You are on page 1of 426

‫جملة حمكمة متخصصة بفلسفة الدين وعلم الكالم اجلديد‬

‫السنة السادسة والعشرون العدد ‪ 77‬ـ ‪78‬ـ ‪2022/1443‬‬

‫صاحب االمتياز ورئـيس التحـرير‬

‫د‪ .‬عبد الجبار الرفاعي‬

‫مدير التحرير‬
‫محمد حسين الرفاعي‬
‫د‪َّ .‬‬
‫سكرتيرة التحرير‬
‫إنتزال الجبوري‬

‫تصدر عن‪ :‬مركز دراسات فلسفة الدين ـ بغداد‬


‫‪www.rifae.com‬‬
‫‪mohammad.refaee@gmail.com‬‬
‫هاتف‪0096170619679 :‬‬
‫مركز دراسات فلسفة الدين‬
‫مؤسسة فكرية مستقلة‪ ،‬تعنى بدراسة االتجاهات الحديثة في فلسفة الدين وعلم الكالم‪،‬‬
‫وتسعى لبلوغ أهدافها من خالل ما يلي‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ الدعوة للتعددية والتسامح‪ ،‬وإرساء قيم االختالف وقبول اآلخر‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ إشاعة ثقافة التعايش والحوار بين األديان والثقافات‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ ترسيخ العقلية النقدية الحوارية‪ ،‬وتجاوز العقلية السكونية المغلقة‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ االستيعاب النقدي للتراث والمعارف الحديثة‪.‬‬
‫‪ 5‬ــ تعميم االجتهاد ليشمل كافة حقول الموروث‪ ،‬واسبتعاد عناصره القاتلة والميتة‪ ،‬واستدعاء‬
‫العناصر الحية منه ودمجها بالواقع‪.‬‬
‫‪ 6‬ــ تمثل روح العصر‪ ،‬واالنفتاح على المكاسب الراهنة للعلوم‪ ،‬انطالقا من‪ :‬الحكمة ضالة‬
‫المؤمن حيثما وجدها التقطها‪.‬‬
‫‪ 7‬ــ دراسة الدين والتراث على ضوء المناهج الحديثة للعلوم اإلنسانية‪.‬‬
‫‪ 8‬ــ تطهير التدين من الكراهية واإلكراهات‪.‬‬
‫‪ 9‬ــ تحــريـر فهم الــدين من المقــوالت واألفــكار والمــواقــف التعصبيــة والعدوانية‪.‬‬
‫‪ 10‬ــ الكشف عن األثر اإليجابي للفهم العقالني اإلنساني للدين في التنمية االجتماعية‬
‫واالقتصادية والسياسية والثقافية‪.‬‬
‫‪ 11‬ــ تبني الرؤى والمفاهيم التي تهدف الى مواكبة العصر‪ ،‬وتعزز المصالحة بين المتدين‬
‫والمحيط الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫‪ 12‬ــ بناء مجتمع مدني تعددي تسود حياته قيم التسامح والعيش المشترك‪.‬‬
‫‪ 13‬ــ التثقيف على الحريات وحقوق االنسان‪ ،‬وتجفيف المنابع التي ترسخ مفاهيم االستبداد‪،‬‬
‫وتعمل على صياغة نفسية العبيد في المجتمع‪.‬‬
‫‪ 14‬ــ تجلية األبعاد العقالنية واألخالقية واإلنسانية والجمالية والمعنوية المضيئة في الدين والتراث‪.‬‬
‫‪ 15‬ــ التحرر من سلطة السلف‪ ،‬وأعمال العقل وشحذ وإطالق فاعلياته‪ ،‬والتوغل في الحقول‬
‫المعرفية الالمفكر فيها‪.‬‬
‫‪ 16‬ــ تنمية التفكير والبحث واالجتهاد في فلسفة الدين وعلم الكالم‪.‬‬
‫دوالرا أمريك ًّيا‪.‬‬
‫ً‬ ‫االشتراك السنوي‪ :‬المؤسسات والجامعات والهيئات ‪ 100‬دوالر امريكي‪ ،‬األفراد‪50‬‬
‫يحق للمجلة إعادة إصدار النصوص المنشورة فيها‪ ،‬في كتاب‪ ،‬مستقلة أو ضمن مجموعة‪ ،‬بعد‬
‫نشرها فيها‪.‬‬
‫محتويات العدد‬

‫كلمة التحرير‬
‫‪4‬‬ ‫جون هيك‬ ‫معضلة الشر ولغز االحتجاب اإللهي‬
‫دراسات‬
‫‪35‬‬ ‫منذر جلوب‬ ‫الخير المحض وتناقضات الفعل األخالقي‬
‫‪59‬‬ ‫تيموثي وينتر‬ ‫فهم مشكلة الشر في سياق إسالمي‬
‫‪90‬‬ ‫رين فان فودنبيرغ‬ ‫تاريخ مختصر للثيوديسية‬
‫‪114‬‬ ‫رشيد ابن السيد‬ ‫مشكلة الشر في فلسفة سبينوزا‬
‫‪133‬‬ ‫ستيفن تي ديفيز‬ ‫مشكلة الشر في ضوء الحياة اآلخرة‬
‫‪162‬‬ ‫زادان المرزوقي‬ ‫مشكلة الشر في ضوء قوانين الطبيعة‬
‫‪180‬‬ ‫أمبرت غريفون‬ ‫العالجية‬
‫َّ‬ ‫الثيوديسية‬
‫‪194‬‬ ‫جون هوفر‬ ‫االستجابات الفلسفية لمشكلة الشر‬
‫‪212‬‬ ‫ماريا بيا الرا‬ ‫سرد الشر‬
‫‪232‬‬ ‫ريتشارد كيرني‬ ‫هرمنيوطيقيات الشر‬
‫‪256‬‬ ‫روبرت سيمبسون‬ ‫مضادة الثيوديسية األخالقية‬
‫‪282‬‬ ‫دافيد مورغن‬ ‫السوسيولوجية للثيوديسية‬
‫َّ‬ ‫المعاناة والمهمة‬
‫ُ‬
‫‪305‬‬ ‫أدريان فورنهام‬ ‫الثيوديسية في علم نفس الدين‬
‫دراسات خارج الملف‬
‫‪317‬‬ ‫د‪ .‬خنجر حمية‬ ‫فينومينولوجيا القيم والمشاعر عند شيلر‬
‫‪360‬‬ ‫د‪ .‬عبد الله القيسي‬ ‫حديث اآلحاد عند المعتزلة‬
‫‪408‬‬ ‫د‪ .‬محمد همام‬ ‫السردية الدينية الجديدة في فكر الرفاعي‬
‫كلمة التحرير‬

‫معضلة الشر ولغز االحتجاب اإللهي‬


‫د‪ .‬شفيق ّاك ّ‬
‫ريكر‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫ُيستعمل مفهوم االحتجاب اإللهي لإلشارة إلى أن الله‪ ،‬بمعنى من المعاني‪ ،‬غائب‬
‫أو صامت أو محتجب عن هذا العالم‪ ،‬ال يكلم الناس مباشرة وال تدركه األبصار‪.‬‬
‫نقول‪« :‬بمعنى من المعاني»؛ ألن المؤمنين‪ ،‬على اختالف أديانهم‪ ،‬ال يعتقدون الله‬
‫غائ ًبا أو صامتًا أو محتج ًبا‪ ،‬بل يجزمون بأن حضوره في العالم وكالمه وتج ِّليه أظهر‬
‫وأ ْبين لكل من كانت له بصيرة أو ألقى السمع وهو شهيد‪ .‬ولكن هؤالء ال ينكرون‪،‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬أنه ال تدركه األبصار‪ ،‬وال يكلم الناس إال بواسطة رسول‪ .‬وعليه يظل‬
‫صحيحا أن االحتجاب اإللهي جزء ال يتجزأ من البنية الفنمنلوجية للتجربة الدينية‬ ‫ً‬
‫(في األديان المؤ ِّلهة)‪.‬‬
‫إذا كان الشر معضلة تطلب حلًّ (كيف يجتمع وجود الله ووجود الشر؟)‪،‬‬
‫تفسيرا (كيف يجتمع وجود الله واحتجابه؟)‪ .‬وتلك‬ ‫ً‬ ‫فاالحتجاب لغز يستدعي‬
‫المعضلة وهذا اللغز هما قضيتان‪ ،‬في فلسفة الدين‪ ،‬متواشجتان‪ ،‬على الرغم من أنهما‬
‫تُثاران في العادة منفصلتين أو ُيعنى بأوالهما أكثر من الثانية‪ .‬دليل هذه الوشائج أن‬
‫الحلول المقدمة لكل واحد منهما تكاد أن تتماثل‪ ،‬وهكذا يتم إما (أ) إنكار التمانع‬
‫فكرتي اإلله واالحتجاب؛‬
‫ْ‬ ‫فكرتي اإلله ووجود الشر‪ ،‬وبالمثل إنكار التمانع بين‬
‫ْ‬ ‫بين‬
‫(ب) إعادة تعريف الشر كي يغدو مجرد عدم أو منطو ًيا على خير خفي أعظم‪،‬‬
‫تدبرا؛ (ج)‬
‫وبالمثل إعادة تعريف االحتجاب بحسبانه تجل ًيا بواسطة آيات تحتاج ً‬
‫دفع التمانع بين وجود الله والشر بإعادة النظر في الصفات اإللهية وبخاصة صفة‬
‫القدرة كما في الهوت الصيرورة (‪ ،)Process theology‬وبالمثل خفض التناقض‬

‫‪ 1‬د‪ .‬شفيق اكّريكّر‪ ،‬دكتوراه فلسفة‪ ،‬مرشف تربوي ملادة الفلسفة‪ ،‬وزارة الرتبية‪ ،‬املغرب‪.‬‬
‫‪5‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫بين وجود الله واحتجابه بإعادة النظر في الصفات اإللهية وبخاصة صفة القدرة؛ (د)‬
‫ا ِّطراح فكرة األلوهية باعتبار واقعة الشر حج ًة ضد وجود اإلله‪ ،‬وبالمثل إنكار وجود‬
‫اإلله باعتبار االحتجاب ناف ًيا لهذا الوجود‪ ،‬على ما سنبين بعدُ أدناه‪.‬‬
‫وما دامت معضل ُة الشر َ‬
‫أشه َر‪ ،‬في أوساط األكاديميين والجمهور المتابع على‬
‫السواء‪ ،‬فيمكننا البدء منها والقول إن معضلة الشر تتفاقم متى ما استحضرنا لغز‬
‫االحتجاب اإللهي‪ .‬عنينا بذلك أن االحتجاب اإللهي يجعل وجود الشر أدعى إلى‬
‫حيرة البعض وسخط(‪ )indignation‬البعض اآلخر؛ وبالمقابل‪ ،‬كانت مشكلة الشر‬
‫الشر فيه‬
‫عالما ُّ‬
‫ستكون أهون لو لم يفاقمها االحتجاب اإللهي‪ ،‬والحال أن هاهنا ً‬
‫ظاهر يمأل ربوعه والله محتجب عنه‪ .‬هنا تغدو مهمة المتكلم والالهوتي وفيلسوف‬
‫الدين مضاعفة؛ إذ يلزمهم تفسير الشر وفهمه في عالقته بقوة إله َّية محتجبة‪ ،‬وفي‬
‫هذا المعنى تساءل نيك تراكاكيس‪« :‬لو ِملنا إلى األرجح وافترضنا أن اإلله يسمح‪،‬‬
‫في كثير من الحاالت إن لم يكن في ُج ِّلها‪ ،‬بوجود الشر لعلل تقصر عنها أفهامنا؛ أما‬
‫وضوحا نوقن‬
‫ً‬ ‫كان لنا‪ ،‬في المقابل‪ ،‬أن ننتظر منه جعل وجوده وحبه لنا واضح ْين‬
‫يحسن بها ما نلقاه (أو يلقاه‬
‫معه ونطمئ ّن إلى أنه قد استأثر بعلم العلل الوجيهة التي ُ‬
‫‪2‬‬
‫غيرنا) ِمن معاناة وألم؟»‬
‫يتساءل فيلسوف الدين أمام واقعة الشر‪ :‬لِم يسمح إله مطلق القدرة والعلم‬
‫والرحمة بوجود كل هذا الكم من الشرور (الطبيعية واألخالقية) المستطيرة واآلالم‬
‫الفظيعة؟ لِم ال يتدخل؟ وبالمثل‪ ،‬يقف الفيلسوف على واقعة االحتجاب اإللهي‬
‫فيسأل‪ :‬لِم يحتجب الله عن العالم ويسمح بكل هذا َّ‬
‫الليقين االعتقادي‪ ،‬الذي‬
‫اإلنسان نه ًب ًا له في رحلة بحثه عن الله؟ هذا‪ ،‬مع أن هذا االحتمال‬
‫ُ‬ ‫ُيحتمل أن يكون‬
‫يتحقق فعل ًّيا في ما يعتري البشر من شك وحيرة وتق ُّلب وجوه في السماء‪ ،‬وفي ما‬
‫ينجر عن ذلك‬
‫ُيشهد من تعدد أديان وتنابذ بوصمة ضالل وعدم إيمان وكفر‪ ...‬وما ّ‬
‫أحيانًا من تنازع واحتراب؟ وواضح أن الاليقين االعتقادي‪ ،‬بنتائجه تلك‪ ،‬مظهر‬

‫‪2 Nick Trakakis, »An Epistemically Distant God? A Critique of John Hick›s‬‬
‫‪Response to The Problem of Divine Hiddenness« The Heythrop Journal 48 (2),‬‬
‫‪(March 2007): 214-226‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪6‬‬
‫من مظاهر الشر أي النقص وعدم التمام‪ ،‬وهذا دليل آخر على الوشائج القائمة بين‬
‫معضلة الشر ولغز االحتجاب اإللهي‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بسبب من هذه الوشائج‪ ،‬رأينا أن نقدم للقارئ العربي ترجمة لفصل خاص عن‬
‫االحتجاب اإللهي من كتاب جون هيك (المعرفة واإليمان)‪ .‬وجون هيك فيلسوف‬
‫دين والهوتي إنجليزي (‪ 1922‬ــ ‪ ،)2012‬صاحب أنظار ق ّيمة في مشكلة البشر وله‬
‫أكثر من بحث ومقال في رتق ما بين رحمة الله ووعيده بالعذاب األبدي للكفار من‬
‫انفصال‪ .‬على أن اسمه مقترن‪ ،‬أكثر من أي قضية أخرى‪ ،‬بمفهوم التعددية الدينية‪،‬‬
‫متأثرا بكانط‪ .‬ومبنى التعددية عنده على أنه إذا كان العالم الحسي ال‬
‫التي توصل إليها ً‬
‫منظما ومصبو ًبا في قوالب المقوالت‬
‫ً‬ ‫يدرك في جوهره وذاته (بما هو نومين)‪ ،‬وإنما‬
‫العقلية‪ ،‬فإن العالم فوق الحسي (اإللهي) بدوره ال يدرك في جوهره وذاته‪ ،‬وإنما‬
‫منظما عبر المقوالت الثقافية‪ ،‬المتنوعة بتنوع المجتمعات والسياقات التاريخية‬
‫ً‬
‫وبالتالي بتنوع األديان‪ .‬وما األديان المختلفة إال استجابات مختلفة لعين الحقيقة‬
‫يحيونها في ذواتهم ويجدون‬
‫اإللهية‪ .‬هذه األخيرة واحدة‪ ،‬ولكن كل أهل ديانة ْ‬
‫حضورها في وجداناتهم على أنحاء مختلفة (إله واحد صمد‪ ،‬ثالوث‪ ،‬نيرفانا‪)...‬‬
‫وقبل ذلك وبعده‪ ،‬فالعالم المحيط بنا هو نفسه ملتبس الداللة؛ بمعنى أنه حمال‬
‫قراءتين على قدم المساواة‪ :‬إحداهما مؤ ِّلهة واألخرى طبيعانية‪.‬‬
‫في هذا السياق من األبحاث وانطال ًقا من هذه الخلفية الفلسفية‪ ،‬اهتجس جون‬
‫هيك بفهم واقعة االحتجاب اإللهي‪ :‬لِم َيخفى الله عن األبصار؟ ويتضمن الفصل‬
‫إلحاحا‬
‫ً‬ ‫المترجم في هذا العدد إجاب ًة عن هذا السؤال وعن أسئلة أخرى ال تقل عنه‬
‫َ‬
‫في فلسفة الدين‪ .‬ولن يفوت القارئ الحصيف مالحظة أثر كانط في مثل هذه اإلجابة؛‬
‫قرارا من اإلرادة تتم به‬
‫فالحالة اإليمانية ــ في نظر هيك ــ سيرورات معرفية أكثر منها ً‬
‫ً‬
‫تحليل‬ ‫«قفزة اإليمان‪ ».‬وهو ينطلق من هذه المقدمة كي يبني ــ بكل أناة وإحكام ــ‬
‫مفترضا‬
‫ً‬ ‫وعي الله من ِقبل المؤمن‪،‬‬
‫إبستمولوج ًّيا لإليمان الديني وللكيفية التي يتم بها ُ‬
‫وجود بنية إبستملوجية مشتركة بين كل من اإليمان الديني وال َع ْرفنة (‪)cognition‬‬
‫الحاصلة في باقي مجاالت اإلدراك (الحسي واألخالقي والجمالي)‪.‬‬
‫االحتجاب اإللهي إلى ما يسميه بينونة معرفية‪/‬إبستيمية ‪epistemic‬‬
‫َ‬ ‫ُيرجع هيك‬
‫‪7‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫قارا‬
‫معطى ًّ‬
‫ً‬ ‫تفرق بين الله واإلدراك اإلنساني‪ ،‬بمقتضاها ال يكون الله‬
‫‪ّ distance‬‬
‫مفروضا في المعرفة اإلنسانية على نحو ال يترك للذات العارفة سوى معرفته‪.‬‬
‫ً‬
‫بالعكس‪ ،‬ثمة في خبرة البشر المعرفية بالله ُربع خالي يجعلهم أقرب إلى الشعور‬
‫بالعزلة في هذا الكون‪ ،‬فيكون إدراكهم لله ولوجوده أو اتصالهم به أو محبتهم إياه‬
‫ثمرة جهد وحرية‪.‬‬
‫يبرر هيك االحتجاب اإللهي‪ ،‬في نهاية المطاف إذن‪ ،‬بالحرية‪ ،‬بتع ّلة أن هذا‬
‫االحتجاب شرط إمكان الحرية والشخصانية اإلنسانيت ْين؛ وبيانه على النحو اآلتي‪:‬‬
‫شخص‪ ،‬أي ذات تتمتع بحرية واستقاللية ولها عالم داخلي ذو ُحرمة‬
‫ٌ‬ ‫الكائن البشري‬
‫ال تُنتهك‪ .‬وأخص خصائص الشخص وموئل شخصانيته هي ما يسميه هيك «الحرية‬
‫العرفنية» (‪ .)cognitive freedom‬وال سبيل إلى حفظ هذه الحرية إال بأن يحتجب‬
‫الله فال يتجلى‪ ،‬وهو الكائن الالمتناهي‪ ،‬إال تجل ًيا غير مباشر‪ ،‬حتى تتاح لإلنسان حرية‬
‫وعي الله ولقائه بواسطة خطوة تأويلية مالئمة‪ .‬واإلنسان حر في اإلقدام على هذه‬
‫الخطوة أو اإلحجام عنها‪ ،‬بخالف ما عليه الحال عند إدراك وجود األشياء المادية‬
‫درك الله‬‫فرضا يبطل معه عمل إرادتها‪ .‬ال ُي َ‬
‫التي تفرض نفسها على الذات المدركة ً‬
‫حمال داللة تستدعي استجابة معينة من ِقبلنا‬
‫إال من خالل وساطة العالم بما هو عالم ّ‬
‫أو بما هو كون من الرموز التي نجعلها معتمة أو شفافة بحسب نوعية استعمالنا لها‪.‬‬
‫ِ‬
‫المرسل‬ ‫وكما يحصل في التواصل اللغوي‪ ،‬ال مفر من تعاون إرادي بين الطرف ْين‪،‬‬
‫والمرسل إليه‪ ،‬كي ينتقل المعنى من األول إلى الثاني‪ .‬من جانب آخر تفترض هذه‬
‫َ‬
‫الحرية أن الكون‪ ،‬بالنسبة إلى اإلرادة والقدرة اإللهيت ْين‪ ،‬هو «نطاق محايد» بما يتيح‬
‫للقوانين الطبيعية أن تعمل فيه بانتظام من غير تدخل إلهي دائم لحفظها (أو خرقها في‬
‫قدرا من األتونوميا (االستقاللية) كي يختار‬
‫حال المعجزات)‪ ،‬وبما يتيح لإلنسان أيضا ً‬
‫طواعية استشفاف ما وراء حياد الكون‪ ،‬ومن ثم االستجابة لآليات الكامنة في الظواهر‪،‬‬
‫أو االكتفاء بالحياد المعطى والوقوف عند حد الظواهر‪.‬‬
‫هكذا يظهر أن مقاربة جون هيك للغز االحتجاب اإللهي تتوزع بين الح ّل ْين (ب)‬
‫و(ج) من بين الحلول األربعة المتماثلة (المذكورة أعاله)‪ ،‬التي يجري في العادة‬
‫تقديمها لكل من مشكلة الشر ولغز االحتجاب‪.‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪8‬‬
‫ُموقع مساهمة جون هيك‬
‫بقي لنا‪ ،‬بين يدي هذه الترجمة التي نقدمها هنا‪ ،‬أن ن ْ‬
‫هذه على خارطة المقاربات التي تناولت االحتجاب اإللهي‪ .‬يمكن القول‪ ،‬بشيء‬
‫ً‬
‫تناول فلسف ًّيا بوصفه حجة فيسمى في‬ ‫من التجاوز‪ ،‬أن هذا االحتجاب ُيتناول إما‬
‫هذه الحالة حجة االحتجاب (‪ )Argument from Divine Hiddenness‬أو ً‬
‫تناول‬
‫لغزا‪/‬مشكلة و ُيدعى في هذه الحالة بمشكلة االحتجاب‬
‫الهوت ًّيا كالم ًّيا بوصفه ً‬
‫(‪ .)Problem of Divine Hiddenness‬تفحص المقاربة الفلسفية عن صحة وجود‬
‫تقصي ِعلل‬
‫الله في ضوء واقعة االحتجاب‪ ،‬فيما تنصرف المقاربة الالهوتية إلى ِّ‬
‫االحتجاب على خلفية إقرار ضمني بوجود اإلله‪ .‬هذا وإن تحليل هيك داخل تحت‬
‫نفصل فيه القول؛ ألن في الفصل الذي نترجمه‬
‫الثانية منهما دون األولى‪ .‬ولئن كنا لن ّ‬
‫هنا البيان الوافي‪ ،‬فإن االحتجاب بما هو حجة يحتاج إلى مزيد بيان‪.‬‬
‫توسل هذا األخير ً‬
‫دليل على عدم وجود اإلله‪،‬‬ ‫المقصود بحجة االحتجاب أن ُي َّ‬
‫ومفاد الحجة أن اإلله لو كان موجو ًدا لجعل حقيقة وجوده أ ْبين وأظهر مما هي‬
‫عليه لكل أحد‪ .‬ومادام وجوده ليس بالظاهر الب ّين كما ينبغي له‪ ،‬فوجوده غير قائم‬
‫بالمرة أو بعيد االحتمال‪ .‬ونقع عند جون شلينبيرج‪ ،‬في كتابه االحتجاب اإللهي‬
‫والعقل اإلنساني‪ 3،‬على الصياغة األكثر شهرة وإحكا ًما لحجة االحتجاب‪ .‬يذهب‬
‫شلينبيرج إلى أن االحتجاب اإللهي علة عدم إيمان شريحة كبيرة من الناس بوجود‬
‫اإلله‪ ،‬قاصدً ا بذلك «الكفر من غير عناد»‪ ،)nonresistant unbelief( 4‬الذي هو‬
‫يتأت عنا ًدا وجحو ًدا؛ بل أهله منفتحون على اإليمان‬
‫خيار معقول وغير آثم ألنه لم َّ‬
‫قادرون عليه مبدئ ًّيا بدليل محبتهم للحق والحقيقة‪ ،‬أو فشلهم في االهتداء المنتظر‬
‫منهم مع بذلهم الوسع في البحث‪ ،‬أو اهتدائهم إلى ديانة أخرى‪ ،‬أو اعتناقهم لديانات‬
‫محاججا أن المفروض‬
‫ً‬ ‫غير مؤلهة مثل البوذية‪ .)...‬ويمضي شلينبيرج أبعد من ذلك‬

‫‪3 John L. Schellenberg, Divine Hiddenness and Human Reason (Ithaca, NY: Cornell‬‬
‫)‪University Press, 1993‬‬
‫‪ 4‬استعملنا هنا كلمة «كفر» يف غياب مقابل أفضل‪ ،‬عىل الرغم من الداللة القدحية احلافة بلفظ «كفر»‬
‫يف احلقل التداويل العريب اإلسالمي‪ .‬وكام يظهر من األصل اإلنجليزي (‪ ،)unbelief‬فالتقابل قائم‬
‫بني َملكة وعدمها؛ أي أن املقصود‪ ،‬بكل بساطة‪ ،‬هو عدم اإليامن أو الالإيامن (ينظر أيضا اهلامش‬
‫اآليت رقم ‪.)5‬‬
‫‪9‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫أال يكون لهذا «الكفر من غير عناد» وجود في ملكوت رب المحبة (كما تقدمه‬
‫المسيحية)‪ ،‬بل األحرى أن يكون هؤالء مؤمنين؛ ألن اإليمان شرط صلة الخ ْلق بالله‬
‫ً‬
‫وفضل عن ذلك‪ ،‬فهذه الصلة أعظم النعم والخيرات بل‬ ‫واستجابتهم لداعي محبته‪،‬‬
‫أعظم مرادات الله بحسب المؤمنين‪ .‬وحيث أن هذا الضرب من عدم اإليمان موجود‬
‫ويعتنقه القادرون مبدئ ًّيا على اإليمان بالله‪ ،‬وجب اطراح العقائد الدينية القائلة بوجود‬
‫إله (‪.)theism‬‬
‫وبما أننا نقدم هذه الترجمة إلى الحقل التداولي العربي‪/‬اإلسالمي‪ ،‬فال بأس أن‬
‫نختم مقدمتنا هذه بالتنبيه إلى أن جون هيك حريص ــ على الرغم من عقيدته المسيحية‬
‫ــ على اتخاذ مسافة فكرية تحليلية من هذه العقيدة؛ بل هو وا ٍع تمام الوعي بأن مثل هذا‬
‫ً‬
‫تأويل يفضي إلى إدراك داللة معينة‪،‬‬ ‫التحليل اإلبستمولوجي لإليمان الديني‪ ،‬بوصفه‬
‫هو تحليل ذو حدين؛ إذ هو قابل لالستعمال‪ ،‬على نحو مشروع‪ ،‬من طرف المؤ ِّله وغير‬
‫المؤ ِّله (‪ )atheist‬على حد سواء‪ 5.‬يتوسله المؤ ِّله لوصف واقعة الوجود اإللهي التي‬
‫تغذي إيمانه‪ ،‬ويستعمله وغير المؤ ِّله لحصر هذه الواقعة ضمن حدود اإلدراك الذاتي‬
‫الممارس على التجربة اإلنسانية والبناء المنطقي الذي ينتظمها‪.‬‬
‫َ‬ ‫وكذا حدود التأويل‬
‫قرا‪ ،‬بكل شجاعة وتبصر‪ ،‬أن‬
‫وبالتأمل في الفلسفة العامة لجون هيك‪ ،‬نلفي الرجل ُم ًّ‬
‫التسويغ العقالني لإليمان الديني مقدم على التسويغ الكالمي‪/‬الجدالي لهذه العقيدة‬
‫الدينية أو تلك؛ وما ذلك إال ألن التقدم الباهر للعلوم الطبيعية‪ ،‬منذ فجر العصر‬
‫الحديث‪ ،‬يطرح تحديات بالغة على اإلبستيمية الدينية والعقائد المؤ ِّلهة‪ ،‬من غير تمييز‬
‫بين هذا الدين أو ذاك‪ .‬ما تفتأ نتائج هذه العلوم وإنجازاتها تُثبت عمل ًّيا ــ كما يقول‬
‫هيك ــ أن دراسة الطبيعة ممكنة من غير إحالة على اإلله‪ ،‬وأن الكون قابل لالستكشاف‬
‫العلمي كما لو أن اإلله غير موجود! والمطلوب‪ ،‬والحال هذه‪ ،‬المنافحة عن معقولية‬
‫النظرة الدينية إلى الكون وتسويغ اإلبستيمية التي تؤسسها‪.‬‬

‫‪ 5‬ترمجنا ‪ atheist‬بغري املؤ ّله بدالً من امللحد‪ ،‬جتنبا للداللة القدحية للفظ «ملحد» يف احلقل التداويل‬
‫العريب‪/‬اإلسالمي‪ ،‬حيث حييل فعل «أحلد» عىل معاين العدول عن اهلدف والقول بالباطل وانتهاك‬
‫احلرمة والطعن يف الدين‪ .‬واحلال أن لغة هيك يف هذا املقام وصفية (مؤ ِّله وغري مؤ ِّله) ال معيارية‬
‫(مؤمن وكافر)‪.‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪10‬‬
‫أورثت هذه البصيرة جون هيك تواض ًعا معرف ًّيا واعترا ًفا بـ الحدود يعز نظيره لدى‬
‫مثل عن الثيوديسة أو مبحث مشكلة الشر في الالهوت‪:‬‬ ‫المفكرين الدينيين‪ .‬يقول ً‬
‫«الثيوديسة ــ كما يفهمها الكثير من المفكرين المسيحيين المعاصرين ــ َمهمة‬
‫متواضعة‪ ،‬سلبية أكثر منها إيجابية لجهة نتائجها‪ .‬وهي ال تدعي تفسير الشر أو تبرير كل‬
‫حاالت الشر التي تشهد عليها الخبرة اإلنسانية‪ .‬إنها تطمح باألحرى إلى لفت النظر إلى‬
‫اعتبارات من شأنها الحيلولة دون قيام واقعة الشر (حتى لو ظلت في معظمها متمنعة‬
‫حاجزا مان ًعا لالعتقاد العقالني في وجود الله‪( ».‬من فصل «مشكلة الشر»‬ ‫ً‬ ‫على الفهم)‬
‫ضمن كتابه فلسفة الدين)‬
‫فإن كان ذلك كذلك‪ ،‬فحري بالفكر اإلسالمي وعلم الكالم الجديد وفلسفة الدين‬
‫في النطاق اإلسالمي‪ ،‬بداي ًة‪ ،‬استلهام هذه الفلسفة الدينية لجون هيك أو االشتباك‬
‫معها؛ ثم اإلفادة‪ ،‬بعدها‪ ،‬من إبستملوجيته الخاصة في فهم االحتجاب اإللهي‪ ،‬من‬
‫أجل استئناف التفكير في لغز االحتجاب اإللهي الذي يعلنه القرآن الكريم في اآلية‬
‫َان لِ َب َش ٍر َأن ُي َك ِّل َم ُه ال َّل ُه إِ َّل َو ْح ًيا َأ ْو ِمن َو َر ِاء ِح َج ٍ‬
‫اب َأ ْو‬ ‫«و َما ك َ‬‫‪ 51‬من سورة الشورى‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُي ْر ِس َل َر ُس ً‬
‫فضل عن اآلي الحا ّثة على‬ ‫يم»‪ ،‬هذا ً‬ ‫ول َف ُيوح َي بِإِ ْذنه َما َي َشا ُء إِ َّن ُه َعل ٌّي َحك ٌ‬
‫تدبر اآليات الكونية‪ ،‬كما لو أن هذه اآليات ــ بتعبير هيك هنا ــ مفردات وتراكيب لغة‬
‫يتواصل بها الله مع اإلنسان تاركًا له حرية االستجابة لدعواتها الداللية أو اإلعراض‬
‫‪6‬‬
‫عنها‪.‬‬

‫‪ 6‬املراجع يف هذا التقديم (فض ً‬


‫ال عن الكتاب الذي ترمجنا منه الفصل احلايل)‪:‬‬
‫‪John Hick, Evil and the God of Love. (London: Macmillan, 2010) {first published‬‬
‫‪1966}.‬‬
‫‪John Hick, An Interpretation of Religion: Human Responses to the Transcendent.‬‬
‫‪(London: Macmillan, 1989).‬‬
‫‪ Hall,‬ــ ‪John Hick, Philosophy of Religion 4th ed. (Englewood Cliffs, NJ: Prentice‬‬
‫‪1990).‬‬
‫‪11‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫‪7‬‬
‫اإليمان والحرية‪ :‬مقاربة للغز االحتجاب اإللهي‬
‫جون هيك‬
‫تناولنا‪ ،‬في الفصل السابق‪ ،8‬اإليمان بالله بوصفه ً‬
‫عمل من أعمال «التأويل الشامل»‪.‬‬
‫‪9‬‬
‫وقد اقترحت أن ثمة بنية إبستملوجية مشتركة بين كل من اإليمان الديني وال َعرفنة‬
‫الحاصلة في مجاالت أخرى‪ .‬أن نعرف هذا الموضوع أو ذاك معناه مقاربة البيئة‬
‫المحيطة بنا بوصفها منبئة عن هذه الداللة أو تلك‪ .10‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فإدراك أن ثمة‬

‫‪ 7‬هذه ترمجة الفصل السادس (اإليامن واحلرية) من كتاب جون هيك (اإليامن واملعرفة)‪:‬‬
‫‪John Hick, «Faith and Freedom، ” in John Hick, Faith and Knowledge. Reissued‬‬
‫‪ .148 -‬ترمجة‪ :‬د‪ .‬شفيق ا ّكري ّكر ‪with a new preface (London: Macmillan, 1988), pp. 120‬‬
‫العنوان اإلضايف (مقاربة للغز االحتجاب اإلهلي) من وضعنا‪ .‬وجيدر التنويه إىل أن هذه الرتمجة قد‬
‫أنجزت بمنحة من مرشوع فلسفة الدين العاملية (‪ ،)GPPR‬الذي يديره مركز فلسفة الدين بجامعة‬
‫ويموله كل من ‪ John Templeton Foundation‬و‪Dynamic Investment Fund‬؛‬ ‫ّ‬ ‫بريمنغهام‬
‫فشكرا جزيال للقائمني عىل هذا املرشوع‪.‬‬
‫ً‬
‫‪ 8‬اإلشارة هنا إىل الفصل السابق يف الكتاب‪ ،‬الذي جاء بعنوان «طبيعة اإليامن» (املرتجم)‪.‬‬
‫كام هو احلال يف هذا اهلامش‪ ،‬ذيلنا كل اهلوامش التي اقتضتها الرتمجة العربية بعبارة «املرتجم»‪ .‬أما الكتب‬
‫التي حييل عليها جون هيك يف اهلوامش فقد اكتفينا برتمجة عناوينها ووضعنا الرتمجة بني معقوفتني‬
‫«{ }»‪ ،‬تاركني كل التفاصيل البيبليوغرافية األصلية باللغة اإلنجليزية تسهيال ملن يود اإلفادة منها‬
‫بالرجوع إليها‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ 9‬ترمجنا ‪ Cognition‬بال َعرفنة‪ ،‬والنعت منها ب»ال َعرفنية»‪ ،‬واسم الفاعل منها ب «ًصاحب اإلدراك‬
‫ال َعرفني»‪ .‬تابعنا يف ذلك األزهر الزناد يف كتابه‪ :‬االزهر الزناد‪ ،‬نظريات لسانية عرفنية‪( .‬بريوت‪ :‬الدار‬
‫العربية للعلوم نارشون‪ .)2020 ،‬مل نشأ ترمجتها بالعرفان؛ ألن محولته الصوفية قوية وناشطة‪ .‬كذلك‬
‫مل نرتمجه باملعرفة؛ ألن املقصود هنا ليس املعرفة بمعناها املتداول (جمموع األفكار واحلقائق احلاصلة‬
‫بالتفكري أو الفهم أو التذكر) بل جمموع السريورات الذهنية الواعية والالواعية التي تشمل ما ذكرنا‬
‫من عمليات التفكري والفهم والتذكر‪ ،‬لكنها ال تقترص عليها‪ .‬تبدأ سريورة العرفنة باالنتباه فاإلدراك‪،‬‬
‫مرورا عرب التحليل والرتميز والتخزين وصوال إىل االسرتجاع فاالستدالل وحل املشكالت‬
‫واإلبداع‪ ...‬وهي السريورات التي ختتص بدراستها ما اصطلح عليه بالعلوم املعرفية‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪ 10‬يظهر من السياق أن هيك يستعمل ‪ significance‬أيضا بمعنى املغزى‪ ،‬بام هو َدال َلة َخافِيّة يصار إليها‬
‫بعد تأويل‪( .‬املرتجم)‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪12‬‬
‫مخرجا في طريقي يعني وعي البيئة المحيطة بي‪ ،11‬في هذا المكان تحديدً ا‪ ،‬بوصفها‬
‫ً‬
‫مالئمة أو غير مالئمة لضروب محددة من الفعل أو االستعداد للفعل‪ .‬وبالمثل‪ ،‬فأن‬
‫أعي في وضعية ما أني ُم َلزم أخالق ًّيا بإتيان هذا الفعل أو ذاك يعني وعي البيئة المحيطة‬
‫عالما من العالقات البينشخصية‪ ،‬والتفطن إلى أن لهذا العالم داللة عملية‬
‫ً‬ ‫بوصفها‬
‫لزم‪ .‬وبصفة عامة‪ُ ،‬يحدث كل ضرب‬ ‫الم ِ‬
‫قائمة بالنسبة إلي‪ ،‬هي هذا الواجب األخالقي ُ‬
‫العرفني‪ .‬تنبثق عن وعي داللة ما‪،‬‬
‫ّ‬ ‫من الدالالت «فار ًقا» بالنسبة إلى صاحب اإلدراك‬
‫طبيعية كانت أو أخالقية أو أ ّي ًا تكن‪ ،‬استعدادات في اإلرادة ينجم عنها تعديل خططنا‬
‫وسياساتنا وفق ما نلحظه في البيئة المحيطة بنا‪ .‬وعليه فوعي البيئة المحيطة بنا‪ ،‬كما‬
‫حاججت على ذلك‪ ،‬هو وعي هذه البيئة من حيث هي دالة‪.‬‬
‫تدرك الداللة‪ ،‬كما مر معنا‪ ،‬بواسطة نشاط تأويلي‪ .‬بمعنى آخر‪ ،‬ليس التعرف على‬
‫الشيء مجرد رد فعل آلي‪ ،‬بل هو تمرين من تمارين الذكاء أو العقالنية‪.‬‬
‫فضل عما سبق‪ ،‬اقترحت أن اإليمان الديني‪ ،‬بوصفه عرفن ًة‪ ،‬هو فعل تأويلي من هذا‬
‫ً‬
‫النوع‪ .‬والقول بأننا «نبلغ معرفة الله باإليمان» معناه أننا نؤول‪ ،‬ليس فقط هذه المادة أو‬
‫تلك داخل حقل تجربتنا‪ ،‬بل تجربتنا نفسها ككل‪ ،‬نؤولها بمفردات مؤ ِّلهة؛‪ 12‬ما يحصل‬
‫داخل حقل تجربتنا ككل ومن خاللها هو أننا نكون مقبلين على الله والله مقبل علينا‪.‬‬
‫َمثل معرفتنا بالله‪ ،‬والحالة هذه‪َ ،‬مثل كل معارفنا بالوسط المحيط بنا؛ إنها إدراك نبلغه‬
‫بواسطة فعل تأويلي‪ ،‬على الرغم مما يميزها عن معارفنا األخرى لجهة أن التأويل‪ ،‬في‬
‫حالتها‪ ،‬هو تأويل كلي المدى‪.‬‬
‫آمل أن المحاججة الواردة في الفصل السابق‪ ،‬التي ذكّرت بها مختصرة‪ ،‬قدمت‬
‫العرفني لله‪ .‬وعلينا اآلن أن نتساءل عما إذا‬
‫ّ‬ ‫على األقل توصي ًفا ممكنًا لنمط إدراكنا‬
‫كان ممكنًا جعل هذا التوصيف أكثر جاذبية ورفعه إلى مقام يعلو على مجرد اإلمكان‬
‫المنطقي‪ .‬في ما خال انسجامه الداخلي‪ ،‬هل ثمة في هذا المنظور ما يشجع على تبنيه؟‬
‫لو سلمنا أن الله‪ ،‬على فرض وجوده‪ ،‬قابل للمعرفة على النحو الذي قدمته‪ ،‬هل ثمة ما‬

‫‪ 11‬ترمجنا ‪ Awareness‬بـ «وعي اليشء»‪ ،‬من دون تعديته بحرف الباء‪ ،‬متييزا له عن «الوعي باليشء»‪.‬‬
‫وترمجناها ب «التفطن إىل» وحيثام اقتىض الرتكيب اللغوي العريب‪ ،‬وذلك يف مواضيع قليلة‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ 12‬أي املذاهب املعتقدة بوجود إله ‪ theism‬مقابل تلك املنكرة لوجوده ‪( .atheism‬املرتجم)‬
‫‪13‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫يدعوه إلى أن يجعل نفسه ً‬


‫قابل لإلدراك من طرف البشر‪ ،‬وهو إدراك غير مباشر على‬
‫نحو محير ظاهر ًّيا؟‬
‫أظن أن بإمكاننا أن نكتشف مثل هذا الداعي الذي يدور على حفظ حريتنا ومسؤوليتنا‬
‫إزاء الكينونة اإللهية‪.‬‬
‫ليست معرفتنا بالله‪ ،‬وفق المنظور الذي أتبناه هنا‪ ،‬بمعرفة معطاة لنا كما لو كانت‬
‫إدراكًا اضطرار ًّيا‪ ،‬بل هي معرفة مبناة عن طريق فعل تأويلي حر‪ .‬لقد حاججت‪ ،‬في‬
‫الواقع‪ ،‬بأن وعي اإللهي من ِقبلنا ليس الوعي الوحيد المشتمل على قدر ال مفر منه‬
‫التأويل الشخصي‪ ،‬بل ينطبق ذلك على كل أشكال وعي المحيط الحاصلة لنا‪ .‬وعليه‬
‫العرفني‪ ،‬من حيث صورته‪ ،‬معصو ًما‪ .‬ال يسع إدراكنا للواقع أن‬
‫ّ‬ ‫يستحيل أن يكون اإلدراك‬
‫صحيحا بموجب تعريف اإلدراك نفسه‪ .‬فلئن أصاب هذا اإلدراك‪ ،‬فسيكون‬
‫ً‬ ‫يكون إدراكًا‬
‫ً‬
‫(مستعمل‬ ‫قائما‪ .‬وكما قال جون أومان‬
‫صائ ًبا في الوقت الذي يظل فيه احتمال ضالله ً‬
‫لفظ معنى بدال من داللة)‪« :‬ليست المعرفة هي ذلك األثر الذي تحدثه في أذهاننا علة‬
‫خارجية مجهولة‪ ،‬بل المعرفة هي ذلك المعنى الذي ندركه بحسبانه المعنى الفعلي‬
‫للمحيط‪ 13».‬المعرفة حسن تأويل؛ والخطأ ُسوؤه‪ .‬ال تشكل إمكانية الخطأ‪ ،‬التي تشترك‬
‫فيها أحكام اإلدراك الديني مع بقية التأويالت‪ ،‬عي ًبا إبستيميا في هذه األحكام‪ ،‬بل فضيلة‪.‬‬
‫إن ما سميته اإلدراك االضطراري‪ ،‬أو مجرد انتقاش صورة العالم المحيط بنا في وعينا‪،‬‬
‫هو أدنى أنواع المعرفة وأقلها شأنًا‪ .‬وكما الحظ هـ‪.‬هـ‪ .‬بيرس‪« :‬من عالمات الذكاء العالي‬
‫القدرة على ارتكاب الخطأ ال العجز عنه‪ ...‬ال يخطئ إال كائن ذكي‪ 14».‬أن يكون الكائن‬
‫شخصا مزو ًدا بالقدرة ال َعرفن ّية وليس محض آلة معقدة التركيب تسجل آثار العالم‬
‫ً‬ ‫البشري‬
‫الخارجي فيها‪ ،‬كل ذلك له ثمن‪ .‬وثمنه أن كل إدراك صائب يحرزه هذا الشخص يغدو‬
‫إنجازا حقيق ًّيا‪ .‬إن المخاطرة بالوقوع في الخطأ هو الثمن الذي ندفعه مقابل أن نحظى‬
‫ً‬
‫بامتياز إصابة الحق‪.‬‬

‫‪} (Cambridge, 1931), p.‬الطبيعي والخارق للطبيعة{ ‪13 The Natural and the Supernatural‬‬
‫‪175.‬‬
‫ــ ‪} (London, 1953), pp. 87, 316. See also P‬التفكري والتجربة{ ‪14 Thinking and Experience‬‬
‫‪95‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪14‬‬
‫يعني الصواب في معرفة المحيط‪ ،‬إذن‪ ،‬الصواب في تأويله‪ .‬وال يفرض هذا المحيط‬
‫نفسه على انتباهنا بشكل فج وال َلبس فيه إال في المستويات الدنيا من اإلدراك‪ .‬ولذا‬
‫فنحن مزودون بقدر معتبر من الحرية ال َعرفن ّية‪ .‬وال تتطور قوانا اإلدراكية وتتحسن‬
‫بحذف الطور التأويلي في اإلدراك بل بالعمل الواعي على تحسينه‪ .‬وفي الغالب‪،‬‬
‫لكي نصل إلى وعي الواقع وع ًيا تاما علينا تمرين قوانا اإلدراكية على تلك الجوانب‬
‫مدركة إال جزئ ًّيا أو سما ًعا‪ .‬وعليه‪ ،‬فما يمكننا‬
‫من هذا الواقع التي تكون ظنية أو غير َ‬
‫إدراكه يتوقف بدرجة كبيرة على ما اخترنا أن نكون وما اخترنا أن نفعل‪ .‬وهكذا فنحن‬
‫العرفني من حياتنا‪ .‬ليس فعل المعرفة‪ ،‬وفق هذا‬
‫ّ‬ ‫نتمتع بالمسؤولية والحرية في البعد‬
‫المنظور‪ ،‬بتجربة معزولة عن نشاطنا العام بوصفنا كائنات حرة ذاتية التوجيه‪ ،‬بل هو‬
‫جزء ال يتجزأ منه‪.‬‬
‫المدركة‪ ،‬فنجدها تنحدر إلى‬
‫َ‬ ‫يختلف مقدار حريتنا ال َعرفن ّية تب ًعا لجوانب المحيط‬
‫أدنى مستوياتها في اإلدراك الحسي‪ ،‬حتى ال يكاد عامة الناس يفطنون إلى هذه الحرية‬
‫في ذلك المستوى‪ .‬وعلة ذلك أن القطب الجسماني في قدرتنا ال َعرفن ّية تمرس بإدراك‬
‫مستقرا من‬
‫ًّ‬ ‫العالم المادي عبر مسلسل تطوري طويل إلى درجة أن أصبح هذا اإلدراك‬
‫ذهن إلى آخر‪ .‬نتج عن ذلك أننا إذا نظرنا إلى أنفسنا باعتبارنا كيانات حية‪ ،‬فنحن ندرك‬
‫العالم نفسه‪ ،‬وبعبارة أخرى‪ :‬يمكن الوصل بين تجارب قصص كل واحد منا بر ِّدها‬
‫جميعا إلى تجربة كونية افتراضية‪ .‬وبصفة عامة ومع استثناءات نادرة‪ ،‬فنحن في هذا‬
‫المستوى من التجربة مجبورون على الصواب في ما نختبره من العالم‪ .‬لقد تعلمنا‬
‫موحد‪،‬‬
‫جمي ًعا‪ ،‬مع اختالفات بسيطة‪ ،‬اكتشاف الداللة «الطبيعية» للمحيط على نحو َّ‬
‫وذلك ألن ثمة نقا ًطا قار ًة للضبط والمراقبة العملية ت ّ‬
‫ُوجهنا‪ .‬فإن مددنا أكفنا اللتقاط‬
‫مثل ظانين أنه يقع في متناول أيدينا‪ ،‬سترتد إلينا أك ُّفنا خائب ًة قابضة على الهواء؛‬
‫النجم ً‬
‫وإن تقدمنا محاولين اختراق حائط نحسبه با ًبا‪ ،‬سرعان ما تبدد صالبتُه أوها َمنا‪ .‬إن‬
‫هامش الخطأ اإلدراكي هنا ضئيل للغاية‪ .‬العالم المادي إذن مشترك وعام بين أفراد‬
‫النوع الواحد‪ ،‬ال ألن المعطيات الخام لتجارب‪/‬قصص هؤالء األفراد متماثلة‪ ،‬بل ألن‬
‫ضغط الحاجات البيولوجية المتماثلة لديهم جعلهم يؤولون المعطيات الخامة وفق‬
‫شاكالت متماثلة‪.‬‬
‫‪15‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫وما إن يتم تنظيم العالم وفق عادات بيولوجية ثمينة ومستقرة حتى تنتفي الحاجة‬
‫إلى مزيد من التجارب‪ ،‬اللهم إال تلك التجارب التي تخاطر عمدً ا بمفارقة السبيل الذي‬
‫اختطته الطبيعة وارتضته‪ .‬وبالفعل‪ ،‬فإن نشطانا التأويلي في هذا المستوى ال يعدو كونه‬
‫وظيفة من وظائف الوسط المحيط بنا إلى درجة أننا عادة ال نعي هذا النشاط في حياتنا‬
‫العملية اليومية‪.‬‬
‫النموذج‬
‫َ‬ ‫الحس المشترك إلى معرفة العالم المادي بوصفها‬ ‫ُّ‬ ‫لهذا السبب‪ ،‬نظر‬
‫المعياري للمعرفة‪ ،‬واستأثرت العلوم الفزيائية في ثقافتنا الغربية المعاصرة بمنزلة‬
‫الحكم في شؤون الحقيقة‪ .‬وللسبب نفسه جرت العاد ُة بقسمة األحكام إلى «أحكام‬
‫َ‬
‫واقع» و«أحكام قيمة»‪ ،‬على أساس أن األولى تقريرات ال ُيثار بشأنها خالف يذكر‪،‬‬
‫بينما الثانية مظنة الذوق الشخصي‪ .‬ولكن إن قصد بـ»الوقائع» ما هو موجود‪ ،‬فال بد من‬
‫التأكيد على أن «الموجود» ال يقتصر على البنية المتحركة لسحابة الجزيئات {المكونة‬
‫للمادة}‪ .‬ال يقوم التمييز هنا بين أحكام واقع موضوعية وأحكام قيمة ذاتية‪ ،‬بل بين وقائع‬
‫يختفي فيها ــ إلى حد كبير ــ القطب الذاتي للعرفنة لدى األفراد‪ ،‬وأخرى يتباين فيها هذا‬
‫القطب من فرد آلخر‪ ،‬إلى درجة تجعلنا ننتبه إليه بوصفه ً‬
‫عامل من العوامل المؤثرة في‬
‫هذا اإلدراك‪ .‬فإذا ولينا وجوهنا من الداللة الطبيعية إلى الداللتين األخالقية والجمالية‬
‫واضحا التغير والتباين في التأويل‪ .‬وإذا استخدما مصطلحات‬
‫ً‬ ‫للوسط المحيط بنا‪ ،‬بدا‬
‫هربرت‪ ،15‬نقول إننا اكتسبنا كتلة إدراكية متماثلة في عالقتنا بمحيطنا كما هو معلوم‬
‫لدينا بواسطة اإلدراك الحسي‪ ،‬بينما طورنا‪ ،‬في المقابل‪ ،‬أجهزة تقييمية شخصية‬
‫ومتخصصة للتعامل مع األبعاد الالمادية لهذا المحيط‪ .‬وباستثناء المجال البسيط حيث‬
‫تكون إساءة التأويل مهلكة من الناحية البيولوجية للفرد أو للنوع‪ ،‬فإن مسؤولية اكتشاف‬
‫ملحة تقع على عاتق كل واحد منا‪ ،‬بينما يمكننا‪ ،‬في‬
‫طبيعة الوسط المحيط بنا مسؤولية ّ‬
‫المقابل‪ ،‬االختيار بين تطوير قدراتنا على تذوق الجمال أو إهمالها‪ .‬وعلى الرغم من أن‬
‫الجماليات ال تدخل ضمن البحث الحالي‪ ،‬ولكن ال ضير في أن ننبه إلى أن الخصائص‬
‫ً‬
‫جميل ال تفرض نفسها على انتباهنا مثلما تفعل‬ ‫منظرا‬
‫ً‬ ‫التي تجعل من منظر طبيعي‬

‫‪ 15‬يوهان فريدريك هربرت )‪ Johann Friedrich Herbart (1776–1841‬فيلسوف وعامل نفس ومريب‬
‫أملاين (املرتجم)‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪16‬‬
‫خصائصه الفيزيائية حينما تم ُثل أمام ناظرنا‪ .‬ولذلك يتعين على الغالبية منا بذل مجهود‬
‫واع لنغادر الدرب المعتاد إن أردنا اكتشاف الكنوز الجمالية المتناثرة من حولنا‪ .‬بهذا‬
‫العالم ذاته‪.‬‬
‫َ‬ ‫جميع البشر‬
‫ُ‬ ‫المعنى‪ ،‬ال يدرك‬
‫ينطبق األمر نفسه على الداللة األخالقية؛ وهي الداللة الخاصة بالوضعيات التي نكون‬
‫فيها بصدد التعامل المباشر أو غير المباشر مع الغير‪ .‬الداللة األخالقية هي ذلك «الفارق»‬
‫الذي يحدثه فينا العا َلم بما هو عا َلم حامل لنسق من العالقات الشخصية‪ .‬إن إدراك الداللة‬
‫األخالقية‪ ،‬التي تقوم على وعي الواجب األخالقي‪ ،‬لهو أقرب إلى التقييم الجمالي منه‬
‫إلى اإلدراك الحسي‪ .‬وأظن أنه ال مندوحة عن االعتقاد بحيازتنا لقدرة أخالقية فطرية‪،‬‬
‫بيد أن تطور هذه القدرة متفاوت من شخص إلى آخر؛ فتجد الواحد منا أكثر تقبال من‬
‫وفضل عن التطور األخالقي العام‬‫ً‬ ‫غيره وأرهف حساسي ًة تجاه النداء األخالقي للحياة‪.‬‬
‫المختلف من شخص إلى آخر‪ ،‬فإن ضمير المرء قابل للتطور بحسب الحقول‪ .‬فقد يكون‬
‫عما يقع خارج هذه الدائرة‬ ‫الواحد منا واع ًيا وع ًيا حا ًّدا بواجباته األسرية‪ ،‬عم ًّيا تمام العمى َّ‬
‫من واجبات‪ .‬وقد يكون الواحد ذا ضمير أكاديمي حاد‪ ،‬ملتز ًما أقصى درجات الدقة في‬
‫حقل أكاديمي معين‪ ،‬وعديم المروءة في الحياة العملية‪ .‬وباختصار‪ ،‬ثمة تباينات شاسعة‬
‫بين األفراد فيما يتعلق بتأويل الداللة األخالقية للوسط المحيط بنا‪ .‬ينبثق هنا عامل نراه‬
‫مؤثرا في الداللة الدينية‪ .‬فأن يدرك الواحد منا نفسه ملز ًما بإتيان فعل أو االمتناع عنه‪ ،‬معناه‬
‫اإلقرار بصالحية هذا اإللزام؛ أو باختصار اإلحساس بكونه ملز ًما‪ .‬يقتضي هذا اإلدراك‬
‫اعترا ًفا بمشروعية السلطة التي تطالبنا بالتزام الواجب‪ .‬وإن االعتراف بهذه السلطة‬
‫األخالقية هو قوام ذلك الوعي المخصوص المنصرف إلى الداللة األخالقية الخاصة‪.‬‬
‫األخالقي مجرد مالحظة متجردة‪ ،‬بل فعل تنخرط فيه الذات بكل كيانها‪ .‬إن‬ ‫ُّ‬ ‫ليس التأويل‬
‫الحكم «يجب علي‪ »...‬هو حكم وجودي‪.16‬‬
‫بمجرد ما يتبين بوضوح للمرء أنه عليه فِعل «أ» وما لم يكن من أعتى الخطائين‪،‬‬
‫سبيل إال بعد فِعل «أ»؛ وغالب الظن أن الخسة‬ ‫فلن يجد السالم الداخلي إلى نفسه ً‬
‫توترا وشدًّ ا ينتهيان‬
‫المتعمدة‪ ،‬حتى في أحلك الظروف االستثنائية‪ ،‬تحدث في النفس ً‬

‫‪ 16‬أي عىل وجود اليشء‪ ،‬وليس عىل معناه أو قيمته‪( ...‬املرتجم)‬


‫‪17‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫أساسا‪ُ ،‬معدّ للحياة‬


‫ً‬ ‫إلى إيقاع شرخ في الشخصية ككل‪ .‬اإلنسان كائن اجتماعي‬
‫والرفقة؛ وكل الميوالت واالنحيازات الناتجة من طبيعته هذه تدفع في اتجاه‬
‫الجماعية ّ‬
‫اإلقرار بمشروعية المطالب األخالقية التي تقتضيها هذه الطبيعة‪ .‬ولذلك تراه يستجيب‬
‫غريز ًّيا لمتطلبات الحياة داخل العائلة والجماعة‪ .‬وبطبيعة الحال‪ ،‬يستطيع بأنانيته أن‬
‫يضرب بعرض الحائط اإلمالءات الواضحة للضمير‪ .‬بيد أن هذا الخيار ليس الشاكلة‬
‫شرا؛ ونحن في العادة نقنع‬‫المعتادة للخسة‪ .‬من النادر أن يرتكب البشر الشر بحسبانه ًّ‬
‫شرا حقيق ًّيا كما يظهر‪.‬‬ ‫أنفسنا ً‬
‫أول بأن هذا الشر خير حقيقي‪ ،‬أو أنه على األقل ليس ًّ‬
‫تتخذ أنانيتنا شكل قصر نظر أخالقي؛ ولذلك يفوتنا التقاط ما في احتياجات جارنا‬
‫من نداء يخاطبنا‪ .‬ينبغي تشخيص األنانية إذن بوصفها انعدام حساسية (آثم)؛ والنظر‬
‫قاصرا عرفن ًّيا في المجال األخالقي‪ .‬ال يكون ازدراؤنا‬
‫ً‬ ‫إلى األناني بوصفه إنسانًا‬
‫خيرا وصوا ًبا‪،‬‬
‫رفضا ما يبدو لنا ً‬
‫للواجبات األخالقية‪ ،‬التي نُكره على االعتراف بها‪ً ،‬‬
‫العرفني‪ ،‬أي تعام ًيا عن الوقائع‬
‫ّ‬ ‫بل هو باألحرى فرار من المرحلة األولى من اإلدراك‬
‫األخالقية الكامنة في الوضعية الماثلة أمامنا‪ .‬نحاول إطفاء نور الواجب داخل أذهاننا‬
‫مجرد ما يبدأ صبح هذا الواجب «المتطفل» ينبلج في أرجائها‪ .‬نترنح تحت وطأة الثقل‬
‫األخالقي‪ ،‬محاولين ترجيح كفة على أخرى‪ .‬نق ّلب النظر في المسألة‪ ،‬مركزين على‬
‫العوامل الداعمة للخالصة التي قررنا الوصول إليها‪ ،‬معرضين عن تلك التي تفضي بنا‬
‫إلى عكسها‪ .‬وهكذا نعمل على «استمالة أنفسها» إلى زاوية مريحة للنظر إلى المسألة‪.‬‬
‫وثمة تصوير أدبي كالسيكي لهذه السيرورة الفكرية في رواية «الشعور والحساسية»‬
‫لجين أستين‪ ،‬حيث تبرهن الكاتبة عن تفطنها الثاقب إلى قوى الخداع الذاتي التي‬
‫تتالعب بالعقل اإلنساني‪.‬‬
‫بعبارة أخرى‪ ،‬لم يجانب سقراط الصواب حين طابق بين الفضيلة والمعرفة‪ .‬تحدث‬
‫سقراط عن معرفة الخير‪ ،‬بيد أننا نستطيع بكل يسر تحويل فكرته هذه لنجعل من معرفة‬
‫مفتاحا ديونطلوجيا‪ .‬ال ينجم اإلثم عادة عن محض رفض لما يظهر لنا وما نقبله‬
‫ً‬ ‫الصواب‬
‫بوصفه واج ُبا أخالق ًّيا‪ ،‬بل من رفضنا المتعمد أن ننظر إليه بما هو واجب‪ .‬ومن خالل هذا‬
‫العمى األخالقي المتعمد يمارس الفرد ضر ًبا من الحرية ال َعرفن ّية‪ .‬هنا نقف فوق ربوة‬
‫تشكل خط الدفاع المتقدم عن شخصيتنا‪ ،‬إنه خط الوعي‪ .‬فإن استطاع الواجب المقتحم‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪18‬‬
‫تخ ِّطي هذا الحاجز‪ ،‬تمت له السيطرة بفضل تواطؤ طابور خامس بداخلنا‪ .‬ولذلك فإن‬
‫العرفني‪ ،‬حيث المسالك ضيقة وحصينة‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أفضل الفرص لصده هي حواجز اإلدراك‬
‫لكل إنسان حدود محيطة بشخصيته يتحكم في بواباتها بنفسه‪ .‬وهذه الحدود هي التي‬
‫تحمي وحدة شخصه وحريته في العالقة مع عناصر المحيط التي تطالب لنفسها بحق على‬
‫شخصه‪ .‬لدينا حرية عرفن ّية أولية نقتدر بها على رفض أوراق اعتماد أي أوامر تدعي السلطة‬
‫علينا‪ .‬على سفارة الواجب أن تقف عند بوابات اإلدراك منتظرة االعتراف بها‪ .‬وال يمكنها‬
‫بسط نفوذها علينا إال إذا سمحنا لها بالولوج‪ .‬وفي سيطرتنا على هذه الحدود‪ ،‬تكمن‬
‫حريتنا في االختيار بين األنانية واإليثار‪ .‬هنا تتحدد الوجهة المصيرية لحياة كل واحد منا‪.‬‬
‫بهذا نكون قد رسمنا مالمح شاكلة إبستملوجية‪ ،‬ميزنا فيها بين جوانب من محيطنا‬
‫تفرض نفسها على انتباهنا‪ ،‬وأخرى ال تصل إلينا إال إذا سمحنا لها بعبور الحدود‬
‫الحامية لشخصنا‪ .‬وكما تقدم‪ ،‬تهبط حريتنا ال َعرفنية إلى أدنى الدرجات عندما يتعلق‬
‫مدركًا من حيث داللته «الطبيعية»‪ .‬وتتعاظم‬
‫األمر بالعالم المادي‪ ،‬الذي هو محيطنا َ‬
‫هذه الحرية عندما يتعلق األمر بالداللة الجمالية واألخالقية للعالم‪ .‬وقد حان الوقت‬
‫العرفني للداللة الدينية للمحيط‪ ،‬أي‬
‫ّ‬ ‫اآلن أن نلحظ أنها تبلغ مداها األقصى في اإلدراك‬
‫داللته من حيث هو آية من آيات الحضور اإللهي‪.‬‬
‫من المالمح المميزة لالهوت البروتستانتي الحديث ذلكم التشديد على الطبيعة‬
‫الشخصية لله‪ .‬والواقع أن ما من صفحة من صفحات التوراة تستحضر الله بحسبانه‬
‫شخصا‪ ،‬فتذكره بوصفه هو أو باألحرى أنت‪ ،‬وما ْارتاب الفكر‬ ‫ً‬ ‫شي ًئا‪ ،‬وإنما بحسبانه‬
‫َ‬
‫تحظ بأهمية محورية‪ ،‬ونُظر‬ ‫المسيحي أبدً ا في هذه الحقيقة‪ .‬بيد أنها‪ ،‬والحق ُيقال‪ ،‬لم‬
‫إليها أحيانًا بوصفها مجرد مواضعة لغوية‪ .‬ولذلك شهدنا‪ ،‬طوال العقدين أو العقود‬
‫الثالثة األخيرة‪ ،‬عد ًدا من المفكرين يتبنون شخصانية مسيحية تامة األركان متخذين‬
‫منها المبدأ المعياري لالهوت‪ .‬شدد هؤالء الالهوتيون على أن الله هو ذلك األنت‬
‫‪17‬‬
‫وأب أبنا ًء‪.‬‬
‫أشخاصا‪ٌ ،‬‬
‫ً‬ ‫شخص‬
‫ٌ‬ ‫اإللهي الذي يعاملنا مثلما يعامل‬

‫‪ 17‬لعل أهم مؤلف جامع للنتائج املرتتبة عن هذه البصرية املستعادة هو كتاب جون أومان‪ ،‬النعمة‬
‫والشخصية‪.Grace and Personality (1st ed., Cambridge, 1917; 4th ed., 1931) .‬‬
‫‪19‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫ثمة صورتان ممكنتان للعالقة بين األشخاص‪ :‬عالقة شخصية وأخرى ال شخصية‪.‬‬
‫وإذا استعرنا عبارات مارتن بوبر‪ 18‬نقول إنه من الممكن أن نرتبط باآلخرين إما بعالقة‬
‫«أنا‪/‬أنت» أو «أنا‪/‬هو»‪ .‬في عالقة «أنا‪/‬أنت» نعامل الشخص اآلخر بوصفه ً‬
‫عقل‬
‫ذاتي التوجيه‪ ،‬ذا رؤى وحقوق خاصة يتعين أخذها‬ ‫ً‬
‫مسؤول ّ‬ ‫وإرادة مستقلين‪ ،‬وع ًيا‬
‫شخصا آخر مثلي‪ .‬أما في عالقة‬
‫ً‬ ‫بعين االعتبار واحترامها؛ باختصار‪ ،‬معاملته بوصفه‬
‫«أنا‪/‬هو»‪ ،‬فنعامل اآلخر بوصفه محض موضوع يمكن تحريكه (كما هو حال المغمى‬
‫عليه)‪ ،‬أو بوصفه حيوانًا يمكن ممارسة اإلكراه عليه (كما هو الحال في األساليب‬
‫اإلرهابية إلخضاع السجناء)‪ ،‬أو قد نتقدم خطوة تجاه الشخصي فيه‪ ،‬فنعامله بوصفه‬
‫قوة عمل أو يد ْين يمكن استئجارهما؛ باختصار‪ ،‬يتعلق األمر بمعاملته ال من حيث هو‬
‫ضربي العالقة هذين‬
‫ْ‬ ‫شخص‪ ،‬بل بحسبانه شي ًئا أو سلعة‪ .‬وما أيسر إدراك الفرق بين‬
‫من خالل المالحظة اليومية‪ .‬يظهر الفرق أوضح ما يكون عند الحديث عن شخص‬
‫في غيابه والخوض في تحليل خصاله ودوافعه‪ ،‬ثم يدخل المعني باألمر فجأة وينضم‬
‫إلى المحادثة‪ .‬يحدث هنا انتقال مفاجئ‪ ،‬في العالقة به‪ ،‬من نمط «أنا‪/‬هو» إلى نمط‬
‫«أنا‪/‬أنت»‪ .‬ال يسعنا االستمرار في معاملته كما لو كان عينة قابلة للتشريح‪ ،‬ألنه يقف‬
‫عقل وإرادة متمايزتين عنا‪ ،‬شخصية فريدة‬‫اآلن على قدم المساواة معنا‪ ،‬يقف بوصفه ً‬
‫أيضا ممارسة التحليل والنقد مثلما هي موضوع قابل للتحليل والنقد‪ .‬عند‬
‫وذاتًا يمكنها ً‬
‫المعاملة الشخصية التامة للغير‪ ،‬نحترم استقاللية وسالمة شخصه؛ نعامله‪ ،‬ال كمجرد‬
‫حائزا مثلنا على المنزلة القصوى نفسها‪،‬‬
‫وسيلة‪ ،‬بل كغاية في حد ذاته؛ ننظر إليه بوصفه ً‬
‫بحيث إن رؤاه ورغباته‪ ،‬آماله ومخاوفه‪ ،‬حججه العقلية وأحكامه المسبقة‪ ،‬تحظى‬
‫جميعها باالعتبار نفسه الذي تحظى به تلك التي تخصنا‪.‬‬
‫إن الطبيعة‪ ،‬أو كما يجدر بنا القول من وجهة نظر اإليمان المسيحي‪ ،‬إن الله الفاعل‬
‫عبر الطبيعة قد خلق شخصية اإلنسان على نحو يحفظ لهذا األخير استقالليته الفردية‪،‬‬
‫بحيث يغدو ممكنًا إقامة عالقة شخصية بين اإلنسان واإلنسان كما بين اإلنسان والله‪.‬‬
‫نُقش في تركيبة الطبيعة اإلنسانية أن «األنا» األقصى‪ ،‬الذات الخالصة»‪ ،‬متمنعة على‬

‫‪} (1923), trans, by R. Gregor Smith, I and Thou (2d ed.,‬األنا واألنت{ ‪18 Ich und Du‬‬
‫‪Edinburgh, 1958).‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪20‬‬
‫اآلخر‪ .‬نعم‪ ،‬إن الشخص‪ ،‬من حيث هو شيء من أشياء العالم‪ ،‬مستباح وقابل للتحكم‬
‫فيه بتوسل القوة القاهرة؛ ولكنه يظل حصنًا مني ًعا من حيث أغوار شخصيته‪ .‬يمكن قهره‬
‫ً‬
‫امتثال خارج ًّيا‪ ،‬لكن ال يمكن إجباره على القبول الداخلي‪ ،‬وكما تقول العبارة‬ ‫كي يمتثل‬
‫ِ‬
‫المكره على تغيير رأيه محتف ًظا برأيه‪ ».‬ومهما ُأخضع ُ‬
‫وس ّير خارج ًّيا‪ ،‬فإنه‬ ‫َ‬ ‫السائرة‪« :‬يظل‬
‫يظل القاطن الوحيد لغور وعيه‪ .‬تظل حياته الخاصة آمنة مؤ ّمنة ألن التواصل ومحاولة‬
‫التأثير بين الشخصيات ال تتم إال بواسطة الرموز التي تقتضي تعاون كال الطرفين كي‬
‫ينتقل المعنى‪ .‬ال يمكن أن نحشو أفكارنا في ذهن اآلخر مثلما نحشر رسالة في علبة‬
‫الرسائل‪ .‬بل إن تقنيات غسيل األدمغة تعجز عن ذلك‪ ،‬على الرغم من أنها تستطيع‬
‫بطول األمد إعادة تشكيل الشخصية بحيث تجعلها أكثر قابلية ألفكار معينة‪ .‬ال سبيل‬
‫‪19‬‬
‫للعقل إلى التواصل مع العقول األخرى إال بفضل االستعمال المتبادل للرموز‪.‬‬
‫ضجيجا‬
‫ً‬ ‫وسواء كانت هذه الرموز إشارات جسدية من قبيل اإلشارة باألصبع‪ ،‬أو‬
‫محاكًى‪ ،‬أو نس ًقا رمز ًّيا معقدً ا ًّ‬
‫خاصا بلغة متطورة‪ ،‬فإنه ال يكفي أن تصدر هذه الرموز‬
‫عن أحد الطرفين ثم يلحظها اآلخر‪ ،‬بل ال بد لألول أن يقصد الداللة بها وال بد للثاني‬
‫أن يفهمها‪ ،‬وإال لن تشتغل هذه الرموز كقنوات ناقلة للتواصل‪ .‬ال ينعقد التواصل بين‬
‫العقول إال عندما يفهم السامع من الرموز ما قصد منها المتكلم‪ .‬الرموز في حد ذاتها‬
‫جامدة ومحايدة‪ .‬وإن فشل العقالن في تحصيل معنى مشترك من خالل استعمال‬
‫حواجز مانعة للتفاهم؛ كما هو الحال عندما نسمع‬
‫َ‬ ‫وتنتصب‬
‫ُ‬ ‫الرموز‪ ،‬فستظل معتمة‪،‬‬
‫كال ًما بلغة أجنبية ال نفقهها‪ .‬ولكن سرعان ما تلتقي العقول‪ ،‬متجاوزة الحاجز‪ ،‬بمجرد ما‬
‫يحصل التأويل المناسب للرموز من كال الطرفين‪ .‬يختفي التعتيم لتحل محله الشفافية‪.‬‬

‫ً‬
‫مستقبل لرسالة التخاطر‬ ‫‪ 19‬قد تشكل ظاهرة التخاطر استثناء هنا؛ ذلك أن الشخص يكون يف هذه احلالة‬
‫بغري إرادته‪ .‬وهكذا ختطر الفكرة‪ ،‬عىل شكل صورة ذهنية أو يف حلة لغوية‪ ،‬يف ذهن الشخص «ب»‬
‫ملجرد كوهنا خطرت يف ذهن الشخص «أ»‪ ،‬من غري استخدام ألصوات أو أي عالمات أخرى بينهام‪.‬‬
‫ومع ذلك ليس ها هنا تواصل من غري رموز‪ .‬تنعقد العالقة العلية بني العقلني بمناسبة الرموز‪ ،‬ال‬
‫صحيحا أن التواصل ال حيصل إال عندما مت ُثل الرموز املناسبة‪ ،‬يف هيئة كلامت أو‬
‫ً‬ ‫بواسطتها؛ ويظل‬
‫صور‪ ،‬أمام الوعي املستقبل ويفهمها‪ .‬يمكن للرموز أن تصل إىل الوعي الثاين من طريق سيكولوجية‬
‫رصفة‪ ،‬بدل الطرق الفيزيائية املعتادة؛ لكن عليها يف كل األحوال أن تصل‪ ،‬وال يمكن للتواصل أن‬
‫يتحقق إال عند التوصل هبا بنجاح‪.‬‬
‫‪21‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫يتراءى لنا المعنى مباشرة خلف الرموز؛ كما هو الشأن عندما نقرأ فال نكاد نلحظ‬
‫الرموز الفردية المكتوبة على الورق‪ ،‬فال نعي غير الكلمات واألفكار التي ترمز إليها‪.‬‬
‫لهذا فالرموز قادرة على اإلبانة واإلخفاء معا‪ ،‬فكانت بهذه القدرة المزدوجة حافظة‬
‫الستقالليتنا الذهنية وحرمة حياتنا الخاصة مثلما كانت معينة لنا على التخطي اإلرادي‬
‫لحدود هذه الحرمة من أجل التواصل مع العقول األخرى‪ .‬بعبارة أخرى‪ :‬نحتفظ‬
‫بمنتهى الحرية في اإلقبال على التواصل أو اإلعراض عنه‪ .‬ولوال هذه الحرية لتضرر‬
‫ضررا بال ًغا‪ .‬إذ لو أمكن قراءة ما يجول في أذهان‬
‫ً‬ ‫مقامنا ــ بوصفنا كائنات مسؤولة ــ‬
‫أشخاصا‬
‫ً‬ ‫اآلخرين مباشرة‪ ،‬ولو أمكن حشو األفكار في أذهانهم‪ ،‬لتوقفنا عن أن نكون‬
‫مستقلين متميزين عما سوانا‪ .‬سنكون أشبه بمريض تحت تأثير التنويم المغناطيسي‪،‬‬
‫انهارت حواجزه ال َعرفن ّية المعتادة واستبيحت قلعة ذهنه فطفقت اإليحاءات المسلطة‬
‫عليها تصول في رحابها كما تشاء‪.‬‬
‫ولكن يجدر بنا هنا إدخال بعض التخصيص على كالمنا‪ ،‬إذ من الواضح أن الصورة‬
‫التي رسمنا للتواصل ــ بوصفه عملية متوقفة على التعاون اإلرادي بين طرف ْين ــ ال‬
‫تصح على استعمالنا اليومي للرمزية اللغوية إال من حيث المبدأ‪ .‬وإذا استعملنا التمييز‬
‫بين الحرية بالمعنى الصوري والحرية بالمعنى المادي‪ ،‬قلنا إننا نكون‪ ،‬إزاء المعنى‬
‫أحرارا في تل ِّقيه أو اإلعراض عنه؛ لكنها حرية بالمعنى الصوري‬
‫ً‬ ‫المبثوث في الخطاب‪،‬‬
‫أحرارا في النظر إلى‬
‫ً‬ ‫فقط ال بالمعنى المادي‪ .‬عندما يخاطبنا أحدهم‪ ،‬ال نكون في العادة‬
‫األصوات الصادرة عنه بوصفها كلمات دا ّلة أو محض هراء عديم المعنى‪ .‬ليس بوسعنا‬
‫اإلعراض عن تأويل الخطاب بوصفه متوالية من الكلمات‪ ،‬كما ليس بوسعنا االمتناع‬
‫رئيسا في الحياة االجتماعية‪،‬‬
‫دورا ً‬
‫عن فهم تلك الكلمات عند سماعها‪ .‬تلعب اللغة ً‬
‫وال تكاد تمر علينا تقري ًبا لحظة إال ونكون خاللها في عالقة ما بالغير بواسطة الكالم‪.‬‬
‫«مسخرين» لهذه الحياة االجتماعية إلى درجة أن صرنا مشدودين ال إراد ًّيا‬
‫ّ‬ ‫ولقد صرنا‬
‫برابطة تواصلية مع رفقائنا من البشر بفعل العادة المترسخة فينا‪ ،‬التي تحملنا على‬
‫تأويل بعض األصوات (وكذا العالمات المرئية) بوصفها كلمات‪ ،‬ثم تأويل الكلمات‬
‫بوصفها حاملة للمعنى‪ .‬لو تمكنا من نقض هذه العادة لغدونا حمقى في نظر اآلخرين‪.‬‬
‫يبدو أن عاداتنا اليومية القاضية بتأويل رموز لغة نفهمها قد صار لها نفس ما لإلدراك‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪22‬‬
‫الحسي من طابع ال إرادي وإرغام‪ .‬ومثلما أرغمنا تأديب العالم الخارجي المحيط بنا‬
‫ً‬
‫تأويل صائ ًبا‪ ،‬كذلك أرغمتنا الضغوط السيكولوجية‬ ‫على تأويل العالمات الحسية‬
‫للحياة االجتماعية على الدخول في التبادالت الكالمية المتواضع عليها‪ .‬وكما يحصل‬
‫َظرا منهم اللعب وفق تلك القواعد‪،‬‬
‫لالعبين تعرفوا على قواعد لعبة البريدج فصار منت ً‬
‫كذلك تم تلقيننا قواعد اللعبة اللغوية وصرنا مطالبين بنوع محدد من االستجابة عندما‬
‫تتم مخاطبتنا‪.‬‬
‫بالرغم من كل ما تقدم‪ ،‬فإن تحليل التواصل بوصفه منطو ًيا على رغبة مقصودة‬
‫ً‬
‫تحليل صائ ًبا حتى في الحياة اليومية‪ ،‬على الرغم من أن‬ ‫في التفاعل مع الغير يظل‬
‫مقتضيات الحياة االجتماعية جعلتنا نقايض حريتنا بعبودية العادة؛ ذلك أنه إن كانت‬
‫العادة مكتسبة فإن الحرية فطرية‪ .‬وبمستطاعنا في بعض األحيان استشفاف الحرية‬
‫األصلية المتوارية خلف العادة‪ .‬ال يمكن للطفل ً‬
‫مثل أن يتعلم لغة ما إال إذا رضي‬
‫بالتعاون مع أمه أو معلمه‪ ،‬مدفو ًعا إلى ذلك بحرص على إرضاء الراشد وبرغبة في‬
‫التع ُّلم‪ .‬ويمكننا أن نتخيل مجددا ً‬
‫طفل تكلم لغة ما لمدة وجيزة ثم فصل عن المجتمع‬
‫البشري لبضع سنين‪ ،‬ثم تجدد لقاؤه بالناس فاكتشف أنه يملك حرية َعرفنية حقيقية‬
‫إزاء الرمزية اللغوية الواردة في الكالم‪ .‬وإذ نشير إلى هذه الحرية البدائية‪ ،‬ال يسعنا إال‬
‫التأكيد على أنها ال توجد في الحياة االعتيادية إال بالمعنى الصوري‪ ،‬شبيهة في ذلك‬
‫بحريتنا التأويلية التي نتمتع بها إزاء العالم المادي المحيط بنا‪.‬‬
‫ها هنا إذن حرية عرفن ّية بالمعنى الصوري في مضمار العالقة مع األغيار‪ ،‬حرية‬
‫تضمنها ضرورة مرور العالقات البينشخصية عبر وساطة الرموز‪ .‬إن هذه الحرية هي‬
‫ْ‬
‫التي تغدو حرية مهمة وبالمعنى المادي في مضمار العالقة مع الشخص اإللهي‪.‬‬
‫وثمة سببان لذلك‪ :‬أولهما سبب مباشر‪ ،‬تمليه حدود قدراتنا المعرفية؛ ثانيهما نهائي‬
‫مطلق متصل بطبيعة الكائن اإللهي الذي قضى بهذه الحدود‪ .‬يكمن السبب المباشر‬
‫في أن الله ليس جز ًءا من العالم المادي كما هو شأن غيرنا من األشخاص؛ ولذلك‬
‫فحضوره أخفى من حضور الغير بالنسبة إلينا‪ ،‬نحن الكائنات الحاسة المرتبطة عضو ًّيا‬
‫بمحيطها‪ .‬بيد أن السبب األقصى يرجع إلى أن الطبيعة اإللهية الالمتناهية تقتضي من‬
‫الله التخ ِّفي حفا ًظا على وجودنا كأشخاص ذوي استقاللية في حضرته‪ .‬ال تعني معرفة‬
‫‪23‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫الله مجرد معرفة كيان إضافي يستوطن هذا الكون‪ .‬إنها معرفة الواحد األحد خالقنا‬
‫و َمن بيده مصيرنا؛ الواحد األحد الذي يتوقف على إرادته خيرنا وغبطتنا‪ ،‬بحيث أن‬
‫تحقق ما ابتغاه من وجودنا ليس شي ًئا آخر غير استكمالنا التام لذواتنا؛ الواحد األحد‬
‫الذي تكتسي وصاياه إلينا ُحلة األمر المطلق الالمشروط‪ ،‬المطالِب بطاعتنا إياه مهما‬
‫كلفنا ذلك من تضحية بمصالحنا أو حتى إن اقتضى الحال بأرواحنا‪.‬‬
‫تأثيرا ال يشبهه‬
‫من الواضح أن وعينا وجو َد مثل هذا الكائن هو وعي يؤثر فينا ً‬
‫شبها بعيدا وع ُينا وجو َد غيرنا من األشخاص‪ .‬وأقرب األمثلة هنا على المستوى‬
‫إال ً‬
‫ِ‬
‫المحبوب ُمح َّبه‪ .‬إن ها هنا وع ًيا أبعد ما يكون عن محض المالحظة‬ ‫اإلنساني هو وعي‬
‫تأثرا عمي ًقا يطبع‬
‫ومتأثرا ً‬
‫ً‬ ‫المالحظ نفسه معن ًّيا‬
‫َ‬ ‫العرضية؛ ففي مثل هذا الوعي يكون‬
‫الغير في النهاية على‬
‫حياته كلها‪ .‬ومع ذلك ثمة فارق قائم‪ :‬في كل عالقة إنسانية‪ ،‬يقف ُ‬
‫«قدم المساواة» معنا؛ بينما «اآلخر»‪ ،‬في مضمار معرفة الله‪ ،‬هو الواحد الذي ال يناسب‬
‫مقامه إال تذلل العبادة التام‪ .‬عندما «يعثر» العابدُ على ربه‪ ،‬ينسحب من محور دائرة‬
‫مقرا لله بالمحورية‪ .‬يكون على المرء هنا إعادة توجيه ِقبلة حياته نحو كائن ال‬
‫العالم ً‬
‫ٍ‬
‫متناه في عليائه‪ ،‬استحقا ًقا وقدرةً‪ .‬يقتضي ذلك من الشخص المبادرة إلى إعادة ترتيب‬
‫منظوره إلى الوجود مبادر ًة ال تكون إال إرادية وإال تهشمت شخصيته وربما فنيت‪ .‬وعبر‬
‫هذا التغير الهائل‪ ،‬نكون هنا إزاء الشخص نفسه‪ ،‬قبل االهتداء وبعده‪ ،‬ال أمام شخص‬
‫جديد حل محل األول‪ ،‬وإال ضاعت استمرارية الهوية الشخصية‪ .‬ال يتعلق األمر هنا‬
‫أيضا على مستوى البصيرة والنفس الراضية‪ .‬ال‬
‫باستمرارية على مستوى الذكريات‪ ،‬بل ً‬
‫أشخاصا‪ ،‬إال حينما نتعرف على‬
‫ً‬ ‫تتناغم معرفتنا بالله مع حريتنا ومع وجودنا‪ ،‬بوصفنا‬
‫الله بمحض إرادتنا ونرغب في االتصال به‪ .‬ولو كشف الله نفسه لنا كما ينكشف لنا‬
‫العالم المادي بحيث تصير معرفتنا إياه معرفة اضطرارية‪ ،‬فسيمحقنا بما نحن أشخاص‬
‫أحرار ومسؤولون‪ .‬تحدث هـ‪.‬هـ‪ .‬فارمر عن الحالة التي يمكن فيها لشخصية قوية أن‬
‫ً‬
‫متسائل‪:‬‬ ‫تحجب‪ ،‬من غير قصد‪ ،‬شخصية أضعف‪ ،‬فقال‬
‫«لئن كان هذا الخطر قائما في ما يخص الشخصية اإلنسانية‪ ،‬فما بالك بشخصية‬
‫الله في عالقته بمخلوقات متناهية يريد إعدادها للحياة الشخصية؟ ألجل هذا الغاية‬
‫بالذات يواري الله نفسه خلف حجاب الرموز‪ .‬وسواء تعلق األمر باستثارة فكر اإلنسان‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪24‬‬
‫أو حبه‪ ،‬فإن الله ال يكشف نفسه كموضوع إلهي بسيط مباشر‪ ،‬بل هو يخاطب اإلنسان‬
‫حيث َو َضعه‪ ،‬أي من خالل العالم ونظام المجتمع والطبيعة»‪.20‬‬
‫إلها خف ًّيا‪ .‬عليه‪ ،‬إن شئنا‬
‫إذا ما كان على اإلنسان أن يتشخصن‪ ،‬فعلى الله أن يظل ً‬
‫القول‪ ،‬أن يتراجع‪ ،‬ويحجب نفسه وراء خلقه‪ ،‬تاركًا لنا حرية التفطن أو عدم التفطن‬
‫إلى مناداتِه إيانا‪ .‬ولذلك فإن الله ال يتالعب بعقولنا وال ُيكره إرادتنا‪ ،‬بل ينتظر تعرفنا‬
‫اإلرادي على حضوره وانخراطنا الحر في خطته‪ .‬ال يريد منا طاعة نُكره عليها‪ ،‬بل ارتقا ًء‬
‫طوع ًّيا إلى نموذج اإلنسانية التي أوحيت في المسيح؛ مسيحي ٌة عارفة بالله ر ًّبا ومتوكلة‬
‫عليه أ ًبا‪ .‬ما كان ل ُيعجز الله‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪ ،‬خلق كائنات مطيعة ألمره في كل‬
‫ما يبدر منها‪ ،‬من غير أن تكسب بنفسها هذه الطاعة بكل حرية ومسؤولية‪ .‬ولكنه خلق‬
‫كائنات يهديها بالتدريج إلى ملكوته حين تختار وحين تقرر‪ .‬لذا فإن عدم المساس‬
‫بكينونة البشر بما هم أشخاص وبحريتهم ومسؤوليتهم الفردية منسجم تما ًما مع الخطة‬
‫اإللهية كما نعاينها‪ ،‬عدم المساس بها خاصة في نطاق دائرة المنتهى المصيري حيث‬
‫ينادي الل ُه اإلنسان‪ ،‬أي دائرة الدين‪ .‬من هنا كان الدين ردي ًفا للحرية‪ :‬اإليمان متعلق‬
‫العرفني تع ُلق «حرية اإلرادة» بالعمل‪ .‬وكما قال إيرانيوس ــ أحد أبرز علماء‬
‫ّ‬ ‫باإلدراك‬
‫َ‬
‫اإلنسان وحرية إرادته في مضمار العمل فحسب‪ ،‬بل‬ ‫الالهوت األوائل ــ ‪« :‬لم يدَ ع الل ُه‬
‫‪21‬‬
‫أيضا‪».‬‬
‫في مضمار اإليمان ً‬
‫خلصنا في ما يخص الداللة األخالقية للعالم إلى أن لإلنسان ً‬
‫ميل فطر ًّيا إلى تأويل‬
‫حرا في تطوير‬ ‫تجربته االجتماعية ً‬
‫تأويل أخالق ًّيا‪ ،‬مع إقرارنا أنه يظل‪ ،‬من حيث هو فرد‪ًّ ،‬‬
‫هذا الميل أو طمسه أو مسخه‪ .‬اإلنسان بطبيعته حيوان أخالقي؛ ذو استجابة عفوية‬
‫للمطالب األخالقية اآلتية من عالم العالقات الشخصية‪ .‬وكما أن الذهن يظهر استعدا ًدا‬
‫لتأويل المعطيات الحسية الخام وفق خطاطة عالمنا المادي المألوفة‪ ،‬فهو يظهر الميل‬
‫ً‬
‫تأويل أخالق ًّيا‪ .‬وبالمثل فإن من يدرس‬ ‫نفسه إلى تأويل العالم االجتماعي المحيط به‬
‫ً‬
‫مماثل إلى تأويل تجربته‬ ‫مالبسات ظهور األديان وتاريخها يكتشف أن لإلنسان ً‬
‫ميل‬

‫ــ ‪} (2d ed., London, 1936), p 73‬العامل والله{ ‪20 H. H. Farmer, The World and God‬‬
‫ـ ‪ } bk. iv, Ch. 37, par. 5, translation in The Ante‬ضد الهرطقات} ‪21 Against Heresies‬‬
‫‪Nicene Fathers, vol. I (Grand Rapids, 1956).‬‬
‫‪25‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫ً‬
‫تأويل دين ًّيا‪ .‬اإلنسان حيوان ديني ذو ميل راسخ إلى بناء عالمه بناء دين ًّيا‪ .‬وكما هو الشأن‬
‫في التأويالت األخالقية للعالم‪ ،‬يتمتع اإلنسان هنا أيضا بحرية يقتدر بها على حفز هذا‬
‫الميل أو تثبيطه‪ .‬والدليل على وجود هذا الميل أو االستعداد الديني الفطري هو كونية‬
‫الظاهرة الدينية‪ ،‬أي أن الجنس البشري عرف الدين بشكل من األشكال في كل العصور‬
‫التاريخية المعلومة عندنا‪.‬‬
‫وحتى في روسيا الشيوعية الحالية‪ ،22‬يظل أصحاب الفكر اإللحادي قلة‪ .‬وإن حنكة‬
‫خلوا من هذا االنحياز الكوني للذهن‬
‫هؤالء الفكرية البالغة ال تدل على أنهم خلقوا ً‬
‫البشري إلى التأويل الديني لظاهرة الحياة‪ ،‬بل تدل باألحرى على أنهم قمعوا ذلك‬
‫‪23‬‬
‫االنحياز‪.‬‬
‫آن لنا اآلن أن نتساءل‪ :‬ماذا نقصد بـ»الديني» عند حديثنا عن هذا االنحياز الديني‬
‫الفطري في الطبيعة اإلنسانية؟ ُينعت طيف واسع من الظواهر بـ»الدينية»‪ ،‬من معتقدات‬
‫حماسا؛ ومن‬
‫ً‬ ‫المانا والطابو لدى الشعوب البدائية إلى أشد مذاهب المؤلهة األخالقيين‬
‫المنظور البراهماني الهندوسي الذي يتصور المطلق وحدة الشخصية إلى المنظور ْين‬
‫شخصا أخالق ًّيا؛ ومن‬
‫ً‬ ‫اليهودي‪/‬المسيحي واإلسالمي اللذين يتصوران هذا المطلق‬
‫المعتقدات التي تعج باآللهة‪ ،‬بما فيها آلهة شر تُسترضى بالقرابين البشرية‪ ،‬إلى المعتقد‬
‫المسيحي في إله واحد‪ ،‬قدوس‪ ،‬عادل ومحب‪ ،‬خالق العالم ومدبره‪ ،‬محب اإلحسان‬
‫والتراحم بين البشر؛ جاد بنفسه‪ ،‬في فعل الحلول‪ ،‬ليعين اإلنسان على تحقيق إرادته‪...‬‬
‫وهكذا دواليك إلى غيرها من الظواهر التي تدخل تحت نعت «الدين» المطاط‪ .‬فما‬
‫القاسم المشترك يا ترى بين هذه المعتقدات والممارسات المتنوعة؟‬

‫‪ 22‬املقصود هنا اخلمسينيات‪ ،‬ألن الطبعة األوىل من كتاب جون هيك‪ ،‬الذي ترمجنا منه هذا الفصل‪،‬‬
‫صدرت يف العام ‪( .1957‬املرتجم)‬
‫‪ 23‬خال ًفا ملا يفرتض البعض‪ ،‬ال يتعارض املذهب القائل بامليل اإلنساين الفطري إىل تأويل احلياة بحيث‬
‫مرسحا للحضور والفعل اإلهليني مع املذاهب «العالية» يف الوحي‪ .‬ما من الهويت أكثر كالفينية‬
‫ً‬ ‫تكون‬
‫من جون كالفن نفسه الذي قرر بحزم أن «وعي األلوهية قائم يف الذهن البرشي‪ ،‬بل هو يف احلقيقة‬
‫مفطور عليه‪( ».‬من كتابه تأسيس الديانة املسيحية '‪Institutes , bk. I, ch. 3, sec. 1. Battles‬‬
‫‪ )translation‬وكتب يف موضع آخر بأن «احلس اإلهلي منقوش يف أذهان البرش ً‬
‫نقشا ال ينمحي أبدا»‬
‫(املرجع نفسه‪ ،‬املبحث الثالث)‪.‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪26‬‬
‫قاسما مشتركًا بين هذه الظواهر التي انعقد اإلجماع على نعتها‬
‫ً‬ ‫يلوح لي أن ثمة‬
‫بالدين على الرغم من كل ما بينها من تنوع مذهل‪ .‬ذلكم هو االعتقاد (الضمني أو‬
‫الصريح) بأن الوسط الذي يحيا فيه اإلنسان أوسع مدى مما يظهر؛ وبأن ثمة بعدً ا غيب ًّيا‪،‬‬
‫يخترق الطبيعي ويمتد إلى ما وراءه أو ما خلفه أو ما فوقه؛ وأن على البشر أن يصلوا‬
‫أنفسهم به من خالل ما تفترضه عليهم مللهم من طقوس‪ .‬في كل الظواهر التي ندعوها‬
‫خيرا‬
‫أديانًا‪ ،‬يوجد هذا الفوق ــ طبيعي بشكل من األشكال‪ ،‬سواء كان واحدً ا أو متعد ًدا‪ً ،‬‬
‫وجهه أو ُيتحاشى لقاؤه‪ 24.‬وما هذا‬
‫مزيجا منهما‪ ،‬محبو ًبا أو مرهو ًبا‪ُ ،‬يطلب ُ‬‫ً‬ ‫شريرا أو‬
‫ً‬ ‫أو‬
‫ً‬
‫تأويل دين ًّيا إال ذلكم الميل إلى اختبار العالم «في‬ ‫الميل الفطري فينا إلى تأويل عالمنا‬
‫عالما فوق ــ طبيعي مثلما هو طبيعي‪.‬‬
‫عمقه»‪ ،‬بوصفه ً‬
‫ال يعمل هذا االنحياز الديني في اإلنسان المعاصر إال بوصفه علة مرجحة‪ ،‬بينما‬
‫هو علة ُملجئة عند اإلنسان البدائي‪ .‬لقد كشف لنا األنثربلوجيون أن الشخصية‬
‫الفردية لم تنفك عن العقل الجمعي للقبيلة إال بالتدريج‪ .‬الفرد في المجتمع البدائي‬
‫منصهر بالكامل في الجماعة‪ ،‬وعقل جماعته هو الذي يشكل أفكاره الدينية إلى‬
‫درجة يندر معها احتمال الشك والمجادلة‪ .‬إن أشكال التفكير النقدي‪ ،‬التي قد يتناول‬
‫بها الفرد العقائد المشتركة واآللهة المتبعة وطابوهات القبيلة‪ ،‬لم تنشأ إال في حقبة‬
‫حديثة نسبيا من تاريخ الجنس البشري‪ .‬وهو نشوء مقترن بتحوالت اقتصادية وغير‬
‫تكون وحدات اجتماعية كبرى‪ ،‬وإلى ما نجم عنها من انفكاك‬
‫اقتصادية أفضت إلى ّ‬
‫العرفني التي نتمتع بها‬
‫ّ‬ ‫الفرد من الوجود الضاغط للقبيلة‪ .‬لم تصبح حرية اإلدراك‬
‫إزاء اإللهي فعالة إال في هذه الحقبة المتأخرة من التطور‪ .‬أما قبل ذلك‪ ،‬وبحسب‬
‫معلوماتنا الحالية‪ ،‬فصحيح أن االنحياز اإلنساني الفطري إلى الدين لم يكن مما‬
‫تستحيل مقاومته مبدئ ًّيا‪ ،‬ولكن لم يسع البشر مقاومته فعل ًّيا‪ ،‬وكان له سلطان س ّلمت‬
‫ُ‬
‫عقول البشر‪.‬‬ ‫بأمره‬
‫بالموازاة مع نمو الفردانية هذا‪ ،‬حدث تطور مماثل للبصيرة الدينية انتهى إلى‬
‫تصورات أكثر حصافة للنداء الصادر إلى اإلنسانية من العالم الفوق ــ طبيعي‪ .‬وهكذا‬

‫‪ 24‬ينظر‪ :‬أومان‪ ،‬الطبيعي واخلارق للطبيعة‪.‬‬


‫‪27‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫جرى انتقال من الطبيعة الالعقالنية للطابو إلى المطالب األخالقية المعقلنة للبِر؛ ومن‬
‫التركيز الحصري على أعمال الجوارح إلى عناية أشمل بالسرائر وأعمال القلوب‪.‬‬
‫وككل ظواهر الحقل الديني‪ ،‬فإن هذا التطور قابل لتأويلين أحدهما طبيعاني واآلخر‬
‫مؤ ِّله‪ .‬يختزل التأويل الطبيعاني هذا التطور إلى مالبساته االجتماعية واالقتصادية‪ ،‬بينما‬
‫تحفيزا إله ًّيا لعقول البشر‪ ،‬يتقدم بها‬
‫ً‬ ‫يرى التأويل المؤ ِّله إلى ما وراء هذا التطور فيجد‬
‫وقائع العالم‪ .‬بدأ‬
‫ُ‬ ‫تدريج ًّيا نحو استجابات ذاتية حرة للمخاطبات اإللهية التي تنطق بها‬
‫ً‬
‫وصول إلى األكثرية‪ .‬وعبر‬ ‫األمر ببصيرة لمعت في عقول قلة من البشر‪ ،‬ثم فئة منهم‬
‫هذه السيرورة كان الله يخلق في البشر بالتدريج القدرة على تلقي الوحي التام لطبيعته‬
‫ومشيئته‪ .‬وهو الوحي الذي بلغ أوجه‪ ،‬بحسب اإليمان المسيحي‪ ،‬من خالل حلول الله‬
‫في شخص عيسى المسيح‪.‬‬
‫حدث عبر العصور إذن نوع من تساوي النصاب‪ ،‬بحيث إن التحرر التدريجي للعقل‬
‫الفردي من ربقة العقلية الجماعية لألسرة القبلية تزامن‪ ،‬في المقابل‪ ،‬مع الوعي المتزايد‬
‫حصله‬
‫لهذا العقل الفردي بالمطالب العميقة وبعيدة المدى التي وقف عليها بسبب ما ّ‬
‫العرفني‬
‫ّ‬ ‫من وعي المافوق ــ طبيعي‪ .‬وبهذا يكون اإلنسان قد حافظ على حرية اإلدراك‬
‫إزاء محيطه بما هو وسيط ناطق باسم مطالب معينة تخاطب شخصيته‪ .‬حظي الجنس‬
‫البشري بنوع من الرعاية حتى يتجاوز طفولته الدينية ويبلغ منزلة يتناسب فيها التجلي‬
‫اإللهي التام مع الحرية والمسؤولية اإلنسانيتين التامتين‪.‬‬
‫ثمة إذن انحياز ديني فطري في طبيعتنا‪ ،‬يميل بنا‪ ،‬برفق ومن غير إلجاء‪ ،‬إلى تأويل‬
‫ً‬
‫تأويل دين ًّيا‪ .‬وهذا االنحياز هو الشرط المسبق لكل صلة شخصية حقيقية بالله؛‬ ‫العالم‬
‫ألنه يتيح لنا المحافظة على استقالليتنا في حضرته‪ .‬وبفضل هذا الميل نستطيع تحصيل‬
‫معرفة بالله مع حفاظنا‪ ،‬في اآلن نفسه‪ ،‬على حريتنا األصيلة في عالقتنا به‪ .‬لو افتقر‬
‫الجنس البشري إلى مثل هذا االنحياز والميل إلى االستجابة الدينية أمام ظاهرة الحياة‪،‬‬
‫ولو لم ت ْلق فكرة الفوق ــ طبيعي ضيافة عفوية من قبل العقل اإلنساني‪ ،‬لما كان ممكنًا‬
‫لإلنسان أن يتعرف على الله إال بعد ٍّ‬
‫تجل إلهي صريح ال لبس فيه؛ ولكان لزا ًما تلقي‬
‫هذا التجلي بوعي اضطراري خلو من كل إرادة واختيار‪ .‬لكي نتمتع بحرية إدراك َعرفن ّية‬
‫في عالقتنا بالله وجب أن نتمتع بميل فطري يجرنا إلى التعرف على الله خلف حجاب‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪28‬‬
‫ظاهرة الحياة‪ ،‬وأن نكون مع ذلك قادرين مبدئ ًّيا على مقاومة هذا الميل بحيث يمكننا‬
‫قمعه من دون أن نعنّف طبيعتنا‪.‬‬
‫هذا‪ ،‬في ما أقترح‪ ،‬جوهر اإلجابة عن السؤال المطروح في الفصل الحالي‪ :‬لماذا‬
‫ال يتجلى الله إال على نحو غير مباشر‪ ،‬ولماذا ال نالقيه إال من خالل وساطة العالم بما‬
‫هو حمال داللة تستدعي استجابة معينة من ِقبلنا أو بما هو كون من الرموز التي نجعلها‬
‫معتمة أو شفافة بحسب نوعية استعمالنا لها؟ والجواب هو أن هذه هي تحديدً ا شروط‬
‫إمكان صلة شخصية بين الله واإلنسان‪.‬‬
‫ينطوي مذهب الحلول المسيحي على مثال كالسيكي لهذا المبدأ‪ .‬وسيكون‬
‫الفصل العاشر‪ 25‬مناسبة ألتناول هذا المبدأ من زاوية مختلفة ً‬
‫قليل‪ .‬ولكن ال بأس‬
‫أن نالحظ في هذا الموضع أن هذا المبدأ هو تفعيل تام لفكرة أن الله ال يتجلى إال‬
‫مالئما من ِقبل اإلنسان‪.‬‬
‫ً‬ ‫على نحو غير مباشر‪ ،‬وأن تجليه هذا يتطلب نشا ًطا تأويل ًّيا‬
‫إن مبادرة التجلي اإللهي من خالل عيسى المسيح‪ ،‬كما تعرضها التعاليم المسيحية‪،‬‬
‫هي وحي من وراء حجاب‪ ،‬وحي ال يبلغ مبتغاه إال إذا فك البشر شفر َة االحتجاب‬
‫اإللهي باالستجابة واالنخراط الصادق واإليمان‪ .‬وال علة لهذا االحتجاب إال أن‬
‫يتاح لهذه االستجابة أن تكون حرة‪ .‬يستخدم كيركغارد فكرة التواصل غير المباشر‪،‬‬
‫كثيرا العقل المسيحي على استجالء ُسنة الله في وحيه‪ .‬كما أن‬
‫وهي فكرة أعانت ً‬
‫لوثر‪ ،‬وعلى الرغم من أسلوبه الفج المفتقر إلى لطائف البيان‪ ،‬قد أفلح هو اآلخر‬
‫في تبين هذا المنهج بكل بوضوح‪ .‬ولكن قبل كيركغارد ولوثر م ًعا‪ ،‬دبج الالهوتي‬
‫هوف سانت فكتور من القرن الثاني عشر صياغة مذهلة لالقتران المقصود من الله‬
‫بين االلتباس واإليمان‪ ،‬فكتب يقول‪:‬‬
‫ظهورا تا ًّما للوعي اإلنساني وأال يخفى عنه‬
‫ً‬ ‫«قضت مشيئة الله منذ البدء أال يظهر‬
‫خفا ًء تا ًّما‪ .‬فلو خفي الله خفاء تا ًّما ما نفع العلم في الهداية إلى اإليمان‪ ،‬ولكان الجهل‬
‫نفسه للناس مع شيء من االحتجاب‪،‬‬ ‫ً‬
‫مقبول لعدم اإليمان‪ .‬ولذا لزم أن ُيظهر الله َ‬ ‫عذرا‬
‫ً‬
‫من غير أن يكون احتجا ُبه احتجا ًبا تا ًّما مان ًعا من معرفته؛ وكذلك لزم أن يحجب الله نفسه‬

‫‪ 25‬سيخصص جون هيك الفصل العارش لإليامن املسيحي (املرتجم)‪.‬‬


‫‪29‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫ظاهرا معرو ًفا إلى حد ما‪ ،‬من غير أن يكون ظهوره تا ًّما‪ .‬فتحصل‬
‫ً‬ ‫عن الناس‪ ،‬وإن كان‬
‫بجزء ظهوره معرفة تكون قوتًا للقلوب‪ ،‬ويحصل بجزء خفائه شوق للقلوب»‪.26‬‬
‫بيد أن باسكال هو الذي نطق‪ ،‬في بيان متّقد‪ ،‬بلسان هذه الفكرة‪ ،‬وذلك في فقرة‬
‫تذكرنا على نحو الفت بكالم هوف سانت فكتور‪ .‬تحدث باسكال عن المسيح‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫ظهورا مقن ًعا لكل البشر؛ ولكن ما كان‬
‫ً‬ ‫«ما كان من العدل أن ُيظهر ألوهيته للعيان‬
‫أيضا أن ُيبعث في الناس محجو ًبا بحيث يخفى على من ينتظرون بعثته‬
‫من العدل ً‬
‫ظاهرا‬
‫ً‬ ‫صادقين‪ .‬ألجل هؤالء‪ ،‬قضت مشيئته أن يظهر على هيئة يعرفونه بها؛ فكان‬
‫للعيان لمن يلتمسونه بكل أفئدتهم‪ .‬جاءت معرفته بقدر‪ ،‬فأتى لنفسه بآيات ظهرت‬
‫بينات للمتشوفين‪ ،‬وبقيت خافيات عن المعرضين‪ .‬من ُيرد البصيرة ي ْل َق النور هاد ًيا‪،‬‬
‫ومن عمي يجدْ ظال ًما حالكًا»‪.27‬‬
‫ليس هذا مقام مراكمة االستشهادات الخاصة بهذه الموضوع‪ ،‬ومع ذلك أحب‬
‫إضافة اقتباس آخر لصامويل تايلور كوليردج‪ ،‬كتب فيه ً‬
‫قائل‪« :‬لو كان الوجود اإللهي‬
‫أكثر جالء من الناحية الفكرية لكان أقل فاعلية من الناحية األخالقية‪ ،‬و َلبطلت غايته‬
‫نفسها؛ إذ سيضحي بإيمان حي من أجل إذعان ميت بال قيمة»‪.28‬‬
‫رأينا حتى اآلن أن التطلع إلى الله‪ ،‬الكائن خلف حجاب العالم‪ ،‬واكتشاف حضرته‬
‫متاحا لنا‬
‫التي تتراءى في هذا العالم ومن خالله‪ ،‬إنما تتم بضرب جديد من تأويل كان ً‬
‫من قبل‪ .‬ليس هذا االكتشاف‪ ،‬من الناحية اإلبستملوجية‪ ،‬من قبيل اكتشاف رجل خلف‬
‫حجاب‪ ،‬أو استنتاج إلكترون نفسر به السلوك المالحظ في المادة‪ ،‬بل هو من قبيل ما‬
‫أسماه فتجنشتاين « أن ترى كما لو»‪ .29‬لفت فتجنشتاين االنتباه إلى هذا األمر في حالة‬
‫لعبة الصورة ذات القطع المبعثرة‪ .‬في مثل هذه الحاالت نحدق في المربع الغامض‬
‫وقد تناثرت فوقه قطع الصورة المبعثرة‪ .‬وفجأة تلمع في ذهننا أنها ً‬
‫مثل صورة رجل‬

‫‪ { bk. i,‬حول األرسار املقدسة اإلميان املسيحي} ‪26 On the Sacraments of the Christian Faith‬‬
‫‪ 42.‬ــ ‪pt. in, sec. 2, trans, by Roy J. Deferrari (Cambridge, Mass., 1951), pp. ‹41‬‬
‫‪} ed. Brunschvick, trans, by W. F. Trotter (London, 1932), no. 430.‬خواطر{ ‪27 Pensées‬‬
‫‪} Everyman ed. (London, 1906), p. 106‬سرية ذاتية أدبية{ ‪28 Biographia Literaria,‬‬
‫‪} (Oxford, 1953), pt. 11, sec. 11‬تحقيقات فلسفية{ ‪29 Philosophical Investigations‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪30‬‬
‫واقف في بستان‪ .‬بهذا ننتقل إلى إدراك معطيات مألوفة دالة إدراكًا ينسخ تأويلنا األول‪.‬‬
‫ولكي ننقل هذه الفكرة إلى المجال الديني‪ ،‬علينا توسيع مفهوم «أن نرى كما لو» لتشمل‬
‫ُحس كما لو»‪ .‬ال نقصد هنا مجرد الخبرة الحسية الحاصلة بالبصر‪ ،‬بل بكل‬
‫فكرة «أن ن ّ‬
‫وسائل اإلدراك مجتمعة‪ .‬هنا نعيش وضعيات ما بوصفها ذات ضرب مخصوص من‬
‫الداللة ومن ثم مستوجبة لضروب خاصة من االستجابة العملية‪ .‬عاش أنبياء العهد‬
‫ٍ‬
‫متعال‪ ،‬فكانت‬ ‫القديم ً‬
‫مثل وضعهم التاريخي وأحسوا أنفسهم مخاطبين بأمر إلهي‬
‫االستجابة المالئمة لهذه الخبرة هي التصرف باعتبارهم رسل الله؛ بينما لم يلتقط أكثر‬
‫معاصريهم أي داللة دينية ألن «اإلحساس كما لو» الخاص بهم يتم على نحو مغاير‪.‬‬
‫وكما يشهد على ذلك العهد القديم‪ ،‬فإن تأويل األنبياء لتاريخ العبرانيين يدل على أن‬
‫«اإلحساس كما لو» قد حصل لهم على نحو متميز ومطرد‪ .‬وبينما ال يرى المؤرخ‬
‫العلماني سوى عوامل اقتصادية واجتماعية وجغرافية ترفع المدن واالمبراطوريات ثم‬
‫تضعها‪ ،‬رأى األنبياء في ذلك يد الله وهي ترفع وتضع‪ ،‬ماضية في إنجاز وعده‪ .‬وهكذا‬
‫بينما كان الكلدانيون على أبواب القدس‪ ،‬لم يستشعر أرمياء ذلك بحسبانه مجرد تهديد‬
‫أيضا بوصفه إنفا ًذا لحكم إلهي على بني إسرائيل‪ .‬وكما قال واحد من‬
‫سياسي‪ ،‬بل ً‬
‫المتراصة لجيش الكلدانيين‪ ،‬رأى أرمياء شبح يهوه‬
‫ّ‬ ‫أشهر المفسرين‪ :‬خلف الصفوف‬
‫محار ًبا مع جيش األعداء ضد شعبه‪ 30.‬ومن المهم هنا أال نأخذ هذا األمر بحسبانه‬
‫مجرد تأويل يصب أحدا ًثا مستعادة الح ًقا في بوتقة نظرية ما؛ بل بحسبانه الطريقة‬
‫التي عاش بها النبي فعل ًّيا في ذلك الوقت تلك األحداث وشارك فيها‪ .‬عاش بوعي تام‬
‫يالحظ أن المتدين‬
‫الوعي تلك الوضعية مستشعر ًة على ذلك النحو‪ .‬وعلى العموم‪َ ،‬‬
‫يجد في الوضعية التي يحياها داللة جديدة تتعالى على نمط تجربته غير الدينية السابقة‬
‫وتُحولها‪ ،‬بحيث تنقلب تلك الوضعية إلى آية تتجلى بها صلة شخصية بالله‪.‬‬
‫تختلف مواصفات االكتشاف‪ ،‬الذي نتحدث عنه هنا‪ ،‬عن اإلدراك الجديد الذي‬
‫يحصل به تنظيم الصورة في لعبة األجزاء المبعثرة‪ .‬ال يعود هذا االختالف فحسب إلى‬
‫أن التجربة الدينية تجربة كلية على نحو فريد‪ ،‬بل ألن الكلية‪ ،‬التي تكشف عنها النقاب‬
‫وضع ال ينفك‬
‫ٌ‬ ‫هذه التجربة‪ ،‬تمثل وض ًعا يكون فيه المؤول نفسه جزء ال يتجزأ منه‪،‬‬

‫‪} (Cambridge, 1922), p. 261‬النبوة والدين{ ‪30 John Skinner, Prophecy and Religion‬‬
‫‪31‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫ً‬
‫تحول غير ذي‬ ‫يطالبه باستجابات عملية‪ .‬والحق أن كل تحول في التقدير‪ ،‬سواء كان‬
‫ً‬
‫تحول ذا خطر كما في حالة‬ ‫بال كما في حالة إدراك الصورة ذات األجزاء المبعثرة‪ ،‬أو‬
‫االهتداء الديني يستدعي عمل اإلرادة‪ ،‬إما لكي تقدم بقصد على اختيار ما‪ ،‬أو لكي‬
‫تقبل الشاكلة الجديدة من الدالالت التي تعرض نفسها على الذهن‪ .‬بيد أنه في حالة‬
‫اإليمان المؤ ِّله فإن الشخصية بأكملها‪ ،‬بما فيها من إرادة‪ ،‬تكون منخرطة انخرا ًطا بعيد‬
‫ً‬
‫متوكل على كائن أسمى وأن يقر‬ ‫الغور‪ .‬فأن يعرف المر ُء الل َه معناه أن يعرف نفسه واق ًفا‬
‫بمطالب هذا الكائن المستغرقة لحياته برمتها‪ .‬وتب ًعا لذلك‪ ،‬فإن فعل اإلرادة‪ ،‬أو حال‬
‫الرضا والقبول‪ ،‬الذي يفضي بالمرء إلى اعتناق نمط التقدير الديني‪ ،‬هو بالتبعية فعل‬
‫طاعة أو رضا بالطاعة‪ .‬وعلى الرغم من أن االعتقاد بوجود الله وأعمال التوكل على‬
‫الله وطاعته هما أمران متمايزان نظر ًّيا‪ ،‬إال أنهما في الواقع يحدثان م ًعا‪ ،‬كما أن أحدهما‬
‫متوقف على اآلخر‪ :‬التصديق والتوكل‪ 31‬عنصران لكلية واحدة‪ ،‬هي وعي اإللهي من‬
‫العرفني لإليمان‬
‫ّ‬ ‫طرف اإلنسان‪ .‬وعلى الرغم من أننا معنيون في هذه الدراسة بالمكون‬
‫فحسب؛ بيد أن الدراسة الشاملة لموضوع اإليمان تقتضي تفصيل القول في مكونه‬
‫المتصل باإلرادة والتوكل‪.‬‬
‫ً‬
‫تحليل‬ ‫ً‬
‫تحليل دين ًّيا بدوره وال‬ ‫ً‬
‫تأويل ليس‬ ‫إن تحليلنا هذا لإليمان الديني بوصفه‬
‫الدين ًّيا؛ إنما هو مذهب إبستملوجي فحسب‪ .‬يمكن لكل من المؤ ِّله وغير المؤ ِّله قبوله‬
‫بكل منطقية وتطويره لخدمة غرضه الخاص؛ وذلك ألن التباس «المعطى»‪ ،‬الذي‬
‫وجدناه شر ًطا لإليمان في كل المراحل‪ ،‬ينطبق على اإليمان نفسه‪.‬‬
‫لم يتبق لنا اآلن إال بيان الكيفية التي يندمج بها هذا المنظور مع كل من رؤية العالم‬
‫المقرة باأللوهية وتلك المنكرة لها‪.‬‬
‫يمكن تصور استعمال غير إيماني لتحليلنا هذا من منظور الدراسة الفلسفية للغة‪.‬‬
‫يمكن لغير المؤ ِّله (كما فعل جون ويزدوم)‪ 32‬التنبيه على أن اللغة ال تستعمل من‬

‫‪ 31‬األول اعتقاد ذو مضمون قضوي والثاين ثقة بام هي عمل من أعامل اإلرادة‪ .‬وقد خصص جون هلذين‬
‫املعنيني الفصلني األول والثاين عىل التوايل من كتابه الذي نرتجم منه هذا الفصل‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ُ 32‬ينظر‪« :‬منطق اهلل» ضمن كتاب مفارقة واكتشاف «‪The Logic of God،«in Paradox and‬‬
‫)‪Discovery (Oxford, 1965‬‬
‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪32‬‬
‫أيضا من أجل تبديد مخاوفنا‪،‬‬
‫أجل نقل معلومات والتعبير عن عواطف فحسب‪ ،‬بل ً‬
‫وتسليط ضوء على شيء أو وضعية بحيث يبدو شي ًئا أو وضعية جديدة؛ وأن عبارة‬
‫«الله موجود» من هذه الفئة األخيرة‪ .‬وإنما تعمل تقريرات مذهب المؤ ِّلهة على إظهار‬
‫جوانب من العالم ومن التجربة الشخصية تحجبها التقريرات المضادة‪ .‬وما يسميه أتباع‬
‫هذا المذهب بـ»معرفة الله» إنما هو تعبير عن نظرتهم إلى العالم وإحساسهم به على‬
‫نحو خاص‪ ،‬مختلف عن النحو الذي ينظر به من «ال يعرف الله‪ ».‬بيد أن غير المؤ ِّله ال‬
‫منظوري الرجلين فارق ذاتي محض‪ .‬ما خال‬
‫ْ‬ ‫يتوقف هنا؛ بل يضيف بأن الفارق بين‬
‫العالم‪ ،‬ال وجود في الخارج للشخص المدعو الله‪ .‬ال يب ُعد أن يكون العالم أغنى داللة‬
‫بالنسبة إلى البشر مما يلحظه غير المتدين‪ ،‬ومن الممكن أن يكون نمط التقدير الديني‬
‫أقدر من غيره على «الظفر بالنصيب األكبر مما تزخر به الحياة»‪ .‬ولكن أن يتم وصف‬
‫هذه التجربة بمفردات تحيل على كائن إلهي مفارق موجود ً‬
‫فعل فهذا ال يعدو أن يكون‬
‫توسل بأسطورة أنطلوجية‪ .‬ربما كانت أسطورة ال مفر منها‪ ،‬لكنها (كما قد يشدد على‬ ‫ً‬
‫ذلك غير المؤ ِّله) تظل أسطورة في النهاية‪ .‬لفظ «الله»‪ ،‬بالنسبة إليه‪ ،‬اسم يطلق على بناء‬
‫منطقي للتجربة اإلنسانية‪ ،‬على صياغة تتوسل الشخصنة لمساعدتنا على حسن تقدير‬
‫أغوار الحياة المراوغة‪ .‬تلك على ما أعتقد هي الخطوط العريضة للحمولة األنطلوجية‬
‫التي سينسبها غير المؤ ِّله إلى ما قدمته من تحليل إبستملوجي لإليمان الديني بحسبانه‬
‫ً‬
‫«تأويل كل ًّيا»‪ ،‬إن هو قبل لهذا التحليل‪ .‬من منظوره هذا‪ ،‬يماثل التأويل الديني التأويل‬
‫الجمالي إلى حد كبير‪ ،‬بوصفه ضر ًبا من النظرة إلى العالم والشعور بالعالم‪.‬‬
‫بيد أن المماثلة الجمالية‪ ،‬بحسب المؤلهة‪ ،‬قاصرة عن المضي إلى نهاية شوط‬
‫المقارنة‪ .‬وفي قصورها هذا ينفلت منها كل ما هو مميز للدين‪ .‬وبيان ذلك أن اإلدراك‬
‫الباطني الجمالي يتوقف عند حدود العا َلم نفسه‪ ،‬العالم الذي يجري تأمله واالستمتاع‬
‫به والتمتع به لذاته‪ .‬بيد أن اإلدراك الباطني الديني يخترق إقليم العالم ُم َي ِّم ًما وجهه‬
‫ناظرا إلى الطبيعي بحسبانه آية للمافوق ــ طبيعي‪ .‬ولذلك هو يقتضي دعوى‬
‫شطر الله‪ً ،‬‬
‫أنطلوجية ال مثيل لها في عالم الجماليات‪ .‬يقرر اإلدراك الباطني الجمالي بأن هذا‬
‫الشيء أو ذاك جميل‪ ،‬وال ُيطالب بتقرير وجود الجمال كماهية أفالطونية في عالم آخر‪.‬‬
‫والحال أن إيمان المؤ ِّله‪ ،‬إذ يقول بأن العالم آية من آيات النشاط اإللهي‪ ،‬يلزمه أن يقول‬
‫‪33‬‬ ‫لإلا باجتحالا زغلو رشلا ةلضعم‬

‫أيضا بأن الله موجود باعتباره كينونة حقيقية‪ ،‬وأنه في اآلن نفسه يتعالى على عالمنا‬
‫ً‬
‫حاسما‬
‫ً‬ ‫ويالقينا داخل هذا العالم ومن خالله‪ .‬وهذه الدعوى األنطلوجية ليست فار ًقا‬
‫أيضا‪.‬‬
‫في النهاية بين الدين والجماليات فحسب‪ ،‬بل بين الدين واألخالق ً‬
‫شعورا بـ»ما يجب»‪ .‬أما التحليل‬
‫ً‬ ‫يدرك اإللزام األخالقي باطن ًّيا إال بوصفه‬ ‫ال َ‬
‫الالهوتي لهذا الشعور بر ِّده إلى إرادة الله فال يستقيم إال بفعل تأويلي إضافي ندعوه‬
‫اإليمان الديني‪ .‬ولهذا ال يقتضي إدراك الواجب األخالقي أي دعاوى بصدد الوجود‬ ‫َ‬
‫اإللهي‪ .‬بيد أن مفردة «الله»‪ ،‬في نظر المؤ ِّله‪ ،‬ليست محض اسم لبناء منطقي‪ ،‬ولفظة‬
‫شعرية نشير بها إلى العالم بما هو كل؛ بل تحيل إلى خالق الكون‪ ،‬الفرد الشخص‬
‫المتعالي‪ .‬ليس وعي الله‪ ،‬الذي يزعمه المؤ ِّله‪ ،‬ضر ًبا من االستنتاج المشتق من مالحظة‬
‫هيئة العا َلم‪ ،‬بل هي وعي الله المقبل عليه من خالل حيثيات الحياة وأحداثها‪.‬‬
‫في اإلدراك الباطني للمؤله ال تَم ُثل هذه الظروف واألحداث بما هي إلهية في‬
‫نفسها‪ ،‬كما قد توحي بذلك المماثلة الجمالية‪ ،‬بل بحسبانها آية من آيات إقبال الله‬
‫عليه‪ .‬في المستوى المباشر‪ ،‬تعبر كل لحظة من التجربة عن قانون طبيعي أو قرارات‬
‫إنسانية أو عن مزيج منهما؛ بيد أن السيرورة التاريخية في مجموعها إنما تنطق بالمقصد‬
‫اإللهي من خلق األنفس البشرية‪ ،‬مقصد تحققه هذه األنفس عندما تستجيب بكل حرية‬
‫للداعي القائم أبدً ا في ميعاد الله وحكمة أمره‪ .‬يغدو مجموع لحظات الحياة‪ ،‬بالنسبة‬
‫إلى من وجد الله‪ ،‬آية دالة على حضرة وخطة إلهيتين؛ وكما عبرنا عنه في صفحة سابقة‪،‬‬
‫يمكن للحياة في أي لحظة أن تكثف الحضور اإللهي فينا؛ كما يمكن للداللة القصوى‬
‫التحول نظر َة المؤ ِّله‬
‫ُ‬ ‫أن تخترق الدالالت الصغرى في أي لحظة وتنسخها‪ .‬ولذا يصيب‬
‫برمتها إلى الحياة وإلى االستجابة العملية التي تقتضيها؛ ال يتعلق باألمر بعقل ظل كما‬
‫كان بينما هو اآلن ينظر إلى عالم جديد‪ ،‬بل بعقل جديد ينظر إلى عالم ال يزال كما‬
‫بصر اآلن شي ًئا آخر‪« .‬السموات يسبحن بمجد الرب والمقادير تشهد‬
‫كان‪ ،‬وصار ُي َ‬
‫بمحكم صنعه»؛ هكذا تبدو األمور للمؤمن؛‪ 33‬وفي الجمال الالمتناهي لألرض يلمح‬
‫بسمة خالق األرض (إن جاز التعبير)؛ يرى في جاره ابنًا لآلب السماوي؛ يستشعر في‬

‫‪ 33‬املزامري ‪.1 :19‬‬


‫رّكيرّكا قيفش‪.‬د‬ ‫‪34‬‬
‫الفرائض األخالقية وطأة أمر الله المطلق؛ ويبصر في متع الحياة ومسراتها كرم الرب‬
‫الفياض‪ .‬أما ضروب الحرمان وخيبات األمل‪ ،‬التي يصادفها في الحياة‪ ،‬فيرى فيها‪ ،‬وإن‬
‫بعد ًّيا في الغالب‪ ،‬تأدي ًبا ربان ًّيا حاز ًما‪ ،‬لكن ك ّي ًسا‪ ،‬يحفظه من االنسياق كلية وراء أماني‬
‫الحياة األرضية وخططها‪ .‬وسواء تعلق األمر بالفرح أو القرح‪ ،‬بالنجاح أو الفشل‪ ،‬أو‬
‫باالحتفال أو الحداد فإنه يبصر من خالل ذلك كله يد الله تمسكه وتشده إلى مدار‬
‫الخطة اإللهية الجارية‪ ،‬والتي يتوقف على اكتمالها وحدها اكتماله ونعيمه األقصى هو‬
‫نفسه‪ .‬لذا فإن الحياة اليومية للمؤمن غير منفصلة عن حياته الباطنة التي يحياها في‬
‫سرا هو الذي يجده في‬ ‫الصالة ومناجاة الله بال واسطة‪ .‬إن الله الذي يدعوه في نفسه ًّ‬
‫العالم علنًا‪ .‬كل الحياة عنده محاورة مع األنت اإللهي؛ له في كل شؤون الحياة شأن مع‬
‫الله‪ ،‬ولله معه فيه شأن‪.‬‬
‫صارت اآلن جلية حدو ُد التحليل اإلبستمولوجي لإليمان الديني؛ وذلك بسبب‬
‫قابليته للتطبيق من ِقبل المؤ ِّله وغير المؤ ّله على حد سواء؛ وربما تعين التشديد مجد ًدا‬
‫على هذه الحدود اآلن‪ .‬انصرف مسعاي في الفصول السابقة‪ 34‬إلى وصف الكيفية التي‬
‫أس َع إلى إثبات وجوده هذا ولو من باب‬‫نعرف بها اإلله على فرض وجوده؛ بيد أني لم ْ‬
‫االحتمال‪ .‬وفي حالة وجود إله يمكن معرفته وفق ما يقرر المؤلهة‪ ،‬حاولت أن أب ّين‪،‬‬
‫من وجهة نظر إبستملوجية‪ ،‬معقولية دعوى أهل األديان في ما يجدونه من لذة ناجمة‬
‫رفني لله‪ .‬أما الحسم في ما إذا كانت مزاعم المؤلهة‬
‫عما يصرحون باختباره من إدراك َع ّ‬
‫هذه مبررة فيظل مسألة خارجة عن مجال بحث اإلبستمولوجي وعن مجال بحث غيره‬
‫من المختصين‪.‬‬
‫مدعو إلى إعمال قدراته ال َعرفن ّية‬
‫ّ‬ ‫إنها مسألة ترجع إلى كل امرئ بمفرده‪ .‬كل امرئ‬
‫في الوسط الذي يحيا فيه‪ ،‬واالستجابة لمطالب هذا الوسط ونداءاته وفق ما تمليه‬
‫حريته ومسؤوليته الفرديتان‪.‬‬

‫‪ 34‬الفصل احلايل هو الفصل السادس من الكتاب‪ ،‬وقد سبقته مخسة فصول‪( .‬املرتجم)‬
‫دراسات‬

‫الخير المحض وتناقضات الفعل األخالقي‬

‫مدخل إلى ميتافيزيقا التعايش‬


‫د‪ .‬منذر جلوب‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫هل يستلزم التعايش أو يكون من متطلبات العيش المشترك‪ ،‬سواء بين األفراد‬
‫أو الجماعات‪ ،‬القبول بالتضحية بمصالح األقلية من أجل حفظ مصالح األكثرية؟‬
‫وما هي حدود التضحيات؟ وهل أن حياة فرد أو مجموعة من األفراد يمكن قبول‬
‫التفريط بها من أجل مصلحة الجماعة؟‬
‫قديما جرد أفالطون صفة الخير المحض وجعلها من ضمن المثل الثالث‬ ‫ً‬
‫القصوى بجانب الحق والجمال راف ًعا إياها فوق إمكانيات الواقع المادي والحياتي‬
‫المعاش‪ .‬وبهذا يكون متواف ًقا مع الفكر الديني الذي يرى في الخير صفة إله ّية‪ ،‬وأن‬
‫الخير المحض هو الله وحده‪ ،‬فينتج عن ذلك ّ‬
‫أن الخير في واقعنا ال يمكن أن يوجد‬
‫‪2‬‬
‫ممتزجا بشوائب‪ ،‬شأنه في ذلك شأن الحق المحض والجمال‪.‬‬
‫ً‬ ‫إال‬
‫وهنا يدخل في الحسبان مبدأ التأثير المزدوج الذي يهتم بصياغة معيار أخالقي‬
‫لألفعال التي تؤدي إلى تأثير آخر مغاير للهدف األساسي من الفعل‪ .‬وتشمل هذه‬
‫األفعال أنوا ًعا مختلفة مما يحدث أو يراد عمله في الحياة اليومية على نطاق األفراد‬
‫أو الجماعات وله آثار ودوافع مختلفة منها األيديولوجي أو االقتصادي أو الصحي‪...‬‬

‫‪ 1‬أستاذ الفلسفة يف كلية اآلداب بجامعة الكوفة‪.‬‬


‫‪ 2‬أفالطون؛ املحاورات الكاملة‪ ،‬املجلد األول‪ :‬اجلمهورية‪ ،‬الكتاب السادس‪ ،‬ترمجة‪ :‬شوقي داود‬
‫متراز‪ ،‬األهلية للنرش والتوزيع‪ ،‬بريوت‪ ،1994 ،‬ص‪ 274‬فام بعدها‪ .‬ويرى أرسطو أن «كل فن وكل‬
‫فحص عقيل وكل فعل وكل اختيار مروي فهو يرمي إىل خري ما»‪ .‬كرم‪ ،‬يوسف‪ :‬تاريخ الفلسفة‬
‫اليونانية‪ ،‬جلنة التأليف والرتمجة والنرش‪ ،‬مرص‪ ،1936 ،‬ص ‪.298‬‬
‫وانظر‪ :‬ابن سينا؛ النجاة‪ ،‬مطبعة السعادة‪ ،‬ط‪ ،2‬مرص‪ ،1938 ،‬ص‪.299‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪36‬‬
‫الخ‪ .‬فنماذجه تشمل القتل دفا ًعا عن النفس وعمليات اإلجهاض والموت الرحيم‪،‬‬
‫وقتل المدنيين في الحرب بوصفه من اآلثار الجانبية لها‪.‬‬
‫نموذجا افتراض ًّيا مبس ًطا لعرض المعضلة وبيان صعوبتها‬
‫ً‬ ‫وتمثل أحجية العربة‬
‫األخالقية‪ .‬ومما يترتب على ذلك كيفية التعامل مع العقول اإللكترونية والمعيار‬
‫األخالقي في برمجتها‪ .‬فالذكاء الصناعي الذي يقود السيارة ً‬
‫مثل‪ ،‬يحتاج منا أن‬
‫نقرر االعتبارات التي نبرمجه بموجبها‪ ،‬فإذا كان هو الذي يقود العربة‪ ،‬فكيف نضع‬
‫معيار االختيار فيه في حالة االضطرار للقتل؟ هل هو عدد الضحايا أم نضع اعتبارات‬
‫بدل من خمسة أشخاص‬ ‫أخرى؟ وهل قرارنا أن نبرمجه على قتل واحد أو اثنين ً‬
‫ً‬
‫مستقبل‪ :‬هل نقبل أن‬ ‫هو ّ‬
‫حل للمعضلة أم هو إمعان فيها؟ في عالم تقني متقدم‬
‫يقوم العقل اإللكتروني برمي شخص أمام العربة فيكون قتله سب ًبا في نجاة خمسة‬
‫أشخاص؟ وفي مستشفى تجري عملياتها بأيدي عقول صناعية‪ ،‬هل نوافق على أخذ‬
‫أعضاء شخص سليم وتوزيعها على عدة أشخاص بغية إنقاذهم والتضحية بالواحد‬
‫من أجل بضعة آخرين؟‬
‫وفي هذا السياق البد من تثبيت أمر مهم وأساسي وهو حرية اإلرادة‪ ،‬فمن دون‬
‫التأكد من امتالكنا حرية القرار واالختيار لن يكون هناك أي مجال ألية محاكمة‬
‫أخالقية‪.‬‬
‫لذلك نؤكد أن حرية اإلرادة مرهونة بمستوى أعلى من منظومتنا اللغوية‪ ،‬وهو‬
‫مستوى اختيار العبارات التي (نختارها) ونقرر االستمرار في معالجتها‪ ،‬مما يعني‬
‫التعامل مع جذور االختيار من خالل التعامل مع اختيارنا لألفكار التي تدور في‬
‫أذهاننا اعتما ًدا على اختيارنا للعبارات التي تعتمدها تلك األفكار‪ .‬وثبتنا وجود ملكة‬
‫هي الضمير أو األنا تقوم َحك ًَما على اختيار بعض العبارات وإقصاء بعضها اآلخر‪،‬‬
‫تبقى حاضرة فاعلة مصاحبة لعملية معالجة العبارات واالستنتاجات من تلك‬
‫العبارات‪ ،‬بحيث تكون فاعل ًة وتتخذ القرارات باإلبقاء أو اإلقصاء عند كل مفترق‬
‫قائما على احتمالية ما‪ ،‬وال يكون الحسم فيه واضح‬‫استنتاجي يكون االختيار فيه ً‬
‫الركون إلى طبيعة العبارة نفسها وما تسمح به‪ ،‬فيكون الترجيح منا ًطا بتلك الملكة‬
‫لتتدخل في االختيار بحرية مطلقة‪ ،‬ألن (األنا) تكون هي الفاعلة هنا بحرية تامة‬
‫‪37‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫وهي فوق اللغة وأسبق من جميع المتغيرات‪ ،‬وال ينازعها في ذلك سوى متطلبات‬
‫االختيارات المتعددة‪ ،‬إذ إن‬
‫ُ‬ ‫الجسد من بقاء ومصالح‪ ،‬ولوال ذلك التنازع النتفت‬
‫تلك المتطلبات هي السبب وراء تعدد الخيارات‪.‬‬
‫من ناحية أخرى فإن معيار الحفاظ على البقاء وتحقيق المنفعة العملية هو الفاعل‬
‫األهم في الحياة العملية‪.‬‬
‫هذه األسئلة تستدعي مراجعة لحزمة من المشكالت الفلسفية ذات المفاصل‬
‫المرتبطة بالمنطق واألخالق واالجتماع والنفس واأليدلوجيا تحت سقف‬
‫ميتافيزيقي جامع‪.‬‬

‫معضلة العربة ‪Trolley dilemma‬‬


‫معضلة العربة هي واحدة من بين مجموعة افتراضات متخيلة وضعتها الفيلسوف ُة‬
‫اإلنجليزية فيليبا فوت ضمن ورقة نشرتها عام ‪ ،1967‬تتمثل في افتراض وضع‬
‫شخصا واحدً ا أو يقتل خمسة أشخاص‪.‬‬
‫ً‬ ‫شخص أمام اختيار قاس بين أن يقتل‬
‫فالوضع المتخيل أن هذا الشخص يقف قرب مفترق سكة قطار وأمامه عتلة يمكنه‬
‫بواسطتها تغيير مسار القطار عند المفترق‪ :‬في االتجاه األساسي للقطار يوجد خمسة‬
‫أشخاص سيقتلهم القطار إذا لم يتدخل هذا الشخص ويغير مسار القطار‪ ،‬لكن على‬
‫المسار االخر الذي يمكن تحويل القطار إليه يوجد شخص واحد‪ .‬والمعضلة هي‬
‫ما هو الموقف واالختيار األخالقي الذي يجب أن يتخذه هذا الشخص‪ ،‬هل يترك‬
‫القطار في مسارة األول فيموت خمسة أشخاص‪ ،‬أم يحرك العتلة فيتغير مسار القطار‬
‫‪3‬‬ ‫ليموت شخص واحد ً‬
‫بدل من خمسة؟‬
‫لنقم بتقليب هذه المعضلة من أجل تحليلها بغية الوصول إلى إمكانيات التفكير‬
‫والفعل في تلك الظروف االفتراضية‪:‬‬
‫إذا كنت أنت السائق‪ ،‬وبإمكانك تغيير مسار القاطرة‪.‬‬

‫‪3 Foot, Phillipa;The Problem of Abortion and the Doctrine of the Double Effect,‬‬
‫‪Oxford Review, Number 5, 1967.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪38‬‬
‫إذا كنت بجانب السكة وبإمكانك تغيير المسار‪.‬‬
‫قادرا على دفع شخص أمام القطار إلنقاذ آخرين‪.‬‬
‫إذا كنت أحد العابرين وكنت ً‬
‫إذا كنت أنت أحد الضحايا المحتملين فما الذي تقوله لمن يتخذ القرار؟‬
‫إذا كانت الضحايا حيوانات برية أو أليفة‪.‬‬
‫إذا كانت الضحايا خرا ًفا تمتلكها أو تمتلك بعضها‪ ،‬هل سيتشابه قرارك مع حالة‬
‫كون الضحايا من البشر؟‬
‫إذا كانت الخسائر ممتلكات مادية فقط‪ ،‬فهل تتخذ القرار والفعل بالتضحية‬
‫بالقليل ألجل الكثير إذا كانت الممتلكات عائدة لك أو لغيرك؟ ماذا لو كان بعضها‬
‫لك وبعضها لغيرك؟‬
‫هل تختلف الخيارات لو كان في إحدى المجموعتين ولدك؟ ثم ماذا سيكون‬
‫اختيارك لو كان جميع األفراد في كل من المجموعتين هم أبناؤك؟‬
‫هل يؤثر دين الضحايا‪ ،‬في أحد الجانبين‪ ،‬أو عرقهم أو جنسهم أو أفكارهم أو‬
‫أعمارهم‪ ...‬إلخ‪ ،‬في قرارك؟‬
‫االفتراض المثالي أنك ال تعرف أ ًّيا من الضحايا وأنهم متساوون تما ًما في نظرك‪،‬‬
‫وأنك متأكد تما ًما من النتائج والحصيلة النهائية‪ ،‬وهذا افتراض ال يمكن أن يتحقق‬
‫أمرا‬
‫تأكدت تما ًما‪ ،‬يبقى تأكدك ً‬
‫َ‬ ‫واقع ًّيا‪ .‬بمعنى ال يمكنك التأكد المطلق‪ ،‬وحتى إن‬
‫خاصا بك وبمعطياتك أنت وتبقى فجوة بين ما تعرف وبين الحقيقة أو الواقع كما‬
‫ًّ‬
‫هو باستقالل عنك‪ .‬والواضح بموجب موقفنا الفلسفي وبموجب معطيات العلم‬
‫المعاصر أنه ال يمكن أن يكون الواقع مستقلًّ عن إدراكك له‪.‬‬
‫وقد ُأجريت في جامعة هارفرد استبيانات حول معضلة العربة‪ ،‬فكان عدد‬
‫المصوتين على تحريك العتلة وقتل شخص واحد من أجل إنقاذ خمسة أشخاص‬
‫يتجاوز الثمانين في المئة‪ ،‬وهو أعلى بكثير من الذين صوتوا على دفع شخص من‬
‫على جسر والتضحية به لمنع العربة من قتل خمسة أشخاص‪ ،‬فلم تصل نسبتهم إلى‬
‫العشرة في المئة‪ ،‬مع أن الفكرة واحدة والفعالن بدوافعهما ونتائجهما متشابهان إلى‬
‫حد كبير‪ .‬الفرق هو االقتراب من الضحية والسهولة في آلية التنفيذ‪.‬‬
‫‪39‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫المسألة فيها جانب تأملي يقع في السؤال‪ :‬ماذا ينبغي أن أفعل إذا واجهت محنة‬
‫كمحنة العربة؟ وهناك جانب عملي هو‪ :‬ما الذي يحدث ً‬
‫فعل في مواجهة مشكلة‬
‫واختيار كهذا؟ أي من الناحية اإلحصائية والعملية؛ ماذا فعل الناس ساب ًقا في‬
‫مواجهة مواقف كهذه؟ وماذا تكون إجاباتهم إذا قدمنا لهم استبيانًا حول ما يمكن أن‬
‫يفعلوه في موقف كهذا؟ وهل هناك فرق بين معطيات االستبيان الذي يعبر عن آراء‬
‫ألناس مرتاحين بعيدين عن االختيار الحقيقي الفعلي وبين ما يمكن أن يفعله هؤالء‬
‫األشخاص أنفسهم لو جعلتهم الظروف في الموقف الصعب المفترض لالختيار‬
‫الحقيقي‪.‬‬
‫ومن المرجح أن إجابات االستبيان ستختلف وستتحكم بها عوامل مختلفة‪.‬‬
‫فنتوقع أن تختلف اإلجابات بحسب الثقافة السائدة والعادات والتقاليد والميول‬
‫الدينية لدى الجماعات‪ .‬وعلى الصعيد الفردي تختلف حسب اختالف مزاج‬
‫الفرد وترتيبه وجرأته أو تردده وصدقه أو ادعائه‪ .‬كما أن اإلجابات قد تختلف عند‬
‫االستبيان عنها عند وقوع الحادثة فعل ًّيا‪ .‬فليس كل من قال أنه سيفعل ً‬
‫فعل معينًا‬
‫سيتمسك بموقفه‪ ،‬فعند ساعة االختيار قد يفعل ما يناقض الموقف الذي قال أو ظن‬
‫أنه سيتخذه‪.‬‬
‫إن الذين يصدرون األوامر بالقتل‪ ،‬من قادة عسكريين أو حكام سياسيين‪ ،‬في‬
‫الحروب ً‬
‫مثل‪ ،‬ال يقومون بفعل القتل بأنفسهم‪ ،‬وإنما يقوم بذلك آخرون مدربون‬
‫على الطاعة التي تخلي مسؤوليتهم عن الفعل‪ .‬فيكون الشخص الذي يصدر األمر‬
‫في هذه الحالة أقرب في وضعه إلى وضع الشخص الذي يجرى عليه االستبيان‬
‫الورقي‪ ،‬المتمثل بإجابة السؤال‪ :‬ماذا ستفعل في حالة كذا‪...‬؟ وهم بعيدون عن‬
‫الجمع بين اتخاذ القرار وتنفيذه‪ .‬وهذا من أهم أسباب القرارات القاسية‪ ،‬وهو أن‬
‫أصحابها يصدرون األوامر فقط‪ 4.‬وفي ضوء التطور التقني آلالت الحرب صار‬

‫‪ 4‬لو أننا قمنا بتصميم جتربة نفسية عىل غرار جتربة ملغرام قد نحصل عىل بعض اإلجابات العملية‪.‬‬
‫وجتربة ملغرام من االختبارات ذائعة الصيت يف علم النفس االجتامعي تم تصميمها لدراسة مدى‬
‫الطاعة ألوامر السلطة عند األشخاص العاديني‪ .‬رشح ستانيل ملغرام تفاصيل التجربة يف مقال‬
‫(دراسة سلوكية للطاعة) عام ‪ ،1963‬وقدمها بشكل تفصييل يف كتاب نرشه عام ‪ 1974‬حتت عنوان‪:‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪40‬‬
‫الفعل والتنفيذ أسهل بكثير على الشخص الذي يتلقى األمر‪ ،‬فهو بعيد جدًّ ا عن الهدف‬
‫يجلس في مكان مرفه يتحكم بأزرار شبيهة بأزرار لعبة إلكترونية‪.‬‬
‫إذا وصلنا إلى نتيجة تحسم ما يجب فعله عند هذا المفترق «معضلة العربة» فإن‬
‫النتيجة التي نصل إليها ستكون مجرد نصيحة‪ :‬أنك إذا صرت في موقف كهذا فافعل‬
‫أو ال تفعل‪ .‬وعندها يجب أن يحصل قبول واسع لهذه النصيحة عند العامة وعند‬
‫المشرعين‪ ،‬فتدخل ضمن مناهجنا التربوية ووصايانا االجتماعية وأفكارنا السياسية‬
‫وفي تصميماتنا للعقول اإللكترونية التي ستتحكم في سياراتنا ومصانعنا ومستشفياتنا‬
‫أو إقناع صانعيها االلتزام بنصائحنا‪ ،‬أو سن القوانين الملزمة بها‪.‬‬
‫ولكي نوجد إجابة‪ :‬نحتاج أن نعمل العقل وال نتجاهل العاطفة‪ ،‬وهذا سيتفاوت‬
‫أيضا‪ .‬لذلك من الضروري‬
‫بين شخص وآخر‪ .‬ستتفاوت الخيارات العقلية والعاطفية ً‬
‫وضع معيار لالختيار‪.‬‬

‫أوليات المعيار‬
‫إن النفوس البشرية ال تخضع لحسابات األعداد‪ .‬أي أن قيمة االثنين أو األلف‬
‫ليست أكبر من قيمة الواحد‪ .‬وهذا هو األول واألهم من بين المعايير‪ .‬لكنه ال يحل‬
‫المشكلة تما ًما‪ ،‬فيبقى السؤال‪ :‬هل تختار قتل واحد أم قتل خمسة أشخاص إذا كان‬
‫مفترق الطريق أمامك متساو ًيا من كل ناحية‪ ،‬وليس في قرارك تفضيل مسبق ألحد‬
‫مساري الطريق على المسار اآلخر‪ ،‬وخيارك الوحيد هو إما أن تقتل الواحد أو أن تقتل‬
‫الخمسة؟ كل ما يوفره معيارنا في هذه الحالة هو إفراغ األعداد من ميزة المفاضلة‬

‫(االنصياع للسلطة؛ نظرة خارجية)‪ .‬كان اهلدف من الدراسة قياس مدى استعداد املشاركني إلطاعة‬
‫سلطة تأمر بتنفيذ ما يتناقض مع ضامئرهم‪ .‬أراد ملغرام من االختبار أن جييب عىل السؤال‪ :‬هل يعقل أن‬
‫دور اجلنود الذين نفذوا اهلولوكوست مل يتعد تنفيذ األوامر؟ هل يمكن أن يكونوا رشكاء يف اجلريمة؟‬
‫واضحا أن التجربة أتاحت أجواء نفسية لإلجابة عن األسئلة موضع البحث‪ ،‬ختتلف األجوبة‬ ‫ً‬ ‫ويبدو‬
‫التي كانت ستأيت فاقترص صاحب التجربة جتربته عىل استفتاء مكون من أسئلة جييب عنها املستفتون‬
‫شخصا ال تعرفه طاع ًة ملسؤول؟) وليس‬
‫ً‬ ‫يف بحبوحة وال ضاغط عليهم سوى السؤال‪( :‬هل ستعذب‬
‫االختيار احلقيقي بني أن تطيع أو ال تطيع‪.‬‬
‫انظر‪ :‬املوسوعة الربيطانية‪.‬‬
‫‪ Milgram‬ــ ‪https://www.britannica.com/biography/Stanley‬‬
‫‪41‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫بحيث لن يصح بعده القول أن قتل واحد أهون من قتل خمسة‪ .‬في هذه الحالة فقط‪،‬‬
‫حالة تساوي شقي الطريق تما ًما في نظر ومعطيات سائق العربة‪ ،‬وليس هو أمام مسار‬
‫مسبق فيغيره أم ال‪ ،‬بل هو أمام مفترق متساو من كل ناحية‪ ،‬عندها يمكن الميل إلى إنقاذ‬
‫خمسة على حساب خسارة واحد‪ ،‬ويكون ذلك بحسابات خسارة األجساد ال النفوس‪،‬‬
‫ألن النفوس ال تتفاضل على أساس عددها‪.‬‬
‫وهذه نتيجة مهمة ألجل غاية مهمة نريدها من المعيار‪ ،‬وهي أن يفرغ حجج الجبابرة‬
‫والعنصريين ومجرمي الحرب التي يستندون إليها من أجل تنفيذ أفعالهم وانتهاكاتهم‬
‫معيارا يمكننا من تجاوز المفاضلة على أساس‬ ‫ً‬ ‫بحجة مصلحة أعم‪ .‬كما أننا نحتاج‬
‫معيارا يساوي بين البشر مهما‬
‫ً‬ ‫الكيف بعد أن تجاوزناها على أساس الكم‪ .‬أي نريد‬
‫اختلفت أعراقهم أو عقائدهم أو درجة ذكائهم أو جنسهم وما إلى ذلك‪ .‬المبدأ األساس‬
‫في هذا هو أن النفوس البشرية متساوية في قيمتها‪ .‬نفس العبقري تساوي نفس البليد‪،‬‬
‫ونفس المؤمن تساوي نفس الملحد‪ ،‬ونفس الطفل تساوي نفس الشيخ‪ ،‬وكذلك‬
‫الرجل والمرأة‪ ،‬واألسود واألبيض‪ ...‬إلخ‪ .‬وبهذا فال مفاضلة بين النفوس على أساس‬
‫نفسا أكثر قيمة من نفس أخرى‪ ،‬ال الجنس وال العمر وال العرق‬
‫الكيف‪ ،‬فال ميزة تجعل ً‬
‫وال الدين وال حتى التاريخ الفردي للشخص‪ ،‬وال غيرها‪.‬‬

‫مشكلة العربة والسائق اآللي‬


‫العقل اإللكتروني المبرمج في العربة حين يتخذ قرار االستمرار إلى األمام أو‬
‫مبرمجا مسب ًقا‪ ،‬وليس ً‬
‫قرارا آن ًّيا بالقتل كما هو الحال عندما‬ ‫ً‬ ‫االنحراف‪ ،‬فإنه يكون‬
‫إنسان‪ ،‬وهذا اختالف جوهري‪ .‬حينما يقرر االنسان االنحراف ليقتل‬ ‫ٌ‬ ‫يقود العرب َة‬
‫واحدً ا‪ ،‬يكون قد قرر في لحظة اتخاذ القرار ارتكاب فعل القتل‪ .‬في حين أن العقل‬
‫مبررا لمبرمج اآللة أنه‬
‫معيارا ً‬
‫ً‬ ‫اإللكتروني تكون فيه البرمجة مسب ًقا‪ .‬وقد يبدو هذا‬
‫إذا كانت تلك االل ُة امام اختيار أن تقتل خمسة أشخاص أو أن تقتل واحدً ا‪ ،‬فإن قتل‬
‫الواحد أهون‪ .‬لكن إذا كان اتجاهها حسب هدف مسارها األولي سيؤدي إلى قتل‬
‫خمسة أشخاص نتيجة وجودهم في المكان الخطأ‪ ،‬وأن تغيير مسارها سيؤدي إلى‬
‫قتل شخص واحد لم يكن في المكان الخطأ‪ ،‬فإن البرمجة التي حركت العربة لتفعل‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪42‬‬
‫ذلك إنما وضعت من قبل شخص وما حدث هو ارتكاب جريمة قتل قبل وقوع‬
‫الجريمة‪.‬‬
‫إن الفرق بين سيارة يقودها عقل إلكتروني وسيارة يقودها إنسان يتمثل بنقطة‬
‫مركزية مهمة‪ ،‬وهي أن االحتماالت أمام العقل اإللكتروني تبقى محدودة مهما كان‬
‫ذلك العقل دقي ًقا ومعقدً ا وذلك بحكم الحدود التي ينتهي إليها البرنامج الذي يعمل‬
‫بموجبه‪ .‬أما االنسان فإن إمكانيات االختيار أمامه مفتوحة وال نهائية بحكم انفتاح اللغة‬
‫التي يمتلكها وال نهائيتها‪ .‬هو الفرق نفسه بين لغة الحاسبة ولغة االنسان‪ .‬فلغة الحاسبة‬
‫محدودة بحكم تعلقها بالمدخالت التي توضع في الحاسبة‪ ،‬أما لغة اإلنسان فخاصيتها‬
‫االنفتاح الالنهائي والمقدرة على اإلتيان بالجديد‪ ،‬وهذا الجديد في اللغة معناه أن‬
‫هناك جديدً ا باألفكار ومن ثم باالحتماالت‪ .‬ومن خالل تلك اللغة التي لدى اإلنسان‬
‫يكون التعامل مع الظروف المحيطة وتصنيفها إلى عدد ال متناه من االحتماالت‪ ،‬ومن‬
‫خالل هذه الالنهائية يكون التعامل مع االختيارات والتمييز بينها وإيجاد االختالفات‪.‬‬
‫وفي كل األحوال‪ ،‬يمكننا عزل حالة العقل اإللكتروني االفتراضية‪ ،‬والوصول إلى‬
‫قرار يحسم طبيعة برمجتنا له‪ ،‬فتكون معطيات برمجتنا له عملية الحقة وتحصيل حاصل‬
‫لما نصل إليه من قرار بموجب حسمنا االختيار المستند إلى المنظومة األخالقية التي‬
‫نتبناها‪.‬‬

‫مبدأ التأثير المزدوج ‪The Principle of Double Effect‬‬


‫جسيما‪،‬‬
‫ً‬ ‫ضررا‬
‫ً‬ ‫غال ًبا ما يتم التذرع بمبدأ التأثير المزدوج لشرح جواز فعل ما يسبب‬
‫مثل موت إنسان‪ ،‬كأثر جانبي لتعزيز بعض النوايا الحسنة‪ .‬ووف ًقا لمبدأ التأثير المزدوج‪،‬‬
‫في بعض األحيان يجوز التسبب في ضرر كأثر جانبي (أو «تأثير مزدوج») لتحقيق‬
‫نتيجة جيدة على الرغم من أنه لن يكون من المسموح التسبب في مثل هذا الضرر‬
‫كوسيلة لتحقيق الغاية الجيدة نفسها‪.‬‬
‫مسموحا‬
‫ً‬ ‫ويهدف هذا المبدأ إلى توفير مبادئ توجيهية محددة لتحديد متى يكون‬
‫أخالق ًّيا القيام بعمل ما في السعي لتحقيق غاية جيدة مع العلم التام بأن اإلجراء‬
‫أيضا إلى نتائج سيئة‪ .‬ولهذا المبدأ جذوره التاريخية في تراث القانون الطبيعي‬
‫سيؤدي ً‬
‫‪43‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫في العصور الوسطى‪ ،‬ال سيما في فكر توما األكويني (‪ 1225‬ــ ‪ ،)1274‬وجرت‬
‫تعديالت على صياغته العامة خالل مراجعته من قبل أجيال من الالهوتيين األخالقيين‬
‫الكاثوليك‪ .‬وعلى الرغم من وجود خالف كبير حول الصياغة الدقيقة لهذا المبدأ‪ ،‬إال‬
‫أنه ينص بشكل عام على أنه في الحاالت التي يكون فيها اإلجراء المتوخى له آثار‬
‫جيدة وتأثيرات سيئة‪ُ ،‬يسمح باإلجراء إال إذا لم يكن خطأ في حد ذاته وإذا لم يكن‬
‫يقصد المرء النتيجة الشريرة أو السيئة بصورة مباشرة‪ .‬وتوجد له العديد من التطبيقات‬
‫الواضحة للحاالت المعقدة أخالق ًّيا التي ال يستطيع فيها المرء تحقيق نتيجة جيدة‬
‫مرغوبة من دون إحداث بعض الشر الواضح‪.‬‬
‫وقد احتل مبدأ التأثير المزدوج‪ ،‬الذي كان يقتصر إلى حد كبير على مناقشات علماء‬
‫بارزا في مناقشة كل من النظرية األخالقية‬
‫الالهوت األخالقيين الكاثوليك‪ ،‬مكانًا ً‬
‫واألخالق التطبيقية من قبل مجموعة واسعة من الفالسفة المعاصرين‪.‬‬

‫صياغة المبدأ‪:‬‬
‫نعرض الصياغتين األكثر مقبولية للمبدأ‪:‬‬
‫الصياغة األولى هي التي تقدمها الموسوعة الكاثوليكية الجديدة‪ ،‬وتتضمن أربعة‬
‫شروط لتطبيق مبدأ التأثير المزدوج‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ يجب أن يكون الفعل نفسه حسنًا من الناحية األخالقية‪ ،‬أو على األقل محايدً ا‪.‬‬
‫مثل‪ ،‬كأن يكون‬ ‫فعل عاد ًّيا من أفعال الحياة اليومية ً‬
‫ومعنى الحياد هنا‪ ،‬أن يكون ً‬
‫الشخص ذاه ًبا إلى عمله بسيارته مسر ًعا‪ ،‬وتوقف فجأة بسبب إشارة المرور‪،‬‬
‫فانحرفت السيارة وصدمت سيارة أخرى‪ .‬فاالصطدام فعل سيء ناتج عن فعل‬
‫عادي محايد من الناحية األخالقية‪.‬‬
‫‪ 2‬ــ ال يجوز لفاعل الخير التأثير السيئ ولكن قد يسمح بذلك‪ .‬وإن استطاع الحصول‬
‫على المفعول الحسن دون األثر السيئ فعليه ذلك‪ .‬ويقال أحيانًا إن التأثير السيئ‬
‫يكون تلقائ ًّيا بشكل غير مباشر‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ يجب أن ينتج التأثير الجيد من الفعل بشكل مباشر‪ ،‬بترتيب السببية‪ ،‬حتى لو لم‬
‫يكن بالترتيب الزمني‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬يجب أن ينتج التأثير الجيد مباشرة من خالل‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪44‬‬
‫الفعل‪ ،‬وليس من خالل التأثير السيئ‪ .‬وإال فإن الفاعل سوف يستخدم وسيلة سيئة‬
‫لتحقيق غاية طيبة‪ ،‬وهو أمر غير مسموح به على اإلطالق‪.‬‬
‫كاف للتعويض عن السماح بالتأثير‬ ‫‪ 4‬ــ يجب أن يكون التأثير الجيد مرغوبا بشكل ٍ‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫السيء‪ .5‬أي أن تؤخذ النسبة بين ما هو جيد وما هو سيء بنظر االعتبار‪ ،‬اعتما ًدا‬
‫على حساب العواقب‪.‬‬
‫أما الصياغة الثانية‪ ،‬فتتمثل في الشروط التي قدمها جوزيف مانغان وتركيزه على أن‬
‫التأثير السيئ ليس مقصو ًدا‪:‬‬
‫‪ 1‬ــ يجوز ألي شخص أن يقوم بشكل مشروع بعمل يتوقع أن ينتج عنه تأثير جيد وتأثير‬
‫سيئ بشرط أن يتم التحقق من أربعة شروط في وقت واحد‪:‬‬
‫‪ 2‬ــ أن يكون الفعل في حد ذاته جيدً ا‪ ،‬أو على األقل أن يكون محايدا‪.‬‬
‫‪ 3‬ــ أن المقصود‪ ،‬أو غاية الفعل هي الخير ال الشر‪.‬‬
‫‪ 4‬ــ أن ال ينتج التأثير الجيد عن طريق التأثير الشرير أو السيء‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫أن يكون هناك سبب وجيه نسب ًّيا للسماح بالتأثير الشرير أو السيء‪.‬‬
‫بهذه الشروط يمكن إقصاء كثير من األفعال مما هو أخالقي مهما حاول أصحابها‬
‫تبريرها بالنتائج الحسنة‪ً ،‬‬
‫فمثل الشرط الثالث‪ ،‬في الصياغتين‪ ،‬يمكن بواسطته إقصاء‬
‫أفعال مثل قنبلة هيروشيما‪ ،‬أو إسقاط طائرة بنسلفانيا‪ ،‬بوصفها ً‬
‫أفعال شريرة بحد ذاتها‬
‫مهما ادعى فاعلوها أن الناتج عنها خير‪ .‬لكن مفهوم (السبب الوجيه‪ ،‬أو التناسب في‬
‫أيضا‪ ،‬مفهوم عائم مطاط يمكن‬
‫حساب العواقب) في الشرط الرابع‪ ،‬في الصياغتين ً‬
‫استغالله الرتكاب أفعال مشينة وفظائع‪ ،‬فما من مرتكب ً‬
‫فعل إال لسبب عنده يراه‬
‫وجيها‪ ،‬وحسابات العواقب وتناسبها غير واضحة الحدود وقد ال يمكن أن تكون‬
‫ً‬
‫حاسمة‪.‬‬
‫ضررا يمكن التخلص منها لتجنب التسبب في‬
‫ً‬ ‫أما لو كانت العوامل التي تسبب‬

‫‪5 The New Catholic Encyclopedia, p.1021.‬‬


‫‪6 Mangan, Joseph: An Historical Analysis of the Principle of Double Effect, Theological‬‬
‫‪Studies, 1949, 10: 41–61, https://philpapers.org/rec/MANAHA 2 -.‬‬
‫‪45‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫الضرر أو لتقليل مقدار الضرر الذي تسببه‪ ،‬فيمكن توضيح هذا االفتراض ووضعه‬
‫كشرط إضافي للتسبب في ضرر يسير جانبي غير مقصود مسموح به‪ .‬وهذه اإلضافة‬
‫يجب أن تكون الشرط األول واألهم لدى الحديث عن شروط مبدأ التأثير المزدوج‪.‬‬
‫معيارا‬
‫ً‬ ‫وقد كانت جميع هذه الشروط موضع جدل كبير‪ .‬فالشرط األول يتطلب‬
‫ً‬
‫مستقل عن تقييم النتائج لتحديد الصفة األخالقية لإلجراء المقترح‪ .‬وهذا المطلب‬
‫البد أن يعترض عليه الفالسفة األخالقيون الذين يؤمنون بأن الطابع األخالقي للفعل‬
‫يتم تحديده بشكل شامل من خالل طبيعة عواقبه‪.‬‬
‫أما الشرط الثاني فيقوم على افتراض إمكانية التمييز بشكل حاد بين النية المباشرة‬
‫حتما‬
‫للنتيجة ومجرد توقعها‪ .‬ويرى البعض أنه إذا أدرك الفاعل أن نتيجة معينة ستتبع ً‬
‫من فعل متصور‪ ،‬فعند تنفيذ الفعل يجب أن يكون الفاعل قصد النتيجة‪ .‬ويرى آخرون‪،‬‬
‫بأن المدافعين عن التأثير المزدوج فشلوا في تحديد معيار عملي لتمييز المقصد من‬
‫المتوقع فقط‪ .‬وعادة ما يرد المدافعون عن المبدأ باإلشارة إلى االعتراف الضمني‬
‫باألهمية األخالقية لهذا التمييز في الممارسات األخالقية لألشخاص العاديين‪.‬‬
‫الشرط الثالث‪ ،‬يعتمد على منطق ثنائي القيمة وتحديدً ا (الجبر البولي‬
‫‪ ،7)Boolean algebra‬الذي بناء عليه ال يمكن أن ينتج الخير عن الشر وال العكس‪،‬‬
‫وبالنتيجة؛ «ال ينبغي ألحد أن يفعل الشر ألجل الخير»‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬فالذين يرفضون‬
‫الرأي القائل بأن األفعال يمكن أن يكون لها طابع أخالقي مستقل عن عواقبها‪،‬‬
‫سيجدون أن هذا الشرط غير مقبول‪.‬‬
‫والشرط الرابع‪ ،‬من خالل إدخال مفهوم التناسب‪ ،‬يقوض الحكم المطلق الذي‬
‫يفترضه الشرط األول المتمثل باإلصرار على الجودة أو الحياد األخالقي للفعل‪.‬‬
‫وعلى الرغم من أن الشروط الثالثة األولى لها طابع مضاد للنتائج بشكل قاطع‪ ،‬فقد‬
‫يبدو أن الشرط الرابع يتضمن التفكير العواقبي‪ .‬ويحاول المدافعون عن المبدأ عاد ًة‬
‫استيعاب الطابع العواقبي للشرط الرابع مع ضمان أنه ال يجعل السمات األكثر تعقيدً ا‬

‫ــ ‪7 Weisstein, Eric W.; Boolean Algebra, mathworld.wolfram.com, Retrieved 2020‬‬


‫‪ 09.‬ــ ‪02‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪46‬‬
‫للمبدأ غير ذات صلة‪ .‬وفي الصياغتين كلتيهما‪ ،‬فإن الشرط الرابع‪ ،‬الذي ُيفهم منه شرط‬
‫التناسب‪ ،‬أي أنه يشمل تحديد ما إذا كان حجم الضرر يقابله حجم المنفعة المقترحة‪.‬‬
‫وهنا يبقى مقدار التناسب موضع أخذ ورد من ناحية الكم والكيف وشمول حياة‬
‫االنسان بالحسابات أم أن حياة االنسان يجب أن تبقى فوق غيرها من الحسابات‪.‬‬
‫وهكذا فإن شروط التأثير المزدوج هي موضع خالف غير قابل للحسم بطريقة تهز‬
‫أركانه األساسية‪.‬‬
‫ويجدر إدراك أمر مهم هو أننا نريد أن تكون مواقفنا متعلقة باألحداث الواقعية‬
‫أكثر من تعلقها بافتراضات مثالية أو ميتافيزيقية‪ .‬فمن الناحية الواقعية يصعب تصور‬
‫فعل يؤدي إلى الخير المحض من دون شائبة من آثار جانبية ليست خيرة مهما كان‬
‫الفعل متص ًفا بكونه عاد ًّيا‪ .‬فعلى سبيل المثال؛ إعطاء فقير بعض النقود هو فعل خير‪،‬‬
‫لكن قد تترتب عليه آثار من قبيل تشجيع المتسولين على االتكال واستسهال طلب‬
‫المساعدة مما يؤدي إلى زيادة أعدادهم غير الضرورية‪ ،‬أو أن هذا الفقير قد يستخدم‬
‫المال بصورة شريرة‪ .‬إنقاذ حياة أنسان هو فعل خير بال شك‪ ،‬مع أن هذا االنسان‬
‫قد يرتكب جريمة بعد ذلك‪ .‬وبناء عمارة عالية يتضمن احتمالية سقوط العاملين أو‬
‫الساكنين فيها‪ .‬وتلك نتائج ال يمكن تجنب احتمال وقوعها‪ ،‬تنتج عن أفعال ال يمكن‬
‫تجنب القيام بها‪.‬‬

‫األبعاد السياسية واالجتماعية‬


‫مبدأ التأثير المزدوج هو أحد أهم المبادئ التي يستخدمها السياسي‪ .‬فالحاكم‬
‫(الديمقراطي بشكل خاص) يهتم بسيرورة األوضاع بطريقة ترضي األكثرية على‬
‫حساب األقلية‪ .‬وحتى الحاكم المستبد ال مناص له من إرضاء فئة يستقوي بها على‬
‫من سواها‪ .‬ومن أوليات مهام القائد تكون الموازنة بين مجموعة الشعارات والمبادئ‬
‫أو المثل التي يعمل تحت مظلتها وبين الواقع العملي وأحداثه الجارية‪ ،‬فيكون مضطرا‬
‫في كثير من األحيان‪ ،‬إلى التجاوز على متطلبات المبادئ من أجل متطلبات الواقع‪.‬‬
‫فيحتاج إلى ما يبرر هذا التجاوز‪ .‬والتبرير األقوى الذي يرد هو أن األفعال السيئة التي‬
‫صدرت إنما هي نتائج عرضية لمقاصد وأفعال خيرة‪ .‬ويأتي مبدأ التأثير المزدوج‬
‫‪47‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫ليكون المعيار الذي يبين حدود ومرونة التعامل مع الواقع ومراعاة المبادئ أو القبول‬
‫بالشر المصاحب للخير‪.‬‬
‫نبدأ بالمبدأ المكيافلي الشائع‪ .‬ويشار إليه‪ ،‬في الفكر السياسي واألوساط الثقافية‬
‫والعامة‪ ،‬بعبارة من ثالث كلمات هي «الغاية تبرر الوسيلة»‪ ،‬وهي صيغة مختصرة‬
‫لجملة اآلراء والنصائح التي كتبها نيكوال مكيافلي (‪ 1469‬ــ ‪ )1527‬في كتابه األمير‪،‬‬
‫لبيان الطرق األفضل في كيفية إدارة الحكم وحفاظ الحاكم على موقعه‪ ،8‬قد يكون‬
‫هذا المبدأ هو النقيض األقصى للموقف الكانتي‪ .‬فمؤدى موقف كانت يؤكد وجود‬
‫دائما‪ ،9‬في حين‬
‫اإلرادة الخيرة المبرأة عن المنافع والشوائب وتتجه نحو ما هو خير ً‬
‫أن موقف مكيافلي يتسم بمرونة عالية من ناحية السماح بالشوائب التي يمكن عدها‬
‫شريرة‪ .‬فكانت نصائح مكيافلي عبارة عن وصفة للتحايل وااللتفاف على اإلرادة‬
‫وتجاهل لها من أجل تحقيق المنافع المرجوة والشرط الوحيد هو تغطية‬‫ً‬ ‫الخيرة‪،‬‬
‫عملية االلتفاف هذه بطريقة تقربها بأكبر قدر ممكن من الظهور بمظهر خير متوافق مع‬
‫الخير‪.10‬‬
‫وباالحتكام إلى الضمير‪ 11‬فإنه ال مجال للقبول بالموقف المكيافلي‪ ،‬وال يمكن‬
‫إنزال الموقف الكانتي إلى الواقعية العملية وتخليصه من صوريته المحضة‪ ،‬طالما‬
‫محضا‪.‬‬
‫شرا ً‬ ‫محضا أو ًّ‬
‫خيرا ً‬
‫تأكدنا من كون األفعال في الحياة العملية ال يمكن أن تكون ً‬
‫هكذا نجد أنفسنا أمام مجا َلين حين نواجه ً‬
‫خيارا أخالق ًّيا‪ .‬مجال الضمير الذي ال يسمح‬
‫وال يسوغ أي شر تحت أية ذريعة وأي ظرف‪ ،‬ومجال الواقع العملي الذي يراعي البقاء‬
‫والمصالح‪ .‬وليس من حل وسط بين هذين المجالين سوى القبول بشروط للتقليل من‬

‫جدير بالذكر أن عبارة «الغاية تربر الوسيلة» هبذه الصياغة‪ ،‬مل ترد يف كتاب األمري وال غريه من مؤلفات‬ ‫‪8‬‬
‫نيكوال مكيافيل‪ ،‬لكن تم فهم النصائح الواردة يف الكتاب عىل هذا النحو بشكل واسع‪ .‬انظر‪:‬‬
‫نيكولو مكيافييل؛ كتاب األمري‪ ،‬ت‪ :‬أكرم مؤمن‪ ،‬مكتبة ابن سينا‪ ،‬القاهرة‪.2008 ،‬‬
‫كانت‪ ،‬امانويل؛ تأسيس ميتافيزيقا األخالق‪ ،‬ت‪ :‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬منشورات اجلمل‪ ،‬ط‪،1‬‬ ‫‪9‬‬
‫كولونيا‪ ،‬أملانيا‪ ،2002 ،‬ص‪.40‬‬
‫نيكولو مكيافييل؛ كتاب األمري‪ ،‬ت‪ :‬أكرم مؤمن‪ ،‬مكتبة ابن سينا‪ ،‬القاهرة‪.2008 ،‬‬ ‫‪10‬‬
‫الضمري هو الذي يشري إىل احلقيقة املطلقة يف جانب الوجود ويف جانب األخالق‪ ،‬فنحن مجيعا تشري‬ ‫‪11‬‬
‫ضامئرنا إىل احلقائق ذاهتا مهام اختلفت أمزجتنا وبيئتنا وثقافتنا ومصاحلنا‪ ،‬لكن تلك املصالح وخوفنا‬
‫عىل بقائنا هو ما يؤثر عىل وضوح الضمري ويتدخل يف قرارنا واختيارنا‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪48‬‬
‫الشر المترتب على اختيار الفعل الخير‪ .‬هذه الشروط يجب أن تقترب بالفعل إلى الخير‬
‫وتنزيهه عن المترتبات السيئة إلى أقصى حد مع اإلبقاء على اإلمكانية الواقعية والعملية‬
‫للفعل‪ .‬وهنا يأتي مجال للقبول بمبدأ التأثير المزدوج من أجل تحقيق أعلى قدر ممكن‬
‫من التوازن بين ما يشير إليه الضمير وبين متطلبات الواقع العملي المتمثلة بحفظ البقاء‬
‫وحفظ المصالح‪.‬‬
‫إن أساس المعضالت األخالقية الناتجة عن التأثير المزدوج لألفعال (معضلة‬
‫نموذجا) ينشأ إذا تعاملنا مع اآلخرين على أساس عددهم أو على أساس تقييمنا‬
‫ً‬ ‫العربة‬
‫أفكارا‪...‬إلخ‪.‬‬
‫ً‬ ‫جنسا أو ثقافة أو عر ًقا أو‬
‫ألفضلية بعضهم على بعض عد ًدا أو ً‬
‫ندرك الموت على أنه نهاية حتمية لكل إنسان‪ ،‬وهو على الرغم من أهميته الكبرى‬
‫بل وكونه الحدث األكبر‪ ،‬إال أنه يبقى حد ًثا يوم ًّيا ألفته البشرية منذ أمد سابق على‬
‫ذاكرتها‪ ،‬ومن ذلك اكتسب القبول به واإلذعان له طالما تعذر تجنبه‪ .‬لكن تدخل‬
‫اإلنسان في إحداثه أو التسبب فيه يزيل ذلك القبول واإلذعان ويعيد للموت هوله‬
‫ُ‬
‫الفعل األشنع الذي يمكن أن يصدر عن إنسان‬ ‫الكارثي‪ .‬فيكون التسبب بالموت هو‬
‫أو يتعرض له إنسان‪ .‬سيكون لمعضلة العربة فهم آخر وشعور مختلف لو أن سؤالها‬
‫الذي يطرح عليك يتضمن افتراض كونك في موضع الضحية‪ ،‬سواء أكنت أنت من‬
‫شخصا آخر هو من يختار‪ ،‬أو أن يكون أحد ذويك من‬
‫ً‬ ‫يختار ارتكاب فعل القتل أو أن‬
‫بين الضحايا المحتملين‪.‬‬

‫إحداث الضرر كوسيلة‬


‫يقدم جوزيف مانغان ‪ Joseph Mangan‬لبحثه المهم (تحليل تاريخي لمبدأ التأثير‬
‫المزدوج) ً‬
‫قائل‪« :‬يعد مبدأ التأثير المزدوج أحد أكثر المبادئ العملية في دراسة علم‬
‫مهما في األمور النظرية البحتة بقدر ما‬
‫الالهوت األخالقي‪ .‬وهو‪ ،‬أي المبدأ‪ ،‬ليس ً‬
‫هو مهم في تطبيق النظرية على الحاالت العملية‪ .‬إنه ضروري بشكل خاص في‬
‫موضوعات الفضائح بأنواعها والتعاون المادي والمتعة غير المشروعة واإلضرار‬
‫بالنفس أو باآلخرين‪ .‬وعلى الرغم من أنه مبدأ أساسي‪ ،‬إال أنه بعيد عن كونه مبدأ‬
‫بسي ًطا‪ ،‬وعلماء األخالق يعترفون بتعقيده‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فهو ليس قاعدة غير مرنة‬
‫‪49‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫أو معادلة رياضية‪ ،‬بل دليل فعال للحكم األخالقي الحكيم في حل القضايا األكثر‬
‫صعوبة»‪.12‬‬
‫ويعود الفضل إلى توما األكويني في إدخال مبدأ التأثير المزدوج في مناقشته لجواز الدفاع‬
‫عن النفس ووضع الشروط التي يجب توفرها من أجل مشروعية األثر السيء المصاحب‬
‫أو الناجم عن فعل ما‪ .‬وفي حالة القتل دفا ًعا عن النفس‪ ،‬يرى أن قتل الشخص المعتدي‬
‫له ما يبرره بشرط أال يقصد المعتدى عليه فعل القتل‪ .13‬وفي المقابل‪ ،‬أكد أوغسطين قبله‬
‫أن القتل دفا ًعا عن النفس غير مسموح به‪ ،‬بحجة أن «الدفاع الذاتي عن النفس ال يمكن‬
‫أن ينطلق إال من درجة معينة من حب الذات المفرط‪ 14».‬ويالحظ األكويني أنه ال شيء‬
‫يمنع ً‬
‫فعل واحدً ا من أن يكون له تأثيران‪ ،‬أحدهما فقط مقصود‪ ،‬واآلخر بجانب النية‪ .‬وبنا ًء‬
‫على ذلك‪ ،‬قد يكون لفعل الدفاع عن النفس أثران‪ :‬األول‪ ،‬إنقاذ حياة المرء‪ ،‬واآلخر قتل‬
‫المعتدي‪ .‬وهنا يتم تقديم تبرير يقوم على توصيف الفعل الدفاعي كوسيلة لهدف مبرر‪:‬‬
‫من الطبيعي لكل إنسان الحفاظ على وجوده إلى أقصى حد ممكن‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يالحظ‬
‫األكويني‪ ،‬أن جواز الدفاع عن النفس ليس غير مشروط‪ :‬ومع ذلك‪ ،‬على الرغم من أنه‬
‫ينطلق من نية حسنة‪ ،‬يمكن جعل الفعل غير قانوني إذا كان غير متناسب مع الغاية‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫إذا استخدم الرجل في الدفاع عن النفس أكثر من العنف الضروري‪ ،‬فسيكون ذلك غير‬
‫قانوني‪ ،‬بينما إذا صد القوة باعتدال‪ ،‬فسيكون دفاعه قانون ًّيا‪.15‬‬
‫ويمكن تفسير هذا المقطع على أنه يحظر تقسيم جهود المرء إلى القتل باعتباره‬
‫الهدف الذي يوجه أفعال الفرد‪ ،‬مما قد يؤدي إلى التصرف بشراسة أكبر مما يتطلبه‬
‫السعي وراء هدف الدفاع عن النفس‪.‬‬
‫وتؤكد الصياغات المختلفة لمبدأ التأثير المزدوج على التمييز بين التسبب في‬

‫‪12 Mangan, Joseph: An Historical Analysis of the Principle of Double‬‬


‫‪Effect, Theological Studies, 1949, 10: 41–61, https://philpapers.org/rec/MANAHA‬‬
‫‪.‬ــ ‪2‬‬
‫‪ IIae Q. 64, art. 7.‬ــ ‪13 Thomas Aquinas: Summa Theologiae, IIa‬‬
‫‪ Effect Reasoning: Doing Good and Avoiding Evil, p.36,‬ــ ‪14 T. A. Cavanaugh: Double‬‬
‫‪Oxford: Clarendon Press.‬‬
‫‪15 Stanford Encyclopedia of Philosophy; Doctrine of Double Effect.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪50‬‬
‫ضرر جسيم من الناحية األخالقية (كأثر جانبي) للسعي إلى غاية جيدة والتسبب في‬
‫ضرر جسيم من الناحية األخالقية (كوسيلة) لتحقيق غاية جيدة‪ .‬ويمكن تلخيص‬
‫ذلك من خالل مالحظة أنه بالنسبة لبعض الفئات من األفعال الجسيمة أخالق ًّيا‪ ،‬على‬
‫سبيل المثال‪ ،‬التسبب في موت إنسان‪ ،‬فإن مبدأ التأثير المزدوج يجمع بين إذن خاص‬
‫للتسبب في الوفاة عرض ًّيا من أجل حسن الخاتمة (عند حدوثه) كأثر جانبي لسعي‬
‫المرء إلى تحقيق هذه الغاية مع حظر عام على التسبب في الموت بشكل فعال من أجل‬
‫غاية طيبة (عندما يحدث كجزء من وسائل المرء لتحقيق هذه الغاية)‪.‬‬

‫نماذج من التطبيقات الواقعية لمبدأ التأثير المزدوج‬


‫كان لمبدأ التأثير المزدوج دور مهم في مناقشة العديد من األسئلة المعيارية الصعبة‪.‬‬
‫وأبرز تطبيقاته في أخالقيات مهنة الطب‪ ،‬حيث يحتل مكانة بارزة في محاولة للتمييز‬
‫بين اإلجراءات المسموح بها والمحظورة في مجموعة من حاالت الوالدة‪ .‬فقد رأت‬
‫السلطة التعليمية الكاثوليكية أن المبدأ يسمح للمرء بالتمييز أخالق ًّيا بين الحاالت التي‬
‫قد يلزم فيها إنهاء الحمل من أجل الحفاظ على حياة األم‪ .‬و ُيزعم أن هذا المبدأ يسمح‬
‫باستئصال الرحم السرطاني الذي يهدد الحياة‪ ،‬على الرغم من أن هذا اإلجراء سيؤدي إلى‬
‫وفاة الجنين‪ ،‬على أساس أن موت الجنين في هذه الحالة ليس مقصو ًدا «بشكل مباشر»‪.‬‬
‫غير أن المبدأ ال يسمح بالحاالت التي يكون فيها شق القحف ‪( craniotomy‬تحطيم‬
‫جمجمة الجنين) مطلو ًبا للحفاظ على حياة المرأة الحامل‪ ،‬على أساس أن الشر الحقيقي‬
‫هنا‪ ،‬وهو موت الجنين‪ ،‬مقصود «بشكل مباشر»‪ .‬وهناك خالف كبير‪ ،‬حتى بين هؤالء‬
‫الفالسفة الذين يقبلون المبدأ‪ ،‬حول قوة هذا التطبيق‪ .‬بعض الفالسفة والالهوتيين‪ ،‬من‬
‫خالل التأكيد على الشرط الرابع‪« ،‬التناسب»‪ ،‬يجادلون بأن القيمة األكبر المرتبطة بحياة‬
‫ً‬
‫مقبول أخالق ًّيا‪ .‬في حين لم يتمكن البعض اآلخر‬ ‫المرأة الحامل تجعل حتى شق القحف‬
‫من رؤية فرق مهم من الناحية األخالقية بين مجرد وفاة «متوقعة» للجنين في حالة الرحم‬
‫‪16‬‬
‫السرطاني والموت المقصود «المباشر» في حالة شق القحف‪.‬‬

‫‪16 Solomon, David; Double Effect, The Encyclopedia of Ethics, Lawrence C. Becker,‬‬
‫‪editor.‬‬
‫‪51‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫وفي أحداث الطائرات المختطفة ‪ 11‬سبتمبر سنة ‪ 2001‬في الواليات المتحدة‪،‬‬


‫قامت ثالث طائرات باالصطدام ببنايات وخلفت آالف الضحايا‪ ،‬وكانت الطائرة‬
‫المختطفة الرابعة ال تزال في السماء في بنسلفانيا‪ ،‬وقد تم إسقاطها عنوة‪ .‬قيل أن ركابها‬
‫هم من قاموا بإسقاطها تضحي ًة منهم بأنفسهم من أجل تجنيب الضحايا على األرض‬
‫مصيرا بات محتو ًما‪ .‬وهذا السيناريو الدراماتيكي يصعب تصديقه‪ ،‬فمن الصعب أن‬
‫ً‬
‫يتفق هذا العدد من الركاب على هذه التضحية الجماعية ويتخذون القرار والتنفيذ في‬
‫شخصا على األرض اتخذ القرار وأصدر أمره بالتنفيذ‬
‫ً‬ ‫ذلك الوقت القصير‪ .‬األولى أن‬
‫أيضا من روايات‬
‫فانطلق صاروخ فجر الطائرة مع ركابها في الجو‪ .‬وهذا ما تسرب ً‬
‫حول سقوط هذه الطائرة مع تبرير يستخدم مبدأ التأثير المزدوج‪ :‬ركاب الطائرة ميتون‬
‫ال محالة بعد وقت قصير وسيموت معهم آخرون غيرهم‪ .‬إسقاط الطائرة بمن فيها اآلن‬
‫سيجنب غيرهم خطر الموت‪ .‬الشك أنه قرار صعب وقد يبدو له ما يبرره في عيون‬
‫الفاعل وفي عيون جمهور من الناس‪ .‬لو أنك كنت من بين ركاب تلك الطائرة فما هو‬
‫رأيك؟ هل توافق عليه حتى لو كنت متأكدً ا أنك ستموت بعد عشر دقائق؟ هل توافق‬
‫على تعجيل موتك لتموت اآلن؟ لو كان ابنك أحد ركاب تلك الطائرة فمن األرجح‬
‫أنك ستتردد في اتخاذ قرار إطالق الصاروخ عليها إن كان لك الخيار‪ .‬ثم ماذا تتوقع‬
‫أن يكون موقفك لو كان ابنك الثاني في المبنى الذي ستستهدفه الطائرة؟ هل تطلق‬
‫كثيرا من الناس‬
‫الصاروخ فيموت ولدك األول مع الركاب وينجو الثاني؟ األرجح أن ً‬
‫سيتردد في اتخاذ القرار ويبقى ينتظر حدوث شيء يستجد حتى آخر لحظة‪ ،‬ينتظر‬
‫مخرجا من هذه المأساة الوشيكة أو ينتظر معجزة‪ .‬كلنا ميتون ال محالة‪ ،‬وال أحد منا‬
‫ً‬
‫يعلم إن كان موتنا سيحدث بعد دقيقة أو بعد عقود من الزمن‪ .‬لذلك فإن تعجيل موتنا‬
‫أيضا استخدام القنابل النووية من أجل‬
‫ولو لثانية واحدة هو جريمة‪ .‬وقس على ذلك ً‬
‫وضع نهاية للحرب بين أمريكا واليابان‪.‬‬
‫ربما يجادل الشخص الذي أطلق الصاروخ فأسقط طائرة بنسلفانيا بأنه لم يستهدف‬
‫مدمرا‬
‫ً‬ ‫قتل ركابها وإنما استهدف الطائرة فقط بصفتها الجديدة وهو كونها مقذو ًفا‬
‫ناتجا عرض ًّيا غير مقصود‪ .‬وبهذه الطريقة‬
‫سيصيب أبرياء فيقتلهم‪ .‬وأن قتل الركاب كان ً‬
‫قد يحاول اإلفالت من متطلبات شروط مبدأ التأثير المزدوج حسب الصياغة األولى‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪52‬‬
‫لهذا المبدأ‪ .‬لكن يصعب عليه أن يمر من أمام عقبة الشرط الثالث حسب صياغة مانغان‬
‫للمبدأ‪ .‬أما ضرب اليابان باألسلحة النووية فال يمكن أن يمر من أمام أكثر المبادئ‬
‫ً‬
‫تساهل‪.‬‬
‫لو كان سائق سيارة‪ ،‬في مجتمع تحكمه األعراف القبلية أمام اختيار دهس خمسة‬
‫أشخاص أو شخص واحد سيكون من بين العوامل المرجحة لقراره هو مبالغ الدية أو‬
‫الدية بالعرف العشائري التي سيدفعها عن شخص واحد أو عن خمسة أشخاص‪ .‬في‬
‫شخصا واحدا‪ .‬فمن‬
‫ً‬ ‫المقابل ننظر في مبلغ الدية الذي يدفعه مجموعة أشخاص قتلوا‬
‫المتعارف عليه أنه لو اشترك عشرة أشخاص بقتل شخص واحد فإن ً‬
‫كل من العشرة‬
‫يدفع دية قتل كاملة‪ ،‬وأن ذوي القتيل سيتلقون دية كاملة لقتيل من كل واحد من العشرة‪،‬‬
‫أو أن كال من العشرة ستطاله عقوبة قتل كاملة كما لو أنه ارتكب الجريمة وحده‪ ،‬وليس‬
‫جز ًءا أو نسبة منها لوجود شركاء معه‪ ،‬فاألمر هنا مختلف كل ًّيا عن الطريقة التي يتعامل‬
‫بها الشركاء عند احتراق بضاعتهم مثال‪.‬‬
‫وهناك موقف ديني مؤداه أنه لو تآمر كل أهل األرض واجتمعوا وقتلوا شخصا‬
‫ظلما فإنهم جميعهم يستحقون العقوبة‪ .17‬كما أن قتل شخص واحد هو‬
‫واحدً ا عمدً ا ً‬
‫بمثابة قتل جميع الناس‪ ،‬وهو موقف يكاد أن يكون مشتركًا بين الديانات السماوية‪.18‬‬
‫وهذا معناه أن حساب النفوس ال يتم بعملية حسابية بسيطة‪ .‬فالواحد ال يساوي واحدً ا‬
‫وإنما يساوي الجميع‪.‬‬

‫األرض اشرتكوا يف د ٍم ألك َّبهم اهللُ يف الن َِّار»‪ .‬املصدر‪:‬‬


‫ِ‬ ‫امء َ‬‫أهل الس ِ‬
‫وأهل‬ ‫أن َ َّ‬‫‪ 17‬جاء يف احلديث النبوي‪« :‬لو َّ‬
‫الرتغيب والرتهيب للمنذري‪ ،‬الراوي أبو سعيد وأبو هريرة‪ ،‬الصفحة أو الرقم‪ 276/3 :‬إسناده‬
‫صحيح أو حسن أو ما قارهبام‪.‬‬
‫نفسا إلنسان‪ ،‬يعتربه الكتاب أنه كأنام يدمر العامل‬ ‫‪« 18‬لذلك خلق اإلنسان منفر ًدا‪ ،‬ليعلم أن من هيلك ً‬
‫كله»‪ .‬كتاب (املشنة) من الرتاث املقدس للديانة اليهودية‪.‬‬
‫‪Jewish Virtual Library, MISHNA III. https://www.jewishvirtuallibrary.org/tractate‬‬
‫‪ chapter 4 -‬ــ ‪ sanhedrin‬ــ‬
‫س ِائ َيل َأ َّن ُه َمن َقت ََل َن ْف ًسا بِ َغ ْ ِي‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ويف القران الكريم‪ ،‬سورة املائدة‪[ :32 ،‬م ْن َأ ْج ِل َذل َك َك َت ْبنَا َع َل َبني إ ْ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫س َأو َفس ٍ‬
‫اد ِف ْالَ ْر ِ‬
‫َّاس َجي ًعا]‪ .‬وهذا النص‬ ‫اها َفك ََأن ََّم َأ ْح َيا الن َ‬ ‫ض َفك ََأن ََّم َقت ََل الن َ‬
‫َّاس َجي ًعا َو َم ْن َأ ْح َي َ‬ ‫َن ْف ٍ ْ َ‬
‫القرآين يؤصل‪ ،‬يف الوقت نفسه‪ ،‬هذا املوقف بإرجاعه إىل تعاليم إهلية عىل بني إرسائيل‪.‬‬
‫‪53‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫الحق في القتل‬
‫مما ال شك فيه أن الحق في القتل من أهم وأخطر الموضوعات التي يمكن أن‬
‫تواجه المشرع وواضع الدستور‪ .‬وحتى القتل دفا ًعا عن النفس ليس ح ًّقا بحد ذاته وإنما‬
‫عرضا ومن دون قصد عن محاولة‬
‫يمكن التساهل بعض الشيء في التعامل معه إذا نتج ً‬
‫إنقاذ الذات‪.‬‬
‫ثم يأتي مفهو ُم القصاص بوصفه عقوبة الموت التي توقع بمن ارتكب ً‬
‫قتل‪ .‬من‬
‫الذي يحق له التشريع للقتل ومن الذي يحق له التنفيذ؟ في هذه الحالة يحصر الحق في‬
‫مدعما بقوة‪ ،‬وال يمكن بناؤه إال‬
‫ً‬ ‫تشريع القتل بيد الدولة ويجب أن يكون هذا التشريع‬
‫من قبل سلطة تشريعية على أعلى مستوى وعلى يد مشرعين متخصصين يستندون إلى‬
‫استفتاء واسع‪ ،‬ويزداد قوة لو استند إلى تشريع ديني يحظى بمقبولية واسعة‪.‬‬
‫ومع ذلك يبقى سؤال مهم‪ :‬هل يؤدي تشريع القتل إلى تعايش أفضل؟ وهذا ما‬
‫نسميه بنقيضة القتل؛ وهو القتل من أجل التعايش والحياة‪.19‬‬
‫وتعبيرا عن لسان‬
‫ً‬ ‫وتكون عبارة «القتل من أجل الحياة» هي الصياغة األكثر صراح ًة‬
‫حال من يسوغ للقبول والعمل بموجب مقتضيات الواقع الذي يفرض أن جميع األفعال‬
‫هي خليط من الخير والشر بنسب متفاوتة‪.‬‬
‫فالدولة تحتكر ضمن سلطاتها الحق في القتل‪ ،‬لذلك تحتاج‪ ،‬من أجل إضفاء‬
‫نص ديني أو عقد اجتماعي شديد الضبط‪.‬‬
‫المشروعية على هذا الحق واالحتكار‪ ،‬إلى ّ‬
‫استنا ًدا إلى القانون الطبيعي‪ ،‬يؤكد غراهام ماكلير ‪ Graham J. McAleer‬أن السلطة‬
‫العامة فقط هي التي لها الحق في القتل العمد‪ .‬وهو يعتمد على أعمال توما األكويني‬
‫وفرانشيسكو دي فيتوريا‪ ،‬داف ًعا عن االدعاء بأن منظري القانون الطبيعي هؤالء قد‬
‫طوروا أفضل نظرية متاحة عن القتل‪ .‬ويصر أنه من أجل تحقيق سيادة القانون يجب أن‬
‫تكون هناك حماية للمذنب وحظر قتل األبرياء‪.‬‬

‫ول َْال ْل َب ِ‬
‫اب َل َع َّلك ُْم َت َّت ُق َ‬
‫ون] القران الكريم‪،‬‬ ‫[و َلك ُْم ِف ا ْل ِق َص ِ‬
‫اص َح َيا ٌة َيا ُأ ِ‬ ‫‪ 19‬جاء يف النص املقدس َ‬
‫البقرة‪ .179 ،‬وغال ًبا يفرس مفهوم القصاص يف هذا النص أنه عقوبة املوت‪ .‬وهنا يأيت أن موت شخص‬
‫تكون فيه حياة آلخرين‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪54‬‬
‫وينظر الكثيرون اآلن إلى أعمال القتل العلنية مثل عقوبة اإلعدام على أنها وحشية‪،‬‬
‫بينما ينظر الكثيرون إلى أنواع أخرى من القتل مثل تجويع مرضى الغيبوبة على أنه بادرة‬
‫رعاية لكل من المريض واألسرة‪.‬‬
‫اعتبارا ال مفر‬
‫ً‬ ‫ويؤكد ماكلير أن مشكالت من هذا النوع تجعل الالهوت السياسي‬
‫‪20‬‬
‫منه للقانون‪.‬‬

