ ‫هاتف‪:‬‬
‫ص‪.‬ب‪ 113/5748 :‬ـ بيروت ـ لبنان‬
‫فهرس المحتويات‬

‫التعرّف على الفائق ‪9...........................................................‬‬ ‫مفتتح‬


‫محمود حيدر‬

‫المحور‬
‫َّ‬
‫المبدئية‬ ‫المعرفة‬
‫يز‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫ميتاف�يقا الغرب‬ ‫نقد تعدد الصور المقدسة ي�‬
‫ين‬
‫حس� نرص‪20..................................................................‬‬ ‫ـ سيد‬
‫ََ‬
‫المعرفة كه ٍّم أقىص‬
‫ف‬ ‫اإليمان بما هو ٌ‬
‫فعل يصل به العقل ي� نشوته االنجذابية إىل ما وراء ذاته‬
‫ـ بول تيليش‪44. .......................................................................‬‬
‫معرفة َ‬
‫البدء‬
‫ـ استقراء مقارن ي ن‬
‫ب� علم الكون الحديث والحكمة المتعالية‬
‫فطور� ‪56....................................................................‬‬
‫ج ي‬ ‫ﭘيروز‬
‫َّ‬
‫الصقولية‬ ‫المعرفة‬
‫ِّ‬
‫الصلة كنظرية ُّ‬
‫تعرف عىل مبدأ الكون‬
‫ـ صبيح محاميد ‪86....................................................................‬‬
‫م�ان فلسفة الدين‬ ‫الروحانية ف� ي ز‬
‫َّ‬ ‫المعرفة‬
‫ي‬
‫والتبص العرفا�ن‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ين‬
‫ب� التجربة الدينية‬
‫ي‬
‫عل الحيدري ‪110............................................................‬‬
‫ـ إحسان ي‬
‫َّ‬
‫الحرة‬ ‫المعرفة‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫للتعرف الوجودي عند مل صدرا‬ ‫الشهود كمرتبة عليا‬
‫ـ كمال إسماعيل َّلزيق ‪130.............................................................‬‬
‫َّ ف‬
‫عر�‬
‫� منظومة ابن ب ي‬ ‫ُّالمعرفة التأويلية ي‬
‫ً‬
‫اللغة بوصفها وجودا‬
‫ن‬
‫الزيدا� ‪156.............................................................‬‬ ‫ـ عبد اللطيف‬
‫ي‬
‫فهرس المحتويات‬

‫محاورات‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الفرنس ريجيس دوبريه‬
‫ي‬ ‫ـ ـ حوار عىل ضفاف الروحانية مع المفكر‬
‫ن‬ ‫ُ َّ‬
‫األد�‬ ‫المقدس هو الطريقة الفضىل لفهم العالم‬

‫ـ أجرى الحوار‪ :‬بيار مارك دو بيازي‪180..............................................‬‬

‫حقول التنظير‬
‫ف‬ ‫مفارقات َّ‬
‫عر�‬
‫الوجود ي� فكر ابن ب ي‬ ‫ثنائية‬
‫ِّ‬ ‫فِّ‬ ‫َّ‬
‫والتجل‬
‫ي‬ ‫التخ�‬
‫ي‬ ‫جدليات‬
‫العر� ‪192.......................................................................‬‬
‫بي‬ ‫ـ ربيعة‬

‫يز‬
‫والميتاف�ياء‬ ‫ب� ي ز‬
‫الف�ياء‬ ‫ــ ي ن‬
‫َّ‬ ‫ف‬
‫حركة الطبيعة ومفهوم الحركة ي� الجوهر عند ُمل صدرا‬
‫ـ إبراهيم ي ن‬
‫قال� ‪212......................................................................‬‬

‫مقارنات‬
‫َّ‬ ‫ـ ـ تأث� ابن عر� ف� شبه َّ‬
‫القارة الهندية‬ ‫بي ي‬ ‫ي‬
‫َّ‬
‫وبولوجية‬ ‫ُمالحظات سوسيو‪ -‬ث‬
‫أن�‬

‫ـ ويليام تشيتيك ‪238.........................................................................‬‬


‫فهرس المحتويات‬

‫أفنان‬

‫ن‬
‫المع�‬ ‫َّ‬
‫حكائية اإلرتقاء إىل عالم‬ ‫ــ‬
‫َّ ف‬ ‫َّ‬
‫الط�" لفريد الدين العطار‬
‫جمالية القصة ي� منظومة "منطق ي‬

‫ـ عبد المجيد زراقط ‪266.............................................................‬‬

‫مكنز الكتب‬

‫ي ن‬
‫وأفلوط� للباحث د‪ .‬أحمد فقيه‬ ‫األنطولو� ي ن‬
‫ب� السهروردي‬ ‫ج ي‬ ‫ـ ـ الوجود‬
‫ش‬
‫واإل�اق‬ ‫� الفيض‬ ‫َّ‬
‫نظري ت ْ‬ ‫معادلة االنفصال واالتصال ي ن‬
‫ب�‬
‫ي‬
‫مقدس ‪286.............................................................................‬‬
‫ي‬ ‫ـ جاد‬
‫ِّ‬
‫التونس محمد أبو هاشم محجوب‬
‫ي‬ ‫ر‬ ‫للمفك‬ ‫ـ ـ "مسالك االبتداء"‬
‫َّ‬
‫الوجودية‬ ‫لمساع هايدغر‬ ‫ُمحاكاة من قرب‬
‫ي‬
‫ـ خ�ض إبراهيم ‪300............................................................................‬‬

‫ترجمةالملخصات‪322....................................................... :‬‬
‫ق المعرفة‬
‫ح ّ‬

‫أوقفني يف حق املعرفة وقال يل‪:‬‬


‫وكل ما فيه ينتظر الساعة‪ ..‬وعىل كلِّه‬
‫وكل ما بدا‪ ،‬فهو دنيا‪ ،‬وكلُّه ُّ‬‫وتحت ُ‬
‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫ففوق‬ ‫أما اآلن‪،‬‬
‫ت اإلميان‪ ،‬وحقيق ُة اإلميان ليس كم ِث ِله يش ٌء‪.‬‬
‫وكل ما فيه‪ ،‬كَ َت ْب ُ‬
‫ِّ‬

‫محمد بن عبد الجبار بن الحسني ال ِنفَّري‬


‫(من عرفاء القرن الرابع الهجري)‬
‫"من كتاب – املواقف واملخاطبات"‬
‫مفتـتح‬

‫التعرّف على الفائق‬

‫محمود حيدر‬

‫قل أن نجد من ال يتساءل‪ ،‬ويف يشء من الغرابة‪ ،‬إذ يتناهى إليه الكالم عىل‬
‫َّ‬
‫أي ساللة من نظريَّات املعرفة تنتمي؟‪ ...‬قد‬
‫املعرفة الفائقة‪ ،‬أصلها‪ ،‬وغايتها‪ ،‬وإىل ِّ‬
‫ّْ‬
‫االعتيادي‪.‬‬ ‫يرتاءى التساؤل بديه ًّيا يف صورته األول َّية‪ ،‬إلَّ أنَّه يف هذه املنزلة خالف‬
‫كل قو ٍل يف معرفة وجو ٍد ما‪ ،‬ذهنيًّا كان أو واقعيًّا‪ ،‬يحيل إىل املبادئ‬‫وما ذاك إلَّ أل َّن َّ‬
‫النظريَّة الحاكمة عىل نشأته‪ ،‬والقواعد الناظمة لصريورته‪ .‬لنا أيضً ا أن نتساءل عن‬
‫العادي‪ ،‬وما تآلف‬
‫ِّ‬ ‫معنى وماهيَّة املعرفة الفائقة‪ ،‬وعن الذي يغايرها يف حقل معرفة‬
‫يل حيال تعقُّله عامل املمكنات؟‪...‬‬
‫عليه العقل االستدال ُّ‬
‫فضل عن امله َّم ِة‬
‫ً‬ ‫جدل مدي ٌد مل ينت ِه إىل مآل‪ ،‬تلقاء نظريَّة املعرفة وماه َّيتها‪،‬‬
‫ٌ‬
‫املسند ِة إليها لفهم الوجود واستكشاف كوامنه‪ .‬رأى قدماء اإلغريق إىل النظريَّة‬
‫درس‬
‫ُ‬ ‫لكل معرفة‪ .‬ويف عهود الحداثة ُع ِّرفت بأنَّها‬ ‫املنطقي ِّ‬
‫َّ‬ ‫باعتبارها الخطاب‬
‫طبيعة املعرفة‪ ،‬واإلجاب ُة عىل أسئلة أول َّية َركَ َزت عىل اإلجامل يف ثالثة‪ :‬ما معنى‬
‫أن نقول إنَّنا نعرف شيئًا ما‪ ..‬وكيف نعل ُم أنَّنا نعلم‪ ..‬ثم ما الذي يجعل املعتقدات‬
‫ربرة؟‪...‬‬
‫ربرة م َّ‬
‫امل َّ‬
‫مل تنتبه الفلسفة ال َق ْبل َّية‪ ،‬وال س َّيام يف أطوارها املستح َدثة‪ ،‬إىل أ َّن األذها َن‬
‫يتيس لها أن تَطَأَ َ‬
‫أرض الحقيق ِة باالستدالل‪ ،‬وال أن تظ ُف َر‬ ‫أن َس َم ذكاؤها‪ ،‬لن َّ َ‬ ‫َّ‬
‫الحواس الخمس‪ .‬ولقد ق َّيدت نفسها بنفسها مل َّا أخلدت إىل‬
‫ِّ‬ ‫بضالَّتها عرب كيمياء‬
‫مفتتح‬

‫وس َك َنت كهف املفاهيم‪ ،‬واكتفت بالسؤال عمَّ يقع تحت سطوة االستدالل‬‫دنيا املقوالت‪َ ،‬‬
‫العلمي تص ُّوراته الوجوديَّة عىل‬
‫ُّ‬ ‫وحسابات الفكر املحض‪ .‬وللبيان‪ ،‬سرنى كيف أنشأ العقل‬
‫مبدأ اشتقاق الوعي من املا َّدة‪ ،‬واستقالل املا َّدة عن الوعي‪ ،‬وعىل ا ِّدعاء القدرة االستثنائيَّة‬
‫للعقل عىل إدراك الكون‪ .‬وإىل ذلك‪ ،‬االفرتاض بأ َّن األشكال العليا للوجود تجد حقيقتها‬
‫ين إىل سوء‬
‫يف الطبيعة املتح ِّولة وعوارضها‪ .‬وبهذا ات َّضح كيف آلت صريورة العقل الطبيعا ِّ‬
‫جة التشاؤم‪.‬‬
‫الفهم‪ ،‬واضطراب الفكر‪ ،‬واالستغراق يف ل َّ‬
‫‪I‬‬
‫املنطقي أن يتَّخذ املتع ِّرف‬
‫ِّ‬ ‫إذا كان التع ُّرف عىل الفائق يلزمه نظريَّة معرفة من جنسه‪ ،‬فمن‬
‫مسلكًا مفارقًا ملا َع ِ‬
‫هدته النظريَّات التقليديَّة الحاكمة عىل مناهج العلوم اإلنسان َّية‪ ،‬من أجل‬
‫مؤسس رضوريًّا‪ ،‬للكشف عن أحوال الفائق من‬
‫ميتافيزيقي ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫هذا يصري العثور عىل مبدأ‬
‫الوجود سواء لجهة ظهوره أم استتاره‪.‬‬
‫هذه املفارقة املنهج َّية من شأنها أن ت ِ‬
‫ُحدث منقل ًبا منهج ًّيا يف نظريَّة املعرفة‪ .‬فَ َب َد َل أن‬
‫يكون التع ُّرف وفق رشعة العقل األدىن‪ ،‬قي ًدا عىل املتع ِّرف ‪ -‬بسبب حاكم َّية قوانينه ونظريَّاته‬
‫عليه‪ -‬تنفسح أمام بصريته أمداء "ما بَ ْعدية" لإلدراك والتع ُّرف‪ .‬فإنَّه مبؤالفته بني أحكام العقل‬
‫لعل هذا ما أبداه‬
‫وألطاف الفؤاد يُجري حف ًرا معرف ًّيا مغاي ًرا مي ِّهد النكشاف الفائق وتعاليه‪َّ .‬‬
‫العرفاء مل َّا تح َّدثوا عن الكشف والشهود كمعرفة متح ِّررة من قيديَّات املعرفة الصوريَّة‪.‬‬
‫الحكمة املتعالية عاينت هذه الدقيقة النظريَّة مل َّا أشارت إىل غموض املباحث اإلله َّية‬
‫واملعارف الربَّان َّية‪ ،‬ورأت إليها بوصفها مامثلة للعقول القدس َّية التي يحتاج إدراكها إىل‬
‫رصح أهل‬
‫تج ُّرد تا ٍّم ولطف شديد‪ ،‬ثم ذهبت إىل نعتها بـ"الفطرة الثانية"‪ .‬وعىل النحو إياه سي ِّ‬
‫رشع يف علومنا فليستحدث لنفسه فطرة أخرى"‪ .‬واملقصود بذلك‬
‫الحكمة‪" :‬إ َّن من أراد أن ي َ‬
‫لكل‬
‫أن الفالح باملعارف القدس َّية أم ٌر موقوف عىل الفطرة مبا هي الغرسة اإلله َّية ال َبدئ َّية ِّ‬
‫معرفة‪ .‬إذ بالفطرة ومنها تولد "سرييَّة" تع ُّرف ذات سامت مفارقة ترتقَّى يف س ُّموها وتف ُّوقها‬
‫لتبلغ مقام الكشف والشهود‪.‬‬
‫الحس ومعياريَّات‬
‫ِّ‬ ‫يف ينرصف العارف إىل ما يتع َّدى اختبارات‬ ‫مع هذا املقام املعر ِّ‬
‫ُ‬
‫العارف بدفع فعال َّياته الكشف َّية مثل الحدس‪ ،‬والنور‪،‬‬ ‫واملعني بهذا أن يُه َّم‬
‫ُّ‬ ‫العقل الحاسب‪.‬‬
‫الروحي إىل حدودها القصوى‪ .‬أ َّما املكشوف املتولِّد من هذه الفعاليَّات‬
‫ِّ‬ ‫واإللهام‪ ،‬والشهود‬

‫‪10‬‬
‫التع ّرف على الفائق‬

‫فإحرازُه يكون بحسب سعة الكاشف ومقامه‪ .‬وهكذا تتَّصل مراتب الشهود بعالقة طوليَّة يف‬
‫مستوعب لل َّداين من دون أن يغادر العايل عل َّوه‪ ،‬بينام يحتاج ال َّداين‬
‫ٌ‬ ‫ما بينها‪ :‬العايل منها‬
‫إىل قابليَّة واستعداد إضافيني ليتَّصل مبا هو أعىل منه‪ .‬أ َّما الغاية األسمى من الشهود – كام‬
‫يبيِّ ملَّ صدرا‪ -‬فهي الوصول اىل املعرفة الح َّرة‪ ،‬التي هي ليست بغاية‪ ،‬بل هي بذاتها غاية‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الغايات‪ ،‬ومنتهى اآلمال‪ .‬من أجل ذلك نُعتَت بـ "املعرفة الح َّرة" لكونها ال تعلُّق لها بغريها‪،‬‬
‫وال ت ُراد ألجل يشء آخر‪ ،‬وأما باقي العلوم فإنَّ ا تُراد ألجلها"‪...‬‬
‫‪II‬‬
‫للمعرفة املوصلة إىل الفائق ثالثة سبل‪ :‬ـ معرفة بواسطة الصورة الحاكية وهي املعرفة‬
‫التحصيل َّية ـ ومعرفة من غري واسطة وهي املعرفة الحضوريَّة‪ ،‬وفيها يكون امل ُدر ُِك عىل‬
‫صلة بامل ُد َرك عىل نحو يتيح له االتصال بالواقع بشكل مبارش‪ ،‬ويكون يف اآلن عينه عالِ ًم‬
‫رصا‪ .‬وهذا الطور‬
‫بنفس هذا الواقع‪ -‬وثالثًا‪ ،‬معرفة بالفطرة‪ ،‬وهي تتعلَّق باملعرفة الشهوديَّة ح ً‬
‫األخري من املعرفة يُدرك من وجهني‪ :‬األول‪ ،‬إثبات وجود املعرفة عند أنفسنا‪ ،‬والثاين‪،‬‬
‫الشهودي إ َّما فعل ًّيا شعوريًّا‬
‫ُّ‬ ‫كل من الوجهني يكون األمر‬
‫إثبات وجودها عند الغري‪ .‬ويف ٍّ‬
‫داخل يف وعي الشاهد وإدراكه‪ ..‬وإ َّما موجو ًدا بالق َّوة وغري ملتف ٍ‬
‫َت إليه‪ ،‬أي‬ ‫ٌ‬ ‫ملت َفتًا إليه‪ ،‬أي أنَّه‬
‫أنَّه خارج عن وعيه وإدراكه‪ .‬وأ َّما الطريق الوحيد لتحقيق ذلك فهو بإرجاع املعرفة الشهوديَّة‬
‫يل يف هذه الحالة‬‫إىل نفس الشاهد‪ ،‬حتى يجد هذا األمر يف داخله‪ .‬سوى أ َّن الربهان العق َّ‬
‫ال يع ّول عليه نظ ًرا إىل قصوره العقل عن بلوغ ما مل يستطع بلوغه عن طريق مق ِّدمات الدليل‬
‫يلّ‪ .‬وأل َّن العقل يف طوره األدىن ال يتناىف مع الشهود العق ِّ‬
‫يل فقد لحظت الحكمتان‬ ‫العق ْ‬
‫الشهودي‪ ،‬ذلك بأ َّن غاية‬
‫ِّ‬ ‫والتبص‬
‫ُّ‬ ‫يل‬
‫اإلرشاق َّية واملتعالية استحالة الفصل بني النظر العق ِّ‬
‫الشهود والكشف لدى هاتني الحكمتني هي الوصول إىل الواقع َّية عن طريق املكاشفة‬
‫والواقعي عندما‬
‫ِّ‬ ‫الكشفي‬
‫ِّ‬ ‫السهروردي هذا التالزم بني‬
‫ُّ‬ ‫بي شيخ اإلرشاق‬
‫القلب َّية الباطن َّية‪ .‬ولقد َّ‬
‫ناقصا‪ ،‬كذلك الفيلسوف لو افتَقَد السري والسلوك‬
‫رأى أ َّن السالك من دون ق َّوة البحث يكون ً‬
‫ناقصا‪ ،‬وال يستطيع اإلخبار عن عامل الق َّدس‪( .‬املطارحات)‪.‬‬
‫والشهود لكان أيضً ا ً‬
‫من هذه املثابة تهتدي املعرفة الفائقة إىل واحدة من أهم عنارص نظريَّتها املعرف َّية‬
‫املستنتجة من ميتافيزيقاها ال َبعديَّة‪ .‬عنينا ‪ -‬بهذه الواحدة ‪ -‬الفطرة املوصلة إىل شهود األمر‬
‫القديسّ‪ .‬غاية امليتافيزيقا ال َبعديَّة استعادة هذه الفطرة ليك تجاوز املعضلة التي تحول‬
‫ْ‬

‫‪11‬‬
‫مفتتح‬

‫دون إدراك الوجود الفائق الس ُم ّو‪ .‬ودربتها إىل هذا اإلدراك تبتدئ بعقد ميثاق ال يبور بني‬
‫الشهودي‪ .‬وال ريب إذَّاك‪ ،‬يف ما ذهب إليه العرفاء‪ ،‬بأن مسلكاً‬
‫ِّ‬ ‫يل واإلبصار‬
‫التبص العق ِّ‬
‫ُّ‬
‫تع ُّرفياً كهذا هو أول اإلنتباه‪ ،‬ومستهل االهتداء إىل باب الرس‪ .‬فلنئ فُ ِت َح الباب‪ ،‬انقشعت‬
‫وتوسع الصدر من بعد ضيق‪ .‬وسينكشف للمتع ِّرف ما لن‬
‫َّ‬ ‫الغوامض‪ ،‬وانفسحت البصرية‪،‬‬
‫يكون له أن رآه من قبل‪ :‬يرى إىل الكون األدىن كلِّه بعني النقص‪ .‬وإذ ينظر من علٍ يوق ُن أن‬
‫كل معرفة مقطوعة عن مبدإها املتعايل معرف ٌة شق َّي ٌة ال نفع منها‪ .‬وسيعلم أن كل ما ال يفيض‬
‫جهِل مبعرفة الوجود ‪ -‬كام‬
‫شقي منتهاه الجهل‪ .‬فإن من َ‬
‫ٌ‬ ‫إىل إنرشاح الصدر‪ ،‬إمنا هو عل ٌم‬
‫أورد صاحب األسفار األربعة ‪ -‬يرسي جهله يف أمهات املطالب ومعظامتها‪ .‬ذاك يعني أن‬
‫أنطولوجي يغذّيها ويقيها زلل الشبهات‪ .‬فاملعرفة‬
‫ٍّ‬ ‫ال استقامة ملعرفة حقَّانية من دون إسناد‬
‫املؤسس عىل الحقَّان َّية‪ ،‬هي تلك التي تستم ُّد حيويَّتها ودميومتها‬
‫َّ‬ ‫الحقَّان َّية املوصولة باملبدأ‬
‫من فيوضات املبدأ األعىل وأصالته‪ .‬وبهذا ال ينبغي استحداث السؤال عن إمكان قيام معرفة‬
‫القديس‪ ،‬وتعتني‬
‫َّ‬ ‫فائقة مبنأى من سؤال موا ٍز حول إمكان ظهور ميتافيزيقا فائقة تتاخم األمر‬
‫مبعرفته وتستظهر عن مكنوناته يف اآلن عينه‪.‬‬
‫‪III‬‬
‫املادي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫التجسد‬
‫ُّ‬ ‫يئ ال عىل نحو‬ ‫املعرفة الفائقة مبا هي معرفة وحيان َّية‪ُ ،‬‬
‫تدرك العامل املر َّ‬
‫يئ بوساطة اإلشعاع الصانع للحياة‪ .‬وعىل وجه التحقيق يجوز القول‪:‬‬
‫وإمنا باإلتصال اإليحا ِّ‬
‫تتأت لبيان الواقع املشهود عىل حقيقته‪ .‬وهذا ما‬
‫إن األفكار املتأت ِّية من الذات املطلقة إمنا َّ‬
‫ج ُز باملفاهيم املج َّردة والصور الذهن َّية‪ ،‬وإمنا بالحقائق‬
‫يُقص ُد من العلم الحضوري الذي ال يُن َ‬
‫املحصل يف‬
‫َّ‬ ‫والشهودي) أن العلم‬
‫ِّ‬ ‫الواقع َّية املشهودة‪ .‬والفارق بني الع ِلمني (الحصو ِّ‬
‫يل‬
‫الذهن قد ُّ‬
‫ينفك عنه أثره بسبب من شكوك َّيته وحساباته اإلحتاملية وتع ُّرضه للخطأ والصواب‪،‬‬
‫الحضوري مقتضاه ومآله ثبوت اليقني ورسوخه يف قلب العارف وعقله‪ .‬وإذن‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بينام العلم‬
‫فاألفكار الفائقة الناجمة عن املعرفة الحضوريَّة هي بهذا املعنى حقائق واعية ب ِّينة‪ ،‬ومنها‬
‫يتشكَّل الوعي بعامل الحقيقة األعىل‪ .‬بل من الصواب أن يقال إن املعرفة الفائقة خف َّي ٌة عىل‬
‫الجوهري تروح تتوغَّل إىل‬
‫ِّ‬ ‫ما دونها‪ ،‬إلَّ أنها متَّصلة بها بحبل متني‪ .‬ومن خالل هذا االتصال‬
‫أعامق الوعي من أجل أن ينفسح األفق النبثاق معرفة ال تشبه أي معرفة أخرى‪.‬‬
‫خاص َّية املعرفة الفائقة بهذه املكانة‪ ،‬أنها معرفة حاوية للعقل والفؤاد‪ .‬كذلك هي جامعة‬
‫ِّ‬

‫‪12‬‬
‫التع ّرف على الفائق‬

‫ين والتلقّي الربَّاين الل ُدنِّ ‪ .‬وما كان لهذا أن‬


‫يب الطبيعا ِّ‬
‫شمل املفارقات بني العلم االكتسا ِّ‬
‫يكون إلَّ عىل نشأة وصلٍ ال يقبل ال ِفكاك بني منطق النظر ومنطق األثر كأساس للتع ُّرف‬
‫ولكل منهام منهاجه‬
‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫املنطقَني ينتميان اىل ساللة واحدة‪،‬‬ ‫ب أن هذين‬
‫ج َ‬
‫عىل الفائق‪ .‬ونقد َو َ‬
‫يل وقياساته‬‫ومرساه‪ :‬قوام منطق النظر الكيف َّيات التي بها ميارس العقل نشاطه االستدال َّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الخارجي‪ ،‬أما منطق األثر فقوامه اللَّمح‬


‫ِّ‬ ‫خيًا ملعرفة األشياء كام هي يف الواقع‬
‫املنطقيَّة تو ِّ‬
‫وتوسع آفاق معرفته‪ .‬مبعنى أوضح‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫الباطني الذي يستشعره العارف ويظهر أثره يف سلوكه‬
‫أن األثر املرتت ِّب عىل الكشف يرفد وعي املكشوف له‪ ،‬ويدفع به نحو إدراكات ال يتس َّنى‬
‫ين أن يدركها‪.‬‬
‫للعقل الربها ِّ‬
‫ِ‬
‫املنطق َْي يف منطق امليتافيزيقا ال َبعديَّة‪ .‬ذلك‬ ‫املعرفة الفائقة هي إذًا‪ ،‬حاصل وحدة‬
‫بأنها معرفة تتع َّدى ما يرتاءى لحاسة العني وارتياضات العقل الحاسب‪ .‬ولكونها "معرفة‬
‫ما بَعديَّة"‪ ،‬فإنَّها ال تكتفي بإعادة ترتيب املق ِّدمات املنطق َّية التي تتيح الوقوف عىل قوانني‬
‫تتبي ما يتجلَّ‬
‫الكون الفيزيائيَّة‪ ،‬بل متيض إىل املنطقة املضنون بها عىل غري أهلها‪ ،‬حتى َّ‬
‫فيه من حضور أصيل لحقائق املوجودات‪ ،‬وتتع َّرف عىل مكنوناتها وعلَّة تف ُّوقها وتساميها‪.‬‬
‫وأل َّن الفائق يف هذه املنزلة يعادل املق َّدس‪ ،‬فللتع ُّرف عىل هذا األخري مائزتان‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬أن يشعر املتع ِّرف وهو يف حرضة الفائق‪ ،‬أن املق َّدس يستحوذ عىل عقله وكيانه‪،‬‬
‫جاذبًا إيَّاه إىل عوامل يجد نفسه فيها محاطًا بال َّرهبة واالنتشاء يف اآلن عينه‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬أن يلج املتع ِّرف الحرضة يختربها كحضور مبارش‪ ،‬ويتع َّرفُها مبا هي معرفة يقين َّية‬
‫ال يشوبها من الريب شائبة‪.‬‬
‫‪IV‬‬
‫القديس وتسديده‪ .‬واآلخذ به‬
‫ِّ‬ ‫صل بعناية العقل‬
‫معرفة الفائق منتهاه التفاؤل ألنه عل ٌم متَّ ٌ‬
‫اتصال‬
‫ً‬ ‫جة العدم‪.‬أما دربتها املعرفيَّة فمتصلة‬
‫يستأمنه عىل نفسه حفظًا له من السقوط يف ل َّ‬
‫ذات ًّيا باملقصد األعىل‪ .‬ولهذا فحني تستفهم عن أم ٍر ما فإمنا تروم االستفهام اآلمن عن حقيقة‬
‫والقديس‪ ،‬ال تقبل التب ُّدد؛ ألنّها محفوظة عىل‬
‫ِّ‬ ‫الوجود‪ .‬فاالستفهامات املؤيّدة بالَّالمتناهي‬
‫اإللهي‬
‫ِّ‬ ‫القديس من علم‪ .‬أما سؤالها املوصول بعروة وثقى باملبدأ‬
‫ُّ‬ ‫الدوام مبا يفيض عليها‬
‫فإنّه سؤال حا ٍو لسواه من األسئلة املستفهِمة عام استغلق من خفايا الكون واإلنسان‪ .‬ما‬
‫ين متض َّم ٌن يف كوامن الوجود وظهوراته‪ .‬وعليه‪ ،‬فهو سؤال‬
‫يعني أ َّن السؤال يف املقام الوحيا ِّ‬

‫‪13‬‬
‫مفتتح‬

‫مخصوص بعقل مفارق يرسي قُ ُد ًما يف ترقِّيه املعر ِّ‬


‫يف نحو ما هو فائق من أرسار الوجود‪.‬‬
‫االمتدادي أنه يعي معايب العقل املق ّيد ومعاثره‪ .‬ومل َّا‬
‫ِّ‬ ‫من أه ِّم مفارقات هذا العقل يف مساره‬
‫ين‬
‫العقل الربها َّ‬
‫َ‬ ‫درج‬
‫كان من خصائصه جمعه لألضداد؛ فإنه يستطيع يف مثل هذه الحال أن يُ َ‬
‫كمرتبة رضوريَّة يف مراتب الفهم رشيطة أن يبقى عىل وصل بأطواره االمتداديَّة وصولً إىل‬
‫الحس‬
‫ِّ ِّ‬ ‫العقل األعىل‪ ،‬أي "عقل الفهم عن الله"‪ .‬لهذا السبب مل يتوا َن العرفاء عن نقد العقل‬
‫عقل مان ًعا إلدراك ما يحتجب من حقائق الوجود‪ .‬يف هذا لقد عايَ َن ابن عريب ماه َّية‬ ‫باعتباره ً‬
‫الحق‬
‫ُّ‬ ‫ط ما حصل عنده‪ ،‬فقد يهبه‬ ‫العقل املمت ِّد فرأى‪" :‬إن مام هو عقل‪ ،‬ح ُّده أن يع ِق َل ويضبُ َ‬
‫الحق تعاىل‬
‫ُّ‬ ‫عقل ال من طريق الفكر؛ فإ َّن هذه املعرفة التي يهبها‬
‫املعرفة به فيعقلها‪ ،‬ألنَّه ٌ‬
‫يستقل العقل بإدراكها ولكن يقبلها‪ ،‬فال يقوم عليها دليل وال برهان‬
‫ُّ‬ ‫ملن يشاء من عباده ال‬
‫ألنها وراء طور مدارك العقل‪...‬‬
‫تق ُّر املعرفة الفائقة بتع ُُّذر معرفة نفس األمر أو إدراك ذات اليشء‪ ،‬إلَّ أن باإلمكان فتح‬
‫رس األلوهيَّة الظاهر‬
‫الباب عىل هذا املحل املتعايل عرب التعاطي معه يف ظهوراته التي هي ُّ‬
‫العيني‪ .‬ومثل هذا التعاطي يفوق ما اتخذه العقل األدىن دربة له مل َّا ح َّد مه َّمته‬
‫ِّ‬ ‫يف العامل‬
‫مبعرفة ظهورات األشياء‪ .‬من هذا النحو تتعيَّ فائقيَّة املعرفة يف املنطقة التي يجتاز فيها‬
‫العقل إمكان َّياته االعتياديَّة‪ ،‬من أجل أن يتع َّرف عىل الفائق الذي يلتمسه العقل املج َّرد من‬
‫خالل استشعار آثاره‪ .‬رمبا علينا أن نسلِّم بأن القدرة املعرفيَّة يف طور املعرفة الفائقة تستطيع‬
‫ين وما يقع فوق طور العقل‪ .‬أما تحقُّق هذه القدرة فهو مثرة الرابطة‬
‫أن تربط بني ما هو عقال ٌّ‬
‫والطبيعي باعتبارها شأنًا جوهريًّا واح ًدا‪ .‬وتب ًعا لهذه املفارقة فإن ما‬
‫ِّ‬ ‫امليتافيزيقي‬
‫ِّ‬ ‫الذاتيَّة بني‬
‫ال يُ ُ‬
‫درك بالنظر ميكن إدراكه باألثر‪ .‬فإذا كانت إحدى سامت الطبيعة اإلله َّية عدم قابل َّيتها‬
‫صل بها‪ .‬وأل َّن‬
‫ب ان يكون ما ينبثق من مشيئتها الَّالمتناهية متَّ ً‬
‫ج َ‬
‫الجوهريَّة لإلدراك‪ ،‬فقد َو َ‬
‫طبيعة النسخة املنبثقة عن هذا األصل‪ ،‬لو اتفق أن تدرك فيام األصل فوق اإلدراك‪ ،‬لجاءت‬
‫ريا لها طبقاً لسنن‬
‫النتيجة باطلة‪ ،‬والعكس صواب‪ .‬فقد يصادف املرء حادثة ما‪ ،‬وال تجد تفس ً‬
‫الطبيعة وقوانينها املعهودة‪ ،‬إلَّ أ َّن هذه الحادثة ما دامت قد حصلت بالفعل وترت َّبت عليها‬
‫ح َدثَ علَّ ٌة أخرجته من كمونِ ِه ليصبح واق ًعا‬
‫الرضوري حالذاك أن للذي َ‬
‫ِّ‬ ‫آثار واقعيَّة فمن‬
‫فعل ًّيا‪ .‬منطق املعرفة الفائقة يقول أن هذه الحادثة ما دامت تفتقر إىل علَّة "طبيع َّية" يجب‬
‫ين ومتني من خالل التفكري‬
‫أن يكون لها علَّة فوق طبيعيَّة‪ .‬ومثل هذا املنطق ثابت وعقال ٌّ‬
‫أي تناقض‪ .‬لذلك ال تقوم املعرفة الفائقة عىل م َّدعيات غري مؤيَّدة‬
‫املج َّرد الذي ينتفي فيه ُّ‬

‫‪14‬‬
‫التع ّرف على الفائق‬

‫باملنطق أو غري مس َّددة بالعقل‪ .‬األمر نفسه ينطبق عىل األنطولوجيا الفائقة أو ما نس ّميه‬
‫أي حرج يف إمكان الوصل الوطيد بني الغيب والشهود‪،‬‬ ‫بامليتافيزيقا ال َبعديَّة‪ ،‬فهذه ال ترى َّ‬
‫وبالتايل بني األلوهيَّة املحتجبة تجيل طاقتها يف الواقع بأنحاء وصور ال حرص لها‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫العلمي بدت أشبه بعلوم ظلِّية للميتافيزيقا‬


‫ُّ‬ ‫عندما ظهرت املعارف التي أنتجها العقل‬
‫مؤسس‬ ‫ال َبعديَّة‪ .‬ومنذ البدء سألت هذه املعارف عن حقيقة العامل وشكَّكت بوجود مبدأ ِّ‬
‫له‪ ،‬ثم ذهبت إىل إبطال أن مث َّة بادئًا لهذا املبدأ‪ .‬وبسبب من ذلك تح َّولت إىل مبدأ يُ ِ‬
‫صد ُر‬
‫جل قدراته‬
‫العلمي َّ‬
‫ُّ‬ ‫جه العقل‬
‫أحكامه عىل القوانني الحاكمة عىل الكون واإلنسان‪ .‬وهكذا و ّ‬
‫املادي بهدف االستحصال عىل منافع هذا العامل وخرياته‪ .‬وتب ًعا لهذا‬
‫ِّ‬ ‫عىل فهم العامل‬
‫املرسى تراجعت املعرفة الروحان َّية‪ ،‬وتالشت أسئلة القلب لصالح أسئلة العقل‪ .‬ثم لتنتهي‬
‫وعلم بال إميان سيحتدمان عىل غري هدى ولن يغلب أحدهام‬
‫ً‬ ‫الحكاية إىل أن دي ًنا بال برهان‬
‫اآلخر قط‪.‬‬
‫‪V‬‬
‫رضب من األسئلة تتَّخذ ليك تبلغ مقاصدها؟‬
‫ٍ‬ ‫وأي‬
‫كيف تسأل املعرفة الفائقة عمَّ تبتغيه‪ُّ ،‬‬
‫يتَّخذ السؤال مكانة تأسيسيَّة يف سريورة التع ُّرف عىل الفائق‪ ،‬لكن االستفهام هنا ال‬
‫العلمي‪ ،‬بل هو‬
‫ِّ‬ ‫املحصلة من حقول البحث‬
‫َّ‬ ‫يسلك السبيل الذي تساملت عليه املعارف‬
‫النظري‬
‫ِّ‬ ‫ينحو نح ًوا تتآزر فيه إلهامات التجربة الشهوديَّة وكشوفاتها‪ ،‬مع تساؤالت العقل‬
‫وحدوساته‪ .‬من أظهر مزايا هذا السؤال أ َّن العارف يستفهم به عن الغيب والواقع من دون أن‬
‫أي تناقض‪ .‬وما ذاك إلَّ ألن سؤاله يبقى عىل وصلٍ وثيقٍ بالدائرتني‬
‫يشوب استفها ُمه عنهام ُّ‬
‫لكل دائرة االستفهام الذي يناسبها‪ .‬فالسؤال يف دائرة التع ُّرف عىل‬
‫الغيب َّية والواقع َّية‪ ،‬ويق ِّدر ِّ‬
‫الفائق يكتسب صفة مركَّبة‪ ،‬ليكون استفها ًما عن حقيقة املوجودات والرتقّي نحو االستفهام‬
‫مؤسس‪،‬‬
‫عن واجد الوجود األت ّمْ‪ .‬وألنه سؤال عن املبدأ والغاية فهو بهذا املعنى سؤال ِّ‬
‫املؤسس متعل ٌِّق بعلم املبدأ؛ وتعيي ًنا مبعرفة األفعال اإللهية التي هي‬
‫ِّ‬ ‫يؤسس عليه‪ .‬فالسؤال‬
‫ِّ‬
‫أعىل العلوم مطلقًا‪ .‬لهذا السبب كان استفهام املتعرف عىل الوجود الفائق استفها ًما عن أت ِّم‬
‫وتعقُّل‪ .‬لهذا قيل إ َّن عل ّو‬
‫ً‬ ‫معنى‪ ،‬وأقد ِمها تص ُّو ًرا‬
‫ً‬ ‫املوضوعات حيطة وشمولً ‪ ،‬وعن أبْي ِنها‬
‫العلوم يكون بحسب عموم املوضوع وشمول حيطته‪ .‬فالعلم إمنا يكون أعىل مطلقًا إذا كان‬
‫موضوعه أع َّم مطلقًا بالنسبة إىل سائر املوضوعات‪ ،‬وتكون موضوعات العلوم جميعها‬

‫‪15‬‬
‫مفتتح‬

‫اإللهي فإن له من الخصائص ما يفارق سائر‬


‫ِّ‬ ‫من جزئ َّياته‪ .‬وألن علم املبدأ هو سليل العلم‬
‫تتأت أسئلتُه مطابقة ملاه َّيته و ُهويَّته‬
‫َّ‬ ‫البديهي أن‬
‫ِّ‬ ‫املعارف والعلوم اإلنسان َّية‪ ،‬وعليه‪ ،‬فمن‬
‫مؤس ًسا ملعرفة حقائق‬ ‫سؤال ِّ‬
‫ً‬ ‫ومقاصده‪ .‬وعىل ذلك‪ ،‬يكتسب السؤال عن الفائق صفة كونه‬
‫املوجودات‪ .‬ما يعني أن مقولة التأسيس التي يتَّخذها ُدربَ ًة له‪ ،‬مبن َّي ٌة عىل تالزم وطيد بني‬
‫الفينومينولوجي (علم‬
‫ّ‬ ‫األنطولوجي (علم الوجود) واملسعى‬
‫ّ‬ ‫مس َع َي ْي متالزمني‪ :‬املسعى‬
‫يتأت من تشطري املس َع َي ْي املذكورين والفصل‬ ‫ظواهر الوجود)‪ .‬لكن جالء هذه الحقيقة لن َّ‬
‫لكل مرتبة وجوديَّة ب َق َدرِها‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫حينئذ مطابقًا ِّ‬ ‫بينهام‪ ،‬وإمنا من تكاملهام‪ ،‬حيث يكون السؤال‬
‫ها هنا ال ينبغي السؤال عن إمكان معرفة الفائق مبنأى من السؤال عن إمكان ميتافيزيقا فائقة‬
‫املؤسسة عليه‬
‫َّ‬ ‫املؤسس مببادئه الفرعيَّة‬
‫ِّ‬ ‫حيث كل إمكان منهام متَّصل باآلخر اتصال املبدأ‬
‫والصادرة منه واملحايثه لظهوره‪ .‬ولذا فال إمكان لوالدة معرفة فائقة خارج رحم ميتافيزيقي‬
‫يحتضنها ومينحها سامته وخصائصه مبادئه‪ .‬وليك تجتنب املعرفة الفائقة الهبوط اىل‬
‫مج َّرد كونها معرفة ظلِّ َّية عارضة فال مناط لها من مالزمة ميتافيزيقاها طل ًبا لتأييدها ورعايتها‬
‫الحقيقي واألصيل بحكم‬
‫ِّ‬ ‫والتز ُّود من فيوضاتها‪ .‬لهذا أشكل عىل املعرفة الظلِّيَّة التع ُّرف عىل‬
‫الحس َّية‪ .‬أ َّما‬
‫ِّ‬ ‫يل ومخابر التجربة‬
‫انفصالها عنه وإيثارها دربة اإللتزام بحدود العقل االستدال ِّ‬
‫معرفة الفائق فلزومها الشغف بالتع ُّرف عىل املابعد؛ أي مبا يتع َّدى السؤال عام هو بائن‪ ،‬من‬
‫بعدي سمتُه البحث عام يحتجب‬
‫ٍّ‬ ‫أنطولوجي ما‬
‫ٍّ‬ ‫أجل أن يتح َّرى علَّة بائن َّيته الكامنة يف فضاء‬
‫التنظريي عىل كشوفات امليتافيزقا‬
‫َّ‬ ‫ستؤسس معرفة الفائق مسلكها‬
‫ِّ‬ ‫الحواس‪ .‬وعليه‬
‫ّ‬ ‫وراء‬
‫ال َبعديَّة ومسلَّامتها‪ .‬وهذا ما يفرتض اإللتفات إىل القاعدة التالية‪ :‬حني كان مقتىض التع ُّرف‬
‫جه شطر الَّالمتناهي‪.‬‬
‫عىل الفائق مجاوزة املتناهي واملحدود‪ ،‬فقد لزم عىل املتع ِّرف أن يتو َّ‬
‫جه التح ُّرر من تعقيدات العقل املثقل باملفاهيم حتى يتس َّنى له االنتقال اىل‬ ‫ولزوم التو ُّ‬
‫األرض املفتوحة عىل بسيط الحقيقة‪ .‬هنالك سينفتح له أفق التع ُّرف عىل ما ال قَب َِل له به‪،‬‬
‫ِ‬
‫حيثئذ إىل االستفسار عمَّ يتناهى ويظهر‪.‬‬ ‫فال يحتاج‬
‫‪VI‬‬
‫كسول باملفاهيم‪ ،‬أو خزنًا‬
‫ً‬ ‫بنا ًء عىل ما م َّر‪ ،‬لن يكون للتع ُّرف مثرة متى أمست املعرف ُة له ًوا‬
‫ٌ‬
‫وفضول‬ ‫شغف‬
‫ٌ‬ ‫للمعلومات يف الحافظة‪ .‬فاملعرفة الحقَّة املتَّجهة بدأب نحو الفائق‪ ،‬هي‬
‫حا يف الخيال املمت ِّد‬
‫وتطلُّع يف ما يتع َّدى أحوال املتناهي ومعارفه‪ .‬فلنئ مل تكن املعرفة رس ً‬
‫سييَّة‬
‫إىل ما وراء األفق‪ ،‬فلن تحظى برشف املنزلة‪ ،‬ذلك بأنها استكشاف للامبعد وفق ْ‬

‫‪16‬‬
‫التع ّرف على الفائق‬

‫جوهريَّة تتَّصل مبا قبلها وتفارقه عىل نحو املجاوزة‪ ،‬ال عىل نحو النفي والقطيعة‪.‬‬
‫القديس عىل طالبه‬
‫ُّ‬ ‫كل حال ‪ -‬فعل رجاء‪ .‬والرجاء علم يجود به‬
‫املعرفة الفائقة ‪ -‬عىل ِّ‬
‫بالصرب والدعاء‪ .‬وأل َّن املعرفة الصبورة شأ ٌن ذايتٌّ للمعرفة الفائقة‪ ،‬بل هي ترقى إىل منزلة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫واإلعراض عن السؤال العجول‪،‬‬


‫ُ‬ ‫الصمت‬
‫ْ‬ ‫الذروة إذ تتلقَّى اإلفاضة بالصرب‪ ،‬ولذا كان لزومها‬
‫ٍ‬
‫حيثئذ إلَّ اإلصغاء لنداء األلوه َّية ليعرف الفائق ويحياه‪.‬‬ ‫فليس لطالب املعرفة من سبيل‬
‫* * *‬
‫عدي لنظريَّة‬
‫دخول إىل أرض مستحدَ ثة قصد التع ُّرف عىل أفق ما بَ ٍّ‬ ‫ٌ‬ ‫يف هذا املحور‪،‬‬
‫املعرفة‪ .‬ولقد َس َعينا إىل معاينة الكيف َّيات التي توفِّر إمكانات قيام معرفة فائقة‪ ،‬وتد ُّبر السبيل‬
‫الذي ت َّتخذه حني تتاخم قضاياها الفرع َّية وحقولها الح َّية‪ .‬يف مسعانا لتظهري هذا القصد‪،‬‬
‫حرصنا عىل َّ‬
‫أل نح ِّمل القارئ مشقَّة التعريف بنظر َّية املعرفة كمفهوم ومصطلح‪ ،‬وهو ما‬
‫كل‬
‫أوفت به الرصوح البحث َّية واألكادمي َّية الكالسيك َّية‪ .‬فام ذهبنا إليه هو بيان أنَّ الحاكم عىل ِّ‬
‫معرفة أمران‪ :‬أن يكون لدى املتع ِّرف اعتقا ٌد باالفرتاض الذي يتكلَّم عنه‪ ،‬وأن هذا االعتقاد ال‬
‫مناص من أن يكون حقيق ًّيا‪...‬‬

‫‪17‬‬
‫المحور‬
‫َّ‬
‫المبدئية‬ ‫المعرفة‬
‫ز‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫ميتاف�يقا الغرب‬
‫ي‬ ‫نقد تعدد الصور المقدسة ي�‬
‫حس� نرص‬‫ين‬ ‫سيد‬
‫ََ‬
‫المعرفة كه ٍّم أقىص‬
‫ف‬ ‫اإليمان بما هو ٌ‬
‫فعل يصل به العقل ي� نشوته االنجذابية إىل ما وراء ذاته‬
‫بول تيليش‬
‫معرفة َ‬
‫البدء‬
‫استقراء مقارن ي ن‬
‫ب� علم الكون الحديث والحكمة المتعالية‬
‫ج ي‬
‫فطور�‬ ‫ﭘيروز‬
‫َّ‬
‫الصقولية‬ ‫المعرفة‬
‫ُّ‬
‫الصلة كنظرية تعرف عىل مبدأ الكون‬ ‫ِّ‬
‫صبيح محاميد‬

‫م�ان فلسفة الدين‬ ‫الروحانية ف� ي ز‬


‫َّ‬ ‫المعرفة‬
‫ي‬
‫والتبص العرفا�ن‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫ين‬
‫ب� التجربة الدينية‬
‫ي‬
‫عل الحيدري‬‫إحسان ي‬
‫َّ‬
‫الحرة‬ ‫المعرفة‬
‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫للتعرف الوجودي عند مل صدرا‬ ‫الشهود كمرتبة عليا‬
‫كمال إسماعيل َّلزيق‬
‫َّ ف‬
‫عر�‬
‫� منظومة ابن ب ي‬ ‫ُّالمعرفة التأويلية ي‬
‫ً‬
‫اللغة بوصفها وجودا‬
‫ن‬
‫الزيدا�‬ ‫عبد اللطيف‬
‫ي‬
‫املعرفة املبدئ َّية‬
‫املقدسة يف ميتافيزيقا الغرب‬
‫تعدد الصور َّ‬
‫نقد ُّ‬

‫(*)‬ ‫ي ن‬
‫حس� نرص‬ ‫سيد‬
‫أم�كا‬ ‫َّ‬
‫اإلسالمية ـ جورج واشنطن‪ -‬ي‬ ‫فيلسوف معارص وأستاذ الدراسات‬

‫ّ‬ ‫ّ‬
‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ن‬ ‫ف‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫والمع� قد‬ ‫تجل الدين ي� عوالم متباينة من الصورة‬ ‫ي‬ ‫لعل من مفارقات عرصنا‪ ،‬أن‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ن ٍّ‬ ‫ُ‬
‫العقلية لإلنسان ي� الغرب‬ ‫علما� للمعرفة‪ ،‬وهذا النمط سيطر عىل النظرة‬ ‫ي‬ ‫استعمل بنمط‬
‫َّ‬ ‫ت َّ‬ ‫َّ‬ ‫قَّ‬ ‫يز‬
‫ح� أنه بات من الصعب تحقيق المعرفة المقدسة‬ ‫تدم� ما تب� من المقدس‪،‬‬ ‫ي‬ ‫ل�يد‬
‫الداخل للصور الغريبة‪.‬‬ ‫ن‬ ‫ف‬
‫ي‬ ‫المع�‬ ‫والذكاء الباطن القادر عىل التغلغل ي�‬
‫ب� عىل حقيقة‬ ‫دليل ِّ نٌ‬ ‫ٌ‬ ‫ه ي� حد ذاتها‬
‫ف ِّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ ُّ َّ‬
‫ي‬ ‫وال� ي‬ ‫جدير القول أن تعددية الصور المقدسة‪ ،‬ي‬
‫ًّ‬ ‫ممن ُينكرون هذه الحقيقة‪ ،‬ليجعلوا ما قب� من ت‬ ‫وظفت َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫نسبيا‪،‬‬ ‫المسيح‬
‫ي‬ ‫ال�اث‬ ‫ي‬ ‫المقدس‪ ،‬قد‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫استخدمت كذريعة لرفض ِّ‬ ‫ُ‬
‫كل الصور المقدسة‪ ،‬وكذلك العلم المقدس الذي يكمن خلف‬ ‫كما‬
‫ن‬ ‫ُّ‬ ‫ق‬ ‫ُّ‬ ‫ت‬ ‫ٍّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫بالمع�‬ ‫الحقي�‬ ‫ي‬ ‫البص�ي‬
‫ي‬ ‫هذه الصور‪ .‬لو أن الغرب واجه أديانا أخرى بشكل جاد بينما ال�اث‬
‫ً َّ ِّ‬ ‫ً‬
‫عما يقدمه "الدين المقارن" للعالم‬ ‫المفهوم هنا ال يزال موجودا‪ ،‬لكانت النتائج مختلفة تماما‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫بعب� المقدس ُيرى بتعدد الصور‬ ‫ال� بوركت ي‬ ‫ي‬
‫بالبص�ة والمعرفة ت‬ ‫ي‬ ‫الحديث ؛ فالذكاء الذي أضاء‬
‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ت ُ‬ ‫َّ‬
‫ال� تعزى إىل النسبية‪ ،‬بل هو توكيد لكلية الحق والقوة المبدعة‬ ‫المقدسة ال بالمتناقضات ي‬
‫المع�‪ ،‬ت‬ ‫ن‬ ‫ف‬ ‫نهائية للحقيقة ت‬ ‫الل َّ‬ ‫َّ‬
‫وال� رغم اختالفها‬ ‫ي‬ ‫عوالم‬ ‫�‬ ‫ي‬ ‫لها‬ ‫حرص‬ ‫ال‬ ‫إمكانات‬ ‫تكشف‬ ‫ال�‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫تعكس الحقيقة الفريدة‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬ترافق إحياء ت‬
‫ال�اث ي� العرص الحديث‪ ،‬ومحاولة علمنة‬
‫َّ‬
‫الباطنية‪.‬‬ ‫بتعددية ت‬ ‫ُّ‬
‫ال�اث ووحدته‬ ‫المعرفة‪ ،‬من البداية‪ ،‬مع االهتمام‬
‫***‬
‫الوح‪-‬‬
‫ي‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬المعرفة المبدئية ‪ -‬الصور المقدسة – الكون – اإلنسان‪-‬‬
‫الميتاف�يقا ت‬
‫ال�اثية‪.‬‬ ‫يز‬

‫*‪ -‬ترجمة‪ :‬أ‪.‬د‪ .‬حامدة أحمد عيل – جمهورية مرص العرب َّية‪.‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫تتَّضح أهم َّية املوضوع الذي نحن بصدده يف التعريف الذي ُينح للرتاث الذي يتعلَّق بالحقيقة‬
‫األبديَّة أو الحكمة مبا هي‪ ،‬فضالً عن العديد من املقاالت والكتابات التي كتبها الرتاثيون حول‬
‫دراسة األديان ومقارنتها عىل مركزيَّة هذا املوضوع الذي يتعلَّق بالرتاث[[[‪.‬‬
‫واللَّ فت أنَّه حتى دراسة املق َّدس قد تغافلت عن املبدأ القائل بأ َّن الشبيه يدرك الشبيه‪ ،‬وتب َّنت‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫بكل طريقة ممكنة لتدرس ظاهرة وحقيقة األديان رشط عدم النظر بج ٍّد إىل طبيعة‬
‫علمنة العقل ِّ‬
‫يث لدراسة األديان من‬
‫كل ما يجلبه املنظور الرتا ُّ‬
‫املق َّدس باعتبارها مق َّد ًسا‪ ،‬ولهذا السبب‪ ،‬ورغم ِّ‬
‫ضوء‪ ،‬فإنَّه مهمل إىل ح ٍّد كبري‪ ،‬ويندر أن استخدم أحد يف األوساط اللَّ هوتية الغربيَّة املفاتيح‬
‫التي يوفِّرها الرتاث لفتح الباب أمام فهم العوامل األخرى لصورة املق َّدس ومعناه من دون أن يد ِّمر‬
‫كل دين باعتباره دي ًنا‪ ،‬وأنَّه‬
‫مطلقيَّة الدين‪ .‬ذلك أل َّن امليتافيزيقا الرتاثيَّة مبفردها قادرة عىل أن ترى َّ‬
‫“ مطلق” يف عامله‪ ،‬بينام يعاد التأكيد عىل أ َّن املطلق هو املطلق يف نهاية املطاف‪ ،‬وإهامل‬
‫األوساط األكادمييَّة الرسميَّة وحتى اللَّ هوتيَّة والدينيَّة‪ ،‬عن قصد أو عن غري قصد‪ ،‬هو أحد أكرث‬
‫أي موضوع‪ ،‬بل‬
‫العلمي وطريقته يف دراسة ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الظواهر الغريبة يف عامل ي َّدعي املوضوع َّية يف نهجه‬
‫ين للموضوعيَّة الناتجة من‬
‫كل حقيقة إىل ما ميكن أن يدركه العقل العلام ُّ‬
‫ويُخطئ عادة يف اختزال ِّ‬
‫األداء املعجز للذكاء[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫ّ‬
‫املبدئي�ة‪:‬‬ ‫جتليات املعرفة‬
‫إذا تأ َّمل املرء يف بنية الحقيقة التي تنطوي عىل تجلِّيات ثالث كربى للمبدأ مثل‪ :‬الكون‬
‫التجل يعني ضم ًنا‬
‫ِّ‬ ‫واإلنسان والوحي‪ ،‬يف إطار الدين والرتاث أيضً ا‪ ،‬يتَّضح متا ًما أنَّه إذا كان‬
‫التخارج والتغلغل يف معنى الصور الخارجيَّة يف الحاالت الثالث التي هي يف األساس وظيفة‬
‫مقصورة عىل فئة بعينها‪ ،‬واالنتقال من الشكل إىل الجوهر‪ ،‬والخارج إىل الداخل‪ ،‬والرمز إىل‬
‫الحقيقة املرموزة‪ ،‬سواء أكانت تتعلَّق بالكون أم اإلنسان أو الوحي‪ ..‬فإ َّن ذلك يف ح ِّد ذاته نشاط‬
‫مقصور عىل فئة بعينها تعتمد عيل املعرفة الباطن َّية‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن وإجراء دراسة مع َّمقة يف األديان‬
‫يتطلَّب تغلغ ًُل يف كيان املرء‪ ،‬وذكا ًء مشب ًعا باملق َّدس بالفعل‪ ،‬وإن فُهمت املسكونيَّة عىل نحو‬

‫[[[‪ -‬أنظر عىل سبيل املثال‬


‫‪- Guenon, Introduction to the Study of Hindu Doctrines; Coomaraswamy, “Paths that Lead to the Same‬‬
‫‪Summit,” in the Bugbear of Literacy; and esp. the numerous works of Schuon such as his Transcendent‬‬
‫‪Unity of Religions and Formes et substances dans les religions. See alo M. Pallis, “On Crossing Religious‬‬
‫‪Frontiers,” in his The Way and the Mountain, pp. 62- 78.‬‬
‫[[[ ‪ -‬إن معارضة املعرفة املوضوعية للمقدس وتدمري الصفة املقدسة للدين بحجة كونها موضوعية وعلمية تكمن ىف أصل هذا الخطأ‬
‫ً‬
‫مسؤول عن اختزال البصرية إىل عقل وميتافيزيقا لصورة إنسان محض ملعرفة تُعنى مبا دون البرش‪.‬‬ ‫الذي كان ىف األصل‬

‫‪21‬‬
‫المحور‬

‫باطني إن تحاشت أن تصري أداة النسب َّية الساذجة والعلمنة املتزايدة[[[‪.‬‬


‫ٌّ‬ ‫صحيح فإنَّها فعل‬
‫من املؤكَّد أ َّن املعرفة الباطن َّية يف العوامل الرتاث َّية مل تركِّز نفسها بعوامل أخرى من املعنى وصور‬
‫مق َّدسة غريبة إلَّ يف حاالت استثنائيَّة ونادرة للغاية‪ .‬غالباً ما تربط هذه املعرفة الباطنة ذاتها بعامل ٍّ‬
‫ديني‬
‫بعينه تعمل فيه‪ ،‬وكذلك النفوس البرشيَّة وظواهر الطبيعة الكربى‪ .‬وسوف يتح َّدث الحكامء عن الجوهر‬
‫ويفسون باملثل الداللة‬
‫ِّ‬ ‫الديني‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫أو املعنى الكامن خلف صورة آية بعينها لكتابهم املق َّدس أو طقسهم‬
‫الرمزيَّة لنم ِّو النبات يف ات ِّجاه ضوء الشمس أو صور وحاالت بعينها للنفس البرشيَّة‪ ،‬ويندر أن يق ِّدم‬
‫باطني‬
‫ٍّ‬ ‫الهندويس مبعنى‬
‫ُّ‬ ‫حا حكميًّا عىل آيات القرآن‪ ،‬أو يهت َّم‬
‫بوذي – عىل سبيل املثال‪ -‬رش ً‬
‫ٌّ‬ ‫حكيم‬
‫مسيحي بعينه‪ ،‬حتى لو كانوا يقبلون عىل العموم بكل َّية الحقيقة يف عوامل دين َّية غريبة‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫مح َّدد لطقس‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن االستثناءات موجودة‪ ،‬حيث تقابل اإلسالم والهندوسيَّة يف شبه القارة الهنديَّة[[[‪ .‬ولك َّن‬
‫جز يشء يف صحراء قاحلة‬
‫أي يشء آخر‪ ،‬ومن ذلك الحني‪ ،‬مل يُن َ‬
‫هذه الحاالت ظلَّت استثنا ًء أكرث من ِّ‬
‫حي متجانس للصورة واملعنى‪ ،‬وكان الب َّد من الحفاظ عىل التطبيق‬
‫روحي ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫حيث مل يعد يوجد عامل‬
‫الكامل للعلم املق َّدس لدراسة األديان عىل نطاق واسع يف العرص الحديث باعتباره تعويضً ا من السامء‬
‫حل وتفسري للمعنى الباطن ليس‬
‫عن علمنة الحياة اإلنسانيَّة‪ ،‬وحدث ًا دوريًّا له أهميَّة قصوى يدلِّل عىل ٍّ‬
‫لجل الرتاثات الح َّية للبرشيَّة قبل انقضاء الدورة اإلنسان َّية الراهنة‪.‬‬
‫لرتاث واحد بل ِّ‬
‫يث لألديان املتع ِّددة ومذاهبها وطقوسها ورموزها وارتباطها‬ ‫ولكن‪ ،‬رغم هذا العرض الرتا ِّ‬
‫بالحقيقة التي تحتويها باطنيًّا وتعكسها‪ ،‬فالغريب أنَّها أُه ِملت يف العامل الحديث إىل ح ٍّد بعيد‪،‬‬
‫واألملعي والذيكُّ اليوم من يالمس هذه‬
‫ُّ‬ ‫وكان من املحل تج ُّنب االهتامم بحضور أديان أخرى‪،‬‬
‫الفئات املعقَّدة من العوامل والقوى التي نطلق عليها تسمية “الحداثة”‪ ،‬والتي ليس مبقدورها‬
‫أن تهت َّم بتع ُّدديَّة الصور املق َّدسة‪ ،‬فمع تزايد الحداثة زادت علمنة الحياة‪ ،‬وزاد االهتامم بها‪ ،‬ومنا‬
‫الوعي‪ ،‬وحدث تغيُّ يف الطبيعة والنوع[[[‪ .‬وقد يعي املسلم يف قرية تراثيَّة يف شامل سوريا‪ ،‬أو يف‬
‫جامعي يف أمريكا‬
‫ٌّ‬ ‫مثل‪ ،‬بوجود املسيح َّية بطريقة ذات طبيعة مختلفة عمَّ يهت ُّم به طالب‬
‫أصفهان ً‬
‫أو أوروبا‪ ،‬ناهيك بالبوذية‪.‬‬

‫[[[‪ -‬يف هذا املعنى بالتحديد عن «املسكونية الباطنية» تناول شوان كتابه األخري مع الرتاث املسيحي واإلسالمي‬
‫‪ChristianismelIslam—Visions d’oeucumenisme esoterique (in press).‬‬
‫[[[‪ -‬رغم الصفات االستثنائية لهذا اللقاء فإن له أهمية كبرية يف املناقشات الحالية بني ديانات األرسة اإلبراهيمية وديانات الهند‪ ،‬ورغم أنه‬
‫مل يوضع يف االعتبار من قبل املعنيني باآلثار الالهوتية والفلسفية للعائلة اإلبراهيمية العالقة بني األديان اليوم كام يتوقع املرء‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ميكن للمرء أن مييز هذه الظاهرة يف أوروبا نفسها‪ ،‬حيث زاد االهتامم الجاد بالديانات األخرى يف بلدان مثل إسبانيا ودراسة األديان‬
‫املقارنة إىل الحد الذي أصبح فيه سيطرة املسيحية عىل الناس ضعيفًا‪ ،‬وباملثل‪ ،‬جذبت دراسة األديان املقارنة يف العامل اإلسالمي معظم‬
‫االهتامم يف تلك البلدان مثل تركيا حيث شهدت املؤسسات التعليمية الحديثة أكرب قدر من التطور‪ ،‬وحيث يوجد جمهور واسع إىل حد‬
‫ما للقراءة والذي ُحدث بالفعل إىل حد ما ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫إىل ذلك‪ ،‬ينشغل قطاع عريض من الباحثني واللَّ هوتيني يف الغرب ويف األطراف املحدثة من‬
‫بقية العامل‪ ،‬يف دراسة األديان األخرى التي أطلق عليها اسم تاريخ األديان والدين املقارن حي ًنا‪،‬‬
‫وأسامء مختلفة أحيانًا أخرى[[[‪ .‬والجدل ال يزال مستم ًّرا حول املنهج والطرائق التي يجب اتِّباعها‬
‫يف هذا املوضوع الحرج[[[‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫امللح لرشح معنى تع ُّددية الصور املق َّدسة منا عدد من املقاربات‪ ،‬نجح معظمها‬
‫ِّ‬ ‫من هذا املطلب‬
‫يف إضعاف وتسخيف معظم املوضوعات سم ًّوا‪ .‬نشري هنا خصوصاً إىل تلك املوضوعات التي‬
‫يفسون بها معنى الصور املقدسة رشيطة أن تكون طبيعة املق َّدس قد استخرجت‬
‫يقاربون فيها أو ِّ‬
‫حق خارج‬
‫ين الذي يحاول أن يتصارع مع ما هو ٌّ‬
‫منها‪ .‬وال محيص أ َّن هذا هو عيب العقل ال َعلام ِّ‬
‫نطاقه وسلطانه‪ ،‬أكرث مام يتطلَّبه حقل دراسة األديان‪ ،‬وهذا العيب كانت له آثار وخيمة عىل مدارس‬
‫املسيحي‪ ،‬وعواقب مربكة للحياة الدينية ملن تأثروا به‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫بعينها من الفكر‬
‫علمي من خلف َّية ِعلمويَّة مت ُّيز‬
‫ٍّ‬ ‫من املفيد القول أ َّن دراسة األديان “األخرى” قد بدأت بتهذيب‬
‫العقائد الدين َّية ‪ Religionswissenschaft‬املبكرة‪ .‬ذلك عىل عكس نوع االهتامم الواضح يف‬
‫املذاهب الرشق َّية باعتبارها مصادر للمعرفة قد يستند إليها بالفعل‪ .‬لقد ُدرس الدين باعتباره حقيقة‬
‫تنتمي إىل ثقافات إنسان َّية متباينة حيث يُوث َّق ويُوصف كام لوكان املرء يدرس ويُص ِّنف حيوانات‬
‫ضئيل من األهم َّية‪ ،‬فالحقائق التاريخ َّية واألساطري‬
‫ٌ‬ ‫أرض غريبة‪ .‬أ َّما مسألة اإلميان فكان لها قدر‬
‫والطقوس والرموز هي الجوانب األش ُّد جذبًا يف الدين وميكن جعلها موضوعات للدراسة العلم َّية‬
‫أكرث من كونها مسائل إميان َّية سدمي َّية‪ ،‬كام لو كانت املوسيقى بالرضورة أن تدرس من الجوانب‬
‫الرياض َّية والفيزيائ َّية البحتة‪ ،‬ومن ث َّم ت ُعرض النتائج باعتبارها دراسة علم َّية‪ ،‬وتكون هي بالتايل‬
‫الدراسة الصحيحة واملرشوعة الوحيدة للموسيقى بسبب النوع َّية‪ .‬أو برصيح القول‪ ،‬إ َّن الجانب‬
‫املوسيقي ال ميكن أن يُدرس إلَّ علم ًّيا‪.‬‬
‫َّ‬
‫معنى ملا‬
‫ً‬ ‫ريا من املعلومات عن األديان إلَّ أنَّه نَ َد َر ما تق ِّدم‬
‫لقد جمعت هذه املقاربة قد ًرا كب ً‬
‫َد َرست ُه‪ ،‬وال ميكن لتص ُّور عن العامل خا ٍل من املعنى أن يق ِّدم معنى حتى ملا هو مشبع باملعنى‪.‬‬

‫[[[‪ -‬مبا ىف ذلك «علم األديان» ىف ضوء الدراسات الدينية األملانية ‪.Religionswissenschaft‬‬
‫[[[‪ -‬كانت املنهجية املناسبة لدراسة األديان محل اهتامم معظم الباحينث الغربيني البارزين ىف الدين املقارن مثل ج‪ .‬واش ‪ J.Wach‬وم‬
‫‪.‬إلياد ‪ M. Eliade‬وه‪ .‬سميث ‪ H. Smith‬و س‪ .‬سميث ‪ W. C. Smith‬وقد اهتم األخري بالطريقة املناسبة لدراسة األديان ىف ضوء‬
‫نشاطها الدينى أنظر عىل سبيل املثال‬
‫‪W. C. Smith, The Meaning and End of Religion: A New Approach to the Religious Traditions of‬‬
‫‪Mankind, New York, 1963; The Faith of Other Men, New York, 1963; and Towards a World Theology,‬‬
‫‪Philadelphia, 1981, esp. pt. 3,‬‬
‫والذى يتناول األهمية الالهوتية والوجودية لدراسة األديان ال من وجهة النظر املسيحية بل من وجهة نظر األديان األخرى أيضا‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫المحور‬

‫يب املتعطِّش ملعنى الدين قصور هذا النهج‪ ،‬وسعى نحو طرائق‬
‫ولذا‪ ،‬رسعان ما أدرك العامل الغر ُّ‬
‫وأساليب جديدة للوصول إىل فهم معانيه‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬فإ َّن شيئًا من هذه الطريقة لدراسة الدين قد‬
‫بقي إىل يومنا هذا‪ ،‬وخلَّف انطبا ًعا سلب ًّيا عن دراسة األديان غري الغرب َّية ال ميكن محوه بسهولة‪ .‬من‬
‫ين بحت‪،‬‬
‫تفس هذه الحقائق بنهج علام ٍّ‬
‫هنا‪ ،‬فإ َّن هذه املقاربة تق ِّدم حقائق ع َّدة عن الدين ولك َّنها ِّ‬
‫تفش عمل َّية علمنة املعرفة ذاتها‪.‬‬
‫ممَّ جعلها تلعب دو ًرا يف ِّ‬
‫َّ‬
‫التاريخية للدين‪:‬‬ ‫املعاجلة‬
‫بالتوازي مع هذه الدراسة العلميَّة للدين‪ ،‬برزت معالجة تاريخيَّة محضة له استندت إىل تأريخية‬
‫القرن التاسع العرش التي تقرتن بنظريَّة التطور‪ ،‬وتنص هذه النظريَّة عىل أ َّن ما يظهر يف األديان‬
‫األخرية هو استعارة تاريخيَّة ألنَّه ال وجود لهذه الحقيقة مثل الوحي كام يُفهم من الناحية الرتاثيَّة‪.‬‬
‫ويف هذا املنظور الضيِّق الذي ال ينطوي عىل عالقة منطقيَّة بني السبب والنتيجة‪ ،‬مل يكلف أح ٌد‬
‫نفسه عناء التساؤل‪ :‬كيف ميكن المرى ٍء‪ ،‬مهام كان ذكيًّا‪ ،‬أن يدمج تأثريات من اليهوديَّة واملسيحيَّة‬
‫يف مكان ما يف شبه الجزيرة العربيَّة‪ ،‬ويُنشئ حركة تنترش من جبال “الربانس” حتى حدود الصني‬
‫يف أقل من مئة عام‪ ،‬وال تزال تعطي معنى لحياة ما يقرب من مليار مسلم؟ كام أنهم مل يتساءلوا”‬
‫تغي الحياة والثقافة بر َّمتها‬
‫هندي جالس تحت شجرة يف شامل الهند أن ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫كيف ميكن لتجربة أمري‬
‫ريب أن هذا االفتقار التام للمنطق م َّمن ي َّدعون‬
‫يف رشق آسيا خالل خمسة وعرشين قرنًا؟ وما من ٍ‬
‫أنهم يستعملون وسائل تحقُّق عقالنيَّة كان باإلمكان فهمه عند العرفانيني واملتألِّهني الذين أرادوا‬
‫كل تراث‪ ،‬ولجأوا إىل نظريَّة التط ُّور‪ ،‬وأملوا بهذا النهج أن‬
‫تفسري األدلَّة الدامغة للوحي يف أصل ِّ‬
‫الديني بأسباب تاريخيَّة بحتة من دون الُّلجوء إىل املتعايل بالطريقة نفسها التي‬
‫ِّ‬ ‫يفسوا عامل الدين‬
‫ِّ‬
‫أصبحت فيها نظريَّة التط ُّور يف البيولوجيا “علميَّة”؛ ذاك ألنَّها الطريقة الوحيدة للتملُّص من الدليل‬
‫لتجل الحقيقة اللَّ مادية أو املبدأ يف عامل الطبيعة[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الواضح‬

‫املبشين املسيحيني أو الباحثني‬


‫ِّ‬ ‫إ َّن ما يصعب فهمه هو تب ِّني وجهة النظر هذه من قبل عديد من‬
‫يئ إىل تط ُّوره الكامل يف املسيح َّية‪ ،‬ومن ثم تطبيق‬
‫الذين كتبوا عن تط ُّور الدين من املستوى البدا ِّ‬

‫[[[‪ -‬إن استعامل املناهج والفلسفات يف دراسة الدين بأسلوب يوازي ما يصادفه املرء يف العلم يتضح من القرن التاسع عرش وما بعده‪،‬‬
‫وتأسيس ما يسمى بعلم الدين املشبع بالوضعية نفسهاهو ما مييز الفلسفات العلمية السائدة ىف الوقت الراهن‪ ،‬وميكن قول اليشء نفسه‬
‫عن دور املفاهيم التطورية يف دراسة كل من الدين والطبيعة‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫التاريخي بكلِّ َّيته لدحض أصالة اإلسالم باعتباره رسالة من السامء[[[‪ .‬وقد تسبب هذا املنظور‬
‫ِّ‬ ‫املنهج‬
‫يف اإلساءة إىل اإلسالم بني جميع أديان العامل الرئيسة األخرى يف مجال تاريخ األديان أو األديان‬
‫املقارنة‪ ،‬وكان هذا سب ًبا يف جعل الباحثني ال يق ِّدمون إسها ًما ها ًّما يف مجال الدراسات اإلسالم َّية[[[‪.‬‬
‫ولك َّن هؤالء الباحثني الذين يرفضون أصالة الحديث عىل أساس ضعف الدليل التاريخي[[[‪ ،‬أو‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الذين يع ُّدون القرآن مج َّرد تجميع لتعاليم اليهوديَّة – املسيح َّية املش َّوهة بسبب ضعف املصدر‬
‫األصيل‪ ،‬فإنَّهم بالكاد يدركون أ َّن الحجج ذاتها ميكن أن تنقلب عىل املسيحيَّة نفسها‪ ،‬وقد فُعل‬
‫هذا يف الواقع ممن حاولوا دحض املسيح َّية أو بعض مبادئها الرئيسة بعدم وجود أدلَّة أثريَّة‪ ،‬كام‬
‫لو كانت الروح تحتاج إىل دليل عىل وجودها بخالف طبيعتها التي ميكن للذكاء أن يفهمها إن مل‬
‫تتش َّوه أو تُحجب بعوامل دخيلة‪.‬‬
‫لقد ذهبت تجاوزات التأريخ َّية بعي ًدا ال سيام يف مجال الدين حيث جرى اختزال ما له داللة‬
‫فطريَّة من وجهة النظر الدينيَّة إىل أثر لداللة تاريخيَّة‪ .‬وبدأ ر ُّد الفعل من داخل ميدان الفكر الحديث‬
‫الفينومينولوجي الظواهريتِّ‪ ،‬وتغطي هذه املدرسة طيفًا واس ًعا إىل ح ٍّد ما‬
‫ِّ‬ ‫ذاته يف صور املذهب‬
‫يث نفسه[[[ ولك َّنه يقع يف طرائقه يف خطأ معاكس للتأريخيَّة‪ ،‬أعني‪،‬‬
‫ميس أحد طرفيه املنظور الرتا َّ‬
‫ُّ‬
‫وكل وحي مع الرتاث سواء أكان تاريخ ًّيا أم ما‬
‫تجل للُّوغوس‪ِّ ،‬‬
‫لكل ٍّ‬
‫خطأ تجاهل الحقيقة الفريدة ِّ‬
‫كل‬
‫تاريخي‪ ،‬والذي ينبع من مثل االنفتاح عىل السامء‪ ،‬وبإرصار الظواهرتيَّة عىل قيمة ومعنى ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫بعد‬
‫بغض النظر عن أصلها التاريخي‪ ،‬أصبح بعض الظواهرتيني جامعني لألفكار والرموز‬
‫ِّ‬ ‫ظاهرة دين َّية‬

‫[[[‪ -‬اعتقد عديد من املسيحيني مع ظهور الفلسفة التطورية وتطبيقها عىل دراسة األديان أنه ميكنهم استخدام هذه الطريقة لصالحهم من‬
‫خالل دراسة األديان األخرى كمراحل يف الكامل التدريجي للدين‪ ،‬ومنا وبلغ ذروته يف املسيحية‪ .‬ومع أن هذا النهج ترك اإلسالم كحاشية‬
‫محرجة ‪ ،‬ووفقًا للمنطق نفسه ‪ ،‬يجب أن تكون أكرث كامال من املسيحية‪ .‬والحقيقة‪ ،‬ال ميكن استخدام النهج التاريخي والتطوري البحت‬
‫كوسيلة للدفاع عن أي دين‪ ،‬مبا يف ذلك اإلسالم ‪ ،‬حيث لجأ بعض املدافعني املعارصين إىل نفس الحجج التي استخدمها املدافعون‬
‫املسيحيون يف القرن التاسع عرش فيام يتعلق باألديان األخرى‪،‬ألنه مبجرد تقديم حجة تاريخية بحتة‪ ،‬تستند إىل كامل الدين يف الزمن‪،‬‬
‫هناك من يدعي أنه مبرور الزمن تصبح الرسائل الدينية الجديدة أكرث مالءمة وتتجاوز «اإلسالم» أو أن اإلسالم نفسه لديه ما يتطور إىل شكل‬
‫أعىل! يجب عدم الخلط بني العقيدة اإلسالمية الرتاثية املتعلقة بنهائية اإلسالم وكامله باعتباره الدين األخري لهذه الدورة اإلنسانية مع نظرية‬
‫التطور يف القرن التاسع عرش التي تسللت إىل أذهان عديد من الحداثيني املسلمني الذين كانوا حريصني عىل الدفاع عن اإلسالم قبل‬
‫هجمة االسترشاق الغريب أو هجامت بعض املبرشين املسيحيني‪.‬‬
‫[[[‪ -‬تناول آدامز بالفعل هذا املوضوع ىف كتابه‬
‫‪Ch. Adams in his, “The History of Religions and the Study of Islam,” American Council of Learned‬‬
‫‪Societies Newsletter, no. 25, iii-iv (1974): 1 -10.‬‬
‫[[[‪ -‬إشارة اىل أن هناك مبدأ يف الفلسفة اإلسالم َّية ال ميكن مبوجبه أن يكون نقص املعرفة أو الوعي بيشء ما دليلً عىل عدم وجود‬
‫يدل عىل عدم الوجود)‪ .‬يبدو أنَّ العديد من العلامء املحدثني يتجاهلون متا ًما هذا املبدأ‪ ،‬والحقيقة أنهم‬ ‫ذلك اليشء‪ ،‬فعدم الوجدان ال ُّ‬
‫الشفهي واملسألة‬
‫َّ‬ ‫الرتاث‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫ً‬ ‫متا‬ ‫يتجاهلون‬ ‫وبالتايل‬ ‫ًا‪،‬‬
‫د‬ ‫موجو‬ ‫يكون‬ ‫أن‬ ‫ميكن‬ ‫ال‬ ‫ا‬ ‫ي‬
‫ًّ‬ ‫تاريخ‬ ‫معروف‬ ‫غري‬ ‫هو‬ ‫ما‬ ‫رصون عىل أنَّ‬
‫يعكسون ميوله وي ُّ‬
‫الكاملة لنقل املعرفة والسلطة التي تكمن يف صميم مفهوم الرتاث‪.‬‬
‫[[[‪ -‬إن تفسري هـرني كوربان للظواهر باعتباره كشفًا عن املعنى الباطن للحقيقة (تأويل املصادر اإلسالمية) وبعض األعامل السابقة إللياد‬
‫أقرب إىل املنظور الرتايث‪ ،‬يف حني أن هناك عددًا من العلامء اإلسكندنافيني الذين يسمون أنفسهم الفينومينولوجيني ولكن منظورهم ‪ -‬عىل‬
‫أقل تقدير ‪ -‬بعيد عن منظور الرتاث باهتاممه بحقيقة الوحي والكون الذي يأيت به كل وحي إىل الوجود‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫المحور‬

‫الحي‬
‫ِّ‬ ‫مفسي هذه الظواهر يف ضوء الرتاث‬ ‫الدين َّية كام لو كانوا سيضعونها يف متحف‪ ،‬بخالف ِّ‬
‫ريا يف التعامل مع الرتاث‬
‫فضل عن ذلك‪ ،‬مل تنجح هذه املقاربة كث ً‬
‫ً‬ ‫الذي تنتمي إليه هذه الظواهر‪.‬‬
‫األسطوري‪ ،‬وكذلك مل تتمكَّن من التمييز بني التجلِّيات‬
‫ِّ‬ ‫“املج َّرد” مثل اإلسالم مقارنة بالرتاث‬
‫أقل منه يف العموميَّة‪ ،‬ومل متيِّز بني األديان الحيَّة واملزدهرة وتلك التي‬
‫الكربي للُّوغوس وما هو ُّ‬
‫تالشت[[[‪.‬‬
‫ميتافيزيقي للدين ميكن عىل‬
‫ٌّ‬ ‫يف ضوء ما تق َّدم‪ ،‬مل يكن عند معظم الفينومينولوجيني أساس‬
‫أساسه تفسري الظواهر باعتبارها ظاهرة لحقيقة باطنة ‪ ،noumenal‬حيث إ َّن الظاهرة تعني املظهر‪،‬‬
‫وتوحي من الناحية االشتقاق َّية حقيقة ملا له ظهور[[[‪ ،‬ولكن النزعة الشك َّية ما بعد الكانط َّية يف‬
‫الفلسفة األوروبيَّة جعلت املعرفة باطنة ‪ noumena‬باعتبارها موجو ًدا محالً أو حتى سخيفًا حتى‬
‫ّْ‬
‫البرشي‪.‬‬ ‫توضح كإمكان ينفتح عىل العقل‬

‫خطيئ�ة املنهج الفينومينولويج يف مقاربة الدين‪:‬‬


‫هناك من يطلقون عىل أنفسهم تسمية “الظواهرتيني”‪ ،‬ويتح َّدثون عن منهجهم باعتباره طريقًا‬
‫لكشف املعنى الظاهر والوصول إىل الجوهر الباطن للصور والظاهرة‪ ،‬واملنهج الظواهريتُّ هو‬
‫“كشف املخفي” (أو كشف املحجوب عند الصوفيَّة)[[[‪ ،‬ولكنهم كانوا االستثناء وليس القاعدة‪،‬‬
‫فقد سقطت الفينومينولوجيا يف خطأ آخر حيث تج َّنبت التأريخ َّية وفضَّ لت وصف الطقوس والرموز‬
‫روحي بعينه ميتلك معناها‪ .‬مجمل القول‪ ،‬أ َّن املدرسة الظواهرتيَّة للدين‬
‫ٍّ‬ ‫والصور واألفكار عن عامل‬
‫خصوصا‪ ،‬هي القطب املضا ُّد للتاريخ َّية إلَّ‬
‫ً‬ ‫املقارن‪ ،‬كام تط َّورت ىف أملانيا والدول اإلسكندناف َّية‬
‫أنَّها تكميليَّة وتنتمي إىل عامل علمنة املعرفة التي ولدت كليهام[[[‪ .‬وقد يستعمل التاريخ بطريقة‬
‫مرشوعة من دون الوقوع يف خطأ التاريخ َّية‪ ،‬فيمكن أن يكون لديك وجهة نظر تاريخ َّية ولك َّنها‬

‫[[[‪ -‬هذا النقص يف التمييز بني التجليات العامة والثانوية للروح واملراحل املختلفة للحالة الفعلية للديانات املختلفة ميكن العثور عليه‬
‫يف أعامل عامل بارز مثل ‪ ، Eliade‬الذي قدم إسهامات مثرية لالهتامم يف كل مجال من مجاالت الدراسات الدينية باستثناء اإلسالم‪.‬‬
‫[[[‪ -‬عاد الفيلسوف املعارص بارفيلد ‪ O. Barfield‬إىل هذا املوضوع الرتايث يف كتابه ‪aving the Appearances; a Study in‬‬
‫‪ ،Idolatry, London, 1957‬رغم معالجته ىف سياق تطوري يدمر العالقة الدامئة بني الحقيقة الظاهرة والباطنة‪ ،‬بغض النظر عام يسميه‬
‫بارفيلد تحول الوعي البرشي من املشاركة األصلية إىل املشاركة النهائية ‪See his chap. 21‬‬
‫[[[‪ -‬هذا هو التوصيف الذى قدمه كوربان للظواهرتية أنظر ‪.his En Islam iranien, vol. 1, p. xx‬‬
‫[[[‪ -‬ترتبط البنيوية باألعامل األنرثوبولوجية عند ليفي شرتاوس ‪ C.Levi Strauss‬ولكنها توغلت اآلن يف مجاالت الفلسفة والنقد األديب‬
‫والتاريخ وما إىل ذلك‪ ،‬وهي تستند عىل مبدأ أن جميع املجتمعات والثقافات متتلك بنية ثابتة ال تتحول وهيكل مشرتك‪ .‬فرس البعض هذا‬
‫الرأي عىل أنه يفيض إىل املنظور الرتايث ويعارض التاريخانية املضادة للرتاثات التي هيمنت عىل العلوم االجتامعية لفرتة طويلة‪ ،‬يف‬
‫حني أن الجزء األخري من هذا التأكيد صحيح‪ ،‬وال يوجد أي ضامن عىل اإلطالق بأن البنية مع التعددية تؤدي إىل التعاليم الرتاثية أكرث من‬
‫الفينومينولوجيا إذا كانت املعرفة امليتافيزيقية املناسبة غري متوفرة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ميكن للمرء أن يقول أنه إذا كانت هناك مثل هذه املعرفة‪،‬‬
‫فيمكن دمج حدس بعينه من البنيوية يف إطار تلك املعرفة مثل تلك الظواهرتية‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫ليست تاريخ َّية باملعنى املح َّدد للمصطلح‪ .‬كذلك ميكن الحديث عن الفينومينولوجيا واستعامل‬
‫ظاهري من دون أن ينتهي إىل حالة جمع األحافري العقيم الذي يحيط بالعديد من األعامل‬
‫ٍّ‬ ‫منهج‬
‫الظواهرت َّية املفرتضة عن الدين‪ ،‬حيث إنَّها أعامل تخلو متا ًما من الشعور باملق َّدس‪.‬‬
‫مث َّة نهج آخر لدراسة األديان يرى أ َّن لها الحقيقة نفسها‪ ،‬وأنَّها ليست نظا ًما متعال ًيا كام يؤكِّد‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وعاطفي ال يسعها إلَّ أن تختزل األديان لقاسمها املشرتك‪ .‬هذا النهج‬


‫ٌّ‬ ‫خارجي‬
‫ٌّ‬ ‫الرتاث‪ ،‬بل هي نوع‬
‫الذي ارتبط ببعض الحركات التي نشأت عن الهندوس َّية الحديثة‪ ،‬مي ِّيز بني عدد من الحركات الدين َّية‬
‫تأسست بهدف خلق تفاهم بني األديان‬
‫فضل عن الجمعيَّات واملؤمترات التي َّ‬
‫ً‬ ‫التوفيقيَّة والتلفيقيَّة‪،‬‬
‫فكري يجعل هذا التفاهم ممك ًنا‪ .‬إ َّن ما مي ِّيز هذا النهج هو النزعة‬
‫ٍّ‬ ‫إلَّ أنَّها كانت من دون منظور‬
‫الفكري والتأكيد عىل املذهب باعتباره كيانًا مغالطًا و”ض َّد الروحانيَّة”‬
‫َّ‬ ‫العاطفيَّة التي تضا ِّد التمييز‬
‫كل تراث عىل مستوى تلك الخصوص َّية‪ ،‬وبالتايل‬
‫بجانب افرتاض الكل َّية التي تعارض خصوص َّية ِّ‬
‫تد ِّمر املق َّدس عىل املستوى امللموس باسم كليَّة غامضة أو عاطفيَّة‪ ،‬وهي يف الحقيقة محاكاة‬
‫ساخرة للكل َّية التي يتص َّورها الرتاث‪.‬‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن هذا النهج يف أكرث أشكاله إيجابًا‪ ،‬يرتبط بنوع من الروحان َّية تعتمد عىل‬
‫“بهاكتي” أو الحب الذي يبتلع تع ُّدديَّة الصور املق َّدسة يف دفء أحضانه من دون االهتامم بالتمييز‬
‫أي جوهر‪ .‬وعيل‬
‫املتجذِّر يف هذه الصور‪ ،‬ويف أسوأ عاطف َّيته ضعفًا يقود إىل ال مكان‪ ،‬ويتحاىش َّ‬
‫أية حال‪ ،‬هو يعجز عن اخرتاق معنى الصور املق َّدسة ألنَّه ال يقبل حتى داللة هذه الصور عىل‬
‫مستواها‪ .‬وميكن ملثل هذا املنظور أن يوجد قدر اإلمكان يف عامل تتخلَّله الروحان َّيات مثل الهند‬
‫ومحمي بإطار للرتاث ذاته[[[‪ .‬وقد أ َّدى‬
‫ٍّ‬ ‫الرتاث َّية‪ ،‬ولكنه كان دو ًما يكتمل مبنظور يعتمد عىل التمييز‪،‬‬
‫يف العامل الحديث عادة‪ ،‬وبشكل غري مبارش‪ ،‬إىل تعزيز عمل َّية علمنة املعرفة وتدمري املق َّدس ذاته‬
‫بتقليل أهم َّية املعرفة والصور حتى لو كان لها طابع مق َّدس‪.‬‬
‫ُّ‬
‫التصوف والدين‪:‬‬
‫يف لألديان التي يدرسها‪ ،‬ولكن تقديره‬
‫غني عن القول أ َّن هذا النهج يعتمد عادة عىل ال ُبعد الصو ِّ‬
‫ٌّ‬
‫بالحب‪ ،‬ويف كثري من الحاالت يعالج التص ُّوف‬
‫ِّ‬ ‫للتص ُّوف يف أفضل حاالته يقترص عىل النوع املرتبط‬
‫املتدن الذي يرادف عدم الفهم والتفكُّك والغموض‪ ،‬والذي يقف يف القطب املعاكس للمنظور‬
‫ّ‬

‫[[[‪ -‬يقدم بهاكتي يف الرتاث الهندي اإلطار البصريي الرضوري؛ مبعنى ان الرتاث كان اعتقادًا عندهم‪ .‬ولذا إذا انفصلت روحانية بهاكتى‬
‫عن اإلطار الجوهري ملا تحتضنه‪ ،‬ميكن أن يؤدي إىل انحرافات خطرية عىل املستوى الفكري‪ ،‬وأخريا تحريف الرتاث باسم وحدة األديان‬
‫التي تتفىش اليوم‪ ،‬وغال ًبا ما تُحدد بحركة أو بأخرى من أصل هندي‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫المحور‬

‫بدل من استعامله يف‬


‫يب الذي يهتم باألرسار اإلله َّية ً‬
‫الحكمي إذا بقي التص ُّوف عىل طابعه اإليجا ِّ‬
‫ِّ‬
‫معناه املحقِّر‪ .‬إنَّه ض َّد هذا النهج املفرط لدراسة األديان عىل أساس ما يُس َّمى بالروحانيَّة الكليَّة‬
‫البصريي‪ ،‬وهذا ر ُّد فعل قائم بني عديد من‬
‫ِّ‬ ‫التي تتعلَّق بالتص ُّوف إلَّ أنَّها تتخلَّ عن املحتوى‬
‫بدل من التشابهات بني األديان والصور املق َّدسة‬
‫باحثي الدين الذين بدأوا يشريون إىل االختالفات ً‬
‫الصوري‪ ،‬ولك َّن‬
‫ِّ‬ ‫أي ا ِّدعاء لوجود وحدة كامنة وراء التن ُّوع‬
‫املختلفة مع االحتفاظ مبسافة نقديَّة من ِّ‬
‫هؤالء الباحثني يف العادة عجزوا عن التمييز بني الوحدة التي تتجاوز الصور والوحدة املفرتضة‬
‫حل ال يؤ ِّدي تجلُّطه إىل تخثُّ ات األفكار الدين َّية‬
‫التي تتجاهل الصور‪ ،‬أو بالحري تسعى لصهرها يف ٍّ‬
‫الديني للعامل الحديث‪ .‬وتكمن الوحدة من الناحية امليتافيزيقيَّة يف‬
‫ِّ‬ ‫التي متيِّز ما يس َّمى بالتوليف‬
‫القطب املضا ِّد للتشاكل[[[‪ ،‬واختزال األديان عىل األقل يف قاسم مشرتك باسم وحدة أديان جنس‬
‫البرش الذي ال يزيد عن كونه مامحكة “للوحدة املتعالية لألديان” التي متيِّز وجهة النظر الرتاثيَّة‪.‬‬
‫وجه عدد من الباحثني يف اآلونة األخرية انتباههم إىل التص ُّوف ذاته ليبيِّنوا أنَّه يهت ُّم بتفاصيل‬
‫الدين وأشكاله النوع َّية والحرصيَّة وليس باألفكار الكل َّية كام ا َّدعى أنصار كل َّية الدين القامئة عىل‬
‫التص ُّوف الذي ذكرناه بالفعل[[[‪ .‬وهم يزعمون أ َّن القباليني يف اليهوديَّة‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬اهت ُّموا‬
‫بدل‬
‫يب يف القرآن ً‬
‫العربي يف التوراة مثلام اهت َّم الصوفيون بالنص العر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫للنص‬
‫ِّ‬ ‫بالجوانب التفصيل َّية‬
‫من االهتامم باألفكار الكليَّة “املج َّردة”‪ .‬ويشري هؤالء املفكِّرون إىل أهميَّة اللُّغة املق َّدسة والكتاب‬
‫املق َّدس باعتبارهام منب ًعا للمعتقدات والتعاليم الصوف َّية‪ ،‬ويش ِّددون عىل الدور األساس الذي تقوم‬
‫به الحروف والكلامت واألصوات والنحو وجوانب أخرى للُّغة تُستعمل يف النصوص املق َّدسة‬
‫للتص ُّوف الذي ت ُعنى به‪ .‬هؤالء النقاد يعيدون التأكيد عىل الصور املق َّدسة‪ ،‬ويعترب نقدهم منصفًا‬
‫ورضوريًّا لتلك األفكار والتعاليم التي تق ِّدم التص ُّوف باعتباره ال صوريًّا من دون اإلشارة إىل األهميَّة‬
‫صوري‪ ،‬إلَّ أ َّن وعيهم قد يقرص‬
‫ِّ‬ ‫القاطعة للصورة املق َّدسة باعتبارها وسيلة رضوريَّة للغاية لبلوغ اللَّ‬
‫يئ‬
‫متا ًما بهذه الحقيقة‪ ،‬فالصورة ليست صورة فحسب باعتبارها حدو ًدا وتجزيئًا بل تنفتح عىل اللَّ نها ِّ‬
‫العربي ال باألوبنيشياد السنسكريت َّية‪ ،‬ولكن حني يتح َّدثون‬
‫ِّ‬ ‫بالنص‬
‫ِّ‬ ‫ّْ‬
‫صوري‪ .‬فالقباليون يبدأون‬ ‫واللَّ‬
‫عن اللَّ نهايئ ‪ En-Sof‬يتعاملون مع تلك الحقيقة التي ميكن للمرء أن يدركها عىل أنَّها الحقيقة‬
‫نفسها التي تهت ُّم بها مدرسة أدفايتا يف الفيدنتا‪ .‬أ َّما معارضة هؤالء الباحثني لعاطفة التوفيق‪ ،‬رغم أنَّه‬
‫مثال يف سلسلة األفعال وردودها التي‬
‫ويجسد ً‬
‫ِّ‬ ‫صحيح جزئيًا‪ ،‬فهو ر ُّد فعل متذبذب للطرف اآلخر‪،‬‬
‫[[[‪ -‬للتمييز بني الوحدة والتوحيد أنظر ‪R. Guenon, The Reign of Quantity, pp. 63-69.‬‬
‫‪[2]- See, for example, S. Katz, “Language, Epistemology, and Mysticism,” in S. Katz (ed.), Mysticism and‬‬
‫‪Philosophical Analysis, New York, 1978, pp. 22- 74; and also idem, “Models, Modeling and Religious‬‬
‫‪Traditions” (in press).‬‬

‫‪28‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫العلمي يف العامل الحديث‪.‬‬


‫َّ‬ ‫ريا الحياة العقل َّية والنشاط‬
‫مت ِّيز كث ً‬
‫ريا‬
‫التعاطفي تجاه وحدة األديان تعب ً‬
‫ِّ‬ ‫لقد وجدت االختزال َّية الكامنة يف ما ميكن تسميته بالنهج‬
‫جدي ًدا يف حركات مسكونيَّة ع َّدة يف املسيحيَّة برزت يف العقود القليلة املاضية‪ ،‬وال ينطبق هذا‬
‫يختص‬
‫ُّ‬ ‫املسيحي بني تكتُّالت وكنائس ع َّدة فحسب‪ ،‬بل أيضً ا يف ما‬
‫ِّ‬ ‫عىل املسكون َّية داخل الدين‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املتجسد يف‬
‫ِّ‬ ‫يب‬
‫بعالقة املسيحيَّة وأديان أخرى[[[‪ .‬ورغم أنَّه غالبًا ما يُستند إىل املقصد اإليجا ِّ‬
‫خلق فهم أفضل لألديان األخرى‪ .‬ومعظم منارصي الحركة املسكون َّية يضعون التفاهم املتبادل ىف‬
‫التكامل التام لرتاث ما‪ ،‬لدرجة أ َّن بني اللَّ هوتيني املسيحيني من يدعون املسيحيني إىل الكف عن‬
‫بالتجسد حتى يفهموا املسلمني ويفهمهم املسلمون[[[‪ ،‬وميكن للمرء أن يتساءل ملاذا‬
‫ُّ‬ ‫اإلميان‬
‫يظلون مسيحيني وال يعتنقون اإلسالم جمي ًعا؟ ويتوقَّع عديد من املسكونيني أ َّن يتح َّول الناس من‬
‫ديني‪ ،‬وباستمرار هذا الحوار قد تتح َّول األديان ذاتها[[[‪ .‬مع ذلك ال‬
‫ديانات مختلفة بإجراء حوار ٍّ‬
‫يكلِّف املرء نفسه عناء التساؤل عام ميكن أن يتح َّول‪ ،‬بافرتاض أ َّن الفهم األفضل يف ح ِّد ذاته هو‬

‫[[[‪ -‬رغم أن عديد من هؤالء مثل ماسينيون كانو مهتمني بالحركة املسكونية ىف فضاء املسيحية‪ ،‬فقد أولوا اهتام ًما بالداللة الروحية لألديان‬
‫األخرى‪ ،‬لذا رسعان ما ارتبطت املسكونية عمل ًيا بالحداثة داخل الكنيسة‪ ،‬وىف حاالت عديدة خالل قرنني أصبحت املسكونية صورة‬
‫كاريكاتورية الهتامم الرتاث بالوحدة املتعالية لألديان‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر عىل سبيل املثال‪:‬‬
‫‪J. Hick, “Whatever Path Men Choose is Mine,” in Hick and B. Hebblethwaite (eds.), Christianity and‬‬
‫‪Other Religions, Philadelphia, 1980, pp. 171- 90.‬‬
‫‪ -‬ل‪ .‬سويدلر ‪ L. Swidler‬محرر مجلة الدراسات املسكونية ‪ Ecumenical Studies‬وهى أحدى املجالت الرائدة ىف مسألة الحوار‬
‫قائل‪ :‬نعنى بالحوار هنا حديث حول موضوع بني اثنني أو‬ ‫بني األديان‪ ،‬وسويدلر من املهتمني بجدية بالتفاهم األفضل بني األديان‪ ،‬يكتب ً‬
‫أكرث مختلفي اآلراء‪ ،‬والهدف األويل من الحوار هو ان يتعلم كل مشارك من اآلخر‪ ،‬يستمع املسارك لآلخر بانفتاح وتعاطف بقدر ما يستطيع‬
‫ليفهم موقف اآلخر بدقة وبواطنه قدر اإلمكان‪ ،‬ويتضمن هذا املوقف تلقائ ًيا افرتاض أن موقف املشارك قد يكون مقن ًعا للغاية فيستوجب‬
‫جا‪ ،‬ولكن هذا هو الهدف من‬ ‫علينا تغيري موقفنا‪ ،‬ويعنى هذا أن هناك خط ًرا ىف الحوار‪ :‬حيث إننا نضطر إىل التغيري‪ ،‬وقد يكون التغيري مزع ً‬
‫الحوار والتغيري والتطوير‪.....‬‬
‫وأشري ىف الختام إىل أن هناك ثالثة مراحل للحوار بني األديان ‪ ،‬ففي املرحلة األوىل نتخلث من املعلومات الخاطئة عن بعضنا بعض‪،‬‬
‫ونعرف بعضنا بعض مبا نحن عليه بالفعل‪ ،‬ىف املرحلة الثانية نبدأ ىف متييز املشارك ونقاربها مع تراثنا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬ىف الحوار‬
‫الربوتستانتى – الكاثولييك‪ ،‬تتعلم الكاثوليكية التوكيد عىل الكتاب املقدس وتتعلم الربوتستانتية تقدير النهج األرسارى للحياة املسيحية‪،‬‬
‫وكالهام يرتبط تراث ًيا باملجتمع الدينى اآلخر‪ ،‬وإذا جادين ومثابرين ومرهفني مبا يكفى ىف الحوار فإننا ندخل إىل املرحلة الثالثة‪ ،‬هنا نبدأ‬
‫م ًعا ىف استكشاف مجاالت جديدة للحقيقة واملعنى والحق الذي مل يكن أحد منا عىل دراية به من قبل‪ ،‬ونتواجه وج ًها لوجه مع هذا البعد‬
‫الجديد غري املعروف لنا‪ ،‬وهو بعد للحقيقة فحسب نتج عن التساؤالت واالستقصاءات التى هى منتوج هذا الحوار‪ ،‬لذا نجرؤ عىل قول‬
‫أن الحوار املتواصل بصرب ميكن أن يصبح أداة لوحي جديد‪.‬‬
‫‪From the Foreword of Swidler to P. Lapide and ). Moltmann, Jewish Monotheism and Christian‬‬
‫‪Trinitarian Doctrine, Philadelphia, 1981, pp. 7- 15.‬‬
‫[[[‪ -‬ل‪ .‬سويدلر ‪ L. Swidler‬محرر مجلة الدراسات املسكونية ‪ Ecumenical Studies‬وهى أحدى املجالت الرائدة ىف مسألة‬
‫قائل‪ :‬نعنى بالحوار هنا حديث حول موضوع بني‬ ‫الحوار بني األديان‪ ،‬وسويدلر من املهتمني بجدية بالتفاهم األفضل بني األديان‪ ،‬يكتب ً‬
‫اثنني أو أكرث مختلفى اآلراء‪ ،‬والهدف األويل من الحوار هو ان يتعلم كل مشارك من اآلخر‪ ،‬يستمع املسارك لآلخر بانفتاح وتعاطف بقدر‬
‫ما يستطيع ليفهم موقف اآلخر بدقة وبواطنه قدر اإلمكان‪ ،‬ويتضمن هذا املوقف تلقائ ًيا افرتاض أن موقف املشارك قد يكون مقن ًعا للغاية‬
‫جا‪ ،‬ولكن هذا هو‬ ‫فيستوجب علينا تغيري موقفنا‪ ،‬ويعنى هذا أن هناك خط ًرا ىف الحوار‪ :‬حيث إننا نضطر إىل التغيري‪ ،‬وقد يكون التغيري مزع ً‬
‫الهدف من الحوار والتغيري والتطوير‪.....‬‬

‫‪29‬‬
‫المحور‬

‫الغاية النهائ َّية بدلً من فهم عامل آخر من عامل املعنى والصورة املق َّدسة بالحفاظ عىل تراث املرء‪.‬‬
‫ين‪ ،‬وال يسعه إلَّ السقوط‬
‫من امله ِّم القول أ َّن هذا املنظور يستبدل السلطة اإلله َّية بالفهم اإلنسا ِّ‬
‫يف نوع من اإلنسانيَّة‪ ،‬ال يؤ ِّدي إلَّ إىل إضعاف ما تبقَّى من الدين‪ ،‬وهذا حقًا صورة من العلامنيَّة‬
‫والحداثة رغم احرتامه لألديان األخرى‪ ،‬وميارسه رجال ونساء من أصحاب املعتقدات الدين َّية[[[‪،‬‬
‫قل االهتامم مبا يس َّمى‬
‫ولهذا السبب كلَّام زادت قوة سيطرة الدين عىل جامعة برشيَّة أو فرد َّ‬
‫ين ومن‬‫اآلن باملسكون َّية يف هذه الدائرة أو لهذا الشخص‪ ،‬واألحرى أ َّن مجمل العامل املسكو َّ‬
‫جهه املسكونيَّة يف إطار معناها (عامل الصالحني ‪)oikoumene‬‬
‫ث َّم ابتالع اإلنسانيَّة جمعاء ملا تو ِّ‬
‫كل الصور ومحو فروقها من حقائق‬
‫حل ِّ‬
‫جعل املسكون َّية الحديثة كتلة غري منتظمة تهدف إىل ِّ‬
‫مختلفة ع َّدة بوضعها داخل جوهر بعينه بأفضل تركيب‪ ،‬وميكن للمرء اكتشاف أ َّن يف هذه الحركة‬
‫الصوري وما دونه‪ ،‬وينجم هذا عن فقدان ميتافيزيقا‬
‫ِّ‬ ‫املسكون َّية الراهنة افتقار التمييز بني ما هو فوق‬
‫متكاملة يف الغرب يف العرص الحديث‪.‬‬

‫أطوار احلوار بني األديان‪:‬‬


‫ال بد من اإلشارة يف هذا املقام إىل أ َّن هناك ثالث مراحل للحوار بني األديان‪ ،‬ففي املرحلة‬
‫األوىل نتخفَّف من املعلومات الخاطئة عن بعضنا البعض‪ ،‬ونعرف بعضنا بعضً ا مبا نحن عليه‬
‫بالفعل‪ ،‬ويف املرحلة الثانية نبدأ بتمييز املشارك ونقاربها مع تراثنا‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬يف الحوار‬
‫الربوتستانتي – الكاثولييك‪ ،‬تتعلَّم الكاثوليكيَّة التوكيد عىل الكتاب املق َّدس وتتعلَّم الربوتستانتيَّة‬
‫الديني اآلخر‪ ،‬وإذا ك َّنا‬
‫ِّ‬ ‫األرساري للحياة املسيح َّية‪ ،‬وكالهام يرتبط تراث ًّيا باملجتمع‬
‫ِّ‬ ‫تقدير النهج‬
‫جا ّدين ومثابرين ومرهفني مبا يكفي يف الحوار فإننا ندخل إىل املرحلة الثالثة‪ ،‬هنا نبدأ م ًعا يف‬
‫استكشاف مجاالت جديدة للحقيقة واملعنى والحق الذي مل يكن أحد منا عىل دراية به من قبل‪،‬‬
‫ونتواجه وج ًها لوجه مع هذا البعد الجديد غري املعروف لنا‪ ،‬وهو بعد للحقيقة فحسب نتج من‬
‫التساؤالت واالستقصاءات التي هي منتوج هذا الحوار‪ ،‬لذا نجرؤ عىل قول أ َّن الحوار املتواصل‬
‫[[[‬
‫بصرب ميكن أن يصبح أداة لوحي جديد‪.‬‬
‫رشا أو‬
‫ريا سياس ًّيا مبا ً‬
‫حري القول أ َّن بناء عالقة وطيدة بني األديان يف املسكون َّية يضمن نظ ً‬
‫ٌّ‬
‫متخ ِّف ًيا‪ ،‬وقد بذلت محاوالت عدة إلقامة حوار بني ديانتني أو أكرث وكانت الغايات السياسية يف‬

‫[[[‪ -‬ال نعني أن كل الحركات تقارب بني األديان‪ ،‬والتي تعترب مسكونية باملعنى االشتقاقي هي جزء من هذا النوع من الحركة املسكونية‬
‫التي تضم مختلفة داخل كل من الكنيسة الكاثوليكية والربوتستانتية‪.‬‬
‫‪[2]- From the Foreword of Swidler to P. Lapide and ). Moltmann, Jewish Monotheism and Christian‬‬
‫‪Trinitarian Doctrine, Philadelphia, 1981, pp. 7 -15.‬‬

‫‪30‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫ّْ‬
‫خاص[[[‪ ،‬ومؤ َّ‬
‫خ ًرا عىل اليهوديَّة واإلسالم[[[‪،‬‬ ‫الحسبان[[[‪ ،‬ويصدق هذا عىل اإلسالم واملسيح َّية بنح ٍو‬
‫واألمر كذلك يف الهند بني اإلسالم والهندوسيَّة‪ ،‬وىف مناطق أخرى من العامل أيضً ا‪ .‬ورغم نبل‬
‫جميع املحاوالت يف السعي لخلق تفاهم أفضل بني الناس‪ ،‬وأهم َّية إدراك داللة العنارص الدين َّية‬
‫بوصفها حقائق سياسيَّة واجتامعيَّة أساسيَّة‪ ،‬فقد تسبَّب استعامل الدين كأداة لبلوغ غايات سياسيَّة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫دبلومايس أو تبسيط زائف قد حل ببساطة فوق‬


‫ٍّ‬ ‫يف رصف هذه األنواع من الدراسات إ َّما إىل ابتذال‬
‫أي قدر من املشاعر األخويَّة ملاذا يرسم‬
‫يفس ُّ‬
‫االختالفات املوجودة بني الصور املق َّدسة‪ ،‬ولن ِّ‬
‫لكل منهم احرتام منظور اآلخر ال‬
‫املسيحيون األيقونات وال يرسمها املسلمون‪ ،‬وملاذا ينبغي ٍّ‬
‫بالتسامح بل بالتفاهم؟[[[‪.‬‬
‫وكان من نتيجة رفض ات ِّباع أحد هذه املسارات لفهم األديان بروز خالف وذاتيَّة وإقصائيَّة‬

‫[[[‪ -‬وال يقصد بهذا املعنى اذراء حيث من املنطقي متا ًما استعمل كل الوسائل املمكنة إلحالل السالم بني الشعوب برشط أال يُضحي‬
‫بالحقيقة الدينية يف هذه العملية‪ ،‬والميكن التضحية بالحقيقة من أجل أى يشء حتى لو كان السالم‪ ،‬ألن السالم القائم عىل الباطل بال‬
‫قيمة دو ًما‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أما فيام يتعلق باملسيحية واإلسالم فقد عقدت اجتامعات ومؤمترات رسمية شاركت فيها الكنيسة الكاثوليكية ومجلس الكنائس‬
‫العاملى والكنائس الربوتستانتية الفردية خارج املجلس العاملى أنظر ‪ee, for example, the journal Islamochristiana,‬‬
‫‪ published by the Pontificio Instituto di Studi Arabi in Rome‬والتى تحتوي معلومات شاملة عن املؤمترات والحوارات‬
‫املسيحية اإلسالمية باإلضافة إىل بعض املقاالت ذات األهمية العلمية حول هذا املوضوع‪ .‬أما بالنسبة ملجلس الكنائس العاملي وأنشطته‬
‫يف هذا املجال‪ ،‬انظر ‪see S. Samartha and J. B. Taylor (eds.), Christian-Muslim Dialogue, Geneva, 1973; also‬‬
‫ً‬
‫أعامل عدة لعلامء‬ ‫‪ .Christians Meet Muslims: Ten Years of Christian-Muslim Dialogue, Geneva, 1977‬وهناك‬
‫معنيني ىف هذا املجال مبا فيهم كريج ‪ K. Cragg‬الذى تًرجم إىل اللغة اإلنجليزية وهو مدينة الخطأ‪.‬‬
‫‪City of Wrong: A Friday in Jerusalem by Kamel Hussein, Amsterdam, 1959, and written many works on‬‬
‫‪Islamic-Christian themes including Alive to God: Muslim and‬‬
‫‪Christian Prayer, New York, 1970; and The Call of the Minaret, New York, 1965; also D. Brown,‬‬
‫‪Christianity and Islam, 5 vols., London, 1967- 70; and from the Islamic side H. Askari, Inter-Religion,‬‬
‫‪Aligarh, 1977. M. Talbi, M. Arkoun.‬‬
‫وعديد من العلامء املسلمني نشطوا ىف هذا النهج خالل السنوات القليلة املاضية‪ ،‬ولكن الغريب مل يستعملوا إال القليل من املنظور‬
‫فهم باط ًنا للدين اآلخر بقدر املمكن‪ ،‬وكان لويس ماسنيون أحد الكاثوليك الورعني‪ ،‬واعتربه علامء املسلمني منارة‬ ‫الحكمى ليقيموا ً‬
‫للعلامء الكاثوليك وللحوار اإلسالمى املسيحى أنظر‬
‫‪See G. Bassetti-Sani, Louis Massignon—Christian Ecumenist, Chicago, 1974; also Y. Moubarak (ed.),‬‬
‫‪Verse et controverse, Paris, 1971.‬‬
‫يتابع املحرر هنا سلسلة من األسئلة والردود مع علامء املسلمني‪ ،‬وهو كان طال ًبا عند ماسنيون‪ ،‬وهو يحاول أن يعكس بعض اهتاممات‬
‫معلمه ىف التفاهم اإلسالمى املسيحى‪.‬‬
‫[[[‪ -‬مل يبدأ الحوار الديني الجاد بني اإلسالم واليهودية املستقلة عن املسيحية عىل محمل الجد إال مؤخ ًرا بسبب الظروف السياسية‬
‫السائدة يف الرشق األوسط‪ ،‬لوكن ال بد أن يكون ذات أهمية كربى إذا أخذ عىل محمل الجد عىل محمل الجد ويف سياق اإلطار الرتاىث‬
‫لكال الرتاثني‪.‬‬
‫[[[‪ -‬رغم أن التسامح أفضل من عدم التسامح مع األديان األخرى‪ ،‬فمن املؤكد أن هذا ليس كاف ًيا ألنه يشري ضم ًنا أن الدين اآلخر باطلً ومع‬
‫ذلك يتسامح معه‪ ،‬إن فهم العوامل املختلفة ذات الشكل املقدس يعني أننا نصل إىل قبول الديانات األخرى ليس ألننا نريد أن نتسامح مع‬
‫إخواننا من البش‪ ،‬ولكن ألن هذه الديانات األخرى حقيقية وتأيت من الله‪ ،‬وهذا املنظور ال يعني بالطبع أنه يجب عىل املرء أن يتسامح مع‬
‫شخصا ما أو مجموعة ما تؤمن به‪.‬‬
‫ً‬ ‫الباطل بحجة أن‬

‫‪31‬‬
‫المحور‬

‫وتعصب ال ينقص العرص الحديث بالتأكيد؛ حيث إ َّن هذه السامت ليست مج َّرد خصائص‬
‫ُّ‬ ‫دين َّية‪،‬‬
‫ألناس ما قبل الحداثة كام ا َّدعى أبطال التق ُّدم منذ قرن أو اثنني مضَ يا‪ .‬والجدير باملالحظة أ َّن‬
‫هؤالء اإلقصائيني الذين يعارضون األديان األخرى عادة ما يكونون من ذوي النزعة الدين َّية‪ ،‬وتنشأ‬
‫معارضتهم من واقع أنَّهم ملكوا اإلميان وأ َّن للدين عندهم معنى‪ ،‬وهم يهاجمون هذا الجمع لكونهم‬
‫متعصبني وي َّدعون أنهم ليسوا كذلك؛ وكفُّوا عن تناول الدين عىل محمل الج ِّد‪ ،‬ولذا‬
‫ِّ‬ ‫متحاملني أو‬
‫مينحنوهم مزية عىل املجموعة األوىل‪ ،‬وتنشأ املعضلة بالتحديد حني يرتبط املرء بدين بعينه‬
‫يؤمن به ويجد فيه معنى للَّ نهايئ‪ .‬والنقد الذي ميكن أن يوجه لإلقصائيني الدينيني ال يتمثَّل ىف‬
‫القوي بدينهم‪ ،‬فهم ميلكون اإلميان ولكنهم يفتقرون إىل املعرفة املبدئ َّية‪ ،‬وهذا النوع من‬
‫ِّ‬ ‫إميانهم‬
‫املعرفة يخرتق العوامل الغريبة للصورة‪ ،‬ويُظهر معناها الباطني[[[‪ .‬وهناك بالطبع من يثبط عزمهم‬
‫البصريي‪ ،‬ويسعون لتوكيد قطب اإلميان ىف الحوار بني األديان[[[‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مام يظهر لهم كعقبة أدات َّية للفهم‬
‫يظل عنرص املعرفة ال غنى عنه؛ أل َّن العالقة األساس َّية بني املعرفة واإلميان ذاته[[[ مثل‬
‫ومن ثم ُّ‬
‫ديني غريب‪.‬‬
‫الدور الذي ميكن أن تلعبه املعرفة وحدها يف تجلية عامل ٍّ‬
‫هذه اللَّمحة الرسيعة للدراسات الدينيَّة اليوم تكشف عن قصور الطرائق السائدة من منظور‬
‫كل طريق قد يحمل بعض الجوانب‬ ‫يث ووجهة النظر الحكم َّية التي تكمن يف صميمها‪ ،‬رغم أ َّن َّ‬
‫ترا ٍّ‬
‫الحقيقي للعدالة‬
‫َّ‬ ‫اإليجابيَّة أو املزايا‪ .‬وعىل املرء أن يختار بني اإلقصائيَّة التي قد تد ِّمر املعنى‬
‫اإلله َّية والرحمة‪ ،‬وبني ما يُس َّمى بالشمول َّية التي قد تد ِّمر العنارص الثمينة للدين الذي يعتقد‬
‫كل تجلِّيات املطلق إلَّ ذاته‬
‫املؤمنون أنَّه جاء من السامء‪ .‬وهناك خيار بني املطلقيَّة التي تهمل َّ‬
‫كل الحقائق الدين َّية‬
‫الحقيقي للمطلق َّية‪ .‬وقد يُقدم املرء عىل اختزال ِّ‬
‫َّ‬ ‫وبني النسب َّية التي تد ِّمر املعنى‬
‫التاريخي‬
‫ِّ‬ ‫إىل تأثريات تاريخيَّة‪ ،‬أو اعتبارها حقائق يجب دراستها من دون الرجوع إىل الكشف‬
‫لتجل بعينه للُّوغوس‪ ،‬لذا عليه إ َّما أن يقبل اآلخر من أجل التوافق‪ ،‬أو يف أفضل الحاالت من أجل‬
‫ٍّ‬
‫خصم يجب دحضه بل وحتى تدمريه لوجهة نظره التي‬
‫ً‬ ‫املحبة‪ ،‬أو يناهض اآلخر ويقاتله بوصفه‬
‫تعتمد عىل الخطأ وليس الصواب‪ .‬وقد يُواجه املرء ببدائل لعدم دراسة األديان األخرى مطلقًا‪،‬‬

‫[[[‪ -‬يف األزمنة العادية عندما كانت كل البرشية تعيش كعامل منفصل ‪ ،‬من الواضح أن هذه املعرفة مل تكن رضورية إال يف ظروف استثنائية‪،‬‬
‫ورضورة مثل هذا االخرتاق يف عوامل أخرى ذات شكل ومعنى مقدس تزداد لدرجة أن العامل الحديث يدمر التجانس الديني لجامعة برشية‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يجب ذكر سميث ‪ W. C. Smith‬باعتباره واحدً ا من أبرز علامء الدين الغربيني الذين شددوا عىل أهمية اإلميان يف دراسة األديان‪.‬‬
‫انظر عىل سبيل املثال‬
‫‪his Faith of Other Men; Belief and History, Charlottesville, Va., 1977; and Faith and Belief.‬‬
‫[[[‪ -‬حول العالقة بني اإلميان واملعرفة انظر‬
‫‪Schuon, Stations of Wisdom, chap. 2, “Nature and Argument of Faith,” and his Logic and Transcendence,‬‬
‫‪chap. 13, “Understanding and Believing.”.‬‬

‫‪32‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫قابل للتطبيق لدى من يتأث َّرون بحقيقة ونعمة هذه‬


‫والبقاء متديِّ ًنا حقًّا ىف تراثه (رغم أ َّن هذا ليس ً‬
‫الديانات وجاملها)‪ ،‬أو دراسة تلك األديان عىل حساب ضياع إميانه أو يف أفضل األحوال تذبذب‬
‫هذا اإلميان‪.‬‬
‫يواجه اإلنسان املعارص هذه البدائل يف زمن يس ِّبب فيه وجود الديانات األخرى مشكلة وجوديَّة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫بالنسبة إليه تختلف متا ًما عمَّ واجهه أسالفه‪ ،‬وإذا كان هناك بعد جديد وها ٌّم للحياة الدينيَّة‬
‫والروح َّية فهو عبارة عن عوامل أخرى ذات معنى وصورة مق َّدسة‪ ،‬ال بوصفها حقائق وظواهر أثريَّة‬
‫شميس واحد وااللتزام بقوانينه‪ ،‬مع‬
‫ٍّ‬ ‫أو تاريخيَّة بل بوصفها حقيقة دينيَّة‪ ،‬مع رضورة العيش ىف نظام‬
‫العلم أ َّن هناك أنظمة شمس َّية أخرى‪ ،‬وحتى التق ُّدم ملعرفة يشء من إيقاعاتها وتناغمها‪ ،‬ومن ثم‬
‫كل منها بوصفه نظا ًما كوكبيًّا وهو كذلك ملن يعيشون فيه‪ ،‬يجب أن‬
‫اكتساب رؤية ملطاردة جامل ٍّ‬
‫ت ُستضاء بشمس نظام كوكبك ليتعيَّ عليك أن تعرف بقوة الذكاء الرائعة‪ ،‬ولتعرف بالتوقع‪ ،‬من دون‬
‫كل‬
‫شمسه‪ ،‬فكالهام شمس وشمس‪ ،‬وكيف للشمس التي ترشق َّ‬ ‫َ‬ ‫شميس‬
‫ٍّ‬ ‫لكل نظام‬
‫“وجود”‪ ،‬أ َّن ِّ‬
‫صباح وتيضء عاملنا غري الشمس ذاتها؟‪.‬‬
‫إ َّن هذه الداللة الحاسمة لدراسة األديان يف عوامل متع ِّددة للصورة املق َّدسة تالئم املنظور‬
‫يث واملعرفة املبدئ َّية التي تكمن ىف قلبه‪ ،‬وتصبح واضحة لإلنسان املعارص الذى يواجه مثل‬
‫الرتا َّ‬
‫هذه املشكلة “الوجوديَّة” العميقة‪ ،‬والحل الذي يق ِّدمه الرتاث لفهم وجود األديان املختلفة جعل‬
‫دور الدين نسب ًّيا مبا هو نتيجة ألحد التطبيقات املالمئة للمعرفة الحكم َّية أو املبدئ َّية والتي هي‬
‫خالدة يف ذاتها‪ ،‬وهذا النوع من املعرفة ميكن أن يؤ ِّدي مثل هذه املهمة؛ ألنَّها معرفة ذات طابع‬
‫مق َّدس ومعرفة مطلقة مق َّدسة بذاتها يف آن‪.‬‬
‫والتجل‪ ،‬واملاه َّية‬
‫ِّ‬ ‫يدرس الرتاث األديان من وجهة نظر العلم املق َّدس الذي مي ِّيز بني املبدأ‬
‫والصورة‪ ،‬والجوهر والعرض‪ ،‬والباطن والظاهر‪ .‬إنَّه يضع املطلقيَّة عىل مستوى املطلق‪ ،‬مؤكِّ ًدا‬
‫الجوهري يف نسب املطلق َّية‬
‫َّ‬ ‫عىل نحو قاطع أ َّن املطلق هو املطلق‪ ،‬ويرفض أن يقرتف الخطأ‬
‫كل تحديد‬
‫كل جهل‪ ،‬ومن ث َّم فإ َّن َّ‬
‫للنسبي‪ ،‬ذلك الخطأ الذي تع ُّده الهندوسيَّة والبوذيَّة أصل وجذر ِّ‬
‫ِّ‬
‫للمطلق هو بالفعل يف عامل النسب َّية‪ ،‬ووحدة األديان يف املقام األول توجد يف هذا املطلق‪ ،‬وهي‬
‫حق‪ .‬وحني يهتف الصوفيون مبذهب وحدة الواحد‬ ‫وكل ّْ‬‫وحي ِّ‬
‫ٍ‬ ‫كل‬
‫الحق والحقيقة يف آن‪ ،‬وأصل ِّ‬
‫األسايس الذي قد يُنىس‪ ،‬وعىل مستوى املطلق هذا فحسب تتشابه تعاليم‬
‫َّ‬ ‫فإنَّهم يؤكِّدون هذا املبدأ‬
‫األديان‪ ،‬ومن دونه هناك توافقات لرتتيب أكرث عمقًا ولكن ليس هو التجانس‪ .‬فاألديان املختلفة‬
‫مثل لغات عدة تتح َّدث عن هذه الحقيقة الفريدة كام تُجىل ذاتها يف عوامل مختلفة وفقًا إلمكاناتها‬

‫‪33‬‬
‫المحور‬

‫كل‬
‫الحق‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫ِّ‬ ‫كل دين يأيت من‬
‫املثال َّية الباطنة‪ ،‬ولكن تركيب هذه اللغات ليس متشاب ًها‪ ،‬ونظ ًرا أل َّن َّ‬
‫يشء يف الدين املقصود ينكشف باللُّوغوس املق َّدس والذي يجب اعتباره وتعزيزه عند توضيحه‬
‫بدل من اختزاله إىل داللة يف اسم لبعض أنواع الكل َّية املج َّردة‪.‬‬
‫ً‬
‫إ َّن املنهجية الرتاثية لدراسة األديان تؤكِّد”الوحدة املتعالية لألديان” عىل نحو قاطع‪ ،‬وحقيقة أ َّن‬
‫وكل عالمة‬
‫كل مسار‪َّ ،‬‬
‫كل خطوة عىل ِّ‬
‫“كل املسارات تؤ ِّدي إىل الق َّمة نفسها”‪ ،‬فهي تحرتم بعمق َّ‬
‫َّ‬
‫إرشاديَّة تجعل الرحلة ممكنة فال ميكن الوصول إىل القمة من دونها‪ ،‬ويسعى إىل اخرتاق معنى‬
‫الطقوس والرموز والصور واملذاهب التي تشكِّل عامل ًا دينيًّا بعينه‪ ،‬وال يحاول إقصاء هذه العنارص‬
‫جان ًبا أو اختزالها إىل يشء آخر غري ما هي عليه داخل هذا العامل املتم ِّيز للمعنى الذي أبدعه الله‬
‫وعي تا ٍّم كام هو الحال ىف دراسات الظواهرتيني لقيمة ومعنى‬
‫ٍ‬ ‫بوحي بعينه للُّوغوس‪ ،‬فهو عىل‬
‫التاريخي‪ ،‬مدركًا ىف الوقت نفسه معنى الوحي سواء‬
‫ِّ‬ ‫بغض النظر عن أصله‬
‫ِّ‬ ‫طقس أو رمز بعينه‪،‬‬
‫الزمني للدين أم تكشُّ فه اللَّ حق يف التاريخ‪ .‬ويدرك هذا املنظور ما يعنيه طقس وفكرة‬
‫ِّ‬ ‫يف األصل‬
‫أو رمز بعينه يف سياق تراث معيَّ كام تجلَّ يف التاريخ ال بوصفه شيئًا يف ح ِّد ذاته قد ا ُستخرج‬
‫كل من التأريخيَّة وهذا النوع من الظواهرتيَّة املجدبة‬
‫روحي بعينه‪ ،‬وبالتاىل يتحاىش خطأ ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫من عامل‬
‫املذكوره أعاله يشارك يف خلل التأريخية الذي ال يُصفح يف دراسة الحقيقة املق َّدسة بتجريدها‬
‫العاطفي‪ ،‬أو حتى تقارب األديان‪ ،‬الذى‬
‫ِّ‬ ‫املق َّدس منها‪ ،‬كام أنَّه يعارض أشكال االختزال‪ ،‬أو التوحيد‬
‫كل تراث يريده الله لرضورة‬
‫يُجحف االختالفات املوجودة والعبري الروحي املتف ِّرد[[[‪ ،‬وعبقريَّة ِّ‬
‫لكل ما يتض َّمنه دين بعينه باعتباره قد جاء من الله‪ ،‬وبالتايل وجب عدم تنحيته‬
‫متييز األديان وقبولها ِّ‬
‫ألي سبب‪.‬‬
‫جان ًبا ِّ‬
‫ُّ‬
‫وتعد َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫دية األديان‪:‬‬ ‫النسيب‬ ‫نظرية املطلق‬
‫النسبي” الذي يبدو‬
‫ُّ‬ ‫إن أحد املفاهيم املفتاحيَّة يف فهم داللة تع ُّدديَّة األديان هو “املطلق‬
‫وكل‬
‫للبعض متناقضً ا‪ ،‬ولكن بفهمه تتجلَّ أهم َّيته‪ .‬فكام ذكرنا سلفًا‪ ،‬أ َّن املطلق وحده هو املطلق‪ُّ ،‬‬
‫وحي يخلق عامل ًا من املعنى والصورة املق َّدسة بتحديدات وأقانيم بعينها‪ ،‬وتظهر‬
‫ٍ‬ ‫تجل له يف صورة‬
‫ٍّ‬
‫األقانيم اإلله َّية أو اللُّوغوس داخل عامل بعينه عىل أنَّها مطلقة من دون أن تكون مطلقة يف ذاتها‪،‬‬
‫النسبي” هي اللُّوغوس ذاته أو تحديد بعينه لأللوهيَّة‬
‫ِّ‬ ‫ويف هذا العامل سواء أكانت حقيقة “ املطلق‬
‫املسيحي يرى أ َّن اإلله ثالوث أو‬
‫ُّ‬ ‫األسمى‪ ،‬فهي مطلق من دون أن يكون مطلقًا مبا هو‪ .‬فلو كان‬
‫[[[‪ -‬هذا الطرح تناوله شوان ىف عديد من أعامله الحديثة مبا فيها كتاب الصورة والجوهر ىف األديان‬
‫‪Formes et substance dans les religions.‬‬

‫‪34‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫ومتسك بهذا االعتقاد باملعنى املطلق‪ ،‬فقد يُفهم هذا من وجهة النظر‬
‫َّ‬ ‫املسيح مثل اللُّوغوس‪،‬‬
‫الدينيَّة متا ًما‪ ،‬أ َّما من الناحية امليتافيزيقيَّة فقد يُنظر إليه بوصفه مطلقًا نسبيًّا‪ ،‬حيث إ َّن اإللوهيَّة يف‬
‫كل نسب َّية‪.‬‬
‫النهائ َّيتها ووحدتها فوق ِّ‬
‫كل دين يف معتقداتهم‬
‫وميكن للمعرفة املبدئ َّية أن تدافع عن صفة املطلق التى يراها أتباع ِّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ومذاهبهم‪ ،‬والتي من دونها لن يتَّبع البرش دي ًنا بعينه‪ ،‬ومن ث َّم تستم ُّر هذه املعرفة يف تأكيد الحقيقة‬
‫األوىل بأ َّن املطلق وحده هو املطلق‪ ،‬وبالتاىل يظهر أ َّن ما دون املطلق يف تراث بعينه هو مطلق‬
‫تجل خاص للكتاب‬
‫تجل للُّوغوس األسمى‪ ،‬وكتابه املق َّدس ٍّ‬
‫كل دين هو ٍّ‬
‫مؤسس ِّ‬
‫نسبي‪ ،‬وهكذا فإ َّن ِّ‬
‫ٌّ‬
‫األسمى أو ما يس ِّميه اإلسالم “أم الكتاب”‪ ،‬والكتاب املق َّدس صياغة عقائديَّة والهوت َّية لطبيعة‬
‫األلوهيَّة واأللوهيَّة مبا هي‪ ،‬والباطنيَّة وحدها ميكنها اكتشاف أثر املطلق يف العوامل املتع ِّددة‬
‫ّْ‬
‫صوري‪.‬‬ ‫كل الصور يف مقام اللَّ‬
‫للصورة واملعنى املق َّدس‪ ،‬ومن ث َّم ترى املطلق خلف ِّ‬
‫وكل دين يتجلَّ‬
‫يل ميثِّل بعض جوانب الطبيعة اإلله َّية‪َّ ،‬‬
‫تجل للنموذج األص ِّ‬
‫كل ٍّ‬
‫يف الحقيقة أ َّن َّ‬
‫يل ويقيم يف األلوه َّية ذاتها‪ ،‬ودعنا نقول إ َّن الحقيقة الكل َّية‬
‫انعكاسا للنموذج األص ِّ‬
‫ً‬ ‫عىل األرض‬
‫لكل تراث سواء يف اإلسالم أم يف املسيح َّية‪ ،‬كام هو ىف موجود ىف ما وراء التاريخ ومن خالل ما‬
‫ِّ‬
‫يلّ‪ .‬واالختالف‬
‫يتكشَّ ف يف الحياة التاريخ َّية املح َّددة‪ ،‬ال يزيد عام هو محتوى يف النموذج األص ْ‬
‫يل ميكن أن يُقارن بشكل‬
‫فكل منوذج أص ٍّ‬
‫كل دين‪ُّ ،‬‬
‫يف هذه النامذج األصل َّية هو ما يح ِّدد شخص َّية ِّ‬
‫هنديس منتظم ولكن له‬
‫ٌّ‬ ‫شكل‬
‫ٌ‬ ‫السدايس‪ ،‬وكالهام‬
‫ِّ‬ ‫هنديس منتظم مثل الشكل املربَّع أو الشكل‬
‫ٍّ‬
‫صفات وخصائص مختلفة‪ .‬وتعكس النامذج األصلية مرك ًزا بعينه‪ ،‬وميكن احتواؤها يف محيط‬
‫كل منهام‬
‫واحد شامل للعديد من املضلَّعات املنتظمة املد َرجة داخل الدائرة‪ .‬وبالتايل يعكس ٌّ‬
‫كل انعكاساتها األرض َّية األخرى‪.‬‬
‫األلوه َّية التي هي املركز والدائرة الشاملة يف آن‪ ،‬بينام يختلف يف ِّ‬
‫أريض آلخر‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫يل داخل انعكاس‬‫فضل عن ذلك‪ ،‬مث َّة نوع من التفسري النعكاس منوذج أص ٍّ‬ ‫ً‬
‫فإذا كان للمسيح َّية منوذجها املم َّيز فلإلسالم منوذج آخر‪ ،‬ومن ثم تظهر الشيعة يف اإلسالم‬
‫بوصفها حقيقة إسالميَّة خالصة‪ ،‬ومع ذلك يعكس هذا النوع من الحقيقة الدينيَّة النموذج املرتبط‬
‫يل لإلسالم‬
‫باملسيح َّية‪ ،‬بينام متثِّل اللُّوثريَّة حقيقة مسيح َّية‪ ،‬ولكنها نتيجة انعكاس النموذج األص ِّ‬
‫ىف املسيحيَّة[[[‪ .‬وقد ينطبق املثل عىل حركة “بهاكتي” يف الهندوسيَّة خالل العصور الوسطى يف‬
‫يظل تغلغل انعكاسات الحقائق الدين َّية النموذج َّية مستقلًّ‬
‫كل هذه الحاالت‪ُّ ،‬‬
‫مواجهة اإلسالم‪ .‬يف ِّ‬

‫[[[‪ -‬حول هذه املعضلة الصعبة انظر‬


‫‪M. Pallis, “Is There Room for ‘Grace’ in Buddhism?” in his A Buddhist Spectrum, chap. 4, pp. 52- 71.‬‬

‫‪35‬‬
‫المحور‬

‫متا ًما عن التأثريات التاريخ َّية التي تنتمي إىل نظام مختلف كل ًّيا للعلة والنتيجة‪ .‬ويجدر القول أ َّن‬
‫افتقار الوصول إىل الحكميَّة واملعرفة املق َّدسة يف الدراسات الحديثة للدين جعل حقيقة العامل‬
‫كل ظاهرة‬
‫النموذجي والسلسلة الرأس َّية للعلَّة والنتيجة عص َّيتني عىل الفهم‪ ،‬ونجم عن هذا اختزال ِّ‬
‫ِّ‬
‫تاريخي أو إىل أسباب اجتامعيَّة اقتصاديَّة أسوأ‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫دينيَّة جديدة يف العامل الديني إ َّما إىل أثر‬
‫ال ب َّد من اإلشارة هنا إىل أ َّن هذه الطريقة لرؤية األديان بوصفها متتلك حقائق منوذجيَّة مبستويات‬
‫يفس سبب كون‬
‫ريا النعكاسات هذه الحقائق داخل بعضها بعضً ا‪ِّ ،‬‬
‫للتجل تصل إىل األرض وتفس ً‬
‫ّ‬
‫الحق والباطل أو الحقيقة‬
‫ِّ‬ ‫كل دين دي ًنا ودي ًنا مبا هو‪ ،‬يحتوي عىل عقيدة أساسية تربط االختالف بني‬
‫بالحقيقي‪ .‬عالوة عىل ذلك‪ ،‬فإ َّن دي ًنا بعينه‬
‫ِّ‬ ‫والوهم‪ ،‬واملعاين التي متكِّن اإلنسان من االرتباط‬
‫وكل عنارص الرئيسة‬
‫قد يؤكِّد الحب‪ ،‬وآخر يؤكِّد املعرفة‪ ،‬وثالثًا الرحمة‪ ،‬وراب ًعا التضحية بالذات‪ُّ ،‬‬
‫للدين بالرضورة تجىل ذاتها ىف تراث متكامل‪ ،‬واملسيحية بوصفها طريقًا للحب لها مسا ًرا للمعرفة‬
‫عند إيكهارت ونيقوال الكوزى‪ ،‬واإلسالم الذى يؤكد الوصول املبارش إىل الله له شفاعة عند أمئَّة‬
‫الشيعة‪ .‬حتى البوذيَّة التي تؤكِّد عىل جهد اإلنسان للوصول إىل النريفانا باتِّباع الطريق ذي الشعاب‬
‫أي دين بكامله‬
‫الثامين لديها متَّسع للرحمة يظهر ىف البوذيَّة التيبتيَّة والوسطيَّة[[[‪ .‬لذا‪ ،‬فالعيش يف ِّ‬
‫كل األديان‪ ،‬ويك يدرك اإلنسان ما ميكن تحقُّقه من وجهة النظر الدين َّية عليه أن يتَّبع‬‫هو عيش يف ِّ‬
‫دي ًنا واح ًدا وطريقًا روحيًّا يكون له الدين والطريق مبا هو يف الوقت نفسه‪.‬‬
‫كل اإلمكانات الكامنة فيها‪،‬‬
‫كل لحظة َّ‬
‫كل األديان قد متتلك يف ِّ‬
‫بيد أ َّن هذا األمر ال يعني أ َّن َّ‬
‫يل يقيم يف املجال الذي ال يتغيَّ ‪ ،‬وكل اإلمكانات يف العقل‬
‫واألديان ال متوت؛ أل َّن منوذجها األص َّ‬
‫اإللهي‪ ،‬إلَّ أ َّن تجسدها له دورات حيات َّية‪ .‬وهناك أديان لها سجلَّ ت تاريخ َّية عندنا فحسب‪ ،‬ولكنها‬
‫ِّ‬
‫“ميتة” مبعنى أنَّه مل يعد باإلمكان مامرستها‪ ،‬ورغم بقاء رموزها وصورها إلَّ أ َّن الروح التى أحيت‬
‫هذه الصور والرموز قد رحلت عنها‪ ،‬وعادت إىل عامل الروح الخالد‪ ،‬تاركة وراءها جثة‪ .‬ومث َّة أديان‬
‫ال تزال عىل قيد الحياة لك َّنها ليست ح َّية عىل نحو كامل‪ ،‬بحيث يتعذَّر الوصول إىل أبعادها‪ .‬ومث َّة‬
‫ين‪ .‬لذا‪،‬‬
‫بديل عن النفسا ِّ‬
‫ً‬ ‫ين‬
‫وحل فيها الحضور الروحا ُّ‬
‫َّ‬ ‫أديان أخرى تالشت مامرستها الطقوسية‪،‬‬
‫كل األديان” ال يعني بحكم الواقع أ َّن بإمكاننا‬
‫أي دين هي أن تعيش َّ‬
‫فإن التأكيد عىل “أ َّن الحياة يف ِّ‬
‫الباطني‪ .‬أ َّما بالنسبة‬
‫ّْ‬ ‫خصوصأ يف ما يتعلَّق بالبعد‬
‫ً‬ ‫كل دين موجود‪،‬‬
‫أي دين بشكل كامل َّ‬
‫أن نعيش َّ‬

‫[[[‪ -‬هناك بالطبع عديد من العوامل التي تحدد بالفعل عمق التحويل‪ ،‬ولكن من وجهة نظر كلية الرتاث ميكن القول بأن التحويل ميكن‬
‫أن يكون مرشو ًعا متا ًما لشخص يبحث عن نوع من التعليم العقالين والباطني‪ ،‬أو تعليم روحي غري متوفر يف تراثه مثل هذه الحالة ‪ ،‬يقوم‬
‫الشخص بالتحول دون دحض حقيقة الرتاث الذي يرتكه وراءه‪ ،‬عىل أمل معرفة هذا الرتاث بشكل أفضل‪ ،‬عىل أية حال ‪ ،‬فإن التحول من‬
‫وجهة النظر العقالنية ال يرتبط أبدً ا بالتبشري من أي نوع دون إنكار حقيقة ديناميكيات اإلرساليات الدينية والتكاثر والتحول عىل املستوى‬
‫الخارجي‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫إىل توفُّر هذا الجانب من الرتاث اليوم‪ ،‬ليس مبقدورنا أن نؤكِّد أ َّن جميع األديان ميكن أن تعيش‬
‫كاملة بالقدر نفسه[[[‪ .‬عىل أيَّة حال‪ ،‬املعرفة الحكميَّة أو املبدئيَّة هي فحسب التي ميكنها متييز‬
‫الحالة الفعل َّية للدين‪ ،‬حيث إ َّن التعطُّش لهذه املعرفة هو ما يح ِّدد الدين أو املسار الذي يسعى‬
‫إليه شخص بعينه ىف املامرسة العمليَّة‪ ،‬من دون أن يتعارض هذا الخيار من حيث املبدأ “الوحدة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املتعالية لألديان”‪ ،‬وأصالة الرتاثات الرشيدة ‪ orthodox‬بوصفها تأىت من املصدر نفسه‪ ،‬وكاشفة‬
‫للرسائل التى يقيم ىف قلبها الحقيقة ذاتها‪ .‬إن النظرة “النظريَّة” (باملعنى اليوناين األصيل للنظريَّة‬
‫باعتبارها “رؤية”) لكل َّية الحقيقة باعتبارها موجودة داخل حدود عوامل مختلفة لصورة مق َّدسة هي‬
‫واحدة‪ ،‬وتتوافر فعليًّا وسائل لتحقيق الوصول إىل تلك الحقيقة يف لحظة بعينها من الزمن ونقطة‬
‫يف املكان‪ .‬عىل أيَّة حال‪ ،‬من وجهة النظر األولية‪ ،‬إ َّن املسار هو من يختار اإلنسان ال اإلنسان هو‬
‫من يختاره مهام كانت املظاهر التي قد تبدو أنها ت ُبلغ من منظور الساعي‪.‬‬
‫يث لألديان املتن ِّوعة أن يرى‬
‫النسبي” يتيح للدارس الرتا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫وتنبغي اإلشارة إىل أ َّن مفهوم “املطلق‬
‫الخارجي جان ًبا من الُّلوغوس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫دينى بوصفه اللوغوس‪ ،‬وباعتبار شكله‬
‫تجل الُّلوغوس يف كل عامل ٍّ‬
‫ِّ‬
‫نبي‬
‫كل ٍّ‬
‫كام أكد ابن عريب منذ قرون يف كتابه “فصوص الحكم” (حكمة األنبياء) حيث يُعرف َّ‬
‫بجانب من الحكمة التي تصدر من الُّلوغوس الذي متاثله الصوف َّية بالحقيقة املحمديَّة[[[‪ .‬وهذا‬
‫ديني حيث تنعكس فيها حقيقة اللوغوس من‬
‫كل عامل ٍّ‬
‫املفتاحي مبقدوره أن مييِّز طريقة ِّ‬
‫ُّ‬ ‫املفهوم‬
‫اإللهي أو الحقائق اإلله َّية املتجلِّية للدين‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األنثوي للفعل‬
‫ِّ‬ ‫املؤسس أو الكتاب املق َّدس أو الرفيق‬
‫املؤسسني والكتب‬
‫ِّ‬ ‫يث عىل عكس مناهج الظاهر التي تقارن بني األنبياء أو‬
‫إن املنهج الرتا َّ‬
‫النسبي”‬
‫ُّ‬ ‫املق َّدسة وغري ذلك من أديان‪ ،‬فهو يدرك املستويات املختلفة التي يوجد فيها “املطلق‬
‫فكل‬
‫بنبي اإلسالم فحسب بل بالقرآن أيضً ا‪ٌّ ،‬‬
‫كل عامل للصور املق َّدسة‪ ،‬فهو ال يقارن املسيح ِّ‬
‫ىف ِّ‬
‫من القرآن واملسيح كالم الله يف اإلسالم واملسيح َّية‪ ،‬ويرى أ َّن الدور الذي أدته مريم العذراء‬
‫هو األساس الذي ولدت منه الكلمة‪ ،‬وروح الرسول استقبلته‪ ،‬وكشف كلمة الله مثل القرآن[[[‪،‬‬
‫األنثوي لهذه الحقيقة التي هي الُّلوغوس يف‬
‫ِّ‬ ‫ومبقدوره أن يستوعب رضورة حضور العنرص‬
‫للتجل‪ .‬إنَّه يرى العذراء ليس يف‬
‫ّ‬ ‫تراثات مختلفة بصور متباينة‪ ،‬ووفقًا لدرجات ومستويات مختلفة‬
‫‪[1]- Ibn al-’Arabl, Bezels of Wisdom, especially chap. 15. On his Logos doctrine see Burckhardt,‬‬
‫‪Introduction to Sufi Doctrine, pp. 70ff., and his introduction to De l’Homme universel of al-JIli.‬‬
‫[[[‪ -‬عن الحقيقة املحمدية أنظر ‪On the “Muhammadan Reality” see Ibn al-‘Arabi, op. cit., pp. 272ff‬‬
‫[[[‪ -‬ميكن العثور عىل هذه املقارنات املورفولوجية وامليتافيزيقية العميقة يف كل الكتابات الرتاثية عن األديان املقارنة‪ ،‬ولكن أهم هذه‬
‫األعامل عند شوان‬
‫‪F. Schuon, esp. his Transcendent Unity of Religions; Dimensions of Islam; and Formes et substance‬‬
‫‪dans les religions.‬‬

‫‪37‬‬
‫المحور‬

‫النسبي” ىف دينني‬
‫ِّ‬ ‫املسيح َّية فحسب بل أيضً ا يف اإلسالم بوصفها تجلّ ًيا لحقيقة لها طابع “ املطلق‬
‫شقيقني‪ ،‬ويدرك عالقة هذه الحقيقة بأنثويَّة كوان ين ‪ Kwan-Yin‬أو قرينات كريشنا أو شيفا يف‬
‫عوامل روحيَّة مختلفة فعليَّة‪ .‬إنه يستوعب الداللة الباطنة للتشابه بني شيفا وديونيسيوس وجوانب‬
‫بعينها من هريمس وبودوها‪ ،‬وميكن التأكيد عىل أ َّن هذه التشابهات قد اكتشفها الباحثون يف الدين‬
‫ريا عنها من دون غرض أو ا ِّدعاء بامتالك املعرفة املبدئ َّية‪ ،‬وقد يصدق هذا عىل‬ ‫الذين كتبوا كث ً‬
‫يث يسمحان بإجراء املقارنات‬‫مستوى املقارنات الظاهرة‪ ،‬ولكن املعرفة املبدئ َّية واملنظور الرتا ُّ‬
‫الديني داخل‬
‫ِّ‬ ‫بعمق‪ ،‬بحيث تكون فاعلة روحيًّا‪ ،‬ويربزان العالقة املوجودة بني صنوف النموذج‬
‫عوامل دينيَّة مختلفة‪.‬‬
‫ومن السامت البارزة ذات األهميَّة والتي ينبغي أن نكررها هنا‪ ،‬أ َّن املعرفة املبدئيَّة أو املعرفة‬
‫الروحي الذي تنتمي إليه‪ ،‬من دون‬ ‫ِّ‬ ‫كل صورة مق َّدسة يف سياق العامل‬ ‫املق َّدسة للدين ترى أ َّن معنى ِّ‬
‫إنكار داللة مثل هذه الصور عىل مستواها أو البقاء مرتبطًا بعامل الصور مبا هو‪ .‬إنَّه يرى الطقوس‬
‫ريا كل ًّيا ميكن من‬
‫والرموز والصيغ العقائديَّة واملبادئ األخالق َّية وجوانب أخرى للدين بوصفها تدب ً‬
‫ديني يقيم الُّلوغوس الذي هو‬ ‫خالله فحسب فهم داللتها متا ًما‪ ،‬وبالتايل أل َّن يف قلب كل عامل ٍّ‬
‫ين اخرتاق هذه الصور وفهم لغتها ناهيك بالداللة األوليَّة‬ ‫أصل الذكاء‪ ،‬فإ َّن مبقدور الذكاء اإلنسا ِّ‬
‫طقسا أو مامرسة بزعم‬ ‫لكل مقطع صويتٍّ وصوت لهذه الُّلغة‪ ،‬وهو ال ينكر أو يش ِّوه رم ًزا مق َّد ًسا أو ً‬ ‫ِّ‬
‫الحقيقة الكل َّية املج َّردة‪ ،‬وال يخلق تطابقًا بعينه بني عنارص من العوامل الدين َّية املختلفة[[[‪ ،‬ويدرك‬
‫صوري‪ ،‬وأ َّن العنارص الرئيسة‬‫ُّ‬ ‫كل هذه الصور حيث يقف الجوهر اللَّ‬ ‫يف الوقت نفسه ما وراء ِّ‬
‫يث لدراسة األديان‬ ‫الصوري‪ .‬ووالواقع أ َّن النهج الرتا َّ‬
‫ِّ‬ ‫كل دين رغم االختالف‬ ‫للدين موجودة ىف ِّ‬
‫يهت ُّم بالصور ألنَّها تكشف عن هذه املاه َّية‪ ،‬أو باألعراض التي تعكس الجوهر‪ .‬إنه ال يتغافل‬
‫داللة الصور عىل مستواها للحقيقة ولكن يأخذ بعني االعتبار نسب َّيتها يف ضوء املاه َّية التي تيضء‬
‫بالصور‪ ،‬والتي ال ميكن الوصول إليها إلَّ بقبول هذه الصور والعيش معها[[[‪.‬‬
‫حفظ الرتاث بطريقة كاملة‪ ،‬والحقائق‬ ‫الكل بقدر ما ُ‬
‫الحق يشري ضم ًنا إىل الطابع ّ ِّ‬ ‫إ َّن مفهوم الرتاث ِّ‬
‫الكربى التي ترتبط بجوانب الطبيعة اإلله َّية والطبيعة املتلقّية للوحي أي اإلنسان من الرضورة أن ت ُجيل‬
‫كل دين هو انعكاس لحقيقة منوذجيَّة بعينها‪ ،‬وال دين من‬ ‫كل دين رغم أ َّن َّ‬ ‫ذاتها بطريقة أو بأخرى يف ِّ‬
‫دون شعور بفقدان الكامل املرتبط باألصل واملركز‪ ،‬وال دين من دون وسائل الستعادة هذا الكامل‪،‬‬
‫وال دين من دون صالة مهام كانت الصيغة التى ميكن تص ُّورها‪ ،‬وما من دين ال تعد فيه الصالة وسيلة‬

‫[[[‪ -‬عىل سبيل املثال التوجه ىف الحيز املقدس هو جزء أسايس للطقوس الدينية ولكن ال يعنى أن له األهمية نفسها أو النوع نفسه من‬
‫األهمية يف طقوس الهنود األمريكيني والقداس املسيحي‪.‬‬
‫[[[‪ -‬حول هذا املوضوع انظر ‪.Schuon, Formes et substance dans les religions, esp. pp. 19ff‬‬

‫‪38‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫إلصالح اإلنسان‪ ،‬وما من دين قد ت ُح َّدد فيه الحقيقة بالتجربة الزمن َّية واملكان َّية لهذا العامل‪ ،‬حيث‬
‫ال يوجد ما وراء تسافر إليه نفس اإلنسان (وهذا ما تتض َّمنه حتى العقيدة البوذيَّة يف مفهوم اللَّ نفس‬
‫السمساري وإمكان وصول اإلنسان إىل هذه الحالة)‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫‪ no-self‬الذي يشري إىل حالة ما وراء للوجود‬
‫كل األديان رغم أنها‬
‫كذلك مث َّة العديد من العنارص األخرى للدين تُجيل ذاتها بطريقة أو بأخرى ىف ِّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫بأي شكل االختالفات األساس َّية التي‬ ‫ليست بالطريقة نفسها[[[‪ .‬ومع ذلك ال ميكن للمرء أن يتجاهل ِّ‬
‫ظل هذه العوامل ذات‬ ‫مت ِّيز العائالت الدين َّية مثل اإلبراهيم َّية والهنديَّة واإليران َّية أو الشامان َّية‪ ،‬ولكن يف ِّ‬
‫الحكمي متييز وجود‬
‫ِّ‬ ‫كل عامل عبقريَّة روحيَّة بعينها‪ ،‬ومبقدور املنظور‬ ‫االختالفات الواضحة ميتلك ُّ‬
‫عنارص أساسيَّة بعينها‪ ،‬ويُطبِّق مفاتيح مفهوميَّة تتعلَّق بالحقيقة الدينيَّة‪.‬‬
‫َّ‬
‫أساسية لالرتب�اط باهلل‪:‬‬ ‫طرق‬
‫من امله ِّم القول أ َّن مث َّة ثالث طرق أساس َّية لالرتباط بالله‪ ،‬أو للعالقة بني الله واإلنسان‪ :‬األوىل‬
‫تقوم عىل الخوف من الله‪ ،‬والثانية مبن َّية عىل الحب‪ ،‬والثالثة عىل املعرفة‪ ،‬التي تتوافق يف الحياة‬
‫الروح َّية العمل َّية مع مقامات التص ُّوف الثالثة املعروفة وهي‪ :‬القبض ‪ ،contraction‬والبسط‬
‫كل تراث عظيم لجنس‬ ‫‪ ،expansion‬واإلتحاد [[[‪ .union‬هذه العنارص توجد‪ ،‬بطريقة أو بأخرى‪ ،‬يف ِّ‬
‫املعني‪ ،‬حتى أنَّها تظهر يف وقت‬ ‫ِّ‬ ‫كل حالة وفقًا لعبقريَّة الرتاث‬
‫البرش‪ ،‬رغم أنَّها ت ُجيل ذاتها ىف ِّ‬
‫مناسب وفق سامت االنكشاف التاريخي لهذا الرتاث‪ .‬ويتبع منظور الخوف يف اليهوديَّة املوجود‬
‫يف أسفار موىس الخمسة مفهوم الحب يف نشيد اإلنشاد واملزامري والغنوص عند القباليني بعد‬
‫يك يف املسيحيَّة آلباء الصحراء عىل منظور الخوف الذي يتَّبع‬ ‫قرون الحقة‪ .‬وينبني االتجاه النس ُّ‬
‫الحكمي للمسيح َّية التي‬
‫ِّ‬ ‫حقيقي للبعد‬
‫ٌّ‬ ‫روحان َّية الحب قرب نهاية العرص الوسيط‪ ،‬ثم تاله ازدهار‬
‫اقتطعت تط ُّورها الكامل بالثورة ض َّد املسيح َّية يف عرص النهضة‪ ،‬وقد ترى الدورة ذاتها يف اإلسالم‬
‫إلَّ أنها كانت برتتيب أرسع‪ ،‬حيث تظهر الروحان َّية القامئة عىل املعرفة يف وقت مبكر يف الرتاث‪.‬‬
‫ومع كل هذه االختالفات يف طريقة ظهور هذه املواقف األساسيَّة وأمناط الحياة الدينيَّة والروحيَّة‬
‫كل‬
‫كل تراث‪ ،‬ورغم أ َّن العنارص الثالثة وهي الخوف والحب واملعرفة بالرضورة حارضة ىف ِّ‬ ‫يف ِّ‬
‫كل دين قد أكَّد عىل جانب واحد من العنارص الثالثة‪ :‬فاليهوديَّة تؤكِّد عىل الخوف‪،‬‬ ‫دين‪ ،‬ومع أ َّن َّ‬
‫الحب‪ ،‬واإلسالم عىل املعرفة‪ ،‬فإ َّن هذه العنارص مل تغب يف الهندوس َّية التي‬ ‫ِّ‬ ‫واملسيح َّية عىل‬
‫وصفت بوضوح يف مفاهيم كارما وبهاكتي وجهدنا يوجا‪ .‬وكذلك مل تغب عن البوذيَّة حيث تظهر‬

‫[[[‪ -‬نحن ال نعنى بالطبع أن كل العنارص قد تتكرر ىف كل األديان أو كذلك تتكرر‪ ،‬فعىل سبيل املثال الزمن والخلق أو حتى الحقائق‬
‫األخروية متشابهة ىف كل دين‪.‬‬
‫[[[‪ -‬تناولت أندرهيل ىف تصوفها هذه املظاهر بطريقة عامة ىف التصوف املسيحى‬
‫‪A Study in the Nature and Development of Man’s Spiritual Consciousness, New York, 1960, pt. 2.‬‬

‫‪39‬‬
‫المحور‬

‫يف عالقات وارتباطات مختلفة ىف مدارس ثريافادا ‪ Theravada‬وفاجرايانا ‪ Vajrayana‬وماهايانا‬


‫التوحيدي لهذه الديانة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ Mahayana‬رغم املنظور غري‬
‫حري القول أ َّن من الرضورة امتالك كل دين متكامل كال العنرصين‪ ،‬فيجب أن ميتلك الحقيقة‬ ‫ٌّ‬
‫التي وتنقذ وتخلِّص وتحرض ما يجذب وينقل ويخدم ما بوصفه وسائل لإلنقاذ والخالص[[[‪ ،‬ولكن‬
‫كل تراث‪ .‬فعىل سبيل املثال‪ ،‬داخل‬ ‫هذه املكونات األساسيَّة للدين ال توجد بالطريقة نفسها ىف ِّ‬
‫األرسة اإلبراهيميَّة تؤكد املسيحيَّة عىل الحضور‪ ،‬ويؤكِّد اإلسالم عىل الحقيقة‪ ،‬يف حني أ َّن الحقيقة‬
‫اإلسالمي‪ ،‬يركِّز أهل‬
‫ِّ‬ ‫ال غنى عنها للمسيح َّية كام هو الحال بالنسبة إىل اإلسالم‪ .‬وداخل الرتاث‬
‫الس َّنة تركي ًزا أكرب عىل الحقيقة‪ ،‬فيام يركِّز الشيعة عىل الحضور‪ .‬وميكن العثور عىل العنرصين‬
‫نفسيهام ىف الهندوسيَّة والبوذيَّة‪ ،‬حيث تؤكِّد مدرسة ما عىل عنرص بعينه‪ ،‬فيام تركِّز مدرسة أخرى‬
‫يئ” للعقل وتطبِّقها‬ ‫عىل عنرص آخر‪ .‬وتستمد املعرفة املبدئية هذه املفاتيح من “املكنز غري املر ِّ‬
‫عىل عوامل مختلفة للصورة املق َّدسة بطريقة تجعل هذه العوامل مفهومة من دون انتهاك عبقريَّتها‬
‫الخاصة‪ ،‬أو جعلها تظهر كحقائق غامضة لتُدرس إما بوصفها ظواهر أو مؤث ِّرات تاريخ َّية‪.‬‬‫َّ‬
‫إ َّن هذا النمط من املعرفة هو الذي يضع يف االعتبار تع ُّددية بديعة للصور واملعاىن املق َّدسة‬
‫من دون أن تضيع يف غابة التع ُّدديَّة‪ ،‬أو تختزل هذه التع ُّدديَّة إىل يشء آخر غري املق َّدس قد تد ِّمر‬
‫داللته الفطريَّة‪ .‬إنَّها معرفة مبدئ َّية أو مق َّدسة بإمكانها وحدها أن تجمع بني منظور يُزاوج بني رؤية‬
‫حقيقة ما وراء التاريخيَّة ومنظور يرتكز عىل نرش هذه الحقيقة وتكشُّ فها يف سياق الزمن والتاريخ‪،‬‬
‫كل ما تكشَّ ف تاريخ ًيا – لكن ليس كام ف ُِّس من‬ ‫وهذا النمط من معرفة األديان ميكن أن يحرتم َّ‬
‫زمني‬
‫األبدي إىل ما هو ٌّ‬
‫ِّ‬ ‫األبدي‪ ،‬وهو دعوة‬
‫ِّ‬ ‫منظور التاريخ َّية ـ من دون أن يقلِّل ممَّ يأيت بطبيعته من‬
‫ومتح ِّول‪.‬‬
‫باطني يف جوهرها‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫غني عن القول أ َّن دراسة األديان األخرى بهذه الطريقة هي دراسة ذات طابع‬ ‫ٌّ‬
‫فاإلنسان ليس مبقدوره أن يخرتق املعنى الباطن للصورة إلَّ من خالل معرفة باطنة أو داخلة‪.‬‬
‫الباطني يف ضوء‬
‫ِّ‬ ‫والحقيقة أ َّن املعرفة املبدئيَّة ال ميكن الحصول عليها إلَّ من خالل املذهب‬
‫املعنى الذي عرفناه وناقشناه سلفًا‪ .‬وقد يقول أحدهم إ َّن الباطنيني األفذاذ ميكنهم أن يجروا‬
‫حوا بالظاهر أو اليقني و “املطلق َّية” التي ترتبط بعامل‬
‫دراسات مع َّمقة بني األديان من دون أن يض ُّ‬
‫شخوصا مثاليني لالختيار من بينها ألجل حوار متداخل‬
‫ً‬ ‫ديني بعينه‪ ،‬وقد يكون الحكامء والعرفانيون‬ ‫ٍّ‬
‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫حا‪ .‬وقد يقول أحدهم اآلخرإنه ميكن العثور عىل التفاهم‬ ‫وجا ٍّد بني األديان إن كان هذا متا ً‬
‫اإللهي فحسب ال يف املحيط‬ ‫ِّ‬ ‫الكامل والتناغم ووحدة األديان –عىل ح ِّد تعبري شوان ‪ -‬يف املحيط‬

‫‪[1]- Schuon, Islam and the Perennial Philosophy, chap. 1, “Truth and Presence.‬‬

‫‪40‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

‫كل املؤمنني والباحثني الذين يدرسون دي ًنا آخر باطنيني وق ِّديسني وحكامء بالطبع‪،‬‬ ‫ين‪ .‬وليس ُّ‬
‫اإلنسا ِّ‬
‫ين‪ ،‬ومن الرضورة اليوم‬
‫اإللهي يف ما تبقَّى منه يف املحيط اإلنسا ِّ‬‫ِّ‬ ‫ولكن املرء يحتاج إىل املحيط‬
‫الديني أو‬
‫ِّ‬ ‫اإللهي يف مسألة الحوار‬
‫ِّ‬ ‫أي وقت مىض أن نعت َّد بوجهة النظر من منظور املحيط‬ ‫أكرث من ِّ‬
‫الباطني للرتاث من أجل الحفاظ‬
‫ِّ‬ ‫املواجهة‪ ،‬والحال هكذا يف مجاالت أخرى ال غنى لوجود البعد‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املعني؛ ألنَّه وحده فحسب قد يوفِّر إجابات بعينها عىل التساؤالت امله َّمة الحاسمة‬ ‫ِّ‬ ‫عىل الرتاث‬
‫تنطوي يف العامل الحديث عىل تع ُّددية العوامل الدين َّية والصور املق َّدسة‪.‬‬
‫ختا ًما‪ ،‬يجدر القول أ َّن محاولة فهم أهم َّية املعرفة املبدئ َّية أو املق َّدسة من أجل إدراك التع ُّددية‬
‫الديني الذي ال يرت ُّد إىل العرص الحديث‪ ،‬والذي انطوى معرفة‬ ‫ِّ‬ ‫الدين َّية يدفعنا ألن نتح َّول إىل اللقاء‬
‫دنيوي‪ ،‬وبعض هذه اللقاءات كانت جدليَّة وذات طبيعة الهوتيَّة‬ ‫ّْ‬ ‫مق َّدسة متا ًما وليست ذات طابع‬
‫خاص باملصادر اليهوديَّة واملسيحيَّة واإلسالميَّة‪ ،‬حيث هناك تصنيف‬ ‫ٍّ‬ ‫ألمثلة عدة ترتبط عىل نح ٍو‬
‫يب[[[‪ ،‬ولسنا معنيني هنا بهذه الكتابات ومحتواها‪،‬‬ ‫كامل لهذه النوع َّية من الكتابات يف األدب العر ِّ‬
‫رغم أنَّها ذات أهم َّية كبرية ىف إظهار ش َّدة اإلميان يف عامل مشبع بحضور القدرة العقل َّية لألثر‬
‫للهوتيني األفذاذ عند مقارنتها بكثري من الذهنيَّات العلامنيَّة التي تصف ذاتها بأنَّها الهوتيَّة‬
‫املق َّدس َّ‬
‫حكمي مع‬‫ٍّ‬ ‫امللح هو حني يواجه حكيم ميتلك معرفة مبدئيَّة ويشاركها يف تراث‬ ‫َّ‬ ‫اليوم‪ ،‬ولكن األمر‬
‫الرومي‪ ،‬وبالطبع حاول متص ِّوفة‬‫ِّ‬ ‫ديني آخر ميكن أن نجده ىف نيكوالس الكوزي وجالل الدين‬ ‫عامل ٍّ‬
‫وغني عن القول أ َّن‬‫ٌّ‬ ‫الهندي أن يحصلوا عىل فهم مبارش للهندوس َّية والعكس‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫عديدون يف العامل‬
‫ترجمة النصوص املق َّدسة من السنسكريتيَّة إىل الفارسيَّة من قبل شخصيَّة مثل دارا شكوه ‪Dara‬‬
‫‪ ،Shukuh‬أو الحوايش التي كتبها الحكيم املسلم میر ِف ْن ِدر ِْسکی عىل عمل رئيس للهندوسيَّة مثل‬
‫تجسد فرتات من التاريخ البرشي‬ ‫يوجا فاشيشتا [[[‪ ،Yoga Vaisistha‬ليست ظاهرة ثقاف َّية عابرة‪ ،‬بل ِّ‬
‫ين للعامل الحديث‪،‬‬ ‫ذات أهم َّية كربى للمعارصين؛ وهم يق ِّدمون قضايا بعيدة عن السياق العلام ِّ‬
‫حيث قام رجاالت الدين مبحاوالت لفهم األديان األخرى حتى أنَّهم تجاوزوا الحدود الكربى‬
‫اإلسالمي ىف هذا املجال مرياث ًا غنيًّا ال‬
‫ُّ‬ ‫اإلبراهيمي عن الهند‪ .‬ويق ِّدم الرتاث‬
‫َّ‬ ‫التي تفصل العامل‬
‫آجل أكرث اهتام ًما ممَّ هم عليه اليوم‬
‫عاجل أم ً‬
‫ً‬ ‫يهم املسلمني املعارصين الذين سوف يصبحون‬

‫[[[‪ُ -‬يسمى امللل والنحل ىف العربية‪ ،‬ومن أكرث أعامل الشهرستاين شهرة‪ ،‬وامللل جمع ملة وتستعمل هنا لإلشارة لآلراء الالهوتية ملختلف‬
‫الطوائف الدينية‪ ،‬والنحل جمع نحلة‪ ،‬وتُعنى باملدرسة أو املنظور الفلسفي‪.‬‬
‫[[[‪ -‬حالة مري فندريسيك الذي علم الشفاء القانون يف أصفهان‪ ،‬وألف يف عملً مهمً يف الخيمياء‪ ،‬وكان شاع ًرا وميتافيزيق ًيا بار ًعا‪ ،‬وكتب‬
‫حواىش مهمة عىل يوجا فاشيشتا ‪ ، Yoga Vaisiitha‬وهي ذات أهمية للقاء بني الرتاتني الفكريني اإلسالمي والهندويس‪ ،‬وتستحق مزيد‬
‫من الدراسة انظر‪:‬‬
‫‪On Mir FindiriskI see Nasr, “The School of Isfahan,” in A History of Muslim Philosophy, vol. 2, pp. 922ff.‬‬
‫وقد حصل مجتبى ‪ F. MojtabaY‬عىل دكتوراه مثرية لالهتامم يف جامعة هارفارد حول مري فندريسيك وحاشيته عىل هذا العمل‬
‫السنسكريتي‪ ،‬وعىل حد علمنا مل ير عمله النور حتى اآلن‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫المحور‬

‫مع ما يس َّمى بالدين املقارن فحسب‪ ،‬بل يه ُّم الغرب أيضً ا[[[‪ .‬وميكن ملثل هذه األمثلة أن تساعد‬
‫الباحثني الغربيني يف دراساتهم لألديان األخرى عىل التمييز بني العنارص التي تتعلَّق بامله َّمة‬
‫ين ومفهوم‬ ‫الصعبة بطبيعتها املتمثِّلة يف عبور الحدود الدينيَّة‪ ،‬وتلك التي تنطوي عىل عقل علام ٍّ‬
‫ُمتَ َعل ِمن للمعرفة مبساعدة العديد من الباحثني الحديثني الذين يسعون للقيام بالرحلة نفسها يف‬
‫حا” يف معظم األحيان‪ .‬وتقدم هذه الحاالت أيضً ا أمثلة عىل كيف َّية اقرتاب‬ ‫ظل ظروف أكرث “إلحا ً‬‫ِّ‬
‫الذكاء املشبع بإحساس املق َّدس من وجود عوامل أخرى ذات صورة مق َّدسة‪ ،‬بد ًءا من نقطة انطالق‬
‫تختلف عن باحثي الدين املقارن الحديث‪ ،‬سواء أكانوا هم أنفسهم الهوتيني أم كانوا بعيدين عن‬
‫اللهوت وعن الباحثني العلامنيني‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ولكن‪ ،‬حتى لو ُدرست هذه األمثلة‪ ،‬فال يزال هناك شك يف أن يطبِّق العامل الحديث املعرفة‬
‫املبدئ َّية عىل عوامل الورة املق َّدسة بالتفصيل بقدر تعلُّقها باإلنسان املعارص باعتباره كائ ًنا دين ًّيا‪.‬‬
‫وحيث إ َّن هذا التع ُّهد مل يكن رضورة ىف األوقات العاديَّة‪ ،‬فقد تُرك حتى تحني ساعة الغروب َّ‬
‫فيفك‬
‫الرتاث يف املبدأ ويف تفصيالت لغات أديان متن ِّوعة‪ ،‬والتي هي يف الحقيقة لغات مختلفة تتح َّدث‬
‫عن الحقيقة نفسها‪ ،‬حتى الَّلهجات من الُّلغة اإللهيَّة‪ .‬وهكذا مت ِّهد األرض لرشوق الشمس م َّرة‬
‫أخرى‪ ،‬كام تتح َّدث تعاليم األخرويَّات يف العديد من الرتاثات مبا فيها اإلسالم َّية[[[ والتي سوف‬
‫لكل الصور املق َّدسة ووحدتها الباطنة‪ ،‬وتحقيق الوحدة الدينيَّة لجنس‬
‫تكشف عن املعنى الباطن ِّ‬
‫البرش‪.‬‬
‫يوسع منط دراسة األديان الذي‬
‫خالصة القول أ َّن الثمرة املبارشة إلعادة علمنة املعرفة سوف ِّ‬
‫يث‪ ،‬وحتى دراسة األديان املتن ِّوعة مج َّرد عمليَّة نسبيَّة ونشاط‬
‫قام به بالفعل أساتذة املذهب الرتا ِّ‬
‫مناهض يف ذاته‪ .‬وعليه‪ ،‬ميكن للعلم املق َّدس للدين‪ ،‬ال علم األديان كام يفهم عادة‪ ،‬أن يق ِّدم‬
‫جامل وإثرا ًء موثوقًا لعوامل أخرى للصورة واملعنى املق َّدسني من دون تدمري‬
‫ً‬ ‫لإلنسان املعارص‬
‫للطابع املق َّدس لعامل املرء‪ .‬فاملعرفة املق َّدسة التي تصدر من الفرد مبقدورها أن تخرتق عوامل‬
‫مختلفة للتع ُّدديَّة التي صدرت منه أيضً ا‪ ،‬وال تجد فيها نفيًا لنقطة انطالقها وأُسسها الرتاثية‪ ،‬ولكن‬
‫توكي ًدا للحقيقة املتعالية التي تيضء عرب عوامل مختلفة للصورة املق َّدسة التي أبدعته تلك الحقيقة‪.‬‬
‫وبهذه الطريقة تق ِّدم املعرفة املق َّدسة أمثن ترياق لعامل يذبل بسبب استنفاد الشعور باملق ّدس من‬
‫كل حياة وفكر‪ ،‬وذلك الرتياق ينبع من الرحمة اإلله َّية ذاتها‪.‬‬
‫ِّ‬

‫‪[1]- S. H. Nasr, “Islam and the Encounter of Religions,” in Sufi Essays, New York, 1975, pp. 106- 34.‬‬
‫[[[‪ -‬كام يرى اإلسالم أنه حني يظهر املهدي قبل نهاية الزمان فإنه لن يحل السالم فحسب‪ ،‬بل سريفع الصور الدينية الظاهرة ويكشف عن‬
‫معناها الباطني ووحدتها األساسية من خاللها يوحد األديان‪ ،‬وميكن أن نجد يف تراث أخر مثل الهندوسية األحداث اآلخروية يف نهاية‬
‫الدورة التاريخية حيث تتوحد الثور الدينية املختلفة‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫المعرفة المبدئ َّية‬

:‫الحئة املصادر واملراجع باإلنكلزيية‬


1. A Study in the Nature and Development of Man's Spiritual Consciousness, New
York, 1960, pt. 2
2. From the Foreword of Swidler to P. Lapide and ). Moltmann, Jewish Monotheism
and Christian Trinitarian Doctrine, Philadelphia, 1981.
‫م‬2022 ‫هـ ــ صيف‬1444 ‫العدد الثاين ــ‬

3. Ibn al-'Arabl, Bezels of Wisdom, especially chap. 15. On his Logos doctrine see
Burckhardt, Introduction to Sufi Doctrine, pp. 70ff., and his introduction to De l'Homme
universel of al-JIli.
4. M. Pallis, "Is There Room for 'Grace' in Buddhism?" in his A Buddhist Spectrum,
chap. 4, pp. 5271-.
5. On the "Muhammadan Reality" see Ibn al-‘Arabi, op. cit.
6. S. H. Nasr, "Islam and the Encounter of Religions," in Sufi Essays, New York, 1975.
7. Schuon, Formes et substance dans les religions, esp. pp. 19ff.
8. Schuon, Islam and the Perennial Philosophy, chap. 1, "Truth and Presence.
9. see S. Samartha and J. B. Taylor (eds.), Christian-Muslim Dialogue, Geneva, 1973;
also Christians Meet Muslims: Ten Years of Christian-Muslim Dialogue, Geneva, 1977
10. W. C. Smith his Faith of Other Men; Belief and History, Charlottesville, Va., 1977;
and Faith and Belief.
11. See, for example, S. Katz, “Language, Epistemology, and Mysticism," in S. Katz
(ed.), Mysticism and Philosophical Analysis, New York, 1978; and also idem, “Models,
Modeling and Religious Traditions" (in press.
12. -1 Guenon, Introduction to the Study of Hindu Doctrines; Coomaraswamy, "Paths
that Lead to the Same
13. 1-J. Hick, "Whatever Path Men Choose is Mine," in Hick and B. Hebblethwaite
(eds.), Christianity and Other Religions, Philadelphia, 1980.
14. Approach to the Religious Traditions of Mankind, New York, 1963; The Faith of
Other Men, New York, 1963; and Towards a World Theology, Philadelphia, 1981, esp. pt. 3,
15. Ch. Adams in his, “The History of Religions and the Study of Islam," American
Council of Learned Societies Newsletter, no. 25, iii-iv (1974).
16. On Mir FindiriskI see Nasr, "The School of Isfahan," in A History of Muslim
Philosophy, vol. 2.
17. Schuon, Stations of Wisdom, chap. 2, "Nature and Argument of Faith," and his
Logic and Transcendence, chap. 13, "Understanding and Believing."

