You are on page 1of 66

‫تلخيص مختصر ينبوع الغواية الفكرية‬

‫الدفعة الرابعة من صناعة املحاور‬

‫منزلة التسليم هلل ولرسوله ‪2 ...............................................................................................................................................‬‬


‫أساسيات ومرتكزات التسليم للنص الشرعي‪5 ..................................................................................................................‬‬
‫مزالق هدر النصوص ‪11.....................................................................................................................................................‬‬
‫املزلق األول‪ :‬مشكلة القراءة ‪13...........................................................................................................................................‬‬
‫املزلق الثاني‪ :‬مشكلة الخالف ‪19.........................................................................................................................................‬‬
‫املزلق الثالث‪ :‬مشكلة املقاصد ‪23.......................................................................................................................................‬‬
‫املزلق الرابع‪ :‬مشكلة تغير الفتوى واألحكام ‪36...................................................................................................................‬‬
‫املزلق الخامس‪ :‬مشكلة العقل ‪42.......................................................................................................................................‬‬
‫املزلق السادس‪ :‬مشكلة السنة غير التشريعية‪53..............................................................................................................‬‬
‫املزلق السابع‪ :‬مشكلة السؤال واالستشكال ‪63..................................................................................................................‬‬
‫املزلق الثامن‪ :‬مشكلة تزكية النفس ‪66...............................................................................................................................‬‬

‫‪1‬‬
‫منزلة التسليم هلل ولرسوله‬

‫تمهيد‬
‫‪ ‬بعض البواعث الفعلية التي تقف خلف تبني األفكار واملعتقدات والتصورات‪ ،‬واملحركات لكثير من املشاهدات‬
‫الفكرية‪:‬‬
‫‪ -1‬املعرفة والعلم‪.‬‬
‫‪ -2‬غلبة هوى أو عصبيات‪.‬‬
‫‪ -3‬دوافع نفسية كالكبر والحسد‪.‬‬
‫‪ -4‬مصالح شخصية ومكاسب عاجلة‪.‬‬

‫‪ ‬أمثلة على عدم تصور البواعث الحقيقة التي تقف خلف كثير من اإلشكاليات املعرفية‪:‬‬
‫‪ o‬نفي املعتزلة رؤية هللا تبارك وتعالى في الدار اآلخرة‪:‬‬
‫‪ -‬إستدلوا بقوله تعالى‪( :‬ال تدركه األبصار وهو يدرك األبصار) أو قوله تعالى في قصة موس ى‪( :‬لن تراني)‪.‬‬
‫‪ -‬الدافع الحقيقي الذي َح ّرك املعتزلة صوب تبني هذا التصور املنحرف لم تكن دوافع (نقلية) بقدر ما‬
‫كانت الدوافع (عقلية خاطئة)‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬ترتيب االستدالل االعتزالي هو االنطاق من حكم عقلي يقض ي باستحالة رؤية هللا تعالى عقال العتبارات‬
‫ولوازم توهموها‪ ،‬ثم تكلفوا تعضيد هذه االستحالة العقلية بدالئل قرآنية أو سنية‪.‬‬
‫‪ o‬حد الردة‪:‬‬
‫‪ -‬في األطروحات العصرية حول حد الردة‪ ،‬يحصل ما يلي‪:‬‬
‫ُيطرح أن حد الردة غير موجود في القرآن‪.‬‬ ‫~‬
‫ُيطرح وجود حرمة اإلكراه في الدين (ال إكراه في الدين)‪.‬‬ ‫~‬
‫يجيء االعتراض الشرعي‪ :‬ولكن لهذا الحد حضور صريحي في السنة النبوية‪ ،‬الحديث (ال يحل دم امرئ‬ ‫~‬
‫بالن ْ‬
‫س َّ‬ ‫الن ْف ُ‬
‫الزان‪َ ،‬و َّ‬ ‫ّ‬
‫الث ّي ُب َّ‬
‫س‪ ،‬و التارك‬
‫ِ‬ ‫ف‬ ‫ِ‬ ‫مسلم يشهد أن ال إله إال هللا وأني رسول هللا إال بإحدى ثالث‪:‬‬
‫َُ ُ‬
‫لدينه املف ِارق للجماعة)‪.‬‬
‫فيأتي الجواب‪ :‬حكم القتل على أمرين معا‪ :‬ترك الدين ومفارقة الجماعة‪ ،‬فمجرد ترك الدين غير‬ ‫~‬
‫مستوجب للقتل حتى تتحقق املفارقة (الخيانة العظمى في العرف السياس ي)‪.‬‬
‫ا‬
‫يأتي الرد‪ :‬قال النبي ﷺ صراحة في املرتد‪( :‬من بدل دينه فاقتلوه)‪.‬‬ ‫~‬
‫فيجيء االعتراض بأن الحديث ضعيف‪.‬‬ ‫~‬
‫فيكون الرد‪ :‬الحديث مروي في صحيح اإلمام البخاري‪ ،‬وعلى مثله عمل صحابة النبي ﷺ‪.‬‬ ‫~‬