‫الفقه ومبدأ التأثير المزدوج‬


‫لم نجد موق ًفا في الفقه اإلسالمي تجاه معضلة العربة‪ ،‬لكن هناك مواقف تجاه‬
‫حاالت مناظرة مرتبطة بمبدأ التأثير المزدوج من دون اإلشارة إليه بشكل صريح‪.21‬‬
‫أساسا‪.‬‬
‫والموقف اإلسالمي يعبر عن تشدد بالمقارنة مع الموقف الكاثوليكي المتشدد ً‬
‫وهذه نماذج لمواقف فقهية تجاه مشكالت مناظرة؛‬
‫ففي سؤال موجه إلى المرجع السيستاني في الجانب الشيعي‪« :‬جنين مصاب‬
‫فيفضل األط ّباء أن يسقطوه‪ ،‬ألنّه لو ولد فسوف يكون مصا ًبا بعاهة خلق ّية‬
‫بمرض خطير ّ‬
‫يحق للطبيب إسقاطه؟ وإذا أسقط فمن‬
‫مشو ًها أو يموت بعد الوالدة‪ ،‬فهل ّ‬
‫فيعيش ّ‬
‫يتحمل الدية؟‬
‫ّ‬

‫‪20 Graham J. McAleer; To Kill Another: Homicide and Natural Law, Published‬‬
‫‪October 15, 2012 by Routledge, ISBN 9781412849609, p25.‬‬
‫مثل‪ :‬قاعدة تَقديم‬ ‫‪ 21‬هناك مواقف إسالمية تدخل يف سياق مبدأ التأثري املزدوج تستحق البحث منها ً‬
‫ألشدِّ مها‪ .‬وقد يدخل ضمن‬ ‫َأقوى ا َملص َلحتني عند تَعارضهام‪ ،‬وارتِكاب َأدنَى ا َملفسدَ تني و َأخ ّفهام ت ِ‬
‫َفاد ًيا َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫تروسا أي درو ًعا برشية‬
‫ذلك ما يعرف بالترتس‪ ،‬وهو أن يتخذ األعداء ممن بني يدهيم من املسلمني ً‬
‫لصدِّ هجامت املسلمني‪ ،‬وهل جيوز للمسلمني قتل املسلمني الذين اختذ منهم األعداء درو ًعا‪ ،‬وقد أجاز‬
‫بعض الفقهاء ذلك (عند الرضورة)‪ ،‬أما إذا اختذ األعداء من نسائهم وأطفاهلم هم درو ًعا ليحتموا هبم‬
‫من هجامت املسلمني‪ ،‬فقد أجاز بعض الفقهاء قتل الدروع متخذين من أخبار إحدى الوقائع التي‬
‫نموذجا يستندون إليه يف فتاوى اإلباحة‪ .‬ومهام يكون التقييم هلذه الفتاوى‪ ،‬فإهنا تشري إىل‬ ‫ً‬ ‫قادها النبي‬
‫البت فيه للقائد امليداين‪ ،‬وإنام هناك مرجعيات ومواقف مدروسة‬ ‫أن املوضوع مل يكن ارجتال ًّيا ومل يرتك ُّ‬
‫مسب ًقا‪ ،‬عىل الرغم مما يبدو من قسوة فيها‪ ،‬إال أهنا تضع يف اعتباراهتا اجلوانب األديلوجية التي تقيض‬
‫بتهميش العواطف واملصالح الفردية وحتى اجلوانب اإلنسانية يف مقابل مصلحة املجموعة وغاياهتا‬
‫النهائية‪ ،‬وتلك من مميزات األديلوجيا بصفة عامة ويمثل الدين أقىص أنواع األديلوجيا تشد ًدا‪ .‬انظر‪:‬‬
‫صفة الترتس ورشوط العمل بأحكامه‪ ،‬بقلم أبو بصري الطرطويس‪ .‬نسخة حمفوظة ‪ 18‬يوليو ‪ 2014‬عىل‬
‫موقع واي باك مشني‪.‬‬
‫‪55‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫مشو ًها أو أنّه لن يبقى ح ًّيا بعد والدته ّإل لفترة قصيرة‬
‫مجرد كون الجنين ّ‬
‫الجواب‪ّ :‬‬
‫سوغ إجهاضه‪ ،‬فال يجوز لألم أن تسمح للطبيب بإسقاطه كما ال يجوز ذلك للطبيب‬
‫ال ُي ّ‬
‫فيتحمل الدية والكفارة‪ .‬نعم‪ ،‬إذا خافت األم الضرر على‬ ‫ّ‬ ‫المباشر لإلسقاط‪ ،‬وإن فعل‬
‫تحمل عاد ًة ــ وإن‬ ‫ٍ‬
‫نفسها من استمرار وجوده أو كان موج ًبا لوقوعها في حرج شديد ال ُي ّ‬
‫ٍ‬
‫عندئذ‬ ‫كان ذلك لما تعانيه بعد الوالدة في سبيل رعايته والحفاظ عليه ــ فإنّه يجوز لها‬
‫الروح‪ ،‬وأ ّما بعد ولوج الروح فيه فال يجوز اإلسقاط مطل ًقا حتّى‬
‫ُ‬ ‫إسقاطه ما لم ت َِل ْج ُه‬
‫في مورد الضرر والحرج على األحوط وجو ًبا»‪ ،22‬وفترة ولوج الروح في الجنين تكون‬
‫أربعة اشهر من عمره أو دون ذلك‪.‬‬
‫الروح في‬
‫ُ‬ ‫كما اتفق جمهور فقهاء السنة على تحريم اإلجهاض بعد «أن تدخل‬
‫الجنين» ويحدث ذلك في غضون فترة قدرها أربعون يو ًما عند بعضهم‪ ،‬ومئة وعشرون‬
‫يؤصلون مواقفهم بِما ورد عن الرسول «ص»‬ ‫‪23‬‬
‫يو ًما عند آخرين أو بينهما ؛ وهم بذلك ِّ‬
‫ذلك َع َل َق ًة ِم ْث َل‬
‫كون في َ‬‫(إن َأ َحدَ ك ُْم ُي ْج َم ُع َخ ْل ُق ُه في َب ْط ِن ُأ ِّم ِه َأ ْر َب ِعي َن َي ْو ًما‪ُ ،‬ث َّم َي ُ‬
‫أنّه قال‪َّ :‬‬
‫وح)‪.24‬‬ ‫الم َل ُك َف َينْ ُف ُخ فيه ُّ‬
‫الر َ‬ ‫ذلك‪ُ ،‬ث َّم ُي ْر َس ُل َ‬ ‫ذلك ُم ْض َغ ًة ِم ْث َل َ‬ ‫كون في َ‬ ‫ذلك‪ُ ،‬ث َّم َي ُ‬
‫َ‬
‫ومن غير الواضح ما هو المقصود بمفهوم الروح في هذا السياق عند عموم فقهاء‬
‫المسلمين ومفسريهم‪ ،‬التي تدخل في الجنين بعد فترة مختلف عليها‪ .‬ويكاد يخلص‬
‫فقهاء الجانبين إلى حظر إسقاط الجنين حتى وإن كان في استمرار الحمل خطر شديد‬
‫على حياة األم أو تشويه في خلق الجنين‪ ،‬وتسويغ ذلك أمران‪ :‬األول عدم جواز‬
‫ً‬
‫محتمل وغير‬ ‫التضحية بحياة من أجل إنقاذ حياة أخرى‪ ،‬والثاني أن موت األم يبقى‬
‫أكيد في حين أن اإلجهاض سيحتم موت الجنين‪ .‬وعند تطبيق هذا األمر على معضلة‬
‫وأيضا‬
‫العربة‪ ،‬فإن تساوي قيمة النفس وعدم جواز التضحية بواحد ألجل آخر يمنعها‪ً .‬‬
‫يمنع استبدال واحد بمجموعة طالما أن قتل واحد على يد مجموعة يوجب عقاب‬

‫‪ 22‬موقع مكتب سامحة املرجع الديني األعىل السيد عيل احلسيني السيستاين‪ ،‬االستفتاءات‪ ،‬إسقاط‬
‫اجلنني‪.‬‬
‫‪https://www.sistani.org‬‬
‫‪ 23‬املوسوعة الفقهية الكويتية‪ ،‬وزارة األوقاف والشئون اإلسالمية‪ ،‬الكويت‪ ،‬ط‪ ،2‬دارالسالسل‪1427 ،‬‬
‫هـ‪ ،‬ص ‪ 56‬ــ ‪.59‬‬
‫‪ 24‬رواه مسلم‪ ،‬يف صحيح مسلم‪ ،‬عن عبداهلل بن مسعود‪ ،‬الصفحة أو الرقم‪ ،2643 :‬حديث صحيح‪.‬‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪56‬‬
‫المجموعة كلها من دون تجزئة مما يعني أن المجموعة ال تفضل الواحد من ناحية‬
‫قيمة الحياة‪.‬‬

‫الخاتمة‪ :‬إجابة السؤال‬


‫إن مهمة الدماغ مهمة منطقية وعملية تستخدم العلوم والتجارب وكل معطيات‬
‫الظروف المحيطة من أجل الهدف األهم للجسد وهو المحافظة على بقائه ومصالحه‪،‬‬
‫ألن الدماغ هو جزء من الجسد بكل بساطة‪ .‬وهكذا فان غاية جميع العلوم هي تلك‬
‫الغاية نفسها‪ .‬في حين أن الضمير يستخدم الجسد ك ّله بما فيه من دماغ وما يصل إليه من‬
‫علوم من أجل الوصول إلى الحقيقة وإظهارها‪ ،‬ومن أجل الجمال في الوجود‪ .‬لذلك‬
‫كانت الفنون في أسمى تجلياتها وفي صدق تعبيرها عن الجمال أقرب للحقيقة وقليلة‬
‫االكتراث بالمنطق وبالعلم إال بقدر كونه وسيلة تخدم غاية الضمير‪.‬‬
‫اختيارا أخالق ًّيا نكون بين عاملين يؤثران في‬
‫ً‬ ‫وقدمنا أنه؛ في أي موقف يحتم علينا‬
‫قرارنا‪ ،‬هما الضمير من جهة‪ ،‬ومن الجهة األخرى الحفاظ على البقاء أو المصلحة‪.‬‬
‫دائما بصرف النظر عن جميع المتغيرات‪ ،‬في حين أن‬
‫يشير الضمير إلى الحق المطلق ً‬
‫الحفاظ على البقاء أو مراعاة المصلحة يؤدي إلى استخدام كل ما هو متاح من إمكانيات‬
‫ومن قوى عقلية وجسدية وتنظيرات من أجل تحقيق المكاسب وتقليل الخسائر‪.‬‬
‫اآلن؛ لو كانت بيدك عتلة تغيير مسار القاطرة التي إما أن تستمر في اتجاهها األول‬
‫وتقتل خمسة أشخاص‪ ،‬أو أنك تحرك العتلة فتغير المسار فتأتي القاطرة لتقتلك أنت‬
‫ً‬
‫بدل عن الخمسة الذين ستكون أنت ً‬
‫منقذا لهم‪ .‬عندها سيعد الكثيرون عملك بطول ًّيا‪،‬‬
‫مع أن عدد الذين سيختارون هذا االختيار سيقل بشكل كبير‪ .‬ويزداد هذا العدد لو كان‬
‫من بين األشخاص الذين ستنقذهم ولدك أنت‪ .‬وقد يقل عدد الذين يلومونك لو أنك‬
‫بتغيير المسار أنقذت نفسك أو ابنك وتسببت بمقتل آخرين‪.‬‬
‫عندما تضحي بحياتك من أجل إنقاذ االخرين فإنك سوف تبتعد بقدر كبير عن‬
‫دافع المصلحة الخاصة بك‪ ،‬على الرغم من أن هذا الدافع له من المراوغة واالنزالق‬
‫بقدر يمكنه من التسرب عبر أصغر المسامات‪ .‬فقد تكون باح ًثا عن مجد وإعالء يحيط‬
‫اسمك أو مكافأة تصيب ورثتك أو ما شابه ذلك‪ .‬ومع ذلك فإن هذا الفعل هو األهون‬
‫‪57‬‬ ‫الخألا لعفلا تاضقانتو ضحملا ريخلا‬

‫ألنك تكون أقرب إلى مطلب الضمير الذي ال يهتم بدافع البقاء والمصلحة‪ ،‬وال تنصب‬
‫حكما يقرر المفاضلة بين أرواح اآلخرين‪.‬‬
‫ً‬ ‫نفسك‬
‫وعلى فرض عدم وجود أية متغيرات عاطفية كوجود عالقة أو معرفة بأحد شخوص‬
‫الضحايا‪ :‬حين تكون أنت قائد العربة أو أنك أنت الشخص الذي يقف بجانب السكة‬
‫وبيده عتلة قادرة على تغيير مسار العربة‪ ،‬ولديك بعض الوقت للتفكير واتخاذ القرار‬
‫بتغيير المسار لقتل شخص واحد أو ترك القاطرة على مسارها األول لتقتل خمسة‪ .‬هذا‬
‫الوقت قد يكون دقائق أو ثواني‪ .‬في هذه اللحظات هناك افتراض ال يمكن أن يكون‬
‫يقين ًّيا بأن الحادثة واقعة ال محالة وأن الخيارين ال ثالث لهما‪ .‬هذا اليقين المطلق ال‬
‫وجود له‪ .‬أن يقرر شخص أنه امتلك هذا اليقين هو أمر متعسف ألن يقينًا كهذا يقع فوق‬
‫حدود إمكانيات المعرفة‪ ،‬وهو بالتأكيد فوق إمكانيات أي عقل إلكتروني موجود أو‬
‫ممكن أن يوجد ألن المعطيات ال نهائية وليس من الممكن استيعاب ما ال نهاية له‪ .‬فهذا‬
‫افتراض غير واقعي‪ ،‬على الرغم من أن الكثير من الناس قد يظنونه واقع ًّيا ويتعاملون‬
‫معه على هذا األساس‪ .‬لذلك فالفعل األخالقي األفضل في مثل هذه الحالة أن يترك‬
‫(خياري القتل) بح ًثا عن خيار ثالث‪ ،‬أو ترك االختيار كل ًّيا (مع‬
‫َ‬ ‫الشخص الخيارين م ًعا‬
‫أيضا‪ ،‬لكن الفرق هو أنك بتحريك‬
‫اختيارا ً‬
‫ً‬ ‫أن ترك االختيار في هذه الحالة قد يمكن عده‬
‫ساهمت بقتل شخص‪ ،‬في حين أنك بعدم تحريكها امتنعت عن إنقاذ خمسة‪.‬‬
‫َ‬ ‫العتلة‬
‫وثمة فرق بين المساهمة بالقتل وبين االمتناع عن اإلنقاذ)‪ ،‬ترك الخيارين في انتظار‬
‫خيار ثالث قد يطرأ في المشهد أو في الذهن أو بح ًثا عنه‪( .‬القدر) في حالة اتجاه العربة‬
‫األساس له أثر أكبر‪ ،‬أي أن وجود الضحايا في المكان الخطأ هو العامل األهم‪ .‬وهنا‬
‫في هذه الصياغة للمعضلة (أنت السائق) هي الصياغة التي إن حسمت بهذا الشكل‪،‬‬
‫أي باالمتناع عن تغيير المسار‪ ،‬نكون قد حسمنا جميع الصياغات األخرى للمفارقة‪،‬‬
‫أي في جميع األحوال إذا أنت غيرت مسار العربة تكون قد قررت القتل ونفذت قرارك‪.‬‬
‫أما إن لم تغير المسار‪ ،‬فأنت لست القاتل‪ ،‬مع أنه تبقى لك عالقة بما حدث وهو أنك‬
‫قادرا على اإلنقاذ لكن لم تفعل‪.‬‬
‫كنت ً‬
‫أما في فرض انعدام إمكانية االمتناع عن االختيار‪ ،‬أي أن تكون في موقف؛ إما‬
‫أن تقتل واحدً ا أو أن تقتل خمسة‪ ،‬ففي هذا الحال يمكن تبرير قتل الواحد ً‬
‫بدل من‬
‫بولج رذنم ‪.‬د‬ ‫‪58‬‬
‫خمسة‪ ،‬ليس على أساس أن خمسة نفوس أكثر قيمة من نفس واحدة‪ ،‬وإنما على أساس‬
‫الحسابات األخرى من قبيل عدد العوائل التي ستحزن وعدد األطفال الذين سيعانون‬
‫اليتم وعلى أساس أن خسارة «جسد» واحد أهون من خسارة خمسة أجساد‪.‬‬
‫فالمعيار يبقى عينه‪ ،‬حياة خمسة أشخاص ليست أثمن من حياة شخص واحد‪.‬‬
‫هكذا بموجب مقتضيات الضمير فإن التدخل وارتكاب القتل لشخص بغية إنقاذ‬
‫آخر هو عمل غير مبرر أخالق ًّيا وهو جريمة‪ .‬وإن ارتكابه ستكون دوافعه هي نواتج‬
‫لمتطلبات واقع معين من قبيل عاطفة تجاه بعض األشخاص دون غيرهم أو نتيجة‬
‫منافع أو أيدلوجيا تغمض عن الحق وتهتم بالتحزبات‪ ،‬في مقابل التوجه المستند إلى‬
‫الضمير الذي هو الحق الوحيد المطلق‪.‬‬
‫دراسات‬

‫أفول الثيوديسيا‬

‫فهم مشكلة الشر في سياق إسالمي‬


‫تيموثي جون وينتر‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫مفهوم الخالص القرآني‬


‫َت َبن َّْت التقاليدُ الكالمي ُة‪ ،‬واألخالقي ُة‪ ،‬والعرفاني ُة في اإلسالم مجموع ًة واسع ًة من‬
‫المقاربات وهي تُعالج مشكل َة الشر‪ ،‬إال أنها تشترك جمي ًعا في عودة جذورها إلى‬
‫وتكرارا‪ .‬تج ّلى‬
‫ً‬ ‫مرارا‬
‫النص الذي يأتي على حقيقة المعاناة اإلنسانية ً‬ ‫القرآن؛ ذلك ّ‬
‫وغل في عقائده وأعرافه الفاسدة‪ ،‬والتي‬ ‫النص القرآني في مجتمع أظهره على أنه م ِ‬
‫ُ‬ ‫ُّ‬ ‫ُّ‬
‫ِ‬
‫مادي ُم ْمع ٍن في القسوة‪ ،‬فكانت‬ ‫َض َّل فيها بصورة ال ُي ْر َثى لها‪ ،‬كما عاش في محيط‬
‫ّ‬
‫وسائل الراحة اإلنسانية غاية في الضآلة والبدائية‪ .‬ذاق البعض من أجل اإليمان‬ ‫ُ‬
‫بهذا النص األَ َم َّر ْين‪ ،‬فتعرضوا الضطهاد َم َّضاء على أيدي الوثن ِّيين من أهل الطبقة‬

‫تس َّمى بعد إسالمه باسم‪ :‬عبد احلكيم‬


‫‪ 1‬تيموثي جون وينرت ‪ Timothy John Winter‬أكاديمي غريب‪َ ،‬‬
‫مراد‪ ،‬وختصص يف الالهوت‪ ،‬والفلسفة اإلسالمية‪ ،‬والعالقات املسيحية اإلسالمية‪ ،‬وقام برتمجة‬
‫نصوص إسالمية إىل اإلنجليزية؛ كرتمجته بعض ما كتب الغزايل‪ ،‬وابن حجر العسقالين‪ ،‬والبيهقي‪،‬‬
‫والبوصريي‪ .‬وهو اآلن مؤسس وعميد كلية كامربيدج اإلسالمية ‪،Cambridge Muslim College‬‬
‫ومدير الدراسات الدينية والالهوتية يف كلية ولفسون ‪ ،Wolfson College‬وحمارض يف كريس‬
‫الشيخ زايد للدراسات اإلسالمية يف كلية الالهوت ‪ ،Faculty of Divinity‬بجامعة كامربيدج‬
‫‪ .University of Cambridge‬من أهم أعامله‪« :‬أصول اإلرهاب االنتحاري ‪The Origins of‬‬
‫‪ ،»Suicidal Terrorism‬و«فهم املذاهب األربعة‪ :‬حقائق حول االجتهاد والتقليد ‪Understanding‬‬
‫‪ ،»the Four Madhhabs: Facts About Ijtihad and Taqlid‬و«البيت ا ُمل َسافِر‪ :‬مقاالت حول‬
‫اإلسالم يف أوروبا ‪ ،»Travelling Home: Essays on Islam in Europe‬و«فهم اإلسالم واملسلمني‬
‫‪ »Understanding Islam and the Muslims‬باالشرتاك مع جون أي‪ .‬ويليامز ‪،John A. Williams‬‬
‫وغري ذلك‪ .‬ترمجة‪ :‬عبد العاطي طلبة‪.‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪60‬‬
‫تكرست فيها‬
‫ْ‬ ‫مفردات اللغة القرآنية التي‬
‫ُ‬ ‫األرستقراطية في مكة؛ وهو ما تضمنتْه‬
‫ٍ‬
‫معان من الحزن‪ ،‬والشقاوة‪ ،‬واأللم‪ ،‬والظلم؛ ما َأ َّدى بدوره إلى أن تأخذ الحيا ُة‬
‫شكل ال ُي ْحت ََمل‪ ،‬وبالتالي‪ ...‬والدة دين جديد وانطالقه؛ دين يسعى في‬ ‫ً‬ ‫العربي ُة‬
‫آن َما ُه َو ِش َفا ٌء‬
‫الشفاء والرحمة‪« :‬و ُنن َِّز ُل ِمن ا ْل ُقر ِ‬
‫َ ْ‬ ‫َ‬ ‫ب ِّ‬ ‫او ًل َج ْل َ‬ ‫تحدِّ ي معاناة العرب ُم َح ِ‬
‫َو َر ْح َم ٌة لِ ْل ُم ْؤ ِمنِي َن َو َل َي ِزيدُ ال َّظالِ ِمي َن إِ َّل َخ َس ًارا» (اإلسراء‪.)82 :‬‬
‫َ‬
‫أفعال‬ ‫من أهم العوامل التي تساعد على فه ِم الطريقة التي ُيعالِج بها الدي ُن الجديدُ‬
‫الحل الذي يطرحه اإلسالم وراء خلق اإلنسان في َك َبد‪،2‬‬ ‫الله في العالم‪ ،‬وعلى فهم ِّ‬
‫نبي اإلسالم في ِص َغ ِره‬ ‫األول‪ .‬نشأ ُّ‬
‫ؤس ُسه َّ‬‫مر بها ُم ِّ‬
‫الخاصة التي ّ‬
‫ّ‬ ‫الوقوف عند التجربة‬ ‫ُ‬
‫يتيما‪ ،‬وقاسى حيا ًة من شظف العيش‪ ،‬بل ورأى أبناءه وبناته السبع َة يموتون واحدً ا‬ ‫ً‬
‫المجتمعي‪ ،‬كما قاسى‬ ‫مرات عديدة صنو ًفا من النبذ‬ ‫ٍ‬ ‫تلو اآلخر إال فاطمة‪ ،‬وعانى‬
‫ّ‬
‫زوجه عائشة‪َ «« :‬ما َر َأ ْي ُت َ‬
‫‌الو َج َع َع َلى‬ ‫الضيم على يدي ذوي ُقرباه‪ ...‬تقول ُ‬ ‫أنوا ًعا من ّ‬
‫ِ ‪3‬‬ ‫َأ َح ٍد َأ َشدَّ ِمنْ ُه َع َلى رس ِ‬
‫رت في وقت الحق عقيد ٌة تقول بأنه على األنبياء‬ ‫ول ال َّله» ‪ّ .‬‬
‫تطو ْ‬ ‫َ ُ‬
‫تحمل الشدائد الجسدية والصدمات النفسية كجزء من التضحية التي يقدمونها من‬
‫ُّ‬
‫المرض كإبراهيم‪ ،4‬أو‬
‫ُ‬ ‫أجل إبالغ الكلمة اإللهية‪ :‬قد ُي ْذبحون كيحيى‪ ،‬أو يصيبهم‬
‫ٍ‬
‫الس ّم كمحمد‪ .‬وبالتالي‪ ،‬على‬ ‫ُي ْف َج ُعون بوفاة عزيز في قسوة كيعقوب ‪ ،‬أو ينالهم ُّ‬
‫‪5‬‬

‫حيواتهم إذن أن ُت َط َّوق بعوائق‪ ،‬وخسارات شخصية على ٍ‬


‫نحو الفت‪ ،‬وبصورة ُيعت َقد‬
‫َخ ُّلل الرقة‬
‫الصنف من البشر؛ بسبب ت َ‬
‫معها أنه من الصعوبة بمكان أن يتحملها هذا ِّ‬
‫قلو َبهم‪.‬‬
‫دائما‪ .‬واآلن كيف نأتي‬ ‫َ‬
‫السياق الذي َيظهر فيه األنبيا ُء ً‬ ‫اإلنساني‬
‫ُّ‬ ‫البؤس‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫ُ‬
‫القرآن عد ًدا من المقاربات؛ يقوم فيها‬ ‫مستقيما؟ يطرح‬
‫ً‬ ‫تفسيرا‬
‫ً‬ ‫على تفسيره‬
‫دائري لفعل الله‬
‫ّ‬ ‫النص القرآني ــ على تقديم سرد‬
‫الخالصي ــ كما جاء به ُّ‬
‫ُّ‬ ‫التاريخ‬

‫ان ِف َك َب ٍد» (البلد‪.)4 :‬‬ ‫نس َ‬ ‫ال َ‬‫« َل َقدْ َخ َل ْقنَا ْ ِ‬ ‫‪2‬‬
‫رواه الرتمذي (‪.)2397‬‬ ‫‪3‬‬
‫« َوإِ َذا َم ِر ْض ُت َف ُه َو َي ْش ِفني» (الشعراء‪.)80 :‬‬
‫ِ‬ ‫‪4‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫اه ْم ِع َشا ًء َي ْبك َ‬
‫ْب‬ ‫ف عنْدَ َمتَاعنَا َف َأ َك َل ُه ِّ‬
‫الذئ ُ‬ ‫ُون‪َ ،‬قا ُلوا َيا َأ َبانَا إِنَّا َذ َه ْبنَا ن َْستَبِ ُق َوت ََر ْكنَا ُي ُ‬
‫وس َ‬ ‫«و َجا ُءوا َأ َب ُ‬ ‫َ‬ ‫‪5‬‬
‫ني» (يوسف‪ 16 :‬ــ ‪.)17‬‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ق‬ ‫ِ‬
‫اد‬ ‫ص‬ ‫َّا‬ ‫ن‬ ‫ُ‬
‫ك‬ ‫و‬‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫َا‬ ‫ن‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ن‬‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫م‬ ‫ؤ‬ ‫ِ‬
‫َو َ َ ُ ْ‬
‫م‬ ‫ب‬ ‫ْت‬‫ن‬‫أ‬‫َ‬ ‫ا‬ ‫م‬
‫َ‬ ‫َ ْ‬
‫‪61‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫اج ُهون بالعصيان‪ .‬وما يلبث‬‫اإلصالحي الحادث بفعل األنبياء والصالحين الذين ُي َو َ‬‫ّ‬
‫األمر إال أن ت َْرتَدَّ البشري ُة مرة ثانية إلى انغماسها في العمل اإلجرامي؛ ما يؤ ِّدي إلى‬
‫يتضمن‬
‫ّ‬ ‫الكلي الذي ُي َت َغ َّل ُ‬
‫ب عليه ُم َجدَّ ًدا بحركة إصالح نبو ّية أخرى‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫نوع من الشقاء‬
‫التسويغي على وجه العموم فكر َة رسوخ الطبيعة‬ ‫ّ‬ ‫الدوري والعمل‬ ‫ّ‬ ‫تعا ُقب البؤس‬
‫الفاضلة لألشياء‪ ،‬والتي تنزع نهاية األمر إلى تقديم نوع من العطاء‪ ،‬ف ُيح ِّقق موسى‬
‫وإبراهيم على النمرود‪ ،8‬ويأتي‬
‫ُ‬ ‫ويوسف على إخوته‪،7‬‬
‫ُ‬ ‫أخيرا على فرعون‪،6‬‬
‫نصره ً‬
‫َ‬
‫المقدَّ سة‪ ،‬ف َيذهب ما به من مرض‪،‬‬ ‫ْ‬
‫اغتسل في هذه العين ُ‬ ‫أيوب أن‬
‫َ‬ ‫اإللهي‬
‫ُّ‬ ‫األمر‬
‫ُ‬
‫مفتاحا رمز ًّيا لهذه‬
‫ً‬ ‫ّرحالي لدى العرب‬
‫ُّ‬ ‫الطابع الت‬
‫ُ‬ ‫و َي َهب له أه َله مرة أخرى‪ .9‬يطرح‬
‫وأيوب من خالل َع ْي ٍن ُم ْع ِجزة تنبع في‬
‫َ‬ ‫وهاجر‪،‬‬
‫َ‬ ‫مريم‪،‬‬
‫الخالص َ‬
‫ُ‬ ‫األحداث‪ ،‬إذ يأتي‬
‫وج َلد‪ .‬ولطالما كان الما ُء من أكثر الرموز‬‫َح َّلوا به من صبر َ‬
‫صحراء؛ مثوب ًة على ما ت َ‬
‫ُ‬
‫العيش في الصحراء‬ ‫والمدَ د الر ّباني‪ ،‬كما يتل ّبس‬
‫التقليدية الشائعة للرحمة اإللهية َ‬
‫َ‬ ‫بالج َلد‬ ‫ٍ‬
‫أفضل االستجابات حكم ًة تجاه‬ ‫بحالة من عدم االستقرار؛ ما يجعل التح ِّل َي َ‬
‫صنوف الشقاء‪ ...‬وال يمكن لهذا الجلد أن يكون ذا بال ح ًّقا ّإل من خالل مصاحبته‬
‫خالص يبدو بطبيعته ُم ْع ِج ًزا‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫االستمرار؛ ً‬
‫أمل في‬
‫جراء ارتكاب الذنوب‪ ،‬كما يأتي وعيدُ ه‬
‫غال ًبا ما ُيعلن القرآن حضور المعاناة ّ‬
‫في صورة إهالكه ُق َر ًى عن بكرة أبيها؛ بفعل زلزال‪ ،‬أو طوفان‪ ،‬أو ريح عاصف؛‬

‫اض ْب َل ُ ْم َط ِري ًقا ِف ا ْل َب ْح ِر َي َب ًسا َل َت ُ‬ ‫س بِ ِعب ِ‬


‫َاف َد َركًا َو َل َت َْشى‪،‬‬ ‫ادي َف ْ ِ‬ ‫وسى َأ ْن َأ ْ ِ َ‬ ‫«و َل َقدْ َأ ْو َح ْينَا إِ َل ُم َ‬ ‫َ‬ ‫‪6‬‬
‫َف َأ ْت َب َع ُه ْم فِ ْر َع ْو ُن بِ ُجنُوده َف َغش َي ُه ْم م َن ا ْل َي ِّم َما َغش َي ُه ْم‪َ ،‬و َأ َض َّل ف ْر َع ْو ُن َق ْو َم ُه َو َما َهدَ ى» (طه‪ 77 :‬ــ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .)79‬راجع اآليات‪ 9( :‬ــ ‪ )79‬من نفس السورة‪.‬‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫َ‬
‫ني‪َ ،‬و َرف َع أ َب َو ْيه َع َل‬ ‫َ‬
‫ص إن َشا َء اللَُّ آمن َ‬ ‫ْ‬ ‫ف َآ َوى إ َل ْيذه َأ َب َو ْيه َو َق َال ا ْدخلوا م ْ َ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫وس َ‬ ‫« َف َل َّم َد َخ ُلوا َع َل ُي ُ‬ ‫‪7‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اي م ْن َق ْب ُل َقدْ َج َع َل َها َر ِّب َح ًّقا َو َقدْ َأ ْح َس َن‬ ‫ش َو َخ ُّروا َل ُه ُس َّجدً ا َو َق َال َيا َأ َبت َه َذا ت َْأ ِو ُيل ُر ْؤ َي َ‬ ‫ا ْل َع ْر ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ي إ ْخ َوت إ َّن َر ِّب‬ ‫ان َب ْيني َو َب ْ َ‬ ‫الس ْج ِن َو َجا َء بِك ُْم م َن ا ْل َبدْ و م ْن َب ْعد َأ ْن ن ََز َغ َّ‬
‫الش ْي َط ُ‬ ‫ِب إِ ْذ َأ ْخ َر َجني م َن ِّ‬
‫يف َلِا ي َشاء إِ َّنه هو ا ْلع ِليم ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫يم» (يوسف‪ 99 :‬ــ ‪ .)100‬راجع اآليات (‪ 67‬ــ ‪ )100‬من نفس‬ ‫الك ُ‬ ‫َلط ٌ َ ُ ُ ُ َ َ ُ َ‬
‫السورة‪.‬‬
‫يم‪َ ،‬و َأ َرا ُدوا‬ ‫ُون بردا وس َلما َع َل إِبر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫اه‬
‫َْ َ‬ ‫َْ ً َ َ ً‬ ‫ك‬ ‫َار‬
‫َ ُ‬ ‫ن‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫َا‬ ‫ن‬ ‫ل‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫‪،‬‬ ‫ني‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫اع‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫ُم‬
‫ْ‬ ‫ت‬‫ْ‬ ‫ن‬ ‫ك‬ ‫ُ‬ ‫ن‬ ‫ْ‬ ‫إ‬ ‫ُم‬
‫ك‬
‫َ ْ‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ل‬ ‫آ‬ ‫وا‬ ‫« َقا ُلوا َ ِّ ُ َ ُ ُ‬
‫ْص‬ ‫ن‬‫ا‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫و‬ ‫ُ‬
‫ق‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫‪8‬‬
‫َاه ُم ْالَ ْخ َ ِ‬ ‫ِ‬
‫سي َن» (األنبياء‪ 68 :‬ــ ‪.)70‬‬ ‫بِه َك ْيدً ا َف َج َع ْلن ُ‬
‫اب‪ْ ،‬ارك ُْض بِ ِر ْج ِل َك َه َذا ُم ْغت ََس ٌل‬ ‫ب َو َع َذ ٍ‬ ‫ان بِن ُْص ٍ‬ ‫الش ْي َط ُ‬ ‫وب إِ ْذ نَا َدى َر َّب ُه َأ ِّن َم َّسنِ َي َّ‬ ‫«وا ْذك ُْر َع ْبدَ نَا َأ ُّي َ‬
‫َ‬ ‫‪9‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب‪َ ،‬و ُخ ْذ بِ َيد َك ض ْغثاً‬ ‫ول ْالَ ْل َب ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ح ًة منَّا َوذك َْرى لُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اب‪َ ،‬و َو َه ْبنَا ل ُه أ ْهل ُه َومثل ُه ْم َم َع ُه ْم َر ْ َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫ش ٌ‬ ‫َبار ٌد َو َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب» (ص‪ 41 :‬ــ ‪.)44‬‬ ‫اض ْب بِه َو َل َ ْتن َْث إِنَّا َو َجدْ نَا ُه َصابِ ًرا ن ْع َم ا ْل َع ْبدُ إِ َّن ُه َأ َّو ٌ‬ ‫َف ْ ِ‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪62‬‬
‫نوحا‪ ،‬وموسى‪،‬‬
‫وذلك لجحود أقوامها بالله‪ .‬كان هذا مصير هؤالء الذين عاندوا ً‬
‫النص‬ ‫ولو ًطا‪ ،‬وغيرهم ممن اعتدنا ورود حكاياتهم ً‬
‫مرارا في سياقات تحذيرية داخل ّ‬
‫المقدس‪ 10.‬ولهذا التفسير صداه في التأريخ والوعظ اإلسالمي الالحق‪ ،‬إذ غال ًبا ما‬
‫كان ُينظر إلى الكوارث الطبيعية الحاصلة عقا ًبا للبشرية على ُعت ُِّوها وعنادها‪ ،‬على‬
‫الخراب الذي‬
‫ُ‬ ‫أنها آيات تنبيهية ظاهرة ل ُط ُرق الله في العقاب‪ .‬وبهذا المعنى‪ُ ،‬ف ِه َم‬
‫أن مجيئه كان لمجرد الفتور الديني لدى المسلمين‪،11‬‬ ‫ُ‬
‫المغول والصليبيون؛ ّ‬ ‫أوقعه‬
‫إلهي محدَّ د بسبب الذنوب‪.12‬‬ ‫كما كانت ُت ْف َهم ُ‬
‫بعض األوبئة على أنَّها انتقام ّ‬
‫المستح َّقة إذن؟ في الحقيقة‪ ...‬ألن هذا النوع من‬
‫ماذا عن معاناة األبرياء غير ُ‬
‫النص المقدس‪ .‬ال تجد ُّ‬
‫كل‬ ‫رئيسا في ّ‬
‫المعاناة يتأصل مجتمع ًّيا‪ ،‬فإنه ُيشكِّل موضو ًعا ً‬
‫أجرا مكاف ًئا لها كما يعلن القرآن بوضوح‪ ،‬وكذلك لن ينتهي‬
‫فضيلة تسلك في العالم ً‬
‫كل نضال في غموض‪ ،‬لكن في صورة تسويغية ظاهرة‪ُ .‬أ ْح ِرق شهدا ُء المسيحية في‬ ‫ُّ‬

‫‪ 10‬انظر‪ :‬ديفيد مارشال ‪ David Marshall‬يف كتابه‪« :‬اهلل‪ ،‬وحممد‪ ،‬وغري املؤمنني‪ :‬دراسة قرآنية ‪God,‬‬
‫‪Muhammad and the Unbelievers: A Qur’ānic Study (Richmond: Curzon, 1999)»،‬‬
‫وتوماس ميشيل ‪ Thomas Michel‬يف‪« :‬العدل اإلهلي يف عالقته بالكوارث الطبيعية ‪God’s Justice‬‬
‫‪ ،»in Relation to Natural Disasters‬ضمن الكتاب الذي حرره إبراهيم حممد أبو ربيع ‪Ibrahim‬‬
‫‪ M. Abu Rabi‬بعنوان‪« :‬حول الثيوديسيا والعدل يف الفكر اإلسالمي ‪In Theodicy and‬رصاعملا‬
‫‪ ،)Justice in Modern Islamic Thought» (Farnham: Ashgate, 2010‬ص ‪ 219‬ــ ‪.220 ،226‬‬
‫‪ 11‬انظر كتاب عالء الدين عطاء ملك اجلويني ‪ Malik Juvaini‬ــ ‪ Din Ata‬ــ ‪ ad‬ــ ‪« :Ala‬تاريخ‬
‫جهانكشاي (تاريخ فاتح العامل) ‪ Conqueror‬ــ ‪ ،»The History of the World‬ترمجه إىل اإلنجليزية‪:‬‬
‫جون بويل ‪ ،)Manchester: Manchester University Press, 1958( John Boyle‬ج‪ ،1‬ص ‪ 16‬ــ ‪.19‬‬
‫أيضا كتاب كارول هيلينرباند ‪« :Carole Hillenbrand‬احلروب الصليبية من وجهة نظر‬ ‫وانظر ً‬
‫إسالمية»‪ ،)Edinburgh: Edinburgh University Press, 1999( ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ 12‬انظر كتاب جستني كاي‪ .‬سترينز ‪« :Justin K. Stearns‬أفكار ُم ْر َِتلة‪ :‬العدوى يف فكر ما قبل احلداثة‬
‫اإلسالمي واملسيحي ‪Infectious Ideas: Contagion in Premodern Islamic and Christian‬‬
‫‪Thought in the Western Mediterranean» (Baltimore, MD: Johns Hopkins University‬‬
‫‪ ،)Press, 2011‬ص ‪ 198‬ــ ‪ .199‬بدا هذا النوع من الوعظ األخالقي أقل شيو ًعا مما كان عليه األمر‬
‫يف عصور العامل املسيحي الوسطى؛ بفضل تأثري جالينوس؛ يتضح ذلك من التسامح واالندماج‬
‫االجتامعي النسبي مع املصابني باجلذام يف بالد املسلمني؛ انظر‪ :‬مايكل دابليو‪ .Michael W .‬وانظر‬
‫كذلك ترمجة دولز ‪ Dols‬اإلنجليزية لكتاب عيل بن رضوان‪« :‬دفع مضار األبدان بأرض مرص‬
‫‪Berkeley: University of California Press,( ،»On the Prevention of Bodily Ills in Egypt‬‬
‫‪ ،)1984‬ص ‪ 23‬ــ ‪.24‬‬
‫‪63‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫يهودي! ت َِر ُد هذه القصة‬


‫ّ‬ ‫نجران‪ ،‬و ُع ِّذبوا في أخاديد تضطرم ً‬
‫نارا تحت يدي طاغية‬
‫في ثنايا النص القرآني ترتدي ُح َّلة من ال َف َجع؛ غير راغبة في الخروج عنها بخالصة‬
‫جوف جهنم‬
‫َ‬ ‫إيجابية‪ ،‬هذا إن صرفنا النظر عن تو ّعده الظالمين فيها بعذاب الحريق‬
‫ٍ‬
‫عقابية َو َج َب ْت مقاساتها بعد الموت‪ 13.‬في مثل هذه الحاالت‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫وتجربة‬ ‫حتمي‪،‬‬ ‫كمصير‬
‫ّ‬
‫أي نوع من‬‫العدل في هذا العالم‪ ،‬لكن في نهاية المطاف‪ ،‬كما ال يظهر فيها ُّ‬‫ُ‬ ‫ال يتحقق‬
‫َح ُّقق الخطة اإللهية وسريانها في العالم‪.‬‬
‫الغوث أو الجزاء الحادث قبل يوم القيامة وت َ‬
‫تبدو سردية القرآن لقصة مريم العذراء واحد ًة من الخيوط التي يمكن تتبعها لفهم‬
‫اعتبارا إذا‬
‫ً‬ ‫المنظور القرآني الذي يعالج به المسألة‪ ،‬إذ تعد القصة إحدى نماذجه‬
‫كل ذنب‪ .‬اشتدّ ت على مريم آالم المخاض‬ ‫األمر بمعاناة إنسان بريء من ّ‬
‫ُ‬ ‫ما تعلق‬
‫وهي تلد المسيح؛ ما جعلها تصرخ بكلمات انتحارية موغلة‪َ « :‬يا َل ْيتَنِي ِم ُّت َق ْب َل َه َذا‬
‫َو ُكن ُْت ن َْس ًيا َمن ِْس ًّيا» (مريم‪ .)23 :‬وبعد أن وضعت وليدها بالصحراء في نظير بريء‬
‫كل البراءة من الخطيئة؛ تعود بطفلها لمجابهة حكم اإلعدام والعار المحتمل في‬
‫ٍ‬
‫بمعجزة مفاجئة‪ ،‬إذ‬ ‫الجارف‬
‫ُ‬ ‫والنفسي‬
‫ُّ‬ ‫الجسدي‬
‫ُّ‬ ‫أورشليم‪ .‬على ك ٍُّل‪ ،‬ينتهي ُ‬
‫بؤسها‬
‫يتكلم الطفل في المهد بين ذراعيها مداف ًعا عنها‪ ،‬ومعلنًا عن براءتها؛ ما وضع َك َت َب َة‬
‫وشرحه الموجز لطبيعته‬ ‫ِ‬ ‫الناموس‪ ،‬والفريس ِّيين في حالة من الذهول حيال إعالنِه هذا‪،‬‬
‫َاب َو َج َع َلنِي نَبِ ًّيا‪َ ،‬و َج َع َلنِي ُم َب َاركًا َأ ْي َن َما‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫المسيحية‪ ،‬إذ « َق َال إِنِّي َع ْبدُ ال َّله َآتَان َي ا ْلكت َ‬
‫َاة َما ُد ْم ُت َح ًّيا‪َ ،‬و َب ًّرا بِ َوالِدَ تِي َو َل ْم َي ْج َع ْلنِي َج َّب ًارا َش ِق ًّيا»‬
‫الزك ِ‬
‫الص َل ِة َو َّ‬ ‫ِ‬
‫ُكن ُْت َ‪‎‬و َأ ْو َصاني بِ َّ‬
‫(مريم‪ 30 :‬ــ ‪ .)32‬على القارئ إذن الخروج من هذا بنتيجة تقول إن خضوع مريم‬
‫للبشارة‪ ،‬وتص ُّبرها بالله في ُل َّج ِة المحنة األليمة‪ ،‬كان سب ًبا بوجه ما في مثوبتها بعط ّية‬
‫وخلوصا مما سبق‪َ :‬م َّهدَ ت فكر ُة المعاناة على‬
‫ً‬ ‫المسيح‪ ،‬وتح ّققها بالبشارة اإللهية‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫االستعاري في الشعر الديني لدى اإلسالم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫أنها «آال ُم وضع» لحضورها بالمجال‬

‫ون بِا ُْل ْؤ ِمنِ َني‬‫ود‪ ،‬إِ ْذ ُه ْم َع َل ْي َها ُق ُعو ٌد‪َ ،‬و ُه ْم َع َل َما َي ْف َع ُل َ‬ ‫ات ا ْلو ُق ِ‬
‫َ‬
‫ود‪ ،‬الن َِّار َذ ِ‬ ‫‪ُ « 13‬قتِ َل َأصحاب ُْال ْخدُ ِ‬
‫ْ َ ُ‬
‫ض َواللَُّ‬ ‫ات َو ْالَ ْر ِ‬ ‫يد‪ ،‬ا َّل ِذي َله م ْل ُك السمو ِ‬ ‫ال ِم ِ‬ ‫ْ‬ ‫يز‬‫ِ‬ ‫ز‬‫ِ‬ ‫ع‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫لل‬
‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ِ‬ ‫ب‬ ‫ُوا‬ ‫ن‬ ‫ُشهود‪ ،‬وما َن َقموا ِمنْهم إِ َّل َأ ْن ي ْؤ ِ‬
‫م‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ْ‬ ‫ُ ٌ َ َ ُ‬
‫اب‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ع‬‫َ‬ ‫م‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫َّم‬ ‫ن‬ ‫ه‬ ‫ج‬ ‫اب‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ع‬
‫َ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫َ‬
‫ف‬ ‫وا‬‫ب‬ ‫ُو‬
‫ت‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫ُ‬
‫ث‬ ‫ني وا ُْل ْؤ ِمن ِ‬
‫َات‬ ‫َ‬ ‫َع َل ك ُِّل َش ٍء َش ِهيدٌ ‪ ،‬إِ َّن ا َّل ِذين َف َتنُوا ا ُْل ْؤ ِمنِ‬
‫ُ‬ ‫ُ َ َ َ َ ُْ‬ ‫ُ ْ‬ ‫َّ ْ َ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫ال ِر ِيق» (الربوج ‪ 4‬ــ ‪.)10‬‬ ‫َْ‬
‫‪ 14‬انظر ترمجة «فيه ما فيه ‪ »Discourses of Rūmī‬اإلنجليزية جلالل الدين الرومي‪ ،‬ترمجه‪Arthur :‬‬
‫‪ John Arberry‬آرثر جون آربري (‪ ،)London: John Murray, 1961‬ص ‪.33‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪64‬‬
‫المسلم‬
‫ُ‬ ‫اإللهي لمثل هذه النصوص أمثل ًة لما يجب أن يكون عليه‬ ‫ُّ‬ ‫الوضع‬
‫ُ‬ ‫يضرب‬
‫ِ‬
‫نفسه بكل ما تحمله الكلم ُة من ً‬
‫معنى؛‬ ‫الحقيقي‪ ،‬إذ على من أراد اإلسالم ح ًّقا أن ُي ْسل َم َ‬
‫ُّ‬
‫قلوب‬
‫َ‬ ‫ب‬‫مما كان ي َط ِّي ُ‬
‫أن يسلم قل َبه وجسدَ ه لله‪ ،‬وفي حالة من الثقة المطلقة به‪ .‬إنه ّ‬
‫مما قد تبدو عليه المعانا ُة من‬ ‫األحاديث القائل ُة إنَّه رغم َّ‬
‫ُ‬ ‫النبوي في مكّة تلك‬
‫ّ‬ ‫الجمهور‬
‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫الم ْب َهم تما ًما للعمل‬ ‫َ‬
‫األمل الغامض‪ ،‬ولربما ُ‬ ‫عدم استحقاق‪ ،‬إال أنها قد تكون‬
‫كثيرا‬ ‫ِ‬
‫الم ْعجز في نجاة اإلنسان وتخليصه‪ .‬ولربما أدى ذلك إلى تلك الفكرة التي تتكرر ً‬
‫ُ‬
‫ِ‬
‫إلهي؛ وهي نظرة ُز ْهد َّية انتشرت بصورة واسعة بين‬ ‫من كون المحنة ً‬
‫دليل على فضل ّ‬
‫الرقي الروحي ال تحدث غال ًبا‬ ‫ّ‬ ‫بعض المذاهب الصوفية التي حدَّ دت أن أعلى درجات‬
‫العارف‪/‬العارف ُة‬
‫ُ‬ ‫السالك بالرضا‪ ،‬والتسليم التام للقضاء اإللهي‪ُ .‬ي ْس ِل ُم‬
‫ُ‬ ‫إال إذا تحقق‬
‫شك؛ وذلك لمجرد مجيئها‬ ‫نفسه‪/‬نفسها البتالءات الله عن طيب خاطر ودون أدنى ّ‬ ‫َ‬
‫من ق َبل الله الذي يستغرق‪/‬تستغرق فيه ُح ًّبا‪ .‬يمكنك الوقوف بصورة كبيرة على هذا‬ ‫ِ‬
‫الم ْكت َِرث‪ ،‬وغير العابئ بشيء‪ ،‬والذي ُي َق ِّلل أحيانًا من إنصاف‬ ‫الموقف اإليماني غير ُ‬
‫أن الحيا َة رغم ِّ‬
‫كل ما فيها‬ ‫ويكرس في الوقت نفسه فكر َة َّ‬ ‫ِّ‬ ‫ال َغ ْيب في أدبيات التصوف‪،‬‬
‫ِ ‪15‬‬
‫من شقاء‪ ،‬إال أنها ِه َب ٌة إله َّية في حدِّ ذاتها‪.‬‬

‫يوجه اإلنسان يف أي عمل‪ .‬وما مل يظهر يف داخله أمل ُ ذلك اليشء‬ ‫يقول الرومي‪« :‬إن األمل هو الذي ّ‬
‫نجاحا‬
‫ً‬ ‫وهوسه وعشقه‪ ،‬فلن َيقصد إليه‪ ،‬ولن يتيرس له ذلك اليشء دون أمل‪ ،‬سواء أكان ذلك اليشء‬
‫علم أم نجو ًما‪ ...‬إلخ‪ .‬ولو‬ ‫يف هذه الدنيا أم نجا ًة يف اآلخرة‪ ،‬وسواء أكان جتار ًة أم ملكًا‪ ،‬وسواء أكان ً‬
‫اض إِ َل ِج ْذ ِع الن َّْخ َل ِة»‬
‫مل تظهر آالم الوضع ملريم ملا قصدت إىل تلك الشجرة املباركة‪َ « :‬ف َأ َجا َء َها ا َْل ُ‬
‫َ‬
‫خ‬
‫(مريم‪ .)23 :‬أجلأها ذلك األمل إىل إىل الشجرة‪ ،‬والشجرة التي كانت جا ّف ًة َغدَ ْت مثمرةً‪ .‬اجلسم مثل‬
‫مريم‪ ،‬وكل منا لديه عيسى يف داخله‪ ،‬فإذا حدث لنا األملُ‪ُ ،‬ولِدَ عيسانا‪ ،‬وإذا مل حيدث األملُ‪ ،‬فإن عيسى‬
‫سينضم إىل أصله بذلك الطريق اخلفي الذي أتى به‪ ،‬فنبقى حمرومني‪ ،‬وال نصيب لنا منه‪:‬‬ ‫ّ‬
‫الشيطان ِمن ُت َْمتِه يتق ّيأ‪ ،‬ومجشيد ال يمتلك حتى اخلبز‪.‬‬
‫مسيحك عىل األرض؛‬ ‫َ‬ ‫واآلن‪ ،‬تَدَ َار‪ ،‬فإن‬
‫كل أمل بعالجك»‪ .‬الرومي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬فيه ما فيه‪ ،‬ترمجة‪:‬‬ ‫إذ عندما يعود املسيح إىل السامء سيتبدَّ د ُّ‬
‫عيسى عيل العاكوب (بريوت‪ ،‬دار الفكر املعارص ــ دمشق‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬بدون تاريخ)‪ ،‬ص ‪ 53‬ــ ‪.54‬‬
‫(املرتجم)‬
‫‪ 15‬انظر الرتمجة اإلنجليزية لكتاب أيب حامد الغزايل‪« :‬املحبة‪ ،‬والشوق‪ ،‬واألنس‪ ،‬والرضا ‪Love,‬‬
‫‪ ،»Longing, Intimacy and Contentment‬ترمجه‪ :‬إريك أورمسبي ‪Cambridge:( Eric Ormsby‬‬
‫‪ ،)Islamic Texts Society, 2011‬ص ‪ 154‬ــ ‪.165‬‬
‫اهلم بمشاهدة معشوقه‪ ،‬أو بحبه‪ ،‬قد يصيبه ما كان يتأمل به أو يغتم لوال‬ ‫يقول الغزايل‪« :‬العاشق املستغرق ّ‬
‫‪65‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫سلسلة من حلقات الشقوة‬ ‫ٍ‬ ‫انبناؤه على‬


‫ُ‬ ‫من خصائص علم الخالص القرآني إذن‬
‫آن واحد؛‬ ‫نتيجة مفاجئة ومع ِجزة في ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫قادت صاح َبها إلى‬
‫ْ‬ ‫التي إن ُعونِ َي ْت باصطبار‪،‬‬
‫ُْ‬
‫كتباريح المخاض لدى مريم‪ ،‬في استبطانها معنى االستسالم لله والحث على ذلك؛‬
‫نبوي‬
‫ّ‬ ‫ما يؤ ِّدينا إلى فهمها على أنها نوع غير ُم ْست ََح َّق من الشقوة‪ ،‬وعلى أنها حضور‬
‫تتوسل النعمة اإللهية في حقيقة األمر‪.‬‬ ‫أعمال َّ‬ ‫ً‬ ‫في الوقت ذاته؛ األمر الذي يعني كونها‬
‫اإلسالمي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫الم َؤ ِّس َسة لتاريخ الخالص‬ ‫تتج ّلى أهمية هذه الفكرة حتى في الحكايات ُ‬
‫الم َر ِّوع الوارد في سفر «التكوين» من‬ ‫والتي ربما نراها كامن ًة في إعادتها َحبك السرد ُ‬
‫هاجر وإيداعها البرية هي وابنها؛ حيث يرفض كالهما‬ ‫ِ‬
‫البطريركية‬ ‫َّخ ِّلي عن األ ِّم‬
‫الت َ‬
‫َ‬
‫أمر إال أن العطش استحوذ عليهما‬ ‫التنكُّر لألمر اإللهي الذي تل ّقاه إبراهيم‪ .‬وما كان من ٍ‬
‫جرا‪ ،‬ويتفجر ما ُء زمزم‬
‫ُمهدِّ ًدا كالهما بالموت‪ ،‬ليجر الطفل الصغير قد َم ْيه في الرمال ًّ‬
‫من تحت َقدَ َم ْيه في صورة إعجازية‪ 16.‬في وقت الحق‪ ،‬ازدرى أوال ُد إسحاق أوال َد‬
‫يوضح‬ ‫إسماعيل‪ ،‬ومن ثم يظهر فيهم «النبي األُ ِّمي» في مكة على نحو مفاجئ؛ ما ِّ‬
‫تأخر غال ًبا في إمضائه إذا ما تعلق‬ ‫يتعهد األمور ويختارها‪ ،‬وإن ّ‬ ‫إن الله ّ‬‫الفكرة القائلة ّ‬
‫ذكر معاناة المرأة‬
‫األمر بالمعاناة التي يقاسيها المنبوذون؛ وفي هذا السياق‪ ...‬يمكن ُ‬
‫أن مناسك الحج‬ ‫الرق عمو ًما‪ُ .‬ي ْع َت َقد ّ‬ ‫الالجئة السوداء و«النجسة» عرق ًّيا‪ ،‬ومعاناة أهل ِّ‬

‫عشقه‪ ،‬ثم ال يدرك غمه وأمله لفرط استيالء احلب عىل قلبه؛ هذا إذا أصابه من غري حبيب‪ ،‬فكيف إذا‬
‫وش ْغل القلب باحلب من أعظم الشواغل‪ .‬وإذا ت ُُص ِّو َر هذا يف أمل يسري بسبب حب‬ ‫أصابه من حبيبه‪ُ ،‬‬
‫أيضا تضاعفه يف القوة كام يتصور تضاعف‬ ‫خفيف‪ ،‬ت ُُص ِّور يف األمل العظيم باحلب العظيم‪ ،‬فإن احلب ً‬
‫األمل‪{ ...‬أو} أن ُيس {باألمل}‪ ،‬ولكن يكون راض ًيا به‪ ،‬بل راغ ًبا فيه‪ ،‬مريدً ا له‪ ،‬أعني بعقله‪ ،‬وإن كان‬
‫ب عنده‬‫كارها بطبعه‪ ...‬كل من يسافر يف طلب الربح‪ ،‬يدرك مشقة السفر‪ ،‬لك َّن ُح َّبه لثمرة سفره؛ َط َّي َ‬ ‫ً‬
‫مشق َة السفر‪ ،‬وجعله راض ًيا هبا» الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬املحبة والشوق واألنس والرضا (مرص‪ :‬مطبعة‬
‫مصطفى البايب احللبي وأوالده‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)1961‬ص ‪ 105‬ــ ‪.106‬‬
‫‪ 16‬انظر الرتمجة اإلنجليزية لسرية ابن إسحاق ‪ ،Ibn Isḥāq‬ترمجها‪ :‬أي‪ .‬غيوم ‪Oxford:( A. Guillaume‬‬
‫‪ ،)Oxford University Press, 1955‬ص ‪.45‬‬
‫إبراهيم‬
‫ُ‬ ‫ووضعها‬ ‫ُ‪،‬‬
‫ة‬ ‫سار‬ ‫ُ‬
‫ة‬ ‫القبطي‬ ‫إسامعيل‬ ‫م‬ ‫أ‬
‫َ َّ‬‫هاجر‬ ‫طردت‬ ‫عن أنس بن مالك أن رسول اهلل قال‪« :‬ملا‬
‫بمكة‪ ،‬عطشت هاجر‪ ،‬فنزل عليها جربيل‪ ،‬فقال هلا‪ :‬من أنت؟ فقالت‪ :‬هذا ولدُ إبراهيم‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫هاجر ترشبه‪ ،‬فلوال‬ ‫األرض‪ ،‬فخرج املا ُء‪ ،‬فأك ّب ْت عليه‬‫َ‬ ‫أنت؟ قالت‪ :‬نعم‪ ،‬فبحث بجناحه‬ ‫أعطشانة ِ‬
‫ُ‬
‫أهنارا جاري ًة» ابن إسحاق‪ ،‬حممد بن يسار‪ ،‬حتقيق‪ :‬سهيل زكار (بريوت‪ :‬دار الفكر‪،‬‬ ‫ذلك لكانت ً‬
‫الطبعة األوىل ‪ )1978‬ص ‪( .26‬املرتجم)‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪66‬‬
‫الشاقة‪ ،‬وغير المفهومة تما ًما‪ ،‬والتي على المسلمين القيام بها في مكة المحرمة‪ ،‬وفي‬
‫الحاج على معنى العناية اإللهية‪ ،‬وإمكان تح ُّققها‬
‫َّ‬ ‫وقت مخصوص من السنة‪ ،‬تُوقف‬
‫حتى في أحلك الظروف؛ من خالل صنوف االبتالء التي تقود إلى نتائج لم يكن ُيت ََص َّور‬
‫إمكانُها في مثل هذا الوقت‪ 17.‬وهكذا‪ ،‬يمكن إلبراهيم أن يخبر ولده بأمر الله إياه‬
‫ِ‬ ‫ت ا ْفع ْل ما ت ُْؤمر ست ِ ِ‬
‫قائل‪« :‬يا َأب ِ‬
‫َجدُ ني إِ ْن َشا َء ال َّل ُه م َن َّ‬
‫الصابِ ِري َن»‬ ‫َ َ َُ َ‬ ‫بذبحه‪ ،‬ليجيبه االب ُن ً َ َ‬
‫بعض التفاصيل األخرى‬
‫القصة َ‬ ‫الم ْع َج ُبون بهذه ّ‬
‫(الصافات‪ .)102 :‬يضيف المفسرون ُ‬
‫رفضه التقييد بالحبال عن آخره‪،‬‬ ‫من ّ‬
‫أن االبن كان أشدَّ ابتال ًء من األب‪ ،‬كما يذكرون َ‬
‫لئل َي ْظ َهر منه ُّ‬
‫أي معنى من معاني االعتراض على مراد الله‪ .‬يقتبس القشيري بيتًا شعر ًّيا‬ ‫ّ‬
‫عن المحبة وهو في هذا المقام‪:‬‬
‫ـب‬ ‫ــــــد ِه ي ـ ِ‬
‫ـط ــي ـ ُ‬ ‫ـــــن ي ِ‬ ‫ــــان الـــس ِ‬
‫ــــك َ‬‫َل َ‬ ‫ِــيــت ُســمًّ ــا‬
‫ِــيــب ُســق ُ‬
‫ْــحــب ِ‬
‫وَ لَـــــوْ بِـــيَـــ ِد ال َ‬
‫‪18‬‬
‫َ‬ ‫ـــم م ْ َ‬
‫ُّ ُّ‬
‫كثيرا‪ ،‬بل ويتناغم إلى حد كبير مع عوالم‬
‫في مثل هذه النصوص‪ ،‬ينبسط القرآن ً‬
‫الكتاب المقدس األخالقية‪.‬‬
‫ُ‬
‫القرآن افتقاره إلى تعاليم عقابية عابرة لألجيال‪،‬‬ ‫التحوالت الدا ّلة التي جاء بها‬
‫ّ‬ ‫أهم‬
‫من ّ‬
‫أو خطيئة أصلية بمعناها المطلق؛ تقتضي معاناة اإلنسان بسبب اختيارت أسالفه‪ .‬أضف‬
‫إلى ذلك إقامة القرآن بنيان شخص ّياته الرئيسة على أنها نماذج أخالقية تأتي عظمتها ألجل‬

‫‪ 17‬راجع‪ :‬كتاب شارل أندري جيليس ‪ André Gilis‬ــ ‪« :Charles‬العقيدة يف استهالل احلج إىل بيت اهلل‬
‫‪ ،)Paris: L’Oeuvre, 1982( »La Doctrine initiatique du pèlerinage à la Maison d’Allâh‬ص‬
‫أيضا الرتمجة اإلنجليزية لكتاب عيل رشيعتي ‪« :Ali Shariati‬الفريضة اخلامسة ‪،»Hajj‬‬ ‫‪ 75‬ــ ‪ .91‬راجع ً‬
‫ِ‬
‫ترمجه‪ :‬عيل هبزادنيا ‪ ،Ali Behzadnia‬نجالء دين (‪.)Houston, TX: Free Islamic Literature, 1977‬‬
‫‪ 18‬أبو القاسم القشريي ‪ Qushayrī‬ــ ‪ Qāsim al‬ــ ‪ ،Abu’l‬حتقيق‪ :‬إبراهيم بسيوين ‪،Ibrāhīm Basyūnī‬‬
‫لطائف اإلشارات ‪ ʿArabī, n.d.‬ــ ‪ Kitāb al‬ــ ‪ ishārāt (Cairo: Dār al‬ــ ‪ ،)Laṭā‘if al‬اجلزء الثالث‪،‬‬
‫ص ‪.239‬‬
‫ورجليه لئال يضطرب إذا َم َّس ُه أمل الذبح‪ ،‬ف ُيعاتَب‪ ،‬ثم‬ ‫ُ‬
‫إسامعيل أباه أن يشدّ يديه ْ‬ ‫«و ُيقال يف القصة‪ :‬أمر‬
‫ِ‬
‫ّملا َه ّم بذبحه قال‪ :‬افتح القيد عني حتى ال ُيقال يل‪ :‬أمشدود اليد جئتَني؟ وإين لن أحترك‪:‬‬
‫َ‬
‫ِ ِِ ِ‬ ‫يب ُس ِق ُ‬
‫البِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يب‬
‫الس ُّم م ْن َيده َيط ُ‬
‫َان ُّ‬‫َلك َ‬ ‫يت ُسمًّ ‬ ‫َو َل ْو بِ َيد ْ َ‬
‫يتعود من يده إال الرتبية‬
‫و ُيقال‪ :‬أهيام كان أشدَّ بالء؟ قيل‪ :‬إسامعيل‪ ،‬ألنه وجد الذبح من يد أبيه‪ ،‬ومل ّ‬
‫باجلميل‪ ،‬وكان البال ُء عليه أشد‪ ،‬ألنه مل يتوقع منه ذلك» القشريي‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬تفسري القشريي‬
‫ا ُمل َس َّمى لطائف اإلشارات‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد اللطيف حسن عبد الرمحن‪ ،‬اجلزء الثالث (بريوت‪ :‬دار الكتب‬
‫العلمية‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،)2007‬ص ‪( .93‬املرتجم)‬
‫‪67‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫تعبيرها عن مراد الله في تخليص ال ُعصاة من الشر‪ ،‬ومن ثم تختفي «نصوص الرعب»‬
‫ً‬
‫أعمال شريرة إلى رسل الله‪ ،‬فال يقع‬ ‫كتلك الواردة في الكتاب المقدس‪ ،‬والتي تعزو‬
‫وريا ِ‬
‫الح ِّث ّي‪ ،19‬وال يضطجع ٌ‬
‫لوط مع بناته‪ ،20‬وال يرتكب موسى‬ ‫داوو ُد في غواية زوجة ُأ ِ َّ‬
‫النماذج المثالي ُة‬
‫ُ‬ ‫جرائم إبادة ضد المدنيين بأمر إلهي مقدس‪ .21‬ال تستنهض هذه‬
‫َ‬ ‫يشوع‬
‫ُ‬ ‫أو‬
‫َ‬
‫القول بمعاناة عشوائية ليس لها تسويغ ما‪ ،‬على الرغم من‬ ‫النص المقدس الجديد‬ ‫داخل ّ‬
‫وواضحا على من أخطأ‪ ،‬أو تتو َّعد بنوع من التأديب المناسب‬
‫ً‬ ‫كونها قد ُتن ِْزل عقا ًبا ً‬
‫عادل‬
‫(نوح‪ ،‬ولوط‪ ،‬وموسى)‪ .‬نخرج من ذلك بدراما الهوتية متسقة تما ًما؛ يقاسي فيها أنبيا ُء‬
‫أشكال من المعاناة غير المستحقة‪ ،‬لكنهم من جهة أخرى ال يمارسونها في العالم‪ ،‬بل‬ ‫ً‬ ‫الله‬
‫تطرفهم األكبر في عبادة‬ ‫ٍ‬
‫ينغمسون في حرب ال هوادة فيها على عناد أفراد من الناس؛ يظهر ُّ‬
‫الصراع‬ ‫فسر على أنه أشدّ أنواع اإلغراء اإلنساني ُش ْؤ ًما وخلو ًدا‪ُ .‬ي َ‬
‫فه ُم ِّ‬ ‫األوثان؛ األمر الذي ُي َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس ْط ِح‬ ‫َان ِف َو ْقت ا َْل َساء َأ َّن َد ُاو َد َقا َم َع ْن َس ِيره َو َت َّشى َع َل َس ْط ِح َب ْيت ا َْللك‪َ ،‬ف َر َأى م ْن َع َل َّ‬ ‫«وك َ‬ ‫‪َ 19‬‬
‫هذهِ‬ ‫احدٌ ‪َ :‬أ َليس ْت ِ‬ ‫َت ا َْلر َأ ُة َجِي َل َة ا َْلنْ َظ ِر ِجدًّ ا‪َ .‬ف َأرس َل داود وس َأ َل َع ِن ا َْلر َأ ِة‪َ ،‬ف َق َال و ِ‬ ‫َحم‪ .‬وكَان ِ‬ ‫امر َأ ًة تَست ِ‬
‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ َ ُ ُ َ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ َ ْ ُّ َ‬
‫اض َط َج َع َم َع َها َو ِه َي‬ ‫ال ِّث ِّي؟ َف َأ ْر َس َل َد ُاو ُد ُر ُس ًل َو َأ َخ َذ َها‪َ ،‬فدَ َخ َل ْت إِ َل ْي ِه‪َ ،‬ف ْ‬ ‫وريا ِْ‬ ‫َب ْث َش َب َع بِن َْت َألِي َعا َم ا ْم َر َأ َة ُأ َِّ‬
‫ب ْت َد ُاو َد َو َقا َل ْت‪ :‬إِ ِّن ُح ْب َل» (‪2‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُم َط َّه َر ٌة م ْن َط ْمث َها‪ُ .‬ث َّم َر َج َع ْت إِ َل َب ْيت َها‪َ .‬و َحبِ َلت ا َْل ْر َأةُ‪َ ،‬ف َأ ْر َس َل ْت َو َأ ْخ َ َ‬
‫صم ‪ 2 :11‬ــ ‪( .)6‬املرتجم)‬
‫ض‪َ .‬ه ُل َّم‬ ‫ض َر ُج ٌل لِ َيدْ ُخ َل َع َل ْينَا َك َعا َد ِة ك ُِّل َاأل ْر ِ‬ ‫اخ‪َ ،‬و َل ْي َس ِف َاأل ْر ِ‬ ‫لص ِغ َري ِة‪َ :‬أ ُبونَا َقدْ َش َ‬ ‫ِ‬
‫«و َقا َلت ا ْلبِك ُْر ل َّ‬
‫ِ‬
‫‪َ 20‬‬
‫ِ‬
‫خ ًرا ف ت ْل َك ال َّل ْي َلة‪َ ،‬و َد َخ َلت ا ْلبِك ُْر‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اها َ ْ‬ ‫جع َم َع ُه‪َ ،‬فن ُْحيي م ْن َأبِينَا ن َْس ًل‪َ .‬ف َس َقتَا َأ َب ُ َ‬ ‫خ ًرا َون َْض َط ُ‬ ‫ن َْسقي َأ َبانَا َ ْ‬
‫ث ِف ا ْل َغ ِد َأ َّن ا ْلبِكْر َقا َل ْت لِلص ِغرية‪ِ:‬‬ ‫ِ‬
‫اضط َجاع َها َوالَ بق َيام َها‪َ .‬و َحدَ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اض َط َج َع ْت َم َع أب َيها‪َ ،‬و َل ْ َي ْع َل ْم ب ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َو ْ‬
‫َّ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫اضطجعي َم َع ُه‪ ،‬فن ُْحي َي م ْن أبينَا‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫خ ًرا الل ْيلة أ ْي ًضا فا ْدخل ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اضط َج ْع ُت ال َبار َحة َم َع أب‪ .‬ن َْسقيه َ ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫إِ ِّن قد ْ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اضط َجاع َها‬ ‫اض َط َج َع ْت َم َع ُه‪َ ،‬و َل ْ َي ْع َل ْم بِ ْ‬ ‫الصغ َري ُة َو ْ‬ ‫خ ًرا ِف ت ْل َك ال َّل ْي َلة َأ ْي ًضا‪َ ،‬و َقا َمت َّ‬ ‫اها َ ْ‬ ‫ن َْس ًل‪َ .‬ف َس َقتَا َأ َب ُ َ‬
‫َوالَ بِ ِق َي ِام َها» (تك ‪ 31 :19‬ــ ‪( .)35‬املرتجم)‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫وسى‬ ‫وسى َقائ ًل‪ :‬ا ْنتَق ْم َن ْق َم ًة ل َبني إِ َْسائ َيل م َن ا ْلدْ َيان ِّي َني‪ُ ،‬ث َّم ت َُض ُّم إِ َل َق ْوم َك‪َ .‬ف َك َّل َم ُم َ‬ ‫الر ُّب ُم َ‬ ‫«و َك َّل َم َّ‬ ‫‪َ 21‬‬
‫ان‪َ .‬أ ْلفاً‬ ‫ِ‬
‫الر ِّب َع َل مدْ َي َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ْ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ً‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫الش ْعب قائل‪َ :‬ج ِّر ُدوا منْك ُْم ر َجال لل ُجنْد‪ ،‬ف َيكُونُوا َع َل مدْ َيان ل َي ْج َعلوا َنق َمة َّ‬ ‫َّ‬
‫الر ُّب‬ ‫ر‬ ‫م‬‫أ‬‫َ‬ ‫َم‬ ‫ك‬ ‫َ‬
‫ان‬ ‫ي‬ ‫ب‪َ ...‬فتَجنَّدُ وا َع َل دِْ‬
‫م‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫ح‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ون لِ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫س‬ ‫اط إِس ِائ َيل تُر ِ‬ ‫ط ِمن َجِي ِع َأسب ِ‬ ‫احدً ا ِمن ك ُِّل ِسب ٍ‬ ‫و ِ‬
‫َ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫وك‬‫خس َة م ُل ِ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫‪.‬‬‫ابع‬ ‫ر‬ ‫و‬ ‫ور‬ ‫ح‬ ‫و‬ ‫ور‬ ‫ص‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫اق‬‫ان َق َت ُلوهم َفو َق َق ْتالَهم‪َ :‬أ ِوي ور ِ‬ ‫َ‬ ‫ي‬ ‫دْ‬ ‫م‬‫وك ِ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫م‬ ‫و‬ ‫‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫َر‬‫ك‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫ُل‬ ‫َّ‬ ‫ك‬ ‫وا‬ ‫ُ‬
‫ل‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫و‬
‫َ ََ َ َ ُ َ َ ُ َ ََ َ َ ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ‬ ‫َ‬
‫يع َ َب ِائ ِم ِه ْم‪،‬‬ ‫ِ‬
‫ان َو َأ ْط َف َال ُ ْم‪َ ،‬و َنَ ُبوا َج َ‬ ‫س ِائ َيل نِ َسا َء ِمدْ َي َ‬ ‫الس ْيف‪َ .‬و َس َبى َبنُو إِ َْ‬
‫ِ‬
‫ور َق َت ُلو ُه بِ َّ‬ ‫ان‪َ .‬و َب ْل َعا َم ْب َن َب ُع َ‬ ‫ِمدْ َي َ‬
‫ون ْم بِالن َِّار‪َ .‬و َأ َخ ُذوا ك َُّل‬ ‫يع ُح ُص ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫يع ُمدُ ِن ْم بِ َم َساكن ِه ْم‪َ ،‬و َج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يع َم َواش ِيه ْم َوك َُّل َأ ْمالَك ِه ْم‪َ .‬و َأ ْح َر ُقوا َج َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َو َج َ‬
‫ِ‬
‫وع‪ُ :‬مدَّ ا ْلِ ْز َر َاق‬ ‫الر ُّب ل َي ُش َ‬
‫ِ‬
‫َّاس َوا ْل َب َهائ ِم» (عد ‪ 1 :31‬ــ ‪ 7 ،4‬ــ ‪َ « .)11‬ف َق َال َّ‬
‫ِ‬ ‫ب ِم َن الن ِ‬ ‫يم ِة َوك َُّل الن َّْه ِ‬ ‫ِ‬
‫ا ْل َغن َ‬
‫س َع ٍة‬ ‫ني بِ ُ ْ‬ ‫وع ا ْلِ ْز َر َاق ا َّل ِذي بِ َي ِد ِه ن َْح َو ا َْل ِدين َِة‪َ .‬ف َقا َم ا ْلك َِم ُ‬ ‫اي ألَ ِّن بِ َيد َك َأ ْد َف ُع َها‪َ .‬ف َمدَّ َي ُش ُ‬
‫ِ‬
‫ا َّلذي بِ َيد َك ن َْح َو َع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان‬‫س ُعوا َو َأ ْح َر ُقوا ا َْل ِدينَ َة بِالن َِّار‪َ ...‬فك َ‬ ‫وها‪َ ،‬و َأ ْ َ‬
‫ِ‬
‫م ْن َمكَانه َو َرك َُضوا عنْدَ َما َمدَّ َيدَ ُه‪َ ،‬و َد َخ ُلوا ا َْلدينَ َة َو َأ َخ ُذ َ‬
‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وع‬ ‫اي‪َ ...‬و َأ ْح َر َق َي ُش ُ‬ ‫يع َأ ْه ِل َع َ‬ ‫ش َأ ْل ًفا‪َ ،‬ج ُ‬ ‫يع ا َّلذي َن َس َق ُطوا ف ذل َك ا ْل َي ْو ِم م ْن ر َجال َون َساء ا ْثن َْي َع َ َ‬ ‫َج ُ‬
‫هذا ا ْل َي ْو ِم‪( »...‬يش ‪ 18 :8‬ــ ‪( .)28 ،25 ،19‬املرتجم)‬ ‫ال َأ َب ِد ًّيا َخ َرا ًبا إِ َل َ‬ ‫اي َو َج َع َل َها َت ًّ‬ ‫َع َ‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪68‬‬
‫اإلسالمي على أنهما يستعصيان على الفصل؛‬‫ّ‬ ‫السياسي والروحي في سياق علم النبوات‬
‫ما ُي َو ِّلد نو ًعا من الهوت الحرية لهؤالء الـ« ُم ْست َْض َع ِفي َن فِي ْالَ ْر ِ‬
‫ض» (النساء‪)97 :‬؛ وبذلك‬
‫«و َما َلك ُْم‬
‫أصيل في معركته ضد صنوف المعاناة والظلم في العا َلم‪َ :‬‬ ‫ً‬ ‫يصبح الدين ُمك َِّونًا‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َوالن َِّساء َوا ْل ِو ْلدَ ان ا َّلذي َن َي ُقو ُل َ‬
‫ون َر َّبنَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يل ال َّله َوا ْلمست َْض َعفي َن م َن الر َج ِ‬ ‫ِ‬ ‫ون فِي َسبِ ِ‬ ‫َل ُت َقاتِ ُل َ‬
‫ِّ‬ ‫ُ ْ‬
‫اج َعل َلنَا ِم ْن َلدُ ن َْك ن َِص ًيرا»‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِِ‬
‫َأ ْخ ِر ْجنَا م ْن َهذه ا ْل َق ْر َية ال َّظال ِم َأ ْه ُل َها َو ْ‬
‫اج َعل َلنَا م ْن َلدُ ن َْك َول ًّيا َو ْ‬
‫(النساء‪ُ .)75 :‬ي ْعت ََرف بالمعاناة على أنها شر‪ ،‬حتى وإن قاساها أوليا ُء الله‪ ،‬ولهذا‪ ،‬تجب‬
‫أيضا؛ ومن أمثلة ذلك‬ ‫ُ‬
‫العمل على الحدّ منها ً‬ ‫مقاومتها كلما أمكن‪ ،‬بل ومن الواجب ِ‬
‫اآلكد‬
‫ٍ‬
‫واحد على أربعين سنو ًّيا من ثروة المرء‪ ،‬والتي‬ ‫فرض الزكاة التي هي ضريبة إلزام ّية بمعدل‬ ‫ُ‬
‫تتوجه بدورها للحدّ من الفقر على وجه التحديد‪ ،‬ومقاومة األشكال األخرى ألزمات‬ ‫َّ‬
‫المجتمع‪.‬‬
‫اإللهي‪ ،‬إذ يمتحن‬
‫ّ‬ ‫يقول تفسير قرآني آخر لمعاناة األبرياء بأنها نوع من االبتالء‬
‫الل ُه بها بعض األفراد بمن فيهم األبرياء بظروف ُي ْم ٍن وبركة‪ ،‬وبأخرى شريرة‪ ،22‬وفي‬
‫ُ‬
‫امتحان األرواح‪23‬؛‬ ‫مواضع أخرى يشير النص القرآني إلى أن الغاي َة وراء الخلق نفسه‬
‫األرواح‪ .24‬ولربما ال تتو ّقف‬
‫ُ‬ ‫َ‬
‫وسائل تتمايز بها‬ ‫فجائع الجوع‪ ،‬والفاقة‬
‫ُ‬ ‫وبذلك تكون‬
‫األرضي العاجل عن الذنوب والمعاصي‪،‬‬
‫ّ‬ ‫هذه االبتالءات إال وتتكاثر كنوع من التكفير‬
‫تتضمن‬
‫َّ‬ ‫أيضا‪ 25.‬غال ًبا ما‬
‫والتي من شأنها أن تؤ ِّدي إلى إنزال العقاب في العالم اآلخر ً‬
‫ثيوديسيا إصالح النفس نو ًعا من الشدائد التي ترشد المؤمن إلى طريق النجاة؛ كالقول‬

‫ون» (األنبياء‪ ،)35 :‬وقوله‪...« :‬‬ ‫ال ِْي فِ ْتنَ ًة َوإِ َل ْينَا ت ُْر َج ُع َ‬ ‫ت َو َن ْب ُلوك ُْم بِالشَِّّ َو َْ‬ ‫س َذ ِائ َق ُة ا َْلو ِ‬
‫ْ‬ ‫قوله‪« :‬ك ُُّل َن ْف ٍ‬ ‫‪22‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬
‫للَّ َم ْرج ُعك ُْم َجي ًعا‬ ‫الَ ْ َيات إ َل ا ِ‬ ‫استَب ُقوا ْ‬ ‫ل َع َلك ُْم أ َّم ًة َواحدَ ًة َو َلك ْن ل َي ْب ُل َوك ُْم ف َما آتَاك ُْم َف ْ‬ ‫َو َل ْو َشا َء اللَُّ َ َ‬
‫تتَلفون» (املائدة‪.)48 :‬‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َف ُينَ ِّب ُئك ُْم بِ َم ُكنْت ُْم فيه ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان َع ْر ُش ُه َع َل ا َْلاء ل َي ْب ُل َوك ُْم َأ ُّيك ُْم َأ ْح َس ُن‬ ‫قوله‪َ « :‬و ُه َو ا َّل ِذي َخ َل َق الس ََّم َوات َو َْال ْر َض ِف ستَّة َأ َّيا ٍم َوك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪23‬‬
‫ض ِزينَ ًة َلَا لِنَ ْب ُل َو ُه ْم َأيُّ ُ ْم َأ ْح َس ُن َع َم ًل» (الكهف‪:‬‬ ‫َع َم ًل‪( »...‬هود‪ ،)7 :‬وقوله‪« :‬إِ َّنا َج َع ْلنَا َما َع َل ْالَ ْر ِ‬
‫‪ ،»7‬وقوله‪« :‬ا َّل ِذي َخ َل َق ا َْلو َت و ْ ِ‬
‫ور» (امللك‪،)2 :‬‬ ‫ال َيا َة ل َي ْب ُل َوك ُْم َأ ُّيك ُْم َأ ْح َس ُن َع َم ًل َو ُه َو ا ْل َع ِز ُيز ا ْل َغ ُف ُ‬ ‫ْ َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج َن ْبتَليه ف َج َعلنَا ُه َسمي ًعا َبص ًريا» (اإلنسان‪.)2 :‬‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ان ِم ْن ُن ْط َف ٍة أ ْم َش ٍ‬
‫َ‬ ‫الن َْس َ‬ ‫وقوله‪« :‬إِ َّنا َخ َل ْقنَا ْ ِ‬
‫الصابِ ِري َن»‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص م َن َْال ْم َوال َو َْال ْن ُف ِ‬ ‫ِ‬ ‫الو ِع َو َن ْق ٍ‬ ‫ِ‬
‫ال ْوف َو ُْ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫«و َلنَ ْب ُل َو َّنك ُْم بِ َْشء م َن َْ‬
‫َّ‬ ‫س َوال َّث َم َرات َو َبشِّ‬ ‫يقول‪َ :‬‬ ‫‪24‬‬
‫(البقرة‪.)155 :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان ُيريدُ ا ْل َعاج َل َة َع َّج ْلنَا َل ُه ف َيها َما ن ََشا ُء َل ْن نُريدُ ُث َّم َج َع ْلنَا َل ُه َج َهنَّ َم َي ْص َل َها َم ْذ ُمو ًما‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يقول‪َ « :‬م ْن ك َ‬ ‫‪25‬‬
‫يب ا ُْل ْس ِل َم إِالَّ َك َّف َر اللَُّ َباِ‬ ‫مدْ حورا» (اإلرساء‪ .)18 :‬عن عائشة أن رسول اهلل قال‪« :‬ما ِمن م ِصيب ٍة تُصِ‬
‫ُ‬ ‫َ ْ ُ َ‬ ‫َ ُ ً‬
‫الش ْوك َِة ُي َشاك َُها» رواه البخاري (‪.)5640‬‬ ‫َعنْ ُه‪َ ،‬حتَّى َّ‬
‫‪69‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫بأن االمتناع عن الشهوات ُي ْص ِقل من مرآة التقوى لدى المؤمن‪ ،‬وال سيما في حالة‬
‫الصوم التي يؤكِّد فيها القرآن على أنها ركن مفروض من أجل هذا الغرض بالذات‪.26‬‬
‫التزهد والتوبة؛‬
‫ُّ‬ ‫ولربما كانت المعانا ُة نو ًعا من التزكية أو العالج اإللهي الدّ اعي إلى‬
‫مسارعة في ُر ِق ِّيه الروحي إلى الله‪ .‬لماذا لم يخلق الله‬
‫ٍ‬ ‫َ‬
‫اإلنسان إلى‬ ‫األمر الذي يدفع‬
‫الجواب مفهو َم الحرمان‪ ،‬إذ عندما يسعي‬
‫ُ‬ ‫يتوسل‬
‫جبال من الذهب والفضة إذن؟ َّ‬ ‫ً‬
‫اإلنسان في الحياة سع ًيا جهيدً ا في عالم محكوم بالنقص والمنافسة؛ يمكنه أن يتعلم‬
‫الغايات‬
‫ُ‬ ‫معنى الفضيلة من خالل انخراطه في هذا المسلك الصعب‪ 27.‬وهكذا‪ ،‬ت َُس َّوغ‬
‫أن «الحزن حال بِ َق ْبض القلب عن ال َّت َف ُّرق‬
‫هنا بمثل هذه الوسائل‪ .‬يرى أحد الصوفية ّ‬
‫في َأ ْو ِد َي ِة ال َغ ْفلة»‪ ،‬في حين ّ‬
‫أن الـ «القلب إذا لم يكن فيه ُح ْزن َخ ِر َب‪ ،‬كما أن الدار إذا‬
‫لم يكن فيها ساك ٌن تخرب»‪ .28‬ولربما تُح ِّقق المعانا ُة معنى التواضع في قلب المؤمن‪،‬‬
‫وتحميه من الكبر‪ ،‬وتح ّثه على الصالة والتوبة‪ ...29‬على ٍّ‬
‫كل‪ ،‬ألم يكن فرعون النموذج‬
‫ُ‬
‫الغرق‪،‬‬ ‫المطلق لقسوة القلب؟ ورغم ذلك‪ ،‬التجأ إلى الله‪ ،‬وتاب إليه عندما أدركه‬
‫واشتملته ميا ُه البحر األحمر‪ .30‬يحكي لنا الشاعر جالل الدين الرومي (توفي ‪)1273‬‬
‫بحن ٍَق‬ ‫ِ‬
‫عن «حبة ُح ًّمص» تغليها ربة منزل في قدْ ر من أجل إعداد وجبة‪ ،‬ولكنها تشعر َ‬
‫شديد من منظورها الضيق تُجاه هذه المرأة‪:‬‬

‫ون» (البقرة‪:‬‬ ‫ب َع َل ا َّل ِذي َن ِم ْن َق ْب ِلك ُْم َل َع َّلك ُْم َت َّت ُق َ‬ ‫ِ‬
‫ب َع َل ْيك ُُم ِّ‬
‫الص َيا ُم ك ََم كُت َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يقول‪َ « :‬يا َأيَُّ ا ا َّلذي َن آ َمنُوا كُت َ‬ ‫‪26‬‬
‫‪)183‬‬
‫انظر كتاب إريك أورمسبي ‪« :Eric Ormsby‬نظرية العدالة اإلهلية يف الفكر اإلسالمي‪ :‬اجلدل حول‬ ‫‪27‬‬
‫«أفضل العوامل املمكنة» لدى الغزايل ــ ‪Theodicy in Islamic Thought: The Dispute over al‬‬
‫‪Princeton, NJ: Princeton University Press,( ،»»Ghazālī‘s «Best of All Possible Worlds‬‬
‫‪ ،)1984‬ص ‪.201‬‬
‫القشريي‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬الرسالة القشريية‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلليم حممود‪ ،‬حممود بن الرشيف (القاهرة‪ :‬دار‬ ‫‪28‬‬
‫الشعب‪ ،)1989 ،‬ص ‪ ،254‬و‪.255‬‬
‫انظر كتاب شارمن جاكسون (عبد احلكيم جاكسون) ‪Islam and the « :Sherman A. Jackson‬‬ ‫‪29‬‬
‫‪ Problem of Black Suffering‬اإلسالم ومشكلة معاناة السود» (‪New York: Oxford University‬‬
‫‪ ،)Press, 2014‬ص ‪.112‬‬
‫«و َج َاو ْزنَا بِ َبنِي إِ َْس ِائ َيل ا ْل َب ْح َر َفأ ْت َب َع ُه ْم ف ْر َع ْو ُن َو ُجنُو ُد ُه َب ْغ ًيا َوعَدْ ًوا َحتَّى إ َذا أ ْد َر َك ُه ا ْل َغ َر ُق َق َال آ َمن ُْت‬
‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫‪30‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ني‪ ،‬آلن َوقدْ َع َص ْي َت ق ْبل َو ُكن َْت م َن الفسدي َن‪،‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫سائيل َوأنَا م َن ال ْسلم َ‬ ‫َ‬ ‫َأ َّن ُه ل إل َه إ الذي آ َمن َْت به َبنُو إ ْ َ‬
‫َّ‬ ‫لَّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ون» (يونس‪ 90 :‬ــ ‪.)92‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اس َع ْن آ َياتنَا َل َغاف ُل َ‬ ‫ُون َلِ ْن َخ ْل َف َك آ َي ًة َوإِ َّن كَث ًريا م َن النَّ ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يك بِ َبدَ نِ َك لِ َتك َ‬ ‫َفا ْل َي ْو َم ُنن َِّج َ‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪70‬‬
‫«انظر إلى حبة الحمص في القدر كيف تهرب إلى أعلى‪ ،‬لقد صارت في أذى من‬
‫النار‪.‬‬
‫وفي كل لحظة ترتفع حبة الحمص وقت الغليان إلى حا ّفة القدر‪ ،‬وتصرخ ً‬
‫كثيرا‬
‫قائلة‪ :‬لماذا تضرمين النار في؟ وكيف ِ‬
‫قمت بشرائي‪ ،‬ثم تغلينني هكذا؟‬ ‫ّ‬
‫فتمدّ السيدة مغرفتها قائل ًة‪ :‬ال‪ ،‬اغلي جيدً ا‪ ،‬وال تنفري من واقد النار‪.‬‬
‫وطعما‪.‬‬
‫ً‬ ‫إني ال أغليك‪ ،‬ألنك مكروهة لدي‪ ،‬بل لكي تكتسبي لذ ًة‬
‫لكي تتحولي إلى غذاء وتمتزجي بالروح‪ ،‬وليس هذا االمتحان من أجل إذاللك»‪.31‬‬
‫نظريات ثيوديسيا إصالح النفس ُم َط ِّه ًرا معيار ًّيا في حد ذاته‪ ،‬كما أنها تقع‬
‫ُ‬ ‫تُعتبر‬
‫أيضا‪ .‬تسقي‬‫أدبيات المسلمين ً‬
‫ُ‬ ‫موق ًعا حسنًا لدى األديان جمي ًعا‪ ،‬بل وتأتلف معها‬
‫ِ‬
‫ومنصف‪ ،‬ونحو ق َصر الحياة كذلك؛‬
‫ٌّ‬ ‫موضوعي‬
‫ٌّ‬ ‫الروح‪ ،‬فيتو َّلد ٌ‬
‫رأي تجاه العالم‬ ‫َ‬ ‫الدموع‬
‫ُ‬
‫ما يدفع السالكين إلى ابتناء عالقة مع الله أكثر عم ًقا‪ ،‬وإلى محبته ال من أجل شيء وعد‬
‫به‪ ،‬لكن ألنه محبوب بِ َذاتِه لِ َذاتِه‪ ،‬ومن أجل ذلك يبذلون نصيبهم من «زكاة العقل»‪.32‬‬
‫وسواء كانت المعانا ُة مختبر ًة أم مشهو َدة‪ ،‬فإنها تكون ذات طابع تهذيبي في الغالب‪،‬‬
‫المفاجئ‪ ،‬إذ حمله تأ ّثره بالنبي محمد‬
‫وتحوله ُ‬
‫ّ‬ ‫المسيحي عَدَّ اس‬
‫ّ‬ ‫كما حدث مع العبد‬
‫الجسدي على اعتناق اإلسالم نهاية‬
‫ّ‬ ‫تعرض فيها للنبذ‪ ،‬واألذى‬
‫وصبره في المرحلة التي ّ‬

‫‪ 31‬انظر‪« :‬املثنوي ‪ ،»The Mathnawi‬جالل الدين الرومي‪ ،‬نسخة حمققة عىل أقدم املخطوطات املتوفرة‬
‫‪London: E.J.W. Gibb Memorial Series,( Edited from the Oldest Manuscripts Available‬‬
‫‪ ،)1925–40‬الكتاب الثالث‪ ،‬األبيات‪ 4159 :‬ــ ‪.4163‬‬
‫انظر‪ :‬الرومي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬املثنوي‪ ،‬الكتاب الثالث‪ ،‬ترمجة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مرص‪ ،‬املركز‬
‫أيضا‪« :‬ون َْح ُت اخلشب‪،‬‬
‫القومي للرتمجة‪ ،‬الطبعة الرابعة ‪ ،)2015‬ص ‪ 356‬ــ ‪ .359‬قريب من ذلك قوله ً‬
‫ال يكون من أجل هالك اخلشب‪ ،‬بل من أجل مصلحة مبارشة يف قلب النجار‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فكل رش‬
‫عن طريق احلق‪ ،‬إنام هو خري‪ ،‬ففي النهاية ُي ْب ِدي صفا َءه» الرومي‪ ،‬جالل الدين‪ ،‬ديوان شمس الدين‬
‫تربيزي‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬ترمجة‪ :‬إبراهيم دسوقي شتا (مرص‪ ،‬املركز القومي للرتمجة‪ ،‬الطبعة الثانية ‪،)2009‬‬
‫ص ‪ 20‬ــ ‪ ،21‬األبيات‪ 131 :‬ــ ‪( .132‬املرتجم)‬
‫‪ 32‬القشريي‪ ،‬أبو القاسم‪ ،‬الرسالة القشريية‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبد احلليم حممود‪ ،‬حممود بن الرشيف (القاهرة‪ :‬دار‬
‫الشعب‪ ،)1989 ،‬ص ‪ ،254‬و‪ .255‬والعبارة بتاممها‪« :‬قال بعض السلف‪ :‬إن عىل كل يشء زكاة‪ ،‬وزكاة‬
‫العقل طول احلزن»‪( .‬املرتجم)‬
‫‪71‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫أدبيات كاملة تنغمس في موضوع عذابات النبي‪،‬‬ ‫ٌ‬ ‫األمر‪ 33.‬في وقت الحق‪ ،‬تطورت‬
‫يتضمن نو ًعا من التطهير الروحي‪ 34.‬واعتقد البعض حتى أن مشكلة‬ ‫ّ‬ ‫معتبرة التأمل فيها‬
‫المعاناة الشخصية التي تظهر على أنها ال تتمتع بأي فائدة ُمث َبتة؛ يمكن ح ُّلها من خالل‬
‫تأثيرا ناج ًعا ووعظ ًّيا ليس على اإلنسان المتأ ِّمل‪ ،‬لكن على المالئكة‬‫االفتراض بأن لها ً‬
‫‪35‬‬
‫وجوب حضورها‪.‬‬‫ُ‬ ‫والمخلوقات األخرى ما فوق الطبيعة‪ ،‬والتي ُي ْفت ََرض‬
‫القول بتفسير المعاناة في صورة مباشرة على أنها عقاب‪ ،‬أو امتحان‪،‬‬ ‫على كل‪ ،‬ما زال ُ‬
‫بعض العقبات في معالجة‬ ‫أو عالمة إعجاز ًّية على مستقبل تتج ّلى فيه البراءة‪ ،‬يواجه َ‬
‫أنواع بعينها من الشر في العالم‪ .‬لقد رأينا بالفعل معاناة األنبياء‪ ،‬رغم كونهم ُم َب َّرئين‬
‫من الخطايا‪ ...‬وأنهم لم يسلموا من االمتحان‪ ،‬لك ّن القيمة وراء ذلك تد ّلنا ــ في أفضل‬
‫أحوال االستدالل ــ على ما تحلوا به من َج َلد‪ ،‬وما اعتراهم من إخالص تجاه غيرهم؛‬
‫تؤهلهم ألن يكونوا رسل الله ح ًّقا‪ .‬ورغم‬ ‫ما ُيظهر كونهم قد نالوا درجة من الكمال ِّ‬
‫ذلك‪ ،‬تتلبس المعاناة بعض الفئات األخرى بصورة اعتباطية وغير مستحقة فيما َيظهر؛‬

‫‪ 33‬ملا ذهب النبي حممد إىل الطائف يدعوهم إىل اإلسالم وكان ما كان من إيذاء ثقيف له‪ُ ،‬أ ِجلئ إىل حائط‬
‫اطمأن النبي يف هذا املوضع توجه إىل اهلل بدعاء وهو حمزون‪ ،‬وملا‬ ‫ّ‬ ‫لعتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة‪ ،‬فلام‬
‫ِ‬
‫رأى عتبة وشيبة ما به من أذى رقوا حلاله‪ ،‬وأرسلوا إليه غال ًما نرصان ًّيا اسمه عَدَّ اس‪ ،‬وأعطوه ق ْط ًفا من‬
‫عنب للنبي «ثم أقبل به حتى وضعه بني يدي رسول اهلل‪ ،‬ثم قاله له‪ :‬ك ُْل‪ ،‬فلام وضع فيه رسول اهلل يدَ ه‪،‬‬
‫أهل هذه البالد‪،‬‬‫قال‪ :‬باسم اهلل‪ ،‬ثم أكل‪ ،‬فنظر عَدَّ اس يف وجهه‪ ،‬ثم قال‪ :‬واهلل إن هذا الكالم ما يقوله ُ‬
‫ِ‬
‫أنت يا عداس‪ ،‬وما دينك؟ قال‪ :‬نرصاين‪ ،‬وأنا رجل من أهل نينَوى‪،‬‬ ‫ومن أهل أي بلد َ‬ ‫فقال رسول اهلل‪ِ :‬‬
‫فقال رسول اهلل‪ :‬من قرية الرجل الصالح يونس بن َمتّى؟ فقال له عداس‪ :‬وما يدريك ما يونس بن‬
‫َب عداس عىل رسول اهلل ُي َق ِّبل رأسه ويديه‬ ‫متى؟ فقال رسول اهلل‪ :‬ذاك أخي‪ ،‬كان نب ًّيا وأنا نبي‪َ ،‬فأك َّ‬
‫وقدميه»‪ .‬ابن هشام‪ ،‬عبد امللك بن أيوب‪ ،‬السرية النبوية‪ ،‬حتقيق‪ :‬عمر عبد السالم تدمري‪ ،‬اجلزء الثاين‬
‫(بريوت‪ :‬دار الكتاب العريب‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ ،)1990‬ص ‪( .69‬املرتجم)‬
‫‪ 34‬انظر عىل سبيل املثال كتاب حسني البحراين ‪« :Husayn Baḥrānī‬التهاب نريان األحزان‪ ،‬ومثري‬
‫االكتئاب واألشجان ‪ ashjān‬ــ ‪ ikti’āb wa’l‬ــ ‪ muthīr al‬ــ ‪ aḥzān wa‬ــ ‪،»Iltihāb nīrān al‬‬
‫(‪ Raḍī, 1418AH‬ــ ‪ Sharīf al‬ــ ‪ ،)Qum: al‬وكتاب حممد بن نارص الدين ‪Muḥammad ibn‬‬
‫‪ Dīn‬ــ ‪« :Nāṣir al‬سلوة الكئيب بوفاة احلبيب ‪ Habīb‬ــ ‪ wafāt al‬ــ ‪ ka’īb bi‬ــ ‪،»Salwat al‬‬
‫(‪ Buḥūth, 1998‬ــ ‪.)Dubai: Dār al‬‬
‫‪ 35‬انظر مادة كونيت إم‪ .‬شيمشك ‪« :Cüneyt M. Şimşek‬مشكلة أمل احليوان‪ :‬مقدمة إىل مقاربة النوريس‬
‫‪ »The Problem of Animal Pain: An Introduction to Nursi’s Approach‬يف الكتاب الذي حرره‪:‬‬
‫أبو ربيع ‪ ،Abu Rabi‬ص ‪ 111‬ــ ‪.116 ،34‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪72‬‬
‫كالحيوانات‪ ،‬واألطفال‪ ،‬وكذلك بعض األبرياء ممن تبدو آالمهم ال منفعة وراءها‪.‬‬
‫وبدورنا‪ ،‬نتناول اآلن بعض المعالجات اإلسالمية لمثل هذه األنواع من المعاناة‪.‬‬

‫معاناة الحيوان‬
‫يتأسس على كون اإلنسان‬
‫إذا كان من الممكن فهم المعاناة على أنها ابتالء وامتحان َّ‬
‫اإلسماعيلي‪ 36‬والكال ُم‪ 37‬وجو َد هذا النوع من‬
‫ُّ‬ ‫النص‬ ‫ً‬
‫مسؤول أخالق ًّيا‪ ،‬فكيف ُي َس ِّو ُغ ُّ‬
‫المعاناة المحيطة‪ ،‬والتي غال ًبا ما تكون أشدّ قسو ًة في العالم الحيواني‪ .‬ال ُي َس ِّوغ‬
‫القول بها في ظالل‬ ‫ُ‬ ‫المسلمون هذا األمر بإرجاعه إلى «خطيئة آدم» (وجهة نظر يصعب‬
‫اإل َحا َثة ‪/‬األحافير الحديث)‪ ،‬وال يعتبرون فسا َد الخليقة في السابق بسبب حدوث‬ ‫علم ِ‬
‫خيار بشري ما في بداية الخليقة‪ .‬ومن أجل ذلك‪ ،‬تظهر مسأل ُة معاناة الحيوان َع ِص َّي ًة‪،‬‬
‫ِ‬
‫الحيوانات‬ ‫الجلي ّ‬
‫بأن‬ ‫بل وتزداد ِحدَّ ًة إذا ما اعتبرنا تلك الوثائق التأسيس ّية وا ِّدعا َءها‬
‫ّ‬
‫حوادث بعينها كان‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫أحاديث كثيرة‬ ‫موجودات واعية‪ ،‬تتمتع بحقوق أخالقية‪ .‬تقص علينا‬ ‫ٌ‬
‫قادرا فيها على االتِّصال بالحيوانات في صورة ُم ْع ِجزة‪ ،‬حتى إنه في بعض المرات‬ ‫النبي ً‬
‫تحسن‬ ‫شكا إليه جم ٌل «كثرة العمل‪ِ ،‬‬
‫وق َّلة ال َع َلف»‪ ،‬وما كان منه إال أن و َّبخ صاحبه ً‬
‫آمل ُّ‬ ‫َ َ‬
‫«إنك لمحمد»‪،‬‬ ‫وحوشا كانت تنادي العضباء {ناقة النبي} قائلة‪ِ :‬‬ ‫ً‬ ‫وروي ّ‬
‫أن‬ ‫حالته‪ ،‬بل ُ‬
‫‪38‬‬
‫ولما مات النبي‪« ،‬لم تأكل ولم تشرب بعد موته حتى ماتت»‪.‬‬
‫المفسرين أن يتَّخذوا مشكلة معاناة الحيوانات‬
‫ِّ‬ ‫مثل هذه النصوص أوساط‬‫أجبرت ُ‬
‫ْ‬
‫التقليدي لهذه المشكلة ُبدًّ ا إال في أن ِ‬
‫يلتجئ إلى القول‬ ‫ُّ‬ ‫على محمل الجد‪ .‬لم يجد ُّ‬
‫الحل‬
‫بتعويض أخروي لهذه المخلوقات نهاية األمر‪ .‬ما يبدو أن القرآن وعد هذه الكائنات‬
‫َاح ْي ِه‬ ‫ِ ِ‬
‫ض َو َل َطائ ٍر َيط ُير بِ َجن َ‬ ‫«و َما ِم ْن َدا َّب ٍة فِي ْالَ ْر ِ‬ ‫ذات العقل الواعي بالبعث مرة أخري‪َ :‬‬
‫ون» (األنعام‪،)38 :‬‬ ‫َاب ِم ْن َش ْي ٍء ُث َّم إِ َلى َر ِّب ِه ْم ُي ْح َش ُر َ‬
‫إِلَّ ُأ َم ٌم َأ ْم َثا ُلك ُْم َما َف َّر ْطنَا فِي ا ْل ِكت ِ‬
‫األخروي‪ ،‬بل ويتنبأ ْ‬
‫بأن‬ ‫ّ‬ ‫ويرد األثر التالي كدليل مؤك ٍِّد على القول بالحساب والتكفير‬

‫‪ 36‬نسبة إىل إسامعيل‪ ،‬االبن األكرب للنبي إبراهيم‪( .‬املرتجم)‬


‫‪ 37‬أي علم الكالم‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ 38‬انظر‪ :‬عياض‪ ،‬القايض‪ ،‬الشفا بتعريف حقوق املصطفى‪ ،‬حتقيق‪ :‬عبده عيل كوشك (ديب‪ :‬جائزة ديب‬
‫الدولية للقرآن الكريم – وحدة البحوث والدراسات‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2013‬ص ‪.382‬‬
‫‪73‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫والدواب‪ ،‬والطير‪ ،‬وكل شيء‪ ،‬فيبلغ من عدل الله‬‫ّ‬ ‫الخلق يوم القيامة؛ البهائم‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫« ُي ْح َشر‬
‫القرناء ثم يقول‪ :‬كوني ترا ًبا‪ ،‬فذلك حين يقول الكافر‪...« :‬‬ ‫ِ‬ ‫تعالى أن يأخذ للجم ِ‬
‫اء ِم َن‬ ‫َّ‬
‫اب» (النبأ‪ ، »)40 :‬بل و ُي ْر َوى أن النبي رأى في إحدى المرات َشا َت ْي ِن‬
‫‪39‬‬
‫َيا َل ْيتَنِي ك ُ‬
‫ُنت ت َُر ً‬
‫تنتطحان‪ ،‬فسأل أبا ذر عن سبب تناطحهما‪ ،‬فأخبره بأنه ال يدري‪ ،‬فقال النبي‪« :‬ولك ّن‬
‫ربك يدري‪ ،‬وسيقضي بينهما يوم القيامة»‪ .40‬اعتما ًدا على مثل هذه النصوص‪ ،‬لم يجد‬
‫أكثر المتكلمين صعوب ًة في الخلوص إلى القول بنوع من أنواع التعويض األخروى‬
‫الحيوانات‪ .‬اعتقد المذهب المعتزلي ــ واسع االنتشار في العصور الوسطى‬
‫ُ‬ ‫ُج َازى به‬
‫ت َ‬
‫ــ بخضوع الله للواجب األخالقي في واقع األمر؛ األمر الذي يلزمه بتعويض هذه‬
‫الـ«عوض» استحسانًا من ِق َبل أصحاب المذهب السني‬ ‫ِ‬ ‫تلق عقيدة‬
‫المخلوقات! لم َ‬
‫السائد‪ ،‬إذ رأوا أنه من التهافت بمكان عند الحديث عن الله أن نقول بخضوعه ألي‬
‫فضال عن الواجب األخالقي‪ .‬ال ُينْ َت َظر من الله ح ًّقا ّإل أن ُي َع ِّوض الحيوانات‬
‫شيء‪ً ،‬‬
‫البريئة في المعاناة‪ ،‬لكنه يفعل ذلك بدافع من كرمه وحكمته‪ ،‬ال ّ‬
‫ألن الحقائق األخالقية‬
‫البدهية تجبره على ذلك‪ .‬على ّ‬
‫كل‪ ،‬حاولت جميع المذاهب الكبرى أن تعالج المسألة‪،‬‬
‫‪41‬‬
‫أو أن تخ ّفف من حدتها من خالل القول بشكل من أشكال الخالص في العالم اآلخر‪.‬‬

‫معاناة األطفال‬
‫تُذكرنا معاناة األطفال في بعض جوانبها بموضوع الحيوانات آنف الذكر‪ .‬وألن‬
‫أيضا) غير واقعين تحت‬
‫صغار السن ممن هم دون البلوغ ُيعتبرون (هم وفاقدو العقل ً‬
‫طائلة القانون‪ ،‬وال يتقيدون بسلوك أخالقي ُم ْل ِزم‪ ،‬رغم بقائهم في طور من الوعي ال‬

‫‪ 39‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ج ‪ ،9‬حتقيق‪ :‬اللجنة العلمية بمركز دار املنهاج للدراسات‬
‫والتحقيق العلمي (جدة‪ :‬دار املنهاج‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2011‬ص ‪ .562‬رواه احلاكم يف «املستدرك»‬
‫(‪.)317/2‬‬
‫‪ 40‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ .562‬رواه أمحد يف «املسند» (‪ ،)162/5‬والطياليس يف «مسنده» (‪.)480‬‬
‫‪ 41‬ملزيد مطالعة حول موضوع معاناة احليوان‪ ،‬انظر كتاب سارة التلييل ‪« :Sarra Tlili‬احليوانات يف القرآن‬
‫‪ ،)Cambridge: Cambridge University Press, 2012( ،»Animals in the Qur’ān‬ومادة كونيت‬
‫إم‪ .‬شيمشك ‪« :Cüneyt M. Şimşek‬مشكلة أمل احليوان‪ :‬مقدمة إىل مقاربة النوريس ‪The Problem‬‬
‫‪ »of Animal Pain: An Introduction to Nursi’s Approach‬يف الكتاب الذي حرره‪ :‬أبو ربيع ‪Abu‬‬
‫‪ ،Rabi‬ص ‪ 111‬ــ ‪.34‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪74‬‬
‫شك‪ ،‬فإنه ليس من الممكن أن تكون المعاناة التي يقاسونها عقا ًبا لهم‪ .‬وال يمكن‬
‫التعويض داخلها‪ ،‬لذا ال‬
‫َ‬ ‫تتضمن‬
‫ّ‬ ‫بسهولة اعتبار هذه المعاناة ابتال ًء ما دامت االبتالءات‬
‫يمكن أن تنطبق مثل هذه الفئة من المعاناة بصورة صحيحة على مخلوقات ال تمتلك‬
‫نو ًعا من النضج األخالقي‪ .‬وفي ثنايا هذه المسألة العص ّية‪ ،‬سعى المعتزلة في الحفاظ‬
‫اإللهي دون مساس؛ من خالل تطوير مجموعة من النظر ّيات المعقدة‬ ‫ّ‬ ‫على أصل العدل‬
‫ٍ‬
‫ذنوب‬ ‫الم ْس َبق الذي قد يقاسيه األطفال من أجل التكفير عن‬‫القائلة بنوع من العقاب ُ‬
‫يرتكبونها وهم في مرحلة البلوغ بعد ذلك‪ ،‬فإذا وافتهم المن ّية وهم في مرحلة الطفولة‪،‬‬
‫فذلك ألن الله يعلم أن بقاءهم على قيد الحياة سيقودهم نهاية األمر إلى حياة غاطسة في‬
‫البعض معاناة األطفال حقيقة مفروضة‬‫ُ‬ ‫البؤس والعصيان‪ .‬من وجهة نظر أخرى‪ ،‬يرى‬
‫التلهي بالدنيا وأمورها لدى البالغين‪ .‬على كل‪ ،‬لم يتردد‬
‫في العالم من أجل الحدّ من ِّ‬
‫أصحاب الشك في اإلشارة إلى أن هذه المعالجة ليست من النوع المثالي الذي يمكن‬ ‫ُ‬
‫الذو ُد به عن أصل العدل اإللهي الذي يقولون به‪.‬‬ ‫َّ‬
‫ٍ‬
‫بفضل من الله‪ ،‬ال‬ ‫مصير األطفال الذين يموتون دون البلوغ؛ وذلك‬
‫ُ‬ ‫إن الجن َة إذن‬
‫َّ‬
‫بمز ّية يتحققون بها في هذا العالم‪ ،‬ولعل هذا يؤ ِّدي إلى نوع من التعويض األخروي‬
‫‪42‬‬
‫عما قاسوه في هذه الدنيا من معاناة‪.‬‬
‫َّ‬

‫الم َك َّلفين‬
‫معاناة األبرياء من ُ‬
‫رئيسا فحسب لدى‬ ‫ال يشكل تعويض األطفال والحيوانات في اآلخرة موضو ًعا ً‬
‫أخروي تشير في‬
‫ّ‬ ‫المذاهب اإلسالمية الكبرى‪ ،‬بل القرآن ك ّله عبارة عن موعظة ونذير‬
‫استمرار محموم إلى َو َجازة حياة اإلنسان‪ ،‬والخلود في العالم اآلخر‪ ،‬وال ّ‬
‫ينفك عن‬
‫الخاصة‬
‫ّ‬ ‫الكوني األكبر الذي يعكس فرض َّيته‬
‫ّ‬ ‫اإللهي في سياق المراد‬
‫ّ‬ ‫تأكيده على العدل‬
‫بالرحمة اإللهية‪ ،‬والوساطة المناسبة وف ًقا لمنظور األبدية‪ 43.‬وفي ظالل هذه التوطئة‪،‬‬

‫‪ 42‬انظر كتاب جاكسون جني إيد َملن سميث ‪ ،Jackson Jane Idleman Smith‬وإيفون يازيبك حداد‬
‫‪ The Islamic Understanding of Death and Resurrection« :Yvonne Yazbeck Haddad‬الفهم‬
‫اإلسالمي للموت والبعث» (‪ ،)Albany: State University of New York Press, 1981‬ص ‪ 168‬ــ‬
‫‪.82‬‬
‫الفردي بعد املوت‪ ،‬إذ ال يمكن للمعاناة أن يرتتب عليها‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان‬ ‫بقاء‬ ‫عىل‬ ‫اإلرصار‬ ‫جاء‬ ‫هنا‬ ‫ومن‬ ‫‪43‬‬
‫‪75‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫يمكن الوقوف على قدر كبير من الراحة في الفكرة القائلة بأن نسيان اإلنسان الكامل‪،‬‬
‫الملذات الفردوسية تساعد بشكل أساس في انمحاء ذاكرة بؤسه‬ ‫َّ‬ ‫وانغماسه التام في‬
‫ضرا في‬
‫األرضي انمحا ًء تا ًّما‪ُ .‬روي في ذلك حديث عن النبي يقول‪ُ « :‬ي ْؤتَى بأشد الناس ًّ‬
‫ّ‬
‫‪44‬‬ ‫ضرا ُّ‬
‫قط؟ فيقول‪ :‬ال» ‪.‬‬ ‫رأيت ًّ‬ ‫الدنيا‪ ،‬ف ُيقال‪ :‬اغمسوه في الجنة غمس ًة‪ ،‬ثم ُيقال له‪ :‬هل َ‬
‫وطب ًقا لكاتب ُم َتن َِّسك معاصر‪« :‬سوف يصحو اإلنسان من بشاعة حلم يمتلئ بالعذاب‬
‫الشديد والخوف‪ ،‬ليجد نفسه في بيته وبجانبه أحبابه‪ ،‬والشمس تتد ّفق عبر النافذة‪ ،‬ومن‬
‫أمامه مستقبل واعد بالحبور‪ ،‬وما ثمة شوق وتوق إال وهو فيه منغمس‪ ...‬حتام يبقى‬
‫ستذكرا شقاو َة حلمه الذي كان؟»‪.45‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان إذن ُم‬
‫ووضوحا من العالم الذي تقطنه اإلنسانية‬
‫ً‬ ‫أكثر واقعي ًة‬
‫ُيعت َقد أن تكون الجن ُة موطنًا َ‬
‫اآلن‪46‬؛ ما يتيح للمؤمنين رؤية أفضل للمحن والشدائد التي واجهوها على األرض‪،‬‬
‫ولن يمر المؤمن بهذه التجربة من أجل تعويضه عن الكبد الذي عاناه في الدنيا فحسب‪،‬‬
‫بأن الله «أرحم‬ ‫لكن من أجل َم ْح ِقه واستئصاله عن آخره‪ .‬يدل على ذلك اعتقاد النبي َّ‬
‫بعبده المؤمن من الوالدة الشفيقة بولدها»‪ .47‬وللنبي «حوض» فردوسي َي ِر ُد عليه‬
‫المؤمنون قبل دخولهم الجنة‪ ،‬فيغسل عنهم أحزانهم‪ ،‬ولربما يرجون بعد ذلك تحصيل‬
‫اللذة الكبرى؛ أعني «الرؤية» التي تمثل اعتقا ًدا ذا أهمية ُعظمى لدى أهل السنة‪ .‬وكما‬
‫أهل النعيم في غفلة عن معاناتهم السابقة‪ ،‬فإن رؤية الله من االستثناء‬‫تجعل الجن ُة َ‬
‫بمكان؛ ما يجعلها ال ُتن ِْسيهم بؤسهم األرضي فحسب‪ ،‬لكن نعيم الجنة كذلك‪.48‬‬

‫ً‬
‫أصيل يف احلياة اآلخرة‪.‬‬ ‫التعويض املكافئ إال يف بقاء الذوات اإلنسانية بقا ًء‬
‫الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ج ‪ ،9‬حتقيق‪ :‬اللجنة العلمية بمركز دار املنهاج للدراسات‬ ‫‪44‬‬
‫والتحقيق العلمي (جدة‪ :‬دار املنهاج‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2011‬ص ‪ .590‬رواه هبذا اللفظ موقو ًفا عىل‬
‫أنس بن مالك يف «الزهد» (‪ ،)611‬وأصله عند مسلم (‪ )2807‬من حديث أنس مرفو ًعا‪.‬‬
‫انظر كتاب تشارلز يل جاي إيتون (حسن عبد احلكيم) ‪« :Charles le Gai Eaton‬اإلسالم ومصري‬ ‫‪45‬‬
‫اإلنسان ‪Albany: State University of New York Press,( »Islam and the Destiny of Man‬‬
‫‪ ،)1985‬ص ‪.239‬‬
‫« َف َب َُص َك ا ْل َي ْو َم َح ِديدٌ » (ق‪.)22 :‬‬ ‫‪46‬‬
‫الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬إحياء علوم الدين‪ ،‬ج ‪ ،7‬حتقيق‪ :‬اللجنة العلمية بمركز دار املنهاج للدراسات‬ ‫‪47‬‬
‫البخاري‬
‫ُّ‬ ‫َ‬
‫احلديث‬ ‫والتحقيق العلمي (جدة‪ :‬دار املنهاج‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2011‬ص ‪ .496‬روى‬
‫(‪ ،)5999‬ومسلم (‪.)2754‬‬
‫املصدر السابق‪ ،‬ج ‪ ،9‬ص ‪ .672‬ملزيد مطالعة حول نظرية العدالة اإلهلية وعلم األخرويات؛ انظر‬ ‫‪48‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪76‬‬
‫أن المتكلمين‬ ‫َ‬
‫الملجأ الذي ُي ْلت ََجأ إليه ً‬
‫كثيرا في هذا الصدد‪ ،‬إال َّ‬ ‫األخرويات‬
‫ُ‬ ‫كانت‬
‫أيضا‪.‬‬
‫طرق الله بقوانين هذا العالم الدنيوي ً‬ ‫ٍ‬
‫تأويالت ت َُس َّوغ فيها ُ‬ ‫كثيرا ما سعوا إلى‬
‫ً‬
‫المتأ ِّملين في الحكمة اإللهية وراء خلق أنواع المعاناة سواء كانت‬ ‫اندفع كثير من ُ‬
‫وسائلية‪ ،‬أو ُم َط ّهرة‪ ،‬أو عالجية بإصرارهم القوي الوقوف على الغايات اإللهية وراء‬
‫كل شيء ما أمكنهم ذلك‪ .‬مثلما َّ‬
‫أن شريعة الله موضوعة للمنفعة اإلنسانية‪ ،‬واألحكام‬
‫الفردية‪ ،‬فإنه يجب بالتالي أن تكون منفتح ًة على تأويلها وتعليلها‪ ،‬للوقوف على‬
‫الغايات اإللهية الرحمانية وراء مسائل بعينها‪ ،‬وكذلك ينبغي أن تكون إرادتُه في الخلق‬
‫محلًّ للنظر والتأويل اإلنساني‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬يقع هذا البحث في القلب من الفكر المعتزلي‬
‫الذي انتهى إلى القول بنظرية «أفضل العوالم الممكنة»‪ ،‬ألنه لو لم يقم بذلك‪ ،‬فإنه‬
‫األمر هنا بأصل العدل اإللهي‬ ‫ُ‬ ‫يكون وبصورة قاطعة مخال ًفا لطبيعته اإللهية‪ ،‬إذ يتعلق‬
‫«ل َي ْظ ِل ُم ِم ْث َق َال َذ َّر ٍة» (النساء‪،)40 :‬‬
‫حسما‪ ،‬فالله َ‬
‫ً‬ ‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫الذي ُيعد أكثر جوانب الفعل‬
‫الح ِك ِمي َن» (التين‪)8 :‬؟‬
‫يس ال َّل ُه بِ َأح َك ِم َٰ‬
‫« َأ َل َ‬
‫دائما‪،‬‬
‫يرى الكال ُم المعتزلي أنه من الواجب على الله أن يخلق «األصلح» لعباده ً‬
‫إلها‪ .‬وما دام النقص يعتري العالم‪ ،‬ولم‬
‫يصح أن يكون ً‬
‫ّ‬ ‫ألنه إن عجز عن ذلك‪ ،‬فال‬
‫يقم الله بخلق عالم آخر بديل عن هذا العالم الواقع‪ ،‬فال بد أن يرجع ذلك إلى العجز‬
‫اإللهي؛ األمر الذي يناقض القول بقدرته المطلقة‪ ،‬أو إلى البخل‪ ،‬وفي هذه الحالة لن‬
‫ورحيما بوجه تا ّم‪ 49.‬وف ًقا لتقرير المعتزلة األوسع‪ ،‬ت َُس ِّلم هذه الرؤية بأن‬
‫ً‬ ‫يكون ً‬
‫عادل‬
‫إلها مثله‪،‬‬
‫الفعل اإللهي ُم َس َّيج بحشد من االستحاالت‪ ،‬فكما ال يقدر الله أن يخلق ً‬
‫أو أن يقرر انعدام ذاته‪ ،‬فإنه ال يقدر كذلك إجراء الظلم في العالم‪ .‬وللسبب نفسه‪ ،‬ال‬

‫حجج النوريس االثنتي عرشة يف مادة توماس ميشيل ‪ Thomas Michel‬املنشورة بعنوان‪« :‬بعث‬
‫األموات ويوم القيامة يف فكر سعيد النوريس ‪The Resurrection of the Dead and Final Judgment‬‬
‫‪ ،»in the Thought of Said Nursi‬يف الكتاب الذي حرره أبو ربيع ‪ ،Abu Rabi‬ص ‪ 29‬ــ ‪.30 ،40‬‬
‫ال ْسن َٰى َو ِز َيا َدةٌ» (يونس‪ .)26 :‬وهذه الزيادة هي النظر إىل‬ ‫ِ‬
‫يقول الغزايل‪«« :‬قال تعاىل‪ِّ « :‬ل َّلذي َن َأ ْح َسنُوا ْ ُ‬
‫نعيم اجلنة»‪ .‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬إحياء علوم الدين‪،‬‬
‫وجه اهلل تعاىل‪ ،‬وهي اللذة الكربى التي ُين َْسى فيها ُ‬
‫ج ‪ ،9‬حتقيق‪ :‬اللجنة العلمية بمركز دار املنهاج للدراسات والتحقيق العلمي (جدة‪ :‬دار املنهاج‪ ،‬الطبعة‬
‫األوىل ‪ ،)2011‬ص ‪( .627‬املرتجم)‬
‫‪ 49‬انظر أورمسبي ‪.Ormsby, 62‬‬
‫‪77‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫ٍ‬
‫إنسان على اتِّخاذ قرارات بعينها‪ ،‬إذ اإلنسان مخلوق حر‪ ،‬ولذا ُي ْع َزى‬ ‫يتمتع بحرية إجبار‬
‫الشر األخالقي الحادث إلى اإلرادة اإلنسانية بصورة مستقلة‪ ،‬ال إلى اإلرادة اإللهية‬
‫بأي صورة‪ .‬وانطال ًقا من هذه النقطة‪ ،‬قاموا بفعل الدوران في مجموعة من التحركات‬
‫النظرية‪ ،‬عائدين في الغالب إلى رجاء العوض األخروي في تع ُّلقه بالمعاناة الدنيوية‬
‫بالعوض مدفو ًعا عن آخره بقناعة‬ ‫الظاهرة‪ ،‬وغير المستحقة‪ .‬وال شك‪ ،‬كان االعتقاد ِ‬
‫وجوب أن يضمن الل ُه عدال ًة ظاهر ًة وحقيقي ًة في عالمه المخلوق‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬لم تكن هذه األفكار التي توصل إليها المعتزلة حول اإلرادة والقدرة اإللهية‬
‫موضع ترحيب لدى أهل السنة‪ ،‬وهو المذهب الكالمي المهيمن‪ ،‬بل كانت ّ‬
‫محل نزاع‬
‫شديد‪ .‬انخلع المؤسس األول للكالم األشعري {أبو الحسن األشعري} عن ثوب‬
‫االعتزال الذي كان يرتديه من قبل؛ إثر خيبة أمل أصابته في نظريته حول العدالة اإللهية‪.‬‬
‫يرى األشاعرة أنه من الواضح تجريب ًّيا أن عالمنا ليس أفضل العوالم الممكنة‪ ،‬فمن‬
‫قادرا‬ ‫َ‬
‫الفاعل في العالم ــ وفق القيود التي تمناها عليه المعتزلة ــ لن يكون ً‬ ‫الج ِل ّي أن الل َه‬
‫َ‬
‫ممن يموتون في الكفر‪ ،‬ويدخلون النار َقدَ ًرا! وال‬
‫المدقع ّ‬
‫على خلق معاناة أهل الفقر ُ‬
‫شك في وجود مثل هؤالء األشخاص بالعالم‪ 50.‬واألكثر خطورة من ذلك أن المعتزلة‬
‫ٍ‬
‫أفعال ممكنة على الله حتى‬ ‫في واقع األمر يستأصلون الحري َة اإللهية في قولهم بوجوب‬
‫فعل واحدً ا يتكرر في ّ‬
‫كل موقف؛ ما يشي بالتأثير الهلنستي الدخيل الذي أدى‬ ‫وإن كان ً‬

‫‪ 50‬انظر‪ :‬اللقاين‪ ،‬برهان الدين إبراهيم بن حسن‪ ،‬حتفة املريد رشح جوهرة التوحيد‪ ،‬ضبط وتصحيح‪:‬‬
‫عبد اهلل حممد اخللييل (بريوت‪ :‬دار الكتب العلمية‪ ،‬الطبعة الثانية ‪ ،)2004‬ص ‪ 109‬ــ ‪.110‬‬
‫يقول اللقاين‪« :‬ويستحيل عليه‪{ ...‬أن} يكون ألحد صفة كصفته تعاىل‪ ،‬أو يكون معه يف الوجود مؤثر‬
‫عاجزا عن ممكن ما‪ ،‬وهذا ضد القدرة‪ .‬وأن‬ ‫ً‬ ‫يف فعل من األفعال‪ ،‬وهذا كله ضد الوحدانية‪ .‬وأن يكون‬
‫يوجد شي ًئا من العامل مع كراهته لوجوده‪ ،‬أو يعدم شي ًئا مع كراهته لعدمه‪ :‬أي عدم إراته له‪ ،‬أو مع‬
‫الذهول أو الغفلة‪ ،‬فالذهول‪ :‬ذهاب اليشء من احلافظة واملدركة أو من أحدمها‪ ،‬واألول نسيان‪ ،‬والثاين‬
‫سهو‪ ،‬وأما الغفلة فهي السهو‪ .‬أو مع التعليل بأن يكون الباري علة تنشأ عنه اخلالئق من غري اختيار‬
‫وال توقف عىل وجود رشط وانتفاء مانع‪ ،‬كحركة اخلاتم فإهنا نشأت عند القائلني بالتعليل عن حركة‬
‫األصبع‪ ،‬فعندهم حركة األصبع علة يف حركة اخلاتم‪ ،‬ونحن نقول اخلالق حلركة األصبع‪ ،‬وحلركة‬
‫اخلاتم هو اهلل تعاىل من غري تأثري حلركة األصبع يف حركة اخلاتم‪ .‬أو مع الطبع بأن يكون الباري طبيعة‬
‫تنشأ عنه اخلالئق من غري اختيار مع التوقف عىل وجود الرشوط وانتفاء املوانع‪ ،‬كالنار فإهنا تؤثر بطبعها‬
‫املامسة وانتفاء مانع البلل‪ ،‬ونحن نقول‪ :‬املؤثر يف اإلحراق هو اهلل‬
‫عندهم يف اإلحراق مع وجود رشط ّ‬
‫أصل‪ ،‬وهذا كله ضد اإلرادة»‪ .‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 109‬ــ ‪( .110‬املرتجم)‬ ‫تعاىل‪ ،‬وال تأثري للنار ً‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪78‬‬
‫بتجرد السبب األول عن مفهو َمي الحرية ومماثلته‬ ‫‪51‬‬
‫بطيماوس في النهاية إلى القول ُّ‬
‫الحياة الشخصية اللذين يقوم عليهما التوحيد اإلبراهيمي‪ .‬لقد اشترى المعتزل ُة حري َة‬
‫اإلنسان‪ ،‬لك َّن الثمن الذي دفعوه كان الله ذاته‪.‬‬
‫ِ‬
‫المعتزلة عدي ِم االختيار إلى طرح مجموعة من‬ ‫أدى استياء األشاعرة من ِ‬
‫إله‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫المعالجات المختلفة لمشكلة الشر‪ ،‬والتي ترقى في حقيقة األمر إلى أن تكون نظرية‬
‫مقابلة تما ًما لمفهوم العدالة اإللهية لدى المعتزلة‪ .‬انطلق األشاعرة من القول ببدهيات‬
‫القدرة واإلرادة اإللهية المطلقة‪ ،‬مخالفين في ذلك المعتزلة‪ ،‬وانطالقهم من أصل العدل‬
‫إلهي ذي تصرف إبداعي قويم؛ ومن أجل‬ ‫اإللهي‪َ .‬ر َّد األشاعر ُة مبد َأ العدل إلى اختيار ّ‬
‫ٍ‬
‫والخير إذن‬
‫ُ‬ ‫ذلك أنكروا بصرامة وجو َد حقائق أخالقية تتح َّلى بالموضوعية‪ .‬ليس ُّ‬
‫الشر‬
‫حقائق أفالطوني ًة‬
‫َ‬ ‫بالح َسن والقبيح ــ‬
‫ــ أو كما ُي َع َّبر عنهما في فلسفة اإلسالم األخالقية‪َ :‬‬
‫الق َي ِمي أنطولوج ًّيا‪ ،‬وباعتباره‬
‫يتَّصف وجودهما بالقيام بالذات‪ .‬يتجذر هذا األساس ِ‬
‫َّ‬ ‫ُ‬
‫كل فعل‪ ،‬حتى األفعال اإللهية‪ ،‬بصورة ال يمكن للذات اإلنسانية فيها‬ ‫َتت ََحدَّ د قيم ُة ّ‬
‫الظواهر الحس ّية األخرى‪ .‬يرتبط‬
‫ُ‬ ‫أن تدركها مستقل ًة وموثوق ًة بالطريقة التي تُدْ َرك بها‬
‫ٍ‬
‫نظرية‬ ‫دي ال يشعر بالراحة حيال صياغة أي‬ ‫األشعري غال ًبا بتقليد صوفي تع ُّب ّ‬
‫ّ‬ ‫المذهب‬
‫ٍ‬
‫بمكان‪ ،‬اال ِّدعاء بأن العقل‬ ‫تقوم على غطرسة اإلنسان‪ ،‬إذ من الغرور‪ ،‬والصعوبة الفلسفية‬
‫اإلنساني يملك سلطة التعرف على الحقائق الطبيعية‪ ،‬ويزداد الغرور حدّ ًة في اد ِ‬
‫عاء أن‬ ‫ِّ‬ ‫ُ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الخالق موضو ًعا للنظر‪ ،‬أو أن يكون خاض ًعا لهذه الحقائق الطبيعية اآلنفة‪ .‬ال‬ ‫ُ‬ ‫يكون‬
‫يمكن لله أن يكون واق ًعا تحت سلطة الضرورة األخالقية؛ ومن هنا يرى الغزالي (توفي‬
‫الح َسن والقبيح عبارتان عند الخلق كلهم عن أمرين إضاف َّيين‪ ،‬يختلفان‬ ‫‪َّ :)1111‬‬
‫«أن َ‬
‫جاز أن يكون‬
‫باإلضافات ال عن صفات الذوات التي ال تختلف باإلضافة‪ .‬فال َج َر َم َ‬
‫حق‬
‫حق عمرو‪ ،‬وال يجوز أن يكون الشي ُء أسو َد في ِّ‬
‫قبيحا في ِّ‬
‫حق زيد‪ً ،‬‬ ‫الشي ُء حسنًا في ِّ‬
‫ُ‬
‫األلوان من األوصاف اإلضافية»‪.52‬‬ ‫لما لم تكن‬
‫حق عمرو؛ َّ‬‫أبيض في ِّ‬
‫زيد‪َ ،‬‬

‫‪ 51‬طياموس‪ :‬فيلسوف فيثاغوري‪ ،‬وأحد املشاركني الرئيسيني يف حماورة طياموس؛ وسميت املحاورة‬
‫باسمه‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ 52‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬االقتصاد يف االعتقاد‪ ،‬بعناية‪ :‬أنس حممد عدنان الرشفاوي (جدة‪ :‬دار املنهاج‪،‬‬
‫الطبعة الثانية ‪ ،)2021‬ص ‪.224‬‬
‫‪79‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫يرى األشاعرة قبول «نسبة الشر إلى الله» بوجه من الوجوه‪ ،‬لكن اعت ُِقد في مثل هذا‬
‫بدل من ذلك‪ ،‬ينبغي على‬ ‫القول أنه ال يخلو من االختزال‪ ،‬وسوء األدب مع الله‪ ،‬إذ ً‬
‫كل ما هو مخلوق إلى الله بوجه العموم؛ األمر الذي ينسجم تما ًما‬ ‫المرء أن يقول بنسبة ِّ‬
‫ليس إ َل ْي َك»‪ .53‬يرى كثير‬ ‫«وا ْل َخ ْي ُر ُك ُّل ُه في َيدَ ْي َك‪َ ،‬و َّ‬
‫الش ُّر َ‬ ‫مع ما ورد عن النبي في صالته‪َ :‬‬
‫من األشاعرة إذن أن الشر ما هو إال تعبير يحمل مضمونًا يتق ّيم بالسلب وف ًقا لمقدار‬
‫تمر بها ذواتُنا اإلنسانية‪ ،‬لذا من الخطأ وصفه بأنه َش ٌّر بحدّ ذاته في تع ُّلقه‬
‫التجربة التي ّ‬
‫بالتشريع اإللهي‪ .54‬تأتي تجربة اإلنسان في التحقق ضروري ًة مثلما قيل‪ ،‬من أجل تجنّب‬
‫أمرا مشرو ًعا بكل بساطة‪ ،‬ومن أجل التأكيد على منطقية‬
‫الشر ً‬
‫القول بأي طرح يرى َّ‬
‫مواجهته بالفعل‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بوجوه‬ ‫قام األشاعرة في ثنايا مواجهة الموضوعية المعتزلية بوضع نظرية ُو ِص َف ْت‬
‫إلهي‪ ،‬أو ذاتية إلهية؛ يتعالى فيها الل ُه على إطار‬
‫ّ‬ ‫مختلفة بأنها إراد ّية‪ ،‬أو نظرية أمر‬
‫الحقوق والواجبات الذي يحكم ذواتنا اإلنسانية الواهنة؛ ما يعني أنّه ال يجب عليه‬
‫أي شيء إزاءنا‪ .‬وحتى أعظم نعمة امت َّن الله بها على العباد‪ ،‬أعني إنزاله الوحي سع ًيا‬
‫في الهداية‪ ،‬لم يكن نو ًعا من اإلمضاء لِ َما يمكن أن نسميه واج ًبا أخالق ًّيا ما‪ ،‬لكنه كان‬
‫اإللهي‪« :‬إن أفعاله تعالى عندهم {األشاعرة} غير معللة‬ ‫ّ‬ ‫مجرد تعبير عن حكمته ولطفه‬
‫ِ‬
‫عما يفعل‪ ،‬وال ُيطلب له اللمية‪ ،‬فاإلرسال عندهم بمجرد‬ ‫بالعلل واألغراض‪ ،‬وال ُي ْس َأل َّ‬
‫تع ّلق إرادته تعالى بذلك‪ ،‬ال رعاية لمصالح العباد‪ ،‬والحكم على سبيل الوجوب كما‬
‫صاحب ُح ْس ٍن أخالقي بأي معنى إنساني‪،‬‬
‫َ‬ ‫هو مذهب المعتزلة»‪ .55‬ولهذا‪ ،‬لم يكن الل ُه‬
‫صحيحا‪ ،‬يتَّصف بالحكمة‪ .‬الله عادل‪ ،‬لكن وف ًقا‬
‫ً‬ ‫ألنه يسلك في العالم سلوكًا اعتياد ًّيا‬
‫للتعريف الذي يتناسب مع طبيعته اإللهية‪ ،‬إذ العدل معناه وضع الله الشيء في موضعه‬
‫حس اإلنسان األخالقي نو ًعا من‬
‫المناسب‪ .‬ولربما تصدر عن الله أفعال يعتبرها ّ‬

‫‪ 53‬صحيح مسلم (‪.)771‬‬


‫‪ 54‬انظر كتاب حممد صالح الفرفور ‪« :Muhammad Salih Farfur‬الرسالة النافعة واحلجة القاطعة يف‬
‫علم التوحيد ‪»The Beneficial Message and the Definitive Proof in the Study of Theology‬‬
‫(‪ ،)London: Azhar Academy, 2010‬ص ‪.151‬‬
‫‪ 55‬حاشية الكستيل عىل رشح العقائد النسفية‪ ،‬الكستيل‪ ،‬مصلح الدين مصطفى (إسطنبول‪ :‬رشكت‬
‫صحافيه عثامنيه‪ ،)1326 ،‬ص ‪.165‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪80‬‬
‫االستبداد بداه ًة‪ ،‬وليس هذا ضر ًبا من الحماقة‪ ،‬إذ تختلف األفعال اإللهية عن األفعال‬
‫ِ‬
‫اإلنسانية في أنها ليست محكوم ًة ق َي َم ًّيا بمفاهيم الطاعة والعصيان‪ .‬نخلص ً‬
‫أخيرا إلى‬ ‫‪56‬‬

‫اإلنساني على‬
‫ُّ‬ ‫الفهم‬
‫ُ‬ ‫أن القدرة اإللهية المطلقة تتضمن سلطة أن ُت ْف َرض معانا ٌة ال يشك‬
‫خطرا‬
‫رؤيتها نو ًعا من الظلم‪ ،‬وفوق الطاقة‪ ،‬ورغم ذلك‪ ،‬ال يمكن لهذا األمر أن يشكل ً‬
‫ُيهدد مبدأ الحكمة اإللهية‪.‬‬
‫َّعرف تجريب ًّيا على الفضائل بالقدر الذي تظهر فيه «األسماء الحسنى»‬
‫ولربما يمكن الت ُّ‬
‫الطبيعي‪ ،‬لك ّن الوحي وحده هو‬
‫ّ‬ ‫للعقل بعد أن كانت كامن ًة في ّ‬
‫النص المقدس‪ ،‬والنظا ِم‬
‫المعياري لذلك‪ .‬ورغم كون القانون األخالقي الذي‬
‫ّ‬ ‫الذي يقدر على إمدادنا باإلطار‬
‫نطق عنه الوحي ليس م ْل ِزما لإلله المريد والم ِ‬
‫هيمن الذي يقول به األشاعرة‪ ،‬إال أنه‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ً‬ ‫ُ‬
‫اإللهي‪« :‬ال تقتل» إال على عاتقه ال‬
‫ّ‬ ‫ُم ْل ِز ٌم لإلنسان من جهة أخرى‪ ،‬إذ ال يقع التوجيه‬
‫شك؛ وذلك لخضوعه المباشر لألمر اإللهي‪ .‬وال يمكن القول بأنه واجب على الله في‬
‫ألن ذلك يحد من إرادته وقوته‪ ،‬و ُيجبره على الركوع أمام قانون خارج‬ ‫نفس الوقت‪ّ ،‬‬
‫مضطرا إلى بعض الفضائل التي‬ ‫ً‬ ‫نصوص إلى كون الله‬ ‫ٍ‬ ‫عنه‪ ،‬مسيطر عليه‪ .‬ورغم إشارة‬
‫ِ ِ‬
‫َب َر ُّبك ُْم َع َل ٰى َن ْفسه َّ‬
‫الر ْح َم َة‪( »...‬األنعام‪،)57 :‬‬ ‫طرحها كمقياس لطبيعته كقوله‪َ ...« :‬كت َ‬
‫إال أنه ال يمكنها إسقاط ح ِّقه اإللهي في تعريفها وتحديد ماهيتها‪ .‬ال وجود لنظرية في‬
‫ورحيما وف ًقا‬
‫ً‬ ‫العدالة اإللهية ذات مغزى حقيقي في هذا النظام الفكري ما دام الله ً‬
‫عادل‬
‫دائما ومفاهيم اإلنسان‪ ،‬سواء كانت جمالي ًة‬ ‫لقانون الحكمة الذي ال يجب أن يتماشى ً‬
‫إلهي ُمن ََّزل‪ .‬في حقيقة األمر‪ ،‬يرى األشاعر ُة َّ‬
‫كل محاولة لل َب ِّت‬ ‫من وضعه‪ ،‬أو من وض ٍع ٍّ‬
‫إخضاع اإللهي للحقائق الطبيعة القبلية‪،‬‬
‫َ‬ ‫في الثيوديسيا نو ًعا من الغطرسة في إلحاحها‬
‫اإلنساني غير المعصوم‪.‬‬
‫ّ‬ ‫َ‬
‫واالمتثال للحدس‬
‫ليس في إمكان العقول اإلنسانية إذن تقييم األفعال وحتى التشريعات اإللهية كما‬
‫ٍ‬
‫مقاربات‬ ‫النزوع غالب األمر إلى‬ ‫ينبغي‪ .‬نعم‪ ،‬تعتاد الحكم ُة اإللهي ُة عند الممارسة‬
‫َ‬

‫‪ 56‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪.75‬‬


‫البلخي أنه ال يقدر عىل مثل مقدور العبد»‪:‬‬
‫ّ‬ ‫«فهو بكل يشء عليم‪ ،‬وعىل كل يشء قدير‪ ،‬ال كام يزعم‪...‬‬
‫ِ‬
‫مقدوره إما طاعة‪ ،‬أو معصية‪ ،‬أو َس َفه‪ ،‬وأفعاله تعاىل متعالية عنها‪ ،‬ومل َيدْ ر أن هذه اعتبارات‬
‫َ‬ ‫زعم منه أن‬
‫ً‬
‫َت ْع ِرض لفعل العبد عند صدوره عنه»‪ .‬انظر‪ :‬املصدر السابق‪( .‬املرتجم)‬
‫‪81‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫مساره؛‬
‫َ‬ ‫تنسجم في أنماط مالئمة‪ ...‬عن طريقها يمكن لإلدراك العقلي أن يسلك‬
‫األمر الذي يتيح ممارسة التعليل بنوع من الحذر‪ ،‬لك ّن الهوة السحيقة ما بين اإللهي‬
‫واإلنساني ال تضمن استمرار ذلك‪ .‬ومن هنا‪ ،‬فإن الحجة التي ُيستدَ ل بها على عدم‬
‫وجود الله اعتما ًدا على الفشل اإللهي في اإلجابة عن اختبارات إنسانية كثيرة‪ ،‬ال تلقى‬
‫نفسه إلى هذا المعنى بقوله‪َ :‬‬
‫«ل‬ ‫ُ‬
‫القرآن ُ‬ ‫كبيرا داخل السياق األشعري‪ .‬ألمح‬ ‫اهتما ًما ً‬
‫ُي ْس َأ ُل َع َّما َي ْف َع ُل َو ُه ْم ُي ْس َأ ُل َ‬
‫ون» (األنبياء‪ .)23 :‬لله الحرية كلها إذن في إدارة المعاناة‬
‫حتى وإن لم تكن عقا ًبا أو ابتالء في ذاتها‪ ،‬بل وله إيالم األطفال والحيوانات‪ ،‬وتعذيب‬
‫كل هذا‪ ،‬يبقى عد ُله (وضعه الشيء في موضعه المناسب)‪ً ،‬‬
‫قائما دون‬ ‫أنبيائه‪ ،‬ورغم ّ‬
‫مساس‪ .‬يبرز المفهوم «السامي» لإلله الشخصي هنا ذي الهيمنة الكاملة على مفهوم‬
‫المعتزلة عن اإلله من كونه «ماكينة عدل كوني»‪ ،57‬وكون إله ّيته محكوم ًة بالخلوص‬
‫نتائج أخالقية‪ ،‬وعال ٍم عادل؛ يمكن لإلنسان الوقوف على عناصر العدل فيه بصورة‬
‫إلى َ‬
‫األقل‪.‬‬ ‫ِ‬
‫الناحية النظرية على ّ‬ ‫َح َّصل هذا من‬
‫كاملة حتى وإن ت َ‬
‫سواء ما إذا كانت األشعرية تجعل االختيار اإللهي في العالم متقل ًبا في أساسه بوجه‬
‫أن «األسماء الحسنى» التي أوقفها الل ُه على نفسه في نصه‬ ‫عام‪ ،‬فإنه عاد ًة ما ُيعت َقد َّ‬
‫المقدس تحوي نو ًعا من المضمون الذي يمكن لإلنسان بلو ُغه‪ .‬وعلى الرغم من ّ‬
‫أن‬
‫تشابها بسي ًطا بين الحب اإلنساني والحب اإللهي ً‬
‫مثل ال ينفك إال ويتالشى سري ًعا‪ ،‬إال‬ ‫ً‬
‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫مصدر واحد من اإلخبار‬ ‫أن اعتقا ًدا واس ًعا بوجود عالقة أكثر تعقيدً ا ورمزي ًة‪ ،‬تتجذر في‬
‫َّ‬
‫الكالمي لدى‬
‫ُّ‬ ‫المذهب‬
‫ُ‬ ‫المشترك‪ ،‬أصبح ذا ترحيب واسع داخل هذه األوساط‪َ .‬ف ِهم‬
‫أيضا‪ ،‬يخالف المعتزلة‪ ،‬رغم افتراقه عن األشاعرة في‬ ‫الماتريدية (وهو مذهب سني ً‬
‫مآالت حسنة‬
‫ٌ‬ ‫َ‬
‫مسائل) إسنا َد الحكمة إلى الله على أنها صفة ال بد أن تتأتَّى على إثرها‬
‫ُ‬
‫اإلنسان الحكمة وراءها في بعض الظروف وإن بصورة جزئية‪.‬‬ ‫على الدوام؛ قد يدرك‬
‫اتفق الماتريدية مع األشاعرة في أن الحكمة اإللهية ال تشكِّل ً‬
‫حائل أمام حدوث معاناة‬

‫‪ 57‬انظر مادة خالد بالنكنشيب ‪« :Khalid Blankinship‬االعتقاد املبكر ‪ ،»The Early Creed‬يف الكتاب‬
‫الذي حرره ‪ Tim Winter‬تيم وينرت‪« :‬دليل كامربيدج إىل الكالم اإلسالمي التقليدي ‪The Cambridge‬‬
‫‪Cambridge: Cambridge University Press,( »Companion to Classical Islamic Theology‬‬
‫‪ ،)2008‬ص ‪ 33‬ــ ‪.50 ،54‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪82‬‬
‫ُح ِّقق غاي ًة أسمى منها وأعلى ال‬
‫غير مستحقة‪ ،‬لكنهم زعموا أنه ما من معاناة إال وت َ‬
‫يعرفها إال الله؛ على خالف األشاعرة الذين أصروا على أن الحكمة ليست في الحقيقة‬
‫‪58‬‬
‫إال كلمة ترادف الفعل اإللهي تما ًما‪.‬‬
‫الحجاجي لدى‬
‫ّ‬ ‫كانت إحدى النتائج غير المنطقية التي انتهى إليها هذا النمط‬
‫الماتريدية الخلوص إلى أن النقائص التي يدركها اإلنسان في هذا النظام المخلوق‬
‫ما هي في الحقيقة إال آيات دا َّلة على الوجود اإللهي‪ .‬وفي حين عدم موافقة ابن سينا‬
‫ــ متابعة لليونانيين ــ على هذه الفكرة‪ ،‬إذ أكد على فكرة أن الكمال ال يتو ّلد إال عن‬
‫كامل‪ ،‬فإن الناظر المتأمل يعرف أن هذا االمتالء الكوني وما فيه من ممكنات وأحداث‬
‫النقائص‬
‫ُ‬ ‫فعل إال في انسجامه مع االستقالل اإللهي في الحكمة‪ .‬تدل‬ ‫ال يكون حقيق ًّيا ً‬
‫ضروراني‪ .‬إن‬
‫ّ‬ ‫البادي ُة في العالم على أنها صنيع ُة موجود ُمريد‪ ،‬بل وتنقض َّ‬
‫أي قول بنظا ٍم‬
‫النقائص العالمية‪ ،‬ومن بينها وجود معاناة ال ِع َّل َة لها‪ ،‬تمثل في حقيقتها نو ًعا من الحجة‬
‫على الوجود اإللهي‪ .‬إن حقيقة كون الله ُح ًّرا بإطالق‪ ،‬ال يقيده قيد وال رسم‪ ،‬تتج ّلى في‬
‫ُ‬
‫أجمل‬ ‫قدرته على خلق عالم ال تتعاظم فيه المنفعة اإلنسانية التعا ُظ َم األقصى‪ .‬إن َ‬
‫عالمنا‬
‫وأصدق تعبير عن إرادة الله الكاملة وطبيعته‪ ،‬سواء أكان ُيرضي احتياجاتنا الشخصية أم‬ ‫ُ‬
‫ِ‬
‫اإلزعاج التي تُشير في‬ ‫ِ‬
‫ومصادر‬ ‫ِ‬
‫الظاهرة‪،‬‬ ‫ِ‬
‫النقائص‬ ‫ُ‬
‫الجمال حشدً ا من‬ ‫ويتضمن هذا‬ ‫ال!‬
‫َّ‬
‫‪59‬‬ ‫ً‬
‫استقالل جذر ًّيا‪.‬‬ ‫حقيقتها إلى استقالل صانعه‬
‫كان موقف الغزالي مختل ًفا إلى حد ما عن المفاهيم التي قالت بها األشاعرة‬
‫والماتريدية‪ ،‬إذ كان يرى ْ‬
‫أن «ليس في اإلمكان أبدع مما كان»‪ ،60‬بجانب انغراس نوع‬
‫من الشك داخله تجاه القدرة االسمية لدى األشاعرة في القول بإله ُمتَّصف بالحكمة إلى‬
‫حد بعيد؛ األمر الذي أ ّدى إلى نزاع فكري دام لقرون عديدة‪ .‬يمتاز الغزالي في موقفه‬
‫عن المعتزلة في أنه يرفض تما ًما الضرورانية التي يقولون بها‪ ،‬ويمتاز عن الماتريدية في‬

‫‪ 58‬انظر‪ :‬األسمندي‪ ،‬حممد بن عبد احلميد‪ ،‬لباب الكالم أو كتاب تصحيح االعتقاد يف أصول الدين‪،‬‬
‫وأيضا‪:‬‬
‫حتقيق‪ :‬حممد سعيد أوزرواريل (إسطنبول‪ :‬نرشيات وقف الديانة الرتكي‪ ،)2005 ،‬ص ‪ً ،101‬‬
‫جاكسون ‪ ،Jackson‬ص ‪ 110‬ــ ‪.120‬‬
‫‪ 59‬جاكسون ‪.Jackson, 111–2‬‬
‫‪ 60‬انظر‪ :‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬إحياء علوم الدين (بريوت‪ ،‬دار ابن حزم‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2005‬ص ‪.1618‬‬
‫أتم وال أكمل»‪( .‬املرتجم)‬ ‫ونص العبارة الواردة‪« :‬وليس يف اإلمكان ً‬
‫أصل أحسن منه وال ّ‬
‫‪83‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫إيمانه بإمكانية النظر إلى كل شيء في الخلق على أنه ضرب من الكمال‪ .‬يمكن النظر‬
‫كي والصوفي الذي يتوكّأ في جانبه‬ ‫التنس ّ‬
‫إلى موقف الغزالي الفكري كتأييد لنظامه ُّ‬
‫األكبر على العناية اإللهية‪ ،‬وفضيلة التفكُّر في الجمال‪ ،‬واتِّساق العالم الطبيعي في‬
‫عقالن ّيته‪ .‬ينبغي على أهل التقوى أن ينظروا إلى أعمال الله على أنها مظهر من مظاهر‬
‫كمال حكمته؛ معتمدين على الحجج التي ساقها النص القرآني في ذلك‪ .‬إنه وبإمعان‬
‫النظر مل ًّيا في كل مظهر من مظاهر الحياة في العالم‪ ،‬وخاصة الحيوان اإلنساني‪،61‬‬
‫تتو ّلد نوع من الدهشة والتواضع أمام الفن اإللهي المبدع‪ُ .‬ي ِص ّر النص القرآني على أنه‬
‫«وإِ ْن ِم ْن َش ْي ٍء‬ ‫«‪ ...‬ما تَرى فِي َخ ْل ِق الرحم ِن ِمن َت َف ٍ‬
‫اوت‪( »...‬الملك‪ ،)3 :‬بل ويقول‪َ :‬‬ ‫ْ ُ‬ ‫َّ ْ َ‬ ‫َ َ‬
‫إِلَّ ِعنْدَ نَا َخ َزائنُ ُه َو َما ُنن َِّز ُل ُه إِلَّ بِ َقدَ ٍر َم ْع ُلو ٍم» (الحجر‪)21 :‬؛ ما يعني ت ََأ ُّلف العالم من‬
‫ِ‬
‫نسيج إلهي أراده الله‪ ،‬يتكون من ُبنًى منضبط ًة على نحو ممتاز‪ ،‬ومن معايير معتادة تدور‬
‫الع َل ُل الظاهرةُ‪ ،‬و ُيع َّبر عنها في صورتها األَ ْبدَ ع من خالل سريان األسماء‬ ‫في سياقاتها ِ‬
‫الح ْسنَى في العالم‪ 62.‬وألن الذات اإلنسانية تختبر بعض هذه األسماء وتجربها‬ ‫اإللهية ُ‬
‫ٍ‬
‫باعتبار كونها موغلة في األخالقية‪ ،‬فإنها تستدعي موضوعات تغايرها؛ ما يؤ ِّدي إلى‬
‫ظهور ما يباينها‪ ،‬كما تتجلى الوساطة اإللهية في اإلصالح والتعويض‪ .‬إن األمر كما‬
‫المرض‪َّ ،‬‬
‫فإن‬ ‫َ‬ ‫اسم «الشافي»‬
‫التركي سعيد النورسي‪...« :‬مثلما يستدعي ُ‬ ‫ّ‬ ‫عبر عنه المفكر‬

‫‪ 61‬يقول الغزايل‪« :‬انظر من حث اجلملة إىل ظاهر اإلنسان وباطنه‪ ،‬فتجده مصنو ًعا صنعه بحكمة تقيض‬
‫متوال عليها‪ ،‬لكنه تبارك وتعاىل قدَّ رها‬ ‫ٍ‬ ‫منها العجب‪ ،‬وقد جعل سبحانه أعضاءه تامة بالغذاء‪ ،‬والغذاء‬
‫وال يزيد عليها‪ ،‬فإهنا لو تزايدت بتوايل الغذاء عليها لعظمت أبدان بني آدم‪ ،‬وثقلت عن احلركة‪،‬‬
‫ُوع ِّطلت عن الصناعات اللطيفة‪ ،‬وال تناولت من الغذاء ما يناسبها‪ ،‬ومن اللباس كذلك‪ ،‬ومن املساكن‬
‫مثل ذلك‪ ،‬وكان من بليغ احلكمة وحسن التدبري وقوفها عن هذا احلد ا ُملقدَّ ر‪ ،‬رمح ًة من اهلل ورف ًقا‬
‫بخلقه»‪ .‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬احلكمة يف خملوقات اهلل‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رشيد قباين (بريوت‪ :‬دار إحياء‬
‫العلوم‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)1978‬ص ‪( .53‬املرتجم)‬
‫‪ 62‬انظر‪ :‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬احلكمة يف خملوقات اهلل‪ ،‬حتقيق‪ :‬حممد رشيد قباين (بريوت‪ :‬دار إحياء‬
‫العلوم‪ ،‬الطبعة األوىل ‪.)1978‬‬
‫املبني‪ ،‬ا ُمل َعدّ فيه مجيع‬
‫تأملت هذا العامل بفكرك وجدتَه كالبيت ّ‬ ‫َ‬ ‫يقول الغزايل‪« :‬اعلم رمحك اهلل‪ :‬أنك إذا‬
‫يتاج إليه‪ ،‬فالسامء مرفوعة كالسقف‪ ،‬واألرض ممدودة كالبساط‪ ،‬والنجوم منصوبة كاملصابيح‪،‬‬ ‫ما ُ ْ‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫واجلواهر خمزونة كالذخائر‪ ،‬وكل يشء من ذلك معدّ ُمه َّيأ لشأنه‪ ،‬واإلنسان كاملالك للبيت‪ ،‬واملخ َّول ملا‬
‫فيه‪ .»...‬املصدر نفسه‪ ،‬ص ‪( .15‬املرتجم)‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪84‬‬
‫الجوع»‪ .63‬تشكل هذه النقائص البادية في العالم جز ًءا من‬
‫َ‬ ‫أيضا يقتضي‬
‫اسم «الرازق» ً‬
‫َ‬
‫براعة الله في الخلق‪.‬‬
‫أمرا ظاهر ًّيا‬
‫الشر ً‬ ‫قام ابن عربي بالمضي قد ًما في تطوير هذا المنظور‪ ،‬إذ رأى َّ‬
‫أصيل؛ وبالتالي فهو ناتج عن فعل إلهي حادث باأللوهة في زمن‬ ‫ً‬ ‫أمرا‬
‫فحسب‪ ،‬ال ً‬
‫خطيئة ارتكبها آد ُم؛ ما يعني لزومه الطبيعي لحقيقة الخلق نفسه‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫ناتجا عن‬
‫مبكر‪ ،‬وليس ً‬
‫مجال شاسع‬ ‫ٍ‬ ‫اإللهي الذي َقنَّ َن وجو َد العالم‪ ،‬وجعله يأتلف من‬ ‫وتداخله معها‪ .‬إن األمر‬
‫ّ‬
‫تعتمل فيه األسماء الحسنى وتتفاعل م ًعا‪ ،‬قضى في الوقت نفسه بأن تكون هناك مسافة‬
‫اإللهي ــ أعني الرحمة الكاملة ــ وهذا العالم‪ .‬تُخرج‬ ‫ّ‬ ‫الو ْحدَ ة األصيلة للجوهر‬ ‫بين َ‬
‫الولي من عبادة الذوات إلى عبادة الله‪ ،‬ومن الوقوف عند األغيار إلى‬ ‫َّ‬ ‫العناي ُة اإللهي ُة‬
‫ات إِ َلى الن ِ‬
‫ُّور‪»...‬‬ ‫معرفة الواحد غير الزائف؛ «ال َّله ولِي ا َّل ِذين آمنُوا ي ْخ ِرجهم ِمن ال ُّظ ُلم ِ‬
‫َ‬ ‫َ َ ُ ُ ُ ْ َ‬ ‫ُ َ ُّ‬
‫اإلنسان وراءه ليست إال نتيج ًة ضرور ّي ًة لألمر‬ ‫ُ‬ ‫(البقرة‪ .)257 :‬إن الظالل التي ُي َخ ِّلفها‬
‫الكل‪ ،‬وتكون اللوثة التعددية في العالم‪ 64.‬كل نقص يغاير‬ ‫اإللهي « ُك ْن» الذي به يتمايز ّ‬‫ّ‬
‫الله إذن‪ ،‬ومن غير عملية إظهار األسماء في العالم‪ ،‬لن تطمح األسما ُء اإللهية إلى‬
‫تتشوف العودة إلى الله‪...‬‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان مطلو ًبا في رحلة إلهية َّ‬ ‫التكشف‪ ،‬ومن ثم لن يترحل‬
‫إن الظل الذي يراه اإلنسان ويدركه على أنه نوع من النقص‪ ،‬ال يدل في حقيقته إال على‬
‫‪65‬‬
‫تحقق االمتالء اإللهي بالواحد في هذا العالم‪.‬‬

‫تنزيه اهلل وأفول الثيوديسيا‬


‫عارض المتكلمون والصوفيون السنة على حد سواء ما ارتآه المعتزلة من كون الله‬

‫‪ 63‬شيمشك ‪.Şimşek, 124‬‬


‫النوريس‪ ،‬بديع الزمان سعيد‪ ،‬اللمعات‪ ،‬ترمجة‪ :‬إحسان قاسم الصاحلي (القاهرة‪ :‬رشكة سوزلر‪،‬‬
‫الطبعة السادسة ‪ ،)2011‬ص ‪( .12‬املرتجم)‬
‫‪ 64‬انظر كتاب جون كروك ‪« :John Crook‬مركزية اهلل التعددية لدى روسمري تشيهاييتش ‪The‬‬
‫‪ Theocentric Pluralism of Rusmir Mahmutcehajic and Inter‬ــ ‪،religious Dialogue in Bosnia‬‬
‫واحلوار بني األديان يف البوسنة»‪ ،)2010( Forum Bosnae 51 ،‬ص ‪.138‬‬
‫‪ 65‬ويليام يس‪ .‬تشيتيك ‪ ،William C. Chittick‬الطريق الصويف إىل املعرفة‪ :‬ميتقايزيقا اخليال لدى ابن‬
‫عريب ‪ The Sufi Path of Knowledge: Ibn al‬ــ ‪Albany:(Arabi’s Metaphysics of Imagination‬‬
‫‪ ،)State University of New York Press, 1989‬ص ‪ 290‬ــ ‪.303‬‬
‫‪85‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫الخالق ليس جز ًءا من العالم‪،‬‬ ‫َ‬ ‫العالم األخالقي نفسه‪ .‬يرى ُ‬


‫أهل السنة‬ ‫َ‬ ‫واإلنسان يقطنان‬
‫طبقة وجود ّية ما؛ تتشابه في وجودها مع موجودات أخرى‪ .‬وألن الزمان‬ ‫وليس فردا في ٍ‬
‫ً‬
‫حاالت من التر ُّدد تماثل تلك التي تعترينا‬ ‫ٌ‬ ‫ِ‬
‫ال يجري على الله‪ ،‬وبالتالي ال تسبق قراراته‬
‫البشر‪ ،‬إذ إرادته وقوته ليستا مجرد نسختين غير مقيدتين من إرادتنا وقوتنا‪ ،‬ألنهما‬ ‫َ‬ ‫نحن‬
‫شامل ومحي ًطا‪،‬‬
‫ً‬ ‫اإللهي‬
‫ُّ‬ ‫العلم‬
‫ُ‬ ‫محصوران بالرجوع إلى ما يقيدهما‪ 66.‬ينبغي أن يكون‬
‫خارجي ما؛ ُي َقدِّ ر ما ينبغي عليه‬
‫ّ‬ ‫مفتقرا إلى ُم َخ ِّصص‬
‫ً‬ ‫ألنه إن كان جزئ ًّيا و َب ْع ِض ًّيا‪َ ،‬ل َص َار‬
‫علم الخلق‪ ،‬وليس مجر َد نسخة كاملة‬ ‫علمه َ‬ ‫علمه وما ال ينبغي‪ .‬من أجل ذلك‪ ،‬ال ُيماثل ُ‬ ‫ُ‬
‫المرجح اشتمال علمه على طرائق ال يمكن لإلدراك اإلنساني‬ ‫َّ‬ ‫عن العلم اإلنساني‪ .‬ومن‬
‫الوصول إليها‪ ،‬أو السلوك فيها‪ ...‬أضف إلى ذلك وجو َده خارج الزمن الذي يستثنيه من‬
‫غير‬
‫الجهل بالمستقبل‪ .‬إنه في الوقت الذي يلزم فيه عن مذهب المعتزلة أن يكون الل ُه َ‬
‫قادر على معرفة األفعال قبل حدوثها‪ُ ،‬ي ِص ّر الكالم السني على شمول معرفته تعالى‬
‫تصور إنساني ُم ْغ ِرق في الذاتية‪ ،‬فال يمكن أن‬ ‫وعمومها‪ ،‬فالمستقبل ليس في حقيقته إال ّ‬
‫الم َح ِّص َلة المتمايزة التي َّ‬
‫توصل إليها‬ ‫عز َز ْت هذه ُ‬‫يسري بحال على اإلحاطة اإللهية‪َّ 67.‬‬
‫السني من الوقوف في وجه محاوالت النظر إلى اإللهية على أنها نوع يماثل‬ ‫ُّ‬ ‫الكال ُم‬
‫اإلنساني َة في شيء‪.‬‬
‫بينما تساعد نظريات العدالة اإللهية بأنواعها المختلفة على تحقيق غايات تهذيبية‬
‫ممن هم في‬‫واضحا في القول بوجودها‪ ،‬لكن لعوا ّم المؤمنين؛ ّ‬
‫ً‬ ‫بعينها‪ ،‬فإن الغزالي كان‬

‫‪ 66‬حاشية الكستيل عىل رشح العقائد النسفية‪ ،‬الكستيل‪ ،‬مصلح الدين مصطفى (إسطنبول‪ :‬رشكت‬
‫صحافيه عثامنيه‪ ،)1326 ،‬ص ‪.72‬‬
‫‪ 67‬املصدر السابق‪ ،‬ص ‪ 72‬ــ ‪.74‬‬
‫يقول سعد الدين التفتازاين‪«« :‬وال جيري عليه زمان»‪ ،‬ألن الزمان عندنا عبارة عن متجدد ُي َقدَّ ر بهِ‬
‫متجدد آخر‪ ،‬وعند الفالسفة عن مقدار احلركة‪ ،‬واهلل تعاىل ُم َّنزه عن ذلك‪ ...‬إن أوصافه من العلم‬
‫علم‬
‫علم اهلل تعاىل َ‬ ‫والقدرة وغري ذلك َأ َج ّل وأعىل مما يف املخلوقات‪ ،‬بحيث ال مناسبة بينهام‪ ...‬ال يامثل ُ‬
‫بوجه من الوجوه‪ ...‬فهو بكل يشء عليم‪ ،‬وعىل كل يشء قدير‪ ،‬ال كام يزعم الفالسفة من أنه‬ ‫ٍ‬ ‫اخللق‬
‫يعلم اجلزئيات‪ ،‬وال يقدر عىل أكثر من واحد‪ ،‬والدهرية أنه ال يعلم ذاته‪ ،‬والنَّ َّظام أنه ال يقدر عىل خلق‬
‫اجلهل والقبح‪ ،‬والبلخي أنه ال يقدر عىل مثل مقدور العبد‪ ،‬وعامة املعتزلة أنه ال يقدر عىل نفس مقدور‬
‫العبد»‪ .‬انظر املصدر نفسه‪( .‬املرتجم)‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪86‬‬
‫حاجة إلى ٍ‬
‫إله يمكن الوصول إليه من خالل األوصاف األنثروبوباثية ‪anthropopathic68‬‬ ‫ٍ‬
‫{التشبيهية} المباشرة‪ ،‬أما العارفون ح ًّقا‪ ،‬فإنهم يرونها غير ضرورية‪ ،69‬ومن َث َّم‬
‫التشبيهي ــ إلى هذه النصوص القرآنية‬ ‫ّ‬ ‫ويحاولون قلب د ّفة التركيز ــ بعيدً ا عن هذا اإلله‬
‫اإللهي‬
‫ّ‬ ‫التي تصفه على نحو ُمسرف بأوصاف التنزيه والتقديس‪ ،‬وال سيما هذا اإلعالن‬
‫القائل‪َ ...« :‬ل ْي َس ك َِم ْث ِل ِه َش ْي ٌء‪( »...‬الشورى‪ .)11 :‬يستحيل على هذا اإلله غير المادي‬
‫أن يكون له شيء من أعضاء اإلنسان وأنظمته الوظائفية التي تدعم مشاعرنا وسلوكنا‬
‫في هذا العالم‪ ،70‬كما أنه ُمن ََّزه بالطبع عن الت ََّج ُّسد (أن يصير جسدً ا {ج ّثة‪َ /‬م ْيتًا}‪ .)71‬لذا‪،‬‬

‫نسبة مشاعر اإلنسان‪ ،‬وعواطفه‪ ،‬وآالمه إىل اهلل‪( .‬املرتجم)‬ ‫‪68‬‬


‫أبو حامد الغزايل ‪ Ghazālī‬ــ ‪ ،Abū Hāmid al‬املقصد األسنى ‪ Asnā‬ــ ‪ Maqṣad al‬ــ ‪،al‬‬ ‫‪69‬‬
‫ترمجه‪ :‬ديفيد باريل ‪ ،David Burrell‬ونزيه ضاهر ‪ Nazih Daher‬حتت عنوان‪ :‬الغزايل حول أسامء اهلل‬
‫احلسنى التسع والتسعون ‪ Nine Beautiful Names of God‬ــ ‪ Ghazālī on the Ninety‬ــ ‪Al‬‬
‫(‪ ،)Cambridge: Islamic Texts Society, 1992‬ص ‪.57‬‬
‫يقول الغزايل‪« :‬ملعرفة اهلل تعاىل‪{ ...‬سبيل قارص وهو} ِذكر األسامء والصفات بطريق التشبيه مما عرفنا‬
‫من أنفسنا؛ فإنا ملا عرفنا أنفسنا عاملني وقادرين أحياء متكلمني‪ ،‬ثم سمعنا ذلك يف أوصاف اهلل تعاىل‪ ،‬أو‬
‫قارصا‪ ...‬القدوس هو ا ُملن ََّزه عن كل وصف من أوصاف الكامل الذي يظنه‬ ‫فهم ً‬ ‫عرفناه بالدليل‪ ،‬فهمناه ً‬
‫كامل يف ح ِّقه‪ ،‬ألن اخللق أول نظروا إىل أنفسهم‪ ،‬وعرفوا صفاهتم‪ ،‬وأدركوا انقسامها إىل ما‬ ‫ً‬ ‫أكثر اخللق ً‬ ‫ُ‬
‫هو كامل ولكن يف حقهم؛ مثل علمهم وقدرهتم وسمعهم وبرصهم وكالمهم وإرادهتم واختيارهم‪،‬‬
‫ووضعوا هذه األلفاظ بإزاء هذه املعاين‪ ،‬وقالوا‪ :‬إن هذه أسامء الكامل‪ .‬ونظروا إىل ما هو نقص يف‬
‫حقهم؛ مثل جهلهم وعجزهم وعامهم وصممهم وخرسهم‪ ،‬فوضعوا بإزاء هذه املعاين هذه األلفاظ‪.‬‬
‫أوصاف كامهلم؛ من علم وقدرة‬ ‫ُ‬ ‫ثم كان غايتهم يف الثناء عىل اهلل تعاىل ووصفه‪ :‬أن وصفوه بام هو‬
‫أوصاف نقصهم‪ ،‬واهلل سبحانه منزه عن أوصاف كامهلم‪ ،‬كام أنه‬ ‫ُ‬ ‫وسمع وبرص وكالم‪ ،‬وأن نفوا عنه‬
‫منزه عن أوصاف نقصهم‪ ،‬بل كل صفة ُتت ََص ّور للخلق فهو منزه مقدس عنها وعام يشبهها ويامثلها‪،‬‬
‫إطالق أكثرها»‪ .‬الغزايل‪ ،‬أبو حامد‪ ،‬املقصد األسنى يف‬ ‫ُ‬ ‫يز‬ ‫ولوال ورود الرخصة واإلذن بإطالقها‪ ...‬مل َ ُ‬
‫رشح أسامء اهلل احلسنى‪ ،‬حتقيق‪ :‬اللجنة العلمية بمركز دار املنهاج للدراسات والتحقيق العلمي (جدة‪:‬‬
‫دار املنهاج‪ ،‬الطبعة األوىل ‪ ،)2018‬ص ‪ 131 ،102‬ــ ‪.132‬‬
‫جاكسون ‪.Jackson, 138‬‬ ‫‪70‬‬
‫كانت هذه أكثر النقاط وهنًا لدى بيرت جيتش ‪ Peter Geach‬يف نظرته التومو ّية ضد الثيوديسيا‬ ‫‪71‬‬
‫‪ ،antitheodicy‬وإال فإنه يلتقي بصورة ما مع الالهوت السلبي لدى األشاعرة‪ .‬يب‪ .‬يت‪ .‬جيتش ‪P. T.‬‬
‫‪« ،Geach‬كلية القدرة ‪ ،)1973( Philosophy 48 ،»Omnipotence‬ص ‪ 7‬ــ ‪ ،20‬وانظر ص ‪.19‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان ُه َو َأ ْي ًضا ت ْلم ً‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫يذا‬ ‫ف‪َ ،‬وك َ‬ ‫وس ُ‬ ‫اس ُم ُه ُي ُ‬ ‫الرا َمة ْ‬‫َان ا َْل َسا ُء‪َ ،‬جا َء َر ُج ٌل َغن ٌّي م َن َّ‬ ‫«و ََّلا ك َ‬ ‫ورد يف إنجيل متى‪َ :‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫هذا َت َقدَّ َم إِ َل بي َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َسدُ ‪َ .‬فأ َخ َذ‬‫ال ُط ُس حينَئذ أ ْن ُي ْع َطى ْ َ‬ ‫وع‪َ .‬فأ َم َر بي َ‬ ‫ب َج َسدَ َي ُس َ‬ ‫ال ُط َس َو َط َل َ‬ ‫وع‪َ .‬ف َ‬ ‫ل َي ُس َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫َان َقدْ ن ََح َت ُه ِف َّ‬
‫الص ْخ َرة‪ُ ،‬ث َّم َد ْح َر َج‬ ‫الديد ا َّلذي ك َ‬ ‫ال َسدَ َو َل َّف ُه بِ َكتَّان نَق ٍّي‪َ .‬و َو َض َع ُه ِف َق ْ ِبه ْ َ‬ ‫ف َْ‬ ‫وس ُ‬ ‫ُي ُ‬
‫أيضا‪( :‬مر ‪ 43 :15‬ــ ‪ ،)45‬و(لو ‪:23‬‬ ‫ً‬ ‫وانظر‬ ‫‪،)60‬‬ ‫ــ‬ ‫‪57‬‬ ‫‪:27‬‬ ‫(مت‬ ‫»‬‫ض‬ ‫م‬
‫ْ َ ََ‬‫و‬ ‫ب‬ ‫ِ‬ ‫ق‬‫َ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫اب‬‫ب‬ ‫ل‬‫َ‬
‫ً َ َ‬ ‫ع‬ ‫ا‬‫ري‬ ‫ِ‬ ‫َب‬
‫ك‬ ‫ا‬‫ر‬‫َح َ ً‬
‫ج‬
‫‪87‬‬ ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

‫فإنه ال ينفعل بشيء‪ ،‬وال يؤ ِّثر فيه شيء (على الرغم من اختالف هذا مع القول بعدم‬
‫اكتراثه)‪ ،‬وليس وجو ُد األلفاظ التي ت َُؤن ِْس ُن الله في القرآن والتصوف من أجل اإلشارة‬
‫التوصل‬ ‫جهة أو مكان‪ ،‬ولكن من أجل‬ ‫إلى الوجود اإللهي على أنه شخص متَحيز في ٍ‬
‫ُّ‬ ‫ُ َ ِّ‬
‫سياق يذعن فيه اإلنسان إذعانًا خالص ًّيا ف َّع ًال والز ًما للمبادرات واألوامر اإللهية‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫إلى‬
‫انتصارا نهائ ًّيا على أرواحية‪ 72‬العرب القديمة وهم يعبدون‬ ‫ً‬ ‫البالغي‬
‫ُّ‬ ‫الحذف‬
‫ُ‬ ‫يحقق هذا‬
‫أن الفهم الصحيح للوصية الثانية‪ 73‬التي يقوم عليها دي ُن اإلسالم ُي ْغنِي في‬ ‫األصنام‪ ،‬كما َّ‬
‫حقيقته عن أي نظرية للعدالة اإللهية‪ ،‬بل ويجعله ينظر إلى أي ثيوديسيا على أنها نوع‬
‫من التجديف‪.‬‬
‫ٍ‬
‫درجة‬ ‫الحط من الشأن اإللهي في‬‫ِّ‬ ‫إن الجزم في تفسير الدوافع اإللهية ال يؤدي إلى‬
‫ٍ‬
‫مدافعة للشر في هذا العالم‪ .‬وليس هناك من غنى‬ ‫من اإلنسانية فحسب‪ ،‬لكنه ُي َع ِّطل ّ‬
‫أي‬
‫والمهينة‬ ‫ِ‬
‫عن الشكوى ألجل التقوى واإلنسانية نفسها‪ ،‬وليست الدَّ َعة غير المكترثة َ‬
‫رات مريم إال نو ًعا من‬ ‫يتعذر تحقيقها ً‬
‫أصل‪ .‬لم تكن َع َب ُ‬ ‫من اإلنسانية في شيء‪ ،‬ولع ّله َّ‬
‫الحكاية عن كرامتها و َأن َِفها‪ ،‬وكذلك دعاء نبي اإلسالم عندما ُر ِمي بالحجارة وهو في‬
‫ضعف قوتي‪،‬‬ ‫َ‬ ‫الطائف‪ ،‬لم يكن إال صرخ ًة من هذا النوع‪ ...‬يقول‪« :‬اللهم إليك أشكو‬
‫وه َواني على الناس‪ ،‬يا أرحم الراحمين‪ ،‬أنت رب المستضعفين‪ ،‬وأنت‬ ‫وقلة حيلتي‪َ ،‬‬
‫عدو م َّل ْكتَه أمري؟ إن لم يكن بك‬ ‫َك ُلني؟ إلى ٍ‬ ‫ربي‪ ،‬إلى من ت ِ‬
‫يتجهمني؟ أم إلى ٍّ‬ ‫َّ‬ ‫بعيد‬
‫أشرقت‬
‫ْ‬ ‫علي غضب فال أبالي‪ ،‬ولك َّن عافيتك هي أوسع لي‪ ،‬أعوذ بنور وجهك الذي‬ ‫ّ‬
‫ِ‬
‫أمر الدنيا واآلخرة من أن ُتن ِْزل بي غض َبك‪ ،‬أو َيح َّل ّ‬
‫علي‬ ‫الظلمات‪ ،‬وصلح عليه ُ‬ ‫ُ‬ ‫له‬
‫سخطك‪ ،‬لك ال ُع ْت َبى حتى ترضى‪ ،‬وال حول وال قوة إال بك»‪.74‬‬

‫‪ 50‬ــ ‪ ،)54‬و(يو ‪ 38 :19‬ــ ‪ .)43‬وجاء عىل لسان يسوع يف سفر «رؤيا يوحنا الالهويت»‪َ ...« :‬و ُكن ُْت َم ْيتًا‪،‬‬
‫َو َها َأنَا َح ٌّي إِ َل َأ َب ِد اآلبِ ِدي َن‪( »...‬رؤ ‪( .)18 :1‬املرتجم)‬
‫‪ 72‬األرواحية أو اإلحيائية ‪ Animism‬تعني االعتقاد بوجود األرواح يف الكائنات األرضية حتى وإن‬
‫كانت جامدة كاحلجارة والنباتات والظواهر الطبيعية‪( .‬املرتجم)‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫«ل َي ُك ْن َل َك َآل ٌة ُأ ْخ َرى َأ َمامي»‬
‫ونصها‪َ :‬‬
‫‪ 73‬يعني الوصية الثانية من الوصايا العرش الواردة يف التوراة؛ ّ‬
‫(تث ‪( .)7 :5‬املرتجم)‬
‫‪ 74‬ابن هشام‪ ،‬عبد امللك بن أيوب‪ ،‬السرية النبوية‪ ،‬حتقيق‪ :‬عمر عبد السالم تدمري‪ ،‬اجلزء الثاين (بريوت‪:‬‬
‫دار الكتاب العريب‪ ،‬الطبعة الثالثة ‪ ،)1990‬ص ‪.68‬‬
‫رتنيو نوج يثوميت‬ ‫‪88‬‬
‫ً‬
‫معقول أن‬ ‫اإلسماعيلي سع ًيا‬
‫ّ‬ ‫أخيرا‪ ،‬نرى في مثل هذا النوع من الدعاء َس ْع َي اإليمان‬ ‫ً‬
‫الساري للمعاناة في عالم الله‪ ،‬وأنّه ال يتنكَّر بأي صورة لفعل‬ ‫ينغمس في هذا الحضور َّ‬
‫اآلنف‪ ،‬بل ت َُم َارس بصورة‬ ‫َ‬ ‫البالغي‬ ‫الحذف‬
‫َ‬ ‫ُنكر الصال ُة‬ ‫الله وقوته في الوجود‪ .‬ال ت ِ‬
‫َّ‬
‫ٍ‬ ‫كالم َّية مختلفة وأكثر َبدَ ِه َّي ًة‪ُ ،‬م َح ِّو َل ًة الدَّ َّف َة من «هو» إلى‬
‫حي‬‫«أنت»‪ُ ،‬م َف َّع َم ًة بإيمان ٍّ‬ ‫َ‬
‫سياق َّأول‬ ‫التحول يتح َّقق بالغ ًّيا في ِ‬ ‫آخ ٌذ في الثقة بالله حتى النهاية‪ .‬نرى هذا‬ ‫وتجريبي؛ ِ‬
‫ُّ‬ ‫ٍّ‬
‫كل ممارسة صالتية‪ .‬تبدأ «الفاتح ُة» بكلماتِ‬ ‫سورة من القرآن‪ ،‬والتي ال غنى عنها في ِّ‬
‫َّ‬
‫الشخصي أمام‬ ‫ّ‬ ‫توسل حضوره‬ ‫أخيرا إلى ُّ‬ ‫الحمد لرب العالمين بصيغة ال َغ ْي َبة‪ ،‬لتنتهي ً‬
‫يدل على‬ ‫الضمير «هو» بضمير الغائب في اللغة العربية‪ ،‬لكنَّه عاد ًة ما ُّ‬ ‫ُ‬ ‫الم َص ِّلي‪ُ 75.‬ي َس َّمى‬ ‫ُ‬
‫محاوالت َع ْق َلنَتِه‪ ،‬واستعمالهم القياس كأداةٍ‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫إله ُمن ََّزه ُم َت َعال أسا َء المعتزل ُة َ‬
‫فهمه في‬
‫ِ‬ ‫ٍ‬ ‫ِ‬
‫ب‪ ،‬ال تتناسب أبدً ا‬ ‫الس ْل َ‬
‫تتوسل َّ‬ ‫يسوغون غايات الله وأسبا َبه بلغة ُم َت َق ْلق َلة‪َّ ،‬‬ ‫من خاللها ّ‬
‫جامد يشبه الو َث َن‪ ،‬ينحصر في‬ ‫ٍ‬ ‫القول ٍ‬
‫بإله‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫مخاطرة‬ ‫والطالقة اإللهية؛ ما أ َّدى نهاي ًة إلى‬
‫إن مشرو ًعا فكر ًّيا كهذا ال يلبث ّإل وينزع إلى االنقالب‬ ‫ذات َّية اإلنسان وثقافته وجنسه‪َّ .‬‬
‫على ما كان يرنو إليه‪ ،‬وينتهي إلى مناقضة «‪َ ...‬ل ْي َس ك َِم ْث ِل ِه َش ْي ٌء‪( »...‬الشورى‪.)11 :‬‬
‫ظاهره ويومئ إلى ما‬ ‫َ‬ ‫ضميرا شخص ًّيا في ظاهر األمر‪ ،‬إال أنه يفارق‬ ‫ً‬ ‫ورغم كون «هو»‬
‫يباين جذر ًّيا ذواتَنا اإلنسانية‪ ،‬فال شيء بالتأكيد يشبه «هو» {الله}‪ ،‬وما ينخلع عليه من‬
‫السياقي الهائل؛ الذي يشير إلى‬ ‫ذكرها قرآن ًّيا في مثل هذا التنوع‬ ‫ٍ‬
‫ّ‬ ‫أسماء حسنى يتواتر ُ‬
‫أن صفات‬ ‫النص المقدس إلى َّ‬ ‫ص ّ‬ ‫وعابر في إخباره عن الله‪ُ .‬ي َل ِّمح َق َص ُ‬ ‫ٍ‬ ‫فيض محمو ٍم‬ ‫ٍ‬
‫نفسه‪ ،‬بل‬ ‫الرحمة‪ ،‬واللطف‪ ،‬والعدل‪ ،‬وغيرها من الصفات ال تتج ّلى مرتَين التج ِّل َي َ‬
‫يختلف معناها وف ًقا للسياق المذكورة فيه؛ ما ُي ْظ ِهر التشاب َه مع الله على أنَّه داللة رمزية‪،‬‬
‫الم َص ِّلي الذي يتن ّبه في َت َق ُّلبِه بين المشاعر‬ ‫شراك ٌة ليست مستقرةً؛ أكثر نف ًعا للقلب ُ‬
‫«أنت» ــ‬ ‫التحول من «هو» إلى َ‬ ‫فرادة الوقت‪ ،‬والعقل من بعد ذلك‪ .‬هذا‬ ‫ِ‬ ‫والرؤى إلى‬
‫ّ‬
‫العملي باللغة الكانط ّية‬ ‫ّ‬ ‫االنتقال من العقل التأ ّملي إلى العقل‬ ‫َ‬ ‫والذي يشبه بعض الشيء‬
‫الصفات اإللهي َة إثباتًا إيجاب ًّيا ال سلب فيه؛ ذلك ألنها ت َِر ُد على العابد في صورة‬ ‫ِ‬ ‫ــ ُي ْثبِ ُت‬
‫الوقوف على‬ ‫ِ‬ ‫كل لحظة‪ ،‬وهو في هذا الورود ُي َس ِّلم باستحالة‬ ‫إلهية تتواتر عليه في ِّ‬ ‫نعمة ٍ‬ ‫ٍ‬

‫اك ن َْست َِع ُني‪ْ ،‬اه ِدنَا الصَِّ َ‬


‫اط‬ ‫اك َن ْع ُبدُ َوإِ َّي َ‬ ‫الر ِحي ِم‪َ ،‬مالِ ِك َي ْو ِم الدِّ ِ‬
‫ين‪ ،‬إِ َّي َ‬ ‫ِ‬
‫«ال ْمدُ لَِّ َر ِّب ا ْل َعا َل َني‪ ،‬الر ََّْح ِن َّ‬
‫َْ‬ ‫‪75‬‬
‫ني» (الفاحتة‪ 2 :‬ــ ‪.)7‬‬ ‫ِّ‬
‫ل‬ ‫ا‬‫الض‬ ‫ل‬‫َ‬ ‫و‬ ‫م‬ ‫ِ‬
‫ه‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ِ‬
‫وب‬ ‫ض‬ ‫ْ‬
‫غ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫ِ‬
‫ي‬ ‫َ‬
‫غ‬ ‫م‬‫ه‬‫ِ‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫ل‬ ‫ع‬ ‫ت‬ ‫م‬ ‫ع‬ ‫ن‬
‫ْ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ن‬ ‫ي‬‫ذ‬‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫اط‬ ‫ص‬ ‫ِ‬ ‫‪،‬‬‫يم‬ ‫ِ‬
‫َق‬‫ت‬ ‫س‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ُ‬ ‫ا‬
‫َّ َ‬ ‫َ ْ ْ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َْ َ َ ْ ْ ْ‬ ‫ْ َ َ‬
89 ‫ ايسيدويثلا لوفأ‬

َ
‫اإليمان واللجو َء إليه بالشكوى‬ ‫يستحق‬
ّ ‫إلها كهذا‬
ً ‫إن‬ّ .‫ و َي ْع ِر ُفها على أنها بال كيف‬،‫ُكن ِْهها‬
. ٌ‫أيوب ومحمد‬
ُ ‫كما رأى‬
ٍ
:‫قراءة حول مشكلة الشر‬ ‫لمزيد‬
-- Hoover, Jon. Ibn Taymiyya’s Theodicy of Perpetual Optimism. Leiden:
Brill, 2007.
-- Jackson, Sherman A. Islam and the Problem of Black Suffering. New York:
Oxford University Press, 2014.
-- Kermani, Navid. The Terror of God: Attar, Job and the Metaphysical
Revolt. Cambridge: Polity Press, 2011.
-- Michel, Thomas. «God’s Justice in Relation to Natural Disasters.» In
Theodicy and Justice in Modern Islamic Thought. Ed. Ibrahim M. Abu
Rabi’ Farnham: Ashgate, 2010, 219–26.
-- Ormsby, Eric. Theodicy in Islamic thought: The Dispute over al ‫ ــ‬Ghazālī‘s
«Best of All Possible Worlds.» Princeton, NJ: Princeton University Press,
1984.
-- Schuon, Frithjof. «The Question of Theodicies.» Studies in Comparative
Religion 8/i (Winter 1974).76

،Schuon ‫ شوان‬:‫ انظر‬.‫ ون َُِش يف العدد السابق ملجلة قضايا إسالمية معارصة‬،‫ترمجت هذا املقال‬ُ 76
‫ قضايا‬:‫ جملة‬،‫ عبد العاطي طلبة‬:‫ ترمجة‬،‫ مسألة الثيوديسيات ورضورة الرش يف العامل‬،Frithjof ‫فريتيوف‬
.18 ‫ ــ‬4 ‫ ص‬،)2021 ،‫ مركز دراسات فلسفة الدين‬:‫ (بغداد‬76‫ و‬75 ‫ العددان‬،‫إسالمية معارصة‬
‫دراسات‬

‫تاريخ مختصر للثيوديسية‬


‫رين فان فودنبيرغ‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫يقدم هذا الفصل الخطوط العريضة لتاريخ الثيوديسية‪ .‬بد ًء من اإلشارة إلى‬
‫كيفية عمل النصوص التوراتية في التفكير الالهوتي‪ ،‬ويناقش األفكار الرئيسية‬
‫إلريناوس (صناعة الروح)‪ ،‬والقديس أوغسطين (اإلرادة الحرة)‪ ،‬واليبنز (أفضل‬
‫جميع العوالم الممكنة)‪ ،‬وجوزيف بتلر (الفهم الناقص لحكم الله)‪ ،‬وهيغل (مكر‬
‫العقل)‪ ،‬وليويس (مكبر الصوت اإللهي)‪ ،‬وإيونغ (مبدأ الوحدات العضوية)‪،‬‬
‫وبالنتنغا (السقوط المبارك)‪ ،‬وسوينبورن (الخير األع َظم)‪.‬‬
‫الثيوديسية (الكلمة مشتقة من الكلمتين اليونانيتين ‪ :theos‬الله‪ ،‬و ‪ :dike‬العدالة)‬
‫هي أحد أشكال االستجابة لمشكلة الشر‪ .‬صفتها األساسية هي أنه بينما تؤكد وجود‬
‫ِ‬
‫الكامل الخالق للعالم‪ ،‬فهي رد منهجي‬ ‫الشر ووجود الله‪ ،‬أي القاهر والعليم والخير‬
‫على السؤال‪ :‬لماذا يسمح الله لألشياء الشريرة بالحدوث؟ لذا‪ ،‬فإن ردود الفعل‬
‫على مشكلة الشر التي تنطوي على إنكار وجود الشر ال توصف بأنها ثيوديسية‪ .‬وال‬
‫االستجابات التي تنطوي على إنكار قدرة الله المطلقة‪ ،‬وعلمه المطلق‪ ،‬وخيريته‬
‫المطلقة‪ ،‬و‪/‬أو كونه خالق العالم (يالئم الهوت العملية هذا الوصف‪ ،‬ألنه ينكر‬
‫قدرة الله المطلقة)‪ .‬وبناء على ذلك‪ ،‬فإن هذه الردود ليست موضوع هذه الدراسة‪.‬‬
‫الثيوديسية كما أصفها‪ ،‬يمكن أن تكون ردا إما على ما يسمى بـ«مشكلة التسامح مع‬

‫‪1 Woudenberg, R. V. (2013) A Brief History of Theodicy. In: Daniel Howard -‬‬
‫‪Snyder & Justin P. McBrayer (eds.) The Blackwell Companion to the Problem of‬‬
‫‪Evil. New York: John Wiley and Sons. Pp.177-191.‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‬
‫‪91‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫الشر»‪ ،‬أو على ما يسمى «الحجج من الشر»‪ ،2‬أو كليهما‪« .‬الحجج من الشر» هي‬
‫الحجج الملحدة‪ ،‬الحجج التي تهدف إلى دحض وجود الله‪ ،‬بينما مشكلة التسامح‬
‫هي مشكلة المؤمنين في كيفية التوفيق بين وجود الله ووجود الشر‪.‬‬
‫على مر العصور‪ُ ،‬ط ِر َحت ثيوديسيات كثيرة‪ .‬وهذه الدراسة تقدم تاريخا موجزا​​‬
‫لتلك الثيوديسيات‪ .‬ولكن ما الذي يجب أن نقوله عن تاريخ الثيوديسية؟ الحد‬
‫األدنى هو وضع الثيوديسيات في السياق الزمني‪ .‬وأقل ما يمكن تحديده وتفسيره في‬
‫سياقاته الفكرية والدينية والثقافية‪ .‬وأقل بكثير‪ ،‬هو تتبع االستمراريات واالنقطاعات‬
‫التاريخية بينهما‪ ،‬وتوضيح االنتقادات المختلفة التي أثارتها‪ .‬وأقل من ذلك‪،‬‬
‫تفسير ما هي العوامل التاريخية (مثل‪ :‬األحداث التاريخية‪ ،‬والتطورات الفكرية‪،‬‬
‫واالكتشافات العلمية) التي حددت محتوى مختلف الثيوديسيات‪ .‬يمكن أن يصف‬
‫التاريخ األقصى للثيوديسية أيضا االنتقادات العديدة التي أثيرت ضد مشروع تقديم‬
‫الثيوديسية (من شأنه أن يروي تاريخ ما بعد ثيوديسي)‪ .‬تقوم هذه الدراسة فقط بجزء‬
‫من الثالثة األولى من ذلك‪ ،‬بالحد األدنى‪.‬‬

‫إريناوس (‪ 130‬ـ ‪202‬م) وصناعة الروح‬


‫من أين يبدأ تاريخ الثيوديسة؟ قد يعتقد المرء‪ ،‬على األقل في التقليد اليهودي‬
‫المسيحي‪ ،‬في النصوص التي تؤلف ــ باالشتراك ــ الكتاب المقدس‪ .‬صحيح أننا‬
‫نجد العديد من األفكار حول الله والشر (خاصة شر الخطيئة) في ــ مثال ــ مزمور‪،73‬‬
‫أيوب‪ ،‬لوقا‪ ،13‬ورومان‪ .8‬على الرغم من أهميتها‪ ،‬فإن هذه النصوص ال تقدم أي‬
‫شيء يشبه الثيوديسة‪ ،‬على الرغم من أنها كانت تعمل في كثير من األحيان كقيود‬
‫على الثيوديسيات‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬أحد الدروس التي استخلصها الكثير من‬
‫أيوب ولوقا ‪ 13‬هو أنه ليست كل الشرور هي نتائج الخطيئة‪ ،‬على الرغم من أن‬
‫بعضها قد يكون كذلك‪ .‬والدرس الذي استخلصه الكثيرون من رومان ‪ 8‬هو أن الله‬
‫قادر على وضع الشر في خدمة الخير‪.‬‬