43
‫املعرفة كَ َه ٍّم أقصى‬
‫اإليامن بام هو ٌ‬
‫فعل يصل به العقل يف نشوته االنجذابية إىل ما وراء ذاته‬

‫بول تيليش‬
‫ن‬
‫ألما�‬ ‫ت‬
‫والهو�‬ ‫فيلسوف‬
‫ي‬ ‫ي‬

‫إجمال‬‫ي‬ ‫تمهيد وملخص‬


‫والل ت‬‫َّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫هو�‬
‫ي‬ ‫ال� قوربت فيها عالقة اإليمان والعقل لدى الفيلسوف‬ ‫ي� المنهجية المعتمدة ي‬
‫الن� المتبادل‬ ‫األلما� بول تيليش(‪ )1965-1886‬بدا السؤال مركو ًزا ف� الغالب عما إذا كان ف‬ ‫ن‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫بينهما هو الحاكم عىل تلك العالقة‪ .‬ثم يتمدد التساؤل لديه عما لو كان من اإلمكان بمكان أن‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ت‬
‫يق�ن اإليمان بالعقل ليشكال معا بنية معرفية واحدة‪ .‬وإذا كانت هذه المنهجية ممكنة ‪ -‬أي‬
‫إمكانية اإلتحاد‪ -‬بي�ز التساؤل حول كيفية ارتباط األحكام العقالنية واألحكام اإليمانية بعضها إىل‬
‫ح� ُيساء فهم العالقة واالرتباط بينهما فمن الممكن أن يستبعد اإليمان‬ ‫الب� أنه ي ن‬
‫بعض‪ .‬ومن يِّن‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫والعقل كل منهما اآلخر‪ .‬أما إذا ف ِه َم اإليمان باعتباره اهتماما بغاية قصوى‪ ،‬فال حاجة لوجود نزاع‪.‬‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫إىل أي مدى يمكن أن يكون وافيا ما دامت جوابا كهذا الحياة الروحية لإلنسان وحدة متصلة‪،‬‬
‫وال تقبل بالعنارص المتجاورة‪ .‬ذلك بأن العنارص الروحية لإلنسان متكاملة ومتحدة‪ ،‬عىل الرغم‬
‫ف‬ ‫يع�يــها من خصائص ي ز‬ ‫مما ت‬
‫يك� التأكيد عىل أن حالة‬ ‫مم�ة‪ ،‬ومن تداخالت‪ .‬من أجل ذلك ال ي‬
‫ً‬ ‫ن‬ ‫ف‬
‫اإلنسا�‪ .‬بل من الواجب أيضا أن‬ ‫ي‬ ‫االهتمام القصوى ليست ي� رصاع مع البنية العقلية للذهن‬
‫ال� يتداخالن من‬ ‫ت‬
‫وه بالتحديد الطريقة ي‬ ‫يكشف اإلنسان عن العالقة الفعلية الرابطة بينهما‪ ،‬ي‬
‫خاللها ويقع بعضهما ف ي� إطار بعض‪.‬‬

‫يم� بول‬ ‫ف� هذا البحث المستل من كتابه "ديناميات اإليمان" (‪ )Dynamics oF Faith‬ض‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫َّ ف‬
‫تيليش إىل منطقة معرفية قصية ي� الحديث عن حقيقة اإليمان وعن تالزمها واألطوار المابعدية‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫ق‬
‫والوح عىل نصاب واحد‪ ،‬ثم ليعقدا ميثاقا وطيدا يدور مدار‬ ‫ي‬ ‫للعقل‪ .‬وهنا يتال� محيطا العقل‬
‫ما يمكن اإلصطالح عليه بـ "نظرية المعرفة اإليمانية"‪.‬‬

‫* * *‬
‫الهم األقىص‪ -‬األوامر األخالقية‪ -‬الحضارة التقنية‪-‬‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬اإليمان‪ -‬العقل‪ّ -‬‬ ‫مفردات‬
‫النشوة اإلنجذابية‪.‬‬
‫المعرفة َك َ‬
‫ه ٍّم أقصى‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫[[[‬

‫ينبغي أن يسأل املرء أوالً‪ :‬بأي معنى ت ُستخدم كلمة «عقل» حني تُواجه باإلميان؟ هل ما يُقصد‬
‫منها كام أن تُطلق مبعنى املنهج العلمي والدقة املنطقية والحساب التقني؟ أم انها كام كان الحال‬
‫يف كثري من حقب الثقافة الغربية‪ ،‬ت ُستخدم مبعنى منبع املعنى والبنية واملعايري واملبادئ؟ سوف‬
‫اللزمة ملعرفة الواقع والسيطرة عليه‪ ،‬يف حني‬ ‫نرى يف الحالة االوىل‪ ،‬ان العقل يوفِّر لنا األدوات َّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يوفر اإلميان الوجهة التي تتم فيها مامرسة هذه السيطرة‪ .‬قد يطلق املرء عىل هذا الصنف من العقل‬
‫تسمية العقل التقني أي ذاك الذي يوفر الوسائل‪ ،‬ال الغايات‪ .‬وهذا العقل بهذا املعنى بالحياة‬
‫اليومية لكل إنسان‪ ،‬وتالياً هو القوة التي تحدد مسار الحضارة التقنية لعرصنا‪ .‬أما يف الحالة الثانية‪،‬‬
‫فإن العقل يتامهى بإنسانية اإلنسان تلقاء جميع الكائنات األخرى‪ .‬فهو أساس اللغة‪ ،‬والحرية‪،‬‬
‫واإلبداع‪ .‬وهو داخل يف عملية البحث عن املعرفة‪ ،‬وتجربة الفن‪ ،‬وإنجاز األوامر األخالقية‪ :‬ذلك‬
‫بأنه يجعل من الحياة الشخصية املتمركزة واملشاركة يف الجامعة أمرا ً ممكناً‪ .‬فلو كان اإلميان‬
‫نقيضاً للعقل‪ ،‬لَطَفَق مييل إىل نزع الصفة اإلنسانية عن اإلنسان‪ .‬وقد استُخرجت هذه النتيجة‪،‬‬
‫نظرياً وعملياً‪ ،‬يف األنظمة التوتاليتارية الدينية والسياسية‪ .‬إذ إن اإلميان الذي يدمر العقل يدمر نفسه‬
‫ويدمر إنسانية اإلنسان‪ .‬حيث ال يقدر سوى كائن ميتلك بنية العقل عىل أن يحرز هامً أقىص‪ ،‬وأن‬
‫اللمرشوطة للوازع الخلقي‪ ،‬وأن يدرك حضور‬ ‫مييز الهموم القصوى واألولية‪ ،‬وأن يفقه األوامر َّ‬
‫املقدس‪ .‬وال يصح هذا كله إال إذا افرتضنا مسبقاً املعنى الثاين للعقل‪ :‬أي العقل بوصفه البنية‬
‫املعنوية للذهن والواقع‪ ،‬ال املعنى األول‪ :‬أي العقل بوصفه أداة تقنية‪.‬‬
‫العقل إذا ً‪ ،‬هو الرشط اإلبتدايئ لإلميان‪ :‬ذلك ألن اإلميان هو الفعل الذي يصل به العقل يف‬
‫نشوته اإلنجذابية إىل ما وراء ذاته‪ .‬عقل اإلنسان متنا ٍه‪ :‬انه يتحرك ضمن عالقات متناهية حني يهتم‬
‫بالعامل وباإلنسان نفسه‪ .‬ولكل الفعاليات الثقافية التي يتلقى فيها اإلنسان عامله والتي يشكل فيها‬
‫عامله هذه الخاصية يف التناهي‪ .‬وعليه فهي ليست قضايا ذات ه ّم ال متنا ٍه‪ .‬مع هذا فإن العقل ليس‬
‫مقيدا ً بتناهيه‪ .‬بل هو يعيه‪ ،‬وبهذا الوعي‪ ،‬يسمو فوقه‪ .‬يجرب اإلنسان االنتامء إىل َّ‬
‫اللمتناهي‪ ،‬الذي‬
‫هو ليس جزءا ً منه‪ ،‬وال يقع يف متناول قدرته‪ .‬لكن ال بد له أن يستحوذ عليه‪ ،‬وإذا استحوذ عىل‬
‫اإلنسان‪ ،‬صار قضية هم المتنا ٍه‪ .‬اإلنسا ُن متنا ٍه‪ ،‬ألن عقله يعيش همومه األولية‪ ،‬لكن اإلنسان يعي‬
‫أيضاً ال نهائيته املمكنة‪ ،‬ويظهر هذا الوعي كه ِّم أقىص‪ ،‬أي بوصفه إمياناً‪ .‬فإذا هيمن عىل العقل‬

‫‪ -‬بول يوهانس تيليش (‪ )Paul Johnnes Tillich‬فيلسوف وجودي مسيحي من أصل أملاين‪ -‬ولد يف قرية ستارسيدل(بولندا حالياً) يف‬
‫اللهوت يف القرن العرشين‪ ،‬حيث ترتكز فلسفته عىل رؤية مفارقة يف‬ ‫مقاطعة براندنبورغ يف األمرباطورية األملانية‪ .‬هو من أبرز فالسفة ّ‬
‫اللعقالين عىل نحو التجاور والوحدة‪ .‬وقد القت أطروحاته الكثري من الجدل بصدد اآلثار املرتتبة سواء يف‬‫فهم يلتقي فيها العقالين مع َّ‬
‫ما يتصل باإلميان الديني أو املبادئ الكالسيكية للفلسفة‪ .‬من أبرز أعامله‪ :‬النظام ّ‬
‫اللهويت ـ الشجاعة لتكون ـ وديناميات اإلميان‪ .‬تويف‬
‫يف شيكاغو بالواليات املتحدة عام ‪.1965‬‬
‫*‪ -‬تعريب ومراجعة‪ :‬كريم عبد الرحمن‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫المحور‬

‫ه ٌم أقىص‪ ،‬سيق إىل ما وراء ذاته‪ ،‬لكنه لن يكف عن كونه عقالً متناهياً‪ .‬فالتجربة اإلنجذابية لإلميان‬
‫ال تدمر بنية العقل‪ .‬ذلك بأنها تتحقق بالعقالنية‪ ،‬وليست نفياً لها‪ .‬ومن مثة ال يتحقق العقل إال إذا‬
‫اندفع إىل ما وراء حدود تناهيه‪ ،‬إىل اختبارات الحضور القصوى‪ ،‬إىل املقدس‪ .‬أي من دون هذه‬
‫االختبارات‪ ،‬يستهلك العقل نفسه ومحتوياته املتناهية‪ .‬وأخريا ً يصبح مليئاً باملحتويات غري العقلية‬
‫أو الشيطانية‪ ،‬فتدمره هذه املحتويات‪ .‬هكذا يفيض الطريق من عقل ميتلئ باإلميان عرب عقل بال‬
‫إميان إىل عقل ميتلئ باإلميان الشيطاين املدمر‪ .‬وليست املرحلة الثانية سوى تأشرية إنتقالية‪،‬‬
‫ما دام ليس مثة من فراغ يف الحياة الروحية‪ ،‬وكذلك يف الطبيعة‪ .‬العقل هو مسلَّمة اإلميان‪ ،‬ويف‬
‫املقابل اإلميان هو تحقُّق العقل‪ .‬واإلميان بوصفه حالة انهامم قصوى‪ ،‬فإنه يف الوقت عينه هو‬
‫العقل نفسه يف نشوته اإلنجذابية‪ .‬وإذن‪ ،‬فال تناقض بني طبيعة اإلميان وطبيعة العقل وإمنا يندرج‬
‫كل منهام يف داخل اآلخر‪.‬‬
‫اللهوت أسئلة عديدة منها‪ :‬أفال تتشوه طبيعة اإلميان يف ظل‬ ‫تلقاء هذه املعادلة سيطرح َّ‬
‫الرشوط الحاكمة عىل وجود اإلنسان‪..‬؟ عىل سبيل املثال‪ ،‬إذا استحكمت به القوى الشيطانية‬
‫اللهوت أال تتشوه طبيعة العقل مع تغريب اإلنسان عن‬ ‫املدمرة – كام أرشنا من قبل‪ .‬كام سيسأل َّ‬
‫ذاته‪ .‬وسيسأل‪ ،‬أخريا ً‪ ،‬أفال ينبغي أن يعاد تأسيس وحدة اإلميان والعقل والطبيعة الحقيقية لكل‬
‫اللهوت أسئلته مفادها‪ :‬إذا كانت هذه‬ ‫منهام عن طريق ما يسميه الدين بـ «الوحي»‪ .‬ثم سيواصل َّ‬
‫هي الحال‪ ،‬أال يُلزم العقل يف مرحلته املشوهة باالنقياد للوحي‪ ،‬ثم أليس هذا االنقياد ملحتويات‬
‫اللهوت‪ ،‬هي‬ ‫الوحي هو املعنى الحقيقي ملفردة «اإلميان»؟ اإلجابة عن هذه األسئلة‪ ،‬التي يثريها َّ‬
‫اللهوت نفسه بأرسه‪.‬‬
‫قضية َّ‬
‫أوالً‪ ،‬يجب اإلقرار بحقيقة ان اإلنسان يعيش اغرتاباً عن ماه َّيته الحقيقية‪ .‬وعليه فإن استعامل‬
‫العقل وخاصية اإلميان ليسا كام يوجدان من حيث الجوهر‪ ،‬وبالتايل كام ينبغي أن يوجدا‪ .‬وهذا ما‬
‫يفيض إىل مصادمات فعلية بني استعامل مش َّوه للعقل وإميان وثني‪ .‬وال ميكن أن يستخدم الحل‬
‫الذي قدمناه فيام يتعلق باملاهية الحقيقية لإلميان واملاهية الحقيقية للعقل من دون تأهيل جوهري‬
‫للحياة الفعلية لكل من اإلميان والعقل يف ظل ظروف الوجود اإلنساين‪ .‬أما النتيجة املرتتِّبة عىل‬
‫هذا التأهيل فهي تكمن يف وجوب أن يتم التغلب عىل اغرتاب اإلميان والعقل يف ما ِّهيتها ويف‬
‫صلتهام املتبادلة‪ ،‬مثلام ينبغي أن تتأسس طبيعتهام الحقيقية وعالقتهام داخل الحياة الفعلية‪،‬‬
‫وكذلك داخل التجربة التي يحدث فيها هذا األمر بوصفها تجربة الوحي‪.‬‬

‫جتربة الويح‪:‬‬
‫لقد أيسء استخدام مفردة «الوحي» إىل درجة كبرية؛ بحيث صار من الصعب استعاملها كيفام‬
‫كان أكرث من مفردة «العقل» نفسها‪ .‬يُفهم من الوحي يف الثقافة الشعبية عىل أنه معلومات إلهية‬

‫‪46‬‬
‫المعرفة َك َ‬
‫ه ٍّم أقصى‬

‫عن قضايا إلهية‪ ،‬تعطى لألنبياء والرسل‪ ،‬ومتليها الروح اإللهية عىل كتاب «الكتاب املقدس» أو‬
‫«القرآن»‪ ،‬أو بقية الكتب املقدسة‪ .‬والقبول بهذه املعلومات‪ ،‬مهام تكن ال عقلية هو الذي يسمى‬
‫بعدئذ باإلميان‪ .‬تتناقض كل كلمة يف النقاش الحارض مع هذا التشويه ملعنى الوحي‪ .‬فالوحي‪ ،‬يف‬
‫املحل األول‪ ،‬هو االختبار الروحي الذي يستحوذ فيه ه ٌم أقىص عىل العقل اإلنساين ويعبِّ عن‬
‫نفسه داخل الجامعة عن طريق رموز الفعل والخيال والفكر‪ .‬وحيثام تحصل تجربة الوحي هذه‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يتجدد كل من اإلميان والعقل‪ ،‬أو يتم قهر نزاعاتهام الداخلية واملتبادلة حيث يستبدل التغريب‬
‫باملصالحة‪ .‬هذا هو ما يعنيه الوحي‪ ،‬أو ما ينبغي أن يعنيه‪ .‬انه الحدث الذي يتجىل به األقىص‬
‫يف ه ٍّم أقىص‪ ،‬عاصفاً بالوضع املعطى ومحوالً إياه يف الدين والثقافة‪ .‬يف مثل هذه التجربة‪ ،‬ال‬
‫ميكن أن يوجد رصاع بني اإلميان والعقل‪،‬ـ ألن بنية اإلنسان الشاملة من حيث هو كائن عقيل‬
‫وحي لإلنسان يف حالته املركبة‬‫ٌ‬ ‫ويغيها‪ .‬غري أن الوحي هو‬
‫ّْ‬ ‫يحتويها تجيل الوحي للهم األقىص‬
‫خرِبة[[[‪ .‬وهذا الخراب‪ ،‬وإن كان واهناً يف سطوته النهائية‪ ،‬فقد يتم‬
‫خرِب والعقالنية ال َ‬
‫من اإلميان ال َ‬
‫قهره فقد ال إزالته‪ .‬لذا فهو يدخل تجربة الوحي الجديدة كام دخل التجارب القدمية‪ .‬األمر الذي‬
‫يجعل اإلميان وثنياً‪ ،‬ليخلط حامل األقىص وتجلياته باألقىص نفسه‪ .‬وهو يج ِّرد العقل من سطوته‬
‫االنجذابية‪ ،‬ومن نزوعه اىل التعايل بذاته يف اتجاه األقىص‪ .‬وكنتيجة لهذا التشويه املزدوج‪ ،‬يش ِّوه‬
‫(الخراب املركب) العالقة بني اإلميان والعقل‪ ،‬مختزالً اإلميان إىل ه ّم أويل يندرج يف الهموم‬
‫األولية للعقل‪ ،‬ويرفع العقل اىل مرتبة الغاية القصوى برغم تناهيه الجوهري‪ .‬ومن هذا التخريب‬
‫ٍ‬
‫جديد ومتف ِّوق‪.‬‬ ‫وحي‬
‫ٍ‬ ‫املزدوج تنشأ نزاعات جديدة بني اإلميان والعقل‪ ،‬وينشأ معها البحث عن‬
‫ذاك يدل عىل تاريخ اإلميان هو تاريخ حرب دامئة مع تخريب اإلميان‪ ،‬والرصاع مع العقل هو‬
‫واحد من أبرز أعراضه‪ .‬وأما املعارك الفاصلة يف هذه الحرب فتكمن يف أحداث الوحي الكربى‪،‬‬
‫حيث تشكل معركة النرص وحياً أخريا ً يتم بنتيجته دفع التشوهات التي طرأت عىل الوحي واإلميان‬
‫دفعاً نهائياً‪ .‬وتزعم املسيحية أنها تعتمد عىل هذا النوع من الوحي‪ ،‬إال أن زعمها سيكون عرضة‬
‫لفحص التاريخ العميل املتواصل‪.‬‬

‫بني حقيقة اإليمان وحقيقة العلم‪:‬‬


‫إذن‪ ،‬ليس مثة من رصاع بني اإلميان يف طبيعته الحقيقية والعقل يف طبيعته الحقيقية‪ .‬وهذا‬
‫التأكيد يفيض إىل حقيقة أنه ال يوجد رصاع جوهري بني اإلميان والوظيفة اإلدراكية للعقل‪ .‬كان‬
‫اإلدراك بجميع أشكاله يُ َع َد دامئاً وظيفة عقل اإلنسان التي تدخل دون عوائق يف نزاع مع اإلميان‪.‬‬
‫لقد حصل ذلك عىل الخصوص حني كان يُع َّرف اإلميان بأنه أدىن أشكال املعرفة؛ وكان يقبل‬
‫به ألن السلطة اإللهية هي الضامنة الحقيقية له‪ .‬وقد رفضنا هذا التشويه ملعنى اإلميان‪ ،‬وبرفضنا‬

‫[[[‪ -‬يريد بول تيليش القول أن الوحي يف طورعيشه من جانب اإلنسان يجري تلقِّيه عىل نحو متتزج فيه أحوال ما قبل التلقِّي مبا بعدها‬
‫حساب وإميان ناقص‪.‬‬ ‫رضب من التناقش واالضطراب بني عقل َّ‬
‫ٌ‬ ‫فيحدث جراء ذلك‬

‫‪47‬‬
‫المحور‬

‫هذا يكون قد أزحنا واحدا ً من أهم األسباب املتكررة لنشوب النزاعات بني اإلميان واملعرفة‪ .‬مع‬
‫ذلك ينبغي لنا أن نكشف من وراء ذلك العالقة العينية لإلميان مبختلف أشكال العقل اإلدرايك‪،‬‬
‫وخصوصاً العملية والتاريخية والفلسفية‪ .‬قد تختلف حقيقة اإلميان عن معنى الحقيقة يف كل‬
‫واحدة من هذه الطرق املعرفية‪ .‬غري أن الحقيقة هي ما تحاول جميعاً الوصول إليه‪ .‬أي الحقيقة‬
‫مبعنى «الواقع حقاً» الذي تتلقاه عىل نحو يناسب الوظيفة اإلدراكية للعقل اإلنساين‪ .‬يحدث الخطأ‬
‫إذا مل يفلح مسعى اإلنسان اإلدرايك يف إصابة الواقع حقاً‪ .‬أو انه اتخذ مام يبدو يف الظاهر واقعياً‬
‫وحده هدفاً له‪ ،‬ويصيب الواقعي حقاً ولكن يعرب عنه بطريقة مشوهة‪ .‬وكثريا ً ما يستعيص القطع يف‬
‫ما إذا كان الواقعي قد اخطأ أو أن اإلعراب عنه غري مناسب‪ ،‬ذلك ألن شكيل الغلط متواقفان‪ .‬يف‬
‫أية حال‪ ،‬حيثام توجد مساعي للمعرفة‪ ،‬توجد حقيقة أوخطأ أو درجة من درجات انتقالية كثرية بني‬
‫ب أن نسأل‬ ‫ج َ‬‫الحقيقة والخطأ‪ .‬يف اإلميان‪ ،‬تدأب الوظيفة اإلدراكية لإلنسان عىل العمل‪ .‬لذلك َو َ‬
‫عن معنى الحقيقة يف اإلميان‪ ،‬وما هي معايريها‪ ،‬وكيف ترتبط بأشكال أخرى من الحقيقة ذات‬
‫األنواع املختلفة من املعايري‪.‬‬
‫ويفس البنى والعالقات يف العامل‪ ،‬من أجل التحقُّق منها تجريبياً‬ ‫ِّ‬ ‫يوصف‬
‫ِّ‬ ‫يحاول العلم أن‬
‫وحسابها كمياً‪ .‬وحقيقة كل حكم علمي تكمن يف مطابقتها القوانني البنيوية التي تحدد الواقع‪ ،‬أي‬
‫التحقق من هذا الوصف عن طريق التكرار التجريبي‪ .‬وكل حقيقة علمية هي أولية وألنها كذلك فهي‬
‫عرضة للتغريات لجهة اإلمساك بالواقع‪ ،‬والتعبري عنه تعبريا ً كافياً‪ .‬وال ينفي عنرص الريبة هذا قيمة‬
‫حصه والتحقق منه‪ .‬بل انه يحول فقط دون الدوغامتية‬ ‫الحقيقة يف التأكيد العلمي الذي يجري تف ُّ‬
‫واإلطالقية العلمية‪.‬‬
‫بناء عىل هذا‪ ،‬سيكون منهجاً بائساً يف الدفاع عن حقيقة اإلميان‪ ،‬حني يشري ّ‬
‫اللهوتيون إىل‬
‫الخاصية األولية لكل حكم علمي بهدف توفري فسحة للرتاجع عن حقيقة اإلميان‪ .‬ولنئ اختزل‬
‫التطور العلمي غدا ً عامل الريبة‪ ،‬فقد يستمر اإلميان يف تراجعه‪ ،‬وهو إجراء ال يحظى بالتقدير وهو‬
‫غري رضوري‪ .‬ذلك ألن الحقيقة العلمية وحقيقة اإلميان ال تنتميان إىل املعنى نفسه‪ .‬إذ ليس للعلم‬
‫الحق وال القوة التدخل يف شؤون اإلميان‪ ،‬وكذلك ليس لإلميان القوة ليك يتدخل يف شؤون‬
‫العلم‪.‬‬
‫إذا فُ ِه َم األمر عىل هذا النحو‪ ،‬ظهرت النزاعات بني اإلميان والعلم يف ضوء مختلف متاماً‪.‬‬
‫فالنزاع هو يف الحقيقة مل يكن بني اإلميان والعلم‪ ،‬بل بني إميان وعلم ال يدرك كالهام بعده‬
‫الصحيح‪ .‬مل َّا اعرتض ممثلو اإلميان سبيل بداية تشكل علم الفلك الحديث مل يكونوا عىل وعي‬
‫الصالت‬ ‫بأن الرموز املسيحية‪ ،‬وإن استُ ِ‬
‫خدمت النظام الفليك األوسطي – البطليمي‪ ،‬مل تكن وثيقة ِ‬
‫بذلك الفلك‪ .‬ذلك بأن من غري املمكن أن يتنازع علم الفلك الحديث مع اإلميان املسيحي إال متى‬
‫فُهمت الرموز املتعلقة بـ «الله يف السامء» و«اإلنسان عىل األرض» و«الشياطني أسفل األرض»‬

‫‪48‬‬
‫المعرفة َك َ‬
‫ه ٍّم أقصى‬

‫باعتبارها أوصافاً لألماكن التي تقطنها كائنات إلهية أو شيطانية‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬إذا اختزل علامء‬
‫الفيزياء الحديثة الواقع كله إىل الحركة اآللية ألصغر دقائق املادة‪ ،‬منكرين النوعية الواقعية للحياة‬
‫والعقل‪ ،‬فإنهم يعربون عن إميان‪ ،‬ذاتياً وموضوعياً عىل السواء‪ .‬ذاتياً يشكل العلم همهم األقىص‪،‬‬
‫وهم عىل استعداد للتضحية بكل يشء‪ ،‬مبا يف ذلك حيواتهم من أجل هذه الغاية القصوى‪ .‬وأما‬
‫موضوعياً‪ ،‬فإن هؤالء يبتكرون رمزا ً رهيباً من هذا الهم‪ ،‬وهو عىل وجه التحديد عامل تبتلع فيه‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫اآللية التي ال معنى لها كل يشءـ مبا يف ذلك عاطفتهم العلمية‪ .‬ويف هذه الحال‪ ،‬يكون اإلميان‬
‫املسيحي مصيباً يف معارضته رمز هذا اإلميان[[[‪.‬‬
‫ال ميكن أن يحتدم العلم إالمع العلم‪ ،‬كام ال ميكن أن يحتدم اإلميان إال مع اإلميان‪ ،‬حيث ال‬
‫ميكن للعلم الذي يبقى علامً أن يصارع مع اإلميان الذي يبقى إمياناً‪ .‬يصح هذا أيضاً عىل دوائر‬
‫البحث العلمي األخرى كاألحياء وعلم النفس‪ .‬عىل هذا األساس مل يكن الرصاع الشهري بني نظرية‬
‫التطور(الداروينية) والهوت بعض الطوائف املسيحية رصاعاً بني العلم واإلميان‪ ،‬وإمنا رصاعاً‬
‫بني علم يجرد إميان اإلنسان من إنسانيته وإميان يش َّوه التأويل الحريف للكتاب املقدس تعبرياته‪.‬‬
‫اللهوت الذي يفرس قصة الخليقة التوراتية باعتبارها وصفاً علمياً حدث يف الزمان‬ ‫ومن البيِّ أن َّ‬
‫يتعارض مع العمل العلمي املسيطر عليه منهجياً‪ .‬وأما نظرية التطور التي تفرس تد ُّرج اإلنسان من‬
‫أشكال حياة أقدم بطريقة تزيل االختالف الالمتناهي النوعي بني اإلنسان والحيوان إمنا هي إميان‬
‫وليست علامً‪.‬‬

‫عن االحتدام بني اإليمان وعلم النفس‪:‬‬


‫االعتبار نفسه ينطبق عىل النزاعات الراهنة واملستقبلية بني اإلميان وعلم النفس الحديث‪.‬‬
‫يخىش علم النفس الحديث من مفهوم النفس ألنها تبدو وكأنها تؤسس واقعاً ال تستطيع املناهج‬
‫العلمية استيعابه‪ ،‬وقد تعرتض سبيل النتائج التي يتوصل اليها‪ .‬هذه الخشية ليست بال أساس‪ :‬حيث‬
‫ال يجب أن يقبل علم النفس بأي مفهوم ال ينتج عن عمله العلمي الخاص‪ .‬وتكمن وظيفته يف‬
‫توصيف العمليات التي تجري يف اإلنسان‪ ،‬بأكرب قدر ممكن من الكفاية‪ ،‬وأن ينفتح عىل استبدال‬
‫هذه األوصاف بغريها يف أي وقت‪ .‬يصح هذا عىل املفاهيم الحديثة عن األنا‪ ،‬واألنا األعىل‪،‬‬
‫والذات والشخصية‪ ،‬والالشعور‪ ،‬والعقل‪ ،‬كام يصح عىل مفاهيم النفس التقليدية مثل الروح‬
‫واإلرادة‪..‬إلخ‪ .‬فعلم النفس املنهجي عرضة للتحقق العلمي‪ ،‬شأنه شأن أي مسعى علمي آخر‪.‬‬
‫وكل مفاهيمه وتعريفاته‪ ،‬حتى تلك التي صودق عليها‪ ،‬هي مفاهيم أولية‪.‬‬
‫وإذ يتحدث اإلميان عن البعد األقىص الذي يعيشه اإلنسان‪ ،‬والذي فيه ميكن أن يحقق نفسه‬

‫[[[‪ -‬من البديهي أن ينطلق اإلميان املسيحي من مسلَّمة ترى إىل الفيزياء الكونية عىل انها ه َّبة إلهية تقع فوق طور العقل الفيزيايئ الذي ال‬
‫يدرك حقيقتها الذاتية إىل الواهب‪ .‬ومن أجل ذلك يعارض هذا اإلميان النزعات املادية املحضة لعلامء الفيزياء‪( .‬التحرير)‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫المحور‬

‫أو يفقدها‪ ،‬فهو ال يتدخل أبدا ً يف الرفض العلمي ملفهوم النفس‪ .‬وبالتايل ال يستطيع علم نفس‬
‫ال يؤمن بالنفس أن ينكر ذلك‪ .‬كام ال يستطيع علم نفس يؤمن بالنفس أن يثبته‪ .‬ذلك بأن حقيقة‬
‫املعنى األبدي لإلنسان تقع يف عدآخر غري حقيقة املفاهيم النفسية الكافية‪ .‬وقد تناقض علم النفس‬
‫اللهوتية‬
‫التحلييل املعارص أو علم نفس األعامق يف كثري من الحاالت مع التعبريات ما قبل ّ‬
‫واللهوتية عن اإلميان‪ .‬مع ذلك‪ ،‬ليس من العسري التمييز يف علم نفس األعامق بني املالحظات‬ ‫َّ‬
‫والفرضيات املتحقِّق منها إجامالً‪ ،‬وبني التأكيدات عن طبيعة اإلنسان ومصريه التي من الواضح‬
‫أنها تعبريات عن اإلميان‪ .‬ولعل العنارص الطبيعوية التي نقلها فرويد من القرن التاسع عرش إىل‬
‫القرن العرشين ‪ -‬مثل نزعته التطهرية األساسية فيام يتعلق بالحب‪ ،‬وتشاؤمه بخصوص الثقافة‪،‬‬
‫واختزاله الدين اىل مرشوع آيديولوجي‪ -‬هي كلها تعبريات عن اإلميان وليست نتيجة تحليل علمي‪.‬‬
‫وليس هذا بسبب يدعو إىل إنكار حق الباحث املهتم باإلنسان ومأزقه يف أن يقدم عنارص اإلميان‪.‬‬
‫ولكن إذا هاجم أشكال اإلميان األخرى باسم علم النفس العلمي ‪-‬كام يفعل فرويد وكثري من‬
‫أتباعه‪ -‬فهو يخلط بني األبعاد‪ .‬ويف هذه الحالة‪ ،‬يحق ألولئك الذين ميثلون نوعاً آخر من اإلميان‬
‫أن يقاوموا هذه الهجامت‪ .‬وليس من السهل دامئاً متييز عنارص اإلميان عن عنارص الفرضية العلمية‬
‫يف تأكيد علم النفس‪ ،‬ولكنه أمر ممكن وغالباُ ما يكون رضورياً‪.‬‬
‫للهوتيني مؤ َّداه‪:‬‬
‫يفيض هذا التمييز بني حقيقة اإلميان وحقيقة العلم إىل تنبيه ال بد من توجيهه َّ‬
‫أال يستخدموا املكتشفات العلمية الحديثة لتأكيد حقيقة اإلميان‪ .‬فقد متكنت فيزياء الدقائق‬
‫الصغرى من تبديد بعض الفرضيات العلمية حول حسابية الكون‪ .‬كام أحدثت نظرية الكوانتم (أو‬
‫اللتحدد مثل هذا األثر‪ .‬ورسعان ما صار يستخدم الباحثون الدينيون هذه اإلبداعات‬ ‫الكم) ومبدأ َّ‬
‫العلمية لتأكيد أفكارهم عن الحرية اإلنسانية‪ ،‬واإلبداع اإللهي‪ ،‬واملعجزات‪ .‬ولكن ال مس ِّوغ ملثل‬
‫هذا اإلجراء‪ ،‬ال من وجهة نظر الفيزياء وال من وجهة نظر الدين‪ .‬فالنظريات الفيزيائية املشار إليها‬
‫ليست ذات عالقة مبارشة بالظاهرة املعقدة تعقيدا ً ال نهائياً عن الحرية اإلنسانية‪ ،‬وليس إلطالق‬
‫اللهوت‪ ،‬حني يستخدم‬ ‫الكمت عالقة مبارشة مبعنى املعجزات‪ .‬وبهذا املعنى يخلط َّ‬ ‫ّ‬ ‫القوة يف‬
‫الفرضيات الفيزيائية بهذه الطريقة‪ ،‬بُعد العلم ببُ ْعد اإلميان‪ .‬وحقيقة العلم ال ميكن أن تؤكدها آخر‬
‫اإلكتشافات الفيزيائية أو البيولوجية أو النفسية‪ ،‬كام ال ميكن أن تنكرها هذه املكتشفات‪.‬‬

‫حقيقة اإليمان وحقيقة التاريخ‪:‬‬


‫خاصية الحقيقة العلمية‪ .‬يروي التاريخ‬
‫ِّ‬ ‫الحقيقة التاريخية لها خاصية تختلف بالكامل عن‬
‫وقائع فريدة‪ ،‬ال عمليات تكرارية ميكن فحصها مرارا َ‪ .‬واألحداث التاريخية ليست قابلة للتجريب‪.‬‬
‫وتكمن املامثلة الوحيدة يف التاريخ للتجريب الفيزيايئ يف مقارنة الوقائع‪ .‬فإذا توافقت وثائق‬
‫أصل مستقل جرى التحقق من اإلثبات التاريخي يف إطار حدوده الخاصة‪ .‬سوى أن التاريخ ال‬
‫يقترص عىل رواية سلسلة من الوقائع‪ .‬وإمنا يحاول أيضاً فهم هذه الوقائع يف أصولها‪ ،‬وعالقاتها‪،‬‬

‫‪50‬‬
‫المعرفة َك َ‬
‫ه ٍّم أقصى‬

‫ويفس ويفهم‪ .‬والفهم يفرتض املشاركة مسبقاً‪ .‬هذا هو الفرق بني الحقيقة‬‫ِّ‬ ‫ومعانيها‪ .‬التاريخ يصف‬
‫التاريخية والحقيقة العلمية‪ .‬يف الحقيقة التاريخية تدخل الذات املؤ ِّولة‪ ،‬أما يف الحقيقة العلمية‬
‫فهذه الذات منفصلة‪ .‬وما دامت حقيقة اإلميان هي املشاركة الشاملة ففي الغالب تكون الحقيقة‬
‫التاريخية مقرتنة بحقيقة اإلميان‪ .‬وقد استُمد االعتامد الكامل للحقيقة التاريخية عىل حقيقة اإلميان‬
‫من مثل هذه املطابقة وهذا التامهي‪ .‬بهذه الطريقة صار يطلق التأكيد عىل أن اإلميان ال يستطيع‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫أن يضمن حقيقة الحكم التاريخي املثري للشكوك‪ .‬إال أن من يصدر مثل هذه التأكيدات يغيب عنه‬
‫حقيقة أن املالحظة املنفصلة واملسيطر عليها يف العمل التاريخي األصيل تستعمل فيه مالحظة‬
‫العمليات الفيزيائية أو البيولوجية‪ .‬ان الحقيقة التاريخية هي يف املحل األول حقيقة وقائعية‪ :‬وبهذا‬
‫املعنى فهي تتميز عن الحقيقة الشعرية يف املالحم‪ ،‬أو عن حقيقة الخرافة يف املد َّونة األسطورية‪.‬‬
‫وهذا االختالف حاسم لجهة فهم عالقة حقيقة اإلميان بحقيقة التاريخ‪ .‬فاإلميان ال يستطيع ضامن‬
‫الحقيقة الوقائعية‪ ،‬غري أنه يستطيع بل يجب أن يؤ ِّول معنى الوقائع من وجهة نظر الهم األقىص‬
‫لإلنسان‪ .‬وبفعله هذا يح ّول الحقيقة التاريخية إىل بعد متصل بحقيقة اإلميان‪.‬‬
‫واللهويت منذ أن اكتشف‬ ‫لقد ارتقت هذه املشكلة إىل صدارة الكثري‪ .‬من مواضع الفكر الشعبي َّ‬
‫تبي أن العهدين القديم والجديد‪ ،‬يف‬ ‫الخاصية األدبية للكتابات املقدسة‪ .‬فقد َّ‬
‫ِّ‬ ‫البحث التاريخي‬
‫األقسام الرسدية منهام‪ ،‬يجمعان عنارص تاريخية وخرافية وأسطورية‪ .‬ويف كثري من الحاالت صار‬
‫يستحيل فصل بعض هذه العنارص عن بعضها البعض بأية درجة من االحتاملية‪ .‬كام أوضح البحث‬
‫التاريخي عدم وجود طريقة لبلوغ األحداث التاريخية التي ظ َّهرتصورة يسوع يف األناجيل‪ ،‬الذي‬
‫صار يدعى املسيحي بدرجة أكرث من االحتاملية‪ .‬إىل ذلك‪ ،‬اكتشف املوقف نفسه بحثاً مامثالً يف‬
‫الخاصية التاريخية للكتابات املقدسة والتقاليد الخرافية يف الديانات غري املسيحية‪ .‬وعليه ال ميكن‬
‫جعل حقيقة اإلميان تعتمد عىل الحقيقة التاريخية للروايات التي يعرب فيها اإلميان عن ذاته‪ .‬وإنه‬
‫لتشويه كاريث ملعنى اإلميان أن نطابقه باالعتقاد باملصداقية التاريخية لروايات الكتابات املقدسة‪.‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬يحدث هذا عىل مستوى رفيع وخفيض من التعقيد‪ .‬فيقول الناس عن آخرين أو عنهم‬
‫أنفسهم إنهم بال إميان مسيحي‪ ،‬ألنهم ال يعتقدون أن قصص املعجزات يف العهد الجديد موثقة‬
‫توثيقاً دقيقاً عىل نحو ميكن االطمئنان إليه‪ .‬ال ريب أنها غري موثقة‪ ،‬ولذا ال بد من القيام ببحث عن‬
‫درجة احتامليتها أو عدم احتامليتها بكل الوسائل التي تتوفرعىل أساس منهج تاريخي وفيلولوجي‬
‫صلب‪ .‬وليست قضية إميان أن نقطع مبا لو كانت الطبعة املعتمدة حالياً من القرآن عند املسلمني‬
‫متطابقة مع النص األصيل‪ ،‬برغم أن هذا هو االعتقاد القوي لدى أكرث من يعتنقون اإلسالم[[[‪.‬‬
‫وليست قضية إميان أن نجزم بأن القسم األعظم من أسفار موىس الخمسة هي الحكمة الكهنوتية‬

‫[[[‪ -‬هذا الرأي من جانب تيلتش يتطابق إىل حد بعيد مع ما ذهب إليه املسترشقون الغربيون حيال دراستهم للقرآن الكريم‪ .‬وهو رأي ينطوي‬
‫عىل رضب من القصور وعدم الدراية بسبب تشكيكهم بوحيانية القرآن انطالقاً من الرؤية األنرثوبولوجية للنص املقدس التي طغت عىل‬
‫مجمل منجزات املعرفة الحداثية(التحرير)‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫المحور‬

‫يف حقبة ما بعد السبي البابيل‪ ،‬أو أن سفر التكوين ينطوي عىل أساطري وخرافات مقدسة أكرث مام‬
‫ينطوي عىل استقراء التاريخ الفعيل‪ .‬وبالتايل ليست قضية إميان أن نقرر أن توقَّع الكارثة حول نهاية‬
‫العامل كام نجدها يف األسفار األخرية من العهد القديم والعهد الجديد كانت قد تبلورت يف الديانة‬
‫الفارسية‪ .‬كذلك ليست قضية إميان أن نقرر كم من املادة الخرافية واألسطورية والتاريخية قد‬
‫أُدمجت يف القصص املتعلقة مبولد املسيح وقيامته‪ .‬وأخريا ً ليست قضية إميان أن نقرر أي النسخ‬
‫من التقارير الخاصة باأليام االوىل من الكنيسة تحظى باحتاملية أكرب‪.‬‬
‫يجب أن يحسم البحث التاريخي كل هذه القضايا يف ضوء احتاملية أكرب أو أصغر‪ .‬وهذه أسئلة‬
‫عن الحقيقة التاريخية‪ ،‬ال عن حقيقة اإلميان‪ .‬ميكن لإلميان أن يقول إن شيئاً ما عن الهم األقىص‬
‫داخل يف الوجود واملعنى‪ .‬وهكذا ميكن لإلميان أن يقرر‬
‫ٌ‬ ‫قد حصل يف التاريخ‪ ،‬ألن سؤال األقىص‬
‫إن قانون العهد القديم الذي أعطي ملوىس له صالحية ال مرشوطة عند من استحوذ عليهم‪ ،‬برصف‬
‫النظر عن جسامة أوقلة ما ميكن تتبعه لدى الشخصية التاريخية التي تحمل ذلك اإلسم‪ .‬ميكن‬
‫لإلميان أن يقول إن الواقعة التي تتمظهر يف صورة العهد الجديد عن يسوع بوصفه املسيح ذات‬
‫قوى منقذة لدى من استحوذت عليهم‪ ،‬مهام جل أو قل ما ميكن تتبعه لدى الشخصية التاريخية‬
‫التي تدعى يسوع النارصي‪ .‬ميكن لإلميان أن يرشِّ ح ويؤكد أساسه الخاص يف قوانني موىس‪،‬‬
‫أو يسوع املسيح‪ ،‬أو النبي محمد‪ ،‬أو بوذا املتن ِّور‪ .‬غري أن اإلميان ال يستطيع أن يؤكد الظروف‬
‫التاريخية التي جعلت من املمكن لهؤالء الناس أن يصبحوا قضايا هم أقىص عند أجزاء كربى‬
‫من اإلنسانية‪ .‬ينطوي اإلميان عىل يقني حول أساسه مبا هو حدثٌ يف التاريخ حول التاريخ لدى‬
‫املؤمنني‪ .‬لكن اإلميان ال ينطوي عىل معرفة تاريخية بالطريقة التي حصل بها هذا الحدث‪ .‬لذلك‬
‫ال ميكن للبحث التاريخي أن يهز اإلميان حتى لو كانت نتائجه مخالفة للتقاليد التي يُروى فيها‬
‫الحدث‪ .‬وهذا االستقالل للحقيقة التاريخية هو من أهم وأبرز نتائج فهم اإلميان بوصفه حالة هم‬
‫أقىص‪ .‬ذلك بأنه يحرر املؤمنني من عبء ال يستطيعون تح ُّمله بعد أن شكلت النزاهة املدرسية‬
‫وعيهم اإلمياين‪ .‬ولو كانت مثل هذه النزاهة يف رصاع رضوري مع ما يسمى بـ «الخضوع لإلميان»‬
‫لكان يُنظر إىل الله بوصفه انشطارا ً يف ذاته‪ ،‬أو بوصفه ميتلك سامت شيطانية‪ ،‬وملا كان الهم به‬
‫هامً أقىص‪ ،‬بل رصاعاً بني ه َّمني محدودين‪ .‬ومثل هذا اإلميان سيكون وثنياً‪ ،‬يف التحليل األخري‪.‬‬

‫بني حقيقة اإليمان وحقيقة الفلسفة‪:‬‬


‫ال ميكن للحقيقة العلمية أو الحقيقة التاريخية أن يثبِتا أو ين ِفيا حقيقة اإلميان‪ .‬وال ميكن لحقيقة‬
‫اإلميان أن تُثبت أو تنفي الحقيقة العلمية أو الحقيقة التاريخية‪ .‬وحينئذ يظهر السؤال ما إذا كانت‬
‫لدى حقيقة الفلسفة العالقة نفسها بحقيقة اإلميان‪ ،‬أو أن العالقة بني الحقيقتني ستكون أكرث تعقيدا ً‪.‬‬
‫واقع األمر أن الحال هو كذلك‪ .‬زد عىل ذلك أن تعقيدات العالقة بني الحقيقة الفلسفية والحقيقة‬
‫اإلميانية تجعل العالقة بني الحقيقة العلمية والتاريخية أكرث تعقيدا ً مام بدت عليه يف التحليل‬

‫‪52‬‬
‫المعرفة َك َ‬
‫ه ٍّم أقصى‬

‫السابق‪ .‬وهذا هو السبب يف احتدام النقاشات التي ال حرص لها عن عالقة اإلميان بالفلسفة‪ .‬بل‬
‫اللهوتيني الذين كانوا يستعملون املفهوم الفلسفي بغية التعبري عن اإلميان لدى جامعة دينية‬
‫إن َّ‬
‫معينة كانوا يتهمون بخديعة اإلميان‪.‬‬
‫من وجه آخر‪ ،‬تكمن صعوبة أية مناقشة حول الفلسفة يف ذاتها يف كون أي تعريف ملاهيتها‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يعد ُّتعبريا ً عن وجهة نظر الفيلسوف الذي يق ِّدم التعريف‪ .‬مع ذلك‪ ،‬هناك نوع من االتفاق ما قبل‬
‫الفلسفي حول معنى الفلسفة‪ ،‬واليشء الوحيد الذي يستطيع أن يقوم به املرء هو أن يستعمل الفكرة‬
‫ما قبل الفلسفية عن ماهية الفلسفة‪ .‬بهذا املعنى‪ ،‬تصبح الفلسفة محاولة اإلجابة عن أكرث األسئلة‬
‫عمومية حول طبيعة الواقع والوجود اإلنساين‪ .‬يف حني أن أكرث األسئلة عمومية هي تلك التي ال‬
‫تسأل عن طبيعة دوائر معينة من الواقع (كام هو الحال يف العوامل الفيزيائية والتاريخية)‪ ،‬بل عن‬
‫طبيعة الواقع الذي يؤثر يف جميع العوامل‪ .‬وعليه‪ ،‬تحاول الفلسفة أن تعرث عىل مقوالت كلية يتم‬
‫فيها تجريب الوجود‪.‬‬
‫لو أننا سلمنا مبثل هذه الفكرة عن الفلسفة‪ ،‬ميكن لنا تحديد حقيقة اإلميان‪ .‬فالحقيقة الفلسفية‬
‫هي الحقيقة املتعلقة ببنية الوجود‪ ،‬أما حقيقة اإلميان فهي الحقيقة املتعلقة به ِّم املر ِء األقىص‪.‬‬
‫حتى يف هذه النقطة تبدو العالقة شبيهة جدا ً بالعالقة بني حقيقة اإلميان والحقيقة العلمية‪ .‬غري أن‬
‫االختالف يكمن يف أن هنالك نقطة مطابقة بني فهم األقىص يف ال َه ِّم الفلسفي وفهم األقىص يف‬
‫اله ِّم الديني‪ .‬يف كلتا الحالتني‪ ،‬يجري البحث عن واقع أقىص والتعبري عنه‪ ،‬مفهومياً يف الفلسفة‪،‬‬
‫ورمزياً يف الدين‪ .‬ويف كل حال‪ ،‬تكمن الحقيقة الفلسفية يف مفاهيم صحيحة حول األقىص‪ ،‬بينام‬
‫تكمن حقيقة اإلميان يف رموز صحيحة حول األقىص‪ .‬وأما العالقة بني هاتني الحقيقتني فهي‬
‫املشكلة التي ينبغي أن نعتني بها‪.‬‬
‫ال شك يف أن هناك سؤاالً سيثار يف هذا املوضع‪ :‬ملاذا تستعمل الفلسفة املفاهيم‪ ،‬وملاذا‬
‫يستعمل اإلميان الرموز إذا كان كالهام يحاول أن يعرب عن األقىص نفسه؟ الجواب‪ ،‬بطبيعة الحال‪،‬‬
‫هو أن العالقة باألقىص ليست هي نفسها يف كل من الحالتني‪ .‬العالقة الفلسفية هي من حيث‬
‫املبدأ وصف منفصل عن البنية األساسية التي يكشف فيها اله ُّم األقىص عن نفسه‪ .‬وعالقة اإلميان‬
‫هي من حيث املبدأ تعبري داخيل لله ِّم حول معنى األقىص لدى املؤمنني‪ .‬واالختالف هنا واضح‬
‫وجوهري‪ .‬لكن‪ ،‬كام تشري عبارة «من حيث املبدأ»‪ ،‬هناك اختالف ال يتضح يف الحياة الفعلية‬
‫خفي‬
‫ُّ‬ ‫للفلسفة ولإلميان وال ميكن االحتفاظ به؛ ذلك ألن الفيلسوف كائن إنساين ذو ه ِّم أقىص‬
‫ين ذو قوة فكرية وحاجة للفهم التصوري‪ .‬وليست هذه واقعة حياتية‬ ‫أو جلِّ ‪ .‬واملؤمن كائ ٌن إنسا ٌ‬
‫فحسب‪ ،‬وإمنا هي ذات نتائج عىل حياة الفلسفة لدى الفيلسوف وحياة اإلميان لدى املؤمن‪.‬‬
‫يكشف تحليل األنساق واملقاالت والشذرات الفلسفية عىل أنواعها جميعاً‪ ،‬أن االتجاه الذي‬

‫‪53‬‬
‫المحور‬

‫يطرح فيه الفيلسوف السؤال‪ ،‬واألفضلية التي مينحها ألمناط خاصة من األجوبة‪ ،‬إمنا يحددها‬
‫اعتبار إدرايك وحالة اله ِّم األقىص‪ .‬وتكشف الفلسفة عام هو أكرث أهمية من الناحية التاريخية‪ ،‬ليس‬
‫فقط عن القوة الكربى للفكر‪ ،‬بل عن اله ِّم املتَّقد انفعاالً حول معنى األقىص الذي تصف تجلياته‪.‬‬
‫يكفي تذكري املرء بالفالسفة الهنود واليونانيني‪ ،‬رمبا دون استثناء‪ ،‬وبالفالسفة املح َدثني أمثال‬
‫اليبنتز واسبيوزا حتى كانط وهيغل‪ .‬ولو بدا لنا أن الخط الوضعي للفالسفة من لوك وهيوم‪ ،‬حتى‬
‫الوضعية املنطقية يف الوقت الحارض استثناء من هذه القاعدة‪ ،‬فيجب أن يضع املرء يف اعتباره أن‬
‫املهمة التي اكتفى بها هؤالء الفالسفة كانت ناجمة بالفعل عن مشكالت خاصة مبذهب املعرفة‪..‬‬
‫يف وقتنا الحارض عىل وجه الخصوص‪ ،‬مثة تحليالت لألدوات اللغوية يف املعرفة العلمية‪ .‬وال‬
‫شك أن هذا مسعى مربر ومهم جدا ً‪ ،‬لكنه ليس فلسفة باملعنى التقليدي‪.‬‬
‫الفلسفة مبعناها األصيل‪ ،‬يتوىل أمرها جم ٌع من الناس تجتمع لديهم عاطفة ه ٍّم أقىص مبالحظة‬
‫واضحة ومنفصلة عن الطريقة التي يكشف فيها الواقع األقىص عن نفسه يف عمليات الكون‪ .‬وهذا‬
‫العنرص يف الهم ِّاألقىص هو الذي يقف وراء األفكار الفلسفية وهو الذي يوفر حقيقة اإلميان فيها‪.‬‬
‫حد اإلميان بالعمل املفهومي‪ .‬والفلسفة ليست فقط‬
‫فنظرتهم إىل الكون ومأزق اإلنسان فيه تو ِّ‬
‫الرحم األم التي خرج منها العلم والتاريخ‪ ،‬بل هي عامل دائم الحضور يف العمل العلمي والتاريخي‬
‫الفعيل‪ .‬وإطار اإلحالة التي رأى ويرى فيها كبار الفيزيائيني عامل بحوثهم هو إطار فلسفي‪ ،‬حتى لو‬
‫كانت بحوثهم الفعلية موجودة للتحقق منه‪ .‬وهي ليست نتيجة مكتشفاتهم عىل اإلطالق‪ ،‬وإمنا هي‬
‫دامئاً نظرة كلية الوجود التي تحدد شعورياً او الشعورياً إطار فكرهم‪ .‬وما دام األمر كذلك‪ ،‬فسيكون‬
‫للمرء الحق أن يقول‪ :‬إن يف النظرة العلمية للواقع هي نفسها عنرص إميان مؤثر‪ .‬ويحاول العلامء‬
‫‪ -‬وهم مصيبون يف ذلك‪ -‬أن مينعوا هذه العنارص من اإلميان والحقيقة الفلسفية من التدخل يف‬
‫بحثهم الفعيل‪ .‬وهذا أمر ممكن اىل مدى بعيد‪ .‬ولكن حتى أكرث التجارب تحصيناً ليست «خالصة»‬
‫بإطالق‪ ،‬وخالصة هنا تعني استبعاد تدخل أي عوامل خارجية مثل‪ :‬املالحظة‪ ،‬واالهتامم الذي‬
‫يحدد نوع السؤال املطروح عن الطبيعة يف تجربة معينة‪ .‬وما قلناه عن الفيلسوف يجب أن نقوله‬
‫أيضاً عن العالِم‪ .‬فهذا األخري هو كائن إنساين حتى يف عمله العلمي‪ ،‬حيث يستحوذ عليه هم‬
‫أقىص‪ ،‬ذلك بأنه يثري السؤال عن الكون مبا هو كذلك‪ ،‬أي انه يثري السؤال الفلسفي‪.‬‬
‫واملؤرخ بالطريقة نفسها هو يف الواقع فيلسوف شعورياً او الشعورياً‪ .‬ومن الواضح متاماً أن‬
‫أية مهمة يتبناها املؤرخ للعثور عىل الوقائع تعتمد عىل تقييامت العوامل التاريخية‪ ،‬وعىل وجه‬
‫الخصوص‪ ،‬طبيعة اإلنسان‪ ،‬وحريته‪ ،‬وتصميمه‪ ،‬وتطويره للطبيعة‪ ..‬الخ‪ .‬واألمر األقل وضوحاً ‪-‬‬

‫‪54‬‬
‫المعرفة َك َ‬
‫ه ٍّم أقصى‬

‫ولكنه صحيح أيضاً ‪ -‬أن االفرتاضات الفلسفية املسبقة داخلة حتى يف فعل العثور عىل الوقائع‬
‫التاريخية‪ .‬يصح هذا عىل الخصوص حني يقرر املؤرخ أن الوقائع ينبغي أن تعترب وقائع ذات‬
‫صلة تاريخياً من بني عدد ال يتناهى من الحوادث يف كل لحظة زمنية صغرى ال تتناهى‪ .‬لذا يضطر‬
‫املؤرخ أن يوظف األسانيد من أجل تقييمه للمصادر وإمكانية الثقة بها‪ ،‬وأخريا ً‪ ،‬ففي اللحظة التي‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يضفي فيها العمل تأكيدات ضمنية أو رصيحة حول املعنى التاريخي لألحداث عىل الوجود‬
‫اإلنساين‪ ،‬تتضح الفرضيات الفلسفية للتاريخ‪ .‬وحيثام توجد الفلسفة‪ ،‬يوجد تعبري عن هم أقىص‪،‬‬
‫كام يوجد عنرص إميان‪ ،‬مهام أخفاه انفعال املؤرخ بالوقائع الخالصة‪.‬‬
‫توضح جميع هذه االعتبارات توضح وعىل الرغم من اختالفها الجوهري‪ ،‬أن هناك وحدة فعلية‬
‫مل‪ ،‬ويف‬
‫بني الحقيقة الفلسفية وحقيقة اإلميان يف كل فلسفة‪ ،‬وأن هذه الوحدة مهمة يف عمل العا ِ‬
‫عمل املؤرخ عىل السواء‪ .‬وقد أطلق عىل هذه الوحدة اسم «اإلميان الفلسفي»‪ .‬وهذا مصطلح‬
‫مضلل‪ ،‬إذ يبدو أنه يخلط الحقيقة الفلسفية بحقيقة اإلميان‪ .‬فضالً عن هذا‪ ،‬يشري هذا املصطلح‬
‫يشري إىل أن هناك إمياناً فلسفياً واحدا ً‪ ،‬هو «الفلسفة املتواترة» (‪ ،)philosophia perennis‬كام‬
‫ُسميت‪ .‬لكن السؤال الفلسفي وحده هو املتواتر‪ ،‬ال األجوبة عليه‪ .‬وهناك عملية تأويل مستمرة‬
‫للعنارص الفلسفية وعنارص اإلميان‪ ،‬ال إميان فلسفي واحد‪.‬‬
‫هناك حقيقة إميان يف الحقيقة الفلسفية‪ .‬وهناك حقيقة فلسفية يف حقيقة اإلميان‪ .‬وليك نرى‬
‫النقطة الثانية ينبغي أن نواجه التعبري املفهومي عن الحقيقة الفلسفية بالتعبري الرمزي عن حقيقة‬
‫اإلميان‪ .‬أما اآلن فيمكن للمرء أن يقول إن ألكرث املفاهيم الفلسفية سوابق أسطورية وألكرث الرموز‬
‫األسطورية عنارص مفهومية يجب أو كان يجب تطويرها مبجرد أن ظهر الشعور الفلسفي‪ .‬ففي‬
‫فكرة الله‪ ،‬توجد ضمناً مفاهيم الحياة والروح والوحدة والتباين‪ .‬ويف رمز الخليقة‪ ،‬توجد ضمناً‬
‫مفاهيم التناهي والقلق والحرية والزمان‪ .‬ورمز «سقطة آدم» ينطوي ضمناً عىل مفهوم عن الطبيعة‬
‫الجوهرية لإلنسان‪ ،‬ورصاعه مع نفسه‪ ،‬واغرتابه عن نفسه‪ .‬وال يكون الالهوت [أي املنطق اإللهي‪:‬‬
‫[‪ ]theo-Logy‬ممكناً إال ألن لكل رمز ديني ممكنات مفهومية‪ .‬وهناك فلسفة ضمنية يف كل رمز‬
‫إمياين‪ .‬غري أن اإلميان ال يحدد حركة الفكر الفلسفي‪ ،‬متاماً كام أن الفلسفة ال تحدد خاصية هم‬
‫املرء األقىص‪ .‬ميكن لرموز اإلميان أن تفتح عيني الفيلسوف عىل خواص يف الكون ال ميكن له أن‬
‫يتعرف عليها من دونها‪ .‬غري أن اإلميان ال يأمر باتباع فلسفة بعينها‪ ،‬وان كانت الكنائس والحركات‬
‫اللهوتية قد ادعت واستخدمت الفلسفات األفالطونية أو األرسطية او الكانطية أو الهيومية‪ .‬وميكن‬
‫َّ‬
‫تطوير املضامني الفلسفية لرموز اإلميان بطرق متعددة‪ ،‬لكن حقيقة اإلميان وحقيقة الفلسفة ليس‬
‫ألي منهام سلطة عىل األخرى‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫المحور‬

‫معرفة ال َبدء‬
‫استقراء مقارن بني علم الكون احلديث واحلكمة املتعالية‬

‫ج ي‬
‫فطور�‬ ‫ﭘيروز‬
‫باحث وأستاذ فلسفة العلم – جامعة ش�يف الصناعية‪ -‬طهران‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫اهتم بها علم الكون الحديث‪ ،‬مسألة بداية الكون‪ .‬ف� برهة َّ‬
‫زمانية‬ ‫ال� َّ‬ ‫ت‬
‫ي‬ ‫من جملة المسائل ي‬
‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫مختصا‬ ‫معينة كان السؤال‪" :‬هل للكون بداية ي� األساس أم أنه كان موجودا باستمرار؟"‪،‬‬
‫موضوعا ُّ‬‫ً‬ ‫َّ َّ‬ ‫َّ‬
‫والتنظ� من ِقبل علماء الكون‬ ‫ي‬ ‫للتأمالت‬ ‫واإللهيات؛ إل أنه أصبح اآلن‬ ‫بالفلسفة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬ ‫المعارصين الذين نظروا إليه نظرة َّ‬
‫العلمية للمسألة تحمل خصائص‬ ‫علمية‪ .‬صحيح أن النظرة‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫يز‬ ‫َّ‬
‫واإللهيات الجديدة؛ إل أن طبيعة المسألة كانت منذ‬ ‫الميتاف�يك‬ ‫خاصة بها تفصلها عن‬
‫َّ‬
‫واإللهيات‪.‬‬ ‫غ� بعيدة عن الفلسفة‬ ‫َّ‬
‫طياتها نماذج ونظريات حول الكون ي‬ ‫البداية‪ ،‬تحمل ف� َّ‬
‫ي‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫َّ‬
‫والمعروف�‪ ،‬يبدي‬ ‫ي‬ ‫إن ما تجدر اإلشارة إليه‪ ،‬أن بعض علماء الكون وبعضهم من المشهورين‬
‫َّ‬ ‫ٍّ ف‬ ‫ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ف ٍّ‬ ‫ِّ‬
‫إلحادي ي� ترجيح إحدى نظريات علم‬ ‫خاص وتارة‬ ‫فلس�‬
‫ي‬ ‫ميله الواضح التخاذ موقف‬
‫َّ ُ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫مما ذكر‪.‬‬ ‫األخ�ة شواهد ونماذج‬ ‫ي‬ ‫الكونيات عىل األخرى‪ .‬وسنعرض ي� أجزاء المقال‬
‫اإلسالم األصيل عىل أصول ومبادئ قادرة عىل تقديم فروع‬ ‫ِّ‬ ‫تشتمل مصادر الفكر‬
‫َّ‬ ‫ي‬
‫ين‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الكافيت�‪،‬‬ ‫المسألة المذكورة‪ ،‬وعرضها بلغة شفافة إذا ما تم استخدام التحليل والدقة‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫ال�وط ال�ض ورية‪ ،‬وإذا ما َّتم االجتناب عن تدخل األبحاث الفلسفية ي‬
‫غ�‬ ‫َّ‬ ‫عدا عن رعاية ش‬
‫ذات الصلة‪.‬‬
‫ت‬ ‫ُ ف‬
‫استطاع�‪ ،‬وباالستفادة من األصول المستخرجة‬
‫ي‬ ‫وقد سعيت ي� هذا البحث قدر‬
‫ّ‬
‫من الحكمة المتعالية‪ ،‬وما قدمته من آراء وأفكار حول عالم الطبيعة وحدوثه‪ ،‬عىل إيجاد‬
‫َّ‬
‫واإللهيات"‪.‬‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫أرضية جديدة لحضور ث‬‫َّ‬
‫فعالية للحكمة المتعالية ي� أبحاث "العلم‬ ‫أك�‬
‫* * *‬
‫يز‬
‫الميتاف�يقا‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬علم الكون – اإللهيات الجديدة – الحكمة المتعالية –‬ ‫مفردات‬
‫– معرفة َ‬
‫البدء‪.‬‬

‫*‪ -‬نقله عن الفارس َّية‪ :‬د‪ .‬عيل الحاج حسن‪ -‬أستاذ الفلسفة يف الجامعة اللبنان َّية‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ما زالت تدرس اليوم قضيَّة بداية الكون من جوانبها املتع ِّددة؛ الكونيَّة والفلسفيَّة – اإللهيَّة ضمن‬
‫أبحاث ودراسات “العلم واإلله َّيات” عىل نحو واسع؛ ويشارك فيها عدد كبري من املفكِّرين من‬
‫متخصصو الفلسفة واإلله َّيات‪ .‬وانطالقًا من األبعاد امليتافزيق َّية‬ ‫ِّ‬ ‫اختصاصات متع ِّددة ومن جملتهم‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫واإللهياتيَّة لهذا البحث‪ ،‬فإ َّن الحضور املناسب واملتوازن للمعارف اإلسالميَّة والحكمة اإلسالميَّة‬
‫ح َّل بعض معضالته‪.‬‬ ‫خصوصا الحكمة املتعالية ‪ -‬يؤ ّدي دو ًرا مؤث ِّ ًرا عىل مستوى تعاليه‪ ،‬و َ‬
‫ً‬ ‫‪-‬‬
‫علم الكون[[[ مبعناه العا ّم‪ ،‬هو عبارة عن مطالعة ودراسة الكون (عامل الطبيعة مبعناه األع ّم)‪،‬‬
‫وهو مقتبس من العبارتني اليونانيّتني “‪( ”Kosmos‬أي ال َّنظم‪ ،‬التناسق والكون)‪ ،‬و”‪( ”Logos‬أي‬
‫الكلمة‪ ،‬البحث والخطاب)‪.‬‬
‫مل يكن علم الكونيّات حتّى أوائل القرن العرشين من جملة فروع العلوم الجديدة‪ ،‬وما كان‬
‫يطلق عليه املصطلح كان تاب ًعا لتصنيف كريستيان وولف[[[‪ ،‬وهو ُّ‬
‫يدل عىل قسم من امليتافيزيك‪.‬‬
‫رسمي عىل ما كان يُطلق عليه‬
‫ٍّ‬ ‫أطلق وولف يف تصنيفه للفلسفة‪ ،‬عنوان “ علم الكون” بشكل‬
‫يف القديم “الفلسفة الطبيعيَّة”‪ ،‬وجعله إىل جانب “اإللهيّات” و”علم النفس” أجزا ًء للميتافيزيك‬
‫الخاص (ميلتون مونيتز ‪ .)237 :1967‬وقد راج هذا التصنيف وهذه التسمية بعده‪ ،‬فأضحت‬ ‫ّ‬ ‫مبعناها‬
‫التقليدي‪ ،‬فجعل علم الكون‬
‫ِّ‬ ‫معيا ًرا‪ ،‬حتّى أ َّن “كانط” ات َّبع “وولف” يف البحث عن امليتافيزيك‬
‫واح ًدا من أجزائها الثالثة (أواندرو آغازى ‪ 44 :1991‬و‪.)45‬‬
‫يُع ُّد انتشار مقالة أينشتني[[[ عام ‪ ،1917‬والتي تحمل عنوان “مالحظات من علم الكون ّيات حول‬
‫مفص ًل لهيكل الكون‬ ‫جا ّ‬ ‫نظريَّة النسبيَّة العا َّمة”‪ ،‬بداية عرص جديد يف علم الكونيَّات‪ .‬لقد ق َّدم منوذ ً‬
‫(مبعناه الكبري) يف املقال املتق ِّدم الذكر‪ ،‬والتي نرشها بعد عام من عرضه نظريَّة النسبيَّة العا َّمة‬
‫مم ذكر فيها‪ .‬بعد ذلك توالت النظريَّات والنامذج العلم َّية حول علم الكون‪ ،‬وقد ساهمت‬ ‫مستفي ًدا َّ‬
‫الشواهد واملعطيات التي ُجمعت‪ ،‬وباالستفادة من األدوات والفنون الحديثة‪ ،‬يف أن يصبح علم‬
‫واملتخصصني يف مختلف‬ ‫ِّ‬ ‫التخصصات العلميَّة‪ ،‬فاهت َّم به الكثري من املفكِّرين‬
‫ُّ‬ ‫الكون يف عداد‬
‫صا علميًّا تاب ًعا للفيزياء وعلم الفلك[[[‪،‬‬ ‫تخص ً‬
‫ُّ‬ ‫الفروع العلميَّة‪ .‬وعليه‪ ،‬أصبح علم الكون الحديث[[[‪،‬‬
‫ويتول دراسة الكون (بصورته العا َّمة) (آلن اليت من وروبرتو براور ‪ 1 :1990‬و‪.)2‬‬ ‫َّ‬

‫‪[1]- Cosmology.‬‬
‫‪[2]- Christian Wolff.‬‬
‫‪[3]- Einstein.‬‬
‫‪[4]- Modern Cosmology.‬‬
‫‪[5]- Astronomy.‬‬

‫‪57‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬
‫الكوني�ات احلديث ومسألة البداية‪:‬‬ ‫‪ . 1‬علم‬
‫َّ‬
‫ونظرية الحالة الثابتة‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الكب�‬
‫ي‬ ‫الكونيات‪ /‬االنفجار‬ ‫خلفيات علم‬ ‫‪-‬‬
‫تلق ال َّرواج الكبري حتّى الثورة الكوبرينيكيَّة‪ ،‬االعتقاد بوجود‬
‫من جملة املعتقدات التي مل َ‬
‫عامل ثابت[[[‪ ،‬والذي تكون األجسام السامويَّة عىل أساسه‪ ،‬كام تشاهد وكام هي اآلن عليه‪ ،‬رغم‬
‫أي تح ُّول أو انبساط عىل امتداد الزمان‪ .‬وقد أيَّدت‬
‫الحركات املتع ّددة واملعقَّدة فال يحصل فيها ُّ‬
‫األرصاد واملشاهدات الفلك َّية هذا االعتقاد‪ ،‬وبقي راسخًا حتَّى اخرتاع التلسكوب‪ ،‬وإىل م َّدة طويلة‬
‫من بعده‪ ،‬فلم يظهر ما ُّ‬
‫يدل عىل العكس‪ .‬وأ َّدى رسوخ هذا االعتقاد بأمثال أينشتني‪ ،‬إىل تغيري‬
‫معادالته األوىل ومحاوالته تقدميها عىل أساس صورة الكون الثابتة واملتناسقة بعد إضافته فكرة‬
‫الثابت الكوين[[[‪ .‬طب ًعا‪ ،‬لقد َعدل يف مرحلة الحقة عن فكرته هذه‪ ،‬واعتربها أكرب خطأ ارتكبه يف‬
‫حياته (باري ﭘاركر ‪44 :1988‬؛ هاينز ﭘاجلز ‪.)50 :1984‬‬
‫يف الوقت نفسه‪ ،‬بدأ عامل الرياض َّيات الرويس واسمه فريدمن[[[ مطالعة معادالت أينشتني‬
‫ين”‪ ،‬ودرس ما تستلزمه عىل مستوى‬
‫النسبيّة عىل شكلها األ ّول من دون إدخال مفهوم “الثابت الكو ّ‬
‫معرفة الكون‪ .‬ومتكّن يف العام ‪ ،1922‬بعد تقدميه مناذج مختلفة‪ ،‬من توقُّع تح ُّول الكون وانبساطه‬
‫األسس النظريَّة والرياضيَّة‬
‫تأسست ُ‬
‫قبل سبع سنوات من اكتشاف هابل[[[ له‪ .‬وعىل هذا النحو‪ّ ،‬‬
‫ملا ُعرف يف مرحلة حالقة باسم “علم كون االنفجار الكبري”‪ ،‬عىل أساس معادالت النسب َّية العا َّمة‬
‫وعىل أيدي “فريدمن” وليس أينشتني (آلن اليت من وروبرت براور ‪.)4 :1990‬‬
‫يف العام ‪ ،1929‬أوضح “أدوين پي‪ .‬هابل” عامل الفلك األمرييكُّ‪ ،‬وباالستفادة من مجموعة‬
‫الشواهد واملعطيات الفلك َّية‪ ،‬أ َّن املج َّرات يف حالة االبتعاد بعضها عن البعض اآلخر‪ ،‬حيث يتناسب‬
‫هذا االبتعاد مع املسافة الفاصلة بينها‪ .‬وهذا يعني اكتشاف حقيقة أ َّن الكون يعيش حالة انبساط‪،‬‬
‫وقد ساهمت هذه الحقيقة ‪ -‬التي ميكن القول أنَّها أه ُّم االكتشافات يف علم الكون الحديث ‪ -‬يف‬
‫رفض صورة الكون الثابت والتأكيد عىل فكرة انبساطه‪.‬‬
‫الطبيعي‪ ،‬وبعد اكتشاف انبساط العامل‪ ،‬أن يرتكَّز التفكري يف العامل وأنَّه إذا كان يف حالة‬
‫ِّ‬ ‫من‬
‫انبساط فهذا يعني‪ ،‬وبحسب القاعدة‪ ،‬أنَّنا لو تح َّركنا عكس الزمان وعدنا إىل املايض لوجدنا العامل‬

‫‪[1]- Static.‬‬
‫‪[2]- Cosmological constant.‬‬
‫‪[3]- Friedmann.‬‬
‫‪[4]- Hubble.‬‬

‫‪58‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫تراكم حتَّى نصل إىل أ َّن العامل قد بدأ من نقطة صغرية ال متناهية ومرتاكمة‪ ،‬وهذا ما يشري إليه‬
‫ً‬ ‫أكرث‬
‫مفاد نظريَّة االنفجار الكبري‪.‬‬
‫ضمني‪ ،‬إلَّ أنَّها مل تكن بنفسها جديرة‬ ‫ٍّ‬ ‫تدل عىل هذه الصورة بشكل‬‫صحيح أ َّن اكتشافات هابل ُّ‬
‫لتدفع املفكِّرين نحو قبول نظريَّة االنفجار الكبري‪ .‬وعىل سبيل املثال‪ ،‬فإ َّن “نظريَّة الحالة الثابتة”[[[‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ورغم االلتفات فيها إىل اكتشافات هابل وقبولها انبساط العامل‪ ،‬فقد سعت لتقديم تفسري يجتنب‬
‫القول بوجود بداية أو نهاية الكون (استيفن بروش ‪27 :1992‬؛ پال ديويس ‪.)55 :1992‬‬
‫[[[‬
‫كل من هرمان باندي[[[‪ ،‬وتوماس غولد[[[ وفردريك هويل‬ ‫يف العام ‪ ،1948‬ق َّدم هذه النظريَّة ٌّ‬
‫فكانت ومل َّدة عقدين من الزمن املنافس األساس لنظريَّة االنفجار الكبري‪ .‬وبنا ًء عليها‪ ،‬إذا اعتربنا‬
‫انبساط الكون دامئ ًّيا‪ ،‬فال حاجة عند ذلك لقبول االنفجار الكبري األ ّول‪.‬‬
‫لقد حاولت “نظريَّة الحالة الثابتة” تربير االنبساط الدائم للكون‪ ،‬من أ َّن كثافة املا َّدة الثابتة باقية‪،‬‬
‫ويظهر هذا الثبات عن طريق ما َّدة جديدة بشكل دائم ومستمر (استيفن هاكينغ ‪ .)66 :1989‬وعىل‬
‫هذا النحو‪ ،‬يكون الكون عىل وترية واحدة من دون أن يكون له بداية أو نهاية‪ ،‬وعند ذلك ميكننا‬
‫القول أ َّن للكون حالة ثابتة حتَّى لو مل يكن ثابتًا‪.‬‬
‫اليوم‪ ،‬وبعد اكتشاف شواهد تؤيِّد نظريَّة االنفجار الكبري‪ ،‬وبعد املعطيات التي ق َّدمها القمر‬
‫ميل لقبول نظريَّة الحالة الثابتة (آلن اليت من وروبرتو براور ‪20 :1990‬؛‬ ‫‪ ،COBE‬مل يُ ِ‬
‫بد املفكِّرون ً‬
‫استيون واينربغ ‪ .)180 :1994‬وقد عمل هويل وبعض مساعديه يف العام ‪ 1990‬عىل إعادة إحيائها‬
‫يف قالب جديد (استيفن بروش ‪.)40 :1992‬‬

‫الكب�‪:‬‬ ‫َّ‬
‫ي‬ ‫* نظرية االنفجار‬
‫تق ِّدم نظريَّة االنفجار الكبري[[[ وصفًا رياض ًّيا لتح ُّول الكون وتكامله‪ ،‬حيث بدأ الكون عىل أثر‬
‫تراكم وحرارة ال نهاية لهام‪ ،‬ث َّم انبسط وأصبح رقيقًا بار ًدا‪.‬‬
‫تشكِّل نظريَّة النسب َّية العا َّمة بنية علم كون االنفجار الكبري‪ .‬ومن جملة الخصائص األساس َّية‬
‫للنسب َّية العا َّمة أ َّن شؤون املا َّدة مرتبطة بشؤون “الفضاء” و”الزمان”‪ .‬ويحمل ارتباط املا َّدة والفضاء‬
‫والزمان‪ ،‬لوازم ها ّمة عىل مستوى تصوير بداية الكون‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬إذا تح َّركنا عكس جهة‬

‫‪[1]- Steady State.‬‬


‫‪[2]- Herman Bandi.‬‬
‫‪[3]- Thomas Gold.‬‬
‫‪[4]- Frederick Hoyle.‬‬
‫‪[5]- Big Bang.‬‬

‫‪59‬‬
‫المحور‬

‫الزمان فسنشاهد املج َّرات تقرتب بالتدريج بعضها من البعض اآلخر لنصل يف النهاية إىل املا َّدة‬
‫األوىل التي تشكَّلت منها‪ .‬وإذا عدنا إىل الوراء أكرث سنشاهد املزيد من الرتاكم‪ ،‬حيث تكون املا َّدة‬
‫مرتاكم بأجمعه يف‬‫ً‬ ‫األوىل أكرث كثافة‪ .‬وإذا استم َّرت هذه الحركة سنصل إىل مقطع نشاهد الكون‬
‫“نقطة منفردة” واحدة‪.‬‬
‫يف هذه النقطة التي يُطلق عليها باالصطالح املتف ِّرد[[[‪ ،‬تكون املا َّدة فيها ثقيلة كثيفة وال نهاية‬
‫لها؛ وأل َّن املا َّدة والفضاء مرتابطان‪ ،‬فإ َّن انقباض الفضاء يرتبط بشكل مبارش مع تراكم املا َّدة؛‬
‫لذلك ففي النقطة التي يبلغ تراكم املا َّدة فيها اللَّ نهاية‪ ،‬ينقبض الفضاء فيها أيضً ا إىل اللَّ نهاية‪،‬‬
‫ريا‪ .‬ويبدو أ َّن الفضاء يختفي يف تلك النقطة‪ .‬وكذلك األمر وبسبب االرتباط بني الفضاء‬ ‫ويصبح صغ ً‬
‫والزمان‪ ،‬فإذا اختفى الفضاء يف نقطة ما‪ ،‬فلن يكون هناك زمان يتبعه‪ .‬بنا ًء عىل ذلك‪ ،‬ميكن القول‬
‫يث بني املا َّدة والفضاء والزمان‪ ،‬يوجب أن يكون تف ُّرد املا َّدة هو بعينه تف ُّرد للفضاء‬
‫أ َّن االرتباط الثال َّ‬
‫والزمان‪( .‬پول ديويس ‪.)50-48 :1992‬‬
‫يل‪ ،‬وعىل‬
‫كل الكون من وراء التف ُّرد األ ّو ِّ‬
‫يص ِّور علم كون االنفجار الكبري العامل مع بداية‪ :‬يظهر ُّ‬
‫صور انفجار مهيب مفاجئ‪ .‬ال ينبغي أن نتوقَّع حصول االنفجار يف زاوية من الفضاء أو يف مقطع‬
‫من الزمان؛ بل وبنا ًء عىل هذا “النموذج” بدأ الفضاء والزمان مع بداية الكون؛ لذلك‪ ،‬يكون السؤال‬
‫الربيطاين‪:‬‬
‫ّ‬ ‫عن زمان أو مكان االنفجار الكبري غري ذي معنى‪ ،‬حيث يقول پول ديويس[[[ عامل الفيزياء‬
‫“إ َّن السؤال‪ :‬ماذا حدث قبل االنفجار الكبري؟‪ ،‬سؤال ال معنى له؛ أل َّن الزمان قد بدأ مع االنفجار‬
‫الكبري”‪( .‬پول ديويس ‪.)32 :1996‬‬
‫منسقة مبا يوافق الفضاء والزمان‪ ،‬فال ميكن توقُّع أن تكون‬ ‫كل قوانينا الفيزيائ َّية َّ‬
‫انطالقًا من أ َّن َّ‬
‫هذه القوانني قابلة للتطبيق‪ ،‬حيث ال يكون هناك فضاء وزمان؛ بل يجب القول أ َّن هذه القوانني‬
‫غارقة يف تف ُّردها األ َّول‪ ،‬وهي تفقد استعدادها وما يتوقّع منها قبل أو حني التف ّرد‪( .‬استيفن هاكينغ‬
‫‪ .)66 :1989‬يشار إىل هذا التف ُّرد يف املعادالت املتعلِّقة بالعديد من مناذج علم الكون بالزمان‬
‫صفر (‪( .)=0t‬ويليام استغر ‪.)222 :1988‬‬
‫عب يف منوذج االنفجار الكبري بـ(‪ )=0t‬عن “بداية الكون” أو “بداية الزمان” إلَّ أ َّن‬ ‫صحيح أنَّه يُ َّ‬
‫كل‬ ‫(‪ )=0t‬من جهة أخرى تشري إىل محدوديَّة مض َّمنة يف القدرة عىل توضيح هذا النموذج‪ .‬يسعى ُّ‬
‫الخاص‪ ،‬لتفسري الكون يف قالب منظم قابل للفهم‬ ‫ّ‬ ‫املفهومي‬
‫ّ‬ ‫منوذج لعلم الكون ّيات‪ ،‬ويف إطاره‬
‫الخاصة‪ ،‬حيث يكون عاج ًزا عن اإلجابة عىل‬ ‫َّ‬ ‫فكل منوذج له محدوديَّاته‬
‫بشكل كامل‪ .‬ومع ذلك‪ُّ ،‬‬

‫‪[1]- Singularity.‬‬
‫‪[2]- Paul Davies.‬‬

‫‪60‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫ألي‬
‫مجموعة من األسئلة‪ .‬أطلق بعض املنظِّرين عىل هذه املحدوديَّات عنوان اآلفاق املفهوم َّية[[[ ّ‬
‫منوذج‪( .‬ميلتون مونيتز ‪.)167 :1986‬‬
‫السياق أ ًّن “التف ُّرد” و”بداية الزمان” و”الزمان صفر” يف علم كون االنفجار‬ ‫يجدر القول يف هذا ِّ‬
‫دليل عىل عجز هذه النظريَّة يف تلك األوضاع؛ أل َّن النسب َّية العا َّمة التقليديَّة يف الزمان‬
‫الكبري‪ ،‬هي ٌ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫أي فعاليَّة‪( .‬ويليام دريس ‪ .)108 :1990‬ومع هذا التوضيح‪ ،‬تحرض معاين‬ ‫صفر ‪-‬وبعده بقليل‪ -‬تفتقد َّ‬
‫بعض املفاهيم من قبيل “بداية الكون أو بداية الزمان” يف إطار نظريَّة االنفجار الكبري‪ ،‬ومع األخذ‬
‫بعني االعتبار املحدوديَّات املوجودة فيها‪ ،‬حيث ال يلزم أن توضح حقيقة عين َّية‪( .‬ويليام استغر‬
‫‪222 :1988‬؛ ميلتون مونيتز ‪.)175 :1986‬‬
‫طب ًعا‪ ،‬هذا الكالم ال يعني أ َّن نظريَّة االنفجار الكبري غري صحيحة من بعض الجهات؛ بل يشري‬
‫إىل محدوديَّات يف القدرة عىل توضيحها‪ ،‬وإلَّ فال ترديد يف أ َّن النظريَّة املذكورة عمل َّية يف إطار‬
‫حدودها‪ .‬ميكن القول أ َّن االنفجار الكبري نظريَّة مقبولة وناجحة عىل مستوى تقديم رشح لتكامل‬
‫‪-‬خصوصا االكتشافات‬
‫ً‬ ‫كل الشواهد واالختبارات‬ ‫وتح ُّول العامل الكبري وهياكله‪ ،‬وتحيك عن ذلك ُّ‬
‫ريا دقيقًا لتكامل الكون بد ًءا‬
‫حا وتفس ً‬ ‫األخرية ‪ -‬حيث ات َّضح أ َّن علم كون االنفجار الكبري يق ِّدم توضي ً‬
‫من الجزء الواحد باملائة من الثانية بعد حصول االنفجار [التف ُّرد] إىل اليوم؛ أي يف م َّدة تقارب‬
‫ُحل من قبيل كيف َّية ظهور‬
‫الخمسة عرش بليون سنة‪ .‬طب ًعا‪ ،‬هناك بعض املسائل املعقَّدة التي مل ت ُّ‬
‫وتشكُّل املج َّرات التي يجب تقديم جواب مناسب لها‪( .‬ويليام دريس‪.)375 :1991 ،‬‬
‫ولكن‪ ،‬رغم النجاح الذي حقَّقته نظريَّة االنفجار الكبري يو ًما بعد يوم‪ ،‬ونضوجها منذ العام ‪1930‬‬
‫وما تاله‪ ،‬مل يكن بعض علامء الكون راضني عن الصورة التي ق َّدمتها‪ .‬وعدم الرىض هذا مل يعتمد‬
‫عىل أساس مبادئ علميَّة ثابتة؛ ال بل كانت الدوافع غري العلميَّة يف بعض األحيان هي الحاكمة‬
‫يف بعض اآلراء‪ .‬هذا من جهة‪ .‬ومن جهة أخرى‪ ،‬بذل بعض علامء الكون جهو ًدا يف سبيل تعديل‬
‫وإصالح هذه النظريَّة‪ ،‬وتقديم مناذج ونظريَّات جديدة انطالقًا من دوافع علم َّية بهدف تحسني‬
‫وجامعيَّة مناذج علم الكونيَّات‪ .‬هناك بعض النظريَّات والنامذج يف علم الكون‪ ،‬والتي ميكنها بنوع‬
‫ما أن تق ِّدم قراءة مفيدة يف معرفة موقف علم الكون الحديث من مسألة البداية‪ ،‬وهي عبارة عن‪:‬‬
‫‪ -‬نظريَّة الكون املتذبذب[[[‪.‬‬
‫‪ -‬نظريَّة التضخُّم[[[‪.‬‬

‫‪[1]- Conceptual Horizons.‬‬


‫‪[2]- Oscillating Univers Hypothesis.‬‬
‫‪[3]- Inflationary Theory.‬‬

‫‪61‬‬
‫المحور‬

‫ّْ‬
‫الفوضوي[[[‪.‬‬ ‫‪ -‬نظريَّة التضخُّم‬
‫‪ -‬علم الكون الكوانتومي‪.‬‬
‫وسنكتفي يف ما ييل بتقديم مخترص حول علم الكون الكوانتومي‪.‬‬

‫الكوانتوم‪:‬‬
‫ي‬ ‫علم الكون‬
‫إ َّن من أه ِّم وأبرز النامذج التي تع َّرضت ملسألة البداية‪ ،‬كام جرى تصويرها يف علم كون االنفجار‬
‫الكبري‪ ،‬نظريَّة علم الكون الكونتومي[[[‪ .‬فبعد سنوات من عرض منوذج االنفجار الكبري‪ ،‬كان جواب‬
‫السؤال‪“ :‬هل ميكن الحديث عن مراحل الكون األوىل مبساعدة أساليب الفيزياء النظريَّة؟” سلب ًّيا‪.‬‬
‫(كريس آيشام ‪.)51 :1993‬‬
‫التوضيحي لنموذج االنفجار الكبري املتعارف عليه‪ ،‬قد بدأ من الجزء‬
‫َّ‬ ‫وقد أرشنا إىل أ َّن اإلطار‬
‫الواحد باملائة بعد التف ُّرد املفروض‪ ،‬حيث يخرج توضيح املسألة قبل ذلك عن دائرة قوانني الفيزياء‬
‫املعروفة‪ .‬ويف جزء صغري من ثانية بداية الكون‪ ،‬ميكن الوصول للحظة يطلق عليها يف االصطالح‬
‫زمان بالنك[[[‪ .‬يف هذا املقطع من عمر العامل الذي مىض عليه ‪ 10-43‬ثانية فقط‪ ،‬كان الكون يعيش‬
‫خاص (يعادل ‪ 1593‬غرام يف السنتيمرت املك ّعب الواحد)‪ .‬وكان “الفضاء – الزمان” يف‬ ‫ّْ‬ ‫حالة تراكم‬
‫حدود أبعاد صغرية وكثيفة للغاية‪ .‬يف هذه الظروف تظهر أهم َّية نظريَّة كوانتوم[[[‪ .‬ويطلق عىل هذا‬
‫الجزء من تاريخ الكون باالصطالح “علم الكون الكوانتومي”‪( .‬ويليام دريس ‪374 :1991‬؛ جاناتان‬
‫هاليول ‪79 :1991‬؛ آلن اليت من وروبرتو براور ‪.)38 :1990‬‬
‫الكوانتومي بهدف‬
‫ِّ‬ ‫قبل عرشين سنة‪ ،‬بدأت محاوالت حثيثة يف مجال دراسة علم الكون‬
‫الوصول إىل نظريَّة مقبولة‪ ،‬وهي ما زالت مستم َّرة حتَّى اآلن‪( .‬جاناتان هاليول ‪82 :1991‬؛ كريس‬
‫كل من استيفن هاكينغ[[[ عامل‬ ‫آيشام ‪ .)51 :1991‬من جملة الجهود التي بُذلت‪ ،‬النظريَّة التي ق َّدمها ٌّ‬
‫يئ األمرييكِّ عام ‪ .1980‬جرى يف هذه النظريَّة‬ ‫ين املشهور وجيمز هارتل[[[ الفيزيا ِّ‬
‫الفلك الربيطا ِّ‬
‫بنحو ما اجتناب التف ُّرد األ َّول وزمان الصفر (‪ )=0t‬اللتني عرضتا يف نظريَّة االنفجار الكبري‪( .‬روبرت‬
‫خاص لبداية الكون‪ ،‬وهذا‬
‫ٍّ‬ ‫أي تص ُّور‬
‫جان راسل ‪ .)561 :1994‬مل يتض َّمن منوذج “هاكينغ – هارتل” َّ‬
‫ال يُقصد به عدم نهاية عمر الكون‪ .‬ومع أ َّن “الفضاء – الزمان” من وجهة نظرهام يفتقدان الحدود‪،‬‬

‫‪[1]- Chaotic Inflation Model.‬‬


‫‪[2]- Quantum Cosmology.‬‬
‫‪[3]- Planck Time.‬‬
‫‪[4]- Quantum Theory.‬‬
‫‪[5]- Stephen Hawking.‬‬
‫‪[6]- James Hartle.‬‬

‫‪62‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫إلَّ أ َّن الكون ليس غري متنا ٍه‪ ،‬ال يف املايض وال يف املستقبل؛ ولذلك ميكن القول أ َّن للكون بداية‬
‫ونهاية‪ ،‬وهو متنا ٍه‪ .‬طب ًعا‪ ،‬ليس ذلك باملعنى املض َّمن يف بداية ونهاية الكون املنفرد‪( .‬ويليام دريس‬
‫‪.)1381 :1991‬‬
‫عندما نرجع إىل املايض البعيد ج ًّدا لتاريخ الكون نصل إىل حدود قريبة من التف ُّرد‪ ،‬بحسب‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫خواصه املعروفة عىل نحو أكرب وأوسع‪ ،‬فيظهر‬ ‫َّ‬ ‫منوذج االنفجار الكبري‪ ،‬سنجد أ َّن الزمان سيفقد‬
‫تدريجي‪ ،‬وليس‬
‫ٌّ‬ ‫يئ واحد”‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬فإ َّن ظهور الزمان أمر‬ ‫بالتدريج عىل شكل “بُ ْعد فضا ٍّ‬
‫حا أنَّه يبدأ فجأة من لحظة مح َّددة؛ لذلك تظهر املامنعة عن قبول التف ُّرد األ ّول‪ ،‬وكذلك عن‬ ‫صحي ً‬
‫ني وفقًا ملفهوم الزمان‬
‫زوال العلم يف بداية الكون‪ .‬إ َّن الذي يسقط ويزول هنا‪ ،‬هو التفسري الذي بُ َ‬
‫املتعارف‪ ،‬وليس القوانني العلميَّة‪ .‬أكَّد هاكينغ يف آثاره أ َّن الكون محدود‪ ،‬إلَّ أنَّه ال حدود له‪ ،‬وهو‬
‫كالكرة األرضيَّة املحدودة ويف الوقت عينه ليس لها حافَّة‪( .‬استيفن هاكينغ ‪ 135 :1988‬و‪.)136‬‬
‫الكوانتومي يشكِّل اليوم أمل العلم يف الوصول‬
‫ِّ‬ ‫كل حال‪ ،‬ميكن القول أ َّن علم الكون‬‫عىل ِّ‬
‫إىل تفسري ُمق ِنع عن مراحل الكون األوىل‪ ،‬ورغم الصعوبات والتعقيدات التي واجهتها النامذج‬
‫املق َّدمة‪ ،‬بحسب اعرتاف املفكِّرين فهي مع ذلك بعيدة عن التجارب املبارشة املؤيَّدة‪( .‬آلن اليت‬
‫من وروبرتو براور ‪.)39 :1990‬‬
‫يجب االلتفات إىل أ َّن عدد النامذج والروايات املتع ِّددة يف علم الكون تزداد يو ًما بعد يوم‪ ،‬وهي‬
‫تتض َّمن املقدار الكبري من الخصوص َّية االنتزاع َّية والتنظرييَّة‪ ،‬ممَّ دفع “واينربغ” إىل القول ‪ -‬يف‬
‫ملحق الطبعة الجديدة لكتاب الثالث دقائق األوىل (‪ -)1994‬بأ َّن هناك مسافة بعيدة بني النظريَّات‬
‫التي ق َّدمها املنظِّرون‪ ،‬وبني ما شاهده علامء الفلك‪( .‬استيون واينربغ ‪.)190 :1994‬‬

‫‪ - 2‬احلكمة املتعالية وحدوث عالم الطبيعة‪:‬‬


‫إذا حاولنا الوصول إىل رؤية الحكمة املتعالية حول بداية الكون‪ ،‬واالستفادة منها يف الدراسات‬
‫جه اهتاممنا إىل األماكن التي جرى الحديث فيها عن‬ ‫املتعلِّقة بـ”العلم واإلله َّيات”‪ ،‬يجب أن نو ِّ‬
‫مسألة حدوث العامل[[[‪ .‬ومن املفيد يف هذه املسألة االلتفات إىل االختالفات املوجودة بني‬
‫مم يساهم يف ظهور متايزها وتف ُّوقها‪.‬‬
‫الحكمة املتعالية واملدارس الفلسفيَّة والكالميَّة األخرى‪َّ ،‬‬

‫[[[‪ -‬يقصد الحكامء واملتكلِّمون من البحث عن مسألة حدوث العامل‪ ،‬حدوث عامل الطبيعة‪ .‬يعتقد بعض املفكِّرين املسلمني املعتقدين‬
‫بوجود العوامل املج َّردة وغري املاديَّة‪ ،‬أنّ تلك العوامل حادثة أيضً ا‪ .‬أ َّما محور آرائهم عندما يبحثون عن حدوث العامل‪ ،‬فهو حدوث عامل‬
‫الطبيعة‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫المحور‬

‫وبغض‬‫ِّ‬ ‫يني عىل الدوام‪،‬‬‫محل اهتامم املشتغلني بالفكر ال ّد ِّ‬


‫َّ‬ ‫كانت مسألة حدوث عامل الطبيعة‬
‫البرشي‪ ،‬فإ َّن نظرة عا َّمة للمسالك الكالم َّية‬
‫ِّ‬ ‫النظر عن السابقة التاريخ َّية القدمية للمسألة يف الفكر‬
‫للشك بروز هذه املسألة لدى املفكِّرين‪ ،‬حيث‬ ‫ِّ‬ ‫مجال‬
‫ً‬ ‫والفلسفيَّة اإلسالميَّة يوضح مبا ال يرتك‬
‫كانت واحدة من محاور تعارض اآلراء وتضارب األفكار بني اتِّباع تلك املسالك‪( .‬الحسن بن‬
‫رصح صدر املتألِّهني‬ ‫ل ‪َّ .)66 :1405‬‬ ‫ل ‪170 :1407‬؛ جامل الدين املقداد السيوري ِ‬
‫الح ّ ِّ‬ ‫مطهر ِ‬
‫الح ّ ِّ‬
‫مبسألة حدوث العامل‪ ،‬بنا ًء عىل العديد من القواعد الدين َّية يف املوقف العارش من كتاب األسفار‪،‬‬
‫وكذلك يف مق ِّدمته عىل رسالة حدوث العامل؛ فاعترب أ ّن إثبات حدوث العامل مقصد عظيم‪.‬‬
‫ات ّفق املتكلِّمون والفالسفة عىل أصل “حدوث العامل” ومسبوق َّيته بـ”العدم”‪ ،‬واختلفوا يف‬
‫التفسري والصورة التي ق َّدموها‪ .‬ميكن القول بشكل عا ٍّم أ َّن منشأ هذا االختالف الذي راج قبل‬
‫صدر املتألِّهني يعود إىل واحد من ثالثة أمور؛ أي كيفيَّة النظر إىل عامل الطبيعة‪ ،‬وأسلوب معرفة‬
‫كل مدرسة‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬عند تحليل أسباب وجذور كيف َّية فهم‬ ‫الديني يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الله وأسلوب الفهم‬
‫الحكامء واملسلمني لحدوث العامل‪ ،‬سنجد أ ّن واحد عىل األقل من تلك األمور الثالثة كان له‬
‫الدور األساس‪.‬‬
‫ِّ‬
‫المتكل ي ن‬
‫م�‪:‬‬ ‫* رؤية‬
‫ق َّدم املتكلِّمون صورة زمانيَّة لحدوث العامل‪ ،‬واعتربوا أ َّن هذا النوع من الحدوث هو املقصود‬
‫يف الرشائع والنصوص الدينيَّة اإلسالميَّة‪ .‬طب ًعا‪ ،‬تتض َّمن رؤيتهم للطبيعة وطريقتهم يف معرفة الله‬
‫ريا مع ما يُف َهم من النصوص الدين َّية‪ .‬أ َّما أسلوبهم يف املسألة‪ ،‬فقد سعوا فيه إلثبات بداية‬
‫تناس ًبا كب ً‬
‫دليل عىل قدرة الله‬
‫ين ً‬ ‫حدوث العامل‪ ،‬واستنتاج وجود الله‪ .‬وكانوا يعتربون حدوث العامل الزما ِّ‬
‫واختياره‪ .‬يوضح الرسم اآليت طريقتهم باختصار‪:‬‬
‫إثبات قدرة الله واختياره‬ ‫إثبات وجود الله‬ ‫حدوث العامل‬

‫وبنا ًء عىل أه ِّم االستدالالت التي ذكرتها أغلب الكتب الكالم َّية املعتربة‪ ،‬فإ َّن عامل الطبيعة‬
‫‪-‬الذي يُعبِّ عنه املتكلِّمون بـ”عامل األجسام” ‪ -‬هو مجموعة متناهية‪ ،‬وأجزاؤه حادثة يف الزمان‬
‫بسبب ما متتلك من حركة أو سكون‪ .‬ويف النتيجة‪ ،‬يكون هذا العامل بأجمعه أو عامل الطبيعة حادث ًا‬
‫زمان ًّيا أيضً ا‪( .‬نصري الدين مح ّمد الطويس ‪.)170 :1407‬‬
‫ّ‬
‫المتأل ي ن‬ ‫ش‬ ‫َّ‬
‫ه�‪:‬‬ ‫واإل�اق قبل صدر‬ ‫* رؤية حكماء المشاء‬
‫خالفًا للمتكلِّمني‪ ،‬يعتقد الحكامء بعدم إمكان َّية إثبات وجود الله وصفاته العليا‪ ،‬بنا ًء عىل‬
‫ينْ‪ .‬ويوضحون صفات الله تعاىل مبا ال يتالءم مع محدوديَّة وانقطاع فعل الله‪.‬‬
‫حدوث العامل الزما ّ‬

‫‪64‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫كل الجهات‪ ،‬فإ َّن فاعل َّيته تا ّمة وفياض َّيته‬


‫ومبا أ َّن الذات اإلله َّية واجبة الوجود عىل اإلطالق من ِّ‬
‫مطلقة؛ ولذلك‪ ،‬إذا اعتربنا العامل حادث ًا زمان ًّيا عىل طريقة املتكلِّمني سينتهي األمر إىل تعليق‬
‫اإللهي” ومحدوديَّة صفاته‪ .‬من هنا؛ فإ َّن كيفيَّة معرفة الله عند الحكامء تقتيض اعتبار عامل‬
‫ِّ‬ ‫“الوجود‬
‫الطويس‪:‬‬
‫ّ‬ ‫يل وغري املنقطع‪ .‬ويف هذا السياق يقول املحقّق‬
‫الطبيعة فعل الله األز َّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫“مل َّا كان املبدأ األ َّول عندهم أزليًّا تا ًّما يف الفاعليَّة‪ ،‬حكموا بكون العامل الذي هو فعله‪ ،‬أزليًّا‬
‫وذلك يف علومهم اإللهيَّة”‪( .‬نصري الدين مح ّمد الطويس ‪.)82 :1403‬‬
‫وقد ات َّفقت يف هذه املسألة رؤية حكامء اإلرشاق وحكامء املشَّ اء‪ .‬وأوضح شيخ اإلرشاق‬
‫هذه املسألة يف الفصل األ َّول والثالث من املقالة الثالثة من كتابه “حكمة اإلرشاق”‪ ،‬وتح ّدث يف‬
‫الفصل الثالث بعبارات مخترصة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫يتغي وال ينعدم‪ ،‬فيدوم العامل بدوامه”‪( .‬شهاب الدين السهروردي‬
‫أبدي إذ الفاعل ال َّ‬
‫ٌّ‬ ‫“الفيض‬
‫‪.)181 :1397‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬وانطالقًا من فهم الحكامء لعامل الطبيعة‪ ،‬وبااللتفات إىل الرباهني الفلسفيَّة‬
‫ين مفروض‪ ،‬سلسلة غري‬ ‫كل حادث زما ٍّ‬ ‫‪-‬املذكورة يف كتب املشَّ اء واإلرشاق املعتربة‪ -‬فإ َّن وراء ِّ‬
‫أي مقطع منه وتت َّبعنا‬
‫متناهية من األحداث الزمان َّية املتعاقبة‪ .‬وهذا يعني أنَّنا إذا رجعنا يف الزمان إىل ِّ‬
‫التعاقبي‬
‫َّ‬ ‫سلسلة األحداث‪ ،‬فلن نصل إىل النهاية وهذا هو الذي يطلق عليه الحكامء “التسلسل‬
‫للعلل املع َّدة عريض”‪ ،‬وقد يطلقون عليه تار ًة “ليس للحوادث أ َّول”‪ .‬ويعتقدون بأ َّن عدم تناهي‬
‫رضوري‪ ،‬وهذا يختلف عن التسلسل امل ُحال يف “العلل‬ ‫ٌّ‬ ‫سلسلة الحوادث الزمانيَّة ممكن؛ ال بل‬
‫التا َّمة الذات ّية”‪( .‬الحسني بن سينا ‪ 1405‬ألف‪.)265 :‬‬
‫يف اإلطار عينه‪ ،‬أ َّدت طريقة الحكامء السابقني عىل صدر املتألِّهني يف توضيح الصفات‬
‫الربوب َّية‪ ،‬وتفصيل الحديث عن نظام الطبيعة‪ ،‬إىل الحديث عن ِق َدم العامل وأزل َّيته‪ ،‬ومع ذلك أيَّد‬
‫يت” الذي يوضح‬ ‫عبوا عنه بـ”الحدوث الذا ِّ‬ ‫هؤالء أصل حدوث العامل‪ ،‬واعرتفوا بنوع من الحدوث َّ‬
‫يت”‪ .‬كان هؤالء الحكامء يعتقدون أ َّن هذا املقدار من‬ ‫كل ممكن بـ”العدم الذا ِّ‬ ‫مسبوق َّية وجود ِّ‬
‫االعتقاد ٍ‬
‫كاف لاللتزام بالنصوص الدينيَّة (عبد الرزَّاق اللَّ هيجي ‪.)150 :1364‬‬

‫* طريقة الحكمة المتعالية الجديدة‪:‬‬


‫شكل جدي ًدا يف الحكمة املتعالية ميتاز بشكل كامل عن طريقة‬ ‫ً‬ ‫ات َّخذت مسألة الحدوث‬
‫حل مسألة‬
‫املتكلِّمني والحكامء السابقني‪ .‬وقد عمل صدر املتألِّهني عىل تقديم ات ِّجاه جديد يف ِّ‬
‫حدوث العامل من خالل االستعانة باآليات والروايات‪ ،‬وقواعد الحكمة املتعالية‪ ،‬إىل جانب‬

‫‪65‬‬
‫المحور‬

‫اإلسالمي األصيل‪ .‬واستفاد يف هذا االتِّجاه الجديد من نقاط الق َّوة يف آراء‬
‫ِّ‬ ‫االستشهاد بالعرفان‬
‫الحكامء واملتكلِّمني املتق ِّدمني‪ ،‬وابتعد عن نقاط ضعفهم‪ .‬وقد أ َّدت الرؤية املعرف َّية للطبيعة يف‬
‫هذا االت ِّجاه إىل تشكُّل علم طبيعة حديث يف إطار الحكمة اإلسالميَّة‪.‬‬
‫من هنا‪ ،‬يجب البحث عن أصل هذا التح ُّول يف عرض وإثبات الحركة الجوهريَّة‪.‬‬
‫محل‬ ‫كانت حركات األجسام الظاهريَّة يف املقوالت العرض َّية ‪-‬التي هي بذاتها متن ِّوعة ومتكثِّ ة‪َّ -‬‬
‫تدريجي‬
‫ٍّ‬ ‫قبول وتأييد أصحاب الفكر عىل الدوام؛ بينام كان الرأي الغالب هو رفض حصول تح ُّول‬
‫يف ذات اليشء وجوهره باعتبار تعارضه مع مسألة “بقاء موضوع الحركة”‪( .‬الحسني ابن سينا‬
‫‪1405‬ب‪)98 :‬؛ إلَّ أنَّه‪ ،‬ومع قواعد الحكمة املتعالية‪ ،‬تصبح الحركة شأنًا من شؤون الوجود‪ ،‬وهي‬
‫مب ِّينة لحقيقة اليشء املتح ِّرك وليست أم ًرا زائ ًدا عليه‪ .‬أ َّما الغرييَّة بني الحركة وذات املتح ِّرك‪ ،‬فهو‬
‫ذهني ويف حدود الغرييَّة املفهوم َّية‪ ،‬ويف الخارج فهام عني بعضهام البعض‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫تحليل‬
‫تدل عىل أ َّنجذور وأساس حركات األجسام الظاهريَّة‬ ‫وتوضيح ذلك‪ :‬أ َّن براهني الحركة الجوهريَّة ُّ‬
‫ربرات التح ُّوالت‬ ‫كل جسم‪ ،‬وبالتايل فإ َّن م ِّ‬‫والعرض َّية تعود إىل التح ُّول والتج ُّدد يف جوهر وذات ِّ‬
‫يتْ‪ .‬وكام يقول “الحكيم السبزواري”‪،‬‬ ‫مقبول من دون وجود تح ُّول ذا ّ‬‫ً‬ ‫العرض َّية ال ميكن أن يكون‬
‫فإ َّن الحركات العرضيَّة مبنزلة جسد روحه الحركة الجوهريَّة‪( .‬امللَّ هادي السبزواري ‪.)97 :1981‬‬
‫وعىل هذا النحو‪ ،‬فالسيالن والتج ُّدد سا ٍر يف جوهر املوجودات الطبيعيَّة ويع ُّم وجودها‪ .‬والواقع‬
‫أ َّن هذه الرؤية تؤ ّدي إىل تصنيف “الوجود” وتقسيمه إىل “ثابت” و”س ّيال”‪ ،‬والسيالن والتج ُّدد هام‬
‫الطبيعي‪( .‬صدر الدين‬
‫ّْ‬ ‫نح ٌو من الوجود وصفة تحليل َّية تظهر عند تحليل ذات الوجود والجوهر‬
‫مح ّمد الشريازي ‪1981‬ب‪131 :‬؛ صدر الدين مح ّمد الشريازي ‪1981‬ج‪.)282 :‬‬
‫يت والحركة الجوهريَّة‪ ،‬أن تكون جميع املقوالت‬ ‫من جملة فروع ولوازم هذا التج ُّدد الذا ِّ‬
‫العرضيَّة‪ ،‬والتي هي من مراتب وظهورات الجواهر‪ ،‬متح ِّولة ومتج ِّددة بتبع الحركة يف الجوهر‪.‬‬
‫والتدريجي موضوع الحركة ضام ًنا للوحدة والتشخُّص‬
‫ُّ‬ ‫وبهذا التحليل‪ ،‬يصبح الوجود التج ُّددي‬
‫وبقائها‪ .‬إذًا‪ ،‬الحركة يف الجوهر ال تنايف بقاء موضوعها‪ .‬وعىل هذا النحو يزول إشكال قبولها الذي‬
‫أُشري إليه مسبقًا‪( .‬صدر الدين مح ّمد الشريازي ‪1981‬ب‪ 85 :‬و‪.)86‬‬
‫جوهري‪ .‬ويشري هذا‬‫ٍّ‬ ‫ومبا أ َّن الزمان هو مقدار الحركة والتج ُّدد؛ لذلك ستكون الحركة راسمة لزمان‬
‫الجوهريْ‪ .‬وتجدر اإلشارة إىل أنّه‪ ،‬وبنا ًء عىل الحكمة‬
‫ّ‬ ‫الجوهري” إىل مقدار الحركة والتج ُّدد‬
‫ُّ‬ ‫“الزمان‬
‫املتعالية‪ ،‬فـ”الزمان” كالحركة؛ أي أنَّه من شؤون “الوجود املتد ّرج” وال ميكن اعتباره وعا ًء خارج ًّيا‬
‫للمتح ّرك‪ .‬وكذلك األمر‪ ،‬فإذا كانت الحركة والزمان غري بعضهام من الناحية التحليليَّة واملفهوميَّة؛ إلَّ‬
‫أنَّهام من ناحية الوجود‪ ،‬فإ َّن ُهويَّتهام هي بعينها ُهويَّة الوجود الس َّيال املتج ِّدد الذي ينظر إليه من زاويتني‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫يف هذا املجال‪ ،‬يقول صدر املتألّهني‪:‬‬


‫“إ َّن عروض الزمان للحركة إنَّ ا هو يف ظرف التحليل‪ ،‬فإ َّن الحركة والزمان كام َم َّر‪ ،‬موجودان‬
‫بوجود واحد”‪( .‬صدر الدين مح ّمد الشريازي ‪1981‬ب‪.)200 :‬‬
‫وكل تج ُّدد هو‬
‫كل آن‪ُّ ،‬‬‫كل موجود‪ ،‬ث َّم يتج َّدد ذاك املوجود يف ِّ‬ ‫عندما يصبح التج ُّدد عني وجود ِّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫عب عنه بالحدوث‬ ‫مستقل؛ يحصل يف الزمان ويف ساحة الذات وجوهر اليشء‪ ،‬وهو الذي يُ َّ‬ ‫ٌّ‬ ‫حدوث‬
‫كل لحظة يف‬ ‫وكل شؤونه حادث يف ِّ‬ ‫طبيعي ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫كل موجود‬ ‫الجوهريْ‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬فإ َّن َّ‬
‫ّ‬ ‫ين‬
‫الزما ِّ‬
‫عمق وجوهر ذاته‪ ،‬ومبا أ َّن عامل الطبيعة ليس سوى املوجودات الطبيع َّية وشؤونها‪ ،‬فعامل الطبيعة‬
‫كل لحظة أيضً ا‪.‬‬
‫ين يف ِّ‬‫حادث زما ٌّ‬
‫جاء يف املشعر الثالث من املنهج الثالث من كتاب “املشاعر”‪:‬‬
‫ين؛ مبعنى أن ال ُهويَّة من ال ُهويَّات الشخص َّية‬‫“العامل بجميع ما فيه مسبوق الوجود بعدم زما ٍّ‬
‫إلَّ وقد سبق عدمها وجودها ووجودها عدمها سبقًا زمان ًّيا‪ ،‬وبالجملة ال يشء من األجسام‬
‫إل وهو متج ِّدد ال ُهويَّة غري ثابت‬‫نفسا كان أو بدنًا‪َّ ،‬‬
‫والجسامنيَّات املاديَّة فكليًّا كان أو عنرصيًّا‪ً ،‬‬
‫الوجود والشخصيَّة”‪( .‬صدر الدين مح ّمد الشريازي‪ ،‬املشاعر‪.)342-339 :‬‬
‫ِّ‬
‫المتكل ي ن‬ ‫االش�اك واالختالف ي ن‬ ‫ت‬
‫م� والحكماء‪:‬‬ ‫ب� الحكمة المتعالية وآراء‬ ‫* نقاط‬
‫‪ - 1‬يؤ ِّدي “برهان الص ِّديقني” دو ًرا محوريًّا يف الحكمة املتعالية ويف بحث “اإللهيَّات باملعنى‬
‫األخص” بالق َّوة نفسها التي يستخدم فيها إلثبات واجب الوجود‪ .‬فاالستدالالت املبن َّية عىل حدوث‬‫ِّ‬
‫العامل متتلك دو ًرا محوريًّا كهذا‪ .‬وعليه؛ ميكن القول أ َّن طريقة الحكمة املتعالية أقرب إىل طريقة‬
‫الحكامء منها إىل طريقة املتكلِّمني‪.‬‬
‫ين‬
‫تدل عىل الحدوث الزما ِّ‬ ‫‪ - 2‬يتّفق صدر املتألِّهني مع املتكلِّمني يف أ َّن النصوص الدين َّية ُّ‬
‫يت مبفرده ليس كاف ًيا‪( .‬صدر الدين مح َّمد الشريازي‬‫للعامل‪ ،‬ويف هذه الحالة يبدو أ َّن الحدوث الذا َّ‬
‫‪.)186 :1366‬‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫يل حول حدوث العامل يف آثار صدر املتألّهني ‪-‬‬ ‫ويتًّضح من خالل الرجوع إىل البحث األص ِّ‬
‫املوقف العارش من السفر الثالث من كتاب “األسفار األربعة” ورسالة حدوث العامل‪ -‬أوجه اختالفه مع‬
‫الكل‬
‫ين إليه‪ .‬يقصد املتكلِّمون من عامل الطبيعة‪ُّ ،‬‬‫املتكلِّمني يف كيف َّية فهم العامل ونسبة الحدوث الزما ِّ‬
‫املجموعي الذي يتض َّمن مايض ومستقبل الكون‪ ،‬والعامل هو اسم لهذا املجموع الواسع‪ .‬انطالقًا من‬‫ُّ‬
‫ين‪ .‬مع‬
‫املجموعي ‪-‬الذي يُطلق عليه العامل‪ -‬يتَّصف بالحدوث الزما ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الكل‬
‫هذا املعنى‪ ،‬فإ َّن عني هذا ِّ‬
‫مجموعي لألحداث املاضية‪:‬‬
‫ٍّ‬ ‫وأي وجود‬‫بأي كليَّة ِّ‬
‫العلم‪ ،‬أ َّن صدر املتألّهني ال يعرتف ّ‬

‫‪67‬‬
‫المحور‬

‫الكل‬
‫مجموعي أب ًدا؛ ليلزم من ذلك أن يكون ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫كل‬
‫“إ َّن الحوادث املاضية ال ميكن أن يكون لها ٌّ‬
‫يصح‬
‫ُّ‬ ‫أصل‪ ،‬فال‬
‫ً‬ ‫كل له‬
‫مسبوقًا بالعدم أو غري مسبوق؛ أل َّن تلك الحوادث معدومة واملعدوم ال َّ‬
‫إل واح ًدا أو متناهيًا”‪( .‬صدر‬
‫كل وقت ّ‬
‫الحكم عليه؛ بل ليس املوجود من تلك الحوادث يف ِّ‬
‫املتألّهني مح ّمد الشريازي ‪1981‬ج‪.)311 :‬‬
‫الحقيقي‪ ،‬وال‬
‫ِّ‬ ‫اعتباري وال تتَّصف بالوجود‬
‫ٌّ‬ ‫الكل ومجموع العامل أمر‬
‫واعترب يف آثاره هذه أ َّن َّ‬
‫أي صفة وجوديَّة ‪-‬ومن جملة ذلك‬
‫مستقل لها عن أجزائها‪ ،‬وإذا كان من غري املمكن إسناد ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫وجود‬
‫الكل واملجموع ليس حادث ًا‬
‫ِّ‬ ‫االعتباري‪ ،‬فهذا يعني أ َّن العامل مبعنى‬
‫ِّ‬ ‫الحدوث وال ِقدم‪ -‬إىل األمر‬
‫ين لها غري صحيح‪ .‬يعتقد صدر املتألّهني أ َّن عامل الطبيعة‬
‫وال قدميًا؛ أي أ َّن إسناد الحدوث الزما ِّ‬
‫كل لحظة‬
‫ين يف ِّ‬
‫كل واحد من أجزاء العامل التي متتلك الحدوث الزما َّ‬
‫بأجمع َّيته ليس شيئًا آخر غري ِّ‬
‫ولعل العبارة اآلتية املذكورة يف املوقف العارش من السفر الثالث من “األسفار األربعة”‪،‬‬
‫َّ‬ ‫ودامئًا‪.‬‬
‫منوذج من هذا التحليل‪:‬‬
‫التغي‬
‫ُّ‬ ‫“فقد ثبت وتحقَّق أ َّن األجسام كلَّها متج ِّددة الوجود يف ذاتها‪ ،‬وأ َّن صورتها صورة‬
‫ين‪ ،‬كائن فاسد‪ ،‬ال استمرار ل ُهويَّاتها‬
‫وكل منها حادث الوجود‪ ،‬مسبوق بالعدم الزما ِّ‬ ‫واالستحالة ٌّ‬
‫الكل ال وجود له يف الخارج‪ ،‬وال‬
‫ّ َّ‬ ‫الوجوديَّة‪ ،‬وال لطبائعها املرسلة‪ ،‬وال ملفهوماتها الكل َّية‪ ،‬إذ إ َّن‬
‫الكل ال وجود له إلَّ باألفراد‪،‬‬
‫ّ َّ‬ ‫جمعيَّة لها يف الخارج حتّى يوصف بأنَّه حادث أو قديم‪ ،‬فكام أ َّن‬
‫فالكل ال وجود له إلَّ وجودات األجزاء واألجزاء كثرية؛ فكذا حدثوها حدوثات كثرية‪( .‬صدر الدين‬
‫ُّ‬
‫مح َّمد الشريازي ‪1981‬ج‪.)297 :‬‬
‫‪ 3-‬من جملة نتائج إثبات الحركة الجوهريَّة دخالة الزمان يف ُهويَّة األشياء الجوهريَّة‪ ،‬فهو ليس‬
‫خارجي يكون محلًّ لوقوع األحداث‪ ،‬كام ال يجب اعتباره مج َّرد أمر عارض عىل األمور‬
‫ٍّ‬ ‫مج َّرد وعاء‬
‫جا عن املوجودات الطبيعيَّة‪،‬‬
‫املتغيِّ ة واملتح ِّركة‪ .‬ومبا أ َّن املتكلِّمني كانوا يعتربون الزمان خار ً‬
‫ين للعامل‬
‫والعامل عبارة عن مجموعة املوجودات الطبيع ّية‪ ،‬اعتربوا عند ذلك أ َّن الحدوث الزما َّ‬
‫تاريخي‪ .‬مبعنى أنَّهم كانوا يتوقَّعون الوصول يف املايض البعيد إىل‬
‫ٍّ‬ ‫عبارة عن حقيقة منحرصة بفرد‬
‫نقطة البداية الزمان َّية للعامل‪ .‬يتَّضح هذا املعنى من خالل الرجوع إىل احتجاجات وأدلَّة املتكلِّمني‬
‫ين للعامل‪( .‬نصري الدين مح ّمد الطويس ‪.)208 :1359‬‬
‫يف إثبات الحدوث الزما ِّ‬
‫ين‪ .‬ومل‬
‫يف مقابل رأي املتكلِّمني‪ ،‬عارض صدر املتألّهني هذا الفهم لحدوث العامل الزما ِّ‬
‫ين انطالقًا‬
‫يوضحه انطالقًا من كونه حادثة تاريخيّة؛ بل ص ّوره عىل أنّه شامل ودائم‪ .‬والحدوث الزما ّ‬
‫كل لحظة؛ ال بل ينبغي القول‬‫طبيعي يف ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫كل موجود‬ ‫وجودي يصدق عىل ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫من هذه الرؤية هو حكم‬

‫‪68‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫جا وعارضً ا عليه‪( .‬صدر الدين مح َّمد‬


‫طبيعي وليس أم ًرا خار ً‬
‫ٍّ‬ ‫كل موجود‬
‫أنَّه عني ُهويَّة ووجود ِّ‬
‫الشريازي ‪1981‬ب‪ 251 :‬و‪.)252‬‬
‫‪ 4-‬تق َّدم أ َّن الحكامء املتق ِّدمني عىل صدر املتألّهني استنتجوا ِقدم العامل وأزل َّية املمكنات من‬
‫خالل القول بالفياض َّية التا َّمة لواجب الوجود وأزل َّية فاعل َّيته‪ .‬أ ّما هو‪ ،‬كحال الحكامء املتق ّدمني‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫فقد اعترب أ َّن “دوام الجود” و”فياضيَّة واجب الوجود التا َّمة” و”أزليَّة فاعليَّته” رضوريَّة وأكَّد عليها‪،‬‬
‫يبْ‪:‬‬
‫دال عىل عدم انقطاع الفيض الربو ّ‬ ‫إلَّ أنَّه مل يستنتج أزليَّة املمكنات و ِقدم العامل؛ بل اعترب ذلك ًّ‬
‫الحق‪ ،‬وإفاضته عىل األشياء‬
‫ِّ‬ ‫“فظهر مبا ذكرنا دوام جود الجواد املطلق‪ ،‬وأزل َّية صنع الصانع‬
‫أزلً وأب ًدا عىل نسق واحد‪ .‬ولك َّن دوام جود املبدع وإبداعه ال يوجب أزليَّة املمكنات‪ ،‬ال كلُّها وال‬
‫جزؤها‪ ،‬وال كل ُّيها وال جزئ ُّيها‪ ،‬كام سبق‪ .‬والفالسفة لو اكتفوا عىل هذا القدر لكان كالمهم حقًّا‬
‫حا‪ ،‬إلَّ أ َّن متأخِّريهم زادوا عىل ذلك وزعموا أ َّن هذا املعاين تستلزم ِقدم العامل‪( ”...‬صدر‬
‫صحي ً‬
‫الدين مح ّمد الشريازي ‪1981‬ج‪.)307-305 :‬‬
‫ث َّم تح َّدث يف الفصل الثالث من املوقف العارش من كتاب “األسفار األربعة”‪ ،‬وبعد نقل خالصة‬
‫عن كالم الفالسفة يف إثبات ِقدم العامل‪ ،‬وقَ َّيم مق ِّدمات ونتيجة استدالل الفالسفة عىل النحو اآليت‪:‬‬
‫“هذه املق ِّدمات كلُّها صادقة حقَّة اضطراريَّة‪ ،‬لكن مع ذلك ال يلزم منها ِق َدم العامل” (صدر‬
‫الدين مح ّمد الشريازي ‪1981‬ج‪.)300 :‬‬
‫إل أ َّن عدم‬‫وبهذا النحو‪ ،‬أيَّد صدر املتألّهني رأي الحكامء حول عدم تناهي سلسلة الحوادث‪َّ ،‬‬
‫ين‪ ،‬وتج ُّدد العامل‬
‫يب الذي يتناسب مع الحدوث الزما ِّ‬
‫التناهي هو من باب عدم انقطاع الفيض الربو ِّ‬
‫كل لحظة باملعنى املتق ِّدم (صدر الدين مح ّمد الشريازي ‪ 1981‬ألف‪ .)138 :‬وانطالقًا من أُ ُسس‬ ‫يف ِّ‬
‫ين‪ ،‬مفهوم ال مصداق له يف الخارج (حسن الفيض‬ ‫الحكمة املتعالية ينبغي القول أ َّن القديم الزما َّ‬
‫الكاشاين ‪.)119 :1362‬‬

‫‪ - 3‬مسألة البداية بني علم الكون احلديث واحلكمة املتعالية‪:‬‬


‫ميكن عرض ودراسة كيف َّية العالقة يف مسألة البداية بني علم الكون الحديث والحكمة‬
‫املتعالية ضمن اإلطار العا ِّم ألبحاث “علم اإلله َّيات”‪ ،‬حيث ميكن أن تشكِّل املسألة إحدى‬
‫فصوله املحوريَّة‪ .‬بدأ االهتامم منذ عقود ع َّدة وبشكل الفت بأبحاث العلم واإللهيَّات بشكل عا ٍّم‪،‬‬
‫خاص عىل مستوى املحافل الدوليَّة‪ .‬شارك يف هذه‬ ‫ٍّ‬ ‫و”اإللهيَّات وعلم الكون الحديث” بشكل‬
‫متخصيص علم الكون أصحاب املدارج العالية يف اإلله َّيات‬ ‫ِّ‬ ‫النشاطات‪ ،‬باإلضافة إىل بعض‬
‫املسيح َّية‪ ،‬بعض الفالسفة واملفكِّرين املسلمني عىل نحو فاعل‪ .‬وعرضت نتائج هذه الجهود‬

‫‪69‬‬
‫المحور‬

‫حتّى اآلن عىل شكل كتب ومقاالت متع ِّددة ق َّدمت بدورها مصادر ذات قيمة يف هذا البحث‪.‬‬
‫طب ًعا‪ ،‬ال ميكن ا ِّدعاء أ َّن هذه الجهود خالية من النقص والخلل بشكل كامل‪ ،‬وهذا ما يظهر يف‬
‫الرؤية التوحيديَّة والحكمة اإلسالميَّة عىل وجه الخصوص‪ .‬وإذا ما ترافقت ق َّوة املعارف والحكمة‬
‫اإلسالميَّة مع البصرية واملعرفة الكافية يف هذه الدراسات‪ ،‬أمكن رفع هذه النواقص واملشكالت‪،‬‬
‫وبالتايل الوصول إىل رؤية جامعة تتناسب مع الرؤية التوحيديَّة اإلسالم َّية‪.‬‬
‫حتّى اآلن‪ ،‬مل يصل االهتامم واملتابعة الج ّديَّة والتفصيليَّة لبحث “علم الكون الحديث‬
‫اإلسالمي املستوى املطلوب؛ لذلك ميكن اعتبار املسألة جز ًءا من املسائل‬
‫ِّ‬ ‫واإلله َّيات” يف الفكر‬
‫الجديدة أو املستحدثة؛ لذلك من املناسب تهيئة مق ِّدمات هذا النوع من األبحاث بالتدريج ومن‬
‫مختلف الجوانب من خالل اعتامد الحزم واالحتياط املطلوبني‪ ،‬وإحراز توافر الرشوط الرضوريَّة‪.‬‬
‫طب ًعا‪ ،‬ينبغي عدم الغفلة عن حاالت االستقالل واالختالفات الكثرية بني علم الكون الحديث‬
‫والحكمة املتعالية‪.‬‬
‫وتتجل هذه االختالفات يف مسائل أساسيَّة‪ ،‬من جملتها‪ :‬حيثيَّة النظر إىل عامل الطبيعة‪ ،‬كيفيّة‬
‫ّ‬
‫الفهم والتلقِّي‪ ،‬املصادر ومناهج البحث‪ ،‬الُّلغة املستخدمة‪ ،‬املبادئ والفرض َّيات وأمثال ذلك ممَّ‬
‫يجب مالحظته للحؤول دون التداخل الخاطئ واختالط الحدود‪.‬‬
‫عند دراسة كيفيَّة ومق ِّدمات العالقة بني الحكمة املتعالية وعلم الكون الحديث‪ ،‬نحتاج إىل‬
‫يل حول “العلم‬ ‫مقدار كبري من املعرفة واالطِّالع عىل األبحاث الرائجة اليوم عىل املستوى الدو ِّ‬
‫خاص بعلم الكون الحديث‪ .‬وكلَّام كانت هذه املعرفة جامعة‬ ‫ٍّ‬ ‫واإلله ّيات”‪ ،‬وما يرتبط بشكل‬
‫وحديثة أمكنها مساعدتنا يف االستفادة من النقاط اإليجابيَّة لهذه التجارب‪ ،‬وبالتايل الحؤول دون‬
‫الوقوع يف األخطاء واملنزلقات‪ .‬ويف النهاية‪ ،‬بإمكان التحليل وتقييم النقاط اإليجابيَّة والسلبيَّة‬
‫للنتائج والتجارب‪ ،‬أن يساهم يف إيجاد مقوالت ومفاهيم تتناسب مع هذه األبحاث يف إطار الفكر‬
‫اإلسالمي والحكمة اإلسالم َّية‪.‬‬
‫ِّ‬
‫سنحاول يف القسم الثاين من البحث قدر املستطاع‪ ،‬ومبا يتناسب مع هذا املقال‪ ،‬اإلضاءة عىل‬
‫املواقف والرؤى الحديثة‪ ،‬وسنعمل عىل تبيني رؤية الحكمة املتعالية‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫�افزييقية يف علم الكون احلديث”‬ ‫الفلسفية – امليت‬ ‫* االتاهات‬
‫بغض النظر عن ر َّدات الفعل املتع ِّددة واملختلفة املطروحة يف الفلسفة واإلله َّيات‪ ،‬يالحظ‬ ‫ِّ‬
‫املتخصصني البارزين يف علم‬
‫ِّ‬ ‫ي لالت ِّجاهات الفلسفيَّة وامليتافيزيقيَّة بني‬
‫وجود حضور ج ّد ٌّ‬
‫خصوصا عند‬
‫ً‬ ‫الكون الحديث‪ ،‬حيث كان هذا الحضور ذو تأثري الفت يف بعض الحاالت‪،‬‬

‫‪70‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫توضيح بداية الكون‪ .‬يف ما ييل نكتفي باإلشارة إىل بعض النامذج‪:‬‬
‫‪ -‬عارض فردريك هويل نظريَّة االنفجار الكبري‪ ،‬وهو يعترب من األركان األساسيَّة يف التأسيس‬
‫لنظريَّة الحالة الثابتة منذ نصف قرن تقري ًبا‪ .‬يربز يف اعرتاضاته عىل نظريَّة االنفجار الكبري‪ ،‬وما تاله‬
‫خصوصا اإللحاديَّة‬
‫ً‬ ‫من اعرتاضات ما زالت جارية حتى اليوم‪ ،‬حضور الفت للخلف َّيات الفلسف َّية‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫شكل من األصوليَّة الدينيَّة‪ ،‬وأ َّن الروايات‬‫ً‬ ‫منها‪ .‬تح َّدث عن “علم كون االنفجار الكبري”‪ ،‬فاعتربه‬
‫الجديدة لنظريَّة االنفجار الكبري تتناسب إىل حدود بعيدة مع إلهيَّات القرون الوسطى (جان هورغان‬
‫‪.)25 :1995‬‬
‫‪ -‬حول هذا األمر‪ ،‬يقول أيان باربور[[[‪:‬‬
‫“أوضحت كتابات هويل أ َّن تأييده لنظريَّة الحالة الثابتة‪ ،‬مل يكن من منطلق الخلف َّيات العلم َّية‬
‫الرصفة؛ بل ألنَّه كان يظ ُّن أ َّن “الزمان اللَّ متناهي” يتناسب بشكل كبري مع عقائده اإللحاديَّة” (إيان‬
‫باربور ‪.)129 :1990‬‬
‫رصح استيفن واينربغ[[[ عامل الفيزياء والحائز عىل جائزة نوبل بأه ّميَّة الرؤى الفلسفيَّة يف كيفيَّة‬
‫‪َّ -‬‬
‫ترجيح نظريَّات ومناذج علم الكون‪ .‬وهو يعتقد أ َّن القضيَّة األساسيَّة والجاذبيَّة الفلسفيَّة لنظريَّة‬
‫الحالة الثابتة ‪ -‬والتي ما زالت حتّى اليوم نظريّة غري رائجة‪ -‬يف أنَّها قليلة الشبه بالصورة التقليديَّة‬
‫والدين َّية التي جاءت يف العهد العتيق حول خلق الكون (جان بارو ‪.)226 :1988‬‬
‫‪ -‬كتب ستيفن هاكينغ عامل الكون‪ ،‬املعارص املشهور يف أحد آثاره‪ ،‬وبعد توضيح تف ُّرد االنفجار‬
‫الكبري‪ ،‬وقبل أن يعمد إىل رشح بعض مناذج علم الكون‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫“هناك الكثري من الناس م َّمن يظهرون غضبهم يف أ َّن للزمان بداية ونهاية؛ أل َّن هذا األمر يحيك‬
‫عن تدخُّل اإلله؛ لذلك‪ ،‬انص َّبت الجهود للحؤول دون الوصول إىل هذه النتيجة” (ستيفن هاكينغ‬
‫‪.)66 :1989‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬ي َّدعي علامء الفلك من أمثال ويتاكر[[[‪ ،‬ميلن[[[‪ ،‬وايسكوف[[[ وجاسرتو[[[‪،‬‬
‫وجود تطابق أو تشابق بني املعطيات التي يق ِّدمها علم الكون الحديث واملعتقدات الدين َّية‪ .‬وقد‬
‫تركت أفكار ويتاكر حول التطابق بني الصورة التي ق َّدمها علم كون االنفجار الكبري للعامل أثناء‬

‫‪[1]- Ian Barbour.‬‬


‫‪[2]- Steven Weinberg.‬‬
‫‪[3]- Whittaker.‬‬
‫‪[4]- Milne.‬‬
‫‪[5]- Weisskopf.‬‬
‫‪[6]- Jastrow.‬‬

‫‪71‬‬
‫المحور‬

‫انبساطه والرؤى املسيح َّية التقليديَّة‪ ،‬تأثريها عىل الباب بيوس الثاين عرش[[[ (جان بارو ‪.)226 :1988‬‬
‫من ناحيته‪ ،‬أكَّد وايسكوف وجود تشابه عجيب بني الرؤى اليهوديَّة – املسيحيَّة التقليديَّة وعلم‬
‫الكون الحديث يف مسألة بداية الكون ( ُهلمز رولستون الثالث ‪.)72 :1987‬‬
‫املتخصص يف الفيزياء الفلك َّية‪ ،‬أ َّن الشواهد املوجودة لعلم‬
‫ِّ‬ ‫كذلك األمر‪ ،‬أوضح جاسرتو‬
‫الفلك توصل إىل رؤية الكتاب املق َّدس حول نشأة الكون (ايان باربور ‪.)128 :1990‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫[اإللهياتي�ة]‪:‬‬ ‫اإللهية‬ ‫الفلسفية –‬ ‫* النت�اجئ وردات الفعل‬
‫ش‬
‫المبا�‪:‬‬ ‫أ‪ -‬رؤية التأييد‬
‫من جملة النظريَّات والنامذج املطروحة يف علم الكون الحديث‪ ،‬نظريَّة االنفجار الكبري‬
‫والشواهد والتفاسري املتعلِّقة به‪ ،‬حيث ميكن القول أنَّها من أكرث النظريَّات التي أعقبتها ر َّدات‬
‫فعل فلسفيَّة – إلهياتيَّة‪ .‬ومن أبرزها تلك التي ظهرت بعد عرض نظريَّة االنفجار الكبري وطرح قضيَّة‬
‫“الزمان صفر”‪ ،‬ا ِّدعاء التأييد املبارش لعقيدة الخلق من العدم[[[‪.‬‬
‫يف هذا اإلطار‪ ،‬كانت ر َّدة الفعل األوىل امله َّمة واملشهورة للبابا بيوس الثاين عرش يف خطاب‬
‫رسمي عام ‪ 1951‬يف األكادمييَّة التابعة للبابويَّة[[[‪ .‬فقد مدح يف ذاك الخطاب علامء الكونيَّات‬ ‫ٍّ‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لتقدميهم شواهد من الفيزياء الفلك َّية التي تتوافق بالكامل مع العقائد اإلله َّية يف باب الخلق‬
‫وبلغ تفاعله مستوى اعترب أ َّن هذه النظريَّة واحدة من أدلَّة إثبات وجود الله‪( .‬روبرت جان راسل‬
‫‪ .)185 :1989‬ودافع بعض املفكِّرين من أمثال جاسرتو و ويتاكر عن عقيدة الخلق التي ق َّدمتها‬
‫نظريَّة االنفجار الكبري‪ ،‬فكان دفاعهم سببًا يف ق َّوتها‪.‬‬
‫املقصود من “التأييد املبارش” أ َّن مفاد علم كون االنفجار الكبري حول خلق العامل‪ ،‬أصبح‬
‫ومفسا ملعنى الخلق من العدم‪ .‬واعترب تيد بيرتز[[[ عامل اإلله َّيات املنهج َّية‪ ،‬وهو من‬
‫ِّ ً‬ ‫متكافئًا‬
‫أصحاب الرأي يف أبحاث العلم واإللهيَّات‪ ،‬أ َّن مفاد “الزمان صفر” يف علم كون االنفجار الكبري‬
‫مفس ملعنى “الخلق” و”ارتباط الكون بالله”‪ .‬فمن وجهة نظره‪ ،‬ال ميكن إدراك هذا االرتباط بشكل‬ ‫ِّ‬
‫صحيح من دون مندرجات علم كون االنفجار الكبري‪( .‬تيد بيرتز ‪ .)288 :1988‬يف السياق ذاته‪،‬‬
‫يقول كريغ‪ ،‬وهو من الفالسفة املؤمنني بالله‪:‬‬

‫‪[1]- Pope Pius XII.‬‬


‫‪[2]- Creatio ex nihilo.‬‬
‫‪[3]- Pontifical Academy of Sciences.‬‬
‫‪[4]- Ted Peters.‬‬

‫‪72‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫دليل قويًّا عىل وجود‬


‫حا‪ ،‬فإ َّن ذلك سيق ِّدم ً‬
‫“إذا كان النموذج [االنفجار الكبري] الثابت صحي ً‬
‫خالق الكون”‪( .‬ويليام لني كريغ ‪.)276 :1995‬‬
‫بشكل عام‪ ،‬ميكن القول أ َّن موقف مؤيِّدي هذه النظ َريّة يف تبيني مفهوم الخلق من الناحية‬
‫الدين ّية‪ ،‬هو القول بالحدود التاريخ َّية لعامل الطبيعة‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬فإ َّن مايض الكون ذو حدود‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وبداية وهذا يعني أنّه مخلوق الخالق‪ .‬وعىل هذا األساس‪ ،‬فإذا كان علم كون االنفجار الكبري‬
‫يحيك عن الحدود والبداية التاريخيَّة للعامل‪ ،‬فهو يف الحقيقة سيؤيِّد بشكل مبارش مخلوقيَّة عامل‬
‫الطبيعة لوجود الله‪.‬‬
‫بنا ًء عىل ما تق َّدم‪ ،‬يبيِّ الرسم اآليت خالصة االستنتاجات التي ق َّدمها مؤيِّدو النظريَّة‪:‬‬

‫إثبات وجود‬ ‫ظهور عامل الطبيعة من‬ ‫محدوديَّة العامل وبداية‬


‫الخالق‬ ‫العدم‬ ‫الزمان‬

‫التأييد واإلثبات‬

‫الزمان صفر‬ ‫النظريَّة النسبيَّة ‪ +‬شواهد‬


‫نظريَّة االنفجار الكبري‬
‫(‪)t=0‬‬ ‫علم الفلك‬

‫االستنتاجي املستخدم يف الرسم املتق ِّدم‪ ،‬يعود بنا إىل األسلوب الذي‬
‫ِّ‬ ‫إ َّن جز ًءا من األسلوب‬
‫استخدمه املتكلِّمون املسلمون يف إثبات وجود الله‪ .‬وانطالقًا من املسائل التي ذكرت يف القسم‬
‫وخصوصا طريقة‬
‫ً‬ ‫شح رؤية الحكمة املتعالية واختالفها عن املسالك األخرى‪،‬‬ ‫الثاين حني َ ْ‬
‫نتوصل إىل مق ِّدمات ومنطلقات موقف الحكمة املتعالية يف ما يتعلَّق برؤية التأييد‬ ‫َّ‬ ‫املتكلِّمني‪،‬‬
‫املبارش‪ .‬ومن املناسب يف تقييم رؤية التأييد املبارش االلتفات إىل النقاط اآلتية‪:‬‬
‫* أرشنا يف الجزء األ َّول إىل أنَّه‪ ،‬رغم النجاح اللَّ فت لنظريَّة “االنفجار الكبري” يف توضيح‬
‫تح ُّول وتكامل الكون‪ ،‬إلَّ أنَّها كانت غري ناجحة يف رشح لحظات ما قبل زمان بالنك (الثانية‬
‫‪)t=10-43‬؛ ال بل ميكن القول أ َّن العلم مل يتمكَّن حتّى اآلن من الحديث بشكل قاطع حول تلك‬
‫اللحظات‪ .‬لذلك؛ فإ َّن “التف ُّرد” أو “بداية الزمان” يف علم كون االنفجار الكبري‪ ،‬وقبل أن يوضح‬
‫يبي املحدوديَّة التوضيح َّية والتفسرييَّة لنظريَّة االنفجار الكبري‪ .‬يف هذا‬
‫املحدوديَّة الزمان َّية للعامل‪ّ ،‬‬
‫وعيني‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫الحال‪ ،‬ال ميكن أن نتوقَّع من نظريَّة االنفجار الكبري تأييد أمر ال تشري إليه بشكل رصيح‬
‫* إ َّن ا ِّدعاء التأييد املبارش لخلق الكون عن طريق مفاد نظريَّة علم َّية ‪ -‬عىل فرض موافقتها للفهم‬

‫‪73‬‬
‫المحور‬

‫أي ضعف أو خطأ محتمل يف‬ ‫يت ‪ -‬يؤ ِّدي إىل التأثري عىل هذه العقيدة عند بروز ِّ‬
‫العلمي واللَّ هو ّ‬
‫ِّ‬
‫مم مي ِّهد ملق ِّدمات سوء الفهم واملغالطة‪ .‬وقد أرشنا يف ما تق َّدم‪ ،‬إىل ما جرى يف بعض‬ ‫النظريَّة َّ‬
‫نظريَّات علم الكون من قبيل علم الكون الكوانتومي‪ ،‬حيث ت َّم اجتناب رضورة “التف ُّرد” أو “الزمان‬
‫شك فيه‪ ،‬إذا ما جرى ترجيح أو‬ ‫مم ال َّ‬‫صفر” باملعنى الذي ذكر يف علم كون االنفجار الكبري‪َّ .‬‬
‫أي من هذه النظريّات‪ ،‬فإ ّن ذلك سيرتك تأثريه عىل التأييد املبارش لخلق الكون‪ ،‬وقد يؤ ِّدي‬ ‫إثبات ّ‬
‫األمر إىل بعض االستنتاجات الخاطئة‪.‬‬
‫* أرشنا إىل أ َّن حدوث عامل الطبيعة ال يعنى به يف الحكمة املتعالية محدوديَّته الزمان َّية‪ ،‬وأ َّن‬
‫خلق العامل ليس مسألة تاريخ َّية؛ لنكون ملزمني بالبحث عن حافة العامل من أجل إدراكه‪ .‬والخلق‬
‫أي من الحدود‪ .‬وميكن القول‪ ،‬إ َّن‬ ‫طبق هذه املدرسة دائم وال ينقطع عىل اإلطالق وال ينتهي يف ِّ‬
‫هذا االختالف هو األساس يف تصوير الخلق وتحليل حدوث العامل عند املقارنة بني الحكمة‬
‫املتعالية ورؤية التأييد املبارش‪ .‬تجدر اإلشارة إىل أ َّن إثبات وجود الله عن طريق ما يعرف اليوم‬
‫متسك بأمور سكت العلم عنها‪ ،‬أو أنَّه ال ميتلك‬ ‫بحدود الزمان أو حافَّة العامل‪ ،‬هو يف الحقيقة ّ‬
‫مم يقال حولها‪ .‬ي َّدعي العديد من املفكِّرين أ َّن بإمكان العلم أن يتح َّدث ويوضح يف يوم من‬ ‫الكثري َّ‬
‫أصح حافّة العلم املعارص‪ ،-‬وأ َّن علم الكون الكوانتومي هو الخطوة‬ ‫َّ‬ ‫األيام حافة الكون ‪ -‬وبعبارة‬
‫األوىل يف هذا الطريق‪ ،‬مع العلم أنَّهم يعتربون حصول أمر كهذا يف املستقبل القريب بعي ٌد بسبب‬
‫ما يعرتيه من مشكالت وصعوبات‪.‬‬
‫تتوسل الحكمة املتعالية؛ ال بل والحكمة اإلسالم َّية يف مناهجها ومبانيها‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫يف الحقيقة‪ ،‬مل‬
‫املجهوالت الطبيع َّية وما مل يتمكَّن العلم من اكتشافه إلثبات مسائل اإلله َّيات األصيلة‪ .‬ويف هذا‬
‫الشأن‪ ،‬من املفيد الرجوع إىل ربوب َّيات الحكمة اإلسالم َّية واملواقف التي أوضحت كيف َّية االرتباط‬
‫والتأثري بني مراتب الوجود العليا والدنيا؛ ليتَّضح من خالل ذلك الخصائص البنائيَّة واملنهجيَّة يف‬
‫الحكمة اإلسالم َّية‪.‬‬
‫* إ َّن الرغبة الشديدة واالهتامم الكبري بحافَّة العامل وحدوده؛ ألجل إثبات وجود الله‪ ،‬يحمل‬
‫يف طيَّاته حرص خلق الخالق بحدود العامل ولحظة بداية الكون‪ ،‬ويف أدىن االحتامالت ميكن‬
‫القول‪ ،‬االهتامم بها أكرث من سواها‪ .‬ويف النتيجة‪ ،‬يغلب الظ ُّن بأ َّن حاجة الكون إىل الخالق هي‬
‫يف الحدوث والظهور ‪ -‬الذي حصل م َّرة واحدة يف املايض البعيد ‪ -‬أكرث من حاجته إىل ذلك يف‬
‫البقاء واالستمرار‪.‬‬
‫إ َّن حاجة العامل إىل الخالق من وجهة نظر الحكمة اإلسالم َّية ليس يف الحدوث والظهور‬
‫فحسب؛ بل يف البقاء واالستمرار أيضً ا‪ .‬الطبيعة ليست إقامة البناء م َّرة واحدة‪ ،‬ث َّم تركه‪ .‬وبعبارة‬

‫‪74‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫أخرى‪ ،‬الخالق هو علَّة “حدوث” عامل الطبيعة‪ ،‬وهو علَّة “بقائه” أيضً ا‪ .‬ومن وجهة نظر الحكمة‬
‫رصا بفرد‪ ،‬بل وكام أرشنا فإ َّن حدوث العامل حقيقة‬
‫ين للعامل ليس أم ًرا منح ً‬
‫املتعالية فالحدوث الزما ُّ‬
‫كل لحظة؛ ولذلك كان “حدوث” عامل الطبيعة و”بقاؤه” عني بعضهام البعض نظ ًرا‬ ‫تتك َّرر يف ِّ‬
‫ل ُهويَّتهام التدريجيَّة‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ين بشخصيَّته‬
‫يقول صدر املتألّهني يف كتاب “الشواهد الربوبيَّة”‪“ :‬مل َّا كان العامل الجسام ُّ‬
‫تدريجي الوجود فزمان حدوثه بعينه زمان بقائه‪ ،‬فهذا العامل زمان حدوثه‬
‫ِّ‬ ‫وكل‬
‫تدريجيَّة الوجود‪ُّ ،‬‬
‫وبقائه واحد”‪( .‬صدر الدين مح ّمد الشريازي ‪.)92 :1360‬‬

‫بنا ًء عىل ما تق ّدم‪ ،‬ينبغي القول أ َّن علّيَّة الخالق لحدوث العامل دامئة‪ ،‬وليس صحي ً‬
‫حا أنّه علّة‬
‫مل َّرة واحدة فقط‪.‬‬
‫يِّ ز‬
‫المتح�ة‪:‬‬ ‫غ�‬
‫ب‪ -‬الرؤية ي‬
‫اليوم يؤكِّد أغلب املنظِّرين يف الدراسات البين َّية للـ”العلم واإلله َّيات” عىل عدم قبول االستقالل‬
‫واالنفصال الكامل بني اإلله َّيات والعلوم الطبيع َّية من جميع الجهات‪ ،‬ويف الوقت عينه يرفضون‬
‫أسلوب “التأييد املبارش”‪ .‬تؤكِّد هذه املجموعة‪ ،‬رغم ما بينها من اختالفات يف رشح كيف َّية االرتباط‬
‫يدل بالرضورة‬ ‫وجودي ال ُّ‬
‫ٌّ‬ ‫بني اإللهيَّات وعلم الكون الحديث‪ ،‬عىل أ َّن “الخلق من العدم‪ ،‬هو معنى‬
‫الوجودي لعامل الطبيعة بالله‪ .‬طب ًعا‪ ،‬هذا االرتباط دائم‬
‫َّ‬ ‫عىل البداية الزمان َّية للعامل؛ بل يبيِّ االرتباط‬
‫يختص مبقطع أو لحظة مع َّينة؛ لذلك ال ميكن اعتبار مفاد نظريَّة االنفجار الكبري حول بداية‬ ‫ُّ‬ ‫وال‬
‫الكون هي بعينها مفهوم الخلق‪ .‬حاول النغدن غيل يك[[[‪ ،‬وهو من علامء الهوت األرثوذكس َّية‬
‫الحديثة‪ ،‬أن يفكِّك يف كتابه “خالق األرض والسامء” (‪ )1951‬بني املنشأ والبداية الوجوديَّة‪ ،‬وبني‬
‫املنشأ والبداية التدريج َّية‪ ،‬واعترب أ َّن املقصود من “الخلق” يف املسيح َّية املعنى األ َّول وليس‬
‫الثاين‪( .‬روبرت جان راسل ‪.)2 :1993‬‬
‫يئ ومن الشخص َّيات البارزة يف أبحاث “العلم والدين”‬
‫إىل ذلك‪ ،‬أيَّد أيان باربور‪ ،‬وهو فيزيا ٌّ‬
‫يف كتابه “مسائل يف باب العلم والدين” (‪ )1966‬ما عرضه غيل يك حول معنى الخلق (أيان باربور‬
‫‪ .)414 :1971‬وهو يقول يف أحد مؤلَّفاته األخرية‪:‬‬
‫وجودي وليس‬
‫ٌّ‬ ‫كل لحظة‪ ،‬وهو حكم‬
‫“إ َّن رسالة الخلق من العدم تصدق عىل الكون بأكمله ويف ِّ‬
‫تدريج ًّيا”‪( .‬أيان باربور ‪.)145 :1990‬‬

‫‪[1]- Langdon Gilkey.‬‬

‫‪75‬‬
‫المحور‬

‫املتخصص يف الكيمياء الحيويَّة واإلله َّيات‪ ،‬وجان‬


‫ِّ‬ ‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن آرتور بيكاك[[[‪،‬‬
‫املتخصصني املعروفني يف أبحاث “العلم‬ ‫ِّ‬ ‫بوكينغ هورن[[[‪ ،‬عالِم الفيزياء واإلله َّيات‪ ،‬وكالهام من‬
‫والدين”؛ أكَّدا أ َّن موقف اإللهيَّات حول نظريَّة االنفجار الكبري وبداية الكون غري منحازة‪ .‬وقال‬
‫هورن يف هذا الشأن‪:‬‬
‫“إ َّن ترجيح “علم كون االنفجار الكبري” عىل “علم كون الحالة الثابتة” مل يكن موضوع بحث‬
‫يئ يف املستقبل من نفي وجود البداية‬
‫اإللهيَّات عىل اإلطالق‪ ...‬وإذا ما متكَّن علم الكون الفيزيا ِّ‬
‫التاريخ َّية‪ ،‬فلن يؤ ِّدي األمر إىل مشكلة كبرية يف اإلله ّيات”‪( .‬جان بوكينغ هورن ‪.)64 :1995‬‬
‫املتخصص يف فيزياء الفلك والباحث يف قضايا “العلم‬
‫ِّ‬ ‫رصح ويليام استيغر[[[‪،‬‬
‫من جانبه‪َّ ،‬‬
‫واإلله َّيات” يف العديد من مقاالته امله َّمة حول العالقة بني علم الكون الحديث وبني الفلسفة‬
‫خاصة‬
‫َّ‬ ‫جح نظريَّة‬
‫واإلله َّيات‪ ،‬بأ َّن “الخلق من العدم” صامت حول العديد من مفاهيم الكون‪ ،‬وال ير ِّ‬
‫عىل أخرى؛ ال بل ميكنه االنسجام مع جميع النظريَّات الرائجة واملعروفة يف علم الكون‪( .‬ويليام‬
‫استيغر ‪ 262 :1992‬و‪.)263‬‬

‫ج‪ -‬رؤية االنسجام‪:‬‬


‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن ما يطلق عليه يف االصطالح االنسجام بني اإللهيَّات وعلم الكون‬
‫الحديث‪ ،‬قد ظهر للم َّرة األوىل يف عبارات أرنان مكمولني[[[‪ ،‬وهو فيلسوف وباحث يف “العلم‬
‫أي تأييد أو عالقة مبارشة بني اإلله َّيات وعلم الكون الحديث‪ ،‬كام استبعد فكرة‬
‫واإلله َّيات” رفض َّ‬
‫عدم التمييز بينهام‪ .‬فهو يعتقد برضورة أن نبذل جهو ًدا للوصول إىل رؤية كون َّية منسجمة‪ ،‬بحيث‬
‫كل العلوم واملعارف البرشيَّة بشكل‬
‫يتمكَّن علم الكون الحديث واإللهيَّات من لعب دور إىل جانب ِّ‬
‫يدل عىل االنسجام؛ لذلك ينبغي عىل اإلله َّيات من وجهة نظره االهتامم بعلم الكون الحديث من‬ ‫ُّ‬
‫دون ترسُّ ع‪ ،‬والعكس صحيح‪ .‬فلو قبلنا عىل سبيل املثال‪ ،‬بأ َّن العامل قد بدأ يف الزمان املايض‬
‫بسبب خلق الخالق‪ ،‬عند ذلك ميكننا القول أ َّن هذا األمر ليس سوى االنفجار الكبري الذي يتح َّدث‬
‫عنه علامء الكون اليوم‪ ،‬وهذا ال يقصد به “التأييد املبارش” أو إيجاد “عالقة وثيقة”‪( .‬روبرت جان‬
‫راسل ‪.)188 :1989‬‬

‫‪[1]- Arthur Peacocke.‬‬


‫‪[2]- John Polkinghorne.‬‬
‫‪[3]- William Stoeger.‬‬
‫‪[4]- Ernan Mc Mullin.‬‬

‫‪76‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫َّ‬
‫التبادلية (التفاعل)‪:‬‬ ‫د‪ -‬رؤية العالقة‬
‫يُعترب روبرت جان راسل[[[ من جملة الباحثني الذين بذلوا جهو ًدا يف السنوات العرش األخرية‬
‫لتوضيح رؤية التفاعل‪ ،‬وهو عالِم فيزياء وإله َّيات ومدير مركز اإلله َّيات والعلوم الطبيع َّية[[[‪ .‬وقد‬
‫تركَّزت جهوده حول التفاعل والعالقة التفاعليَّة[[[ بني اإللهيَّات وعلم الكون الحديث باالستفادة من‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املنهج الذي استخدمه إميره الكاتوش[[[ يف فلسفة العلم‪ ،‬حني ق َّرر نقل ذاك املنهج إىل اإللهيَّات‪.‬‬
‫وهو اقتبس أفكاره من الكاتوش واستعان مبصطلحاته‪ ،‬واعترب أ َّن “الخلق من العدم” الذي يعنى به‬
‫مم يطلق‬‫املركزي مبجموعة َّ‬
‫ُّ‬ ‫يت‪ .‬يُحاط هذا الجوهر‬
‫الوجودي” هو جوهر البحث اللَّ هو ّ‬
‫ّ‬ ‫“االرتباط‬
‫عليه “الفرضيَّات املساعدة”‪.‬‬
‫وخصوصا‬
‫ً‬ ‫حاول راسل تدوين فرض َّيات مساعدة مناسبة باالستفادة من املقوالت الفلسف َّية‪،‬‬
‫مفهوم تناهي الزمان‪ ،‬ته ّيئ األرض َّية للعالقة بني اإلله َّيات وعلم الكون الحديث‪ .‬وهو يؤكِّد أ َّن حدود‬
‫املركزي لإللهيَّات‪ .‬والفرضيَّات‬
‫ِّ‬ ‫العالقة بني اإللهيَّات وعلم الكون الحديث هو خارج الجوهر‬
‫أي تأييد أو رفض يف عمل الكون الحديث يؤث ِّر‬ ‫املحل األساس للعالقة بينهام‪ ،‬وأ َّن َّ‬
‫ُّ‬ ‫املساعدة هي‬
‫عليها فقط‪.‬‬
‫تعمل الفرض َّيات املساعدة عىل إيجاد حائل بني جوهر اإلله َّيات واملعطيات العلم َّية‪ ،‬فتصون‬
‫الجوهر األصيل من التزلزل وعدم االستقرار‪ .‬وبهذا النحو‪ ،‬ميكن القول أ َّن أساس اإلله َّيات ال‬
‫خاصة يف علم الكون ‪ -‬باعتبار‬ ‫َّ‬ ‫أي نظريَّة‬
‫يرتبط بشكل مبارش بعلم الكون الحديث‪ .‬كام أ َّن إبطال ِّ‬
‫أ َّن النظريَّات العلميَّة مؤقَّتة ومتح ِّولة ‪ -‬يؤ ِّدي إىل إيجاد تح ُّول يف الفرضيَّات املساعدة‪ ،‬وهذا بدوره‬
‫يه ّيئ األرض َّية لعالقة جديدة‪( .‬روبرت جان راسل ‪.)224-201 :1996‬‬
‫ِّ‬
‫* موقف الحكمة المتعالية من الرؤى المتقدمة‪:‬‬
‫ال َّ‬
‫شك يف أ َّن ات ِّخاذ موقف يتناسب مع مبادئ الحكمة املتعالية يقتيض االهتامم بالجوانب‬
‫يف يف الحكمة‬
‫اإليجاب َّية يف الرؤى املتق ِّدمة‪ ،‬وكذلك الخصائص املضمون َّية واملنهج املعر ِّ‬
‫املتعالية‪.‬‬
‫وقد يشكِّل كالم الباحثني الذين دافعوا عن املوقف غري املنحاز لإلله َّيات يف مسألة بداية‬
‫الكون‪ ،‬وبالتايل اعتربوا نظريَّات علم الكون متناسقة وعىل نحو واحد‪ ،‬مرش ًدا مؤث ّ ًرا لفهم املشكالت‬

‫‪[1]- Robert John Russell.‬‬


‫‪[2]- The Center for Theology and the Natural Sciences.‬‬
‫‪[3]- Interaction.‬‬
‫‪[4]- Imre Lakatos.‬‬

‫‪77‬‬
‫المحور‬

‫يتّ‪.‬‬
‫أي نظام إله َّيا ْ‬
‫واملحدوديَّات ذات العالقة بعلم الكون الحديث أو ِّ‬
‫وجودي‪ ،‬أ َّما هل لعامل الطبيعة‬
‫ٌّ‬ ‫لقد أكَّد هؤالء الباحثون عىل نقطتني‪ :‬األوىل أ َّن الخلق هو معنى‬
‫بداية أو ليس له‪ ،‬فذلك ال يؤث ّر يف املسألة‪ .‬والثانية رضورة االهتامم باملحدوديَّات املوجودة يف‬
‫نظريَّات علم الكون‪ ،‬سواء تلك التي تتعلّق مبسألة البداية أم بسواها‪ .‬أ َّما غفلة علامء اإلله َّيات عن‬
‫العلمي‪ ،‬وقد اطَّلعنا عىل مناذج من‬‫َّ‬ ‫هذه املحدوديَّات؛ فسيؤ ِّدي إىل نتائج خاطئة تفتقد االعتبار‬
‫ذلك‪.‬‬
‫إذا أردنا الحديث عن أبحاث “علم الكون الحديث واإلله َّيات”‪ ،‬من خالل االستعانة بالحكمة‬
‫الرضوري رعاية جوانب االحتياط واالبتعاد عن السطحيَّة والتساهل‪ .‬وينبغي‬
‫ِّ‬ ‫املتعالية‪ ،‬فمن‬
‫عدم الغفلة عن محدوديَّات نظريَّات علم الكون‪ ،‬وبالتايل عدم االكتفاء بظواهر بعض القراءات‬
‫والتفسريات‪ .‬وإ َّن االلتفات إىل هذه املسألة هو من جملة األدلَّة التي جعلت رؤية التأييد املبارش‬
‫غري مقبولة‪.‬‬
‫وجودي” تتناسب مع مبادئ الحكمة املتعالية؛ إلَّ أ َّن ات ِّخاذ موقف‬
‫ٌّ‬ ‫صحيح أ َّن قض ّية “الخلق معنى‬
‫“عدم التح ُّيز” ال يتامهى مع هذه املبادئ‪ .‬فالخلق من وجهة نظرها حقيقة وجوديَّة ميكن توضيحها‬
‫خصوصا األسامء الفعليَّة الحاكية عن القيوميَّة وربوبيَّة الخالق‬
‫ً‬ ‫انطالقًا من أسامء الله الحسنى‪،‬‬
‫األخص (الربوبيَّات)‪ ،‬حكم عا ٌّم ورصيح وهو دوام‬ ‫ِّ‬ ‫املطلق؛ لذلك يُطرح يف بحث اإللهيَّات باملعنى‬
‫حكم كهذا ذو‬‫ً‬ ‫يب‪ ،‬يف عني تج ُّدد عامل الطبيعة لحظة بلحظة‪ .‬إ َّن‬‫الجود وعدم انقطاع الفيض الربو ِّ‬
‫خصص صدر املتألّهني املوقف العارش من كتاب “األسفار‬ ‫اإللهي‪ ،‬وقد َّ‬
‫ِّ‬ ‫أهم َّية عالية يف تبيني الفعل‬
‫األربعة” للحديث عنه‪ ،‬حيث تتَّضح كليَّة ودوام هذا الحكم من العنوان الذي اختاره‪:‬‬
‫“املوقف العارش‪ :‬يف دوام وجود املبدأ األ َّول وأزل َّية قدرته وبيان أنَّه مل ينقطع وال ينقطع فيضه‬
‫عم سواه أب ًدا‪ ،‬وال يتعطّل عن الفعل دامئًا‪ ،‬مع أ َّن العلم متج ِّدد كائن فاسد”‪( .‬صدر الدين مح َّمد‬
‫َّ‬
‫الشريازي ‪.)282 :1981‬‬
‫إ َّن من لوازم عموم َّية الحكم املتق ّدم‪ ،‬والذي يُراد منه نشأة الطبيعة بشكل مبارش‪ -‬أي املوجودات‬
‫والجوهري لعامل الطبيعة‪ ،‬ال يتوقَّف‬
‫ِّ‬ ‫ين‬
‫ما دون العوامل اإللهيَّة واملج َّردات‪ -‬أنَّه رغم الحدوث الزما ِّ‬
‫اإللهي يف هذه النشأة‪ ،‬بل له مصداق عىل الدوام‪ .‬أ َّما طريقة الحكامء يف رشح هذا النوع‬ ‫ُّ‬ ‫الفيض‬
‫من القواعد فهو املبادرة إىل توضيح اإلبهامات وإزاحة الشوائب والنواقص إذا ظهر إبهام أو ترديد‬
‫أو تو ُّهم يف مقابل عموم َّية القاعدة الحكم َّية‪ .‬أ َّما الرجوع إىل األبحاث املتق ِّدمة‪ ،‬فيه ّيئ األرض َّية‬
‫لالطِّالع عىل النظريَّات والنامذج يف علم الكون‪ ،‬والتي عرضت مسألة بداية الكون نفيًا أو إثبات ًا‪،‬‬
‫والتي يظهر تناسقها مع االستنتاجات واالتِّجاهات الفلسف َّية اإللهيات َّية‪ .‬يف هذه الحاالت‪ ،‬من‬

‫‪78‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫املفيد االستعانة مبا يُطلق عليه “التوضيح املتقابل بحسب املصاديق”‪ ،‬بني الحكمة املتعالية‬
‫وعلم الكون الحديث‪ .‬ومبا أ َّن هذه الدالالت ‪ -‬والتي ميكن اعتبارها من جملة املسائل الجديدة‬
‫أو املستحدثة يف الحكمة املتعالية ‪ -‬يعود منشأها يف األساس إىل علم الكون الحديث؛ لذلك كان‬
‫التوضيحي لنظريَّات ومناذج علم الكون الحديث‪ ،‬أساسيًّا ومحوريًّا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫الدور‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ويف إطار عمليَّة التبيني املتقابل‪ ،‬من املناسب أن تلجأ الحكمة املتعالية إىل توضيح هذه‬
‫الحاالت ضمن حدودها وأطرها مستفيدة من املفاهيم واملقوالت الفلسفيَّة ‪ -‬والتي ستكون يف‬
‫مم يؤ ّدي إىل وضوح أحكام املصاديق املحتملة‬ ‫أغلب من جملة املعقوالت الثانية الفلسف َّية ‪َّ -‬‬
‫لقواعد الحكمة املتعالية‪ .‬كام أ َّن االستفادة من املواقف واالتِّجاهات الفلسف َّية ‪ -‬اإللهيات َّية التي‬
‫يق ِّدمها علامء الكون أنفسهم‪ ،‬تؤ ّدي دو ًرا مؤث ّ ًرا يف التوضيح املتقابل‪.‬‬
‫يبدو أ َّن هذا النوع من التوضيحات املتقابلة سيحمل معه فروعاً جديد ًة لألحكام والقواعد العا ّمة‬
‫شك إىل ارتقائها وازدهارها؛ لذلك من غري املناسب‬ ‫مم يؤ ّدي من دون ّ‬‫يف الحكمة املتعال ّية‪ّ ،‬‬
‫أن تتَّخذ الحكمة املتعالية موقف عدم التحيُّز يف مسألة بداية الكون‪ ،‬كام هو الحال يف بعض‬
‫الرؤى التي تق َّدمت‪ .‬أ َّما يف ما يتعلَّق بـ”رؤية االنسجام”‪ ،‬ورغم أنَّها أكرث قربًا إىل أسلوب “التبيني‬
‫كاف وقبولها‬‫املتقابل” لناحية عدم قبولها أسلوب التأييد املبارش‪ ،‬واعتبارها أ َّن عدم التح ُّيز غري ٍ‬
‫إل أ َّن الدقّة يف األبحاث املتق ِّدمة يبيِّ أ َّن مفاد نظريَّة‬
‫بعض أشكال التعاون واالنسجام املحتمل؛ َّ‬
‫االنفجار الكبري وعىل فرض داللتها عىل البداية الزمانيَّة للعامل‪ ،‬فهي ال تشبه مفاد التوضيحات يف‬
‫الحكمة املتعالية؛ لذلك ال ميكن قبول الحاالت التي ذكرها “ماك مولني” كشواهد عىل االنسجام‪.‬‬
‫طب ًعا‪ ،‬إذا جعلنا “الشباهة” مبفردها معيا ًرا ومل نلحظ املقبول َّية العلم َّية‪ ،‬عند ذلك ميكن القول أ َّن‬
‫النامذج والنظريَّات التي تتناسب مع الخلق الدائم أكرث شباهة بالحكمة املتعالية يف خصوص بداية‬
‫الكون‪.‬‬
‫ال ينبغي أن يُفْهم من الكالم املتق ِّدم‪ ،‬أ َّن مفاد نظريَّة االنفجار الكبري تتعارض مع قاعدة دوام‬
‫اإللهي‪ .‬وقد أكَّدنا مسبقًا أ َّن االت ِّجاه البارز لهذه النظريَّة يف اللحظات السابقة عىل زمان‬
‫ّْ‬ ‫الفيض‬
‫تدل عىل ما‬ ‫بالنك (‪ )t=15-43‬صامتة وعاجزة عن التبيني‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإ َّن نظريَّة االنفجار الكبري ال ُّ‬
‫يصطلح عليه بـ”لحظة الخلق”‪ ،‬كام أ َّن هذه العبارات تحمل نتائج غري علم ّية متعاقبة قد تؤ ّدي يف‬
‫النهاية إىل التأييد املبارش‪ .‬الواضح أ َّن نظريَّة االنفجار الكبري ال ت َّدعي عدم وجود يشء قبل زمان‬
‫بالنك؛ بل تعتقد بسيطرة حالة يف ذاك الوضع يعجز العلم الرائج اليوم عن توضيحه‪ .‬ومبا أ َّن لهذا‬
‫الوضع خصائص من قبيل‪ :‬الثقل اللَّ متناهي‪ ،‬والكثافة اللَّ متناهية والحرارة املرتفعة وأمثالها؛ عند‬
‫ذلك يجب القول‪ ،‬أ َّن الحديث من وجهة نظر فلسف َّية يف ذاك املوقف عن “العدم املحض” ليس‬

‫‪79‬‬
‫المحور‬

‫أي موجود تشاب ًها‬


‫حا؛ أل َّن العدم املحض ال يتَّصف بأوصاف كهذه‪ .‬وإذا مل تحمل صفات ِّ‬ ‫صحي ً‬
‫طبيعي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫مع املوجود املج َّرد‪ ،‬فهو من الناحية الفلسف َّية موجود‬
‫الطبيعي يف املوقف املذكور‪ ،‬ميتلك خصائص غري عاديَّة‬ ‫َّ‬ ‫طب ًعا‪ ،‬ميكن القول أ َّن املوجود‬
‫يجعل من صدق املفاهيم العاديَّة‪ ،‬كالطبيعة واملا َّدة والحركة والزمان أم ًرا شديد الصعوبة‪ .‬أ َّما‬
‫املفاهيم واملقوالت الفلسفيَّة‪ ،‬كالطبيعة واملا َّدة والحركة والزمان‪ ،‬فإ ّن سعتها املفهوميَّة تجعل من‬
‫هذه الصور غري العاديَّة أم ًرا طبيعيًّا‪ ،‬كام ال يشرتط يف صدقها امتالكها صفات عاديَّة‪ .‬وعىل هذا‬
‫ٌ‬
‫مصداق قبل زمان بالنك من وجهة النظر الفلسف َّية‪ .‬يتَّضح ممَّ‬ ‫الطبيعي‬
‫ِّ‬ ‫األساس سيكون للوجود‬
‫اإللهي”‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫تق ّدم‪ ،‬أ َّن مفاد نظريَّة االنفجار الكبري ال يتعارض مع قاعدة “عدم انقطاع الفيض‬
‫ننهي املقال بإطاللة مخترص عىل رأي الس ِّيد راسل‪ ،‬وميكن القول أ َّن اهتاممه بدور املقوالت‬
‫خصوصا‬
‫ً‬ ‫واملفاهيم الفلسف َّية يف إيجاد العالقة بني اإلله َّيات وعلم الكون الحديث‪ ،‬ذو قيمة كبرية‬
‫أنَّه متكَّن من توضيح كيف َّية استخدام هذه املقوالت بشكل منسجم ومنظَّم‪.‬‬
‫ين‬
‫ين للعامل‪ ،‬واعتربه أع َّم من التناهي الزما ِّ‬
‫لقد أراد راسل من مفهوم التناهي‪ ،‬التناهي الزما ِّ‬
‫ين الذي ال حدود له؛ إلَّ أنَّه يجب االلتفات إىل أ َّن التناهي أو عدم‬
‫صاحب الحدود والتناهي الزما ِّ‬
‫ين لعامل الطبيعة‪ ،‬وقد ات َّضح طبق مبادئ الحكمة املتعالية أ َّن‬ ‫ين‪ ،‬فرع البقاء الزما ِّ‬‫التناهي الزما ِّ‬
‫كل لحظة‪ ،‬فال يبقى عىل حال واحدة لحظتني‪ ،‬فكيف الحال بأن يكون متنا ٍه أو‬ ‫العامل يتج َّدد يف ِّ‬
‫حق ومربهن يف الحكمة املتعالية‪.‬‬ ‫الوجودي أمر آخر وهو أمر ٌّ‬
‫ُّ‬ ‫غري متنا ٍه يف الزمان‪ .‬طب ًعا‪ ،‬التناهي‬

‫‪80‬‬
‫معرفة البَدء‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫العربية‪:‬‬ ‫المصادر باللغة‬

‫‪1.1‬ابن سينا‪ ،‬الحسني‪ ،1405 .‬الشفاء‪ :‬اإللهيَّات‪ ،‬قم‪ ،‬منشورات مكتبة آية الله العظمى املرعيش‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫النجفي‪.‬‬

‫الطبيعي‪ ،‬قم‪ ،‬منشورات مكتبة آية‬


‫ّ‬ ‫‪2.2‬ابن سينا‪ ،‬الحسني‪ ،1405 .‬الشفاء‪ :‬الطبيعيَّات يف السامع‬
‫الله العظمى املرعيش النجفي‪.‬‬

‫املؤسسة‬
‫َّ‬ ‫الحل‪ ،‬الحسن بن مطهر‪ ،1407 .‬كشف امل ُراد يف رشح تجريد االعتقاد‪ ،‬قم‪،‬‬
‫‪ّ 3.3‬‬
‫اإلسالم َّية‪.‬‬

‫‪4.4‬السبزواري‪ ،‬امللَّ هادي‪ ،1981 .‬التعليقات عىل الحكمة املتعالية يف األسفار العقليَّة األربعة‪،‬‬
‫يبْ‪.‬‬
‫ج‪ ،3‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العر ّ‬
‫السهروردي‪ ،‬شهاب الدين يحيى‪ ،1397 .‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬طهران‪ :‬منتدى الحكمة والفلسفة‬
‫ّ‬ ‫‪5.5‬‬
‫يف إيران‪.‬‬

‫الحل‪ ،‬جامل الدين املقداد‪ ،1405 .‬إرشاد الطالبني إىل نهج املسرتشدين‪ ،‬قم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫‪6.6‬السيوري‬
‫منشورات مكتبة آية الله العظمى املرعيش النجفي‪.‬‬

‫‪7.7‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين مح ّمد‪ .‬املشاعر املذكور يف رشح رسالة املشاعر‪ ،‬قم‪ ،‬مركز النرش –‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫مكتب اإلعالم‬

‫‪8.8‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين مح ّمد‪ ،1366 .‬رسالة حدوث العامل‪ ،‬طهران‪ ،‬انتشارات املوىل‪.‬‬

‫‪9.9‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين مح ّمد‪( 1981 .‬ألف)‪ ،‬الحكمة املتعالية يف األسفار العقل ّية األربعة‪،‬‬
‫ج‪ ،2‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪.‬‬

‫‪1010‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين مح ّمد‪( 1981 .‬ب)‪ ،‬الحكمة املتعالية يف األسفار العقل ّية األربعة‪ ،‬ج‪،3‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪.‬‬

‫‪1111‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين مح ّمد‪( 1981 .‬ج)‪ ،‬الحكمة املتعالية يف األسفار العقل ّية األربعة‪ ،‬ج‪،7‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫المحور‬

‫ مركز‬،‫ طهران‬،‫ الشواهد الربوب ّية يف املناهج السلوك ّية‬،1360 .‫ صدر الدين مح ّمد‬،‫الشريازي‬1212
.‫الجامعي‬
ّ ‫النرش‬
،‫ قم‬،‫ تجريد االعتقاد املذكور يف كشف املراد‬،1407 .‫ نصري الدين مح ّمد‬،‫الطويس‬1313
.‫املؤسسة اإلسالم ّية‬
ّ
‫ مؤسسة الدراسات اإلسالم ّية‬،‫ طهران‬،‫ نقد املحصل‬،1359 .‫ نصري الدين مح ّمد‬،‫الطويس‬1414
.‫يف جامعة ماك غيل‬
‫ مكتب النرش‬،‫ قم‬،3‫ ج‬،‫ رشح اإلشارات والتنبيهات‬،1403 .‫ نصري الدين مح ّمد‬،‫الطويس‬1515
.‫اإلسالمي‬
ّ
‫ مركز انتشارات يف مكتب اإلعالم‬:‫ قم‬،‫ أصول املعارف‬،1362 .‫ محسن‬،‫الفيض الكاشاين‬1616
.‫اإلسالمي‬
ّ
.‫ مكتبة طهوري‬،‫ طهران‬،‫ خالصة گوهر مراد‬،1364 .‫ عبد الرزّاق‬،‫اللَّ هيجي‬1717

َّ
:‫األجنبية‬ ‫المصادر‬
1. Agazzi, Evandro. 1991. The Universe as a Scientific and Philosophical
Problem, in: Philosophy and the Origin and Evolution of the University, by
E. Agazzi and A. Cordero, eds. Dordrecht, Netherlands: Kluwer Academic
Publishers.
2. Barbour, Ian. 1971. 2nd edition. Issues in Science and religion. New York:
First Torchbook.
3. _____. 1990. Religion in an Age of Science. San Francisco: Harper
4. Barrow, John D. 1988. The world within the World. Oxford: Oxford
University Press.
5. Brush, Stephen G. 1988. How Cosmology Became a Science, in: Scientific
American, August 1992. Pp. 3440-.
6. Craig, William Lane. 1995. A Criticism of the Cosmological Argument for

82
‫معرفة البَدء‬

God’s Nonexistence, in: Theism, Atheism and Big Bang Cosmology, by W. L.