‫‪2‬‬
‫‪ -‬ما يدل على تأثير عوامل أجنبية عن النص في تشكيل املوقف من حد الردة‪:‬‬
‫ا ا‬
‫‪ .1‬بعضهم يدعي أن القتل ليس أمرا الزما‪ ،‬بل عقوبة تعزيرية خاضعة إلرادة اإلمام ونظرته في املصلحة‪.‬‬
‫ا‬
‫اإلشكال واإلرتباك‪ :‬أن القول بجواز التعزير على الردة بالقتل تعزيرا ال يعالج أصل مشكلة الحريات!‬
‫‪ .2‬بعضهم يتشبث ببعض األقوال الفقهية إلثبات خالف في أصل حكم حد الردة‪.‬‬
‫ا‬
‫اإلشكال‪ :‬هذه األقوال ال تعدو أن تكون تقريرا الختالف في حكم االستتابة فهو يتناول نوع العقوبة‬
‫وليس أصلها (القتل‪ ،‬الحبس مدة اإلستتابة‪ ،‬الضرب)‪.‬‬
‫‪ .3‬بعضهم يرى أن القول بهذا الحد مثير لالشمئزاز في زمن الحريات وحقوق اإلنسان‪ ،‬مع علمهم أن ثمة‬
‫علماء أجلة أكابر يقولون به بل الجماهير من أهل العلم يقرونه وينقلون إجماعات عليه‪.‬‬
‫ينبوع اإلنحراف الفكري‬
‫ا‬
‫‪ ‬االنحرافات املعاصرة في املجال العقدي والفكري والثقافي ليس عائدا إلى إشكالية معرفية علمية‪ ،‬بل الى‪:‬‬
‫‪ o‬هيمنة النموذج الثقافي األجنبي‪.‬‬
‫‪ o‬مع ضعف التسليم هلل ورسوله ﷺ‪.‬‬