‫‪2 McCord Adams and Adams, 1990، 2.‬‬


‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪92‬‬
‫ربما يكون أول من قدم شيئا يشبه الثيوديسية هو أبو الكنيسة األولى إيريناوس‬
‫في كتابه ضد البدع ‪ ،Against Heresies‬الكتاب الرابع‪ .‬إذ اعتبر أن البشر يعرضون‬
‫«صورة الله» من حيث أنهم مخلوقات ذكية قادرة على الشراكة مع الله‪ ،‬كما أنهم‬
‫قادرون على إظهار «شبه الله»‪ .‬بحكم كونه مخلوقا‪ ،‬يعرض البشر «صورة الله»‬
‫ولكن ليس (حتى اآلن) «شبه الله»‪ .‬يقارن إريناوس اإلنسان األول مع األطفال‬
‫ال ُبسطاء الساذجين الذين لديهم طريق طويل يقطعونه من خالل عمل الروح القدس‪،‬‬
‫حتى يبدؤوا في إظهار «شبه الله»‪ .‬يصور الحياة البشرية على أنها رحلة‪ ،‬تطور يتوج‬
‫بأن يصبح «مثل الله»‪ .‬هذا العالم يمهد الطريق للنمو الروحي‪ .‬إنه ٍ‬
‫واد حيث تتشكل‬
‫أرواحنا لكي نظهر في النهاية «مشابهة» الله‪.‬‬
‫يبين إريناوس في الواقع (في دليله على الوعظ الرسولي‪ ،‬الفصل ‪ )12‬أن البشر‬
‫خلقوا غير كاملين وغير ناضجين ويجب عليهم الخضوع للتطور األخالقي والنمو‬
‫الروحي من أجل الوصول إلى الكمال الذي أراده الله لهم‪ .‬إن سقوط آدم ــ كما يرى‬
‫ــ ليس سقو ًطا دراماتيكيا بعيدا عن حالة الكمال‪ ،‬بل هو سقوط طفل ضعيف وغير‬
‫ناضج‪ .‬العالم بكل ما فيه من خيرات وشرور هو المرحلة التي وضعها الله للنمو‬
‫نحو الكمال‪.‬‬
‫ثيوديسية إريناوس هي أن الله يسمح بالشرور الطبيعية (مثل الزالزل‬
‫والتسونامي وثورات البراكين وما إلى ذلك التي تهدد حياة البشر) من أجل أن يبني‬
‫البشر شخصياتهم‪ .‬ويسمح الله بالشرور األخالقية (كالحرب والقتل واالغتصاب‬
‫وغيرها من الشرور الناتجة عن األفعال البشرية) بسبب القيمة العظيمة لإلرادة الحرة‬
‫التي يكون سوء استخدامها سبب الشر‪ .‬إن الله ال يمنع الشر من االنبثاق من األعمال‬
‫السيئة‪ ،‬بالرغم من قدرته على ذلك‪ .‬إذا كان الله سيمنع األعمال السيئة من أن تكون‬
‫لها عواقب سيئة‪ ،‬فسيكون على الله أن يصنع المعجزات باستمرار‪ ،‬مما يعني ّ‬
‫أن‬
‫العالم الطبيعي سيصبح غير منتظم بشكل كبير‪ .‬لكن إريناوس يرى أن هناك قيمة‬
‫كبيرة في عالم طبيعي‪ ،‬حيث أن مثل هذا العالم فقط يواجهنا بنتائج أفعالنا وخياراتنا‪.‬‬
‫في عالم كهذا‪ ،‬ستمكّننا أعمالنا من بناء شخصياتنا‪ .‬سيضمن بناء الشخصية الصحيح‬
‫أن البشر سيظهرون في نهاية المطاف شبه الله‪ ،‬ويستحقون التواجد مع الله‪.‬‬
‫‪93‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫تم تناول فكرة إريناوس عن «صنع الروح» من قبل ثيوديسيات الحقة عدَّ ة‪،‬‬
‫في بعض األحيان باالشتراك مع أفكار أخرى‪ ،‬كما عند جوزيف بتلر وفريدريك‬
‫شليرماخر وجون هيك‪.3‬‬

‫القديس أوغسطين (‪ 354‬ـ ‪ )430‬واإلرادة الحرة‬


‫طور القديس أوغسطين أفكاره االستثنائ َّية المؤثرة في الثيوديسية‪ ،‬في أعقاب‬
‫وداعه للمانوية والتحول إلى المسيحية‪ .4‬اعتمد ماني على الفكرة المزدوجة‬
‫الغنوصية بأن هناك إلهين‪ ،‬إله خالق شرير وإله فداء جيد‪ .‬لقد خلق اإلله الخالق‬
‫العالم المادي‪ ،‬والمادة‪ ،‬التي هي ــ كما عدها ماني ــ الشر‪ .‬وعلى النقيض من ذلك‪،‬‬
‫فإن اإلله الفادي يخلص الروح غير المادية من أغاللها المادية‪ .‬تشكل هذه األفكار‬
‫العمود الفقري الستجابة ماني لمشكلة الشر‪ ،‬وهو رد ال يمكن وصفه بأنه ثيوديسي‬
‫(كما حددناه)‪ .‬بعد تحوله إلى المسيحية‪ ،‬رفض أوغسطين هذه الثنائية الغنوصية‬
‫إلها واحدً ا هو خالق العالم ومخلصه‪ .‬وهكذا أخذت‬
‫وتبنى االعتقاد بأن هناك ً‬
‫مشكلة الشر شكال جديدا بالنسبة له‪ ،‬ولذلك واجهه سؤال صعب‪ :‬كيف يمكن‬
‫لمبدع العالم القاهر والعليم والمحب تماما أن يسمح بالشر‪ .‬وبشكل أكثر وضوحا‪،‬‬
‫تكمن المشكلة في أنه إذا كان الله هو الخالق القاهر والمحب للعالم وإذا كان هناك‬
‫شر في العالم‪ ،‬فيبدو أن ذلك يستلزم أن الله هو أيضا خالق الشر‪.‬‬
‫رفض أوغسطين هذه الحجة‪ .‬كيف؟ أشار‪ ،‬أوال‪ ،‬إلى أن جميع األشياء المخلوقة‬
‫مشروطة‪ ،‬مما يعني أنها ليست موجودة بالضرورة‪ .‬ولكن إذا لم تكن موجودة‬
‫بالضرورة‪ ،‬فيمكن أن تتغير وتفسد‪ ،‬تنحرف عما يفترض أن تكون‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬قدم‬
‫الفكرة األفلوطينية القائلة بأن الشر هو غياب الخير‪ ،‬أي حرمان أو نقص في الخير‪.5‬‬
‫هذا معناه أن الشر ليس كيانا إيجابيا منفصال‪ ،‬ولكنه ببساطة نقص أو غياب للخير‪.‬‬
‫يوضح أوغسطين هذه الفكرة بالطريقة التالية‪ :‬المرض ليس كيانا إيجابيا منفصال‪،‬‬

‫‪ 3‬ثيوديسية إيرناوس وأفكاره عن الرش تناقش بشكل مطول يف ‪.Hick 1977‬‬


‫‪ 4‬يمكن التوسع يف آراء أوغسطني بالرجوع إىل ‪ Hick 1977‬و‪.Evans 1983‬‬
‫‪ 5‬انظر تاسوعات أفلوطني ‪ 1‬ــ ‪ 8‬ــ ‪ 1 ،3‬ــ ‪ 8‬ــ ‪ ،7‬وأفلوطني بدوره استعار فكرة الفقدان من أرسطو‪.‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪94‬‬
‫إنه نقص في شيء ما‪ ،‬نقص في الصحة‪ .‬يصبح هذا واضحا بمجرد أن ندرك أنه‬
‫عندما يتعافى شخص ما‪ ،‬ال يتراجع المرض إلى مكان آخر‪ ،‬بل ببساطة يزول من‬
‫الوجود‪ ،‬مما يؤكد أنه لم يكن كيانا إيجابيا منفصال‪ .‬وهذا يعمم‪ :‬الشر ليس كيانا‬
‫إيجابيا منفصال‪ ،‬بل هو غياب واقع إيجابي‪ .‬هذه الفكرة تتضمن إمكانية ثيوديسية‪.‬‬
‫وهذا يتيح ألوغسطين أن يقول إن الله عندما خلق كل شيء‪ ،‬تسبب في وجود وقائع‬
‫إيجابية فقط‪ ،‬ليس فقدانات‪ .‬وبالتالي يتيح له أن يقول أن الله ليس سبب الشر‪ ،‬على‬
‫الرغم من أنه سبب كل شيء‪.‬‬
‫يجب االنتباه إلى أن القول بأن الشر حرمان من الخير‪ ،‬ال يعني أن الشر ال وجود‬
‫له‪ ،‬وال أن التعذيب واالغتصاب ليسا شرا‪ ،‬وال أن الشر وهم‪ .‬أطروحة الحرمان‬
‫ليست أطروحة عن وجود الشر ولكن أطروحة عن طبيعة الشر‪ .‬إنه االدعاء بأن‬
‫الشر ليس مادة إيجابية‪ ،‬أي ليس شيئا فرديا (بخالف القطة التي تعتبر شيئا فرديا)‪،‬‬
‫ولكن َف َقدَ خاصية معينة؛ غياب الخير‪ .6‬يجب النظر إلى فكرة أن الشر حرمان على‬
‫خلفية المقولة المقبولة طوال العصور الوسطى وحتى بعد ذلك بكثير‪ ،‬أن أي شيء‬
‫موجود‪ ،‬هو جيد (الوجود والخير لهما دالالت مختلفة‪ ،‬ولكن نفس المضمون)‪.‬‬
‫حتى اآلن‪ ،‬أوضح أوغسطين ما هو الشر‪ ،‬وأنه ال يمكن تحميل الله المسؤولية‬
‫عنه‪ .‬لكن ال شيء من هذا يفسر سبب وجود الشر‪ ،‬أو لماذا يسمح الله بذلك‪.‬‬
‫طور أوغسطين في كتابه عن اإلرادة الحرة خ ًّطا فكريا‬
‫للتعامل مع هذه األسئلة‪ّ ،‬‬
‫مؤثرا آخر‪ ،‬ظل يعاود الظهور على امتداد تاريخ الثيوديسية‪ ،‬يقول‪ :‬إن الشر هو‬
‫نتيجة االختيارات السيئة والخاطئة التي تتخذها المخلوقات الحرة‪ ،‬فالبشر‪ ،‬وقبلهم‬
‫المالئكة‪ ،‬لم ُيحسنوا استعمال إرادتهم الحرة‪.‬‬
‫تتضمن أن‬
‫َّ‬ ‫في مناقشته ألصل الشر‪ ،‬أكد أوغسطين على اإلرادة الحرة‪ ،‬التي‬
‫البشر على األقل لديهم إرادة حرة‪ .‬لكن الصورة أكثر تعقيدا من تلك التي اعتبرها‬
‫أوغسطين أنه منذ سقوط البشرية في الخطيئة‪ ،‬لم يعد لدى البشر إرادة حرة في فعل‬
‫الخير‪ .‬قد يكون هناك شيء من اإلرادة الحرة في اتخاذ قرار بين تناول النبيذ األبيض‬

‫‪ 6‬للتوسع يف فكرة أن الرشور هي فقدانات يمكن الرجوع إىل ‪ Cross 1989‬و‪.Calder 2007‬‬
‫‪95‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫أو األحمر‪ ،‬لكن فعل األشياء الجيدة لم يعد شيئا يمكن لإلنسان اختياره من إرادته‬
‫الحرة‪ .‬كان أوغسطين يفكر في القديس بولس الذي كتب أنه‪« :‬ليس ما أريده أمارسه‪،‬‬
‫ولكن ما أكره القيام به»(رومان ‪ .)7‬وجهة نظر أوغسطين ليست أنه خالل السقوط فقد‬
‫البشر إرادتهم‪ ،‬بل أنهم فقدوا القدرة على اختيار الخير‪ .‬ال يزال لديهم إرادة‪ ،‬لكنهم‬
‫ليسوا أحرارا‪ ،‬ليسوا أحرارا في اتخاذ قرار بشأن ما هو جيد وليسوا أحرارا في أن يقرروا‬
‫عدم فعل أشياء سيئة وشريرة‪ .‬اإلرادة ُا ِ‬
‫ستبعدَ ت‪.‬‬
‫هذا يبين أن أوغسطين في الواقع يقدم ما قد يعتقد المرء أنه «تحليل» لإلرادة الحرة‪.‬‬
‫يمكن تقديم العديد من التحليالت لإلرادة الحرة‪ ،‬على الرغم من أنها لم يتم تمييزها‬
‫بوضوح كما يفترض‪ .‬وف ًقا ألحد التحليالت‪ ،‬في المصطلحات الحالية‪ ،‬هذا هو‬
‫التحليل «غير المتوافق»‪ ،‬يمتلك المرء اإلرادة الحرة بشرط أن يكون لدى المرء خيارا‬
‫حقيقيا بين البدائل المتاحة‪ ،‬على سبيل المثال بين الكذب وقول الحقيقة‪ .‬وف ًقا لتحليل‬
‫«المتوافق» المنافس‪ ،‬فإن المرء يتصرف من دون إرادة حرة شريطة أن يتدفق الفعل‬
‫من إرادة الوكيل‪ ،‬أي عندما ال يكون هناك أي شيء خارجي يمنعها من القيام بما تشاء‬
‫(مثل إعاقة الطريق)‪ ،‬وال أي شيء خارجي يجبرها على فعل ما ليس لديها إرادة للقيام‬
‫به (مسدس في الرأس)‪ .‬لذلك‪ ،‬عندما يرغب شخص ما في الكذب‪ ،‬وال يوجد شيء‬
‫خارجي يجبره على الكذب‪ ،‬أو يمنعه من الكذب‪ ،‬فإن الكذب حر‪ ،‬حتى لو لم يكن‬
‫لديه خيار حول الكذب أم ال‪ ،‬أي حتى إذا تقرر ذلك سوف تكذب‪ .‬يسمى هذا الموقف‬
‫«التوافق» ألنه يعتقد أن اإلرادة الحرة متوافقة مع الحتمية‪.‬‬
‫يبدو أنه من وجهة نظر أوغسطين‪ ،‬بعد سقوط البشر ليس لديهم سوى إرادة حرة‬
‫بالمعنى المتوافق‪ ،‬على األقل فيما يتعلق بما هو جيد‪ .‬لدى البشر الرغبة في القيام بأشياء‬
‫معينة‪ ،‬ولكن بعد السقوط سيكون لديهم أشياء سيئة فقط‪ .‬عندما ال يعيقهم أي شيء‬
‫خارجي عن فعل تلك األشياء السيئة‪ ،‬فإن اإلرادة تكون حرة‪ .‬وعندما ال يجبرهم أي‬
‫شيء خارجي على عدم القيام بما لديهم اإلرادة للقيام به‪ ،‬فإن اإلرادة حرة بالمثل‪ .‬من‬
‫المؤكد أن أوغسطين لم يصر على أنه بعد السقوط لدى البشر إرادة حرة في االختيار‬
‫بين األشياء الجيدة والسيئة‪.‬‬
‫من المهم أن تضع في اعتبارك أنه عندما يتم الرجوع في أوقات الحقة إلى «دفاع‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪96‬‬
‫اإلرادة الحرة» أو «ثيوديسية اإلرادة الحرة» ألوغسطين‪ ،‬يتم تفسير أوغسطين في‬
‫الغالب على أنه غير متوافق‪.‬‬
‫ألفين بالنتينغا ــ مثال ــ يثني على أوغسطين في صياغة دفاع إرادته الحرة‪ ،‬لكنه يتبنى‬
‫وجهة نظر ال تتوافق مع اإلرادة الحرة‪ ،‬ألن ادعاءه الحاسم هو أنه إذا كان لدى الفاعل‬
‫إرادة حرة‪ ،‬وهو ما يعني القدرة على االختيار بحرية بين بدائل‪ ،‬فإنه حتى الله ال يستطيع‬
‫أن يجعله الفاعل لألعمال الجيدة فقط‪ .‬بل من األسهل حقا أن نرى كيف يمكن أن تعمل‬
‫النظرة غير المتوافقة لإلرادة الحرة في الثيوديسية أكثر من وجهة النظر المتوافقة‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فإن فكرة أوغسطين بأن سبب الشر هو «انشقاق إرادة كائن صالح بشكل متقلب من‬
‫الخير الذي ال يتغير» يذهب باتجاه طريق تبرئة الله من اللوم على وجود الشر‪ ،‬على الرغم‬
‫من أن السؤال يبقى لماذا لم يخلق الله عمالء بحيث أنهم جميعا أرادوا األشياء الجيدة‬
‫فقط‪ ،‬سؤال ال ينشأ لمعتنقي وجهات النظر غير المتوافقة حول اإلرادة الحرة‪.‬‬
‫اعتمد األكويني (‪ 1225‬ــ ‪ )1274‬وكذلك جون كالفين (‪ 1509‬ــ ‪ )1564‬العديد من‬
‫آراء أوغسطين حول اإلرادة الحرة والشر‪ .‬يؤكد كالفن أن اختيار آدم بين الخير والشر‬
‫كان حرا‪ ،‬ولكن بعد أن استسلم للخطيئة‪ ،‬فقد البشر الحرية األصلية التي كان يتمتع بها‬
‫آدم‪ ،‬واستعبدوا للخطيئة منذ ذلك الحين‪ .‬في نفس الوقت‪ ،‬يقول كالفن‪« :‬خطايا اإلنسان‬
‫ــ بعد أن أفسده السقوط ــ إرادية‪ ،‬وليس بال رغبة أو باإلكراه‪ ،‬بأشد ميل قلبه‪ ،‬وليس‬
‫باإلكراه القسري من الخارج»‪ .7‬يبدو أن هذه األفكار ال يمكن أن تنسجم مع بعضها‬
‫البعض إال على افتراض التوافق المسبق‪ .‬فكيف يمكن استعباد البشر من الخطيئة‪ ،‬وفي‬
‫نفس الوقت يخطئون طوع ًا وبدون إكراه؟ ال يمكن أن يكون ذلك إال عندما تكون‬
‫«العبودية للخطيئة» تعني «استعدادا دائما للقيام بأشياء خاطئة»‪ .‬السؤال كيف يمكن‬
‫أن تكون هذه األفكار المتوافقة جز ًء من الثيوديسية‪ .‬لكن يجب أن نضع في اعتبارنا أن‬
‫العنصر الالهوتي وراء األفكار الالهوتية المتوافقة هو سيادة الله المطلقة‪ ،‬وفي حالة‬
‫كالفن أيضا عنصر األقدار اإللهية‪ ،‬وكالهما يبدو أنهما ال يتركان سوى القليل لإلرادة‬
‫الحرة غير المتوافقة (أو الليبرالية)‪.‬‬

‫‪7 Calvin, 1961, II، iii.5.‬‬


‫‪97‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫اليبنز (‪ 1646‬ـ ‪ )1716‬وأفضل كل العوالم الممكنة‬


‫الكتاب الوحيد الذي نشره اليبنز خالل حياته كان «مقاالت عن الثيوديسية‪ :‬عن‬
‫صالح الله‪ ،‬وحرية اإلنسان‪ ،‬وأصل الشر» (‪ ،)1710‬ويبدو أنها المرة األولى التي يتم‬
‫فيها استخدام كلمة «ثيودسية»‪ .‬في هذا الكتاب‪ ،‬يستجيب اليبنز لمختلف االستجابات‬
‫غير التقليدية لمشكلة الشر‪ .8‬من ناحية إلى السوسينيين‪ 9‬الذين اعتقدوا أنه إذا كان الله‬
‫كلي العلم‪ ،‬فإن وجوده لن يكون متوافقا مع وجود الشر؛ ولكن‪ ،‬كما أكدوا‪ ،‬ألن الله‬
‫كلي المعرفة‪ ،‬فهو يفتقر إلى معرفة المستقبل‪ ،‬فإن وجود الشر ال يشكل مشكلة عميقة‬
‫لإليمان بوجود الله‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬يجيب على بيير بايل الذي اعتبر أن بدعة المانوية‬
‫صالحا) ال يمكن‬
‫ً‬ ‫وإلها فاد ًيا‬
‫شريرا‪ً ،‬‬
‫ً‬ ‫إلها خال ًقا‬
‫(أي الرأي القائل بأن هناك إلهين‪ً ،‬‬
‫دحضه بالعقل وحده (اإليمان والوحي ضروريات لذلك)‪ ،‬وبالتالي فإن الثيوديسية‬
‫العقالنية مستحيلة‪ .‬ضد السوسينيانيين‪ ،‬يحافظ اليبنز على علم الله الكلي‪ ،‬وضد بايل‬
‫يحافظ على إمكانية وجود ثيديسية عقالنية‪.‬‬
‫إن القلب النابض لثيوديسة اليبنز هو االدعاء بأن الله خلق أفضل العوالم الممكنة‪.‬‬
‫دليله على ذلك أن الله كلي القدرة‪ ،‬كلي العلم‪ ،‬خير بالكامل‪ ،‬وأن مثل هذا اإلله‪ ،‬عندما‬
‫يخلق عالما‪ ،‬سيخلق أفضل عالم ممكن‪ .‬من المستحيل أن يكون هناك عالم أفضل من‬
‫العالم الفعلي‪ ،‬هذا العالم‪.‬‬
‫من الواضح أن هذه الحجة تفترض وجود أفضل العوالم الممكنة‪ .‬وقد تم الطعن‬
‫في هذا االفتراض‪ .‬األكويني ــ على سبيل المثال ــ اعتبر أن هناك ما ال نهاية له من‬
‫العوالم المحتملة الجيدة بشكل متزايد‪ ،‬وبالتالي لكل عالم جيد‪ ،‬هناك عالم أفضل‪.‬‬
‫تبعا لذلك‪ ،‬ليس هناك أفضل جميع العوالم الممكنة‪ .‬وبالتالي ال يمكن لوم الله على‬
‫عدم خلق العالم األفضل‪ .‬إنشاء أفضل عالم مستحيل مثل ذكر الرقم األعلى‪ .‬إذا كانت‬

‫‪ 8‬انظر ‪.Nadler 2008‬‬


‫‪ 9‬السوسينية ‪ Socinianism‬نسق من العقيدة املسيحية مرتبط باإليطاليني ليليو سوزيني (‪ 1525‬ــ‬
‫ِ‬
‫إلصالح الكنيسة البولندية خالل‬ ‫‪ )1562‬وفاوست سوزيني (‪ 1539‬ــ ‪ ،)1604‬تكون عند البولنديني‬
‫القرنني السادس عرش والسابع عرش‪ ،‬معروفة باملسيحية الالتثليث َّية ومعتقدات غري تقليدية أخرى‪.‬‬
‫(املرتجم)‪.‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪98‬‬
‫حجة اليبنز ستستمر‪ ،‬فعليه مواجهة هذا االعتراض‪ .‬وهكذا يفعل‪ .‬األساس هو مبدأ‬
‫العقل الكافي‪ ،‬الذي ينص على أن كل شيء يجب أن يكون له سبب كاف‪ ،‬سبب يفسر‬
‫لماذا هو وليس شيء آخر‪ .‬بالتطبيق على الموضوع الحالي‪ ،‬هذا يعني أنه يجب أن‬
‫يكون هناك سبب لتحقق هذا العالم‪ ،‬وليس آخر‪ .‬حجة اليبنز هي أنه إذا كان هناك عدد‬
‫ال نهائي من العوالم الجيدة بشكل متزايد‪ ،‬فال يوجد سبب كاف للحصول على هذا‬
‫العالم‪ .‬وال حتى قرار الله بأن يكون هذا العالم فعليا يمكن أن يكون سببا كهذا‪ .‬ألن‬
‫مبدأ العقل الكافي ينطبق على مراسيم الله كما ينطبق على كل شيء آخر‪ .‬ولكن إذا كان‬
‫هناك عدد ال نهائي من العوالم الجيدة بشكل متزايد‪ ،‬فال يوجد سبب كاف لمرسوم الله‬
‫أن يكون هذا العالم هو العالم الفعلي‪ .‬وذلك سخيف‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬لكل شيء يفعله الله‪،‬‬
‫يجب أن يكون هناك سبب كاف‪.‬‬
‫لذا يجادل اليبنز بأن هذا العالم هو األفضل من جميع العوالم الممكنة‪ .‬اآلن يمكن‬
‫للمرء أن يعترض على ذلك باإلشارة إلى وجود حاالت من الشر‪ ،‬على سبيل المثال‬
‫اغتصاب طفل بريء‪ ،‬أو حادث غريب‪ ،‬أو قتل متعمد‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬يمكن للعالم‬
‫أن يكون بدونه بسهولة‪ ،‬وبالتالي فإن هذا العالم ليس أفضل العوالم‪ .‬رد اليبنز بأننا‬
‫ال نعرف حق ًا أن العالم يمكن أن يكون بدون هذه الشرور‪ .‬ونحن ال نعلم هذا ألننا ال‬
‫نعرف كيف تترابط كل هذه الشرور مع أحداث أخرى في العالم‪ ،‬وبالتالي ال نعرف ما‬
‫إذا كان استئصال هذه الشرور سيؤدي إلى عالم فيه خير أكبر‪ .‬وبالتالي‪ ،‬ال يمكننا أن‬
‫نستنتج نجاح هذا االعتراض‪.‬‬

‫جوزيف بتلر (‪ 1692‬ـ ‪ )1752‬والفهم الناقص لحكومة اهلل‬


‫جوزيف بتلر‪ ،‬في تحفته «تناظر الديني والطبيعي والظاهر‪ :‬نحو دستور ومسار‬
‫للطبيعة» (‪ ،)1736‬يقدم نوعا مختلفا جدا من االستجابة لمشكلة الشر مقارنة باليبنز‪،‬‬
‫على الرغم من أن الجهل يلعب دورا حاسما عند كليهما‪ ،‬ولكن واحدة ال تزال مؤهلة‬
‫عرفتها‪ .‬يضع بتلر رده في مناقشة مع اإللهيين‪ ،‬الذين اعتبروا أنه بعد‬
‫كثيوديسية‪ ،‬كما َّ‬
‫خلق العالم‪ ،‬ترك الله العالم لنفسه‪ .‬وبنا ًء على ذلك‪ ،‬ال يحتاج المؤمنون إلى ثيوديسية‪،‬‬
‫ألنهم ينكرون أن الله يحافظ على العالم ويحكمه‪ .‬على النقيض من ذلك‪ ،‬يؤكد بتلر‬
‫‪99‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫دعم الله ورعايته للعالم‪ ،‬ويضع التناظر بعيد المدى بين حكم الله على العالم الطبيعي‬
‫وحكم الله على العالم األخالقي‪.‬‬
‫فيما يتعلق بالعالم الطبيعي‪ ،‬يشير بتلر إلى أن حكم الله عليه ال يتخذ شكل سلسلة‬
‫من األفعال المخصصة غير ذات الصلة‪ ،‬ولكنه نظامي وقانوني‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫العالم الطبيعي هو كل‪ ،‬وأجزاؤه مترابطة بطرق متعددة‪ ،‬وال شيء غير مرتبط بأي شيء‬
‫آخر‪.‬كما أن العديد من األحداث الطبيعية لها عواقب مستقبلية ال نعرفها وال نستطيع‬
‫معرفتها‪« .‬األشياء التي تبدو تافهة بأقصى ما يمكن تخيله‪ ،‬تكون على الدوام شروط‬
‫ضرورية ألشياء أخرى ذات أهمية قصوى»‪ ،‬فالعالم الطبيعي‪ ،‬وحكم الله له‪ ،‬إذن‪« ،‬غير‬
‫مفهومين‪ ،‬ويجب على اإلنسان‪ ،‬بالمعنى الحرفي حقا‪ ،‬أال يعرف شيئا ال يدرك جهله‬
‫به»‪.10‬‬
‫إن حكم الله للعالم األخالقي‪ ،‬أي عالم العمالء البشريين األحرار‪ ،‬ليس بالمثل‬
‫مخصصا بل هو نظامي وقانوني‪ .‬وبشكل أكثر تحديدا‪ ،‬يحكم الله العالم األخالقي‬
‫بنظام المكافآت والعقوبات‪ .‬أيضا‪ ،‬لألفعال البشرية تأثيرات في العالم‪ ،‬ال يوجد فعل‬
‫بدون تأثير ما في مكان ما‪ .‬وأخير ًا‪ ،‬فإن األفعال البشرية‪ ،‬التي يسمح بها الله‪ ،‬لها عواقب‬
‫مستقبلية ال نعرفها وال نستطيع معرفتها‪.‬‬
‫بالتوازي مع مبدأ أخالقي معقول إلى حد ما‪ ،‬وحقيقة ميتافيزيقية واحدة مفترضة‪ ،‬فإن‬
‫هذه األفكار تشكل ثيوديسية‪ .‬المبدأ هو أن «الوسائل غير المرغوب فيها غالبا ما تؤدي‬
‫إلى تحقيق األهداف في مثل هذا التدبير المرغوب فيه‪ ،‬إلى حد كبير لموازنة الخلل في‬
‫الوسائل»‪ ،11‬لألشياء غير المرغوب فيها (الشرور) يمكن تجاوزها بالخيرات األكبر‬
‫التي تجلبها‪ .‬الحقيقة الميتافيزيقية المفترضة التي يجادل فيها بتلر هي أن الموت ليس‬
‫تدمير اإلنسان‪ ،‬فهناك حياة مستقبلية حتى بعد تحلل األجساد‪ .‬هذا ينتج الثيوسيدية‬
‫التالية‪ :‬من خالل التجربة‪ ،‬نعلم أن بعض الشرور يتم استبدالها بالخيرات األكبر‬
‫التي هي الوسائل الضرورية‪ .‬بما أننا نجهل العالقات المعقدة والمتشعبة الموجودة‬

‫‪10 Butler, 1736, part I, section VII.‬‬


‫‪11 Butler, 1736, part I, section VII.‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪100‬‬
‫بين األحداث والحاالت‪ ،‬فإننا لسنا في وضع يسمح لنا أن نقول أن شرا معينا ال يتم‬
‫استبداله ببعض الخير األكبر؛ هذا هو الحال أكثر إذا اعترفنا بأن الروابط بين األحداث‬
‫وحاالت األمور تتجاوز القبر‪.‬‬
‫هل هذه ثيوديسية؟ نعم‪ ،‬ألنه مع تأكيد وجود الشر ووجود خالق كلي القدرة والعلم‬
‫وكامل الخير وداعم للعالم‪ ،‬فإنه رد على سؤال لماذا يسمح الله بحدوث أشياء شريرة‪.‬‬
‫ولكن هناك‪ ،‬بالطبع‪ ،‬اختالف مذهل بين ثيوديسية بتلر واليبنز‪ .‬في حين أن األخير‬
‫يشدد على ما يمكننا فعله ومعرفته عن الله ومختلف المبادئ الميتافيزيقية واألخالقية‪،‬‬
‫فإن األول يؤكد على جهلنا‪ .‬ولكن‪ ،‬يجب التأكيد‪ ،‬أن بتلر ال يعتقد أننا جاهلون تماما‬
‫في النواحي ذات الصلة هنا‪ .‬فيجب أن تكون أشياء معينة معروفة‪ ،‬أو على األقل معتقدة‬
‫بطريقة عقالنية‪ ،‬إذا أرادت ثيوديسيته أن تعمل‪ ،‬خاص ًة (‪ )1‬أن هناك شرورا تعوض‬
‫تدميرا لشخص اإلنسان‪.‬‬
‫ً‬ ‫بخيرات أكبر ناتجة‪ )2( ،‬أن الموت ليس‬
‫األنماط البتلرية من الثيوديسية ُاستعيدَ ت حالي ًا تحت اسم «اإليمان المتشكك»‪،12‬‬
‫وهي فكرة جوهرية تتمثل في أنه حتى وإن ــ كما يفترض المؤمن المتشكك ــ كان لدى‬
‫الله أسباب وجيهة للسماح بشرور معينة‪ ،‬فنحن في الغالب جاهلون بهذه األسباب؛‬
‫الجانب اآلخر من هذا هو أننا‪ ،‬من وجهة نظر معرفية‪ ،‬لسنا في وضع يسمح لنا بادعاء‬
‫ليست لدى الله أسباب وجيهة للسماح بها‪.‬‬
‫ْ‬ ‫شرورا‬
‫ً‬ ‫أن هناك‬

‫هيجل (‪ 1770‬ـ ‪ )1831‬ومكر العقل‬


‫مع حذر كبير‪ ،‬أنتقل إلى ناقد كبير لاليبنز‪ ،‬كان يهدف أيضا إلى تقديم ما أسماه‬
‫«ثيوديسية»‪ ،‬على الرغم من أنه يبقى أن نرى ما إذا كان قد قدم واحدة بالفعل‪ ،‬وفقا‬
‫لتعريفي‪ .‬ربما أكثر من أي فيلسوف قبله‪ ،‬كان هيغل متحسسا للتاريخ‪ ،‬الذي يصوره‬
‫بشكل ملون كمسلخ‪ .‬اآلن يعتبر هيجل نفسه الوريث الفلسفي للمسيحية‪ ،‬الذي‬
‫اعتبرها أعلى شكل من أشكال الدين المتطورة‪ .‬ما تبشر به المسيحية بالمصطلحات‬
‫الالهوتية‪ ،‬يهدف هيجل إلى تحويله إلى مستوى المفاهيم الفلسفية‪ .‬على سبيل المثال‪،‬‬

‫‪ 12‬راجع مقاالت ‪ Steve Wykstra and William Alston‬يف ‪ Snyder 1996‬ــ ‪.Howard‬‬
‫‪101‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫استبدل «الله» بـ«العقل»‪ ،‬وأعاد تفسير مقولة أن الله خلق العالم كأطروحة أن العقل‬
‫يبرز نفسه في الطبيعة‪.‬‬
‫من أجل فهم ثيوديسية هيجل‪ ،‬من األهمية بمكان أن نرى أنه‪ ،‬وفقا لهيجل‪ ،‬بعد‬
‫أن أبرز العقل نفسه في الطبيعة‪ ،‬تعود الطبيعة إلى العقل في الظهور التاريخي للطبيعة‪.‬‬
‫إنها عودة إلى الوراء‪ ،‬ألن الطبيعة تجلب الفكر الواعي (البشري) والحياة والحاالت‬
‫االجتماعية‪ ،‬وكلها مظاهر في طبيعة الروح أو العقل‪ .‬يصور هيجل تاريخ العالم كعملية‬
‫صيرورة العقل إلى نفسه من خالل عملية تمظهر خارجي‪ .‬يدعي أن الهدف من العملية‬
‫التاريخية بأكملها هو أن العقل يتعرف على نفسه بشكل أفضل‪ ،‬حتى يصبح في نهاية‬
‫المطاف على دراية كاملة به‪.‬‬
‫في مقطع مشهور في مقدمة محاضرات فلسفة التاريخ (‪ ،)1837‬يقول هيجل أن‬
‫«الفكرة الوحيدة التي تجلبها الفلسفة معها‪ ،‬فيما يخص التاريخ‪ ،‬هي الفكر البسيط‬
‫للعقل‪ ،‬أن العقل يحكم العالم‪ ،‬وبالتالي فإن تاريخ العالم هو عملية معقولة»‪ .13‬ال‬
‫يمكن قراءة هذا الفكر من على سطح التاريخ كما هو مذكور في السجالت وكتب‬
‫التاريخ‪ .‬إنها فكرة فلسفية يجلبها هيجل معه وهو يفكر في تاريخ العالم‪ .‬ولكن بمجرد‬
‫أن يفكر المرء في هذا الفكر‪ ،‬يبدو تاريخ العالم نفسه معقوال‪ .‬لقد لخص هيجل ذلك‬
‫في القول الشهير‪« :‬كل من ينظر في العالم بعقل‪ ،‬سيجد أن العالم نفسه يبدو معقوالً»‪.‬‬
‫هذا يقود إلى الثيوديسية التالية‪ :‬عندما ينظر المرء إلى العالم بعقل‪ ،‬أي ينظر إلى‬
‫تاريخ العالم على أنه العملية التي يأتي فيها العقل إلى نفسه‪ ،‬فإن كل الشرور التي‬
‫نراها‪ ،‬يجب أن تكون لحظات في عملية التنوير الذاتي للعقل‪ .‬من المؤكد أنه لم يعتقد‬
‫عدد كبير من الشخصيات التاريخية العالمية بأن التاريخ هو عملية العقل المتقدم إلى‬
‫نفسها‪ ،‬فقد تابعوا أهدافهم المحدودة الخاصة‪ ،‬بعضها جيد‪ ،‬وبعضها سيئ‪ ،‬وبطرق‬
‫متنوعة‪ ،‬بعضها جيد‪ ،‬وبعضها سيئ‪ .‬لكن العقل ال يعوقه أو يعرقله األهداف المحدودة‬
‫التي سعت إليها الشخصيات المتناهية‪ .‬ألنه قادر على استخدام تحقيق هذه األهداف‬

‫‪ 13‬مل يتم ترمجة العمل الذي اقتبست منه بالكامل إىل اللغة اإلنجليزية‪ .‬فهذا االقتباس ترمجتي من طبعة‬
‫‪ Suhrkamp 1970‬من أعامل هيجل‪ ،‬ص‪.20‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪102‬‬
‫المحدودة لتحقيق مصلحته الخاصة‪ ،‬أي معرفة الذات‪ .‬في شرحه لهذه العملية‪ ،‬يمنح‬
‫هيجل مكانا فخورا لمفهوم «مكر العقل»‪ ،‬الذي يجب أن ُينظر إليه على أنه تناظر‬
‫فلسفي لمبدأ العناية اإللهية‪.‬‬
‫كما قلت‪ ،‬أدرج هيجل في هذه الدراسة بحذر‪ .‬وذلك ألن فكر هيجل األساسي هو‬
‫أن الهدف من تاريخ العالم هو أن العقل يتعرف على نفسه بشكل أفضل‪ ،‬ال مثيل له في‬
‫اإليمان اليهودي المسيحي‪ .‬الحظ المؤرخ األلماني العظيم ليوبولد فون رانك ذات مرة‬
‫إلها»‪ .‬بعيدا عن هذا‪،‬‬
‫أنه من وجهة نظر هيجل «التاريخ هو في األساس تاريخ أن يصبح ً‬
‫يستمر فون رانك بقوله‪« :‬أنا نفسي‪ ،‬أيها السادة‪ ،‬أؤمن أنه كان‪ ،‬وسيظل كذلك»‪ .‬لذا‪ ،‬ال‬
‫يعمل هيغل مع مفهوم الله المطلوب للثيوديسية (في رأيي)‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنني أدرجه ألنه‬
‫عندما‪ ،‬كما يزعم هيجل‪ ،‬في نهاية التاريخ أصبح العقل كلي العلم‪ ،‬من المفترض أن نرى‬
‫أن وجود العقل متوافق مع شرور العالم‪ ،‬بل هي مطلوبة لتحقيق كلية العلم للعقل‪.‬‬

‫ليويس (‪ 1898‬ـ ‪ )1963‬ومكبر الصوت هلل‬


‫بين الحربين العالميتين‪ ،‬عندما عادت الوضع َّية الجديدة بشكل قوي‪ ،‬تأثر العديد‬
‫من الفالسفة (والالهوتيين كذلك) بالفكرة التي تم التعبير عنها بقوة من قبل ما يسمى‬
‫بـ«الفالسفة اللغويين» من أكسفورد وكامبريدج‪ ،‬فالمقوالت الدينية بال معنى معرفي‪،‬‬
‫فهي بالنتيجة ــ من بين ما تستتبعه ــ تفتقر لقيمة الحقيقة‪ .‬في مثل هذا المناخ‪ ،‬ستكون‬
‫فهما خاط ًئا‪ ،‬إن لم يكن سخي ًفا‪ .‬لذلك من المثير لالهتمام للغاية أنه من‬
‫الثيوديسية ً‬
‫داخل قلعة أكسفورد ــ كامبريدج‪ ،‬وجد شخصان الشجاعة للتعامل مع مشكلة الشر‪،‬‬
‫حظي بشهرة شعبية كبيرة‪ ،‬واآلخر فيلسوف من الدرجة األولى‪،‬‬ ‫َ‬ ‫أحدهما ليس فيلسوفا‬
‫ولكن لم يحظ بتقدير ٍ‬
‫كاف‪.‬‬
‫الالفيلسوف هو ليويس‪ ،‬الذي نشر «مشكلة األلم» (‪ ،)1940‬والذي ــ بدون‬
‫استخدام الكلمة ــ كان يهدف إلى تقديم ثيوديسية‪ ،‬مستوحاة بشكل واضح من‬
‫أوغسطين‪ ،‬وكذلك من إريناوس‪ ،‬وفي نفس الوقت تحتوي على أفكار جديدة أصلية‪.‬‬
‫يقول ليويس‪ ،‬إن العالم موجود في المقام األول لكي يحب الله البشر‪« :‬لقد ُخلقنا‪،‬‬
‫ليس في األساس ألننا قد نحب الله‪ ...‬ولكن لكي يحبنا الله‪ ،‬لكي نصبح موضوعات‬
‫‪103‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫يستقر فيها الحب اإللهي»‪ .14‬ولكن بسبب سوء استخدامنا إلرادتنا الحرة ال نصبح‬
‫موضوعات كهذه‪ .‬يجب أن نصبح كذلك‪ .‬اآلن جزء من حالتنا البشرية الخاطئة أن‬
‫ننسى حالتنا‪ ،‬وأن نكون راضين عن أنفسنا‪ ،‬وأن ندير ظهورنا للحب اإللهي‪ ،‬وأن نعيش‬
‫الوهم بأننا مكتفون ذاتيا‪ .‬في هذا الموقف ــ كما يقول ليويس ــ تكون الحقيقة‪« :‬الله‬
‫يهمس لنا في ملذاتنا‪ ،‬يتكلم في ضميرنا‪ ،‬ولكن يصرخ في ألمنا‪ :‬إنه مكبر الصوت‬
‫الخاص به إلثارة عالم أصم»‪ .15‬األلم والمعاناة هما نداء االستيقاظ من الله‪ ،‬وهما‬
‫الوسيلة التي يستخدمها الله لتنبيهنا إلى وضعنا الحزين‪ ،‬ولجعلنا نشعر برغبتنا العميقة‬
‫ولكن المكبوتة في الشيء الوحيد الذي نحتاجه ح ًقا‪ ،‬عالقة حب عميقة مع الله‪ .‬ليس‬
‫األمر أن الله ماسوشي‪ ،‬ألنه يريدنا أن نكون سعداء وراضين بالفعل‪ ،‬ولكن لكي نكون‬
‫سعداء وراضين بالفعل‪ ،‬نحتاج إلى التغيير‪ ،‬ونسلم أنفسنا لله‪.‬‬
‫يبدو ليويس في بعض األحيان أنه يؤيد الرأي القائل بأن الله نفسه هو سبب الشر‪.‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬عند مناقشة سوء الحظ الذي يقع على أناس محترمين غير مؤذيين‪،‬‬
‫يقول‪« :‬دعوني أتوسل إلى القارئ لمحاولة االعتقاد‪ ...‬أن الله‪ ،‬الذي خلق هؤالء‬
‫األشخاص المستحقين‪ ،‬قد يكون على حق عندما يعتقد أن ازدهارهم المتواضع‬
‫وسعادة أطفالهم ال تكفي لجعلهم مباركين‪ ...‬لذلك يزعجهم‪ ،‬ويحذرهم من قصور‬
‫يجب عليهم اكتشافه ذات يوم»‪ .‬في الوقت نفسه‪ ،‬يؤيد الرأي القائل بأن المعاناة‬
‫اإلنسانية سببها ــ في الغالب ــ البشر الذين يسيئون استخدام حريتهم‪ .‬ال يتعارض هذان‬
‫الخطان بالضرورة مع بعضهما البعض‪ ،‬ألن الله‪ ،‬الذي ال يفعل الشر‪ ،‬قد ال يسمح‬
‫فقط بالشرور التي يسببها البشر لبعضهم البعض‪ ،‬ولكن الستخدامها لمصلحتهم‪ ،‬وهي‬
‫فكرة أطلقها رومان ‪.8‬‬
‫ولكن ماذا عن معاناة الحيوانات؟ بالنسبة لهم المعاناة ال يمكن أن تكون مكبر‬
‫صوت إلهي‪ .‬هنا يتكهن ليويس (‪ )1‬بأن الحيوانات تفتقر إلى «أنا أو روح منسقة»‪،‬‬
‫وبالتالي ال تعاني من األلم بالطريقة التي يفعلها البشر‪ ،‬و(‪ )2‬أن القوة المخلوقة أساءت‬
‫استخدام حريتها‪ ،‬وبالتالي تسبب الخراب في عالم الحيوان قبل البشر بوقت طويل‪.‬‬

‫‪14 Lewis، 1940, 39-40.‬‬


‫‪15 Lewis, 1940, 91.‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪104‬‬
‫إيونغ (‪ 1899‬ـ ‪ )1973‬ومبدأ الوحدات العضوية‬
‫الفيلسوف األعلى الذي قصدته هو إيونغ‪ ،‬الذي عمل بشكل رئيسي في ما وراء‬
‫األخالق‪ .‬في كتابه «القيمة والواقع» المنشور بعد وفاته‪ ،‬يقدم ــ كما يشير العنوان‬
‫الفرعي ــ «الحالة الفلسفية من اإليمان»‪ .‬كجزء من حالته يهدف إلى حل مشكلة الشر‪.‬‬
‫بما أنه كان يعتقد أن الشر موجود‪ ،‬وأن الله القادر على كل شيء والصالح المطلق‪،‬‬
‫موجود أيضا‪ ،‬فإن ما يهدف إليه هو ثيوديسية‪ .‬يشير بشكل أساسي إلى أربع نقاط‪،‬‬
‫يزعم أن النقطتين األوليين ضروريتان بشكل فردي وكافيتان بشكل مشترك لحل‬
‫مشكلة الشر؛ النقطتان األخريان لهما أهمية ثيوديسية إضافية‪ .‬تتمثل نقطته األولى‬
‫واألكثر أهمية في أنه «يبدو من الواضح تماما أن بعض الخيرات‪ ،‬والتي ليست بأي‬
‫حال من األحوال أقلها ولكن من بين أعالها‪ ،‬تنطوي بالضرورة على بعض الشر‬
‫كشرط لتحقيقها»‪ .16‬أمثلته الشجاعة واإليثارية وأعلى أشكال الحب‪ ،‬وكلها ذات قيمة‬
‫جوهرية كبيرة‪ ،‬ولكن ال يمكن تحقيقها بدون معاناة‪ .‬لدعم ادعائه‪ ،‬يستدعي مبدأ مور‬
‫الشهير للوحدات العضوية‪ ،‬والذي ينص على أن قيمة الكل ليست بالضرورة مساوية‬
‫لمجموع قيم األجزاء المأخوذة بشكل منفصل‪ .‬ال تتأثر القيمة الكلية للكل بأجزائه‬
‫المأخوذة بشكل منفصل فحسب‪ ،‬بل أيضا بالطريقة التي ترتبط بها األجزاء‪ .‬هذا المبدأ‬
‫له نتيجة طبيعية ذات صلة مباشرة بمشكلة الشر‪ .‬إنه يستتبع أن اإلضافة إلى جزء كامل‬
‫سيء في حد ذاته‪ ،‬يمكن أن تزيد في الواقع قيمة الكل الذي تتم اإلضافة إليه‪ .‬وهذا‬
‫يعني أنه يمكن تبرير إنتاج جزء شرير‪ ،‬أي إذا كان يضيف إلى الكل قيمة تفوق قيمة‬
‫الجزء المنخفظة‪ .‬هناك العديد من الحاالت التي يناقشها إيونغ إلظهار أن صحة المبدأ‪،‬‬
‫مثل األلم الموجود في التعاطف المحب مع معاناة اآلخرين‪ ،‬والتجربة الجمالية التي‬
‫توفرها مأساة أو قصة حزينة‪ ،‬واكتساب فضيلة أخالقية من خالل التغلب على إغراءات‬
‫حقيقية‪ .‬ففي حاالت من هذا النوع‪ ،‬العالقة بين الجزء الشرير وكل الخير ليست عالقة‬
‫سببية؛ إنها عالقة جزء ــ كل‪ .‬في أنواع أخرى من الحاالت‪ ،‬هناك شيء جيد قيمته‬
‫تعتمد على شيء سيئ في حد ذاته‪ ،‬ولكنه غير موجود فيه‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬لن يكون‬

‫‪16 Ewing, 1973، 215.‬‬


‫‪105‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫التعاطف واإلحسان موجودا إذا لم تكن هناك شرور تجعل هذه المواقف مناسبة‪.‬‬
‫لذا‪ ،‬هناك خيرات ال يمكن أن توجد بدون شرور مقابلة‪ ،‬يسميها إيونغ بـ«الخيرات‬
‫المختلطة»‪ .‬من المؤكد أنه ليست كل الخيرات مختلطة‪ .‬فخير تجربة المناظر الطبيعية‬
‫الجميلة‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬ال يحتاج إلى وجود أي شر‪ .‬لكن بعض الخيرات مختلطة‪.‬‬
‫والعالم الذي يحتوي على خيرات غير مختلطة ومختلطة أفضل من عالم يحتوي فقط‬
‫على غير المختلطة‪ .‬لذلك ليس الله ظالما في السماح بوجود مثل هذا العالم‪.‬‬
‫النقطة الثانية التي يوضحها إيونغ هي أن الالحتمية صحيحة وأنها شرط ضروري‬
‫ألي ثيوديسية معقولة‪ .‬الالحتمية هي الفرضية القائلة بأن بعض األحداث ال توجد‬
‫ظروف مادية كافية لحدوثها‪ .‬قرار جين الحر لمساعدة جاك هو حدث (مثل بعض‬
‫األحداث الكوانتمية)‪ .‬ولكن إذا كانت الالحتمية صحيحة‪« ،‬فمن المستحيل منطقيا أن‬
‫نضمن تماما أن الكائن غير المحدد سوف يفعل دائما ما هو األفضل»‪ ،‬ومن ثم «يمكن‬
‫اعتبار الكثير من الشر مستقال عن إرادة الله»‪.17‬‬
‫النقطة الثالثة‪ ،،‬قدم إيونغ المبدأ التالي‪ :‬إذا كان الشيء ‪ A‬مرتب ًطا بالعالقة ‪ r‬بشيء‬
‫آخر‪ ،B‬فإن ‪ B‬يقف في عكس ‪ r‬مع ‪(A‬وقد يكون هذا إما‪ ،r‬أو عالقة مختلفة)‪ ،‬ولكن‬
‫صحيحا‪ :‬على الرغم من أنه من األفضل أن تكون ‪ A‬مرتبطة بـ ‪B‬‬
‫ً‬ ‫اآلن قد يكون ما يلي‬
‫بواسطة ‪ ،r‬إال أنه من السيئ أن ‪ B‬ترتبط بـ ‪ A‬من خالل عكس ‪ .r‬على سبيل المثال‪ ،‬قد‬
‫يكون من الجيد أن تتزوج ‪ A‬من ‪ ،B‬ولكن من األفضل لـ ‪ B‬أن تكون متزوجة من ‪G‬‬
‫(ومن السيء جدا أن تكون ‪ B‬متزوجة من ‪ .)A‬في هذه الحالة ال يمكن إرضاء كل من‬
‫‪A‬و‪ ،B‬حيث سيتعين على أحدهما على األقل تحمل شر الحب غير المتبادل‪ .‬لذا‪ ،‬ما‬
‫هو األفضل بالنسبة لشخص ما‪ ،‬قد يتعارض مع ما هو أفضل لآلخر‪ ،‬وبالتالي قد يكون‬
‫من المستحيل‪ ،‬حتى في أفضل عالم ممكن‪ ،‬أن يشعر الجميع بالرضا‪.‬‬
‫النقطة الرابعة واألخيرة تتعلق بقوانين السببية‪ ،‬التي يفكر فيها أيونغ على اتساق مع‬
‫«نظرية االستحقاق»‪ ،‬والتي وف ًقا لها‪ ،‬وخال ًفا لنظرية االنتظام لهومان المنافسة‪ ،‬هناك‬
‫شيء في طبيعة السبب يستلزم النتيجة‪ .‬في هذه النظرية‪ ،‬القوانين السببية ذات وضع‬

‫‪17 Ewing, 1973, 222.‬‬


‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪106‬‬
‫ال يختلف عن القوانين المنطقية‪ :‬فهي مستقلة عن إرادة الله‪ .‬لنفترض اآلن ما يلي‬
‫قانونا سببيا‪ :‬الفشل في كسب ما نريده يميل إلى جعلنا غير سعداء‪ .‬ثم‪« ،‬بما أن الرغبة‬
‫ضرورية للعمل‪ ،‬أو ألي حياة من النوع الذي نعيشه‪ ،‬وال يمكن لإلنسان المحدود أن‬
‫يحصل دائما على ما يريده‪ ،‬والتقدم األخالقي يعتمد على ضبط الرغبات‪ ،‬لدينا مأزق‬
‫يجعل بعض الشر في السعي وراء الخير الذي ال مفر منه «‪ .18‬اآلن نحن ال نعرف أي‬
‫القوانين السببية التي يجب التفكير فيها على غرار نظرية االستحقاق‪ ،‬ومن ثم يبقى‬
‫احتماال مفتوحا‪ ،‬فيستنتج إيونغ‪« :‬أن المقتضيات السببية المستقلة عن إرادة الله كافية‬
‫لتفسير الكثير الشر في العالم»‪.19‬‬
‫قد تعطينا هذه النقطة الرابعة وقفة حول ما إذا كان إيونغ يقدم ثيوديسية (على‬
‫التعريف المستخدم)‪ .‬ألنه إذا كانت المقتضيات السببية مستقلة عن إرادة الله‪ ،‬فقد‬
‫نأخذ هذا ليعني أن الله ليس كلي القدرة‪ ،‬ما لم يكن هناك دليل التأثير الذي ال تنتهك‬
‫فيه قوانين المنطق قدرة الله المطلقة‪ ،‬فإن المقتضيات السببية ال تفعل ذلك‪.‬‬

‫بالنتنغا (‪ )1937‬وثيوديسية السقوط المبارك‬


‫أكثر من أي فيلسوف آخر من القرن العشرين (والحادي والعشرين)‪ ،‬قدَّ م‬
‫ألفين بالنتنغا صرامة وجودة لمناقشة مشكلة الشر‪ ،‬التي حققها من خالل تطبيق‬
‫الميتافيزيقيا العالمية المحتملة على الموضوع‪ .‬في «طبيعة الضرورة»‪ ،‬قام بالتمييز‬
‫بين الثوديسية والدفاع‪ ،20‬فالدفاع هو مجادلة تهدف إلى إظهار إخفاق «الحجة من‬
‫الشر» (على النحو المقصود في الفقرة األولى من هذا الدراسة)‪ ،‬والتي بموجبها‬
‫االفتراضان (أ) «الله كلي القدرة وخير كلي» و(ب) «الشر موجود» يتعارضان مع‬
‫بعضها البعض‪ .‬لم يحدد بالنتنغا فقط ما هو الدفاع‪ ،‬بل قدَّ م واحدا‪ ،‬وهو دفاع اإلرادة‬
‫الحرة المستوحى من أوغسطين‪ .21‬وهو يتألف من إظهار أن هناك االفتراض (ج)‬

‫‪18‬‬ ‫‪Ewing, 1973, 224.‬‬


‫‪19‬‬ ‫‪Ewing, 1973, 224.‬‬
‫‪20‬‬ ‫‪Plantinga, 1974, 192.‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪Plantinga, 1974, chapter IX.‬‬
‫‪107‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫له الخصائص التالية‪ )1( :‬قد يكون صحيحا‪ )2( ،‬يتوافق مع (أ)‪ ،‬و(‪ )3‬باالتساق‬
‫مع (أ) يستتبع (ب)‪ .‬يقول بالنتنغا أن هذا االفتراض (ج) هو أن «الله لم يكن‬
‫ليخلق كونا يحتوي على الخير األخالقي‪ ،‬دون أن يخلق واحدا يحتوي على الشر‬
‫األخالقي»‪ .‬وبالطبع‪ ،‬إذا كان من الممكن إثبات أن (ج) ممكن‪ ،‬فقد تبين أن (أ)‬
‫و(ب) متوافقان مع بعضهما البعض (أي بعد ذلك ثبت أن كالهما يمكن أن يكون‬
‫صحيحا)‪ .‬هذا الدفاع ضعيف من حيث أنه يجادل فقط بأن (ج) ممكن‪ ،‬وليس أنه‬
‫في الواقع صحيح‪ .‬إذا كان يمكن إثبات أن (ج) صحيح في الواقع‪ ،‬فسنحصل على‬
‫ثيوديسية اإلرادة الحرة‪ ،‬لكن بالنتنغا ال يهدف إلى إثبات (ج)‪ ،‬ألن هدفه هو فقط‬
‫ــ ولكنه بالفعل إنجاز كبير! ــ إزعاج «الحجة من الشر»‪ ،‬وهذا ال يتطلب أي شيء‬
‫أقوى من إظهار أن (ج) صحيح‪ .‬يعتبر دفاع بالنتنغا بشكل عام ناجحا كما يمكن أن‬
‫تكون الحجة الفلسفية‪.‬‬
‫في عام (‪ ،)2004‬انتقل بالنتنغا من الدفاع إلى الثيوديسة‪ ،‬مستفيدا من كلمات‬
‫نشيد عيد الفصح الكاثوليكي الروماني‪« :‬أيها الذنب السعيد‪ ،‬الذي جلب لنا مثل هذا‬
‫المخلص الرائع»‪ .‬فكرتان تقودان في هذه الثيوديسية‪ ،‬أوال‪ ،‬إن الله موجود بالضرورة‪،‬‬
‫أي أنه موجود في كل عالم ممكن‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬الله الذي لديه خصائص مثل‬
‫الخير والمحبة والمعرفة والقوة المطلقة بشكل أساسي‪ :‬لديه في كل عالم يوجد‬
‫فيه (وهو ما يعني في جميع العوالم الممكنة)‪ .‬ولكن بعد ذلك‪ ،‬العوالم غير الجيدة‬
‫مستحيلة‪ :‬الله لم يكن (وحتى ال يستطيع) خلق عالم يحتوي فقط عليه والمخلوقات‬
‫التي تعاني دائما من األلم المبرح‪ .‬جميع العوالم الممكنة هي ببساطة جيدة جدا‪ ،‬ألنها‬
‫تحتوي على الله الجيد بالكامل‪ .‬بغض النظر عن مقدار الخطيئة والمعاناة والشر الذي‬
‫يحتويه العالم ‪ ،W‬فإن الخطيئة وما إلى ذلك فيه تفوقها إلى حد كبير الخير الالمتناهي‬
‫لوجود الله‪ ،‬وبالتالي فإن هذا العالم هو عالم جيد جدا‪ .‬هذا ال يعني أن جميع العوالم‬
‫الممكنة لها قيمة متساوية‪ ،‬فبعضها أفضل بكثير من البعض اآلخر‪ .‬هنا تأتي الفكرة‬
‫الرئيسية الثانية‪ ،‬يقول بالنتنغا‪« :‬هناك ميزة ثانية جيدة ومثيرة لإلعجاب في عالمنا‪،‬‬
‫وهي ميزة ال توجد إال في بعض العوالم وليس في جميع العوالم الممكنة‪ ،‬وهي الخير‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪108‬‬
‫الشاهق والرائع للتجسد اإللهي والتكفير»‪ .22‬هناك عوالم محتملة توجد فيها مخلوقات‬
‫حرة تخطئ ولكن ليس فيها تكفير‪ .‬في مثل هذا العالم تعاني المخلوقات من عواقب‬
‫خطاياهم ويتم عزلهم في نهاية المطاف عن الله‪ .‬عالم مثل هذا‪ ،‬على الرغم من أنه‬
‫يحتوي على الخير العظيم لوجود الله‪ ،‬ليس جيدا مثل العالم الذي يتم فيه تقديم‬
‫المخلوقات للخالص والخالص من خطاياهم‪ .‬يقترح بالنتنغا اآلن أن جميع العوالم‬
‫التي يوجد فيها التجسد والتكفير هي عوالم ذات خير كبير جدا‪ ،‬وفي الواقع تحقق‬
‫مستوى من الخير ال يمكن أن يحققه أي عالم بدون تجسد وتكفير‪ .‬تبعا لذلك‪ ،‬إذا‬
‫أراد الله أن يحقق عالما جيدا بالفعل‪ ،‬فسوف يخلق عالما مع التجسد والتكفير‪ .‬ولكن‬
‫بالطبع‪ ،‬يجب أن تحتوي جميع هذه العوالم على ما يتطلب التكفير‪ :‬الخطيئة وعواقبها‬
‫الشريرة‪ .‬لذا‪ ،‬فإن ثيوديسية بالنتنغا هي أنه بما أن الله أراد أن يحقق أحد أفضل العوالم‬
‫الممكنة‪ ،‬وبما أن أفضل العوالم الممكنة تحتوي على التجسد والتكفير‪ ،‬والتكفير‬
‫يتطلب الخطيئة والشر‪ ،‬فإن أفضل العوالم الممكنة تحتوي على الخطيئة والشر‪ .‬بما‬
‫أن عالمنا يحتوي على الله وكذلك التجسد والتكفير‪ ،‬فإن عالمنا هو واحد من أفضل‬
‫العوالم الممكنة؛ ولكن لكي تكون كذلك‪ ،‬فالخطيئة والشر ضروريان‪.‬‬
‫من الواضح أن ثيوديسية بالنتنغا تتجاوز الالهوت المجرد‪ ،‬ألنها ترجع بشكل‬
‫أساسي إلى التعاليم المسيحية بالتحديد عن الخطيئة‪ ،‬والتجسد‪ ،‬والتكفير‪ .‬عالوة‬
‫على ذلك‪ ،‬تفترض فكرة أن البشر لديهم إرادة حرة‪ ،‬بمعنى أنهم يمكنهم أن يقرروا أن‬
‫يتعارضوا مع إرادة الله ورغباته‪.‬‬

‫سوينبورن (‪ )1934‬والخير الفائق للشر‬


‫أكثر ثيوديسية متطورة في الفكر الحالي في الكتاب المثير لبروفيدانس ريتشارد‬
‫سوينبورن «العناية اإللهية ومشكلة الشر» (‪ .)1998‬على عكس العديد من الالهوتيين‬
‫الذين يعتقدون أن الفكر المسيحي ال ينطوي على ادعاءات بالحقيقة الرصينة‪ ،‬والذين‬
‫هم ــ بالنتيجة ــ الهوتيون مضادون للواقعية‪ ،‬يأخذ سوينبورن التقليد الكبير لالهوت‬
‫الفلسفي الذي تنتمي إليه أسماء أوغسطين وأنسيلم واألكويني واليبنيز‪ ،‬ويستعمل‬

‫‪22 Plantinga, 2004, 9.‬‬


‫‪109‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫بحرية العديد من األفكار من تاريخ الثيوديسية‪ ،‬على سبيل المثال تلك المرتبطة باإلرادة‬
‫الحرة والسقوط‪ .‬مساهمته الفريدة في هذا التاريخ ذات شقين‪ :‬أوال‪ ،‬في شرحه للنقطة‪،‬‬
‫التي طرحها إيوينغ بخصوص أن العديد من الخيرات ال يمكن أن توجد بدون معاناة‬
‫وشر‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬من الجيد أن يكون لدى الفاعلين إرادة حرة ليبرالية جادة‬
‫جدا‪ ،‬حتى تكون لديهم القدرة على اتخاذ قرارات ذات أهمية أخالقية‪ .‬لكن الله ال‬
‫يستطيع أن يعطي الفاعلين إرادة حرة‪ ،‬وفي نفس الوقت يضمن أنهم سيقررون فقط أن‬
‫يفعلوا األشياء الجيدة‪ .‬لذا‪ ،‬فإن إمكانية اتخاذ خيارات خاطئة ضرورية لصالح اإلرادة‬
‫الحرة‪ .‬إلى هنا هذا مألوف‪ ،‬ولكن ما يضيفه سوينبورن هو أن الفاعلين يحتاجون إلى‬
‫الرغبات إذا أرادوا اتخاذ قرارات تؤدي إلى أفعال‪ ،‬وإذا كان االختيار بين فعلين ذا قيمة‬
‫تفاضلية حر وقيم‪ ،‬فإن الفاعلين بحاجة إلى الرغبة في الفعل األفضل إضافة إلى الفعل‬
‫األقل ومحتمل الخطأ‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬من دون الرغبة في الفعل األقل‪ ،‬لن يكون هناك خيار‬
‫جاد‪ .‬ولكن بطبيعة الحال‪ ،‬فإن الرغبة في الفعل األقل‪ ،‬وربما حتى السيئ‪ ،‬أمر سيئ في‬
‫حد ذاته‪ .‬فيذهب سوينبورن إلى أبعد من ذلك ويجادل بأنه إذا كان االختيار جادا حقا‪،‬‬
‫فإن الرغبة في الفعل األقل (حتى السيئ) يجب أن تكون أقوى من الرغبة في العمل‬
‫األفضل‪ .‬لذا‪ ،‬خير االختيار الحر يتطلب شر الرغبات السيئة والخاطئة‪ .‬وبالمثل‪ ،‬هناك‬
‫قيمة كبيرة في اكتشاف األشياء‪ ،‬في التحقيق التعاوني‪ ،‬ومساعدة اآلخرين في العثور‬
‫على الحقيقة‪ .‬ولكن لكي تصبح هذه الخيرات حقيقية‪ ،‬يلزم الجهل والمعتقد الكاذب‪.‬‬
‫مرة أخرى‪ِ ،‬‬
‫يوجد األلم والمعاناة مجموعة متنوعة من الخيرات التي ال يمكن أن توجد‬
‫بدونهما‪ ،‬مثل الرحمة والرعاية والرغبة في مساعدة المصاب؛ عالوة على ذلك‪ ،‬توفر‬
‫المعاناة فرصة للتفاعل المتبادل‪ ،‬وهو أمر جيد للذي يعاني وللم ِ‬
‫ساعد أيضا؛ توفر‬ ‫ُ‬
‫المعاناة فرصا لتشكيل شخصيتنا (قناعاتنا ورغباتنا وميولنا األخالقية لالستجابة‬
‫لمجموعة متنوعة من الظروف)‪ ،‬ألننا نشكل شخصياتنا من خالل الخيارات التي‬
‫نتخذها في االستجابة لأللم والمعاناة‪ .‬اآلن يمكن للفرد أن يشير إلى َّ‬
‫أن كل هذه‬
‫الخيرات يمكن أن تتحقق حتى لو لم يكن هناك ألم ومعاناة حقيقية‪ ،‬وبالتالي كان‬
‫بإمكان الله أن يهيئ العالم بهذه الطريقة التي على الرغم من أنه لم يعاني أحد على‬
‫اإلطالق‪ ،‬يعتقد البعض اآلخر أنهم يفعلون ذلك وبالتالي يستجيبون بتعاطف ورعاية‪.‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ ‫‪110‬‬
‫لكن سوينبورن يجادل بأن هذا سيتالشى في مواجهة مبدأ معقول‪ :‬مبدأ األمانة‪ ،‬والذي‬
‫بموجبه «على الله التزام بعدم صنع عالم يتم فيه خداع الفاعلين بشكل منهجي في‬
‫األمور المهمة دون أن يكون لديهم إمكانية الكتشاف خداعهم»‪ ،23‬ويشير إلى مجموعة‬
‫أخرى كاملة من الخيرات التي يتطلب تحقيقها شرورا مختلفة األنواع‪.‬‬
‫العنصر الثاني في مساهمة سوينبورن المفيدة في تاريخ الثيوديسية هو تأمله‬
‫المستمر في السؤال تحت أي ظروف يحق لله (هل يجوز له أخالقي ًا) أن يخلق‬
‫حاالت سيئة من أجل الحاالت الجيدة التي تجعلها ممكنة‪ .‬ويبدأ بمالحظة أن‬
‫اآلباء لديهم أحيانا الحق األخالقي في السماح لبعض الشرور بأن تصيب أطفالهم‪،‬‬
‫كما عندما يعاني طفلهم من وجع األسنان الرهيب ويحتاج لعملية جراحية مؤلمة‪.‬‬
‫بالطبع‪ ،‬بالنسبة للشرور األخرى قد ال يكون لآلباء الحق في السماح بذلك‪ .‬العالقة‬
‫بين اآلباء واألطفال غريبة في أن األطفال‪ ،‬في كثير من النواحي‪ ،‬يعتمدون على‬
‫آبائهم‪ .‬هذا االعتماد يعطي الوالدين واجبا أخالقيا لرعاية أطفالهم‪ .‬وإذا قاموا‬
‫بواجباتهم‪ ،‬فإن اآلباء لديهم حقوق معينة فيما يتعلق بالطفل‪ ،‬على سبيل المثال الحق‬
‫في تحديد المكان الذي سيعيش فيه الطفل ويتعلم‪ ،‬والحق في الطاعة‪ .‬كما أن لهم‬
‫الحق ــ ضمن حدود ــ بإلحاق األلم بأطفالهم‪ ،‬كما في حالة الجراحة‪ ،‬إذا كان ذلك‬
‫بشكل عام هو األفضل بالنسبة لهم‪ .‬يعتمد البشر اآلن على الله‪ ،‬الذي يعيلهم كل‬
‫يوم في حياتهم‪ ،‬أكثر من األطفال الذين يعتمدون على الوالدين‪ .‬وكلما زاد واجب‬
‫الرعاية‪ ،‬كلما زاد (إذا تم الوفاء بالواجب) الحقوق المترتبة عليه‪ .‬لذا فإن الله له‬
‫الحق في السماح للشر أن تصيب البشر‪ .‬لكن هذا الحق ليس بال حدود‪ .‬يجب على‬
‫الله أال يسمح (أو يسبب) األذى للبشر الذي ال يتم تعويضه بفوائد لهم؛ الفوائد التي‬
‫قد تجني فقط في الحياة المستقبلية‪ .‬فاستنتاج سوينبورن هو أن «الله له الحق في‬
‫السماح بمعاناة لبشر ولحيوانات طالما أن حزمة الحياة جيدة بشكل عام لكل منا‪.‬‬
‫ويتم تعويض األشياء السيئة بأشياء جيدة «‪ .24‬النقطة الحاسمة هي أنه يجب على الله‬
‫أال يسترجع بمرور الوقت ما أعطاه‪ .‬يجب عليه أن يظل محسنا متوازنا‪.‬‬

‫‪23 Swinburne, 1998, 139.‬‬


‫‪24 Swinburne, 1998, 235.‬‬
‫‪111‬‬ ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

‫النظر إلى الخلف‬


‫إذا نظرنا إلى الوراء في هذه الرواية القصيرة جدا لتاريخ الثيودسية‪ ،‬نالحظ أن بعض‬
‫األفكار األساسية حول العالقة بين الله والشر تتكرر مرة بعد أخرى‪ .‬من المفترض‬
‫أن الفكرة األساسية هي ما يمكن أن نسميه «فكرة الخير األعظم»‪ ،‬فكرة أن الشر‪ ،‬أو‬
‫احتماالته‪ ،‬مطلوبة لبعض الخيرات‪ ،‬الخيرات التي يتم من خاللها استبدال الشرور‪.‬‬
‫تأتي هذه الفكرة في الموضوع المتكرر لإلرادة الحرة‪ ،‬ألن اإلرادة الحرة تجعل بعض‬
‫الخيرات ممكنة‪ ،‬بينما في نفس الوقت تجعل بعض الشرور ممكنة‪ .‬ويأتي أيضا في‬
‫الموضوع المتكرر «صنع الروح»‪ :‬النمو الروحي هو خير عظيم‪ ،‬ويتطلب حدوثه‬
‫معاناة مثل األلم والمعاناة والشر‪ .‬كما يأتي في تطبيق مبدأ الوحدة العضوية على‬
‫أيضا في موضوع «السقوط المبارك»‪ .‬موضوع آخر متكرر هو‬ ‫مشكلة الشر‪ .‬كما يأتي ً‬
‫أن الشر هو شكل من أشكال العقاب اإللهي‪ .‬وعلى هذا النحو قد يكون جز ًء من حكم‬
‫الله‪ ،‬ربما يعمل كمكبر صوت إلهي‪ .‬الموضوع اآلخر‪ ،‬الذي يتحدث بشكل خاص عن‬
‫مشكلة الشر الطبيعي‪ ،‬هو فكرة أن العالم الطبيعي المنتظم‪ ،‬على الرغم من أنه قد يكون‬
‫سببا لأللم والمعاناة‪ ،‬هو شيء جيد‪ ،‬ألنه يجعل أشياء جيدة ممكنة مثل وضع الخطط‬
‫وتنفيذها‪ ،‬واالهتمام ببعضها البعض‪ ،‬وأشياء أخرى كثيرة‪ .‬الموضوع األخير هو النقطة‬
‫المعرفية القائلة بأن البشر محدودون جدا في رؤية الروابط بين األحداث (قد ال نرى‬
‫في كثير من األحيان ما يساهم به شر معين‪ ،‬وال ما إذا كان الشر يتم استبداله بالخير‬
‫الذي قد يكون ضرور ًيا) وبالتالي محدودة للغاية في معرفة األسباب اإللهية للسماح‬
‫بالشر‪.25‬‬

‫‪ 25‬أنا مدين بمراجعة هذه الدراسة إىل‬


‫‪Sander Griffioen, Gerben Groenewoud, Rik Peels, Jeroen de Ridder, Emanuel‬‬
‫‪Rutten.‬‬
‫غريبندوف ناف نير‬ 112

References
-- Ayer, Alfred J. 1936. Language, Truth and Logic. New York: Dover.
-- Butler, Joseph. 1736 [1850]. The Analogy of Religion, Natural and Revealed,
to the Constitution and Course of Nature. Edinburgh: William and Robert
Chambers.
-- Calder, Todd C. 2007. «Is the Privation Theory of Evil Dead?» American
Philosophical Quarterly 44, 371 ‫ ــ‬81.
-- Calvin, John. 1961. Institutes of the Christian Religion, transl. Ford Lewis
Battles. London/ Philadelphia: SCM/ Westminster Press.
-- Cross, D.A. 1989. «Augustine’s Privation Account of Evil: A Defense»,
Augustinian Studies 20, 109 ‫ ــ‬28.
-- Evans, Gillian R. 1983. Augustine on Evil. Cambridge: Cambridge
University Press.
-- Ewing, A.C. 1973. Value and Reality. The Philosophical Case for Theism.
London/New York: Allen & Unwin/Humanities Press.
-- Hegel, Georg W.F. 1953. Reason in History. A General Introduction to
the Philosophy of History, translated by Robert S. Hartman. Indianapolis:
Bobbs ‫ ــ‬Merill.
-- Hick, John. 1977 (revised edition). Evil and the God of Love. San Francisco:
Harper.
-- Howard ‫ ــ‬Snyder, Daniel ed. 1996. The Evidential Argument from Evil.
Bloomington: Indiana University Press.
113 ‫ةيسيدويثلل رصتخم خيرات‬

-- Kessel, Eberhard. 1954. «Rankes Idee der Universalhistorie», Historische


Zeitschrift 178, 306.
-- Lewis, Clive S. 1940. The Problem of Pain. HarperCollins, ebook.
-- McCord Adams, Marilyn and Robert M. Adams, eds. 1990. The Problem
of Evil. Oxford: Oxford University Press.
-- Nadler, Steven. 2008. The Best of All Possible Worlds. A Story of Philosophers,
God, and Evil. New York: Farrar, Straus and Giroux, ch.4.
-- Plantinga, Alvin. 1974. The Nature of Necessity. Oxford: Clarendon.
-- Plantinga, Alvin. 2004. «Supralapsarianism, or ‘O felix culpa’». In Christian
Faith and the Problem of Evil, edited by Peter van Inwagen. Grand Rapids:
Eerdmans.
-- Swinburne, Richard. 1998. Providence and the Problem of Evil. Oxford:
Clarendon.
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر في فلسفة سبينوزا‬


‫رشيد ابن السيد‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫تمثل مشكلة الشر إحدى أهم القضايا والمحاور األساسية في معالم النقد‬
‫السبينوزي للموروث الالهوتي في الفكر الديني‪ ،‬ورغم أنها ال تشغل مساحة‬
‫كبيرة في المتن السبينوزي ــ إذ لم يفرد لها سبينوزا فصال مستقال في كتابه‪« :‬رسالة‬
‫في الالهوت والسياسة» على غرار ما خصصه لقضايا النبوة‪ ،‬المعجزة‪ ،‬االلوهية‪،‬‬
‫االيمان‪ ...‬وغيرها‪ .‬ولم يرد تناولها في هذا الكتاب إال بشكل عابر في سياق حديثه‬
‫عن القانون اإللهي‪ .‬أما في كتابه إاليتيقا فهي تحضر عبر قضايا متفرقة في الفصل‬
‫الرابع من الكتاب (خصوصا المقدمة‪ ،‬التعاريف ‪1‬و‪ 2‬وكذا القضايا ‪،64 ،97 ،27‬‬
‫‪ 65‬وغيرها)‪ .‬لتبقى مراسالته وخصوصا الرسائل ‪ ،23 ،21 ،19‬األساس في معرفة‬
‫التصور السبينوزي وموقفه من قضية الشر‪ .‬وعلى الرغم من ذلك‪ ،‬فإن قضية الشر‬
‫تشكل مفتاحا أساسيا لفهم وفحص طبيعة فلسفة الدين في فكر سبينوزا‪ ،‬بل ستغدو‬
‫هذه المشكلة بمثابة «الخيط الناظم الخفي الذي يوجه قضايا فلسفة الدين»‪.2‬‬
‫وبالفعل‪ ،‬يكشف التقصي التاريخي الذي قام به جون كريش ‪Jean Greisch‬‬
‫حول تشكل مبحث فلسفة الدين كيف أن مشكلة الشر كانت هي مركز الثقل الذي‬
‫قامت عليه أنساق فلسفة الدين كما تعبر عن ذلك أعمال كانط وريكور على األقل‪.‬‬
‫وبإمكاننا أن نذهب إلى القول إن قضية الشر تمثل في حالة سبينوزا نفس المنزلة‪،‬‬
‫إذ تقدم أطروحته عن نفي الشر الميتافيزيقي صلب تصوره عن الدين‪ ،‬وبؤرة مهمته‬
‫النقدية للتيولوجيا‪.‬‬

‫‪ 1‬باحث مغريب‪ ،‬كلية العلوم اإلنسانية واالجتامعية‪ ،‬جامعة ابن طفيل القنيطرة‪ ،‬املغرب‪.‬‬
‫‪2 Jean Greisch, le buisson Ardent et les lumières de la raison , l’invention de la‬‬
‫‪philosophie de la religion Tome3, page33.‬‬
‫‪115‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫يعالج سبينوزا قضية الشر بشكل فيه الكثير من النقد للمسلمات التراثية السالفة‬
‫الذكر‪ ،‬فهو يعمد إلى إعادة ترتيب إشكالية الشر خارج اإلطار الكوسمولوجي‪،‬‬
‫وبمنأى عن المجال الكالسيكي للتيولوجيا الوسيطية‪ .‬في اإلتجاه الذي يمكن‬
‫القول معه كما سيتبين فيما يلي أن الطرح السبينوزي يشكل قطيعة مع ذلك التراث‪،‬‬
‫ومؤسسا لنقلة باراديغمية نحو منعرج جديد‪.‬‬
‫إذ سنجد صدى السبينوزية حاضرا في صلب الجينيالوجيا النيتشوية‪ ،‬في قلبها‬
‫لنظام القيم كما يرى جيل دولوز‪ ،3‬يقول نيتشه‪« :‬إن السم الذي يدمر الكائنات‬
‫الضعيفة هو مصدر القوة في الكائن القوي‪ ،‬كذلك ال يدعو الكائن القوي السم‬
‫سم ًا»‪ .4‬فجينيالوجيا نيتشه من منظور جيل دولوز تلتقي مع إيتيقا سبينوزا في أكثر‬
‫من موقف‪ ،‬بل يمكن القول إنه من المتعذر فهم األولى دون االعتماد على الثانية‪.‬‬
‫وفلسفة نيتشه تلتقي مع فلسفة سبينوزا في ثالث قضايا على األقل‪ ،‬في تصورهما‬
‫للموجودات باعتبارها مقدار قوة‪ ،‬في انتصارهما لقيم الحياة واإلثبات‪ ،‬وفي‬
‫مناهضتهما لمنطق الخرافة وأخالق الحزن واالرتكاس المرتبطة بالفكر التيولوجي‬
‫المسيحي‪.‬‬
‫فإرادة القوة النيتشوية ليست إال توصيفا وتسمية أخرى إليتيقا سبينوزا‪ ،‬فمن‬
‫منظور نيتشه‪ ،‬الموجودات هي إرادة قوة وإثبات في الوجود الذي هو عالم لصراع‬
‫القوى الفيزيائية‪ ،‬وهذا ما يعني أن سبينوزا هو الممهد الفعلي لفلسفة نيتشه‪ ،‬وللمادية‬
‫عموما‪ ،‬إذ ال يمكن أن ننكر بأن «هناك وضعية فيزيائية قوية في فكر سبينوزا» وهي‬
‫الوضعية التي ستشكل الرافد األساسي لكل الفلسفات المادية الالحقة عليها‪.‬‬
‫كما أنه من السهولة‪ ،‬وربما من البديهي أن نقيم صلة وثيقة ما بين النفي النتشيوي‬
‫لثنائية الخير والشر‪ ،‬والتصور السبينوزي للخير والشر كعدم محض ‪ Privation‬ناتج‬
‫عن األفكار والتصورات البشرية‪.‬‬
‫إن النقد الجينيالوجي للتراث الميتافيزيقي عن الخير والشر يرتد في أصوله إلى‬

‫‪3 Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, les éditions de minuit Paris‬‬
‫‪1981page 209‬‬
‫‪ 4‬فريدريك نيتشه‪ ،‬العلم املرح‪ ،‬فقرة ‪ 19‬ص ‪.65‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪116‬‬
‫ما يمكن أن نسميه «المنحدر السبينوزي»‪ .‬ومثل هذا الربط ال تخطئه العين النافذة ما‬
‫بين سبينوزا وكانط في نقده لتهافت التيوديسا‪ ،‬ومثله مع ريكور الذي تخلى بدوره عن‬
‫ثنائيات الخير والشر‪ ،‬وفي عموم معالم المنعطف الفينومنيولوجي والهيرمينوطيقي‪،‬‬
‫الذي باءت أمامه كل الخطابات التاريخية عن التيوديسا بالفشل‪ ،‬وانتهت معه الرغبة‬
‫في تفسير أصل الشر وتبرير وجوده‪.‬‬

‫‪ -1‬مفهوم الشر كعدم‪ ،‬أو نفي الشر الميتافيزيقي‪:‬‬


‫تندرج قضية الشر عند سبينوزا ضمن منظوره العام حول الطبيعة ومبدأ الحتمية‬
‫الكاملة والضرورة الكلية والمطلقة‪ .‬فداخل نظام طبيعي كامل وحتمي ال يمثل الشر‬
‫سوى عدم ‪.Privation‬‬
‫حتمية األحداث الطبيعية وجريانها بمقتضى قوانين ضرورية مطلقة ال يمكن‬
‫مخالفتها‪ ،‬ال يسمح بالحديث عن الشر كشيء موجود في ذاته‪ ،‬فالطبيعة خالية من الشر‬
‫وال يمكن أن ننسبه إليها كماهية من ماهياتها‪« ،‬إنني ال أعزو إلى الطبيعة جماال وال‬
‫قبحا‪ ،‬وال اضطرابا‪ ،‬فليس في وسع المرء أن يقول عن األشياء إنها جميلة أو قبيحة‪،‬‬
‫منظمة أو مضطربة‪ ،‬إال من وجهة نظر الخيال»‪ .5‬وبتعبير آخر»ال يمكن تصور الخطأ‬
‫في الحالة الطبيعية‪ ،‬إنما يمكن تصوره في الحالة االجتماعية وحدها»‪ .6‬فالشر هو عدم‬
‫محض ‪ ،Privation‬ال وجود له داخل نظام الطبيعة المكتفي بضرورته الذاتية وحتميته‬
‫المطلقة‪ .‬وال يتحدد ككيان جوهري موجود في ذاته وجودا واقعيا‪ ،‬وكل حديث عن‬
‫الشر كجوهر أو كشيء في ذاته يبدو وهميا وعبثيا استنادا إلى مبدأ الضرورة الطبيعية‪،‬‬
‫«إن الشر ليس تعبيريا في شيء‪ ،‬وال يعبر عن أي شيء»‪ .‬كما يقول جيل دولوز‪.7‬‬

‫‪5 Spinoza, Correspondances, lettre 32 a Henri Oldenburg , Œuvres complètes‬‬


‫‪textes présentés ، traduits, et annotes par Roland Caillois, Madeleine Frances et‬‬
‫‪Robert Misrahi , bibliothèque de la Pléiade , édition Gallimard 1954, page1179 .‬‬
‫‪ 6‬سبينوزا‪ ،‬االيتيقا‪ ،‬ترمجة وتقديم وتعليق أمحد العلمي إفريقيا الرشق ط‪ 1،‬سنة ‪ ،2010‬الفصل ‪4‬‬
‫القضية ‪ -37‬ص ‪.274‬‬
‫‪7 Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, les éditions de minuit Paris‬‬
‫‪1981, page 208.‬‬
‫‪117‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫ويوضح سبينوزا فكرة الشر كعدم محض ‪ Privation‬بالنسبة للطبيعة حيث يعتبره‬
‫مجرد فكرة خارجية ناتجة عن الوهم والخيال‪ ،‬فالشر ال وجود له إال وجودا ذهنيا‪،‬‬
‫وال يتعلق إال بعاداتنا في الحكم على األشياء وتصورها وفق نماذج وصور عقلية‬
‫متخيلة تنشأ في الغالب عن تركيب مقارنات وعالقات‪ ،‬يقول سبينوزا‪« :‬إن مفهومي‬
‫الخير والشر هي أحوال للتفكير نقوم بتكوينها بالمقارنة بينها مع األخذ بعين االعتبار‬
‫آمالنا اآلتية»‪ ،8‬وبتعبير آخر‪ ،‬فالخير والشر «ال يدالن على صفة إيجابية في األشياء‪،‬‬
‫منظور ًا إليها في ذاتها‪ ،‬وإنما هي أحوال للفكر‪ ،‬أو موضوعات فكرية نكونها من‬
‫مقاربة األشياء بعضها البعض»‪.9‬‬
‫ينطلق سبينوزا إذن‪ ،‬من أن الشر ليست له أية حقيقة ذاتية‪ ،‬مبينا أنه (أي الشر)‬
‫عبارة عن تصور عقلي ناتج عن» أصول التفكير‪ ،‬أو معان نشكلها لكوننا نقارن‬
‫األشياء ببعضها البعض»‪ .10‬أو هو بتعبير جيل دولوز «إن الشر ال يظهر إال في نظام‬
‫ثالث هو نظام العالقات»‪ .11‬ونتيجة لذلك «يمكن للشيء أن يكون حسنا أو قبيحا‬
‫في الوقت ذاته‪ ،‬بل محايد ًا»‪.12‬‬
‫ولعل المثال األبرز لفكرة ارتباط الشر بالخير هو حادثة أكل آدم التفاحة‪ ،‬فإذا‬
‫كانت أدبيات التراث التيولوجي تنظر إلى حادثة أكل التفاحة كخطيئة‪ ،‬وإذا كان‬
‫فعل أكل التفاحة هذا يعتبر في نفس التراث شر ًا في ذاته‪ ،‬لمجرد أنها تحدٍّ لألمر‬
‫اإللهي‪ ،‬فإن سبينوزا يقدم تفسير ًا يخرج عن نسق التصورات والمنظومات التي‬
‫راكمتها التيولوجيا المسيحية‪ ،‬وذلك حينما يعتبر أن منع أكل التفاحة في األمر‬
‫الديني ليس مقصود ًا بذاته‪ ،‬كما أن فعل أكل التفاحة في حد ذاته ال ينطوي على‬
‫أية داللة قيمية‪ ،‬فهو فعل محايد أي ليس بشر وال بخير‪ .‬وفي رسالته إلى بالينبرج‪،‬‬
‫يبين سبينوزا أن آدم أساء فهم األمر بعدم أكل التفاحة‪ ،‬وقد ظن أن أكل التفاحة‬

‫‪ 8‬سبينوزا‪ ،‬تامالت ميتافيزيقية ص ‪.318‬‬


‫‪ 9‬سبينوزا‪ ،‬الرسالة القصرية‪ ،‬اجلزء ‪ 1‬ص‪.123‬‬
‫‪ 10‬سبينوزا‪ ،‬االتيتيقا‪ ،‬مرجع مذكور الفصل ‪ 4‬ص ‪.235‬‬
‫‪11 Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, op. Cite, page 207.‬‬
‫‪ 12‬سبينوزا‪ ،‬االيتيقا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص‪.236‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪118‬‬
‫شر لمجرد منعه من طرف الله‪ .13‬فاعتبار أكل التفاحة شر ًا‪ ،‬إنما هو نتاج حكم‬
‫خيال وتصور عقلي خاطيء‪ ،‬والحال أن الله لم يرد إال حماية آدم من الضرر‬
‫والقبح الموجود في التفاحة‪ ،‬وما تحمله من سم ضار لجسم آدم‪ ،‬بحكم أنها‬
‫ليست مالئمة لهذا الجسم‪.‬‬
‫يحيلنا هذا المثال على ثاني معالم التحويل السبينوزي إلشكالية الشر‪ ،‬حيث‬
‫تستحيل قضية «الخير» و«الشر» إلى قضية «الحسن» و«القبح»‪ .‬المسألة ال تتعلق‬
‫إذن بشر ميتافزيقي مطلق قائم بذاته‪ ،‬وال بخطيئة أصلية‪ ،‬بقدر ما تختزل في نهاية‬
‫المطاف إلى قضية عالقات تالؤم أو غياب بين طبائع األشياء طبقا لنموذج معين لما‬
‫هو نافع‪/‬حسن‪ ،‬أو قبيح‪/‬ضار‪.‬‬

‫‪ -2‬من «الخير» و«الشر» إلى «الحسن» و«القبيح»‪:‬‬


‫بناء على ما سبق‪ ،‬يعرف سبينوزا الحسن قائال‪« :‬أعني بالحسن ما نعرف علم‬
‫يقين أنه وسيلة نزداد بها قربا من نموذج الطبيعة اإلنسانية الذي رسمناه ألنفسنا»‪،14‬‬
‫أو بإيجاز الحسن هو‪« :‬ما نعلم علم اليقين أنه نافع لنا»‪ .15‬وتبعا لذلك‪ ،‬يعرف القبيح‬
‫بقوله‪« :‬أعني بالقبيح‪« :‬ما نعلم أنه يمنعنا من إعادة إنتاج هذا النموذج»‪ ،16‬أي على‬
‫عكس الحسن‪ ،‬فالقبيح هو كل «ما يحول دون امتالكنا لخير ما»‪.17‬‬
‫يرفض سبينوزا مقولتي معيارية الخير والشر‪ ،‬ليضع محلها نسبية الحسن والقبيح‪،‬‬
‫«فال وجود لخير وشر في الطبيعة‪ ،‬لكن هناك حسنا وقبيحا‪ ،‬لكل حال موجود»‪.18‬‬
‫وبهذا يصير الشر منظور ًا إليه من زاوية الحسن والقبيح فكرة نسبية‪ ،‬وينتفي عنه‬
‫أي طابع معياري مطلق‪ ،‬و«ال شيء يمكنه أن يكون قبيحا من خالل ما يشترك مع‬

‫‪13 Spinoza, Correspondances, lettre 19 ā Blyenbergh, Œuvres complètes, op. Cite,‬‬


‫‪page1123‬‬
‫سبينوزا‪ ،‬االيتيقا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬تقديم الفصل ‪ 4‬ص ‪.236‬‬ ‫‪14‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬الفصل‪ ،4‬التعريفات‪ ،‬التعريف ‪ 1‬ص ‪.237‬‬ ‫‪15‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬تقديم الفصل ‪ 4‬ص ‪.236‬‬ ‫‪16‬‬
‫املرجع نفسه‪ ،‬الفصل ‪ ،4‬التعريفات‪ ،‬التعريف ‪ 2‬ص ‪.237‬‬ ‫‪17‬‬
‫‪18 Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, Op.Cité, page 233.‬‬
‫‪119‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫طبيعتنا‪ ،‬لكن بقدر ما يكون قبيحا إلينا يكون مضادا لنا»‪ ،19‬وبالمثل» بقدر ما يوافق شيء‬
‫من األشياء طبيعتنا يكون حسنا بالضرورة»‪.20‬‬
‫تتبوأ الثنائية حسن‪/‬قبيح في نسق سبينوزا منزلة الالزمة التي تتكرر في سياق‬
‫اشتغاله الفلسفي‪ ،‬إال أن أهميتها في هذا السياق حاسمة في رهانه حول نقد الفكر‬
‫الديني ورفض المسلمات التيولوجية الكالسيكية إزاء مسألة الشر‪ .‬فاستعمال سبينوزا‬
‫للفظي «الحسن» و«القبيح» بدل «خير» و«شر»‪ ،‬يندرج في نفي الطابع الجوهراني عن‬
‫الشر‪ ،‬وإعادة موضعته وتحديده خارج األطر التقليدية للتيولوجيا وخطابات التيوديسا‪.‬‬
‫إن لفظي»حسن» و«قبيح» يدالن على معنى نسبية الشر وارتباطه بالظروف‬
‫والسياقات البشرية‪ ،‬وخضوعه ألحكام ذهنية وتصورات عقلية بشرية‪ .‬ومن هذه الزاوية‬
‫نفهم إدانة قتل نيرون ‪ * Néron‬ألمه واعتباره عمال بشعا وجريمة نكراء تستحق اللوم‬
‫والعتاب‪ ،‬بل التنديد‪ .‬وفي ذات اآلن تبرئة أوريست ‪ 21Oreste‬على عمل مماثل ظاهريا‪.‬‬
‫إن الشر في هذا المثال هو أحوال وصفات تمت إضافتها وفقا لتأثير القواعد‬
‫االجتماعية واألحكام العقلية والفكرية داخل نظام اجتماعي بشري معين‪.‬‬

‫‪ 19‬سبينوزا‪ ،‬االتيتقا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ص ‪.262‬‬


‫‪ 20‬املرجع نفسه‪ ،‬القضية ‪ 31‬ص ‪.263‬‬
‫* نريون ‪ :Néron‬امرباطور روماين (‪37‬م‪68 -‬م) توىل العرش سنة ‪54‬م بعد وفاة عمه األكرب وأبيه‬
‫الذي تبناه كلود‪ .‬وقد عرف عنه أنه امرباطور قاس ومهيمن قتل أمه أكربني ‪ Agrippine‬هذا الفعل‬
‫الشنيع الذي اعترب جريمة نكراء‪ ،‬وقد عرف بطموحاته غري املحدودة وجنون العظمة‪ ،‬حيكى عنه أنه‬
‫املسؤول عن احلريق الكبري الذي اندلع يف روما سنة ‪64‬م‪.‬أنظر‪:‬‬
‫‪Larousse ، dictionnaire encyclopédique، 1994, volume 2 page 1545.‬‬
‫‪ 21‬أريست ‪Oreste‬هو أصغر أبناء ‪ Agamemnon‬و‪Clytemenster.‬عندما عاد ‪ Agamemnon‬من‬
‫حروب طروادة تعرض لعملية قتل مدبرة من طرف زوجته ‪ Clytemenster‬وعشيقها ‪ ،Egisthe‬وقد‬
‫شهد ابنه أريست ‪ Oreste‬هذه اجلريمة النكراء‪ .‬ملا كرب الطفل واشتد عوده وجد نفسه أمام موقف‬
‫صعب‪ ،‬فكل طفل قتل أبوه البد له من الثأر واالنتقام‪ ،‬لكن يف حالة أريست ‪ Oreste‬قتل األم أمر غري‬
‫مقبول‪ .‬تردد الولد يف أمره كثريا‪ ،‬لكنه يف النهاية وبعدما التقى أخته إلكرتا ‪ Electre‬وهي التي كانت‬
‫تعانى من احلقد واألسى والرغبة يف االنتقام ألبيها الذي قتل غدرا‪ ،‬قرر أن حيقق ما يراه عدال فانتقم‬
‫ألبيه‪ ،‬فقام بقتل أمه وعشيقها متحمال يف ذلك مسؤوليته بال تردد أو ندم‪.‬‬
‫ينظر‪:‬‬
‫‪Myriam Philibert , Dictionnaire des Mythologies, Maxi-Livres-Profrances 1998,‬‬
‫‪page 212213-.‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪120‬‬
‫تتلخص معالم األطروحة السبينوزية إذن في نقطتين‪:‬‬
‫ُ‬
‫‪ -1‬تقرير الشر كعدم ونفي وجود الشر كجوهر وشيء ماهوي قائم بذاته‪.‬‬
‫‪ -2‬تحويل ثنائية الخير والشر إلى الحسن والقبيح‪.‬‬
‫على هذا النحو‪ ،‬الذي يعكس موقفا عقالنيا جذريا يصوغ سبينوزا تفسيره لمشكلة‬
‫الشر وما أثارته من معضالت وتحديات أمام الفكر الديني وتراث القرون الوسطى‬
‫عموما‪ ،‬وأبرزها‪:‬‬
‫‪ -‬وجود الشر في العالم‪.‬‬
‫‪ -‬الطبيعة البشرية ومشكلة الخطئية األصلية‪.‬‬
‫‪ 2-1‬وجود الشر في العالم‪:‬‬
‫بالنسبة للمعضلة األولى تركز الجدال التيولوجي الكالسكي فيها حول مدى‬
‫مسؤولية أو براءة الله من وجود الشر في العالم‪ ،‬مفضيا إلى مذهبين متباينين‪ ،‬هيمنت‬
‫فيهما نزعة تيوديسية تنحو نحو استبعاد الشر من الفعل اإللهي‪ ،‬بيد أن سبينوزا يتجه في‬
‫منحى مغاير خارج إطار الجدل التقليدي‪ ،‬وذلك حينما ينأى عن أرضية االتجاهين‬
‫السابقين برمتهما‪ ،‬فينطلق من نفي الوجود األنطولوجي للشر أصال‪ .‬من خالل مفهوم‬
‫الشر كعدم ‪ ،privation‬يقدم سبينوزا حال لمعضلة وجود الشر في العالم‪ ،‬طالما أن‬
‫الشر هو عدم محض‪ ،‬وهو مجرد تصور خيالي عقلي ناتج عن أفكار ومقارنات بشرية‪،‬‬
‫فإنه من غير الممكن إثارة مسألة مدى مسؤولية أو براءة الله من الشر‪ .‬وبهذا‪ ،‬فإن‬
‫السؤال السابق يصبح غير ذي موضوع وغير ذي جدوى‪.‬‬
‫ال ينخرط سبينوزا إذن في اإلطار التيولوجي السابق‪ ،‬فهو ال ينبري على غرار‬
‫التيوديسا للدفاع عن الله‪ ،‬وال يتموضع داخل أية نزعة تهتم بتبرئة الله من الشر‪ .‬مثل هذا‬
‫التفسير الذي يقدمه ال يمكن أن ينضاف أو يندرج ضمن جملة الدفاعات التيولوجية‬
‫عن الله »‪ ،«Apologie‬وال يشكل بذلك امتدادا للفلسفات الدينية السوكوالئية‪ .‬إال أن‬
‫ذلك ال يعني أن سبينوزا ينحو منحى ربط وجود الشر بالله‪ .‬فالله ليس علة لوجود الشر‬
‫‪.Dieu n’est pas l’auteur du mal‬‬
‫يقول سبينوزا‪« :‬من مبادئ تفكيري أن الله هو العلة المطلقة والحقيقية لكل ما‬
‫‪121‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫يمكن أن تعزى إليه ماهية دون استثناء»‪ .22‬ويضيف موجها رده إلى بالينبرج‪« :‬إذا كان‬
‫في وسعك إثبات أن الشر والخطأ والجرائم‪...‬إلخ‪ ،‬تعبر عن ماهية فسوف أسلم معك‬
‫دون جدال بان الله علة الشر والخطأ والجرائم‪...‬إلخ‪ .‬لكنني أظن أنني قد أثبت أن ما‬
‫يضفي على الشر والخطأ والجريمة طابعها الخاص ليس شيئا معبر ًا عن ماهية على‬
‫اإلطالق‪ ،‬ومن ثم فال يجوز القول إن الله علتها»‪.23‬‬
‫ال يقيم سبينوزا إذن أية نسبة بين الله والشر‪ ،‬الله ليس سببا في الشر الموجود في‬
‫العالم من وجهة النظر هذه‪ ،‬بل هو علة الماهيات فحسب‪ .‬إال أن هذا التفسير ال يقتضي‬
‫ضمنيا نسبة الخير إلى الله‪ ،‬الخير كقيمة مقابلة للشر غير مستمدة من الطبيعة اإللهية‪.‬‬
‫وبتعبير أوضح‪ ،‬إن استبعاد الشر عن الله حسب سبينوزا‪ ،‬يتضمن موازاة لذلك استبعاد ًا‬
‫للخير‪ ،‬بل ولكل القيم المماثلة‪ .‬فهو «ال ينفي الشر لكي يترك الخير وحيدا في الميدان‪،‬‬
‫بل يخلي الميدان من جميع القيم المالئمة وغير المالئمة في آن واحد»‪.24‬‬
‫ويرجع أصل هذا الطرح الجذري عند سبينوزا إلى منظوره الفلسفي عن القيم‬
‫باعتبارها نتاجا للظروف واألوضاع االجتماعية للبشر‪ .‬الخير كالشر يخضع لتأثير‬
‫األفكار الخارجية وللعالقات البشرية‪ ،‬ولما ينشأ عنها من أنظمة ومعايير‪« :‬ال يمكن‬
‫تصور الخطأ في الحالة الطبيعية‪ ،‬وإنما يمكن تصوره في الحالة االجتماعية وحدها‪،‬‬
‫حيث يحدد الحسن أو القبيح باإلجماع‪ ،‬وحيث يكون كل إنسان ملزما بطاعة الدولة‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬فما الخطأ إال التمرد الذي يعاقب عليه‪ ،‬لهذا السبب بفضل حق الدولة‪ ،‬وعلى‬
‫العكس تعتبر طاعة المواطن فضال ألنه يعتبر من ثمة بالضبط أهال للتمتع بمزايا الدولة‪،‬‬
‫وعالوة على ذلك‪ ،‬ليس في الحالة الطبيعية شخص يكون باتفاق مشترك سيد ًا على أي‬
‫شيء‪ ،‬وليس في الطبيعة شيء معطى يمكن القول عنه إنه ينتمي إلى هذا اإلنسان أو‬
‫ذاك»‪.25‬‬

‫‪22 Spinoza, ، Correspondances, lettre 19 a Blyenbergh, Œuvres complètes, op. cite,‬‬


‫‪page1125 et 1126.‬‬
‫‪ 23‬نفسه‪.‬‬
‫‪ 24‬فؤاد زكرياء‪ ،‬سبينوزا‪ ،‬دار التنوير بريوت لبنان‪ ،‬الطبعة ‪ 2‬سنة ‪ ،2005‬ص ‪.201‬‬
‫‪ 25‬سبينوزا‪ ،‬االيتيقا‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬الفصل ‪ 4‬القضية ‪ ،37‬التعليق ‪ 2‬ص ‪.247‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪122‬‬
‫من هذا المنظور‪ ،‬ففهم معنى براءة الله من الشر في التفسير السبينوزي‪ ،‬ليست تبرئة‬
‫دفاعية على غرار مذاهب متكلمي وآباء الالهوت القروسطي‪ ،‬بل هي براءة حتمية نابعة‬
‫من ضرورة الطبيعة اإللهية‪ .‬ولذلك‪ ،‬فوجود الشر مسؤولية بشرية محضة‪ ،‬ترتبط بجهل‬
‫اإلنسان وعدم امتالكه المعرفة الصحيحة لما هو مطابق لضرورة الطبيعة (الحسن)‬
‫ولما هو مضاد لها (القبيح)‪.‬‬
‫تتحدد معضلة وجود الشر في العالم من زاويتين‪:‬‬
‫* استحالة نسبة الشر إلى الله دون أن يحيل ذلك إلى أي دفاع كالمي الهوتي‪.‬‬
‫* تحميل مسؤولية الشر الموجود في العالم إلى اإلنسان نتيجة جهله وسوء أحكامه‪.‬‬
‫بهذا الطرح فإن سبينوزا يغادر أرضية المقاربات الكالسيكية التي طبعت مجمل‬
‫التيولوجيا الكالسيكية السوكوالئية‪ ،‬بل ويمثل حفر ًا تحت أرضية تلك المقاربات‬
‫وهدما وتقويضا لها‪ ،‬من خالل منهج عقلي صارم‪ ،‬ونقد جذري لكل أشكال وأوجه‬
‫تجليات الميتافيزيقا‪.‬‬
‫‪ -2-2‬نفي الخطيئة األصلية‪:‬‬
‫تمثل هذه النقطة ثاني أبرز معالم النقد السبينوزي لالهوت الديني إزاء مسألة الشر‪،‬‬
‫وبتعبير آخر‪ ،‬عناصر التحول الباراديغمي والتأسيس لمنعطف فلسفي في فهم الظاهرة‬
‫الدينية ينأى عن التحديدات التيولوجية وإرث الالهوت الوسيط‪.‬‬
‫فعلى غرار نفيه لوجود الشر كجوهر قائم بذاته في الطبيعة بموجب مبدأ الضرورة‬
‫والحتمية‪ ،‬يذهب سبينوزا إلى رفض وجود الشر كماهية ثابتة في السلوك اإلنساني‪،‬‬
‫وإلى نفي أية صلة جوهرية له باإلرادة اإلنسانية‪ :‬فالشر هو عدم محض بالنسبة‬
‫للضرورة الطبيعية‪ ،‬فكما ال تسمح الضرورة الطبيعية لألشياء بالحديث عن وجود الشر‬
‫في الطبيعة‪ ،‬فبالمثل ال تسمح الضرورة الطبيعية البشرية بنسبية الخطأ إلى اإلنسان‪،‬‬
‫بناء على تصور ميتافزيقي لإلرادة البشرية‪ .‬ال يخرج سبينوزا عن منهجه الذي اتبعه في‬
‫رفض وجود الشر في الطبيعة‪ ،‬ونفيه للشر عن السلوك اإلنساني‪ ،‬إذ يندرج في إطار‬
‫فكرته العامة حول الضرورة الطبيعية‪ ،‬لكن منهجه ذلك‪ ،‬سيقود هنا إلى إحدى النتائج‬
‫الثورية في نقده لالهوت الديني‪ ،‬والمتمثلة في نفيه لمبدأ الخطيئة األصلية‪ .‬وبالفعل‬
‫‪123‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫يعمد سبينوزا إلى رفض مقولة الخطيئة األصلية التي تشكل النواة الكبيرة لالهوت‬
‫المسيحي عبر تاريخه الطويل في تفسيره للشر اإلنساني وإدانته اإلنسان بالخطأ منذ‬
‫الخطيئة األولى كما تعبر عن ذلك حادثة أكل التفاحة من طرف آدم‪ .‬في التصور الديني‬
‫التيولوجي المسيحي‪ ،‬يعتبر تاريخ اإلنسانية تاريخا لألخطاء والشرور والذنوب‪ ،‬التي‬
‫نتجت عن الخطيئة األصلية آلدم‪« ،‬إننا نعتقد أن كل ساللة آدم قد تفشت فيها هذه‬
‫العدوى‪ ،‬والتي هي الخطيئة األصلية آلدم‪ ،‬ونزعة الشر الموروثة»‪ .26‬وبذلك تحددت‬
‫اإلرادة البشرية وفق هذا التصور كإرادة خطاءة على نحو قبلي ومسبق‪ .‬فاإلنسان يحمل‬
‫إرادة شر ذاتي مسبق‪ ،‬أي إرادة قبيحة في ذاتها‪.‬‬
‫وبهذا يمكن تفسير كل الشرور واألخطاء اإلنسانية باعتبارها ناتجة عن الخطأ األول‬
‫وتنويعا على الخطيئة األصلية‪ .‬تكرس التيولوجيا المسيحية إذن‪ ،‬الشر كمعطى أصلي‬
‫مالزم لإلنسان‪ ،‬ال فكاك له عنه‪ ،‬طالما أنه يشكل ماهيته التي الزمته منذ الخطأ األول‪.‬‬
‫وبهذا تجد التيولوجيا حال لمعضلة الشر اإلنساني من خالل مبدأ الفداء‪.‬‬
‫ينطلق سبينوزا في نقده لفكرة الخطيئة األصلية‪ ،‬من خالل إعادة تحديد مفهوم‬
‫اإلرادة اإلنسانية‪ ،‬وذلك بردها إلى مبدأ الضرورة الطبيعية والحتمية الكاملة‪ ،‬ففي‬
‫الحالة الطبيعية ال يمكن ربط السلوك اإلنساني بإرادة مسبقة نحو الخير أو الشر‪ .‬يقول‬
‫سبينوزا‪« :‬لو كان الناس يولدون أحرار ًا‪ ،‬لما كونوا أي مفهوم عن الخير والشر‪ ،‬طالما‬
‫ظلوا أحرارا»‪ .27‬وإنما هناك الضرورة الطبيعية وحدها والتي ال تسمح له بتكوين أي‬
‫مفهوم عن الخير أو الشر‪ ،‬وعلى غرار كل الموجودات الطبيعية‪ ،‬فاإلنسان ال يتصرف‬
‫إال وفق ما تمليه عليه طبيعته طبق ًا لقانون حتمي مطلق‪ ،‬ومن ثمة فال وجود إلرادة‬
‫مسبقة خارجة عن طبيعته ينتج عنها ما يخالف هذه الطبيعة‪ ،‬ويؤدي إلى ما يتعارض‬
‫وسعيه إلى حفظ وجوده‪ .‬إن اإلنسان ال يحمل إذن‪ ،‬أية إرادة شريرة خالصة منذ البدء‬
‫وبشكل مسبق‪.‬‬
‫ضمن هذا المنظور يؤكد سبينوزا أن اعتبار أكل آدم للتفاحة خطيئة‪ ،‬ما هو إال اعتقاد‬

‫‪26 Paul Ricoeur, Conflits des interprétations, op. cite, page276.‬‬


‫‪ 27‬سبينوزا‪ ،‬االيتيقا‪،‬مرجع مذكور‪ ،‬الفصل ‪ 4‬القضية ‪،68‬ص ‪.302‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪124‬‬
‫وهمي‪ .‬في رده على بالينبرج في الرسالة ‪ ،19‬يعالج سبينوزا إشكالية الخطيئة األصلية‬
‫متجها نحو نفيها جملة وتفصيال‪ ،‬متماشيا في ذلك‪ ،‬مع منطلقه وتصوره عن الشر كعدم‬
‫‪.28privation‬‬
‫الخطيئة األصلية من هذا المنظور‪ ،‬هي عبارة عن وهم ناتج عن تصور ذهني عن‬
‫الشر يخضع لعاداتنا في الحكم على األشياء ومقارنتنا لبعضها البعض وفق نماذج‬
‫وصور فكرية معيشة‪ ،‬ولذلك فحادثة التفاحة ال تُمثل شرا في حد ذاتها‪ ،‬بل قياسا إلى‬
‫تصور عقلي معين عن فعل األمر في ذاته‪ ،‬فحضور أفكار خارجية وصور في ذهن‬
‫آدم هو ما يجعلنا ننظر إلى فعله كخطيئة‪ ،‬وبعبارة أخرى‪« :‬لم يتولد الشر هنا إال نتيجة‬
‫سوء فهم السقوط في الجهل‪ ،‬والسقوط في الجهل حسب سبينوزا‪ ،‬وتحت تأثير اللغة‬
‫التشبيهية المستعملة والمالئمة لبساطة عقل آدم‪ ،‬فقد أساء فهم األمر اإللهي بعدم أكل‬
‫التفاحة المحرمة كحرمان»‪ .29‬كذلك بالينبرج حينما ظن أن أكل التفاحة شر لمجرد‬
‫منعه من طرف الله‪ ،‬في حين أن الله لم يرد إال حمايته من الضرر والخبث الذي تمثله‬
‫التفاحة باعتبارها سما ضار ًا لجسم آدم‪.30‬‬
‫في هذا السياق يذهب إيريك فروم في تأويل له لقصة آدم إلى أبعد من ذلك‪ ،‬وذلك‬
‫حينما يعتبر «أن عصيان آدم وأكله من الشجرة المحرمة يمكن أن ننظر إليه على نحو‬
‫إيجابي‪ ،‬إذ يدل هذا العصيان لدى فروم على اكتشاف الذات وتحقق وعيها بنفسها‪،‬‬
‫وهو ما يسمح بوالدة التاريخ ويتجاوز النزعة الطبيعية البدائية‪ ،‬وبتفكيك المجال‬
‫الحيوي الذي يوحد اإلنسان بالطبيعة»‪.31‬‬
‫ينتج عن ذلك إذن‪ ،‬القول بأن آدم ال يحمل أية إرادة شر خالصة ومسبقة‪ .‬ال وجود‬
‫لشر ذاتي قبلي في إرادة آدم وطبيعته‪ ،‬و«ال أحد يمجد العصيان لذاته حينما يتعلق األمر‬

‫‪28‬‬ ‫‪Spinoza، Correspondances, lettre 19 a Blyenbergh, op . cite, P1122 et 1123.‬‬


‫‪29‬‬ ‫‪Ibid page 1125.‬‬
‫‪30‬‬ ‫‪Ibidem.‬‬
‫‪31‬‬ ‫‪Erick Fromm, De la désobéissance et autres essais, Robert Laffont.Paris1983.‬‬
‫نقال عن عز العرب احلكيم بناين‪ :‬اجلريمة‪ ،‬املسؤولية واخلطيئة‪ ،‬مقال ضمن ندوة التاصيل النقدي‬
‫للحداثة وما بعدها‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية الرباط‪ ،‬سلسلة ندوات ومناظرات رقم‬
‫‪ ،128‬تنسيق حممد املصباحي ط‪ .‬األوىل ‪ ،2005‬ص ‪.48‬‬
‫‪125‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫باألوامر والنواهي اإللهية وباألكل من الشجرة المحرمة»‪ .32‬واعتبارنا ألكل التفاحة‬


‫شر‪ ،‬فهو ناتج عن حكم الخيال‪.‬ومن مقارتنا لما يجب أن يكون‪ .‬على هذا النحو إذن‪،‬‬
‫يتقرر في التحليل السبينوزي غياب أي شر كشيء في ذاته‪ ،‬أو جوهر ماهوي في السلوك‬
‫اإلنساني يكون سببا للمعاناة واأللم الموجب للفداء‪.‬‬
‫وعلى النحو ذاته‪ ،‬يصل سبينوزا إلى فكرة الخالص والتعويض عن الذنب من‬
‫خالل الفذاء المسيحي‪ .‬إن ما سبق ال يفيد عند سبينوزا إنكار ًا مجانيا لمظاهر الظلم‬
‫والجريمة‪...‬إلخ‪ ،‬في الواقع البشري فما يرومه سبينوزا هو نفي أي صلة للشر عند‬
‫اإلنسان بالخطيئة األصلية‪ .‬فال يمكن اعتبار الخطيئة األصلية سببا للشرور والمعاناة‬
‫المنتشرة في تاريخ البشرية‪ ،‬بقدر ما هي ناتجة عن الجهل لدى اإلنسان ‪Défaut de‬‬
‫‪ ،connaissance‬وعدم معرفته معرفة صحيحة للحسن والقبيح‪ ،‬أي لما يتالءم ويتوافق‬
‫مع طبيعته من عدمه‪ .‬وبقدر ما هي كذلك ناتجة عن الجهل وغياب المعرفة الصحيحة‪،‬‬
‫فإن إزالتها تجعل اإلنسان في حاجة إلى تحكم العقل وقيادة عواطفه المنفعلة أكثر من‬
‫حاجته إلى فداء كنسي‪.‬‬
‫وبهذا الشكل‪ ،‬تمكن سبينوزا من حل مشكلة الشر‪ ،‬بتجاوزه لإلشكاالت التقليدية‬
‫حول مسؤولية الله في فعل الشر وما مدى كون آدم مذنبا أو غير مذنب‪ .‬وكذلك تحرره‬
‫من األنساق التيولوجية الكالسيكية بما تنطوي عليه من تناقضات وإحراجات جثمت‬
‫على التيولوجيا والفكر الديني وكبلتها بأغاللها الدغمائية‪.‬‬

‫‪ -3‬نحو التأسيس لفلسفة الدين‪:‬‬


‫تضيء المعالجة السبينوزية لمعضلة الشر جانبا مهما من فلسفات الدين المعاصرة‬
‫(شاليرماخر‪ ،‬هيدغر‪ ،‬فيورباخ‪ ،‬كانط‪ ،‬ريكور‪ )...‬فقد نحت بدورها نحو التخلص‬
‫من اإلطار التيولوجي واالنطولوجي السابق الذكر‪ ،‬وال يمكن عند تأملنا للمسارات‬
‫التي اتخذتها قضية الشر في هذه الفلسفات إال استحضار المضمون السبينوزي في‬
‫هذا المضمار‪ .‬لذلك سبقت اإلشارة إلى أن النقد السبينوزي كما تبينت معالمه سابقا‪،‬‬

‫‪ 32‬نفسه‪.‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪126‬‬
‫يشكل تأسيسا مبكر ًا للمنعطف الفلسفي الذي عرفته فلسفات الدين المعاصرة‪ .‬كما‬
‫أن تجاوز خطاب التيوديسا التقليدية مدين بصورة كبيرة لحل مشكلة الشر في صورته‬
‫السبينوزية‪ .‬يشهد على ذلك المسار الذي عرفته مشكلة الشر منذ كانط إلى ريكور‪.‬‬
‫إذ تفيد العديد من المقارنات تقاربا كبير ًا بين هذين النموذجين في صلتهما بالنقد‬
‫السبينوزي لميتافيزيقا الشر‪ .‬كما أن ثمة حضورا قويا لظالل سبينوزية تخترق ثنايا‬
‫أعمالهما‪.‬‬
‫‪ -3-1‬تصور كانط‪:‬‬
‫يلتقي نقد كانط للتيوديسا في مبادئه مع العديد من األفكار والتصورات الموجودة‬
‫في نقد سبينوزا للشر الميتافيزيقي‪ ،‬وإن اختلفا في بعض النتائج واألغراض‪ .‬ال يعتبر‬
‫كانط اإلنسان شريرا بطبعه‪ ،‬بل يصبح كذلك عندما يدخل في صلب الجماعة‪« :‬الحسد‬
‫والجشع والتسلط وغيرها من الميول الشريرة تتربص بطبيعة الحال عندما يصبح‬
‫موجود ًا بين الناس»‪ .33‬في مقالته‪« :‬في تهافت كل المحاوالت الفلسفية في موضوع‬
‫التيوديسا»‪ ،‬يقوم كانط بعملية نفي كل الخطابات التيوديسية الدغمائية التي تنحو إلى‬
‫تبرئة الله من الشر الموجود في العالم‪ .‬إذ يعتبر كانط أن التيوديسا بمثابة دفاع مزعوم‬
‫ومرافعة باطلة دغمائية عن العدل والحكمة اإللهيين‪ ،‬ويسوق من أجل تبيان ذلك ثالثة‬
‫اعتراضات أساسية‪ .‬وهي اعترافات تسفر عن وجه تأويلي هيرمنيوطيقي في فلسفة‬
‫الدين عند كانط‪ ،‬باعتبار أن التيوديسا في التعريف الكانطي «ملزمة بأن تصبح تفسير ًا‬
‫للطبيعة‪ ،‬مادام الله يفصح من خالل ذات الطبيعة عن القصد من إرادته»‪ .34‬يبدو التقاء‬
‫الكانطية والسبينوزية واضحا من خالل ما سبق‪ ،‬وذلك يتمثل لنا في نقد التصورات‬
‫الميتافيزيقية عن الشر‪ ،‬وتطهير الفلسفة عن أية مهمة تيوديسية توفيقية بين واقعة الشر‬
‫الجذري والخير اإللهي‪ ،‬ورفض اإلدانة األبدية لإلنسان كشرير بطبعه‪ ،‬فضال عن التخلي‬
‫عن تفسير مصدر الشر الموجود في العالم أو تبريره‪ .‬لكن ثمة فرقا شاسعا بينهما في‬
‫تصور الرهانات واآلفاق الذي ينتهي إليه نقد التيوديسا‪ « .‬التأويلية التي يقترحها كانط‬

‫‪ 33‬عز العرب حلكيم بناين‪ ،‬احلرية واملسؤولية واخلطئية يف فلسفة الدين الكانطية‪ ،‬أعامل ندوة التأصيل‬
‫النقدي للحداثة وما بعدها‪ ،‬قراءة يف الفلسفة الكانطية‪ ،‬مرجع مذكور ص ‪.47‬‬
‫‪ 34‬عز العرب حلكيم بناين‪ ،‬احلرية واملسؤولية واخلطيئة يف فلسفة الدين الكانطية‪ ،‬مرجع مذكور ص ‪.51‬‬
‫‪127‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫تفترق شديدا عن تأويلية سبينوزا التي تعتبر التأويل ضربا من المعرفة العالمة بالنص‬
‫المقدس»‪.35‬كون التأويلية الكانطية تتجه صوب أفق أخالقي في تدبير عالقة اإلنسان‬
‫بالمطلق‪ ،‬أي أنها تؤول نحو تيوديسا أخالقية عملية خاليه من قضية اإلله‪ .‬في حين تتجه‬
‫تأويلية سبينوزا إلى نفي أي إمكان للقول التيوديسي‪ ،‬فالرهان عملي أخالقي عند كانط‪،‬‬
‫ونظري عقلي عند سبينوزا‪.‬‬
‫فضال عن فارق آخر من حيث منزلة مركز المجال‪ ،‬بل هي صلب فلسفته عن الدين‪،‬‬
‫والبؤرة التي تتكثف فيها نزعته النقدية العقالنية‪ .‬في حين أن كانط ارتقى لنقده لتيوديسا‬
‫منزلة طريفة فهي منزلة «البين» على نحو ما تبين أم الزين بنشيخة المسكيني‪« :‬فهي‬
‫تنزل ما بين النقد الصناعي الصارم للكلمة‪ ،‬وما بين التأويلية الدوغمائية السائدة في‬
‫عصره»‪.36‬‬
‫الحل السبينوزي لمعضلة الشر يقدم مثاال ساطعا عن جوهر االشتغال التأويلي‬
‫السبينوزي عموما‪ ،‬والموجه نحو النصوص الدينية من أجل تفسيرها‪ .‬في حين يكشف‬
‫نقد كانط للتيوديسا عن مكاسب شبه تأويلية‪.‬‬
‫وصفوة القول فإن معضلة الشر ما بين الطرح السبينوزي والكانطي‪ ،‬ستفقد كيانها‬
‫ومشروعية وجودها كمبحث‪ :‬في إثبات الخير اإللهي وتأثيم اإلنسان‪ ،‬وتؤدي إلى إنقاذ‬
‫الفلسفة من خدمة الالهوت عهودا طويلة وبالتالي تحقيق استقاللها‪.‬‬
‫نأتي أخير َا إلى التحول الفلسفي الذي عرفته مشكلة الشر مع المنعرج الفينومينولوجي‬
‫والوجودي‪ ،‬ونقف على أبرز رواد هذا التحول‪ ،‬الذي شكلت معضلة الشر مفتاح فلسفة‬
‫الدين لديهما‪ .‬وهما‪ :‬مارتن هايدغر‪ ،‬وبول ريكور‪ ،‬وعلى النحو ذاته‪ ،‬نفحص الصالت‬
‫الممكنة بينه وبين ما سميناه المنحدر السبينوزي‪ .‬أي معنى تأخذ فينومنيولوجيا الشر‬
‫عند هايدغر وريكور قياسا إلى المنظور السبينوزي؟‬
‫‪ -3-2‬مقترحا‪ :‬هايدغر وريكور‪:‬‬
‫يكشف فحص معضلة الشر في فينومينولوجيا هايدغر عن صالت كبيرة بينها وبين‬

‫‪ 35‬أم الزين بنشيخة‪ ،‬كانط راهنا‪ ،‬املركز الثقايف العريب‪ ،‬ط‪ 1‬سنة ‪ ،2006‬ص‪.108‬‬
‫‪ 36‬نفسه‪ ،‬ص‪.91‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪128‬‬
‫منظور سبينوزا‪ .‬فإذا كان سبينوزا ينتهي إلى نفي الطابع الجوهري عن الشر‪ ،‬مستند ًا في‬
‫ذلك إلى مقولة الضرورة الطبيعية والحتمية الكاملة‪ ،‬التي ال يمثل الشر فيها سوى عدم‬
‫محض ‪ ،Privation‬فإن هايدغر‪ ،‬يمضي بدوره إلى نفي الشر انطالقا من سند أقوى‪،‬‬
‫إذ يجد نفي الشر عند هايدغر بنيته العميقة في غياب الطابع الضروري ‪ /‬الجوهري‬
‫للوجود نفسه‪ .‬الوجود ليس بجوهر كما هو معلوم عند هايدغر وليس له أي أساس‬
‫مقولي‪ .‬ونتيجة لذلك‪ ،‬فإن الشر ما هو إال أمر عارض‪.‬‬
‫إن نفي الشر كجوهر أو كشيء في ذاته‪ ،‬منبعه عند هايدغر مقولة نفي الوجود ذاتها‪.‬‬
‫وبما أن الوجود ما هو إال مجموع اإلمكانيات المفتوحة للدازاين‪ ،‬حينئذ يغدو الشر‬
‫واحدة من تلك اإلمكانيات التي يمارسها الدازاين‪ .37‬أما نفي جوهرية الوجود عند‬
‫ريكور‪ ،‬فتقوم على مفهوم الحكاية أو السرد‪ ،‬وضمن هذا المنظور السردي لوجود‬
‫الذات‪ ،‬يمثل الشر قدرة من القدرات التي يمتلكها اإلنسان لبلورة هويته الذاتية بما هي‬
‫هوية سردية‪ ،‬أي أن الشر يصبح جزءا من السيرة الذاتية لإلنسان‪.38‬‬
‫لذلك لم يهتم بول ريكور بالبحث الميتافزيقي لمصدر الشر‪ ،‬ونأى عن أي دراسة‬
‫الهوتية تؤول إلى الدفاع عن الله وتبرئته‪ ،‬بل عمد إلى محاربته من منظور مستقبلي‪« .‬الشر‬
‫هو ما نحاربه بعدما تخلينا عن تفسيره»‪ .39‬الشر الذي نعاني منه أكبر من الشر الذي نرتكبه‪.‬‬
‫انطالقا من هذا األفق المستقبلي‪ ،‬يبلور ريكور مقولة «اإلنسان القادر» عوض «اإلنسان‬
‫غير المعصوم»‪ ،‬الذي يرزح تحت وطأة وقدر الخطيئة األصلية‪ .‬اإلنسان القادر‪ ،‬هو إنسان‬
‫يتحمل مسؤولية أخطائه‪ ،‬ويسمح له بارتكاب الخطأ‪ ،‬بحكم أنه مرتبط بعالقات ناقصة‬
‫ومؤقتة‪ ،‬تتراوح بين قطبي الضرورة والحرية المشروطة‪ .‬فهو إنسان خطاء‪.40‬‬
‫هكذا إذن‪ ،‬تبرز هنا العديد من خطوط التماس بين فلسفة الدين عند سبينوزا‬
‫ونظيرتها عند ريكور‪ ،‬في معالجة مسألة الشر‪ .‬يمكن إجمالها فيما يلي‪:‬‬

‫‪37 Jean Greisch, le buisson Ardent et les lumières de la raison , l’invention de la‬‬
‫‪philosophie de la religion Tome3, page 31.‬‬
‫‪38 Ibid p 32.‬‬
‫‪39 Ibid p 31.‬‬
‫‪ 40‬ينظر جون كريش‪ ،‬مرجع مذكور‪ ،‬ج‪ ،3‬ص‪.20‬‬
‫‪129‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫‪ -1‬نفي الشر كجوهر ميتافزيقي‪.‬‬


‫‪-2‬التخلي عن المنظور التقليدي لثنائية الخير والشر‪.‬‬
‫‪-3‬نفي مقولة الخطيئة األصلية‪.‬‬

‫خاتمة‪:‬‬
‫خالصة القول‪ ،‬وعودا على بدء‪ ،‬إن قضية الشر في فلسفة سبينوزا ليست مدخال‬
‫لفهم فلسفة الدين عنده فحسب‪ ،‬بل هي مفتاح أساسي لفهم تطور مسارات فلسفة‬
‫الدين لما بعده‪( ،‬باستثناء االنتكاسة التي تمثلها لحظة اليبنتز)‪ .‬لذلك سبقت اإلشارة‬
‫إلى أن وساطة سبينوزا ال غنى عنها في فهم وتتبع تلك المسارات الفلسفية والفكرية‬
‫باعتباره معبر ًا إجباريا على حد تعبير جون كريش‪ .‬فقد تبين أن سبينوزا استطاع تجاوز‬
‫التصورات الالهوتية التي تخل باإلرادة اإلنسانية من جهة‪ ،‬وبالعدل اإللهي من جهة‬
‫أخرى‪ ،‬على نحو جعل سبينوزا يتوجه نحو التأسيس إليتيقا بديلة قائمة على محايثة‬
‫الخالق للمخلوقات وحضوره فيها وعدم تعاليه عنها بما يجعلها تحمل كل السمات‬
‫التي يمكن أن تحملها العلة األولى‪.‬‬
‫وأهم هذه السمات صفة الكمال التي تقترن بالطبيعة المخلوقة بصورة تخلو‬
‫من التفاوت والتراتب‪ .‬لذلك يمكن اعتبار سبينوزا أقوى خصوم الفكر التيولوجي‬
‫والديني‪ ،41‬فهو فيلسوف النور المطلق‪ 42‬الذي لم يهادن يوما التصورات الغنوصية عن‬
‫العالم والطبيعة‪ .‬اإلله عند سبينوزا ليس شيئا غامضا أو معتما أو غير قابل للفهم‪ ،‬بل هو‬
‫ضوء ووضوح وانكشاف ألنه في جوهره تعبير جوهري يتحقق في الطبيعة‪ ،‬والشيء‬
‫أوضح او أقرب إلى اإلدراك من الطبيعة‪ ،‬ولهذا ففلسفته هي قبل كل شيء حرب على‬
‫الخرافة وعلى التأويالت الالهوتية المليئة باألحكام المسبقة‪ ،‬فهذه األخيرة باإلضافة‬
‫إلى ما سبق هي ما يمنعنا ويحجب عنا إدراك حقيقة الوجود‪ ،‬والوعي بقدرتنا وقوتنا‬
‫في هذا الوجود‪ .‬فال فرق عند سبينوزا بين الخرافة والتيولوجيا‪ ،‬ألن أسسهما النظرية‬

‫‪41 Gille Deleuze, Spinoza philosophie pratique, les éditions de minuit Paris 1981, page‬‬
‫‪76.‬‬
‫‪ 42‬دروس جيل دولوز‪ ،‬الدرس ‪ 11‬بتاريخ ‪.1981/01/13‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ ‫‪130‬‬
‫واحدة إذ هما معا تفسران ما يجهل أصله برده إلى علل وقوى غيبية متعالية‪ ،‬وبهذا فهي‬
‫تخرج عن التصور المحايث للعالم وعن نظامه الفيزيائي‪.‬‬
‫فلسفة سبينوزا هي فلسفة السعادة وهي مناهضة للضغينة والتسلط‪ ،43‬وهي «نضال‬
‫كامل ضد كل المشاعر الحزينة»‪ ،44‬فعندما يعرف سبينوزا الشر بكونه عدم محض‪،‬‬
‫وبكونه ما يحل تركيبا ما من منظور ذلك التركيب‪ ،‬وعندما يعرف الحقد بأنه ما يحد‬
‫من قوة التعالقات الظرفية‪ ،‬وعندما يحتفي بالفرح في نصوصه باعتباره توافقا يزكي‬
‫توافق األحوال‪ ،45‬وعندما يحدد األوجه الثالثة ألخالق الحزن في‪« :‬العبد والطاغية‬
‫والراهب»‪ ،46‬وعندما يعتبر الفلسفة حربا ضد الخرافة وثورة على مشاعر الخضوع‬
‫والموت واالستبداد‪ ،47‬وعندما يقدم الفيلسوف باعتباره ذلك الذي يعي الضرورات‬
‫ويناهض الكره وينكفئ على الحياة واإلثبات ويقبل عليهما‪ .‬عندما يقرر كل ذلك فهو‬
‫ال يفعل سوى أن يوضح الرابط العميق الموجود بين أخالق الحزن وأخالق التسلط‪،‬‬
‫أي بين الطغاة والعبيد وكيف أن اإلنسان نفسه هو الذي يجعل نفسه ضحية الوضعية‬
‫التي يتواجد عليها‪ ،‬في حين أنه يمكنه تجاوز ذلك الوضع بما يمتلكه من قدرات‬
‫وطاقات خالقة‪ .‬ولعل األهمية الكبرى التي تكتسيها فلسفة سبينوزا من خالل كل ما‬
‫سبق ذكره‪ ،‬هو التأسيس لفلسفة الدين‪ ،‬إذ يمكن اعتبار لحظة سبينوزا تشكل منعطفا‬
‫حاسما في التأسيس لهذا المبحث الفلسفي الجديد‪.‬‬

‫‪ 43‬درس بتاريخ ‪.1981/01/20‬‬


‫‪44 Gille Deleuze, Spinoza philosophie pratique, les éditions de minuit Paris 1981, page‬‬
‫‪-‬‬
‫‪45 Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, les éditions de minuit Paris‬‬
‫‪1981, page 251.‬‬
‫‪46 Gille Deleuze, Spinoza philosophie pratique، op cite, page 38.‬‬
‫‪47 Gille Deleuze, Spinoza et le problème de l’expression, op cite, page 249250-.‬‬
‫‪131‬‬ ‫ازونيبس ةفسلف يف رشلا ةلكشم‬

‫المصادر والمراجع‬
‫مؤلفات سبينوزا‬
‫ ‪-‬اإلتيقا‪ ،‬ترجمة وتقديم وتعليق أحمد العلمي‪ ،‬إفريقيا الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‬
‫المغرب‪ ،‬الطبعة األولى‪.2010 ،‬‬
‫ ‪-‬رسالة في الالهوت والسياسة‪ ،‬ترجمة حسن حنفي‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت لبنان‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪.2008 ،‬‬
‫ ‪-‬كتاب السياسة‪ ،‬ترجمة جالل الدين سعيد‪ ،‬دار الجنوب التونسي‪.2009 ،‬‬
‫‪Œuvres de Spinoza :‬‬
‫‪- Spinoza، œuvres complètes، textes traduit، présenté et annoté par‬‬
‫‪Roland Caillos ، Madeleines Frances et Robert Misrahi، édition Gallimard،‬‬
‫‪Bibliothèque de la pléiade، 1954.‬‬
‫‪ -‬أم الزين بنشيخة‪ ،‬كانط راهنا‪ ،‬المركز الثقافي العربي‪ ،‬الدار البيضاء المغرب‪،‬‬
‫الطبعة األولى سنة ‪.2006‬‬
‫‪ -‬عز العرب لحكيم بناني‪ ،‬الحرية والمسؤولية والخطئية في فلسفة الدين الكانطية‪،‬‬
‫أعمال ندوة التأصيل النقدي للحداثة وما بعدها‪ ،‬قراءة في الفلسفة الكانطية‪.‬‬
‫‪ -‬عز العرب لحكيم بناني‪ ،‬حوار األديان والنقد التاريخي‪ ،‬مقال ضمن أعمال ندوة‪:‬‬
‫الفلسفة ومذاق الحضارة‪ :‬التعدد وحوار الثقافات واألديان‪ ،‬ملتقى ربيع الفلسفة‬
‫الدولي السادس‪ ،‬منشورات ما بعد الحداثة‪ ،‬مارس‪.2007 ،‬‬
‫‪ -‬فريدريك نيتشه‪ ،‬العلم المرح‪ ،‬ترجمة حسان بورقية ومحمد الناجي‪ ،‬افريقيا‬
‫الشرق‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬الطبعة األولى‪.1993 ،‬‬
‫ديسلا نبا ديشر‬ 132
،‫ الطبعة الثانية‬،‫ دار التنوير‬،‫ سلسلة أعالم الفكر المعاصر‬،‫ سبينوزا‬،‫ فؤاد زكريا‬-
.2005
-- Deleuze Gille , Spinoza et le problème de l’expression, Paris, les éditions
de minuit، 1981.
-- Deleuze Gille, Spinoza philosophie pratique, Paris, les éditions de Minuit،
1981.
-- Greisch Jean, le buisson Ardent et les lumières de la raison, L’invention
de la philosophie de la religion, Tome1, Paris, Les éditions du Cerf, 2002.
-- Ricoeur Paul, Conflit des interprétations, Éditions du Seuil 1969.
‫دراسات‬

‫‪1‬‬
‫مشكلة الشر في ضوء الحياة اآلخرة‬
‫‪2‬‬
‫ستيفن تي ديفيز‬ ‫____________________________________________‬

‫ُم َل َّخص‬
‫فهم مشكلة الشر في ُأ ُف ِق الحياة‬ ‫تتساءل هذه الورقة عن الكيف ّية التي يمكن معها ُ‬
‫تأثير في الطريقة التي نُقارب بها مشكل ًة ُت َعدُّ دون ٍّ‬
‫شك‬ ‫اآلخرة‪ ،‬وما يستتبع ذلك من ٍ‬
‫األول الذي يواجه المؤمنين‪ .‬تطرح الورق ُة أربع نظر َّيات محتملة عن‬ ‫الفكري ّ‬
‫ّ‬ ‫التّحدِّ َي‬
‫أي نوع‬ ‫ِ‬
‫الحياة اآلخرة؛ أال وهي‪ :‬كون الموت نهاي َة ِّ‬
‫كل شيء (ما يعني انعدا َم وجود ّ‬
‫وتناسخ األرواح‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الروح وبقاؤها‪،‬‬
‫من أنواع الحياة الواعية لإلنسان بعد موته)‪ ،‬وخلود ّ‬
‫صح َة هذه النظريات من‬ ‫الجسماني {قيامة األجساد}‪ .‬وال تناقش الورق ُة َّ‬ ‫ّ‬ ‫والبعث‬
‫ثم نقوم‬‫صحتها‪ ،‬ومن ّ‬ ‫الشر إذا ما افترضنا ّ‬‫تعالج تأثيرها على مشكلة ّ‬ ‫ُ‬ ‫عدمها‪ ،‬لكنّها‬
‫تتأص ُل‬ ‫ِ‬
‫أساسا على إمكان البعث الجسماني؛ َّ‬ ‫ً‬ ‫على بناء نظرية للعدالة اإلله ّية تستند‬
‫ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫تتساءل الورق ُة إن كانت‬ ‫وأخيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫جميعه‪.‬‬ ‫دعواها في فكرة تخليص الله العا َلم من ّ‬
‫الشر‬
‫ثمة فسحة من رجاء و َأ َمل يمكن الت ُ‬
‫ّفريج بها؛ اعتما ًدا على الوجود الشرير في العالم‪.‬‬

‫الرش‪In: Nagasawa Y.، Matheson B. .‬‬ ‫‪ Davis S.T. (2017) The Problem of Evil 1‬مشكلة ّ‬
‫‪َ (eds) The Palgrave Handbook of the Afterlife‬م ْر ِجع باجلريف يف احلياة اآلخرة‪Palgrave .‬‬
‫‪Frontiers in Philosophy of Religion. Palgrave Macmillan، London. https://doi.‬‬
‫‪org/10.1057/978-1-137-48609-7_19.‬‬
‫ترمجة‪ :‬عبد العاطي طلبة‪.‬‬
‫‪ 2‬ستيفن يت ديفيز ‪ Stephen T. Davis‬أستاذ الفلسفة بكلية كلريمونت ماكينا ‪Claremont‬‬
‫‪ McKenna College‬بالواليات املتحدة األمريكية‪ .‬من كتبه املنشورة‪Christian( :‬‬
‫‪ philosophical theology‬الالهوت الفلسفي املسيحي)‪ ،‬و(‪Logic and the nature of God‬‬
‫املنطق وطبيعة اهلل)‪ ،‬و(‪ Death and Afterlife‬املوت واحلياة اآلخرة)‪ ،‬و(‪The Debate about‬‬
‫‪ the Bible‬اجلدل حول الكتاب املقدس)‪ ،‬وغري ذلك‪.‬‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪134‬‬

‫(‪)1‬‬
‫اختبار اآلالم‪ ،‬والمعاناة‪ ،‬والفقدان‪ ،‬والندم‬
‫َ‬ ‫الحياة شا َّقة! يقاسي الن ُ‬
‫َّاس فيها‬
‫شك تعودهم بين الفينة واألخرى أحايي ُن من االطمئنان‪ ،‬وال َفرح‪،‬‬‫مشارك ًة‪ .‬ال ّ‬
‫وربما فرط السعادة‪ ،‬لكنّنا ال نكا ُد نهنأ في الغالب‪ ،‬إذ نتق َّلب بين الكثير من التّعاسة‪،‬‬
‫أيضا أنوا ًعا من الشرور التي يرتك ُبها آخرون ِحيالنا؛‬
‫والس ْخط‪ ،‬واألَ َسى‪ ،‬بل ونكابد ً‬ ‫ُّ‬
‫أن تصيبنا‬‫كممارسات الغش واالحتيال‪ ،‬والسرقة وربما القتل! وال نسلم كذلك من ْ‬
‫والسيول‪،‬‬ ‫ٍ‬ ‫عذابات مختلفة يفيض بها العا َلم الطبيعي ّ‬
‫كل وقت؛ كاألوبئة‪ ،‬والزالل‪ّ ،‬‬ ‫ٌ‬
‫جسيما‬
‫ً‬ ‫واألعاصير‪ ،‬وأمواج تسونامي‪ ،‬وما ينتظرنا من موت وهالك محتوم‪ّ .‬‬
‫إن جان ًبا‬
‫المعاش الذي تعتريه مشق ٌة غامرة‪،‬‬‫من الحالة اإلنسان ّية ُيم ِّثله عمو ُم الشر في العا َلم ُ‬
‫وتحوالت مشؤومة للقدر‪.‬‬
‫ّ‬ ‫وآالم قاسية‪ ،‬وفقر ُمدْ ِقع‪ ،‬وأعمال عنف عبث ّية‪،‬‬
‫تتناول الورق ُة إذن مشكل َة الشر في ضوء الحياة اآلخرة‪ ،‬لكن ينبغي علينا قبل‬ ‫ُ‬
‫وإيضاحا‪ ،‬ومن َث ّم يمكننا القيا ُم بمناقشة‬
‫ً‬ ‫الشر بيانًا‬
‫أي شيء الوقوف على مشكلة ّ‬ ‫ّ‬
‫رؤى متفاوت ٌة حول الحياة‬
‫بعض ال ّطرق المتعدّ دة في مقاربتنا المشكلة‪ ،‬والتي ُت َع ِّبدُ ها ً‬‫ِ‬
‫ِ‬
‫إمكان الحياة‬ ‫اآلخرة‪ .‬وكما سنرى؛ يقو ُم العديدُ من فالسفة الدين حدي ًثا باستعمال‬
‫الخاصة حول مشكلة‬ ‫ّ‬ ‫وأخيرا؛ تؤ ِّلف مقترحاتي‬ ‫ً‬ ‫اآلخرة وهم يعالجون مشكلة الشر‪.‬‬
‫األخير من هذا البحث‪.‬‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫القسط‬ ‫الشر وهي في َكنَف الحياة اآلخرة‬
‫ٍ‬
‫مقتضبة وصارمة‪ :‬يعني‬ ‫َ‬ ‫بصورة‬ ‫دعونَا بداي ًة نعمل على تعريف كلمة ّ‬
‫الشر هنا‬
‫ً‬ ‫ِ‬ ‫ٍ‬
‫مجال أوسع‬ ‫المستح َّقة! إنني أعتقد ح ًّقا أن ّ‬
‫للشر‬ ‫َ‬ ‫اإلنسان غير‬ ‫ببساطة معاناة‬ ‫الشر‬
‫ُّ‬
‫مثل‪ ،‬كما أنه في اإلمكان‬ ‫ذكرت‪ ،‬كالشر المتع ِّلق بالحيوانات في تألمها ً‬ ‫ُ‬ ‫ٍ‬
‫بكثير مما‬
‫ألم على اإلطالق‪ ،‬لكنّنا وحتى نح ّقق غرضنا من هذا‬
‫شر ال يترتَّب عليه ٌ‬
‫أن يوجد ٌّ‬
‫تجاوز مثل هذه اإلشكاالت‪ .‬وتب ًعا لما سلف بيانُه؛ يمكننا أن ندعو‬
‫ُ‬ ‫البحث‪ ،‬يمكننا‬
‫«شرا أخالق ًّيا»‪ ،‬كما يمكننا أن ندعو الشر الحادث بسبب‬ ‫َ‬
‫الحادث عن اإلنسان ًّ‬ ‫الشر‬
‫ّ‬
‫«شرا طبيع ًّيا»‪.‬‬
‫الطبيعة ًّ‬
‫تواجه مشكل ُة الشر الم َؤ ِّله َة‪ ،‬وتشغل مرتب َة الص ِ‬
‫دارة من الصعوبات الفكر ّية التي‬ ‫ّ‬ ‫ّ ُ َ‬
‫ببساطة مجرد اإليمان ٍ‬
‫بإله؛ على أن يكون‬ ‫ٍ‬ ‫تعترض طريقهم‪ .‬يعني «التّأليه ‪»Theism‬‬
‫ّ‬
‫‪135‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫واألرض‪ .‬هناك سؤال يتبادر‬ ‫ِ‬


‫السماوات‬ ‫يعم ح ُّبه‬ ‫ٍ‬
‫َ‬ ‫عالما بإطالق‪ ،‬وأن ّ‬
‫قادرا بإطالق‪ً ،‬‬
‫ً‬
‫الشر في العا َلم‪،‬‬
‫الشر؛ لماذا ُي َج ِّو ُز الل ُه ّ‬
‫إلى الذهن هنا‪ ،‬ويقع في القلب من مشكلة ّ‬
‫األقل‪ ،‬لماذا يسمح بهذا ال َقدْ ِر العظيم منه؟! إذ لو كان مطلق القدرة وتا ّم‬‫ّ‬ ‫أو على‬
‫المستح َّقة؟ لماذا يموت‬
‫َ‬ ‫توجد ُّ‬
‫كل هذه المعاناة الفائضة وغير‬ ‫فعل‪ ،‬فلماذا َ‬ ‫الخير ّية ً‬
‫ِ‬
‫والمقاساة فيها؟‬ ‫ِ‬
‫األبرياء دخول السجون‬ ‫ٍ‬
‫خبيث؟ ولماذا على‬ ‫ٍ‬
‫سرطان‬ ‫األطفال َم َغ َّب َة‬
‫ّاس األذى‪،‬‬
‫والمجاعات التي يذوق فيها الن ُ‬
‫ُ‬ ‫ولماذا تحدث الزالزل‪ ،‬واألعاصير‪،‬‬
‫ّاس‪ ،‬ويسرقون‪ ،‬ويقتلون؟‬ ‫والر َدى؟ ولماذا يكذب الن ُ‬ ‫واأللم‪ّ ،‬‬
‫ِ‬
‫حجة تناقض األلوه ّية‪ ،‬إذ لو كان هناك‬ ‫الشر مسأل ًة ُي ْعت ََمدُ عليها في بناء ّ‬
‫نظر ًّيا‪ُ ،‬ي َعدّ ُّ‬
‫إله مطلق القدرة ح ًّقا‪ ،‬فإنه بالتّأكيد سيعمل على استئصال المعاناة غير المستح َّقة‪،‬‬
‫ٍ‬
‫وبقليل من النّظر؛‬ ‫مطلق الخير ّية‪ .‬إنه‬
‫َ‬ ‫أن إرادتَه لن تتع ّلق بهذه المعاناة ما دام‬ ‫كما ّ‬
‫أن المعاناة غير المستح ّقة تُطِ ّل برأسها في العا َلم‪ ،‬لذا يمكن القول ّ‬
‫إن‬ ‫واضحا ّ‬
‫ً‬ ‫يبدو‬
‫أصل‪ .‬على‬ ‫مبتور الخير ّية‪ ،‬أو ليس له وجود ً‬ ‫َ‬ ‫ناقص القدرة‪ ،‬أو‬ ‫يكون َ‬ ‫َ‬ ‫إلها كهذا إ ّما أن‬
‫ً‬
‫المتعاقبة بطرح حلول معقولة لهذه المعضلة‪ ،‬لك ّن ل َظى‬ ‫ِ‬ ‫كل؛ قام كثيرون عبر القرون‬ ‫ٍّ‬
‫الجدل حو َلها ال يزال محمو ًما حتى يوم النّاس هذا‪.‬‬
‫إن المؤ ِّل َه َة‬
‫نعرض سري ًعا للمشكلة في صورتها المنطق ّية بطبيعتها‪ .‬تقول هذه الحج ُة ّ‬
‫يناقضون أنفسهم‪ ،‬ألنهم يقولون بثالث قضايا؛ تشكِّل مجموع ًة يؤمنون بها م ًعا‪:‬‬
‫اإلله مطلق القدرة‪.‬‬
‫اإلله مطلق الخير ّية‪.‬‬
‫و‬
‫الشر موجود‪.‬‬
‫ال تنسجم هذه القضايا الثالث ــ كما يفترض النقدُ المطروح من ِق َب ِل القائلين بهذه‬
‫الصورة المنطق ّية للمشكلة ــ ُم َش ِّك َل ًة مجموع ًة متناقضة (انظر على وجه الخصوص‪:‬‬
‫ماكي )‪ ،Mackie 1982: 150-176‬إذ ليس في اإلمكان أن يكون مجمو ُعها صاد ًقا في‬
‫ِ‬
‫القضية الثالثة بالضرورة؛ ما‬ ‫يتضم ُن كذب‬ ‫أي قض َّيتين منهما‬
‫ّ‬ ‫وقت واحد‪ ،‬فصدق ّ‬
‫أنفسهم إذا ما قالوا بها جمي ًعا‪.‬‬
‫ض المؤمنين َ‬ ‫يؤ ِّدي إلى القول بتنا ُق ِ‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪136‬‬
‫معرفي ومنها ما هو احتمالي‬
‫ّ‬ ‫صورا أخرى عديدة؛ منها ما هو‬
‫ً‬ ‫الشر‬
‫إن لمشكلة ّ‬ ‫ّ‬
‫الح َجج تنا ُقض وجود الشر في العا َلم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الحال‪ ،‬وال َيدَّ عي القائلون بمثل هذه ُ‬ ‫بطبيعة‬
‫بدل‬ ‫مع الوجود اإللهي منطق ًّيا ما دام هذا اإلل ُه مطلق الخير والقدرة؛ لكنهم يرون ــ ً‬
‫دليل متماسكًا ضد وجود هذا اإلله‪ ،‬أو يرون وجو َده على هذا‬ ‫الشر ُينشئ ً‬
‫من ذلك ــ َّ‬
‫ُ‬
‫حدوث هذا القدر الهائل من معاناة اإلنسان ــ‬ ‫أصل‪ ،‬إذ ُينْتِ ُج‬
‫غير محتمل ً‬ ‫األساس َ‬
‫وجيها جدًّ ا لعدم اإليمان‪ ،‬أو على ّ‬
‫األقل سب ًبا‬ ‫ً‬ ‫غير المستح ّقة في هذا العا َلم ــ سب ًبا‬
‫اإللهي الذي يقول به المؤمنون‪.‬‬
‫ّ‬ ‫الحقيقي في الوجود‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫الشك‬ ‫يحملنا على‬
‫ْحى‬
‫الشر كمشكلة وجود ّية كذلك؛ بمعنى أنّه يظهر في صورة مسألة لها َمن ً‬ ‫يأتي ُّ‬
‫نظري في تطبيقاته‪ ،‬إذ ُيت ََسا َء ُل؛ ما الطريق الذي ينبغي ّ‬
‫علي سلوكُه إذا ما‬ ‫ّ‬ ‫عملي ال‬
‫ّ‬
‫أحب؟ وما هو الموقف الذي َع َل ّي اتِّخا ُذه ت َ‬
‫ُجاهه؟‬ ‫الشر حياتي أو حيا َة َم ْن ّ‬‫اعترض ُّ‬
‫إن أمكن؟ يشكِّل هذا النّمط من‬ ‫أو كيف يمكنني مكافحتُه‪ ،‬وحتى القضاء عليه ْ‬
‫تصوير المشكلة صعوب ًة؛ ليس لدى للمؤمنين فحسب‪ ،‬بل لدى الملحدين كذلك‪.‬‬
‫(‪)2‬‬
‫ِ‬
‫الموت نهاي َة‬ ‫ِ‬
‫الحياة ما بعد الموت‪ :‬كون‬ ‫هناك أربع نظر َّيات رئيسة حول‬
‫الجسماني {قيامة‬
‫ّ‬ ‫وتناسخ األرواح‪ ،‬والبعث‬
‫ُ‬ ‫الروح وبقاؤها‪،‬‬
‫كل شيء‪ ،‬وخلود ّ‬ ‫ِّ‬
‫ٍ‬
‫واحدة منها على حدة بإيجاز ودون مناقشة‬ ‫األجساد}‪ .‬سنقوم اآلن على مناقشة ِّ‬
‫كل‬
‫مدى صحتها من عدمه‪ ،‬على الرغم من قيامي بطرح العديد من الحجج المثيرة‬
‫إن ما أريد التّركيز عليه في ٍّ‬
‫كل هو عالقاتها ــ على‬ ‫لالهتمام لكل واحدة هنا ح ًّقا‪ّ .‬‬
‫الشر‪.‬‬
‫افتراض صحتها ــ بمشكلة ّ‬
‫ترى الفكرة القائلة بكون الموت نهاية َّ‬
‫كل شيء بأن وجودي ككائن وا ٍع يندرس‬
‫الخاص‪ .‬يظهر أن المدافعين عن مثل هذه النظريات ال يستغرقون كثير‬
‫ّ‬ ‫تما ًما بموتي‬
‫تتوجه جهو ُدهم عاد ًة حول‬
‫وقت في الحديث عن ماهية الحياة ما بعد الموت‪ ،‬إذ ّ‬
‫إثبات السبب الذي من أجله تضعف احتمال ّية الحياة اآلخرة‪ ،‬كما تتوجه نحو بيان‬
‫تداعيات القول بهذا األمر على حياتنا هنا واآلن‪.‬‬
‫يمكن لمن ِّظري هذه الفكرة ا ِّدعاء استمرار الحياة بعد الموت بمعنى من المعاني‬
‫‪137‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫األضعف‪ ،‬وأقول «األضعف» ألشير ضمن ًّيا إلى أنّها ال تشتمل بأي حال الذوات‬
‫بوصفها أفرا ًدا واعية تستمر في ديمومة الحياة بعد الموت‪ .‬لعلي أحيا بعد الموت‪،‬‬
‫لكن بمعنى أن تندمج ذراتي‪ ،‬أو ينصهر شخصي في َوحدة أخرى أكبر‪ .‬ولعلي أحيا‬
‫عزيزا لدى اإلله إلى األبد‬
‫بمعنى أن اآلخرين لن ينفكوا عن ذكري‪ ،‬أو بمعنى أن أبقى ً‬
‫(كما نرى في فلسفة وايتهيد ‪{ Whitehead‬العضوية} حول الخلود الموضوعي‬
‫‪ ،)objective immortality‬أو بمعنى أن تحمل ساللتي جيناتي الخاصة في‬
‫بأي من هذه المعاني‪ ،‬لكنني لن أحيا أبدً ا بهذا‬
‫المستقبل‪ .‬يمكن أن أحيا بعد الموت ٍّ‬
‫الجسد الذي يسري فيه الد ُم مرة أخرى‪.‬‬
‫يتبنّى كثير من الفالسفة والمفكرين هذه المقاربة؛ كقدماء اإلبيقور ّية‪ ،‬وعديد‬
‫من قدماء الرواقية‪ ،‬وكثير من الوجود ّيين المعاصرين‪ ،‬وفالسفة القرن العشرين‬
‫المعروفين كبرتراند راسل ‪ ،Bertrand Russell‬وألفرد جول آير ‪Alfred Jules‬‬
‫الفكري الذي‬
‫َّ‬ ‫الموقف‬
‫َ‬ ‫‪ ،3 Ayer‬وكاي نيلسن ‪ .Kai Nielsen‬تبدو هذه المقاربة تقري ًبا‬
‫تتخذه النخب الثقافية والفكرية هذه األيام في أوروبا وأمريكا الشمالية‪.‬‬
‫كل شيء ال يقدرون على استعمال إمكان‬‫ومن الواضح أن القائلين بإفناء الموت َّ‬
‫أي حال‪ ،‬ت َُشكِّل‬ ‫الحياة اآلخرة للمساعدة في إيجاد ّ‬
‫حل لمشكلة الشر‪ ،‬إذ على ّ‬
‫مشكلة الشر حج ًة قوية ضد الوجود اإللهي في اعتبار كثير منهم‪ .‬وكما نعرف‪ ،‬ال‬
‫دمت ال تؤمن بوجود إله‪.‬‬
‫يمكن لمشكلة الشر بمعناها التقليدي أن تنشأ ما َ‬
‫(‪)3‬‬
‫ِ‬
‫ولنأت اآلن إلى نظرية التناسخ التي يمكن تعريفها بأن نفس العقل اإلنساني‬
‫الواحد (أو الروح‪ ،‬أو الجوهر‪ ،‬أو جيفا ‪ )4 Jiva‬يمكن له أن ُيف َّعم بالحياة مرتين‬

‫‪ 3‬لكن خ ّفت ِحدَّ ُة إنكار آير ‪ Ayer‬للحياة بعد املوت بصورة مؤقتة عىل األقل حتت وطأة جتربة‬
‫االقرتاب من املوت الشهرية؛ ورد ذلك يف كتابه « ‪What I Saw When I Was Dead‬الذي رأيتُه‬
‫كنت ميتًا»‪ .‬أعاد باول إدواردز ‪ Paul Edwards ed‬طباعته يف كتاب اخللود‪Immortality‬‬‫عندما ُ‬
‫‪( .)(1992‬املؤلف)‬
‫‪ 4‬جيفا ‪ Jiva‬مصطلح مستعمل يف مذهب أدفايتا فيدانتا اهلندويس ‪،Advaita Vedanta Hinduism‬‬
‫ويتوافق إىل حد بعيد مع املفهوم الغريب عن الروح‪( .‬املؤلف)‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪138‬‬
‫أو أكثر على التوالي في أجساد مختلفة؛ ما يعني فساد جسدي بصورة دائمة‪ ،‬وتو ُّلد‬
‫جوهري غير المادي والد ًة أخرى في جسد آخر‪ ،‬وفي مكان آخر‪ .‬ولربما يولد مرة‬
‫أخرى بعد هذا التجسد مرات عديدة‪ ،‬أو حتى عد ًدا ال يتناهى من المرات‪ .‬للتناسخ‬
‫التجسد ال بد وأن يقول بنمط من ثنائية‬
‫ّ‬ ‫اآلن صور كثيرة‪ ،‬لكن من يؤمن بهذا النوع من‬
‫العقل والجسم‪ ،‬وال بد وأن يقول بأن الخضوع للمعيار الجسدي وإرضائه ليس أساس ًّيا‬
‫في الهوية الشخصية‪.‬‬
‫ترتبط نظر ّيات التناسخ نو ًعا ما بعقيدة الكارما ‪ karma‬التي تُعد نقطة حاسمة إذا‬
‫ما تعلق األمر بمشكلة الشر‪ .‬تنتج عن عمل الكارما المكانة التي يشغلها شخص في‬
‫هذه الحياة اعتما ًدا على أفعاله في حيواته السابقة‪ .‬والكارما ليست قوة شخصية‪ ،‬وال‬
‫يقوم على إجرائها مسؤول ما‪ ،‬أو لجنة خاصة‪ .‬ويتن ّقل أثر الكارما في الحيوات السابقة‬
‫من تجسيد إلى آخر (تختلف آل ّيات حدوث ذلك من دين آلخر)‪ ،‬كما تُق َّيد تأثيرات‬
‫الحيوات السابقة األخالقية والروحية وتتن ّقل من حياة إلى حياة أخرى (سواء كانت‬
‫الكارما حسنة أو سيئة)‪.‬‬
‫ال تفترض كثير من األديان التناسخية بوجود نوع من اإلله الشخصي؛ ما يؤ ّدي‬
‫إلى عدم نشوء مشكلة الشر بمعناها التقليدي‪ ،‬ورغم ذلك فإن الشغل الشاغل لمثل‬
‫ُ‬
‫مسالك‬ ‫هذه األنظمة الدينية هو التجربة اإلنسانية في آالمها ومعاناتها؛ ومن هنا تُسلك‬
‫الكارما لتفسير هذه التجربة‪.‬‬
‫حيادي يعني في حقيقته ْ‬
‫أن يحصد اإلنسان في حياة واحدة ما‬ ‫ّ‬ ‫والكارما قانون‬
‫أمرا ً‬
‫عادل‬ ‫قام بزراعته في حيواته السابقة‪ ،‬إذ ترى ما يحدث لإلنسان من خير أو شر ً‬
‫و ُمنص ًفا بكل معنى‪ ،‬إذ كل ما يجري ــ طب ًقا للكارما ــ ليس إال ما عملت يدا اإلنسان في‬
‫هذه الحياة أو في حيواته السابقة‪ .‬لكن في بعض األديان القائلة بالكارما‪ ،‬من الممكن‬
‫يتطهر من الجهل والشر‪ ،‬وأن يتح ّقق‬
‫التجسد أن َّ‬
‫ُّ‬ ‫للجيفا عن طريق سلسلة طويلة من‬
‫‪5‬‬
‫حقيقي للذات‪ .‬ترى الهندوسي ُة طب ًقا لمذهب أدفايتا فيدانتا ‪Advaita Vedanta‬‬
‫ّ‬ ‫بوعي‬

‫ثنائي‪ ،‬وهو مذهب هندويس يرى برامهان احلقيق َة‬ ‫ّ‬ ‫‪ 5‬أدفايتا ‪ Advaita‬كلمة بالسنسكريتية تعني ال‬
‫الوحيدة‪ ،‬لذا فأي رؤية مثنوية للعامل تفرق بني النفس والعامل‪ ،‬أو بني الروح واملادة‪ ،‬ما هي إال ثمرة من‬
‫ثمرات املايا ‪{ Maya‬الوهم}‪( .‬املرتجم)‪.‬‬
‫‪139‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫التنوير وع ًيا بكل زيف يقول بالتمايز‪ ،‬ووع ًيا ِّ‬


‫بكل‬ ‫ُ‬ ‫الحقيقة واحد َّية ال تتثنَّى‪ ،‬لذا يستلزم‬
‫َوحدة جوهرية لجيفا مع براهمان ‪6 Brahman‬؛ الحقيقة المطلقة‪.‬‬
‫من الممكن الوقوف على بعض االعتراضات ضد التناسخ‪ ،‬لكني سأس ِّلط الضوء‬
‫حيادي كما ُي َع َّبر عنها؛‬
‫ّ‬ ‫على أكثرها عالقة بمشكلة الشر‪ .‬إن الكارما ــ مرة أخرى ــ قانون‬
‫كل ما يحدث لإلنسان من خير أو شر ليس إال نتيجة أفعاله السابقة‪ .‬إنك‬ ‫يؤكد على أن ّ‬
‫سألت هندوس ًّيا تقليد ًّيا عن حجة تقول بالتناسخ‪ ،‬فمن المحتمل أن تكون حجتُه ّ‬
‫أن‬ ‫َ‬ ‫إذا‬
‫تفسر مشكلة المعاناة والظلم البائن {في هذا العالم}‪ .‬وإذا كانت‬ ‫التناسخ أو الكارما ِّ‬
‫الكارما ح ًّقا‪ ،‬فال مكان لما يمكن تسميته بالمعاناة غير المستَح َّقة‪.‬‬
‫تكمن مشكلتان داخل هذه النظرية في تع ُّلقها بمشكلة الشر‪ .‬أما عن المشكلة‬
‫األولى‪ ،‬فإنه من الصعوبة بمكان فهم الكيفية التي يمكن أن تكون الكارما بها قانونًا‬
‫ٍ‬
‫قاض ُم َش َّخص‪ ،‬وأنه ال يقوم‬ ‫فاعل‪ .‬ولنتذكر أن النظرية تفترض انعدام وجود‬ ‫حياد ًّيا ً‬
‫ُقرر ــ على سبيل المثال ــ أن حيوات إنسان ما‬ ‫خاصة؛ ت ِّ‬
‫على إجرائها مسؤول ما‪ ،‬أو لجنة ّ‬
‫ٍ‬
‫تاجرا غن ًّيا‪ .‬إن الفكرة‬ ‫متسو ًل ً‬
‫فقيرا في حياة تالية‪ ،‬أو ً‬ ‫ِّ‬ ‫في الماضي تجعله يستحق ال َع ْي َش‬
‫التي تقوم عليها الكارما في عملها تشبه تما ًما الجاذبية أو الثرموديناميك (الديناميكا‬
‫كنت ــ على‬‫عظيما‪ ،‬إذ ُ‬‫ً‬ ‫شرا أخالق ًّيا‬
‫ارتكبت في حق نفسي ًّ‬
‫ُ‬ ‫الحرارية)‪ .7‬فلنفترض أني‬
‫سبيل المثال ــ أنان ًّيا وجش ًعا لسنوات‪ .‬لعله من المعقول أن نقول نتيج ًة لذلك بعواقب‬
‫أتجرع المرارة فيما بعد‪ ،‬وأصبح غير‬ ‫تخصني الح ًقا لكن في هذه الحياة الراهنة‪ ،‬فلربما ّ‬ ‫ّ‬
‫سعيد على اإلطالق‪ .‬لكن‪ ،‬في حالة أخرى أعاني فيها ــ على سبيل المثال ــ من مرض‬
‫أليم‪ ،‬أو ُأ ْس َلب فيها ميراثي كله‪ ،‬ثم تأتي الكارما ِّ‬
‫لتفسر ما حدث لي بأنه كان نتيجة سوء‬
‫أفعالي في حيوات سابقة‪ ،‬فليس من اليسير هنا ح ًّقا فهم النظام الذي من المفترض أن‬
‫ٍ‬
‫سابقة‬ ‫ٍ‬
‫حياة‬ ‫مدار األمر‪ .‬ما هي العالقة العل ّية الحيادية بين سوء أفعالي في‬
‫يكون عليه ُ‬
‫والحوادث الموجعة في هذه الحياة على وجه التحديد؟ إذا لم يكن األلم بسبب سوء‬
‫أفعالي في حياتي الراهنة‪ ،‬فمن الصعوبة بمكان أن نفهم «أحكام» الكارما والكيفية التي‬

‫‪ 6‬برامهان ‪ Brahman‬يف الديانة اهلندوسية يعني الروح العاملية‪ ،‬أو املطلق واإلله‪( .‬املرتجم)‬
‫خواص انتقال الشكل احلراري‬
‫ّ‬ ‫‪ 7‬الديناميكا احلرارية‪ :‬أحد فروع امليكانيكا اإلحصائية؛ ُيدْ َرس فيها‬
‫للطاقة وحتوالته‪( .‬املرتجم)‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪140‬‬
‫ُ‬
‫العدل والعواقب المالئمة‪( .‬انظر‪ :‬رايخينباخ ‪Reichenbach‬‬ ‫ينبغي أن يكون عليها‬
‫‪.)1990‬‬
‫ال شك هناك بعض األنماط الدينية التي تقول بالكارما وفي نفس الوقت تقول ٍ‬
‫بإله‪،‬‬
‫شخصي‪ .‬ومن َث ّم‪،‬‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫فمثل هناك بعض النُّسخ الهندوسية والبوذية التي تفترض وجود إله‬
‫إذا كانت هذه اآللهة هي القائمة على الكارما وأحكامها‪ ،‬فإنها تصبح ممكنة من ٍ‬
‫جهة‬
‫الصلة‪ ،‬لك َّن المشكلة تظل‬
‫الشخصي أن يتّخذ أحكا ًما وثيقة ِّ‬
‫ّ‬ ‫مفهوم ّي ٍة‪ ،‬فلمثل هذا اإلله‬
‫ظل األنماط الدينية غير القائلة ٍ‬
‫بإله‪.‬‬ ‫قائم ًة في ِّ‬
‫أما عن المشكلة الثانية‪ ،‬فهي وجود مشكلة في استيعاب الكيفية التي تقوم بها الكارما‬
‫أو التناسخ بتفسير حضور الظلم والمعاناة كما يرى أصحا ُبها‪ .‬فلنفترض أننا سألنا هذا‬
‫تجسد لكل جيفا؟ ال شك أن اإلجابة ال تخرج عن القول‬
‫السؤال‪ :‬هل كان هناك ثمة ُّ‬
‫بـ«نعم» أو «ال»‪ .‬فلنفترض أن اإلجابة «نعم»؛ ما يعني أن لكل شخص عد ًدا متناه ًيا من‬
‫أيضا أن الكارما ستبدو غير قادرة على تفسير عدم‬‫التجسدات في الماضي‪ ،‬ما يعني ً‬‫ُّ‬
‫ِ‬
‫التجسد األول‪ ،‬فمما ال شك فيه أنه قد ُولدَ بعض األشخاص في‬ ‫المساواة القابعة في‬
‫ُّ‬
‫تجسدهم األول أقوى من غيرهم‪ ،‬وأكثر مهارة‪ ،‬وأسرع‪ ،‬وفي مناخ أكثر مالءمة‪ ...‬إلخ‪.‬‬
‫تفسر أصناف هذا الظلم‪ .‬ولنفترض اآلن أن اإلجابة «ال»؛‬
‫ال تستطيع الكارما السابقة أن ِّ‬
‫ما يعني أن نقول بأن لكل شخص عد ًدا ال يتناهى من التجسدات في الماضي‪ ،‬فال‬
‫تكون هناك حياة أولى ألي أحد‪ .‬إننا لو سلمنا اآلن َف َر ًضا بانعدام وجود مشكلة للشر‬
‫تفسيرا للظلم‬
‫ً‬ ‫على األرض لعدد ال يتناهى من السنين‪ ،‬فإنه يبدو أنه ما زلنا ال نملك‬
‫تأجل إلى وقت‬
‫والمعاناة الموجودة في عالمنا الراهن‪ ،‬فال تفسير لذلك حتى اآلن‪ ،‬لقد َّ‬
‫ال ُي َس َّمى (هيك ‪ .)Hick 1976: 308–309‬ما يبدو إذن أن التناسخ على الرغم من كونه‬
‫نظرا لكل‬
‫ليس محاولة لمعالجة مشكلة الشر‪ ،‬إال أنه يواجه صعوبات فكرية حقيق ّية؛ ً‬
‫هذا الشر والمعاناة الموجودة في العالم‪.‬‬
‫(‪)4‬‬
‫{ولنتناول اآلن القول} بخلود الروح وبقائها‪ .‬إن نظرية الحياة ما بعد الموت‪،‬‬
‫يتفسخ ويفني فنا ًء تا ًّما بعد‬
‫والمعروفة بخلود الروح هي العقيدة القائلة بأن جسدي َّ‬
‫‪141‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫الموت‪ ،‬لكن يبقى جوهري غير المادي‪ ،‬أو الروح إلى األبد في عالم آخر روحي‪ .‬وبناء‬
‫على ذلك‪ ،‬فإن الخلود أقرب ما يكون إلى التناسخ‪ ،‬إذ ينبني كالهما على ثنائية العقل‬
‫روحاني لإلنسان ينجو بعد الموت‪ ،‬كما أن‬
‫ّ‬ ‫والجسد‪ ،‬كما أن كلًّ منهما يقول بجوهر‬
‫المنافح عن كال العقيدتين ال بد وأن يقول بأن الخضوع للمعيار الجسدي وإرضائه‬
‫األهم بينهما هو ّ‬
‫أن القول بالخلود ال‬ ‫ّ‬ ‫ليس أساس ًّيا في الهوية الشخصية‪َّ .‬‬
‫إن الفارق‬
‫التجسدات الماد ّية هنا على األرض‪ ،‬بل يفترض‬
‫ُّ‬ ‫يفترض بعد الموت سلسلة متعاقبة من‬
‫روحي ً‬
‫بدل عن ذلك‪.‬‬ ‫ّ‬ ‫حياة أبد ّية ال تنقطع في عالم‬
‫كان أفالطون واحدً ا من أهم المدافعين عن القول بالخلود‪ ،‬نرى ذلك في مواطن‬
‫عديدة من محاوراته (انظر على وجه الخصوص‪ :‬محاورة فيدون ‪ ،Phaedo‬والكتاب‬
‫حججا ذكية‬
‫ً‬ ‫الخامس من الجمهورية ‪ ،8)Book X of the Republic‬والتي يطرح فيها‬
‫لصالح هذه العقيدة‪ .‬وكذلك كان إيمانويل كانط (‪ )126–136 :}1788{ 1956‬الذي‬
‫طرح «حجة أخالقية» مشهورة تدعم القول بالخلود والوجود اإللهي‪ .‬لألسف‪ ،‬ال‬
‫تؤ ِّدي مثل هذه الحجج دور الحجة الدامغة بالنسبة إلينا‪ ،‬وق َّلما تجد فالسفة معاصرين‬
‫يؤ ِّيدون أ ًّيا من حجج الخلود التقليدية هذه‪ .‬وال يزال القول بالخلود يحظى بالقبول‬
‫أن تلك العقيدة كانت تتمتع َبأ ْو ِج َها في‬‫مما ال شك فيه ّ‬ ‫في بعض الدوائر اليوم‪ ،‬لكن ّ‬
‫عظيما آنذاك‬
‫ً‬ ‫العصر الفيكتوري وال سيما في بريطانيا‪ .‬كان االهتما ُم بالظواهر الروحية‬
‫ــ جلسات تحضير األرواح ‪ ،seances‬والوساطة الروح ّية ‪ ،9 mediumship‬والكتابة‬
‫ومما‬
‫محتمل على الخلود‪ّ .‬‬ ‫ً‬ ‫الالإرادية ‪ ...10 automatic writing‬إلخ؛ ما كان ُيعد ً‬
‫دليل‬
‫اصل‬ ‫ِ‬
‫يؤسف له أنه لم يثبت قطع ًّيا حتى اآلن ُرق ّي الظواهر الروحية إلى مستوى ُيت ََو َ‬
‫َ‬
‫به ح ًّقا مع أولئك الذين رحلوا عن هذا العالم‪ ،‬أولئك الذين ُيقال عنهم أنهم «على‬
‫الجانب اآلخر»‪.‬‬
‫من جهة أخرى‪ ،‬تبدو االحتماالت القائلة بالخلود أكثر إشرا ًقا مما كانت عليه من‬

‫‪ 8‬قام كارينز ‪ ،Cairns‬وهيملتون ‪ Hamilton‬بتحقيقهام (‪( .)1961‬املؤلف)‬


‫‪ 9‬الوساطة الروحية ‪ mediumship‬تعني املامرسة التي يقوم هبا وسيط روحي قادر عىل االتصال بالعامل‬
‫اآلخر‪ ،‬وأن يؤ ِّدي دور الوصل بني أرواح املوتى وأرواح األحياء‪( .‬املرتجم)‬
‫كتابات خطية‪( .‬املرتجم)‬
‫ٌ‬ ‫‪ 10‬الكتابة الالإرادية ظاهرة نفسية تعني حركة الإرادية تنتج عنها‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪142‬‬
‫قبل؛ قبل أربعين سنة على سبيل المثال‪ ،‬إذ كان فالسفة مثل أنتوني فلو ‪Antony Flew‬‬
‫)‪ (1956‬يجادلون وقتئذ ليس عن خطأ القول بالوجود غير الجسماني فحسب‪ ،‬بل‬
‫عن تهافتها كذلك‪ .‬لكن اآلن‪ ،‬يرى عديد من الفالسفة الوجو َد غير المادي ممكنًا من‬
‫فعل أم ال)‪ .‬ظهر عامالن ساعدا على‬‫جهة منطقية على األقل (وإن لم يقولوا بوجوده ً‬
‫الوصول إلى هذه النتيجة‪.‬‬
‫العامل األول وقو َعهم تحت تأثير مقال مهم ــ كُتِب عام ‪ ،1935‬لكنه لم ينتشر‬
‫ُ‬ ‫كان‬
‫على نطاق واسع إال في وقت الحق ــ َك َت َب ُه الفيلسوف هنري هبرلي برايس ‪Henry‬‬
‫‪ .Habberley Price‬كما يبدو‪ ،‬يرسم برايس (‪ )1953‬صورة متماسكة إلى حد ما لعالم‬
‫يشبه األحالم‪ ،‬ويمتلئ موضوعات غير مادية‪ .‬تدور فكرة برايس األساسية حول ّ‬
‫أن‬
‫عالما يحل فيه التصوير {توليد الصور} ّ‬
‫محل اإلدراك‪،‬‬ ‫مادي‪ً ،‬‬
‫ّ‬ ‫عالما غير‬
‫األراوح تقطن ً‬
‫فعن طريق الصور ــ ربما تكون مرئية‪ ،‬أو سمعية‪ ،‬أو تخاطرية ــ يمكن لألرواح أن‬
‫بعضا‪ ،‬ولربما في محيط يماري محي َطنا تعقيدً ا ً‬
‫ونبضا بالحياة‪ ،‬إذ يمكن‬ ‫بعضها ً‬
‫يعي ُ‬
‫لألشخاص واألشياء أن تكون محلًّ للرؤية على أنها ظهورات تخاطرية‪ .‬يرى برايس‬
‫ِ‬
‫المعاش (على سبيل‬‫أنه لربما يكون لعالم كهذا قوانينه الع ِّل َّية المختلفة عن عالمنا ُ‬
‫عالما حقيق ًّيا كعالمنا‬
‫ً‬ ‫المثال‪ :‬قد يكون إشباع الرغبات ناج ًعا)‪ ،‬لكنه سيبدو لقاطنيه‬
‫عالم برايس على أنه يقع في مساحته‬ ‫تما ًما‪ .‬وكنتاج للعقول المتفاعلة تخاطر ًّيا ُيت َ‬
‫َخ َّيل ُ‬
‫الخاصة به‪ ،‬وال يلزم عن ذلك أن يكون مكانًا مستسا ًغا‪.‬‬
‫لم يكن برايس متن ِّب ًئا بأننا سنقطن جمي ًعا في يوم من األيام هذا النوع من العالم‬
‫يخص مسألة الحياة ما بعد الموت‪ .‬ما‬
‫ّ‬ ‫الذي يصفه لنا‪ ،‬إذ كان برايس نفسه الأدر ًّيا فيما‬
‫مادي في نفس‬
‫ّ‬ ‫ً‬
‫معقول وغير‬ ‫عالما ممكنًا ويكون‬‫كان يحاوله ــ بكل بساطة ــ أن يرسم ً‬
‫الوقت‪.‬‬
‫أما عن العامل اآلخر‪ ،‬فهو االهتمام ّ‬
‫مؤخ ًرا بتجربة الخروج من الجسد (‪،)OBE’s‬‬
‫مما ال شك فيه‬
‫وعلى وجه الخصوص تجارب االقتراب من الموت (‪ .)NDE’s‬إنه ّ‬
‫أن بعض الناس قد تحققوا بمثل هذه التجارب‪ ،‬وال سيما في سياق الطوارئ الطبية‬
‫المهدِّ دة للحياة‪ .‬بل وهناك بعض المشتركات المذهلة فيما بينهم؛ كشعور أولي بالك َْرب‬
‫متبوع بسكينة وحبور‪ ،‬وإحساس بالخروج عن الجسد ومالحظة جهود اإلحياء {أو‬
‫‪143‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫ضي ً‬
‫نزول في نفق طويل أو طريق تُجاه ضوء ساطع‪ ،‬وتجربة‬ ‫بالم ّ‬
‫اإلنعاش}‪ ،‬وشعور ُ‬
‫التقاء بأصدقاء أو أقارب رحلوا عن عالمنا‪ ،‬وإحساس بمقاربة نوع من الحدود أو‬
‫الم ْختَبِر لهذا األمر غال ًبا ــ إلى التعافي الجسدي‬
‫التخوم ثم االرتداد رجو ًعا ــ ضد رغبة ُ‬
‫‪11‬‬
‫والحياة اليومية‪.‬‬
‫هل تعتبر حقيق ُة اختبار بعض الناس لمثل هذه التجارب ً‬
‫دليل على الحياة بعد‬
‫الموت؟ إنه لمن الحقيقي أن معظم الناس (وليس جميعهم) ِم َّمن مروا بمثل هذه‬
‫التجارب يعتقدون بالحياة بعد الموت في وقت الحق‪ ،‬سواء كانوا يعتقدون بها من قبل‬
‫أيضا أنه إذا كان بإمكان النفس أو العقل مغادرة الجسد بكل تأكيد‪،‬‬
‫أم ال‪ .‬وإنه لحقيقي ً‬
‫وبإمكان أحدهما أن يفعل‪ ،‬وأن يدرك في انفصاله عن الجسد‪ ،‬فإن ذلك كما يبدو‬
‫أن كل النشاط العقلي ليس ّإل نشا ًطا دماغ ًّيا‪،‬‬
‫يدحض الفكرة الشائعة لدى الفالسفة من ّ‬
‫فكري ما يقول بثنائ ّية‬
‫ّ‬ ‫أو يعتمد على الدماغ بصورة جوهرية‪ ،‬بل ويشكِّل ً‬
‫دليل قو ًّيا لنمط‬
‫العقل والجسد‪ ،‬وعلى األقل ُيدَ ِّعم بصورة غير مباشرة إمكانية البقاء على قيد الحياة‪ .‬إن‬
‫الروح الجسدَ ح ًّقا في مثل هذه‬
‫ِ‬ ‫المشكلة هنا أنه من الصعب للغاية البرهنة على مغادرة‬
‫لحاالت قليلة من المرضى الذين اقتربوا من الموت وعادوا منه‬ ‫ٍ‬ ‫التجارب‪ .‬هناك تقارير‬
‫وهم على علم ببعض األحداث البعيدة الالحقة لدخولهم إلى المستشفى‪ ،‬وال يعرف‬
‫أحد من الطاقم الطبي أو العائلة عنها شي ًئا إال بعد فحصها فيما بعد‪ ،‬لك ّن تقييم هذه‬
‫أن تجارب الخروج من الجسد ليست‬ ‫التقارير من الصعوبة بمكان‪ .‬يجادل البعض عن ّ‬
‫إال تجارب طبيعية إلى حد كبير‪ ،‬واستجابات للدماغ قابلة للتفسير ألنواع معينة ألحداث‬
‫الجسد‪ ،‬وأن الشعور بالوجود خارج جسد أحدهم هو أمر ذاتي تما ًما‪ .‬إضافة إلى ذلك‪،‬‬
‫تجب اإلشارة إلى أن تجربة االقتراب من الموت ليست تجربة موت حقيقي‪ ،‬فهؤالء‬
‫الذين اختبروا تجربة االقتراب من الموت لم يموتوا ح ًّقا‪ ،‬ليقموا بإخبارنا بها على نحو‬
‫واضح‪ ،‬وعلى الرغم من كونهم عانوا من بعض األعراض (تو ُّقف ضربات القلب على‬
‫سبيل المثال) المرتبطة بالموت‪.‬‬
‫إنه على الرغم من االختالفات المهمة بين خلود الروح والبعث الجسماني‪ ،‬إال أن‬

‫‪ 11‬نوقشت العديد من هذه احلاالت لدى أمليدير ‪( .)162–201 :1992( Almeder‬املؤلف)‬


‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪144‬‬
‫المسالك التي يمكن لكلتا النظريتين سلوكها في معالجة مشكلة الشر متشابهة‪ ،‬ومن‬
‫أجل ذلك لن أناقش في هذا القسم مشكلة الشر على حدة‪ ،‬إذ كثير مما سأقوله في‬
‫أيضا‪.‬‬
‫القسمين الخامس والسادس منطبق على نظرية الخلود ً‬
‫(‪)5‬‬
‫يتفسخ {ويفنى}‪ ،‬لكنه في‬
‫البعث الجسماني عقيدة تقول بأن جسدي بعد الموت َّ‬
‫مرحلة مستقبلية ما يقوم الله بإحيائي مرة أخرى إحياء ُم ْع ِج ًزا‪ ،‬ويقوم على تخليقي‬
‫مرة ثانية في صورة إنسانية‪ .‬نرى البعث الجسماني في التقاليد اليهودية‪ ،‬والمسيحية‪،‬‬
‫واإلسالمية‪ ،‬كما نجده لدى كثير من األديان األخرى‪ ،‬لكنّه يتَّخذ في االعتقاد المسيحي‬
‫أنما ًطا أكثر تفلس ًفا وتعقيدً ا‪.‬‬
‫تقرير غالبية ــ‬
‫ُ‬ ‫بين قيامة الجسد والخلود عالقة معقدة في الفكر المسيحي‪ .‬يأتي‬
‫إن صح التعبير ــ الالهوتيين المسيحيين ابتداء من القرن الثاني فصاعدً ا جام ًعا بين‬
‫العقيدتين م ًعا في نظرية واحدة من الممكن أن ُيط َلق عليها االنعتاق المؤقت عن الجسد‬
‫‪ .Temporary disembodiment‬ترى هذه النظرية أنه بمجرد موتي يبدأ الجسد في‬
‫روحا ال جسد لها‪،‬‬ ‫التح ّلل والفساد‪ ،‬لكني أبقى موجو ًدا مد ًة ُم َس َّما ًة في حضرة ّ‬
‫الرب ً‬
‫من َث ّم في وقت ما في المستقبل يبث الله في جسدي قيامتَه‪ ،‬ليتّحد بروحي مرة أخرى‪،‬‬
‫و ُي َخ ِّلقني من جديد إنسانًا ً‬
‫كامل‪ .‬نظر عديد من الالهوتيين إلى هذا االنعتاق المؤ ّقت‬
‫للص التائب وهو على خشبة الصلب‪:‬‬ ‫على أنه مسلك بديع للتوفيق بين قول المسيح ّ‬
‫ُون َم ِعي فِي ا ْل ِف ْر َد ْو ِ‬
‫س» (لوقا ‪ ،)43 :23‬والفكرة البولس ّية‪ 12‬القائلة ّ‬
‫بأن‬ ‫«إِن ََّك ا ْل َي ْو َم َتك ُ‬
‫‪13‬‬
‫قيامة الجسد ال تكون إال في األيام األخيرة فحسب‪.‬‬
‫وتجاوزا لهذه المسألة‪ ،‬ال بد من التأكيد على أن البعث الجسماني يختلف اختال ًفا‬
‫ً‬
‫كبيرا عن القول بالخلود‪ ،‬وأوضح هذه االختالفات افتراض البعث الجسماني ــ خال ًفا‬
‫ً‬
‫للخلود ــ حيا ًة جسد ّية في اآلخرة‪ .‬وهناك اختالفان آخران نأتي عليهما؛ األول‪ :‬ليس‬

‫‪ 12‬نسبة إىل بولس الطرطويس املعروف لدى املسيحيني ببولس الرسول‪( .‬املرتجم)‬
‫‪ 13‬جتد بيانًا تقليد ًّيا لفكرة االنعتاق املؤقت لدي توما األكويني ‪Thomas Aquinas (1975) {1264}:‬‬
‫‪( .))4.79.11‬املؤلف)‬
‫‪145‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫الز ًما أن يتأسس البعث الجسماني على ثنائية العقل والجسد (على الرغم من كونه‬
‫أن مفهوم‬‫يتأسس على ذلك عادة كما رأينا)‪ ،‬إذ البعث الجسماني يقوم في أساسه على ّ‬
‫ُ‬
‫القول‬ ‫المادية التامة لإلنسان أمر ممكن إلى حد بعيد‪ 14.‬االختالف الثاني‪ :‬يفترض‬
‫بنظرية خلود األرواح النجا َة من الموت على أنه خاصية طبيعية لألرواح‪ ،‬بينما يؤكِّد‬
‫القول بالبعث الجسماني (على األقل في تمظهراته المسيحية) على أن الموت يعني‬
‫المعجز ما كان لحياة أن تكون بعد‬ ‫اإللهي ُ‬
‫ّ‬ ‫دائما‪ ،‬ولوال التدخل‬
‫إفناء اإلنسان إفنا ًء ً‬
‫هذا الموت والفناء الجسماني‪ .‬يعتبر المسيحيون قيامة يسوع المسيح المحدَّ دة صباح‬
‫يوم الفصح هي القيامة الجا ّدة أو «باكورة الراقدين»‪ ،‬فهو أول القائمين من بين جميع‬
‫مستقبلي آخر (القيامة العامة) (انظر‪ :‬الرسالة إلى أهل رومية‬
‫ّ‬ ‫كل بعث‬ ‫الناس وقبل ّ‬
‫‪ ،Romans 8:11‬الرسالة األولى إلى أهل كورنثوس ‪،I Corinthians 15:20، 23‬‬
‫الرسالة إلى أهل فيلبي ‪ ،Philippians 3:20–21‬الرسالة األولى إلى أهل تسالونيكي‬
‫‪ ، I Thessalonians 4:14‬رسالة يوحنا الرسول األولى ‪ .15)I John 3:2‬لذا فإن قدرة‬
‫المسيحيين على الدفاع عن إمكان القيامة العامة‪ ،‬وبالتأكيد على معقول ّيتها‪ ،‬يعتمد‬
‫في بعضه على قدرتهم الدفاع عن إمكان قيام السيد المسيح ومعقولية ذلك (انظر‪:‬‬
‫سوينبورن ‪ ،Swinburne 2003‬ونيكوالس توماس رايت ‪Nicholas Thomas Wright‬‬
‫‪)2002‬؛ ما يعني بالتأكيد أننا نتعامل مع مسألتين مهمتين لن نقدر على مناقشتهما في هذا‬
‫السياق؛ المسألة األولى‪ :‬الحجج الشبيهة بحجج هيوم ضد القابلية العقالنية لتصديق‬

‫أيضا اجلزئني الثاين والثالث من‬ ‫دافعت عن ذلك يف ديفيز ‪ ،Davis 1993: 110–131‬وانظر ً‬ ‫ُ‬ ‫‪ 14‬كام‬
‫الكتاب الذي حرره كيفني كوركوران ‪( .)Kevin Corcoran ed. (2001‬املؤلف)‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َان روح ا َّل ِذي َأ َقام يسوع ِمن َاألمو ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫ات َساكنًا فيك ُْم‪ ،‬فالذي‬ ‫َ َُ َ َ َْ‬ ‫«وإِ ْن ك َ ُ ُ‬ ‫‪ 15‬ورد يف العهد اجلديد (اإلنجيل)‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َأ َقام ا َْل ِس ِ‬
‫«ولك ِن‬ ‫َ‬ ‫‪،)11‬‬ ‫‪:8‬‬ ‫(رو‬ ‫»‬ ‫ُم‬
‫ْ‬ ‫ك‬ ‫ي‬ ‫ف‬ ‫ن‬ ‫ِ‬ ‫اك‬ ‫الس‬
‫َّ‬ ‫ه‬ ‫وح‬ ‫ر‬ ‫ِ‬
‫ْ ً ُ‬‫ب‬ ‫ا‬ ‫ض‬ ‫ي‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫َ‬
‫ة‬ ‫ت‬
‫َ‬ ‫ائ‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫ُم‬‫يح م َن األَ ْم َوات َس ُي ْح ِيي َأ ْ َ َ ُ‬
‫ك‬ ‫د‬ ‫ا‬ ‫س‬ ‫ج‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ان َأ ْي ًضا ِق َيا َم ُة‬ ‫ان‪ ،‬بِإِنْس ٍ‬
‫َ‬
‫ات وصار باكُور َة الر ِاق ِدين‪َ .‬فإِ َّنه إِ ِذ ا َْلو ُت بِإِنْس ٍ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ‬
‫اآلن َقدْ َقام ا َْل ِسيح ِمن األَمو ِ‬
‫ُ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫اح ٍد ِف ُر ْت َبتِ ِه‪:‬‬ ‫لكن ك َُّل و ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬
‫يع‪َ .‬و َّ‬ ‫الم ُ‬
‫يح سيحيا ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫يع‪ ،‬هك ََذا ِف ا َْلس ِ َ ُ ْ َ َ‬ ‫الم ُ‬
‫وت ْ ِ‬
‫األَ ْم َوات‪َ .‬أ َّن ُه ك ََم ِف آ َد َم َي ُم ُ َ‬
‫ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الس َم َوات‪،‬‬ ‫يح ِف َ ِميئه» (‪ 1‬كو ‪َ « ،)23-20 :15‬فإِ َّن س َري َتنَا ن َْح ُن ه َي ِف َّ‬ ‫ُورةٌ‪ُ ،‬ث َّم ا َّلذي َن ل ْل َمس ِ‬‫يح َباك َ‬ ‫ا َْلس ُ‬
‫ُون َع َل‬ ‫اض ِعنَا لِ َيك َ‬ ‫يح‪ .‬ا َّل ِذي َس ُي َغ ِّ ُي َشك َْل َج َس ِد ت ََو ُ‬ ‫وع ا َْلس ُ‬
‫ِ‬
‫الر ُّب َي ُس ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ا َّلتي من َْها َأ ْي ًضا َننْتَظ ُر ُم َ ِّل ًصا ُه َو َّ‬
‫ش ٍء» (يف ‪« ،)21-20 :3‬ألَ َّن ُه إِ ْن ُكنَّا‬ ‫ِ ِ ِ ِ‬
‫است َطا َعته َأ ْن ُيْض َع لنَ ْفسه ك َُّل َ ْ‬
‫ب َعم ِل ِ ِ ِ‬
‫ورة َج َسد َمْده‪ ،‬بِ َح َس ِ َ ْ‬
‫ِ ِِ‬ ‫ص ِ‬
‫ُ َ‬
‫هلل َأ ْي ًضا َم َع ُه» (‪ 1‬تس ‪َ « ،)14 :4‬أ ُّ َيا‬ ‫ض ُه ُم ا ُ‬ ‫ون بِيسوع‪ ،‬سيح ِ‬ ‫َ‬ ‫دُ‬ ‫ات و َقام‪َ ،‬فكَذلِ َك الر ِ‬
‫اق‬ ‫َ‬ ‫م‬ ‫وع‬ ‫س‬ ‫ي‬ ‫ن‬ ‫َّ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ن‬ ‫ن ُْؤ ِم‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُون‪َ .‬ولك ْن َن ْع َل ُم َأ َّن ُه إِ َذا ُأ ْظ ِه َر َنك ُ‬
‫ُون م ْث َل ُه‪ ،‬ألَ َّننَا‬ ‫اآلن ن َْح ُن َأ ْوالَ ُد اهللِ‪َ ،‬و َل ْ ُي ْظ َه ْر َب ْعدُ َما َذا َسنَك ُ‬ ‫األَح َّبا ُء‪َ ،‬‬ ‫ِ‬
‫َسن ََرا ُه ك ََم ُه َو» (‪ 1‬يو ‪( .)2 :3‬املرتجم)‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪146‬‬
‫المعجزات‪ ،‬أما المسألة الثانية فهي‪ :‬قلق دارسي النصوص المقدسة حيال أدلة العهد‬
‫الجديد حول قيامة يسوع‪ ،‬والتي يشكِّكون فيها‪.‬‬
‫من أهم االعتراضات ذات الشأن في مواجهة عقيدة البعث الجسماني‪ ،‬والذي ُأثير‬
‫مسيحي نح َبه هو‬
‫ٌّ‬ ‫منذ عهد آباء الكنيسة‪ ،16‬وال يزال ُيثار حتى اليوم هو‪ :‬ماذا لو قضى‬
‫كلت جسدَ ه مجموع ٌة متنوعة من المخلوقات البحرية‪ ،‬ومن َث َّم‬ ‫في عرض البحر‪َ ،‬فأ ْ‬
‫للرب أن ُي ِقيم جسدَ ه مرة ثانية؟‬
‫ِّ‬ ‫{لحمه وعظامه} بين األ ْب ُحر السبعة‪ ،‬كيف يمكن‬
‫ُ‬ ‫تناثر‬
‫التوسل بالطبيعة اإللهية‬
‫ُّ‬ ‫لم يقم اآلباء في خضم إجابتهم عن هذا السؤال إال بمجرد‬
‫{وقدرتها على ذلك}‪ .‬بالطبع ال يمكن إلنسان ما أن يقف بالتحديد على أجزاء هذا‬
‫الرب‬ ‫مثل)‪ً ،‬‬
‫فضل عن التوفيق فيما بينها مرة أخرى‪ ،‬لك ّن ّ‬ ‫(كذراته ً‬
‫ّ‬ ‫المسيحي‬
‫ّ‬ ‫الجسد‬
‫العليم بكل شيء‪ ،‬والقادر على كل شيء يستطيع ذلك‪ ،‬فطالما ّ‬
‫أن (‪ )1‬قطاعات المادة‬
‫مر الزمان (كما تفعل الذرات عادة بكل تأكيد)‪ ،‬و(‪)2‬‬
‫األساسية تستطيع الصمود على ّ‬
‫بما أن مهمة اإلله الوحيدة هي العثور على هذه األجزاء وجمعها‪ ،‬ومن ثم التوفيق فيما‬
‫حق‪ ،‬إذ ال يستعصي على من هو اإلله أن يقوم‬
‫بينها‪ ،‬فال شك أن آباء الكنيسة كانوا على ّ‬
‫بذلك‪.‬‬
‫ُيقدِّ ُم االعتراض الذي كنّا بصدده َف َرضية ها ّمة‪ ،‬فرضية كان آباء الكنيسة مستعدِّ ين‬
‫تمام االستعداد على تبنِّيها (خال ًفا للمدافعين اليوم عن البعث الجسماني)؛ وهو أن‬
‫الذرات أو األشياء‬
‫اإلقامة من الموت تتطلب أن يستخدم اإلل ُه نفس الما ّدة تما ًما‪ ،‬ونفس َّ‬
‫التي كان الجسد يتكون منها قبل الموت‪ .‬ومن أجل ذلك‪ ،‬فإن كان الرب يريد بعث‬
‫إنسان بعينه عاش حياته ثم داهمه الموت‪ ،‬فعليه أن يعثر على نفس المادة (أو بعضها‬
‫على األقل) التي كان يتكون منها هذا الشخص قبل الموت‪ ،‬ومن َث َّم يقوم على التوفيق‬
‫الشخص ذاتَه! ال يفترض كثير من المدافعين المعاصرين عن‬
‫َ‬ ‫بينها‪ ،‬وإال فلن يكون‬
‫َ‬
‫إمكان البعث بمادة جديدة‬ ‫أكثرهم‬
‫البعث الجسماني هذه الفرضية كما َّنوهنا‪ ،‬إذ يرى ُ‬
‫تما ًما ما دامت اص ُطنِ َع ْت وانتظمت على الطريقة القديمة؛ وبذلك يمكن اإلبقاء على‬
‫الهوية الشخصية للمبعوث دون مساس‪ .‬وبقدر ما يتعلق األمر بالهوية الشخصية‪ ،‬فما‬