Craig and Q. Smith Oxford: Oxford University Press.
7. Davies, Paul. 1992. The Mind of God. New York: Touchestone.
8. _____. 1996. The Day Time Began, in: New Scientist (27 April 1996). Pp.
‫م‬2022 ‫هـ ــ صيف‬1444 ‫العدد الثاين ــ‬

3035-.
9. Drees, Willem B. 1990. Theology and Cosmology beyond the Big Bang
Theory, in: Science and Religion: One World-changing Perspectives on
Reality, edited by J. Fennema and I. Paul. Dordrecht, Netherlands: Kluwer
Academic Press.
10. _____. 191. Quantum Cosmologies and the Beginning, in: Zygon: Journal of
Religion and Science. Vol. 26, No. 3. Pp. 373395-.
11. Halliwell. Jonathan J. 1991. Quantum Cosmology and the Creation of the
Universe, in: Scientific American. December 1990. Pp. 7685-.
12. Hawking, Stephen. 1989. The Edge of Spacetime in: The New Physics, edited
by Paul Davies. Cambridge: Cambridge University Press.
13. _____. 1988. A Brief History of Time: From the Big Bang to Black Holes.
London: Bantam Press.
14. Horgan, John. 1995. The Return of the Maveric, in: Scientific American.
March 1995.
15. Isham, Chris J. 1993. Quantum Theories, of the Creation of the Universe,
in: Quantum Cosmology and the Laws of Nature, edited by R. J. Russell,
N. Murphy and C. J. Isham. Berkeley, California: Vatican Observatory and
CTNS.
16. Lightman. Alan and Brawer, Roberto eds. 1990. Origins: The lives and Worlds
of Modern Cosmologists. Cambridge, Massachusetts Harvard University Press.

83
‫المحور‬

17. Munitz, Milton K. 1967. Cosmology, in: The Encyclopedia of Philosophy. By


Paul Edwards, ed. Vol. 2. New York: Macmillan.
18. _____. 1986. Cosmic Understanding: Philosophy of Science of Universe.
Princeton, New Jersey: Princeton University Press.
19. Pagels, Heinz R. 1984. The Cosmic Code. London. Pelican books.
20. Parker, Barry. 1988. Creation: The Story of the Origin and Evolution of the
Universe. New York: Plenum.
21. Peters, Ted, 1988. On Creating the Cosmos, in: Physics, Philosophy and
Theology: A Common Quest for Understand. Edited by R. J. Russell, W. R.
Stoeger and G. Coyne. Vatican City State: Vatican Observatory.

22. Polkinghorne, John. 1995. Serious Talks: Science and Religion in Dialogue.
London: SCM Press.

23. Rolstone III, Holmes. 1987. Science and Religion A Critical Survey.
Philadelphia: Temple University Press.

24. Russell, Robert John. 1989. Cosmology, Creation and Contingency, in:
Cosmos as Creation, edited by Ted Peters. Nashville: Abingdon Press.

25. ____ 1993. Finite Creation Without A Beginning, in: Quantum Cosmology
and the Laws of Nature edited by R. J. Russell, N. Murphy and C. J. Isham
Berkeley, California: Vatican Observatory and CTNS.

26. ____ 1994. Cosmology from Alpha to Omega, in: Zygon: Journal of Religion
and Science. Vol. 29, No. 4 pp. 557577-.

27. ____ 1996. T=0: Is Theologicaly Significant?, In: Religion and Science:
History, Method, Dialogue, edited by W. Mark Richardson and W. J.
Wildman. London: Routledge.

84
‫معرفة البَدء‬

28. Stoeger, William R. 1988. Contemporary Cosmology and It’s Implications


for the Science – Religion Dialogue, in: Physics, Philosophy and Theology: A
Common Quest for Understanding, edited by R. J. Russell, W. R. Stoeger and
G. Coyne. Vatican City State: Vatican Observatory.
‫م‬2022 ‫هـ ــ صيف‬1444 ‫العدد الثاين ــ‬

29. ____ 1992. The Origin of the University in Science and Religion, in: Cosmos,
Bios, Theos, edited by H. Margenau and R. A. Varghese. La Salle: Open
Court.
30. Weinberg, Steven. 1994, Updated Edition. The First Three Minutes. New
York: Basic Books.

85
‫المحور‬

‫املعرفة الصقول َّية‬


‫تعرف عىل مبدأ الكون‬
‫الصلة كنظرية ُّ‬
‫ِّ‬

‫صبيح محاميد‬
‫ين‬ ‫ف‬
‫فلسط�‬ ‫أكاديم وباحث ي� فلسفة العلم ‪-‬‬
‫ي‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ف‬
‫تنظ�ي جديد ي� حقل أنطولوجيا الوجود‪ .‬وقد‬ ‫هذا البحث محاولة استحداث مسار ي‬
‫المؤسس‬ ‫ِّ‬ ‫ه العامل‬ ‫ََ‬
‫جرى ترتيب هذه المحاولة عىل فرضية مفادها أن "قوة الصلة" ي‬
‫ت‬
‫ال� أخذ‬ ‫للهندسة الكونية المتقنة‪ ،‬والعلة الحاكمة عىل نظام الكون‪ .‬و"العلة الصقولية" ي‬
‫إصطالح‬
‫ي‬ ‫ه نحت‬ ‫البحث بها كأساس لتسييل المعرفة األنطولوجية بحقيقة العالم‪ ،‬ي‬
‫ب� الصلة وقوتها ف� فعل اإليجاد‪ ،‬كما يدل عىل قوة الصلة ومكانتها ي ن‬
‫ب�‬ ‫لمفهوم يربط ي ن‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫الموجودات‪ .‬أما ِّ‬
‫فه‬ ‫وبالتال ي‬
‫ي‬ ‫خاصية هذه العلة فإنها تكمن ي� المرئيتها وال محسوسيتها‪،‬‬
‫ن‬ ‫ن‬
‫ه‬ ‫العي�‪ .‬بهذا المع� ي‬‫ي‬ ‫ليست بمادة‪ ،‬لكنها تظهر إىل الوجود من خالل إظهارها للواقع‬
‫ماهية القانون والمبدأ الذي يبحث عنه كل علم ومعرفة الستكناه حقيقة الكون‪ ،‬ذلك بأنها‬
‫واقع‪.‬‬
‫ي‬ ‫الفعل الذي يدفع األشياء من أجل أن تظهر كوجود‬
‫ال� تجعل‬ ‫ت‬
‫ويطلق البحث عىل العلة الصقولية صفة "الصلة الضابطة" كونها الوحيدة ي‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ن‬
‫ه العلة األوىل‬ ‫اإللتحام يب� الموجودات أمرا وجوديا‪ .‬وبــهذه الدالة تكون العلة الصقولية ي‬
‫غ� فاعل‪،‬‬ ‫ال� جعلت الوجود عىل ما هو عليه‪ ،‬وأن الموجود ال يمكن أن يكون وجوده ي‬ ‫ت‬
‫ي‬
‫ً‬
‫بالغ�‪ .‬ثم ان الوجود إن لم يكن فعال وفعالية‪،‬‬
‫سواء جاء فعله من نفسه‪ ،‬أو من قوة صلته ي‬
‫فعل يذكر إال فعل الخالق القادر عىل كل‬‫يتأ� ٌ‬ ‫يتحصل‪ .‬إذ من العدم ال ت‬ ‫َّ‬ ‫فمن المحال أن‬
‫�ء‪ .‬ولوال قوة الصلة وما بها من قوة وقدرة لما استطاع الكون أن‬ ‫ش‬ ‫ش‬
‫�ء والمحيط بكل ي‬ ‫ي‬
‫ينتقل من طور القوة واإلمكان والخفاء إىل طور الظهور‪.‬‬

‫* * *‬
‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬المعرفة الصقولية‪ -‬قوة الصلة – نظام الكون – الصلة الضابطة –‬ ‫مفردات‬
‫َّ‬
‫العلة األوىل – أنطولوجيا الموجودات‪.‬‬

‫‪86‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫ِّ‬
‫مقدمة‪:‬‬
‫الرشب ضارا ً «به»[[[‪ .‬إال أن من‬
‫ُ‬ ‫رصح ديكارت‪ -‬أن يظأم املر ُء حني يكون‬
‫من خطأ الطبيعة‪ -‬كام ي ِّ‬
‫حكمة النظام الكوين‪ ،‬أ ْن لو قُ ِّدر أن يكون املا ُء ساماً ملا كان حصل الرشب واالرتواء‪ .‬فلو مل يكن‬
‫املاء يُبلِ ُغ عن ماهيته مبا هو علة االرتواء‪ ،‬ل ََم استطاع النبات‪ ،‬مبا هو نبات‪ ،‬السعي وراء تأمينه‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ين كذلك مل‬


‫بحيث أنَّه لو نزل عليه لزاول الحياة‪ ،‬وإالَّ ما نَ َبت أصالً وال كان‪ .‬عند املوجود الحيوا ِّ‬
‫فعل االرتواء ليكون له إعدادات وآليَّات‪ ،‬وهي ما ع َّرفها النظَّار بـ «الواسطة»‪.‬‬
‫يَلزم ُ‬
‫يئ يحايك‬
‫مع تقادم األزمنة تب َّدلت طرق وأساليب تحصيل االرتداء عند البرش‪ .‬فحني كان البدا ُّ‬
‫الكأس واسطة الرشب‪ ،‬وحني كان الوِر ُد هو السبيل لجلب املاء‬
‫ُ‬ ‫َّي يديه ليرشب‪ ،‬صارت‬
‫الكأس بكف ْ‬
‫جاءت قوانني الضغط الفيزيائيَّة لرتيح البرش من هذا العبء؛ جرى هذا األمر عىل حكم الرضورة‬
‫رغم أ َّن من البواعث الجامل َّية لواردات الطبيعة ما يبتعث يف اإلنسان السكينة وهدأة العيش‪ .‬رمبا‬
‫ٍ‬
‫حالئذ أن يقال‪ ،‬إ َّن يف الرضر نفعاً ما‪ ،‬حني يكون اجتهاد العقل قاصدا ً تخفيف الرضر‪ .‬وتبعاً‬ ‫صح‬
‫َّ‬
‫ص َدق قوله‪ .‬فالواقع ليس إالَّ الرضورة‪،‬‬ ‫ي يتكلَّم فقد َ‬
‫ملا سبق فإن الذي يقول إ َّن الواقع املا ّد َّ‬
‫والرضورة ليست إالَّ أ َّن ما خرج من القوة كان قد خرج منها إىل هيئته املق َّررة‪ ،‬والهيئة فليست‬
‫إالَّ ما ته َّيأ له اليشء ليقوم به من فعل ووظيفة[[[؛ كذلك هو الوجود مبا هو مرسح لألفعال توجِب‬
‫املعرفة عند بني البرش‪ .‬عىل سبيل املثال‪ :‬لو استطاع أرسطو أن يرى من خلف صورته الهيوليَّة‬
‫فكل أنواع‬
‫هيئة املوجودات‪ ،‬لكان وفَّر عىل الذين جاؤوا من بعده عناء التل ِّهي بالبحث املنقوص؛ ُّ‬
‫علل ِه تقوم بعملها‪ ،‬ولوال هذا العمل ملا صارت ِعلَالً باألصل‪ .‬من أجل ذلك كان «األيس» عند‬
‫الوظيفي منها‪ ،‬حيث ال يشء من املوجودات إالَّ وينجز عمالً‬
‫َّ‬ ‫املوجودات‪ .‬و«األيس» ليس إالَّ‬
‫ما‪ ،‬وبكلامت‪ ،‬إن اليشء يؤث ِّر ويتأث َّر‪ ،‬وما إىل ذلك ممَّ جاء من تفسريات الفعل‪ .‬فكيف لجسم ما‬
‫أن يكون جسامً لو مل يصل إىل متامه؛ ذاك أ َّن الجسم هو التا ُّم من املا َّدة‪ ،‬ولو مل تصل الذ َّرة إىل‬
‫هيئتها التا َّمة ل ََم صارت جسامً‪ .‬يف املقابل‪ ،‬إن من خصائص متام الجسم أنه يتلقى أعراضه الدالَّة‬
‫عليه‪ ،‬كالوزن والحجم‪ ،‬وأقيس ِته املتَّصلة باملكان كالطول والعرض واالرتفاع‪ ،‬كذلك تلك املتصلة‬
‫بالزمان كالقدم واإلنيَّة واألزليَّة‪ .‬وليك يصبح الجسم هو ما هو عليه‪ ،‬فإنَّه ال يحتمل اإلثبات والنفي‪،‬‬
‫أي أن يكون معقوالً وموضوعاً يبلِّغ عن وجوده ويُتبلَّ ُغ عنه بالبيان‪.‬‬
‫[[[‪ -‬أنظر ريني ديكارت‪ ...« :‬التأ ُّمالت يف الفلسفة األوىل‪ ،‬ترجمة وتقديم عثامن أمني – تصدير مصطفى لبيب‪ ،‬املركز القومي للرتجمة‬
‫‪ 2009-‬ص ‪.22‬‬
‫[[[ ‪ -‬أنظر رسائل أبو الحسن العامري‪ :‬كتاب التقرير ألوجه التقدير‪ .‬ص ‪ 315‬و كتاب إنقاذ البرش من الجرب والقدر ص ‪ ،264‬دراسة‬
‫ونصوص د‪ .‬خليفات سحبان‪ ،‬منشورات الجامعة األردن َّية عامن‪ .1988‬أنظر أيضاً كتايب‪ :‬قمم لجونية ‪ ...‬كتاب البديهيات‪ ،‬مقدِّ مات‬
‫لفلسفة الصواب – طبعة خاصة ‪ – 2021‬ص ‪ 75‬و ‪. 117‬‬

‫‪87‬‬
‫المحور‬

‫يف ضوء ما تق َّدم‪ ،‬يتضح أ َّن فالسفة ومتكلَّمي املسلمني صدقوا مل َّا قالوا بالجوهر الفرد الذي‬
‫يعني استحالة تجزيء الجزء إىل ما ال نهاية‪ .‬فصورة الطاولة التي تح َّدث عنها أرسطو‪ ،‬ومن تبعه‬
‫‪ -‬إن كانت من الحديد أو الخشب أو البالستيك أو الزجاج‪ -‬ال ميكن إالَّ أن تكون تص ُّورا ً ذهنيّاً‬
‫ليس إالَّ‪ ،‬أ َّما هيئة الجسم فلن تكون إالَّ بوجود الجسم موضوعيّاً‪ ،‬وهذه الصورة ليست مك ِّوناً ثابتاً‪،‬‬
‫إذ ميكن أن تكون الطاولة بأربعة أرجل أو برجل واحدة أو‪ ،‬حتى‪ ،‬بال أرجل البتة‪ ،‬يف حني نلصق‬
‫كل هذا‪ ،‬لزم أن يته َّيأ هذا املك َّون ليتمكَّن من تنفيذ مهمته؛‬
‫ونثبت مسطَّح الطاولة إىل حائط‪ .‬ومع ِّ‬
‫وعندما تتب َّدل الهيئة لن يكون مبستطاع الطاولة أن تحقِّق وظيفتها‪ ،‬وسنجدها بالرضورة عىل هيئة‬
‫مغايرة‪ ،‬ووظيفة أخرى‪.‬‬

‫‪ .1‬الهيئ�ة بما هي صلة ومبدأ‪:‬‬


‫صل ُة امل ُه َّيأ وتناسبه‬‫«الهيئة» هي ذلك الثابت غري املتغيِّ ‪ ،‬أي املطلق؛ وأعظم ما تطلبه هو ِ‬
‫فكل ما تطلبه ينحرص‪ ،‬بالرضورة‪ ،‬يف س ُبل التكوين ال َع َرض َّية‪ ،‬وهذه السبل‬ ‫مع غريه‪ .‬أ َّما الصورة ُّ‬
‫ليست إالَّ من تقادير املبدأ‪ .‬وبهذه ومن خالل هذه التقادير نفسها يرتبط البحث بقضايا ومسائل‬
‫املكتسب‪ ،‬يف اآلن الذي كانت فيه املعارف الفطريَّة األوليَّة‬‫ُ‬ ‫التعليل والتسبُّب‪ .‬هاهنا جاء العل ُم‬
‫راسخة ومنفطرة يف كل امرئ‪ ،‬بال بذل الجهد يف طلبها‪ ،‬أو تقفِّي أثرها والبحث عنها‪ .‬وهكذا فإن‬
‫ما اصطلحت عليه األرسطية «طاولة» هو نفسه ما اصطلحنا عليه اتفاقاً بـ «املبدأ»‪ .‬فالطاولة مبدأ‬
‫ذلك الجسم‪ ،‬وفقه تتحدد هيوليته‪ ،‬وبالتايل نسبته مع سواه من األجسام؛ كذلك تتحدد عىل أي‬
‫هيئة هو صائ ٌر وما يتق َّر ُر من فعله ووظيفته‪ .‬وأخريا ً هو ما ال ميكننا استعامله إالَّ كطاولة‪ ،‬حيث‬
‫أي تغيري قد يطرأ عىل هذا‬ ‫يتمكَّن الذهن‪ ،‬وفقاً لهذا وتباعاً له‪ ،‬أن يبني عنها الصور واألشكال‪ .‬إ َّن َّ‬
‫كريس أو رسير‪.‬‬ ‫ٍّ‬ ‫املبدأ‪ ،‬يغدو من األكيد أننا لن نحصل يف هذه الحال عىل طاولة‪ ،‬بل رمبا عىل‬
‫يخص الغرض الذي‬ ‫ُّ‬ ‫للكريس وظيفته الشخصيَّة‪ ،‬سنكون حالذاك إزاء مبدأ يغاير الذي‬ ‫ِّ‬ ‫وإذ يكون‬
‫س َّميناه طاولة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فكيفام تع َّددت صور الطاولة فإنها تظل تحافظ عىل هيئتها ليك تكون عىل‬
‫ما هي عليه‪.‬‬
‫نؤصل مبدأ الصلة وغايتها ميتافيزيقياً‪:‬‬
‫لن كيف ميكن أن ِّ‬
‫بعد هذا التمهيد األويل َ َ‬
‫لقد خلق الله تعاىل اإلنسان بأحسن الصور حتى يكون مه َّيأ ليقوم بأرشف األعامل‪ ،‬وبنا ًء عىل‬
‫نشك يف وجوب‬ ‫هذا‪ ،‬من املحال أن تكون هيئتُه بال املخيَّلة التي هي صاحبة الرؤية والتفكري‪ .‬وال ُّ‬
‫(اآليتمولوجي) ملقولة «هيئة» داللة عىل فعل التهيُّؤ‪ .‬فهيئة اليشء‬
‫َّ‬ ‫يل‬
‫أ َّن يتضمن التأصيل التأثي َّ‬
‫مبدأُه وقانونُه الثابت‪ ،‬ذاك أنها تُساوِق فعلَه وترادفه عمل ّياً‪ ..‬هذا الرأي وجدنا ما يؤيّده يف كالم‬
‫اإلمام أيب حامد الغزايل‪ ،‬من أن الفعل ليس إالَّ هيئة الفاعل‪ ،‬كفعل القطع الذي هو هيئة السكني‪،‬‬

‫‪88‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫يف حني أ َّن هيئة املطرقة مثالً ال تقطع اللحم بل تدقُّه‪ .‬وأيضاً مبا أورده أبو الحسن العامري يف‬
‫رشحه ملاهية الفعل‪ ...« :‬ثم ال نشكُّ أنه متى صار بوجوده مثبت الذات‪ ،‬قائم األن َّية‪ ،‬فقد فارق‬
‫خاصة العدم‪ ،‬وصار‪ -‬ما دام عىل صورته تلك يف ثبات الذات‪ ،‬وحصول‬ ‫َّ‬ ‫صفة اإلمكان‪ ،‬وبَايَ َن‬
‫األن َّية‪ -‬الحقاً بجملة الواجبات‪ ،‬غن ّياً بهيئته عن السبب املوجد»[[[‪ .‬ويف رشحه للقضاء والقدر يقول‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫العامري‪« ...« :‬القضاء» هو صنع اليشء وإيجاده‪ ،‬و«القدر» يف الحقيقة هو تسويته ملا ُه ِّيئ له»[[[‪.‬‬
‫إىل هذا كذلك ما ذهب إليه من قبلهم أفلوطني‪ ..« :‬من أن الفأس حديدٌ وهيئ ٌة‪ ،‬وهو يعمل ما‬
‫يعمل الحديد بعد صوغه هكذا بتلك الهيئة وبحسب تلك الهيئة»[[[‪ .‬من هذا النحو منيض إىل‬
‫أجل األفعال التموضع‬ ‫لكل فعل غاية ما‪ ،‬فإ َّن من َّ‬
‫بيان أ َّن الكون والوجود قاما عىل الفعل‪ ،‬وأل َّن ِّ‬
‫«الصاليت» يت ُّم‬‫ِ‬ ‫ّْ‬
‫الرضوري‪ .‬وبهذا التموضع‬ ‫الرضوري يف عمل َّيات االكتامل للوصول إىل التامم‬
‫ُّ‬
‫«فعل» (عمل َّية) إمتام الروابط والصالت الرضوريَّة‪ .‬وبه فقط يكون قد خرج اليشء من القوة إىل‬
‫لكل وجود يف‬ ‫الفعل؛ أي إىل اكتساب قدرته وق َّوته عىل تنفيذ وظيفته‪ ،‬وهي املنفعة املطلقة ِّ‬
‫الكون‪ .‬فللهواء واملاء والشمس والقمر واملكان وظائفها‪ ،‬وكذلك لل َّزمن املواقيت‪ ،‬وللطحالب‬
‫والبكترييا والذباب وظائفها أيضاً‪ ،‬مثلام للتخيل وظيفة تنجزها آالته وع َّدته التي س َّميناها بالجهاز‬
‫العصبي واملخ‪.‬‬
‫ِّ‬
‫إنطالقاً مام سلف‪ ،‬ال يوجد يشء يف الكون إالَّ ليفعل وينفعل‪ ،‬أو ليقوم «بفعل»‪ .‬ذلك أل َّن قيامه‬
‫جد‪.‬‬‫منظومي الوجود‪ ،‬ولوال منظوم َّيته ل ََم انْ َو َ‬
‫َّ‬ ‫كان وسيبقى م ْن َبنياً عىل الفعل‪ .‬لذا كان الجسم األول‬
‫يل ل ََم ُوجِد الجزء‪ ،‬وبهذه املنظوميَّة تكمن حقيقته ال يف أجزائه‪.‬‬‫ولوال منظوميَّة الكون والوجود الك ِّ‬
‫هكذا ال تعود معرفة حقيقة الجزء ممكنة إالَّ أن يكون من أبواب الفروع التي تساعد عىل التأثري يف‬
‫تحسني املهن َّية‪ ،‬حيث تكون مه َّمتها جعل الحرفة أكرث سهولة‪ .‬وهذا أمر تقوم به املعرفة الواقعية‬
‫اضطرارا ً وليس رغبة‪ ً.‬عن ذلك يقول أرسطو‪« :‬إنَّ الناس جميعاً يرغبون املعرفة بطبيعتهم‪ ،‬والدليل‬
‫بغض النظر عن‬ ‫الحواس حتى ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫حواسهم‪ .‬فنحن نعشق عمل‬
‫ُّ‬ ‫هو ما يشعرون به من متعة عندما تعمل‬
‫نفعها‪ .[[[»...‬بيد أ َّن املفارقة هنا‪ ،‬أن الذي غالط وجعل الشبهة يف العلوم منار ًة له‪ ،‬سيكون سبباً يف‬
‫شقي‪ ،‬أراد أن يقنع البرش بأ َّن الحقيقة تقع يف الجزء املك ِّون‪ .‬وذلك ما يب ِّينه يف «كتاب‬
‫ٍّ‬ ‫ظهور علمٍ‬
‫العادي يف‬
‫ِّ‬ ‫السياسة» بقوله‪« :‬هذه النظر َّية كلُّها باطلة‪ ،‬وسيكفي يف االقتناع بذلك استخدام منهاجنا‬
‫كل موطن آخر ينبغي ر ُّد املركب إىل عنارصه غري القابلة للتحليل‪،‬‬ ‫هذه الدراسة‪ ،‬فهاهنا كام يف ِّ‬

‫[[[ ‪ -‬أبو الحسن العامري‪ :‬كتاب إنقاذ البرش من الجرب والقدر‪ ،‬رسائل أيب الحسن العامري وشذراته الفلسف َّية‪ ،‬دراسة ونصوص د‪ .‬سبحان‬
‫خليفات ‪ -‬ص ‪ 251‬عامن ‪.1988‬‬
‫[[[ ‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.264‬‬
‫[[[ ‪ -‬أفلوطني ‪ :‬تاسوعات أفلوطني‪ ،‬ترجمة د‪ .‬فريد جرب‪ ،‬مكتبة لبنان ‪ 1997-‬ص ‪.53‬‬
‫[[[ ‪ -‬أرسطو‪ ،‬كتاب «السياسة»‪ -‬املقدمة ص ‪ 1-‬مصدر سبق ذكره‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫المحور‬

‫أعني إىل أصغر أجزاء املجموع»[[[‪ .‬قد يجوز القول ان عوامل نفسية كان لها وزنها الحاسم يف‬
‫تخريج علوم أرسطو ومعارفه‪ .‬فإنه لو مل يُسخِّر العقل لتلك الدوافع النفس َّية‪ ،‬ملا كان قد ص ِّنف‬
‫البرش وفق هندسية طبقية تفضيلية مص َّنفاً إياهم «بأن منهم من خُلقوا ليكونوا عبيدا ً‪ ،‬ومنهم من‬
‫يف الذي اقرتفه أرسطو لكان حذا حذو‬ ‫خلقوا ليكونوا أسيادا ً ومطاعني» ‪ .‬ولوال هذا االنزياح املعر ُّ‬
‫[[[‬

‫ح الغازي اإلسكندر بأالَّ يحجب عنه أشعة الشمس‪ ،‬بدالً من أن يسدي‬ ‫نص َ‬ ‫«الكلبي» ديوغينس مل َّا َ‬
‫له النصيحة بالطرق التي يستطيع من خاللها قمع األمم‪ ،‬واحتالل بالدهم‪ ،‬وبسط سيادته عليها‪.‬‬
‫ين مقابل تخلف برابرة األرض‪ .‬وهي‬ ‫وهذا مييط اللثام عن فكرته العنرصيَّة حيال رقي ال ِعرق املقدو ِّ‬
‫الفكرة نفسها التي سريثها أحفاده املستحدثني من بعده مثل ميكيافييل‪ ،‬وهيغل‪ ،‬ونيتشة‪ ،‬وهربرت‬
‫سبينرس‪ ،‬وسواهم‪ ،‬فهؤالء عىل الجملة‪ ،‬وبقصد أو من دون قصد‪ ،‬اعتقدوا بربوب َّية اإلنسان‪،‬‬
‫وجربوت قدرته املعرف َّية‪ .‬أولئك الذين أشار إليهم الحق تعاىل‪« :‬ومنهم أم ّيون ال يعلمون الكتاب‬
‫إالَّ أماين وإن هم إالَّ يظ ّنون»[[[‪ .‬فلقد متوضعوا داخل كهوفهم املعتمة‪ ،‬ملا اعتمدوا الق َّوة النفسيَّة‬
‫دون العقليَّة رائدة هذه القدرة‪ ،‬وذهبوا للبحث عن األجزاء‪ ،‬وقالوا إ َّن الشيطان يكمن يف التفاصيل‪،‬‬
‫ين‬
‫ولعل ما قاله الشهرستا ُّ‬ ‫َّ‬ ‫حيث مل يشهد الرشق إالَّ ما أساءه منهم‪ ،‬منذ القدم وحتى يومنا هذا‪.‬‬
‫قسمهم‬ ‫بصدد الفرق بني طرق تفكري األمم والشعوب حينذاك كان صائباً كام هو اليوم‪« :‬ومنهم من َّ‬
‫بحسب األمم‪ ،‬رائياً إىل أن كبار األمم أربعة هم‪ :‬العرب والعجم والروم والهند‪ ،‬ثم زاوج بني أ َّمة‬
‫خواص األشياء‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وأ َّمة‪ ،‬فذكر أن (العرب والهند) يتقاربان عىل مذهب واحد‪ ،‬وأكرث ميلهم إىل تقرير‬
‫والحكم بأحكام املاه َّيات والحقائق‪ ،‬واستعامل األمور الروحان َّية‪ .‬وأما (الروم والعجم) فيتقاربان‬
‫عىل مذهب واحد‪ ،‬وأكرث ميلهم إىل تقرير طبائع األشياء والحكم بأحكام الكيف َّيات والكم َّيات‪،‬‬
‫واستعامل األمور الجسامنيَّة»[[[‪.‬‬

‫‪ .2‬الصراط املستقيم كعلة أوىل‪:‬‬


‫مل يكن اإلغريق ليفعلوا ما فعلوه من تصورات جزئية حيال مبدأ العامل‪ ،‬إال بسبب إعراضهم‪ ،‬أو‬
‫قصورهم عن فهم هذا املبدأ واستكشاف علته األصلية‪ .‬ذلك ال يقلِّل بالطبع من جليل ما أنجزوه‬
‫يف حقل املعقوالت املادية‪ .‬ولكن نظرا ً ألهم َّية القول بح ِّد اليشء‪ ،‬أي تعريفه بلغة عرصنا‪ ،‬وجدنا‬
‫يئ الذي عليه ت ُقاس األمور األُخَر‪.‬‬
‫من األنسب أن نبسط محاولتنا عىل تعريفه بأنه األمر الفيزيا ُّ‬
‫ويف الوقت الذي استفدنا من كون الفعل ليس إالَّ هيئة الفاعل‪ ،‬سوف نواجه ألول مرة حقيقة‬

‫[[[ ‪ -‬أرسطو‪ ،‬كتاب السياسة‪ ،‬نقله إىل العربية أحمد لطفي السيد‪ ،‬سلسلة من الرشق إىل الغرب‪ -‬القاهرة – ص ‪.93‬‬
‫[[[ ‪ -‬أنظر املصدر السابق الباب األول‪.‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة البقرة ‪ :‬اآلية ‪.78‬‬
‫[[[ ‪ -‬الشهرستاين‪ ،‬أبو الفتح‪ ،‬امللل والنحل‪ ،‬صححه أحمد فهمي محمد‪ ،‬دار الكتب العلم َّية ‪ 1992-‬ص ‪.4‬‬

‫‪90‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫مقولة الجسم األملس الذي أىت به الفخر الرازي يف سياق حديثه عن عامل الفيزياء الخايل من‬
‫الزاوية‪ ،‬يقول الرازي‪ ...« :‬فبقي أن يكون من رشطه اتصال سطح األملس فيجب أن يوجد هذا‬
‫العكس (يقصد بانعكاس الصور يف املرآة) عن جميع األجسام وإن كانت خشنة ألن سبب الخشونة‬
‫الزاوية»[[[‪ ،‬وبالتايل أل َّن حركة األجسام مستقيمة باملطلق إذا مل تواجه تأثريا ً عليها‪ ،‬أو أنها إليه تنزع‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وعليه‪ ،‬فإ َّن الخروج من املستقيم يجري بتكوين الزاوية‪ ،‬وهو الفعل بعينه‪ .‬وسيكون بالنسبة إلينا ان‬
‫كل هيئة‪ ،‬أ َّن هذه الهيئة ال ميكن أن توجد‬ ‫الخروج من املستقيم إىل الزاوية التي هي أصل تكوين ِّ‬
‫إالَّ منظومياً‪ .‬وهكذا‪ ،‬الفعل لن يكون إالَّ منظوميَّاً‪ .‬أ َّما الفعل يف الوجود فال يظهر إالَّ مبا اصطلحنا‬
‫عىل وجوده بـ «املستقيم»‪ ،‬أو ما ميكن أن نصطلح عليه بـ «الزاوية»؛ ويف اآلن عينه تُك ِّون الزاوية‬
‫ح ّدا ً عىل املستقيم‪ ،‬فهي ذاتها ذلك الذي اصطلحنا عليه «الح َّد»‪ ،‬وهذا األخري يكمن يف سبب‬
‫نشوء ما س َّميناه عليه «الهيئة»‪ ،‬وذاك ما جعل الكون حاصالً وممكن الحصول‪ .‬ثم إننا لو الحظنا‬
‫خرج منه مستقيامً آخر مك ِّوناً زاوية‪،‬‬
‫األمر بعناية‪ ،‬سنجد املستقيم معدوم الزاوية‪ .‬واملستقيم ‪-‬حني يُ ُ‬
‫وحني يلتحم معهام مستقي ٌم آخر‪ ،‬لينتج زاويتني أخريني ‪ -‬حينذاك تصبح املستقيامت هذه ذوات‬
‫حدود‪ ،‬وتتك َّون عند هذه الحدود ثالث زوايا‪ ،‬وهذا كله يُن ِت ُج املثلث‪ ،‬وهو أول هيئة متكاملة متلك‬
‫اإلمكان واإلستطاعة عىل الفعل‪ ،‬كذلك متلك الحركة املحدودة التي هي فرع حركة الدائرة األبديَّة‪،‬‬
‫وهي التي تيل املثلَّث عند الخروج من املستقيم‪.‬‬
‫كل ما يفعله اإلنسان حيال الطبيعة وهيئات موجوداتها‪،‬‬ ‫تتيس لنا رؤية ِّ‬
‫مع هذا التعريف قد َّ‬
‫ج َد أ َّن الزاوية‬
‫وهي الخروج إىل الزاوية القامئة‪ .‬فلو نظر املرء إىل كل ما يحيطه من موجودات‪ ،‬ل َو َ‬
‫كل هذه العصور‪ .‬من ذلك أمكن القول أ َّن ما يخفى‬ ‫كل ما صنع هو عرب ِّ‬ ‫القامئة تكمن يف أساس ِّ‬
‫من وراء «الرصاط املستقيم» ولو فيزيائ ّياً هو ذاك اإلرتكاز عىل الزاوية املستقيمة عند التخطيط يف‬
‫صنائع الخلق والناس‪ ،‬ففيها مجريات االنتفاع من األغراض‪ .‬وإذن‪ ،‬كيف سيكون الوضع وجس ُمنا‬
‫رسة منفرجة الزاوية أو‬ ‫يبني زاوية مستقيمة بصلته مع امل ُداس‪ ..‬ثم كيف يُعقَل أن نبني بيوتاً وأ َّ‬
‫الحا َّدة متكِّننا من االنتفاع منها؟ فاألهرامات عىل سبيل املثال‪ ،‬مثلَّثة الشكل لكن حجراتها مربعة‬
‫أو مستطيلة ترتكز عىل الزاوية املستقيمة‪.‬‬
‫هنا يرتت َّب علينا بسط ما قصدناه بالعلَّة األوىل التي جعلت الوجود عىل ما هو عليه‪ .‬فاملوجود‬
‫ال ميكن وجوده إالَّ فاعالً‪ ،‬سواء من قوة ذات نفسه أم من قوة صلته بالغري‪ .‬ثم إ َّن الوجود إن مل‬
‫فعل يذكر إالَّ فعل الخالق األعىل القادر‬
‫يتحصل‪ .‬إذ من العدم ال يتأىت ٌ‬
‫َّ‬ ‫يكن فعالً‪ ،‬فمن املحال أن‬
‫كل يشء‪ ،‬وهو ما ليس للخلق والناس مستطاع إليه‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن طبيعة اإلجابة عىل اإلشكال‬ ‫عىل ِّ‬

‫[[[ ‪ -‬الرازي‪ ،‬فخر الدين ‪ :‬اإلشارة يف علم الكالم‪ ،‬إرشاف األستاذ سعيد فودة‪ ،‬دار الرازي بريوت ‪ 2006-‬ص ‪.71‬‬

‫‪91‬‬
‫المحور‬

‫التايل سوف يعيننا يف فهم ما ننوي رشحه‪ :‬قلَّة من البرش تقول إ َّن املوت والحياة نقيضان ال‬
‫يستويان وبالتايل ال يتَّفقان وال ينسجامن‪ ..‬وهذا من البديه َّيات واملسلَّامت املعرف َّية‪ .‬ولكن‪ ،‬رغم‬
‫أن املوت الذي يقيض عىل الحياة هو قدر محتَّم فإن الحياة باقية ومستمرة‪ ..‬وهذا سيكون حكامً‬
‫بديهيّاً مسلَّامً به‪ ،‬إال أنه يحمل يف طياته شَ غَباً عند العارفني يف دقائق األمور ولدى من شاء اللطافة‬
‫والدقَّة‪ .‬إذ كيف ميكن أن يتَّفق اإلثبات والنفي يف اآلن نفسه يف هذه الظاهرة وهو ما ال يقبله العقل؟‬
‫أما حل املسألة فليس بالصعب والعسري تحصيله‪ ،‬وهو ليس مستغلقاً عىل الفهم‪ :‬إن ما ينايف‬
‫املوت هو الوالدة وليس الحياة‪ .‬وعىل سبيل اإليضاح‪ :‬أليس عىل املريخ حياة لكن ال موت هناك‬
‫فاألدق القول أن الحياة جنس للوجود تحوي يف ثناياها زوجية الوالدة واملوت‪ ،‬وهام‬ ‫ُّ‬ ‫وال والدة؟‪..‬‬
‫الخاصان بالفرد‪ ،‬لذا يفنى الفرد وتبقى البرشيَّة ما دام الفرد آيالً إىل الفناء‪.‬‬
‫َّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الوجودية‪:‬‬ ‫الصقولية مبدأ اإلستقامة‬ ‫‪ .3‬العلة‬
‫كل وجود‪.‬‬ ‫يجدر القول أ َّن ما م َّر معنا‪ ،‬يرتبط مبا سنقوله بصدد (العلة ِ‬
‫الصق َول َّية) التي هي مبدأ ِّ‬
‫حني يتح َّدث دميوقريطس ع َّن الذ َّرة (وهي النملة الحمراء الصغرية بلغة العرب)‪ ،‬أمل يكن يفقد شيئاً‬
‫مهمَّ ً مل يذكره بهذا الصدد؟ فلو قال مثالً أن الكون قد تشكَّل من الذ َّرة املندمجة أمل يكن بذلك قد‬
‫كل هذه العصور من بعده؟! ولو فعل أرسطو هذا أيضاً لكان أشار‬ ‫أقام فرقاً معرف ّياً منهج ّياً أراح به َّ‬
‫إىل حقيقة العلَّة والق َّوة التي جعلت من الذ َّرة كياناً ووجودا ً‪.‬املقصود هنا تلك الق َّوة التي جعلت‬
‫األجزاء مندمجة ومتَّصلة‪ ،‬والتي من دونها ال يكون يشء اسمه ذ َّرة‪ ،‬أو يشء اسمه مادة‪ .‬وبداللة‬
‫أكرث عمقاً ينفتح أفق املعرفة نحو تلك القدرة التي تنفخ روح الحياة والوجود ورشعيَّة التواجد‪ .‬ومن‬
‫يل أ َّن اإلندماج هو سبب وعلَّة وجود الذ َّرة‪ ،‬وليست الذ َّرة هي علَّة وسبب وجود نفسها‪ .‬لذا من‬ ‫الج ِّ‬
‫املحال أن تكون الذ َّرة أساس الكون املتواجد ذريّاً‪ .‬ألنه لوال ق َّوة الصلة هذه‪ ،‬أو ما يف الصلة من‬
‫قوة وقدرة‪ ،‬ل ََم خرج الكون من الق َّوة واإلستطاعة واإلمكان إىل الفعل‪ .‬أي إىل وجوده فاعالً منتظامً‬
‫املحصن لقلنا إنه لوال‬
‫َّ‬ ‫ناظامً للحقيقة الكونية‪ .‬ولنئ مضينا إىل ما هو أعمق من حسابات العقل‬
‫صلة الخالق تعاىل بكونه لفقد الكون كيانه‪.‬‬
‫بعدما وظّف العلم التجريبي‪ ،‬مبا ق َّرر له أرسطو وغريه من قواعد ومعايري‪ ،‬لكشف ماهية هذا‬
‫جزيء األول‪ ،‬وكيف هو ساكن ومتموضع‪ ،‬وكذلك شكل ُه وك ُّم ُه وكي ُف ُه‪ ،‬وما إىل ذلك من السهو‬ ‫ال ُ‬
‫والغفالن‪ ،‬مل يجنوا إال العبث الذي دونه الجهل‪ .‬ولنا هنا أن نسأل‪ :‬كيف سريون إىل الصلة وما‬
‫بها من ق َّوة مبعايريهم ومق ِّدماتهم التجريب َّية؟! إذ إن من املحال أن ينعقد ما يرومون إليه بالعقل‬
‫املجبول عىل معرفة املعقول فكيف سيستسيغ العقل ريادة النفس له؟ لذا َمثلهم يف هذا كمثل‬
‫من بحث يف قوانني الكيمياء التي ستُن َبت الذهب من نبات الحقل‪ .‬لقد استطاعت الفيزياء الحديثة‬

‫‪92‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫ج أومتصلٍ ‪.‬‬ ‫إجراء أضخم التجارب‪ ،‬يف مق َّدمها تجربة انشطار الذ َّرة‪ ،‬لكنها مل تجد شيئاً غري مندم ٍ‬
‫لذا ما كانت قد وجدته ليس إالَّ أجساماً‪ ،‬يف الوقت الذي نقصد هنا بالجسم ذاك الذي هو مت ِّمم‬
‫الهيئة بغريه‪ .‬من ذلك كان للثورة الكفناتويَّة (رياضيَّات وفيزياء الكم) ان تكتسب رشعيَّتها حني‬
‫تناهض نسبيَّة أنشتاين‪ ،‬مع أنَّها هي أيضاً أتت بفلسفة مضطربة بسبب من انحكامها إىل عقلها‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الفيزيايئ الصارم‪ .‬فلو مل تجد الفيزياء أجزاء الذ َّرة وأجزاء أجزائها متَّصلة ومندمجة بعضها مع‬
‫بعض‪ ،‬ملا كانوا قد وجدوا الذ َّرة نفسها‪ .‬وهذا يضيف عنرصا ً مهمَّ ً إىل يقيننا بق َّوة الصلة وجوهريَّتها‬
‫وعلَّتها‪ ،‬وأنها الجوهر املنشود‪ ،‬فلوال أ َّن كانت الصلة ق َّوة ملا اندمجت األجزاء يف أجسامها‪.‬‬
‫ال مناص من القول أ َّن هذه التجارب مل تكن إالَّ برهاناً ملا قيل بالجوهر قبل عصور‪ .‬فالجوهر‬
‫ليس املا َّدة نفسها‪ ،‬بل هو ما جعلها عىل ما هي عليه يف ماديَّتها‪ .‬و«الصقولة» أو املعرفة الصقوليَّة‬
‫سنجدها مساوقة وتجيب عىل كل مقوالت الجوهر‪ ،‬كمثل الذي وجوده مستغنٍ عن غريه‪ ،‬ليكون‬
‫وجوده يف داخله وواجب الوجود‪ ،‬أو موجود بالق َّوة يف ذاته‪ ،‬أو هو موجود ليكون لذاته‪ ،‬حيث‬
‫ال يستغني عنه شييء‪ ،‬وهو أصل األشياء كام أنه مضمونها وشكلها‪ ،‬ك ُّمها وكيفُها‪ ،‬بل هي املكان‬
‫ُص أو زاد عليه يش ٌء ملا‬ ‫والوقت‪ ،‬وهي اإلتحاد املحتوي عىل التمييز – األساس‪ ،‬الذي لو نَق َ‬
‫ولكل ظواهره‪ ،‬ملا كان باإلمكان أن تندمج‬ ‫ِّ‬ ‫تغيَّ ‪ .‬فلنئ مل تكن الصلة هي الجوهر لهذا الكون كلِّه‬
‫جزيئات الذ َّرة لتك ِّون ما سمي بالذ َّرة‪ ،‬والتي يجوز أن نسميها بـ «املنظومة الذريَّة»[[[‪ .‬حاصل األمر‬
‫أن الصلة لو مل تكن قوة فاعلة ملا ات َّحدت فيها املنظومات الذريَّة لتنضم بعضها إىل بعض يف‬
‫مرتاصة‪ ،‬ل ََم كان هذا اإلندماج وبالرضورة قد استطاع صنع ما س َّميناه باملكان‪ .‬يحصل هذا‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫وحدة‬
‫البرشي‬
‫ٍّ‬ ‫لكل تواجد سواء كان أمرا ً يعني‬
‫حتى إن مل يكن املكان هو رشط الرشوط وأساس األسس ِّ‬
‫أو أي إمكان وجودي له أن يكون؟!‪.‬‬
‫إن وجود منظومة الذ َّرة الواحدة‪ ،‬منفردة مستغنية عن غريها‪ ،‬ومن دون أن تكون متصلة بصلة‬
‫لكل منها يف هذا االتصال‪ ،‬وبالتايل تضبط هيئة اتحادها واندماجها‪،‬‬ ‫الرضوري ٍّ‬
‫َّ‬ ‫تضبط التموضع‬
‫والسامت‪ ،‬والصفات‪ ..‬فإننا لن‬‫الذي يتَّخذ شكالً وهيئة ما‪ ،‬تتح َّدد وفقها الوظيفة‪ ،‬والقدرات‪ِّ ،‬‬
‫الطبيعي ولو بحثنا عنها أبد الدهر‪ .‬فاملنظومة الذريَّة األحديَّة‪ ،‬مبا هي وجود منفرد‬
‫ِّ‬ ‫نجدها بالواقع‬
‫ج‪ ،‬إمنا هي أم ٌر مستحيل‪ .‬فالذ َّرة منفرد مستغنية عن غريها تعني «العدم» بعينه‪.‬‬ ‫غري متصل وال مندم ٍ‬
‫«أيس» وتواج ٌد واقعي‬
‫ٌ‬ ‫أما هذا الذي يس َّمى «العدم « فليس سوى تص ُّو ٌر ومفهوم يف الذهن وليس له‬
‫كام للكون والوجود‪ ،‬ومن مثة ال ميكن التعبري عنه إالَّ بالسالب و«الليس» من املوجود‪.‬‬
‫من املتفق عليه أ َّن مادة اإلنسان األساسيَّة األوليَّة هي الخليَّة‪ ،‬وباألحرى املنظومة الخلويَّة؛‬

‫[[[ ‪ -‬أرتأيت األخذ مبصطلح «املنظومة الذريَّة» انطالقاً من رؤيتي أن الذ َّرة هي منظومة صالت متآلفة(الكاتب)‪.‬‬

‫‪93‬‬
‫المحور‬

‫يخص من هو عىل األرض‬ ‫ُّ‬ ‫وهذا كان من قبل يف علم الخالق‪ ،‬وكان من بعد الخلق واألمر‪ ،‬وهذا‬
‫جد الكون‬ ‫جدت هذه املنظومات باألصل‪ ،‬وملا انَ َو َ‬ ‫وما بها‪ ،‬فإن مل تهبط ق َّوة الصلة الضابطة ملا انْ َو َ‬
‫باإلطالق‪ .‬وما ذاك إال أل َّن الصلة الضابطة هي الق َّوة الوحيدة صاحبة هذه القدرة والق َّوة لتجعل من‬
‫اإلندماج واإلتحاد واإللتحام‪ -‬وإن شئنا االلتصاق أو التعلُّق بني األحدي والواحد واملنظومات من‬
‫ذات النوع والجنس‪ -‬أمرا ً ممكناً‪ .‬وحضور الصلة إمنا هو ألجل أن متنح الوجود إمكان وجوده‪.‬‬
‫فهي أي –الصلة‪ -‬ليست سوى تلك التي س َّميناها «قوة الجذب التلقائ َّية‪ ،‬التي تؤلِّف يف اآلن ذاته‬
‫تتجل بأفعالها يف الجوهر الواحد‪ ،‬بحيث ترتاءى هذه االفعال للعقل‬ ‫َّ‬ ‫«قوة النفور»‪ .‬إنَّها ق َّوة واحدة‪،‬‬
‫القيايس‪ ،‬كأنَّها ذات شكلني أو وجهتني‪ ،‬يقيسها ويص ِّنفنها العقل «بالظاهر والباطن» ال‬ ‫ِّ‬ ‫التصنيفي‬
‫ِّ‬
‫كل‬
‫عىل نصاب املقوالت وحسب‪ .‬ذلبك مرجعه إىل أن الصلة هي التي تح ِّدد معايري ومقاييس ِّ‬
‫كل عالقة بعالقة‪ .‬وفق‬ ‫وكل تعلُّق بتعلُّق‪ ،‬وتالياً َّ‬ ‫كل صلة ِ‬
‫بصلة َّ‬ ‫اتصال واندماج‪ ،‬وتضبط بدقَّة متناهية َّ‬
‫هذا التحديد اصطلحنا عىل نعت دورها املحوري يف الوجود بـ «الصلة الضابطة»‪ .‬أفليست الصلة‬
‫ج َزي ٍء من األوكسيجني مع جزيئني من الهيدروجني هي التي تك ِّون املاء؟ فلو تغيَّ ت الصلة‪،‬‬ ‫بني ُ‬
‫وأجبت عىل أن تتَّحد ذ َّرتان من األوكسيجني بدل واحدة‪ ،‬أفال نحصل عىل مادة مغايرة؟ ولو كان‬ ‫َِ‬
‫الهيدروجني لوحده مستغنياً عن الصلة باألوكسيجني والعكس فهل سيمكن أن تنتج املاء؟ إذن‪،‬‬
‫من الواضح أن الصلة هي التي سبَّبت وجود املاء‪ ،‬ال مجرد كون املا ّدتني موجودتني‪ .‬فإن افرتضنا‬
‫وجودهام من دون أن يكون هنالك وجود لقوة الصلة الضابطة‪ ،‬فيستحيل انوجاد املاء‪ .‬وإن مل‬
‫يكن مثة وجود للامدتني ملا استطاعت قوة الصلة الضابطة أن تنتج املاء‪ .‬لكنها مع ذلك ستكون‬
‫موجودة رغم انعدام هاتني املادتني‪ .‬وإذا كان العلم يجري وراء توضيح ومتييز حدود املجهول‬
‫الرضوري أن يقع هذا التمييز عند «الصلة الضابطة»‪ ،‬ألنَّها هي ماهيّة القانون واملبدأ‬
‫ِّ‬ ‫فسيكون من‬
‫وكل معرفة‪ .‬ومن ثم هي التي تقع يف أصل املوجودات املختلفة‪،‬‬ ‫كل علم ُّ‬ ‫الذي يبحث عنه ُّ‬
‫وكذلك يف أصل ظهور التع ُّدد والكرثة كام تحدثت عنه الفلسفة وبحث فيه الحكامء‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫‪َّ .4‬‬
‫الصقولية ووظيفها‪:‬‬ ‫ماهية العلة‬
‫«الصلة»‪ ،‬حني تحرض‬‫قد يستشكل البعض عىل هذا القول ليالحظ معرتضاً أ َّن هذه التي تدعى ِ‬
‫بال مادة تصبح كذلك عدماً‪ ،‬لذا لزم للصلة ما َّدتها لتصبح هي أيضاً ذات وجود‪ .‬إزاء هذه املالحظة‬
‫الشديدة الدقَّة‪ ،‬ال بد من التنبيه إىل «الصلة» ليست مبادة‪ ،‬ذلك بأ َّن املادة جس ٌم له امتداد طول‬
‫وعرض وعمق وغريه من القياسات إن وجدت‪ .‬غري أن الصلة هي ق َّوة غري مرئ َّية وغري محسوسة‪ .‬بل‬
‫واللمريئ‪ ،‬من حيث أنها ليست بجسم وال امتداد وال ح ِّيز وال سعة‪ .‬بل أكرث من ذلك‪،‬‬‫إنها الغائب َّ‬
‫فهي محجوبة عن الرؤية واإلحساس‪ ،‬وال ميكن كشفها إالَّ بأفعالها عىل املا َّدة‪ ،‬مثل الفكر الذي‬

‫‪94‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫املجسامت والهيئات‪.‬‬
‫َّ‬ ‫مجسمة مهمتها صنع‬‫َّ‬ ‫هو بحاجة إىل مادة يعمل عليها‪ .‬وهكذا فهي قوة غري‬
‫الصلة إذا ً‪ ،‬هي الحارض الغائب الذي طاملا بحث عنها العلم واملعرفة‪ ،‬والتي منها بُحث عن أصل‬
‫اإلجتامعي عند األحياء‪ ،‬ومنها أيضاً جرى درس الفكر والروح‬
‫ِّ‬ ‫حثَ يف الطبع‬ ‫األجسام‪ ،‬ومنها بُ ِ‬
‫ووهو استطرادا ً ما درسته الفلسفة حني أصبحت العلم بشمولية هذه «الصالت الضابطة» للكون‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫كهيئة متكاملة متً ًممة‪.‬‬


‫قلنا إ َّن «ذات» الصلة الضابطة غري مرئيَّة‪ ،‬غري محسوسة‪ ،‬وهي ليست مبادة‪ .‬لكنها قوة تتجلَّ‬
‫فقط‪ ،‬وهي تظهر يف الواقع العيني إذا فعلت وأهبطت فعلها عىل املادة‪ .‬مثة من يذهب إىل أنها‬
‫املتستة وراء املادة الفاعلة عىل الكرة األرض َّية التي طاملا بحث اإلنسان عن كنهها‪ .‬وهي‬ ‫ِّ‬ ‫الروح‬
‫كمفهوم يشري إىل ثالث سامت‪ :‬األوىل‪ :‬القوة (قوة الجذب)‪ ،‬الثانية‪ :‬البناء‪ ،‬لكونها تبني العالقات‬
‫بني املوجودات‪ .‬الثالثة‪ :‬الربط والتعلُّق كون العالقة تشري إىل تعلُّق اليشء بغريه واالكتامل به‪ .‬وألجل‬
‫كل منها‪.‬‬‫ب نحت مصطلح يتض َّمن داللة ٍّ‬ ‫ج َ‬ ‫التعبري عن حقيقة هذه السامت متَّصلة ومتَحدة ومجتمعة و َ‬
‫وهذا ما سندعوه «الصقولة»‪ .‬تلك التي ميكن أن تفي بأن تخرب عن مقصدنا بالصلة والق َّوة والتعلُّق‪.‬‬
‫والعلمي أن يكتشف قوانني الظواهر املعنيَّة والصالت يف‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫ما يدعم رأينا هذا‪ ،‬أ َّن غاية البحث املعر ِّ‬
‫ما بينها وبني مك ِّوناتها‪ ،‬وفضالً عن املبادئ التي تتأسس عليها‪ .‬أوليست املعرفة البرشيَّة من بدايتها‬
‫كل يشء؟ أوليست مقولة القانون كام يع ِّرفُها العلامء‬ ‫حتى منتهاها تتمحور حول القوانني التي تحكم َّ‬
‫وكل معرفة؟ فلنئ كان كل هذا‬ ‫كل علم ِّ‬ ‫هي عالقة الضبط والنظم بني مك ِّونات الظاهرة‪ ،‬وأساس ِّ‬
‫البرشي العظيم يتمحور ويدور حول الصلة‪ ،‬فلامذا ال نرى إىل ذات «الصقولة» بوصفها علّة‬ ‫ُّ‬ ‫املجهود‬
‫العلل للظواهر املاديَّة وغري املاديَّة[[[‪ .‬لطاملا ذكر العلامء والعارفون والفالسفة والحكامء أن الكون‬
‫متَّصل‪ ،‬وما َّدته مندمجة ومتَّصلة‪ ،‬وأن كل ظواهره هي عىل هذه الشاكلة‪ ،‬فال يوجد يشء غري متصل‬
‫ينّ‪ .‬ولنئ مل‬
‫يل الكالَّ ْ‬‫يل‪ ،‬ودعموا البحث الشمو َّ‬ ‫بنظريه‪ .‬ولطاملا أشادوا وعظَّموا من شأن الشامل والك ِّ‬
‫يكن عندنا من جديد يضاف إىل ما أتوا به من هذه الجهة‪ ،‬فإن الجديد الذي نقرتحه يف هذا املضامر‬
‫امليتافيزيقي اللطيف يكمن يف َس ْهو ِهم عن علَّة هذا التواصل‪ ،‬وعن مبدأ التعلْق واالندماج واالشتامل‬
‫من حيث كون الصلة هنا متثِّل العلَّة األوىل‪ .‬أي ما يتمثل يف ق َّوة الصقولة نفسها التي مل يُنظر إليها‬
‫كقوة جوهريَّة تفعل وتصنع االندماج الذي يوجِد الكون عىل هيئة الوصل واالنسجام‪ .‬فالذين فعلوا‬
‫ذلك وغفلوا عنها مل يصنعوا بهذا اإلغفال إال أنهم فتحوا طرقاً ُ‬
‫وسبُالً متشعبة‪ ،‬هي أدىن إىل لعبة‬
‫املتاهات التي يدخلها املرء وال ميلك ان يخرج منها قط‪ .‬وبسبب من هذه املتاهة راح يدور تارة‬
‫رصا ً راجياً بلوغ الصواب‪.‬‬
‫ُمعتدا ً‪ ،‬وتارة ُمسرتشدا ً‪ ،‬وطورا ً ُم َّ‬

‫[[[ ‪« -‬الصقولة» بهذا املعنى هي أقرب معنى يف فعلها وحركتها إىل التناظر مع نظرية الحركة الجوهرية أو الحركة يف الجوهر كام قد َّمها‬
‫الحكيم اإللهي صدر الدين الشريازي يف منظومته الفلسفية يف الحكمة املتعالية‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫المحور‬

‫لرمبا كان السه ُو عن الصلة كمبدأ وكق َّوة جوهريَّة متأت ِّياً من ذلك التعقيد الذي يكتنف الظواهر‪،‬‬
‫كل مريد للحكمة واملعرفة‪ .‬ليس من ٍّ‬
‫شك أن‬ ‫والذي غالباً ما استف َّز كربياء املتفلسفة‪ ،‬وجذب َّ‬
‫القول بالعلَّة «الصقوليَّة» سيجد من يعرتض عليه ويعتربه من األوليَّات البديهيَّة التي ال تستأهل‬
‫وكل‬
‫كل ظهور ِّ‬‫املكابدة‪ .‬ولكن مع مثل هذا االعتبار سيغفل هؤالء ك َّرة أخرى‪ ،‬عن أنها أساس ِّ‬
‫جد يف نفسه‪،‬‬
‫معرفة‪ .‬حيال هذا االحتجاج‪ ،‬نذهب إىل القول أن الصقولة هي ذاك اليشء الذي يو َ‬
‫ج ُد لنفسه ولذاته‪ ،‬من أجل أن‬‫أي أساس‪ ،‬وألنه كذلك فهو الذي يو َ‬ ‫يؤسس له ُّ‬
‫وليس بحاجة ألن َّ‬
‫مينح األبديَّة املستغنية من أن تُ ْ َنح يشء‪ ،‬ذلك بأنَّها األساس الذي نشأت منه ظواهر املوجودات‪.‬‬
‫صح ت ُنعت بأنها الواحدة املتح ِّررة من األقطاب‪ ،‬سواء تلك املتصارعة أوتلك املتحدة‬ ‫من ذلك ُّ‬
‫فيام بينها‪ .‬كمثل الليل الذي هو ح ٌّد للنهار‪ ،‬إذ أ َّن فعل حجب الضوء ينتهي عند ح ِّد فعل الحجب‪،‬‬
‫وكذلك فعل الرش ينتهي عند ح ِّد فعل الخري‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إىل أ َّن الظواهر الوجودية ليست أقطاباً متنافرة وال متضا َّدة وال متصارعة‪ ،‬بل‬
‫لتجل وجهي «العلة الصقول َّية» من حيث هي‬ ‫ّ‬ ‫هي امتدادات لفعل واحد‪ ،‬يطابق بالتامم رؤيتنا‬
‫أعطيت فأين أخذتُ من نفيس‪ ،‬وأن أخذتُ من سواي أكون‬ ‫ُ‬ ‫قوة جذب ٍ‬
‫ونبذ يف آن واحد‪ ،‬فإن‬
‫أعطيت لنفيس‪ .‬هذا هو جوهر الصقولية لناحية كونها علة التوازن والثبات واأللفة األبديَة‪ .‬وليس‬
‫يجسدون‬
‫من باب الصدفة أ َّن «الصلة» قد جاءت بلغتنا أنثوية‪ .‬والفطرة أألوىل لدى البرش جعلتهم ِّ‬
‫ويشخِّصون آلهتهم ليجعلوا من األم ربَّهم األول يف أوىل مراحل التاريخ‪ .‬فهناك صلة وثيقة بني‬
‫هذه الظواهر ال ريب فيها‪ ،‬بها ف ُِط َرت أنفسهم عىل أن املرأة هي املصدر األول للوجود املتكاثر‪.‬‬
‫قلنا عن الصقولة إنها الواحد الذي طاملا بحثت عنه املعرفة البرشيَّة بسبب أن الجذب واإللتحام‬
‫هو نفسه التنافر واالنقسام‪ ،‬وهو يف اآلن عينه املنع‪ .‬ليس األمر هنا لغويّاً أو مجرد تفسريات تبليغ َّية‪،‬‬
‫ني تعيُ ِنها‪ .‬بهذا املعنى صارت علة العلل‪ .‬تلك العلة التي‬ ‫بل هو حقيقة «الصقولة»‪ ،‬يف واقعها وع ُ‬
‫كل وجود وسبب اتزان‬ ‫وإن بحثت عنها يف أي مجال من التع ُّدد والكرثة تجدها منتصبة يف صدر ِّ‬
‫هذا الوجود‪ .‬الحكامء قالوا بالصلة عىل مر العصور‪ ،‬لكنهم مل يروا إليها مبا هي بها علة العلل‪.‬‬
‫فهي عندهم معدومة كعلة أوىل يف كل مقوالتهم وتفسرياتهم ونظرياتهم‪ ،‬مع ان كل املباحث‬
‫العقلية جرت نحوها قصدالعثور عليها «كقانون» و«كمبدأ» للمعرفة‪.‬‬
‫يبي يف مستهل كتابه «روح الرشيعة»‬‫دعونا نختار رسدا ً للفيلسوف الفرنيس مونتيسكيو حيث ِّ‬
‫ِ‬
‫(الصالت ‪ -‬املؤلِّف)‬ ‫أن «صلة القوانني مبختلف املوجودات يف أوسع معناها‪ ،‬هي العالقات‬
‫الرضوريَّة املشتقَّة من طبيعة األشياء‪ .‬وهكذا فإن لجميع املوجودات قوانينها من هذه الناحية‪،‬‬
‫املادي قوانينه‪ ،‬ولألفهام التي قوانينها هي أسمى من اإلنسان قوانينها‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فلأللوه َّية قوانينها وللعامل‬

‫‪96‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫ولإلنسان قوانينه كام للحيوانات قوانينها‪ .‬ثم يستطرد‪ :‬ومن قال إن قدرا ً أعمى أوجد جميع‬
‫املعلوالت التي نبرصها يف العامل يكون قد قال محاالً عظيامً‪ ،‬فأي محال أعظم من قدر أعمى‬
‫أحدث موجودات مدركة ؟ إذن‪ ،‬يوجد عقل أويل والقوانني هي الصالت بني هذا العقل ومختلف‬
‫املوجودات وصالت هذه املوجودات املختلفة فيام بيها‪ ،‬ولله صلة بالكون خالقاً القوانني التي‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ص َنعها‬
‫ص َنعها وهو َ‬
‫يحفظ مبوجبها‪ ،‬والله يعمل وفق هذه القواعد ألنه يعلمها‪ ،‬وهو يعلمها ألنه َ‬
‫لعالقتها بحكمته وقدرته[[[‪.‬‬

‫جد الصلة‪ ،‬إال أنه مل ي َر إليها كونها العلة األوىل‪ ،‬مع انه قال‬
‫يتضح مام أوردناه أن مونتيسكسو م َّ‬
‫بالعقل األول الذي فاضت منه القوانني بوصفها الصلة بني العقل األول واملوجودات‪ ،‬وما بني الله‬
‫والخلق‪ .‬بقوله هذا يدعم مونتسكيو الرأي القائل بأن ما يدرسه الدين والتدين هو تلك الصلة بيننا‬
‫وبني الخالق يف تجلياته‪ ،‬وليس بني الخلق والذات اإللهية األحدية‪ .‬إن هيئة الصلة هي ما يبدو لنا‬
‫عىل أنه فعل الجذب والنفور‪ ،‬وتتجىل باالتصال واالنفصال كفعل واحد‪ ،‬أو باالندماج واالنفكاك‬
‫والتامسك واالنحالل يف اللحظة نفسها‪ .‬فالصلة تجعل من الجذب نفسه نفورا ً وانتباذا ً‪ .‬مثلام‬
‫تجعل من االندماج نفسه نزاعاً وانفكاكاً‪ .‬إهذا عىل الرغم من أن فعلها يرتاءى لنا كام لو انه تناقض‬
‫النظري عىل التحليل والتفكيك والفصل تارة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫بني حالني مختلفني‪ .‬لذلك‪ ،‬واضطرارا ً‪ ،‬يعمل البعد‬
‫وتارة أخرى يدمج ويوصل ويركِّب ويربط‪ .‬ولكن يف الحالتني مثة ما منيل إىل تسميته بـ»رضورة‬
‫التصنيف»‪ .‬وهذا األمر يتجه حيناً من الحارض املكشوف وحيناً ثانياً من الغائب املجهول‪ ،‬ولكن‬
‫مبنهجيَّة متليها طبيعة املعارف الفطريَّة‪ ،‬القبليَّة‪ .‬وأما مسألة تناقضهام ووحدتهام املتصارعة فهي‬
‫ليست إال مقوالت معرفية تشري إىل هيئات تجلِّ «الصلة الضابطة» وال تشري إىل الصقولة ذاتها‪ .‬إن‬
‫ما يقال عنه اختالف وتناقض الليل والنهار‪ ،‬من املحال أن يكون مبدأً للوجود الكو ِّ‬
‫ين‪ ،‬ألن النور‬
‫متغي فال يخبو وال ينطفئ‪ ،‬وهو علَّة الليل والنهار‪ ،‬وبالتايل فإ َّن‬
‫ِّ‬ ‫الخارج من الشمس ثابت غري‬
‫حجب األرض لنور الشمس عن نصفها‪ ،‬من املحال أن يحجبه عن النصف اآلخر‪ .‬نحن عىل يقني‬
‫والرضوري أن تستقر حدود عمله عند‬
‫ُّ‬ ‫تام من أنه يف حال مل يُ ِقر البحث املعريف أن من الواجب‬
‫جوهري‪ ،‬فلن‬
‫ٍّ‬ ‫قوة الصلة (الصقولة) كعلة العلل ورضورة الرضورات ومبدأ كل بَدء‪ ،‬وجوهر كل‬
‫يستوي التع ُّرف عىل نقصان وغياب الحدود املميِّزة الواضحة للشموليَّة الكونيَّة‪ ،‬التي لدى إدراكها‬
‫تظهر الحقيقة ويقع كل صواب‪.‬‬

‫[[[ ‪ -‬مونتيسكيو‪ ،‬روح الرشائع‪ ،‬ترجمة عادل زعيرت ص ‪ ،49‬مؤسسة الهنداوي ‪ – 2012‬ص ‪.49‬‬

‫‪97‬‬
‫المحور‬

‫‪ .5‬الوجود بما هو واقع منظويم‪:‬‬


‫من البيِّ عندما نستقرئ الرتاث املعريف يف الفلسفة الكالسيكية أن نجد اهتامماً بالصالت‬
‫والعالقات‪ ،‬والقوانني الرابطة بني وجود املوجودات‪ ،‬إال أننا من جهة أخرى سنجد عزوفاً عن‬
‫التقدم خطوة أخرى إىل األمام لرؤية «العلة الصقول َّية» أو قوة الصلة بوصف كونها كونها ذات‬
‫املوجود من ذاته لذاته‪ ،‬وانها مح ِّرك كل متح ِّرك‪ ،‬واملوجود بالقوة وبالفعل معاً يف هذا الكون‪.‬‬
‫ومن بعد أن أوضحنا عىل نحو متهيدي قصدنا من الصقول َّية مفهوماً ووظيفة‪ ،‬نستطيع أن نقول‪:‬‬
‫منظومي‪ ،‬ولوال هذا ملا كان له أن يوجد‪ .‬ولنئ شئنا وضع ح ٍّد أو تعريف للمنظومة‬
‫ٌّ‬ ‫إن الوجود واقع‬
‫ين‪ ،‬وهي تلك الهيئة الناتجة من ذلك التموضع‬ ‫التي نقصدها قلنا‪ ،‬إنها الشكل الخالد لكل وجود كو ٍّ‬
‫يل (اإلكتاميل)‪ .‬إذ‬
‫(الكل) بصلة ضابطة‪ ،‬توصله إىل متوضعه املثا ِّ‬ ‫ّ‬ ‫الرضوري ألجزاء املُتَ َمم‬
‫ِّ‬
‫بواسطته وفقط من خالله يكون قادرا ً عىل أن يفي بحاجته املثىل‪ ،‬ويزيل االنحراف عن الوضع‬
‫املثايل‪ ،‬ويحرز غايته يف االكتامل واالستكامل‪.‬‬
‫الحري إن يكون محور وبؤرة هذا التبليغ عن الفعل‬
‫ُّ‬ ‫إذا كان التبليغ عند البرش قامئاً رضورةَ‪ ،‬كان‬
‫التي ت ُنج ُز املوجودات وظيفتها به‪ ،‬والذي تطلب من البيان البرشي‪ ،‬إن أراد القول الحق‪ ،‬أن يهدف‬
‫كل العبارات وتراكيبه البيانيَّة‪ .‬وإذ يتحقق اإلبالغ من هذا النحو كان املبلَّغ‬‫إىل تبيان األفعال يف ِّ‬
‫الحق والصواب والحقيقة بإشارته إىل فعل اليشء ال من أىت بالدقَّة وباإلتقان‬ ‫َّ‬ ‫هو ذاك الذي أصاب‬
‫اللغوي‪ .‬ذلك بأن «الفعل – كام قيل‪ -‬هو أبقى من لحن القول»[[[‪.‬‬
‫من هذا املنطلق‪ ،‬كان عىل اللسان أن يراعي ما للقول من داللة عىل معنى األشياء‪ .‬يف حني‬
‫أن معنى األشياء‪ ،‬لن يكون إالَّ بالتدليل عىل فعل اليشء‪ .‬وعليه‪ ،‬فأي لغة كانت ألفاظها تعني فعل‬
‫اليشء كانت أكرث قرباً للبيان الدقيق واأليرس لتبيان األمور‪ ،‬وهذا ما وجدناه بالعربية‪ ،‬وهي اللسان‬
‫الذي ليس فيه إسم إال ويُخفي من ورائه داللة عىل فعل اليشء‪ ،‬وعىل وظيفته الذي أُ ِع َّد إلنجازها‪.‬‬
‫وهنا لزم التوقُّف عىل تفصيل له من املنفعة العرفان َّية ما به جليل القدر واملنزلة‪ .‬فقد اتفق لنا أن‬
‫عزمنا عىل تقفّي أثر األصل اللُّغوي للفظ الجاللة «الله» وكان أقرب طريق نطرقه لتحصيل غايتنا هو‬
‫البحث يف تفسري «البسملة»‪ ،‬وما ينطوي عليه هذا التفسري من عوامل مدهشة يف تحصيل املعارف‬
‫الصادقة‪ .‬يقول اإلمام الحسن البرصي يف هذا الصدد‪ :‬لقد «انزل الله مائة وأربعة كتب‪ ،‬أودع علومها‬
‫أربعة منها‪ :‬التوراة واإلنجيل والزبور والفرقان»‪ ،‬ثم أودع علوم التوراة واإلنجيل والزبور والفرقان يف‬
‫القرآن‪ .‬ثم أودع علوم القرآن املفصل‪ ،‬ثم أودع املفصل فاتحة الكتاب‪ ،‬فمن علم تفسريها كان كمن‬
‫علم تفسري جميع الكتب املنزلة»[[[‪.‬‬

‫ً‬
‫متداوال يف الرتاث العقيل واألخالقي للثقافة اإلسالم َّية‪.‬‬ ‫[[[ ‪ -‬يُنسب هذا القول إىل العرفاء من املتص ِّوفة‪ ،‬لكنه صار ً‬
‫قوال‬
‫[[[ ‪ -‬البرصي‪ ،‬الحسن‪ ،‬تفسري الحسن البرصي‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد عبد الرحيم‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار الحديث‪ - 1990 -‬ص ‪.63‬‬

‫‪98‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫وألن ثقتنا منص َّبة أكرث عىل ما ذكره األ َّولون‪ ،‬فقد بحثنا عندهم‪ ،‬وحصل أن تأكد حكمنا حني‬
‫وجدناهم يُرجعون أصل لفظ إسم الجاللة إىل فعل املحتاج حني يأْلَه ملن هو أقدر منه طالباً حاجة‬
‫تنفعه‪ .‬فالله من يَأل ُه إليه كل محتاج لنيل خريِ له يجده باملطلق عند الله‪ .‬ولعل وصولنا إىل قول أمري‬
‫كل الرشوحات‪ .‬تقول الرواية‪« :‬إن رجالً قد قام‬ ‫املؤمنني اإلمام عيل بن أيب طالب (ك‪-‬ع) يستويف َّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫إىل اإلمام فقال‪ :‬يا أمري املؤمنني اخربين عن بسم الله الرحمن الرحيم ما معناها؟ فقال‪ :‬ان قولك‬
‫«الله» أعظم إسم من أسامء الله عز وجل وهو اإلسم الذي ال ينبغي ان يسمى به غري الله‪ ،‬ومل يتسم‬
‫به مخلوق‪ .‬فقال الرجل‪ :‬فام تفسري قوله «الله» ؟ قال‪« :‬هو الذي يُتألَّه إليه عند الحوائج والشدائد‬
‫كل مخلوق عند انقطاع الرجاء من جميع من هم دونه وتقطع األسباب من كل من سواه‪.[[[»...‬‬
‫ولغاية الفالح بالوصول إىل مبتغى الحديث فال مندوحة من طرح بعض املقدمات‪ .‬حني كان‬
‫خلُقِ املستقيم يلزمه الرتويض والتعليم والرتبية‪ ،‬كانت العبادات قد فرضت ألجل‬ ‫الوصول إىل ال ُ‬
‫يتحصل‪ ،‬وبه يطرق املرء سبيل معرفة نفسه‪ ،‬ولنئ عرف‬ ‫َّ‬ ‫تعبيد الطرق‪ .‬وما تعبيد الطرق إال باالستواء‬
‫نفسه فقد استقام‪ ،‬وليس عند االستقامة إالَّ النفع وهو الخري األعظم‪ ،‬فمن عرف نفسه عرف الله‪،‬‬
‫ومن عبده ومل يجحده‪ ،‬التزم طرقه فنال من خريه ُمطْلَ َق ُه‪ .‬ومن عرف نفسه وعرف الله‪ ،‬ومع هذا قد‬
‫جحد وأنكر عىل نفسه هذا ‪ -‬فلم يفعل شيئاً بهذا إالَّ أن آمن بقدرة وقوة نفسه بهذا الجحد واإلنكار‬
‫ومنحها قدرة وقوة العلَّة الكون َية‪ .‬لذا من املحال أن يكون املرء بال إميان‪ .‬فاإللحاد هو اعتقاد‬
‫شقي حني ينأى من الغيب‪ .‬وان املؤمن بنفسه وقدراتها هو نفسه الذي وافانا بطرق استنساخ إنسان‪،‬‬ ‫ٌ‬
‫وصناعة املطر‪ ،‬وخلق شمس أخرى وابداع الفريوسات الفتاكة‪ .‬ومن يسعى اآلن‪َ ،‬ه َرفاً‪ ،‬إليجاد‬
‫الطرق لخلق كل ما يحتاجه البرش للعيش فإنه لن يفلح‪ .‬ذلك خالفاً ملا ت َّدعيه حركة «األاللرتا‬
‫الفيزيايئ»ة لجهة صناعة الحياة بواسطة األجهزة األلكرتونية‪.‬‬
‫واملتغي يف آن‪ ،‬ثم‬
‫ِّ‬ ‫املتيشء بتناقضات مخيفة‪ .‬انه يجمع الثابت‬ ‫ِّ‬ ‫من الطبيعي أن يقع العقل‬
‫يريد أن يثبت أن باإلمكان أن يكون اليشء هنا وهناك يف اللحظة نفسها (وذلك ما نراه بوضوح‬
‫اللسبب َّية‪ ،‬الذي يزعم وجود ظواهر ال ميكن‬ ‫عند أصحاب فيزياء الكم الذين وصلوا إىل مبدأ َّ‬
‫حة قولنا‬
‫أن يكون لها سبب معني‪ .‬كذلك توصلهم إىل الرأي القائل إن من الرضوري فحص ص َّ‬
‫البديهي القائل إنني مل أخلق نفيس وأنني محتاج إىل كل ما‬ ‫َّ‬ ‫البديهي‪ ،‬وأن الحكم الفطري‬
‫ِّ‬ ‫بوجود‬
‫وكل ما عىل هذا‬ ‫عند غريي‪ ،‬لذا أنا وجود مستك َم ٌل‪ ،‬يشوبه اللَّغط واالفتقار إىل املصداق َّية العقلية ِّ‬
‫الفلسفي‬
‫ِّ‬ ‫النحو من نعوت أخذ بها أهل التجربة والديالكتيك‪ .‬لقد أدى اإلعالء من شأن املذهب‬
‫التجريبي خالل القرن التاسع عرش وفرض املنهج الديالكتييك عىل مجريات املعرفة خالل القرن‬ ‫ِّ‬
‫[[[ ‪ -‬الطباطباين‪ ،‬السيد مصطفى الحسيني ‪ »،‬فتح البيان» دار الجسور الثقاف َّية‪ -‬بريوت ‪ - 2005‬ص ‪.50‬‬

‫‪99‬‬
‫المحور‬

‫العرشين عىل ظاهرة غريبة األطوار بات معها علامء الفيزياء يحتلون مكانة الفالسفة والحكامء‪،‬‬
‫ىل االنقراض‪ ،‬ولتصبح امليتافيزياء عند حافة القرب‪.‬‬
‫حتى لتوشك الفلسفة ع ِ‬
‫‪ .6‬دربة املعرفة َّ‬
‫بالني�ات السابقة على األفعال‪:‬‬
‫النيَّات التي بها تظهر األفعال واألعامل‪ ،‬تشري إىل التخطيط الذي يسبق التنفيذ‪ ،‬عمالً بخاصيَّة ملكة‬
‫التفكري املعروفة بعملية التخطيط و«األشيئة»[[[‪ .‬فليس لذاك الذي صنع السكني قبل عصور كثرية من‬
‫مندوحة عند إقدامه عىل صنعها إالَّ أن يخطط تنفيذها‪ ،‬وأن يرسم لها شكالً‪ ،‬وأن يقرر املواد املستعملة‬
‫واآللة التي ستنجح صنعه‪ .‬وهذا عىل وجه الدقة ما قصده اإلمام الغزايل بقوله‪« :‬العلم بال عمل جنون‪،‬‬
‫والعمل بال علم ال يكون»[[[ فحني يقوم العمل عىل العلم‪ ،‬فإن من أقسام هذا العلم التخطيط ال َقبْيل السابق‬
‫لكل عمل‪ ،‬من هنا صدق القول أن اإلميان يحدد اإلرادة‪ ،‬وهذه تحدد السلوك‪ .‬لكن وإن كانت املادة‬
‫تبلغنا‪ ،‬كام يبلغنا الدفرت أنه للكتابة‪ ،‬والحجر أنه لعدة وظائف‪ ،‬والعقل هو املكلف بتدبري مسائل الغريية‬
‫والربط بني املعطيات فكيف نتبلَغ نحن بهذا ؟ لقد كان هذا السؤال يف صلب البحث يف املعارف‬
‫اإلنسانية واملتعلِّق بالكيفية التي يتوصل اإلنسان من خاللها إىل التع ُّرف عىل وجود املوجودات‪ .‬وهذه‬
‫املسألة هي نفسها التي ظهرت بها «نظريات املعرفة» قدمياً وحديثاً‪ ،‬ومع كل هذا فال ميكن ألحد الشك‬
‫أو إنكار الحقيقة اليقينيّة القائلة انه لو مل يكن لإلنسان اإلمكان والقابليَّة واالستعداد للتبّلُغ ملا أصبح‬
‫عاقالً‪ .‬فقد ُم ِنح تلك ال َملَكة‪ ،‬التي ّ‬
‫خاصتها املم ِّيزة األساس َّية قدرة البرشي وتفوقه عىل سائر املوجودات‬
‫يف اإلدراك والفهم‪ .‬وبجملة القول فقد متيزت املعرفة البرشية عن تلك التي للبهائم بأن يُقبَل مخزونها‬
‫وحسية‪ ،‬والتي نسميها بالتبليغات الحس َّية‪ .‬فلو مل‬
‫املعريف‪ ،‬حتى تلك املعارف التي س َّميناها غرائزيَّة ِّ‬
‫يكن العلم قامئاً عىل علمٍ قد سبقه‪ ،‬ملا كان سيطعن الرأي القائل بأن كل دورة معرفيَّة ستنتهي بقانون أو‬
‫مبدأِ‪ .‬وإن هذا املبدأ أو القانون سيكون بداية دورة أخرى ينتزع قانوناً آخر جديدا ً‪ .‬وهذا هو مراد الفلسفة‬
‫علوم أو ظنونٍ يتمكن املرء بها من‬
‫التي الحظها فخر الدين الرازي بقوله‪« :‬اعلم أن النظر هو استحضار ٍ‬
‫تحصيل علوم أُخَر»[[[‪ ،‬فإذا كانت البهائم قادرة عىل التَ ّبلُغ وكذلك اإلنسان‪ ،‬فال بد من أن تساعدنا هذه‬
‫املقاربة عىل فهم الفرق بني العلم واملعرفة‪ .‬فإن الحيوان يعرف أن الربد يفرتض السعي وراء الدفء‪،‬‬
‫ويعرف أن الجبل ساكن ماكث ميكن العبور عليه من النقطة نفسها إىل أخرى طيلة العمر‪ ،‬ويعرف أن الغرق‬

‫[[[ ‪ -‬من يشء كمصدر‪ .‬و«األشيئة» هي الفعل الذي يصبح فيه اليشء موجوداً بالفعل‪.‬‬
‫[[[ ‪ -‬الغزايل‪ ،‬رسالة أيها الولد – مصدر سابق‪ -‬ص ‪.277‬‬
‫[[[ ‪ -‬الرازي‪ ،‬فخر الدين اإلشارة يف علم الكالم‪ -‬تحقيق محمد إدريس‪ ،‬دار الرازي ‪ 2006‬بريوت‪ -‬ص ‪.47‬‬

‫‪100‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫بالبحر أهون منه يف العني الجارية‪ .‬وهذه من املعارف التي ندعوها بالفطرية عند الغزايل[[[‪ ،‬والتي سميت‬
‫باملعارف القبل َّية املحض– أو املعرفة الرتانسدنتالية عند إميانويل كانط‪ .‬لكن من الواضح واملفارق ان‬
‫كل من الغزايل وكانط اتفقا عىل أن هذه العلوم هي مقياس اليقني‪ .‬ويف ذلك يقول الغزايل[[[‪« :‬فلام خطر‬
‫يل هذه الخواطر‪ ،‬وانقدحت يف النفس حاولت لذلك عالجاً فلم يتيرس‪ ،‬اذ مل يكن دفعه إال بالدليل ومل‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ميكن نصب دليل اال من تركيب العلوم األولية‪ ،‬فاذا مل تكن مسلمة مل ميكن تركيب الدليل «وبقول كانط‪:‬‬
‫«وفيام يخص اليقني فإن الحكم الذي ألزمت نفيس به هو‪ :‬يف مثل هذا النوع من التأمالت ال يسمح للظن‬
‫بأي شكل‪ ،‬وكل‪ ،‬ما فيها‪ ،‬عىل سبيل االفرتاض هو بضاعة محظورة يجب ان ال تباع حتى بأبخس االمثان‪،‬‬
‫بل يجب ان تصادر ما أن تكشف‪ ،‬ألن كل معرفة‪ ،‬عليها أن تثبت قبل أن تعلن عن نفسها أنها تريد أن تعد‬
‫مبثابة معرفة رضورية إطالقاً‪ .‬فكم بالحري تعيني جميع املعارف القبلية املحضة الذي يجب ان تكون‬
‫وحدة مقياس‪ ،‬مثالً لكل يقني (فلسفي) واجب» (‪ [[[)1‬هي تلك املعارف املستغنية كلياً عن التجربة كام‬
‫يوضح يف الكتاب نفسه بقوله‪« :‬سنفهم اذاً‪ ،‬الحقاً‪ ،‬مبعارف قبلية ال تلك املستقلة عن هذه التجربة‬
‫أو تلك‪ ،‬بل املستقلة بالتامم عن كل تجربة ‪ .‬وتضادها املعارف األمبريية أو تلك التي هي ممكنة‬
‫بعدياً وحسب أعني بالتجربة‪ .‬لكننا نسمي محضة‪ ،‬تلك التي تكون من بني املعارف القبلية حيث ال‬
‫يخالطها أي يشء أمبريي البتة ‪ .‬فقضية مثل‪ :‬كل تغري له سببه‪ ،‬هي قضية قبلية إمنا ليست محضة‪ .‬ألن‬
‫التغري هو افهوم ميكن ان يستخرج من التجربة وحسب»‪ .‬لكن البهائم ال ميكنها ان تعلم كيف ميكن‬
‫جمد بالربد‪ ،‬أو ملاذا الخمر حرام‪ ،‬وملاذا اتحاد ذرة من األوكسيجني مع ذرتني من الهيدروجني‬ ‫املاء يتَ َّ‬
‫يُنتَ ُج املاء‪ ،‬هناك نوع اتصال وصلة مغايرة بني نفس هذه الذرات سيولد غري املاء‪ .‬أما عند البرش فلو‬
‫مل ترتاكم لديهم املعلومات عن حركة النجوم ملا وصل هرمس قبل آالف السنني إىل الحكم بأن‪:‬‬
‫«الشمس أعظم مالئكة السامء‪ ،‬أنها كملك يقدم إليه اآلخرون فروض الوالء‪ .‬إالَّ أن ذلك امللك القوي‬
‫يخضع بتواضع‪ ،‬لتدور فوقه الكواكب الصغرية‪ ،‬فمنذا الذي يعطيه هذا امللك بخشية؟»[[[‪ .‬للمفارقة‪،‬‬
‫أنها ‪ -‬أي الشمس‪ -‬هي التي ما زالت تدور يف سفر الجامعة وفق ما ورد بأصحاحه األول‪« :‬والشمس‬
‫ترشق والشمس تغرب وترسع إىل موضعها حيث ترشق»[[[ والتي عليها استند سعدي الفيومي‪« :‬وشهد‬
‫أن الشمس تدور حوايل األرض وتعود كل يوم بقوله (الجامعة ‪.[[[»)1، 5‬‬

‫[[[ ‪ -‬يقول أبو حامد الغزايل يف معرض تقسيمه للعلوم للقديم والحادث‪« :‬وأما الحادث فينقسم إىل الهجمي والنظري‪ ،‬فالهجمي‪ :‬ما‬
‫ُيضطَر إىل علمه بأول العقل كالعلم بوجود الذات واآلالم وامللذات» ‪ -‬كتاب «املنخول من تعليقات األصول» – تحقيق محمد حسن هيتو‬
‫ص ‪.42‬‬
‫[[[ ‪ -‬الغزايل ‪ -‬املنقذ ص ‪ 17‬دار التقوى ‪.2019‬‬
‫[[[ ‪ -‬عمونئيل كانط – نقد العقل املحض ‪،‬ترجمة موىس وهبة – مركز اإلمناء القومي‪ -‬بريوت‪ -‬ص ‪.46 ،27‬‬
‫[[[ ‪ -‬هرمس – متون هرمس‪ ،‬حكمة الفراعنة املفقودة ص ‪ . 47‬تيمويث فريك‪ ،‬بيرت غاندي‪ ،‬ترجمة عمر الفاروق املرشوع القومي للرتجمة‬
‫‪-2002‬‬
‫[[[ ‪ -‬الكتاب املقدَّ س‪ ،‬سفر الجامعة‪ ،‬األصحاح األول‪ ،‬جملة رقم ‪.5‬‬
‫[[[ ‪ -‬الفيومي سعديا‪ ،‬سعيد بن يوسف‪ ،‬كتاب األمانات واالعتقادات‪ ،‬ص ‪34‬‬

‫‪101‬‬
‫المحور‬

‫وعىل القاعدة نفسها نفرتض ان هرمس لو مل يكتشف قانون الرضورة‪« :‬الرضورة هي التي‬
‫تحكم كل ما ترى»[[[ ملا كان متكَّن من كشف دوران األرض حول الشمس باملالحظة كام ُّ‬
‫يدل‬
‫العلوي باملالحظة إلكتشاف القوانني التي تحكم حركة‬ ‫ِّ‬ ‫ترصيحه‪»:‬فسوف يبحثون يف العامل‬
‫أرسطوي هو املطلوب ألثبات الحكم املطلق بأنه لوال وجود األرض ملا‬ ‫ِّ‬ ‫فأي برهان‬
‫السامء»[[[‪ُّ ،‬‬
‫قطعي سيلزم للربهنة عىل أين مل أخلق نفيس‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫كنا نحن بني البرش قد استطعنا امليش؟! ثم أي دليل‬
‫أيلزمني القياس عىل أنواعه األربعة أم تقرير الحدود للتيقُّن من هذه الحقيقة؟! وهذا ايضاً ميكنه أن‬
‫يساعد عىل توضيح الفرق بني املعرفة والعلم‪.‬‬
‫يف هذا املجال يف ِّند الغزايل قول القايض الباقالين يف سياق حديثه عن حقيقة العلم‪ :‬ان معرفة‬
‫املعلوم عىل ما هو به‪ ،‬وتحديد العلم ال يتأىت إالَّ بذكر عبارة تزيد يف الوضوح عليه وتنبىء عنه‪.‬‬
‫وغاية اإلمكان ترديد العبارة عىل السائل حتى يفهم‪ .‬هنا يتساءل الغزايل قائالً‪ :‬لو سألني سائل عن‬
‫العلم قلت‪ :‬هو املعرفة‪ ،‬ولو سأل عن املعرفة فأقول هو العلم وهذا غري سديد‪ ،‬ألنهام عبارتان عن‬
‫معرب واحد؛ ولو سئل عن املعرفة والعلم فامذا يقول؟ ثم املعرفة خالف العلم يف اللٌّغة‪ ،‬فانها ال‬
‫تتع َّدى إالَّ إىل مفعول واحد والعلم يتع َّدى إىل مفعولني»[[[‪.‬‬
‫ُّ‬
‫‪ .7‬حد املعرفة موجودات الكون‪:‬‬
‫املنظومي للوجود‬
‫ِّ‬ ‫تبعاً ملا م َّر معنا نستنتج أن ح َّد املعرفة يكمن يف التَبلُّغ مبا يرتبط بالتواجد‬
‫واملوجودات الكون َّية‪ ،‬وبالحقائق البديه َّية‪ ،‬الثابتة‪ ،‬املطلقة‪ ،‬ومنها املسلَّامت الفطريَّة‪ .‬وبالتايل‬
‫يف أن يتق َّيد مبوازينها يف ك ِّده لتحصيل اإلدراكات التي هي باألساس وثيقة‬ ‫فإن عىل الجهد املعر ِّ‬
‫ويختص‬
‫ُّ‬ ‫االرتباط بالواسطة التي من خاللها يؤمن البرش بوجودهم ‪ .‬وهو الذي س َّميناه بالعلم‪،‬‬
‫بالتفاصيل والحيثيَّات الذي يفرض الطلب‪ .‬ولعل هذا ما يوافق التساؤالت التي بيَّنها جابر بن حيان‬
‫يف رسائله بقوله‪« :‬وحدُّ علم معنى الحروف أنه العلم املحيط مبباحث الحروف األربعة من العل َّية‬
‫جه إليها ذهن‬ ‫واملائ َّية والكيف َّية والل ّم َّية»[[[ أما أبو الربكات البغدادي فيق ِّرر ان «املطالب التي يتو َّ‬
‫الطالب وسؤال السائل يف األشياء التي يطلب معرفتها وعلمها ويسأل عنها ألجل ذلك تسعة وهي‪:‬‬
‫مطلب ما هو‪ ،‬ومطلب هل هو‪ ،‬ومطلب مل هو‪ ،‬ومطلب أي يشء‪ ،‬ومطلب من هو‪ ،‬ومطلب كم‬
‫هو‪ ،‬ومطلب كيف هو‪ -،‬ومطلب اين هو‪ ،‬ومطلب متى هو‪ .[[[»...‬فام العلم إالَّ أن يجعل من الغائب‬
‫[[[ ‪ -‬هرمس‪ ،‬ص ‪ 46‬مصدر سابق‪.‬‬
‫[[[ ‪ -‬هرمس‪ ،‬مصدر سابق‪ -‬ص ‪.68‬‬
‫[[[ ‪ -‬الغزايل‪ ،‬املنخول من تعليقات األصول‪ -‬مصدر سابق‪ -‬ص ‪.50‬‬
‫[[[ ‪ -‬بن حيان‪ ،‬جابر كتاب الحدود‪ ،‬رسائل جابر بن حيان‪ ،‬ثالثون كتاباً ورسالة ‪-‬عني بتصحيحها ونرشها ب‪ .‬كراوس ‪ -‬إعداد أحمد فريد‬
‫املزيدي‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‪ -‬ص ‪.103‬‬
‫[[[ ‪ -‬أبو الربكات البغدادي‪ ،‬هبة الله‪ ،‬الكتاب املعترب يف الحكمة الجزء األول ‪ ،‬جمع َّية دار املعارف العثامن َّية ‪ 1357‬هجري‪ -‬ص ‪.208‬‬

‫‪102‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫شاهدا َ‪ ،‬عىل قول األصوليني‪ ،‬ولكن يتضح أن الغائب ال ميكن أن يكون عين ّياً‪ ،‬وأمنا يصبح عين َّياً‬
‫دالً عىل فعل اليشء ووظيفته‪.‬‬ ‫الحتمي أن يكون جوهر هذه اإلشارة َّ‬ ‫ِّ‬ ‫لنا بواسطة اإلشارة إليه‪ .‬ومن‬
‫فكيف لعلم نيوتن مثالً‪ ،‬أن يرينا الجاذبيَّة‪ .‬لكن هذا العامل الجليل‪ ،‬ورغم أن العرب واملسلمني قد‬
‫رس الجاذبية‪ ،‬فقد وضع ما يشري إىل فعل الجاذبيَّة وتأث ُّرها وتأثريها وكل املرتتِّب عليه‬‫سبقوه مبعرفة ِّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫من صالت‪ .‬وهذا هو «القانون» أو «املبدأ»‪ ،‬قانون الجاذبَّية كيفام اتَّفق البرش عىل تسميته‪ .‬ومن‬
‫أي جربوت أو سلطة‪ ،‬عىل الجاذب َّية وعىل فعلها املستدام‪ ،‬إالَّ‬ ‫املحال أن مينحنا علمنا بهذا املبدأ َّ‬
‫أنه أفادنا بأن تصل املخيَّلة البرشية إىل كشف مبدأ آخر‪ ،‬أي مبدأ الطريان الذي بحث عنه عباس بن‬
‫فرناس يف تاريخ العلوم الطبيعية عند العرب‪.‬‬
‫باألدق مع الرشوط الطبيعيَّة لوجوده‪ ،‬هي عالقة‬ ‫ِّ‬ ‫من الواضح أن عالقة اإلنسان بالطبيعة‪ ،‬أو‬
‫ألي ق َّوة برشيَّة‪ ،‬جسديَّة‪ ،‬فكريَّة‪ ،‬أو عقليَّة أن تصنع شيئاً‬
‫تعلُّقية‪ ،‬رشطيَّة‪ .‬وطبقاً لهذه الفرضية ليس ِّ‬
‫حيال هذا التعلُّق‪ ،‬فالطبيعة هي املكان‪ ،‬وبال املكان ال إمكان‪ ،‬وبال الهواء ليس باإلمكان‪ ،‬وبال‬
‫فأي ق َّوة معرف َّية ستح ِّرر البرش من تبع َّيتهم ملز َّودات الوجود ورشوطه‪ ،‬وكيف‬
‫الطاقة ال زي ٌد وال َر َغ ٌد‪ُّ ،‬‬
‫ستجعل األحياء يعيشون بال الهواء؟ ولكن‪ ،‬رغم وطأة قانون الرضورة الذي أخضع اإلنسان ل َملَ َك ِة‬
‫املعرفة وجعلُه بال علم وال معرفة ليس إالَّ‪ ،‬جاءت النتيجة أن يصري كمثل باقي أنواع املوجودات‪.‬‬
‫السيل الهائل من املعارف والعلوم عرب العصور‪ ،‬سوف يُطرح عليه التساؤل‬ ‫فاإلنسان الذي أنتج هذا َّ‬
‫عمَّ إذا كان قد أفلح فعالً يف أن يجعل املجهول واضحاً‪ ،‬طاملا أن حالته الطبيع َّية ليست سوى‬
‫حالة الجهل‪ .‬فمن هو من جنس الحيوان وإن قام عىل الدنيا‪ ،‬تنقصه أجهزة اإلدراك والفهم والتعلًّم‪.‬‬
‫لكن ومع حالته هذه قام حامالً لإلمكان واالستطاعة أن يخرج من هذه الحالة الطبيعية وبواسطة‬
‫الدربة والرتويض إىل حالة العلم واملعرفة‪ .‬فإن قلنا إن املوجود بالقوة عند البرش هو الجهل بوصفه‬
‫اضطراري ليس للرغبة فيه وللإلرادة أي‬
‫ٌّ‬ ‫فعل‬
‫حالتهم الطبيعية‪ ،‬ومنها يخرجون إىل املعرفة ‪ -‬وهذا ٌ‬
‫دور‪ -‬فهذا يتحت ِّم عىل اإلنسان ان يكون عارفاً عاملاً‪ ،‬ومن دون املعرفة والعلم لن يحرز شيئاً من‬
‫الواسطة التي ليس إالَّ بها يقوم‪ ،‬ذلك ألن حضارة اإلنسان قامت أصالً عىل االرتباط بهذه الواسطة‪.‬‬
‫‪ُّ .8‬‬
‫التعرف على حضارة اإلنسان نظري معرفة الكون‪:‬‬
‫صل‬ ‫ح ّ‬‫إن نسبة الحضارة املاديَّة إىل الحالة الطبيع َّية يف الكون‪ ،‬تفيض إىل الحكم بأنها وجود ُم َ‬
‫وليس مج َّرد وجود حاصل‪ .‬فضالً عن ذلك‪ ،‬فهي طارئة عىل الحالة الطبيع َّية‪ ،‬وال تساوي شيئاً‬
‫يذكر‪ .‬يف وجودها تكون الحالة الطبيعية هي األساس‪ .‬ولكون الحالة الطبيعية‪ ،‬غري طارئة‪ ،‬ستكون‬
‫الحالة الثابتة واألبديَّة واملطلقة يف الوجود الكوين‪ .‬وأما الذي يحسم األمر لصالح الحالة الطبيعيَّة‬
‫يف مسألة من يكون‪ ،‬هو صاحب ومالك الحقيقة الثابتة‪ .‬ولذا كان عىل الحضارة ان تتقيد مبا تجيز‬

‫‪103‬‬
‫المحور‬

‫لها الطبيعة ومبا متنع‪ ،‬وعمالً باآلية الكرمية‪« :‬ورضبنا لكم األمثال»[[[ فإن مثل هذه النسبة بني‬
‫الحالتني تشكل علَّة املعرفة البرشيَّة‪ ،‬يف حني أن «حالة الجهل» هي تلك الحالة الطبيع َّية لإلنسان‬
‫تحصلت املعرفة فام ذلك إال‬ ‫َّ‬ ‫حيث تكون حالة العلم واملعرفة قضيَّة طارئة عىل األوىل‪ .‬وإذا‬
‫أسست له الحالة الطبيعيَّة‪ .‬وهذا التأسيس يظهر كأنه الحكم عىل اليشء الذي‬ ‫لتامهيها مع ما َّ‬
‫تأتيه املعرفة وفق قواعد ومعايري ونُظُم تسري وفقها عمل َّية املعرفة‪ .‬لقد كان أول هذه األحكام ذلك‬
‫تحصل لإلنسان العاقل ذلك التصنيف‬ ‫َّ‬ ‫الحكم القائل إن املعرفة طارئة عىل الطبيعي‪ .‬ومن هذا‬
‫حدث‪ ،‬وبني ما هو بالقوة وما هو بالفعل‪.‬‬ ‫واالصطناعي‪ ،‬وبني الحادث وامل َ‬
‫ِّ‬ ‫الطبيعي‬
‫ِّ‬ ‫الذي مييِّز بني‬
‫ومبا أن املعرفة هي الطارئ يف حالتنا هذه‪ ،‬ستكون لنا حالة الجهل هي الحالة األبديَّة‪ ،‬الثابتة‬
‫واملطلقة األزل َّية‪ ،‬وستبقى راسخة الثبات مهام فعلت ووصلت املعرفة وأصابت من مراتب يقني‬
‫كل يقني يصله‪،‬‬ ‫الحقائق‪ .‬وهذا هو الدافع الذي يفرتض ويستوجب التيقُّن التي يبلغها البرشي عند ِّ‬
‫خصوصاً أن حالة الجهل الطبيعية حارضة عند كل حالة أزليّاً‪.‬‬
‫إ َّن هذا الدافع يتجلَّ كظاهرة‪ ،‬مطلقة وثابتة الحضور والدفع وهي ما اصطلحنا عليه بـ «الشك»‪.‬‬
‫لهذا السبب تجد الشك وعدم اليقني حارضا ً بالقوة‪ ،‬ولو مل يكن حارضا ً ل ََم كان لإلنسان أن يبحث‬
‫وينقِّب ويحرث عميقاً يف أرض املعرفة‪ .‬لذا قيل‪« :‬عدم التصديق بداية العلم»‪ ،‬وهنا ال بد من‬
‫كل ما اجتمع تحته من معاين كالظ ِّن والتخمني والالَّيقني وعدم‬ ‫تنويه بأن مقصدنا بالشك‪ ،‬هو أيضاً ُّ‬
‫تشق‬
‫التصديق وغريها‪ .‬لكن إذا كانت حالة املادة الطبيع َّية قد منحت للحضارة أن تنبثق عنها وأن َّ‬
‫طريقها عرب املعرفة‪ ،‬كذلك ستمنح حالة الجهل أن تنبثق املعرفة وأن تشق طريقها‪ .‬ومثلام هيَّأت‬
‫لشق طريقها‪ ،‬كذلك ستهيِّئ لها القدرة للمعرفة مبا قد‬ ‫الحالة الطبيعيَّة للحضارة اإلنسانية مبا يلزمها ِّ‬
‫أسس له الجهل‪ .‬ذلك بأن من املحال أن تكون املعرفة خارج ما ميكن للجهل أن مينحه لها‪ .‬ال بد‬ ‫َّ‬
‫إذا ً‪ ،‬من أن يكون األمر بالنسبة للمعرفة الحضارية مبثل ما منحته الحالة الطبيع َّية للام َّدة إذ ق َّيدتها مبا‬
‫الجهل الحضارة مبا هو مجاز ومحال للمعرفة‪ .‬فلو أمع َّنا‬ ‫ُ‬ ‫هو مجاز وممنوع أو ممتنع‪ .‬كذلك سيقيِّ ُد‬
‫النظر جيدا ً سنجد أن هذا التقييد هو بذاته مبدأٌ وحك ٌم وقانون‪ .‬وسنالحظ أن هذا املبدأ تحول علامً‬
‫ومعرفة لدينا‪ ،‬ورصنا نعرفه لنجاوز جهلنا‪ .‬وما ذلك إالَّ ألنه ممنوح ومعطى تلقائياً وفطريّاً للقدرة‬
‫تحصل ما اصطلحنا عليه بـ «النقص البرشي»‪.‬‬
‫َّ‬ ‫املعرف َّية‪ .‬ومن هذا‬
‫لتشق املعرفة طريقها‪ ،‬ويرسي‬
‫َّ‬ ‫يتبي ممَّ سلف‪ ،‬أن حالة الجهل هذه متنح قواعد أول َّية أساس َّية‬
‫ِّ‬
‫كل املوجودات‪ .‬وبالتايل مل تكن‬ ‫كل زمان ومكان وعىل ِّ‬ ‫مفعولها يف كل األحوال والظروف‪ ،‬ويف ِّ‬
‫هذه القواعد إالَّ تلك التي تسلِّم لها املعرفة تلقائياً والتي تعرف باملسلَّامت الفطريَّة‪ .‬أي تلك‬

‫[[[ ‪ -‬سورة إبراهيم ‪ :‬اآلية ‪.45‬‬

‫‪104‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫شك بها‪ ،‬والتي تعمل كمعيار واحد ووحيد ملا يجوز عمله وملا هو ممنوع‪.‬‬ ‫املسلَّامت التي ال يُ ُّ‬
‫وحني كان الصواب هو الذي يجوز والخطأ هو ما ينبغي االمتناع عنه‪ ،‬كانت املسلَّامت الفطريَّة هي‬
‫معيار الحقيقة واليقني التي تخدم يف عمل َّية الكدح والجد يف شق طرق العلم واملعرفة‪.‬‬
‫مثال ذلك‪ ،‬قولنا إن اليشء ال ميكن أن يكون هنا وهناك يف آن واحد‪ ،‬أو فوق وتحت يف‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫اللحظة نفسها‪ ،‬شيطان ومالك يف اآلن عينه‪ .‬ولرمبا من هذا جاءت قواعد املناطقة الثالث للتفكري‪:‬‬
‫املاهيَّة‪ ،‬وعدم التناقض‪ ،‬والثالث املرفوع‪ .‬من الواضح أننا مع هذه القضايا‪ ،‬نصدر حكامً ما‪ ،‬وهو‬
‫يف اآلن نفسه يشري ويقرر املجاز واملمنوع‪ ،‬ويفرض علينا اإلميان بصدق هذا الحكم‪ ،‬ومينع علينا‬
‫َّ‬
‫الشك بيقينه‪ ،‬وعىل مثل هذا يُعرف الصواب ويتميَّز من الضالل‪ .‬ويف هذا يكمن حل االختالف بني‬
‫املجاز واملمنوع‪ ،‬وبني األيس والليس‪ ،‬وبني هذا ونقيضه‪ ،‬واستطرادا ً بني اليشء عىل ما هو عليه‬
‫وبني ما هو يف غريه‪ .‬والذي يسعفنا بوضع مقرتح عىل القريحة‪ ،‬يصلح كحل ملسألة املتناقضات‪،‬‬
‫يخل بحثها من الخطأً والتمويه والشغب‪ .‬نقول مثالً هذا خطأ‪ ،‬ألننا نالحظ عدم الدقة يف‬
‫التي مل ُ‬
‫قولنا إن العلم واملعرفة هام نقيضا الجهل حني يكون الجهل خارطة الطريق إىل الصواب دامئاً‬
‫وابدا ً‪ .‬ذاك ان ما سمي باملتناقضات ليست إال حدود متايز الواحدة عن األخرى‪ .‬فكام أسلفنا إن‬
‫حد املوجب سيكون عند السالب‪ ،‬كام هو الفقر عند الغنى‪ ،‬أو حد بيتي عند جاري‪.‬‬
‫مل يكن هذا االضطرار والجرب عىل املعرفة إالَّ أن يتحصل بواسطة‪ .‬وكانت أول واسطة وأجلّها‬
‫يف هذا املورد هي «ملكة التصنيف»‪ .‬إذ بها تتميز املجهوالت وتظهر إىل العلن‪ .‬وبهذه الواسطة‬
‫كل مبوضعه املق َّدر‪ ،‬ويتميز الواحد عن اآلخر‪ .‬لقد كان العلم عند كبار النظَّار التصنيف‬ ‫يتموضع ٌ‬
‫والتمييز‪ .‬وبهذا يقول الغزايل‪« :‬واملختار عندنا أن مأخذ العلوم امليز‪ ،‬وامليز قد ال يكون عقالً‬
‫ج ْر ِي وراء املجهول‬ ‫كميز البهائم‪ ،‬فنعني به ميز العقالء»‪ ،‬وعىل قول ديكارت‪« :‬يحدث العلم‪ ،‬بال َ‬
‫لتوضيحه ومتييزه»‪ .‬أليس هذا من أعامل َملَك ِة التصنيف التي ُ‬
‫جبِلت عليها املخ َّيلة البرشيَّة مبركباتها‬
‫الحس‪ ،‬والنفس‪ ،‬والعقل والخيال؟ بل ان هذه املركَّبات هي الوسيلة واملدخل إىل مصادر‬ ‫ِّ‬ ‫األربع‪:‬‬
‫العلم وأسس نظريات املعرفة بلغة عرصنا‪.‬‬
‫أدق التصنيف للوجود يف تاريخ امليتافيزيقا هو العقل الذي يص ِّنف موجوداته من‬ ‫لقد كان من ِّ‬
‫جهة وظائفها وأفعالها‪ .‬ولو كان األمر متبعاً عند النظَّار بهذا الرأي لكان من اليسري التع ُّرف عىل‬
‫حقيقة أننا نحيا بعامل يُ َزوِد من جهة ويتَ َزود من الجهة األخرى‪ .‬ولرمبا‪ ،‬نكون قد أضفنا عىل اكتفاء‬
‫الجاحظ بتصنيفه للجامد والنامي بقوله‪ ...« :‬وكان حقيقة القول يف األجسام من هذه القسمة أن‬
‫بنام اسامً كام وضعوا للنامي اسامً ألتبعنا‬
‫نام‪ ،‬ولو الحكامء وضعوا لكل ما ليس ٍ‬ ‫نام وغري ٍ‬
‫يقال ‪ٍ :‬‬
‫أثرهم‪ ،‬وإمنا ننتهي إىل حيث انتهوا»[[[‪.‬‬

‫[[[ ‪ -‬الجاحظ‪ ،‬كتاب الحيوان ج‪ ،1‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬طبعة ثانية ‪ - 1965‬ص ‪.26‬‬

‫‪105‬‬
‫المحور‬

‫عىل ذلك جاز القول ومن باب التصنيف من جهة الوظائف واألفعال‪ ،‬أن الوجود مبا هو موجود‬
‫متعي‪ ،‬ونظرا ً إىل إنقسامه وتكرثه وافتنانه هو نفسه العامل الذي يز ِّود ويتز َّود‪ .‬أي العامل املز ِّود‬ ‫ّ‬
‫والعامل املتز ِّود‪ .‬فالنم ُّو ليس من يقيم األحياء بل ان تزودها هو الذي يجعلها تنمو‪ .‬ومن هذا‬
‫الوجه نجد ترصيحاً واضحاً عند هشام بن الحكم‪ .‬فقد جاء مبسنده –ما يؤيد ذلك‪« :‬عن عيل بن‬
‫إبراهيم عن أبيه عن النرض بن سويد عن هشام بن الحكم أنه سأل اإلمام الصادق (ع) عن أسامء الله‬
‫واشتقاقاتها‪ :‬الله مام هو مشتق؟ قال الله مشتق من ألَ ٍه‪ ،‬واإلله يقتيض مألوهاً واالسم غري املسمى‪،‬‬
‫االسم دون املعنى فقد كَ َف َر‪ ،‬ومل يعبد شيئاً‪ ،‬ومن عبد اإلسم واملعنى فقد كفر وعبد اثنني‪،‬‬
‫َ‬ ‫فمن َع َبدَ‬
‫اإلسم فذاك التوحيد أفهمت يا هشام؟ قال‪ :‬فقلت‪ :‬زدين‪ .‬قال‪ :‬لله تسعة‬ ‫َ‬ ‫ومن عبد املعنى دون‬
‫وتسعني اسامً‪ ،‬فلو كان االسم هو املسمى لكان كل اسم منها إلهاً‪ ،‬ولكن الله معنى يُدً ُل عليه بهذه‬
‫إسم للأمكول‪ ،‬واملا ُء إسم للمرشوب‪ ،‬والثوب إسم للملبوس‬ ‫األسامء‪ ،‬وكلها غريه‪ .‬يا هشام‪ ،‬الخبز ٌ‬
‫والنار إسم للمحروق‪ [[[»...‬وهو قول رصيح حول أن املعاين هي األفعال نفسها‪.‬‬
‫غني عن القول إنك إن سألت صغريا ً أو كبريا ً‪ ،‬فقد وجدته عاملاً مبعنى القول‪« :‬ليس اإلميان‬ ‫ٌّ‬
‫وصدَّ قه العمل»‪ .‬لهذا أجمع علامء ونظَّار‬ ‫التحل‪ ،‬إمنا اإلميان ما وقر يف القلب َ‬ ‫ّ‬ ‫بالتم ّني وال‬
‫وفالسفة اإلسالم عىل القول بأن اإلميان هو العمل‪ ،‬والعمل ال يكون بال علم لذا نجد أبا الحسن‬
‫العامري يقول‪ :‬إن كل من آثر لنفسه هذه العقيدة فقد ارتكب خطأ فاحشاً‪ ،‬فإن العلم مبدأ العمل‪،‬‬
‫والعمل متام العلم‪ ،‬وال يرغب يف العلوم الفاضلة إال ألجل األعامل الصالحة‪ ...‬كال! إن توهم هذا‬
‫مام يؤدّي إىل تفويض األعامل الصالحة بأرسها إىل ذوي الجهل والغباوة! ولو ُج ِع َل األم ُر كذلك‬
‫لوجدت الطبيعة األنس َّية عند إقامتها األعامل الصالحة مستغنية عن العلوم الحقيق َّية»[[[‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الصقولية‪:‬‬ ‫‪ .9‬يف استخالص العلة‬
‫إذا كانت الرضورة تقتيض العلَّة أو العكس‪ ،‬واألمر سيان‪ ،‬فلن تكون مقولة « العلة الغائ َّية» إالَّ‬
‫يل (األنرثوبومورفيستي) وهو خاص َّية املخ ّيلة البرشيّة التي تيل‬ ‫التشبيهي التمثي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫من باب التعبري‬
‫خاص َّية التصنيف‪ ،‬والتي أشري اليها مبا ورد يف اآلية الكرمية «وما قتلوه وما صلبوه لكن شُ ِّبه لهم»[[[‪.‬‬
‫وليست الشمس علَّة الضوء والنور‪ ،‬بل هي الضوء وكل ما ينري‪ ،‬فإن علة الطاولة هي نفسها غايتها‪،‬‬
‫اإللهي إالَّ صلة الله‬
‫ًّ‬ ‫والفيض هو ما يفعله اليشء كونه يف متام هيئة وجوده‪ .‬وعليه‪ ،‬مل يكن الفيض‬
‫بكونه ومخلوقاته وهي الحق والحقيقة‪ .‬وما إقامة الصالة عىل سبيل التمثيل‪ ،‬إال من باب اإلقرار‬
‫فست البرشية العاقلة أن لله عبدا ً‪ ،‬كام‬ ‫والعرفان بهذه الصلة‪ .‬أما من جهة املرء نحو خالقه‪ ،‬فقد ّ‬
‫يل‪ .‬فقد كان أقرب للعقل‬ ‫العبد لسيده‪ ،‬لذا لن يكون مرجع هذا الفهم إالَّ من قوة فعل التفكري التمثي ِّ‬

‫[[[ ‪ -‬ابن الحكم‪ ،‬هشام‪ ،‬املسند‪ ،‬حرير د‪ .‬خرض نبها‪ ،‬ص ‪ 58‬مجمع البحوث اإلسالم َّية بريوت‪ 1392 -‬ش‪ -‬ص ‪.58‬‬
‫[[[ ‪ -‬العامري‪ ،‬أبو الحسن‪ ،‬االعالم مبناقب اإلسالم‪ ،‬تحقيق د‪ .‬احمد غراب‪ ،‬دار األصالة‪ -‬دمشق‪ 1995- -‬ص ‪.75‬‬
‫[[[ ‪ -‬سورة النساء – اآلية ‪.157‬‬

‫‪106‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫والصواب أن يكون معنى العبادة ما يشري إىل التعبيد والعمل وليس العبوديَّة‪ ،‬ذلك أن من مل يطرق‬
‫ومل يُ ّعبِد طريقه إىل الله يبقى عبده كذلك‪ ،‬ومن ع ّبد طرقه باإلميان والفعل‪ ،‬فقد ع ّبد لنفسه الطرق‬
‫لكل موجود إالَّ فعله واتصاله مبا يتأثر به‬
‫املوصلة إىل رحمته ورضائه تعاىل‪ .‬وليس من غاية أسمى ِّ‬
‫ويؤثر به‪ ،‬وإالَّ ملا قام الكون‪ ،‬الذي مل يكن له أن يقوم إال بالفعل؟!‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يف االعتقاد الوحياين اإلسالمي ما مينح الفعل واألفعال مكانة الصدارة من بعد اإلميان‪ .‬ولقد قرر‬
‫وحججت‬
‫ُ‬ ‫جل أصحاب النظر من العلامء والعرفاء واملتكلمني‪ .‬مثال‪ :‬إين وإن أقمت الصالة‬ ‫هذا ّْ‬
‫وصمت رمضان‪ ،‬وزكَّيت أموايل وقلت بالشهادتني‪ ،‬وكلها سلوك ومسالك‪ ،‬وأفعال وأعامل‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫البيت‪،‬‬
‫ومع تنفيذها كنت سأبدو أين لله راسخ العرفان‪ .‬وما ذلك إال لوجوه‪ :‬إين أعرف نفيس وقدرها أمام‬
‫قَ َد ِر الذي يستطيع أن يخلق ما أعجز عنه‪ ،‬فكيف أستطيع إيجاد نفيس‪ ،‬وكيف أستطيع خلق املكان‬
‫والهواء والطعام والرشاب‪ ،‬أليس من املحال‪ ،‬وكيف بال كل هذا وأنا ما زلت وجودا ً؟! أليس هذا‬
‫ما يجعلني عاجزا ً ناقصاً فقريا ً دامئاً‪ ،‬ال أقوم إالَّ عىل التز ّود وأساسه عىل ما يصنعه هو وكيف‬
‫يقيني مفطو ٌر املر ُء‬
‫ٌ‬ ‫ميكنني أن آيت بالشمس من املغرب والله يأيت بها من املرشق؟ وهذا امليزان‬
‫عليه بال عناء‪ ،‬وتلك هي الفطرة التي وردت يف الحديث الرشيف‪« :‬إن املرء يولد عىل الفطرة‪،‬‬
‫ميجسانه» واإلميان وتصديق هذا اليقني والتسليم به هو دين البرش‬ ‫ِّ‬ ‫فأبواه يه ِّودانه‪ ،‬أو ينصِّ انه أو‬
‫كلهم‪ ،‬ومن هذا اإلميان والتسليم بالذات جاء معنى كلمة «اإلسالم»‪ ،‬وليست املعاين األخر لكلمة‬
‫التشبيهي ( األنرثوبومورفيستي)‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلسالم املعروفة إالَّ أن يكون رشحها مقادا ً من النهج التمثي ِّ‬
‫يل –‬
‫النازع إىل تجسيد الالَّمجسد‪ ،‬وهو ذاته املسؤول عن نشأة األديان‪.‬‬
‫أما العرفان من الوجه اآلخر‪ ،‬فهو املنظور إليه اجتامعياً‪ .‬ومبا أن العيش اإلجتامعي ترافقه‬
‫املعرفة والتعلُّم وكسب املعارف كانت هذه تتحصل بالتلقني والتقليد والتواتر‪ ،‬ومن ثم سرب األغوار‬
‫املعرف َّية‪ .‬لذا كان العلم واملعرفة ما يق ِّرر اإلرادة وهذه األخرية كانت تق ِّرر السلوك واملسالك‪ .‬ويف‬
‫ب عىل املرء أن يختار الدرب‪ ،‬وهذا االختيار يقع عىل رضوب‪ .‬لذا صدق‬ ‫ج َ‬‫ظل تلك املزاحمة َو َ‬
‫القول أن درب العرفان هو من أنقى الدروب للوصال وعقد الصلة باألصل أألصيل‪ ،‬ومل تكن‬
‫وجل‪ ،‬بل قد وضعت املسالك والطرق رياض ًة‬ ‫َّ‬ ‫الصالة وحدها من ع ّبد طريقهم إىل الله وحده ع َّز‬
‫لإلرادة والعزم عىل كبت وقمع شهوات النفس وأهوائها‪ ،‬وهذا يتحصل من رقابة النفس ودوام‬
‫كل كلِ من ثنايا الفؤاد‪ .‬حينها سيعرف‬
‫الشكر والعرفان‪ ،‬ليفرغ القلب من كلِ ‪ ،‬لتمأل محبة الله وحده َ‬
‫املرء معنى الهوى‪ ،‬الذي ال يعرف الخاص واألجزاء والتقسيم والرتتيب بل التواصل والوصل‬
‫حب ٍ‬
‫قيس لليىل‪ ،‬قيساً عنها‪ ،‬والذي أشار اليه افالطون أيضاً‪ ،‬ومبثله‬ ‫والتناغم واإلنسجام‪ .‬وسيشغل ُ‬
‫قال كونفوشيوس‪ :‬أعجب ملرء فضّ ل فضيلة صغرية عىل جامل الكون كله»‪ ،‬اذ قد توحدت روح‬
‫املرء مبشيئة الله وصلته بالبرش ليحدث مع هذا الوصل الفناء يف محبته‪ ،‬وهي التي تعني الصلة‬
‫املستدامة مع األلوه َّية‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪ .1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ .2‬ابن الحكم‪ ،‬هشام‪ ،‬املسند‪ ،‬حرير د‪ .‬خرض نبها‪ ،‬مجمع البحوث اإلسالم َّية بريوت‪1392 -‬‬
‫ش‪.‬‬
‫‪ .3‬أبو الربكات البغدادي‪ ،‬هبة الله‪ ،‬الكتاب املعترب يف الحكمة الجزء األول ‪ ،‬جمعيَّة دار‬
‫املعارف العثامنيَّة ‪ 1357‬هجري‪.‬‬
‫‪ .4‬أبو الحسن العامري‪ :‬كتاب إنقاذ البرش من الجرب والقدر‪ ،‬رسائل أيب الحسن العامري‬
‫وشذراته الفلسف َّية‪ ،‬دراسة ونصوص د‪ .‬سبحان خليفات ‪ -‬عامن ‪.1988‬‬
‫‪ .5‬أرسطو‪ ،‬كتاب السياسة‪ ،‬نقله إىل العربية أحمد لطفي السيد‪ ،‬سلسلة من الرشق إىل الغرب‪-‬‬
‫القاهرة ‪.‬‬
‫‪ .6‬أفلوطني‪ :‬تاسوعات أفلوطني‪ ،‬ترجمة د‪ .‬فريد جرب‪ ،‬مكتبة لبنان ‪.1997‬‬
‫‪ .7‬البرصي‪ ،‬الحسن‪ ،‬تفسري الحسن البرصي‪ ،‬تحقيق د‪ .‬محمد عبد الرحيم‪ ،‬الجزء األول‪ ،‬دار‬
‫الحديث‪.1990 -‬‬
‫‪ .8‬بن حيان‪ ،‬جابر كتاب الحدود‪ ،‬رسائل جابر بن حيان‪ ،‬ثالثون كتاباً ورسالة ‪-‬عني بتصحيحها‬
‫ونرشها ب‪ .‬كراوس ‪ -‬إعداد أحمد فريد املزيدي‪ ،‬دار الكتب العلميَّة‪.‬‬
‫‪ .9‬الجاحظ‪ ،‬كتاب الحيوان ج‪ ،1‬تحقيق عبد السالم هارون‪ ،‬طبعة ثانية ‪.1965‬‬
‫‪ .10‬الرازي‪ ،‬فخر الدين ‪ :‬اإلشارة يف علم الكالم‪ ،‬إرشاف األستاذ سعيد فودة‪ ،‬دار الرازي بريوت‬
‫‪.2006‬‬
‫‪ .11‬رسائل أبو الحسن العامري‪ :‬كتاب التقرير ألوجه التقدير‪ .‬وكتاب إنقاذ البرش من الجرب‬
‫والقدر‪ ،‬دراسة ونصوص د‪ .‬خليفات سحبان‪ ،‬منشورات الجامعة األردن َّية عامن ‪ .1988‬أنظر أيضاً‬
‫كتايب‪ :‬قمم لجونية ‪ ...‬كتاب البديهيات‪ ،‬مق ِّدمات لفلسفة الصواب – طبعة خاصة ‪. 2021‬‬
‫‪ .12‬ريني ديكارت‪ ..." :‬التأ ُّمالت يف الفلسفة األوىل‪ ،‬ترجمة وتقديم عثامن أمني – تصدير‬
‫مصطفى لبيب‪ ،‬املركز القومي للرتجمة ‪.2009‬‬
‫‪ .13‬الشهرستاين‪ ،‬أبو الفتح‪ ،‬امللل والنحل‪ ،‬صححه أحمد فهمي محمد‪ ،‬دار الكتب العلم َّية‬
‫‪.1992‬‬
‫‪ .14‬الطباطباين‪ ،‬السيد مصطفى الحسيني ‪ "،‬فتح البيان" دار الجسور الثقاف َّية‪ -‬بريوت ‪.2005‬‬

‫‪108‬‬
‫المعرفة الصقول َّية‬

‫‪ .15‬العامري‪ ،‬أبو الحسن‪ ،‬االعالم مبناقب اإلسالم‪ ،‬تحقيق د‪ .‬احمد غراب‪ ،‬دار األصالة‪-‬‬
‫دمشق‪.1995 -‬‬
‫‪ .16‬عمونئيل كانط – نقد العقل املحض‪ ،‬ترجمة موىس وهبة – مركز اإلمناء القومي‪ -‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .17‬الغزايل – املنقذ من الضالل –تحقيق‪ :‬محمد حسن هيتو‪ -‬دار التقوى ‪.2019‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ .18‬الغزايل‪ ،‬املنخول من تعليقات األصول‪ -‬دار الفكر‪.2014 -‬‬


‫‪ .19‬الفيومي سعديا‪ ،‬سعيد بن يوسف‪ ،‬كتاب األمانات واالعتقادات‪.‬‬
‫‪ .20‬الكتاب املق َّدس‪ ،‬سفر الجامعة‪ ،‬األصحاح األول‪ ،‬جملة رقم ‪.5‬‬
‫‪ .21‬مونتيسكيو‪ ،‬روح الرشائع‪ ،‬ترجمة عادل زعيرت‪ ،‬مؤسسة الهنداوي ‪.2012‬‬
‫‪ .22‬هرمس – متون هرمس‪ ،‬حكمة الفراعنة املفقودة‪ .‬تيمويث فريك‪ ،‬بيرت غاندي‪ ،‬ترجمة عمر‬
‫الفاروق املرشوع القومي للرتجمة ‪-2002‬‬

‫‪109‬‬
‫املعرفة الروحان َّية يف ميزان فلسفة الدين‬
‫والتبص العرفاين‬
‫ُّ‬ ‫بني التجربة الدين َّية‬

‫عل الحيدري‬
‫إحسان ي‬
‫العال ف ي� فلسفة الدين‪ -‬جامعة بغداد‪ -‬العراق‪.‬‬
‫ي‬ ‫أستاذ التعليم‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫يعتقد ث‬
‫الدينية تمثل جوهر‬ ‫الخ�ة‬ ‫الدينية أو ب‬ ‫المتصوفة والعرفاء بأن التجربة‬ ‫ك�ة من‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫المدونات المشتملة عىل موضوعات تتعلق بهذه‬ ‫ح‬ ‫الدين‪ .‬وقد الحظت عند تصف ي‬
‫"الخ�ة‬
‫ب‬ ‫الدينية"‪ ،‬وآخرون مصطلح‬ ‫َّ‬ ‫القضية‪ ،‬أن بعضهم يستعمل مصطلح "التجربة‬ ‫َّ‬
‫ف‬ ‫ين‬ ‫الدينية"‪ ،‬ومنهم من يزاوج ي ن‬ ‫َّ‬
‫للتعب� عن‬ ‫ي‬ ‫المصطلح� فيذكرهما ي� الموضوع نفسه‬ ‫ب�‬
‫ـ"الخ�ة"‬ ‫اإلنكل�ية ‪ Experience‬ب‬ ‫ز َّ‬ ‫الباحث� حاول ترجمة المفردة‬ ‫ين‬ ‫مقصد واحد‪ .‬بعض‬
‫ب‬ ‫ي‬
‫ع� عن حالة يكابدها اإلنسان‪ ،‬مثل اإلحساس بلذة أو بألم أو وع إدراك ِّ ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ال� ُت ِّ‬
‫حس‪ ،‬أو‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫تي ب‬
‫نفسية أو َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬
‫عقلية‬ ‫تذكر منظر أو موقف أو تخيلهما‪ ،‬أو معاناة انفعال أو عاطفة‪ ،‬أو أية حالة‬
‫ت‬
‫ال� تجري‬ ‫أخرى‪ .‬أما "التجربة" ‪ ،Experiment‬فقد قرصوها عىل الحاالت والمواقف ي‬
‫ح� يقوم بمالحظة ما ينشأ من ظواهر‬ ‫ب ُّ‬
‫التجري� ي ن‬ ‫مخت�‪ ،‬مثلما يفعل العالم‬ ‫ب‬ ‫داخل معمل أو‬
‫ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫يائية أو كيميائية أو سيكولوجية أو بيولوجية‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫ف� َّ‬ ‫يز‬

‫للتعب� عن المفهوم نفسه؛‬ ‫ي‬ ‫ين‬


‫المصطلح�‬ ‫أم� إىل استعمال ِكال‬ ‫ف� هذا البحث سوف ض‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ال� ينفعل بها اإلنسان‬ ‫الخ�ة الدينية تدل عىل الحالة الوجدانية ي‬ ‫ذلك عىل الرغم من أن ب‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫تع� عن دخول‬ ‫المؤمن عند مالقاته ربه أو مقدساته‪ .‬ولقد وجدت أن التجربة الدينية ب‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫روحية‪ ،‬فيستلهم معارف جديدة لم يكن عىل دراية بها سلفا‪،‬‬ ‫اإلنسان المؤمن ي� ممارسة‬
‫َّ‬ ‫ُّ ف‬ ‫ال� ُّ‬ ‫َّ ت‬
‫اليومية‪ ،‬لذلك‬ ‫مس�ة حياته‬ ‫يمر بها اإلنسان االعتيادي ي� ي‬ ‫وه تشبه التجربة الواقعية ي‬ ‫ي‬
‫المفردت� العربي يت�‪" ،‬التجربة"‬‫ن‬ ‫َّ‬ ‫ن‬ ‫ٍّ‬
‫اإلنكل�ية ‪ Experience‬بأي من‬ ‫َّ‬ ‫ز‬ ‫أرى إمكان مقابلة المفردة‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫أو "الخ�ة"؛ لكونها مقولة ث‬
‫األلوهية من حيث وجودها ي� األديان كافة من‬ ‫أك� عموما من‬ ‫ب‬
‫غ� وجود خالف ي� هذا األمر‪ .‬وألنها كذلك تمثل قلب الدين وجوهره‪.‬‬ ‫ف‬
‫ي‬
‫* * *‬
‫الخ�ة الدينية – التجربة الدينية – فلسفة الدين – الممارسة‬
‫ب‬ ‫مفردات مفتاحية‪:‬‬
‫الروحية – الرؤية العرفانية‪.‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫تمهيد‬
‫تتكشَّ ف البداية األوىل للتجربة الدينيَّة ساعة مثول اإلنسان املؤمن أمام الذات اإللهيَّة أو أمام‬
‫املق َّدس‪ .‬وقد تن َّوعت التجارب الدين َّية بتن ُّوع األشخاص الذين مارسوها‪ ،‬وتفاوتت ش َّدة وضعفاً‬
‫بحسب درجة تعلُّق ذلك الشخص مبعبوده أو مبق َّدساته‪ .‬النوع األعمق واألشد لهذه التجارب ما‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫عرفه األنبياء واألولياء والعارفون والق ِّديسون‪ ،‬إذ كانت لهم تجارب عميقة ج َّدا ً وقريبة غاية القرب‬
‫من األلوهيَّة‪ ،‬وتستند مامرسة الطقوس والشعائر إىل تلك التجارب‪ ،‬فلوال األخرية لكانت األعامل‬
‫والشعائر الدين َّية مج َّرد عادات ُعرف َّية واجتامع َّية وثقاف َّية‪ .‬وإذا أردنا أن ندمج األديان السامويَّة‬
‫واألديان الوضع َّية يف إطار الدين املؤسَّيس‪ ،‬فسنجد أ َّن العودة إىل تاريخ تأسيس ذلك الدين عىل‬
‫املؤسس البذرة‬
‫ِّ‬ ‫النبي أو امل ُصلح ستفيض بنا إىل ع ِّد التجربة الدينيَّة األوىل التي مارسها ذلك‬ ‫ِّ‬ ‫يد‬
‫األوىل لذلك الدين‪.‬‬
‫قد تكون التجربة الدينيَّة فرديَّة يعانيها اإلنسان يف أعامق نفسه ومبعزل عن تجارب اآلخرين‪،‬‬
‫وإذا أردنا اإلخبار عن هذه الخربة األساسيَّة اعتامدا ً عىل االستبطان وعىل شهادة اآلخرين م َّمن‬
‫يل متمكِّن من السيكولوجيا اإلنسان َّية قوامه مواجهة‬ ‫عبوا عن تجاربهم تلك‪ ،‬قلنا إنَّها إحساس أ َّو ٌّ‬ ‫َّ‬
‫الكل وقد‬
‫ِّ ُّ‬ ‫فريدة مع ق َّوة شمول َّية منبثَّة يف هذا العامل تبدو متَّصلة به قدر استقاللها عنه‪ ،‬إنَّه املق َّدس‬
‫نقدي‪ ،‬ونظرا ً‬ ‫ٍّ‬ ‫ين‬
‫أي موقف عقال ٍّ‬ ‫صار ماثالً يف النفس التي تخترب حضوره بكليَّتها‪ ،‬ويف معزل عن ِّ‬
‫ين الذي تتَّسم به التجربة‪ ،‬فإ َّن التعبري عنها بلغة الواقع الذي نعيش‬ ‫يل غري العقال ِّ‬
‫لهذا الطابع االنفعا ِّ‬
‫فيه‪ ،‬ومفردات التجارب اليوم َّية أمر يف غاية من الصعوبة‪ .‬وقد تكون التجربة الدين َّية جمع َّية فتولد‬
‫بسلوك ما؛ من أجل‬ ‫ٍ‬ ‫عند بعض الجامعات حالة انفعال َّية قد تبلغ يف ش َّدتها ح َّدا ً يستدعي القيام‬
‫إعادة التوازن إىل النفس والجسد اللذين غيَّ ت التجربة حالتهام االعتياديَّة‪ ،‬وهو ما نراه جليّاً يف‬
‫حلقات الصوفيَّة وما يؤ َّدى فيها من موسيقى إيقاعيَّة وحركات جسديَّة‪ ،‬وتكرار صيغ كالميَّة ذات أثر‬
‫خاص يف النفوس‪ ،‬ميكن لألفراد املستغرقني يف األداء االنتقال بها إىل مستويات غري اعتياديَّة من‬ ‫ٍّ‬
‫تحتل ساحة الشعور تلقائ َّياً يف التجربة املبارشة التي تحدث‬ ‫ُّ‬ ‫الوعي‪ ،‬واستعادة الحالة الوجديَّة التي‬
‫يف األصل بال استنهاض مصطنع‪.‬‬
‫العبادي الذي سيجعله يواجه اإلله‬
‫ِّ‬ ‫وتظهر الخربة الدين َّية لدى اإلنسان عند مامرسته للطقس‬
‫املعبود‪ ،‬غري أ َّن خطرا ً كبريا ً سوف يالزم تلك الطقوس‪ ،‬وهو مامرستها بوصفها أشكاالً خارج َّية‬
‫كل دين يوجد أفراد ميارسون الطقوس إ َّما إعجاباً بشكلها‪ ،‬أو إرضا ًء‬ ‫بعيدا ً عن محتواها‪ .‬ويف ِّ‬
‫للجامعة التي ينتمون إسم َّياً إليها‪ ،‬من غري إميان مبعناها ووظيفتها يف ضوء العقائد الدين َّية‪ ،‬وهناك‬
‫من ميارسها تع ُّودا ً تكراريّاً خالياً من املعنى‪ ،‬ويف حاالت كهذه تتوقَّف الطقوس عن تأدية الدور‬

‫‪111‬‬
‫المحور‬

‫يل الذي وجِدت من أجله‪ ،‬وقد تغدو صنم َّية جامدة ته ِّدد حياة صاحبها الروح َّية‪ ،‬كام تهدد‬ ‫األص ِّ‬
‫الخارجي بالطقوس‬
‫ُّ‬ ‫يل‬
‫حياة الجامعة الدينيَّة الصحيحة إذا ات َّسع نطاقها‪ .‬لش َّد ما كان التعلُّق الشك ُّ‬
‫كل‬
‫والحق أن َّ‬
‫َّ‬ ‫التعصب الديني‪ ،‬واتخاذ موقف ِعداء أو انغالق تجاه األديان األخرى‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫دافعاً إىل‬
‫مؤسيس األديان ومعلِّميها العظام ثاروا عىل الشكل َّية‪ ،‬ويف الوقت نفسه فإ َّن اعتامد أيَّة عقيدة خالية‬ ‫ِّ‬
‫من الطقوس سيجعلها أقرب إىل الفلسفة منها إىل الدين‪ ،‬واإلنسان الذي ميارس هذه العقائد‬
‫والطقوس مامرسة كيانيَّة صادقة سيجعلها فاعلة إيجابيّاً يف حياته‪.‬‬

‫مزنلة اإليمان يف فلسفة الدين‪:‬‬


‫يل يف اإلنسان‪ ،‬فالطقوس مبا فيها من ترتيل‬ ‫وإذا كانت العقائد تقترص عىل مخاطبة الجانب العق ِّ‬
‫بكل قواه النفس َّية‪ ،‬ومبلء كيانه‪ ،‬فاملهم أن تقوم‬
‫وركوع وغريهام تجعله يشارك يف عمل َّية التطهري ِّ‬
‫نفيس راسخ فتنبع من الداخل‪ ،‬من القلب الذي ميثِّل الصدق والعمق‬
‫ٍّ‬ ‫العقائد والطقوس عىل أساس‬
‫والحرارة واالندفاع يف اإلميان والعمل‪.‬‬
‫يف ما ييل نيضء عىل الرؤية الفلسف َّية التي ق َّدمها عدد من الفالسفة الغربيني حيال عالقة اإلنسان‬
‫املؤمن بالله عن طريق دخوله يف تجربة دينيَّة فريدة من نوعها‪ ،‬ومن أصحاب هذه الرؤى الفلسفيَّة‬
‫سوف نتناول بالتحليل أبرز هؤالء‪:‬‬

‫ك�كغارد ورؤيته الوجودية‪:‬‬ ‫ً‬


‫أوال‪ :‬سورين ي‬
‫يعتقد كريكغارد[[[ أ َّن بإمكان اإلنسان التعايل عىل ذاته وتجاوز عامله؛ بُغية الوصول إىل ذات‬
‫الخالق عرب تجربة ذات َّية ح َّرة‪ ،‬وبهذا العمل يتبيَّ أنَّه يقوم بفعل ح ٍّر مش َّبه لفعل اإلله الذي نزل إىل‬
‫األرض من عليائه مبحض اختياره؛ يك يشارك مخلوقه العيش ويتع َّرف املشاكل التي تعرتض سبيل‬
‫صلب هذا اإلله عىل خشبة يف النارصة‪ ،‬وتفرق حواريوه وتالمذته؛ ليبثُّوا‬ ‫وجوده عىل األرض‪ ،‬وقد ُ‬
‫يف العامل أفكاره اإللهيَّة‪.‬‬
‫املسيحي لقا ًء ح َّياً بني األصل‬
‫ِّ‬ ‫لهذا‪ ،‬فإن كريكغارد يع ُّد حادثة املسيح يف التاريخ ويف الدين‬
‫والشبيه‪ ،‬بني الخالق واملخلوق‪ ،‬ويؤكِّد أ َّن اإلنسان الذي يروم الوصول إىل معرفة وجود الخالق‬
‫واالتصال به عليه أن يعيش عىل غرار تجربة املسيح يف الحياة‪ ،‬وبتعبري آخر تجربة صوف َّية ذات َّية‬
‫اإللهي‪ .‬ويجدر القول أ َّن أفكاره وآراءه وتأمالته الدين َّية‬
‫ِّ‬ ‫ين إىل مصاف الوجود‬
‫تنقل الوجود اإلنسا َّ‬

‫[[[‪( -‬سورين كريكغارد) (‪ )Kierkegaard, Soren 1813 - 1855‬م‪ :‬فيلسوف دامناريك ورائد املذهب الوجودي‪ ،‬دارت موضوعات‬
‫فلسفته حول الخطيئة والحريَّة والحب والزواج والندم والتكفري والغواية واملصري؛ لكونه عاىن هذه املشكالت معاناة عنيفة ح َّية‪ .‬تبدأ فلسفته‬
‫الوجودي املعيش‪ .‬من أعامله‪:‬‬
‫ُّ‬ ‫الحقيقي عنده الفكر‬
‫ُّ‬ ‫املتعي بتجاربه املفردة لتنتهي بحقيقة وجوده بوصفه فرداً‪ ،‬فالفكر‬
‫ّ‬ ‫من وجود الفرد‬
‫(مفهوم القلق)‪ ،‬و(مدرسة املسيح َّية)‪ ،‬و(كتاب اليـأس)‪ ،‬و(الخوف والرعدة)‪.‬‬

‫‪112‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫املسيحي بقدر ما هي ثورة عىل الطقوس والتعاليم الكنس َّية التي حالت بني‬ ‫ِّ‬ ‫ال ت ُع ُّد ثورة عىل الدين‬
‫الحقيقي النابع من الذات اإلنسان َّية الح َّرة[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫اإلنسان وبني إدراكه للدين‬
‫الله يف نظر كريكغارد ليس فكرة نتأ َّملها‪ ،‬أو موضوعاً نثبت وجوده‪ ،‬بل هو ذات تنكشف للمرء‬
‫يف أعمق أعامق وجوده‪ ،‬فليس اإلنسان ذاتاً مغلقة عىل نفسها‪ ،‬بل هو موجود ماثل منذ البداية‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وجهاً لوجه أمام الله‪ ،‬ورغم أ َّن صلة اإلنسان بالله تقوم ـــ حتامً ـــ عىل التغاير التام والعجز‬
‫املطلق من جانب اإلنسان‪ ،‬إالَّ أ َّن هذه الصلة ال ب َّد من أن تتمظهر يف صورة الصالة أو العبادة‪.‬‬
‫والصالة رضب من التوت ُّر بني حالة العدم وحالة االمتالء‪ ،‬أو هي تعبري عن نزوع الكائن املتناهي‬
‫نحو االتصال باملوجود الالَّمتناهي‪ ،‬ومثل هذا االتصال ال ميكن أن يتحقَّق إالَّ حني يشت ُّد شعور‬
‫تحس إحساساً عميقاً بخطيئتها ال ب َّد من‬ ‫ُّ‬ ‫الذات بالخطيئة‪ ،‬فالنفس اآلمثة املنسحقة أمام الله حني‬
‫ين أملاً وعذاباً أو أملاً روحيَّاً وعذاباً‬
‫أن تجد نفسها إزاء الله وجهاً لوجه‪ ،‬وإذا كان الوجود اإلنسا ُّ‬
‫اإللهي‪ ،‬وإذا كان الله يريد للمؤمن أن‬ ‫ِّ‬ ‫دين َّياً؛ فذلك أل َّن الخطيئة هي التي تقودنا إىل أعتاب الرس‬
‫يتألَّم ويرتيض لعباده أن يحيوا حياة قلقة مفعمة بالتناقض والتوتُّر والتم ُّزق وشتى مظاهر العذاب؛‬
‫فذلك أل َّن اإلحساس بالخطيئة والشعور بالقلق هام الرشطان الرضوريَّان لتحقُّق عمليَّة الفداء‪،‬‬
‫الديني صورة نقيَّة طاهرة فهنالك يتحقَّق االتحاد بني البطولة والغبطة الروحيَّة‪،‬‬‫ُّ‬ ‫وحني يتَّخذ العذاب‬
‫كل تناقض بني السعادة والشقاء‪ ،‬فالعبادة‬ ‫فيشعر املؤمن برضب من النشوة الروح َّية التي تسمو عىل ِّ‬
‫الحقيق َّية ليست عبادة الخوف فحسب‪ ،‬بل عبادة الغبطة والنشوة أيضاً‪ ،‬غري أنَّها نشوة تلك الروح‬
‫امل ُعذَّبة التي تعلم أ َّن الله نفسه يتألَّم‪ ،‬وأنه ال يتألَّم إالَّ ألنه يحب‪ ،‬وهيهات للنفس اإلنسانيَّة أن‬
‫اإللهي ما مل تحرتق معه بنريان األمل‪.‬‬
‫َّ‬ ‫تعانق الحب‬
‫النفيس أو الشعور بالخطيئة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫انطالقاً من ذلك‪ ،‬نجد كريكغارد يربط عالقة اإلنسان بالله بالعذاب‬
‫نئ‬
‫الطبيعي الذي يحيا فيه اإلنسان املؤمن؛ أل َّن األخري ليس بالشخص املطم ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ويع ُّد األمل الج َّو‬
‫علوي من السعادة‪ ،‬بل هو شخص معذَّب قلق يحيا يف رصاع مستم ٍّر مع‬ ‫ٍّ‬ ‫الواثق الغارق يف فيض‬
‫الالَّمتناهي ويجد نفسه دامئاً يف غمرة التناقض‪ ،‬لذلك يرى العذاب حليفاً للخربة الدين َّية فيقول‪:‬‬
‫«إنه حينام يريد الله أن يصطفي لنفسه رجالً‪ ،‬فإنَّه يدعو رفيقه املخلص أال وهو الهم‪ ،‬ليك يطلب‬
‫إليه أن يالزمه ويتعلَّق به‪ ،‬وال يفرتق عنه لحظة واحدة»[[[‪ ،‬ومعنى هذا أ َّن اله َّم رفيق املؤمن الذي‬
‫الوجودي املشوب‬
‫ُّ‬ ‫كالظل‪ ،‬وهنا تتكشَّ ف العالقة بني الله واإلنسان عن عالقة ملؤها القلق‬ ‫ِّ‬ ‫يالزمه‬
‫بانعدام اليقني‪ ،‬أي أ َّن الفرد حني يفقد الثقة بوجود عالقة بينه وبني ربِّه فإ َّن العالقة ستكون قامئة يف‬
‫كل صلة‬ ‫تلك اللحظة فحسب‪ ،‬أ َّما الذين يعتقدون أنَّهم عىل صلة دامئة بالله فهم بال شك قد عدموا َّ‬

‫[[[‪ -‬هادي (قيس)‪ :‬دراسات يف الفلسفة العلم َّية واإلنسان َّية‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة املنصور العلم َّية‪ ،‬بغداد‪2000 ،‬م‪ ،‬ص ‪.201‬‬
‫[[[‪ -‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬مشكالت فلسف َّية‪ ،‬ج‪( 5‬مشكلة الحب)‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة مرص‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪ ،‬ص ‪.139‬‬

‫‪113‬‬
‫المحور‬

‫بالله‪ ،‬وكام أنَّه ال ميكن أن تكون هناك حقيقة بغري تشكُّك وارتياب ومساجلة‪ ،‬فإنَّه ال ميكن أيضاً‬
‫أن يكون هناك إميان بال رصاع ومخاطرة ومجاهدة[[[‪.‬‬
‫رصح‬ ‫يف السياق عينه‪ ،‬يرى كريكغارد أ َّن اآلخر ميكن أن يكون عائقاً أمام عالقة اإلنسان بالله‪ ،‬ويُ ِّ‬
‫بأ َّن عىل الفرد أن يكون ضنيناً يف تعامله وعالقته باآلخرين‪ ،‬وينبغي له أساساً أالَّ يجري حديثاً إالَّ‬
‫الرضوري أن يصبح اإلنسان فردا ً منفردا ً؛ حتى تكون له عالقة مستمرة بالله‪ .‬وقد‬‫ِّ‬ ‫بينه وبني الله‪ ،‬ومن‬
‫طبق كريكغارد هذا األمر يف حياته الواقعيَّة‪ ،‬إذ عمد إىل فسخ خطوبته؛ يك ال تكون عائقاً أمام تلبية‬
‫نداء الله وعن طريق التف ُّرد بالله‪ ،‬يستطيع عندها اإلنسان الحصول عىل الحقيقة؛ أل َّن الحقيقة إله َّية‬
‫املصدر ذات َّية التلقِّي‪ ،‬والله ال يتَّصل إالَّ بالفرد‪.‬‬
‫ُعب عن‬
‫والعالقة بني الله واإلنسان ـــ بحسب رؤيته ـــ خالية من التجانس املطلق؛ ألنها ت ِّ‬
‫عالقة الالَّمتناهي باملتناهي‪ ،‬ورغم أ َّن الله محبة‪ ،‬إالَّ أن حبه قاتل‪ ،‬ومعنى هذا أن الالَّمتناهي هو‬
‫كل ما تتك َّون منه الحياة البرشيَّة‪ ،‬وكل ما يخلع عىل الوجود‬ ‫عدو املتناهي؛ أل َّن األول يبغض َّ‬
‫ين لذته؛ ومن هنا ال ميكن أن تتأكَّد عالقة الذات الفرديَّة بالحقيقة اإللهيَّة‪ ،‬أللَّهم إالَّ عن طريق‬‫اإلنسا ِّ‬
‫يل‪ .‬كام ال ميكن أن تقوم الصلة بني الله واإلنسان إالَّ عىل الرصاع‬ ‫النفيس أو التم ُّزق الداخ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫القلق‬
‫والتناقض واملجاهدة واملواجهة املستم َّرة‪.‬‬
‫املسيحي أن يحيا كام لو كان ميتاً‪ ،‬ألن الله نفسه‬
‫ِّ‬ ‫رصح بأ َّن عىل‬
‫ومييض كريكغارد يف ذلك في ِّ‬
‫البرشي ال ميلك أن يقرب الرسَّ‬
‫ُّ‬ ‫الذي يصدر عىل الحياة البرشيَّة حكم املوت‪ ،‬ومن ث َ َّم فاملوجود‬
‫اإللهي إالَّ يف حالة أليمة من الخوف والقلق والعذاب واليأس‪ ،‬ومهام وقع يف الظ ِّن من أنَّه ال‬ ‫َّ‬
‫موضع لليأس يف قلب املؤمن‪ ،‬فإنَّه ال ب َّد للمؤمن من أن يجتاز أعنف تجارب اليأس وأقىس‬
‫حاالت القلق حتى يعرف طريقه إىل الله‪ ،‬وكأ َّن الله يريدنا أن نلمس قاع الهاوية حتى مي َّد يده‬
‫فينتشلنا من قاعها[[[‪.‬‬
‫إ َّن الحالة اإلميانيَّة عند املؤمن وهو يخوض غامر التجربة الدينيَّة ـــ وفق رؤية كريكغارد ـــ‬
‫تتجلَّ يف حركة وجدان َّية حا َّرة‪ ،‬وتوت ُّر يف باطن الكائن املوجود بأرسه‪ .‬إنَّها حركة تسعى للغبطة‬
‫األبديَّة والطأمنينة الكاملة‪ ،‬وهذه الحركة متثِّل جوهر الدين‪ ،‬وغاية يُعنى بها اإلنسان عىل نحو غري‬
‫ُمتنا ٍه‪ .‬ويرى أ َّن ليس املهم ما نؤمن به‪ ،‬إنَّ ا املهم هو كيف نؤمن به؛ أل َّن موضوع اإلميان ينبثق‬
‫الباطني‪ ،‬من الحامسة الوجدانيَّة‪ ،‬ومعنى أن نريد عىل نح ٍو غري متنا ٍه هو يف‬
‫ِّ‬ ‫عىل نح ٍو ما من التوتُّر‬
‫الوقت نفسه أن نريد غري املتناهي‪ ،‬وليست الغبطة األبديَّة شيئاً نصادفه يف طريقنا‪ ،‬لكنها الطريقة‬

‫[[[‪ -‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬مشكالت فلسف َّية‪ ،‬ج‪( 2‬مشكلة اإلنسان)‪ ،‬مكتبة مرص‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بال تاريخ‪ ،‬ص ‪.189‬‬
‫[[[‪ -‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬مشكالت فلسف َّية‪ ،‬ج‪( 5‬مشكلة الحب)‪ ،‬ص ‪.140‬‬

‫‪114‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫التي بها نحصل عىل هذه الغبطة‪ ،‬وسيضع اإلميان املؤمن يف مواجهة الله‪ ،‬وما حياة اإلميان إالَّ‬
‫حياة املحبة والصالة والزهد‪ ،‬والحب هو املبدأ وامللجأ األخري‪ ،‬وبالحب تكون معرفتنا بالله‪،‬‬
‫والصالة هي تنفُّس الروح فهي ال تجعل الله يلتفت إلينا‪ ،‬بل تجعلنا ملتفتني إىل الله‪ ،‬وهي الفعل‬
‫الذي به ننصت إىل الله يف الصمت والعبادة؛ ومن ث َ َّم كان فعل املحبة وفعل الصالة شيئاً واحدا ً‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وكل منهام يشء واحد مع التسليم أو الفناء يف الله‪ .‬وحني يفنى اإلنسان يف الله يكسب نفسه ويجد‬ ‫ٌّ‬
‫كل ما يحول بني األنا واألنت‪ ،‬لكن حياة املؤمن يف املجال‬ ‫ذاته التي فقدها من قبل‪ ،‬بعد أن يلغي َّ‬
‫الديني ال ب َّد من أن تكون عذاباً ومعاناة‪ ،‬إذ يتخلَّ فيها املؤمن عن ِّ‬
‫كل غاية أرضيَّة نسبيَّة‪ ،‬ويزهد‬ ‫ِّ‬
‫كل متعة وسعادة؛ ليقتحم عاملاً ميوج بالفنت واملحن واالختبارات‪ ،‬ويُقبل عىل مخاطرة شاملة‬ ‫يف ِّ‬
‫ٍ‬
‫حينئذ للمطلق‪ ،‬أ َّما كيف َّية اإلقدام عىل الحياة يف هذا‬ ‫يوضع فيها وجوده كلَّه يف امليزان؛ ألنه يسعى‬
‫املجال األخري‪ ،‬فإنَّها ال تكون إالَّ بوثبة وجوديَّة نتَّخذ فيها قرارا ً حاسامً وعزماً ال رجعة فيه‪ ،‬ولهذه‬
‫الباطني الذي يدفع املؤمن إىل الصعود املستم ِّر‪ ،‬والذي يجعله يُدرك‬ ‫ُّ‬ ‫املرحلة األخرية جدلها‬
‫استحالة أن يتوقَّف أبدا ً يف حركة من التعايل عىل نفسه ال تنقطع أبدا ً صوب الالَّمتناهي‪.‬‬
‫ً‬
‫والخ�ة الدينية‪:‬‬‫ب‬ ‫ثانيا‪ :‬وليم جيمس‬
‫يجعل جيمس[[[ التجربة الدين َّية نقطة البدء يف بحثه بشأن الدين‪ ،‬وال يُعنى بالبحث عن أدلَّة‬
‫وجود الله‪ ،‬بل مييض مبارشة إىل الوقائع‪ ،‬ويرى أ َّن للتجربة الدين َّية من الصور بقدر ما هنالك من‬
‫أفراد متديّنني‪ ،‬ومعنى هذا أنَّنا بصدد نزعة تجريب َّية فرديَّة تسم بطابعها منهجه يف دراسة الفلسفة‬
‫الدينيَّة‪.‬‬
‫وليست التجارب الدين َّية يف نظر جيمس مج َّرد وثائق نجمعها وندرسها‪ ،‬بل هي أقرب ما تكون‬
‫الديني املمثِّل‬
‫َّ‬ ‫تجل الحقيقة اإللهيَّة ألفراد مختلفني‪ ،‬وهو يُع ُّد الشعور‬
‫إىل كشوف ندرس بها كيفيَّة ِّ‬
‫الحقيقي لجوهر الدين؛ أل َّن العربة ليست بالطقوس والفرائض‪ ،‬بل بالروح والديانة الشخصيَّة‬ ‫َّ‬
‫شخيص يف جوهره‪ ،‬فليس امله ُّم أن نعرف األُ ُسس النظريَّة التي تقوم عليها‬ ‫ٌّ‬ ‫الباطنة‪ .‬والدين أمر‬
‫عقائده‪ ،‬بل أن نقف عىل آثاره ونتائجه‪ ،‬فضالً عن ذلك فإ َّن الدين وثيق الصلة بالحياة؛ أل َّن كالً منا‬
‫الديني‪ ،‬وهو يريد بذلك أن يحكم عىل التجربة الدينيَّة بالنظر إىل نتائجها؛ لذلك‬ ‫ِّ‬ ‫يحيا وفق مزاجه‬
‫الديني هو شعور باالنسجام الباطن العميق‪ ،‬شعور بالسالم والراحة واالغتباط‪ ،‬شعور‬ ‫َّ‬ ‫يق ِّرر أ َّن الشعور‬

‫[[[‪( -‬وليم جيمس) (‪ )James, William 1842 - 1910‬م‪ :‬فيلسوف أمرييك وأبرز ِّ‬
‫مؤسيس الفلسفة الرباغامت َّية‪ ،‬ومن رواد علم النفس‬
‫عي فيها أستاذاً‬
‫ُ‬ ‫ثم‬ ‫«هارفارد»‪،‬‬ ‫جامعة‬ ‫يف‬ ‫والفسيولوجيا‬ ‫الديني والتص ُّوف‪ ،‬كان أستاذ الترشيح‬
‫ِّ‬ ‫الحديث‪ ،‬له إسهامات مه َّمة يف علم النفس‬
‫باطني‬
‫ٌّ‬ ‫الديني شعور‬
‫َّ‬ ‫لعلم النفس‪ ،‬ثم أستاذاً للفلسفة‪ .‬وقد وصف الدين بأنه تجربة فرديَّة جوهرها العاطفة الدين َّية ال الطقوس‪ ،‬وأن الشعور‬
‫باملشاركة يف موجود أعظم‪ ،‬وهو شعور باالنسجام والسالم‪ ،‬وأنَّ الله موجود؛ ألنَّ فرض وجوده نافع‪ .‬من أعامله‪( :‬مبادئ علم النفس)‪،‬‬
‫و(إرادة االعتقاد)‪ ،‬و(الفلسفة العمل َّية)‪ ،‬و(معنى الحقيقة)‪ ،‬و(تن ُّوعات يف الخربة الدين َّية)‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫المحور‬

‫أخص خصائص‬ ‫ِّ‬ ‫الخارجي أيضاً‪ ،‬وإذا كان من‬


‫ِّ‬ ‫كل يشء يسري عىل ما يرام يف داخلنا ويف العامل‬ ‫بأ َّن َّ‬
‫الديني أنه يشعرنا بأ َّن الحياة خالَّقة مبدعة فذلك النطوائه عىل اإلحساس مبشاركة قدرة‬ ‫ِّ‬ ‫الشعور‬
‫أعظم من قدرتنا‪ ،‬والرغبة يف التعاون مع تلك القدرة يف تحقيق أعامل املحبة والسالم‪ .‬فالتجربة‬
‫الدينيَّة مهام تع َّددت صورها فال ب َّد من أن تقودنا إىل الشعور بأنَّنا نشارك ال شعوريّاً يف موجود أعظم‬
‫هو الله‪ .‬ورغم ما يكتنف هذه التجربة من قلق ورصاع وأزمات نفس َّية‪ ،‬فمن املؤكَّد أن شعور النفس‬
‫بوجود قوة عالية تستطيع أن تجد لديها الغوث والعون من شأنه أن يأخذ بيدها دامئاً يف هذه الحياة‪،‬‬
‫وليس هذا الشعور وهامً خادعاً ال أساس له‪ ،‬بل إ َّن التجربة تدلُّنا عىل أن يف النفس من التيَّارات‬
‫الحسيَّة السطحيَّة[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الروحيَّة الخفيَّة ما تعجز عن تفسريه النزعات‬
‫الديني الذي يقوم عىل اإلميان بأ َّن من شأن ذلك‬ ‫َّ‬ ‫والصالة ـ وفق رؤية جيمس ـ متثِّل الفعل‬
‫املوجود األعىل الذي يسمو عىل ذاتنا املتناهية وعاملنا املحدود أن يحقِّق فينا ويف العامل من‬
‫الديني فيقرتن دامئاً بالشعور‬
‫ُّ‬ ‫األحداث ما ال ميكن مطلقاً لهذا العامل وحده أن يحقِّقه‪ .‬وأ َّما التح ُّول‬
‫بفعل فائق للطبيعة من شأنه عىل حني فجأة أو بالتدريج أحياناً أن يُغيِّ من حياتنا بطريقة عميقة‬
‫وحاسمة‪ .‬وأ َّما يف الحاالت الصوفيَّة فإ َّن الذات تشعر باتِّحادها مع الله‪ ،‬كام تشعر برضب من‬
‫التح ُّول أو اإلبدال يف مركز طاقتها الشخصيَّة نتيجة ذلك االتحاد‪ ،‬وال متثِّل الحاالت الصوفيَّة‬
‫النفيس الذي‬
‫ِّ‬ ‫الديني‪ ،‬بل هي أعىل صورة من صور ذلك الشعور‬ ‫ِّ‬ ‫انحرافات يف صميم الشعور‬
‫يستويل علينا عند شعورنا بوجودنا‪ ،‬وقد ات َّسع باستغراقه يف موجود أعظم منا‪ ،‬وهذا الشعور نفسه‬
‫هو صميم الدين؛ عن طريق ع ِّده تجربة حيّة‪.‬‬
‫الديني يشعر بأ َّن عالقته بذلك املوجود األعىل‬
‫ُّ‬ ‫عىل كل حال‪ ،‬إ َّن الرجل املتديِّن أيَّاً يكن إميانه‬
‫الذي يتعلَّق به هي مصدر ق َّوته وطاقته ورجائه يف الحياة‪ ،‬ولهذا يستم ُّد من تلك العالقة نفسها‬
‫سعادة وسالماً وغبطة روحيَة ما كان ميكن مطلقاً أن يحصل عليها من طريق آخر[[[‪ .‬فالصالة‪ ،‬إذن‬
‫‪-‬كام يراها جيمس ‪ -‬متثِّل حلقة االتصال بني الله واإلنسان‪ ،‬فضالً عن كونها متثِّل ماه َّية الدين‬
‫الصحيح‪ ،‬وهو ال يعني بالصالة صلوات الدعاء‪ ،‬بل يرى أ َّن صالة الدعاء نوع واحد منها‪ .‬فهي‬
‫ـــ عنده ـــ نوع من العالقة الداخل َّية أو الحديث الباطني إىل ق َّوة مق َّدسة‪ ،‬وتتك َّون من الشعور‬
‫املوجود عند األفراد بعالقتهم مع الق َّوة العليا‪ ،‬يشعرون بأنهم مرتبطون بها‪ ،‬كام يرى أننا يف الصالة‬
‫نرى ق َّوة غري منظورة‪ ،‬ونرى أثرا ً لها يف حياتنا[[[‪.‬‬
‫أ َّما املتديِّن عند جيمس فهو الق ِّديس الذي يتملَّكه شعور بوجود عالقة تربطه بتلك الق َّوة‬

‫[[[‪ -‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬دراسات يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة مرص‪1968 ،‬م‪ ،‬ص (‪.)50 - 49‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص (‪.)52 – 51‬‬
‫[[[‪ -‬عويضة (محمد كامل)‪ :‬وليم جيمس (رائد املذهب الرباغاميت)‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتب العلم َّية‪ ،‬بريوت‪1993 ،‬م‪ ،‬ص ‪.166‬‬

‫‪116‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫الطبيعي أن تنشأ يف غمرة هذا‬ ‫ِّ‬ ‫العليا‪ ،‬وشعور بأ َّن أسمى رغباته تتمثَّل يف الخضوع لسلطانها‪ ،‬ومن‬
‫الشعور قدرات مختلفة مثل الصرب والجلَد والعزم؛ للقضاء عىل انفعاالت إنسان َّية مثل املخاوف‬
‫ويحل محلَّها ات ِّزان يُضفي سعادة عىل صاحبه‪ ،‬وال ب َّد من أ َّن الق ِّديس عىل هذا‬ ‫ُّ‬ ‫واالضطرابات‪،‬‬
‫الحسيَّة‪ ،‬وأن يتح َّول املركز‬
‫ِّ‬ ‫النحو يدرك إدراكاً فعليّاً رضورة التخلُّص من رغباته األنانيَّة ومن شهواته‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يل عنده من إرضاء الذات إىل املشاركة يف هذا الوجود الواسع الفسيح‪ ،‬ويقع ذلك اإلنسان‬ ‫االنفعا ُّ‬
‫حب خالص مع الله إذا ما ضعفت قواه الذهن َّية‪ ،‬أي توقَّفت القوى الربهان َّية‬ ‫املؤمن (الق ِّديس) يف ٍّ‬
‫االستدالليَّة عن العمل إلدراكه؛ لكونها ليست الوسيلة الصحيحة للوصول إىل الله‪ ،‬فيُقبل بغريزته‬
‫الحسيَّة واملنافع الدنيويَّة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الغريزي جميع العواطف اإلنسانيَّة‬
‫ُّ‬ ‫عىل الله‪ ،‬فيطرد ذلك اإلثبات‬
‫تعصباً‪ ،‬ولن يصبح الفرد‬ ‫ويُنبّه جيمس هنا من أ َّن هذا الحب إذا ما تط َّرف وبولغ فيه يصبح ُّ‬
‫يف هذه الوسيلة ق ِّديساً‪ ،‬بل سينقلب ذا ميول عدوانيَّة تجعل قداسته رذيلة ال فضيلة‪ ،‬ويؤكِّد نشوء‬
‫بكل قدراته وملكاته‬ ‫جه ِّ‬ ‫حالة من الصفاء عند الق ِّديس يف التجربة الدين َّية نتيجة إحساسه بأنه متو ِّ‬
‫وعواطفه نحو الله‪ ،‬ومن مظاهر الصفاء أن يعتقد الق ِّديس أ َّن ح َّبه لألب واالبن واإلخوة واألصدقاء‬
‫فسدة لحب الله‪ ،‬ويعتقد أ َّن واجبات األرسة وواجباته نحو املجتمع من معامالت ومجامالت‬ ‫َم َ‬
‫ووسائل التسلية املختلفة كلَّها عوائق يف سبيل الوصول إىل الصفاء‪ ،‬وينبغي أن يقيض عليها‬
‫وينقطع للخلوة‪ ،‬ومعناها عنده أن يُقسم الق ِّديس يومه عىل ساعات منظَّمة ألداء أعامله الدين َّية‪.‬‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن بعض املؤمنني عند خوضهم التجربة الدينيَّة ـــ بحسب رؤية جيمس‬
‫ـــ يشعرون بحاالت عرفان َّية أو صوف َّية‪ ،‬وهذه الحاالت تتَّسم بخصائص أربع هي[[[‪:‬‬
‫عميق حني يعود إىل حالته االعتياديَّة‪،‬‬
‫ٌ‬ ‫جرح‬
‫ٌ‬ ‫‪1-‬التعايل عن الوصف‪ :‬ينتاب العارف أو الصو َّ‬
‫يف‬
‫املوسيقي الذي ال يقدر عىل رشح جامليَّات‬
‫ِّ‬ ‫فيعجز عن وصف ما رآه وشاهده‪ ،‬شأنه يف ذلك شأن‬
‫املوسيقى لآلخرين‪.‬‬
‫‪ 2-‬معرف ّية التجربة‪ :‬رغم أ َّن التجربة الدينيَّة تندرج يف سياق الحاالت النفسيَّة مثل الغضب والرضا‬
‫كل ما لديها وقائع يف باطن اإلنسان نفسه وأعامقه‪ ،‬فهي‬
‫والجزع التي ال متنحنا ُمعطى معرف ّياً‪ ،‬وأ َّن َّ‬
‫تختلف عنها يف أنَّها تق َّدم بني أيدينا معرفة ما عن الخارج‪.‬‬
‫‪ 3-‬الرسعة واللَّ مكوث‪ :‬بإمكاننا النظر إىل يشء ما ساعات ع َّدة إذا شئنا ذلك‪ ،‬أما التجربة الدين َّية‬
‫للعارف فهي تجربة خاطفة ال تدوم لوقت طويل‪.‬‬
‫‪ 4-‬االنفعال َّية‪ :‬رغم أ َّن القيام ببعض اآلداب واملق ِّدمات ميكنه أن يهيِّئ لنا بعض الحاالت‬

‫‪[1]- James, William: The Varieties of Religious Experience, Published by Arc Manor, Printed in the‬‬
‫‪United States of America – United Kingdom, 2008. p. (366 - 367).‬‬

‫‪117‬‬
‫المحور‬

‫رصف‬
‫الصوف َّية‪ ،‬يشعر العارف مبج َّرد عروض هذه الحالة بأنَّه أصبح مسلوب اإلرادة‪ ،‬وكأنَّه تحت ت ُّ‬
‫قدرة وإرادة أعىل منه‪.‬‬
‫ً‬
‫ثالثا‪ :‬رودلف أوتو والرهبة الوحيانية‪:‬‬
‫يعتقد أوتو[[[ أ َّن الخربة الدين َّية تبدأ حني يتملَّكنا شعور بأنَّنا كائنات مخلوقة قبالة الكائن الخالق؛‬
‫فيتولَّد عندها إحساس اإلنسان املؤمن بالعبوديَّة تجاه معبود ميتلك القدرة املطلقة يف التحكُّم‬
‫بشؤوننا‪ ،‬فيتمخَّض عن هذه الخربة إحساس بالعدم َّية تجاه ذلك املوجود املق َّدس‪ .‬ويرضب أوتو‬
‫مثاالً لنمط من أمناط الخربة الدين َّية[[[ ما ورد يف الكتاب املق َّدس‪« :‬فأجاب إبراهيم وقال‪ :‬قد أقدمت‬
‫تجسد باإلحساس الحاجة والفقر واالرتهان يف‬ ‫عىل الكالم مع سيدي وأنا من تراب ورماد»[[[‪ ،‬إذ َّ‬
‫الديني‪ ،‬وهو إحساس ينبعث هائجاً من أعامق وجود اإلنسان حني يقف مواجهاً األمر‬ ‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫هذا‬
‫القديس‪ ،‬ومثل تلك الحالة تظهر ساعة العبادة واملناجاة‪ ،‬وتُفصح عنها عبارات مثل‪« :‬أنا من تراب»‬ ‫َّ‬
‫عب عن حالة العبد املستغرق يف عدم َّيته‪ ،‬وإىل جانب اإلحساس بالعبوديَّة الذي‬ ‫و»أنا من رماد»‪ ،‬لتُ ِّ‬
‫املعنوي لإلنسان‬
‫ُّ‬ ‫يُفرغ األشياء كلَّها من الوجود والقيمة معاً لينزل بها حد العدم‪ ،‬يتجلَّ األمر‬
‫رسا ً‪ ،‬فيصبح اإلنسان يف حالة من االنبهار والحرية واإلعجاب‪.‬‬ ‫بوصفه واقعاً عينيّاً مبارشا ً وبوصفه َّ‬
‫اإللهي بقوله‪« :‬يرد‬
‫َّ‬ ‫ين ساعة الدخول إىل ساحة اللقاء‬ ‫يحاول أوتو أن يصف الشعور اإلنسا َّ‬
‫إحساس مثل ملعة برق أو مثل نسيم خاطف يداعب القلب ويثريه؛ فيمأل الروح طأمنينة وقد تولَّد‬
‫من أعامق العبادة‪ ،‬وباإلمكان تحول هذا اإلحساس إىل وضعيَّة روحيَّة أكرث ثباتاً وبقا ًء‪ ،‬فيستديم‬
‫جر من‬ ‫ارتعاشاً من الخوف واالنقياد‪ ،‬وقد يظهر هذا اإلحساس مثل غليان ثائر وبركان هائج يتف َّ‬
‫بحراك شديد أو هيجان غريب غري معتاد إطالقاً؛ فيغدو اإلنسان معه مثل‬ ‫أعامق الروح‪ ،‬مصحوباً ِ‬
‫العاشق الولهان أو مثل املجنون التائه الذي انفرط عقد سيطرته عىل نفسه فخرجت األمور عن‬
‫سيطرته أو مثل السكران املنتيش الذي فقد إحساسه مبا يدور حوله»[[[‪.‬‬
‫املعنوي عند أوتو يف سمتني متقابلتني‪ ،‬فمن جهة هو حقيقة ُمخيفة مهيبة؛ لذلك‬ ‫ُّ‬ ‫يتجلَّ األمر‬
‫يتجلَّ يف أحوال صاحب الخربة‪ ،‬فتظهر خوفاً ورعباً ورهب ًة وهلعاً عظيامً وانبهارا ً وتع ُّ‬
‫جباً‪ ،‬ومن جهة‬

‫[[[‪( -‬رودولف أوتو) (‪ )Otto, Rudolf(1869 - 1937‬م‪ :‬فيلسوف أملاين‪ ،‬أستاذ الفلسفة والالَّهوت وتاريخ األديان يف جامعة غوتنغن‬
‫وفروكالف وماربورغ‪ ،‬رفض كل تفسري عقالين للدين‪ ،‬درس املقدَّ س دراسة فينومينولوج َّية عاداً ال ُبعد املقدَّ س يف األديان اليشء الطاغي‬
‫رصفاتهم‪ .‬من أعامله‪( :‬فكرة املقدَّ س)‪ ،‬و(العرفان الرشقي والغريب)‪ ،‬و(الدين واملذهب الطبيعي)‪ ،‬و(فلسفة الدين عند‬ ‫عىل عقول الناس وت ُّ‬
‫كانط وفريس)‪ ،‬و(القانون األخالقي وإرادة الله)‪.‬‬
‫‪[2]- Otto, Rudolf: The Idea of the Holy, translated by John Harvey, New York – Oxford University Press,‬‬
‫‪1958, p. 8.‬‬
‫[[[‪ -‬الكتاب املقدَّ س‪ :‬العهد القديم‪ ،‬سفر التكوين‪ ،‬اإلصحاح ‪ ،18‬آية ‪ ،27‬ص ‪.94‬‬
‫‪[4]- Otto, Rudolf: The Idea of the Holy, 12.‬‬