‫‪ ‬قاعدة ابن خلدون االجتماعية (املغلوب مولع بتقليد الغالب)‪:‬‬


‫‪ o‬مظاهر القاعدة في العصر االسالمي‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬قول غليوم األفرني اليهودي كاشفا بحزن عن أثر هيمنة الحضارة اإلسالمية (إنه لم يبق بين اليهود‬
‫الخاضعين للعرب واحد لم يترك دين إبراهيم‪ ،‬ولم تفسده ضالالت العرب أو ضالالت الفالسفة)‪.‬‬
‫‪ -‬حديث أسقف قرطبة ألقارو بمرارة عن ضغط القيم اإلسالمية على طائفته النصرانية‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬زعم بعض اليهود والنصارى بأن النبي ﷺ رسول حقا من عند هللا تعالى لكنه مبعوث للعرب خاصة دونهم‪.‬‬
‫‪ o‬مظاهر القاعدة حاليا‪:‬‬
‫‪ -‬محاوالت أسلمة األفكار الشرقية أو الغربية (القراءة االشتراكية لإلسالم ثم اإلسالم قراءة ديمقراطية‪،‬‬
‫ثم قراءة اإلسالم قراءة ليبرالية في زمن الهيمنة الليبرالية)‪.‬‬
‫‪ -‬جهود تفكيك املفاهيم الليبرالية محدودة األثر نتيجة استقواء هذه املفاهيم بالحضارة الغربية الطاغية‪،‬‬
‫و إلى موافقة كثير من هذه القيم لنزعات الهوى‪.‬‬
‫‪ -‬حالة من الخلل املنهجي وغيبة للموضوعية في معالجة املسائل الشرعية بتقديم أطروحات تتكئ على‬
‫القراءة االنتقائية للوحي‪ ،‬وعدم استيعاب األدلة الشرعية‪ ،‬وتبعيض الدين‪ ،‬والتعلق باملتشابه‪ ،‬وغيرها‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬حالة مصالحة بين الدين والواقع‪ ،‬بفرض هيمنة الواقع على الدين‪ ،‬فيجعلون من الدين مجرد (ختم)‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫وظيفته إعطاء الشرعية للواقع عند التوافق‪ ،‬ويجعلونه عند التعارض (نصا منسوخا) بضغط الواقع‬
‫الناسخ‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫أين الخلل‬
‫ا‬
‫‪ ‬مفهوم التسليم هلل ورسوله واحدا من أظهر بدهيات التدين‪ ،‬فالتدين في جوهره مؤسس على فكرة الطاعة‬
‫املطلقة واإليمان املطلق بكل ما يقوله الرب أو يقوله رسوله ﷺ‪.‬‬
‫‪ ‬اإلخالل بأصل التسليم على درجات‪:‬‬
‫‪ o‬بعضها يبلغ باإلنسان حد الخروج من اإلسالم بالكلية‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ o‬بعضها انحرافا وزيغا ال يبلغ مبلغ الكفر‪.‬‬
‫‪ ‬من الحقائق الشرعية الغير موافقة للمزاج الليبرالي العام‪:‬‬
‫‪ o‬حقائق الوالء والبراء‪ ،‬وأحكام املرتد‪ ،‬وجهاد الطلب‪ ،‬وأبواب الرق‪،‬‬
‫‪ o‬قضايا املرأة (الحجاب‪-‬االختاط‪-‬تعدد الزوجات‪-‬الولي واملحرم‪-‬حدود املشاركة السياسية)‪.‬‬
‫‪ o‬عقوبة الرجم‪ ،‬التمييز بين البشر على أساس الدين‪.‬‬
‫‪ o‬تحريم ش يء من الفنون كرسم ذوات األرواح واملوسيقى‪.‬‬

‫اإللتفاف على مبدأ التسليم‬


‫كثير من أولئك املهزومين متى ما حوصروا بالدالئل الشرعية املخالفة ألهوائهم يلتمسون طرائق ومخارج ‪-‬بوعي أو بغير‬
‫وعي‪ -‬للخروج من سلطة هذه النصوص ومقتضياتها فيديرون عملية توفيقية‪/‬تلفيقية بين معطيات النص ومعطيات‬
‫الواقع عن طريق إيراد جملة من اإلشكاالت والشبهات‪.‬‬

‫‪4‬‬
‫أساسيات ومرتكزات التسليم للنص الشرعي‬

‫من هللا البيان ومنا التسليم واإلذعان‬


‫‪ ‬دين اإلسالم ّبين وواضح‪:‬‬
‫ُ َُ ُ ْ َ‬
‫اإل ْسال َم ِد اينا ۚ)‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ل‬ ‫يت‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫) ْال َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم د َين ُك ْم َو َأ ْت َم ْم ُت َع َل ْي ُك ْم ن ْع َمتي َو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ا‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اس َقد َج َاءكم ُب ْرهان ّمن َّرّبك ْم َوأ َنزلنا إل ْيك ْم ن ا‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫( َيا َأي َها َّ‬
‫ورا م ِبينا )‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫الن‬
‫َ‬ ‫َ ْ َ َ ُ ّ َ َّ ُ‬
‫اّلل نور َو ِكتاب م ِبين‪،‬‬ ‫(قد جاءكم ِمن ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َّ ُ َ َّ َ َ ْ َ َ ُ ُ ُ َ َّ َ َ ُ ْ ُ ُ ّ َ ُ َ َ‬
‫ور ِب ِإذ ِن ِه َو َي ْه ِد ِيه ْم ِإلى ِص َراط م ْس َت ِقيم)‬‫ات ِإلى الن ِ‬ ‫َي ْه ِدي ِب ِه اّلل م ِن اتبع ِرضوانه سبل السال ِم ويخ ِرجهم ِمن الظلم ِ‬
‫َ ّْ‬ ‫َ َ َ َ ّ َّ‬
‫اس َو ُه ادى َو َم ْو ِعظة ِلل ُم َّت ِق َين)‬ ‫(هذا بيان ِللن ِ‬
‫ْ‬ ‫ا ْ‬ ‫ُّ َ‬ ‫( َو َن َّ ْزل َنا َع َل ْي َك ْالك َت َ‬
‫اب ِت ْب َي اانا ِلك ِ ّل ش ْيء َو ُه ادى َو َر ْح َمة َو ُبش َرى ِلل ُم ْس ِل ِم َين)‬ ‫ِ‬