‫‪ 16‬آباء الكنيسة مصطلح يطلق عىل جمموعة من الشخصيات املسيحية التي كان هلا أثر عظيم يف عقيدة‬
‫وتاريخ الديانة املسيحية‪ ،‬وال سيام يف قروهنا اخلمسة األوىل‪( .‬املرتجم)‬
‫‪147‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫يبدو أنهم ُم ِح ُّقون إلى حد بعيد‪ ،‬إذ من الممكن ّأل تكون نسخة طبق األصل فحسب‪،‬‬
‫لكنها قد تكون المبعوث بعينه {وإن اختلفت مادتُه}‪ .‬كل هذا ال ُي ْق ِصي إمكان أن يقوم‬
‫أيضا ( ُي َس َّمى غال ًبا نموذج إعادة الجمع {والتركيب}‬
‫الرب بالبعث على الطريقة اآلبائية ً‬
‫ُّ‬
‫‪ )the reassembly model‬ما دام قد اختار ذلك‪.‬‬
‫يقل شأنًا عن ِ‬
‫سابقه‪ ،‬بل ويعد‬ ‫اعتراضا آخر يواجه البعث الجسماني وال ّ‬
‫ً‬ ‫لكن هناك‬
‫أكثر جدِّ َّية منه ويقوم على النموذج اآلبائي للبعث‪ .‬عادة ما ُي ْط َرح بهذه الطريقة‪ :‬ماذا‬
‫مسيحي‪ ،‬فاختلطت ما ّد ُة الجسد‬
‫ّ‬ ‫إن قام أكل ُة لحوم البشر باالقتيات على لحم إنسان‬
‫المسيحي بأجسادهم؟ ولنفترض اآلن أن اإلله أراد إقامتهم جمي ًعا ــ المسيحي‪ ،‬وأكلة‬
‫أي واحد يمكن الت ََّح ُّصل على جزيئات‬
‫لحوم البشر ــ من الموت في وقت الحق‪ ،‬من ّ‬
‫جسد ّية‪ ،‬وعلى أي أساس يتخذ اإلله قراره؟‬
‫معيارا أو خطة يقدر من خاللها اتِّخاذ قرار ُي َحدِّ د‬
‫ال بد وأن يكون لإلله في خضم هذا األمر ً‬
‫تستقر فيها‪ .‬اقترح أوغسطين ‪1961) ({c.420}: LXXXVIII‬‬
‫ّ‬ ‫به األمكنة التي يمكن للمادة أن‬
‫نشوء الذرات في جسد هذا اإلنسان كما ظهرت فيه أول مرة‪ ،‬لكن اقترح آخرون ضرور ّية‬
‫المكونة لألجساد‪ ،‬وهامش ّية بعضها اآلخر‪ ،‬لذا إن أراد اإلل ُه إقامة جونز ــ‬
‫ِّ‬ ‫بعض األجزاء‬
‫على سبيل المثال ــ من الموت‪ ،‬فإنه يحتاج فقط إلى الوقوف على أماكن هذه الذرات التي‬
‫ُت َعدّ جوهر ّية ــ أو كانت كذلك ــ لجونز‪ ،‬بعد التأكُّد بالطبع أنها لم تنشأ (أو لم تظهر على‬
‫أنها من الذرات الجوهرية) في جسد شخص آخر‪ .‬ولربما يستعملها اإلل ُه كقطاعات بناء‬
‫أساس ّية‪ ،‬يمكنه اعتما ًدا عليها أن يعيد تكوين بق ّية جسد جونز من ذرات جديدة‪.‬‬
‫(‪)6‬‬
‫فلتسمحوا لي اآلن أن أقوم بإيضاح بعض المقترحات حول مشكلة الشر‪ ،‬وال سيما‬
‫في تع ُّلقها بالبعث الجسماني‪ .‬كما ّنوهنا قبل ذلك من أن كل ما ُيقال هنا يتعلق كذلك‬
‫بمسألة خلود الروح‪ .‬ولعلي اآلن أبدأ بنقطة هامة‪ :‬إنني أعتقد أنه ال يمكن بحال معالجة‬
‫مشكلة الشر بمعزل عن فرضيات الهوتية بعينها (تنبعث في رأسي فرضيات مسيحية‪،‬‬
‫فهم منها أنني أنكر إمكانية معالجة مشكلة الشر من‬
‫لكني ال أريد تفسيرها بصورة ُي َ‬
‫الخاصة)‪ .‬إن‬
‫ّ‬ ‫ارتكازا على منطلقاتهم الالهوتية‬
‫ً‬ ‫وجهة نظر أتباع الديانات األخرى؛‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪148‬‬
‫معظم ما يدور في رأسي من فرضيات تتعلق بالمسيح والمستقبل‪ 17.‬لذا‪ ،‬أوافق على‬
‫المريعة (تقوم على تعريفها‬‫أن الشرور ُ‬ ‫ما جاءت به ماريلين آدمز ‪ Marilyn Adams‬من ّ‬
‫بأنها الشرور التي تكون في غاية السوء؛ درجة تل ُّبس من يقاسيها بالشك‪ ،‬فال يدري‬
‫خيرا له أم ال) التي ال بد أن ُيتعا َمل معها ضمن نظرية العدالة اإللهية‬
‫إن كانت حياته ً‬
‫ٍ‬ ‫{الثيوديسيا}‪ ،‬إذ من الممكن أن َي ّ‬
‫ستغل اإلل ُه معانا َة اإلنسان لغاية ينتج عنها نهاي ًة ُ‬
‫خير‬
‫أي معالجة لمشكلة‬ ‫تتضمن ُّ‬
‫ّ‬ ‫اإلنسان األسمى في ُألفته مع الله‪ .‬من أجل ذلك‪ ،‬ال بد أن‬
‫الهدف النهائي للعا َلم {اإلسكاتون ‪ 18}Eschaton‬وبصورة حاسمة (انظر‪ :‬آدمز‬ ‫َ‬ ‫الشر‬
‫‪.)Adams 1999, 2006‬‬
‫إنني أرى أن لإلله غايات عظمى ثالث وراء إحداث الخلق؛ الغاية األولى‪ :‬أنه أراد‬
‫عالما يشتمل على أكبر توازن ممكن بين الخير األخالقي والطبيعي بصورة‬ ‫أن يخلق ً‬
‫يتغلبان فيها على الشر األخالقي والطبيعي‪ .‬أما الثانية‪ :‬أنه أراد تحقيق هذا األمر في‬
‫ّ‬
‫ظل عالم يتمتع فيه اإلنسان بحر ّية كامل ًة (ما يسميه الفالسفة‪ :‬المعنى الليبرالي للحرية‬
‫قادرا على قبول اإلله أو رفضه‪،‬‬
‫‪)libertarian sense of freedom‬؛ األمر الذي يجعله ً‬
‫وأن يطيعه أو أن يعصيه‪ ،‬أن يحبه أو أن يبغضه‪ .‬أما الغاية األخيرة فهي‪ :‬أنه يلزم عن‬
‫الغايتين {األولى والثانية} ما أراده الله من عالم يتمكن فيه أكبر عدد من البشر قبول اإلله‬
‫نظريات العدالة اإللهية القائلة بحرية‬
‫ُ‬ ‫بحرية غامرة‪ ،‬وسلوك سبيل الخالص إليه‪ .‬ترى‬
‫اإلرادة ــ متابع ًة ألوغسطين ــ اإلل َه بري ًئا من الشر األخالقي في العالم (على األقل ليس‬
‫مسئول عنه بصورة مباشرة)‪ ،‬إذ هذا النوع من الشر من اكتسابنا نحن البشر‪ .‬لكننا نجد‬ ‫ً‬
‫أنفسنا مضطرين مباشرة إلى القول بمسؤولية اإلله بصورة غير مباشرة عن هذا النوع من‬
‫الشر‬ ‫َ‬
‫اإلنسان ُح ًّرا بصورة تجعل َّ‬ ‫الشرور‪ ،‬فهو الخالق لهذا الوضع ك ِّله‪ ،‬وهو الذي خلق‬
‫األخالقي ممكنًا‪ .‬ويا أسفاه أن يكون الشر األخالقي نتيجة القرارات التي يقوم اإلنسان‬
‫باتِّخاذها معظم الوقت‪.‬‬

‫ً‬
‫اكتامل يف مسامهايت يف ديفيز ‪Davis‬‬ ‫‪ 17‬يمكن الوقوف عىل جهودي التي عىل هذا املنوال‪ ،‬وأراها أكثر‬
‫‪( .)(2001‬املؤلف)‬
‫‪ 18‬إسكاتون ‪ Eschaton‬كلمة يونانية معناها النهاية‪ ،‬أو اهلدف‪ ،‬أو اليشء األخري‪ ،‬لذا فإن كلمة إسكاتوجلي‬
‫معناها التعليم‪ ،‬أو الفكرة اخلاصة باألشياء‪ ،‬أو اهلدف النهائي للعامل‪( .‬املرتجم)‬
‫‪149‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫لنا أن نسأل بعد كل هذا‪ :‬لماذا يأتي الله بمخلوقات حرة أخالق ًّيا من األساس؟‬
‫بأن الخطة اإللهية‬ ‫كل هذ الشر الذي نراه محي ًطا بالعالم‪ ،‬أال يمكن القول ّ‬ ‫وباعتبار ّ‬
‫كل‬ ‫المرجوة}؟ ال أرى ذلك في الحقيقة‪ ،‬إذ أرى َّ‬ ‫تأت بثمارها‬‫الكبرى قد حبِ َط ْت‪{ ،‬ولم ِ‬
‫ّ‬
‫حرا‪ ،‬هذا إذا‬‫قرارا بجعل اإلنسان مخلو ًقا ًّ‬ ‫الحكمة في هذه السياسة اإللهية عند اتِّخاذها ً‬
‫نظرنا إلى نتائج ذلك على المدى الطويل (أي في الحياة اآلخرة)‪ .‬إن سلوك اإلنسان في‬
‫العالم سلوكًا يتّسم بالحرية‪ ،‬حتى وإن كان يرتكب بعض األخطاء من وقت إلى آخر‪،‬‬
‫ِ‬
‫مما لو ُخل ْقنا في صورة إنسان ّ‬
‫آلي‬ ‫أفضل بكثير ــ إذا ما اعتبرنا المدى الزمني البعيد ــ ّ‬
‫دائما‪ .‬إن الخير الناتج عن هذه السياسة اإللهية سوف‬ ‫ِ‬
‫بريئ؛ قد ُب ْرم َج على فعل الخير ً‬
‫يغلب الشر ويتفوق عليه في نهاية المطاف‪ ،‬إذ لم يكن لهذا التوازن العظيم والمالئم بين‬
‫وقت مستقبل ــ كما تمليه الخطة اإللهية الخ ِّيرة‬ ‫الخير والشر ورجحان كفة الخير في ٍ‬
‫الكبرى {إسكاتون ‪ }Eschaton‬ــ أن يكون تح ُّققه في اإلمكان إذا ما سلك اإلل ُه مسلكًا‬
‫ُم ِ‬
‫غاي ًرا‪ ،‬أو طري ًقا آخر ليس مرغو ًبا من جهة أخالقية‪.‬‬
‫خرج ٌة‬‫العالم أجمع‪ ،‬وأنها ُم ِ‬
‫َ‬ ‫يعتقد المسيحيون أن اإلرادة اإلله ّية ال تمكث إال وت ُع ّم‬
‫الرب بالمسيح وهو منصوب‬ ‫كل هذا الشر ال محالة‪ ،‬كما فعل ُّ‬ ‫الخير المطلق من رحم ّ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫عظيما‪َ « :‬فإ َّن ا ْل َمس َ‬
‫يح‬ ‫ً‬ ‫وخيرا‬
‫ً‬ ‫المريع خالصنَا‬ ‫على الصليب‪ ،‬إذ أخرج من رحم هذا الظلم ُ‬
‫الله» (‪ 1‬بط‬‫احدَ ًة ِمن َأج ِل ا ْل َخ َطايا‪ ،‬ا ْلبار ِمن َأج ِل األَ َثم ِة‪ ،‬لِكَي ي َقربنَا إِ َلى ِ‬
‫َأي ًضا ت ََأ َّلم مر ًة و ِ‬
‫ْ ُ ِّ َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ ُّ ْ ْ‬ ‫ْ ْ‬ ‫َ َ َّ َ‬ ‫ْ‬
‫يتمجد نهاية‬ ‫ّ‬ ‫أيضا أنه بالرغم من شرور هذه الحياة‪ ،‬إال أن الخير‬ ‫‪ .)18 :3‬إنهم يعتقدون ً‬
‫شك في ذلك‪ .‬كانت حادث ُة الصلب عالم ًة على الخزي والعار؛ درجة أن أصبح‬ ‫األمر ال ّ‬
‫ف‬‫الله‪ .‬ألَ َّن ُه َج َع َل ا َّل ِذي َل ْم َي ْع ِر ْ‬
‫رمزا مركزيا في اإليمان المسيحي‪ « :‬تَصا َلحوا مع ِ‬
‫َ ُ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫ًّ‬ ‫الصليب ً‬
‫كل‬‫الله فِ ِيه» (‪ 2‬كو ‪ .)21-20 :5‬إن الله أكثر قو ًة من ّ‬ ‫َخطِي ًة‪َ ،‬خطِي ًة ألَج ِلنَا‪ ،‬لِن َِصير نَحن بِر ِ‬
‫َ ْ ُ َّ‬ ‫َّ ْ‬ ‫َّ‬
‫شامل‪.‬‬‫ً‬ ‫انتصارا‬
‫ً‬ ‫هذه القوى؛ قوى اآلالم والشرور‪ ،‬فال يلبث في المآل إال أن ينتصر‬
‫شرورا مريعة؟ أريد‬
‫ً‬ ‫ماذا يمكن أن نقول إذن ألهل المعاناة‪ ،‬أو لهؤالء الذين يعانون‬
‫المصاب مقاساتها على‬ ‫تتضمن المعاناة‪ ،‬وانتظار ُ‬
‫ّ‬ ‫أن أقول هنا شيئين؛ ّأو ًل‪ :‬يمكن أن‬
‫دائما في‬
‫الدوام‪ ،‬نو ًعا من الحبور الروحي‪ .‬إنه مما ال شك فيه أن األلم ال يساعد الناس ً‬
‫االرتقاء إلى مستويات روحية وأخالقية جديدة‪ ،‬بل أحيانًا تتد َّمر ألجل ذلك شخصي ُة‬
‫صارت باع ًثا ّ‬
‫للرقي الروحي‬ ‫ْ‬ ‫اإلنسان‪ .‬ورغم ذلك يمكن أن ينتج عنها خير روحي إذا ما‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪150‬‬
‫والثقة الكاملة في اإلله‪ .‬عندما يعاني اإلنسان‪ ،‬فإنه غال ًبا ما يكون سريع التأثر‪َ ،‬ط ِّي ًعا‬
‫وقظ الذي يدفعنا‬ ‫للتغيير‪ ،‬ومن هنا يمكن أن تظهر المعاناة على أنها نوع من النداء الم ِ‬
‫ُ‬
‫‪19‬‬
‫روحي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫إلى ما نحتاجه من رقي‬
‫الخاصة‪ ،‬فهو يحبنا‪ ،‬ويهتم بأمرنا‪ .‬إنني أعتبر‬
‫ّ‬ ‫ثان ًيا‪ :‬ال يفارقنا الله أبدً ا في معاناتنا‬
‫هذا هو الدرس المستفاد من كلمات بولس الثائرة األثيرة في رسالته إلى أهل رومية‪:‬‬
‫ف‬ ‫َان الل ُه َم َعنَا‪َ ،‬ف َم ْن َع َل ْينَا؟ َا َّل ِذي َل ْم ُي ْش ِف ْق َع َلى ا ْبنِ ِه‪َ ،‬ب ْل َب َذ َل ُه ألَ ْج ِلنَا َأ ْج َم ِعي َن‪َ ،‬ك ْي َ‬‫«إِ ْن ك َ‬
‫الله؟ َالل ُه ُه َو ا َّل ِذي ُي َب ِّر ُر‪َ .‬م ْن‬ ‫َاري ِ‬ ‫َكي َع َلى ُم ْخت ِ‬ ‫الَ يهبنَا َأي ًضا معه ك َُّل َشي ٍء؟ من سي ْشت ِ‬
‫ْ َ ْ َ َ‬ ‫ََُ ْ ََُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‪َ ،‬ب ْل بِا ْل َح ِر ِّي َقا َم َأ ْي ًضا‪ ،‬ا َّلذي ُه َو َأ ْي ًضا َع ْن َيم ِ‬ ‫ِ‬
‫يح ُه َو ا َّلذي َم َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ين‬ ‫ُه َو ا َّلذي َيدي ُن؟ َا ْل َمس ُ‬
‫اضطِ َها ٌد‬ ‫يح؟ َأ ِشدَّ ٌة َأ ْم ِض ْي ٌق َأ ِم ْ‬ ‫الله‪ ،‬ا َّل ِذي َأ ْي ًضا َي ْش َف ُع فِينَا‪َ .‬م ْن َس َي ْف ِص ُلنَا َع ْن َم َح َّب ِة ا ْل َم ِس ِ‬‫ِ‬
‫ف؟» (رو ‪ .)31:35 :8‬يخلص بولس نهاي َة هذا اإلصحاح‬ ‫وع َأ ْم ُع ْر ٌي َأ ْم َخ َط ٌر َأ ْم َس ْي ٌ‬
‫َأ ْم ُج ٌ‬
‫إلى ملحوظة نافذة؛ أنه «الَ ُع ْل َّو َوالَ ُع ْم َق‪َ ،‬والَ َخ ِلي َق َة ُأ ْخ َرى‪َ ،‬ت ْق ِد ُر َأ ْن َت ْف ِص َلنَا َع ْن َم َح َّب ِة‬
‫جميع آالم‬ ‫َ‬ ‫النفي عام؛ يشمل‬ ‫ُ‬ ‫وع َر ِّبنَا» (رو ‪ ،)39 :8‬وهذا‬ ‫يح َي ُس َ‬ ‫الله ا َّلتِي فِي ا ْل َم ِس ِ‬
‫ِ‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومخاوفه‪ ،‬وتجاربه إزاء الشرور المريعة‪.‬‬
‫الطبيعي؟ باختصار‪ :‬يبدو بالنظر إلى غايات الله في الخلق‪،‬‬
‫ّ‬ ‫واآلن‪ ،‬ماذا عن الشر‬
‫خلق عالم منتظم؛ يجري وفق قوانينه الخاصة‪ .‬وبتعبير آخر‪ :‬عالم يتماسك‬ ‫أنه أراد َ‬
‫ُ‬
‫األحداث‬ ‫ُفسر‬
‫نظا ُمه‪ ،‬محكوم باألسباب والمس َّببات‪ .‬في عالم كهذا‪ ،‬يمكن أن تُفهم‪ ،‬وت َّ‬
‫الطبيعية من حيث المبدأ‪ ،‬بل ويمكن التن ّبؤ بها (وإن لم يكن ذلك على سبيل الدوام‬
‫شرا (من جهة‬
‫خيرا‪ ،‬وبعضها ًّ‬
‫بعض هذه األحداث ً‬‫في حقيقة األمر)‪ ،‬وال شك‪ ،‬ستكون ُ‬
‫تس ُّببها في معاناة إنسانية غير ُم ْست ََح َّقة)‪ .‬وباختصار مرة أخرى‪ :‬إنه لمن مصلحة اإلله‬
‫عالما كهذا تحدث فيه اآلال ُم‪ ،‬وتتأتَّى نتيجة أسباب طبيعية بعض األحيان؛ ما‬
‫أن يخلق ً‬
‫اإللهي في العالم ــ من أجل إقامة الخير أو إزالة الشر‬
‫ّ‬ ‫التدخ ُل‬
‫ُّ‬ ‫يلزم عن ذلك أن يكون‬
‫فسحا الطريق أمام العالم الطبيعي ليسلك‬
‫نادرا‪ .‬على اإلله إذن أن يبقى بعيدً ا‪ُ ،‬م ً‬
‫أمرا ً‬ ‫ــ ً‬
‫عالما فوضو ًّيا ال يمكن التن ّبؤ‬
‫وإل الضطرب نظام العالم‪ ،‬وألصبح ً‬ ‫مساره الخاص‪ّ ،‬‬‫َ‬
‫بأحداثه أبدً ا‪.‬‬

‫‪ 19‬علينا أن نعرتف أن شدة املعاناة ومدهتا تتجاوز أحيانًا احلد الذي يبدو الز ًما؛ وذلك حلمل الناس عىل‬
‫النضج الروحي واألخالقي‪( .‬املؤلف)‬
‫‪151‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫عالما ال يتألم فيه اإلنسان وال يعاني أبدً ا‪،‬‬


‫والستيعاب هذا األمر‪ :‬لك أن تتخيل ً‬
‫عالم تتمتع فيه التجربة اإلنسانية بالحبور الدائم‪ .‬عن عالم كهذا تنتج عواقب كارثية‬
‫يضمحل الشعور األخالقي أو ينعدم حيال‬ ‫ّ‬ ‫من وجهة نظر إله ّية‪ ،‬إذ مما يترتب عنه أن‬
‫الح ّس األخالقي يدور حول فكرة‬ ‫ما يحدث من خير أو شر؛ ذلك ألن قدرا كبيرا من ِ‬
‫ً‬ ‫ً‬
‫ِ‬
‫تجريم إيالم اآلخرين أو التسبب فيه‪ .‬في عالم كهذا‪َ ،‬يق ّل الشعور بعواقب اختياراتنا‬
‫وأفعالنا‪ ،‬ولن يكون لبذل التعاطف تجاه اآلخرين‪ ،‬أو مساعدتهم من معنى‪ ،‬ولن تصبح‬
‫الشجاعة أو البطولة ذات مغزى‪ .‬لن يكون ثمة سبب يدفع تجاه االرتقاء الروحي‪ ،‬أو‬
‫تهذيب النفس‪ ،‬ولن تتوق الروح إلى الكمال‪ ،‬ولن ترغب في عالم أفضل‪ ...‬لن يتأتّى‬
‫وأخيرا لن يكون لالرتقاء {الروحي}‬‫ً‬ ‫وجود سبب حسي؛ من أجله نحب اإلله ونطيعه‪.‬‬
‫عن طريق المعاناة من وجود‪ .‬نخلص من ذلك إلى أن خيرات بعينها ال يمكن لإلله‬
‫تحقيقها تما ًما‪ ،‬أو على نحو أفضل إال من خالل سماحه بالشر الطبيعي في العالم‪.‬‬
‫لمعترض أن يقول‪ :‬لماذا يجب أن يكون الشر الطبيعي ضرور ًّيا؟ أليس الشر‬
‫بعض الحقيقة في هذا‬ ‫قادرا على تحقيق الغاية اإللهية نفسها؟ تكمن ُ‬
‫األخالقي وحده ً‬
‫االعتراض‪ ،‬إذ للخير األخالقي أن يوجد في عالم ال وجود للشر الطبيعي فيه‪ ،‬أضف‬
‫إلى ذلك‪ :‬الشعور بمسؤوليتنا عن عواقب أفعالنا {من خير أو شر}‪ ،‬وأنه للشجاعة‬
‫وجدَ ا {دون حاجة إلى مزيد من الشرور}‪ .‬وجواب هذا االعتراض‬ ‫والتعاطف أن ُي َ‬
‫عالما كهذا؛ ال وجود فيه إال للشر األخالقي فحسب‪ ،‬ال يمكن له الوفاء‬ ‫إن ً‬ ‫كالتالي‪ّ :‬‬
‫بالغايات اإللهية في الخلق‪ ،‬فال يمكن لإلنسان تع ُّلم الدرس األخالقي والروحي‬
‫شر طبيع ًّيا‬
‫المطلوب في عالم ال يوجد الشر فيه إال بمعناه األخالقي‪ .‬وفي عالم {ال ّ‬
‫فيه} سيمضي اإلنسان حياته في اللوم؛ َل ْوم مرتكبي الشرور األخالقية‪ ،‬وفي السعي‬
‫ّ‬
‫سيضمحل توق اإلنسان في أن يرتقي أخالق ًّيا‪،‬‬ ‫سع ًيا حثي ًثا نحو االنتقام من هؤالء‪ ،‬كما‬
‫وفي أن يسلك نحو اإلله‪ً ،‬‬
‫فضل عن أن يتّحد به‪.‬‬
‫لله رغبات إذن يريد تحقيقها في العالم {الذي خلقه} كما أسلفنا‪ ،‬ومن أجل إشباعها‬
‫ال بد للعالم أن يخضع لمعايير بعينها؛ وهي‪ )1( :‬ال بد من أن يوجد فيه محيط يكون‬
‫والخيارات‬
‫ُ‬ ‫والعواقب األخالقي ُة طويل ُة األمد‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الرب منا‪،‬‬
‫ُّ‬ ‫اإللهي‪ ،‬وما يريده‬
‫ُّ‬ ‫الوجو ُد‬
‫ٍ‬
‫واضحة تما ًما بالنسبة إلينا‪ .‬على اإلله إذن أن يكون‬ ‫الديني ُة التي يتِّخذها اإلنسان‪َ ،‬‬
‫غير‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪152‬‬
‫َخ ِف ًّيا بعض الشيء‪ ،‬وال بد (أستعير مصطلح جون هيك ‪ John Hick‬هنا) من وجود نوع‬
‫المعرفي {اإلبستمولوجي} ‪ »epistemic distance‬بينه وبين اإلنسان‪)2( .‬‬‫ّ‬ ‫من «ال ُبعد‬
‫وأل يلزم عن وجوده مكافأة من يسلكون فيه وفق اإلرادة اإللهية مكافأة آن ّية‪ ،‬كما ال‬‫ّ‬
‫أيضا أن تكون محبة‬ ‫أيضا‪ )3( .‬وال بد ً‬
‫يلزم عنه معاقبة من يحيدون عن إرادته عقا ًبا آن ًّيا ً‬
‫ِ‬
‫اإلله ورحمته بهذا العالم ُع ْر َض ًة للقبول أو الرفض من ق َبل الناس جمي ًعا‪ ،‬وأن ُي َخ َّلى‬
‫بينهم وبين ذلك‪.‬‬
‫لهذا السبب‪ ،‬أرى آدمز( ‪ Adams (Adams 2006: 44–45‬مخطئ ًة في اتِّهامها‬
‫الكلي» ونظريات العدالة اإللهية لدى غير الكونيين {القائلين بالتصالح‬ ‫ّ‬ ‫«التوازن‬
‫صالحا‬ ‫الكوني} ‪ non-universalist‬بأنها متجاوز ٌة رغب َة اإلله في أن يكون ً‬
‫إلها‬ ‫‪20‬‬
‫ً‬
‫صالحا فحسب من جهة تقديمه‬ ‫ً‬ ‫للجميع‪ .‬أقر تما ًما بصالحية اإلله لكل أحد‪ ،‬لكني أراه‬
‫النعمة اإللهية والمغفرة للناس جمي ًعا دون استثناء‪ ،‬سواء في هذه الحياة أو نهاية‬
‫المطاف {اإلسكاتون ‪ .}Eschaton‬وال تقدر بعض العقائد المسيحية أن تقول الكثير‬
‫حول هذا األمر (الكفارة المحدودة ‪ limited atonement‬على سبيل المثال)‪.21‬‬
‫(‪)7‬‬
‫ترى العقيدة الكونية {التصالح الكوني} ‪ Universalism‬أنه ال وجود للجحيم‪ ،‬أو‬
‫األبدي‪ ،‬وتقول بأن الناس جمي ًعا عند الموت أو نهاية‬
‫ّ‬ ‫على األقل ال وجود للجحيم‬
‫األمر سيكونون في مع ّية الرب نفسه‪ ،‬وأنهم داخلون في ملكوته ال محالة‪ .‬دافع البعض‬
‫هذه النظرية دفا ًعا يتّسم بالمهارة العظيمة في السنوات األخيرة‪ ،‬وتبنّاها الهوت ّيون من‬
‫علي‬
‫أمثال جون هيك ‪ ،John Hick‬وماريلين آدمز ‪ ،Marilyn Adams‬وأعتقد أنه ّ‬
‫االعتراف بأن معالجة مشكلة الشر من وجهة نظر العقيدة الكونية أيسر وأقرب من‬
‫غيرها إذا ما اعتنقناها‪.‬‬

‫‪ 20‬الكونية أو التصالح الكوين ‪ Universalism‬يف الالهوت املسيحي مفهوم يعني أن األرواح اخلاطئة‬
‫واملرصوفة عن الرمحة اإلهلية سوف تتصالح هناية مع اإلله لتعم الرمحة مجيع اخللق هناية املطاف‪.‬‬
‫(املرتجم)‬
‫‪ 21‬يرى البعض أن كفارة يسوع املسيح ال هنائية؛ تشمل الناس مجي ًعا‪ ،‬بينام يرى البعض أهنا حمدودة؛ ال‬
‫تشمل إال هؤالء الذين آمنوا به وقبلوه‪( .‬املرتجم)‬
‫‪153‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫لكني ال أعتقد أننا بحاجة إلى الكونية في معالجة مشكلة الشر‪ ،‬بل وال أرى أنه‬
‫ما من سبب َوجيه يدفعنا إلى القول بأن جميع الناس معتنقون الحب ومطيعون الرب‬
‫أشخاصا مثل هتلر أو الشيطان (وعدد آخر ال‬ ‫ً‬ ‫بإرادة حرة نهاية األمر‪ .‬ضع في الحسبان‬
‫بتصور إمكانية أن يفعلوا ذلك وهم‬
‫ّ‬ ‫حصى من ُم ْب ِغضي اإلله)‪ .‬إذا كان التساؤل متع ِّل ًقا‬
‫ُي َ‬
‫يتمتعون بإرادة حرة‪ ،‬فأفترض اإلجابة بـ«نعم»‪ ،‬أما إن كان متعل ًقا بكونهم سيخضعون‬
‫فعل‪ ،‬ويقبلون مغفرته لخطاياهم {بإرادة حرة}‪ ،‬فأعتقد أن اإلجابة «ال»‪ .‬كم‬ ‫للرب ً‬
‫أجد من صعوبة بالغة في قبول فكرة أن يعترف هؤالء بكل سرور بكونهم «عصاةً» أو‬
‫«مجرمين»‪ ،‬وأنهم في حاجة إلى أي نوع من المغفرة والفداء في الحياة اآلخرة‪ ،‬بل أظن‬
‫أنهم {في وضع كهذا} سينغمسون في مقت اإلله حتى النهاية‪.‬‬
‫إجبار الجميع على الطاعة وأن يفرضها‬ ‫َ‬ ‫بالتأكيد‪ ،‬يستطيع اإلله في الحياة اآلخرة‬
‫كل أحد الجنة‪ ،‬لك َّن الثقة في الله ومحبته ال َيظهران على أنهما‬ ‫عليهم‪ ،‬ومن ثم ُيدْ ِخل َّ‬
‫من هذا النوع الذي يستسيغ اإلجبار‪ .‬لذا‪ْ ،‬‬
‫إن أدام اإلله احترامه لليبرالية اإلنسان وحريته‬
‫ألن البعض سيستمر في رفضه‬ ‫في الحياة اآلخرة؛ ستبدو الكوني ُة نظر ّي ًة غير مقبولة‪ّ ،‬‬
‫اإلل َه إلى األبد‪.‬‬
‫تصيب العقيد ُة الكونية المسيحيين بنوع من القلق‪ ،‬ألنها تقلب المفهوم المسيحي‬
‫للنعمة اإللهية كما يظهر منها‪ .‬ال شك‪ ،‬يمكن للقائلين بالتصالح الكوني أن يؤمنوا‬
‫المنعم‪ ،‬ألنه يعطينا الحياة‪ ،‬ويعتني بأمرنا‪ ،‬على‬ ‫بمفهوم النعمة؛ بمعنى أن الرب هو ُ‬
‫الرغم من تهافت وجودنا بجانب وجوده العظيم‪ .‬لك ّن جوهر القول بالنعمة هو حقيقة‬
‫نستحق اإلدانة‪ ،‬ومع ذلك يغفر الرب لنا و ُيخ ِّلصنا بدافع من المحبة‪ .‬لذا‪ ،‬ما دام‬
‫ّ‬ ‫أننا‬
‫فإن مشكل ًة ت ّ‬
‫ُطل علينا‬ ‫خالصنا متع ِّل ًقا بمفهوم النعمة فحسب كما يصر المسيحيون‪ّ ،‬‬
‫صالحا‬
‫ً‬ ‫هنا‪ :‬إذا كان وجود الجحيم ال يتماشى ووجود محبة الرب وإرادته أن يكون‬
‫للناس جمي ًعا ــ كما يصر الكونيون ــ فإنه على هذا األساس‪ ،‬ال يعود خالصنا‪ ،‬أعني‬
‫إنقاذنا من الجحيم‪ ،‬متعل ًقا بموضوع النعمة‪ ،‬بل سيتعلق ــ ً‬
‫بدل من ذلك ــ بالسعي نحو‬
‫ً ‪22‬‬
‫تحريرنا من عقوبة ال نستحقها أصل‪.‬‬

‫‪ 22‬جتد اعرتاضايت كاملة عىل نظرية الكونية‪ /‬التصالح الكوين يف ديفيز )‪ ،Davis (2001: 60-62‬ويف‬
‫ديفيز )‪( .Davis (2010‬املؤلف)‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪154‬‬
‫فلنأت إلى فكرة الثقة مرة أخرى‪ :‬ليس االختالف بين المؤمنين وغير والمومنين في‬ ‫ِ‬
‫غيرهم‪ ،‬لكن هناك اختال ًفا آخر‬ ‫كون المسيحيين يؤمنون ببعض العقائد التي ال يؤمن بها ُ‬
‫الرب عن‬ ‫حسما؛ وهو أن المؤمنين يثقون في اإلله ثقة مطلقة‪ ،‬إذ يعتقدون بإجابة ّ‬ ‫ً‬ ‫أكثر‬
‫أسئلة عديدة يستعصي ح ّلها اآلن فيما يبدو‪ ،‬كما يؤمنون بامتالك الرب أسبا ًبا وجيهة‬
‫دائما معرفة هذه‬ ‫إذ سمح للوجود الشرير أن يسلك في العالم‪ .‬ال يدّ عي المسيحيون ً‬
‫رغما عن أي شيء‪.‬‬ ‫األسباب‪ ،‬لكنهم يثقون في الرب ً‬
‫اج َبة (‪1‬‬ ‫الح ِ‬
‫يتعالى اإلله علينا أن نعرفه تما ًما‪ ،‬هذا باإلضافة إلى حدودنا المعرفية َ‬
‫كو ‪ 23.)12 :13‬وبالتالي‪ ،‬علينا أن نتو ّقع ــ بطبيعة الحال ــ وجو َد شرور في العالم ال‬
‫أيضا ال نستطيع إدراكها‬ ‫الرب يستطيع‪ ،‬ووجود خيرات عظيمة ً‬ ‫نستطيع تفسيرها‪ ،‬لكن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫وإن كان الرب يدركها‪ُ .‬ي َس ِّبح بولس‪َ « :‬يا َل ُع ْم ِق غنَى الله َوحك َْمته َوع ْلمه! َما َأ ْب َعدَ‬
‫ص و ُطر َقه ع ِن االستِ ْقص ِ‬
‫اء!» (رو ‪ .)33 :11‬لذا‪ ،‬فالحقيقة تقول إن‬ ‫ْ َ‬ ‫َأ ْحكَا َم ُه َع ِن ا ْل َف ْح ِ َ ُ ُ َ‬
‫الثيوديسيا ممتلئة باأللغاز والحقائق التي تتجاوز نطاق إدراكنا‪ .‬وليست هذه محاولة‬
‫صاحب الرمق األخير؛ تجني ًبا المسيحية النقدَ ‪ ،‬لكنها باألحرى الطريق الذي ينقاد فيه‬
‫الالهوتي‪ ،‬و ُمنْت ََهى ُمدْ َركَاته‪.‬‬
‫عقدي لدى المسيحيين‪ ،‬ورغم اكتناف الصعوبة‬ ‫ّ‬ ‫مصدر قلق‬
‫َ‬ ‫ورغم بقاء مشكلة الشر‬
‫ُ‬
‫اإليمان به‪ ،‬إذ يمكن تعطيلها عن طريق‬ ‫إ ّياها‪ ،‬إال أنها ال تشكل ما يمكن أن ُيدْ َحض‬
‫اعتراضا عقل ًّيا مفز ًعا ضد المسيحية‪ .‬يستخدم اإلله بعض الشر‬‫ً‬ ‫القول بأنها ال تمثل إال‬
‫خيرا كُل ًّيا في ملكوت‬
‫خيرا أرض ًيا أعظم‪ ،‬أو ً‬
‫توصل به إلى خير أعظم (سواء أكان ً‬ ‫طري ًقا ُي َّ‬
‫الله)‪ ،‬وعلى كل الشرور أن تندحر و ُيت َعالى عليها إذا ما تح َّققت الغايات اإللهية في‬
‫ولم ْف ِد ِّيي ملكوت الرب أن تُمسح عنهم دمو ُعهم‬ ‫النهاية {اإلسكاتون ‪َ .}Eschaton‬‬
‫جمي ًعا‪ ،‬وأن تُش َفى جميع أمراضهم‪ ،‬وأن يتوب عن جرائمهم ويغفرها لهم جمي ًعا‪ ،‬وأن‬
‫المظالم‪ .‬ال يبقى سؤال وإال و ُيجاب عنه‪ ،‬وال عالقة تح َّطمت إال و ُيصلحها‪،‬‬‫ُ‬ ‫ت ُْستَر ّد لهم‬
‫َخ َّلص منها‪.‬‬
‫وال معاناة قائمة إال و ُيت َ‬

‫لك ْن ِحين َِئ ٍذ‬


‫ف بع َض ا َْلع ِر َف ِة‪ِ ،‬‬
‫ْ‬ ‫لك ْن ِحين َِئ ٍذ َو ْج ًها لِ َو ْج ٍه‪َ .‬‬
‫اآلن َأ ْع ِر ُ َ ْ‬
‫اآلن ِف ِمر ٍآة‪ِ ،‬ف ُل ْغ ٍز‪ِ ،‬‬
‫ْ‬ ‫‪َ « 23‬فإِ َّننَا َننْ ُظ ُر َ‬
‫ف ك ََم ُع ِر ْف ُت» (‪ 1‬كو ‪( .)12 :13‬املرتجم)‬ ‫َس َأ ْع ِر ُ‬
‫‪155‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫ليست الثقة بالرب ثقة عمياء؛ إن ثق َة المسيحيين في إلههم ثق ٌة نابعة عن تجاربهم‬


‫الخاصة (وتجارب مجتمعهم)‪ ،‬ثقة تنامت بالمعرفة؛ معرفتهم هداية الرب‪ ،‬وحمايته‪،‬‬
‫ومغفرته‪ .‬إن كلًّ من إرميا‪ ،‬وأيوب‪ ،‬ويسوع شخصيات إنجيلية‪ ،‬قد اختبروا في حيواتهم‬
‫مصاعب عنيفة‪ ،‬بل ولم َيسلموا من صنوف العذابات‪ .‬جا َب َه ُّ‬
‫كل واحد منهم اإلل َه بأسئلة‬
‫أيضا أن نفعل ذلك)‪ ،‬لكن اعترتهم السكين ُة نهاية‬ ‫خضم المحنة (ولنا ً‬
‫ّ‬ ‫قاسية وهو في‬
‫األمر حيال قضاياهم الخاصة‪ ،‬ووثقوا في الرب‪{ ،‬وأسلموا قيادهم إليه}‪( .‬انظر‪:‬‬
‫أيوب ‪ ،6-1 :42 ،21 :1‬مراثي إرميا ‪ ،26-21 :3‬إنجيل لوقا ‪ .24)46 :23 ،42 :22‬يختار‬
‫الخاص من هؤالء‪.‬‬
‫ّ‬ ‫المسيحيون أن يحظوا بنصيبهم‬
‫إنني أعتقد في معاناة اإلنسان أنها قد تساعد في إيصال اإلنسان إلى الحبور والسالم‬
‫هنا واآلن (ولعلها بالطبع ال تفعل ذلك كل حين)‪ .‬إنه بعد هذا الحدث المجيد والملهم‬
‫«التج ِّلي ‪ ،»Transfiguration‬أعلن يسوع إعالنًا صاد ًما‬ ‫َ‬ ‫الذي يسميه المسيحيون‬
‫الشيوخِ ورؤس ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫لتالميذه‪َ « :‬ق ِائ ًل‪ :‬إِ َّنه ينْب ِغي َأ َّن ابن ِ ِ‬
‫اء‬ ‫َُ َ َ‬ ‫اإلن َْسان َيت ََأ َّل ُم كَث ًيرا‪َ ،‬و ُي ْر َف ُض م َن ُّ ُ‬ ‫ْ َ‬ ‫ُ َ َ‬
‫أيضا ــ مثل‬ ‫ا ْلك ََهن َِة َوا ْل َك َت َب ِة‪َ ،‬و ُي ْقت َُل‪َ ،‬وفي ا ْل َي ْو ِم ال َّثالث َي ُقو ُم» (لو ‪ .)22 :9‬ولعله علينا ً‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الرب‪ ،‬ولعلنا نرى في‬ ‫يسوع ــ أن نعاني (بعضنا بصورة مريعة)‪ ،‬ونحن في طريقنا إلى ّ‬
‫اإللهي‪.‬‬
‫ّ‬ ‫يوم من األيام كيف كان كل شيء في حيواتنا جز ًءا من رحلتنا تجاه الحضور‬
‫وال يسعني اآلن إال أن أقول ما ذكرتُه آن ًفا‪ :‬إن المسأل َة برمتها مسأل ُة ثقة في الله‪.‬‬
‫تنطوي الثقة عاد ًة على ِص َفتَي التأنِّي واالنتظار كما ورد في (مراثي إرميا)‪ُ « :‬أ َر ِّد ُد‬

‫ُن‬ ‫الر ُّب َأ َخ َذ‪َ ،‬ف ْل َيك ِ‬ ‫الر ُّب َأ ْع َطى َو َّ‬ ‫َاك‪َّ .‬‬ ‫«و َق َال‪ُ :‬ع ْر َيانًا َخ َر ْج ُت ِم ْن َب ْط ِن ُأ ِّمي‪َ ،‬و ُع ْر َيانًا َأ ُعو ُد إِ َل ُهن َ‬ ‫‪َ 24‬‬
‫اسم الرب مباركًا» (أي ‪َ « ،)1 :21‬ف َأجاب َأيوب الرب َف َق َال‪َ :‬قدْ ع ِلمت َأن ََّك تَستَطِيع ك َُّل َشء‪ٍ،‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ ْ ُ‬ ‫َ َ ُّ ُ َّ َّ‬ ‫ْ ُ َّ ِّ ُ َ َ‬
‫لكنِّي َقدْ َن َط ْق ُت بِم َل َأ ْفهم‪ .‬بِعج ِ‬ ‫ال مع ِر َف ٍة؟ و ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬
‫ب‬ ‫ائ‬
‫َ ْ َ ْ َ َ َ‬ ‫َ‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫ب‬ ‫ء‬‫ا‬‫ض‬
‫َ َ‬ ‫َ‬
‫ق‬ ‫ْ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ي‬ ‫ْف‬ ‫ي‬ ‫ُ‬ ‫ي‬ ‫ذ‬ ‫َّ‬
‫ل‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫َ‬
‫ذ‬ ‫س َع َل ْي َ ْ ٌ َ ْ‬
‫ن‬ ‫م‬ ‫ف‬‫َ‬ ‫‪.‬‬ ‫ر‬ ‫م‬ ‫أ‬ ‫ك‬ ‫َوالَ َي ْع ُ ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلن َو َأنَا َأ َت َك َّل ُم‪َ .‬أ ْس َأ ُل َك َف ُت َع ِّل ُمني‪ .‬بِ َس ْم ِع األُ ُذن َقدْ َسم ْع ُت َعن َْك‪َ ،‬و َ‬
‫اآلن‬ ‫َف ْو ِقي َل ْ َأ ْعر ْف َها‪ .‬ا ْس َم ِع َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫هذا ِف َق ْلبِي‪ِ ،‬م ْن َأ ْج ِل‬ ‫اد» (أي ‪ُ « ،)6-1 :42‬أ َر ِّد ُد َ‬ ‫اب والرم ِ‬
‫الت ِ َ َّ َ‬ ‫ْك َع ْيني‪ .‬لذل َك َأ ْر ُف ُض َو َأنْدَ ُم ِف ُّ َ‬
‫ر َأت َ ِ ِ ِ‬
‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َ‬ ‫ِ‬
‫اح‪ .‬كَث َري ٌة‬ ‫اح ُه ال ت َُزول‪ .‬ه َي َجديدَ ٌة ف كُل َص َب ٍ‬ ‫الر ِّب أ َّننَا ل ْ َنف َن‪ ،‬ألن َم َر َ‬ ‫ذل َك أ ْر ُجو‪ :‬إ َّن ُه م ْن إ ْح َسانَات َّ‬
‫س‬ ‫ت َّج ْو َن ُه‪ ،‬لِلنَّ ْف ِ‬
‫الر ُّب لِ َّل ِذي َن َي ََ‬ ‫و‬ ‫ه‬ ‫ب‬ ‫ي‬
‫ْ ُ ُ ِّ ٌ ُ َ َّ‬‫ط‬‫َ‬ ‫‪.‬‬‫ه‬‫و‬‫ج‬ ‫ر‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ك‬ ‫َ‬ ‫َأما َنت َُك‪ .‬ن َِصيبِي هو الرب‪َ ،‬قا َل ْت َن ْف ِس‪ِ ،‬من َأج ِل ذلِ‬
‫ْ ْ‬ ‫ُ َ َّ ُّ‬ ‫َ‬
‫الر ِّب» (مرا ‪َ « ،)26-21 :3‬ق ِائ ًل‪َ :‬يا َأ َبتَا ُه‪،‬‬ ‫َ َّ‬ ‫َص‬ ‫ال‬ ‫خ‬ ‫َ‬ ‫ُوت‬‫ان ويتَو َّقع بِسك ٍ‬
‫َ ََ َ َ ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْس‬‫ن‬ ‫اإل‬‫ِ‬ ‫ر‬‫َ َ‬
‫ا َّلتِي َت ْط ُلبه‪ .‬جيدٌ َأ ْن ينْتَظِ‬
‫ُ ُ َ ِّ‬
‫وع‬‫«ونَا َدى َي ُس ُ‬ ‫ُك» (لو ‪َ ،)42 :22‬‬ ‫لك ْن لِ َت ُك ْن الَ إِ َرا َد ِت َب ْل إِ َرا َدت َ‬ ‫هذ ِه ا ْلك َْأس‪ .‬و ِ‬
‫َ َ‬
‫ت َيز َعنِّي ِ‬ ‫إِ ْن ِش ْئ َت َأ ْن ُ ِ‬
‫وح» (لو ‪.)46 :23‬‬ ‫الر َ‬ ‫هذا َأ ْس َل َم ُّ‬ ‫ت َعظِي ٍم َو َق َال‪َ :‬يا َأ َبتَا ُه‪ِ ،‬ف َيدَ ْي َك َأ ْست َْود ُع ُروحي‪َ ،‬و ََّلا َق َال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫بِصو ٍ‬
‫َ ْ‬
‫(املرتجم)‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪156‬‬
‫اح َم ُه الَ‬ ‫َات الرب َأ َّننَا َلم َن ْفن‪ ،‬ألَ َّن مر ِ‬ ‫هذا فِي َق ْلبِي‪ِ ،‬من َأج ِل ذلِ َك َأرجو‪ :‬إِ َّنه ِمن إِحسان ِ‬ ‫َ‬
‫ََ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ ِّ‬ ‫ُ ْ ْ َ‬ ‫ْ ُ‬ ‫ْ ْ‬
‫الر ُّب‪َ ،‬قا َل ْت َن ْف ِسي‪ِ ،‬م ْن َأ ْج ِل‬ ‫ِ‬
‫اح‪ .‬كَث َير ٌة َأ َما َنت َُك‪ .‬نَصيبِي ُه َو َّ‬
‫ول‪ِ .‬هي ج ِديدَ ٌة فِي ك ُِّل صب ٍ ِ‬
‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫ت َُز ُ‬
‫ان‬‫اإلن َْس ُ‬ ‫س ا َّلتِي َت ْط ُل ُب ُه‪َ .‬ج ِّيدٌ َأ ْن َينْتَظِ َر ِ‬ ‫الر ُّب لِ َّل ِذي َن َيت ََر َّج ْو َن ُه‪ ،‬لِلنَّ ْف ِ‬
‫ب ُه َو َّ‬ ‫ذل َك َأ ْر ُجو ُه‪َ .‬ط ِّي ٌ‬
‫ِ‬
‫الر ِّب‪َ .‬ج ِّيدٌ لِ َّلر ُج ِل َأ ْن َي ْح ِم َل الن َِّير فِي ِص َبا ُه‪َ .‬ي ْج ِل ُس َو ْحدَ ُه‬ ‫َص َّ‬
‫ٍ‬
‫َو َيت ََو َّق َع بِ ُسكُوت َخال َ‬
‫وجدُ َر َجا ٌء‪ُ .‬ي ْعطِي َخدَّ ُه‬ ‫اب َف َم ُه َل َع َّل ُه ُي َ‬ ‫ُت‪ ،‬ألَ َّن ُه َقدْ َو َض َع ُه َع َل ْي ِه‪َ .‬ي ْج َع ُل فِي الت َُّر ِ‬ ‫َو َي ْسك ُ‬
‫ب َك ْث َر ِة‬ ‫ِ‬
‫الس ِّيدَ الَ َي ْر ُف ُض إِ َلى األَ َبد‪َ .‬فإِ َّن ُه َو َل ْو َأ ْح َز َن َي ْر َح ُم َح َس َ‬ ‫اربِه‪َ .‬ي ْش َب ُع َع ًارا‪ .‬ألَ َّن َّ‬
‫لِ َض ِ ِ‬
‫اإل ْخ َو ُة‬‫أيضا في (رسالة يعقوب)‪َ « :‬فت ََأن َّْوا َأ ُّي َها ِ‬ ‫اح ِم ِه» (مرا ‪ ،)33-21 :3‬وكما جاء ً‬ ‫مر ِ‬
‫ََ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ض ال َّثمي َن‪ُ ،‬مت ََأ ِّن ًيا َع َل ْيه َحتَّى َين ََال ا ْل َم َط َر‬ ‫الر ِّب‪ُ .‬ه َو َذا ا ْل َفال َُح َينْتَظ ُر َث َم َر األَ ْر ِ‬ ‫إِ َلى َمجيء َّ‬
‫الر ِّب َق ِد ا ْقت ََر َب» (يع ‪.)8-7 :5‬‬ ‫ِ‬
‫ا ْل ُم َبك َِّر َوا ْل ُمت ََأ ِّخ َر‪َ .‬فت ََأن َّْوا َأ ْنت ُْم َو َث ِّبتُوا ُق ُلو َبك ُْم‪ ،‬ألَ َّن َمجي َء َّ‬
‫إن االدعاء األساس للمقاربة التي أقول بها حول مشكلة الشر إذن هو أن الرب‬
‫يصرف الشر كله ال محالة؛ وذلك في سلوكه طريقين‪ )1( :‬استخدام بعض الشر في‬
‫ّ‬
‫يحتل ملكوت الرب‪ )2( .‬اندحار الشر كله‪ ،‬وتخ ِّطيه‪،‬‬ ‫التخلص منه إلى خير أعظم‬
‫يتكشف هناك في‬ ‫واستحالته إلى حضور شاحب في مواجهة نور الخير المطلق الذي َّ‬
‫مملكة الرب‪.‬‬
‫(‪)8‬‬
‫هل لنا أن نعالج الشر بأي معنى يكون فيه نقطة انطالق نحو الرجاء؟ أم أنه ال مكان‬
‫على اإلطالق أن نأمل في عالم ال بد أن تتكاثر الشرور فيه‪ ،‬وأن تحدث فيه شرور‬
‫الرب موجو ًدا‬
‫ُّ‬ ‫مريعة؟‪ 25‬أجيب عن ذلك بأن رجاءنا في ذلك شبه منقطع إذا لم يكن‬
‫على وجه التأكيد‪ ،‬فإذا ما كان هناك ثمة خالق‪ ،‬أو قوة أعلى؛ كاإليمان باإلله الواحد‪،‬‬
‫فإن رجاءنا الوحيد الذي يمكن الحصول عليه في ضوء الشر سيكون واه ًيا‪ .‬إنه الرجاء‬
‫في أن نكون قادرين يو ًما ما على إنشاء أنظمتنا التعليمية‪ ،‬واالجتماعية‪ ،‬والسياسية‪،‬‬
‫الشرور المريع ُة‪ ،‬وتقع فيها الشرور بصورة محدودة‪.‬‬
‫ُ‬ ‫والدبلوماسية‪ ،‬بطريقة تختفي معها‬
‫أيضا‪ ،‬فإنه ينبغي‬‫وما دامت الشرور المريعة تحدث عن تقلبات العالم الطبيعي وأحواله ً‬

‫أتم يف ديفيز ‪Davis (2009: Chapter‬‬


‫‪ 25‬تطورت أفكاري حول هذا القسم من هذه الورقة بصورة ّ‬
‫)‪( .12‬املؤلف)‬
‫‪157‬‬ ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫يتضمن تقد ًما طب ًّيا‪ ،‬وعلم ًّيا‪ ،‬وتكنولوج ًّيا غير محدود؛ نقدر به‬
‫ّ‬ ‫أيضا أن‬
‫على هذا الرجاء ً‬
‫أن نسيطر على الطبيعة‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك‪ ،‬إذا افترضنا عدم الوجود اإللهي‪ ،‬فإن أفضل ما يمكننا رجاؤه‬
‫عالم يخلو من الشرور المريعة‪ ،‬ويحتوي على أقل قدر ممكن من الشرور‪ .‬ولربما‬
‫يرى الشخص الذي يؤمن بالتقدم اإلنساني المحتوم هذا الرجا َء في العالم ممكنًا‪ .‬أما‬
‫قائل بأنه يمكننا بكل تأكيد أن نأمل‬‫من كان مثلي وال يرى هذا الرأي‪ ،‬فإنه سيجيب ً‬
‫القار ّي‬
‫االنجراف ِّ‬
‫ُ‬ ‫في عالم كهذا‪ ،‬لكنه سيكون شي ًئا أشبه ما يكون برجاء أن يتوقف‬
‫‪ .26Continental drift‬إنه وبكل تأكيد‪ ،‬إذا لم يكن اإلله موجو ًدا‪ ،‬فإنه لن يكون هناك‬
‫الخاطر‪ ،‬أو حتى في إسعاد هؤالء الذين قاسوا‬
‫ُ‬ ‫ثمة أمل أو رجاء ألي محاولة ُي ْج َب ُر بها‬
‫شرورا مريعة وماتوا ما داموا قد رحلوا عنا إلى األبد‪ .‬ال يكون هذا النوع من الرجاء‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫معقول إال إذا كان اإلله موجو ًدا‪ .‬فلنتصور إنسانًا يقول بانعدام الوجود اإللهي‪ ،‬ويقارب‬
‫الطبيعة البشرية (أو الطبيعة نفسها) بطريقة ال يمكن معها استبعاد وقوع الشر المريع‬
‫فيها‪ ...‬حسنًا‪ ،‬ما يبدو لي أن هذه الطريقة في الفهم ال تؤ ّدي إال إلى اليأس‪.‬‬
‫والسؤال هنا‪ :‬هل في اإلمكان افتداء الشر بجميع أنواعه‪ ،‬حتى وإن كان من النوع‬
‫المريع؟ تعتمد اإلجابة عن هذا السؤال في جزء كبير منها على ما نعنيه بكلمة الفداء هنا‪.‬‬
‫إذا كان «افتداء الشر ‪ »Redeeming evil‬يعني استعادة الظروف بطريقة ال يقع فيها أي‬
‫الشر العادي أو من النوع المريع (على سبيل‬ ‫ُ‬
‫الحدث من نوع ّ‬ ‫حدث شرير‪ ،‬سواء كان‬
‫المثال‪ :‬االستعباد األفريقي‪ ،‬أو الهولوكوست)‪ ،‬فمن المؤكّد أنه ال يمكن افتداء الشر‬
‫بهذا المعنى أبدً ا‪ .‬اعتمدنا في انتهائنا إلى هذه النتيجة على مبدأ ميتافيزيقي يقول بثبات‬
‫الماضي‪ ،‬وانعدام خضوعه ألي نوع من التغيير‪ .‬لقد فات ُ‬
‫أوان تغيير الماضي بأحداثه‬
‫ألي أحد حتى وإن كان اإلله نفسه‪ .‬وال يمكن كذلك أن يكون لمفهوم «افتداء الشر»‬
‫عالقة في أن نفهم أحدا ًثا كاالستبعاد األفريقي أو الهولوكوست في يوم من األيام على‬
‫المدى البعيد على أنها كانت أحدا ًثا خ ِّيرة في حقيقتها‪ .‬بالتأكيد يمكن لبعض الشرور‬

‫‪ 26‬االنجراف القاري‪ ،‬أو تزحزح القارات نشاط جيولوجي يعني تزحزح الصفائح التكتونية للكرة‬
‫األرضية بالتباعد أو التقارب أو االحتكاك؛ األمر الذي جيعلها تبدو وكأهنا تنجرف أو تتزحزح عرب‬
‫قيعان البحار‪( .‬املرتجم)‬
‫ زيفيد يت نفيتس‬ ‫‪158‬‬
‫ستح َّقة‪ ،‬ثم يدركون‬
‫أن ُت ْفتَدَ ى بهذا المعنى‪ ،‬فلربما يقاسي جميع البشر من معاناة غير ُم َ‬
‫الح ًقا أنها كانت أفضل ما يمكن حدوثه‪ ،‬لكن ال يمكن أن تكون نو ًعا من األحداث‬
‫آنفة الذكر‪.‬‬
‫عود على بدء‪ ...‬هل في اإلمكان افتداء الشر المريع على وجه التحديد بأي معنى‬
‫من المعاني؟ اإلجابة «نعم»‪ ،‬لكن إن كان الوجود اإللهي متحق ًقا‪ ،‬ألنه إذا لم يكن‬
‫هناك إله‪ ،‬فال يمكن بحال افتداء الشر‪ ،‬خاصة الشر المريع‪ .‬إن نو ًعا من االفتداء يكون‬
‫َعال‪ ،‬مطلق الخير‪ ،‬مطلق القدرة (كالذي يؤمن به اليهود‬ ‫ممكنًا فقط إن قلنا بموجود مت ٍ‬
‫ُ‬
‫والمسيحيون)‪ .‬فلنفترض أن موجو ًدا كهذا يأتي على مرتكبي هذا النوع من الشر المريع‪،‬‬
‫ويقوم على معاقبتهم‪ ،‬وفي نفس الوقت ُينعم على ضحايا الشر المريع بحياة أخرى ال‬
‫أيضا بالطبع)‪ ،‬بصورة تنطوي فيها تجاربهم األرضية‬ ‫يتناهى الخير فيها أبدً ا (واآلخرين ً‬
‫حضورا شاح ًبا في‬
‫ً‬ ‫حضورها بالتدريج‬
‫ُ‬ ‫شي ًئا فشي ًئا حتى تتالشى من الذاكرة‪ ،‬ليصبح‬
‫مواجهة انكشاف نور الخير المطلق واختباره‪ .‬أعقتد أنه إن حدث ذلك‪ ،‬فإنه سيكون‬
‫ٍ‬
‫افتداء للشر المريع كله‪.‬‬ ‫بمثابة‬
‫لن يلتفت المتشكّكون دين ًّيا إلى مثل هذا النوع من الحديث‪ ،‬ولعلهم ينظرون إليه‬
‫على أنه من السخافة بمكان‪ ،‬أو على أنه نوع من التفكير الحالم‪ .‬ولهؤالء أن يعلنوا‬
‫بتبجح عن اعتقادهم بأن هذه الحياة هي كل ما هنالك‪ ،‬وبأن الموت هو النهاية الشاملة‬ ‫ّ‬
‫يتأصل الظلم‬
‫عالما ّ‬ ‫التعود على فكرة أننا نحيا ً‬‫لبني اإلنسان‪ ،‬وبأن أفضل ما يمكن فعله ّ‬
‫فيه عن آخره‪ .‬ولهم أن يصروا بكل بساطة أنه ال افتداء للشر المريع‪ ،‬وبانعدام أي نوع‬
‫من التعويض لضحاياه‪.‬‬
‫ِ‬
‫العدالة‪،‬‬ ‫ورغم ذلك‪ ،‬ليس هناك من ينكر أن معظم الناس يتوقون تو ًقا عمي ًقا إلى‬
‫ِ‬
‫عالما يحكمه العدل‪ .‬إنني أعتقد في حقيقة‬ ‫ً‬ ‫المعاش‬‫ورجاء أن يستحيل هذا العا َل ُم ُ‬
‫وجود الشرور المريعة بعالمنا أنها توقظ هذا التوق وتح ّثه‪ ،‬وال تُثبطه لدى كثير من‬
‫الناس‪ .‬ال يتحقق {العدل ودحض الشر} باألماني ال شك في ذلك‪ ،‬لكن هذا النوع من‬
‫الرجاء الذي وصفتُه يروق لمن يريد مجانب َة اليأس‪ ،‬بل وال ُيم ّثل لهؤالء الذين يؤمنون‬
‫رجل رجاء‪ ،‬فإنه على‬ ‫كنت َ‬ ‫بالله مجر َد رجاء‪ ،‬لكنه ُيم ّثل قناعة مستقرة‪ .‬وعليه أقول‪ :‬إن َ‬
‫الشرور المريعة أن ُت َع ِّبد طري َقك إلى الله واقتناعك به‪.‬‬
159 ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫المصادر‬
-- Adams, Marilyn McCord (1999) Horrendous Evils and the Goodness of
God. Ithaca, NY: Cornell University Press. Google Scholar
-- Adams, Marilyn McCord (2006) Christ and Horrors: The Coherence of
Christology. Cambridge: Cambridge University Press. CrossRef Google
Scholar
-- Almeder, Robert (1992) Death and Personal Survival: The Evidence for Life
After Death. Lanham, Maryland: Rowan and Littlefield. Google Scholar
-- Aquinas, Thomas (1975 {1264}) Summa Contra Gentiles. Notre Dame,
Indiana: Notre Dame University Press. Google Scholar
-- Augustine, Aurelius (1961 {c.420}) The Enchiridion on Faith, Hope, and
Love. Chicago: Henry Regnery. Google Scholar
-- Ayer, A. J. (1992) «What I Saw When I Was Dead.» in Paul Edwards
(ed.)، Immortality. New York: Macmillan. Google Scholar
-- Corcoran, Kevin (ed.) (2001) Soul, Body, and Survival. Ithaca, NY: Cornell
University Press. Google Scholar
-- Davis, Stephen T. (1993) Risen Indeed. Grand Rapids, Michigan: Eerdmans.
Google Scholar
-- Davis, Stephen T. (2000) «Philosophy and Life After Death: The Questions
and the Options،» in Brian Davies (ed.)، Philosophy of Religion: A Guide
and Anthology. Oxford: Oxford University Press. Google Scholar
‫ زيفيد يت نفيتس‬ 160
-- Davis, Stephen T. (ed.) (2001) Encountering Evil: Live Options in Theodicy.
Louisville: Westminster John Knox Press. Google Scholar
-- Davis, Stephen T. (2009) Disputed Issues: Contending for Christian Faith
in Today’s Academic Setting. Waco, TX: Baylor University Press. Google
Scholar
-- Davis, Stephen T. (2010) «Hell, Wrath, and the Grace of God، » in Joel
Buenting (ed.)، The Problem of Hell: A Philosophical Anthology. London:
Ashgate. Google Scholar
-- Davis, Stephen T. (Forthcoming) «Horrendous Evils and Christ، » in
Jerome Gellman (ed.)، The History of Evil from the Mid-twentieth Century
to Today. London: Acumen. Google Scholar
-- Flew, Antony (1956) «Can a Man Witness His Own Funeral?، » The
Hibbert Journal, Vol. 54: 242–250. Google Scholar
-- Hamilton, Edith and Huntington Cairns (eds.) (1961)، The Collected
Dialogues of Plato. New York: Pantheon Books. Google Scholar
-- Hick, John (1976) Death and Eternal Life. New York: Harper and Row.
Google Scholar
-- Kant, Immanuel (1956 {1788}) Critique of Practical Reason, trans. L. W.
Beck. Indianapolis, Indiana: Bobbs-Merrill. Google Scholar
-- Mackie, J. L. (1982) The Miracle of Theism. Oxford: Oxford University
Press. Google Scholar
-- Price, H. H. (1953) «Survival and the Idea of ‘Another World’» Proceedings
of the Society for Psychical Research, Vol. 50, Part 182: 1–25. Google Scholar
-- Reichenbach, Bruce (1990) The Law of Karma: A Philosophical Study.
Honolulu: The University of Hawaii Press. CrossRefGoogle Scholar
161 ‫رخآلا ةايحلا ءوض يف رشلا ةلكشم‬

-- Swinburne, Richard (2003) The Resurrection of God Incarnate. Oxford:


Oxford University Press. CrossRefGoogle Scholar
-- Wright, N. T. (2002) The Resurrection of the Son of God. London: SPCK
Publishing. Google Scholar
‫دراسات‬

‫مشكلة الشر في ضوء قوانين الطبيعة‬

‫زادان المرزوقي‬
‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬

‫التفكير في مشكلة الشر يتزايد مع تصاعد وتيرة الحروب والكوارث الطبيعية‬


‫والتقدم في العلم والتقنية والصناعات الحربية المتطورة‪ .‬وهنا يأتي سؤال‪ :‬هل هذا‬
‫القلق طبيعي تاريخ ًّيا أم أنه خاص بعصرنا الحالي؟ هل نبالغ في قلقنا ألن عصرنا‬
‫مختلف أم أنه قلق مر على كل العصور؟ هل الكوارث الطبيعية لم تحدث إال‬
‫بعصرنا الحالي أم أنها سن ٌة كونية تحدث على مر التاريخ باستمرار؟ هل نتحمل‬
‫مسؤولية هذه الكوارث والحروب أم أنها خارج إرادتنا؟ هل الله هو من يفعل هذه‬
‫األحداث جمي ًعا بشكل مباشر أم أنها سنن كونية وإرادة بشرية؟‬
‫هذه األسئلة تعيد توجيه العقل المسلم والعقل البشري نحو رؤية جديدة في‬
‫فهم فكرة الشر‪ .‬الرؤية األخالقية المفرطة عاطف ًّيا في فهم بعض األحداث على أنها‬
‫دائما شر؟ هل األلم‬
‫فمثل؛ هل بكاء المولود ً‬‫دائما تحتاج إلى إعادة نظر‪ً .‬‬‫شرور ً‬
‫مطل ًقا شر؟ هل المعاناة كلها شر؟ بالتأكيد اإلجابة‪ :‬ال‪ .‬إن بكاء المولود ُيطمئن‬
‫األطبا َء على صحته‪ ،‬ويعطيهم إشارة على أن عملية النمو العضوي تسير بالطريقة‬
‫السليمة‪ .‬واأللم من ناحية الشعور ُيعتبر مفيدً ا لإلنسان في كثير من جوانب اإلدراك‬
‫األخالق‪ ،‬ولن يدرك حتى ذاتَه‪ ،‬ولن يستطيع‬ ‫َ‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫والحياة‪ .‬بدون األلم لن يدرك‬
‫التمييز بين الخير والشر‪ .‬وبدون المعاناة لن يستطيع اإلنسان أن يتطور ذات ًّيا ونفس ًّيا‪،‬‬
‫ولن يتمكن غال ًبا من بناء شخصيته‪ .‬يقول إيريناوس ‪ Irenaeus‬عن الشر والمعاناة في‬
‫الكون‪ :‬بأنّه ضروري لبناء شخصية اإلنسان وتطور روحه ونمو أخالقه (‪Stephen‬‬
‫دائما َّ‬
‫كل من يعيش في منطقة الراحة بعيدً ا عن التجارب‬ ‫‪ .)2001, p40-42‬نجد ً‬

‫أخصائى نفيس وباحث فلسفي سعودي‪ ،‬مقيم يف أسرتاليا‪.‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪163‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫والفشل والمعاناة ال يستطيعون الوصول إلى نجاح أكبر أو شخصية أفضل مما هم‬
‫عليه بدون المعاناة‪.‬‬
‫رؤية مثل هذه األحداث على أنها شر مطلق بسبب العاطفة اإلنسانية الجياشة يؤثر‬
‫بالشر على الحدث تترتب‬
‫ِّ‬ ‫في فهم سنن الكون وتق ُّبلها وطريقة التعامل معها‪ .‬الحكم‬
‫عليه رد ُة فعل نفسية وسلوكية وعقل َّية‪ ،‬ويحدِّ د إطار التعامل مع ذلك الحدث حسب‬
‫األهم‬
‫َّ‬ ‫شرا بالفعل‪ ،‬لك َّن‬
‫نمط تشكُّل المفهوم‪ .‬وال ننكر بأن بعض األحداث قد تكون ًّ‬
‫هنا أن نعيد النظر في الحكم التلقائي على هذه األحداث بالشر المطلق‪ ،‬وأن نَلفت‬
‫االنتبا َه على طريقة التعامل مع هذه األحداث التي تمر في حياتنا بشكل دوري‪ .‬وألن‬
‫وتصورها يؤ ِّثر في طريقة استقبالنا لها وفي كيفية تق ُّبلنا لحدوثها وفي تفسيرنا‬
‫ُّ‬ ‫استيعابها‬
‫لها وفي نمط حياتنا‪ ،‬كان البد من استشكال نظرتنا التلقائية في الحكم عليها‪.‬‬
‫ُّ‬
‫كل تفسير لظواهر الطبيعة يؤثر في حياتنا‪ ،‬ويؤثر في مشاعرنا‪ ،‬ويشكل تصورنا‬
‫دائما في عالمنا‪،‬‬
‫للكون بشكل عام‪ .‬الشر أحد هذه الظواهر الطبيعية التي تحدث ً‬
‫سواء الشر الطبيعي (كوارث‪/‬زالزل‪/‬براكين‪/‬فيضانات)‪ ،‬أو الشر األخالقي‬
‫(ظلم‪/‬حروب‪/‬غزو‪/‬اضطهاد‪/‬قتل)‪ .‬يأتينا هنا سؤال‪ :‬ماهو الشر؟ هل الشر ما‬
‫شرا‪ ،‬أم أن بكاءه حالة طبيعية مفيدة‬ ‫ثبت ضرره فقط؟ ً‬
‫مثل المولود‪ ،‬هل ُيعتبر بكاؤه ًّ‬
‫خيرا؟ عندما ننظر‬
‫لصحته؟ هل إذا ثبت أن بكاء المولود مفيد لصحته يصبح البكاء ً‬
‫دائما شر؟‬
‫أساسا ً‬
‫للبكاء ذاته‪ ،‬هل البكاء ً‬
‫هذه األسئلة تسلط الضوء على القيم المحملة على الكلمات بشكل مطلق‬
‫وتلقائي دون تحقق من دقتها‪ .‬فعندما يعتاد الناس على أن البكاء إشارة على الشعور‬
‫بألم شديد ودليل على الضعف والهوان‪ ،‬يبدؤون بالحكم بشكل تلقائي على بكاء‬
‫وضعف‪ ،‬وبالتالي هو شر‪ .‬يترتب على ذلك بأن الحكم‬
‫المولود بأنه شعور بألم شديد َ‬
‫على البكاء بأنه أمر سيء‪ ،‬ألنه ارتبط بالضعف كقيمة‪ .‬ونتيجة ذلك؛ يصبح كل إنسان‬
‫ومتألما‪ .‬ولو أعدنا النظر ً‬
‫قليل‪ ،‬فإن البكاء أحيانًا‬ ‫ً‬ ‫ومكسورا ومهزو ًما‬
‫ً‬ ‫يبكي ضعي ًفا‬
‫يكون تفريغ شعور متراكم‪ ،‬أو كثافة مشاعر تعبر عن نفسها بالدموع‪ ،‬أو أنها راحة‬
‫نفسية مفيدة للشخص المكتئب‪ .‬حمولة الكلمات المتحققة بالعادة والتلقائية تجعل‬
‫العقل اإلنساني يحكم على األشياء بالعادة وليس بالموقف‪ .‬بمعنى أن الحكم يكون‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪164‬‬
‫‪/‬الناس وليس بالنَّظر الدَّ قيق لكل حالة على حده دون غيرها‪،‬‬
‫ُ‬ ‫الشخص‬
‫ُ‬ ‫بما اعتاد عليه‬
‫وفهم ظروفها وتحليل معطياتها بمعزل عن العادة‪ .‬هذه التلقائية هي حالة فطرية في‬
‫البشر يقومون بها بشكل غير واعٍ‪ ،‬بينما التفكير الدقيق والتحليل العقلي المحكم هو‬
‫االستثناء‪ .‬في هذا المقال نروم إعاد َة النظر في تصورنا عن الشر في الكون وطريقة‬
‫تعاملنا معه وكيفية تقبله نفس ًّيا وعقل ًّيا من وجهة نظر العقل المسلم المعاصر‪.‬‬

‫مفهوم الشر وعالقته باإلنسان والطبيعة‬


‫قبل مناقشة الشر الهوت ًّيا‪ ،‬يجب تفكيك مفهوم الشر وعالقته باإلنسان والطبيعة‪.‬‬
‫شرا‬ ‫القفز من مشكلة الشر إلى محاسبة الخالق مباشرة على كل حدث يراه اإلنسان ًّ‬
‫بدون فهم ماهية الشر كمعنى وقيمة من جميع األبعاد؛ خطوة زاهدة عن حقيقة‬
‫الحياة وسنن الكون وبعيدة عن الواقعية‪ .‬اإلنسان في أصله كائن معنوي؛ يعطي كل‬
‫تلقائي‪ ،‬ويحكم على األحداث غال ًبا‬
‫ّ‬ ‫وتفسيرا وداللة بشكل‬
‫ً‬ ‫شيء من حوله معنى‬
‫كل شيء من حوله حسب معرفته المسبقة‪.‬‬ ‫أخالقي محض‪ ،‬ويحاول تفسير َّ‬‫ّ‬ ‫بمنظور‬
‫أن كثيرا من‬ ‫يرى جيرارد ‪ Garrard‬في معرض تحليله لمفهوم الشر بالمعنى الضيق‪ّ ،‬‬
‫األفراد يحكم على بعض السلوكيات واألفعال بأنها شر‪ ،‬لكنهم يقرون بأن بعض‬
‫األآلم والمعاناة يصعب تصنيفها كشر (‪ .)Garrard 2002, p322‬وهذا أمر واضح‬
‫جدًّ ا في اإلعالم ومواقع التواصل عندما يتم الحكم على حدث معين أو شخص‬
‫قاصرا‬
‫ً‬ ‫مشهور بطريقة عاطفية ظالمة أو مبالغ فيها‪ .‬غال ًبا ما يكون الحكم أخالقي‬
‫بعض الناس صور ًة لرجل أمن‬ ‫فمثل لو رأى ُ‬ ‫يفتقر ألبعاد كثيرة قد تغير في الحكم‪ً ،‬‬
‫شخصا‪ ،‬سيحكمون على الشرطي بأنه شرير وظالم بشكل تلقائي دون أي‬ ‫ً‬ ‫يضرب‬
‫تحقق وبحث في األمر‪ .‬قد يكون هذا الشخص يستحق ذلك الضرب من أجل ضبط‬
‫األمن‪ ،‬ألنه شخص متمرد ومسيء يعتدي على الناس ومخرب للنظام‪ .‬نجد أن كثيرا‬
‫من الناس ينطلق في هذا الحكم القاصر من منطلق ضيق حسب ما يرى ويشاهد وما‬
‫هو في متناول يده فقط‪ .‬وينظر لألمر من ناحية أخالقية فقط ومعنوية بدون تجريد‬
‫للعواطف‪ .‬وكثير من الناس ال يستطيع أن يجرد نفسه من العواطف والتحيزات إال‬
‫بمقاومة ودربه‪ ،‬ألنها ليست باألمر السهل‪.‬‬
‫‪165‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫عندما ننتقل للعقل المسلم الذي يهمنا في هذا المقال نجده ينظر للكون بنظره‬
‫أخالقية محضة ورؤية مثالية مفارقة لحقيقة الواقع‪ .‬نجده بعيدً ا عن فهم قوانين‬
‫الكون وسننه‪ ،‬وغير مستوعب بشكل ٍ‬
‫كاف لها علم ًّيا‪ ،‬ناهيك عن فهمها فلسف ًّيا‪.‬‬
‫أركز على تفسير الشر الطبيعي وليس الشر األخالقي‪ .‬الشر األخالقي يأتي من إرادة‬
‫البشر بمبررات متفاوته ال يمكن ضبطها‪ ،‬لكن الشر الطبيعي يحدث بدون أي إرادة‬
‫إنسانية‪ .‬التركيز هنا على الشر الطبيعي كمنطلق لفهم واستيعاب مفهوم الشر بشكل‬
‫أوسع قبل الحكم األخالقي والدفاع الالهوتي‪َّ ،‬‬
‫ألن الهدف من هذا الطرح هو إعادة‬
‫النظر في مفهوم الشر في المقام األول قبل إطالق األحكام وتقديم التفسيرات‬
‫لظواهر الطبيعة‪ ،‬وقبل أن ندخل في الشر األخالقي بين البشر‪.‬‬
‫يحاول العقل المسلم غال ًبا نسبة أحداث الكون إلى الفعل اإللهي المباشر‪،‬‬
‫ويحكم على كل حدث كوني برؤية أخالقية‪/‬قيمية محضة‪ً .‬‬
‫مثل لو رأى فيضانًا‬
‫إلهي مباشر‪ ،‬وأنه‬ ‫يحدث في مكان ما‪ ،‬فهو يقوم بتفسير ذلك الحدث على أنه فعل ّ‬
‫غضب من الخالق بسبب فساد أهل ذلك المكان‪ .‬رغم أنه قد يكون حد ًثا طبيع ًّيا ال‬
‫أي إرادة إلهية مباشرة وال يحتاج إلى تبرير أخالقي‪ .‬قد يكون سكان تلك‬
‫يحمل َّ‬
‫أيضا بالله‪ ،‬لكن نجد العقل المسلم يصر على أنه‬
‫المنطقة أناس صالحون ومؤمنون ً‬
‫هناك غاية إلهية وحكم أخالقي لكل حدث كوني‪ .‬وغال ًبا تكون الرؤية مفارقة للواقع‬
‫ومثالية محضة‪ ،‬أي أن الحدث بفعل الخالق المطلق بدون أي سبب طبيعي‪ ،‬وأن‬
‫الغاية أخالقية تربوية هدفها الخير المحض من اإلله‪.‬‬
‫َ‬
‫العقل المسلم في هذا التصور الذي يحمله عن ظواهر الطبيعة‪ :‬ما‬ ‫لو سألنا‬
‫هو السبب األخالقي لحدوث زلزال في منطقة خالية من البشر والحيوانات؟ هل‬
‫حدوث الزلزال في هذه المنطقة الخالية غضب إلهي؟‬
‫المسلم إلى قوانين الطبيعة التي ال يراها في األحداث‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫العقل‬ ‫يوجه‬
‫هذا السؤال ِّ‬
‫الكونية‪ ،‬وينزله من السماء إلى األرض‪ .‬هذا العقل ينظر إلى أحداث الكون كنتيجة‬
‫إلرادة الخالق المطلق والفعل اإللهي المباشر‪ .‬تغيب عنه سنن الكون وقوانين‬
‫الطبيعة الفاعلة في هذه األحداث كأصل وسبب أولي‪ ،‬قبل أي تدخل إلهي‪ ،‬لذلك‬
‫نجده يتأخر في إنتاج العلوم والمعارف الصحيحة والتقنية ألنه لم يكتشف الطبيعة‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪166‬‬
‫ونواميسها‪ .‬يستند في ُج ِّل معرفته عن العالم والطبيعة إلى المطلق الذي يخبره عن ِّ‬
‫كل‬
‫ِ‬
‫المطلق واليقين التام غير القابل للبحث واإلكتشاف‪.‬‬ ‫العلوم‪ .‬ويرى الكون عن طريق‬
‫ينتج عن هذا التصور عدة أمور‪:‬‬
‫‪1 .1‬تدهور علمي‪ :‬عدم اكتشاف للطبيعة وقوانينها بالطريقة الصحيحة‪.‬‬
‫‪2 .2‬إيمان مجروح‪ :‬تشوه جوهر اإليمان مع كل حدث كوني مؤلم‪.‬‬
‫‪3 .3‬عواقب نفسية‪ :‬اضطراب عقلي بين المؤمن والخالق‪.‬‬
‫المسلم من الحاجة إلى الدفاع عن الخالق في كل كارثة طبيعية تحدث‬ ‫ُ‬ ‫يعاني ُ‬
‫العقل‬
‫في العالم‪ ،‬وفي كل ظلم يواجهه األبريا ُء‪ .‬هذه الحالة الدفاعية مرهقة نفس ًّيا ومؤثرة على‬
‫اإليمان بالله‪.‬كثير من الشباب المسلم تحول إلى اإللحاد كي يخرج من هذه األزمة‬
‫المعقدة البعيدة عن الواقع والحياة‪ ،‬والثقيلة على النفس التي تجعل المؤمن في حالة‬
‫دفاع وقلق دائم‪ .‬عندما ينطلق العقل من المطلق‪/‬اليقين‪/‬المقدس إلى الحياة غال ًبا ما‬
‫يؤدي ذلك إلى جهل بطبيعة الحياة‪ ،‬وتخلف علمي ومعرفي كبير‪ ،‬ألن االنطالق من‬
‫المطلق إلى الحياة هو نهاية البداية‪ ،‬وإغالق لكل معرفة جديدة‪ .‬العقل الذي يملك‬
‫اإلجابة المطلقة على كل ظواهر الطبيعية لن يضطر إلى البحث واالكتشاف‪ ،‬وبالتالي‬
‫كثيرا من مشاكل التطرف‬ ‫يغوص في نواميس الطبيعة واكتشاف قوانينها‪ ،‬بل إن ً‬ ‫َ‬ ‫لن‬
‫واإلرهاب واالنغالق العقدي وكره المختلف يأتي من التفكير من داخل العالم‬
‫المطلق ورفض كل معرفة نسبية في الطبيعة‪ ،‬كما نجد ذلك في فكر ابن تيمية المؤثر في‬
‫أغلب المسلمين اليوم حول العالم‪( .‬زادان ‪ ،2022‬مؤمنون بال حدود)‪.‬‬

‫تصور الشر الطبيعي في العقل المسلم‬


‫تصور الشر في العقل المسلم ينطلق من السماء نحو األرض‪ ،‬بمعنى أن العقل‬
‫المسلم يرى أن الشر الطبيعي (زلزال‪/‬بركان) يحدث بالفعل اإللهي بشكل مباشر‪،‬‬
‫وليس بفعل قوانين الطبيعة في المقام األول‪ .‬هذا التصور يسيء للخالق أكثر من أن‬
‫يبجله‪ ،‬فالخالق بصفته الرحيم ال يمكن أن يحدث الزالزل ويقتل األبرياء بشكل‬
‫مباشر‪ ،‬هذا غير الئق نسبته لله عز وجل‪ .‬لكن العقل المسلم يصر على هذه النظرة‬
‫رغم أنها تجرح إيمانه وتسيء لمنظومة الدين الذي يعتقده وتبعده عن واقع الحياة‬
‫‪167‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫وقوانين الطبيعة‪ .‬في هذا الطرح ال نهدف إلى الدفاع عن الشر والتبرير للدين بقدر‬
‫ما نسعى إلى إعادة النظر في مفهوم الشر‪ ،‬وتعديل النظرة الكونية للعقل المسلم عن‬
‫الشر الطبيعي‪ .‬التعامل مع الشر الطبيعي بالرؤية الواقعية السليمة التي تنطلق من‬
‫الطبيعة تصنع إمكانية زيادة المعرفة والعلم واكتشاف الطبيعة وقوانينها‪ ،‬وترفع من‬
‫إمكانية التقبل النفسي لألحداث الطبيعية التي تحدث بشكل دوري للبشرية‪ ،‬وتجعل‬
‫المسلم يعيش في حالة تناغم مع اإليمان والكون والطبيعة كما هي بقوانينها الحتمية‪.‬‬
‫حتى إن هذه الرؤية الواقعية تساعد في معرفة عظمة الخالق وتبجيله أكثر من الرؤية‬
‫المثالية‪ .‬لذلك سنقوم بطرح رؤيتين مختلفتين عن الشر الطبيعي لندرس ونحلل كل‬
‫رؤية بعواقبها وآثارها‪.‬‬

‫التصور الزاهد والتصور العلمي‬


‫نفترض رؤيتين لفهم الشر الطبيعي كرؤية كونية لإلنسان المسلم‪ .‬قد يمارس هذا‬
‫أيضا‪ .‬هناك بعض الملحدين من يفسر الشر‬
‫التصور الكوني غير المسلم وغير المؤمن ً‬
‫بنفس الطريقة التي سنوضحها بعد قليل‪ .‬نجد بعض الملحدين عندما يشاهد كارثة‬
‫طبيعية يحيل سبب حدوثها إلى الخالق مباشرة‪ ،‬وهي رؤية مشابهه لطريقة المتدين في‬
‫فهم الشر الطبيعي‪ ،‬لكن بطريقة معاكسة ومعادية لإلله‪ .‬لكن تركيزنا هنا سيكون على‬
‫كل َمن يمارس نفس التصور الكوني في فهم طبيعة الشر‪.‬‬‫العقل المسلم‪ ،‬ويقاس عليه ُّ‬
‫سنوضح فيما يلي الرؤيتين المتضادة التي نفترضها في هذا المقال عن الشر بين‬
‫مؤمن زاهد عن الحياة‪ ،‬ومؤمن عالِم يبحث ويكتشف قوانين الحياة‪.‬‬
‫تم تقسيم تصور الشر الطبيعي إلى نوعين‪:‬‬
‫‪1 .1‬التصور الزاهد‪.‬‬
‫‪2 .2‬التصور العلمي‪.‬‬
‫التصور الزاهد للشر‬
‫التصور الزاهد هو التصور الذي ينطلق من المطلق في فهم الشر الطبيعي‪ ،‬أي أن‬
‫هذا التصور يفهم الطبيعة وقوانينها عن طريق الوحي القادم إليه من السماء‪ .‬عندما‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪168‬‬
‫تحدث كارثة طبيعية يبحث عن تفسيرها في النص المقدَّ س فقط كوحي من السماء‬
‫يخبره بكل شيء‪ .‬هذا التصور غير ٍ‬
‫مجد في الحياة وال يضيف إلى اإليمان مشروعي ًة‪،‬‬
‫ألنه تصور سلبي ال يحاول تغيير الطبيعة عبر اكتشافها والتحكم بقوانينها‪ .‬يرى أن أي‬
‫محاولة تعديل لبعض قوانين الكون من أجل تخفيف أضرارها أو تطويرها هو تدخل‬
‫في اإلرادة اإللهية‪ .‬ويرى أن التسليم هو الواجب األول على المؤمن تجاه كل ما يحدث‬
‫في الطبيعة من ظواهر وكوارث‪ .‬وأن هذا الشر يحدث من السماء وليس من األرض‪،‬‬
‫بحيث أنه مهما ُغ ّير في قوانين الطبيعة بالعلم لن يتغير شيء‪.‬‬
‫عندما نبدأ في تحليل هذا التصور نجده ال يسعى ِّ‬
‫لحل مشاكل الطبيعة وال يهتم‬
‫بتطوير حلول من أجل تفادي أضرارها‪ .‬ال يستطيع التمييز بين الشر الحقيقي وما هو‬
‫شرا‪ ،‬ألنه‬
‫خيرا أو ًّ‬
‫مثل لن يستطيع أن يعرف حقيقة بكاء المولود إن كان ً‬ ‫ليس بشر‪ً ...‬‬
‫شر لن‬
‫غير قابل الكتشاف الطبيعة والتطور في العلم‪ .‬حتى وإن اكتشف أن بكاء الطفل ٌّ‬
‫يحاول اختراع عالج لذلك الضرر أو محاولة تطوير جيني ينهي هذه المشكلة لألجيال‬
‫القادمة‪ .‬إنه يرى أن تلك هي الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها وال يجوز‬
‫تغييرها‪ ،‬إذ ُيعد ذلك تعدِّ ًيا على اإلرادة اإللهية‪.‬‬
‫من الناحية األخالقية فإن من سلبيات هذا التصور الزاهد أنه تصور ضيق ال‬
‫يحتوي البشرية جمعاء في المساعدة اإلنسانية حال حدوث الكوارث الطبيعية‪ .‬يرى‬
‫َّ‬
‫أن المؤمن بدينه هو المستحق للخير والمساعدة‪ ،‬لكن الذين خارج دينه اليستحقون‬
‫المساعدة‪ .‬وهذا نابع من تصوره الكوني عن الشر في الطبيعة‪ ،‬الذي يفسر كل حدث‬
‫كوني بأنه فعل إلهي مباشر من أجل نصرة طائفته وتعذيب من هم خارجها‪ .‬إذا كان‬
‫الشر الطبيعي قد مس أفراد طائفته كان تفسيره لصالح الطائفة؛ بأن ذلك الشر امتحان‬
‫وتكفير ذنوب من أجل دخول طائفته الجنة‪ .‬هذا التصور يرى اإلنسان بعدسة العقيدة‬
‫الضيقة المحصورة على الطائفة الدينية وأفرادها فقط‪ .‬وينتج عن ذلك أن الخير يصبح‬
‫طائف ًّيا وليس كون ًّيا‪ .‬بمعنى أن اإلنسان في هذا التصور ليس له كرامة أو تعريف أو وجود‬
‫ما دام أنه ال يؤمن بعقيدة الطائفة المقصودة‪ ،‬وبالتالي ال يستحق اإلنسان الخير إال إذا‬
‫كان من أفراد الطائفة‪ .‬لذلك نجد أن المساعدات اإلنسانية الكونية من المسلمين تجاه‬
‫غير المسلمين من المحتاجين والمتضررين نادرة‪ .‬هذه أحد عواقب التصور الزاهد‬
‫‪169‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫المنطلق من السماء إلى األرض حسب بنود معتقده‪ .‬يذكر عبدالجبار الرفاعي في‬
‫معرض تحليله لعقيدة الوالء والبراء‪« :‬التربية على الوالء والبراء وغيرها من المقوالت‬
‫المماثِلة تفرض سلسل ًة من الشروط لتصنيف البشر على مراتب‪ ،‬وعدم إنصاف الناس‪،‬‬
‫ِ‬
‫والتمييز بينهم في المعاملة على أساس معتقداتهم‪ ،‬فمن تتطابق معتقداته مع معتقداتك‬
‫المختلف عنك في الدين الحقوق‬
‫ُ‬ ‫يستحق أن تعامله كنفسك‪ ،‬في حين ال يستحق‬
‫يشح في قائمة أعظم‬
‫التي يستحقها الشركاء في معتقداتك» في ضوء ذلك نفهم لماذا ّ‬
‫المتبرعين بثرواتهم من أجل اإلنسانية ككل حضور أصحاب الثروات من المسلمين‬
‫بما يتناسب مع نسبتهم من سكان األرض»‪( .‬الرفاعي ‪ ،2023‬ص‪ ،212‬الدين والكرامة‬
‫اإلنسانية)‪.‬‬
‫إذا نظرنا إلى تعامل هذا التصور الزاهد مع الطبيعة والكائنات الح َّية األخرى‪،‬‬
‫اعتبارا للحياة الفطرية‪ ،‬وال يعتبر أن أمراض الحيوانات شر‪ .‬على‬‫ً‬ ‫نجد أنه ال يعطي‬
‫سبيل المثال‪ ،‬لو حدثت كارثة طبيعية وأضرت بمجموعة من الحيوانات أو بجنس‬
‫ضررا يحثه على تقديم المساعدة‪ .‬وال‬
‫ً‬ ‫شرا أو‬
‫معين من الحيوانات فهو ال يعتبر ذلك ً‬
‫يشعر بالرحمة تجاه تلك الحيوانات ألنها ليست ضمن مفاهيمه للشر داخل عقيدته‪.‬‬
‫الحيوي‪ ،‬وليس من‬
‫ّ‬ ‫لذلك ال يتحمل أي مسؤولية تجاه الطبيعة وصيرورتها وتوازنها‬
‫مهامه الحياتيه الحفاظ عليها‪ .‬وهذا يعود لتصوره الزاهد عن الحياة الذي يروم اآلخرة‬
‫فقط‪ ،‬لم يعتقد أن في الجنة حيوانات أو أن الحيوانات يجب اإلحسان إليها ورحمتها‬
‫والحفاظ على الطبيعة وكائناتها‪ .‬وإذا أتينا لتعامله مع األشجار والنباتات نجده يهتم‬
‫فيما ينفعه منها لكنه ال يعطي أهمية للنباتات األخرى‪ .‬رغم أن النصوص المقدسة‬
‫تحمل الكثير من الحث على الحفاظ على النباتات وإعمار األرض بالزراعة لكنها‬
‫مهملة بسبب أن التصور الكوني األساسي ال يدعم تفعيلها‪ .‬إنها نصوص يتم ترديدها‬
‫حقيقي؛ وذلك يعود إلى أن التصور األساسي‬
‫ّ‬ ‫واالفتخار بها أمام الخصوم دون تطبيق‬
‫الزاهد عن الحياة يرى أن هذه المسؤولية ثانوية وغير مهمة في حياته وليست ضرورية‬
‫من أجل إدخاله الجنة‪.‬‬
‫مجروحا‪،‬‬
‫ً‬ ‫ُ‬
‫واإليمان‬ ‫قاصرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫الحكم‬
‫ُ‬ ‫في هذا التصور الزاهد للشر الطبيعي يكون‬
‫مقتصرا‬
‫ً‬ ‫واألخالق ضيق ًة‪ ،‬حيث إن الحكم وتقييم ما هو شر سيكون‬
‫ُ‬ ‫مشوها‪،‬‬
‫ً‬ ‫والعلم‬
‫ُ‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪170‬‬
‫ضارا‬
‫مؤلما أو ًّ‬
‫على الطائفة فقط‪ ،‬أما ما هو خارج ذلك لن ُيحكم عليه بالشر مهما كان ً‬
‫للطبيعة واإلنسان والكائنات الحية‪ ،‬بل هناك من الطوائف الدينية َمن يعتبرون أن بعض‬
‫الكوارث التي تحدث لغير المسلمين هي خير لهم‪ ،‬أو أنهم مستحقون لذلك العذاب‪،‬‬
‫ألنهم غير مؤمنين بالعقيدة المقصودة‪ .‬من حيث اإليمان‪ ،‬فإن هذا التصور الزاهد‬
‫ويشوه صور َة الخالق عند المؤمنين به‪ .‬فإنه عندما تحدث‬
‫ِّ‬ ‫يجرح في الذات اإللهية‪،‬‬
‫مفترضا بأن‬
‫ً‬ ‫أحد الكوارث الطبيعية ويتضرر بعض األبرياء ويكون هذا التصور الزاهد‬
‫الفاعل األساسي هو الخالق بالتدخل المباشر‪ ،‬فإن النتيجة تكون التشكيك في نزاهة‬
‫هذا الخالق ورحمته وعدله‪.‬‬
‫أما من حيث العلم فإنه كما وضحنا ساب ًقا‪ ،‬سيكون العلم والمعرفة مشوهه ومتوقفة‬
‫على معتقد الطائفة في فهم طبيعة الشر في الكون‪ ،‬وأن الهدف الرئيسي من فهم الشر‬
‫الطبيعي هو النجاة في اآلخرة وليس تعمير الدنيا وتطويرها‪ .‬لذلك سيكون اإلنتاج‬
‫ُ‬
‫الجهل‬ ‫المعرفي غير دقيق وبعيد عن قوانين الكون المحركة للطبيعة‪ .‬وبالتالي يكون‬
‫مصيرا حتم ًّيا لهذا التصور الزاهد‪ ،‬ألن الطبيعة ال تكشف أسرارها لمن ال يبحث‬
‫ً‬
‫عنها بشكل مباشر‪ ،‬بدون وسيط مطلق يخالف حقيقتها النسبية المتغيرة‪ .‬ومن حيث‬
‫األخالق‪ ،‬فإن هذا التصور يصنع منظومة أخالقية ضيقة محصورة في أهل المعتقد‬
‫اعتبارا لإلنسان إال بصفته مؤمنًا بالمعتقد المقصود‪ ،‬أما من هو خارج‬
‫ً‬ ‫فقط‪ .‬وال تعطي‬
‫المعتقد فليس له كرامة وال حق وال واجب أخالقي‪.‬‬
‫التصور العلمي للشر‬
‫التصور العلمي للشر ينطلق من النسبي في فهم الشر الطبيعي‪ .‬ينطلق هذا التصور من‬
‫البحث واالكتشاف العلمي في فهم وتفسير الحياة وظواهر الطبيعة‪ .‬يبدأ في اكتشاف‬
‫قوانين الطبيعة قبل أن يحكم على األحداث الطبيعية بأنها شر أو خير‪ .‬حتى إن فهم‬
‫النصوص الدينية ينطلق في تفسيرها من العلم واالكتشاف والبحث المعرفي الدقيق‪.‬‬
‫هذا التصور يفترض أن الشر الطبيعي جزء من مكونات الطبيعة ال ينفصل عنها‪َ .‬ف ْهم‬
‫هذا الشر الطبيعي وطرق التعامل معه وتفسيره لن يكون دقي ًقا مالم نبدأ من الطبيعة ذاتها‬
‫التي أنتجت هذا الشر‪.‬‬
‫الشر في هذا التصور يحدث من قوانين األرض وليس من قوانين السماء‪ ،‬وقبل‬
‫‪171‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫محاسبة السماء على الشر الطبيعي يجب فهم قوانين الطبيعة في األرض ً‬
‫«أول» بشكل‬
‫دقيق وعلمي محقق‪ .‬الحكم على الحدث بأنه شر طبيعي أو أنه خطأ بشري‪ ،‬أو أنه سنة‬
‫كونية يجب أن يكون بعد بحث علمي دقيق ومحقق بالتجربة والبرهان وليس بالتأمل‬
‫السطحي لإلنسان‪ .‬هناك شرور طبيعية كان اإلنسان سب ًبا في حدوثها بسبب إهماله‬
‫الحفاظ على اتِّزان الطبيعة من حيث النباتات وارتفاع الحرارة واإلفراط في الصناعات‬
‫واالستهالك المخرب للتوازن الحيوي في الطبيعة‪ .‬قبل الحكم على الشر أو محاسبة‬
‫فعل بشكل دقيق وعلمي وتحديد المسؤول عن حدوث‬ ‫اإلله يجب تحديد ماهو شر ً‬
‫ذلك الشر‪ .‬مناقشة العدل اإللهي تأتي بعد فهم الطبيعة بشكل دقيق علمي وليس بمجرد‬
‫حدوث ألم أو كارثة‪.‬‬
‫يفترض هذا التصور أن التدخل اإللهي يأتي بعد قوانين الطبيعة التي خلقها الله في‬
‫هذا الكون‪ .‬أي أن التدخل اإللهي ليس عملية عشوائية تحدث بشكل متجاوز لقوانين‬
‫الطبيعة‪ .‬لو كان التدخل اإللهي بشكل غير منتظم فهذا يطعن في ُن ُظم الكون التي هي‬
‫ذكي‪ .‬التدخل اإللهي لو كان عشوائ ًّيا ألصبح‬‫ومصمم ّ‬
‫ِّ‬ ‫دليل على وجود خالق مبدع‬
‫العالم عبث ًّيا غير منتظم‪ ،‬لذلك يرى هذا التصور بأن اإلنسان قادر على تغيير قوانين‬
‫الطبيعة من أجل الوصول إلى خير أفضل‪ ،‬أو من أجل تطوير األخطاء السابقة في‬
‫التعامل مع الطبيعة‪ .‬هذه قوانين وضعها الخالق في الكون وتسير ضمن عملية منتظمة‬
‫ال تقبل العبث وال العشوائية‪.‬‬
‫في هذا التصور للشر الطبيعي ال يعتبر تغيير قوانين الطبيعة أو تطويرها تعد ًيا على‬
‫اإلرادة اإللهية‪ .‬اإلرادة اإللهية هي من وهبت اإلنسان الحق والحرية في التعامل مع‬
‫الطبيعة وتغييرها وتطويرها وحل مشاكلها من أجل أن يعيش اإلنسان حياة آمنة وكريمة‪،‬‬
‫بل إن عدم قدرة اإلنسان على تغيير قوانين الطبيعة من أجل حماية نفسه هو طعن في‬
‫ُ‬
‫اإلنسان‬ ‫الحرية التي وهبها الله له‪ ،‬وطعن في العدل اإللهي‪ .‬ليس من العدل أن يتضرر‬
‫من قوانين الطبيعة وال يكون في مقدوره تغيير قوانينها وتطوير حلول لمقاومة أضرارها‪.‬‬
‫دائما لتطوير الطبيعة وحل مشاكلها‬
‫عندما نبدأ في تحليل هذا التصور نجده يسعى ً‬
‫واكتشاف أسرارها‪ .‬الشر في هذا التصور هو مجموعة األخطاء المؤدية لخير أكبر‪.‬‬
‫نجده يشعر بالمسؤولية تجاه الطبيعة من أجل الحفاظ على توازنها وحل مشاكلها‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪172‬‬
‫وحماية اإلنسان من عواقبها‪ .‬وهذا نابع من الرؤية المبنية على حرية اإلرادة التي وهبها‬
‫الخالق لإلنسان‪ ،‬ومن التصور المنطلق من الطبيعة في فهم الشر الطبيعي‪ .‬لو أخذنا‬
‫مثال بكاء المولود‪ ،‬فإننا نجد تعامل هذا التصور مع األمر إيجابي‪ ،‬فإنه سوف يبحث‬
‫علم ًّيا عن سبب بكاء المولود بشكل عضوي ودقيق‪ ،‬ألن المولود ال يحمل وع ًيا كاف ًيا‬
‫يجعله يبكي من أمر معنوي‪ ،‬وبالتالي سيكتشف سبب البكاء بشكل سليم ويحدد ما إذا‬
‫شر على المولود‪ ،‬فإنه يملك القدرة العلمية‬
‫شرا‪ .‬فإذا اكتشف أن البكاء ٌّ‬
‫خيرا أو ًّ‬
‫كان ً‬
‫على تقديم حلول وتطوير طبي أو جيني من أجل تخفيف هذا الشر على المولود وإنهاء‬
‫خيرا له فإنه قد وصل إلى فهم دقيق وصحيح لهذا الحدث‪.‬‬
‫معاناته‪ ،‬وإذا وجد أن ذلك ً‬
‫من الناحية األخالقية‪ ،‬فإن التصور العلمي للشر قادر على احتواء البشرية جمعاء في‬
‫حال حدوث كوارث طبيعية‪ .‬عندما بحث في الطبيعة واكتشف‬ ‫المساعدات اإلنسانية َ‬
‫قوانينها وجد أنها عملية حتمية ال تفرق بين مؤمن وملحد‪ ،‬وال تفرق بين األعراق‬
‫واألديان‪ .‬ووجد أنه قادر بالعلم والمعرفة السليمة على تطوير حلول من أجل تحسين‬
‫نمط العيش الحالي وتفادي حدوث كوارث طبيعية قدر اإلمكان‪ ،‬وأن التطوير العلمي‬
‫يعتبر فضيلة أخالقية تؤدي إلى خير أفضل‪ ،‬وكل عمل خير سوف يحبه الله‪ .‬بنا ًء على‬
‫ذلك‪ ،‬نجده ال يفرق بين البشر حسب عقائدهم وأعراقهم في حال المساعدة وفعل‬
‫الخير‪ ،‬ألنه توصل بعد اكتشاف الطبيعة إلى أنها ال تفرق بين اختالفات البشر‪ ،‬وأن‬
‫اإلنسان المتضرر منها بريء وتجب مساعدته وتقديم العون له بصفته إنسان بغض‬
‫النظر عن دينه وعرقه‪ .‬في هذا التصور العلمي يتم تعريف اإلنسان على أنه كائن ابن‬
‫بيئته ومحيطه وثقافته التي ترعرع فيها دون إرادته‪ .‬فال ُيحاسب في حال الكوارث‬
‫الطبيعية حسب العقيدة الدينية أو العرق أو الثقافة‪ .‬يقرر ابن الهيثم بعد أن درس‬
‫إدراك ًّيا ونفس ًّيا سبب اختالف عقائد الناس؛ أن جميع المعتقدات الدينية المختلفة‬
‫بين المذاهب والطوائف هي منتجات في أصلها اجتماعية وسيكولوجية تمثل بيئة‬
‫أصحابها ومؤسسيها‪ ،‬وأن االختالف بين العقائد الدينية والالهوتية ليس بسبب أصل‬
‫اإليمان‪ ،‬وإنما نتيجة تأثير خلفيات أصحابها ومعرفتهم المسبقة وبيئتهم التي يعيشون‬
‫فيها‪( .‬زادان ‪ ،2023‬مقابسات)‪ .‬لذلك يكون التمييز بين البشر في التعامل اإلنساني‬
‫حسب العقائد الدينية يعتبر إساء ًة لكرامة اإلنسان‪.‬‬
‫‪173‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫من ناحية الحفاظ على الطبيعة وحماية الكائنات الح َّية األخرى فإن هذا التصور‬
‫شرا‬ ‫ومهما للحياة الفطرية‪ ،‬ويعتبر أمراض الحيوانات وانقراضها ًّ‬ ‫ًّ‬ ‫كبيرا‬
‫اعتبارا ً‬
‫ً‬ ‫يعطي‬
‫كثيرا من الكوارث الطبيعية والمشاكل الكونية‬ ‫على الحياة‪ ،‬ألنه يعلم جيدً ا كيف أن ً‬
‫سببها عدم اتِّزان الحياة الفطرية والنباتية وانقراض بعض الحيوانات‪ .‬ويجد نفسه‬
‫مسؤول عن حمايتها كمخلوق قادر على التعامل مع الطبيعة وحمايتها‪ .‬ويدرك جيدً ا أن‬ ‫ً‬
‫النباتي والحيواني يؤثر عليه كإنسان بيئ ًّيا وطب ًّيا وحيو ًّيا‬ ‫ِ‬
‫الحياة الفطرية والنظام‬ ‫اضطراب‬
‫ِّ‬
‫بشكل مباشر أو غير مباشر‪ .‬لذلك يصل إلى حد كبير من الرحمة على الحيوانات‬
‫ومراعاتها والتعامل معها بعطف وحب؛ بصفتها كائنات تحمل مشاعر وعواطف‪،‬‬
‫لكنها تفتقر إلى جهاز لغوي يمكِّنها من التعبير عن ذلك‪ .‬هذه المرحلة من العطف‬
‫والرحمة واإلدراك يصل إليها اإلنسان غال ًبا بالعلم والمعرفة العميقة واكتشاف حقائق‬
‫هذا الكون وطبيعة مخلوقاته الحية‪ .‬المسؤولية في هذا التصور نابعة من االرتقاء في‬
‫الوعي بالعلم والمعرفة بعد مواجهة الشر بشكل علمي ومن خالل الطبيعة ذاتها وليس‬
‫فقط من معتقده‪.‬‬
‫وإذا انتقلنا إلى االهتمام بالنباتات فإن هذا التصور يرى األشجار والنباتات شريك ًة‬
‫معه في اتِّزان الطبيعة‪ ،‬ومهمة له كإنسان من حيث المركبات الكيميائية التي يحتاجها‬
‫من جوانب عديدة نفسية‪ ،‬عضوية‪ ،‬وظيفية‪ ،‬فإنه بالعلم والبحث وجد أهمي ًة كبيرة‬
‫احتياجا‬
‫ً‬ ‫ِ‬
‫لجمال األشجار في التأثير على نفسيته ومزاجه‪ ،‬ووجد في مركباتها الكيميائية‬
‫له كالتنفس والغذاء‪ ،‬وأنها مهمة له وظيف ًّيا كالظل والحماية من الرياح واألمطار وغيرها‬
‫من وظائف الحياة التي تقدمها له النباتات‪ .‬لذلك عندما يجد أن هناك كوارث طبيعية‪،‬‬
‫أو أن بعض البشر يقوم بالعبث في األشجار وتخريبها‪ ،‬فإنه يشعر بالمسؤولية األخالقية‬
‫من أجل منع ذلك‪ ،‬ويرفض أي هدر للحياة الفطرية أو الحيوانية بطريقة عشوائية تضر‬
‫اتزان الحياة الطبيعية‪.‬‬
‫والعلم‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫واإليمان صح ًّيا‪،‬‬ ‫الحكم دقي ًقا‪،‬‬
‫ُ‬ ‫في هذا التصور العلمي للشر الطبيعي يكون‬
‫واألخالق واسع ًة‪ ،‬بحيث إن الحكم على ما هو شر يكون دقي ًقا بالبحث العلمي‬
‫ُ‬ ‫محق ًّقا‪،‬‬
‫الممنهج‪ ،‬وإمكانية تحديد ما هو خير حتى لو كان يحمل معه بعض األلم لإلنسان‪،‬‬
‫خيرا بالتطور المعرفي‬
‫وأن األضرار التي تحدث في الطبيعة هي شر قابل ألن يكون ً‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪174‬‬
‫واكتشاف أسرار الطبيعة وقوانينها‪ .‬وعندما يحدث ضرر ألي إنسان مهما كانت عقيدته‬
‫أو عرقه فإنه شر يحتاج إلى تدخل ومساعدة ومسؤولية أخالقية تقع على جميع البشر‬
‫دون أي اكتراث لالختالفات الدينية والعرقية والثقافية‪ .‬هذا الشر الطبيعي قوانين‬
‫حتمية التفرق بين العقائد واألعراق في حدوثها‪ .‬وأن اإلضرار بالحياة الفطرية والنباتية‬
‫والحيوانية يعتبر شر ال يمكن إهماله‪ .‬الحكم في هذا التصور دقيق وعلمي مجرد من‬
‫كل العواطف والتحيزات والتعصبات الدينية‪/‬العرقية‪ .‬وأما من حيث اإليمان فإن هذا‬
‫التصور ال يجرح في الذات اإللهية وال يشوه صورة الخالق عند المؤمنين به‪ ،‬وينزهه عن‬
‫صيرورة الطبيعة وقوانينها‪ .‬في حالة حدوث كوارث طبيعية يتضرر منها بعض األبرياء‪،‬‬
‫ال تُنسب تلك األحداث إلى الفعل اإللهي المباشر‪ ،‬ويتم افتراض أن الفاعل األساسي‬
‫األساسي‬
‫َّ‬ ‫َ‬
‫الفاعل‬ ‫التدخل اإللهي‪ ،‬ولكنه ال يكون‬‫ُّ‬ ‫هو قوانين الطبيعة مع اعتبار إمكانية‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومستحيل معرفة ذلك‬‫ُ‬ ‫دائما‪ ،‬ألن التدخل اإللهي أمر غيبي ال يمكن أن يدركه‬‫ً‬
‫من قبل اإلنسان‪ .‬في هذا التصور يكون تفسير الشر الطبيعي بحدود العقل اإلنساني‬
‫وداخل نطاق قدرته فقط؛ وبالتالي‪ :‬ال يكون هناك تشكيك في نزاهة الخالق ورحمته‬
‫الوجودي بالله كحاجة إنسانية أصيلة في غالب البشر‪.‬‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫اإليمان‬ ‫وعدله‪ ،‬وعليه ال ينجرح‬
‫أما من جانب العلم والمعرفة فإن هذا التصور ــ كما هو واضح في التحليل ــ سوف‬
‫يتجه نحو اكتشاف الطبيعة ودراسة قوانينها بشكل دقيق وصارم‪ ،‬من أجل معرفة طبيعة‬
‫المعرفي دقي ًقا‬
‫ُّ‬ ‫اإلنتاج‬
‫ُ‬ ‫ُ‬
‫سيكون‬ ‫الشر في الكون طم ًعا في تقليل األضرار أو ح ِّلها‪ .‬لذلك‬
‫ومحق ًقا وصار ًما من أجل اكتشاف قوانين الكون المحركة للطبيعة والمسببة لهذه‬
‫الكوارث‪ .‬ويترتب على ذلك اجتهاد كبير من أهل هذا التصور في العلم واالهتمام‬
‫بالمعرفة وتطويرها بشكل صارم‪ ،‬ألن الكوارث الطبيعية والضرر الحاصل منها ال يمكن‬
‫ح ُّله بمعرفة سطحية أو أبحاث متح ّيزة‪ .‬وينتج عن ذلك تطور كبير في العلم والمعرفة‬
‫وتعامل مع الطبيعة حسب طبيعتها النسبية المتغيرة بدون تجاوز وقفز إلى المطلق‪.‬‬
‫ويرى هذا التصور أن االتجاه للمطلق يبدأ بما هو نسبي وأرضي وليس العكس‪ ،‬ألن‬
‫اإلنساني قاصر؛ ال يمكنه أن يستحوذ على المعرفة المطلقة النهائية‪ ،‬وإنما مهمته‬
‫َّ‬ ‫العقل‬
‫دائما‪.‬‬
‫أن يسعى إليها ً‬
‫نستشهد هنا في هذا المقام المهم بابن الهيثم الذي كان محب ًطا بعد دراسته‬
‫‪175‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫الالهوت والعقائد في عصره‪ ،‬بأنها لم توصله إلى معرفة الله وال إلى معرفة حقيقته‪،‬‬
‫ولم تقربه من عظمة الخالق‪ ،‬بل إنه َع َّبر متذ ِّم ًرا أنه بعد دراستها لسنين طويلة أوصلته‬
‫بمعرفة حقيقية‪ ،‬ولم تقدم له هذه العلوم خطوة‬‫ٍ‬ ‫إلى الالشيء‪ ،‬ولم يستطع أن يمسك‬
‫معرفية ترضي فضوله اليقظ والمتطلع للحقيقة البرهانية المطمئنة‪ .‬وبعد هذه الرحلة‬
‫أن االقتراب من الخالق ومعرفة عظمته إنما تكون ح ًّقا‬ ‫المحبطة من وجهة نظره قرر َّ‬
‫في العلم والبحث عن الحقيقة بالعلم التجريبي والمعرفة السليمة‪ ،‬عن طريق اكتشاف‬
‫مبني على الدليل البرهاني المادي والمنطقي (‪Steffens‬‬ ‫الطبيعة بشكل دقيق وصارم‪ّ ،‬‬
‫‪ .)2021, p35‬ابن الهيثم يرى أن هذه الحقيقة التي توصلنا إلى معرفة الخالق تكمن في‬
‫بدل من دراسة المقوالت العقائدية والتي هي ِمن‬ ‫الطبيعة وفي مخلوقات الله‪ .‬لذلك ً‬
‫صنع الرجال‪ ،‬قرر أن يدرس الطبيعة ذاتها والتي هي صنع الخالق‪ .‬معرفة عظمة الشيء‬
‫تأتي من معرفة أثره وكشف أسراره‪ ،‬وليس باالستماع إلى افتراض الرجال‪ ،‬حيث إنه‬
‫يرى أن العلم الحقيقي والبحث عن المعرفة هي الطريق المقرب إلى الله‪ ،‬وهو الفعل‬
‫الذي يحبه الله ويرضاه‪ ،‬وعن طريقه نتعرف على الخالق عز وجل ونعظم خلقه (عيون‬
‫األنباء‪.)552 ،‬‬
‫العلمي للشر يصنع منظوم ًة أخالقي ًة واسعة‬
‫ّ‬ ‫أما من ناحية األخالق فإن التصور‬
‫تحتوي جميع البشر والكائنات الحية والطبيعة‪ ،‬وتزرع في اإلنسان المسؤولية‬
‫األخالقية والضمير الحي‪ .‬وتحث على االهتمام بالعلم والمعرفة كمصدر أساسي‬
‫دقيق لإلنسان في اكتشاف ماهية الشر وطرق التعامل معه وفهم طبيعته‪ .‬وتعامل‬
‫متحيزا لطائفة دون أخرى‪ .‬فليس‬
‫ً‬ ‫محصورا أو‬
‫ً‬ ‫كحق عام للبشرية جمعاء وليس‬‫العلم ٍّ‬
‫من العدل اإللهي أن تكون هناك طائف ٌة من البشر تملك المعرفة الصحيحة وحقيقة‬
‫عقيدة ٍ‬
‫دينية‪ .‬يقول ابن الهيثم في حرصه على العلم كحق عام‬ ‫ٍ‬ ‫الشر دون غيرهم بسبب‬
‫لجميع البشر‪ ،‬وهو ينقد بطليموس‪ ،‬ويكشف بعض أخطائه‪« :‬فرأينا أن في اإلمساك‬
‫وظلما لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه‪.‬‬
‫ً‬ ‫هضما للحق‪ ،‬وتعد ًيا عليه‪،‬‬
‫ً‬ ‫عنها‬
‫ووجدنا َأ ْو َلى األمور ذكر هذه المواضع‪ ،‬وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سدِّ‬
‫خللها‪ ،‬وتصحيح معانيها‪ ،‬بكل وجه يمكن أن يؤ ِّدي إلى حقائقها»‪( .‬الشكوك‪ ،‬ص‪.)٤‬‬
‫في هذا القول نجده ال يفرق بين عالم يوناني أو عالم عربي‪ ،‬وإنما يعامل العلم كحق‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪176‬‬
‫عام إنساني لجميع البشر على السواء‪ ،‬وجميعهم يحملون مسؤولية الحفاظ على العلم‬
‫وتطويره وكشف أخطائه دون مجاملة أو تح ُّيز‪.‬‬

‫استنتاج‬
‫التصور العلمي عن الكون يعتبر البوصلة األساسية التي توجه اإلنسان في فهم‬
‫الطبيعة والتعامل معها وتفسير ظواهرها‪ ،‬وتؤثر كذلك في جميع مخرجاته المعرفية‪.‬‬
‫بشرا أو حيوانًا‬
‫التصور العلمي عن العالم يؤثر في تعامل اإلنسان مع اآلخر سواء كان ً‬
‫أو جما ًدا أو نباتًا‪ .‬قد يكون ذلك التصور عقيد ًة دينية أو رؤية فلسفية يبني عليها اإلنسان‬
‫معارفه وأخالقيته ومبادئه الكبرى‪ .‬ومن أحد أهم هذه التصورات الكونية المؤثرة‬
‫في حياة اإلنسان هو تصور مفهوم الشر‪ .‬حاولنا استشكال الفهم التلقائي في تصور‬
‫الشر الطبيعي من أجل إعادة النظر في مفهوم الشر‪ ،‬وتفكيك األحكام التلقائية التي‬
‫يطلقها اإلنسان على كثير من أحداث الطبيعة بأنها شر مطلق دون تحقيق أو تدقيق‬
‫علمي يفصل في حقيقتها‪ .‬وذلك من أجل تحويل بوصلة العقل المسلم في فهم الشر‬
‫الطبيعي من السماء إلى األرض‪ ،‬حيث إن هذا التحويل في التصور الكوني للشر سوف‬
‫يؤدي إلى تطور حضاري وفردي ونفسي وعلمي في العقل المسلم‪ .‬وإنقاذ اإليمان‬
‫من التصور الزاهد عن الحياة والعلم من قبل المؤمن والملحد‪ ،‬حيث إنه في كل كارثة‬
‫طبيعية نجد المؤمن في حالة دفاع عن الخالق والملحد في حالة هجوم عليه‪ .‬وكال‬
‫الطرفين يعتبر أن الفاعل المباشر لهذه الكارثة هو الله عز وجل‪ ،‬بدون أي تحليل علمي‬
‫ودقيق لسنن الكون وقوانين الطبيعة واكتشاف صيرورتها‪ .‬فإنه لو تحول الطرفان إلى‬
‫التصور العلمي الذي قدمناه في هذا المقال لكان أجدى لهم في مواجهة مشكلة الشر‬
‫بطريقة إيجابية‪ ،‬بحيث يتوجه كالهما إلى اكتشاف الطبيعة‪ ،‬واختراع حلول لمشاكلها‪،‬‬
‫ودفع عجلة العلم إلى مستوى أعلى من الراهن بالبحث والتحقيق في ذات الطبيعة‪.‬‬
‫إن فهم الشر طبيع ًّيا يكون قبل مناقشته الهوت ًّيا‪ ،‬ألن الحكم الالهوتي سواء مع أو‬
‫قاصرا مالم يكن مبن ًّيا على معرفة دقيقة مبنية على الدليل البرهاني الصارم‪.‬‬
‫ً‬ ‫ضد سيكون‬
‫وذلك ال يتأتى إال بتبني التصور العلمي في فهم الشر الطبيعي بالبحث واالكتشاف‬
‫داخل الطبيعة ذاتها ثم االنتقال إلى مناقشة القضية الهوت ًّيا‪ .‬الشر في أصله حدث طبيعي‬
‫‪177‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫حسب قوانين حتمية وسنن ال تتغير وال تفرق بين مسلم أو غير مسلم‪ ،‬مع إمكانية تغييرها‬
‫وتطوير مشاكلها بالعلم السليم المبني على التجربة والبرهان‪ .‬ابتعاد العقل المسلم عن‬
‫والتشوه المعرفي‪ ،‬بل‬
‫ّ‬ ‫هذا التصور جعله يعيش فترة طويلة جدًّ ا من التدهور العلمي‬
‫إن البعد عن التصور العلمي للشر يؤثر على األخالق داخل العقل اإلسالمي ويجعله‬
‫خارج اإلنسانية الكونية‪ .‬يقول عبد الجبار الرفاعي‪« :‬إن سبيل الله هو سبيل اإلنسان‬
‫أ ًّيا كانت عقيدته أو عرقه‪ ،‬والطريق إلى الله يمر من خالل اإلنسان بوصفه إنسانًا فقط‪،‬‬
‫وعندما ال يتطابق سبيل اإلنسان وسبيل الله ال تُصان حقوق اإلنسان وتصا َدر حرياتُه‬
‫في حاالت متعددة بذريعة حماية حقوق الله»‪( .‬الدين والكرامة اإلنسانية ‪،2023‬‬
‫ص‪.)210‬‬
‫اإللهي ممكنًا بالرجاء المرسل والدعاء‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫التدخل‬ ‫في التصور العلمي للشر يكون‬
‫دائما ومتوقع‪ ،‬لكنه ليس بمعلوم‬‫أن األمل في التدخل اإللهي قائم ً‬ ‫الغيبي‪ ،‬بمعنى ّ‬
‫لإلنسان وفوق قدرته العقلية‪ ،‬وليس حسب ما يريده ويتمناه وفق طبيعته البشريه وفهمه‬
‫مباشرا وعشوائ ًّيا كما يتصوره البعض‪ ،‬ألن ذلك‬‫ً‬ ‫المحدود‪ .‬وال يكون التدخل اإللهي‬
‫سيكون عب ًثا ال يليق بالخالق العظيم الذي صنع هذا الكون الدقيق والمليء بالقوانين‬
‫اإللهي الز ًما‬
‫ُّ‬ ‫ُ‬
‫التدخل‬ ‫المنتظمة بشكل يفوق العقل اإلنساني‪ .‬ليس من العدل أن يكون‬
‫بالضرورة بحدوث الدعاء‪ ،‬ألن ذلك فيه تمييز بين البشر‪ ،‬حيث إنه ال غاية حكيمة‬
‫فرضا‬‫من مساعدة إنسان أو جماعة دون غيرهم‪ ،‬وإنقاذ بشر دون غيرهم‪ .‬وإن حدث ً‬
‫إلهي لجميع الذين يدعون ويتوسلون اإلله فهنا‪ ،‬سندخل في عبث كوني يخرب‬ ‫ٌ‬
‫تدخل ّ‬
‫للشر الطبيعي نستطيع‬
‫الطبيعة أكثر من أن يحافظ عليها‪ .‬لذلك عندما ننظر بعدسة العلم ّ‬
‫أن ندرك أن الشر عبارة عن قوانين وأنظمة تحتاج إلى فهم وتعامل علمي‪ ،‬قبل أن نفسره‬
‫الهوت ًّيا‪ ،‬أو نحاسب الخالق على أحداث الطبيعة‪َّ .‬‬
‫وأن الدعاء والرجاء قيمة معنوية‬
‫ُّ‬
‫التدخل الرحيم من الخالق‪ ،‬فإن الله يأتي بعد فهم‬ ‫وحاجة ضرورية لإلنسان من أجل‬
‫الطبيعة رحم ًة للعالمين‪.‬‬
‫يقوزرملا ناداز‬ ‫‪178‬‬

‫الفرق بني التصور الزاهد والتصور العلمي للرش الطبيعي‬

‫‪www.ibnzadan.org‬‬
‫تصور ِ‬
‫العال للرش‬ ‫تصور ِ‬
‫الزاهد للرش‬
‫الرش حيدث من األرض‬ ‫الرش حيدث من السامء‬
‫الرش يف الكون قوانني حتمية‬ ‫الرش يف الكون ال صلة له بقوانني‬
‫يسعى يف إصالح الطبيعة‬ ‫ال يسعى إلصالح الطبيعة‬
‫الطبيعة متغرية متطورة‬ ‫الطبيعة ثابتة غري متطورة‬
‫يمكن تغيري الطبيعة‬ ‫ال يمكن تغيري الطبيعة‬
‫يسعى لإلخرتاع واإلكتشاف‬ ‫ال يسعى لإلخرتاع واإلكتشاف‬
‫هيتم بالتطور والتقدم‬ ‫ال هيتم بالتطور والتقدم‬
‫العلم الطبيعي التجريبي رضوري‬ ‫العلم الطبيعي التجريبي ثانوي‬
‫خيدم الدنيا من أجل اآلخرة‬ ‫خيدم اآلخرة من أجل اآلخرة‬
‫اخلري واسع كوين يشمل الكائنات‬ ‫اخلري ضيق ال يشمل الكائنات‬
‫كرامة اإلنسان شاملة جلميع البرش‬ ‫كرامة اإلنسان حمدودة بأفراد الفرقة‬
‫مسؤول عن الطبيعة والكائنات‬ ‫غري مسؤول عن الطبيعة والكائنات‬
‫رمحة احليوانات واجب أخالقي‬ ‫رمحة احليوانات حسب النص‬
‫يعيش يف العامل النسبي‬ ‫يعيش يف العامل املطلق‬
‫باحث يف احلياة الدنيا والعلم‬ ‫زاهد عن احلياة الدينا والعلم‬

‫المراجع‪:‬‬
‫الشكوك على بطلميوس‪ ،‬تحقيق عبد الحميد صبره‬ ‫ ‪-‬الحسن بن الهيثم‪ّ .)1996( ،‬‬
‫ونبيل الشهابي‪ ،‬تصدير إبراهيم مدكور‪ ،‬مطبعة دار الكتب المصر ّية‪ ،‬القاهرة‪.‬‬
‫ ‪-‬الرفاعي‪ ،‬عبد الجبار‪ .2023 ،‬الدين والكرامة اإلنسانية‪ ،‬الرافدين للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪.‬‬
‫ ‪-‬الرفاعي‪ ،‬عبد الجبار‪ .2023 ،‬الدين والكرامة والضمأ األنطولوجي‪ ،‬الرافدين‬
‫للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الرابعة‪.‬‬
‫ ‪-‬المرزوقي‪ ،‬زادان‪ .2022 ،‬فلسفة العلم عند ابن الهيثم‪ ،‬مجلة مقابسات‪ ،‬جمعية‬
‫الفلسفة السعودية‪ ،‬مدارك للنشر والتوزيع‪.‬‬
‫ ‪-‬المرزوقي‪ ،‬زادان‪ .2022 ،‬معضلة قانون العقل والنقل عند ابن تيمية‪ :‬العقل الصريح‬
‫‪179‬‬ ‫ةعيبطلا نيناوق ءوض يف رشلا ةلكشم‬

‫ال يعارض النقل الصحيح‪ ،‬مؤسسة مؤمنون بال حدود للنشر والتوزيع‪ ،‬رابط النشر‪:‬‬
‫‪/https://www.mominoun.com/articles‬معضلة‪-‬قانون‪-‬العقل‪-‬والنقل‪-‬‬
‫عند‪-‬ابن‪-‬تيمية‪--‬العقل‪-‬الصريح‪-‬ال‪-‬يعارض‪-‬النقل‪-‬الصحيح‪.8354-‬‬
‫ ‪-‬ابن أبى أصيبعة‪( ،‬أحمد بن قاسم)‪ .)1965( .‬عيون األنباء في طبقات األط ّباء‪،‬‬
‫شرح وتحقيق نزار رضا‪ ،‬منشورات دار مكتبة الحياة‪ ،‬بيروت‪.‬‬
‫‪- Eve Garrard, (2002). «Evil as an Explanatory Concept,» The Monist‬‬
‫‪85, no. 2.‬‬
‫‪- Steffens, Bradley. (2021). First Scientist:Ibn Al-Haytham, Blue Dome‬‬
‫‪Press, Clifton, USA.‬‬
‫‪- Stephen T. Davis, ed, Encountering Evil: Live Options in Theodicy‬‬
‫‪(Westminster John Knox Press, 2001), 40-42.‬‬
‫دراسات‬

‫العالجية‬
‫َّ‬ ‫الثيوديسية‬

‫المعاناة وال ِكفاح والتحول من الرؤية بعين اإلله‬


‫‪1‬‬
‫أمبرت غريفون‬ ‫____________________________________________‬

‫ُفهم كصيغة واحدة من‬ ‫من الناحية النظرية‪ ،‬مشكلة معاناة اإلنسان يمكن أن ت َ‬
‫مشكلة الشر الكالسيكية‪ ،‬التي تشكّك في مدى توا ُفق وجود اإلله الكامل مع معاناة‬
‫البشر‪ .‬االستجابات الفلسفية لهذه المشكلة عاد ًة ما ُقدِّ مت بشكل ثيوديسية‪ ،‬أو تبرير‬
‫أن المقاربة الثيوديسية في الفلسفة التحليلية‬ ‫لأللوه َّية‪ .‬في هذه الدراسة‪ ،‬سأشير إلى ّ‬
‫وأن الفالسفة سيفعلون‬ ‫للدين تنطوي على نزعات مؤذية أخالق ًّيا وإبستمولوج ًّيا‪ّ ،‬‬
‫األفضل بتحويل منظورهم من الرؤية بعين الله الفرضية إلى رؤية من يعانون بالفعل‪.‬‬
‫من خالل تقليل التركيز على حماية العقالنية اإلبستيمية للمعتقد الديني‪ ،‬والتركيز‬
‫أكثر ــ بدالً من ذلك ــ على الفاعل َّية العالج َّية للتصورات المعينة لإلله فيما يتصل‬
‫بالمعاناة‪ ،‬يمكننا أن نستعيد ونعيد بناء و‪/‬أو نعيد تثمين أغلب المقاربات الفضائل َّية‬
‫للكفاح الفردي والجمعي مع حياة اإليمان في مواجهة المعاناة‪ .‬يمكن أن تُفهم‬
‫مشكلة المعانا ُة اإلنسانية ــ من ناحية نظرية بحتة ــ على أنها صيغة واحدة من مشكلة‬
‫الشر الكالسيك ّية‪ ،‬والتي تشكك في مدى توافق وجود إله خير مطلق (كلي المعرفة‬
‫والقدرة) مع مدى ما يواجهه البشر ويتعرضون له من معاناة إيجابية‪ .2‬في سياق‬

‫‪1 Griffioen، A. L. (2018) Therapeutic Theodicy? Suffering، Struggle، and the Shift‬‬
‫‪from the God’s-Eye View. Religions، V.9، pp.1-8 .‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‬
‫‪ 2‬أستخدم صيغة «املعاناة اإلجيابية» هنا ــ ليس لإلشارة إىل أن هناك أي يشء يتم تقييمه إجياب ًّيا بشأن‬
‫التجربة نفسها‪ ،‬وال يوجد أي يشء عنها «جيد» للفرد الذي خضع هلا‪ ،‬بل لتمييز املصطلح من‬
‫االستخدام القديم إىل حد ما‪ ،‬واألكثر حيادية لـ «املعاناة»‪ ،‬وهذا يعني ببساطة اخلضوع ليشء ما‪،‬‬
‫‪181‬‬ ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

‫الفلسفة التحليلية للدين‪ ،‬تم تقديم حقيقة (ما يبدو أنه مهم وبال جدوى) المعاناة‬
‫اإلنسانية إما على أنها غير متسقة منطق ًّيا مع وجود اإلله في التوحيد الكالسيكي أو‬
‫كإثبات يحسب بشدة ضد احتمالية وجود هذا الوجود أو كماله‪ .‬فيما يتعلق بالدور‬
‫الذي تلعبه المعاناة في هذه الحجج‪ ،‬هناك صيغ مختلفة لكلتا المشكلتين‪ ،‬تتراوح‬
‫من سبب معاناة البشر بشكل عام إلى سبب عدم وجود معاناة أقل مما هي عليه إلى‬
‫سبب معاناة بعض األفراد من شرور رهيبة أو معاناة مدمرة من النوع الذي يقودهم‬
‫للتشكيك في قيمة حياتهم ككل‪ .3‬ولكن (على الرغم من أن المرء قد ال يعتقد ذلك‬
‫من خالل الكثير من األدبيات الفلسفية) مشكلة المعاناة ال تبدأ وال تنتهي على‬
‫المستوى النظري‪ .‬بقدر ما تكون المعاناة ــ خاصة في مظاهرها المروعة والصادمة ــ‬
‫أمرا يؤثر بشدة على المعنى الذي نعلقه على حياتنا الفردية وهوياتنا الجماعية‪ ،‬فإن‬
‫ً‬
‫المشكلة عميقة‪ ،‬وربما بشكل أساسي‪ ،‬وجودية‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬في تلك التقاليد‬
‫التي يتم فيها تقديم الله كشخص‪ ،‬يفترض أن يكون الخلق مرتب ًطا به بشكل أساسي‬
‫من خالل عالقة الرعاية‪ ،‬ومن المحتمل أن ترتبط معه المخلوقات في عالقة حب‪،‬‬
‫تصبح المشكلة شخصية وموضوعية في آن واحد‪.4‬‬

‫أو حتمله‪ ،‬أو السامح به بطريقة أخرى‪ ،‬كام هو احلال يف أمر املسيح بأن «يعاين األطفال الصغار من‬
‫القدوم إيل وعدم منعهم» (لوقا ‪ .)16 :18‬يف ما ييل‪ ،‬إذن‪ ،‬جيب أن تُفهم حاالت املعاناة اإلجيابية‬
‫التي أشري إليها عىل أهنا ذات تقدير سلبي بشكل عام بطريقة ما ذات صلة (حتى لو كان جيب أن‬
‫تكون رضورية بشكل أسايس أو «جيدة» للموضوع بطريقة أخرى)‪ .‬مع ذلك‪ ،‬عىل الرغم من أنني‬
‫مفتوحا حول ما إذا‬‫ً‬ ‫أركز يف املقام األول عىل املعاناة الذاتية والتجريبية يف هذه الورقة‪ ،‬أترك األمر‬
‫قادرا عىل استدعاء بعض التجارب الذاتية‬ ‫كان يمكن للمرء أن يعاين بشكل إجيايب دون أن يكون ً‬
‫ً‬
‫أو جمموعة من التجارب بشكل تأميل‪ ،‬ربام ألن الفرد ال يدرك أن جتاربه تشكل مثال للمعاناة أو‬
‫ألنه ليست لديه األدوات التأويلية لفهم ــ وبالتايل التجربة «املناسبة» ــ معاناته كمعاناة‪.‬‬
‫تعرف الراحلة مارلني آدامز الرشور الرهيبة عىل أهنا «رشور املشاركة يف (فعل أو معاناة) مما يعطي‬ ‫ّ‬ ‫‪3‬‬
‫(نظرا إلدراجها فيه) جيدة جدًّ ا لشخص‬ ‫ً‬ ‫سب ًبا واحدً ا ظاهر ًّيا للشك يف ما إذا كانت حياة الفرد‬
‫ً‬
‫عىل العموم»‪ .‬يف سياق ذي صلة (عىل الرغم من كونه منفصل بشكل مهم)‪ ،‬يفهم مايكل ستوبر‬
‫املعاناة املدمرة عىل أهنا «معاناة ال تزال غري قابلة لالسرتداد بالنسبة للشخص‪ ،‬وال يوجد لديه دافع‬
‫أو سياق حتوييل إجيايب للضحية املعنية «‪.‬‬
‫‪ 4‬ادعاء إليونور ستامب أن «مشكلة املعاناة هي‪ ،‬إىل حد ما‪ ،‬سؤال حول العالقات الشخصية‪ ،‬بقدر‬
‫ما تتعلق املشكلة بأسباب حمتملة كافية أخالقيا هلل‪ ،‬شخص قاهر‪ ،‬كيل العلم‪ ،‬جيد متا ًما‪ ،‬للسامح‬
‫للبرش هبذه املعاناة»‪.‬‬
‫ نوفيرغ تربمأ‬ ‫‪182‬‬
‫لهذا السبب‪ ،‬اقترح بعض النقاد أن المقاربات التحليلية التي تتعامل مع مشكلة‬
‫المدَّ عى تفشل بطريقة ما‬
‫المعاناة فقط على أنها لغز تأملي آخر حول طبيعة الكمال ُ‬
‫ذات الصلة في فهم المعاناة والقمع الملموسين لبعض البشر على محمل الجد‪ .‬غال ًبا‬
‫ما يدعي «مناهضو الالهوتية» المنهجيون أن االستراتيجية النظرية نفسها تُظهر نو ًعا‬
‫من عدم اإلدراك األخالقي المنفصل أو «العمى» للمعاناة اإلنسانية الحقيقية‪ ،‬بقدر‬
‫ما تحاول تحويل هذه المعاناة بشكل مجرد إلى شر ضروري يخدم غرض ًا «أعظم»‬
‫أو الخير‪ ،‬سواء كان تحقيق أفضل العوالم الممكنة‪ ،‬أو خلق فرص «صنع الذات»‬
‫أو «األلفة» الفاضلة مع اإللهية‪ ،‬أو معاقبة األفعال السيئة لإلرادة الحرة لإلنسان‪ ،‬أو‬
‫نظرا لقدراتنا المعرفية المحدودة‪ .5‬مبررات‬
‫نتيجة سبب إلهي ال يمكننا فهم ذلك ً‬
‫كهذه لإلله وادعاءات مناهضي الالهوتية‪ ،‬ربما تضيف كمية من الضرر في العالم‬
‫ً‬
‫بدل من التخفيف من حدته‪ ،‬طالما أنهم يبعدون الله على حساب عدم القدرة على‬
‫إدراك المعاناة بوصفها بطبيعتها سيئة أو مدانة‪ .‬وكما قال توبي بيتنسون (توجيه نيك‬
‫تراكاكيس)‪{« :‬أنا} أستجيب لمشكلة الشر عن طريق بناء تبرير لسماح الله بالشر‬
‫الرهيب‪ ،‬فالثيوديسيات تعتقد أنه ال يمكن التفكير فيه أخالق ًّيا‪ ،‬وتقنن ما ال يمكن‬
‫مقبول‪ ،‬وباختصار‪ ،‬تتوسط‬ ‫ً‬ ‫تقنينه‪ ،‬وتبرر ما ال يمكن تبريره؛ ليصير ما هو غير مقبول‬
‫الثيوديسيات الممارسة التي تقنن الشر»‪.‬‬
‫أشارك اهتمامات العديد من العلماء والناشطين المناهضين للثيوديسية‪،‬‬
‫وقد شعرت لبعض الوقت بعدم الرضا عن الطريقة التي يتم بها معالجة المعاناة‬
‫شككت في أن العديد‬
‫ُ‬ ‫اإلنسانية الحقيقية في الخطاب الديني‪ .‬في اآلونة األخيرة‪،‬‬
‫من الثيوديسيات (على الرغم من أنها ليست كلها بالتأكيد) في الفلسفة التحليلية‬
‫األصوات السائدة هؤالء‬
‫ُ‬ ‫السائدة للدين تنبع من موضع امتياز نسبي‪ ،‬حيث تمثل‬
‫الفالسفة الذين هم معرف ًّيا وعاطف ًّيا في موقف أن يكونوا قادرين على إبعاد أنفسهم‬
‫عن شرور وصدمات معينة بطريقة تكفي للسماح لهم بالنظر في المعاناة بشكل أكثر‬
‫تجريدً ا والتساؤل عن الكيفية التي قد تكون ضرورية (أو على األقل تساعد على)‬

‫‪ 5‬هذا بالطبع ال يمثل سوى عدد قليل من املقاربات الالهوتية العديدة املوجودة يف األدب الفلسفي‪.‬‬
‫‪183‬‬ ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

‫تعزيز المزيد من النهاية اإللهية‪ .‬وفي حين أن القدرة‪ 6‬على «االنفصال» أكاديم ًّيا‬
‫بنفس الطريقة لصالح الموضوعية يمكن أن تكون مفيدة في الخطاب العلمي‪ ،‬إال‬
‫أنني أخشى أنه‪ ،‬في حالة الثيوديسية‪ ،‬فإن المحاولة المستمرة لرؤية المعاناة بعين‬
‫الله التي تخدم تبرير اإللهي قد تضر أكثر مما تنفع‪ ،‬سواء بالنسبة لشخصية الالهوت‬
‫األكاديمي نفسها‪ ،‬وألولئك الذين عاشوا أو يعيشون معاناة وجودية مهمة‪ .7‬فهو ربما‬
‫ضار من الناحية األخالقية‪ ،‬بقدر ما يساهم في نزعة الشرير عند الكثير منا بالفعل‪،‬‬
‫لتجاهل معاناة اآلخرين‪ ،‬وتعزيز نوع من عدم الحساسية والعمى األخالقي المذكور‬
‫أعاله‪ ،‬والتي قد يكون آلثارها تأثير سلبي أو حتى إعادة الصدمة على أولئك الذين‬
‫ضارا من الناحية المعرفية‪ ،‬من حيث أنه يتجاهل أو يقلل‬
‫يعانون بالفعل‪ .‬وقد يكون ًّ‬
‫من مصادر الداللة ذات المصداقية لصالح التفسيرات التي تهدف إلى الدفاع عن‬
‫الكمال اإللهي وحمايته بأي ثمن؛ مما قد يؤدي إلى تطوير معتقدات وسرديات‬
‫مشوهة حول ماهيتها‪ ،‬وما تعنيه للشخص الذي يعاني‪ .‬بجمع هذين الخيطين م ًعا‪،‬‬
‫قد تعمل الثيوديسية الفلسف ّية على نشر شكل من أشكال الظلم المعرفي‪ ،‬ويفشل‬
‫كالهما في أخذ بعض العوامل على محمل الجد كمصادر موثوق بها للمعرفة فيما‬
‫ً‬
‫معزول عن الكثير من هذه العوامل‪،‬‬ ‫إطارا الهوت ًّيا‬
‫يتعلق بالمعاناة اإلنسانية‪ ،‬ويقيم ً‬
‫يكون ــ بالنتيجة ــ غير قادر على معرفة الخبرات المعيشة والمعاناة‪.‬‬
‫في سياق نظرية المعرفة الدينية التحليلية في القرن العشرين بشكل خاص‪،‬‬
‫والتي اهتمت إلى حد كبير بالدفاع عن السماح العقالني للعقيدة الدينية في مواجهة‬
‫التحديات العلمانية واإللحادية بالمقابِل‪ ،‬مالت الثيوديسيات إلى تقييمها على‬
‫أساس فعاليتها في مواجهة التحديات التي تفرضها األشكال المعاصرة لمشكلة‬
‫الشر والحفاظ على عقالنية (أو عدم عقالنية) المعتقد الديني‪ .‬في الواقع‪ ،‬على‬
‫الرغم من أنه ُيشار أحيانًا عن طريق الخطأ إلى «مبررات» أو «دفاعات» عن الله‪،‬‬
‫فإن وظيفة الثيوديسية في هذه السياقات تهدف في نهاية المطاف إلى تبرير أو الدفاع‬

‫‪ 6‬يمكن للمرء أن يطلق عليه «الرفاهية»‪.‬‬


‫‪ 7‬هذه الفئات قد تتداخل وتتداخل بالطبع‪.‬‬
‫ نوفيرغ تربمأ‬ ‫‪184‬‬
‫عن المعتقد اإليماني‪ .8‬وبالتالي إذا كانت األدلة الرئيسة المحدودة لالستراتيجية‬
‫المقوضة باألضرار‪،‬‬
‫َّ‬ ‫دح َضة أو‬
‫الم َ‬
‫الثيوديسية (ذات النواتج االفتراضية في الغالب) ُ‬
‫معرف ًّيا وأخالق ًّيا‪ ،‬التي تؤثر في الضحايا الفعليين للمعاناة الرهيبة وأولئك الذين‬
‫يرغبون في العمل على مواجهتها‪ ،‬ما هي الوظيفة التي تبقى للثيوديسية هذه أن‬
‫تؤديها؟‬
‫في حين أن اقتراحي في ما يلي لن يفعل سوى القليل إلرضاء المؤمن الكالسيكي‬
‫الذي يسعى إلى الدفاع عن عقالنية المعتقد الديني ضد منتقديه الجدليين‪ ،‬أعتقد أن‬
‫نظام الفلسفة التحليلية للدين قد يكون جيدً ا لتحويل انتباهه إلى حد ما من نظرة‬
‫العين اإللهية النظرية إلى تلك المواقف الوجودية والدينية ألولئك الذين يعانون‬
‫بالفعل‪ ،‬ومن الحالة المعرفية للمعتقد الديني إلى الموقع العملي للخبرة الحية‪.‬‬
‫ألنه على الرغم من أن المعاناة مشكلة عالمية‪ ،‬إال أنه ال يمكن الرد عليها إال على‬
‫وجه الخصوص‪ .‬يتم تقاسم حقيقة المعاناة‪ ،‬ولكن مظاهرها محددة بشكل ال يمكن‬
‫اختزاله (حتى عندما تكون جماعية)‪ .‬وبالتالي‪ ،‬قد يكون من األفضل التفكير بشكل‬
‫أقل في المكاسب البالغية التي حققتها ثيوديسيات معينة‪ ،‬وأكثر في فعاليتها العالجية‬
‫ألولئك األشخاص الذين يعانون مع اإليمان في مواجهة المعاناة‪ .‬هذا االقتراح ال‬
‫نهجا جديدً ا‪ ،9‬ولكنه شيء يستحق اهتما ًما متجد ًدا وأكثر‬
‫يمثل بأي حال من األحوال ً‬

‫‪ 8‬بينام يتم أحيانًا التمييز يف األدبيات بني الدفاعات والثيوديسيات‪ ،‬إال أنني لست متأكدً ا من أن‬
‫التمييز وثيق الصلة يف سياق الشحنة املعادية للثيوديسة‪ .‬ربام أولئك الذين يقدمون الدفاعات هم‬
‫«متواضعون» إىل حد ما يف ادعاءاهتم املعرفية‪ ،‬لكنهم يصدمونني حيث ال يزال من املحتمل أن‬
‫يشجعوا األرضار من النوع الذي أشار إليه املناهض للثيوديسية‪ ،‬حتى لو كانت هذه احلسابات‬
‫تشري فقط إىل االحتامالت املنطقية أو القصص من نوع «صحيح لكل ما نعرفه»‪ .‬يف الواقع‪ ،‬بقدر ما‬
‫قد تطلب منا هذه الدفاعات أن نتخيل عوامل حمتملة بعيدة (عن كل ما نعرفه) بعيدة متا ًما عن عاملنا‪،‬‬
‫فقد ينتهي هبم األمر إىل إحلاق رضر أكثر من الثيوديسيات املبارشة من خالل إزالة املوضوع الذي‬
‫يتخيل مثل هذه العوامل حتى من نفس معاناة حقيقية يف العامل الفعيل‪.‬‬
‫‪ 9‬يف الواقع‪ ،‬ال ينبغي النظر إىل هذا عىل أنه إدانة عاملية جلميع العالجات التحليلية ملشكلة املعاناة‪.‬‬
‫أعتقد أن بعض املقاربات التحليلية ملشكلة املعاناة‪ ،‬عىل سبيل املثال تلك التي يتبعها فالسفة مثل‬
‫مارلني آدامز وإليونور ستامب‪ ،‬حتاول أن تأخذ املعاناة امللموسة لألفراد عىل حممل اجلد وتتعامل‬
‫مع املشكلة بطرق تثبت التواضع يف مواجهة املشكلة وحساسية للحاجة إىل استجابة فعالة عالجيا‪.‬‬
‫مفتوحا هنا‪.‬‬
‫ً‬ ‫ومدى كون مناهجهم تشكل بالفعل مثل هذا االستجابة أتركه‬
‫‪185‬‬ ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

‫ً‬
‫شمول‪ ،‬الغرض منه هو مجرد تقديم تذكير ــ إن لم يكن التوازن أو التصحيحية ــ إلى‬
‫النهج السائد الذي اتخذته الفلسفة التحليلية للدين‪.‬‬
‫تشير نسخة متواضعة من النهج العالجي إلى تحول في المنظور فقط‪ ،‬يقل السؤال‬
‫عن كيفية تمكن الخاصية العامة للمعاناة من تضخيم الصفات اإللهية في الالهوت‬
‫الكالسيكي مع مدى المعاناة اإلنسانية‪ ،‬وزيادته عن مدى القيمة العملية للتصورات‬
‫ذات الخلفية الالهوتية والنص َّية عن اإلله وعالقة اإلله بالخليقة فيما يتعلق بالتوفيق بين‬
‫حياة اإليمان والتأثيرات الحقيقية لمعاناة معينة‪.‬‬
‫ّ‬
‫إن الفهم األكثر جذرية قلي ً‬
‫ال لما أقترحه يفترض إعادة تخصيص حقيقي لمصطلح‬
‫«الثيوديسية» ليشير‪ ،‬ال لإلجابات االفتراضية شبه الموضوعية لمشكلة المعاناة من‬
‫منظور الله‪ ،‬بل للكفاح الدينامي والمتنوع وغير القابل لالختزال الذي يتصارع من‬
‫خالله البشر مع مشكلة اإليمان الحي وتجربة المعاناة والشهادة على الشر‪ .‬من وجهة‬
‫نظر فلسفية‪ ،‬المطلوب هو تحليل عميق وهادف لعملية العبث اليعقوبي التي نتعامل‬
‫من خاللها مع اإللهية ومع بعضنا البعض في مواجهة المعاناة اإلنسانية والطرق التي‬
‫قد نتحول بها‪ ،‬إلى األفضل أو ــ في بعض الحاالت ربما ــ إلى األسوأ‪.‬‬
‫إن التحول المنظوري الذي أقترحه‪ ،‬والذي يتم فيه تقييم الثيوديسية بطريقة عالجية‬
‫بدل من معرفية مجردة‪ ،‬يستدعي طر ًقا مبتكرة للتفكير في مشكلة المعاناة‪ .‬يطلب منا‬‫ً‬
‫التخلي عن محاوالتنا لتوليد أسباب مبررة من منظور اإللهية المجردة (أو‪ ،‬على األقل‪،‬‬
‫االمتناع عن التفكير في أننا إذا احتللنا وجهة نظر الله‪ ،‬فإننا سنمتلك مثل هذه األسباب)‬
‫لصالح التناول التخيلي لوجهة نظر أيوب في معاناته الملموسة‪ .‬بالطبع‪ ،‬يكون االبتكار‬
‫في بعض األحيان ليست مسألة ابتكار شيء جديد تما ًما‪ ،‬وإنما إيجاد طرق مبتكرة‬
‫لتطبيق أفكار ذات صلة تاريخية وذات مغزى ثقافي تتحدث إلينا بالفعل‪ ،‬وقد توفر‬
‫ً‬
‫سبل مثمرة للتفكير المستمر في الوقت الحاضر‪ .‬مثل هذا النهج هو بالضبط ما تبنته‬
‫نهاما فيربين في مقالة حديثة حول مشكلة المعاناة‪ ،‬حيث تناقش ثالث طرق للتفاعل مع‬
‫شخصية أيوب‪ ،‬وهي الطرق ذاتها التي اقترحها موسى بن ميمون وكيركغورد وفيربين‬
‫(مستوحاة من حاخامات الهاسيديك العظماء)‪ ،‬والطرق التي تفهم بها هذه المقاربات‬
‫وضع أيوب (الذي تحدث «بشكل صحيح» عن الله)‪ ،‬ومعاناته‪ ،‬وكيفية هزيمتها‪.‬‬
‫ نوفيرغ تربمأ‬ ‫‪186‬‬
‫باستدعاء مصطلح من كيركغورد‪ ،‬تصف فيربن إعادة تمثيالتها الفلسفية الثالثة‬
‫أليوب على أنها «فرسان إيمان» مختلفة‪ .‬تدعي أن أيوب عند موسى بن ميمون هو‬
‫شكل عمي ًقا من الجهل‪ ،‬والذي يتجاوز آالمه‬ ‫ً‬ ‫«فارس الحكمة»‪ ،‬الذي تمثل معاناته‬
‫عبر اكتساب غير افتراضي للحكمة الصوفية من خالل التأمل في اإلله‪ .‬في المقابل‪،‬‬
‫كيركغورد نفسه يقدم أيوب على أنه «فارس الثقة والمحبة»‪ ،‬الذي يدرك «الدور‬
‫المركزي» الذي تلعبه المعاناة في حياة اإليمان‪ .‬تدعي فيربين أن أيوب هذا يدرك أن‬
‫حياة اإليمان قد تزيد بالفعل من معاناة المرء‪ ،‬بقدر ما ينطوي اإليمان في وجه المعاناة‬
‫على صراع متناقض ومتضارب حيث «ينفصل الفرد عن العالم‪ ،‬وفي الوقت نفسه‪،‬‬
‫يبقى بداخلها»‪ .‬وهكذا ال يتوقف عن المعاناة ولكنه مع ذلك يحول معاناته‪« :‬يتجاوز‬
‫أخيرا‪ ،‬تفسر فيربن نفس أيوب على أنها «فارس احتجاجي»‪،‬‬ ‫خسارته عبر التعلق بالله»‪ً .‬‬
‫شخصية صمود «تهزم معاناة الظلم‪ ...‬بتسمية الظلم بالظلم ومقاومته واالحتجاج عليه‬
‫ورفض التصالح معه»‪ .‬أيوب الثالث قد يسامح الله‪ ،‬لكنه ال يزال غير راغب أو غير قادر‬
‫على التصالح مع األلوهية‪.‬‬
‫في نهاية المطاف‪ ،‬تجادل فيربن أنه على الرغم من االختالفات والتي تبدو غير‬
‫قابلة للتناغم‪« ،‬كل األيوبات الثالثة‪ ...‬يمكن تبنيها‪ ،‬سواء من منظور وصفي فلسفي أو‬
‫من منظور ملتزم دين ًّيا»‪ .‬وتجادل في أنها يمكن تبنيها من وجهة نظر التحليل الفلسفي‪،‬‬
‫طالما أن كل منها يعطي صوتًا لمظاهر مختلفة من االستجابات القائمة على اإليمان‬
‫للمعاناة التي تجعلها بوضوح «قواعد اإليمان»‪ ،‬وتظهر كتجليات متعددة بشكل‬
‫أساسي‪ .‬كما أنها يمكن أن يتم تبنيها‪ ،‬من وجهة نظر ملتزمة دين ًّيا‪ ،‬ليس بمعنى الموافقة‬
‫المعرفية على كل من االفتراضات التي تؤيدها هذه األساليب‪ ،‬بل باألحرى «احتضان‪،‬‬
‫أو على األقل التفكير بجدية في‪ ،‬القيم التي تجسدها كل واحدة»‪ .‬هذه القيم قد ال تكون‬
‫بالضرورة قابلة للتطبيق في وقت واحد‪ ،‬لكنها تفيد في تكميل بعضها البعض ً‬
‫بدل من‬
‫التناقض بينهما‪ ،‬كما أن تنوعها «يعمل على كشف الظالل المختلفة التي تتوارى خلف‬
‫كل نماذجنا للكمال»‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬من وجهة نظر عالجية‪ ،‬فإن نهج كل من هؤالء «الفرسان» يجلب معه‬
‫مخاطر ومخاطر محتملة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬إن وصف معاناة شخص ما على أنه مجرد‬
‫‪187‬‬ ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

‫مسألة «جهل» يحتاج إلى تصحيح يهدد بالفشل في أخذ وجهة نظر الشخص للمعاناة‬
‫على محمل الجد‪ ،‬ولديه القدرة على المساهمة في الظلم الذي يشهده المجتمع‬
‫في كثير من األحيان على الضحايا‪ .‬وبالمثل‪ ،‬فإن اقتراح أن أولئك الذين يعانون من‬
‫الشرور الرهيبة ال يزالون في (ولكن ليس لـ) العالم من خالل «التعلق» بإله ال يسبر‬
‫وأخيرا‪،‬‬
‫ً‬ ‫غوره‪ ،‬قد يبدو وكأنه يطلب من ضحية اإلساءة أن تعود إلى المعتدي عليها‪.‬‬
‫مثل)‬‫تشجيع االحتجاج الراسخ أو االستياء األخالقي من ذات اإلله (في مقابل أفعاله ً‬
‫قد تغلق إمكانية التسامح أو المصالحة أو الحميمية اإللهية بطرق تخدم فقط زيادة‬
‫معاناة المرء‪ً ،‬‬
‫بدل من التغلب عليها‪ .10‬أعتقد أن منهج فيربن التعددي لعملية التغلب‬
‫أيضا ثالثة طرق يمكن من خاللها إعادة تفسير الثيوديسية كتعامل‬
‫عند أيوب توضح ً‬
‫ديناميكي مع مشكلة المعاناة ذات قيمة عالجية‪ ،‬على األقل إذا تم تكييف هذه النهج‬
‫التاريخية الثالثة وتخصيصها بطرق معينة ذات معنى‪ .‬في الواقع‪ ،‬تقدم كل من فرسانها‬
‫الثالثة ألولئك الذين يعانون طريقة إلعادة توجيههم فيما يتعلق بمعاناتهم‪ ،‬سواء كانت‬
‫معرفية أو عاطفية أو إرادية‪.‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬على الرغم من أنه قد يكون مدمر ًا للغاية أن تفسر لشخص‬
‫تعرض لمعاناة كبيرة على أنه مجرد «يفتقر» إلى بعض المعرفة أو الحكمة ذات الصلة‪،‬‬
‫إحساسا ــ من وجهة نظر‬
‫ً‬ ‫والتي من شأن حيازتها «إصالحها» بأعجوبة‪ ،‬إال أن هناك‬
‫وصفية بحتة ــ بأن المعاناة الصادمة نفسها تتسم بنقص الفهم (و‪/‬أو القدرة على‬
‫الفهم)‪ .‬بقدر ما تتسبب األحداث المؤلمة في كثير من األحيان في حدوث انفصال‬
‫جذري في فهم الفرد لذاته ــ انقطاع في سرديته الذاتية مما يؤدي إلى عدم القدرة على‬
‫فهم نفسه والعالم من حوله ــ قد تكون النتيجة المعرفية لمثل هذه الصدمات شكل‬

‫‪ 10‬واألهم من ذلك‪ ،‬كام أناقش يف الوقت احلارض‪ ،‬أعتقد أنه قد تكون هناك حاالت تكون فيها مثل هذه‬
‫الكراهية األخالقية ال مفر منها ومربرة‪ ،‬وحيث تكون املصاحلة مستحيلة‪ .‬تأخذ فريبن هذا (بحق‪،‬‬
‫عىل ما أعتقد) ليكون هذا هو احلال مع أيوب وغريه من «ضحايا األلفة السيئة»‪ ،‬التي يعكس صمتها‬
‫املسافة التي ال يمكن إصالحها عن اهلل و«يكشف عن الشجاعة والقوة الداخلية وااللتزام الذي ال‬
‫هوادة فيه بالعدالة»‪ .‬يتغلب أيوب فريبن بشكل مفرط عىل استيائه من خالل مساحمة اهلل و«إجراء حوار‬
‫مع الرسالة املهينة التي ينقلها هجومه ورفضه»‪ ،‬لكنه ال يسعى بالتايل إىل التصالح مع الكائن اإلهلي‬
‫غري النادم‪.‬‬
‫ نوفيرغ تربمأ‬ ‫‪188‬‬
‫من المعاناة التي تفتقر إلى الفهم في جوهرها‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬قد تكون أشكال معينة‬
‫من إعادة التوجيه العالجي مفيدة‪ ،‬حيث ــ مث ً‬
‫ال ــ إعادة التنشيط المتكرر لحدث صادم‬
‫(وتأثير إعادة الصدمة على الفرد) يتم التعبير عنه لفظ ًّيا وتحويله المعرفي إلى تذكر‬
‫وضوحا‪ .‬بهذا‬
‫ً‬ ‫متماسك مع بنية سردية يمكن للعامل دمجها في قصة سيرة ذاتية أكثر‬
‫المعنى‪ ،‬فإن تأمالت الفرد في الطبيعة اإللهية والدور الذي يؤديه في قصة معاناة الفرد‬
‫يمكن أن يجلب معنى للفوضى المعرفية والعاطفية واإلرادية عند الفرد‪ .‬وقد يساعد‬
‫أيضا في الترويج لنوع من القبول‪ ،‬ليس للصدمة أو المعاناة التي تعرض لها الفرد‪،‬‬
‫ً‬
‫ولكن لحقيقة أن الفرد سيحتل بمعنى معين مساحة ال يمتلكها اآلخرون الذين يفتقرون‬
‫دائما قدم واحدة في‬
‫إلى مثل هذه السرد‪ .‬قد يقبل أنه ــ كما أيوب كيركغورد ــ ستكون له ً‬
‫العالم وأخرى خارجها‪ .‬وبعبارة أخرى‪ ،‬مثل فارس الثقة المحبة‪ ،‬قد يضطر المرء إلى‬
‫التنازل عن سردية تؤكد االنفصال عن العالم‪ ،‬بالضبط من أجل البقاء داخله‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال تتطلب أي من هذه المقاربات أن يكون الدور الذي يؤديه الله في مثل‬
‫هذه السرد هو دور يعفي األلوهية من دورها في معاناة الفرد‪ .‬قد يؤدي تأمل السردي‬
‫في األلوهية من قبل الفارس الباحث عن الحكمة ــ كما هو الحال مع أيوب فيربن ــ إلى‬
‫استنتاج أنه «عانى من اعتداء إلهي ظالم ضدها‪ ،‬إساءة إلهية»‪ .‬وبالمثل‪ ،‬على الرغم من‬
‫أن مثل هذه السردية قد تعمل (في بعض الحاالت) على تحويل المعاناة؛ مما يجعلها‬
‫أكثر قابلية للتحمل‪ ،‬فإن الثقة المطلوبة من فارس كهذا قد ال تكون هي وضع الثقة‬
‫المحبة بالله‪ ،‬بل باألحرى أن تأتي إلى الثقة بنفسها من خالل الثقة في روايتها الخاصة‪،‬‬
‫من خالل «التمسك» (ولكن ليس بأي حال من األحوال تبرير أو إبراء) باإلله الجاني‪.‬‬
‫دائما مكان لفارس االحتجاج‪ ،‬الذي ــ في الحكمة المرهقة‬
‫بهذه الطريقة‪ ،‬إذن‪ ،‬هناك ً‬
‫التي ألحقت بشكل جائر به من خالل تجربته في المعاناة وثقة متجددة في نفسه ــ‬
‫يؤكد سرديته الثيوديسية على وجه التحديد برفض المصالحة مع نوع اإلله الذي يؤذي‬
‫موضوعات «محبته»‪.‬‬
‫واألهم من ذلك‪ ،‬أن كلًّ من المناهج الثالثة التي تناقشها فيربن يمكن ً‬
‫أيضا تبنيها‬
‫من قبل العاملين على مكافحة وتخفيف هذه المعاناة‪ ،‬والمتضامنين مع أولئك الذين‬
‫يعانون من مثل هذه الشرور‪ .‬ولكن يجب أن نكون حذرين هنا‪ .‬قد تتطلب الفجوة‬
‫‪189‬‬ ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

‫غير القابلة للردم أحيانًا من وجهة نظر هذين الحزبين فر ًقا في الطرق التي يتم فيها‬
‫تمثيل الحكمة الفائقة‪ ،‬والثقة المحبة‪ ،‬واالحتجاج بشكل فعلي و‪/‬أو عالجي‪ .‬إن‬
‫كفاح أولئك الذين يعانون‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬من الفقر أو المرض أو العنف‪ ،‬ليس‬
‫هو نفسه الصعوبات التي يواجهها أولئك الذين يشهدونها من الخارج‪ ،‬وبالتالي ما‬
‫احتجاجا في هذه قد تعتمد بشكل حاسم على عوامل القرب‬
‫ً‬ ‫يعتبر حكمة أو ثقة أو‬
‫والمنظور‪ .‬إن سرعة وواقع الشر ألولئك الذين يعانون بشكل مباشر هو أمر ال يمكن‬
‫نقله بسهولة إلى األطراف المستعملة‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن سمة العديد من األفراد‬
‫والجماعات في مناصب السلطة واالمتياز هي شعور بالالمباالة فيما يتعلق بالمعاناة‬
‫الحقيقية لآلخرين ــ «عدم القدرة على المعاناة» المعزز اجتماع ًّيا‪ ،‬كما يقول الالهوتي‬
‫األلماني دوروثي سول‪ ،‬حيث «تجنب المعاناة كهدف يهيمن على الناس لدرجة أن‬
‫تجنب كل العالقات واالتصال مع المعاناة نفسها يصبح هو الهدف‪ ...‬إنهم يخبرون‬
‫المعاناة‪ ،‬لكنهم متسقون عنها‪ :‬إنها ال تمسهم‪ .‬ليس لديهم لغة وال إيماءات للتعامل مع‬
‫المعاناة‪ .‬ال شيء يتغير»‪ .‬ما يفتقر إليه هؤالء األشخاص‪ ،‬كما يعتقد سول‪ ،‬هو القدرة‬
‫على التعرف على المعاناة أو تحديدها (في اآلخرين وفي الذات) وفي امتالك حساسية‬
‫أو القدرة على تحسس تلك المعاناة‪ ،‬وخاصة معاناة اآلخرين‪ .‬يعكس «نقص الوعي»‬
‫نقصا معرف ًّيا وعاطف ًّيا ينتج عنه نوع من عدم القدرة‬
‫و«الخدر» هذا فيما يتعلق بالمعاناة ً‬
‫على إدراك األشياء كما هي بالفعل‪ ،‬وشلل دافعي مرتبط بذلك‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن المباالة‬
‫المحظوظين هي إبستيمية وأخالقية‪ :‬عمى انتقائي لشدة المعاناة وعدم رغبة مرهقة في‬
‫محاربة الظلم حيثما يحدث‪.‬‬
‫هنا‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬قد نتعرف على األضرار التي قد يرتكبها االستدالل العقلي‬
‫أيضا‬
‫المستخلص بشكل مفرط من وجهة نظر الله‪ .‬ومع ذلك فإن نهج فيربن يزودنا ً‬
‫باألدوات لمكافحة هذه العلل‪ .‬في حين أن الالمباالة فيما يتعلق بالمعاناة هي في نهاية‬
‫المطاف مشكلة اإلرادة‪ ،‬ال يمكن معالجة القضية اإلرادية دون االلتزام بأخذ معاناة‬
‫اآلخرين على محمل الجد‪ ،‬وال يمكن تحقيق ذلك إال من خالل معالجة أوجه القصور‬
‫المعرفي والعاطفي التي تسبب هذه الالمباالة‪ .‬سيشمل هذا محاولة لفهم عمق معاناة‬
‫اآلخرين‪ ،‬حتى لو لم يتمكن المرء من تجربته‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا الفهم ليس ممكنًا‬
‫ نوفيرغ تربمأ‬ ‫‪190‬‬
‫من دون أخذ شهادة معاناة األشخاص على محمل الجد ــ أي دون إعطائهم نوع الثقة‬
‫التعاطفية والمصداقية الممتدة ألولئك الذين نشاركهم التقارب االنفعالي الحميم‪،‬‬
‫وعندما نبدأ في أخذ هذه الشهادة كمصدر موثوق للمعرفة ــ عندما نستمع بثقة ً‬
‫بدل‬
‫من الكالم المفترض ــ قد نتحرك لمقاومة مثل هذا الشر‪ ،‬والوقوف مع أولئك الذين‬
‫يعانون‪ ،‬ومن أجلهم‪ .‬هنا‪ ،‬يتم تحويل فرسان الحكمة‪ ،‬والثقة المحبة‪ ،‬واالحتجاج إلى‬
‫فارس التراحم‪ ،‬الفارس الذي على الرغم من أنه ربما ال يستطيع أن يشعر «مع» أو «في»‬
‫أولئك الذين يعانون ــ يشعر إلى جانبهم بطريقة تقاربية تُظهر الفهم والتضامن وااللتزام‬
‫بالمقاومة‪.‬‬
‫قد يتساءل المرء هنا أين ذهب الله في مثل هذا النهج‪ .‬هل يمكن للثيوديسية العالجية‬
‫أن تتصارع مع اإليمان في وجه المعاناة دون التضحية باإللهية‪ ،‬دون جعل الله يختفي؟‬
‫بالتأكيد هناك الكثير مما يمكن قوله حول هذه النقطة‪ .‬في الوقت الحالي‪ ،‬يمكنني فقط‬
‫ترك القارئ مع األفكار التالية‪:‬‬
‫أوالً‪ ،‬التحول إلى منظور أيوب بالضرورة «يخفي الله» من خالل أخذ االنسحاب‬
‫اإللهي‪ ،‬الخفي‪ ،‬والغياب على محمل الجد‪ .‬في الواقع‪ ،‬سيشهد هذا النوع من المواجهة‬
‫الثيوديسية عاد ًة اإلله المنسحب في مركزه‪ .‬حيث يقابل أيوب بالصمت اإللهي في وجه‬
‫معاناته‪ ،‬قد يشعر بانسحاب من حضور الله ذاته‪ .‬عندما يختبر قوة الله الساحقة بشكل‬
‫كبير‪ ،‬فقد يشعر بانسحاب أو االغتراب عن وجود الحب اإللهي‪ .‬إن تجارب الغياب‬
‫واالنسحاب واالغتراب هذه هي جوانب مهمة من التجربة الثيوديسية الديناميكية‪ ،‬فهي‬
‫«تمس» الفرد فيما يؤلمه وتقطعه في مفاصله الميتافيزيقية والروحية بطرق تفضل تغير‬
‫نفسه وعالقته بالعالم من حوله‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإن الله موجود أيض ًا دائم ًا‬
‫في خطاب النضال الثيوديسي‪ ،‬حتى عندما يتميز هذا الوجود بشكل من أشكال الغياب‬
‫المحسوس‪ ،‬ألن إدراك شيء ما غائب ال يتطابق مع مجرد عدم رؤيته كحاضر‪.‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬اإلله في الثيوديسية العالجية «غائب» أيض ًا بقدر ما هو إله ينتظر إعادة اكتشاف‬
‫خيالي وسردي‪ .‬في حين أنه‪ ،‬من وجهة نظر الهوتية‪ ،‬تعالي و َمنْ َعة الفكرة األلوهية‬
‫قد يجعل الله بعيدً ا عن متناول الفهم البشري‪ ،‬فالكفاح الدينامي للثيوديسية يجب أن‬
‫يتدافع مع الطريقة التي نتم َّثل بها اإلله تخيل ًّيا في حياة اإليمان على األرض‪ ،‬وما تعنيه‬
‫‪191‬‬ ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

‫هذه التمثالت لكيفية التفاعل واالستجابة للمعاناة في العالم‪ .‬ما تنقله تصوراتنا عن‬
‫اإلله عن الطريقة التي نفهم بها العالم وعالقاتنا مع بعضنا البعض؟ كيف تعمل بعض‬
‫المفاهيم والسرديات الدينية على تعزيز الهياكل والممارسات القمعية؟ كيف يتأثر‬
‫األشخاص الذين يجب أن يمنحهم الدين الراحة والحماية بهذه التصورات؟ وكيف‬
‫يمكننا تكييف أو تعقيد مفاهيمنا وسردياتنا المتعلقة بالله من أجل معالجة أولئك الذين‬
‫يعانون بشكل مناسب؟ الثيودسية الفلسفية الحديثة نحرت أيوب على مذبح اإليمان‬
‫الكالسيكي‪ .‬قتل الالهوت الفلسفي ما بعد الحداثي إله الالهوت الكالسيكي في‬
‫ساحة معركة التعالي المعادي للميتافيزيقية‪ .‬ربما تكون إحدى المهام الرئيسية لفلسفة‬
‫تحليلية للدين في القرن الحادي والعشرين هي تحويل بحثها الدقيق إلى النضال‬
‫المطلق للمعاناة اإلنسانية الحقيقية‪ ،‬الستعادة منظور أيوب ومثابرة يعقوب‪ ،‬من أجل‬
‫تحديد تصورات مثمرة الهوتي ًا عن إله ميتافيزيقي يمكننا أن نغني ونرقص أمامه‪،11‬‬
‫وجها لوجه‪ ،‬إله يمكننا أن نكافح معه بجدية ويمكننا‬
‫أيضا أن نتصارع معه ً‬‫ولكن يمكننا ً‬
‫كذلك أن نحتج عليه بصوت ٍ‬
‫عال‪.‬‬

‫‪ 11‬للمنافسة يف تصورات املؤمنني الكالسيكيني لأللوهية‪ ،‬يشكو مارتن هايدغر من أنه أمام «إله الفلسفة‬
‫امليتافيزيقي‪ ...‬ال يمكن لإلنسان أن يسقط عىل ركبتيه يف رهبة وال يمكنه عزف املوسيقى والرقص أمام‬
‫هذا اإلله»‪ ،‬ورد مارلني آدمز بأن فكرة أنه «ال يمكننا الغناء والرقص أمام السبب األول ال يأخذ عىل‬
‫حممل اجلد من هو السبب األول بالفعل»‪.‬‬
‫ نوفيرغ تربمأ‬ 192

References
-- Adams, Marilyn McCord. 1989. Horrendous Evils and the Goodness of
God. Aristotelian Society Supplementary, 63: 297 ‫ ــ‬310.
-- Adams, Marilyn. 2014. What’s Wrong with the Ontotheological Error?
Journal of Analytic Theology 2: 1 ‫ ــ‬12.
-- Anderson, Pamela Sue. 2005. What’s Wrong with the God’s Eye Point of
View. A Constructive Feminist Critique of the Ideal Observer Theory. In
Faith and Philosophical Analysis. The Impact of Analytical Philosophy on
the Philosophy of Religion. Edited by Harriet A. Harris and Christopher
J. Insole. Burlington: Ashgate, pp. 85 ‫ ــ‬99.
-- Anderson, Pamela Sue. 2012. Re-Visioning Gender in Philosophy of
Religion. Reason, Love and Epistemic Locatedness. Burlington: Ashgate.
-- Bar On, Bat-Ami. 2003. Terrorism, Evil, and Everyday Depravity. Hypatia,
18: 157 ‫ ــ‬63.
-- Betenson, Toby. 2016. Anti-Theodicy. Philosophy Compass, 11: 56 ‫ ــ‬65.
-- Brison, Susan J. 2003. Aftermath. Violence and the Remaking of a Self.
Princeton: Princeton University Press.
-- Everly, George S., and Jeffrey M. Lating. 2004. Personality-Guided
Therapy for Posttraumatic Stress Disorder. Washington: American
Psychological Association.
-- Farennikova, Anna. 2013. Seeing Absence. Philosophical Studies 166: 429 ‫ ــ‬54.
-- Fricker, Miranda. 2007. Epistemic Injustice. Power and the Ethics of
Knowing. Oxford: Oxford University Press.
193 ‫يسيدويثا‬
‫ل‬ ‫ّيجالعلا ة‬

-- Graper Hernandez, Jill. 2016. Early Modern Women and the Problem of
Evil. Atrocity & Theodicy. London: Routledge.
-- Heidegger, Martin. 1969. Identity and Difference. Translated by Joan
Stambaugh. New York: Harper & Row.
-- Panchuk, Michelle. 2017. Does Violence Foster (the Right Kind of)
Intimacy? Response to Michael Harris’ «‘But Now My Eye Has Seen
You’: Yissurin Shel Ahavah as Divine Intimacy Theodicy». Edited by
Association for the Philosophy of Judaism (Symposium). Available online.
-- Phillips, Dewi Zephaniah. 2004. The Problem of Evil and the Problem of
God. London: SCM Press.
-- Schauer, Maggie, Neuner Frank, and Elbert Thomas. 2011. Narrative
Exposure Therapy. A Short-Term Treatment for Traumatic Stress
Disorders. Göttingen: Hogrefe & Huber.
-- Sölle, Dorothee. 1973. Leiden. Stuttgart: Kreuz Verlag.
-- Stoeber, Michael. 2005. Reclaiming Theodicy. Reflections on Suffering,
Compassion and Spiritual Transformation. New York: Palgrave Macmillan.
-- Stump, Eleonore. 2010. Wandering in Darkness. Narrative and the
Problem of Suffering. Oxford: Oxford University Press.
-- Surin, Kenneth. 1986. Theology and the Problem of Evil. Oxford: Basil
Blackwell.
-- Trakakis, Nick. 2008. The End of Philosophy of Religion. New York:
Continuum.
-- Van Inwagen, Peter. 2006. The Problem of Evil. Oxford: Clarendon Press.
-- Verbin, Nehama. 2017. Three Knights of Faith on Job’s Suffering and its
Defeat. International Journal of Philosophy and Theology 78: 382 ‫ ــ‬95.
‫دراسات‬

‫االستجابات الفلسفية لمشكلة الشر‬

‫في التقليدين اإلسالمي والمسيحي‬


‫جون هوفر‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫الطرق اإللهية والبشرية للتعامل مع الشر‬


‫يقدم كل من اإلسالم والمسيحية مقاربات عن كيفية تعامل الله مع‬
‫موضوعات من قبيل عدم اإليمان‪ ،‬والخطية‪ ،‬والظلم‪ ،‬والمعاناة‪ ،‬واالغتراب‪،‬‬
‫وهي موضوعات يمكننا جمعها تحت عنوان «الشر»‪ .‬بالنسبة للمسيحيين‪،‬‬
‫يواجه الله الشر بدخوله التاريخ ليخلص خليقته‪ ،‬في المقام األول في يسوع‬
‫المسيح‪ .‬بالنسبة للمسلمين‪ ،‬يتعامل الله مع الشر عن طريق إرسال الرسل‬
‫والكتب لتوجيه البشرية‪ ،‬وبلغت ذروتها بمحمد النبي والقرآن الكريم‪ .‬ويضيف‬
‫المسلمون الشيعة أن الله يواصل توجيه العالم والمحافظة عليه من خالل اإلمام‬
‫الغائب‪.‬‬
‫قصصا مختلفة عن كيف يتغلب‬ ‫ً‬ ‫على الرغم من أن المسلمين والمسيحيين يروون‬
‫الله على الشر‪ ،‬إال أننا نتشارك في مشكلة كيفية التعامل مع حقيقة أن الله لم يزل الشر‬
‫تما ًما‪ .‬يمكن للمرء أن يضع قوائم طويلة للطرق التي نحاول بها مواجهة هذا التحدي‪.‬‬
‫نصلي‪ ،‬نحتج‪ ،‬نعلم‪ ،‬نطيع الله‪ ،‬نحث على التغيير السياسي‪ ،‬وننتظر بصبر أن يتصرف‬
‫الله‪ .‬في بعض األحيان تكون فعالية وصواب هذه الوسائل المختلفة موضوع نقاش‬

‫‪1 Hovver, J. (2018) A Topology of Responses to the Philosophical Problem of Evil‬‬


‫‪in the Islamic and Christian Traditions. The Conrad Grebel Review, pp.82-96 .‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‬
‫‪195‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫قوي‪ .‬يمكن مالحظة ذلك‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬في الخالفات المسيحية حول ما إذا‬
‫كان المسيحيون قد ينخرطون في الحرب لحل المشاكل السياسية‪.‬‬

‫مشكلة الشر الفلسفية‬


‫موضوع هذه الورقة هو طريقة أخرى مثيرة للجدل للتعامل مع الشر‪ .‬وهذا‬
‫يعني إيجاد حلول للمشكلة الفلسفية للشر التي تظهر في أسئلة مثل ما يلي‪ :‬لماذا‬
‫لم يزل الله الشر بعد؟ ما هو الله هذا الذي يتعايش مع الشر؟ هل الشر جيد نوعا‬
‫ما؟ ولماذا يعاني األبرياء؟ تستعرض هذه الورقة الطرق التي أجاب بها المسلمون‬
‫والمسيحيون على مثل هذه األسئلة وتجميعها في ثالثة أنواع‪ )1( :‬اإلرادة اإللهية‪،‬‬
‫و(‪ )2‬الثيوديسية التفاؤلية أو أفضل العوالم الممكنة‪ ،‬و(‪ )3‬ثيوديسيات اإلرادة‬
‫الحرة‪ .‬سوف نلقي نظرة على كل من التقاليد اإلسالمية والمسيحية‪ ،‬ولكننا لن نشير‬
‫إال إلى القليل من اإلشارات إلى كتابات خاصة من الشيعة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تم مالحظة‬
‫اآلراء التي يحملها الشيعة والمينونيت ‪ ،2 Mennonit‬وسيصبح من الواضح أنني‬
‫أعمل ضمن التأكيد التقليدي للمينونين على اإلرادة الحرة لإلنسان‪.‬‬

‫اعتراضات على التفكير الفلسفي في الشر‬


‫بالنسبة لبعض المسلمين والمسيحيين‪ ،‬تبعث مشكلة حدود الشر على‬
‫التجديف‪ ،‬وهناك شعور واسع النطاق بين المسلمين السنة بأن الخوض في هذه‬
‫المشكلة هو طريق إلى الكفر (راجع القرآن ‪ .)21:23‬بالنسبة لبعض المسيحيين‪،‬‬
‫بما في ذلك بعض المينونيين‪ ،‬فإن التفكير في المشكلة هو استجابة غير كافية للشر‪،‬‬
‫وتوضع الرحمة مع المعاناة في مكانها‪ .‬يوضح القس المينونايتي ليو هارتشورن‬

‫‪ 2‬املينونيت‪ :‬مجاعة من الكنيسة الربوتستانتية‪ ،‬انبثقت من األنابابتيست (حركة إصالحية جذر َّية‬
‫تعر َضت بسبب‬ ‫مسيح َّية)‪ ،‬عىل يد الكاهن اهلولندي مينو سيمون‪ ،‬يف القرن السادس عرش‪َّ ،‬‬
‫يقض عىل‬ ‫ِ‬ ‫معتقداهتا لقمع شديد من السلطات الكنس َّية والسياس َّية واالجتامع َّية‪ ،‬إال َّ‬
‫إن ذلك مل‬
‫العال كا َّفة‪ ،‬وترتكَّز يف الواليات املتحدة وكندا‪ ،‬تعتقد برشط َّية‬ ‫اجلامعة‪ ،‬وهي تنترش اآلن يف بلدان َ‬
‫اإلدراك والقناعة لإليامن وإعالنِ ِه‪ ،‬وتشدد عىل السلم َّية‪ ،‬وتعيش ببساطة واستقالل َّية وتقليد َّية‬
‫ِ‬
‫فائقة‪.‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪196‬‬
‫معتبرا أن «اإلجابات الفكرية ال تعالج مشكلة الشر بشكل كاف‪...‬‬
‫ً‬ ‫وجهة النظر هذه‪،‬‬
‫العمل األخالقي من أجل رفاهية شخص آخر له األسبقية على الحلقات الفكرية‬
‫والالهوتية المتشابكة»‪ .3‬ذهب بعض الالهوتيين المسيحيين المعاصرين إلى أبعد‬
‫من ذلك‪ ،‬وأشاروا إلى أن تقديم مبررات للرعب يهين المعاناة‪ ،‬ويقنن الشر‪ ،‬ويقتل‬
‫المبادرة لمعارضته‪.4‬‬
‫يمكن أن تكون المعارضة بين الفكر والعمل المضمنة في هذه االدعاءات‬
‫مضللة‪ .‬بالتأكيد‪« ،‬اإلجابات الفكرية» ال تقضي على الشر بمفردها‪ ،‬نحتاج في‬
‫معظم الحاالت إلى القيام بأكثر من مجرد اإلمساك بالقلم للتغلب عليه‪ .‬وهناك‬
‫بالتأكيد أزمنة حيث تقديم تفسير للمأساة عالمة على الجهل في أفضل األحوال‪،‬‬
‫وعالمة على التواطؤ مع مرتكب الشر في أسوأ األحوال‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن معالجة‬
‫مشكلة الشر ضمن المعاناة جزء مهم من التعبير عن التعاطف‪ .‬غال ًبا ما تنبثق هذه‬
‫المشكلة في خضم المنافسة الدينية‪ ،‬وعندما تفشل األطر الدينية في تفسير تجارب‬
‫الشر الراديكالي بشكل مناسب‪ .‬تبدو اإلجابات القديمة فارغة‪ ،‬ولم تعد الحياة‬
‫منطقية‪ .‬وهنا تصبح مشكلة الشر الفلسفية مشكلة عملية إليجاد سبب للعيش ضمن‬
‫تقليد ديني معين أو حتى للعيش على اإلطالق‪ .‬في مواجهة اليأس من عدم عقالنية‬
‫المعاناة والشر‪ ،‬وخاصة كل ما حدث في العصر الحديث‪ ،‬ال يمكننا التراجع عن‬
‫مشكلة الشر باسم الرحمة‪ .‬الصمت مناسب في بعض األحيان حتى تزول صدمة‬
‫المأساة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يجب أن تبدأ المعركة لفهم العبث في نهاية المطاف إذا أريد‬
‫التغلب على الشر‪.5‬‬

‫‪3 Leo Hartshorn, «God and the reality of evil,» The Mennonite, November 13,‬‬
‫‪2001, 6-7 (quoteon 7).‬‬
‫‪4 Kenneth Surin, Theology and the Problem of Evil (Oxford: Basil Blackwell, 1986),‬‬
‫‪46-155 ,67-61 ,54 ; and Terrence W. Tilley, The Evils of Theodicy (Washington,‬‬
‫‪DC: Georgetown University, 1991), 235-51 .‬‬
‫‪5 Dorothee Soelle, Suffering, trans. Everett R. Kalin (Philadelphia, PA: Fortress,‬‬
‫‪1973), 144.‬‬
‫‪197‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫تصنيف ثالثي األوجه لالستجابات لمشكلة الشر‬


‫‪ 1‬اإلرادة اإللهية‬
‫تسعى اإلرادة اإللهية إلى وضع الله فوق مقتضيات العقل التي تنطوي عليها‬
‫المشكلة‪ .‬وتتضح اإلرادة اإللهية في الالهوت األشعري المنتشر إلى حد ما في‬
‫اإلسالم السني‪ .‬يحافظ األشعريون على قوة الله الحصرية‪ ،‬وإرادته المطلقة‪،‬‬
‫واالكتفاء الذاتي الميتافيزيقي‪ .‬ال يخضع الله لقيود خارجية‪ ،‬ويخلق كل األشياء‬
‫ــ بما في ذلك الشر ــ بدون مداولة أو سبب أو دافع عقالني‪ .‬بما أن الله يشاء ما‬
‫يشاء بدون سبب‪ ،‬فإن االستقصاء عن مقاصد الله غير صحيح‪ .‬كما قال الالهوتي‬
‫األشعري الشهرستاني (توفي ‪« :)1153/548‬لم يقل‪ :‬لماذا أتى العالم إلى الوجود‪،‬‬
‫ولماذا خلق عبا ًدا؟»‪ ،6‬ولذلك بالنسبة لألشاعرة‪ ،‬خلق الله الشرور مثل الكفر‬
‫والظلم ال يمكن تفسيره إال أن الله يريده‪ .‬في الواقع‪ ،‬كل ما يشاء الله هو عادل‪،‬‬
‫ببساطة لكون الله أراده‪.7‬‬
‫كما وجدت اإلرادة اإللهية في التقليد المسيحي‪ ،‬ربما بشكل أكثر صرامة لدى‬
‫المصلح البروتستانتي جون كالڤن (ت ‪ .)1564‬يدين كالڤن كل التكهنات في أسباب‬
‫أيضا أن‬
‫أفعال الله‪ ،‬وعلى الرغم من أنه يتحدث عن «مشورة الله السرية»‪ ،‬فإنه يؤكد ً‬
‫إرادة الله ليس لها سبب خارج تلك اإلرادة‪ ،‬وهو يدعم عدالة إرادة الله المطلقة‪.8‬‬

‫‪6 Al-Shahrastani, Kitab nihayatu ‘l-iqdam fi ‘ilmi ’l-kalam, ed. with English trans,‬‬
‫‪Alfred Guillaume (London: Oxford University, 1934).‬‬
‫‪7 Peter Antes, «The First Aš‘arites’ Conception of Evil and the Devil,» in Mélanges‬‬
‫‪offerts à Henry Corbin, ed. Seyyed Hossein Nasr (Tehran: McGill University,‬‬
‫‪Institute of Islamic Studies, Tehran Branch, 1977), 177-89 ; Mohammed Yusoff‬‬
‫‪Hussain, «Al-Ash‘ari’s Discussion of the Problem of Evil,» Islamic Culture 64.1‬‬
‫»‪(1990): 25-38 ; and G. Legenhausen, «Notestowards an Ash‘arite Theodicy,‬‬
‫‪Religious Studies 24 (1988): 257-66 .‬‬
‫‪8 Jaroslav Pelikan, The Christian Tradition: A History of the Development of Doctrine,‬‬
‫‪vol. 4, Reformation of Church and Dogma (1300-1700 ) (Chicago: University of‬‬
‫‪Chicago, 1984), 217-32 . Frederick Copleston, A History of Philosophy, vol. 2,‬‬
‫‪Medieval Philosophy: From Augustine to Duns Scotus (1950; Reprint, New York:‬‬
‫‪Doubleday, 1962), 529-34 .‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪198‬‬
‫من السهل انتقاد النظرة اإلرادية للعدالة اإللهية على أسس أخالقية‪ .‬علماء‬
‫الالهوت المعتزليين‪ ،‬الذين سأتحدث عنهم الح ًقا‪ ،‬يتهمون اإلله األشعري بالظلم‬
‫والحماقة‪ .‬كيف يمكن أن يكون الله مجرد أن يحدد سل ًفا كفر البعض‪ ،‬ثم يعانون‬
‫من العقاب‪ ،‬أليس الله أحمق ليأمر الناس باإليمان بينما يخلق في الوقت نفسه عدم‬
‫اإليمان فيهم؟ وبالمثل‪ ،‬فإن عقيدة كالڤن بأن الله قد قدر لعنة األشرار األبدية تزعج‬
‫حساسياتنا األخالقية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تفترض هذه االنتقادات أن نشاط الله يجب أن‬
‫يكون عقالن ًّيا ومفهو ًما للعقل البشري‪ ،‬وهذا بالطبع ما يرفضه كالڤن واألشاعرة‪.‬‬
‫القدَ م وعدم وجود ما سأسميه «الحرية التحررية» في الكالڤينية واألشعرية‬ ‫إن ِ‬

‫يثيران مشكلة أخالقية أخرى‪ .‬هل يمكن محاسبة البشر على األوامر اإللهية إذا لم‬
‫يكن لديهم حرية االختيار؟ ليس هذا هو المكان المناسب للدخول في التعقيدات‬
‫وبدل من ذلك‪ ،‬سأقترض‬‫ً‬ ‫التي حاول بها القائلون ِ‬
‫بالقدَ م فهم العمل البشري‪.‬‬
‫مصطلح «الحرية التوافقية» من الفلسفة الحديثة للدين للداللة على قناعتهم األساسية‬
‫بأن األقدار ال تتعارض مع االختيار والمسؤولية البشرية‪ .‬في حرية التوافق‪ ،‬قضية‬
‫خارجية ــ إما الله أو قضية ثانوية ــ تحدد إرادتنا بطريقة ندرك فيها بشكل متناقض‬
‫أننا نختار بحرية ونتحمل المسؤولية األخالقية عن أفعالنا‪.9‬‬
‫سوف أالحظ أن كل نوع من أنواع حل مشكلة الشر ال ينتج عنه استجابة يمكن‬