‫‪118‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫أخرى هو واقع جذّاب يخطف القلوب ويسلبها شا َّدا ً السالك بقوة إىل ناحيته ليح ِّوله عاشقاً ولِهاً‬
‫متحيا ً به‪ ،‬وهذان اإلحساسان‪ :‬إحساس الخوف والخشية‪ ،‬وإحساس الشوق والجذب‪ ،‬إحساسان‬ ‫ِّ‬
‫متعادالن ومتوازنان‪.‬‬
‫املعنوي هي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫وقد ح َّدد أوتو عنارص ثالثة عند تحليله لهيبة األمر‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ - 1‬الخوف‪ :‬يختلف امل ُراد من مفهوم الخوف هنا عن حالة الهلع والخوف الحاصلني عند‬
‫اإلنسان حني يواجه العوامل الطبيع َّية امل ُه ِّددة له‪ ،‬بل ال ميكن تصنيف هذا االختالف عىل أساس‬
‫اختالف الش َّدة والضعف‪ ،‬فالخوف املنبعث من اإلنسان أمام الله يختلف كثريا ً عن الخوف عىل‬
‫النفس‪.‬‬
‫‪ - 2‬العظمة والجالل‪ :‬يبعث هذا ال ُبعد يف الوجود اإلنساين شعور العدم َّية والفناء‪ ،‬وعىل حد‬
‫النبي إبراهيم وفق ما جاء يف الكتاب املق َّدس «أنا من تراب ورماد»‪ ،‬فكلَّام تنامى إحساس‬
‫ِّ‬ ‫تعبري‬
‫أحس اإلنسان أكرث بعدميته وقلة شأنه‪.‬‬
‫َّ‬ ‫املعنوي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫العظمة والجالل يف األمر‬
‫املعنوي الذي يحاول أوتو أن يرشحه باستعامله تعبري‬
‫ِّ‬ ‫‪ - 3‬السطوة‪ :‬وهو البُعد الثالث لهيبة األمر‬
‫«السطوة»‪ ،‬وهي كلمة تحمل يف اللُّغة معاين الهجوم واملهابة والعظمة والجاه والجالل والش َّدة‬
‫اإللهي مالحظاً‬
‫ِّ‬ ‫والقهر والغلبة‪ .‬ويرى أوتو أ َّن هذه الخصوص َّية تبدو ح َّية نابضة يف حاالت الغضب‬
‫يف تعبريات نحو‪« :‬شديد العقاب» و»املنتقم» و»الجبار»‪ ،‬وأمثال ذلك بيانات متثيل َّية تُظهر بوضوح‬
‫الحراك‬‫املعنوي املتعايل اإلنسان يف ج ٍّو عارم من ِ‬
‫ِّ‬ ‫السمة املشار إليها‪ ،‬وتلقي هذه الناحية من األمر‬
‫والغليان‪ ،‬وتخلق فيه إرادة كبرية لتح ُّمل الرياضات الشاقَّة‪ ،‬والسبق إىل التقوى‪ ،‬والبُعد عن الدنيا‪.‬‬
‫القديس الذي يتملَّكنا حني نخوض تجربة مع‬ ‫ِّ‬ ‫إ َّن إحساس الهيبة الذي نشعر به تجاه األمر‬
‫تجل يوحي بالتناقض ـــ بحسب رؤية أوتو ـــ فمن جهة نشعر به جذَّاباً يخطف‬ ‫الله‪ ،‬يبدو لنا يف ٍّ‬
‫القلوب‪ ،‬منادياً إيَّاها نحوه إذا ما وقف اإلنسان وقفة متقابلة ومبارشة معه‪ ،‬ومينح اإلنسان السكينة‬
‫ويغرقه يف هالة من األُنس واملعرفة‪ ،‬ومن جهة أخرى نجده قويّاً وحا ّدا ً وثقيالً يأخذ روح اإلنسان‬
‫بقوة وقهر فيذرها رصيعة الخوف والرعشة والرهبة‪ ،‬وكِال الجانبني ميثِّل وحدة متناسقة رغم ما‬
‫املعنوي يجذب اإلنسان نحوه‪ ،‬ويف الوقت نفسه‬ ‫ِّ‬ ‫بينهام من تغاير واختالف‪ ،‬فذاك اإلدراك لألمر‬
‫يبعث فيه شعور الرهبة والهيبة‪ ،‬وكلَّام تضاعفت أمواج الخوف وتجلَّت بأفظع صورها‪ ،‬وه َّزت‬
‫ّْ‬
‫املعنوي[[[‪ .‬واألحاسيس التي‬ ‫السالك ه َّزا ً عنيفاً؛ تنامت بازدياد مشاعر امليل والشوق لذلك األمر‬
‫تنتاب املؤمن من الخوف واالرتعاش والعشق واالنجذاب والعبوديَّة والحرية أمام موجود مغاير‬
‫لكل يشء‪ ،‬هي أحاسيس شائعة يف الثقافات املختلفة التي تختلف كثريا ً يف اللُّغة والتعاليم‬
‫متاماً ِّ‬
‫‪[1]- Otto, Rudolf: The Idea of the Holy, 31.‬‬

‫‪119‬‬
‫المحور‬

‫والعقائد والسلوك َّيات‪ ،‬وهو أمر ميكنه أن يؤلِّف دليالً عىل أ َّن النواة املشرتكة والرئيسة يف الدين‪،‬‬
‫إمنا تك ّونها هذه األحاسيس وتلك املشاعر‪ ،‬وهي عينها التي تكشف بجالء عن حقيقة التجربة‬
‫الدينيَّة[[[‪.‬‬
‫يؤكِّد أوتو أ َّن الكثري من تجارب ال ُعرفاء واملتص ِّوفة الدين َّية تستعيص عىل الرشح والتفسري‪،‬‬
‫كل ما كتبه وما وصف به أولئك‬ ‫إذ ال يتس َّنى نقلها إىل اآلخرين بلباس العبارات واأللفاظ‪ ،‬ورغم ِّ‬
‫كل ما تركوه من أثر بالغ يف ثقافة عرصهم‬ ‫ال ُعرفاء واملتص ِّوفة مشاهداتهم الروحيَّة‪ ،‬فضالً عن ِّ‬
‫رصون عىل أن ما‬ ‫والعصور التي تلتهم‪ ،‬إنهم حني يُطلقون ألسنتهم يف رشح حاالتهم وتفسريها‪ ،‬يُ ُّ‬
‫رأوه باملشاهدة وما ملسوه بالتجربة يأىب االنصياع لنظام اللغة والداللة والتفسري؛ لذلك نجد أوتو‬
‫الديني يف عرضهم ملفهوم األلوهيَّة‪ ،‬إذ يعرضون الله يف توليفة‬ ‫ِّ‬ ‫يُعارض ال ُعقالء من رجال الفكر‬
‫من املفاهيم العقالنيَّة مستعينني مبفاهيم الحكيم واملريد والقادر واملطلق‪ ،‬إالَّ أ َّن الحقيقة تك ُمن‬
‫يف كوننا عاجزين عن أن نصل إىل كُنه الذات اإلله َّية عن طريق هذه املفاهيم واألوصاف‪ .‬ومن‬
‫ين‪ ،‬وهذه الالَّعقالن َّية تعبِّ عن صعوبة انسياق‬ ‫ث َم يعتقد أوتو أن متعلِّق التجربة الروح َّية غري عقال ٍّ‬
‫يدل عىل أ َّن عدم إحكام املفاهيم الذهنيَّة‬ ‫املفهومي‪ ،‬ومن الواضح أ َّن هذا ُّ‬
‫ِّ‬ ‫هذا الجانب لإلدراك‬
‫وشكل تبلورها يف اإلنسان؛ حال دون قدرة اإلنسان عىل كشف الذات املعنويَّة عىل ما هي عليه‬
‫يف الواقع‪.‬‬
‫معبة عن التجربة الروحيَّة إذ يلتقي فيها العبد معبوده يف لغة متثيليَّة‬ ‫ت ُع ُّد اللُّغة الدينيَّة عند أوتو ِّ‬
‫تقوم عىل أ َّن األوصاف التي ت ُطلق عىل الله إمنا تأيت عىل نحو االستعارة‪ ،‬إالَّ أنَّه يذهب من جهة‬
‫ثانية إىل الترصيح بأ َّن اللُّغة الدين َّية تعبري عن األحاسيس واألحوال الدين َّية التي ال يجدر بنا وضعها‬
‫يف سياق األنظمة العقل َّية‪ ،‬وأ َّن أيَّة محاولة تستهدف عرض املعطيات الدين َّية بوساطة مفاهيم فلسف َّية‬
‫تؤ ِّدي ال محالة إىل تحريف وسوء فهم‪ .‬وهو يرى أ َّن جوهر الدين ونواته املركزيَّة تلك األحاسيس‬
‫واألحوال الروح َّية؛ ومن ث َ َّم كانت اللُّغة الدين َّية نفسها تعبريا ً عن هذه األحوال أيضاً‪ ،‬لذلك ال ب َّد من‬
‫مالحظة هذه األحوال للقيام مبحاولة تفسري وفهم ملدلوالت هذه اللُّغة‪ ،‬أي أ َّن اإلطاللة عىل الدين‬
‫من هذه الزاوية سوف تجعل النصوص الدين َّية توليفة من املناجاة واألدعية واالبتهاالت واألشعار‬
‫التي تجري عىل ألسنة العرفاء واملؤمنني انطالقاً من أمناط مشاعرهم الدينيَّة‪.‬‬
‫وحري بنا أن نتط َّرق إىل ذكر ٍ‬
‫بعض من صنوف الخربة أو التجربة الدين َّية نحو‪:‬‬ ‫ٌّ‬
‫‪ - 1‬التجارب التفسرييَّة‪ :‬املقصود من هذه التجارب تلك املجموعة من التجارب التي ال تأخذ‬

‫[[[‪ -‬شريواين (عيل)‪ُ :‬‬


‫األ ُسس النظريَّة للتجربة الدين َّية (قراءة نقديَّة مقارنة آلراء ابن عريب ورودلف أتو)‪ ،‬ترجمة‪ :‬حيدر حب الله‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫الغدير للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪2003 ،‬م‪ ،‬ص ‪.137‬‬

‫‪120‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫صبغتها الدين َّية من خصائص التجربة نفسها‪ ،‬بل من كونها وقعت يف املقروء عىل وفق شبكة‬
‫يطل عىل تجربته عىل أساس‬ ‫التفسري الدين َّية‪ ،‬ويف حاالت من هذا النوع يحاول صاحب التجربة أن َّ‬
‫سيفس‬
‫ِّ‬ ‫مسيحي‪ ،‬فإ َّن األخري‬
‫ٍّ‬ ‫منظومة تفسرييَّة قبليَّة يحملها‪ ،‬ويبدو ذلك حني ميوت ولد ملؤمن‬
‫هذا األمر من باب مشاركة املسيح يف آالمه؛ ويرتت َّب عىل ذلك أن يصرب ويصمد إزاء ما حدث له‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ليشعر بعدها باألمل يعترص فؤاده أو اللذَّة والرسور ميآلن قلبه‪ ،‬وحالة من هذا النوع ميكن تصنيفها‬
‫يف التجارب الدين َّية‪.‬‬
‫الحواس‬
‫ِّ‬ ‫الحس بوساطة‬
‫ِّ ِّ‬ ‫الحس َّية‪ :‬هذه التجارب نوع من تجارب اإلدراك‬ ‫ِّ‬ ‫‪ - 2‬التجارب شبه‬
‫الخمس‪ ،‬وميكن تحت هذا العنوان إدراج الرؤى الدين َّية‪ ،‬كأن يشعر إنسان ما بوجود الله بتجلِّيه‬
‫يف شخصيَّة مق َّدسة أو يف مشاهدته لبحر عظيم وما إىل ذلك أو أن يشعر بوجود الله بوساطة يشء‬
‫س‪ ،‬كام حدث للتجربة التي م َّر بها موىس‪ ‬حني كلَّمه الله تعاىل‪ ،‬أو أن يشعر بوجود الله‬ ‫ح ّ‬
‫ُم َ‬
‫شخيص‪ ،‬كام حدث يف تجربة مريم العذراء حني متثَّل لها الروح األمني شخصاً‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫بوساطة حادث‬
‫‪ - 3‬تجارب الوحي‪ :‬يشتمل هذا النوع من التجارب عىل الوحي واإللهام أو البصرية الفجائيَّة‪،‬‬
‫وهذا النوع من التجارب يظهر فجأة لإلنسان الخائض يف تلك التجربة من غري ترقب سابق‪،‬‬
‫الديني نظرا ً ملحتواه‪ ،‬وغالباً ما يحصل اإلنسان عن طريق هذا النوع من التجارب‬
‫َّ‬ ‫ويكتسب طابعه‬
‫عىل معارف جديدة‪.‬‬
‫‪ - 4‬التجارب اإلحيائ َّية التجديديَّة‪ :‬هذه املجموعة من التجارب من أكرث أنواع التجارب الدين َّية‬
‫رواجاً وشيوعاً‪ ،‬فالكثريون يرهنون إميانهم بتجارب من هذا النوع‪ ،‬والتجربة اإلحيائ َّية تجربة دين َّية‬
‫ت ُربز إميان صاحبها وترفعه إىل السطح ومستوى الظهور‪ ،‬وتوجب تغريات مه َّمة يف حياته الروحيَّة‬
‫والخلقيَّة‪ ،‬وصاحب هذه التجربة يشعر أن الله يهديه يف ضمن وضع خاص‪ ،‬ويأخذ بيده نحو‬
‫الحقيقة‪.‬‬
‫قسمه أوتو إىل قسمني هام‪« :‬عرفان‬ ‫‪ - 5‬التجارب الروح َّية والعرفان َّية‪ :‬هذا النوع من التجارب يُ ِّ‬
‫التأ ُّمل الباطني» و»عرفان مشاهدة الوحدة»‪ ،‬ويف عرفان التأ ُّمل الباطني يُعرض العارف عن األشياء‬
‫جهاً بدالً من ذلك إىل باطنه‪ ،‬فيغرق يف أعامقه ساعياً للوصول‬ ‫حيها جانباً متو ِّ‬ ‫املحيطة به‪ ،‬ويُن ِّ‬
‫إىل القدرة القدسيَّة أو العميقة التي يعتقد أوتو أنها تقع يف املركز أو يف أقىص نقاط الروح‪ ،‬ومن‬
‫املمكن أن تتَّحد هذه القدرة القدسيَّة والواقع مع ذات العارف‪ ،‬ويسعى العارف يف هذا العرفان‬
‫أي إحساس‪ ،‬وهذا الذي يجري بالتمركز التام‬ ‫حواسه الجسم َّية حتى ال ينفذ إىل وعيه ُّ‬ ‫ِّ‬ ‫إلغالق نوافذ‬
‫يف أم ٍر ما‪ ،‬فإذا نجح اإلنسان يف جعل تفكريه وكيانه كلِّه يف حالة تركيز عىل نقطة واحدة‪ ،‬فإ َّن بق َّية‬
‫حس األمل لن يكون لها من سبيل إىل وعيه وإدراكه‪ ،‬بل ستقف بذلك‬ ‫الصور واألحاسيس ومنها ُّ‬

‫‪121‬‬
‫المحور‬

‫الحس وهجامته‪ ،‬ونجاحه يف تطهري‬


‫ِّ‬ ‫جميع الطرق واملنافذ أمامها‪ ،‬وبعد تح ُّرر العارف من غزوات‬
‫ٍ‬
‫حينئذ لتصفية ذهنه من ُمجمل األفكار االنتزاعيَّة‪،‬‬ ‫الحسيَّة جميعاً‪ ،‬يسعى‬
‫ِّ‬ ‫صفحة وعيه من الصور‬
‫والطرق العقليَّة االستدالليَّة‪ ،‬ومن امليول والرغبات‪ ،‬وبقية املخزونات الذهنيَّة‪ ،‬وعند ذاك لن يبقى‬
‫من مخزون يف ذهنه‪ ،‬بل عمق فارغ وفراغ محض‪ ،‬واستنادا ً إىل ما يذكره ال ُعرفاء مبختلف أنواعهم‬
‫بشأن هذا األمر‪ ،‬يحصلون يف هذه املرحلة عىل حالة من الوعي واإلدراك املحض والتن ُّبه الخالص‪،‬‬
‫ألي موضوع أو‬
‫والسبب يف تسمية ذلك باملحض والخالص واألصيل هو عدم وجود نظر أصالً ِّ‬
‫كل‬
‫تجريبي‪ ،‬فليس من مضمون غري الذات (ذات العارف)‪ ،‬وإذ افتقدت هذه التجربة َّ‬
‫ٍّ‬ ‫محتوى‬
‫عب عنها العرفاء غالباً بـ»العدم»‪ ،‬وميكن القول أ َّن العارف يف هذه التجربة‬
‫محتوى ومضمون‪ّ ،‬‬
‫يتح َّرر من قيد النفس التجريب َّية فتظهر بعد ذلك النفس البحتة البسيطة‪.‬‬

‫أ َّما يف «عرفان مشاهدة الوحدة»‪ ،‬فيذكر أوتو أ َّن العارف يف هذا القسم سيدرك وحدة الطبيعة‪،‬‬
‫إذ يرى اتحاد الظواهر الطبيع َّية وأحداث الطبيعة بعضها مع بعض‪ ،‬وستغدو األشياء يف نظره شفافة‬
‫مشعة مضيئة ومرئية‪ ،‬وهناك سيتوقف الزمن‪ ،‬وبعدها ستظهر القدرة الكامنة وراء الطبيعة حيث‬
‫الواحد القابع وراء حجاب الكرثة‪ ،‬ومن ث َ َّم سوف تُقىص الطبيعة وت ُستبعد من امليدان‪ ،‬فيشاهد‬
‫العارف الواحد بال كرثة مهام كانت وكيفام كانت وأيَّة كرثة كانت‪.‬‬
‫ً‬
‫رابعا‪ :‬غابرييل مارسيل‪:‬‬

‫رصح مارسيل[[[ بأ َّن الذات اإلله َّية تنكشف لنا عن طريق املح َّبة واملشاركة ال عن طريق‬ ‫يُ ِّ‬
‫اإلثبات والربهنة‪ ،‬وأ َّن عبادة الله متثِّل الطريقة الوحيدة للتفكري فيه والوجود معه‪ ،‬ومعنى هذا أ َّن‬
‫اإللهي ينكشف للمؤمن يف لحظة العبادة حني يشارك الذات اإللهيَّة‪ ،‬ويتعبَّد لها‪ ،‬ويتعلَّق بها‪،‬‬
‫َّ‬ ‫الرسَّ‬
‫ويتواصل معها‪ .‬واإلميان يف نظره ليس مبنزلة إميان بيشء‪ ،‬بل هو تعلُّق بذلك «األنت املطلق»‬
‫الديني وليد‬
‫َّ‬ ‫الحب؛ أل َّن االعتقاد‬
‫ِّ‬ ‫كل شخص‪ ،‬ومن املستحيل فصل اإلميان عن‬ ‫الذي يفوق َّ‬
‫ديني‪ ،‬وما إن‬
‫التمسك بصيغة الهوت َّية أو معتقد ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫املشاركة يف «األنت» والوفاء له‪ ،‬أكرث ممَّ هو وليد‬
‫جه إىل حقيقة طبيعيَّة؛‬
‫جر يتو َّ‬
‫موضوعي متح ِّ‬
‫ٍّ‬ ‫يتج َّرد اإلميان من الحب حتى يتح َّول رسيعاً إىل معتقد‬
‫يتجسد يف الفعل الذي مبقتضاه‬
‫َّ‬ ‫الحقيقي ـــ بحسب رؤية مارسيل ـــ‬
‫ِّ‬ ‫لذلك نجد مصداق اإلميان‬

‫وجودي‪ ،‬عمل أستاذاً يف جامعة السوربون‪،‬‬


‫ٌّ‬ ‫فرنيس‬
‫ٌّ‬ ‫[[[‪( -‬غابرييل مارسيل) (‪ )Marcel, Gabriel 1889 - 1973‬م‪ :‬فيلسوف وكاتب‬
‫يرى أنَّ الفلسفة تستطيع عن طريق التحليل استكشاف التجربة الوجوديَّة التي تعني حياة الفرد الروح َّية والتي عن طريقها يستطيع اإلنسان‬
‫رس وجوده‪ ،‬وهذه التجربة غري عقالن َّية يف جوهرها‪ ،‬وتشتمل عىل أرسار عدَّ ة‪ .‬من أعامله‪( :‬الوجود واملوضوع َّية)‪ ،‬و(الكينونة‬
‫االقرتاب من ِّ‬
‫والتملُّك)‪ ،‬و(من الرفض إىل االبتهال)‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫يُك ِّون الفرد من نفسه شخصاً بتأكيده العالقة الروح َّية التي تجمع بينه وبني الذات غري املتناهية أو‬
‫كل لحظة بأنَّنا ناقصون وغري مكتملني‪ ،‬لكن هذا الشعور نفسه‬
‫«األنت املطلق»‪ ،‬ونحن نشعر يف ِّ‬
‫يولِّد يف نفوسنا شعور االعتامد عىل الحريَّة اإللهيَّة التي تستطيع وحدها أن توقظ حريَّتنا وتكملها‬
‫وتس ُّد ما فيها من نقص‪ ،‬وليس تفتُّح الشخص َّية عن طريق الصداقة والتالقي واملح َّبة سوى صورة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫اإللهي الذي مبقتضاه تكتشف الحريَّة البرشيَّة ذاتها حني تالقي الحريَّة اإلله َّية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫باهتة لذلك الفعل‬
‫وهنا نجد الصلة بني املؤمن والله‪ ،‬صلة روحيَّة تشبه إىل ح ٍّد كبري صلة املحبَّة التي تجمع بني‬
‫مخلوقني يبادل أحدهام اآلخر حباً بحب‪.‬‬

‫رصح‬
‫فالصلة بيني وبني الله الذي هو أقرب من نفيس إىل نفيس‪ ،‬صلة بني شخصني ـــ كام يُ ِّ‬
‫الحقيقي؛ ألنَّني بالصالة والدعاء أُشارك منبع وجودي‬
‫ِّ‬ ‫يخصني مبدأ اإلبداع‬
‫ُّ‬ ‫مارسيل ــــ وهي يف ما‬
‫يف ات ِّحاد ال يبلغ مداه التعبري‪ ،‬وهنا تتح َّول امليتافيزيقا إىل تص ُّوف‪ ،‬ومل يكن ذلك الحوار وتلك‬
‫الصالة آتيني من الخارج‪ ،‬بل انبثقا من أعامق وجودي نفسه مثل النبض‪ ،‬وهذا يشعرين بوجود‬
‫يل أن أجعل وجودي غزيرا ً‪ ،‬وأن أحيا وجودا ً أكمل ما يكون امتال ًء‪ ،‬ومن ث َ ّم سيكون‬
‫التزام يفرض ع َّ‬
‫اإللهي‪ ،‬نازعاً نحو االتحاد الكامل عىل قدر اإلمكان‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫واجبي الدائم أن أبقى متأ ِّهباً باستمرار لإللهام‬
‫األخالقي‬
‫ِّ‬ ‫عب عنها‪ ،‬محافظ ًة تسلك طريق الزهد‬
‫واملحافظة عىل أولويَّة الوجود والقيم التي يُ ّ‬
‫الحقيقي‪ ،‬وهذا معناه يف نهاية األمر التسليم لله[[[‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ألي فرد ـــ من وجهة نظر مارسيل ـــ الحكم عىل معتقد فرد آخر؛ أل َّن اإلميان‬
‫ال ميكن ِّ‬
‫كل فرد منا‪ ،‬أعني بصميم العالقة التي تربطه بـ»األنت املطلق»؛ ومن ث َ َّم يكون‬
‫وثيق الصلة بوجود ِّ‬
‫لكل مؤمن عالقة‬
‫يل وضع نفيس موضع اآلخر ليك أفهم حقيقة إميانه‪ ،‬ومعنى هذا أن ِّ‬
‫مستحيالً ع َّ‬
‫اإللهي؛ وتبعاً لذلك تكون األنا يف‬
‫ِّ‬ ‫رس‬
‫فريدة أصيلة بالله‪ ،‬وهذه العالقة تح ِّدد طريقته يف رؤية ال ِّ‬
‫عبارة «أنا أومن» شخص َّية إىل الح ِّد الذي يستحيل معه الحكم عىل إميان اآلخرين‪ ،‬مثلام كانت‬
‫كل االختالف عمَّ قد‬
‫الشخص َّية اإلنسان َّية تبدو يف نظر الشخص الذي يح ُّبها ويتعلَّق بها مختلفة َّ‬
‫املوضوعي غري املكرتث أو للعامل الذي يبقى منفصالً متاماً عنها‪ ،‬كذلك نجد‬
‫ِّ‬ ‫تبدو عليه لإلنسان‬
‫كل االختالف عن الله الذي يؤكِّده اإلنسان املؤمن‪،‬‬
‫يل مختلف َّ‬
‫أ َّن الله الذي يُنكره الفيلسوف العق ُّ‬
‫أي ذات ح َّرة ُمشخَّصة أن تكشف ألولئك الذين يشاركونها عن جوانب مختلفة‬
‫وإذا كان يف وسع ِّ‬
‫خاصة فريدة يف نوعها‬
‫َّ‬ ‫أي مؤمن أن يك ِّون مع الله عالقة‬
‫من صميم وجودها‪ ،‬فإ َّن يف استطاعة ِّ‬

‫[[[‪ -‬كامل (فؤاد)‪ :‬أعالم الفكر الفلسفي املعارص‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الجيل‪ ،‬بريوت‪1993 ،‬م‪ ،‬ص ‪.232‬‬

‫‪123‬‬
‫المحور‬

‫ال يدركها سواه؛ ونتيجة لذلك يتَّضح أن ما يُك ِّون صميم وجودي هو اعتقادي‪ ،‬فليس اإلميان‬
‫اعتقادا ً مج َّردا ً ملجموعة من الوقائع املوضوعيَّة‪ ،‬أو تصديقاً مج َّردا ً لبعض القضايا‪ ،‬بل هو عالقة‬
‫روحيَّة ت ُك ِّون صميم وجودي‪ ،‬ومل َّا كان الوجود يف نظر مارسيل ال ينفصل عن املعيَّة أو العالقات‬
‫الشخص َّية املتبادلة‪ ،‬مل يكن بُ ٌّد من أن تكون صلة اإلنسان بالله مبنزلة الدعامة التي يرتكز عليها‬
‫الوجود‪ ،‬وإذا كان يف استطاعتنا أن نجعل اآلخرين موضوعات مج َّردة‪ ،‬فإ َّن الله هو ذلك اآلخر‬
‫ظل‬
‫الذي ال ميكن أن نجعله موضوعاً‪ ،‬ومعنى هذا أ َّن الله ال ميكن أن يكون هو الله‪ ،‬اللَّهم إالَّ إذا َّ‬
‫مبنزلة «األنت املطلق»‪ ،‬وال سبيل لبلوغ هذا األنت املطلق‪ ،‬إالَّ بالحوار أو االبتهال أو الصالة‪.‬‬

‫بعد عرض رؤية الفالسفة املعارصين تجاه العالقة بني الله واإلنسان ضمن نطاق التجربة‬
‫الدينيَّة‪ ،‬ميكننا استخالص بعض النتائج عىل النحو اآليت‪:‬‬

‫كريكغارد‪:‬‬

‫‪ -‬التجربة الدينيَّة متثِّل مشاركة بني اإلنسان والله‪.‬‬

‫‪ -‬ال يهت ُّم كريكغارد مبوضوع إثبات وجود الله باألدلة العقلية‪.‬‬

‫‪ -‬املواجهة يف التجربة الدين َّية تكون بني كائن متنا ٍه (اإلنسان املؤمن)‪ ،‬وكائن غري متنا ٍه (الله)‪.‬‬

‫‪ -‬كلَّام ازداد شعور اإلنسان بالنقص؛ ازداد يقيناً بوجوده مع الله‪.‬‬

‫‪ -‬التألُّم الذي يعانيه الله يك يشارك اإلنسان آالمه يتمثَّل بشخص املسيح‪.‬‬

‫‪ -‬العذاب النفيسُّ ُيثِّل حليفاً للخربة الدينيَّة‪.‬‬

‫‪ -‬العزلة عن اآلخرين من مق ِّدمات االتصال بالله‪.‬‬

‫‪ -‬ال يهت ُّم كريكغارد مبوضوع اإلميان بقدر اهتاممه بالكيفيَّة التي يتجلَّ فيها ذلك اإلميان‪.‬‬

‫‪ -‬التجربة الدين َّية تُ ثِّل جوهر الدين‪.‬‬

‫‪ -‬الصالة هي صلة العبد مبعبوده‪.‬‬


‫وليم جيمس‪:‬‬
‫‪ -‬يشارك جيمس سابقه كريكغارد يف ع ِّد جوهر الدين ممثِّالً التجربة الدين َّية‪ ،‬فضالً عن عدم‬
‫جه صوب التجربة املعيشة‪.‬‬
‫االهتامم مبوضوع إثبات وجود الله باألدلَّة العقليَّة‪ ،‬والتو ُّ‬

‫‪124‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫‪ -‬ال يأبه جيمس للعبادة الشكل َّية (املامرسة الطقس َّية الظاهرة)‪ ،‬ويُركِّز عىل العبادة الروح َّية‬
‫(املامرسة الطقسيَّة الباطنيَّة)‪.‬‬
‫‪ -‬نظرة جيمس للخربة الدينيَّة نظرة براغامتيَّة‪ ،‬إذ يركِّز فيها عىل اآلثار الناجمة عن تلك التجربة‪،‬‬
‫من غري اهتامم بأُ ُسس العقيدة‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ -‬الدخول إىل ساحة التجربة الدين َّية ُيثِّل الدخول يف مشاركة مع الله؛ لتحقيق الخري يف هذا‬
‫رشّ‪.‬‬
‫العامل ومحاربة ال ْ‬
‫‪ -‬الخربة الدين َّية تُلهم املؤمن طأمنينة النفس وراحة البال‪.‬‬
‫‪ -‬رغم كون التجربة أو الخربة الدينيَّة مبدأً مشرتكاً بني األديان‪ ،‬إالَّ أ َّن الحكم عليها يكون نسبيَّاً‪،‬‬
‫وتتن َّوع تلك الخربات الدين َّية بتن ُّوع أصحابها‪.‬‬
‫العبادي من مناجاة وابتهاالت‪ ،‬وما ينتج‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬يُركِّز جيمس عىل الصالة وما يتض َّمنه ذلك الطقس‬
‫نفيس يف امل ُصلِّ ‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫عنه من أثر‬
‫‪ -‬ال ميكن التعبري عن املشاعر واالنفعاالت التي تولَّدت داخل التجربة الدينيَّة بلغة الحياة‬
‫االعتياديَّة‪.‬‬
‫‪ -‬يكتسب بعض ال ُعرفاء واملتص ِّوفة معارف جديدة من التجربة الدين َّية‪.‬‬
‫‪ -‬يفقد املؤمن زمام السيطرة عىل نفسه حني يخضع ملؤث ِّرات مواجهة الله‪.‬‬
‫رودلف أوتو‪:‬‬
‫‪ -‬يُركِّز أوتو عىل حالة التغاير التام بني املؤمن (الكائن املتناهي)‪ ،‬مع الله (الكائن الالَّمتناهي)‪.‬‬
‫‪ -‬الشعور بالتبعيَّة والحاجة إىل الله ُيثل بوابة الدخول إىل حلبة التجربة الدينيَّة‪.‬‬
‫‪ -‬مث َّة شعوران متغايران ينبثقان من النفس ساعة مواجهة الله هام‪ :‬شعور الخوف وشعور الشوق‪.‬‬
‫‪ -‬يُشارك أوتو جيمس يف عدم إمكان التعبري عن مشاهدات التجربة الدينيَّة وانفعاالتها ونقلها‬
‫ُعبة عن تلك التجربة وما حدث فيها‬
‫اللغوي املتعارف؛ لذلك كانت اللُّغة امل ِّ‬
‫ِّ‬ ‫إىل اآلخرين بالنظام‬
‫من باب التمثيل‪.‬‬
‫‪ -‬يُص ِّور أوتو مراحل التجربة الدين َّية عن قُرب؛ ملعايشته تلك التجارب‪ ،‬وهو بذلك يشارك‬
‫كريكغارد يف ذلك‪ ،‬لكنهام يختلفان عن جيمس؛ أل َّن األخري اعتمد عىل الدراسة امليدان َّية وجمع‬

‫‪125‬‬
‫المحور‬

‫املالحظات من اآلخرين الذين دخلوا معرتك التجربة الدين َّية‪.‬‬


‫يل‪ ،‬وال ميكن وضعه‬
‫‪ -‬تشتمل الحقيقة الغائ َّية عىل بُعد ال ميكن الوصول إليه باالستدالل العق ِّ‬
‫يف قوالب مفهوميَّة‪ ،‬والسبيل الوحيد لبلوغ ذلك البُعد هو الدخول يف خض ِّم التجربة الدينيَّة‪.‬‬
‫‪ -‬يشرتك أوتو مع من سبقه يف ع ِّد التجربة الدين َّية جوهر الدين‪.‬‬
‫غابرييل مارسيل‪:‬‬
‫الروحي بالذات الالَّمتناهية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬اإلميان عند مارسيل يكمن يف التعلُّق‬
‫‪ -‬يشارك مارسيل من سبقه يف كونه ال يُدلِّل عىل وجود الله بالربهنة االستدالل َّية‪ ،‬بل يُعرف الله‬
‫بالتجربة الدين َّية‪.‬‬
‫‪ -‬الصلة الروح َّية بني املؤمن والله ُمفعمة بالحب‪.‬‬

‫‪ -‬يُشارك مارسيل جيمس يف نسب َّية الحكم عىل إميان اإلنسان‪.‬‬

‫‪126‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫اخلاتمة‪:‬‬
‫ممَّ سبق ذكره‪ ،‬سنالحظ نظرة تشاؤم َّية عند كريكغارد ل َّونت شكل العالقة بني اإلنسان والله‪،‬‬
‫رصي العشق واألمل؛ فولَّد رصاعاً نفسيَّاً عند املؤمن‪ ،‬وهذا كلُّه‬
‫إذ مزج تلك املشاركة الروحيَّة بعن َ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يل‪،‬‬
‫يُثقل كاهل اإلنسان امل ُتديِّن‪ ،‬ويرمي به يف وادي الحرية والقلق؛ وينتج حالة من التم ُّزق الداخ ِّ‬
‫أي إميان يتح َّدث‪ ،‬وأيَّة تجربة روح َّية يو ُّد أن يصف؛ أل َّن امل ُتعارف يف تاريخ األديان‬
‫وال أدري عن ِّ‬
‫أ َّن التجربة الدين َّية التي يخوضها املؤمن مع الله تزيده ثقة واطمئناناً ال حرية ومت ُّزقاً‪ ،‬أللَّهم إالَّ إذا‬
‫ِّ‬
‫الشك تنتاب املؤمن منذ البداية تجاه طبيعة الكائن الذي يواجهه يف تلك التجربة‬ ‫كانت حالة من‬
‫الروح َّية‪.‬‬

‫كام شاهدت تشجيعاً من كريكغارد عىل الرهبنة والعزلة عن اآلخرين للتف ُّرد بالله‪ ،‬وهذا ين ُّم‬
‫اإللهي فهو نابع من صميم العقيدة‬
‫ِّ‬ ‫سلبي مع املجتمع‪ .‬أ َّما ما يتعلَّق بكالمه عىل التألُّم‬
‫ٍّ‬ ‫عن تفاعل‬
‫بتجسد اإلله يف شخص املسيح‪ ،‬ونزوله عىل األرض‪ ،‬وقيامه‬
‫ُّ‬ ‫رصح‬
‫املسيح َّية املوضوعة التي ت ِّ‬
‫بعمل َّية الفداء؛ ل ُيخلص اإلنسان من حمل تبعات الخطيئة األوىل التي مل يكن له يد فيها‪.‬‬

‫أ َّما جيمس فالحظت يف رؤيته املتعلِّقة بالتجربة الدين َّية نوعاً من الغل ِّو يف التجربة الفرديَّة‪،‬‬
‫وتغافالً عن تأثري هذه التجربة الجمع َّية يف اإلنسان الفرد امل ُنتمي إىل تلك الجامعة الدين َّية‪ .‬فالواقع‬
‫الحج وما إىل ذلك ـــ يف نفسيَّة الفرد‬
‫ِّ‬ ‫الجمعي ـــ مثل الصالة أو‬
‫ِّ‬ ‫العبادي‬
‫ِّ‬ ‫يُخربنا عن تأثري الطقس‬
‫املؤمن‪ .‬كذلك الحظت ِسمة النزعة الفرديَّة عند جيمس يف إطالق حكمه عىل ع ِّد الدين أمرا ً‬
‫شخص َّياً يختلف من شخص إىل آخر‪ُ ،‬ملغياً بذلك وجود الدين القائم عىل املعتقدات الجمع َّية‪،‬‬
‫فضالً عن ذلك وجدت النزعة الرباغامت َّية ـــ التي يُع ُّد جيمس أبرز ُدعاتها ـــ قد حطَّت رحلها يف‬
‫التجربة الدينيَّة؛ من أجل قياس حقيقة تلك التجربة وصدقها عىل وفق مقاييس تلك النزعة‪ ،‬مع عدم‬
‫لكل معتقد‪.‬‬
‫مراعاة الجذور األصليَّة ِّ‬

‫وحني االنتقال إىل أوتو وجدت نفيس غائصاً يف بحر التص ُّوف والعرفان؛ للكشف عن مكنونات‬
‫التجربة الدينيَّة‪ ،‬وحني أراد توضيح نقطة مه َّمة تتعلَّق بالحكم عىل أيَّة مواجهة بني العبد ومعبوده‪،‬‬
‫رصح باستحالة صدور الحكم عن شخص مل يسبق له أن وقف يف مصاف تلك املواجهة؛ وهذا‬
‫َّ‬

‫‪127‬‬
‫المحور‬

‫النظري بأيَّة مامرسة روح َّية لن يكون مثمرا ً ما مل يُج ّرب الباحث بنفسه تلك‬
‫َّ‬ ‫يؤ ِّدي إىل أن البحث‬
‫املامرسة‪ ،‬وهذا يؤدي إىل عدم إمكان نقل املشاعر اإلنسانية املنفعلة بسبب تلك التجربة إىل‬
‫اآلخرين باللُّغة االعتياديَّة‪.‬‬

‫أخريا ً‪ ،‬أجد متيُّزا ً عند مارسيل لدى موازنته بسلفه كريكغارد‪ ،‬إذ يتجاوز األول دائرة املشاركة مع‬
‫الذات اإللهيَّة إىل املشاركة مع ذوات اآلخرين‪ ،‬يف حني أ َّن الثاين يقرصها عىل الذات اإللهيَّة‪ .‬كام‬
‫يركِّز األول عىل عنرص الحب يف تلك املشاركة‪ ،‬يف حني أن الثاين يركِّز عىل عنرص القلق‪ ،‬وشتَّان‬
‫بني العنرصين‪ ،‬فاألول يُسهم يف خلق روح وث َّابة وخلق عنارص إبداع َّية يف الحياة‪ ،‬يف حني يُسهم‬
‫كل إبداع وقد يُعني عىل االنتحار‪.‬‬
‫العنرص الثاين يف قتل ِّ‬

‫أ َّما ما يتعلَّق بصعوبة نقل وقائع التجربة الدين َّية إىل اآلخرين‪ ،‬فأُحيل لتوضيحه عىل ما َّ‬
‫رصح به‬
‫ولرت ستيس[[[‪ ،‬إذ يرى أ َّن السبب الذي مينع تفسري التجارب العرفانيَّة هو تأبِّيها عىل املفاهيم‪ ،‬كام‬
‫البرشي عن إدراك هذا النوع من التجارب‪ ،‬هو أن القوانني املنطقيَّة الحاكمة‬
‫ِّ‬ ‫أ َّن سبب عجز الفهم‬
‫ين ال استعامل لها يف نطاق هذه التجارب‪ ،‬فالعارف يرى يف تجربته تناقضاً‪،‬‬
‫عىل مجال الفهم اإلنسا ِّ‬
‫أي أنَّه يشاهد ما ينقض قوانني املنطق‪ ،‬وكلام حاول صياغة ما شاهده يف لباس من األلفاظ وجد‬
‫نفسه متو ِّرطاً يف تناقض قو ّْ‬
‫يل[[[‪ .‬ويعتقد ستيس أ َّن الجذر األساس الذي تعود إليه اإلشكاليَّة اللُّغويَّة‬
‫عند ال ُعرفاء هو هذا األمر تحديدا ً‪.‬‬

‫إنكليزي وأستاذ الفلسفة يف جامعة برنستون يف الواليات املتَّحدة‪ ،‬تس ّنم‬


‫ٌّ‬ ‫[[[‪( -‬ولرت ستيس) ‪ )Stace, Walter (1886 - 1967‬م‪ :‬فيلسوف‬
‫منصب رئيس الجمع َّية الفلسف َّية األمريك َّية عام ‪1949‬م‪ .‬من أعامله‪( :‬الزمان واألزل)‪ ،‬و(التصوف والفلسفة)‪ ،‬و(الدين والعقل الحديث)‪،‬‬
‫و(طبيعة العامل)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬شريواين (عيل)‪ُ :‬‬
‫األ ُسس النظريَّة للتجربة الدين َّية‪ ،‬ص ‪.153‬‬

‫‪128‬‬
‫المعرفة الروحان َّية في ميزان فلسفة الدين‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬الكتاب املق َّدس‪.‬‬
‫‪2.2‬هادي (قيس)‪ :‬دراسات يف الفلسفة العلميَّة واإلنسانيَّة‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة املنصور العلميَّة‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪2000‬م‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪3.3‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬مشكالت فلسف َّية‪ ،‬ج‪( 5‬مشكلة الحب)‪ ،‬ط‪ ،2‬مكتبة مرص‪ ،‬القاهرة‪1970 ،‬م‪.‬‬
‫‪4.4‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬مشكالت فلسف َّية‪ ،‬ج‪( 2‬مشكلة اإلنسان)‪ ،‬مكتبة مرص‪ ،‬القاهرة‪ ،‬بال تاريخ‪.‬‬
‫‪5.5‬إبراهيم (زكريا)‪ :‬دراسات يف الفلسفة املعارصة‪ ،‬ط‪ ،1‬مكتبة مرص‪1968 ،‬م‪.‬‬
‫‪6.6‬عويضة (محمد كامل)‪ :‬وليم جيمس (رائد املذهب الربغاميت)‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الكتب العلم َّية‪،‬‬
‫بريوت‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪7.7‬شريواين (عيل)‪ :‬األُ ُسس النظريَّة للتجربة الدين َّية (قراءة نقديَّة مقارنة آلراء ابن عريب ورودلف‬
‫أتو)‪ ،‬ترجمة‪ :‬حيدر حب الله‪ ،‬ط‪ ،1‬الغدير للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪2003 ،‬م‪.‬‬
‫‪8.8‬كامل (فؤاد)‪ :‬أعالم الفكر الفلسفي املعارص‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الجيل‪ ،‬بريوت‪1993 ،‬م‪.‬‬
‫‪9.‬‬ ‫‪James, William: The Varieties of Religious Experience, Published by Arc‬‬
‫‪Manor, Printed in the United States of America – United Kingdom, 2008.‬‬
‫‪10.‬‬ ‫– ‪Otto, Rudolf: The Idea of the Holy, translated by John Harvey, New York‬‬
‫‪Oxford University Press, 1958.‬‬

‫‪129‬‬
‫احلرة‬
‫املعرفة َّ‬
‫للتعرف الوجودي عند َّ‬
‫مل صدرا‬ ‫ُّ‬ ‫الشهود كمرتبة عليا‬
‫َّ‬
‫كمال إسماعيل لزيق‬
‫ف‬
‫أستاذ ي� الفلسفة ومعاون عميد كلية األديان ‪ -‬جامعة المعارف‪ -‬لبنان‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫للتعرف عىل حقيقة الوجود‬ ‫ُّ‬ ‫م�لة الشهود بوصفها الدرجة العليا‬ ‫تبي� ن ز‬ ‫يسىع البحث إىل ي ن‬
‫َّ‬ ‫الميتاف�يقا الصدرائية‪ .‬ومن يِّن‬ ‫يز‬ ‫ف‬
‫أساسية‬ ‫الب� ان الحكمة المتعالية لما قامت عىل ثالثة أركان‬ ‫ي�‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫فإن هذه األركان ت‬ ‫َّ‬ ‫ه‪ :‬ش‬
‫م�ابطة ارتباطا وثيقا‪ ،‬منها ما يأخذ دور‬ ‫والعقل‪،‬والوح‪،‬‬
‫ي‬ ‫اإل�اق‬ ‫ي‬
‫َ‬
‫الق ْب ِّ‬
‫ل للمعرفة‪ ،‬ومنها ما يدور مدار الفهم‪ ،‬ومنها ما يكون له دور اإلنتاج والتوليد‪.‬‬ ‫ي‬ ‫التأسيس‬
‫ُ َّ‬
‫(مل صدرا) هو المنهج الجامع لهذه المستويات‬ ‫الش�ازي‬
‫المنهج الحاكم عند صدر الدين ي‬
‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ق ٍّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬
‫مرجع‪ ،‬يحاكم فيه المفاهيم‬ ‫ي‬ ‫توفي�‪ ،‬تتداخل فيه المستويات ي� نسق‬ ‫ي‬ ‫المعرفية الثالثة ي� سياق‬
‫َّ‬ ‫ين ت‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫تتحول إىل‬ ‫ال�‬
‫القوان� ي‬ ‫المعرفية‪ ،‬ويؤطر إنتاجها‪ ،‬حيث أن المنهج هو خالصة‬ ‫واالنتاجات‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫المرجع العام للحكم والمطابقة ي ن‬ ‫ِّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬
‫ب� الذات والموضوع‪.‬‬ ‫ي‬ ‫وال� تشكل اإلطار‬ ‫نظريات‪ ،‬ي‬
‫وال�هان‪،‬‬‫ثالثية‪ :‬القرآن والعرفان ب‬ ‫الش�ازي عىل ّ‬ ‫اإلله صدر الدين ي‬ ‫يرتكز منهج الحكيم‬
‫ي‬
‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫لخصوصية وفرادة هذا بت�ز هنا‬ ‫الوح والشهود والعقل‪ .‬وتبعا‬ ‫ي‬ ‫النص والكشف والبيان‪ ،‬أو‬ ‫أو‬
‫ئ‬
‫ب� األركان الثالثة للمنهج الصدر ِّ‬
‫ا�‪،‬‬ ‫َّ‬
‫العديد من األسئلة اإلشكالية بصدد العالقة القائمة ي ن‬
‫ي‬
‫ًّ‬ ‫ُّ ً‬ ‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ت�تب ً‬ ‫َّ ت َّ‬
‫تشكيكيا؟ وإذا كانت كذلك‪،‬‬ ‫أولويا وتتحدد فيها تحددا‬ ‫ترتيبا‬ ‫ه عالقة طولية‪،‬‬ ‫هل ي‬
‫ضية ُتزاحمُ‬
‫وأيها يكتسب صفة التأسيس؟ هل ه عالقة َع ْر َّ‬ ‫فما هو المالك ف� ترتيبها؟ ُّ‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ف‬ ‫ت‬
‫ه مواضع اإللتقاء واالف�اق ي� ما بينها؟‪..‬‬ ‫ً‬ ‫ُ‬
‫وبالتال ما ي‬
‫ي‬ ‫بعضها بعضا؟‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫األساسية‪ ،‬لما سوف تدور حوله مسائل‬ ‫األرضية‬ ‫تشكل اإلجابة عىل هذه األسئلة‪،‬‬
‫هذا البحث‪.‬‬

‫* * *‬
‫ال�هان – التأويل‪-‬‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪:‬‬ ‫مفردات‬
‫الوح – الشهود – العقل – القرآن – العرفان – ب‬
‫ي‬
‫المعرفة الحرة‪.‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫دخل مصطلحا التفسري والتأويل القرآن ّيني يف الحياة الفكريَّة والثقاف َّية اإلسالم َّية مع بداية‬
‫الديني‪ ،‬وبرزت مدارس ومذاهب شتَّى استنا ًدا‬ ‫ِّ‬ ‫للنص‬
‫ِّ‬ ‫أشكال متع ِّددة من الفهم‬
‫ً‬ ‫التنزيل‪ ،‬وات ّخذا‬
‫إىل الخلفيَّات العقيديَّة‪ ،‬كام عند املتكلِّمني وأهل الفقه والحديث‪ ،‬أو املنظومة الفكريَّة العقليَّة‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫كالوجوديَّة عند الفالسفة والعرفاء املسلمني‪ .‬ومل تك ْن الدوافع االجتامع َّية أو السياس َّية بعيدة عن‬
‫تشكُّل هذه املذاهب‪ ،‬ما يجعل توضيح ه َذيْن املفهومني وتحديدهام رضورة تقتضيها أصول‬
‫رشع األبواب للفهم واإلفهام عىل أصول موضوعة ُمتسالَمة‪،‬‬
‫البحث‪ ،‬ذلك أ َّن تحديد املصطلح ي ِّ‬
‫بعي ًدا عن الشُّ بهة يف فهم املقصد واملطلب‪.‬‬
‫َس” أي اإلبانة‪ ،‬وكشف املغطَّى[[[‪ .‬والتأويل من َ‬
‫آل إليه أ ْولً ومآلً أي‬ ‫التفسري يف اللُّغة من “الف ْ ُ‬
‫وفسه[[[‪ .‬التفسري والتآويل واح ٌد‪،‬‬ ‫تأويل وتأ َّوله‪ :‬دبَّره وق َّدره َّ‬
‫ً‬ ‫ج َع ُه‪ ،‬وأ َّول الكالم‬
‫رجع‪ ،‬وأ َّوله إليه أي َر َ‬
‫أو هو كشف املراد عن املش ِك ْل‪ ،‬والتأويل ر ُّد ِ‬
‫أحد املحت َمل َْي إىل ما يطابق الظاهر[[[‪ .‬ترب ُز اللُّغ ُة‬
‫مفهومي التفسري والتأويل‪ ،‬نذكر منها‪:‬‬
‫ْ‬ ‫خصائص للعالقة القامئة بني‬
‫‪ .1‬إ َّن التفسري أع ُّم من التأويل‪ ،‬فاإلبانة وكشف املغطَّى قد يكون بإرجاع اليشء اىل أصله‬
‫فكل إرجا ٍع لألصل هو تأويل وتفسري‬
‫بالتأويل‪ ،‬أو بطريق آخر مثل البيان واملناسبة والقرينة وغريها‪ُّ ،‬‬
‫كل إبانة أو كشف هو بالرضورة إرجا ًعا لألصل‪.‬‬
‫م ًعا‪ ،‬وليس ُّ‬
‫‪ .2‬إ َّن النسبة بني املصطلحني هي نسبة العموم والخصوص مطلقًا‪ ،‬وليست نسبة العموم‬
‫ري‪ ،‬وليس العكس‪ ،‬فالتفسري هو األع ّم مطلقًا‪،‬‬
‫فكل تأويل هو تفس ٌ‬
‫والخصوص من وجه‪ ،‬وعليه ُّ‬
‫‪.‬‬
‫األخص مطلقًا‬
‫ُّ‬ ‫والتأويل هو‬
‫االصطالحي‪ ،‬فإ َّن التفسري والتأويل يرتبطان ارتباطًا وثيقًا باملنهج َّيات واالتِّجاهات‬
‫ِّ‬ ‫أ ّما يف املعنى‬
‫الفكريَّة الحاكمة‪ ،‬وباألصول املوضوعة التي أنتجتها هذه االتِّجاهات بالنظرة الفاحصة لفهم‬
‫املتغيات االجتامعيَّة والسياسيَّة يف السياق‬
‫ِّ‬ ‫النصوص الدينيَّة‪ ،‬مع ما رافق هذه املنهجيَّات من‬
‫التاريخي للمسلمني ابتدا ًء من عرص التنزيل‪ ،‬مرو ًرا بانفتاح البيئة اإلسالم َّية عىل املجتمعات‬
‫ِّ‬
‫األخرى بفعل الفتوحات‪ ،‬وما رافقها من تح ِّديات دينيَّة وفكريَّة؛ وصولً إىل بروز املدارس الكالميَّة‬
‫والفلسف َّية والصوف َّية والعرفان َّية وما بعدها‪ .‬وإذا كان “التفسري هو بيان معاين اآليات القرآن َّية والكشف‬

‫[[[‪ -‬الفريوزآبادي‪ ،‬محمد بن يعقوب‪ ،‬القاموس املحيط‪ ،‬تقديم محمد عبد الرحمن املرعشيل‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث‬
‫العريب‪1997 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.636‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.1275‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.636‬‬

‫‪131‬‬
‫المحور‬

‫عن مقاصدها ومداليلها”[[[‪ ،‬فإ َّن االختالف برز يف مصاديق “معاين اآليات والكشف عنها”‪ ،‬وليس‬
‫يف أصل املفهوم‪.‬‬
‫تط َّورت علوم التأويل وتع َّددت مدارسها ومنهج َّياتها‪ ،‬سواء يف الرشق اإلسالمي أم يف الغرب‬
‫الديني والك َّم‬
‫َّ‬ ‫يب‪ ،‬لِام تركته النصوص الدينيَّة من محوريَّة يف حياة اإلنسان الفكريَّة‪ ،‬إذ إ َّن َّ‬
‫النص‬ ‫األورو ِّ‬
‫النص لعبا دو ًرا تأسيسيًّا‪ ،‬بالرفض أو بالقبول يف عصور النهضة يف‬ ‫الهائل للرتاث املرتاكم يف فهم هذا ِّ‬
‫الحياة الفكريَّة الغرب َّية واإلسالم َّية‪ ،‬فربزت اتِّجاهات ع َّدة يف معالجة النصوص الدينية‪ ،‬هي‪:‬‬
‫‪ -‬االتِّجاه األول‪ :‬اعترب أ َّن الهدف هو املحافظة عىل املعنى الذي ينويه املؤلِّف‪ ،‬والتأويل هو‬
‫الحقيقي الذي‬
‫ِّ‬ ‫النص‪ ،‬والكشف عن ن َّية املؤلِّف‪ ،‬والوصول إىل املعنى‬
‫ِّ‬ ‫الوسيلة لرفع اإلبهام عن‬
‫للمفس‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املفس؛ فاألصالة للمؤلِّف والواضع‪ ،‬وليس‬
‫ِّ‬ ‫يقصده الواضع‪ ،‬وليس‬
‫‪ -‬االتِّجاه الثاين‪ :‬وهو االت ِّجاه الذي ساد عرص األنوار والحداثة‪ ،‬حيث مه َّم ُة التأويلِ استخدا ُم‬
‫املوضوعي‪ ،‬واستبعاد النظرة الذات َّية‬
‫ِّ‬ ‫كل األساليب العقل َّية والعلم َّية‪ ،‬وفقه اللُّغة‪ ،‬إلدراك الواقع‬
‫ِّ‬
‫والشخص َّية‪ ،‬واألحكام املسبقة؛ فاألصالة للموضوع َّية‪.‬‬
‫الفلسفي مع‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬االتِّجاه الثالث‪ :‬وهو ِم ْن تجلِّيات ما بعد الحداثة‪ ،‬حيث راجت طريقة التأويل‬
‫هايدغر (‪ )Martin Heidegger‬وغدامر (‪ )Hans George Gadamer‬املستندة إىل علم الظا ِهرت َّية‬
‫النص رمو ٌز ُي ِك ْن‬
‫َّ‬ ‫(‪ ،)Phenomenology‬والبنيويَّة التي فهمت التأويل عن طريق التفكيك‪ ،‬وأ َّن‬
‫للنص‪ ،‬ويتساوى يف ذلك‬ ‫ِّ‬ ‫للمفس أ ْن يتالعب باملعنى وفقًا ملا يراه‪ ،‬ويستفيد من البنى الداخليَّة‬
‫ِّ‬
‫للمفس[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫النص املق َّدس وسواه‪ ،‬فاألصالة‬
‫ُّ‬
‫اإلسالمي‪،‬‬
‫َّ‬ ‫النيص‬
‫َّ‬ ‫الديني‬
‫َّ‬ ‫منهج ال يناسب تأويل امل ُعطى‬ ‫ٌ‬ ‫التأويل بحسب االت ِّجاه الثالث هو‬
‫للنص‪،‬‬‫ِّ‬ ‫النص‪ ،‬مبعنى أ َّن األصالة‬ ‫ِّ‬ ‫أل َّن هدف املنهج َّيات الدين َّية هو إبراز مقاصد صاحب الوحي أو‬
‫الديني بنا ًء عىل مذاهبها‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫َّ‬ ‫فست‬ ‫تنج من املنهج َّيات التأويل َّية التي َّ‬
‫وإ ْن كانت هذه األصالة مل ُ‬
‫وعقائدها وآرائها‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬
‫ِّ‬
‫الديين وباطنه ومدى تأثره‬ ‫‪ . 1‬قراءة الشريازي لطبيعة العالقة بني ظاهر الن ِّص‬
‫َّ‬
‫بالصوفية والفلسفة‪:‬‬
‫الديني‪ ،‬القرآن واملرويَّات‪ ،‬أهم َّية مركزيَّة يف حكمته‪ ،‬لِام ميثِّله‬
‫ِّ‬ ‫أعطى الشريازي لل ُمعطى‬
‫ريا لبعض أجزاء القرآن يُشكِّل امتدا ًدا‬
‫يل يف منهجه‪ .‬ووضع تفس ً‬ ‫الديني من بُ ْع ٍد تأسييسٍّ قب ٍّ‬
‫ُّ‬ ‫املعطى‬

‫مؤسسة األعلمي للمطبوعات‪1997 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.7‬‬


‫[[[‪ -‬الطباطبايئ‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫[[[‪ -‬رضا‪ ،‬عيل رهرب‪ ،‬ومجموعة من الباحثني‪ ،‬التأويل‪ :‬الندوة اإليران َّية النمساويَّة الرابعة‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.16‬‬

‫‪132‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫كتب عديدة تتض َّمن علم‬ ‫لحكمته املتعالية‪ ،‬كام رشح األصول من كتاب “الكايف”‪ ،‬باإلضافة إىل ٍ‬
‫النص‬
‫ِّ‬ ‫التفسري أمثال‪“ :‬أرسار اآليات”‪ ،‬و”مفاتيح الغيب”‪ ،‬أكرث مؤلَّفاته أهم َّية‪ .‬وقد برزت مرجع َّية‬
‫كل صفحة من صفحاتها‪،‬‬ ‫كل مؤلَّفاته التي ترسي فيها روح التأويل يف ِّ‬‫الديني عنده واضح ًة يف ِّ‬
‫ِّ‬
‫عىل أ َّن “الشريازي ينتمي إىل املدرسة الصوفيَّة‪ ،‬وليس الفلسفيَّة‪ ،‬من أمثال ابن عريب وعبد الرزاق‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫القاشاين والبارزين عىل شاكلتهم يف مسألة التأويل‪ ،‬واستنباط املعاين الباطن َّية من القرآن”[[[‪.‬‬
‫فهم ونق ًدا‪،‬‬
‫اطَّلع الشريازي عىل املدرسة الصوفيَّة التأويليَّة اطّال ًعا واس ًعا‪ ،‬جعله مسلطًا عليها ً‬
‫وخصوصا ابن عريب يف كتابه الشهري‪“ :‬الفتوحات املك َّية”‪ ،‬والذي‬ ‫ً‬ ‫وخب آثار أصحابها جمي ًعا‪،‬‬ ‫ُ‬
‫كل التفاسري العرفان َّية القرآن َّية اللَّ حقة مبا فيها تفسري الشريازي‪ ،‬الذي استفاد‬‫ري األبرز عىل ِّ‬
‫ترك التأث َ‬
‫يف للتفسري والتأويل‪ ،‬والذي شكَّل أحد األعمدة الرئيسة للتفسري لديه‪،‬‬ ‫من هذا “الرتاث الصو ِّ‬
‫إذ استخدمه باتقان يف أعامله حول هذا املوضوع”[[[‪ .‬كام اطّلع عىل مناهج التأويل عند غري‬
‫الخاص‬
‫ِّ‬ ‫حصها‪ ،‬ث َّم نقدها يف إطار منهجه‬ ‫الصوف َّية‪ ،‬وأخذ عنها‪ ،‬ودرسها جمي ًعا‪ ،‬وهضمها‪ ،‬وم َّ‬
‫الديني‪ ،‬الذي أضاف الكثري من اإلبداع والخصوص َّية‪ ،‬ما م َّيزه عن الصوف َّية وغريها إىل ح ٍّد‬ ‫ِّ‬ ‫للتأويل‬
‫كبري‪ ،‬مبا يف ذلك صوفيَّة ابن عريب‪.‬‬
‫يل‪ ،‬فل ْم‬
‫يل والتنظري االستدال ُّ‬‫يف هو ال ُبعد العق ُّ‬
‫إ َّن ما أضافه الشريازي إىل هذا الرتاث الصو ِّ‬
‫الديني‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يك ْن صوف ًّيا إرشاق ًّيا فحسب‪ ،‬بل أيضً ا عقالن ًّيا برهان ًّيا يف ما أورده من تأويلٍ عىل امل ُعطى‬
‫وهو من رشوط التأويل عنده‪ .‬إ َّن نظرة فاحصة عىل تفسريه للقرآن‪ ،‬وللمرويَّات‪ ،‬وكتبه كافَّة‪ ،‬تشري‬
‫قائل‪“ :‬إ َّن ما قام به الشريازي‬
‫إىل هذه الروح الربهان َّية عنده‪ ،‬وينقل سيد حسني نرص هذه الحقيقة ً‬
‫يل عىل التعاليم الصوف َّية الغيب َّية البن عريب‪ ،‬وذلك من خالل‬ ‫هو إضفاء روح املنطق وال ُبعد العق ِّ‬
‫مؤلَّفاته وتعليقاته التي أنجزها عىل كتب ابن عريب وتالمذته”[[[‪ .‬تجدر اإلشارة إىل أ َّن األمر‬
‫ين‪.‬‬‫النص القرآ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يل عند الشريازي يرسي عىل األحاديث واملرويَّات‪ ،‬وال يقف عند حدود‬ ‫التأوي َّ‬
‫ويف هذا اإلطار يؤكِّد يف مق ِّدمته عىل رشح كتاب‪“ :‬أصول الكايف”‪“ :‬أ َّن علم الحديث كعلم‬
‫ح َك ْم و ُمتشابَه‪ ،‬وناسخ‬
‫القرآن مشتمل عىل ظاهر وباطن‪ ،‬ومجمل ومبني‪ ،‬وتفسري وتأويل‪ ،‬و ُم ْ‬
‫رصح يف مكان آخر من هذه املق ِّدمة بالقول‪“ :‬فهكذا حال الحديث حيث‬ ‫ومنسوخ” ‪ .‬كام ي ِّ‬
‫[[[‬

‫‪[1]- Nasr, Seyyed Hossein, Sadr al-Din Shirazi and his Transcendent Theosophy: Background, Life and‬‬
‫‪Works, Tehran, Imperial Iranian Academy of Philosophy, Publication No. 29, 1978, p.71.‬‬
‫‪[2]- Ashtiyani, Sayyid jala Al-Din, H. Matsubra; T. Iwami, and A. Matsumoto, Consciousness and‬‬
‫‪Reality: Studies in Memory of Toshihiko Izutsu, Boston, Brill, 1999, VOl. 38, p.47.‬‬
‫‪[3]- Nasr, Seyyed Hossein, Sadr al-Din Shirazi and his Transcendent Theosophy, ibid., p.88.‬‬
‫مؤسسة مطالعات‬
‫َّ‬ ‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رشح أصول الكايف‪ ،‬تعليق عيل النوري‪ ،‬تصحيح محمد خواجوى‪ ،‬تهران‪،‬‬
‫َ‬
‫فرهنك‪1370 ،‬ه‪1950/‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.170‬‬ ‫وتحقيقات‬

‫‪133‬‬
‫المحور‬

‫يوجد فيه القسامن‪ :‬علم الدنيا وعلم اآلخرة‪ ،‬وعلم املعاملة وعلم املكاشفة”[[[‪.‬‬
‫يورد الشريازي يف العديد من مؤلَّفاته‪ ،‬والسيَّام “تفسري القرآن الكريم” و “مفاتيح الغيب”‬
‫الديني‪ ،‬والفهم العميق لباطنه‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وغريهام‪ ،‬الكثري من الشواهد واألدلَّة النقل َّية والعقل َّية عىل التأويل‬
‫والغاية العليا من ألفاظه‪ .‬فالتأويل شأن غري شأن األلفاظ والعبارات ومداليلهام البيان َّية واملعنويَّة‪،‬‬
‫وهو شأ ُن الراسخني‪ ،‬إذ هو طو ٌر من الثبوت والتجذُّر‪ ،‬وليس اإلثبات والسطحيَّة‪.‬‬
‫ريا‪ ،‬فهو بالرضورة يعني أنّه أمر فوق مرتبة األلفاظ واملعاين وعلومهام‪.‬‬ ‫ومل َّا كان التأويل أم ًرا خط ً‬
‫الحس‬
‫ِّ‬ ‫ج ًها كالمه ألهل الظاهر‪“ :‬إ َّن مثل هؤالء الساكنني يف عالَم‬
‫يقول الشريازي يف “املفاتيح” مو ِّ‬
‫واملحسوس‪ ،‬املقترص عىل املقروء واملسموع‪ ،‬إذا زع َم أ ْن ال معنى للقرآن إلَّ ما يرتجمه ظاهر‬
‫ْب عن ح ِّد نفسه‪ُ ،‬مصيب يف ذلك‪ ،‬ولك َّن الخطأ يف ر ِّد كافة الناس إىل درجة‬ ‫التفسري فهو مخ ِ ٌ‬
‫فهمه”[[[‪ .‬فاملقترص عىل الظاهر هو بالحقيقة يكشف عن نفسه بالح ِّد الذي ميكن أ ْن يصل ذه ُنه‬
‫وفك ُره إليه‪ ،‬وهو حال معظم البرش‪ ،‬إذ “أ َّن األُنس والعادة يوجبان لنا أ ْن يسبق إىل أذهاننا عند استامع‬
‫األلفاظ معانيها املا ِّديَّة أو ما يتعلَّق باملا َّدة”[[[‪.‬‬
‫وأنس يف تشخيص‬ ‫ٌ‬ ‫فالوقوف عىل ظاهر اآليات يف التأويل هو بالحقيقة جمود عىل العادة‪،‬‬
‫املصاديق‪ ،‬يف حني أ َّن املطلوب هو الفهم‪ ،‬اي إدراك املقاصد املوضوعيَّة لأللفاظ‪ ،‬التي توضع‬
‫مثل‪ُ ،‬وضع يف األصل‬ ‫بلحاظ الغايات‪ ،‬وليس بلحاظ األفراد الجزئيَّة املتشخِّصة‪ .‬فلفظ الرساج‪ً ،‬‬
‫لليشء الذي ييضء بالزيت‪ ،‬أ َّما مع تط ُّور العلوم‪ ،‬فإ َّن الرساج‪ ،‬بلحاظ الغاية وهو اإلضاءة واإلنارة‪،‬‬
‫يئ؛ فاأللفاظ‪ ،‬إذن‪ ،‬توضع للداللة عىل حقيقة األمر‪.‬‬ ‫هو املصباح الكهربا ُّ‬
‫املفسين من اإلسالميني الذين سبقوه‬
‫ِّ‬ ‫جا تأويل ًّيا جام ًعا بعدما أحاط بأقوال‬
‫أنتج الشريازي منه ً‬
‫من تفاسري عرفان َّية‪ ،‬مرو ًرا بالتفاسري التي كُتبت يف العلوم العرب َّية‪ ،‬وتفاسري املتكلِّمني والفالسفة‪،‬‬
‫بالسعة واإلحاطة‪،‬‬
‫باإلضافة إىل تلك التي وردت يف األخبار املرويَّة حول القرآن؛ فامتاز تأويلُه ِّ‬
‫وإكساب األلفاظ ثورة يف املداليل واملعاين[[[‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.171‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬مقدِّ مة وتعليقات مفاتيح الغيب‪ ،‬تقديم محمد خواجوى‪ ،‬تعليق عيل النوري‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫مؤسسة التاريخ العريب‪1999 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.148‬‬ ‫َّ‬
‫[[[‪ -‬الطباطبايئ‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.12‬‬
‫[[[‪ -‬فعىل سبيل املثال‪ :‬لفظة “الفقه”‪ ،‬يعتربها الشريازي من األلفاظ الدالَّة عىل العلوم الحقيق َّية‪ ،‬والتي اشتبهت عىل الناس بغريها‪ .‬لقد كان‬
‫اسم “الفقه” يف العرص األول يُطلق عىل علم طريق اآلخرة‪ ،‬ومعرفة دقائق آفات النفس ومفسدات األعامل‪ ،‬وقوة اإلحاطة بحقارة الدنيا وشدِّة‬
‫يدل عليه‪“ :‬ليتفقهوا يف الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا”‪ ،‬وما به اإلنذار والتخويف‬ ‫التطلع إىل نعيم األبرار واستيالء الخوف عىل القلب‪ ،‬كام ُّ‬
‫مختص بالعلوم‬
‫ٌّ‬ ‫ر‬
‫ٌ‬ ‫أم‬ ‫فالفقه‬ ‫الفتاوى‪.‬‬ ‫دون‬ ‫من‬ ‫اآليات‬ ‫معاين‬ ‫به‬ ‫وأراد‬ ‫واإلجارة‪...‬‬ ‫والسلم‬ ‫هو هذا العلم‪ ،‬من دون تفريعات الطالق واللعان والعتاق‬
‫الحقيق َّية من دون الرشع َّية والفتاوى‪ .‬راجع‪ :‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،2‬ص‪.350‬‬
‫وراجع‪ :‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رسالة األصول الثالثة‪ ،‬تحقيق أحمد ماجد‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعارف الحكْم َّية‪2008 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪.202‬‬

‫‪134‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫فقد قال يف “األسفار”‪“ :‬واعلم أ َّن الصور الجزئ َّية الجسامن َّية حقائق كل َّية موجودة يف عالَم أمر‬
‫َ ُ‬ ‫ُ ُ َّ َ‬ ‫َّ َ َ َ‬ ‫َ‬
‫ِندنا خ َزائ ِ ُن ُه َو َما ن َن ّ ِزل ُه إِلا بِق َد ٍر ّم ْعلو ٍم‪.‬‬
‫الله وقضائه كام قال الله تعاىل‪ِ :‬إَون ّمِن ش ْي ٍء إِلا ع‬
‫ولكل منها رقائق جزئيَّة موجودة بأسباب جزئيَّة قدريَّة من ما َّدة‬ ‫ٍّ‬ ‫فالخزائن هي الحقائق الكليَّة العقليَّة‪،‬‬
‫مخصوصة»[[[‪ .‬فالقرآن املتجلِّ يف عالَم األلفاظ‪ ،‬الذي هو عالَم الجزئيَّة الجسامنيَّة‪ ،‬له حقائق‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫والباطني‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫كل َّية هي مبثابة األصل والروح‪ ،‬ومنها ينبثق املعنى األصيل‬
‫جا وسطيٍّا بني أهل الظاهر بالكليَّة‪ ،‬وأهل الباطن بالكليَّة‪ ،‬وجمع ما بني الظاهر‬ ‫لقد سلك منه ً‬
‫يف‪ ،‬حتى عند ابن عريب‪ ،‬إذ «مي ّيز امللَّ صدرا بني‬ ‫يل مل يشه ْده التأويل الصو ُّ‬ ‫والباطن يف تركيب عق ٍّ‬
‫للنص املق َّدس‪ ،‬وهم أولئك الذين يرون قرش الجوز‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫الظاهري‬
‫ِّ‬ ‫املفسين الذين ال يرون إلَّ املعنى‬
‫ِّ‬
‫الباطني‪ ،‬وال يلتفون إىل الظاهر‪ ،‬فيعارض‬ ‫ِّ‬ ‫وبني أولئك الذين ال يعريون انتبا ًها إلَّ إىل املعنى‬
‫ين عىل خالف ظاهره ال مس َّوغ‬ ‫امللَّ صدرا كِال املنهجني»[[[‪ .‬فمن ناحية‪ ،‬إ َّن حمل النص القرآ ِّ‬
‫والحس‪ ،‬فلفظ امليزان‬‫ِّ‬ ‫يل‬
‫يدل عليه‪« ،‬إذ اللَّفظ موضوع للمعنى املطلق الشامل للعق ِّ‬ ‫له‪ ،‬وال دليل ُّ‬
‫مثل موضوع ملا يوزن ويقاس به اليشء مطلقًا‪ ،‬فهو أمر مطلق يشمل املحسوس منه واملتخ َّيل‬ ‫ً‬
‫حسيَّة أو عقليَّة‪ ،‬يتحقَّق فيه‬‫فذلك‪....‬فكل ما يقاس به اليشء بأيَّة خصوصيَّة كانت‪ِّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫واملعقول‪،‬‬
‫حقيقة امليزان ويصدق عليه معنى لفظه»[[[‪.‬‬
‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإ َّن الركون إىل الظاهر فقط‪ ،‬واالقتصار عىل املعاين األول َّية له‪ ،‬دونها محاذير‬
‫النص‬
‫ِّ‬ ‫السطحيَّة‪ ،‬والفهم الناقص‪ ،‬وهو حال أهل الحديث الذين رفضوا إعامل النظر والعقل يف‬
‫الديني خوفًا من الوقوع يف النقصان بحق الذات اإللهية‪ .‬فريى الشريازي يف هذه املنهجية التفسريية‬ ‫ِّ‬
‫حال مام وقع فيه املتكلِّمون‪ ،‬الذين وقعوا يف املجاز واالستعارة‪.‬‬ ‫إل أنّه يبقى أفضل ً‬ ‫خلل‪ّ ،‬‬
‫ً‬
‫لقد أعطى الشريازي األلفا َ‬
‫ظ معانيها الحقيقيَّة الظاهريَّة أمثال‪« :‬الكريس» و«العرش» و«اليد»‬
‫وغريها من األلفاظ املشابهة‪ ،‬كام هو حال أهل الحديث‪ ،‬إلَّ أنَّه افرتق عنهم يف األبعاد والدالالت‬
‫املعنويَّة العميقة‪.‬‬
‫يقول الشريازي‪« :‬إ َّن مسالك الظاهريِّني الراكنني إىل إبقاء األلفاظ عىل مفهوماتها األول َّية‪...‬‬
‫أشبه بالحقيقة األصل َّية من طريقة املأ ِّولني‪ ،‬وأبعد عن التحريف والترصيف من أسلوب املتفلسفني‬
‫واملتكلِّمني‪ ...‬لكن االقتصار عىل هذا هو املقام من قصور األفهام»[[[‪.‬‬
‫الحس والشهادة إلَّ‬
‫ِّ‬ ‫أ َّما حقيقة التأويل عنده‪ ،‬فتعود إىل مبانيه الوجوديَّة‪ ،‬فام من يشء يف عالَم‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬األسفار‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.126‬‬
‫[[[‪ -‬كوربان‪ ،‬هرني‪ ،‬ومجموعة من الباحثني‪ ،‬فلسفة صدر املتألِّهني الشريازي‪ :‬املباين واملرتكزات‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.85‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.170‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.160‬‬

‫‪135‬‬
‫المحور‬

‫يل فوقه يُس ّمى عالَم املِثال‪ ،‬وله أيضً ا وجود عق ٌّ‬
‫يل أعىل تج ُّر ًدا‪ ،‬والقرآن نسخة‬ ‫يل مثا ٌّ‬
‫وله وجود خيا ٌّ‬
‫خاص يتَّصف بأوصافها من حيث‬ ‫ٌّ‬ ‫كل واحد ٍة منها شأن‬‫عن الوجود‪ ،‬فهو شبيه النشآت‪ ،‬وله يف ِّ‬
‫املرتبة الوجوديَّة‪.‬‬
‫الحس‪ ،‬وظاهرها له حقيقة يف عوالِم املثال والعقل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فالحروف واأللفاظ هي من نشأة عالَم‬
‫الكل كام يف‬
‫ِّ‬ ‫وهي هي يف عوالِمها املج َّردة‪ ،‬سواء التج ُّرد النسبي كام يف املثال‪ ،‬أم التج ُّرد‬
‫العقول؛ لذا‪ ،‬فاأللفاظ الظاهرة هي حقيقيّة‪ ،‬وليست مجازًا‪ ،‬إذ إنَّ‪« :‬األلفاظ الواردة يف الكتاب‬
‫اإللهي كسائر األلفاظ املوضوعة للحقائق الكل َّية جملة‪ ،‬تارة تُطلق ويُراد بها الظاهر املحسوس‪،‬‬
‫ِّ‬
‫رسه وباطن باطنه‪ ،‬وذلك أل َّن‬
‫رس ِّ‬
‫رسه وحقيقته وباطنه‪ ،‬وتارة تطلق ويراد بها ُّ‬
‫وتطلق تارة ويراد بها ّ‬
‫وكل ما يوجد يف أحد‬
‫أصول العوامل والنشآت ثالثة‪ :‬الدنيا واآلخرة وعالَم اإلله َّية‪ ،‬وكلُّها متطابقة‪ُّ .‬‬
‫كل موجود ملا يف عالَمه الخاص»[[[‪.‬‬
‫من هذه العوامل يوجد يف اآلخ َريْن عىل وجه يناسب َّ‬
‫الديني‪ ،‬لها ما يناسبها من املعاين‬
‫ِّ‬ ‫كل ما يُد َرك من ألفاظ امل ُعطى‬
‫إ َّن حقيقة التأويل هي أ َّن وراء ِّ‬
‫والدالئل املبارشة التي توحيها هذه األلفاظ‪ ،‬كام لها فه ٌم آخر يُعترب مبثابة الروح من الجسد؛ هذا‬
‫الفهم هو ال ُعمدة يف تحصيل املعاين العميقة لأللفاظ املوضوعة‪ ،‬وهو امل ُس َّمى بالتأويل‪.‬‬
‫ُّ‬
‫واملعريف للشهود عند الشريازي‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫الوجودي‬ ‫‪ . 2‬املبىن‬
‫أسسها عن الوجود يف حركته التواصل َّية‬
‫يرتكز الشهود عند الشريازي عىل ال ُب ْنية امليتافيزيق َّية التي َّ‬
‫َّب يف أطوار متفاوتة يف الش َّدة أو‬
‫الصعوديَّة نحو التج ُّرد األت ِّم‪ ،‬يف وحدة أصيلة شخصيَّة‪ ،‬ترتت ُ‬
‫ين بجوهره أعىل مناذج‬ ‫الضعف‪ ،‬يف القرب أو البعد عن التق ُّدس والتألُّه‪ .‬يُشكِّل الوجود اإلنسا ُّ‬
‫الوجودي يف رحلته نحو التحقُّق والتج ُّرد‪ ،‬بفعل ما أُويتَ من املواهب والقابليَّات القادرة‬
‫ِّ‬ ‫التمظ ُهر‬
‫يل‪ ،‬مستعي ًنا بالقوى الباطن َّية اإلدراك َّية‪،‬‬ ‫عىل احتواء الوجود بكل َّيته‪ ،‬يف إطا ٍر من التج ُّرد الذا ِّ‬
‫يت الداخ ِّ‬
‫وصول إىل املعرفة الكليَّة‪ ،‬حيث يكون‬
‫ً‬ ‫التي تخ ِّوله عبور املعارف الحسيَّة‪ ،‬والخياليَّة‪ ،‬والعقليَّة‪،‬‬
‫التحقُّق باملعرفة اإلرشاق َّية عرب التج ُّرد األعىل‪.‬‬
‫رضب من النور‪ ،‬يحصل‬ ‫ٌ‬ ‫إ َّن املعرفة الكل َّية ليست من قبيل الحركات الفكريَّة والذهن َّية‪ ،‬بل هي‬
‫بفعل الحركات التّكا ُمل َّية للنفس اإلنسان َّية يف سياق التج ُّرد والتحقُّق بالوجود األت ّْم‪ .‬ويف هذا‬
‫الرئييس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫السياق‪ ،‬بنى الشريازي منهجه عىل محوريَّة الشهود باعتباره يلعب دور اإلنتاج املعر ِّ‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬تصحيح محمد خواجوى‪ ،‬تقديم بيدارفر‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬قم‪ ،‬انتشارات بيدار‪ ،‬ال‪.‬ت‪،.‬‬
‫ج‪ ،6‬ص‪.58‬‬

‫‪136‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫مسلك اإلرشاق النقط َة املركزيَّة يف أعامل امللَّ صدرا الواسعة”[[[‪ .‬ففي اإلرشاق‬‫ُ‬ ‫حيث “يُشكِّل‬
‫ِ‬
‫كشف الحقائق‬ ‫ِ‬
‫النفس بالوجود‪ ،‬والتحقُّق مبعرفته معرف ًة حضوريَّة واسعة‪ ،‬متنح النفس ق َّو َة‬ ‫ات ِّحا ُد‬
‫الكاشف واملكشوف‪ ،‬يف بوتقة‬ ‫ِ‬ ‫واالت ِّحاد بها‪ ،‬فيصبح العارِف واملعروف‪ ،‬العالِم واملعلوم‪،‬‬
‫وجوديَّة واحدة‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وميثِّل العرفان والشهود عند الشريازي أعىل أشكال املعرفة يف منهجه من حيث اإلنتاج‪،‬‬
‫ين‪،‬‬
‫شكل عرفا ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫وشكل الحكمة املتعالية الشريازيَّة هو‬
‫َ‬ ‫الديني‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫للنص‬
‫ِّ‬ ‫وإ ْن كانت األصالة لديه هي‬
‫مبعنى أ َّن بُنيتها ال يعوزها من الناحية الفلسف َّية والبحث َّية يشء عىل اإلطالق من حيث املضمون‪،‬‬
‫أي املكاشفات[[[‪.‬‬
‫ُ‬
‫الح ّرة)‪:‬‬ ‫ّ‬ ‫‪ -‬ف� ن‬
‫مع� الشهود وغائيته (المعرفة‬ ‫ي‬
‫َّفظي مع العديد من املصطلحات ومشتقَّاتها التي‬ ‫يرتبط مصطلح “الشهود” باالشرتاك الل ِّ‬
‫استخدمها الشريازي يف مؤلَّفاته‪ ،‬إلَّ أ ّن معاين هذه األلفاظ قد تتفاوت طوليًّا باملعنى املقصود بها‬
‫االصطالحي الذي عنا ُه الشريازي يف محلِّه‪ .‬أ َّما‬
‫ِّ‬ ‫بحسب السياق املستخدمة فيه‪ ،‬أو بحسب املعنى‬
‫الصوري‬
‫َّ‬ ‫الصوري‪ .‬إذ إ َّن الكشف‬
‫ُّ‬ ‫املعنوي‪ ،‬ال‬
‫ُّ‬ ‫“الشهود” املستخدم هنا‪ ،‬فهو بحسب نظره‪ ،‬الكشف‬
‫يئ‬
‫الحواس الخمس الذي يتَّصف بالتج ُّرد الجز ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫هو ما يحصل لإلنسان يف عالَم املِثال عن طريق‬
‫ين‪ ،‬أي‬ ‫املعنوي فهو ما يحصل له يف عالَم املعنى‪ ،‬ومصدره القلب اإلنسا ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫لتعلّ ِقه باملا َّدة؛ أ َّما‬
‫ص َو ِر الحقائق‪ ،‬وهو ظهور املعاين الغيبيَّة‬ ‫النفس الناطقة‪ ،‬أو عالَم العقل يف مرتبة التج ُّرد التا ِّم عن ُ‬
‫والصور‪.‬‬‫ُّ‬ ‫والحقائق العين َّية من دون إضافة التمثّالت‬
‫املقصود بالكشف هو الحدس‪ ،‬والنور‪ ،‬واإللهام‪ ،‬والشهود الروحي‪ ،‬التي هي عني الشهود‪ ،‬ولكن‬
‫ك ٌُّل يف مرتبته‪ ،‬فاملكشوف يكون بحسب ق َّوة املكاشَ ْف‪ ،‬واملرتبة الشهوديَّة تكون عىل قدر التج ُّرد‪،‬‬
‫مستوعب‬
‫ٌ‬ ‫يل منها‬
‫والحركة الفعل َّية التكا ُمل َّية‪ .‬تتَّصل مراتب الشهود بعالقة طول َّية يف ما بينها‪ ،‬مبعنى أ َّن العا َ‬
‫ين يحتاج إىل قابل َّية واستعداد إضاف َّيني ليتَّحد بالعايل‪.‬‬
‫للداين من دون أ ْن يغادر عل َّوه‪ ،‬وأ َّن الدا َ‬
‫يئ‪ ،‬إلَّ أنَّه‬
‫الصعودي االرتقا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫الشهود ليس غاية بذاته‪ ،‬وإ ْن طلبه السالكون يف سياق الرتقِّي املعر ِّ‬
‫وسيلة للتجاوز‪ ،‬واالنعتاق من مرتبة املعالجة الفكريَّة للحقائق إىل اختبارها املبارش‪ ،‬واالتحاد بها‪.‬‬
‫فهو‪ ،‬وإ ْن بدأ يف أ َّول األمر بالحركات العقليَّة اإلدراكيَّة املفاهيميَّة‪ ،‬إلَّ أنَّه يف نهاية الطريق يتجاوز‬
‫املفهوم إىل الذوق والعرفان‪ ،‬وهام بعيدا املنال عن أ ْن تنالهام قوة العقول والبحث‪“ ،‬فأكرث أهل العلم‬

‫‪[1]-(2) Morris, James Winston, The Wisdom of the Throne: An Introduction to the Philosophy of Mulla‬‬
‫‪Sadra, New Jersey, Princeton University Press, 1981, p. 6.‬‬
‫[[[‪ -‬خامنئئ‪ ،‬محمد‪ ،‬ومجموعة من الباحثني‪ ،‬املال صدرا والفلسفة العاملية املعارصة‪ :‬بحوث مؤمتر املالصدرا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.113‬‬

‫‪137‬‬
‫المحور‬

‫واألوحدي منهم له الق َّوة القدس َّية”[[[‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫ال يتجاوزون عن طور الفكر‪ ،‬واآلحاد منهم مرزوقون بالحدس‪،‬‬
‫الكاشف أو الشا ِهد بالحقائق العينيَّة‬
‫ِ‬ ‫يقع الكشف يف نهاية املسري اإلدرايكِّ‪ ،‬ويتحقَّق من خالله‬
‫والغيب َّية؛ فعل ُم املكاشف ِة عل ٌم آ ٌّ‬
‫يل من هذه الحيث َّية والجهة‪ ،‬وأ َّما “العلم باليوم اآلخر فهو اإلميان‬
‫بالقيامة والقرب والبعث والحرش والحساب وامليزان‪ ...‬وهذه غاية العلوم الكشفيَّة”[[[‪ .‬ويف مور ٍد‬
‫املفاض عىل القلوب‬‫علم يف القلب”[[[‪ ،‬والعلم ُ‬ ‫آخر يقول الشريازي‪“ :‬حقيقة اإللهام إفاضة الله ً‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫النوري كام ُس ِّمي يف القرآن الكريم[[[‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪ :‬ق ْد َجاءكم‬
‫ِّ‬ ‫ين‪ ،‬أو العلم‬
‫هو العلم اللَّد ِّ‬
‫ُ‬
‫اب ّمب ٌ‬ ‫اللِ نُ ٌ‬
‫ور َوك َِت ٌ‬ ‫ّ َ ّ‬
‫ين‪ .[[[‬والشواهد عىل هذا املعنى يف آثاره كثرية ج ًّدا‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫مِن‬
‫إ َّن الغاية املنشودة والهدف األسمى من الشهود هو الوصول إىل املعرفة الح َّرة‪ ،‬كام يصفها‬
‫ألي يشء آخر‪ ،‬بل هي غاي ٌة بذاتها‪ ،‬وغاي ُة الغايات‪ ،‬ومنتهى اآلمال‪،‬‬
‫الشريازي‪ ،‬التي هي ليست بغاية ِّ‬
‫فيقول‪“ :‬فأ ْرفَ ُع علوم املكاشفة وأرشفها هي معرفة الله سبحانه‪ ،‬وهي الغاية التي تُطلب لذاتها‪...،‬‬
‫وهي املعرفة الح َّرة التي ال تعل َُّق لها بغريها‪...‬وال ت ُراد ألجل يشء آخر‪ ،‬فال غاية لها ألنّها غري آليَّة‪،‬‬
‫وباقي العلوم إنَّ ا تُراد ألجلها”[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫الكالسيكية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫والصوفية‬ ‫ُّ‬
‫التصوف والعرفان‪ :‬املواجهة بني الشريازي‬ ‫‪.3‬‬
‫يل‪ ،‬وهو‪“ :‬عالمة عىل ال ُّزهد والتقوى وعدم االعتناء بالدنيا”[[[‪،‬‬
‫التص ُّوف طريق يف السلوك العم ِّ‬
‫ومنهج وطريقة زاهدة مبن َّية عىل أساس الرشع‪ ،‬وتزكية النفس‪ .‬مل يعرف تاريخه من بداياته حتى القرنني‬
‫السابع والثامن الهجري‪ /‬القرنني الثالث عرش والرابع عرش أيَّة حركات فكريَّة‪ ،‬أوعلوم قامئة عىل أساس‬
‫البحث والربهان‪ ،‬وقواعد األصول النظريَّة[[[‪ ،‬حتى جاد الزمان بأمثال‪ :‬السيد حيدر اآلميل‪ ،‬ومحي‬
‫يف‪،‬‬
‫يل والصو ِّ‬
‫النظري لطريقة السلوك العم ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫تأسيس للبُعد‬ ‫ِ‬
‫انطالقات‬ ‫الدين بن عريب وأتباعهام‪ ،‬فشهد‬
‫وعرض الحاالت املعنويَّة التي تحصل للمتص ِّوفني عىل األُ ُسس النظريَّة والعقل َّية‪ ،‬ومطابقتها ملحتوى‬
‫ِ‬
‫والنبوي‪ ،‬األمر الذي بلغ أوجه مع صدر الدين الشريازي‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ين‬
‫الديني‪ ،‬ببُعديه‪ :‬القرآ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬

‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حسن زادة‪ ،‬رسح العيون يف رشح العيون‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬قم‪ ،‬مركز انتشارات دفرت تبليغات اسالمي‪1421 ،‬ه‪2001/‬م‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫جة البيضاء‪2005 ،‬م‪ ،‬ص‪.15‬‬ ‫الحق واليقني‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املح َّ‬
‫ِّ‬ ‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬إكسري العارفني يف معرفة‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كرس أصنام الجاهل َّية يف الر ِّد عىل الصوف َّية‪ ،‬تصحيح محسن جهانكريي‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫مؤسسة التاريخ العريب‪2007 ،‬م‪ ،‬ص‪.120‬‬ ‫َّ‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رسالة األصول الثالثة‪ ،‬تحقيق أحمد ماجد‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعارف الحكْم َّية‪2008 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪.109‬‬
‫[[[‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة املائدة‪ ،‬اآلية ‪.15‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كرس أصنام الجاهل َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.75‬‬
‫جة»‪ ،‬العدد األول‪ ،‬بريوت‪ ،‬ترشين األول‪2011 ،‬م‪ ،‬ص‪.10‬‬ ‫[[[‪ -‬سجادي‪ ،‬ضياء الدين‪« ،‬التص ُّوف والعرفان»‪ ،‬مجلَّة «املح َّ‬
‫[[[‪ -‬وهو ما تشهد به كتب الصوف َّية األوائل أمثال القشريي وغريه‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫أ َّما العرفان فهو “العلم بأرسار الحقائق الدين َّية‪ ،‬وهو أرقى من العلم الذي يحصل لعا َّمة‬
‫ين هو الذي ال يقنع بظاهر الحقيقة الدين َّية‪ ،‬بل يغوص يف باطنها ملعرفة أرسارها‪..‬‬
‫املؤمنني‪ .‬والعرفا ُّ‬
‫معرفة الحقائق اإللهيَّة‪ ...‬وهو البحث يف منشأ املعرفة‪ ،‬وطبيعتها‪ ،‬وقيمتها‪ ،‬وحدودها‪ ،‬بحثًا نظريًّا‬
‫محضً ا”[[[‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ورغم التحفُّظ عىل بعض العبارات الواردة يف هذا التعريف‪ ،‬إلَّ أنَّه بحسب النظرة الشريازيَّة‪،‬‬
‫ين‪ .‬كام أنَّه يف املبدأ‬
‫مختصات القلب اإلنسا ِّ‬
‫َّ‬ ‫البرشي‪ ،‬وهو من‬
‫ِّ‬ ‫يُعترب العرفان طو ًرا وراء طور العقل‬
‫ريا إىل أصل معنى العرفان‪ ،‬وهو استناده اىل املعرفة بحثًا عن الحقيقة‪ ،‬وليس‬ ‫يل العام‪ ،‬يبقى مش ً‬ ‫الك ِّ‬
‫كام هو حال الصوف َّية‪ ،‬الذين غلبت عليهم أمارات الطريقة والزهد‪ ،‬من دون الغوص يف األُ ُسس‬
‫املعرفيَّة لحالة العبادة والتَّقوى والزهد‪.‬‬
‫يشري ابن سينا يف النمط التاسع من “اإلشارات والتنبيهات” إىل أ َّن للعارفني مقامات ودرجات‪:‬‬
‫خص باسم‪“ :‬الزاهد”‪ ،‬واملواظب عىل فعل العبادات‪ ،‬من‬ ‫“امل ُعرِض عن متاع الدنيا وط ِّيباتها يُ ُّ‬
‫خص باسم “العابد”‪ ،‬واملنرصف بفكره إىل قدس الجربوت‪ ،‬مستدميًا‬ ‫القيام والصيام ونحوهام يُ ُّ‬
‫خص باسم‪“ :‬العارف”‪ ،‬وقد يرتكَّب بعض هذه مع بعض”[[[‪ .‬ويف ذلك‬ ‫رسه يُ ُّ‬‫الحق يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫لرشوق نور‬
‫أيضً ا متا ٍه مع االختالف بني التص ُّوف والعرفان‪ ،‬فالتص ُّوف مبا هو مالك الزهد والعبادة‪ ،‬وهو أحد‬
‫مقامات العارفني‪ ،‬يتعلَّق بالشؤون العمل َّية السلوك َّية مبا هو دون الفكر والتأ ُّمل‪ ،‬اللذين هام شأن‬
‫العارِف‪ .‬أ َّما العرفان فهو أم ٌر يتض َّمن التص ُّوف‪ ،‬من دون العكس‪ ،‬فال يكون العارِف عا ِرفًا ما ملْ يك ْن‬
‫يف ليس بالرضورة أ ْن يكو َن عا ِرفًا‪.‬‬ ‫صوف ًّيا‪ ،‬ولكن الصو َّ‬
‫يرتتَّب العرفان عند الشريازي يف أقسام ستة‪:‬‬
‫أ‪ .‬وهو املعروف بعلم الربوب َّية‪ ،‬مشتمل عىل ثالث مراتب‪ :‬معرفة الذات‪ ،‬ومعرفة الصفات‪،‬‬
‫ومعرفة األفعال‪.‬‬
‫ب‪ .‬تعريف السفر لإلنسان إىل الله والسلوك نحو اآلخرة‪.‬‬
‫ج‪ .‬تعريف الحال عند ِمعاد الوصول‪.‬‬
‫د‪ .‬أحوال السالكني لسبيل الله الواصلني إليه‪.‬‬
‫جة الكفار وإيضاح مخازيهم وكشف أباطيلهم بالربهان الواضح‪.‬‬
‫هـ‪ .‬محا َّ‬

‫[[[‪ -‬صليبا‪ ،‬جميل‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪ ،‬الرشكة العامل َّية للكتاب‪1994 ،‬م‪ ،.‬ج‪ ،2‬ص‪.73 – 72‬‬
‫مؤسسة النعامن‬
‫[[[‪ -‬ابن سينا‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ :‬قسم التص ُّوف‪ ،‬رشح نصري الدين الطويس‪ ،‬تحقيق سليامن دنيا‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫للطباعة والنرش والتوزيع‪1993 ،‬م‪ ،‬ج‪ ،4‬ص‪.58 – 57‬‬

‫‪139‬‬
‫المحور‬

‫و‪ .‬تعريف عامرة املنازل للطريق وكيف َّية التأ ُّهب للزاد واالستعداد للمرجع واملعاد‪.‬‬
‫[[[‬

‫إ َّن الرتتيب الذي وضعه الشريازي للعرفان يُظهِر مدى االتِّساع والشموليَّة الذي يتجاوز التص ُّوف‬
‫مبا هو معروف عند أهله‪ ،‬وإ ْن كان ال ينكر عىل نفسه‪ ،‬وال عىل اآلخرين‪ ،‬ما للتص ُّوف من دور يف‬
‫عمل َّية االرتقاء والتج ُّرد‪ ،‬وعدم نكران الرشيعة والطريقة والحقيقة‪ ،‬التي طاملا أوردها املتص ِّوفون‬
‫يف كتبهم‪.‬‬
‫ين يف البيئة اإلسالم َّية منذ‬
‫فالعرفان بنيان شامخ‪ ،‬ورصح عظيم‪ ،‬شُ ِّيد يف رحلة التكامل اإلنسا ِّ‬
‫بداياتها‪ ،‬وصولً إىل الغزايل‪ ،‬وابن عريب وغريهام من أعاظم املتص ِّوفني‪ ،‬الذين استفاد منهم‬
‫الشريازي يف تشييد هذا الرصح؛ فهو مدين لهم ولتجاربهم الذاتيَّة‪ ،‬ولحكاياتهم يف هذا الفن‪،‬‬
‫كل التأثري اللَّ حق يف البيئة اإلسالم َّية‪ ،‬مبا فيها آثار الشريازي‪ ،‬الذي بنى‬
‫خصوصا ابن عريب الذي ترك َّ‬
‫ً‬
‫الخاصة التي أبرزت “التناقض الجلِّ بني فلسفته وكتاباته من جهة‪ ،‬وابن عريب والصوف َّية‬ ‫َّ‬ ‫منظومته‬
‫مبؤسساتها وآدابها وسلوكها من جهة أخرى‪ ...‬فقد قام بنقلة جا َّدة من الرتكيز عىل التجربة الذات َّية‬‫َّ‬
‫التي صبغت أعامل الصوفيَّة إىل منظور أوسع إدراكًا”[[[‪.‬‬
‫وال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن املنظور الشامل‪ ،‬واألفق الواسع‪ ،‬واملنهج املتني‪ ،‬كل ذلك َوضَ َع‬
‫الشريازي يف كثري من األحيان أمام التح ِّدي واالختالف مع الصوفيَّة الكالسيكيَّة نظ ًرا الختالف‬
‫واحد منهام‪ ،‬مع تداخلها بالعوامل السياسيَّة واالجتامعيَّة‪ ،‬عىل أنَّه ملْ‬ ‫ٍ‬ ‫كل‬
‫املنهج الذي سلكه ُّ‬
‫يُنكر الصوف َّية بالكل َّية‪ ،‬بل حاول تصحيح مسارها وسلوكها‪ ،‬باعتبار أ َّن التص ُّوف‪“ :‬علم من العلوم‬
‫الرشع َّية الحادثة يف املِلّة‪ ...‬وأصلها العكوف عىل العبادة واالنقطاع إىل الله تعاىل‪ ،‬واإلعراض عن‬
‫زخرف الدنيا وزينتها‪ ،‬والزهد فيام يُقبل عليه الجمهور من ل ّذ ٍة وما ٍل وجا ٍه”[[[‪.‬‬
‫أ َّما ما وقعت فيه الصوف َّية من االنحراف‪ ،‬فقد واجهه الشريازي ألسباب عديدة نذكرها أدناه‪.‬‬
‫َّ‬
‫الكالسيكية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫والصوفية‬ ‫‪ .4‬أسباب املواجهة بني الشريازي‬
‫تع َّددت األسباب التي جعلت عرفان الشريازي يقف يف مواجهة بعض أصناف الصوف َّية‪ ،‬أه ُّمها‪:‬‬
‫إعراض املتص ِّوفني عن الجمع بني مسلك الرياضة الروح َّية‪ ،‬ومسلك الحكمة النظريَّة القامئة‬
‫عىل الربهان واالستدالل‪ .‬وهذا التفكيك بينهام يورث الضاللة‪ ،‬ويُبعد عن الهدف‪ ،‬واملسلك‬
‫الروحي ال ضابط له سوى الرشيعة والعقل وعلم الربوبيَّة‪ ،‬ومشكلة بعض املتص ِّوفني هي يف‬‫ُّ‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.134 – 129‬‬
‫‪[2]- Morris, James Winston, The Wisdom of the Throne, ibid., p.36.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد‪ ،‬املقدِّ مة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪2000 ،‬م‪ ،‬ص‪.356‬‬

‫‪140‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫إنكارهم جدوى العقل والفلسفة‪ ،‬والشريازي “يلوم بعنف وخشونة بعض الصوف َّية الذين يع ُّدون‬
‫الفعال َّية العقالن َّية شيئًا هبا ًء”[[[‪ ،‬وهو يف ذلك ميث ُِّل نو ًعا من املعنويَّة العالية مع احرتامها للغة‬
‫إل أنَّه ال يرتبط بأيَّة طريقة صوفيَّة‪.‬‬
‫التص ُّوف‪َّ ،‬‬
‫إعراضهم عن أحكام الرشيعة الظاهرة بدعوة الوصول والقرب‪ .‬بنا ًء لقولهم‪ ،‬فإ َّن غاي َة الرشيع ِة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ُ‬
‫الوصول إىل مقام القرب‪ ،‬وعند تحقُّقهم به‪ ،‬فال داعي لألعامل الرشعيَّة الظاهرة‪ ،‬والحركات البدنيَّة‬
‫الفارغة‪ .‬يلتقي الشريازي يف هذه املواجهة مع كثريين من املتص ِّوفني األصيلني مثل القشريي الذي‬
‫وضع رسالته الشهرية “الرسالة القشرييَّة” يف معرض ر ِّده عىل الصوف ّيني الذين أنكروا الرشيعة‪ ،‬حيث‬
‫رصح يف مقدمة رسالته‪“ :‬حتى أشاروا ]أي املنحرفون من الصوف َّية[ إىل أعىل الحقائق واألحوال‪،‬‬ ‫ّ‬
‫بالحق‪ ،‬تجري‬ ‫ِّ‬ ‫رق األغالل‪ ،‬وتحقَّقوا بحقائق الوصال‪ ،‬وأنَّهم قامئون‬‫وا َّدعوا أنّهم تح َّرروا عن ِّ‬
‫عليهم أحكامه‪ ،‬وليس لله عليهم فيام يؤثرونه أو يذَرونه عتب وال لوم”[[[‪ ،‬أي ح َّرروا أنفسهم من‬
‫االلتزامات الرشع َّية‪ ،‬وهو الداعي الذي جعل القشريي يؤلِّف هذه الرسالة سنة ‪ 437‬للهجرة‪1045/‬‬
‫يف آنذاك‪.‬‬ ‫للميالد ‪ ،‬أي قَ ْب َل حواىل خمسة قرون من زمن الشريازي‪ ،‬وذلك لتصحيح املسار الصو ِّ‬
‫[[[‬

‫من جهته‪ ،‬وضع الشريازي رسالة خاصة بذلك هي‪“ :‬كرس أصنام الجاهل َّية يف الر ِّد عىل‬
‫يف يف زمانه؛ حيث ورد يف‬ ‫الصوف َّية”‪ ،‬ث َّم كتاب‪“ :‬رسالة األصول الثالثة”‪ ،‬لتصحيح املسار الصو ِّ‬
‫رسالته األوىل يف مجال الر ِّد عىل دعوة الصوف َّية املنحرفة‪“ :‬إحداها الدعاوى الطويلة العريضة يف‬
‫العشق مع الله‪ ،‬والوصال معه املغني عن القيام باألعامل الظاهرة والعبادات البدنيَّة‪ ...‬وهذا ف ٌّن من‬
‫ضر ِِه يف العوام أعظم من السموم املهلكة لألبدان‪ ،‬حتى ت َ َر َك جامعة من أهل الفالح‬‫الكالم ِعظَ ُم َ َ‬
‫فالحهم‪ ،‬وأظهروا مثل هذه الدعاوى”[[[‪.‬‬
‫ويتبي من ذلك أ َّن مسلك الشريازي هو الجمع امل ُنجي من االنحراف؛ فالبداية من الرشيعة‪،‬‬ ‫ّ‬
‫وتكون بإقامة العبادات الظاهرة والباطنة لغاي ٍة‪ ،‬هي تقويم امللكات‪ ،‬بالتخلِّ عن الرذائل‪ ،‬والتحلِّ‬
‫بالفضائل‪ .‬أ َّما الطريقة ف ُمه َّمتُها الخروج عن مألوف العادات واملراسم االجتامع َّية إىل اعتامد‬
‫املوصل إىل املقامات واألحوال‪ .‬وأ َّما الحقيقة فهي تحقيق العدالة من خالل التحقُّق‬ ‫ِ‬ ‫الطريق‬
‫اإللهي‪ ،‬واملعرفة بالذات‪ ،‬وبالصفات وباألفعال اإللهيَّة‪ ،‬فال حقيقة بال رشيعة‬
‫ِّ‬ ‫يب والفن‬
‫بالعلم الربو ِّ‬
‫وطريقة‪ ،‬وال طريقة بال رشيعة‪ ،‬والوقوف عىل الرشيعة وحدها ابتدا ًء ونهاي ًة ال يوصل إىل الحقيقة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬كوربان‪ ،‬هرني؛ ومجموعة من الباحثني‪ ،‬فلسفة صدر املتألِّهني الشريازي‪ :‬املباين واملرتكزات‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.120‬‬
‫[[[‪ -‬القشريي‪ ،‬عبد الكريم‪ ،‬الرسالة القشري َّية‪ ،‬تحقيق معروف زريق؛ وعىل عبد الحميد بلطه جي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪،‬‬
‫ال‪.‬ت‪ ،.‬ص‪.37‬‬
‫[[[‪ -‬هذا ما ذكره القشريي يف مقدِّ مة رسالته‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ص‪.36‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كرس أصنام الجاهل َّية‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ص‪.47 – 46‬‬

‫‪141‬‬
‫المحور‬

‫يف‪ ،‬وهو ما يُقال له “الطَّا َّمات”‪،‬‬ ‫عالوة عىل ما تق َّدم‪ ،‬حارب الشريازي ظاهرة الشطح الصو ِّ‬
‫“ص ُف ألفاظ الرشع عن ظواهرها املفهومة إىل أمور باطنة ال يسبق‬ ‫بحسب مصطلحه‪ ،‬وهي‪ْ َ :‬‬
‫عقل ورش ًعا”[[[‪ .‬أ ّما عقلً‪ ،‬فأل َّن نشآت‬
‫كدأب الباطنيَّة يف التأويالت‪ ،‬وهذا حرا ٌم ً‬ ‫ِ‬ ‫منها إىل اإلفهام‪،‬‬
‫الوجود متع ِّددة‪ ،‬ولها يف الظاهر‪ ،‬كام لها يف الباطن‪ ،‬فال يجوز األخذ بواحدة من دون أخرى‪،‬‬
‫فكذا األلفاظ لها ظاهر وباطن‪ .‬أ ّما رش ًعا‪ ،‬فإ ّن الوقوف عند التأويل الباطني من دون ضبط العقل‬
‫الباطني وفق هذا املنحى هو‬ ‫ُّ‬ ‫أو الرشع‪ ،‬أم ٌر يورث عدم الثقة باأللفاظ القرآن َّية أو النبويَّة‪ ،‬والتأويل‬
‫ص ُف األلفاظ عن مقتىض ظواهرها‪.‬‬ ‫َْ‬
‫نلفت هنا إىل أ َّن الشريازي قد أوجد العذر ألكابر الصوف َّية أمثال الحالج القائل‪“ :‬أنا الحق”‪،‬‬
‫وأيب يزيد البسطامي القائل‪“ :‬سبحاين ما أعظم شأين”‪ ،‬فأ َّو َل كلامتهم عىل حسن الظ ِّن فيهم‪ ،‬فقد‬
‫حيك عنه ال لفظًا وال مفهو ًما وال مع ًنى‪ ،‬وإ ْن ث ُبت‬ ‫يصح عنه ما ُ‬
‫ُّ‬ ‫قال‪“ :‬وأ َّما أبو يزيد البسطامي‪ ،‬فال‬
‫أنّه ُس ِمع منه ذلك‪ ،‬فلعلَّه كان يحيك عن الله تعاىل يف كالم يُ َر ِّد ُده يف نفسه؛ كام لو ُس ِمع وهو يقول‪:‬‬
‫َّ َ َ َّ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ‬
‫الل لا إِل َه إِلا أنا فاع ُب ْدن ِي‪ ،[[[‬فإنَّه ما كان ينبغي أ ْن يُقال ذلك إلَّ عىل سبيل الحكاية»[[[‪.‬‬ ‫‪‬إِنن ِي أنا‬
‫يف الخالصة‪ ،‬مل ينكر الشريازي عىل الصوف ِّيني صوف َّيتهم وزهدهم وتقواهم‪ ،‬إنَّ ا واجه بعض‬
‫وجوه انحرافهم‪ ،‬كام فعل غريه من الصوف ِّيني أنفسهم‪ ،‬ولكن تبقى له أسبق َّيته يف تطوير علومهم‬
‫وآدابهم‪ ،‬وإضفاء روح العقل والربهان عليها‪ ،‬ومطابقتها مع ظاهر الرشيعة‪ .‬باإلضافة إىل تحويل‬
‫علم التص ُّوف من مسلك سلويكٍّ غري ُم َم ْنهج‪ ،‬إىل مسلك ذي أصول نظريَّة وعمليَّة ُس ّمي باملسلك‬
‫يل‪ ،‬وشاد رصحه عىل أُ ُس ٍ‬
‫س أبدعها إبدا ًعا‬ ‫النظري والعم ِّ‬
‫ِّ‬ ‫املتعايل‪ ،‬الذي جمع فيه العرفان بشقَّيه‬
‫عظيم‪ ،‬مل ي ْع َهده َم ْن سبقه من الحكامء والعرفاء واإلرشاقيني‪.‬‬
‫ً‬ ‫حا‬
‫جدي ًدا‪ ،‬وفتح فيها فت ً‬
‫َّ‬
‫الذاتي�ة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الصوفية‬ ‫‪ . 5‬دور الربهان يف احلقيقة عند الشريازي‪ :‬إنقاذ التجربة‬
‫ين متع ِّددة ذُكرت يف املعاجم‪ ،‬واستُخدمت يف بطون الكتب‬ ‫يتَّخذ مصطلح «الحقيقة» معا َ‬
‫املعرفيَّة والفلسفيَّة وغريها‪ .‬أحدها «مطابقة التص ُّور أو الحكم للواقع‪ ،‬فالحقيقة بهذا املعنى اسم‬
‫حق اليشء إذا ثبت‪ ...‬والثاين هو مطابقة اليشء لصورة نوعه‪ ،‬ومثاله‪ :‬ال يبلغ املؤمن‬ ‫لِام أُريد به ُّ‬
‫حقيقة اإلميان حتى ال يعيب إنسانًا بعيب هو فيه‪ ...‬والثالث هو املاه َّية أو الذات‪ ،‬كالحيوان‬
‫الناطق لإلنسان‪ ...‬والرابع هو مطابقة الحكم للمبادئ العقل َّية»[[[‪ .‬تجتمع هذه املعاين‪ ،‬رغم تباينها‪،‬‬
‫بخصيصة الحكاية أو محاولة الكشف عن واقعٍ ما يف الخارج‪ ،‬وهي املعاين التي استخدمها‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫[[[‪ -‬القرآن الكريم‪ ،‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.14‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كرس أصنام الجاهل َّية‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬ص‪.48‬‬
‫[[[‪ -‬صليبا‪ ،‬جميل‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.486 – 485‬‬

‫‪142‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫املناطقة والفالسفة عمو ًما‪ .‬أ َّما الشريازي‪ ،‬فقد استخدم هذا املصطلح ملعنى مغاير كل ًّيا‪« :‬إ َّن‬
‫كل يشء هو وجوده الذي يرتت َّب به عليه آثاره وأحكامه»[[[‪ ،‬وإ َّن «كون اليشء ذو حقيقة‬ ‫حقيقة ِّ‬
‫كل يشء هي خصوص وجوده الذي يرتت َّب عليه أحكامه‬ ‫معناه أنَّه ذو وجود»[[[‪ ،‬وإ َّن «حقيقة ِّ‬
‫الخاصة التي هي‬ ‫َّ‬ ‫املخصوصة وآثاره املطلوبة منه»[[[‪ ،‬كام «أ َّن حقائق األشياء عبارة عن وجوداتها‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫صور األكوان وهويَّات األعيان»[[[‪.‬‬


‫فتبيَّ أ َّن الحقيقة عند الشريازي ليست من قبيل املفاهيم الحاكية عن الخارج‪ ،‬بل هي عينه‪،‬‬
‫مم يرتت َّب عليها آثارها الخارج َّية وأحكامها‪ ،‬فال معنى لقول الحقيقة من‬
‫والحقيقة املوضوع َّية هي َّ‬
‫دون التحقُّق يف العني‪ ،‬أ َّما الحكاية عن هذه العني‪ ،‬فهي ليست إلَّ من قبيل األشباح واألوهام‪.‬‬
‫يتبي كيف أ َّن إدراك الحقائق‪ ،‬مبستوياتها ومراتبها كافَّة‪ ،‬ال يكون إلَّ بالكشف والشهود‪،‬‬
‫ومن هنا َّ‬
‫يف عند الشريازي‪ ،‬وليس مقام الفهم والحكاية واإلثبات‪ ،‬الذي هو‬ ‫الذي يُشكِّل مقام اإلنتاج املعر ِّ‬
‫شأن العقل والربهان‪ .‬ولذا يورد الشريازي‪« :‬أ َّن الحقائق واملعارف التي بها يُستكمل اإلنسان ليس‬
‫عند الجمهور يشء منها إلَّ الخياالت واألشباح‪ ،‬لذلك ال يحصل لهم منها بعد تقليدهم من األنبياء‬
‫تسليم وانقيا ًدا إلَّ شبح الكامل ومثاله‪ ،‬دون حقيقته‪ ،‬ألنَّها علوم وأرسار لطيفة‪ ،‬ال‬
‫ً‬ ‫واعرتافهم بها‬
‫تنكشف ألحد إلَّ بعد تلطّف نفسه»[[[‪ .‬فظهر أ َّن الحقيقة ليست من شأن املفاهيم[[[‪ ،‬بأ ْن يقال‬
‫ويُفهم منها ما يطابق الواقع يف األعيان‪ ،‬ونسبة األمر إليها؛ بل هي طو ٌر من أطوار كشف األرسار‬
‫باإلرشاق والشهود‪ ،‬ومعاينة عني الوجود والجود‪.‬‬
‫تؤش إىل دور العقل وفعال َّيته‪،‬‬
‫من املفيد القول أ َّن دراسة الربهان واالستدالل يف منهج الشريازي ِّ‬
‫جيَّته‪ ،‬يف إثبات الحقائق‪ ،‬وليس ثبوتها يف ذاتها وموجوديَّتها عند املدرِك والعالِم‪ ،‬فهذا شأن‬ ‫وح ِّ‬
‫جيَّة العقل تستبطن أدوا ًرا عديدة لتجلِّياته وآثاره‪ :‬معنى مبدئيَّته‪ ،‬ودوره يف الكشف‪،‬‬
‫الكشف‪ .‬وح ِّ‬
‫وأدواته املتع ِّددة‪ ،‬والربهان‪.‬‬
‫نجد يف كالمه هذا ات ِّجاهني ملعنى العقل‪ ،‬األول‪ :‬معنى اآللة أو املنهج الستكشاف الحدود‬
‫والقضايا‪ ،‬التص ُّورات والتصديقات‪ .‬والثاين‪ :‬املعنى الذي يربط العقل بالوجود‪.‬‬
‫االتِّجاه األ َّول‪ :‬النتائج املتولِّدة عن هذا االتجاه هي الفكريَّات‪ ،‬أو ما يدور مدار حركة الفكر‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كتاب املشاعر‪ ،‬تقديم هرني كوريان‪ ،‬ترجمة ابتسام الحموي‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث‬
‫العريب‪ 2000 ،‬م‪ ،‬ص‪.60‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.60‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.49‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬األسفار‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،5‬ص‪.2‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪.403‬‬
‫[[[‪ -‬ورد هذا املعنى يف مواضع كثرية من كتاب “األسفار”‪ ،‬نذكر منها‪ :‬ج‪ ،1‬ص‪89‬؛ ج‪ ،3‬ص‪257‬؛ ج‪ ،6‬ص‪.3‬‬

‫‪143‬‬
‫المحور‬

‫شكل وضعِ الحدود من املعلومات‬ ‫َ‬ ‫اآلل َّية‪ ،‬من املق ِّدمات اليقين َّية إىل النتيجة بالرضورة‪ ،‬أو ما يأخذ‬
‫الحارضة للوصول إىل املجهوالت‪ .‬وإىل هذا املعنى أشار الشريازي يف كثري من نصوصه‪« :‬الفكر‬
‫املستحضة»[[[‪.‬‬
‫َ‬ ‫هو انتقال النفس من املعلومات التص ُّوريَّة والتصديقيَّة الحارضة فيها إىل مجهوالتها‬
‫فالفكر بهذا املعنى هو آلة ال تت ُّم إلَّ بوجود يشء متوسط يُس َّمى الوسط بني طريف املجهول‪،‬‬
‫لتصري النسبة املجهولة معلومة‪ ،‬وهو بذلك «أداة االستدالل ووسيلة التدليل العا َّمة التي ال مناص‬
‫منها يف إثبات املطلوب»[[[‪ ،‬وليس يف ثبوته‪.‬‬
‫إذًا‪ ،‬العقل بهذا املعنى هو إشارة إىل الفهم واالستنتاج والتحليل‪ ،‬وإقامة الربهان‪ ،‬وقد استخدمه‬
‫والنبوي‪ ،‬ويف إضفاء الروح‬
‫ِّ‬ ‫ين‬
‫الديني‪ :‬القرآ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫بفعال َّية عالية يف إثبات قضاياه‪ ،‬وفهم مضمون‬
‫يئ‪،‬‬
‫العقليَّة عىل مكاشفات الصوفيَّة‪ .‬ونشري إىل أ َّن مه َّمة العقل األداتيَّة اإلجرائيَّة يف املنهج الصدرا ِّ‬
‫كل من ديكارت وكانط‪ ،‬وال مه َّمة إنتاجيَّة أصيلة‪ ،‬بل هي‬ ‫ليست تأسيسيَّة قبليَّة‪ ،‬كام وقع يف ذلك ٌّ‬
‫مه َّمة إثبات َّية تربيريَّة‪ ،‬تقوم بتفعيل الفهم وااللتفات‪ ،‬والحكاية الذهن َّية املفاهيم َّية لحقائق األشياء‪،‬‬
‫املوضوعي‪ ،‬بل تشكِّل إشار ًة إليه من بعيد‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وهي حكاية ال تالمس كُ ْن َه وحقيقة الواقع‬
‫وبذلك يلتقي الشريازي مع غريه من الفالسفة عمو ًما‪ ،‬واملشائ َّية عىل وجه التحديد‪ ،‬وعىل‬
‫رأسها‪ ،‬شيخها ورئيسها ابن سينا‪ ،‬بدور العقل األدات َّية‪ ،‬والذي يقول‪« :‬ليس يف قدرة البرش الوقوف‬
‫خواص األشياء ولوازمها»[[[‪ .‬وجه االلتقاء بني‬
‫َّ‬ ‫عىل حقائق األشياء بل غاية اإلنسان أ ْن يدرك‬
‫النص‪ ،‬هو مقام اإلثبات للعقل‪ ،‬أي مرحلة الفهم والتفسري لآلخرين عن‬ ‫ِّ‬ ‫الشريازي وابن سينا يف هذا‬
‫الواقع والحقائق الخارج َّية‪ ،‬وإ ْن كانا يختلفان يف مقام ثبوت الحقائق‪ ،‬فالشريازي يعترب أ َّن ثبوت‬
‫سبيل البتَّة للوقوف عىل ثبوت‬
‫ً‬ ‫الحقائق ممكن‪ ،‬بسبب أخْذ ِه مبسلك اإلرشاق‪ ،‬أ َّما ابن سينا فال يرى‬
‫الحقائق العين َّية بنا ًء لقدرة البرش‪ ،‬التي أوقفها عىل العقل من دون اإلرشاق‪.‬‬
‫االت ِّجاه الثاين‪ :‬وهو ربط العقل بالوجود‪ ،‬أل َّن «صدر املتألِّهني يساوي بني تكامل الفكر وتكامل‬
‫ينّ»[[[‪ .‬فالعقل بهذا املعنى ليس أم ًرا آل ًّيا‪ ،‬وال أدا ًة ُمه َّمتها الفهم والتفسري‪ ،‬بل العقل‬
‫الوجود اإلنسا ْ‬
‫عني الحقيقة‪ ،‬وثبوتها‪ ،‬و ُمسا ٍو للوجود‪ .‬وإذا كان الوجو ُد واح ًدا‪ ،‬ذا مراتب وشؤون بحسب ُّ‬
‫تعي‬
‫كل القوى‬‫ال ُه ِّويَّات الوجوديَّة يف األعيان‪ ،‬فالعقل كذلك‪ ،‬أل َّن النفس اإلنسانيَّة يف وحدتها‪ ،‬هي ُّ‬
‫اإلدراكية والتحريكية‪ ،‬التي ترتتّب طول ًّيا‪ ،‬من أ ّول نشأتها إىل حني معادها‪ ،‬ومصريها إىل اآلخرة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬األسفار‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.516‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ 1‬ص‪.43‬‬
‫[[[‪ -‬سبزواري‪ ،‬هادي‪ ،‬تعليقات عىل الشواهد الربوب َّية‪ ،‬تعليق وتصحيح جالل الدين آشتياين‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬مشهد‪ ،‬املركز الجامعي‬
‫للنرش‪1981 ،‬م‪ ،‬ص‪.19‬‬
‫مؤسسة التاريخ العريب‪،‬‬
‫[[[‪ -‬خامنئئ‪ ،‬محمد‪ ،‬امللَّ صدرا والفلسفة العامل َّية املعارصة‪ :‬بحوث مؤمتر امللَّ صدرا‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫‪2007‬م‪ ،‬ص ط‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫وعىل هذا يتد َّرج العقل بالتحقُّق وبالوجود حسب تج ُّرد النفس وارتقائها‪ ،‬نظ ًرا الرتباط ف َّعالية العقل‬
‫الربزخي‬
‫ِّ‬ ‫بال َّنفس اإلنسان َّية‪ ،‬وصدور هذه الف َّعال َّية عنها‪ ،‬فإ َّن «للنفس درجات من التج ُّرد كالتج ُّرد‬
‫يل‪،‬‬ ‫يل‪ ،‬والتج ُّرد األت ُّم‪ ،‬الذي هو فوق التج ُّرد العق ِّ‬
‫وهو تج ُّردها يف مقام الخيال‪ ،‬والتج ُّرد التا ُّم العق ُّ‬
‫يل أ ْن ليس لها ح ٌّد تقف عليه ومقام تنتهي إليه»[[[‪.‬‬ ‫ومعنى كونها فوق التج ُّرد العق ِّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫فللعقل درجات يف التج ُّرد‪ ،‬كام للنفس مراتب يف الرتقِّي‪ .‬فالنفس يف بداية رحلتها هي‬
‫الحسيَّة‪ ،‬التي‬
‫ِّ‬ ‫ٍ‬
‫إدراك وعقلٍ ‪ ،‬ث َّم تتد َّرج صعو ًدا من النشأة‬ ‫كل‬
‫محض القوة واالستعداد‪ ،‬خالية عن ِّ‬
‫الحواس الباطنة‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫الحواس الخمس الظاهرة‪ ،‬إىل النشأة املثال َّية الخيال َّية التي مظهرها‬
‫ُّ‬ ‫مظهرها‬
‫عقل بالفعل‪ ،‬وبعدها‬ ‫ث َّم النشأة العقل َّية ومظهرها القوة العاقلة املج َّردة تج ّر ًدا تا ًّما‪ ،‬حيث تصري ً‬
‫النشأة القدسيَّة النوريَّة‪.‬‬
‫مسألتي الفكر والعقل باملحتوى والتجربة الصوف َّية‪ ،‬حيث‬ ‫ْ‬ ‫مت َّيزت املنهج َّية الصدرائ َّية بربط‬
‫يكن اإلشارة إليها‪ ،‬وتفسري هذه الحقيقة‬ ‫يل ُ ْ‬
‫الحقيقة الصوف َّية هي حقيقة ذهن َّية إدراك َّية‪ ،‬ذات بُعد عق ٍّ‬
‫باألبعاد الفكريَّة األمر الذي كان يُنكره الصوفيَّة قبله‪ .‬وهذا ما جعل الشريازي يفرتق عن الصوفيَّة‬
‫التي كانت سائدة قبله‪ ،‬واملتمثِّلة بالغزايل‪ ،‬إذ أعلن مفارقته للصوف َّية الغزال َّية القامئة عىل الحدس‬
‫والتجربة الذات َّية‪ ،‬والتي اتخذت من املناسك والشعائر والرياضات واملجاهدات النفسان َّية والبدن َّية‪،‬‬
‫يف بالحقيقة تجرب ًة عقالن َّية ميكن اإلشارة إليها بالف ِّن‬‫جا آحديًّا وحسب‪ ،‬وأصبح الحدس الصو ُّ‬ ‫منه ً‬
‫ين؛ وبالتايل خروج الحقيقة الصوفيَّة من حيِّز الذات‪ ،‬إىل فضاء الخارج والتجربة اإلنسانيَّة‬ ‫الربها ِّ‬
‫العا َّمة‪.‬‬
‫الذهني‪ ،‬بعدما التزمت يف تاريخها الطويل‬ ‫ِّ‬ ‫وعليه‪ ،‬أصبحت الحقيقة الصوفيَّة ت ُقرن باملحتوى‬
‫الذهني‪ ،‬باعتبارها تجربة تعلو عىل الوصف‪ ،‬وخاصيَّة ت ُك ِّرس النفس‬ ‫ِّ‬ ‫الحديس من دون‬
‫ِّ‬ ‫باملحتوى‬
‫يئ سار عىل‬ ‫للتجربة الروح َّية البحتة‪ ،‬وفق خارطة املقامات واألحوال‪ .‬عىل أ َّن النموذج الصدرا َّ‬
‫الذهني‪ ،‬مع إضافة شريازيَّة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫طريقة ابن عريب الذي جمع بني اإلرشاق‪ ،‬ولغة املتص ِّوفة‪ ،‬واملحتوى‬
‫أسس له وأبدعه يف متايز عنه‪« ،‬ففي حني استخدم ابن‬ ‫ين الذي َّ‬ ‫الفلسفي الربها ِّ‬
‫ِّ‬ ‫ات َّسمت بالبُعد‬
‫عريب منهج القياس والتمثيل‪ ،‬مبتع ًدا عن الفلسفة‪ ،‬انتهج صدرا طريقة املنطق والفلسفة‪ ،‬لذلك‬
‫يف للحقيقة والشهود‪،‬‬ ‫حدس معر ٌّ‬‫ٌ‬ ‫فإ َّن التجربة الصوف َّية لصدرا ليست تجربة ذات َّية محضة‪ ،‬بل هي‬
‫وتجرب ٌة عقالنيةٌ‪ :‬املشاهدة العقل َّية»[[[‪ .‬لذلك‪ ،‬فنحن معه أمام حقيقة صوف َّية هي حقيقة ذهن َّية بنح ٍو‬
‫وجودي‪ ،‬وأمام تجربة صوفيَّة ذات أبعاد إدراكيَّة؛ والحقيقة الصوفيَّة‪ ،‬لو كانت تُنظّم ذهنيًّا بوصفها‬ ‫ٍّ‬

‫[[[‪ -‬اآلميل‪ ،‬حسن زادة‪ ،‬رسح العيون يف رشح العيون‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫‪[2]- Rahman, Fazlur, The Philosophy of Mulla Sadra, First Edition, New York, State university of New‬‬
‫‪York press, 1975, p.5.‬‬

‫‪145‬‬
‫المحور‬

‫الجوهري‪ ،‬ليس بوصفها إدراكات‪ ،‬وإنَّ ا بوصفها‬


‫َّ‬ ‫مقوالت عقل َّية وحسب‪ ،‬فإنَّها ستفقد قوامها‬
‫حقائق[[[‪.‬‬
‫طرف نقيض‪ :‬طرف‬ ‫َ‬ ‫وحل جام ًعا بني‬
‫ًّ‬ ‫لقد وضع الشريازي لغة العقل والربهان موض ًعا وسط ًّيا‪،‬‬
‫الفلسفة ولغة الربهان املحضة‪ ،‬وطرف التص ُّوف البحت‪ .‬فأهل الربهان أنكروا عىل املتص ِّوفة‬
‫شهودهم‪ ،‬وإمكانيَّة خضوعه للبيان والربهان؛ وأهل التص ُّوف رأوا يف البيان والربهان عائقًا يف‬
‫الشخيصّ‪ .‬وبهذه الوسطيَّة والجمعيَّة‬
‫ْ‬ ‫الطريق والوصول‪ ،‬وأبقوا التجربة الصوفيَّة يف إطارها الذايتِّ‬
‫يئ‬
‫يل يف ت َّياره املشَّ ا ِّ‬
‫«مت َّيز ملَّ صدرا إىل ح ٍّد كبري بأ ْن يجمع يف تناسق وتكامل بني التفلسف العق ِّ‬
‫الرتبوي‬
‫ِّ‬ ‫السهروردي الحلبي وتراثه‬ ‫يف يف نزعته اإلرشاق َّية لدى ُّ‬
‫وأصوله اإلغريق َّية‪ ،‬والعرفان الصو ِّ‬
‫الكالمي لدى أعالمه البارزين»[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫والفكري‪ ،‬األكرث أصالة لدى ابن عريب‪ ،‬وغريه‪ ،‬والنظر‬
‫ِّ‬

‫‪ .6‬العقل والشرع بني الغزايل وابن عريب والشريازي وابن رشد‪:‬‬


‫ريا يف سياق منهجه الكلِّ‬‫أخذت العالقة بني العقل والرشع‪ ،‬بحسب رأي الشريازي‪ ،‬حيِّ ًزا كب ً‬
‫موصل ٍة عرب الربهان واالستدالل‪ ،‬وإ ْن رسم له‬‫امل ُنتج لحكمته ومسائلها‪ ،‬فقد كان العقل أدا َة تفكريٍ ِ‬
‫والنبوي‪ ،‬فكان الرشع هو األصل واملرجع‬ ‫ِّ‬ ‫ين‬
‫الديني‪ :‬القرآ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫عب‬
‫حدو ًدا وميزانًا‪ ،‬هو الرشع‪ْ ،‬‬
‫النص هو التأسيس‪ ،‬يف حني أ َّن دور العقل هو التأويل‬ ‫ِّ‬ ‫يف رسم خارطة العقل والفكر‪ ،‬أل َّن دور‬
‫والتفسري‪.‬‬
‫مثل‪:‬‬
‫النص والرشع عىل العقل‪ ،‬فهو يكتب ً‬ ‫ِّ‬ ‫لقد وردت يف مواضع كثرية عند الشريازي أرجح َّية‬
‫برشي يجوز عليه الخطأ‪ ،‬وال‬
‫ٌّ‬ ‫«وأ َّما القوانني العقليَّة املحضة ففيها إمكان الريب من جهة أنَّها نتاج‬
‫ينفي جواز الخطأ اعتامد تلك القوانني عىل األصول األوليَّة الرضوريَّة»[[[‪ ،‬فال يُغفر للفكر‪ ،‬وال‬
‫يُعطى األسبق َّية‪ ،‬رغم استناده إىل الرضوريَّات أو البديه َّيات‪.‬‬
‫النص عند الشريازي ال تعني بالرضورة إنكا ًرا لقيمة الفكر باالستدالل عىل الحقيقة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫إ ّن أصالة‬
‫كام وقع يف ذلك بعض الصوف َّية مثل الغزايل‪ ،‬وال تعني أيضً ا حتم َّية التناقض بني حقيقة العقل‬
‫وحقيقة الرشع‪ ،‬بل تعني األفضل َّية يف األسبق َّية‪ .‬فالرشع إخبار‪ ،‬والعقل استظهار؛ والرشع والعقل‬
‫يلتقيان بالعناية‪ ،‬وال يفرتقان باملخالفة‪ ،‬وإىل هذا املعنى يشري يف أكرث من مكان‪« :‬قد أرشنا مرا ًرا‬
‫الحق‬
‫ِّ‬ ‫إىل أ َّن الحكمة غري مخالفة للرشائع الحقَّة اإللهيَّة بل املقصود منهام يشء واحد هي معرفة‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬اتحاد العاقل واملعقول‪ ،‬تحقيق قاسم محمد عباس‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪ ،‬دار اإلحياء الرتاث العريب‪،‬‬
‫ال‪.‬ت‪ ،.‬ص‪.11‬‬
‫[[[‪ -‬خامنئ‪ ،‬محمد‪ ،‬ومجموعة من الباحثني‪ ،‬بحوث مؤمتر امللَّ صدرا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.292‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رشح أصول الكايف‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.122‬‬

‫‪146‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫األول وصفاته وأفعاله‪ ،‬وهذه تحصل تارة بطريق الوحي والرسالة فتُس َّمى بالنب َّوة‪ ،‬وتارة بطريق‬
‫واجب بالعناية»[[[‪ ،‬عىل‬
‫ٌ‬ ‫«كل راجح يف العقل‬
‫السلوك والكسب فتس َّمى بالحكمة والوالية»[[[‪ ،‬إذ ُّ‬
‫رصح به‪.‬‬
‫ما ي ِّ‬
‫أ َّما بالنسبة إىل الغزايل فاملسألة مختلفة اختالفًا منهج ًّيا‪ ،‬فهو باألصل أنكر عىل الفالسفة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ب االستدالل يف املسائل الدينيَّة‪ ،‬فقد ذكر يف كتابه‪« :‬املنقذ‬ ‫استخدامهم للمنطق‪ ،‬كأداة تفكري َع ْ َ‬
‫قائل‪« :‬لهم نوع من الظلم يف هذا‬ ‫من الضالل» ظُلْ َم الفالسفة‪ ،‬عىل ح ِّد تعبريه‪ ،‬يف علم املنطق ً‬
‫العلم‪ ،‬وهو أنّهم يجمعون للربهان رشوطًا يُ ْعلَم أنَّها تورث اليقني ال محالة‪ ،‬لك َّنهم عند االنتهاء إىل‬
‫املقاصد الدين َّية‪ ،‬ما أمكنهم الوفاء بتلك الرشوط‪ ،‬بل تساهلوا غاية التساهل»[[[‪ ،‬ويقصد باالستسهال‬
‫النص‪ ،‬عىل سبيل التمثيل والتخييل واملجاز‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫هو تأويلهم عىل ضوء العقل وأداته املنطقيَّة‪ ،‬ظاهر‬
‫ّْ‬
‫الظاهري‪.‬‬ ‫وأفضليَّة طريق الربهان عىل الرشع حني التناقض‬
‫كل من الشريازي والغزايل يف معنى العقل كأداة تفكرييَّة بتفسري أقوال الرشع‪،‬‬ ‫تباينت آراء ٍّ‬
‫أسايس من علم املنطق‪ ،‬هي ما ال يتعلَّق‬
‫ٌّ‬ ‫فالرباهني واملقاييس العقليَّة عند الغزايل‪ ،‬التي هي جز ٌء‬
‫يشء منها بالدين نف ًّيا أو إثبات ًا‪ ،‬بل هي النظر يف طرق األدلَّة واملقاييس ورشوط مق ِّدمات الربهان‬
‫وكيف َّية تركيبها‪ ،‬وأ َّن العلم إ َّما تص ُّور وسبيل معرفته الح ُّد‪ ،‬وإ َّما تصديق وسبيل معرفته الربهان‪ ،‬وليس‬
‫وأي تعلُّقٍ لهذا مبهمَّ ت الدين حتى يجحد أو ينكر[[[؟‪ ،‬وعليه فال سبيل‬ ‫يف هذا ما ينبغي أ ْن يُنكر‪ُّ ،‬‬
‫لهذا العقل أ ْن يحكم يف إحقاق أو إبطال الرشع‪ ،‬بل هو من النوع السالب النتفاء املوضوع‪ .‬أ َّما‬
‫يل‪« :‬ال يجوز يف طور‬ ‫ين االستدال ِّ‬
‫عند الشريازي‪ ،‬فليس يف الرشع ما مينع التن ُّو َر بنور العقل الربها ِّ‬
‫الوالية ما يقيض العقل باستحالته‪ ،‬نعم يجوز أ ْن يظهر يف طور الوالية ما يقرص العقل عنه‪ ،‬مبعنى‬
‫أنَّه ال يُد َرك مبج َّرد العقل»[[[‪.‬‬
‫أ َّما ما يتعلَّق بالفالسفة يف النظر إىل العالقة بني العقل والرشع‪ ،‬فإنَّا نجد بعضً ا من املوافقة‬
‫جه التباين‪ .‬فباملقارنة بيننه وبني ابن رشد‪،‬‬
‫بني آرائهم وتلك املتعلِّقة بالشريازي‪ ،‬كام نجد بعض أو ُ‬
‫مثل‪ ،‬نعرث عىل أصل التوافق بينهام‪ ،‬يف عدم التناقض بني العقل والرشع‪ ،‬فمع ابن رشد يظهر تق ُّرره‬ ‫ً‬
‫ملبدئيَّة أ َّن الرشع قد أوجب النظر بالعقل يف املوجودات واعتبارها‪ ،‬واالعتبار لديه ليس أكرث من‬
‫استنباط املجهول من املعلوم‪ ،‬وبيِّ ٌ أ َّن «هذا النوع من النظر الذي دعا إليه الرشع‪ ،‬وحث عليه‪ ،‬هو‬

‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬األسفار‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪.326‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رشح أصول الكايف‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.127‬‬
‫[[[‪ -‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬املنقذ من الضالل واملوصل إىل ذي العزة والجالل‪ ،‬تحقيق جميل صليبا؛ وكامل عياد‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪ ،‬دار‬
‫األندلس‪1996 ،‬م‪ ،‬ص‪.105‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.104 – 103‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.24‬‬

‫‪147‬‬
‫المحور‬

‫أت ُّم أنواع النظر بأت ِّم أنواع القياس‪ ،‬وهو امل ُس َّمى برهانًا»[[[‪ ،‬وعليه‪ ،‬فقد تساوى االثنان بح ِّد العقل‪،‬‬
‫واستخدام الفكر أداة له عرب االستدالل‪ ،‬وهذا وجه االتفاق بينهام‪.‬‬
‫أ َّما وجه االختالف بني االثنني‪ ،‬فيقع يف حال التعارض بني نتائج الربهان مع ظاهر الرشع‪ ،‬وقد‬
‫رشحنا يف ما سبق رأي الشريازي يف ذلك من خالل «التأويل» عنده‪ ،‬وباإلجامل ميكن القول‪ :‬إ َّن‬
‫يخص ابن رشد‪ ،‬فقد ذهب مذهب الفالسفة املشَّ ائيَّة بالعموم‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫األصالة عنده للرشع‪ ،‬أ َّما يف ما‬
‫النص‪ ،‬وهو‬‫ِّ‬ ‫يل بعي ًدا عن‬
‫الباطني التأوي ِّ‬
‫ِّ‬ ‫وهو تأويله عىل سبيل املجاز بلغة العرب‪ ،‬وأخذ املعنى‬
‫النص‪ ،‬يف محاولة‬ ‫ِّ‬ ‫نظ ٌر يجعل األفضل َّية للربهان الذي يغوص يف استبطان املعاين‪ ،‬بعي ًدا عن ظاهر‬
‫لعدم رفضه‪ ،‬بل قبوله‪ ،‬ويف ذلك يورد ابن رشد يف «فصل املقال»‪« :‬فال يخلو ظاهر النطق –‬
‫النص – أ ْن يكون موافقًا ملا أ َّدى إليه الربهان فيه‪ ،‬أو مخالفًا‪ ،‬فإ ْن كان موافقًا فال قول هنالك‪ ،‬وإ ْن‬
‫ب تأويله‪ .‬ومعنى التأويل هو إخراج داللة اللفظ من الداللة الحقيقيَّة إىل الداللة‬ ‫كان مخالفًا طُلِ َ‬
‫خل يف ذلك بعادة لسان العرب يف التج ُّوز من تسمية اليشء بشبيهه أو بسببه‬ ‫املجازيَّة من غري أ ْن يُ َّ‬
‫أو الحقه أو مقارنة أو غري ذلك من األشياء التي ُع َّدت يف تعريف أصناف الكالم املجازي»[[[‪ .‬عىل‬
‫ين لِام ورد يف الرشع‪ ،‬فاألصل هو موافقة الرشع‬ ‫أ َّن الفكرة السائدة كانت عدم مخالفة النظر الربها ِّ‬
‫للربهان‪ ،‬وموافقة املنقول للمعقول‪.‬‬
‫إ َّن عقد املقارنة بني الشريازي وابن عريب يف مسألة «العقل والرشع»‪ ،‬تكسبنا املزيد من االطِّالع‬
‫عىل رؤية الشريازي للعقل ومكانته‪ .‬التقى ال َعلَامن يف أوجه عديدة من هذا البحث‪ ،‬حيث قاال‬
‫يل‪ ،‬قد يصيبه الوهن والخطأ‪ ،‬وقد أدرجنا‬ ‫فكري واستدال ٌّ‬
‫ٌّ‬ ‫بأصالة الرشع‪ ،‬أل َّن العقل مبا هو إعامل‬
‫الشريازي‪ ،‬يف هذا الخصوص سابقًا‪ ،‬أ ّما يف حالة ابن عريب‪ ،‬فإ َّن من العلوم ما‬‫ِّ‬ ‫بعض ما ورد عن‬
‫كل علم يحصل‬ ‫يكون يف مرتبة العقل‪ ،‬مبا هو أداة تفكرييَّة نظريَّة‪ ،‬ونتاج برشي‪« :‬علم العقل وهو ُّ‬
‫لك بالرضورة‪ ،‬أو عقيب نظر يف دليل‪ ،‬برشط العثور عىل وجه ذلك الدليل‪ .‬وشب ُهه من جنسه‬
‫ويختص بهذا الفن من العلوم‪ ،‬ولهذا يقولون يف النظر‪ :‬منه صحيح‬ ‫ُّ‬ ‫يف عامل الفكر الذي يجمع‬
‫الحق تعاىل‪ ،‬يف حني أ َّن العقل‬
‫ِّ‬ ‫ومنه فاسد»[[[‪ .‬فالرشع ال يقع فيه الخطأ والوهن‪ ،‬كونه صاد ًرا عن‬
‫ومتعلِّقاته قد يج َّران اإلنسان إىل األخطاء‪ .‬كام أ َّن ابن عريب يضع الكشف والشهود يف مرتبة أعىل‬
‫يل من حيث مقام الثبوت‪ ،‬إ ِذ الحقائق العينيَّة ليست مور ًدا أو رشع ًة لسبيل العقل الذي‬ ‫من النظر العق ِّ‬
‫كل متكلِّم‬‫رصح بالقول‪« :‬من العلوم ما يغيب عندها ُّ‬ ‫يدرك الحقائق يف مقام اإلثبات‪ ،‬فإبن عريب ي ِّ‬

‫[[[‪ -‬ابن رشد‪ ،‬فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال‪ ،‬تقديم محمد عابد الجابري‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العرب َّية‪1999 ،‬م‪ ،‬ص‪.87‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.97‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬محي الدين‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬تحقيق عثامن يحي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة املرصيَّة العا َّمة للكتاب‪1985 ،‬م‪ ،‬ج‪،1‬‬
‫‪.139‬‬

‫‪148‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫كل صاحب برهان ليست له هذه الحالة – اله َّمة يف الخلوة مع الله به – فإنَّها وراء‬‫عىل البسيطة‪ ،‬بل ُّ‬
‫يلّ»[[[‪ ،‬ذلك أ َّن ح َّد الحالوة هو غري عني الحالوة‪ ،‬كام أ َّن وصف الحقيقة وح َّدها هو غري‬
‫النظر العق ْ‬
‫عني الحقيقة وذاتها‪.‬‬
‫الحق تعاىل‪ ،‬وكالهام‬
‫ُّ‬ ‫الكل هو‬
‫أصل للتناقض بني العقل والرشع‪ ،‬أل َّن مصدر َّ‬ ‫ً‬ ‫ال يرى الشريازي‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫نسخة عن الوجود‪ ،‬فهو «يعترب أ َّن الرشيعة الحقَّة أعىل من أ ْن تتصادم أحكامها مع املعارف‬
‫اإللهي‬
‫ِّ‬ ‫التجريبي‪ ،‬الذي هو فعل اإلخبار‬
‫َّ‬ ‫فلسفي يحايك اليقني‬
‫ٌّ‬ ‫يل هو تأ ُّمل‬‫اليقينيَّة» ‪ ،‬فالنظر العق ُّ‬
‫[[[‬

‫النبوي ما يقيض العقل باستحالته‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫التجريبي لإلخبار‬
‫ِّ‬ ‫لألنبياء واألولياء‪ ،‬فال يجوز يف طور اليقني‬
‫فكل‬
‫جدير بالقول أ َّن عدم التناقض بني العقل والرشع ال يعني التساوي بينهام‪ ،‬باملرتبة واألهميَّة‪ُّ ،‬‬
‫كل ما ينبئ أو يخرب به الرشع‪،‬‬‫ما يثبته العقل الصحيح‪ ،‬ال ب َّد من أنَّه مقبول ومتطابق مع الرشع‪ ،‬وليس ُّ‬
‫فللعقل سبيل إليه‪ ،‬أل َّن العقل يف هذا املجال أمام خطَّني‪ :‬إ َّما العقل من حيث هو الفكر‪ ،‬أو العقل‬
‫والحواس التي هي وسائله‪ ،‬وال يتجاوز‬ ‫ِّ‬ ‫من حيث القبول‪ .‬فهو من الحيث َّية األوىل محدود مثل القوى‬
‫عن مرتبته‪ .‬أ َّما الحيثيَّة الثانية‪ ،‬أي صفة القبول‪ ،‬فلديه القابليَّة واالستعداد لقبول املواهب‪ ،‬واملعارف‬
‫اإلله َّية‪ ،‬واإلخبارات النبويَّة‪ ،‬بشكل غري محدود‪ ،‬فللعقول من حيث هي ق َّوة فكريَّة استدالل َّية «ح ٌّد‬
‫تقف عنده‪ ،‬وليس لله ح ٌّد يقف عنده»[[[‪ .‬ويف هذا اإلطار يورد الشريازي ما يؤيِّد قول ابن عريب‪« :‬و َم ْن‬
‫أخس ِم ْن أ ْن يُخاطب‪ ،‬فليرتك وجهله”[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫العقل‪ ،‬فهو‬
‫ُ‬ ‫ملْ يف ِّرق ما يحيله][[[[ العقل وبني ما ال ُ‬
‫ينال‬
‫إ َّن ما يستحيل عىل العقل هو بوصفه ق َّوة فكريَّة عاجزة عن التحقُّق بالحقائق‪ ،‬أ َّما ما يناله فهو‬
‫النص املق َّدس‪ .‬فقد يكون لإلنسان‬ ‫ِّ‬ ‫التفسري والوصف‪ ،‬والقبول لحقائق اإلخبارات الرشع َّية من‬
‫عجز يف بداية الطريق عن إدراك الكثري من األمور والظواهر‪ ،‬ولكن عند تحقّقها واإلخبار عنها‪ ،‬فإ َّن‬
‫هذا العقل ال يجد نفسه عاج ًزا عن تقبُّلها‪ ،‬مبعنى قدرته عىل الوصف واإلثبات؛ فمن املد َركات ما‬
‫ميكن للعقل أ ْن يدركها ابتدا ًء‪ ،‬بق َّوة فكره واستدالله‪ ،‬ومنها ما ال ميكنه إدراكها بهذه الق َّوة‪ ،‬ولك َّنه‬
‫يف الوقت عينه‪ ،‬ميكن له أ ْن يج ِّوزها‪ ،‬أي يقبلها بعد خضوعها للفحص والنظر‪ ،‬ومنها ما يج ِّوزها‬
‫الفكر‪ ،‬وإ ْن كان يستحيل أ ْن يعاينها بفكره‪.‬‬
‫رصح بأ َّن علوم األرسار هي علوم فوق طور‬
‫يف هذا األمر التقى الشريازي مع ابن عريب الذي يُ ِّ‬
‫قسم علو َم‬
‫العقل‪ ،‬مبعنى أ ْن ال قدرة للعقل‪ ،‬من حيث الفكر‪ ،‬عىل إدراكها‪ .‬ويف الوقت عينه يُ ِّ‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.139‬‬


‫[[[‪ -‬كوربان‪ ،‬هرني‪ ،‬ومجموعة من الباحثني‪ ،‬فلسفة صدر الدين الشريازي‪ :‬املباين واملرتكزات‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.30‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬محي الدين‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.21‬‬
‫[[[‪ -‬يحيله مبعنى يجعله مستحيلً‪.‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.24‬‬

‫‪149‬‬
‫المحور‬

‫األرسار إىل أنواع‪ :‬نوع يُد َرك بالعقل‪ ،‬وهو العقل من حيث قبول علوم األرسار‪ ،‬ونوع يُد َرك بالذوق‪،‬‬
‫الفكري إليه‪ ،‬والنوع الثالث من علوم اإلخبار التي ميكن للعقل قبولها‪ ،‬أي إثباتها‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫وال سبيل للعقل‬
‫أصل”[[[‪.‬‬
‫ً‬ ‫“فإذا جاء صاحب علوم األرسار بأمر ج َّوزه العقل‪ ،‬فال ينبغي أ ْن ن ُّرده‬
‫وهذا ما يؤكِّده الشريازي يف ط َّيات كالمه يف مواضع غري محصورة من آثاره‪ ،‬فهو يعلن يف كتابه‬
‫يتوصل العقل بالدليل إىل إتيان وجوده أو عدمه‪ ،‬إنَّ ا يكون مع‬ ‫َّ‬ ‫“فكل ما ال‬
‫ُّ‬ ‫رشح “الهداية األثرييَّة”‪:‬‬
‫صح أ َّن العقل صدق النب َّوة‪ ،‬فيت ُّم‬
‫جوازه فقط‪ ،‬فإ َّن النب َّوة تكشف حاله وتفقه وجوده أو عدمه‪ ،‬ومل َّا َّ‬
‫عنده ما قرص عنه‪ ،‬ويكمل ما نقص عند معرفته”[[[‪ .‬ويف ذلك إشارة واضحة إىل أ َّن للعقل م ًدى ال‬
‫يتع َّداه من حيث قدرته عىل إدراك بعض أحوال اإلخبارات عىل سبيل الثبوت‪ ،‬ولكنه يف الوقت عينه‬
‫ال يعجز‪ ،‬بل ال يقرص عن إدراكها يف مقام اإلثبات‪ ،‬أي القبول بها‪ ،‬وعدم معارضتها ملقتضيات‬
‫العقل‪ ،‬كأداة تفكري واستدالل عىل الحقائق‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫اإلنساين‪:‬‬ ‫جدلية الفكر والقلب عند املل صدرا‪ :‬وحدة اجلوهر‬ ‫‪.7‬‬
‫يشكِّل كتاب “األسفار” للشريازي النموذج الواضح والبيِّ لجدل َّية العالقة القامئة بني الفكر‬
‫والقلب‪ ،‬أو بني االستدالل والشهود‪ ،‬عىل أ َّن الجدل َّية بينهام هو جدل َّي ٌة اتحاديَّة‪.‬‬
‫فكتاب “األسفار” يعرض لألسفار العقليَّة التي تكون مبحاذاة األسفار الروحيَّة يف عالق ٍة ذاتيَّة‬
‫داخل َّية يف أعامق النفس اإلنسان َّية‪ ،‬فال انفكاك ألحدهام عن اآلخر‪ .‬إ َّن السفر حركة نحو املوطن‬
‫السفر‪ ،‬بحسب الشريازي‪ ،‬هو‬ ‫أو املنزل األول للنفس‪ ،‬باتجاه املقصد أو املطلب األخري‪ ،‬وهذا َّ‬
‫فلكل سف ٍر يف عالَم امللكوت ما يوازيه يف‬ ‫ِّ‬ ‫ين‪،‬‬
‫يل والروحا ِّ‬ ‫ين الواحد بكلِّه العق ِّ‬
‫سفر للجوهر اإلنسا ِّ‬
‫ولكل سف ٍر يف عالَم القلب ما يضاهيه يف عالَم الفكر‪ ،‬عىل قاعدة الرتكيب االت ِّحادي‬ ‫ِّ‬ ‫عالَم امل ُلك‪،‬‬
‫ت كتايب هذا‪ ،‬األسفار‪ ،‬طبق حركاتهم يف األنوار‬ ‫قائل‪“ :‬فرتَّ ْب ُ‬
‫بينهام‪ .‬وهذه الحقيقة يشري إليها نفسه ً‬
‫واآليات‪ ،‬عىل أربعة أسفار‪ ،‬وس َّميتُه بالحكمة املتعالية يف األسفار العقل َّية”[[[‪.‬‬
‫ترجع جدل َّية الفكر والقلب عند الشريازي إىل األصول الفلسف َّية التي وضعها يف منظومته‬
‫ين الواحد‬
‫الوجوديَّة‪ ،‬إذ ال ّنفس جسامن َّية حدوث النفس‪ ،‬وروحان َّية بقائها‪ ،‬مبعنى أ َّن الجوهر اإلنسا َّ‬
‫الحس إىل الخيال‪ ،‬ث َّم إىل العقل‪ ،‬يف وحدة وجوديَّة متَّصلة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫يبدأ سفره يف عالَم امل ُلك‪ ،‬منتق ًِّل من‬
‫حيث يتد ّرج إىل عالَم امللكوت‪.‬‬

‫ ‬ ‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬محي الدين‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.141‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رشح الهداية األثرييَّة‪ ،‬تصحيح محمد مصطفى فوالدكار‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث‬
‫العريب‪2001 ،‬م‪ ،‬ص‪.439‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬األسفار‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.13‬‬

‫‪150‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫ِ‬
‫النفس لعالَم‬ ‫إ َّن للعقل عنده‪ ،‬باملعنى األع ِّم للكلمة‪ ،‬حيث َّيتني‪ :‬العقل كأداة فكريَّة‪ ،‬وهي وجه ُة‬
‫الوجودي عنده‪ ،‬أي‪ ،‬جهته نحو عالَم‬
‫ِّ‬ ‫الكرثة واملعارف الذهن َّية العقل َّية الكل َّية؛ والعقل باملعنى‬
‫كل‬
‫وجودي ينبسط عىل ِّ‬
‫ٌّ‬ ‫توحيدي‬
‫ٌّ‬ ‫الكشفي‪ .‬فكلتا الجهتني تعق ٌُّل‪ ،‬فالعقل ٌ‬
‫جدل‬ ‫ّْ‬ ‫الوحدة‪ ،‬وهو التعقُّل‬
‫ٌ‬
‫جدل للعقل‪،‬‬ ‫كل مضامينه و ِفعليّاته وكامالته برابط التوحيد؛ وهو‬
‫حقيق ِة وجود وموجود‪ ،‬ليستكمل ٌّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ال يقوم عىل االختزال والنفي[[[‪ ،‬بل عىل الجمع واإلثبات‪ ،‬أي الجمع بني الجهتني‪ :‬الفكر والقلب‪،‬‬
‫كل ٍ‬
‫أحد لفعال َّية اآلخر‪.‬‬ ‫وإثبات ِّ‬
‫ٍ‬
‫إلدراك أقوى‪،‬‬ ‫فالفكر‪ ،‬عندما ينضج يرتك أث ًرا يف القلب‪ ،‬والكشف عند تحقُّقه يُغذِّي العقل‬
‫وهكذا تصبح العالقة دائريَّة‪ ،‬يكرب قط ُرها كلّام ز َّود أح ُد الجزئني الجز َء اآلخر‪ ،‬فال انفصال يف‬
‫ريا منطقيًّا‬‫الجوهري الواحد لإلنسان‪ .‬ومن هنا تكون الفلسفة الربهانيَّة عند الشريازي تفس ً‬
‫ِّ‬ ‫الوجود‬
‫النص‪ ،‬وهذه املعطيات‬ ‫ِّ‬ ‫عقليًّا ملسائل الشهود‪ ،‬وتكون مسائل العرفان تَبلْو ًرا برشيًّا ملعطيات‬
‫ين املتحقِّق‪.‬‬
‫ريا أعىل وأت َّم عن الوجود اإلنسا ِّ‬ ‫ٍ‬
‫عندئذ تعب ً‬ ‫الكشف َّية تكون‬
‫بنا ًء عىل العالقة القامئة بني الفكر والقلب عند الشريازي‪ ،‬وبنا ًء عىل أصوله الوجوديَّة‪ ،‬نجد‬
‫التقليدي‪ ،‬مع عدم نفيه واالستغناء عنه‪،‬‬‫ِّ‬ ‫يل‬
‫أنفسنا أمام طريقة تفكرييَّة هي وراء طور املنطق االستدال ِّ‬
‫إلَّ أنَّها غري متح ِّيزة بأفق ض ِّيقٍ يجعل العقل آل ًة وأدا ًة منفصلتَ ْي عن القوى الجوهريَّة األخرى‪ ،‬الكامنة‬
‫حاصل عند‬
‫ٌ‬ ‫الوجودي الواسع الشامل للفكر والشهود م ًعا؛ وذلك خالفًا لِام هو‬
‫ِّ‬ ‫يف نفس هذا العقل‬
‫خصوصا‪ ،‬الذين اعتربوا العقل مج َّرد أداة استدالليَّة منفصلة‪،‬‬
‫ً‬ ‫الفالسفة املشّ ائيني عمو ًما‪ ،‬وابن رشد‬
‫الوجودي الواسع هو البصرية اإلنسان َّية الجامعة لنور‬
‫ُّ‬ ‫ومنعزلة عن سياقات الكشف والشهود‪ .‬فالعقل‬
‫يل‪ ،‬ولنور القدس الوارد عىل القلوب بالواردات القلب َّية الكشف َّية‪.‬‬‫العقل‪ ،‬كفكر استدال ٍّ‬
‫إ َّن طريقة الشريازي التفكرييّة هي‪“ :‬الطريقة التفكرييَّة التي تتق َّوم بأمور ع َّدة‪ ،‬منها‪ :‬املنطق‪،‬‬
‫الفكري‪ ،‬ومنها‪ :‬األسمى‪ ،‬امل ُفرتضة قَ ْبل ًّيا‪ ...‬فالوجود نقطة االنطالق يف فلسفة صدر‬
‫ِّ‬ ‫نقطة االنطالق‬
‫املتألِّهني”[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫الصدرائي�ة‪:‬‬ ‫َّ‬
‫الثالثي�ة‬ ‫‪.8‬‬
‫تخصص َّية ساعدته‬
‫ُّ‬ ‫يئ هو استخدامه ملصطلحات ومناهج‬
‫إ َّن واحدة من روائع املنهج الصدرا ِّ‬
‫عىل “اإلبداع واملزج يف إعادة صياغة أوجه الرتاث املختلفة التي بقيت حتى زمانه مستقلَّة بعضها‬
‫حل يجعل هذا الرتاث عند جامع مشرتك؛ إنَّها‬
‫اقرتحت ميتافيزيقا صدرا ًّ‬
‫ْ‬ ‫عن البعض اآلخر‪ .‬لقد‬

‫[[[‪ -‬فياض‪ ،‬حبيب؛ ومجموعة من الباحثني‪ ،‬املعرفة الدينية‪ :‬جدلية العقل والشهود‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعارف الحكمية‪،‬‬
‫‪2011‬م‪ ،‬ص‪.65‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬مفاتيح الغيب‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،1‬ص‪.42 – 41‬‬

‫‪151‬‬
‫المحور‬

‫الفلسفي‪ .‬إ َّن فهم صدرا لل ِّدين والنب َّوة وعالقتهام بالفلسفة تتدفَّق من‬
‫ِّ‬ ‫املفارقة النتيجة يف نهجه‬
‫خالل هذه املفارقة التي أنتجها”[[[‪.‬‬

‫ُس ِّمي منهج الجمع واملزج بني هذه األجزاء‪“ ،‬الحكمة املتعالية”‪ ،‬العنوان األبرز أله ِّم كتبه‬
‫قاطبة “الحكمة املتعالية يف األسفار العقليَّة األربعة”؛ حيث “أعطى هذا املصطلح مع ًنى جدي ًدا‬
‫ككل‬
‫األ ُسس العقليَّة‪ ،‬والكشفيَّة‪ ،‬والدينيَّة‪ٍّ ،‬‬
‫مغاي ًرا يف مدرسته”[[[‪ ،‬فهو يقوم عىل أصل الجمع بني ُ‬
‫ال يتج َّزأ‪.‬‬

‫الشريازي واكتامله‪ ،‬فقد مزج‬


‫ِّ‬ ‫ت ُشكِّل الثالث َّية الصدرائ َّية‪ :‬القرآن والعرفان والربهان‪ ،‬ق َّمة املنهج‬
‫جا طول ًّيا‪ ،‬جعل فيه االت ِّفاق والتطابق بينها يف أعىل درجاته‪ ،‬وجمع‬ ‫بني هذه األركان الثالثة مز ً‬
‫شتات املذاهب الكالم َّية‪ ،‬والفلسف َّية‪ ،‬واإلرشاق َّية‪ ،‬والعرفان َّية‪ ،‬والصوف َّية‪ ،‬وأهل الحديث‪ ،‬واللُّغة‪،‬‬
‫والهندي‪ ،‬وغريها‬
‫ِّ‬ ‫ين‪،‬‬ ‫عىل مدى عرشة قرونٍ سبقته يف العهود‪ ،‬غري هاملٍ للرتاث اليونا ِّ‬
‫ين‪ ،‬واإليرا ِّ‬
‫من اآلثار التي ترجمت إىل اللُّغة العرب َّية‪.‬‬

‫املنهجي‪ ،‬وهو من الفالسفة‬


‫َّ‬ ‫ينتمي الشريازي إىل املدرسة الفكريَّة التي اعتمدت التع ُّدد‬
‫املنهجي عنده ليس من باب التلفيق‬
‫ِّ‬ ‫متكامل[[[‪ .‬عىل أ َّن التع ُّدد‬
‫ً‬ ‫القالئل الذين ميتلكون نظا ًما معرف ًّيا‬
‫أو االنتقائ َّية[[[‪ ،‬بل أقام تركي ًبا قويًّا جمع فيه مختلف املناهج الفكريَّة اإلسالم َّية التي سبقته[[[‪.‬‬

‫الفلسفي السابق من حيث الرؤية واملنهج‪ ،‬فقد‬


‫ِّ‬ ‫إ َّن ميزة املنهج الشريازي هو القطيعة مع اإلرث‬
‫تجاوز ثقافة الرشوح والتعليقات إىل إحداث تح ّو ٍل يف صميم هذا املوروث‪ ،‬ليصبح أكرث عمقًا‬
‫ال للجمع بني العرفان‪ ،‬واإلرشاق‪،‬‬ ‫ودقَّ ًة واتقانًا‪ ،‬حيث‪“ :‬تُشكِّل حكم ُة امللَّ صدرا اإللهيَّة منوذ ً‬
‫جا ف َّع ً‬
‫ريه الشهري للقرآن نقطة‬
‫الشيعي‪ ،‬ويُعترب تفس ُ‬
‫ِّ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫والفلسفة املشائيَّة‪ ،‬وعلم الكالم‪ ،‬داخل املناخ‬
‫التقاء‪ ،‬وجمع ملذاهب التفسري قبله‪ :‬الصوف َّية‪ ،‬الالَّهوت َّية – الكالم َّية‪ ،‬الشيع َّية‪ ،‬والفلسف َّية”[[[‪.‬‬

‫الفلسفي؛ ثارت عىل التقليد الذي‬


‫ِّ‬ ‫هائل يف املوروث‬
‫إ َّن رؤية الشريازي الوجوديَّة أحدثت انقالبًا ً‬
‫كان قامئًا لقرون عديدة‪ ،‬حتى أ َّن التغيري الذي أحدثه اختلف جذريًّا مع أساتذته الكبار مثل املريداماد‪.‬‬

‫‪[1]- Morris, James Winston, An Introduction to the Philosophy of Mulla Sadra, Ibid., P. 44.‬‬
‫‪[2]- Nasr, Seyyed Hossein, Sadr al-Din Shirazi and his Transcendent Theosophy, Ibid., p.57.‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رسالة األصول الثالثة‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ص‪ ،23‬املقدمة‪.‬‬
‫‪[4]- Morris, James, Winston, An Introduction to the Philosophy of Mulla sadra,Ibid., p.21.‬‬
‫‪[5]- Nasr,Seyyed Hossein, Sadr al-Din Shirazi and his Transcendent Theosophy, Ibid., p.70.‬‬
‫‪[6]- Ashtiyani, Jalal al-Din, and others, Consciousness and Reality, Ibid., p.46.‬‬

‫‪152‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫أساسا له يف أبحاثه ومسائله‪ ،‬يف حني أ َّن الشريازي “قلب‬


‫ً‬ ‫هذا املوروث ات َّخذ من املاه َّية‬
‫الرؤيوي تب ُّدلً جوهريًّا‬
‫َّ‬ ‫تاريخ األنطولوجيا بر َّمته من املاهيَّة إىل الوجود”[[[‪ .‬أحدث هذا االنقالب‬
‫يف املنهج‪ ،‬ألزم الشريازي نفسه فيه‪ ،‬إلعادة البناء‪ ،‬والرتميم لِام انها َر بفعل أصالة املاهيَّة؛ وأبدع‬
‫الشريازي فلسفة الوجود وأحياها عىل أنقاض فلسفة املاه َّية‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫أسست فلسف ُة الوجود عند الشريازي الجمعيَّ َة الطوليَّةَ‪ ،‬القامئة بني القرآن والعرفان والربهان‬
‫َّ‬
‫بفعل وحدة الوجود وأصالته‪ ،‬املرتت ِّبة يف مراتب وشؤون‪ ،‬تشت ُّد بالوجود أو تنقص بحسب قربها من‬
‫الديني‪ ،‬عىل رأس هذه الهرم َّية الطول َّية‪ ،‬التي‬
‫َّ‬ ‫يفس وجود القرآن‪ ،‬أو امل ُعطى‬
‫يب‪ ،‬وهذا ما ِّ‬
‫العالَم الربو ِّ‬
‫اعتربها الشريازي األصل يف منهجه‪ ،‬واملرحلة ال َقبْليَّة التأسيسيَّة لفلسفته الوجوديَّة‪.‬‬

‫لقد أقام الشريازي بحوثه العلم َّية والفلسف َّية عىل التوفيق بني العقل والرشع والكشف‪ ،‬واستلهم‬
‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫مق ِّدمات الربهان إلثبات الكشف والوحي‪ ،‬كام استخدم موازين الكشف ومفردات‬
‫قائل‪“ :‬وال يُحمل كالمنا عىل مج َّرد‬
‫رصح يف هذا الصدد ً‬‫القطعي وأخضعهام للربهان‪ .‬وهو ي ِّ‬
‫ِّ‬
‫املكاشفة والذوق‪ ،‬أو تقليد الرشيعة من غري مامرسة الحجج والرباهني والتزام القوانني‪ ،‬فإ َّن مج َّرد‬
‫كاف يف السلوك من غري برهان‪ ،‬كام إ َّن مج َّرد البحث من غري مكاشفة نقصان عظيم‬ ‫الكشف غري ٍ‬
‫الديني وقوانني العقل‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫رصح يف مكان آخر عن عدم التناقض بني املعطى‬
‫يف السري” ‪ .‬كام ي ِّ‬
‫[[[‬

‫“حاىش الرشيعة الحقَة اإلله َّية البيضاء أ ْن تكون أحكامها مصادمة للمعارف اليقين َّية الرضوريَّة‪ ،‬وت ًّبا‬
‫لفلسفة تكون قوانينها غري مطابقة للكتاب والس َّنة”[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬هاين‪ ،‬إدريس‪ ،‬ما بعد الرشدية‪ :‬ملَّ صدرا رائد الحكمة املتعالية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬مركز الغدير للدراسات اإلسالم َّية‪2000 ،‬م‪،‬‬
‫ص‪.56‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازين محمد‪ ،‬األسفار‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪ ،7‬ص‪.326‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ج‪ ،8‬ص‪.303‬‬

‫‪153‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪ .1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ .2‬ابن خلدون‪ ،‬عبد الرحمن بن محمد‪ ،‬املق ِّدمة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار صادر‪2000 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .3‬ابن رشد‪ ،‬فصل املقال يف تقرير ما بني الرشيعة والحكمة من االتصال‪ ،‬تقديم محمد عابد‬
‫الجابري‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬مركز دراسات الوحدة العرب َّية‪1999 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .4‬ابن سينا‪ ،‬اإلشارات والتنبيهات‪ :‬قسم التص ُّوف‪ ،‬رشح نصري الدين الطويس‪ ،‬تحقيق سليامن‬
‫مؤسسة النعامن للطباعة والنرش والتوزيع‪1993 ،‬م‪ ،‬ج‪.4‬‬
‫دنيا‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫‪ .5‬ابن عريب‪ ،‬محي الدين‪ ،‬الفتوحات املكيَّة‪ ،‬تحقيق عثامن يحي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الهيئة‬
‫املرصيَّة العا َّمة للكتاب‪1985 ،‬م‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫‪ .6‬اآلميل‪ ،‬حسن زادة‪ ،‬رسح العيون يف رشح العيون‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬قم‪ ،‬مركز انتشارات دفرت‬
‫تبليغات اسالمي‪1421 ،‬هـ‪2001/‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬خامنئئ‪ ،‬محمد‪ ،‬امللَّ صدرا والفلسفة العامليَّة املعارصة‪ :‬بحوث مؤمتر امللَّ صدرا‪ ،‬الطبعة‬
‫مؤسسة التاريخ العريب‪2007 ،‬م‪ ،‬ص ط‪.‬‬ ‫األوىل‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫‪ .8‬سبزواري‪ ،‬هادي‪ ،‬تعليقات عىل الشواهد الربوب َّية‪ ،‬تعليق وتصحيح جالل الدين آشتياين‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪ ،‬مشهد‪ ،‬املركز الجامعي للنرش‪1981 ،‬م‪.‬‬
‫جة"‪ ،‬العدد األول‪ ،‬بريوت‪ ،‬ترشين‬
‫‪ .9‬سجادي‪ ،‬ضياء الدين‪" ،‬التص ُّوف والعرفان"‪ ،‬مجلَّة "املح َّ‬
‫األول‪2011 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .10‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬اتحاد العاقل واملعقول‪ ،‬تحقيق قاسم محمد عباس‪ ،‬ال‪.‬ط‪،.‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار اإلحياء الرتاث العريب‪ ،‬ال‪.‬ت‪.‬‬
‫الحق واليقني‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫‪ .11‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬إكسري العارفني يف معرفة‬
‫جة البيضاء‪2005 ،‬م‪.‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار املح َّ‬
‫‪ .12‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬تفسري القرآن الكريم‪ ،‬تصحيح محمد خواجوى‪ ،‬تقديم‬
‫بيدارفر‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬قم‪ ،‬انتشارات بيدار‪ ،‬ال‪.‬ت‪ ،.‬ج‪.6‬‬
‫‪ .13‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رسالة األصول الثالثة‪ ،‬تحقيق أحمد ماجد‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬دار املعارف الحكْميَّة‪2008 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .14‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رشح أصول الكايف‪ ،‬تعليق عيل النوري‪ ،‬تصحيح محمد‬
‫فرهنك‪1370 ،‬هـ‪1950/‬م‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫َ‬ ‫مؤسسة مطالعات وتحقيقات‬
‫خواجوى‪ ،‬تهران‪َّ ،‬‬
‫‪ .15‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬رشح الهداية األثرييَّة‪ ،‬تصحيح محمد مصطفى فوالدكار‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪2001 ،‬م‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫المعرفة الح َّرة‬

‫‪ .16‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كتاب املشاعر‪ ،‬ت‪ :‬هرني كوريان‪ ،‬ترجمة ابتسام الحموي‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ 2000 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .17‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬كرس أصنام الجاهل َّية يف الر ِّد عىل الصوف َّية‪ ،‬تصحيح محسن‬
‫مؤسسة التاريخ العريب‪2007 ،‬م‪.‬‬ ‫جهانكريي‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫‪ .18‬صدر الدين الشريازي‪ ،‬محمد‪ ،‬مق ِّدمة وتعليقات مفاتيح الغيب‪ ،‬تقديم محمد خواجوى‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫مؤسسة التاريخ العريب‪1999 ،‬م‪ ،‬ج‪.1‬‬


‫تعليق عيل النوري‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪َّ ،‬‬
‫‪ .19‬صليبا‪ ،‬جميل‪ ،‬املعجم الفلسفي‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪ ،‬الرشكة العامل َّية للكتاب‪1994 ،‬م‪ ،.‬ج‪.2‬‬
‫‪ .20‬الطباطبايئ‪ ،‬محمد حسني‪ ،‬امليزان يف تفسري القرآن‪ ،‬مصدر مذكور‪ ،‬ج‪.1‬‬
‫‪ .21‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬املنقذ من الضالل واملوصل إىل ذي العزة والجالل‪ ،‬تحقيق جميل‬
‫صليبا؛ وكامل عياد‪ ،‬ال‪.‬ط‪ ،.‬بريوت‪ ،‬دار األندلس‪1996 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .22‬فياض‪ ،‬حبيب؛ ومجموعة من الباحثني‪ ،‬املعرفة الدينية‪ :‬جدلية العقل والشهود‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار املعارف الحكمية‪2011 ،‬م‪.‬‬
‫‪ .23‬القشريي‪ ،‬عبد الكريم‪ ،‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬تحقيق معروف زريق؛ وعىل عبد الحميد بلطه‬
‫جي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،‬دار الجيل‪ ،‬ال‪.‬ت‪.‬‬
‫‪ .24‬كوربان‪ ،‬هرني‪ ،‬ومجموعة من الباحثني‪ ،‬فلسفة صدر الدين الشريازي‪ :‬املباين واملرتكزات‪،‬‬
‫مرجع مذكور‪.‬‬
‫‪ .25‬هاين‪ ،‬إدريس‪ ،‬ما بعد الرشدية‪ :‬ملَّ صدرا رائد الحكمة املتعالية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫مركز الغدير للدراسات اإلسالم َّية‪2000 ،‬م‪.‬‬

‫املصادر األجنبي�ة‬
‫‪1. (2) Morris, James Winston, The Wisdom of the Throne: An Introduction to the‬‬
‫‪Philosophy of Mulla Sadra, New Jersey, Princeton University Press, 1981.‬‬
‫‪2. Ashtiyani, Jalal al-Din, and others, Consciousness and Reality.‬‬
‫‪3. Ashtiyani, Sayyid jala Al-Din, H. Matsubra; T. Iwami, and A. Matsumoto,‬‬
‫‪Consciousness and Reality: Studies in Memory of Toshihiko Izutsu, Boston, Brill,‬‬
‫‪1999, VOl. 38.‬‬
‫‪4. Nasr, Seyyed Hossein, Sadr al-Din Shirazi and his Transcendent Theosophy:‬‬
‫‪Background, Life and Works, Tehran, Imperial Iranian Academy of Philosophy,‬‬
‫‪Publication No. 29, 1978.‬‬
‫‪5. Rahman, Fazlur, The Philosophy of Mulla Sadra, First Edition, New York, State‬‬
‫‪university of New York press, 1975.‬‬