‫الحديث (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها بعدي إال هالك‪،‬‬
‫من يعش منكم فسيرى اختالفا كثيرا‪ ،‬فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين املهديين‬
‫عضوا عليها بالنواجذ‪ ،‬وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا‪ ،‬فإنما املؤمن كالجمل األنف حيثما قيد انقاد‪).‬‬

‫ا‬
‫‪ ‬وضوح الوحي وطبيعة النص القرآني سبب من أسباب الهداية للحق‪ ،‬وما يبذله العبد من إيمان واعتصام هي أيضا‬
‫أسباب في طلب الهداية‪ ،‬وأما حصول التوفيق والهداية نفسها فهي إليه وحده سبحانه يمن بها على من يشاء من‬
‫عباده‪.‬‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫َ َ َّ ُ َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ ّ َّ ّ ُ ْ َ َ ْ‬
‫نزل َنا إل ْي ُك ْم ُن ا‬ ‫َ‬
‫ورا م ِب اينا‪،‬‬ ‫(يا أيها الناس قد جاءكم برهان ِمن رِبكم وأ ِ‬
‫ا‬ ‫َ‬
‫ضل َو َي ْه ِد ِيه ْم ِإل ْي ِه ِص َراطا م ْس َت ِق ايما)‬ ‫ص ُموا به َف َس ُي ْدخ ُل ُه ْم في َر ْح َمة ّم ْن ُه َو َف ْ‬ ‫اع َت َ‬ ‫اّلل َو ْ‬ ‫َّ‬
‫ب‬ ‫وا‬‫ن‬ ‫َف َأ َّما َّالذ َ‬
‫ين َآم ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫(لقد أنزلنا آيات مب ِينات ۚ واّلل ي ْه ِدي من يشاء ِإلى ِص َراط مست ِقيم )‬

‫‪ ‬أن هذا (البيان التام) من الرب نعمة‪ ،‬فإن واجب العبد أن يشكر ربه تعالى عليها بأداء واجب (التسليم) ألمره‬
‫سبحانه وخبره‪.‬‬

‫(من هللا الرسالة‪ ،‬وعلى رسول هللا ﷺ البالغ‪ ،‬وعلينا التسليم) – اإلمام الزهري‬
‫(من هللا تعالى التنزيل‪ ،‬وعلى رسوله التبليغ‪ ،‬وعلينا التسليم) ‪ -‬األوزاعي‬

‫‪5‬‬
‫حقيقة التسليم‬
‫ا‬
‫‪ ‬حقيقة التسليم ‪( :‬بذل الرضا بالحكم) ‪ ،‬فهو عمل قلبي يبذله املسلم عن طواعية منه واختيار رضا بحكم هللا‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫وأمره‪ ،‬إنه في الحقيقة (عبودية األمر)‪ ،‬فكل ما أمر هللا به شرعا وقدرا فعبوديته أن ُيتلقى بالتسليم واالنقياد‪.‬‬
‫‪ ‬كيف يكون التسليم‪:‬‬
‫‪ .1‬التسليم ألمر هللا الشرعي يكون ب‪:‬‬
‫‪ o‬اعتقاد ما أوجب هللا اعتقاده‪.‬‬
‫‪ o‬فعل ما أوجب هللا فعله‪.‬‬
‫‪ o‬ترك ما أوجب هللا تركه‪.‬‬
‫‪ .2‬التسليم ألمر هللا الكوني‪:‬‬
‫‪ o‬يكون بالرضا بقضاء هللا وقدره‪.‬‬
‫‪ o‬الصبر على املصائب‪.‬‬
‫‪ o‬مدافعة القدر بالقدر‪.‬‬
‫‪ ‬أدواء يجب تنقية القلب وتخليصه منها ليتم التسليم ويكمل‪:‬‬
‫‪ .1‬شبهة تعارض الخبر‪.‬‬
‫‪ .2‬شهوة تعارض األمر‪.‬‬
‫‪ .3‬إرادة تعارض اإلخالص‪.‬‬
‫‪ .4‬اعتراض ُيعارض القدر والشرع ‪.‬‬
‫ا‬
‫وترجع تلك األدواء كلها الى داء واحد‪ :‬أن ال يكون التسليم صادرا عن محض الرض ى واالختيار‪ ،‬بل يشوبه كره وانقباض‪.‬‬