‫‪ 9‬استعرت مفردة احلرية الليربالية واحلرية التواؤمية من سونبورن‪ ،‬وبعض الفالسفة يستعملون‬
‫مصطلحات خمتلفة للحرية الليربالية‪ ،‬فبالنتنغا يتحدث عن حرية الداللة‪ ،‬بينام آدامز يتحدث عن‬
‫احلرية الالتواؤمية‪ ،‬والتوماسية اجلديدة هتتم بشكل خاص بتعرف العالقة التواؤمية بني األلوهية‬
‫واإلنسان يف إطار إجياد موضع لنوع من احلرية األصيلة‪ .‬وللتوسع يف ذلك ينظر‪:‬‬
‫‪Richard Swinburne, Providence and the Problem of Evil (Oxford, UK: Oxford‬‬
‫‪University, 1998), 33-35 ; Alvin Plantinga, God, Freedom and Evil (Grand Rapids,‬‬
‫‪MI: Eerdmans, 1977), 30 ; Marilyn McCord Adams, Horrendous Evils and the‬‬
‫‪Goodness of God (Ithaca, NY: Cornell University, 1999), 178; Thomas P. Flint,‬‬
‫‪«Providence and predestination, » in A Companion to Philosophy of Religion, ed.‬‬
‫; ‪Philip L. Quinn and Charles Taliaferro (Oxford, UK: Blackwell, 1997), 569-76‬‬
‫‪David B. Burrell, Freedom and Creation in Three Traditions (Notre Dame, IN:‬‬
‫‪University of Notre Dame, 1993).‬‬
‫‪199‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫التنبؤ بها بالكامل على المستوى األخالقي‪ .10‬في حالة اإلرادة اإللهية‪ ،‬فإن رفع قوة‬
‫الله وحريته الراديكالية قد يثير التقديس والطاعة أمام إله غامض ومقدس‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫قد يثبت مفهوم الحرية التوافقية أنه غير مقنع وقد يولد السلبية والتراخي األخالقي في‬
‫مواجهة األقدار‪ .‬في أسوأ األحوال‪ ،‬قد يؤدي الظلم أو النزوة المتصورة في اإلرادة‬
‫الغامضة إلله مريد إلى إثارة االشمئزاز والتمرد‪.‬‬
‫إلها متقل ًبا‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن اإلرادة اإللهية لألشاعرة والكالڤينيين ال ينتج بالضرورة ً‬
‫وغامضا‪ ،‬وذلك ألن الله مقدّ ر كل شيء‪ .‬تنطوي المقدرة على وعد إلهي باستكمال‬
‫ً‬
‫الخليقة بالطريقة التي سبق التنبؤ بها‪ ،‬وقد تم الكشف جزئ ًّيا عن محتوى ما وعد به‬
‫الله في الكتب المقدسة‪ .‬عادة ما يثق األشاعرة والكالڤينيون بالله في الوصول بهم إلى‬
‫نهاية يعتبرونها جيدة ألنفسهم‪ ،‬أي الجنة‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬هناك تناظر بين القيمة اإللهية‬
‫والقيمة البشرية في أعمال إرادة الله التي تتعارض مع الرفض الكامل للعقالنية اإللهية‪.‬‬
‫في نهاية المطاف‪ ،‬تقع اإلرادة اإللهية في مفارقة التأكيد على أن الله يعمل خارج نطاق‬
‫العقالنية البشرية بينما يتحدث بعقالنية عن عالقة الله مع البشرية‪.11‬‬
‫‪ 2‬ثيوديسيات أفضل العوالم الممكنة‪ /‬التفاؤلية‬
‫على النقيض من اإلرادة اإللهية‪ ،‬تجادل الثيوديسيات بأن لدى الله بالفعل أسبا ًبا‬
‫لخلق عا َلم فيه شر‪ ،‬حتى لو كان البشر ال يستطيعون ً‬
‫دائما فهمها بالكامل‪ .‬تميز مارلين‬
‫مكورد آدامز بشكل مفيد بين خطين واسعين من الثيوديسية في الفكر المسيحي الغربي‪،‬‬
‫أيضا‪ .‬يناقش خط «أفضل العوالم الممكنة» بأن الشر‬
‫وقد يمتد هذا إلى الفكر اإلسالمي ً‬
‫ضروري أو حتمي لخلق الله أفضل عالم ممكن‪ ،‬في حين يؤكد خط «اإلرادة الحرة»‬
‫عالما ملي ًئا بالشر‪.12‬‬
‫ً‬ ‫أن الخيرات العظيمة للكرامة اإلنسانية والحرية تبرر خلق الله‬
‫ثيوديسية أفضل العوالم الممكنة‪ ،‬وهي ما تسمى بالتفاؤلية كذلك‪ ،‬يشكل النوع الثاني‬
‫في تصنيفاتي‪ ،‬وثيوديسيات اإلرادة الحرة ستكون النوع الثالث‪.‬‬

‫‪ 10‬أنا مدينة هبذا االستبصار لـ ‪ ،Adams‬لكنني مضيت به إىل ما هو أبعد منه‪.‬‬


‫‪11 J. L. Mackie, «Evil and Omnipotence, » Mind 64 (1955):200-12 .‬‬
‫يفرس هذه املفارقة برباعة بمصطلحات خمتلفة كمفارقة القدرة‪.‬‬
‫‪12 Adams, 17020, 190.‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪200‬‬
‫تؤكد التفاؤلية أن الله يحدد جميع الوجود وأن كل شيء يخلقه الله هو جيد تما ًما‬
‫وأفضل ما يمكن من منظور الله‪ .‬الشر هو الشر فقط بالنسبة لنا‪ ،‬وليس أكثر من أداة في‬
‫خلق الله ألفضل عالم ممكن بشكل عام‪ .‬هنا يجب أن نسأل‪ :‬ما نوع حساب القيمة‬
‫الذي يعمل في إرادة الله بحيث يجعل هذا العالم‪ ،‬المليء بالشر‪ ،‬أفضل من جميع‬
‫العوالم الممكنة؟‬
‫يظهر آرثر لوفجوي في «السلسلة الكبرى من الكينونة» كيف تم استخدام القيمة‬
‫األفالطونية «للوفرة» لإلجابة على هذا السؤال في الالهوت المسيحي في العصور‬
‫الوسطى ثم في تفاؤلية القرن الثامن عشر‪ .‬في األفالطونية الحديثة‪ ،‬الذي ال يمكن‬
‫وصفه‪ ،‬والذي يتجاوز «الكينونة»‪ ،‬يفيض ويخرج من العالم‪« .‬الكينونة» أو «الوجود»‬
‫في حد ذاته أمر جيد‪ ،‬ومثالي‪ ،‬وجميل‪ .‬يتم تفسير الشر ميتافيزيق ًّيا على أنه عدم وجود‬
‫ونقص‪ ،‬والذي هو األكثر حدة في أقصى نطاقات الفيض اإللهي‪ .‬عالوة على ذلك‪،‬‬
‫باتباع ما يسميه لوفجوي «مبدأ الوفرة»‪ ،‬فإن الشخص يمأل الكون بكل مجموعة متنوعة‬
‫من المخلوقات التي يمكن تخيلها في «سلسلة رائعة من الوجود» تمتد من أعلى كمال‬
‫ممكن إلى األقل‪ .‬هذا العالم أفضل ك ّلما زاد وجو ُده وتنوعه‪ ،‬وأفضل عالم ممكن هو‬
‫عالم يحتوي على كل شر محتمل‪.13‬‬
‫في الفكر المسيحي في العصور الوسطى‪ ،‬كما هو الحال على سبيل المثال عند‬
‫توماس األكويني (ت ‪ ،)1274‬ثم في ليبنيز (ت ‪ ،)1716‬والمتفائلين اآلخرين في القرن‬
‫الثامن عشر‪ ،‬تم تفسير الشر األخالقي والطبيعي في ضوء اإلحساس الميتافيزيقي للشر‬
‫كعدم وجود وحرمان‪ .14‬ثم عمل مبدأ الوفرة على شرح الشرور الرئيسة في العالم‪،‬‬
‫ووفر سب ًبا لسالم الفرد مع الواقع واالحتفال به كما هو‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن اإليحاء بأن كل‬
‫شر موجود ضروري من أجل الخير األكبر قد يولد التشاؤم أيض ًا‪ .‬وقد هاجم فولتير‬
‫(ت ‪ )1778‬ما يسمى «التفاؤل» في القرن الثامن عشر‪ ،‬إذ عَدَّ ه األقل صعوبة ليس وجود‬

‫‪13 Arthur O. Lovejoy, The Great Chain of Being: A Study of the History of an Idea‬‬
‫‪(Cambridge, MA: Harvard University, 1966), 45-66 ; John Hick, Evil and the God of‬‬
‫‪Love, 2d ed. (London:Macmillan, 1977), 40-50 49- ,43 .‬‬
‫‪14 Lovejoy, 213 and passim. See also Adams, 6364-, and Thomas Aquinas on evil in‬‬
‫‪Summa Theologica (London: Eyre & Spottiswoode, 1963), 1a. 44-47 8:107- 49 .‬‬
‫‪201‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫مبررات للشر وإنما معرفة أن الضرورة تتطلبه لألبد‪ .15‬وقد ذكرت في موضع سابق‬
‫االنتقادات المماثلة في بعض الالهوت الحديث‪ ،‬أي أن تفسير الشر ال يضيف إال إهانة‬
‫لإلصابة في المعاناة ويساعد على تبريره‪.‬‬
‫تفسر ثيوديسيات أفضل العوالم الممكنة اإلسالمية في بعض األحيان خلق الله‬
‫للشر من حيث القيم الدينية ً‬
‫بدل من الوفرة‪ .‬يعطي التفاؤل الصوفي مغزى للشر كأداة‬
‫للتأديب اإللهي على الطريق الروحي نحو الله‪ .16‬ابن تيمية (المتوفى ‪ ،)1328/728‬هو‬
‫مصدر إلهام مهم للسلفيين السنّة المعاصرين‪ ،‬يفسر الشر بطريقة مماثلة‪ .‬يخلق الله‬
‫الشر لألغراض الحكيمة لتطهيرنا من خالل االختبار‪ ،‬وردعنا عن الخطيئة‪ ،‬وإتاحة‬
‫الفرصة لنا لتطوير فضائل مثل التواضع والتوبة‪ .‬ومن المثير لالهتمام أن ابن تيمية يسأل‬
‫عما إذا كان ينبغي لنا أن نخطئ لكي نتوب‪ ،‬ويقول أنه ال ينبغي لنا‪ ،‬ألن هذا سيكون مثل‬
‫شرب السم من أجل أخذ الترياق‪.17‬‬
‫بالنسبة للتفاؤليين المسلمين اآلخرين‪ ،‬الشر ضروري للمعرفة‪ .‬يالحظ الغزالي‬
‫(ت ‪ )1111/505‬أن األشياء ال تعرف إال باألضداد‪ .‬وبالتالي‪ ،‬فإن المرض ضروري‬
‫للتمتع بالصحة‪ ،‬والجحيم ضروري حتى يدرك أولئك الذين في الجنة نعيمهم‪.18‬‬
‫ويشير الماتريدي (المتوفى ‪ )944/333‬إلى أن الله بحكمته يخلق الشر كأداة لقيادة‬
‫البشر إلى معرفة الله‪ُ .‬يظهر الشر‪ ،‬بطريقته الخاصة‪ ،‬احتمالية الخلق‪ ،‬وبالتالي حاجته‬
‫إلى الخالق‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬فإن الطريقة الحكيمة التي يجمع بها الله األشياء الضارة‬
‫والمفيدة تؤدي إلى معرفة وحدته‪.19‬‬

‫‪15 Lovejoy, 21011-‬‬


‫‪16 Annemarie Schimmel, Mystical Dimensions of Islam (Chapel Hill, NC: The‬‬
‫‪University of North Carolina Press, 1975), 198.‬‬
‫‪17 Jon Hoover, «An Islamic Theodicy: Ibn Taymiyya on the Wise Purpose of God,‬‬
‫‪Human Agency, and Problems of Evil and Justice» (Ph.D. thesis, University of‬‬
‫‪Birmingham, UK, 2002), 237-44 , and 276 n. 73.‬‬
‫‪18 6Abu Hamid al-Ghazali, Ihya’ ‘ulum al-din, 5 vols. (Beirut: Dar al-ma‘rifa, n.d.),‬‬
‫‪4:258-259 (at the end of «Kitab al-tawhid wa al-tawakkul»).‬‬
‫‪19 J. Meric Pessagno, «The uses of Evil in Maturidian Thought, » Studia Islamica 60‬‬
‫‪(1984): 59-82 .‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪202‬‬
‫مع الفلسفة الصوفية البن عربي (توفي ‪ ،)1240/638‬والتي كان لها تأثير كبير في‬
‫كل من العالمين السني والشيعي‪ ،‬نالحظ مرة أخرى بصمة مبدأ الوفرة األفالطوني‪،20‬‬
‫فقصد الله ــ كما يرى محيي الدين بن عربي ــ في وجود الكون هو أن يعرف نفسه‪ .‬في‬
‫كل شيء‪ ،‬يكشف الله عن اسمه‪ ،‬وأسماء مثل الرحيم‪ ،‬ومعطي الموت‪ ،‬ومعطي الحياة‪.‬‬
‫تمتد هذه األسماء في العدد أبعد بكثير من التسعة والتسعين التقليدية لتشمل كل شكل‬
‫ممكن من أشكال الوجود‪ .‬الشر والعيوب‪ ،‬إلى حد ما‪ ،‬يعرقالن طاعة الشريعة اإللهية‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬بمعنى آخر‪ ،‬الشر ليس أكثر من الحرمان و«اآلخر» من الله‪ ،‬ومن الضروري‬
‫إعطاء الله فرصة إلظهار التنوع الكبير ألسمائه‪.21‬‬
‫مثلما رسم ليبنيز ردو ًدا متناقضة في التقليد المسيحي الغربي‪ ،‬كذلك ابن عربي بين‬
‫المسلمين‪ .‬يشرح المدافعون عن ابن عربي أن نيته ليست تقويض الشريعة اإللهية بل‬
‫ٍ‬
‫لغايات تطهرية‪.‬‬ ‫توجيه الناس إلى السعادة من خالله‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تم استخدام فكره‬
‫يختزل البعض فكرة أن كل شيء موجود يكشف عن الله إلى أحادية يكون فيها كل‬
‫شيء إله ًّيا‪ ،‬ثم يجادل بأنه بما أن كل األشياء مقدسة فال فرق بين الخير والشر‪ ،‬وكل‬
‫شيء يصبح مشرو ًعا‪.22‬‬
‫وخالصة القول‪ ،‬إن الهدف من هذه المبادئ الدينية هو عادة توليد الطاعة والثقة‬
‫بالله من خالل بعث الدهشة في خلقه المثالي‪ ،‬أو من خالل تفسير الشر كأداة للتدريب‬
‫أيضا األمل والراحة في خضم المعاناة‪ ،‬ألن الله سيعمل‬
‫اإللهي‪ .‬يمكن أن يوفر التفاؤل ً‬

‫‪ 20‬ملعرفة التأثري الواسع البن عريب عىل الصوفية يف العامل السني انظر‪:‬‬
‫‪Michel Chodkiewicz, An Ocean Without Shore: Ibn ‘Arabi, The Book, and the Law,‬‬
‫‪trans. David Streight (Albany, NY: State University of New York, 1993), 1-18 .‬‬
‫مهم ملدرسة احلكمة ااملتعالية الشيعية االثني عرشية يف أصفهان املرتبطة‬
‫مصدرا ًّ‬
‫ً‬ ‫كام كان فكر ابن عريب‬
‫باسم مال صدرا (تويف ‪ ،)1640/1050‬وللتوسع يف ذلك ينظر‪:‬‬
‫‪Moojan Momen, An Introduction to Shi’i Islam (New Haven, CT: Yale University,‬‬
‫‪1985), 217.‬‬
‫‪21 William C. Chittick, The Sufi Path of Knowledge: Ibn al-‘Arabi’s Metaphysics of‬‬
‫‪Imagination (Albany, NY: State University of New York Press, 1989), 33-289 ,44‬‬
‫‪97 -.‬‬
‫‪22 Ibid, 289-309 .‬‬
‫‪203‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫كل شيء لألفضل في النهاية‪ ،‬ويمكن أن يكون مصدر قوة لقبوله‪ ،‬واالنتقال إلى أشياء‬
‫أخرى‪ .‬على العكس من ذلك‪ ،‬يعاني التفاؤل بحتميته المتأصلة من نفس المشكلة‬
‫المتمثلة في تشويه حرية اإلنسان الموجودة في اإلرادة اإللهية‪ .‬وفي أحسن األحوال‪،‬‬
‫تكون حرية اإلنسان متوائمة‪ ،‬وفي أسوأ األحوال‪ ،‬يتحول التفاؤل إلى أحادية تلغي‬
‫الفئات األخالقية تما ًما‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬قد تولد ثيوديسيات أفضل العوالم الممكنة‬
‫االكتئاب واالشمئزاز من ضرورة وجود مثل هذا العالم الرهيب‪ ،‬وعدم قدرة الله على‬
‫القيام بعمل أفضل‪.‬‬
‫وهذا يقودنا إلى صعوبة ميتافيزيقية في التفاؤلية‪ :‬إنه يعرض قدرة الله وحريته‬
‫للخطر‪ .‬يشير الفجوي إلى أن هناك إحساسين متضاربين للخيرية اإللهية في عمل‬
‫أفالطون واألفالطونية الحديثة‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬الالهوت المسيحي في العصور الوسطى‪.‬‬
‫يتوافق المعنى األول مع قيم اإلرادة اإللهية‪ ،‬حيث خيرية الله تتألف من االكتفاء الذاتي‬
‫وعدم الحاجة إلى عالم‪ ،‬فلو لم يخلق الله العالم أبدً ا‪ ،‬لما كان أقل‪ ،‬وهو ليس أفضل‬
‫حاالً بعد خلقه‪ .‬اإلحساس الثاني‪ ،‬والمختلف تمام ًا‪ ،‬هو الكرم واإلنتاجية‪ ،‬فالله‬
‫ِ‬
‫للواحد الذي يفيض‬ ‫الصالح سيخلق بالضرورة‪ ،‬كما في الرؤية األفالطونية الحديثة‬
‫العالم بطبيعته‪ ،‬وهنا الله لن يكون الله بدون عالمه‪.23‬‬
‫يشير الفجوي إلى أن هذه المفاهيم المتناقضة لخيرية الله تجلس تترافق ــ بشكل‬
‫غير منسجم ــ في الفكر المسيحي في العصور الوسطى من أوغسطين فصاعدً ا‪ ،‬مع‬
‫االكتفاء الذاتي اإللهي الذي يحتل مكان الصدارة‪ .24‬يستخدم األكويني‪ ،‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬مبدأ الوفرة لفهم الشر‪ ،‬وينقذ الله من نزوة العمل اإلرادي بالقول إن خير الله‬
‫يسيطر على إرادته اإلبداعية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يتهرب األكويني من الضرورة الضمنية في هذه‬
‫عالما‬
‫األفكار للحفاظ على اختيار الله الحر في الخلق وإمكانية أن يكون الله قد خلق ً‬
‫أفضل‪.25‬‬
‫في التقليد اإلسالمي‪ ،‬يطلق الفيلسوف ابن سينا (ابن سينا‪ ،‬د‪ )1037/428 .‬العنان‬

‫‪23 Lovejoy, 39-316 315- ,163 - 156 ,98 - 82 ,66 .‬‬


‫‪24 Ibid, 67-73 .‬‬
‫‪25 Ibid, 73-82 .‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪204‬‬
‫لخيرية الله المنتجة في انبثاق أفضل عالم ممكن إلى األبد‪ ،‬وينتقد بحدة كلًّ من‬
‫المدافعين الوسيطيين والحديثين عن حرية الله‪ .‬وتشير دراسة حديثة أن مخطط انبثاق‬
‫ابن سينا يبطل ادعاءه أن الله يشاء ويريد الخير‪ .‬إن إله ابن سينا ال يمكنه أبدً ا أن ينوي‬
‫أو ينوي أي شيء‪ ،‬وبالتالي ال يمكن تحميله مسؤولية الشر ألنه ليس سوى «أداة في‬
‫يد الضرورة»‪ .26‬وهذا النقد البن سينا ليس جديدً ا‪ ،‬فقد صاغه الغزالي منذ تسعة قرون‬
‫مضت‪.27‬‬
‫من هذه المناقشة نرى أنه على الرغم من أن التفاؤلية تفترض وجود إله خالق قوي‬
‫وحصري بالكامل‪ ،‬إال أنها تثير الشكوك حول حرية الله من خالل إخضاع إرادته‬
‫للعقل‪ .‬على الرغم من أن هذا قد يكون مقل ًقا لإلراديين اإللهيين‪ ،‬إال أنه ال يحتاج إلى‬
‫كثيرا‪ .‬وبعد كل ذلك‪ ،‬كما ذكر فيما سبق‪ ،‬عادة ما يقع دعاة اإلرادة اإللهية في‬
‫إرباكنا ً‬
‫مفارقة توقع أن يكون الله عقالن ًّيا بما يكفي لتنفيذ ما قدَّ َره‪ .‬وبعبارات أبسط‪ ،‬هذا يعني‬
‫أن الله شخصي‪ ،‬ويعمل معنا بطرق يمكننا أن نفهمها‪ ،‬إلى حد ما على األقل‪.‬‬
‫‪ 3‬ثيوديسيات اإلرادة الحرة‬
‫تشترك ثيودسيات اإلرادة الحرة مع ثيوديسيات أفضل العوالم الممكنة في القناعة‬
‫بأن الله لديه سبب وجيه إلخراج عالم يحدث فيه الشر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنها تختلف من‬
‫خالل االعتراف بالحرية الليبرالية بطريقتين‪.‬‬
‫ً‬
‫أول‪ ،‬تفترض ثيوديسية العملية المسيحية الحديثة حدو ًدا ميتافيزيقية لقوة الله‪،‬‬
‫التي تقترب من الثنائيات القديمة للزرادشتية والمانوية‪ .‬الله ليس كلي القدرة بمعنى‬
‫أنه يستطيع السيطرة على كل جانب من جوانب الكون‪ ،‬حتى لو أراد ذلك‪ً .‬‬
‫وبدل من‬
‫ذلك‪ ،‬يقتصر الله ميتافيزيق ًّيا على دفع ــ وليس التحكم ــ الكون الذي يتطور باستمرار‬

‫‪26 Shams C. Inati, The Problem of Evil: Ibn Sînâ’s Theodicy (Binghamton, NY: Institute‬‬
‫‪of Global Cultural Studies, Binghamton University, 2000), 127-73 , quote on 147.‬‬
‫‪27 Al-Ghazali, The Incoherence of the Philosophers, Ar. ed. of Tahafut al-falasifa and‬‬
‫‪English translation by Michael E. Marmura (Provo, UT: Brigham Young University,‬‬
‫‪1997), 56-78 (Third Question).‬‬
‫‪205‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫وتناغما‪ .28‬ثيوديسية العملية تحل الله من مسؤولية الشر‬


‫ً‬ ‫نحو خير أكبر كثافة وتعقيدً ا‬
‫في العالم ألنه فقط يفعل ما يستطيع ضمن عملية ميتافيزيقية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن التحديد‬
‫الراديكالي لقدرة الله لدرجة أنه قد ال يتمكن الله من الوصول بالعالم إلى نوايا حسنة‬
‫يحرم المسيحيين‪ ،‬ناهيك عن المسلمين‪ ،‬من قناعاتهم بسيطرة الله على المستقبل‪.29‬‬
‫في الطريقة الثانية واألكثر شيو ًعا التي تقدم فيها ثيوديسيات اإلرادة الحرة الحرية‬
‫الليبرالية‪ ،‬ال يقتصر الله على الميتافيزيقيا‪ ،‬وإنما يختار الله تقييد سلطته وحريته‬
‫إلفساح المجال لحرية المخلوقات‪ .‬وثيوديسيات اإلرادة الحرة المتبقية تناقش ضمن‬
‫هذا اإلطار‪.‬‬
‫غال ًبا ما يلجأ المسيحيون‪ ،‬بما في ذلك المينونايت‪ ،‬إلى ما تسميه مارلين مكورد‬
‫آدامز نسخة «السقوط الحر» من ثيوديسية اإلرادة الحرة‪ .‬في هذا الرأي‪ ،‬دفعت الخيرات‬
‫العظيمة لكرامة اإلنسان وحريته الله إلى خلق البشرية بخيار أخالقي حر‪ .‬ثم احترم الله‬
‫كرامة اإلنسان بعدم التدخل في الشؤون اإلنسانية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فقد عصى البشر الله بحرية‬
‫وسقطوا من حالتهم الجيدة في األصل‪ .‬في رواية أوغسطينوس عن ثيودسية السقوط‬
‫الحر‪ ،‬أقام الله نظا ًما للعدالة الجزائية حيث يكسب البشر مكافآت وعقوبات على أفعالهم‬
‫ويستحقون في النهاية الجنة أو الجحيم‪ .‬في بعض صور السقوط الحر الحديثة‪ ،‬ال يخضع‬
‫البشر للعدالة الجزائية ولكنهم يتركون لجني العواقب الطبيعية ألفعالهم‪.30‬‬
‫القصد األخالقي من ثيوديسيات السقوط الحر هو تشجيع الكبار على تحمل‬
‫المسؤولية‪ .‬يشعر الواثقون بالحيوية لمتابعة مكافأتهم‪ ،‬كما أن تهديد الجحيم يدفع‬
‫ِ‬
‫الخائف‬ ‫الكسالى لفعل الخير‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن العبء الثقيل للمسؤولية قد يشل‬
‫والمعاني‪ ،‬وقد يخلق حيرة واستياء عندما ال ينقذ الله الناس من امتهان كرامة اإلنسان‪،‬‬
‫ُ‬
‫حتى في مواجهة أفظع الشرور‪ .‬هذه الصعوبات مع ثيوديسيات السقوط الحر أدت إلى‬
‫مزيد من التفكير المسيحي في العصر الحديث‪.‬‬

‫‪28 David Ray Griffin, God, Power, and Evil: A Process Theodicy (Philadelphia, PA:‬‬
‫‪Westminster, 1976), 275-310 .‬‬
‫‪29 Paul S. Fiddes, The Creative Suffering of God (Oxford, UK: Oxford University, 1988).‬‬
‫‪30 Adams, 33-49 ; Swinburne, 196-201 .‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪206‬‬
‫يوجه الفيلسوف البريطاني جون هيك نقدً ا حا ًّدا للثيوديسية األوغسطينية‪ ،‬التي‬
‫تستعمل فكرة األفالطونية الجديدة عن الحرمان لشرح كيفية ظهور الشر من خلق الله‬
‫الصالح‪ .‬الشر ال يأتي من الله أو من مبدأ ميتافيزيقي مستقل‪ ،‬بل هو حرمان‪ ،‬وهو غياب‬
‫جوهري ويفتقر إلى سبب فعال‪ ،‬ويحدث عندما يتوقف شيء عن كونه ما خلقه الله‪.‬‬
‫يجيب هيك بأن الشر على أنه «حرمان» ال يتصدى للتجربة البشرية للشر كقوة شيطانية‬
‫إيجابية‪ ،‬ويتساءل كيف يمكن أن تنشأ الخطيئة تلقائ ًّيا من ال شيء في مخلوقات جيدة‪.‬‬
‫عالوة على ذلك‪ ،‬يتساءل‪ ،‬لماذا أخرج إله أوغسطين العالم إلى الوجود على الرغم من‬
‫‪31‬‬
‫أنه كان يعلم مسب ًقا أنه سيحدث خطأ؟‬
‫توسع آدامز في هذا االعتراض األخالقي عندما تجادل بأن ثيوديسيات السقوط‬
‫الحر تضع الكثير من المسؤولية على آدم وحواء بالتحريض على «شرور مروعة»‪ ،‬وهو‬
‫مصطلح آدامز لمأساة أو شر ال طائل من ورائه‪ .‬إن ثيوديسية السقوط الحر ِ‬
‫توجد قيمة‬
‫أخالقية لتحمل الكبار للمسؤولية‪ ،‬إما لتولي مسؤولية مصير الفرد أو التصرف بشكل‬
‫جيد بما يكفي لتحقيق النعيم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تعتقد آدامز أن عالقة الله بالبشر تشبه إلى‬
‫حد كبير عالقة اآلباء باألطفال الصغار أكثر من عالقة الكبار ببعضهم البعض‪ .‬ولذلك‬
‫هي ت َُش ِّبه حساب السقوط الحر بوضع طفل يبلغ من العمر ثالث سنوات بمفرده في‬
‫غرفة مليئة بالغاز مع موقد وإخباره بعدم اللعب بمقابض الموقد ذات األلوان الزاهية‪،‬‬
‫من يتحمل أكثر اللوم هنا عندما يفجر الطفل الغرفة‪ :‬الوالد أو الطفل؟ من الواضح‬
‫أنه الوالد‪ .‬لذا‪ ،‬فإن الدمار الكبير الذي أحدثته الشرور الفظيعة يتجاوز بكثير ما يمكن‬
‫للعدالة الجزائية تصحيحه من خالل تحقيق الثواب والعقاب‪ ،‬ويجب على الله أن‬
‫يتحمل المسؤولية الكاملة عن إقامة مثل هذا العالم في المقام األول‪.32‬‬
‫في التقاليد اإلسالمية‪ ،‬أهم المدافعين عن ثيوديسية اإلرادة الحرة هو الالهوت‬
‫المعتزلي‪ .‬والالهوت المعتزلة غاب عن المشهد في العالم السني في القرن الثالث‬
‫عشر‪ ،‬لكن الشيعة استمروا فيه‪ ،‬ال سيما في أعمال العالم اإلثني عشري في القرن الثاني‬

‫‪31 Hick, 38-71 - 265 ,69 .‬‬


‫‪32 Adams, 36-190 ,41 . Hick, 69.‬‬
‫‪207‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫عشر العالمة ابن المطهر الحلي (المتوفى ‪ .33)1325/726‬كما تمتعت المعتزلة بإحياء‬
‫بين بعض السنة في القرن الماضي‪.‬‬
‫في ثوديسية المعتزلة‪ ،‬سبب خلق الله لإلنسان هو منحه الفرصة لكسب المكافأة‪.‬‬
‫تماش ًيا مع هذا‪ ،‬منح الله البشر حرية ليبرالية‪ ،‬وأسس نظام العدالة‪ .‬كما يؤكد المعتزلة‬
‫على أن الله يجب أن يفعل أفضل ما يصلح لعباده في مسائل الدين‪ ،‬وبعض الالهوتيين‬
‫من أمثال العالمة الحلي‪ ،‬يمتد بالتزام الله بفعل األفضل حتى في الشؤون الدنيوية‪ .‬على‬
‫الرغم من أن البشر يجب أن يالموا على الشر‪ ،‬فإن نظام اإلرادة الحرة المعتزلي ينطوي‬
‫على قدر كبير من المعاناة واأللم لألبرياء‪ ،‬وبعضه ينتجه الله لألغراض التعليمية من‬
‫االختبار والتحذير والردع‪ .‬وبسبب هذا‪ ،‬يجب على الله أن يعوض األبرياء في الدنيا‬
‫أو اآلخرة‪.34‬‬
‫الالهوتيون األشاعرة يرفضون ثيوديسية المعتزلة لمنح البشر القدرة على خلق‬
‫أعمالهم الخاصة‪ ،‬وبالتالي ينتهكون تفرد الله باعتباره الخالق الوحيد في الكون‪.‬‬
‫يروون كذلك قصة عن ثالثة إخوة إلثبات أن إله المعتزلة ليس ً‬
‫عادل تما ًما‪ ،‬إذ توفي‬
‫أحدهم وهو صغير‪ ،‬وبلغ اآلخران‪ ،‬وأصبح أحدهما مؤمنًا‪ ،‬واآلخر لم يفعل ذلك‪،‬‬
‫صغيرا حصل على مرتبة‬ ‫ً‬ ‫فأعطى الله المؤمن مرتبة عالية في الجنة‪ ،‬واألخ الذي مات‬
‫أدنى في الجنة ألنه لم يؤد أعمال أخيه الصالحة‪ .‬عندما اشتكى األخ في الرتبة الدنيا‪،‬‬
‫كافرا‪ .‬عندئذ‪ ،‬صرخ األخ‬ ‫مبكرا لصالحه ألنه كان سيصبح ً‬ ‫أخبره الله أنه قضى حياته ً‬
‫ً‬
‫متسائل لماذا لم يقتله الله قبل أن يقع في الكفر‪ ،‬ألن ذلك‬ ‫الثالث من أعماق النار‪،‬‬
‫كان سيفيده‪35‬؟ كما يتضح من القصة‪ ،‬تجربتنا في الحياة ال تؤكد بسهولة عقيدة عدالة‬
‫الله المطلقة‪ .‬ر ًدا على هذه القصة‪ ،‬أوضح المعتزلة الح ًقا إما أن الله قبض حياة األخ‬

‫‪33 Sabine Schmidtke, The Theology of al-‘Allama al-Hilli (d. 7261325/) (Berlin: Klaus‬‬
‫‪Schwarz, 1991), 99-141 .‬‬
‫‪34 Margaretha T. Heemskerk, Suffering in Mu‘tazilite Theology: ‘Abd al-Jabbar’s‬‬
‫‪Teaching on Pain and Divine Justice (Leiden: Brill 2000), 142-91 , especially 151-,53‬‬
‫‪178 and 191; Schmidtke, 109-15 .‬‬
‫‪35 Rosalind W. Gwynne, «Al-Jubba’i, al-Ash‘ari and the Three Brothers: The Uses of‬‬
‫‪Fiction, » The Muslim World 75 (July-Oct. 1985): 132-61 .‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪208‬‬
‫الصغير لنعمة صرفة‪ ،‬وليس االلتزام إلهي‪ ،‬أو أن خير المجتمع يتطلب موته المبكر‬
‫وليس الموت المبكر ألخيه الكافر‪.36‬‬
‫بالعودة اآلن إلى التقليد المسيحي‪ ،‬يحاول جون هيك التغلب على الصعوبات‬
‫األخالقية في ثيوديسيات السقوط الحر مع ثيودسية «صنع الروح»‪ .‬يبدأ مع وجهات النظر‬
‫التنموية للطبيعة البشرية الموجودة عند إيريناوس (ت‪ 202 .‬تقري ًبا) وشاليرماخر (ت‬
‫‪ ،)1834‬ويوضح أن الله خلق البشرية في البداية غير ناضجة وبعيدة عن الله‪ .‬لقد خلق‬
‫الله هذا العالم من الخطيئة والمعاناة كـ«وادي صنع الروح» الذي يكون هدف الله فيه نمو‬
‫اإلنسان في كمال المسيح الناضج و«جلب الكثير من األبناء إلى المجد» (راجع عبرانيين‬
‫‪ .)10 :2‬الشر مفيد في تحقيق الهدف النهائي إلنسانية مكتملة من خالل نضال هذا العالم‪.‬‬
‫سواء في هذه الحياة أو في الحياة القادمة‪ ،‬سيستجيب كل إنسان في النهاية لمحبة الله في‬
‫الحرية‪ .‬هذا هو الخير العظيم الذي يبرر خلق الله لهذا العالم الحاضر‪.37‬‬
‫في ثيوديسيات السقوط الحر وصنع الروح‪ ،‬اختار الله أن يحد من نطاق سلطته‬
‫وأن يفسح المجال للفاعلين البشريين بحرية ليبرالية‪ .‬على الرغم من أن البشر يشكلون‬
‫ً‬
‫مسؤول‬ ‫مصدرا ثان ًيا للقوة في الكون وقد ُيالمون على بعض شروره‪ ،‬يبقى الله‬
‫ً‬ ‫بالتالي‬
‫عن خلق هذا النظام في المقام األول‪ .‬إن فكرة المعتزلة بأن الله يفعل األفضل لنا‪،‬‬
‫ونظام المعتزلة للتعويضات اإللهية يظهر اهتما ًما بالحد من القسوة اإللهية التي تنطوي‬
‫وضوحا في رؤية هيك للخالص الشامل‪ .‬ومع‬ ‫ً‬ ‫عليها هذه الحقيقة‪ .‬هذا القلق أكثر‬
‫ذلك‪ ،‬ال تزال آدامز تنتقد إله هيك لكونه ُمع ِّلم ًا سيئ ًا ُيخضع بعض الناس إلى أهوال‬
‫تُضر بقدرتهم على النمو نحو الله في هذه الحياة‪ .38‬عالوة على ذلك‪ ،‬من غير الواضح‬
‫دائما متحررين بالكامل من األسباب الحتمية‪،‬‬
‫ما إذا كان إله هيك‪ ،‬الذي يترك البشر ً‬
‫يتماشى مع أمل المسيحيين والمسلمين التقليديين بأن يتدخل الله في نهاية المطاف‬
‫لتصحيح األمور‪.‬‬

‫‪36 Schmidtke, 115-16 .‬‬


‫‪37 Hick, 201-386 ; Brian Hebblethwaite, Evil, Suffering and Religion, rev. ed. (London:‬‬
‫‪SPCK, 2000).‬‬
‫‪38 Adams, 52-53 .‬‬
‫‪209‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫تجعل آدامز هذا األمل محور ًّيا في فكرها عن الشر‪ .‬إحدى نقاط خالفها هي أن‬
‫القصاص ليس فئة القيمة الوحيدة أو حتى األولية الموجودة في التقليد المسيحي‪.‬‬
‫وباإلضافة إلى القيمة الميتافيزيقية «للكينونة» التي سادت في علم الالهوت في العصور‬
‫الوسطى‪ ،‬تجادل في أن الكتاب المقدس يملؤه االهتمام بالتطهر والتشهير والشرف‬
‫والعار‪ .‬كما يتضمن عناصر جمالية في سخرية حبكاته‪ ،‬وفي أمر الله بالفوضى البدائية‪،‬‬
‫وفي جمال النور اإللهي‪ .‬في نهاية المطاف‪ ،‬هناك ثمار الرؤية المبهرة‪ ،‬والعالقة‬
‫الحميمة مع الله‪ ،‬والرحمة اإللهية والتعاطف مع اإلنسانية ــ كما هو الحال في العقيدة‬
‫المسيحية للتجسد ــ التي تتغلب على الشرور الرهيبة التي يعاني منها البشر‪.39‬‬
‫تؤكد آدامز أنها ال تنوي تطوير ثيوديسية‪ .‬وتقول إنه من المفرط أن نتوقع أن يجد‬
‫ضحايا الشرور المروعة هذه الشرور معقولة بما يكفي لتمريرها مرة أخرى بكل‬
‫سرور‪ .40‬تتحدى هذه الشرور ــ بالتعريف ــ قدرة أطرنا المفاهيمية على تدجينها حسب‬
‫الضرورة لتحقيق المزيد من الخير‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تقترح آدامز أن وظيفة الشر المزعزعة‬
‫لالستقرار هذه في الواقع «شيء جيد ألنها تزعزع الرضا عن النفس وتدفعنا للبحث عن‬
‫حقائق أعمق وأكثر تعقيدً ا»‪ .41‬هنا‪ ،‬تقترب من الثيوديسية أكثر مما تعترف بذلك‪ ،‬وهي‬
‫محفزا للنمو‪ .‬ومع‬
‫ً‬ ‫دورا‬
‫ليست بعيدة عن رؤية هيك التي تصنع الروح عبر إعطاء الشر ً‬

‫‪39 Adams, 86-77 - 161 ,139 .‬‬


‫‪ 40‬عىل الرغم من أن آدامز ال تستخلص الثيوديسيات من معظم أطر القيم التي حتددها يف نصوص‬
‫الكتاب املقدس‪ ،‬إال أن مناقشاهتا تقرتح اجتاهات يمكن أن تتخذها هذه الثيوديسيات‪ .‬عند النظر‬
‫إىل الرشف والعار‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬توضح آدمز كيف كان اهلل يف سفر اخلروج ‪ 15-3‬ليس له شهرة‬
‫يف البداية قبل فرعون أو حتى مع أطفال إرسائيل‪ ،‬لكنه ربح بعد ذلك «التحدي والرد الرسيع»‬
‫أثناء الرضبات العرش عىل مرص‪ .‬لقد عمل اهلل ذلك حتى يتمكن يف النهاية من التخلص من فرعون‬
‫ومركباته يف البحر (‪ .)19-114‬الثيوديسية التي تنطوي عليها هذه القصة هي أن الرش والدراما التي‬
‫أعقبتها كانت رضورية إلظهار قوة اهلل‪ ،‬وبالتايل كسب الثناء من إرسائيل‪ .‬قد يتم االعرتاض عىل أن اهلل‬
‫يتطلب إظهار قوته عىل حساب بؤسنا‪ ،‬وذلك قد يكون يف احلقيقة إشكالية أخالقية‪ ،‬إال أن الثيوديسية‬
‫رجل ما قد ولد أعمى ليس‬ ‫الرصحية من هذا النوع موجودة يف العهد اجلديد‪ .‬يرشح يسوع لتالميذه أن ً‬
‫ألنه أخطأ هو أو والديه ولكن «لكي تظهر أعامل اهلل فيه»‪ ،‬ثم رد يسوع للرجل برصه‪ ،‬وقد أثار هذا‬
‫حمنة أعطت يسوع الفرصة للتفوق عىل الزعامء الدينيني يف عرصه (يوحنا ‪.)9‬‬
‫‪41 Adams, 203 -04, quote on 204.‬‬
‫رفوه نوج‬ ‫‪210‬‬
‫ذلك‪ ،‬تتجاوز هيك للتأكيد على االدعاء السوتريولوجي‪ 42‬بأن الله وحده هو القادر على‬
‫التغلب على الضرر غير العادي الذي تسببه الشرور المروعة‪ .‬كما قالت بشكل ملون‪:‬‬
‫«الرعب يحطم بشكل سيئ لدرجة أن الله وحده يمكنه إعادة تجميعه مرة أخرى‪.43‬‬
‫من أجل السماح لله بتحديد بعض األشياء بشكل سببي من أجل إنقاذ العالم من‬
‫الدمار الشامل‪ ،‬تضحي آدمز بقيم الكرامة اإلنسانية المطلقة والحرية التحررية التي‬
‫توجد غال ًبا في ثيوديسيات السقوط الحر وصنع الروح‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإنها ال تزال تحتفظ‬
‫بمقياس اإلرادة الحرة لقيمها البديلة في العالقة والحب‪ .44‬للتفاعل واالنضمام إلى‬
‫كائنات عالئقية أخرى لديها القدرة على الحب والمحبة‪ .‬قاد هذا الحب الله إلى دخول‬
‫الخليقة نفسه في التجسد‪ .‬كما تشير آدمز إلى أنه من خالل معاناة الشر على يد خليقته‪،‬‬
‫شارك الله في الشرور المروعة بـ»جانب جيد» يمكّن المشاركين في هذه الشرور من‬
‫عدم الرغبة في خوض تجاربهم وقبول حياتهم على أنها جيدة بشكل أساسي‪.45‬‬
‫أعطيت آدمز الكلمة األخيرة في هذا االستطالع ألنني كمسيحية أجد أن نهجها‬
‫ُ‬ ‫لقد‬
‫هو األكثر فائدة‪ .‬إن مقترحاتها القائلة بأن الله وحده قادر على التغلب على الشرور‬
‫عالما مثل هذا بدافع الحب‪ ،‬يتناسب جيدً ا مع الطابع الدرامي‬
‫الرهيبة‪ ،‬وأن الله خلق ً‬
‫للكتاب المقدس والتجربة المسيحية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن عمل آدامز يمثل مشكلة بشأن‬
‫نقطة واحدة على األقل‪ .‬إن قناعتها بأننا ال نتخطى أبدً ا وضع األطفال الصغار غير‬
‫الخاضعين للمساءلة في عالقتنا مع الله تؤدي بطبيعة الحال إلى إيمانها بالخالص‬
‫الشامل‪ .46‬فبالنسبة آلدمز‪ ،‬الله في سلطته يخلصنا جمي ًعا ألنه ال أحد منا يصل إلى سن‬
‫المساءلة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن التقليد المسيحي‪ ،‬وخاصة التقليد المينوني‪ ،‬عادة ما يعتبر‬

‫‪ 42‬عقيدة اخلالص‬
‫‪43 Ibid., 205.‬‬
‫‪44 Ibid., 157.‬‬
‫‪45 Ibid., 165-168.‬‬
‫‪ 46‬ويتجىل هذا بشكل أوضح يف حجة آدامز ضد أنواع خمتلفة من ثيوديسيات السقوط احلر‪ ،‬بام يف ذلك‬
‫فكرة «اجلحيم اخلفيف» ألولئك الذين يرفضون اهلل بحرية‪ً .‬‬
‫بدل من ذلك‪ ،‬تدرك أن اهلل سيكون جيدً ا‬
‫مع كل شخص «من خالل تأمني حياة جيدة لكل فرد بشكل عام‪ ،‬وقهر مشاركته يف الفظائع‪ ،‬ليس‬
‫فقط للعامل ككل‪ ،‬ولكن حلياة ذلك الفرد»‪.‬‬
‫‪211‬‬ ‫شلا ةلكشمل ةيفسلفلا تاباجتسالا‬

‫أن الله في حبه خلقنا لننمو إلى ما بعد مستوى األطفال الصغار‪ .‬البعض منا ُيحاسب‬
‫أمام الله على األقل في بعض األمور‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يخلق هذا مشكلة أخرى‪ :‬كيف يرتبط‬
‫مقياس المساءلة البشرية هذا بنعمة الله وقدرته الفريدة على الخالص؟ أشك في أنه‬
‫يمكن تفسير ذلك بدقة‪ ،‬بالنظر إلى الطابع الشخصي لعالقتنا بالله‪ .‬من المحتمل أن‬
‫تختلف نسبة تدخل الله الخالصي لحرية اإلنسان وف ًقا للمكان الذي نجد أنفسنا فيه‬
‫في قصة الحب التي يكتبها الله معنا ومن خاللنا في التاريخ‪.‬‬

‫أفكار ختامية‬
‫ال تدعي آدامز تقديم سوى إجابة جزئية لمشكلة الشر‪ ،‬وكما هو الحال مع اإلجابات‬
‫األخرى‪ ،‬قد يجعل المأساة غير المستردة أسوأ عندما يتم اإلعالن عنها بشكل غير الئق‪،‬‬
‫وقد يثبت أنها غير كافية على المدى الطويل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن اإلجابات غير الكافية‬
‫لمشكلة الشر ال تبطل البحث عن حلول أفضل‪ .‬إن التخلي عن البحث عن المعنى في‬
‫المأساة هو التخلي عن الله وصالح الحياة‪ .‬إن صعوبة البحث تجعلنا متواضعين‪ ،‬لكن‬
‫البحث نفسه هو عالمة على أننا نعتقد أن الحياة تستحق العيش بشكل أساسي‪.‬‬
‫حاولت في هذه الورقة أن أبين أن المسيحيين والمسلمين واجهوا مشاكل فلسفية‬
‫مماثلة وأنتجوا مجموعة مماثلة من األفكار في البحث لفهم الله والشر‪ .‬وشهد‬
‫ثيوديسيات اإلرادة اإللهية والتفاؤلية واإلرادة الحرة‪ .‬على الرغم من معتقداتنا المختلفة‬
‫حول كيفية تدخل الله للتعامل مع الشر‪ ،‬فإننا نشترك في تحديات مماثلة تؤكد عقالنية‬
‫الحياة مع الله في مواجهة الالمباالة والمأساة‪.‬‬
‫مثمرا من البحوث اإلضافية سيكون هو مقارنة كيفية‬ ‫في الختام‪ ،‬أقترح أن خ ًّطا ً‬
‫ٍ‬
‫لمآس معينة ذات أهمية مركزية لتقاليدنا الدينية‪ .‬بالنسبة للمسيحيين المينونيين‪،‬‬ ‫فهمنا‬
‫فإن الموضع الواضح للبدء هو موت يسوع المسيح‪ ،‬وبالنسبة للمسلمين الشيعة أفترض‬
‫أن ذلك سيكون استشهاد الحسين‪.‬‬
‫دراسات‬

‫سرد الشر‬

‫النظرية ما بعد الميتافيزيقية للحكم التأملي‬


‫ماريا بيا الرا‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫«ال فلسفة‪ ،‬ال تحليل‪ ،‬وال َم َثل‪ ،‬مهما كان عمي ًقا جدًّ ا‪ ،‬يمكن أن يقارن في شدة‬
‫بقصة محك َّية بطريقة جيدة»‪).‬حنا أرندت‪ ،‬عن اإلنسانية في األوقات‬ ‫وثراء المعنى َّ‬
‫المظلمة)‪.‬‬

‫الفشل في الصياغة المفاهيمية للشر‬


‫هناك اآلالف من الكتب حول الشر‪ ،2‬لكن ال أحد منها يقدم نظرية مرضية‬
‫عنه‪ .‬يحاول البعض تعريف الجذور الفلسفية للشر تاريخ ًّيا‪ ،‬ويركز آخرون على‬
‫المقاربات المختلفة للشر‪ ،‬وبمعارضتهم النقدية‪ ،‬يسعون إلى اعتماد تقليد واحد‪.‬‬
‫ويقدم البعض تعاريف داللية؛ بينما يركز البعض اآلخر‪ ،‬عادة األنثروبولوجي‬
‫والتحليلي النفسي‪ ،‬على الكشف عن الجانب المظلم للسلوك والثقافة البشرية‪.‬‬
‫في اآلونة األخيرة‪ ،‬كان هناك اهتمام جديد‪ ،‬ليس في مثل هذا التنظير أو الوصف‬

‫‪1 María Pía Lara (2001) Narrating Evil: A Postmetaphysical Theory of Reflective‬‬
‫‪Judgment. In: María Pía Lara (eds.) Rethinking Evil: Contemporary Perspectives.‬‬
‫‪Berkely: University of California Press. pp.239-250 .‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‬
‫مؤخرا قائمة باملراجع ألكثر من ‪ 4200‬كتابات فلسفية والهوتية حول هذا‬
‫ً‬ ‫‪« 2‬نرش باري ويتني‬
‫املوضوع‪ ،‬نُرشت مجيعها من عام ‪ 1960‬إىل عام ‪ ،»1990‬انظر‪:‬‬
‫‪Daniel Howard-Synder, ed., The Evidential Argument from Evil [Bloomington:‬‬
‫‪Indiana University Press, 1996], p. ix.‬‬
‫‪213‬‬ ‫رشلا درس‬

‫بحد ذاته‪ ،‬وإنما بما سأطلق عليه «سرد القصص» حول الشر‪ .‬أعتقد‪ ،‬في الواقع‪ ،‬أن‬
‫اتجاها جديدً ا ها ًّما في الفلسفة‪ ،‬وكذلك في العلوم االجتماعية‪ ،‬وأن هذا‬
‫ً‬ ‫هذا يمثل‬
‫التوجه الجديد يمكن أن يأخذ في االعتبار الشر باتجاه جديد بشكل أساسي‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫أود أن أقترح أن تكون نقطة البداية لدينا محاولة اإلجابة عن السؤال‪ :‬لماذا يبدو أن‬
‫نهجا أفضل للشر من النظريات المجردة أو الرسمية؟ آمل أن أطرح‬
‫القصص تقدم ً‬
‫بعض الحجج في هذا المقال تبدأ في تقديم إجابات عن ذلك سؤال‪.‬‬
‫في الماضي‪ ،‬كان الالهوتيون والخبراء في الدين هم األشخاص الوحيدون‬
‫المهتمون ح ًّقا بالموضوع‪ .‬حتى الفلسفة كانت تعتمد على قدرة الدين على‬
‫خلق مساحة ألنواع مختلفة من اإلجابات لمشكلة الشر‪ .‬عندما كتب إيمانويل‬
‫كانت مساهمته المهمة في هذا الموضوع‪« ،‬الدين داخل حدود العقل»‪ ،3‬اعترف‬
‫بشكل صحيح أن الشر يكمن في قدرة بشرية حرة‪ ،‬أو كما ادعى‪ ،‬في «شر الطبيعة‬
‫البشرية أو قلب اإلنسان»‪ ،‬والذي يكشف عن ضعفنا البشري بشكل كامل‪ .4‬إن‬
‫هذا الضعف هو الذي تم استكشافه من خالل الرسائل الدينية‪ ،‬التي بحثت عن‬
‫طرق ممكنة لفهم القسوة والمعاناة واأللم غير المستحق وجميع أنواع الخسائر‬
‫البشرية‪.‬‬
‫الشر‬
‫المشكلة هي أنه ال الدين وال الفلسفة المثقلة بالديون يمكنهما أن ُيظهرا َّ‬
‫دون المنع الميتافيزيقي‪ .‬ولهذا السبب كانت الروايات الدينية التقليدية دائما‬
‫دفاعية وغامضة‪ .‬لقد نشأت مشكلتهم من محاولتهم التوفيق بين اإليمان بإله جيد‬
‫مؤخرا‪:‬‬
‫ً‬ ‫مع االعتراف بوجود شر في العالم‪ .‬كما قال أحد الالهوتيين المعاصرين‬
‫«إن اإلنسانية تصل إلى الحد األقصى‪ :‬مواجهة السؤال الحاسم حول معنى الحياة‪،‬‬
‫واإلحساس وعدمه بالواقع»‪ .5‬جعل هذا التحدي األساسي مشكلة الشر محورية‬

‫‪3 Immanuel Kant, Religion within the Limits of Reason Alone, trans. Theodore M.‬‬
‫‪Geene and Hort H. Hudson (New York: Harper Torchbooks, 1960).‬‬
‫‪4 Ibid., p. 24‬‬
‫‪5 Michael L. Peterson, God and Evil: An Introduction to the Issues (Boulder, Colo.:‬‬
‫‪Westview Press, 1998), p. 10.‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪214‬‬
‫لما كان يعتبر تقليد ًّيا ضمن فلسفة الدين‪ .‬كانت الثيوديسيات نظريات فلسفية سعت‬
‫إلى توضيح التفسيرات الموثوقة التي استندت إلى الحقائق والرؤى التوحيدية‪.‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬تصور ثيوديسية أوغسطين الشر على أنه تدهور ميتافيزيقي‪ .6‬ومن‬
‫خالل إسناد الشر إلى «الخيارات الخاطئة» إلرادة عقالنية حرة‪ ،‬سعى أوغسطين‬
‫إلى عدم جعل األفعال الشريرة مشروطة‪ ،‬وبالتالي استعادة المسؤولية‪ ،‬ولكن إلنقاذ‬
‫اإلله المسيحي من أي لوم‪ .7‬في الواقع‪ ،‬كان غير قادر على تفسير سبب ما يجعل‬
‫اإلنسان الصالح يقوم بعمل شرير‪ ،‬واضطر إلى االستنتاج أن «هناك أسرار يوفرها‬
‫الله من خالل ملء كل مستوى من الخلق»‪ ،‬صعو ًدا وهبو ًطا‪ ،‬وبجعل عالمنا ممتل ًئا‬
‫ومتنو ًعا‪ .‬ادعى أوغسطين أن مبدأه الخاص بـ «الوفرة» ساعده على تفسير ما يعنيه‬
‫الشر لـ «النهاية الخالقة»‪.8‬‬
‫ابتكر اليبنز أول ثيوديسية فلسفية صريحة من أجل إثبات أن الله ال يمكن‬
‫دائما يتوفر على نوع ما من‬
‫لومه على وجود الشر‪ .‬فعلى الرغم من أن الواقع ً‬
‫الشر‪ ،‬فإن «هذا العالم» ــ كما أشار اليبنز‪ -‬كان األفضل من بين جميع العوالم‬
‫الممكنة‪.‬‬
‫دورا‬
‫يكشف ذلك أن مقاربات اليبنز وأوغسطين فتحت مساحة للجمالية لتلعب ً‬
‫مهما في التفكير وتفسير الشر‪ ،‬إذ يصفان الشر بأنه عنصر ضروري في عالم متنوع‬
‫ًّ‬

‫‪ 6‬ريتشارد سوينبورن أشار إىل أن «الثيوديسية هي مرشوع لتبيان أن املظاهر مضللة‪ ،‬أن الرشور من‬
‫النوع والكمية التي ندافع عنها عىل األرض ال تتعارض مع وجود اهلل وال جتعله غري حمتمل‪ ،‬وقد‬
‫ال يزال لدينا أدلة أقوى إلظهار أنه هناك إله يفوق نظريه املقابل‪ ،‬ويكفي جعله عقالن ًيا أن نؤمن‬
‫بوجود إله «‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Richard Swinburne, «Some Major Strands of Theodicy,» in The Evidential‬‬
‫‪Argument from Evil, ed. Daniel Howard-Snyder (Bloomington: Indiana‬‬
‫‪University Press, 1996), pp. 30–39, esp. p. 30‬‬
‫‪7 Augustine, City of God, trans. Marcus Dods, George Wilson, and J. J. Smith‬‬
‫‪(New York: Random House, 1950). See also Augustine, The Nature of Good,‬‬
‫‪in Augustine: Earlier Writings, ed. and trans. J. H. S. Burleigh (London: S.C.M.‬‬
‫‪Press, 1953), p. vi.‬‬
‫‪8 Augustine, The Nature of Good, p. 91.‬‬
‫‪215‬‬ ‫رشلا درس‬

‫ومتناغم‪« .‬جميع الخيرات مخلوقة» ــ كما يدعي أوغسطين‪ 9‬ــ كما تكررت في صيغة‬
‫اليبنز الخاصة‪« :‬أفضل عالم ممكن»‪ .‬كال التفسيران يهدفان إلى تصور الشر كجزء من‬
‫واقع معقد بالكامل‪ ،‬وكما قال اليبنز‪« :‬يسعى الله إلى إنتاج ِ‬
‫الغنى والجودة في العالم»‪.10‬‬
‫بينما تصور الثيوديسيات المعاناة كموضوع مركزي‪ ،‬أود أن أزعم أن ميلها‬
‫إلى الجمالية يعني أن هذا النوع من النظريات أكد على ضرورة الشر‪ ،‬وبالتالي‬
‫ً‬
‫وبدل من ذلك‪ ،‬يجب أن يكون الهدف هو‬ ‫ضمان نوع من المصالحة معه‪.‬‬
‫تقديم طريقة لفهم سبب اعتبار هذه الضرورة جز ًء حيو ًّيا من حياة اإلنسان‪،‬‬
‫وبالتالي اقتراح نوع من المسؤولية األخالقية لتجنبها‪ .‬إذا بدأنا التفكير في‬
‫الشر على أنه مشكلة أخالقية وليست مشكلة جمالية‪ ،‬يمكننا أن ننتقل من‬
‫الضرورة إلى مسألة «لماذا»‪ .‬في الثيوديسية اإلرين َّية تصبح المعاناة هذه‬
‫المشكلة األخالقية الحقيقية‪ ،‬ألنها تعتبر أساسية لصنع «الروح»‪ ،‬أي إلعادة‬
‫بناء وتحسين القدرات الروحية للذات اإلنسانية‪ .11‬هذه هي نقطة البداية في‬
‫قصة أيوب‪ ،‬والتي ــ من حيث السرد التاريخي‪ -‬تشير إلى األصل الحقيقي‬
‫للمقاربة األخالقية للشر‪.‬‬
‫كما يشهد تاريخ تفسيراته العديدة‪ ،‬فقد تم منح هذه السرية االنجيلية وضعها‬
‫الفريد ألنها تعاملت مع مسألة كيفية تحمل المعاناة غير المستحقة‪ .‬أصبحت قصة‬
‫أيوب جوهرية لجهود الفالسفة لإلجابة عن السؤال‪ :‬لماذا يجب أن يعاني؟‪ 12‬فسر‬

‫‪9 Ibid., p. 93.‬‬


‫‪10 Gottfried Wilhelm von Leibniz, Theodicy: Essays on the Goodness of God,‬‬
‫‪the Freedom of Man, and the Origin of Evil, trans. C. M. Huggard from C. J.‬‬
‫‪Gerhardt’s edition of the collected philosophical works (1875–90) (New Haven:‬‬
‫‪Yale University Press, 1952), paragraph 201.‬‬
‫‪ 11‬بمكن تتبع هذا النوع من الثيوديسية إىل األسقف إيريناوس (ج ‪ 130‬ــ ج ‪ .)202‬وأكثر املؤيدين‬
‫وضوحا لثقافة اإليريناية هو جون هيك‪ .‬تتطلع الثيوديسية اإلريانية إىل املستقبل من‬
‫ً‬ ‫املعارصين‬
‫بوصفه خطة اهلل لتنمية البرشية‪.‬‬
‫‪ 12‬كانت وهيجل ومارتن بوبر وسيمون ويل وكارل يونغ كتبوا مقاالت مهمة عن قصة أيوب‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪Isabel Cabrera, ed., Voices en el Silencio: Job: Texto y Comentarios (Mexico City:‬‬
‫‪Universidad Autonoma Metropolitana, Iztapalapa, 1992).‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪216‬‬
‫معظم الفالسفة أيوب على أنه ثيوديسية‪ ،‬كما توضح ارتباط الشر الذي ال ينفصم‬
‫بالنهاية البشرية‪ .‬لكن قصة أيوب قد تخطت حدود الثيوديسية‪ .‬وفي عمل المحلل‬
‫النفسي كارل يونغ‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬أدى إلى إعادة تصور الله على أنه يمثل الخير‬
‫والشر في الوقت ذاته‪ .13‬وقد كان يونغ أكثر جرأة مما يبدو للوهلة األولى‪ ،‬إذ أشار‬
‫إلى أن أيوب من خالل معاناته وصل إلى معرفة بالله ال يمتلكها الله نفسه‪ .‬فبالنسبة‬
‫ليونغ‪ ،‬بعبارة أخرى‪ ،‬يعكس الله واإلنسانية بعضهما البعض‪ ،‬إخفاقات أحدهما؛ ال‬
‫يمكن أن تعرف إال من وجهة نظر إنسانية‪« :‬تم الكشف عن طبيعة يهوه المزدوجة‪،‬‬
‫وقد رأى شخص ما أو شيء ما هذه الحقيقة ووثقها»‪ .14‬بالنسبة ليونغ‪ ،‬إذن‪ ،‬فإن‬
‫المعرفة التي تم الحصول عليها من خالل الوعي تستتبع مرحلة أعلى من التعلم‬
‫األخالقي من النظرية التقليدية‪ ،‬ألن اإلنسانية «ال يمكنها أن تحرز أي تقدم مع ذاتها‬
‫ما لم تصبح أكثر معرفة بطبيعتها»‪.‬‬
‫لكن إذا فشلت الثيوديسية في تقديم رؤية مقبولة فلسف ًّيا لوجود الشر‪ ،‬كما‬
‫قصصا مثل أيوب تمتلك إمكانية التفسيرات المتعددة‬‫ً‬ ‫أشار إيمانويل كانت‪ ،‬فإن‬
‫التي يمكن أن تؤدي إلى االعتراف بالعالقة الضرورية بين المعاناة والتعلم‬
‫البشري‪ .‬يفتح هذا التفسير فكرة المعاناة كشيء مبرر أو غير مبرر بالمعنى‬
‫األخالقي‪ ،‬وبالتالي كشيء عالجي أو تربوي أو فدائي‪ .‬يمكننا أن نم ِّيز الشر في‬
‫المجال األخالقي من خالل تطوير فهم للظروف العالمية للمعاناة عبر تفسير‬
‫القصص التي تم أخذها‪ ،‬بالمعنى التاريخي أو االجتماعي‪ ،‬على أنها ما أسمته حنا‬
‫أرندت «الصالحية النموذجية»‪ .‬من خالل تطوير مثل هذا الفهم األخالقي «ما‬
‫بعد الميتافيزيقي» للشر‪ ،‬سنتمكن من ربط قصص عن الشر بالمساءلة األخالقية‬

‫‪ 13‬ربام يكون هذا أعظم يشء يف أيوب‪ ،‬الذي يواجه هذه الكلية الصعبة‪ ،‬فهو ال يشك يف وحدة اهلل‪،‬‬
‫يرى بوضوح أن اهلل عىل خالف مع نفسه‪ ،‬عىل خالف متا ًما لدرجة أن أيوب‪ ،‬متأكد متا ًما من إجياد‬
‫ِ‬
‫املساعد يف اإلله‪ ،‬واملدافع ضد اإلله‪ .‬وكام هو متأكد أنه الشيطان يف هيوه‪ ،‬فهو عىل يقني من اخلري‪.‬‬
‫انظر‪:‬‬
‫‪ «Answer to Job,» in Encountering Jung on Evil, ed. Murray Stein [Princeton:‬‬
‫‪Princeton University Press, 1995] p. 125.‬‬
‫‪14 Ibid., p. 137.‬‬
‫‪217‬‬ ‫رشلا درس‬

‫الناتجة عن ممارسة «الحكم التأملي»‪ .15‬وبهذا المعنى ستكون مهمتنا فلسفية بشكل‬
‫أساس‪.‬‬

‫الصياغة المفاهيمية للشر من خالل حكاية القصص‬


‫بينما كانت أفعال الشر والقصص عن تلك األفعال مرافقة لإلنسان منذ بدء الزمن‬
‫مؤخرا قوة حكاية القصص‪ .‬يبدو أن كل قصة تجلب شي ًئا جديدً ا‬
‫ً‬ ‫البشري‪ ،‬لم نُدرك إال‬
‫إلى عالم تجربة المعاناة اإلنسانية‪ ،‬وإلقاء ضوء مختلف على العالقة بين الفاعل‬
‫والمصاب باألفعال الشريرة وعلى ما هو مهم للتذكر‪ .‬من خالل هذه العملية‪ ،‬نبني‬
‫ً‬
‫مثال أخالق ًّيا «سلب ًّيا»‪ ،‬نتعلم عن الضعف‪ ،‬عن نقاط ضعفنا وخطئنا‪ ،‬وباختصار‪ ،‬عن‬
‫أنفسنا فيما يتعلق بطموحاتنا وتوقعاتنا األخالقية‪.‬‬
‫استخدم بعض الفالسفة العالقة بين األدب واألخالق لفهم الطبيعة البشرية‬
‫واألخالق‪ .16‬في حين تم ربط السرد األدبي بالحكم من خالل التقييم اإليجابي للقيم‬
‫األخالقية واألمثلة األخالقية والصدق النموذجي «اإليجابي»‪ ،‬فمن المهم التفكير‬
‫أكثر بالضبط حول ما هو بدقة ما يجعلها مهمة في تصور وفهم الشر‪ .‬أود أن أزعم أن‬
‫السرديات عن الشر يجب أن تؤدي وظيفتين مختلفتين‪ .‬يجب أن تربط بين تجارب‬
‫الشر الملموسة والملزمة‪ ،‬ويجب أن تمتلك القدرة على تشكيل تصوراتنا األخالقية‬
‫عن الشر على مر التاريخ‪.‬‬

‫‪« 15‬احلكم التأميل» هو مصطلح استعمله إيامنويل كانت يف نقده للحكم‪ ،‬لتمييز «احلكم اجلاميل» أو «حكم‬
‫الذوق» ومتييزه عن «احلكم التجريبي» أو «حكم املعنى»‪ .‬كان احلكم باملعنى الكانتي يعني أنه جيب أن‬
‫يكون هناك إدراج اخلاص يف العاملي‪ .‬جادل كانت بأن القلق األكثر أمهية للحكم يكمن يف مطابقة التفاصيل‬
‫والعاملني‪ .‬يف حالة «احلكم املحدد»‪ ،‬جادل كانت‪ ،‬بأن العاملية موجودة مسب ًقا وهي مستقلة عن اخلاصة‪ ،‬مما‬
‫يشري إىل أن هذا التمرين يوفر خمططات للمفاهيم التي يوفرها الفهم‪ .‬يف حالة «احلكم التأميل»‪ ،‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬جيادل كانت بأنه جيب عىل املرء أن يدرك العاملية عندما يواجه املرء بالذات‪ .‬وبالتايل‪ ،‬فإن القدرة‬
‫عىل االستجابة للموقف هي عالقة «حكم تأميل»‪ .‬استخدمت حنا أرندت فكرة كانت عن «احلكم التأميل»‬
‫لتطوير مفهومها اخلاص يف املجال السيايس‪ .‬ما قصدته بـ «احلكم التأميل» مل يسبق له مثيل متا ًما‪ ،‬ألهنا ماتت‬
‫أفكارا حول مفهومها للحكم‪.‬‬ ‫قبل كتابة عملها املتوقع حول هذا املوضوع‪ .‬وقد طور العديد من العلامء ً‬
‫‪16 Martha Nussbaum, Love’s Knowledge: Essays on Philosophy and Literature (Oxford:‬‬
‫‪Oxford University Press, 1990). Also: Wayne Booth, The Company We Keep: An‬‬
‫‪Ethics of Fiction (Berkeley: University of California Press, 1988).‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪218‬‬
‫سأوضح هاتين الوظيفتين من خالل تقديم تحليل فلسفي للتفسيرات المختلفة‬
‫للمآسي اليونانية‪ .‬دعونا نبدأ بتصور أرسطو عن المأساة‪ .‬يشير أرسطو إلى أن «العنصر‬
‫األكثر أهمية هو ترتيب األحداث‪ ،‬ألن المأساة هي تمثيل ليس للبشر‪ ،‬بل للعمل‪ ،‬ومسار‬
‫الحياة»‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن ما تعلمنا إياه المأساة عن أنفسنا ال يتعلق فقط بمشاعر «الشفقة» أو‬
‫«الخوف»‪ ،‬وكالهما تم تصويرهما على أنهما أهم المشاعر التي تثيرها المآسي اليونانية‪،‬‬
‫ولكن شي ًئا ما يحدث بين تفاعل الخبرة والمراحل المختلفة للتعلم األخالقي‪ .‬في الواقع‪،‬‬
‫تقول المأساة شي ًئا فريدً ا حول الطبيعة التي ال يمكن تجنبها للصراع في الحياة األخالقية‪.‬‬
‫الصراعات األخالقية تجعل العالمية ال تنفصل عن التوطين الخاص لقصة معينة‪ .‬هذا ما‬
‫يسمح للمآسي أن تصبح مركبات قوية ذات صالحية نموذجية‪.‬‬
‫أيضا على أنها تخلق فجوة «بين الحكمة المأساوية والحكمة‬ ‫يمكن تصور المآسي ً‬
‫العملية»‪ ،‬كما أشار بول ريكور ‪ ،‬فبينما تُظهر المأسا ُة المعانا َة اإلنسانية الناجمة‬
‫‪17‬‬

‫عن األفعال الشريرة‪ ،‬تُدين في الوقت نفسه المتفرج إلعادة توجيه أفعاله لمجازفته‬
‫الخاصة‪« ،‬بمعنى الحكمة العملية التي تستجيب بشكل أفضل للحكمة المأساوية»‪.18‬‬
‫ولكن إذا كانت المآسي تثير التنفيس في المتفرج‪ ،‬كما أوضح أرسطو‪ ،‬يمكن للمرء‬
‫أن يستنتج بحق أن جانبنا التعبيري‪ ،‬والعواطف ومشاعر مثل الشفقة والخوف‪ ،‬تصبح‬
‫أجزاء من استجاباتنا األخالقية لتفسيراتنا لمعنى المأساة‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬تؤكد مارثا‬
‫نوسبوم أن «للعواطف أساس إدراكي»‪ .19‬وبالتالي‪ ،‬يمكننا أن نتصور المأساة على أنها‬
‫«تقليد لألشياء المخيفة للشفقة والخوف» التي تزودنا بالمعرفة األخالقية‪ .20‬فالشفقة‬
‫والخوف مرتبطان بعالمية المعاناة اإلنسانية وخصوصية ومدى احتمالية السياقات‬
‫المختلفة للعمل البشري‪ .‬وعند تصورها على هذا النحو‪ ،‬يمكننا التفكير في المآسي‬

‫‪17 Paul Ricoeur, The Symbolism of Evil, trans. Emerson Buchanan (Boston: Beacon‬‬
‫‪Press, 1967), p. 229.‬‬
‫‪18 Ibid., my emphasis.‬‬
‫‪19 Martha C. Nussbaum, The Fragility of Goodness: Luck and Ethics in Greek Tragedy‬‬
‫‪and Philosophy (Cambridge: Cambridge University Press, 1986), p. 273.‬‬
‫‪20 Martha C. Nussbaum, «Tragedy and Self-sufWciency: Plato and Aristotle on Fear‬‬
‫‪and Pity» in Essays on Aristotle’s Poetics, ed. Amélie Oksenberg Rorty (Princeton:‬‬
‫‪Princeton University Press, 1992) pp. 261–90, esp. p. 276.‬‬
‫‪219‬‬ ‫رشلا درس‬

‫على أنها تمثل الجوانب السلبية للفعل‪ ،‬وبالتالي الحاالت التي ُينظر فيها إلى الشر على‬
‫أنه مثال سلبي على «الصالحية النموذجية»‪ .‬بهذا المعنى‪ ،‬يكشف تفسير مارثا نوسباوم‬
‫لمفهوم أرسطو للمأساة عن الترابط بين الجانب التعبيري من ردود أفعالنا وأبعاد التعلم‬
‫األخالقي‪ ،‬ألنه كما ا ّدعى نوسباوم‪ ،‬فإن أرسطو «يربط الشرط الذي تكشفه الحبكات‬
‫حسب الضرورة أو االحتمالية مع قدرة الشعر على إظهار اإلمكانيات البشرية العامة»‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن «الصالحية النموذجية» السلبية تتعلق بتصور التجربة السردية لمعاناة‬
‫أيضا بالتفاعل المعقد الذي‬
‫اآلخرين على أنها شيء قد يحدث لي‪ ،‬مع االعتراف ً‬
‫تمتلكه األفعال بين الضرورة واإلمكانية ألفعال الشر‪.21‬‬
‫أيضا الوظيف َة الثانية لسرديات الشر من حيث أنها شكلت‬
‫تجسد المآسي اليونانية ً‬
‫فهمنا األخالقي لبعض األفعال الشريرة‪ .‬إحدى الطرق لتوضيح هذا البعد هي إظهار‬
‫كيف وسعت المآسي مفرداتنا األخالقية‪ .‬لقد اخترعت المآسي الكلمات ــ المفاهيم‬
‫التي تكتسب محتوى أخالقي عندما تقع ضمن قصة معينة ــ والتي ساعدت في‬
‫تشكيل رؤانا لما نحن عليه‪ ،‬من هشاشتنا ونقاط ضعفنا األساسية‪ .‬هذا ُبعد كشف‬
‫عنه برنارد ويليامز بتحليله لمفاهيم «المسؤولية» و«الذنب» و«العار» في كتابه «العار‬
‫والضرورية»‪ .22‬على سبيل المثال‪ ،‬وصف وليامز المسؤولية من خالل مأساة أوديب‪:‬‬
‫«كل استبداد أوديب‪ ،‬تلك اآللة الرهيبة‪ ،‬تنتقل إلى اكتشاف شيء واحد فقط‪ ،‬قام به‪.‬‬
‫هل نفهم رعب ذلك االكتشاف فقط ألننا نتشارك بشكل متبادل المعتقدات السحرية‬
‫في إدانة الدم‪ ،‬أو مفاهيم المسؤولية القديمة؟ بالتأكيد ال؛ نحن نفهم ذلك ألننا نعلم‬
‫ُمارس ِمن فِ ْع ِله‪ ،‬وليس فقط ما فعله المرء بشكل‬
‫أنه في قصة حياة الفرد هناك سلطة ت َ‬
‫قصدي‪.23‬‬

‫شخصا يشبهني وهو َيسقط بطريقة‬


‫ً‬ ‫‪ 21‬تنتهي مارثا نوسبوم (املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪ )278‬إىل أنه‪ :‬إذا شاهدت‬
‫غامضة وتعسفية متا ًما‪ ،‬فلن يكون لدي أي فكرة عام إذا كان هذا هو اليشء الذي قد حصل يل؛ لن أفهم‬
‫األمر ببساطة‪ ،‬وسأميل إىل رؤية األحداث عىل أهنا غريبة جدًّ ا‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬إذا رأيت اآلليات‬
‫السببية يف الفعل‪ ،‬ورأيتها أطاعت قوانني الرضورة أو االحتاملية‪ ،‬فإن األحداث ستصيبني كأشياء‬
‫يمكن أن تؤثر عىل حيايت اخلاصة‪.‬‬
‫‪22 Bernard Williams, Shame and Necessity (Berkeley: University of California Press,‬‬
‫‪1993).‬‬
‫‪23 Ibid., p. 69.‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪220‬‬
‫يوضح الرابط الذي طوره ويليامز من خالل التفسير التاريخي «للمسؤولية» كيف أن‬
‫هناك جان َبين للعمل؛ «جانب التداول والنتيجة‪ ،‬والفجوة الضرورية بين االثنين»‪ .24‬هذه‬
‫هي المساحة «الفارغة» بالتحديد ستحظى بالمحتوى األخالقي للقصة عند سردها‪.‬‬
‫وهكذا‪ ،‬يمكن أن نخلص إلى أن المعاناة في حياة األبطال واألبطال المأساويين تصبح‬
‫منطقة التفاهم والتعلم‪.25‬‬
‫بنفس الطريقة‪ ،‬قامت مارثا نوسبوم بتحليل مفهوم «الشفقة» المأخوذ من شعرية‬
‫أرسطو‪ .‬وهي تستخدم أيض ًا المآسي إلبراز البعد األخالقي لهشاشة حياتنا‪ .‬تدعي نوسبوم‬
‫أن مفهوم أرسطو عن الشفقة هو «عاطفة مؤلمة موجهة نحو ألم أو معاناة شخص آخر‪.‬‬
‫يتطلب األمر إذن االعتقاد بأن الشخص اآلخر يعاني ح ًّقا‪ ،‬كما أن هذه المعاناة ليست‬
‫تافهة‪ ،‬ولكنها شيء ذو أهمية حقيقية‪ .‬هذه المعاناة تم تصنيفها إلى مجموعتين‪ :‬األشياء‬
‫ّ‬
‫الحظ»‪ .‬وبذلك توفر المآسي إمكانية‬ ‫المؤلمة والمضرة‪ ،‬واألضرار الجسيمة الناجمة عن‬
‫استكشاف ضعف الفعل البشري واألفعال الشريرة من خالل نطاق أخالقي‪.26‬‬

‫القوة التفسيرية لحكاية القصص‬


‫كان انتقاد هابرماس المعروف لطمس االختالف بين األدب والفلسفة‪ ،‬بين العلوم‬
‫والخطابات المعيارية‪ ،‬يهدف إلى استعادة ادعاءات الصالحية للتخصصات والخطابات‬
‫المختلفة‪ ،‬والحفاظ على العالقات األبستيمية بين الموضوعات والعوالم‪ .27‬يلوم‬

‫‪24 Ibid.‬‬
‫‪ 25‬يزعم ويليامز أن «لدهيم حياة معرضة للثروة عىل هذا النطاق‪ ،‬وهذا ببساطة واضح؛ ليس عليهم أن‬
‫يرشحوا ذلك ألي شخص أو جيادلوا يف ذلك» (املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.)74‬‬
‫‪ 26‬ختلص نوسباوم إىل أن «هناك عالقة وثيقة بني املناسبات املدرجة للشفقة وتأمالت أرسطو حول‬
‫ضعفنا أمام العوامل اخلارجية يف األعامل األخالقية» (هشاشة اخلري‪ ،‬ص ‪.)383‬‬
‫‪« 27‬كل داللة عىل الوعي الذايت‪ ،‬وتقرير املصري‪ ،‬وإدراك الذات جيب أن تكون قد ُطردت من املفاهيم‬
‫األساسية للفلسفة قبل اللغة (بدالً من الذاتية) يمكن أن تعلن االستقالل هبذه الطريقة‪ ،‬سواء كان‬
‫ذلك كتدمري تارخيي للوجود‪ ،‬كجنون اخلطاب‪ ،‬أو كمطابقة عشوائية بني اخلطابات‪ ،‬فإن احلدود بني‬
‫املعنى احلريف واالستعاري‪ ،‬بني املنطق والبالغة‪ ،‬وبني الكالم اجلاد والوظيفي يتم التخلص منها يف‬
‫تدفق حدث نيص عاملي»‪ .‬انظر‪:‬‬
‫‪(Jurgen Habermas, «Philosophy and Science as Literature?» in Postmetaphysical‬‬
‫‪Thinking: Philosophical Essays [Cambridge: MIT Press,1996], pp. 205–27, esp. p. 207).‬‬
‫‪221‬‬ ‫رشلا درس‬

‫هابرماس هيدجر لطرحه فكرة أن اللغة يمكن أن تعد «حدوث الحقيقة»‪ .28‬ومن خالل‬
‫ثورية فكرة هيدجر عن اللغة‪ ،‬يشير هابرماس إلى أن ما بعد البنيويين يعاملون «جميع‬
‫ادعاءات الصحة» على أنها «محورية لخطابات معينة‪ .29‬وبالتالي‪ ،‬فإن ما بعد البنيويين‬
‫يلغون «الذاتية التجاوزية»‪ ،‬من وجهة نظر هابرماس‪ ،‬وقد سمحت هذه الخطوة بإزالة‬
‫اختالف «العالقات العالمية‪ ،‬وجهات نظر المتحدث‪ ،‬وادعاءات الصالحية الكامنة في‬
‫التواصل اللغوي نفسه‪ .‬ولكن بدون هذا النظام المرجعي‪ ،‬يصبح التمييز بين مستويات‬
‫الواقع‪ ،‬وبين الخيال والواقع‪ ،‬وبين الممارسة اليومية والخبرة غير العادية‪ ،‬وبين األنواع‬
‫ً‬
‫مستحيل‪ ،‬بل ال معنى له»‪.30‬‬ ‫المقابلة من النصوص واألنواع‪،‬‬
‫في حين أن هابرماس محق في إبراز الحاجة إلى التفريق بين األنواع وادعاءات‬
‫الصحة‪ ،‬أعتقد أن نهجه النقدي يحتاج إلى التمييز بين الخطابات الفلسفية التي تعتبر‬
‫نفسها مجرد سرديات‪ ،‬والخطابات الفلسفية التي تحتاج إلى استخدام االتصال‬
‫بالسرديات من أجل التوفيق بين النظرية األخالقية‪ .‬أريد أن أقترح «جسر معياري» بين‬
‫السرد والتأثير الذي تحدثه على القارئ من خالل استنباط نظرية «الحكم التأملي»‪.‬‬
‫قبل وصف مثل هذا الجسر‪ ،‬اسمحوا لي أن أعرض بعض األمثلة على عالقة السرد‬
‫بالفلسفة والعلوم االجتماعية‪.‬‬
‫جادامير‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬يربط األدب والفلسفة بالدين بسبب الروابط‬
‫«الوجودية» بينها‪ .‬في مقاله «تفسير راينر ماريا ريلكه للوجود‪ :‬عن الكتاب رومانو‬
‫جوارديني»‪ ،31‬يلفت جادامير انتباهنا إلى شرط تأويلي‪« ،‬يتم َسكُّه»‪ ،‬أثناء تفسير‬
‫النصوص األدبية‪ .‬يهتم جادامير هنا بالبعد «الديني» للوجود البشري الذي يذهلنا‬
‫كشيء مرتبط ارتبا ًطا وثي ًقا بمخاوفنا الخاصة‪ ،‬والذي ال يمكن استعادته عقالن ًّيا إال من‬
‫خالل التأويل الدقيق‪ .‬فوف ًقا لجادامير‪« ،‬ال يمكننا أبدً ا فهم النص بالكامل ما لم يكن‬

‫‪28‬‬ ‫‪Ibid., p. 209.‬‬


‫‪29‬‬ ‫‪Ibid.‬‬
‫‪30‬‬ ‫‪Ibid., p. 210.‬‬
‫‪31‬‬ ‫‪Hans-Georg Gadamer, Literature and Philosophy in Dialogue: Essays in German‬‬
‫‪Literary Theory (Albany: State University of New York Press, 1994).‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪222‬‬
‫مرتب ًطا بسياق حياتنا كإجابة محتملة على سؤال وجودي»‪ .32‬لذلك يصر على إمكانية‬
‫إقامة حوار دائم بين الفلسفة واألدب‪ .‬ويعتبر ذلك كعملية تدريب‪ ،‬وهو أمر سيفيدنا في‬
‫التربية الذاتية‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬تخلق تنمية الفضائل الفكرية واألخالقية سيا ًقا يكون فيه‬
‫للحكم البشري فرصة أن يصبح «ذا معنى»‪.33‬‬
‫وبنفس الطريقة‪ ،‬رأى والتر بنيامين في العالقة بين الفلسفة واألدب ما يمكن أن يرفع‬
‫وعينا بالمسؤولية األخالقية‪ .‬اختار قوة حكاية القصص ألن «الراوي يأخذ ما يقوله من‬
‫التجربة‪ ،‬تجربته أو تلك التي قالها اآلخرون‪ .‬وهو بدوره يجعلها تجربة أولئك الذين‬
‫يستمعون إلى قصته»‪ .34‬ولكن ما يأخذه الراوي من تجارب اآلخرين أو من تجربته‬
‫الخاصة ال يمكن الحفاظ عليه إال من خالل إنشاء مساحة أخالقية‪ ،‬مساحة نسميها‬
‫«الذاكرة» أو «استدعاء»‪ ،‬التي ربطها بنيامين بـ»المسؤولية األخالقية»‪ .‬يميز بنيامين‬
‫ألن التأثير الذي يخلقونه على الناس فوري؛ يتم صدم المتفرجين‬ ‫دور رواة القصص َّ‬
‫بحاجتهم الشخصية لتكرار القصة لآلخرين‪ .‬وهكذا‪ ،‬يرى بنيامين أنه «كلما كان ميله‬
‫ً ‪35‬‬ ‫ً‬
‫مهتما بفهمه‪ ،‬وكلما‬
‫آجل» ‪ ،‬كلما كان ًّ‬ ‫عاجل أم‬ ‫لتكرار ذلك لشخص آخر في يوم ما‪،‬‬
‫تذكره بشكل أفضل‪ .‬هذا الرابط بين القصص والفضاء األخالقي للذاكرة هو ما يجلبه‬
‫بنيامين إلى القوام األخالقي لسرد القصص‪ .‬تصبح الذاكر ُة ما أسماه بنيامين «هيئة‬
‫التدريس الملحمية» بامتياز‪« .‬فقط بفضل الذاكرة الشاملة يمكن للكتابة الملحمية أن‬
‫تمتص مجرى األحداث من جهة‪ ،‬وبمرورها‪ ،‬تصنع سالمها مع قوة الموت من جهة‬
‫أخرى»‪ .36‬ما يجب أن تحققه القصة‪ ،‬إذن‪ ،‬هو ربط بتفرد تجربة المعاناة‪ ،‬بينما تصبح في‬
‫الوقت نفسه جز ًء من تجربة اآلخرين‪ .‬وهكذا‪ ،‬يسمح لنا بنيامين برؤية القوة االستبدادية‬

‫‪32 Robert H. Paslick, translator’s introduction to Literature and Philosophy in‬‬


‫‪Dialogue: Essays in German Literary Theory, by Hans-Georg Gadamer (Albany:‬‬
‫‪State University of New York Press, 1994), pp. vii–xii.‬‬
‫‪33 Ibid., p. ix.‬‬
‫»‪34 Walter Benjamin, «The Storyteller: Reflections on the Works of Nikolai Leskov,‬‬
‫‪in Illuminations: Essays and Reflections, ed. Hannah Arendt (New York: Harcourt‬‬
‫‪Brace Jovanovich, 1968), pp. 83–110.‬‬
‫‪35 Ibid., p. 91.‬‬
‫‪36 Ibid., p. 97.‬‬
‫‪223‬‬ ‫رشلا درس‬

‫لسرد القصص‪ .‬هذا هو السبب في أن بنيامين يدعي أن رواة القصص يشتركون في‬
‫«الحرية التي ينتقلون بها إلى أعلى وأسفل درجات تجربتهم مثل السلم‪ .‬السلم الذي‬
‫يمتد إلى أسفل‪ ،‬إلى باطن األرض‪ ،‬ويختفي في الغيوم‪ ،‬هو صورة تجربة جماعية ال‬
‫تشكل حتى الصدمة العميقة لكل تجربة فردية‪ ،‬أو الموت‪ ،‬أي عائق أو حاجز»‪.37‬‬
‫ذهبت حنا أرندت أبعد من بنيامين بخطوة‪ ،‬فكانت أول مفكر يفهم أهمية السرديات‬
‫ُدرك القصص على أنها الطريقة الوحيدة‬‫المتعلقة بالشر وقوتها االستبدادية‪ ،‬بينما ت َ‬
‫الستعادة ما حدث‪ ،‬أي أن تبدأ من جديد‪ .‬بعد فهم أنه ال يمكن أن يكون هناك فداء‬
‫من األفعال الشريرة‪ ،‬وإنما فقط نهاية مناسبة وبداية جديدة‪ ،‬وضعت أرندت نظرية‬
‫حول المغفرة‪ .‬تقول أرندت‪« :‬التسامح‪ ،‬يعمل على إبطال أفعال الماضي‪ ،‬التي تتدلى‬
‫خطاياها مثل سيف داموكليس على كل جيل جديد»‪ .38‬كل شيء يمكن معاقبته ُيمكن‬
‫غفرانه‪ ،‬كما تشير آرندت‪ ،‬باستثناء «تلك اإلساءات التي ــ منذ كانت ــ نسميها «الشر‬
‫الراديكالي» والذي ال ُيعرف عن طبيعته سوى القليل‪ ،‬حتى بالنسبة لنا الذين تعرضنا‬
‫لواحد من نوباته النادرة في المشهد العام»‪.39‬‬
‫تلك اإلساءات‪ ،‬التي صورتها أرندت كآليات تجرد بالكامل كل نمط من العفوية‬
‫البشرية‪ ،‬تشير إلى اهتمامها المتواصل بتنظيم الشمولية للقتل الجماعي واإلبادة في‬
‫القرن العشرين‪ .‬وكما استنتج ريتشارد بيرنشتاين ببالغة‪ ،‬لم تصور أرندت «الشر‬
‫الراديكالي» على أنه ال ُيعاقب عليه وال ُيسامح فيه‪ ،‬ألن «العقاب والتسامح يفترض‬
‫مسب ًقا ما يستأصله الشر الراديكالي‪ :‬أي الفعل البشري»‪ .40‬في مواجهة هذا االستحالة‬
‫الصارخة‪ ،‬تصور أرندت حكاية القصص على أنها طريقة مختلفة للتعامل مع شر‬
‫الماضي‪ .‬ليس من خالل العقاب أو المسامحة‪ ،‬ولكن من خالل خلق فهم جديد لما‬
‫حدث‪ ،‬يمكن استعادة اإلنسانية‪ .‬بالنسبة للبشر «ال يولدون من أجل الموت ولكن من‬

‫‪37 Ibid., p. 102, my emphasis.‬‬


‫‪38 Hannah Arendt, On Human Condition (Chicago: University of Chicago Press,‬‬
‫‪1958), p. 237.‬‬
‫‪39 Ibid., p. 241.‬‬
‫‪40 Richard J. Bernstein, Hannah Arendt and the Jewish Question (Cambridge: MIT‬‬
‫‪Press, 1996), p. 149.‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪224‬‬
‫أجل البدء»‪ .41‬من خالل حكم أرندت على أيخمان‪ ،‬تزودنا بالقصة «األولى»‪ ،‬التي‬
‫أول‪،‬‬ ‫تسمح لنا برؤية وظيفتي السرد أثناء فهم خصوصية الشر في القرن العشرين‪ً .‬‬
‫في الصحة النموذجية للقصة التي ترويها لنا‪« ،‬يظهر أيخمان كمثال لنوع جديد من‬
‫الفاسقين»‪ ،‬الذي ظهر مع الشمولية في القرن العشرين‪ .‬مع هذا التطور‪ ،‬تدعي أرندت‪،‬‬
‫أننا قادرون على فهم مرحلة جديدة في التاريخ األخالقي لإلنسانية واألفعال الشريرة‪.‬‬
‫تستعيد أرندت شي ًئا مرتب ًطا على وجه التحديد بأوقاتنا التاريخية في تحليلها للطابع‬
‫الملموس للشر الشمولي‪ ،‬وهو أمر أثر على كل من الفاعلين وضحاياهم عن طريق‬
‫تجريدهم من إنسانيتهم‪ .42‬وثان ًيا‪ ،‬صياغتها المفاهيمية لتفاهة الشر ارتبطت تاريخ ًّيا‬
‫مميزا عندها عن الشمولية‪ ،‬والذي تلخص‬ ‫بالشمولية‪ ،‬كما تدعي بيريل النغ‪« ،‬ما كان ً‬
‫في ميزة واحدة على وجه الخصوص‪ :‬أنه هناك ــ وألول مرة ــ ظهرت فكرة الشر التي‬
‫دعت إلى تالشي اإلنسان الفرد»‪ .43‬يرتبط هذا مباشرة بفكرة كون أيخمان غير قادر على‬
‫التمييز أو الحكم‪« ،‬تأثير الجاني على نفسه»‪ .‬وهكذا‪ ،‬تصنع أرندت مفرداتها الخاصة‬
‫يتم فيها تصور الصالحية النموذجية السلبية على أنها «سياسات الشر»‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫لوصف حقبة ّ‬
‫شهد قرنُنا الشر كنظام تم فيه محو الفردية‪« :‬لقد أدت الشمولية إلى تغيير ليس فقط في‬
‫كيفية تصرف الناس تجاه بعضهم البعض‪ ،‬ولكن في الطبيعة البشرية نفسها‪ ،‬في ما كان‬
‫عليه اإلنسان»‪.44‬‬

‫فهم الشر من خالل الحكم التأملي‬


‫يبدو أن فهم الشر يقودنا إلى عالم التفسير‪ ،‬ألن األفعال تُفهم وتشكل لغو ًّيا من‬
‫خالل آفاقنا األخالقية‪ .‬إذا احتجنا إلى تفسير‪ ،‬فنحن مضطرون إلى ممارسة قدرتنا‬
‫على نوع من الحكم‪ ،‬وكما قالت حنا أرندت‪ ،‬فإن الحكم هو «األكثر سياسية من بين‬

‫‪41 Arendt, On Human Condition, p. 246.‬‬


‫‪42 Berel Lang, «Hannah Arendt and the Politics of Evil,» in Hannah Arendt: Critical‬‬
‫‪Essays, ed. Lewis P. Hinchman and Sandra K. Hinchman (Albany: State University‬‬
‫‪of New York Press, 1994), pp. 41–56, esp. p. 50.‬‬
‫‪43 Ibid., p. 50.‬‬
‫‪44 Ibid., p. 51.‬‬
‫‪225‬‬ ‫رشلا درس‬

‫القدرات العقلية لإلنسان»‪ .45‬ولكن حتى إذا كان «الناس يستمدون المعنى والقيمة‬
‫من المعين»‪ ،‬كما تشير باربرا هيرمان‪ ،‬فـ«إن الحكم األخالقي ليس الخطوة األولى‬
‫في المداوالت األخالقية»‪ .46‬الخطوة األولى هي كيف نحكي قصتنا‪ ،‬وهي بالتحديد‬
‫كيف ندرك العالم بسمات أخالقية محددة تضعنا في واقع إصدار أو عدم إصدار حكم‬
‫محتمل‪ .‬تنقلك هذه الخطوة إلى ما تسميه هيرمان مفهو ًما توضيح ًّيا‪ ،‬والذي تطوره‬
‫كقواعد للبروز األخالقي‪.47‬‬
‫الحكم بالضبط‪ ،‬وتحديدً ا «الحكم التأملي»‪ ،‬مع التركيز على‬‫ُ‬ ‫سيتم توضيح ما هو‬
‫مفاهيم كانت وأرندت للحكم التأملي في كتابي‪« :‬سرد الشر‪ :‬نظرية ما بعد ميتافيزيقية‬
‫للحكم التأملي»‪ .‬وفي الوقت الحالي‪ ،‬يكفي أن نقول إننا نعتبر «الحكم التأملي» األدا َة‬
‫األخالقية األساسية لفهم الشر‪ ،‬وأننا من خالل سرد القصص نستطيع أن نوافق على‬
‫«حكم» قادر على التقاط خصوصية وتفرد الفعل‪ .‬تم تطوير مفهوم الفعل إلى ما أسمته‬
‫أرندت «الفعل المثالي»‪ ،‬وهي فئة تشير إلى تقديم أمثلة تساعدنا على التعرف على‬
‫خصوصية العمل الشرير من خالل العدسات األخالقية‪ .‬فالحكم‪ ،‬بعبارة أخرى‪،‬‬
‫مشروط في بناء المعنى؛ يتم اإلمساك به في سرد الشر‪ .‬وهذا يعيدنا إلى العالقة المتبادلة‬
‫بين المجالين األخالقي والسياسي‪ .‬من خالل إنشاء أمثلة ملموسة على «األفعال‬
‫الشريرة»‪ ،‬يمكننا تصور معاني الشر المتنوعة على أنها فهم المراحل التاريخية للتعلم‬
‫األخالقي‪ .‬لتحقيق ذلك‪ ،‬نحتاج إلى التركيز على القصص التي تعرض التجارب التي‬
‫يظهر فيها الشر على أنه مبني بشكل موضوعي‪ .‬نحتاج أن نبين كيف ترتبط العناصر‬
‫الرمزية في السرد الشرير بنتائج األنثروبولوجيا وعلم االجتماع والدين واألدب‪.‬‬

‫‪45 Hannah Arendt, The Life of the Mind (New York: Harcourt Brace Jovanovich,1978),‬‬
‫‪p. 192.‬‬
‫‪46 Barbara Herman, The Practice of Moral Judgement (Cambridge: Harvard University‬‬
‫‪Press, 1993), pp. 74, 76.‬‬
‫إطارا عمل ًّيا يترصف من‬
‫‪ 47‬عادة يتم اكتساهبا يف مرحلة الطفولة كجزء من التنشئة االجتامعية؛ وتوفر ً‬
‫خالله األشخاص‪ .‬عندما يتم استيعاب قواعد الربوز األخالقي بشكل جيد‪ ،‬فإهنا تتسبب يف أن يكون‬
‫الفاعل واع ًيا ويق ًظا خلطورة «اخلطر األخالقي»‪ .‬ال يتم تعلمها عىل أهنا أجزاء من املعلومات عن العامل‪،‬‬
‫وليس كقواعد توجيه لالستخدام عند تشارك يف أنواع معينة من األنشطة (األنشطة األخالقية)‪.‬‬
‫تشكل قواعد الربوز األخالقي بنية احلساسية األخالقية (املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.)78‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪226‬‬
‫وأخيرا‪ ،‬نحتاج إلى فلسفة لتجنب النسبية‪ ،48‬إلرساء األساس لمقاربة عالمية للشر‬ ‫ً‬
‫حتى نتمكن من إدانتها أخالق ًّيا‪ .‬ال يمكن تحقيق هدف نهجنا الفلسفي دون االرتباط‬
‫باألنثروبولوجيا‪ ،49‬وعلم االجتماع‪ ،50‬وعلم النفس‪ ،51‬والنقد األدبي‪ ،52‬وبالدين‪ .53‬في‬
‫بناء هذه الروابط متعددة التخصصات‪ ،‬سوف نستخدم النقاش حول السرديات في‬
‫النظريات الحديثة لألدب‪ ،‬فضال عن جوانب حكاية القصص التي تم استكشافها من‬
‫قبل خبراء األنثروبولوجيا وعلم االجتماع‪ .‬وسنستخدم األدوات التي وفرتها التقاليد‬
‫الدينية والتفسيرات الدينية التي أوضحت كيفية تفسير قصص المقدسات وتعريفاتها‬
‫الثنائية‪ .‬فعلى سبيل المثال‪ ،‬أظهرت األبحاث السوسيولوجية الحديثة كيف يمكن إلقاء‬
‫الضوء على كيفية رواية الناس ألفعالهم‪ ،‬وعلى وجه الخصوص كيف ترتبط األفعال‬
‫و«التقييمات» األخالقية ارتبا ًطا وثيق ًا من خالل «نظام السرد»‪ .‬يركز كتاب كارين أ‪.‬‬
‫سيرولو‪« :‬فك رموز العنف‪ :‬البنية المعرفية للحق والخطأ»‪ ،54‬على السرديات التي‬
‫يفكر فيها األفراد ويصفون ويقيمون العنف‪ .‬تجادل سيرولو بأنها قد حددت «قائمة‬
‫من التسلسالت ــ أربعة تنسيقات زمنية مميزة ــ تدفع الروايات الكالمية والبصرية‬
‫تسلسل دون آخر‪ .‬تكشف مثل‬ ‫ً‬ ‫دليل على سبب «أن الرواة يتبنون‬ ‫للعنف»‪ ،‬وتقدم ً‬
‫هذه التحليالت أن رواة القصص‪ ،‬في حين أنهم ليسوا بالضرورة واعين ألفعالهم‪،‬‬

‫‪48 C. Fred Alford argues «more often relativism is a defense against experience, the‬‬
‫‪overwhelming emotional and moral experience of evil» (C. Fred Alford, What Evil‬‬
‫‪Means to Us [Ithaca: Cornell University Press, 1997], p. 9).‬‬
‫‪49 J. S. La Fontaine, Speak of the Devil: Tales of Satanic Abuse in Contemporary England‬‬
‫‪(Cambridge: Cambridge University Press, 1998).‬‬
‫‪50 Karen A. Cerulo, Deciphering Violence: The Cognitive Structure of Right and Wrong‬‬
‫‪(New York: Routledge, 1998).‬‬
‫‪51 Alford, What Evil Means to Us.‬‬
‫‪52 Peter Levine, Living Without Philosophy: On Narrative, Rhetoric, and Morality‬‬
‫‪(Albany: State University of New York Press, 1998). See also Colin MacGinn, Ethics‬‬
‫‪Evil, and Fiction (Oxford: Clarendon Press, 1997).‬‬
‫‪53 Paul Ricoeur, The Symbolism of Evil (Boston: Beacon Press, 1967). And from the‬‬
‫‪same author: The Conflict of Interpretations (Evanston, Ill.: Northwestern University‬‬
‫)‪Press, 1974‬‬
‫‪54 Cerulo, Deciphering Violence.‬‬
‫‪227‬‬ ‫رشلا درس‬

‫يتذرعون بالتسلسالت األربعة للعنف بطرق منتظمة للغاية ويمكن التنبؤ بها‪ ،‬طرق‬
‫تحول تصورات رواة القصص ألخالق الجمهور»‪ .55‬وتخلص سيرولو إلى أن «بحثها‬
‫يشير إلى أن الطريقة التي يتسلسل فيها رواة القصص يمكن أن تؤثر على تقييم الجمهور‬
‫للعنف كشيء صائب أو خاطئ أو شيء بين ذلك‪ .56‬عمل سيرولو يجعلنا واعين بأن‬
‫التسلسالت في حكاية القصة أساسية للفهم والحكم‪.‬‬
‫وهكذا تبدو العالقة بين السرد وعلم االجتماع مهمة ومفيدة بالنسبة لنا‪ ،‬ألن‬
‫«البيانات المستمدة من المقابالت مع أولئك الذين يبنون السرد العنيف وأولئك‬
‫الذين يقرؤونه ويرونه‪ ،‬باإلضافة إلى تحليل محتوى االعتبارات نفسها‪ ،‬تشير إلى أن‬
‫تسلسل القصة يصبح مصفوفة مهمة للخير والشر»‪ .‬عمل سيرولو يظهر العالقة بين‬
‫السرد والمنظور الذي يفرضه تسلسل الطرح الذي تم تأطيره بالفعل في إطار سيناريو‬
‫أخالقي‪ .57‬يمكننا أن نرى‪ ،‬إذن‪ ،‬كيف يدعم البحث االجتماعي االستنتاج الذي توصلنا‬
‫إليه من خالل تفسيراتنا السابقة لالهوت والفلسفة‪ ،‬في «ترتيب» قصة في تسلسل‪،‬‬
‫عنصرا ها ًّما يربط‬
‫ً‬ ‫حتما في عالم الفعل األخالقي‪ .‬وهكذا يصبح المعنى‬‫سردية‪ ،‬ندخل ً‬
‫بين األخالق والثقافة‪ ،58‬ويؤدي هذا االرتباط إلى الدور المحتمل للحكم؛ «قد يقلل‬
‫االنتباه إلى تسلسل القصة من عدد األفعال التي يتم تقييمها اآلن على أنها مقبولة أو‬
‫مبررة‪ .‬إذا كانت بعض أساليب حكاية القصص يمكن أن تقلل بنجاح من التسامح العام‬
‫مع العنف‪ ،‬فإن االنتباه إلى أسلوب السرد قد يثبت في النهاية أنه أداة مهمة في الحد من‬
‫حاالت السلوك العنيف»‪.59‬‬

‫‪55 Ibid., p. 3.‬‬


‫‪56 Ibid.‬‬
‫‪57 Ibid., p. 7.‬‬
‫‪« 58‬إن عميل يشكل عالقة تكافلية بني االجتامعي والثقايف‪ .‬عىل سبيل املثال‪ ،‬من خالل التخطيط الدقيق‬
‫لتسلسل الرسد للعنف والطرق التي تصبح هبا هذه التسلسالت مؤسسية‪ ،‬أزعم أن البنية االجتامعية‬
‫أيضا العديد من العوامل والظروف التي يمكن أن‬‫يمكن أن تؤثر عىل شكل ومضمون الثقافة‪ .‬أالحظ ً‬
‫فإن عميل هيتم بنفس القدر بالطرق‬‫تسهل وتق ّيد استخدام السادة هلذه االتفاقيات الثقافية‪ .‬ومع ذلك‪َّ ،‬‬
‫التي يمكن أن تؤثر هبا الثقافة عىل العمل االجتامعي‪ ،‬خاصة عندما يكون هذا العمل بعيد ًا عن التوقع»‬
‫(املرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.)9‬‬
‫‪59 Ibid., p. 10.‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪228‬‬
‫عمل فريد ألفورد مع تجارب الشر عند النزالء يكمل نتائج سيرولو‪ .‬يدعي ألفورد أن‬
‫«فعل الشر هو» بالفعل «سرد قصة»‪ ،‬ويخلص إلى أن «الكيفية التي نروي بها قصصنا عن‬
‫الشر ال تقل أهمية عن ما نقوله»‪ .60‬ما تكشفه هذه القصص هو كيف أن ارتباط «المعين»‬
‫شيء ذو أهمية أكبر‪ .‬وصفت حنا أرندت هذه العالقة بشكل جميل بأنها «معنى الفعل‬
‫المرتكب الذي ال يتم الكشف عنه إال عندما ينتهي العمل نفسه ويصبح قصة عرضة‬
‫للسرد»‪ .‬يوفر هذا االرتباط إمكانية الحكم ونوع معين من السيطرة األخالقي‪.‬‬
‫بقدر ما يمكن «السيطرة على» الماضي‪ ،‬يتألف من االرتباط بما حدث؛ لكن مثل‬
‫هذه السرد كذلك‪ ،‬الذي يشكل التاريخ‪ ،‬ال يحل أي مشكلة وال يخفف من المعاناة؛ ال‬
‫بدل من ذلك‪ ،‬طالما أن معنى األحداث‬ ‫يسيطر على أي شيء مرة واحدة وإلى األبد‪ً .‬‬
‫ال يزال على قيد الحياة ــ وهذا المعنى يمكن أن يستمر لفترات طويلة جدًّ ا من الزمن ــ‬
‫فإن «السيطرة على الماضي» يمكن أن يأخذ شكل سرد متكرر‪.61‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن القصص حول الشر هي قصص تحتاج إلى إعادة سرد؛ بينما نعيد‬
‫أيضا إلى نسج فهم أخالقي للماضي‪.‬‬ ‫تجربتها‪ ،‬فإننا ال نهدف فقط إلى الفهم ولكن ً‬
‫تسلط رؤية ألفورد للتحليل النفسي لحكاية القصص الضوء على هذه القوة االستداللية‬
‫األخالقية‪.‬‬
‫السيدة جانز تعرف أن جريمتها تحكي قصة‪« .‬أعلم أنه يعني شي ًئا‪ ،‬إنه أمر مضحك‬
‫نو ًعا ما‪ ،‬إذا كنت تعرف ما أعنيه‪ .‬لقد مرت سنتان‪ ،‬وال يمكنني كسر الشفرة»‪ .‬عندما‬
‫أخيرا‪ ،‬ستكون قد فعلت أكثر من معرفة معنى عملها‪ .‬ستكون قد دخلت‬ ‫تكسر الشفرة ً‬
‫عالما مفاهيم ًّيا آخر‪ ،‬حيث تكون الرموز أكثر تجريدً ا وأقل تجسيدً ا ومشابهة‪ .‬إن الشعور‬
‫ً‬
‫بما تتحدث عنه سيحل محل فعله (أو إعادة فعل الفعل‪ ،‬ما فعلته في الجماعة)‪.62‬‬
‫من خالل السرديات‪ ،‬نرى كيف تغير المعاني الجديدة فهمنا للماضي‪ ،‬وكيف‬
‫«يتم إعادة تمثيل الماضي‪ ،‬وأكثر من ذلك‪ ،‬يتم إعادة تنظيمه وإعادة نشره‪ .‬تصبح‬

‫‪60 Alford, What Evil Means to Us, p. 13.‬‬


‫‪61 Hannah Arendt, «On Humanity in Dark Times: Thoughts about Lessing,» in Men‬‬
‫‪in Dark Times (New York: Harcourt, Brace and Co., 1968), pp. 3–31, esp. p. 21.‬‬
‫‪62 Alford, What Evil Means to Us, p. 12–13.‬‬
‫‪229‬‬ ‫رشلا درس‬

‫مليئة باألفعال الجديدة‪ ،‬والنوايا الجديدة‪ ،‬واألحداث الجديدة التي جعلتنا نكون كما‬
‫نحن»‪.63‬‬
‫أيضا‪ ،‬فإن سرد القصص متجذر في الثقافة منذ العصور‬ ‫من منظور أنثروبولوجي ً‬
‫المبكرة‪ .‬تأمل‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬الكتب العبرية والدين اليهودي‪ .‬يصف ريتشارد‬
‫كيرني الحالة الكالسيكية إلسرائيل التوراتية بأنها «مجتمع روحي تاريخي تشكل على‬
‫أساس السرديات التأسيسية (خاصة سفر التكوين والنزوح)»‪ ،‬والتي من خاللها تحكي‬
‫األجيال المتعاقبة وتعيد تفسير‪ 64‬معاناة وأفعال الشعب اليهودي‪ .‬الكتب المقدسة كانت‬
‫سرديات ملموسة حيث «الكتاب المقدس اليهودي‪ ،‬مثل متن األسطورة اليونانية‪ ،‬يروي‬
‫ببساطة سلسلة من القصص عن البشر وتفاعلهم مع شخصية‪ ،‬الله‪ ،‬الذي لم ُي َق ْل عن‬
‫وضعه الميتافيزيقي إال القليل أو ال شيء»‪ .65‬قصص عن المعاناة والخسارة‪ ،‬عن الخير‬
‫والشر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن القراءات الالحقة لهذه النصوص هي التي تفتحها لمراحل‬
‫أخرى من التعلم األخالقي‪ ،‬وتثري تفسيراتنا‪ ،‬وتسمح لنا بإعادة توجيه مستقبلنا‪ .‬هذه‬
‫«المعاني المبنية اجتماعيا»‪ ،‬والتي تحول نفسها دائما من خالل القراءات المستمرة‪،‬‬
‫تتعامل مع «تلك القيود التي يتحملها النص في داخله‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬مع مختلف‬
‫توقعات سلسلة من مجتمعات القراءة والتفسير لم يكن بوسع المؤلفين المفترضين‬
‫للنص توقعها»‪.66‬‬
‫ولكن إذا جلبت السرديات بعض العناصر الالزمة لتقييم الحكم األخالقي‪ ،‬فال‬
‫نزال بحاجة إلى النظر في الصالحية األخالقية لما يتم سرده‪ ،‬أي أننا بحاجة إلى إدراك‬
‫أن موقع «الحقيقة الواقعية» هو موقع ضعيف‪ .‬كما جادلت كيرستي مكلور حول‬
‫خطر إعادة بناء األفعال من خالل القصص‪ ،‬فإن مثل هذه المساحة «معرضة للوقت‬

‫‪63 Ian Hacking, Rewriting the Soul: Multiple Personality and the Sciences of Memory‬‬
‫‪(Princeton: Princeton University Press, 1995), p. 6.‬‬
‫»‪64 Richard Kearney, «Remembering the Past: The Question of Narrative Memory,‬‬
‫‪Philosophy and Social Criticism 24, nos. 260–49 :)1998( 3/, esp. p. 54.‬‬
‫‪65 Levine, Living without Philosophy, p. 151.‬‬
‫‪66 Andre La Cocque and Paul Ricoeur, Thinking Biblically: Exegetical and Hermeneutical‬‬
‫‪Studies (Chicago: University of Chicago Press, 1998), p. xi.‬‬
‫رال ايب ايرام‬ ‫‪230‬‬
‫أيضا‬
‫مع تالشي الذاكرة‪ ،‬وهي ضرورة تكلف المؤرخ بمهمة التذكر‪ .‬لكنها معرضة ً‬
‫للسياسة‪ ،‬وهي حالة طوارئ يمكن أن تضغط على نشاط الكتابة التاريخية نحو الفجوة‬
‫بين الماضي والمستقبل»‪ .67‬وبالتالي‪ ،‬فإن المشكلة األخيرة التي نحتاج إلى مواجهتها‬
‫هي إذا كانت السرديات تحتوي على حقائق وخيال‪ ،‬فلماذا ال يزال بإمكانها المساعدة‬
‫في تكوين أرضية معيارية لتطوير «الحكم التأملي»؟‬
‫يتعلق الجواب بعملية دائرية تدور في المجال العملي‪ ،‬وهو أمر عرفته أرندت‬
‫عندما ربطت أفكارها بالحكم بمجال الممارسة السياسية‪ .‬هذا هو السبب في أن الشر‬
‫ال يمكن أن يكون موضوع ًّيا إال من خالل ربط حكاية القصص و«الحكم التأملي»‪.68‬‬
‫مؤسسية حيث نبني ذاكرتَنا الجماع َّية‪،‬‬‫يمكن أن تصبح حكاية القصص مساحة َّ‬
‫أنفسنا لمواجهة الظلم المرتكَب ضد اآلخرين‪.‬‬ ‫ونتجادل حول ماضينا‪ ،‬وإعادة توجيه ِ‬
‫إن الطريقة التي يساعد بها السرد على تشكيل الواقع وإعادة تشكيله أمر مهم بالنسبة‬
‫لنا‪ ،‬ألن السرد يمكن أن «يبني» قارئيه‪ 69‬أخالق ًّيا ويعيد توجيه سلوكهم‪ .‬وبالتالي‪ ،‬يجب‬
‫أن تشمل أهمية التأثر بسرديات مختلفة من الماضي أنشطة نقدية وتأملية للمالئمة‪،‬‬
‫والنفي‪ ،‬والتمايز‪ ،‬كإمكانيات إعادة التنشيط‪ .70‬ولهذا السبب نجد عند الضغوط أهمية‬
‫السرديات‪ ،‬فنحن ال نبحث عن التفسيرات العلمية أو الدقة الواقعية؛ فما نكتسبه‪ً ،‬‬
‫بدل‬
‫من ذلك‪ ،‬هو إمكانية بناء جسر‪ ،‬أفق فلسفي‪ ،‬حيث يمكن للحكم التأملي أن يضعنا‬

‫‪67 Kirstie M. McClure, «Speaking in Tenses: Narrative, Politics, and Historical‬‬


‫‪Writing,» Constellations 5, no. 2 (1998): 234–49, esp. p. 234.‬‬
‫‪« 68‬إن حتويل العواطف اخلاصة إىل عاطفة عامة‪ ،‬هي الوظيفة السياسية للراوي‪ ،‬تتالقى مع وظيفة شاعر‬
‫أرسطو‪ .‬يف كل من مالحظتي أرندت‪« :‬عملية التنفيس‪ ،‬وتطهري أو تطهري مجيع املشاعر» التي يمكن أن‬
‫متنع األفراد من الفعل‪ .‬سوا ًء كمؤرخ أو روائي‪« ،‬الوظيفة السياسية للراوي هي تعليم قبول األشياء كام‬
‫هي»‪ .‬من وجهة نظر أرندت فإن هذا القبول ليس قضية خضوع يف واقع العقالنية وعقالنية الواقع‪ ،‬بل‬
‫هو منبع «كلية احلكم» (املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.)243‬‬
‫‪« 69‬إن نشاط القراءة‪ ،‬يف رأيه‪ ،‬يكمل بالتايل دائرة الرسد من خالل إعادته إىل عامل املامرسة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫فإن هذه العودة تتم بوساطة مزدوجة – يف احلالة األوىل من خالل احلكم االنتقائي للكتاب يف نشاط‬
‫التطابق‪ ،‬ويف الثانية بواسطة نشاط قرائهم االنتقائي املشابه للتطابق» (املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.)244‬‬
‫‪70 Ricoeur, Time and Narrative, 3 vols., vols. 1–2 trans. Kathleen McLaughlin and‬‬
‫‪D. Pellauer, vol. 3 trans. Kathleen Blamey and D. Pellauer (Chicago: University of‬‬
‫‪Chicago Press, 1984–88).‬‬
‫‪231‬‬ ‫رشلا درس‬

‫في نطاق التعلم األخالقي‪ .‬إن ما يحكم عليه في السرد هو معاني الشر التاريخية‬
‫والمحددة‪ ،‬التي تساعدنا على اكتساب الحكمة لتحقيق التوجه األخالقي في مواجهة‬
‫خصوصيات الحاضر‪.‬‬
‫دراسات‬

‫هرمنيوطيقيات الشر‬
‫ريتشارد كيرني‬
‫‪1‬‬ ‫____________________________________________‬

‫ُمجمل‪ :‬تبحث هذه الدراسة مسألة الشر في فلسفة بول ريكور‪ .‬في تفسير‬
‫تطور تفكيره في هذه المسألة من بداية إنتاجه الفلسفي حتى فترته األخيرة‪ ،‬يحاول‬
‫المؤلف أن يقرر الطريقة التي يفسر بها ريكور هذه الظاهرة في تحليل ثالث طرق‬
‫رئيسية لمقاربة الشر‪ )1( :‬الفهم العملي (التأليف ــ التقليد ــ التطبيق العملي)‪ ،‬و(‪)2‬‬
‫العمل من خالل (التنفيس)‪ ،‬و(‪ )3‬العفو‪.‬‬
‫كانت مسألة الشر مصدر قلق دائم لفلسفة بول ريكور‪ .‬من «رمزية الشر» ‪The‬‬
‫‪ ،Symbolism of Evil‬الذي نُشر عام ‪ ،1960‬إلى مقالته المؤثرة عام ‪« :1985‬الشر‪:‬‬
‫تحد للفلسفة والالهوت»‪ ،‬سعى ريكور إلى مواجهة التحدي الكبير الذي يواجه‬ ‫ٍ‬
‫إرادة اإلنسان وفهمه الذي يمثله لغز الشر‪ .‬منذ البداية‪ ،‬اعترف ريكور بالشر كتجربة‬
‫ال يمكن التعامل معها بشكل مناسب من قبل الفكر البشري أو الوعي القصدي‪.‬‬
‫فهنا وجد البشر أنفسهم مغتربين عن أنفسهم‪ ،‬ومنقسمين في الداخل‪ ،‬ومواجهين‬
‫وعرض الذات لتجارب‬ ‫«بموقف محدود» حطم كل أوهام السيادة المستقلة‪َّ ،‬‬
‫مزعجة تتعلق بالنهائية والالعصمة‪.‬‬
‫سيبحث الجزء األول من هذه الدراسة في كيفية تعامل ريكور مع مشكلة الشر‬
‫في عمله الهرمنيوطيقي المبكر‪ .‬والثاني سيحلل مقالته الالحقة عام ‪ 1985‬حول‬
‫نموذجا معينًا للفهم‬
‫ً‬ ‫هذا الموضوع‪ .‬وسيستكشف جزء أخير كيف اقترح ريكور‬
‫الهرمنيوطيقي عن طريق االستجابة للتجربة الصدمية للشر في التاريخ والذاكرة‪.‬‬

‫‪1 Kearney Richard (2006) On the Hermeneutics of Evil. Revue de métaphysique‬‬


‫‪et de morale, V.2, N. 50, p. 197215-.‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‬
‫‪233‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫رمزية الشر‬
‫كان نشر رمزية الشر بمثابة عالمة على انتقال ريكور من فينومينولوجية اإلرادة إلى‬
‫هرمنيوطيقية الرمز‪ .‬لقد أشارت إلى خروج عن الفينومينولوجية الوصفية‪ ،‬باعتباره‬
‫انعكاسا ألنماط الوعي المقصودة‪ ،‬لصالح القناعة الهرمنيوطيقية بأن المعنى ليس‬
‫مجرد امتالك حدسي للذات‪ ،‬بل يتم دائم ًا التوسط فيه من خالل عالمات ورموز‬
‫الوجود ال َبينذاتي‪ .‬عندما نواجه الشر نتذكر أن هناك معاني وخبرات تتحدى شفافية‬
‫الوعي وتتعارض مع إرادتنا‪ .‬إن الطبيعة المقاومة للشر‪ ،‬كشيء ٍ‬
‫قاس‪ ،‬تدفع بفلسفة‬
‫التفكير إلى التفكير مرة أخرى إلى المشاكل المزمنة المتمثلة في قابلية اإلنسان‬
‫للخطأ والذنب والمحدودية التي تتحدى بطبيعتها شفافية اإلرادة الجوهرية البحتة‪.‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬فإن محاولة فهم تعقيد الشر تتضمن‪ ،‬في البداية‪ ،‬تفسيرا ألساطير ورموز‬
‫الثقافة التي تتوسط خبرات الشر‪ ،‬الخبرات الحدودية التي ال يمكن للقوى العقالنية‬
‫للعقل أن تدركها بشكل مباشر‪.‬‬
‫هدف ريكور الرئيس في «رمزية الشر» هو إظهار كيف يمكننا االنتقال من فئة‬
‫القابلية للخطأ إلى فئة الخطأ‪ .‬كيف ننتقل من (‪ )1‬إمكانية الشر إلى (‪ )2‬تحقيق الشر‬
‫واالعتراف به‪ .‬يشترك كالهما في الحالة الوجودية لإلنسان بوصفه خ َّطاء‪ ،‬بالمعنى‬
‫المزدوج لخط الخطأ أو الكسر داخل الذات‪ ،‬والذي بدوره يسمح بواقع عدم‬
‫التناسب والتفكك في أفعالنا األخالقية‪ ،‬والتي يتم التعبير عنها عاد ًة في كائن الروح‬
‫على عكس المشاعر‪ .‬لكن عدم التطابق بين ذات وذات ال يعني أننا أشرار في جوهرنا؛‬
‫فقط أن هذه اإلمكانات موجودة داخل كل واحد منا‪ ،‬وعلى هذا النحو يمكن تفعيلها‬
‫أو عدم تفعيلها وفقا الختيارنا الحر‪ .‬إحدى الحجج المركزية التي تدور في العمل‬
‫الهرمنيوطيقي األول لريكور ــ الجزء الثاني من المجلد الثاني من كتاب ريكور‬
‫فلسفة اإلرادة المعنون‪ :‬اإلنسان الخ َّطاء ــ هي أن المفاهيم اآلدمية واإلنجيلية للشر‬
‫تمثل تقدم ًا أخالقي ًا مهم ًا بالنسبة إلى التفسيرات الكونية والمأساوية السابقة للشر‬
‫كقوة خارجية وحتمية في الكون‪ .‬في مواجهة مثل هذه الحسابات الحتمية‪ ،‬صمم‬
‫ريكور على إظهار كيف أن الحساب األنثروبولوجي الناشئ للخطيئة والذنب يضع‬
‫المسؤولية عن الشر بشكل مباشر على أكتاف القوة البشرية‪ .‬عندما ترى المفاهيم‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪234‬‬
‫القديمة «للدنس» أن الشر قوة ملوثة تضاف إلى الروح من الخارج‪ ،‬فإن المفهوم‬
‫األكثر أخالقية عن «الذنب» ينسب الشر إلى إساءة استخدامنا للحرية‪ .‬باختصار‪،‬‬
‫عندما يرى الدنس أن الشر ينشأ من اآلخر‪ ،‬فإن الشعور بالذنب يعترف به على أنه‬
‫ناشئ عن الذات‪ .‬الذات المذنبة هي التي تعترف «بإرادتها الذليلة»‪ .‬بدال من إلقاء‬
‫اللوم على اآلخرين أو جعلهم كبش فداء‪ ،‬فهو يتحمل المسؤولية عن نفسه باعتباره‬
‫«خيارا سي ًئا يلزم نفسه»‪ .2‬وهكذا يظهر الضمير األخالقي باعتباره استدخاال للعقاب‬
‫ً‬
‫واالعتراف بالخطأ على أنه خطأ الفرد‪.‬‬
‫في «رمزية الشر» ينخرط ريكور في تفسير صارم ألساطير الشر األساسية‬
‫في الثقافة الغربية‪ .‬وتشمل (‪ )1‬أسطورة الخلق الكوني‪ ،‬و(‪ )2‬أسطورة العمى‬
‫المأساوي‪ ،‬و(‪ )3‬أسطورة السقوط‪ ،‬و(‪ )4‬أسطورة الروح المنفية‪ .‬ومن بين‬
‫األبطال الذين قاموا بتهويل هذه الروايات األسطورية بروميثيوس‪ ،‬وديبوس‪ ،‬وآدم‪،‬‬
‫وأورفيوس‪ .‬يمثل آدم لريكور أكثر التفسيرات األنثروبولوجية صراح ًة من حيث‬
‫أنه يفصل الشر عن الخير على عكس قصص بروميثيوس (حيث يتحمل الشكل‬
‫اإللهي الخارجي لزيوس المسؤولية األكبر عن سوء حظه) أو ديبوس (حيث يملي‬
‫سفينكس الوحشي والقوى األخرى المصير الكوني المكرس في معاناته وظلمه‪،‬‬
‫مثل قتل األبوين وسفاح القربى)‪ .‬في أسطورة آدم‪ ،‬نقرأ عن شخص يجلب الشر‬
‫إلى العالم بقراراته وأفعاله‪ .‬لكن بينما يفضل ريكور بوضوح أسطورة آدم‪ ،‬فإنه ال‬
‫يتجاهل محتوى الحقيقة المحتمل للروايات األخرى‪ .‬على العكس من ذلك‪ ،‬فهو‬
‫يقترح أن التفسير المقارن بين األساطير المختلفة يكشف المزيد والمزيد عن كل‬
‫واحدة بطريقة لن تكون ممكنة إذا أخذناها منعزلة تماما‪.‬‬
‫بتعليق التعريف التقليدي لألسطورة على أنها «تفسير خاطئ عن طريق‬
‫الخرافات»‪ ،‬يحاول ريكور استعادة الوظيفة االستكشافية الحقيقية لألسطورة‪.‬‬
‫بمجرد أن نقبل أن األسطورة ال يمكن أن تزودنا برواية علمية عن األصل الفعلي‬
‫يعرف‬
‫للشر‪ ،‬يمكننا أن نبدأ بشكل صحيح في تقدير دورها في الكشف كقوة رمزية‪ّ .‬‬

‫‪2 The Symbolism of Evil, Beacon Press, Boston, 1967, p. 156 f. See also Karl‬‬
‫‪SIMMS, Paul Ricœur, Routledge, London and New York, 2003, p. 928-.‬‬
‫‪235‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫ريكور الرمز على أنه نية مزدوجة‪ ،‬حيث يتم تجاوز معنى ما أو تجاوزه بواسطة آخر‪.‬‬
‫على هذا النحو‪ ،‬فإن رموز الشر هي أعمال لغوية (داللة) تثير الفكر (تفسير)‪ .‬إذا‬
‫أردنا أن نفكر في الشر‪ ،‬يجب أن نبدأ بالتعبيرات األسطورية الرمزية مثل اللطخة‪،‬‬
‫والسقوط‪ ،‬وفقدان العالمة‪ ،‬واالحتماء أو الشرود عن المسار‪ ،‬وكلها تخبرنا شيئا‬
‫عن تجربة اإلنسان‪ .‬الوقوع في قبضة الشر‪.‬‬
‫رموز الشر (مثل جميع الرموز) لها معنى حرفي ومعنى تناظري ثانوي‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫ألخذ مثال ريكور الشهير من «رمزية الشر»‪ ،‬فإن الصورة البدائية لشخص ما‬
‫«يتنجس» تشير إلى وظيفتها الحرفية كعالمة على القذارة الجسدية‪ ،‬وإشارة رمزية‬
‫إلى عالقة اإلنسان غير النقية أو المنحرفة بالمقدس‪ .‬يشير المعنى الحرفي للبقعة‬
‫إلى ما وراء نفسه إلى حالة التلوث الوجودية التي تشبه البقعة‪ .‬من الواضح أننا ال‬
‫نتحدث عن وصمة عار تجريبية على الروح‪ ،‬بل عن تدمير الوجود الداخلي للفرد‬
‫على غرار فعل تلوين شيء أبيض‪ .‬ما ال يمكن قوله مباشرة ــ ألنه يتجاوز حدود‬
‫التفكير العقالني ــ يقال بالتالي بشكل غير مباشر‪ .‬على حد تعبير ريكور‪« :‬على‬
‫عكس العالمات التقنية الشفافة تماما‪ ،‬والتي ال تقول إال ما يريدون قوله عند طرح‬
‫ما تشير إليه‪ ،‬فإن العالمات الرمزية غير شفافة‪ ،‬ألن المعنى األول‪ ،‬الحرفي‪ ،‬الواضح‬
‫نفسه يشير بشكل تناظري إلى المعنى الثاني الذي هو غير ُمعطى بطريقة أخرى أكثر‬
‫مما هو»‪ .3‬ألنه ال يوجد خطاب مباشر لالعتراف بالشر‪ ،‬تصبح الرمزية وسيلة التعبير‬
‫المميزة‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬تُنقل تجربة الشر دائم ًا عن طريق التعبيرات (الدنس‪ ،‬التمرد‪،‬‬
‫االبتعاد عن الطريق‪ ،‬العبودية وما إلى ذلك) المستعارة من مجال الوجود المادي‬
‫اليومي‪ ،‬التعبيرات التي تشير بشكل غير مباشر إلى نوع آخر من الخبرة‪ ،‬أي تجربتنا‬
‫المقدسة‪.‬‬

‫‪3 The Symbolism of Evil, p. 15.‬‬


‫يواصل ريكور القول بأن التعبريات الرمزية هي هبة من حيث أن املعنى األسايس يؤدي إىل معنى‬
‫ثانوي يتجاوز األول يف النطاق واملرجع الداليل‪ .‬يوضح ريكور ما يعنيه بالرمز بشكل أكرب‪ ،‬ويقارنه‬
‫باالستعارة‪ .‬يف حني أن االستعارة تربط معنى ما مبارشة بآخر‪ ،‬دون بقايا أو غموض‪ ،‬يعمل الرمز‬
‫من خالل اقرتاح غامض أو استحضار‪ ،‬فهو يشري إىل فائض من املعنى يتجاوز املعنى الواضح‪.‬‬
‫االستعارات هلا معنى واحد‪ ،‬الرموز اثنان أو أكثر‪.‬‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪236‬‬
‫لكن رمز الشر ال يحكم علينا بالالعقالنية‪ .‬على العكس من ذلك‪ ،‬يقول ريكور‬
‫إنه يدعونا إلى أنماط أعمق وأكثر تعقيد ًا من التفسير‪« .‬الرمز» ــ على حد تعبيره ــ‬
‫«يولد الفكر»‪ .‬يصف ريكور األساس المنطقي لرمزية الشر على النحو التالي‪:‬‬
‫المذل للشر يستعصي على التحليل األساسي للظواهر‪ .‬لذلك‬ ‫«يبدو أن الظرف ُ‬
‫كان الطريق العملي الوحيد هو االلتفاف عبر الرموز‪ ،‬حيث تم تسجيل االعتراف‬
‫بالخطأ خالل الثقافات العظيمة التي ورثناها‪ :‬الرموز األساسية للوصمة والذنب‬
‫والخطيئة؛ الرموز الثانوية ألساطير العمى المأساوي‪ ،‬وسقوط الروح‪ ،‬والتجول أو‬
‫التدهور؛ الرموز الثالثية وتبريرات اإلرادة الذليلة أو الخطيئة األصلية‪ .‬وهكذا كان‬
‫«رمزية الشر» عالمة على تحول الفينومينولوجية الهوسرلية‪ ،‬التي امتدت بالفعل إلى‬
‫إشكالية القابلية للخطأ‪ ،‬نحو هرمنيوطيقية الرموز‪ .‬من خالل الرموز « فهمت‪ ...‬كل‬
‫تعبيرات المعنى المزدوج‪ ،‬حيث يشير المعنى األساسي وراء نفسه إلى معنى ٍ‬
‫ثان ال‬
‫ُيعطى بشكل مباشر أبد ًا»‪.4‬‬

‫‪« 4‬استجابة متهيدية من قبل بول ريكور»‪ ،‬يف اهلرمنيوطيقيات والعلوم اإلنسانية‪ .‬تشري الرموز‬
‫الكونية إىل حماوالت اإلنسان األوىل لقراءة اخلري والرش يف العامل‪ .‬هنا يفرس اخليال البرشي جوانب‬
‫من العامل ــ الساموات والشمس والقمر واملياه ــ كعالمات لبعض املعاين اخلفية‪ .‬يف هذا املستوى‬
‫األسايس‪ ،‬يكون الرمز شي ًئا وعالمة يف نفس الوقت‪ ،‬فهو جيسد ويشري يف نفس الوقت‪ ،‬أو بعبارة‬
‫أخرى‪ ،‬عند التعامل مع الرموز الكونية للرش‪ ،‬نقرأ أشياء العامل كعالمات وعالمات كأشياء من‬
‫العامل‪ .‬عىل هذا النحو‪ ،‬فإن اخليال الرمزي هو بالفعل‪ ،‬عىل األقل بشكل ضمني‪ ،‬لغوي‪ .‬يوضح‬
‫ريكور هذا يف املقطع التايل من فرويد والفلسفة‪« :‬هذه الرموز ليست منقوشة بجانب اللغة‪ ،‬كأنامط‬
‫للتعبري الفوري‪ ،‬ورؤى حمسوسة بشكل مبارش‪ .‬يف عامل اخلطاب تأخذ هذه احلقائق بعدا رمزيا‪.‬‬
‫حتى عندما تكون عنارص العامل هي التي حتمل الرمز‪ ،‬األرض‪ ،‬والسامء‪ ،‬واملاء‪ ،‬واحلياة‪ ،‬فإن كلمة‬
‫(التكريس‪ ،‬أو الدعاء‪ ،‬أو الرسد األسطوري) هي التي تقول تعبريها الكوين بفضل املعنى املزدوج‬
‫لكلامت األرض‪ ،‬السامء‪ ،‬املاء‪ ،‬احلياة «‪ ،‬أي (‪ )1‬معناها احلريف الواضح كمرجع لألشياء و(‪)2‬‬
‫معناها اخلفي‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬املاء كرمز للحياة الروحية املتجددة‪ .‬يمكن لريكور بالتايل أن يؤكد‬
‫أن «تعبريات العامل تأيت إىل اللغة من خالل الرمز كمعنى مزدوج»‪ ،‬ألن الرمز الكوين للخري أو‬
‫الرش حيدث عندما تنتج اللغة إشارات مركبة حيث يشري املعنى‪ ،‬وليس «املحتوى الذي يشري إىل‬
‫يشء ما بشكل مبارش‪ ،‬إىل معنى آخر ال يمكن الوصول إليه (بشكل غري مبارش) إال عن طريق‬
‫هذا التعيني»‪ .‬يوضح ريكور هذه اخلاصية اللغوية للرموز‪ ،‬ويعلق عىل العبارة املأخوذة من سفر‬
‫املزامري‪« ،‬خترب السامء عن جمد اهلل»‪ ،‬عىل النحو التايل‪ :‬بل يتحدثون هبا بالنبي والرتنيمة والليتورجيا‪.‬‬
‫حيتاج املرء دائ ًام إىل الكلمة ليفرتض أن العامل هو مظهر من مظاهر املقدس‪.‬‬
‫‪237‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫إن األصلي في مقاربة ريكور هو محاولته «إعادة تمثيل الخيال المتعاطف»‪،‬‬


‫األساطير التأسيسية‪ ،‬التي سعت الثقافة الغربية إلى إيصال تجاربها األولى عن الخير‬
‫والشر من خاللها‪ .‬يتم فهم األساطير من قبل ريكور كقصص رمزية‪ ،‬أو بشكل أكثر دقة‬
‫على أنها «أنواع من الرموز تطورت في شكل سرد وتم التعبير عنها في زمان ومكان‬
‫حيث ال يمكن تنسيقها مع مكان وزمان التاريخ والجغرافيا»‪ .5‬هذا العمل الهرمنيوطيقي‬
‫إلعادة النظر في السرديات الكونية للشر يتطلب أن يتخلى ريكور عن حلم هوسرل‬
‫الفينومينولوجي «بفلسفة بدون افتراضات»‪ .‬في الواقع‪ ،‬إنه يفترض مسبقا ما تميل‬
‫الفينومينولوجية الوصفية غالبا إلى تجاهله‪ :‬اللغة‪ .‬يصر ريكور على أن هرمنيوطيقيات‬
‫الرموز يجب أن تبدأ من لغة كاملة‪ ،‬من إدراك أنه قبل التفكير والحدس توجد رموز‬
‫بالفعل‪« :‬بالبدء بالرمزية الموجودة بالفعل» ــ كما يالحظ ريكور ــ «نعطي أنفسنا شيئ ًا‬
‫نفكر فيه»‪ .6‬رمزية الشر هي واحدة من أقوى وأزعج االستفزازات لهذا الفكر‪.‬‬

‫من األسطورة إلى المسؤولية‬


‫في مقالته «الشر‪ :‬تحدٍّ للفلسفة والالهوت» (‪ ،)1985‬يعود ريكور إلى العديد من‬
‫القضايا التي أثيرت في «رمزية الشر»‪ ،‬ويقدم نقدا هرمنيوطيقيا أكثر تطورا لالستجابات‬
‫الخطابية المختلفة للشر‪ :‬هذه تشمل ــ إلى جانب األسطورة ــ الفجيعة واللوم والحكمة‬
‫والثيوديسية‪.7‬‬
‫ُفرق االستجابة الخطابية األولى ــ الفجيعة واللوم (المشهود له في الكتاب‬ ‫ت ِّ‬
‫المقدس العبري‪ ،‬على سبيل المثال) ــ بين الشر باعتباره معاناة والشر كعمل خاطئ‪.‬‬
‫تشير الفجيعة إلى الشر الذي يصيبنا من الخارج‪ ،‬وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬اللوم يشير‬
‫إلى الشر الذي ينشأ من داخلنا والذي نحن مسؤولون عنه‪ .‬أو بعبارة أخرى‪ ،‬إذا كانت‬
‫الفجيعة تعتبرنا ضحايا‪ ،‬فإن اللوم يجعلنا مذنبين‪ .8‬يالحظ ريكور‪ ،‬في الواقع‪ ،‬أن هاتين‬

‫‪5 The Symbolism of Evil, p. 18.‬‬


‫‪6 The Symbolism of Evil, p. 19.‬‬
‫‪7 Paul RICŒUR, Figuring the Sacred: Religion, Narrative and Imagination,‬‬
‫‪Indianapolis, Fortress Press, 1995.‬‬
‫‪8 Paul RICŒUR, Figuring the Sacred, p. 250.‬‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪238‬‬
‫الفئتين متشابكتان دائما تقريبا‪ .‬يمكننا أن نشعر بالذنب الرتكاب عمل شرير بينما نختبر‬
‫في نفس الوقت اإلغواء أو الغزو من قبل قوة ساحقة خارجنا‪ .‬لكن في الوقت الحالي‪،‬‬
‫سنترك التمييز قائما‪.‬‬
‫يسمح النوع الخطابي التالي ــ األسطورة ــ بدمج الشر في «السرديات العظيمة‬
‫لألصل»‪ .‬تسعى روايات األنساب هذه‪ ،‬كما جادل ريكور بالفعل في رمزية الشر‪ ،‬إلى‬
‫تكون وحشية الشر‪ ،‬وتشرح‬ ‫شرح أصل الشر من حيث نشأة الكون‪ .‬تقدم «حبكة» ّ‬
‫مصدر الفاحشة‪ ،‬وبالتالي تزيل بعض الصدمة منها‪ .‬مثل هذه المشاهد األسطورية‬
‫تجعل األجنبي مألوفا بشكل غريب‪ ،‬وما ال يطاق يطاق‪ ،‬والفاحش متاحا‪ .9‬في‬
‫األساطير األسطورية‪ ،‬ترتبط اعتبارات االختيار األخالقي البشري ارتباط ًا وثيقا‬
‫بالدورات الكونية للقدر أو المصير أو األقدار‪ .‬الشكل الشرير هو الشكل المغترب‪،‬‬
‫أي الذات التي تحددها قوة ما وراء نفسها‪.‬‬
‫ثم تنتقل األسطورة نحو الحكمة ــ الفئة الخطابية التالية لريكور ــ إلى الحد‬
‫الذي ال نكتفي فيه بسرد أصول الشر فحسب‪ ،‬بل نسعى أيضا إلى تبرير سبب‬
‫حدوث ذلك بالنسبة لكل واحد منا‪ .‬باختصار‪ ،‬بينما األسطورة تروي‪ ،‬فإن الحكمة‬
‫تجادل‪ .10‬إنها تسعى إلى معالجة سؤال ليس فقط لماذا ولكن لماذا أنا؟ نوع‬
‫الحكمة يحول الفجيعة إلى شكوى قانونية‪ .‬إنها تحاول أن توجد المعنى األخالقي‬
‫للوحشية‪ .‬من األمثلة النموذجية هنا كتاب أيوب‪ ،‬حيث ينخرط الله واإلنسان في‬
‫حوار حول طبيعة الخلق والعهد‪ .‬مع مثل هذا األدب الحكيم‪ ،‬يصبح لغز الشر‬
‫مسألة ما وراء الطبيعة أكثر من العالقات الشخصية (اإلنسان ــ اإلنسان أو اإلنسان‬
‫ــ اإللهي)‪ .‬في ختام أيوب‪ ،‬تحول الجدل حول القصاص والعدالة في النهاية إلى‬
‫حكمة تأملية عن الحب‪ :‬يتعلم أيوب أن يحب يهوه «عبث ًا» في تحدٍّ لرهان الشيطان‬
‫في بداية القصة‪.‬‬

‫‪9 As Aristotle noted in Poetics, Dent, London, 1963, 111, 4-iv, 3:‬‬
‫«هناك املتعة التي حيصل عليها الناس دائ ًام من التمثيالت‪ ...‬نستمتع بالنظر إىل التشابه الدقيق لألشياء‬
‫التي من املؤمل رؤيتها‪ ،‬مثل الوحوش واجلثث الفاحشة»‪.‬‬
‫‪10 Paul RICŒUR, Figuring the Sacred, p. 252.‬‬
‫‪239‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫يفسح خطاب الحكمة المجال‪ ،‬بدوره‪ ،‬للحساب الخطابي الرابع للشر المدرج‬
‫في الجينالوجية النقدية لريكور‪ ،‬أي التأمل‪ .‬يجادل ريكور بأن هذا الخطاب يبدأ‬
‫بتطور الالهوت المسيحي‪ .‬أوغسطينوس هو أول مدافع عظيم عن هذا الموقف‬
‫في إجابته على الغنوصيين‪ .‬من أجل إظهار أن الشر ليس مادة مزروعة في الكون‬
‫بل هو عقاب لخطيئة اإلنسان‪ ،‬اخترع أوغسطين فئة جديدة «ال شيئ َّية»‪ .‬يفسر الشر‬
‫اآلن على أنه نقص في الوجود الذي يرقى إلى الحرمان من الخير‪ .‬إذا كان هناك‬
‫شر في العالم‪ ،‬فال يمكن أن يكون إال نتيجة عمل بشري‪ ،‬أي فعل االبتعاد عن كيان‬
‫الله اللطيف نحو انعدام الوجود‪ .‬لذلك يقترح أوغسطين رؤية أخالقية جذرية‬
‫للشر تستبدل سؤال الجينالوجية بمسألة الخطأ البشري المتعمد‪ .‬ال يمكن العثور‬
‫على سبب الشر في علم الكونيات ولكن في شكل من أشكال العمل اإلرادي‪:‬‬
‫خطايا «اإلرادة السيئة»‪ .‬وهذا يقود بدوره‪ ،‬بالطبع‪ ،‬إلى نظرة عقابية للتاريخ حيث‬
‫ال ينبغي أن يعاني أي شخص ظلما من حيث المبدأ‪ .‬كل شخص يحصل على‬
‫مكافأته‪ ،‬وكل األلم هو مكافأة على الخطيئة‪.‬‬
‫كانت الصعوبة التي واجهها أوغسطين والالهوت الالحق‪ ،‬كما الحظ ريكور‪،‬‬
‫هي كيفية التوفيق بين هذه الفرضية المتطرفة للشر األخالقي والحاجة إلى إعطاء‬
‫الخطيئة حسابا متجاوزا للفرد وتاريخيا عاما من أجل شرح كيف أن المعاناة ال يتم‬
‫توزيعها دائما بشكل عادل‪ .‬كعقاب على خطايا فردية‪ .‬فمن الواضح أنه مفرط في‬
‫حاالت ال حصر لها‪ .‬بعبارة أخرى‪ ،‬إذا كان الشر شيئا نفعله كبشر‪ ،‬فإنه يحدث بنا‬
‫أيضا‪ .‬إنه ــ على األقل جزئيا ــ شيء نرثه‪ ،‬شيء موجود بالفعل‪ .‬لذلك سعى أوغسطين‬
‫إلى إعادة تفسير الحكاية الجينية للخطيئة األصلية من أجل تبرير هذه المفارقة غير‬
‫المنطقية على ما يبدو‪ :‬أي أننا مسؤولون ولكننا لسنا مسؤولين بالكامل عن الشر‬
‫الذي نرتكب أو نتحمله‪ .‬وهكذا يحاول ريكور الرد على التناقض الذي بقي دون‬
‫حل في رمزية الشر‪.‬‬
‫يالحظ ريكور أنها كانت خطوة قصيرة من التكهنات األوغسطينية حول الخطيئة‬
‫األصلية إلى النظريات الكاملة لعلم الالهوت الغربي‪ .‬هنا يدخل ريكور منطقة لم‬
‫يشملها عمله السابق‪ .‬إن تفكير اليبنتز ــ على سبيل المثال ــ يستدعي مبدأ العقل‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪240‬‬
‫الكافي لحساب التوازن الحكيم بين الخير والشر في «أفضل العوالم الممكنة»‪ .‬وإذا‬
‫كان هذا التوازن ينسب فعل االنتقام والتعويض إلى عقل الله الالمتناهي من قبل‬
‫اليبنتز‪ ،‬فإنه ُأ ِ‬
‫نس َن بطريقة ديالكتيكية من قبل هيجل والمثاليين األلمان‪ .‬إن «دهاء‬
‫العقل» لهيجل يسكت فضيحة المعاناة من خالل تصنيف المأساة في منطق منتصر‬
‫حيث يكون كل ما هو حقيقي عقالنيا‪ .‬هنا تصل غطرسة المضاربة المنهجية إلى‬
‫أقصى درجاتها التي يتعذر الدفاع عنها‪« :‬كلما ازدهر النظام‪ ،‬زاد تهميش ضحاياه‪،‬‬
‫نجاح النظام هو فشله‪ ،‬المعاناة‪ ،‬كما تعبر عنها أصوات الرثاء‪ ،‬هي ما يستبعده‬
‫النظام»‪.11‬‬
‫لكن ريكور يرى أن أيا من صيغتي الثيودسية ــ ليبنيز أو هيجل ــ ال يمكن أن‬
‫تقدم إجابة مقنعة لالحتجاج على المعاناة الظالمة‪ :‬لماذا أنا؟ يستمر صدى هذا‬
‫االحتجاج بحق وبحق من خالل شهادات الشر من أيوب إلى هيروشيما وأوشفيتز‪.‬‬
‫وال يمكن للثيوديسية مقاومة فضح «علم الالهوت العقالني» في الجزء الثالث‬
‫من كتاب كانت «نقد العقل المحض»‪ .‬في الواقع‪ ،‬عظمة كانت‪ ،‬بالنسبة لريكور‪،‬‬
‫هي إدراك الحاجة إلى االنتقال من تفسير «نظري» بحت للشر إلى تفسير أكثر‬
‫«عملية»‪ .‬هذا االنتقال من التفسير التأملي إلى الفعل السياسي األخالقي يحرر‬
‫البصيرة القائلة بأن الشر شيء ال يجب أن يكون‪ ،‬ويجب مكافحته‪ .‬من خالل نزع‬
‫االغتراب عن الشر وجعله مسألة استمرارية بدال من ضرورة (نشأة الكون‪ ،‬أو‬
‫الالهوت‪ ،‬أو الميتافيزيقي‪ ،‬أو التأريخي)‪ ،‬جعلنا كانت وجها لوجه مع مسؤولية‬
‫الفعل‪.‬‬
‫يضيف ريكور أنه إذا حررنا كانت من اإلفراط في التكهنات العقالنية بشأن الشر‪،‬‬
‫فقد حذر أيضا من التطرف المعاكس لالعقالنية المنتشية‪ ،‬وهو نوع من الجنون‬
‫الصوفي الذي يخضع للشر باعتباره قوة غريبة تغمرنا بالنزوة‪ .‬هذه النظرة األخيرة ال‬
‫تجسد فقط اإليمان باالمتالك الشيطاني ولكن أيضا التأييد الصوفي لـ «الجانب المظلم‬
‫من الله» الممتد من جنوستكس وبرونو إلى بوهيم وسكيلنغ ويونغ (كما في‪ :‬الرد على‬

‫‪11 Paul RICŒUR, Figuring the Sacred, p. 257.‬‬


‫‪241‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫أيوب)‪ .‬بإخراج الغموض من الشر‪ ،‬أزال كانت بعضا من قوته اآلسرة‪ .‬لقد مكننا من‬
‫رؤية أن الشر ليس خاصية لبعض الشياطين أو اإلله الخارجي ولكنه ظاهرة مرتبطة‬
‫بعمق بالحالة األنثروبولوجية‪ .‬وهكذا يتوقف الشر عن كونه مسألة إسقاط بجنون‬
‫العظمة وتضحية ككبش فداء‪ ،‬ويصبح بدال من ذلك مسألة مسؤولية بشرية‪ .‬فتم التغلب‬
‫على الثنائيات المطلقة‪ .‬يصبح المرء نفسه كأنه اآلخر ويصبح اآلخر كأنه اآلخر‪ .‬يوافق‬
‫ريكور بحماس شديد على ذلك‪ ،‬على األقل حتى اآلن‪.‬‬
‫لكن حتى كانت ــ على رأي ريكور ــ ُمجبر على االعتراف بأنه لم يستطع تجاهل‬
‫الطابع البدائي للشر تماما‪ ،‬ألنه إذا دعا بوضوح إلى استجابة ضمن حدود العقل البشري‬
‫العملي‪ ،‬فلن يتمكن أبدا من إنكار بعض الغموض المتبقي للشر‪ .‬في مرحلة ما‪ ،‬يقول‬
‫كانت إنه ربما «ال يوجد أساس يمكن تصوره يمكن أن يأتي منه الشر األخالقي فينا‬
‫في األصل»‪ .12‬فجيعة لماذا؟ لماذا أنا؟ لماذا طفلي الحبيب؟ ال يزال غامضا بشكل‬
‫مقلق كما كان دائما‪ .‬ال يمكن إسكات ضحايا الشر إما بالتفسير العقالني (الثيوديسي)‬
‫أو بالخضوع غير العقالني (التصوف)‪ .‬تستدعي قصصهم ردودا أخرى قادرة على‬
‫معالجة كل من وحشية الشر وإنسانيته‪.‬‬
‫لذلك‪ ،‬على الرغم من كل التأييد الذي قدمه ألنثروبولوجية الشر ــ في مقال عام‬
‫‪ 1985‬هذا وكذلك في رمزية الشر ــ يعود ريكور مرة أخرى إلى الطابع المتناقض‬
‫النهائي للشر‪ .‬ومرة أخرى‪ ،‬يعترف هنا تماما بالتحدي الجذري المستمر للعقل‬
‫الفلسفي والالهوتي‪ .‬هذا التحدي يمكن موجهته بأفضل طريقة من خالل شكل ما‬
‫من الفهم الهرمنيوطيقي‪ ،‬االنتباه لمختلف األلغاز التي تكشفها تعبيرات الشر‪ .‬في‬
‫الجزء األخير من هذا المقال‪ ،‬سوف ألقي نظرة على بعض الطرق التي قد تساعدنا‬
‫من خاللها تأويالت ريكور للفهم السردي في مواجهة مشكلة الشر في التاريخ‬
‫والذاكرة‪.‬‬

‫‪12 Immanuel KANT, Religion within the Limits of Reason Alone, New York, Harper‬‬
‫‪Torchbooks, 1960, p. 38. Cited by Paul RICŒUR, Figuring the Sacred, p. 258259-.‬‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪242‬‬
‫سرد الشر التاريخي‬
‫يدعي ريكور أن القوة الرئيسية للسرد هي «تزويد أنفسنا برمز لشيء ما»‪ .13‬عند‬
‫القيام بذلك‪ ،‬يمكننا إحضار ما هو غائب‪ .‬من خالل التحول إلى لغة الزمن التاريخي‪،‬‬
‫نحن نتعامل مع القدرة على تحرير أنفسنا من فقدان الذاكرة األعمى لـ «اآلن» من‬
‫خالل عرض المستقبل واسترجاع الماضي‪ .‬اإلسقاط هو وظيفة تحررية لفهم السرد‪،‬‬
‫واسترجاع وظيفة الشهادة‪ .‬كالهما يقاوم االتجاه المعاصر الختزال التاريخ إلى «حاضر‬
‫بال عمق» من «الالمباالة»‪.14‬‬
‫في المجلد الثالث من الزمن والسرد‪ ،‬ومرة أخرى في «التاريخ والذاكرة والنسيان»‪،‬‬
‫يحلل ريكور دور «الشهادة» للسرد عند مواجهة الصدمة التاريخية والشر‪ .‬إن مشكلة‬
‫اختبار المحرقة بأكملها مركزية في هذا التحليل‪ .‬ويؤكد أن هرمنيوطيقة السرد يجب أن‬
‫يتضمن إحساسا بالمسؤولية األخالقية تجاه «الدين الذي ندين به للموتى»‪ .15‬لن نكون‬
‫قادرين على االستجابة الستدعاء الذاكرة التاريخية لوال الوظيفة التوسطية المخططاتية‬
‫للمخيال السردي‪ ،‬الذي يزودنا بـ»الرموز» لألحداث التي حدثت ولكن تم قمعها‬
‫من الذاكرة‪ .‬المسؤولية هنا ذات شقين‪ .‬من ناحية‪ ،‬يوفر لنا السرد إعادة بناء مجازية‬

‫‪13 Paul RICŒUR, Time and Narrative, Vol. 3, Chicago, University of Chicago‬‬
‫»‪Press, 1988, p. 18485.3-. «Remembering the Past: The Question of Narrative‬‬
‫‪in Philosophy and Social Criticism, Vol. 24, no 21998 ,3/, and as «The Narrative‬‬
‫‪Imagination» in our Poetics of Modernity, Humanities Press, Atlantic Heights,‬‬
‫‪New Jersey, 1995.‬‬
‫‪14 See my critique of this postmodern cult of «irreference» in the conclusion to my‬‬
‫‪Wake of Imagination, St. Paul, University of Minnesota Press, 1988, Chapter 6 and‬‬
‫‪«Afterwords» in Poetics of Imagining, London, Routledge, 1991, p. 170, 232. See‬‬
‫‪also Fredrick JAMESON’s critique in «Postmodernism or the Cultural Logic of‬‬
‫‪Late Capitalism,» New Left Review, no. 145, 1984, p. 5391-. For BAUDRILLARD’s‬‬
‫‪own account of this sublime «irreference» of simulation, see Simulations, New York,‬‬
‫‪Semiotext(e), 1983. For LYOTARD’s account of sublime «irrepresentability», see‬‬
‫‪The Inhuman, trans. G. Bennington and R. Bowlby, Stanford, Stanford University‬‬
‫‪Press, 1991‬‬
‫‪15 Paul RICŒUR, Time and Narrative, Vol. 3, p. 185186-‬‬
‫‪243‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫للماضي تمكننا من رؤية وسماع األشياء الماضية‪ ،‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬بالوقوف في‬
‫وبالوقوف بجانب هذه األشياء كأحداث حدثت بالفعل‪ .‬هنا نواجه حق الماضي‪ ،‬كما‬
‫كان من قبل‪ ،‬في التحريض على رواياتنا السردية للتاريخ وتصحيحها‪ .‬نتذكر ديوننا‬
‫ألولئك الذين عاشوا وعانوا الشر‪ .‬نذكر أنفسنا مثال بأنه كانت هناك أفران غاز وغوالغ‪،‬‬
‫وقصفت ناجازاكي وكمبوديا‪ ،‬وجرائم سياسية وظلم على األبرياء على مر القرون‪.‬‬
‫هذه لم تكن محاكاة‪ ،‬لقد حدثت بالفعل‪.‬‬
‫التناقض الظاهري هنا‪ ،‬بطبيعة الحال‪ ،‬هو أنه ينبغي أن يكون السرد الذي يستجيب‬
‫لالستدعاء األخالقي الحترام «واقع الماضي»‪ .‬ومن المثير للسخرية أنه يجب على‬
‫الشعراء أن يخدموا األخالق كوسيلة لتذكر ديوننا لمن عانوا وماتوا (وغالبا ما نُسوا)‪.‬‬
‫لكن هذا هو الحال‪ .‬يعمل السرد بهذه الطريقة على استدعاء «اآلخرين» المهملين في‬
‫التاريخ‪ ،‬ألنه‪ ،‬كما يشير ريكور‪« ،‬دائما ما يتم من خالل بعض االنتقال من الذات إلى‬
‫اآلخر‪ ،‬في التعاطف والخيال‪ ،‬فإن اآلخر الغريب يصبح أقرب»‪.16‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن عملية النقل هذه ليست واضحة بأي حال من األحوال‪ .‬باإلضافة‬
‫إلى إعادة التمثيل السردي ــ الذي يعيد تمثيل الماضي على أنه حاضر تحت فئة الذات‬
‫ــ فإن الفهم الهرمنيوطيقي عليه واجب تجاه اآلخر في الماضي عن طريق التعبير عن‬
‫ٍ‬
‫ماض بالضبط‪ ،‬أي كشيء لم يعد موجودا‪ .‬نحن نتعامل هنا مع إخالص‬ ‫الماضي على أنه‬
‫مزدوج لمعاناة الماضي مثل التشابه واالختالف‪ .‬يسعى فعل النقل الهرمنيوطيقي‬
‫عن طريق القياس إلى معالجة هذا التناقض‪ .‬إنها تمكننا من نقل أنفسنا إلى لحظات‬
‫غريبة أو خسوف‪ ،‬وإعادة تشكيلها على غرار تجربتنا الحالية (الفشل الذي لن نكون‬
‫قادرين على التعرف عليه)‪ ،‬مع االعتراف في نفس الوقت باختالفها كمتميزة وبعيدة‪.‬‬
‫وباختصار‪ ،‬فإن إعادة التخصيص السردي لتجارب الشر الماضية تعمل وفق ًا لمسؤولية‬
‫ٍ‬
‫كماض‪.‬‬ ‫مزدوجة‪ :‬تجاه الماضي كحاضر‪ ،‬والماضي‬
‫إلى الحد الذي يظل فيه مسؤوال أخالقيا‪ ،‬فإن التذكر التاريخي للصدمة يرفض‬
‫السماح ألن يصبح إعادة البناء اختزاال لآلخر في الذات؛ إنه يقاوم استيعاب االختالف‬

‫‪16 Time and Narrative.‬‬


‫ينريك دراشتير‬ ‫‪244‬‬
‫في التماثل‪ .17‬لذلك عندما نتحدث عن السرد الذي يزودنا بـ «تشبيهات» للماضي‬
‫كما كان في الواقع‪ ،‬فمن الجيد أن ندرك أنه «كما» هو مجاز ذو اتجاهين للغياب‪/‬‬
‫الحضور‪ .‬يجب أال نقلل أبدا من الطبيعة الفريدة والمتباينة وغير القابلة لالختزال‬
‫لتجربة أولئك الذين عانوا من الشر في الماضي‪ .‬ال يمكن التخلص من هذا التغيير عن‬
‫طريق «التملك» الخيالي السطحي‪.‬‬
‫هذه النقطة تستحق التطوير‪ .‬تشتمل روايات الماضي على تشابك الخيال‬
‫والتاريخ‪ .‬بمجرد أن ندرك أن السرديات التاريخية للشر تستلزم إعادة تشكيل‬
‫األحداث الماضية‪ ،‬يمكننا أن نعترف بأن سرد التاريخ ينطوي على نشر ممارسات‬
‫أدبية معينة‪ ،‬الحبكة والتكوين والشخصية ووجهة النظر وما إلى ذلك‪ .‬هذا هو السبب‬
‫في أن النص نفسه يمكن أن يكون في الوقت ذاته عمال رائعا للتاريخ وعمال عظيما‬
‫للخيال‪ .‬يمكن أن تخبرنا عن الطريقة التي حدثت بها األشياء بالفعل في الماضي‬
‫وفي نفس الوقت تجعلنا نرى الماضي ونشعر به ونعيشه كما لو كنا هناك‪ .‬عالوة‬
‫على ذلك‪ ،‬فإن هذا «التأثير الخيالي» للتاريخ يمكن في كثير من األحيان أن يعزز‪،‬‬
‫بدال من أن يقلل‪ ،‬من مهمة التقبل‪ .‬يفكر المرء مثال في شهادات الهولوكوست التي‬
‫أدلى بها إيلي ويزل أو بريمو ليفي‪ ،‬ناهيك عن الروايات «الروائية» التي ال تعد وال‬
‫تحصى لكتاب مثل توماس كينيلي وأهارون أبلفيلد‪ .‬بعبارة أخرى‪ :‬يمكن للسرد أن‬
‫يخدم التجارب التاريخية للشر‪ ،‬وهذه الخدمة تنطوي على أبعاد أخالقية وكذلك‬
‫شاعرية‪.‬‬
‫نشر التقنيات الروائية من قبل المؤرخين والشهود‪ ،‬وكذلك من قبل كتّاب الروايات‪،‬‬
‫لوضع بعض األحداث أو الشخصيات السابقة بشكل واضح قبل أن يتعرف أرسطو‬
‫على عقل القارئ بالفعل في البالغة‪ ،‬تحت عنوان «التعبير»‪ ،‬طريقة لجعل األشياء‬
‫مرئية كما لو كانت موجودة‪ .‬يكمن الخطر‪ ،‬بالطبع‪ ،‬في أن «كما لو» المجازي قد ينهار‬
‫إلى اعتقاد حرفي‪ ،‬بحيث لم نعد مجرد «رؤية كـ« بل نرتكب خطأ االعتقاد بأننا نرى‬
‫في الواقع‪« .‬هذيان الحضور» (الذي يفضي بسهولة إلى الدوغمائية واألصولية) هذا‬

‫‪17 Time and Narrative.‬‬


‫‪245‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫يدعو‪ ،‬من وجهة نظر ريكور‪ ،‬إلى اليقظة األخالقية من قبل المؤرخين للحفاظ على‬
‫توازن ديالكتيكي مناسب بين التعاطف والبعد‪.‬‬
‫لكن التحرر من الوهم ليس المسؤولية األخالقية الوحيدة للسرد‪ .‬على نفس القدر‬
‫من األهمية‪ ،‬فإن مسؤولية إعادة تشكيل بعض األحداث ذات الكثافة األخالقية العميقة‬
‫التي قد يميل التأريخ التقليدي إلى التغاضي عنها لصالح ما يسمى التفسير الموضوعي‬
‫لألشياء‪ .‬في حالة مثل الهولوكوست‪ ،‬يبدو أن ممارسة «التحييد» هذه غير مناسبة تماما‪.‬‬
‫إن كلمة «تذكر» االنجيلية أكثر مناسبة أخالقية في مثل هذه الظروف‪ .‬هذا شيء يظهره‬
‫بريمو ليفي‪ ،‬شاهد مباشر وناجي من المعسكرات‪ ،‬بشكل مؤلم في تصميمه على سرد‬
‫القصة كما حدث بأوضح طريقة يمكن تخيلها‪ .‬يتم تحفيز اللجوء إلى االستعارات‬
‫والوسائل السردية لتحقيق هذا التأثير من خالل إصرار أخالقي‪ :‬يجب أال ُيسمح للناس‬
‫أبدا بنسيان هذا الشر خشية حدوثه مرة أخرى‪ .‬أو كما قال ليفي نفسه في استنتاجه‬
‫لـ«الحاجة إلى استعادة اآلخرين‪ ،‬لجعل اآلخرين يشاركون‪ ،‬المكرسة فينا قبل وبعد‬
‫تحريرنا لقوة االندفاع الفوري‪ ...‬واستجابة لمثل هذه الحاجة كتبت كتابي»‪.18‬‬
‫في مثل هذه الحاالت‪ ،‬إحياء ذكرى الشر ترتكز على خاصية أخالقية مختلفة تماما‬

‫‪18 Primo LEVI, Si c’est un homme, Paris, Julliard, 1987. For further discussion‬‬
‫‪of this ethical role of narrative memory, see my Poetics of Imagining, London,‬‬
‫‪Routledge, 1991, p. 220228-, and Claude LANZMANN’s review of Schindler’s List,‬‬
‫‪«Holocauste, la représentation impossible», in Le Monde, February 1994.‬‬
‫باإلضافة إىل الروايات اخليالية والسينامئية للهولوكوست‪ ،‬سيكون من املفيد النظر يف كيفية إعادة رسد‬
‫الروايات األخرى لألحداث الصادمة يف التاريخ يف الروايات أو األفالم املعارصة ــ عىل سبيل املثال ــ‬
‫رواية أوليفر ستون لفيتنام يف فصيلة‪ ،‬رواية كوستا غافراس عن التشييل‪ .‬االنقالب يف مفقود‪ ،‬قام جريي‬
‫كونلون وجيم شرييدان بإعادة رسد الظلم األربعة جليلدفورد يف ‪ ،In the Name of the Father‬وما‬
‫إىل ذلك‪ .‬سواء كان األمر يتعلق بالدراما الوثائقية‪ ،‬أو التاريخ اخليايل‪ ،‬أو اخليال التارخيي‪ ،‬فإننا يف‬
‫كل حالة مهتمون بتشابك اخليال والتاريخ‪ .‬بغض النظر عن مدى «التجريبية» و«املوضوعية» التي‬
‫يدعيها احلساب التارخيي‪ ،‬فال يمكن إنكار اعتامده عىل االسرتاتيجيات الرسدية لالختيار‪ ،‬والرتكيز‪،‬‬
‫والرتتيب‪ ،‬واخلطب املخرتعة‪ ،‬واألحداث التي أعيد بناؤها‪ ،‬ناهيك عن احلاجة إىل الرتابط والرتابط‪.‬‬
‫وكام قال هايدن وايت‪ ،‬فإن املؤرخ «جيب أن خيتار عنارص القصة التي سريوهيا‪ .‬يصنع قصته بتضمني‬
‫بعض األحداث واستبعاد البعض اآلخر بالتشديد عىل بعضها وإخضاع البعض اآلخر‪ .‬تتم عملية‬
‫االستبعاد والتوتر والتبعية هذه من أجل تكوين قصة من نوع معني‪ .‬وهذا يعني أنه «يرسم» قصته «‪.‬‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪246‬‬
‫عن تذكرات النصر في التاريخ العظيم والقوي‪ .‬عندما يميل األخير إلى أيديولوجيات‬
‫الفتح الشرعية‪ ،‬يتحرك األول في االتجاه المعاكس‪ ،‬أي نحو اإلحساس بمعاناة الماضي‬
‫كما لو كنا (القراء‪ /‬المستمعين‪ /‬المتفرجين) هناك بالفعل‪ .‬التمييز مهم لريكور‪ .‬إن‬
‫سبب الحدث المرعب يحتاج إلى سرد للدفاع عن قضيته خشية أن ينزلق بشكل ال‬
‫رجعة فيه إلى النسيان‪ .‬يجب أن يصيبنا الرهيب بالرهبة‪ .‬كتب ريكور‪« :‬يرتبط الرعب‬
‫بأحداث يجب أال تُنسى أبدا»‪.‬‬
‫إنه يشكل الدافع األخالقي النهائي لتاريخ الضحايا‪ .‬إن ضحايا أوشفيتز بامتياز‬
‫يمثلون في ذاكرتنا جميع ضحايا التاريخ‪ .‬اإليذاء هو الجانب اآلخر من التاريخ الذي‬
‫ال يمكن ألي دهاء للعقل أن يبرره‪ ،‬وبدال من ذلك‪ ،‬يكشف عن فضيحة كل ثيودسية‬
‫في التاريخ‪.19‬‬
‫في مثل هذه األمثلة‪ ،‬تمنع القوى المجددة للسرد المؤرخين من تحييد الظلم‪ .‬يمنع‬
‫التأريخ من شرح التاريخ بطريقة بعيدة‪ .‬وهذه المهمة األخالقية المتمثلة في الحفاظ‬
‫على خصوصية معاناة الماضي من التجانس السليم ال تنطبق فقط على المؤرخين‬
‫الوضعيين ولكن أيضا على التخمينات المجردة لبعض الفالسفة‪ .‬ربما يفكر ريكور هنا‬
‫في حكمة العقل لهيجل أو تأمالت هايدجر حول مصير التقنية (التي وضعت غرف‬
‫الغاز والحصادات في نفس الفئة)‪.20‬‬
‫يرتبط الدور األخالقي للفهم السردي في تذكر الرهيب بوظيفة محددة للتفرد‪،‬‬
‫أي الحاجة إلى احترام الطابع الفريد لبعض األحداث التاريخية‪ .‬داخاو وهيروشيما‬
‫وجوالج ومذبحة األرمن وماي الي واألحد الدامي وحقول القتل في كمبوديا وصبرا‬
‫وشاتيال وميدان تينهمين‪ ،‬ال يمكن تفسير هذه الفظائع التاريخية لعصرنا على أنها تروس‬
‫في عجلة ديالكتيكية ما‪ .‬إنها أكثر من ظاهرة ثانوية لروح العصر‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا‬
‫الميل فقط إلى نسبية الشر هو ما تظهره ثقافتنا الحالية في المحاكاة عندما تختزل السرد‬
‫إلى مسرحية تقليد خالية من المرجع التاريخي‪ .‬يدين فريدريك جيمسون هذا الميل‬

‫‪19 Paul RICŒUR, Time and Narrative, p. 187.‬‬


‫‪20 WOLIN, The Heidegger Controversy, Cambridge, MIT Press, 1992.‬‬
‫‪247‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫إلى تجاوز ما هو فريد تاريخيا باعتباره «عبادة ما بعد حداثية للحاضر السطحي»‪.21‬‬
‫لكن المعلقين اآلخرين‪ ،‬من بينهم جان بودريارد وجان فرانسوا ليوتار‪ ،‬يبدو أنهم‬
‫يحتفلون أحيانا بتصفية المرجع‪ .‬يدعي ليوتارد أن األشكال السردية للخيال تخون‬
‫الطبيعة «غير القابلة لإلحساس» لذروة ما بعد الحداثة‪ ،‬بينما يشيد بودريارد بحالة‬
‫ما بعد الحداثة المتمثلة في «الالمباالة» حيث يتم اختزال حقيقة الحرب إلى ألعاب‬
‫التليفزيون المشاهد والمحاكاة‪ .22‬لم يعد يميز‪ ،‬كما يعتقد بعض ما بعد الحداثيين‪ ،‬بين‬
‫ما هو حقيقي وغير واقعي في تمثيل األشياء‪ .‬ويميل المرء إلى االستنتاج بأنها لم تبق‬
‫إال خطوة قصيرة من نوع تفكير بودريارد هنا إلى ادعاءات المؤرخين التحريفيين مثل‬
‫فوريسون أو ديفيد إيرفينج بأن غرف الغاز لم تكن موجودة أبدا (أو ادعاء نولت أن‬
‫الهولوكوست ليس حدثا فريد ًا من نوعه للشر ولكن مجرد واحدة من مجموعة متنوعة‬
‫من األحداث المماثلة)‪ .‬على أي حال‪ ،‬يبدو أن ما تطرحه عبادة ما بعد الحداثة المتمثلة‬
‫المساءلة قوة السرد على استعادة‬ ‫في «عدم التمثيلية» و«عدم المرجعية» يضع قيد ُ‬
‫األحداث الواقعية تاريخيا من أجل اعتبارنا األخالقي في الحاضر‪.‬‬
‫في مقابل هذا الموقف‪ ،‬يجيب ريكور‪ :‬كلما زاد السرد من خصوصية التجارب‬
‫التاريخية للشر‪ ،‬زاد سعينا لفهمها (بدال من مجرد معاناتها كصدمة عاطفية)‪ .‬ال يتعلق‬
‫األمر إذن بمعارضة السرد «الذاتي» على الفهم «الموضوعي»‪ .‬إنها مسألة تقدير أن فهم‬
‫الشر دون السرد يخاطر بأن يصبح غير إنساني‪ ،‬تماما كما أن رواية الشر بدون أمل‬
‫في وجود بعض إمكانية الفهم تخاطر بالالعقالنية العمياء‪ .‬يوفر لنا الفعل التجديدي‬
‫المتمثل في الوقوف على الماضي «شخصية» نختبرها ونفكر فيها ونشعر بها ونتأمل‬
‫فيها‪« .‬الخيال يعطي العيون للراوي المرعوب»‪ ،‬على حد تعبير ريكور‪« ،‬عيون ترى‬
‫وتبكي‪ ،‬توفر الحالة الحالية لألدب حول الهولوكوست دليال وافيا على ذلك‪...‬‬
‫يحسب المرء الجثث أو يحكي قصة الضحايا «‪ .23‬إذا خسرت رواية التاريخ‪ ،‬بالتالي‪،‬‬

‫‪21 JAMESON, «Postmodernism and Consumer Society», in Postmodern Culture,‬‬


‫‪ed. H. Foster, London, Pluto Press, 1985.‬‬
‫‪22 See Jean BAUDRILLARD, Simulations.‬‬
‫‪23 Paul RICŒUR, Time and Narrative, Vol. 3, p. 188.‬‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪248‬‬
‫هذه الدعوة إلى الشهادة‪ ،‬فإنها تخاطر بأن تصبح مشهدا غريبا أو مستودعا للحقيقة‬
‫الميتة‪ .‬أي من الخيارين غير مقبول‪« .‬هناك جرائم ال ينبغي نسيانها‪ ،‬الضحايا الذين‬
‫يعانون يبكون من أجل االنتقام أقل من السرد»‪ ،‬يحتج ريكور‪« :‬إن الرغبة في عدم‬
‫النسيان وحدها يمكن أن تمنع تكرار هذه الجرائم على اإلطالق»‪.24‬‬
‫هذه المهمة األخالقية للشهادة ليست مجرد مسؤولية فردية‪ ،‬بل جماعية أيضا‪.‬‬
‫هنا يبدو أن الدين األخالقي للموتى يتحد مع القوة الشعرية للرواية‪ .‬ونذكر أن نمطي‬
‫السرد ــ الخيال والتاريخ ــ يشتركان في أصل مشترك في الملحمة التي لها طابع الحفاظ‬
‫على الذكريات على النطاق المجتمعي للمجتمعات‪ .‬وبوضعها في خدمة ما ال ُينسى‪،‬‬
‫تسمح لنا هذه القوة الشعرية باالرتقاء إلى مستوى المهمة األخالقية المتمثلة في سوابق‬
‫الذاكرة الجماعية‪.‬‬
‫يمكن تلخيص المهمة األخالقية للفهم السردي في مواجهة مشكلة الشر التاريخي‪،‬‬
‫وف ًقا لذلك‪ ،‬في الجوانب التالية‪ )1( :‬قدرة الشهادة على توثيق واقع الماضي (مع معاناته‬
‫التي ال توصف غال ًبا من الشر)؛ و(‪ )2‬القدرة التناظرية لتقديم الغائبين و«اآلخرين»‬
‫(ديننا للموتى المنسيين)؛ و(‪ )3‬قدرة تخيلية لتوقع االحتماالت المستقبلية حيث قد‬
‫تسود العدالة في النهاية‪.25‬‬
‫في «الذاكرة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬النسيان» (‪ )2000‬يجادل ريكور بأن التسامح قد يطلق‬
‫الماضي التاريخي في مستقبل مختلف وأكثر حرية‪ .26‬ألن العفو الحقيقي ال يأتي وال‬
‫يمكن أن يأتي من النسيان األعمى (فقدان الذاكرة)‪ ،‬ولكن فقط من التذكر الذي هو‬
‫مستعد للمغفرة للماضي بتحريره من القبضة الحتمية للهوس العنيف واالنتقام‪ .‬ال‬
‫ينطوي مبدأ «العطاء الحقيقي»‪ ،‬كما يالحظ ريكور‪ ،‬على نسيان األحداث نفسها‪ ،‬بل‬
‫طريقة مختلفة للداللة على دين للموتى يشل الذاكرة‪ ،‬وضمنا‪ ،‬قدرتنا على إعادة خلق‬
‫أنفسنا في مستقبل جديد‪ .‬إن المهمة الصحيحة للعفو ليست طمس ذكرى الجرائم‪ .‬بل‬

‫‪24 Time and Narrative., p. 189.‬‬


‫‪25 See the «Afterwords» to my Poetics of Imagining, Edinburgh University Press/‬‬
‫‪Fordham University Press, New York, 1998.‬‬
‫‪26 Paul RICŒUR, La mémoire, l’histoire, l’oubli, Éd. du Seuil, Paris, 2000.‬‬
‫‪249‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫باألحرى أن نتذكرها من أجل حل بعض جوانب الديون التي قد تكون مستحقة عليهم‪.‬‬
‫«الغفران هو نوع من شفاء الذاكرة‪ ،‬إتمام فترة حدادها‪ .‬متحررة من ثقل الديون‪ ،‬تتحرر‬
‫الذاكرة للمشاريع العظيمة‪ .‬الغفران يعطي الذاكرة مستقبالً»‪ .‬وبنا ًء على ذلك‪ ،‬يدعي‬
‫ريكور أنه ليس من التناقض القول إن العفو صارم نتيجة طبيعية لتسامح الذاكرة حتى لو‬
‫كانت مناقضة صارمة لـ«ذاكرة التكرار»‪.27‬‬
‫من الواضح أن الحذر الشديد مطلوب هنا‪ .‬ذاكرة السرد ليست بريئة أبدا‪ ،‬فهي‬
‫صراع مستمر من التفسيرات‪ :‬ساحة معركة للمعاني المتنافسة‪ .‬يتم سرد كل تاريخ‬
‫من منظور معين وفي ضوء تحيز محدد (على األقل بمعنى جادامر)‪ .‬الذاكرة‪ ،‬كما هو‬
‫مذكور أعاله‪ ،‬ليست دائما بجانب المالئكة‪ ،‬يمكن أن تؤدي بسهولة إلى وعي زائف‬
‫وانغالق أيديولوجي مثل االنفتاح والتسامح‪ .‬على المرء فقط أن يتذكر الجدل األخير‬
‫حول إنكار الهولوكوست لتقدير المخاطر التي ينطوي عليها األمر‪ .‬يتم تجاهل هذه‬
‫القوة المشوهة أحيانا من قبل المدافعين المعاصرين عن أخالقيات السرد (ماكنتاير‪،‬‬
‫نوسباوم‪ ،‬بوث) الذين‪ ،‬على عكس ريكور‪ ،‬يميلون إلى تقليل أهمية الحاجة إلى‬
‫هرمنيوطيقية الشك الناقد‪ .‬كما أنه ال يتم تقديره بشكل صحيح من قبل دعاة نيتشه‬
‫الثاني للتوسط غير المناسب‪« ،‬استخدام وإساءة استخدام التاريخ من أجل الحياة»‪،‬‬
‫الذين يعتقدون أنه يكفي «نسيان الماضي بشكل فعال»‪ ،‬لفعله به‪ .‬ريكور ال يشارك هذا‬
‫االعتقاد المتفائل‪.‬‬
‫قد نقول ــ باختصار إذن ــ إن ريكور يسعى لتحقيق التوازن بين (‪ )1‬واجبنا في‬
‫أن نشهد على التفرد الذي ال يضاهى لحدث فريد مثل أوشفيتز‪ ،‬مع (‪ )2‬واجبنا أن‬
‫نشهد للعالمية التمثيلية للخير والشر‪ .‬ال شك أن الحقيقة موجودة في نوع من الوسط‬
‫األرسطي الذي يجمع بين كل من الدوافع األخالقية في توتر دقيق‪ .‬هذا هو ما تتطلبه‬
‫الحكمة العملية (التأصيل) للسرد التاريخي في عصرنا الذي يتسم بسهولة النسيان‪،‬‬
‫وتفرد األحداث الماضية وإمكانية‬
‫التوازن الصحيح بين اإلخالص المزدوج للذاكرة ّ‬
‫نقلها‪ .‬كما يالحظ ريكور‪:‬‬

‫‪27 La mémoire, l’histoire, l’oubli., p. 23.‬‬


‫ينريك دراشتير‬ ‫‪250‬‬
‫يجب أن نتذكر ألن التذكر واجب أخالقي‪ .‬نحن مدينون للضحايا‪ .‬وأصغر طريقة‬
‫لسداد ديوننا هي أن نقول ونعيد سرد ما حدث في أوشفيتز‪ ...‬من خالل التذكر‬
‫والحكاية‪ ،‬ال نمنع النسيان فقط من قتل الضحايا مرتين؛ نحن أيضا نمنع قصص‬
‫حياتهم من أن تصبح مبتذلة‪...‬واألحداث من الظهور كالضرورة‪.28‬‬
‫في بعض األحيان‪ ،‬وفي بعض األماكن (كأيرلندا الشمالية‪ ،‬البوسنة‪ ،‬كشمير)‬
‫من المهم التخلي عن قبضة الشر التي تشل الحركة التي عانى منها من أجل التغلب‬
‫على غرائز االستياء واالنتقام‪ .‬في أوقات أخرى‪ ،‬وفي أماكن أخرى (كأوشفيتز) من‬
‫الضروري أن نتذكر الماضي من أجل احترام «ديوننا للموتى» ولضمان عدم الحدوث‬
‫مرة أخرى‪ .‬يمكن للتذكر السردي‪ ،‬كما حلله ريكور‪ ،‬أن يخدم وظيفتين‪ :‬يمكن أن‬
‫يساعدنا في تمثيل الماضي كما كان بالفعل أو إعادة اختراعه كما ربما كان‪ .‬في الخيال‪،‬‬
‫دور التجديد هو األهم‪ ،‬حتى في الروايات التاريخية مثل «الحرب والسالم»‪ .‬على‬
‫النقيض من ذلك‪ ،‬في شهادات الشر التاريخية‪ ،‬تدعي وظيفة االسترجاع الحقيقي‬
‫األولوية‪ .‬يعتبر التمييز بين هاتين الوظيفتين المنفصلتين‪ ،‬إذا كانتا متداخلتين في كثير من‬
‫األحيان‪ ،‬بالنسبة لريكور‪ ،‬ذو أهمية أخالقية حاسمة‪ .‬مثل تمييز متى يكون من الصواب‬
‫التذكر ومتى يكون من األفضل النسيان‪ ،‬أو مقدار ما يجب أن نتذكره أو ننساه‪.29‬‬

‫استنتاج‬
‫كيف إذن يمكن لريكور أن يعترف بلغز الشر‪ ،‬الذي كشفته رواياته المختلفة‪ ،‬بينما‬
‫نهجا ثالثي األبعاد‪ )1( :‬الفهم‬
‫ال يزال يتعامل مع سؤال تولستوي‪ :‬ما العمل؟ يقترح ً‬
‫العملي (التأليف ــ المحاكاة ــ التطبيق العملي)؛ (‪ )2‬العمل من خالل (التنفيس)‪،‬‬
‫و(‪ )3‬العفو‪.‬‬
‫(‪« )1‬الفهم العملي» هو االسم الذي يطلقه ريكور على تلك القدرة المحدودة للعقل‬
‫البشري على التفكير في لغز الشر‪ .‬يبدو أنه يستمد من نماذج متنوعة مثل «الحكمة»‬

‫‪28 Paul RICŒUR, Memory of Suffering, p. 290.‬‬


‫‪29 Paul RICŒUR, La mémoire, l’histoire, l’oubli, especially Part 3 entitled «La‬‬
‫‪condition historique».‬‬
‫‪251‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫اإلنجيلية (نوقشت أعاله)‪ ،‬و«الحكمة العملية» ألرسطو (التأصيل)‪ ،‬و«العقل العملي»‬


‫لكانت (الحكم غير المحدد)‪ ،‬ومفهومه األصلي عن «الفهم السردي»‪ .‬ما تشترك فيه‬
‫كل من هذه النماذج هو القدرة على نقل معضلة الشر من مجال النظرية ــ المناسبة‬
‫لمعايير المعرفة الدقيقة للمنطق والعلم والميتافيزيقا التأملية ــ إلى مجال فن عملي‬
‫أكثر من الفهم‪ ،‬والذي يسمح بفهم تقريبي للظواهر‪ :‬ما يسميه أرسطو «القاعدة المرنة‬
‫للمهندس المعماري»‪ .‬عندما تشرح النظرية التأملية ــ التي تلخصها الثيودسية ــ الشر‬
‫من حيث األصول السببية أو الخلقية المطلقة‪ ،‬فإن نموذج ريكور للفهم العملي موجه‬
‫نحو فهم أكثر هرمنيوطيقية لخصائص الشر غير المحددة والطارئة والمفردة‪ ،‬مع عدم‬
‫التخلي عن كل االدعاءات لمعايير شبه عالمية (والتي قد تكون مسؤولة على األقل‬
‫عن الحد األدنى من الشعور المشترك بالشر)‪ .‬يستعير مثل هذا الفهم العملي من الفعل‬
‫االقتناع بأن الشر شيء ال يجب أن يكون ويجب مكافحته‪ .‬وبهذا المعنى‪ ،‬فإنه يقاوم‬
‫قدرية آثار الشر التي يمكن العثور عليها في كل من الميثولوجيا والثيودسية‪ .‬وهي تفعل‬
‫ذلك لصالح تطبيق عملي موجه نحو المستقبل‪.‬‬
‫الرد النهائي الذي يقدمه الفهم العملي هو العمل ضد الشر‪ .‬بدال من اإلذعان في‬
‫وجه األصل الذي يسبقنا‪ ،‬يوجه الفعل فهمنا نحو المستقبل «بفكرة المهمة التي يجب‬
‫تحقيقها»‪ .‬يصر ريكور بإصرار على أن المطلب األخالقي والسياسي للتصرف ال‬
‫يتخلى عن البحث المشروع عن نموذج أدنى من التمييز المعقول‪ .‬إنه في الواقع يتطلب‬
‫ذلك‪ .‬فكيف نتصرف ضد الشر إذا لم نتمكن من تحديده‪ ،‬أي إذا لم نتمكن من التمييز‬
‫بشكل حاسم بين الخير والشر؟ في هذا الصدد‪ ،‬يفترض النضال الحقيقي ضد الشر‬
‫تفسيرا نقديا للتمييز‪ .‬ويحتفظ هذا الفهم الهرمنيوطيقي بتوكيد كانت على سبب عملي‬
‫يسعى إلى التفكير بطريقة معينة في ما هو غير قابل للتفكير‪ .‬وللقيام بذلك بما يسميه‬
‫ريكور «رصانة التفكير‪ ،‬احرص دائما على عدم تجاوز حدود المعرفة»‪.30‬‬
‫قد ال يتجاوز فهمنا النقدي للشر أبدا الطبيعة المؤقتة لحكم كانت غير المحدد (أي‬
‫«انعكاس جمالي»)‪ .‬لكن على األقل يحكم‪ .‬وهو تفعل ذلك بطريقة تنبه إلى كل من‬

‫‪30 Paul RICŒUR, Figuring the Sacred, p. 259.‬‬


‫ينريك دراشتير‬ ‫‪252‬‬
‫التغير الفردي للشر وشبه الكوني كما يدركه الحس المشترك‪ .‬هذا ليس حكما دقيقا أو‬
‫مناسبا ولكنه شكل من أشكال الحكم على كل ذلك‪ ،‬بنا ًء على الحكمة العملية التي‬
‫تنقلها الروايات والموجهة بالعدالة األخالقية‪ .‬قد نقول‪ ،‬بالتالي‪ ،‬إن الحكم العملي‬
‫ليس فقط «لفظيا» بل «سرديا» في طبيعته‪ .‬تم تسجيل هذا التداخل بين التأليف اللغوي‬
‫(أرسطو) والحكم (كانت) بدقة في وصف ريكور للدور األخالقي للسرد‪ :‬األخالق‬
‫كما تصورها أرسطو‪ ،‬وكما يمكن تصورها حتى يومنا هذا‪ ،‬تتحدث بشكل تجريدي‬
‫عن العالقة بين الفضيلة والسعي وراء السعادة‪ .‬إن وظيفة الشعر في شكله السردي‬
‫والدرامي هو أن يقترح مخياال ووساط ًة لرموز مختلفة تشكل الكثير من التجارب‬
‫الفكرية التي نتعلم من خاللها ربط الجوانب األخالقية للسلوك البشري والسعادة‬
‫والمحن‪ .‬عن طريق الشعر نتعلم كيف أن انعكاسات الثروة تنتج عن هذا السلوك أو‬
‫ذاك‪ ،‬حيث أن هذا هو الذي شيدته الحبكة في السرد‪ .‬بسبب معرفتنا بأنواع الحبكة‬
‫التي نتلقاها من ثقافتنا‪ ،‬نتعلم ربط الفضائل‪ ،‬أو باألحرى أشكال التميز‪ ،‬بالسعادة أو‬
‫التعاسة‪ .‬تشكل «دروس» الشعر هذه «المسلمات» التي تحدث عنها أرسطو‪ .‬لكن هذه‬
‫مسلمات أقل درجة من المنطق والفكر النظري‪ .‬ال يجب أن نتحدث أقل عن الفهم‬
‫ولكن بالمعنى الذي أعطاه أرسطو للتعبير‪ ...‬بهذا المعنى‪ ،‬فأنا مستعد للحديث عن‬
‫الفهم التعبيري لمقارنته بالفهم النظري‪ .‬ينتمي السرد إلى األول وليس األخير‪.31‬‬
‫(‪ )2‬إذا كان الفهم العملي يعالج استجابة الفعل للشر‪ ،‬فإنه يتجاهل أحيانا استجابة‬
‫المعاناة‪ .‬الشر ليس مجرد شيء نكافح ضده‪ ،‬إنه أيضا (كما هو مذكور أعاله) شيء‬
‫نمر به‪ .‬ويخلص ريكور إلى أن تجاهل سلبية الشر الذي نعانيه يعني تجاهل المدى‬
‫الذي يصيبنا به الشر باعتباره غريبا ومزعجا‪ .‬كما أنه من الضروري التقليل من شأن‬
‫هذا التغيير غير القابل لالختراق للشر‪ ،‬والذي تميل األساطير والثيودسية إلى المبالغة‬
‫في تقديره‪ .‬من أكثر الردود حكمة على الشر‪ ،‬في هذا الصدد‪ ،‬االعتراف بآثاره المؤلمة‬
‫والعمل من خاللها بأفضل ما نستطيع‪ .‬يمكن للفهم العملي أن يعيد توجيهنا نحو الفعل‬
‫فقط إذا كان قد أدرك بالفعل أن بعض عناصر االغتراب يرتبط دائما بالشر‪ ،‬خاصة‬

‫‪31 Paul RICŒUR, «Life in Quest of Narrative» On Paul Ricœur: Narrative and‬‬
‫‪Interpretation, David Wood (ed.), London, Routledge, 1991, p. 23.‬‬
‫‪253‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫عندما يتعلق األمر بالمرض أو الرعب أو الكارثة أو الموت‪ .‬بغض النظر عن مدى‬
‫استعدادنا لفهم الشر‪ ،‬فنحن لسنا مستعدين بما فيه الكفاية‪ .‬هذا هو السبب في أن «عمل‬
‫الحداد» مهم جدا كطريقة لعدم السماح للطبيعة الالإنسانية للمعاناة أن تؤدي إلى‬
‫«فقدان كامل للذات» (ما أسماه فرويد «ميالنخوليا»‪ .‬ونوع من التنفيس ضروري لمنع‬
‫االنزالق إلى الجبرية التي غالبا ما تسبب اليأس في تدمير الذات‪ .‬االنفصال النقدي‬
‫الناجم عن الحداد الشافي يستدعي حكمة تحول الفجيعة السلبية إلى إمكانية الشكوى‬
‫‪32‬‬
‫الفعالة‪ ،‬أي االحتجاج‪.‬‬
‫الدور الذي تلعبه الشهادات السردية‪ ،‬كما رأينا‪ ،‬حاسم في هذا الصدد‪ .‬لمثل هذه‬
‫ادع الضحية للهروب من اغتراب الشر‪ ،‬أي االنتقال من حالة العجز‬‫التذكرات السردية‪ُ ،‬‬
‫الصامت إلى أفعال تمرد الكالم و(حيثما أمكن) تجديد الذات‪ .‬إن نوعا من العمل‬
‫السردي ضروري‪ ،‬على ما يبدو‪ ،‬بالنسبة للناجين من الشر أال يشعروا بالشلل بسبب‬
‫الحزن أو الذنب (حول موت اآلخرين وبقائهم على قيد الحياة) أو الخضوع للعبة‬
‫«الضحية المنكوبة»‪ .‬ما يسمح به التنفيس في رواية الحداد هو أن األفعال الجديدة‬
‫ال تزال ممكنة على الرغم من معاناة الشر‪ .‬إنه يفصلنا عن التكرار الوسواسي وقمع‬
‫الماضي ويحررنا من أجل المستقبل‪ .‬بهذه الطريقة فقط يمكننا الهروب من دورات‬
‫القصاص والقدر المعطلة‪ :‬الدورات التي تنفرنا من قدرتنا على التصرف من خالل‬
‫غرس وجهة النظر القائلة بأن الشر هو غريب للغاية‪ ،‬أي ال يقاوم‪ .‬يساعدنا العمل من‬
‫خالل تجربة الشر ــ سرديا وعمليا وتنفيسيا ــ على إخراج جاذبية الشر‪ .‬وبذلك يمكننا‬
‫التمييز بين األنماط الممكنة والمستحيلة لالحتجاج والمقاومة‪ .‬إن العمل من خالل أمر‬
‫أساسي لهرمنيوطيقية الفعل في جعل الشر قابال للمقاومة‪ .‬باختصار‪ ،‬من خالل تحويل‬
‫االغتراب وضحية الفجيعة إلى استجابة أخالقية للنضال العادل‪ ،‬فإن هرمنيوطيقيات‬
‫ريكور للفهم والعمل تقدم استجابة قوية‪ ،‬وإن كانت جزئية‪ ،‬لتحدي الشر‪.‬‬