‫‪155‬‬
‫املعرفة التأويل َّية يف منظومة ابن عريب‬
‫ا ُّللغة بوصفها وجود ًا‬
‫ن‬
‫الزيدا�‬
‫ي‬ ‫عبد اللطيف‬
‫ُّ‬ ‫ف‬ ‫ٌّ‬
‫والتصوف‪ -‬اليمن‬ ‫أكاديم وباحث ي� الفلسفة‬
‫ي‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫َ َ‬ ‫َّ‬ ‫الصوفية التأويل ن ز‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫قصد استخراج‬ ‫استثنائية‬ ‫بم�لة‬ ‫والمدونة‬ ‫خص العرفان النظري‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّْ‬ ‫المع� ُ‬ ‫ن‬
‫التأويلية مع القرآن المجيد كفضاء‬ ‫المنهجية‬ ‫اإلله‪ .‬وقد تعاملت‬ ‫ي‬ ‫المراد من الكالم‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬
‫و� سبيل ذلك‪ ،‬عمدت‬ ‫تعال يعرب عن حقيقة التجربة اإليمانية وأبعادها المعنوية‪ .‬ي‬ ‫م ٍ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ن ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫وجودية أصيلة ال يمكن إدراك حقائقها إال‬ ‫الوحيا� كقيمة‬ ‫ي‬ ‫للنص‬ ‫الداخل‬
‫ي‬ ‫إىل االستقراء‬
‫ف‬ ‫ً‬ ‫ُّ‬
‫اإلله ممتلئا بالوجود‪ ،‬وال مساحة ي� مقابله للعدم‪ ،‬فهو إذن‪ ،‬لدى‬ ‫ي‬ ‫بتأويلها‪ .‬وما دام الكالم‬
‫كل رؤية فيه‬‫مفتوح عىل التأويل‪ ،‬حيث يتجلَّ ف� رؤى أفهام ال حرص لها‪ُّ .‬‬ ‫ٌ‬ ‫نص‬‫العرفاء‪ٌّ ،‬‬
‫ي‬
‫ف‬ ‫َّ َّ ئ‬ ‫ِّ‬
‫ا� لقبولها ي� أحوال نفسه وصور قلبه‪ .‬وهكذا‬ ‫قابلة لكل صورة‪ ،‬وذلك بحسب قابلية الر ي‬
‫َّ‬ ‫أيضا‪ ،‬بالنسبة إليهم‪ٌّ ،‬‬ ‫ً‬
‫الباطنية‪ ،‬ال‬ ‫نص مفتوح آثروا الدخول إليه بحدوسهم‬ ‫هو العالم‬
‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫ِّ‬
‫لأللوهية المنشأة عىل‬ ‫بجوارحهم المعقولة‪ .‬كان عليهم أن يقرأوا الوجود بوصفه تجليا‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ن َّ‬ ‫ظاهر وباطن‪ ،‬من دون أن يكون َّ‬
‫الثنائية‪ .‬فحينا يكون الظاهر‬ ‫ب� حدي‬ ‫ثمة ما يفصل ي‬
‫ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً َّ‬ ‫ً‬ ‫ً‬ ‫ً‬
‫فيتحصل الكشف ويكون الوجود كله‬ ‫الثنائية‬ ‫باطنا‪ ،‬وحينا الباطن ظاهرا‪ ،‬وطورا تتحد‬
‫صورة مشهودة بالوحدة ف� ي ن‬
‫ع� العارف‪.‬‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫الصوفية‪ .‬وقد اعتمدت عىل‬ ‫التأويلية عند عرفاء‬ ‫تعمل هذه الدراسة عىل فهم الرؤية‬
‫ْ ‪ّ.‬‬ ‫َّ ت‬
‫اإلله‬
‫ي‬ ‫ال� استقرأت فيها الكالم‬
‫عر�‪ ،‬والكيفية ي‬
‫أعمال الشيخ ابن ب ي‬
‫* * *‬
‫ن ُّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الباط� ‪ -‬لغة الوجود‪ -‬صورة‬
‫ي‬ ‫مح‬ ‫الل‬ ‫عر�‪ -‬خطوط التأويل‪-‬‬‫مفردات مفتاحية‪ :‬ابن ب ي‬
‫ّْ‬
‫اإلله‪.‬‬ ‫َّ ئ‬
‫ي‬ ‫ا�‪ -‬الكشف ‪ -‬المفارقة‪ -‬الكالم‬
‫الر ي‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫ين عند ابن عريب‪ ،‬ال مناص من إزالة ما يلتبس يف العالقة‬ ‫لفهم املقصود من التأويل القرآ ِّ‬
‫جوهري‪ ،‬الس َّيام إذا جرى التعامل معهام‬ ‫ٌّ‬ ‫بني التفسري والتأويل‪ .‬ذاك أ َّن الفارق بني االصطالحني‬
‫مبعناهام ومفهومهام الشائع‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإ َّن كثريين ممن يف ِّرقون بني تفسري القرآن لدى شيوخ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يف‪ .‬أغلبهم يُعيل من شأن‬ ‫س إضا ٍّ‬‫الرشيعة والفقه واللُّغة‪ ،‬وتأويله لدى شيوخ الصوفيَّة‪ ،‬يقعون يف لَبْ ٍ‬
‫ويغض من قيمة التأويل عىل أساس من موضوعيَّة األول وذاتيَّة الثاين‪ .‬املوضوعيَّة يف‬ ‫ُّ‬ ‫التفسري‬
‫التاريخي وهموم‬
‫ِّ‬ ‫املفس إطار واقعه‬
‫ِّ‬ ‫الحالة األوىل موضوع َّية تاريخ َّية تفرتض إمكان أن يتجاوز‬
‫النص كام فهموه يف إطار معطيات اللُّغة‬ ‫َّ‬ ‫للنص‪ ،‬ويفهم‬
‫ِّ‬ ‫عرصه‪ ،‬وأن يتب َّنى موقف املعارصين‬
‫منطقي من الوجهة الدينيَّة االعتقاديَّة التي‬‫ٍّ‬ ‫التاريخيَّة عرص نزوله‪ .‬ومثل هذا التص ُّور يقع يف تناقض‬
‫كل الحقائق‪ .‬ومثل هذا‬ ‫لكل زمان ومكان ألنَّه يحتوي َّ‬ ‫النص عندهم صالح ِّ‬ ‫ُّ‬ ‫ينطلق منها أصحابه‪ ،‬إذ‬
‫املفس عىل املأثورات املرويَّة عن الجيل األول‬ ‫ِّ‬ ‫االعتقاد يتناقض متاماً مع القول برضورة اعتامد‬
‫يحل أصحاب هذا‬ ‫للنص‪ .‬وليك َّ‬ ‫ّْ‬ ‫أو الجيل الثاين عىل األكرث والوقوف عند فهمهم وتفسريهم‬
‫التص ُّور مثل هذا التعارض‪ ،‬ذهبوا إىل أ َّن املعرفة الدينيَّة ال تتط َّور‪ ،‬وأ َّن جيل الصحابة والتابعني أوتوا‬
‫التمسك مبعرفتهم هو العاصم من الزلل‬ ‫ُّ‬ ‫املعرفة الكاملة التا َّمة يف ما يتَّصل بالوحي ومعناه‪ ،‬وأ َّن‬
‫واالنحراف‪ .‬وهكذا انتهى األمر بهم إىل عزل املعرفة الدين َّية عن غريها من أنواع املعرفة من جهة‬
‫وإىل إنكار تطور املعرفة اإلنسانية من جهة أخرى‪ .‬وهنا يعطي أصحاب هذا الرأي دليالً تاريخ َّياً‬
‫منوذجيَّاً عىل هذه الوجهة كام يف تجربة ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم حيث يعتربان من أبرز ممثِّيل‬
‫هذا االتجاه‪.‬‬
‫يف الذي يقف‬
‫التفسريي رضوريَّة ليك يستقيم البحث يف التأويل الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫واإلشارة إىل هذا االتجاه‬
‫عىل نقيض املدرسة السلفيَّة التي ميثِّلها ابن تيميَّة عىل وجه الخصوص‪.‬‬
‫لعل اختيار ابن عريب من دون سواه من املتص ِّوفة والفالسفة لدراسة التأويل يعود إىل ثالثة‬‫َّ‬
‫أسباب رئيسيَّة‪:‬‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫األول‪ :‬أهم َّية ابن عريب ودوره الريادي يف تاريخ التص ُّوف‬
‫الثاين‪ :‬أن دراسة ابن عريب نفسه تثري بشكل واسع معضلة التأويل‪ ،‬كام تنعكس هذه املعضلة‬
‫يف التفسريات املختلفة واملتعارضة أحياناً والتي طرحت لفكره وقيمته‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬إحساس الباحث املبكر والذي أكَّدته الدراسة أ َّن التأويل عند ابن عريب ليس مج َّرد‬
‫والنص معاً‪ .‬يف حني أن ابن‬
‫َّ‬ ‫فلسفي كامل ينتظم الوجود‬ ‫ٌّ‬ ‫النص‪ ،‬بل هو منهج‬
‫ِّ‬ ‫وسيلة يف مواجهة‬

‫‪157‬‬
‫المحور‬

‫عريب يطرح لنا فلسفة يف التأويل قد تساعدنا عىل كشف الجوانب املشابهة يف فكر غريه‪ ،‬سواء‬
‫السابقون له أوالتالون له[[[‪.‬‬
‫يل يستلزم أقىص‬‫إىل هذه األسباب واالعتبارات‪ ،‬فإ َّن الدخول إىل عامل ابن عريب التأوي ِّ‬
‫املجاهدة‪ .‬كذلك عىل الداخل إىل هذا العامل ‪ -‬حتى لو كان باحثاً‪ ،‬آتياً من خارج املقامات‬
‫الصوفيَّة ‪ -‬أن يع َّد الع َّدة المتحان صعب‪ .‬إذ إ َّن الكالم عىل التص ُّوف والقرآن‪ ،‬ومن خالل ابن عريب‬
‫بالذات‪ ،‬مياثل البحث عن حقائق الوجود‪ ،‬بوسائط لغويَّة تستعيص عىل الفهم واإلدراك السهل‪،‬‬
‫الذوقي وكالهام يشتبكان بعلم الكالم والفقه والرشيعة‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي بالعرفان‬
‫ُّ‬ ‫حيث يشتبك العقل‬
‫أكرث الباحثني الذين اعتنوا ببحوث التأويل عند أكابر املتص ِّوفة‪ ،‬ومنهم الشيخ محيي الدين‪،‬‬
‫توصلوا إىل قاعدة منهج َّية جامعة يف القراءة العرفان َّية للقرآن الكريم‪ ،‬مؤ َّداها أ َّن العارف عندما‬
‫َّ‬
‫يسائل اآليات ال يقع تساؤله ضمن الدائرة التي اعتادها أهل الجدل من الفالسفة وعلامء الكالم‪،‬‬
‫رضب من‬ ‫ٌ‬ ‫اإللهي‪ .‬وسؤاله من هذه املنطلق هو‬
‫ِّ‬ ‫مشوب بالحرية يف فهم الكالم‬ ‫ٍ‬ ‫ني‬
‫وإنَّ ا ينطلق من يق ٍ‬
‫ويؤسس‬‫ِّ‬ ‫داخل يف صميم منظومته املعرفيَّة‬‫ٌ‬ ‫جي عنده‬ ‫جي لبلوغ كُ ْن ِه اآليات وغاية املتكلِّم‪ .‬والرت ِّ‬
‫الرت ِّ‬
‫يل يف التع ُّرف عىل معاين الكلامت‬ ‫ملنطق مفارق تتغاير مق ِّدماته ونتائجه عام يتَّبعه العقل االستدال ُّ‬
‫وحقائق املوجودات[[[‪ .‬وهكذا يدرك العارف أن معاين الكالم مرتبطة رأساً مبقاصد املتكلِّم‪ ،‬ال‬
‫بحدود ألفاظ كالمه‪ ،‬وأنَّه يف هذا يف ِّرق بني فهم الكالم وبني الفهم عن املتكلم‪ .‬ففي تأويله لكالمه‬
‫الل﴾[[[ يقول ابن عريب يف «الفتوحات املكيَّة» إ َّن معنى اآلية ٌّ‬ ‫َ َّ ُ ْ ّ َ َ ُ َ ّ ُ ُ‬
‫ك ُم ّ ُ‬
‫دال‬ ‫تعاىل ﴿واتقوا الل ويعل ِم‬
‫عىل أ َّن الله يف ِّهم الناس معاين القرآن فيعلَموا مقاصد املتكلِّم به أل َّن فهم ما هو كالم املتكلِّم‪،‬‬
‫هو بأن يعلم وجه ما تتض َّمنه تلك الكلمة بطريق الحرص مام تحوي عليه ممَّ تواطأ عليه أهل ذلك‬
‫اللسان‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن الفهم أن يفهم ما قصده املتكلِّم بذلك الكالم‪ :‬هل قصد جميع الوجوه التي‬
‫يتض َّمنها ذلك الكالم أو بعضها‪ ،‬فينبغي لك أن تف ِّرق بني الفهم للكالم أو الفهم عن املتكلِّم وهو‬
‫فكل من‬ ‫املطلوب؛ فالفهم عن املتكلِّم ما يعلمه إالَّ من نزل القرآن عىل قلبه وفهم الكالم للعا َّمة‪ُّ ،‬‬
‫كل من فهم الكالم فهم عن املتكلِّم ما أراد‬ ‫فهم من العارفني عن املتكلِّم فقد فهم الكالم‪ ،‬وما ُّ‬
‫كل الوجوه أو بعضه»[[[‪ .‬وحسب تأويل َّية ابن عريب‪ ،‬إ َّن فهم معاين – كالم أي‬ ‫به عىل التعيني إما ُّ‬
‫متكلِّم – ليس محصورا ً يف وجوه الداللة اللُّغوية التي اتَّفق عليه أهل ذلك اللسان‪ ،‬فداللة الكالم‬
‫الحقيقي ملعاين كالم املتكلِّم‪ -‬عند‬ ‫ُّ‬ ‫مستوى واحد فقط من مستويات الحقيقة عنده‪ ،‬إنَّ ا الفهم‬
‫الشيخ‪ -‬هو أن يفهم القارئ ما قصده املتكلِّم بذلك‪ ،‬فاملعنى ليس بالرضورة متض ّمناً داخل جسد‬
‫[[[‪ -‬نرص حامد أبو زيد – مصدر م َّر ذكره – ص ‪.15‬‬
‫ل بني ابن عريب والوتسوا – فصل َّية «الحياة الطيبة»‪ -‬العدد ‪ 47-‬خريف ‪.2021‬‬
‫[[[‪ -‬محمود حيدر – الوجود املتج ِّ‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة – اآلية ‪.282‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬تصوير دار صادر بريوت عن طبعة بوالق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة ‪1293‬هـ ج‪ 3‬ص ‪.123‬‬

‫‪158‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫ُ‬
‫العارف ‪ -‬هو من يفهم عن املتكلِّم وال‬ ‫اللُّغة‪ ،‬فقد يكون املعنى يسكن يف قلب املتكلِّم‪ ،‬والقارئُ‬
‫يفهم الكالم فحسب[[[‪.‬‬
‫ومن الواضح أ َّن التأويل يف هذا املورد من الفهم‪ ،‬مرهون مبعرفة قصد املتكلِّم‪ ،‬وقصد املتكلِّم‬
‫ٍ‬
‫حينئذ‬ ‫الروحي والتعايل يف منازل التق ُّرب‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫مرتبط برشط َّية الفناء يف صاحب الكالم‪ ،‬عرب التسليك‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫شك يف أ َّن الفهم عن‬ ‫ويتول تعليمه وتفهيمه دقائق التنزيل ورقائق التأويل‪ .‬وال َّ‬ ‫َّ‬ ‫يتجلَّ الله له‪،‬‬
‫وأدق وأصدق وأعمق من فهم الكالم‪ ،‬ال‪ ،‬التأويل األت ّم األكمل‪ ،‬هو ذاك الذي‬ ‫ُّ‬ ‫املتكلِّم هو أوسع‬
‫يفهم املخاطب مآالت الخطاب كلِّه‪ ،‬ويفهم جميع ما تؤول إليه إشارات ومقاصد صاحب الكالم‪.‬‬
‫ومن هنا جاء التنظري عند العرفاء لفكرة ال محدوديَّة وال نهائ َّية التأويل‪ ،‬حيث يصبح كالم الله تعاىل‬
‫مفتوحاً عىل جميع التأويالت‪ ،‬أل َّن كالم الله هو علمه تعاىل‪ ،‬وعلم الله مطلق ال نهاية لتأويله‪،‬‬
‫شاح الشيخ‬ ‫وجميع التأويالت صحيحة ورشعية يف موضعها»‪ ،‬و«علم التأويل – كام يقول أحد ُ َّ‬
‫اإللهي‬
‫ِّ‬ ‫خاص من وجوه الرشيعة الذي ال يعلم إال عن الكشف‬ ‫ٌّ‬ ‫األكرب – هو علم الباطن‪ ،‬وهو وجه‬
‫والذي ال يحصل إالَّ بعد تحصيل الوالية‪ ،‬وهو أصل علم الرشيعة وروحه‪ ،‬وال مخالفة بينهام إالَّ‬
‫عند أهل الحجاب[[[‪.‬‬
‫اإللهي نفسه‪ .‬فالفهم‬‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫يل هنا مسلكاً معراج َّياً من داخل‬
‫من أجل ذلك‪ ،‬يأخذ الفهم التأوي ُّ‬
‫مستقل للمتلقِّي‪ .‬واآلية التي م َّرت معنا‬
‫ٍّ‬ ‫بهذا املعنى هو من الله وعن الله وبالله‪ ،‬وليس مث َّة من رأي‬
‫أشارت بوضوح إىل أ َّن التقوى هي رشط التعلُّم‪ ،‬وهي إحدى أعظم السبل التي يستهدي بها العارف‬
‫إىل فهم الكلمة اإلله َّية عىل حقيقتها‪ .‬بذلك يُتاح للذين اتَّقوا أن يعلِّمهم الله املنهج الذي يج ِّنبهم‬
‫ُّ‬
‫يستدل عليه من قوله‬ ‫فتنة التفسري بالرأي‪ ،‬فيأمرهم بالصرب والدعاء كسبيل قويم لفهم كالمه‪ .‬وهو ما‬
‫ْ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ ْ ُ ُ َ ُ َّ ّ ْ‬ ‫َ َ ْ َ ْ ُْ ْ‬
‫ب زِدن ِي عِل ًما‪.[[[‬‬
‫آن مِن قب ِل أن يقضى إِليك وحيه وقل ر ِ‬ ‫تعاىل‪ :‬ولا تعجل بِالقر ِ‬
‫إ َّن سؤال التأويل عند العرفاء مرتبط أصالً مبعنى القرآن‪ ،‬ومعنى القرآن عندهم مرتبط مبعنى‬
‫ودالالت كالم الله‪ ،‬وكالم الله يحيل مبارشة إىل تص ُّور معنى الله‪ ،‬ومعنى الله عند الصوف َّية ال ميكن‬
‫أن نعيه خارج عقيدة التجلِّيات‪ .‬فالقرآن ليس فقط مصحفاً متل َّوا ً ومكتوباً بني أيدي الناس‪ ،‬إمنا هو‬
‫«حقيقة مج َّردة متعالية ترجع إىل الذات اإللهيَّة‪ ،‬وتن ُّزلها وتجلِّيها يف عوامل الوجود يأخذ أشكاالً‬
‫ي فيظهر عىل شكل ألفاظ‬ ‫تتناسب مع تلك الرتب الوجوديَّة‪ ،‬إىل أن يبلغ هذا الكتاب عاملنا املا ِّد َّ‬
‫ومصحف وكلامت»‪ .‬وإذا كان القرآن هو كالم الله‪ ،‬فإ َّن الوجود أيضاً هو كالم الله‪ ،‬باعتبار أ َّن الكون‬

‫[[[‪ -‬فرعون حمو‪ ،‬عقيدة التجلِّيات عند شيخ الصوف َّية األكرب – ضمن كتاب “املنت األكربي” إرشاف وتقديم‪ :‬رزقي بن عومر عبد القادر‬
‫بلغيت‪ -‬دار نينوى ‪ -‬دمشق ‪ 2018-‬ص ‪.299‬‬
‫[[[‪ -‬بايل أفندي‪ ،‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬طبعه الطبعة النفيسة العثامن َّية سنة ‪1309‬هـ ص ‪.56‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.114‬‬

‫‪159‬‬
‫المحور‬

‫تجل لكلمة «كن» اإلله َّية‪ ،‬فيكون الوجود كلامت الله‬ ‫اإللهي «كن»‪ ،‬فالكون هو ِّ‬ ‫ِ‬ ‫خلِ َق باألم ِر‬ ‫كلَّه ُ‬
‫املسطورة يف اآلفاق والقرآن كلامت الله املسطورة يف املصحف‪ ،‬ويصبح القرآن يف تص ُّور صوف َّية‬
‫الوجودي‬
‫َّ‬ ‫وحدة الوجود هو كلامت الله املرقومة التي توازي الوجود وترمز إليه‪ ،‬وكام أ َّن كالم الله‬
‫نفدَ‬ ‫َ ّ ََ َ َْ ْ ُ َ َْ َ َ َ‬ ‫ُ َّ َ َ ْ ْ َ ً ّ َ‬
‫ات ر ِب لنفِد البحر قبل أن ت‬ ‫املنظور ال ميكن حرصه ونفاده ‪‬قل ل ْو كان ال َبح ُر مِدادا ل ِكل َِم ِ‬
‫ج َرة أَقْلَ ٌ‬
‫ام َوالْ َب ْ‬ ‫َ َ‬ ‫َْْ‬ ‫َ َ ُ َ ّ َ َ ْ ْ َ ْ َ َ ً [[[ َ َ َ َّ‬
‫ح ُر َي ُم ُّدهُ م ِْن‬ ‫‪‬ول ْو أن َما ف ِي الأر ِض م ِْن ش ٍ‬ ‫جئنا ب ِ ِمثلِهِ مددا‪. ‬‬ ‫كل ِمات ر ِب َ ولو ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫حر َما نف َدت كل َِم ُ َّ‬ ‫َب ْع ِده ِ َسبْ َع ُة أب ْ ُ‬
‫ات اللِ‪ .[[[‬فإ َّن كالم الله املسطور يف املصاحف ال محدود وال‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫نهايئ يف تأويله‪ ،‬وانطالقاً أيضاً من مامثلة أخرى يجريها صوفيَّة وحدة الوجود بني ال محدوديَّة‬
‫ْ‬ ‫ُ َّ َ‬
‫تعاىل‪‬وس َِع كل ش ْي ٍء عِل ًما‪.[[[‬‬ ‫َ‬ ‫نصاً وعقالً يف قوله‬ ‫التأويل وبني ال محدوديَّة علم الله‪ ،‬الثابتة َّ‬
‫بني ال تناهي كالم الوحي ومحدوديَّة املتلقِّي‪ ،‬يذهب العرفاء إىل بيان أ َّن الحقيقة الغيبيَّة يف‬
‫إطالقها غري متعقِّلة وال متو ِّهمة‪ ،‬فإدراكها هو التحيُّ فيها‪ .‬والحرية هنا‪ ،‬تأيت يف مقام التعقُّل والتدبُّر‪،‬‬
‫ال تلك التي ارتكن فيها اإلنسان إىل قبضة الفكر املحض‪ .‬فث َّمة فرق عند الشيخ األكرب بني حرية‬
‫املتدبِّر وحرية الباحث عن معنى الكلامت يف ظاهر الحرف والعبارة‪ .‬فإ َّن حرية األخري تقع يف‬
‫مرتبة ناقصة وعالمتها تعطيل األفهام والحؤول دون تلقِّي القول اإللهي عىل الحقيقة[[[‪ .‬أما حرية‬
‫املتدبِّر الذي ح ّرر قلبه وأطلقه من التعلقات وامليول والرغبات الدنيوية‪ ،‬فحريته عبارة عن تح ُّول‬
‫القلب وتب ُّدله انسياقاً مع تن ُّوع الحقيقة يف صورها املختلفة‪ ،‬أي إدراك الوحدة يف الكرثة‪ ،‬والتنزيه‬
‫يف التشبيه‪ ،‬والحقيقة يف املجاز‪ .‬وبالتايل إدراك الثبات يف التن ُّوع والتن ُّوع يف الثبات‪ .‬وحده الذي‬
‫َ َ [[[‬
‫َْ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َ َّ ُ َ ْ ُ ْ َ َ ْ َ َ ُ ُ‬
‫وب أقفالها‪. ‬‬ ‫يستطيع إدراك َهذا التن ُّوع‪ ،‬كام يف قوله تعاىل‪:‬أفلا يتدبرون القرآن أم على قل ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ َ ً‬ ‫َّ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ ُْ َ َ َ َ‬ ‫ََ‬
‫ويف آية ثانية‪:‬أفلا َي َت َدبَّ ُرون الق ْرآن َول ْو كان م ِْن عِن ِد غيْ ِر اللِ ل َو َج ُدوا فِيهِ اختِلافا كثِيرا‪.[[[‬‬
‫ً‬

‫التأويل يف مقام الوحدة واالختالف‪:‬‬


‫مؤسسة ملنظومته املعرف َّية‪ ،‬إالَّ أنَّنا نجده يف مواقف مع َّينة‬
‫مع أ َّن للتأويل عند ابن عريب منزلة ِّ‬
‫يل إىل الح ِّد الذي يخال فيه الناظر رضباً من التناقض‪ .‬وميكن لنا أن‬ ‫يحذر من املركب التأوي ِّ‬
‫كتوسط‬ ‫ُّ‬ ‫نستخلص ذلك حني ندرس الكيف َّية التي ينظر فيها العرفاء إىل األسامء والصفات اإلله َّية‬
‫يف تأخذ نظريَّة‬ ‫يل بني حقيقة الذات الصمديَّة والعامل املخلوق‪ .‬وعند هذا املنعطف املعر ِّ‬ ‫جد ٍّ‬
‫الوجود بالظهور عىل نحو يصري باإلمكان التمييز بني مشكلني دقيقني ال يزاالن موضع جدل يف‬
‫[[[‪ -‬سورة الكهف‪ ،‬اآلية ‪.109‬‬
‫[[[‪ -‬سورة لقامن‪ ،‬اآلية ‪.27‬‬
‫[[[‪ -‬سورة طه‪ ،‬اآلية ‪.98‬‬
‫[[[‪ -‬محيي الدين ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املكِّ َّية‪ ،‬ج‪ ،4‬ص ‪.197‬‬
‫[[[‪ -‬سورة محمد‪ -‬اآلية ‪.24‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النساء‪ -‬اآلية ‪.82‬‬

‫‪160‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫حقل اإلله َّيات‪ ،‬وهام وحدة الوجود من وجه‪ ،‬وتوحيد الوجود من وجه آخر‪ .‬فالفارق بني املفهومني‬
‫كل منهام قد يفيض إىل إدراك أصالة اإليجاد مبا‬ ‫شاسع‪ ،‬والوقوف عىل فهم بيِّ ملاه َّية وغاية ٍّ‬
‫توسطية بني الواجد واملوجود[[[‪ .‬يف هذا املورد تعطي تأويليَّة ابن عريب منزلة‬ ‫هي منطقة معرفيَّة ُّ‬
‫استثنائيَّة للمسافة الفاصلة بني املفهومني مؤ َّداها اللقاء الخلَّ ق بني التوحيد واالختالف‪ .‬يق ِّرر‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫كل‬
‫الشيخ األكرب يف هذا املوضع بالذَّات أ َّن ما من نقيضني متقابلني إالَّ وبينهام فاصل‪ ،‬وبه يتم َّيز ُّ‬
‫واحد من اآلخر‪ .‬وهو املانع أن يتَّصف الواحد بصفة اآلخر‪ .‬وهذا هو الربزخ األعىل‪ :‬وهو برزخ‬
‫الربازخ له وجه إىل الوجود ووجه إىل العدم‪ .‬وفيه جميع املمكنات‪ ،‬وهي ال تتناهى ولها يف هذا‬
‫الربزخ أعيان ثابتة من الوجه الذي ينظر إليه الوجود املطلق‪ .‬ومن هذا الوجه ينطلق عليه اسم‬
‫الحق إيجاده وقال له كُن فيكون‪ ،‬فليس له أعيان موجودة من الوجه الذي يُنظر‬ ‫ُّ‬ ‫اليشء الذي إذا أراد‬
‫وجودي‪ ،‬فلو أنَّه كائن ما قيل له كُن[[[‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫إليه من العدم املطلق‪ .‬ولهذا يقال له «كُن»‪ .‬و«كُن» حرف‬
‫هذه الجدل َّية من املفارقة تحيلنا إىل بيان الفرادة الرؤيويَّة التي تحظى بها فلسفة االختالف يف‬
‫نظريَّة توحيد الوجود عند ابن عريب‪ .‬ذلك بأنَّها ترتبط ارتباطاً عميقاً ومبارشا ً يف تأويل َّيته لألسامء‬
‫الحق‬
‫َّ‬ ‫والصفات ومتيِّزها عن الذات األحديَّة‪ .‬فهو يرى أ َّن األسامء والصفات تبعث عىل تقييد‬
‫املطلق‪ .‬فالله يف مقام ذات األحديَّة والغيب املطلق يكون برشط ال يشء كام يف الفلسفة اإللهيَّة‪.‬‬
‫الحق املخلوق به ‪ -‬كام‬ ‫ِّ‬ ‫ين أو‬
‫إالَّ أ َّن مشيئته حني ترسي يف عامل الخلق عىل صورة النفس الرحام ِّ‬
‫يبني ابن عريب‪ -‬فإنَّه يرافق جميع املخلوقات‪ .‬أ َّما يف مقام الواحديَّة فإنَّه يتق َّيد بصفات مختلفة‬
‫خاصاً‪ ،‬أي يصبح برشط اليشء‪ .‬إذن‪ ،‬فاألسامء والصفات اإللهيَّة هي‬ ‫َّ‬ ‫وأسامء متن ِّوعة‪ ،‬فيأخذ تعيُّناً‬
‫الحق املطلق‪ .‬يقول ابن عريب بهذا الشأن‪ :‬من كانت حقيقته أن يكون مقيَّدا ً‬ ‫ِّ‬ ‫التي تبعث عىل تقييد‬
‫يصح أن يكون مطلقاً بوجه من الوجوه ما دامت عينه‪ ،‬إذ إ َّن التقييد صفة نفس َّية له‪ .‬ومن كانت‬ ‫ُّ‬ ‫ال‬
‫حقيقته أن يكون مطلقاً فال يقبل التقييد جملة واحدة‪ ،‬فصفته النفس َّية أن يكون مطلقاً ليس يف قوة‬
‫املقيد أن يقبل االطالق‪ ...‬وللمطلق أن يقيِّد نفسه إن شاء‪ ،‬وأن ال يقيِّ َدها إن شاء‪ ،‬فإ َّن ذلك من‬
‫صفة كونه مطلقاً أطلق مشيئته‪ ...‬ولكن هذا كلُّه أعني دخوله يف التقييد لعبارة من كونه إلهاً ال من‬
‫صح اسم‬ ‫كونه ذاتاً فإ َّن الذات غن َّية عن العاملني وامل َ ِلك ما هو غني عن امل ُلك‪ ،‬إذ لوال امل ُلك ما ّ‬
‫جل وتعاىل‪ ،‬فاملخلوق كام يطلب الخالق من كونه‬ ‫امل َلك‪ ،‬فاملرتبة أعطت التقييد ال ذات الحق َّ‬
‫مخلوقاً‪ ،‬كذلك الخالق يطلب ملخلوق من كونه خالقاً[[[‪.‬‬
‫الحق الواحدة‪ ،‬وعدد ال يتناهى من النسب‬
‫ِّ‬ ‫بنا ًء للرؤية العرفان َّية‪ ،‬ليس يف الوجود سوى ذات‬
‫[[[‪ -‬راجع ‪ :‬محمود حيدر – العرفان يف مقام التدبري السيايس‪ -‬دراسة يف املباين امليتافيزيق َّية والتأسيسات املعرف َّية للحضارة اإلله َّية‪-‬‬
‫مخطوطة تحت الطبع – ‪.2022‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات املكِّية – الجزء الثالث – ص ‪.47‬‬
‫[[[‪ -‬ابن عريب‪ -‬الفتوحات املكِّية – املصدر نفسه‪ ،‬ج ‪ ،3‬ص ‪.72‬‬

‫‪161‬‬
‫المحور‬

‫واإلضافات التي يُك َّنى عنها باألسامء اإلله َّية‪ ،‬والتي تس َّمى حينام تظهر يف الصور الخارج َّية باسم‬
‫املوجودات أو التعيُّنات[[[‪ .‬فعند العارف‪« :‬ليس يف الوجود سوى الله تعاىل وأسامئه وصفاته‬
‫كل باألسامء»؛‬
‫فالكل هو وبه‪ ،‬ومنه‪ ،‬وإليه»‪ .‬والله تعاىل يف الرؤية العرفانيَّة‪« :‬أحد بالذات‪ٌّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫وأفعاله‪،‬‬
‫كل تعيُّ وح ٍّد‪ ،‬إذ ‪‬ليس كمثله شيء‪ .‬أما يف مقام‬ ‫أي أنَّه تعاىل يف مقام أحديَّة الذات‪ ،‬من َّزه عن ِّ‬
‫ير‪ .[[[‬وتخترص‬‫يع الْ َب ِص ُ‬ ‫َّ‬
‫فهو‪‬الس ِم ُ‬ ‫التع ُّينات األسامئ َّية وظهور الذات بكسوة األسامء والصفات‪،‬‬
‫ِيم‪ .[[[‬رؤية العارف ونظرته‬
‫ُ َ َّ ُ َ ْ َ ُ َ ُ َ ُ‬
‫ك ّل َش ْي ٍء َعل ٌ‬ ‫ب‬ ‫و‬ ‫ه‬‫و‬ ‫ِن‬
‫ط‬ ‫ا‬ ‫ب‬‫ال‬‫و‬ ‫ِر‬ ‫ه‬ ‫ا‬ ‫الظ‬‫و‬ ‫ِر‬
‫خ‬ ‫الآ‬‫و‬‫‪‬ه َو الأَ َّو ُل َ‬
‫ُ‬
‫اآلية الكرمية‪:‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫إىل الوجود‪ .‬فوفق هذه الرؤية ليس يف الوجود سوى الله تعاىل ومظاهره؛ من األسامء والصفات‬
‫وبكل فعل‬
‫ِّ‬ ‫وبكل إسم فعالً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وبكل صفة إسامً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫بكل كامل صفة‪،‬‬
‫واألفعال؛ «ذلك أل َّن له ولذاته‪ِّ ،‬‬
‫وبكل رس أرسارا ً»[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫وبكل علم أثرا ً ورسا ً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وبكل مظهر علامً‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مظهرا ً‪،‬‬

‫من هنا‪ ،‬يتبيَّ أ َّن الكرثة عند العرفاء ليست سوى ظهور تلك الذات املطلقة يف تعيُّ من‬
‫أسايس حول‬
‫ٍّ‬ ‫النظري تدور بشكل‬
‫ِّ‬ ‫التع ُّينات األسامئ َّية أو الخلق َّية‪ ،‬لذا كانت مسائل علم العرفان‬
‫النظري يختلف‬
‫ِّ‬ ‫هذه األسامء‪ .‬وعليه‪ ،‬ينبِّه العرفاء إىل أ َّن املقصود من اإلسم والصفة يف العرفان‬
‫كل‬
‫النظري‪ ،‬توقيفيَّة‪ .‬ومعنى هذا أ َّن َّ‬
‫ِّ‬ ‫عن هذه األلفاظ واألسامء االعتباريَّة‪ .‬فاألسامء يف العرفان‬
‫تكويني‪ ،‬ال يتغيَّ عن معناه‪ ،‬وال تتب َّدل وظيفته وال يتع َّداها‪ .‬والتوقيف َّية‬
‫ٌّ‬ ‫واقعي‬
‫ٌّ‬ ‫حقيقي‬
‫ٌّ‬ ‫إسم له معنى‬
‫بهذا املعنى يتبيَّ منها‪ :‬أ َّن البحث ليس عن األلفاظ‪ ،‬وإمنا هو بحث عن واقع األسامء اإلله َّية‪،‬‬
‫وحقيقتها‪ ،‬ووظيفتها التكوينيَّة وفق النظام األحسن للوجود‪ .‬فمثالً‪ :‬إسم الخالق وظيفته الخلق‪،‬‬
‫كل إسم متوقِّف‬
‫ال يؤ ِّدي وظيفة غري الخلق‪ ،‬وكذا إسم الغفَّار أثره املغفرة‪ ،‬وهكذا بقيَّة األسامء‪ُّ .‬‬
‫عىل معناه وأثره وحدوده‪ ،‬فال تصدر الرحمة من إسم الرزَّاق‪ ،‬وال يصدر الرزق من إسم الرحيم‪،‬‬
‫كل يصدر منه ما يناسبه وما يقتضيه‪ ،‬وال يتع َّداه‬
‫وال ميكن أن تصدر املغفرة من إسم املنتقم‪ ،‬بل ٌّ‬
‫إىل غريه‪ ،‬بل هو متوقِّف عىل أداء وظيفته‪ .‬فإ َّن لكل إسم مظهرا ً وأثرا ً يختصان به‪ ،‬وال يتعديانه وال‬
‫يتخلفان عنه‪ ،‬واملظهر غري األثر‪ ،‬كام عرف يف لسان أهل العرفان‪ :‬إن إرسافيل‪ ‬مظهر إسم‬
‫املحيي‪ ،‬وأثره اإلحياء‪ ،‬وإن عزرائيل‪ ‬مظهر إسم امليت وأثره اإلماتة»[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.77‬‬


‫[[[‪ -‬سورة غافر‪ ،‬اآلية ‪.20‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الحديد‪ ،‬اآلية ‪.3‬‬
‫[[[‪ -‬حيدر اآلميل‪ ،‬املقدِّ مات من كتاب “نص النصوص”‪ ،‬ص ‪.446‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه – ص ‪.179‬‬

‫‪162‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ُّ‬


‫القرآني�ة بني املتكلمني وابن عريب‪:‬‬ ‫مفارقات اللغة‬
‫اإللهي لدى العرفاء يقوم عىل التلقِّي من املتكلِّم نفسه‪ ،‬أي من‬
‫ِّ‬ ‫مدار املفارقة يف فهم الكالم‬
‫الس َع ِة والذكاء‪ .‬وهم يف هذا يتَّبعون رصاط اإلنصات والتدبُّر‬
‫الله ال من فكر املتلقِّي مهام بلغ من ِّ‬
‫َْ َ‬ ‫ْ َْ َْ ُْ َ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ْ ُْ‬
‫آن مِن قب ِل أن يقضى إِليك‬
‫والصرب عىل الفهم‪ .‬وهذا ما يوحي به قوله تعاىل‪:‬ولا تعجل بِالقر ِ‬
‫ْ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫َ ُُْ َُْ َ ّ ْ‬
‫اإللهي من اآلية هو تعليم الناس وهدايتهم إىل أ َّن فهم‬
‫ُّ‬ ‫ب زِدن ِي عِل ًما‪ .[[[‬فالقصد‬
‫وحيه وقل ر ِ‬
‫كلامته عىل حقيقة الرصاط ال يأيت إالَّ بالصرب والدعاء‪.‬‬
‫حق العارف أن يفهم من القرآن معنى ويبني استفادته وفهمه عىل مبادئ وجوديَّة‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن من ِّ‬
‫ومعنائ َّية‪ ،‬حتى لو كان هذا املعنى ال ينسجم مع منهج األدباء وأهل اللُّغة يف التفسري ونسبة املعاين‬
‫إىل األلفاظ‪ .‬لذا‪ ،‬يؤمن العارف بأنَّه إذا حرصنا معاين الكلامت وظواهر القرآن بناسوت الوجود‬
‫يف املحدود‪ ،‬فلن يبقى مثة مجال لهرمنيوطيقا مقبولة‪ .‬فعنده أ ّن هذه الطريقة تحرص‬ ‫والفكر العر ِّ‬
‫يت للوجود؛ ولكن مث َّة مستويات أخرى تتجلَّ‬ ‫الحس والناسو ِّ‬
‫ِّ ِّ‬ ‫العالقة بني املعنى وبني املستوى‬
‫وتظهر فيها املعاين بطريقة مختلفة‪ .‬وعىل هذا األساس ميكن القول أ َّن الهرمنيوطيقا العرفان َّية أو‬
‫ظاهري واستظهار بعض املعاين التي عجز اآلخرون عن‬ ‫ٌّ‬ ‫ين يق َّدم عىل أنه تفسري‬
‫التأويل العرفا َّ‬
‫استظهارها وفهمها من القرآن[[[‪.‬‬
‫إ َّن تأويل اليشء أو الكلمة ‪ -‬كام ات َّفق أكرث العلامء والعرفاء – يعني إعادته إىل «أصله األول‪.‬‬
‫اإللهي ُّ‬
‫يدل عىل رصف اآلية إىل ما تحتمله من املعاين‪ ،‬وقيل من اإليالة وهي‬ ‫ِّ‬ ‫ويف تأويل الكتاب‬
‫السياسة كأن املؤ ِّول ساس الكالم ووضع املعنى يف موضعه»[[[‪ .‬أ َّما املدارس اإلسالميَّة عىل اختالف‬
‫مشاربها‪ ،‬من فقهاء ومتكلِّمني أشاعرة ومعتزلة وغريهم‪ ،‬فيتَّفقون عىل حرص حدود التأويل بح َّدين‬
‫اللغوي‪ ،‬والح ُّد الثاين هو‬
‫ِّ‬ ‫اثنني‪ :‬الح ُّد األول هو مواضعة اللسان‪ ،‬وما تعنيه الكلمة يف مجال التداول‬
‫يؤش عليه من فهومات ومصاديق‪ ،‬خصوصاً عند الت َّيار االعتزايل‪ ،‬والفوارق الكربى‪.‬‬
‫العقل وما ِّ‬
‫من حيث املنطلقات املنهج َّية بني أهل التص ُّوف والعرفان وبني أهل اللسان والبيان من الفقهاء‬
‫ورجال الدين عموماً‪ ،‬أ َّن األلفاظ هي فقط السبيل الوحيد لفهم مقاصد املتكلِّم؛ بينام األمر عىل‬
‫العكس من ذلك متاماً عند أهل التص ُّوف والعرفان‪ ،‬فإ َّن فهم مراد املتكلِّم عندهم هو السبيل لفهم‬
‫كالمه‪ .‬يف هذا اإلطار‪ ،‬نرى اإلمام أبو حامد الغزايل يف «مشكاة األنوار» يقول «إ َّن الذي تنكشف‬
‫له الحقائق يجعل املعاين أصالً واأللفاظ تبعاً‪ ،‬وأمر الضعيف بالعكس‪ ،‬إذ يطلب الحقائق من‬

‫[[[‪ -‬سورة طه – اآلية ‪.114‬‬


‫[[[‪ -‬ربيع‪ ،‬مسعود حاجي‪ -‬التأويل عند ابن عريب‪ -‬الهرمنيوطيقا‪ -‬مصدر سابق‪.‬‬
‫[[[‪ -‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬املكتبة الثقاف َّية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪1973 ،2‬م‪ ،‬ص ‪.173‬‬

‫‪163‬‬
‫المحور‬

‫«كل نظام عالمات ميكن استعامله وسيلة اتصال»[[[‪،‬‬ ‫األلفاظ[[[‪ .‬وإذا كانت اللُّغة عند نظَّارها هي ُّ‬
‫فإنَّها عند الصوف َّية مثابة تجربة وليست مج َّرد وسيلة إبالغ فقط[[[‪ ،‬مع أنَّه ثبت يف النصوص أ َّن‬
‫باطني‪ .‬فقد جاء يف الحديث أ َّن رسول الله‪ ‬قال‪« :‬أنزل القرآن‬ ‫ٌّ‬ ‫ظاهري وآخر‬
‫ٌّ‬ ‫القرآن الكريم له وجه‬
‫ولكل ح ٍّد مطلع»[[[‪ .‬يعلِّق اإلمام‬
‫ِّ‬ ‫ولكل حرف حد‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫لكل حرف منها ظهر وبطن‪،‬‬ ‫عىل سبعة أحرف‪ِّ ،‬‬
‫الشاطبي يف موافقاته عىل هذا الحديث فيقول‪« :‬ف ُِّس بأ َّن الظهر والظاهر هو ظاهر التالوة‪ ،‬والباطن‬
‫هو الفهم عن الله ملراده‪ ،‬أل َّن الله تعاىل قال «فامل هؤالء القوم ال يكادون يفقهون حديثاً»[[[‪،‬‬
‫واملعنى من هذا أنَّهم ال يفهمون عن الله مراده من الخطاب‪ ،‬ومل يرد أنَّهم ال يفهمون الكالم نفسه‪.‬‬
‫يف هذا املجال يشري الزرقاين‪ ،‬يف سياق حديثه عن «فضل القرآن والحاجة إليه»[[[‪ ،‬إىل أ َّن العمل‬
‫بتعاليم القرآن يكون بفهمه‪ ،‬وفهمه منوط بتفسريه‪ :‬يضيف‪« :‬أ َّن العمل بهذه التعاليم ال يكون إالَّ بعد‬
‫فهم القرآن وتدبُّره والوقوف عىل ما حوى من نصح ورشد‪ ،‬واإللهام مببادئه عن طريق تلك القوة‬
‫تدل‬‫الهائلة التي يحملها أسلوبه البارع املعجز‪ ،‬وهذا ال يتحقَّق إالَّ عن طريق الكشف والبيان‪ ،‬ملا ُّ‬
‫عليه ألفاظ القرآن‪ ،‬وهو ما نس ِّميه بعلم التفسري»[[[‪.‬‬
‫عىل قاعدة الفهم التي ذكرها الزرقاين‪ ،‬ميكن أن ننتقل إىل مقاربة واحدة من أبرز آليَّات التأويل‬
‫املفسون بأ َّن للمعنى الواحد مراتب‬
‫ِّ‬ ‫وهي وحدة املعنى ومراتبه املتع ِّددة‪ .‬يف هذا السياق‪ ،‬يعتقد‬
‫وطبقات كثرية‪ ،‬وهذه قد تصل حسب بعض الروايات إىل سبع أو سبعني مرتبة‪ ،‬وبوسع املخاطب‬
‫أن يخوض غامر هذه املراتب مع االلتزام بضوابط التفسري ورشوطه واملعايري املتَّبعة فيه‪ ،‬فلآليات‬
‫القرآنيَّة معانٍ كثرية ميكن اكتشاف باملزيد منها مع تط ُّور اإلنسان يف املجاالت املختلفة‪ ،‬غاية ما‬
‫هناك أ َّن هذه املعاين املعروف منها‪ ،‬وغري املعروف‪ ،‬يقع بعضها يف طول بعض‪ ،‬وليست عرضيَّة‪،‬‬
‫اإللهي بحكم عرض َّيتها‬
‫ِّ‬ ‫وإالَّ لوجب إهامل تلك املعاين التي ال تنسجم مع غريها ومع القصد‬
‫وتقاطعها‪.‬‬
‫وبحكم إعادة الرتتيب‪ ،‬اتَّخذ الكتاب وحدته العضويَّة‪ ،‬وهذه إحدى أه ِّم معجزات القرآن‪ .‬إذ‬

‫[[[‪ -‬أبو حامد الغزايل مشكاة األنوار‪ ،‬تحقيق أبو العال عفيفي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الدار القوم َّية للطباعة والنرش‪ ،1964 ،‬ص ‪.65‬‬
‫‪[2]- André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, puf, edition 1962, pp 553- 554.‬‬
‫[[[‪ -‬حمو‪ ،‬فرعون‪ -‬عقيدة التجلِّيات عند شيخ الصوف َّية األكرب ابن عريب – بحث ضمن كتاب “املنت األكربي‪ -‬إرشاف وتقديم‪ :‬رزقي بن‬
‫عومر وعبد القادر بلغيت‪ -‬دار نينوى‪ -‬دمشق ‪ - 2018‬ص ‪.304‬‬
‫[[[‪ -‬الحديث رواه اإلمام الطربي يف تفسريه ج‪ 1‬ص‪ ،16‬ورواه ابن حزم يف كتابه “اإلحكام يف أصول األحكام” ج‪ ،288 /1‬ورواه اإلمام‬
‫البغوي يف “رشح الس َّنة”‪ ،‬ج‪ 1‬ص ‪ ،241‬ورواه اإلمام الحافظ جالل الدين السيوطي يف كتابه “الجامع الصغري” وقال إنه حديث حسن‪،‬‬
‫ص ‪.2727‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النساء ‪ -‬اآلية ‪.78‬‬
‫[[[‪ -‬محمد عبد العظيم الزرقاين – مناهل العرفان يف علوم القرآن – تحقيق‪ :‬فواز أحمد زمريل‪ -‬دار الكتاب العريب – بريوت ط‪1415 – 1‬هـ‬
‫‪1995 -‬م – ص ‪.120‬‬
‫[[[ ‪ -‬الزرقاين – املصدر نفسه – ص ‪.126‬‬

‫‪164‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫فلكل حالة‬ ‫ِّ‬ ‫البرشي‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫النص واحد ال يتغيَّ وال يتب َّدل وتختلف قراءته تبعاً للرتكيب يف تط ُّور العقل‬ ‫ُّ‬
‫الخاصة بها عىل القرآن تبعاً ملبادئها العقل َّية وأشكال تص ُّورها‬ ‫َّ‬ ‫عقل َّية تاريخ َّية إسقاطاتها الذهن َّية‬
‫النص فهو ثابت ليس عىل مستوى الكلمة فحسب‪ ،‬ولكن أيضاً عىل مستوى الحرف‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫للوجود‪ .‬أ َّما‬
‫فالقرآن يف بنائيَّته الحرفيَّة ‪ -‬كام يالحظ عدد من الباحثني ‪ -‬مياثل البنائيَّة الكونيَّة بحيث إذا تفلَّت‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ين كلُّه‪ ،‬ولهذا قابل الله بني البنائ َّية الحرف َّية للقرآن و(موقع) النجوم‪،‬‬ ‫اختل النظام الكو ُّ‬ ‫نجم عن موقعه َّ‬
‫فلم يقسم – سبحانه – بالنجم ولكنه أقسم مبواقعها يف سياق تعريفه بخصائص القرآن البنائ َّية[[[‪:‬‬
‫ك ُنون ّلا َي َم ُّسهُ‬
‫َ َّ ْ‬ ‫ٌ‬ ‫َّ ُ َ َ َ ٌ َّ ْ َ ْ َ ُ َ َ ٌ َّ ُ َ ُ ْ ٌ َ‬ ‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ ُْ‬
‫ٍ‬ ‫اب م‬ ‫ِ‬
‫‪‬فلاْ أقسِم بِمواق ِعِ النجوم ِإَونه لقسم لو تعلمون ع ِظيم إِنه لقرآن ك ِريم ف ِي كِت ٍ‬
‫يل ّمِن َّر ّب الْ َعال َ ِم َ‬ ‫َّ ُ َ َّ ُ َ َ ٌ‬
‫ين‪.[[[‬‬ ‫ِ‬ ‫نز‬
‫إِلا المطهرون ت ِ‬
‫تبعاً ملا م َّر‪ ،‬فليس من أحد يستطيع ضبط الصياغة القرآنيَّة عىل مستوى الحرف املامثل لصياغة‬
‫ين الذي ليس هو مج َّرد بالغة‬ ‫فلكل حرف وظيفته (األلسنة البنيويَّة) يف اإلنشاء القرآ ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫الكون غري الله‪.‬‬
‫وألي مادة يف الكون يختلف نوع َّياً عن االستخدام‬ ‫ِّ‬ ‫اإللهي للام َّدة اللغويَّة‬
‫ُّ‬ ‫فحسب‪ .‬فاالستخدام‬
‫البرشي مع وحدة خصائص املا َّدة‪ .‬فحني يستخدم الله اللُّغة العرب ّية يف التنزيل فإنَّه يستخدمها‬ ‫ِّ‬
‫إلهي يقوم عىل اإلحكام املطلق‪ .‬فال يكون يف القرآن مرتادفات توظيفاَ ضمن جناس‬ ‫وفق مستوى ٍّ‬
‫وطباق‪ ،‬إذ تتحول الكلمة ضمن االستخدام اإللهي إىل (مصطلح داليل) متناهي الدقَّة ‪‬فَلا أُقْسِمُ‬
‫ٍّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫وم*ِإَونه لقس ٌم ل ْو تعل ُمون ع ِظ ٌ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫ُّ‬
‫الن ُ‬
‫فلكل كلمة يف القرآن داللتها املفهوم َّية املم َّيزة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫يم‪.[[[‬‬ ‫ج ِ‬ ‫ب ِ َم َواق ِعِ‬
‫(مس) مبعنى‬ ‫َّ‬ ‫العفوي ملفردات اللُّغة‪ ،‬فال يورد القرآن‬ ‫ِّ‬ ‫البالغي‬
‫ِّ‬ ‫البرشي‬
‫ِّ‬ ‫وذلك خالفاً لالستخدام‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬
‫(ملس) إطالقاً‪ ،‬ولهذا حني قال الله ‪‬لا َي َم ُّس ُه إِلا ال ُم َط َّه ُرون‪ ‬فقد قصد (النفس) الطاهرة وليس‬
‫ََ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ َ ْ ُُ ّ َ ََْ َ‬
‫‪‬ول ْو‬ ‫ج ُدوا َماء ف َت َي ّم ُموا‪ ،[[[‬وكذلك‬
‫(البدن)‪ ،‬فالبدن (يالمس) النساء‪:‬أو لامس َتم النِساء فلم ت ِ‬
‫ْ [[[‬ ‫َ َّ ْ َ َ َ ْ َ‬
‫ك ك َِتابًا ف ِي ق ِْر َطاس فَلَ َم ُسوهُ بأي ْ‬
‫(املس) فيتجه إىل املعرفة واإلدراك‬ ‫أما‬ ‫‪،‬‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ِي‬
‫د‬ ‫ٍ‬ ‫نزلنا علي‬
‫َّ َّ َ َّ َ ْ َ َ ِ َّ ُ ْ ِ َ ٌ ّ َ َّ ْ َ َّ َ َ ّ َُ‬
‫‪‬‬
‫ْ‬
‫ان تذكروا تذكروا‪ .[[[‬وكذلك‬ ‫واإلحساس والشعور‪:‬إِن الذِين اتقوا إِذا مسهم طائِف مِن الشيط ِ‬
‫ٌ َ ُْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫مس ال يأيت إالَّ‬
‫فمس القرآن يعني إدراكه والشعور به‪ .‬وهو ٌّ‬ ‫ُّ‬ ‫‪‬إِن ت ْم َس ْسك ْم َح َس َنة ت ُسؤه ْم‪.[[[‬‬
‫للمط َّهرين نفساً وليس للمتط ِّهرين بدناً فحسب‪ ،‬فعلوم القرآن املكنونة ال تتكشف للسارق والقاتل‬
‫وال َّزاين واملنتفع بها يف أغراض الدنيا‪ ،‬وقد صيغت هذه اآلية يف إطار الربط بني الكرم واملكنون‬
‫والطهر‪ .‬فالكرم يعني العطاء‪ ،‬فإذا انقطع القرآن عن العطاء مل يكن كرمياً‪ ،‬والعطاء يرتبط بتكشُّ ف‬

‫[[[‪ -‬راجع محمد أبو القاسم حاج حمد – منهج َّية القرآن املعرف َّية – دار الهادي – بريوت – ‪ – 2003‬ص ‪.97‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الواقعة‪ ،‬اآليات ‪.80-75‬‬
‫[[[‪ -‬سورة الواقعة – اآليتان ‪.76-75‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النساء ـ اآلية ‪.43‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األنعام ـ اآلية ‪.7‬‬
‫[[[‪ -‬سورة األعراف ـ اآلية ‪.201‬‬
‫[[[‪ -‬سورة آل عمران ـ اآلية ‪.120‬‬

‫‪165‬‬
‫المحور‬

‫املكنون‪ ،‬فام كان متكشِّ فاً يف السابق فهو موروث‪ ،‬وليس عطا ًء جديدا ً يضفي عىل القرآن صفة‬
‫الكرم‪ ،‬ثم أن هذا العطاء يكون لنفس طاهرة[[[‪.‬‬
‫وليس للنفوس الطاهرة مواصفات (فوق طبيع َّية) كام يفرتض البعض وإن تفاوتت درجاتها‬
‫الديني عبادة‪ ،‬وتشمل‬ ‫ِّ‬ ‫العباديَّة‪ ،‬إذ تشمل هذه النفوس أولئك الذين ال يعانون كثريا ً مراتب االرتقاء‬
‫ُ َ ْ َ ُّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َْ َ َْ َْ َ‬ ‫َ َّ‬
‫اب هو الحق‬ ‫متوسطي االرتقاء‪ ،‬وأعظمهم عند الله هو السابق‪:‬وال َذِي أوحينا إِلي َك مِن الكِت ِ‬ ‫ِّ‬
‫ُ َ ّ ً ّ َ َ ْ َ َ َ ْ َّ َّ َ َ َ َ ٌ َ ٌ ُ َّ ْ َ ْ َ ْ َ َ ّ َ ْ َ َ ْ َ ْ َ َ‬
‫مصدِقا ل ِما بين يديهِ إِن الل بِعِبادِه ِ لخبِير ب ِصير‪ ‬ثم أورثنا الكِتاب الذِين اصطفينا مِن عِبادِنا‬
‫ْ َّ َ َ ُ َ ْ َ ْ ُ ْ َ‬ ‫َ ْ ُ ُّ ْ َ ٌ َ ْ ُ ْ َ ٌ ْ َ‬
‫خيْ َ‬ ‫َّْ‬ ‫َ ْ َ‬
‫ير‪.[[[‬‬‫كب ُ‬
‫ِ‬ ‫ال‬ ‫ل‬ ‫ض‬ ‫ف‬ ‫ال‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ِك‬ ‫ل‬ ‫ذ‬ ‫ِ‬ ‫الل‬ ‫ن‬ ‫ذ‬
‫ِِ ِ‬‫إ‬ ‫ب‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ف ِمن ُه ْم ظال ٌِم ل ِنف ِ‬
‫سهِ ومِنهم مقت ِصد ومِنهم سابِق بِال‬
‫اإللهي ملفردات اللُّغة العربيَّة عىل مستوى االصطالح الدقيق‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫إذن‪ ،‬فالقرآن ممنهج باالستخدام‬
‫منزل عىل مستوى الحرف‪ ،‬ومن هنا يذهب باحثون إىل نفي شبهة تن ُّزله عىل سبعة أحرف من لغة‬
‫مختلف القبائل العرب َّية‪ .‬وغاية ما نستطيع قوله إنَّه ما كان من عنعنة وكشكشة يف لغة بعض القبائل‬
‫يتيس يف لسانهم؛ أ َّما‬
‫قرأت بها القرآن ال عالقة له بحرف التنزيل‪ ،‬وإمنا هي قراءات هم قرأوا بها مبا َّ‬
‫ما جاء من إعراب وتشكيل يف عرص التدوين من بعد اللّغة فحك ُمه إىل املنهج املحيط بالرشعة [[[‪.‬‬
‫ين قاموساً (ألسن َّياً معرف َّياً) يستند يف تحديد دالالت ألفاظ القرآن املنهج َّية‬
‫لهذا يتطلَّب العلم القرآ ُّ‬
‫يف‪ ،‬أو املرجع‪ ،‬أو الوسيط‪ ،‬فهناك ثالثة أمور يف عمليَّة توصيل‬ ‫واملعرفيَّة إىل نظريَّة (العائد) املعر ِّ‬
‫يل املشكَّل عن‬ ‫دالالت املفردة‪ .‬فهناك الكلمة‪ ،‬وهناك األمر الذي تشري إليه‪ ،‬وهناك التص ُّور العق ُّ‬
‫التقليدي لفقه اللُّغة واملعاين‪ .‬فخصائص اللُّغة غالباً ما‬
‫ِّ‬ ‫هذا األمر يف الذهن‪ ،‬وذلك خالفا للتص ُّور‬
‫فكل أ َّمة تتكلَّم كام‬
‫الذهني للتص ُّور‪ُّ ،‬‬
‫ِّ‬ ‫تأيت مرتبطة بخصائص األ َّمة التي تتكلَّمها من زاوية الوسيط‬
‫فكل أ َّمة تتكلَّم كام تفكِّر‪ ،‬ونحن‬ ‫الذهني للتص ُّور‪ُّ ،‬‬
‫ُّ‬ ‫تفكِّر‪ ،‬ونحن نعلم بأ َّن لغة القرآن هي الوسيط‬
‫نعلم بأ َّن لغة القرآن لغة عربيَّة‪ ،‬وقد ورد املعنى بذلك كام يف اآليات الكرمية (لسانا عربيَّاً – حكامً‬
‫عرب َّياً)‪ ،‬ما يعني أ َّن اللُّغة ليست مج َّرد كلامت دالَّة عىل مس َّمى من دون وسيط مشكَّل للتص ُّور‪.‬‬
‫السامت املميِّزة للمنظومة اللُّغويَّة العرفانيَّة الحضور البيِّ للمفارقة بني اللَّفظ املألوف‪،‬‬ ‫من ِّ‬
‫والقصد الذي يرمي العارف إليه‪ .‬وهذا يحيلنا إىل الطبيعة املفارقة التي تنفرد بها الخارطة اللُّغويَّة‬
‫ظاهري‬
‫ٌّ‬ ‫ين عىل وجهني هام‪ :‬وج ٌه‬ ‫للتجربة الصوف َّية‪ .‬عند هذه النقطة املحوريَّة يبدو املصطلح العرفا ُّ‬
‫الخاصة‬‫َّ‬ ‫باطني ال يدركه سوى‬
‫ٌّ‬ ‫يل‪ ،‬ووج ٌه‬
‫النص أو النظر العق ِّ‬‫ِّ‬ ‫سطحي يدركه عا َّمة الناس عن طريق‬
‫ٌّ‬
‫الذوقي اعتامدا ً عىل العرفان‪ ،‬والقلب‪ ،‬والحدس‪ .‬وينتج من هذا أ َّن‬ ‫ِّ‬ ‫من علامء الباطن والسلوك‬
‫للمصطلح الصويف داللتني‪ :‬داللة حرف َّية حقيق َّية لغويَّة ظاهريَّة‪ ،‬وداللة مجازيَّة إيحائ َّية رمزيَّة قامئة‬
‫[[[‪ -‬أبو القاسم حاج حمد – مصدر سبق ذكره‪ -‬ص ‪.101‬‬
‫[[[‪ -‬سورة فاطر – اآليتان ‪.32-31‬‬
‫[[[‪ -‬منهج َّية القرآن املعرف َّية‪ -‬املصدر نفسه‪ -‬ص ‪.104‬‬

‫‪166‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫عىل االنزياح والخرق‪ ،‬وتستوجب استخدام التأويل لرشح املعاين وتفكيكها[[[‪ .‬عالوة عىل ذلك‪،‬‬
‫يف‪ ،‬يف بوحه‪ ،‬وكشفه‪ ،‬وتجلِّياته‪ ،‬وشطحاته‪ ،‬وكراماته‪ ،‬وكتاباته الوجدان َّية‪ ،‬مجموعة‬ ‫يستخدم الصو ُّ‬
‫من الخطابات التعبرييَّة منها‪ :‬الكتابة الشعريَّة‪ ،‬والكتابة النرثيَّة‪ ،‬والكتابة املقطعيَّة الشذريَّة‪ ،‬والكتابة‬
‫الرسديَّة املناقبيَّة‪ ،‬والكتابة الفلسفيَّة‪ ،‬وقد يختار كذلك ضمن وسائل الكتابة إ َّما الكتابة الدينيَّة‪ ،‬أو‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الكتابة الجدل َّية‪ .‬كام ين ِّوع أساليبه يف التعبري والترصيح والكشف‪ ،‬وغالباً‪ ،‬ما يختار أسلوب املجاز‪،‬‬
‫والتلميح‪ ،‬واإلضامر‪ ،‬واإلبهام‪ ،‬واإلغراب‪ ،‬والغموض‪ ،‬واإليجاز‪ ،‬واإلشارات‪ ،‬بدل توظيف أسلوب‬
‫يف صعوبة كبرية يف إيصال الرسالة إىل املتلقِّي‬ ‫الوضوح‪ ،‬والبيان‪ ،‬واإلظهار‪ .‬لذلك‪ ،‬يجد الصو ُّ‬
‫البسيط‪ ،‬ويفشل يف عمليَّة تبليغ التجربة العرفانيَّة الذوقيَّة إىل عموم الناس؛ بسبب عجز اللُّغة‬
‫التواصل َّية التي متتاز باملفارقة التعبرييَّة الناتجة من قلَّة األلفاظ‪ ،‬وكرثة املعاين‪ .‬لذلك‪ ،‬يلتجئ‪،‬‬
‫الشاعري‪ ،‬واستخدام اللُّغة‬
‫ِّ‬ ‫ُّغوي‪ ،‬والخرق‬
‫يف كتابته التعبرييَّة‪ ،‬إىل املجاز املوحي‪ ،‬واالنزياح الل ِّ‬
‫التوسع‬
‫ُّ‬ ‫ُّغوي‪ ،‬وتوظيف طاقة التوليد‪ ،‬واالستعانة بتقنيَّة‬ ‫الرمزيَّة املج َّردة‪ ،‬واإلكثار من االشتقاق الل ِّ‬
‫رصف[[[‪.‬‬‫والتج ُّوز والت ُّ‬
‫السؤال الذي يُستثار هنا هو التايل‪ :‬هل املفارقة متَّصلة بأصل نظريَّة املعرفة العرفانيَّة وقيامها‬
‫عىل ثنائيَّات ض ِّديَّة‪ ،‬أم أ َّن العرفاء يصطنعون هذه اللُّغة وقاية ألنفسهم ممَّ يُفهم أنَّه نقيض مذهب‬
‫الحكَّام يف زمانهم؟‬
‫مث َّة من يرى أ َّن كثريا ً من كلامت العرفاء التي ت ُعترب ذات معانٍ فلسفيَّة أو كالميَّة عميقة‪ ،‬قد تكون‬
‫علمي‪ ،‬ولكنها يف الحقيقة‬ ‫ٍّ‬ ‫قيلت أساساً كتالعب باأللفاظ‪ .‬أي رغم أ َّن هذه اللُّغة قد تظهر يف ظاهر‬
‫ليست سوى إنشاءات وجدان َّية يحاول العارف من خالل مفارقاتها توفري األرض َّية إللقاء املعنى‬
‫دب الحرية يف قواه العقل َّية‪.‬‬
‫ين املطلوب عن طريق توجيه رضبة للسامع إليقاظه‪ ،‬أو ِّ‬ ‫العرفا ِّ‬
‫وحدة اللُّغة واملعنى عند ابن عريب‪:‬‬
‫إ َّن املعضلة كام يطرحها ابن عريب‪ ،‬هي معضلة الوجود املعرفة‪ ،‬وهي أكرب من أن تتَّسع لها‬
‫اللُّغة العاديَّة االصطالح َّية املتدا َولة كام يق ِّرر الباحث – ولذلك ال ب َّد من استخدام لغة رمزيَّة جديدة‬
‫تتغلَّب عليها وتطلقُها من إطار سجن اللُّغة العاديَّة الض ِّيق‪ .‬ولكن هذه اللُّغة الجديدة ينبغي أن تتَّسم‬
‫ببعض الغموض‪ ،‬وهذا عائد يف رأي ابن عريب نفسه “إىل ما تعطيه األلفاظ من الق َّوة يف أصل‬
‫وضعها‪ ،‬ال ما هو عليه األمر يف نفسه عند أهل األذواق”‪ .‬وهذا يعني أ َّن األصل‪ ،‬أصل الحقيقة‬
‫املعرف َّية‪ ،‬هو الذي يق ِّرر اللُّغة املناسبة له واملطابقة لسريورته الباطن َّية‪ .‬إذ الحقيقة هنا مجموعة‬

‫[[[‪ -‬جميل حمداوي – الرؤية املجازيَّة وعالقتها بالبيان والربهان والعرفان – جامعة الرباط – املغرب – دراسة غري منشورة‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫المحور‬

‫مسترتة إالَّ ع َّمن من َّ الله عليهم بالكشاف‪ .‬وهنا تكمن تأويل َّية ابن عريب للقرآن بوصفه لغة إله َّية‬
‫تتَّسع رحابتها للوجود كلِّه‪ ،‬ولإلنسان كلِّه مبا هو علَّة هذا الوجود‪.‬‬
‫من الواضح أ َّن املوازاة بني القرآن والوجود واإلنسان تؤ ِّدي‪ ،‬بحسب خطوط التأويل عند ابن‬
‫ين‪ ،‬من حدود املعطيات اللُّغويَّة املبارشة‪ .‬وبهذا‬ ‫للنص القرآ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫عريب‪ ،‬إىل تح ُّرر العارف يف فهمه‬
‫ظل هذا الفهم‪ ،‬ال تعود العالقة‬ ‫وجودي أشمل‪ .‬ويف ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫التقرير ميكن له أن يرى إىل اآليات يف ضو ٍء‬
‫حد كام بيَّنا آنفاً‪ .‬إ َّن العارف يقرأ يف القرآن الوجود‬ ‫والنص عالقة انفصال‪ ،‬بل عالقة تو ُّ‬
‫ِّ‬ ‫بني العارف‬
‫بأرسه‪ ،‬كام يقرأ فيه نفسه ومعارفه‪ ،‬إذ الوجود كلامت الله‪ ،‬والعارف ‪ -‬أو اإلنسان الكامل ‪ -‬هو كلمة‬
‫الله الجامعة‪.‬‬
‫كل لسان”‬
‫العارفون بحسب ابن عريب يف “الفتوحات” يدركون حقيقة أ َّن الله هو املتكلِّم عىل ِّ‬
‫السامع من‬
‫إلهي‪ .‬وما بقيت الصيغة إالَّ يف صورة َّ‬
‫وكل قول علم ٍّ‬ ‫فكل قائل عندهم فليس إالَّ الله‪ُّ ،‬‬ ‫ّ‬
‫ذلك‪ ،‬فإ َّن ث َّم قول امتثال رشعاً وقول ابتالء‪ ،‬فام بقي إالَّ الفهم الذي به يقع التفاضل”‪.‬‬
‫كل كالم يف الوجود كالماً لله‪ .‬وهذا الكالم‬ ‫العارف إذا ً‪ ،‬يرى الوجود كلَّه كلامت الله‪ ،‬ويرى َّ‬
‫الوجودي ينقسم إىل ما يجب امتثاله رشعاً وهو كالم الله املبارش باألمر والنهي‪ ،‬وما يع ُّد ابتالء وهو‬
‫ُّ‬
‫رشا ً‪ ،‬والفهم هو الذي‬ ‫كل متكلِّم يف الوجود‪ .‬هذا الكالم االبتالء قد يكون خريا ً وقد يكون َّ‬ ‫كالم ِّ‬
‫يف للكالم – أيَّاً يكن الناطق به – يعتمد عىل الفهم‪.‬‬ ‫يف ِّرق بني هذين املستويني‪ .‬إ َّن استامع الصو ِّ‬
‫واالستامع والفهم مصطلحان يدالَّن عىل معنى واحد‪ ،‬فيستطيع التفرقة بني الكالم الذي يجب‬
‫امتثاله‪ ،‬وهو الكالم املبارش‪ ،‬وبني الكالم االبتالء وهو كالم الله من خالل املتكلِّمني‪ .‬الكالم الذي‬
‫امتثاله هو كالم الله عىل لسان املرسل بالوحي امل ُنزل‪ ،‬أ َّما كالم االبتالء فهو كالم الله عىل ألسنة‬
‫يف قادر عىل سامع هذا الكالم كلِّه‪ ،‬وقادر يف الوقت نفسه عىل‬ ‫البرش وغريهم من الكائنات‪ ،‬والصو ُّ‬
‫أن مي ِّيز بني مستويات الكالم ومراتبه[[[‪.‬‬
‫النظري قد استخدموا هذه اللُّغة بغية إحداث منعطف‬ ‫ِّ‬ ‫مع أ َّن ابن عريب وسواه من ر َّواد العرفان‬
‫أبستيمولوجي يف البحوث اإلله َّية‪ ،‬إالَّ أنَّها شكَّلت أساساً يف تظهري نظريَّته املفارقة يف وحدة‬
‫ٍّ‬
‫الوجود‪ ،‬ولذلك وجدناه حريصاً عىل استخدام األضداد يف تفسري املتون املق َّدسة للوصول بها إىل‬
‫اإللهي‪ ،‬فهذا‬
‫ِّ‬ ‫غاية الفهم‪ .‬أ َّما كيف تظهر املفارقة بني الكلمة ومقصدها يف تأويل ابن عريب للكالم‬
‫ما نلقاه منطوياً يف مجمل أعامله‪ ،‬وخصوصاً تلك التي تض َّمنت رؤيته التأويليَّة للقرآن‪ .‬ففي فكره‬
‫الفلسفي من جهة ثانية‪ .‬وقد ترت َّب‬
‫ِّ‬ ‫نجد ترابطاً وثيقاً بني ظاهر اآليات وباطنها من جهة‪ ،‬وبني السؤال‬
‫عىل هذا الربط تح ُّول يف تعريف الظاهر والباطن؟ فرغم أن الظواهر وكلامت القرآن لها تعيُّ وح ٌّد‬

‫[[[‪ -‬نرص حامد أبو زيد‪ -‬فلسفة التأويل – مصدر سبق ذكره – ص ‪.279‬‬

‫‪168‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫املتعي له قدرة حكائ َّية عن جميع بطون الوجود ووجوهه‪ ،‬وهو يحوي‬ ‫ِّ‬ ‫خاص‪ ،‬غري أ َّن هذا الظاهر‬ ‫ٌّ‬
‫وكل إنسان تنشأ بينه وبني هذه الظواهر عالقة فهم وتفسري‪ ،‬تنكشف‬ ‫كل هذه الوجوه‪ُّ .‬‬ ‫يف باطنه َّ‬
‫السعة‪ ،‬وجه من وجوه الوجود[[[‪ .‬وهكذا يتبيَّ‬ ‫له بحسب سعته الوجوديَّة‪ ،‬ومبا يتناسب مع هذه ِّ‬
‫لنا أ َّن املعنى الذي تشتمل عليه كلامت القرآن أوسع مدى ممَّ يبدو لنا ألول وهلة‪ ،‬ويف حاالت‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ين يتح َّول املعنى الظاهر إىل روح للمعنى له سلسلة مرتتِّبة طوالً[[[‪ .‬فعندما يلحظ‬ ‫التجل العرفا ِّ‬
‫ِّ‬
‫ي للمعنى‪ ،‬يستطيع إدراك بعض املراتب املا ِّديَّة واملحسوسة للمعنى‪،‬‬ ‫البرشي البُعد املا ِّد َّ‬
‫ُّ‬ ‫الذهن‬
‫وإذا حارص نفسه بهذا اإلطار فإنَّه سوف يُح َر ُم من إدراك ما هو أرقى وأعىل من املعاين واملراتب‬
‫املا ِّديَّة‪ ،‬ورمبا أنكر وجود غريها‪ .‬فعندما ندرك مرتبة من مراتب معاين القرآن الكريم وهي مرتبة‬
‫الظاهر‪ ،‬ال ينبغي أن نقول هذا املعنى هو املراد الوحيد‪ ،‬وسائر املعاين مخالفة للظاهر وغري مرادة‬
‫باطل؛ بل علينا فتح باب االحتامل ألن يكون وراء هذا الظاهر مراتب أخرى من‬ ‫ٌ‬ ‫والحكم بإرادتها‬
‫املعنى مل نستطع إدراكها مبا أوتينا من وسائل إدراك وقدرة عىل الفهم ‪ .‬ذلك يعني أ َّن مقتىض‬
‫[[[‬

‫يف هو العقل الواقع‬


‫يف‪ .‬وامل ُراد من العقل العر ِّ‬
‫فهم مقاصد اآليات النفاذ إىل ما وراء طور العقل العر ِّ‬
‫الحسيَّة والخياليَّة والوهميَّة‪ .‬وهذا‬
‫ِّ‬ ‫يف مرتبة الناسوت‪ ،‬وهو الذي ال يقدر عىل اإلدراك خارج القيود‬
‫الطبيعي‬
‫ِّ‬ ‫العقل املحارص بهذه األُطر املشار إليها يأيت إىل القرآن ليحاول فهمه من خاللها‪ ،‬ومن‬
‫أن يكون حاصل فهمه منسجامً مع األُطر التي يرسح ضمنها‪ .‬يف حني أ َّن مشكلته األساس هي أنَّه‬
‫يحرص فهم القرآن ومعناه بهذه األُطر‪ .‬وال يقبل العرفاء محارصة القرآن بقواعد اللُّغة‪ ،‬أو حرص فهمه‬
‫بحسب مخرجات العلم ومعطيات العقل‪ .‬فعند العارف أ َّن جوهر فهم القرآن وخمريته األساس‬
‫تكمن يف فهم الرشيعة‪ ،‬ولو متَّت قراءته من خارج دائرة اإلميان والعمل والتقوى فلن يبقى مجال‬
‫لتلقِّيه‪ .‬ويرى العرفاء أ َّن القواعد العرفيَّة لفهم القرآن إذا كانت منجزات عقليَّة برشيَّة‪ ،‬وإذا كان العقل‬
‫البرشي محدودا ً ومحارصا ً‪ ،‬فال يجوز محارصة القرآن بها وتقييدها بسالسلها[[[‪.‬‬ ‫ُّ‬
‫نقد العقل العريف عند ابن عريب‬
‫من أهم طرق التخصيص االصطالحي التي سلكها الصوفية استبدال مصطلح بآخر‪ .‬ومثل ذلك‬
‫ح ْي العلم والعقل‪ .‬فقد تردد يف القرآن كثريا ً ان العلم هو العلم بالله‪،‬‬
‫ما حصل بخصوص مصطل َ‬
‫حصل‬
‫وقد استعملته الصوفية بهذا املعنى إال أن مدلوله ات َّسع فأصبح يطلق عىل كل من طالع او َّ‬
‫معلومات معينة‪ ،‬فانحرص مفهوم العلم عند أكرث هؤالء يف تلك املعلومات‪ ،‬مام حدا بالصوفية اىل‬
‫أن يستبدلوا به مصطلح “املعرفة” و”العارف” ألداء املعنى األول[[[‪ .‬ومثلام أخذوا برصف العلم‬

‫[[[‪ -‬ربيع‪ ،‬مسعود حاجي‪ -‬التأويل عند ابن عريب‪ -‬الهرمنيوطيقا‪( -‬دراسة مقارنة) فصل َّية‪ :‬املنهاج‪ -‬العدد ‪ ،88-87‬ربيع ‪.2018‬‬
‫مؤسسة التحقيقات الثقاف َّية – طهران – ص ‪.92‬‬‫[[[‪ -‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين ‪ -‬مفاتيح الغيب‪ -‬تحقيق‪ :‬محمد خواجوي‪َّ -‬‬
‫[[[‪ -‬ربيع‪ ،‬مسعود حاجي‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ربيع‪ ،‬مسعود حاجي‪ -‬التأويل عند ابن عريب – مصدر سابق‪.‬‬
‫مؤسسة الرحاب الحديثة – بريوت ‪ - 2010‬ص‪.277‬‬ ‫[[[‪ -‬محمد املصطفى عزام – الخطاب الصويف بني التأ ُّول والتأويل – َّ‬

‫‪169‬‬
‫المحور‬

‫عام افرتضه التعريف الشائع‪ ،‬كذلك فعلوا حيال تعريف العقل‪ .‬وأغلب الصوفية مل يستعملوا لفظ‬
‫العقل مصطلحاً خاصاً بهم إال يف بدايات التدوين‪ ،‬ثم يف مراحل متفرقة؛ وما نأيهم عنه (شأن بعض‬
‫االصطالحات اإلسالمية األخرى) إال بسبب تقليص املتكلمني والفالسفة والفقهاء ملدلول هذا‬
‫املصطلح؛ وإذا ما كان بعض الصوفية قد استعملوه‪ ،‬فبحسب مفهومهم الخاص منه وبحسب ما‬
‫يتيحه اشرتاكه اللفظي بني الفئات التي استعملته‪ ،‬كل حسب إطالقها ومرماها من ذلك االستعامل‪،‬‬
‫وال أدل عىل هذا من اختالف املتكلمني عن الفالسفة يف مفهوم العقل‪ .‬وقد كان أكرث استعامل‬
‫الصوفية ملادة “عقل” مصدرا ً أو وصفاً‪ ،‬عىل أن العقل وظيفة‪ ،‬فنجد يف بعض أقوالهم ما يُظن‬
‫منه أنهم جعلوه ذاتاً مثل قول بعضهم‪“ :‬العقل مع الروح يدعوان اىل اآلخرة‪ ”...‬أو قولهم “العقل‬
‫والهوى متنازعان‪ ...‬والنفس واقفة بينهام فأيهام ظفر كانت يف ح ِّيزه”[[[‪.‬‬
‫وقد شملت الداللة االصطالحيَّة للعقل عند الصوفيَّة يف القرن الثالث الهجري كال املفهومني‪:‬‬
‫ُلقي (املفهوم العام واملفهوم الفقهي)‪ ،‬وهام املفهومان‬ ‫النظري والعلم الخ ِّ‬
‫ِّ‬ ‫املتعلِّق منهام بالعلم‬
‫يل وأضفى عليهام اإلسالم املقاصد الدين َّية‬ ‫اللَّذان كانا معروفني يف البيئة العرب َّية منذ العرص الجاه ِّ‬
‫والغايات األخرويَّة‪ ،‬فغدا مفهوم العقل ما وافق الرشع وهذَّب الطبع؛ ومن هنا أعطى الصوفيَّة‪،‬‬
‫كل الحيِّز‬ ‫الذين استعملوا املصطلح يف هذه الفرتة‪ ،‬للعقل أوسع مدلول عرفه يف تاريخه إذ شمل َّ‬
‫املحاسبي (ت ‪243‬هـ) مثالً يبتدئ‬
‫ِّ‬ ‫والخلقي املمكن لدى اإلنسان؛ فنجد أنَّه عند الحارث‬ ‫ِّ‬ ‫يف‬
‫املعر ِّ‬
‫يف له (العقل عن الله)‪،‬‬ ‫الروحي املعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫مدلوله من فطرة اإلنسان وميت ُّد اىل آخر درجات املرقى‬
‫عندما يصري بصرية تفهم عن الله تعاىل‪ ،‬مرورا ً باملفاهيم النظريَّة والرشعيَّة والعمليَّة‪.‬‬
‫يف) نعرضها امتدادا ً من املحاسبي وبعض الصوف َّية‬
‫الوظيفي (الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫هذه املراحل للعقل‬
‫اآلخرين‪ ،‬بعد ترتيبها يف أربع درجات هي‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬االستعداد‪ ،‬وهو عقل الغريزة أو الفطرة‪.‬‬

‫الثانية‪ :‬التفكري‪ ،‬وهو الفهم الذي تقوم به ح َّ‬


‫جة التكليف والتجربة الحياتيَّة‪.‬‬
‫الثالثة‪ :‬التخلُّق‪ ،‬ويجملونه يف مخالفة الهوى‪.‬‬
‫الرابعة‪ :‬التحقُّق‪ ،‬وهو العقل عن الله‪ ،‬بأن يصري العقل ل َّباً أو بصرية تعرف الحق‪.‬‬
‫الفكري فحسب‪ ،‬ويرصد اقرتافه لثالثة عيوب‬ ‫ِّ‬ ‫جه ابن عريب نقده العنيف لصورة العقل مبعناه‬ ‫يو ِّ‬
‫أساس َّية هي‪ :‬عيب التقليد‪ ،‬وعيب التقييد‪ ،‬ث َّم عيب املوضوع َّية والحياد[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬ص ‪143‬؛ وكذلك‪ :‬طبقات الصوف َّية‪ ،‬أبو عبد الرحمن السلمي‪ ،‬تحقيق نور الدين رشيبة‪ ،‬مكتبة الخانجي‪ ،‬ط‬
‫‪ 2‬القاهرة‪1389 ،‬هـ‪1969/‬م‪ ،‬ص ‪.235‬‬
‫نقال عن موقع “معابر” اإللكرتوين‪www.maaber.or .‬‬ ‫[[[‪ -‬محمد املصباحي – ابن عريب يف مرآة ما بعد الحداثة‪ :‬مقام “نعم” و”ال” – ً‬

‫‪170‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫عيب التقليد‪:‬‬
‫إذا نظرنا إىل الكيف َّية التي يحصل بها العقل يف منزلته الظواهريَّة عىل معطياته املعرف َّية‪ ،‬نجده ال‬
‫يستطيع أن يدرك بنفسه ال الظواهر الخارجيَّة وال املعاين الغيبيَّة‪ ،‬وإنَّ ا هو يقوم بذلك بالواسطة‪،‬‬
‫عن طريق االستدالل والح ِّد‪ ،‬سواء عىل صعيد الطبيعة أم عىل صعيد ما بعد الطبيعة‪ .‬فبالنسبة إىل‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ظواهر الطبيعة‪ ،‬كاأللوان مثالً‪ ،‬أو أرسار الذات واألسامء اإلله َّية‪ ،‬يبدو العقل عاجزا ً أن يقف عليها‬
‫بنفسه ومبارشة[[[‪ .‬عن افتقار العقل إزاء غريه يقول ابن عريب‪« :‬إ َّن العقل ما عنده يشء من حيث‬
‫نفسه‪ ،‬وإ َّن الذي يكتسبه من العلوم إمنا هو من كونه عنده صفة القبول»‪ .‬ويضيف‪« :‬وقد علم الله أنَّه‬
‫رصف يف املوجودات والتحكُّم فيها مبا يضبطه الخيال من الذي أعطته‬ ‫جعل يف القوة املفكِّرة الت ُّ‬
‫الحس َّية‪ ،‬ومن الذي أعطته الق َّوة املص ِّورة‪ »...‬كام يقول‪« :‬فإ َّن العقل ليس له مجال مبيدان‬
‫ِّ‬ ‫الق َّوة‬
‫املشاهد والغيوب‪ .‬فكم للفكر من خطأ وعجز‪ ،‬وكم للعني من نظر مصيب‪ .‬ولوال العني مل يظهر‬
‫ّْ‬
‫الحواس‪ ...« :‬وكذلك القوة‬ ‫لعقل دليل واضح عند اللبيب»‪ .‬فاأللوان إنَّ ا يدركها العقل عن طريق‬
‫ريا إليها يف ما توصله إليه من املبرصات‪ ،‬فال يعرف الخرضة وال الصفرة‬ ‫البرصيَّة جعل الله العقل فق ً‬
‫رص عىل العقل بها؛ وهكذا‬
‫وال الزرقة وال البياض وال السواد وال ما بينهام من األلوان ما مل ينعم الب ُ‬
‫للحواس والخيال يقول‪« :‬وإدراك العقل عىل‬
‫ِّ‬ ‫ّْ‬
‫بالحواس»[[[‪ .‬عن تبع َّية العقل‬ ‫جميع القوى املعروفة‬
‫كالحواس ال يخطئ؛ وإدراك غري ذايتٍّ‪ ،‬وهو ما يدركه باآللة التي هي‬ ‫ِّ‬ ‫قسمني‪ :‬إدراك ذايتٌّ‪ ،‬هو فيه‬
‫الحس فيام يعطيه‪ ،‬والفكر ينظر يف الخيال‪ ،‬فيجد‬ ‫َّ‬ ‫ّْ‬
‫الحس‪ .‬فالخيال يقلِّد‬ ‫الفكر‪ ،‬وباآللة التي هي‬
‫فيحب أن ينشئ منها صورة يحفظها العقل‪ ،‬فينسب بعض املفردات إىل بعض‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫األمور مفردات‪،‬‬
‫فقد يخطئ يف نسبة األمر عىل ما هو عليه‪ ،‬وقد يصيب؛ فيحكم العقل عىل ذلك الح ِّد‪ ،‬فيخطئ‬
‫ويصيب‪ .‬فـالعقل مقلِّد‪ ،‬ولهذا ات َّصف بالخطأ»‪ .‬أ َّما الصفات واألسامء والذات اإللهيَّة فال ميكن‬
‫أن يدركها اإلنسان إالَّ بالقلب والبصرية‪ .‬هكذا يبدو العقل غري مستقل بنفسه بالنسبة إىل موارده‬
‫الحواس والخيال أم إزاء القلب‪ .‬من هنا جاء افتقا ُره وتبع َّيته لغريه‪« :‬يا أخي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫املعرف َّية‪ ،‬سواء إزاء‬
‫ما أفقر العقل حيث ال يعرف شيئاً مام ذكرناه إالَّ بوساطة هذه القوى‪ ،‬وفيها من العلل ما فيها»[[[‪.‬‬
‫يستخلص ابن عريب أنَّه إذا كان ال مناص من التقليد‪ ،‬فلنقلِّد الخرب؛ فهو أوىل من تقليد العقل‪،‬‬
‫السيام عندما يتعلَّق األمر مبعرفة الذات اإلله َّية التي يتكفَّل الله نفسه باإلخبار عنها‪ .‬وعن عيب‬
‫التقليد يقول‪« :‬فقد علمنا ما عنده [العقل] يشء من حيث نفسه‪ ،‬وأن الذي يكتسبه من العلوم إمنا‬
‫هو من كونه عنده صفة القبول‪ .‬فإذا كان بهذه املثابة‪ ،‬فقبوله من ربِّه ملا يخرب به عن نفسه تعاىل‬

‫[[[‪( -‬الفتوحات‪.)289 :1 ،‬‬


‫[[[‪( -‬الفتوحات‪ ،‬املصدر نفسه‪( .)289 :1 -‬املصدر نفسه ‪.)628 :2‬‬
‫[[[‪( -‬الفتوحات‪ )1 ،‬املصدر نفسه‪ ،‬ج ‪.289 :1‬‬

‫‪171‬‬
‫المحور‬

‫لحواسه؛ ومع تقليده‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫أ ْوىل من قبوله من فكره – وقد عرف أن فكره مقلِّد لخياله‪ ،‬وأن خياله مقلِّد‬
‫قوي عىل إمساك ما عنده ما مل تساعده عىل ذلك القوة الحافظة واملدركة‪ ...‬فتقليد الحق‬ ‫فهو غري ٍّ‬
‫عرفت‬
‫َ‬ ‫ىل»‪ .‬ويضيف‪ ...« :‬فيعرف األمور كلَّها بالله‪ ،‬ويعرف الله بالله؛ إذ ال ب َّد من التقليد‪ .‬وإذا‬
‫أ ْو َ‬
‫شك وال ريب»‪« .‬فقلِّد‬ ‫الله بالله‪ ،‬واألمور كلَّها بالله‪ ،‬مل يدخل عليك يف ذلك جهل وال شبهة وال َّ‬
‫ربك؛ إذ ال ب َّد من التقليد‪ ،‬وال تقلِّد عقلك يف تأويله‪ ،‬وارصف علمه إىل قائله‪ ،‬ثم اعمل حتى تنزل‬
‫فحينئذ تكون عارفًا‪ ،‬وتلك املعرفة املطلوبة والعلم الصحيح»[[[‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يف العلم كام هو‪.‬‬

‫عيب احلصر والتقيي�د‪:‬‬


‫يتجل يف نظر الشيخ األكرب يف أرقى وسائله للبحث عن الحقيقة والتعبري عنها‪ ،‬وهام الح ُّد‬ ‫َّ‬
‫والربهان‪ .‬ذلك أنَّه مل َّا كانت نظريَّة الح ِّد تنطلق من اعتبار أنه ال يوجد لليشء الواحد إالًّ ح ٌّد واحد‪،‬‬
‫بحكم حيازته ملاه َّية واحدة فقط‪ ،‬وأ َّن هذه املاه َّية محصورة يف مق ِّو َمني اثنني فقط‪ ،‬هام جنسها‬
‫القريب وفصلها الذي مي ِّيزها داخل هذا الجنس عن بق َّية املاه َّيات‪ ،‬فإ َّن ح َّد ذات اليشء معناه‪ ،‬يف‬
‫تتحل بها الذات‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫كل الصفات األخرى التي‬ ‫نظر ابن عريب‪ ،‬إعطاء صورة فقرية عنها‪ ،‬ألنَّه يستبعد َّ‬
‫ما خال الصفتني اللتني يُعتَقَد أنهام أساسيَّتان‪ .‬ويظهر عيب التقييد بكيفيَّة سافرة وغري مقبولة عندما‬
‫يتطاول العقل عىل الذات اإلله َّية التي هي‪ ،‬بالتعريف‪ ،‬غري قابلة للح ِّد والتقييد‪ ،‬ولو كان تقييد‬
‫إطالق[[[‪ .‬لكن ليس معنى هذا أن ابن عريب يتخذ موقفًا ال أدريَّاً من الذات اإلله َّية؛ بل يقرتح ً‬
‫بديال‬
‫كل يشء‪،‬‬ ‫للوقوف عىل غناها وقابليتها للتحلِّ بصور المتناهية‪ ،‬هو طريق القلب‪ ،‬ألنه مكان يَ َس ُع َّ‬
‫بكل الصور يف تقلُّبها وتواردها املستمر عىل الذات[[[‪.‬‬ ‫وألنه ال يقيِّد وال يحرص‪ ،‬بل يحيط ِّ‬

‫عيب العقل الربهاين‪:‬‬


‫يتمثَّل بنظر ابن عريب يف ا ِّدعائه القدرة عىل الوصول إىل معرفة موضوع َّية ومحايدة تصمد أمام‬
‫حن املعتقدات‪ .‬بل يذهب الشيخ األكرب إىل القول‬ ‫تح ُّوالت التاريخ‪ ،‬وتتعاىل عن رصاع اآلراء وتَطا ُ‬
‫وتاريخي معيَّ ؛ وال ميكن القول أبدا ً بحقيقة‬
‫ٍّ‬ ‫يف‬
‫كل معرفة مرشوطة بذات ما‪ ،‬وبوضع معر ٍّ‬ ‫بأ َّن َّ‬
‫واملوضوعي[[[‪ .‬وممَّ ُّ‬
‫يدل عىل ذلك أ َّن املبادئ األوىل التي‬ ‫ِّ‬ ‫خارجة عن ُمدرِكها وفاعلها الذايتِّ‬
‫يستند إليها العقل يف عمل َّياته املعرف َّية‪ ،‬كمبدأ الذات َّية وعدم التناقض والثالث املرفوع والسبب َّية إلخ‪،‬‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.290‬‬


‫كل صورة»‪ ( .‬املصد نفسه‪:3 ،‬‬ ‫ل يف ِّ‬
‫ِّ‬ ‫التج‬ ‫له‬ ‫بل‬ ‫تقييد‪،‬‬ ‫والعقل‬ ‫التقييد‪،‬‬ ‫يقبل‬ ‫ال‬ ‫الله‬ ‫«فإن‬ ‫ويقول‪:‬‬ ‫[[[‪ -‬انظر‪ :‬الفتوحات‪661 :2 ،‬؛ ‪162 :3‬؛‬
‫‪)515‬؛ ويذهب ابن عريب إىل أنه حتى وصف الله باإلطالق تقييد له! انظر مثالً‪ :‬املصدر نفسه‪219 :3 ،‬؛ ‪332 :4‬؛ غري أنَّه يقبل أحياناً وصف‬
‫الله باإلطالق يف التقييد؛ انظر‪ :‬املصدر نفسه‪.454 :3 ،‬‬
‫[[[‪ -‬املصباحي – املصدر نفسه‪.‬‬
‫مثال‪ :‬املصدر نفسه‪.319 :2 ،‬‬ ‫[[[‪ -‬عن اختالف املعقول باختالف النسبة إىل املنسوب إليه‪ ،‬انظر ً‬

‫‪172‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫ولعل اختالف أهل الفكر والنظر يف ما بينهم خري دليل عىل أ َّن‬
‫ليست يف مأمن من الخطأ والضالل‪َّ .‬‬
‫عدم صحة دعوى موضوع َّية وثبات املعرفة العقل َّية[[[‪ ،‬يف مقابل أهل الكشف والوجود من األنبياء‬
‫كل واحد‬ ‫أي أثر للخالف والرصاع يف ما بينهم؛ بل ُّ‬‫واألولياء‪ ،‬الذين ال نجد – حسب ابن عريب – َّ‬
‫منهم يؤيِّد كالم السابقني عليه‪ .‬وبهذه الجهة يكون شيخ مرسية أقرب إىل اإلميان بأ َّن طريق االتفاق‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الحق من الخالف والرصاع واالبتداع[[[‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫ل وأسلَم للوصول إىل العرفان‬ ‫والتسليم والتقليد أ ْو َ‬
‫وهنا يطالعنا السؤال كالتايل‪ :‬ملاذا ال يقنع العقل باملفارقات والتناقضات‪ ،‬ومنها تلك املتعلِّقة‬
‫والنص املق َّدس؟‬
‫ِّ‬ ‫املوضوعي‬
‫ِّ‬ ‫الخارجي إذا ما كان من املسلَّامت املفرتض صحتها‪ ،‬كالواقع‬
‫ِّ‬ ‫باملوضوع‬
‫الجواب يق ِّدمه البعض عىل ذلك يرى أ َّن العقل ال يحتمل إطالقاً أن تكون هناك مفارقة يف‬
‫املوضوع الثابت التصديق‪ ،‬ال سيام تلك املتعلِّقة بالتناقض‪ .‬فهو يرى أ َّن نفي التناقض من الحقائق‬
‫يف يحمل املفارقة يع ُّد سياقاً كاذباً‪ ،‬أو أنَّه يتض َّمن‬
‫يع ُّد من الرضورات (العقليَّة)‪ ،‬وأي سياق معر ٍّ‬
‫النص من جهة‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الخارجي – بني‬
‫ِّ‬ ‫املضمون الكاذب‪ .‬وهنا ال ب َّد من إبراز الفارق – يف املوضوع‬
‫النص يتض َّمن تكويناً معرفيَّاً فإ َّن حمله للمفارقة تفيض‬
‫َّ‬ ‫والواقع والوجود من جهة ثانية‪ .‬فلكون‬
‫إىل تكذيبه؛ ما مل يحتمل التأويل إلبعادها‪ .‬يف حني أ َّن حمل الواقع أو الوجود للمفارقة ال تفيض‬
‫إىل تكذيبه؛ باعتباره ليس من األمور املعرفيَّة التي يجري عليها التصديق والتكذيب‪ ،‬بل لو ثبت‬
‫فعل؛ فسيضط ُّر العقل إىل التسليم بها‪ ،‬وإن كان من الناحية‬
‫أ َّن هناك مفارقة يف الواقع أو الوجود ً‬
‫العمليَّة أ َّن العقل يستعني يف مثل هذه الحالة بسالح التأويل إلبعادها‪ ،‬فهو ال يتوقَّف عن االعتقاد‬
‫بنفي التناقض واملفارقة عن الواقع والوجود طبقًا للرضورة الوجدان َّية‪ .‬أي أن الكشف الذي ميارسه‬
‫املنطقي‪ ،‬بل هو كشف وجداين[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫العقل يف هذه الحالة ليس من الكشف‬
‫َّ‬
‫واملتصوفة وابن عريب‪:‬‬ ‫القرآن بني املعزتلة‬
‫هذا الحقل تط َّرقت إليه مجموعة من الدراسات الحديثة‪ ،‬نشري هنا إىل كتاب “فلسفة التأويل”‬
‫لنرص حامد أبو زيد [[[– الذي يُع ُّد من إحدى زواياه‪ -‬امتدادا ً للدراسة التي قام بها الباحث يف مرحلة‬
‫سابقة عن “قضيَّة املجاز يف القرآن عند املعتزلة”‪ ،‬وقد انتهى يف دراسته السابقة إىل أ َّن املجاز‬
‫تح َّول عىل يد املتكلِّمني إىل سالح لرفع التناقض املتو َّهم بني آيات القرآن من جهة‪ ،‬وبني القرآن‬

‫مثال‪ :‬املصدر نفسه‪319 :2 ،‬؛ غري أن هاي ِدغر كان يعترب الرصاع الذي يدور بني‬
‫[[[‪ -‬عن اختالف مقاالت أهل النظر يف مقاالتهم‪ ،‬انظر ً‬
‫الفالسفة ليس سوى رصاع عشاق؛ وإالَّ فإن الحقيقة واحدة والجميع يقولون اليشء الواحد نفسه؛ انظر‪:‬‬
‫‪Martin Heidegger, Lettre sur l’humanisme, in Questions III, Paris, 1965, pp. 110, 152.‬‬
‫[[[‪ -‬املصباحي‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬يحيي محمد – علم منهج الفهم الديني – دار العارف للمطبوعات – النجف األرشف – العراق – ‪ – 2016‬ص ‪.365‬‬
‫[[[‪ -‬نرص حامد أبو زيد‪ -‬فلسفة التأويل عند ابن عريب‪ -‬مصدر سبق ذكره‪ -‬ص ‪.277‬‬

‫‪173‬‬
‫المحور‬

‫وأدلَّة العقل من جهة أخرى‪ .‬وقد كانت هذه النتيجة هي األساس الذي حدا بالباحث إىل محاولة‬
‫الديني – هي منطقة التص ُّوف – لدراسة تلك العالقة بني‬
‫ِّ‬ ‫استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر‬
‫الديني واس ِتكْناه طبيعتها ومناقشة املعضالت التي تثريها‪ ،‬وذلك استكامالً للجانبني‬
‫ِّ‬ ‫والنص‬
‫ِّ‬ ‫الفكر‬
‫الذوقي عند املتص ِّوفة‪ .‬وخالل‬
‫ِّ‬ ‫يل كام ميثِّله املعتزلة‪ ،‬والجانب‬
‫الرئيسيَّني يف الرتاث‪ :‬الجانب العق ِّ‬
‫الفرتة الطويلة التي استغرقها هذا البحث تع َّدل كثري من األفكار واملفاهيم التي انطلق منها الباحث‪،‬‬
‫خصوصاً املفهوم الرئييسَّ الذي تقوم عليه الدراسة وهو مفهوم التأويل‪.‬‬
‫والفلسفي املعارص‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الديني‬
‫ِّ‬ ‫لقد بدأ الباحث دراسته األوىل من خالل املفهوم الشائع يف فكرنا‬
‫املفس ومفاهيمه وأفكاره‪ .‬وهي‬ ‫ِّ‬ ‫الديني لتص ُّورات‬
‫ِّ‬ ‫والذي يرى التأويل جهدا ً عقل َّياً ذات َّياً إلخضاع ِّ‬
‫النص‬
‫املفس‬
‫ِّ‬ ‫املفس‪ .‬إ َّن العالقة بني‬
‫ِّ‬ ‫تفسريي وتأثريه يف فكر‬
‫ٍّ‬ ‫النص وما يرتبط به من تراث‬ ‫ِّ‬ ‫نظرة تغفل دور‬
‫النص‪ .‬واألحرى القول أنَّها عالقة‬ ‫املفس وخضوع من جانب ّْ‬ ‫ِّ‬ ‫والنص ليست عالقة إخضاع من جانب‬ ‫ِّ‬
‫جدل َّية قامئة عىل التفاعل املتبادل‪ .‬ولقد اعتمد أبو زيد يف تأويله البن عريب عىل أه ِّم ما كتب الشيخ‬
‫األكرب يف عرض فلسفته الذوق َّية ونظرته إىل الوجود من خالل تأويل القرآن الكريم‪ .‬وهي‪:‬‬
‫“الفتوحات امل ِّك َّية”‪“ ،‬فصوص الحكم”‪ ،‬و”التدبريات اإلله َّية”‪ ،‬فضالً عن االستعانة أحياناً مبراجع‬
‫أخرى مثل‪“ :‬تن ُّزل األمالك” – كتاب “الواو والنون وامليم” – “ترجامن األشواق” وسواها‪ .‬وهذه‬
‫الرؤيوي للوجود عن ابن عريب‪ .‬وهي مراجع صعبة املِراس نظرا ً‬ ‫َّ‬ ‫مرجع َّيات تشكِّل بجملتها املرشوع‬
‫إىل لغتها غري العاديَّة‪ .‬يقول العالَّمة نيكولسون يف وصف أسلوب ابن عريب يف “فصوص الحكم”‪:‬‬
‫اليهودي وأريجن‬
‫ِّ‬ ‫نصاً من القرآن أو الحديث ويؤ ِّوله بالطريقة التي نعرفها يف كتابات خيلون‬
‫“إنَّه يأخذ َّ‬
‫االسكندري‪ .‬ونظريَّاته يف هذا الكتاب صعبة الفهم‪ ،‬وأصعب من ذلك‪ ،‬رشحها وتفسريها‪ ،‬أل َّن لغته‬ ‫ّْ‬
‫يف لها يُفسد معناها‪ ،‬ولك َّنا إذا‬
‫وأي تفسري حر ٍّ‬
‫خاصة‪ ،‬ومجازيَّة معقَّدة يف معظم األحيان‪ُّ .‬‬
‫َّ‬ ‫اصطالح َّية‬
‫أهملنا اصطالحاته استحال فهم كتابه واستحال الوصول إىل فكرة واضحة عن معانيه‪ ،‬وميثِّل الكتاب‬
‫املدريس العميق الغامض”[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫خاصاً من التص ُّوف‬
‫يف جملته نوعاً َّ‬
‫ويعلِّق أبو العال عفيفي عىل غموض أسلوب ابن عريب وأهل الصوفيَّة عموماً فيقول‪“ :‬املعروف‬
‫عن الصوفيَّة إطالقاً أنَّهم قوم يتكلَّمون بلسان عموم الخلق‪ ،‬وال يخوضون فيام يخوض فيه الناس‬
‫من مسائل علم الظاهر‪ ،‬وإنَّ ا يتكلَّمون بلسان الرمز واإلشارة‪ -‬إ َّما ض َّناً مبا يقولون عىل من ليسوا‬
‫يحسونه يف أذواقهم ومواجدهم‪ .‬أ َّما‬
‫أهالً له‪ ،‬وإ َّما أل َّن لغة العموم ال تفي بالتعبري عن معانيهم وما ُّ‬
‫يستقل بفهمها‬
‫ُّ‬ ‫النبي‪ ،‬وهذه الحقائق ال‬‫ِّ‬ ‫ما يرمزون إليه فحقائق العلم الباطن الذي يتلقُّونه وراثة عن‬
‫عقل‪ ،‬وال بالتعبري عنها لغة‪ .‬وهذان األمران وحدهام كافيان لتفسري الصعوبات التي تعرتض سبيل‬

‫[[[‪ -‬محيي الدين ابن عريب ‪ -‬فصوص الحكم والتعليقات عليه بقلم أيب العال عفيفي – دار الكتاب العريب – ص ‪.12‬‬

‫‪174‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫الباحث يف فهم معاين الصوف َّية ومراميهم‪ .‬ولذا كان الحذر ألزم ما يلزم الناظر يف أقوالهم حتى‬
‫يحلِّلها أو يؤ ِّولها أو يحكم عليها”[[[‪.‬‬
‫جه التح ِّدي يف معرض تعاملهم ولغة ابن عريب‪ .‬فقد أدركوا‬ ‫يخف عىل مجمل الباحثني أو ُ‬ ‫َ‬ ‫مل‬
‫النص الذي يق ِّدمه كبري الصوف َّية‪ ،‬أي األخذ باللُّغة‬
‫ِّ‬ ‫منذ االبتداء‪ ،‬أ َّن تح ِّدياً كهذا يستلزم األخذ بجامع‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫كل متكامل‪ .‬حيث أ َّن اللُّغة هي املعنى نفسه‪ ،‬واملعنى هو اللُّغة نفسها‪ .‬ولذلك‬ ‫واملعنى فيام هام ٌّ‬
‫فال فصل بينهام حتى من الناحية الوظيفية التي تؤ ِّديها اللُّغة لبلوغ القصد يف خصوصيَّة تأويل‬
‫القرآن عند ابن عريب‪ .‬لذا‪ ،‬ال يجد الباحث مف َّرا ً من مواجهة فلسفته كلِّها يف جوانبها الوجوديَّة‬
‫والوجودي‪ ،‬ومفهوم‬
‫ِّ‬ ‫يف‬
‫الديني ودوره املعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫الخاصة مباه َّية‬
‫َّ‬ ‫واملعرف َّية‪ ،‬إىل جانب مفاهيمه‬
‫ّْ‬
‫النص‪.‬‬ ‫يتجل من خالله‬
‫َّ‬ ‫اللُّغة مبستوياتها املتع ِّددة باعتبارها الوسيط الذي‬
‫فالوجود مبا هو موجودات عين َّية يف نظر ابن عريب هو خيال مياثل الصور التي ترتاءى للنائم‬
‫ين‪،‬‬
‫يف أحالمه‪ .‬واملراتب املختلفة واملتع ِّددة للوجود من أ َّولها إىل آخرها‪ ،‬وهو الوجود اإلنسا ُّ‬
‫تخضع جميعها لهذا التص ُّور‪ .‬من هذا املنطلق يف ِّرق بني ظاهر الوجود وباطنه‪ ،‬ويرى رضورة النفاذ‬
‫الروحي العميق يف رحلة تأويل َّية ال يقوم بها إالَّ اإلنسان‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫الحس املتعيِّ إىل الباطن‬
‫ِّ ِّ‬ ‫من الظاهر‬
‫ألنَّه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق األلوهة يف الوقت نفسه‪ .‬إىل هذا‬
‫الديني‪ ،‬فهو الوجود املتجلِّ من خالل اللُّغة‪،‬‬ ‫ِّ‬ ‫للنص‬
‫ِّ‬ ‫الوجودي تص ُّوره‬
‫ِّ‬ ‫أيضاً يتامثل مع هذا التص ُّور‬
‫ولكل منهام مراتب ومستويات تتامثل مع مراتب الوجود‬ ‫ٍّ‬ ‫وهو باملثل ‪ -‬يتك َّون من ظاهر وباطن‪،‬‬
‫النص والنفاذ إىل مستوياته املتع ِّددة التي ال يفهمها‬
‫ومستوياته‪ .‬وال ينفصل تأويل الوجود عن تأويل ِّ‬
‫إالَّ اإلنسان الكامل الذي تحقَّق بباطن الوجود وتجاوزه ظاهر[[[‪.‬‬
‫ما من ريب أنَّنا حيال املنظومة الفكريَّة البن عريب أمام حقلني تأويليَّني يف اآلن عينه‪:‬‬
‫أوَّالً‪ :‬اآليات البيِّنات كحقل للفهم والتدبُّر‪ ،‬وهو ما يفتح اآلفاق عىل فضاء واسع من التأويل‪.‬‬
‫يل للقرآن الكريم‪.‬‬
‫الخاصة التي يعتمدها هو نفسه يف استقرائه التأوي ِّ‬
‫َّ‬ ‫ثانياً‪ :‬حقل اللُّغة‬

‫وذاك عائد إىل أ َّن لغة الشيخ األكرب هي أيضاً وأساساً ذات بعد تأوي ٍّ‬
‫يل فيام هو يسعى الستكشاف‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫ما تنطوي عليه أفهامه يف فهم مقاصد الكالم‬

‫[[[‪ -‬أيب العال عفيفي‪ -‬مقدِّ مة الفصوص – ص ‪.15‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه – ص ‪.6‬‬

‫‪175‬‬
‫المحور‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪ .1‬القرآن الكريم‪.‬‬
‫‪ .2‬ابن عريب‪ ،‬الفتوحات املكيَّة‪ ،‬تصوير دار صادر بريوت عن طبعة بوالق‪ ،‬القاهرة‪ ،‬سنة‬
‫‪1293‬هـ ج‪. 3‬‬
‫‪ .3‬أبو حامد الغزايل مشكاة األنوار‪ ،‬تحقيق أبو العال عفيفي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬الدار القوميَّة للطباعة‬
‫والنرش‪.1964 ،‬‬
‫‪ .4‬أيب العال عفيفي‪ -‬مق ِّدمة الفصوص‪ -‬مكتبة نور‪ -‬رشح الشيخ عبد الرزاق القاشاين‪.2020 -‬‬
‫مؤسسة التحقيقات‬
‫‪ .5‬الشريازي‪ ،‬صدر الدين ‪ -‬مفاتيح الغيب‪ -‬تحقيق‪ :‬محمد خواجوي‪َّ -‬‬
‫الثقاف َّية – طهران‪.‬‬
‫‪ .6‬الرسالة القشرييَّة‪ ،‬طبقات الصوف َّية‪ ،‬أبو عبد الرحمن السلمي‪ ،‬تحقيق نور الدين رشيبة‪،‬‬
‫مكتبة الخانجي‪ ،‬ط ‪ 2‬القاهرة‪1389 ،‬هـ‪1969/‬م‪.‬‬
‫‪ .7‬بايل أفندي‪ ،‬رشح فصوص الحكم‪ ،‬طبعه الطبعة النفيسة العثامن َّية سنة ‪1309‬هـ‪.‬‬
‫‪ .8‬بدر الدين الزركيش‪ -‬الربهان يف علوم القرآن – تحقيق‪ :‬محمد أبو الفضل إبراهيم‪ -‬ط ‪1-‬‬
‫دار إحياء الكتب العرب َّية – القاهرة‪.1957 -‬‬
‫جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلتقان يف علوم القرآن‪ ،‬املكتبة الثقافيَّة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ج‪1973 ،2‬م‪.‬‬ ‫‪.9‬‬
‫‪ .10‬جميل حمداوي – الرؤية املجازيَّة وعالقتها بالبيان والربهان والعرفان – جامعة الرباط –‬
‫املغرب – دراسة غري منشورة‪.‬‬
‫‪ .11‬حمو‪ ،‬فرعون‪ -‬عقيدة التجلِّيات عند شيخ الصوف َّية األكرب ابن عريب – بحث ضمن كتاب‬
‫"املنت األكربي‪ -‬إرشاف وتقديم‪ :‬رزقي بن عومر وعبد القادر بلغيت‪ -‬دار نينوى‪ -‬دمشق ‪.2018‬‬
‫‪ .12‬محمود حيدر – العرفان يف مقام التدبري السيايس‪ -‬دراسة يف املباين امليتافيزيق َّية‬
‫والتأسيسات املعرف َّية للحضارة اإلله َّية‪ -‬مخطوطة تحت الطبع – ‪.2022‬‬
‫‪ .13‬راجع محمد أبو القاسم حاج حمد – منهج َّية القرآن املعرف َّية – دار الهادي – بريوت –‬
‫‪. 2003‬‬
‫‪ .14‬ربيع‪ ،‬مسعود حاجي‪ -‬التأويل عند ابن عريب‪ -‬الهرمنيوطيقا‪( -‬دراسة مقارنة) فصل َّية‪:‬‬
‫املنهاج‪ -‬العدد ‪ ،88-87‬ربيع ‪.2018‬‬

‫‪176‬‬
‫المعرفة التأويل َّية في منظومة ابن عربي‬

‫‪ .15‬محمد املصباحي – ابن عريب يف مرآة ما بعد الحداثة‪ :‬مقام "نعم" و"ال" – نقالً عن موقع‬
‫"معابر" اإللكرتوين‪WWW.maaber.or .‬‬
‫مؤسسة الرحاب الحديثة‬
‫‪ .16‬محمد املصطفى عزام – الخطاب الصويف بني التأ ُّول والتأويل – َّ‬
‫– بريوت ‪.2010‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ .17‬محمد عبد العظيم الزرقاين – مناهل العرفان يف علوم القرآن – تحقيق‪ :‬فواز أحمد زمريل‪-‬‬
‫دار الكتاب العريب – بريوت ط‪1415 – 1‬هـ ‪1995 -‬م ‪.‬‬
‫‪ .18‬محمود حيدر – الوجود املتجلِّ بني ابن عريب والوتسوا – فصل َّية "الحياة الطيبة"‪ -‬العدد‬
‫‪ 47-‬خريف ‪.2021‬‬
‫‪ .19‬محيي الدين ابن عريب ‪ -‬فصوص الحكم والتعليقات عليه بقلم أيب العال عفيفي – دار‬
‫الكتاب العريب‪.‬‬
‫‪ .20‬محيي الدين ابن عريب‪ ،‬الفتوحات امل ِّك َّية‪ ،‬ج‪.4‬‬
‫‪ .21‬نرص حامد أبو زيد ‪ -‬فلسفة التأويل عند ابن عريب ‪ -‬املركز الثقايف العريب‪ -‬الرباط –‬
‫املغرب‪.2002 -‬‬
‫‪ .22‬يحيي محمد – علم منهج الفهم الديني – دار العارف للمطبوعات – النجف األرشف –‬
‫العراق – ‪. 2016‬‬

‫املصادر األجنبي�ة‬
‫‪1. Martin Heidegger, Lettre sur l’humanisme, in Questions III, Paris, 1965.‬‬
‫‪2. André Lalande, Vocabulaire technique et critique de la philosophie, puf,‬‬
‫‪edition 1962.‬‬

‫‪177‬‬
‫المحور‬

‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الفرنس ريجيس دوبريه‬
‫ي‬ ‫ر‬ ‫المفك‬ ‫حوار عىل ضفاف الروحانية مع‬
‫ن‬ ‫ُ َّ‬
‫المقدس هو الطريقة الفضىل لفهم العالم األد�‬

‫ـ أجرى الحوار‪ :‬بيار مارك دو بيازي‬


‫ـ تعريب وتقديم‪ :‬جانيت ب ي‬
‫أ� نادر‬
‫الفرنيس رجييس دوبريه‬
‫ِّ‬ ‫حوار عىل ضفاف الروحانية مع املفكِّ ر‬
‫ن‬ ‫ُ َّ‬
‫المقدس هو الطريقة الفضىل لفهم العالم األد�‬

‫أجرى الحوار‪ :‬بيار مارك دو بيازي‬


‫تعريب وتقديم‪ :‬جانيت ب ي‬
‫أ� نادر‬

‫تقديم‪:‬‬
‫الفرنيس‬
‫ِّ‬ ‫يف طور متأخِّر من مكابداته املعرف َّية‪ ،‬ظهرت لدى املفكِّر والفيلسوف‬
‫ريجيس دوبريه (‪ ) ...1940-‬مواقف مثرية للجدل وغري مألوفة‪ .‬فقد مىض يف كتابه‬
‫«النار املق َّدسة» إىل قلب هندسته املعرف َّية رأساً عىل عقب‪ ،‬لي ِّ‬
‫رصح بأ َّن املق َّدس هو‬
‫ّْ‬
‫الدنيوي‪.‬‬ ‫أفضل طريق لفهم‬
‫يُنظر إىل دوبريه كشخصيَّة إشكاليَّة من وجهني‪ :‬التجربة‪ ،‬ونظام التفكري‪ .‬فال َّرجل‬
‫ظل‬
‫مستهل النصف الثاين من القرن املنرصم‪َّ ،‬‬‫ِّ‬ ‫جة اليسار واختباراته يف‬
‫الذي خاض ل َّ‬
‫عىل مسافة من التجربة‪ ،‬إذ رأى إليها‪ ،‬وهو فيها‪ ،‬بعني املالحظة واملعاينة والنقد‪.‬‬
‫هكذا فعل حني صاحب أرنستو تيش غيفارا ورافق ملحمته الكربى يف جبال أمريكا‬
‫الالَّتين َّية ووهادها وغاباتها القص َّية‪ .‬كذلك سيفعل حني تد ّرج بني أمميات اليسار‬
‫العاملي ثم إىل إيديولوجيات مملوءة بضباب املعنى‪ ،‬سوى أنَّه بفعل التح ُّوالت‬
‫الكربى التي بلغت أقصاها يف بداية القرن الحادي والعرشين‪ ،‬سينتقل إىل طور جديد‬
‫من التعقُّل‪ ،‬ليتأ َّمل سؤال اإلميان باعتباره السؤال األكرث تداوالً يف زمن العقائد املتطايرة‬
‫وانعدام اليقني‪.‬‬
‫كل يشء ويعيد النظر بكل‬
‫يدخل دوبريه بعد هذا كلِّه‪ ،‬يف لحظة مراجعة‪ ،‬يستعيد َّ‬
‫يشء‪ .‬ليس يبدو أ َّن لديه نظريَّات يق ِّدمها إىل الناس كتامميَّات إيديولوجيَّة ‪ .‬لكنه‪ ،‬وهو‬
‫امل ُنأخذ عىل الدوام بسريورة الحركة والتح ُّول‪ ،‬كام لو أنَّه يجيئنا بأم ٍر جديد وخطب‬
‫جلل يف فضاء نظريَّات املعرفة‪.‬‬

‫ـ عنوان الحوار األصيل‪Regis Debray : Penser le Religieux :‬‬


‫ـ املصدر‪ :‬نقالً عن مجلة ماغازين ليتريير ‪Magazine Litteraire - Paris - No, 124- juin 2003‬‬
‫الفرنسيِ ريجيس دوبريه‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المفكر‬ ‫حوار على ضفاف الروحانية مع‬

‫ٍ‬
‫مديد يف َمواطن العقل األدىن‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫مكوث‬ ‫الس َف َر إىل محراب امليتافيزيقا من بعد‬
‫يق َّرر دوبريه َّ‬
‫يتح َّدث يف شأن الدين كام لو كان عىل ميعاد موقوت مع األلوهيَّة‪ .‬يرسي قوله يف الدين مرسى‬
‫الشخيص الذي مل‬
‫ِّ‬ ‫الشغف النادر‪ .‬لك َّنه‪ ،‬وبفعل ق َّوة العادة»‪ ،‬يؤثِر إظهار مسافة ما مت ِّيز بني يقينه‬
‫يست ِو عىل بيِّنة‪ ،‬وبني الدين مبا هو ظاهرة تاريخيَّة وأنرثوبولوجيَّة‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫تأت عن طريق التساؤل حول السلوكات الفعليَّة لألفراد والجامعات‬


‫الديني َّ‬
‫ِّ‬ ‫انهام ُمه بالشأن‬
‫قصة يرويها هو نفسه ر ّدا ً عىل سؤال و َّ‬
‫جهته إليه مجلَّة «ماغازين‬ ‫واملجتمعات‪ .‬ولهذا االهتامم َّ‬
‫كل اإلعجاب‬‫ليتريير» الباريسيَّة فيقول إنَّه اطَّلع يف سبعينيَّات القرن املنرصم عىل كتاب أُعجب به َّ‬
‫وعنوانه‪« :‬ما الذي يح ِّرض املناضلني يف مسعاهم؟‪.Qu’est ce qui fait courir les militants‬‬
‫ين يتساءل فيه عن العوامل الكامنة يف مخيَّلة الفرد والتي تح ِّرك فيه‬
‫وهذا الكتاب وضعه طبيب نفسا ٌّ‬
‫روح الفداء والتضحية بالنفس‬
‫يف سبيل قضيَّة يعتقدها صواباً‪.‬‬
‫ما كان يشغل الكاتب يف‬
‫َّ‬ ‫هذا العمل هي أسئلة مألوفة‬
‫اإليمان ال يحتاج إىل أدلة‬
‫أه ُّمها‪ :‬ما الذي يجعل املرء‬
‫غ� قابل لإلثبات أو االحتمال‬
‫وهو ي‬ ‫يق ِّرر املخاطرة بحياته؟ وما‬
‫الذي يجعل الفكرة‪ ،‬وإن كانت‬
‫تغي عامل الواقع؟ ث َّم‬
‫خاطئة ِّ‬
‫نفس انخراط األفراد يف‬‫مباذا ِّ‬
‫تشكيل عصابات‪ ،‬وجامعات‪،‬‬
‫وأحزاب‪ ،‬وأمم‪ ،‬وكنائس؟ وبالتايل ما الخطوات التي تؤ ّدي بالناس تدريج ّياً إىل التج ُّمع‪ ،‬وما الذي‬
‫يدفعهم نحو «الفعل»؟‪...‬‬

‫يعلِّق دوبريه عىل هذه األسئلة باإلشارة إىل أ َّن الناس غالباً ما يستقبلون الحقائق بيشء من‬
‫أي ق َّوة لتفرض نفسها وتلقى القبول‪.‬‬
‫الالَّمباالة‪ ،‬وألنَّها (الحقائق) حقيق َّية وواقع َّية‪ ،‬فإنَّها ال متنح َّ‬
‫كل يشء عند هذا‬
‫ويف أحسن الحاالت‪ ،‬يتك َّون لديهم تجاهها نوع من اإلجامع الرخو‪ ،‬ث َّم ينتهي ُّ‬
‫الح ّْد‪ ،‬بينام تبقى الفاعل َّية الحقيق َّية‪ ،‬كامنة يف الق َّوة الخالَّقة التي ِّ‬
‫تغي األشياء‪ ،‬وهي املوجودة يف‬
‫منطقة اإلميان ‪ ... croyance‬وسواء كانت هذه الق َّوة عادلة أو غري عادلة‪ ،‬صحيحة أو خاطئة‪ ،‬فتلك‬
‫مسألة أخرى‪ ،‬ذلك أ َّن اإلميان ال يحتاج إىل أدلَّة كونه غري قابل لإلثبات أو لالحتامل‪ ،‬بل هو حاس ٌم‬

‫‪181‬‬
‫محاورات‬

‫ويربهن عىل حركته الخالَّقة بالتوغُّل‬


‫إىل األمام‪ .‬لذا‪ ،‬فإ َّن ما كان يه ُّم‬
‫دوبريه يف هذا املجال تلك الوظيفة‬
‫ِّ‬
‫المحركة الكامنة‬ ‫ه الوظيفة‬ ‫ُّ ن‬ ‫املح ِّركة الكامنة يف اإلميان‪ ،‬ويف‬
‫ما يهم ي� ي‬
‫ين‬ ‫ف� اإليمان وقدرته عىل ِّ‬ ‫قدرته عىل س ِّن القوانني املصرييَّة‬
‫القوان�‬ ‫سن‬ ‫ي‬ ‫للعامل‪.‬‬
‫َّ‬
‫المص�ية للعالم‬
‫ي‬
‫رمبا كانت الفكرة األكرث إثارة‬
‫للجدل يف مطارحات دوبريه‪ ،‬اعتقا ُده‬
‫بأ َّن املق َّدس هو أفضل طريق لفهم‬
‫الديني عنده ال يه ُّم‬
‫ُّ‬ ‫ّْ‬
‫الدنيوي‪ .‬فالشأن‬
‫أقل الناس استفادة‬
‫املؤمنني وحدهم‪ ،‬بل إ َّن أهل اإلميان هم ُّ‬
‫منه‪ ،‬ألنَّهم أخذوا منه بالفعل ما يحتاجونه‪ .‬باملقابل‪ ،‬فإ َّن أمام غري‬
‫الديني يف‬
‫َّ‬ ‫املؤمنني الكثري الذي ينتظرونه‪ ،‬والذي ميكن أن يتعلَّموه منه عن عامل الواقع‪ .‬إ َّن الشأن‬
‫الحقيقة يه ُّمنا جميعاً مؤمنني وغري مؤمنني‪ ،‬ألنَّنا يف نهاية األمر أمام صورة مقنعة من علم اإلنسان‬
‫ولعل األه َّم يف ما ينتهي إليه دوبريه يف مطارحاته «اإلميانية» أ َّن الثقافة الغربيَّة تبدو‬
‫(أنرثوبولوجيا)‪َّ .‬‬
‫حة إىل التخلُّص من هذا التمركُز حول الذات‪ Nombrilisme ،‬واملتمثِّل يف القول أ َّن‬ ‫يف حاجة مل َّ‬
‫الديني هو شأن ينتمي إىل املايض‪.‬‬‫ُّ‬ ‫الشأن‬
‫يف هذا الحوار الذي أجرته معه قبل سنوات مجلَّة (‪ )Magazine Littéraire‬الفرنس َّية‪ ،‬سنجد‬
‫الديني‪ .‬أ َّما السؤال‬
‫ِّ‬ ‫كل االختالف‪ ،‬هو عامل املتأ ِّمل يف الشأن‬ ‫لدى ريجيس دوبريه عاملاً مختلفاً َّ‬
‫يظل ماثالً يف األذهان فهو ذاك الذي ي َّتصل باالنعطافة الفكريَّة والوجدان َّية يف سريته ومسريته‪،‬‬
‫الذي ُّ‬
‫ين مفارق من بعد رحلة مديدة يف مختربات‬ ‫عنينا به السبب املسترت الذي حمله نحو أفق روحا ٍّ‬
‫املا ِّد َّية التاريخ َّية ومعاثرها‪.‬‬
‫ف� ما يل ُّ‬
‫نص الحوار‪:‬‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫(إدارة التحرير)‬
‫ن ِّ ف‬ ‫َّ‬
‫و�‬
‫الدي�‪ ،‬ي‬
‫ي‬ ‫ليت�ير»‪« :‬النار المقدسة» هو أبرز كتاب لك حول الشأن‬
‫• «ماغازين ي‬
‫ً‬
‫خصصت له ألف صفحة تقريبا منذ صدور كتابك «هللا‪ ،‬مسار‬ ‫المحصلة‪ ،‬نرى َّأنك َّ‬
‫َّ‬
‫ف‬ ‫ت‬ ‫نز‬
‫ال� أوليتها ي� بحوثك لهذا الشأن؟ وما الذي دفعك إىل االهتمام‬‫ورحلة»‪ ،‬فما الم�لة ي‬
‫َّ‬
‫باإللهيات؟‬

‫‪182‬‬
‫الفرنسيِ ريجيس دوبريه‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المفكر‬ ‫حوار على ضفاف الروحانية مع‬

‫توصلت إىل‬ ‫يل ليس ظاهرة سابقة‪ ،‬بل هو أم ٌر الحق‪ .‬وقد َّ‬ ‫الديني بالنسبة إ َّ‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬دوبريه‪ :‬الشأن‬
‫االهتامم به عن طريق التساؤل حول السلوكات الفعليَّة أو «الرباكسيس» (‪ ،)Praxis‬أي عرب فلسفة‬
‫كل اإلعجاب‪،‬‬ ‫خاصة باملامرسة‪ .‬ففي السبعين َّيات من القرن املايض‪ ،‬اطَّلعت عىل كتاب أُعجبت به َّ‬ ‫َّ‬
‫عنوانه «ما الذي يح ِّرض املناضلني يف مسعاهم؟ (‪ ،) Qu’est ce qui fait courir les militants‬وقد‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ين يتساءل فيه عن العوامل الكامنة يف مخيَّلة الفرد التي تح ِّرك فيه الروح الكفاحيَّة‪.‬‬ ‫طبيب نفسا ٌّ‬
‫ٌ‬ ‫وضعه‬
‫وعليه‪ ،‬فإ َّن ما يشغلني هي أسئلة من طراز‪ :‬ما الذي يجعل املرء يق ِّرر املخاطرة بحياته؟ ما الذي‬
‫نفس انخراط األفراد يف تشكيل عصابات‪،‬‬ ‫تغي عامل الواقع؟ مباذا ِّ‬ ‫يجعل الفكرة‪ ،‬وإن كانت خاطئة‪ِّ ،‬‬
‫وجامعات‪ ،‬وأحزاب‪ ،‬وأمم‪ ،‬وكنائس؟ وبالتايل ما الخطوات التي تؤ ِّدي بالناس تدريج ّياً إىل التج ُّمع‪،‬‬
‫يل ليست اإلبستمولوجيا (نظريَّة‬ ‫وما الذي يدفعهم نحو «الفعل»؟ من هنا‪ ،‬فإ َّن نقطة االنطالق بالنسبة إ َّ‬
‫املعرفة) عىل اإلطالق‪،‬‬
‫أل َّن مشكلة الفالسفة تكمن‬
‫يف عدم اجتيازهم للمنطق‬
‫ماركس لم يستفد من اإليمان بالمسيح‬ ‫الثاين‪ :‬خطأ‪/‬صواب‪ ...‬حني‬
‫َّ‬
‫الحقيقية ألنه لم‬ ‫َّ‬
‫الثورية‬ ‫أي من الطاقة‬ ‫يتعلَّق األمر بتطبيق هذه‬
‫ً‬ ‫ً‬ ‫النظريَّة‪ ،‬لذلك فإ َّن الشأن‬
‫يطرح مسألة الممارسة طرحا صحيحا‬
‫الديني يكون يف جهة الخطأ‬
‫َّ‬
‫ٍّ‬
‫شك‪ ،‬فالصواب‬ ‫بال أدىن‬
‫ال يوجد إالَّ يف الحقائق‪،‬‬
‫وتفسري ذلك ببساطة هو أنَّه‬
‫كل يشء يدعو إىل االعتقاد‬ ‫حصنا األمر عن قرب سوف يتبيَّ لنا أ َّن َّ‬
‫ال يشغل الفالسفة‪ .‬لك َّننا إذا تف َّ‬
‫بأ َّن «الصواب»‪ - ،‬مبفهوم «الحقائق» ‪ -‬هو عديم الفاعلية‪ ،‬وأن «الخطأ» هو ذو فاعل َّية فائقة‪ .‬إنَّنا‬
‫يف‪ ،‬وهي كلُّها‬
‫يل‪ ،‬والعجيب‪ ،‬والخرا ِّ‬
‫األسطوري‪ ،‬والخيا ِّ‬
‫ِّ‬ ‫نعني هنا شكالً معيَّناً من أشكال «الخطأ»‬
‫يب»‪ ،‬و«عديم املردود»‪،‬‬
‫أمناط من الفكر غري قابلة لإلثبات‪ ،‬وقد تص ِّنفها اإلبستمولوجيا ضمن «الضبا ِّ‬
‫و«العقيم»‪ ،‬و «غري املثمر»‪ .‬لكن الواقع يثبت لنا العكس متاماً‪ ،‬فغالباً ما يستقبل الناس الحقائق‬
‫أي ق َّوة لتفرض نفسها وتلقى القبول‪ .‬ويف أحسن‬
‫بيشء من الالَّمباالة‪ ،‬وألنَّها حقيق َّية ال مينحونها َّ‬
‫كل يشء عند هذا الحد‪ ،‬بينام‬
‫الحاالت‪ ،‬يتك َّون لديهم تجاهها نو ٌع من اإلجامع ال َّرخو‪ ،‬ثم ينتهي ُّ‬
‫تغي األشياء‪ ،‬أي يف الق َّوة املؤث ِّرة بالفعل‪ ،‬وهي املوجودة يف‬
‫الفاعل َّية الحقيق َّية‪ ،‬هي يف تلك التي ِّ‬
‫جهة اإلميان ‪ .Croyance‬وسواء كانت عادلة أم غري عادلة‪ ،‬صحيحة أم خاطئة‪ ،‬فتلك مسألة أخرى‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫محاورات‬

‫إ َّن اإلميان ال يحتاج إىل أدلَّة‪ ،‬فهو حاسم وغري قابل لإلثبات أو لالحتامل‪ ،‬ويربهن عىل الحركة‬
‫بالتوغُّل إىل األمام‪ ،‬وما يه ُّمني هو تلك الوظيفة املح ِّركة الكامنة فيه‪ ،‬ويف قدرته عىل َس ِّن القوانني‬
‫املصرييَّة للعامل‪ .‬وهكذا انتهيت إىل فكرة «الدافع» عن طريق تلك القدرة عىل التح ُّرك‪ .‬أريد أن‬
‫أفهم ما الذي يثري الفعل لديهم؟‬
‫ما هو ذلك «األسطو مح ِّرك»‬

‫الدين ليس أفيون الشعوب بل‬ ‫ين»‬


‫أو «املحرك غري العقال ِّ‬
‫ين‬ ‫‪ )Mythomoteur(.‬وهذه‪ ،‬كام‬
‫فيتام� الضعفاء من أجل انعتاقهم‬
‫ترى‪ ،‬صورة أخرى للتفلسف‬
‫والروح‬
‫ي‬ ‫المادي‬
‫عن طريق املزاوجة بني الفلسفة‬
‫واألنرثوبولوجيا (علم اإلنسان)‪.‬‬
‫ليت�ير»‪:‬‬‫ي‬ ‫• «ماغازين‬
‫ِّ‬
‫يز‬ ‫ف‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬
‫متم�ة داخل‬ ‫ال� وضعتك ي� مكانة‬ ‫هل اكتسبت صفة القناص هذه ‪ - Franc - tireur‬ي‬
‫َّ‬ ‫َّ ف‬
‫«ال�اكسيس‬ ‫عالم الفلسفة ‪ -‬من خالل الممارسة العملية ي� عالم السياسة‪ ،‬أو ما يسم ب‬
‫ّْ‬
‫السياس»؟‬
‫ي‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬ربَّ ا‪ ..‬فقد عشت لفرتة مع مناضلني ورجال مقاومة‪ ،‬وإنَّني أتساءل هنا عن السبب‬
‫ميت إىل العلم‬ ‫الذي كان يدفعهم إىل النضال والتضحية؟ أرى أ َّن ما يدفعهم إىل ذلك هو أمر ال ُّ‬
‫معي‪ ،‬فهو‪ ،‬حسب الحالة‪ ،‬يُس َّمى إ َّما الثورة أو‬
‫علمي َّ‬
‫ٍّ‬ ‫ِ‬
‫بصلة‪ ،‬وإن كان يتخفَّى أحياناً وراء حجاب‬
‫الربوليتاريا أو الشعب املنتخب‪ ،‬أو فكرة الله‪ ،‬أي أ َّن مث َّة‪ ،‬دامئاً‪ ،‬يف آخر املطاف‪ ،‬إلهاماً دين َّياً‪ .‬ويف‬
‫الديني ومن اإلميان باملسيح‪ ،‬أي من الطاقة الثوريَّة الحقيق َّية‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫رأيي أ َّن ماركس مل يستفد من الشأن‬
‫ذلك ألنَّه مل يطرح مسألة املامرسة طرحاً صحيحاً‪ ،‬وتحديدا ً مسألة إدراك ووعي ما يجعل الفكرة‬
‫تتح َّول إىل ق َّوة ما ّديَّة‪.‬‬
‫ليت�ير»‪ :‬لكن ي ن‬
‫لين� بعده طرح هذه المسألة ‪...‬‬ ‫• «ماغازين ي‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬نعم لقد طرحها لينني بالتأكيد‪ ،‬وستالني كذلك‪ ،‬ألنَّهام كانا من رجال العمل والفعل‪.‬‬
‫الديني‬
‫َّ‬ ‫يل‪ ،‬فإ َّن الفعل والتفكري يف الفعل هام اللذان دفعاين إىل إدراك حقيقة أ َّن الشأن‬ ‫بالنسبة إ َّ‬
‫مشبع بالفيتامني‪ ،‬ال باألفيون‪ ،‬فليس الدين أفيون الشعوب‪ ،‬بل هو فيتامني الضعفاء‪ .‬وهو ليس مادة‬
‫من ِّومة‪ ،‬بل هو عنرص ين ِّبه ويثري الحامسة‪ .‬وال يستطيع الفالسفة أن يتخ َّيلوا ذلك ألنَّهم محبوسون يف‬
‫كل هذا الرصيد من سنوات الكفاح‪ ،‬وأن يجد نفسه‬ ‫تنظريي محض‪ .‬أ َّما أن يكون للمرء ُّ‬
‫ٍّ‬ ‫جامعي‬
‫ٍّ‬ ‫ميدان‬

‫‪184‬‬
‫الفرنسيِ ريجيس دوبريه‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المفكر‬ ‫حوار على ضفاف الروحانية مع‬

‫ربر وجوده بني أربعة جدران‪ ،‬وهو يحمل عىل أكتافه حكامً باإلعدام‪ ،‬فهذه‬ ‫مسوقاً إىل أن يسأل عن م ِّ‬
‫كلُّها أشياء تضط ُّره ليك يطرح عىل نفسه أسئلة عمل َّية‪ ،‬وأن يواجه األشياء بال مواربة‪ .‬إ َّن هذا يؤ ّدي‬
‫القوي للكلمة‪ ،‬أي‬
‫ِّ‬ ‫بنا إىل االعرتاف بأ َّن وجود املرء يف ذلك املكان له أسباب إيديولوجيَّة باملعنى‬
‫أسباب (ميثولوجية قامئة عىل معتقدات خرافيَّة)‪ .‬لكننا عندما نغوص حتى العنق يف امليثو ‪ -‬لوجي‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ ، Mythologique‬ال نكون‬
‫بعيدين ج ّدا ً عن الثيو ‪ -‬لوجي‬
‫ن‬ ‫‪( Théologique‬علم الالَّهوت‪.‬‬
‫المناضل� إىل‬
‫ي‬ ‫السبب الذي يدفع‬
‫ُّ‬ ‫ليت�ير‪ :‬ولكن‬‫• ماغزين ي‬
‫التضحية بأرواحهم هو أنه ال يمت للعلم‬
‫ً‬ ‫فَّ‬ ‫الفلسفة طرحت عىل نفسها‬
‫بأي صلة‪ ،‬وإن كان يتخ� أحيانا وراء‬ ‫ِّ َّ‬
‫علم يَّن‬ ‫ّ‬ ‫هذا السؤال بصورة جدية‪،‬‬
‫مع�‬ ‫ي‬ ‫حجاب‬ ‫ف‬
‫وذلك ي� إطار المذهب‬
‫ً‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬
‫الكانط مثال‪.‬‬
‫ي‬ ‫النقدي‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬نعم‪ ،‬هناك‬
‫كانط‪ ...‬لكن يوجد أيضاً من هو أقرب إلينا‪ ،‬أعني به سارتر‪ ،‬غري أ َّن وجه االختالف بيني وبني عرص‬
‫التنوير‪ ،‬هو الفرديَّة عىل وجه الخصوص‪ .‬فالتنوير ينشئ فلسفة الوعي بالفرد والذات‪ ،‬أ َّما ما يبهرين‬
‫و«الجامعي»‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫فهو‪ ،‬عىل العكس‪ ،‬ذاك الذي يق ِّرب بني وعي األفراد‪ ،‬والذي يصنع «املشرتك»‬
‫متجاوزا ً القيم الذات َّية والفرديَّة بل وعىل حسابها أحياناً‪ .‬قد نجد أنفسنا هنا يف منطقة قريبة من‬
‫دوركهايم حني يرى أ َّن التج ُّمع يف ح ِّد ذاته هو إ َّما «شأن ديني» أو «ال يشء»‪ .‬وسواء تعلَّق األمر‬
‫كل‬
‫تأسييس أو بإحياء ذكرى ‪ ...‬فإ َّن َّ‬
‫ٍّ‬ ‫يف أو حدث‬‫بتمجيد امليت‪ ،‬أو الجدود‪ ،‬أو تاريخ حدث خرا ٍّ‬
‫هذه املعتقدات ترتكز عىل أفكار يف غاية الجنون‪ ،‬لكنها متامسكة‪ ،‬فهي تح ِّرك الجامهري وتضبط‬
‫ات ّجاه التاريخ‪.‬‬
‫أن هذا البحث حول ما ِّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫يقرب الصلة‪ ،‬وما‬ ‫ليت�ير‪ :‬ي� الوقت نفسه‪ ،‬نجد‬ ‫• ماغازين ي‬
‫ًّ‬ ‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫يجمع‪ ،‬إنما يقود إىل علم االجتماع‪ ،‬مع أنك بعيد جدا عن ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬نعم ‪ ،‬رمبا أل َّن علامء االجتامع ال يرجعون إىل األسباب‪ ،‬فهم يصفون النتائج‬
‫ويهت ّمون بواقع األشياء من دون أن يشغلوا أنفسهم مبصدرها‪ .‬إنَّهم ال مييلون إىل علم التاريخ‪ ،‬أ َّما‬
‫أنا‪ ،‬فإنني أسعى لتنظيم وتعيني عوامل الق َّوة التي تخرتق عصور التاريخ بانتظام‪ ،‬وأحياناً باستمراريَّة‬
‫تجعل املرء يق ُّر ‪ -‬إىل ح ٍّد ما عىل األقل – بأ َّن شيئاً ما يف تلك العوامل يتبلور ليتح َّول إىل ثوابت‪.‬‬
‫�ء من القلق‪ :‬هل أصبح ريجيس‬ ‫ف ش‬ ‫ف‬
‫ليت�ير‪ :‬ي� الواقع‪ ،‬يتساءل البعض ي� ي‬ ‫• ماغازين ي‬

‫‪185‬‬
‫محاورات‬

‫َّ‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬


‫بالغيبيات المتسامية ‪ Transcendance‬؟‬ ‫روحانيا؟ أنت اآلن‪ ،‬هل تؤمن‬ ‫دوبريه عالما‬

‫‪ -‬دوبريه‪ :‬كالَّ‪ ،‬الروحان َّيات ال ته ُّمني إطالقاً‪ ،‬بل ته ُّمني الرباغامت َّية‪ ،‬لذلك أم ِّيز بني الروحا ِّ‬
‫ين‬
‫ين‪ ،‬ومل تكن يل أيَّة تجربة روحان َّية‪ ،‬لك َّنه حقيقة‪ .‬بالطبع‬ ‫الديني‪ .‬برصاحة‪ ،‬ال أعرف الروحا َّ‬ ‫ِّ‬ ‫والشأن‬
‫الديني مرتبط أش َّد االرتباط برفض فكرة‬‫َّ‬ ‫هناك حتميَّة املوت بالنسبة إىل الجميع‪ ،‬وأعتقد أ َّن الشأن‬
‫حي لديه ولو رشارة من الذكاء يدرك أن وجوده زائل‪،‬‬ ‫فأي كائن ٍّ‬
‫املوت‪ ،‬األمر هنا يتعلَّق بحياة إضافيَّة‪ُّ .‬‬
‫الديني وامليثولوج َّيات طالباً منها إضافة ليست روح َّية بل جسديَّة‪.‬‬‫ِّ‬ ‫وال ميكنه إالَّ أن يتَّجه إىل الشأن‬
‫ت‬ ‫ف‬
‫ال� تعود‬ ‫فلوب� ي� بعض كراساته ي‬ ‫ي‬ ‫ليت�ير‪ :‬بعد موت صديق له‪ ،‬كتب‬ ‫• ماغازين ي‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫إىل ت‬
‫ف�ة شبابه‪« :‬إن فكرة خلود الروح تولدت من مشاعر الحرسة عىل المو�»‪ ،‬بماذا‬
‫ِّ‬
‫تعلق؟‪...‬‬

‫‪ -‬دوبريه‪ :‬هذه صياغة رائعة‪ ،‬وهي صحيحة بالتأكيد‪ ،‬وينتابني دامئاً شعور بالدهشة عندما أتبيَّ‬
‫أي مدى يدرك الكتاب مثل هذه الحقائق بصورة أرسع وأعمق‪ ،‬ممَّ يدركه الفالسفة‪ .‬إنَّهم أكرث‬ ‫إىل ِّ‬
‫ين املحسوس‪.‬‬ ‫التصاقاً من الفالسفة بالعلم اإلنسا ِّ‬
‫ً‬ ‫ن ِّ ف‬
‫الدي� ي� أعمالك ليس جديدا‪ ،‬بل كان دائم‬ ‫ي‬ ‫ليت�ير‪ :‬االهتمام بالشأن‬ ‫• ماغازين ي‬
‫ف‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫التفك� ي� أمر رهبان‬ ‫ي‬ ‫الحضور ي� أبحاثك األوىل ي� مجلة «الميديولوجيا» ‪ ،‬إذ شكل‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ال�هانية ‪..‬‬‫الكنيسة لحظة هامة من مجموع األدلة ب‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬نعم‪ ،‬هذا صحيح‪ ،‬ألنني وجدت دامئاً أ َّن رجال الكنيسة هم أقرب إىل املامرسة‬
‫الواقع َّية مقارنة برجال العلم‪ ،‬والسبب هو أ َّن مشكلتهم ال تتمثَّل يف معرفة الصواب والخطأ ‪ -‬فهذه‬
‫املشكلة تتولَّ حلَّها العقيدة ‪ -‬بل‬
‫يف فهم قضايا الناس‪ .‬كذلك فإ َّن‬
‫ملحة‬‫الغربية ف� حاجة َّ‬
‫َّ‬ ‫ثقافتنا‬ ‫الزمني يف ما يتعلَّق‬
‫ِّ‬ ‫ات ّساع املدى‬
‫ُي‬ ‫ُّ‬
‫إىل التخلص من التمركز حول الذات‬ ‫الديني يتيح ات ّباع منهج‬
‫ِّ‬ ‫بالشأن‬
‫ن َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ ف‬ ‫بكل مراحله مهام كان‬ ‫ِّ‬
‫الدي�‬
‫ي‬ ‫والمتمثل ي� القول أن الشأن‬ ‫معيَّ‬
‫ض‬
‫الما�‬ ‫ينتم إىل‬ ‫طولها‪ ،‬أي عىل مدى قرون أو‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫آالف السنني‪ ،‬ذلك عىل خالف‬
‫االقتصادي‬
‫ِّ‬ ‫السيايس أو‬
‫ِّ‬ ‫املجال‬
‫الذي ميكن اعتباره شأناً دينيّاً‬
‫زائالً‪ ،‬محكوماً بظاهرة إعادة التشكل املستم َّرة‪ ،‬ألنَّه قائم عىل معتقدات قصرية األجل‪ .‬فالشأن‬
‫اقتصادي ذو مردود‪ ،‬ألنَّه يتَّصف بالدميومة‪.‬‬
‫ٌّ‬ ‫سيايس جا ٌّد وشأن‬
‫ٌّ‬ ‫الديني هو إذن شأن‬
‫ُّ‬

‫‪186‬‬
‫الفرنسيِ ريجيس دوبريه‬
‫ّ‬ ‫ِّ‬
‫المفكر‬ ‫حوار على ضفاف الروحانية مع‬

‫ُّ ف‬
‫البرصي ي� داخلها‬ ‫الكث� من الرسوم‪ ،‬حيث التمثيل‬
‫ي‬ ‫ليت�ير‪ :‬تالزم أعمالك‬
‫• ماغازين ي‬
‫ً‬
‫يهمك أيضا منذ ت‬‫الدي� ُّ‬
‫ن ُّ‬
‫ف�ة طويلة بسبب من قدرته عىل إتاج‬ ‫ي‬ ‫مسألة ثابتة‪ .‬والشأن‬
‫الصورة واستخدامها‪.‬‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬بالفعل‪ ،‬هذه نقطة أخرى مه َّمة‪ ،‬ذلك أنَّنا نجد يف البناءات الثيولوجية ((الالهوتية))‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الكثري من الواقعية‪ ،‬وهي واقعية تعبِّ عن نفسها بأسلوب «فوق طبيعي»‪ ،‬لكنها تستخدم الرمز‬
‫استخداماً موفقاً‪ :‬ففكرة التجسيم وفكرة الصورة بوصفها وسيلة ملعرفة العامل اآلخر‪ ،‬تشكالن يف‬
‫‪ -‬تص ُّوري ‪ -‬أدوات مهمة جدا ً لتفسري الواقع يف عاملنا‪ .‬كام أن الصورة بوصفها عنرصا ً توسطياً ‪-‬‬
‫إمنا هي مسألة دينية يف األساس‪ ،‬وكانت محل جدل يف املجتمع الديني‪ .‬بينام الصور التي تحتل‬
‫كل هذه املكانة يف كوكبنا ‪ -‬الكوكب ‪ -‬الشاشة (‪ ،) Vidéosphére‬أي هذا اإلنئخاذ بالصورة حتى‬
‫العبادة‪ ،‬وهي سمة يختص بها عاملنا املعارص‪ ،‬ال يعدو كونه نوعاً من إعادة التدوير‪ ،‬تدوير التاريخ‬
‫اإلنساين (األنطولوجي) أ َّن هذا التكرار اللَّ نهايئ يكاد يقيض عىل ق َّوة التأثري املطلقة‪ ،‬والوظيفة‬
‫التواصل َّية اللتني منحتهام الكنيسة للــ «صورة»‪ .‬لكن ليس هذا سوى مثال من بني أمثلة أخرى‬
‫الديني ال يه ُّم املؤمنني‬
‫ُّ‬ ‫الدنيوي‪ .‬فالشأن‬
‫ِّ‬ ‫متع ِّددة‪ .‬إنني مقتنع بأ َّن املق َّدس هو أفضل طريق لفهم‬
‫أقل الناس استفادة منه‪ ،‬ألنهم قد أخذوا بالفعل ما‬ ‫وحدهم‪ ،‬بل ميكننا القول أ َّن أهل اإلميان هم َّ‬
‫الديني والذي ميكن‬
‫ِّ‬ ‫يحتاجونه‪ .‬وباملقابل‪ ،‬فإ َّن أمام غري املؤمنني الكثري الذي ينتظرونه من الشأن‬
‫الديني يف الحقيقة يه ُّمنا جميعاً مؤمنني وغري مؤمنني‪ ،‬ألننا‬
‫ُّ‬ ‫أن يتعلَّموه منه عن عامل الواقع‪ .‬فالشأن‬
‫يف نهاية األمر أمام صورة مقنعة من علم اإلنسان (أنرثوبولوجيا‪.‬‬
‫األساط� ‪ -‬عىل فهم‬
‫ي‬ ‫ن ُّ‬
‫الدي� ‪ -‬من خالل‬ ‫ليت�ير‪ :‬ربما يساعدنا الشأن‬‫• ماغازين ي‬
‫ً‬ ‫ي‬ ‫ً‬
‫ت‬
‫ال� تربطنا بالعالم‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬
‫ه ي‬‫الجماع الذي ينسج ‪ -‬رغما عنا ‪ -‬خيوطا وهمية‪ ،‬ي‬
‫ي‬ ‫ذلك التضامن‬
‫الورقية عىل سبيل المثال تنتم إىل تلك َّ‬
‫القوة الغامضة لألسطورة‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫واآلخرين‪ ،‬فالعملة‬
‫ي‬
‫أي إىل الوهم‪ ،‬والمعتقد‪...‬‬
‫‪ -‬دوبريه‪ :‬نعم‪ ،‬لقد ذكرت قبل قليل فلوبري‪ ،‬لكن هناك كاتب آخر استطاع أن يفهم كام ينبغي‬
‫يبي أ َّن كل‬
‫هذه املسألة‪ ،‬إنه بول فالريي‪ .‬فقد كتب حول مسألة «التضامن» أروع الصفحات‪ ،‬إذ َّ‬
‫معي من املسلَّامت واملعتقدات‬ ‫مجموعة إنسانية تعيش بــ «التضامن» يف ما بينها‪ ،‬حول عدد َّ‬
‫يئ من قبل الجميع‪ .‬لكن يف اللحظة التي يكف فيها معظم الناس‬ ‫القامئة بدورها عىل الوالء التلقا ِّ‬
‫النقدي الذي متثِّله‬
‫ِّ‬ ‫عن اإلميان بأ َّن الورقة النقديَّة تعادل القيمة التي تعلن عنها‪ ،‬تكون نهاية النظام‬
‫كل نسق‪ .‬عىل أية‬ ‫كل قوة‪ ،‬لكنه يعني يف الوقت نفسه هشاشة ِّ‬ ‫تلك الورقة‪ .‬فاإلميان هو أساس ِّ‬
‫الديني‪ .‬لنأخذ الورقة الخرضاء مثالً‪ :‬فهي‬
‫ِّ‬ ‫حال فإن جذور ظاهرة التضامن متت ُّد عميقاً يف الشأن‬

‫‪187‬‬
‫محاورات‬

‫تجمع بني اإلميان بجهاز مايل رسمي هو االحتياطي الفيدرايل واإلميان املعلن باألمة املختارة‬
‫يبي القيمة املثبتة‬
‫«الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬ثم‪ ،‬يف أفضل موقع وبالتحديد أعىل الرقم الذي ّ‬
‫عىل وجه الورقة اإلميان بالله ‪ In God we trust‬هذه الثقة ‪ Confiance‬هي ‪ -‬يف أساسها ‪ -‬شأن‬
‫ديني‪ .‬والقوة كل القوة تكمن هنا‪ ،‬يف صيغة «كأنه ‪.»...‬‬
‫وبطبيعة الحال‪ ،‬هذه الــ «كأنه‪ »..‬ليست معزولة‪ ،‬فهي ترتكز عىل ما ال يحىص من مثيالتها ‪ .‬وهي‬
‫تؤازر بعضها بعضاً فاإلميان ‪ -‬بطبيعته ‪ -‬يقوم عىل عوامل متعددة‪ .‬ومثله كمثل توازن القرص املشاد‬
‫بالورق‪ .‬إذ ال ميكن أن يتحقق توازنه إالّ بفضل تراكم األساطري املتعاضدة‪ .‬وهكذا فإ ّن الثقة يف نظام‬
‫نقدي معني ترتكز هي نفسها عىل أشكال أخرى من األئتامن اىل حد ما ‪ -‬افرتاضية‪ ،‬مثل مستوى األداء‬
‫التكنولوجي‪ ،‬اإلنتاجية الصناعية‪ ،‬والقوة العسكرية‪ ،‬إلخ‪ .‬لكن تلك األشكال ميكن أن تنجم ‪ -‬يف‬
‫كل من يشكّك يف املعتقد أو يته َّدده‪.‬‬ ‫الوقت املالئم ‪ -‬من إجراءات انتقاميَّة حقيقية ض َّد ِّ‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫ختامية بخصوص «النار المقدسة» هذا الكتاب الذي‬ ‫ليت�ير‪ :‬كلمة‬
‫• ماغازين ي‬
‫ِّ‬ ‫ن ِّ‬ ‫ف‬
‫الدي�‪ ،‬هل يمثل حقبة سوف تليها حقب أخرى‪،‬‬ ‫ي‬ ‫جمعت فيه عصارة أفكارك ي� الشأن‬
‫ّْ‬ ‫ٌّ‬ ‫َّ‬
‫ينته عند هذا الحد؟‬ ‫ي‬ ‫سوف‬ ‫حرصي‬ ‫عمل‬ ‫ه‬‫أن‬ ‫أم‬
‫الديني نهايتها عند هذا الحد‪« .‬النار املق َّدسة»‬
‫ِّ‬ ‫يل‪ ،‬تجد مجموعة أعاميل حول الشأن‬ ‫بالنسبة إ َّ‬
‫املوسوعي‪ ،‬وغزارة املعلومات‬
‫ِّ‬ ‫يفس طابعه‬ ‫حرصي‪ ،‬وهو خالصة ما أردت قوله‪ ،‬وهذا ما ِّ‬ ‫ٌّ‬ ‫كتاب‬
‫الواردة فيه‪ .‬إنَّه نقطة النهاية‪ .‬لقد سبق أن أثرت منذ عرشين سنة أطروحات للبحث‪ ،‬وقدمت حول‬
‫الخاص‪ ،‬ولن أميض إىل أبعد من ذلك‪ .‬إنَّها مساهمة‪ ،‬لكنني عىل يقني من‬ ‫َّ‬ ‫الديني تحلييل‬
‫ِّ‬ ‫الشأن‬
‫حة إىل التخلُّص من هذا التمركُز حول الذات ‪Nombrilisme‬‬ ‫أ َّن ثقافتنا الغربيَّة تبدو يف حاجة مل َّ‬
‫الديني يف‬
‫ِّ‬ ‫الديني هو شأن ينتمي إىل املايض‪ .‬لقد أُعيد توظيف الشأن‬ ‫َّ‬ ‫واملتمثِّل يف القول أ َّن الشأن‬
‫كل أنواع الديانات املدن َّية ‪ Séculiéres -‬وحاملا تنهار هذ الديانات «األفق َّية» ‪ ،‬سوف نشهد الصعود‬ ‫ِّ‬
‫جلة» ‪ ،Labellisé ،‬سوى أنَّه حتى مع‬ ‫ين للدين بشكله العتيق‪ ،‬أي الدين «ذو العالمة املس ّ‬ ‫الجنو َّ‬
‫وجود هذه الظاهرة فمن غري املؤكَّد أنَّها ستكون عودة حقيقيَّة إىل املايض‪ ،‬فهنالك أسلوب لالنتامء‬
‫الكنيسّ‪ .‬باملقابل‪ ،‬نشهد عودة‬
‫ْ‬ ‫املذهبي‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫العقائدي‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫املؤسيسُّ ‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ول‪ ،‬وهو األسلوب‬ ‫إىل الدين قد َّ‬
‫ظهور املذاهب‪ ،‬فهي متلك عىل الجملة جوهرا ً دين َّياً عميقاً‪.‬‬
‫مل يكن إحياء الدين أو تجديده لدى الطائفة اليهوديَّة مثالً أمرا ً واردا ً منذ أربعني سنة‪ ،‬ولو أن أحدا ً‬
‫أنبأ رميون آرون بهذا ملا ص َّدقه‪ .‬كان املرء يهوديَّاً بالثقافة‪ ،‬وهو اآلن يصبح يهوديَّاً بالديانة‪ .‬أ َّما مسألة‬
‫املسيحي‬
‫َّ‬ ‫الطوائف املسلمة فهي ت ُطرح بشكل مغاير متاماً لكنها ليست َّ‬
‫أقل ج ّديَّة‪ .‬كذلك فإ َّن العامل‬
‫الديني‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫وعىل طريقته ‪ -‬مي ُّر بحاالت متشابهة متاماً‪ .‬نعم‪ ،‬هناك رضورة عاجلة لفهم الشأن‬

‫‪188‬‬
‫سيرة ذات َّية مقتضبة‬
‫ف‬ ‫ُولد ريجيس دوبريه ف� باريس ف� ن‬
‫(سبتم�) ‪ ،1940‬ودرس ي� المدرسة‬ ‫ب‬ ‫الثا� من أيلول‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي‬
‫َّ ف‬ ‫ِّ‬
‫ألتوس� من أبرز أساتذته‪ .‬ظهر بشخصيته ي� سينما الواقع‬ ‫ي‬ ‫العليا لألساتذة وكان المفكر لوي‬
‫ً‬ ‫ف‬ ‫للمخرج ي ن‬ ‫َ‬ ‫ف‬
‫� جان روش وإدغار موران ي� عام ‪ .1960‬أصبح «أستاذا‬ ‫ي� فيلم «وقائع الصيف»‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ً ف‬
‫الستينيات عمل أستاذا للفلسفة‬ ‫مشاركا ي� الفلسفة» خالل عام ‪ .1965‬وخالل أواخر‬
‫َّ‬ ‫لت� غيفارا ف� بوليفيا‪ .‬من ِّ‬ ‫يكا ش‬ ‫ش ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫أهم مؤلفاته كتاب‬ ‫ي‬ ‫ي‬ ‫ي� جامعة هافانا ي� كوبا‪ ،‬وأصبح �‬
‫اتيجية السائدة آنذاك ي ن‬ ‫واالس� َّ‬ ‫ت‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ف‬
‫ب� الحركات‬ ‫التكتيكية‬ ‫«ثورة ي� الثورة»‪ ،‬الذي حلل العقائد‬
‫ً‬ ‫َّ‬ ‫ِّ ف‬ ‫االش� َّ‬‫ت‬
‫أم�كا الالتينية‪ ،‬كما وضع كتيبا لحرب العصابات الذي استكمل فيه‬ ‫اكية المتشددة ي� ي‬
‫دليل جيفارا الخاص بالموضوع عام ‪ 1967‬ف ي� باريس‪.‬‬
‫ف‬ ‫ف‬ ‫ف‬ ‫ُ‬
‫و� ‪ 20‬أبريل ‪ 1967‬تم القبض عىل دوبريه‬ ‫ق ِبض عىل غيفارا ي� بوليفيا ي� أكتوبر ‪ ،1967‬ي‬
‫ً‬ ‫ف‬ ‫ف‬
‫الصغ�ة ي� بوليفيا وحكم عليه بالسجن لمدة ‪ 30‬عاما بعد إدانته‬ ‫ي‬ ‫ي� بلدة «مويوبامبا»‬
‫دولية‬ ‫بمشاركته ف� حرب العصابات مع غيفارا‪ .‬أطلق رساحه خالل عام ‪ 1970‬بعد حملة َّ‬
‫ي‬
‫ن‬
‫إلطالق رساحه‪ ،‬شملت مناشدات من جان بول سارتر‪ ،‬وأندريه مالرو‪ ،‬والج�ال شارل دي‬
‫التشيلية» عام ‪ 1972‬بعد‬ ‫َّ‬ ‫تشيل‪ ،‬حيث كتب «الثورة‬ ‫غول‪ ،‬والبابا بولس السادس‪ .‬لجأ إىل‬
‫ي‬
‫مقابالت مع سلفادور أليندي‪ ،‬ثم عاد إىل فرنسا خالل عام ‪ 1973‬عقب االنقالب الذي قام‬
‫تشيل‪.‬‬ ‫ف‬
‫ي‬ ‫به أوغستو بينوشيه ي�‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ًّ‬ ‫ً‬ ‫ب� العام ‪ 1981‬ت‬ ‫ين‬
‫الخارجية‬ ‫رسميا للرئيس ي� الشؤون‬ ‫وح� ‪ 1995‬سيصبح دوبريه مستشارا‬
‫ف‬ ‫ً‬ ‫ت‬
‫بعد انتخاب فرانسوا مي�ان رئيسا لفرنسا ي� عام ‪ .1981‬بهذه الصفة وضع سياسة تهدف‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫حرية ُّ‬ ‫إىل زيادة َّ‬
‫ترصف فرنسا ي� العالم‪ ،‬وتقليل االعتماد عىل الواليات المتحدة‪ ،‬وتعزيز‬
‫َّ‬ ‫أيضا ف� ُّ‬ ‫ً‬
‫الرسمية للحكومة‪،‬‬ ‫تطور االحتفاالت‬ ‫ي‬ ‫التقارب مع المستعمرات السابقة‪ .‬شارك‬
‫ت‬ ‫الفرنسية‪ .‬استقال خالل عام ‪.1988‬‬ ‫َّ‬ ‫المئوية الثانية للثورة‬ ‫َّ‬ ‫واالع�اف بالذكرى‬ ‫ت‬
‫وح�‬
‫ٍّ‬ ‫ف‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫فخري‬ ‫الرسمية بما ي� ذلك مستشار‬ ‫التسعينيات‪ ،‬حيث شغل عددا من الوظائف‬ ‫منتصف‬
‫الفرنسية ف ي� مجلس الدولة‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫اإلدارية العليا‬ ‫َّ‬ ‫ي� المحكمة‬
‫ف‬
‫ز َّ‬ ‫ُ‬ ‫ف‬ ‫ش‬
‫اإلنكل�ية باسم «ريجيس‬ ‫ي‬ ‫ن� دوبريه مذكرات عن حياته ي� عام ‪ ،1996‬ترجمت إىل‬
‫َّ ن ف‬
‫ف� ي�‬ ‫دوبريه‪ ،‬الحمد هلل ربنا» (دار فرسو‪ .)2007 ،‬ومن أعماله األخرى‪« :‬سلطة المثق ي‬
‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ِّ‬
‫العامة»‬ ‫السياس» (‪ ،)1981‬و«دروس ي� الميديولوجيا‬ ‫ي‬ ‫فرنسا» (‪ ،)1979‬و«نقد العقل‬
‫ف‬ ‫َّ‬
‫(‪ ،)1991‬و«حياة وموت الصورة» (‪ ،)1991‬و«النار المقدسة» (‪ ،)2003‬و«خطأ ي�‬
‫الحساب» (‪ ،)2014‬و«القرن األخ�ض » (‪.)2020‬‬
‫المحور‬

‫ف‬ ‫مفارقات َّ‬


‫عر�‬
‫الوجود ي� فكر ابن ب ي‬ ‫ثنائية‬
‫ِّ‬ ‫فِّ‬ ‫َّ‬
‫والتجل‬
‫ي‬ ‫التخ�‬
‫ي‬ ‫جدليات‬
‫العر�‬
‫بي‬ ‫ـ ربيعة‬

‫يز‬
‫والميتاف�ياء‬ ‫ب� ي ز‬
‫الف�ياء‬ ‫ي ن‬
‫َّ‬ ‫ف‬
‫حركة الطبيعة ومفهوم الحركة ي� الجوهر عند ُمل صدرا‬
‫ـ إبراهيم ي ن‬
‫قال�‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود يف فكر ابن عريب‬
‫ِّ‬
‫والتجل‬ ‫ِّ‬
‫التخفي‬ ‫جدل َّيات‬

‫العر�‬
‫بي‬ ‫ربيعة‬
‫ُّ‬
‫التصوف وأستاذة السوسيولوجيا ‪ -‬جامعة ابن زهر‪ -‬المغرب‪.‬‬ ‫ف‬
‫باحثة ي�‬

‫ّ‬
‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ش‬ ‫ف‬
‫والع�ين‪ ،‬وهو الذي عاش ما‬ ‫عر� ي� القرن الحادي‬
‫ماذا يمكن أن يقول لنا ابن ب ي‬
‫ع� الميالدي؟‬ ‫ع� والثالث ش‬ ‫ن‬
‫الثا� ش‬ ‫ن‬
‫يب� القرن ي‬
‫الصوفية قد يكون علينا أن نعيد‬ ‫َّ‬ ‫خصوصية تجربته‬ ‫َّ‬ ‫لو أننا أقمنا السؤال ضمن‬
‫ُّ ف‬ ‫ِّ‬
‫التال‪ :‬ماذا يمكن أن يقدم لنا التصوف ي� هذا القرن؟‬ ‫صياغته عىل النحو ي‬
‫َّ‬
‫ِّ‬
‫النظري لعرفان‬ ‫تقت� مقاربة البناء‬ ‫ي‬
‫ض‬ ‫نأ� كان األمر‪ ،‬فإن اإلجابة عن هذا السؤال‬
‫بأننا ال ننظر إىل ت ن‬ ‫َّ‬ ‫وللتصوف بشكل ٍّ‬ ‫ُّ‬ ‫ٍّ‬
‫الم� الذي‬ ‫عام‪ ،‬ذلك‬ ‫خاص‬ ‫عر� بشكل‬ ‫ابن ب ي‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬ ‫َّ‬
‫خلفه باعتباره نقال لتجربة صوفية روحية فحسب‪ ،‬وإنما أيضا بما هو نظرية عامة لها‬
‫َّ‬ ‫َّ‬
‫معماريتها المحددة‪ ،‬وأسسها‪ ،‬ومنطلقاتها‪ ،‬مثلما تنطوي عىل فرضيات واستدالالت‬
‫ونتائج‪.‬‬
‫َّ‬ ‫أن ُ‬‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ت‬ ‫َّ‬
‫البعد المحدد‬ ‫نرم إليها ي� هذا البحث بفرضية مؤداها‬ ‫ال� ي‬ ‫تتلخص األطروحة ي‬
‫لتلمس هذا ُ‬ ‫الثنا�‪ .‬وسنسىع ُّ‬ ‫ئ ّْ‬ ‫لتصور ابن عر� هو ُ‬ ‫ُّ‬
‫وبالتال‬
‫ي‬ ‫البعد والتدليل عليه‪،‬‬ ‫ي‬ ‫البعد‬ ‫بي‬
‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ت َّ‬ ‫َّ‬
‫وجودية‪ ،‬أم إىل‬ ‫ال� وظفها سواء ي� إشارته إىل ما له طبيعة‬ ‫ضبط طبيعة الثنائيات ي‬
‫ُّ‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫تفس�ه لتعدد ظواهر الوجود بتعدد أسماء هللا‬ ‫ي‬ ‫معرفية‪ ،‬مع التأكيد عىل‬ ‫ما له طبيعة‬
‫ِّ‬
‫الموجدة لها‪ .‬فاهلل واحد لكن الوجود متعدد‪ ،‬وهو مرآة عاكسة ألسماء هللا‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ِ‬
‫* * *‬
‫مفردات مفتاحية‪ :‬الوجود ـ الوحدة ـ الثنائية ـ التعدد ـ المعرفة ـ اإلدراك ـ الخفاء‬
‫لِّ‬
‫ـ التج ي ‪.‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫مقدمة‪:‬‬
‫علمي‪ ،‬وسرنكِّز‬
‫ٍّ‬ ‫يف يف تص ُّور ابن عريب يف قالب‬
‫سنحاول يف مقاربتنا هذه أن نبني ال ُبعد الصو َّ‬
‫باألساس عىل تص ُّوره لوحدة الوجود‪ .‬منطلقني يف مقاربتنا لهذا التص ُّور من قوله[[[‪:‬‬

‫الحق سبحانه من حيث أسامئه الحسنى‪...‬أن يرى أعيانها‪ ،‬وإن شئت قلت أن يرى‬
‫ُّ‬ ‫«مل َّا شاء‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫عينه‪ ،‬يف كون جامع يحرص األمر كلَّه‪ ،‬لكونه م َّتصفاً بالوجود‪ ،‬و يظهر به ُّ‬
‫رسه إليه‪ :‬فإ َّن رؤية اليشء‬
‫نفسه بنفسه ما هي مثل رؤيته نفسه يف أمر آخر يكون له كاملرآة‪ ،‬فإنَّه يظهر له نفسه يف صورة يعطيها‬
‫الحق‬
‫ُّ‬ ‫املحل وال تجلِّيه له‪ .‬وقد كان‬
‫ُّ‬ ‫املحل املنظور فيه ممَّ مل يكن يظهر له من غري وجود هذا‬
‫َّ‬
‫سبحانه أوجد العامل كلَّه وجود شبح مسوى ال روح فيه‪ ،‬فكان كاملرآة غري مجل َّوة ‪ .‬ومن شأن‬
‫اإللهي أنَّه ما سوى محالًّ إالَّ ويقبل روحاً إله َّياً عبَّ عنه بالنفخ فيه‪ ،‬وما هو إالَّ حصول‬
‫ِّ‬ ‫الحكم‬
‫االستعداد من تلك الصورة املس َّواة لقبول الفيض التجلِّ الدائم الذي مل يزل وال يزال‪ .‬وما بقي إالَّ‬
‫قابل‪ ،‬والقابل ال يكون إالَّ من فيضه األقدس»‪.‬‬
‫[[[‬

‫ومن قوله[[[‪:‬‬
‫أح ٌد مـا مــثلـُــه أحــ ُد بجمــا ِل ال َّن ِ‬
‫عت منفــرد‬

‫فأعجبوا من حكم ٍة وجدتنعم وال َّرحمن ما وجـدوا‬


‫ٍ‬
‫واحــــد أحــــ ُد‬ ‫هكـذا التوحيـ ُد فاعتـربوا واحـ ٌد يف‬

‫كام ننطلق من قول س ِّيد حسن نرص[[[‪:‬‬

‫«ترجع نظريَّة ابن عريب إىل العالقة بني الصفات والذات‪ ،‬وربط بني التنزيه والتشبيه‪ ،‬إذ يثبت يف‬
‫الوقت نفسه التعايل لله‪ .‬وات ِّصافه بصفات‪ ،‬ليست جميع صفات الكون إالَّ انعكاسات وصور لها»‪.‬‬

‫النص األول يربط‬


‫َّ‬ ‫سنعترب هذه النصوص الثالثة نصوصاً مؤطَّرة لهذه املقاربة من منطلق أ َّن‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫َّ‬ ‫بالتجل و الوجود املمكن بالتخفِّي‪ .‬وأنَّه يعترب أ َّن روح الوجود هو النفس‬
‫ِّ‬ ‫يل‬
‫الوجود الفع ِّ‬
‫النص الثالث‬
‫ُّ‬ ‫النص الثاين فريكِّز عىل وحدان َّية الله‪ ،‬بينام ينظر‬
‫ُّ‬ ‫بالتايل‪ ،‬فالوجود ذو طبيعة ثنائ َّية‪ .‬أ َّما‬
‫إىل العالقة بني الذَّات والصفات ويجعل من الصفات مجلِّيات للموجودات‪.‬‬
‫[[[‪ -‬فصوص الحكم‪ ،‬ص ‪.49 – 48‬‬
‫[[[‪ -‬التفخيم لنا‪.‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬ج‪.288\2‬‬
‫[[[‪ -‬ثالثة حكامء مسلمني‪ ،‬ص‪.142‬‬

‫‪193‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ّ‬ ‫ُ‬
‫األ ُسس َّ‬
‫العامة املحددة‪:‬‬ ‫‪-1‬‬
‫َّ‬
‫النبوة‪:‬‬ ‫‪-1-1‬‬

‫ُع َّدت تجربة النب َّوة أساس املعرفة الدين َّية‪ ،‬وانطالقاً منها ِّ‬
‫يؤسس ابن عريب للمعرفة الصوف َّية التي‬
‫يعترب أنَّها أشمل‪ ،‬و ذلك من ثالثة أوجه‪:‬‬

‫النبي‪.‬‬
‫يعب عن الوحي‪ ،‬والوحي هو تجربة مي ُّر منها ّْ‬
‫الديني ِّ‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫َّ‬ ‫أ ‪ -‬الوجه األ َّول‪ :‬اعتبار أ َّن‬

‫والنبي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫الديني وسي ٌ‬
‫ط بني مصدر املعرفة (الله)‬ ‫َّ‬ ‫النص‬
‫َّ‬ ‫ب‪ -‬الوجه الثاين‪ :‬اعتبار أ َّن‬

‫ج ‪ -‬الوجه الثالث‪ :‬السعي للتواصل املبارش مع مصدر املعرفة‪ ،‬عرب متثُّل تجربة الوحي‬
‫الديني‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫بالنص‬
‫ِّ‬ ‫واالقتداء بها بدالً من االكتفاء‬

‫النص‬
‫ُّ‬ ‫الديني ورد مجمالً‪ ،‬بينام‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫َّ‬ ‫اإلطار العام املح ِّدد لهذه األوجه الثالثة هو أ َّن‬
‫النص‬
‫ُّ‬ ‫الديني يتض َّمن جوانب ملتبسة‪ ،‬بينام‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫َّ‬ ‫مفصالً‪ .‬هذا يقودنا إىل استنتاج أ َّن‬
‫الصويفُّ‪ ‬ورد َّ‬
‫كل التجلِّيات‪.‬‬
‫نص تربز فيه ُّ‬
‫يف واضح ال لبس فيه‪ .‬أي إنَّه – بحسب قراءتنا إلبن عريب ٌّ‬
‫الصو ُّ‬
‫أ َّما املسار العا ُّم املح ِّدد للتجربة الصوف َّية‪ ،‬فهو ات ِّباع نهج اإلميان‪ .‬فاإلميان يشري إىل وحدة‬
‫تجسدت‬
‫الحقيقة التي هي الجامع بني األديان السامويَّة كلِّها (اليهوديَّة واملسيحيَّة واإلسالم)‪ .‬وقد َّ‬
‫هذه األديان عرب التاريخ من خالل التجربة نفسها‪ :‬تجربة النب َّوة التي ارتبطت باملصدر ذاته «الله»‪.‬‬
‫يف هذا السياق‪ ،‬يؤكِّد ابن عريب وحدة الدين الوجوديَّة‪ ،‬لوحدة مصدره‪ ،‬أ َّما اختالف الرشائع فريجعه‬
‫إىل اختالف األزمان‪.‬‬