‫الصديقية ثمرة التسليم‬


‫(وبهذا يتبين أنه من أجل مقامات اإليمان وأعلى طرق الخاصة‪ ،‬وأن التسليم هو محض الصديقية‪ ،‬التي هي بعد درجة‬
‫ا‬
‫النبوة‪ ،‬وأن أكمل الناس تسليما أكملهم صديقية) – إبن القيم‪.‬‬
‫ضلهم بش يء كان في قلبه) ‪ -‬بكر بن عبدهللا املزني‬‫فضل أبو بكر الناس بكثرة صوم وال صالة‪ ،‬إنما َف َ‬
‫(لم َي ُ‬

‫(من اللجنة العلمية)‪:‬‬


‫‪ ‬شبهة تعارض الخبر‪:‬‬
‫أن املنازعة تكون بشبهة فاسدة تمنع الشخص من التسليم للخبر الصحيح الثابت ‪ ،‬مثل شبهات املتكلمين الباطلة ‪ ،‬أو أي شك‬
‫واضطراب حول األمر الشرعي منشأه شبهة ‪ ،‬فتدفع الشخص إلى تأويل مفهوم النصوص وفق ما يؤيد فكرته وعدم التسليم واإلذعان‬
‫لها‪ .‬والتسليم للخبر ال يتم إال بترك منازعته بهذه الشبهات الفاسدة ‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫‪ ‬شهوة تعارض األمر ‪:‬‬
‫فيكون عند الفرد شهوة تعارض أمر هللا عز وجل ‪ ،‬كأن يشتهى ما حرمه هللا عزوجل أو يشتهى ترك ما أمر هللا تعالى به ‪ ،‬فبدال من‬
‫أن يجاهد هواه ويترك ما يشتهى في سبيل مرضاة هللا عزوجل فيفعل ما يحبه سبحانه ‪ ،‬ينازع في األمر الشرعي ويقع في املخالفة وعدم‬
‫التسليم أو جحود األمر كليا‪ ،‬ولن يتحقق التسليم لألمر إال بالتخلص من هذه الشهوة والتغلب عليها ‪.‬‬

‫‪ ‬إرادة تعارض اإلخالص‪:‬‬


‫أن يريد العبد ش ئ يعارض به مراد هللا عز وجل منه ‪ ،‬وقد أراد سبحانه من عباده إخالص العبادة له ‪ ،‬فيريد العبد بعمله أحدا غير‬
‫هللا تعالى‪ ،‬فال ُيذعن هلل ُويسلم له بل ينصرف عن ربه سبحانه ‪ ،‬وقد يقع في مخالفة للشرع لتحقيق مراده ‪ ،‬ومثال هذا الرياء والسمعة‬
‫وطلب املنفعة الدنيوية بالعبادة‪ ،‬ولن يتحقق التسليم إال بتحقيق اإلخالص هلل عز وجل والعمل وفق ُمراد هللا سبحانه من العبد ‪.‬‬

‫‪ ‬اعتراض يعارض القدر والشرع‪:‬‬


‫أن يظن العبد أن مقتض ى الحكمة خالف ما شرع هللا عزوجل‪ ،‬وخالف ما قض ى وقدر ‪ ،‬كأن يسخط العبد على ما قدره هللا تعالى وال‬
‫يرض ى به أو يسخط على ما شرعه من أمر ونهي وال يرتضيه وال يؤمن بتضمنه الحكمة والعلم والعدل ‪ ،‬فيعيقه هذا من التسليم‬
‫لشرع هللا عزوجل وأقداره‪.‬‬