‫‪32 Sigmund FREUD, «Remembering, Repeating, and Working-Through» in The‬‬


‫‪Standard Edition of the Complete Psychological Works of Sigmund Freud, vol. 12.‬‬
‫‪Ricœur elaborates further in this theme in La mémoire, l’histoire, l’oubli, Éd. du‬‬
‫‪Seuil, Paris, 2000.‬‬
‫ينريك دراشتير‬ ‫‪254‬‬
‫(‪ )3‬أخيرا‪ ،‬نعود إلى مسألة الغفران الصعبة‪ ،‬والتي غالبا ما تكون مستحيلة ظاهريا‪.‬‬
‫ضد «أبدية» الشر الذي يجعل العفو مستحيال‪ ،‬نطلب تبني ما يسميه ريكور «أعجوبة‬
‫المرة األخرى» مما يجعله ممكن ًا‪ .33‬لكن إمكانية الغفران هي «أعجوبة» على وجه‬
‫التحديد ألنها تتجاوز حدود الحساب والتفسير المنطقيين‪ .‬هناك نوع معين من التبرير‬
‫حول العفو بسبب حقيقة أن الشر الذي يتصدى له ليس جز ًء من ضرورة ديالكتيكية‪.‬‬
‫العفو هو شيء ال معنى له قبل أن نعطيه‪ ،‬لكن له معنى كبير بمجرد أن نفعله‪ .‬قبل أن‬
‫يحدث‪ ،‬يبدو األمر مستحيال‪ ،‬وال يمكن التنبؤ به‪ ،‬وال يمكن تقديره من حيث اقتصاد‬
‫التبادل‪ .‬ال يوجد علم الغفران‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬هذا هو بالضبط المكان الذي يتحد فيه الفهم‬
‫التعبيري‪ ،‬واالهتمام بخصوصية أحداث شريرة معينة‪ ،‬مع ممارسة العمل من خالل‬
‫المصاب‪ ،‬الهدف المشترك هو ضمان أن الشرور الماضية يمكن منعها من التكرار‪.‬‬ ‫ُ‬
‫غالبا ما يتطلب هذا المنع العفو وكذلك االحتجاج حتى تفسح دورات التكرار واالنتقام‬
‫الطريق إلمكانيات مستقبلية غير شر‪ .‬هذا مثال جيد على ادعاء ريكور بأن العفو يعطي‬
‫مستقبال للماضي‪.‬‬
‫ويخلص ريكور إلى أن السرد التنفيسي يمكن أن يساعد في جعل مهمة العفو‬
‫المستحيلة أكثر احتماال‪ .‬ولهذا‪ ،‬كما أشرنا‪ ،‬فإن العفو ليس فقدانا للذاكرة أبدا‪ .‬يجب‬
‫تذكر الماضي والعمل من خالله حتى نتمكن من تحديد ما هو الشيء الذي نتسامح‬
‫معه‪ .‬ألنه وإن كان العفو فوق العقل‪ ،‬فهو ال يكون أعمى تماما‪ .‬وإذا تمت تعبئته من‬
‫خالل مكافأة الحب ــ التي تدعو إلى هذا العنصر اإلضافي أو الزائد ــ فهي ال تتأثر أبدا‬
‫بمنطق العدالة‪ .‬أو بعبارة باسكال‪ ،‬للعفو أسبابه التي ال يستطيع العقل فهمها‪ .‬ربما فقط‬
‫إله يمكنه أن يغفر بال تمييز‪ .‬وقد تكون هناك بالفعل بعض الجرائم التي يستطيع الله‬
‫وحده العفو عنها‪ .‬حتى المسيح كان عليه أن يطلب من أبيه أن يغفر لصلبه‪« :‬أبي يغفر‬
‫لهم ألنهم ال يعرفون ماذا يفعلون»‪ .‬كإنسان وحده لم يستطع فعل ذلك‪ .‬المستحيل لنا‬
‫ممكن عند الله‪ .‬ولكن هنا تقترب أخالقيات العفو من عتبة الهرمنيوطيقيات الدينية‪.‬‬
‫إذا كانت الفلسفة ستستمر في معالجة لغز الشر الدائم‪ ،‬فقد يكون من األفضل‬

‫‪33 Paul RICŒUR, La mémoire, l’histoire, l’oubli, especially the epilogue entitled «Le‬‬
‫‪pardon difficile», p. 593-658 .‬‬
‫‪255‬‬ ‫رشلا تايقيطوينمره‬

‫أن تأخذ زمام المبادرة من استجابة ريكور الهرمنيوطيقية‪ .‬أوال‪ ،‬من خالل إجراء‬
‫التحليالت الهرمنيوطيقية للخطابات الرئيسية المنتشرة في تاريخ الالهوت والفلسفة‬
‫لتمثيل لغز الشر‪ .‬وثانيا‪ ،‬من خالل تطوير أساليب جديدة لالعتراف والتجديد‪ .‬نحن‬
‫بحاجة إلى كل من هرمنيوطيقيات التفسير وأخالقيات الغفران الفعال‪ .‬ألنه كما يذكرنا‬
‫المعاني والمظلوم‪ ،‬بل يجب علينا أيض ًا‬ ‫ريكور باستمرار‪ ،‬ال يكفي تفسير عالمنا ُ‬
‫محاولة تغييره‪.‬‬

‫مالحظات‬
‫ظهرت اإلصدارات السابقة من أقسام هذه الدراسة في «اآلخرون واألجانب‪:‬‬
‫بين الخير والشر»‪ ،‬في «الشر بعد ما بعد الحداثة»‪ ،‬تحرير جينيفر جيديس (روتليدج‪،‬‬
‫لندن ونيويورك‪)2001 ،‬؛ و«الشر والوحشية والسامية»‪ ،‬في «الغرباء‪ ،‬اآللهة والوحوش‬
‫(روتليدج‪ ،‬لندن ونيويورك‪)2003 ،‬؛ وبول ريكور‪ :‬بومة مينيرفا (أشجيت‪.)2004 ،‬‬
‫دراسات‬

‫مضادة الثيوديسية األخالقية‬

‫اآلفاق والمشاكل‬
‫____________________________________________ روبرت مارك سيمبسون‬
‫‪1‬‬

‫ُدعاة الرؤية التي أسميها «مضادة الثيوديسية األخالقية» يطالبون بالتخلي عن‬
‫ممارسة الخطاب اإليماني الثيوديسي‪ ،‬ألنهم يعتقدون بأن جميع الثيوديسيات‬
‫تنطوي على شكل من أشكال المخالفة األخالقية‪ .‬في هذه الدراسة سأبحث ثالث‬
‫مقوالت داعمة لهذا الموقف‪ :‬عدم الحساسية‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬والعواقب الضارة‪.‬‬
‫وبعد مناقشة مزايا كل مقولة على حدة‪ ،‬سأحاول أن أوضح أنه يجب على الجميع‬
‫أن يفترض مسبقا ما تستهدف تحقيقه‪ ،‬أن جملة المقدمات السابقة في كل ثيوديسية‬
‫لن تكون قابلة للدفاع‪ .‬وأختتم بمناقشة ما قد يكون هناك من استخدامات للنقد‬
‫األخالقي للثيوديسية‪ ،‬إذا لم يكن من الممكن استخدامه لتأسيس الرفض العالمي‬
‫للممارسة الثيوديسية‪ .‬في المناقشات المرتبطة بالشر والتوحيد‪ُ ،‬يقال عاد ًة أن القدير‬
‫والخير المطلق (مثل إله التوحيد األرثوذكسي) لن يسمح بأي حالة من الشر ما لم‬
‫يكن هناك سبب خير مقنع للقيام بذلك‪ ،‬مثل تحقيق خير أكبر أو منع شر أسوأ‪ .2‬لكن‬
‫هذه الفرضية تولد مشكلة لإليمان األرثوذكسي‪ ،‬ألن عالمنا يحتوي على العديد من‬
‫الشرور التي يبدو أنها ال تخدم أي هدف جيد‪ ،‬أي يبدو أنه ال مبرر لها‪ .‬وبحسب‬

‫‪1 Robert Mark Simpson (2009) Moral antitheodicy: prospects and problems. In:‬‬
‫‪.‬ــ ‪International Journal for Philosophy of Religion, pp. 153 69‬‬
‫‪ 2‬يف هذه الورقة‪ُ ،‬يستخدم مصطلح «الرش» بمعنى تقني واسع‪ ،‬لإلشارة إىل أي نوع من األحداث أو‬
‫األفعال أو النية أو احلالة التي تكون بطريقة ما سلبية أو ضارة أو سيئة بشكل جوهري‪ .‬ترمجة‪ :‬د‪.‬‬
‫لؤي خزعل جرب‪.‬‬
‫‪257‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫مناقشات اإلثبات المرتبطة بالشر المضاد للتوحيد‪ ،‬مثل تلك التي اعتنقها ويليام رو‪،‬‬
‫يجب اعتبار الشرور في عالمنا التي ال مبرر لها دليال حاسما ضد وجود الله‪.3‬‬
‫هناك العديد من المناهج النقاشية المتاحة للمؤمن الذي يبحث عن رد على‬
‫وجهة نظر رو‪ ،‬فمثال قد يؤمن أن بعض الشرور في عالمنا تشكل دليال ضد الله‪،‬‬
‫ولكن يشير إلى أن هناك أدلة أخرى لصالح التوحيد‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬قد يجادل‬
‫المؤمن بأن قيودنا المعرفية بصفتنا بشر تحد من قدرتنا على إصدار أحكام موثوقة‬
‫حول األهداف الجيدة التي قد (كل ما نعرفه) تتحقق مما نشاهده من شرور تبدو‬
‫غير مبررة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يعتقد العديد من المؤمنين الفلسفيين أن هذه الردود غير‬
‫كافية‪ ،‬ويعتقدون أنه إذا كان على المرء أن يدافع عن معقولية االعتقاد اإللهي في‬
‫مواجهة حقائق الشر‪ ،‬فيجب على المرء أن يلجأ إلى ثيودوسية‪ ،‬أي تفسير معقول‬
‫لسبب قد يسمح بموجبه اإلله الخير المطلق بالشرور في عالمنا‪ ،‬خصوصا تلك التي‬
‫تبدو عديمة الجدوى‪ .4‬تفسيرات كهذه مطلوبة عادة ما تعتمد على مالحظة الخيرات‬
‫ال ُعظمى المفترضة (كاإلرادة الحرة وصناعة الروح) التي يبرر اكتسابها سماح الله‬
‫بالشر‪.‬‬
‫في هذه الورقة سوف أتفحص مجموع ًة من الحجج التي تعارض وجهة نظر‬
‫العديد من الفالسفة المؤمنين المعاصرين‪ ،‬بأن الثيودسية تمثل استجابة مناسبة‬
‫وقابلة للتطبيق من الناحية النظرية لمشكلة الشر‪ .‬الحجج التي سأناقشها لها صفتان‬
‫محددتان‪ .‬أوالً‪ ،‬إنها ترفض الثيودوسية على أساس االعتبارات األخالقية‪ ،‬وتسعى‬
‫إلى إظهار أنه ال ينبغي على المرء أن يشارك في ممارسة ثيودسية‪ .5‬هذه الرؤية‬

‫‪3 See Rowe (1988).‬‬


‫‪ 4‬ال ينكر الثيودييس وجود رشور يف عاملنا يبدو أهنا ال طائل من ورائها‪ ،‬بل يشارك يف ما يسميه‬
‫سوينربن (‪ ،1995‬ص ‪« )75‬مرشوع إظهار أن املظاهر مضللة»‪.‬‬
‫‪ 5‬خالل هذه الورقة‪ ،‬عندما أشري إىل «ممارسة الثيودسيية»‪ ،‬فأنا أشري إىل جمموعة من األنشطة‪ ،‬بام‬
‫يف ذلك (عىل سبيل املثال ال احلرص) ابتكار ثيوديسية جديد‪ ،‬وتأييد ثيودسية موجود‪ ،‬والدفاع‬
‫عن ثيودسية موجود ضد االعرتاضات‪ ،‬ووصف الثيودسيات بطريقة غري نقدية (عىل سبيل املثال‬
‫يف كتاب مدريس عن فلسفة الدين)‪ ،‬يتبنى مبادئ الثيودسية يف تأمالت املرء حول الرش‪ ،‬وينصح‬
‫اآلخرين بقبول التفسريات الثيوديسية للرش‪ .‬يمكن اعتبار كل هذه األنشطة‪ ،‬باملعنى الواسع‪ ،‬جز ًءا‬
‫من مرشوع ثيودييس‪ ،‬وبالتايل قد ختضع مجيعها العرتاضات مضادة الثيوديسية األخالقية‪.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪258‬‬
‫تتلخص بحسب أحد الكُتاب في وجود «عالمة استفهام حول المالءمة األخالقية‬
‫للمناقشة في إطار ثيوديسيات‪ ،‬بحيث يجب أن يتردد المؤمن في الدخول بذلك»‪.6‬‬
‫الميزة الرئيسية الثانية لتلك المناقشات هي االعتراض على الثيودسية عالم ًّيا وليس‬
‫محل ًّيا‪ .‬لذا‪ ،‬بدالً من مجرد محاولة إظهار فشل ثيوديسية معينة أو نوع واحد من‬
‫الثيوديسيات‪ ،‬تدعي هذه المناقشات أن جميع الثيوديسيات ــ تلك التي تم ابتكارها‬
‫وتبنيها حتى اآلن وأي ثيوديسيات أخرى قد يتم ابتكارها ــ غير مناسبة‪ .‬ويمكن‬
‫تصنيف المناقشات التي لها هاتان السمتان المعرفتان ضمن إطار مضادة الثيوديسية‬
‫األخالقية‪.‬‬
‫مضادة الثيوديسية األخالقية تتعامل مع االهتمامات المتعلقة بممارسة‬
‫الثيوديسية‪ ،‬تلك القديمة بقدم الثيوديسية الفلسفية‪ .7‬ومع ذلك‪ ،‬ستركز هذه الورقة‬
‫على عمل مضادات الثيوديسية األخالقية الحديثة‪ ،‬كما عند دي زي فيليبس‪ ،‬وتيرينس‬
‫تيلي‪ ،‬وروبرت ميسلي‪ ،‬وكينيث سورين‪ ،‬وجون روث‪ .‬في مناقشتي‪ ،‬لن أركز بشدة‬
‫على حجج أحدهم بعينه؛ وإنما سأحاول تقديم نظرة عامة عن الموقف األخالقي‬
‫باستخدام أمثلة من أعمالهم‪ .‬وعندما تكون األمثلة على وجهات النظر الثيوديسية‬
‫مطلوبة في المناقشة‪ ،‬سأذكر في الغالب عمل جون هيك وستيفن ديفيس‪ .8‬ستبدأ‬
‫الورقة بتحليل هيكل الحجج من مضادات الثيوديسية األخالقية‪ ،‬حيث سأقترح‬
‫طريقتين يمكن استخدام تهمة المخالفات األخالقية إلثبات ضرورة التخلي عن‬
‫الممارسة الثيوديسية‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬سأفحص ثالث مناقشات فرعية تم تقديمها لدعم‬

‫‪.‬ــ ‪6 Felderhof (2004), pp. 403 04‬‬


‫‪ 7‬هناك سوابق للحجج التي تتبناها مضادة الثيوديسية األخالقية يف كانديد فولتري (‪)1759‬؛‬
‫حيث هجاء الذع لثيوديسية ليبنيز‪ ،‬وكذلك يف األخوة كارامازوف لدستويفسكي‪ ،‬حيث يف‬
‫مقطع مشهور‪ ،‬يطلب امللحد إيفان من شقيقه أليوشا «ختيل أنك تقوم بنفسك ببناء رصح الثروة‬
‫البرشية هبدف‪ ...‬إسعاد الناس‪ ...‬ولكن من أجل القيام بذلك‪ ،‬سيكون من الرضوري وال مفر من‬
‫التعذيب حتى املوت ملخلوق صغري واحد فقط‪ ...‬هل توافق عىل أن تكون املهندس املعامري يف‬
‫هذه الظروف؟ « اليوشا‪ ،‬مستوعبا نفور أخيه‪ ،‬أجاب «ال‪ ،‬لن أوافق»‪.‬‬
‫‪ 8‬رد هيك (‪ )2007‬مؤخرا عىل بعض احلجج التي قدمها فيليبس ضد الثيوديسية‪ ،‬بام يف ذلك بعض‬
‫احلجج األخالقية لفيليبس‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن استجابة هيك هتتم بشكل أسايس بقدرة الثيوديسية‬
‫التي تصنع روحه‪ ،‬بدال من جدوى الثيوديسيات يف حد ذاهتا‪.‬‬
‫‪259‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫االدعاء بأن هناك خلال أخالقيا متأصال في ممارسة الخطاب الثوديسي‪ :‬عدم‬
‫الحساسية‪ ،‬واالنفصال‪ ،‬والعواقب الضارة‪ .‬بعد النظر في احتماالت كل مناقشة‪،‬‬
‫سأستمر في شرح لماذا يجب أن تفترض هذه المناقشات من مضادات الثيوديسية‬
‫األخالقية ما تهدف إلى إثباته‪ ،‬أن افتراضات كل ثيوديسية معروفة أو محتملة‬
‫غير قابلة للدفاع‪ .9‬وسأختتم الورقة بمناقشة ما قد يكون هناك من استخدامات‬
‫للنقد األخالقي للثيوديسي‪ ،‬إذا كان ال يمكن استخدامه لتأسيس الرفض العالمي‬
‫للممارسة الثيوديسية‪.‬‬

‫الدعوة إلى التخلي عن الممارسة الثيوديسية‬


‫إن مؤيدي مضادات الثيوديسية األخالقية ال يقدمون فقط ادعاءات عامة حول‬
‫المحتوى األخالقي للثيوديسية‪ ،‬بل يحثون المؤمنين على اتخاذ الخطوة العملية‬
‫للتخلي عن الثيوديسية كشكل من أشكال ممارسة الخطاب‪ .‬لذلك‪ ،‬قبل أن نلقي‬
‫متأص ًل في‬
‫ِّ‬ ‫نظرة على الحجج المستخدمة لدعم االدعاء بأن هناك خطأ أخالق ًّيا‬
‫ممارسة الخطاب الثيوديسي‪ ،‬يجب أن نسأل كيف يمكن أن تستمر الدعوة إلى‬
‫ً‬
‫متأصل في ممارسة‬ ‫التخلي عن الممارسة الثيوديسية بافتراض أن هناك خطأ أخالق ًّيا‬
‫الخطاب الثيوديسي‪ ،‬أي أنه إذا اعتمدت الفرضية المركزية لمضادة الثيوديسية‬ ‫ِ‬
‫األخالقية‪ ،‬فكيف يمكن للناقد أن يستمر في القول بأنه يجب التخلي عن ممارسة‬
‫الثيودسية؟‬

‫‪ 9‬أحد أنواع احلجة العاملية ضد الثيودسية والذي يرتبط (ولكنه خيتلف يف رأيي عن) التناقض‬
‫األخالقي‪ ،‬هو احلجة القائلة بأن التفسريات الثيوديسية للرش تقدم إطارا أخالقيا غري متامسك‬
‫وال يتوافق مع حدسنا األخالقي حول معاناة اآلخرين (انظر عىل سبيل املثال فيليبس ‪،2004‬‬
‫ص ‪ .)58-56‬للتوضيح إذن‪ ،‬فإنني أعتزم أن حيمل نقدي لألخالقيات املضادة للثيودسية وزن‬
‫ضد هذا أو أي حجج مضادة للثيوديسيات األخرى التي حتاول إظهار عيوب مفاهيمية قاتلة يف‬
‫أيضا‪ ،‬بينام قمت هنا بالتمييز بني نوعني خمتلفني من احلجة‪،‬‬
‫االستجابات الثيوديسية ملشكلة الرش‪ً .‬‬
‫غالب ًا ما يتم تقديم االنتقادات املفاهيمية للثيوديسية يف األدبيات بالتنسيق مع احلجج األخالقية‬
‫ضد الثيودسية‪ ،‬دون أي متييز من هذا القبيل‪ .‬ولذلك‪ ،‬فإن أحد األسباب الرئيسية لتحليل وتقييم‬
‫مضادة الثيوديسية األخالقية هو احلاجة إىل إزالة الغموض عن احلجج العاملية املختلفة ضد‬
‫الثيودسية التي تم تقديمها‪ ،‬وبالتايل اكتساب فهم أوضح ألي من هذه احلجج (إن وجدت) متثل‬
‫أخطر التحديات للمؤسسة الثيوديسية‪.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪260‬‬
‫لعل أكثر الطرق مباشرة للمجادلة هنا هي اللجوء إلى مبدأ عام يتعلق بأخالقيات‬
‫ممارسة الخطاب‪ .‬لذا‪ ،‬بد ًء من الفرضية األساسية لمضادة الثيوديسية األخالقية‪،‬‬
‫يمكن تقديم الحجة على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ :P1‬هناك خطأ أخالقي متأصل في ممارسة الخطاب الثيوديسي (الفرضية‬
‫األساسية لمضادة الثيوديسية األخالقية)‪.‬‬
‫‪ :P2‬يجب على المرء عدم االنخراط في ممارسة الخطاب التي تتضمن أو تؤدي‬
‫إلى شكل من أشكال المخالفات األخالقية (المبدأ األخالقي المفترض)‪.‬‬
‫‪ :C‬ال يجب على المرء االنخراط في ممارسة الخطاب الثيوديسي (من ‪P1‬و‬
‫‪.)P2‬‬
‫المشكلة في هذه الحجة هي أن وضع ‪ P2‬كمبدأ أخالقي عام مثير للجدل إلى‬
‫حد ما‪ .‬ونقيض ‪ ،P2‬قد تكون هناك حاالت غير عادية يجوز فيها االنخراط في‬
‫ممارسة الخطاب المشكوك فيه أخالقيا‪ .‬كما يمكن أن نفكر بأن األمر الزجري‬
‫ضد الخطاب غير الصحيح مثل ‪ P2‬يجب أن يكون حساسا لدرجات المخالفات‬
‫أهلنا ‪ P2‬لهذا الغرض‪ ،‬فإننا نثير عددا‬
‫األخالقية في ممارسة الخطاب‪ .‬ولكن إذا َّ‬
‫من األسئلة اإلشكالية‪ ،‬على سبيل المثال ما مقدار المخالفات األخالقية في‬
‫ممارسة الخطاب التي يجب التسامح معها؟ ما هي أشكال المخالفات األخالقية‬
‫التي تنطوي على تحريم ممارسة الخطاب؟ كيف يمكن تحديد درجة المخالفة‬
‫األخالقية في ثيودسية (أو في أي ممارسة خطاب)؟ إذا كانت الدعوة إلى التخلي‬
‫عن الممارسة الالهوتية تعتمد على توفير إجابات عامة عن هذه األسئلة‪ ،‬فقد تبدو‬
‫آفاقها ضعيفة إلى حد ما‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬هناك طريقة أخرى للمؤيدين للمضادات األخالقية للثيوديسية‬
‫للمطالبة بالتخلي عن الثيوديسية‪ ،‬دون الحاجة إلى اقتراح أي مبادئ توجيهية عالمية‬
‫لممارسة الخطاب‪ .‬في هذه الحالة‪ ،‬فإن الدعوة إلى التخلي عن الثيوديسية سوف‬
‫تجذب اعتبارات االتساق في معتقد وممارسة المؤمنين التقليديين‪ .‬يمكن تقديم‬
‫هذه الحجة البديلة على النحو التالي‪:‬‬
‫‪261‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫‪ :P1‬هناك خطأ أخالقي متأصل في ممارسة الخطاب الثيوديسي (الفرضية األساسية‬


‫لمضادة الثيوديسية األخالقية)‪.‬‬
‫‪ :P3‬كشكل من أشكال ممارسة الخطاب‪ ،‬تهدف الثيوديسية إلى الدفاع عن اإليمان‬
‫األرثوذكسي (بحكم التعريف)‪.‬‬
‫‪ :P4‬يجب على المرء عدم االنخراط في ممارسة الخطاب التي تهدف إلى الدفاع‬
‫عن اإليمان‪ ،‬إذا كانت ممارسة الخطاب هذه تشكل أو تؤدي إلى شكل من أشكال‬
‫المخالفات األخالقية (مبدأ التبريرية اإليمانية)‪.‬‬
‫‪ :C‬ال يجب على المرء االنخراط في ممارسة الخطاب الثيوديسي (من ‪P1‬و‪ P3‬و‬
‫‪.)P4‬‬
‫قد يكون مبدأ التبريرية اإليمانية الذي يتم استخدامه في هذه الحجة (‪ )P4‬عرضة‬
‫للنزاع‪ ،‬ولكن يبدو من المعقول أن نفترض أن المؤمنين سيرفضون فكرة أن المرء يمكن‬
‫أن يدافع عن وجود إله صالح تماما بطريقة غير أخالقية أو «خاطئة»‪ .‬لذلك‪ ،‬إلى حد‬
‫أن هذه الحجة مبنية على مبدأ التبريرية اإليمانية الذي يميل المؤمنون (والالهوتيون‬
‫بشكل عام) إلى قبوله‪ ،‬شرعية استنتاجه ــ أنه ال يجب على المرء أن يمارس ممارسة‬
‫ثيودسية ــ تعتمد على مدى إمكانية الدفاع عن المقدمة األساسية لمضادة الثيوديسية‬
‫األخالقية (‪.)P1‬‬

‫توضيح مهمة مضادة الثيوديسية األخالقية‬


‫في محاولة لتحديد ما إذا كانت الفرضية الرئيسية لمضادة الثيوديسية أخالقية يمكن‬
‫الدفاع عنها‪ ،‬نحن بحاجة إلى فهم واضح لهذه الفرضية‪ ،‬وعلى وجه الخصوص نطاقها‬
‫العالمي‪ .‬القول بأن هناك خطأ أخالقي متأصل في ممارسة الخطاب في ثيودسية يعني‬
‫أن نقول إن كل ثيوديسية ابت ِ‬
‫ُك َرت حتى اآلن أو ستُب َتكَر ملوثة أخالقيا‪ .‬أو بدالً من‬
‫ذلك‪ ،‬يمكن القول إنه ال يمكن للمرء أبدا المشاركة في ممارسة الخطاب في ثيوديسية‬
‫دون إدانة بعض المخالفات األخالقية‪ .‬لكن هذه األنواع من التعميمات قد تبدو أنها‬
‫تخفض درجة التباين الموجودة في محتوى مختلف الثيوديسيات‪ .‬حيث تفترض بعض‬
‫الثيوديسيات أن الشر نظير طبيعي للخير‪ ،‬يحاول آخرون تبرير سماح الله بالشر من‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪262‬‬
‫خالل التأكيد على الفوائد الشخصية المحتملة لأللم والمعاناة للبشر‪ ،‬بينما يناشد‬
‫البعض اآلخر خير الحرية اإلنسانية‪ ،‬بحجة أن هذه يمكن فقط أن توجد في عالم مثل‬
‫عالمنا‪ ،‬مليء بمختلف الشرور‪ .‬يمكن العثور على مزيد من التنوع في االدعاءات التي‬
‫تصنعها ثيوديسيات مختلفة حول اآلخرة‪ .‬وتصبح األمور أكثر تعقيدً ا عندما نعتبر أن‬
‫الثيوديسيات التي لم يتم ابتكارها بعد قد تختلف بطرق غير متوقعة عن الثيوديسيات‬
‫التي نعرفها‪ .‬بالنظر إلى النطاق الواسع لالدعاءات المحتملة في الثيوديسية‪ ،‬فإن‬
‫الطريقة الوحيدة القابلة للتطبيق للنقد األخالقي العالمي هي تحديد السمات الموحدة‬
‫للخطاب الثيوديسي‪ ،‬وتحديد موقع االعتراضات األخالقية في هذا اإلطار‪.‬‬
‫ما هي السمات الموحدة للخطاب الثيوديسي ذات الصلة بهذه الغاية؟ موافقة‬
‫الثيوديسية الضمنية على الشرور الصغيرة نسبيا مثل آالم العضالت‪ ،‬والقرارات‬
‫السيئة‪ ،‬والمشقة اليومية وما شابه ذلك ال تعني عموما مضادة الثيوديسية األخالقية‪.‬‬
‫إلى الحد الذي يمكن أن تجلب فيه مثل هذه الشرور خيرات غير مباشرة‪ ،‬يوافق‬
‫الكثير منا على وجودها في عالمنا إلى حد ما‪ .‬وعلى النقيض من ذلك‪ ،‬فإن وجهة‬
‫نظر الثيوديسية للشر الرهيب تثير الجدل‪ .‬ألنه عندما نعتبر أسوأ ما يجري في عالمنا‬
‫(إساءة معاملة األطفال‪ ،‬اإلبادة الجماعية‪ ،‬العنف الجنسي‪ ،‬وما إلى ذلك)‪ ،‬يبدو‬
‫أن الثيوديسية تنطوي على موافقة على هذه الشرور‪ .10‬سبب جيد ومبرر للسماح‬
‫بالشرور التي نراها في عالمنا‪ .‬هذا ال يعني بالضرورة أنه يجب على المؤمن أن‬
‫يدعي أن هناك خيرا أعلى من كل حالة من حاالت الشر‪ .‬إنه ليس ملتزما بالفكرة‬
‫المشكوك فيها‪ ،‬لنقل أنه في كل مرة يرتكب فيها عمل من أعمال العنف‪ ،‬ستؤدي‬
‫إلى نتائج جيدة‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬عندما يدافع هيك عن «ثيوديسية صناعة الروح»‬
‫التي نوقشت على نطاق واسع‪ ،‬فهو يعاني من آالمه للتعبير عن اشمئزازه من أهوال‬
‫المحرقة‪:‬‬
‫كانت هذه األحداث شريرة تماما‪ ،‬وسيئة‪ ،‬وشيطانية‪ ،‬وبقدر ما يستطيع العقل‬

‫‪ 10‬تم تعريف الرشور الفظيعة من قبل مارلني آدامز عىل أهنا «رشور املشاركة يف (فعل أو معاناة) مما يعطي‬
‫سببا واحدا للوهلة األوىل للشك فيام إذا كانت حياة املرء يمكن (نظرا لتضمينها فيها) أن تكون خريا‬
‫عظيام للشخص ككل»‪.Adams (1989), p. 299 .‬‬
‫‪263‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫البشري الوصول إليه‪ ،‬ال تُغتفر؛ إنها أخطاء ال يمكن تصحيحها أبدا‪ ،‬فظائع ستشوه‬
‫الكون حتى نهاية الزمن‪ ،‬وفيما يتعلق بذلك ال يمكن ألي إدانة أن تكون قوية بما فيه‬
‫الكفاية‪ ،‬وال يوجد استياء ٍ‬
‫كاف‪.11‬‬
‫ولكن على الرغم من أن المؤمنين يستطيعون إدانة حاالت معينة من الشر‪ ،‬إال أنهم‬
‫ملتزمون بالقول إن كل الشر والمعاناة في عالمنا يتوافقان مع سياسات الله لحكم‬
‫عالمنا‪ ،‬وأن هذه السياسات هي تلك التي يجب أن نوافق عليها‪ .‬عند اعتناق ثيوديسية‬
‫يجب أن يؤمن الثيودوسي (كحد أدنى) باألسباب الجيدة المفترضة التي سمح بها الله‬
‫بحدوث شر مروع في عالمنا‪ ،‬وبهذه الطريقة فإن كل ثيوديسية سوف تتضمن حتما‬
‫تصديقا ً‬
‫بديل للشر الرهيب‪.12‬‬

‫ثالث حجج لالفتراض األساسي لمضادة الثيوديسية األخالقية‬


‫في حين أن عدم صحة التأييد المباشر للشر المرعب ال يمثل عادة مسألة متنازع‬
‫عليها‪ ،‬فإن مالءمة المصادقة على الشر الرهيب أو خالف ذلك هي موضوع خالف‬
‫كبير بين علماء الالهوت وخصومهم‪ .‬ألغراضنا هنا‪ ،‬يمكن تجميع الحجج المقدمة‬
‫لشرح لماذا يجب النظر إلى تأييد الشر الرهيب على أنه خطأ غير أخالقي تحت ثالثة‬
‫عناوين‪ :‬الحجة من عدم الحساسية‪ ،‬والحجة من االنفصال‪ ،‬والحجة من العواقب‬
‫الضارة‪ .‬على الرغم من أن هذه الحجج تمثل ثالثة مناهج تفسيرية مختلفة يمكن للمرء‬
‫أن يأخذها في محاولة إثبات المخالفة األخالقية لموقف ثيوديسي تجاه الشر الرهيب‪،‬‬
‫يمكن اعتبار كل منهم مكمال لآلخرين‪ ،‬بدال من عدها بدائل متنافسة‪.‬‬

‫‪11 Hick (1978), p. 361.‬‬


‫‪ 12‬أفرتض هنا مفهوما أرثوذكسيا لقدرة اهلل املطلقة‪ ،‬والذي بموجبه يمكن هلل‪ ،‬إذا اختار‪ ،‬منع أي أو‬
‫كل الرشور يف عاملنا‪ ،‬إما عن طريق (أ) عدم خلق عامل عىل اإلطالق‪ ،‬أو (ب) خلق عامل خمتلف متاما‬
‫عن عاملنا‪ ،‬أو (ج) يتدخل كثريا يف عامل مثل عاملنا‪ .‬يرفض مؤيدو العملية مثل ديفيد راي جريفني هذا‬
‫التحليل األرثوذكيس للقدرة اإلهلية املطلقة‪ ،‬وبالتايل ينكرون االدعاء بأنه من األفضل أن الرشور يف‬
‫عاملنا‪ ،‬جمتمعة‪ ،‬مسموح هبا بدال من منعها‪ .‬يعتقد غريفني أنه كان من األفضل لو كان اهلل قد منع كل‬
‫الرشور يف عاملنا‪ ،‬ولكن ال يمكن ألي كائن (وال حتى كائن قوي مثل اهلل) أن حيقق مثل هذا اليشء‪.‬‬
‫انظر ‪.Griffin, 2004‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪264‬‬
‫حجة عدم الحساسية‬
‫تزعم الحجج في هذه الفئة أن المصادقة التفويضية على الشر المروع هي مخالفة‬
‫أخالقية تُرتكب ضد ضحايا ذلك الشر من قبل علماء الدين‪ .‬حول هذا االعتراض‪،‬‬
‫يخطئ الثيوديسي بحق الناس في عالمنا الذين يتحملون شرورا مروعة من خالل اتخاذ‬
‫موقف غير حساس تجاه معاناتهم‪ .‬يقول فيليبس‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬إن الثيوديسية‬
‫«تخون الشرور التي عانى منها الناس‪ ،‬وبهذه الطريقة‪ ،‬تخطئ ضدهم»‪ .13‬ويشير‬
‫جيمس ويتزل إلى نقطة مماثلة في نقده لثيوديسية هيك عن صناعة الروح‪ .‬وفقا لويتزل‪،‬‬
‫فإن إدانة هيك الحازمة للمحرقة يقوضها اقتراحه الروحي بأن األحداث المروعة لتلك‬
‫الحلقة التاريخية سوف يتم التغلب عليها في نهاية المطاف و«تُصنع لخدمة أغراض الله‬
‫الحسنة»‪ .14‬طريقة التفكير هذه بخصوص الشر‪ ،‬كما يجادل ويتزل‪ ،‬تسخر من أحداث‬
‫المحرقة وتقوض ازدراء هيك لها‪ .15‬بشكل عام‪ ،‬ألن الثيوديسيات تفهم الشرور الرهيبة‬
‫من حيث كونها مخط ًطا ً‬
‫كبيرا للفداء البشري‪ ،‬فإنها ستواجه دائما خطر االنتقاص من‬
‫خطورة الشرور التي عانى منها الناس‪ .‬كما يقول ويتزل‪ ،‬ال يمكن أن تتجنب الثيوديسية‬
‫«توبيخ المأساة اإلنسانية في نفس اللحظة التي تحاول فيها تجاوزها»‪.16‬‬
‫هناك طريقة أخرى يمكن أن تعتبر فيها الثيوديسيات غير حساسة في محاولة إنصاف‬
‫األفراد في عالمنا الذين يعانون من شرور مروعة بعد وفاتهم‪ .‬على السطح يبدو أن هذا‬
‫النداء معقول بما فيه الكفاية؛ المؤمنين يجب أن يسمحوا بالتأكيد ألولئك الذين يعانون‬
‫بشكل رهيب في هذه الحياة نتيجة لسياسات الله بالتمتع ببعض الراحة في المستقبل‪.‬‬
‫ولكن االدعاء بأن الشرور الرهيبة المتواصلة قد تخفف في يوم ما‪ ،‬هو تقليل من الحزن‬
‫والبؤس الذي تسببه في هذه الحياة‪ .‬أثار كل من فيليبس وروث هذا االعتراض في‬
‫انتقاداتهما لثيوديسية اإلرادة الحرة لديفيس‪ .‬في روايته‪ ،‬يروي ديفيس حكاية حول‬
‫كيفية تجاوزه إحراج أزياء المدرسة الثانوية‪ ،‬والتي يستخدمها بعد ذلك لتوضيح وجهة‬

‫‪13‬‬ ‫‪Phillips (2004), p. xi.‬‬


‫‪14‬‬ ‫‪Hick (1978), p. 361.‬‬
‫‪15‬‬ ‫‪Wetzel (1989), p. 8.‬‬
‫‪16‬‬ ‫‪Ibid, p. 8.‬‬
‫‪265‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫نظره حول كيف يمكن لألشخاص الذين يعانون بشكل رهيب في هذه الحياة يو ًما‬
‫ما أن ينتقلوا من الكرب الدنيوي‪ .17‬ولكن وف ًقا لروث‪ ،‬فإن هذه المقارنة تكاد تنكر‬
‫حقيقة الشر الرهيب‪ ،‬حيث تشير إلى أن حتى أكثر حاالت اإلساءة واأللم فظيعة لن‬
‫تكون ذات يوم سوى ذكريات بعيدة عن ذعر المراهقين‪ .18‬على نفس المنوال‪ ،‬يقول‬
‫إنه في استخدامه لهذا القياس‪« ،‬فشل ديفيس في أخذ المحرقة على محمل الجد‪.»19‬‬
‫والثيوديسيون ربما يردون بأن المشكلة عند ديفيس هي مجرد استعمال مثال سيء‬
‫االختيار‪ .‬ولكن حتى لو تم استخدام تشابه أكثر دقة‪ ،‬فإن جوهر وجهة نظر ديفيس‪،‬‬
‫بأن فظائع هذا العالم سوف تتبدد يوما ما‪ ،‬هو ادعاء صعب على الثيوديسيين تجنبه نظرا‬
‫لتأييدهم التفويضي للشر الرهيب‪ .‬عدم تصديق روث تجاه هذا الرأي حول اآلخرة في‬
‫الثيوديسية ــ وما ينطوي عليه من عدم حساسية تجاه المعاناة اإلنسانية ــ انعكس في‬
‫ملخصه الخفيف عن ثيوديسية هيك‪.‬‬
‫الخراب سيتالشى‪ ،‬سيتم تجاوز الشر‪ ...‬ننسى بحيث ال الله وال اإلنسانية ستتسخ‬
‫بشكل دائم‪ .‬سيكون هناك فطيرة في السماء تلو األخرى‪ ،‬واحدة كاملة‪ ،‬وليس مجرد‬
‫شريحة‪ .‬هذا ثيوديسية جميلة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يجب الحكم على معقوليتها من حيث كيف‬
‫تبدو الحياة جميلة‪ .‬هيك يجدها لطيفة بما يكفي لتبرير دعوة محبة الله الصالحة وغير‬
‫المحدودة‪ .‬إن مقدار وكثافة الخراب الشرير تجعلني أتألم‪.20‬‬
‫حجة االنفصال‬
‫كانت حجة عدم الحساسية مبنية على ما يمكن للمرء أن يصفه بشكل فضفاض‬
‫بأنه مخاوف كانتية بشأن احترام األشخاص‪ ،‬فإن حجة االنفصال تنبئ بإطار فضائلي‬
‫أخالقي واسع في اعتراضه على الثيودسية‪ .‬االدعاء المركزي في هذا النوع من الجدل‬
‫هو أن المصادقة التفويضية للشر الرهيب تتطلب شكال مفرغا من االنفصال العاطفي‬
‫أو الصالبة فيما يتعلق بمعاناة اآلخرين‪ ،‬والتي يرتكز عدم صحتها على سمات‬

‫‪17‬‬ ‫‪Davis (2001), pp. 84-85.‬‬


‫‪18‬‬ ‫‪Roth (2001a), p. 98.‬‬
‫‪19‬‬ ‫‪Phillips (2004), p. 39.‬‬
‫‪20‬‬ ‫‪Roth (2001b), pp. 64-65.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪266‬‬
‫الشخصية الوحشية‪ .‬لذلك‪ ،‬الستخدام القياس‪ ،‬قد يشبه أنصار هذا الرأي المؤمنين‬
‫بالقائد العسكري الذي يسمي الموت والمعاناة «الضرر الجانبي»‪ ،‬وبالتالي يبقى على‬
‫مسافة عاطفية من المآسي التي تحجبها هذه العبارات الملطفة‪ .‬كما يقول تيلي‪« ،‬إن‬
‫الثيوديسيات ال ينتجها الناس المنفصلون عن الخطيئة والمعاناة فحسب‪ ،‬بل توجههم‬
‫إليها أيض ًا»‪ .21‬في نقد هذا الموقف‪ ،‬ينتقد فيليبس وجهة نظر الثيوديسيين االقتصادية‬
‫للشر‪ ،‬والطريقة التي تسمح بها لغة األعمال والمحاسبة في مناقشة أمور الحياة‬
‫والموت‪ .‬للقول إن الله قد يكون لديه سياسة السماح للشر لتحقيق خيرات أع َظم‪،‬‬
‫يقول فيليبس‪« :‬هو ببساطة غمر أنفسنا بشكل أكبر في عدم صحة طريقة التفكير هذه‬
‫بالكامل»‪ .22‬على نفس المنوال‪ ،‬يعترض كينيث سورين على الطرق التي يتجاهل فيها‬
‫الثيوديسي «الخصوصية الراديكالية للشر البشري» و«يجنب نظرته من كل الوحشية‬
‫الموجودة في العالم»‪ .‬وبحسب سورين‪ ،‬فإن انخراط الشخص في خطاب ثيوديسي‬
‫يتطلب منه الحفاظ على موقف هادئ تجاه الشر‪ ،‬والذي ــ فيما يتعلق بأفظع الشرور‬
‫مثل تلك التي سبق ذكرها ــ يكون غير رحيم بشكل ال يصدق‪.23‬‬
‫حجة العواقب الضارة‬
‫تزعم هذه الحجة الثالثة أن تأييدً ا للشر الرهيب هو مخالفة أخالقية ألنه له عواقب‬
‫ضارة في عالمنا‪ .‬أو ــ كما يقول فيليبس ــ فإن الثيودسية «تزيد من الشرور التي تحاول‬
‫تفسيرها»‪ .24‬يمكن تفسير طبيعة األضرار المزعومة على نطاق واسع‪ ،‬على نطاق‬
‫اجتماعي‪ ،‬أو بعبارات شخصية أضيق‪ .‬على مستوى التأثير االجتماعي‪ ،‬يدعي تيلي‬
‫أن هذه الثيوديسيات تشرعن الهياكل االجتماعية الضارة والقمعية من خالل اإلعالن‬
‫عن أنها في نهاية المطاف مفيدة ومتوافقة مع إرادة الله‪ .‬من وجهة نظر تيلي‪ ،‬فإن‬
‫تأييد الثيودوسية للعقوبات الشنيعة الرهيبة‪ ،‬االضطهادية والظالمة‪ ،‬يؤدي إلى تثبط‬

‫‪21‬‬ ‫‪Tilley (1991), p. 231. Surin (1983), pp. 231-32.‬‬


‫‪22‬‬ ‫‪Phillips (2001), p. 90.‬‬
‫‪23‬‬ ‫‪Surin (1983), pp. 231-32.‬‬
‫‪24‬‬ ‫‪Phillips (2004), p. 60.‬‬
‫‪267‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫الجهود المبذولة لمواجهة وقهر المظالم االجتماعية‪ .25‬وعلى المستوى الشخصي‪،‬‬


‫يدعي روبرت ميسل أن هذه الثيوديسيات تلحق األذى من خالل تشجيعنا على‬
‫إجراء بحث عقيم عن المعنى الخفي في ألمنا ومعاناتنا‪ ،‬بدل أن نعمل ضد مصادر‬
‫ألمنا وخلق معنى من معاناتنا‪ .‬يقبل ميسل أن البحث عن المعنى يمكن أن يدفع الفرد‬
‫أحيانا لمواجهة آالمه بطريقة بناءة‪ ،‬ولكن في الوقت ذاته‪ ،‬يعتقد أن هذا النهج يؤدي في‬
‫كثير من األحيان إلى الخمول‪ ،‬إلى القبول السلبي باأللم‪ ،‬وقبول الظروف التي تنشأ‬
‫في ظلها الصعوبات الشخصية‪ .26‬بالنسبة لميسل وغيره من مؤيدي هذا النقد‪ ،‬الدعوة‬
‫إلى التخلي عن الممارسة الثيوديسية لها تبرير تبعي مباشر‪ ،‬باإلضافة إلى أي اعتبارات‬
‫التبريرية اإليمانية‪.‬‬

‫القيود المفروضة على مضادات الثيوديسية الناجحة‬


‫أعتقد أن هناك نقا ًطا بارزة حول المحتوى األخالقي لهذه الثيوديسيات التي‬
‫يمكن العثور عليها في كل من هذه االعتراضات الثالثة‪ .‬ولكن ما إذا كان أي من هذه‬
‫االعتراضات ينجح كحجج عالمية ضد الثيوديسية أم ال‪ ،‬أمر آخر‪ .‬لفهم الصعوبات‬
‫التي تواجهها هذه الحجج (وغيرها من الحجج األخالقية العالمية المحتملة ضد‬
‫أول إلى النظر في بعض العوامل ذات الصلة بنجاح الحجج‬ ‫الثيوديسية)‪ ،‬نحتاج ً‬
‫العالمية ضد الثيوديسية‪.‬‬
‫أول شيء يجب مالحظته‪ ،‬تحقي ًقا لهذه الغاية‪ ،‬هو أن أي حجة عالمية ضد الثيوديسية‬
‫يجب أن تبدأ من موقف الالأدرية فيما يتعلق بقابلية الخطاب الثيوديسي‪ .‬إذا افترضنا‪،‬‬
‫مسب ًقا‪ ،‬أن هناك بعض التفسير المعقول لسبب أن إلها جيدا بالكامل سيسمح بالشرور‬
‫في عالمنا (وأن على المؤمنين فقط تحديده)‪ ،‬فإننا نمنح علماء الدين الكثير‪ .‬من ناحية‬
‫أخرى‪ ،‬إذا ذهبنا في االتجاه اآلخر واستبعدنا إمكانية وجود أي تفسير معقول لسبب أن‬
‫إلها جيدا بالكامل سيسمح بالشرور في عالمنا‪ ،‬فنحن ال نسلم فقط بالسؤال ضد مؤيدي‬
‫الثيوديسية‪ ،‬ولكننا تتجنب أيضا الحاجة إلى أي حجة أخالقية عالمية ضد الثيودسية‪ .‬أي‬

‫‪25 Tilley (1991), pp. 244-47.‬‬


‫‪26 Mesle (2004), p. 259.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪268‬‬
‫إذا كنا على استعداد لقبول أن جميع التفسيرات النظرية للشر ال يمكن الدفاع عنها‪ ،‬فال‬
‫داعي لتقديم المزيد من الحجج ضد ممارسة الخطاب الثيوديسي؛ يجب أن يكون أي‬
‫سبب لدينا لقبول الفرضية القائلة بأن االدعاءات الثيوديسية ال يمكن الدفاع عنها سببا‬
‫كافيا لتجنب الممارسة الثيوديسية تماما‪ .‬ما يعنيه هذا هو أن الحجة األخالقية العالمية‬
‫ضد الثيودسية تحتاج إلى منح (من أجل الجدل‪ ،‬على األقل) إمكانية وجود معقولية‬
‫لثيودوسية تتحدث حول لماذا قد يسمح الله بالشر في عالمنا‪ ،‬وكيف أن سياسات الله‬
‫في السماح بالشر قد يتم حلها في النهاية في اآلخرة‪.‬‬
‫ثان على نجاح الحجج العالمية ضد الثيودسية‪ .‬يجادل معظم‬ ‫هذا يقودنا إلى قيد ٍ‬
‫مؤيدو مضادات الثيوديسية األخالقية ضد ثيودسية على أسس متعددة‪ .‬على سبيل‬
‫المثال‪ ،‬باإلضافة إلى نقده األخالقي للثيوديسية‪ ،‬يقدم فيليبس عددا من الحجج‬
‫شرسا للثيوديسية‪ .‬من وجهة‬‫المعادية للثيوديسية األخرى‪ ،‬بما في ذلك نقدً ا الهوت ًّيا ً‬
‫نظر فيليبس‪ ،‬فإن كل الردود النظرية لمشكلة الشر غير متسقة من الناحية الالهوتية‪.‬‬
‫يزعمون أنهم يدافعون عن اإليمان بالله وخير الله‪ ،‬ومع ذلك‪ ،‬يقول فيليبس‪ :‬إذا نظرنا‬
‫لألمور مثل الثيوديسيات‪ ...‬حتى إذا كان الخير النهائي يتطلب كل الشر في العالم‪ ،‬و‪...‬‬
‫بطريقة ما يسترد كل الشر‪ ،‬فسيظل من المستحيل نسبة الخير إلى الله‪.27‬‬
‫وبالمثل‪ ،‬يوفر سورين أكثر من اعتراض عالمي على الثيودسية‪ ،‬ألنه باإلضافة إلى‬
‫نقده األخالقي‪ ،‬يقدم أيضا نقدا فلسفيا للثيوديسية‪ ،‬بحجة أن أحد األسباب الرئيسية‬
‫لفشل الثيودسية هو مراعاة التمييز العرفي بين مشاكل الشر النظرية والعملية‪ .‬من وجهة‬
‫نظر سورين‪« :‬ال يمكن أن تكون هناك «إجابة» نظرية بحتة مبررة لمشكلة الشر»‪.28‬‬
‫من غير المهم في هذا السياق ما إذا كان لهذه الحجج و‪ /‬أو أي حجج عالمية‬
‫بديلة أخرى ضد الثيوديسية ما يبررها أم ال‪ .‬النقطة هي أنه ال يمكن اعتبار الحجة‬
‫األخالقية العالمية ضد الثيوديسية ناجحة إذا اعتمدت على حجة عالمية أخرى ضد‬
‫الثيوديسية الستبعاد إمكانية وجود أي تفسير معقول لسماح الله بالشرور في عالمنا‪.‬‬

‫‪27 Phillips (2004), p. 35.‬‬


‫‪28 Surin (1983), p. 234.‬‬
‫‪269‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫سبب هذا القيد هو إلى حد ما نفس السبب السابق‪ .‬إذا كنا نعلم أن الثيوديسية ال يمكن‬
‫الدفاع عنها‪ ،‬ألنها تنبئ بالهوت غير متماسك‪ ،‬وحجتنا األخالقية ضد الثيودوسية‬
‫تعتمد بطريقة ما على تلك المعرفة السابقة‪ ،‬فإن الحجة األخالقية زائدة ظاهريا‪ .‬إن‬
‫سببنا الالهوتي لرفض صالحية االدعاءات الثيوديسية سيكون سببا كافي ًا للتخلي عن‬
‫الخطاب الثيوديسي تماما‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬إذا استطاع المرء أن يوجد حجة مفادها أن‬
‫كل هذه الثيوديسيات فاشلة‪ ،‬فقد يوفر هذا األساس لحجة أخالقية عالمية مشتقة؛ شيء‬
‫ما ينتج «الثيوديسيات ال يمكن الدفاع عنها‪ ،‬وبالتالي يجب على المرء (أخالقيا) أال‬
‫يعتنق ادعاءات ثيوديسية»‪ .‬ولكن في هذه الحالة ستكون الحجة األخالقية ثانوية بشكل‬
‫واضح‪ .‬أسبابنا للتخلي عن الممارسة الثيوديسية ستكون الهوتية (على سبيل المثال)‬
‫وليست أخالقية‪ .‬وبالتالي‪ ،‬إذا كانت الحجة األخالقية العالمية ضد الثيودسية تحمل‬
‫أي وزن في الجدل حول جدوى الثيودسية‪ ،‬فيجب أن تبدأ من االفتراض بأنه يمكن أن‬
‫يكون هناك ثيودوسية مقبولة ذات ادعاءات عن الله والشر واآلخرة‪.‬‬
‫كل من الحجج الفرعية الثالثة‬ ‫في الجزء المتبقي من هذه الورقة‪ ،‬سأجادل بأن ًّ‬
‫للمضادات األخالقية للثيوديسية التي ناقشتها حتى اآلن تستبعد ضمن ًّيا هذا االحتمال‪.‬‬
‫إذا كنت على صواب في هذا الزعم‪ ،‬فيجب أال تؤخذ هذه الحجج الفرعية كأساس‬
‫لقبول االدعاء المحوري لمضادة الثيوديسية األخالقية‪ ،‬بأن هناك خطأ أخالقي متأصل‬
‫في ممارسة الخطاب من الثيوديسي‪.‬‬

‫عدم الحساسية والمقبولية‬


‫فيما يتعلق بحجة عدم الحساسية‪ ،‬لن أنكر أن المصادقة الثيوديسية على الشر‬
‫الرهيب تتضمن أحيانًا موق ًفا غير حساس تجاه معاناة اآلخرين‪ .‬السؤال الذي يهمنا هو‪،‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬ما إذا كان عدم الحساسية سمة ضرورية أو طارئة في الخطاب الثيوديسي‪ .‬من‬
‫أجل معالجة هذه المسألة‪ ،‬نحتاج إلى تحويل انتباهنا إلى حالة االدعاءات التي تدعم‬
‫التفويض اإللهي للشر‪.‬‬
‫مثال سيكون مفيدا لهذه الغاية‪ .‬لنفترض أن األم واألب يرعيان طفلهما البالغ من‬
‫العمر خمس سنوات الذي أصيب بالنكاف‪ ،‬وهو مرض فيروسي مؤلم ولكنه غير مميت‪.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪270‬‬
‫افترض أيضا أن األسرة بأكملها أصبحت محزونة للغاية بسبب المحنة‪ .‬كان الطفل يعاني‬
‫من األلم والنعاس لعدة أيام‪ ،‬بينما كان الوالدان يشعران بالقلق بشأن سالمة طفلهما‪،‬‬
‫وكذلك (بشكل مفهوم) متعبين ومتداعيين‪ .‬تخيل اآلن أن صديق العائلة يزورها بشكل‬
‫غير متوقع‪ ،‬وعند سماعه عن مرض الطفل‪ ،‬يتساءل عما إذا كان الوالدان يعلمان أنه‬
‫من بعض النواحي‪ ،‬من األفضل أن يصاب الطفل بالنكاف في سن مبكرة‪ ،‬ألنه بالتالي‬
‫يكتسب مناعة ضد المرض مدى الحياة‪ ،‬وبالتالي يتحرر من خطر اإلصابة بالمرض في‬
‫المراهقة والبلوغ‪ ،‬خالل تصاعد حدة أعراض ومضاعفات المرض‪ .‬في هذه الحالة‪،‬‬
‫أؤكد أن حساسية استجابة الصديق أو غير ذلك ستعتمد إلى حد كبير على كيفية ومتى‬
‫يتم تقديمها‪ .‬إذا‪ ،‬بعد لحظات قليلة من وصوله‪ ،‬أخبر الصديق اآلباء المنكوبين أن‬
‫يبتهجوا‪ ،‬ألنه من األفضل أن يعاني طفلهم من النكاف اآلن وليس في وقت الحق‪،‬‬
‫ثم تظهر بال شك عدم حساسية تجاه األسرة‪ ،‬بالنظر إلى الحلقة الصعبة التي يعانون‬
‫منها‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬إذا كان ينتظر وقتا أكثر مالءمة للتعليق (ربما بعد بضعة أيام مع‬
‫تناقص األعراض) ويحرص على عدم التحدث بصراحة عن مرض الطفل وتأثيره على‬
‫العائلة‪ ،‬ثم يفترض أنه ال يرتكب أي خطأ‪ .‬اآلن‪ ،‬إلجراء مقارنة‪ ،‬لنفترض أنه بدال من‬
‫النكاف‪ ،‬كان الطفل يعاني من مضاعفات من النوع األول من داء السكري‪ ،‬وتخيل‪،‬‬
‫مرة أخرى‪ ،‬صديقا للعائلة يطلب من اآلباء أال يقلقوا كثيرا بشأن المرض ألن الطفل‬
‫سيستفيد على المدى الطويل‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬إذا كان الصديق مجرد أطلق االستجابة‬
‫في خضم لحظة صعبة‪ ،‬فإن سلوكه يظهر نقصا تاما في الحساسية‪ .‬ولكن خالفا للمثال‬
‫السابق‪ ،‬أود أن أقترح أن رده ال يقلل اللوم إذا تم تقديمه في لحظة أكثر مالءمة وبطريقة‬
‫أكثر لباقة‪ .‬المشكلة في هذا الرد‪ ،‬على عكس مثال النكاف‪ ،‬على األقل‪ ،‬هو أنه خطأ‪،‬‬
‫وتزيد من عدم حساسيته كونه خطأ‪.‬‬
‫لربط هذا المثال بالثيوديسيات‪ ،‬قد تكون بعض المحاوالت لتفسير سماح الله‬
‫بالشر مثل مثال مرض السكري‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬لنفترض أن أحد المؤمنين يقول‬
‫إن الله له ما يبرره في السماح باألمراض القاتلة ألنها تحسن مجموعة الجينات‬
‫البشرية‪ .‬عند ذكر هذا «التبرير» للشر فإنه بصراحة مهين وقذر‪ ،‬وحتى لو تم وضعه‬
‫في مصطلحات ألطف يظل مروع‪ ،‬ألن محتوى العرض نفسه يتجاوز الضعف (ومن‬
‫‪271‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫الواضح أنه غير صحيح)‪ .‬اآلن‪ ،‬وفقا لحجة عدم الحساسية‪ ،‬كل الثيوديسيات‪ ،‬في تأييد‬
‫الشر الرهيب‪ ،‬تشبه إلى حد ما مثال مرض السكري أو مثال المرض النهائي؛ إنها غير‬
‫حساسة مهما ومتى يتم تبنيها‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬ليس من الواضح كيف يمكن لمؤيدي هذه‬
‫الحجة أن يستبعدوا إمكانية وجود ثيوديسية (ربما لم يتم تحديد تفاصيلها بعد) تشبه‬
‫مثال النكاف‪ .‬أال يمكن أن يكون هناك ثيوديسية واحدة على األقل لم يكن تأييدها‬
‫للشر المروع غير حساس بطبيعته‪ ،‬حتى لو كانت هناك طرق غير حساسة للتعبير عنه؟‬
‫من أجل استبعاد هذه االحتمالية‪ ،‬يجب على مؤيدي مضادات الثيوديسية األخالقية أن‬
‫يقوموا بافتراضات غير مشروعة حول معقولية ثيوديسيات غير معروفة‪ .‬هذا موضح‬
‫في مثالنا‪ ،‬للميزة ذات الصلة التي ميزت استجابة النكاف من استجابة مرض السكري‬
‫مقبول‪ ،‬في حين أن محتوى األخير لم يكن كذلك‪ .‬إذا‬‫ً‬ ‫كانت أن محتوى األول كان‬
‫كانت الحجة من عدم الحساسية تؤكد أن جميع الثيوديسيات تشبه استجابة مرض‬
‫السكري‪ ،‬فإنها تفترض مسب ًقا أن محتوى االدعاءات في أي ثيوديسية معينة سيكون‬
‫غير قابل للتصديق‪ ،‬وألسباب أوضحت في القسم السابق‪ ،‬أن هذا االفتراض يحول‬
‫دون نجاح الحجة‪.‬‬
‫فيما يتعلق بهذا النوع من الحجة‪ ،‬يجب على ناقد الثيودوسية أن يأخذ في االعتبار‬
‫أن الثيوديسيين ال يقدمون تأييدا للشر الرهيب بدون سبب على اإلطالق‪ .‬بدال من‬
‫ذلك‪ ،‬يفعلون ذلك ألنهم يعتقدون أنه من المعقول قبول مقترحات معينة تدعم هذه‬
‫المصادقة‪ ،‬على سبيل المثال مقترحات حول طبيعة الشر‪ ،‬مقترحات حول عواقب‬
‫الشر في حياة اإلنسان‪ ،‬مقترحات حول أحداث معينة ستحدث في اآلخرة‪ ،‬وهلم‬
‫جرا‪ .‬بطبيعة الحال‪ ،‬هذه االفتراضات في الثيوديسية ال تمنح‪ ،‬وال ينبغي أن تمنح‪ ،‬أي‬
‫حصانة من النقد‪ .‬على العكس من ذلك‪ ،‬يمكن للمرء أن يجادل بشكل مقنع تماما‬
‫أن الفرضيات الميتافيزيقية التي يجب أن تستأنفها الثيوديسيات (مثل الفرضيات‬
‫المتعلقة بالحياة بعد الموت أو اإلرادة الحرة) غير قابلة للتصديق‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬بقدر‬
‫ما تتعلق هذه االدعاءات بالقضايا الميتافيزيقية‪ ،‬فلن تكون هناك أسس أخالقية تتنازع‬
‫عليها‪ .‬إن األحكام األخالقية بشأن ممارسة الخطاب وحساسيته تجاه ضحايا المعاناة‬
‫ليس لها تأثير على ما إذا كان من المعقول االدعاء‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬بأنه ستكون‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪272‬‬
‫هناك قيامة جماعية للبشر في المستقبل البعيد‪ .‬يعتمد تأييد الثيودسية للشر الرهيب‪،‬‬
‫جزئيا‪ ،‬على هذه األنواع من االدعاءات‪ ،‬ولذلك ال يمكن لحجة عدم الحساسية أن‬
‫تثبت عدم قابليتها للتصديق‪ ،‬وال تعتمد على أي حجج مستقلة أخرى قد تثبت عدم‬
‫قابليتها للتصديق‪ ،‬ال يمكن استخدامها إلثبات عدم صحة الخطاب الثيوديسي بالمعنى‬
‫العالمي‪.‬‬

‫الفضيلة في الثيودسية‬
‫مثل حجة عدم الحساسية‪ ،‬فإن حجة االنفصال تخطئ أيضا بالتجاهل الضمني‬
‫الحتمال وجود تفسير معقول لسماح الله من الشر‪ .‬لتكرار هذا تحاول إظهار أن‬
‫االنخراط في ممارسة الخطاب الثيوديسي يتطلب من الفرد أن يكون له شكل شرير من‬
‫القلب والسمع أو االنفصال العاطفي فيما يتعلق بمعاناة اآلخرين‪ .‬على الرغم من أن‬
‫بعض المؤمنين سيرغبون في االعتراض على فكرة أن موقفهم من المعاناة شرير بأي‬
‫شكل من األشكال‪ ،‬إال أن المؤمنين بشكل عام يمكن أن يقبلوا بسهولة هذا االدعاء‬
‫مع الحفاظ على صحة سلوكهم‪ .29‬بالنظر إلى إطار الفضيلة األخالقي الواسع الذي‬
‫يفترض في هذا النقد‪ ،‬يمكن تقديم مثل هذا الرد بإحدى طريقتين‪.‬‬
‫أوال‪ ،‬قد يجادل الثيوديسي في أن ممارسة الخطاب في الثيوديسية هو شكل من‬
‫أشكال السلوك تتعارض فيه متطلبات الفضائل المختلفة‪ .‬دعونا نتأمل ذلك من منظور‬
‫الثيوديسيين‪ .‬إذا كانت الحقائق عن الله‪ ،‬والشر‪ ،‬والفداء‪ ،‬وما إلى ذلك‪ ،‬هي إلى حد‬
‫ما كما يعتقدها الثيوديسيون‪ ،‬فإن فعل الثيوديسية قد يكون مدفوع ًا باالهتمام برفاهية‬
‫اآلخرين‪ .‬هذا يعني أنه إذا كان صحيحا أن الله لديه سبب خير للسماح بالشرور التي‬
‫نالحظها في عالمنا‪ ،‬وأنه ستكون هناك حياة آخرة يتم فيها تصفية مأزق هذا العالم‪،‬‬
‫فذلك يقع في مصلحة الناس بشكل عام‪ .‬كما يقول ديفيس‬
‫لنفترض أن الله موجود وأن هناك آخرة جيدة في المستقبل القريب‪ .‬إذا كان األمر‬

‫‪ 29‬أنا ال أدعي هنا أن عىل علامء الدين أن يقروا بأن ممارسة الثيودسية تربهن عىل رذائل الشخصية‪ .‬بدال‬
‫من ذلك‪ ،‬فإن ادعائي هو أنه حتى لو قدم الثيودييس هذا التنازل‪ ،‬فال يتبع ذلك أنه يمكن رفض ممارسة‬
‫الثيوديسية متام ًا عىل هذا األساس‪.‬‬
‫‪273‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫كذلك‪ ،‬فإن إخبار الناس بهذه الحقائق‪ ...‬هو أمر مفيد بقدر ما يمكننا فعله لهم‪ .‬سيكون‬
‫من الخطأ عدم القيام بذلك‪.30‬‬
‫من ناحية‪ ،‬إذن‪ ،‬يمكن اعتبار االنخراط في ممارسة الخطاب الثيوديسي على أنه‬
‫يتوافق مع فضائل الخير و‪/‬أو اللطف‪ ،‬بقدر ما يكون الدافع وراء المؤمنين هموم‬
‫ديفيس هنا‪ .‬في الوقت نفسه‪ ،‬قد يكون االنخراط في ممارسة الخطاب متسق مع نقيصة‬
‫السمع والقلب فيما يتعلق بحاالت المعاناة الفردية‪ .‬لكن مقاربات الفضيلة األخالقية‬
‫للقرارات األخالقية ستؤدي دائما إلى حاالت مثل هذه‪ ،‬حيث تتصارع متطلبات‬
‫الفضيلة‪ .‬يمكن ببساطة أن يجادل الثيوديسي في أن متطلبات اإلحسان تتغلب على‬
‫متطلبات القلب اللطيف‪ ،‬على األقل في هذه الحالة بالذات‪.‬‬
‫النوع الثاني من الرد سيقبل أيضا أن االنفصال عن معاناة اآلخرين هو ــ بشكل عام ــ‬
‫منقصة للشخصية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬في هذا الرد‪ ،‬يمكن أن يدعي الثيوديسي أن االنفصال أو‬
‫القلوب القاسية هو فضيلة عند الفالسفة أو الالهوتيين الباحثين عن رد نظري مناسب‬
‫على الحجج من الشر ضد اإليمان‪ .‬يتم توضيح هذا النوع من الردود جيدا بمثال‬
‫يستخدمه ديفيد أوكونور للدفاع عن شرعية الخطاب الثيوديسي ضد اعتراضات سورين‪.‬‬
‫تخيل شخصا يعاني من مرض عضال‪ ،‬يشير أوكونور‪ :‬بالنسبة للضحية‪ ،‬المحاصر في‬
‫احتمال الوفاة المؤكد‪ ،‬والذي يعتبر كل يوم صراعا بطوليا‪ ...‬إن فكرة البحث المنفصل‬
‫وغير المحترم الذي يتم إجراؤه بالكامل دون اإلشارة إليه في خصوصية معاناته هو إلى‬
‫جانب النقطة‪ ...‬ولكن االستنتاج من أن هذا البحث الطبي البحت‪ ،‬بمفهومه المجرد‬
‫المتأصل للمرض‪ ،‬والحصانة‪ ،‬والحياة والموت غير ذي صلة‪ ...‬سيكون خطأ‪.31‬‬
‫لتمديد تشبيه أوكونور‪ ،‬قد ُينظر إلى موقف ثيودسي من المعاناة على أنه منقصة إذا‬
‫كان يحمله شخص دون مخاوف نظرية محددة عند الثيوديسي‪ ،‬أو إذا تم نقله من قبل‬
‫الثيوديسي إلى سياقات يومية وعملية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فيما يتعلق بالدور المحدد الذي يقوم‬
‫به الثيوديسي في الدفاع النظري عن اإليمان بالله ضد الحجج من الشر‪ ،‬يمكن اعتبار‬
‫هذه المواقف فضائل‪ ،‬بنفس الطريقة التي يمكن أن يكون بها موقف الباحث الطبي‬

‫‪30 Davis (2004), p. 271.‬‬


‫‪31 O‟Connor (1988), pp. 6566-.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪274‬‬
‫المتشدد تجاه الموت فضيلة للباحث الطبي‪ ،‬حتى في الحاالت التي يعتبر فيها هذا‬
‫الموقف شريرا بشكل عام‪ .32‬بالطبع‪ ،‬فإن هذا واالستجابة السابقة كالهما يمضيان على‬
‫افتراض أنه قد يكون هناك تفسير معقول لسماح الله بالشرور في هذا العالم‪ .‬إذا لم تكن‬
‫هناك حالة وجود تفسير معقول‪ ،‬فقد يكون األمر هو أن أي مشاركة في خطاب ثيودسي‬
‫يشكل مخالفة أخالقية‪ ،‬بسبب الموقف المنفصل الذي يتطلبه‪ .‬مرة أخرى فإن استبعاد‬
‫هذا االحتمال سيكون االفتراض المسبق غير المناسب للفشل العالمي للثيوديسية‪،‬‬
‫بطريقة من شأنها أن تجعل الحجج األخالقية العالمية ضد زائدة عن الحاجة‪.33‬‬

‫األذى المزعوم للثيوديسية‬


‫فيما يتعلق بحجة العواقب الضارة‪ ،‬تجدر اإلشارة إلى أن هذه مسألة تجريبية إلى‬
‫حد ما‪ .‬إذا قال مناصرو مضادات الثيوديسية األخالقية أن تأييدً ا للشر المريع خطأ‬
‫بطبيعته لما له من آثار ضارة‪ ،‬فنحن ال نحتاج فقط إلى وصف لما هي تلك اآلثار‬
‫الضارة ولكن أيضا بعض األدلة على أنه ــ حيث يتم مالحظة هذه اآلثار في عالمنا‬

‫‪ 32‬كام أن استقامة موقف املؤمن املنفصل جتاه املعاناة يعتمد أيضا‪ ،‬جزئيا‪ ،‬عىل نقاش ٍ‬
‫مواز حول الطريقة‬
‫الصحيحة للتعامل مع مشاكل الرش بشكل عام‪ .‬كام ذكرنا سابقا‪ ،‬يرفض سورين املقاربة النظرية‬
‫البحتة ملشكلة الرش ألنه ينكر رشعية التمييز بني مشاكل الرش العملية والنظرية‪ .‬يقول سورين إن هذا‬
‫التمييز يسمح للثيوديسيني بتبني وجهة نظر بريوقراطية عن املعاناة‪ ،‬والتي يراها حتريفا للرشور الفعلية‬
‫التي نواجهها يف احلياة (‪ ،1983‬ص ‪ .)232‬يطرح آخرون نقطة مماثلة‪ .‬عىل سبيل املثال يدعي مايكل‬
‫سكوت (‪ ،1996‬ص ‪ )7‬أن النهج النظري البحت ملشكلة الرش يثبط قدرة الثيودييس عىل إدراك وجود‬
‫رشور غري مرشوطة يف عاملنا‪ .‬يقول ماركوس فيلدرهوف (‪ ،2004‬ص ‪ )397‬أن النهج النظري ملشكلة‬
‫الرش «يفسد املفكر أخالقي ًا وديني ًا»‪ .‬ر ًدا عىل هذا الرأي‪ ،‬يدافع أوكونور عن هنج نظري ملشكلة الرش‬
‫من خالل التمييز بني اجلانب العميل أو اجلانب «املوجه للحياة»‪ ،‬وبني اجلانب النظري أو»املعريف»‪.‬‬
‫وفقا ألوكونور‪ ،‬فإن النظرية الثيوديسية هي مرشوع رشعي ألهنا رضورية للجانب املعريف لإليامن يف‬
‫استجابتها ملشكلة الرش (‪ ،1988‬ص ‪.)68-66‬‬
‫‪ 33‬باإلضافة إىل القضايا التي متت مناقشتها هنا‪ ،‬يرى ويتزل أن بعض اإلصدارات من حجة الفضيلة‬
‫ومضادة الثيوديسية األخالقية هي أساسا متجانسة يف الطبيعة‪ .‬احلجة‪ ،‬من وجهة نظر ويتزل‪ ،‬هي أنه‬
‫«إذا انغمس الشخص يف الثيودسية‪ ،‬فإن ذلك الشخص فاسد أخالقيا‪ .‬إذا مل يكن الشخص فاسدا‬
‫من الناحية األخالقية‪ ،‬فلن ينغمس يف الثيودسية»‪ .‬يرى ويتزل أن هذا هزيمة غري مبارشة للثيوديسية‪،‬‬
‫ألنه‪ ،‬وف ًقا لالعرتاض‪« ،‬مل يعد من املمكن مناقشة الثيوديس من قبل األشخاص العقالنيني احلساسني‬
‫أخالقيا» (‪ ،1989‬ص ‪.)3‬‬
‫‪275‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫ــ قد تمت (في بعض الحاالت على األقل) عن طريق ممارسة الخطاب الثيوديسي‪.‬‬
‫ولكن أين يمكن العثور على مثل هذه األدلة؟ بشكل أعم‪ ،‬كيف يمكننا حتى أن نبدأ‬
‫في تتبع آثار الثيودسية (أو أي ممارسة خطاب) على حياة الناس‪ ،‬أو على المجتمعات‬
‫ككل؟ يقدم كل من تيلي وميسل أمثلة قصصية عن الطرق التي يمكن أن تسبب فيها هذه‬
‫الثيوديسيات ضررا في حياة الناس‪ ،‬ولكن القليل من دراسات الحالة ال تكفي إلثبات‬
‫وجهة نظرهما‪ .34‬عالوة على ذلك‪ ،‬يمكن لمؤيدي الثيوديسة الرد بحكاياتهم الخاصة‬
‫حول عواقب مفيدة تنشأ عن المضاربة النظرية‪ .‬هيك ــ مثال ــ سيقول إنه إذا أردنا أن‬
‫نكافح ضد الظلم والتفاوت في عالمنا‪ ،‬كما يصر تيلي وميسل‪ ،‬يمكن للثيوديسية أن‬
‫تساعدنا من خالل تقديم سبب لألمل‪ ،‬ومن خالل تقديم «تفاؤل كوني» لتحفيز جهودنا‬
‫في تلك األوقات الحتمية عندما يبدو أنها عقيمة‪ .35‬نظرة هيك الوردية ال يحتمل أن تهز‬
‫انتقاداته‪ ،‬لكن أضرار أو فوائد الثيوديسية تقاس بطريقة قصصية‪ ،‬ومغريات كهذه لفوائد‬
‫الثيوديسية لن تكون قادرة على الدفاع عن أضرار الثيوديسية‪.‬‬
‫إذا تركنا جانبا مسألة األدلة‪ ،‬فلنفترض أننا نسلم جدال بأن خطاب الثيودسية الفلسفية‬
‫مسؤول بشكل سببي عن األعمال الضارة التي يصفها تيلي وميسل‪،‬‬ ‫ً‬ ‫كان ــ إلى حد ما ــ‬
‫على سبيل المثال‪ .‬تعزيز الهياكل االجتماعية القمعية‪ ،‬وتشجيع األفراد على االنخراط‬
‫في تكهنات عقيمة حول معنى معاناتهم‪ .‬حتى بعد منح هذه الفرضية الخالفية‪ ،‬ال‬
‫يزال هناك حاجة إلى قول المزيد‪ .‬ألنه‪ ،‬إلى الحد الذي تكون فيه الحجج من ادعاء‬
‫مضادة الثيوديسية األخالقية بالعالم َّية‪ ،‬ما زلنا بحاجة إلى التساؤل عما إذا كانت هناك‬
‫ثيوديسيات قد تُب َتكَر وتُسهم بطريقة أو بأخرى في هذه المشاكل‪ ،‬وبالنظر إلى مدى‬
‫صعوبة التحقق من عواقب الخطاب الثيوديسي الموجود‪ ،‬من الصعب أن نرى كيف‬

‫‪ 34‬يتمثل مصدر قلق ميسل‪ ،‬جزئ ًيا‪ ،‬يف أن النظريات تشجعنا عىل البحث عن املعاين اخلفية يف معاناتنا‬
‫حيث ال توجد مثل هذه املعاين‪ .‬ردا عىل هذا القلق‪ ،‬يقول هيك إن النظريات املعقدة ال عالقة هلا بنوع‬
‫إسناد املعنى التبسيطي الذي يعرتض عليه ميسل‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يمكن القول إن الثيوديس يعزز امليل‬
‫النفيس الطبيعي لدى البرش للبحث عن األنامط والقصص التي تساعد يف تفسري أحداث حياتنا‪ .‬تشري‬
‫الدراسات احلديثة يف علم نفس املعتقد إىل أن ميلنا لفهم األحداث من منظور الروايات الغائية ال يتم‬
‫تعلمه وال استنتاجه من التجربة‪ ،‬بل هو متأصل يف اإلدراك البرشي‪ .‬انظر ‪.Kelemen, 1999‬‬
‫‪35 Hick (2004), p. 268.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪276‬‬
‫يمكن إعطاء إجابة واثقة باإليجاب‪ .‬ربما إذا افترض مؤيدو مضادة الثيوديسية األخالقية‬
‫أن أي ثيديسيات مستقبلية ستكون معيبة في ادعاءاتها عن الله‪ ،‬والشر‪ ،‬والفداء‪ ،‬وما إلى‬
‫ذلك‪ ،‬فقد يتمكنون من التنبؤ بشكل معقول بأن العواقب العملية لتلك الثيوديسيات‬
‫المستقبلية ستكون ضارة‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬كما كان الحال مع الحجج السابقة‪ ،‬فإن مثل هذا‬
‫االفتراض يدحض نفسه‪.‬‬
‫إذا فكرنا في هذه القضية من منظور الثيوديسيين‪ ،‬يبدو من المعقول أن نتوقع أن‬
‫ثيوديسية «تصحح األمور» في ادعاءاتها عن الله‪ ،‬والشر‪ ،‬واآلخرة‪ ،‬وما إلى ذلك‪،‬‬
‫ستدعم أيضا التوجه األخالقي المستقيم تجاه الشرور الموجودة في عالمنا‪ ،‬على‬
‫المستويين االجتماعي والشخصي‪ .‬ديفيس ــ ً‬
‫مثل ــ ال يعتبر الثيوديسية مجرد رد نظري‬
‫على مشكلة الشر‪ ،‬وإنما يأخذها لتعزيز قناعاته حول المسؤولية االجتماعية‪ .‬وبالتالي‪،‬‬
‫ردا على مزاعم اآلثار الضارة‪ ،‬يقول ديفيس‪ :‬ميسل ال زال يفسر لي بعناية شديدة سبب‬
‫كون عقوباتي الثيوديسية «بنى اجتماعية قمعية راهنة»‪ ...‬أعتقد أن العكس صحيح‪ .‬اإلله‬
‫الذي أعتقد أنه سينتصر في اآلخرة يأمرنا بإطعام الجياع‪ ،‬وشفاء المرضى‪ ،‬والتغلب‬
‫على البنى القمعية في هذا العالم‪.36‬‬
‫بغض النظر عما إذا كان ديفيس يقدم بالفعل تفسيرا معقوال لسماح الله بالشر‪ ،‬فإن‬
‫اتجاهه من العالقة بين النظرية الصحيحة والسلوك األخالقي مفيد‪ .‬إذا منحنا إمكانية‬
‫أن تكون هناك ثيودسية معقولة‪ ،‬فيجب علينا أيضا أن نمنح إمكانية أن تقدم هذه‬
‫الثيودسية دعما نظريا للسلوك األخالقي الصحيح‪ ،‬وبالتالي يكون لها عواقب عملية‬
‫مفيدة وليست ضارة‪ .‬االدعاء بأن هناك مخالفة أخالقية متأصلة في ممارسة الثيودسية‬
‫بسبب العواقب الوخيمة لها هي استبعاد لهذه االحتماالت‪.‬‬

‫هل هناك مكان للحجج األخالقية ضد الثيودسية؟‬


‫بينما أقبل أن المصادقة على الشر المرعب قد تبدو مثيرة للجدل أخالقيا على‬
‫السطح‪ ،‬فقد جادلت بأن المحاوالت المختلفة إلثبات عدم مالءمته المتأصلة‪ ،‬سواء‬
‫كانت تروق لمسائل الحساسية أو السلوك الفاضل أو العواقب‪ ،‬تفترض مسبقا أن‬

‫‪36 Davis (2004), p. 272.‬‬


‫‪277‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫االدعاءات بتقدم الثيوديسيات غير قابل للتصديق‪ .‬لذلك‪ ،‬قد يبدو أنني أرفض الحجج‬
‫األخالقية ضد الثيودسية‪ .‬لكن األمر ليس كذلك‪ ،‬ألن موضوعي في هذه الورقة كان‬
‫مجرد حجج أخالقية عالمية ضد الثيودسية‪ .‬خارج هذه الفئة المحددة من الحجج‪،‬‬
‫أعتقد أن هناك عددا من االعتراضات المشروعة التي يمكن للمرء أن يقدمها (بما‬
‫في ذلك متغيرات ناقشتها في هذه الورقة) فيما يتعلق بالمحتوى األخالقي لهذه‬
‫الثيوديسيات‪ .‬وعلى الرغم من أنني ال أعتقد أن هذه االعتراضات يمكن استخدامها‬
‫لتكوين حجة عالمية ناجحة ضد الخطاب المؤمن بالثيوديسية‪ ،‬أعتقد أنها يمكن أن‬
‫تخدم أغراض جدلية أخرى بشكل مفيد‪.‬‬
‫أوالً‪ ،‬يمكن استخدام الحجج األخالقية ــ وال سيما تلك التي تستند إلى اعتبارات‬
‫الحساسية ــ بشكل فعال في نقد ثيوديسية معينة‪ ،‬أو فئة معينة من الثيوديسيات‪ .‬على‬
‫عكس السياق العالمي‪ ،‬حيث تنهار حجة عدم الحساسية بسبب االفتراضات المسبقة‬
‫التي يتعين عليها إجراؤها حول محتوى ثيوديسيات مستقبلية غير معروفة‪ ،‬فإن حجة‬
‫عدم الحساسية في سياق محلي ال تعتمد على افتراضات غير مواتية حول محتوى‬
‫ثيوديسية معينة‪ ،‬نظرا ألن هذا المحتوى (أي ادعاءات مختلفة حول العواقب السببية‬
‫للشر‪ ،‬واالنصاف بعد الوفاة‪ ،‬وما إلى ذلك) يمكن أن يخضع للتحليل المباشر‪ .‬لذلك‪،‬‬
‫إلى الحد الذي تكون فيه االدعاءات الموجودة في ثيوديسيات من نوع معين تظهر‬
‫اتجاها غير حساس نحو ضحايا المعاناة‪ ،‬يمكن تقديم حجة محلية ضد الثيوديسيات‬ ‫ً‬
‫من هذا النوع (باستخدام مبدئنا السابق للتبريرية اإليمانية) على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ :P5‬هناك أخطاء أخالقية في الثيوديسيات من النوع أ (مقدمة)‪.‬‬
‫‪ :P6‬تهدف الثيوديسية من النوع أ إلى الدفاع عن اإليمان التقليدي‪.‬‬
‫‪ :P7‬ال يجب على المرء أن يقدم نظرية للدفاع عن اإليمان التقليدي‪ ،‬إذا كانت هذه‬
‫النظرية تشكل أو تؤدي إلى شكل من أشكال المخالفات األخالقية (مبدأ التبريرية‬
‫اإليمانية)‪.‬‬
‫‪ :C‬ال يجب على المرء طرح ثيوديسيات من النوع أ (من ‪ P5‬و ‪P6‬و‪.)P7‬‬
‫ثاني ًا‪ ،‬يمكن استخدام الحجج األخالقية لتحفيز نقد عالمي للثيوديسية ألسباب‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ ‫‪278‬‬
‫أخرى‪ .‬لذلك‪ ،‬بالنسبة إلى المؤمنين الذين يزعمون تقييم األنواع المختلفة من‬
‫الردود المتاحة لمشكلة الشر‪ ،‬فإن الوضع األخالقي المثير للجدل للمزاعم المقدمة‬
‫في ثيوديسية معينة قد يدفع إلى مزيد من التحقيق في االدعاءات المثيرة للجدل من‬
‫الثيوديسية بشكل عام‪ .‬بعد ذلك‪ ،‬فإن الطريقة الثالثة التي يمكن أن تستخدم بها الحجج‬
‫األخالقية ضد الثيودسية هي تعزيز النقد العالمي للثيوديسية على أسس أخرى‪ .‬إذا كان‬
‫من الممكن إثبات أن بعض المقدمات المركزية الموجودة في أي استجابة ثيوديسية‬
‫لمشكلة الشر غير قابلة للتصديق‪ ،‬فعندئذ يمكن اشتقاق حجة أخالقية ضد الثيوديسية‬
‫من هذه النتيجة المستقلة‪ .‬أي إذا اتضح أن هناك أسبا ًبا قهرية (غير أخالقية) لرفض‬
‫جميع الثيوديسيات‪ ،‬يمكن تبرير وصف تيلي للثيوديسية بأنها «تعميم وحشي‪ ،‬أو كذبة‬
‫مذهلة»‪.37‬‬
‫لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو ما هي سمات الخطاب الثيوديسي ــ إن وجدت‬
‫ــ التي يمكن أن توفر تركيزا مناسبا لحجة عالمية ضد معقولية الثيوديسيات‪ .‬بالنظر إلى‬
‫النطاق العالمي المزعوم للنقد‪ ،‬ال يمكن لمضادة الثيوديسية التركيز فقط على االدعاءات‬
‫الخاصة ببعض الثيوديسيات‪ ،‬فالمطلوب طريقة أكثر عمومية‪ .‬أحد الخيارات للنقد‬
‫العالمي للثيوديسية هو تحدي اإلطار المفاهيمي الذي تفترضه الثيوديسيات مسبقا‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن االنتقادات من هذا النوع تتفرع بطبيعتها إلى نزاعات مفاهيمية تمثل‪،‬‬
‫في بعض الحاالت‪ ،‬خالفات ميتافيزيقية خطيرة بين علماء الالهوت وخصومهم‪.38‬‬
‫االستراتيجية المضادة للثيوديسية البديلة تقييم معقولية الخطاب الثيوديسي مع التسليم‬
‫باإلطار المفاهيمي المفترض في الثيوديسيات‪ .‬يكمن التحدي المتصل بهذا النوع‬
‫من النقد في تحديد االفتراضات المشتركة بين جميع الثيوديسيات‪ ،‬ولكنه أيضا يلزم‬

‫‪37 Tilley (1991), p. 248.‬‬


‫‪ 38‬فيام يتعلق بالتمييز النظري‪ /‬العميل‪ ،‬عىل سبيل املثال‪ ،‬إذا حافظ الثيودييس عىل رشعية التمييز بينام‬
‫يرفضه املناهض للثيوديسية‪ ،‬فام الطرف الثالث الذي يمكن استشارته حلل املأزق؟ يف حالة عدم وجود‬
‫تفاهم مشرتك غري مثري للجدل بني علامء الثيودوسية ومناهيض الثيودوسية حول القضايا الفلسفية‬
‫الفوقية‪ ،‬قد يصل رفض مناهض الثيودسية إىل أكثر من جمرد رفض نظري لالفرتاضات الفلسفية‬
‫للثيوديسيني‪ .‬يستكشف ميزر مثل هذه القضايا فيام يتعلق باالختالفات يف مناهج سوينبورن وفيليبس‬
‫يف الالهوت الفلسفي‪.‬‬
‫‪279‬‬ ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

‫نفسه بتحليل المعقولية‪ .‬أحد هذه االفتراضات‪ ،‬الذي غالبا ما ُيعتقد أنه شرط ال غنى‬
‫عنه للخطاب الثيوديسي‪ ،‬هو االدعاء بأنه سيكون هناك حياة آخرة من نوع ما للبشر‪.‬‬
‫على الرغم من قبوله على نطاق واسع بين المؤمنين‪ ،‬إال أن هناك نقاط خالف كافية‬
‫فيما يتعلق بهذا االدعاء حتى أننا قد نعتبره على األقل مرشح ًا لموضوع يستند إليه نقد‬
‫عالمي للثيوديسية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬سيتعين على المزيد من االستكشاف لهذه اإلمكانية‬
‫انتظار مناسبة أخرى‪.39‬‬

‫‪ 39‬تم تطوير نقد عاملي للثيوديسية عىل أساس مشاكل احلياة اآلخرة يف أطروحتي القادمة‪ ،‬احلياة بعد‬
‫املوت وقيود الثيوديس (جامعة موناش)‪ .‬أنا ممتن لغراهام أويب ونيك تراكاكيس ومراجع جمهول‬
‫لتقديم مالحظات نقدية حول نسخ مسودة هذه الورقة‪.‬‬
‫نوسبميس كرام تربور‬ 280

References
-- Adams, M. M. (1989) Horrendous evils and the goodness of God.
Aristotelian Society Supplementary Volume, 25, 297-310.
-- Davis, S. T. (2001) Free will and evil. in Stephen T. Davis (ed.) Encountering
Evil: Live Options in Theodicy. Louisville: Westminster John Knox Press.
-- ______ (2004) Truth and action in theodicy: A reply to C. Robert Mesle,
American Journal of Theology and Philosophy, 25, 270-75.
-- Dostoyevsky, F. M. (1993) The Brothers Karamazov, translated by David
McDuff. London: Penguin Books. (Originally published 1880.)
-- Felderhof, M. C. (2004) Evil: Theodicy or resistance?, Scottish Journal of
Theology, 57, 397-412.
-- Griffin, D. R. (2004) God, Power, and Evil: A Process Theodicy. London:
Westminster John Knox Press.
-- Hick, J. (1978) Evil and the God of Love, revised edition. San Francisco:
Harper & Row.
-- ______ (2004) Response to Mesle, American Journal of Theology and
Philosophy, 25, 265-69.
-- ______ (2007) D. Z. Phillips on God and Evil, Religious Studies, 43, 433-41.
-- Kelemen, D. (1999) Beliefs about purpose: On the origins of teleological
thought, in M. C. Corballis and S. E. G. Lea (Eds), The Descent of Mind:
Psychological Perspectives on Hominid Evolution (pp. 278-94). New York:
Oxford University Press.
-- Mesle, C. R. (2004) Suffering, meaning and the welfare of children: What
do theodicies do?, American Journal of Theology and Philosophy, 25,
247-64.
281 ‫يقالخألا ةيسيدويثلا ةداضم‬

-- Messer, R. (1993) Does God’s Existence Need Proof? Oxford: Clarendon


Press.
-- O’Connor, D. (1988) In defense of theoretical theodicy, Modern Theology,
5, 61-74.
-- Phillips D. Z. (2001) Critique of Stephen T. Davis, in Stephen T. Davis
(ed.), Encountering Evil: Live Options in Theodicy. Louisville: Westminster
John Knox Press.
-- ______ (2004) The Problem of Evil and the Problem of God. London: SCM
Press.
-- Roth, J. K. (2001a) Critique of Stephen T. Davis, in Stephen T. Davis (ed.),
Encountering Evil: Live Options in Theodicy. Louisville: Westminster John
Knox Press.
-- ______ (2001b) Critique of John Hick, in Stephen T. Davis (ed.),
Encountering Evil: Live Options in Theodicy. Louisville: Westminster John
Knox Press.
-- Rowe, W. L. (1988) Evil and theodicy, Philosophical Topics, 16, 119-32.
-- Scott, M. (1996) The morality of theodicies, Religious Studies, 32, 1-13.
-- Surin, K. (1983) Theodicy?, Harvard Theological Review, 76, 225-47.
-- Swinburne, R. (1995) Theodicy, our well-being, and God’s rights,
International Journal for Philosophy of Religion, 38, 75-91.
-- Tilley, T. W. (1991) The Evils of Theodicy. Washington DC: Georgetown
University Press.
-- Voltaire, (1947) Candide: Or optimism, translated by John Butt. London:
Penguin Books. (Originally published 1759.)
-- Wetzel, J. (1989) Can theodicy be avoided? The claim of unredeemed evil,
Religious Studies, 25, 1-13.
‫دراسات‬

‫السوسيولوجية للثيوديسية‬
‫ّ‬ ‫المعاناة والمهمة‬
‫دافيد مورغن وإيان ويلكنسون‬
‫‪1‬‬ ‫__________________________________‬

‫بعد أن كانت حكرا على الفلسفة والالهوت‪ ،‬فإن ما أسماه فيبر «مشكلة‬
‫الثيودسية ‪ »Theodicy‬ــ مشكلة التوفيق بين المثل المعيارية والواقع الذي نعيش‬
‫فيه ــ تنبثق في العلوم االجتماعية بالشكل العلماني لـ«السوسيوديسية» ‪.Sociodicy‬‬
‫ِ‬
‫مشرعنَة للشدائد االجتماعية‬ ‫في اإلطار الوظيفي‪ ،‬قدّ مت السوسيوديسية تبريرات‬
‫وعدم المساواة والظلم‪ ،‬لكن نادرا ما عولِ َج المعنى الوجودي واآلثار األخالقية‬
‫للبالء والمعاناة اإلنسانية في الحياة االجتماعية‪ .‬نقترح أن الالمباالة الواضحة‬
‫تجاه هذه األسئلة في النظرية االجتماعية تعكس توترا أعمق بين توقعات الحداثة‬
‫األلفية للتقدم األخالقي والتاريخ المتصاعد للعنف واالستغالل والمعاناة في العالم‬
‫الحديث‪ .‬نحن نجادل في ضرورة إعادة بناء مهمة السوسيوديسية كنقد للمضامين‬
‫الحاسمة لهذا التوتر‪ ،‬ليس فقط لتوثيق عواقب المعاناة على حياة الناس‪ ،‬ولكن من‬
‫أجل إعادة تقييم تجربة الحداثة في نهاية واحدة من أكثر القرون اضطرابا وعنفا في‬
‫العالم‪.‬‬

‫المقدمة‬
‫غالبا ما تحرك الخيال االجتماعي بفعل الشعور بالفوضى واألزمات الوشيكة‪.‬‬
‫في الواقع‪ ،‬يمكن للمرء أن يقول إن «األزمة» و»الفوضى» لم يبتعدا أبدا عن‬
‫محاوالت سرد التاريخ الثقافي للحداثة‪ .‬بالنسبة للبعض‪ ،‬فإن هذا االلتزام المهني‬

‫‪1 David Morgan & Iain Wilkinson (2001) The Problem of Suffering and the‬‬
‫‪Sociological Task of Theodicy. European Journal of Social Theory, 4(2): 199–214.‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‪.‬‬
‫‪283‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫لتحديد األهمية المشؤومة للتغيير قد واجه علم االجتماع بمهمة معالجة المشكالت‬
‫التي كانت في السابق حكرا على الالهوت‪ .‬في حين سعت الثيوديسيات تقليديا‬
‫إلى التوفيق بين مشكلة الشر مع اإليمان بإله كلي القدرة والخير‪ ،‬السوسيوديسية‬
‫أو الثيوديسيات العلمانية (‪ ،)Vidich and Lyman, 1985‬تسعى إلى التوفيق بين‬
‫التوقعات المعيارية للحياة االجتماعية والمحن وعدم المساواة وأشكال معاناة‬
‫اإلنسان التي تبدو مستعصية على العقل‪ .‬أو العدالة أو حتى األمل‪ .2‬بالنسبة إلى‬
‫برايان تورنر‪ ،‬فإن أسئلة التواصل االجتماعي ليست بعيدة عن جدول أعمال النظرية‬
‫االجتماعية والبحث‪:‬‬
‫إن أي علم اجتماع يصطدم باأللم والموت والحوادث والمصائب وعدم‬
‫المساواة والظلم في الحياة االجتماعية يجب أن يجد نفسه بالضرورة في مواجهة‬
‫مشكلة الثيودسية‪ ...‬مشكلة الثيودسية االجتماعية موجودة في أي علم اجتماع‬
‫يحاول إثارة مسألة أصول وأسباب عدم المساواة بين الرجال (‪Turner, 1996,‬‬
‫‪.)171-71‬‬
‫بالنسبة للجزء األكبر‪ ،‬السوسيوديسية ــ مثل الثيودسية‪ -‬تميل إلى تقديم تفسيرات‬
‫مبررة للظروف المعاكسة على ما يبدو من خالل الكشف عن مزاياها ووظائفها‬

‫‪ 2‬يقرتح ويرب أنه يف مواجهة املحن واملصائب البرشية‪ ،‬تكافح كل ثقافة من أجل احلفاظ عىل توجه‬
‫عقالين ومتامسك أخالقيا جتاه العامل‪ .‬كام يالحظ بيرت بريجر «كل نوموس يتم تأسيسه مرارا وتكرار ًا‬
‫ضد التهديد بتدمريه من قبل القوى الذرية املتوطنة يف احلالة البرشية» (‪ .)Berger, 1969, 53‬من‬
‫خالل أشكال ثقافية خمتلفة‪ ،‬فإن املشاكل الفكرية واألخالقية التي يطرحها الضيق واملعاناة هي‬
‫«إشكالية أنثروبولوجية دائمة وعاملية» (‪ ،)Tenbruck, 1980, 332-42‬تم حتديد رؤى ماكس‬
‫ويرب ملشكلة املعاناة يف مقاالته حول «علم النفس االجتامعي ألديان العامل» و»الرفض الديني‬
‫للعامل واجتاهاته» (‪ .)weber, 1970‬يقرتح هنا أنثروبولوجيا ثقافية مبنية عىل وجهة نظر مفادها‬
‫أن هدفنا توجه يومي‪ /‬براغاميت نحو العامل دائام عرضة للتحدي الذري املتمثل يف املحنة واملعاناة‪.‬‬
‫وبالتايل‪ ،‬فإن جتربة املعاناة تفرض طلبا عىل احللول األخالقية والرباغامتية التي تكفي لتحمل قوى‬
‫البالء غري العقالنية‪ .‬عىل الرغم من االختالف عىل مستوى علم الكونيات‪ ،‬فإن كال من الثيودسية‬
‫والسوسيوديسية يشرتكان يف حماولة الدفاع عن تصور مثايل للعامل ضد تلك التجارب التي هتدد‬
‫بتدمري أو زعزعة استقرار الوجود البرشي‪ .‬ومن خالل تقديم استجابات نظرية وأخالقية للبالء‬
‫والظلم واملعاناة «التي ال معنى هلا»‪ ،‬تسعى كل من الثيودسية والسوسيوديسية إىل إثبات صحة‬
‫«الواقع الثقايف» الذي حيافظ عىل أسلوب احلياة‪.‬‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪284‬‬
‫الخفية أو «الكامنة» ‪ . Merton, 1957‬وهكذا‪ ،‬في حالة كالسيكية‪ ،‬جادل آدم سميث‬
‫بأن عدم المساواة في الدخل لها وظيفة كامنة في تحفيز المدخرات واالستثمار‬
‫وخلق الثروة التي تعود بالنفع على الجميع في المجتمع‪ ،‬بما في ذلك ذوي الدخل‬
‫المنخفض‪ ،‬الذين يشاركون في رخاء الجميع‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬لم يكن االتجاه دائما‬
‫هو تبرير الوضع الراهن‪ ،‬فالنظرية الماركسية‪ ،‬التي تُقرأ على أنها شكل من أشكال‬
‫الثيوديسية العلمانية‪ ،‬تنقل تبرير االستغالل البشري والشدائد من مجال الدين‬
‫إلى االقتصاد السياسي‪ ،‬لتحل محل تساؤالت الميتافيزيقية‪ .‬المعنى مع ديالكتيك‬
‫االغتراب والتغيير الجذري‪ .‬وهكذا‪ ،‬يدعي ماركس أن معدل االستغالل المتزايد‪،‬‬
‫مع كونه مفيدا بشكل تنافسي لإلنتاج الرأسمالي‪ ،‬لديه الوظيفة الكامنة والراديكالية‬
‫لتكثيف الصراعات الطبقية وتعزيز االنتقال إلى الدولة االشتراكية‪ .‬في اآلونة األخيرة‪،‬‬
‫تم اقتراح أن دفاع علم االجتماع النقدي األمريكي عن المجتمع المدني وحركاته‬
‫االجتماعية الجديدة يمثل ضغطا معاصرا تجاه الثيودسية العلمانية (;‪Lyman, 1995‬‬
‫‪ .)Vidich & Lyman, 1985‬ومرة أخرى‪ ،‬فسرت ماري دوغالس النقاشات السياسية‬
‫والصراعات المتعلقة بالمخاطر البيئية على أنها أقرب إلى الخالفات السابقة حول‬
‫مشكلة الشر (‪)Douglas, 1992; Douglas & Wildavsky. 1982‬؛ بالمثل‪ ،‬يجادل‬
‫برايان تيرنر بأن القضايا التي تطرحها فكرة «مجتمع المخاطرة» (‪ )Beck, 1992‬تثير‬
‫مشاكل ضمنية للثيوديسية في تمثيل العولمة‪ ،‬وعلم االجتماع‪ ،‬على أنهما «الالهوت‬
‫الخالصي» ‪ soteriology‬لعصرنا (‪.)Turner, 1992a; 1992b, 252; 1996, 142-76‬‬
‫على الرغم من أن االتجاه نحو األشكال العلمانية للثيوديسية له تاريخ طويل‬
‫في العلوم اإلنسانية‪ ،‬إال أن التجربة الحية من الشدائد والمعاناة نادرا ما كانت‬
‫محور التركيز الصريح للتحليل أو البحث االجتماعي‪ .‬كما يؤكد المساهمون في‬
‫طبعة خاصة ‪( Daedalus‬شتاء ‪ ،)1996‬فإن العلوم االجتماعية فشلت باستمرار في‬
‫استكشاف المعنى الوجودي للمعاناة في الحياة االجتماعية (;‪Das, 1996, 1997‬‬
‫‪ ،)Kleinman & Kleinman, 1996, Kleinman et. al., 1996‬وبنا ًء على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫علماء االجتماع مدعوون إلى جعل واقع المعاناة في مقدمة اهتماماتهم‪ ،‬ليس فقط‬
‫لمعالجة العجز الفكري في هذا البعد المهمل من الحياة االجتماعية‪ ،‬ولكن أيضا‬
‫‪285‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫ألنه ُيزعم أن العلوم االجتماعية تتحمل مسؤولية أخالقية تجاه معالجة الصمت‬
‫تجاه ماليين األشخاص الذين دمرت حياتهم بسبب الحرب والمجاعة والفقر‬
‫والفظائع والمرض‪.‬‬
‫تستكشف هذه المقالة المهمة السوسيولوجية المتمثلة في «التفكير بالمعاناة»‬
‫(‪ )Kleinman, 1995, 181‬في سياق تراجع الثيوديسيات التقليدية وانتقالها العلماني‬
‫إلى قضايا السوسيوديسية في العلوم االجتماعية‪ .‬يواجه مثل هذا المشروع أشكاال‬
‫من المقاومة المهنية والثقافية‪ :‬إن غياب لغة في العلوم االجتماعية تحمل شهادة‬
‫حقيقية على واقع البالء اإلنساني (‪ )Das, 1997‬في حد ذاته أحد أعراض المكونات‬
‫المميزة لثقافة ذات إنجازات فكرية وتقنية‪ ،‬كلها تحجب بسهولة «الحقيقة القاسية‬
‫بأن المعاناة موجودة» (‪ .)Weber, 1970, 354‬تتفاقم هذه الصعوبة من خالل‬
‫«وساطة» األشكال المعاصرة للثقافة الشعبية‪ ،‬والتي تميل إلى إزالة الحساسية من‬
‫قدرتنا على التواصل والتعاطف مع العواقب المؤلمة للعنف والمعاناة على نطاق‬
‫عالمي (‪ .)Kleinman & Kleinman, 1996‬ولكن ربما يكون األمر األكثر إثارة‬
‫للقلق هو مدى تعرض وسائل اإلعالم بشكل روتيني لصور الكارثة والبؤس‪ ،‬إال أنه‬
‫ال يوجد على ما يبدو أي إكراه لتفسير التفاوت بين العبء المتصاعد للكارثة والبؤس‬
‫واالعتقاد بأننا نعيش على األقل في واحد من أكثر العوالم االجتماعية تقدما‪ ،‬إن لم‬
‫يكن األفضل‪ .‬يجب أن نجادل في أن المهمة االجتماعية للسوسيوديسية هي اإلشارة‬
‫إلى هذا التناقض الصارخ بين توقعات الحداثة المثالية للعالم االجتماعي والتجربة‬
‫الحية لتاريخها‪ ،‬ليس فقط لتوثيق عواقب المعاناة على حياة الناس‪ ،‬ولكن من أجل‬
‫إعادة تقييم تجربة الحداثة في نهاية ربما أكثر قرن اضطراب وعنف عرفه العالم‪.‬‬

‫عندما تفشل الثيوديسية‬


‫مصطلح الثيوديسية صاغه ليبنز في «مقالة في الثيوديسية» (‪ ،)1710‬لإلشارة إلى‬
‫محاوالت تفسير المعاناة والشدائد ضمن نظام ميتافيزيقي برئاسة إله فوق األرض‪.‬‬
‫إن المفهوم اليهودي المسيحي عن الله باعتباره محبا للجميع وقادرا على كل شيء‬
‫وكلي العلم قد كفل احتالل الثيوديسيات مكانا مركزيا في الالهوت الغربي‪ .‬كما‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪286‬‬
‫يالحظ ماكس ويبر‪« ،‬كلما اتجه التطور لألفكار الدينية نحو مفهوم اإلله الوحدوي‬
‫المتسامي الذي هو عالمي‪ ،‬كلما ظهرت مشكلة كيف يمكن التوفيق بين القوة‬
‫الخارقة لمثل هذا اإلله ونقص العالم»(‪.)Weber, 1966, 138-9; 1970, 122-3‬‬
‫وبالمثل‪ ،‬يالحظ بيتر بيرغر أن المسيحية تعود باستمرار إلى مشكلة الثيودسية‬
‫باعتبارها أشد اختبار لإليمان (‪.)Berger, 1969, 73‬‬
‫لقد اتبعت الحلول الدينية لمشكلة المعاناة تقليديا أو عدلت المذاهب‬
‫األوغسطينية للشر على أنها غياب الخير ‪ ،privation boni‬في حين تم تصوير الله‬
‫باعتباره الخير األعظم ‪ .)Swinburne, 1998( Summum Bonum‬ضمن هذا‬
‫اإلطار الميتافيزيقي‪ُ ،‬يفهم على ما يبدو أن المعاناة «عديمة المعنى» لها هدف ضمن‬
‫خطة الله من أجل الصالح العام للبشرية (‪ .)Peterson et. al., 1991, 111‬إن ثقل‬
‫الرأي بين الالهوتيين المعاصرين هو أن هذه التبريرات اإللهية قد فشلت‪ ،‬ونحن‬
‫اآلن بحاجة إلى صورة جديدة لله مبنية لعالم «بلغ سن الرشد» (;‪Garrison. 1982‬‬
‫‪ .3 )Moltmann, 1974‬هناك ميل هنا إلى الخلط بين الدعوة والتفسير؛ ومع ذلك‪،‬‬
‫فإن انحدار الثيوديسيات ذو أهمية خاصة بالنسبة للعلوم االجتماعية‪ ،‬حيث يشير‬
‫إيمانويل ليفيناس إلى أن نهاية الثيودسية تشير إلى «الحقيقة األكثر ثورية في وعينا‬
‫في القرن العشرين األخالقي» وطرقنا في تفسير العالم (‪.)Levinas, 1988, 161‬‬
‫يتوافق هذا التحول في الوعي الحديث مع عملية عقالنية ممتدة ومستمرة تسعى‬
‫بشكل منهجي إلى القضاء على «كل القوى الغامضة التي ال تُحصى» في تفسير‬
‫العالم‪ ،‬وبالتالي تنبثق من إمكانية تجاوز األسباب المحدودة والغايات النفعية‬

‫‪ 3‬يف رسالة كتبها خالل أيامه األخرية يف سجن تيجيل‪ ،‬أشار ديرتيش بوهنوفر إىل أن «اهلل ُيدفع بشكل‬
‫متزايد من عامل بلغ سن الرشد‪ ،‬خارج جماالت معرفتنا وحياتنا‪ ،‬ومنذ كانت مل حيتفظ إال بمكان‬
‫بعيد عن عامل اخلربة (‪ ،)Bonhoeffer, 1953, 121‬تعليقات بوهنوفر املبعثرة عن «فرضية العمل‬
‫حتد حاسم لعلامء الالهوت احلديثني البتكار طرق‬ ‫املسامة اهلل» املنصلة بشكل متزايد كانت بمثابة ٍ‬
‫جديدة جذرية لتصور معنى اإليامن املسيحي‪ُ .‬يعد يورغن مولتامن وجيم كاريسون أمثلة رائدة‬
‫للكتاب الذين حاولوا جعل الالهوت املسيحي وثيق الصلة بمجتمع ال يزال يكافح من أجل‬
‫التصالح مع أوشفيتز وهريوشيام‪ .‬يف كلتا احلالتني‪ ،‬من املفهوم أن هذا يتطلب تفسري ًا جديد ًا جذري ًا‬
‫للتفسريات «األرثوذكسية» ملشكلة الرش ومفهوم اهلل‪.‬‬
‫‪287‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫(‪ .)Weber, 1970‬في عالم محبط من العقل‪ ،‬فإن مشكلة الثيودسية هي نقاش ميت‪،‬‬
‫تجاوزه إيمان عقالني بقوة العقل لحل كل مشكلة يطرحها لنفسه‪ .‬نجد نسخة نهائية‬
‫ومبكرة من هذا النقد في مقالة كانت‪« ،‬حول فشل كل محاولة الثيودسيات الفلسفية»‪،‬‬
‫والتي تعترض على الثيوديسيات على أساس أنها تستند إلى تكهنات تتجاوز حدود‬
‫العقل النقدي‪ .‬بدال من ذلك‪ ،‬يوصي كانت‪« ،‬في ضوء حدود عقلنا»‪ ،‬بأن نتبع مثال أيوب‬
‫ونتبنى موقفا من اإليمان الرواقي عندما نواجه الشدائد واأللم (‪.)Kant, 1791, 1973‬‬
‫كان لنقد كانت للتكهنات الميتافيزيقية تأثير دائم على الوعي الثقافي للغرب‪ :‬بالنسبة‬
‫ألولئك الذين يفتقرون إلى «شغف» كيركجارد بقفزة إيمانية خارجية (‪Kierkegaard,‬‬
‫‪ ،)1985, 145-7‬ليس من الصعب الوصول إلى استنتاج نيتشه أن «الله مات»‪ ،‬أو على‬
‫األقل «طغى» الخطاب العلماني للعقل العملي (‪.)Buber, 1953‬‬
‫ومن المفارقات‪ ،‬يبدو أن مشكلة الثيودسية قد تورطت بشكل وثيق في هذه العملية‬
‫الحديثة للعقلنة (‪ .)Tenbruck, 1980; Weber, 1966‬إن االعتقاد المسيحي بأن‬
‫الخطيئة هي السبب المميت للمعاناة اإلنسانية‪ ،‬ألزم المؤمنين أخالقيا بالقضاء على‬
‫أسباب التجربة من خالل تولي سيطرة أكثر فعالية على سلوكهم في العالم اليومي‪.4‬‬
‫يؤكد ويبر أن هذا البحث الدؤوب عن حلول أخالقية وعملية لمشكلة خلق الشر «فضاء‬
‫علمانيا» (‪ )Milbank, 1990. 9-48‬ضمن نظام إلهي شجع على االتجاه التدريجي نحو‬
‫اإلدارة العقالنية للشؤون اإلنسانية (‪ .)Tenbruck, 1980‬وهكذا يبدو أن بذور خيبة‬
‫األمل الدينية قد زرعها الدين نفسه‪ ،‬والذي ظهر منه تبرير المجال العام كنتيجة غير‬
‫مقصودة لاللتزام الميتافيزيقي بفكرة معينة عن المستوى الفائق‪.‬‬

‫‪ 4‬يمكن العثور عىل مثال تارخيي مذهل هلذه النقطة يف حساب بول سالك عن تأثري الطاعون يف تيودور‬
‫وستيوارت إنجالند(‪ .)Slack, 1985‬يصف سالك تأثري الروايات التوراتية عىل تطور «الفضاء‬
‫العلامين» حيث توىل املسؤولون املحليون مسؤولية السيطرة عىل انتشار الطاعون‪ .‬بقدر ما كان ُيفهم‬
‫الطاعون عىل أنه نتيجة لألعامل الرشيرة‪ ،‬جيادل سالك بأن التطور املبكر وإدارة سياسات الصحة‬
‫العامة كانت نتيجة ملحاولة منظمة لتخليص املجتمع من «اخلطيئة» التي أسقطت غضب اهلل‪ .‬ومع‬
‫ذلك‪ ،‬فإن هذا االلتزام بطاعة اهلل كان له نتيجة غري مقصودة تتمثل يف جعل اإليامن باهلل يبدو بشكل‬
‫متزايد غري ذي صلة باملهمة الدنيوية املتمثلة يف إدارة صحة املجتمع‪ .‬أدى إدخال تدابري الصحة العامة‬
‫إىل دفع املجتمعات الغربية إىل السيطرة بشكل أكرب عىل مسار مصريها من خالل تشجيع الناس عىل‬
‫تفضيل وجهة نظر جتريبية بدالً من وجهة نظر ميتافيزيقية عند السعي لفهم أسباب املرض الوبائي‪.‬‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪288‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬إذا كانت النظريات الدينية تبدو اآلن غير قابلة للتصديق أو ال يمكن‬
‫الدفاع عنها‪ ،‬فإن السبب األقوى لفشلها يبدو أنه كان الدليل على المعاناة نفسها‪ .‬واجه‬
‫التفاؤل الذي ُصمم به التاريخ ببراعة ليناسب منطق الثيودسية انتكاسة مبكرة مع زلزال‬
‫لشبونة األرضي عام ‪ .1775‬أقنع هذا الحدث المدمر أخيرا فولتير أن اإليمان بالعناية‬
‫اإللهية لم يكن في الحقيقة أكثر من «فلسفة قاسية في ظل اسم مواساة» (‪Besterman,‬‬
‫‪ .)1962, 76‬لقد أقنعت المحنة على هذا النطاق المتشككين أن التبريرات الدينية‬
‫كانت مرفوضة أخالقيا في انتهاك بدال من استرداد اإليمان بالحقيقة والعدالة والكرامة‬
‫اإلنسانية من خالل غيظهم المطلق‪ .‬بعد قرن من الزمان‪ ،‬يثير دوستويفسكي مشاعر‬
‫مماثلة في «اإلخوة كرامازوف» (‪ ،)Dodtoevsky, 1880‬حيث ترفض إليوشا قبول‬
‫إله يسمح بتعذيب وقتل األطفال األبرياء لتحقيق هدفه األعلى‪ .‬ومؤخرا‪ ،‬تم تقديم‬
‫االعتراض بشكل ال لبس فيه في مذكرات السيرة الذاتية إليلي ويزل عن تجاربه‬
‫في معسكرات الموت النازية‪ .‬يصف ويزل كيف فقد إيمانه بإله بدا غير ٍ‬
‫مبال بالقتل‬
‫الجماعي‪ .‬لقد دمرت التجربة إيمانه بعدالة الله ورحمته ومحبته‪ :‬فالله موجود فقط‬
‫ل ُيتهم باإليذاء والقسوة والكراهية‪ .‬أكثر من أي فظاعة أخرى هذا القرن‪ ،‬تضع المحرقة‬
‫اللمسات األخيرة على فشل الثيودسية من خالل الكشف بوضوح رهيب عن عقم‬
‫محاولة التوفيق بين وجهة نظر العناية بالتاريخ وحقائق الوحشية المنظمة بال هوادة‬
‫(‪.)Levinas, 1988, 161-2‬‬

‫معنى المعاناة‬
‫أصبح أوشفيتز مرادفا للكتالوج المروع للفظائع التي شوهت ذاكرة الحداثة‪ .‬وبينما‬
‫تعاني البشرية جمعاء‪ ،‬ال يمكن بسهولة التوفيق بين سجل اإلذالل المهين والموت‬
‫الذي دمر ماليين األرواح في القرن العشرين مع فكرتنا عن التقدم والحضارة‪ .‬المعاناة‬
‫هي دائما أكثر من األلم الجسدي‪ ،‬أكثر من العنف‪ ،‬أكثر من الحرمان المادي؛ أكثر من‬
‫الدمار‪ ،‬أكثر من الخسارة‪ :‬المعاناة هي حالة الوجود التي «تفكك عالمنا» (‪Scarry,‬‬
‫‪ ،)1985‬تفرض المعاناة مسافة عاطفية واجتماعية بين الناس تتجاوز اللغة (‪Weil,‬‬
‫‪ ،)1950, 77-8‬بمعنى عميق‪ ،‬يمكن فقط لمن يعانون من شدة محنتهم أن يتحملوا‬
‫‪289‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫شهادة حقيقية عن شدة محنتهم‪ .‬في األشكال المتطرفة‪ ،‬فإنه يهيمن على الوعي بحيث‬
‫يصعب إدراك أي شيء غير الشعور باأللم‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن ما ندركه بالضبط ال يمكن‬
‫افتراضه بالكلمات‪.‬‬
‫يقترح شوبنهاور أن تميز المعاناة اإلنسانية يكمن في «قدرتنا على المعرفة»‪ ،‬في‬
‫الحاجة إلى إضفاء معنى على حياتنا‪ :‬إذا لم يكن ذلك بسبب العقل‪ ،‬فلن تظهر المعاناة‬
‫على أنها مشكلة (‪ .)Schopenhauer, 1970, 43-7‬إن تجربة األلم والدمار والخسارة‬
‫«تتكثف بقوة من خالل التفكير في األشياء الغائبة والمستقبلية» (‪Schopenhauer,‬‬
‫‪ .)1970, 44‬في هذا الصدد‪ ،‬ال يمكن اختزال المعاناة إلى ألم جسدي أو قلق عاطفي؛‬
‫إذا اقتبسنا عبارة جون هيك‪ ،‬فهي «وظيفة ذات معنى» تدعمها الذاكرة والترقب‪ .‬يركز‬
‫وعينا‪ ،‬في بعض األحيان‪ ،‬على التفكير في المغزى الساحق من الشدائد والخسارة‪ .‬إنه‬
‫‪5‬‬
‫يتغذى على قدرتنا على تخيل حياتنا خالية من األعباء من المحن وتوقع استمرار األلم‬
‫(‪.)Hick, 1966, 354-5‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬هناك مفارقة هنا‪ ،‬فبينما يبدو أن المعاناة تعتمد على الحاجة إلى فرض‬
‫معنى على حياتنا‪ ،‬غالب ًا ما تكون المعاناة في أقصى درجاتها عندما يكون المعنى هو‬
‫الشيء ذاته الذي ينفيه‪ .‬يالحظ إيمانويل ليفيناس أنه في حين أن المعاناة تفرض نفسها‬
‫على الوعي‪ ،‬هناك شيء ما في هذه التجربة يظل دائما «غير محتمل»‪ .‬يقترح أن‪:‬‬
‫يعتبر إنكار ورفض المعنى‪ ،‬الذي ُيفرض على أنه صفة منطقية‪ ،‬كمحتوى ذي خبرة‪،‬‬
‫هو الطريقة التي يتحمل بها الوعي بدقة ما ال ُيحتمل‪ ،‬والطريقة التي ُيحمل بها هذا‬
‫الالوجود‪ ،‬للمفارقة‪ ،‬في حد ذاتها إحساس أو معطى (‪.)Levinas, 1988, 156‬‬
‫عذاب المعاناة ــ وفقا ليفيناس‪ -‬يكون أكثر حدة في إدراك أنه «ال شيء» على‬
‫ً‪6‬‬
‫اإلطالق؛ ما يجعل التجربة غير محتملة هو اإلحساس بأنها «غير مجدية» تماما‬

‫‪ 5‬نقرتح أن مجيع أشكال املعاناة‪ ،‬سواء كانت عاطفية أو جسدية‪ ،‬فردية أو مجاعية‪ ،‬من شأهنا إثارة أسئلة‬
‫أساسية حول أمهية وهدف احلياة‪ .‬عىل الرغم من إمكانية متييز األمل اجلسدي عن القلق الوجودي‪،‬‬
‫واإلبادة اجلامعية عن حالة منعزلة من التعذيب أو االغتصاب‪ ،‬يف كل هذه احلاالت‪ ،‬تواجهنا‬
‫الالعقالنية املطلقة للمعاناة بغياب ال يطاق للمعنى األخالقي‪.‬‬
‫أيضا بريمو ليفي‪ :‬الغرق واملنقذ (‪.)Levi, 1988‬‬
‫‪ 6‬حول «املعاناة غري املجدية»‪ ،‬انظر ً‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪290‬‬
‫(‪ .)Levinas, 1988, 157-8‬بينما تستدعي طبيعة المعاناة البحث عن المعنى‪ ،‬فإن‬
‫التجربة تكثف من خالل الحقيقة الغاشمة للالمعقولية التي ال معنى لها‪ .‬يثير هذا‬
‫التعسف في المعاناة أسئلة أساسية عقلية عن الوجود والهوية والهدف البشري‪ .‬كتب‬
‫عالم الالهوت هانز كونغ‪:‬‬
‫المعاناة البشرية‪ :‬من يستطيع تحمل هذا التاريخ من المعاناة البشرية‪ ،‬مقارنة بماليين‬
‫السنين من تاريخ الطبيعة ما قبل البشرية؟ هذا تاريخ من التناقضات والصراعات‪ ،‬من‬
‫الظلم وعدم المساواة والضيق االجتماعي‪ ،‬كل التورط المستديم في المرض والشعور‬
‫بالذنب‪ ،‬كل مصير ال معنى له وشر ال معنى له‪ :‬سيل ال ينتهي من الدم والعرق والدموع‬
‫واأللم والحزن والخوف‪ ،‬الوحدة والموت‪ .‬إنه تاريخ تبدو فيه كل هوية وأهمية وقيمة‬
‫للواقع والوجود البشري وكأنها موضع تساؤل جذري باستمرار من خالل الالهوية‬
‫والالمبالغة والقيمة‪ .‬في هذا التاريخ من المعاناة‪ ،‬يصبح العقل األولي والمعنى‬
‫األساسي والقيمة األولية للواقع والوجود البشري أيضا موضع تساؤل جذري دائم من‬
‫خالل الفوضى والسخافة والوهم (‪.)Kung, 1977, 428‬‬
‫بالنسبة ألولئك الذين يسعون إلى تبرير المعاناة‪ ،‬ال تكمن المشكلة في االفتقار‬
‫إلى األسباب‪ ،‬بل باألحرى أن هناك الكثير من المعاناة التي يجب تفسيرها (‪Sontag,‬‬
‫‪ .)1987‬يبدو أن حجم المعاناة العالمي يتحدى العقل‪ .‬تحت ستار الظلم والضيق‬
‫والشدائد واأللم‪ ،‬تواجه المعاناة حدود العقالنية؛ تحطم التوجهات اليومية للعالم‬
‫ٍ‬
‫معان دنيوية أخرى (سحرية‪ ،‬دينية‪ ،‬منتشية) لتجارب ال‬ ‫وتثير إعجابنا بالحاجة إلى‬
‫يمكن تفسيرها بشكل عملي‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فإن مشكلة الثيودسية التي لم تحل هي أن‬
‫المعاناة تستنفد حدود العقل العملي‪ :‬يبدو منطق التفسير الهادف سهال عندما يواجه‬
‫صراعات واستغالل وعبثية المعاناة في عالم حر‪.‬‬

‫من الثيوديسية إلى السوسيوديسية‬


‫كانت حصيلة المعاناة في القرن العشرين غير مسبوقة‪ .‬يقدر إريك هوبسباوم أن ما‬
‫يصل إلى ‪ 187‬مليون شخص قتلوا أو ُسمح لهم بالموت كنتيجة مباشرة لقرارات بشرية‬
‫في المائة عام الماضية‪ .‬في رأيه القرن العشرون بال شك‪:‬‬
‫‪291‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫أكثر القرون دموية التي سجلناها‪ ،‬سواء من حيث حجم وتكرار وطول الحرب‬
‫الذي مألته‪ ...‬والحجم الذي ال مثيل له من الكوارث البشرية التي أنتجها‪ ،‬من أعظم‬
‫المجاعات في التاريخ إلى اإلبادة الجماعية المنهجية (‪.)Hobsbawm, 1994, 13‬‬
‫ما هو معنى هذا «القرن األكثر دموية»؟ كيف يمكن الحفاظ على فكرة العقالنية‬
‫أو التقدم مقابل السجل التاريخي؟ وكيف لنا أن نتعايش مع توقع أنه من غير المرجح‬
‫أن تنخفض كوارث مماثلة في المائة عام القادمة؟ إذا كان علم االجتماع‪ ،‬كما ُيزعم‬
‫كثيرا‪ ،‬يمثل الوعي االنعكاسي للعالم االجتماعي الذي يكافح فيه األفراد إليجاد‬
‫المعنى والهوية )‪ ،(Giddens, 1996, 1-7; Bauman, 1990, 224‬كيف يجب أن يعالج‬
‫مصير أولئك الذين لم تكن تجربة الحداثة أ بالنسبة لهم إال «نهاية العالم لفنائهم»‬
‫(‪ .)Moltmann, 1998, 11‬بأي معنى يقدم علم االجتماع «سوسيوديسية» لعصرنا؟‬
‫في محاولة لنقل هذا السؤال إلى أجندة البحث االجتماعي‪ ،‬أشار المساهمون في‬
‫إصدار حديث من ‪( Daedalus‬شتاء ‪ )1996‬إلى «المعاناة االجتماعية» للفت االنتباه‬
‫إلى حقيقة أن أصول الفظائع والعنف والمجاعة والفقر وسوء المعاملة واأللم متجذرة‬
‫بعمق في العمليات االجتماعية والسياسية واالقتصادية القوية؛ عالوة على ذلك‪ ،‬فإن‬
‫هذه القوى االجتماعية نفسها تؤثر على تصوراتنا واستجاباتنا للمتاعب البشرية (‪Das,‬‬
‫‪ .)1996; Kleinman t. al., 1996. xiv‬ما هو مقترح هنا هو نوع من السوسيوديسية‬
‫«المقلوبة» الذي يجلب من الخداع «األذى الخفي والمخاوف والرغبة الشديدة» التي‬
‫بدونها ال يمكن سرد «القصة الحقيقية» للقرن العشرين (‪.)Graubard, 1996, viii‬‬
‫إنها قصة يمكن طمسها بسهولة من خالل اإلنجازات الثقافية والتقنية الملحمية خالل‬
‫المائة عام الماضية‪ ،‬ومع ذلك يتم موازنتها بمقياس المعاناة اإلنسانية والدمار‪ ،‬فهي‬
‫تشير إلى احتمال أننا‪ ،‬على األقل من الناحية التاريخية‪ ،‬نعيش في واحدة من أسوأ‬
‫العوالم المسجلة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬إذا كانت دراسة المجتمع تدعو إلى دراسة ألمه‪ ،‬فلماذا ظلت طرق‬
‫«التفكير في المعاناة» على هامش االهتمام االجتماعي (‪)Kleinman, 1995, 181‬؟‬
‫الجواب‪ ،‬كما نقترح‪ ،‬يثير اعتبارين‪ ،‬كالهما يعكس المسافة االجتماعية واألخالقية‬
‫التي تفرضها المعاناة بين المصاب وبيننا‪ .‬يتعلق األول باللغة وصورة المعاناة‪ ،‬في كل‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪292‬‬
‫من العلوم االجتماعية ووسائل اإلعالم المعاصرة؛ يطرح الثاني أسئلة منهجية وأخالقية‬
‫تتعلق بمشروع االجتماع االجتماعي نفسه‪.‬‬
‫مشكلة التعبير عن تجربة المعاناة هي موضوع متكرر في دراسات األلم ذات الصلة‬
‫(‪ .)Wall & Jones, 1998‬يميل الصدى العاطفي الذي تم التعبير عنه بشكل مبدئي في‬
‫مثل هذه األعمال الفنية مثل لوحة الغورنيكا لبيكاسو والصرخة لمونيه إلى التهرب‬
‫من الصفحة المطبوعة‪ .‬على النقيض من ذلك‪ ،‬فإن اللغة القياسية للبحث االجتماعي‬
‫يمكن أن تحجب أكثر مما تكشف‪ .‬في دراسة عن العنف واالعتداء الجنسي الذي‬
‫تعرضت له النساء الهندوسيات والمسلمات أثناء تقسيم الهند‪ ،‬تعترف فينا داس‬
‫بصعوبات محاولة شمول األهمية الجسدية والنفسية والرمزية لفظائع مثل هذه‪ .‬لم‬
‫تكن المشكلة في حالتها هي االفتقار إلى األدلة التاريخية‪ ،‬أو الروايات المباشرة‪ ،‬بل‬
‫كانت الغياب الصامت لـ«لغات األلم التي من خاللها يمكن للعلوم االجتماعية أن‬
‫تنظر إلى‪ ،‬أو تلمس‪ ،‬أو تصبح أجسادا نصية ُيكتب عليها هذا األلم» (‪Das, 1996,‬‬
‫‪ .)67‬بالنسبة إلى داس‪ ،‬ال تكمن المشكلة في أن المعاناة التي نلحقها ببعضنا البعض ال‬
‫يمكن وصفها‪ ،‬بل باألحرى أن العلوم االجتماعية لم تنتج لغة مناسبة لمهمة توصيل ما‬
‫يتطلب اهتمامنا بالضبط‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا الصمت يطرح السؤال عما يجب شرحه‪ .‬يقترب الفيلسوف‬
‫ستانلي كارفيل من المشكلة من خالل اقتراح أنه مع غياب اللغة‪ ،‬فإن غياب االعتراف‬
‫يؤدي إلى استمرار ألم المعاناة نفسها (‪ .)Karvell, 1996, 94-5‬تم توضيح هذه النقطة‬
‫في اإلجراءات القانونية التي أعقبت كارثة بوبال والقضية المرفوعة ضد العميل أورانج‪.‬‬
‫فالمطالبة بتعريفات دقيقة «للضرر» و»السمية» أسكتت معاناة أولئك الذين تسمموا‬
‫حياتهم بالمعاناة حرفيا‪ .‬من أجل «االعتراف القضائي» بمعاناتهم‪ ،‬اضطر المدعوون‬
‫إلى اختزال خبرتهم في التعريفات شبه العلمية للضرر واأللم التي تركت أهم عواقب‬
‫محنتهم غير معترف بها من قبل المحاكم‪ .‬بشكل افتراضي‪ ،‬اإلجراءات القانونية‬
‫المصممة إداريا للوصول إلى قرارات عادلة ومنصفة تواطأت مع سوسيوديسية ضمنية‬
‫أدت إلى ترشيد المعاناة التي تسببها األخطار الكيميائية كأثر جانبي مؤسف للتقدم‬
‫والتغيير التقني (‪.)Das, 1996; 1997, 568-72‬‬
‫‪293‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫وبنفس الطريقة إلى حد كبير‪ ،‬تميل تدابير القياس الكمي لعواقب المحنة في العلوم‬
‫االجتماعية إلى التقليل من المعاناة من خالل الفشل المستمر في التقاط شدة الوعي‬
‫الشخصي وتعقيده الثقافي‪ .‬ال تكمن المشكلة في أن المعاناة تقاوم الفهم‪ ،‬بل تكمن‬
‫في أن الفئات التحليلية نادرا ما تتعامل مع التجربة الفعلية للبالء‪ .‬على سبيل المثال‪،‬‬
‫تفترض محاوالت بناء «مقاييس المعاناة» الموضوعية‪ ،‬مثل مؤشر سنوات العمر‬
‫المعدلة لإلعاقة التابع للبنك الدولي‪ ،‬بشكل فظ تجانس المعنى والخبرة عبر مختلف‬
‫الثقافات والمجموعات االجتماعية (‪ .)Kleinman et. al., 1996, 11-15‬في هذه‬
‫الحالة‪ ،‬جعل األلم والبالء في متناول التدابير المعيارية يخفي العبء الحقيقي للمعاناة‬
‫عن طريق تقليل «التدفق الحقيقي للتجربة الحية» (‪ )Kleinman, 1991, 292‬إلى‬
‫مؤشرات الخسارة االقتصادية‪ .‬واألهم من ذلك هو معالجة حاالت النقص الغذائي في‬
‫الدول الغنية‪ ،‬على سبيل المثال‪ ،‬حيث أن الخسائر في الحروب العرقية في كوسوفو‬
‫ودول البلقان تنزع عن غير قصد شرعية الواقع األخالقي والسياسي للعنف واأللم‬
‫ويقلل من شأنها‪.‬‬
‫تتفاقم هذه الصعوبات المتكررة في تصور طرق «التفكير في المعاناة» من خالل‬
‫صور وسائط مبتذلة من شأنها أن تشوه قدرتنا على التعرف على ما تعنيه تجربة المعاناة‬
‫في الواقع ونقله‪ .‬يبدو أن توسع االتصاالت العالمية لم يفعل شيئا يذكر لتعميق فهمنا‬
‫لصدمات اآلخرين وآالمهم؛ كما أنها لم تشجع تلك المشاعر واألنشطة التي تفترضها‬
‫الفكرة (المضللة) بأننا نعيش اآلن «قرية عالمية»‪ .‬على العكس من ذلك تميل أحاسيسنا‬
‫إلى اإلفراط في التأثر بوسائل اإلعالم التي يتم من خاللها تأطير هذه التجارب‪.7‬‬
‫الصور المقربة ألطفال يتضورون جوعا وأجساد محترقة وعائالت حزينة وخطوط‬
‫متعبة من الالجئين أصبحت اآلن صورا شائعة في الصحافة وأخبار التلفزيون‪ .‬تقديم‬
‫هذه الصحافة الصورية المحررة باصطناعية صمم ببراعة الستهالك اهتمامنا وحساب‬

‫‪ 7‬ردا عىل «جتربة الوساطة» للعامل‪ ،‬يتم استفزاز بعض األفراد للقيام بأعامل شفقة ويشاركون يف محالت‬
‫سياسية وإنسانية ملساعدة أولئك الذين يعانون يف األرايض البعيدة‪ .‬من املؤكد أن جون طومسون حمق‬
‫يف اإلشارة إىل أن «العيش يف عامل متوسط حيمل يف طياته عبئا جديدا من املسؤولية يلقي بثقله عىل كاهل‬
‫البعض (‪ .)Thompson, 1995, 234‬ومع ذلك‪ ،‬فإن اجلزء األكرب من حتليله مكرس لرشح ملاذا يظل‬
‫من السهل جدا عىل األغلبية مقاومة االدعاءات األخالقية التي تصنعها صور املعاناة عىل حساسياتنا‪.‬‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪294‬‬
‫الصدمة‪ .‬من المتوقع أن نتعاطف مع ضحايا العنف‪ ،‬ولكن األهم من ذلك كله‪ ،‬وعلى‬
‫مسافة آمنة‪ ،‬من المتوقع أن نراقب‪ .‬يتم اآلن بشكل روتيني االستيالء على هذه التجارب‬
‫المؤلمة وتحويلها إلى رأس المال الثقافي والتجاري للشركات اإلعالمية العاملة في‬
‫األسواق الدولية التنافسية «لألخبار»‪ .‬وبهذه الطريقة‪ ،‬يبني اإلعالم استجابة عاطفية‬
‫جماعية للكوارث العالمية كشكل من أشكال «المعلومات والترفيه» (‪Kleinman‬‬
‫‪ ،)& Kleinman, 1996‬حيث يتم مالحظة أولئك المحاصرين بسبب المحن بنظرة‬
‫السائح‪ .‬الصور التي نراها هي بال شك «حقيقية» ومقلقة‪ ،‬لكن الواقع الذي يصورونه‬
‫«منفصل» عن أخالقيات المسؤولية والجدل السياسي‪ .‬كما كتب مايكل إغناتيف‪:‬‬
‫سواء كان العالم الذي نعيش فيه أكثر عن ًفا‪ ،‬أو مليئا بالمعاناة‪ ،‬فمن المستحيل‬
‫تحديد طبيعة األشياء‪ .‬ما يبدو أقل إثارة للجدل هو أن الثقافة أقل قدرة على تلبية‬
‫احتياجات اإلنسان من أجل اعتبار كرامتنا كمخلوقات‪ ،‬وأقل قدرة على التعامل مع‬
‫التجربة اإلنسانية للعنف والمعاناة باالحترام الذي تستحقه‪ :‬احترام الغضب‪ .‬لقد انفجر‬
‫عنف العالم ومعاناتنا رفاهية الجهل‪ ،‬لكننا نفتقر في المجال العام إلى تلك األطر من‬
‫التفسير والحكم التي نستخدمها في المجال الخاص إلعطاء معنى لتجربتنا الخاصة‬
‫(‪.)Ignatieff, 1985, 74‬‬
‫التأثير هو المساهمة في ما يصفه إغناتيف على أنه ثقافة «التلصص المختلط»‪ ،‬والتي‬
‫تفرض مسافة ال يمكن تجاوزها بين الضحايا ومضطهديهم وأولئك الذين يراقبون‪.‬‬

‫مستقبل السوسيوديسية‬
‫إن ربط الجمهور بالمجال الخاص من أجل تفسير معنى الشدائد والبؤس هو‬
‫وعد السوسيوديسية‪ .‬إنه الوعد نفسه الذي ادعى رايت ميلز أنه من أجل المخيال‬
‫االجتماعي عندما جادل بأن مساهمته المميزة تكمن في التعبير عن الديناميكية بين‬
‫القوى االجتماعية وعدم اليقين بشأن «المشاكل الشخصية» في الحياة العادية (‪Mills,‬‬
‫‪ .)1959, 124‬ومع ذلك‪ ،‬فإن المقاومة التي نواجهها لـ«التفكير في المعاناة» تكذب‬
‫هذا الوعد‪ ،‬ليس من خالل االفتقار إلى المخيال‪ ،‬ولكن ألن القوى المتسارعة التي‬
‫تغير أنماط التجربة االجتماعية على مستوى العالم قد وضعت المحن والبؤس‬
‫‪295‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫خارج مساحة السرد المألوفة‪ .‬لقد أصبح التغيير تقطعات وعرضيات وتشتتات في‬
‫بنى المعنى المستقرة سابقا مع التحوالت الفوضوية في الحياة السياسية واالقتصادية‬
‫والشخصية (‪ .)Bourdieu, 1993‬في سعيها إلى تبرير مفهوم متماسك للنظام‪ ،‬تفترض‬
‫السوسيوديسية ــ المقلوبة أو غير ذلك ــ نظما مستقرة نسبيا للمعنى‪ ،‬ومع ذلك فهي تواجه‬
‫اختالل الماضي والحاضر‪ ،‬واالنعكاسية والمخاطرة‪ ،‬فإن آفاق السوسيوديسة مفتوحة‬
‫اآلن لنفس الشك مثل الثيوديسيات المبكرة‪ .‬يعتقد باومان أن بقاءنا في المستقبل يعتمد‬
‫على الحفاظ على موقف متشكك تجاه وجهات النظر األخروية المنطقية للتاريخ التي‬
‫تطبع ضمنيا الدمار والمعاناة التي صاحبت عمليات عولمة التحديث (‪Bauman,‬‬
‫‪ .)1993, 223-50‬وهو يعتقد أن الإنسانية القرن العشرين يجب أن تتركنا غير مدركين‬
‫لمحاوالت تبرير التجارب التي تتجاوز حدود العقل أخالقيا (‪Bauman, 1991,‬‬
‫‪ .)1993‬على نفس المنوال‪ ،‬يجادل جورج شتاينر بأنه يجب التعامل مع الهولوكوست‬
‫على وجه الخصوص على أنه حدث «ال يوصف»‪ .‬الموقف األخالقي الوحيد المقبول‬
‫هو الحفاظ على صمتنا‪ ،‬ألن محاوالت تحليل مثل هذه األحداث تقلل من الفظائع‬
‫البشرية إلى درجة هي نفسها أخالقيا مرفوضة (‪.)Steiner, 1967‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬يشير هذا التراجع إلى الصمت إلى جيليان روز شكال من أشكال‬
‫«التقوى» الفلسفية التي تتجنب ضرورة مواجهة قدرتنا على األعمال غير اإلنسانية‬
‫المحسوبة (‪ .)Rose, 1996, 41-62‬تدعي أنه من خالل التعامل مع األحداث المروعة‬
‫مثل الهولوكوست على أنها ال توصف‪« ،‬نحن نحير شيئا ال نجرؤ على فهمه‪ ،‬ألننا‬
‫ومستمرا للغاية في ما نحن عليه (‪Rose, 1996,‬‬
‫ً‬ ‫نخشى أنه قد يكون مفهوما للغاية‪،‬‬
‫‪ .)43‬يمكن إثارة االعتراض نفسه ضد الميل إلى بناء سوسيوديسيات مقنعة بشكل رقيق‬
‫حيث ال يتم توجيه ضربة خارج إطار عمل عقالني وخاضع للمساءلة‪ ،‬تاركا التصرفات‬
‫«غير العقالنية» تجاه القسوة والعنف بدون تفسير وبدون وجه بشري‪ .‬وهكذا تفترض‬
‫الفظائع التي ال يمكن تصورها «اختالفا»‪ ،‬صفة شيطانية تتحدى الفهم ضمن األطر‬
‫التقليدية للمسؤولية والجريمة والذنب‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن الحقيقة‪ ،‬كما الحظت حنة‬
‫أرندت في نهاية الحرب‪ ،‬هي أن «النازيين رجال مثلنا‪ :‬الكابوس أنهم أظهروا بما ال‬
‫يدع مجاال للشك ما يستطيع الرجال فعله» (‪ .)Arendt, 1964‬المشكلة التي نواجهها‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪296‬‬
‫في التعامل مع هذا الكابوس هو أنه يقاوم التأنيب المناسب في الفئات التي يمكننا‬
‫استيعابها‪ .‬لم يتعرض اليهود لالضطهاد بسبب معارضتهم لالشتراكية القومية‪ ،‬أو‬
‫ألسباب اقتصادية‪ ،‬أو حتى بسبب معتقداتهم الدينية؛ الرعب الحقيقي للهولوكوست‬
‫هو أنه تم التخطيط لها وتنفيذها من قبل رجال عادوا إلى منازلهم ليلعبوا مع أطفالهم‪،‬‬
‫دون تردد أو دافع أو غايات عملية‪.‬‬
‫هذا التقارب بين المعاني‪ ،‬بين «السلوك الطبيعي والعادي» والتجاهل القاسي لحياة‬
‫اإلنسان‪ ،‬يطرح مشكلة حرجة للتواصل االجتماعي‪ .‬إن الظروف التي تدعم ما تمثله‬
‫حنة أرندت على أنه «تفاهة الشر» (‪ )Arendt, 1964‬هي جزء ال يتجزأ من نفس عمليات‬
‫التنظيم العقالنية والفعالة تقنيا والتي تدعم معايير التقدم االجتماعي والمعتقدات‬
‫المستنيرة في مستقبل الخير‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن هذا االرتباط المتميز ثقافيا والمستمر‬
‫بفكرة التقدم معرض باستمرار لحاالت الطوارئ المتنافرة والمضطربة واألحداث‬
‫الرهيبة‪ .‬في النضال من أجل الحفاظ على مفهوم أخالقي وعقالني متماسك للعالم‪،‬‬
‫فإن «األشياء التي ال ينبغي أن تحدث أبدا» يتم جعلها بشكل متناقض غير خاضعة‬
‫للمساءلة وغير عقالنية وغير قابلة للفهم‪ .‬ما يسميه ويبر «حتمية االتساق» (‪1970,‬‬
‫‪ )324‬ينتج شذوذا ال يمكن تفسيره يبدو غريبا وغير قابل للفهم‪« ،‬جانب مظلم» للحداثة‬
‫ال يمكن الوصول إليه من قبل العقل ومبهم نظريا‪ .‬هنا‪ ،‬تتالقى مشكلة الثيوديسيات‬
‫والسوسيوديسات‪ ،‬ولكن فقط لالنفصال؛ ألنه‪ ،‬في حين نعمم الثيوديسية معنى الشر‬
‫والمعاناة‪ ،‬تفسر السوسيوديسية عاد ًة مثل هذه التجارب باالنحراف‪ ،‬واالنحراف‬
‫المعياري عن عالم تقدمي ومنظم بشكل عقالني‪.‬‬
‫كانت محاوالت تبرير هذه التناقضات الظاهرة أقل اهتماما بأفعال الناس ونواياهم‬
‫بقدر اهتمامها بتأثير القوى البعيدة غير الشخصية التي تحرم وتدمر المجتمعات‬
‫وأسلوب حياتهم‪ .‬يظهر أولئك الذين يعانون من الظلم والشدائد والمعاناة كضحايا‬
‫سلبيين لمصير «ال يمكن تفسيره إال بالرجوع إلى الظروف الثقافية واالجتماعية‬
‫والسياسية األوسع للعالم المعاصر» (‪ .)Graubard, 1996, viii‬في االقتصاد األخالقي‬
‫للمجتمع االجتماعي‪ ،‬تحجب األسئلة المقلقة حول «ما نحن عليه» حاالت الطوارئ‬
‫االنتقالية وغير المقصودة للتغيير العالمي‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن الشهادات التي ُقدمت إلى‬
‫‪297‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫لجنة الحقيقة والمصالحة في جنوب إفريقيا‪ ،‬أو محكمة جرائم الحرب الدولية‪ ،‬أو‬
‫محاكمات نورمبرغ‪ ،‬تشير إلى أننا يجب أن نميز بين تلك العمليات العالمية والبنيوية‬
‫التي تؤدي إلى تفاقم خطوط االستبعاد والصراع‪ ،‬واألفعال المحلية االنتقامية والتعصبة‬
‫والعنفية التي يرتكبها أولئك الذين هم ــ بشكل متعمد أو غير مباشر ــ مسؤولون عن‬
‫معاناة اآلخرين وألمهم‪ .‬التمييز له آثار أخالقية وكذلك المنهجية‪ .‬على عكس االنحراف‬
‫الناجم عن الكوارث الطبيعية‪ ،‬فإن المعاناة االجتماعية لها واقع متعدد الذوات يزداد‬
‫حدته من خالل الوعي بإهمال اآلخرين وتمييزهم‪ ،‬أو نية القتل والتشويه‪ .‬يجذبنا‬
‫«التفكير في المعاناة» إلى التعاطف مع تجربة العنف والخسارة‪ ،‬ولكنه يتطلب منا‬
‫أيض ًا التفكير باالستياء والقسوة والهواجس التي تحفز على أعمال العنف وتضع معنى‬
‫على إذالل اآلخرين وألمهم‪ .‬تتجسد األهمية اإلنسانية للمعاناة االجتماعية في المعنى‬
‫الوجودي لما نشعر به‪ .‬على سبيل المثال‪ ،‬فإن االغتصاب المنهجي الذي ارتكبته قوات‬
‫األشقاء في كرواتيا والبوسنة على حد سواء‪ ،‬جسديا ورمزيا‪ ،‬عبر عن إخضاع شعب من‬
‫خالل التسبب بوعي في نوع من الصدمة العاطفية الجماعية التي ال يمكن للمجتمع أن‬
‫ينساها أبدا‪ .‬عالوة على ذلك‪ ،‬كان أولئك الذين شاركوا في هذه الفظائع من الرجال‬
‫العاديين ــ الجيران والتجار وسائقي سيارات األجرة وأصحاب المتاجر والمجندين‬
‫الشباب ــ الذين شاركوا أسلوب حياة مشترك وقدرة مشتركة على تخيل آالم اآلخرين‪.‬‬
‫بعد تحررهم من قيود الهابيتوس والقيود المدنية‪ ،‬فإن عدم تسامحهم وتواطؤهم‬
‫وكرههم ال يقل أهمية لفهم المعاناة التي فرضوها عن العمليات االنقسامية والمزعزعة‬
‫لالستقرار على الصعيد العالمي التي تشكل سياسات الحروب العرقية واألهلية‪.‬‬
‫توصل فرويد على مضض إلى استنتاج مفاده أن دافعنا المقاوم لتدمير طريقة حياة‬
‫اآلخرين يهزم كل جهد نبذله لتنظيم العالقات االجتماعية بطرق تقربنا من المثل األعلى‬
‫العقالني (‪ .)Freud, 1930‬من الباسكاندال إلى األوشفيتز إلى الفظائع األخيرة في‬
‫حروب البلقان‪ ،‬عادت مشكلة الثيودسية مع االنتقام‪ ،‬ليس في التكهنات الميتافيزيقية‪،‬‬
‫ولكن مع التفاهة واإلكراه الدنيوي للحياة العادية‪ .‬نقترح أن السوسيوديسية ال يمكنها‬
‫الهروب من اآلثار األخالقية لهذه اإلكراهات المثيرة لالنقسام ولكن الشائعة‪ ،‬والتي‬
‫بدونها لن نكون أقرب إلى فهم ما نحتاج إلى شرحه‪.‬‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ ‫‪298‬‬
‫استنتاج‬
‫يقدم ماكس ويبر اقتراحا مقلقا بأن الثيودسية اليهودية المسيحية قد ورثت للحداثة‬
‫واقعا ثقافيا أصبحنا فيه ــ أكثر من أي فترة أخرى من التاريخ ــ مدركين للتناقض‬
‫الصارخ بين توقعاتنا المثالية للعالم والواقع الوحشي للوجود االجتماعي (‪Weber,‬‬
‫‪ .)1970, 129-56, 276-301‬كما يكتب بارسونز‪:‬‬
‫يتخذ ويبر الموقف األساسي الذي مفاده أنه بغض النظر عن المحتوى الخاص‬
‫للنظام المعياري‪ ،‬فإن عنصرا رئيسيا من التناقض أمر ال مفر منه‪ .‬وكلما كان النظام‬
‫أكثر عقالنية‪ ،‬كلما زاد التوتر‪ ،‬زاد تعرض العناصر الرئيسية للسكان لتجارب محبطة‬
‫بالمعنى المحدد للغاية‪ ،‬وليس مجرد حدوث أشياء تتعارض مع «مصالحهم»‪ ،‬ولكن‬
‫تحدث األشياء التي ال معنى لها بمعنى أنه ال يجب أن تحدث‪ .‬هنا قبل كل شيء تكمن‬
‫مشاكل المعاناة والشر (‪.)Parsons, 1966, xvii‬‬
‫يظل السياق االجتماعي للثيوديسية راسخا في السعي للتغلب على هذا التوتر بين‬
‫الم ُثل المعيارية والحاالت الطارئة في الحياة االجتماعية‪ .‬بالنسبة للبعض‪ ،‬يعتبر البحث‬
‫ُ‬
‫عديم الجدوى فكريا وال يمكن الدفاع عنه أخالقيا‪ .‬في كال الحالتين‪ ،‬يمكن القول إنه‬
‫الأدرية وجهة نظر معينة من العلوم االجتماعية‪ ،‬ألسباب ليس أقلها أن جعل ما ال يمكن‬
‫تجاوزه «ذا مغزى» يتجاوز حدود العقالنية الهادفة‪ ،‬ويواجهنا بعوامل خارجية أخالقية‬
‫تتجاوز اللغة‪ ،‬و‪-‬كما قد يفترض البعض ــ نطاق العلوم االجتماعية‪ .‬لقد اتخذنا وجهة‬
‫نظر معارضة هنا‪ ،‬ليس دفاعا عن السوسيوديسيات التي تبرر المعاناة والظلم من أجل‬
‫غايات فعالة وخالية من االحتكاك‪ ،‬ولكن للدفاع عن المجتمع الغريب كنقد ذاتي‬
‫الوعي للتفاوت بين التطلعات األلفية للحداثة والواقع في الذي نعيشه‪ ،‬متحررا من‬
‫االفتراضات العقالنية والمعتقدات اإللهية‪ ،‬فإن السوسيوديسية ــ على عكس الثيودسية‬
‫ــ ال تقدم التنفيس أو تسعى إلى تبرير المعاناة واأللم‪ :‬على العكس من ذلك‪ ،‬تشكك‬
‫في التوترات الالحضارية في الحداثة التي ــ في معظم القرن العشرين‪ -‬فضلنا مغادرتها‬
‫بصمت‪ .‬في مقاومة المضامين األخالقية لهذا المشروع‪ ،‬يتشارك علم االجتماع مع‬
‫الثقافة الغربية فكرة تعتبر األلم الذي نلحقه ببعضنا البعض «إضافة مجانية»‪ ،‬حالة غير‬
‫ملحوظة ولكنها «حتمية» للحياة الحديثة (‪ .)Freud, 1930, 14‬ال يتم إنكار حقيقة‬
‫‪299‬‬ ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

‫اإلبادة الجماعية والعنف والمعاناة‪ ،‬بل يتم إبعادها عن الهياكل المنظمة للحلفاء للتقدم‬
‫االقتصادي والسياسي التي تشعر بها العلوم االجتماعية أكثر في الوطن‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن‬
‫التدمير المتصاعد للحياة البشرية في القرن العشرين كان ظاهرة حديثة مميزة‪ ،‬ترتبط‬
‫ارتباطا وثيقا بالمصالح المنظمة للديمقراطيات الراسخة والدول الصناعية المتقدمة‬
‫أكثر من ارتباطها بالتراجع الالذع لألنظمة البدائية سياسيا (‪ .)Mann, 1999‬تشير‬
‫الصعوبة التي تواجهها الثقافات الغربية في تقبل هذه الحقيقة إلى وجود توتر ال يمكن‬
‫الم ُثل الحضارية للعقل وسجل االستغالل والعنف‬ ‫التوفيق فيه ومزعزع لالستقرار بين ُ‬
‫والمعاناة التي تعرضت لها األمم والمجتمعات العرقية والفئات الضعيفة عالمي ًا‪ .‬لقد‬
‫جادلنا بأن مهمة السوسيوديسية هي استكشاف المضامين األخالقية والثقافية لهذا‬
‫التوتر‪ ،‬ليس فقط لجعل المعاناة والبالء التي تبدو «بال معنى» متاحة بشكل منطقي‪،‬‬
‫ولكن على أمل أال تستمر عواقبها المهلكة بمجرد تجاهلها‪.‬‬
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ 300

References
-- Arendt, H. (1964) Eichmann in Jerusalem: A Report on the Banality of
Evil. New York:
-- Viking Press.
-- —— (1994) Essays in Understanding, 1930–1954. New York: Harcourt
Brace Jovanovich.
-- Bauman, Z. (1990) Thinking Sociologically. Oxford: Blackwell.
-- —— (1991) Modernity and Ambivalence. Cambridge: Polity Press.
-- —— (1993) Postmodern Ethics. Oxford: Blackwell.
-- Beck, U. (1992) Risk Society: Towards a New Modernity. London: Sage.
-- Berger, P.L. (1969) The Sacred Canopy: Elements of a Sociological Theory
of Religion. New York: Anchor Books.
-- Besterman, T. (1962) ‘Voltaire and the Lisbon Earthquake or, the Death
of Optimism’, in Besterman, T. (ed.) Voltaire: Essays. Oxford: Oxford
University Press.
-- Bonhoeffer, D. (1953) Letters and Papers from Prison. London: SCM
Press.
-- Bourdieu, P. (1993) La Misere du Monde. Paris: Editions du Seuil.
-- Buber, M. (1953) The Eclipse of God: Studies in the Relation between
Religion and Philosophy. London: Gollancz.
-- Carvell, S. (1996) ‘Comments on Veena Das’s essay «Language and Body:
Transactions in the Construction of Pain» ’, Daedalus 125(1), 93–8.
-- Das, V. (1996) ‘Language and Body: Transactions in the Construction of
Pain’, Daedalus, 125(1), 67–91.
301 ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

-- —— (1997) ‘Sufferings, Theodicies, Disciplinary Practices, Appropriations’,


Inter-national Social Science Journal 49: 563–7.
-- Dostoevsky, F.M. (1880[1958]) The Brothers Karamazov. Harmondsworth:
Penguin Books.
-- Douglas, M. (1992) Risk and Blame: Essays in Cultural Theory. London:
Routledge.
-- Douglas, M. and Wildavsky, A. (1982) Risk and Culture: An Essay in
the Selection and Interpretation of Technological and Environmental
Dangers. Berkeley, CA: University of California Press.
-- Freud, S. (1930) Civilisation and its Discontents. London: Hogarth Press.
-- Garrison, J. (1982) The Darkness of God: Theology after Hiroshima.
London: SCM Press.
-- Giddens, A. (1996) In Defence of Sociology: Essays, Interpretations and
Rejoinders. Cambridge: Polity Press.
-- Graubard, S.R. (1996) ‘Preface to the Issue «Social Suffering» ’, Daedalus
125(1), v–x.
-- Hick, J. (1966) Evil and the God of Love. London: Macmillan.
-- Hobsbawm, E. (1994) An Age of Extremes: The Short History of the
Twentieth Century 1914–1991. London: Penguin Books.
-- Ignatieff, M. (1985) ‘Is Nothing Sacred? The Ethics of Television’, Daedalus
114(4), 57–78.
-- Kant, I. (1791[1973]) ‘On the Failure of All Attempted Philosophical
Theodicies’, in M. Despland Kant on History and Religion. Toronto:
McGill–Queen’s University Press. Kierkegaard, S. (1985) Fear and
Trembling: Dialectical Lyric by Johannes de Silentio.
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ 302
-- Harmondsworth: Penguin Books.
-- Kleinman, A. (1991) ‘Suffering and its Professional Transformation:
Toward an Ethnog-raphy of Interpersonal Experience’, Culture, Medicine
and Psychiatry 15(3), 275–301.
-- —— (1995) ‘Pitch, Picture, Power: The Globalization of Local Suffering
and the Trans-formation of Social Experience’, Ethnos 60(3–4), 181–91.
-- Kleinman, A. and Kleinman, J. (1996) ‘The Appeal of Experience; The
Dismay of Images: Cultural Appropriations of Suffering in Our Times’,
Daedalus 125(1), 1–25.
-- Kleinman, A., Das, V. and Lock, M. (1996) ‘Introduction’, Daedalus,
125(1), xi–xx.
-- Kung, H. (1977) On Being a Christian. London: William Collins.
-- Leibniz, G.W. (1710[1969] Essais de Théodiceé. Paris: Garnier-Flammarion.
-- Levi, P. (1988) The Drowned and the Saved. London: Michael Joseph.
-- Levinas, E. (1988) ‘Useless Suffering’, in R. Bernasconi and D. Wood (eds)
The Provoca-tion of Levinas: Rethinking the Other. London: Routledge.
-- Lyman, S.M. (1995) ‘Social Theory and Social Movements: Sociology as
Sociodicy’, in S.M. Lyman (ed.) Social Movements: Critiques, Concepts,
Case-Studies. London: Macmillan.
-- Mann, M. (1999) ‘The Dark Side of Democracies’, New Left Review 235,
18–45.
-- Merton, R. (1957) Social Theory and Social Structure. New York: Free
Press.
-- Milbank, J. (1990) Theology and Social Theory: Beyond Secular Reason.
Oxford: Blackwell.
303 ‫ ةيسيدويثلل ةّيجولويسوسلا ةمهملاو ةاناعملا‬

-- Mills, C. Wright (1959) The Sociological Imagination. London: Oxford


University Press.
-- Moltmann, J. (1974) The Crucified God. London: SCM Press.
-- —— (1998) ‘Theology in the Project of the Modern World’, in M. Volf
(ed.) A Passion for God’s Reign. Grand Rapids, IA: Wm. B. Eerdmans
Publishing Co.
-- Parsons, T. (1966) ‘Introduction’, in Max Weber, The Sociology of Religion.
London: Methuen.
-- Peterson, M., Hasker, W., Reichenbach B. and Basinger, D. (1991) Reason
and Religious Belief: An Introduction to the Philosophy of Religion.
Oxford: Oxford University Press.
-- Rose, G. (1996) ‘Beginnings of the Day; Fascism and Representation’, in
G. Rose Mourning Becomes the Law: Philosophy and Representation.
Cambridge: Cambridge University Press.
-- Scarry, E. (1985) The Body in Pain: The Making and Unmaking of the
World. Oxford: Oxford University Press.
-- Schopenhauer, A. (1970) ‘On the Suffering of the World’, in A.
Schopenhauer Essays and Aphorisms. Harmondsworth: Penguin Books.
-- Slack, P. (1985) The Impact of Plague in Tudor and Stuart England.
Oxford: Oxford University Press.
-- Sontag, F. (1987) ‘Anthropodicy and the Return of God’ in S.T. Davis (ed.)
Encounter-ing Evil. Edinburgh: T. & T. Clark.
-- Steiner, G. (1967) Language and Silence. London: Faber & Faber.
-- Swinburne, R. (1998) Providence and the Problem of Evil. Oxford: Oxford
University Press.
‫نوسنكليو نايإو نغروم ديفاد‬ 304
-- Tenbruck, F. (1980) ‘The Problem of the Thematic Unity in the Works of
Max Weber’, British Journal of Sociology 35(3), 316–35.
-- Thompson, J.B. (1995) The Media and Modernity: A Social Theory of the
Media. Cambridge: Polity.
-- Turner, B.S. (1992a) Regulating Bodies: Essays in Medical Sociology.
London: Routledge.
-- —— (1992b) ‘The Concept of «The World» in Sociology: A Commentary
on Roland Robertson’s Theory of Globalization’, Journal for the Scientific
Study of Religion 31(3), 296–323.
-- —— (1996) For Weber: Essays on the Sociology of Fate. London: Sage.
-- Vidich, A.J. and Lyman, S.M. (1985) American Sociology: Worldly
Rejections of Religion and Their Directions. New Haven, CT: Yale
University Press.
-- Wall, P. and Jones, M. (1998) Defeating Pain: The War against a Silent
Epidemic. London: Plenum Books.
-- Weber, M. (1966) The Sociology of Religion. London: Methuen.
-- Weber. M. (1970) ‘Politics as a Vocation’ and ‘Religious Rejections of the
World and Their Directions’, in C. W. Mills and H. H. Gerth (eds) From
Max Weber: Essays in Sociology. London: Routledge.
-- Weil, S. (1950) ‘The Love of God and Affliction’, in Waiting on God.
Glasgow: William Collins.
-- Wiesel, E. (1996) All Rivers Run to the Sea: Memoirs, Vol. 1. London:
HarperCollins.
‫دراسات‬

‫الم َ‬
‫غفل في علم نفس الدين‬ ‫الثيوديسية‪ :‬الجانب ُ‬
‫أدريان فورنهام ولورانس براون‬
‫‪1‬‬ ‫__________________________________‬

‫اهتمت هذه الدراسة بالتفسيرات الشعبية لمشاكل الشر‪ ،‬وبالثيوديسية‪ .‬فأكمل‬


‫أكثر من (‪ )100‬فرد استبيانا مكونا من ستة أجزاء حول المعاناة اإلنسانية‪ ،‬حيث‬
‫عليهم (‪« )15‬تفسيرا» محتمال لنتائج خمسة أحداث‪ ،‬أحدها يتعلق بالمعاناة‬‫عرض ِ‬
‫بشكل عام واألخرى تشير إلى حاالت محددة من المعاناة اإلنسانية نتيجة الكوارث‬
‫الطبيعية أو التي من صنع اإلنسان والتي تسببت في وفاة واحدة أو أكثر (وبالتالي‬
‫كان ُيفترض أنها أقل خطورة أو أكثر)‪ .‬أظهرت النتائج أن تفسيرات الشر يمكن‬
‫تصنيفها على أنها طبيعية أو الهوتية‪ ،‬أو بسبب الجهل البشري وأنها تعتمد على‬
‫طبيعة الحدث المراد شرحه (بما في ذلك نوعه وشدته) وعلى العوامل المرتبطة‬
‫باالنتماءات الدينية للفرد وأهمية الدين في حياته‪ .‬تمت مناقشة هذه النتائج من‬
‫منظور الحسابات العزوية للمسؤولية عن الشر‪.‬‬
‫أن تكون «متدين ًا» يتطلب في كثير من األحيان أن ِ‬
‫تحمل العديد من أجزاء المعرفة‬
‫(خاصة حول العالم الطبيعي) المتناقضة مع التصريحات العقائدية حول طبيعة الله‪.‬‬
‫واحدة من أصعب التوترات التي يجب حلها تحدث «عندما تحدث أشياء سيئة‬
‫ألناس طيبين»(‪ ،)Kushner, 1981‬ألن اإليمان السائد بأن الله خير‪ .‬وقد أصبح هذا‬
‫مهم ًا بشكل خاص منذ أن خرج الشيطان عن االستخدام الشائع‪ ،‬على الرغم من‬
‫االحتفاظ به في بعض الطقوس والتقاليد وال يزال يستخدم لشرح بعض األحداث‬

‫‪1 Adrian Furnham & Laurence B. Brown (1992) Theodicy: A Neglected Aspect‬‬
‫‪of the Psychology of Religion. The International Journal for The Psychology of‬‬
‫‪Religion, 2(1), 37-45 .‬‬
‫ترمجة‪ :‬د‪ .‬لؤي خزعل جرب‪.‬‬
‫نوارب سنارولو ماهنروف نايردأ‬ ‫‪306‬‬
‫(‪ .)Hunsberger & Watson, 1986‬على الرغم من أن )‪ Gorsuch (1968‬وجد‬
‫أن ثالثة عوامل أساسية راسخة للمفهوم المسيحي عن الله‪ ،‬تتمثل بـ«القداسة»‪،‬‬
‫و«األلوهية» (أو الخيرية)‪ ،‬و«الغضب»‪ ،‬فباستثناء )‪ ،Ritzema (1979‬علماء نفس‬
‫الدين أهملوا عالقة الله بالقضايا المتعلقة بالثيوديسية والمعتقدات عن طبيعة الشر‬
‫أو العقاب اإللهي‪ .‬هذه المذاهب التي قدمت مشاكل لفالسفة الدين وعلماء الدين‪،‬‬
‫يمكن أن توازيها ألغاز إلحادية عن طبيعة الخير‪.‬‬
‫ميز الالهوتيون‪ ،‬في محاوالتهم إليجاد تفسير أو حل لمشكلة الشر‪ ،‬بين الشر‬
‫األخالقي الناجم عن الفاعلية البشرية والشرور الطبيعية المختلفة (‪.)Hick, 1977‬‬
‫تتضمن تفسيرات )‪ Vieth (1988‬لمشاكل الشر تناقضات بين الخير والشر في خلق‬
‫الله‪ ،‬وبين المعاناة داخل الكون المنظم وكاختيار متعمد‪ ،‬بين المعاناة كسمة من‬
‫سمات جزاء الله وكاختبار لإليمان أو تساعد في تنمية الشخصية من خالل التغلب‬
‫على المشقة‪ ،‬وبين المعاناة نتيجة التفكير الخاطئ وكوهم ينشأ من وجهات نظر‬
‫محدودة‪ .‬من بين الحلول المحددة لمشاكل الشر‪ ،‬يمكننا أن نجد أن (أ) الشر‬
‫موجود فقط كتجربة ذاتية‪( ،‬ب) يفسح الشر الطريق للخير بقدر ما تنجم أعظم‬
‫فصول الحياة البشرية عن تجارب المأساة‪( ،‬ج) الخير والشر يتعايشان في الله‪( ،‬د)‬
‫الشر هو إساءة استخدام الحرية التي منحها الله لإلنسان أو ينتج عن عدم االستجابة‬
‫لقدرة الله المطلقة‪ ،‬مما يعني أن الله ليس لديه قوة غير محدودة ولكن قوة الحب‬
‫فقط‪( ،‬هـ) الشر هو نتيجة السقوط وعقاب الله‪ ،‬بحيث تكون المعاناة نتيجة مباشرة‬
‫للخطيئة‪ ،‬و(و) الشر واأللم لهما فائدة بيولوجية لتعليم الناس ما هو صالح‪ ،‬حيث‬
‫تتشكل الشخصية في الكفاح من أجل التغلب الشر (مع معاناة أيوب اختبارا‬
‫إلخالصه)‪ ،‬وتحدث الكوارث الطبيعية ألن حتى قوانين الفيزياء ال تفترض عالما‬
‫مستقرا ومتوقعا ومتسقا‪ ،‬بل عالما فوضويا‪ .‬الحظ )‪Hohnson (1957, pp.47-48‬‬
‫اتساع الدين‪ ،‬الذي استخدم لتبرير أو تبرير مجموعة واسعة من األعمال والمواقف‬
‫القمعية‪ ،‬مع الفينومينولوجية التي تضمنت العفة والدعارة والصوم والوالئم‪ ،‬النهي‬
‫والسكر والتضحية وحفظ األرواح والفقر والغنى والهروب من العالم أو إصالحه‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬ال تهتم الدراسة بالتفسيرات الشكلية المتاحة‪ ،‬ولكن بروايات الناس‬
‫‪307‬‬ ‫نيدلا سفن ملع يف لَفغُملا بناجلا ‪:‬ةيسيدويثلا‬

‫العاديين عن مشكلة الشر‪ ،‬والتي يتم تقديمها في سياق نظرية العزو (‪Furnham,‬‬
‫‪ ،)1988‬وبعد قيادة )‪ ،Proudfoot and Shaver (1975‬اعتمدت الدراسات الحديثة‬
‫على نظرية العزو لفهم جوانب علم نفس الدين ;‪(Gorsuch & Smith, 1983‬‬
‫‪Jackson & Koursey, 1988; Lupfer, Hopkinson & Kelly, 1988; Pargament‬‬
‫)‪ .& Hahn, 1986; Pargament et. al., 1988; Spilka & Schmidt, 1983‬نص‬
‫)‪ Spilka, Hood & Gorsuch (1985‬يعتمد على نظرية العزو لتماسكها‪ .‬استخدم‬
‫)‪ ،Kirkpatrick, Shaver & Spilka (1985‬العزو لفهم الظروف التي قد يلبي الله‬
‫بموجبها االحتياجات ويفرض معنى على األحداث بطريقة تعزز احترام الذات‬
‫وترضي شعورا بأن الشخص يتحكم في النتائج‪ ،‬على الرغم من ‪Lalljee, Brown‬‬
‫)‪ & Hilton (1990‬أشاروا إلى أن التفسيرات التي تستدعي قدرة الله ترتبط بشكل‬
‫منهجي بصور الله التي يتم االحتفاظ بها والمعتقدات المحددة حول سبب فشل‬
‫الناس في أداء واجبهم تجاه الله‪.‬‬
‫بعبارات أكثر عمومية‪ ،‬أشار )‪ Ritzema (1979‬إلى أنه عندما نواجه حدثا غير‬
‫مفسر‪ ،‬فقد ننسبه إلى أسباب طبيعية (داخلية أو خارجية لشخص ما)‪ ،‬أو أسباب‬
‫خارقة للطبيعة (بما في ذلك الله أو الشيطان)‪ ،‬أو إلى مزيج من هذه األسباب‪.‬‬
‫فأي تفسير يتضمن مخططا سببيا يشير إلى وجود الله يستلزم أيضا بعض المفاهيم‬
‫والمعتقدات حول ما هو ممكن وما هي حدود سيطرتنا أو مسؤوليتنا‪ .‬تتضمن‬
‫العوامل الرئيسية التي حددها )‪ Ritzema (1979‬بـ(أ) االختالفات في المعتقدات‬
‫والممارسات الدينية وفي خصائص الحدث و(ب) التفسير الذي قد يكون مبررا‬
‫أو ال يكون‪ ،‬وقائما على الواقع أو على الرغبة في تحقيقه‪ ،‬عقالنيا أو غير عقالني‪.‬‬
‫لذلك تم طرح فرضيتين في هذه الدراسة‪ ،‬أوال‪ ،‬قد تختلف التفسيرات كوظيفة‬
‫للحدث الشرير‪ ،‬بحيث ترسم الشرور الطبيعية واألخالقية تفسيرات مختلفة وتتفاعل‬
‫شدة الشر (من حيث أي عواقب) مع نوع الحدث‪ .‬وبالنظر إلى دراسة ‪Lalljee et. al.‬‬
‫)‪ ،(1990‬كان من المفترض أن يتم الحكم على التفسيرات إلهية النمط على أنها أكثر‬
‫صلة بالكوارث الطبيعية من تلك التي تنطوي على أفعال شريرة‪ .‬تم االفتراض أيضا‬
‫أن االختالفات الدينية ستشارك في تصنيفات التفسيرات لألحداث الشريرة بغض‬
‫نوارب سنارولو ماهنروف نايردأ‬ ‫‪308‬‬
‫النظر عن طبيعتها أو نتائجها‪ .‬الختبار هاتين الفرضيتين‪ ،‬درسنا بشكل منهجي آثار‬
‫المذهب الديني‪ ،‬واألهمية المحكومة للدين‪ ،‬واستخدام الدين كراحة في الشدائد‪،‬‬
‫ومركزية الدين في الحياة اليومية‪ ،‬كمتغيرات دينية مستقلة‪ .‬سمح لنا هذا بفحص ما‬
‫إذا كان تدين الناس في التقاليد المختلفة يمكن أن يفسر تفسيراتهم ألنواع مختلفة‬
‫من الكوارث كأحداث شريرة‪.‬‬

‫المنهج‬
‫العينة‬
‫إجماال‪ ،‬شارك ‪ 38( 108‬ذكور و‪ 70‬إناث) في هذه الدراسة في لندن‪ .‬تراوحت‬
‫أعمارهم من ‪ 18‬إلى ‪ 55‬عاما‪ ،‬وكانت األغلبية في أوائل العشرينات من العمر‪ ،‬وتم‬
‫تصنيفهم على نطاق واسع على أنهم بروتستانت (‪ ،)36‬وكاثوليك (‪ ،)23‬ومسلمون‬
‫(‪ ،)15‬ويهود (‪ ،)13‬والأدريون وملحدون (‪ .)21‬تم اختيار هؤالء المشاركين من‬
‫مجموعة متنوعة من المهن؛ كانوا جميعا يتحدثون اإلنجليزية‪ ،‬وتم االتصال بهم من‬
‫خالل مجموعات المجتمع المحلي‪.‬‬
‫استبيانات‬
‫أكمل كل فرد استبيانا من ستة أجزاء‪ .‬في القسم األول‪ ،‬تم إعطاؤهم (‪)15‬‬
‫«تفسيرا» لوجود المعاناة (بشكل عام) في العالم و ُطلب منهم تقييم كل منها على‬
‫أساس أهميتها‪ .‬هذه التفسيرات‪ ،‬التي تم اشتقاقها من مقابالت سابقة مع أشخاص‬
‫عاديين حول تفسيراتهم للشر‪ ،‬احتفظت بالعبارات األصلية قدر اإلمكان‪ .‬ثم تم‬
‫إعطاء أربعة أحداث «مؤسفة» لكل فرد‪ :‬طفل مولود كفيف‪ ،‬وطفل مجنون‪ ،‬و‪30‬‬
‫شخصا قتلوا في حادث منجم‪ ،‬و‪ 30‬شخصا قتلوا في زلزال‪ .‬هذه األحداث‪ ،‬التي تم‬
‫اختيارها ألنها كانت في األساس طبيعية أو من صنع اإلنسان وتضمنت حالة وفاة‬
‫واحدة أو عدة حاالت وفاة‪ ،‬لم يتم تفصيلها بشكل أكبر‪ُ .‬طلب من المشاركين تقييم‬
‫أهمية كل تفسير من التفسيرات الخمسة عشر السابقة (بترتيب عشوائي) من حيث‬
‫صلتها بكل من تلك األحداث‪ .‬ثم قدموا معلومات عن سنهم وجنسهم ومذهبهم‬
‫‪309‬‬ ‫نيدلا سفن ملع يف لَفغُملا بناجلا ‪:‬ةيسيدويثلا‬

‫الديني‪ ،‬وق ّيموا أهمية دينهم بالنسبة لهم‪ ،‬وتكرار حضورهم للعبادة والصالة العامة‪،‬‬
‫ومدى وجود دينهم في محنة‪ ،‬واألمور المركزية بالنسبة لهم في معتقداتهم الدينية‪.‬‬
‫اإلجراء‬
‫تم اختبار األفراد في مجموعة متنوعة من األوضاع‪ .‬أكمل الجميع االستبيانات‬
‫بشكل مجهول ومفرد‪ ،‬استغرق كل منها حوالي ‪ 40‬دقيقة‪ .‬وكلما أمكن‪ ،‬تم‬
‫استخالص المعلومات من كل فرد‪.‬‬

‫النتائج‬
‫للتحقق من البنية األساسية للتفسيرات الـ(‪ ،)15‬قمنا بتحليل عاملي مع تدوير‬
‫فاريماكسي لتقديرات التفسيرات في عينة تجريبية من (‪ )100‬شخص لتطبيقها بشكل‬
‫منفصل على أسباب المعاناة في العالم ولكل من األحداث األربعة المحددة التي‬
‫تم التعرف عليه‪ .‬هذه األنماط المتماسكة التي ظهرت تدعم أهمية تلك األحداث‪.‬‬
‫باستخدام اختبار الحصه‪ ،‬تم تفسير ثالثة عوامل رئيسية‪ .‬األول‪ ،‬الذي تم احتسابه‬
‫بنسبة ‪ ٪25‬إلى ‪ ٪33‬من التباين‪ ،‬يتعلق بجهل اإلنسان أو شره؛ والثاني الذي يمثل‬
‫‪ ٪12‬إلى ‪ ٪18‬من التباين يتعلق بالله؛ والثالث‪ ،‬الذي يمثل ‪ ٪8‬إلى ‪ ٪15‬من التباين‪،‬‬
‫يتعلق بالطبيعة‪ .‬على الرغم من بعض االختالفات في تشبع كل متغير على كل عامل‬
‫وفي مقدار التباين الذي تم احتسابه‪ ،‬فإن النتائج العامة‪ ،‬والتي تتوفر تفاصيلها عند‬
‫الدكتور فرنهام‪ ،‬مبينة في الجدول (‪ .)1‬لمزيد من التأكيد‪ ،‬قدم ثالثة أفراد تفسيرات‬
‫من نمط كيو‪ ،‬فأنتجت نفس العوامل‪ .‬لذلك تم دمج تصنيفات العناصر لكل من‬
‫هذه العوامل لتشكيل ثالث درجات منفصلة لمزيد من التحليالت‪ ،‬مما يمنح‬
‫كل موضوع ثالث درجات عزوية لكل حدث شرير‪ .‬يتم تلخيص هذه النتائج في‬
‫األقسام التالية فيما يتعلق بالمذهب الديني والتدين‪.‬‬
‫نوارب سنارولو ماهنروف نايردأ‬ ‫‪310‬‬
‫الجدول (‪)1‬‬
‫المتغيرات الرئيسة في كل عامل‬

‫‪ 3‬الطبيعة‬ ‫‪ 2‬اهلل (أو الالهوت)‬ ‫‪ 1‬اجلهل‬


‫طبيعة العامل الفيزيقي‬ ‫عقاب مرسل من اهلل‬ ‫اجلهل اإلنساين‬
‫جمرد حظ يسء‬ ‫قد يأيت اخلري من الرش‬ ‫االنحدار األخالقي للناس‬
‫ال يمكننا السيطرة عىل ما حيدث‬ ‫يظهر واقع الرش‬ ‫املظامل‬
‫حدث عشوائي‬
‫الختبار إيامننا باهلل‬
‫بسبب اآلثار اجلينية‬ ‫الإنسانية الفرد جتاه اإلنسان‬
‫جزء من ختطيط اهلل‬
‫اجلزء الطبيعي من احلياة‬

‫المذهب الديني‬
‫تم إجراء تحليالت منفصلة ثالثية االتجاه (‪ )5 × 2 × 2‬للتباين (‪ )ANOVAs‬لكل‬
‫من عوامل التفسير الثالثة‪ ،‬مع اعتبار كل نوع من التفسير (أ) فيما يتعلق باألحداث‬
‫األربعة (‪ )2 × 2‬المنفصلة‪ ،‬مثل إما من صنع اإلنسان أو طبيعي‪ ،‬أكثر أو أقل شدة‬
‫(كإجراء متكرر)‪ ،‬و(ب) فيما يتعلق بدين كل فرد (بروتستانتي‪ ،‬كاثوليكي‪ ،‬يهودي‪،‬‬
‫مسلم‪ ،‬أو الأدري وملحد)‪ .‬أظهرت هذه النتائج أنماطا متسقة‪.‬‬
‫أسفرت التفسيرات الطبيعية عن تأثير رئيسي مهم لنوع الكارثة‪F (l, 102) = ،‬‬
‫‪ ،p <.001 ،188.23‬مع درجات لألحداث الطبيعية أعلى منها لألحداث التي من صنع‬
‫اإلنسان‪ .‬وفقا لشدتها المقدرة‪ ،ρ <.001 ،F (l, 102) = 11.16 ،‬حصلت األحداث‬
‫األقل خطورة على درجات أعلى للتفسيرات الطبيعية‪ ،‬على الرغم من عدم وجود‬
‫تفاعل كبير مع نوع الكارثة‪ .‬لم ُيظهر المذهب الديني وال التدين تفاعالت كبيرة مع‬
‫نوع الكارثة أو صدقها‪.‬‬
‫أعطت التفسيرات الالهوتية المتعلقة بالله فرقا ذا داللة إحصائية‪F (4, 101) = ،‬‬
‫‪ ،8.18، p <.001‬مع تأييد المسلمين واليهود لها أكثر من الكاثوليك والبروتستانت‪،‬‬
‫يليهم الالأدريون والملحدون‪ .‬على الرغم من عدم وجود تأثير من نوع الكارثة‪ ،‬إال‬
‫أن الشدة‪ ،p <.001 ،F (l, 101) = 12.29 ،‬أشارت إلى أن التفسيرات إلهية النمط‬
‫‪311‬‬ ‫نيدلا سفن ملع يف لَفغُملا بناجلا ‪:‬ةيسيدويثلا‬

‫كانت أقل أهمية لألحداث األكثر خطورة ولكنها األكثر أهمية بالنسبة لألحداث األقل‬
‫خطورة من صنع اإلنسان واألقل أهمية بالنسبة لألحداث الطبيعية الشديدة‪.‬‬
‫أسفر الجهل البشري عن ثالثة اختالفات ذات داللة إحصائية‪ ،‬مع التأثيرات‬
‫الرئيسية لنوع الكارثة‪ ،p <.001 ،F (l, 102) = 182.125 ،‬حيث تم تصنيف الكوارث‬
‫من صنع اإلنسان بدرجة أعلى على الجهل‪ .‬في الشدة‪،ρ <.001 ،F (l, 102) = 11.99 ،‬‬
‫تم تصنيف الكوارث األقل خطورة بدرجة أعلى على الجهل‪ .‬أظهر تفاعل الخطورة‬
‫مع النوع ‪ ،p <.001 ،F (l, 102) = 11.56‬أنه في حالة الجهل‪ ،‬تم تصنيف الكوارث‬
‫البشرية األقل خطورة بدرجة أعلى وكان تصنيف الكوارث الطبيعية األشد خطورة‬
‫أقل‪ .‬المذهب الديني لم يظهر أي تأثير رئيسي معنوي‪.‬‬
‫تحليل تباين الرباعي ‪ ANOVA‬الذي تضمن التفسير (‪ × )3‬المذهب الديني (‪)5‬‬
‫× نوع الكارثة (‪ × )2‬شدة الكارثة (‪ )2‬أكد النتائج السابقة‪ .‬بصرف النظر عن المذهب‬
‫الديني‪ ،‬كانت جميع التأثيرات الرئيسية دالة‪ ،‬مع تأييد التفسيرات الطبيعية لمعظم‬
‫التفسيرات وأقلها إلهي النمط‪ ،p <.001 ،F (2, 202) = 238.57 ،‬كانت هناك أيضا‬
‫تفاعالت كبيرة مع التفسيرات‪ ،‬خاص ًة بالنسبة لتفاعل الدين × التفسير‪F (4, 101) ،‬‬
‫‪ ،p <.001 ،= 4.0‬ألن المسلمين واليهود‪ ،‬مقارنة بالالأدريين والملحدين‪ ،‬بالغوا في‬
‫تدخل الله وقللوا من التفسيرات الطبيعية‪.‬‬

‫أهمية الدين‬
‫تم استخدام تقديرات أهمية الدين على مقياس مكون من ‪ 4‬نقاط كمتغير تابع في‬
‫مجموعة أخرى من تحليل التباين الثالثي ‪ )5 × 2 × 2( ANOVA‬لكل نوع من التفسير‪.‬‬
‫أظهرت التفسيرات الطبيعية مرة أخرى تأثيرات رئيسية مهمة لنوع الكارثة‪F (l, ،‬‬
‫‪ ،p <.001 ،101) = 214.97‬مع درجات أعلى للكارثة الطبيعية مقارنة بالكوارث التي‬
‫من صنع اإلنسان‪ ،‬ولشدة الكوارث‪ ،p <.001 ،F (l, 101) =7.08 ،‬مع حدوث كوارث‬
‫أقل حدة مرة أخرى تسجل درجات أعلى من الكوارث األكثر خطورة‪ .‬كان هناك أيضا‬
‫تأثير هامشي من النوع × شدة الكوارث‪ ،p <.001 ،F (l, 101) =7.08 ،‬مع تصنيف‬
‫الكوارث األقل خطورة بدرجة أكبر مقابل التفسيرات الطبيعية أكثر من الكوارث‬
‫نوارب سنارولو ماهنروف نايردأ‬ ‫‪312‬‬
‫الشديدة‪ .‬كان هناك أيضا تفاعل النوع × الخطورة دال‪،p <.001 ،F (l, 101) = 4.06 ،‬‬
‫على الرغم من عدم وجود تأثير رئيسي مهم للمذهب الديني أو ألي تفاعل‪.‬‬
‫أظهرت التفسيرات الالهوتية تأثيرا داال للغاية ألهمية الدين‪،F (3, 101) = 21.28 ،‬‬
‫‪ ،ρ <.001‬مع األفراد الذين حكموا على الدين باعتباره مهما بالنسبة لهم ويؤيدون‬
‫التفسيرات إلهية النمط بقوة أكبر‪ .‬كان هناك أيضا تأثير رئيسي للشدة‪F (l, 100) = ،‬‬
‫‪ ،p <.001 ،13.62‬وتفاعل النوع × الخطورة‪ ،p <.001 ،F (l, 100) = 28.70 ،‬مشابه‬
‫لذلك الموجود في التفسيرات الطبيعية‪ .‬كان هناك تفاعل كبير بين أهمية الدين‪ ،‬وتدخل‬
‫الله‪ ،‬وخطورة الحدث‪ ،p <.05 ،F (3, 100) = 2.81 ،‬ألن أولئك الذين يعتبرون الدين‬
‫لهم أكثر أهمية أيدوا تفسيرات إلهية النمط لألحداث الخطيرة أكثر بقوة من أولئك‬
‫الذين يعتبرون الدين أقل أهمية بالنسبة لهم‪.‬‬
‫أسفر الجهل البشري عن تأثيرات رئيسية مهمة ألهمية الدين‪،F (3, 101) = 6.33 ،‬‬
‫‪ ،p <.001‬نوع الحدث‪ ،p <.001 ،F (1, 101) = 232.06 ،‬والشدة‪F (1, 101) = ،‬‬
‫‪ ،p <.001 ،14.12‬مع تفاعل كبير النوع × الخطورة‪ .F (l, 101) = 15.86،ρ <.001 ،‬مرة‬
‫أخرى‪ ،‬كلما كان الدين األهم عند الفرد‪ ،‬كلما زاد احتمال أن يدعم تفسيرات األحداث‬
‫من حيث الجهل البشري‪.‬‬

‫تحليالت أخرى‬
‫تم إجراء نفس مجموعات التحليالت (ثالث مجموعات من تحليل التباين الثالثي‬
‫‪ ANOVA‬متبوعة بتحليل تباين رباعي ‪ )ANOVA‬لكل من المتغيرات المستقلة‬
‫األخرى‪ :‬يقدم الدين «الراحة عند حدوث األحزان والمصائب» (تم تقييمه على مقياس‬
‫مكون من ‪ 4‬نقاط) وحقيقة أن المعتقدات الدينية تنطوي على «نهج شامل في الحياة»‬
‫(مصنفة صواب أو خطأ) ظهر هنا نمط مختلف ولكن متسق من النتائج‪ ،‬ألنه لم يظهر‬
‫أي متغير تأثير أو تفاعل رئيسي مهم للتفسيرات الطبيعية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬تم العثور على‬
‫تأثيرات رئيسية مهمة للتفسيرات إلهية النمط‪ ،‬مما يشير إلى أن أولئك الذين يستريحون‬
‫أكثر من الدين أيدوا مشاركة الله بشكل متكرر‪ ،ρ <.01 ،F (3, 100) = 4.07 ،‬كما‬
‫فعل أولئك الذين كانت حياتهم موجهة نحو الدين‪ ،ρ <.01 ،F (1, 97) = 26.26 ،‬لم‬
‫‪313‬‬ ‫نيدلا سفن ملع يف لَفغُملا بناجلا ‪:‬ةيسيدويثلا‬

‫ُيظهر أي من هذين المتغيرين التأثيرات الرئيسية أو التفاعالت المهمة للجهل البشري‬


‫كتفسير للشر‪.‬‬

‫المناقشة‬
‫تظهر نتائج هذه الدراسة أن التفسيرات الدينية أو القائمة على الله للشر تعتمد على‬
‫طبيعة الحدث الذي يتم حسابه وعلى الخلفية الدينية لمن يقدمون هذه التفسيرات‪.‬‬
‫أظهرت هذه الدراسة التي ميزت بين الكوارث من صنع اإلنسان والكوارث الطبيعية‬
‫وبين تلك األكثر خطورة (من حيث عدد األرواح المفقودة)‪ ،‬أهمية كال العاملين في‬
‫أنواع التفسيرات المقبولة‪ .‬من المحتمل أيضا أن تكون هناك اختالفات أخرى حول‬
‫طبيعة األحداث الشريرة‪ ،‬مثل المعاناة الناتجة عن الشر‪ ،‬وعدد األشخاص المتأثرين‪،‬‬
‫واأللم الذي تم التعرض له‪ ،‬نظر ًا لتوفر نطاق أوسع بكثير من التفسيرات المحددة مما‬
‫كان عليه في هذه الدراسة (راجع ‪.)Vieth, 1988‬‬
‫لقد أظهرنا أيض ًا أن االختالفات الفردية في المعتقد الديني واالصطفافات‬
‫المؤسسية مهمة للغاية في تشكيل التفسيرات المقدمة لألحداث الشريرة‪ ،‬على الرغم‬
‫من أن نتائجنا تشير إلى أن هذه المتغيرات تنطبق بشكل أساسي على التفسيرات‬
‫القائمة على الله‪ ،‬والتي يتم تطبيقها بشكل مختلف على األحداث الشريرة‪ .‬إن تأكيد‬
‫المسلمين واليهود على أهمية التفسيرات إلهية النمط أكثر من المسيحيين أو الالأدريين‬
‫والملحدين يدل على الدور المركزي للتقاليد الدينية في هذه األحكام‪ .‬ال تؤكد هذه‬
‫النتيجة فقط على أن أساسا مهما ألي تفسير للشر يمكن العثور عليه في المعتقد أو‬
‫الممارسة الدينية‪ ،‬ولكنها تؤكد على االختالفات بين األديان في الدور الذي ُيمنح‬
‫لله في الشؤون اليومية‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬فإن «الحلول» التي استخدمها العديد من أفرادنا‬
‫الدينيين بدت وكأنها تعيد مشاركة الله الصارمة في األحداث الجارية التي يتورط فيها‬
‫الناس‪ .‬تُفهم األحداث الطبيعية بشكل مختلف‪ ،‬على الرغم من مدى دعم وجود الله‬
‫من خالل تنظيم الطبيعة (راجع ‪.)Brown, 1987‬‬
‫على الرغم من أن تفسيرات الشر المقدمة لعينتا ال تبدو «الهوتية»‪ ،‬فهي تشير‬
‫إلى الحجج التي تتجمع في مجموعة محدودة من الفئات‪ .‬لكن تفسير الشر كنتيجة‬
‫نوارب سنارولو ماهنروف نايردأ‬ ‫‪314‬‬
‫ألحداث طبيعية أو فيزيائية أو بيولوجية ال يستطيع الله أو ال يتدخل فيها أو ال يتداخل‬
‫فيها‪ ،‬قد يكون بمثابة نداء حشو لعمليات الطبيعة‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬يتم استخالص‬
‫التفسيرات القائمة على الله من مجموعة متنوعة من المواقف الالهوتية أو العقائدية‬
‫التي تقبل أن العديد من األحداث‪ ،‬بمعنى ما‪ ،‬تحت سيطرة الله‪ .‬إن مناشدات الجهل أو‬
‫الشر البشري تجعل الناس أنفسهم مصدرا للشر‪ ،‬سواء من خالل خطاياهم في اإلهمال‬
‫أو المقاصد أو اإلرادة الحرة‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬فقد أهمل علماء نفس الدين دراسة الثيودسية‪ ،‬ربما ألن دراسات الحكم‬
‫األخالقي تشدد على السلوك الجيد‪ .‬ولكن‪ ،‬كما خلص )‪،Hartshorne & May (1928‬‬
‫فإن «مجرد حث المعلمين على السلوك الصادق في مناقشة معايير و ُم ُثل الصدق‪ ،‬بغض‬
‫النظر عن مدى تأثر هذه األفكار العامة بالعاطفة‪ ،‬ليس له عالقة ضرورية بالتحكم في‬
‫السلوك» (‪.)p.412‬‬
‫التوترات حول معنى األحداث‪ ،‬ومن يتحمل المسؤولية عنها‪ ،‬وما الذي يمكن فعله‬
‫حيالها‪ ،‬منتشرة‪ .‬حاولت هذه الدراسة تصحيح هذا الوضع من خالل تحديد بعض‬
‫«التمثيالت االجتماعية» التي تستند إلى أحكام األفراد حول األحداث العامة‪ .‬ومع ذلك‪،‬‬
‫هناك حاجة إلى مزيد من الدراسة حول مدى تأثر الصالة وأسباب فقدان إيمان المرء‪،‬‬
‫على سبيل المثال‪ ،‬بآثار األحداث الجيدة والسيئة التي نشارك فيها أو نسمع عنها‪.‬‬
‫حدد )‪ Vieth (1988‬مجموعة من االستجابات للمشكالت التي تنطوي على الشر‬
‫والتي يمكن أن تعتمد على الثنائية بين الخير والشر التي قد تسبب المعاناة والتي يمكن‬
‫أن تكون ضمن خلق الله أو هي جانب ال مفر منه للجدلية بين المعاناة داخل كون‬
‫منظم واالختيار الحر‪ .‬قد يتضمن أيضا دينونة الله الجزائية على طرقنا الخاطئة‪ ،‬أو‬
‫يكون اختبارا إليماننا‪ ،‬أو يهدف إلى المساعدة في تنميتنا من خالل المشقة والكرب‬
‫والهزيمة‪ .‬من ناحية أخرى‪ ،‬يمكن أن يكون الشر نتيجة للتفكير الخاطئ أو منظور‬
‫غير مالئم لكون متناغم بشكل أساسي‪ .‬لذلك قد يجعل الشر من المستحيل اإليمان‬
‫بإله صالح‪ ،‬مما يؤكد الطبيعة غير المفهومة لله للعقول المحدودة‪ .‬يجب حل هذه‬
‫المشاكل وغيرها إذا أردنا الحفاظ على نظرة متكاملة أو دينية للعالم‪ ،‬ال سيما بالنظر‬
‫إلى التأكيدات المختلفة على الخطيئة بين التقاليد الدينية‪.‬‬
315 ‫ةيسيدويثلا‬: ‫نيدلا سفن ملع يف لَفغُملا بناجلا‬