‫‪ 2- – 1‬العلم‪:‬‬

‫يقول ابن عريب[[[ متح ِّدثاً عن العلم بأنَّه‪:‬‬

‫كل‬
‫كل معلوم يُتص َّور‪ ،‬وال ُّ‬
‫«ليس تص ُّور املعلوم وال هو املعنى الذي يتص َّور املعلوم‪ ،‬فإنَّه ما ُّ‬
‫عامل يَتص َّور‪ ،‬فإ َّن التص ُّور للعامل إنَّ ا هو من كونه متخ َّيالً‪ ،‬والصورة للمعلوم أن تكون عىل حالة‬
‫ميسكها الخيال‪ ،‬وثم معلومات ال ميسكها الخيال أصالً فتبث أنَّه ال صورة لها»‪.‬‬

‫النص‪ ،‬يتبيَّ أنَّه يربط التص ُّور بالخيال‪ ،‬كام يربط العلم باملعلوم‪ ،‬ويعرف العلم‬
‫ِّ‬ ‫من خالل هذا‬
‫باالستناد عىل نوعني من التص ُّور‪:‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ج‪.70\1‬‬

‫‪194‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫‪ -‬تص ُّور املعلوم‪ :‬يرتبط بصورة مح َّددة يرسمها الخيال‪ .‬غري أ َّن املعلوم رضبان‪ :‬رضب له صورة‪،‬‬
‫ورضب ال صورة له‪.‬‬

‫‪ -‬تص ُّور العالِم‪ :‬يرتبط مبتخ ِّيلِه‪ .‬وبالتايل ما يتجاوز هذا املتخ َّيل ال ميكن أن يتص َّوره‪ ،‬أل َّن‬
‫التص ُّور إجامالً منبعه الخيال‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫إ َّن قرن ابن عريب[[[ بني العلم والتص ُّور من جهة‪ ،‬وبني التص ُّور والخيال من جهة أخرى‪ ،‬جعله‬
‫مييِّز بني ثالثة أمناط من العلوم‪:‬‬

‫‪ -‬علم األحوال‪ :‬ميكن موازاته بعلم املحسوسات‪ ،‬ويرتبط بالذوق كالعلم بحالوة العسل‪.‬‬

‫‪ -‬علم العقل‪ :‬ميكن موازاته بعلم املعقوالت‪ ،‬ويرتبط بالنظر والدليل‪.‬‬

‫يل‪ ،‬وقد ف َّرعه ابن عريب إىل فرعني‪ :‬األول‬


‫النبي والو ُّ‬
‫‪ -‬علم األرسار‪ :‬هو فوق العقل وال يدركه إالَّ ُّ‬
‫يدرك بالعقل‪ ،‬والثاين عىل رضبني‪ :‬رضب منه يلتحق بعلم األحوال‪ ،‬ورضب يلتحق بعلم األخبار‪،‬‬
‫ولعل ما مييِّز علم األرسار عند ابن عريب أ َّن العامل بها‬
‫وهو بالتايل يخضع ملعيار الصدق والكذب‪َّ .‬‬
‫يكون عاملاً ِّ‬
‫بكل العلوم‪.‬‬

‫هذا التنميط يقودنا إىل اعتبار أ َّن ابن عريب قد نظر إىل العلم‪ ،‬بشكل عا ٍّم‪ ،‬يف ارتباطه باإلدراك‪.‬‬
‫ويف هذا السياق يورد نرص حامد أبو زيد[[[ التمييز الذي أقامه بني مستويات ثالثة من اإلدراك‪:‬‬

‫‪ -‬اإلدراك بالبرص‪ ،‬ويُبنى عليه علم األحوال‪.‬‬

‫‪ -‬اإلدراك بالخيال‪ ،‬ويُبنى عليه علم العقل‪.‬‬

‫‪ -‬اإلدراك بالبصرية‪ ،‬ويُبنى عليه علم األرسار‪.‬‬

‫يف إطار اإلدراك‪ ،‬يقيم ابن عريب[[[ ثنائ َّية املدرِك واملد َرك‪ ،‬وين ِّمط املدرِك إىل منطني‪ :‬مدرِك‬
‫يعلم وله قوة التخيُّل‪ ،‬ومدرِك يعلم لكنه غري مالك للقدرة عىل التخيُّل‪.‬‬

‫والنبي‪ ،‬من حيث اعتبارات ثالثة‪:‬‬


‫ِّ‬ ‫وانطالقاً من هذا التمييز‪ ،‬يقيم موازاة بني العارف‬

‫‪ -‬اعتبار أ َّن اإلدراك عند كليهام يتجاوز مستوى املحسوس واملعاين إىل مستوى ما ال يُد َرك‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪ ،‬ج‪.54\3‬‬


‫[[[‪ -‬هكذا تكلَّم ابن عريب‪ ،‬ص‪.32‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪. 70\1 ،‬‬

‫‪195‬‬
‫حقول التنظير‬

‫بالبرص‪ .‬أي أنَّهام يتجاوزان علوم األحوال إىل علوم األرسار‪.‬‬

‫‪ -‬اعتبار أ َّن كليهام مسئول عن أثر سلوكه عىل العا َّمة‪.‬‬

‫‪ -‬اعتبار أ َّن كليهام يتم َّيزان بقوة تحميه من الزلل‪ .‬من هنا اتصافهام بالعصمة‪.‬‬

‫اإللهي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫ين أو العلم‬
‫‪ -‬اعتبار أ َّن كليهام يتوفران عىل العلم اللَّد ِّ‬
‫أ َّما نقاط االختالف بينهام‪ ،‬فيمكن اختزالها يف ما ييل‪:‬‬

‫يل العارف ال يكون نب َّياً نب َّوة اختصاص‪.‬‬


‫النبي يكون ول َّياً عارفاً‪ ،‬والو ُّ‬
‫‪ُّ -‬‬
‫اإللهي وغري مالك‬
‫ِّ‬ ‫يل يكون مالكاً للعلم‬
‫اإللهي‪ ،‬والو ُّ‬
‫ِّ‬ ‫النبوي وللعلم‬
‫ِّ‬ ‫النبي يكون مالكاً للعلم‬
‫ُّ‬ ‫‪-‬‬
‫ّْ‬
‫النبوي‪.‬‬ ‫للعلم‬
‫ّْ‬
‫نبوي‪ .‬ومن مستلزمات‬ ‫للنبي من علم‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬العلم له ظاهر وباطن‪ .‬العلم الظَّاهر هو ما يكشفه الله‬
‫اإللهي الذي يكشفه‬
‫ُّ‬ ‫هذا العلم وجوب الدعوة إليه وتبليغه إىل الناس‪ .‬أ َّما العلم الباطن فهو العلم‬
‫للنبي وللعارف‪ .‬ومن مستلزمات هذا العلم تعلُّقه بالذَّات فقط ووجوب إخفائه‪ .‬بالتايل‪ ،‬يتَّسم‬
‫ِّ‬ ‫الله‬
‫عدم الكشف عن هذه التجربة بالرضورة التي تحمي من الوقوع يف الزلل‪ .‬يقول نرص حامد أبو‬
‫زيد[[[ بهذا الخصوص‪:‬‬

‫يف للحامية من الزلل أ َّن ما يكشفه الله للعارف‪ ،‬إنَّ ا هو كشف يتعلَّق بذاته‪ ،‬أي‬
‫«األساس املعر ُّ‬
‫أ َّن الكشف عىل قدر العارف ال عىل قدر الحقيقة يف ذاتها»‪.‬‬

‫يرى ابن عريب[[[ أ َّن املعرفة وسيط بني خفاء الذات اإلله َّية وتجلِّيها‪ .‬هذا ما ميكن أن يستنبط‬
‫القديس‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫من الحديث‬

‫«كنت كنزا ً مخف َّياً‪ ،‬فأردت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوين»‪.‬‬

‫التجل لخلقه‪ ،‬وترتبط اإلرادة بالقدرة ارتبا ً‬


‫ط لزوم‪.‬‬ ‫ِّ‬ ‫وعليه‪ ،‬فإ َّن إرادة الله واحدة وهي‬

‫‪ 3- – 1‬الوالية‪:‬‬

‫كل األنبياء أولياء‪ .‬فهو يحرص عىل ربط النب َّوة بالوالية‬
‫الجدير بالذِّكر هنا‪ ،‬أ َّن ابن عريب يعترب َّ‬
‫النبي باعتباره شخص َّية‬
‫ِّ‬ ‫من أوجه‪ ،‬والتمييز بينهام من أوجه أخرى‪ .‬كام يحرص عىل التمييز بني‬
‫[[[‪ -‬هكذا تكلم ابن عريب‪ ،‬ص ‪.33‬‬
‫[[[‪ -‬يف شجرة الكون‪ ،‬ص ‪.41‬‬

‫‪196‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫النبي باعتباره كلمة الله‪ .‬وهو التمييز الذي مكَّنه من الفصل بني محمد (ص) باعتباره‬
‫تاريخ َّية وبني ِّ‬
‫شخصيَّة تاريخيَّة وبني الحقيقة املح َّمديَّة التي هي أصل جميع الرسائل السامويَّة‪ .‬من هنا تكون‬
‫الحقيقة املح َّمديَّة هي املشكاة التي استم َّد منها جميع ال ُّرسل واألنبياء نورهم ظاهره وباطنه‪ .‬هذا‬
‫َّ‬
‫استدل عىل ذلك‬ ‫النبي محمد (ص) كان موجودا ً بحقيقته قبل آدم‪ ،‬وقد‬
‫َّ‬ ‫يعني أ َّن ابن عريب يرى أ َّن‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ّْ‬
‫النبوي‪:‬‬ ‫بالحديث‬
‫[[[‬
‫«كنت نبياً وآدم بني املاء والطني»‪.‬‬
‫ّْ‬
‫الرتمذي‪:‬‬ ‫يرتجم هذا الحديث ما رواه‬

‫«كنت نبياً وآدم بني الروح والجسد»‪.‬‬

‫خاصة‪ ،‬وهي ته ُّم الرسل واألنبياء‪.‬‬


‫َّ‬ ‫النبي هي نب َّوة‬
‫‪ -‬نب َّوة ِّ‬
‫‪ -‬نب َّوة العارف هي نب َّوة عا َّمة مكتسبة‪ ،‬وهي ترتبط بالوالية‪ ،‬وهي ته ُّم األولياء‪.‬‬

‫من جانبه‪ ،‬يف ِّرع نرص حامد أبو زيد[[[ الوالية إىل فرعني‪:‬‬

‫‪ -‬الوالية العا َّمة‪ :‬خامتها هو عيىس‪.‬‬

‫‪ -‬الوالية املح َّمديَّة‪ :‬خامتها هو ابن عريب‪.‬‬

‫وإىل هذا يشري بقوله‪:‬‬

‫«تقلَّبت روح ابن عريب يف أرواح األنبياء جميعهم حتَّى استق َّرت يف روح محمد عليه السالم‪،‬‬
‫خاتم األنبياء‪ ،‬وهكذا صار ابن عريب خاتم األولياء»‪.‬‬
‫املحم َّ‬
‫دية‪:‬‬ ‫‪ - 2‬ابن عريب خاتم الوالية َّ‬

‫ال َّ‬
‫شك يف أ َّن املدخل الذي يقودنا إىل فهم هذا الربط بني ابن عريب وختم الوالية املح َّمديَّة‬
‫هو ما أورده ابن عريب[[[ بنفسه إذ يقول‪:‬‬

‫بلب فضَّ ة وذهب ‪ :‬لبِنة فضَّ ة ولبِنة ذهب‪ ،‬ينقص من الحائط إىل الصفَّني يف‬
‫«رأيت الكعبة مبن َّية ْ‬
‫الصف الذي يليه ينقص لبِنة فضَّ ة‪ ،‬فرأيت نفيس قد انطبعت‬
‫ِّ‬ ‫الصف األعىل ينقص لبِنة ذهب‪ ،‬ويف‬
‫ِّ‬
‫[[[‪ -‬يعلِّق الشيخ إبراهيم األزرق عىل هذا الحديث بأنَّه باطل‪ .‬ينظر‪ :‬الصحيح واملعلول يف ما ورد من آثار وأحاديث عن بدء خلق الرسول‪.‬‬
‫دراسات دعويَّة‪ ،‬العدد ‪ ،7‬يناير ‪.2004‬‬
‫[[[‪ -‬هكذا تكلَّم ابن عريب‪ ،‬ص ‪.55‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪.209 \1 ،‬‬

‫‪197‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يبق يف الكعبة يشء ينقص‪ ،‬وأنا واقف أنظر‪ ،‬وأنا أعلم‬


‫يف موضع تلك اللبنتني‪ ،‬وكمل الحائط ومل َ‬
‫أن عني تلك اللبنتني‪ ،‬وأنهام عني ذايت»‪.‬‬
‫أن واقف‪ ،‬وأعلم ِّ‬
‫ِّ‬

‫جل ما ييل‪:‬‬
‫يف ضوء ما سبق‪ ،‬نس ِّ‬
‫‪ -‬حضور الثنائ َّية بشكل الفت يف تص ُّوره للكعبة‪ :‬من حيث املا َّدة التي تشكَّلت منها (لبنة فضة‬
‫الصف الذي يليه)‪ ،‬ومن حيث‬
‫ُّ‬ ‫(الصف األعىل \‬
‫ُّ‬ ‫\ لبنة ذهب)‪ ،‬وكذا من حيث تص ُّوره ملعامريَّتها‬
‫شكلها (ينقص \ كمل)‪ ،‬ومن حيث عالقته بها (عني تلك اللبنتني \عني ذايت)‪.‬‬

‫‪ -‬ترجمة هذه الثنائيَّة ملكانة ابن عريب‪ .‬هذا ما يشري إليه نرص حامد أبو زيد (‪ 2002‬ص ‪)57‬‬
‫باعتباره أ َّن اللبنتني يف هذه الرؤيا تشريان إىل املكانة املزدوجة البن عريب‪ ،‬فاللبنة الفضيَّة تحيل‬
‫عىل أنَّه يستم ُّد مصدره من الرسول‪ ،‬واللبنة الذهب َّية تشري إىل أنَّه يستم ُّد مصدره من الله‪ .‬بالتايل‬
‫يكون له مصدران‪ :‬األول ظاهر والثاين باطن‪.‬‬

‫هذا يعني أ َّن هذه الرؤيا تعكس املكانة السامية البن عريب‪ ،‬من حيث التامث ُل بينه وبني الرسول‬
‫يف وجهني يختزلهام نرص حامد أبو زيد مبا ييل‪:‬‬

‫‪ -‬ابن عريب خاتم األولياء‪ ،‬بينام الرسول خاتم النب ِّيني‪.‬‬

‫‪ -‬كان محمد نب َّياً وآدم بني املاء والطني‪ ،‬وابن عريب كذلك كان ول َّياً وآدم بني املاء والطني‪.‬‬

‫الباطني للوجود‬
‫ِّ‬ ‫إذا كانت التجربة الصوفيَّة توازي تجربة الوحي‪ ،‬من حيث انفتاحها عىل املعنى‬
‫كلِّه ومن حيث تواصلها مع املصدر ذاته‪ ،‬فإنَّهام تتاميزان من حيث إ َّن النب َّوة تنقطع والوالية ال‬
‫تنقطع أبدا ً‪ .‬الوالية مرتبطة بالتواصل املفتوح بني اإلنسان والله‪ .‬هذا التواصل غري مقصور عىل فئة‬
‫مح َّددة أو زمن مح َّدد‪ .‬هنا أيضاً ميكن أن نستحرض ثنائيَّة التقييد واإلطالق‪.‬‬

‫يل الوارث‪.‬‬
‫النبي‪ ،‬وخاتم األولياء هو الو ُّ‬
‫ُّ‬ ‫يل‬
‫إ َّن خاتم ال ُّرسل هو الو ُّ‬
‫�ائي�ة الوجود وثن َّ‬
‫�ائي�ة الكلمة‪:‬‬ ‫�ائي�ة احلقيقة وثن َّ‬
‫‪ - 3‬ثن َّ‬

‫مؤسسة لفكر ابن عريب‪ ،‬ميكن أن نستنبطها من مسلَّمتني أساس َّيتني‬


‫الوحدة والتع ُّدد ثنائ َّية أخرى ِّ‬
‫ينطلق منهام‪ ،‬وتتلخَّصان مبا ييل‪:‬‬

‫‪ -‬الحقيقة يف ح ِّد ذاتها واحدة‪ ،‬بينام الطُّرق املوصلة إليها متع ِّددة بتع ُّدد الخصوص َّيات الثقاف َّية‬
‫والدينيَّة واللُّغويَّة‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫‪ -‬الوجود واحد‪ ،‬بينام املوجودات متع ِّددة بتع ُّدد التجلِّيات‪.‬‬

‫تقودنا هاتان الثنائ َّيتان إىل النظر يف طبيعة الخيط الرابط بني الحقيقة والوجود‪ ،‬فنجده من‬
‫منطني‪:‬‬

‫حدة لها‪ .‬وهذا الخيط واحد‪ ،‬وهو ناظم للوجود كلِّه‪.‬‬


‫كل موجودات بالحقيقة املو ِّ‬
‫‪ -‬خيط يربط َّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫كل موجود من املوجودات بعلَّة وجوده‪ .‬وهذا الخيط متع ِّدد بتع ُّدد علل الوجود‪.‬‬
‫‪ -‬خيط يربط َّ‬

‫لكل املوجودات وجهان اثنان‪ :‬وجه مطلق ووجه‬


‫باعتبار هذين النمطني من الخيوط‪ ،‬يكون ِّ‬
‫نسبي‪ .‬أي بعبارة أخرى‪ :‬وجه باطن ووجه ظاهر‪.‬‬
‫ّْ‬

‫يشري نرص حامد أبو زيد[[[ إىل أ َّن وحدة الوجود هي الوجه اآلخر لوحدة الكلمة‪ .‬من هذا‬
‫املنطلق‪ ،‬ميكن أن نضع موازاة بالشكل التايل‪:‬‬

‫‪ -‬وحدة الوجود = وحدة الكلمة‪.‬‬

‫يف إطار هذه الوحدة‪ ،‬ميكن أن نحيل عىل اآلية ‪ 82‬من سورة يس‪»:‬إِنَّ َا أَ ْم ُرهُ إِ َذا أَ َرا َد شَ ْي ًئا أَن‬
‫ُول َلهُ كُن َف َيكُونُ »‪ ،‬التي متكِّننا من إقامة ثنائ َّية كلمة\وجود‪ ،‬من منطلق ربط النتيجة (أي الوجود)‬ ‫َيق َ‬
‫بالسبب (أي الكلمة)‪.‬‬

‫نسبي‬
‫ٍّ‬ ‫اإللهي «كن»‪ ،‬ووجه‬
‫ِّ‬ ‫تتوفَّر الكلمة‪ ،‬هي األخرى‪ ،‬عىل وجهني‪ :‬وجه مطلق مرتبط باألمر‬
‫مرتبط بالحدوث والتعيُّ يف التاريخ‪.‬‬

‫إ َّن بعد اإلطالق والنسبية مح ِّدد لكلمة الله املوجودة بالق َّوة‪ ،‬وكلمة الله املوجودة بالفعل‪ ،‬أي‬
‫تتجسد يف التاريخ‪ ،‬باعتبار أ َّن األنبياء هم املبلِّغون لكلمة الله‪ ،‬فهم يجمعون بني جانبني‪:‬‬
‫َّ‬ ‫كام‬

‫ين بوصفهم تجلِّيات للكلمة اإلله َّية‪.‬‬


‫ين الروحا ِّ‬
‫املتجسد يف ال ُبعد الكو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬الجانب املطلق‬

‫التاريخي الذي يح ِّدده زمن تبليغ الرسالة‪ .‬بهذا املعنى‪،‬‬


‫ِّ‬ ‫النسبي بوصفهم تجلِّيات يف ال ُبعد‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬الجانب‬
‫مجسدا ً لشخص َّية اإلنسان الكامل الذي تجلَّت فيه صورة الله وصورة الكون معاً‪ ،‬كام أنَّه ِّ‬
‫مجسد‬ ‫يُعترب آدم ِّ‬
‫التاريخي‪ .‬ومحمد‪ ‬هو اآلخر ِّ‬
‫يجسد صورتني‪ :‬الحقيقة املح َّمدية التي هي القالب الذي‬ ‫ّْ‬ ‫لشخصيَّة آدم‬
‫التاريخي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫فيجسدها محمد‬
‫ِّ‬ ‫يحل فيه الوجود ويتجلَّ فيه األنبياء وال ُّرسل‪ ،‬أ َّما الصورة الثانية‬
‫ُّ‬

‫[[[‪ -‬هكذا تكلم ابن عريب‪ ،‬ص ‪.74‬‬

‫‪199‬‬
‫حقول التنظير‬

‫من هنا يبدو الوجود كلُّه تجلِّياً للكلمة اإلله َّية‪ ،‬وتبدو الكلمة اإلله َّية تجلِّياً للحقيقة اإلله َّية‪ .‬غري‬
‫الفكري البن عريب محكوم بثنائيَّة‬
‫ِّ‬ ‫أ َّن هذه الحقيقة وإن كانت واحدة‪ ،‬فإ َّن متثُّلها يف إطار النسق‬
‫والتجل (الذات اإللهيَّة\األلوهة) وبتع ُّدد الوسائط القامئة بني مراتب الوجود‪ .‬إ َّن وظيفة‬
‫ِّ‬ ‫الخفاء‬
‫هذه الوسائط هي بدورها ذات طبيعة ثنائ َّية‪ .‬تربز هذه الثنائ َّية يف ازدواج َّية وظيفتها التي تتلخَّص‬
‫لكل مرتبة من هذه املراتب‬
‫يف الوصل والفصل بني املرتبة العليا واملرتبة التي تدنوها‪ .‬هذا يجعل ِّ‬
‫وجهني‪ :‬األول باطن والثاين ظاهر‪ ،‬بدءا ً من مرتبة األحديَّة املطلقة وانتهاء بالوجود املحسوس‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫وجدلية اخلفاء والتجلي‪:‬‬ ‫‪ - 4‬خريطة الوجود‬
‫يئ)‬
‫الخفي (غري املر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫تعكس مراتب الوجود الخريطة التي رسمها ابن عريب للوجود ب ُبع َديه‪:‬‬
‫يئ)‪ .‬لتتبع هذه الجدليَّة‪ ،‬ننظر إىل مراتب الوجود كام تص َّورها ابن عريب‪.‬‬
‫يل (املر ِّ‬
‫والج ِّ‬
‫الوجودي الخالص واملطلق‬
‫َّ‬ ‫‪ -‬مرتبة األحديَّة املطلقة‪ :‬تحيل عىل الذات اإللهيَّة‪ ،‬أي املستوى‬
‫الذي من أه ِّم سامته االستقالل التام‪ ،‬فهو «الوجود ال برشط يشء»‪ .‬رغم أ َّن ابن عريب يتح َّدث هنا‬
‫عن مرتبة األحديَّة‪ ،‬فإنَّه ال يتص َّورها خارج الثنائ َّية‪ ،‬إذ يربط الذات اإلله َّية بوسيطني‪:‬‬

‫ألي رشط‪.‬‬
‫‪ -‬وسيط النفي املطلق ِّ‬
‫‪ -‬وسيط إثبات الرشطيَّة الكاملة‪.‬‬

‫يتولَّد عن الجمع بني اإلثبات املطلق والنفي املطلق‪ ،‬عامل الخيال‪ ،‬أو الربزخ األعىل‪ ،‬أو برزخ‬
‫الربازخ‪ .‬وميثِّل هذا العامل‪ ،‬الذي هو أ َّول مرتبة من مراتب الوجود‪ ،‬الوسيط الذي يصل ويفصل‬
‫(ثنائ َّية الوصل والفصل حارضة لزوماً بني ِّ‬
‫كل املراتب)‪ ،‬بني الذات اإلله َّية التي «ال يتعلَّق بها من‬
‫وكل مراتب الوجود‪ ،‬سواء كان هذا الوصل والفصل بشكل مبارش (مرتبة‬
‫الوصف إالَّ السلب»‪ِّ ،‬‬
‫األلوهة)‪ ،‬أم بشكل غري مبارش (املراتب الوجوديَّة األخرى)‪ .‬يف هذا اإلطار‪ ،‬يقابل ابن عريب بني‬
‫الوجود ال برشط يشء والوجود برشط يشء‪ ،‬كام يقابل بني وجود الله يف أحديَّته ووجود العامل‬
‫يف كرثته الظاهرة‪ .‬أ َّما الوسيط بني قطبي هذه الثنائ َّية فهو ما يس ِّميه باأللوهة‪ ،‬ويقصد بها مجموع‬
‫ولعل أه َّم خاص َّية لأللوهة هي أنَّها ال وجود ذايت لها‪ .‬إنها نسب وعالقات وروابط‬
‫األسامء اإلله َّية‪َّ .‬‬
‫يل التي تصل وتفصل بني «الذات اإللهيَّة والعامل»‪.‬‬
‫توجد يف مرتبة الوجود الخيا ِّ‬
‫عرب مرتبة األلوهة‪ ،‬تتجلَّ الذات اإلله َّية يف الوجود كلِّه‪ .‬إذا استحرضنا تص ُّور ابن عريب الذي‬
‫تجل‬
‫يرى أ َّن الوجود كلَّه كلامت الله‪ ،‬فيمكن أن يقودنا هذا االستحضار إىل استنتاج أنَّه ال يحرص ِّ‬

‫‪200‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫ين باعتباره كالم الله‪ .‬إ َّن الوجود كلَّه هو عبارة عن كلامت الله‪.‬‬
‫الذَّات اإلله َّية يف الخطاب القرآ ِّ‬
‫يئ‬
‫تجل لكالم الذات اإللهيَّة‪ .‬من هنا ميكن أن نشري‪ -‬يف إطار رصدنا للبُعد الثنا ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫إنَّه بتعبري آخر‪،‬‬
‫الحارض بق َّوة يف تفكري ابن عريب‪ -‬إىل وجود الثنائ َّية التالية‪:‬‬
‫املتجل يف الوجود‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫املتجل يف القرآن \كالم الله‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬كالم الله‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫لكن ينبغي أن نن ِّبه إىل أ َّن الجامع بني قط َبي هذه الثنائ َّية هو أ َّن كالم الله يف كال املستويني من‬
‫التجل ال تنفد معانيه الوجوديَّة‪ ،‬وبالتايل فهو ال متناهي الدالالت‪ .‬وبلوغ دالالته يقتيض تأ ُّمله‬
‫ِّ‬
‫ومجسدا ً يف مستوى الوجود‪.‬‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫مجسدا ً يف مستوى‬
‫َّ‬
‫يربط ابن عريب نشأة الوجود ومراتبه بثالثة عنارص أساسيَّة‪:‬‬
‫التجل األساميئ‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫‪-‬‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫التجل يف النفس‬
‫ِّ‬ ‫‪-‬‬
‫ّْ‬
‫املعنوي‪.‬‬ ‫‪ -‬مفهوم النكاح‬
‫ئ‬ ‫ِّ‬
‫األسما�‪:‬‬
‫ي‬ ‫التجل‬
‫ي‬ ‫أ‪-‬‬
‫يختزل األسامء اإلله َّية‪ ،‬ويس ِّميه ابن عريب باأللوهة أو الخيال املطلق أو الربزخ األعىل‪ ،‬كام‬
‫أسلفنا‪ ،‬وهو يُع ُّد الوسيط الذي يصل ويفصل بني الذَّات اإللهيَّة وبني العامل‪ ،‬عىل النحو التايل‪:‬‬
‫‪ -‬الذات اإللهيَّاأللوهة العامل‪.‬‬
‫التجل املق َّدس‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫ةالتجل األقدس‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬الذات اإلله َّي‬
‫أي يشء سوى‬
‫بأي وصف وال يُعرف عنها ُّ‬
‫من السامت املح ِّددة للذَّات اإلله َّية أنَّها ال تُنعت ِّ‬
‫أنَّها موجودة وموجِدة للوجود‪.‬‬
‫ّْ‬
‫اإلله‪:‬‬ ‫ِّ ف‬
‫ي‬ ‫التجل ي� النفس‬
‫ي‬ ‫ب‪-‬‬
‫اإللهي‪ .‬أ َّما علَّة وجود الوجود‬
‫ّْ‬ ‫منشأ الوجود بالنسبة إىل ابن عريب هو حروف صادرة عن النفس‬
‫بتجسد الذَّات اإلله َّية يف صورة غري ذاتها‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫فهي إرادة الذَّات اإلله َّية يف أن ت ُعرف‪ .‬فهو يربط الخلق‬
‫و ميكننا اعتبار أنَّه يستحرض هذا الربط ويبنيه انطالقاً من الثنائ َّية التالية‪:‬‬

‫التجسد يف غري الذَّات‪.‬‬


‫ُّ‬ ‫التجسد يف الذَّات\‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬غياب‬

‫‪201‬‬
‫حقول التنظير‬

‫وهنا أيضاً ميكن أن نستنبط ثنائ َّية أخرى نصوغها كاآليت‪:‬‬

‫‪ -‬الوجود بغري ذات \ الوجود بذات‪.‬‬

‫ويعب هذا اللفظ عن‬


‫ِّ‬ ‫َ‬
‫طرف هذه الثنائية فهو لفظ «أحببت» الواردة يف الحديث‪.‬‬ ‫أ َّما الرابط بني‬
‫العشق‪ .‬وتنتج من هذا العشق محاولة التنفيس بالتنفُّس العميق‪ .‬وهذا التنفُّس هو ما يس ِّميه ابن‬
‫عريب بالعامء‪ ،‬وقد استنبط هذا املصطلح من حديث مفاده أ َّن الرسول (ص) مل َّا سئل‪ :‬أين كان ربُّنا‬
‫قبل أن يخلق الساموات واألرض؟ قال‪ :‬كان يف عامء‪ ،‬ما فوقه هواء‪ ،‬وما تحته هواء»‪.‬‬

‫اإللهي يف أسامئه‪ ،‬أي بني مرتبة‬


‫ِّ‬ ‫والتجل‬
‫ِّ‬ ‫اإللهي هو وسيط بني مرتبة الذَّات اإللهيَّة‬
‫َّ‬ ‫إ َّن النفس‬
‫اإللهي برزخاً‬
‫ُّ‬ ‫الوجود «ال برشط يشء»‪ ،‬ومرتبة «الوجود برشط اليشء»‪ .‬بالتايل يكون النفس‬
‫يفصل ويصل بني الذات اإلله َّية واأللوهة بصفة مبارشة‪ ،‬وبني الذَّات اإلله َّية والعامل بصفة غري‬
‫ولكل وسيط وجهان‪ :‬وجه باطن يصله ويفصله عن املرتبة األعىل منه (أي املتولَّد عنها)‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫مبارشة‪.‬‬
‫ووجه ظاهر يصله ويفصله عن املرتبة األدىن منه (املرتبة املولَّد لها)‪.‬‬

‫هنا نسجل أمرين اثنني هام‪:‬‬

‫كل وسيط هو برزخ‪.‬‬


‫‪ُّ -‬‬

‫كل وسيط يقوم بوظيفتني أساس َّيتني‪ :‬الفصل والوصل‪.‬‬


‫‪ُّ -‬‬
‫ّْ‬
‫المعنوي‪:‬‬ ‫ج ‪ -‬مفهوم النكاح‬

‫جوهري‬
‫ٌّ‬ ‫يحيل عىل عالقة التفاعل بني املراتب‪ .‬ونشري هنا إىل أ َّن هذا املفهوم‪ ،‬الذي هو مفهوم‬
‫يئ‪ .‬وميكن أن نذهب بعيدا ً يف تحليلنا هذا ونعترب أ َّن الوسائط التي‬
‫عند ابن عريب‪ ،‬وليد التص ُّور الثنا ِّ‬
‫تقوم بوظيفة الوصل والفصل‪ ،‬هي تجسيد واضح لهذا املفهوم بالنظر إىل أنَّها تؤ ِّدي إىل تناسل‬
‫مراتب الوجود‪ ،‬وتولِّد إحداها عن األخرى‪.‬‬

‫كل ما ُسقناه يدعم فرضيَّة تب ِّني ابن عريب لفرضيَّة ثنائيَّة الوجود وتع ُّدد املوجودات وليس وحدة‬
‫ُّ‬
‫كل مراتب الوجود يف تص ُّوره‪ ،‬وهو يرتجم يف مختلف تجلِّيات‬
‫يئ حارض يف ِّ‬
‫الوجود‪ .‬وهذا البُعد ثنا ٌّ‬
‫العالقة القامئة بني الباطن والظاهر‪ ،‬كام يتجلَّ ذلك من تص ُّوره ملراتب الوجود والتي نوردها‬
‫بالشكل التايل‪:‬‬

‫‪202‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫ال�ازخ‪ ،‬أو الخيال المطلق‪.‬‬ ‫ِّ‬


‫‪ - 1‬المستوى األول‪ :‬ب‬
‫ال�زخ األعىل‪ ،‬ويسميه برزخ ب‬
‫ويتف َّرع هذا املستوى إىل املراتب التالية‪:‬‬

‫أ‪ -‬املرتبة األوىل‪ :‬هي مرتبة األلوهة‪ ،‬أي مجموع األسامء اإللهيَّة الفاعلة يف العامل‪ ،‬لذلك‬
‫بالتجل األساميئ‪ .‬وترتبط األلوهة بـ»الوجود برشط اليشء»‪ .‬إنَّها األصل الذي تولَّد‬
‫ِّ‬ ‫س ِّميت أيضاً‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫منه العامل‪ .‬ومبا أ َّن األلوهة جامعة لألسامء اإلله َّية‪ ،‬فهي متع ِّددة من حيث حقائقها وتجلِّياتها يف‬
‫الوجود‪ ،‬كام أنَّها وسيط بني الذَّات اإلله َّية والوجود‪ .‬هذا ما نستشفُّه من قول ابن عريب[[[‪:‬‬

‫الحق والخلق‪ .‬يف هذا البحر ات َّصف املمكن[[[ بعامل وقادر وجميع‬
‫ِّ‬ ‫«بحر العامء برزخ بني‬
‫األسامء اإلله َّية»‪.‬‬

‫‪ -‬املرتبة الثانية‪ :‬هي مرتبة العامء‪ ،‬أو األعيان الثابتة يف العدم‪ ،‬أو صور العامل املوجودة بالق َّوة‪،‬‬
‫وهي متثِّل وسيطاً بني الوجود املطلق والعامء املطلق‪ .‬وما مييِّز هذه األعيان ‪ -‬حسب تص ُّور ابن‬
‫كل املوجودات‪ ،‬مبا أنَّها كلامت الله‪،‬‬
‫اإللهي‪ .‬وبالتايل تكون ُّ‬
‫ِّ‬ ‫عريب ‪ -‬هي القابليَّة لسامع األمر‬
‫صادرة عن نفَسه‪.‬‬

‫جل هنا أ َّن ابن عريب يرى أ َّن األعيان الثابتة مل توجد من عدم‪ ،‬إذ هي مل تنتقل من العدم إىل‬
‫نس ِّ‬
‫التجل‪ ،‬أو بعبارة أخرى من الوجود بالقوة إىل الوجود بالفعل‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الوجود‪ ،‬وإمنا انتقلت من الخفاء إىل‬

‫ج‪ -‬املرتبة الثالثة‪ :‬هي مرتبة حقيقة الحقائق‪ ،‬أو الحقائق الكلِّ َّية‪ .‬وهي وسيط بني الوجود املطلق‬
‫والوجود املق َّيد‪ ،‬أو بعبارة أخرى بني ال ِق َدم والحداثة‪.‬‬

‫د‪ -‬املرتبة الرابعة‪ :‬الحقيقة املح َّمدية‪ .‬هي املرتبة األخرية يف الربزخ األعىل‪ ،‬واملرتبة األوىل‬
‫يف عامل األمر‪ ،‬وهي وسيط بني الذَّات اإلله َّية واإلنسان‪ .‬يس ِّميها ابن عريب بالعقل األول أو القلم‬
‫األعىل الذي يُع ُّد أول مب َدع من العامء‪ ،‬فهو ينتمي‪ ،‬من حيث بُعده الباطن‪ ،‬إىل مستوى الخيال‬
‫املطلق‪ .‬بينام ينتمي‪ ،‬من حيث بُعده الظاهر‪ ،‬إىل أوىل مراتب عامل األمر‪ ،‬باعتبار أ َّن الحقيقة‬
‫النبي‬
‫ِّ‬ ‫تجسدت يف جميع األنبياء وال ُّرسل من آدم إىل‬ ‫َّ‬ ‫املح َّمدية هي روح اإلنسان الكامل‪ ،‬فقد‬
‫التجسد‬
‫ُّ‬ ‫تجسدها هي الوالية‪ ،‬ألنَّها متثِّل‬
‫محمد‪ ،‬ومنها تف َّرعت عقول البرش والكواكب‪ .‬غري أ َّن ق َّمة ُّ‬
‫األكمل للصورة اإللهيَّة‪.‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات ‪70 69-\1‬‬
‫َّ‬
‫[[[‪ -‬التفخيم لنا واملمكن هنا يقصد به الذات اإلله َّية‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫حقول التنظير‬

‫يربط نرص حامد أبو زيد[[[ بني الحقيقة املح َّمدية والعلَّة الغائ َّية‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫«وهذه الحقيقة إنَّ ا متثِّل العلَّة الغائ َّية‪ ،‬إذ هي أصل الكون»‪.‬‬

‫ال�زخ‪ ،‬أو عالم األمر والشهادة‪ ،‬أو عالم المعقوالت‪:‬‬ ‫ن‬


‫الثا�‪ :‬ب‬
‫ي‬ ‫‪ - 2‬المستوى‬
‫يُع ُّد عامل األمر وسيطاً بني الخيال املطلق وعامل الخلق‪ .‬بدءا ً من هذا املستوى‪ ،‬ترتبط ُّ‬
‫كل مرتبة‬
‫وبتجل من التجلِّيات اإللهيَّة‪ .‬وكام تتشكَّل حروف اللُّغة‬
‫ٍّ‬ ‫وجوديَّة مبرتبة معرفيَّة يعبَّ عنها بحرف‬
‫ين باعتامد أعضاء النطق‪ ،‬كذلك تتشكَّل مراتب الوجود الكلِّ َّية يف مستوى‬
‫نطقاً عرب النفس اإلنسا ِّ‬
‫اإللهي‪ ،‬وتربز يف شكل تجلِّيات دامئة ومختلفة لحقائق األلوهة‪ .‬يحيل هذا‬
‫ِّ‬ ‫العامء عرب النفس‬
‫املستوى عىل مراتب الوجود‪ ،‬بالشكل التايل‪:‬‬
‫الكل‪ ،‬أو حقيقة محمد‪ ،‬أو اإلنسان‬
‫ِّ ُّ‬ ‫أ ‪ -‬املرتبة األوىل‪ :‬العقل األول‪ ،‬أو القلم األول‪ ،‬أو الروح‬
‫الكامل‪ .‬يصل ويفصل بني عامل الخيال املطلق وعامل الخلق والشهادة‪ .‬باطنه متَّحد بحقيقة‬
‫اإللهي البديع‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الحقائق والعامء‪ ،‬وظاهره مرتبط باالسم‬
‫ب ‪ -‬املرتبة الثانية‪ :‬النفس الكلِّ َّية أو اللَّوح املحفوظ‪ .‬هي أ َّول ما تجلَّ من القلم األول‪ ،‬ومنها‬
‫الحس‪ ،‬وهو يصل ويفصل بني العقل‬
‫ِّ ِّ‬ ‫تف َّرعت النفوس الجزئ َّية املدبِّرة للصور واألجسام يف العامل‬
‫األول واملعقوالت‪.‬‬
‫ج – املرتبة الثالثة‪ :‬الطبيعة الكلِّيَّة أو الهباء‪ .‬هي مثرة ما أودعه القلم األول عىل اللوح املحفوظ‪،‬‬
‫وتُع ُّد ظله‪ .‬يقول ابن عريب[[[‪:‬‬
‫ظل النفس الكلِّ َّية املوصوفة بالق َّوتني‪ ،‬واملعبَّ عنها بلسان الرشع باللَّوح املحفوظ»‪.‬‬
‫«إ َّن الطبيعة ُّ‬
‫حيس‪ .‬ويف هذا يقول ابن عريب[[[‪:‬‬
‫ٌّ‬ ‫يل ال‬
‫بالتايل‪ ،‬فوجودها وجود عق ٌّ‬
‫«اعلم أ َّن الطبيعة يف الرتبة الثالثة عندنا من وجود العقل‪ .‬وهي معقولة الوجود غري موجودة‬
‫العني»‪.‬‬
‫يئ‪ ،‬أو الهباء أو العرش‪ :‬هو ناتج من تالقح‬
‫الكل‪ ،‬أو الجوهر الهبا ُّ‬
‫الكل‪ ،‬أو الهيوىل ُّ‬
‫د – الجسم ُّ‬
‫املراتب الثالث السابقة‪ ،‬وميثِّل آخر مراتب عامل األمر وأول مراتب عامل الخلق‪ .‬وهو مصدر‬
‫الصور الظاهرة يف عامل الكون والفساد‪.‬‬
‫[[[‪ -‬هكذا تكلَّم ابن عريب‪ ،‬ص ‪.94‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات ‪.296\3‬‬
‫[[[ ‪ -‬املصدر نفسه‪.430\2 ،‬‬

‫‪204‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫مختزال هذه املراتب‪:‬‬


‫ً‬ ‫[[[‬
‫يقول ابن عريب‬

‫«اشتق من هذا العقل مولودا ً آخر سمَّ ه اللَّوح‪ ،‬وأمر القلم أن يتدلَّ إليه ويودع فيه جميع ما‬
‫َّ‬
‫يكون إىل يوم القيامة ‪...‬فكان من ذلك علم الطبيعة‪...‬ث َّم أوجد الله الظلمة املحضة التي هي يف‬
‫مقابل هذا النور مبنزلة العدم املطلق للوجود املطلق‪ ،‬فعندما أوجدها أفاض عليها النور إفاضة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫فلَم شعتها ذلك النور‪ ،‬فظهر الجسم املعبَّ عنه بالعرش فاستوى عليه االسم‬
‫ذاتيَّة مبساعدة الطبيعة َ‬
‫الرحمن باالسم الظاهر‪ ،‬فذلك أول ما ظهر من عامل الخلق»‪.‬‬
‫جل هنا مسألتني ها َّمتني‪:‬‬
‫نس ِّ‬
‫الكل)‪ ،‬هي عبارة عن وسائط‬
‫َّ‬ ‫أ‪ -‬هذه املراتب (أي القلم واللَّوح املحفوظ والطبيعة والجسم‬
‫ذهنيَّة‪ .‬وهي معقوالت وليست محسوسات‪ ،‬لكنها توازي املحسوسات‪ .‬هذا ما نستنبطه من قول‬
‫ابن عريب[[[‪:‬‬
‫«كام تس َّمى يف األجسام حرارة وبرودة ويبوسة ورطوبة‪ ،‬كام تس َّمى يف األركان نارا ً وهواء وماء‬
‫وتراباً‪ ،‬كام تس َّمى يف الحيوان سوداء وصفراء و بلغامً و دماً»‪.‬‬
‫ب‪ -‬املسافة الفاصلة بني هذه املراتب والذات اإلله َّية واحدة‪ ،‬لذلك يتص َّورها ابن عريب يف‬
‫شكل دائرة‪ .‬يقول[[[‪:‬‬
‫«فكان ابتداء الدائرة وجود العقل األول ‪...‬فهو أول األجناس‪ .‬وانتهى الخلق إىل الجنس‬
‫ين‪ ،‬فكملت الدائرة‪ ،‬واتصل اإلنسان بالعقل‪ ،‬كام يتَّصل آخر الدائرة بأولها‪ ...‬ومل َّا كانت‬
‫اإلنسا ِّ‬
‫الخطوط الخارجة من النقطة التي يف وسط الدائرة إىل املحيط الذي وجد عنها تخ ُّرج عىل السواء‬
‫الحق تعاىل إىل جميع املوجودات نسبة واحدة»‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫لكل جزء من املحيط‪ ،‬كذلك نسبة‬
‫ِّ‬
‫الكل) موضوعة يف تقابل مع‬
‫ُّ‬ ‫ج‪ -‬املراتب األربع (القلم واللَّوح املحفوظ والطبيعة والجسم‬
‫الخيال املطلق‪.‬‬

‫‪ - 3‬المستوى الثالث‪ :‬مستوى عالم الخلق‪:‬‬

‫كل ما يحدث‬
‫الحس‪ ،‬وهو العلَّة الكامنة وراء ِّ‬
‫ِّ ِّ‬ ‫يتوسط بني عامل األمر(عامل املعقوالت) والعامل‬
‫َّ‬
‫الحس‪ ،‬ويتوفَّر عىل أربع مراتب‪:‬‬
‫ِّ ِّ‬ ‫يف العامل‬

‫[[[ ‪ -‬املصدر نفسه‪.148\1 ،‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.430\3 ،‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.120\1 ،‬‬

‫‪205‬‬
‫حقول التنظير‬

‫أ – العرش أو الجسم الكلِّ ‪ :‬ميثِّل من حيث باطنه آخر مستويات مرتبة عامل األمر‪ ،‬وميثِّل من‬
‫حيث ظاهره أول مراتب عامل الخلق‪ .‬بالتايل فهو وسيط بني املوجودات املعقولة واملوجودات‬
‫املحسوسة‪ ،‬أو عامل الكواكب‪ .‬وللعرش أربع قوائم تحيل عىل أربع حقائق هي‪ :‬الصور واألرواح‬
‫واألرزاق والوعيد‪ .‬وتتوازى هذه الحقائق األربع مع الحقائق الطبيع َّية األربع وهي‪ :‬الحرارة و‬
‫الربودة والرطوبة واليبوسة‪.‬‬

‫ب‪ -‬الكريس‪ :‬ميثِّل بداية عامل التع ُّدد يف عامل الروحانيَّات‪ ،‬وانقسام الكلمة اإللهيَّة إىل ثنائيَّات‪.‬‬
‫يف‪ ،‬فإ َّن ما بعده من‬
‫الوجودي واملستوى املعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫يجسد الثنائيَّات عىل املستوى‬
‫ِّ‬ ‫الكريس‬
‫ُّ‬ ‫إذا كان‬
‫يجسد التع ُّدد‪ .‬هذا ما يشري إليه نرص حامد أبو زيد[[[ بقوله إن‪:‬‬
‫مراتب الوجود ِّ‬
‫يف سيتح َّول إىل كرثة يف ما يليه من مراتب الوجود»‪.‬‬
‫الوجودي واملعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫«هذا االنقسام عىل املستويني‬

‫ج‪ -‬الفلك األطلس أو فلك الربوج اإلثني عرش‪ :‬ميثِّل مرحلة االنتقال من الثنائ َّية إىل الكرثة‪.‬‬
‫كل الحقائق‬
‫وتنقسم هذه الربوج إىل هوائ َّية وناريَّة وتراب َّية ومائ َّية‪ .‬يف الفلك األطلس تتجلَّ ُّ‬
‫املوجودة يف عامل املعقوالت‪ .‬بحكم متثيل هذا الفلك للكرثة‪ ،‬فهو علَّة التغيُّ ات التي تحدث يف‬
‫والروحي‪ .‬يعترب ابن عريب أ َّن هذا الفلك ميارس‬
‫ّْ‬ ‫الطبيعي‬
‫ِّ‬ ‫عامل الكون واالستحالة عىل املستويني‬
‫تأثريه عىل عامل الربزخ وعامل الدنيا وعامل اآلخرة‪ ،‬وهو األصل الذي تنتج منه التغيريات يف هذه‬
‫العوامل‪ .‬وهو يشري إىل أ َّن لهذه الربوج مالئكة يس ِّميهم الوالة وهم ينقلون املعلومات من عامل األمر‬
‫إىل عامل الخلق‪ .‬ويف هذا يقول[[[‪:‬‬

‫كل قسم منها برجاً لسكنى هؤالء الوالة‪....‬ورفع‬


‫«قسم الفلك األقىص اثني عرش قسامً‪ .‬وجعل َّ‬
‫الله الحجاب الذي بينهم وبني اللَّوح املحفوظ‪ ،‬فرأوا فيه مسطِّرا ً أسامءهم ومراتبهم‪ ،‬وما شاء الله‬
‫أن يجريه يف عامل الخلق إىل يوم القيامة»‪.‬‬

‫د‪ -‬فلك الكواكب الثابتة أو كوكب املنازل‪ :‬تتلخَّص وظيفة هذا الفلك يف تنفيذ األمور املق َّدرة‪.‬‬
‫والكريس والفلك األطلس‪ .‬يف هذا‬
‫ِّ‬ ‫وله باطن وظاهر‪ .‬الجانب األول يجعله يتَّصل وينفصل بالعرش‬
‫الشأن يقول نرص حامد أبو زيد[[[‪:‬‬

‫[[[‪ -‬هكذا تكلَّم ابن عريب‪ ،‬ص ‪.121‬‬


‫[[[‪ -‬الفتوحات‪.295\1 ،‬‬
‫[[[‪ -‬فلسفة التأويل‪ ،‬ص ‪.-123 122‬‬

‫‪206‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫الكريس‪ ،‬وتكثَّ ت يف الفلك‬


‫ِّ‬ ‫حدت يف العرش‪ ،‬وانقسمت يف‬
‫«وإذا كانت الكلمة اإلله َّية قد تو َّ‬
‫كل حقائق الوحدة واالنقسام والتع ُّدد»‪.‬‬
‫األطلس‪ ،‬فإ َّن فلك الكواكب الثابتة يجمع َّ‬

‫يتض َّمن هذا الفلك الج َّنة والنار‪ ،‬وهو يحيط مبا يليه من الكواكب واألفالك‪ ،‬لذلك فهو يؤث ِّر‬
‫فيها‪ .‬ويجمع بني فلك الكواكب والفلك األطلس جامعان هام‪:‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ -‬أنهام ليسا عرضة للفناء والتغيُّ ‪.‬‬

‫‪ -‬أنهام يؤث ِّران بشكل دائم عىل الج َّنة والنار‪.‬‬

‫وهام خاص َّيتان تجعلهام متاميزين عن األفالك املتح ِّركة التي هي عرضة للفناء‪ .‬هذا يجعلنا‬
‫نصوغ الثنائية التالية‪- :‬الكواكب الثابتة\الكواكب املتغرية‪.‬‬

‫وترتبط هذه الثنائ َّية بثنائ َّية أخرى نصوغها كالتايل‪ - :‬الكواكب الخالدة\الكواكب الفانية‪.‬‬

‫يقسم ابن عريب كوكب املنازل إىل ‪ 28‬منزالً بها ‪ 28‬مالكاً حاجباً‪ .‬وتنقل املالئكة الحجاب‬
‫أوامر املالئكة الوالة‪ .‬وهذا ما يشري إليه بقوله[[[‪:‬‬

‫لكل واحد من هؤالء الوالة (الذين يسكنون الفلك األقىص) حاجبني ينفِّذان‬
‫«ث َّم جعل الله ِّ‬
‫كل حاجبني سفريا ً مييش بينهام‬
‫أوامرهم إىل ن َّوابهم (مالئكة األفالك السابحة السبعة)‪ ،‬وجعل بني ِّ‬
‫كل واحد بينهام‪ .‬وعيَّ الله لهؤالء الذين جعلهم حجاباً لهؤالء الوالة يف الفلك الثاين‬
‫مبا يلقي إليه ُّ‬
‫منازل يسكنونها‪ ،‬وأنزلهم إليها وهم الثامين والعرشون منزلة»‪.‬‬

‫‪ - 4‬المستوى الرابع‪ :‬عالم الشهادة‪:‬‬

‫يجسد ابن عريب هذه الكواكب عىل شكل دوائر‬


‫تؤثت محيط فلك املنازل الكواكب السبعة‪ِّ .‬‬
‫يتوسطها كوكب الشمس‪ .‬يعلو هذا الكوكب ثالثة كواكب (زحل واملشرتي واملريخ)‪ ،‬وتدنوه ثالثة‬
‫َّ‬
‫كواكب (الزهرة وعطارد والقمر)‪ ،‬وآخر هذه املرتبة هو فلك القمر الذي يليه عامل الكون واالستحالة‬
‫يلّ‪ .‬يس ِّمي ابن عريب هذه الكواكب السبعة بالساموات السبع‪ ،‬ويوزعها كالتايل‪:‬‬
‫الفع ْ‬
‫اإللهي «الرب»‪ ،‬وجعله‬
‫ُّ‬ ‫‪ -‬السامء األوىل‪ :‬أو سامء الغاية أو فلك زحل أو كيوان‪ .‬أوجده االسم‬
‫مسكناً لروح إبراهيم‪ .‬إىل هذا الفلك ينسب علم الثبات والتمكني والدوام والبقاء‪.‬‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪.295\1 ،‬‬

‫‪207‬‬
‫حقول التنظير‬

‫اإللهي «العليم»‪ ،‬وجعله مسكناً‬


‫ُّ‬ ‫‪ -‬السامء الثانية‪ :‬أو سامء الكتابة أو املشرتي‪ .‬أوجده االسم‬
‫لروح موىس‪ ‬وإليه ينسب ابن عريب[[[ «علم النبات والنواميس‪ ،‬وعلم أسباب الخري ومكارم‬
‫األخالق‪ ،‬وعلم ال ُق ُربات‪ ،‬وعلم قبول األعامل وأين ينتهي بصاحبها»‪.‬‬
‫اإللهي «القاهر» الذي‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬السامء الثالثة‪ :‬أو سامء الرشطة أو امل ِّريخ ‪ :‬ق َرنه ابن عريب[[[ باالسم‬
‫أوجد هذا الكوكب وجعله مسكناً لروح هارون‪ .‬وإليه ينسب مجموعة من العلوم يح ِّددها بقوله‪:‬‬
‫«علم تدبري امللك وسياسته‪ ،‬وعلم الحم َّية والحامية وترتيب الجيوش والقتال ومكايد الحرب‪،‬‬
‫رسيانه يف سائر البقاع‪ ،‬وعلم الهدى والضالل‬‫وعلم القرابني وذبح الحيوان‪ ،‬وعلم أرسار أيام النحر و َ‬
‫ومتيُّز الشبهة من الدليل»‪.‬‬
‫‪ -‬السامء الرابعة‪ :‬أو سامء االعتالء‪ ،‬أو سامء األمارة أو الشمس‪ :‬التقى رس روحان َّية إدريس عليه‪.‬‬
‫الكريس إىل أمر‬
‫ِّ‬ ‫بفعل حركة الشمس انقسم اليوم إىل ليل ونهار‪ ،‬وانقسمت الكلمة اإللهيَّة يف‬
‫وحكم‪ .‬انقسم الحكم عن طريق حركة الشمس‪ ،‬فصار الليل والنهار يتوالجان إلنتاج املولَدات أو‬
‫اآلثار التي تحدث يف العامل‪ .‬ينظر ابن عريب إىل الشمس باعتبارها قلب العامل‪ ،‬وقلب الساموات‪،‬‬
‫وموطن روح إدريس‪ ،‬وهي تتض َّمن علوماً ومعارف عقل َّية من دون علوم التجلِّيات والكشف‪.‬‬
‫‪ -‬السامء الخامسة‪ :‬أو سامء الشهادة‪ ،‬أو سامء الجامل ومعدن الجالل أو الزهرة‪ .‬أوجدها االسم‬
‫اإللهي «املص ِّور»‪ ،‬وجعلها مسكن يوسف‪ .‬ينسب ابن عريب[[[ إىل فلك الزهرة علم التصوير وعلم‬
‫ُّ‬
‫األحوال واألحالم والخيال‪.‬‬
‫اإللهي‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬السامء السادسة‪ :‬أو سامء األرواح‪ ،‬أو سامء الكتابة أو عطارد‪ :‬قرنه ابن عريب[[[ باالسم‬
‫«املحيص»‪ .‬هذا االسم هو الذي أوجده وجعله مسكناً لروح عيىس عليه السالم‪ .‬و فيه بث‪ ،‬كام‬ ‫ِّ‬
‫يشري إىل ذلك‪:‬‬
‫«علم األوهام واإللهام والوحي واآلراء واألقيسة والرؤيا والعبارة واالخرتاع الصناعي والعطردة‪،‬‬
‫وعلم الغلط الذي يعلق بعني الفهم‪ ،‬وعلم التعاليم‪ ،‬وعلم الكتابة واآلداب والزجر والكهانة والسحر‬
‫والطلسامت والعزائم»‪.‬‬
‫اإللهي‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬السامء السابعة‪ :‬أو سامء األجسام‪ ،‬أو سامء الوزارة أو القمر‪ :‬ق َرنه ابن عريب[[[ باالسم‬
‫«املبني» وفيه تسكن روح آدم عليه السالم‪ .‬أ َّما العلوم التي يهبها هذا الكوكب فيح ِّددها يف‪« :‬علم‬

‫[[[‪ -‬الفتوحات‪.155\1 ،‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.156 \1 ،‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.155\1 ،‬‬
‫[[[ ‪ -‬الفتوحات ‪.155/1‬‬

‫‪208‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫خواص وعلم امل ِّد و الجزر والربو والنقص»‪.‬‬


‫ٍّ‬ ‫السعادة والشقاء وعلم األسامء ومالها من‬
‫نختم حديثنا مبا يسجله طالب جاسم حسن العنزي و سلمى حسني مروان [[[ بقولهام‪:‬‬
‫فكل درجة من‬
‫ُّ‬ ‫«إ َّن أروع جوانب نظريَّة ابن عريب هي العالقة الدامئة بني االسم واملس َّمى‪،‬‬
‫كل اسم‬
‫درجات الفيض الثامين والعرشين مرتبطة باسم من أسامء الله ‪.....‬ليس ذلك فحسب‪ ،‬بل ُّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫من أسامء الله رب ملخلوق ما يكون له مربوب»‪.‬‬

‫ما ميكن استخالصه هو أنَّ‪:‬‬

‫يف كان يهدف إىل إرجاع ظواهر الوجود املتع ِّددة‬


‫الوجودي واملعر ِّ‬
‫ِّ‬ ‫‪ -‬تص ُّور ابن عريب يف بعده‬
‫مؤسسة‪.‬‬
‫إىل أقطاب ثنائ َّية ِّ‬
‫‪ -‬تأسيس التع ُّدد عىل مبدأ االختالف‪ ،‬ويرتجم ابن عريب [[[ هذا املبدأ بالشكل التايل‪:‬‬

‫مفسا ً ومولِّدا ً يف اآلن نفسه للعديد من االختالفات التي ميكن‬


‫بالتايل يكون مبدأ االختالف ِّ‬
‫رصدها بهذا الشكل‪:‬‬

‫‪ -‬اختالف الرشائع اختالف التجلِّيات‪.‬‬

‫‪ -‬اختالف التجلِّيات اختالف املقاصد‪.‬‬

‫‪ -‬اختالف املقاصدالحركة القمريَّة‪.‬‬

‫جهاتاختالف الحركات‪.‬‬
‫‪ -‬اختالف التو ُّ‬
‫‪ -‬اختالف الحركات الفلك َّية اختالف األزمان‪.‬‬

‫‪ -‬اختالف الزماناختالف األحوال‪.‬‬

‫‪ -‬اختالف أحوال الخلقاختالف النسب‬


‫اإلله َّية‪.‬‬

‫‪ -‬اختالف النسب اإللهيَّةاختالف الرشائع‪.‬‬

‫[[[ ‪ -‬وحدة الوجود عند محيي الدين ابن عريب من منظور استرشاقي‪ ،‬ص ‪.205‬‬
‫[[[‪ -‬الفتوحات‪. 400\1 ،‬‬

‫‪209‬‬
‫حقول التنظير‬

‫من هنا نخلص إىل القول أ َّن الذي حكم تص َّور ابن عريب هو مبدأ االختالف‪ .‬وإذا كان مبدأ‬
‫يئ الحارض يف املعرفة‬ ‫مؤسس لالختالف‪ ،‬فإ َّن املولِّد له بالرضورة هو البُعد الثنا ُّ‬
‫ِّ‬ ‫االختالف‬
‫والوجود‪ .‬وهذا البُعد هو الذي يفيض بالرضورة إىل التع ُّدد‪ .‬ويجدر القول أ َّن االختالف يجعل‬
‫الديني‬
‫َّ‬ ‫النص‬
‫َّ‬ ‫حتمي‪ ،‬ومتع ِّددة بتع ُّدد األزمان‪ .‬ومن مستلزمات هذا القول أ َّن‬
‫ٍّ‬ ‫املعرفة نسب َّية بشكل‬
‫محدود من حيث ألفاظه وغري محدود من حيث دالالته‪ ،‬وهو يف دالالته موا ٍز لدالالت الوجود مبا‬
‫ومفصلة للكلامت اإللهيَّة‪ ،‬ومبا هو منفتح عىل ال محدوديَّة املعنى‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫هي تجلِّيات واضحة‬

‫‪210‬‬
‫مفارقات ثنائ َّية الوجود في فكر ابن عربي‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫‪ 1.1‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين‪ :‬رسائل ابن عريب‪ ،‬دار إحياء الرتاث العريب‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫‪2.2‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين‪ :‬اإلرساء إىل مقام األرسى‪ ،‬تحقيق ورشح سعاد الحكيم دندرة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫للطباعة والنرش ‪.1988‬‬

‫‪3.3‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين‪ :‬شجرة الكون‪ ،‬تحقيق رياض العبد الله‪ ،‬مكتبة اإلسكندريَّة‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪.1985 ،‬‬

‫‪4.4‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين‪ :‬فصوص الحكم‪ ،‬رشح عبد الرازق قاشاين‪ ،‬دار آفاق للنرش‬
‫والتوزيع‪ ،‬القاهرة ‪.2016‬‬

‫‪5.5‬ابن عريب‪ ،‬محيي الدين‪ :‬الفتوحات املك َّية‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بريوت‪ ،‬الطبعة األوىل‪.2004 ،‬‬

‫‪6.6‬نرص حامد أبو زيد‪ :‬هكذا تكلَّم ابن عريب‪ ،‬الهيئة املرصيَّة العامة للكتاب ‪.2002‬‬

‫‪7.7‬الشيخ إبراهيم األزرق‪ :‬الصحيح واملعلول يف ما ورد من آثار وأحاديث عن بدء خلق‬
‫الرسول‪ ،‬دراسات دعويَّة‪ ،‬العدد ‪ ،7‬يناير ‪.2004‬‬

‫‪8.8‬نرص سيد حسني‪ :‬ثالثة حكامء مسلمني‪ ،‬ترجمة صالح الصاوي‪ ،‬دار النهار للنرش‪ ،‬بريوت‬
‫‪.1971‬‬

‫‪9.9‬طالب جاسم حسن العنزي وسلمة حسني علوان‪ :‬وحدة الوجود عند محيي الدين ابن‬
‫عريب من منظور استرشاقي‪ ،‬العدد ‪.2012 ، 27‬‬

‫‪10.‬‬ ‫‪file:///C:/Users/start/Downloads/Noor-Book.com‬‬

‫‪211‬‬
‫بني الفيزياء وامليتافيزياء‬
‫حركة الطبيعة ومفهوم احلركة يف اجلوهر عند ُم َّل صدرا‬

‫إبراهيم ي ن‬
‫قال�‬
‫أم�كا‬ ‫َّ‬
‫ترك‪ -‬أستاذ الفلسفة اإلسالمية بجامعة جورج تاون ‪ -‬ي‬
‫أكاديم وباحث ي‬
‫ي‬

‫ّ‬
‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ص‬ ‫ملخ‬
‫ف‬ ‫يسىع هذا البحث إىل استجالء الصلة الجدلية ي ن‬
‫ب� الطبيعة وما بعد الطبيعة ي�‬
‫َّ‬
‫منظومة الحكمة المتعالية‪ .‬كما يعالج مفهوم الطبيعة والحركة عند مل صدرا من‬
‫َّ‬
‫الكونيات‪.‬‬ ‫قدمه للفلسفة ت‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫ال�اثية وعلم‬ ‫وخصوصا لجهة ما‬ ‫جوانب عدة‬
‫ً‬ ‫يَّ ز‬
‫بتظه� هذا المفهوم انطالقا من وجهة نظر جديدة ومفارقة‬ ‫ي‬ ‫تم�ت هذه المعالجة‬
‫ُّ ف‬
‫التغ� ي� مقولة الجوهر‪ .‬وهنا يتجاوز‬ ‫بوجهة فتحت مجال النقاش العميق عىل مبدأ ي‬
‫ً‬ ‫ش‬ ‫َّ‬
‫واإل�اقيون‪ ،‬محول الجوهر إىل ’بنية‬ ‫األرسط الذي اتبعه المشاؤون‬ ‫ي‬ ‫صدرا اإلطار‬
‫للتغ�"‪ .‬وهكذا تؤدي إعادة صياغة صدرا لعلم الكون‬ ‫ي‬ ‫لألحداث‘ والحركة إىل "عملية‬
‫الكالسيك من خالل األنطولوجيا الدقيقة والفلسفة الطبيعية إىل مفردات جديدة‬ ‫ي‬
‫"للعالقات" وب� سائلة تناقض ’األشياء‘ والكيانات الجامدة‪ .‬تنطلق رؤية مال صدرا‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫ُّ‬ ‫ف‬ ‫ً‬
‫التغ� صفة‬ ‫ي‬ ‫للتغ� والثبات وذلك ي� سياق محاولته جعل‬ ‫ي‬ ‫مبدءا‬ ‫إىل الطبيعة بوصفها‬
‫ً‬
‫فعلية لالنتقال الجوهري لألشياء‪ .‬وعىل أساس هذه الفرضية فقد منحها استقالل‬
‫نسبيا باعتبارها حقيقة قائمة بذاتها‪ .‬إال أن ما يكمن وراء اعتبارات صاحب الحكمة‬ ‫ً‬
‫التغ� بوصفه‬ ‫ُّ‬ ‫ومسوغاته‪ ،‬فقد رأى إىل‬ ‫ِّ‬ ‫للتغ� والطبيعة هو تصوره للوجود‬ ‫المتعالية‬
‫ي‬ ‫ي‬
‫ً‬
‫نمطا للوجود وتفكيك العالم المادي يتجاوز الحركة الناقلة والموضعية‪ ،‬ويؤكد‬
‫ال� تصورها األنطولوجيا المتسلسلة ف ي� منظومته الفلسفية‪.‬‬ ‫ت‬
‫دينامية صورة العالم ي‬
‫* * *‬
‫َّ‬
‫مفردات مفتاحية‪ :‬الطبيعة‪ -‬الحركة الجوهرية – علم الكون – األنطولوجيا‬
‫ّ‬
‫المتسلسلة – الوجود المشكك‪ -‬اإلنتقال الجوهري لألشياء‪.‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫تمهيد[[[‪:‬‬
‫يعــ ُّد مفهــوم الحركة الجوهرية عند مال صدرا انفصالً كبيــ ًرا عن تصــور املشائيني ملفهــوم‬
‫التغري‪ ،‬فهــو يضيف مجموعة من اإلمكانــات الجديـدة يف الفلسفــة اإلسالميــة وعلم الكون‪،‬‬
‫بتعريــف كل تغي ُّــر بوصفــه حــال وجــودي جوهــري فــي طبيعــة األشياء‪ ،‬وينتقل صدرا‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫بعي ًدا عن التغري بوصفه مبد ًءا للعالقات الظاهرية كام افرتض الذريون املسلمون واليونانيون إىل‬
‫جا وجوديًا‬
‫نهج انتقال وجودى‪ ،‬حيث "تزيد أو تنقص" األشياء حني تخضع للتغري‪ ،‬ويتخذ صدرا نه ً‬
‫شامالً يف اعتباراته للتغري الكمي والكيفي‪ ،‬ويضع صورته للعامل ضمن السياق األكرب لألنطولوجيا‬
‫املتسلسلة‪ ،‬ولذا ميكن النظر إىل الحركة الجوهرية والنظرة الدينامية للعامل التي يتبناها عىل أنها‬
‫امتداد منطقى لألصالة وتدرج الوجود (تشكيل الوجود) ‪ -‬وهام مصطلحان أساسيان يف األنطولوجيا‬
‫الصدرية‪ ،‬ويُنحى صدرا كل حقيقة سواء أكانت مادية أو غري ذلك‪ ،‬إىل حقيقة وجود متنوع شامل‬
‫بشكل المتناه‪ ،‬وهذا ميكّنه من رؤية كل تغري من حيث الوجود ومسوغاته‪ ،‬رغم أن صدرا يقبل‬
‫جز ًءا طي ًباً للحركة وأنواعها من وجهة النظر األرسطية‪ ،‬إال أن هذا اإلطار األنطولوجى هو الذي مييز‬
‫نظريته األصيلة للغاية عن الحركة الجوهرية عن املناقشات املشائية الرتاثية للحركة‪.‬‬
‫مفصل للحركة الجوهرية واملسالك التي ميزج بها صدرا ويعيد‬ ‫ً‬ ‫تحليل‬
‫ً‬ ‫وما ييل سوف أقدم‬
‫صياغة املفاهيم الكمية والكيفية للتغري يف فلسفته الطبيعية‪ ،‬وينبغي التوكيد عىل أن آراء صدرا‬
‫حول الطبيعة والحركة ليست أفكا ًرا فلسفية منعزلة واألحرى أنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بوجهه نظره عن‬
‫األنطولوجيا وعلم الكون من ناحية وعلم النفس واألبستمولوجيا من ناحية أخرى‪ ،‬فقد يتضح من‬
‫هذا أن عديد من اسهامات صدرا الجديدة يف الفلسفة اإلسالمية قد تعتمد عىل الحركة الجوهرية‪،‬‬
‫ورمبا من بني ما ميكننا ذكره مذهبه املعروف بأن النفس «جسدية» يف أصلها وروحية يف بقاءها‬
‫(جسدية الحدث روحية البقاء)‪ ،‬والتوحيد بني العقل واملعقول‪ .‬وسوف أحدد نقاىش يف هذا‬
‫املقال عىل محاولة صدرا لالبتعاد عن إطار العالقات الخارجة والحركة املوضوعية إىل اإلطار‬
‫االنتقال الوجودي‪ ،‬حيث يُوصف الكون بأنه سائ ًرا نحو غاية كلية‪.‬‬

‫[[[‪ -‬إبراهيم قالني زميل سابق يف مركز الوليد للتفاهم اإلسالمي املسيحي بجامعة جورج تاون‪ .‬وأنشأ مؤسسة ‪ SETA‬للبحوث السياسية‬
‫واالقتصادية واالجتامعية يف أنقرة‪ ،‬تركيا ‪ ،‬وعمل مديرا لها من ‪ 2005‬إىل ‪ ،2009‬وهو مؤلف كتاب «املعرفة يف الفلسفة اإلسالمية املتأخرة‪:‬‬
‫الوجود والفكر والحدس عند مال صدرا» (‪ ،)2009‬باإلضافة إىل العديد من املقاالت‪ .‬حصل قالني حاصل عىل ماجستري من الجامعة‬
‫اإلسالمية العاملية يف ماليزيا ودكتوراه من جامعة جورج واشنطن‪ ،‬كان أحد املوقعني األصليني عىل «كلمة سواء بيننا وبينكم»‪ ،‬وهي رسالة‬
‫موجهة إىل القادة املسيحيني يف نداء من أجل السالم والتعاون بني الديانتني‪.‬‬
‫املصدر‪:‬‬
‫‪Islam and Science Vol. I, 2003, pp. 6593-; an earlier version published in Mulla Sadra and Transcendent‬‬
‫‪Philosophy: Proceedings of the World Congress on Mulla Sadra (Tehran: Sadra Islamic Philosophy‬‬
‫‪Research Institute, 2001), Vol. 1, pp. 301- 327.‬‬ ‫‪.‬‬
‫العنوان األصيل للبحث‪:‬‬
‫‪-BETWEEN PHYSICS AND METAPHYSICS: MULLA ÇADRA ON NATURE AND MOTION‬‬
‫‪ -‬ترجمة أ‪.‬د‪/‬حامدة أحمد عيل‪ .‬استاذ الفلسفة اليونانية بجامعة جنوب الوادى ـ مرص‪.‬‬

‫‪213‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ً‬
‫اإلطار األرسطي‪ :‬احلركة بوصفها حتقيقا للقوة‬
‫يبدأ صدرا نقاشه للحركة باتباع مرشوع الطبيعة األرسطية‪ ،‬فيفرس معنى القوة‪ ،‬وت ُعرف كلمة‬
‫القوة[[[ بطرق عدة‪ ،‬واملعنى األكرث شيو ًعا هو أن القوة هي القدرة عىل إجراء أفعال بعينها‪ ،‬وهي‬
‫يف هذا املعنى إمكان يرادف القدرة‪ ،‬التي تجعل حركة أو فعل األجسام الطبيعية ممك ًنا‪ ،‬وقد يُعطى‬
‫مامثل حني يقول» القوة مبدأ التغري إىل ىشء آخر»[[[ وتستعمل كل املوجودات‬ ‫ً‬ ‫ابن سينا تعريفًا‬
‫التي تخضع للتغري الكمي واملوضعي قدرة القوة؛ ألن هذه األجسام الهيوالنية تحتاج إىل مبدء‬
‫فاعل لتحقق قوتها الكامنة‪ ،‬وهذا يربهن عند صدرا عىل أن اليشء ذاته ال ميكن أن يكون مصد ًرا‬
‫جا يحثه عىل التغري‪ ،‬فإذا كان املصدر للصفة أو املعنى يف‬ ‫للتغري‪ ،‬بل بالرضورة هناك مبدء ًاخار ً‬
‫كيان ما كان اليشء ذاته‪ ،‬وقد يرقى هذا إىل طبيعة غري متغرية يف هذا اليشء‪ ،‬مع أن الطبيعة الحقة‬
‫للموجودات املمكنة ت ُظهر بنية مختلفة‪ ،‬وقد يتفق صدرا مع أرسطو[[[ وابن سينا[[[ عىل أن هذا يعنى‬
‫« أن الىشء ليس له مبد ًءا للتغري يف ذاته» و«كل جسم متحرك له محرك خارج ذاته»[[[‪.‬‬
‫وتقــدم العالقــة بيـن املحـرك والجسم املتحرك تتاب ًعا عل ًيا فـي هــذا املحرك الـذي يحــ ِّرك‬
‫األشيــاء األخرى بحركــة ال سببية فحسب بــل يتمتــع بحال أنطولوجى[[[ وباصطالح صدرا كل‬
‫ما له قبلية وتزداد كثافته يف التحقق الوجودي (تحصالن الشهادة) يرجح أن يكون علة ال أث ًرا‪ ،‬والله‬
‫وحده بهذا املعنى هو ما يطلق عليه حقًا "علة" كل ىشء‪ ،‬وعىل الشاكلة ذاتها فإن املادة األوىل أو‬
‫الهيولة لديها عىل األقل قوة لوجود علة ألنها أضعف يف التكوين الوجودى بنزوع قوى نحو عدم‬
‫الوجود [[[‪.‬‬
‫وبعد أن ذكرنا أن الحركة والسكون يشبهان القوة والفعل وينتميا إىل إطار القوة‪ -‬الفعل‪ ،‬ويعرفهام‬
‫صدرا بأنهام حوادث لوجود باعتباره وجو ًدا ‪ being-qua-being‬ألن الوجود باعتباره وجو ًدا ليس‬
‫موضو ًعا للحركة والسكون إال إذا أصبح موضو ًعا لنظا ًما طبيعيًا ورياضيًا[[[ ولذا بالرضورة أن يحمل‬
‫الجسم املوجود بعض القوى وبعض الفواعل‪ ،‬وليس للموجود بالقوى املحض وجو ًدا عين ًيا ألنه‬

‫[[[‪ -‬اعتامدًا عىل السياق قد ترتجم كلمة القوة باللغة العربية إىل كلمة ‪ potency‬وقد يستخدم صدرا قدرة ‪ faculty‬أو إمكان ‪ability‬‬
‫لغرض ما‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن سينا‪ :‬كتاب النجاة (طبعة ‪ )1985‬تاجد فخرى‪ ،‬منشورات دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪. 250‬‬
‫‪[3]- Physics, Book VII, 241b.‬‬
‫[[[‪ -‬ابن سينا‪ :‬النجاة صص‪.146-145‬‬
‫[[[‪ -‬صدر الدين الشريازي (مال صدرا) الحكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة (‪ )1981‬تحرير رضا املظفر‪ ،‬دار إحياء الرتاث العرىب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬املجلد الثالث‪ ،‬الجزء الثاين ص ص ‪( .5-3‬املشار إليه يف املقال باألسفار)‬
‫[[[‪ -‬يستشهد صدرا بستة أنواع مختلفة من الفواعل فيام يتعلق بحركة األشياء" وهى القصد والنية والرضا والطبيعة والقرص والتشكر‪،‬‬
‫األسفار‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص ‪.13 - 10‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ص‪ 6‬وأنظر أيضا مال صدرا (‪1377‬ه) حدوث الكالم‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار انتشارات موىل‪ ،‬طهران‪ ،‬ص ‪.199 - 195‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ص ‪.20‬‬

‫‪214‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫يف حال املادة األوىل أو الهيويل‪ ،‬وال ينطبق حال املوجود بالفعل املحض إال عىل الله‪ ،‬الذى‬
‫لديه قوة التحقيق‪ ،‬واملوجود كهذا له طبيعة «وجود بسيط يحتوي يف ذاته كل يشء»‪ ،‬وقد ناقش‬
‫املشائيون قبل صدرا أن املادة األوىل "المتناهية"؛ ألنها غري محددة وقابلة ألي صورة عندما تتحقق‬
‫بصورة فاعلة‪ ،‬واملوجودات املمكنة قادرة عىل الحركة‪ ،‬وهي تشري إىل عامل األجسام الهيوالنية‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ومتتلك قوة االنتقال التدريجي من القوة إىل الفعل‪.‬‬


‫وقد تسبب املعنى الزمني «التدريجي» قى تعريف الحركة يف بعض املعضالت عند فالسفة‬
‫املسلمني؛ ألن تعريف الحركة عىل أنها انتقال تدريجي من القوة إىل الفعل يعني أن هذه العملية‬
‫تحدث يف زمن‪ ،‬مع أن هذه العبارة مقبولة يف االستعامل املعتاد يف اللغة إال أن تعريف الزمن‬
‫مقياسا للحركة يؤدى إىل مصادرة عىل املطلوب والرجعة‪ ،‬وأدى هذا ببعض الفالسفة إىل‬ ‫ً‬ ‫بوصفه‬
‫افرتاض تعريف جديد للحركة ال ينطوى عىل معان للزمن‪ ،‬معولني عىل ابن سينا والسهروردي‬
‫والرازي‪ ،‬ويدحض صدرا هذا االعرتاض بقول إن معنى مصطلحات مثل "فجأة" و"تدريجى" هي‬
‫واضحة بعون الحواس الخمسة‪ ،‬أي من خالل التحليل املادي[[[‪ .‬كام يقول صدرا هناك أشياء‬
‫[[[‬
‫واضحة وجلية ليس مبقدورنا معرفة طبيعتها الباطنة[[[ ومع ذلك مل يرض هذا التفسري الالهوتيني‬

‫[[[‪ -‬تحدث أبو الربكات البغدادي قبل صدراعن هذه الفكرة‪ ،‬ويزعم البغدادي أنه نظ ًرا ألن مثل هذه املصطلحات مثل التدريجي واملفاجئ‬
‫وفهم ملنطقنا السليم‪ ،‬ميكننا بسهولة فهم معنى الحركة من خالل استخدام هذه املصطلحات املتعلقة بالزمن‪ .‬وبالتايل فهو‬ ‫ً‬ ‫أكرث وضو ًحا‬
‫ال يرى أي رضر يف استخدام هذه املصطلحات يف تعريف الحركة عىل الرغم من الدائرية الظاهرة‪.‬راجع كتابه املخترب (حيدر آباد ‪1357‬ه)‪،‬‬
‫املجلد الثلني‪ ،‬ص ‪.30-29‬‬
‫[[[‪ -‬أسفار‪ ،‬ج‪ ،1 ،3‬ص ‪.11-23‬‬
‫[[[‪ -‬من املهم أن نالحظ ولو بإيجاز أن صدرا قد طور تصوره عن الحركة الجوهريةعىل أبعاد النظرية الرتاثية للحركة كام رشحها فالسفة‬
‫املشائية ومفكروا علم الكالم واإلرشاقيني‪ ،‬وسوف أناقش آراء الفالسفة ومدرسة اإلرشاق عند تحليل انتقادات صدرا‪ ،‬أما بالنسبة آلراء‬
‫علامء الكالم يف الحركة فال يسعنى إال ان أحيل القارئ إىل بعض املصادر الرتاثية ملزيد من املناقشة‪ ،‬وترتكز وجهات نظر علم الكالم‬
‫عىل الحركة يف العقيدة املركزية للذرية التي يشرتك فيها غالبية األشاعرة واملعتزلة‪ ،‬ألن الالهوتيني تصوروا الذرات عىل أنها غري قابلة‬
‫للتجزئة وغري قابلة للتغري متا ًما‪ ،‬فقد كانوا ملزمون بتعريف كل من التغيري الكيفى والكمي عىل أنهام تركيبات وتوليفات مختلفة من‬
‫الذرات غري املتغرية يف األساس‪ ،‬يستلزم هذا أن التغري والحركة ال تحدث إال من خالل تغيري السامت العرضية للذرات‪ ،‬وليس تكوينها‬
‫رضا يف مكان ما" أو‬‫األسايس‪ ،‬وبالتايل اختزلوا التغري إىل نظام العالقات الخارجية‪ .‬ولذلك طور املعتزلة عقيدة "كون"‪ ،‬أي "أن تكون حا ً‬
‫"أن توجد يف وضع مادى ملموس"‪ .‬وفقًا لهذا الرأي‪ ،‬فإن الذرات "توجد" (تكن) يف موضع بعينه‪ .‬وليست الحركة سوى وجود الذرة (كن)‬
‫يف موضع بعينه بعد أن كانت يف موضع آخر‪ .‬هذا يجعل الحركة خاصية عرضية للذرات‪ .‬وبالتايل فإن التغري والحركة يف البنية األساسية‬
‫للذرات مرفوضان باإلجامع من قبل املعتزلة واألشاعرة عىل حد سواء‪ ،‬بالطريقة نفسها ال يُسمح بالتغري أو الحركة إال يف أربع مقوالت‪:‬‬
‫األين والوضع والكم والكيف‪ ،‬ويُنكر أي تغيري يف مقولة الجوهر عىل أساس أن هذا سيؤدي كام ناقشابن سينا​​والسهروردي‪ ،‬إىل انحالل‬
‫الجوهر األصيل‪ .‬راجع الخياط (‪ ،)1957‬كتاب االنتصار‪ ،‬املطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بريوت‪ ،‬ص‪ 32 .‬وما يليها؛ والشهرستاين‪ ،‬امللل والنحل‬
‫(طبعة‪ ،)1961 ،‬تحرير محمد جيالين‪ ،‬رشكة ومكتبة مصطفى الحلبي‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ص‪ 50 .‬وما يليها؛ عبد القاهرالبغدادي (‪ ،)1988‬الفرق‬
‫بني الفرق‪ ،‬مكتب ابن سينا​​القاهرة‪ ،‬ص‪ 101 .‬وما يليها ؛ فخر الدين الرازي‪ ،‬املباحث املرشقية (‪ ،)1990‬ملحمد البغدادي‪ ،‬دار الكتاب‬
‫العريب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املجلد‪ .‬األول‪ ،‬ص ‪793 - 671‬؛ التفتازاين‪ ،‬رشح املقاصد (طبعة ‪ ،)1989‬تحريرعمرية‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املجلد‬
‫الثاين‪ ،‬ص ‪59-409‬؛ محمد التهانوي ‪ ،‬كشاف استطالعات الفنون (طبعة‪ ،)1998 ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪ ،‬املجلد‪ ،1‬ص ‪ 73-462‬؛‬
‫‪Mahmud, Ali b. Ahmad b., “Risalah fi bahth al-harakah” in Collected Papers on Islamic Philosophy‬‬
‫‪and Mysticism (ed. 1971), by M. Mohagheghn and H. Landolt, Tehran University Press, Tehran, pp. 35-‬‬
‫‪51; and Frank, Richard M. (1978), Beings and Their Attributes: The Teaching of the Basrian School of‬‬
‫‪the Mu"tazila in the Classical Period, State University of New York Press, Albany, pp. 95- 104.‬‬

‫‪215‬‬
‫حقول التنظير‬

‫وعرفوا بعد أرسطو[[[ الحركة بأنها تحقيق هو ممكن (ممكن الحصول)‪ ،‬وطاملا أن هذا التعريف‬
‫يشري إىل انتقال من القوة إىل الفعل وأن الفعل يعنى دوما أن الكامل يعارض القوة فإن الحركة تدلل‬
‫عىل فعل الكامل‪.‬ومن هنا جاءت الفكرة املألوفة بان الحركة كامل للجسم املتحرك‪ ،‬ولكن هذا‬
‫الكامل مباين بالرضورة لصنوف أخرى للكامل؛ ألنه ليس له وجو ًدا حقيقيًا سوى "االنتقال إىل‬
‫مكان آخر"‪ ،‬ويُفهم مبا هو عىل أنه جسم متحرك ميتلك صفتني خاصتني‪ ،‬األوىل هي التوجه نحو‬
‫نقطة بعينها أو مطلوب يربطه صدرا بطبيعة األشياء الباطنة‪ ،‬والثانية هي بالرضورة أن تبقى بعض‬
‫القوى يف األشياء التي تتحرك حتى بعد نفاد قوتها لتتحرك نحو موضع بعينه‪ ،‬وهذا يعنى أن الحركة‬
‫والسكون يشبها القوة والفعل فحسب مبعن محدد[[[‪.‬‬

‫ويؤدى التعريف أعاله للحركة إىل فكرة شائعة بأن الحركة هي كامل أول ملوجود بالقوة بقدر‬
‫ريا مشاب ًها‪ :‬حيث يخرج‬
‫قواه‪ ،‬ويقول صدرا إن هذا التعريف يُرد إىل أرسطو‪ ،‬ويقدم أفالطون تفس ً‬
‫من حالة التشابه‪ ،‬أى أن وجود اليشء مختلفًا عن حالته السابقة‪،‬ويفرتض فيثاغورس تعريفا دقيقا‪:‬‬
‫حيث يتألف من التبادلية‪ .‬وبعد ذكر هذه التعريفات وانتقادها الجزىئ عند ابن سينا​​‪ ،‬يذكر صدرا أن‬
‫هذه التعريفات املختلفة تشري إىل املعنى نفسه‪ ،‬وهو التغري األساىس لحال أمور الجسم املتحرك‪،‬‬
‫ريا يف ذاتها بل هي «ما‬
‫ثم ينتقد صدرا اعرتاض ابن سينا ​​عىل فيثاغورس بأن الحركة ليست تغ ً‬
‫يحدث التغيري»‪ ،‬ويرفض صدرا وجهة نظر ابن سينا​​بقوله إن الحركة ليست "شيئًا" أو مبدء ًا تتغري به‬
‫األشياء‪.‬وتعريف الحركة كام ادعى املعتزلة[[[ بوصفها مبدء ًاتتحرك خالله األشياء‪ ،‬لتعتربه خاصة‬
‫حادثة لألشياء ‪ -‬وجهة نظر تناقض ما يفرتضه صدرا يف حركته الجوهرية‪ .‬وبدالً من ذلك‪ ،‬يرص‬
‫خاصا‬
‫ً‬ ‫عىل أن تعريف الحركة عىل أنها التغري يف ذاته‪ ،‬كام سرنى الحقًا‪ ،‬أن صدرا يويل اهتام ًما‬
‫لهذه النقطة ألنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بتجديد الطبائع الجوهرية (تجدد األكوان الجوهرية) من جهة‪،‬‬
‫والتغري املتواصل لطبيعة األشياء (تح ّول الطبقات السارية) من جهة أخرى[[[‪.‬‬

‫[[[‪« -‬الحركة هي تحقيق ما يوجد بالقوة بقدر ما يوجد بالقوة» ‪Aristotle, Physics, Book III, 201, 10‬‬
‫[[[‪ -‬األسفار‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص ‪.23‬‬
‫‪[3]- Cf. Frank, (1978), p. 100.‬‬
‫[[[‪ -‬األسفار‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول ص ‪.26‬‬

‫‪216‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫معني�ان للحركة‪:‬‬
‫يقدم ابن سينا يف كتاب الشغاء ​​معنيني مختلفني للحركة‪ :‬املعنى األول هو القطع[[[ مشهد‬
‫رضا بكليته أثناء الحركة‪ ،‬وعندما ينظر العقل إىل الجسم‬
‫للحركة يُؤخذ الجسم املتحرك بوصفه حا ً‬
‫املتحرك بالنقاط التي يعربها‪ ،‬فإنه يصور هذه النقاط املنفصلة واللحظات الزمنية بوصفها كل‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫حارض‪ .‬ولكن نظ ًرا ألن هذه الصورة املجمدة تتوافق مع جسم ممتد يف املكان والزمان بوصفها‬
‫كل متصل بدالً من تغري فعىل‪ ،‬فإن هذا النوع من الحركة يوجد فحسب يف العقل‪ .‬ويسمى النوع‬
‫الثاىن "حركة تواسطية" ألنه وفقًا لهذا الرأي‪ ،‬يوجد الجسم املتحرك دو ًما بأى مكان بني بداية‬
‫ونهاية املسافة املقطوعة‪ ،‬ومع ذلك يشري هذا الرأي إىل حال التواصلية‪ ،‬أى أن الجسد يف كل زمن‬
‫حال‪ ،‬وال يسمح مبا هو بالتغري يف التكوين الوجودى لألجسام املتحركة‪ ،‬بل يقر ببساطة أحوال‬
‫االنتقال من مكان إىل آخر‪ ،‬وهذا النوع من الحركة موجود بشكل موضوعى يف العامل الخارجى‬
‫عند ابن سينا​​وصدرا‪.‬‬
‫ورشع صدرا يف إثبات الوجود املوضوعى للحركة بوصفها قط ًعا لعدم وجود خالف مع وجهة‬
‫النظر التواسطية للحركة‪ ،‬ويلفت االنتباه أوالً إىل التناقض الذاىت يف رفض ابن سينا لها‪ ،‬ويقبل ابن‬
‫متواصل يف العامل الخارجى؛ ألنه ميكن تقسيمه إىل سنني وشهور وأيام‬ ‫ً‬ ‫سينا الزمن بوصفه شيئًا‬
‫وساعات‪ ،‬وهو تعريف الزمن الذى يتوافق مع الحركة بوصفها قط ًعا‪ ،‬وبنا ًء عىل هذا االفرتاض يعترب‬
‫ابن سينا أن حركة القطع هي موضع الزمن وعلته‪ ،‬ولكن إذا كانت حركة القطع غري موجودة بشكل‬
‫مقياسا للزمن؟ بعبارة أخرى‪ ،‬كيف ميكن ليشء غري موجود أن‬ ‫ً‬ ‫موضوعى‪ ،‬فكيف ميكن أن تكون‬
‫يكون موض ًعا ليشء موجود؟[[[‪.‬‬
‫إن إنكار ابن سينا​​لوجهة نظر القطع للحركة ناتج عن فهمه بأن الحركة صفة حادثة لألجسام‬
‫املادية‪ ،‬والجسم املادى جوهر ثابت يوجد يف كل لحظة من الزمن بقدر وجوده‪ ،،‬ولكن الحركة‬
‫[[[‪ -‬يرد صدرا عىل شك الرازى حول الوجود الحقيقى لرؤية الحركة عىل أنها (قطع) بالركون عىل استاذه مري داماد الذى يرى إذا كان وجود‬
‫الىشء عملية مستمرة ككل أو أن الوحدة محال فبالرضورة أن تستحيل يف العقل وىف العامل الخارجى‪ ،‬وإمكان الوجود املوضوعي يف‬
‫الفقرة « يُظهر الجسم ممتدً ا يف املكان حيث تتصل أجزاءه‪ ،‬ومن ثم ُينح الكل أيضا»‬
‫‪ .Cf. Rahman, Fazlur (1975), The Philosophy of Mulla Sadra, SUNY Press, Albany, p. 95‬ولحظة زمن بعينها‬
‫يف عملية الزمن تتبع بأخري‪ ،‬وباملثل طرف بعينه للجسم املتحرك يتبع أخر يف املكان‪ ،‬ونظ ًرا ألن « وجود اليشء ككل يف لحظة الزمن‬
‫يختلف عن وجوده يف الزمن‪ ،‬ورمبا يوجد هذا اليشء (ككل) يف الزمن فإن وجوده أو بعض منه (ككل) ال ميكن أن يوجد يف لحظة الزمن‬
‫رضا ككل يف لحظة الزمن ال ينتج الحركة بل عدم الحركة‪ ،‬ويؤكد صدرا عىل أمر مفاده أن هذا الجسم‬ ‫(آن) ووحود الجسم املتحرك حا ً‬
‫ككل قد يُوجد يف الزمن ال يف لحظة زمن بعينها‪ ،‬وفكرة املرور التدريجى ال تعارض وجود الىشء ككل أو وحدة» ألن الحركة والزمن وما‬
‫شابه ذلك من األشياء ذات الوجود الضعيف‪ ،‬وكل جزء منها يحتوى عدم وجود األخر» وباملثل املرور التدريجى ال ميكن تجاهله بوجود‬
‫متصل يف وحدة معينة يف زمن ألن زمن بذاته ال ىشء سوى وحدة بعينها متصلة (عمر متصل واحد شخيص) انظر األسفار‪ ،‬الجزء‬ ‫ً‬ ‫الىشء‬
‫الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص ‪.28‬‬
‫[[[‪ -‬من املثري لالهتامم أن نالحظ يف الصفحة نفسها عبد األعىل السبزوارى يرفض انتقاد صدرا ويرص عىل ذاتية مرور الحركة‪ ،‬انظر أسفار‬
‫الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص ‪.33‬‬

‫‪217‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ليس لها وجو ًدا يف لحظات الزمن (آن)‪ .‬وإذا كانت الحركة إحدى أمناط األشياء‪ ،‬فهى ترافقها دو ًما‪،‬‬
‫وتوجد الحركة يف األشياء باستمرارية فحسب‪ ،‬وتشري بدورها إىل املعنى الثاىن‪ ،‬ويجيب صدرا‬
‫عىل هذا بقول إن موضع الحركة ليس اليشء باعتباره جوهر ثابت بل موضع وأين ثابت ُيارس فيه‬
‫الفعل‪ ،‬وحتى يتلقى اليشء الحركة والتغري‪ ،‬بالرضورة أن يخضع لنوع من التغري يف بنيته األساسية‬
‫(درب من تبادل األحوال الحياتية)‪ ،‬وهذا مبنى عىل فكرة أن "علة املتغري متغرية" ‪ ،‬وكذلك"علة‬
‫الثابت ثابتة"[[[‪.‬‬
‫والسبب الرئيس إلنكار القطع يف الحركة يرتبط بخاصة بعينها لهذا النوع من الحركة التي يصفها‬
‫مال صدرا بأنها «وجود ضعيف‪ ،‬كام يوضح االقتباس التاىل أن الوجود الضعيف يشري إىل التبعية‬
‫الوجودية‪ ،‬أعنى أن وجود األشياء من هذا النوع ليست ذاتية الوجود ويعللها دو ًما عامل‪:‬‬
‫«والجواب إن الحركة والزمان من األمور الضعيفة الوجود التي وجودها يشابك عدمها‪,‬وفعليتها‬
‫تقارن قوتها‪ ،‬وحدوثها عني زوالها‪ ،‬فكل جزء منها يستدعي عدم جزء آخر بل هو عدمه بعينه؛ فإن‬
‫الحركة هي نفس زوال يشء بعد يشء‪ ،‬وحدوث يشء قبل يشء‪ ،‬وهذا النحو أيضا رضب من مطلق‬
‫الوجود كام إن االضافات رضيًا من الوجود‪ ،‬ويف وجود الحركة شكوك وشبه كثرية ولها أجوبة‬
‫إلنطول الكالم بدکرها ونرصف عنان القلم إىل ما هو أهم من ذلك»[[[‪.‬‬
‫ويقرر صدرا يف إطار الفعل‪-‬القوة بأن هناك طرفني للوجود‪ ،‬أحدهام الحق األول والوجود‬
‫البحت جل ذكره‪ ،‬واآلخر الهيوىل األوىل‪ ،‬واألول خیر محض‪ ،‬وهذه رش الخريية فيه إال بالعرض‪،‬‬
‫ريا بالعرض بخالف العدم فإنه رش محض‪ .‬وما يدعوه‬ ‫ولكونها قوة جميع املوجودات يكون خ ً‬
‫صدرا بالحق األول ينهى سلسلة الفواعل التي تأىت باملوجودات بالقوة إىل حال الفعل‪ ،‬وبالتاىل‬
‫تعمل بوصفها مبدأ كوىن يف "سلسلة الوجود الكربى"‪ ،‬ويشري التناقض األنطولوجى بني القوة‬
‫والفعل إىل هرمية املوجودات بأن األشياء املوجودة بالفعل تتمتع بحال أنطولوجى أسمى‪ ،‬وىف‬
‫هذا املنعطف يقرر صدرا أن الجسم البسيط مرکب من هیولی وصورة ألن الجسم فيه قوة الحركة‬
‫وله الصورة الجسمية أعني االتصال الجوهري وهو أمر بالفعل ففيه كرثة اشارة إىل أن كل بسيط‬
‫الحقيقة يجب أن يكون جميع األشياء بالفعل‪ .‬وهذا املظهر يربهن أن الجواهر املادية أحد املبادئ‬
‫األساسية لألنطولوجيا الصدرية والفلسفة الطبيعية‪ ،‬أى "بساطة الحق‪...‬جامل األشياء[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪.34-33‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.37‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.40‬‬

‫‪218‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫ِّ‬
‫املتحرك‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫املحرك واجلسم‬
‫قد نتذكر أن أرسطو قد افرتض مفهوم املحرك األول إلنهاء التسلسل الالنهاىئ لسلسلة العلية‪،‬‬
‫ووضع ببساطة إذا كان كل يشء يتحرك بيشء آخر‪ ،‬فبالرضورة أن ينتهي هذا مببدء ال يتحرك‪،‬‬
‫وأحد النتائج املهمة لهذه الفكرة هي التمييز الصارخ بني املحرك والجسم املتحرك ‪ -‬ثنائية تكميلية‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫امتدت يف بعدية الحركة املوضعية‪ ،‬ويحتاج كل جسم متحرك إىل محرك من منظور العلية الرأسية‪،‬‬
‫ويعيد صدرا باتباع املشائيني صياغة هذه العالقة يف معاىن القوة والفعل‪ ،‬ومبا أن عملية الحركة‬
‫تتطلب طرىف القوة والفعل فإن الفعل يشري إىل املحرك‪ ،‬والقوة إىل الجسم املتحرك‪ ،‬وبعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬يقدم املحرك باعتباره املوجود الفعىل علة الحركة‪ ،‬والجسم املتحرك باعتباره املوجود‬
‫بالقوة‪ ،‬ويقف عند الطرف املتلقي لعملية الحركة‪.‬‬
‫ومنفعل للحركة‪ ،‬وبعبارة‬
‫ً‬ ‫ًافاعل‬
‫ً‬ ‫جسم واح ًدا ال ميكن أن يكون مبدء‬
‫ً‬ ‫ت ُظهر هذه الطرفية أن‬
‫أخرى‪ ،‬علينا أن نفرتض وجود املحرك األول الذي ميكن أن تتبع كل حركة إليه يف النهاية‪ .‬وتعمل‬
‫حجة صدرا عىل النحو التايل‪ :‬بالرضورة أن الجسم املتحرك بقدر ما هو موجو ًدا بالقوة أن يكون‬
‫فاعل‪ ،‬بقدر ما‬
‫ً‬ ‫ًامنفعل‪ ،‬أي امل ُتلقى لفعل الحركة بينام بالرضورة أن يكون املحرك عامالً‬
‫ً‬ ‫مبدء‬
‫فاعل‪ ،‬وال توجد هاتني الصفتني أو "الجهات" يف اليشء نفسه يف وقت واحد بسبب‬ ‫ً‬ ‫هو موجو ًدا‬
‫طبيعتهام الشاملة‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬ال ميكن أن يكون الكيان املادى مصدر وموضع الحركة يف‬
‫الوقت نفسه‪ ،‬وىف هذه النقطة‪ ،‬يجب أن تعود كل حركة إىل مبدء فاعل كائن‪.‬‬
‫«وهو متحرك بذاته متجدد بنفسه وهو مبدء الحركة عىل سبيل اللزوم‪ ،‬وله فاعل محرك مبعنى‬
‫موجد نفس ذاته املتجددة ال مبعنى جاعل حركته لعدم تخلل الجعل بني الىشء وذاتياته‪ ،‬وذلك‬
‫ألن فاعل الحركة املبارش لها البد وأن يكون متحركًا وإال لزم تخلف العلة عن معلولها فلو مل ينته‬
‫إىل أمر وجودى متجدد الذات ألدى إىل التسلسل والدور»[[[‪.‬‬
‫وميىض صدرا يف تقديم الرباهني عىل رضورة وجود املحرك األول بوصفه مبد ًءا خارج ًيا‬
‫لتحريك األشياء‪ ،‬يرفض ويرد عىل بعض االعرتاضات عىل النحو التايل‪ )1 .‬لو كان اليشء متحركًا‬
‫لذاته امتنع سكونه؛ ألن ما بالذات يبقى ببقاء الذات وفساد التاىل يستلزم فساد املقدم ‪ )2 .‬لو كان‬
‫اليشء يتحرك لذاته كان أجزاء الحركة مجتمعه ثابته ألن معلوم الثابت ثابت‪ ،‬ولو كان ثابتًا مل يكن‬
‫حركة ‪ )3 .‬لو كان مبدأ الحركة موجو ًدا يف الجسم املتحرك ذاته‪ ،‬فلن يكون له مكانًا"مالمئًا" أو‬
‫طبيعيًا ميكن أن مييل إليه‪ ،‬وفقًا للتعريف املألوف للحركة‪ ،‬إذا مل يكن هناك مكان طبيعي ليشء‬
‫ميكن أن مييل إليه‪ ،‬فإنه ال ميكن أن يتحرك‪ )4 .‬إذا كانت الحركة الذاتية صفة حقيقية لجسم‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.40-39‬‬

‫‪219‬‬
‫حقول التنظير‬

‫متحرك‪ ،‬فستكون صفة كلية "للشيئية" تتقاسمها جميع األشياء املادية‪ ،‬ولكن هذا ليس هو الحال‬
‫يف األجسام الطبيعية‪ ،‬والحقيقة كام يقول صدرا الحركة صفة بعينها يقدمها محرك خارجى‪)5 .‬‬
‫دليل آخر عىل أن حقيقة الجسم املادى ليس لديه مبد ًءا للحركة يف ذاته‪ ،‬ويعنى هذا أن الفعل‬
‫والقوة قد يوجدا يف املوضع نفسه يف الوقت ذاته‪ ،‬وإن كانا عىل هذا الحال‪ ،‬فلن ينجح الفعل‬
‫بواسطة القوة‪ ،‬ألنه وفقًا للتعريف الوارد أعاله‪ ،‬الحركة هي كامل أول ملا هو قوة‪ ،‬إذا كان اليشء‬
‫فعل بكل االعتبارات دون أن يرتك مجالً للقوة‪ ،‬وهذا ما ال‬
‫قاد ًرا عىل تحريك نفسه‪ ،‬فسوف يكون ً‬
‫ميكن تصوره للموجودات املمكنة‪ )6 .‬ت ُبنى النسبة بني الجسم املتحرك والحركة باإلمكان‪ ،‬ونسبته‬
‫جا للحركة‪ ،‬فهذه النسبة‬
‫فاعل بالوجوب‪ ،‬وإذا كان الجسم املتحرك نفسه منتو ً‬ ‫ً‬ ‫الحركة بوصفها مبد ًءا‬
‫سوف تكون رضورية‪ ،‬ولكن مبا أن هذا اإلمكان والرضورة ال يتزامنا‪ ،‬فإن الجسم املتحرك يختلف‬
‫عن مبدء أو مصدر الحركة [[[‪.‬‬
‫ُ ّ‬
‫كيف تعي األشياء يف احلركة‪:‬‬
‫هناك طريقان ممكان للمح ِّرك ليُ ّعني األشياء يف الحركة‪ :‬إنه يحرك األشياء إما ‪ )1‬بشكل مبارش‬
‫وبنفسه أو ‪ )2‬بشكل غري مبارش وعن طريق يشء آخر‪ ،‬فالنجار بالقدوم هو مثال عىل النوع الثاين‬
‫من الحركة‪ ،‬ويعطي الفعل املبارش للمحرك مفهوم الحركة كصفة حادثة‪ ،‬وفعل املحرك عن طريق‬
‫يشء آخر ينتج فكرة الجسم املتحرك لذاته‪ ،‬وقد يُحرك املحرك يشء ما دون الحاجة إىل وسيط‬
‫مثل جذب املعشوق للعاشق أو حركة من لديه الحامس والرغبة يف التعلم من قبل املعلم‪ .‬إن‬
‫املحرك األول هو الذي ال يتحرك ذاته‪ ،‬ومينح الجسم املتحرك علة مبارشة تحركه‪ ،‬أو تجذبه إىل‬
‫ذاته بوصفها غايته‪ .‬وكل يشء يف العامل املادى له تأثري بعينه ال بالجزاف أو التوافق بل بقدرة‬
‫خارجية تضاف له من الخارج‪ ،‬وهذه «الصفة املضافة» هي إما الطبيعة التي ميتلكها أو القدرة‬
‫الطوعية التي ميتلكها‪ ،‬وىف كلتا الحالتني‪ ،‬يجب أن ترنبط هذه القدرة باليشء ذاته‪ ،‬أي ال ميكن أن‬
‫تكون كلية "بال نسبة" يف جانب منها‪ ،‬ولو كان هذا النوع من الحركة التي أحدثها املبدء املجرد‬
‫املجرد أو "املنفصل" (املفارق) بطريقة كلية‪ ،‬فإن هذا املقدرار سوف يكون مبثابة يشء آخر غري‬
‫املقصود بالحركة باملعنى املعتاد للكلمة‪ ،‬لذلك يحتاج املحرك األول أن يستخدم يف األشياء‬
‫"مبد ًءا يحركها به‪ ،‬وهذا املبدء يف جميع الكائنات الحية هو "الطبيعة"[[[‪.‬‬
‫املشكلة التالية التي يعالجها صدرا هي كيفية ارتباط املحرك األول‪ ،‬الذي ال يتحرك‪ ،‬ويرتبط‬
‫باملوجودات املمكنة واألجسام املادية‪.‬ورمبا نلخص حجة صدرا عىل النحو التايل‪ :‬ميكن أن‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪.42-41‬‬
‫[[[‪ -‬رغم أن ابن سينا يبدو متفقًا مع هذا الرأى من حيث الجوهر‪ ،‬فإنه يستعمل كلمة طبيعة مبعنى امليل الطبيعى والحركة الطبيعية بدلً من‬
‫كونها صفة أساسية لألجسام املادية التي تجعل كل الحركات الطوعية والقرسية ممكنة‪ ،‬راجع كتاب النجاة‪ ،‬ص ‪.146‬‬

‫‪220‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫ت ُعزى قدرة اليشء عىل تلقي تأثري الحركة من املبدء "املفارق" إىل ثالثة أسباب‪ :‬اليشء ذاته‪ ،‬أو‬
‫بعض الخصائص الخاصة يف ذلك اليشء‪ ،‬أو صفة بعينها يف املبدء املفارق‪ ،‬فاألول مستحيل‬
‫ألنه‪ ،‬كام أوضحنا سابقًا‪ ،‬سيقودنا إىل قبول الحركة بذاتها بوصفها صفة كلية وجوهرية للشيئية‪.‬‬
‫ويذكر صدرا بإيجاز أن الخيار الثاىن‪ ،‬أي الحركة من خالل صفة أو قدرة يف األشياء‪ ،‬هو الرأي‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الصحيح‪ .‬والخيار الثالث به بعض النقاط ننظر فيها‪ ،‬حيث يحدث تحقيق الحركة من خالل جانب‬
‫ريا يف اليشء الذي يحركه‪ ،‬فإن هذا‬‫من جوانب املبدء املفارق‪ ،‬وعندما ينشئ املبدء املفارق تأث ً‬
‫بدوره قد يحدث إما من خالل إرادة املبدء املفارق مبعالجة يشء ما يف اليشء أو التأثري فيه‬
‫عشوائياً حسب رغبته‪.‬‬
‫وال ميكن الدفاع عن الخيار األخري ألنهى يُنهى فكرة النظام يف الطبيعة‪ ،‬ويقول صدرا أن الجزاف‬
‫أو االتفاق الحادث ليس ثابتًا وال مستم ًرا يف الطبيعة‪ :‬إن االتفاقيات كام ستعلم ليست بدامئة‬
‫والأكرثية لكن األمور الطبيعية أكرثية أو دامئة وليس فيها يشء باالتفاق والجزاف كام ستعلم‬
‫أن جميعها متوجهة نحو أغراض كلية فليست إذن باتفاقية فبقي أن يكون بخاصية فيه‪ ،‬ويكون‬
‫تلك الخاصية لذاتهاموجبة للحركة وهي القوة والطبيعة وهي التي بسببها يطلب الجسم بالحركة‬
‫[[[‬
‫کامالتها الثانية‪.‬‬
‫وبالتاىل يتبقى لنا خيار وهو أن يحدث هذا التأثري بصفة أساسية يف األجسام املادية التي تسبب‬
‫الحركة فيهم‪ ،‬وهى ما يطلق عليه صدرا "إمكان" و"طبيعة"[[[‪.‬‬
‫قوسا طويلً‬‫ً‬ ‫بعد افرتاض "الطبيعة" بوصفها العلة القريبة لكل حركة[[[‪ ،‬يفتح صدرا‬
‫ويتعمق يف مناقشة كيف أن الفعل يسبق القوة‪ ،‬وتهدف هذه املناقشة الطويلة إىل‬
‫انتقال وجوديًا‪ ،‬وأن التجديد املستمر للموجودات‬ ‫ً‬ ‫إظهار أن فكرة اإلمكان تتطلب‬
‫املمكنة هو صفة أساسية موجودة يف املحسوس كلام أمكن أن تأىت موجودات‬
‫إىل الفعل خارج القوة‪ ،‬وتكشف حجج صدرا عن بعض الجوانب املثرية لالهتامم يف نظريته‬
‫عن املادة‪ ،‬فكل مخلوق يسبقه وجود ومادة تحمله‪ ،‬وهذه صفة متجذرة يف كل املوجودات‬
‫املمكنة‪ ،‬وإال فإنها سوف تتبع مقولة إما الرضورة أو الوجود املستحيل‪ ،‬واملسألة التي تتحد بها‬
‫املوجودات املمكنة تعمل كأحد املبادئ أو العلل القريبة إلخراج املوجودات املمكنة من العدم‬
‫والقوة املحض‪ ،‬وبالرضورة أن نتذكر أن املادة والصورة مثل القوة والفعل متا ًما‪ ،‬ليستا "أشياء" بل‬
‫متأصل‪ ،‬وإال فسوف يسبق‬ ‫ً‬ ‫مبادئ للوجود‪ .‬وبهذا املعنى فإن موضوع اإلمكان يجب أن يكون كيانًا‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.49‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ص ‪.49 48-‬‬
‫‪[3]- Cf. Aristotle, Physics, Book III, 200b.‬‬

‫‪221‬‬
‫حقول التنظير‬

‫بإمكان أخر إىل ما ال نهاية‪ ،‬وتتالىش كل إمكانية عندما يصبح شيئًا فعل ًيا يف العامل الخارجى‪ ،‬حتى‬
‫تنتهي سلسلة العلية يف املبدأ الذي ليس له إمكان أى قوة‪.‬‬
‫يحذر صدرا من فكرة أن القوة قد تسبق الفعل باملعنى املطلق‪ ،‬والحقيقة أنه ميل شائع يف وضع‬
‫[[[‬
‫القوة قبل الفعل مثل نسبة البذرة لشجرة أو مثل نظرية النظام املعروفة بالكمون (الكمون والربوز)‬
‫حيث قال البعض إن الكون كان يف حالة اضطراب وأن الله منحه أفضل األوامر‪ ،‬وبالطريقة نفسها‪،‬‬
‫ا ُعتربت املادة قبل الصورة والجنس إىل الفصل ‪ ،differentia‬وحسب مجموعة أخرى من الناس‬
‫ذكرهم ابن سينا ​​ يف الشفاء‪ ،‬قالوا أن للهيوىل "وجود" قبل صورته‪ ،‬وأعطاها مبدء الفعل لباس‬
‫الصورة‪ ،‬يعتقد البعض أن كل األشياء يف الكون كانت تتحرك بحركتها الطبيعية دون أي نظام‪ ،‬ورتب‬
‫الله حركتهاموأخرجها من الفوىض‪.‬‬
‫ويرد صدرا عىل هذه االدعاءات التي هي يف بعض حاالتها‪ ،‬كام يف النسبة بني الحيوانات‬
‫املنوية واإلنسان‪ ،‬حيث تسبق القوة الفعل يف الزمن‪ ،‬ولكن يف الت حليل النهايئ‪ ،‬ال ميكن للقوة‬
‫أن ت ُعيل ذاتها‪ ،‬وتحتاج إىل عائل ليبقيها‪.‬‬
‫«فنقول‪ :‬إن الحال يف األمور الجزئية من الكائنات الفاسدة كالحال يف املني واإلنسان من أن‬
‫للقوة املخصوصة تقد ًما عىل الفعل بالزمان والتقدم بالزمان غري ممتد به‪ ،‬ثم القوة مطلقًا متأخرة‬
‫عن الفعل بوجوه التقدم فإنها ال تقوم بذاتها بل يحتاج إىل جوهر تقوم به‪ ،‬وذلك الجوهر يجب أن‬
‫يكون بالفعل فإنه ما مل يرص بالفعل مل يكن مستع ًدا ليشء فان ماليس موجو ًدا مطلقًا ليس ممك ًنا‬
‫أصل كاألول تعاىل والعقول‬ ‫ً‬ ‫أن يقبل شيئًا‪ ،‬ثم إن يف الوجود أشياء بالفعل مل يكن وال يكون بالقوة‬
‫الفعالة‪ ،‬ثم القوة تحتاج إىل فعل يخرجها إىل الفعل وليس ذلك الفعل مام يحدث فإنه يحتاج إىل‬
‫بي يف تناهي العلل»[[[‪.‬‬
‫مخرج آخر وينتهي ال محالة إىل موجود بالفعل ليس مبحدث كام ّ‬
‫رصا قيميًا ‪ axiological‬يف املناقشة‪ ،‬وهو بدوره يؤكد التناقض‬
‫ويُدخل صدرا بعد هذه االعتبارات عن ً‬
‫األنطولوجي الذي يؤسسه صدرا بني القوة والفعل من جهة‪ ،‬والوجود وعدم الوجود من جهة أخرى‪.‬‬
‫«و الخري يف كل يشء إمنا هو مع الكون بالفعل وحيث يكون الرشفهناك ما بالقوة‪ ،‬واليشء‬
‫رشا أو إال لكان معدو ًما‪ ،‬وكل يشء من حيث هو موجود ليس برش وإمنا هو‬ ‫اليكون من كل وجه ً‬
‫رش من حيث هو عدم کامل مثل الجهل أو ألنه يوجب يف غريه عد ًما كالظلم؛ فالقوة ألن لها يف‬
‫الخارج رضبًا من الكون يتقوم ماهيتها بالوجود إذ الوجود كام علمت مقدم عىل املاهية تقد ًما‬

‫[[[‪ -‬طُور النظام عامل الكالم املعتزىل نظرية الكمون ليفرس الكون والفساد‪ ،‬والنظام عىل النقيض من معظم املعتزلة واألشاعرة‪ ،‬قد رفض‬
‫الذرية‪ ،‬ويفرتض طبيعة بالقوة "كامنة"ىف األشياء‪ ،‬وتصبح ظاهرة يف زمن‪ ،‬وبالتاىل يعترب أى نوع من التغري ظهور لهذه الصفات الكامنة‪،‬‬
‫راجع الخياط‪ ،‬كتاب االنتصار‪ ،‬ص ‪ 28‬وما يليها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬األسفار الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص ص ‪.58-57‬‬

‫‪222‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫عقل فقد بان إن الفعل مقدم عىل القوة تقد ًما بالعلية‬
‫بالحقيقة فالقوة مبا هي قوة لها تحصل بالفعل ً‬
‫وبالطبع وبالرشف وبالزمان»[[[‪.‬‬
‫َّ‬
‫الطبيعة بوصفها علة قريب�ة للحركة‪:‬‬
‫كام ذكرنا سلفًا‪ ،‬فإن الحركة هي فعل محرك ذاته (محركات اليشء) ألنها تشري إىل التجديد‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املستمر وانقطاع الجسم املتحرك يف إحداثيات زمان –مكان بعينه‪ ،‬وهذه النقطة ذات أهمية قصوى‬
‫ألغراض صدرا هنا ألنه يحاول إقامة حركة بصفة أساسية لألجسام املادية‪ ،‬وهذه خطوة رئيسة نحو‬
‫الحركة الجوهرية (الحركات الجوهرية) بدالً من الحركة املوضعية أو الناقلة‪ ،‬وبهذا املعنى‪ ،‬فإن العلة‬
‫القريبة للحركة شيئًا ما جوهره ثابت‪ ،‬أو كيان مستقر تحتوى ذاته الجوانب العابرة للحركة بوصفها‬
‫حقيقة حارضة‪ ،‬وهذا الجمع لكل الجوانب العابرة سيكون قدر من الثبات وليس حركة [[[‪ .‬وهذا يقود‬
‫صدرا إىل االستنتاج التايل‪ :‬أن العلة القريبة لكل حركة شيئًا "ماهيته" ثابتة ولكن وجوده دائم التغري‪.‬‬
‫«وستعلم أن العلَّة القريبة يف كل نوع من الحركة ليست إال الطبيعة‪ ،‬وهي جوهر يتقوم به الجسم‬
‫ويتحصل به نو ًعا (بوصفه كيانًا بعينه)[[[ وهي كامل أول لجسم طبيعي من حيث هو بالفعل موجود‪،‬‬
‫فقد ثبت وتحقق من هذا إن كل جسم أمر متجدد الوجود سيال الهوية»[[[‪.‬‬
‫حا فحسب عندما نعني‬ ‫إن قول أن موضوع الحركة يجب أن يكون شيئًا ذا جوهر ثابت صحي ً‬
‫بـكلمة "ثابت" ماهية أي صورة ذهنية لألشياء‪ ،‬أو نفهم من "ثابت" موضوع الحركة الذى ال يالزم‬
‫للوجود الفعيل لليشء املعني‪ ،‬ولتوكيد هذا األمر‪ ،‬يقدم صدرا نوعني من الحركة‪ :‬األول هو نوع‬
‫الحركة التي ميتلكها كل جوهر مادى بوصفه مالز ًما لتكوينه الوجودي‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬وهذا النوع‬
‫من الحركة موجود بوصفه صفة أساسية لألشياء الهيوالنية‪ ،‬ويؤكد الحركة الجوهرية كمبدأ "ترسيخ"‪.‬‬
‫والنوع الثاين من الحركة هو ما يحل "جزافًا" كام يف حالة النقل أو "التغيري" أو النمو‪ ،‬يسمي صدرا‬
‫هذا النوع األخري "حركة يف حركة"[[[‪.‬‬
‫ويف ضوء هذا الرأي‪ ،‬ميكننا القول أن كل جسم متحرك ميتلك ويحافظ عىل "طبيعة" تعمل‬
‫كعلة قريبة للحركة‪ ،‬وهذه الطبيعة ليست شيئًا مضافًا إىل أشياء من الخارج‪ ،‬مثل حادث‪ ،‬بل مرتبطة‬
‫بجوهرها‪ .‬وليست هذه الطبيعة علة قريبة للحركة الطبية فحسب‪ ،‬بل علة للحركة القرسية أو املقيدة‪،‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫‪[2]- Rahman (1975), pp. 95- 96.‬‬
‫[[[‪ -‬كام ذكرت من قبل ـن تاطبيعة مثل املادة والصورة ال ىشء بل هي مبدأ الوجود والتجاور‪.‬‬
‫[[[‪ -‬األسفار‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص ‪ ،62‬وأنظر أيضا كتاب املشاعر‬
‫‪Le Livre des penetrations metaphysiques), (ed. 1968), by Henry Corbin, Institut Français d"Iranologie‬‬
‫‪de Téhéran, Téhéran-Paris, pp. 64- 65.‬‬
‫[[[‪ -‬األسفار‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪ ،‬ص‪.64 61-‬‬

‫‪223‬‬
‫حقول التنظير‬

‫ويف الحالة األخرية‪ ،‬أي محرك يحرك شيئًا آخر يستخدم "طبيعة" كمبدء للحركة‪ ،‬وبعبارة أخرى‪،‬‬
‫هذه الطبيعة تجعل كالً من الحركة األولية أي الجوهرية والحركة الثانوية أي الحركة الحادثة ممكنا‪،‬‬
‫ومن هنا يخرج صدرا عن االعتبارات الرتاثية للحركة‪.‬‬
‫«و نحن نتيقن بالوجدان فضال عن الربهان إن األمر الجميل للجسم والصارف له من مكان إىل‬
‫مكان أو من حالة إىل حالة ال يكون إال قوة فعلية قامئة به وهي املسامة بالطبيعة ؛ فاملبدء القريب‬
‫للحركة الجسمية قوة جوهرية قامئة بالجسم إذ األعراض كلها تابعة للصورة املقومة وهي الطبيعة‪،‬‬
‫ولهذا عرفها الحكامء بأنها مبدء أول لحركة ما هي فيه وسکونه بالذات ال بالعرض‪ ،‬وقد برهنوا‬
‫أيضا عىل أن كل ما يقبل امليل من خارج فال بد وأن يكون فيه ميل طباعي فثبت إن مزاول الحركة‬
‫مطلقًا ال يكون إال طبيعة‪ ،‬وقد علمت أن مبارش الحركة أمر سیال متجدد الهوية‪ ،‬ولو مل لیکن سیاال‬
‫متجددة مل ميكن صدور هذه الحركات الطبيعية عنه الستحالة صدور هذه الحركات الطبيعية عنه‬
‫الستحالة صدور املتجدد عن الثابت»[[[‪.‬‬
‫وقد نقرأ هذه الفقرة عىل أنها رد غري مبارش عىل ابن سينا‪ ،‬حيث يزعم صدرا أن ابن سينا يف‬
‫الحقيقة قد قبل مبدء أن الكائن الثابت ال ميكن أن يكون علة لعدم الثبات والتغيري الدائم يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬قد صحح ابن سينا املبدء القائل بأن أي تغيري أو تحول نالحظه يف األشياء‬
‫خارج ًيا يعود إىل البنية املتغرية باستمرار ملضمونها‪ ،‬وكل حركة مبارشة أو غري مبارشة مرتبطة‪،‬‬
‫وتنتج لطبيعة متتلكها األجسام املادية‪.‬‬
‫مبدءا ُّ‬
‫للتغي والثب�ات‪:‬‬ ‫الطبيعة بوصفها ً‬
‫يناقش صدرا بإيجاز معضلة كيف أن األشياء املتغرية قد ترتبط مببدء عدم التغري والثبات بعد‬
‫نقده فكرة الفالسفة للمظهرين املتتالني يف الحركة[[[‪ ،‬ولو كان كل جسم متغري مسبوقًا بجسم متغري‬
‫أخر فهذا قد يؤدى إما إىل سلسلة ال متناهية أو تغري يف املبدء األول‪ ،‬والذى قد اقصيناه بالفعل‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ص‪.64 - 61‬‬


‫[[[‪ -‬ميكن تلخيص نقد صدرا عىل النحو التايل‪ :‬املرحلة األوىل هي الحركة نفسها والثانية هي نقل اليشء من نقطة إىل أخرى‪ .‬وفقًا لهذه‬
‫الرواية التي تذكرنا بوجهة نظر املرور املذكورة أعاله‪ ،‬يظل اليشء دامئًا ثابتًا يف عملية الحركة‪ ،‬وهذه هي الطبيعة‪ .‬وهكذا تُقام عالقة من‬
‫نوع ما بني الثبات الذي هو الطبيعة والتغيري الذي مير به اليشء عرب مسافة بعينها‪ ،‬ويرفض صدرا هذه الحجة من خالل إعادة ذكر العالقة‬
‫بني الجوهر والعرض‪ :‬مبا أن الجوهر هو موضع األعراض ومصدرها‪ /‬وكل الصفات والتغريات العرضية تصدر إذا مل يكن هناك موجودًا له‬
‫جوهر يجدد ويزول‪ ،‬فلن تكون هناك مراحل للحركة‪ ،‬ويكمن ضعف هذه الحجة عند صدرا يف حقيقة أن تغيري اليشء مكانه من نقطة إىل‬
‫أخرى‪ ،‬وهو ما يعتربه الفالسفة املرحلة الثانية يف عملية الحركة‪ ،‬ال يختلف جوهريًا عن الحركة ذاتها‪ ،‬فإن كال النوعني من التغيري يرجعان‬
‫إىل تلك «الحقيقة التي تغري جوهره باستمرار يف ذاته»‪ ،‬وهذا ما نسميه «الطبيعة»‪ .‬ولكن نظ ًرا ألن "الجواهرالعقلية" تتجاوز مجال االنتقال‬
‫الوجودي‪ ،‬فإنها تظل دامئًا ثابتة وال تتغري‪ .‬وهذا صحيح أيضً ا‪ ،‬كام يقول صدرا بالنسبة للروح البرشية التي‪ ،‬من وجهة نظر "جوهرها العقيل‬
‫أو حقيقتها"‪ ،‬ال تتغري‪ ،‬لكنها من وجهة نظر ارتباطها بالجسد‪ ،‬فهي متطابقة مع التغري املستمر‪ .‬وبالتايل فإن جوهر حجة صدرا هو أن بنية‬
‫املتغري باستمرار ال ميكن أن يعتمد عىل علة ثابتة‪ ،‬وإن تجديد جميع املوجودات املتغرية يرجع إىل علة حقة هو التغري والتجديد يف كل‬
‫لحظة‪ .‬راجع أسفار ج‪ ،1 ،3‬ص ‪.67-64‬‬

‫‪224‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫بوصفه محال‪ ،‬ويستبعد صدرا هذا االعرتاض بقول أن التجديد املتواصل لألجسام املادية‬
‫مزيتها األساسية وليست صفة ت ُضاف إليهم من الخارج‪ ،‬وعندما يتحرك يشء مادي نحو "تحققه‬
‫الوجودي"‪ ،‬أي يحقق قواه باملىض خالل صور وحاالت مختلفة من الوجود‪ ،‬مثل الخروج من‬
‫القوة إىل الفعل أو االنتقال من مكان إىل آخر‪ ،‬فإنه ميتلك علته القريبة للحركة‪ / ،‬التغيري يف ذاته‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وال يحتاج إىل علة مضافة‪ ،‬وحتى عندما تكون هناك حاجة إىل محفز خارجي ليشء ما للتحرك‬
‫خارج ًيا‪ ،‬فإن هذا ال يكون ممك ًنا إال من خالل اللجوء إىل الطبيعة املتأصلة يف األشياء‪.‬‬
‫إن جوهر الحجج السابقة هو أن كل جسم طبيعي يحمل يف ذاته مبادئ التغيري والبقاء يف الوقت‬
‫نفسه‪ ،‬فالطبيعة عىل سبيل املثال تظل حاملة لصفة يف األجسام املادية يف حني أن حقيقتها هو‬
‫التغري‪ ،‬وعىل املنوال ذاته‪ ،‬هناك أشياء بعينها فعلها هو قوتها مثل الهيوىل‪ ،‬أو كرثتها هي وحدتها‬
‫مثل األرقام‪ ،‬أووحدتها هي كرثتهامثل الجسم املادي مبكوناته ككل[[[‪ ،‬وهكذا‪ ،‬كل يشء له بنية‬
‫مزدوجة يف تكوينها األسايس‪ ،‬وتبدو الطبيعة والهيوىل يف هذا االعتبار أمرين أساسني لالرتباط بني‬
‫املتغري وغري املتغري‪.‬‬
‫رشا باملبدأ الثابت‪ ،‬وعند النظر إىل جانب‬
‫وترتبط الطبيعة باعتبار مظهرها الثابت ارتباطًا مبا ً‬
‫التغيري والتجديد فيها‪ ،‬فإنه يرتبط بتجديد األجسام املادية ونشأة املوجودات املخلوقة‪ .‬وتعمل‬
‫الهيوىل بطريقة مامثلة بوصفها نقطة اتصال بني القوة والفعل للموجودات املمكنة‪ ،‬وهكذا يستنتج‬
‫أن" هذه جوهرين أى (الطبيعة والهيوىل) هام ببساطة وسيلتان لكون وفساد األجسام املادية‪ ،‬ومن‬
‫خاللهام تنشأ عالقة بني الخالد (القديم) واملخلوق (الحادث)[[[‪.‬‬

‫مقولة احلركة‪:‬‬
‫إن السؤال حول أن املقوالت مبقدورها أن تتلقي التغيري والحركة له أهمية بعينها عند صدرا؛‬
‫ألن الحركة الجوهرية ليست يف النهاية سوى تغري يف مقولة الحركة نفسها‪ .‬وقد نتذكر أن ابن سينا​​‬
‫عىل غرار أرسطو‪ ،‬قد قبل التغري يف مقوالت مثل الكيف والكم والوضع لكنه أنكرها ذلك يف مقولة‬
‫الجوهر‪ ،‬نظ ًرا ألن الشيخ الرئيس وطالبه اعتربوا الجوهر قوامة ثابتة يتبع جميع الصفات الحادثة‬
‫فيه‪ ،‬وقبول التغري يف جوهر اليشء يرقى إىل انحالل هذا اليشء بالذات‪ ،‬وينتج عن هذا األ يبقى‬
‫هناك موضو ًعا أو قوا ًما للحركة والتغري‪ ،‬ومبا أن قوام الثبات عند صدرا ال يحتاج لدعم "الوجود‬
‫العام" لجسم مادي‪ ،‬فإن التغري يف مقولة الجوهر ال يؤدي إىل انعدام األجسام الهيوالنية‪ ،‬هذا يعتمد‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ص ‪.63‬‬


‫[[[‪ -‬يفرس صدرا هذه األزدواجية التكاملية لألشياء عىل أساس التدرج (تشكيك) للوجود الذى هو مبدء الوحدة والتنوع عند صدرا‪ ،‬انظر‬
‫املصدر نفسه ص ‪.69 - 68‬‬

‫‪225‬‬
‫حقول التنظير‬

‫عىل املبدأ القائل بأن موضوع الحركة هو "موضوع ما"بدالً من "موضوع معني"‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ما‬
‫هو يُطلب خالل عملية التغري الجوهري ليس موض ًعا أو قوا ًما بعينه‪،‬والذى ميكن انعدامه بالتغري‬
‫الكيفى أو الكمي‪ ،‬ولكن بعض املوضوعات تظل ثابتة‪ ،‬قد نلخص تحليل صدرا عىل النحو التايل‪.‬‬
‫وعندما نقول أن الحركة "ضمن مقولة" تنهض أربعة إمكانات‪ )1 :‬أن املقولة موضو ًعا للحركة‪،‬‬
‫ريا‬
‫جنسا للحركة‪ )4،‬أن الجوهر ذاته تغ ً‬
‫‪ )2‬أن الجوهر يف املقولة موضو ًعا للحركة‪ )3،‬أن املقولة ً‬
‫تدريجيًا من نوع بعينه إىل أخر أو من فئة إىل أخرى‪.‬‬
‫يرفض صدرا اإلمكانات الثالثة األوىل قطع ُيا بتكرار تعريفه األسايس لفعل الحركة مع الجسم‬
‫املتحرك‪ ،‬ويرفض زعم الفالسفة السابقني بأنه إذا اعرتفنا بالتغري يف إحدى املقوالت األربع‪ ،‬فقد‬
‫نضطر إىل قبول ما ال نهاية له من األنواع قد تتحقق يف كيان واحد‪ ،‬ومن الواضح أن تحقيق عدد‬
‫ال نهاية له من األنواع يف كائن محدود أمر محال‪ ،‬ويستدعي صدرا يف هذا االعتبار ابن سينا​​لدعم‬
‫حجته باقتباس من التعليقات‪ ،‬حيث أن ما يحدث أثناء التغري األسايس للمقوالت ليس يف كل‬
‫لحظة متتالية‪ ،‬وقد يُضاف قد ًرا جدي ًدا من الكم إىل اليشء الذي يحافظ عىل وجوده السابق من‬
‫حيث الكم‪ ،‬والحقيقة يوجد عدد ال نهاية له من األنواع يوجد فحسب يف القوة بسبب التعريف‬
‫الفعىل للحركة‪ ،‬أي أنها مرحلة وسيطة بني القوة املحضة والفعل املحض‪ ،‬وال جسم املادي‬
‫أثناء عملية الحركة مير بدرجات مختلفة من الوجود‪« ،‬له كيان كمي زمني محدد يكون فيه مستم ًرا‬
‫جا ومتناسبًا بشكل كامل مع اللحظات الزمنية للحركة»[[[‪.‬‬
‫ومتدر ً‬
‫مثل هذا الجسم لديه عدد ال متناه من اآلنية يف كل ثانية‪ ،‬ولكن توجد هذه األفراد اآلنية بالقوة‬
‫فحسب وال تشري إىل تحقق حقيقى يف العامل الذهنى الخارجى‪ ،‬فالسواد عىل سبيل املثال له‬
‫وجود فعىل‪ ،‬وله نفس طبيعة العقل التي يجرد بها سلسلة من أنواع جديدة يف كل لحظة‪ ،‬وهذا‬
‫الوجود املتعني للسواد "أقوى" من "الوجودات اآلنية" (أي األنواع املمكنة التي يجردها العقل) من‬
‫حيث كونه موجو ًدا فعل ًيا‪ ،‬حيث يكون مصداقًا ألنواع كثرية‪ ،‬هذا كام إن وجود الحيوان أقوى من‬
‫وجود النبات ألنه مع وحدته يكون مصداقًا لجميع املعاىن املوجودة يف النبات واملوجودة فيه‬
‫التىكل منها يوجد عىل حدة يف موضوع آخر‪ ،‬وهكذا حكم الشديد من السواد حيث يوجد فيه كل‬
‫ما يوجد يف السوادات الضعيفة من املعاىن بالقوة‪ ،‬وكذا املقدار هذا حكمه ومعنى بالقوة وبالفعل‬
‫ها هنا يرجع إىل الجمع والتفصيل[[[‪.‬‬
‫أما بالنسبة للرأى القائل بأن مقولة الجوهر هي نوع للحركة‪ ،‬ال ميكن دعمه ألنه كام يقرر صدرا‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.72‬‬
‫[[[املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ ،73‬ويذكر صدرا أيضا أنه مل يقبل تغري املقوالت‪ ،‬فإنه سوف يضطر إىل الخصم ليلتزم بفكرة "الطفرة" التي افرتضها‬
‫النظام‪ ،‬ويرص صدرا عىل أن نظرية الطفرة من اليسري رفضها من الفطرة السليمة‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫أن « الحركة ليست شيئًا متغريا متجد ًدا‪ ،‬ولكن التغري والتجديد‬
‫كام إن السكون قرار اليشء ال اليشء القار؛ لكنهاها هنا يشء وهو إن ثبوت الحركة للفرد‬
‫املتجدد السيال ليس كعروض العرض‪ ،‬للموضوع املتقوم بنفسه المبا يحله بل هي من العوارض‬
‫التحليلية‪ ،‬أى العوارض املجردة واملفرتضة عقل ًيا التي يبنيها العقل‪ ،‬وهذا بدوره يؤكد النسبة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الفعلية بني الحركة الوجودية والكيانات املوجودة الفعلية وتثبت أن "فصل" الحركة الجوهرية‬
‫عن األشياء املادية ما هو إال نتيجة تحليلنا العقىل‪ ،‬وورود الحركة لألشياء هو حدث يقع عىل‬
‫املستوى التصورى فحسب‪ ،‬أى عندما يُحلل العقل كيانًا موجو ًدا بالفعل إىل أجزائه املكونة‪ ،‬وهذا‬
‫يشبه إىل حد ما التفرقة بني املاهية والوجود – تلك التفرقة املوجودة فحسب يف العقل‪.‬ويذكر‬
‫هادى السبزاوي أن التفرقة مجرد مسألة تسمية (بحسب اللون)[[[ والعوارض التحليلية نسبتها إىل‬
‫املعروض نسبة الفصل إىل الجنس‪.‬‬
‫ويلخص صدرا نقاشه بقول «إن معنى الحركة موجود يف مقولة هي املوضوع (أى الجوهر)‬
‫وتتغري تدريجيًا وليس فجأة من نوع بعينه إىل آخر أو من فئة إىل آخرى»[[[‪.‬‬
‫التغي ّ‬
‫الكم‪:‬‬ ‫معضلة ُّ‬

‫رغم توكيد املشائني مع أرسطو أن جميع املقوالت باستثناء الجوهر تخضع للتغري‪ ،‬موضحني‬
‫أن الطبيعة الدقيقة للتغري الكمي تفرتض بعض الصعوبات[[[ حتى إن صدرا يقول إن السهروردي‬
‫وأتباعه نفوا التغيري الكمي[[[‪ ،‬ويبدو أن الصعوبة الرئيسة ناتجة عن االفرتاض بأن الزيادة والنقصان‬
‫يف الكمية يستلزمان استبدال الكم األصيل وكذلك الكم املحددة‪ ،‬أي الجسم املادي الذي يخضع‬
‫لتغري كمي‪ ،‬وعىل عكس فكرة التغري الكمي بأنه مزق واستبدال‪ ،‬يرى صدرا التغري يف الكم بوصفه‬
‫عملية مستمرة ومتفردة‪ ،‬وميكن تلخيص مناقشته التفصيلية عىل النحو التايل‪.‬‬
‫نظ ًرا ألن الحركة تدلل عىل تحقق كيفيات وكميات بعينها موجودة لألجسام املادية بالقوة‪ ،‬فإن‬
‫صدرا يعكس الصورة ويقول أن التحول إىل اللون األسود ال يعني زيادة السواد يف املوضوع بل‬
‫زيادة املوضوع يف السواد‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬ليس األمر كذلك‪ ،‬أنه أثناء الزيادة أو النقصان الكمي‬
‫يوجد لونان أسودان‪ ،‬السواد األصيل والسود الناشئ الجديد‪ ،‬ويتصور العقل هذه العملية عىل أنها‬
‫ربط كميتني منفصلتني وغري مرتبطتني من السواد‪ ،‬وعندمايُتصور ذلك عىل هذا النحو‪ ،‬يصبح من‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪. 74‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.75‬‬
‫[[[‪ -‬ملناقشة ما يسميه ابن سينا بالتخلخل والتكاثف انظر كتاب النجاة ص ص ‪ 188 - 186‬وص ‪.244 - 242‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.89‬‬

‫‪227‬‬
‫حقول التنظير‬

‫املحال رشح التغري الكمي ألن مثل هذه العملية ال تتوافق مع الزيادة أو النقص التدريجي ليشء‬
‫ما بل مع تجاور كميتني مستقلتني‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬ففي ترتيب الوجود للسواد "هوية شخصية واحدة"‬
‫تتطور لتستكمل يف كل حني»[[[‪.‬‬

‫عندما نقول أن السواد له "هوية واحدة اتصالية" يف عملية الزيادة أو النقصان الكمي‪ ،‬فإننا‬
‫نعرتف "درجة االشتداد"‪ ،‬ويقول صدرا يف هذه الحالة يجب توضيح ثالثة أمور‪ :‬األول‪ ،‬هناك عدد‬
‫ال نهاية له من األنواع يف كيان بعينه فحسب يف القوة‪ ،‬تُستكمل هذه الحقيقة يف نظام الوجود‬
‫باملبدأ القائل بأن "املتصل الواحد له وجود واحد"[[[ الثاىن رغم أن السواد له هوية واحدة مستمرة‬
‫بعينها تكمله أو تنقصه‪ ،‬فإن "األنواع املتعددة والسامت األساسية والفصول املنطقية" تحدث له‬
‫باعتبار تجدده الوجودى‪ ،‬ومثل هذا التحول يف جوهر األجسام املادية بالنسبة لصدرا ممكن ألن‬
‫الوجود هو وجود مبدىئ وجوهرى وحقيقى‪ ،‬وبالتايل يخضع الجوهر له‪ .‬والسبب وراء استدعاء‬
‫صدرا ألسبقية الوجود هنا هو أنه يعترب الحقيقة اآلخذة يف التوسع للوجود بوصفها سياقًا أساس ًيا‬
‫لكل تغري جوهري‪ .‬الثالث‪ ،‬تقدم الصورة املجمدة لكيان متزايد للعقل بعض األمور اآلنية التي‬
‫قد تحدث بالفعل وبعض االمور اآلنية التي قد تحدث بالقوة‪ .‬وكام يذكر صدرا مرا ًرا وتكرا ًرا‪ ،‬أن‬
‫التمثيل العقيل لنظام الوجود هو الذي ينتج فكرة التغري الكمي عىل أنه تتابع لنوعني أو كيانني‬
‫منفصلني‪ ،‬وعىل النقيض من املشائيني‪ ،‬فإن الجسم املادي الذي يخضع لتغري كمي يحافظ دو ًما‬
‫عىل هويته كوحدة واحدة غري منقطعة‪ ،‬وبالتايل‪ ،‬فإن كيان من هذا النوع هو‬

‫كل لحظة جديدة ت ُكون جسد مستمر‪ ،‬فإذا قلنا أنها واحدة سوف نكون محقني‪ ،‬وإذا قلنا أنها‬
‫متكرثة‪.....‬دامئة أو متغرية‪ ،‬فكل هذا سوف يكون صوابًا‪ ،‬إذا قلنا إنها تستمر بشكل متامثل من بداية‬
‫التغري حتى النهاية‪ ،‬فسوف نقول الحقيقة ؛ إذا قلنا يف كل لحظة إنها حدث كل حني فسوف يكون‬
‫حا بنفس القدر[[[‪.‬‬
‫هذا صحي ً‬
‫يلجأ صدرا إىل ابن سينا مرة أخرى للتوكيد عىل أن الحركة عملية مستمرة‪ ،‬ويحمله إىل مهمة‬
‫حول مسألة الحركة يف مقولة الجوهر‪ ،‬قد نذكر أن ابن سينا قد تصور الحركة من حيث الجوهر ال‬
‫بوصفها استمرا ًرا بعينه‪ ،‬ولكن األحرى انعدا ًما مفاجئًا للجوهر األصيل واستبداله بآخر‪ ،‬واستند نقد‬
‫ابن سينا عىل افرتاض أنه إذا كان الجوهر قاد ًرا عىل االشتداد والتناقص فإن األنواع التي تحدده‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ص ‪.82‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه ص ‪.83‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ 84‬ترجمة رحامن مرجع سابق ص ‪.103‬‬

‫‪228‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫وتعينه إما ستبقى كام هي أو تتحول إىل نوع آخر‪ ،‬ويف كلتا الحالتني‪ ،‬علينا أن نقبل أنه مل يكن هناك‬
‫ريا يف الجوهر أو أن الجوهر األصيل قد أُتلف‪.‬‬
‫تغي ً‬
‫ويقدم صدرا مقابل هذا النقد اإلجابة التالية التي ت ُلخص اعتقاده يف االستكامل التدريجي‬
‫للوجود من حيث التكرث يف الوحدة والوحدة يف العملية‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫«فإن قولهم إما أن يبقی نوعه يف وسط االشتداد إن أريد بقائه وجوده بالشخص فنختار إنه باق‬
‫عىل الوجه الذي مر ألن الوجود املتصل التدريجي الواحد أمر واحد زماين واالشتداد كاملية يف‬
‫ذلك الوجود والتضعف بخالفها‪ ،‬وإن أريد به إن املعنى النوعي الذي قد كان منتز ًعا من وجوده‬
‫أوال قد بقي وجوده الخاص به عند ماكان بالفعل بالصفة املذكورة التي له يف ذاته فتختار إنه‬
‫غريباق بتلك الصفة‪ ،‬واليلزم منه حدوث جوهر آخرأي وجوده بل حدوث صفة أخرى ذاتية له‬
‫بالقوة القريبة من الفعل‪ ،‬وذلك ألجل كامليته أو تنقصه الوجوديني؛ فالمحالة يتبدل عليه صفات‬
‫ذاتية جوهرية‪ ،‬ومل يلزم منه وجود أنواع بال نهاية بالفعل بل هناك وجود واحد شخيص متصل له‬
‫حدود غري متناهية بالقوة بحسب آنات مفروضة يف زمانه ففيه وجود أنواع بال نهاية بالقوة واملعنى‬
‫ال بالفعل والوجوه‪ ،‬وال فرق بني حصول االشتداد الكيفي املسمى باالستحالة والكمي املسمي‬
‫بالنمو وبني حصول االشتداد الجوهري املسمى بالتكون يف كون كل منهام استكامالتدريجيًا‪ ،‬أي‬
‫حركة نحو الفعل لوجود جديد[[[‪.‬‬

‫إن جوهر الحجة السابقة هو أن الوجود بوصفه وجود متسلسل تدريجي يتنقل عرب املاهيات‬
‫املختلفة‪ ،‬ويتخذ صو ًرا وطرائق مختلفة‪ ،‬ويعني االنتقال التدريجي للجوهر من حالة وجود إىل‬
‫أخرى أنه يصل إىل وضع أسمى وأكرث كاملً للوجود يف كل نقطة متتالية من الحركة‪ ،‬وكام ذكرنا‬
‫من قبل‪ ،‬فإن هذه العملية املستمرة ال تحل الجواهر إىل وحدات مختلفة ومنفصلة‪.‬‬
‫َّ‬
‫الطبيعية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫هوية واستمرار األجسام‬
‫وتنهض هنا معضلة حول كيفية حساب استمرار الصور الجوهرية عندما تخضع األجسام املادية‬
‫لتغري كيفى وكمي‪ ،‬إلقامة جوهرية تستمر طوال عملية التغيري‪ ،‬ويناقش صدرا بأن مادة ما تتشخص‬
‫بوجود صورة ما وكيفية ما وكمية ما كاف ًيا للتغري الجوهرى‪ ،‬يف سياق االستكامل التدريجي للجوهر‬
‫يبقى قدر معني من املادة (الوجود) كمبدأ ثابت ويأخذ صور وكيفيات وكميات وأوضاع مختلفة‪،‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪ 84‬ترجمة رحامن مرجع سابق ص ‪.104‬‬

‫‪229‬‬
‫حقول التنظير‬

‫واستمرار قدر معني من املادة بتعديالتها املتنوعة وتشخصاته دقيق لدرجة أن الفالسفة السابقني‪،‬‬
‫مبن فيهم ابن سينا​​‪ ،‬اعرتفوا بأن العقل غري قادر عىل إدراكه بالكامل‪ ،‬ويتجه صدرا بعد ذكر هذه‬
‫النقطة التاريخية إىل العالقة املميزة بني الصورة واملادة بوصفها خاصية أساسية لألجساد املادية[[[‪.‬‬

‫ويرى صدرا أن لغز التغري الكمي‪ ،‬الذي دفع عديد من الفالسفة مبن فيهم السهروردي وابن‬
‫سينا إىل إنكار التغري يف مقولة الجوهر‪ ،‬ميكن حله باللجوء إىل املبدأ التايل‪ :‬ما هو مطلوب يف‬
‫كم محد ًدا بل "مقدار" به تُشخص األشياء‪ ،‬وقد نهضت معضلة السهروردي من‬
‫عملية الحركة ليس ً‬
‫افرتاض أن «إضافة مقدار إىل مقدار آخر (أى زيادة أو نقصان مقدار بعينه) يوجب انعدامه‪ .‬وكذا‬
‫انفصال جزء مقدارى عن املتصل يوجب انعدامه»[[[‪.‬‬

‫ويف هذا الرأي‪ ،‬أي تغري كمي من حيث الزيادة أو النقصان يؤدي إىل انعدام الجسم ‪ /‬الجوهر‬
‫األصىل‪ .‬وواجه ابن سينا صعوبة مامثلة عند رشح التغري يف األجسام العضوية‪ ،‬والحقيقة أن ابن‬
‫سينا «مل يكن قاد ًرا عىل حل» معضلة الهوية يف النباتات والحيوانات؛ ألنه افرتض أنها عىل عكس‬
‫نفسا وصفة وأعضاء جسمية‪ ،‬أي ال متتلك النباتات والحيوانات صفة ثابتة[[[‪.‬‬
‫اإلنسان الذي ميتلك ً‬
‫ويرد صدرا عىل هذه الصعوبات ويؤكد أن « إن موضوع هذه الحركة هو الجسم املتشخص ال‬
‫املقدار املتشخص‪ ،‬وتشخص الجسم يلزمه مقدا ًرا يف جله ما يقع من حد إىل حدكام قالته األطباء‬
‫يف عرض املزاج الشخىص‪ ،‬والحركة واقعه يف خصوصيات املقادير ومراتبها فام هو الباقى من‬
‫أول الحركة إىل آخرها غري ما هو املتبدل‪ ،‬والفصل والوصل (أي الكم املحدد باملادة) ال يعدمان‬
‫املقدار املتصل املأخوذ بال مادة طبيعية بحسب الوهم أو الجسمية املجردة عن الزوائد الصورية‬
‫يف حالتها الطبيعية (دون أن تتحد مع املادة)[[[‪.‬‬

‫وهكذا إن جوهرة التغري الكمى ليس محد ًد بكم محدد بل مبادة مبقدار ما‪ ،‬وبالتاىل انعدام كم‬
‫محدد ليس بالرضورة انعدام اليشء ذاته‪ ،‬فالجسم الطبيعي يرتكب من اليشء والصورة‪ ،‬ويحافظ‬
‫فصل نهائيًا[[[ وبالتاىل يستنتج أن نوع التغري الكمي أو‬
‫ً‬ ‫عىل نوعه بصورة محددة‪ ،‬تعمل بوصفها‬
‫الكيفي ال يعدم الجسم الطبيعي طاملا يحمل صورة محددة[[[‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.88 - 87‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.90-89‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.92 - 90‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.93 - 92‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.93‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.93-80‬‬

‫‪230‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫َّ‬
‫المادية‪:‬‬ ‫َّ‬
‫والهوية يف األجسام‬ ‫ُّ‬
‫التغي‬
‫ينتقل صدرا بعد كفل الوجود املادي عندما تخضع لتغري جوهرى إىل الطرف املهم واألشد‬
‫تعقي ًدا يف نظريته للحركة الجوهرية التي تحافظ عىل هوية األجسام املتغرية‪ ،‬وأرشنا إىل حقيقة‬
‫الفصل بحكم تعريفه أنها تضمن الحفاظ عىل كيف ما أو الكم بالعموم رغم أن الكيف املحدد‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يف جسم متغري قد تنعدم يف كل مرحلة تالية لحركتها‪ ،‬ويذكر صدرا أيا كان للفصل النهايئ بوصفه‬
‫مبد ًءا لالستكامل فإن له نو ًعا ما للبقاء يف العموم‪ ،‬ويصبح إعادة تعريف الفصل بوصفه مبدء‬
‫استكامل لليشء حجة قوية عند صدرا ؛ ألنه يسعى إىل أن يستبدل اإلطار الرتايث لقيمة الجنس‬
‫– الفصلبانطولوجيته املتدرجة‪ ،‬ويتحول الفصل اآلن من مجرد مبدء االختالف بني األجناس إىل‬
‫مبدء التفرد الوجودي لكيانات بعينها‪ ،‬والنتيجة املهمة إلعادة الصياغة هذه هو هذا الفصل‪ ،‬أعني‬
‫مبدء التنوع والوحدة وهو يعادل الوجود كام يوضح صدرا يف النقاط التالية‪« :‬وكذلك النامی‬
‫فصل للجسم النامي وبه متامية ذاته وليس متاميته مبجرد الجسمية بل هي مبدء قوته وحامل‬
‫إمكانه فال جرم تبدل أفراد الجسمية ال يوجب تبدل ذات الجوهر النامي ألنها معتربة فيه عىل‬
‫وجه العموم واإلطالق ال عىل وجه الخصوصية والتقييد‪ ،‬وهكذاحکم الحيوان وتقومه من النامي‬
‫والحساس‪ ،‬وكذا كله مايتقوم وجوده من يشء كاملادة ومن يشء كالصورة مثل االنسان بحسب‬
‫نفسه وبدنه؛ فالنامي إذا تبدلت مقادیره فعند ذلك يتبدل جسميته بشخصها واليتبدل ذاته وجوهره‬
‫النامي بشخصه‪ ،‬فهو مبا هو جسم طبيعي مطلق قد أنعدم شخصه عند النمو والذبول‪ ،‬ومبا هو‬
‫جسم طبيعي نام مل ينعدم شخصه ال هو وال جزؤه ألن ما هو جزؤه ليس إال مطلق الجسمية يف أي‬
‫فرد تحققت عىل االتصال الوجودي‪ ،‬وعىل هذا القياس حکم بقاء الحيوان ببقاء الجوهر الحساس‬
‫فيه وهو نفسه الحساسة؛ ففي سن الشيخوخة يزول كثري من القوى النباتية والشخص بعينه باق»[[[‪.‬‬

‫إن الوصف السابق للتغري الكيفي والكمي ينطبق عىل جميع األجسام الطبيعية التي لها وجود متغري‬
‫باستمرار بهوية دامئة‪ ،‬ويظل هناك مبدأ أصيل يف كل تغيري وحركة يتكامل مع الفصل النهايئ‪ ،‬وعىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬يشتمل الفصل النهايئ يف املوجودات املركبة كل مرحلة متتالية من زيادة الكامل‪ ،‬والتي‬
‫تخضع لالشتداد أو تحريك األجسام‪ .‬لذلك‪ ،‬فإن تعاقب درجات مختلفة من الوجود والذي يقود‬
‫األجسام املادية إىل حالة أعىل من الوجود‪ ،‬ال يضاف إىل الفصل النهايئ لألجسام املادية من الخارج‪.‬‬
‫كام ذكرنا من قبل‪ ،‬أن املوجود البسيط (بسيط الحقيقة) ينطوى يف ذاته جميع املستويات الدنيا من‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.94‬‬

‫‪231‬‬
‫حقول التنظير‬

‫الوجود‪ ،‬ويوظف صدرا هذا املبدأ هنا بقوة كاملة لرشح العالقة املميزة بني األنواع واألجناس والفصول‪.‬‬
‫ويشتمل كل نوع ضمن هذا اإلطار يف حالة وجود ما ميتلكه ويشاركه باألنواع الدنيا‪ ،‬ونفس القدر من‬
‫األهمية حقيقة أن األنواع تتكامل يف بالفصل‪ ،‬فإن النقطة األساسية هي أن صدرا ال يأخذ الفصل بوصفه‬
‫مفهو ًما عقل ًيا تجرد من الكيانات املادية بوصفه مبدأ الفصل ولكنه يساوي بينه وبني الوجود‪ ،‬والذي يعمل‬
‫كام رأينا بوصفه مبد ًءا للوحدة أيضً ا وكذلك مبدء للتنوع يف أنطولوجيا صدرا[[[‪.‬‬
‫وميكن تفسري العالقة الوجودية بني الجسد املادي وخصائصه األساسية‪ ،‬أو ما يسميه صدرا‬
‫اللوازم‪ ،‬باللجوء إىل وصف األشياء بلغتنا البسيطة‪ ،‬وعندما نريد تعريف يشء ما أو وصفه‪ ،‬فإننا‬
‫نشري بطبيعة الحال إىل ماهيته وكذلك خصائصه األساسية التي تشتمل تعريفه‪ ،‬ويسمي صدرا هذه‬
‫الخصائص "نحو الوجود"‪ ،‬ويف كل نحو للوجود عينة بعينها تالئم حقيقة محسوسة‪ ،‬وتعرض صفات‬
‫ينتج عنها تنتج عنها "الفصل االشتقاقي"‪ ،‬وتسمى هذه الصفات املميزة عمو ًما «الخصائص الفردية‬
‫لليشء "املشخصات"‪ ،‬وتشكل ما يسميه صدرا "عالمات التشخيص"‪ .‬وهنا يُلخص صدرا رأيه‪:‬‬
‫«ومعنى العالمة هاهنا العنوان لليشء املعرب مبفهومه عن ذلك كام يعرب عن الفصل الحقيقي‬
‫االشتقاقي بالفصل املنطقي كالنامي للنبات والحساس للحيوان والناطق لإلنسان؛ فإن األول عنوان‬
‫للنفس النباتية والثاين للنفس الحيوانية والثالث للنفس الناطقة وتلك النفوس فصول اشتقاقية‪ ،‬وكذا‬
‫حکم سائر الفصول يف املركبات الجوهرية فإن كال منها جوهر بسيط يعرب عنه بفصل منطقي کيل من‬
‫باب تسمية اليشء باسم الزمه الذايت‪ ،‬وهي بالحقيقة وجودات خاصة بسيطة ال ماهية لها‪ ،‬وعىل هذا‬
‫املنوال لوازم األشخاص يف تسميتها باملشخص فإن التشخيص بنحو من الوجود إذ هو املتشخص‬
‫بذاته وتلك اللوازم منبعثة عنه انبعاث الضوء من املضيىء‪ ،‬والحرارة من الحار والنار»[[[‪.‬‬
‫يشري الفصل املنطقي بوصفه مع ًنا كل ًيا إىل كيانات يف نظام التصورات العقلية يف حني يشري‬
‫الفصل الحقيقي أو الوجودي إىل تفردها وتشخصها يف نظام الوجود‪ ،‬ومنيز عىل املستوى‬
‫التصورى بني اليشء وخصائصه الوجودية‪ ،‬وهكذا نحصل عىل تشعب املاهية‪ -‬الوجود‪ .‬ونحن‬
‫نطبق مثل هذه العملية التصورية فحسب فقط "لتسمية يشء ما"‪ .‬والحقيقة أن هناك وجودات‬
‫ملموسة مشخصة وبسيطة ومتفردة‪ ،‬دون الحاجة إىل أي "ماهية" ويحدث التشخيص يف اليشء‬
‫بافرتاضه منط وجود بخصائص جوهرية بعينها (املشخصات)‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ ،‬العالقة بني الجسد‬
‫مشخصا بسبب امتالك مثل هذه‬
‫ً‬ ‫وخصائصه الوجودية معكوسة‪ :‬حيث ال يصبح الجسد املادي‬
‫الخصائص األساسية ‪ /‬أو العرضية‪ ،‬عىل العكس من ذلك‪ ،‬تظهر هذه الخصائص نتيجة لتشخص‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص‪.100 - 93‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.104 - 103‬‬

‫‪232‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫اليشء يف النظام الوجودي متا ًما مثل متدد شعاع من الضوء من مصدره األصيل‪.‬‬
‫ميكن استخالص عدة استنتاجات من حجج صدرا‪ :‬أولً ‪ ،‬يتغري الجوهر وفقًا لتغري خصائصه‬
‫األساسية‪ ،‬مع هذا يصبح الخط الفاصل بني الجوهر والحادث مؤقتًا إىل حد ما‪ ،‬والجوهر املادي‬
‫هكذا أساس ًيا «الجوهر املتصل املتكمم الوضعي املتحيز الزماين لذاته فتبدل املقادير واأللوان‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫واألوضاع يوجب تبدل الوجود الشخيص الجوهري الجسامين»[[[‪.‬‬


‫وهكذا‪ ،‬نصل إىل صورة مزدوجة للعامل الطبيعي حيث يُنظر إىل "الجواهر املادية" أو "الطبائع‬
‫الجسمية" بشكل مناسب عىل أنها املوضع املناسب لبعدين مرتابطني للكيانات املادية‪ :‬الزمنية واألبدية‪.‬‬
‫وما من شك يف أن كل جوهر مادي لها طبيعة متغرية باستمرار من ناحية‪ ،‬وبنية غري متغرية وثابتة‬
‫من ناحية أخرى‪ .‬العالقة بني الجانبني تشبه العالقة بني الجسد والروح‪ ،‬ففى حني يكون الجسد يف‬
‫حالة تغري وتدفق مستمر‪ ،‬فإن الروح البرشية تثبت ألنها تحافظ عىل هويتها مبرور الصور األساسية‬
‫يف عملية مستمرة غري منقطعة (وورد األمثال املتصل)[[[‪.‬‬
‫مشاركة الصور الطبيع َّية للجواهر املاد َّية الخصائص املتشابهة‪:‬‬
‫«كذلك حال الصور الطبيعية لألشياء فإنها متجددة من حيث وجودها املادي الوضعي الزماين‬
‫ولها كون تدريجي غري مستقر بالذات ومن حيث وجودها العقيل وصورتها املفارقة األفالطونية‬
‫أزل وابدأ يف علم الله»[[[‪.‬‬
‫باقية ً‬
‫يحدد صدرا كام توضح هذه الفقرة أن الصور الثابتة وغري املجسدة للمواد الطبيعية يف العامل األبدي‬
‫للمعرفة اإللهية[[[‪ .‬وفكرة صدرا عن السلسلة الكبرية للوجود (دائرة الوجود) تأيت دائرة كاملة‪ ،‬وتوكيد‬
‫جديل رئيس للفلسفة الطبيعية الصدرية بأن نظام الطبيعة قائم بذاته ويعتمد عىل العلة األوىل‪.‬‬

‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.104‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪.105 - 104‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬
‫مثريا لالهتامم للدفاع عن النفس برفضه‬ ‫[[[‪ -‬بعد تقديم تحليل شامل للحركة الجوهرية باعتبارها صفة جوهرية لألشياء‪ ،‬يقدم صدرا مثالً ً‬
‫القاطع التهام نظريته بأنها اختالق"‪ ،‬ويقول صدرا إن الله حكيم كل الحكامء‪ ،‬هو من وضع الحركة الجوهرية باعتبارها جوهر نظام العامل‪،‬‬
‫ولهذا الغرض‪ ،‬يستشهد صدرا بعدد من اآليات القرآنية‪ ،‬وكلها تشري إىل الفرق بني ما يبدو وكأنه حقيقة والحالة الحقيقية لألمور يف نظام‬
‫العامل التي ال ميكن استيعابه إال عىل مستوى أعىل من الوعي‪ .‬وتشهد هذه اآليات أيضً ا عىل محاولة صدرا التوفيق بني علم الكونيات‬
‫خ ِبريٌ بِ َا تَ ْف َعلُونَ (سورة النمل‬ ‫ش ٍء إِنَّهُ َ‬ ‫ص ْن َع اللَّ ِه الَّ ِذي أَتْ َق َن ك َُّل َ ْ‬
‫اب ُ‬ ‫ح ِ‬ ‫الس َ‬ ‫ح َس ُب َها َجا ِمدَ ًة َو ِه َي تَ ُ ُّر َم َّر َّ‬ ‫عنده وبني القرآن‪َ  :‬وتَ َرى الْجِ َب َال تَ ْ‬
‫ُصدِّ قُونَ ‪ ،‬أَ َف َرأَ ْيت ُْم َما‬
‫َ‬ ‫ت‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫َ‬
‫َ ْ ْ‬‫ل‬‫ف‬‫َ‬ ‫ُم‬ ‫ك‬ ‫ا‬‫ن‬‫ق‬‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ل‬ ‫خ‬
‫َ‬ ‫ن‬
‫ُ‬ ‫ح‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ن‬ ‫‪‬‬ ‫‪،)48‬‬ ‫إبراهيم‬ ‫(سورة‬ ‫ِ‪‬‬ ‫ر‬ ‫ا‬‫ه‬‫َّ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫د‬‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ح‬ ‫ا‬ ‫و‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ل‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫َّ‬ ‫ل‬ ‫ِ‬ ‫ل‬ ‫ُوا‬
‫ز‬ ‫ر‬ ‫ب‬
‫َََ‬‫و‬ ‫ات‬
‫ُ‬ ‫و‬‫ض َ َّ َ َ‬
‫م‬ ‫الس‬ ‫و‬ ‫الَ ْر ِ‬ ‫َي ْ‬
‫ضغ َْ‬ ‫الَ ْر ُ‬‫‪َ ،)88‬ي ْو َم تُ َبدَّ ُل ْ‬
‫ف َما َل تَ ْعلَ ُمونَ ‪‬‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ل أنْ نُ َبدِّ َل أ ْمثَالَك ُْم َونُ ْنش َئك ُْم ِ‬ ‫ني‪َ ،‬ع َ ٰ‬ ‫ِ‬
‫ح ُن بِ َ ْس ُبوق َ‬ ‫ت َو َما نَ ْ‬ ‫ح ُن َقدَّ ْرنَا بَ ْي َنك ُُم الْ َم ْو َ‬ ‫ِ‬
‫ح ُن الْخَالقُونَ ‪ ،‬نَ ْ‬ ‫َ‬ ‫تُ ْ ُنونَ ‪ ،‬أَأَنْت ُْم تَ ْ‬
‫خلُقُونَهُ أ ْم نَ ْ‬
‫(سورة الواعة من ‪ )61 :56‬وبجانب اآليات القرآنية‪ ،‬يقتبس صدرا أيضً ا من كتاب عيل بن أيب طالب نهج البالغة‪ ،‬الذي يشري مرة أخرى إىل‬
‫رغبة صدرا يف تفسري االنتقال الوجودي الجوهري لألشياء عىل أنه عقيدة دينية كونية‪ .‬راجع كتاب املشاعر ص ‪.7-66‬‬

‫‪233‬‬
‫حقول التنظير‬

‫َّ‬
‫ختامية‪:‬‬ ‫مالحظات‬
‫تثمر نظرية صدرا األصيلة شديدة التعقيد عن الحركة الجوهرية عد ًدا من النتائج املهمة‪.‬‬

‫أساسا للتغري والتجديد‬


‫ً‬ ‫أول‪ :‬تخلص صدرا من الفكرة األرسطية عن الجوهر املتصلب بوصفه‬
‫ً‬
‫يف عامل األجسام املادية‪ ،،‬يحل بدالً من ذلك عامل األجسام املادية إىل "عملية تغيري"بإدخال‬
‫مفهوم التغري يف الجوهر‪ ،‬وهكذا يصبح عامل الطبيعة مشه ًدا للتبادل بني املمكنات بينام تبقى‬
‫وحدته "الجوهرية" وتكامله‪ ،‬وال يتجاهل تصور صدرا للتغري بوصفه خاصية وجودية لألشياء ذرية‬
‫علم الكالم فحسب‪ ،‬بل يتحدى أيضً ا صورة العامل الغامضة عند املشائيني‪ .‬وبالرضورة أن يتضح‬
‫اآلن أن الحركة الجوهرية كام أوضحها صدرا تختلف اختالفًا جوهريًا عن الصياغات املشائية‬
‫للكون والفساد‪ ،‬حيث يعتقدوا أن التغري عىل أنه حدث النعدام ‪ /‬أو "نشوء"‪ ،‬بينام يعرف صدرا‬
‫التغري بأنه عملية انشداد تدريجي أو نقصان يف نواحي الوجود‪ ،‬ومن الواضح أيضً ا أن صدرا يفرتض‬
‫الحركة الجوهرية بوصفها خاصية مبدئية لألشياء املادية وغري املادية عىل حد سواء‪ ،‬ويتصور‬
‫صورة عامل يف حالة تغري مستمر من ناحية ‪،‬وموجهة نحو غايةكلية من ناحية أخرى‪.‬‬

‫يستخدم صدرا كام نتوقع مفهوم الحركة الجوهرية بغزارة ويطبقه عىل عدد من املشكالت‬
‫الفلسفية‪،‬مثل العالقة بني املتغري والثابت‪ ،‬أي الله والعامل‪ ،‬وصدور الروح من الجسد‪ ،‬أي املذهب‬
‫الصدري القائل بأن الروح جسدية يف نشأتها وروحية يف بقائها "جسامنية الحدث روحانية البقاء"‪،‬‬
‫ورفض تناسخ األرواح‪ ،‬وهذا عدد قليل من املشاكل الفلسفية التي أعاد صدرا صياغتها يف ضوء‬
‫مفهومه عن الطبيعة والحركة يف الجوهر‪ ،‬واآلثار املرتتبة عىل فلسفة صدرا الطبيعية تتجاوز بكثري‬
‫حدود دراستنا الحالية‪ ،‬ومن الواضح أن صدرا يتصور التغيري والثبات‪ ،‬وهام جانبان مرتابطان يف‬
‫نظام الطبيعة‪ ،‬باعتبارهام صيغتني للوجود (أنحاء الوجود)‪ .‬إن الحقيقة الشاملة للوجود تربط م ًعا‬
‫الكون من األجرام الساموية حتى الحيوانات واملعادن‪ .‬إنها أيضً ا الحقيقة نفسها التي تؤسس عالقة‬
‫ال تنفصل بني الطبيعة الصدرية وامليتافيزيقيا‪.‬‬

‫‪234‬‬
‫بين الفيزياء والميتافيزياء‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪ .1‬ابن سينا‪ -‬كتاب النجاة (طبعة ‪ )1985‬تاجد فخري‪ ،‬منشورات دار اآلفاق الجديدة‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .2‬األسفار‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬السفر األول‪.‬‬
‫‪ .3‬صدر الدين الشريازي (مال صدرا) الحكمة املتعالية يف األسفار العقلية األربعة (‪)1981‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫تحرير رضا املظفر‪ ،‬دار إحياء الرتاث العرىب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املجلد الثالث‪ ،‬الجزء الثاين‪( .‬املشار إليه‬
‫يف املقال باألسفار)‪.‬‬
‫‪ .4‬كتاب االنتصار‪ ،‬املطبعة الكاثوليكية‪ ،‬بريوت‪.‬‬
‫‪ .5‬الشهرستاين‪ ،‬امللل والنحل (طبعة‪ ،)1961 ،‬تحرير محمد جيالين‪ ،‬رشكة ومكتبة مصطفى‬
‫الحلبي‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .6‬عبد القاهر البغدادي (‪ ،)1988‬الفرق بني الفرق‪ ،‬مكتب ابن سينا ‪ -‬القاهرة‪.‬‬
‫‪ .7‬فخر الدين الرازي‪ ،‬املباحث املرشقية (‪ ،)1990‬ملحمد البغدادي‪ ،‬دار الكتاب العريب‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬املجلد‪ .‬األول‪.‬‬
‫‪ .8‬التفتازاين‪ ،‬رشح املقاصد (طبعة ‪ ،)1989‬تحريرعمرية‪ ،‬عامل الكتب‪ ،‬بريوت‪ ،‬املجلد الثاين‪.‬‬
‫‪ .9‬محمد التهانوي‪ ،‬كشاف استطالعات الفنون (طبعة‪ ،)1998 ،‬دار الكتب العلمية‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫املجلد‪.1‬‬
‫‪ .10‬مال صدرا (‪1377‬هـ) حدوث الكالم‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬دار انتشارات موىل‪ ،‬طهران‪.‬‬

‫باإلنكلزيية‪:‬‬
‫‪11. Cf. Aristotle, Physics, Book III, 200b.‬‬
‫‪12. Cf. Frank, (1978), p. 100.‬‬
‫‪13. Physics, Book VII, 241b.‬‬
‫‪14. Mahmud, Ali b. Ahmad b., “Risalah fi bahth al-harakah” in Collected‬‬
‫‪Papers on Islamic Philosophy and Mysticism (ed. 1971), by M. Mohagheghn and‬‬
‫‪H. Landolt, Tehran University Press, Tehran, and Frank, Richard M. (1978), Beings‬‬
‫‪and Their Attributes: The Teaching of the Basrian School of the Mu‘tazila in the‬‬
‫‪Classical Period, State University of New York Press, Alban.‬‬
‫‪15. Le Livre des penetrations metaphysiques), (ed. 1968), by Henry Corbin,‬‬
‫‪Institut Français d’Iranologie de Téhéran, Téhéran-Paris..‬‬

‫‪235‬‬
‫المحور‬

‫َّ‬ ‫تأث� ابن عر� ف� شبه َّ‬


‫القارة الهندية‬ ‫بي ي‬ ‫ي‬
‫َّ‬
‫وبولوجية‬ ‫ُمالحظات سوسيو‪ -‬ث‬
‫أن�‬

‫‪ -‬ويليام تشيتيك‬
‫القارة اهلند َّية‬
‫تأثري ابن عريب يف شبه َّ‬
‫ُمالحظات سوسيو‪ -‬أنثروبولوج َّية‬

‫ويليام تشيتيك‬
‫أم� يك‬
‫مفكر وباحث ي‬

‫إجمال‪:‬‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫ن‬ ‫ت‬ ‫ف‬ ‫ً‬
‫مح الدين‬ ‫ال� تع� بالشيخ ي‬ ‫غ� مألوف ي� الدراسات ي‬ ‫يتخذ هذا البحث سبيال ي‬
‫يتحرى فيه حضور‬ ‫ّ‬ ‫فّ‬
‫معر�‬
‫ف‬
‫م� الباحث ي� سفر‬ ‫العرفا�‪ .‬فقد ض‬ ‫ن‬ ‫عر� وتراثه‬
‫ي‬ ‫ي‬ ‫ابن ب ي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ف‬
‫تستجل‬
‫ي‬ ‫األك� ي� شبه القارة الهندية من أجل أن يقف عىل وقائع ومعطيات‬ ‫الشيخ ب‬
‫ّ‬ ‫ف ف‬
‫والثقا� ي� متمع آسيوي مكتظ بعوالم مركبة ومعقدة من‬ ‫ي‬ ‫الروح والمعنوي‬ ‫ي‬ ‫األثر‬
‫معر�ّ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ي‬ ‫األديان والمذاهب والتيارات الفكرية‪ ،‬ولعل أهمية هذا البحث السوسيو ـ‬
‫ّ‬ ‫قّ‬ ‫ت‬ ‫ّ‬
‫الهندية لفكر ابن‬ ‫تل� االنتلجنسيا‬ ‫ال� تستظهر ي‬ ‫أنه يكابد التعرف عىل الكيفيات ي‬
‫تشعب والءاتها وانتماءاتها‬ ‫والعرفانية عىل الرغم من أن ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫األنطولوجية‬ ‫عر� بأبعاده‬ ‫بي‬
‫ت‬ ‫ّ‬ ‫ف‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ال� أجراها وليام‬‫الدينية والعرقية‪ ،‬ولعل الجانب األبرز ي� االستقصاءات الميدانية ي‬
‫عر� بمرجعيته الوحيانية‬ ‫ّ‬ ‫ن‬
‫ه بيان نقاط الوصل والفصل يب� تصوف ابن ب ي‬ ‫تشيتيك ي‬
‫ً‬ ‫ّ‬
‫اإلسالمية‪ ،‬والتصوف الهندي بما ينطوي عليه من أبعاد ذات طبيعة أسطورية حينا‬
‫ً‬
‫غ� وحيانية حينا آخر‪.‬‬ ‫وغيبية ي‬
‫اإلسالم وعاين اختباراته‬ ‫ّ‬
‫بالتصوف‬ ‫تخصص‬ ‫عر� ّ‬‫ّ‬
‫ي‬ ‫نش� إىل أن الكاتب هو مفكر ب ي‬ ‫ي‬
‫ين‬ ‫ً‬
‫المسلم�‪.‬‬ ‫عر� وعدد من كبار العرفاء‬ ‫انطالقا من تأسيسات ابن ب ي‬
‫* * *‬
‫ّ‬
‫التصوف الهندي ـ علم الكون ـ وحدة‬ ‫مفردات مفتاحية‪ :‬أنطولوجيا العرفان ـ‬
‫عر�‪.‬‬
‫شودوفسك ـ القونوي ـ ابن ب ي‬
‫ي‬ ‫الشهود ـ وحدة الوجود ـ ميشييل‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫قلّ ٌة هم املفكِّرون املسلمون الذين حظوا بتأثريٍ واسع كالشيخ األكرب محيي الدين ابن عريب‪.‬‬
‫ح عن أحد األسباب الرئيسيَّة لشُ هرته‬
‫عب ميشيل شودكيفتش (‪ )Michel Chodkiewicz‬بوضو ٍ‬
‫ولقد ّ‬
‫لكل يشء”[[[‪.‬‬
‫جواب ّ‬
‫ٌ‬ ‫تحظى‪...‬بسم ٍة ُمتم ِّيزة‪ ...:‬لديها‬
‫ِ‬ ‫هذه ُمعلِناً أنّ‪“ :‬مؤلَّفاته‪ ،‬خالفاً ّ‬
‫لكل ما سبقها‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ري من املسلمني يف شبه القا ّرة الهندية ‪ -‬كمسلمني آخرين يف مناطق أخرى ‪ -‬بالبحث عن‬
‫استم ّر كث ٌ‬
‫ِ‬
‫املعاص‪ .‬وتشه ُد املؤلّفات الثانويَّة حول اإلسالم يف الهند عىل‬ ‫هذه اإلجابات وصوالً إىل زمننا‬
‫يب كان مشهورا ً بشكلٍ واسعٍ‪ ،‬وكثريا ً ما كان موض َع جدال‪ ،‬ولك ّن عددا ً قليالً من‬
‫حقيقة أ ّن اب َن عر ٍ‬
‫الهندي‪ ،‬قد اطّلعوا عىل مؤلّفاته‬
‫ّ‬ ‫ِ‬
‫املعاصين ‪ -‬هذا إن ُوجدوا‪ -‬الذين بحثوا يف التص ُّوف‬ ‫العلامء‬
‫ٍ‬
‫إشارات‬ ‫أو مؤلَّفات تالمذته املبارشين‪ .‬والحك ُم بوجود هذا التأثري يستن ُد بشكلٍ كبريٍ إىل وجود‬
‫نسب إليه غالباً وهو وحدة الوجود[[[‪.‬‬
‫يب واملبدأ املشهور الذي يُ َ‬
‫يف النصوص إىل ك ٍُّل من ابن عر ّ‬
‫رامياً إىل إجالة النظر يف طبيعة هذا التأثري والطرق التي أُنشئ من خاللها‪ ،‬ق ّد ُ‬
‫مت طلباً إىل‬
‫اللجنة الفرعيَّة الهنديَّة األمريكيَّة للتعليم بُغية الحصول عىل منح ٍة لدراسة انتشار تعاليم ابن عريب‬
‫ّنت من قضاء مثانية أشه ٍر يف‬
‫السخي للَّجنة الفرعيَّة‪ ،‬متك ُ‬
‫ِّ‬ ‫يف شبه القارة الهنديَّة‪ .‬نتيج ًة لتلقّي الدعم‬
‫الهند من أيّار عام ‪ 1988‬لغاية كانون الثاين ‪ُ 1989‬مدقِّقاً يف املخطوطات الفارس َّية والعرب َّية‪ .‬وتق ُع‬
‫قضيت فيها أوقاتاً طويل ًة يف ُمدن عليكره‪ ،‬حيدر آباد‪ ،‬لكهنو‪ ،‬نيودلهي‪ ،‬باتنا‬‫ُ‬ ‫املكتبات العرش التي‬
‫ورسينغار[[[‪.‬‬