‫‪ ‬مدافعة القدر بالقدر‪:‬‬


‫ُ‬
‫توضح أن على العبد بذل األسباب لرفع ما قدر عليه إن أمكن هذا ‪ ،‬وتنفي ما قد يظنه البعض من أن األخذ باألسباب وبذل الجهد‬
‫وتقرر ّ‬
‫أن هذا من قدر هللا سبحانه وتعالى أيضا ‪.‬‬ ‫لرفع البالء فيه منازعة للقدر ‪ّ ،‬‬
‫مثال ذلك ‪ :‬من يبتليه هللا عزوجل بمرض ‪ ،‬فواجب عليه التسليم لهذا القدر والصبر على البالء ‪ ،‬لكن أيضا يشرع له أن يأخذ‬
‫باألسباب لرفع املرض بالدعاء والرقي والتداوى وغير ذلك مما شرعه هللا عزوجل ‪ ،‬فيكون أخذه لألسباب هو من قدر هللا ‪ ,‬إذ هو‬
‫ا‬
‫سبحانه وتعالى من أباح له هذه الطرق وجعلها أسبابا في رفع البالء ‪ ،‬ولو أراد هللا خالف ذلك لن تنفعه األسباب ولن يكون خالف ما‬
‫يريده سبحانه وتعالى ‪ ،‬فيكون بذلك دفع القدر ( املرض) ‪ ،‬بالقدر (األسباب ) ‪ ،‬ويكون الشفاء هو قدر هلل عز وجل أيضا ‪ ..‬ففي كل‬
‫األحوال يتقلب العبد من حال لحال بحسب أقدار هللا سبحانه‪.‬‬
‫وقريب من هذا املعنى ما قاله سيدنا عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه‪ ،‬ملا منع املسلمين من التوجه لبلدة كانوا عاقدين العزم على‬
‫دخولها لعلمه بتفش ي الطاعون فيها ‪ ،‬فاعترض البعض وقالوا له أتفر من قدر هللا ؟ فقال لهم نعم " نفر من قدر هللا لقدر هللا "‪.‬‬
‫يقول ابن تيمية‪ .. :‬املسلم مأمور أن يفعل ما أمر هللا به ويدفع ما نهى هللا عنه‪ ،‬وإن كانت أسبابه قد قدرت‪ ،‬فيدفع قدر هللا بقدر‬
‫هللا‪ ،‬كما جاء في الحديث الذي رواه الطبراني في كتاب الدعاء عن النبي ﷺ‪ :‬إن الدعاء والبالء ليلتقيان بين السماء واألرض‪ .‬وفي‬
‫ا‬
‫الترمذي‪ :‬قيل يا رسول هللا؟ أرأيت أدوية نتداوى بها ورقى نسترقي بها وتقى نتقيها هل ترد من قدر هللا شيئا؟ فقال‪ :‬هن من قدر هللا‪.‬‬
‫ا‬
‫ويقول ابن تيمية أيضا‪ " :‬جميع الحوادث كائنة بقضاء هللا وقدره‪ ،‬وقد أمرنا هللا سبحانه أن نزيل الشر بالخير بحسب اإلمكان‪ ،‬ونزيل‬
‫الكفر باإليمان والبدعة بالسنة‪ ،‬واملعصية بالطاعة من أنفسنا ومن عندنا‪ ،‬فكل من كفر أو فسق أو عص ى فعليه أن يتوب وإن كان‬
‫ذلك بقدر هللا‪ ،‬وعليه أن يأمر غيره باملعروف وينهاه عن املنكر بحسب اإلمكان‪ ،‬ويجاهد في سبيل هللا‪ ،‬وإن كان ما يعمله من املنكر‬
‫والكفر والفسوق والعصيان بقدر هللا‪ ،‬فليس لإلنسان أن يدع السعي فيما ينفعه هللا به متكال على القدر‪ ،‬بل يفعل ما أمر هللا‬
‫ورسوله‪ ،‬كما روى مسلم في صحيحه عن النبي ﷺ أنه قال‪ :‬املؤمن القوي خير وأحب إلى هللا من املؤمن الضعيف‪ ،‬وفي كل خير‪،‬‬
‫احرص على ما ينفعك‪ ،‬واستعن باهلل وال تعجزن‪ ،‬وإن أصابك ش يء فال تقل‪ :‬لو أني فعلت كذا وكذا‪ ،‬ولكن قل‪ :‬قدر هللا وما شاء فعل‪،‬‬
‫فإن لو تفتح عمل الشيطان‪ .‬فأمر النبي ﷺ أن يحرص على ما ينفعه‪ ،‬والذي ينفعه يحتاج إلى منازعة شياطين اإلنس والجن‪ ،‬ودفع‬
‫ا‬
‫ما قدر من الشر بما قدره هللا من الخير‪ .‬وعليه مع ذلك أن يستعين باهلل‪ ،‬فإنه ال حول وال قوة إال به‪ ،‬وأن يكون عمله خالصا هلل‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫التسليم موقف عقالني‬
‫‪ ‬مصادر املعرفة اإلنسانية‪:‬‬
‫‪ .1‬العقل‪.‬‬
‫‪ .2‬الحس‪.‬‬
‫‪ .3‬الخبر‪.‬‬