References
-- Brown, L. B. (1987). The psychology of religious belief. London: Academic.
-- Furnham, A. (1988). Lay theories. Oxford, England: Pergamon.
-- Gorsuch, R. L. (1968). The conceptualization of God as seen in adjective
ratings. Journal for the Scientific Study of Religion, 7, 241-251.
-- Gorsuch, R. L., & Smith, C. (1983). Attributions of responsibility to God.
Journal for the Scientific Study of Religion, 22, 340-352.
-- Hartshorne, H., & May, M. A. (1928). Studies in deceit. New York:
Macmillan.
-- Hick, J. (1977). Evil and the God of love. London: Macmillan.
-- Hunsberger, B., & Watson, B. (1986, October). The Devil made me do it:
Attributions of responsibility to God and Satan. Paper presented at the
meeting of the Society for the Scientific Study of Religion, Washington,
DC.
-- Jackson, L., & Koursey, R. (1988). The relationship of God control and
internal locus of control to intrinsic religious motivation, coping and
purpose in life. Journal for the Scientific Study of Religion, 27, 399-410.
-- Johnson, P. E. (1957). Personality and religion. New York: Abingdon.
-- Kushner, H. S. (1981). When bad things happen to good people. New
York: Schocken.
-- Lalljee, M., Brown, L., & Hilton, D. (1990). Invoking God’s agency. Journal
of Psychology and Theology, 18, 166-173.
-- Lupfer, M., Hopkinson, P., & Kelly, P. (1988). An exploration of the
‫نوارب سنارولو ماهنروف نايردأ‬ 316
attributional styles of Christian fundamentalists and of authoritarians.
Journal for the Scientific Study of Religion, 27, 389-398.
-- Pargament, K., & Hahn, L. (1986). God and the just world. Journal for the
Scientific Study of Religion, 25, 192-207.
-- Pargament, K., Kennell, J., Hathaway, W., Grevengoed, N., Newman, J., &
Jones, W. (1988). Religion and the problem-solving process. Journal for
the Scientific Study of Religion, 27, 90-104.
-- Proudfoot, W., & Shaver, P. (1975). Attribution theory and the psychology
of religion. Journalfor the Scientific Study of Religion, 14, 317-330.
-- Ritzema, R. J. (1979). Attribution to supernatural causation: An important
component of religious commitment? Journal of Psychology and Theology,
7, 286-293.
-- Spilka, B., Hood, R. W., & Gorsuch, R. L. (1985). The psychology of
religion: An empirical approach. Englewood Cliffs, NJ: Prentice-Hall.
-- Spilka, B., & Schmidt, G. (1983). General attribution theory for the
psychology of religion. Journal for the Scientific Study of Religion, 22,
326-331.
-- Spilka, B., Shaver, P., & Kirkpatrick, L. (1985). A general attributional
theory for the psychology of religion. Journal for the Scientific Study of
Religion, 24, 1-18.
-- Vieth, R. F. (1988). Holy power, human pain. Bloomington, IN:
Meyer-Stone.
‫دراسات‬

‫فينومينولوجيا القيم والمشاعر الوجدانية‬

‫عند ماكس شيلر‬


‫د‪ .‬خنجر حمية‬
‫‪1‬‬ ‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ملخص‪ :‬لم تكن الفينومينولوجيا عند شيلر منهج ًا ذا خطوات واضحة المعالم‬
‫كما كان حالها مع هوسرل‪ ،‬وال طريقة تفكير نسقية أو محاولة لتأسيس العالم في‬
‫الوعي الترنسندنتالي‪ ،‬واختصار اإلنسان في كونه وعي ًا‪ .‬ما كانت تعنيه بالنسبة إليه‬
‫هو أن تكون أفق ًا إلعادة تأسيس أنتروبولوجيا لإلنسان تأخذ بعين االعتبار كونه‬
‫وجود ًا عالمي ًا‪ ،‬وكيان ًا حي ًا متدفق ًا منفتح ًا على كلية العالم والوجود مستغرق ًا في خبرة‬
‫ال في تأسيس األشياء بما هي موضوعات قصدية‪ ،‬من خالل ما يتمتع‬ ‫اليومي فاع ً‬
‫به من مشاعر ووعي للقيم‪ .‬وهذا ما قاده بعيد ًا عن هوسرل معيد ًا الفينومينولوجيا‬
‫إلى أحضان النفسانية التي تقيم اعتبار ًا للمشاعر بما هي تفاعل حي مع العالم من‬
‫حولنا ومع أشيائه مرسخ ًا لها طريقة فهم لحضور اإلنسان ككيان عاطفي ووجدان‬
‫ومشاعر‪ .‬أعني باعتبارها أنتروبولوجيا فلسفية‪ ،‬تتلمس الطرائق التي تتفتح فيها‬
‫ظاهرة العالم لخبرتنا الحية‪ ،‬ولتجاربنا الداخلية األكثر غنى‪..‬‬
‫وهذا ما سيقود شيلر بشكل أو بآخر إلى ما كان هوسرل يطمح إلى تجاوزه نحو‬
‫تأسيس الفينومينولوجيا كمعلم صارم‪ ،‬أعني النسبية التاريخانية واألنتروبولوجانية‬
‫لم بقيت تبصرات هوسرل غامضة وضبابية ولم راح‬ ‫والنفسانية‪ ...‬وهذا ما يفسر َ‬
‫يعدل فيها مرة بعد مرة من غير أن تبلغ نهاية مستقرة‪ ،‬ولم بقي فحصه للظاهرات‬
‫ولخبرات الوعي كذلك فحص ًا يعتمد على السلب‪،‬أو من خالل المقارنة وتحديد‬

‫‪ 1‬أكاديمي وباحث لبناين‪ ،‬أستاذ الفلسفة يف اجلامعة اللبنانية‪.‬‬


‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪318‬‬
‫التمايزات‪ ،‬من غير أن تؤمن له الفينومينولوجيا التي ارتضاها شكل وصف إيجابي‬
‫لها وال شكل وصف كاف لخصائصها‪ ،‬الشيء الذي نتلمسه بوضوح في تحليله‬
‫الفينومينولوجي لظاهرتي القيم والتجربة الدينية‪ .‬في األولى سيكون االنشغال‬
‫انشغاالً باإلنسان في عالم الخبرة باعتباره عالم قيمة‪ ،‬لكن هذه المرة عبر خبرة‬
‫المشاعر والعواطف الوجدانية التي تؤمن له امساك ًا بظواهره حي ًا ومباشرا‪ ،‬وفي‬
‫الثانية سيكون انشغاالً باإلنسان بما هو موضع االنفتاح على اإللهي‪ ،‬وهذه المرة‬
‫كذلك عبر تجربة قلبية لحضور المبهر الخالب في يقظة الضمير وفي تدفق الحياة‬
‫الروحية‪.‬‬
‫كلمات مفتاحية‪ :‬القيم الصورية والقيم المادية‪ ،‬اإليضاح الفينومينولوجي‪ ،‬تفتح‬
‫العالم‪ ،‬العالم النقذوي‪ ،‬األنا وحدته‪ ،‬التجربة الفينومينولوجية‪ ،‬القبلي المادي‪،‬‬
‫البصيرة الجدستية‪ ،‬العاطفة اإلدراكية‪ ،‬مشاعر القيمة‪ ،‬القدسي‪ ،‬تجربة اإللهي‪.‬‬

‫تمهيد‬
‫يتلخص الهدف النهائي لفلسفة ماكس شيلر في إعادة النظر في التفسير التقليدي‬
‫للتاريخ الثقافي لإلنسان‪ ،‬الذي شكل في جوهره النسيج الكلي لحضارات العالم‪.‬‬
‫وهو تفسير تجسد في العموم في حركتين متعارضتين‪ ،‬صاعدة ترتفع باإلنسان إلى‬
‫مرتبة القوامة على العالم وتجعله روح ًا في جوهر حقيقته‪ ،‬وهابطة تجعله نوع ًا من‬
‫أنواع الحيوانات ال يختلف عنها إال في درجة تعقيده الفيزيولوجي‪ ،2‬وستستوعب‬
‫هاتان الحركتان في سياقهما مواقف متعددة كانت تتفاوت في ما بينها بتفاوت قربها‬
‫وبعدها عن الحركتين السابقتين من جهة وفي طريقة صياغتها للمفاهيم التي تتعلق‬
‫بالمشكلة إياها‪ ،‬وفي المنهج الذي اتبعته في مقارنتها من جهة أخرى‪ .‬وسيكون من‬
‫الضروري بالنسبة لشيلر إعادة ابتكار صياغة جديدة لمفهوم اإلنسان وللميتافيزيقا‬
‫الخاصة به‪ ،‬باعتبارها جوهر كل تأمل خاص على اإلطالق‪ .‬وهو شيء يكشف لنا‬
‫عن السبب الذي جعله يقف حياته كلها على محاولة صياغة مشكلة اإلنسان صياغة‬

‫‪2 Max Scheler, La situation de L,homme dans le mond, trad. Par M. dupuy, paris:‬‬
‫‪aubier,1951, p20‬‬
‫‪319‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫أقرب ما تكون إلى الحقيقة تمهيد ًا لمحاولة تقديم إجابة مقنعة حولها‪ ،‬ويبين لنا‬
‫بوضوح لم جعل شيلر ذلك مهمة الفلسفة الفريدة باعتبارها أنتروبولوجيا فلسفية‬
‫وكرسها مسألة أساسية في كتابة «مكانة اإلنسان في الكون»‪.3‬‬
‫لكن مركزية هذه المشكلة في تفكيره لم تأت تعسف ًا بل كانت ثمرة انشغال دؤوب‬
‫على نتاج األنتروبولوجيا في سياق نشأتها وتكاملها‪ ،‬خاصة في الثقافة األلمانية‪،‬‬
‫سواء في ميادين االنشغال الفلسفي أو في سياقات أخرى كالبيولوجيا والطب وعلم‬
‫النفس‪ ،‬وهي ميادين كانت جهدت لتأسيس تمثل جديد للبنية الماهوية لإلنسان‪،‬‬
‫بعد انكفاء طويل فرضته هيمنة الوضعانية على الفكر‪ ،‬وغلبة روح العلم التجريبي‬
‫الذي ش ّيأ اإلنسان وساهم في تعميق شعوره باالغتراب الذاتي‪ .‬على أن اهتمام شيلر‬
‫باإلنسان هذا لم يكن اهتمام ًا به باعتباره موضوع إدراك أو دراسة أو انشغال‪ ،‬كما‬
‫صنع كل تفكير فلسفي سابق‪ ،‬بل بإنسانيته التي كان يعتقد أنها طويت فترة طويلة‬
‫في غياهب النسيان وتم تجاهلها في فلسفات كبرى ومذاهب ورؤى في اإلنسان‬
‫والعالم والوجود‪ ،‬وفي نزعات علمية‪ ،‬لتعود من جديد مسألة إشكالية أكثر حدة‬
‫من أي وقت مضى في الدرس الفلسفي وفي ميادين انشغال أخرى‪ ،‬ولتستعيد ألقها‬
‫الفريد الذي احتجب خلف كم هائل من الفضول الفكري والمعرفي‪.4‬‬
‫وما سيكتنف مثل هذا الوعي اليقظ بأهمية إعادة التأمل في ماهية اإلنسان‪ ،‬أو ما‬
‫سيالزمه‪ ،‬تركيز ًا على إنسانيته‪ ،‬إنما هو اعتراف اإلنسان نفسه ألول مرة بأنه أصبح‬
‫ال لماهيته‪ ،‬وأعجز عن امتالك معرفة كافية‬ ‫أقل إدراك ًا اآلن لحقيقته ذاته‪ ،‬وأكثر جه ً‬
‫بما يكونه‪ ،‬أو بما عساه أن يكونه‪ ،‬ما نسميه إنسان ًا‪ .‬وألجل ذلك سيفترض شيلر أن‬
‫سؤال اإلنسان بما هو السؤال األعمق واألهم في كل تسآل فلسفي ينبغي اآلن أن‬
‫يتبدى في صورته األكثر أصالة وحدة‪ ،‬وأن يطرح بشجاعة استثنائية بواسطة صيغ‬
‫تفكير غير مسبوقة‪ ،‬واستناد ًا إلى مفاهيم وأدوات ومعايير تتجاوز المألوف من‬
‫مفاهيم الفلسفة التقليدية ومصطلحها‪ ،‬وتتخطى كل التراث البيولوجي أو العلمي‪...‬‬
‫ليتبدى كما لو أن السؤال نفسه يطمح إلى أن يتبصر إشكالية ذاته في صورة فهم‬

‫‪3 ibid. p. 15 .‬‬


‫‪4 ibid. p. 18‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪320‬‬
‫جديد لماهية الوعي الذاتي‪ ،‬واستناد ًا إلى شكل حدس يمسك بشكل مباشر بما‬
‫يتضمنه الوجود اإلنساني من أصالة‪.5‬‬
‫وإذا كان مثل هذا المسعى أمر ًا إيجابي ًا في خصوص مسألة الوعي الذاتي‬
‫بالمشكلة هذه فإن المشكلة إياها التي تقع في مركز كل اهتمام فلسفي‪ ،‬لم تسبر بعد‬
‫أغوارها‪ ،‬وال اهتدى الوعي اإلنساني إلى بلوغ حلها ح ً‬
‫ال يعتد به ويقنع‪ .6‬وإنه لمن‬
‫غير المجدي اإلمساك بالمشكلة ثم الدوران حولها من دون تعمق دالالتها والغوص‬
‫في مضامينها وتجنب كل سوء فهم فيما يتصل بطبيعتها وعناصرها الجوهرية‪ .‬من‬
‫غير إنكار لحقيقة أن وعي المشكلة ذاتها بما هو وعي أصيل يفتح بنفسه طرق ًا جديدة‬
‫إلمكانيات حلها وشق عباب األوهام التي أحاطت بها جراء معالجات مشوهة أو‬
‫مشوبة بسوء فهم راسخ للمفاهيم والمقوالت‪ ،‬والتي هي أوهام ساهمت بشكل أو‬
‫بآخر في زيادة غموضها وتعقيدها ال بما هي في نفسها فحسب في أبعادها الوجودية‪،‬‬
‫بل كذلك بالنسبة لالستجابة لمطلبها من قبل الفيلسوف‪ .‬وهو شيء جعل اإلنسان‬
‫في العالم المعاصر مشكلة أكبر تعقيد ًا من أي وقت مضى‪ ،‬وهو بذلك بات أكثر‬
‫التباس ًا وغموض ًا وإشكالية بالنسبة إلى ذاته‪.‬‬
‫ولعل السمة اإلشكالية لمفهوم اإلنسان في العالم المعاصر ــ حسب شيلر ــ‬
‫تأتت من توسع طرائق التحقيق الشخصي‪ ،‬لدرجة أن اإلنسان بوصفه مشكلة بات‬
‫موضوع ًا لتنوع ال حدود له من النظريات والرؤى‪ ،‬التي كانت تفتقر إلى وحدة كلية‬
‫يجمعها وإلى معنى موجه تلتقي عنده‪ .‬فبين وجهة النظر اليهو ــ مسيحية والنظرة‬
‫اليونانية القديمة والنظرة الحديثة القائمة على العلم الوضعاني ما نزال نفتقد جامع ًا‬
‫يوحد بين مختلفاتها‪ 7‬يمكنه أن يساعدنا على فهم ماهيتنا ويعيننا على وعي مكانتنا‬
‫في الوجود‪ ،‬بصورة تكشف لنا عن المعنى العميق إلنسانيتنا خارج سياق التباس‬
‫المفاهيم وغموضها وتشوش المصطلح وتعقيده واضطراب اللغة وخفائها‪ .‬وهو‬
‫شيء ولد أكثر أشكال االغتراب والقلق وقاد البشرية فيما بعد إلى حروب كونية‬

‫‪5 La situation de l,homme dans le mond, p. 17‬‬


‫‪6 ibid. p. 20‬‬
‫‪7 ibid. p. 19‬‬
‫‪321‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫مدمرة كشفت لنا كيف يمكن أن تصبح إمكانية تدمير اإلنسان لذاته إمكانية عينية‪،‬‬
‫في سياق فهم مضطرب مشوش لمعنى‪ :‬من نحن؟ وما مكانتنا في الكون المحيط‬
‫بنا؟ ولمعنى أن نوجد ونحيا في نطاق بشري مشترك‪ .‬وهي أسئلة لن يتم حلها إال من‬
‫خالل نأي أصيل عن الالمباالة والتكاسل‪ ،‬وابتعاد راسخ عن الجهل وسوء الفهم‬
‫وتقبل الوقائع من غير محاولة جادة لتجاوزها‪.‬‬
‫وما يأخذه شيلر كذلك على التصورات‪ 8‬هذه هو هشاشتها وعجزها عن أن تقدم‬
‫إجابات مقنعة حول المشكلة إياها‪ .‬وشيء كهذا يفترض ــ كما فكر شيلر ــ ضرورة‬
‫إعادة استئناف نمط تفكر مختلف يفضي في جوهر ما يتشكل منه إلى أنتروبولوجيا‬
‫فلسفية غايتها فقط التأدي إلى موقف يمكِّننا من الوعي بأصالة الموقف الميتافيزيقي‬
‫لإلنسان وأصالة النتائج التي ينتهي إليها‪ ،‬موضوع ًا على خلفية إنجاز مقارنة جوهرية‬
‫بينه وبين غيره من الكائنات الطبيعية التي تكتنفه‪ ،‬وتحف به وتالبسه‪ ،‬وبذلك يتحقق‬
‫اختبار األفق الداخلي للماهية اإلنسانية الذي يمكِّننا من الكشف عن طبيعتها كشف ًا‬
‫حدسي ًا مباشر ًا مستعين ًا بتاريخ العلوم المختلفة ومجلوباتها‪ ،‬وهو شيء سيتطلب‬
‫حسب شيلر إيضاح ًا فينومينولوجي ًا لمفهوم اإلنسان بقصد توضيح المفاهيم أو‬
‫األفق الخارجي كذلك لجوهر المشكلة إياها‪ .‬والتوضيح الخارجي للمفاهيم‬
‫والرؤى واختيار أصالة الموقف الميتافيزيقي لإلنسان سيعنيان حسب شيلر نوع ًا من‬
‫التحقيق الفينومينولوجي الذي يقوم على وضوح الحدس وبداهته‪ ،‬وعلى مواجهة‬
‫مباشرة مع المشكلة يذكرنا بمبدأ هوسرل «التوجه نحو األشياء نفسها»‪ ،‬وعلى جهد‬
‫نقد شامل متحرر للمذاهب والقناعات أو بعبارة للتراث المتصل المليء بتبصرات‬
‫وتأمالت ال تكاد تجتمع في سياق جامع مشترك‪ ،‬فيما يتصل بماهية اإلنسان ومكانته‬
‫ووظيفته العالئقية‪ ،‬وبكيفية تحقيق هويته وإنجاز فعل وجوده وتعبيره عن ما يتفتق‬
‫عنه وعيه من ظواهر ودالالت ومعاني‪ ،‬بما في ذلك تجربة القيمة أو أفعال اإلرادة‪،‬‬
‫أو وعي المقدس وتجربة الديني‪.‬‬

‫‪8 Max Scheler, les formes du savoir et la culture, trad. Par L. Lavelle, et R. le senni,‬‬
‫‪paris: aubier, 1955, p.107. et: l,home et l,histoire, pp.16-17 .‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪322‬‬
‫من هنا اعتبر شيلر‪ 9‬أن مواجهة الصعوبة المتعلقة بالسؤال عن ماهية اإلنسان ال تواجه‬
‫باستعراض مفصل لنظريات حول اإلنسان وال بمحاولة بناء نظرية جديدة تضاف إلى ما‬
‫سبقها أو تسعى إلى زعزعته‪ ،‬ألنها ستضيف في الحقيقة غموض ًا جديد ًا إلى غموضها‪،‬‬
‫وال كذلك بافتراض استخالص مركب توفيقي يتأسس من خالل تنقية هذه النظريات‬
‫والتوفيق بينها لتعبر أفضل تعبير عن هذه الماهية‪ ،‬ألن ذلك في الحقيقة افتراض مضلل‬
‫يقود إلى الشواش‪ ،‬ألن تأليف نظرية لن يكون أفضل من أية نظرية أخرى وحدها‪،‬‬
‫وسيعاني كذلك مما تعانيه هي نفسها من تجرد وتعسف والتباس‪ .‬والسبب في كل ذلك‬
‫هو أنه حينما يكون اإلنسان ذاته‪ ،‬بوصفه كينونة‪ ،‬هو موضوع القضية‪ ،‬وحينما تكون‬
‫حياته العينية هي الموضوع األساس للتأمل الفلسفي‪ ،‬فإن كل نظرية حول اإلنسان دائم ًا‬
‫ما تكون غير مناسبة وال كافية‪ ،‬ال ألنها تخلط اإلنسان كفكرة مجردة بالوجود العيني‪،‬‬
‫وال بسبب االعتبار التعسفي للتصورات‪ ،‬وال ألنها تخلط كذلك بين الظاهرة والوجود‬
‫االعتباطي الصوري‪ ...‬بل ألنها ليست مناسبة لما يتعلق بالحياة المشخصة لإلنسان بما‬
‫هو كائن حي يتمتع بالفرادة (كما هو الحال بالنسبة لبوذا وسقراط أو المسيح‪ ...‬إلخ)‪،‬‬
‫ال فإن ظاهرة اإلنسان تكشف عن ذاتها كما توجد في‬ ‫ألنه في الحياة الفردية لهؤالء مث ً‬
‫تكشف عيني‬ ‫تكشف ال يمكن دحضه وال إبطاله وال االرتياب فيه ألنه ُّ‬
‫الحقيقة‪ ،‬وهو ُّ‬
‫ال مجرد وماهوي ال تعسفي ومطلق بمعنى كونه فريد ًا‪ ،‬وبذلك فمجرد أن يقدَّ ر لمثل‬
‫هذه الحيوات أن تعايش فعلي ًا وفي تعين وجودها التام من خالل إنسان ما‪ ،‬فإنها تتبدى‬
‫مباشرة في سيرورة وجود حي‪ ،‬وتصبح متاحة كإمكانية لكل إنسان على اإلطالق‪ .‬لكن‬
‫ما يشكل تحدي ًا لمنهج شيلر هذا الذي يطمح إلى النفاذ إلى ظاهرة اإلنسان مباشرة‬
‫والكشف عنها كتعين هو في الحقيقة مبدأ النفاذ نفسه‪ ،‬ذلك أن اإلنسان رغم كونه كلي‬
‫الحضور‪ ،‬ورغم كون حضوره حي ًا يتجسد في صيرورة واقعية عينية‪ ،‬فإنه يتجاوز في‬
‫حقيقته ما يتكشف عيني ًا منه لحدسنا في كل لحظة من لحظات تحققه‪ .‬ذلك أن الموقف‬
‫الموحد الذي يرغب شيلر في التركيز عليه والذي نافح عنه في كل أعماله هو أن نقطة‬
‫المركز في ظاهرة اإلنسان كما يتحقق بكل ثرائه وبكل ما يحمله من امتالء إنما هي‬
‫وجود متدفق متفتح على الدوام‪ ...‬وفي معرض التكشف الذي ال يتوقف وال ينتهي‪.‬‬

‫‪9 l,home et l,histoire, pp. 18-19 .‬‬


‫‪323‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫وثراء الماهية اإلنسانية هذا وتعقدها وانفتاحها على طرق تعين وتجل وحضور‬
‫ال تكاد تنحصر‪ ،‬والذي يتجلى بوضوح في وجودها المتعين البدهي المباشر‪ ،‬أقصد‬
‫في حياة شخصية فريدة‪ ،‬ال يلتقط إال بواسطة منهج يمكنه أن يرصد تجلي اإلنسان‬
‫عن ذاته‪ ،‬في كل مرتبة من مراتب تكشفه‪ ،‬وفي ثرائه وامتالئه التا َّمين‪ ،‬ويتجاوز مناهج‬
‫الفلسفة التقليدية والعلم كليهما‪.‬‬
‫لقد ترسخت تاريخي ًا فكرة شائهة عن اإلنسان ساهمت في ترسيخها مناهج ال‬
‫تنتمي إلى طبيعته ذاته‪ ،‬تعاملت معه كمجرد موضوع للبحث والدراسة شأنه شأن أي‬
‫موضوع آخر على اإلطالق‪ .10‬لكن داخل تاريخ التشوه هذا كان هناك معنى يتكشف‪،‬‬
‫وهو معنى التقدم‪ ،‬أو تنامي الوعي الذاتي لإلنسان عن نفسه الذي كان يتبدى في التطور‬
‫المعقد ألشكال المعرفة والثقافة‪ ،‬في أشكال غير مستقيمة وال مباشرة على الدوام‪ ،‬بل‬
‫في طفرات متجددة‪ ،‬أو في نقاط واضحة محددة يمكن مالحظتها في صورة نجاحات‬
‫أو انكسارات‪ ،‬سيكون لها أهمية حاسمة في الصورة التي بلغ إليها وعيه عن ذاته‪.‬‬
‫وهي نقاط يمكن أن تختصر في خطوطها العريضة في قدرة الكائنات األولية على‬
‫استشعار ارتباطها الباطن مع ًا وكونها مؤسسة في عالم نباتي أو حيواني خاص بنوعها‬
‫ال من أشكال وحدة الوجود ونفاذها‬ ‫أو بمجموعها الحيوي‪ ،‬وهو يعني استشعارها شك ً‬
‫إلى ماهيتها النوعية‪ .‬لكن ثمة نقاط في مسار الوعي الذاتي يقف عندها شيلر بتفصيل‪،‬‬
‫األولى‪ ،‬هي ذروة الهلينية الكالسيكية‪ ،‬حيث حدث ألول مرة الوعي بالفصل الحاسم‬
‫بين اإلنسان والطبيعة بصورة نسقية ومؤسسة‪ ،‬وصيغت أفكار اللوغوس والعقل‬
‫والروح‪ ،‬وهي أفكار تنتمي إلى اإلنسان كجزء من ماهيته‪ ،‬وتضعه مع األلوهة في عالقة‬
‫تفتقر إليها باقي الموجودات‪.‬‬
‫أما النقطة الثانية‪ ،‬فهي التي تمثلها المسيحية بعقائدها عن اإلنسان اإلله والنبوة‬
‫اإللهية‪ ،‬وهي تشكل بالنسبة لشيلر تقدم ًا جديد ًا في الوعي الذاتي لجهة أن اإلنسان‬
‫سيضيف بواسطتها إلى ذاته بعد ًا كزمولوجي ًا وميتاكوزمولوجي‪ ،‬وهو شيء لم يفعله‬
‫ال اإلغريق وال الرومان كذلك‪ .11‬وهي رؤية سيستثمرها شيلر في محاولة بناء رؤيته‬

‫‪10 les formes du savoir et la culture, p. 107.‬‬


‫‪11 l,home et l,histoire, pp.16-17.‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪324‬‬
‫للوعي بالذات وبالعالم خصوص ًا في تأسيس ماهية الروح تأسيس ًا ميتافيزيقي ًا يتجاوز‬
‫حدود المنهج الفينومينولوجي التقليدي‪.‬‬
‫أما النقطة الثالثة في تاريخ األفكار حول الوعي الذاتي التي يعانيها شيلر فهي تحققت‬
‫في بدايات الفكر الحديث حيث ستضمحل النزعة المشبهة التي سادت في العصور‬
‫الوسطى أعني تلك التي تشبه اإلنسان بالله‪ ،‬وهي لحظة كان جوردانو برونو أعظم‬
‫من بشر بها عندما صاغ صورة فلكية جديدة للعالم تضاد في نتائجها صورة العالم عند‬
‫كوبرينكوس تلك التي كانت تقلل من القيمة التي كان يعزوها اإلنسان إلى نفسه‪ ،‬وهو‬
‫خطأ سيصححه برونو محاوالً تأويل رؤية كوبرينكوس في اتجاه معاكس فيقول‪« :‬إن‬
‫كوبرينكوس لم يفعل سوى اكتشاف كوكب جديد في السماء‪ .‬ونتيجة لذلك أصبحنا‬
‫موجودين في السماء‪ ،‬ولم نعد بحاجة بعد إلى سماء الكنيسة‪ ،‬فالله ليس العالم‪،‬‬
‫بل األحرى العالم هو الله»‪ .‬وبالتالي هذا ما سيقرره برونو من األبعاد الميتافيزيقية‬
‫لألطروحة الكوبيرنيكية‪ ،‬مستنبط ًا صورة لوحدة وجود كونية سنجدها واضحة بعد‬
‫ذلك عند اسبينوزا‪ ،‬وستكون نتيجتها ببساطة هي أن فكرة العصور الوسطى عن عالم‬
‫يعتمد أنطولوجيا على الله‪ ،‬وعن خلق العالم والنفس فكرة باطلة‪.‬‬
‫سيميز هذه النتيجة العقالنية الجديدة ــ حسب شيلر ــ هي أنها تتحاشى التقليل من‬
‫قيمة الله برده إلى العالم‪ .‬وهنا سيعترف اإلنسان بال ريب أنه أحد قاطني هذا الكوكب‬
‫الصغير وأنه قادر بعقله على االنتصار على المظهر الحسي الطبيعي لوجوده حتى‬
‫يتمكن من قلبه عكسي ًا‪ ،‬وبذلك يتأجج وعيه بوجوده وقيمته‪.12‬‬
‫مثل هذه الصورة من صور العقالنية فيما يتصل بعالقة اإلنسان بالله والعالم وهي‬
‫ــ حسب شيلر ــ النموذج الذي يجب أن يتسق معه كل فكر في السياق هذا في بعض‬
‫جوانبه الرئيسية‪ ،‬لكنها كانت تحتاج إلى ظالل عميقة سيضيفها في الحقيقة ديكارت‪،‬‬
‫لتقدم الفلسفة ألول مرة على وضع أساس لعالقة من نوع جديد بين اإلنسان واأللوهة‪.‬‬
‫لقد رفع دانس سكون وسواريز من قبل مستوى اإلنسان ميتافيزيقي ًا بأن نسبا إلى ذاته‬
‫الروحية محموالت لم يكن ليوافق توماس أكوينوس صراحة إال على عزوها إلى‬

‫‪12 l,home et l,histoire, 19‬‬


‫‪325‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫المالئكة‪ ،‬من قبيل الصورة المنفصلة‪ ،‬الجوهر الكامل‪ ،‬فرادة اإلنسان المؤسسة في‬
‫وجوده الروحي ذاته‪ .‬لكن مع ديكارت ظفر اإلنسان بطفرة جديدة نحو الوعي األكثر‬
‫عمق ًا بوجوده الذاتي من خالل توحيد الوعي بالذات والوعي بالله على نحو لم يعد‬
‫معه ضروري ًا الصعود بالبرهان من وجود العالم إلى وجود الله‪ ،‬كما هو الحال عند‬
‫اإلكويني‪ ،‬بل سيستنبط العالم نفسه بواسطة النور الفطري‪ ،‬أو بواسطة عقل يعرف ذاته‬
‫مباشرة‪ ،‬متأصل في األلوهية‪.‬‬
‫والنقطة األخيرة في تاريخ رحلة الوعي الذاتي تلوح فيها الصورة األعمق تأثير ًا في‬
‫وجدانه ووعيه‪ ،‬أعني الصورة التي تضم وحدة الوجود ككل‪ ،‬ابتداء من ابن رشد مرور ًا‬
‫بهيغل وهارتمان وصوالً حتى سبينوزا وليبنز‪ ،‬والتي تكرس بتمامها لفكرة التوحيد‬
‫الجزئي بين الروح اإلنساني والروح اإللهي‪ ،‬فإذا اإلنسان إله صغير‪ ،13‬وهي صورة‬
‫ستشكل فيما بعد اإلطار المرجعي لميتافيزيقا اإلنسان عند شيلر‪ .‬لكن ما المغزى‬
‫العميق لهذه القفزات المفاجئة أو النقاط في تاريخ الوعي الذاتي لإلنسان؟ هل تمثل‬
‫على الحقيقة بشكل سيرورة يفهم بواسطتها اإلنسان موقعه موضوع ًا في سياق الوجود‬
‫في كليته؟ أو أنها تشكل تنامي ًا لوهم خطير راح يكونه عن نفسه بالتدريج؟‬
‫لقد رأى شيلر أن مثل هذه القفزات ستساهم في إجالء معنى الماهية اإلنسانية‬
‫ومكانة اإلنسان في الوجود إذا مال تم استثمارها في شكل إيضاح عقالني يقوم على‬
‫فعل تحديد للمفاهيم المتباينة المتعلقة بالمشكلة هذه‪ ،‬والتي سادت المناخ الثقافي‬
‫ألوروبا على مدى قرون‪ ،‬وتجسدت في أنماط خمسة رئسية عبرت عما يمثله اإلنسان‬
‫بالنسبة إلى ذاته‪ ،‬مع االعتراف بأن كل نمط منها يمثل جزء ًا من الماضي اإلنساني أعمق‬
‫َ‬
‫المنزل الذي يطل اإلنسان منه عبر‬ ‫األفق التاريخي للوعي الذاتي‬
‫تمثيل‪ ،‬ليصبح بذلك ُ‬
‫شرفات خمس يمكن لمن تأملها أن يعيشها جميع ًا وأن يتمثلها بعمق ليدرك من خاللها‬
‫ظالالً لحاالت األفول والخفوت‪ ،‬أو لحاالت السطوع والتألق‪ ،‬التي ّ‬
‫مر بها وعي‬
‫اإلنسان لذاته في مراحل تطور هذه الرؤية وتقدمها‪.‬‬
‫وأول هذه األنماط ذاك الذي تمثله فكرة اإلنسان التي تسود دوائر الوحي اليهو–‬

‫‪13 l,home et l,histoire, 20‬‬


‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪326‬‬
‫مسيحي‪ .‬والنمط الثاني هو نمط اإلنسان العاقل الذي كان في حقيقته اختراع ًا إغريقي ًا‬
‫وجسد محطة أساسية في تاريخ تقوم اإلنسان بواسطة ذاته‪ .14‬والنمط الثالث هو‬
‫صورة اإلنسان الصانع التي قدمتها أيديولوجيا الوضعية الطبيعانية والبراغماتية على‬
‫السواء‪ ...‬والتي ينتقدها شيللر بعمق‪ ،‬بدء ًا من المفهوم االقتصادي الماركسي للتاريخ‬
‫مرور ًا بنظرية الميول عند شوبنهور وفرويد‪ ،‬وصوالً إلى فكرة سياسة القوة عند هوبز‬
‫ومكيافيل‪ .‬والنمط الرابع هو نمط اإلنسان الديونيزي‪ ،‬الذي يط ّبع ماهية اإلنسانية‬
‫وجوهره مع مفاهيم السقوط والخطيئة واإلثم‪ .‬أما النمط الخامس واألخير فهو نمط‬
‫اإلنسان األعلى عند نيتشه والذي سيختلف معه شيلر بعمق فيما يتعلق بعناصر تأسيسه‬
‫بالرغم من رضاه عن مآالته ونتائجه أو مقاصده‪ .‬وألن شيلر يؤمن بفكرة التقدم فيما‬
‫يتصل بوعي اإلنسان لذاته فهو سيضرب صفح ًا عن األنماط هذه كلها معتبر ًا أن الزمن‬
‫يتطلب شكل تفكير مختلف حول مكانة اإلنسان ودوره‪ ،‬لكنه كان يدرك بعمق حجم‬
‫الصعوبات التي تعترض فعل مواجهة الكم الهائل من التصورات الموروثة حول‬
‫اإلنسان وحجم المقاومة التي يتطلبها موقف مضاد لقوة المقوالت التقليدية التي‬
‫صيغت على أساسها هذه التصورات‪ ،‬مفترض ًا أن اإلنسان قادر بواسطة وعيه بذاته أن‬
‫يتحرر منها‪15‬عبر بناء أنتروبولوجيا فلسفية تتجاوز كل العلوم التي جعلت من اإلنسان‬
‫موضوع ًا متصورة أنها قادرة على تقديم أنتروبولوجيا حقيقية تدعي أنها فلسفية بما فيه‬
‫الكفاية‪.16‬‬

‫‪ 1‬ـ الفينومينولوجيا بما هي إيضاح لتفتح العالم‬


‫أ ــ الفينومينولوجيا كأنتروبولوجيا فلسفية‬
‫سيعرف شيلر األنتروبولوجيا هذه في كتابه‪« :‬اإلنسان والتاريخ» كاآلتي‪« :‬أعني‬
‫باألنتروبولوجيا الفلسفية العلم األساس لماهية اإلنسان‪ ،‬وللبنى األيدوسية الخاصة‬
‫به‪ ،‬وذلك في عالقته بالممالك المختلفة للطبيعة‪ ،‬وأيض ًا بمبدأ كل األشياء‪ ،‬أعني‬

‫‪14 ibid. pp.19-20‬‬


‫‪15 l,home et l,histoire, pp.14-15‬‬
‫‪16 ibid. p. 14. Et: La situation de l,homme dans le mond, p. 17‬‬
‫‪327‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫باألساس الميتافيزيقي لماهيته‪ ،‬ببداياته في الكون‪ ،‬بوجهات النظر الفسيولوجية‬


‫والنفسية والروحية‪ ،‬وبالقوى والدوافع التي تؤثر عليه ويؤثر فيها واالتجاهات‬
‫والقوانين األساسية لتطوره البيولوجي والنفسي والروحي واالجتماعي منظور ًا إليها‬
‫من داخل إمكاناته األساسية ومن داخل نتائجها الفعالة‪ ...‬وكذلك بالعالقة بين النفس‬
‫والجسد‪ ،‬بين ما هو فسيولوجي وما هو نفسي‪ ،‬وبالعالقة بين الروح والحياة»‪.‬‬
‫وسيحدد في كتابه‪« :‬مكانة اإلنسان في الكون» مهمة هذه األنتروبولوجيا الفلسفية‬
‫الجديدة‪ ،‬وذلك بحصرها في بيان الكيفية التي تصدر بحسبها خصوصيات اإلنسان‬
‫ومنتجاته وأعماله الخاصة عن بنيته‪ 17‬هو ذاته»‪ .‬وهو يقصد بالخصوصيات اللغة‬
‫والضمير الخلقي واآللة والعدالة والظلم والدولة األسطورة والدين والعلم‪ ...‬إلخ‪،‬‬
‫وستتميز بأنها تتوحد مع الفلسفة كعلم صارم كما قررها هوسرل‪ ،‬مفترضة عدم كفاية‬
‫االتجاه الوضعي في النظر إلى العالم واإلنسان كليهما‪ ،‬كما هو رأي هوسرل وهيدغر‬
‫كذلك‪ ،‬لكنها ستتخلى عن حذر الفينومينولوجيا التقليدية من النزعات السيكولوجية‬
‫والتجريبية‪ ،‬تلك التي كان رفضها هوسرل في كتابه العظيم‪« :‬مباحث منطقية»‬
‫لكن كيف ستتبدى األنتروبولوجيا هذه بما هي فينومينولوجيا‪.‬‬
‫‪18‬‬
‫ب ــ خطوات المنهج‬
‫الفينومينولوجيا طريقة تفسير عند شيلر تتجنب استخدام المصطلحات والمفاهيم‬
‫والتصورات بال نقد أو مراجعة‪ ،‬وترد كل المعارف ورؤى العالم والتأمالت الفلسفية‬
‫والالهوتية والعلمية‪ ..‬وتستسلم لما هو معطى على نحو عيني ومباشر‪ ،‬وتواجه المشكلة‬
‫في صفائها البكر وفي عريها كما تتكشف وتبرز وتتفتح أمام الوعي في كلية حضورها‪،‬‬
‫بما يحقق مطلب البداهة الذي هو غاية كل فينومينولوجيا‪ ،19‬مما يسمح بتجاوز سوء‬
‫الفهم للعالقات التضايفية بين اإلنسان والعالم في جميع مستوياتها‪ ،‬خاصة عالقة‬
‫الفكر بالواقع‪ ،‬الذات بالموضوع‪ ،‬األنا باآلخر‪ ،‬تلك التي حاولت فلسفات كبرى منذ‬
‫ديكارت تجاوزها واستيعابها من غير نجاح يذكر أو مع نجاح قليل‪.‬‬

‫‪17 ibid. p.111‬‬


‫‪18 Max Scheler, phenomenology and the theory of cognition, p.140.‬‬
‫‪19 ibid. p.138‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪328‬‬
‫وإذا أمكن لنا أن نكتفي بعبارة واحدة للتعبير عن جوهر هذا المنهج الذي سيكون‬
‫غاية مسعى هوسرل لقلنا‪ :‬إنه الذي يعنى بالبحث عما هو أصيل في كل خبرة وعي‬
‫بشري‪ ،‬ويوفر لنا األدوات الناجعة للغوص على أعماق مشكلة ما من خالل حركتين‬
‫تمثالن مرحلتين مهمتين من مراحل النقد‪ ،‬األولى هي حركة االختزال التي اجتافت من‬
‫منهج الشك الديكارتي والنزعة النقدية الكانطية كليهما‪ ،‬والتي جمعها معهما مطلب‬
‫تنوير جسدته الثورة على تراث غامض في محاولة بلوغ ما هو أصيل بعد وضعه تحت‬
‫مجهر العقل وقواه النقدية‪ ..‬وأول خطوة تطلبها ذلك هي نبذ كل المفترضات المسبقة‬
‫‪20‬‬
‫والتصورات التقليدية الراسخة واألنساق التي لم تقم مداميكها على بداهة الحضور‬
‫والتوجه نحو األشياء نفسها كما تتفتح أمام وعينا وتتكشف لحدسنا‪ .‬والتخلي عن كل‬
‫المناهج العلمية المؤسسة على بنى هشة أعاقت تطورها‪ ،‬من أجل إعادة تأسيسها ابتداء‬
‫من عالم الحياة نفسه‪ .‬هكذا تصور شيلر ماهية الفينومينولوجيا التي ستوظف في سياق‬
‫التفكير في اإلنسان كأنتروبولوجية فلسفية‪ .‬وهو شيء سيؤديه إلى إطالق هجوم واسع‬
‫على جميع النزعات الطبيعية والمادية واألنتروبولوجانية التقليدية‪ ،‬األولى والثانية‬
‫ألنهما أرادتا إبعاد العلم عن أساسه‪ ،‬أعني عن الوعي الذي يقومه‪ ،‬وتشيئة عناصر‬
‫العالم بأن يتم تحويلها إلى مجرد موضوعات إدراك‪ .21‬وأما األخيرة فألنها أرادت أن‬
‫تؤسس العلوم بما فيها المنطق على مبادئ أنتروبولوجية لتسقطها بالتالي في مهاوي‬
‫الشك والنسبية‪ ،‬وفي حضيض الالعقالنية التي كان نهض هوسرل في األساس للقضاء‬
‫عليها تأسيس ًا على الفلسفة بما هي «علم صارم»‪.‬‬
‫أما الخطوة التالية في المنهج هذا فهي لحظة بناء وتأسيس‪ ،‬أعني بذلك إعادة تأسيس‬
‫العالم في الوعي‪ ،‬ليعود بذلك إنساني ًا في وجوده ومعناه وداللته بعد أن حولته النزعات‬
‫الوضعية واألنتروبولوجيا الفلسفية التقليدية إلى مجرد إطار مرجعي لإلنسان‪ ،‬وبعد أن‬
‫جعلت من اإلنسان شيئ ًا من أشياء الوجود الطبيعي‪ ،‬أو من أشياء «الوجود في ذاته» كما‬
‫عبر كنط‪.‬‬
‫ومثل هذه الخطوة في الحقيقة هي محاولة رد اعتبار للذات اإلنسانية ولدورها‬

‫‪20 Max Scheler, idealism and realism, p. 88‬‬


‫‪21 ibid. pp. 175-176‬‬
‫‪329‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫في خضم جهد تطويع كان يقصد جعل اإلنسان مجرد موضوع للعلوم المختلفة‪،‬‬
‫وتكييفه كمجرد مسألة من مسائلها‪ ،‬أو في خضم نزعة تطلب للموضوعية طغت على‬
‫علوم اإلنسان‪ ،‬حتى لو قاد ذلك إلى القضاء على اإلنسان ذاته‪ ،‬كما حصل مع البنيوية‪.‬‬
‫وبالتالي إذا كان اإلنسان حسب كل فينومينولوجيا هو أساس العلوم كلها ومنشؤها فإن‬
‫العلوم هذه قد قلبت وضع المسألة متسببة لنفسها بأزمة حادة عميقة في بدايات القرن‬
‫العشرين‪ .22‬واستعادة الوضع الصحيح لهذه العلوم إنما يتحقق بإعادة تأكيد النظر إلى‬
‫اإلنسان على أنه وعي مقوم لظاهرة العالم انطالق ًا من مبدأ أساسي في كل فلسفة مثالية‪،‬‬
‫لماح حين‬ ‫وهو أن حقيقة العالم ال تتأسس إال في الوعي‪ ،‬والتي عبر عنها بركلي بإيجاز َّ‬
‫قال‪« :‬الوجود هو إدراكه» بغض النظر عن التفاوتات بين المثاليات حول ما يعنيه في‬
‫عبارة بركلي لفظ‪« :‬الوجود» أو «اإلدراك» أو «الوعي» على األقل في السياق الذي‬
‫نحن بصدده‪.23‬‬
‫وبذلك سيكون العالم‪ ،‬بدل أن يكون مجرد موضوع إدراك يقوم بذاته حسب كانط‪،‬‬
‫َ‬
‫مضمون الوعي أو َ‬
‫معيشه‪ ،‬ألن ماهية األخير تقوم بإدراك األول وعنيه وقصده اإلمساك‬
‫موضع بالمعنى‬
‫به‪ ،‬بعد تكييفه فينومينولوجيا‪ ،‬أعني بعد تحويله إلى معيش وعي أو َّ‬
‫الفينومينولوجي للكلمة‪ .‬وبذلك ستنتهي الثنائية التقليدية بين ذات وموضوع أو بين‬
‫وعي وعالم‪ ،‬مع ما أثارته من التباسات ال حدود لها‪ .‬وسيزول معها اغتراب اإلنسان‬
‫الذي ولده الفصل الجذري بين اإلنسان والعالم كما ترسخ في تقاليد العلم والفلسفة‬
‫كليهما‪.‬‬
‫وبذلك‪ ،‬أعني بالعودة إلى ذاتية الوعي الخالص‪ ،‬ستعود المسألة إلى المستوى‬
‫األول للتأسيس األبستمولوجي للعالم في الذاتية نفسها‪ ،‬ليغدو جوهر الحقيقة شيئ ًا‬
‫يتشكل في بداهة الحضور العيني للعالم في الوعي الكلي للذات الترنسندنتالية‪ ،‬الذي‬
‫يقتضي تعالي ًا‪ 24‬لطرفي عملية الوعي نفسه‪ ،‬تعالي الذات من جهة أو الذات الواعية‪،‬‬

‫‪22 Husserl, the crisis of europan sciences and transcendal phenomenology, trans. By‬‬
‫‪david carr evonston, north western university press, 1970.‬‬
‫‪23 phenomenology and the theory of cognition, p.148‬‬
‫‪24 ibid. p.140‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪330‬‬
‫وتعالي العالم الذي يعني على وجه الدقة حضوره عيان ًا ال كمجرد تمثالت أو تصورات‬
‫مجردة جوفاء ال تعبر عن طبيعة ما يقع عليه حدسنا البديهي من عناصر العالم ووقائعه‬
‫وأحداثه‪ .‬وبدون التعالي المزدوج هذا تستحيل المعرفة إلى مجرد وهم أو ظن على‬
‫أبعد تقدير‪.‬‬
‫لكن مثل هذه الخطوة البنائية المؤسسة على قصدية الوعي بغية إعادة تأسيس‬
‫ظاهرة العالم‪ ،‬والتي حاول هوسرل من خاللها القضاء على ثنائية الوعي ــ العالم‪،‬‬
‫ستتطرف في هذا االتجاه حسب شيلر مغفلة جانب أن اإلنسان وجود عالمي‪ .‬وهي‬
‫إذا كانت نجحت في التأكيد على تقوم العالم في الذاتية الترنسندنتالية‪ ...‬فإن ذلك‬
‫سيؤدي بها إلى أن يصبح اإلنسان استناد ًا إليها مجرد نواة تكمن فيها ظاهرة العالم كبناء‬
‫فكري‪ ،‬أو كأمثول‪ ،‬أو فلنقل كمجرد موضع‪ .‬وهذا يعني أن الفينومينولوجيا الهوسرلية‬
‫إذا كانت نجحت في إضاءة اإلنسان ببداهة موضوعات معيش الوعي فإنها فشلت في‬
‫إنارته ببداهته الذاتية‪ ،‬ألنه لن يتبقى منه بعد إجراء االختزال الفينومينولوجي سوى‬
‫المستوى الترنسندنتالي الذي يستطيع اآلن بعد االستغناء عن المستويات الواقعية‬
‫والنفسية لألنا أن يقوم بفعل التأسيس ليصبح العلم مجرد أنطولوجيا صورية‪ .‬مع أن‬
‫ما استبعده هوسرل من مستويات األنا تشكل في الحقيقة الدعامة األساسية التي تربط‬
‫اإلنسان بالعالم في تدفقه وسيرورته‪ .‬وبالتالي ستصبح عالقة اإلنسان بالعالم محصورة‬
‫في أضيق مستوياتها‪ ،‬أعني في مستوى الوعي الترنسندنتالي وحده‪ .25‬وبالتالي ستنبثق‬
‫مكشالت ستعجز الفينومينولوجيا الهوسرلية عن حلها‪ ،‬نشأت في العموم عن تطرفها‬
‫في الذاتية وعن طابعها المثالي المغرق‪ ،‬وهي في عمومها مشكالت بيذوية كما هو‬
‫الحال في مشكالت‪ :‬واقعية الوجود والحياة والروح والفعل والمشاعر‪...26‬‬
‫لكن بالرغم من ذلك لم يخرج شيلر في الحقيقة على اإلطار العام للمخطط‬
‫الهوسرلي‪ ،‬وهو سيساهم في دفع المنهج الفينومينولوجي إلى أقصاه مستفيد ًا من‬
‫مبدأ القصدية بما هو توجه لإلنسان نحو العالم‪ ،‬محاوالً تطبيقه على ميادين ظلت‬

‫‪25 idealism and realism, pp. 315-316‬‬


‫‪ 26‬هورسل‪ ،‬تأمالت ديكارتية‪ ،‬تج‪ .‬تيسري شيخ األرض‪ ،‬بريوت‪ :‬دار بريوت للطباعة ‪.1954‬‬
‫التأمل اخلامس‪.‬‬
‫‪331‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫بعيدة عن اهتمام هوسرل‪ ،‬كما هو الحال في العواطف التي تنتهي إلى مستوى الذات‬
‫السيكولوجية التي ردها هوسرل في جملة ما رده من معطيات‪ ،‬وسيحاول أن يعيد‬
‫للعالم من جهة وللذات من جهة أخرى قيمتهما الميتافيزيقية التي فقداها في خضم‬
‫صرامة الرد الفينومينولوجي التقليدي‪.‬‬
‫وإذا كان هوسرل سيؤسس نسقه على فكرة األنا كقطب متضايف مع ما يطلق عليه‬
‫اسم العالم‪ ،‬فإن شيلر سيؤسس منهجه على أساس فكرة الشخص بوصفه مركز ًا ليس‬
‫فقط ألفعال الوعي‪ ،‬بل أيض ًا ألفعال اإلرادة والعاطفة والشعور الوجداني‪.‬‬
‫ج ــ الفينومينولوجيا في توسعها» فينومينولوجيا المشاعر الوجدانية»‬
‫مثل هذا التوسع في تطبيق المنهج الفينومينولوجي ستترتب عليه نتائج كثيرة فيما‬
‫يخص اإلنسان نفسه ككائن يعي ويفعل وينخرط في تجربة عالقة مباشرة مع ما يسمى‬
‫العالم‪.‬‬
‫وأهم هذه النتائج على اإلطالق هي التركيز على منطقة التذاوت التي عز على‬
‫ال عن ولوجها‪ ...‬ألنه كان من الصعب بالنسبة له فهم‬ ‫هوسرل االقتراب منها فض ً‬
‫تقوم األنواب األخرى استناد ًا إلى المقدمات التي أقام عليها منهجه منذ البداية‪ .‬وهو‬
‫تقوم سيفتح شيلر له طريق ًا رحب ًا يتجاوز عزلة األنا العقلية‪ ،‬ويتخطى (األنا وحدية)‬
‫الترنسندنتالية ــ التي ناضل هوسرل ضد شبحها نضاالً لم ينته إلى نتيجة ــ بفضل إدراكه‬
‫إمكانية تقوم اآلخر في مستوى أفعالنا غير العقالنية نفسها‪ ،‬كأفعال الشعور واإلرادة‪.27‬‬
‫ولقد عبر شيلر عن ذلك بوضوح حين قال‪« :‬ليس يوجد أنا بغير نحن» وتابع‪« :‬إن‬
‫المالحظة الذاتية دائم ًا ما تبدأ على أنها مالحظة لذات المرء كما لو كان شخص ًا آخر»‪.28‬‬
‫وهذا يعني أن تجنب التركيز على أفعال العقل وحدها‪ ،‬سوف يجعل المشكلة‬
‫المسماة باألنوات األخرى مشكلة الغية‪ ،‬وسيصبح من الخطأ السؤال عن أنه كيف‬
‫يمكنني البرهنة على وجود عقول أخرى مماثلة لعقلي‪ ،‬لجهة أنني أعيش مع اآلخرين‬

‫‪27 Max schiler, nature et formes de la sympathie, trans. Par M. le febvre, paris, payot,‬‬
‫‪1928, p. 347‬‬
‫‪28 ibid.‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪332‬‬
‫وأعمل معهم وأتحدث إليهم وأقيم معهم عالقة تواصل بحيث تتبدى ماهية وجودي‬
‫كماهية وجود مع‪ ...‬كما يعبر الوجوديون المتأخرون‪ .‬وبالتالي ستكون فكرة اآلخر‬
‫(األنت) فكرة مكملة لوعينا عن أنفسنا‪ ،‬على أن نأخذ في االعتبار أن المكمل ليس‬
‫مجرد موضوع‪ ،‬بل موجود مشابه لنا يماثلنا‪ ..‬وسيبدو االعتراض على هوسرل بأنه‬
‫انطالق ًا من موقف عقالني خالص لن نتمكن من تفسير اآلخر إال على أنه مجرد‬
‫موضوع‪ ،‬أمر ًا مفهوم ًا للغاية‪ .‬وبالتالي إذا كان من الضروري لوعي اآلخر أن يفسر‬
‫كمثيل لألنا أو النحن فينبغي التركيز على التحليل الفينومينولوجي لألفعال الباطنية‬
‫كتلك التي توجد في عالقاتنا الفعلية مع اآلخرين‪ ،‬وأن نحلل العواطف االجتماعية‬
‫التي تكشف مباشرة عن حضور الكائنات األخرى التي تماثلنا في المجال الذي توجد‬
‫فيه‪ ،‬كما هو الحال مع الحب‪ 29‬والتعاطف والحياة والحقد والندم والتوبة‪ .‬وبذلك‬
‫يمكن فهم الوجود في ثرائه وامتالء معناه‪.‬‬
‫وألن شيلر يعتني بالكائن اإلنساني في كلية وجوده‪ ،‬ال فيما ما هو ذات ترنسندنتالية‬
‫فحسب‪ ،‬فإنه افترض أن الرد الفينومينولوجي الذي يسمح لنا بحدس الماهيات ليس‬
‫مجرد منهج أو آلية فحسب بل هو الشكل الميتافيزيقي األساسي لكل معرفة‪ ،‬لدرجة أنه‬
‫اعتبره أولى فعاليات الماهية البشرية والعنصر الجوهري في تشكل حقيقتها وما يميز‬
‫اإلنسان عن غيره من الكائنات في مدراج الوجود األخرى‪.‬‬
‫وما يتجلى عن اإلنسان والوجود‪ ،‬الذي يجد نفسه فيه أو بين مدارجه والذي يوجد‬
‫ويظهر في صيغ مختلفة للتجربة التي تؤسس اإلنسان (كشخص)‪ ،‬وتجربتُه العينية ليسا‬
‫عديمي الشكل وال هما مشوشان‪ ،‬بل دائم ًا ما يكونان محددين وخاصين وواضحين‪،‬‬
‫لكن ليتم وعي التجربة العينية هذه في خصوصيتها وجالئها ينبغي تطوير موقف‬
‫معوق ًا‬
‫إجرائي مؤقت يتصف بكونه موقف ًا منفتح ًا ونقدي ًا‪ ،‬ألن مثل هذا الجالء قد يكون ّ‬
‫خلف حجب المفترضات المسبقة أو تحت أوهام السذاجة والتسطيح التي تحيل كل‬
‫متجل منكشف إلى مجرد واقعة بسيطة مألوفة ومبتذلة يتحول معها العالم واإلنسان‬
‫إلى معطيين واقعيين متناهيين‪ 30‬ومكتملين في تأليف جوهري ير ّد الظاهرة إلى طابعها‬

‫‪29 ibid. p.58. et: repentir et renaissance, p.83, 110-114‬‬


‫‪30 phenomenology and the theory of cognition, p.166‬‬
‫‪333‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫المثالي‪ ،‬أو فلنقل إلى وجودها المثالي ــ الروحي‪ ،‬أو إلى وجودها المادوي الوضعاني‬
‫أو إلى مجرد عالقة تضايف مع عينية أخرى تفارقها كما هو الحال في رد ظاهرة العالم‬
‫إلى الله باعتباره موجود ًا مفارق ًا ومتوحد ًا‪ ،‬حيث ستفتقر الظاهرة في نزعات الرد هذه‬
‫إلى عينيتها بردها إلى ما هو غير ذاتها‪.‬‬
‫وما هو متعين جلي ال يمكن تحديده بالرد كما ال يمكن تحديده تجريدي ًا أو تعسفي ًا أو‬
‫طبق ًا لرؤى وتصورات ومواقف وأحكام مسبقة‪ .‬فإذا ظهر شيء وتجلى عن ذاته في تفتح‬
‫ماهيته‪ ،‬كما هو الحال في الماهية اإلنسانية‪ ،‬فإن هذا الشيء أي ًا ما كانت طبيعته يكون قد‬
‫ظهر فعالً‪ ،‬ويجب النظر إليه طبق ًا لذلك‪ ،‬أي بما هو ظاهرة فعلية تتبدى بهذه الطريقة أو‬
‫ال أو الحب في حياة إنسان ما‪ ،‬إذن‬ ‫تلك من طرائق االنكشاف‪ .‬وبالتالي فإذا ظهر الله مث ً‬
‫فإنه «يوجد» على الحقيقة بصورة ال يمكن دحضها أو إنكارها‪ ،‬ألن الدحض واإلنكار‬
‫لن يكونا حاسمين في صورة كون الظاهرة أمر ًا متعين ًا بالفعل‪ ،‬بالرغم من أنها قد تفقد‬
‫حضورها وتنسى وتختفي أو تختلط بغيرها من الظاهرات‪ ،‬ألن ظهورها األصيل يبقى‬
‫ال بنائي ًا للكل الذي تظهر فيه‪ ،‬ومن ثمة يكون الثراء العيني للظاهرة أمر ًا متاح ًا على‬
‫مكم ً‬
‫الدوام للكل‪ ،‬منقوص ًا كان أو مكتمالً‪ .‬وبالتالي فإن ميزة المنهج الفينومينولوجي عند‬
‫شيلر يتحدد هنا في محاولة تأسيسه اتجاه ًا لما يسميه التفتح نحو‪ ...‬وهو اتجاه سمح‬
‫لما يكشف عن ذاته بأن يكشف عنها كما هي في حد نفسها‪ ،‬وهو تفتح على‪ ...‬مهيأ‬
‫للتجلي في كامل امتالئه‪ ،‬وهو برهان ضمني على أن ما يظهر هو على وجه الدقة ذات‬
‫نفسه (‪ )Wessem‬وليس أي شيء آخر على اإلطالق‪ ،‬واتجاه يرفض رد أية ظاهرة إلى‬
‫أي شيءآخر غير ذاتها أو تفسيرها أو البرهنة عليها بما يجاوزها‪ ،‬ألنه يطمح إلى تحرير‬
‫الظاهرات أو الكشف عنها كما تتجلى في التجربة الفعلية بما تتضمنه من تعقد وثراء‬
‫وتنوع‪ ،‬وبما تحتويه من عالقات في الدائرة الكلية للتجربة العينية‪ ،‬لجهة أن الظواهر‬
‫تتبدى في كل مكان محيلة إلى غيرها في دينامية ظهور تكشف عن ثراء ال يستنفد في‬
‫حاالت إنجاز المعني‪ ،‬ألن كل ظاهرة هي في حقيقة أمرها ذات طبيعة عالئقية قبلية أو‬
‫فلنقل أن ظهورها نفسه ذو طبيعة عالئقية قبلية‪ ،‬ألنه يتضمن في جوهر حقيقته كل ما‬
‫يمكن أن يظهر من دون تحديد مسبق لما يمكنه أن يكون كذلك فيما يتعلق بالظاهرة‬
‫ذاتها وإمكاناتها‪ ،‬بما هي أفق أو تعين ذو طابع منفتح‪.‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪334‬‬
‫د ــ أزمة األخالق وروح الحساب العقالني‬
‫لم يكن شيلر يطمح في الحقيقة إلى تأسيس الفينومينولوجيا كعلم صارم كما صنع‬
‫هوسرل‪ ،‬وسيكون هذا العلم بالنسبة له مجرد وسيلة من شأنها أن تساعده على العثور‬
‫على إجابات جديدة لألسئلة العميقة والمشكالت الدائمة المتصلة بوجودنا‪ ،‬وهو كان‬
‫يتفلسف مع شعور قوي بالعيش في العصر ومن أجله‪ ،‬عصر األزمات والتحوالت كما‬
‫شخصه بنفسه قبل الحرب العالمية األولى بزمن طويل‪ .‬وستكون أكثر التعبيرات‬ ‫كان َّ‬
‫حدة عن هذه األزمة بالنسبة إليه اجتماعية واقتصادية‪ ،‬وهو ما يفسر اهتمامه الدائم بعلم‬
‫االجتماع‪ .‬ولعل أكثر تعبيراته داللة في هذا الصدد العنوان الذي وضعه للطبعة الثانية‬
‫من مقاالته الفلسفية واالجتماعية المبكرة‪« :‬عن اإلطاحة بالقيم»‪ .‬وهو بهذا المعنى فهم‬
‫استبدال نمط العصر الرأسمالي بنمط القيم المسيحية البرجوازية‪ ،‬وهو نمط يقوم على‬
‫روح الحساب العقالني وعلى مجرد المنفعة كما تجسدت في نمط بورجوازية‪ ،‬وتبدت‬
‫في التركيز على الكسب الالمحدود‪ ،‬وفي اإلرادة الشاملة للسيطرة على الطبيعة‪ ،‬وفي‬
‫الالمباالة تجاه الكيفية لصالح الكم‪ .‬ومثل هذا الموقف من شيلر لم يكن يعني العودة‬
‫شكال من االشتراكية المسيحية يقضي بأن اإلصالح‬ ‫ً‬ ‫إلى القرون الوسطى‪ ،31‬بل كان‬
‫الحقيقي للعصر يجب أن يبدأ باإلنسان كفرد‪ ،‬وبالتحديد من إحساسه بالقيم التي تفاقم‬
‫تشوهها مع طغيان الطابع العلماني على الحياة‪ .‬كان يمكن أن تكون الرافعة لمثل هذا‬
‫ال للتحقق‬‫التجديد تنشيط األخالق‪ ،‬لكن شيلر كان يدرك جيد ًا أن ذلك لم يعد شيئ ًا قاب ً‬
‫بمجرد العودة إلى أخالق الفطرة السليمة وفق ًا لنموذج فالسفة األخالق اإلنكليز‪ ،‬ألن‬
‫تحدي مثل هذه األخالق من قبل مفكرين مثل نيتشه كان خطير ًا للغاية‪ ،‬وهو قوض في‬
‫الواقع أسسها بعمق‪ ،‬وكانت هناك حاجة إلعادة بناء أكثر حزم ًا‪ .‬وشيلر كان يأمل في أو‬
‫تتمكن هذه األخالق المعاد بناؤها من تأهيل بعض قيم المسيحية وإحيائها‪ ،‬سيما قيم‬
‫التواضع والخشوع‪ ،‬وفي أن تكشف أيض ًا عن زيف بعض القيم الحديثة التي ولدت‬
‫فقط من روح الكراهية‪ ،‬وفي أن تجند مثل هذه األخالق المتجددة أفضل طاقات‬
‫الماضي‪ ،‬خاصة طاقات المسيحية األوغسطينية بتأكيدها على الحب والشعور بالنظام‬
‫األبدي‪ .‬ما سيوفر حسب شيلر وسائل إعادة البناء هذه هو الفينومينولوجيا الجديدة‪.‬‬

‫‪31 Vom Ewigen im Menschen. Preface to second edition G. W. 5, p. II.‬‬


‫‪335‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫وإذا كانت األخالق هي محور فلسفة شيلر‪ ،‬فهو كان يطمح من خالل ذلك إلى أن‬
‫يقدم المبادئ التي يمكن أن توجه الفرد في مواقف محددة‪ ،‬وهو تفكير سنراه كذلك‬
‫عند هارتمان الذي قصد إبقاء األخالق خارج كل الصراعات اليومية‪ .32‬لكن مثل هذا‬
‫الطموح لم يكن يعمي شيلر عن النسبية التاريخية واالجتماعية التي كان درسها بجدية‬
‫متزايدة‪.‬‬
‫وإذا كان شيلر يدرك أن معظم المشاكل التي اقتحمها من خالل فلسفته كانت تركز‬
‫على مشاكل األنتروبولوجيا الفلسفية‪ ،‬التي كانت تعني له أكثر بكثير مما أصبحت تشير‬
‫إليه في العلوم االجتماعية المعاصرة‪ ،‬أعني تحديد طبيعة اإلنسان ومكانته بالنسبة‬
‫‪33‬‬
‫للوجود في كليته‪ ،‬فهو أدرك كذلك أن ذلك يتطلب منه في الوقت نفسه ميتافيزيقا‬
‫قادرة على تحديد طبيعة الواقع ومعناه‪ .‬وسيصبح مثل هذا االرتباط بين األنتروبولوجيا‬
‫الفلسفية الخاصة به وميتافيزيقاه واضح ًا إذا قرأنا مقدمة الطبعة الثانية من كتابه‪:‬‬
‫«الصورية في األخالق» ‪ ،1925‬وبالتالي فإن األخالق واألنتربولوجيا الفلسفية‬
‫سيكونان االهتمامين المركزيين الدائمين في فلسفته‪ ..‬مما يستوجب ضرورة تحديد‬
‫وظيفة الفينومينولوجيا فيما يخص كال هذين المسعيين‪ .‬فما هي الفينومينولوجية التي‬
‫تخصه‪ ،‬وكيف تصورها في سياق كلية فلسفته‪.‬‬
‫هـ ــ تصوره الخاص للفينومينولوجيا‬
‫لم يبين شيلر تصوره للفينومينولوجيا بطريقة منهجية وبوضوح في كتاباته‪ ..‬لكن‬
‫بعض توقعاته التي ربطها بطريقة تفكيره الجديدة تكشف لنا عن خصوصية فكره‬
‫في ما يخصها‪ .‬ألنه اعتقد أن وجهتها الرئيسية تتمثل في تطوير الدوافع التي أعطاها‬
‫نيتشه وديلتي وبرغسون للفكر الحديث قبل هوسرل بزمن‪ ،‬وهو تصور الفلسفة كأداة‬
‫عظيمة يمكن أن تحقق إصالح ًا حاسم ًا للرؤية الكونية‪ ،‬لكنه سيناقش الفينومينولوجيا‬
‫والمنهج الفينومينولوجي بشكل عرضي في كتابه «الشكالنية في األخالق»‪ .‬ولقد‬
‫وجدت في أوراقه بعد وفاته شذرات كان من المفترض أن تدخل في كتاب منفصل‬

‫‪32 preface to the third edition of the formalismus, G.W.2, P.23‬‬


‫‪33 " Die idee des friendes und der pazifismus" berlin, 1931. P23‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪336‬‬
‫عن الفينومينولوجيا ونظرية المعرفة‪ ،‬يتضمن مخطط واحد له‪ ،‬ليس جزء ًا نظري ًا مكرس ًا‬
‫لألسئلة المنهجية فحسب‪ ،‬بل كذلك جزء ًا مادي ًا تم فيه تناول تطبيقات الفينومينولوجيا‬
‫في مجاالت وميادين مختلفة تبدأ بالعالم الخارجي وتمر بالعالم الداخلي واالجتماعي‬
‫وعالم الحياة البيولوجية لتنتهي بالميتافيزيقا في تسلسل منهجي‪.34‬‬
‫والجزء النظري من الكتاب هو فقط ما تم اكتشافه في النهاية لكن في صورة غير‬
‫مكتملة‪ .‬ولربما اعتقد شيلر أنه كان يقرر في هذا النص‪ ،‬الذي وضعه بالفعل قبل أن‬
‫ينشر هوسرل كتابه «أفكار»‪ ،‬رؤية فينومينولوجية مشتركة‪ ،‬لكن الواضح أنه كان يبني‬
‫صياغته على فهمه الخاص لها وممارسته إياها‪ .‬ما رآه بادئ ذي بدء شكل أساسي‬
‫من الفينومينولوجيا لم يكن منهج ًا بمعنى مجموعة من العمليات العقلية بل موقف‬
‫غير مألوف أو طريقة معاينة ندخل من خاللها في عالقة حدسية مع األشياء يمكن أن‬
‫يشار إليها بعبارة‪« :‬التجربة الفينومينولوجية»‪ .‬وهو سيصر على أن الفينومينولوجيا‬
‫هي التجربة أو الوظيفة األكثر راديكالية على اإلطالق التي تتعارض مع العقالنية التي‬
‫تفترض مبادئ مجردة أو تستند إلى النتائج غير الممحصة للعلم أو التي تنشغل بمسألة‬
‫إيجاد معايير غير مباشرة للمعرفة‪ .‬والتي تتعارض كذلك بنفس القدر مع التجريبية‬
‫الضيقة التي تقصر التجربة على الخبرة الحسية‪ .‬وبالتالي فالتجربة هذه ال تهتم باألشياء‬
‫من أي نوع وال باألفكار ولكن بمجموعة خاصة جد ًا من الحقائق‪ .‬وإذا كانت الحقائق‬
‫ثالثة أقسام الطبيعية والعلمية والفينومينولوجية‪ ،‬فإن األخيرة هي في الحقيقة عبارة عن‬
‫‪35‬‬
‫محتويات حدسية خالصة تعطى في التجربة المباشرة دون اعتبار للواقع المحتمل‬
‫تمام ًا كما تقدم نفسها في استقالل عن اعتقادنا أو عدم اعتقادنا‪.‬‬
‫أما الحقائق الطبيعية فهي حقائق قناعاتنا الساذجة في األشياء واألحداث اليومية‬
‫كما يعبر عنها في اإلطار البطلمي للمرجعية الفلكية الخاصة بنا‪ .‬والحقائق العلمية هي‬
‫ما تحل محل هذا اإلطار األكثر تعقيد ًا لبناء كوبرنيكي‪ .‬والحقائق الفينومينولوجية أو‬

‫‪34 l,home et l,histoire, pp. 16-17‬‬


‫‪ lallement, «schelers phänomenology begriff und die idee der‬ــ ‪35 E.avé‬‬
‫‪phänomenologichen erfahrung« phänomenologische forschungen, n.9, 1980. Pp.‬‬
‫‪123 90-‬‬
‫‪337‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫(ما الذي)؟ أو أنحاء التوجد هي دائم ًا ما ينعطي في امتالء‪ ،‬وبالتالي فهي خارج نطاق‬
‫كل وهم محتمل‪ ،‬ألنه ال يوجد هنا أي فرق بين ما هو مجرد معنى رمزي وما هو معطى‬
‫بشكل حدسي‪ ..‬ومثل هذه الحقائق بديهية ومستقلة عما يمكن انعطاؤه من خالل‬
‫االستقراء‪ .‬وسيشمل هذا المعنى للبداهة جميع المعطيات المباشرة لتجربتنا الساذجة‬
‫بكل ثرائها النوعي‪.‬‬

‫‪ 2‬ـ فينومينولوجيا القيم‪ ،‬ونقد األخالق الصورية الكنطية‬


‫أ ــ تهافت النموذج الكنطي‬
‫كانت األخالق الكنطية المرتكز األساسي الذي سيقيم عليه شيلر أو انطالق ًا منه‬
‫رؤيته األخالقية في العموم ومذهبه في القيم‪ .‬فالنقد الشيلري لكنط جذري يقيمه على‬
‫أسس ثم يقوض استناد ًا إليه األخالق الصورية الكنطية في بنيتها وفي نتائجها التي تقوم‬
‫عليها‪.‬‬
‫سوءتان وجد شيلر أن صورية كنط كانت تقوم عليهما‪ ،‬تعقيدها المتكلف وصوريتها‬
‫‪36‬‬
‫وتجريدها المفرط من جهة‪ ،‬ورفضها للخبرة األخالقية بما هي موقف في العالم‬
‫ً‬
‫معلال‬ ‫كما عبر في مقدمة كتابه «الصورية األخالقية واألخالق المادية للقيم»‪،37‬‬
‫كلتا السوأتين بطبيعة العصر الذي لم يكن يؤمن إال بالعقل وأحكامه‪ ،‬وبأن الكنطية‬
‫األخالقية جاءت ردة فعل ضد الفردانية التي ترجع األحكام الخلقية إلى المشاعر‬
‫والعواطف الفردية كما صنع هوبز‪ ،‬وضد محاوالت إقامة األخالق على نظام طبيعي‬
‫لألشياء أو على الخبرة اليومية‪.38‬‬
‫سيكون كتاب شيلر هذا تفنيد ًا مفص ً‬
‫ال للفكرة الكنطية التي تفترض أن األخالق‬
‫الصورية قبلية وحدها‪ ،‬ومستقلة عن كل خبرة‪ ،‬وأن لها القدرة على تأسيس أخالق‬

‫‪ 36‬وفاء عبد احلليم‪ ،‬القيم يف فلسفة شيلر‪،‬اإلسكندرية‪ :‬دار الوفلء‪ .2004 ،‬ص‪210 .‬‬
‫‪37 Anne, lise assada, scheler critique de kant, séminare de la philosophie morale et‬‬
‫‪politique,nante, 2011-2012. P7. And: A Commentary on Max Scheler’s Critique‬‬
‫‪of the Kantian Ethic Ronald F. Perrin, Journal of the History of Philosophy, Johns‬‬
‫‪Hopkins University Press, Volume 12, Number 3, July 1974. pp. 347-359‬‬
‫‪ 38‬القيم يف فلسفة شيلر‪ ،‬ص‪210 .‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪338‬‬
‫الواجب في كلية كونية في صورة تقرير يقول‪« :‬إعمل كما لو كان عملك قانون ًا عام ًا‬
‫للطبيعة أو قانون ًا كوني ًا» وتأكيد ًا على أخالق مادية لها طابع قبلي كذلك‪ ،‬هي أخالق‬
‫تجريبية على الحقيقة تهتم بالمنفعة واللذة واالستمتاع بالمحسوسات‪ ،‬وهو شيء‬
‫ينافي في جوهره الطابع اإللزامي للصورية األخالقية ولإللزامية العقالنية لقانونها كما‬
‫كان كنط يرى‪.39‬‬
‫وبالتالي فالمنزع الكنطي الذي يجعل القبلي هو العقالني وحده‪ ،‬والذي ينفي كل‬
‫إمكانية إلقامة أخالق قبلية ذات محتوى قيمي مادي ال يستقيم عند شيلر على أساس‪،‬‬
‫ذلك أن في قبال منطق العقل هناك منطق آخر هو منطق القلب على طريقة باسكال‬
‫أو منطق الحب على طريقة أوغسطينوس ال يقل خطورة عن األول في صالحيته ألن‬
‫يكون أساس ًا تقام عليه الحجة األخالقية ثم توسع دائرته لتشمل العواطف الفردية‬
‫والمشاعر وأحاسيس التعاطف باعتبارها كذلك ذات بنية قبلية كما هو الحال في‬
‫األخالق الصورية الكنطية سواء بسواء‪ .40‬ومثل هذا الموقف كان يتطلب من شيلر‬
‫إعادة فهم داللة القبلي في النسق الكنطي أوالً‪ ،‬ثم تحديد قيمة االدعاء بقبلية األحكام‬
‫األخالقية الصورية وتحديد مدى إمكانية قبلية ألحكام مادية تجريبية كذلك‪.‬‬
‫القبلي بإطالق هو المتجاوز للخبرة الحسية‪ ،‬أعني ذاك الذي ال يتأتى اإلمساك‬
‫به في التجربة الحسية نفسها وفي الموقف الطبيعي الساذج‪ ،41‬أو هو ما تدركه الذات‬
‫بحدس أولي باعتباره النطاق الضروري الذي استناد ًا إليه تنظم كل معارفنا وانطالق ًا منه‬
‫يتأتى للعقل تمثل العالم في سياق منظم واستيعاب دالالته ومغازيه‪.‬‬
‫فالقبلي إذن مقولة أو أمفهوم أو قانون ال يشتق من الحساسية وحدها‪ ،‬أو هو مبادئ‬
‫تكون التجربة استناد ًا إليها ممكنة ومعطياتها أمر ًا قاب ً‬
‫ال للتنظيم والفهم‪ .‬وهي مبادئ‬
‫تستنتج صوري ًا ال تجريبي ًا في بداهة العقل الحدسي الترنسندنتالي‪.42‬‬

‫‪39 scheler critique de kant, p.4‬‬


‫‪40 ibid. p.5‬‬
‫‪41 vandenberghe, frédéric, l,archéologie du valoir, amour,don,et valeur dans la‬‬
‫‪philosophie de max scheler, revue de mass, 2006. N.21. p151‬‬
‫‪ 42‬القيم يف فلسفة شيلر‪ ،‬ص‪211 .‬‬
‫‪339‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫سيرفض شيلر القبلي الكنطي هذا‪ ،‬أو سيتوسع في تفسيره‪ ،‬بالرغم من أنه سيتفق‬
‫معه في نقده لنظريات األخالق الطبيعية والنفعية دون أن يعني ذلك أن رفضه نابع من‬
‫اعتقاده بأن الخيرات أو الغايات المترتبة على كل فعل أخالقي ليست تجريبية‪.‬‬
‫لقد بدأ شيللر نقده بضرورة إحصاء األحكام الكنطية القبلية أوالً من أجل استثمارها‬
‫إلقامة أخالق مادية ممكنة‪ .43‬وإذا كان كنط يستبعد من أخالقه الصورية كل العوامل‬
‫التجريبية واألنتروبولوجية ألنها تنافي الطابع الصوري للمبدأ األخالقي فإن شيلر‬
‫سيؤسس على االستقراء المتفحص للوقائع الخلقية ألحكام القيمة االجتماعية‬
‫الخاصة بالجميل والقبيح أو الحسن والسيئ‪ .44‬وهذا يتطلب تميبز ًا جذري ًا بين قبلي‬
‫ال واضح ًا بين القبلي والصوري وبين المادة واالنطباعات‬‫صوري وقبلي مادي وفص ً‬
‫الحسية‪.45‬‬
‫وإذا كان شيلر يتفق مع كنط بنحو ما على معنى القبلي فيما يتصل بالقضايا األخالقية‬
‫فإنه يختلف معه في أن القبلية إذا كانت تعني االستقالل عن الخبرة الحسية المباشرة‬
‫وقضاياها وأحكامها فإنها كذلك ال تستمد من صورة األحكام التي استخدمها كنط‬
‫في مقوالته بوصفها قوانين وظيفية للتفكير‪ .‬وإذا كان األمر كذلك فما معنى أن يوجد‬
‫القبلي وكيف يمكن وعيه وإدراكه؟‬
‫يرى شيلر أن قبلية األحكام األخالقية تقوم في المعطى الذي يملك تحققه في‬
‫الوقائع‪ .‬فقضية أخالقية ما تكون صادقة بصورة قبلية إذا ما تحققت في مثل هذه‬
‫الوقائع‪ ،‬وبالتالي فهو يميز بين تصور الشيء والشيئية التي تحدس قبلي ًا‪ ،‬وبين تصور‬
‫المساواة والمساواة نفسها التي تحدس قبلي ًا‪ ،46‬ولذلك فالقبلي يعتمد بشكل أو بآخر‬
‫على المعطى‪ ،‬أعني على خبرة المعطى‪ ،‬وال وجود ألي معنى بما في ذلك القضايا‬
‫القبلية ليست معطاة في الخبرة‪ ..‬وهذا هو المنهج الفينومينولوجي الذي يؤسس كل‬

‫‪ 43‬جيل دولوز‪ ،‬فلسفة كنط النقدية‪ ،‬تج‪ .‬أسامة احلاج‪ ،‬بريوت‪ :‬جمد‪ .1977 ،‬ص‪30 ،‬‬
‫‪ 44‬القيم يف فلسفة شيلر‪ ،‬ص‪211 .‬‬
‫‪45 Laurent giassi, la critique du formalisme kantien chez hegel et scheler, revue‬‬
‫‪numerique, p. 21‬‬
‫‪46 max scheler, le formation, p.71‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪340‬‬
‫مقولة على حدس فينومينولوجي‪ .‬والذي يفترض أن األخالق حتى لو كانت قبلية‪،‬‬
‫مؤسسة في الوقائع من غير أن تكون قابلة لإلدراك بحدس حسي باعتبارها واقعة‬
‫تجريبية‪ ..‬ألن ما ال يؤسس في الوقائع‪ ،‬من األحكام والقضايا والمقوالت‪ ،‬ال يكون‬
‫هادف ًا وال قصدي ًا من هنا يكون ما هو قبلي ذا مضمون حدسي تم تبصره فينومينولوجيا‬
‫في الوقائع نفسها وليس مجرد إنتاج فكري محض‪.47‬‬
‫ثم إن خطأ كنط كان مطابقة القبلي مع الصوري‪ .‬إن القبلي يعارض البعدي‪ ،‬لكنه‬
‫ال يعارض المادي البتة وال يقع في قبال تجربة الخبرة نفسها على تضاد معها‪ .‬وبالتالي‬
‫سيكون المادي القبلي هذا هو جوهر كل قضية‪ ،‬وسيتخذه شيلر أساس ًا لمذهبه في القيم‬
‫محاوالً تأسيس األخالق في الماديات القبلية ال في القبلية الصورية الكانطية‪.48‬‬
‫ومن أخطاء كنط كذلك خلطه بين القبلي والعقلي‪ ،‬ألنه أدى إلى مغالطة فيما يخص‬
‫األخالق‪ ،‬مغف ً‬
‫ال فكرة أن حياتنا الروحية كلها هي من تملك األفعال الخالصة وقوانينها‬
‫المستقلة عن التفكير المحض وتشكل بمجموعها بنية عضوية لإلنسان‪ ،‬وتوجد في‬
‫الروح والعاطفة واإلدراك الوجداني‪ ،‬أي فيما يشكل الحياة العاطفية لإلنسان‪،49‬‬
‫كأفعال التفضيل‪ ،‬الحب والكراهية واإلرادة‪ .‬وكل فعل قبلي من هذا القبيل ال يستمد‬
‫من التفكير وال يأخذ بنيته عنه‪ ،‬ويجب على كل فلسفة أخالق أن تأخذه بعين االعتبار‬
‫وأن تضعه في حسابها‪ ،‬في تأثر واضح بمنطق القلب عند باسكال الذي افترض أن‬
‫مصطلح العقل الذي وضعه اليونان في قبال الحساسية كان يعبر عن مظهر واحد من‬
‫مظاهر الروح‪ ،‬وهو الجانب المنطقي‪ ،‬مغف ً‬
‫ال الجانب اآلخر الذي هو الوجدان‪.50‬‬
‫ولقد كان كنط‪ ،‬انسجام ًا مع هذا االستعمال لمفهوم العقل‪ ،‬يرد اإلرادة الخالصة‬
‫إلى العقل العملي دون إدراك ألصالة فعل اإلرادة وخصوصيتها‪ ،51‬وأن فعلها هو مجال‬
‫تطبيق للمنطق كذلك لكنه يرجع إلى طبيعة التفكير الصورية نفسها وإن كان يحمل نفس‬

‫‪47 le formation, p.71‬‬


‫‪ 48‬القيم يف فلسفة شيلر‪ ،‬ص‪213 .‬‬
‫‪49 le formation, p.74‬‬
‫‪50 ibid. p. 76‬‬
‫‪51 ibib. p.85‬‬
‫‪341‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫المحتوى الفينومينولوجي فنقول مثالً‪ :‬إنه يستحيل أن نريد شيئ ًا وال نريده في الوقت‬
‫نفسه كتطبيق لمبدأ التناقض‪ ،‬أو أن نسعى إلى شيء وال نسعى إليه في الوقت نفسه‪ .‬فعل‬
‫اإلرادة والتفكير شيئان مختلفان وإن اشتركا مع ًا في األساس الفينومينولوجي الذين‬
‫يقومان عليه‪.52‬‬
‫ولقد أخطأ كنط كذلك في التوحيد بين المادي والمعطى الحسي‪ ،‬مستبعد ًا أي‬
‫وجود لهما في دائرة نظرته األخالقية‪ ،‬مفترض ًا أن تأسيس األخالق على المادة وبالتالي‬
‫على معطيات حسية يغلب المنفعة والنزعة الغريزية والشهوة التي اليمكنها بحال أن‬
‫تكون صالحة كقانون أساسي لألخالق‪.‬‬
‫وعليه فالقبلي حسب شيلر معطى حدسي مباشر‪ ،‬وليس هو كاألشياء بل كالماهيات‪،‬‬
‫وهو قبلي مادي وليس صوري ًا كما هو عند كنط‪ ،‬وهو يهتم بالمضمون والمحتوى ال‬
‫بالشكل والصورة كما هو الحال في المقوالت الكنطية‪ ،53‬أي بالفعل اإلنساني الواقعي‬
‫وبالحياة المعيشة‪.54‬‬
‫وبالتالي فمن الممكن بناء فلسفة أخالقية مادية تتجاوز فكرة التوحيد بين الصوري‬
‫والقبلي‪ ،‬الذي يؤدي إلى سوء فهم لصفات األفعال ويشوه تفسيرها‪ ،‬وتقوم على‬
‫فينومينولوجيا للقيم والحياة العاطفية تستقل تمام ًا عن المنطق العقلي وتنهض في‬
‫سياق مختلف عن سياقه‪.55‬‬
‫تقوم‬
‫ولقد كان الطابع الصوري للفلسفة الكنطية يفترض وظيفة تركيبية للعقل‪ِّ ،‬‬
‫العالقة قبلي ًا بين الموضوع من جهة والمعطى من جهة أخرى‪ ،‬باعتبارها نتاج ًا لنشاط‬
‫تلقائي للتركيب الخالص يعمل داخل عماد المعطى والصورة التي ينحصر القبلي فيها‬
‫بوصفها نتاج ًا إخباري ًا‪ .56‬ومعنى هذا أن كنط يعتبر المعطى عماء كما يعبر هيوم‪ ،57‬أي‬

‫‪52‬‬ ‫‪ibid., p.86‬‬


‫‪53‬‬ ‫‪l,archéologie du valoir, amour,don,et valeur dans la philosophie de max scheler,p.152‬‬
‫‪54‬‬ ‫‪oliver, agard, max scheler entre la françe et l,allemagne, p18‬‬
‫‪55‬‬ ‫‪le formation, p.77‬‬
‫‪56‬‬ ‫‪ibib. p. 87‬‬
‫‪57‬‬ ‫‪ibid. p.90‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪342‬‬
‫أنه ال يمدنا بأية معرفة صحيحة‪ .‬وهو شيء يكشف عن عدم ثقة بالعالم‪ ،‬وعن نزعة‬
‫ذاتية مغرقة ترد كل معرفة إلى ذات ترنسدنتالية قبلية‪ ،‬وعن عداء للطبيعة يفترضها شيئ ًا‬
‫يتطلب تنظيم ًا وإعادة صياغة بواسطة العقل‪ ،‬مما يضعنا أمام عالمين‪ ،‬عالم الظواهر‬
‫المنظمة بفعل عقل ترنسندنتالي قبلي‪ ،‬وعالم األشياء في ذاتها الذي ال نملك أية معرفة‬
‫كافية عنه‪ ،‬وال بمقدورنا العثور عليه كما هو في ذات نفسه‪ ،58‬وبالتالي سيعجز كنط ــ‬
‫حسب شيلر ــ عن فهم دور العواطف في تأسيس القيم األخالقية‪ ،59‬وفي استيعاب‬
‫دور الحدس والخبرة القائمة عليها في إعطائنا معرفة بالخير والشر‪ ،‬وفي الكيفية التي‬
‫يكشفان بواسطتها عن ذاتيهما‪ ،‬وسيعجز كذلك عن فهم مضمون األحكام األخالقية‬
‫وما تعنيه وتكشف عنه‪ ،‬أو محتوى قيم الخير والشر خارج إطار كلية األحكام التي‬
‫تندرج تحتها وتخضع لها قبلي ًا‪.‬‬
‫ب ــ القيمة واإللزام‬
‫* بداهة البديهي‪ :‬اهتمام شيلر األول والرئيسي تمثل في محاولة تطبيق المنهج‬
‫الفينومينولوجي على األخالق‪ ،‬وستقوده إعادة بنائه وتطويره كما تصوره نحو‬
‫فينومينولوجيا القيمة بشكل عام والقيم األخالقية بشكل خاص‪ .‬وكان من المفترض‬
‫أيض ًا أن تجعل هذه الفينومينولوجيا األخالق محصنة ضد تهديدات النسبية‪ ،‬النفسانية‬
‫والسسيولوجية والتاريخية‪ .‬بالنسبة لفيلسوف ألماني في ذلك الوقت‪ ،‬خاصة بالنسبة‬
‫لمن نشأ مثل شيلر في تقليد يينا‪ ،‬كانت نقطة االنطالق الواضحة لمثل هذا المشروع‬
‫هي كنط الذي كان قد أنقذ بالفعل األخالق من نسبية المنهج التجريبي الخالص من‬
‫خالل اشتقاقها من مبادئ قبلية‪ .‬لكنه فعل ذلك من خالل أخالقيات صورية فحسب‬
‫لم تقدم حلوالً واضحة ومحددة لمشاكل ملموسة‪ ،‬وبالتالي ال يمكن أن تعمل كدليل‬
‫محدد للسلوك الفعلي سيما بالمعنى الذي تم تفسيره من قبل الكنطيين الجدد‪ .‬ولهذا‬
‫السبب‪ ،‬وجد شيلر أنه من الضروري البدء بإعادة بنائها من خالل فحص نقدي للصورية‬
‫الكنطية‪ ،‬في محاولة إلظهار أن البداهة ال يجب أن تكون مجرد بداهة صورية فحسب‪،‬‬
‫بل قد يكون جيد ًا بنفس القدر أن تستند إلى القيم غير الصورية التي كانت حتى اآلن‬

‫‪58 ibib. p.89‬‬


‫‪59 ibib. p.89‬‬
‫‪343‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫المجال الحصري لألخالق التجريبية‪ .‬هنا سيتم العثور على توليفة في األخالق‬
‫الفينومينولوجية‪.‬‬
‫كانت خطوة شيلر األولى في االقتراب من هدفه هي تحديد االفتراضات الخفية‬
‫لصورية كنط ودراستها‪ .‬في نقده للعقل العملي اعترض كنط على جميع القواعد‬
‫األخالقية مهما كان محتواها على قاعدة أن المحتوى ال يمكن أن يتألف إال من‬
‫موضوعات الرغبة‪ ،‬وأن هذه الرغبات ستكون بالضرورة تجريبية‪ ،‬وأن هذا من شأنه‬
‫أن يجعل األخالق مرتبطة بهذه الرغبة وذاتية بشكل أساسي‪ ،‬وأن يخضع كل أفعالنا‬
‫لمبدأ حب الذات والسعادة‪ ،‬وبالتالي لطبيعتنا الدنيا‪ .‬في تحد لهذه االفتراضات‪،‬‬
‫كانت إحدى مواقف شيلر الرئيسية هي التمييز بين األشياء المرغوبة (‪ )Ziele‬أو السلع‬
‫(‪ )Güter‬وبين القيم (‪ ،)Werte‬مفترض ًا أن القيم هي خصائص صنع الخير في هدف‬
‫أو سلعة من دون أن يتطابقا معها بأي حال من األحوال‪ .‬وهو في الوقت الذي اعترف‬
‫فيه بأن أهداف الرغبة هي مجرد أشياء تجريبية ومتغيرة وذاتية‪ ،‬نفى أن تكون نفس هذه‬
‫األشياء تطابق القيم التي تحملها‪ .‬إذ لهذه األخيرة‪ ،‬بنظره أساس ومنزلة يختلفان تمام ًا‬
‫عن مجرد تجربة الحقة‪ ،‬وهو يقصد بهما الحدس الفينومينولوجي والبصيرة الحدسية‬
‫(‪.)intuitive insight‬‬
‫ما هي بالضبط هذه القيم التي تختلف عن األهداف والسلع؟ غالب ًا ما ُيفسر رأي‬
‫شيلر في القيم على أنها ماهيات عامة وكيانات مثالية تحلق فوق العالم اإلمبيري‬
‫للتجربة األخالقية مثل العديد من األفكار األفالطونية‪ ،‬لكنه في الواقع لم يكن يسبغ‬
‫عليها وضع الكيانات الشخصية وال كذلك وضع الكليات‪ ،‬بل عرضها على أنها‬
‫محتويات للحدس المباشر في حاالت محددة من التجربة األخالقية حيث نلتفت إلى‬
‫خصائص القيمة في «ماهيتها» (‪ )whatness‬الخالصة (ماهو ‪ )Was‬بغض النظر عن‬
‫وجودها‪ .‬لذلك يبدو أن مثل هذه الماهيات ‪ whatness‬غير أفالطونية‪ ،‬بل هي مثلها‬
‫مثل أية خاصية أخرى تحملها موضوعات تجربتنا المحددة‪.‬‬
‫ويجب أن نعلم أيض ًا أن شيلر لم يكن يقصد ّ‬
‫لما اعتبر أن الحدس بمثل هذه القيم‬
‫بديهي أنه يمكن العثور عليه دون أية خبرة‪ ،‬ما كان يقصده هو أنه يمكن الحصول على‬
‫نظرة ثاقبة حولها من خالل التفكر في مجرد محتوى تجربة قيمة‪ ،‬بغض النظر عما‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪344‬‬
‫إذا كانت هذه التجربة األولية صحيحة من الناحية الواقعية أو ال‪ .‬قد نكون مخطئين‬
‫تمام ًا بشأن نبل هدية محددة‪ ،‬لكن ما يزال بإمكان الحدس أن يكشف لنا أن النبل‬
‫الذي اعتقدنا أننا رأيناه في مثل هذه الحالة أعلى من مجرد اللذة‪ .‬ومع ذلك نحن‬
‫ال نحتاج حتى إلى انتظار حدوث حاالت محددة في التجربة الفعلية؛ بل يمكن أن‬
‫تخدمنا الحاالت المتخيلة بشكل جيد‪ ،‬وهي تكشف عن أن الحدوس البدهية رؤى‬
‫ثاقبة لخصائص موضوعات الخبرة تستند فقط إلى ماهياتها بغض النظر عن تعيناتها في‬
‫ميادين التجربة المحددة‪.‬‬
‫* القيم غير الصورية («المادية»)‪ :‬ومع ذلك‪ ،‬لم ينكر شيلر أو يهمل الخصائص‬
‫الصورية والعالقات بين القيم‪ .‬لقد أدرجها في البديهيات (األكسيومات (‪axioms‬‬
‫التي أرجع الفضل فيها لفرانز برنتانو‪ ،‬من مثل‪« :‬إن وجود قيمة إيجابية هو بحد ذاته قيمة‬
‫فسر‬ ‫‪60‬‬
‫إيجابية» و«يجب أن يكون لكل ما ينبغي (الينبغيات) أساسه في القيم» ‪ .‬وبما أن شيلر ّ‬
‫التصريحات حول مثل هذه الخصائص والعالقات باعتبارها أحكام ًا تركيبية بدهية‪ ،‬فهي‬
‫ستكون بالتأكيد ذات أهمية خاصة للفيلسوف األخالقي‪ ،‬فما هي هذه القيم غير الصورية؟‬
‫‪ .1‬قيم اللطيف والبغيض‪ .‬توجد هذه القيم في موضوعات مرتبطة بكائنات تتمتع‬
‫بالحواس‪ .‬ونظر ًا الختالف هذه الحواس‪ ،‬فقد تبدو األشياء المختلفة ممتعة من جهة‬
‫وغير سارة ألصناف مختلفة من األفراد‪ ،‬بينما تظل القيم نفسها ثابتة‪.‬‬
‫‪ .2‬قيم «الحيوية»‪ .‬وهي تشكل إضافة شيلر األصيلة إلى القائمة التقليدية لصفات‬
‫موضحة في المقام‬
‫القيمة‪ .‬األمثلة الرئيسية هي النبيل (‪ )edel‬والمبتذل (‪َّ .)gemein‬‬
‫األول من خالل السالالت األعلى واألدنى من النباتات أو الحيوانات‪ ،‬ويتم التعبير‬
‫عنها باألشد واألضعف من الحيوية والصحة والشباب وما إلى ذلك‪ .‬وفي هذا سيحاول‬
‫بوضوح استيعاب القيم الجديدة التي كان نيتشه قد اعتبرها في غاية األهمية‪.‬‬
‫‪ .3‬قيم الروح (‪ .)geistige Werte‬هذه ليست مرتبطة بدائرة بيئة الكائن الحي‪ ،‬ويميز‬
‫شيللر من بينها القيم الجمالية للجمال والقبح‪ ،‬قيم الصواب والخطأ وقيم المعرفة‬
‫الخالصة في حد ذاتها‪.‬‬

‫‪60 G. W. 2, p. 102; trans. p. 82.‬‬


‫‪345‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫‪ .4‬قيم المقدس وغير المقدس‪ .‬التي تمثل نوع ًا من القيم التي تتجسد في‬
‫«موضوعات مطلقة» محددة‪ .‬ومن الواضح أن حاملي هذه القيم يجب أن يكونوا‬
‫موجودين في المجال الديني‪ .‬ممثلوها الرئيسيون هم‪ ،‬على مستوى النطاق البشري‪،‬‬
‫القديسون‪ ،‬وعلى مستوى النطاق الخارق للبشر‪ ،‬األلوهية التي ال يمكن إال لظاهرات‬
‫‪61‬‬
‫الدين أن توفر اإلعداد المناسب فيما يخصها‪.‬‬
‫في نص شيللر األصلي‪ ،‬تبدو القائمة المؤلفة من ست صفحات من هذه القيم‬
‫غير الصورية مختصرة ومبهمة لدرجة أنها تتطلب مزيد ًا من التطوير‪ ،‬واألهم من‬
‫ذلك‪ ،‬التحليل النقدي‪ .‬لكن تأثيرها‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬وقوتها كانت ما تزال كبيرة‪ .‬إحدى‬
‫السمات المميزة واألساسية لهذه القائمة هي أنه‪ ،‬باستثناء قيم الصواب (‪)richtig‬‬
‫والخطأ (‪ ،)unrichtig‬فإنها ال تذكر القيم األخالقية على وجه التحديد‪ ،‬والسبب في‬
‫ذلك هو أن هذه قيم تظهر على مستوى مختلف بالنسبة لشيللر‪ :‬فهي ترتبط باألفعال‬
‫التي تحقق القيم المذكورة سابق ًا‪ ،‬وتحققها بالترتيب الصحيح‪ ،‬وبالتالي‪ ،‬فإن الفعل‬
‫األخالقي موجه أساس ًا نحو القيم غير األخالقية‪ ،‬والقيمة األخالقية تظهر فقط‪ ،‬في‬
‫تعبيره الخالب‪« ،‬على ظهر» األفعال التي تحاول تحقيقها‪.‬‬
‫وهو كان‪ ،‬مثل فرانز برنتانو‪ ،‬يعتقد أن القيم هذه تترتب في األفضلية أو األسبقية‪،‬‬
‫بحيث تفضل القيم «الحيوية» على قيم المتعة‪ ،‬والقيم الروحية على القيم الحيوية‪،‬‬
‫والقيم الدينية على القيم الروحية‪ ،‬ألنها «أعلى» في المرتبة‪ .‬مثل هذه التراتبية الن ِّْسبية‬
‫هي بالنسبة له مسألة رؤية بديهية أيض ًا‪ .‬ويتجلى ذلك من خالل معايير كاآلتي‪:‬‬
‫‪ .1‬االستمرارية بمعنى وجود ميل حقيقي إلى االستمرار لفترة أطول‪.‬‬
‫إن السعادة‪ ،‬بالمقارنة مع مجرد المتعة أو الحب الزائل‪ ،‬أو بالمقارنة مع مجرد‬
‫اإلعجاب العابر‪ ،‬قد توضح أهمية هذا المعيار‪.‬‬
‫‪ .2‬عدم القابلية للتجزئة‪ ،‬بمعنى أن القيم العليا ال يمكن تقسيمها بين عدة أشخاص‬
‫كما هو الحال بالنسبة للقيم الدنيا‪ .‬ومع ذلك‪ ،‬يمكن مشاركتها بدرجة أكبر بكثير من‬
‫القيم الدنيا وال يلزم تقسيمها من أجل االستمتاع بها على قدم المساواة‪.‬‬

‫‪61 G. W. 2, pp. 125-30 ; trans. pp. 104-10 .‬‬


‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪346‬‬
‫‪ .3‬االستقالل النسبي للصفات األخرى للقيمة‪ .‬وهكذا فإن المفيد‪ ،‬حسب شيللر‪،‬‬
‫يعتمد في قيمته على اللطيف‪ ،‬وقيمة اللطيف بدورها تقوم على قيم الحيوية‪ ،‬وهذه في‬
‫نهاية المطاف تقوم على القيم الروحية التي تجعل الحياة بالنسبة له تستحق العيش‪.‬‬
‫‪ .4‬عمق الرضا (اإلشباع ‪ )Befriedigung‬يتناقض مع مجرد الشدة‪ ،‬وسيتم وصف‬
‫هذين البعدين بالتفصيل في تحليله لتقسيم طبقات المجال العاطفي‪.‬‬
‫‪ .5‬االستقالل النسبي للكائن الحي موضوع التجربة‪ .‬وهذا يعني أن قيم السعادة‬
‫تعتمد إلى حد كبير على امتالك الحواس والمشاعر الحسية‪ ،‬لكنها أقل أهمية‪ ،‬إن لم‬
‫تكن غير مهمة تمام ًا‪ ،‬في حالة القيم «العليا»‪.‬‬
‫في اعتقاد شيللر‪ ،‬تمكّننا هذه المعايير من إنشاء تسلسل هرمي صارم للقيم تظل‬
‫بموجبه أصغر كمية ذات قيمة أعلى مفضلة على أعلى كمية من أدنى قيمة بعدها‬
‫مباشرة‪ .‬وقد يتساءل المرء عما إذا كان الترتيب بين القيم غير الصورية يجب أن يكون‬
‫صارم ًا إلى هذا الحد‪ ،‬وعما إذا كان يتبع معايير شيللر الخاصة المذكورة أعاله كذلك‪.‬‬
‫لكن يظل صحيح ًا أنه كان البد من شراء قدر أكبر من المرونة بثمن أكبر من التعقيد في‬
‫صنع القرار الفعلي‪.‬‬
‫* القيمة‪ ،‬الواجب المثالي والواجب األخالقي‪ :‬تتعارض أخالق شيلر مع األخالق‬
‫الكنطية من ناحية أخرى‪ :‬فهي ترفض تأكيد كنط على القوانين واإللزامات باعتبارها‬
‫المعطيات األساسية للوعي األخالقي‪ .‬سيؤكد شيلر في مقابل ذلك على أسبقية ظاهرة‬
‫القيمة‪ .‬ذلك ال يعني إنكاره لظاهرات الواجب أو للما ينبغي (‪ ،)oughtness‬بل سيقدم‬
‫نمط ًا أكثر تمايز ًا للظواهر المعيارية‪ ،‬محاوالً‪ ،‬باإلضافة إلى التمييز الحاد بين ظاهرة‬
‫القيمة (‪ )Wert‬والواجب (‪ ،)Sollen‬أن يوضح بقدر كبير من التفصيل الفرق األساسي‬
‫بين ما يجب أن يكون كمجرد أمثول أو أنموذج (‪ )ideales Seinsollen‬كما تم التأكيد‬
‫عليه‪ ،‬ولو يشكل عابر‪ ،‬من قبل هنري سيدجويك‪ ،‬وبين واجب أخالقي يلزم القيام‬
‫به (‪ )ethisches Tunsollen‬كما يتجلى بشكل خاص في تجربة الواجب واإللزام‪.‬‬
‫ومع ذلك‪ ،‬تحدى شيلر التقليد الذي بموجبه يجب أن تشكل فيه األخالق أعلى شكل‬
‫من أشكال الوعي األخالقي‪ .‬العمل المؤسس على الشعور بالواجب األخالقي يفتقر‬
‫حق ًا إلى السخاء العفوي للفعل األخالقي‪ ،‬إذ بالنسبة للواجب يفترض‪ ،‬كما أشار كنط‬
‫‪347‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫ووافقه شيللر‪ ،‬وجود ميل من جانب الموضوع لمعارضة األمثول‪ .‬لهذا السبب‪ ،‬فهو‬
‫متعلق أيض ًا بشدة بهذه الميول الغامضة‪ .‬لكن ال يمكن قول هذا عن أمثول ما يجب‬
‫أن يكون‪ ،‬والذي يعتمد فقط على القيم األساسية ويشكل في الواقع أساس الواجب‬
‫األخالقي‪ .‬يجب أن يكون المثل األعلى إذن‪ ،‬وليس األخالقي‪ ،‬هو األساس الذي ال‬
‫غنى عنه للسلوك األخالقي‪ .‬هنا أيض ًا‪ ،‬يبدو التمييز األصلي لشيللر مطلوب ًا لكنه ما يزال‬
‫يتطلب مزيد ًا من التفصيل والتحقق‪ ،‬وقد يظهر عداؤه لفكرة الواجب على أنه منحاز‬
‫وغير مبرر من الناحية الفينومينولوجية‪.‬‬
‫ب ــ العاطفة اإلدراكية‪ :‬انطالق ًا من اعتبار القيمة واإللزام عالقتين موضوعيتين‬
‫ألفعالنا األخالقية‪ ،‬تحول شيلر إلى التجارب التي تُعطى فيها هذه الظاهرات‪ .‬من‬
‫الناحية الفينومينولوجية‪ ،‬قد تكون األقسام التي تتناول هذه األفعال هي األكثر جدارة‬
‫بالمالحظة في أخالقياته‪ .‬كان جهده الرئيسي هنا هو استخدام الفينومينولوجيا‬
‫لغرض تحطيم الفصل الصارم بين العقل والعاطفة‪ ،‬بين المعرفة واالنفعال‪ ،‬والذي‬
‫وضع إدراك القيمة‪ ،‬وخاصة القيمة غير الصورية أو المادية‪ ،‬في مثل هذا الموقف‬
‫المحفوف بالمخاطر إن لم يكن الميؤوس منه‪ ،‬ويكمن مفتاح الحل حسب شيلر في‬
‫فينومينولوجيا المشاعر‪ .‬بالنسبة للتقاليد العقالنية بأسرها‪ ،‬يمثل الشعور‪ ،‬مع استثناء‬
‫هام لشعور الرهبة عند كنط‪ ،‬جوهر الذاتية المطلقة‪ .‬ما تعهد اآلن بإظهاره هو أن هناك‬
‫عدد ًا كبير ًا من المشاعر التي لها طابع «موضوعي» و«تختلف بشكل أساسي عن‬
‫المشاعر الذاتية التي تم اعتبارها في الماضي ممثلة لجميع المشاعر»‪ .‬لم يكن شيلر‪،‬‬
‫في الواقع‪ ،‬أول من حاول إعادة تأهيل الحياة العاطفية‪ ،‬وهو نفسه يعطي الفضل السخي‬
‫في ذلك للقديس أوغسطين‪ ،‬وبشكل أكثر تحديد ًا لباسكال باعتبارهما من أسالفه‪ .‬إن‬
‫برنامج باسكال لـ «نظام» أو «منطق القلب» القائم على «أسباب يجهلها العقل» كان في‬
‫الواقع أحد مصادر إلهامه الرئيسية‪ .‬وهو اآلن سيحاول وضع هذا المفهوم على أساس‬
‫فينومينولوجي وتطبيقه على األخالق‪.‬‬
‫ميز شيلر بشكل أساسي بين المشاعر التي هي مجرد حاالت ذهنية ال تتضمن أية‬
‫إشارات وتتجسد بشكل أكثر وضوح ًا في الحالة المزاجية كاالبتهاج أو االكتئاب‪،‬‬
‫وبين المشاعر التي لها مراجع تتجاوز ذاتها‪ .‬الشعور بالمعنى األخير له نفس بنية‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪348‬‬
‫أي فعل «قصدي» آخر ندرك من خالله شيئ ًا ما بما في ذلك حالتنا الخاصة‪ .‬من بين‬
‫هذه المشاعر الوظيفية‪ ،‬تشكل مشاعر القيمة‪ ،‬التي تنعطي فيها صفات مثل التوافق‬
‫والجمال والخير‪ ،‬حالة مميزة وبارزة‪ .‬إنها أساسية حتى بالنسبة لردود الفعل المحددة‬
‫مثل الفرح أو السخط على شيء ما‪ .‬إلى «مشاعر القيمة» هذه (‪Fühlen von Werten‬‬
‫‪ ،)or Wertfühlen‬على النقيض من حاالت الشعور بما هو شعور واألنواع األخرى‬
‫غير المعرفية من الشعور القصدي‪ ،‬أرجع شيلر الوظيفة المعرفية الحقيقية‪ .‬عالوة على‬
‫ذلك‪ ،‬سيقدم ادعا ًء حازم ًا بشأن الصحة الموضوعية لهذه المشاعر يقوم على دراسة‬
‫متأنية لوقائع القضية وتقييم مسؤول لقيمها‪.‬‬
‫ج ــ االطالقية والنسبية في األخالق‪ :‬هذا يعني بالطبع «الحكم المطلق»‪ ،‬وهو‬
‫لم يتردد في تسميته كذلك‪ .‬لكن هذا ال يعني أنه أنكر كل «نسبية» في مجال القيمة‬
‫وتجربتنا لها‪ .‬لقد كان أحد أهدافه الرئيسية‪ ،‬في الواقع‪ ،‬تحديد المعنى الدقيق للنسبية‬
‫الثقافية والتاريخية ومداه وتفسير «لوحة األلوان المقلوبة» التي يواجهنا بها مسح‬
‫سطحي للتقييمات البشرية‪ .‬لقد فعل ذلك من خالل اإلشارة إلى عوامل أخرى‪ ،‬غير‬
‫النسبية الذاتية للقيم نفسها‪ ،‬يمكن أن تفسرها‪ .‬مكنه هذا من التمييز بين أنواع النسبية‬
‫التي ال تؤثر على موضوعية القيم نفسها‪:‬‬
‫(‪ )1‬االختالفات في التقييمات أو األفعال أو تجربة القيمة‪ ،‬والتي وصفها‪ ،‬على‬
‫نحو غير مالئم إطالق ًا‪ ،‬بالمبادئ األخالقية‪ .‬من بين العوامل العديدة المسؤولة عن‬
‫النسبية التي درسها شيلر بشكل خاص‪ ،‬وبقدر كبير من الحدة النفسية‪ ،‬االنفعال ــ‬
‫وهو ظاهرة كان على اللغة األلمانية استعارة تسميتها من الفرنسية ــ الذي حمله نيتشه‬
‫المسؤولية عن «أخالق العبيد» اليهو ــ مسيحية‪ .‬يتألف اإلنفعال‪ ،‬حسب فهم شيلر‪،‬‬
‫من الشعور بالعجز االنتقامي الذي يستبدل القيم الزائفة التي من صنعه بالقيم الحقيقية‬
‫التي ال يستطيع الوصول إليها‪ .‬باإلضافة إلى إجراء دراسة فينومينولوجية حقيقية لهذه‬
‫اآللية‪ ،‬سيستخدم شيللر هذا المفهوم ضد مبتكريه‪ .‬وهكذا حاول أن ُيظهر أن األخالق‬
‫البرجوازية الحديثة على وجه التحديد‪ ،‬ال األخالق اليهو ــ مسيحية‪ ،‬هي نتيجة حقد ــ‬
‫حقد على أخالق الحب المسيحية التي هي بحسبه تعبيرعن القوة الداخلية وليس عن‬
‫الضعف الجنسي‪ .‬مقارنة بالحب‪ ،‬حتى اإليثار واإلنسانية ستبدوان له على أنهما ولدتا‬
‫‪349‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫من رحم عدم القدرة على مواجهة الذات والرغبة في الهروب منها‪ .‬يقدم هذا القلب‬
‫العبقري لنظرية نيتشه توضيح ًا مناسب ًا لتوصيف إرنست تروتلتش لشيللر بأنه «نيتشه‬
‫المسيحي»‪.‬‬
‫‪ )2‬النسبية األخالقية بمعنى االختالفات في آرائنا حول األمور األخالقية‪ .‬بعض‬
‫هذه اآلراء ضمنية فقط في معتقداتنا غير المفصلة‪ ،‬وبعضها واضح في شكل نظريات‬
‫أخالقية‪ .‬لم يعترض شيللر أبد ًا على تباينها‪ ،‬لكن من الواضح أن هذا التنوع في آرائنا‬
‫ليس دلي ً‬
‫ال على وجود اختالف في القيم التي تشير إليها هذه اآلراء‪.‬‬
‫‪ )3‬نسبية أنواع اإلجراءات‪ ،‬أو االختالفات الناتجة عن التغير في طرق رؤيتنا‬
‫لمصاديق العمل المختلفة‪ .‬هذه الطرق مرتبطة بمؤسسات اجتماعية متنوعة‪ ،‬وبالتالي‪،‬‬
‫فإن السرقة أو الزنا تفترض مسبق ًا تنظيم ًا معين ًا للملكية أو للعالقات الجنسية‪ .‬في‬
‫المجتمعات التي لم تتقدم بعد نحو الملكية والزواج‪ ،‬فإن األفعال التي تحقق وجودهما‬
‫(الزنا والسرقة) ال يمكن أن تحدث حتى‪.‬‬
‫‪ )4‬نسبية أخالق الناس العملية (‪ )morals‬والتي تختلف إلى حد كبير بشكل مستقل‬
‫عن قناعات الناس بما هو أخالقي‪ ،‬وبالتالي فهي ليست عالمة واضحة على النسبية من‬
‫النوع الثاني‪ .‬إن ارتفاع معدل اإلجرام ليس دلي ً‬
‫ال على تدني «األخالق»؛ بل قد يدل‬
‫على عكس ذلك‪.‬‬
‫‪ )5‬نسبية العادات التي‪ ،‬إلى حد ما على األقل‪ ،‬تعبر عن المعتقدات األخالقية‪،‬‬
‫يجب تمييز أشكالها المختلفة والمتنوعة عن الهويات العميقة التي قد تتجسد فيها‪.‬‬
‫د ــ التعاطف والعالم البيذوي‬
‫أحد أكثر تحليال شيلر أصالة وتأثير ًا للظاهرات المتعلقة بالمجال العام ذات القيمة‬
‫نجدها في كتابه‪« :‬التعاطف الحب والكراهية»‪.62‬‬
‫لقد كان الغرض من الجزء األول األكثر تأثير ًا من الكتاب سلبي ًا إلى حد بعيد‪ .‬حيث‬
‫حاول فيه إظهار أن التعاطف‪ ،‬وهو أساس العديد من المفاهيم الهامة لألخالق كما هو‬
‫الحال عند آدم سميث وشبنهاور‪ ،‬هو ظاهرة تختلف بشكل أساسي عن الحب‪ ،‬وأنها‬

‫‪ 62‬طريف حسني‪ ،‬مفهوم الروح عند ماكس شيلر‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار النهضة العربية‪ .1997 ،‬ص ‪48‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪350‬‬
‫غير قادرة على دعم أخالق اجتماعية مقبولة على الرغم من حقيقة أنه في ظل ظروف‬
‫محددة للغاية يكون التعاطف قيمة أخالقية‪.‬‬
‫يبدأ الكتاب بتحليل فينومينولوجي مقارن للتعاطف مع التركيز بشكل خاص على‬
‫الظاهرات التي تم إهمالها في الدراسات السابقة‪ ..‬وهو سيشير على وجه الخصوص‬
‫إلى الفرق بين التعاطف واألفعال التي تشبهه الموجهة نحو األشخاص الذين نتعاطف‬
‫معهم‪ .‬ومنها على سبيل المثال إدراك أو فهم مشاعر اآلخرين‪ ..‬ومنها الشعور الزائف‬
‫الذي تم فيه تقديم المشاعر بشكل خيالي دون أن تعاش بشكل كامل‪ .‬إن اإلدراك أو‬
‫الفهم ــ كما سيأتي ــ ال يعنيان أي تعاطف وال يستلزمانه‪ ،‬فقد يحدث الفهم في الواقع‬
‫بدون تعاطف ال حقيقي وال خيالي‪ .‬وينبغي أيض ًا تميز التعاطف نفسه عن أفعال الشعور‬
‫التي ال تالحظ طبيعتها الخاصة في العادة‪.‬‬
‫ال شعور بالتضامن الفوري مع حزن شخص آخر‪ ،‬أي شعور مشترك أو‬ ‫فهناك مث ً‬
‫ال في حالة ألمه الجسدي أو سعادته اللذين ال يمكن‬ ‫مواز‪ ،‬وهو شعور يصبح مستحي ً‬
‫المشاركة فيهما بأي حال من األحوال‪ .‬وهناك كذلك نوع من انتقال العدوى لنفس‬
‫الشعور من واحد إلى آخر في حشد الناس‪ ،‬لكن مرة أخرى فإن هذا ال يعني أي تعاطف‬
‫على اإلطالق‪ .‬وأخير ًا هناك نوع من الشعور بالوحدة‪ ،‬تعي من خالله جماعة من الناس‬
‫أنها متحدة بشيء من روح العمل الجماعي‪ ،‬وهو شعور يمكن العثور عليه في وعي‬
‫الطوطم وفي النشوة الصوفية‪ ،‬التي ينبغي حسب شيلر تمييزها عن االتحاد الصوفي‬
‫الكامل الذي يشخص باعتباره ذهان ًا جماعي ًا مرضي ًا‪.‬‬
‫وعلى النقيض من كل هذه الظاهرات فإن التعاطف معني بمشاعر الشخص اآلخر‬
‫باعتبارها مشاعر خاصة به بشكل واضح‪ ،‬وليس باعتبارها بأي شكل من األشكال‬
‫مشاعر المتعاطف‪ .‬وبالتالي ففي مشاعر التعاطف مع فرح اآلخر ومعاناته ال يستبدل‬
‫المرء نفسه به وال يندمج فيه‪ ،‬بل يتعامل معه كآخر‪ ،‬كشخصية منفصلة قائمة هناك‪ .‬وهذا‬
‫يعني أن كل تعاطف ينبغي أن يقيم في مسافة سيكولوجية‪ 63‬بالضرورة‪ ،‬بين المتعاطف‬
‫ومن يتعاطف معه‪ ،‬تمنع من أن ننفذ إلى شخصيته أو نذوب فيها أو نتقمصها‪ .‬وهي‬

‫‪63 Max scheler, the nature of sympathy, p.30‬‬


‫‪351‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫مسافة ضرورية لكل ضروب التعاطف‪ ،‬ولكل أنواع الحب كذلك‪ ،‬وبالتالي يصبح‬
‫التعاطف نوع استجابة أو شعور باآلخر يتطلب أن يضع المرء نفسه موضعه من غير‬
‫أن يتبادال األدوار‪ ،‬ألن التعاطف ليس تقمص ًا وجداني ًا بحيث يصبح سرور من نتعاطف‬
‫معه سرورنا وألمه ألمنا‪.64‬‬
‫ويحتوي الثلث األول من الكتاب على القليل جد ًا من الوصف اإليجابي للتعاطف‪.‬‬
‫وهو يعوض عن ذلك بالتأريخ للمفهوم نفسه من خالل استعراض نظريات التعاطف‬
‫بدء ًا من النظريات الوراثية التي اعتبر أنها ال تبذل جهد ًا يذكر لالهتمام بالظاهرة هذه بما‬
‫هي ظاهرة إيجابية واالكتفاء بالعناية بظروفها العملية المؤقتة التي ترتبط بها‪ ،65‬مرور ًا‬
‫بالنظريات الميتافيزيقية سواء منها نظرية شوبنهاور القائمة على مفهوم الشفقة‪ ،‬والتي‬
‫اعتبرها شيلر محاولة خاطئة الشتقاق الحب من السعادة‪ ،66‬أو النظرية األحادية الشائعة‬
‫في تراث الروحانية الهندية وعند شيلنج وهارتمان وهيغل وبرغسون‪ ،‬أو النظرية‬
‫التطورية عند سبنسر وداروين‪ ،67‬ومن خالل إلقاء قدر كبير من الضوء عليها في سياق‬
‫االعتبارات الجنيالوجية والميتافيزيقية والتاريخية الالحقة‪.‬‬
‫لكن يمكننا بالرغم من ذلك كله أن نقرر أن التعاطف في عموم داللته هو شعور ذو‬
‫وظيفة حيوية هامة يعيش فيه المرء إحساس ًا بأنه مساو في القيمة لآلخرين من حيث هم‬
‫موجودات بشرية أو كائنات حية‪ ،‬فهو ليس مجرد مشاركة وجدانية في األلم والسرور‬
‫فحسب‪68‬؛ بل شعور يحطم األنانية والشرور األخالقية لألنا ويفتح عين القلب والعقل‬
‫على شراكة وجدانية حية ومتدفقة‪.69‬‬
‫ما كان يقصده شيلر في الحقيقة من وراء انشغاله بقيمة التعاطف في الفينومينولوجيا‬
‫الخاصة به إنما هو إعادة االعتبار لدور المشاعر في الحياة المتعينة للشخص البشري‪،‬‬
‫وتقويض الثنائية التي رسخها تراث متطاول بينها وبين العقل‪ ،‬أو النزعة التي ردتها إليه‬

‫‪64‬‬ ‫‪ibib. p.12‬‬


‫‪65‬‬ ‫‪ibid. pp.41-43‬‬
‫‪66‬‬ ‫‪ibib. pp.44-50‬‬
‫‪67‬‬ ‫‪ibib. pp.51-54‬‬
‫‪68‬‬ ‫‪the nature of sympathy, pp.56-57,60-72‬‬
‫‪69‬‬ ‫‪ibid. pp.60-72‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪352‬‬
‫أو إلى أنشطته في الفلسفات الحديثة من ديكارت إلى كنط‪ ،‬مفترض ًا أن طبيعة المشاعر‬
‫القصدية تمنحها استقاللها وتجعلها شيئ ًا يتكشف وحده من خالل حدس عاطفي ال‬
‫عقلي وألنها ظاهرة نفسية وفعل بدئي أولي من أفعال الوجدان أو العاطفة‪ ،‬فهي أفعال‬
‫ال يمكن بحال ردها إلى العقل وحده‪ ،70‬وألنها حدث قبلي يخضع لمنطق القلب ال‬
‫لمنطق العقل كما هو الحال في كل ما يتصل بالقيمة أو الدين أو الحياة الوجدانية‪.‬‬
‫وبالتالي فالشخص البشري ليس مجرد فاعل منطقي لألفعال المعقولة الخاضعة‬
‫لقوانين اإلرادة والنية الطيبة‪ ،‬بل فاعل إرادي وعاطفي كذلك‪ ،‬أو بعبارة كائن منفعل‬
‫متعاطف محب كاره حاقد‪ ...‬إلخ‪ ..‬شخص ذو وحدة كلية تصدر عنها أفعال اإلدراك‬
‫والعقل واإلرادة والعاطفة كلها من غير تفاوت وانقسام‪ .71‬بحيث تتبدى األخيرة‪ ،‬أعني‬
‫أفعال العاطفة جزء ًا ال يتجزأ من صميم تكوين ممارسته وطرائق التعبير عنه‪.‬‬
‫وعلى المرء أن يتذكر هنا أن الغرض الرئيسي من دراسة شيلر حول المشاعر كان‬
‫توفير غطاء لفينومينولوجيا الحب والكراهية‪ ،‬وهما ظاهرتان أساسيتان لألخالق‪ ،‬ذلك‬
‫أن شعور التعاطف ال يدرس إال في سياق منهج فينومينولوجيي ال يقوم بذاته علم ًا‬
‫ال عن الفلسفة‪ ،‬بل باعتباره اتجاه ًا روحي ًا يستطيع المرء أن يرى فيه‬
‫جديد ًا‪ ،‬وال بدي ً‬
‫وأن يخبر من خالله عن شيء يظل بالرغم من ذلك مختبئ ًا‪ ،‬أعني نطاق ًا لوقائع من نوع‬
‫خاص كما هو الحال في التعاطف مث ً‬
‫ال‪.72‬‬
‫ومن أجل الحب والكراهية سيطبق أيض ًا أسلوب المقابلة مع محاولة استنتاج‬
‫أوصاف إيجابية‪ ،‬لكن في الوقت الذي سيلقى فيه التعارض‪ ،‬خاصة مع العواطف‪،‬‬
‫ضوء ًا مثير ًا لالهتمام على ظواهر الحب والكراهية فإن التوصيف اإليجابي سيكون‬
‫أقل تمايز ًا ويبدو مشوه ًا من خالل تقديم صورة مسبقة للحب كتجربة قيمة‪.‬‬

‫‪ 70‬القيم يف فلسفة شيلر‪ ،‬ص‪445-444 .‬‬


‫‪ 71‬أمحد عبد احلليم عطية‪ « ،‬فينومينولوجيا الشخص وجتربة العيش املشرتك‪ ،‬ناكس شيلر وحلبايب‬
‫نموذج ًا»‪ ،‬أوراق فلسفية‪ ،‬العدد ‪ ،62‬ص‪ .105 .‬ويقارن‪:‬‬
‫‪Max scheler, formalism, preface ed. 1973. And: phenomenology and the tfeory of‬‬
‫‪congnition, in: selected philosophical essays, trans. By david r. lachterman, 1973, p.‬‬
‫‪12‬‬
‫‪72 ibid. p.136‬‬
‫‪353‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫لكن بالرغم من ذلك سيقدم شيلر مقترحات مهمة حول أعلى أنواع الحب واصف ًا‬
‫إياه بأنه‪ ،‬على وجه التحديد‪ ،‬حركة بمعنى الفعل الذي يتأرجح من حالة إلى أخرى من‬
‫القيمة األدنى إلى القيمة األعلى في الشيء المحبوب بحيث يؤدي الحب إلى تأثير‬
‫وميض (‪ )Aufblifzem‬ذي قيمة أعلى‪ ...‬ومن المؤكد أن الحب ال يعني تحوالً إبداعي ًا‬
‫للشيء أو للشخص المحبوب بل للحبيب‪ ،‬ومع ذلك فهو موجه نحو إمكانات تعزز‬
‫القيمة في المحبوب من أجل مصلحته‪.‬‬
‫مثل هذا الحب عفوي وليس ردة فعل‪ ،‬وال يشكل التعاطف أساسه بل هو أساس‬
‫التعاطف‪ .‬والتركيز على التأرجح الدينامي للحب يحاول التطوير بدالً من االعتراف‬
‫بالقيم القائمة والحفاظ عليها‪ ،‬وهو إضافة مهمة لفهم ظاهرات مثل االندهاش‪.‬‬
‫(‪ )agape‬وهو الحب الذي ال يطمح ببساطة إلى الحصول على المزيد ــ كما هو حال‬
‫اإليروس األفالطوني الذي يصبو إلى ما هو محبوب بالفعل ــ بل الحب الذي يتعلق‬
‫بما هو غير محبوب بعد من أجل أن يتمكن من أن يكون محبوب ًا‪.‬‬
‫ــ معرفة العقول األخرى‪ 73‬ــ وستحتوي مناقشة شيلر لمعرفتنا باألشخاص‬
‫اآلخرين على خاصية أخرى ومثال مؤثر للغاية على شكل من أشكال إضفاء الطابع‬
‫الفينومينولوجي‪ .‬مرة أخرى‪ ،‬يبدأ باإلثبات السلبي مفترض ًا أنه ال يمكن بلوغ هذه‬
‫كاف على اإلطالق‪..‬‬ ‫المعرفة عن طريق االستدالل القياسي وأن طريق التعاطف غير ٍ‬
‫إذ أوضح علم نفس الحيوان أن االستنتاج عن طريق القياس من تجاربنا االستبطانية لن‬
‫يكون مفيد ًا‪ ،‬سيما من خالل دراسة القردة كما وصفها وولفغنغ كوهلر‪ ،‬وبالمثل من‬
‫خالل إدراك الطفل الذي ال يرقى إليه الشك لمواقف وأفعال البالغين التي ال يمكن‬
‫أن تكون مألوف ًة له من تجربته السابقة‪ .‬إلى جانب ذلك‪ ،‬تختلف الحركات الجسدية‬
‫التي تشكل األساس المفترض لمثل هذا االستدالل القياسي عندما تُالحظ بصري ًا‬
‫في أجساد اآلخرين وعندما نختبرها في أجسادنا بشكل رئيسي من خالل األحاسيس‬
‫الحركية‪ .‬ثم هناك حقيقة أنه يبدو أننا نالحظ المشاعر والمواقف حتى في الحيوانات‬

‫‪ 73‬لالطالع عىل هذا العنرص‪ ،‬أنظر أيض ًا الدراسة النقدية أللفريد شوتز‪Alfred Schutz :‬‬
‫‪ «Scheler’s Theory of Intersubjectivity...» in PPR II (1942), 323-41 ; Collected Papers‬‬
‫‪I, 150-79 .‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪354‬‬
‫مثل األسماك والطيور‪ ،‬التي يختلف نمط حركتها الجسدية بالكامل عن نمط حركتنا‪.‬‬
‫أما فيما يتعلق بنظرية التعاطف‪ ،‬التي استخدمها تيودور ليبس كخادمة لكل األفعال‪،‬‬
‫فقد أشار شيللر إلى أنه من غير الممكن تفسير االختالف بين مجرد التعاطف التخيلي‬
‫والتعاطف الجمالي من ناحية والتعاطف المعرفي من ناحية أخرى الذي من المفترض‬
‫أن يوضح لنا حقيقة عقول اآلخرين ال أن يكون مجرد إسقاط خيالي‪ .‬وأخير ًا‪ ،‬جادل‬
‫بأنه في حالة المعرفة التاريخية يبدو أننا نعرف شيئ ًا عن عقول أخرى حتى دون معرفة‬
‫أي شيء عن كياناتها المادية وحركاتها‪.‬‬
‫ال عن االعتراف باإلدراك المباشر للذوات األخرى باعتباره تصور ًا‬ ‫وهكذا لم ير بدي ً‬
‫ال يقل مباشرة عن تصورنا ألنفسنا وعن تصور األشياء المادية من حيث المبدأ‪ .‬وهو لم‬
‫يكن لديه شك في أننا نستطيع أن نرى بشكل مباشر «فرحة اآلخر في ابتسامته‪ ،‬ومعاناته‬
‫وألمه في دموعه‪ ،‬وخجله في احمراره‪ ،‬وتوسله في يديه المطويتين‪ ،‬وحبه في نظرة‬
‫عينيه‪ ،‬وغضبه في صرير أسنانه وتهديداته في قبضتيه المشدودتين»‪ .‬نحن ال ندرك أبد ًا‬
‫ال معقد ًا‬
‫جسد الشخص اآلخر في عزلة‪ ،‬وال نرى عينيه فقط‪ :‬بل نرى أيض ًا بصره‪ .‬نرى ك ً‬
‫(‪ )einheitliche Ganzheit‬يتكون من التعبير وما يعبر عنه‪ .‬والنظرية القائلة بأن كل ما‬
‫يمكننا إدراكه بشكل مباشر هو جسد الشخص اآلخر ليست ثابتة حتى‪ ،‬إذ يؤدي ذلك‪،‬‬
‫منطقي ًا‪ ،‬إلى استنتاج مفاده أن كل ما يمكننا إدراكه هو المعطيات الحسية التي تشير إلى‬
‫جسده‪ ،‬مع أنه ال يوجد سبب مقنع يدعونا لالعتقاد بأننا ندرك أجساد اآلخرين أكثر من‬
‫إدراكنا لعقولهم‪ .‬لكن مثل هذه القناعة ال تعني أن تصورنا ألذهان اآلخرين غير قابل‬
‫للخطأ‪ ،‬أو أنه كامل على اإلطالق‪ .‬وسيشير شيللر‪ ،‬في الواقع‪ ،‬مرار ًا إلى منطقة معينة‬
‫من الخصوصية المطلقة (‪ )lntimsphäre‬للشخص والتي ال يمكن اختراقها بشكل‬
‫أساسي أمام تدقيق اآلخرين‪.‬‬
‫مع هذا الرفض للنظريات التقليدية لمعرفتنا بالعقول األخرى‪ ،‬قام شيللر بدمج‬
‫األطروحة القائلة بأن وعينا االجتماعي يحتوي في األصل على تيار محايد من‬
‫التجارب‪ ،‬لم يتم تخصيصه لنا أو لآلخرين؛ ينسبه ميلنا المباشر‪ ،‬عالوة على ذلك‪،‬‬
‫لآلخرين بدالً من أنفسنا‪ ،‬ألننا نعيش في اآلخرين أكثر مما نعيش في أنفسنا‪ .‬ووفق ًا‬
‫لهذه النظرية‪ ،‬سيتم اكتشاف الذات واآلخر‪ ،‬على أي حال‪ ،‬فقط نتيجة لعملية تمايز‬
‫‪355‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫في التيار البدئي المحايد هذا‪ .‬لكن الكثير من عناصر هذه النظرية يتجاوز إلى حد كبير‬
‫نطاق التحقيق الفينومينولوجي المباشر‪.‬‬

‫خاتمة‬
‫ال يمكن بحال التشكيك في عبقرية شيلر كممارس أصيل للمنهج الفينومينولوجي‪.‬‬
‫قلة هم أولئك الذين كانوا يملكون قدرة على منافسته‪ ،‬إن وجدوا‪ ،‬في اختياره المجاالت‬
‫المهمة والواعدة لتطبيقاته‪ .‬كما أن قدرته على رؤية االختالفات والظالل المتعلقة‬
‫بالظاهرات التي أغفلها اآلخرون كانت فريدة من نوعها‪ .‬كان شيلر فيلسوف ًا مكتمل‬
‫التكوين تحت توجيه الفيلسوف الكبير أويكن‪ ،‬في سياق تقاليد الكانطية الجديدة فيما‬
‫يينا‪ ،‬حين تعرف إلى الفينومينولوجيا‪ .‬وهو تعرف إليها في الفترة التي لم تكن بعد قد‬
‫اكتملت عناصرها في نقد هوسرل ونتاجه وعمله‪ ،‬وقبل أن يتبدى نسقها على صورة‬
‫علم صارم‪ .‬مما سيسمح له أن يكون أكثر تحرر ًا في انشغاله الفينومينولوجي وأكثر‬
‫توسع ًا في تفسير طريقها‪ ...‬نائي ًا بنفسه عن طريق هوسرل الراديكالية ومن صرامته‬
‫المنهجية وتطلبه للدقة وصبره على التحري واالستقصاء في مقاربة ظاهرات الوعي‬
‫في نسق يكاد يكون محكم ًا‪ .‬من هنا كان موقف هوسرل المرتاب على نحو الدوام‬
‫وقناعته بأن ثمة القليل من الفينومينولوجيا في عمل شيلر وأن معظمه ذهب خلب‪.‬‬
‫وهما موقف وقناعة كانا يتعمقان باطراد يتناسب مع تطور عمل شيلر وتقدم تفكيره‬
‫وتوسع انشغاله‪.‬‬
‫لقد جاء شيلر إلى الفينومينولوجيا متأخر ًا‪ ،‬وهو سبق له في الحقيقة أن وضع‬
‫أعماالً غير فينومينولوجية قبل أن يتعرف على الطريقة الجديدة في التفكير‪ .‬وسوف‬
‫يكشف نتاجه الالحق كذلك عن تحرر واضح من الفينومينولوجيا كنسف راديكالي‬
‫مغلق وكمنهج صارم يطمح أن يكون على صورة العلم‪ ،‬ليس ألنه لم يكن يجد في‬
‫عمل هورسل ما هو متميز بل ألن قناعته كانت تقوم على فكرة أن أزمة الحداثة ليست‬
‫أزمة معرفة أوالً وبالذات وال هي أزمة وعي‪ ،‬وال كذلك أزمة موضوعية كان هوسرل‬
‫يقيم نسقه من أجل تجاوزها‪ ،‬بل أزمة إنسان في ماهيته ومكانته وحضوره في العالم‪،‬‬
‫وبالتالي‪ ،‬ما كان ضروري ًا إنجازه ليس منهج ًا تقوم من خالله عالقة الوعي بالعالم‪،‬‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪356‬‬
‫وال بكيفية مقاربته بما هو معيش قصدي‪ ،‬بل أنتروبولوجيا فلسفية تعيد التفكر في‬
‫ماهية اإلنسان وفي عالقته بالوجود من حوله وبالعالم بما هو مجال قيم استناد ًا ال إلى‬
‫منطق متجاوز ترسنندنتالي على طريقة كانط وال عبر إعادة اكتشاف األنا الترنسندنتالية‬
‫بما هو صانع للمعنى وللداللة‪ ،‬وبما هو فاعلية تأسيس للعالم‪ ،‬بل في تدفق العاطفة‬
‫والشعور‪ .‬ذلك أن اإلنسان الذي مجدت الوضعانيات دوره بما هو كشاف خفاء العالم‬
‫وسيده الذي يخضعه إلرادته الحرة‪ ،‬هو في حقيقته كائن عاجز‪ ،‬يروم أن يعوض عجزه‬
‫الكياني بأن يتحول من مقام الطبيعة إلى مقام االنعتاق من خالل التطلع إلى اآلفاق‬
‫اإللهية السامية وإلى التمسك بالقيم الموجهة لتيار الحياة التي تكشف عن ذاتها في‬
‫تدفق العاطفة والشعور وفي حياة الوجدان وفي الحضور الحي المباشر في العالم‪.‬‬
‫ولعل هذا ما يفسر الغياب شبه التام ألي نسق عقلي واضح المعالم عند شيلر‪ ،‬أو ألية‬
‫آليات تدليل واحتجاج بينة ونسقية‪ ،‬أو ألي منطق صارم يوجه قناعاته ويبررها ويدعم‬
‫رؤاه وتبصراته ويفسرها‪ .‬لقد كانت أفكاره تتبدى كما لو أنه تعاين بواسطة حدس مباشر‬
‫وكلي‪ ،‬وتظهر كما لو أنها تكشف عن نفسها في التدفق الحي للروح على شكل رؤى‬
‫صوفية أو عيان‪.‬‬
‫ولعل ذلك أحد اآلثار الواضحة لظروف نشأته القاسية التي ولدت عنده مي ً‬
‫ال إلى‬
‫تغليب العاطفة والوجدان في الكيان اإلنساني على العقلي النسقي‪ ،‬والحياة المقيمة في‬
‫العفوي والمباشر على حياة النسق والتأمل النظري والفكر‪ .‬وليس بعد غريب ًا أن يقال‬
‫أن ما يعيب فكره كثرة انعطافاته وتحوالته‪ ،‬وما يعيب مواقفه أنه كان يتحول عنها حين‬
‫تبدو لها غير ناضجة أو يشوبها شيء من االضطراب والتردد‪ .‬وهو كثير ًا كان ما يردد هذه‬
‫إلي هو ذلك اإلنسان الذي يتحول باستمرار»‪.‬‬ ‫العبار َة المأثورة عن غوته‪« :‬أقرب الناس َّ‬
‫‪74‬‬

‫ونظر ٌة واحدة إلى حياة شيلر الشخصية وعناوين كتبه وبحوثه الفلسفية‪ ،‬كفيل ٌة بالكشف‬
‫عن مدى عمق ِ تحوالته‪ ،‬وقسوة ما كابده من ورائها من ويالت وعذابات‪ ،‬وما واجهه‬
‫من جرائها من سوء فهم في عصره وبلده إلى حد التجاهل والنسيان؛ ومن اتهامات‬
‫قاسية من مثل أنه مجرد «حرباء فلسفية متلونة»‪ ،‬أو عاشق عاطفي مت َّيم بالفلسفة‪ ،‬وأن‬

‫‪ 74‬عبد الغفار مكاوي‪ ،‬جتارب فلسفية‪ ،‬القاهرة‪ :‬هنداوي‪ .2017 ،‬ص ‪.123‬‬
‫‪357‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫أعماله التي بقي الكثير منها شذرات ناقصة تفتقد الوحدة الباطنية والطابع الفلسفي‬
‫والمنهجي‪ .‬وإذا كان واقع سيرته وتفكيره يقدم شهادة واضحة على تحوله من ناحية‬
‫العقيدة‪ ،‬من اليهودية إلى الكاثوليكية التي لم يلبث أن أعلن خروجه منها‪ ،‬وتبنِّيه وجهة‬
‫نظر كونية وشمولية‪ ،‬كما يشهد أيضا من الناحية الفكرية على تأثره في البداية بالكانطية‬
‫الجديدة‪ ،‬ثم انتمائه كما يشهد أيض ًا من الناحية الفكرية على تأثره في البداية بالكانطية‬
‫الجديدة‪ ،‬ثم انتمائه بطريقته الخاصة إلى «الفينومينولوجيا»‪ ،‬واعتناقه في النهاية لنوع‬
‫من وحدة الوجود القائمة على أسس تطورية‪ ،‬تضع العقل في مكانة سامية فوق النظام‬
‫الطبيعي كله‪ ،‬إذا كان واقع السيرة والفكر يدل على هذا داللة واضحة فإنه يبين كذلك‬
‫أن شيلر إذا كان يؤمن بضرورة النسق فهو لم يكن يعني به النسق بمعناه الكالسيكي‬
‫المغلق‪ ،‬الذي يستنبط قضاياه وتحليالته من مجموعة من المبادئ األولية أو القبلية‪ ،‬بل‬
‫النسق المفتوح‪ ،‬الذي يتغلغل في كل ميادين الحياة والعمل والفكر والمعرفة ويتميز‬
‫بالثراء والتنوع الشديدين‪ ،‬وإذا كان هذا النسق المفتوح يعكس األزمات الشخصية التي‬
‫عاناها شيلر إلى حد القلق والتمزق‪ ِ،‬فإنه يعكس في الوقت نفسه أزمات عصره وتياراته‬
‫المتقلبة في مهب العاصفة الثورية التي هزت الحياة الثقافية الغربية في الفترة الواقعة‬
‫بني الحربين العالميتين‪ ،‬كالتعبريية والرومانسية الجديدة والفينومينولوجيا وبدايات‬
‫الوجودية والتحليل النفسي‪ ...‬إلخ وبالتالي افتقدت انشغاالته المتشعبة إلى أساس‬
‫منهجي أو عقلي تقوم عليه خارج اندفاع العاطفة والرؤى المباشرة والعيان الصوفي‪،‬‬
‫وألجل ذلك كان يضطر إلى تجاوزها في أوقات كثيرة ويعدل عنها سواء في ذلك‬
‫تأمالته الخاصة بالطبيعة البشرية وعالقتها باإللهي أو في تأمالته الخاصة بالعواطف‬
‫وتراتب القيم وطريقة الحضور في العالم‪ ،‬أو ما تعنيه الخبرة الدينية بما هي حضور‬
‫للمقدس في تجربة اإلنسان نفسه وفي كلية كينونته أو في العالم بما هو كشاف إرادة‬
‫سامية تتبدى في تجارب حية وجدانية وعاطفية وفي مسارات تجارب القداسة في‬
‫مواقف إنسانية‪.‬‬
‫وموقف شيلر بالرغم من تنوع وجوهه وتعدد انشغاالته وميادين تأمله لم يكن يرق‬
‫إلى مستوى نقد فلسفي شامل ونسقي يستلهم تبصرات الميتافيزيقا التقليدية وال فكر‬
‫ال من الهوت توفيقي يقيم تأمله في‬‫الكينونة في عمق ما تأدى إليه هذا الفكر‪ .‬بل كان شك ً‬
‫ةيمح رجنخ ‪.‬د‬ ‫‪358‬‬
‫اإلنسان والعالم والوجود استناد ًا إلى هشاشة الكلية اإلنسانية وعدم اكتمالها وحاجتها‬
‫الدائمة إلى أن تتموضع في كلية عالم توجهه إرادة إلهية‪ ،‬أو يحتضنها حب ملهم على‬
‫طريقة أوغسطينوس تتفتح من خاللها طاقاتها على المعنى الذي يحيط بوجودها وعلى‬
‫القصد الذي يوجه حياتها وطاقة فعلها واندفاع عواطفها مستفيد ًا من قيم المسيحية في‬
‫تأملها الغنوصي أو الرومانسي في مواجهة قيم الحداثة المتبلدة‪ .‬وهو في جهده النقدي‬
‫للتراث الفلسفي كان أكثر عمق ًا ونباهة أكثر منه حين يحاول أن يقيم رؤيته الخاصة لما‬
‫كاف‪،‬‬‫يعالجه من ظاهرات‪ .‬ويبدو أن جميع اكتشافاته ورؤاه لم تكن مدعومة بشكل ٍ‬
‫كما أن العديد منها لم يتعرض بعدُ لنار التطهير من الشك النقدي ولمحاولة التفكير من‬
‫خالل وجهات نظر وتفسيرات بديلة‪ .‬لقد كان في عجلة من أمره في كثير من األحيان‪،‬‬
‫وكانت الفينومينولوجيا بالنسبة له مجرد نقطة انطالق في طريقه إلى أهدافه الخفية‪.‬‬
‫وهو في التدفق المذهل لعقله المندفع كان عرضة للخطأ في فهم انطباعاته األولى‬
‫كرؤى نهائية‪ ،‬مما سيقوده في كثير من األحيان إلى تقديم ادعاءات مفرطة حول أن‬
‫استنتاجاته النهائية تستند إلى أدلة فينومينولوجية‪ ،‬تقريب ًا في تناسب عكسي مع االهتمام‬
‫الذي أبداه في اختبارها‪ .‬لذلك ليس من المستغرب أن يجد نفسه مضطر ًا إلى التنصل‬
‫من بعض أفضل ما توصل إليه من نتائج ملفتة بطريقة ربما كانت واضحة في صدقها‬
‫بقدر ما كانت محرجة لطموحاته‪ .‬وهذا ينطبق بشكل خاص على فينومينولوجيا الدين‬
‫الخاصة به‪ ،‬حيث ادعى أدلة «واضحة مثل ضوء الشمس» (‪ )sonnenklar‬حول‬
‫مواقف كان عليه أن يدخرها تمام ًا لنفسه‪ .‬وهو عندما كان يصف أفكاره‪ ،‬كان أكثر‬
‫إثارة لإلعجاب عندنا يشرح ماهية ظاهرة معينة بشكل سلبي منه عندما يقدم وصف ًا‬
‫يفسر إلى حد ما استناد ًا‬
‫إيجابي ًا لماهيتها‪ .‬مثل هذا الغياب النسبي للوصف اإليجابي َّ‬
‫إلى اعتقاده المعلن أنه في النهاية ال يوجد تعريف إيجابي ممكن للظاهرات الحقيقية‬
‫وأن الحدس المباشر فقط هو الذي يمكن أن ينصفها‪ .‬لكن مهما كان مقدار شرعية هذا‬
‫الموقف مع ذلك‪ ،‬فقد فشل شيلر في كثير من األحيان في إعطاء القارئ الخيوط التي‬
‫يحتاجها والتي له الحق في توقعها من أجل اللحاق بتوجيهه‪ .‬قد ُيعزى بعض هذا إلى‬
‫طريقته في الكتابة‪ ،‬والتي ال تجعل القراءة سهلة دائم ًا‪ .‬إذ إلى جانب الصفحات الرائعة‬
‫في إيحائها وموضوعيتها‪ ،‬هناك صفحات أخرى تصدم القارئ الناقد الذي لم يندهش‬
‫‪359‬‬ ‫ةينادجولا رعاشملاو ميقلا ايجولونيمونيف‬

‫بمزاعمها الحكيمة‪ ،‬وغالب ًا ما تكون األلعاب النارية الخاصة باستطرادات الحواشي‬


‫مشتت ًة أكثر من كونها مضيئة‪ .‬ولقد كانت أفضل أعماله تحمل في كثير من األحيان‬
‫عالمات المراجعة غير الكاملة‪ ،‬وبدا أن عمله الفينومينولوجي ينير بشكل الفت للنظر‬
‫ولكن بتفاوت‪ ،‬وبالتالي يجب أن يقرأ بتعاطف ونقد في نفس الوقت‪ .‬وإذا تم االقتراب‬
‫منه بهذه الروح فإنه يحتوي على بعض التوقعات األكثر تحفيز ًا‪ ،‬إن لم يكن على الرؤى‬
‫النهائية‪ ،‬التي أسفرت عنها الفينمينولوجيا حتى اآلن‪.‬‬
‫دراسات‬

‫حديث اآلحاد عند المعتزلة‬

‫د‪ .‬عبد اهلل القيسي‬


‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬

‫المعتزلة‪:‬‬
‫ميل إلى العقل وأحكامه‪ ،‬وهم‬ ‫المعتزلة هم أقدم الفرق الكالمية وأكثرها ً‬
‫المؤسسون لعلم الكالم وواضعو دعائمه‪ ،‬وكان لهم دور رئيسي في تطويره وصياغة‬
‫مشكالته‪ ،‬ومعالجتها معالجة جا ّدة أقرب إلى روح التفلسف‪ .‬تبنوا نزعة عقلية‬
‫و َّلدت فيهم حري َة الفكر والرأي‪ ،‬وال نكاد نجد مدرسة كالمية نمت فيها هذه الحرية‬
‫الفكرية كما نمت عندهم‪ .2‬بدأ ظهور المعتزلة في بداية القرن الثاني الهجري في‬
‫البصرة في أواخر العصر األموي‪ ،‬وازدهرت في العصر العباسي‪ ،‬وكان أول ظهور‬
‫لهم مع واصل بن عطاء وعمرو بن عبيد‪ .‬كان المذهب منذ البداية يؤكد على دور‬
‫ومؤثرا التنزيه اإللهي والوحدانية‪ ،‬ومتشب ًثا‬
‫ً‬ ‫العقل في مقابلة النص من حيث المنهج‪،‬‬
‫بفكرة الحرية واالستقالل بالنسبة للجانب اإلنساني‪.3‬‬
‫وقد وقف المعتزلة بأصولهم الفكرية التي كونت أعمدة نظريتهم العامة‪ ،‬عند‬
‫خمسة أصول هي‪ :‬العدل‪ ،‬والتوحيد‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬والمنزلة بين منزلتين‪،‬‬
‫واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ ،‬ووقوفهم عند هذا العدد قد حكمه منهج‪،‬‬
‫ولم يخضع للصدفة واالتفاق‪ ،‬فهم قد رأوها المبادئ األساسية التي يقع فيها‬

‫‪ 1‬باحث يمني‪ ،‬دكتوراه يف أصول الفقه اإلسالمي ومقاصد الرشيعة‪.‬‬


‫‪ 2‬مدخل إىل علم الكالم ملحمد صالح ص ‪.219‬‬
‫‪ 3‬املدخل إىل دراسة علم الكالم حسن حممود الشافعي‪( .‬الطبعة الثانية)‪ )1991( .‬القاهرة‪ ،‬مرص‪:‬‬
‫مكتبة وهبة‪ .‬ص ‪.101-100‬‬
‫‪361‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫االختالف بينهم وبين كل من خالفهم من فرق اإلسالم وغيره‪ .4‬يقول أبو الحسن‬
‫الخياط في كتابه االنتصار‪« :‬وليس أحد يستحق اسم االعتزال‪ ،‬حتى يجمع القول‬
‫باألصول الخمسة‪ :‬التوحيد‪ ،‬والعدل‪ ،‬والوعد والوعيد‪ ،‬والمنزلة بين المنزلتين‪،‬‬
‫واألمر بالمعروف والنهي عن المنكر»‪.5‬‬
‫يرى كثير من الباحثين المسلمين أن المعتزلة هم الذين أوجدوا علم الكالم في‬
‫اإلسالم بسالح خصومهم في الدين‪ ،‬ذلك أنه في أوائل القرن الثاني للهجرة ظهر أثر من‬
‫دخل في اإلسالم من اليهود والنصارى والمجوس والدهرية‪ ،‬فكثير من هؤالء أسلموا‬
‫ورؤوسهم مملوءة بأديانهم القديمة‪ ،‬وسرعان ما أثاروا في اإلسالم المسائل التي كانت‬
‫ِ‬
‫بالفلسفة اليونان َّية والمنطق اليوناني في مواجهتها وتنظيم‬ ‫تثار في أديانهم التي تس َّلحت‬
‫طريق بحثها‪ ،‬كل ذلك دعا المعتزلة إلى التس ُّلح بالعقل والفلسفة اليونانية لمجادلتها‬
‫ً‬
‫جدال علم ًّيا يعتمد على سالح العقل والمنطق والبرهان‪ ،‬وكان من أشهر رجال المعتزلة‬
‫في استخدام سالح الفلسفة أبو الهذيل العالف‪ ،‬وإبراهيم بن سيار الن ّظام وأبو عثمان‬
‫الجاحظ‪ 6‬يقول الدكتور محمد سالم مدكور‪« :‬ولقد كان المعتزلة بحق فالسفة اإلسالم‪،‬‬
‫وهم الذين كان لهم الفضل عن طريق نظر العقل من صد المالحدة والزنادقة»‪.7‬‬

‫خبر اآلحاد‪:‬‬
‫ٍ‬
‫ومضاف إليه‪ .‬وهو في تركيبه‬ ‫ٍ‬
‫مضاف‬ ‫لفظ (خبر اآلحاد) يتركب من مفردتين‪،‬‬
‫يدل على معنى مخصوص‪ ،‬وقبل التركيب تدل كل مفردة على جزء من حقيقته‪.‬‬
‫(و َحدَ ) وهو أصل يدل على االنفراد‪ 8‬وتحت هذا األصل‬
‫واآلحاد في اللغة‪ :‬من َ‬
‫معان‪ :‬منها األحد‪ :‬بمعنى الواحد‪ ،‬وهو أول العدد‪ ،‬ومنها األحد‪ :‬فرد من المتعدد‪،‬‬

‫تيارات الفكر اإلسالم ملحمد عامره ص‪.49‬‬ ‫‪4‬‬


‫انظر مقدمة تفسري املاتريدي ‪.134/1‬‬ ‫‪5‬‬
‫انظر علم الكالم اإلسالمي بني النزعة العقلية واملرجعية النصية جملة عقبات األنوار‪ ،‬العدد السابع‪،‬‬ ‫‪6‬‬
‫‪ 6‬أكتوبر ‪.2013‬‬
‫مناهج االجتهاد يف اإلسالم ص ‪.500‬‬ ‫‪7‬‬
‫انظر مقاييس اللغة‪ ،‬ابن فارس (وحد) ‪.91/6‬‬ ‫‪8‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪362‬‬
‫يقال‪ :‬جاء أحد الرجلين‪ ،‬واآلحاد من العدد من واحد إلى تسعة‪ .9‬وهذا هو المراد‬
‫من المعاني السابقة‪ ،‬وهو مبني على أن اآلحاد على وزن ( َأ ْف َعال) من أوزان جمع‬
‫القلة‪ ،‬وإنما سمي جمع قلة ألنه ال يذكر إال حيث يراد به بيان القلة‪ 10.‬فاآلحاد جمع‬
‫أحد‪ ،‬وأصله َو َحدَ ‪ ،‬وهو هنا بمعنى واحد‪ ،‬ولذلك يقال‪ :‬خبر الواحد‪ ،‬وخبر اآلحاد‪،‬‬
‫وأخبار اآلحاد‪ .‬قال ابن عقيل‪« :‬وجمع القلة يدل حقيقة على ثالثة فما فوقها إلى‬
‫العشرة‪ ،‬وجمع الكثرة يدل على ما فوق العشرة إلى غير نهاية»‪ .11‬وبهذا يتضح ما‬
‫يعنيه (الخبر) وما يعنيه (اآلحاد) عند اللغويين‪ .‬فالخبر ما ينقل عن الغير‪ ،‬واآلحاد‬
‫مجازا فيما فوق ذلك‪ 12.‬وإذا أضيف الخبر إلى‬‫ً‬ ‫عدد دون العشرة حقيقة‪ ،‬ويستعمل‬
‫اآلحاد أريد به‪ :‬ما ينقله العدد اليسير عن الغير‪.‬‬
‫أما اآلحاد في اصطالح األصوليين‪ :‬فيراد به العدد من الرواة الذين ال يوجب‬
‫خبرهم العلم‪ .‬ويقصدون بالعلم‪ :‬اليقين العقلي الذي يوجب حصول القطع بصدق‬
‫مضمونه‪ ،‬وإن تخلف عنه ذلك الحصول بالفعل‪ ،13‬فوقع التكذيب مكابرة أو جحو ًدا‪.‬‬
‫التواتر‪ .‬وقد اختلفت عبارات المتكلمين‬
‫ُ‬ ‫أو هو العد ُد من الرواة الذين ال يحصل بهم‬
‫واألصول ّيين في تعريف خبر اآلحاد‪ ،‬وإن كان الحاصل منها واحد ًا‪ ،‬ويمكن إرجاع‬
‫ما قالوه في تعريفه إلى ثالثة تعاريف‪:‬‬
‫األول‪ :‬عرفه الباجي بأنه‪« :‬ما لم يقع العلم بمخ َبره ضرورة من جهة اإلخبار به‪،‬‬
‫إن كان الناقـلون لـه جمـاعة»‪ .14‬ومراد الباجي في هذا التعريف حصر خبر اآلحاد في‬
‫خبرا علم ضروري‬
‫الخبر الذي يرويه الواحد أو الجماعة وال يحصل لنا بمجرد كونه ً‬
‫بصدق مضمونه‪ .‬ويريد الباجي أن يخرج الخبر المتواتر ألن العلم الضروري بصدق‬

‫(و َحدَ ) ‪273/1‬‬


‫(و َحد) ‪ ،460/4‬والقاموس املحيط‪ ،‬الفريوزآبادي َ‬ ‫انظر لسان العرب‪ ،‬ابن منظور َ‬ ‫‪9‬‬
‫والصحاح‪ ،‬اجلوهري ‪ 548/2‬وتاج العروس‪ ،‬الزبيدي ‪.287/2‬‬
‫مجع التكسري‪ :‬ما دل عىل أكثر من اثنني بتغيري ظاهر ــ كرجل ورجال ــ ‪ ،‬أو مقدر ــ َك ُف ْلك ــ للمفرد‬ ‫‪10‬‬
‫واجلمع فالضمة يف مفرده كضمة ( ُق ْفل) والضمة يف مجعه كضمة ( ُأسد)‪ .‬ومجع التكسري عىل‬
‫قسمني‪ :‬مجع قلة‪ ،‬ومجع كثرة‪ ،‬انظر رشح ابن عقيل ‪.452/2‬‬
‫املصدر نفسه ‪.452/2‬‬ ‫‪11‬‬
‫انظر رشح ابن عقيل ‪.452/2‬‬ ‫‪12‬‬
‫رشح العبادي ‪ ،179‬وانظر تعريف العلم يف ستصفى الغزايل ‪ 24/1‬ــ ‪ 27‬وإحكام اآلمدي ‪12/1‬‬ ‫‪13‬‬
‫إحكام الفصول (‪)235‬‬ ‫‪14‬‬
‫‪363‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫خبرا‪ .‬ويريد بقوله (من جهة اإلخبار به) اإلشارة إلى‬


‫مضمونه يحصل بمجرد كونه ً‬
‫خبرا‪،‬‬
‫أن من أخبار اآلحاد ما يوقع العلم الضروري بصدق مضمونه ال من جهة كونه ً‬
‫بل من طرق خارجية أخرى تدل على صدقه ضرورة مثل موافقته لما ثبت ً‬
‫عقل‪ .‬كأن‬
‫ينقل أحدهم عن عالم أنه قال (الواحد نصف االثنين) فنجد من أنفسنا العلم بصدق‬
‫مخبره ضرورة‪ ،‬ولكن هذا العلم الضروري يحصل بالخبر من جهة كونه مواف ًقا لما‬
‫خبرا فقط‪ .‬ويدخل هذا الخبر في تعريف خبر اآلحاد بال‬
‫يعلم ضرورة ال من جهة كونه ً‬
‫ريب‪ ،‬ألنه ما أفاد العلم الضروري بمجرد اإلخبار به بل بدليل آخر خارج عن ذلك‪.15‬‬
‫ً‬
‫أصل‪ ،‬أو أفاده بالقرائن‬ ‫الثاني‪ :‬هو خبر ال يفيد بنفسه العلم سواء لم يفده‬
‫المنفصلة عنه‪ .‬واختار هذا التعريف أمير بادشاه في تيسير التحرير‪ ،16‬والشوكاني‬
‫في إرشاد الفحول‪ .17‬ويراد في هذا التعريف حصر خبر اآلحاد في نوعين من‬
‫األخبار‪ :‬النوع األول‪ :‬األخبار التي ال يمكن القطع بصدق مضمونها‪ ،‬ال بنفسها‬
‫وال باألدلة والقرائن المنفصلة‪ .‬والمراد بالقرائن المنفصلة صفات الخبر التي تزيد‬
‫على ما ينفك الخبر عنه عادة‪ ،‬كأن يخبر اآلحاد بموت إنسان‪ ،‬فال يحصل العلم‬
‫بمجرد إخبارهم‪ ،‬لكن إذا انضم إلى الخبر خروج ولد الميت من الدار حاسر الرأس‬
‫ممزق الثياب مضطرب الحال‪ ،‬ووالدته ت َْصفق وجهها وتضرب خديها‬
‫الرجل َّ‬
‫حافي ِّ‬
‫وحولها نسوة يخففون عنها مصيبتها؛ علم قط ًعا صدق ما أخبر به اآلحاد مقترنًا بهذه‬
‫القرائن‪ 18.‬ومثل هذه األخبار التي يحصل العلم بها من الخبر وقرائنه تدخل في‬
‫التعريف السابق ألنها أخبار ال تفيد بنفسها العلم‪ ،‬بل تفيده القترانها بهذه القرائن‪.‬‬
‫النوع الثاني‪ :‬األخبار التي تفيد العلم بالقرائن المنفصلة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬عرفه الزركشي بأنه‪« :‬ما كان من األخبار غير ُمنْت ٍَه إلى حد التواتر»‪.19‬‬
‫ومؤ َّدى هذا التعريف أن خبر اآلحاد ال ينحصر في الخبر الذي ينقله الواحد كما‬
‫قد تفيده عبارة «خبر الواحد» بل يشمل الذي ينقله اثنان أو أكثر ما لم ينته إلى حد‬

‫االحتجاج بخرب اآلحاد سهيل السقار ص‪.35‬‬ ‫‪15‬‬


‫أمري بادشاه‪37/3‬‬ ‫‪16‬‬
‫إرشاد الفحول ‪47‬‬ ‫‪17‬‬
‫انظر املستصفى ‪136/1‬‬ ‫‪18‬‬
‫البحر املحيط ‪.256-255/1‬‬ ‫‪19‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪364‬‬
‫التواتر كما تفيده عبارة «خبر اآلحاد»‪ .‬قال الزركشي‪« :‬وليس المراد ما يرويه الواحد‬
‫فقط‪ ،‬وإن كان موضوع خبر الواحد في اللغة يقتضي وحدة المخبر الذي ينافيه التثنية‬
‫والجمع‪ ،‬لكن وقع االصطالح به على كل ما ال يفيد القطع‪ ،‬وإن كان المخبر به‬
‫جمع ًا إذا نقصوا عن حد التواتر»‪.20‬‬
‫وقد تابع فريق من المحدثين في تعريف هذا التركيب أعني (خبر اآلحاد)‪ ،‬يقول‬
‫ابن حجر‪« :‬خبر اآلحاد مالم يجمع شروط التواتر» ‪.21‬‬
‫وهذه التعاريف لخبر اآلحاد هي ذاتها التي استقرت عند جميع المتكلمين ومنهم‬
‫المعتزلة‪ ،‬وللقاضي عبدالجبار تعريف ال يخرج عن ذلك اإلطار وإنما هو وجه من‬
‫وجوهه‪ ،‬حيث يذهب القاضي إلى «أنه الذي ال ُيعلم كونه كذ ًبا أو ِصد ًقا»‪.22‬‬

‫حجية حديث اآلحاد عند المعتزلة‪:‬‬


‫أمرا ضرور ًّيا في ظل‬
‫تعدّ دراسة موقف المعتزلة من خبر الواحد وحجيته ً‬
‫الكتابات المنحازة ضدهم من قبل خصومهم‪ ،‬والتي ال تبرز أدلتهم بالشكل الكافي‪،‬‬
‫وإنما تستغرق جل كالمها في تبديعهم ووصفهم بشتى األوصاف التي ال تنبئ عن‬
‫موضوعية في دراسة آرائهم ومواقفهم‪.‬‬
‫في مسألة موقف المعتزلة من االستدالل بخبر الواحد لن يجد الباحث موق ًفا أو‬
‫رأ ًيا واحدً ا؛ وذلك ألن المعتزلة ليسوا على مذهب واحد كبقية المذاهب بحيث تستوي‬
‫رؤيتهم في قضية واحدة‪ ،‬وإنما هم فرقة تتسع أصولها لالجتهاد من قبل شيوخها بما‬
‫ينتج عدة مدارس بداخلها‪ ،‬ولذا نجد أن لكل متكلم أو فقيه ينتمي لهذه المدرسة اجتهاده‬
‫الخاص وجماعته الخاصة التي قد تسمى باسمه‪ ،‬ومن هنا فقد اتسعت المذاهب داخل‬
‫نفس المدرسة حتى عدها بعضهم اثنتي عشرة طائفة بصرية‪ ،‬وثمان طوائف بغدادية‪.‬‬
‫وبناء على هذا فتحرير رأي المعتزلة في مسألة خبر اآلحاد في العقائد واألحكام‬
‫ليس بالهين؛ وذلك لسببين رئيسيين‪:‬‬

‫‪ 20‬البحر املحيط ‪.256-255/1‬‬


‫‪ 21‬لقط الدرر‪ .32 ،‬ــ نزهة النظر البن حجر ص ‪.26‬‬
‫‪ 22‬رشح األصول اخلمسة ص ‪.769‬‬
‫‪365‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫نسبت إليهم آراء متعددة‪.‬‬


‫ْ‬ ‫األول‪ :‬لعدم اتفاق المعتزلة أنفسهم على هذه المسألة‪ ،‬فقد‬
‫الثاني‪ :‬نتيجة عدم وصول تراثهم ومؤلفاتهم كاملة‪ ،‬إذ لم يصل إال القليل ككتاب‬
‫«المغني في أبواب التوحيد والعدل» للقاضي عبد الجبار‪ 23‬وكتاب «قبول األخبار‬
‫ومعرفة الرجال» ألبي القاسم البلخي‪ ،‬وغيرها من الكتب‪ ،‬وكذلك ما وصلنا من آراء‬
‫منسوبة إليهم في كتب بعض كتب األصول السنية‪.‬‬

‫أوال‪ :‬اآلراء واألقوال المنسوبة للمعتزلة في كتب األصوليين‬


‫األول‪ :‬عدم العمل بخبر الواحد‪:‬‬
‫وقد اختلف في نسبة هذا القول‪ ،‬مرة لعموم المعتزلة‪ ،‬ومرة لجمهورهم‪ ،‬ومرة‬
‫لبعضهم‪ ،‬ومرة لجماعة من المتكلمين‪ ،‬ومرة لبعض أفراد منهم‪.‬‬
‫نسبته لعموم المعتزلة‪:‬‬
‫نسبه ابن حزم في موضع للمعتزلة‪ ،‬وفي موضع ثان للمعتزلة والخوارج‪ .‬يقول‬
‫ابن حزم (ت ‪ 456‬هـ)‪« :‬وجعلت المعتزلة والخوارج هذا ــ أي ظنية خبر الواحد ــ‬
‫حجة لهم في ترك العمل به‪ ،‬قالوا ما جاز أن يكون كذ ًبا أو خطأ فال يحل الحكم به‬
‫في دين الله عز وجل‪ ،‬وال أن يضاف إلى الله تعالى وال إلى رسول الله صلى الله عليه‬
‫وسلم وال يسع أحدً ا أن يدين به»‪ .24‬قال‪« :‬فإن جميع أهل اإلسالم كانوا على قبول‬
‫خبر الواحد الثقة عن النبي‪ ،‬صلى الله عليه وسلم‪ ،‬يجري على ذلك كل فرقة فيعلمها؛‬
‫كأهل السنة والخوارج والشيعة والقدرية‪ ،‬حتى حدث متكلمو المعتزلة بعد المائة من‬
‫التاريخ فخالفوا اإلجماع في ذلك‪ ،‬ولقد كان عمرو بن عبيد (‪144‬هـ)‪ ،‬يتدين بما يروى‬
‫عن الحسن ويفتي به‪ ،‬هذا أمر ال يجهله من له أقل علم»‪ .25‬ويرى ابن حزم أن متكلمي‬
‫المعتزلة أحدثوه بعد المائة األولى‪.26‬‬

‫اكتشفت خمطوطته من قبل البعثة املرصية يف اليمن عام ‪1952‬م‪.‬‬ ‫‪23‬‬


‫اإلحكام يف أصول األحكام البن حزم ‪.119/1‬‬ ‫‪24‬‬
‫اإلحكام ‪.102/1‬‬ ‫‪25‬‬
‫اإلحكام ‪.114/1‬‬ ‫‪26‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪366‬‬
‫نسبته لجمهور القدرية‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫ونسبه الباجي‪ 27‬والجويني في التلخيص‪ 28‬والغزالي في المستصفى ‪ 29‬وابن قدامة‬
‫والبرماوي‪ 31‬لجمهور القدرية‪ .32‬يقول الباجي‪« :‬ذهب القاساني وغيره من القدرية إلى‬
‫أنه ال يجوز العمل بخبر الواحد»‪.33‬‬
‫يقول الجويني في التلخيص‪« :‬زعم جمهور القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر‬
‫كالقاساني وغيره أن التعبد بخبر الواحد محال عقال‪ ،‬وزعم بعضهم أن ورود التعبد‬
‫في ذلك من جائزات العقول‪ ،‬ولكن لم ترد داللة سمعية صحيحة في التعبد بالعمل‬
‫بأخبار اآلحاد‪ ،‬وزعم الجبائي من القدرية أن التعبد ال يقع إال إذا أخبر اثنان عدالن‬
‫ضابطان»‪.34‬‬
‫يقول الغزالي‪« :‬وقال جماهير القدرية ومن تابعهم من أهل الظاهر كالقاشاني‬
‫بتحريم العمل به سم ًعا»‪.35‬‬
‫نسبته لبعض المعتزلة‪:‬‬
‫ونسبه الجويني في البرهان‪ 36‬والسمرقندي‪ ،37‬ومجد الدين بن تيمية‪ ،38‬والمرداوي‪،39‬‬
‫والرجراجي‪ 40‬لبعض المعتزلة‪ .‬يقول عالء الدين السمرقندي (‪539‬هـ)‪« :‬وقال بعض‬

‫إحكام الفصول ‪.308/1‬‬ ‫‪27‬‬


‫التلخيص يف أصول الفقه ‪.327/1‬‬ ‫‪28‬‬
‫املستصفى ‪.118/1‬‬ ‫‪29‬‬
‫روضة الناظر ‪.313/1‬‬ ‫‪30‬‬
‫الفوائد السنية يف رشح األلفية ‪ 44/2‬وما بعدها ‪ 656‬بترصف‪.‬‬ ‫‪31‬‬
‫القدرية تطلق أحيانًا عىل املعتزلة‪ ،‬وأحيانًا عىل فريق منهم بالغوا بعدم القول بالقدر عىل عكس اجلربية‪.‬‬ ‫‪32‬‬
‫انظر أبو منصور االسفراييني الفرق بني الفرق ص‪.24‬‬
‫إحكام الفصول ‪.308/1‬‬ ‫‪33‬‬
‫التلخيص يف أصول الفقه ‪.327/1‬‬ ‫‪34‬‬
‫املستصفى ‪.118/1‬‬ ‫‪35‬‬
‫الربهان يف أصول الفقه ‪.228/1‬‬ ‫‪36‬‬
‫ميزان األصول يف نتائج العقول ص‪.449‬‬ ‫‪37‬‬
‫املسودة ص ‪.238‬‬ ‫‪38‬‬
‫التحبري رشح التحرير يف أصول الفقه ‪.1835/4‬‬ ‫‪39‬‬
‫رفع النقاب عن تنقيح الشهاب ‪.69/5‬‬ ‫‪40‬‬
‫‪367‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫المعتزلة‪ :‬بأنه ال يجب العمل به في باب الشرعيات‪ ،‬ويجب العمل به في العقليات»‪.41‬‬


‫وقال عالء الدين المرداوي الحنبلي (ت ‪885‬هـ)‪« :‬ومنع قوم من قبول أخبار اآلحاد‬
‫مطل ًقا‪ ،‬منهم‪ :‬ابن داود‪ ،‬وبعض المعتزلة‪ ،‬وبعض القدرية‪ ،‬ونسبه التاج السبكي إلى‬
‫الظاهرية»‪.42‬‬
‫نسبته لجماعة من المتكلمين‪:‬‬
‫‪46‬‬
‫ونسبه اآلمدي‪ ،43‬وعالء الدين البخاري‪ ،44‬وتقي الدين السبكي‪ ،45‬والزركشي‬
‫لجماعة من المتكلمين‪ .‬وكان المتكلمون إلى زمن األشعري معتزل ًة‪ .‬يقول اآلمدي‪:‬‬
‫عقل‪ ،‬خال ًفا للجبائي وجماعة من‬
‫«مذهب األكثرين جواز التعبد بخبر الواحد العدل ً‬
‫المتكلمين»‪ .47‬قال عالء الدين البخاري الحنفي (ت‪730‬هـ)‪« :‬وذهب بعض الناس‬
‫أصل‪ ،‬وهو المراد من قوله ال يوجب العمل‪،‬‬ ‫إلى أن العمل بخبر الواحد ال يجوز ً‬
‫عقل مثل الجبائي وجماعة من المتكلمين‪ ،‬ومنهم‬‫ثم منهم من أبى جواز العمل به ً‬
‫من منعه سم ًعا مثل القاشاني‪ ،‬وأبي داود والرافضة»‪ .48‬ويقول تقي الدين السبكي‬
‫(ت‪756‬هـ)‪« :‬ومن الناس من أنكر التعبد به‪ ،‬وقد انقسموا ما بينهم إلى مذاهب‪.‬‬
‫والثالث‪ :‬أن الدليل العقلي قام على امتناع العمل به‪ ،‬وعليه جماعة من المتكلمين‬
‫منهم الجبائي»‪.49‬‬

‫ميزان األصول يف نتائج العقول ص‪.449‬‬ ‫‪41‬‬


‫التحبري رشح التحرير يف أصول الفقه ‪.1835/4‬‬ ‫‪42‬‬
‫اإلحكام يف أصول األحكام ‪.45/2‬‬ ‫‪43‬‬
‫كشف األرسار رشح أصول البزدوي ‪.370/2‬‬ ‫‪44‬‬
‫اإلهباج يف رشح املنهاج ‪.300/2‬‬ ‫‪45‬‬
‫تشنيف املسامع بجمع اجلوامع لتاج الدين السبكي ‪.965-964/2‬‬ ‫‪46‬‬
‫اإلحكام يف أصول األحكام ‪.45/2‬‬ ‫‪47‬‬
‫كشف األرسار رشح أصول البزدوي ‪.370/2‬‬ ‫‪48‬‬
‫اإلهباج يف رشح املنهاج ‪.300/2‬‬ ‫‪49‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪368‬‬
‫نسبته للجبائي‪:‬‬
‫‪54‬‬
‫ونسبه ابن عقيل‪ ،50‬واآلمدي‪ ،51‬وعالء الدين البخاري‪ ،52‬والسبكي ‪ ،53‬والبرماوي‬
‫ألبي علي الجبائي‪.‬‬
‫يقول شمس الدين األصفهاني (ت ‪749‬هـ)‪« :‬أن الدليل العقلي قام على امتناع‬
‫العمل به وعليه جماعة من المتكلمين منهم الجبائي»‪ .55‬ويقول الزركشي (ت ‪794‬هـ)‪:‬‬
‫«المنكرون انقسموا بينهم إلى مذاهب ‪ ...‬والثالث‪ :‬أن الدليل العقلي قام على امتناع‬
‫العمل به‪ ،‬وعليه جماعة من المتكلمين كالجبائي»‪.56‬‬
‫نسبته البن علية واألصم‪:‬‬
‫ونسبه السمعاني‪ 57‬إلبراهيم بن إسماعيل بن علية وأبو بكر األصم من المعتزلة‪،‬‬
‫وتابعه الشوكاني‪.58‬‬
‫قال السمعاني‪« :‬وذهبت طائفة إلى منع التعبد بأخبار اآلحاد واختلفوا في المانع من‬
‫ُ‬
‫العقل وذكر بعضهم أنه قول ابن علية واألصم‪ ،‬وقال‬ ‫التعبد به فقال بعضهم يمنع منه‬
‫القاشاني من أهل الظاهر والشيعة يمنع من التعبد بها الشرع وإن كان جاز في العقل»‪.59‬‬
‫وقال الشوكاني‪« :‬وحكاه الماوردي عن األصم وابن علية وقال‪ :‬إنهما قاال ال ُيقبل خبر‬
‫الواحد في السنن والديانات‪ ،‬ويعدل إلى غيره من أدلة الشرع»‪.60‬‬

‫ول ِ‬
‫الفقه ‪.362/4‬‬ ‫أص ِ‬ ‫ِ‬
‫الواضح يف ُ‬‫َ‬ ‫‪50‬‬
‫اإلحكام يف أصول األحكام ‪.45/2‬‬ ‫‪51‬‬
‫كشف األرسار رشح أصول البزدوي ‪.370/2‬‬ ‫‪52‬‬
‫اإلهباج يف رشح املنهاج ‪.300/2‬‬ ‫‪53‬‬
‫الفوائد السنية يف رشح األلفية ‪ 44/2‬وما بعدها ‪ 656‬بترصف‪.‬‬ ‫‪54‬‬
‫بيان املخترص رشح خمترص ابن احلاجب ‪.673/1‬‬ ‫‪55‬‬
‫تشنيف املسامع بجمع اجلوامع لتاج الدين السبكي ‪.965-964/2‬‬ ‫‪56‬‬
‫قواعد األدلة يف األصول ‪.335/1‬‬ ‫‪57‬‬
‫إرشاد الفحول ‪.135/1‬‬ ‫‪58‬‬
‫قواعد األدلة يف األصول ‪.335/1‬‬ ‫‪59‬‬
‫إرشاد الفحول ‪.135/1‬‬ ‫‪60‬‬
‫‪369‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫نسبته ألبي الفرج النهرواني‬


‫‪61‬‬
‫جاء في المسودة آلل تيمية‪« :‬وحكى ابن برهان كقول القاساني عن النهرواني‬
‫وإبراهيم بن إسماعيل بن علية»‪.62‬‬
‫الثاني‪ :‬عدم قبول أقل من رواية اثنين في كل طبقة‬
‫وذكر أبو يعلى الفراء‪ ،63‬والشيرازي‪ ،64‬والجويني‪ ،65‬وابن عقيل‪ 66‬أن الجبائي ال‬
‫يقبل في الشرعيات أقل من رواية اثنين‪ .‬قال القاضي أبو يعلى‪« :‬وقال القاشاني وأبو‬
‫بكر بن داود‪ :‬ال يجوز العمل به من طريق الشرع‪ ،‬وكان يجوز ورود التعبد به‪ .‬وقال‬
‫الجبائي‪ :‬ال يقبل في الشرعيات أقل من اثنين»‪ .67‬وقال أبو إسحاق الشيرازي‪« :‬وقال‬
‫أبو علي الجبائي ال يجوز حتى يرويه اثنان عن اثنين إلى النبي صلى الله عليه وسلم»‪.68‬‬
‫وقال الغزالي‪« :‬ذهب الجبائي إلى أنه ال يعمل إال بما ينقله رجالن‪ ،‬ثم شرط عند تكرر‬
‫العصر أن يحتمل قول كل رجل رجالن‪ ،‬هكذا إلى حيث ينتهي‪ ،‬وهذا استئصال لهذه‬
‫القاعدة‪ ،‬إذ ال يستقيم على هذا المذاق حديث في عصرنا»‪.69‬‬
‫يجوز العمل به‬
‫ُ‬ ‫وقال ابن عقيل الحنبلي (ت‪513‬هـ)‪« :‬وذهب القاساني‪ :‬إلى أنَّه ال‬

‫النهرواين‪ :‬نسبة إىل (هنروان) ُب َل ْيدة قديمة‪ ،‬تقع بالقرب من بغداد‪ .‬وهو‪ :‬املعاىف بن زكريا حييى بن‬ ‫‪61‬‬
‫محيد بن محاد‪ ،‬أبو الفرج النهرواين القايض املعروف بابن طراز ‪ ،‬كان يذهب إىل مذهب ُم َ َّمد بن‬
‫جرير الطربي‪ ،‬وكان من أعلم الناس يف وقته بالفقه‪ ،‬والنحو‪ ،‬واللغة‪ ،‬وأصناف األدب‪ .‬ولد سنة‬
‫معارصا البن النديم صاحب الفهرست‪ ،‬تفقه عىل مذهب ابن جرير‬ ‫ً‬ ‫‪ 305‬هـ‪ ،‬وتويف سنة ‪ 390‬هـ‪ ،‬كان‬
‫الطربي‪ .‬له يف األصول كتاب التحرير واملنقر وله ردود عىل أيب داود الظاهري والكرخي‪ .‬له ترمجة يف‬
‫(شذرات الذهب) ‪ ،134/2‬الفهرست ‪ ،328‬معجم البلدان ‪ ،355/8‬النجوم الزاهرة ‪ ،201/4‬الفتح‬
‫املبني ‪ .211/1‬انظر ترمجته يف‪ :‬البداية والنهاية (‪ )328/11‬وتاريخ بغداد (‪ )230/13‬وتذكرة احلفاظ‬
‫(‪ )1010/3‬وشذرات الذهب (‪ )134/3‬وطبقات احلفاظ ص (‪ )400‬واللباب (‪.)373/3‬‬
‫املسودة ص‪.238‬‬ ‫‪62‬‬
‫العدة يف أصول الفقه ‪.861/3‬‬ ‫‪63‬‬
‫التبرصة يف أصول الفقه ص ‪.312‬‬ ‫‪64‬‬
‫الربهان يف أصول الفقه ‪.231/1‬‬ ‫‪65‬‬
‫الفقه ‪.367/4‬‬‫ول ِ‬‫أص ِ‬ ‫ِ‬
‫الواضح يف ُ‬
‫َ‬ ‫‪66‬‬
‫العدة يف أصول الفقه ‪.861/3‬‬ ‫‪67‬‬
‫التبرصة يف أصول الفقه ص ‪.312‬‬ ‫‪68‬‬
‫املنخول ص ‪.344‬‬ ‫‪69‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪370‬‬
‫من طريق الشرع‪ ،‬ووافقه على المنع من العمل به ابن داود‪ ،‬إال أنه قال‪ :‬وقد كان يجوز‬
‫عقل‪ ،‬لوال منع الشرع‪ .‬وذهب الجبائي‪ :‬إلى أنه ال يق َب ُل في الشرعيات‬
‫وجوب العمل به ً‬
‫َأ ُّ‬
‫قل من اثنين»‪.70‬‬
‫الثالث‪ :‬عدم قبول أقل من رواية أربعة‬
‫ونسب الشيرازي‪ ،71‬وابن عقيل‪ 72‬إلى بعض المتكلمين أنهم ال يقبلون الخبر حتى‬
‫يرويه أربعة‪ .‬ونسبه الرجراجي‪ 73‬إلى بعض المعتزلة‪ .‬ونسبه ابن حجر‪ 74‬إلى الجاحظ‬
‫يرويه عن المعتزلة‪ .‬قال الشيرازي‪« :‬وقال بعض الناس ال يقبل أقل من أربعة»‪ .75‬وقال‬
‫ابن عقيل‪« :‬وقال بعض المتكلمين‪ :‬ال يقبل حتى يرويه أربعة»‪.76‬‬
‫«ورأيت في بعض تصانيف الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر ال‬
‫ُ‬ ‫قال ابن حجر‪:‬‬
‫يصح عندهم إال إن رواه أربعة»‪ .77‬وهذا يبين أن مؤلفات المعتزلة التي لم تصلنا كان‬
‫فيها الكثير‪ ،‬أو أنها أتلفت‪ .‬فالجاحظ بقيت كتبه األدبية وأتلفت األخرى المتعلقة‬
‫باالعتزال‪.‬‬
‫يقول الحسين بن علي الرجراجي (ت‪899‬هـ)‪ « :‬قيل‪ :‬ال بد أن يكون هنالك ما‬
‫يقويه‪ ،‬وقيل‪ :‬ال بد أن يرويه اثنان‪ ،‬وقيل‪ :‬ال بد أن يرويه اثنان إال فيما يتعلق بالزنا فال‬

‫الفقه ‪ .367/4‬يقول القايض أبو يعىل احلنبيل(ت‪457‬هـ)‪« :‬وقال قوم من أهل‬ ‫ول ِ‬
‫أص ِ‬ ‫ِ‬
‫الواضح يف ُ‬‫َ‬ ‫‪70‬‬
‫البدعة‪ :‬ال جيوز العمل به‪ ،‬وال جيوز ورود التعبد به‪ .‬وقال القاشاين وأبو بكر بن داود‪ :‬ال جيوز العمل‬
‫به من طريق الرشع‪ ،‬وكان جيوز ورود التعبد به‪ .‬وقال اجلبائي‪ :‬ال يقبل يف الرشعيات أقل من اثنني‬
‫{العدة يف أصول الفقه ‪ .}861/3‬وقال أبو إسحاق الشريازي (ت ‪476‬هـ)‪« :‬ومن أصحابنا من قال‬
‫جيب العمل به من جهة العقل والرشع‪ ،‬وقال القاساين ال جيب العمل به وهو قول ابن داود» {التبرصة‬
‫يف أصول الفقه ص‪.}303‬‬
‫التبرصة يف أصول الفقه ص ‪.312‬‬ ‫‪71‬‬
‫الواضح يف أصول الفقه ‪.386/4‬‬ ‫‪72‬‬
‫رفع النقاب عن تنقيح الشهاب ‪.67/5‬‬ ‫‪73‬‬
‫النكت عىل كتاب ابن الصالح ‪.242/1‬‬ ‫‪74‬‬
‫التبرصة يف أصول الفقه ص ‪.312‬‬ ‫‪75‬‬
‫الواضح يف أصول الفقه ‪.386/4‬‬ ‫‪76‬‬
‫النكت عىل كتاب ابن الصالح ‪.242/1‬‬ ‫‪77‬‬
‫‪371‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫بد أن يرويه أربعة‪ ،‬قاله عبد الجبار من المعتزلة ‪ ،78‬وقيل‪ :‬ال بد أن يرويه أربعة في كل‬
‫شيء‪ ،‬قاله غيره من المعتزلة‪.80»79‬‬
‫قال ابن األمير الصنعاني‪« :‬واعلم أنه قال الحافظ ابن حجر إنه رأى في تصانيف‬
‫الجاحظ أحد المعتزلة أن الخبر ال يصح عندهم إال إن رواه أربعة‪ ،‬وعن أبي علي‬
‫الجبائي أحد المعتزلة كما حكاه أبو الحسين البصري في المعتمد أن الخبر ال يقبل‬
‫إذا رواه العدل الواحد إال إذا انضم إليه خبر عدل آخر وعضده موافقة ظاهر الكتاب أو‬
‫ظاهر خبر آخر أو يكون قد اشتهر بين الصحابة أو عمل بعضهم‪ .‬وفي مختصر المنتهى‬
‫ً ‪81‬‬
‫البن الحاجب أن الجبائي يقول ال يجوز التعبد بخبر الواحد عقل»‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬عدم قبوله إال بعد قرينة تنضم إليه‬
‫يقول الشوكاني‪« :‬حكى الجويني في «شرح الرسالة» ‪ 82‬عن هشام والنظام أنه ال‬
‫يقبل خبر الواحد إال بعد قرينة تنضم إليه»‪.83‬‬
‫الخامس‪ :‬عدم قبول خبر اآلحاد إال بشروط‬
‫سيأتي الحديث عنه عند رأي الجبائي‪.‬‬

‫نسبه له ابن السبكي يف مجع اجلوامع ‪ ،137/2‬وقد ذكر أبو احلسني يف املعتمد ‪ ،622/2‬أن القايض عبد‬ ‫‪78‬‬
‫اجلبار حكى هذا القول يف الرشح عن أيب عيل اجلبائي‪ .‬اهـ‪ .‬وقد نسبه إىل اجلبائي أبو اخلطاب يف التمهيد‬
‫‪ ،75/3‬وابن احلاجب يف خمترصه ‪ ،68/2‬والصواب نسبته إىل اجلبائي كام سيأيت يف الفصل السابع‪ .‬وانظر‪:‬‬
‫رشح القرايف ص ‪ ،357‬واملسطايس ص ‪ ..103‬من هامش كتاب رفع النقاب عن تنقيح الشهاب ‪.67/5‬‬
‫حممد الرساح‪ ،‬د‪ .‬عبد الرمحن بن عبد اهلل اجلربين‪.‬‬
‫حد بن َّ‬ ‫املحقق‪ :‬د‪َ .‬أ ْ َ‬
‫انظر‪ :‬إحكام الفصول للباجي ‪ ،308/1‬وقد ذكره الشريازي يف التبرصة ص ‪ 312‬دون نسبة‪ ،‬وكذا صنع‬ ‫‪79‬‬
‫ال عن جامع األصول البن األثري ‪ ،70/1‬ونسبه املسطايس يف رشحه ص ‪103‬‬ ‫صاحب اإلهباج ‪ 360/2‬نق ً‬
‫إىل املعتزلة ولعله مصدر املؤلف‪ .‬من هامش كتاب رفع النقاب عن تنقيح الشهاب ‪ .67/5‬املحقق‪ :‬د‪.‬‬
‫حممد الرساح‪ ،‬د‪ .‬عبد الرمحن بن عبد اهلل اجلربين‪.‬‬ ‫َأ ْ َ‬
‫حد بن َّ‬
‫رفع النقاب عن تنقيح الشهاب ‪.67/5‬‬ ‫‪80‬‬
‫توضيح األفكار ملعاين تنقيح األنظار ‪.26/1‬‬ ‫‪81‬‬
‫هو أبو حممد عبد اهلل بن يوسف اجلويني‪ ،‬والد إمام احلرمني‪ ،‬أيب املعايل‪ ،‬وهو من علامء التفسري والفقه‬ ‫‪82‬‬
‫واللغة‪ ،‬تويف سنة ثامن وثالثني وأربعامئة هـ‪ .‬انظر‪ :‬تبيني كذب املفرتي «ص‪ ،»257‬ومفتاح السعادة‬
‫«‪ »325/2‬حيث ذكر من مؤلفاته «رشح الرسالة»‪ ،‬واألعالم «‪.»146/4‬‬
‫إرشاد الفحول ‪.135/1‬‬ ‫‪83‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪372‬‬
‫السادس‪ :‬عدم االحتجاج بخبر اآلحاد في العقائد وقبول االحتجاج به في األحكام‬
‫بشروط‪.‬‬
‫سيأتي الحديث عنه عند رأي القاضي عبد الجبار‪.‬‬

‫خالصة أدلة المعتزلة‪:‬‬


‫أما أدلة من َقبِله في العمليات ولم يقبله في االعتقادات‪ ،‬فألن من شروط اإليمان‬
‫قائما على اليقين‪ ،‬ال على الشوائب من الظن والتقليد‪،‬‬ ‫واالعتقاد الصحيح أن يكون ً‬
‫فاالعتقاد الصحيح يجب أن ُيس َلك فيه مسالك اليقين‪ ،‬والظن والتقليد يخالفانه‪ .‬وبناء‬
‫على ذلك فالعقائد ال ت ُْؤ َخذ إال من دليل قطعي‪ ،‬وال يجوز أن ت ُْؤ َخذ من دليل ظني‪،‬‬
‫فغير الدليل القطعي ال يصح بناء العقيدة عليه‪ ،‬ألن االعتقاد برأيهم َج ْزم ال يقبل التردد‪،‬‬
‫أصل‪ ،‬فبين األمرين‬ ‫ُ‬
‫االحتمال لم يكن اعتقا ًدا ً‬ ‫فإذا ُبنِي على ما يحتمل الخطأ مهما ّ‬
‫قل‬
‫تناقض تام‪ ،‬وأما األحكام الشرعية العملية ف ُيعمل بأحاديث اآلحاد فيها‪ ،‬باعتبارها‬
‫فرو ًعا‪ ،‬فإنه ُيكتفى بالظن الغالب في إثبات فروع األحكام الشرعية العملية‪ ،‬التي تعتمد‬
‫على اجتهادات المجتهدين واستنباطاتهم‪.‬‬
‫ُّ‬
‫يستدل بها هذا الفريق هي ذاتها األدلة التي يستدل بها الفريق الذي يرى‬ ‫واألدلة التي‬
‫عدم جواز التعبد به‪ ،‬وسأكتفي بخالصتها حتى ال يطول البحث‪.‬‬
‫ذكر األصوليون عدة أدلة لهم منها‪:‬‬
‫ف َما َل ْي َس َل َك بِ ِه ِع ْل ٌم]‪{ .‬اإلسراء آية‪.}36:‬‬ ‫[والَ َت ْق ُ‬
‫أول‪ :‬قوله تعالى‪َ :‬‬ ‫ً‬
‫وقوله تعالى‪[ :‬و َأن َت ُقو ُلو ْا َع َلى ِ‬
‫الله َما الَ َت ْع َل ُم َ‬
‫ون] {البقرة آية‪.}169:‬‬ ‫َ‬
‫[وإِ َّن ال َّظ َّن َل ُي ْغنِي ِم َن ا ْل َح ِّق َش ْي ًئا] {النجم آية‪.}28:‬‬
‫وقوله تعالى‪َ :‬‬
‫ووجه الداللة في تلك اآليات أن الظن جاء في معرض الذم وهذا يقتضي التحريم‬
‫والعمل بخبر اآلحاد عمل بغير علم‪.‬‬
‫ثان ًيا‪ :‬لو جاز التعبد به في الفروع (األحكام)؛ لجاز في األصول والعقائد وهو‬
‫خالف اإلجماع بيننا وبينكم‪ ،‬فكما ال ُيقبل في العقائد ال يقبل في األحكام‪.‬‬
‫ثال ًثا‪ :‬لم يقبل النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ خبر ذي اليدين‪ ،‬حيث توقف في خبر‬
‫‪373‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫ذي اليدين حين س َّلم النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ عن اثنتين وهو قوله‪« :‬أقصرت‬
‫الصالة أم نسيت» حتى أخبره أبو بكر وعمر ومن كان في الصف فصدقه فأتم وسجد‬
‫للسهو‪ ،‬ولو كان خبر الواحد حجة ألتم النبي صلى الله عليه وسلم من غير توقف وال‬
‫سؤال‪.‬‬
‫وجه الداللة‪ :‬حيث لم يقبل النبي خبر الواحد (ذي اليدين) بل طلب ما يؤيده ويقويه‬
‫حيث قال‪« :‬أكما يقول ذو اليدين؟ « فلما شهدوا معه بقولهم‪( :‬نعم) قبل الخبر‪.84‬‬
‫راب ًعا‪ :‬ورد عن عدد من الصحابة ر ُّد خبر اآلحاد‪ ،‬فرد أبو بكر خبر المغيرة في ميراث‬
‫الجدة حتى انضم إليه خبر محمد بن مسلمة‪ ،‬ور َّد عمر خبر أبي موسى األشعري في‬
‫علي خبر أبي سنان األشجعي في المفوضة ــ وأنه كان ال يقبل خبر‬ ‫االستئذان‪ ،‬ور َّد ٌّ‬
‫الواحد حتى يحلفه سوى أبي بكر ــ ور َّدت عائشة خبر ابن عمر في تعذيب الميت ببكاء‬
‫أهله عليه‪.85‬‬
‫خامسا‪ :‬إن الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ لم يقتصر في اإلشهاد على عقوده على‬
‫ً‬
‫اثنين‪ ،‬فدل على أن الواحد غير مقبول‪.86‬‬
‫سادسا‪ :‬قياس الخبر على الشهادة فكما أن الشهادة ال تُقبل إال من اثنين فكذلك‬
‫ً‬
‫الخبر ‪.‬‬
‫‪88 87‬‬