‫وخصوصا يف‬
‫ً‬ ‫وليام تشيتيك (‪ ).../William Chittick)،( 1943‬مفكر وباحث أمرييك ‪ ،‬وأحد أبرز علامء الغرب يف الفكر اإلسالمي‪،‬‬
‫حقل التص ُّوف والعرفان النظري‪ .‬ترجمت أعامله إىل الفرنسية واألملانية والفارسية واإليطالية والرتكية واألوردية والروسية واأللبانية‪ ،‬وهو‬
‫ً‬
‫فضل عن جامعة ألبانيا‪.‬‬ ‫أستاذ زائر يف جامعات أمريكية‬
‫[[[‪ -‬العنوان األصيل للمقال‪NOTES ON IBN AL-ARABI’S INFLUENCE IN THE SUBCONTINENT :‬‬
‫املصدر‪ :‬وردت هذه املقالة يف دوريَّة ‪ ،The Muslim World‬املجلَّد ‪ ،82‬العدد ‪ ،4-3‬متوز –ترشين األول ‪ .1992‬وهذه الدوريَّة‬
‫تأسست يف العام ‪ ،1911‬وهدفها تفعيل ونرش البحوث العلم َّية حول املجتمعات اإلسالم َّية واألبعاد التاريخ َّية والحال َّية يف العالقات‬ ‫َّ‬
‫وتصل إىل املشرتكني يف ‪ 65‬دولة‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫اإلسالم َّية‪-‬املسيح َّية‪ .‬وهي تُطبع من قبل مركز ماكدونالد وواييل ‪ -‬بالكويل‪،‬‬
‫‪M. Chodkiewicz, “The Diffusion of Ibn ‘Arabï’s Doctrine,” Journal of the Muhyyiddin ibn Arabi‬‬
‫‪Society9 (1991) 51.‬‬
‫ـ ترجمة‪ :‬هبة نارص‪.‬‬
‫نسب هذه العقيدة إىل ابن عريب من دون قيد راجع‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫من‬ ‫تنشأ‬ ‫التي‬ ‫باملشاكل‬ ‫[[[‪ -‬يف ما يتعل ُّق‬
‫‪Chittick, “Rumi and Wahdat al-Wujud, “ in The Heritage of Rumi, ed. Amin Banani and Georges‬‬
‫‪Sabagh (Cambridge: Cambridge University Press).‬‬
‫املكتبات التي زرتها‪ ،‬مع االختصارات املستخدَ مة أدناه يف اإلشارة إليها‪ ،‬هي كام ييل‪:‬‬‫ُ‬ ‫[[[‪-‬‬
‫عليكره‪ :‬مكتبة موالنا آزاد يف جامعة عليكره اإلسالم َّية (‪)AMU‬؛ حيدر آباد‪ :‬مكتبة املخطوطات الرشق َّية بوالية أندرا پراديش (‪ ،)AP‬متحف‬
‫ومؤسسة أبو الكالم آزاد الرشق َّية البحث َّية (‪)HARL‬؛ لكهنو‪ :‬ندوة العلامء (‪)LK‬؛ نيودلهي‪:‬‬ ‫َّ‬ ‫ساالر جونغ (‪ ،)SJ‬الجامعة العثامن َّية (‪،)OU‬‬
‫مؤسسة الدراسات اإلسالم َّية‪ ،‬هَمدرد ناغار (‪)HIS‬؛ باتنا‪ :‬مكتبة خدا بخش (‪)KH‬؛ رسينغار‪ :‬جامعة كشمري (‪ )KU‬وقسم األبحاث‬ ‫َّ‬
‫واملنشورات‪ ،‬حكومة جامو وكشمري (‪.)KOR‬‬

‫‪239‬‬
‫مقارنات‬

‫ّْ‬
‫نظري[[[‪.‬‬ ‫عقائدي‬
‫ٍ‬ ‫ج ٍه‬
‫حاولت أن أفحص جمي َع املخطوطات الصوف َّية يف هذه املكتبات بتو ُّ‬ ‫ُ‬
‫تتناول امليتافيزيقا‪ ،‬اللَّ هوت‪ ،‬علم الكون‪ ،‬وعلم النفس‪ .‬وكان هديف‬ ‫ُ‬ ‫ركّزتُ عىل املؤلّفات التي‬
‫وصلت إىل املؤلِّفني‬
‫ْ‬ ‫تعكس فيه هذه املؤلَّفات تعالي َم ابن عريب وكيف‬
‫ُ‬ ‫أن أُح ِّدد املقدار الذي‬
‫الهنود‪ .‬هل علموا بها بشكلٍ مبارش أم بواسطة مؤلَّفات أتباعه يف األرايض اإلسالميَّة الوسطى؟‬
‫حاولت أن أُح ِّدد هوي َة أبرز املمثِّلني الهنود عن هذه املدرسة الفكريَّة‪ ،‬حاكامً‬
‫ُ‬ ‫يف الوقت عينه‪،‬‬
‫عىل املؤلَّفات عىل ضوء إتقان املؤلِّفني للمصطلحات واملفاهيم‪ ،‬و ُعمق الفهم‪ ،‬ووضوح التعبري‪،‬‬
‫والصيغ األصليَّة‪.‬‬
‫كا َن معيا ُر املقارنة الذي تب ّنيته معرفتي الشخص َّية بكتابات ابن عريب وكتابات أتباعه املشهورين‬
‫(توف ‪673‬ه‪1274/‬م)؛ وتالميذ‬ ‫ّ‬ ‫واملتق ّدمني نسبياًّ يف الزمن كنجل زوجته صدرالدين القونوي‬
‫(توف ‪695‬ه‪1295/‬م)‪،‬‬‫ّ‬ ‫(توف ‪688‬ه‪1289/‬م)‪ ،‬سعيد الدين الفرغاين‬ ‫ّ‬ ‫القونوي‪ :‬فخرالدين العراقي‬
‫فسي «الفصوص» عبد الرزَّاق الكاشاين‬ ‫ّ‬
‫(توف حوايل ‪700‬ه‪1300/‬م)؛ و ُم ِّ‬ ‫جندي‬ ‫ومؤيِّد الدين ال َ‬
‫(توف ‪751‬ه‪1350/‬م)؛ والشعراء الفُرس محمود‬ ‫ّ‬ ‫(توف ‪736‬ه‪1335/‬م)‪ ،‬ورشف الدين داوود القيرصي‬ ‫ّ‬
‫(توف حوايل ‪720‬ه‪1320/‬م)‪ ،‬وشمس الدين املغريب (تويف ‪809‬ه‪1406-1407/‬م)؛ وعبد‬ ‫ّ‬ ‫ِستي‬ ‫شَ ب َ‬
‫ّ‬
‫(توف ‪898‬ه‪1492/‬م)‪.‬‬ ‫(توف حوايل ‪832‬ه‪1428/‬م)‪ ،‬وعبدالرحمن الجامي‬ ‫ّ‬ ‫الكريم الجييل‬
‫يل أن أكون انتقائ ّياً يف ُمقاربتي‪ .‬من خالل التحقيق يف‬ ‫نظرا ً إىل محدوديَّة وقتي‪ ،‬كان يتحتّ ُم ع َّ‬
‫متيل بطبيعتها نحو النخبة بدالً من كونها تعبريا ً شعبيّاً عن التعاليم الصوفيَّة‪،‬‬‫املؤلَّفات النظريَّة التي ُ‬
‫رسب هذا التأثري إىل الجامهري اإلسالم َّية التي‬ ‫جهدا ً وافياً يف الحكم عىل مقدار ت ُّ‬ ‫مل أستطع أن أبذل ُ‬
‫ّلت غالب َّية ُعضويَّة الطرق الصوف َّية‪ .‬كام أشار شودكيفتش‪ ،‬فإ َّن التقييم الكامل لتأثري ابن عريب‬ ‫شك ْ‬
‫ينبغي أن يأخذ بعني االعتبار مجموع ًة متن ِّوعة وواسعة من املصادر مبا فيها ما يُس ّميه املؤلّفات من‬
‫الدرجة الثانية‪ ،‬أي الكتيِّبات اإلرشاديَّة األساسيَّة للمبتدئني‪ ،‬السجلَّ ت اإلقليميَّة‪ ،‬القصائد املذكورة‬
‫يف االجتامعات الصوف َّية‪ ،‬املواليد املنتظَمة لترشيف األولياء املحلّ ّيني‪ ،‬وإجازات املشايخ‬
‫املحلّ ّيني وسالسلهم‪ .‬جمي ُع هذه األعامل‪ ،‬وليست املبادئ العقائديَّة‪ ،‬هي التي تؤكِّ ُد عىل مامرسة‬
‫هت اهتاممي يف بحثي نحو املبادئ العقائديَّة[[[‪.‬‬ ‫ج ُ‬ ‫الطريقة الصوف َّية ومراحلها‪ ،‬ولك ّنني و ّ‬
‫كنت من ناحية‪ ،‬مهتمَّ ً بتقييم مدى تأثري ابن عريب عىل املؤلفّني الهنود‪ ،‬ومن ناحي ٍة أخرى‬

‫[[[‪-‬بالطبع‪ ،‬مثة مخطوطات حول التص ُّوف باللغة األرديَّة ولغات محلّية متن ِّوعة أخرى‪ ،‬ولكن يف املكتبات التي زرتها فاقت املخطوطات‬
‫العرب َّية املؤلَّفات األرديَّة باثنني لواحد عىل األقل‪ ،‬وفاقت املخطوطات الفارس َّية املخطوطات العرب َّية بالنسبة ذاتها تقريباً‪ .‬فضالً عىل ذلك‪،‬‬
‫لعت علىمخطوطات عدَّ ة باللغة األرد َّية كانت ُمرتبطة بوضوح بهذه املدرسة الفكر َّية‪ ،‬وكانت متأخّرة دامئاً و‪-‬باملقدار الذي ُيكن أن‬ ‫اطّ ُ‬
‫تلعب دوراً مهامً يف نرش تعاليم ابن عريب‬‫ُ‬ ‫أقوله انطالقاً من معرفتي املحدودة باللغة األرديَّة‪ُ -‬مشتقَّة‪ .‬كان انطباعي العام هو أنّ هذه اللغة‬
‫تلعب دوراً أقل بكثري من خالل املؤلَّفات النرثيَّة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫عىل املستوى األكرث شعبويَّة من خالل الشعر‪ ،‬ولكن‬
‫‪[2]-Chodkiewicz, “The Diffusion,” pp.41- 42.‬‬

‫‪240‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫ُمهتامً بتحديد منط التأثري‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من املمكن متييز نطاقٍ واسعٍ من املقاربات تجاه‬
‫أسايس‪،‬‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫اهتاممات فلسف َّية والهوت َّية بشكلٍ‬ ‫تعليامته العقائديَّة‪ .‬فبعض األعامل تعكس‪ ،‬من جهة‪،‬‬
‫وت ُظ ِه ُر إتقاناً لخطاب املدارس املكتَ َسب معرفيّاً‪ ،‬وتُبدي اهتامماً ضئيالً نسبيّاً بكشف عامل الغيب‬
‫مييل‬
‫يقف اب ُن عريب عليها‪ُ .‬‬ ‫واملشاهدة املبارشة لله يف تجلّياته الذاتيَّة والتي ت ُشك ُِّل القاعدة التي ُ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫احتامل أن تكون لغتها عرب َّية بدالً من‬ ‫ُ‬ ‫هذا النوع من املؤلّفات نحو الجفاف والدقّة املنطق َّية‪ ،‬ويزي ُد‬
‫ري من املؤلَّفات التجربة الرؤيويَّة ويستن ُد إىل املعرفة القلب َّية‬ ‫الفارس َّية‪ .‬من جهة أخرى‪ ،‬يع ِك ُ‬
‫س كث ٌ‬
‫املنطقي للمفاهيم الفلسفيّة‪ .‬هذه املؤلَّفات هي باللُّغة الفارسيَّة عىل‬ ‫ّ‬ ‫و”الذوق” أكرث من التفسري‬
‫األغلب‪ ،‬ولغتها هي الشعر عوضاً عن النرث‪ .‬مع ذلك‪ ،‬متألُ أنوا ٌع كثري ٌة من الكتابات املكان الوسط‬
‫بني هاتني الجهتني‪ ،‬وت ُوفِّ ُر تن ُّوعاً كبريا ً يف التعديالت‪ .‬وعليه‪ ،‬لدينا مؤلَّفاتٌ عرب َّية شعريَّة كُ ِتبت‬
‫الفاريس يسودها االهتامم بالدقَّة العقل َّية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الرؤيوي ومؤلَّفات نرثيَّة من الشعر‬
‫ِّ‬ ‫بالنرث‬
‫ويجدر القول أ َّن وظيفة تقييم املؤلَّفات تعقَّدت بشكلٍ أكرب بسبب وجود مجموعة متن ِّوعة من‬
‫نص عىل حدة‪ ،‬وبسبب الضيق الشديد يف الوقت كام‬ ‫بكل ٍ‬‫العوامل العص َّية عىل التقييم واملرتبِطة ّ‬
‫أسلفت‪ .‬باختصار‪ ،‬تعتم ُد استنتاجايت بشكلٍ كبريٍ عىل تقييمي الذايتِّ‪ ،‬ولكن رغم ذلك‪ ،‬أمتنى‬
‫اإلسالمي يف‬
‫ِّ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫أن تكون بعض املعلومات التي جمعتها ُمفيدة للباحثني املهت ِّمني بالتاريخ‬
‫الهند‪.‬‬
‫مئات من املخطوطات ومنحتها‬ ‫ٍ‬ ‫ّلعت عىل‬
‫خالل األشهر الثامنية التي قضيتها يف الهند‪ ،‬اط ُ‬
‫ري إىل هذا‬ ‫ٍ‬
‫عالمات من ‪ I‬إىل ‪( VII‬األرقام الرومان َّية الواردة بعد املؤلَّفات املذكورة يف ما بعد تُش ُ‬
‫املقياس)‪:‬‬
‫‪ :I‬ال صلة لها باملدرسة‪ ،‬ذُكرت ببساطة لتفادي التكرار‪.‬‬
‫أسايس بالقضايا الع َمليَّة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫النظري‪ ،‬تهت ُّم بشكلٍ‬
‫ِّ‬ ‫‪ :II‬لها عالق ٌة صغرية بالتص ُّوف‬
‫صل بشكلٍ مبارش مبدرسة ابن عريب‪.‬‬
‫‪ :III‬مه َّمة جوهريّاً للنقاشات النظريَّة‪ ،‬ولكن ال تتّ ُ‬
‫محتوى فكريّاً جديرا ً باملالحظة‪ ،‬ولكنه غري متّصل مبدرسة ابن عريب كذلك‪.‬‬
‫ً‬ ‫‪ :IV‬تتض ّم ُن‬
‫‪ :V‬ت ُظ ِه ُر أمثل ًة مهمة من التأث ّر بكتابات ابن عريب و‪/‬أو أتباعه‪.‬‬
‫َ‬
‫الجدال بني مؤيِّدي وحدة‬ ‫نص مه ٌم حول مدسة ابن عريب‪ ،‬أو يتناول ببعض التفاصيل‬
‫‪ٌ :VI‬‬
‫الوجود ووحدة الشهود (موقف الشيخ أحمد ِ‬
‫السهندي)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫ساهامت جديدة وأصيلة حول مدرسة ابن عريب الفكريَّة‪.‬‬ ‫‪ :VII‬مؤل ٌَّف ممتاز يُوفِّ ُر ُم‬

‫‪241‬‬
‫مقارنات‬

‫أفصل نحو خمسني شخص َّية كتبت مؤل ٍ‬


‫َّفات يف الفئات‬ ‫َ‬ ‫استطعت أن‬
‫ُ‬ ‫راجعت مالحظايت‪،‬‬
‫ُ‬ ‫حينام‬
‫‪ V‬إىل ‪ ،VII‬إضافة إىل نحو دزين ٍة من املؤلَّفات القامئة بذاتها يف الفئات نفسها من تأليف مؤلّفني‬
‫كل حال ٍة إىل‬
‫مجهولني‪ .‬سأذك ُر يف ما ييل نحو ثالثني من هؤالء املؤلّفني من دون السعي يف ّ‬
‫شخصيات أخرى يك أساعد يف وضع‬ ‫ٍ‬ ‫ري أيضاً إىل‬
‫وصف جميع املؤلّفات التي رأيتها‪ .‬وسأش ُ‬
‫التاريخي‪ .‬وجمي ُع املؤلَّفات هي باللُّغة الفارس َّية إالَّ إذا ذُكر خالف ذلك‪.‬‬
‫ّ‬ ‫املؤلّفني يف سياقهم‬
‫قبل الدخول يف التفاصيل‪ ،‬دعوين أُعبِّ هنا عن بعض استنتاجايت و ُمالحظايت العا َّمة‪ :‬الحكمة‬
‫الواصلة هي ُمحقَّة يف إعالمنا بأ ّن ابن عريب كان مشهورا ً للغاية يف شبه القارة الهنديَّة‪ .‬كقاعدة‪،‬‬
‫فصلها ابن عريب وأتبا ُعه‬ ‫عكس بشكلٍ كاملٍ النظر َة الكون َّية التي ّ‬
‫َ‬ ‫النص متأخِّرا ً زمن ّياً كلّام‬
‫ُّ‬ ‫كلّام كان‬
‫ضئيل نسبيّاً من املؤلّفني مطَّلعني عىل كتابات ابن عريب نفسها‬ ‫ٌ‬ ‫املبارشون‪ .‬مع ذلك‪ ،‬كان عد ٌد‬
‫الحكَم عرب أحد التفاسري الكثرية املكتوبة‬ ‫حتّى ولو كان لدى أغلبهم بعض العلم بكتاب فصوص ِ‬
‫عنه‪ .‬مل تكن مسارات التأثري األساس َّية مؤلَّفات ابن عريب عينها بل مؤلَّفات كُتّاب مثل الفرغاين‬
‫وعبدالرحمن الجامي (تجد ُر اإلشارة إىل أ ّن كليهام قد وضعا مؤل ٍ‬
‫َّفات مه َّمة باللُّغتني العرب َّية‬
‫والفارسيَّة)‪.‬‬
‫استيعاب املؤلّفني‬
‫َ‬ ‫س‬‫ري من النصوص التي درستها ذا جود ٍة عالية استثنائ َّية‪ ،‬ويع ِك ُ‬ ‫كان مقدا ٌر كب ٌ‬
‫الكامل لتعاليم التص ُّوف ومامرساته‪ ،‬وقدرتهم عىل التعبري عن النظرة الكون َّية ملدرسة ابن عريب‬
‫ري من األعامل األخرى عىل يد مؤلّفني كانوا ببساط ٍة جامعني‬ ‫ضع كث ٌ‬ ‫بطريق ٍة جديدة وأصيلة‪ .‬لقد ُو ِ‬
‫هت اهتامماً‬
‫ج ُ‬‫فسون ما ت ّم تلقّيه من تعاليم التص ُّوف ملعارصيهم أو تالميذهم‪ .‬لذا و ّ‬ ‫أو ُمر ّوجني يُ ِّ‬
‫وكنت مهتمَّ ً بشكلٍ خاص باكتشاف‬ ‫ُ‬ ‫كنت عىل علمٍ مبحتواها‪،‬‬ ‫أقل لهذه األعامل الشهرية ألنّني ُ‬ ‫ّ‬
‫أسياد املدرسة األكرث مت ُّرساً‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإ ّن العدد الكبري من األعامل الشهرية من هذا النوع هو‬
‫اإلسالمي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل ُمستويات الطرق الصوفيَّة واملجتمع‬ ‫عالم ٌة عىل أ ّن تأثري ابن عريب قد امت َّد عىل ِّ‬
‫ّلعت عليها مل يدرسها الباحثون املتد ِّربون‬
‫وألفت إىل أ َّن األغلبية الواسعة من النصوص التي اط ُ‬
‫بالوسائل الحديثة بهدف مضمونها (رغم أ ّن بعض هذه النصوص من دون شك ما زال يُقرأ يف‬
‫الخاصة)‪ .‬ولقد أشا َر باحثون من أمثال سيّد أثار عباس رضوي‪ ،‬مؤلِّف “تاريخ‬
‫ّ‬ ‫الخوانق أو البيوت‬
‫الفكري عىل مدى قرون‪ ،‬إالَّ أ ّن أغلب املؤلفّني‬
‫ِّ‬ ‫التص ُّوف يف الهند” إىل حجمٍ هائلٍ من النشاط‬
‫املعاصين بقوا غافلني عن القضايا التي متّت مناقشتها يف هذه األعامل‪ ،‬وما يقوله رضوي نفسه‬‫ِ‬
‫املتخصصني‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫عن مضمونها ُمستم ٌد بشكلٍ كبريٍ من املصادر الغربيَّة الثانويَّة‪ .‬وال يبدو أنّه خطر ببال‬
‫ري لالهتامم‬
‫فكري هو يف ذاته ُمث ٌ‬
‫ٍ‬ ‫وال سيَّام مواطني شبه القا ّرة الهنديَّة‪ ،‬أنّنا نتعامل هنا مع ت ٍ‬
‫ُراث‬
‫أغلب الباحثني املتد ّربني باملناهج الحديثة‬‫َ‬ ‫ِ‬
‫املعاصة‪ .‬يبدو أ ّن‬ ‫وابتكاري وذو صل ٍة باالهتاممات‬
‫ٌ‬

‫‪242‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫ُ‬
‫متلك رابطاً ُمبارشا ً بالسياق‬ ‫يعتقدون أ ّن العنارص امله ّمة يف الحضارة اإلسالم َّية هي تلك التي‬
‫تقص الباحثون عن‬ ‫ّ‬ ‫االجتامعي واألحداث السياس َّية؛ إىل الح ِّد الذي قُرئت فيه هذه النصوص‪،‬‬
‫ِّ‬
‫تفاصيل غري ُمرتبِطة باالهتاممات الرئيسيَّة للمؤلّفني‪.‬‬
‫إ ّن إلقاء نظرة إىل الكتب واملقاالت التي يت ّم إصدارها (يف الغرب والدول اإلسالم َّية) حول‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الحلج والرومي وخصوصاً ابن عريب‪ ،‬يُظ ِه ُر أنّه ت ّم‬ ‫ّ‬ ‫اإلسالمي مثل‬
‫ِّ‬ ‫املتص ِّوفة العظام يف التاريخ‬
‫عاص كبري بأ ّن التص ّوف هو مخز ٌن من التعاليم الروحيَّة والدينيَّة التي ما‬ ‫االعرتاف من ِقبل جمهور ُم ِ ٍ‬
‫خاص من‬ ‫ٍّ‬ ‫متتلك القيمة يف عرصنا‪ .‬وتحتوي املكتباتُ الهنديَّة عىل مجموع ٍة غن َّية بشكلٍ‬ ‫ُ‬ ‫زالت‬
‫ْ‬
‫ري العقيدة الصوف َّية بشكلٍ ُمستم ٍّر ويف الوقت عينه ت ُدا ِو ُم عىل تركي ٍز‬
‫األعامل األصل َّية التي ت ُعيد تفس َ‬
‫ح عىل قاعدتها الالَّ متغيِّ ة‪ .‬هذه األعامل ت ُعي ُد التأكي َد عىل االنهامك العا ِّم للمفكّرين املسلمني‬ ‫واض ٍ‬
‫والتاريخي‪ .‬لقد أدهشني إجام ُع األصوات يف األعامل‬ ‫ّْ‬ ‫العريض‬
‫ِّ‬ ‫والجوهري يف مقابل‬
‫ِّ‬ ‫بالحقيقي‬
‫ِّ‬
‫لغاية القرن التاسع عرش ُرغم التن ّوع الكبري يف األساليب واملقاربات‪ .‬عىل العموم‪ ،‬النصوص مليئة‬
‫ُ‬
‫حاول املؤلِّفون إظها َر أهم َّية التوحيد يف الحياة‬ ‫ِ‬
‫املنتشة يف كتابات ابن عريب أو الرومي‪ .‬يُ‬ ‫بالقيم‬
‫ٍ‬
‫أمناط ُمتغيِّ ة‬ ‫تتجل فيها اآليات اإللهيَّة يف‬
‫ّ‬ ‫والتطبيق‪ ،‬وينظرون إىل العامل وشؤون البرش كمسارح‬
‫عىل الدوام من التع ُّدديَّة‪ .‬يرى هؤالء املؤلِّفون أ َّن غاية الحياة البرشيَّة هي تحصيل تناغُم الروح مع‬
‫التجل الذايتّ لله عىل أساس الرشيعة‪.‬‬‫ّ‬
‫كانت هذه االهتاممات موجود ًة بالطبع أيضاً يف املؤلّفات التي كُتبِت قبل ابن عريب‪ .‬وما ُييِّ ُزها‬
‫يب‬ ‫ٍ‬
‫مصطلحات تقنية ُمح ّددة ومفاهيم ُمستم َّدة من كتابات ابن عر ّ‬ ‫عن األعامل السابقة هو استخدام‬
‫و ُمنقّحة و ُممن َهجة من ِقبل صدرالدين القونوي وأتباعه‪ .‬وأشري إىل كثريا ً من املؤلّفات التي كُتبت‬
‫وقت خالل هذه املدة‪ .‬ومثة إشاراتٌ‬ ‫أي ٍ‬ ‫عىل مدى الـ‪ 500‬عام التي بحثتها كان ُيكن أن ت ُكتَب يف ٍ‬
‫عاصة أو اهتاممات محليَّة عىل وجه الخصوص‪ ،‬ولكن هذا ال يعني أ َّن‬ ‫قليلة نسبياً إىل أحداث ُم ِ‬
‫جميع هذه األعامل ُ‬
‫تقول اليش َء عي َنه باألسلوب نفسه‪.‬‬
‫كتابات من تأليف فالسفة وعلامء الهوت وحكامء صوفيني‬ ‫ٍ‬ ‫بإيجاز‪ ،‬تتض ّم ُن املكتباتُ الهنديَّة‬
‫ويكن أن نُص ِّنف عددا ً من‬‫مه ِّمني ما زالوا غري معروفني تقريباً‪ ،‬وهم جديرون بالدراسة بش ّدة‪ُ .‬‬
‫اإلسالمي إالَّ أنّهم مل يخضعوا‬
‫ِّ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫املؤلّفني التالني كممثِّلني من الصف األول عن الرتاث‬
‫للدراسة تقريباً بشكلٍ كامل‪.‬‬
‫يحصل بسبب اإلهامل الواسع النطاق‬ ‫ُ‬ ‫دعوين أد ِّو ُن هنا أيضاً الشعو َر باملأساة الذي أحسسته ملا‬
‫ري من املخطوطات التي‬ ‫عم قريب عد ٌد كب ٌ‬
‫يطال املكتبات الهنديَّة‪ .‬لن أتفاجأ إذا أصبح ّ‬ ‫ُ‬ ‫الذي‬
‫سوف أذكرها أدناه غري ُمتوفِّرا ً بسبب التلف الرسيع يف املوارد‪ .‬املشكالت السياسيَّة الحالية يف‬

‫‪243‬‬
‫مقارنات‬

‫أصعب بكثريٍ ّ‬
‫مم كان عليه يف املايض حينام كان املناخ دامئاً‬ ‫َ‬ ‫تجعل الوض َع‬
‫ُ‬ ‫شبه القارة الهنديَّة‬
‫انزعجت هذه املرة من الثقوب‬
‫ُ‬ ‫عد ّوا ً للكتب (مل أنزعج من قبل ق ّ‬
‫ط أثناء دراسة املخطوطات كام‬
‫أشخاص سليمو النيّة‪ ،‬ولك ّن موارد‬
‫ٌ‬ ‫وأغلب املكتبات التي زرتها يُديرها‬ ‫ُ‬ ‫والصفحات املتحلِّلة)‪.‬‬
‫مكتبات عديدة مهمة كانت أو‬‫ٍ‬ ‫سمعت عن‬
‫ُ‬ ‫الحفظ عىل األمد الطويل كثريا ً ما تكو ُن غري ُمتوفِّرة‪.‬‬
‫أصبحت حديثاً غري ُمتاحة‪ .‬ومؤخّرا ً اندلعت النريان يف اثنتني من هذه املكتبات‪ ،‬وقد تس ّبب العنف‬
‫الجامعي بإحداها وتس ّبب ببساطة اإلهامل باألخرى‪ ،‬فأُتلِفت العديد من املخطوطات التي قد‬ ‫ُّ‬
‫تكون غري قابلة لالستبدال‪.‬‬

‫القرن الثامن الهجري‪/‬الرابع عشر ميالدي‪:‬‬


‫توف يف ‪829‬ه‪1425/‬م) يف شبابه مع عالء‬ ‫ّ‬ ‫درس السيد أرشف جهانكري ِسمناين (يُحتمل أنَّه‬ ‫َ‬
‫الدولة ِسمناين (تويف ‪736‬ه‪1337/‬م) الذي اشتُهر بآرائه النقديَّة حول ابن عريب والتي ت َّم التعبري عنها‬
‫فسي كتاب الفصوص‪ .‬مل يكن الس ِّيد أرشف راضياً‬ ‫يف مراسلته مع عبد الرزاق الكاشاين‪ ،‬أحد ُم ّ‬
‫متاماً برفقة عالء الدولة فات ّجه إىل كاشان وهو يف عمر الثالثة والعرشين تقريباً يك يدرس عند عبد‬
‫صاحب سفر السيِّد عيل‬‫َ‬ ‫الرزاق‪ ،‬تاركاً املدينة بعد موت األخري يف ‪730‬ه‪1330/‬م‪ .‬ويُ ُ‬
‫قال إنَّه أصبح‬
‫وأصبح تلميذا ً‬
‫َ‬ ‫همداين (تويف ‪786‬ه‪1385/‬م)‪ .‬قام بزيارة جيسو داراز (‪ )Gísü Daräz‬ومراسلته‪،‬‬
‫كتاب يحتوي عىل نحو‬ ‫ٌ‬ ‫خ يف بنغال‪ ،‬واستق َّر يف النهاية يف جونبور[[[‪“ .‬لطائف أرشيف” (‪ )VI‬هو‬‫لشي ٍ‬
‫جي اليميني يف ستّني “لطيفة” شارحاً آرا َء السيّد أرشف حول‬ ‫‪ 850‬صفحة جمعها تلميذُه نظام حا ّ‬
‫خاصة ألنَّها ُمك َّرسة لوحدة‬
‫َّ‬ ‫مجموع ٍة ُمتن ّوعة من املواضيع‪ .‬اللطيفة الثامنة عرشة هي ذات أهميَّة‬
‫لنص املراسلة بني ِ‬
‫السمناين‬ ‫حتمل أ َّن هذا كان مصدر الجامي يف “نفحات األنس” ِّ‬ ‫ُ‬ ‫الوجود‪ .‬يُ‬
‫والكاشاين‪ ،‬وأيضاً لفكرة أ َّن هذا الجدال يتعل ُّق بوحدة الوجود مبا أ َّن هذا املصطلح مل يُذكَر من‬
‫خالل املبدأين‪ .‬يُق ّد ُم الس ّيد أرشف احتجاجات ع َّدة ل ُيظهر أ ّن ِ‬
‫السمناين قد أساء فهم موقف ابن‬
‫ربرة‪.‬‬
‫يب وأ ّن انتقاداته هي غري ُم َّ‬
‫عر ّ‬
‫خاصة باملدرسة‪“ :‬إرشاد اإلخوان”‬
‫َّ‬ ‫متلك صل ًة‬
‫ُ‬ ‫الحظت اثنني من أعامل السيِّد أرشف التي ال‬
‫ُ‬
‫كتب “مرآة الحقائق” و”كنز الدقائق”‬
‫(‪ )III‬و”تنبيه اإلخوان” (‪ .)II‬يُخربنا رضوي أ َّن السيِّد أرشف َ‬
‫ٍ‬
‫نقاشات تقنيَّة ُمتط ِّورة‪ .‬أ َّما “املكتوبات” (‪ )VI‬من‬ ‫ُ‬
‫يتناول هذان‬ ‫املتخصصني”[[[‪ ،‬وقد‬
‫ِّ‬ ‫لـ”فائدة‬
‫تأليفه فهي قطعاً ذا أهميَّة‪ ،‬وتكفي مع “اللطائف” يف إظهار أنَّه كان قناة أساسية لتأثري ابن عريب‪.‬‬
‫‪[1]- S.A.A. Rizvi, A History of Sufism In India, I.pp.267- 268; B.B. Lawrence, An Overview of Sufi‬‬
‫‪Literature In the Sultanate Period (Patna: Khuda Bakhsh Oriental Public Library,) 68.‬‬
‫‪[2]- A History of Sufism In India, I.p.268.‬‬

‫‪244‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫شكّل الشيخ الكُربوي املذكور سابقاً‪ ،‬الس ّيد عيل الهمداين‪ ،‬قناة تأثريٍ مه َّمة أخرى‪ ،‬وهو‬
‫“حل‬‫ّ‬ ‫حتمل أنّه مؤلِّف‬
‫ُ‬ ‫يقل عن ‪ 40‬عمالً‪ ،‬أغلبها رسائل وجيزة‪ .‬ويُ‬
‫يس كشمري‪ .‬ألّف ما ال ّ‬
‫ق ّد ُ‬
‫الحكم” من تأليف ابن عريب[[[‪ .‬ومن بني رسائله رسال ٌة‬‫ري لكتاب “فصوص ِ‬
‫الفصوص”‪ ،‬وهو تفس ٌ‬
‫بالعربية بعنوان “أرسار النقطة” التي ت ُظ ِه ُر إتقانَه للمصطلحات التقن َّية للقونوي وأتباعه‪ .‬وقد‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫علّق بروس لورنس (‪ )Bruce Lawrence‬بأ ّن الهمداين‪ ،‬كام الس ّيد أرشف‪“ ،‬د ّرس مبادئ وحدة‬
‫بحامس ُم ٍ‬
‫عد”[[[‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫الوجود‬

‫أحد الصوفيّني األكرث إنتاجاً خالل هذه امل ّدة كان الشيخ ِ‬
‫الشستي السيِّد محمد الحسيني‬
‫ري من أعامله‬ ‫املعروف بجيسو داراز والذي ّ‬
‫توف بعم ٍر فاق الـ‪ 100‬عام يف ‪825‬ه‪1422/‬م‪ .‬طُبعت كث ٌ‬
‫لعل كتاب‬
‫حسني يف النصف األول من هذا القرن‪ّ .‬‬
‫يف حيدر آباد وجولبارجا عىل يد السيّد عطاء ُ‬
‫رب مديونيَّة ملدرسة ابن عريب هو “أسامر األرسار”[[[ حيث ينتق ُد اب َن عريب‬
‫جيسو داراز الذي يُظ ِه ُر أك َ‬
‫وبعض أتباعه كفخر الدين العراقي يف مناسبات ع َّدة‪ .‬يف أحد فصول كتاب “تبرصة اإلصطالحات‬
‫َ‬
‫َ‬
‫وأضاف‬ ‫كل هذه االنتقادات‬ ‫الصوفيّة” (‪ ،)VI‬جم َع االب ُن األكرب لجيسو داراز‪ ،‬السيّد أكرب الحسيني‪َّ ،‬‬
‫اال إىل منط‬‫ريه الخاص[[[‪ .‬بشكلٍ عام‪ ،‬وظ َّف داراز مصطلحات مدرسة ابن عريب إالَّ أنّه كان ميّ ً‬ ‫تفس َ‬
‫التعبري ال َوجدي ‪ -‬الذي ُيثّله كتاب “اللَّمعات” من تأليف العراقي ‪ -‬أكرث من منط التعبري األش ّد‬
‫فسي “الفصوص”[[[‪.‬‬ ‫فلسف ًة ومنطقاً الذي ُيثّله أغلب ُم ّ‬
‫استنادا ً إىل رضوي‪“ ،‬كان مسعود باك رائد حركة وحدة الوجود يف دلهي” ‪ ،‬ويُحتمل أنّه تو ّ‬
‫ف‬ ‫[[[‬

‫يف ‪789‬ه‪1387/‬م[[[‪ .‬كان باك تلميذا ً لنظام الدين أولياء وألّف عددا ً من األعامل الفارس َّية املثرية‬
‫لالهتامم‪ .‬وقد َ‬
‫مال نحو التعبري ال َوجدي عن األفكار‪ ،‬ولك ّنه أظه َر تأثريا ً ضئيالً أو حتّى ُمنعدماً‬

‫[[[‪ -‬نُرش هذا الكتاب مؤخّراً يف طهران من قبل ج‪ِ .‬مسكار نِزهاد ولكنه نُسب إىل الخواجه محمد پارسا‪ .‬يُظه ُر املح ّرر أنّ أغلبه مأخو ٌذ من‬
‫تدعم كون الهمداتني هو املؤلِّف‪ .‬تتض َّم ُن املخطوطات‪HIS 3179، :‬‬ ‫ُ‬ ‫تفسري الجندي حول الفصوص‪ .‬يُقدّ م ن‪.‬مايل هراوي عدة أسباب‬
‫‪ ،KOR 905، AP 780، LK 2‬و‪ُ .LK 82‬عرث عىل نُسخة يف مجموعة من مؤلفات الهمداين يف إسطنبول‪ ،‬الشهيد عيل باوسا ‪،2794‬‬
‫‪ 684-508‬وما بعدها‪ ،‬يعو ُد تاريخها إىل ‪ .901‬يف تلك املجموعة‪ ،‬تُس ّمى رسالته “الوجودية” املطابِقة ملقدمة “حل الفصوص” (مايل‬
‫هراوي ص‪ )107-106.‬بـ”االصطالحات” (‪ 481-478‬وما بعدها)‪.‬‬
‫‪[2]-Sufi Literature, p. 55.‬‬
‫تفسري حول هذا الكتاب ‪.AP 1464‬‬ ‫ٌ‬ ‫[[[‪ -‬طُبع هذا الكتاب يف حيدر آباد‪ ،‬تحرير حافظ عطاء حسني‪ .1350 ،‬مثة أيضاً‬
‫‪[4] - Ed. by Sayyid ‘Ata’ Husayn (Gulbarga: Kutubkhäna-yi Rawdatayn, 136594 - 67 1946/).‬‬
‫«السمر» األول‬
‫[[[‪ -‬رغم أنّ جيسو داراز ينتقدُ العراقي‪ ،‬إال أنّه يُعيدُ صياغة مقاطع من «اللمعات» (من دون االعرتاف باملصدر)‪ ،‬كام يف َ‬
‫الذي أُخذ من الومضة الثالثة عرش (نوربخش‪ ،‬طهران‪ :‬خانقا ِه نعمة اللهي‪ )1974 ،‬الصفحة العارشة؛ ترجمة تشيتيك وويلسون (نيويورك‪:‬‬
‫فس‬
‫ببيتي الشعر نفسهام من تأليف ُم ّ‬ ‫ّ‬ ‫‪ ،)1982‬الصفحة ‪ ،78‬الفقرة األوىل‪ .‬الحظ أنّه يف كلٍ من «األسامر» و«اللمعات»‪ ،‬ينتهي املقطع‬
‫«الفصوص» مؤيِّد الدين الجندي‪.‬‬
‫‪[6]- A History of Sufism In India, I.p.241.‬‬
‫‪[7]- Lawrence, Sufi Literature, p. 27.‬‬

‫‪245‬‬
‫مقارنات‬

‫بكتابات ابن عريب وأتباعه‪ُ .‬يكن أن نعتربه منارصا ً لوحدة الوجود إذا أخذنا هذ املصطلح باملعنى‬
‫األخص الذي يُفي ُد‬
‫ِّ‬ ‫ليس باملعنى‬‫يف‪ ،‬ولكن َ‬ ‫األعم‪ ،‬أي باإلشارة إىل عبارة “التوحيد” بالنمط الصو ِّ‬
‫س بعض التأث ُّر‬ ‫حتمل أ َّن مسعود باك يع ِك ُ‬
‫ُ‬ ‫متثيل موقف ابن عريب‪ .‬يف “مرآة العارفني” (‪ ،)IV‬يُ‬ ‫َ‬
‫بأمناط ت ُذكِّرنا أكرث بـ”التمهيدات”‬ ‫ٍ‬ ‫بـ”اللَّمعات” من تأليف العراقي‪ ،‬ولكن يف الغالب يُعبِّ ُ عن نفسه‬
‫من تأليف عني القضاة الهمداين‪ .‬ينقس ُم هذا الكتاب إىل ‪ 14‬كشفاً‪ ،‬ويبدأُ مبناقشة حقيقة الوجود‪.‬‬
‫يف قسمٍ ثانٍ عن التوحيد‪ ،‬يذك ُر املؤلِّف عبارة “ما يف الوجود إالَّ الله” التي كثريا ً ما استخدمها ابن‬
‫أي عالمة عىل االعتامد عىل مدرسة‬ ‫عريب‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فإ ّن منط رشحه ملعنى هذه الفكرة ال يُظ ِه ُر َّ‬
‫يف‪ .‬أ َّما الكتاب‬ ‫أسايس املقامات املختلفة يف الطريق الصو ِّ‬ ‫ٍّ‬ ‫ُ‬
‫يتناول باقي الكتاب بشكلٍ‬ ‫ابن عريب‪.‬‬
‫مهمَّ وجذّاباً لرمزيَّة األحرف العرب َّية‪.‬‬ ‫اآلخر “أم الصحائف يف عني املعارف” (‪ [[[)IV‬فيشكِّل نقاشاً ً‬
‫كتب تفسريا ً‬ ‫أعرف شيئاً عنه غري أنّه َ‬ ‫ُ‬ ‫شف الدين ال ِّدهلوي الذي ال‬ ‫أخريا ً‪ ،‬ينبغي أن أذكر شمس الدين َ َ‬
‫عربيَّاً حول كتاب ابن عريب بعنوان “نقش الفصوص” يعو ُد تاريخه إىل ‪795‬ه‪1392-1393/‬م‪68 ،‬‬
‫ري إحدى‬ ‫عاماً قبل تأليف كتاب الجامي املعروف بـ”نقد النصوص يف رشح نقش الفصوص”‪ .‬وت ُش ُ‬
‫بطلب من شهاب الدين أحمد بن محمد بن عبدالرحيم‪ .‬ويبدو أ ّن‬ ‫ٍ‬ ‫املخطوطات أ َّن العمل قد كُتب‬
‫قسامً كبريا ً من النص‪ ،‬كام “نقد النصوص”‪ ،‬يعتم ُد عىل كتب تفسري “الفصوص” املشهورة‪.‬‬

‫القرن التاسع الهجري‪/‬اخلامس عشر ميالدي‪:‬‬


‫من املفيد القول أ َّن مؤلّفات الفردويس الشهري‪ ،‬الشيخ رشف الدين يحيى َمنريي (تويف‬
‫‪782‬ه‪1381/‬م)‪ ،‬ليست خالية متاماً من تأثري مدرسة ابن عريب‪ ،‬رغم القول أنّه كان من بني املنتقدين‬
‫لنظريَّات ابن عريب حول وحدة الوجود أثناء تنامي شهرتها بشكلٍ ُمتزايد يف شبه القارة الهنديَّة[[[‪.‬‬
‫كان أتباعه ُمطّلعني بشكلٍ مبارش عىل بعض كتابات املدرسة‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ ّن بعض أعامل حسني بن‬
‫البلخي نوشاهي توحيد (تويف ‪1440‬م)‪ ،‬ابن أخ وخليفة الخليفة املبارش للمنريي ُمظفّر بن‬ ‫ِّ‬ ‫ُمعز‬
‫نقاشات مشهورة‪ .‬األكرث إثارة لالنتباه هو “كاشف األرسار” (‪ )V‬من‬ ‫ٍ‬ ‫شمس البلخي‪ ،‬تتط ّر ُق إىل‬
‫تأليف حسن‪ ،‬ابن حسني وخليفته‪ ،‬وهو كتاب تفسري بالفارس ّية للكتاب من تأليف حسني “حرضات‬
‫ط من قبل تقسيمه للحرضات اإلله َّية الخمس‪:‬‬ ‫الخَمس” باللُّغة العرب َّية‪ .‬مل أصا ِدف ق ّ‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫‪ )1‬حرضة األلوه َّية التي هي حقيقة ّ‬
‫‪ )2‬حرضة القداسة النهائيَّة‪ ،‬وهي حرضة املحبوبيَّة‪.‬‬

‫أي من‬
‫[[[‪ -‬يُحتمل أنّ هذا هو نفسه «أم النصائح» الذي يُخربنا لورنس أنّ «كتّاب السرية من القرون الوسطى يذكرونه ولك ّنه ال يظه ُر يف ٍ‬
‫الجداول املطبوعة» (‪.)Sufi Literature, p.67‬‬
‫[[[‪ -‬أ‪.‬شيمل يف مقدمة «خوانِ بور نعمت» من تأليف املنريي‪ ،‬دلهي‪.Idarah-i Adabiyat-i Delhi، 1986 :‬‬

‫‪246‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫املتوسطة‪ ،‬وهي حرضة العشق َّية‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫‪ )3‬حرضة القداسة‬
‫‪ )4‬حرضة القداسة االبتدائيَّة‪ ،‬وهي حرضة النب َّوة والخالفة والدعوة‪ ،‬والهداية‪.‬‬
‫‪ )5‬وحرضة اإلضالل واإلغواء‪ ،‬وهي حرضة التع ّددية الساجِنة[[[‪.‬‬
‫جسده صدر الدين‬ ‫الفلسفي من تفسري ِفكر ابن عريب الذي يُ ِّ‬ ‫أحد أكرث املمثلِّني مت ُّيزا ً عن النوع‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ِّ‬
‫(توف ‪835‬ه‪1432/‬م)‪ ،‬الذي كان‬ ‫ّ‬ ‫يل بن أحمد بن عيل بن أحمد مهامئي‬ ‫القونوي هو عالء الدين ع ّ‬
‫من مدينة “غوجارات” وفقاً لـ”أخبار األخيار”‪ .‬يُخربنا رضوي أ َّن مهائم هي نفسها كونكان‪ ،‬وهي‬
‫تفسري‬
‫ٌ‬ ‫منطقة يف غرب ديكان[[[‪ .‬من بني أعامل مهامئي‪ ،‬التي يبدو أنّها جميعها باللُّغة العربيَّة‪ ،‬يوج ُد‬
‫وتفسري لـ”جام جهان نُا”‬ ‫ٌ‬ ‫لـ”الفصوص” بعنوان “خصوص ال ِنعم يف رشح فصوص ِ‬
‫الحكم”[[[‪،‬‬
‫يب عنوانه “مرآة الدقائق”[[[‪ ،‬وتفسري آخر لـ”النصوص” من تأليف القونوي عنوانه “ َمرشع‬ ‫للمغر ِّ‬
‫الخصوص إىل معاين النصوص” (‪ .)+VI‬املهامئي هو أيضاً مؤلّف تفسري “تبصري الرحمن” ‪-‬‬
‫الذي صدر مطبوعاً ‪ -‬ومؤلّف تفسريٍ لـ”عوارف املعارف” من تأليف السهروردي عنوانه “ظوارف‬
‫اللطائف” (‪ )-VI‬ت ّم يف ‪319‬ه‪1416/‬م‪ .‬يُظ ِه ُر األخري مديون َّيته البن عريب يف الخُطبة التي توظ ُِّف‬
‫يف‪ .‬يُعل ُّق كتاب “أجلّة التأييد يف رشح أدلّة‬ ‫ح ْي “الفصوص” و”الفتوحات” يف معناهام الحر ّ‬ ‫مصطل َ‬
‫التوحيد” (‪ )VI‬عىل إحدى الرسائل القصرية للمؤلِّف نفسه‪ ،‬بينام “أمحاض النصيحة الصحيحة”‬
‫(‪ )+VI‬يُق ِّد ُم إجاب ًة لرسال ٍة من جامل الدين محمد املِزجاجي (؟) من زبيد يف اليمن ويُداف ُع عن ابن‬
‫عريب ومدرسته عىل منط الجداالت الكالم َّية‪.‬‬
‫خاصة ألنّه‬ ‫َّ‬ ‫“جام جهان نُ ا” بأهميَّ ٍة‬ ‫ِ‬ ‫يب‬
‫يتمتّ ُع تفسري املهامئي باللُّغة العربيَّة لكتاب املغر ِّ‬
‫يب أغلب عمله ‪ -‬من دون إسناد ‪ -‬من مق ِّدمة‬ ‫يقتبس املغر ُّ‬
‫ُ‬ ‫ري إىل الشهرة الواسعة لهذه الرسالة‪.‬‬ ‫يُش ُ‬
‫مالحظات أُخذت خالل‬ ‫ٍ‬ ‫“مشارق الدراري” من تأليف الفرغاين الذي قام بدوره بتأسيس كتابه عىل‬
‫رسوم بيانيَّة ت ُبيِّ ُ‬
‫ٍ‬ ‫يب ثالثة‬
‫محارضات القونوي حول “نَظم السلوك” من تأليف ابن الفريد‪ .‬يُق ِّد ُم املغر ُّ‬
‫ألهمت رسوماً بيانيَّة كثرية ُمشابهة‬ ‫ْ‬ ‫املصطلحات التقنيَّة املتن ِّوعة امله َّمة للمدرسة‪ ،‬ويبدو أ َّن هذه قد‬
‫“جام جهان نُ ا” معرف ًة كاملة بكتابات‬ ‫ِ‬ ‫تعكس كتب التفسري حول‬‫ُ‬ ‫من تأليف مؤلِّفني الحقني‪ .‬عادة ما‬

‫[[[‪ -‬لالطّالع عىل تقسيامت أكرث معيارية راجع‪:‬‬


‫‪Chittick, “The Five Divine Presences: From al-Qûnawï to al-Qaysari,” Muslim World 72 (1982), pp.107 -128.‬‬
‫‪[2]- A History of Sufism In India, II,p.336.‬‬
‫‪[3]- O Yahia, Historie et classification de l’oeuvre d’Ibn Arabí (Damascus Institut Franzais de Damas,‬‬
‫‪1964), 246, no 22.‬‬
‫مثة نسخة (مل تُ َر) موجودة أيضاً يف ديوباند‪.‬‬
‫‪[4]- Brockelmann, Geschichte der arabischen Litteratur, SII 311.‬‬
‫تُرجم هذا التفسري إىل اللغة الفارسية بعنوان „دقايق نُ اى“ بقلم عبد النبي شطّاري الذي يُ ُ‬
‫قال يف قامئة خدا بخش عن „تذاكرى علام‬
‫هند“ أنّه توفّ يف ‪.1020‬‬

‫‪247‬‬
‫مقارنات‬

‫القونوي وأتباعه املبارشين‪ .‬ومن النامذج “دواء الرشيدي” (‪ )VII‬من تأليف الشيخ الكربوي رشيد‬
‫الدين محمد بن عيل البيداوازي[[[‪ .‬وهنا يُخربنا املؤلِّف أنَّه بعد قراءة رسالة املغريب يف العام‬
‫النبي عىل هيئة نُ ِقشت داخلها أسامء الله التسعة وتسعني‪ ،‬فأرسل وصفاً‬ ‫ّ‬ ‫‪871‬ه‪1467/‬م‪ ،‬شاهد رؤيا‬
‫للرؤيا إىل ُمرشده يف مشهد أمري شهاب الدين عبدالله برزيشابادي الذي ر ّد عليه برسالة يُخربه‬
‫فيها أنّها عالمة عىل رسوخه وثباته يف الرشيعة والطريقة‪ .‬يض ُّم الكتاب ‪ -‬الذي قُرئ قطعاً يف شبه‬
‫ستوى‬
‫ً‬ ‫القارة الهنديَّة ‪ -‬رسوماً بيانية ع َّدة حول األسامء اإلله َّية وعالقاتها بعضها مع بعض‪ ،‬ويظ ِه ُر ُم‬
‫عالياً من النقاش حول املصطلحات التقنيَّة للمدرسة‪ ،‬خصوصاً تلك املرتبِطة بكتابات القونوي‬
‫والفرغاين‪ ،‬كام يتخلّلُه ِشعر للمؤلِّف ينتهي بقصيد ٍة من نحو ‪ 100‬سطر‪ .‬إنّني أشتب ُه باحتامل وجود‬
‫كمي ٍة كبري ٍة من إعادة الصياغة األصل َّية لتعاليم املدرسة كالكثري من املؤلّفات الصوف َّية يف الحقبات‬
‫“كنت كنزا ً مخف ّياً‪”...‬‬
‫ُ‬ ‫بنقاش حول الحديث القديس الشهري‬ ‫ٍ‬ ‫التي نُناقشها هنا‪ ،‬حيث يبدأ النص‬
‫ال ب َّد من اإلشارة إىل أ َّن أكرث املؤلّفني تأثريا ً خالل هذه الحقبة‪ ،‬ولعلّه أكرثهم تأثريا ً يف مدرسة‬
‫رست كتبه املتع ِّددة بالعرب َّية والفارس َّية‬
‫ابن عريب بعد الشيخ نفسه‪ ،‬هو عبد الرحمن الجامي الذي ُد ْ‬
‫بشكلٍ واسع‪ ،‬وكثريا ً ما ت ّم اقتباسها عىل جميع ُمستويات النقاش‪.‬‬

‫القرن العاشر الهجري‪/‬السادس عشر ميالدي‪:‬‬


‫يُعترب أبو املؤيَّد محمد بن خطري الدين الشطّاري املعروف مبح ّمد غوث (تويف ‪970‬ه‪1563/‬م)‪،‬‬
‫أكرث أسياد هذه املدرسة تأثريا ً يف القرن العارش الهجري‪/‬السادس عرش ميالدي‪ .‬هو األخ األصغر للشيخ‬
‫جي حميد‪ .‬وفقاً لرضوي‪ ،‬كان الشقيقان أش ّد الشطّاريّني تأثريا ً‬ ‫بُول‪ ،‬وكان برفقته خليف ًة للشيخ ظهور حا ّ‬
‫يف زمنهام‪ .‬كان هومايون تلميذا ً للشيخ بُول‪ ،‬وقد قُتل األخري عىل يد الشقيق املتم ِّرد لهومايون‪ .‬استق ّر‬
‫جيش بابور يف السيطرة عىل حصنها‪ ،‬وأ ّدت ُمنارصته لبابور إىل أن‬ ‫َ‬ ‫محمد غوث يف كواليور‪ ،‬وساعد‬
‫يُعلن شري شاه األفغاين عن كُفره‪ ،‬رغم أ ّن هذا اإلعالن كان يف الظاهر بسبب الحوارات مع الله التي‬
‫وصفها يف كتابه “رسالة معراجية”[[[‪ .‬يُخربنا رضوي أ َّن أه ّم أعامله هو “الجواهر الخمسة”‪ ،‬وتتض ّمن‬
‫أعامل أخرى “الضامئر” و”البصائر” و”كنز الوحدات”[[[‪ .‬أ ّما كتابه “بحر الحياة” (‪ )III‬الذي صدر‬ ‫ٌ‬
‫مطبوعاً[[[‪ ،‬فهو ترجمة فارسيَّة لكتاب “أَ ْمريتْكُوند” باللُّغة السنكرسيتيَّة‪.‬‬

‫[[[‪ -‬الكاتب غري ُمحدّ د يف املخطوطة إال من خالل «التخلُّص»‪ .‬يُعرف بأنّ رشيد بيداوازي كتب تفسرياً حول كتاب الشبسرتي «غولشان‬
‫راز»‪ ،‬ويف العام ‪852‬ه‪1449-1448/‬م كتب مثنوياً بعنوان «مصباحِ رشيدي»‪ .‬كان البيدوازي خليفة عبدالله برزِشابادي (تويف ‪872‬ه‪-1467/‬‬
‫‪1468‬م) وهو شيخ كُربوي كان تلميذاً للخواجه إسحاق الختالين‪ ،‬خليفة الس ّيد عيل الهمداين‪.‬‬
‫راجع‪.Deweese, “The Eclipse of the Kubravîyah in Central Asia,” Iranian Studies 21 (1988) pp 66 -67 :‬‬
‫‪[2]-A History of Sufism In India, II.pp.156- 157.‬‬
‫‪[3]- Ibid.,159.‬‬
‫‪[4]- Ibid.,12.‬‬

‫‪248‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫بخط كبريٍ يف سبعة‬‫كل واحد ٍة منها ٍ‬ ‫“قليد مخازن” (‪ ،)VII‬كُتبت ّ‬ ‫ِ‬ ‫رأيت ثالث مخطوطات من‬ ‫ُ‬
‫كل صفحة مع تفسري غزير بني السطور‪ ،‬وال شك يف أنّه من املؤلِّف‪ .‬يُخربنا محمد‬ ‫سطور ضمن ّ‬
‫غوث يف املق ِّدمة أنّه يف العام ‪942‬ه‪1035-1036/‬م حينام كان يبحثُ عن اسمٍ للكتاب املكت ِمل‪،‬‬
‫ينقس ُم هذا العمل إىل‪ُ :‬مق ّدمة‪ ،‬ثالث دقائق‪،‬‬ ‫مفتاح يعطيه الخزائن‪ِ .‬‬ ‫َ‬ ‫شاهد يف رؤيا أ َّن أبو بكر‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ُناقش الدقيقة األوىل املاهيات املد َركَة‬ ‫اإللهي أو ال ُهويّة‪ ،‬وت ُ‬


‫ِّ‬ ‫ش املق ّدمة لُغز الجوهر‬‫وخامتة‪ .‬ت ُنا ِق ُ‬
‫ين كوزمولوجي كبريٍ‬ ‫فصل عىل رسمٍ بيا ٍ‬ ‫النص بشكلٍ ُم َّ‬
‫ّ‬ ‫التي تأيت من خزينة العدم إىل الوجود‪ .‬يُعل ُّق‬
‫عىل هيئة ع ّدة دوائر ذات مرك ٍز واحد‪ .‬ت ُنا ِق ُ‬
‫ش الدقيقة الثانية الروح‪ ،‬والثالثة النب َّوة والوالية‪ ،‬بينام‬
‫ش الخامتة القيامة‪.‬‬ ‫تُنا ِق ُ‬
‫(توف ‪997‬ه‪1539/‬م)‬ ‫ّ‬ ‫كان وجيه الدين أحمد بن نرصالله علوي غوجرايت أحمد آبادي الشطّاري‬
‫تلميذا ً ملحمد غوث[[[‪ .‬كان تلميذه مري سيِّد صبغة الله بن روح الله بارزا ً يف نرش تعاليم محمد‬
‫غوث يف املدينة[[[‪ .‬وفقاً لرضوي‪ ،‬فإ ّن “امللفوظات” من تأليف وجيه ال ِّدين هي “رصيحة للغاية‬
‫ستوى واسع‬
‫ً‬ ‫تفسري قُرئ عىل ُم‬
‫ٌ‬ ‫و ُمج ّدة يف التأكيد عىل أفضل َّية وحدة الوجود”[[[‪ .‬من بني أعامله‬
‫وتلخيص عريب قصري مليتافيزيقا ابن عريب وعلم تفسري رموز األولياء بعنوان‬ ‫ٌ‬ ‫لـ”جام جهان نُ ا”‬
‫ِ‬
‫الفاريس من تأليف‬
‫ِّ‬ ‫“الحقيقة املحمديّة” (‪ .)+VI‬يبدو أ َّن األخري قُرئ غالباً مع ترجمته وتفسريه‬
‫عزيز الدين‪ ،‬وهو خليفة وجيه الدين[[[‪.‬‬
‫(توف ‪991‬ه‪1583/‬م) تلميذا ً ملحمد غوث[[[‪ .‬وكام يُخربنا‬ ‫ّ‬ ‫كان إبراهيم الشطّاري ج ّنت آبادي‬
‫مهمَّ‬
‫رضوي‪ ،‬كان عىل مدى نحو مثانية عرش عاماً إما َم محمد غوث يف الصالة[[[‪ .‬وقد ألّف تفسريا ً ً‬
‫“جام جهان نُ ا” بعنوان “آئينه حقائق‪ ‬منا» (‪( )VI‬أو آئينه حق‪ ‬منا)‪ .‬يُظ ِه ُر هذا الكتاب تأثرا ً‬
‫ِ‬ ‫حول‬
‫كبريا ً بالجامي والفرغاين والفتوحات من تأليف ابن عريب‪.‬‬
‫ج خوىب» (‪)VII‬‬‫مؤلف بار ٌز آخر من الحقبة نفسها هو خوب محمد ِششتي الذي أل َّف «أموا ِ‬‫ٌ‬
‫ح خوب تورانغ”‪ ،‬و”خوب تورانغ” هو‬ ‫أطلق عىل كتابه أيضاً عنوان “رش ِ‬
‫َ‬ ‫يف ‪990‬ه‪1583/‬م[[[‪ .‬وقد‬
‫مثنوي كُجرايت نظّمه يف ‪986‬ه‪1578/‬م‪ُ .‬‬
‫يقول املؤلِّف إ ّن الكتاب ُمستَم ٌد من مقاطع ُمقتبسة من‬

‫‪[1]- Ibid.,158.‬‬
‫‪[2]- Ibid.,329 -30.‬‬
‫‪[3]- Ibid.,11.‬‬
‫‪[4]- Ibid.,13.‬‬
‫[[[‪ -‬وفقاً لرضوي‪ ،‬كان تلميذاً لشيخِ لشكر محمد عارف (تويف ‪993‬ه‪1583/‬م) الذي كان بنفسه تلميذاً ملحمد غوث ولك ّن إبراهيم يُ ُ‬
‫شري‬
‫إىل أنّ محمد غوث هو «مرشده» يف «آئينه حقائق منا»‪ ،‬ص‪.3.‬‬
‫‪[6]-A History of Sufism In India, II.p.169.‬‬
‫منوذج مثنوي للعمل نفسه من تأليف عاصم كُتب يف ‪1166‬؛ نُسخت املخطوطة (‪ )AP 1527‬يف العام نفسه من ِقبل محمد‬ ‫ٌ‬ ‫[[[‪ -‬مثة‬
‫يحيى قادري‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫مقارنات‬

‫كثري من املفاهيم األساس َّية لهذه‬


‫نقاشات بسيطة‪ ،‬ولكن عميقة‪ ،‬حول ٍ‬‫ٍ‬ ‫ويطرح‬
‫ُ‬ ‫[[[‬
‫الشيخ كامل محمد‬
‫شاعري وميل ٌء باملقارنات األصل َّية التي‬
‫ٌّ‬ ‫املدرسة‪ُ ،‬مظهِرا ً تأث ُّرا ً واضحاً بالجامي والفرغاين‪ .‬الكتاب‬
‫ت ُق َّدم يف مكان الرشوحات الفلسفيَّة األكرث شيوعاً‪ ،‬ويحوي عددا ً من الرسوم البيانيَّة‪ .‬كتب املؤلِّف‬
‫واألسلوب شبي ٌه‬
‫ُ‬ ‫كتاباً ثانياً بعنوان “الرصاط املستقيم” (‪ )VI‬يف ‪ ،981‬القيمة األبجديَّة للعنوان‪.‬‬
‫فصلة حول أفكا ٍر أساس َّية كالوجود‪ ،‬الكيانات‬ ‫ٍ‬
‫نقاشات ُم ّ‬ ‫شاعري مع‬
‫ٌ‬ ‫ج خويب”‪ ،‬فهو‬ ‫بأسلوب “أموا ِ‬
‫يب يف مقاطع ع َّدة‪ .‬الكتاب‬ ‫ويقتبس املؤلِّف من ابن عر ّ‬
‫ُ‬ ‫الثابتة‪ ،‬مستويات الوجود‪ ،‬وما إىل ذلك‪،‬‬
‫ري ـ رمبا من تأليف أحد التالميذ ـ لقصيد ٍة من تأليف خوب‬ ‫“مفتاح التوحيد” (‪ )V‬هو تفس ٌ‬ ‫ُ‬ ‫الثالث‪،‬‬
‫تتناول ُمستويات الوجود‪.‬‬ ‫ُ‬ ‫محمد‬

‫القرن احلادي عشر الهجري‪/‬السابع عشر ميالدي‪:‬‬


‫أظه َر عد ٌد من املتص ِّوفة من منطقة «بيجابور» تأث ُّرا ً مبدرسة ابن عريب‪ ،‬من ضمنهم شاه برهان‬
‫ال ِّدين بن مريانجي شمس العشّ اق (تويف ‪1005‬ه‪1597/‬م) املعروف أيضاً بربهان الدين جانَم[[[‪.‬‬
‫بأسلوب مألوف‪“ .‬معرفة‬ ‫ٍ‬ ‫يصف «مخزن السالكني ومقصد العارفني» (‪ُ )+VI‬مستويات الوجود‬ ‫ُ‬
‫السلوك” (‪ )-VII‬من تأليف خليفته محمود خوش داهان ِششتي (تويف ‪1026‬ه‪1617/‬م) هو مث ٌ‬
‫ري‬
‫فئات واسعة‬ ‫ٍ‬ ‫كل يش ٍء يف الوجود ضمن أربع‬ ‫كتاب يُص ِّن ُف َّ‬
‫ٌ‬ ‫لالهتامم عىل وجه الخصوص‪ ،‬وهو‬
‫ِّص جمي َع تعاليم املدرسة‬ ‫قال بأ ّن هذا العمل يُلخ ُ‬‫ويبدو أ ّن ذلك للمساعدة عىل التأ ُّمل‪ .‬ويُ ُ‬
‫البيجابوريَّة[[[‪ .‬ورغم أ ّن انتساب املصطلحات بشكلٍ ٍ‬
‫كبري إىل مدرسة ابن عريب يُع َر ُف فورا ً‪ ،‬إلَّ‬
‫أ ّن الرشوحات تض ُع الكتاب عىل طرف االتّجاه العام‪ .‬ويذك ُر املؤلِّف أنّه ألّف الكتاب يك يرشح‬
‫معنى الحديث التايل “من عرف نفسه فقد عرف ربّه “ كام رشحه شيخُه “باصطالحه الخاص”‪ .‬يبقى‬
‫ين واحد‪ ،‬ويبدو أ ّن الشيخ بُرهان الدين هو الذي رسمه‪.‬‬ ‫القول أ َّن كامل الكتاب يُخترص يف رسمٍ بيا ٍ‬
‫ط الشطّاري‬ ‫يف الفرتة املبكّرة من القرن الحادي عرش هجري‪/‬السادس عرش ميالدي‪ ،‬مثّل الخ َّ‬
‫جندي (تويف ‪1031‬ه‪1621-1622/‬م) املس ّمى شاه عيىس ُجند الله وأحياناً عني‬ ‫عيىس بن قاسم ال ُ‬
‫خ لَشْ كَر محمد عارف (تويف ‪993‬ه‪1583/‬م) الذي كان نفسه تلميذا ً ملحمد‬
‫العرفاء‪ ،‬وهو تلميذ شي ِ‬
‫يصف رضوي عيىس بأنّه كان ُمنارصا ً ُمتح ِّمساً لوحدة الوجود حيث‬
‫ُ‬ ‫غوث (تويف ‪970‬ه‪1563/‬م)‪.‬‬
‫إنّه درس مؤلفّات ابن عريب بشكلٍ دقيق ودافع عنها بثبات‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬نرى محمد بن فضل الله‬
‫[[[‪ -‬وفقاً لـ»جدول املخطوطات الفارسية يف متحف ومكتبة ساالر جانغ»‪ ،‬املجلد الثامن‪ ،‬حيدر آباد ‪ ،1983‬ص‪ 178.‬فإنّه كامل محمد‬
‫سيستاين (تويف ‪979‬ه‪1571/‬م)‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إشارات حول السرية‪ ،‬راجع‪:‬‬ ‫[[[‪ -‬لالطّالع عىل‬
‫‪Eaton, Sufis of Bijapur (Princeton: Princeton University Press, 1978).‬‬
‫[[[‪ -‬راجع ‪ Eaton, Sufis of Bijapur, pp.146ff‬حيث لُخّصت محتويات الكتاب بشكلٍ وجيز‪ .‬يذك ُر إيتون أنّ “عرش ٍ‬
‫ات من الرسائل‬
‫الالحقة” قد أُ ِّسست عىل الكتاب‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫بُرهانبوري ‪-‬الذي كان بنفسه ُممثِّالً مشهورا ً عن مدرسة ابن عريب‪ ،‬خصوصاً نظرا ً لكتابه “ت ُحفة‬
‫“تفسري‬
‫ٌ‬ ‫املرسلة”‪ -‬يس ّميه “إباهياً وزنديقاً”[[[‪ .‬من بني مؤلّفات عيىس نذك ُر “أنوار األرسار”‪ ،‬وهو‬
‫ري لكتاب‬ ‫للقرآن أُلِّف ليك يُظهر أنّه ُيكن العثور عىل بذور وحدة الوجود يف آيات القرآن”‪ ،‬وتفس ٌ‬
‫[[[‬
‫ري آخر لكتاب “جواه ِر خمسة” ملحمد غوث‪.‬‬ ‫“اإلنسان الكامل” من تأليف الجييل‪ ،‬وتفس ٌ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫حسنى‬ ‫ري لكتابه “روضة ال ُ‬ ‫كتاب عيىس “عني املعاين” (‪ )VII‬الذي أُلِّف يف العام ‪ 997‬هو تفس ٌ‬
‫يف رشح أسامء الله الحسنى” (أُلِّف يف ‪ )989‬ويُظهِر قدرا ً كبريا ً من االهتامم مبؤلّفات الجامي‬
‫والفرغاين‪ .‬يبدأ الكتاب مبق ّدم ٍة حول التعاليم النظريَّة األساس َّية للمدرسة‪ ،‬ومن ثم يتح ّول إىل‬
‫ري املؤلِّف إىل “املع ّمى” (اللغز)‪“ ،‬اإلشارة”‪،‬‬ ‫كل اسم‪ ،‬يُش ُ‬ ‫تفسريٍ ألسامء الله الـ‪ .99‬يف رشح ّ‬
‫الكتاب بيتاً وحدا ً من‬
‫ُ‬ ‫التجل)‪“ ،‬الوظائف” و”األشغال”‪ .‬يف “املع ّمى”‪ ،‬يُق ّد ُم‬ ‫ّ‬ ‫“املظاهر” (مواضع‬
‫ترشح ما يُخربنا االسم عن الله نفسه‪ .‬أ ّما قسم “املظاهر”‬ ‫ُ‬ ‫ح وجيز‪ ،‬بينام “اإلشارة”‬ ‫الشعر مع رش ٍ‬
‫خصائص االسم‪ .‬ويف تعامله مع “الوظائف”‪ ،‬يذك ُر‬ ‫َ‬ ‫فهو يُع ِّد ُد الظواهر يف الكون والروح التي تُربِز‬
‫تنام مع انتقاله يف اللَّ ئحة التي تحوي أغلب‬ ‫ُصبح باطن َّي ًة بشكلٍ ُم ٍ‬
‫الوظائف العمل َّية التي ت ُ‬
‫َ‬ ‫املؤل ُِّف‬
‫أو جميع ما ييل‪ :‬العابد‪ ،‬الزاهد‪ ،‬الداعي‪ ،‬العاشق‪ ،‬العارف‪ ،‬املتخلِّق (الذي يتخل ُّق بأسامء الله‬
‫ٍ‬
‫تعليامت ُموجزة حول‬ ‫حد‪ ،‬واملحقِّق‪ .‬يف قسم األشغال‪ ،‬يُق ِّد ُم عيىس‬ ‫ٍ‬
‫صفات له)‪ ،‬املو ِّ‬ ‫ويتّخذها‬
‫يصف التأ ُّمالت‬
‫ُ‬ ‫رضع باالسم والتأ ُّمل فيه‪ .‬أ ّما كتاب “الربزخ” (‪ )VI‬القصري من تأليف عيىس‪ ،‬فإنّه‬ ‫الت ُّ‬
‫املختلفة عىل أساس تعاليم املدرسة ويُق ّدم رسوماً (غالباً ما تكو ُن ُمل ّونة يف املخطوطات) لوجو ٍه‬
‫يتناول املراسالت بني‬ ‫ُ‬ ‫“الحواس الخمس” (‪ )VI‬فهو‬‫ّ‬ ‫برشيَّة مؤلَّفة من األسامء اإللهيَّة‪ .‬أما كتاب‬
‫حتوى من “نقد النصوص”‬ ‫ً‬ ‫والحواس الخمس‪ .‬كثريا ً ما يُوظّف الكتاب ُم‬
‫ّ‬ ‫تن ُّزالت الوجود الخمسة‬
‫من تأليف الجامي من دون ذكر املصدر‪.‬‬
‫كان الشيخ بُرهان ال ِّدين بُرهانبوري أحد تالمذة عيىس املهمني (تويف ‪1083‬ه‪1672-1673/‬م)[[[‪،‬‬
‫يقتبس‬
‫ُ‬ ‫آمنت بالله”[[[ (‪ )+V‬الذي‬
‫ُ‬ ‫وقد أُطلِق عليه أحياناً رايض إلهي‪ ،‬وهو مؤلِّف كتاب “رش ِ‬
‫ح‬
‫فاريس ُملخّص لتعاليم ابن‬
‫ٌّ‬ ‫ح غولشانِ راز”‪ ،‬وهو جم ٌع‬
‫بالتفصيل ومن دون إسناد من كتاب “رش ِ‬
‫(توف ‪912‬ه‪1506/‬م)‪ .‬ن ُِسب كتاب برهان الدين القصري “دقائق‬‫ّ‬ ‫عريب من تأليف محمد الهيجي‬
‫ّ‬
‫(توف‬ ‫الحقائق” أو “رسالة الدقيقة” (‪ )VI‬يف بعض النسخ إىل عيىس‪ .‬جم َع عقيل خان رازي‬
‫كتاب س ّيده “امللفوظات” تحت عنوان “مثرات الحياة”[[[‪.‬‬‫َ‬ ‫‪1108‬ه‪1696/‬م)‪ ،‬تلميذ برهان الدين‪،‬‬

‫‪[1]-A History of Sufism In India, II.p.169.‬‬


‫‪[2]-Ibid.,170.‬‬
‫[[[‪ -‬يذك ُر رضوي أنّ هذ هو تاريخ وفاته ولك ّنه يذك ُر تاريخاً آخر أيضاً‪1679-1678 :‬م‪.‬‬
‫علم معرف ِة ال أدري»‪.‬‬
‫عنواين «رساله وحدة وجود» و«رساله دار ِ‬‫ّ‬ ‫[[[‪ُ -‬م ِنح هذا الكتاب أيضاً‬
‫‪[5]-A History of Sufism In India, II.p.13.‬‬

‫‪251‬‬
‫مقارنات‬

‫كتاب مل َه ٌم من كتاب “اللمعات” من‬


‫ٌ‬ ‫رازي نفسه هو مؤل ُِّف “نغامت العشق” (‪ ،)VI-VII‬وهو‬
‫تأليف العراقي‪.‬‬
‫قد يكو ُن عبد الجليل بن صدر الدين إله آبادي هو الشيخ عبد الجليل من لكهنو (تويف‬
‫خ ِششتي أظه َر رصاح ًة كبرية يف التعبري عن اعتقاده بوحدة الوجود‬ ‫‪1043‬ه‪1633-1634/‬م)‪ ،‬وهو شي ٌ‬
‫واهتامماً قليالً بااللتزام الصارم بالرشيعة[[[‪ .‬من بني مؤلَّفاته نذك ُر “إرشاد السالكني” (‪ )II‬الذي كُتب‬
‫أل َّن رجالً اسمه محمد ِميا صالح محمد كان قد تذ ّمر من أ ّن الشيخ ألّف كثريا ً من املؤلّفات النظريَّة‬
‫فصل األذكار واألشغال‬ ‫الكتاب بشكلٍ ُم َّ‬
‫ُ‬ ‫يصف‬
‫ُ‬ ‫ولك ّنه مل يؤلّف كتاباً واحدا ً عن أشغال الطريق‪.‬‬
‫“مكتوبات عبد الجليل” (‪ )V‬الذي‬ ‫ِ‬ ‫للششت َّية وغريها من الطرق‪ .‬قد يكو ُن نفسه مؤلِّف‬ ‫الروح َّية ِ‬
‫تنسب قامئة مكتبة رضا (رامبور) العمل إىل عبد الجليل من‬ ‫ُ‬ ‫ط وعميل‪.‬‬‫يحوي ‪ 40‬رسالة‪ ،‬أغلبها بسي ٌ‬
‫“لكهنو” بينام يذك ُر جدول خدا بخش أنّه من تأليف عبد الجليل ص ّديقي‪.‬‬
‫حد بعيد‪ ،‬أه ُّم أعامل عبد الجليل يف ما يتعل ُّق ببحثنا هنا هي حواران ُرؤيويَّان أحدهام‬ ‫إىل ٍ‬
‫بني النفس والروح واآلخر بني عبد الجليل وابن عريب‪ .‬أُلِّف كتاب “الروح والنفس” أو “عبودات‬
‫بأي نح ٍو من األنحاء رضور َة اتباع‬ ‫ض ِّ‬‫تازيريي” (‪ )VII‬ل ُيظهر أ ّن االعتقاد بوحدة الوجود ال يُنا ِق ُ‬
‫الرشيعة‪ .‬نُسخت إحدى النسخ يف عام “‪ 47‬من االعتالء”‪ ،‬رمبا يف إشار ٍة إىل اعتالء أكرب‪ْ ،‬‬
‫أي‬
‫ل االسمني الله والهادي‪ ،‬بينام‬ ‫يف العام ‪1010‬ه‪1602/‬م ‪ .‬تُق ِّد ُم النفس ذاتها عىل أنّها موضع تج ّ‬
‫[[[‬

‫ِ‬
‫املضل‪ .‬ت ُظ ِه ُر الرسالة إتقاناً بالعديد من القضايا الدقيقة‬ ‫تجل اسم‬ ‫ّ‬ ‫الروح نفسها موضع‬‫ُ‬ ‫ت ُس ّمي‬
‫الفلسفي من البيان‪ .‬تتح ّو ُل الروح إىل النفس‬
‫ّ‬ ‫التي طرحتها تعالي ُم ابن عريب ومعرف ًة كاملة بالنمط‬
‫تصف الرسالة مبهار ٍة نظريَّة وحدة‬‫ُ‬ ‫املطمئنة مع حلول نهاية الرسالة‪ ،‬ولكن يف األقسام األوىل‬
‫ميلك معرفة‬‫ُ‬ ‫الوجود كام ق ّدمها ُمؤلّفون من أمثال أوحد الدين بَلياين يف “رسالة األحديَّة”[[[‪ .‬ملن‬
‫سطحيَّة فقط بتعاليم ابن عريب‪ ،‬قد يبدو أ ّن الروح ت ُداف ُع عن وحدة الوجود بينام تنخد ُع النفس‬
‫كل مكان”‪.‬‬ ‫بتص ُّور الثنائية‪“ .‬قالت النفس‪ :‬الدرجات اثنتان‪ ،‬أجابت الروح‪ :‬الحقيقة واحدة يف ّ‬
‫جذري ويُظ ِه ُر معرف ًة عميقة بكتابات ابن عريب وكتابات أتباعه من أمثال الجامي‪.‬‬
‫ٌ‬ ‫ض عبد الجليل‬‫ع ْر ُ‬
‫يف “سؤال وجواب” (‪ ،)VII‬يروي عبد الجليل كيف أنّه سأل ابن عريب يف عامل الرؤيا عن تأويل‬
‫أفكار ع َّدة معقّدة يف مؤلفاته‪ .‬يُظهر هذا الكتاب أيضاً معرف ًة عميقة بتعاليم ابن عريب‪ .‬من بني أمو ٍر‬
‫أخرى‪ ،‬يض ُع الكتاب يف فم ابن عريب تقييامً بصريا ً لألسباب التي قادت املتص ِّوفة من أمثال الشيخ‬
‫يشري رضوي أيضاً إىل عبد الجليل إله آبادي من دون تفصيل‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر السابق‪ .290-289 ،‬مع ذلك‪ُ ،‬‬
‫[[[‪ -‬ومن املمكن أنّه يف السنة ‪ 47‬من عهد أورانكزيب‪ ،‬وعىل هذه الحال يكون العام ‪1115‬ه‪1704/‬م‪.‬‬
‫‪[3]- M. Chodkiewicz, Epitre sur L’Unicité Absolue (Paris: Les Deux Océans, 1982); Chittick, «Rûmi and‬‬
‫‪Wahdat al-Wuj’üd”.‬‬
‫نُسب هذا الكتاب بشكلٍ رصيحٍ إىل البلياين يف ترجمته الفارسية‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫السهندي ومفهومه‬ ‫ري عن ِ‬ ‫السهندي (تويف ‪1034‬ه‪1634/‬م) إىل نقد موقفه املتص َّور‪ .‬كُتب كث ٌ‬ ‫أحمد ِ‬
‫ح لوحدة الوجود‪ .‬ولكن ينبغي أن نُشري هنا إىل‬ ‫حول وحدة الشهود الذي يُفرتض أنّه طرحه كتصحي ٍ‬
‫ري عىل تأثري تعاليم ابن عريب ألنّه رغم انتقاده لبعض النقاط التي‬ ‫السهندي هي ٌ‬
‫مثال كب ٌ‬ ‫أ ّن كتابات ِ‬
‫خ الرسهندي‪ ،‬وهو باقي‬ ‫ٍ‬
‫بثبات ضمنها‪ .‬سواء قَبِل شي ُ‬ ‫اعتربها تُ ثِّل املدرسة إلَّ أنّه كان بنفسه ُمرت ِكزا ً‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫بالله (تويف ‪1012‬ه‪1603/‬م)‪ ،‬تف ّو َق تلميذه عىل ابن عريب كام تذك ُر مؤلَّفات السرية‪ ،‬فإ َّن ّ‬
‫ابني باقي‬
‫بالله خواجه خورد ( ُولد ‪1010‬ه‪1601/‬م) وخواجه كَالن ( ُولد قبل أربعة أشه ٍر من أخيه غري الشقيق)‬
‫استم ّرا يف دعم تف ّوق وحدة الوجود رغم أ ّن والدهام كان قد كلّف الرسهندي برتبيتهام[[[‪.‬‬
‫ُ‬
‫يتناول‬ ‫خ وجي ٌز عن الفكر اإلسالمي‬‫لف “مبلغ الرجال” (‪ ،)VI‬وهو تاري ٌ‬ ‫الخواجه كَالن هو م ّؤ ُ‬
‫الفلسفة يف أربعة أوصال‪ :‬الكالم واملتص ّوفة القدامى؛ أتباع ابن عريب‪ ،‬اإلرشاقيون‪ ،‬واآلراء الجديدة‬
‫التي طرحها الرسهندي؛ وأفضلية األنبياء‪ .‬أما الفصل النهايئ‪ ،‬فيتناول املالحدة‪.‬‬
‫ألّف الخواجه خورد كتباً ع َّدة من ضمنها تفسري “التسوية” من تأليف الشيخ ُمحب الله إله آبادي‬
‫الذي سوف نذكره الحقاً‪ .‬واستنادا ً إىل رضوي‪ ،‬فقد كتب أيضاً رسائل قصرية إلشاعة شهرة وحدة‬
‫الوجود و”حتى أنّه كتب للشيخ محمد معصوم (ابن الرسهندي) يف ُمحاول ٍة إلقناعه بأفضلية وحدة‬
‫الوجود”[[[‪ .‬يُفرتض أ ّن الرسائل القصرية التي يعنيها رضوي تتضم ُن “الفوائح”‪“ ،‬نو ِر وحدت”‪،‬‬
‫“پَرتوي عشق”‪ ،‬و”پردا بر آنداخت وپرداغي شناخت”‪ .‬أطول هذه الرسائل هو “الفوائح” (‪)VII‬‬
‫بنقاش عايل املستوى حول ٍ‬
‫نقاط ع َّدة تتعل ُّق بالعقيدة‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫باللُّغة العربيَّة الذي يبدأ‬
‫ِّص الخواجه خورد موقفه بقوله‬ ‫عند مناقشة الجدال حول وحدة الوجود ووحدة الشهود‪ ،‬يُلخ ُ‬
‫رئييس‬
‫ٍ‬ ‫يتناول الثلث األخري من الكتاب بشكلٍ‬ ‫ُ‬ ‫“الشهود املنايف للوجود ليس جديرا ً بالتفكر”‪.‬‬
‫النقاط املتَّصلة باملامرسة ومقامات الطريق‪ ،‬ويُق ِّد ُم عددا ً من التفاصيل املتعلِّقة بالسرية الشخصيَّة‪.‬‬
‫حتمل أنّه من تأليف الخواجه خورد نظرا ً‬‫ُ‬ ‫نسب نو ِر وحدت” (‪ )VII‬أحياناً إىل الباقي بالله ولكن يُ‬ ‫يُ َ‬
‫إىل تطابق أسلوبه مع األعامل الفارس َّية األخرى املذكورة هنا‪ ،‬وهناك أقسا ٌم منه ُمرتجمة إىل اللغة‬
‫يتناول الكتاب ببساط ٍة وبشاعرية الهدف األسايس للسالك املتمثِّل باالنتقال‬ ‫ُ‬ ‫العربيَّة يف “الفوائح”‪.‬‬
‫بعيدا ً عن التع ُّددية إىل الوحدة‪ .‬يُخربنا الخواجه خورد أنّه ينبغي إبعاد كتاب “پردا بر آنداخت وپرداغي‬
‫شناخت” (‪ )VII‬عن عدميي الخربة (نا َمح َرم)‪ .‬ينقس ُم الكتاب إىل تسعة فصو ٍل متهيديَّة حول العلم‬
‫يل‪ ،‬وعرشة أصول حول املبادئ التسعة للطريقة (التوبة‪ ،‬الزهد‪ ،‬التوكُّل‪،‬‬ ‫االعتقادي والعلم األعام ِّ‬
‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫تلخيصات‬ ‫القناعة‪ ،‬العزلة‪ ،‬الذكر‪ ،‬الصرب‪ ،‬املراقبة‪ ،‬الرضا) وحقيقة النفس‪ .‬كام يتض ّم ُن الكتاب‬

‫‪[1]-A History of Sufism In India, II.p.249- 250.‬‬


‫‪[2]-Ibid.,250.‬‬

‫‪253‬‬
‫مقارنات‬

‫ٍ‬
‫تأكيد موزون عىل أهمية‬ ‫قصرية ممتازة للتعاليم األساس َّية ملدرسة ابن عريب حول هذه النقاط مع‬
‫جدي يُشبه بعض اليشء “اللَّمعات” من‬ ‫بأسلوب َو ٍ‬
‫ٍ‬ ‫الرشيعة‪ .‬أ ّما “پَرتوي عشق” (‪ )V‬فقد كُ ِتب‬
‫الخاصة باملدرسة‪ .‬الخواجه خورد هو‬ ‫َّ‬ ‫ٍ‬
‫إشارات قليلة إىل املصطلحات‬ ‫العراقي‪ ،‬ولكن مع‬
‫ِّ‬ ‫تأليف‬
‫الخصائص‬
‫َ‬ ‫ّص بلغ ٍة نرثي ٍة فارسية جميلة‬
‫أيضاً مؤلّف رسالة من صفح ٍة واحدة بعنوان الـ”عارف” تُلخ ُ‬
‫األساسية للعارف وفقاً لتعاليم ابن عريب[[[‪.‬‬

‫كل الحقبة‬
‫من دون شك‪ ،‬كان املدافع األبرز عن تعاليم ابن عريب يف شبه القارة الهنديَّة خالل ّ‬
‫ّ‬
‫(توف ‪1058‬ه‪1648/‬م)‪ .‬كان أستاذه هو أبو سعيد الششتي‬ ‫التي نتناولها هو ُمحب الله ُمبارز إله آبادي‬
‫الصابري الغانغوهي (تويف ‪1049‬ه‪1639-1640/‬م) الذي تعقّب خطّه عرب وسيطني وصوالً إىل عبد‬
‫الق ّدوس الغانغوهي[[[‪ .‬كان الشيخ ُمحب الله ضليعاً بشكلٍ كاملٍ بالفصوص والفتوحات‪ّ ،‬‬
‫وأسس‬
‫رئييس عىل هذين الكتابني‪ ،‬مع تأثريٍ قليلٍ نسب ّياً من شخص ّي ٍ‬
‫ات وسيطة من أمثال‬ ‫ٍ‬ ‫كتاباته بشكلٍ‬
‫والفكري لتعاليم ابن عريب‪ ،‬ويعود ذلك‬
‫ِّ‬ ‫الفرغاين والجامي‪ .‬وض َع تركيزا ً شديدا ً عىل ال ُبعد اإلدرايكِّ‬
‫ح كر ّدة فعلٍ تجاه ميل بعض املتص ّوفة إىل اال ّدعاء برضورة استمداد ِّ‬
‫كل فهمٍ من “األحوال”‬ ‫بوضو ٍ‬
‫و”الذوق”‪ .‬كثريا ً ما يستفتح ذكر اسم ابن عريب بسلسل ٍة من األلقاب املقفّاة ومن ضمنها عبارة “أز‬
‫يكتب ُمحب الله بشكلٍ واض ٍ‬
‫ح يند ُر العثور عليه‬ ‫ُ‬ ‫وجد وحال باري” (الخايل من الوجد واألحوال)‪.‬‬
‫يف أي حقبة‪ ،‬وهو مؤلف عد ٍد كبريٍ من الكتب حيث يُف ّر ُق كثريا ً تعاليم الخواص –ورئيسهم ابن‬
‫عريب‪ -‬عن عموم املتص ّوفة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫تفصييل عىل‬ ‫يف كتاب “أنفاس الخواص”[[[ (‪ )V‬باللُّغة العرب َّية‪ ،‬يُعل ُّق الشيخ ُمحب الله بشكلٍ‬
‫قو ٍل واحد (نَفَس) ٍّ‬
‫لكل من الحجج الروحيني الكثريين‪ .‬القول األول (ال َنفَس األول األحمدي) هو‬
‫خلقت األفالك”‪ .‬تبدو النسختان اللتان رأيتهام غري كاملتني‪ .‬تتضم ُن‬
‫ُ‬ ‫القديس “لوالك ملا‬
‫ُّ‬ ‫الحديث‬
‫نسخة خُدا بخش نحو ‪ 53‬قول وتنتهي بال َنفَس املعيني من ُمعني الدين ِ‬
‫الششتي‪ ،‬أما نسخة أندرا‬
‫كتاب عريب آخر بعنوان “عقائد الخواص” (‪،)+VI‬‬
‫ٌ‬ ‫پراديش فهي تحتوي أكرث من ‪ 100‬قول‪ .‬ينقس ُم‬
‫املس ّمى أيضاً “دقائق العرفاء”‪ ،‬إىل ‪ 21‬دقيقة‪ُ .‬رغم أ ّن املؤلف يُخربنا أنّه يدع ُم ّ‬
‫كل دقيقة من خالل‬
‫إيراد اقتباسات من فصوص الحكم‪ ،‬فإ ّن هذا هو ليك “تع ّدوها من بني معتقدات الخواص‪ ،‬وليس‬

‫ترجمت النص وترجمة «رسالة عارف خواجه خورد»‪،‬‬


‫ُ‬ ‫[[[‪ -‬لقد‬
‫‪25-“Khwäja Khord’s Treatise on the Gnostic,” Sufi 5 (1990), pp.11 -12.‬؛‪Sufi 4 (1989), pp.22‬‬
‫‪[2]- A History of Sufism In India, II.p.267ff.‬‬
‫تحمل العنوان نفسه يف ‪ )AP (Kalam 1588‬وهي ٌ‬
‫عمل مختلف‪ُ ،‬رغم أنها نفسها يف البداية لعدّ ة أسطر وتحتوي‬ ‫ُ‬ ‫[[[‪ -‬هناك مخطوطة ثانية‬
‫كثريٍ من النقاشات التقنية من مدرسة ابن عريب‪ .‬هناك محطوطة ثالثة (‪ )Kalam 1589‬ال صلة لها باملدرسة‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫ُ‬
‫الهدف من الكتاب هو دحض ا ّدعاء أولئك الذين‬ ‫ألنّني أخذتها منه أل ّن هذه هي تعليم إلهي”‪.‬‬
‫أي يش ٍء غري الله هو موجود‪ .‬من بني عناوين الدقائق القليلة األوىل هو التأكيد عىل‬
‫يقولون بأ َّن َّ‬
‫واجب الوجود‪ ،‬صفات الله‪ ،‬تحقيق التكليف‪ ،‬األمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ ،‬ورؤية الله‪.‬‬
‫ُمحب الله هو أيضاً مؤلف تفسريٍ عر ٍ‬
‫يب للفصوص بعنوان “تحلية الفصوص”‪ ،‬وتفسري ثانٍ أطول‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫بكثري باللغة الفارسية (‪ )VII‬كُتب الحقاً وت ّم يف العام ‪1041‬ه‪1631-1632/‬م[[[‪.‬‬

‫ص الحق إىل‬
‫تخص ٌ‬
‫ح فتوحات”‪ ،‬وقد نسبه ُم ِّ‬
‫تض ُّم مكتبة أندرا پراديش املجلَّد الثاين من “رش ِ‬
‫جح أ َّن‬
‫مولوي ُمحب الله بِهاري وهو عامل منطق مشهور ال ت ُظه ُر مؤلفاته ميوالً صوف َّية‪ .‬من املر َّ‬
‫الكتاب هو من تأليف الشيخ ُمحب الله‪ ،‬وفقاً لطوله وأسلوبه‪ .‬وقد متك ُ‬
‫ّنت من رؤيته بإيجاز يف اليوم‬
‫أي نظام‬
‫األخري من إقامتي يف حيدر آباد‪ .‬وأظه َر الفحص الرسيع أ ّن أرقام الفصول ال تتطابق مع ِّ‬
‫موجود يف الفتوحات‪ .‬يبدأ العمل يف منتصف الباب ‪ ،24‬وعنوان الفصل التايل تحجبه الثقوب‪.‬‬
‫يُس ّمى الفصل الـ‪“ :26‬يف كرامات األولياء”‪ ،‬والفصل الـ‪“ :29‬يف حقائق اإلميان”‪ ،‬والفصل الـ‪:66‬‬
‫“يف الشُ كر”‪ ،‬والفصل الـ‪“ :71‬يف تنبيه إيّاهم بالخواطر”‪ ،‬والفصل الـ‪“ :77‬يف السامع وآدابه”‪.‬‬

‫كتب الشيخ ُمحب الله “غاية الغاوات” (‪ )VI‬نزوالً عند طلب التالميذ الذين أرادوا أن يعرفوا‬
‫َ‬
‫تعاليم ابن عريب حول أصل الكون وملاذا منح الله الوجود له‪ .‬ينقس ُم الكتاب إىل خمسة فصول‪:‬‬
‫‪ )1‬يف الكالم والعلامء الباطنيني؛ ‪ )2‬يف أ ّن ال َوجد والحال هي نقائص يف السالك؛ ‪ )3‬يف عرفان‬
‫الروحي واألجساد البرشية‪ .‬يستن ُد الفصالن الرابع‬
‫ّ‬ ‫الحقيقة؛ ‪ )4‬سبب أصل الكون؛ ‪ )5‬أصل الخلق‬
‫رئييس عىل الفصلني السادس والسابع يف الفتوحات‪ .‬يت ّم اقتباس أغلب املقاطع‬
‫ٍ‬ ‫والخامس بشكلٍ‬
‫ري من التفسري املفيد‪ .‬كثريا ً ما ت ُقتبس‬
‫من الفتوحات من دون ترجمة فارسيَّة‪ ،‬ولكن مثة مقدا ٌر كب ٌ‬
‫األقوال من ُمتص ّوفة آخرين دعامً ملوقف ابن عريب وهذه قد أُخذت جميعها وفقاً للمؤلّف من‬
‫“نفحات األنس” من تأليف الجامي‪.‬‬

‫رئييس ترجمة وتفسري للفصل حول‬


‫ٍ‬ ‫“ َهفت أحكام” (‪ )+VI‬الذي ت ّم يف ‪1053‬ه‪1643/‬م هو بشكلٍ‬
‫املعرفة (الباب ‪ )177‬يف الفتوحات الذي يتكلَّ ُم عن سبعة أنواع من املعرفة‪“ .‬عبادات الخواص”‬
‫فس الفصول الخمسة الطويلة يف الفتوحات املك ّرسة‬
‫(‪ )VII‬الذي ت ّم يف ‪1053‬ه‪1643/‬م يُرتج ُم ويُ ِّ ُ‬
‫للعبادات‪ .‬يف الخطبة‪ ،‬يُخربنا ُمحب الله أ ّن الخواص ال يهتمون بآراء علامء الكالم فيام يتعلق‬
‫بأصول ال ّدين وال يُقلّدون الفقهاء الذين يتّبعون آرائهم الخاصة يف فروع الدين‪ .‬من ثم‪ ،‬يُخربنا ُمحب‬

‫[[[‪ -‬طُبِعت املقدّ مة والفص األول مع ترجمة باللغة األردية بعنوان «إفادات ابن عريب» (‪.)1961‬‬

‫‪255‬‬
‫مقارنات‬

‫الخاص من بني املواقف املختلفة لفقهاء املذاهب يف الفصول‬


‫َّ‬ ‫يرشح اختياره‬
‫ُ‬ ‫الله أ ّن ابن عريب‬
‫حول العبادات‪ ،‬وحينام ال يكو ُن رصيحاً بهذا الصدد ُيك ُن للفرد أن يستنتجه من االعتبارات التي‬
‫يذك ُر أنّها تدع ُم اآلراء املختلفة‪ .‬يتضم ُن الجزء األول من الكتاب رسال ًة شبه ُمستقلَّة بعنوان “إمالة‬
‫القلوب” حول املتص ّوفة املزيَّفني وطريق أهل الله يف ‪ 15‬تنبيهة‪ .‬ينقس ُم بعدها الكتاب يف ‪ 9‬أبواب‬
‫يت اإلميان؛ ‪ )2‬يف النار؛ ‪ )3‬يف الجنة؛ ‪ )4‬يف أصول الفقه؛ ‪ )5‬يف الطهارة؛‬
‫وخامتة‪ )1 :‬يف شهاد ّ‬
‫والسنن والفرائض‪.‬‬
‫‪ )6‬يف الصالة؛ ‪ )7‬يف الزكاة؛ ‪ )8‬يف الصوم؛ ‪ )9‬يف الحج؛ والخامتة يف النوافل ُ‬
‫أخص الخواص” (‪ )-VII‬يف رمضان ‪1050‬ه‪1650/‬م الذي يتض ّم ُن‬
‫ِّ‬ ‫أت ّم الشيخ ُمحب الله “مناظ ِر‬
‫رئييس مبقامات الطريق وأساليب العمل‪ .‬هذا‬
‫ٍ‬ ‫‪“ 27‬منظرا ً” حول التعاليم الصوفيّة ويهت ّم بشكلٍ‬
‫تختلف نظر ُة العارفني عن‬
‫ُ‬ ‫يرشح املنظر األول ملاذا‬
‫ُ‬ ‫الكتاب ُمستم ٌد بشكلٍ كبريٍ من الفتوحات‪.‬‬
‫ويرشح املنظر الثاين ملاذا العلم هو أعىل من الخصائص‬
‫ُ‬ ‫العلامء املهتمني بالخارج (أهلِ رسوم)‪،‬‬
‫ُ‬
‫يتناول “ختم‬ ‫البرشية األخرى كالتقوى والوجد والحال والزهد وما إىل ذلك‪ .‬أ ّما املنظر األخري فهو‬
‫الوالية املطلقة األكربى”‪.‬‬

‫أضاف الشيخ ُمحب الله نفسه ترجم ًة وتفسريا ً فارس ّياً لكتابه القصري باللغة العرب َّية “التسوية”‬
‫َ‬
‫رسخ الرأي األسايس ملدرسة ابن عريب حول وحدة الوجود وغريها من التعاليم‬
‫(‪ )VII-VI‬الذي يُ ّ‬
‫امله َّمة‪ .‬أصبح الكتاب ُمثريا ً للجدل بعض اليشء‪َ .‬‬
‫كتب اإلمرباطور أورانكزيب إىل الشيخ محمدي‪،‬‬
‫يضف‬
‫ُ‬ ‫وهو تلميذ الشيخ ُمحب الله‪ ،‬يُخربه أ ّن عليه إما أن يكتب تفسريا ً للكتاب أو أن يحرقه‪.‬‬
‫رضوي هذا التواصل بينهام‪ ،‬ويذك ُر أ ّن الشيخ محمدي أجابه‪:‬‬

‫وليس ُمالمئاً يل أن أُظهر التوبة ألنّني مل أصل بعد إىل تلك املرحلة‬
‫َ‬ ‫“أنا ال أُنكر أنّني تلميذه‪،‬‬
‫العرفانيَّة العالية التي اكتسبها الشيخ والتي تكلّم انطالقاً منها‪ .‬يف اليوم الذي أصل إىل تلك املرحلة‬
‫صاحب الجاللة أخريا ً أن يُح ّول الك ّراس إىل رماد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫أكتب تفسريا ً كام هو مطلوب‪ .‬ولكن إذا ق ّرر‬
‫ُ‬ ‫سوف‬
‫مم هو موجو ٌد يف منزل ال ُّز َّهاد الذين أسلموا‬ ‫فإ ّن هناك نارا ً أكرب بكثري ُمتوفّرة يف املطبخ امللَ ِّ‬
‫يك ّ‬
‫أنفسهم لله‪ُ .‬يك ُن أن ت ُص َدر األوامر إلحراق الكتاب مع أيّة نُسخ ميكن أن يت ّم استحصالها”‪.‬‬
‫[[[‬
‫َ‬
‫يرشح الشيخ ُمحب الله معنى املصطلح املذكور يف‬ ‫ُ‬ ‫يف كتاب “املوجود املطلق” (‪،)VI‬‬
‫يقتبس الشيخ كثريا ً من “الفصوص”‬
‫ُ‬ ‫العنوان باإلشارة إىل انقادات عالء الدولة ِ‬
‫السمناين البن عريب‪.‬‬
‫يف وهو غري قادر عىل قراءة‬ ‫ويقرتح أنّه عىل القارئ الذي يبحثُ عن توضي ٍ‬
‫ح إضا ٍ‬ ‫ُ‬ ‫و”الفتوحات”‬
‫‪[1]- A History of Sufism In India, II.p.270 -271.‬‬

‫‪256‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫ٍ‬
‫إجابات موجزة ‪ُ -‬س ّميت غالباً‬ ‫وكتب أيضاً‬
‫َ‬ ‫يدرس “الديوان” من تأليف املغريب‪.‬‬
‫َ‬ ‫هذه الكتب أن‬
‫بـ”املكتوبات” (‪ )V‬يف املخطوطات‪ -‬ألسئل ٍة و ّ‬
‫جهها إليه األمري دارا شُ كوه‪ ،‬وقد تُرجمت بشكلٍ‬
‫يئ من ِقبل رضوي[[[‪.‬‬
‫جز ٍ‬
‫كان شيخ دارا شُ كوه‪ ،‬وهو املالَّ الشاه آخون (تويف ‪1072‬ه‪1661/‬م)‪ ،‬سيّدا ً من الطريقة القادريَّة‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫(توف ‪1045‬ه‪1635/‬م)‪ .‬وفقاً لرضوي‪ ،‬كان‬ ‫ّ‬ ‫وتابعاً مهامً ملدرسة ابن عريب‪ ،‬وأبرز تلميذ لل ِميان مري‬
‫ُمنغمساً جدا ً يف وحدة الوجود إىل الح ّد الذي “بدأت أقواله وهو يف الحاالت ال َوجديَّة تتطابق‬
‫والحلج‪ُ .‬رغم أ ّن ِميان مري أمره أن يضبط نفسه‪ ،...‬قام علام ُء البالط يف العام‬
‫ّ‬ ‫مع أقوال بايزيد‬
‫‪1044‬ه‪1634/‬م بإقناع اإلمرباطور شاهجهان بالحكم باملوت عىل املالَّ الشاه بتهمة الكفر”‪ .‬تشفَّع‬
‫َ‬
‫إدخال‬ ‫يرفض‬
‫ُ‬ ‫هتمً به[[[‪ .‬بشكلٍ عام‪ ،‬كان املال شاه‬
‫أصبح ُم ّ‬
‫َ‬ ‫دارا شُ كوه لصالح الشيخ وبذلك‬
‫خ عظيم “‪ ،‬وبالتايل ال يجب أن يخضع لذلَّة‬
‫التالميذ ورفض الخواجه خورد بحكم أنّه كان اب َن شي ٍ‬
‫اإلدخال يف سلسل ٍة أخرى”[[[‪ .‬مع ذلك‪ ،‬فقد قبِل بدارا شُ كوه وأخته جهان آرا يف كشمري يف العام‬
‫‪1049‬ه‪1639-1640/‬م خالل زيار ٍة لهام مع والدهام شاهجهان[[[‪.‬‬

‫ت ُق ّد ُم “رسالة دار توحيد الحق” (‪ )VI‬من تأليف املالَّ شاه بلغ ٍة مبارشة يتخلّلها مقدا ٌر كب ٌ‬
‫ري‬
‫ح ُرباعيات” (‪ )VI‬معنى‬
‫يرشح كتابه “رش ِ‬
‫ُ‬ ‫من الشعر بعض النقاشات األبسط ملدرسة ابن عريب‪.‬‬
‫ٍ‬
‫نقاشات تقنية حول كثريٍ من املفاهيم امله ّمة‪ .‬يُق َّدم‬ ‫الخاصة ويحتوي عىل‬
‫ّ‬ ‫مجموع ٍة من رباعياته‬
‫أغلب التفسري عىل هيئ ٍة مثنوية‪ .‬كتابه “الشاهية” (‪ )VI‬هو مثنوي أُلِّف يف ‪1055‬هـ‪1645/‬م يبدأ‬
‫س االهتام َم مبواضيع كالعالقة بني التسبيح والتنزيه‪ ،‬الصفات‬ ‫ٍ‬
‫بنقاش حول التوحيد ويُك ِّر ُ‬ ‫وينتهي‬
‫اإللهيَّة السبع األساسيَّة‪ ،‬ومقامات املسافرين‪.‬‬

‫القرن الثاين عشر هجري‪/‬الثامن عشر ميالدي‪:‬‬


‫من بني املؤلّفني املعروفني نسبيَّاً خالل هذه الحقبة نذك ُر الشيخ النقشبندي الشيخ شاه ويل الله‬
‫َ‬
‫حاول أن يُظهر التناغم الدفني بني وحدة الوجود ووحدة‬ ‫من دلهي (تويف يف ‪1176‬ه‪1762/‬م) الذي‬
‫ّ‬
‫(توف يف دلهي ‪1199‬ه‪1785/‬م) الذي أظه َر كتابه “علم الكتاب” (‪ )VI‬مقدارا ً‬ ‫الشهود‪ ،‬واملري َدرد‬
‫كبريا ً من اإلملام مبدرسة ابن عريب‪ ،‬وهذا ليس ُمفاجئاً من شي ٍ‬
‫خ ينتمي إىل الطريقة املج ِّدديَّة التي‬

‫‪[1]-Ibid.,139- 142.‬‬
‫‪[2]- Ibid.,116.‬‬
‫‪[3]- Ibid.,124.‬‬
‫‪[4]- Ibid.,122.‬‬

‫‪257‬‬
‫مقارنات‬

‫السهندي‪ .‬كان الشاعر املريزا عبد القادر ِ‬


‫بيدل (تويف ‪1133‬ه‪1721/‬م) مؤث ّرا ً للغاية‪ ،‬وكان‬ ‫أسسها ِ‬
‫ّ‬
‫عىل علمٍ وثيقٍ بتعاليم ابن عريب كام تشه ُد عليه‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬مثنويته “العرفان” (‪.)VII‬‬
‫يف دلهي‪ ،‬كان الشاه كليم الله جهان آبادي ِ‬
‫الششتي (تويف يف ‪1142‬ه‪1729/‬م) س ّيدا ً يف هذه‬
‫املدرسة‪ .‬وهو حفي َد الشيخ أحمد معامر الذي ص ّمم التاج محل والحصن األحمر‪ .‬من بني‬
‫أساتذته نذك ُر الشيخ برهان الدين بُرهانبوري املذكور آنفاً[[[‪ .‬من خالل كتابه “الكشكول” و ُملحقه‬
‫أسس ما أصبح “يُعترب رسيعاً إطارا ً جديدا ً لتعاليم ومامرسات‬
‫“املرقّع” الذي ت ّم يف ‪1101‬ه‪1690/‬م‪ّ ،‬‬
‫َ‬
‫و”أضاف هجوماً عىل املج ِّدد‬ ‫ِ‬
‫الششتية”[[[‪ .‬وقد كتب تفسريا ً لكتاب الشيخ ُمحب الله “التسوية”‬
‫النتقاده لوحدة الوجود”[[[‪ .‬يُظه ُر كتابه بالعربية “سواء السبيل”[[[ (‪ )+VI‬يف ‪ 64‬مرحلة معرف ًة كامل ًة‬
‫الفلسفي حول الوجود الذي يُعترب سم ًة لهذه املدرسة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫بالنقاش‬

‫ري يف أوساط أتباع ابن عريب‪ .‬أحد الكتّاب األكرث‬ ‫خارج نطاق تأثري دلهي‪ ،‬حصل نشا ٌ‬
‫ط كب ٌ‬
‫إنتاج َّية من هذه الحقبة كان الشيخ القادري عبد الحق محمد مخدوم بيجابوري ساوي الذي ألّف‬
‫أعامله املح َّددة التاريخ بني األعوام ‪1108‬ه‪1696/‬م و‪1123‬ه‪1711/‬م‪ ،‬ويَذك ُر أ َّن أحد األشخاص‬
‫باسم الشاه نصريالدين كان أستاذه[[[‪ .‬يُحتمل أنَّه قد جمعته صل ٌة ما مبدرسة بيجابور املذكورة آنفاً‬
‫يقتبس أيضاً‬
‫ُ‬ ‫الهندي من الشاه بُرهان ال ِّدين ووالده مريانجي شمس العشّ اق‪.‬‬
‫َّ‬ ‫يقتبس أحياناً الشعر‬
‫ُ‬ ‫ألنّه‬
‫من محمود خوش ‪ -‬داهان‪ ،‬ولك ّنه يف الغالب ال يتّبع تعريفات األخري الغريبة حول املصطلحات‬
‫املوجودة يف “معرفة السلوك” ويُفضّ ُل بدالً من ذلك استخدامات ابن عريب وأتباعه املعروفني‬
‫يقتبس الشيخ أيضاً بشكلٍ ُمتك ّرر من الشعراء املتص ّوفة الفارس ّيني‪ .‬محمد َمخ َدم‬
‫ُ‬ ‫كالجامي‪.‬‬
‫ري وعىل نح ٍو مبارش نسبيّاً‪ .‬بعد الحمد والصلوات‬‫هو مؤل ُّف عد ٍد كبريٍ من الرسائل وأغلبها قص ٌ‬
‫يفتتح كت َبه غالباً بالدعاء التايل‪“ :‬يا شيخ عبد القادر‪ ،‬شيئاً لله”‪.‬‬
‫ُ‬ ‫املوج َزين‪،‬‬

‫نقاش حول الغرييَّة والتوحيد‪ ،‬بينام “بيان التوحيد” (‪ )VI‬يُوازي‬


‫ٌ‬ ‫كتاب “عصاىِ موىس” (‪ )V‬هو‬

‫‪[1]- Ibid.,296- 297.‬‬


‫ٍ‬
‫اقتباسات‬ ‫[[[‪ -‬املصدر السابق‪ ،‬ص‪“ .298.‬الكشكول ُمتوف ٌر بنسخة تجارية مع ترجم ٍة باللغة األردية بعنوان “كشكولِ كليمي”‪ .‬قدّ م رضوي‬
‫يف ‪.A History of Sufism In India, II.p298 -304‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.271 ،‬‬
‫رتجام إىل اللغة األردية بعنوان «سواء السبيلِ كليمي»‪.‬‬
‫ً‬ ‫[[[‪ -‬طُبع ُم‬
‫«لطائف لطيفي» (‪( )+v‬من تأليف غالم ُمحيي الدين السيد عبداللطيف‪ .‬نُسخت املخطوطة يف العام‬ ‫ِ‬ ‫[[[‪« -‬بيان التوحيد»‪ ،‬ص‪54‬؛ يف‬
‫‪ ،1187‬العام نفسه الذي أُلّف فيه الكتاب)‪ ،‬االسم هو محمد نارص الدين‪ .‬وفقاً للمصدر نفسه‪ ،‬ما تبقى من السلسلة‪ ،‬رجوعاً إىل عبد القادر‬
‫الجيالين‪ ،‬مي ّر بدريا محمد‪ ،‬راجي محمد‪ ،‬حاجي إسحاق‪ ،‬السيد أحمد القادري‪ ،‬السيد أبو نرص ُمحيي الدين‪ ،‬أبو صالح نرص‪ ،‬والسيد تاج‬
‫الدين عبد الرزاق‪ .‬يف االتجاه اآلخر‪ ،‬تؤدّي السلسلة من محمد مخدوم إىل محمد فخرالدين ومن ثم إىل الشاه أبو الحسن القادري ومن ثم‬
‫إىل نجل األخري غالم ُمحيي الدين‪ ،‬مؤلّف الكتاب‪.‬‬

‫‪258‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫ٍ‬
‫اقتباسات كثرية من‬ ‫رئييس دفا ٌع عن األخري من خالل ذكر‬
‫ٍ‬ ‫التوحيد مع وحدة الوجود وهو بشكلٍ‬
‫القرآن‪ ،‬الحديث‪ ،‬ابن عريب‪ ،‬عبد الكريم الجييل‪ ،‬الجامي‪ ،‬بُرهان ال ِّدين بُرهانبوري‪ ،‬الخواجه خورد‬
‫(املذكور بـ”عظيم”)‪ ،‬جيسو داراز‪ ،‬وكثري من الشعراء املتص ّوفة الفُرس‪“ .‬بيانِ واقع” (‪ )VI‬هو‬
‫وكل يش ٍء من نوري” الذي يحوي إشارة إىل ُمستويات‬
‫ري للحديث التايل‪“ :‬أنا من نور الله ّ‬
‫تفس ٌ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ٍ‬
‫انتقادات ملن‬ ‫ج ُه‬
‫طويل عىل هيئة أسئلة وأجوبة ويو ّ‬
‫ٌ‬ ‫كتاب‬
‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫“غنيمت وقت” (‪ )VI‬هو‬ ‫الوجود الست‪.‬‬
‫ناقش‬
‫بعض اإلجابات قصرية فعالً بينام أحدها ميت ّد عى نحو ‪ 25‬صفحة‪ .‬يُ ُ‬ ‫ُ‬ ‫يُنك ُر وحدة الوجود‪.‬‬
‫يتناول “حيا ِة جان” (‪ )V‬وحدة الوجود‬
‫ُ‬ ‫كتاب “غاية التمثيل” (‪ )V‬العالقية بني املظهِر واملِظ َهر‪.‬‬
‫ناقش “اسم الله” (‪ )V‬رمزية اسم الله وفقاً لدرجات الوحدة‪ ،‬بينام يتط ّر ُق‬
‫يف سياق السلوك‪ ،‬ويُ ُ‬
‫“االستغناء” (‪ )V‬إىل نوعني من معرفة الذات‪ .‬أ َّما “ميزان املعاين” (‪ )V‬فهو رسالة بسيطة ومفيدة‬
‫حول أفكا ٍر أساسيَّة مثل الكيانات الثابتة وكامل آدم‪ .‬كتاب “يك كنج أز بنج كنج” (‪ ،)V‬الذي ُ‬
‫رأيت‬
‫أي منها يؤ ّدي إىل النجاح يف‬ ‫ُ‬
‫يتناول خمسة كنوز‪ ،‬حيث العثور عىل ٍّ‬ ‫منه نسخ ًة واحدة وغري كاملة‪،‬‬
‫العثور عىل اآلخرين‪ :‬األبديَّة والغيب‪ ،‬النور املخلوق املطلق (أي محمد)‪ ،‬اسم الله‪ ،‬معرفة النفس‪،‬‬
‫ناقش الجسد والروح‪ ،‬املوجودات اإلله َّية الخمسة‪،‬‬
‫والقرآن‪ .‬أما كتاب “قبض وبسط” (‪ ،)V‬فهو يُ ُ‬
‫كل لحظة‪ ،‬يف حني‬ ‫ُ‬
‫ويتناول “ت َج ّدد أمثل” عقيد َة ابن عريب حول تج ُّدد الخلق يف ّ‬ ‫ووحدة الوجود‪.‬‬
‫يتض ّم ُن “تنبيه العارفني” (‪ )V‬نقاشاً ملستويات الوحدة الثالثة‪ :‬الوحدة‪ ،‬الواحديَّة‪ ،‬واألحديَّة‪ .‬يُ ُ‬
‫ناقش‬
‫مصطلحات قليلة عىل نح ٍو شبي ٍه بكتاب “معرفة السلوك” من تأليف محمود خواش‬ ‫ٍ‬ ‫“الوجوديَّة”‬
‫الطريق إىل مقام اإلنسان الكامل‪ .‬من بني الكتب القصرية األخرى‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫يتناول “زاد الطالبني” (‪)V‬‬ ‫داهان‪.‬‬
‫مل صغري” ومثة كتب‬
‫نذك ُر “جامع األرسار”‪“ ،‬مفاتيح الغيب”‪“ ،‬أ ِّم كنوز”‪“ ،‬بنج عنارص”‪“ ،‬كيفيت عا ِ‬
‫أخرى يُشار إليها يف مؤلّفات الشيخ‪.‬‬
‫ِ‬
‫عقائد جامى” (‪ )VI‬الطويل إىل محمد مخدوم‪،‬‬ ‫ح‬
‫تنسب قامئة مكتبة أندرا پراديش كتاب “رش ِ‬
‫ُ‬
‫يعكس الكتاب بالطبع اهتامماته‬
‫ُ‬ ‫ولكن كِال املخطوطتني غري كاملتني وال تذك ُر ٌ‬
‫أي منهام املؤلِّف‪.‬‬
‫كنت ألنسبه برسع ٍة إليه إالَّ أ ّن مؤلِّف هذا الكتاب يُش ُ‬
‫ري إىل أحد كتبه األقدم‬ ‫وهو ُمتناغ ٌم مع أسلوبه‪ُ .‬‬
‫والتي أنّا أقل اقتناعاً بنسبتها إىل محمد مخدوم‪ .‬هذا الكتاب هو “ميزان التوحيد” (‪ ،)VII‬وهو‬
‫ٍ‬
‫نقاش ملعاين التوحيد ووحدة الوجود التي صادفتها‪ .‬هذا الكتاب قد ُيث ُِّل بالفعل‬ ‫أفضل وأوضح‬
‫تُحفة محمد مخدوم التي كُتبت‪ ،‬كام يُتوقّع‪ ،‬بعد أغلب الرسائل األقرص حجامً‪.‬‬

‫مث َّة مؤل ٌِّف مه ٌم آخر من جنوب الهند‪ ،‬ويبدو أنّه ينتمي إىل الحقبة نفسها‪ ،‬وهو املولوي قمر‬

‫‪259‬‬
‫مقارنات‬

‫الدين بن ُمنيب الله ابن عناية الله الحسيني األورنغ آبادي‪ .‬كتابه الرئييس هو “مظهر النور” (‪)VII‬‬
‫الكتاب إىل‬
‫ُ‬ ‫فسه بالعربية أيضاً اب ُنه املولوي نورالهدى يف ‪ 730‬صفحة‪ .‬ينقس ُم‬
‫باللغة العربية الذي ّ‬
‫ري فيها املشَّ ائيون؛ ‪ )3‬األنوار التي يهدي‬
‫سبعة مظاهر‪ )1 :‬يف األنوار التمهيدية؛ ‪ )2‬األنوار التي يس ُ‬
‫رشح‬
‫َ‬ ‫قلوب اإلرشاق ّيني؛ ‪ )5‬األنوار الحقيق َّية التي‬
‫ُ‬ ‫إليها علام ُء الالَّهوت؛ ‪ )4‬األنوار التي ت ُرشق بها‬
‫ّ‬
‫الشك؛ ‪ )7‬األنوار التي‬ ‫الله بها صدو َر املتص ّوفة الطاهرين؛ ‪ )6‬األنوار الخارقة التي تقي من شياطني‬
‫تنكشف من خاللها وحدة الوجود املوجود للمعتقدين بوحدة الوجود‪ .‬تض ُم مكتب ُة أندرا پراديش‬
‫ُ‬
‫يتعلق‬
‫ُ‬ ‫أيضاً نُسخ ًة من أجوبة املولوي قمر ال ِّدين للشيخ محمد عبد الله‪ ،‬وهو ُمفتي أركات‪ ،‬فيام‬
‫املفصلة التي سبق وق ّدمها يف “مظهر النور”‪.‬‬
‫ّ‬ ‫ري إىل األجوبة‬
‫بوحدة الوجود‪ ،‬وحيث يُش ُ‬
‫ومث َّة شخصي ٌة مهم ٌة أخرى من املنطقة نفسها وهو الشيخ القادري السيد عبدالقادر فخري‬
‫ري للسطر األول يف املثنوي من تأليف الرومي‪ .‬يف‬ ‫ِ‬
‫“فيض معنوي” (‪ )+V‬هو تفس ٌ‬ ‫نَقَوي‪ .‬كتابه‬
‫“مفتاح املعارف” (‪ )VII‬الذي ت ّم يف ‪1200‬ه‪1785-1786/‬م‪ ،‬يُخربنا املؤلِّف أ ّن الكتاب هو نتيجة‬
‫أربعني عاماً قضاها بصحبة املتص ّوفة‪ .‬يهت ُّم الكتاب يف الغالب بالنقاشات التقنيَّة حول الوجود‬
‫ُ‬
‫يتناول املفتاح‬ ‫بالنظر إىل الفلسفة والكالم‪ .‬ينقس ُم الكتاب إىل إحدى وعرشين مفتاحاً وخامتة‪.‬‬
‫األول معرفة الحقائق‪ ،‬والثاين إزالة االعرتاضات العقلية عىل وحدة الوجود‪ ،‬والثالث التنزيه‬
‫“الس ُبحات” (‪ )VII‬بإخبارنا أ ّن العلوم العرفانية التي متّت‬
‫يفتتح فخري ُ‬
‫ُ‬ ‫والتشبيه‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬
‫اإللهي الجامع وليس‬
‫ِّ‬ ‫التجل‬
‫ّ‬ ‫ُمناقشتها يف هذا الكتاب هي مأخوذة بأجمعها من دون وسيط من‬
‫أي مؤلّف‪ .‬تع ِك ُ‬
‫س النقاشات نضار ًة غريبة ودرج ًة عالي ًة من إتقان املوضوع‪ .‬تتمتّ ُع‬ ‫من كلامت ّ‬
‫بخط دقيقٍ للغاية وراقٍ من ِقبل نجل فخري‪،‬‬ ‫خاصة ألنّها نُسخت ٍ‬‫ّ‬ ‫املخطوطة ‪ AP 1569‬بأهم ّي ٍة‬
‫السيد قادر ُمحيي ال ِّدين يف ويلور (قُرب مادراس) يف العام ‪1235‬ه‪1819-1820/‬م‪ ،‬وتتض ّم ُن‬
‫العديد من املالحظات الهامشيَّة من ِقبل املؤلّف والناسخ‪ .‬أحد تالمذة فخري‪ ،‬واسمه عناية‬
‫يصف علو َم الورثة‬
‫ُ‬ ‫كتاب قصريٍ ُمثري لالهتامم بعنوان “مرآة الشهود” (‪)VII‬‬
‫ٍ‬ ‫الله‪ ،‬هو مؤل ُِّف‬
‫رسوم بيانية‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫املحمديّني مبساعدة خمسة‬

‫يستحق الذكر وهو مبارك الله املعروف أيضاً باسم إرادة خان‬
‫ُّ‬ ‫مث ّة مؤلِّف آخر من هذه الحقبة‬
‫ٍ‬
‫مالحظات‬ ‫“كلامت عاالت” (‪ )VII‬التي أُلِّفت يف ‪1116‬ه‪1704-1705/‬م مع‬
‫ِ‬ ‫واضح‪ .‬مخطوطته‬
‫هامش َّية كثرية هي مجموعة من التأ ُّمالت حول كثريٍ من األفكار املهمة للمدرسة‪ .‬يف الختام‪ ،‬يبدو‬
‫أيضاً أ ّن شخصية باسم محرتم الله تنتمي إل هذه الحقبة‪ .‬يف “أورنك وحدت” (‪ ،)+VII‬يُعبِّ ُ مبزي ٍ‬
‫ج‬

‫‪260‬‬
‫الهندية‬
‫َّ‬ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫اقتباسات من أعام ٍل أخرى‪ ،‬عن معرف ٍة عميقة مبوقف ابن عريب‪ .‬كان‬
‫ٍ‬ ‫من النرث والشعر‪ ،‬ومن دون‬
‫كتاب شاعري ومكتوب بجاذبيَّة قد رأيته‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫هذا أكرث‬

‫القرن الثالث عشر هجري‪/‬التاسع عشر ميالدي‪:‬‬


‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يل اللكهنوي بحر العلوم (تويف‬


‫يستحق الذِّكر مؤلِّفان‪ :‬أحدهام هو عبد الع ّ‬
‫ُّ‬ ‫من هذه الحقبة‪،‬‬
‫كتاب مفيد بعنوان “رسالة يف بيان وحدة الوجود” ُس ّميت أيضاً بـ”التن ُّزالت‬
‫ٍ‬ ‫‪1225‬ه‪1810/‬م)‪ ،‬مؤل ُِّف‬
‫تعكس الدقة التي يتّس ُم‬
‫ُ‬ ‫الستّة” و”رسالة وحدة الوجود وشهود الحق يف كل موجود”[[[ (‪)VI-VII‬‬
‫ب‬‫بها العلامء وقراء ًة دقيقة للعديد من أعامل املدرسة‪ ،‬من القونوي إىل ُمحب الله إله آبادي‪ .‬ن ُِس َ‬
‫ري حول املثنوي‪ .‬أل َّف حكيم عيل بن حكيم محمد لِقا خان “ َمخر ِ‬
‫ج‬ ‫إىل املؤلّف نفسه أيضاً تفس ٌ‬
‫يرشح‬
‫ُ‬ ‫عرفان” (‪ )+VI‬يف ‪1244‬ه‪1828-1829/‬م‪ .‬يتأل ُّف الكتاب من مق ِّدمة‪ ،‬وتفصيلني‪ ،‬واستنتاج‪.‬‬
‫تجل الصفات‬
‫بعض مواضع ّ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ويتناول التفصيل الثاين‬ ‫يت األلوه َّية والعبوديَّة‪،‬‬
‫التفصيل األول حرض ْ‬
‫ناقش كثريا ً من مقامات الطريق الصو ِّ‬
‫يف‪ ،‬إضافة إىل طبيعة اإلنسان الكامل‪.‬‬ ‫الخاصة بالعابد‪ ،‬ويُ ُ‬
‫َّ‬

‫من هو ويليام تشتيك؟‬


‫تخصصه يف التاريخ‬
‫ُّ‬ ‫** ُولد ويليام تشيتيك يف العام ‪ 1943‬يف والية «كونيتيكت» األمريكيَّة‪ .‬أثناء‬
‫يف جامعة «ووسرت»‪ ،‬أمىض العام الدرايس ‪ 1965-1964‬يف الجامعة األمريكيَّة يف بريوت لدراسة‬
‫التاريخ اإلسالمي‪ ،‬وهناك تع َّرف عىل الصوفيَّة ألول مرة عندما حرض محارض ًة عامة للسيد حسني‬
‫نرص (الذي كان أستاذا ً زائرا ً يف الجامعة ذاك العام) حول الصوفيَّة‪ .‬وقد ع َّمقت هذه املحارضة‬
‫اهتاممه بها إىل الح ِّد الذي جعله يق َّرر أن يُتابع دراسته يف طهران‪.‬‬

‫بدأ تشيتيك بدراساته يف فرتة ما بعد التخرج ضمن برنامج التالمذة األجانب يف كلية اآلداب‬
‫بجامعة طهران عام ‪ .1966‬ويف العام ‪ ،1974‬حصل عىل شهادة الدكتوراه باللغة واآلداب الفارسية‬
‫تحت إرشاف نرص‪ .‬ث َّم رشع بتدريس مادة الدين املقارن يف جامعة «آريامهر» التقن َّية (جامعة‬
‫رشيف للتكنولوجيا حارضا ً)‪ .‬ويف العام ‪ 1978‬انض َّم إىل كل َّية األكادمي َّية اإليران َّية امللك َّية للفلسفة‬
‫(املؤسسة اإليرانيَّة للفلسفة حارضا ً)‪.‬‬
‫َّ‬
‫قُبيل الثورة اإلسالم َّية‪ ،‬عاد تشيتيك إىل الواليات املتَّحدة مع زوجته املتخ ِّرجة من جامعة طهران‬

‫[[[‪ -‬طُبعت ترجم ٌة باللُّغة األرديَّة بقلم أبو الحسن زيد‪.‬‬

‫‪261‬‬
‫مقارنات‬

‫ّْ‬
‫آسيوي‪.‬‬ ‫اإلسالمي والرشق‬
‫َّ‬ ‫(دكتوراه يف األدب الفاريس)‪ ،‬وهي أستاذة ت ُد ِّرس الفكر‬

‫وهو حالياً أستا ٌذ ُمتميِّز يف جامعة “ستونيربوك”‪.‬‬

‫ألّف تشيتيك وترجم ‪ 30‬كتاباً وأكرث من ‪ 175‬مقالة حول الفكر اإلسالمي‪ ،‬التص ُّوف‪ ،‬التش ُّيع‪،‬‬
‫“تجل الله‪ :‬مبادئ كوزمولوجيا ابن عريب”‪“ ،‬طريق املعرفة‬‫ّ‬ ‫الفاريسّ‪ .‬ومن بني كتبه نذكر‪:‬‬
‫ْ‬ ‫واألدب‬
‫يف‪ :‬تعاليم الرومي الروح َّية”‪“ ،‬ابن‬
‫الحب الصو ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الصوف َّية‪ :‬ميتافيزيقيا الخيال لدى ابن العريب”‪“ ،‬طريق‬
‫الديني”‪“ ،‬علم الكون‪ ،‬علم الروح‪:‬‬
‫ّْ‬ ‫عريب‪ :‬وارث األنبياء”‪“ ،‬عوامل تخيل َّية‪ :‬ابن عريب و ُمعضلة التن ُّوع‬
‫اإللهي‪:‬‬
‫ّْ‬ ‫“الحب‬
‫ُّ‬ ‫أهم َّية الكوزمولوجيا اإلسالم َّية يف العامل املعارص”‪“ ،‬الصوف َّية‪ :‬دليل للمبتدئني”‪،‬‬
‫الكتابات اإلسالميَّة والطريق إىل الله”‪“ ،‬من الفتوحات املكيَّة‪ :‬أسطورة أصل ال ِّدين والترشيع”‪،‬‬
‫“اإلميان والتطبيق يف اإلسالم‪ :‬ثالثة نصوص صوف َّية من القرن الثالث عرش” و”راحة األرواح”‪.‬‬
‫ٍ‬
‫دورات دراسيَّة حول اإلسالم‪ ،‬الفلسفة اإلسالميَّة‪ ،‬املؤلَّفات العربيَّة‬ ‫بانتظام‬
‫ٍ‬ ‫يُد ِّرس تشيتيك‬
‫الفاريس‪ ،‬وغريها من الدورات حول الدراسات الدين َّية‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫القدمية حول العرفان‪ ،‬الشعر‬

‫‪262‬‬
‫الهندية‬
َّ ‫تأثير ابن عربي في شبه القا َّرة‬

‫الحئة املصادر واملراجع‬


‫يز‬
:‫باإلنكل�ية‬
1. Brockelmann, Geschichte der arabischen Litteratur, SII 311.
2. Chittick, "Rumi and Wahdat al-Wujud, " in The Heritage of Rumi, ed. Amin
‫م‬2022 ‫هـ ــ صيف‬1444 ‫العدد الثاين ــ‬

Banani and Georges Sabagh (Cambridge: Cambridge University Press).


3. Chittick, "The Five Divine Presences: From al-Qûnawï to al-Qaysari,” Muslim
World 72 (1982).
4. Deweese, "The Eclipse of the Kubravîyah in Central Asia," Iranian Studies 21
(1988).
5. Ed. by Sayyid ‘Ata’ Husayn (Gulbarga: Kutubkhäna-yi Rawdatayn,
13651946/).
6. Lawrence, Sufi Literature.
7. M. Chodkiewicz, "The Diffusion of Ibn ‘Arabï's Doctrine," Journal of the
Muhyyiddin ibn Arabi Society9 (1991) 51.
8. M. Chodkiewicz, Epitre sur L'Unicité Absolue (Paris: Les Deux Océans,
1982); Chittick, "Rûmi and Wahdat al-Wuj'üd”.
9. O Yahia, Historie et classification de l’oeuvre d'Ibn Arabí (Damascus Institut
Franzais de Damas, 1964), no 22.
10. S.A.A. Rizvi, A History of Sufism In India, I.pp.267268-; B.B. Lawrence, An
Overview of Sufi Literature In the Sultanate Period (Patna: Khuda Bakhsh Oriental
Public Library,) 68.
11. Sufi 4 (1989),“Khwäja Khord's Treatise on the Gnostic,” Sufi 5 (1990).

263
‫المحور‬

‫ن‬
‫المع�‬ ‫َّ‬
‫حكائية اإلرتقاء إىل عالم‬
‫َّ ف‬ ‫َّ‬
‫الط�" لفريد الدين العطار‬
‫جمالية القصة ي� منظومة "منطق ي‬
‫عبد المجيد زراقط‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إىل عامل املعنى‬
‫القصة يف منظومة "منطق الطري" لفريد الدين العطار‬
‫مجال َّية َّ‬

‫عبد المجيد زراقط‬


‫َّ‬ ‫ف‬ ‫ئ‬
‫اللبنانية ‪ -‬لبنان‬ ‫العال ي� الجامعة‬
‫ي‬ ‫وروا� وأستاذ التعليم‬
‫ي‬ ‫ناقد‬

‫إجمال‬
‫ي‬ ‫ملخص‬
‫والداللية‪ ،‬لدى‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬
‫الجمالية‬ ‫َّ‬
‫وفاعليته‬ ‫ِّ‬
‫القص‬ ‫يعمل هذا البحث عىل دراسة طبيعة‬
‫َّ‬
‫الشاعر والفيلسوف والعارف باهلل فريد الدين العطار‪ .‬وألجل هذه الغاية جرى اعتماد‬
‫ف‬ ‫ً ً ف‬ ‫ت‬ ‫َّ‬
‫الصو�‬
‫ي‬ ‫ال� أرست حقال ثريا ي� تاري ــخ األدب‬ ‫الط�" ي‬
‫ي‬ ‫القصصية‪" :‬منطق‬ ‫منظومته‬
‫َّ‬
‫والعرفا�‪ .‬وإننا ُلندرك أن هذه المنظومة َّتتصف ي ز‬ ‫ن‬
‫وه احتمالية‬ ‫األد�‪ ،‬ي‬
‫بي‬ ‫بم�ة اإلبداع‬ ‫ي‬
‫ت‬ ‫َّ‬ ‫وتعدده‪ ،‬وقد كان صاحبها يدرك هذه ي ز‬ ‫ُّ‬
‫كتاب� "تلد‪،‬‬ ‫ي‬ ‫الم�ة‪ ،‬بما ورد عنه قوله‪ :‬إن‬ ‫التأويل‬
‫َّ‬ ‫َّ ن ف‬ ‫ً‬ ‫كل آونة ن‬ ‫ف� ِّ‬
‫بع� ي� ذلك نصيحة العطار‬ ‫مع� جديدا"‪ .‬ولهذا ستكون محاولتنا – مت ي‬ ‫ي‬
‫َّ‬ ‫ُّ ً ف‬
‫نفسه – تدرجا ي� رفع الحجاب عن هذه "العروس المدللة" الموسومة باسم "منطق‬
‫الطيور"‪.‬‬ ‫ُّ‬ ‫َّ‬
‫الط ي�" أو "مقامات‬
‫ألن َّ‬ ‫َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ِّ‬ ‫َّ‬
‫واحد‬
‫ٍ‬ ‫كل‬ ‫للخاص والعام"‪،‬‬ ‫وكتاب"منطق الط ي�"‪ ،‬كما يقول مؤلفه‪" ،‬فيه نصيب‬
‫َّ ُ‬
‫مما ن ش�‪ .‬وهكذا فقد يكون الكتاب‪ ،‬لدى بعض الناس خرافة‬ ‫منهم واجد ما يوافقه‬
‫جميلة‪ ،‬كما قد يكون مرشد طريق الطمأنينة والسعادة‪.‬‬

‫الط� اىل العربية‪ :‬أوالهما‬ ‫ين‬


‫ترجمت� لمنطق ي‬ ‫إلنجاز هذه الدراسة‪ ،‬اعتمدنا‬
‫القيس‪" :‬عطار نامه‪ ،‬أو كتاب فريد الدين‬
‫ي‬ ‫مجردة من الحكايات للدكتور أحمد ج ي‬
‫نا�‬
‫الط�"‪ ،‬وثانيتهما ترجمة كاملة للدكتور بدر محمد‬‫العطار النيسابوري‪ ،‬وكتابه منطق ي‬
‫الط� لفريد الدين العطار النيسابوري "‪.‬‬
‫جمعة‪" :‬منطق ي‬
‫* * *‬
‫الط�‪ -‬التأويل‪ -‬مرشد الطريق‪ -‬عالم الروح‪ -‬السكينة‪-‬‬ ‫َّ‬
‫مفتاحية‪ :‬منطق‬ ‫مفردات‬
‫ي‬
‫َّ‬
‫التوليد الخالق‪.‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫“منطق الطَّري” للفيلسوف العارف فريد الدين العطّأر[[[ منظومة قصصيَّة‪ ،‬يتَّخذ ال َّنظم فيها شكل‬
‫قصة سعي الطُّيور إىل تنصيب ملك عليها اسمه “السيمرغ”‪ ،‬فرتوح تبحث عنه‬ ‫املثنوي[[[‪ ،‬وتحيك َّ‬
‫يف مقر إقامته خلف جبل قاف‪ ،‬مجتازة سبعة أودية بعد تحضري طويل لل ِّرحلة‪.‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫ولكتاب العطَّار‪ ،‬كام يبدو‪ ،‬وظيفتان‪ ،‬يحقِّق أوالهام بوصفه “خرافة جميلة”‪ ،‬أجاد العطَّار‬
‫ط يف دروب العيش‪ ،‬يف يوم هانئ‪ ،‬ويحقِّق ثانيتهام بوصفه مرشد طريق‪ ،‬اتخذ‬ ‫إنشاءها ملن يغ ُّ‬
‫الخرافة إطارا ً له‪ ،‬ليخاطب العاشق الظمئ‪ ،‬إىل ّ‬
‫ري بعدما فقد السكينة‪/‬ال ُّركود‪ ،‬ويحقِّق له الطأمنينة‬
‫والسعادة‪.‬‬
‫َّ‬
‫كل‬
‫واملالحظ أن الوظيفتني تحقِّقان غبطة‪ ،‬ولكن شتَّان ما بني أوىل وثانية‪ ،‬وما بني صاحب ٍّ‬
‫ط يف سكينته‪/‬ركوده والثاين يسهر‪ ،‬بعد فقده هذه السكينة‪ ،‬ويرحل بحثاً عن‬ ‫منهام‪ ،‬فاأل َّول يغ ُّ‬
‫طأمنينة ال ُّروح وسعادتها‪ ،‬يرشده هذا الكتاب إىل ذلك فقدا ً‪/‬فناء يعقبه وجود‪/‬بقاء‪ .‬وهذه هي وظيفة‬
‫وجسدها لغ ًة فن َّية‪ :‬شعريَّة‬
‫َّ‬ ‫الكتاب األساس‪ ،‬فهو وليد تجربة شاعر مرشد عاش تجربة الوجد‪،‬‬
‫قصص َّية ت ْع ُب من ال َّداليل إىل اإليحايئ واالحتاميل والتأوييل‪ ،‬وقد اتخذ الكتاب بنيته العا َّمة لينهض‬
‫بأداء هذه الوظيفة‪ ،‬فهل نجح يف ذلك؟‬
‫ال يجد قارئ املنظومة صعوب ًة يف اقتباس ما يكشف عن هذه التجربة الفريدة‪ .‬إذ إ َّن الشاعر ال‬
‫الصدد ما يأيت‪ ...“ :‬قال أحد األطهار‪ :‬لقد قضيت ثالثني عاماً‪،‬‬ ‫ينفك يذكرها‪ .‬ومن أقواله يف هذا َّ‬‫ُّ‬
‫شخص‬
‫ٌ‬ ‫خفي عندما ه َّم أبوه بذبحه‪ ،‬فهل يوجد‬
‫ٍّ‬ ‫وأنا يف حالة َولَه دواماً‪ ،‬وقد كنت كإسامعيل يف غ ٍّم‬
‫يقيض عمرا ً مديدا ً كتلك اللحظة التي قضاها إسامعيل؟”‪.‬‬
‫إ َّن هذه الصورة التي تحيل إىل التاريخ تكشف طبيعة حالة ال َولَه الدائم التي كان يعيشها العطَّار‪،‬‬
‫فهو يف حالة طاعة وتضحية وخوف ورجاء عفو إىل أن يتحقَّق ال ِّرضا اإللهي املتمثِّل بالفداء كام يف‬
‫حالة ن َّبيي الله إبراهيم واسامعي[[[‪ .‬إ َّن حالة ال َولَه هذه تجعل صاحبها يشتعل مثل شمعة لييضء‪،‬‬

‫[[[‪ -‬فريد الدين‪ ،‬محمد بن ابراهيم العطار النيسابوري‪ ،‬ولد يف نيسابور سنة ‪513‬هـ‪ ،‬وتويف فيها سنة ‪586‬هـ ‪ .‬نشأ يف أرسة صالحة يف وقت‬
‫كانت خراسان خاضعة فيها للسالجقة‪ .‬كانت أرسته ميسورة‪ ،‬وكان والده عطاراً وذا ميول صوفية‪ .‬تنسب اليه كتب يبلغ عددها ‪114‬كتاباً ‪.‬‬
‫ويقول بعض املحققني‪ :‬إن الكتب التي تصح نسبتها اليه عرشة كتب هي‪ :‬جواهر نامة‪ ،‬رشح القلوب‪ ،‬الديوان‪ ،‬مختار نامه‪ ،‬خرسو نامه‪،‬‬
‫الهي نامه‪ ،‬مصيبة نامة‪ ،‬تذكرة األولياء ومنطق الطري ‪ .‬يجمع املؤرخون عىل “أن أعمدة التصوف الفاريس ثالثة هم‪ :‬سنايئ والعطار وجالل‬
‫الدين الرومي”‪ ،‬وهذا األخري يقول‪ ”:‬لقد طاف العطار مبدن العشق السبع ‪ . “ ...‬ويقول روبن ليفي‪ ،‬يف كتاب‪”:‬األدب الفاريس‪“ :‬العطار‬
‫أقوى شاعر إطالقاً‪ ،‬وأقوى رمزي‪ ،”. ..‬ويسمي جامي العطار بـ “سيد الطائفة”‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ملثنوي شكل شعري عرفه الشعران العريب والفاريس‪ ،‬وخصوصاً الشعران القصيص والتعليمي‪ ،‬و ُيطلق عليه اسم املزدوج‪ .‬يلتزم‬
‫الشاعر فيه قافية واحدة يف شطري البيت‪ ،‬وال يلتزم تلك القافية يف القصيدة كلها ‪.‬‬
‫[[[‪ -‬راجع‪ ،‬يف مقتبسات هذه الفقرة‪ ،‬بدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪.440 .‬‬

‫‪267‬‬
‫أفنان‬

‫وهو عىل ال ّرغم من معاناة االحرتاق يرغب يف دوام ذلك ‪0‬من خصائص هذه التجربة أ َّن من يعيشها‬
‫يُ َعطِّ ُر املاء الزالل‪ ،‬لك َّنه يبقى يف ظأم‪0‬‬
‫الكالم نهر القلب‪ ،‬ووظيفته كشف الطَّريق يف الوقت نفسه الذي يجعل نار من يُجريه بردا ً‬
‫السالم) وصريورة النار التي ُرمي فيها بردا ً‬
‫قصة نبي الله إبراهيم (عليه َّ‬
‫وسالماً‪ .‬فهل من إحالة إىل َّ‬
‫وسالماً بأمر الله تعاىل؟ إ َّن اإلحالة‪ ،‬هنا‪ ،‬تكشف طبيعة تجربة العطار التي البد منها لتحقِّق طأمنينة‬
‫وسعادة ملنشئها (مرسلها) ومتلقِّيها يف آن‪ ...‬ويكون الكالم‪ ،‬أيضاً‪ ،‬لغة مختلفة تصدر من أتون‬
‫الوجد فتكشف بألق جاملها جوهره‪.‬‬
‫الصورة أيَّاً تكن أشكالها‪ .‬ومن‬
‫إ َّن لغة العطار الفن َّية غن َّية مبا ميكن أن نسم َّيه جوهر الشعر‪ ،‬أو ُّ‬
‫كل شخص بصورة‬ ‫األمثلة عىل ذلك تجسيده الشهوات والرغبات اإلنسان َّية املوجودة يف باطن ِّ‬
‫تحيل إىل التاريخ‪ ،‬واملعتقد الشعبي‪ ،‬وذلك ينشئ شبكة من اإليحاءات‪ ،‬فنذكر‪ ،‬عىل سبيل املثال‬
‫فحسب‪ ،‬رؤيته التي أحالت الغ َّم شجرة‪ ،‬وكشف املسائل ثقب لؤلؤ‪ ،‬وحرية الروح وضعها أصبعها‬
‫بني أسنانها‪ ،‬كام يف أقواله‪“ :‬أيها امللك‪ ،‬يف قلب خصمك من الغم شجرة‪/‬مثرها املحنة وبرعمها‬
‫بالضر”‪“ ،‬متيض السنون قبل أن تح ِّول قطرة املاء لؤلؤة يف قاع البحر”‪“ ،‬لقد بقي العقل‬ ‫َّ‬ ‫يأيت‬
‫حريان يف عشقه‪/‬وبقيت ال ُّروح لعجزها‪ ،‬وأصبعها بني أسنانها”‪.‬‬
‫ُّ‬
‫السمو إىل مرتب�ة الويل‪:‬‬ ‫ِّ‬
‫الرسالة‪/‬املحتوى‪:‬‬
‫ُرسلة‪ ،‬وإن يكن العطَّار يبذل جهدا ً يف‬
‫السياق ال َّرامي إىل أداء وظيفة امل َ‬‫توظَّف جودة اللُّغة يف ِّ‬
‫متلق هو منه يف موقف‬ ‫تجويدها‪ ،‬فإنَّه كان يدرك مت ُّيز شعره‪ ،‬وقد أثنى عىل نفسه كثريا ً‪ ،‬وعينه عىل ٍّ‬
‫واضح‪ .‬فعىل ال ُّرغم من عدم وفاء الخلق‪ ،‬كام يقول‪ ،‬وعزلته عنهم‪ ،‬يبقى مشغول القلب بهم‪ .‬وإنَّنا‬
‫الصديق واملنصف‪ ،‬ومن‬ ‫لرنى أ َّن العطَّار كان يعيش تجرب ًة حيات َّية قاسية‪ ،‬فهو يشكو من عدم وجود َّ‬
‫عدم وفاء الخلق‪ ،‬لك َّنه ينظر إىل املستقبل وإىل تحقيق إنجاز ما يحقِّق سعادة الناس‪ .‬وهذه صفات‬
‫اإلنسان الذي يرقى إىل مرتبة الويل‪ ،‬أو “اإلنسان الكامل”‪ ،‬كام ط َّور نظريته‪ ،‬يف ما بعد‪ ،‬محيي‬
‫ال ِّدين بن عريب (‪ 560‬هـ‪ 638 – .‬هـ‪ ).‬وعبد الكريم الجيالين (‪ +832‬هـ‪1428/.‬م‪ .).‬وهي املرتبة‬
‫التي يرى العطار أ َّن طيوره الواصلة صارت إليها‪ ،‬ويريد ملتلقِّيه العاشق‪ ،‬الذي سبق أن أشار إليه‪ ،‬أن‬
‫يصل إليها مسرتشدا ً مبنظومة “منطق الطري”‪ .‬وهذه هي الرسالة‪/‬املحتوى املراد إيصالها إىل ٍّ‬
‫متلق‬
‫يسأل العطَّار عنه‪ ،‬ليقول له كالماً متم َّيزا ً‪ ،‬وليد رحلة معرفة فريدة‪.‬‬
‫معرفة طريق ُّ‬
‫السمو‪/‬موقع االسم يف نظام العالقات‪:‬‬
‫ونسأل” أي معرفة ترشد‪ ،‬يف هذه ال ِّرحلة الكشف َّية ال َّرائية إىل آيات الله يف خارج الذَّات وداخلها‪،‬‬

‫‪268‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫َّ‬
‫والتي تشري إليها اآلية الكرمية ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق حتى يتبين لهم أنه الحق‪ ،[[[﴾...‬ويف‬
‫اإلجابة عن هذا السؤال‪ ،‬نرى أن طبيعة هذه املعرفة تتضح يف قول العطار اآليت‪“ :‬يا من هو ابن‬
‫خليفة ال معرفة له‪/‬كن كأبيك يف املعرفة”‪ .‬والعطَّار‪ ،‬هنا‪ ،‬كعادته‪ ،‬يحيل فيشري إىل قوله تعاىل‪:‬‬
‫ّ‬ ‫َّ‬ ‫ٌ‬
‫﴿لأني جاعل في الأرض خليفةٌ‪ ﴾...‬و﴿علم آدم الأسماء كل ِها﴾[[[‪ .‬وإن أدركنا طبيعة هذه‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املعرفة‪ :‬إلهيَّة علَّمها الله تعاىل لخليفته آدم‪ ،‬وأدركنا أيضاً فنيَّة بيانها‪ ،‬ندرك من ث َّم داللة اختيار اسم‬
‫منطق الطَّري؛ إذ إنَّه يشري إىل اآلية الكرمية ﴿وورث سليمان داود﴾ وقال‪ :‬يا أيها الناس علمنا منطق‬
‫َّ‬
‫الطَّري‪ ،‬وأوتينا من كل يشء‪﴿ .‬إن هذا هو الفضل المبين﴾[[[‪ .‬إ َّن منطق الطَّري هو الفضل املبني‬
‫الذي يضع ما علَّمه سليامن مثاله‪ ،‬وهكذا يكون هذا االسم املختار بعناية ودراية موظفاً يف بيان‬
‫السياق نفسه ينتظم اختيار الهدهد‪ ،‬كام سرنى الحقاً‪ ،‬بوصفه مرشد‪.‬‬ ‫طبيعة املنظومة‪ .‬ويف ِّ‬

‫أقسام املنظومة وطبيعة انتظامها‪:‬‬


‫رضع إىل الله وابتهال ومدح رسول‬
‫تتألَّف املنظومة من ثالثة أقسام هي‪ :‬الذِّكر‪ ،‬وهو عبارة عن ت ُّ‬
‫رضع‪.‬‬
‫الله‪ ‬وحكاية سفر الطُّيور‪ .‬وبيان حال املؤلِّف ومؤلَّفه وت ُّ‬
‫تبدو هذه األقسام كأنَّها غري مرتابطة ال يجمع بينها سوى وحدة التَّنضيد أو املجاورة يف املكان‪.‬‬
‫ولك َّن التأ ُّمل يكشف انتظامها يف سياق بدأنا تل ُّمسه منذ تع َّرفنا إىل طبيعة الكتاب ووظيفته وتجربة‬
‫كاتبه وداللة تسميته‪.‬‬
‫القصة كام تحتضن‬ ‫َّ‬ ‫رضع‪ ،‬كأنَّه يحتضن‬ ‫رضع وتنتهي به‪ ،‬فيبدو‪ ،‬أي الت ُّ‬ ‫تبدأ هذه األقسام بالت ُّ‬
‫السياق دائريَّة متَّصلة تختلف أشكال مك ِّوناتها‪ ،‬ولكنها تبقى‬ ‫خُرضة مثرة الَّلوز ل َّبها‪ ،‬أو كأ َّن حركة ِّ‬
‫الساعية‬
‫متَّصلة متن ِّوعة‪ .‬هذا من ناحية أوىل‪ ،‬ومن ناحية ثانية يبدو أ َّن الذِّكر يؤ ِّدي وظيفة تهيئة ال ُّروح َّ‬
‫إىل معراجها؛ حيث يت ُّم االستغراق والتجلِّ ‪ ،‬فينظم كل مثنوي‪ ،‬تقريباً‪ ،‬آية كرمية أو حديثاً رشيفاً أو‬
‫يشري إليهام‪ ...‬وتتَّضح وظيفة الذِّكر‪ ،‬يف بناء املنظومة‪ ،‬إن أدركنا الطَّريق ونوع َّية املعرفة التي متكِّن‬
‫السالك من تبنيها والتغلُّب عىل صعوباتها‪.‬‬
‫َّ‬
‫ً ِّ‬
‫أوال‪ :‬الذكر‪ :‬خصائصه وتوظيفه‪:‬‬
‫كل منها حكاية أو أكرث‪ .‬وقد اجتهد العطَّار يف جعل‬‫إ َّن قسم الذكر يتض َّمن ع َّدة وحدات يحتوي ٌّ‬
‫بناء هذا القسم متامسكاً ويف توظيفه يف موقعه من البناء العام‪.‬‬

‫[[[‪ -‬سورة فصلت‪َ ،‬‬


‫االية ‪.53‬‬
‫[[[‪ -‬سورة البقرة‪َ ،‬‬
‫االيتان ‪ 30‬و‪.31‬‬
‫[[[‪ -‬سورة النمل‪َ ،‬‬
‫االيتان ‪16‬و‪.27‬‬

‫‪269‬‬
‫أفنان‬

‫واملالحظ أيضاً أ َّن الحكاية التي تيل التأ ُّمل أو ال ُّدعاء‪/...‬الخطاب توظَّف يف التأثري واإلقناع‬
‫حة هذا الخطاب‪ .‬ومن األمثلة عىل ذلك أنه عندما يخاطب الله تعاىل‪ ،‬قائالً‪“ :‬لست مستيئساً‬ ‫بص َّ‬
‫من رحمتك وعفوك‪ ...‬يرسد حكاية رجل يُق َّدم لتُرضب عنقه‪ ،‬فيأكل كرسة خبز من زوجة الجالَّد‪،‬‬
‫يحل يل دمك‪ ،‬وقد أكلت من خبزنا؟” وهنا يعود العطَّار إىل‬ ‫يعلم الجالَّد بذلك فيسأل‪“ :‬فكيف ُّ‬
‫متابعة الخطاب‪ ،‬ويقول‪“ :‬إلهي لقد رست يف طريقك‪ ،‬وأكلت من خبزك عىل خوانك‪ ،‬فلتصفح‬
‫السياق بني خطاب‪/‬تأمل‪ ،‬دعاء‪ ،‬ترضع إلخ‪ ...‬ورسد‪/‬حكاية ووصف‬ ‫ع ِّني‪ [[[”...‬وهكذا يتن َّوع ِّ‬
‫بتغي‬
‫ويتغي ُّ‬
‫َّ‬ ‫فخطاب إلخ‪ ...‬ويتن َّوع األسلوب‪ ،‬ولكنه يبقى سلساً مت ِّدفقاً يخاطب الوجدان والعقل‪،‬‬
‫بتغي واضح‬ ‫التعصب”‪ ،‬نشعر ُّ‬
‫ُّ‬ ‫الحاالت‪ .‬فاملالحظ‪ ،‬وهذا مثال فحسب‪ ،‬أنَّه عندما يصل إىل ذ ِّم‬
‫السابقة نفسها‪ ،‬ولك َّنه يكرث من استخدام أدوات الرشط‬ ‫يطرأ‪ ،‬وذلك ألنَّه يجادل ويناقش بحيويته َّ‬
‫أن‪ ،‬إن‪ ،‬أال‪ ،‬إلخ‪ ...‬وهذه ميزة تالحظ يف شعر‬ ‫واالستفهام والتأكيد والجواب‪ ،‬مثل إذا‪ ،‬إن‪ ،‬متى‪َّ ،‬‬
‫ال َّدعوة الجديل عموماً ‪.‬‬
‫ُّ‬
‫وتكون ي ن‬ ‫ً‬
‫الع� الثالثة‪:‬‬ ‫ثانيا‪ :‬الطريق والعشق ‪،‬‬
‫إن قسم الذِّكر الذي يجتهد العطَّار يف إحكام بنائه موظّف‪ ،‬يف البناء العام‪ ،‬يف بيان الطَّريق‬
‫والتهيئة لل ِّرحلة وكسب املعرفة القادرة عىل الكشف‪ ،‬وكنا قد أرشنا إىل نوعية هذه املعرفة‪،‬‬
‫والرضورة تقتيض ذلك أل َّن هذه الطريق ال تدرك بالحواس‪ ،‬وال بالعقل‪.‬‬
‫ويُالحظ‪ ،‬يف سياق تهيئة املتلقِّي لل ِّرحلة‪/‬الحكاية‪ ،‬أ َّن الشَّ اعر يشري‪ ،‬منذ األبيات األوىل التي‬
‫السفر‪ ،‬فيقول‪“ :‬إ َّن ال ُّروح طائر خلق الله له‬
‫جد بها الخالّق‪ ،‬إىل “سفر ال ُّروح” وإىل دليل هذا َّ‬ ‫مي ِّ‬
‫جعل للطَّريق هادياً‪ ،‬ويقول كاشفاً طريق ال ُّروح‬ ‫أجنحة وريشاً من طني”‪ ،‬ويقول‪ ،‬أيضاً‪ ،‬إ َّن الهدهد ُ‬
‫التاب‪ [[[”...‬مشريا ً إىل رؤية‬ ‫يف سعيها إىل وطنها األصل‪“ :‬وكان لل ُّروح سمو وكانت للبدن ضعة ُّ‬
‫الصوفية إىل هذه املسألة‪.‬‬
‫ُّ‬
‫قد نقول‪ :‬إ َّن الذِّكر تقليد كان العطَّار يتَّبعه يف جميع مؤلَّفاته‪ .‬وإن يكن هذا صحيحاً فإنَّه متكَّن‬
‫لتجل املعرفة‬‫ِّ‬ ‫يب فريد‪ ،‬وذلك عندما استخدمه يف التهيئة‬ ‫نص أد ٍّ‬ ‫من توظيف تقليد متَّبع يف بناء ٍّ‬
‫قصيص‬
‫ٍّ‬ ‫القصة‪ ،‬التي تيل الذِّكر‪ ،‬حركته‪ ،‬وتبسطها يف شكل‬
‫َّ‬ ‫القادرة[[[‪ .‬وهذا السلوك هو ما ترصد‬
‫قصة إطار تنضَّ د يف سياقها العام حكايات منتظمة يف شبكة عالقات نظام ينطق بداللة‬
‫مركَّب‪ ،‬قوامه َّ‬
‫هي الرسالة املحتوى‪ ،‬املراد توصيلها بوصفها رؤية املؤلِّف العامل‪.‬‬

‫[[[‪ -‬راجع ‪ :‬بدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪152 .‬و ‪.153‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص ‪. 669 .‬‬
‫[[[‪ -‬يتحدث الصوفيون عن معرفة يُلهمونها بربكة مسريهم وفاقاً ملا ميليه الكتاب والسنة‪ ،‬أداتها القلب‪ ،‬أو القوى الحدسية لدى اإلنسان ‪.‬‬
‫حصلت حرفا”‪.‬‬ ‫عشق فام َّ‬
‫ٍ‬ ‫ويعرب شاعرهم عن هذه الرؤية بقوله‪ ”:‬فأن تقرأ علوم الناس ألفا ‪ /‬بال‬

‫‪270‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫القص من حيث اختيارها ومصادرها‬


‫ِّ‬ ‫وإ َّن البحث‪ ،‬يف فن َّية إنشاء هذا ال ِّنظام يبدأ بدراسة ما َّدة‬
‫وإعادة إنتاجها يف شكل جديد‪.‬‬
‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ً‬
‫القصة – اإلطار‪ :‬مصادرها واختيارها‪:‬‬ ‫ثالثا‪ :‬مادة‬
‫القصة ‪ -‬اإلطار‪ ،‬سواء‬
‫َّ‬ ‫إن حكاية ال ِّرحلة إىل عامل آخر‪ ،‬ليس من ابتكار العطَّار‪ ،‬أو لنقل‪ :‬إ َّن ما َّدة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫أكان ذلك من حيث هيكلها‪ ،‬أم من حيث استخدام ال ُّرموز‪ ،‬أم من حيث العروج‪ ،‬تبدو حارضة يف‬
‫مصادر عديدة‪ .‬منها أ َّوالً‪ ،‬بالقصص الشَّ عبي‪ ،‬إذ يبدو أ َّن هذه الحكاية كانت معروفة ومتداولة‪ ،‬وقد‬
‫أفاد منها أدباء ومفكِّرون عديدون سبق بعضهم العطَّار‪ ،‬وتاله بعضهم اآلخر‪ ،‬ومثل هذه اإلفادة أمر‬
‫معروف يف تاريخ األدب العاملي‪ .‬وتتمثَّل تلك املصادر ثانياً‪ ،‬باملؤلَّفات التي استخدمت هذه‬
‫الحكاية الشعب َّية‪ ،‬وميكن أن نشري إليها كام يأيت‪:‬‬
‫نص يحيك رحلة العروج إىل العامل اآلخر‪ ،‬بحثاً عن الخلود‪ ،‬هو ملحمة “جلجامش‬
‫إ َّن أقدم ٍّ‬
‫وانكيدو”[[[‪ .‬وهي امللحمة التي يرقى تدوينها إىل األلف الثاين قبل امليالد‪ .‬وقد شاعت هذه‬
‫امللحمة‪ ،‬وانتقلت إىل آداب األمم األخرى‪ ،‬وأث َّرت فيها‪ .‬ومن ال ُّنصوص التي عرفها هذا املحيط‬
‫قصة ٍ‬
‫عابد يرحل‬ ‫نص يروي َّ‬ ‫“أروايراف نامه” (بني أواخر القرنني الرابع والسابع بعد امليالد)‪ ،‬وهو ٌّ‬
‫إىل العامل اآلخر‪.‬‬
‫القص يف مصادر عددية نذكر منها ما استطعنا معرفته‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ويف الرتاث اإلسالمي نجد أصول ما َّدة‬
‫وأ َّول هذه املصادر‪ ،‬القرآن الكريم‪ ،‬فقد ورد اسم “منطق الطَّري” يف اآلية ‪ 16‬من سورة النمل‪ ،‬كام م َّر‬
‫النبي سليامن وبني الخلق‪ ،‬وهو‬
‫بنا آنفاً‪ ،‬وورد اسم الهدهد بوصفه ذا منزلة وبصرية‪ ،‬فهو واسطة بني ِّ‬
‫الرسول يف طلب املاء إىل ملكة سبأ‪ ،‬وورد ذكر اإلرساء واملعراج أيضاً‪ ...‬أ َّما املصادر األخرى فهي‬
‫السري والكتب األخرى والقصص ‪،‬ومنها معراج ابن عباس‪ ،‬وحكايتا‬
‫قصة املعراج كام وردت يف ِّ‬
‫َّ‬
‫الصفا؛‬
‫“اختيار الطيور ملكاً” و”البوم والغربان” يف كليلة ودمنة؛ حكاية “الغربان والبازي” إلخوان َّ‬
‫معراج أيب يزيد البسطامي (‪ +261‬هـ‪ 874 -.‬م‪).‬؛ رسالة الطَّري البن سينا (‪ +428‬هـ‪ 1036 _.‬م‪ ).‬وله‬
‫حي بن يقظان البن طفيل (‪+110‬م‪ 1985 – .‬م‪).‬؛ رسالة الغفران أليب‬ ‫أيضاً سالمان وأبسال؛ َّ‬
‫قصة ّ‬
‫العالء املع ِّري (‪ +449‬هـ‪ 1057 – .‬م‪).‬؛ معراج أيب حسن الخرقاين (‪ +425‬هـ‪1033 -.‬م‪).‬؛ رسالة‬
‫الطَّري أليب حامد الغزايل (‪ +505‬هـ‪ 1111 -.‬م‪).‬؛ سري العباد إىل املعاد لسنايئ الغزنوي (‪– +545‬‬
‫‪1150‬م‪).‬؛ قصيدة “منطق الطَّري للخاقاين” (‪ +595‬هـ‪1198 -.‬م‪ .).‬ويرى عبد الحسني زرين شبهاً‬

‫[[[‪ -‬تجد ملخصاً لها يف “ قصة الحضارة “‪ ،‬بول ديورانت ‪. 343 - 239 /2 ،‬‬

‫‪271‬‬
‫أفنان‬

‫بني مراحل السلوك عند العطار و”هفتخوان رستم واسفنيار” عند الفردويس من الشاهنامه‪ ،‬كام أن‬
‫طائر السيمرغ مذكور يف الشاهنامة أيضاً[[[‪.‬‬
‫القص التي استخدمها العطَّار يف منطق الطَّري‪ ،‬وإن‬ ‫ِّ‬ ‫يف هذه املؤلفات جميعها عنارص ملا َّدة‬
‫تكن دراسة أوجه الشبه واالختالف وأشكال التأثري ووجوهها تحتاج إىل دراسة مستقلَّة‪ ،‬وهي دراسة‬
‫عىل درجة كربى من األهميَّة‪ ،‬فإنَّنا نكتفي‪ ،‬يف هذا املقام باإلشارة إىل أ َّن العطَّار‪ ،‬وإن يكن قد اطَّلع‬
‫عىل هذه املؤلَّفات‪ ،‬أو عىل عدد منها‪( ،‬ومن املعروف أنَّه كان مثقَّفاً قرأ أربعمئة كتاب ليع َّد تذكرة‬
‫األولياء) وأفاد منها‪ ،‬فإن إفادته تقترص عىل اختيار عنارص من املا َّدة التي ورثها من الرتاث‪ .‬ومل‬
‫الغني‪ ،‬وإنَّ ا اعاد إنتاج املا َّدة التي اختارها منه وصياغتها يف بناء جديد يتمثَّل يف‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬
‫يكتف باإلرث‬
‫خاصة‪ .‬وهذا ما نحتاج إليه يف استلهام تراثنا‪.‬‬ ‫َّ‬ ‫فريد مختلف‪ ،‬ينطق برؤية‬ ‫نظام من العالقات ٍ‬
‫‪ 4--6‬بني�ة ِّ‬
‫القص‪:‬‬
‫استفاد العطَّار من أسالفه‪ ،‬فشكَّل تراثهم مك ِّوناً من مك ِّونات تجربته التي انبثقت عنها رؤية‬
‫عم أبدعه العطَّار فينبغي أن نسأل‬ ‫خاصة ولَّدت منظومة قصص َّية جديدة‪ .‬وإن كان لنا أن نسأل َّ‬ ‫َّ‬
‫عن ال ِّنظام اللُّغوي القصيص ذي الفاعل َّية الذي أنشأه العطَّار لينطق برسالته ويوصلها إىل املتلقِّي‬
‫من طريق البناء اللُّغوي الذي تح َّدثنا عن مراجعه قبل قليل‪ .‬وهذا ما سوف نتب َّينه يف السياق العام‬
‫لدراستنا‪.‬‬
‫تذكري بتوظيف االسم ‪ :‬وميكن أن نذكِّر‪ ،‬استنادا ً إىل ما سبق‪ ،‬بأ َّن العطَّار‪ ،‬وإن مل يكن قد ابتدع‬
‫خاصة‪ ،‬وأجاد توظيفه‪ ،‬بداللته هذه‪ ،‬يف نظام العالقات الذي بدأ نسيجه‬ ‫َّ‬ ‫االسم‪ ،‬فإنَّه أعطاه داللة‬
‫فتتبي لنا‬
‫َّ‬ ‫ضعت التسمية‪ .‬وميكن أن نرصد منو حركة النسيج إىل اكتامل تشكُّله‬ ‫يتح َّرك منذ أن ُو ِ‬
‫كيفية إعادة إنتاج املا َّدة املختارة من القصص الشعبي والكتاب املؤلَّفة وفنية ذلك‪ .‬وإنَّه ملن‬
‫القصة من حدث ورا ٍو وشخصيات ورموز‬ ‫الرضوري‪ ،‬قبل ذلك أن نتع َّرف العنارص األساس يف هذه َّ‬
‫وزمان ومكان‪.‬‬
‫‪ .5--6‬عناصر ِّ‬
‫القص األساس‪:‬‬
‫(‪ )1‬الحدث‪ :‬اجتمعت طيور ال ُّدنيا لتبحث عن ملك لها‪ ،‬فيخربها الهدهد بوجود ملكها‬
‫“السيمرغ” خلف جبل قاف‪ ،‬فتق ِّرر ال َّرحيل إليه‪ ،‬مختارة الهدهد مرشدا ً لها‪ ،‬فيخربها الهدهد‬
‫بصعوبات الطريق‪ .‬تعتذر طيور‪ ،‬وتسأل أخرى‪ ،‬ويكشف الهدهد أودية الرحلة السبعة‪ .‬ترحل‬

‫[[[‪ -‬راجع للمزيد‪ :‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪ ،531 .‬وبدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪ ، 2 .‬واىل هذين املرجعني عدنا بغية معرفة‬
‫هذه املؤلَّفات ‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫الطيور‪ ،‬فيهلك منها الكثري‪ ،‬وال يصل إال ثالثون طائرا ً ترى أنَّها هي نفسها “السيمرغ”‪.‬‬
‫للقصة – اإلطار‪ ،‬وقد نُضِّ دت يف سياقه حكايات عديدة تختلف‬
‫َّ‬ ‫هذا هو الحدث الرئييس العام‪،‬‬
‫طوالً وقرصا ً‪ ،‬فتطول إىل أن تبلغ أربعمئة بيت كام يف حكاية صنعان‪ ،‬وتقرص فتبلغ بيتني‪ .‬تُؤخذ‬
‫ما َّدة الحكايات من الحياة املعيشة‪ ،‬ومن كتب التاريخ‪ ،‬ومن سري األولياء‪ ،‬وتوظَّف يف إيضاح‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫حة ما يذهب إليه‪.‬‬‫الخطاب ورشحه وإثبات ص َّ‬


‫(‪ )2‬ال َّراوي‪ :‬يسوق األحداث‪ ،‬ويدير الحوار‪ ،‬ويق ِّدم الخطاب املؤيَّد بالحكايات‪ ،‬را ٍو من خارج‬
‫بكل‬
‫بكل يشء‪ ،‬ويتحكَّم ِّ‬ ‫وكأي را ٍو من رواة الحكايات نجده عاملاً ِّ‬
‫ِّ‬ ‫الحدث‪ ،‬وهو الراوي العليم ‪،‬‬
‫ٍ‬
‫حوارات يتيح فيها للشخصيات أن‬ ‫يشء أيضاً‪ ،‬ويعرف أكرث من الشَّ خصيات ‪ ،‬وهو وإن يكن يقيم‬
‫القص‪ ،‬ويصف‪ ،‬وينضِّ د حكايات توضح‬ ‫ِّ‬ ‫تتح َّدث فإنَّه يبقى مهيمناً‪ ،‬ينشئ الوضع َّية وين ِّمي حركة‬
‫وتكشف‪ ...‬ليس من حدو ٍد أمام هذا ال َّراوي ‪ ،‬لكنه يحرص عىل أن يكون مقنعا ‪.‬‬
‫الصوفيَّة ص َّوروا تجربتهم مستخدمني‬ ‫الخاصة‪ :‬من املعروف أ َّن ُّ‬ ‫َّ‬ ‫(‪ )3‬اإلشارات وال ُّرموز واللُّغة‬
‫خاصة واصطالحات رشحوها يف مؤلَّفاتهم‪ .‬ويذكر أ َّن‬ ‫َّ‬ ‫التَّمثيل واإلشارة وال َّرمز‪ ،‬فنشأت عندهم لغ ًة‬
‫محمود الشبسرتي نظم فيها كتابه “كلشن راز”‪ ،‬وأ َّن بعضهم جمعها يف معاجم‪ .‬ويعود ذلك إىل‬
‫أسباب ميكن تبيُّنها يف األقوال اآلتية‪ :‬قال العطَّار‪“ :‬يف القلب أرسار ال يُفىض بها‪/‬ليس من استطاعة‬
‫لإلبانة عنها” يف سبيل تجاوز هذا العجز كانت اللُّغة اإلشاريَّة وال ُّرموز‪ ،‬واملتلقُّون‪ ،‬حيال ذلك‪ ،‬إ َّما‬
‫والصفة” يذهبون “من الصورة إىل املعنى أحرارا ً لريوا روح القدس يف دحية الكلبي‬ ‫ِّ‬ ‫“أهل الذَّوق‬
‫والصورة”‪،‬‬ ‫ُّ‬ ‫(إشارة إىل أ َّن جربيل كان يظهر للرسول بهيئة الصحايب دحية الكلبي)‪ ،‬أو “أهل الظاهر‬
‫الذين يرون يوسف يف مالبسه املتن ِّوعة‪ ،‬فهؤالء ال يرجعون بال فائدة أيضاً‪ .‬وقد أكَّد ابن عريب‪،‬‬
‫يف “ترجامن األشواق” وجود وجهني للغته‪ ،‬طالباً رصف الخاطر عن ظاهرها‪ ،‬فقال‪“ :‬كل ما أذكره‬
‫[[[‬
‫كل ما‪/...‬فارصف الخاطر عن ظاهرها‪/‬واطلب الباطن حتى تعلَّام”‬ ‫من طللٍ ‪/‬أو ربوع‪ ،‬أو مغانٍ ‪ّ ،‬‬
‫وإن يكن العطار قد رمز إىل النفوس البرشيَّة بالطيور‪ ،‬فهذا ال َّرمز قديم ج َّدا ً‪ ،‬فقد ورد‪ ،‬يف‬
‫الحديث الرشيف‪ ،‬أ َّن أرواح الشهداء طيور خرض ‪.‬‬
‫يف هذه الطَّريق تسعى طيور “منطق الطَّري”‪ ،‬بقيادة مرشدها الهدهد‪ ،‬بحثاً عن “السيمرغ”‪ ،‬رمز‬
‫الصوف َّية اسم املقامات‪ ،‬وهي مراحل الوصول‬ ‫الذَّات اإلله َّية‪ .‬متثِّل األودية السبعة ما يطلق عليه ُّ‬
‫إىل الهدف‪ .‬والحديث عن املقامات عند الصوف َّية كثري ‪ 0‬واملالحظ أ َّن العطَّار يف “مصيبت نامه”‬
‫كشف عن خمس مراحل أضاف إليها يف “منطق الطَّري” مرحلتي الطَّلب والفناء‪ .‬وقد يكون اسم‬