‫واستدلوا بأدلة عديدة تدور ك ُّلها حول نقطة واحدة هي أن كل ٍ‬


‫راو من رواة الخبر‬
‫اآلحادي غير معصوم عن الكذب‪ ،‬وال عن الخطأ ف ُيحتمل أن يكون هناك كذب في‬
‫مصدرا في الشرع‪ ،‬وأوردوا بناء على ذلك‬
‫ً‬ ‫الحديث أو خطأ‪ ،‬فال يجوز أن يكون‬
‫استدالالت من القرآن الكريم يشدون بها مذهبهم‪.‬‬

‫إحتاف ذوي البصائر ج ‪.176/ 3‬‬ ‫‪84‬‬


‫إحتاف ذوي البصائر ج ‪ .184/ 3‬إرشاد الفحول ‪ .48/‬املستصفى ج ‪ .153/ 1‬اإلحكام لآلمدي ج‪2‬‬ ‫‪85‬‬
‫‪ .60/‬املعتمد ج ‪ .604/ 2‬العدة ج ‪ .174/ 3‬خرب الواحد وحجيته ‪.254/‬‬
‫العدة ج ‪.875/ 3‬‬ ‫‪86‬‬
‫حجية خرب اآلحاد يف العقائد واألحكام ــ لـ فرحانة بنت عيل شويته ص‪.53‬‬ ‫‪87‬‬
‫انظر تفاصيله يف اإلحكام لآلمدي‪ 60/2‬فام بعدها‪ ،‬كشف األرسار‪ ،370/2‬نزهة املشتاق رشح اللمع‬ ‫‪88‬‬
‫ص‪ ،425-424:‬املعتمد أليب احلسني البرصي املعتزيل‪ ،604/2‬واملستصفى للغزايل‪ ،153/1‬املسودة‬
‫آلل تيمية ص‪ ،238:‬إرشاد الفحول للشوكاين ص‪ .49-48:‬خرب اآلحاد الشنقيطي‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪374‬‬
‫ثانياً‪ :‬موقف بعض شيوخ المعتزلة من خبر اآلحاد‬
‫واصل بن عطاء (ت ‪131‬هـ)‪:‬‬
‫رأس المعتزلة وأحد أقطابها‪ ،‬والمؤسس الحقيقي لمدرسة المعتزلة في رأي أكثر‬
‫الباحثين‪ ،‬وتكاد تجمع المصادر التاريخية على أن لواصل أكبر األثر في إرساء قواعد‬
‫االعتزال وشيوعه‪ .‬كان متمكنًا من اللغة العربية والبيان‪ ،‬ومن مختلف العلوم والفنون‪،‬‬
‫قال عنه صاحب معجم األدباء‪« :‬إنه كان متمكنًا بلي ًغا متفننًا خطي ًبا»‪ .89‬قيل عنه‪« :‬ليس‬
‫أحد أعلم بكالم غالية الشيعة‪ ،‬ومارقة الخوارج‪ ،‬وكالم الزنادقة‪ ،‬والدهرية‪ ،‬والمرجئة‪،‬‬
‫وسائر المخالفين‪ ،‬والرد عليهم منه»‪.90‬‬
‫وكان يستمد أدلته للدفاع عن مذهبه والرد على خصومه من القرآن الكريم‪ ،‬قالت‬
‫صف قدميه يصلي ولوح ودواة موضوعان بجنبه‪،‬‬ ‫عنه زوجته‪« :‬كان واصل إذا جنَّه ُ‬
‫الليل َّ‬
‫فإذا مرت عليه آية فيها رد على مخالف‪ ،‬جلس وكتبها‪ ،‬ثم عاد في صالته»‪ .91‬وهذا‬
‫يعكس صورة الزهد والتعبد عند بعض شيوخ المعتزلة‪ ،‬والتي ربما تغيب في خطاب‬
‫خصومهم عنهم بقصد إبرازهم بصورة سيئة هدفها تحريف الدين‪ ،‬بينما الحقيقة أن‬
‫هناك من كان في أعلى درجات الزهد والعبادة والصدق‪.‬‬
‫مهما في تحديد رأي وموقف واصل بن عطاء في خبر‬ ‫نصا ًّ‬ ‫ينقل القاضي عبدالجبار ًّ‬
‫اآلحاد‪ ،‬إذ ينقل قوله‪« :‬أن الحق ال يعرف إال بكتاب الله تعالى الذي ال يحتمل التأويل‪،‬‬
‫وبخبر جاء مجيء الحجة‪ ،‬وبعقل سليم»‪ .92‬وفي هذا النص نجد أن واصل قد حدَّ د‬
‫المصادر العامة لطريقة اإلنتاج المعرفي لكل من علم الكالم والفقه م ًعا‪.‬‬
‫والنص ذاته نقله أبو هالل العسكري عن الجاحظ عن واصل فقال‪« :‬الحق‬
‫ُيعرف من وجوه أربعة‪ :‬كتاب ناطق‪ ،‬وخبر مجتمع عليه‪ ،‬وحجة عقل‪ ،‬وإجماع»‪.93‬‬

‫معجم األدباء ‪.247/19‬‬ ‫‪89‬‬


‫فضل االعتزال وطبقات املعتزلة ‪.236‬‬ ‫‪90‬‬
‫فضل االعتزال وطبقات املعتزلة ‪.236‬‬ ‫‪91‬‬
‫فضل االعتزال وطبقات املعتزلة ‪.234‬‬ ‫‪92‬‬
‫األوائل للعسكري ‪ .374‬أبو هالل احلسن بن عبد اهلل بن سهل بن سعيد بن حييى بن مهران العسكري‬ ‫‪93‬‬
‫(ت ‪395‬هـ)‪ .‬طبقات املعتزلة‬
‫‪375‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫وهذه األصول األربعة هي مصادر المذهب االعتزالي التي تفيد العلم‪ ،‬فهذه وحدها‬
‫المصادر الملزمة أما ما عداها فغير ملزم‪ ،‬وقد تكون قرائن مساعدة لكنها ليست أدلة‬
‫مستقلة ملزمة‪ .‬ويقصد بالكتاب الناطق ما قاله النص الذي ال يحتمل التأويل‪ ،‬أي ما‬
‫صار يعرف بقطعي الداللة‪ ،‬وأما كان ً‬
‫قابل للتأويل فال يمكن إلزا ُم الخصم فيه‪ ،‬وهو‬
‫االختالف‪.‬‬
‫َ‬ ‫مما يقبل‬
‫و ُيقصد بالخبر المجتمع عليه‪ ،‬الذي جاء مجيء الحجة‪ ،‬أي الخبر المتواتر‪،‬‬
‫والخبر المتواتر عنده هو «كل خبر ال يمكن فيه التواطؤ والتراسل واالتفاق على غير‬
‫التواطؤ»‪ .94‬وهو تعريف قريب من تعريف األصوليين للمتواتر‪« :‬ما رواه جمع تحيل‬
‫العادة تواطؤهم على الكذب»‪.‬‬
‫أما اإلجماع فيدخل في الخبر المجتمع عليه‪ ،‬إال أن أبا هالل العسكري جعل‬
‫اإلجماع في المرتبة الرابعة‪ ،‬ولعل ما ذكره القاضي عبد الجبار أكثر دقة‪ ،‬ألن اإلجماع‬
‫من األخبار التي جاءت مجيء الحجة ويفيد القطع‪.‬‬
‫مكون من مجموعة من العلوم‬
‫وأما «حجة عقل» فالمعتزلة كانوا يرون أن العقل َّ‬
‫والمعارف األساسية الضرورية‪ ،‬التي إن اجتمعت في عقل المكلف بمجموعها تكون‬
‫ُ‬
‫اإلنسان النظر واالستدالل والحكم على األمور بمجملها‬ ‫بمثابة ملكة يستطيع بها‬
‫خيرها وشرها‪ ،‬وغير ذلك من تصاريف الحياة‪ .‬وبهذا يكون واصل بن عطاء هو أول‬
‫أص َل لألحكام العقدية من األدلة والقواعد األصولية على غرار التأصيل لألحكام‬
‫من َّ‬
‫الفقهية‪.‬‬
‫يعلق األستاذ يحيى محمد على عبارة واصل فيقول‪« :‬تصور النشار ــ في كتابه‬
‫(نشأة الفكر الفلسفي في اإلسالم)‪ 95‬ــ أن الوجوه األربعة التي أدلى بها واصل بن عطاء‬
‫حتما أصول الفقه األربعة‪ :‬القرآن والسنة والقياس واإلجماع»‪ .‬لكن الواقع‬
‫«تساوي ً‬
‫هو أن حجة العقل ال تساوي القياس الفقهي‪ .‬فمن جهة أن تلك الحجة هي أعم من‬
‫اعتبار الجانب العقلي أو االجتهادي في الطابع القياسي الفقهي‪ .‬كما من جهة أخرى‬

‫‪ 94‬فضل االعتزال وطبقات املعتزلة ‪.234‬‬


‫‪ 95‬نشأة الفكر الفلسفي يف اإلسالم ج‪1‬ص‪.395‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪376‬‬
‫أن القياس يحمل داللة االرتباط بالنص بخالف ما هو الحال في حجة العقل الذي له‬
‫داللة االستقالل‪ ،‬فأحدهما ال يعني اآلخر‪ .‬ومنه نفهم لماذا لم يرادف العلماء بينهما‪،‬‬
‫حيث وضعوا العقل كمصدر أساس للعقيدة والكالم ولم يضعوا القياس‪ ،‬ووضعوا‬
‫القياس كمصدر للفقه ولم يضعوا العقل‪ .‬وبعضهم وهو ينص على سبر أصول األدلة‬
‫م ّيز بين القياس والعقل‪ ،‬كما هو الحال مع الباقالني حيث عدد أصول األدلة وحصرها‬
‫فضل عن الكتاب‬ ‫ً‬ ‫بخمسة وذكر منها أصل العقل وكذلك أصل القياس واالجتهاد‪،‬‬
‫والسنة واإلجماع»‪.96‬‬
‫الم ِر ّ‬
‫يسي (ت ‪ 218‬هـ)‪:‬‬ ‫شر َ‬‫بِ ُ‬
‫المتكلم المناظر البارع أبو عبد الرحمن بشر بن غياث البغدادي المريسي كان‬
‫بشر من كبار الفقهاء‪ ،‬وكان من أعيان أصحاب الرأي‪ ،‬أخذ عن أبي يوسف‪ ،‬وبرع في‬
‫الفقه‪ ،‬وروى عن حماد بن سلمة‪ ،‬وسفيان بن عيينة‪ ،‬ونظر في الكالم والفلسفة‪ .97‬قال‬
‫الصيمري‪« :‬من أصحاب أبي يوسف خاصة بشر بن غياث المريسي‪ ،‬وله تصانيف‬
‫وروايات كثيرة عن أبي يوسف‪ ،‬وكان من أهل الورع والزهد‪ ،‬غير أنه ر ّغب الناس عنه‬
‫في ذلك الزمان‪ ،‬الشتهاره بعلم الكالم وخوضه في ذلك»‪ .98‬من اآلراء المنسوبة إلى‬
‫بشر المريسي ما قال ِ‬
‫الدارمي (ت ‪ 280‬هـ) في َر ِّده عليه‪« :‬زعمت أنه ال تقوم الحجة من‬
‫اآلثار الصحيحة التي تروى عن رسول الله إال كل حديث لو حلف رجل بطالق امرأته‬
‫أنه كذب لطلقت امرأته‪ .‬ثم قلت‪ :‬ولو حلف رجل بهذه اليمين على حديث لرسول الله‬
‫صحيح عنه أنه كذب ما طلقت امرأته»‪.99‬‬
‫وهذا يعني ــ إن صح نسبتُه إلى بشر ــ أنه ال تقوم عنده الحجة إال بالحديث‬
‫الذي يثبت عند المحتج به ثبوتًا تا ًّما بحيث لو حلف بطالق امرأته على أنه كذب‬
‫لحنث وطلقت امرأته‪ ،‬وأحاديث اآلحاد ال تدخل ضمن ذلك لورود الشك والظن‬
‫فيها‪.‬‬

‫موقع فهم الدين للدكتور حييى حممد ضمن موضوع «احلركة العقلية االسالمية وتطوراهتا»‪.‬‬ ‫‪96‬‬
‫سري أعالم النبالء ‪ 336/8‬ــ تاريخ اإلسالم للذهبي ‪ 283/5‬ــ وفيات األعيان البن خلكان ‪.277/1‬‬ ‫‪97‬‬
‫أخبار أيب حنيفة وأصحابه ص‪.162‬‬ ‫‪98‬‬
‫نقض الدارمي عىل املرييس‪ ،‬للدارمي ص ‪.244‬‬ ‫‪99‬‬
‫‪377‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫أبو بكر األصم (ت ‪225‬هـ)‪:‬‬


‫إبراهيم بن علية (‪ 151‬ــ ‪ 218‬هـ)‪:‬‬
‫األصم‪ :‬هو عبد الرحمن بن كيسان‪ ،‬أبو بكر األصم من أئمة المعتزلة‪ ،‬قال ابن‬
‫المرتضى‪ :‬كان من أفصح الناس وأفقههم وأورعهم‪ ،‬وقال القاضي عبد الجبار‪:‬‬
‫كان جليل القدر يكاتبه السلطان‪ .100‬وهو من أصحاب هشام بن عمرو الفوطي‪ .‬قال‬
‫منقبضا عن‬
‫ً‬ ‫صبورا على الفقر‬
‫ً‬ ‫وقورا‬
‫ً‬ ‫الذهبي‪« :‬شيخ المعتزلة أبو بكر األصم‪ ..‬كان د ِّينًا‬
‫الدولة إال أنه كان فيه ميل عن اإلمام علي»‪ .101‬وله‪ :‬تفسير‪ ،‬وكتاب الحجة والرسل‪،‬‬
‫وكتاب الحركات‪ ،‬والرد على الملحدة‪ ،‬والرد على المجوس‪ ،‬واألسماء الحسنى‪،‬‬
‫وافتراق األمة ‪.102‬‬
‫ابن علية‪ :‬هو إبراهيم بن إسماعيل بن إبراهيم بن ُم ْق ِسم‪ ،‬أبو إسحاق البصري‬
‫األسدي‪ ،‬المعروف بابن ُعلية‪ .‬من تالمذة أبو بكر األصم‪ .103‬كان أحد كبار المتكلمين‪،‬‬
‫بصري قدم مصر وسكنها‪ ،‬وجرت له مع أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي‬
‫مناظرات في بغداد ومصر»‪ .104‬قال الذهبي‪« :‬وقد ناظر الشافعي‪ ،‬وكان يقول بخلق‬
‫القرآن ويناظر عليه‪ ،‬وكان يرد خبر الواحد ويقول‪ :‬الحجة لإلجماع»‪ .105‬وكان أبوه‬
‫إسماعيل من أئمة الحديث وأحفظهم وأثبتهم‪ ،‬وكان إما ًما في الفتوى والفقه‪.106‬‬
‫وهاتان المعلومتان مهتمان فيما يخص رأيه‪ ،‬فهو ابن أحد المحدثين‪ ،‬وهذا يعني أنه‬
‫لم يكن بعيدً ا عن علم الحديث ورجاله ومدى تماسك الرواية والسند عند المحدثين‪،‬‬
‫فخالف أباه ونحا باتجاه آخر‪ ،‬كما أن تلمذته على أبي بكر األصم يعني التأثر به في هذه‬
‫ً‬
‫راسخا‬ ‫المسألة‪ ،‬وربما تأثر األصم بهشام بن عمرو من قبله‪ ،‬وهذا يعني أنه كان رأ ًيا‬
‫عند اتجاه من المعتزلة‪ ،‬أما مناظرته للشافعي فتكشف لنا جز ًءا بسي ًطا مما خفي في هذا‬

‫‪ 100‬لسان امليزان ‪ .1685‬األعالم للزركيل ‪.323/3‬‬


‫‪ 101‬سري أعالم النبالء ‪.123/8‬‬
‫‪ 102‬سري أعالم النبالء ‪.123/8‬‬
‫‪ 103‬لسان امليزان ‪ .427/3‬األعالم للزركيل ‪.32/1‬‬
‫‪ 104‬تاريخ بغداد ‪.22-20/6‬‬
‫‪ 105‬تاريخ اإلسالم ‪.264/5‬‬
‫‪ 106‬سري أعالم النبالء ‪.540-539/7‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪378‬‬
‫المسألة‪ ،‬وهو أن هناك ردود كثيرة ومناظرات مع الشافعي لكنها لم تلق نفس االهتمام‬
‫واالنتشار الذي جرى لـ«رسالة الشافعي»؛ ما ساهم في ترسيخ مدرسة واحدة‪ ،‬ظهرت‬
‫فيما بعد بمظهر اإلجماع‪ ،‬فإذا كان ابن علية قد ناظره ورد عليه باسم المعتزلة‪ ،‬فإنه‬
‫يترجح عندي أن عيسى بن أبان قد رد عليه باسم مدرسة أهل الرأي‪ ،‬ومن يتأمل أقوال‬
‫ابن أبان التي لم تصلنا بتمامها وإنما كأقوال مفرقة عند الجصاص وكتب األصول‬
‫الحنيفة يمكنه الوصول إلى أن تلك األقوال كانت ردو ًدا على أصول الشافعي‪ ،‬أو بيانًا‬
‫للمدرسة المقابلة لمدرسة الشافعي وهي مدرسة أهل الرأي‪ ،‬وسيأتي الح ًقا آراء عيسى‬
‫بن أبان عند البحث عن شروط الحنفية في خبر الواحد‪ .‬وفي السياق نفسه يمكن اعتبار‬
‫آراء النظام األصولية جز ًءا من الردود المبكرة على رسالة الشافعي ولكنها لم تصلنا‬
‫كاملة‪.‬‬
‫ورد حجية خبر الواحد عند األصم وابن علية ذكره الماوردي‪ ،107‬والسمعاني‪،108‬‬
‫وتابعهم الشوكاني‪.109‬‬
‫قال الماوردي‪ :‬إن «األصم وابن علية‪َ ..‬منَ َعا من خبر الواحد»‪ .110‬وقال السمعاني‪:‬‬
‫«وذهبت طائفة إلى منع التعبد بأخبار اآلحاد واختلفوا في المانع من التعبد به فقال‬
‫بعضهم يمنع منه ُ‬
‫العقل وذكر بعضهم أنه قول ابن علية واألصم‪ ،‬وقال القاشاني من أهل‬
‫الظاهر والشيعة يمنع من التعبد بها الشرع وإن كان جاز في العقل»‪.111‬‬
‫‪112‬‬
‫وفي المسودة آلل تيمية‪« :‬وحكى ابن برهان كقول القاساني عن النهرواني‬

‫‪ 107‬احلاوي الكبري يف فقه مذهب اإلمام الشافعي ‪.227/7‬‬


‫‪ 108‬قواعد األدلة يف األصول ‪.335/1‬‬
‫‪ 109‬إرشاد الفحول ‪.135/1‬‬
‫‪ 110‬احلاوي الكبري يف فقه مذهب اإلمام الشافعي ‪.227/7‬‬
‫‪ 111‬قواعد األدلة يف األصول ‪.335/1‬‬
‫‪ 112‬النهرواين‪ :‬نسبة إىل (هنروان) ُب َل ْيدة قديمة‪ ،‬تقع بالقرب من بغداد‪ .‬وهو‪ :‬املعاىف بن زكريا حييى بن‬
‫محيد بن محاد‪ ،‬أبو الفرج النهرواين القايض املعروف بابن طراز‪ ،‬كان يذهب إىل مذهب ُم َ َّمد بن‬
‫جرير الطربي‪ ،‬وكان من أعلم الناس يف وقته بالفقه‪ ،‬والنحو‪ ،‬واللغة‪ ،‬وأصناف األدب‪ .‬ولد سنة‬
‫معارصا البن النديم صاحب الفهرست‪ ،‬تفقه عىل مذهب ابن جرير‬ ‫ً‬ ‫‪ 305‬هـ‪ ،‬وتويف سنة ‪ 390‬هـ‪ ،‬كان‬
‫الطربي‪ .‬له يف األصول كتاب التحرير واملنقر وله ردود عىل أيب داود الظاهري والكرخي‪ .‬له ترمجة يف‬
‫(شذرات الذهب) ‪ ،134/2‬الفهرست ‪ ،328‬معجم البلدان ‪ ،355/8‬النجوم الزاهرة ‪ ،201/4‬الفتح‬
‫‪379‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫وإبراهيم بن إسماعيل بن علية»‪ .113‬وقال الشوكاني‪« :‬وحكاه الماوردي عن األصم‬


‫وابن علية وقال‪ :‬إنهما قاال ال يقبل خبر الواحد في السنن والديانات‪ ،‬ويعدل إلى غيره‬
‫من أدلة الشرع»‪.114‬‬
‫أبو الهذيل العالف (‪135‬هـ ــ ‪235‬هـ)‪:‬‬
‫محمد بن محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول العبدي‪ ،‬أبو الهذيل العالف‪:‬‬
‫من أئمة المعتزلة‪ ،‬ولد في البصرة واشتهر بعلم الكالم‪ ،‬له مقاالت في االعتزال‬
‫ومجالس ومناظرات‪ ،‬وكان حسن الجدل قوي الحجة‪ ،‬سريع الخاطر‪ ،‬كف بصره في‬
‫آخر عمره‪ ،‬وتوفي بسامرا‪ .115‬قيل عنه أنّه كان نسيج وحده‪ ،‬وعالم دهره‪ ،‬ولم يتقدّ مه‬
‫أحد من الموافقين وال من المخالفين‪ .‬ومناظراته مع المجوس والثنوية وغيرهم طويلة‬
‫‪116‬‬ ‫ممدودة‪ ،‬وكان يقطع الخصم ّ‬
‫بأقل كالم‪ ،‬يقال أنّه أسلم على يده العدد الكبير‪.‬‬
‫وأما رأيه في خبر الواحد فقد نقله عبد القاهر البغدادي في كتاب الفرق فقال‪:‬‬
‫حكما‪ ،‬ومن فوق األربعة إلى العشرين قد‬
‫ً‬ ‫«وزعم أن خبر ما دون االربعة ال يوجب‬
‫يصح وقوع العلم بخبرهم‪ ،‬وقد ال يقع العلم بخبرهم‪ ،‬وخبر العشرين إذا كان فيهم‬
‫واحد من أهل الجنة يجب وقوع العلم منه ال محالة»‪.117‬‬
‫قال عبد القاهر‪« :‬ما أراد ابو الهذيل باعتباره عشرين في الحجة من جهة الخبر إذا‬
‫كان فيهم واحد من أهل الجنة إال تعطيل األخبار الواردة في األحكام الشرعية عن‬
‫فوائدها»‪ .118‬ونقله كذلك نشوان الحميري فقال‪« :‬وقال أبو الهذيل العالف‪ :‬الحجة في‬
‫الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشهادة عشرين ً‬
‫رجل من أهل العدالة»‪.119‬‬

‫املبني ‪ .211/1‬انظر ترمجته يف‪ :‬البداية والنهاية (‪ )328/11‬وتاريخ بغداد (‪ )230/13‬وتذكرة احلفاظ‬
‫(‪ )1010/3‬وشذرات الذهب (‪ )134/3‬وطبقات احلفاظ ص (‪ )400‬واللباب (‪.)373/3‬‬
‫‪ 113‬املسودة ص‪.238‬‬
‫‪ 114‬إرشاد الفحول ‪.135/1‬‬
‫‪ 115‬األعالم للزركيل ‪.130/7‬‬
‫‪ 116‬انظر فهرست ابن النديم ص ‪ 225‬ـ ‪ ،226‬املنية واألمل ص ‪ 26‬ـ ‪.27‬‬
‫‪ 117‬الفرق بني الفرق ‪.110‬‬
‫‪ 118‬الفرق بني الفرق ‪.110‬‬
‫‪ 119‬احلور العني ص ‪.327‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪380‬‬
‫خبر اآلحاد كحجة ملزمة‪ ،‬وال حجة‬
‫وهذا يعني ــ إن صح عنه ــ أنه كان ال يعتمد َ‬
‫عنده إال فيما يشهد فيه عشرون ً‬
‫رجل من أهل العدالة‪.‬‬
‫أبو إسحاق الن ّظام (ت ‪231‬هـ)‬
‫إبراهيم بن سيار بن هانئ البصري‪ ،‬أبو إسحاق الن ّظام‪ :‬من أئمة المعتزلة‪ ،‬أستاذ‬
‫الجاحظ وتلميذ أبي الهذيل العالف وابن أخته‪ ،‬تبحر في علوم الفلسفة واطلع على‬
‫أكثر ما كتبه رجالها من طبيعيين وإلهيين‪ ،‬وانفرد بآراء خاصة تابعته فيها فرقة من‬
‫المعتزلة سميت (النظامية) نسب ًة إليه‪ُ .120‬يعد الن ّظا ُم أحدَ رؤوس المعتزلة وأوسعهم‬
‫متكلما قال عنه تلميذه الجاحظ‪:‬‬
‫ً‬ ‫فقيها أصول ًّيا ً‬
‫جدل‬ ‫شاعرا ً‬ ‫ً‬ ‫ثقاف ًة وأحدهم ذكاء‪ ،‬كان‬
‫أمورا‪ ،‬واختصر لهم أبوا ًبا ظهرت‬
‫سبل‪ ،‬وفتق لهم ً‬ ‫«إنه قد أنهج لهم ــ أي المعتزلة ــ ً‬
‫فيها المنفعة‪ ،‬وشملتهم بها النعمة»‪ .121‬وقال عنه‪« :‬ما رأيت أعلم بالكالم والفقه من‬
‫الن ّظام»‪ .122‬قال الشريف المرتضى‪« :‬كان مقدّ ًما في علم الكالم‪ ،‬حسن الخاطر‪ ،‬شديد‬
‫التدقيق والغوص على المعاني»‪.123‬‬
‫يقول الخياط‪« :‬ولقد أخبرني عدّ ة من أصحابنا أن إبراهيم قال وهو يجود بنفسه‪:‬‬
‫أقصر في نصرة توحيدك ولم أعتقد مذه ًبا من المذاهب‬ ‫اللهم إن كنت تعلم أني لم ّ‬
‫اللطيفة ّإل ألشد به التوحيد‪ ،‬فما كان منها يخالف التوحيد فأنا منه بريء‪ ...‬فاغفر لي‬
‫علي سكرة الموت»‪.124‬‬‫وسهل ّ‬
‫ذنوبي ّ‬
‫أطلت الحديث في ترجمته ً‬
‫قليل ألنه ربما الشخصية األكثر من بين المعتزلة‬ ‫ُ‬ ‫وقد‬
‫كثيرا واتهامات عدة‪ ،‬يعود ذلك الجتهاده في كثير من القضايا‬ ‫ممن القى هجو ًما ً‬
‫وخروجه عما كان سائدً ا‪ ،‬وبرغم كثرة تأليفه إال أنه له يصل منها شيء‪ ،‬وهذا جزء‬
‫من اغتيال شخصيته‪ .‬وقد حفظ لنا التاريخ بعض أسماء كتبه منها‪ :‬كتاب في التوحيد‪،‬‬
‫وكتاب المعالم‪ ،‬وكتاب الثنوية وفيه رد على الثنوية‪ ،‬ونقض كتاب أرسطو‪ ،‬وكتاب‬

‫‪ 120‬األعالم للزركيل ‪.43/1‬‬


‫‪ 121‬احليوان ‪.360/4‬‬
‫‪ 122‬فضل االعتزال وطبقات املعتزلة ‪.264‬‬
‫‪ 123‬أمايل املرتىض ‪.187/1‬‬
‫‪ 124‬انظر االنتصار ‪ ،42،41‬وفضل االعتزال وطبقات املعتزلة ص‪.264‬‬
‫‪381‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫النكت‪ ،‬وكتاب الجزء ويبدو أنه نقض فيه نظرية الجزء للعالف‪ ،‬وهناك كتب في‬
‫الفلسفة الطبيعية وردت في كتاب الحيوان للجاحظ‪ ،‬وعدَّ له ابن النديم حوالي (‪)٣٨‬‬
‫كتا ًبا ‪.125‬‬
‫وأما رأيه في خبر الواحد فذكره أبو الحسين البصري في المعتمد فقال‪« :‬قال أكثر‬
‫الناس إنه ال يقتضي العلم‪ ،‬وقال آخرون يقتضيه‪ ،‬واختلف هؤالء فلم يشرط قوم من‬
‫أهل الظاهر اقتران قرينة بالخبر‪ ،‬وشرط أبو إسحاق الن ّظام في اقتضاء الخبر العلم‬
‫أيضا»‪ .126‬وقال‪« :‬ومنها إبطالهم مذهب‬‫اقتران قرائن به‪ ،‬وقيل إنه شرط ذلك في التواتر ً‬
‫الن ّظام ألنه لو وقف حصول العلم بالمخبر عنه على قرائن لم يمتنع أن يخبر المتواترون‬
‫رجل ً‬
‫عاقل بمكة وال يقترن بخبرهم هذه القرائن فال نعرفها وهذا إنما يفيد مذهب أبي‬ ‫ً‬
‫إسحاق في اشتراط القرائن في وقوع العلم باألخبار المتواترة‪ ،‬ولعل أبا إسحاق عنى‬
‫بالقرائن باألخبار المتواترة ما ال ينفك منها نحو امتناع اتفاق الكذب منهم‪ ،‬وأن ال يصح‬
‫فيهم التواطؤ فال يلزمه أن ال يعلم بعض العقالء أن في الدنيا مكة»‪.127‬‬
‫فالن ّظام اشترط في خبر الواحد أن يقترن بقرائن حتى يفيد العلم‪ ،‬والسؤال المطروح‪:‬‬
‫أليس هذا هو رأي الجمهور فلماذا إذن أفردوه بالقول؟ وهل يتناسب هذا الكالم مع‬
‫أيضا؟ وهل يتسق مع ما نسب إليه من إنكار لحجية‬ ‫اشتراطه القرائن في المتواتر ً‬
‫اإلجماع وإنكار التعبد بالقياس؟‬
‫قبل محاولة اإلجابة على هذه األسئلة سأذكر ما قاله األصوليون من رأيه في األخبار‪.‬‬
‫قال أبو يعلى‪« :‬وقال إبراهيم الن ّظام‪ :‬خبر الواحد يجوز أن يوجب العلم الضروري إذا‬
‫«وحكي عن إبراهيم الن ّظام‪ :‬أن اإلجماع ليس بحجة‪ ،‬وأنه يجوز‬‫قارنه أمارة» ‪ .‬وقال‪ُ :‬‬
‫‪128‬‬

‫اجتماع األمة على الخطأ»‪.129‬‬

‫‪ 125‬انظر الفكر األصويل عند املعتزلة ص ‪ 24‬وما بعدها ل مليكة خثريي‪.‬‬


‫‪ 126‬املعتمد ‪.92/2‬‬
‫‪ 127‬املعتمد ‪.93/2‬‬
‫‪ 128‬العدة ‪.901/3‬‬
‫‪ 129‬العدة ‪.1064/4‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪382‬‬
‫وقال التهانوني‪« :‬وذهب قوم منهم الن ّظام من المعتزلة‪ ،‬وأبو عبد الله الثلجي‪ 130‬من‬
‫يترجح‬
‫فإن جانب الصدق ّ‬ ‫الفقهاء إلى أنه ــ أي الخبر المتواتر ــ يوجب علم طمأنينة‪ّ ،‬‬
‫فيه بحيث يطمئن إليه القلوب فوق ما يطمئن بالظ ّن‪ ،‬ولكن ال ينتفي عنه توهم الكذب‬
‫والغلط‪ ،‬واتفق جمهور العقالء على أنه يوجب علم اليقين»‪.131‬‬
‫يدل على الصدق‪ .‬قال األستاذ أبو منصور‪ :‬وزعم‬ ‫«إن التواتر ُّ‬
‫وقال الزركشي‪َّ :‬‬
‫النَّ َّظا ُم وأتبا ُعه من القدرية أنه قد يكون كذ ًبا‪ ،‬وأن الحجة فيما غاب عن الحواس ال‬
‫يثبت إال بالخبر الذي يضطر سام ُعه إلى أنه صدق‪ ،‬سواء أخبر به جمع أو واحد‪ .‬وأجاز‬
‫إجماع أهل التواتر على الكذب‪ ،‬وأن يكون العلم الضروري واق ًعا بخبر الواحد‪ ،‬وهو‬
‫باطل»‪ .132‬ثم قال الزركشي‪« :‬خبر الواحد المحفوف بالقرائن‪ :‬ذهب النظام‪ ،‬وإمام‬
‫الحرمين‪ ،‬والغزالي إلى أنه يفيد العلم القطعي‪ ،‬واختاره الرازي‪ ،‬واآلمدي‪ ،‬وابن‬
‫الحاجب‪ ،‬والبيضاوي‪ ،‬والهندي‪ ،‬وغيرهم‪ ،‬وهو المختار‪ .‬ويكون العمل ناش ًئا عن‬
‫المجموع من القرينة والخبر‪ ،‬وذهب الباقون إلى أنه ال يفيد»‪.133‬‬
‫فإذا كان الن ّظام يشترط في المتواتر أن تح ّفه القرائن حتى يفيد العلم وهو موقف‬
‫متشدد في األخبار‪ ،‬فكيف يجعل ذلك مساو ًيا لخبر الواحد ويجعله مفيدً ا للعلم إن‬
‫اقترنت به القرائن؟!‬
‫إن الرؤية األقرب لما يراه النظام تجاه خبر الواحد أنه يتحدث عن القرائن لقبوله‬
‫في العمل‪ ،‬ال إلفادته العلم‪ ،‬إذ يشترط القرائن في المتواتر كي يفيد العلم‪ ،‬ويشترط‬
‫في اآلحاد القرائن كي يقبل ويعمل به على أساس الظن الغالب‪ ،‬وربما كانت عبارة‬
‫الشوكاني معبرة عن هذا المعنى‪ ،‬يقول الشوكاني‪« :‬حكى الجويني في «شرح‬

‫‪ 130‬هو حممد بن شجاع ابن الثلجي البغدادي‪ ،‬أبو عبد اهلل‪ .‬ولد عام ‪ 181‬هـ‪ 797/‬م‪ .‬وتويف عام ‪266‬‬
‫هـ‪ 880/‬م‪ .‬فقيه العراق يف وقته‪ .‬من أصحاب أيب حنيفة كان يميل إىل االعتزال‪ .‬له عدة كتب هامة‪.‬‬
‫االعالم ‪ ،157/6‬تذكرة احلفاظ ‪ ،184/2‬التهذيب ‪ ،220/9‬اجلواهر املضية ‪ ،60/2‬ميزان االعتدال ‪،71/3‬‬
‫تاريخ بغداد ‪ ،350/5‬الوايف بالوفيات ‪.148/3‬‬
‫‪ 131‬موسوعة كشاف اصطالحات الفنون والعلوم ‪.512/1‬‬
‫‪ 132‬البحر املحيط ‪.103/6‬‬
‫‪133‬البحر املحيط ‪.116/6‬‬
‫‪383‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫الرسالة»‪ 134‬عن هشام والنظام أنه ال يقبل خبر الواحد إال بعد قرينة تنضم إليه»‪ .135‬وهذا‬
‫هو األكثر اتسا ًق ًا مع بقية آرائه وإفراد األصوليين لقوله في خبر الواحد‪.‬‬
‫وأما هشام الذي ذكره الشوكاني فهو أبو محمد هشام بن عمرو الفوطي المعتزلي‬
‫الكوفي (ت ‪230‬هـ) أحد شيوخ المعتزلة في القرن الثالث الهجري‪ ،‬كان صاحب ذكاء‬
‫وجدال‪ ،‬وإليه نسبة الطائفة (الهشامية) من المعتزلة‪ .136‬من أصحاب أبي الهذيل ثم‬
‫عدل عنه‪ ،‬ولما إليه ما نسب للنظام عرفنا أن المقصود ليس الرأي الموافق للجمهور‬
‫وإنما شرط اقتران القرائن لقبول خبر الواحد وليس إلفادته العلم‪.‬‬
‫كثيرا من فكر‬
‫فكره ً‬
‫يؤكد هذه الرؤية مصدر من خارج كتب األصول السنية‪ ،‬يقترب ُ‬
‫المعتزلة‪ ،‬وهو القاضي والمؤرخ واللغوي اليمني نشوان بن سعيد الحميري في كتابه‬
‫نصوصا كثيرة عن النظام رواها من كتب الجاحظ التي لم‬
‫ً‬ ‫«الحور العين»‪ ،‬حيث نقل‬
‫تصلنا‪ ،‬من خاللها نفهم كيف كان النظام يتعامل مع روايات اآلحاد إن خالفت القرآن‬
‫أو العقل‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬عن أبي إسحاق إبراهيم بن‬ ‫ُ‬
‫الجاحظ في كتاب األخبار ً‬ ‫قال نشوان‪« :‬روى‬
‫سيار الن ّظام‪ ،‬أنه قال في األخبار المروية عن رسول الله ــ صلى الله عليه وسلم‪:-‬‬
‫«وكيف يجيز السامع صدق المخبر‪ ،‬إذا كان ال يضطره خبره‪ ،‬ولم يكن معه علم يدل‬
‫على صدق غيبه‪ ،‬وال شاهد قياس يصدقه‪ ،‬وكون الكذب غير مستحيل منه مع كثرة‬
‫العلل التي يكذب الناس لها ودقة حيلهم فيها‪ ،‬ولو كان الصادق عند الله ال يكذب‪،‬‬
‫واألمين ال يخون‪ ،‬والثقة ال ينسى‪ ،‬والوفي ال يغدر‪ ،‬لطابت المعيشة‪ ،‬ولسلموا من سوء‬
‫العاقبة‪ .‬وكيف نأمن كذب الصادق‪ ،‬وخيانة األمين‪ ،‬وقد ترى الفقيه يكذب في الحديث‪،‬‬
‫ويد ّلس في اإلسناد‪ ،‬ويدَّ عي لقاء من لم يبلغه‪ ،‬ومن غريب الخبر ما لم يسمعه‪ ،‬ثم ال‬
‫يرى أن يرجع عن ذلك في مرضه قبل أن تغرغر نفسه وقد أيقن بالموت‪ ،‬وأشفى ــ‬

‫‪ 134‬هو أبو حممد عبد اهلل بن يوسف اجلويني‪ ،‬والد إمام احلرمني‪ ،‬أيب املعايل‪ ،‬وهو من علامء التفسري والفقه‬
‫واللغة‪ ،‬تويف سنة ثامن وثالثني وأربعامئة هـ‪ .‬انظر‪ :‬تبيني كذب املفرتي «ص‪ ،»257‬ومفتاح السعادة‬
‫«‪ »325/2‬حيث ذكر من مؤلفاته «رشح الرسالة»‪ ،‬واألعالم «‪.»146/4‬‬
‫‪135‬إرشاد الفحول ‪.135/1‬‬
‫‪136‬الوايف بالوفيات ‪.211/27‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪384‬‬
‫أشرف ــ على حفرته بعد طول إصراره‪ ،‬والتمتُّع بالرياسة في حياته‪ ،‬وأكل أموال الناس‬
‫أن الفقهاء والمحدّ ثين والرواة والصلحاء المرضيين‪ ،‬يكذبون في األخبار‪،‬‬ ‫به‪ .‬ولوال َّ‬
‫ويغلطون في اآلثار‪ ،‬لما تناقضت آثارهم‪ ،‬وال تدافعت أخبارهم‪ ،‬قالوا‪ :‬ولو وجب‬
‫علينا تصديق المحدّ ث اليوم لظاهر عدالته‪ ،‬لوجب علينا تصديق مثله‪ ،‬وإن روى ضدَّ‬
‫روايته‪ ،‬وخالف خبره‪ ،‬وإذا نحن قد وجب علينا تصديق المتناقض‪ ،‬وتصحيح الفاسد‪،‬‬
‫خاص ًا في بعض دون بعض!»‪.137‬‬
‫ألن الغلط في األخبار‪ ،‬والكذب في اآلثار‪ ،‬لم نجده َّ‬ ‫َّ‬
‫وقال‪« :‬قال إبراهيم‪ :‬وكيف ال يغلطون‪ ،‬وال يكذبون‪ ،‬وال يجهلون‪ ،‬والذين رووا‬
‫منهم أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال‪( :‬ال عدوى وال طيرة)‪ ،‬وأنه قال‪( :‬فمن‬
‫أعدى األول؟)‪ ،‬هم الذين رووا أن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ قال‪( :‬فر من المجذوم‬
‫فرارك من األسد)‪ ،‬وأتاه رجل مجذوم ليبايعه بيعة اإلسالم‪ ،‬فأرسل إليه من بايعه مخافة‬
‫إعدائه»‪ .138‬ثم ذكر أمثلة كثيرة ألحاديث منها ما يعارض بعضها‪ ،‬ومنها ما يتعارض مع‬
‫القرآن‪ .‬ومثال ذلك‪« :‬قال ــ إبراهيم‪ :-‬وتلوا علينا قول الله عز وجل‪« :‬أال تزر وازرة‬
‫وزر أخرى»‪ ،‬ثم رووا أن ولد الزنا شر الثالثة‪ ،‬وأن المعول عليه ــ أي الميت ــ يعذب‬
‫بعويل أهله»‪ .139‬وقال‪« :‬قال إبراهيم‪ :‬ثم يتحدث فقيهم بمثل هذه األحاديث‪ ،‬ويخبر‬
‫بمثل هذه األخبار‪ ،‬ويشهد على الله عز وجل بمثل هذه الشهادة‪ ،‬وهو غير محتفل‬
‫ٍ‬
‫مستح منه»‪.140‬‬ ‫بذلك وال‬
‫النبي‬
‫السنّور على الكلب‪ ،‬ورويتم أن ّ‬ ‫ونقل الجاحظ‪« :‬قال إبراهيم النّ ّظام‪ :‬قدّ متم ّ‬
‫صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكالب واستحياء السنانير وتقريبها وتربيتها‪ ،‬كقوله عند‬
‫السنّور إنّما هي أكل الفأر‬ ‫مسألته عنها‪( :‬إنّه ّن من ال ّط ّوافات عليكم) ‪ّ .141‬‬
‫وكل منفعة عند ّ‬
‫فقط‪ ،‬وعلى أنّكم ق ّلما تجدون سنّورا يطلب الفأر‪ ،‬فإن كان مما يطلب ويأكل الفأر‪ ،‬لم‬
‫يتلهى بها أوالدكم‪ ،‬والطائر يتّخذ‬
‫يعدمكم أن يأكل حمامكم وفراخكم والعصافير التي ّ‬

‫‪ 137‬احلور العني ص ‪ 284‬ــ ‪.285‬‬


‫‪ 138‬احلور العني ص ‪.285‬‬
‫‪139‬احلور العني ص ‪.287‬‬
‫‪ 140‬احلور العني ص ‪.289‬‬
‫‪ 141‬أخرجه أبو داود يف الطهارة ‪ ،19/1‬والرتمذي يف الطهارة ‪ ،154/1‬وأمحد يف املسند ‪.296/5‬‬
‫‪385‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫عف عن‬‫لحسنه وحسن صوته‪ .‬والذي البدّ منه الوثوب على صغار الفراريج‪ .‬فإن هو ّ‬
‫يعف عن أموال جيرانكم‪ ،‬ومنافع الكلب ال يحصيها ال ّطوامير‪ّ .‬‬
‫والسنّور مع‬ ‫أموالكم لم ّ‬
‫ذلك يأكل األوزاغ والعقارب‪ ،‬والخنافيس‪ ،‬وبنات وردان‪ ،‬والح ّيات‪ّ ،‬‬
‫ودخاالت اآلذان‬
‫ثم قلتم في سؤر‬
‫وكل شيء تعافه النفس‪ّ .‬‬ ‫سم‪ّ ،‬‬‫وكل ذات ّ‬‫وكل خبيثة ّ‬
‫والفأر والجرذان‪ّ ،‬‬
‫ثم لم ترضوا به حتّى أضفتموه إلى نب ّيكم ــ صلى الله‬
‫السنّور وسؤر الكلب ما قلتم‪ّ .‬‬
‫ّ‬
‫‪142‬‬
‫عليه وسلم‪. »!-‬‬
‫وهذا ما جعل ابن قتيبة يرد عليه ثم يقول‪« :‬فهذه أقاويل النَّ ّظام قد ب َّيناها وأجبناه‬
‫عنها‪ ،‬وله أقاويل في أحاديث يدَّ عي عليها أنَّها مناقضة للكتاب وأحاديث يستبشعها‬
‫حجة العقل قد تنسخ األخبار‪ ،‬وأحاديث ينقض‬ ‫أن جهة َّ‬ ‫حجة العقل‪ ،‬وذكر َّ‬ ‫من جهة َّ‬
‫بعضها بعضا»‪.143‬‬
‫وأهم نص نقله نشوان عن الن ّظام وربما هو القول الفصل في المسألة‪ً ،‬‬
‫نظرا لطبيعة‬
‫الناقل عنه‪ ،‬ونظر ًا لطبيعة النقل التي جاءت من كتب الجاحظ التي لم تصلنا‪ ،‬يقول‬
‫نشوان‪« :‬قال النظام‪ :‬ال تعقل الحجة عند االختالف من بعد النبي ــ صلى الله عليه‬
‫وسلم ــ إال من ثالثة أوجه‪:‬‬
‫ ‪-‬من نص تنزيل ال ُيعارض بالتأويل‪.‬‬
‫ ‪-‬أو من إجماع األمة على نقل خبر واحد ال تناقض فيه‪.‬‬
‫ ‪-‬أو من جهة العقل وضرورته‪.‬‬
‫وبقوله‪ :‬قال أكثر المعتزلة»‪.144‬‬
‫خصوصا‪ ،‬وهو‬‫ً‬ ‫وهذا النص هو األقرب لمنهج المعتزلة عمو ًما‪ ،‬ولشخصية النظام‬
‫يشابه أو يطابق قول واصل بن عطاء فيما يكون حجة‪ ،‬مع تغيير صيغة التواتر بصيغة‬
‫اإلجماع‪ ،‬ويستفاد من كالمه أن ما كان ظن ًّيا في داللته فهو غير ملزم‪ ،‬وما كان ظن ًّيا في‬
‫ثبوته كخبر الواحد فهو غير ملزم وال حجة‪.‬‬

‫‪ 142‬احليوان ‪.332/2‬‬
‫‪ 143‬تأويل خمتلف احلديث ص ‪.93‬‬
‫‪ 144‬احلور العني ص ‪.327‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪386‬‬
‫الجاحظ (ت ‪255‬هـ)‪:‬‬
‫أبو عثمان عمرو بن بحر الليثي الكناني البصري المعروف بالجاحظ (‪159‬‬
‫هـ‪ 255-‬هـ) أديب ومتكلم معتزلي‪ ،‬العالمة المتبحر‪ ،‬ذو الفنون‪ ،‬أخذ عن النظام‪،‬‬
‫كان من بحور العلم‪ ،‬وتصانيفه كثيرة جدا‪ .‬قيل‪ :‬لم يقع بيده كتاب قط إال استوفى‬
‫قراءته‪ ،‬حتى إنه كان يكتري دكاكين الكتبيين‪ ،‬ويبيت فيها للمطالعة‪ ،‬وكان باقعة‬
‫في قوة الحفظ‪ .145‬قال القاضي‪« :‬إنّه نسيج وحده في العلوم‪ ،‬ألنّه جمع إلى علم‬
‫الكالم والفصاحة‪ ،‬العلم باألخبار واألشعار والفقه وتأويل الكالم وهو متقدّ م في‬
‫النبوة ونظم القرآن وحدثه‪ ،‬وفي فضائل‬
‫الجدّ والهزل‪ ،‬وله كتب في التوحيد وإثبات ّ‬
‫المعتزلة» ‪.146‬‬
‫ُعرف الجاحظ كأديب كبير ولكن الجانب األصولي في شخصيته لم يأخذ حظه‬
‫نظرا إلى أن كتبه‬
‫من البحث‪ ،‬تأتي أهمية دراسة موقف الجاحظ من حجية خبر اآلحاد؛ ً‬
‫هي أول ما وصلنا من تراث المعتزلة في القرن الثالث‪ ،‬ولغياب المصادر األصولية التي‬
‫كتبت في القرن الثالث عمو ًما ــ باستثناء رسالة الشافعي ــ بالرغم من معرفتنا ببعض‬
‫حاضرا في المصادر األصولية‬
‫ً‬ ‫عناوين الكتب التي لم تصلنا‪ ،‬وألن الجاحظ لم يكن‬
‫على قدر آرائه األصولية!‬
‫مؤلفات الجاحظ منها ما وصلنا ومنها ما لم يصلنا‪ ،‬وما وصلنا هو بعض مؤلفاته‬
‫األدبية‪ ،‬أما مؤلفاته األصولية والكالمية فلم تصلنا‪ ،‬وإنما وصلنا عناوين بعضها من‬
‫كتابات أخرى‪ ،‬ككتاب «الحور العين» لنشوان الحميري‪ ،‬الذي ذكر فيه ً‬
‫أقوال للجاحظ‬
‫كانت مدونة في كتاب له بعنوان «األخبار»‪ ،‬وكذلك كتاب «خبر الواحد»‪ ،‬الذي نسبه‬
‫الباقالني إلى الجاحظ في كتابه «إعجاز القرآن»‪ .‬وللجاحظ كتاب في «أصول الفتيا‬
‫واألحكام» ذكره في كتابيه «الحيوان» و»الرسائل»‪ .‬يقول الجاحظ في «الحيوان»‪:‬‬
‫«وع ْبت كتابي في خلق القرآن كما عبت كتابي في الرد على المشبهة‪ ،‬وعبت كتابي‬ ‫ِ‬
‫في أصول الفتيا واألحكام‪ ،‬كما عبت كتابي في االحتجاج لنظم القرآن»‪ ،147‬ويقول في‬

‫‪ 145‬سري أعالم النبالء ‪.413/9‬‬


‫‪ 146‬فضل االعتزال ‪.275‬‬
‫‪ 147‬احليوان ‪.9/1‬‬
‫‪387‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫«الرسائل»‪« :‬وعندي ــ أبقاك الله ــ كتاب جامع الختالف الناس في أصول الفتيا التي‬
‫عليها اختلفت الفروع وتضادت األحكام»‪.148‬‬
‫وما يهمنا في هذا المبحث هو موقف الجاحظ من حجية حديث اآلحاد‪ ،‬ومع غياب‬
‫كتبه األصولية إال أن له آراء أصولية متفرقة في كتبه التي وصلت إليها منها‪:‬‬
‫يقول الجاحظ‪« :‬الشيء ال يحرم ّإل من جهة كتاب‪ ،‬أو إجماع‪ ،‬أو حجة عقل‪ ،‬أو من‬
‫عز ّ‬
‫وجل‪ ،‬أو إجماع»‪ .149‬وقال‪« :‬وال حجة إال في‬ ‫جهة القياس على أصل في كتاب الله ّ‬
‫عقل‪ ،‬أو في كتاب‪ ،‬أو خبر»‪ .150‬وقال‪« :‬إنما يعرف الحالل والحرام بالكتاب الناطق‪،‬‬
‫والسنة المجمع عليها‪ ،‬والعقول الصحيحة‪ ،‬والمقاييس المصيبة»‪.151‬‬
‫والمالحظ أن هذه النصوص تتشابه تما ًما مع ما قاله أستا ُذه الن ّظام‪ ،‬وكذلك ما قاله‬
‫شيخ المعتزلة األول واصل بن عطاء‪ ،‬فكلها تؤكد على أن الملزم والحجة هو‪:‬‬
‫ ‪-‬كتاب ناطق‪ ،‬أي واضح الداللة‬
‫ ‪-‬وسنة مجمع عليها‪ ،‬أي متواترة بجمع كبير‪.‬‬
‫ ‪-‬وعقل صحيح‪.‬‬
‫ ‪-‬وقياس مصيب إما على أصل في الكتاب أو اإلجماع‪.‬‬
‫وهذا الموقف للجاحظ وللمعتزلة عمو ًما جاء في مواجهة موقف تضخيم الحديث‬
‫والمبالغة في حجيته عند أهل الحديث‪ ،‬من خالل االعتماد على النص القرآني ليكون‬
‫هو المصدر األساس للدين‪.‬‬
‫وفي كالم تفصيلي أكثر عن الخبر المتواتر بشكل عام يقول الجاحظ‪« :‬واعلم أن‬
‫ٍ‬
‫وجوه ثالثة ال رابع لها‪ ،‬وال سبيل لك‬ ‫ٍ‬
‫بغائب‪ ،‬كائنًا ما كان‪ ،‬إنما يصاب من‬ ‫كل عل ٍم‬
‫غيرك مما‬
‫وال لغيرك إلى غاية اإلحاطات؛ الستئثار الله بها‪ ..‬فما غاب عنك مما قد رآه ُ‬
‫والعدو‪ ،‬والصالح‬
‫ُّ‬ ‫الولي‬
‫ُّ‬ ‫يدرك بالعيان‪ ،‬فسبيل العلم به األخبار المتواترة‪ ،‬التي يحملها‬

‫‪ 148‬الرسائل ‪.314/1‬‬
‫‪ 149‬احليوان ‪.360/6‬‬
‫‪ 150‬رسائل اجلاحظ ‪.42/4‬‬
‫‪ 151‬رسائل اجلاحظ ‪.277/4‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪388‬‬
‫والطالح‪ ،‬المستفيضة في الناس‪ ،‬فتلك ال كلفة على سامعها من العلم بتصديقها‪ .‬فهذا‬
‫أخص من هذا إال‬
‫ُّ‬ ‫خبر‬ ‫‪152‬‬
‫الوجه يستوي فيه العالم والجاهل» ‪ .‬ويقول‪« :‬وقد يجيء ٌ‬
‫خبرا‪ ،‬ومثلك يحيط علمه‬ ‫أنه ال ُيعرف إال بالسؤال عنه‪ ،‬والمفاجأة ألهله‪ ،‬كقوم نقلوا ً‬
‫تفاوت أحوالهم‪ ،‬وتباعدهم من التعارف‪ ،‬ال يمكن في مثله التواطؤ وإن‬ ‫أن مثلهم في ُ‬
‫جهل ذلك أكثر الناس‪ .‬وفي مثل هذا الخبر يمتنع الكذب‪ ،‬وال يته َّيأ االتفاق فيه على‬
‫الباطل»‪.153‬‬
‫أخص من هذا‪ ،‬يحمله‬ ‫ُّ‬ ‫خبر‬
‫ويتحدث الجاحظ عن خبر اآلحاد فيقول‪« :‬وقد يجيء ٌ‬
‫الرجل والرجالن ممن يجوز أن َيصدق ويجوز أن يكذب‪ ،‬فصدق هذا الخبر في قلبك‬
‫إنما هو بحسن الظن بالمخبر‪ ،‬والثقة بعدالته‪ .‬ولن يقوم هذا الخبر من قلبك وال قلب‬
‫غيرك مقام الخبرين األولين أبدً ا‪ .‬ولو كان ذلك كذلك بطل التصنع بالدِّ ين واستوى‬
‫الظاهر والباطن من العالمين‪ .‬ولما أن كان موجو ًدا في العقول أنه قد يفتش بعض‬
‫كذب‪ ،‬وأن مثل الخبرين األولين لم يتعقب‬‫ٍ‬ ‫خيانة‪ ،‬وبعض الصادقين عن‬ ‫ٍ‬ ‫األمناء عن‬
‫الناس في مثلهما كذ ًبا ُّ‬
‫قط‪ ،‬علم أن الخبر إذا جاء من مثلهما جاء مجيء اليقين‪ ،‬وأن ما‬
‫علم من خبر الواحد فإنما هو بحسن الظن واالئتمان»‪.154‬‬
‫أما كالم الجاحظ بشكل خاص عن األخبار الدينية فيقول‪« :‬الحديث قد يحتمله‬
‫مستفيضا شائ ًعا قد نقل عن‬
‫ً‬ ‫الرجل الواحد الثقة عن مثله‪ ،‬فيكون شا ًّذا‪ ،‬ما لم يكن‬
‫المستفيض الشائع‪ .‬وقد يكون الحديث يحتمله الرجالن والثالث ُة وهم ضعفاء عند‬
‫الحديث ضعي ًفا لضعف ناقليه‪ ،‬وال يسمونه شا ًّذا‪ ،‬إذا كان قد جاء من‬
‫ُ‬ ‫أهل األثر فيكون‬
‫ثالثة أوجه‪ ،‬وإنما الحجة في المجيء الذي يمتنع فيه العمد واالتفاق‪ .‬وهذا الجنس من‬
‫الخبر هو اإلجماع‪.‬‬
‫وليس يكون الخبر إجما ًعا من قبل كثرة عدد الناقلين‪ ،‬وال من قبل عدالة المحدثين‪،‬‬
‫وإنما هو العدد الذي نعلم أنهم لم يتالقوا ولم يتراسلوا وال تتفق ألسنتهم على خبر‬
‫موضوع‪ ،‬مع اختالف عللهم وأسبابهم‪ ،‬ثم يكون معلو ًما عند سامع ذلك الخبر من‬

‫‪ 152‬الرسائل ‪.119/1‬‬
‫‪153‬الرسائل ‪.119/1‬‬
‫‪ 154‬الرسائل ‪.120/1‬‬
‫‪389‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫ذلك العدد‪ ،‬أنهم قد نقلوه عن مثلهم في مثل أسبابهم وعللهم‪ .‬فإذا كان معلو ًما أن‬
‫فرعه كأصله كان ذلك موج ًبا لليقين وناف ًيا لعرو الشك واسترابة التقليد»‪ .155‬فالجاحظ‬
‫هنا ال يشترط في المتواتر عدالة المخبرين كما عند المحدثين‪ ،‬وال يشترط أن يكون‬
‫كبيرا‪ ،‬وإنما شرطه المحوري استحالة اتفاق رواته واستحالة تعمدهم‬ ‫عدد المخبرين ً‬
‫وضعه؛ ألنهم لم يتالقوا ولم يتراسلوا ً‬
‫فضل عن اختالف أسبابهم‪.‬‬
‫أبو الحسين الخياط (‪ 300‬هـ)‪:‬‬
‫محمد بن عثمان الخياط (ت ‪300‬هـ)‪،‬‬ ‫َّ‬ ‫هو أبو الحسين عبد الرحيم بن‬
‫الج َّبائي‪ ،‬صنَّف كتاب «االستدالل»‪،‬‬
‫شيخ المعتزلة البغداد ِّيين وهو من نظراء ُ‬
‫وكتاب»االنتصار» للرد على ابن الراوندي الملحد‪ ،‬وكتاب «نقض نعت الحكمة»‪،‬‬
‫وغير ذلك‪ ،‬تنسب إليه فرقة منهم تدعى (الخياطية) ‪ .156‬قال الذهبي‪« :‬شيخ المعتزلة‬
‫البغداديين‪ ،‬له الذكاء المفرط‪ ،‬والتصانيف المهذبة‪ ،‬وكان قد طلب الحديث‪ ،‬وكان‬
‫من بحور العلم‪ ،‬له جاللة عجيبة عند المعتزلة‪ ،‬وهو من نظراء الجبائي»‪ .157‬أما‬
‫رأيه في خبر الواحد فقد جاء في كتابه «الرد على من أثبت خبر الواحد»‪ ،‬ولكن‬
‫هذا الكتاب لم يصلنا‪ ،‬وإنما وصلنا كتاب تلميذه أبو القاسم البلخي‪« :‬قبول األخبار‬
‫ومعرفة الرجال»‪ ،‬والذي كان معارض ًة لشيخه في مسألة خبر اآلحاد‪ .‬يقول أبو القاسم‬
‫لما عارضت شيخنا أبا الحسين (الخياط)‪ ،‬رضى‬ ‫البلخي الكعبي (ت‪319‬هـ)‪« :‬فإني َّ‬
‫الله عنه‪ ،‬في كتابه الذي طعن به على خبر الواحد‪ ،‬وقلت في إثباته وإيجاب قبوله‬
‫في المواضع التي ذكرتها‪ ،‬وعلى الشرائط التي بينتها ما وقفت عليه‪ ،‬خفت عليك‬
‫أن تجاوز الحد في حسن الظن بأخبار كثير من المنتسبين إلى الحديث‪ ،‬وأن تغتر‬
‫بانتشار ذكرهم‪ ،‬و ُبعد صوتهم عند أصحابهم‪ ،‬فعملت كتابي هذا‪ .158»...‬ومن خالل‬
‫هذا النص نفهم أن أبا الحسين الخياط كان ينكر حجية خبر اآلحاد‪ ،‬وهو ما ذكره عبد‬
‫أيضا بقوله‪« :‬وكان الخياط منكر الحجة في أخبار اآلحاد‪ ،‬وما أراد‬
‫القاهر البغدادي ً‬

‫‪155‬العثامنية ص ‪.116‬‬
‫‪ 156‬األعالم للزركيل ‪.347/3‬‬
‫‪ 157‬سري أعالم النبيالء ‪.134/11‬‬
‫‪ 158‬قبول األخبار ومعرفة الرجال ‪.17/1‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪390‬‬
‫بإنكاره إال إنكار أكثر أحكام الشريعة‪ ،‬فإن أكثر فروض الفقه مبنية على أخبار من‬
‫أخبار اآلحاد‪ ،‬وللكعبي عليه كتاب في حجة أخبار اآلحاد»‪.159‬‬
‫أبو القاسم البلخي (‪319‬هـ)‪:‬‬
‫أبو القاسم عبد الله بن أحمد بن محمود البلخي المعروف بال َك ْعبي (ت‪ 319‬هـ)‪،‬‬
‫الج َّبائي‪ ،‬صنّف في الكالم‬
‫العالمة شيخ المعتزلة البغداديين‪ ،‬ومن نظراء أبي علي ُ‬
‫تتلم َذ الكعبي على يد أبي الحسين َ‬
‫الخ َّياط المتكلم المعتزلي وخالفه‬ ‫كت ًبا كثيرة‪ ،‬وقد َ‬
‫ثم عاد إلى‬
‫في بعض المسائل‪ ،‬أقام ببغداد مدّ ة طويلة وناظر بها وانتشرت بها كتبه‪ّ ،‬‬
‫بلخ فأقام بها إلى حين وفاته‪ .‬له من التصانيف كتاب‪« :‬المقاالت»‪ ،‬وكتاب‪»:‬الغرر»‪،‬‬
‫وكتاب‪« :‬االستدالل بالشاهد على الغائب»‪ ،‬وكتاب‪« :‬الجدل»‪ ،‬وكتاب‪« :‬السنة‬
‫والجماعة»‪ ،‬وكتاب‪« :‬التفسير الكبير»‪ ،‬وكتاب في النقض على الرازي في الفلسفة‬
‫اإللهية‪ ،‬وغيرها»‪.160‬‬
‫أ ّلف أبو القاسم البلخي كتا ًبا بعنوان‪« :‬قبول األخبار ومعرفة الرجال» عارض به‬
‫شيخه أبو الحسين الخياط‪ ،‬وهو من الكتب النادرة التي وصلتنا من كتب المعتزلة‪،‬‬
‫مؤخرا ألول مرة بعنوان‪« :‬كتاب المقاالت ومعه عيون‬
‫ً‬ ‫باإلضافة لكتابه الذي طبع‬
‫المسائل والجوابات»‪ .161‬يقول البلخي في كتابه «المقاالت»‪« :‬قال أبو عبدالله محمد‬
‫بن إدريس الشافعي ومن ذهب مذهبه من أهل الحديث‪ :‬إن الخبر إذا أورده عن النبي‬
‫واحد ثقة أو جماعة ثقات‪ ،‬ثم نقله إليه الثقات من الرواة وإن لم تكن متواترة‪ ،‬فالواجب‬
‫العمل به‪ ،‬وليس يجب عرضه على شيء من األصول‪ ،‬بل يكون قد خص ما ورد فيه‬
‫وأخرجه من حكمها إن كان مخال ًفا لها‪ ،‬وليس يجب العلم بأنه حق‪ ،‬وال شهادة على‬
‫الله بأنه صدق‪ .‬وقال قوم‪ :‬ليس يجوز العمل إال بما نقل بالتواتر‪ ،‬فإن ُعدم ذلك كان‬
‫الرجوع إلى أحد األصول‪ ،‬وهو الكتاب والسنة المجمع عليها واإلجماع وحجة العقل‬
‫أو إلى القياس‪ .‬وقال قوم ــ وهم أصحاب أبي حنيفة ومن ذهب مذهبهم‪ :-‬إذا جاء خبر‬
‫الواحد عن النبي صلى الله عليه بما ال يناقض كتا ًبا وال سنة وال إجما ًعا وال حجة عقل‪،‬‬

‫‪ 159‬الفرق بني الفرق ص ‪165‬‬


‫‪ 160‬سري أعالم النبيالء ‪ .193/11‬األعالم ‪.65/4‬‬
‫‪ 161‬حققه أ‪.‬د‪ .‬حسني خانصو‪ ،‬و أ‪.‬د‪ .‬راجح كردي‪ ،‬ود‪ .‬عبداحلميد كردي‪ ،‬دار الفتح للدراسات والنرش ‪.‬‬
‫‪391‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫وكان الراوون صادقين بأكثر الرأي وحسن الظن بهم‪ ،‬ولم تكن األمة عملت بخالفة‪،‬‬
‫ولم يكن شا ًّذا‪ ،‬فالواجب قبوله والعمل به‪ ،‬وإن لم يحط العلم بأنه حق‪ ،‬ولم يشهد على‬
‫الله بأنه صدق‪ ،‬وإلى هذا أذهب»‪.162‬‬
‫واختيار البلخي لهذا القول يبين لنا ما هو الرأي الذي اختاره شيخه الخياط حين‬
‫عارضه في كتاب «قبول األخبار ومعرفة الرجال»‪ ،‬فالخياط اختار الرأي الثاني‪،‬‬
‫والبلخي اختار الرأي الثالث‪ ،‬ومن ثم فقد عارض شيخه على ذلك الرأي‪ :‬قال البلخي‬
‫لما عارضت شيخنا أبا الحسين‬ ‫في كتابه «قبول األخبار ومعرفة الرجال»‪« :‬فإني َّ‬
‫(الخياط)‪ ،‬رضى الله عنه‪ ،‬في كتابه الذي طعن به على خبر الواحد‪ ،‬وقلت في إثباته‬
‫وإيجاب قبوله في المواضع التي ذكرتها‪ ،‬وعلى الشرائط التي بينتها ما وقفت عليه‪،‬‬
‫خفت عليك أن تجاوز الحد في حسن الظن بأخبار كثير من المنتسبين إلى الحديث‪،‬‬
‫وأن تغتر بانتشار ذكرهم‪ ،‬و ُبعد صوتهم عند أصحابهم‪ ،‬فعملت كتابي هذا وذكرت فيه‬
‫أحوال القوم‪ ،‬وما قاله بعضهم في بعض دون ما قاله فيهم خصومهم‪ ،‬ووصفوهم به‬
‫من المناقضة والجهل‪ ،‬والخطأ لتعرف بذلك مقدارهم‪ ،‬وتعلم أن من الواجب الالزم‬
‫التثبت‪ ،‬وتقديم سوء الظن إال بما ينظر فيه مما رووه فنجده غير مخالف لكتاب الله‬
‫الذي ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬ولسنة رسول الله المجمع عليها‪ ،‬أو‬
‫إلجماع األمة التي توعد الله من ابتغى غير سبيلها‪ ،‬أو لعمل الصدر األول من السلف‬
‫الصالح رضوان الله عليهم‪ .. ،‬أو للعقل الذي جعله الله حجة على عباده»‪.163‬‬
‫البلخي هنا يعارض شيخه بأن خبر الواحد يمكن قبوله بشروط غير شروط أهل‬
‫الحديث‪ ،‬ويلفت نظره إلى التناقضات الموجودة في منهج المحدثين بما ينقض شرطي‬
‫العدالة والضبط اللذين زعماهما‪ ،‬بينما يمكن قبول خبر الواحد في الفروع بشروط‪:‬‬
‫ ‪-‬أن ال يخالف لكتاب الله‪.‬‬
‫ ‪-‬وال يخالف سنة مجمع عليها‪.‬‬
‫ ‪-‬وال يخالف إجماع لألمة‪.‬‬
‫ ‪-‬وال يخالف العقل‪.‬‬

‫‪ 162‬كتاب املقاالت ومعه عيون املسائل واجلوابات ص ‪.527‬‬


‫‪163‬قبول األخبار ومعرفة الرجال ‪.17/1‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪392‬‬
‫أيضا أن أصول الكالم المجتمع عليها ليس يجب أن‬ ‫ثم يقول مخاط ًبا شيخه‪« :‬وتعلم ً‬
‫يقبل فيها إال األخبار المتواترة التي ال يحتاج فيها إلى أسانيد‪ ،‬وال إلى فالن عن عالن‪،‬‬
‫وكذلك األمر العام الذي يحتاج إليه األكثر ليس يقبل فيه إال خبر الجماعة وعمل األمة‪،‬‬
‫ألن ما يقوله النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فيه يجب أن يكون على حسب الحاجة إليه‪،‬‬
‫وأن خبر االثنين والثالثة إذا رووه عن أمثالهم وظهرت عدالتهم‪ ،‬أو وقع حسن الظن‬
‫بهم وسلم خبرهم مما ذكرنا‪ ،‬وكان على الشرائط التي وصفنا إنما يقبل في الفروع‬
‫وبأكثر الرأي ال باليقين‪ ،‬وكما تقبل شهادة الشاهدين وقول حامل الهدية وغيرهم مما‬
‫ذكرنا في كتابنا األول»‪.164‬‬
‫يذكر بأن األخبار المتواترة وحدها هي المتفق عليها أنها‬ ‫والبلخي في هذا النص ّ‬
‫ملزمة عند متكلمي المعتزلة‪ ،‬وأما خبر اآلحاد فليس متف ًقا عليه‪ ،‬ثم يشير إلى أن األمر‬
‫متواترا تنقله الجماعة عن جماعة‪،‬‬
‫ً‬ ‫العام الذي يهم المسلمين يفترض فيه أن يكون خبره‬
‫وأما إذا روى الخبر اثنان أو ثالثة عن أمثالهم وظهرت عدالتهم‪ ،‬ووقع حسن الظن‬
‫بهم‪ ،‬ولم يعارض الشروط الخمسة السابقة فيمكن قبوله في الفروع‪ ،‬أي في األحكام‬
‫ال العقائد‪ ،‬على أن ال يكون قبوله على أساس اليقين وإنما على أساس الظن الراجح‪.‬‬
‫ثم يتحدث عن ضعف حجة المحدثين باستداللهم ببعض أخبار اآلحاد‪ ،‬وأنه يمكن‬
‫نقض روايتهم بنفس منهجهم‪ ،‬عبر ما جمعه في كتابه من جرح وتعديل للرواة‪ ،‬فيقول‪:‬‬
‫احتج به عليك‬
‫ّ‬ ‫«ولكن إذا ورد عليك حديث احتجت إلى معرفة أصله ومخرجه‪ ،‬أو‬
‫أحد خصومك‪ ،‬رجعت إلى أسماء هؤالء الرجال الذين ذكرتهم لك‪ ،‬وإلى قصصهم‪،‬‬
‫فوقفت على صحة إسناده وسقمه‪ ،‬وتيسر عليك إقامة الحجة على خصمك فيه وأردت‬
‫مع ذلك أن ينظر شباب أصحابنا فيما بينت ويعرفوه‪ ،‬فإنهم ال يكادون يلتفتون إليه‬
‫وخصومهم يتسلقون عليهم من جهته وينسبونهم إلى ق ّلة العلم به‪ ،‬وربما حجوهم في‬
‫النبي يسألونهم عنه»‪.165‬‬
‫والبلخي يشير هنا إلى طبيعة الجدل الذي كان في زمنه مع المحدثين‪ ،‬وأنهم كان‬

‫‪ 164‬قبول األخبار ومعرفة الرجال ‪.17/1‬‬


‫‪ 165‬قبول األخبار ومعرفة الرجال ‪.18/1‬‬
‫‪393‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫يتهمون خصومهم بالجهل في علم الحديث حين يردون حجته جملة‪ ،‬ويرى أنه‬
‫باإلمكان نقض منهجهم من خالل رصد التناقضات الكثيرة التي وقعوا‪ ،‬فمن خالل‬
‫رصدها يمكن إقامة الحجة عليهم وبيان ضعف استداللهم‪.‬‬
‫يفصل في بيان العلل والتناقضات في منهجهم ويذكر عناوين أبواب الكتاب‬ ‫ثم ّ‬
‫كاملة‪ ،‬كل عنوان يمثل جم ًعا لعلة أو إشكالية أو خطأ أو ضعف أو تناقض أو هوى‬
‫في منهجهم‪ .‬يقول‪« :‬وقد جعلت هذا الكتاب أعزك الله أبوا ًبا‪ ،‬فذكرت في باب منه ما‬
‫رواه القوم من تعمد جماعة منهم الكذب‪ ،‬وفي باب ما رووه عن رؤسائهم من خوفهم‬
‫لإلفراط في طلب ما طلبوه من الحديث وعنوانه من االستكثار منه‪ ،‬وفي باب ما روي‬
‫عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ وعن السلف ــ رضوان الله عليهم ــ من ترك قبول‬
‫ما تدفعه العقول ويخالف الكتاب والسنة‪ ،‬وفي باب ما رروه عن ثقاتهم مما أجمعت‬
‫األمة على العمل بخالفه‪ ،‬وفي باب ما غلطوا فيه الغلط الظاهر الذي ال يتدافعونه‬
‫وال يسألون عنه‪ ،‬وفي باب ما رووه عن كثير منهم من الركاكة والسخف مع شهرتهم‬
‫فيهم وارتفاع منزلتهم عندهم مما لو كان األمر فيه التئا ًما رويناه عليهم‪ ،‬وال مزقناه‬
‫فيهم اللهم في البعض دون الكل‪ ،‬وفي باب طعنهم بالجهل على جماعة من الصحابة‬
‫وجماعة من التابعين بإحسان مما نبرأ نحن عن كثير منه وال نقوله فيهم وما قالوه في‬
‫سلطانهم وأئمتهم وأغاليط المشهورين منهم باسم رجل لرجل وما قالوه وأوفروا به‬
‫على ثقاتهم ومن عليه يعتمدون في تصحيح األسانيد وانتقاد الحديث‪ ،..‬وفي باب‬
‫أسماء من ضعفوه وأسقطوه ولم يعتدوا به مع تكثرهم بالرواية عنه فال هم يسقطون‬
‫حديثهم فيريحوا المسلمين من تخليطهم به مع تكثرهم ويقبلونهم‪ ..‬وفي باب ذكر من‬
‫كثيرا منهم ثقات مأمونون‬
‫نسبوه إلى أنه مبتدع صاحب هوى مع قولهم‪ :‬بأن أكثرهم أو ً‬
‫ومع تصديرهم كتبهم ومجالسهم بالرواية عنهم‪ ،‬وفي باب ذكر ما قيل في المدلسين‬
‫والتدليس»‪.166‬‬
‫تعصبوا ضد مخالفيهم‬‫ثم ينبه على أنه ال يجاريهم في جرحهم وتعدليهم ألنهم ّ‬
‫فاتهموهم بالبدعة وغيرها‪ ،‬فيقول‪« :‬وليس قولنا في كل من نسبوه إلى البدعة أو أسقطوه‬

‫‪ 166‬قبول األخبار ومعرفة الرجال ‪.18/1‬‬


‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪394‬‬
‫وضعفوه قولهم‪ ،‬معاذ الله من ذلك بل كثير من أولئك عندنا أهل عدالة وطهارة وبر‬
‫وتقوى‪ ،‬ولكنا حكينا عنهم طعنهم على من يروون عنه إذا احتاجوا إليه‪ ،‬فإذا احتج‬
‫تأمرا على عهد‪ ،‬وركونًا‬
‫خصومهم عليهم به أو بحديثه قالوا‪ :‬هذا ضعيف وهذا مبتدع ً‬
‫وإعراضا عن الحق‪ ،‬ولو استقصيت ــ أسعدك الله ــ هذه‬
‫ً‬ ‫بالهوى‪ً ،‬‬
‫وميل إلى العصبية‪،‬‬
‫األبواب لطال الكتاب»‪.167‬‬
‫وهذا النقد الذي قدمه على منهج المحدثين‪ ،‬أثار المحدثين عليه‪ ،‬يقول ابن حجر‬
‫تصانيف في الط ْع ِن على ُ‬
‫المحدَ ثين تدُ ُل على‬ ‫ٌ‬ ‫متحد ًثا عنه أنه‪« :‬من كبار المعتزلة‪ ،‬وله‬
‫وتعصبِ ِه»‪.168‬‬
‫ُّ‬
‫ِ‬
‫اطالعه‬ ‫ِ‬
‫كثرة‬
‫فابن حجر يعترف له بكثرة االطالع الذي مكّنه من نقد منهج المحدثين‪.‬‬
‫‪.10‬أبو علي الجبائي (ت ‪ 303‬هـ)‪:‬‬
‫محمد بن عبد الوهاب بن سالم الجبائي أبو علي‪ :‬شيخ المعتزلة‪ ،‬ورئيس علماء‬
‫الكالم في عصره‪ ،‬كان متوسعا في العلم‪ ،‬سيال الذهن‪ ،‬وهو الذي ذلل الكالم وسهله‪،‬‬
‫ويسر ما صعب منه‪ ،‬له كتب كثيرة منها‪ :‬كتاب‪« :‬األصول»‪ ،‬وكتاب‪« :‬النهي عن المنكر»‪،‬‬
‫وكتاب‪« :‬التعديل والتجويز»‪ ،‬وكتاب «االجتهاد»‪ ،‬وكتاب «األسماء والصفات»‪،‬‬
‫وكتاب «التفسير الكبير»‪ ،‬وكتاب «النقض على ابن الراوندي»‪ ،‬وكتاب «الرد على‬
‫ابن كالب»‪ ،‬وكتاب «الرد على المنجمين»‪ ،‬وكتاب «من يكفر ومن ال يكفر»‪ ،‬وكتاب‬
‫«شرح الحديث»‪ ،‬وغيرها كثير‪ ،‬وإليه نسبة الطائفة (الجبائية)‪ .169‬وقد أطال القاضي‬
‫عبدالجبار في ترجمته بذكر فضائله ومناقبه وبعض آرائه التي تدل على منزلته في العلم‬
‫والفضل عند المعتزلة‪ .‬كان ال يتقيد بمذهب معين‪ ،‬وإن كان يميل إلى مذهب الحنفية‪.‬‬
‫من أبرز تالمذته ابنه أبو هاشم الجبائي (ت‪ 315‬هـ) رئيس فرقة البهشمية‪ ،‬وأبو الحسن‬
‫األشعري (ت‪ 324‬هـ) الذي أخذ عنه االعتزال وعلم الكالم‪ ،‬ثم كان بينهما خالف في‬
‫مسائل أبرزها مسألة نفي الصفات‪ ،‬ومسألة خلق القرآن التي أنكرها األشعري فيما بعد‪،‬‬
‫وكان بينهما مناظرات أ ّدت في النهاية إلى خروج األشعري عن المعتزلة‪.‬‬

‫‪ 167‬قبول األخبار ومعرفة الرجال ‪.19/1‬‬


‫‪ 168‬لسان امليزان ‪.255/3‬‬
‫‪ 169‬سري أعالم النبالء ‪ .113/11‬األعالم للزركيل ‪.256/6‬‬
‫‪395‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫كان الجبائي على اطالع واسع على مختلف العلوم العقلية والنقلية‪ ،‬وله مؤلفات‬
‫عديدة تنم على قدرته الفائقة على التأليف وفق مذهبه االعتزالي‪ ،‬وقد ضاعت كلها‬
‫ولم يبق منها إال أسماؤها في بعض كتب المعتزلة وغيرهم‪ ،‬بسبب ما شهده عصره من‬
‫أحداث قاسية تمثلت في انقالب الخلفاء العباسيين على المعتزلة‪ ،‬واضطهادهم من‬
‫بعد ما كانوا من المقربين منهم‪ .‬وبسبب هجوم أهل السنة من الحنابلة وأهل الحديث‬
‫عليهم ومالحقتهم‪ ،‬بعدما قويت شوكتهم بمناصرة الخلفاء لهم وبرجوع أبي الحسن‬
‫األشعري إلى مذهب أهل السنة وتحوله عن االعتزال‪.170‬‬
‫أما رأيه في خبر الواحد فنقل عنه ابن عقيل‪ ،171‬واآلمدي‪ ،172‬وعالء الدين‬
‫البخاري‪ ،173‬والسبكي ‪ ،174‬البرماوي ‪ 175‬أنه ال يقول بالتعبد بخبر الواحد‪ .‬وقد نقلت‬
‫أقوالهم في الفصل السابق في مبحث القائلين بعدم التعبد بخبر الواحد‪ .‬ونقل عنه أبو‬
‫يعلى‪ ،‬والغزالي‪ ،‬وابن قدامة أنه ال يقبل في الشرعيات أقل من اثنين في كل طبقة‪ ،‬وزاد‬
‫أبو الحسين البصري أنه يجيز العمل بخبر الواحد إن توفرت فيه شروط‪ ،‬منها‪ :‬أن‬
‫منتشرا‪ .‬قال أبو يعلى‬
‫ً‬ ‫يعضده ظاهر كتاب‪ ،‬أو عمل بعض الصحابة‪ ،‬أو اجتهاد‪ ،‬أو يكون‬
‫الفراء‪« :‬أن الجبائي ال يقبل في الشرعيات أقل من اثنين»‪ .176‬وقال الغزالي‪« :‬ذهب‬
‫الجبائي إلى أنه ال يعمل إال بما ينقله رجالن‪ ،‬ثم شرط عند تكرر العصر أن يحتمل قول‬
‫كل رجل رجالن‪ ،‬هكذا إلى حيث ينتهي‪ ،‬وهذا استئصال لهذه القاعدة‪ ،‬إذ ال يستقيم‬
‫حديث في عصرنا»‪ .177‬وقال ابن قدامة‪« :‬وذهب الجبائي إلى أن خبر‬‫ٌ‬ ‫على هذا المذاق‬
‫الواحد إنما يقبل إذا رواه عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ اثنان‪ ،‬ثم يرويه عن كل‬
‫واحد منهما اثنان‪ ،‬إلى أن يصير في زماننا‪ ،‬إلى حد يتعذر معه إثبات حديث ً‬
‫أصل‪،‬‬

‫‪ 170‬انظر كتاب الفكر األصويل عند املعتزلة ص ‪ 38‬ل مليكة خثريي‪.‬‬


‫ول ِ‬
‫الفقه ‪.362/4‬‬ ‫أص ِ‬ ‫ِ‬
‫الواضح يف ُ‬
‫‪َ 171‬‬
‫‪ 172‬اإلحكام يف أصول األحكام ‪.45/2‬‬
‫‪ 173‬كشف األرسار رشح أصول البزدوي ‪.370/2‬‬
‫‪ 174‬اإلهباج يف رشح املنهاج ‪.300/2‬‬
‫‪ 175‬الفوائد السنية يف رشح األلفية ‪ 44/2‬وما بعدها ‪ 656‬بترصف‪.‬‬
‫‪ 176‬العدة ‪ ،861/3‬والواضح يف أصول الفقه ‪ ،367/4‬واملسودة ‪.238‬‬
‫‪ 177‬املنخول ص ‪.344‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪396‬‬
‫وقاسه على الشهادة»‪ .178‬وكل هؤالء ذكروا هذا الرأي له فقط‪ ،‬أما أبو الحسين البصري‬
‫فزاد قبوله لخبر الواحد بشروط‪ .‬ولم يذكرا شروطه في خبر الواحد‪ .‬قال أبو الحسين‬
‫خبرا وجب العمل به‪ ،‬وإن رواه‬
‫البصري‪« :‬وقال أبو علي ــ الجبائي ــ إذا روى العدالن ً‬
‫واحد فقط لم يجز العمل به إال بأحد شروط‪ ،‬منها‪ :‬أن يعضده ظاهر‪ ،‬أو عمل بعض‬
‫منتشرا»‪ .179‬وقال السيوطي‪« :‬قال أبو علي الجبائي من‬
‫ً‬ ‫الصحابة‪ ،‬أو اجتهاد‪ ،‬أو يكون‬
‫المعتزلة‪ :‬ال يقبل الخبر إذا رواه العدل الواحد‪ ،‬إال إذا انضم إليه خبر عدل آخر‪ ،‬أو‬
‫منتشرا بين الصحابة‪ ،‬أو عمل‬
‫ً‬ ‫عضده موافقة ظاهر الكتاب‪ ،‬أو ظاهر خبر آخر‪ ،‬أو يكون‬
‫به بعضهم‪ ،‬حكاه أبو الحسن البصري في المعتمد‪ ،‬وأطلق األستاذ أبو منصور التميمي‬
‫عن أبي علي أنه ال يقبل إال إذا رواه أربعة»‪.180‬‬
‫وأما إن كانت الرواية في موضوع الزنا فإنه يشترط أن ال تقل عن أربعة رواة في كل‬
‫طبقة‪ .‬قال أبو الحسين البصري‪« :‬وحكى عنه قاضي القضاة في الشرح أنه لم يقبل في‬
‫الزنا إال خبر أربعة كالشهادة عليه‪ ،‬ولم تقبل شهادة القابلة الواحدة»‪.181‬‬
‫وقال‪« :‬وقد قاس أبو علي الخبر على الشهادة لعلة أن كل واحدة منهما إخبار عن‬
‫أيضا الرازي‪،183‬‬
‫الغير يجب عنده العمل فكان من شرطه العدد»‪ .182‬ونقل هذا الرأي ً‬
‫والقرافي‪ ،184‬وتقي الدين السبكي‪ ،185‬والزركشي‪ ،186‬وغيرهم‪.‬‬
‫ولتفسير حالة التناقض التي قد تظهر بين رأيي الجبائي في قوله بعدم جواز التعبد‬
‫به‪ ،‬وقوله باشتراط العدد وأقله اثنان في كل طبقة يقول تقي الدين السبكي (ت ‪756‬هـ)‪:‬‬
‫«فإن قلت ما وجه الجمع بين منع الجبائي هنا التعبد به ً‬
‫عقل واشتراطه العدد‪ ،..‬فإن‬

‫‪ 178‬روضة الناظر وجنة املناظر ‪.328/1‬‬


‫‪ 179‬املعتمد ‪.138/2‬‬
‫‪ 180‬تدريب الراوي ‪.71/1‬‬
‫‪ 181‬املعتمد ‪.138/2‬‬
‫‪ 182‬املعتمد ‪.140/2‬‬
‫‪ 183‬املحصول يف أصول الفقه ‪.417/4‬‬
‫‪ 184‬نفائس األصول ‪.2974/7‬‬
‫‪ 185‬اإلهباج يف رشح املنهاج ‪.324/2‬‬
‫‪ 186‬البحر املحيط يف أصول الفقه ‪.216/6‬‬
‫‪397‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫قضية اشتراطه العدد القول به‪ ،‬قلت‪ :‬قد يجاب بوجهين أقربهما‪ :‬أنه أراد بخبر الواحد‬
‫الذي أنكره هنا ما نقله العدل منفر ًدا به دون خبر الواحد المصطلح أعني الشامل لكل‬
‫خبر لم يبلغ حد التواتر‪ ،‬ولهذا كانت عبارة إمام الحرمين‪ :‬ذهب الجبائي إلى أن خبر‬
‫الواحد ال يقبل‪ ،‬بل ال بد من العدد وأقله اثنان‪ ،‬والثاني أنه يجعله من باب الشهادة»‪.187‬‬
‫وهذا الرأي للجبائي من اشتراط العدد وبقية الشروط هو في ما يخص الشرعيات‬
‫أي األحكام كما مر معنا‪ ،‬أما العقائد فرأيه هو رأي المعتزلة عمو ًما من عدم قبوله في‬
‫العقائد‪.‬‬
‫‪.11‬ابن خالد المعتزلي (ت ‪321‬هـ)‪:‬‬
‫هو أبو علي محمد بن خالد البصري‪ ،‬من الطبقة العاشرة من المعتزلة‪ ،‬تلميذ أبي‬
‫علي وأبي هاشم الجبائيين‪ ،‬له عدة مؤلفات منها‪ :‬كتابي األصول والشرح‪ ،‬توفي‬
‫سنة ‪ 321‬هـ‪ .‬وقيل توفي قبل ‪350‬هـ‪ .188‬من تالميذه المشهورین أبو عبد الله الحسین‬
‫بن علي البصري‪ ،‬وإبراهیم بن عیاش البصري‪ .‬وابن خالد ليس له أو لم يصلنا رأيه‬
‫في خبر اآلحاد‪ ،‬وإنما وصلنا رأي له في مسألة أخرى أراها مالصقة لموضوعنا‪،‬‬
‫التأسي بالنبي ــ عليه الصالة والسالم‪.-‬‬ ‫فكان ال بد من الوقوف عندها‪ ،‬وهي مسألة ِّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َان َلكُم في رس ِ‬
‫ول ال َّله ُأ ْس َو ٌة َح َسنَ ٌة}‬ ‫َ ُ‬ ‫وسميت التأسي‪ ،‬باعتبار قوله تعالى‪َ { :‬ل َقدْ ك َ ْ‬
‫سماها‪ :‬اتباع‪ ،‬باعتبار قوله تعالى‪{ :‬واتبعوه} {األعراف‪:‬‬ ‫{األحزاب‪ .}21 :‬وبعضهم َّ‬
‫‪.}158‬‬
‫يقول أبو الحسين البصري‪« :‬أما التأسي بالنبي ــ صلى الله عليه وسلم ــ فقد يكون‬
‫في فعله وفي تركه‪ ،‬أما التأسي به في الفعل‪ :‬فهو أن نفعل صورة ما فعل‪ ،‬على الوجه‬
‫الذي فعل‪ ،‬ألجل أنه فعل‪ ،‬والتأسي به في الترك وهو‪ :‬أن نترك مثل ما ترك‪ ،‬على الوجه‬
‫الذي ترك‪ ،‬ألجل أنه ترك‪ ،‬وإنما شرطنا أن تكون صورة الفعل واحدة ألنه ــ صلى الله‬
‫عليه وسلم ــ لو صام وصلينا لم نكن متأسين به»‪.189‬‬
‫خارجا عن موقف المعتزلة ومنهجها‪،‬‬
‫ً‬ ‫وكان ألبي خالد رأي في هذه المسألة ال أراه‬

‫‪ 187‬اإلهباج يف رشح املنهاج ‪.300/2‬‬


‫‪ 188‬انظر الفهرست ‪ ،247‬طبقات املعتزلة ص ‪.324‬‬
‫‪ 189‬املعتمد ‪.343/1‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪398‬‬
‫بالتأسي برسول الله إنما يكون في العبادات فقط‪ ،‬ألن ما سوى‬‫ِّ‬ ‫حيث يرى أن التعبد‬
‫العبادات يكون له فيها مصلحة من دوننا‪ ،‬فال يجب علينا التأسي به فيها‪ ،‬أو بلغة أخرى‬
‫أنها ضمن مقام االجتهاد ال الوحي فكانت غير ملزمة‪.‬‬
‫قال أبو الحسين البصري‪« :‬وقال أبو علي بن خالد إنا متعبدون بالتأسي به في أفعاله‬
‫العبادات دون غيرها كالمناكح وما أشبهها»‪ .190‬وقال الكلوذاني‪« :‬وقال أبو علي بن‬
‫خالد‪ :‬ما تعبدنا بالتأسي به إال في العبادات‪ ،‬دون غيرها من المناكح والعقود واألكل‬
‫والشرب وغير ذلك‪ .191‬وقال الرازي‪« :‬وقال أبو علي بن خالد من المعتزلة نحن‬
‫متعبدون بالتأسي به في العبادات دون غيرها‪ :‬كالمناكحات والمعامالت»‪ .192‬وقال‬
‫اآلمدي‪« :‬ومنهم من منع من ذلك مطل ًقا‪ ،‬ومنهم من فصل كأبي علي بن خالد‪ ،‬وقال‬
‫بالتأسي في العبادات دون غيرها»‪ .193‬وقال آل تيمية‪« :‬خال ًفا ألبي علي بن خالد في‬
‫قوله‪ :‬ما تعبدنا بالتأسي به إال في العبادات دون غيرها من المباحات والعقود واألكل‬
‫والشرب وغير ذلك»‪.194‬‬
‫وقال الزركشي‪« :‬اختلفوا فيه على مذاهب‪ ،‬أصحها‪ :‬أن أمته مثله‪ ،‬إال أن يدل على‬
‫تخصيصه به‪ .‬وثانيها‪ :‬كما لم تعلم صفته‪ ،‬وهو قول القاضي أبي بكر‪ ،‬وثالثها‪ :‬مثله‬
‫في العبادات دون غيرها‪ ،‬وبه قال أبو علي بن خالد من المعتزلة‪ .‬ورابعها‪ :‬الوقف‪،‬‬
‫قاله الرازي‪ :‬وحكى ابن السمعاني عن أبي بكر الدقاق أنه ال يكون شر ًعا لنا إال بدليل‬
‫يدل عليه‪ ،‬ثم قال ابن السمعاني‪ :‬هكذا أورده األصحاب‪ .‬وعندي أن ما فعله على جهة‬
‫التقرب سواء عرف أنه فعله على جهة التقرب أو لم يعرف‪ ،‬فإنه شرع لنا‪ ،‬إال أن يقوم‬
‫دليل على تخصيصه به»‪.195‬‬
‫األر َموي (ت ‪ 682‬هـ)‪« :‬قال جماهير الفقهاء والمعتزلة‪:‬‬
‫وقال سراج الدين ْ‬
‫ٍ‬
‫وجه تعبدنا بفعله على ذلك‬ ‫يجب التأسي به‪ .‬أي‪ :‬إذا علمنا أنه فعل ً‬
‫فعل على‬

‫‪ 190‬املعتمد ‪.354/1‬‬
‫‪ 191‬التمهيد يف أصول الفقه ‪.314/2‬‬
‫‪ 192‬املحصول يف أصول الفقه ‪.248/3‬‬
‫‪193‬اإلحكام يف أصول األحكام ‪.186/1‬‬
‫‪ 194‬املسودة يف أصول الفقه ص‪.66‬‬
‫‪ 195‬البحر املحيط يف أصول الفقه ‪.30/6‬‬
‫‪399‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫الوجه‪ .‬وقال أبو علي بن خالد يجب التأسي به في العبادات فقط‪ .‬وقيل بمنعه‬
‫مطل ًقا»‪.196‬‬
‫وفي المسألة أقوال أخرى‪ ،‬منها‪ :‬أن التأسي على الندب‪ ،‬ومنها‪ :‬أنه على اإلباحة‪،‬‬
‫ومنها‪ :‬التوقف‪ ،‬ومنها‪ :‬المنع من التأسي‪.197‬‬
‫‪.12‬القاضي عبدالجبار (ت ‪415‬هـ)‪:‬‬
‫هو عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار بن أحمد بن خليل‪ ،‬أبو الحسن الهمداني‪،‬‬
‫العالمة المتكلم‪ ،‬شيخ المعتزلة في عصره‪ ،‬صاحب التصانيف الكثيرة‪ ،‬من كبار فقهاء‬
‫الشافعية‪ ،‬ولي قضاء القضاة بالري‪ ،‬ولقبه المعتزلة بـ»قاضي القضاة»‪ .‬تأتي أهمية‬
‫دراسة رأي القاضي عبد الجبار في هذه المسألة كونه دون سائر المعتزلة قد طبعت‬
‫بعض كتبه في اآلونة األخيرة‪ ،‬وهذه الكتب رفعت الستار عن آراء المعتزلة وأغنت‬
‫إلى حد ما عن الرجوع إلى كتب خصومهم‪ ،‬ومما طبع للقاضي عبد الجبار‪( :‬تنزيه‬
‫القرآن عن المطاعن) و(طبقات المعتزلة)‪ ،‬و(شرح األصول الخمسة) و(المغني في‬
‫أبواب التوحيد والعدل)؛ أربعة عشر جزءا منه‪ ،‬و(المجموع في المحيط بالتكليف)‬
‫و(تثبيت دالئل النبوة)‪ ،‬و(متشابه القرآن)‪ .‬عنون القاضي عبد الجبار ً‬
‫فصل في كتابه‬
‫«شرح األصول الخمسة» عن «الكالم في األخبار»‪ ،‬جاء فيه‪:‬‬
‫قال عبدالجبار‪« :‬وجملة القول في ذلك‪ ،‬أن األخبار ال تخلو‪ :‬إما أن يعلم صدقها‪،‬‬
‫أو يعلم كذبها‪ ،‬أو ال يعلم صدقها وال كذبها»‪.198‬‬
‫ثم يتحدث عن القسم األول فيقول‪« :‬والقسم األول‪ :‬ينقسم إلى ما يعلم صدقه‬
‫اضطرارا‪ ،‬وإلى ما يعلم اكتسا ًبا‪.‬‬
‫ً‬
‫اضطرارا فكاألخبار المتواترة‪ ،‬نحو الخبر عن البلدان والملوك وما‬
‫ً‬ ‫ما يعلم صدقه‬
‫يجري هذا المجرى‪ ،‬ونحو خبر من يخبرنا أن النبي ــ صلى ‌الله ‌علي ‌ه وسلم ــ كان‬

‫‪ 196‬التحصيل من املحصول ‪.439/1‬‬


‫‪ 197‬انظر‪ :‬أصول الرسخيس ‪ ،86/ 2‬قواطع األدلة ‪ ،179/ 2‬املحقق من علم األصول أليب شامة ص ‪،58‬‬
‫املسودة ص ‪ ،186‬التقرير والتحبري البن أمري احلاج ‪ ،403/ 2‬التوضيح رشح التنقيح حللولو ص ‪،245‬‬
‫إرشاد الفحول للشوكاين ‪.168/ 1‬‬
‫‪ 198‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.520‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪400‬‬
‫يتدين بالصلوات الخمس وإيتاء الزكاة والحج إلى بيت الله الحرام وغير ذلك‪ ،‬فإن‬
‫اضطرارا‪ .‬وأقل العدد الذين يحصل العلم بخبرهم خمسة‪ ،‬حتى ال‬
‫ً‬ ‫ما هذا سبيله يعلم‬
‫يجوز حصوله بخبر األربعة‪ .‬وال يكفي خبر الخمسة على أي وجه أخبروا‪ ،‬بل ال بد من‬
‫اضطرارا‪ ،‬ولهذا ال يجوز أن يحصل لنا العلم الضروري‬
‫ً‬ ‫أن يكون خبرهم مما عرفوه‬
‫اضطرارا‪.‬‬
‫ً‬ ‫بتوحيد الله وعدله بخبر من يخبرنا عن ذلك‪ ،‬لما لم يعرفوه‬
‫ً‬
‫استدالل فهو كالخبر بتوحيد الله تعالى وعدله ونبوة نبيه ــ عليه‬ ‫وما يعلم صدقه‬
‫‌السالم ــ وما يجري هذا المجرى‪ ،‬وكالخبر عما يتعلق بالديانات إذا أقر النبي ــ صلى‬
‫‌الله‌عليه‌ وسلم ــ ولم يزجره عنه وال أنكر عليه‪ ،‬فإنا نعلم صدق ما هذا حاله من األخبار‬
‫ى الل ‌ه عليه‬
‫استدالال‪ ،‬وطريقة االستدالل عليه‪ ،‬هو أنه لو كان كذبا ألنكره النبي ــ صل ‌‬
‫‌وسلم‪ ،-‬فلما لم ينكره دل على صدقه فيه‪ ،‬وهذا هو القسم األول»‪.199‬‬
‫ثم يتحدث عن القسم الثاني فيقول‪« :‬وأما القسم الثاني‪ :‬فهو ما يعلم كذبه من‬
‫اضطرارا‪ ،‬وإلى ما يعلم اكتسا ًبا‪ .‬ما يعلم كذبه‬
‫ً‬ ‫األخبار‪ ،‬وذلك ينقسم إلى‪ :‬ما يعلم كذبه‬
‫اضطرارا‪ ،‬فكخبر من أخبرنا أن السماء تحتنا واألرض فوقنا وما جرى هذا المجرى‪.‬‬ ‫ً‬
‫ً‬
‫استدالل‪ ،‬فكأخبار المجبرة والمشبهة عن مذاهبهم الفاسدة‬ ‫وما يعلم كذبه‬
‫المتضمنة للجبر والتشبيه والتجسيم إلى غير ذلك من الضالالت»‪.200‬‬
‫وأما القسم الثالث فيقول عنه‪:‬‬
‫«وأما ما ال يعلم كونه صدقا وال كذ ًبا‪ ،‬فهو كأخبار اآلحاد‪ .‬وما هذه سبيله يجوز‬
‫العمل به إذا ورد بشرائطه فأما قبوله فيما طريقه االعتقادات فال‪ ،‬وفي هذه الجملة أيضا‬
‫خالف‪ ،‬فإن في الناس من يجوز ورود التعبد بخبر الواحد‪ ،‬وفيهم من ينكر ثبوت التعبد‬
‫به»‪ .201‬وقال‪« :‬وها هنا أصل آخر‪ ،‬وهو أن ما هذا سبيله من األخبار ــ أي اآلحاد ــ فإنه‬
‫يجب أن ينظر فيه‪ ،‬فإن كان مما طريقه العمل عمل به إذا أورد بشرائطه‪ ،‬وإن كان مما‬
‫طريقه االعتقادات ينظر‪ ،‬فإن كان مواف ًقا لحجج العقول قبل واعتقد موجبه‪ ،‬ال لمكانه‬

‫‪ 199‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.521‬‬


‫‪ 200‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.521‬‬
‫‪ 201‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.521‬‬
‫‪401‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫بل للحجة العقلية وإن لم يكن مواف ًقا لها‪ ،‬فإن الواجب أن يرد ويحكم بأن النبي لم يقله‪،‬‬
‫وإن قاله فإنما قاله على طريق الحكاية عن غيره‪ ،‬هذا إذا لم يحتمل التأويل إال بتعسف‪،‬‬
‫فأما إذا احتمله فالواجب أن يتأول‪ ،‬وفصيل هذه الجملة موضعه أصول الفقه»‪.202‬‬
‫وخالصة ما قاله القاضي عبد الجبار في هذا النص كالتالي‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬ما ُيعلم صدقه‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫اضطرارا‪ ،‬كاألخبار المتواترة‪.‬‬
‫ً‬ ‫األول‪ :‬ما يعلم صدقه‬
‫ً‬
‫استدالل‪ ،‬وهو ما كان مطابق ًا لما نص عليه القرآن‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬ما يعلم صدقه اكتسا ًبا‪ ،‬أو‬
‫القسم الثاني‪ :‬ما يعلم كذبه‪ ،‬وهو نوعان‪:‬‬
‫للحس والعقل‪.‬‬
‫ّ‬ ‫اضطرارا‪ ،‬وهو ما كان مخال ًفا‬
‫ً‬ ‫األول‪ :‬ما يعلم كذبه‬
‫ً‬
‫استدالل‪ ،‬وهو ما كان مخال ًفا لما نص عليه القرآن‪.‬‬ ‫الثاني‪ :‬ما يعلم كذبه اكتسا ًبا‪ ،‬أو‬
‫القسم الثالث‪ :‬ما ال ُيعلم كونه صد ًقا وال كذ ًبا‪ ،‬كأخبار اآلحاد‪.‬‬
‫ثم يتحدث عن حجيته‪:‬‬
‫‪-‬في االعتقاد‪ :‬ال ُيقبل‪.‬‬
‫‪-‬وفي التعبد‪ :‬فيه خالف بين فريقين‪:‬‬
‫فريق يجيز التعبد به‪ ،‬وفريق ال يجيز التعبد به‪ ،‬ثم يقف في صف من ُيجيز التعبد به‪.‬‬
‫ويفصل أكثر في شأن خبر اآلحاد فيذهب إلى أنه‪:‬‬
‫ّ‬
‫‪-‬إن كان مما طريقه العمل عمل به بشروط‪ ،‬ولم يذكر ما هي الشروط‪ ،‬والراجح‬
‫أنها الشروط التي وضعها المتكلمون من قبله‪ ،‬وبعضها سيشير لها في كتابه‬
‫«طبقات المعتزلة» بأن ال يخالف القرآن والسنة المقطوع بها‪ ،203‬وأن ال يخالف‬
‫حجج العقل‪.‬‬
‫‪-‬وإن كان مما طريقه االعتقاد ف ُينظر إن كان مواف ًقا لحجج العقول ُقبِل‪ ،‬ليس لمكانته‬
‫بذاته وإنما لما يحمله من الحجة العقلية‪ ،‬وإن لم يوافق الحجة العقلية يرد ويحكم بأن‬

‫‪ 202‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.522‬‬


‫‪ 203‬انظر طبقات املعتزلة ص‪.193‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪402‬‬
‫النبي لم يقله‪ ،‬وعليه فالرد هنا هو رد للراوي وتنزيه للنبي ــ عليه السالم‪ ،-‬وليس كما‬
‫تدليسا بأنه رد لقول النبي ــ عليه الصالة والسالم‪.-‬‬
‫ً‬ ‫يصفه خصومهم‬
‫فإن أمكن تأويله ليوافق الحجة العقلية فال بأس‪ ،‬فإن لم يمكن تأويله تم رده‪.‬‬
‫وفي موضع آخر من الكتاب يضرب أمثلة ألحاديث مردودة فيقول‪:‬‬
‫«ومما يتعلقون به‪ ،‬أخبار مروية عن النبي ــ صلى‌الله‌علي ‌ه وسلم‪ ،-‬وأكثرها يتضمن‬
‫الجبر والتشبيه‪ ،‬فيجب القطع على أنه ــ صلى‌ الله ‌عليه ‌وسلم ــ لم يقله وإن قال فإنه‬
‫قاله حكاية عن قوم‪ ،‬والراوي حذف الحكاية ونقل الخبر‪ .‬ومن جملتها وهو أشف ما‬
‫يتعلقون به‪ ،‬ما يروى عن النبي ــ صلى ‌الله ‌عليه ‌وسلم ــ أنه قال‪( :‬سترون ربكم يوم‬
‫القيامة كما ترون القمر ليلة البدر)» ‪.205 204‬‬
‫ثم يتحدث أن هذا الحديث يرد من ثالث طرق‪:‬‬
‫مدورا عال ًيا‬
‫ً‬ ‫«أحدها‪ :‬هو أن هذا الخبر يتضمن الجبر والتشبيه‪ ،‬ألنا ال نرى القمر إال‬
‫منورا‪ ،‬ومعلوم أنه ال يجوز أن يرى القديم تعالى على هذا الحد‪ ،‬فيجب أن نقطع على‬ ‫ً‬
‫أنه كذب على النبي ــ صلى‌الله‌علي ‌ه وسلم ــ وأنه لم يقله‪ ،‬وإن قاله فإنه قاله حكاية عن‬
‫قوم كما ذكرنا‪.‬‬
‫والطريقة الثانية‪ :‬هو أن هذا الخبر يروى عن قيس بن أبي حازم‪ ،‬عن جرير بن عبد‬
‫الله البجلي‪ ،‬عن النبي ــ صلى الله عليه وسلم‪ .-‬وقيس هذا مطعون فيه‪ ..‬وقيل إنه‬
‫خولط في عقله آخر عمره‪ ،‬والكتبة يكتبون عنه على عادتهم في حال عدم التمييز‪ ،‬وال‬
‫ندري أن هذا الخبر رواه وهو صحيح العقل أو مختلط العقل‪.‬‬
‫وأما الطريقة الثالثة‪ :‬هو أن يقال‪ :‬إن صح هذا الخبر وسلم‪ ،‬فأكبر ما فيه أن يكون‬
‫القطع‬
‫َ‬ ‫خبرا من أخبار اآلحاد‪ ،‬وخبر الواحد مما ال يقتضي العلم‪ ،‬ومسألتنا طري ُقها‬‫ً‬
‫والثبات‪ ،‬وإذا صحت هذه الجملة بطل ما يتعلقون به‪.206‬‬

‫‪ 204‬احلديث رواه البخاري برقم (‪ )554‬ومسلم برقم (‪ 211‬ــ (‪( :))633‬عن قيس بن أيب حازم‪ ،‬عن جرير‬
‫بن عبد اهلل‪ ،‬قال‪ :‬كنا جلوسا ليلة مع النبي صىل اهلل عليه وسلم‪ ،‬فنظر إىل القمر ليلة أربع عرشة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫(إنكم سرتون ربكم كام ترون هذا ال تضامون يف رؤيته)‪.‬‬
‫‪ 205‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.180‬‬
‫‪ 206‬رشح األصول اخلمسة للقايض عبداجلبار ص ‪.180‬‬
‫‪403‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫ونالحظ أنه رد الحديث الذي رواه البخاري ومسلم بثالث طرق‪:‬‬


‫األولى‪ :‬من مخالفته للحجة العقلية‪.‬‬
‫والثانية‪ :‬من اختالل سنده‪ ،‬برجل مطعون فيه‪.‬‬
‫والثالثة‪ :‬من ضعف حجيته في العقائد‪ ،‬كونه آحاد‪.‬‬
‫ومما يالحظ من نقده لقيس بن أبي حازم وهو من رجال البخاري ومسلم‪ ،‬أن‬
‫المعتزلة أو فريق منهم لم يسلموا بجرح وتعديل أهل الحديث‪ ،‬وإنما مارسوا الجرح‬
‫والتعديل وخرجوا بنتجة مختلفة في الحكم على بعض الرجال‪.‬‬
‫في كتاب «طبقات المعتزلة» ينبه إلى أمرين مهمين في التعامل مع خبر الواحد‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن خبر الواحد ال يصح تسميته بالسنة‪ ،‬ألنه ال ينطبق على معناها الذي‬
‫سيذكره‪.‬‬
‫يقول‪« :‬ومعنى السنة إذا أضيفت إليه ــ صلى الله عليه وسلم‪-‬؛ هو ما أمر ليدام‬
‫عليه‪ ،‬أو فعله ليدام االقتداء به‪ ،‬فما هذا حاله يعد سنة الرسول ــ صلى الله عليه‬
‫وسلم‪-‬؛ وإنما يقع هذا االسم على ما ثبت أنه قاله أو فعله‪ ،‬فأما ما ينقل من أخبار‬
‫اآلحاد فإن صح فيه شروط القبول‪ ،‬يقال فيه‪ :‬أنه سنة على وجه التعارف؛ ألنا إذا لم‬
‫نعلم ذلك القول أو ذلك الفعل فالقول بأنه سنة يقبح؛ ألنا ال نأمن أن نكون كاذبين‬
‫في ذلك»‪.207‬‬
‫الثاني‪ :‬أن خبر الواحد ما دام ثبوته ظن ًّيا‪ ،‬وحجيته ظنية‪ ،‬فال يصح ً‬
‫عقل أن نقول‪ :‬قال‬
‫رسول الله‪ ،‬وإنما نقول‪ :‬روي عنه كذا‪ ،‬فال يروى بصيغة الجزم عن النبي وإنما بصيغة‬
‫التمريض ألنها األنسب مع الظنية‪ ،‬وفي هذا حكمة أخرى‪ ،‬فإذا ما رددنا الرواية لعلة من‬
‫العلل فإننا لم نرد قول النبي وإنما لم نصدق الراوي‪.‬‬
‫«وعلى هذا الوجه ال يجوز في العقل أن يقول في خبر الواحد‪ ،‬قال رسول الله صلى‬
‫الله عليه وسلم قط ًعا؛ وإنما يجوز أن يقال‪ :‬ــ روي عنه صلى الله عليه وسلم‪.208»-‬‬
‫ثم قال‪« :‬وأما الجماعة‪ :‬فالمراد به ما أجمعت عليه األمة‪ ،‬وثبت ذلك من إجماعها؛‬

‫‪ 207‬طبقات املعتزلة ص‪.186‬‬


‫‪ 208‬طبقات املعتزلة ص‪.186‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪404‬‬
‫فأما ما لم يثبت مما لم يجز التمسك به فهو بمنزلة أخبار اآلحاد‪ ،‬وإذا صح ما ذكرناه‬
‫فالمتمسك بالسنة والجماعة هم أصحابنا والحمد لله دون هؤالء المشنعين»‪.209‬‬
‫وفي هذا النص نجد أنه يعطي تعري ًفا للسنة بغير ما عرفها أهل الحديث‪ ،‬فسنة‬
‫الرسول هي‪ :‬ما أمر به ليدام عليه‪ ،‬أو فعله ليدام االقتداء به‪ .‬وهو يشترط الديمومة في‬
‫سمى السنة‪ ،‬والديمومة تقتضي نقلها بطريق العامة ال الخاصة‪ ،‬وحديث اآلحاد ال‬ ‫ُم َّ‬
‫ينطبق عليه ذلك‪.‬‬
‫متأخري المعتزلة‪ ،‬أي أنه جاء في عصر سيطرة خطاب‬‫والقاضي عبد الجبار من ِّ‬
‫أهل الحديث ومنهجهم‪ ،‬ولذا حرص على إعادة صياغة مفهوم أهل السنة والجماعة‬
‫والذي أخرجهم منه أهل الحديث‪ ،‬ليقول لهم‪ :‬نحن من يتمثل السنة والجماعة ولكن‬
‫ّ‬
‫األدق لهذا المسمى وليس كما صورتموه‪.‬‬ ‫بالمفهوم‬
‫كانت هذه هي آراء شيوخ المعتزلة من حديث اآلحاد‪ ،‬وهي كما يقول أحمد أمين‪:‬‬
‫(موقف المتشكك في صحته‪ ،‬وأحيانا موقف المفكر له‪ ،‬ألنهم يحكمون العقل في‬
‫الحديث ال الحديث في العقل»‪.210‬‬

‫قضايا تتعلق بخبر اآلحاد‪:‬‬


‫‪ 1‬ــ تخصيص عموم القرآن بخبر اآلحاد‪:‬‬
‫تخصيصه‬
‫َ‬ ‫بحسب موقف المعتزلة من خبر اآلحاد كان من الطبيعي أن يرفضوا‬
‫لعموم القرآن‪ ،‬ألن القرآن قطعي وخبر اآلحاد ظني‪ .‬يقول ابن العربي (ت ‪543‬هـ)‪:‬‬
‫اختلف الناس في جواز تخصيص عموم الكتاب بخبر الواحد‪ ،‬فمنعت منه المعتزلة‪،‬‬
‫ألن القرآن مقطوع به وخبر الواحد مظنون‪ ،‬وقال القاضي ــ عبد الوهاب البغدادي ــ‬
‫أنا أتوقف فيه‪ ،‬ومال الفقهاء بأجمعهم إلى جواز تخصيصه به‪ .‬أما المعتزلة فقالوا لما‬
‫كان القرآن مقطو ًعا به وخبر الواحد مظنون لم يجز أن يخصص المظنون»‪ .211‬وقال‬
‫ابن قدامة‪« :‬قالت طائفة من المتكلمين‪ :‬ال يخصص عموم الكتاب بخبر الواحد‪ .‬وقال‬

‫‪ 209‬طبقات املعتزلة ص‪.186‬‬


‫‪ 210‬ضحى اإلسالم ‪.85/3‬‬
‫‪ 211‬املحصول يف أصول الفقه البن العريب ص ‪.88‬‬
‫‪405‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫عيسى بن أبان‪ :‬يخص العام المخصوص‪ ،‬دون غيره‪ .‬وحكاه القاضي عن أصحاب‬
‫أبي حنيفة‪ ،‬ألن الكتاب مقطوع به‪ ،‬والخبر مظنون‪ ،‬فال يترك به المقطوع‪ ،‬كاإلجماع ال‬
‫يخص بخبر الواحد‪ .‬وقال بعض الواقفية‪ :‬بالتوقف؛ ألن خبر الواحد مظنون األصل‪،‬‬
‫مقطوع المعنى»‪ .212‬والمتكلمون المقصودون في كالم ابن قدامة الذين ال يقبلون‬
‫بتخصيص خبر الواحد لعموم الكتاب هم المعتزلة‪.‬‬
‫‪-2‬نسخ محكم القرآن بخبر اآلحاد‪:‬‬
‫أما مسألة رفضهم لنسخ القرآن بخبر اآلحاد فهم ضمن جمهور األصوليين‬
‫والمتكلمين الذين رفضوا ذلك‪ .‬وهي مسألة مشهورة يشاركهم فيها أغلب المتكلمين‬
‫واألصوليين وبالتالي ال تستدعي نقل أقوال األصوليين فيها‪.‬‬
‫‪-3‬حديث اآلحاد ً‬
‫دليل أم أمارة‪:‬‬
‫ذهب فريق من األصوليين والمتكلمين وعلى رأسهم المعتزلة إلى التفريق بين‬
‫الطرق الموصلة إلى األحكام الشرعية‪ ،‬فما كان منها طري ًقا مفيدً ا للعلم القطعي خصوه‬
‫بإطالق اسم «الدليل»‪ ،‬وما كان منها مفيدً ا للظن أطلقوا عليه اسم «األمارة»‪ ،‬ولم يصح‬
‫التجوز‪ .‬قال أبو الحسين البصري‪:‬‬
‫ّ‬ ‫عندهم إطالق اسم «الدليل» على ذلك إال على سبيل‬
‫«والداللة‪ :‬هي ما النظر الصحيح فيها يفضي إلى العلم‪ ،‬واألمارة‪ :‬هي ما النظر الصحيح‬
‫فيها يفضي إلى غالب الظن»‪ .213‬وهذا الفريق يسمي ما طريقه القطع ككتاب الله تعالى‬
‫«دليل»‪ .‬ويسمي ما طريقه الظن كخبر الواحد والقياس‬ ‫ً‬ ‫والخبر المتواتر وإجماع األمة‬
‫«أمارة»‪ .‬واألمارة أقل حجة من الدليل‪.‬‬
‫واصطالحا‪ ،‬هي التي يلزم من العلم بها الظن‬
‫ً‬ ‫واألمارة في اللغة هي‪ :‬العالمة‪،‬‬
‫بوجود المدلول‪ ،‬كالغيم بالنسبة إلى المطر‪ ،‬فإنه يلزم من العلم به الظن بوجود المطر‪.‬‬
‫والفرق بين األمارة والعالمة‪ ،‬أن العالمة‪ :‬ما ال ينفك عن الشيء‪ ،‬كوجود األلف والالم‬
‫على االسم‪ ،‬واألمارة‪ :‬تنفك عن الشيء‪ ،‬كالغيم بالنسبة للمطر‪ .214‬وعلى هذا فال تعدو‬

‫‪ 212‬روضة الناظر (‪.)67/2‬‬


‫‪ 213‬املعتمد‪.6-5/1‬‬
‫‪ 214‬التعريفات للجرجاين ص‪.36‬‬
‫يسيقلا هللا دبع ‪.‬د‬ ‫‪406‬‬
‫األدلة الظنية كخبر الواحد والقياس عن أن تكون عالمات مجردة أنيط ت َع ُّين الحكم‬
‫بظهورها‪ ،‬من غير أن يكون لها تأثير في تعين ذلك الحكم‪.‬‬
‫نسبة هذا القول‪:‬‬
‫ــ نسبه القاضي أبو بكر الباقالني إلى بعض «الفقهاء والمتكلمين»‪.215‬‬
‫ــ ونسبه الجويني في تلخيص التقريب إلى «معظم المحققين»‪.216‬‬
‫ــ ونسبه القاضي أبو يعلى إلى أهل النظر‪.217‬‬
‫ــ ونسبه أبو الحسين البصري المسألة إلى المتكلمين‪ ،‬ونسب المذهب الثاني‬
‫للفقهاء‪.218‬‬
‫ــ ونسبه الخطيب البغدادي إلى المحققين من المتكلمين وأهل النظر‪ ،‬ونسب‬
‫المذهب الثاني للفقهاء‪.219‬‬
‫ــ ونسبه أبو المظفر السمعاني إلى أكثر المتكلمين وقلة من الفقهاء‪ ،‬ونسب المذهب‬
‫الثاني لعامة الفقهاء‪.220‬‬
‫ــ ونسبه السبكي إلى المتكلمين وبعض الفقهاء‪.221‬‬
‫ــ ونسبه اآلمدي إلى األصوليين‪. 222‬‬
‫خالصة البحث‪:‬‬
‫خالصة ما أوردته المصادر األصولية السنية عنهم وما جاء في بعض كتبهم في‬
‫مسألة حجية خبر الواحد على ستة آراء‪:‬‬
‫األول‪ :‬عدم جواز التعبد بخبر اآلحاد‪ ،‬وهذا الرأي منسوب لألصم وابن عليه‪،‬‬
‫أيضا للخياط والجبائي‪ ،‬كما ينسبونه أحيانًا لجماعة من المعتزلة أو القدرية‪.‬‬
‫وينسب ً‬

‫‪ 215‬انظر التقريب واإلرشاد‪.222-221/1‬‬


‫‪ 216‬تلخيص التقريب ‪.131/1‬‬
‫‪ 217‬العدة ‪.135/1‬‬
‫‪ 218‬املعتمد‪.190-189/2‬‬
‫‪ 219‬الفقيه واملتفقه ‪.45/2‬‬
‫‪ 220‬قواطع األدلة ‪.33/1‬‬
‫‪ 221‬رفع احلاجب عن خمترص ابن احلاجب ‪.253/1‬‬
‫‪ 222‬اإلحكام يف أصول األحكام ‪.9/1‬‬
‫‪407‬‬ ‫لزتعملا دنع داحآلا ثيدح‬

‫الثاني‪ :‬عدم جواز التعبد إال بخبر رواه اثنان فصاعدً ا‪ ،‬والرواية في الزنا ال تقل عن‬
‫أربعة وينسب للجبائي‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬عدم جواز العمل إال بخبر رواه أربعة‪ ،‬وينسب لبعض المعتزلة‪.‬‬
‫الرابع‪ :‬عدم قبول خبر اآلحاد إال بعد قرائن تنضم إليه‪ ،‬وينسب للنظام وهشام بن‬
‫عمرو‪.‬‬
‫الخامس‪ :‬عدم قبول خبر اآلحاد إال بشروط منها‪ :‬أن يعضده ظاهر الكتاب‪ ،‬أو ظاهر‬
‫خبر آخر‪ ،‬أو يكون منتشر ًا بين الصحابة‪ ،‬أو عمل به بعضهم‪ ،‬وينسب للجبائي‪.‬‬
‫السادس‪ :‬عدم االحتجاج بخبر اآلحاد في العقائد وقبول االحتجاج به في األحكام‬
‫بشروط‪ ،‬ذكره البلخي والقاضي عبد الجبار‪.‬‬
‫ظاهر القرآن الكريم‪ ،‬وأالَّ يخالف سنة مجمع‬ ‫َ‬ ‫ف‬‫وأهم تلك الشروط‪ :‬أالَّ ُيخالِ َ‬
‫ظاهر الخ َبر في‬
‫ُ‬ ‫عليها‪ ،‬وأالَّ ُيخالِف العقل‪ .‬يقول أبو الحسين المعتزلي‪« :‬لم ُيق َب ْل‬
‫وجل ال ُيك ِّلف إالَّ‬
‫عز َّ‬ ‫أن الله َّ‬ ‫مخالفة ُمقتضى العقل؛ ألنا قد علمنا بالعقل على اإلطالق َّ‬
‫أن نعتقد صدق النبي ــ‬ ‫الخبر في خالفه‪ ،‬لم يخل؛ إ َّما ْ‬
‫َ‬ ‫وأن ذلك قبيح‪ ،‬فلو قبِلنا‬
‫ما ُيطاق َّ‬
‫صلى الله عليه وسلم ــ في ذلك فيجتمع لنا صدق النقيضين‪ ،‬أو ال نُصدِّ قه فنعدل عن‬
‫عجز وذلك محال»‪ .223‬يضاف لذلك أنهم يذهبون إلى عدم تخصيص عموم‬ ‫مدلول الم ِ‬
‫ُ‬
‫القرآن بخبر الواحد‪ ،‬وعدم نسخ محكم القرآن بخبر الواحد‪ ،‬واعتبار خبر الواحد أمارة‬
‫ال ً‬
‫دليل‪.‬‬

‫‪ 223‬املعتمد يف أصول الفقه‪.153/2 ،‬‬


‫دراسات‬

‫السردية الدينية الجديدة في فكر عبد الجبار الرفاعي‬

‫د‪ .‬محمد همام‬


‫‪1‬‬ ‫_____________________________________________‬

‫إذا كانت السردية‪ ،‬من منظورنا‪ ،‬هي أكبر من البنية النصية ومن الخطاب؛ فهي‬
‫بنيات وخطابات وتمثالت وتأويالت وحكي وتركيب‪ ،‬إذ السردية التي نقصدها‬
‫في هذه الدراسة تتجاوز االستعماالت التي تحصرها في الدراسات األدبية وفي‬
‫النقد األدبي‪ ،‬وفي علم اللسانيات وفي علم الداللة‪ ،‬وندرجها في إطار الدراسات‬
‫الثقافية والنقدية التي تأخذ بالمنظور الموسع والمركب‪ .2‬إن السردية أداة نقد‬
‫وتحليل وتأويل؛ تأويل الدين‪ ،‬والمعرفة الدينية‪ ،‬والتاريخ‪ ،‬والواقع‪ ،‬وهي قراءة في‬
‫النصوص وفي الخطابات؛ لبناء حكاية‪/‬سردية من خالل النظر في مجموع تلك‬
‫األفكار واألحداث والشخوص في األمكنة واألزمنة المختلفة‪ .‬إن السردية فوق‬
‫صاحب السردية ذا قدرة تجميعية‬ ‫ُ‬ ‫ذلك تمأل نقصانا في التفسير‪/‬الفهم‪ .3‬يكون‬
‫دورا كبيرا في صياغة بنائها وغايتها ويحدّ د‬ ‫وتحليلية ونقدية وتركيبية‪ ،‬يلعب ً‬
‫مجموع جهود الكاتب سواء كان مختر ًعا لها‪ ،‬أو باح ًثا إثنوغرافيا في‬
‫ُ‬ ‫وجهتَها‪ .‬فهي‬
‫شخوصها وأحداثها وعناصرها‪ .‬فإن من خصائصها التأسيسية‪ :‬التكاملية‪ ،‬والنقدية‪،‬‬
‫والتعدّ د المرجعي‪ ،‬واالستقاللية‪ .‬لذلك ذهبنا إلى أن مت َن األستاذ عبد الجبار‬

‫‪ 1‬أستاذ اللسانيات القانونية واحلجاج القانوين‪ ،‬بجامعة ابن زهر‪ ،‬معاون العميد بكلية العلوم‬
‫القانونية واالقتصادية واالجتامعية‪ ،‬أيت ملول ‪/‬أكادير‪.‬‬
‫‪2 Anna L. peterson, Religious Narratives and Political Protest, Journal of the‬‬
‫‪.‬ــ ‪American Academy of Religion, Vol. 64.1 (Spring, 1996), pp. 27 44‬‬
‫‪ 3‬لتعميق مفهوم الرسدية وعالقتها باحلكي والتاريخ والذاكرة والتأويل‪ ،‬خصوصا تأويل املعرفة‬
‫الدينية‪ ،‬ينظر‪ :‬بول ريكور‪ ،‬الذاكرة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬النسيان‪ ،‬ترمجة وتقديم وتعليق د‪ .‬جورج زينايت‪،‬‬
‫منشورات دار الكتاب اجلديد املتحدة‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪ ،2009 ،‬التمثل والرسد‪ ،‬ص‪-359‬‬
‫‪.374‬‬
‫‪409‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫الرفاعي يشكّل سردية؛ من حيث تكامل البعد اإلنساني والفكري‪ ،‬وبسبب نزعته‬
‫النقدية الكاشفة للبنيات العميقة للخطابات‪ ،‬والنفتاحه المرجعي على أكثر من‬
‫قديما وحدي ًثا‪ ،‬أو داخلية وخارجية‪ ،‬مع الحفاظ على مسافات بحثية‬
‫مدرسة فكرية ً‬
‫موضوعية من المعارف والمدارس والمواقف التي يفحصها أو يشتبك معها‪ ،‬بما‬
‫يساعده على التأسيس لخطاب معرفي‪/‬يرقى بنظرنا ليكون سردية‪ ،‬بقدر ما هو مبدع‬
‫ومتفرد في مجال الدراسات الدينية الحديثة‪ .‬وسنتطرق‬
‫ّ‬ ‫وجديد‪ ،‬وبقدر ما هو مستقل‬
‫إلى خصائص السردية الدينية الجديدة عند عبد الجبار الرفاعي من خالل العناصر‬
‫اآلتية‪ :‬عبد الجبار الرفاعي اإلنسان‪ ،‬وعبد الجبار الرفاعي المشروع الفكري‪ ،‬وعبد‬
‫الجبار الرفاعي السردية الدينية الجديدة‪.‬‬

‫عبد الجبار الرفاعي اإلنسان‬


‫نص عبد الجبار الرفاعي ويدرسه من دون أن يلمس‬ ‫ُ‬
‫اإلنسان َّ‬ ‫ال يمكن أن يقرأ‬
‫هال ًة إنسانية متوثبة‪ ،‬وعم ًقا وجدان ًّيا مملو ًءا بالمحبة‪ ،‬ومملو ًءا بالرحمة‪ ،‬ومملو ًءا‬
‫بسبب من هذه القيم المنغرسة في أعماق الذات‬ ‫ٍ‬ ‫نص يغويك بقراءته‬‫بالتسامح‪ .‬إنه ٌّ‬
‫كثير‬
‫نص فيه ٌ‬ ‫كل إنسان‪ .‬إنه ٌّ‬‫اإلنسانية‪ ،‬وبهذه المفاهيم المنشطة للحالة الوجودية في ِّ‬
‫كثير من الكثافة التواصلية مع القارئ‪ .‬ال يعني‬ ‫وكثير من الرفق‪ ،‬وفيه ٌ‬
‫ٌ‬ ‫من الحب‪،‬‬
‫مستوى من مستوياته؛ لغته لغة‬
‫ً‬ ‫نص مك ّثف في‬‫نص بسيط‪ ،‬بل هو ٌّ‬‫التوصيف أنه ٌّ‬
‫ُ‬ ‫هذا‬
‫أيضا هذه اللغ ُة الباذخة التي يكتب بها الرفاعي‬
‫النص ً‬
‫معتّقة وعميقة‪ ،‬تجذبك إلى هذا ّ‬
‫تتعمق في هذه النصوص‪ ،‬بأن عبد الجبار‬
‫تحس‪ ،‬عندما ّ‬
‫ّ‬ ‫أفكاره الثرية‪.‬‬
‫َ‬ ‫وتحضن‬
‫تحس بأن هذا الرجل‬ ‫الرفاعي‪ ،‬وبهذا المستوى وبهذا المنظور واستنا ًدا لهذه القيم‪ّ ،‬‬
‫وأنفاسه مدا َده‪ ،‬ويخفي في أعماقه تجرب ًة حياتي ًة قاسي ًة جدًّ ا؛ ربما في قرية‬
‫َ‬ ‫يتخذ د َمه‬
‫المنشأ‪ ،‬وفي المدرسة‪ ،‬وفي الحوزة‪ ،‬وربما في التنظيم الحركي‪ ،‬وربما في الوطن‪،‬‬
‫وربما في خارج الوطن في الغربة‪ ،‬نتيج َة قسوة الوضع السياسي وقسوة االستبداد‪،‬‬
‫وقسوة الغربة في محطة فارقة من حياة الرفاعي‪.‬كان من المفترض أن تنتج هذه‬
‫نصا مملو ًءا بالتراحم‪ ،‬مملو ًءا بالمحبة‪ ،‬ومملو ًءا‬
‫نصا قاس ًيا‪ ،‬وإذا بها تنتج ًّ‬
‫القسو ُة ًّ‬
‫بالكثافة المعنوية‪ .‬ال يفوتني أن أذكر بأنني واحدٌ من الشباب المغربي الذين لعب‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪410‬‬
‫دورا كبيرا في تحقيق مقصد كبير من مقاصد هذا المشروع‬ ‫نص عبد الجبار الرفاعي ً‬ ‫ُّ‬
‫أول‪ .‬ربما كان الرفاعي في البدء يبحث‬ ‫الفكري لديهم وهو اإلنقاذ؛ إنقاذ اإلنسان ً‬
‫أيضا‬ ‫ويحرر به عق َله وعواط َفه‪ ،‬لكن سرعان ما أصبح هذا ُّ‬
‫النص ً‬ ‫ّ‬ ‫نص ينقذ به ذاتَه‬
‫عن ٍّ‬
‫طري ًقا إلنقاذ وتحرير مجموعة من الشباب؛ إنقاذ الذات واسترجاع هويتها اإلنسانية‪.‬‬
‫عندما بدأنا نقرأ كتابات عبد الجبار الرفاعي في نهاية تسعينيات القرن الماضي‪،‬‬
‫من خالل مجلة قضايا معاصرة‪ ،‬وخاصة المقدّ مات العميقة والمركبة والمك ّثفة التي‬
‫عدد من األعداد‪،‬كمدخل للموضوعات المنشورة في محور‬ ‫كل ٍ‬ ‫كان يكتبها بين يدي ّ‬
‫أيضا‪.‬كانت الحالة‬ ‫نفسه فقط‪ ،‬بل يسهم في إنقاذنا نحن ً‬
‫نحس بأنه لم ينقذ َ‬ ‫العدد‪ ،‬كنا ّ‬
‫التي كنا نعيشها في أواسط التسعينيات هي الحالة نفسها التي عاشها الرفاعي في‬
‫بداية الثمانينيات من القرن الماضي‪ ،‬وهي التخ ّلص من النزعة التنظيمية والحركية‬
‫كل ما هو إنساني وعاطفي وروحي‬ ‫وبكل ضغطها‪ ،‬وبكل قسوتها على ّ‬ ‫ّ‬ ‫ّ‬
‫بكل قيودها‪،‬‬
‫في اإلنسان‪ .‬لم نكن نعرف البنيات الباطنة والتجارب المخفية في نصوص عبد‬
‫الجبار‪ .‬عندما التقينا به ازددنا ارتوا ًء منه واستيعابا لسرديته الفكرية‪.‬‬
‫ٍ‬
‫إنقاذ ومشروع تحرير‪ ،‬للروح‬ ‫إن مشروع عبد الجبار الرفاعي هو مشروع‬
‫واألخالق والعقل‪ ،‬ومشروع استرجاع للنزعة اإلنسانية التي ضاعت في خضم‬
‫تحويل الدين إلى دوغما‪ ،‬وإلى أيديولوجية كفاح ّية‪ .‬إذا كان الدين باألصل قد جاء‬
‫تكريما‪ ،‬وبوصفه الهدى‪ ،‬فقد أتاه حي ٌن من الدهر ضمر فيه البعدُ‬
‫ً‬ ‫من أجل اإلنسان‪،‬‬
‫اإلنساني‪ ،‬حتى كادت أن تنطمس أو تنمحي النزع ُة اإلنسانية فيه‪ ،‬لذا جعل الرفاعي‬
‫واسترجاع الذات اإلنسانية للكائن‬
‫َ‬ ‫َّ‬
‫كل همه «إنقاذ النزعة اإلنسانية في الدين»‪،4‬‬
‫البشري بالدين‪ ،‬بعدما استُعمل الدي ُن إلنهاك اإلنسان‪ ،‬ومحو بعده وعمقه اإلنساني‪،‬‬
‫(و َل َقدْ ك ََّر ْمنَا َبنِى َءا َد َم) اإلسراء‪70/‬؛ غاص الرفاعي‬
‫الدين الذي قام على التكريم‪َ :‬‬
‫في أعماقه السترجاع هذه القيم المفقودة‪.‬‬
‫بقدر ما نجد من التراحم في هذه السردية الجديدة في الخطاب الديني المعاصر‬

‫‪« 4‬إنقاذ النزعة اإلنسانية يف الدين»‪ ،‬عنوان الطبعة األوىل لكتاب‪« :‬الدين والنزعة اإلنسانية»‪،‬‬
‫الذي صدر قبل ‪ 10‬سنوات‪ ،‬وصدر يف طبعة ثانية وثالثة ورابعة بعنوانه األخري‪« :‬الدين والنزعة‬
‫اإلنسانية»‪.‬‬
‫‪411‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫عند عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬بقدر ما نجد اشتباكًا مع السرديات األخرى‪ .‬أولى هذه‬
‫السرديات هي السردية التراثية التي قامت على ركيزة أساسية ذات منزع كالمي‬
‫فقهي‪ ،‬استلبت من خالله المعنى الديني لذاتها وأخرجته على صورتها وتصورها‪،‬‬
‫فأصبح الدي ُن معادل ًة فقهية‪ ،‬ومعادلة قانونية‪ ،‬كما أصبح معادلة حالل وحرام‪ .‬نقرأ‬
‫هاجس التأسيس لهذه السردية في نصوص الرفاعي منذ نهاية الثمانينات إلى اآلن‪.‬‬
‫فقد كان عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬في بداية الثمانينات وما قبلها‪ ،‬يفكر ضمن السردية‬
‫سنحس بأننا أمام كاتب آخر هو عبد‬
‫ّ‬ ‫القديمة إلى حدّ ما‪ ،‬لكن بعد نهاية الثمانينات‬
‫وظل منذ تلك الفترة يتنقل من ٍ‬
‫طور فكري إلى‬ ‫الجبار الرفاعي المتوتر المتجدّ د‪ّ .‬‬
‫ويتطور ويتغ ّير باستمرار‪ ،‬لكن على قواعد باراديغم عقلي‬
‫ّ‬ ‫ّ‬
‫ويتجذر‬ ‫آخر‪ ،‬يتجدّ د‬
‫وروحي وأخالقي مؤطر لتحوالت كهذه‪.‬‬
‫اشتبك عبد الجبار الرفاعي مع السردية التراثية ومازال‪ ،‬بما أخذ منه وقتا طويال‪،‬‬
‫يسع لحظة‪ ،‬بما تفصح‬
‫وأخذ منه جهدا كبيرا‪ ،‬وس ّبب له ومازال متاعب كثيرة‪ .‬لم َ‬
‫نصوصه‪ ،‬إلى أن يجامل أو يهادن أو يبحث عن الحلول الوسطى‪ .5‬ما زالت‬
‫ُ‬ ‫عنه‬
‫المعركة مع السردية التراثية تحتاج إلى أعمال إضافية وإلى جهود مستمرة‪ ،‬ألنها‬
‫ّ‬
‫ومتجذرة‪ ،‬وتحكم قبضتَها على التمثالت وعلى التصورات‬ ‫سردية عميقة وقوية‬
‫وعلى األفكار وعلى العقول‪ .‬أما السردية األخرى التي اشتبك معها الرفاعي وأنقذ‬
‫وحررهم منها‪ ،‬في العالم العربي على األقل‪ ،‬فهي السردية‬
‫الشباب من أحابيلها ّ‬
‫الحركية‪ ،‬بقسوتها‪ ،‬وبأيديولوجيتها‪ ،‬وبسطحيتها‪ ،‬وبتسييسها للدين‪ .‬اشتبك معها‬
‫عبد الجبار الرفاعي على أكثر من مستوى‪ ،‬خاصة ما يتع ّلق منها بتسييس الدين‬
‫وترحيله من مجاله األنطولوجي إلى مجال أيديولوجي بما يفقره وبما يهدر النزع َة‬
‫ِ‬
‫المخاصمة‬ ‫اإلنسانية فيه‪ .6‬السردية األخرى هي السرد ّية العلمانية وخاصة العلمانية‬
‫ُ‬
‫البديل الذي يقدّ مه عبد الجبار الرفاعي اشتباكًا في حدِّ ذاته مع السردية‬ ‫للدين‪ ،‬ويعدّ‬

‫‪ 5‬ينظر‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬الدين والظمأ األنطولوجي‪ ،‬منشورات دار الرافدين ومركز دراسات‬
‫فلسفة الدين‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬بغداد‪ ،2022 ،‬الفصل اخلامس‪ ،‬التدين السلفي يفقر احلياة الروحية‬
‫واألخالقية والعقلية‪ ،‬ص‪.211-199‬‬
‫‪ 6‬ينظر‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬الدين والظمأ األنطولوجي‪ ،‬الفصل الثالث‪ ،‬التجربة الدينية والظمأ‬
‫األنطولوجي‪ ،‬ص‪.155-125‬‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪412‬‬
‫يخصص لنقدها كتا ًبا بعينه‪ .‬فقد اشتبك عبد الجبار الرفاعي مع هذه‬ ‫العلمانية‪ ،‬وإن لم ِّ‬
‫السرديات ك ِّلها‪ ،‬على الرغم من أنه يملك عالقات وطيدة مع أقطابها ومع رموزها‬
‫الفكرية‪ .‬شبكة عالقاته واسعة جدًّ ا ومتنوعة ومختلفة‪ ،‬لكنه عندما يكتب ال يجامل‪،‬‬
‫الحجر األساس في سرديته الجديدة‪.‬‬
‫َ‬ ‫وال يداهن‪ ،‬ويكون وف ًّيا لصفة النقدية التي تعدّ‬
‫خاص من عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬وتحتاج أن‬ ‫ّ‬ ‫وهناك سردي ٌة أخرى تحتاج إلى اشتباك‬
‫أيضا بالنقد هي السردية الغربية‪ ،‬في إطار السعي للتحرير المعرفي‪ .‬قارئ‬ ‫يتناولها ً‬
‫تحرري من مجموعة من المفاهيم والرؤى وزوايا‬ ‫نص ّ‬ ‫عبد الجبار يحتاج إلى ٍّ‬
‫النظر الغربية المرتبطة بالمعرفة الغربية المتح ّيزة‪ ،‬بما ال يدعو لالنغالق‪ ،‬ولكن‬
‫والكشف عن محدوديتها في تفسير الدينامية االجتماعية وعالقتها‬ ‫ِ‬ ‫لنقد تح ّيزاتها‪،‬‬
‫َ‬
‫ظالل‬ ‫نحس بأن‬
‫ّ‬ ‫بالدين في سياقنا التاريخي واالجتماعي وفي سياقنا الحضاري‪.‬‬
‫هذا النقد حاضرة في ثنايا سردية عبد الجبار‪ ،‬ظالل نقد وكشف التح ّيزات الموجودة‬
‫يكرر في كتاباته ضرورة «االستيعاب النقدي للتراث والعلوم‬ ‫النص الغربي؛ فهو ّ‬ ‫في ّ‬
‫خصص افتتاحي َة العدد الخاص بـ «التحيز والتمركز‬ ‫والمعارف الحديثة»‪ ،‬حتى إنه ّ‬
‫في المعرفة» من مجلة قضايا إسالمية معاصرة لبحث «االستيعاب النقدي للتراث‬
‫والعلوم والمعارف الحديثة»‪ ،‬أو قوله في سياق نقده للذين يتفلسفون ضدّ الفلسفة‪،‬‬
‫ويبالغون‪ ،‬بنظره‪ ،‬في رفض الفلسفة الغربية‪« :‬ال أعني بذلك أن الفلسفة الغربية ينبغي‬
‫أن تتسيد فتصبح مرجعية ناجزة ونهائية لكل تفلسف بشري‪ ،‬وإنما تمثل هذه الفلسفة‬
‫مرحلة من مراحل تطور التفكير الفلسفي‪ .‬ولن يتوقف هذا التفكير مادام هناك عقل‬
‫يواصل مراكمة مكاسبه في مختلف حقول العلم والمعرفة»‪ 7.‬وفي أكثر من عدد من‬
‫وعي الرفاعي بضرورة‬‫أبحاث نقدية أخرى‪ ،‬بما يظهر َ‬ ‫ٌ‬ ‫مجلة قضايا إسالمية معاصرة‬
‫االشتباك النقدي مع المعرفة الغربية‪ ،‬من حيث مفاهيمها‪ ،‬ومناهجها‪ ،‬وأطرها‬
‫النظرية‪ ،‬وأشكالها التطبيقية‪ ،‬وإمكانات توظيفها في حياتنا الفكرية وفي ممارساتنا‬
‫اليومية‪.8‬‬

‫‪ 7‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬الدين واالغرتاب امليتافيزيقي‪ ،‬منشورات مركز دراسات فلسفة الدين ودار‬
‫التنوير للطباعة والنرش‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بريوت‪ ،2019 ،‬ص‪.152‬‬
‫‪ 8‬يرجع إىل أعداد من جملة قضايا إسالمية معارصة‪ :‬العدد اخلامس عرش ‪ ،2001/1422‬حمور‪:‬‬
‫‪413‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫كان عبد الجبار الرفاعي جري ًئا في نقد النزعات الطائفية في العالم اإلسالمي‪ ،‬وهي‬
‫ٍ‬
‫انتماء إسالمي خارج الطائفة‪ .‬عندما كنا‬ ‫تحرر‪ ،‬ومك ِّبل ألي‬ ‫عامل محبِط ومعيق ّ‬
‫ألي ّ‬
‫تصنيف المجلة وكذا صاحبها ورئيس‬
‫َ‬ ‫نقرأ قضايا إسالمية معاصرة لم نكن نستطيع‬
‫ٍ‬
‫نقاش‬ ‫تذويب النزعات المذهبية داخل‬
‫َ‬ ‫تحريرها عبد الجبار الرفاعي؛ فقد استطاع‬
‫فكري ومعرفي يشترك فيه باحثون بمختلف معتقداتهم‪ ،‬ومسلمون من السنة ومن‬
‫الشيعة خارج التصنيف داخل الهوية المذهبية‪ .‬عبد الجبار الرفاعي باحث ومفكر ال‬
‫يشعرك بمذهبية وال بطائفية‪ ،‬بل يشعرك بعمقه المعرفي والفكري والنقدي وبأفقه‬
‫اإلنساني‪ ،‬في إطار مايسميه بـ (اإلنسانية اإليمانية)‪.‬‬

‫عبد الجبار الرفاعي‪ :‬المشروع الفكري‪ :‬معادلة العرض والنقد‬


‫تعرفنا من خالل‬
‫يمتد مشروع الرفاعي الفكري بين العرض والنقد والتركيب؛ فقد ّ‬
‫ٍ‬
‫أطروحات مشاريع فكرية لم تكن متاح ًة للباحث‬ ‫كتابات عبد الجبار الرفاعي على‬
‫تعرفنا خاص ًة على النقاش الديني المعاصر في المشهد‬
‫العربي‪ ،‬وكذا للمثقف الديني؛ ّ‬
‫الثقافي والديني في إيران؛ واكتشفنا كتابات مصطفى ملكيان ومحمد مجتهد شبستري‬
‫وداريوش شايغان وعبد الكريم سروش من خالل مجلة قضايا معاصرة‪ ،‬أو من خالل‬
‫كتّاب قضايا إسالمية معاصرة‪ ،‬أو من خالل منشورات مركز دراسات فلسفة الدين‪،‬‬
‫أو من خالل مؤلفات عبد الجبار الرفاعي نفسه‪ ،‬خاصة مدونته الفكرية الخماسية‬
‫ٍ‬
‫بكتابات نقدية معاصرة من الفضاء‬ ‫في السنوات العشر األخيرة‪ .9‬كما حفلت المجلة‬

‫االجتاهات اجلديدة يف علم الكالم‪ ،‬اجلزء الثاين‪ ،‬والعددان ‪ ،25-24‬صيف وخريف ‪2003‬م‪،1424‬‬
‫حمور‪ :‬التباسات املفاهيم يف الفكر اإلسالمي املعارص‪ ،‬اجلزء األول‪ ،‬التباس مفهوم الليربالية‪،‬‬
‫والعدد‪ ،26‬شتاء‪ ،1424/2004‬حمور‪ :‬التباسات املفاهيم يف الفكر اإلسالمي املعارص‪ ،‬اجلزء الثاين‪،‬‬
‫والعدد ‪ ،52-51‬صيف وخريف ‪ 1433/2012‬حمور‪ :‬رهانات الدين واحلداثة‪ ،‬اجلزء السادس‪ ،‬اإليامن‬
‫والتجربة الدينية‪ ،‬والعدد‪ ،58-57‬شتاء وربيع ‪ ،1435/2014‬حمور‪ :‬اهلرمنيوطيقا واملناهج احلديثة يف‬
‫تفسري النصوص الدينية‪ ،‬اجلزء الثاين‪ .‬كام يمكن الرجوع إىل كتاب عبارة عن حوارات حرره عبد‬
‫اجلبار الرفاعي بعنوان‪ :‬الدين وأسئلة احلداثة‪ :‬حممد أركون ومصطفى ملكيان وعبد املجيد الرشيف‬
‫وحسن حنفي‪ ،‬منشورات دار التنوير ومركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬وكتاب‪ :‬اهلرمنيوطيقا والتفسري‬
‫الديني للعامل‪ ،‬وكتاب‪ :‬اإليامن والتجربة الدينية‪.‬‬
‫‪ 9‬ونقصد هبا‪ :‬الدين والنزعة اإلنسانية (‪ ،)2018‬و‪ :‬الدين واالغرتاب امليتافيزيقي (‪ ،)2019‬و‪ :‬الدين‬
‫والكرامة اإلنسانية (‪ ،)2021‬و‪ :‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد (‪ ،)2021‬و‪ :‬الدين والظمأ األنطولوجي‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪414‬‬
‫الفكري السنّي؛ فظهرت فيها أبحاث لمحمد عابد الجابري‪ ،‬وطه عبد الرحمن‪ ،‬ومحمد‬
‫أركون‪ ،‬وعبد المجيد الشرفي‪ ،‬وأبو القاسم حاج حمد‪ ،‬ورضوان السيد‪ ،‬وطه جابر‬
‫العلواني‪ ،‬وحسن حنفي‪ ،‬وأحميده النيفر‪ ،‬وعبد الحميد أبو سليمان‪ ،‬وسيف الدين عبد‬
‫الفتاح‪ ،‬وعلي حرب‪ ،‬ونصر محمد عارف‪ ،‬وعبد الله ولدباه‪ ،‬وأبي بكر باقادر‪ ،‬ووجيه‬
‫كوثراني‪ ،‬وحسن الترابي‪ ،‬وجمال الدين عطية‪ ،‬وطارق البشري‪ ،‬ومحمد عمارة‪،‬‬
‫تعرفنا على أطروحات‬ ‫وتوفيق الشاوي‪ ،‬ومحمد سبيال‪ ،‬وفتحي المسكيني‪ ،‬وغيرهم‪ّ .‬‬
‫فكرية من الفضاء اإليراني لم تكن متاح ًة لنا في الفضاء العربي إلى جانب أطروحات‬
‫في الفضاء الفكري العربي‪ .‬لقد كان عبد الجبار الرفاعي قنطر َة تواصل فكري‪ ،‬وكان‬
‫جسرا ثقاف ًّيا أساس ًّيا للربط بين هذه المجاالت التداولية الثقافية وبين اللغات المختلفة‬ ‫ً‬
‫التي كتب بها التراث المعرفي اإلسالمي‪ ،‬وخاصة العربية والفارسية‪ .‬ربما ال تظهر آثار‬
‫هذا التماس الثقافي الذي أحدثه الرفاعي في واقعنا الفكري والسياسي واالجتماعي‬
‫الذي نعيش فيه اليوم‪ ،‬ولم يتن ّبه كثيرون للقيمة التواصلية لهذا اإلنجاز الذي قام به على‬
‫أكثر من مستوى فكري وثقافي‪ .‬لكن في السنوات القادمة سنعرف بأن هذا الرجل قام‬
‫بدور كبير جدًّ ا في خلق أجواء حوار وتواصل ونقاش‪ ،‬سيكون أرضي ًة للتواصل بين‬
‫شعوب المنطقة وربما دولها في بالد العرب وفي بالد الفرس‪ ،‬بعدما يهدأ الضجيج‬
‫السياسي‪ ،‬ويضعف التحريش الدولي بين شعوب المنطقة وبين حكوماتها‪ ،‬من خالل‬
‫استثمار عناصر التنافر الطائفي والمذهبي‪ ،‬وكذا المصالح السياسية العابرة‪ .‬لقد أسهم‬
‫مستقبل‪ ،‬في تخليص وإنقاذ شباب حيارى‬ ‫ً‬ ‫الرفاعي بمشروعه الفكري‪ ،‬وسيسهم أكثر‬
‫ومعذبين ومقهورين من ضيق الطائفة إلى سعة الدين واإلنسانية‪ ،‬وإخراجهم‬ ‫ّ‬ ‫وتائهين‬
‫مثل في المغرب على‬ ‫نتعرف ً‬
‫إلى فضاء فكري إنساني أكثر فسحة‪ .‬لم يكن بإمكاننا أن ّ‬
‫كتابات مصطفى ملكيان أو محمد مجتهد شبستري أو عبد الكريم سروش أو أحمد‬
‫ومنتدى‬
‫ً‬ ‫فرديد أو حسين نصر أو غيرهم‪ ،‬فكانت قضايا إسالمية معاصرة نافذ َة ضوء‬
‫جو يسوده الحوار والنقاش الرحب‪ ،‬بين مختلف‬ ‫نظل منها على ٍّ‬ ‫فكر ًّيا إسالم ًّيا متم ّي ًزا ّ‬
‫الحساسيات الفكرية المنتمية إلى الفكر اإلسالمي المعاصر‪.‬‬

‫(‪ .)2023‬وكلها من منشورات مركز دراسات فلسفة الدين مع نارشين ‪/‬رشكاء خمتلفني‪ ،‬بني بغداد‬
‫وبريوت‪.‬‬
‫‪415‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫يكتف الرفاعي بعرض المشاريع الفكرية وحسب‪ ،‬بل اشتبك مع أطروحاتها في‬ ‫ِ‬ ‫لم‬
‫خضم عرضها؛ انتقد أطروحات كانت في أوجها‪ ،‬وكانت في قمة تألقها‪ ،‬عند الشيعة‬
‫مثل‪ ،‬وهو المفكر‬ ‫وعند السنة؛ لم يكن أحد يجرؤ على نقد أطروحة علي شريعتي ً‬
‫والثائر والقديس‪ ،‬وهو ملهم الثورة في إيران‪ ،‬والمثقف الرسولي‪ ،‬وملهم الكثير‬
‫منظور معرفي ونقدي‪،‬‬‫ٍ‬ ‫من الثوار اإلسالميين في أكثر من مكان‪ .‬انتقده الرفاعي من‬
‫وفكك أطروحتَه‪ ،‬وعدّ ها نو ًعا من أدلجة الدين‪ ،‬وحال ًة من حاالت إفقاره‪ ،‬وأدا ًة من‬
‫ّ‬
‫أدوات تعميق الظمأ الوجودي إلى الدين‪ .10‬لم يفرط الرفاعي‪ ،‬في المقابل‪ ،‬بالقيمة‬
‫الفكرية والتاريخية والعلمية والنضالية لألستاذ علي شريعتي‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬كمثقف‬
‫ديني وعضوي‪.‬كما كان الرفاعي جري ًئا حين انتقد علي شريعتي‪ ،‬وهو يعرف بأن له‬
‫قمة تألقها وعطائها في تسعينيات‬ ‫أيضا أطروح ًة أخرى كانت في ّ‬‫أتبا ًعا وعشا ًقا‪ ،‬نقد ً‬
‫القرن الماضي وهي أطروحة (إسالمية المعرفة) التي حمل لواءها المعهد العالمي‬
‫السبق في نقدها‪ ،‬وفي نزع الهالة العاطفية‬
‫ُ‬ ‫للفكر اإلسالمي‪.‬كان لعبد الجبار الرفاعي‬
‫والمسحة المعرفية التي كانت تحيط بها نفسها؛ فقد قدّ م ورق ًة نقدية في المؤتمر‬
‫انزعاج‬
‫َ‬ ‫الدولي المنعقد في إسطنبول ‪ 2006‬للمعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬أثارت‬
‫فريق المعهد والمتعاطفين معه‪ .‬ونشر عدة فصول في نقد أطروحة (إسالمية المعرفة)‬
‫في مؤلفاته‪ .11‬لم يكن الرفاعي جالسا في ِ‬
‫بيته ببغداد ويكتب نقدً ا ألطروحة إسالمية‬ ‫ً‬
‫المعرفة‪ ،‬بل كان ينتقدها في مؤتمراتها‪ ،‬وأمام رموزها؛ بحضور طه جابر العلواني‬
‫مؤسسي المعهد‪ ،‬كما انتقد‬
‫وعبد الحميد أبي سليمان‪ ،‬رحمهما الله‪ ،‬وغيرهما من فريق ّ‬
‫وعرف الرفاعي‬‫شريعتي من داخل المشهد الثقافي اإليراني‪ ،‬وبين تالمذته ومريديه‪ّ .‬‬
‫مؤسسي‬‫بمن كان ينتقد أطروح َة إسالمية المعرفة‪ ،‬ممن تعرضوا للتهميش من بعض ّ‬

‫‪ 10‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬الدين والظمأ األنطولوجي‪ ،‬الفصل الرابع‪ ،‬املثقف الرسويل عيل رشيعتي‪ ،‬ترحيل‬
‫الدين من األنطولوجيا إىل األيديولوجيا‪ ،‬ص‪ ،197-157‬وكتاب‪ :‬الدين والنزعة اإلنسانية‪ ،‬ص‪-73‬‬
‫‪.93‬‬
‫‪ 11‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬الدين والنزعة اإلنسانية‪ ،‬إسالمية املعرفة أيديولوجيا وليست معرفة‪ ،‬ص‪-155‬‬
‫‪ .170‬و‪ :‬مفهوم التحيز والتمركز املعريف يف التفكري الديني اإليراين املعارص‪ ،‬ص‪ .300-289‬و‪:‬‬
‫املرجعيات الكالمية للفقيه وأثرها يف توجيه عملية االستنباط‪ ،‬ص‪ .109-95‬وكتاب‪ :‬الدين‬
‫واالغرتاب امليتافيزيقي‪ ،‬عندما يتجاوز الدين حدوده‪ ،‬ص‪.153-129‬‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪416‬‬
‫نوع من التعتيم على إنتاجهم العلمي‪ ،‬على الرغم من تفاعالته‬ ‫المعهد‪ ،‬ومورس ٌ‬
‫الجزئية مع األطروحة؛ مثل كتابات المفكر السوداني محمد أبي القاسم حاج حمد‬
‫(ت ‪ ،)2004‬بوصفه صوتًا نقد ًّيا ناقش األطروح َة من مداخل فلسفية وتحليلية خارج‬
‫ُ‬
‫الفضل‬ ‫ٍ‬
‫بعمق معرفي وفكري مم ّيز‪ .‬ويرجع‬ ‫باراديغم العلوم اإلسالمية الكالسيكية‪،‬‬
‫مهمشا‪،‬كتبه‬ ‫ٍ‬
‫بمتن فكري كان ّ‬ ‫األكبر للرفاعي في تعريف القارئ العربي واإلسالمي‬
‫أبو القاسم حاج حمد‪ ،‬وهو كتاب «العالمية اإلسالمية الثانية» الذي صدر سنة‪1979‬‬
‫و ُأهمل‪ .‬وهو كتاب في فلسفة الدين‪ ،‬ويبحث جدل الغيب واإلنسان والطبيعة‪ ،‬ويستند‬
‫إلى مرجعية القرآن الكريم‪ ،‬مع توظيف محترف‪ ،‬بتعبير الرفاعي في تقديمه للكتاب‪،‬‬
‫ألدوات العلوم اإلنسانية الحديثة‪ ،‬واإلفادة من معطياتها المنهاجية‪ .‬وقد استطاع حاج‬
‫حمد بنظر الرفاعي اإلسها َم في تفكيك المعرفة التراثية وفي غربلتها وفي دمجها‬
‫بعناصر أخرى‪ ،‬وصياغة مقوالت جديدة ومفارقة لها منهجيا ومعرفيا‪ ،‬إن جزئ ًّيا أو‬
‫كل ًّيا‪ ،‬مع احتضانها لروح التراث وعناصره الحية‪.‬كانت محاول ُة حاج حمد من منظور‬
‫الرفاعي نقدي ًة وإبداع ّية وجريئة‪ ،‬بما يسهم في انبثاق السؤال الالهوتي الجديد‪ .12‬لذلك‬
‫ِ‬
‫التركيز‬ ‫ميال إلى إبراز الجدّ ة والعمق في أطروحة حاج حامد من خالل‬‫كان الرفاعي ً‬
‫على عنوان الكتاب الفرعي وهو‪ :‬جدلية الغيب واإلنسان والطبيعة‪ ،‬وعد ِم الحماس‬
‫للعنوان األصلي للكتاب‪ :‬العالمية اإلسالمية الثانية‪ .‬مع أن العنوان األصلي للكتاب‬
‫هو في حدّ ذاته مفهوم تفسيري عند الحاج حمد‪ ،‬يطرح تنامي الدورات الدينية ضمن‬
‫ُ‬
‫العنوان الرئيس للكتاب؛ أي‪ :‬العالمية‬ ‫أربع مراحل‪ .13‬وعلى الرغم مما قد يوحي به‬

‫‪« 12‬مقدمة يف السؤال الالهويت اجلديد»‪ ،‬عنوان كتاب ألفه عبد اجلبار الرفاعي وصدر قبل ‪ 15‬عا ًما‪،‬‬
‫وطبع أكثر من مرة ببريوت‪.‬‬
‫‪ 13‬هي دورة آدم‪ ،‬ويسميها حاج محد‪ :‬الدورة العائلية‪ ،‬ودورة بني إرسائيل‪ ،‬ويسميها‪ :‬الدورة القبلية‪،‬‬
‫ودورة األمية‪ ،‬ويسميها‪ :‬العاملية اإلسالمية األوىل‪ ،‬التي شملت غري الكتابيني‪ ،‬ما بني املحيطني‪:‬‬
‫األطليس غربا واهلادي رشقا‪ ،‬منطلقة من (الوسط) يف العامل القديم‪ .‬ودورة العاملية الشاملة‪ ،‬ويسميها‪:‬‬
‫العاملية اإلسالمية الثانية‪ .‬ويقصد هبا اهلدى ودين احلق عىل مستوى العامل كله‪ ،‬فيستوعب ويتجاوز‬
‫كافة األنساق احلضارية والدينية واملناهج املعرفية ملا تبقى من الشعوب األمية غري الكتابية وتلك‬
‫الكتابية‪ .‬ينظر‪ :‬حممد أبو القاسم حاج محد‪ ،‬جدلية الغيب واإلنسان والطبيعة‪ ،‬العاملية اإلسالمية‬
‫الثانية‪ ،‬منشورات مركز دراسات فلسفة الدين يف بغداد‪ ،‬ودار اهلادي‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪1425‬ه‪2004/‬م‪ ،‬ص‪.8‬‬
‫‪417‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫اإلسالمية الثانية‪ ،‬من َن َفس دعوي ودعائي‪ ،‬وربما قد يلتبس في ذهن بعض القراء مع‬
‫أطروحة المفكر السوداني محمد محمود طه ت ‪ ،1985‬والمعنونة بـ‪ :‬الرسالة الثانية‬
‫من اإلسالم‪ ،‬فقد حرص الرفاعي على إبراز البعد المنهجي والنقدي في أطروحة حاج‬
‫تم‬‫حمد‪ ،‬من خالل دراسات وحوارات معه في مجلة قضايا إسالمية معاصرة‪ .‬وقد ّ‬
‫تكريس الطابع المنهجي ألطروحة حاج حمد بوصفها معاناة معرفية ومنهجية‬ ‫ُ‬ ‫بالفعل‬
‫إليجاد الرابط المفهومي بين جدليتين محتلفتين هما (جدلية الغيب) و(جدلية الطبيعة)‪،‬‬
‫بناء على منهجية القرآن في ربطه بين عالمي الغيب والشهادة في إطار جدلي كوني‬
‫تعرض له الكتاب والكاتب من طرف‬ ‫تجاوز التهميش الذي ّ‬‫َ‬ ‫واحد‪ .‬استطاع الرفاعي‬
‫مدرسة المعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬على الرغم من حرص طه جابر العلواني‬
‫رحمه الله‪ ،‬في تقديم طبعته الثانية‪ ،1996 ،‬على ربط مشروع حاج حمد بمشروع‬
‫إسالمية المعرفة؛ إذ قال‪« :‬وجدت في الكتاب وفي الرجل قاعدة أساسية‪ ،‬نحتاج إليها‬
‫في بناء إسالمية المعرفة‪ .‬فالرجل من خالل اتصاله بالقرآن العظيم وتعامله معه على‬
‫ذلك المستوى المعرفي العالي يشكّل إضافة إلى مدرسة إسالمية المعرفة‪ ،‬ال يمكن‬
‫لها أن تجدها في شخص آخر فيما أعرف ويعرف إخواني‪ ،‬فسارعت إلى دعوته إلى‬
‫االنضمام إلى هذه المدرسة المباركة‪ ،‬وإلى ممارسة جهده في إطارها ومن خاللها‪،‬‬
‫وقد كان‪».14‬والنعرف ماذا كان؟! في ما قاله األستاذ طه جابر العلواني؛ إذ ازداد ابتعا ُد‬
‫رواد المعهد عن أطروحة حاج حمد‪ ،‬فلم يدخل حاج حمد إلى األطروحة بل خرج‬
‫تأثرا بأطروحة حاج حمد‪ ،‬والتي‬ ‫‪15‬‬
‫منها طه جابر العلواني نفسه ‪ ،‬أو قل بدأ يبتعد عنها ً‬
‫ودمجها داخل أطروحة إسالمية‬ ‫َ‬ ‫مهما حاول طه جابر العلواني‪ ،‬رحمه الله‪ ،‬استيعا َبها‬

‫‪ 14‬حممد أبو القاسم حاج محد‪ ،‬العاملية اإلسالمية الثانية‪ ،‬جدلية اإلنسان والغيب والطبيعة‪ ،‬منشورات دار‬
‫ابن حزم للطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬بريوت‪1416 ،‬ه‪1996/‬م‪ ،‬املجلد األول‪ ،‬ص‪.10‬‬
‫‪ 15‬وهو أمر انتبه له حاج محد عندما قال يف كتابه‪ :‬إبستمولوجية املعرفة الكونية‪ ،‬إسالمية املعرفة واملنهج‪:‬‬
‫«أما املعهد العاملي للفكر اإلسالمي يف والية فرجينيا‪ ،‬فلم تكن أفكاري يف موضع اإلمجاع ولو النسبي‬
‫بالنسبة للقائمني عليه باستثناء األستاذ الدكتور طه جابر العلواين الذي ختىل عن املعهد العاملي للفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬بحمد اهلل‪ ،‬ولكن بعد أن كان أضفى عىل دراسته مسحة من التجديد النوعي (‪ )...‬فهو‬
‫الوحيد وبمعية زوجته األستاذة الدكتورة الفاضلة منى أبوالفضل من وقف إىل جانبي حتى أنني عينت‬
‫يف فرتة من الفرتات مستشارا لذلك املعهد‪ ».‬منشورات مركز دراسات فلسفة الدين يف بغداد‪ ،‬ودار‬
‫اهلادي‪ ،‬الطبعة األوىل‪1425 ،‬ه‪2004/‬م‪ ،‬ص‪.28-27‬‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪418‬‬
‫المعرفة‪ ،‬فإن األطروحتين مختلفتان‪ ،‬في المدخل وفي المفاهيم وفي المنهج‪ .‬وهذا‬
‫ما تأكد في الكتابات األخرى لحاج حمد‪ ،‬خاصة في كتاب‪ :‬منهجية القرآن المعرفية‪:‬‬
‫أسلمة فلسفة العلوم الطبيعية واإلنسانية‪ ،‬أو في كتاب‪ :‬إبستمولوجية المعرفة الكونية‪:‬‬
‫إسالمية المعرفة والمنهج‪ ،‬وهما كتابان عمل عبد الجبار الرفاعي على نشرهما ضمن‬
‫منشورات مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد‪ ،‬بالتعاون مع دار الهادي في بيروت‪.‬‬
‫كبيرا في التعريف بأطروحة حاج حمد وسعى إلى تصحيح أخطاء‬
‫دورا ً‬
‫لعب الرفاعي ً‬
‫المعهد العالمي للفكر اإلسالمي في التعامل مع مفكر وفيلسوف وهو حاج حمد؛ فبعد‬
‫أن ك ّلفه المعهد بإنجاز دراسة تحليلية ومنهجية لتجديد أطروحة إسالمية المعرفة‪ ،‬كما‬
‫يحكي حاج حمد في كتاب إبستمولوجية المعرفة الكونية‪ ،‬امتنع المعهد عن تبنيها‪،‬‬
‫بل عقد لها مناقش ًة في القاهرة هي أقرب إلى المحاكمة‪ ،‬ثم تخ ّلص من حاج حمد‬
‫ٍ‬
‫بمرارة‬ ‫ومن أفكاره المزعجة‪ .‬تحدّ ث حاج حمد عن أطوار هذه المناقشة‪/‬المحاكمة‬
‫شديدة في كتاب إبستمولوجية المعرفة الكونية‪ ،16‬كما نشرها عبد الجبار الرفاعي في‬
‫أحد أعداد مجلة قضايا إسالمية معاصرة‪ .‬وربما أزعج جماع َة المعهد العالمي أن حاج‬
‫وصاحب‬
‫َ‬ ‫أقرب إلى صاحب األطروحة األصلية إلسالمية المعرفة‪،‬‬
‫َ‬ ‫نفسه‬
‫حمد يعدّ َ‬
‫ٍ‬
‫منظور معرفي معاصر يتقاطع مع أطروحة حاج حمد‪ ،‬وهو‬ ‫السبق إلى الفكرة‪ ،‬لكن من‬
‫الفيلسوف الماليزي محمد نقيب العطاس‪ ،‬وكذا حديث حاج حمد عن التهميش الذي‬
‫تعرض له العطاس‪ ،‬وتصريحه بانتحال أفكاره دون اإلحالة عليه‪.17‬‬
‫ّ‬
‫مسوغا الستبعاد‬
‫ذات الخلفية األيديولوجية وكذا التنافسية كانت ّ‬ ‫ّ‬
‫كل هذه األسباب ُ‬
‫أي صوت نقدي من داخل أطروحة إسالمية المعرفة التي تبنّاها المعهد العالمي للفكر‬
‫ّ‬
‫اإلسالمي‪ ،‬مع سطوة مسحة تراثية‪/‬عقائدية على األطروحة‪ ،‬ما حدَّ من فاعليتها‪،‬‬
‫ومن قدرتها اإلبداعية‪ ،‬فبقيت في حدود ردود الفعل على التطور المعرفي الغربي‪،‬‬
‫وعلى المشاريع الفكرية والنقدية من داخل المجال التداولي العربي اإلسالمي على‬
‫ثمانينيات وتسعينيات القرن‬
‫ُ‬ ‫الخصوص‪ .‬في خضم هذا التنافس المحموم الذي عرفته‬
‫دمجه في أطروحة إسالمية المعرفة‬
‫تعرض حاج حمد للتهميش بعدما صعب ُ‬
‫الماضي‪ّ ،‬‬

‫‪ 16‬حاج محد‪ ،‬إبستمولوجية املعرفة الكونية‪ ،‬ص‪.87-84‬‬


‫‪ 17‬حاج محد‪ ،‬إبستمولوجية املعرفة الكونية‪ ،‬ص‪.81‬‬
‫‪419‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫ليعرف به‪ ،‬وهو‬ ‫بباراديغمها التأسيسي المحدود‪ .‬جاءت األقدار بعبد الجبار الرفاعي ّ‬
‫الذي يلتقي مع أطروحته في أكثر من مستوى‪ ،‬كما تبرز ذلك خماسيتُه الفكرية‪ .‬نشر‬
‫نص نقدي‬ ‫أهم ٍّ‬
‫عبد الجبار الرفاعي ضمن منشورات مركز فلسفة الدين ببغداد (‪َّ )2003‬‬
‫بنظرنا في المشروع الفكري لحاج حمد‪ ،‬وهو كتاب‪ :‬منهجية القرآن المعرفية‪ :‬أسلمة‬
‫أشجع الكتاب في التعريف بحاج حمد‬ ‫َ‬ ‫فلسفة العلوم الطبيعية واإلنسانية‪ .‬وكان الرفاعي‬
‫نشرا ودراسة‪ .‬ال تفوت الرفاعي فرص ٌة من دون مساعدة القارئ على استخراج األصول‬ ‫ً‬
‫يتأسس عليها المشروع‪ ،‬وهي عاد ُة الرفاعي في التعريف‬ ‫المعرفية والمنهجية التي ّ‬
‫بسبب من ضباب الحركات اإلسالمية‬ ‫ٍ‬ ‫والمهمشين‪،‬‬
‫ّ‬ ‫برموز الفكر الديني المغمورين‬
‫السياسية وضجيجها‪ ،‬في العالم العربي أو في إيران على الخصوص‪ .‬لقد كان الرفاعي‬
‫واع ًيا بالقوة اإلبداعية والنقدية في فكر حاج حمد‪ ،‬وكان مدركًا الستلهامه ميراث ابن‬
‫عربي والمتصوفة‪ .‬وكان واع ًيا بقدرة الجمل النقدية لحاج حمد على مساعدة الفكر‬
‫اإلسالمي المعاصر على عبور النفق الذي أغرقه فيه منظرو الجماعات اإلسالمية‪ ،‬ثم‬
‫وتحرره من الفوبيا المعرفية من المعرفة المعاصرة ومن عتادها‬‫ّ‬ ‫بفضل شجاعته النفسية‬
‫دور منهجي كبير في تثمين فكر حاج‬ ‫المنهجي ومنجزاتها التحليلية‪ .‬لقد كان للرفاعي ٌ‬
‫حمد‪ ،‬وفي تقديمه ماد ًة نقدية خارج انتظارات الحركات اإلسالمية‪ ،‬وخارج همومها‬
‫اليومية وصراعها السياسي مع األنظمة أو مع خصومها األيديولوجيين‪ .‬وجد الرفاعي‬
‫نفسه يتفاعل مع حاج حمد‪ ،‬وهو الذي ــ أقصد الرفاعي ــ قضى فتر ًة مهمة من حياته‬ ‫َ‬
‫قادرا على‬
‫ضمن هذه الحركات حتى غادرها نهائ ًّيا ‪ .1984‬صادف الرفاعي متنًا نقد ًّيا ً‬
‫المناهضة للميراث العقلي والروحي‬ ‫ِ‬ ‫تحرير الفكر اإلسالمي المعاصر من المواقف‬
‫واألخالقي في اإلسالم‪ .‬وتم ّيز الرفاعي بقدرة تعبيرية ورشاقة فكرية فائقة في تقريب‬
‫مفاهيم حاج حمد إلى القارئ من خالل مقدمته للطبعة الثانية من كتاب منهجية القرآن‬
‫ِ‬
‫المفارقة لعموم الكسب التراثي ومفاهيمه التفسيرية‬ ‫المعرفية؛ فوضح رؤي َة حاج حمد‬
‫في تطبيق الحدود والقصاص والديات‪ ،‬والدولة العلمانية في المجتمع المسلم‪،‬‬
‫والحاكمية اإللهية المباشرة‪ ،‬وحاكمية الكتاب‪ ،‬وشريعة اإلصر واألغالل التوراتية‪،‬‬
‫وشريعة التخفيف والرحمة القرآنية‪ ،‬ومفهومه الجديد للجهاد‪ ،‬وشرعة السيف‪،‬‬
‫المحرمة‪ ،‬وغيرها من المفاهيم التي سماها حاج حمد بالنظام المعرفي‬ ‫ّ‬ ‫واألرض‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪420‬‬
‫القرآني‪ ،‬والذي خرج فيه على مشهور التراث ومشروع إسالمية المعرفة‪ .‬سلك الرفاعي‬
‫َ‬
‫التهميش‬ ‫هذا المسلك التعريفي التركيبي مع متون فكرية ومواقف معرفية كانت تعاني‬
‫فعرف بأحمد‬ ‫من طرف القوى المهيمنة على خريطة الفكر اإلسالمي المعاصر؛ ّ‬
‫فرديد‪ ،18‬وداريوش شايغان‪ ،19‬وحسين نصر‪ ،20‬وعبد الكريم سروش‪ ،21‬كما جعل‬
‫القارئ العربي ينفتح على رموز الفكر اإلسالمي الحديث والمعاصر في شبه القارة‬
‫الهندية‪ ،‬وعلى إشكاالت النقاش الديني في هذه المنطقة المهمة من الجغرافيا الدينية‬
‫والثقافية والسياسية لإلسالم؛ فكتب عن وحيد الدين خان‪ ،22‬وولي الله الدهلوي‪،23‬‬

‫عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬أمحد فرديد‪ :‬فيلسوف ضد الفلسفة‪ ،‬جملة الكوفة‪ ،‬السنة‪ ،2‬العدد‪ ،3‬صيف‪،2013‬‬ ‫‪18‬‬
‫ص‪.22-9‬‬
‫عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬الفيلسوف املغمور داريوش شايغان‪ :‬من الذاكرة األزلية إىل اهلوية أربعني قطعة‪،‬‬ ‫‪19‬‬
‫جملة الكوفة‪ ،‬السنة‪ ،1‬العدد‪ ،2‬شتاء‪ ،2013‬ص‪.62-35‬‬
‫عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬حسني نرص‪ :‬اجلسد للغرب ــ الروح للرشق‪ ،‬جملة الكوفة‪ ،‬السنة‪ ،3‬العدد‪،1‬‬ ‫‪20‬‬
‫شتاء‪ ،2014‬ص‪.26-9‬‬
‫نقل عبد اجلبار الرفاعي يف جملة قضايا إسالمية معارصة النقاش احلاد الذي عرفه املشهد الثقايف‬ ‫‪21‬‬
‫اإليراين حول تكامل املعرفة الدينية‪ ،‬والذي كان حيمل عنوانا بارزا؛ وهو‪ :‬القبض والبسط النظري‬
‫للرشيعة‪ ،‬والذي سيكون أحد الكتب األساسية للفيلسوف اإليراين عبد الكريم رسوش‪ .‬وقد تفجر‬
‫النقاش أول مرة يف جملة (كيهان فرهنكي= العامل الثقايف)‪ ،‬سنة ‪ ،1988‬وكان نقاشا دينيا مشحونا بني‬
‫املحافظني واإلصاليني يف الفكر الديني‪ .‬ومجع رسوش أفكاره يف كتاب سنة ‪ ،1991‬وجتاوزت الردود‬
‫عليه سبعني كتابا ومقالة‪ .‬وأصبح اسم عبد الكريم رسوش عنوانا لضجة فكرية يف إيران‪ ،‬وأصبح‬
‫مقروءا بشكل كبري جدا داخل إيران وخارجها‪ ،‬خصوصا وأنه انشق ووجه سهام نقده إىل رجال‬
‫الدين وإىل املعرفة الدينية‪ .‬ونقل عبد اجلبار الرفاعي أجواء هذا النقاش‪/‬االشتباك إىل القارئ العريب‪،‬‬
‫تعريفا ونقدا‪( .‬ينظر‪ :‬جملة قضايا معارصة‪ ،‬العدد اخلامس عرش‪ .)2001/1422 ،‬وظل عبد الكريم‬
‫رسوش حارضا بأفكاره يف املجلة‪ ،‬بل اشتبك معه الرفاعي نفسه يف نقاش بعض أفكاره األخرية‪،‬‬
‫ونرش مقاالت نقدية له بعنوان‪ :‬مناقشة الرؤى الرسولية لعبد الكريم رسوش‪ ،‬نرشها أكثر من منرب‬
‫ومن موقع‪ ،‬وضمنها الرفاعي إىل الطبعة اجلديدة يف كتابه‪ :‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ .‬بام يعني‬
‫أن الرفاعي كان ينرش لكتاب خيتلف معهم جزئيا أو كليا‪ ،‬لكنه كان مشبعا بروح احلوار والنقاش‬
‫واحرتام املختلف‪( .‬ينظر‪ :‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ ،‬منشورات دار الرافدين‬
‫ومركز دراسات فلسفة الدين‪ ،‬الطبعة الثالثة‪ ،‬بغداد‪ ،‬يناير ‪ ،2023‬مناقشة الرؤى الرسولية لعبد الكريم‬
‫رسوش‪ ،‬ص‪).158-146‬‬
‫عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ ،‬ص‪.169-166‬‬ ‫‪22‬‬
‫عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ ،‬ويل اهلل الدهلوي‪ :‬الوحي ثمرة القدرات العقالنية‬ ‫‪23‬‬
‫وعون املالك‪ ،‬ص‪.173-170‬‬
‫‪421‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫وسيد أحمد خان‪ ،24‬ومحمد إقبال‪ ،25‬وفضل الرحمن‪ ...26‬وقدّ مهم إلى الوسط الثقافي‬
‫اإلسالمي العربي الذي لم يكن يعرفهم بحكم أن أغل َبهم يكتب بغير العربية‪ ،‬خاصة‬
‫الفارسية واألوردية واإلنجليزية‪ ،‬وعاشوا في إيران والهند وباكستان والغرب‪ .‬أخرج‬
‫أفكارهم إلى الضوء‪ ،‬وعرضها بمنطق منهجي‪ ،‬وبروح نقدية فاحصة‪ .‬لذلك قال‬ ‫َ‬
‫الرفاعي عن حواراته مع حاج حمد‪ ،‬في دار ضيافة صديقهما المشترك العالمة محمد‬
‫حسن األمين في (دير كيفا) بجنوب لبنان‪ ،‬في تقديمه لكتاب منهجية القرآن المعرفية‪:‬‬
‫« كنا نستغرق في النقاش‪ ،‬ربما صدمتني وجهات نظره‪ ،‬فأغضب وأمضي في رفضها‬
‫ومحاججتها‪ ،‬لكنه يتعاطى معي بأدلته المقابلة‪ ،‬وهكذا يتواصل حوارنا‪ ،‬من دون أن‬
‫مشترك أحيانا‪ .‬االختالف في الرأي اليفسد للود قضية عند حاج حمد»‪.‬‬ ‫نتفق على رأي َ‬
‫فخاصية النقدية التي وصفنا بها سردي َة عبد الجبار الرفاعي كانت حاضر ًة في ِّ‬
‫كل‬
‫المستويات العرضية والتحليلية والتركيبية‪.‬‬

‫عبد الجبار الرفاعي‪ :‬الحوار أرضية للسردية الدينية الجديدة‬


‫أسس عبد الجبار الرفاعي سرديتَه الدينية الجديدة على الحوار بال حدود‪ ،‬ومن‬ ‫ّ‬
‫بدون شروط بين مخت َلف ألوان الطيف الفكري الديني‪ .‬لذا نجد في مجلة قضايا‬
‫إسالمية معاصرة كتابات حاج حمد‪ ،‬وطه جابر العلواني‪ ،‬وحسن حنفي‪ ،‬وعبد الكريم‬
‫سروش‪ ،‬ومصطفى ملكيان‪ ،‬ومحمد مجتهد شبستري‪ ،‬وعلي حرب‪ ،‬ومحمد سبيال‪،‬‬
‫وعبد المجيد الشرفي‪ ،‬إلى جانب مفكرين آخرين من تيارات متعدّ دة‪ .‬قام الرفاعي بدور‬
‫مشترك للحوار واألنشطة‬ ‫ٍ‬
‫ال يمكن أن يقوم به إنسان عادي‪ ،‬حين عمل على خلق فضاء َ‬
‫أسس سرديتَه على الفكرة والفكرة‬ ‫الفكرية من خالل المجلة‪/‬المنتدى الفكري‪ّ .‬‬
‫كل أعداد المجلة‪ ،‬والتي‬ ‫المقابلة‪ ،‬وعلى األطروحة وعلى نقيضها‪ ،‬وهو ما نلمسه في ِّ‬

‫‪ 24‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ ،‬سيد أمحد خان‪ :‬الوحي هو العقل اإلهلي يف النفس‪،‬‬
‫ص‪.178-173‬‬
‫‪ 25‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ ،‬حممد إقبال‪ :‬ختم النبوة يعني استغناء العقل عن‬
‫النبوة‪ ،‬ص‪.185-179‬‬
‫‪ 26‬عبد اجلبار الرفاعي‪ ،‬مقدمة يف علم الكالم اجلديد‪ ،‬فضل الرمحن‪ :‬القرآن بتاممه كالم اهلل‪ ،‬وبتاممه كالم‬
‫حممد‪ ،‬ص‪.189-185‬‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪422‬‬
‫دروسا بليغة‬
‫ً‬ ‫تجسد جان ًبا من سردية الرفاعي وهو الجانب الحواري؛ إذ تقدّ م المجلة‬
‫ّ‬
‫يجسد في سرديته في‬
‫في احترام اآلخر وفي تثمين التنوع الفكري والتعدّ دية الدينية‪ .‬كما ّ‬
‫حوارا بين نصوص مختلفة وبين طبقات بعضها فوق بعض‪.‬‬ ‫ً‬ ‫مستوى نصوصها‬
‫نفسه داخل أية مذهبية‬ ‫الرفاعي سرديتَه بخاصية االستقاللية؛ إذ لم يقحم َ‬ ‫ُّ‬ ‫عمق‬
‫ّ‬
‫ًّ‬
‫مستقل‬ ‫فكرية‪ ،‬كما لم يكن صوتًا ألية حساسية طائفية‪ ،‬أو أطروحة فكرية مشخصنة‪.‬كان‬
‫نص عبد الجبار‬ ‫كل األفكار بمختلف المستويات‪ .‬إن ّ‬ ‫بتفكيره ومواقفه‪ ،‬مع انفتاحه على ّ‬
‫نص متعدّ د؛ فيه لمسة إنسانية لكنها إنسانية مؤمنة‪ ،‬وفيه لمسة حركية لكنها‬ ‫الرفاعي ٌّ‬
‫غير مسيسة‪ ،‬وفيه لمسة عرفانية لكنها ليست صوفية بمعنى طرقية اسعبادية‪ ،‬وفيه لمسة‬
‫نص مركب يع ّبر عن شخصية‬ ‫علمانية لكنها صديقة للدين ومغموسة في بحره‪ .‬إنه ٌّ‬
‫النص العادي بل وفوق الخطاب‪ ،‬لذلك سميناه سردية‪ .‬هذه التركيبة‬ ‫مركبة‪ ،‬فهو فوق ِّ‬
‫ليؤسس بها مفهو ًما محور ًّيا ومركز ًّيا في هذا‬
‫هي التي يجمعها عبد الجبار الرفاعي ّ‬
‫المشروع‪ ،‬والذي تك ّلم عنه في كتبه‪ ،‬وهو ما يسميه «اإلنسانية اإليمانية»‪ .‬فلما كان واع ًيا‬
‫بأزمة الوعي الديني في الغرب والرغبة الملحاحة لألكاديميا الغربية في كنسه وطرده‬
‫من الفضاء العام ومن الحياة‪ ،‬وكان واع ًيا برحلة مفهوم اإلنسانية (‪ )Humanism‬في‬
‫الثقافة الغربية وفي متنها الفلسفي والديني‪ ،‬مما انتهى بها إلى إنكار الدين في البدء‬
‫وفي النهاية‪ ،‬والتمركز المد ّمر واليائس حول (األنا)‪ ،‬وإعالن موت اإلله‪ ،‬أو القول‬
‫باختفائه في أكثر التقديرات قر ًبا من الدين‪ .‬اجترح الرفاعي طري ًقا ثال ًثا لإليمانية يجمع‬
‫بين النزعة اإلنسانية والنزعة اإليمانية‪ .‬وهو يذكرني بكتاب‪ :‬الطريق الثالث الذي كتبه‬
‫عالم االجتماع اإلنكليزي (أنطوني كدنز) وكتابه‪ :‬بعيدً ا عن اليسار واليمين‪ :‬مستقبل‬ ‫ُ‬
‫الكثير من‬
‫ُ‬ ‫السياسات الراديكالية‪ .‬هذا الربط الذي قام به عبد الجبار الرفاعي‪ ،‬فيه‬
‫العمق‪ ،‬وفيه الكثير من اإلبداع الذي نراه في كل ّكتبه‪ .‬فهو يمتلك قدر ًة على التركيب‬
‫المتخاصمة‪ ،‬وهي ثنائيات جعلتنا نؤدي ثم َن خصوماتها؛ بين الدين‬ ‫ِ‬ ‫بين الثنائيات‬
‫والفلسفة‪ ،‬وبين الدين والعلم‪ ،‬وبين الماضي والحاضر‪ ،‬وبين العقل والنقل‪ ...‬لذا‬
‫ونص‬
‫نص ديني وفلسفي في الوقت نفسه‪ّ ،‬‬ ‫نص مزدوج؛ ّ‬ ‫تسهم سردي ُة الرفاعي في بناء ٍّ‬
‫نص إذا نزعت منه الفلسف َة يفقد‬ ‫ديني لكنه يحتفي بالعقل ويحتضنه ويطلق عنانَه‪ .‬هو ٌّ‬
‫مقوماته‪ ،‬وإذا ُه ِّمش‬
‫الكثير الكثير من ّ‬
‫َ‬ ‫مقوماته‪ ،‬كما إذا نزعت منه الدي َن فقد‬
‫الكثير من ّ‬
‫َ‬
‫‪423‬‬ ‫يعافرلا رابجلا دبع ركف يف ةديدجلا ةينيدلا ةيدرسلا‬

‫ربط بين الدين والفلسفة‪ ،‬وربط بين العقل والروح‪،‬‬ ‫ُ‬


‫العقل تحول إلى خرافة‪ .‬إنه ٌ‬ ‫فيه‬
‫وربط بين السماء واألرض‪.‬‬
‫تقدّ م سردية الرفاعي تركي ًبا كيميائ ًّيا‪/‬معرف ًّيا ومنهج ًّيا بين البعد الديني والبعد‬
‫الفلسفي‪ ،‬بما يثري أطروحتين تلقيناهما على أنهما أطروحتان متناقضتان؛ أطروحة‬
‫ابن رشد (فصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من االتصال)‪ ،‬وأطروحة الغزالي‬
‫في (مقاصد الفالسفة) وفي (تهافت الفالسفة)‪ ،‬مع أن الغزالي هو ً‬
‫أيضا كان يسعى‬
‫للربط بين الفلسفة والدين من خالل الربط بين المنطق وبين أصول الفقه‪ ،‬كما في‬
‫(المستصفى)‪.‬‬
‫إن سردية عبد الجبار الرفاعي هي مقترح جديد إلعادة بناء العالقات بين اإلنسان‬
‫وبين الله‪ .‬إعادة بناء هذه العالقة من خالل تصحيح صورة الله في األذهان‪ ،‬إنقاذ صورة‬
‫ِّ‬
‫المعذب‪ ،‬إلى الله الرحمة‪ ،‬والله المحبة‪ ،‬والله السالم؛ وهي‬ ‫الله من الله العنيف‪ ،‬والله‬
‫فكرة تدور عليها مدونتُه الخماسية‪.‬كما يسعى الرفاعي ليعيد القيم َة والقوة والحيوية‬
‫ٍ‬
‫كالزمة من لوازم الحياة وليس كأيديولوجيا‪ .‬هذه السردية التي تنطلق من الكالم‬ ‫للدين‬
‫الجديد في الدين‪.‬‬
‫يمكن أن نستنتج في األخير أن سردية عبد الجبار الرفاعي تقوم على المزج الذكي‬
‫نص تنصهر فيه‬‫والعميق والمك َّثف بين الفلسفة والعرفان والكالم الجديد‪ .‬ويميزها ٌّ‬
‫وتعمقت فيه وأعدت‬‫ّ‬ ‫نصا واحدً ا‪ ،‬إذا تأملت فيه‬
‫فنص الرفاعي ليس ًّ‬‫نصوص كثيرة؛ ُّ‬ ‫ٌ‬
‫تنم عن‬
‫قراءته‪ ،‬ستجد أنه عبارة عن عملية عجن وجمع وتركيب لنصوص كثيرة‪ّ ،‬‬
‫النص الديني وفي تاريخه‪ .‬وهو‬
‫تبحر في ّ‬ ‫وأيضا عن ّ‬ ‫نظر ثاقب في الذات اإلنسانية‪ً ،‬‬ ‫ٍ‬
‫نص‪/‬بؤرة في سردية تصالح المثقف في العالم العربي واإلسالمي ً‬
‫أول مع الدين بعد‬ ‫ّ‬
‫لمشترك بين مثقفين يساريين وعلمانيين وإسالميين‬
‫َ‬ ‫تؤسس‬‫أيضا أرضية ّ‬
‫خصومه‪ ،‬وهو ً‬
‫خرج الدي َن من نفق التم ّثل التقليدي السائد‪ ،‬وهو الذي‬‫ومسلمين وغير مسلمين‪ ،‬وي ِ‬
‫ُ‬
‫وعنصر تأزيم وتفرقة‪ .‬تأتي سردي ُة الرفاعي ّ‬
‫لتحوله‬ ‫َ‬ ‫يرى الدي َن حال َة صراع أيديولوجية‪،‬‬
‫مشترك‪.‬‬
‫َ‬ ‫وسمو أخالقي وتواصل وبناء‬ ‫ّ‬ ‫إلى عنصر تزكية روحية‬
‫عندما نطرح مفهو َم الدين كمحدِّ د أساسي لهذه «السردية الدينية الجديدة» ومفهوم‬
‫اإلنسان فيها‪ ،‬وعندما نطرح مفهو َم الدين في جدلية الغيب والشهادة‪ ،‬وأيضا مفهوم‬
‫مامه دمحم ‪.‬د‬ ‫‪424‬‬
‫اإلنسان في جدل الكرامة والعبودية‪ ،‬يبقى سؤال مع َّلق‪ :‬أين يوجد التاريخ؛ التاريخ له‬
‫َمك ُْره وله أثره‪ ،‬بمعنى أين موقع التاريخ في هذه السردية؟ أخاف أن يكون المشروع‬
‫ٍ‬
‫استعادة دائرية لتجارب نعيشها‪ ،‬مثل بعض التجارب‬ ‫من دون استحضار التاريخ حال َة‬
‫الموجودة في آسيا وفي والهند وفي باكستان وفي إيران وفي إندونيسيا وفي ماليزيا‬
‫نوع من المصير الدائري ونعو ُد إلى الدرجة‬ ‫وفي األناضول‪ .‬أتصور بأنه حتى ال يقع ٌ‬
‫الصفر النطالق المشروع‪ ،‬نحن بحاجة إلى وضعه داخل سياق تاريخي‪ ،‬بمعنى داخل‬
‫جدل التاريخ‪ ،‬واكتشاف موقعه في التاريخ‪ .‬أقول إذا كان زيغموند باومان (ت ‪،)2017‬‬
‫صاحب أطروحة السيولة في نقد ما بعد الحداثة قد تك ّلم عن أن الحداثة خرجت من‬
‫الصالبة الى السيولة‪ ،‬أعتقد بأن األمر نفسه وقع عندنا‪ ،‬بمعنى سقط الدي ُن في حالة‬
‫يتأسس عليها بأسس‬ ‫سيولة وجاء عبد الجبار الرفاعي ليرجعه الى الحالة الصلبة التي ّ‬
‫مشروع الرفاعي في سياقه التاريخي‪،‬‬
‫َ‬ ‫واضحة‪ .‬هذه الحالة الصلبة هي التي وضعت‬
‫أسسها على اإليمان بالوحي والقرآن الكريم والنبوة والتوحيد‪ ،‬وهي األصول‬ ‫عندما ّ‬
‫المحورية التي تحمي المسلم من التشتت والضياع‪ ،‬وتحمي الدين من السيولة‪.‬‬

You might also like