‫[[[‪ -‬راجع للمزيد‪ :‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪ ،364 .‬وعبد الوهاب عزام‪ ،‬التصوف وفريد الدين العطار‪ ،‬بريوت ‪ :‬دار إحياء الكتب‬
‫العربية‪ ،‬ط‪ ،1945 ، 1 .‬ص‪. 54 .‬‬

‫‪273‬‬
‫أفنان‬

‫األودية الذي أطلق عىل املقامات مقتبساً من كتاب “منازل السائرين” أليب إسامعيل عبد الله‬
‫األنصاري الهروي (‪ +481‬هـ‪1088 – .‬م‪.).‬‬

‫الصوف َّية عظيم‪ ،‬وميكن لقول أيب يزيد‬


‫ميثِّل الهدهد دور مرشد الطريق‪ .‬ودور املرشد لدى ُّ‬
‫البسطامي اآليت أن يشري إليه‪“ :‬من مل يكن له أستاذ إمامه الشيطان”[[[ يختار العطَّار الهدهد رمزا ً‬
‫للمرشد‪ ،‬متأثرا ً مبا ورد عنه يف القرآن الكريم‪ ،‬غري أنَّه َّ‬
‫غي يف صفته فجعله املرشد املطاع‪ ،‬له الحل‬
‫والعقد واألمر‪ ،‬وهو العارف والقادر عىل إدارة الرصاع الدائر داخل نفوس الطيور وحسمه‪ ،‬من‬
‫الكل القدرة؛ األمر الذي يجعلنا نتح َّدث عن‬
‫ّ‬ ‫طريق ر ِّد أعذارهم واإلجابة عن أسئلتهم‪ ،‬فهو البطل‬
‫شبه بينه وبني بطل امللحمة‪ ،‬وإن يكن يف ميدان آخر هو ميدان الصِّ اع داخل الذَّات‪ .‬وهكذا يكون‬
‫األعداء رغبات النفس وشهواتها‪ .‬ويرمز إليهم بالطيور األخرى‪ ،‬وهذا ما سنتح َّدث عنه بعد قليل‪،‬‬
‫وما نو ُّد أن نشري إليه هنا هو أن األسئلة‪/‬املشاكل متثِّل أعداء هذا البطل والشخص َّيات األخرى =‬
‫الطُّيور التي يريد تحويلها‪ ...‬ويرمز “السيمرغ” إىل الذَّات اإلله َّية‪ .‬ويبدو أ َّن العطَّار قد اختار هذا‬
‫االسم بعناية ودراية‪ .‬فهو‪ ،‬وإن يكن اسم طائر أسطوري ال وجود له‪ ،‬إالَّ أنَّه يحمل إشارات أُجِيد‬
‫القصة‪ .‬واسم “سني مورغ”‪ ،‬أو “سينا مريغا”[[[‪ ،‬أو “سني مور” مرتبط‬
‫توظيفها يف بناء نظام عالقات َّ‬
‫باألصول القدمية‪.‬‬

‫يبدو أ َّن العطَّار استقى االسم ذا الداللة عىل امللك والعظمة والخصب والشِّ فاء والبعد الخ‪...‬‬
‫الصلة بجبل قاف “أو مبا وراءه‪ ،‬وباملقام السابع وبالثالثني لوناً‪( ،‬وهذه اإلشارة ذات داللة‬
‫وذا ِّ‬
‫أل َّن عدد الطُّيور الواصلة كان ثالثني طريا ً‪ .‬وعندما نظرت إىل “السيمرغ” رأت ثالثني طائرا ً أي‬
‫أنفسها)‪ ...‬يبدو أنه اختار االسم ذا الداللة وح َّور يف نطقه حتى يتمكَّن من أداء رؤيته يف الفناء‬
‫والبقاء‪ ،‬بعد إمتام الجناس بني “سيمرغ”‪ ،‬رمز الذات اإلله َّية و”يس مرغ” ال َّدالة عىل عدد الطيور‬
‫يتوصل إىل أداء رؤيته عن وحدة الشهود وبيان‬
‫َّ‬ ‫الثالثني التي وصلت‪ ...‬وقد وظَّف ذلك كله حتى‬
‫وصول ال ُّروح إىل وطنها وطأمنينتها هناك‪ ،‬وتك ُّون الويل بعد إمتام التح ُّول‪ ،‬وهذا هو محور الكتاب‬
‫أو رسالته األساس‪.‬‬

‫كل طائر إىل أمنوذج إنساين‪ .‬ومن هذه الرموز‪/‬النامذج‪:‬‬


‫متثَّل الطيور النفوس البرشيَّة فريمز ُّ‬
‫محب الجامل‪ ،‬من أهل الظاهر‪ ،‬ولعلَّه الشَّ اعر‪ ،‬أو الفنان‪ .‬الببغاء‪:‬‬
‫ّ‬ ‫الهدهد‪ :‬املرشد‪ .‬البلبل‪ :‬العاشق‪،‬‬

‫[[[‪ -‬التصوف اإلسالمي‪ ،‬نصوص جمعها وقدم لها د‪ .‬ألبري نرصي نادر‪ ،‬بريوت ‪ :‬املطبعة الكاثولبكية‪ ،‬ط‪ 1960 ، 1.‬م‪ ، .‬ص‪74.‬‬
‫[[[‪ -‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص ‪. 546 – 541‬‬

‫‪274‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫املقلِّد التابع‪ ،‬املتهالك عىل متع الحياة‪ .‬الطاووس‪ :‬العابد‪ ،‬من أهل الظاهر‪ ،‬رغبة يف الج َّنة وخوفاً‬
‫نقي ال ُّروح‪ ،‬موسوس بالطَّهارة الخارجيَّة‪ .‬القبج‪ :‬محب املال‬
‫من ال َنار‪ .‬البطّ‪ :‬طاهر الجسد غري ِّ‬
‫والجواهر‪ .‬الهامي‪ :‬مستغل الزهد للجاه والرثوة‪ ،‬مالك الحزين‪ :‬البخيل الكئيب‪ .‬البوم‪ :‬معتزل‬
‫الناس وعاشق الكنز‪ .‬الصعوة‪ :‬املتذ ِّرع بالضّ عف واملذلَّة‪ .‬الباز‪ :‬صاحب السلطان ورجله إلخ‪...‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫يريد الهدهد أن يح ِّول هؤالء جميعهم إىل أولياء‪ ،‬أي يريد أن يوصلهم إىل مرتبة تفنى فيها‬
‫صفاتهم هذه‪ .‬وهذه هي رحلة الصِّ اع الذي يدور يف ال َّداخل‪ ،‬ويت ُّم االنتصار عىل “أعذار” هؤالء‬
‫ومشاكلهم املتمثِّلة بأسئلتهم‪ .‬وهذه األسئلة متثِّل رموزا ً أخرى تتد َّرج صعودا ً‪.‬‬

‫مل يقف العطَّار‪ ،‬كام يبدو‪ ،‬عند حدود ال َّرمز العام املعروف واملتداول‪ ،‬وإنَّ ا ط َّوره‪ :‬تحديدا ً‬
‫ِ‬
‫يكتف باإلشارة إىل ال َّرمز وما ميثِّله‪ ،‬وإنَّ ا‬ ‫وتنويعاً ووظَّفه يف سياق ال ِّنظام العام الذي ينشئه‪ ،‬ومل‬
‫كل طائر ينطق بعذره‪ ،‬ث َّم أتاح للطيور أن تعرض مشكالتها‬
‫وصف املظهر ذا ال َّداللة الكاشفة‪ ،‬وجعل َّ‬
‫يف التح ُّول‪ ،‬من طريق األسئلة‪ ،‬ويف هذا إشارة إىل بيان كل ما ميكن أن يعرض للمريد السالك‪،‬‬
‫ولعل هذا يعني أ َّن الطيور بدأت تبارش مواجهة مشكالت الطريق‪،‬‬
‫َّ‬ ‫وهو يسلك الطريق إىل هدفه‪.‬‬
‫وإن يكن عىل مستوى الشعور بها وصوغ أسئلتها‪ ،‬بحثاً عن إجابات يق ِّدمها املرشد‪ ،‬هادي الطريق‪،‬‬
‫طاهر الرأي إلخ‪ ...‬من ألقاب كانت الطيور تطلقها عىل الهدهد عندما كانت تخاطبه‪.‬‬

‫(‪ )4‬ال َّزمان واملكان‪ :‬ال تتقيَّد رحلة التح ُّول بشخصيات معيَّنة ملموسة‪ ،‬وال تتقيَّد‪ ،‬أيضاً‪ ،‬بزمان‬
‫ومكان مح َّددين محدودين‪ .‬فالفعل يتح َّرك يف حيِّز زماين مكاين مفتوح‪ ،‬مطلق‪ .‬وك َّنا قد أرشنا إىل‬
‫أ َّن راوي هذه ال ِّرحلة “يشطح” بحريَّة تتيح له أن يُحرض أياً كان‪ :‬ميتاً كان أم ح َّياً‪ ،‬وأن يتنقَّل كيفام‬
‫يشاء‪ ...‬إنَّه يتعامل مبقاييس مختلفة عن املقاييس املتداولة يف عاملنا‪ .‬إ َّن له عاملاً ال حدود له‬
‫الخاصة التي سبق أن عرفناها‪...‬‬
‫َّ‬ ‫سوى ما يضعه هو من حدود متأث ِّرا ً مبعرفته‬

‫فسمه “ذلك الزمن”‪ ،‬وتح َّدث عن “مئة ألف قرن‪،‬‬


‫وقد أشار العطَّار إىل زمن رحلته املختلف‪َّ ،‬‬
‫كانت قروناً بال بداية وال نهاية وال زمن”‪ .‬وأشار إىل مكانها فقال‪“ :‬هناك”‪“ :‬وغ َّرد كالهام (البلبل‬
‫سمه “ذلك ال َّزمان” وزمان‬
‫القمري) هناك يف ذلك الزمان”‪ .‬ونالحظ أنَّه مييِّز بني زمنني‪ ،‬هذا الذي َّ‬
‫آخر يس ِّميه “هذا ال َّزمان”‪ ،‬فيقول‪ ،‬مخاطباً “الهامي” الذي افتخر بأنَّه يت ِّوج امللوك‪“ :‬ما عاد لك‬
‫تنصيب امللوك يف هذا ال َّزمان”‪.‬‬

‫إ َّن اإلفالت من تعيني الشخصيات وال َّزمان واملكان يقصد إىل جعل ال َّداللة مطلقة‪ .‬وهذا ما‬

‫‪275‬‬
‫أفنان‬

‫يريده العطَّار‪ ،‬وقد اختار ما يخدم رؤيته التي يريد لها أن تبقى إىل يوم القيامة‪ .‬وقد م َّر بنا أنَّه يتح َّدث‬
‫عن خلود منظومته وعن مجيء من ينصفه‪.‬‬
‫ِّ‬
‫تشكل بني�ة َّ‬
‫القصة‪:‬‬ ‫حركة‬
‫تنتظم هذه العنارص‪ ،‬وسواها من عنارص أخرى‪ ،‬كالوصف الذي آثرنا أن نبيِّ خصائصه موضعياً‬
‫السياق‪ ،‬يف نظام عالقات[[[ ميكن أن نتتبَّع حركة تشكُّله إىل اكتامل كام يأيت‪:‬‬
‫يف هذا ِّ‬
‫حب ال َّراوي بالهدهد والطُّيور األخرى‪ ،‬فيق ِّدم الشَّ خصيات‪ ،‬ويلمح إىل‬ ‫(‪ )1‬استهالل‪ :‬ير ِّ‬
‫خصائصها‪ ،‬مشريا ً إىل ما ترمز إليه‪ ،‬ويق ِّرر ال َّزمان واملكان‪ .‬يربز الهدهد من بني هذه الطُّيور‪ ،‬وكأ َّن‬
‫ذلك متهيد لصريورته بطل الحكاية‪.‬‬

‫(‪ )2‬بدء الحدث‪ :‬تبدأ الحكاية ب”التوازن”‪ ،‬ثم يحدث الفقد‪ ،‬وهو معرفة الطُّيور بحاجتها‬
‫إىل ملك واجتامعها للبحث عنه‪ .‬ويقول الهدهد‪( ،‬وهذه تقنية يستخدمها ال َّراوي ليوهم بواقع َّية‬
‫القصة)‪ :‬أ َّن امللك هو السيمرغ‪ ،‬الساكن خلف جبل قاف‪ ،‬والطَّريق إليه طويل دونه أرض وبحار‪...‬‬
‫َّ‬
‫ويالحظ‪ ،‬هنا‪ ،‬الرتكيز عىل الصعوبات وإظهار العجز‪ ،‬وذلك من أجل تكوين الشعور بالحاجة إىل‬
‫مرشد‪/‬بطل‪ ،‬وقد استخدم هذا القسم يف التمهيد لظهور البطل‪ .‬وهكذا‪ ،‬يبدأ تح ُّرك الحدث من‬
‫إدراك ال َفقْد والحاجة إىل تعويضه‪ ،‬وصعوبات ذلك‪ ،‬ما يقتيض وجود بطل‪.‬‬

‫(‪ )3‬معرفة هدف الفعل‪ ،‬وتحديده وبيان مع ِّوقات الوصول إليه‪/‬بروز الحاجة إىل بطل‪ :‬يحيك‬
‫الصني‪ ،‬فعشقه ال َّناس من خالل آثاره‪ .‬وذكر‬
‫ال َّراوي حادثة تجلِّ السيمرغ‪ ...،‬سقطت ريشة منه يف ِّ‬
‫الصني”‪،‬‬
‫الشيف‪“ :‬اطلبوا العلم ولو يف ِّ‬
‫الصني هنا كناية عن بعد املسافة‪ ،‬وإشارة إىل الحديث َّ‬
‫ِّ‬
‫وداللته اإلشارة إىل البعد أيضاً‪ ،‬وبذل الجهد بغية تحصيل العلم‪ ،‬وهكذا يستخدم هذا العنرص‬
‫أيضاً يف الحثِّ عىل بذل الجهد‪ .‬ويشكِّل تجلِّ السيمرغ بآثاره شوقاً لدى الطُّيور وعزماً‪ ،‬غري‬
‫أنَّهام ميتزجان بالخوف من طول الطريق وصعوبتها؛ األمر الذي يربز الحاجة إىل بطلٍ يواجه هذا‬
‫الخوف‪ ،‬وهكذا ح َّدد ال َّراوي موضوع الصِّ اع والحاجة إىل بطلٍ قادر يديره ويحسمه‪.‬‬

‫(‪ )4‬اختبار البطل‪/‬حوار يف شأن إمكان َّية تحقُّق الفعل‪ :‬يدير ال َّراوي حوارا ً بني الهدهد – مرشح‬
‫بطل‪ :‬مرشد وبني الطُّيور‪ ،‬ويكتفي ال َّراوي‪ ،‬هنا‪ ،‬بالتَّهيئة للحوار‪ ،‬ويرسد حكاية تثبت صدق محبة‬

‫[[[‪ -‬النزعم أن هذا النظام هو األمنوذج لهذا النوع من القص ‪ ،‬اذ ان وضع النظام ‪ /‬األمنوذح يحتاج اىل دراسة الكثري من النامذج القصصية‬
‫املختارة بعناية ودراية واستقرائها‪ ،‬وعىس أن يكون ماأنجزناه اسهاماً يف جهود تحتاج اىل ترجامت تعرف باألدب اإلسالمي يف جميع‬
‫األقطار اإلسالمية‪ ،‬فال تبقى معرفة أبنائه مقترصة عىل األدب الغريب‪ ،‬بوصفه األدب املركزي يف العامل ‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫الهدهد‪ .‬تبدي الطُّيور أعذارها‪ :‬واحدا ً واحدا ً‪ ،‬ويجيب الهدهد عىل خطاب كل منها‪ ،‬وتتشكَّل‬
‫الحركة‪ ،‬هنا‪ ،‬وهي قريبة من الحركة عىل املرسح‪ ،‬كام يأيت‪:‬‬

‫ونص خطابه = رسد ‪ +‬وصف ‪ +‬خطاب‪.‬‬


‫ِّ‬ ‫ال َّراوي يق ِّدم الطَّائر من طريق وصف حركته ومظهره‬
‫نص إجابته = رسد ‪ +‬خطاب‪ .‬ال َّراوي يق ِّدم حكاية = رسد ‪ +‬خطاب‪،‬‬
‫ال َّراوي يق ِّدم الهدهد من طريق ِّ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫وتالحظ غزارة الحكايات يف هذه الوحدة‪ ،‬وصلتها الوطيدة بسياق ما يناقش‪.‬‬

‫تتَّضح وظيفة األعذار والر ِّد‪ ،‬خطاباً وحكايات‪ ،‬يف إنضاج قرار ال َّرحيل‪ .‬فام إن تسمع الطُّيور‬
‫الكل األرسار القدمية‪ ،‬ووجد الجميع نسباً يربطهم‬
‫ُّ‬ ‫جميعاً الكالم – يقول ال َّراوي – حتى أدرك‬
‫السري من دون خوف‪ .‬ويرسد‪ ،‬هنا‪ ،‬حكاية الشيخ‬‫بالسيمرغ‪ ،‬فال جرم أن تولَّدت لديهم الرغبة يف َّ‬
‫صنعان الذي عقد الزنار بعد عشقه الفتاة املسيحية‪ ...‬حيث يت ُّم يف هذه الحكاية ُّ‬
‫تعث تعقبه نجاة‬
‫القصة وظيفتها‪ ،‬إذ يق ِّرر‬
‫َّ‬ ‫بعد رصاع بني القلب والنفس‪ .‬وينتهي الصِّ اع بانتصار القلب‪ ،‬وتؤيت‬
‫والسري إىل السيمرغ‪ ...‬وهكذا تكون الحكاية منتظمة يف تنمية السياق إىل‬
‫الجميع ترك ال ُّروح َّ‬
‫إنضاج قرار ال َّرحيل وبدء الصِّ اع داخل نفوس تهيأت له‪ ،‬وصار عليها أن تختار قائدها ومرشدها‪/‬‬
‫البطل‪.‬‬

‫(‪ )5‬اتخاذ قرار الخروج ‪ ،‬واختيار البطل‪ :‬ته َّيأ الهدهد ألن يكون املرشد‪/‬البطل يف طريق‬
‫جهة بنظرة معرفة إلهيَّة‪ ،‬وهذا ينسجم مع طبيعة املعرفة‪،‬‬
‫االختبار‪ .‬ولك َّن اختياره يت ُّم بالقرعة املو َّ‬
‫التي ترشد وتوصل‪ .‬ويصل املرشد إىل موقعه ليس بالفضَّ ة والذَّهب وال بكرثة الطَّاعة‪ ،‬وإنَّ ا بح ٍّ‬
‫ظ‬
‫وإقبال تؤتيهام نظرة إله َّية‪.‬‬

‫الصاع = مواجهة املع ِّوقات‪ :‬صوغ أسئلتها واإلجابات‪ :‬تق ِّرر الطُّيور ال َّرحيل‪ ،‬ويصبح ٌّ‬
‫كل‬ ‫(‪ِّ )6‬‬
‫منها مريدا ً‪ ،...‬واملريد‪ ،‬كام هو معروف عند الصوف َّية‪ ،‬يتبع مجموعة قواعد يفرضها مرشده‪ ،‬ث َّم يبدأ‬
‫القصة‪ ،‬قبل سفر الطُّيور إعداد يجري‬
‫َّ‬ ‫السفر‪ ،‬فيم ُّر بجملة مقامات ترافقها أحوال‪ ...‬ويحدث‪ ،‬يف‬
‫َّ‬
‫خالله رصاع داخيل‪...‬‬

‫تصل الطُّيور إىل أ َّول الوادي‪ ،‬فيسود الخوف‪ ...‬وتكون هذه اللَّحظة “من” البطل‪/‬املرشد‪ ،‬إذ‬
‫يتدخَّل ليدير الصِّ اع ضد املع ِّوقات‪ :‬العوامل املضا َّدة‪ .‬ومل َّا كان الصِّ اع داخليَّاً تت ُّم إقامة ج ٍّو‪/‬‬
‫فضاء يساعد عىل حسمه واالنتصار فيه‪ .‬فيقام من أجل ذلك مجلس مي ِّهد البلبل والقمري له‪،‬‬
‫ويغ ِّردان بأعذب األلحان‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫أفنان‬

‫تالحظ هنا‪ ،‬عناية العطَّار برسم املشهد؛ حيث يغ ِّرد العصفوران عند بدء الجلسة‪ .‬ويف هذا‬
‫إشارة إىل ما كانت تشهده حفالت الذِّكر الصوف َّية من طقوس تع ُّد نوعاً من تهيئة املريد إىل َّ‬
‫السامع‬
‫وال ُّدخول يف الحال؛ املتمثِّل بتعطيل الوعي‪ ،‬وهذا دخول يف ما أطلق عليه العطَّار‪ ،‬يف مرحلة تالية‬
‫القص‪ ،‬اسم الفناء‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫من‬

‫وتتجل‪ ،‬يف هذه الوحدة‪ ،‬مقدرة العطَّار عىل‬


‫َّ‬ ‫تسود الدهشة وتتهيَّأ حالة البوح باملشكالت‪...‬‬
‫اإلحاطة باملشكالت التي ميكن للمريد أن يواجهها‪ ،‬فيعرضها ال َّراوي عىل ألسنة الطُّيور ويناقشها‬
‫الهدهد‪ .‬يطرح الطَّائر‪ ،‬غري مح َّدد االسم السؤال‪ ،‬وعدم التَّسمية تعود إىل ُّ ٍ‬
‫تغي حدث أفقد الطُّيور‬
‫التغي سببه ردود املرشد‪ .‬يصغي املرشد إليه‬
‫ُّ‬ ‫خصوصيتها التي بدت يف الوحدة السابقة‪ .‬وهذا‬
‫ويجيب‪ ،‬ث َّم يثبت صدق إجابته‪ :‬الخطاب بعدد من الحكايات‪ ،‬واملالحظ أ َّن الحكايات تكرث هنا‪،‬‬
‫التكيز عىل التَّأثري واإلقناع بغية الوصول إىل الطَّاعة التي هي املبدأ األهم‪.‬‬
‫ويت ُّم َّ‬
‫تغي األحوال‪ ،‬إطاعة‬
‫تشمل األسئلة العديد من املشكالت‪ ،‬وهي‪ :‬متيُّز الويل‪ ،‬الضعف‪ ،‬اإلثم‪ُّ ،‬‬
‫الشَّ هوات‪ ،‬الغرور وال َّزهو‪ ،‬عشق ال ُّدنيا وذهبها‪ ،‬امتالك السلطة‪ ،‬العشق‪ ،‬الخوف من املوت‪ ،‬الحزن‬
‫واليأس‪ ،‬سبل تنفيذ األمر‪ ،‬زيادة اله َّمة‪ ،‬اإلنصاف والوفاء‪ ،‬الجرأة يف تلك الحرضة‪ ،‬النشوة بعشق‬
‫بالسفر‪ ،‬ما يطلب من السيمرغ‪ ،‬البضاعة الرائجة هناك‪.‬‬
‫السور َّ‬
‫الحبيب‪ ،‬الظَّن ببلوغ الكامل‪ُّ ،‬‬
‫إ َّن الطُّيور التي اختارت مرشدها تريد أن تعرف‪ ،‬فتكون اإلجابات جهدا ً يف سبيل إعادة تشكيل‬
‫شخصيَّات املريدين الذين أبدوا األعذار‪ ،‬فهي تحقِّق االنتامء والجدارة بعدما حقَّقت مناقشة أعذار‬
‫ُحض لتكون األبطال‪/‬األولياء الذين سوف يت ُّم‬
‫االنتساب‪ ،‬وبهذا تتح َّول العوامل املضا َّدة‪ ،‬أو ت َّ‬
‫اختبارهم يف ما بعد ‪.‬‬

‫الصاع = مواجهة املع ِّوقات‪ :‬املقامات وتجاوزها‪ :‬يذكر ال َّراوي األودية السبعة – املقامات‪،‬‬
‫(‪ِّ )7‬‬
‫وهي كام يقول‪“ :‬إ َّن وادي الطَّلب هو أ َّول العمل‪/‬وبعده وادي العشق الذي ال ساحل له‪/‬ث َّم الثالث‬
‫وادي املعرفة‪/‬ث َّم ال َّرابع وادي صفة االستغناء‪/‬ث َّم الخامس وادي التوحيد الطَّاهر‪/‬ث َّم السادس وادي‬
‫الصعب‪/‬والوادي السابع هو وادي الفقر والفناء‪/‬وبعد ذلك لن يكون لك سري‪/‬وتقع يف‬
‫الحرية َّ‬
‫السري‪ ،‬فإن تكن قطرة تصبح قلزماً”‪ ،‬ث َّم يصفها‪ ،‬ويه ِّول يف وصفه‪ ،‬وتكاد‬
‫الجذبة في َّمحي عنك َّ‬
‫معاملها تختلط‪ ،‬وتتألَّق يف وادي العشق شاعريَّة العطَّار‪.‬‬

‫للسفر‬
‫ويف مسار الصِّ اع (صوغ األسئلة وأجوبتها‪ ،‬وتجاوز املقامات) يت ُّم إعداد املريدين َّ‬
‫للسفر إليه‪.‬‬
‫والتح ُّول إىل أولياء‪/‬أبطال‪ ،‬وهم يعتقدون بأنَّهم يبحثون عن ملك‪ ،‬ويستَّعدون َّ‬

‫‪278‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫(‪ )8‬إنجاز الفعل = الوصول‪ :‬استطاع ثالثون طائرا ً قطع الطَّريق إىل الحرضة‪ ،‬بعد أن فقدت‬
‫األجنحة وال ِّريش‪ ،‬فرأت الحرضة‪ ،‬وهي من دون وصف أو صفة‪ ،‬تسمو عىل اإلدراك والعقل‬
‫واملعرفة‪...‬‬

‫ويبدو الفعل‪ ،‬يف هذه املرحلة‪ ،‬كأنَّه أخفق‪ ،‬أو كأ َّن العجز أصاب القامئني به ومرشدهم يف‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الوقت نفسه‪ .‬وهنا‪ ،‬يف هذه الوضعيَّة‪ ،‬تنشأ الحاجة إىل شخصيَّة مساعدة تحقِّق هدف الفعل الذي‬
‫أنجز بسعي البطل‪.‬‬

‫(‪ )9‬االختبار املم ِّهد لتحقُّق الهدف‪ :‬تجري االختبار شخص َّية مساعدة‪ ،‬تقتيض الوضع َّية الناشئة‬
‫حضورها وتدخلها‪ ،‬فيتق َّدم حاجب الع َّزة ويسأل الطُّيور عن غرضها‪ ،‬فتجيب بأنَّها تريد أن يكون‬
‫السيمرغ ملكاً عليها‪ ،‬فيقول الحاجب‪“ :‬أن تكونوا أو ال تكونوا يف العامل فهو السلطان املطلق‬
‫تحس الطُّيور بالذُّل‪ ،‬فيتدخَّل البطل يف اللحظة املناسبة ليقول‪ :‬ليس الذُّل منه سوى‬ ‫ُّ‬ ‫الدائم”‪.‬‬
‫ع ٍّز وسؤدد‪ ،‬ويؤيد ال َّراوي ذلك بثالث حكايات توضِّ ح طبيعة العالقة بني الطُّيور والسيمرغ‪ ،‬فتق ُّر‬
‫الطُّيور بسلطان السيمرغ املطلق‪ ،‬فتنشأ وضعية جديدة‪ ،‬تتيح تدخُّل شخص َّية مساعدة أخرى هي‬
‫حاجب اللُّطف الذي يفتح الباب‪ ،‬ويجلس الطُّيور ويق ِّدم لها رقعة فيها كل ما فعلت‪ ،‬ويحيك‬
‫مم‬
‫ال َّراوي حكايات منها حكاية يوسف الذي أقرأ إخوته وثيقة بيعه‪ ،‬فتخجل الطُّيور وتتخَّلص َّ‬
‫يس ِّميه ال َّراوي يوسف َّية ال َّنفس‪ ،‬أو خنزيرها أو أفعاها‪ ...‬وهذه الحالة هي ما يجب التط ُّهر منه‪ ،‬واألمر‬
‫حذفت منه حكاية يوسف‪.‬‬
‫النص ال يفهم إن ُ‬
‫َّ‬ ‫الذي يؤكِّد عضويَّة الحكايات املنضِّ دة يف اإلطار أ َّن‬

‫(‪ )10‬تحقُّق الهدف‪ :‬يتحقَّق الهدف‪ ،‬وهو ليس العثور عىل امللك‪ ،‬وإنَّ ا فناء الطُّيور من نح ٍو‬
‫أ َّول وبقاؤها من نح ٍو ثانٍ ‪ ،‬ويت ُّم ذلك بفعل نور الحرضة‪ .‬وهذا ما حدث عندما ت َّم اختيار الهدهد‪،‬‬
‫يفس غيابه ألنَّه صار واحدا ً من الطُّيور الواصلة إىل مرتبة األولياء‪ .‬والفناء‪ ،‬هنا‪ ،‬يعني‬
‫األمر الذي ِّ‬
‫خالص اإلنسان من كل مايعوق وصوله اىل الحبيب‪.‬‬

‫وهكذا غدت هذه الطُّيور أولياء‪ ،‬أو ممثِّيل اإلنسان الكامل‪ ،‬وانضموا إىل السابقني من األولياء ‪.‬‬

‫القصة برسالتها ال يكمل العطَّار الكالم عىل البقاء‪ ،‬أل َّن ذلك يحتاج إىل كتاب‬
‫َّ‬ ‫وإذا نطقت‬
‫جديد‪ ،‬وليس بني أيدينا ما يفيد أنَّه كتب هذا الكتاب‪.‬‬

‫نص للعطَّار نفسه يف فهم تحقُّق هدف الطُّيور التي ترمز إىل روح اإلنسان‪،‬‬
‫وميكن أن نفيد من ٍّ‬
‫إذ يقول العطَّار‪“ :‬أيَّتها ال ُّروح جئت من العامل الذي ال يح ُّد‪ ،‬فريدة يف جاملك‪ ،‬ولبثت يف املا َّدة‪،‬‬

‫‪279‬‬
‫أفنان‬

‫فال قرار لك حتى ترجعي‪ .‬أيتها ال ُّروح كيف أنت يف هذا العامل الغريب؟ كيف أنت مسلوبة كل‬
‫ضل”[[[‪ .‬ويكشف‬
‫عظمتك وجاملك؟ ال ُّروح طائر فارق العرش‪ ،‬فإن مل يجد له دليالً إىل وطنه َّ‬
‫العطَّار‪ ،‬يف منظومته أ َّن هذه ال ُّروح وجدت دليالً إىل وطنها فعادت إليه‪.‬‬

‫‪ .11‬إضاءات يف القسم الثالث‪:‬‬


‫تبي‪ ،‬ال ِّرسالة‪/‬‬
‫إ َّن حركة منو نظام العالقات إىل تشكُّله تنتهي إىل هذه الداللة؛ وهي‪ ،‬كام َّ‬
‫املحتوى التي يريد العطَّار إيصالها‪ .‬وهذا ما يلمح إليه يف القسم الثالث من املنظومة‪ ،‬عندما‬
‫يكشف‪ ،‬يف حكايات متَّصلة (الخامتة ‪ 11 +‬حكاية) يغلب عليها الخطاب‪/‬التأ ُّمل والطَّلب وال ُّدعاء‪،‬‬
‫حاله وحال الكتاب‪ ،‬وكأنَّه يق ِّدم‪ ،‬بذلك إضاءات عىل طبيعة الكتاب ووظيفته ونوع َّية قارئه‪ ...‬وعىل‬
‫رضع‬
‫الشِّ عر وال ِّدين والفلسفة‪ .‬ويق ُّر‪ ،‬يف الختام‪ ،‬يف الحكاية األخرية‪ ،‬بذنبه ويطلب املغفرة يف ت ُّ‬
‫قسمي الكتاب‪ .‬يعود‬
‫ّ‬ ‫حار يتَّخذ شكل الحكاية‪ :‬رسد ‪ +‬تأ ُّمل ‪ +‬دعاء‪ ،‬كأنَّه بذلك يعود بقارئه إىل‬
‫رضع‪.‬‬
‫رضع‪ ،‬ويعود إىل القسم الثاين بالحكاية التي يتح َّرك سياقها إىل هذا الت ُّ‬
‫إىل القسم األ َّول بالت ُّ‬
‫الحمم يجمع‬
‫َّ‬ ‫الحكاية طريفة الحدث‪ ،‬تسلِّ ‪ ،‬ومتتِّع‪ ،‬وتق ِّدم عربةً‪/‬داللة وملخَّصها أ َّن عامل‬
‫األوساخ عن جسد “أيب سعيد ميهنة”‪ ،‬ويضعها أمامه‪ ،‬فينفر منها‪ ...‬ويأيت الخطاب‪ ،‬ونذكر منه ما‬
‫يأيت‪ :‬و(‪ )...‬يا خالقي (‪ ،)...‬فاصفح عن وقاحتنا وجسارتنا‪ ،‬وال تورد دنسنا أمام أعيننا”[[[‪ .‬الحقيقة‬
‫أ َّن ال َّداللة تش ُّع كاشفة قضايا كربى بعيدا ً عن الوعظ ألنَّها وليدة إرشاقة الف ِّن املتمثِّل باستخدام‬
‫حكاية بسيطة عاديَّة يف بيان قضايا كربى مثل عالقة اإلنسان بخالقه‪ ،...‬مستخدمة لغة تتن َّوع بني‬
‫السد وكثافته وحرارة الخطاب وتدفُّقه وكثافته أيضاً‪.‬‬
‫موضوع َّية َّ‬
‫‪ .12‬بني�ة كلية َّ‬
‫دائرية تنطق بالداللة‪:‬‬
‫قصة رحلة‬
‫القصة – اإلطار‪َّ ،‬‬
‫َّ‬ ‫إنَّنا‪ ،‬ونحن نقرأ هذه الحكاية بقسميها‪ ،‬نتذكَّر أمرين‪ :‬أ َّولهام خامتة‬
‫كل ما‬
‫الطَّري‪ ،‬وذلك عندما يقرئ “حاجب اللُّطف” الطُّيور الواصلة إىل مقام الحرضة رقعة تتض َّمن َّ‬
‫وأحست بالذُّل‪ ،‬ث َّم حدث فعل التط ُّهر‬
‫َّ‬ ‫فعلته وكأنَّه بذلك يجمع لها دنسها ويريها إيَّاه‪ ...‬فخجلت‪،‬‬
‫بالتخلُّص من “يوسف َّية” ال َّنفس أو “خنزيريتها”‪ ،‬أو “أفعاها”‪ ،‬ث َّم حدث التح ُّول إىل الفناء – مقام‬

‫[[[‪ -‬عبد الوهاب عزام‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،‬ص‪. 88 .‬‬


‫[[[‪ -‬بدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،‬ص‪.445 .‬‬

‫‪280‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫األولياء‪ .‬إ َّن الخطاب‪ ،‬يف هذه الحكاية‪ ،‬ينشد ذلك اللُّطف املخلِّص‪ ،‬املط ِّهر‪ ...‬وثانيهام محتوى‬
‫القسم األ َّول‪ :‬الذكر ووظيفته‪.‬‬

‫إنَّنا‪ ،‬إذ نتذكَّر هذين األمرين‪ ،‬ندرك عالقة هذه الحكاية‪ ،‬وهي األخرية يف القسم الثالث‪ ،‬بهام‪،‬‬
‫ونشعر بإضاءتها عىل ال ِّرسالة املحتوى‪ .‬وهي ما أنشئت بنية الكتاب لتنطق بها وتوصلها‪ ...‬وإذ نعي‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫القاص ينشئ حركة دائريَّة متَّصلة تشري إىل بقاء دائم للذِّكر وللمهتدين‬
‫َّ‬ ‫يتبي لنا أ َّن الشَّ اعر –‬
‫هذا َّ‬
‫به‪ .‬هل أقول‪:‬‬

‫إ َّن هذه الحركة تنشئ بنية دائريَّة تشبه الشَّ مس‪...‬؟‬

‫إ َّن العطَّار يشري إىل ذلك‪ ،‬من طريق الوعي أو إلهام اإلرشاق‪ ،‬عندما يقول‪“ :‬وختم عليك منطق‬
‫الطَّري ومقامات الطُّيور كام ختم عىل الشَّ مس بال ُّنور”‪.‬‬

‫إنِّ أميل إىل اإلجابة بـ‪ :‬نعم‪ .‬صدقت‪ ،‬يا فريد الدين العطَّار‪ ،‬وإنِّ وإن كنت أختم دراستي‬
‫بتقرير صدقك‪ ،‬ال أنىس أنِّ بدأتها به أيضاً‪.‬‬

‫‪281‬‬
‫أفنان‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬فريد الدين‪ ،‬محمد بن ابراهيم العطار النيسابوري‪ ،‬ولد يف نيسابور سنة ‪513‬هـ‪،‬‬
‫وتويف فيها سنة ‪586‬هـ‪ .‬نشأ يف أرسة صالحة يف وقت كانت خراسان خاضعة فيها‬
‫للسالجقة‪ .‬كانت أرسته ميسورة ‪ ،‬وكان والده عطارا ً وذا ميول صوفية ‪ .‬تنسب اليه‬
‫كتب يبلغ عددها ‪114‬كتاباً ‪ .‬ويقول بعض املحققني‪ :‬إن الكتب التي تصح نسبتها‬
‫اليه عرشة كتب هي‪ :‬جواهر نامة ‪ ،‬رشح القلوب‪ ،‬الديوان ‪ ،‬مختار نامه‪ ،‬خرسو‬
‫نامه‪ ،‬الهي نامه‪ ،‬مصيبة نامة‪ ،‬تذكرة األولياء ومنطق الطري ‪ .‬يجمع املؤرخون عىل‬
‫“أن أعمدة التصوف الفاريس ثالثة هم‪ :‬سنايئ والعطار وجالل الدين الرومي “‪،‬‬
‫وهذا األخري يقول‪ ”:‬لقد طاف العطار مبدن العشق السبع ‪ . “ ...‬ويقول روبن ليفي‪،‬‬
‫يف كتاب ‪ ”:‬األدب الفاريس‪“ :‬العطار أقوى شاعر إطالقاً‪ ،‬وأقوى رمزي ‪،“ . ...‬‬
‫ويسمي جامي العطار بـ “ سيد الطائفة “ ‪.‬‬
‫‪2.2‬املثنوي شكل شعري عرفه الشعران العريب والفاريس‪ ،‬وخصوصاً الشعران‬
‫القصيص والتعليمي‪ ،‬ويُطلق عليه اسم املزدوج‪ .‬يلتزم الشاعر فيه قافية واحدة يف‬
‫شطري البيت‪ ،‬وال يلتزم تلك القافية يف القصيدة كلها ‪.‬‬
‫‪3.3‬راجع‪ ،‬يف مقتبسات هذه الفقرة‪ ،‬بدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪.440 .‬‬
‫‪4.4‬سورة فصلت‪ ،‬االَية ‪.53‬‬
‫‪5.5‬سورة البقرة‪ ،‬االَيتان ‪ 30‬و‪.31‬‬
‫‪6.6‬سورة النمل‪ ،‬االَيتان ‪16‬و‪.27‬‬
‫‪7.7‬راجع ‪ :‬بدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪152 .‬و ‪.153‬‬
‫‪8.8‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص ‪. 669 .‬‬
‫‪9.9‬يتحدث الصوفيون عن معرفة يُلهمونها بربكة مسريهم وفاقاً ملا ميليه الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬أداتها القلب‪ ،‬أو القوى الحدسية لدى اإلنسان ‪ .‬ويعرب شاعرهم عن هذه‬
‫حصلت حرفا “‪.‬‬ ‫الرؤية بقوله ‪ ”:‬فأن تقرأ علوم الناس ألفا ‪ /‬بال عشقٍ فام َّ‬
‫‪1010‬تجد ملخصاً لها يف “ قصة الحضارة “‪ ،‬بول ديورانت ‪. 343 239- /2 ،‬‬

‫‪282‬‬
‫حكائ َّية اإلرتقاء إلى عالم المعنى‬

‫‪ 1111‬راجع للمزيد‪ :‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪ ،531 .‬وبدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪،2‬‬
‫واىل هذين املرجعني عدنا بغية معرفة هذه املؤلَّفات ‪.‬‬

‫‪1212‬راجع للمزيد‪ :‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪ ،364 .‬وعبد الوهاب عزام‪ ،‬التصوف وفريد‬
‫الدين العطار‪ ،‬بريوت ‪ :‬دار إحياء الكتب العربية‪ ،‬ط‪ ،1945 ، 1 .‬ص‪. 54 .‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪ 1313‬التصوف اإلسالمي‪ ،‬نصوص جمعها وقدم لها د‪ .‬ألبري نرصي نادر‪ ،‬بريوت ‪ :‬املطبعة‬
‫الكاثولبكية‪ ،‬ط‪ 1960 ، 1.‬م‪ ، .‬ص‪. 74.‬‬

‫‪1414‬أحمد ناجي القييس‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص ‪. 546 – 541‬‬

‫‪ 1515‬النزعم أن هذا النظام هو األمنوذج لهذا النوع من القص ‪ ،‬اذ ان وضع النظام ‪ /‬األمنوذح يحتاج‬
‫اىل دراسة الكثري من النامذج القصصية املختارة بعناية ودراية واستقرائها‪ ،‬وعىس أن يكون‬
‫ماأنجزناه اسهاماً يف جهود تحتاج اىل ترجامت تعرف باألدب اإلسالمي يف جميع األقطار‬
‫اإلسالمية‪ ،‬فال تبقى معرفة أبنائه مقترصة عىل األدب الغريب‪ ،‬بوصفه األدب املركزي يف العامل‬
‫‪.‬‬

‫‪1616‬عبد الوهاب عزام‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪. 88 .‬‬

‫‪1717‬بدر محمد جمعة‪ ،‬م‪ .‬س‪ ،.‬ص‪.445 .‬‬

‫‪283‬‬
‫المحور‬

‫ي ن‬
‫وأفلوط� للباحث د‪ .‬أحمد فقيه‬ ‫األنطولو� ي ن‬
‫ب� السهروردي‬ ‫ج ي‬ ‫الوجود‬
‫ش‬
‫واإل�اق‬ ‫� الفيض‬ ‫َّ‬
‫نظري ت ْ‬ ‫معادلة االنفصال واالتصال ي ن‬
‫ب�‬
‫ي‬
‫مقدس‬
‫ي‬ ‫جاد‬
‫ِّ‬
‫التونس محمد أبو هاشم محجوب‬
‫ي‬ ‫ر‬ ‫للمفك‬ ‫"مسالك االبتداء"‬
‫َّ‬
‫الوجودية‬ ‫لمساع هايدغر‬ ‫ُمحاكاة من قرب‬
‫ي‬
‫خ�ض إبراهيم‬
‫الوجود األنطولويج بني السهروردي وأفلوطني‬
‫للباحث د‪ .‬أحمد فقيه‬
‫يت الفيض واإلرشاق‬ ‫َّ‬
‫نظري ْ‬ ‫معادلة االنفصال واالتصال بني‬

‫مقدس‬
‫ي‬ ‫جاد‬
‫ف‬ ‫ف‬
‫عر� وأستاذ ي� الفلسفة ‪ -‬مقيم ي� فرنسا‬
‫باحث ب ي‬

‫تمهيد‪:‬‬
‫“الوجود األنطولوجي” للباحث الراحل الدكتور أحمد فقيه‬
‫محاولة بحث َّية فريدة ومم َّيزة يف فضاء الكتابة الفلسف َّية واإلله َّيات‪.‬‬
‫فيه يسعى مؤلفه الستعادة مقولة الوجود إىل مجال التداول املعارص‬
‫بعدما مىض ردح طويل من الزمن تع َّرضت فيه امليتافيزيقا وأبحاثها‬
‫نطل عىل‬ ‫لإلقصاء والتجاهل من جانب الفلسفة الحديثة‪ .‬وقبل أن َّ‬
‫مضمون هذا العمل ومقصده ال ب َّد من اإللفات إىل أ َّن لهذه الدراسة‬
‫حكاية هي أدىن أن تكون تراجيديا قدريَّة ال مناص منها‪ .‬فالكتاب‬
‫باألصل هو رسالة أكادمييَّة أع َّدها الباحث لنيل الدكتوراه يف الفلسفة‬
‫يف جامعة القديس يوسف اللبنانيَّة‪ .‬وكان من املق َّرر أن تُناقش بعد‬
‫أيام قليلة من رحيله املباغت‪ .‬ولقد شاء القدر أالَّ تت َّم املناقشة‪ ،‬لكن‬
‫رئاسة الجامعة واألستاذ املرشف الربوفسور جاد حاتم شاؤوا تكرميه‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫مبا يفوق قرار الهيئة من ِّوهني بأهم َّية الدراسة وعمق تناولها ملوضوع عايل الشأن يف علم الوجود‪.‬‬
‫ومثل هذا التنويه له ما يسوغه يف الحقيقة‪ ،‬حيث أ َّن صاحب األطروحة دخل حقل الفلسفة من‬
‫بابها العايل ليدرس أنطولوجيا الوجود لدى قامتني شامختني يف تاريخ امليتافيزيقا هام السهروردي‬
‫صاحب حكمة اإلرشاق‪ ،‬وأفلوطني اإلسكندري صاحب نظريَّة الفيض‪ .‬فإذا كان الوجود عند‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫السهروردي هو النور فهذا يعني أنه (أي الوجود) ليس شيئاً سوى النور نفسه‪ ،‬عىل تفاوت درجاته‬
‫ق َّو ًة وش َّد ًة أو ضعفاً وانخفاتاً‪ .‬بل حتى الظالم هو نور تالىش إىل أقىص الحدود‪ .‬وأ َّما ذات النور‬
‫املطلق األول(الله) فإمنا هو نور يفيض إرشاقاً وتتجلَّ فيه جميع األشياء‪ .‬كذلك سيذهب أفلوطني‬
‫اإللهي للموجودات كلِّها‪ .‬وإذا كان النور هو‬
‫ِّ‬ ‫من قبله لينشئ نظريَّته الوجوديَّة عىل مبدأ الفيض‬
‫السبب األعظم للموجودات فإ َّن التفريق بني اإلرشاق والفيض ال يلغي التطابق يف الجوهر‪ ،‬ذلك‬
‫بأ َّن اإلرشاق هو السبيل إىل الفيض من املألـ األعىل عىل من امتأل قلبه حكمة ومن كان مستعدا ً‬
‫ولعل هذه النقطة املحوريَّة يف ميتافيزيقا الوجود هي األساس الذي‬
‫َّ‬ ‫ملشاهدة األنوار اإللهيَّة‪.‬‬
‫سيدفع الباحث إىل ترتيب مقارنة بني السهروردي ورؤية أفلوطني األنطولوج َّية القامئة عىل نظريَّة‬
‫الفيض‪.‬‬

‫عن األطروحة وصاحبها نقرأ يف املق ِّدمة التمهيديَّة التي كتبها املفكِّر والباحث يف الفكر‬
‫الفلسفي الدكتور محمود حيدر ما يستجيل روح املكانة الرفيعة ألطروحة صديقه الدكتور أحمد‬
‫فقيه‪ .‬يقول حيدر خالل فرتة تحضريه لرسالة الدكتوراه‪ ،‬دارت بينه وبيني مجالساتٌ تع َّدت أسوار‬
‫األطروحة وهندستها األكادمييَّة الصارمة‪ .‬يف إحدى الجلسات التي كانت تنعقد بعفويَّة عىل رشف ِة‬
‫الصيفي‪ ،‬تساءل صاحبي عن ال َف ْرق بني الفلسف ِة وامليتافيزيقا‪ ،‬وما الذي مي ِّيز إحداهام عن‬
‫ِّ‬ ‫منزل ِه‬
‫األخرى‪ .‬كان تساؤلُ ُه آنذاك بسيطًا للوهلة األوىل‪ ،‬إلَّ أنَّه بسؤاله هذا أدخلنا يف ل َّ‬
‫جة ما لها من قرار‪.‬‬
‫سؤال كهذا كان ُس ِئ َل من قبل‪ ،‬وأجاب عليه األقدمون وامل ُح َدثون من اإلغريق والفرس‬
‫ً‬ ‫صحيح أ َّن‬
‫والهنود والعرب ناهيك بأهل الحضارات املعارصة‪ ..‬إلَّ أنَّه مل َّا يزل ذلك السؤال يطرق باب الفكر‬
‫السهروردي وأفلوطني‬
‫ُّ‬ ‫من دون أن يبلغ ضالَّته املأمولة بعد‪ ...‬يضيف‪ :‬يف الجلسة إيَّاها ‪ -‬كان‬
‫كل منهام ق َّدم لنا أجوبة عن وظيفة الحكمة بجناحيها الفلسفة‬ ‫رضين يف تأويل األحاديث‪ٌّ .‬‬‫حا َ‬
‫وامليتافيزيقا‪ .‬رأى السهروردي الحقيقة متجلِّية يف سلسلة األنوار اإللهيَّة‪ ،‬ورآها أفلوطني يف نظريَّة‬
‫الفيض بحدوسها العرفانيَّة‪ .‬مل يكن التحاور بيننا يف محراب الفلسفة موقوفًا عىل ح ّْد‪ .‬لذا كث ً‬
‫ريا‬
‫ما مضينا م ًعا نحو آفاق أكرث ِسعة وأعمق غو ًرا‪ ..‬عالَم الفلسفة والحكمة عنده هو عالَم اإلصغاء‬

‫‪287‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫جة‪ ،‬وإبطال الرأي بال َّرأي‪.‬‬


‫جة بالح َّ‬
‫حكة التي ليس فيها غري رضب الح َّ‬
‫الهادئ‪ ،‬ال عالَم املام َ‬
‫ب يف ما لدى الحكي َمني من أفهام‬
‫ض وأس َه َ‬
‫كان لصاحب األطروحة – كام يقول حيدر ‪ -‬أن َع َر َ‬
‫السهروردي وأفلوطني يف علم الوجود‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وأطاريح‪ .‬ومن بعد أن طال الكالم عىل ما أو َرد ُه من آراء‬
‫تساءلنا م ًعا ‪ -‬يقول حيدر‪ :-‬ما املانع من القول أ َّن الفلسفة وامليتافيزيقا توأمان ال تنفصالن‪ ..‬وأنَّهام‬
‫تنتسبان إىل ساللة واحدة؟ لِ َنقُل إذًا إ َّن الفلسفة هي ف ُّن التع ُّرف عىل البَد ِء األول‪ ،‬وإ َّن امليتافيزيقا‬
‫هي ف ُّن التأ ُّمل يف حكمة امل ُبدئ الخالق‪ ،‬وبيان الطريق الهادي إليه‪ .‬وعىل هذا املرسى مث َّة عروة‬
‫حي هذا الف ّْن‪ .‬عالقتهام بعضهام ببعض كعالقة املفهوم باملصداق كام يُبيِّ‬
‫ُوثقى تصل بني جنا َ‬
‫حص‬
‫كل لها مرتبتها يف تف ُّ‬
‫أهل املنطق‪ .‬الفلسفة وامليتافيزيقا اثنتان يف واحدة‪ .‬مفرد بصيغة املث َّنى‪ٌ .‬‬
‫علم الوجود واالعتناء به‪ .‬مقولة «الوجود مبا هو موجود» من مهمَّ ت العقل األدىن‪ ،‬أ َّما اإللهيَّات‬
‫ُديسّ»‪ .‬إذن‪ ،‬ال انفصال بني عقل أدىن‬ ‫فهي من مقامات العقل األعىل أو ما يس ُّمونه بـ «العقل الق ْ‬
‫يتبص املعقوالت ويستلهم لطائِف األنوار‪ .‬وال ض َ‬
‫ري‬ ‫يُدبِّر املحسوسات واملرئ َّيات‪ ،‬وعقل أعىل َّ‬
‫يف رحاب املث َّنى من لعبة التناقض[[[‪.‬‬

‫ال َّ‬
‫شك يف أ َّن يف هذه املق ِّدمة ما ييضء عىل منطقة قص ِّية من كتاب “أنطولوجيا الوجود”‪،‬‬
‫فالباحث الراحل أحمد فقيه يق ِّرر يف سياق تربير فَ َرضيَّة الدراسة املقارنة بني صاحبي حكمة‬
‫اإلرشاق والحكمة الفيض َّية أن مثة جملة من القواسم املرجع َّية املشرتكة أسهمت يف تشكيل‬
‫لكل من السهروردي وأفلوطني‪ .‬بينام أستل أفلوطني كثريا ً من فلسفة أفالطون‬
‫املنظومة الفلسف َّية ٍّ‬
‫ومن محاوراته كتاب «التاسوعات»‪ ،‬فقد استهلم السهروردي األفالطون َّية بعدما ساير املشَّ ائ َّية‬
‫لتكون إىل جانب الحكمة اإلرشاقيَّة إلظهار الحقائق يف النفس‪ ،‬واملكاشفة‪ .‬وألن االختالف بيِّ‬
‫وواضح بينهام‪ ،‬فقد وصف السهروردي أفالطون بـ «إمام الحكمة» وصاحب «األيد والنور»‪ ،‬ثم‬
‫بنى عىل هذا االعتقاد صورة جديدة مليتافيزيقا إسالم َّية أو كام ُس ّميت «عىل وجه الدقَّة املدرسة‬
‫األفالطون َّية يف مرحلتها اإلسالم َّية»‪.‬‬
‫َّ‬
‫خصوصية حكمة اإلشراق‪:‬‬
‫جهاته‪ ،‬فإنَّه مل يأخذ بها عن ظهر‬ ‫رغم شغف السهروردي باألفالطون َّية وانتقائه ِ‬
‫للش ِّق املوافق لتو ُّ‬
‫قلب‪ ،‬بل سوف يذهب إىل مخالفة أفالطون كام فعل حول ِقدم النفوس‪ .‬لذا كانت للنفس تلك‬

‫[[[‪ -‬راجع التقديم للكتاب تحت عنوان «عشيق الحكمة»‪ ،‬ص ‪.15-13‬‬

‫‪288‬‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫خصوصا يف مسألة اتحاد النفوس‪ ،‬النفس الكل َّية‪ ،‬وانفصالها‬


‫ً‬ ‫الدراسة الوافية يف «حكمة اإلرشاق»‬
‫وعودتها‪.‬‬

‫يشكِّل «نور األنوار» أو علم النور‪ ،‬بيت القصيد يف حكمة اإلرشاق‪ ،‬بل هو مرتكز فلسفة‬
‫السهروردي اإلرشاقيَّة‪ ،‬وحجر الزاوية فيها‪ .‬ومث َّة من مييض أبعد ليقول إنَّها البداية والنهاية‪ ،‬بل‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫املبدأ‪ ،‬الرصاط‪ ،‬واملنتهى‪ .‬أكرث من ذلك يذهب املؤلِّف إىل اعتبار «علم النور» ليس فقط كمبدأ‬
‫كل موجود‪ ،‬وأصل الوجود واإلنسان وهو أرقى املوجودات يف‬
‫لفلسفة السهروردي‪ ،‬بل هو غاية ِّ‬
‫الحس‪ ،‬لذا نرى السهروردي يف «هياكله» يدعو بدعائه الشهري‪« :‬يا ق ّيوم‪ ،‬أيِّدنا بالنور‪،‬‬
‫ِّ ِّ‬ ‫هذا الكون‬
‫وثبِّتنا عىل النور‪ ،‬واحرشنا إىل النور»‪ .‬وإذن‪ ،‬يف «علم األنوار»‪ ،‬ومذهب اإلرشاق ‪،Illumination‬‬
‫ال يشء غري النور‪ ،‬حتى الظالم مل يعد بنظر السهروردي سوى انخفات النور إىل أدىن درجاته‪،‬‬
‫وبذلك كان يقيم الحد الفاصل مع الثنائية املانوية‪ ،‬وكذلك مع الزرادشتية‪ ،‬التي سعى إىل توحيدها‬
‫ينّ‪.‬‬
‫حني أبطل ثنائ َّيتها وأوجد لها محلًّ يف هياكله السبعة كمدخل إىل ذلك العامل األعىل النورا ْ‬
‫وبقطع النظر عن هذا التأويل فقد سعى السهروردي‪ -‬حسب املؤلِّف‪ -‬الستظهار منطقة التوحيد‬
‫الخالص حتى لدى الديانات الوثن َّية انطالقًا من منظومته األنطولوج َّية يف حكمة اإلرشاق‪ .‬فاإلرشاق‬
‫خاصا‪ ،‬وهو الكشف وظهور األنوار اإللهيَّة يف قلب اإلنسان العارف‪،‬‬
‫ًّ‬ ‫حا‬
‫عنده بات مفهو ًما‪ ،‬ومصطل ً‬
‫يف بالقول أ َّن «اإلرشاق يكون بالتجلِّ‬
‫عب عنه الباحثون يف املصطلح الصو ِّ‬
‫من دون غريه‪ ،‬وهذا ما َّ‬
‫فالتجل إذًا ما‬
‫ّ‬ ‫واملشاهدة والذوق واملكاشفة‪ ،‬وما تلقيه هذه الحاالت من أثر يف القلب والروح‪،‬‬
‫ينكشف من أنوار الغيوب والذوق أول التجلِّيات»[[[‪.‬‬

‫الحق‪ ،‬وإىل الغاية يف الصفاء‪ ،‬وإىل ما يس ّميه‬


‫ِّ‬ ‫أ َّما الحكمة اإلرشاق َّية فهي تلك التي توصل إىل‬
‫السهروردي «نور من نور»‪ ،‬أي الذي ال يحتاج إىل تعريف‪« ،‬إن كان يف الوجود ما ال يحتاج إىل‬
‫تعريفه ورشحه فهو الظاهر‪ ،‬وال يشء أظهر من النور‪ ،‬فال يشء أغنى منه عن التعريف»[[[‪ .‬وعىل‬
‫هذا النحو يبدأ مقالته األوىل من القسم الثاين لكتابه حكمة اإلرشاق‪ :‬فالنور عنده غني‪ ،‬ظاهر‪،‬‬
‫وواضح ليقول بعدها‪« :‬فهو الظاهر لنفسه بنفسه‪ ..‬هو نفس الظاهر ال غري‪ ،‬فهو نور لنفسه‪ ،‬فيكون‬
‫نو ًرا محضً ا»‪ .‬ثم يضيف «فليكن أ َّن النور هو الظاهر يف حقيقة نفسه امل ُظهِر لغريه بذاته‪ ،‬وهو‬
‫كل ما يكون الظهور زاي ًدا عىل حقيقته»[[[‪ .‬لذلك وجد «الشهرزوري»‪ ،‬تلميذه‬
‫أظهر يف نفسه من ِّ‬

‫[[[‪ -‬أبو خزام‪ :‬معجم املصطلحات الصوف َّية‪ ،‬ص‪.57‬‬


‫[[[‪ -‬السهروردي ‪ :‬مص ّنفات شيخ إرشاق‪ ..‬جلد دوم‪ .‬ص‪.107‬‬
‫[[[‪ -‬م‪.‬ن‪ :‬ص‪( 113‬الفقرة ‪.)117‬‬

‫‪289‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫وشارحه‪ ،‬أن امليزات األساس َّية لحكمة اإلرشاق تكمن يف حقيقة انها «تختلف عمَّ جاءنا به حكيم‬
‫وأسايس للذوق اآلين واملبارش»[[[‪.‬‬
‫ٍّ‬ ‫يف‬
‫املشَّ ائيَّة اإلسالميَّة ابن سينا‪ ،‬عرب تحديد دور معر ٍّ‬
‫يف مجال آخر وموازٍ‪ ،‬يق ِّرر املؤلِّف أ ّن حكمة السهروردي مشابهة ألفكار األفالطون َّية املحدثة‬
‫عب عن تلك الحكمة عند الحكامء القدامى‪،‬‬
‫أيام الرومان‪ ،‬أي أ َّن هناك استشفافًا مؤ َّداه أن يكون قد َّ‬
‫خاص به‪ ،‬يف حني أ َّن جذور هذا املرشوع ممت َّدة‬
‫ٍّ‬ ‫بصيغتها الرمزيَّة‪ ،‬غري أنَّها تأيت يف سياق مرشوع‬
‫إىل التص ُّوف والغنوص َّية‪...‬‬

‫ولعل ما يدعو إىل مثل هذه النتيجة يف سياق تأصيل منظومته األنطولوج َّية‪ ،‬أ َّن الذوق يف هذه‬
‫َّ‬
‫ين مبارش‬
‫للحواس‪ ،‬وعىل شكل إدراك عرفا ٍّ‬
‫ّ‬ ‫األسايس‬
‫ِّ‬ ‫املنظومة يؤ ّدي دو ًرا بارزًا عىل املستوى‬
‫للكيانات ذات اإلحساس العايل والتي يطلق عليها السهروردي هنا‪ ،‬األنوار الَّالما ِّديَّة‪ .‬عىل أ َّن‬
‫حكمته مغايرة وقد تصنف يف خانة الحكامء القدامى‪ ،‬السابقني ألرسطو عمو ًما‪ ،‬ال سيّام أفالطون‬
‫ثم أفلوطني‪ .‬وما ذلك إلَّ ألن اإلرشاق قائم عىل الحدس‪ ،‬ويقوم بدوره بعمل َّية ربط ما بني الذات‬
‫العارفة والجواهر النوران َّية‪.‬‬

‫رمبا لهذا السبب سيجد املسترشق الفرنيسُّ هرني كوربان أ َّن حكمة اإلرشاق هي «حكمة‬
‫القيايس‬
‫ِّ‬ ‫مرشق َّية»‪ .‬لكأنه يف هذا الحكم أراد أن يفصل ما جاء بها من ذوق وكشف عن النظام‬
‫يبي كوربان‪ -‬هو ميتافيزيقا النور والظالم‪.‬‬
‫ين للمشَّ ائيَّة‪ .‬واأله ُّم يف منظومة شيخ اإلرشاق‪ -‬كام ّ‬
‫الربها ِّ‬
‫ولقد استخدم كوربان ‪ H.CORBIN‬مصطلحات وعبارات‪ ،‬يف كتاباته النقديَّة حول السهروردي‬
‫خاصاً بإرشاقاته إىل درجة أنَّه أغفل‬
‫َّ‬ ‫مثل‪ :‬الثيوصوف َّية‪ ،‬واملرشق َّية‪ ،‬ممَّ يعكس إملاماً عميقاً وشغفاً‬
‫املنطقي من ترجمته «لحكمة اإلرشاق»!‪.‬‬‫َّ‬ ‫الجانب‬

‫هناك‪ ،‬بطبيعة الحال‪َ ،‬من يعترب أ َّن املؤلَّفات املشَّ ائ َّية للسهروردي هي جزء ال يتج َّزأ من فلسفته‬
‫الفلسفي الناضج‪ ،‬حتى أنه مل يستغنِ‬
‫ِّ‬ ‫الشاملة‪ ،‬حتى وصل إىل تلك املرحلة للرتكيز عىل برنامجه‬
‫والفلسفي‪ ،‬يف خربته الصوفيَّة وقصصه الرمزيَّة‪ .‬ولقد‬
‫ِّ‬ ‫املنطقي‬
‫ِّ‬ ‫يل واملصطلح‬ ‫عن املنهج العق ِّ‬
‫قيل يف السياق نفسه أ َّن فهم حكمة اإلرشاق يتطلَّب املرور بتلك الكتابات‪ ،‬بل أكرث من هذا فإ َّن‬
‫السهروردي نفسه دعا إىل قراءتها بدايةً‪ ،‬ومنها مرتافقًا مع «الحكمة»‪ ،‬أي املنطق والطبيع َّيات ث َّم‬
‫َّ‬
‫حر يف‬
‫اإلله َّيات‪ .‬ومام قاله عن ذلك يظهر يف كتاب «املشارع واملطارحات» بقوله‪« :‬و َمن مل يتب َّ‬
‫العلوم البحثيَّة‪ ،‬فال سبيل له إىل كتايب املوسوم‪ :‬بحكمة اإلرشاق‪ ،‬وهذا الكتاب ينبغي أن يُقرأ‬
‫[[[‪ -‬السهروردي‪ :‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬حيدورة‪ ،‬ص‪ XXXVI‬معهد املعارف الحكم َّية‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫رصح بأنَّ‪:‬‬
‫قبله‪ ،‬وبعد تحقيق املخترص املوسوم بالتلويحات» ‪ .‬أ َّما يف كتاب «املقاومات» فإنه ي ِّ‬
‫[[[‬

‫املسمة بحكمة اإلرشاق‪ ،‬وتفصيل‬


‫َّ‬ ‫«الرسَّ العظيم مذكور يف كتابنا املشتمل عىل الحكمة العجيبة‬
‫ت إىل التلويحات عظم نفعها فأغنى وأقنى»[[[‪ .‬وعىل‬
‫األبحاث يُطلب يف املطارحات‪ ..‬إذا ما ضُ َّم ْ‬
‫الجملة كام يؤكِّد السهروردي يف «هياكل النور» «فإن املؤلَّفات الفلسف َّية البحتة يجب أن ت ُقرأ قبل‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫«حكمة اإلرشاق»‪ ،‬ثم من بعدها يتناول امل ُريد الرسائل الصوفية أثناء قراءته لهذا الكتاب األخري»[[[‪.‬‬

‫وليس من ريب يف أ َّن استقرا ًء إجامل ًّيا ملنظومة السهروردي تفيد بأن تلقِّي املعرفة من أعىل‪،‬‬
‫ين‪ ،‬ال يت ُّم ‪-‬حسب املؤلِّف‪ -‬إلَّ بعد سلوك طريق التج ُّرد وهو عبارة عن‬
‫علوي روحا ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫من عامل‬
‫وصول إىل صفوها من كدورات البدن‪ ،‬وحينها نستطيع القول‬ ‫ً‬ ‫رياضة روحيَّة‪ ،‬ومجاهدة للنفس‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وحينئذ سترشق العلوم واملعارف‪ .‬وعىل هذا النحو‪ ،‬فإنَّه كلام ازداد التلقي‬ ‫أ َّن اإلرشاق سيحصل‪،‬‬
‫التحض‬
‫ُّ‬ ‫واإلرشاق زاد االرتفاع نحو عامل الصدور‪ .‬مع ذلك ال يعني التلقِّي بعد الصدور إلَّ بعد‬
‫والقابل َّية‪ ،‬وال متام لإلرشاق إلَّ بحلول النور يف تلك النفس العارفة‪ ،‬العابدة‪ ،‬إذ النور مبدأ الحقيقة‬
‫اإلرشاقيَّة التي هي بدورها هدف للمعرفة‪ .‬لكنِ اإلرشاق القائم عىل الحدس والرابط للذات العارفة‬
‫نزول‪ ،‬بعد الصفاء والتج ُّرد للنفس عن ما َّدتها‪ ،‬بحيث تعتمد حكمة‬
‫ً‬ ‫بالجواهر النورانيَّة‪ ،‬صعو ًدا أم‬
‫الروحي‪ ،‬وكرثة اإلرشاق من كرثة األنوار االنكشاف َّية فتولد‬
‫ِّ‬ ‫اإلرشاق عىل‪ :‬إرشاق العقل باالرتياض‬
‫الحقائق‪« ،‬واإلرشاقيون ال ينتظم أمرهم ـ كام قال السهروردي ـ من دون سوانح نوريَّة‪ ،‬حتى إ ْن وقع‬
‫لهم ٌّ‬
‫شك يزول عنهم بالنفس املنخلعة عن البدن»[[[‪.‬‬
‫ٍّ‬
‫فلسفي مخصوص‪:‬‬ ‫ُّ‬
‫اإلشرايق كمنهج‬ ‫املنهج‬
‫حيال الهندسة األنطولوجيَّة واإلبستمولوجيَّة التي قامت عليها منظومة السهروردي‪ ،‬يق ِّرر‬
‫ّْ‬
‫خاص‪ .‬ففي الفلسفة اإلسالميَّة عمو ًما جرى‬ ‫فلسفي‬
‫ٌّ‬ ‫اإلرشاقي هو منهج‬
‫َّ‬ ‫املتخصصون أ َّن املنهج‬
‫ِّ‬
‫اإلرشاقي‪ .‬ويُقال عادة إ َّن منهج املدرسة الفلسف َّية‬
‫ّْ‬ ‫البحثي‪ ،‬واملنهج‬
‫ُّ‬ ‫استخدام منهجني هام‪ :‬املنهج‬
‫بحثي‪ ،‬رغم تض ُّمنه مالمح إرشاق َّية أيضً ا‪ ،‬ومنهج املدرسة الفلسف َّية اإلرشاق َّية‬
‫ٌّ‬ ‫املشَّ ائ َّية منهج‬
‫إرشاقي‪ .‬والجدير بالذكر أ َّن املراد من الكشف املرافق للبحث والنظر‪ ،‬والذي يشكِّل‬ ‫ّْ‬ ‫منهج‬
‫اإلرشاقي‪ ،‬هو املكاشفة التي تتحقَّق لنفس الفيلسوف‪ ،‬ال لشخص آخر‪ ،‬فمع أن اإلفادة‬ ‫َّ‬ ‫املنهج‬

‫[[[ ‪ -‬السهروردي ‪ :‬مجموعة مص ّنفات شيخ إرشاق‪ ..‬م‪.‬س‪ ،‬جلد أول‪ ،‬ص‪.194‬‬
‫[[[ ‪ -‬م‪.‬ن‪ :‬ص‪.192‬‬
‫[[[ ‪ -‬أبو ريّان ‪:‬هياكل النور‪ ،‬املقدِّ مة‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫[[[‪ -‬املوسوعة الفلسف َّية العرب َّية‪ ،‬إرشاف د‪.‬معن زيادة‪ ،‬بريوت ط‪ ،1‬معهد اإلمناء العريب ‪1986‬م‪ ،‬بريوت‪ ،‬م‪ ،2‬ص ص‪.111 – 109‬‬

‫‪291‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫وهذه‬ ‫[[[‬
‫من مكاشفات ومشاهدات اآلخرين ممكنة يف الفلسفة‪ ،‬إلَّ أنَّها تكون مبثابة منهج عا ّم‪.‬‬
‫هي نقطة اللقاء األساسيَّة التي تجتمع فيها حكمة اإلرشاق ونظريَّة الفيض األفلوطينيَّة عىل نصاب‬
‫ولعل املقصود من الشهود والكشف هنا هو الوصول إىل الواقعية باملكاشفة القلبية‪ ،‬وهو‬
‫مشرتك‪َّ .‬‬
‫ما يتحدث عنه العرفاء عادة‪ .‬واملقصود من أن لفلسف ٍة ما منه ً‬
‫جا إرشاقياً هو إفادة تلك الفلسفة من‬
‫املكاشفة والشهود القلبي[[[‪.‬‬

‫البحثي‬
‫ِّ‬ ‫الكشفي إىل جانب املنهج‬
‫ِّ‬ ‫الشهودي‬
‫ِّ‬ ‫إ َّن ما قام به شيخ اإلرشاق يف طرحه للمنهج‬
‫سينتهي بالسهروردي كام بأفلوطني إىل اعتبار أفالطون ‪ -‬وهو الذي ت ُشاهد يف أعامله مالمح‬
‫إرشاقيَّة قويَّة ‪ -‬أرفع مقا ًما يف فهم الوجود من أرسطو‪ .‬ويرى املحقِّقون أ َّن شيخ اإلرشاق كان من‬
‫أهل املكاشفة والشهود‪ ،‬وقد أخرب عن وقوع تجارب شهوديَّة صحيحة كثرية له‪ .‬وهذا ما يفصح‬
‫فلسفي ملشاهداته‬
‫ٌّ‬ ‫عنه بنفسه يف مق ِّدمة كتاب “حكمة اإلرشاق”‪ ،‬فريى أ َّن هذا الكتاب هو محصول‬
‫اإلرشاقي بنحو كبري‪ ،‬كام استفاد عمل ًّيا يف فلسفته من‬
‫َّ‬ ‫التي وقعت له يف خلواته‪ .‬وقد بسط املنهج‬
‫ميول نحو هذا املنهج‪ ،‬ومل يكن هذا املقدار يف عرص ابن‬
‫هذا املنهج‪ .‬وكان ابن سينا قبله قد أظهر ً‬
‫ريا يف فلسفته‪ .‬ونُشري هنا إىل‬
‫سينا يُع ُّد باملقدار القليل‪ ،‬غري أنَّه مل يستفد عمليًّا من هذا املنهج كث ً‬
‫بعض النامذج التي يق ِّدمها املحقِّقون لجهة إبراز أهم َّية الكشف يف الفلسفة اإلرشاق َّية[[[‪:‬‬

‫ناقصا‪ ،‬كذلك‬
‫ً‬ ‫يقول شيخ اإلرشاق يف املطارحات‪ :‬كام أ َّن السالك من دون ق َّوة البحث يكون‬
‫الذي يكون قويًّا يف البحث فإنَّه إذا كان يفتقده للسلوك والكشف فهو ناقص أيضً ا‪ ،‬واليستطيع‬
‫اإلخبار عن عامل القُدس‪ .‬فالفلسفة اإلسالم َّية تعطي أهم َّية بالغة للحقائق املاورائ َّية املرتبطة بالله‬
‫سبحانه وعامل املج َّردات‪ ،‬وإذا أراد أحد التح ُّدث عنها بنحو جيد‪ ،‬فال بد له من االتصال بتلك‬
‫العوامل وأن يكون متم ِّك ًنا من املكاشفة؛ أل َّن لتلك العوامل مراتب كثرية‪ ،‬والتع ُّمق فيها يواجه صعوبة‬
‫ج َّمة للغاية‪“ :‬فكام أ َّن السالك إذا مل يكن له قوة بحث َّية هو ناقص‪ ،‬فكذلك الباحث إذا مل يكن لديه‬
‫ناقصا وغري معتربوال مستنطق من القدس[[[‪.‬‬
‫مشاهدة آيات من امللكوت يكون ً‬
‫ويعتقد شيخ اإلرشاق أنَّه إذا مل تكن هناك مكاشفة مع البحث لن تكون هناك حكمة حقيق َّية‪،‬‬
‫حكيم حيقيقيًّا‪ .‬فليس هناك من طريق للوصول اىل الحقيقة‬
‫ً‬ ‫ومن مل يكن من أهل املكاشفة مل يكن‬
‫[[[‪ -‬أنظر‪ :‬يد الله يزدنبناه‪ -‬تأ ُّمالت يف الفلسفة اإلسالم َّية‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد وهبة ‪ -‬مراجعة وتقديم‪ :‬محمد الربيعي‪ -‬دار املعارف الحكم َّية ‪-‬‬
‫بريوت‪ - 2021 -‬ص ‪.250‬‬
‫[[[‪ -‬يزدنبناه‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬الصفحة نفسها‪.‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه – ص ‪.253‬‬
‫[[[‪ -‬أي أن مثل هذا الشخص ال يكون موضع اهتامم يف البحث عن الحقائق اإلله َّية‪ .‬راجع أيضً ا املصدر أعاله ‪ -‬ص ‪.266‬‬

‫‪292‬‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫يف ما يتعلَّق بالعوامل املاورائ َّية واملج َّردة من دون املكاشفة‪“ .‬فإذا أطلقت “الفلسفة” يعنى بها‬
‫معرفة املفارقات واملبادئ واألبحاث الكليَّة املتعلِّقة باألعيان‪ ،‬واسم الحكيم ال يُطلق إلَّ عىل‬
‫من له مشاهدة لألمور ال ُعلويَّة وذوق مع هذه األشياء وتألُّ ٌه”‪ .‬والتألُّه يعني الصريورة إلهيًّا‪ ،‬واملتألِّه‬
‫هو صاحب املكاشفة والذوق‪ .‬وإطالقهم عىل امللَّ صدرا لقب “صدر املتألِّهني” فباعتبار أنه‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫إرشاقي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫صاحب مكاشفات ومنهج فلسفته منهج‬

‫عند هذه النقطة يطرح املحقِّقون السؤال التايل‪ :‬هل ميكن جعل حاصل املكاشفة مق ِّدمة يف‬
‫الفلسفي؟‬
‫ّْ‬ ‫االستدالل‬

‫باالستناد إىل بعض كلامت السهروردي ميكن الجواب باإليجاب؛ فشيخ اإلرشاق يقول‬
‫حل‬
‫حل املسائل (أي َّ‬
‫بإمكان وضع املشهود مق ِّدمة يف االستدالل‪ ،‬ويذكر يف حكمة اإلرشاق أ َّن َّ‬
‫املجهوالت عىل أساس املعلومات) ال ب َّد من رجوعها اىل ركنني‪ :‬األول هو األوليَّات والفطريَّات‪،‬‬
‫القلبي الذي يتمتَّع به الحكامء الكبار‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫والثاين هو املشهودات‪ ،‬ومراده من الشهود هو الكشف‬
‫ويظهر من هذا الكالم أ َّن املشهود ميكن جعله مق ِّدمة يف الربهان‪.‬‬

‫الفلسفي لشيخ اإلرشاق – كام يؤكِّد املحقِّقون‪ -‬هو أنَّه مل‬


‫ِّ‬ ‫الفكري‬
‫ِّ‬ ‫غري أ َّن ما يستنتج من الج ِّو‬
‫ُّ‬
‫ويستدل من أعامله أنَه‬ ‫ريا‪.‬‬
‫القلبي كمق ِّدمة يف االستدالل‪ ،‬وذلك رغم اهتاممه به كث ً‬
‫َّ‬ ‫يضع الكشف‬
‫أدرك عامل املثال بالشهود واملكاشفة‪ ،‬وهو يعلم أ َّن الكثري من الحكامء والعرفاء قد أدركوه باملكاشفة‬
‫أيضً ا‪ ،‬ولك َّنه من أجل إثبات وجود هذا العامل نجده يقوم باالستدالل عىل ذلك‪ ،‬ومل يستفد يف ذلك‬
‫من املقدمات الكشفية‪ .‬وعليه‪ ،‬فإن كالمه اآلخر الذي ُّ‬
‫يدل عىل إمكان استعامل الكشف يف مق ِّدمات‬
‫االستدالل إنَّ ا مبعنى أ َّن الكشف مهم ج ًّدا للفلسفة‪ ،‬وأنَّه ال ب َّد للفيلسوف من االهتامم به‪ .‬ولكن هذا‬
‫الفلسفي[[[‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫القلبي مثل األوليَّات ميكن جعله يف مق ِّدمة االستدالل‬
‫َّ‬ ‫ليس مبعنى أ َّن املشهود‬

‫اإللتقاء احلميم بني اإلشراق والفيض‪:‬‬


‫لعل «نظريَّة الفيض األفلوطين َّية»‪ ،‬قد أث ّرت عميقًا يف السهروردي‪ ،‬وسرنى مثل هذا التأثري يف‬
‫َّ‬
‫ين‪،‬‬
‫فلسفي عرفا ٍّ‬
‫ٍّ‬ ‫«تاسوعات» أفلوطني لجهة تأويل العالقة بني فكرة الواحد واملوجودات يف إطار‬
‫متثيل ألغلب أفكار األفالطون َّية املحدثة‪ ،‬و ِمن مث َّة شغلت ح ّي ًزا أساس ًّيا‬ ‫ً‬ ‫َّلت هذه الفكرة‬
‫حيث شك ْ‬
‫يف مشاغل فالسفة املسلمني املتأث ِّرين بها‪.‬‬

‫[[[‪ -‬يزدنبناه ‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.255‬‬

‫‪293‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫خصوصا مبا يتعلَّق بالعنارص‬


‫ً‬ ‫يتص َّدر أفلوطني اللَّ ئحة كأحد أه ِّم وأبرز مصادر فكر السهروردي‪،‬‬
‫اإلرشاقيَّة التي تنطوي عليها نظريَّة الفيض الوجودي‪.‬‬

‫ومن البيِّ أ َّن فلسفة أفلوطني واألفالطون َّية املحدثة كانت متأث ِّرة بالغنوص َّية ومبفاهيمها التي‬
‫متاشت مع عقائد وأفكار وديانات مرشقيَّة قدمية‪ ،‬وقد ظهرت الحقًا عند املسلمني يف فكر الباطنيَّة‪،‬‬
‫خصوصا عند «إخوان الصفا»‪ ،‬قبل السهروردي‪ِ .‬‬
‫ولئ كان أصحاب التيَّارات السابقة عىل أفلوطني‬ ‫ً‬
‫قد حاولوا أن يرتفعوا بالتعارض بني الروح واملا َّدة‪ ،‬أو بالثنائ َّية بوجه عام ‪،‬إىل أعىل درجة ممكنة‪،‬‬
‫حظ عدم وصولهم إىل املطلق‪ ،‬أو املبدع األول‪ .‬وبسبب من ذلك راحوا يخلطون بني‬
‫فمن املال َ‬
‫الله (رغم بقاء بعض الغموض عند أفلوطني) وبني املعقوالت األوىل‪ ،‬لكن أفلوطني هو الذي‬
‫استطاع ذلك‪ ،‬وإن كان سابقون عليه مثل الفيثاغوريَّة واألفالطونيَّة الجدد‪ ،‬قد عنوا أيضً ا بإيجاد‬
‫السلب عمو ًما)‪ .‬لذا نجد‬
‫وسائط بني األول وبق َّية املوجودات وقد ح ُّدوا الله (أقرب إىل صفات ّ‬
‫يل مرت َّب‪« ،‬فجعل الوجود‬
‫عند أفلوطني تلك الصورة املنظِّمة للوسائط‪ ،‬والقامئة عىل تصاعد عق ٍّ‬
‫ي يف‬
‫ي شيئًا صاد ًرا ومشتقًّا من الوجود األول أو وجود الله‪ ،‬حتى وإ ْن كان ذلك الوجود املا ّد ُّ‬
‫املا ّد َّ‬
‫‪[[[.‬‬
‫يلّ»‬
‫الطرف اآلخر من الوجود العق ْ‬
‫يل املرت َّب‬
‫السهروردي قد أخذ بذلك التصاعد العق ِّ‬
‫َّ‬ ‫عند هذه النقطة بالذات يجد املؤلِّف أ َّن‬
‫حة هذا القول‪ ،‬فإ َّن األساس يف منظومة‬
‫األفلوطيني‪ .‬ولكن برصف النظر عن ص َّ‬
‫ِّ‬ ‫عىل طريقة املنهج‬
‫الغني املطلق وله‬
‫ُّ‬ ‫السهروردي يف الوجود هو أ َّن الله (سبحانه) هو العلَّة الفاعلة التا َّمة‪ ،‬و«هو‬
‫ِّ‬
‫الكامل األعىل‪ ،‬ففعله ليس لغرض وال إرادة إلَّ أ ْن يعني باإلرادة نفس العلم‪ ،‬وال غرض للعايل يف‬
‫السافل»[[[‪ .‬ولو نظرنا إىل هذه املسألة عند أفلوطني سنجد بعض االمتداد يف الفلسفة األوروبيَّة مع‬
‫سبينوزا حيث توجد األشياء يف فلسفته «بحكم الرضورة التي تتَّسم بها الطبيعة امل ُطلقة لله‪ ،‬فكل‬
‫األشياء مح َّددة مسبقًا بواسطة الله»[[[ وذلك التحديد املسبق لألشياء من الله‪« ،‬ليس من خالل‬
‫ح َّرة أو الخيِّ ة‪ ،‬لكن ِمن خالل طبيعته املطلقة أو قوته الالّنهائية»[[[‪.‬‬
‫إرادته ال ُ‬
‫وال َّ‬
‫شك يف أ َّن أفلوطني استطاع أن يبيِّ بدقَّة وإحكام كيف َّية «صدور» املوجودات عن الله‪ ،‬كام‬
‫جا واح ًدا ُمحكم‬
‫منطقي معقول يكاد يكون نسي ً‬
‫ٍّ‬ ‫سيثبت أ َّن آثار هذه القوى اإللهيَّة تجتمع «يف نظام‬
‫[[[‪ -‬بدوي عبدالرحمن ‪ :‬خريف الفكر اليوناين‪ ،‬مكتبة النهضة املرصيَّة‪ ،‬ط‪ ،1979 ،7‬ص‪.110‬‬
‫[[[‪ -‬السهروردي‪ :‬املص ّنفات‪ ،‬ج‪ ،4‬م‪.‬س‪ ،‬الَّلمحات‪ :‬ص‪ ،229‬الفقرة (‪.)137‬‬
‫[[[‪ -‬ب ّزي‪ :‬السهروردي‪ ،‬ص‪( .133‬نقلً عن الخشت‪ :‬للدكتور محمد عثامن‪ :‬قراءات نقدية يف الفلسفة الحديثة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الثقافة‬
‫العرب َّية ‪2002‬م‪ ،‬ص‪.)42‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪294‬‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫األجزاء»[[[‪ .‬وذلك ُّ‬


‫يدل عىل أ َّن النزعة الصوف َّية عند أفلوطني كانت ظاهرة بق َّوة يف أعامله وكذلك‬
‫الحال عند السهروردي‪ ،‬وعليه فقد اشرتكا م ًعا يف هذه املنطقة من املعرفة العرفان َّية‪.‬‬

‫إرشاقي‬
‫ٌّ‬ ‫مذهب‬
‫ٌ‬ ‫السهروردي الخاص‪ ،‬يجعلنا نقول بأنَّه‬
‫ِّ‬ ‫اإلرشاقي‪ ،‬بطابعه‬
‫ُّ‬ ‫وإذا كان املذهب‬
‫خالص لصاحبه‪ ،‬فال ميكن إلَّ أن نقول بأخذه عن غريه‪ ،‬كأفلوطني والصوف َّية‪ ،‬ليصبح له حلّته‬
‫ٌ‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الكاملة من صنعه وحده‪ .‬ومن البيِّ أ َّن يف خالصات حكمة اإلرشاق‪ ،‬ما يشري إىل إرشاق الفيض‪،‬‬
‫بل الفيوضات واألنوار عىل النفوس املج َّردة والقلوب الصافية الصقيلة يف مقابل الَّلوح املحفوظ‪،‬‬
‫لتنعكس فيه جميع املعارف اإلله َّية‪ ،‬ولترشق عليه من ذلك الَّلوح‪ .‬بل قد يصل بنا القول إىل أ َّن‬
‫نظريَّة الفيض هي أخطر نظريَّة تلقّاها املسلمون ِمن بني النظريَّات التي بعثتها األفالطون َّية الجديدة‬
‫السهروردي معجبًا بأفالطون وبأفلوطني م ًعا‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫عىل يد أفلوطني يف مدرسة اإلسكندريَّة‪ .‬وقد كان‬
‫وعىل هذا األساس أمكن القول أ َّن األفالطون َّية األوىل واألفالطون َّية املحدثة تشكِّالن م ًعا أبرز‬
‫السهروردي‬
‫َّ‬ ‫تراكيب الهندسة األنطولوج َّية لحكمة اإلرشاق‪ .‬بل ويذهب عدد من الباحثني إىل أ َّن‬
‫أخذ العنارص العقائديَّة اإلرشاق َّية من تاسوعات أفلوطني‪.‬‬

‫السهروردي‪ ،‬تبقى له مزاياه اإلبداع َّية وتف ُّرده يف بناء رؤيته‬


‫ِّ‬ ‫كل هذا التأثر من جانب‬
‫ورغم ِّ‬
‫األنطولوجيَّة املتكاملة للوجود‪ .‬وهكذا نجد أ َّن عد ًدا من املحقِّقني راحوا يربزون األركان املميّزة‬
‫واألساسيَّة للسهروردي ومدرسته‪ .‬وهنا نشري إىل مجموعة من هذه األركان‪:‬‬

‫أ َّو ًل‪ :‬مبدأ «العلم الحضوري»‪ ،‬وخالصته أ َّن كل املعارف ستتض َّمن بعضً ا من املواجهة املبارشة‬
‫بني العامل واملعلوم‪ ،‬سنفهم من ذلك أنَّه قد قطع برفضه الستخدام وسائط‪ ،‬ترشح أساليب مختلفة‬
‫من املعرفة‪ ،‬أل َّن معرفة الكيانات الروح َّية تت ُّم أساساً عرب الحدس‪.‬‬

‫ثان ًيا‪ :‬مبدأ «أصالة املاه َّية»‪ ،‬وقد أخذ اللَّ حقون مببدأ أصالة املاه َّية عند السهروردي‪ ،‬ويف‬
‫اإللهي صدر املتألِّهني الشريازي (امللَّ ّ صدرا) الذي‬
‫ِّ‬ ‫هذه املناسبة ال ب َّد من أن نشري إىل الحكيم‬
‫سيخالفه يف هذا املبدأ عندما قال بأصالة الوجود واعتباريَّة املاه َّية‪.‬‬

‫ين وليست‬
‫ثالثًا‪ :‬مبدأ «امل ُثل»‪ ،‬سار مع القُدامى‪ ،‬باعتبارها رشوحات ميتافيزيق َّية للنظام الكو ِّ‬
‫كيانات معرفيَّة‪ ،‬وِفق عدد العقول املج َّردة (املشاؤون قالوا بعرشة) وقد اعتقد اإلرشاقيون‪ ،‬وكام قال‬
‫السهروردي «أن هذه العقول ال ت ُع ُّد وال تحىص»‪.‬‬

‫[[[‪ -‬بدوي ‪ :‬خريف الفكر اليوناين‪ :‬م‪.‬س‪ ،‬ص‪.112‬‬

‫‪295‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫ومن هنا سيظهر لنا أ َّن معظم أركان امليتافيزيقا األفلوطين َّية‪ ،‬قد طبعت ميتافيزيقا السهروردي‪،‬‬
‫مبؤسس املدرسة األفالطونيَّة الجديدة‪ ،‬أمونيوس ساكاس‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫وقد كان أفلوطني نفسه قد تأث َّر‬
‫ربا كان لها تأثري كذلك عىل اللَّ هوت‬
‫(السكندراين)‪ ،‬وال سيام يف‪« :‬نظريَّة الثالوث»‪ ،‬والتي َّ‬
‫املسيحي يف مجمع نيقيا يف القرن الثالث للميالد[[[‪.‬‬
‫ِّ‬
‫ويف املضامر نفسه ال ميكننا إغفال دور الواحد أو األول عند أفلوطني‪ ،‬عندما يتح َّدث عن‬
‫كل مكان‪ ،‬وهو األعظم من‬
‫هذا الواحد أحيانًا وكأنه هو اإلله‪ ،‬وأحيانًا أخرى هو الخري الحارض يف ِّ‬
‫السهروردي سيخالف أفلوطني يف هذه النقطة الجوهريَّة ويتَّفق مع ما يقول به إخوان‬
‫َّ‬ ‫الوجود‪ .‬لك َّن‬
‫الصفا (والكرماين)‪ ،‬من أنَّه «ال يجوز إطالق أي صفة عىل الله ألنه فوق أية معرفة»‪ .[[[23‬فالواحد‬
‫خصوصا لجهة ما يقصده بالواحد‪ ،‬فهو عنده‪ :‬األول‪،‬‬
‫ً‬ ‫عند أفلوطني ال يخلو من كثري من الغموض‪،‬‬
‫كل يشء‬
‫ألي انقسام‪ ،‬فهو ال يشء إذ ال وجود فيه ليشء متاميز‪ ،‬وهو ُّ‬
‫أي ما ال يكون فيه وجود بعد ِّ‬
‫ألنه قوة األشياء قاطبة(!؟)‪.‬‬

‫كل موجود وجوده‬


‫يصح فيه الجانبان‪ :‬النفي واإلثبات عىل ح ٍّد سواء!‪« .‬فهو مينح َّ‬
‫ُّ‬ ‫والواحد‬
‫كل موجود‬
‫ألنه خري‪ ،‬ولكنه هو نفسه فوق الوجود (املاه َّية)»‪ ، [[[24‬إذن هو إله واحد سابق عىل ِّ‬
‫ح ًدا‪ ،‬وهو خري‪ ،‬ألنَّه مانح الوجود‪ ،‬وغاية له‪ .‬ولهذا فإ َّن إميل برهييه‬
‫آخر‪ ،‬وهو واحد باعتباره مبدأ مو ّ‬
‫والحق أن أفلوطني اقتبس من هذه املحاورة (بارمنيدس ألفالطون) مبدأ‬
‫ُّ‬ ‫‪ E.BRÉHIER‬يقول‪:‬‬
‫نظريَّته يف الواحد‪ ،‬عدا عن أنَّه نَ َه َل من كتاب «الجمهوريَّة»‪ ،‬و«الحال‪ ،‬أ َّن األول أو الخري أو الواحد‬
‫إمنا هي صفات متع ِّددة يف «أقنوم» واحد‪.[[[25‬‬

‫السهروردي متجلّية‬
‫ّ‬ ‫يف هذه العمل َّية بر َّمتها‪ ،‬سنجد مؤث ِّرات الفيض األفلوطيني يف سياق فكر‬
‫يف الوجود‪ ،‬بأعىل ق ّمته وهو نور األنوار الذي يفيض عنه النور اإلبداعي األول‪ ،‬ث ّم ليفيض عنه‬
‫الثاين فالثالث‪ ،‬إىل ما ال نهاية! وإذا ما رت َّبنا الكائنات يف أربعة فهي حسب شيخ اإلرشاق‪ :‬نور‬
‫سبب لوجود باقي الكائنات‪ ،‬ونور ع َريض‪ ،‬من نور ما ّدي وبعضه يف النور‬
‫ٌ‬ ‫كائ ٌن بذاته‪ ،‬مدر ٌِك لذاته‪،‬‬
‫املج َّرد‪ ،‬واملواد القامئة عبارة عن أجسام ماديَّة‪ ،‬واألعراض املظلمة‪ .‬أ َّما النور املج َّرد فال ميكن‬

‫[[[‪ -‬برتراند راسل‪ :‬حكمة الغرب ترجمة فؤاد زكريا‪ ،‬ط‪ ،1‬الكويت (سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،)62‬سنة ‪ ،1983‬ص‪ .227‬و بزي م‪.‬س‪:‬‬
‫ص‪( 87‬للمراجعة)‪.‬‬
‫[[[‪ -‬ب ّزي‪،‬م‪.‬ن‪ :‬ص‪.87‬‬
‫[[[‪ -‬برهييه إميل ‪ :BRÉHIER. E‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬الفلسفة الهلسنت َّية والرومان َّية‪ ،‬ترجمة جورج طرابييش‪،‬‬
‫(‪ ،)L’Antiquité et le Moyen Age‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت ط‪ ،1988 ،2‬ص‪.247‬‬
‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪296‬‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫ي‪ ،‬والكائنات املدركة هي أنوار مج َّردة‪ .‬وخالفًا ألنطولوجيا أفلوطني تبدو أنوار‬
‫رؤيته بالبرص املا ّد ِّ‬
‫والعمودي‪ :‬األنوار الطوليَّة الرأسيَّة‪ ،‬ومن مث َّة العقول العرضيَّة‬
‫ِّ‬ ‫األفقي‬
‫ِّ‬ ‫السهروردي متجلِّية بخطَّيْها‪:‬‬
‫األريض املس َّمى‬
‫ُّ‬ ‫املتك ِّونة عنها‪ ،‬والتي تنشأ منها عقول أو أنوار العامل األوسط‪ .‬وكذلك هذا العامل‬
‫الحس أو ما يُطلق عليه عامل الظلامت أي‬
‫ِّ‬ ‫املتوسط بني عالَمي‪:‬‬
‫ِّ‬ ‫لدى السهروردي‪ :‬عامل الربازخ‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫عامل املا َّدة عند أفلوطني‪ ،‬وعامل العقل أو عامل تلك األنوار العقل َّية الخالصة‪ .‬واملشابهة يف ذلك‬
‫ال تعني املطابقة يف تأث ُّر السهروردي بأفلوطني متا ًما‪.‬‬

‫وأل َّن املوجود بذاته هو نور األنوار‪ ،‬نراه شبي ًها مبَن سبقوا السهروردي‪ :‬كابن سينا‪ ،‬حيث هو الله‬
‫عنده‪ ،[[[27‬ألنَّه ال يصدر عنه إلَّ علَّة مبارشة واحدة‪ ،‬يُقصد بذلك النور األقرب‪ ،‬أو القريب‪ ،‬فالفلك‬
‫سيأيت مبارشة من نور األنوار‪ ،‬ويرتبط معه بعالقتني هام‪ :‬اإلستقالليَّة مبقتىض اإلرشاقيَّة‪ .‬والتعلّق‬
‫كل يشء‬
‫مبقتىض املعلول َّية‪ .[[[28‬أ َّما أفلوطني فيذهب إىل أ َّن الله هو األول واآلخر‪ ،‬ومنه يصدر ُّ‬
‫الحقيقي هو نفسه‪ :‬االتصال بالله والفناء فيه‪ ،‬الذي هو‬
‫َّ‬ ‫وتظهر نزعة العرفان والتص ُّوف‪ ،‬وإ َّن الهدف‬
‫غري متنا ٍه ومن َّزه عن ِّ‬
‫كل صفة‪.‬‬

‫عنصرا التمايز واملفارقة‪:‬‬


‫السهروردي هي غري الفيض عند أفلوطني‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ريب يف أ َّن فكرة الخلق اإلسالميَّة التي أخذ بها‬
‫ما من ٍ‬
‫فعند األخري (أفلوطني) أ َّن العامل هو فيض من الله ومل يخلقه‪ ،‬والسبب هو أن الخلق يتطلَّب اإلرادة‬
‫كل يشء كام يقرر أفلوطني‪ ،‬يقول السهروردي‬
‫والشعور‪ .‬لكن مبا أ َّن الله أسمى من الجامل‪ ،‬وفوق ِّ‬
‫أ َّن الله هو نور األنوار‪.‬‬

‫منذهل أمام تلك الشخص َّية‬


‫ً‬ ‫يف للوجود عند السهروردي‪ ،‬يقف املرء‬
‫يف خض ِّم هذا ال ِّدفق املعر ِّ‬
‫العبقريَّة التي أنجبت ذلك الفكر بل ذلك التَّالقي للفكر وللحضارة اإلنسان َّية‪ ،‬فأخذ بأطرافها من دون‬
‫َوجل (رمبا أدّتْ إىل مقتل ِه) واستعاد ذلك «الفيض» الذي عاد يستخدم مصطلحه تحدي ًدا يف نظرته‬
‫الخاصة والنكهة‬
‫َّ‬ ‫للوجود واإلنبثاق أو اإلنبجاس للخري وللضياء‪ ،‬من «نور األنوار»‪ .‬ولكن القيمة‬
‫يل واضح‪ ،‬حتى يف رمزيَّته‪ ،‬ورؤياه الصوف َّية يكشف عن‬
‫حس جام ٍّ‬
‫املم ّيزة لباعث اإلرشاق أنَّه ذو ٍّ‬
‫عري‪ ،‬كام «يكشف عن هذه الروح يف مجمل كتابته (الهياكل وجربائيل‪...‬‬ ‫فني وعرف ِش ٍّ‬‫مزاج ٍّ‬
‫املسيحي الكبري القديس‬
‫ُّ‬ ‫يف والَّالهويتُّ‬
‫ريا ما ق َّدمه الصو ُّ‬
‫وسيمرغ والغربة‪ )...‬عىل نحو يفوق كث ً‬

‫[[[‪ -‬حيدورة‪ :‬السهروردي‪ ،‬م‪.‬س‪.XLVIII ،‬‬


‫[[[‪ -‬املصدر نفسه‪.‬‬

‫‪297‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫اإللهي ملا قامت به هذه‬


‫ِّ‬ ‫يستحق مركز الصدارة بني جامعة التص ُّوف والعشق‬
‫ُّ‬ ‫يوحنا الصليب‪ .‬ولهذا‬
‫املدرسة من إنجازات عرفانيَّة سحرت بأفكارها العقالنيَّة قلوب معارصيها وعارفيها‪.‬‬

‫لقد تجاوز السهروردي بفكره مجمل الحدو‪ ،‬والطريق الذي أضاءه «بنور األنوار»‪ ،‬ع َّبده بدمه‬
‫الذي أُريق وهو مل َّا يبلغ األربعني من عمره بَع ُد‪ .‬لقد عرف هدفه ومىش‪ ،‬بل جعل من آيات الله‬
‫جنه يف إلفة عجيبة‪ ،‬كام لويفعل ذلك بريشة فنان وشاعر‬
‫كل ما يخالفه‪ ،‬ود َّ‬
‫نرباسا وط َّوع َّ‬
‫ً‬ ‫يف القرآن‬
‫متآلِّه!‬

‫ظل الدراسات الكثرية حول‬


‫ختا ًما‪ ،‬ال مناص من القول أ َّن كتاب «أنطولوجيا الوجود»‪ ،‬يف ِّ‬
‫عمل مم َّي ًزا يف عامل امليتافيزيقا ملا يختزنه من إضافات يف‬
‫ً‬ ‫السهروردي وأفلوطني‪ ،‬يبقى يشكل‬
‫نظريَّة الوجود املوجود‪.‬‬

‫* * *‬

‫الكتاب‪ :‬الوجود األنطولوجي بني السهروردي وأفلوطني‬

‫الكاتب‪ :‬د‪ .‬أحمد يوسف فقيه‪.‬‬

‫الناشر‪ :‬دار الفارايب ـ بريوت ‪.2022‬‬

‫‪298‬‬
‫الوجود األنطولوجي بين السهروردي وأفلوطين‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪1.1‬أبو خزام‪ :‬معجم املصطلحات الصوف َّية‪.‬‬

‫‪2.2‬أبو ريّان ‪:‬هياكل النور‪ ،‬املق ِّدمة‪.‬‬


‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪3.3‬السهروردي ‪ :‬مجموعة مص ّنفات شيخ إرشاق‪ ..‬م‪.‬س‪ ،‬جلد أول‪.‬‬

‫‪4.4‬السهروردي‪ :‬املص ّنفات‪ ،‬ج‪ ،4‬م‪.‬س‪ ،‬الَّلمحات‪.‬‬

‫‪5.5‬السهروردي‪ :‬حكمة اإلرشاق‪ ،‬حيدورة‪ ،‬ص‪ XXXVI‬معهد املعارف الحكميَّة‪ ،‬بريوت‪.‬‬

‫‪6.6‬يد الله يزدنبناه‪ -‬تأ ُّمالت يف الفلسفة اإلسالميَّة‪ -‬ترجمة‪ :‬أحمد وهبة ‪ -‬مراجعة وتقديم‪:‬‬
‫محمد الربيعي‪ -‬دار املعارف الحكميَّة ‪ -‬بريوت‪.2021- -‬‬

‫‪7.7‬أي أن مثل هذا الشخص ال يكون موضع اهتامم يف البحث عن الحقائق اإللهيَّة‪.‬‬

‫‪8.8‬بدوي عبدالرحمن ‪ :‬خريف الفكر اليوناين‪ ،‬مكتبة النهضة املرصيَّة‪ ،‬ط‪.1979 ،7‬‬

‫‪9.9‬برتراند راسل‪ :‬حكمة الغرب ترجمة فؤاد زكريا‪ ،‬ط‪ ،1‬الكويت (سلسلة عامل املعرفة‪ ،‬العدد‬
‫‪ ،)62‬سنة ‪.1983‬‬

‫(نقل عن الخشت‪ :‬للدكتور محمد عثامن‪ :‬قراءات نقدية يف‬


‫‪1010‬ب ّزي‪ :‬السهروردي‪ ،‬ص‪ً .133‬‬
‫الفلسفة الحديثة‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الثقافة العربيَّة ‪2002‬م‪.‬‬

‫‪1111‬برهييه إميل ‪ : BRÉHIER. E‬تاريخ الفلسفة‪ ،‬الفلسفة الهلسنت َّية والرومان َّية‪ ،‬ترجمة جورج‬
‫طرابييش‪ ،)L’Antiquité et le Moyen Age( ،‬دار الطليعة‪ ،‬بريوت ط‪.1988 ،2‬‬

‫‪1212‬املوسوعة الفلسفيَّة العربيَّة‪ ،‬إرشاف د‪.‬معن زيادة‪ ،‬بريوت ط‪ ،1‬معهد اإلمناء العريب ‪1986‬م‪،‬‬
‫بريوت‪ ،‬م‪.2‬‬

‫‪299‬‬
‫"مسالك االبتداء"‬
‫ّ‬
‫للمفكر التونيس محمد أبو هاشم محجوب‬
‫ِ‬
‫َّ‬
‫الوجودية‬ ‫ُمحاكاة من قرب ملسايع هايدغر‬

‫خ�ض إبراهيم‬
‫وأكاديم‪ -‬لبنان‬
‫ي‬ ‫باحث‬

‫يف كتابه الصادر حديثًا تحت عنوان‪“ :‬مسالك االبتداء ‪ -‬دراسات‬


‫هايدغريَّة” ينحو املفكِّر التونيسُّ الربوفسور محمد أبو هاشم محجوب‬
‫ين مارتن هايدغر ونظامه‬‫مخصوصا يف مقاربة الفيلسوف األملا ِّ‬ ‫ً‬ ‫نح ًوا‬
‫يفّ‪ .‬عىل أ َّن ما مي ِّيز عمله الجديد هذا‪ ،‬باإلضافة إىل كثري من أعامله‬
‫املعر ْ‬
‫النص‬
‫السابقة‪ ،‬أنه يجاوز منط َّيات الرتجمة الكالسيك َّية ليدخل يف محاكاة ِّ‬
‫بشغف نادر‪ .‬فهو حني يرتجم ال يفعل ذلك مبا تُ ليه‬ ‫ٍ‬ ‫وتأويله ومساءلته‬
‫النص‬
‫ِّ‬ ‫عليه مقتضيات املهنة فيصري كناقل الحرف بالحرف‪ ،‬لكنه مع‬
‫الهايدغري نراه ينرصف نحو استقراء خفاياه ومستغلقاته بفهم مستحدث‬ ‫ِّ‬
‫يل منقط ًعا عن فعال َّية املرتجم وعنايته‪.‬‬
‫النص األص ُّ‬
‫ال يعود فيه ُّ‬
‫ال يس ُع القارئ وهو يتابع أسلوب َّية الربوفسور محجوب إلَّ أن ين ِّوه‬
‫بخاص َّية االستقراء الواعي إذَّاك‪ ،‬واإلحاطة العميقة بالشخص َّية الهايدغريَّة‬
‫ِّ‬
‫األنطولوجي‪ .‬فنحن هنا أمام فيلسوف يناظر فيلسوفًا ولو من‬
‫ّْ‬ ‫ومرشوعها‬
‫باب من قرب‪ ،‬فرتاه كمن يصغي إىل كلامته من داخل قاعة الدرس‪ ،‬ث َّم‬
‫قص َدت إليه تلك الكلامت واأللفاظ‪.‬‬‫مييض من بعد ذلك إىل تأويل ما َ‬
‫ِّ‬
‫للمفكر التونسي محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مسالك االبتداء"‬

‫الهايدغري مبجموعة من تساؤالت‬


‫ِّ‬ ‫النص‬
‫ِّ‬ ‫مستهل كتابه عن مكنونه حيال‬
‫ِّ‬ ‫يُعرب محجوب يف‬
‫واستفهامات تختزن ما يتع َّدى التقريريَّة األكادمي َّية الشائعة يف فضائنا املعارص‪ .‬مؤ َّدى هذه االستفهامات‬
‫والتساؤالت جاءت كالتايل‪ :‬كيف ميكن أن نق ِّدم هايدغر‪ ،‬بل كيف ميكن أن نق ِّدم لكتاب يق ِّدم‬
‫هايدغر؟ ثم يجيب عىل وجه التساؤل وال ّريبة املض َمرة‪ ،‬أن مثل هذا التقديم لهايدغر ليس باألمر‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫الهيِّ ‪ ،‬وأ َّن الرت ُّدد عىل عتبته ألبعد ما يكون عن اقتصاديَّات األسلوب وآداب االستهالل‪ .‬بل لعلَّنا‪ ،‬عىل‬
‫يظل فكره مستغلقًا عليه‪...‬‬
‫اختالف املقام‪ ،‬لدى موقف ال َّرهبة لسقراط‪ ،‬إذ يذكر برمانيدس‪ ،‬فيخاف أن َّ‬
‫يضيف‪ :‬فالذي بيننا وبني هايدغر مسافة لغة ال تطويها الرتجمة‪ .‬وأبعاد فكر ال يُصاغ عىل صورة قضايا‬
‫كل ذلك‪ ،‬فالذي بيننا وبني هايدغر معارصة بغري تزا ُمن‪ ،‬فكيف السبيل إىل‬
‫جاهزة لالستعامل‪ ،‬وفوق ِّ‬
‫مزا َمنة املعارصة؟‬
‫يرى الربوفسور محجوب أ َّن ما يذكره يف الكتاب من أسئلة منهاج َّية هي بعض من صعوبات هايدغر‬
‫عىل الناس؛ وأنَّها لتزداد ازديا ًدا عىل الذي يروم حلَّها يف محدود نطاق التقديم‪ ،‬لوال ما يهتدي به من‬
‫أعامل الذين سبقوه إليه يف لغات أخرى(‪ .)...‬وليس أهون وطأة منها ما ينجم عن مثيالتها من مسايرة‬
‫أه ِّم األعامل الهايدغريَّة املمت َّدة بني سنة ‪ 1927‬تاريخ صدور كتاب “الوجود والزمان” سنة ‪،1962‬‬
‫فصل الجزء الواحد من املؤلَّف‬
‫َْ‬ ‫فصل املؤلَّف الواحد‪ ،‬بل بني‬
‫َْ‬ ‫فعىل مدى هذه املسافة الفاصلة بني‬
‫الواحد متت ُّد مسايرتنا ملسألة الوجود لدى هايدغر ولكن هذه املسافة‪ ،‬عىل ما يلوح من قرصها‪ ،‬ال‬
‫تحتمل أن ت ُطوى عىل نحو ما ننتقل ضمن املصنف الواحد‪ ،‬من باب إىل باب‪.‬‬
‫[[[‬

‫الفلسفي الحديث إىل العربيَّة‪ ،‬أ َّن الرتجمة يف‬


‫ِّ‬ ‫يدرك املؤلِّف استنا ًدا إىل مكابداته يف نقل الرتاث‬
‫تحويل للكلامت‪.‬‬
‫ً‬ ‫النص‪ ،‬من قبل أن تكون‬
‫ِّ‬ ‫حقيقتها األصل َّية هي إدراك املعنى واستبصار مقاصد‬
‫هريمينوطيقي الحداثة حيال‬
‫ِّ‬ ‫وهذه املنهجيَّة التي سلكها محجوب هي نظري ما ذهب إليه بعض‬
‫مثال يف هذا املورد‪:‬‬
‫الرتجمة وفلسفتها‪ .‬ولنا أن نق ِّدم ً‬
‫الهريمينوطيقي الفرنيسُّ أنطوان بريمان‬
‫ُّ‬ ‫يؤسس‬
‫يف كتابه تحت عنوان «التع ُّرف عىل الغريب» ِّ‬
‫ّْ‬
‫النص‪.‬‬ ‫ريا موازيًا للكشف عمَّ هو مجهول ومسترت يف بنية‬
‫أطروحته الرتجميَّة عىل قاعدة تجعلها نظ ً‬
‫يف يؤول‬
‫ليبي أ َّن مامرسة الرتجمة تنطوي عىل بُعد سوسيو – معر ٍّ‬
‫بل إنَّه يذهب إىل ما يتع َّدى ذلك‪ّ ،‬‬
‫النص بوصفه غريبًا‪ ..‬ولذلك مل ِ‬
‫يأت عنوان كتابه سابق الذكر‪ ،‬إلَّ ليعكس‬ ‫ِّ‬ ‫إىل التع ُّرف عىل أحوال‬
‫ٌ‬
‫أهداف تتجاوز تقن َّيات‬ ‫طبيعة امله َّمة الشاقَّة للرتجمة‪ .‬إذ من خالل هذه امله َّمة ينبغي أن تُنجز‬
‫النص ودالالته ومراميه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫رس‬
‫نقل الحروف والجمل والعبارات من لغة إىل لغة‪ ،‬لتصل إىل إدراك ِّ‬
‫[[[ ‪ -‬مسالك االبتداء‪ -‬ص ‪.32-31-30-29-28-27‬‬

‫‪301‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫فالنص املنقول يُنظَر إليه من جانب بريمان عىل أنَّه هو وصاحبه ينزالن منزلة الغربة‪ ،‬ولذا ينبغي أن‬
‫ُّ‬
‫حقل معرفيًّا من الدرجة األوىل‪ ،‬وبالتايل يجب‬
‫ً‬ ‫يكونا م ًعا موضوع التع ُّرف‪ .‬وبهذا يصبح الغريب‬
‫إدراكه والتع ُّرف إىل مزاياه وخصائصه وطبائعه ومقاصده وغاياته عىل هذا األساس‪ .‬ومثلام سيفعل‬
‫حلول لبلوغ‬
‫ً‬ ‫محجوب يف ما بعد حيال أعامل هايدغر‪ ،‬يعرتف بريمان بصعوبة امله َّمة‪ ،‬لكنه يقرتح‬
‫ترجمة تع ُّرف َّية تقوم عىل خطَّني أساس َّيني متالزمني هام‪:‬التجربة والتأ ُّمل‪ :‬عىل خ ِّ‬
‫ط التجربة‪ ،‬يرى‬
‫أنَّها‪ ،‬من حيث طبيعتها‪ ،‬تجربة‪ .‬فاملرتجم يكابد ويعاين التعارضات التي تتناول مجال الرتجمة‪،‬‬
‫مثل التعارض بني اختالف الُّلغات وتشابهها‪ ،‬والتعارض بني قابل َّيتها للرتجمة وعدم قابل َّيتها‬
‫لها‪ ..‬وكذلك التعارض بني اسرتجاع املعنى واستنساخ املبنى‪ .‬أ َّما عىل خ ِّ‬
‫ط التأ ُّمل‪ :‬فيالحظ أ َّن‬
‫«الرتجم َّيات» هي «غاية الرتجمة يف ذاتها»‪ .‬مب ِّي ًنا كيف أ َّن التأ ُّمل ليس إلَّ انعكاس التجربة عىل‬
‫انعكاسا يت ُّم بواسطة الُّلغة الطبيعيَّة‪ ،‬وكيف أ َّن الرتجمة ال تستغني عن هذا التأ ُّمل ولو أنَّها قد‬
‫ً‬ ‫نفسها‬
‫تستغني عن التنظري‪.‬‬

‫عالم هايدغر وتداخل الرتجمة بامليت�افزييقا‪:‬‬


‫املستقل‬
‫ّ‬ ‫حني نظر مارتن هايدغر إىل النقل من زاوية الفلسفة‪ ،‬انطلق ممَّ يس ّميه «الوجود‬
‫للُّغة» وكذلك من «املعنى األصيل للفظ»‪ .‬فجعل الرتجمة املوصولة بالفلسفة تستمع إىل الوجود‬
‫يف الذي شكَّل محور اشتغاالت‬
‫يل الذي فيه‪ .‬وهذا هو اله ُّم املعر ُّ‬
‫ُّلغوي‪ ،‬ثم لتستنطق املعنى األص َّ‬
‫ِّ‬ ‫ال‬
‫الربوفسور محجوب لدى اقرتابه من نصوص هايدغر‪.‬‬
‫لعل ما ميكن استنتاجه من كتاب «مسالك االبتداء» أ َّن التجربة الهايدغريَّة كانت ملهمة للخطوط‬
‫َّ‬
‫الكربى يف املامرسة الهرمنيوطيقيَّة‪ .‬الصورة تبدو واضحة حني يستعيد محجوب إشكاليَّات‬
‫الرتجمة ويسعى لتقديم إجابات عليها تب ًعا الستقرائه أعامل هايدغر‪ .‬وهكذا ال يزال السؤال يُطرح‬
‫ولعل الكالم يف هذه املفارقة مرج ُع ُه اىل‬ ‫َّ‬ ‫عمَّ إذا كانت الرتجمة عمليَّة ممكنة‪ ،‬وصادقة يف آن‪...‬‬
‫النص األصل‪ ،‬ال س َّيام أ َّن مث َّة من ال يزال‬
‫َّ‬ ‫جم هو نفسه‬‫النص املرت َ‬
‫ُّ‬ ‫جد ٍل مل ينت ِه حول ما إذا كان‬
‫لكل منهام عاملها املخصوص‪.‬‬
‫النص من األذى فيام هو يرتنَّح بني لغتني ٍّ‬
‫ِّ‬ ‫يشكِّك يف إمكان نجاة‬
‫يظهر ذلك يف حقل األدب والشعر والسياسة‪ ،‬مثلام يظهر عىل الخصوص يف حقول الفلسفة‬
‫والتص ُّوف والنصوص املق َّدسة‪ .‬كثريون من الباحثني وجدوا أ َّن تاريخ الفلسفة هو نفسه يف العمق‬
‫تاريخ الرتجمة‪ .‬وقد تكتيس الرتجمة مظهر الرشح والتعليق كام هو الشأن عند ابن رشد‪ .‬وعىل‬
‫سبيل املثال‪ ،‬فإنَّك حني تدرس أرسطو فذلك يعني أنَّك ترشحه‪ ،‬ث َّم تح ِّوله من لغة إىل لغة‪ ،‬ومن‬
‫خطاب إىل خطاب‪ .‬وهذا التحويل هو ما يوفِّر للفلسفة حيويَّتها ونشاطها‪ .‬والذين يقولون بهذا‬

‫‪302‬‬
‫ِّ‬
‫للمفكر التونسي محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مسالك االبتداء"‬

‫والنص ‪ -‬برأيهم –‬
‫ُّ‬ ‫الرأي يعتقدون أ َّن الرتجمة تنفخ الحياة يف النصوص وتنقلها من ثقافة إىل أخرى‪.‬‬
‫ككل كتابة هي فعاليَّة‬
‫ال يحيا إلَّ ألنَّه قابل للرتجمة‪ ،‬أو أنَّه غري قابل لذلك يف الوقت ذاته‪ .‬فالرتجمة ِّ‬
‫فالنص لن ميوت‪ ،‬ولن يُلغى‬ ‫ُّ‬ ‫نص ما هي تحويله وتوليده‪.‬‬
‫وتحويل وإعادة إنتاج‪ .‬ذلك أ َّن ترجمة ٍّ‬
‫إلَّ إذا مل يعد قاد ًرا عىل اإلنتاج‪ ،‬إلَّ إذا مل يعد يطرح أسئلة‪ .‬ويف هذه الحالة‪ ،‬فإنَّه ال يُرتجم فقط‪،‬‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫نصا‪ .‬من هذه القراءة سنالحظ أ َّن‬


‫وإمنا ال يُفكَّر فيه وبه‪ ،‬وال يُتداول‪ ،‬وال يؤ َّول‪ ،‬وال يُقرأ‪ ،‬وال يعود ًّ‬
‫خ وإلغا ٌء واستمرار‪ .‬إنَّها‬
‫الرتجمة مت ُّر مبراحل متداخلة ومتناسجة يف ما بينها‪ .‬فهي كام يُقال‪ ،‬ن َْس ٌ‬
‫ولعل‬
‫َّ‬ ‫ج َمة‪.‬‬ ‫نقل للنصوص وتحويل لها‪ .‬وهي أيضً ا تحويل للُّغتني م ًعا‪ :‬الُّلغة املرت ِ‬
‫ج َمة والُّلغة املرت َ‬ ‫ٌ‬
‫هذا معنى ما قصده الجاحظ يف قوله «متى وجدنا الرتجامن قد تكلَّم بلسانني علمنا أنَّه قد أدخل‬
‫كل واحدة من الُّلغتني تجذب األخرى‪ ،‬وتأخذ منها وتعرتض عليها»‪.‬‬
‫الضَّ ْي َم عليهام‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫يستهل ما ذهب إليه بإيضاح‬
‫َّ‬ ‫بالنظر إىل خصوص َّية هذا العمل‪ ،‬كان عىل الربوفسور محجوب أن‬
‫منهجيَّته يف تناول فيلسوف «الدازاين» انطالقًا من املشهد الذي جرى تظهريه فيه عرب نقله إىل‬
‫العرب َّية‪.‬‬
‫يحتوي كتاب «مسالك االبتداء» حسب املؤلِّف عىل قسمني‪ ،‬وكان صدر منهام قسم تحت‬
‫عنوان «هايدغر ومشكل امليتافيزيقا» يف طبعتني اثنتني ضمن سلسلة مفاتيح‪ ،‬عن دار الجنوب‬
‫للنرش يف تونس‪ ،‬سنتي ‪ 1995‬و‪ ،1996‬وقد نفدت الطبعتان منذ أمد بعيد‪ .‬أ َّما القسم الثاين فقد ض َّم‬
‫دراسات أغلبها غري منشورة من قبل‪ .‬ولكن الذي يجمع بينها هو مناقشة مسألة االبتداء يف التفكري‬
‫اإلغريقي للفلسفة‪ :‬أرسطو‪،‬‬
‫ِّ‬ ‫ّْ‬
‫الهايدغري‪ .‬ولذلك فهي تدور يف أغلبها حول قراءة هايدغر لالبتداء‬
‫أفالطون‪ ،‬برمانيدس‪.‬‬
‫يبي املؤلِّف‪ ،‬إىل إدخال تنقيحات جوهريَّة عليه متثَّلت‬
‫لقد احتاج طبع هذا الكتاب‪ ،‬كام ِّ‬
‫أساسا يف إضافة فصول جديدة ع َّدة‪ ،‬وإعادة العمل‪ ،‬يف القسم األول‪ ،‬املنشور من قبل‪ .‬وليس‬
‫ً‬
‫جدي ًدا عىل القارئ ‪ -‬يضيف املؤلِّف‪ -‬أ َّن هذا القسم كان من أول‪ ،‬إن مل يكن هو أول‪ ،‬ما كُتب‬
‫ي‪ .‬ولذلك فإ َّن ما صاحب تلقّيه من االكتشاف وال سيَّام‬ ‫يف العربيَّة عن هايدغر عىل نحو ج ِّد ّْ‬
‫خصوصا بعدما أصبح الناس أعرف‬‫ً‬ ‫يف مفهوماته املقرتحة‪ ،‬مل يعد اليوم بتلك الج َّدة واملباغتة‪،‬‬
‫بهايدغر‪ ،‬وبعدما تع َّددت حوله األطروحات الجامعيَّة يف مختلف الجامعات العربيَّة‪ ،‬وتواترت بل‬
‫تخصص له يف املجلَّ ت واملجاميع‪ .‬وعليه‪ ،‬مل يعد اليوم من املمكن‬
‫َّ‬ ‫تزايدت املقاالت التي‬
‫إغفال ترجامته العربيَّة‪ ،‬عىل تفاوت قيمتها وتراتب مستويات دقَّتها‪ ،‬واختالف درجات استيفائها‪،‬‬
‫فضل عن إحكامها للفكرة الهايدغريَّة بالجملة‪ .‬ومل يعد من املمكن تجاهل «الدروس» الَّالفتة يف‬
‫ً‬

‫‪303‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫تأويله مام انعكس عىل ترجامته وعىل اختيار األلفاظ الدالَّة عىل معانيه‪ .‬ولكن مل يعد ممك ًنا أن‬
‫نتجاهل تط ُّور الهايدغريَّات يف العامل وتط ُّور األسئلة املطروحة عليها بالنظر إىل ما صار الوعي‬
‫النص من أجل‬
‫ِّ‬ ‫الفلسفي يطرحه عىل نفسه من األسئلة‪ .‬ولذلك‪ ،‬كان علينا إعادة التدخُّل أحيانًا يف‬
‫ُّ‬
‫املتغيات التي ليست هيِّنة وال بسيطة[[[‪.‬‬
‫ّ‬ ‫كل هذه‬
‫مساءلته عن كيفيَّة إجابته عىل ِّ‬
‫املنهجي للكتاب‪ ،‬فإ َّن هذه الطبعة الثالثة (للقسم‬
‫ِّ‬ ‫حسب توضيحات املؤلِّف يف الرتتيب‬
‫األول) تريد أن تكون تحيي ًنا واع ًيا باملسافة بني مبدأها األول وصيغتها الحال َّية وال س َّيام بالنظر إىل‬
‫مستج َّدات التلقّي التي ذكرنا‪ .‬وهكذا سيظهر هذا التحيني بالخصوص يف مجموعة عنارص يوردها‬
‫املؤلِّف عىل الشكل التايل‪:‬‬
‫الفرنيس ونقلها إىل العرب َّية عن األصل‬
‫ِّ‬ ‫أ َّو ًل‪ :‬إعادة ترجمة ِّ‬
‫كل الشواهد التي كانت وردت بالِّلسان‬
‫ين‪ ،‬وتب ًعا لهذا اإلجراء عمد املؤلِّف إىل تقديم ترجامته لها عن ذلك األصل‪ُ ،‬م ِ‬
‫دخ ًل ما ينبغي‬ ‫األملا ِّ‬
‫النص كلَّام كان ذلك رضوريًّا‪ ،‬مع اإلشارة إليه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫من التغيريات االصطالح َّية عىل‬

‫ثان ًيا‪ :‬التحيني البيبليوغرا ُّ‬


‫يف كلَّام كان يف ذاك وجاهة‪ ،‬أي كلَّام كان لذلك التحيني أث ٌر يف القراءة‬
‫التي يت ُّم تقدميها‪.‬‬
‫ثالثًا‪ :‬اإلشارة‪ ،‬يف الحدود التي ال توجب إعادة صياغة الكتاب من أصله‪ ،‬إىل ما استج َّد من‬
‫املعرفة بهايدغر‪ ،‬وتط ُّور تفكريه‪ ،‬بال َّنظر إىل تسلسل نرش أعامله الكاملة وتواصله إىل اليوم[[[‪.‬‬
‫يفيض هذا الرتتيب إىل أنَّه مل يكن للربوفسور محجوب أن يكتفي بباب واحد ليدخل عامل هايدغر‪.‬‬
‫وحي معه ق َّراءه غربًا ورشقًا‬
‫َّ‬ ‫خاص مع فيلسوف حائر يف أمره‬
‫ٍّ‬ ‫بل كان أجدى أن يتعامل بنباهة ووعي‬
‫ب التهيُّؤ لرحلة‬
‫ج َ‬
‫نص هايدغر‪ -‬كام يقول املهت ّمون ‪َ -‬و َ‬
‫وعىل امتداد العامل املعارص‪ .‬فليك يقرأ َّ‬
‫رشعة عىل طبقات شتَّى من الفهم‪ .‬لكن هذا لن يفيض بك إىل اإلعراض‪ ،‬بل إىل ما يدعوك إىل‬ ‫م َّ‬
‫َص َد من وراء عبار ٍة أو ٍ‬
‫نعت‪ ،‬فلرمبا أشكل عليك‬ ‫ٍ‬
‫وصمت وانتباه‪ .‬فلو أخذك سه ٌو عمَّ ق َ‬ ‫مجاراته بخف ٍر‬
‫ٍ‬
‫وحالئذ ما ل ََك إال أن تتح َّرى عامله الشخيص من قبل أن تتأ َّول‬ ‫تحس ُبه من بديهيات الكالم‪.‬‬
‫ما كنت َ‬
‫كلامته‪ ..‬كام لو رصتَ بإزائه تلقاء كتاب موصود‪ .‬هكذا يطيب لهايدغر أن يقف دامئًا عىل الحافَّة‪،‬‬
‫يراقب ما يتوارى بني الثنايا والتُّخوم‪ ،‬أو ما يتخفَّى تحت أقنعة الُّلغة‪ .‬يتعامل مع املفاهيم ومرجع َّياتها‬
‫مل أدىن‪ ،‬أو كعاهلٍ يستب ُّد بالكلامت حتى ال تستب َّد به الكلامت‪ .‬متح ِّر ٌر ممَّ سبق‪ ،‬وممَّ‬ ‫ٍ‬
‫كمرشف عىل عا ٍ‬
‫يعايش اآلن‪ ،‬وما سييل من وقائع‪ .‬ليك تنعتق من أرسه وجاذب َّيته ليس لك إلَّ أن تتاخمه برفق‪ ،‬ثم أن‬

‫[[[ ‪« -‬مسالك االبتداء» ‪ -‬ص ‪.12‬‬


‫[[[ ‪ -‬املصدر نفسه‪ ،‬الصفحة نفسها‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫ِّ‬
‫للمفكر التونسي محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مسالك االبتداء"‬

‫تعقد معه ميثاقاً ينتظ ُمه ديالكتيك الوصل والفصل‪ .‬تَو ُّد لو تقربُ ُه وتكون يف اآلن عينه‪ ،‬ال ُمري ًدا له وال‬
‫رس متع ِّدد الكامئن مثل هايدغر ال مناص مع رفقته من تقوى املتدبِّر‪.‬‬ ‫خصم‪ .‬فيلسوف ينطوي عىل ٍّ‬ ‫ً‬
‫ت عامله‬ ‫ٍ‬
‫حالئذ نظريان يتناظران من بُعد‪ .‬فلنئ مل تفعل مبا تُ ليه عليك حكمة التناظر‪ ،‬س َك ْن َ‬ ‫أنت وهو‬
‫ربا عىل فهم‪ .‬وإذًا ‪ ..‬سوف يكون عىل املتع ِّرف‪،‬‬
‫الحائر‪ ،‬فتشابهت عليك املقاصد‪ ،‬فال تستطيع معه ص ً‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫محل فيه للغلبة‪ .‬وليس ذلك إلَّ لينأى مسافة ما من‬


‫أن يُربم مع هايدغر وإنشاءاته رضبًا من تعادل ال َّ‬
‫حا من‬
‫لعل يف التناظر معه ما ينشئ للقارئ منفَس ً‬
‫سطوة املفهوم‪ ،‬وغواية املصطلح‪ ،‬وضباب الفكرة‪َّ .‬‬
‫ٍ‬
‫وغامض من قوله الثقيل[[[‪.‬‬ ‫ت َ َر ِّو يعي ُنه عىل احتواء ما هو شاقٍ‬
‫لقد استعاد هايدغر ما سبق وما ل َِحق من أسئلة امليتافيزيقا‪ ،‬ث َّم استودعها «حارضته» الفائضة‬
‫باإلبهام‪ .‬فليس من غراب ٍة إذًا‪ ،‬أن نرى إىل مخترب أفكاره كمستودع يحوي العناوين الكربى التي‬
‫أنجزتها الفلسفة‪ ،‬عىل تعاقب أطوارها‪ ،‬وتن ُّوع مدارسها وت َّياراتها‪ .‬مل يكن شُ غلُه باستعادة األسئلة‬
‫ربؤ منها‪ ،‬وإنَّ ا لتكون له مم ًّرا إجباريًّا‬
‫املاضية الحارضة‪ ،‬ألجل تفكيكها او انتقادها متهي ًدا للت ُّ‬
‫فلسفي متج ِّدد‪ .‬ولقد أفصح هايدغر‬ ‫ٍّ‬ ‫وفق ما يختزنه مرشوعه من إنشاء‬ ‫ملجاوزتها‪ ،‬وإعادة تظهريها َ‬
‫جتُه تقول إ َّن االعتناء‬
‫عن ذلك مل َّا أشار إىل صعوبة الكتابة من خارج أفق امليتافيزيقا‪ .‬وكانت ح َّ‬
‫جز مبعز ٍل عن عامل الواقع الذي يشكِّل أفق الداللة‬
‫بالسؤال املتعلِّق بحقيقة الوجود يستحيل أن يُن َ‬
‫الشاملة للذَّات الحيَّة‪ ،‬والذي يف مجاله تتحقَّق الخربة اإلنسانيَّة‪ .‬يف هذا النحو يشري الربوفسور‬
‫محجوب إىل أ َّن الحديث عن “نقد امليتافيزيقا” لدى هايدغر ال يجب أن يخفي حقيقة أ َّن عبارة‬
‫“امليتافيزيقا” عنده مل تكن تشري دامئًا إىل الفكر املتح ِّرك ضمن نسيان الوجود‪ .‬فهذه العبارة داخل‬
‫الوجود والزمان هي حسب توصيف املؤلِّف عبارة مصطنعة االستعامل‪ .‬ويشهد بذلك أنَّها يف جميع‬
‫استعامالتها هي واستعامالت تصاريفها ترد بني “ظفرين” مام يحيل إىل رضب من الحذر‪ ،‬أو عىل‬
‫الطبيعي واملتدا َول للعبارة‪ ،‬ومن عدم االنخراط فيه[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫األقل من الحرص عىل عدم االلتزام باملعنى‬
‫ِّ‬
‫من الواضح أ َّن هايدغر مل يقطع مع امليتافيزيقا الكالسيك َّية التي اكتفت باالعتناء باملوجود‪،‬‬
‫بل دعا إىل اجتيازها من خالل العودة إىل السؤال األصيل عن وجو ٍد ل َّف ُه النسيا ُن‪ .‬وألجل ذلك‬
‫راحت منظومته تنمو وتتكامل من خالل سلسلة من االنعطافات‪:‬‬
‫األول‪ :‬حني توقف مل ًّيا عند معنى واجب الوجود‪ .‬كان ذلك بالنسبة إليه لغ ًزا‪ ،‬ولكنه لغ ٌز‬
‫وقت قرأ كتاب فرانز‬ ‫َ‬ ‫التفلسف‪ .‬جرى ذلك عام ‪1907‬‬
‫ُ‬ ‫سيم ِّه ُد له الطريق لالنتساب إىل عامل‬

‫[[[ ‪ -‬أنظر‪ :‬د‪ .‬محمود حيدر‪ -‬الفيلسوف الحائر يف الحرضة ‪ -‬مجلَّة «االستغراب»‪ -‬العدد ‪ - 5‬خريف ‪.2016‬‬
‫[[[ ‪ -‬مسالك االبتداء‪ -‬ص ‪.105‬‬

‫‪305‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫برينتاتو يف «باب املعاين املتع ِّددة للوجود بحسب أرسطو»‪ .‬الكتاب الذي ابتنى عليه ـ كام قال‬
‫ـ مساره وأسلوب تفكريه‪.‬‬
‫الوجودي‪ .‬كانت دعوته حالذاك متَّجه ًة‬ ‫ّْ‬ ‫الثاين‪ :‬حيث سعى لتجاوز وهن امليتافيزيقا وفقرها‬
‫امليتافيزيقي من ح ِّيز االعتناء باملاه َّيات نحو فضا ِء العناي ِة بالوجو ِد وأصالت ِه‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫إىل نقل اله ِّم‬
‫الثالث‪ :‬مل َّا استدرجه السؤال عن حقيقة الوجود إىل قلق طاول قاع النفس والفكر‪ ،‬وبسببه‬
‫طفق يبحث عن َملَك ٍ‬
‫َات أخرى غري مرئ َّية يف الروح اإلنسان َّية لتكون البديل من العقالن َّية املتش ِّيئة‬
‫مليتافيزيقا الحداثة‪.‬‬

‫الرابع‪َ :‬‬
‫ح ْيت ُه يف اإلرشاقات التي وجد أ َّن الكينونة تَ َهبُها لإلنسان ليك يهتدي بها إىل صواب‬
‫تتأت حصيلة اشتغاالت‬‫َّ‬ ‫ح ْية تب َّدت فيها اإلرشاقات عىل وجهني متعاكسني‪ :‬بني أن‬
‫الضمري‪َ .‬‬
‫باطني عميق من شأنه أن‬
‫ٍّ‬ ‫الفكر املحض يف انجذاباته القصوى‪ ،‬وبني أن تكون حاصل اختبار‬
‫يأخذ بناصيته إىل اليقني[[[‪.‬‬
‫ظل هايدغر مشغولً بـ”املا قبل واملا بعد” يف عني الَّلحظة‪.‬‬
‫حيال هذه االنعطافات املتداخلة هذه‪َّ ،‬‬
‫انشغل بالَّلحظة الفيزيائيَّة ومتظ ُهراتها‪ ،‬قدر انشغاله بسؤال الوجود وغيبته‪ .‬لكن فيلسوف الدازاين‬
‫سيتواجه مع السؤال األكرث بداهة وحضو ًرا وبساطة واألعمق غو ًرا يف اآلن عينه‪« :‬ملاذا كان وجود‬
‫سمه‪ .‬أ َّما حارضيَّت ُه ودالالت ُه فتعود إىل‬
‫املوجودات بدلً من العدم؟»‪ ..‬إنه سؤال األسئلة كلِّها كام َّ‬
‫سؤال جائ ًزا وبديه ًّيا‬
‫ً‬ ‫مكانته التأسيس َّية‪ ،‬وإىل تجاوزه العميق ملعظم األسئلة األخرى‪ ،‬وكذلك إىل كونه‬
‫الفلسفي‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫ورضوريًّا الستئناف التنظري‬
‫يعرض املؤلِّف إىل شهادة هايدغر التي توضح عودته إىل أرسطو من خالل قراءته ملقالة فرانز‬
‫برنتانو فيقول‪« :‬لقد اعرتضني (‪ )traf mich‬السؤال عن الوجود ‪،))Sein die Frage nach dem‬‬
‫خالل سنوات املعهد األخرية‪ ،‬وتحدي ًدا يف صيف سنة ‪ ،1907‬فتمثَّلت يل يف صورة مقالة فرانز‬
‫برنتانو‪ ،‬معلم هورسل‪ .‬لقد كان عنوانها‪ :‬يف الداللة املتع ِّددة للموجود بحسب أرسطو‪ ،‬وتعود إىل‬
‫يل آنذاك ابن بلديت‪ ،‬وصديقي األبوي‪ ،‬الدكتور كرناد غروبر‪.‬‬ ‫سنة ‪ .1862‬وهذا الكتاب إنَّ ا أهداه إ َّ‬
‫ٍ‬
‫يومئذ كاهن رع َّية‬ ‫(‪ )Dr. Gonard Grober‬الذي سيصبح الحقًا رئيس أساقفة فرايبورغ‪ ،‬وقد كان‬
‫كنيسة الثالوث (‪ )Dreifaltigkeitskirche‬يف كونستانس‪.‬‬
‫[[[‬

‫يبدو السياق املبارش لشهادة هايدغر يف ما يتَّصل بربنتانو – حسب تعليق املؤلِّف‪ -‬سياق‬
‫[[[ ‪ -‬هايدغر‪ -‬مدخل إىل امليتافيزيقا‪ -‬مصدر سابق ‪ -‬ص ‪.210‬‬
‫[[[ ‪ -‬مسالك االبتداء ‪ -‬ص ‪.12-11‬‬

‫‪306‬‬
‫ِّ‬
‫للمفكر التونسي محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مسالك االبتداء"‬

‫عرض للتأثريات التي تحكَّمت يف “درس ‪ ”1921‬حول “العبارة والظاهرة” (‪Ausdruck und‬‬
‫‪ ،)Erscheinung‬وجعلته يعالج “مشكلة الكلمة والوجود”‪ ،‬وهي املشكلة التي اتخذت تبا ًعا يف‬
‫مراوحة ذكريات هايدغر‪ ،‬صورة النحو التأ ُّميل ‪ -Grammatica speculative‬يف ‪ ،1915‬ث َّم صورة‬
‫التفكُّر املعارص للتعبرييَّة يف الشعر ويف الفن‪ ،‬أو قبل ذلك بكثري‪ ،‬يف هلدرلني وتراكل‪ .‬وتنتمي إىل‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫هذا السياق‪ ،‬ويف الوقت نفسه‪ ،‬نصوص سابقة عىل الدرس املشار إليه وأخرى الحقة عليه‪ .‬وهكذا‬
‫الرضوري أن نعترب‪ ،‬من طرف أول‪ ،‬مقالة برنتانو ورسالة املقوالت الداللة عن دونس‬
‫ِّ‬ ‫فقد يكون من‬
‫أسكوت (‪ )Die Kategorien-und Bedeutungslehre des Duns Scotus‬عىل األقل‪ ،‬ومن جهة‬
‫َ‬
‫طرف مسألة الوجود‪.‬‬ ‫أخرى زاين أند تسايت(‪ . )Sein und Zeit‬هكذا ترتسم الوصلة التي تربط بني‬
‫أ َّما عن تأويالت أرسطو الفينومينولوج َّية ومشكل وحدة دالالت الوجود التناسب َّية‪ ،‬فإ َّن املؤلف‬
‫يعمل عىل إبراز مزايا رؤية هايدغر فيكتب‪“ :‬ضمن واحد من أش ِّد النصوص تركي ًزا حول أرسطو‪،‬‬
‫يريد هايدغر أن يتجاوز األطروحة الوسيطة للوحدة التناسبيَّة لدالالت الوجود ضمن الجوهر‪ ،‬أي‬
‫لوحدتها املقول َّية‪ ،‬فيذكر أ َّن الجوهر ليس إلَّ واح ًدا من دالالت الوجود إىل جانب دالالته الثالث‬
‫األخرى مبا هو عرض‪ ،‬ومبا هو صادق‪ ،‬ومبا هو ق َّوة وفعل‪ :‬فينتهي إىل “رضورة أن ننت َّبه إىل أنَّه‬
‫يحرضنا ها هنا مفهوم آخر للتناسب ال يتطابق مع املفهوم الذي ينظِّم عالقة املقوالت”‪ .‬ث َّم إ َّن‬
‫هذا املفهوم الثاين للتناسب هو الذي سيقوده إىل أن يتساءل يف ‪ ،1931‬أي تقريبًا لدى نهاية تفكُّر‬
‫رباعي؟ وهل‬
‫ّْ‬ ‫شغله قرابة العقد من السنني‪“ :‬ماذا يكون هذا الوجود حتى ينبسط هكذا عىل نحو‬
‫جه إليها أرسطو سؤال الوجود‪ ،‬هي هي‪ ،‬بوجه عام‪ ،‬كرثة الوجود األش َّد‬
‫تكون هذه الرباع َّية التي يو ِّ‬
‫أصالنيَّة؟”[[[‪.‬‬

‫هذا السؤال املركَّب واملعقَّد الذي يستخلصه املؤلِّف من قراءاته لهايدغر سيحيل إىل دالالت‬
‫الُّلغة وعالقتها الوطيدة بفلسفة هايدغر‪.‬‬

‫لغة الوجود كمصطلح ومفهوم‪:‬‬


‫الهايدغري أحد أبرز املحاور التي يوليها املؤلِّف عنايته يف كتابه الذي‬
‫ُّ‬ ‫تشكِّل الُّلغة واملصطلح‬
‫حتم صيغة املصدر لكلمة “الوجود”‪ ،‬عىل سبيل‬
‫بني أيدينا‪ .‬طبقًا لعمل َّية تط ُّورها‪ ،‬فإ َّن الُّلغة تشكِّل ً‬
‫املثال‪“ :‬أن يوجد” أو “أن يقدم نفسه”‪ ،‬ولكن مع مرور الزمن أصبحت الُّلغة‪ ،‬نتيجة لذلك‪ ،‬تنتج‬
‫معنى ضعيفًا متبلِّ ًدا وغامضً ا لتلك الكلمة‪ .‬هذا األمر يحدث‪ ،‬يف الواقع‪ ،‬هكذا ليكون عىل تلك‬

‫[[[ ‪ -‬املصدر نفسه ‪ -‬ص ‪.193-190‬‬

‫‪307‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫الشاكلة وبهذه الصورة فحسب‪ .‬فبدلً من الحصول عىل توضيح لهذه الحقيقة‪ ،‬أن حقيقة الوجود‪،‬‬
‫أمس الحاجة إىل توضيحها‪ ،‬نقوم فحسب بطرح حقيقة أو واقعة أخرى‪ ،‬تناسب‬
‫التي نحن يف ِّ‬
‫وتالئم تاريخ الُّلغة‪ ،‬تقع إ ّما إىل جانبها أو خلفها‪ .‬وحسب هايدغر يف كتابه املعروف “مدخل إىل‬
‫امليتافيزيقا” فإ َّن كلمة “الوجود” هي أكرث الكلامت خواء وفراغًا ولكن هي أيضً ا مع ذلك ذات‬
‫معنى شامل‪ .‬وما يت ُّم االعتقاد والتسليم فيه بالعالقة مع تلك الكلمة (كلمة الوجود)‪ ،‬بنا ًء عىل ذلك‪،‬‬
‫هو أنها ليست أكرث من مفهوم عام عا ٍل‪ ،‬أي أنَّها جنس‪ .‬لكن الواحد ُّ‬
‫يظل بالكاد يكتشف مفهوم‬
‫“الوجود يف العموم” “‪ ”ens inn genere‬كام طرحته األنطولوجيا القدمية؛ مع ذلك‪ ،‬ويف نهاية‬
‫املطاف‪ ،‬ال يوجد املزيد من السعي والجهد الدؤوب والبحث الجاد يف هذا االتجاه عن معنى‬
‫الوجود يف تلك األنطولوجيا‪ .‬ولذا‪ ،‬مع هذه الكلمة الخاوية والفارغة للوجود‪ ،‬فإ َّن األمر ببساطة‬
‫بكل يشء إىل حالة فوىض وغموض وارتباك‪ .‬هنا يف الحقيقة ال توجد إلَّ إمكانيَّة واحدة‬
‫سيؤ ّدي ِّ‬
‫من أجل أن من ّيز وندرك خواء هذه الكلمة وفراغها وتركها من ثم إىل ذلك الحال‪ .‬وهذا األمر رمبا‬
‫يبدو هو الذي ينبغي أن نقوم به اآلن مع ضمري واضح ومرتاح‪ ،‬بل أكرث من ذلك مبا أ َّن الحقيقة‪،‬‬
‫املتعلِّقة بكلمة الوجود‪ ،‬قد ت َّم توضيحها وحسم أمرها تاريخ ًّيا بوساطة حقل تاريخ الُّلغة[[[‪ .‬ففي‬
‫كل مكان متثِّل حالة رىض واطمئنان يف قلوبنا كونها تحيط بنا من‬
‫الواقع‪ ،‬إ َّن املوجودات يف ِّ‬
‫كل واحد من هذه األشياء التي نستشهد بها وندرجها‬
‫كل جانب‪ .‬ولكن من أين لنا أن نعرف أ َّن َّ‬
‫ِّ‬
‫يف عداد بياناتنا مع الكثري من الضامنات هو ميثِّل حقًّا املوجود؟ هذا السؤال األخري يبدو لنا أنَّه‬
‫ويؤسس بطريقة ال يشوبها‬
‫ِّ‬ ‫عادي ميكن له أن يُقيم‬
‫ٍّ‬ ‫كل موجود‬
‫ومحض ُسخف‪ ،‬أل َّن َّ‬
‫َ‬ ‫ُم ٍ‬
‫ناف للعقل‬
‫الخطأ حقيقة أنَّه موجود يف هذا العامل‪ .‬نعم هذا األمر صحيح ومن املمكن التأكُّد من ذلك بال‬
‫عناء‪[.‬بل حتى ليس من الرضورة‪ ،‬بالنسبة إلينا‪ ،‬أن نستخدم مثل تلك الكلامت الغريبة عن لغتنا‬
‫اليوميَّة املتداولة‪“ ،‬كاملوجود” و”املوجودات”]‪ .‬ويف الواقع ال نستطيع أن نستوعب أن نفهم يف‬
‫كل تلك األشياء التي تحيط بنا‪ ،‬وأن نقيم شكوكنا فقط عىل‬ ‫هذه الَّلحظة محاولة أن َّ‬
‫نشك بوجود ِّ‬
‫مفتضة‪ ،‬أي‪ ،‬أ َّن ما نج ِّربه من تلك املوجودات هو محض نتاج أحاسيسنا‬
‫أساس مالحظات علميَّة َ‬
‫بكل األشياء التي قمنا‬
‫فحسب‪ ،‬وأنَّنا ال ميكن مطلقًا أن نهرب من سلطة أجسادنا التي تبقى مرتبطة ِّ‬
‫بتسميتها‪ .‬ويف واقع األمر‪ ،‬نو ُّد أن نطرح بعضً ا من املالحظات مقد ًما بشأن هذا املوضوع وهي‪ :‬أ َّن‬
‫مثل تلك االعتبارات واملالحظات العلم َّية املفرتضة‪ ،‬التي يشعر الناس من خاللها أنهم متف ّوقون‬
‫وواثقون‪ ،‬هي ليست كذلك متا ًما وبالضبط‪ .‬هنا يشري املؤلِّف إىل أ َّن كلمة وجود ليست فارغة‬
‫وخاوية إطالقًا‪ .‬فحينام ندرك كلمة “الوجود” إ َّما عن طريق سامعها كوحدة صوت َّية أو لفظ َّية أو نراها‬

‫[[[ ‪ -‬مارتن هايدغر‪ -‬مدخل إىل امليتافيزيقا ‪ -‬نقله إىل العرب َّية‪ :‬عامد نبيل ‪ -‬دار الفارايب ‪ -‬بريوت ‪ - 2015‬ص ‪.198‬‬

‫‪308‬‬
‫ِّ‬
‫للمفكر التونسي محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مسالك االبتداء"‬

‫كعالمة مكتوبة‪ ،‬فهي عىل الفور متنح نفسها امتيازًا عىل أنَّها حقًّا يشء آخر مختلف عن تعاقب‬
‫أي كلمة‪ ،‬وحتى يف كلمة “التعويذة”‪ .‬وهذه األخرية هي أيضً ا تعاقب من‬
‫األصوات والحروف يف ِّ‬
‫األصوات‪ ،‬لكننا نقول عىل الفور إنَّها خالية من املعنى وأمر فارغ وأخرق‪ ،‬رغم أنَّها متلك معناها‬
‫كصيغة سحريَّة‪ .‬وبشكل مامثل‪ ،‬فإ َّن كلمة “الوجود”‪ ،‬املكتوبة واملرئيَّة تختلف يف الحال عن كلمة‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫تعاقب من الحروف‪ ،‬ولكن يف‬


‫ٌ‬ ‫ٌ‬
‫سياق و‬ ‫“‪ .”Kzomil‬وهكذا‪ ،‬فإ َّن هذه الكلمة األخرية هي أيضً ا‪،‬‬
‫بأي يشء ذي معنى ومدلول يف ما يتعلَّق بها‪.‬‬
‫العالقة مع هذا التعاقب أو السياق ال ميكننا أن نفكِّر ِّ‬
‫لكن‪ ،‬يف الحقيقة‪ ،‬ينبغي القول أنَّه ال يوجد إطالقًا ما يس َّمى بكلمة فارغة؛ ففي الغالب قد تتهالك‬
‫يظل يحتفظ بق َّوته‬
‫الكلمة وتهرتئ‪ ،‬لكنها مع ذلك تبقى ممتلئة باملعنى والداللة‪ .‬إن اإلسم “وجود” ُّ‬
‫الوصف َّية العا َّمة‪ .‬إ َّن القول اللَّ حق‪”- :‬بعي ًدا عن هذه الكلمة الفارغة” “الوجود”؛ ينبغي لنا أن نذهب‬
‫إىل املوجودات الفرديَّة الشخصيَّة”‪.-‬‬
‫سوف يلخِّص الربوفسور محجوب مكابداته مع هايدغر فريى أن مساءلة “الدازاين” تصدر عن‬
‫يفس الطمع يف صفائه‪ .‬ولكن نقاوة فهم “الدازاين”‬
‫يل أصيل للوجود عىل نحو ِّ‬
‫التسليم له بفهم أص ٍّ‬
‫يحل به كالبنية‬
‫امليتافيزيقي من أصالته‪ ،‬بل ُّ‬
‫ُّ‬ ‫للوجود ال تلبث أن تتغشَّ اها غشاوة غربته إذ يقتلعه املأثور‬
‫ويظل‬
‫ُّ‬ ‫تظل رصاحة السؤال عن الوجود إذن افرتاضً ا الز ًما للفكر‪،‬‬
‫فيبهت عنه معنى الوجود‪ .‬هكذا ُّ‬
‫ربئًا بذلك من أن‬
‫تحكيم املأثور امليتافيزيقي مستهديًا بفهم الوجود األصيل‪ ،‬ساعيًا إىل إحيائه‪ ،‬مت ِّ‬
‫وتحكُّم للفكر‪ .‬وعليه‪ ،‬فإ َّن تحليل َّية “الدازاين” وتحكيم تاريخ‬
‫ً‬ ‫يكون املعنى الذي للوجود اختالفًا‬
‫بأي وجه من الوجوه‬
‫األنطولوجيا ينتظامن انتظا ًما دائريًّا خانقًا يف كتاب الوجود والزمان‪ .‬وال ميكن ِّ‬
‫كرس الدور إلَّ أن يتنكَّر الكتاب ملرشوعه بتضامن املهت ّمني‪ :‬فانكرس القول وهو يشارف نصف سعيه‪.‬‬
‫يرتسب تاريخ األنطولوجيا بقاع انفتاحنا عىل الوجود‪ ،‬وتطاول بساطة فهم الدازاين للوجود‬
‫هكذا َّ‬
‫تحكيم تاريخ األنطولوجيا‪ .‬فكيف نستغرب من بعد ذلك حمل الوجود والزمان محمل العمل‬
‫الذات َّيايتِّ الهائل‪ :‬فإ َّن بساطة فهمنا للوجود تعتمها تراكامت التاريخ التي ما تزال تضيق عن تص ُّور‬
‫اإلنسان الذي هو نحن عىل معنى غري الذات‪ .‬لذلك ت ُبنى عالقة "الدازاين" بالوجود عىل أنَّها عالقة‬
‫املؤسسة[[[‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫الذات باملوضوع‪ ،‬وتستحيل إقبال َّية الوجود إىل القبل َّية التعالويَّة للذَّات‬
‫تلك إمياءات عا َّمة من جملة ما تومىء لنا به تجربة الربوفسور محجوب يف الرتجمة والتأويل‬
‫ج َم ِع التجربة التي خاضها هؤالء‪ ،‬لرأينا رضوبًا من اختبارات إبداع َّية‪ ،‬أفلحت‬
‫بالعكس‪ .‬فلو أخذنا ب َ‬
‫ّْ‬
‫النص‪.‬‬ ‫يف أحيان شتَّى يف التح ُّرر من التباينات التي يفرضها وجود لغتني متوازيتني يف التعامل مع‬

‫الخارجي للكتاب‪.‬‬
‫ّْ‬ ‫[[[ ‪ -‬أنظر‪ :‬كلمة املؤلِّف يف هذا الخصوص عىل الغالف‬

‫‪309‬‬
‫مكنز الكتب‬

‫كل حال‪ ،‬أم ٌر مستصعب‪ ،‬ومه َّمة شاقة‪ ،‬فال يحس ُن ُهام إلَّ من كان عىل دراية وعناية‬
‫والنقل يف ِّ‬
‫بثالث معارف‪:‬‬
‫أ َّو ًل‪ :‬معرفة بلغة اآلخر‪ ..‬أي بلسان الغريب وكيف يتكلَّم‪.‬‬
‫جمِ ما َو ِس َعت ْـه قدرت ُ ُه من‬
‫للنص املرت َ‬
‫ِّ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬معرفة بلغته األصل َّية‪ .‬ذلك بأ َّن مه َّمة املرتجم أن يُ ِع َّد‬
‫إحاطة بقواعد الُّلغة‪ ،‬يف نحوها‪ ،‬ورصفها‪ ،‬وبناءاتها‪ ،‬وتراكيبها‪.‬‬
‫أقل األمر أن يكون مث َّقفًا‬
‫جمِ ‪ُّ ،‬‬
‫بالنص املرت َ‬
‫ِّ‬ ‫ّْ‬
‫النص‪ .‬فلو مل يكن املرتج ُم عامل ًا‬ ‫ثالثًا‪ :‬معرفة بنوع‬
‫جم‪ ،‬هو‬
‫النص املرت َ‬
‫ِّ‬ ‫به‪ ،‬قارئًا له‪ ،‬فلن يتس َّنى له اإلحاطة واالتقان به واإلحسان إليه‪ .‬وإذًا‪ ،‬العلم بنوع‬
‫من الرشائط األوىل التي يجب عىل املرتجم حيازتها‪.‬‬
‫يبقى السؤال جاريًا حول ما إذا كانت الرتجمة ممكنة‪ .‬ويف هذه الحال أيضً ا‪ ،‬سوف يأخذ‬
‫الجواب مسافة أبعد ممَّ ذهبنا إليه حتى اآلن‪ .‬فلقد اشتغلت الفلسفة الغرب َية عىل الرتجمة بوصفها‬
‫قضيَّة يف غاية التعقيد‪ .‬ثم مضت بعي ًدا يف االجتهاد لعلَّها تجد حلولً لهذه اإلشكاليَّة‪.‬‬
‫* * *‬
‫‪ -‬الكتاب‪« :‬مسالك االبتداء – دراسات هايدغريَّة»‪.‬‬
‫‪ -‬املؤلِّف‪ :‬محمد أبو هاشم محجوب‪.‬‬
‫‪ -‬النارش‪ :‬سلسلة حروف الفلسفة ‪ -‬دار كلمة للنرش والتوزيع – تونس – ‪.2021‬‬

‫‪310‬‬
‫ِّ‬
‫للمفكر التونسي محمد أبو هاشم محجوب‬ ‫مسالك االبتداء"‬

‫الحئة املصادر واملراجع‪:‬‬


‫‪ - 1‬مارتن هايدغر‪ -‬مدخل إىل امليتافيزيقا ‪ -‬نقله إىل العرب َّية‪ :‬عامد نبيل ‪ -‬دار الفارايب ‪ -‬بريوت‬
‫العدد الثاين ــ ‪1444‬هـ ــ صيف ‪2022‬م‬

‫‪.2015‬‬
‫‪ - 2‬محمود حيدر‪ -‬الفيلسوف الحائر يف الحرضة ‪ -‬مجلَّة "االستغراب"‪ -‬العدد ‪ - 5‬خريف ‪.2016‬‬

‫‪311‬‬
ILMOLMABDAA

Mahjoub takes a special approach toward the German philosopher Martin


Heidegger and his epistemological system. What distinguishes this new work,
in addition to many of his previous publications, is that Mahjoub goes beyond
classical translation modes and interprets the text with a rare passion. When
Mahjoub translates, he does not only provide a word for word translation.
Mahjoub proceeds to delve into the hidden aspects and complexities of
Heidegger’s text with a fresh understanding, in a manner where the original
text is not disengaged from the activity and care of the translator.

312
Abstract

Ontological Existence according to Suhrawardi and Plotinus


by Ahmad Faqih: The Argument on Separation and Union in the
Theories of Fayd and Ishrāq
.Second Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

Jad Maqdisi
Researcher in Philosophy of Existence, residing in France.
“Ontological Existence” is a comparative study of Suhrawardi and Plotinus
by the late Ahmad Faqih and a unique research effort in the domain of
philosophy and theology. In this study, Faqih strives to restore the category
of existence, i.e. to place it in contemporary circulation after a long period
of time during which metaphysics and its topics were subjected to exclusion
and neglect by modern philosophy. It is important to point out first that
this work was originally an academic treatise prepared by Faqih to gain his
PHD in philosophy from the University of Saint Joseph in Lebanon. Faqih
unexpectedly died a few days before the date of the discussion, but the university
administration and the supervisor of the dissertation, Professor Jad Hatem,
chose to posthumously honor Faqih, praising the significance of his study and
the depth of its discussion of this important topic in ontology.
* * *
The Paths of Commencement by the Tunisian Intellectual
Mohammad Abu Hashem Mahjoub: A Close Approach to
Heidegger’s Existential Efforts

Khodor Ibrahim
Academic and Researcher, Lebanon
In his newly published book, The Paths of Commencement: Studies on
Heidegger, the Tunisian intellectual and professor Mohammad Abu Hashem

313
ILMOLMABDAA

both to Ibn Arabi and to the well-known teaching usually ascribed to him,
the “Oneness of Being.” In this study, Chittick summarizes his findings which
were reached during eight months in India, from May 1988 to January 1989,
looking at Persian and Arabic manuscripts in ten libraries with the aim of
determining the extent to which such works reflect the teachings of Ibn Arabi
and how these teachings reached the Indian authors. Furthermore, he aims
to determine who the most outstanding Indian representatives of this school
of thought might be, judging the works in terms of the authors’ mastery of
terminology and concepts, depth of understanding, clarity of expression, and
original formulations.
* * *
Narrative on the Elevation to the World of Meaning: The
Aesthetic Aspect in The Conference of the Birds by Farid al-Din
al-Attar

Abdul-Majid Zaraqet
Critic, novelist, and professor at the Lebanese University, Lebanon
This essay is a study of the style and artistry of narration, namely the
aesthetic and semantic effectivity, in the work of the poet, philosopher and
mystic Farid al-Din al-Attar. For this purpose, this essay examines Attar’s story
The Conference of the Birds which has established a rich field in the history
of Sufi and mystic literature. Attar’s work enjoys literary ingenuity in that his
work is open to numerous interpretations. The author was well aware of this
feature, and it is transmitted that he even remarked that his writings “beget a
new meaning in every era”. Following Attar’s own advice, this essay represents
a gradual unveiling of The Conference of the Birds.
* * *

314
Abstract

Knowledge of Ta’wīl in the System of Ibn Arabi: Language as


an Entity

Abdul-Latif al-Zaidani
Academic and Researcher in the Philosophy of Sufism, Jordan
.Second Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

Sufism has granted ta’wīl, the interpretation of the intended meaning


of God’s words, an exceptional rank and has looked upon the Holy Quran
as a transcendent book which expresses the reality of the experience of faith
and its moral dimensions. This essay conducts an internal extrapolation of
the revelation text which possesses a genuine existential value whose truths
can only be recognized through interpretation. As long as the divine word is
filled with existence and has no room for non-existence, it is then –according
to Islamic mystics- a text open to interpretation and manifests itself in
innumerable insights, with each insight susceptible to any form depending
on the individual’s capacity to receive it. This essay is an approach to the
interpretive view of Islamic mystics and examines the interpretive version
presented in the works of Ibn Arabi and how he deals with the divine word.
* * *
Notes on Ibn Al-Arabi’s Influence in the Subcontinent
William Chittick
Few Muslim thinkers have been as influential as Ibn Arabi, known among
Sufis as the Greatest Master. The secondary literature on Islam in India attests
to the fact that Ibn Arabi was widely known and often controversial. But few
if any of the modern scholars who have studied Indian Sufism have been
familiar with his works or those of his immediate disciples. The judgment that
there has been influence has been based largely on the references in the texts

315
ILMOLMABDAA

Between Physics and Metaphysics: The Motion of Nature and


Mulla Sadra’s Theory of Substantial Motion

Ibrahim Kalin
This essay strives to explore the controversial connection between nature
and metaphysics in the system of Transcendent Theosophy. It also examines
Mulla Sadra’s concept of nature and motion from various aspects, particularly
taking into consideration Mulla Sadra’s contribution to traditional philosophy
and cosmology. The study demonstrates the concept from a new and diverging
point of view in a direction which has opened the way for an in-depth
discussion on the principle of change in the category of substance. Mulla
Sadra goes beyond the Aristotelian framework followed by the Peripatetics
and the Ishrāqīs, turning substance into a “structure of events” and motion
into a “process of change”. Sadra’s reworking of classical cosmology through
his elaborate ontology and natural philosophy leads to a new vocabulary of
“relations” and fluid structures as opposed to “things” and solidified entities.
In his attempt to make change an intrinsic quality of the substantial
transformation of things, Sadra posits nature as the principle of both change
and permanence, thus granting it relative autonomy as a self-subsisting reality.
What underlies Sadra’s considerations of change and nature, however, is his
concept of being and its modalities. Change as a mode of being, and de-
solidification of the physical world goes beyond locomotive and positional
movement, and underscores the dynamism of the world-picture envisaged by
Sadra’s gradational ontology.

* * *

316
Abstract

question arises on the intellectual and sentimental turn in his life and career,
i.e. the underlying reason which drove Debray toward a spiritual horizon.
* * *
Paradoxes of Existential Duality in Ibn Arabi’s Thought:
.Second Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

Controversies on the Hidden and the Manifest

Rabia al-Arabi
Researcher in Sufi Studies and Professor of Sociology, Ibn Zahr University,
Morocco
What can Ibn Arabi, the famous sage who lived in the late 12th and early
13th century, tell us in the 21st century? If we formulate the question in light
of the particularity of Ibn Arabi’s Sufi experience, we may ask: What can
Sufism provide us with in this century? The answer to this question requires
an approach to Ibn Arabi’s theoretical structure in particular and Sufism in
general.
The thesis of this essay states that a specific aspect of Ibn Arabi’s perception
is the dual aspect. This study aims to demonstrate this aspect and therefore
to pinpoint the nature of the dualities employed by Ibn Arabi, whether in his
reference to that which possesses an existential nature or that which possesses
an epistemological one. It is important to emphasize that Ibn Arabi explained
the multiplicity in the phenomena of existence in light of the multiplicity of
God’s Names which created these phenomena, for God is one but existence is
plural and is a mirror which reflects the Names of God.

* * *

317
ILMOLMABDAA

Ṣuqūlī Knowledge: The Strength of Connectivity for


Recognizing the Origin of the Universe

Sobeih Mahamid
Academic and Researcher in Philosophy of Epistemology, Palestine
This essay attempts to produce a new theoretical trajectory in the ontology
of existence on the basis of a hypothesis which states that the “strength of
connectivity” is the essential factor when considering the meticulous design of the
universe, and the dominant cause over the system of the universe. The “ṣuqūlī
cause”, used in this study as a basis to fuse ontological knowledge of the reality
of the world, is a terminological rendering of a concept which links between
connectivity and its strength in creation, and signifies the force and status of the
strength of connectivity among entities. The particularity of this cause lies in its
abstractness; it is not of a material nature but appears through reality.
* * *
Interview on Spiritualism with the French Intellectual Régis
Debray: The Sacred as the Best Means to Understand the Mundane
Interview by Pierre-Marc de Biasi
The French intellectual Régis Debray is considered a controversial figure
from two aspects: the experience of life and the system of thought. Debray
discussed global revolution in the second half of the twentieth century but
maintained a distance from its strict ideological structures. He considered
revolution through the lens of inspection and criticism, and his thought
became transformed just as revolution is susceptible to change in politics,
culture, thought and armed struggle. In this interview, which was conducted
a few years ago by the French Magazine Littéraire, we notice that Debray is
concerned with an entirely different world, that of reflection on religion. A

318
Abstract

laboratory or factory, where the empirical method takes into consideration


observable physical, chemical or biological phenomena.
* * *
Free Knowledge: Shuhūd as a High Level of Existential Exploration
.Second Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

according to Mulla Sadra


Kamal Ismail Lizzaik
Professor of Philosophy and Assistant of the Dean of the Department of
Religions, Maaref University, Lebanon.
The Transcendent Theosophy of Sadr al-Din Shirazi relies on three main
principles: Ishrāq (illumination), reason and revelation. These three principles
are firmly interconnected together; one pre-founds knowledge, the other
pertains to understanding, and the third serves in production and generation.
A number of argumentative questions have arisen regarding the connection
between these three principles: Is the relationship parallel in nature, arranged
by priority, and determined by intensity? If the answer is in the affirmative,
what is the basis of its arrangement? Which plays a foundational role? Is the
relationship of a competing nature? What are the points of convergence or
divergence between them?
The answers to these questions form the fundamental basis of this study.
The essay also strives to clarify the rank of shuhūd as the highest level upon
which one becomes acquainted with the reality of wujūd (existence) in the
system of Transcendent Theosophy.
* * *

319
ILMOLMABDAA

mutual denial the governor of this relationship? Tillich’s inquiry then extends to
the following: Is it possible for faith and reason to be linked together and form a
single epistemological structure? And if unity is possible, a question arises on how
rational judgments and faith judgments are connected to one another. It is clear
that when the connection between the two is misunderstood, it becomes possible
for faith and reason to exclude one another. However, if faith is understood as the
state of being ultimately concerned, no conflict need exist.
In this study which is derived from Tillich’s book Dynamics of Faith, Tillich
discusses the reality of faith, its correlation with reason, and how reason is
driven beyond itself. Thus, reason and revelation meet together and sign a
solid pact revolving around what we may call the “theory of faith knowledge”.
* * *
Spiritual Knowledge within the Confines of Philosophy of Religion:
From Religious Experience to Mystical Insight

Ihsan Ali al-Haidari


Professor of Philosophy of Religion, University of Baghdad, Iraq
Many Sufis and mystics believe that the religious experience or the religious
experiment represents the essence of religion. Upon browsing through writings
on this topic, the author of this essay noticed that some writers use the term
“religious experience”, some use “religious experiment”, while others use both
terms within the same content to express a single meaning. Some researchers
have translated “experience” into Arabic as khibra which expresses a human
state such as the feeling of pleasure or pain, awareness or sense perception,
recollection or visualization of a scene or stance, suffering or emotion, or any
other psychological or mental state. On the other hand, tajriba, the Arabic
translation of “experiment”, has been attributed to proceedings inside a

320
Abstract

Discovering the Beginning: A Comparative Extrapolation of


Modern Cosmology and Transcendent Theosophy

Piruz Futurji
Researcher and Professor of Philosophy of Epistemology at Sharif University
.Second Issue- 1444 A.H. – Summer 2022 A.D

of Technology, Tehran
One of the topics which modern cosmology is concerned with is the origin
of the universe. At one point in time, the following question: “Does the
universe have a beginning or has it been eternally existent?” was restricted to
philosophy and theology. However, it has now become a topic of speculation and
theorization by modern cosmologists who consider this question scientifically.
While it is true that the features of the scientific view on this topic differ from
those of metaphysics and new theology, the nature of the topic has carried,
since the beginning, theories on the universe which are not independent of
philosophy and theology. Drawing on principles derived from Transcendent
Theosophy and the views of this discipline on the emergence of the natural
world, this essay strives to find a new foundation for a more vibrant presence
of Transcendent Theosophy in studies on Science and Theology.
* * *
Faith as an Ultimate Concern: How Reason, through the Act of
Faith, Goes Beyond Itself in an Epistemological Ecstasy

Paul Tillich
German Philosopher and Theologian
In German philosopher and theologian Paul Tillich’s (18861965-)
methodology, which contains an approach toward the relationship between faith
and reason, it seems that the question mostly revolves around the following: Is

321
Original Knowledge: Criticism of the Multiplicity of Sacred Forms in
Western Metaphysics

Hossein Nasr

Contemporary Philosopher and Professor of Islamic Studies at George


Washington University
One of the paradoxes of our time is that the manifestation of religion in
different universes of form and meaning has been employed within a secular
mode of knowledge. This pattern has dominated the rational outlook of man in
the West, further contributing to the destruction of the remnants of the sacred
in Western society. This has been done to the extent that it is now difficult to
acquire sacred knowledge and interior intelligence which penetrates into the
meaning of Western forms.
It is worth stating that the multiplicity of sacred images -which is in itself
clear evidence of the reality of the sacred- has been utilized by those who
personally deny this reality to render what has been left of Christian tradition
a relative matter. This multiplicity has also been used as a pretext to reject all
sacred forms and the sacred knowledge which lies behind them. If the West had
seriously considered other religions while the true visionary tradition was still
present, results would have been completely different from the contributions
of comparative religion to the contemporary world. Intelligence illuminated
by vision and knowledge blessed by the sacred are observed through the
multiplicity of sacred forms and not the contradictions which are attributed to
relativity. They stress the absoluteness of Truth and the ingenious infinite power
of reality which uncovers boundless possibilities in the universes of meaning
which, despite their differences, reflect a unique reality. For this purpose,
the revivalism of tradition in the modern era and the attempt to secularize
knowledge have been accompanied from the beginning with interest in the
multiplicity of tradition and its inner unity.
Table of Contents

Branches of Knowledge

‫ ـ ـ‬Narrative on the Elevation to the World of Meaning


The Aesthetic Aspect of The Conference of the Birds by Farid al-Din
al-Attar

‫ ـ‬Abdul-Majid Zaraqet.................................................. 266


Treasure Trove of Books

‫ ـ ـ‬Ontological Existence according to Suhrawardi and


Plotinus by Ahmad Faqih
The Argument on Separation and Union in the Theories of Fayd and
Ishrāq
‫ ـ‬Jad Maqdisi..........................................................................286

‫ ـ ـ‬The Paths of Commencement by the Tunisian Intellectual


Mohammad Abu Hashem Mahjoub
A Close Approach to Heidegger’s Existential Efforts

‫ ـ‬Khodor Ibrahim..................................................................300

Abstract.......................................................................... 322
Table of Contents

Interview Section

-Interview on Spiritualism with the French


Intellectual Régis Debray
‫ ـ‬Interview conducted by Pierre-Marc de Biasi . ................. 180

Fields of Theorization
- Paradoxes of Existential Duality in Ibn Arabi’s
Thought
Controversies on the Hidden and the Manifest

‫ ـ‬Rabia al-Arabi............................................................... 192

‫ ـ ـ‬Between Physics and Metaphysics


The Motion of Nature and Mulla Sadra’s Theory of Substantial
Motion

‫ ـ‬Ibrahim Qalin................................................................ 212

Comparative Studies
- Notes on Ibn Al-Arabi’s Influence in the Subcontinent
Sociological and Anthropological Notes

‫ ـ‬William Chittick................................................................. 238


Table of Contents
Introduction
- Knowledge of the Uniquely Sublime
- Mahmoud Haidar......................................................... 9

Issue Folder

- Original Knowledge
Criticism of the Multiplicity of Sacred Forms in Western Metaphysics
- Hossein Nasr ............................................................... 20
- Faith as an Ultimate Concern
How Reason, through the Act of Faith, Goes Beyond Itself in an
Epistemological Ecstasy
‫ ـ‬Paul Tillich................................................................... 44
- Discovering the Beginning
‫ ـ‬A Comparative Extrapolation of Modern Cosmology and
Transcendent Theosophy
Piruz Futurji.................................................................. 56
- Ṣuqūlī Knowledge
Connectivity as a Theory for Recognizing the Origin of the Universe
‫ ـ‬Sobeih Mahamid ...........................................................86
- Spiritual Knowledge within the Philosophy of Religion
Between Religious Experience and Mystical Insight
‫ ـ‬Ihsan Ali al-Haidari........................................................110
- Free Knowledge
Shuhūd as a High Level of Existential Exploration according to Mulla
Sadra
‫ ـ‬Kamal Ismail Lizzaik......................................................130
- Knowledge of Ta’wīl in the System of Ibn Arabi
Language as an Entity
‫ ـ‬Abdul-Latif al-Zaidani...................................................156
Board of Trustees

Pr. Izhar Nuri Indonesia

Pr. Ahmed Jazzar Egypt

Pr. Toufiq Bin Amer Tunisia

Pr. Jad Hatem Lebanon

Pr. Zaim Khanshalawi Algeria

Pr. Sidi Ali Maaulainain Morocco

Pr. Abdullah Falahi Yemen


Pr. Azmuddine Ibrahim Malaysia

Pr. AlSadeq AlFakih Sudan

Pr. Fouad Sajwani Sultanate of Oman

Pr. Velin Belev Bulgaria

Pr. Muhammad hussain Al Yasin Iraq

Pr. Mahmud Erol Kılıç Turkey

Muhammad Taher Al-Qadri Pakistan

Pr. Muhammad El-Mokhtar Jieye Senegal

Pr. Muhammad Ahmad Ali Syria

Pr. Mol Badi Brunei

Pr. Muhammed Salem Al-Sufi Mauritania

Pr. Yadullah Yazdan Banah Iran


Editor-in-Chief
Mahmoud Haidar

Scholarly Advisor
Mustafa Al-Nashar Sayed Ali Moussawi

Managing Editors
Ihsan Haidari – AlHuthaili AlMansar
Mohammad Ali Mirzaii – Idriss Hani – Ghaidhan Sayyed Ali

Scientific Peer-revision Council


Mohamed Mahjoub (Tunis) Saber Aba Zeid (Egypt)
Muhammad Yahya Babah (Mauritania)
Habibullah Babaii (Iran) Jaafar Najm Nasr (Iraq)
Kenza AlQassmi (Morocco) Amin Youssef Audeh (Jordan)
Yassin Bin Obeid (Algeria)
Hoda Niimah Matar (Lebanon)
Bakri Alaa Addin (Syria)

Director-in-Charge Editorial Secretary


Qassem Toufaili Khodor Ibrahim Haidar

Design and Art Direction


Red Design Company

For Contact
Website: www.ilmolmabdaa.com
Email: ilmolmabdaa@gmail.com
Tel: 009611 – 305347 00961 – 13540762 00961 – 1908993
PO Box: 113/ 5748 – Beirut, Lebanon

You might also like