‫‪ ‬أصل تصويب الخبر يقوم على مرتكزين أساسيين‪:‬‬


‫‪ .1‬السالمة من الكذب‪ ،‬وضمانته معرفة صدق املخبر‪.‬‬
‫‪ .2‬السالمة من الوهم‪ ،‬وضمانته معرفة ضبط املخبر‪.‬‬

‫‪ ‬األدلة العقلية املتوافرة أثبتت اتصاف النبي ﷺ بهاتين الصفتين املحوريتين‪ ،‬وعليه فالتسليم بخبره تسليم مرتكز‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫على مبدأ عقلي صحيح‪ ،‬وليس قرارا اعتباطيا يتخذه املؤمن عن عصبية أو جهل أو إيمان بالخرافة والدجل‪( .‬قصة‬
‫أبي بكر في حادثة اإلسراء واملعراج)‬

‫‪ ‬مقدمات عقلية صحيحة تفض ي إلى اإليمان بالوحي وإثبات نبوة النبي ﷺ‪:‬‬
‫‪ .1‬حقيقة الوحي‪ :‬باعتقاد مباينته للمعرفة البشرية‪ ،‬وأنه حاصل من عند هللا تبارك وتعالى‪.‬‬
‫‪ .2‬ثبوت الوحي‪ :‬باعتقاد صدق نبوة النبي ﷺ وأنه رسول من عند هللا تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .3‬انتفاء ما يعارض داللة الوحي‪ :‬باعتقاد أنه حق وما دام حقا فال يتصور أن يتعارض وحق آخر كداللة عقلية‪،‬‬
‫ا‬
‫بل املعارضة بين الوحي والعقل والحس منتفية قطعا‪.‬‬

‫‪ ‬حقيقة الوحي‪ :‬إن وظيفة العقل بيان جواز وقوع الوحي‪ ،‬ودفع دعاوى استحالته إضافة إلى إثبات صحته في حال‬
‫وقوعه بإثبات صدق املخبر به‪ .‬أما معرفة حقيقة هذا الوحي فال مجال ملعرفته إال عن طريق الوحي ذاته‪.‬‬

‫‪ ‬ثبوت الوحي‪ :‬طريقه األساس طريق عقلي‪ .‬األصول التي ترجع إليها دالئل النبوة‪:‬‬
‫‪ .1‬أحوال النبي ﷺ‪ :‬صدق النبي من خالل النظر في سيرته وأحواله ومآل أمره‪.‬‬
‫‪ .2‬معجزات النبي ﷺ‪ :‬ما أجراه هللا لرسوله وعلى يديه من خوارق العادات مقرونة بالتحدي وبغيره‪.‬‬
‫‪ .3‬ما تضمنه الوحي الذي جاء به النبي ﷺ‪:‬‬
‫‪ -‬القرآن في ذاته معجزة من أعظم املعجزات التي أوتيها النبي‪.‬‬
‫‪ -‬األخبار الحاضرة املغيبة أو املاضية واملستقبلية مما ال يقع تحت املعرفة البشرية املحدودة ثم ظهور‬
‫صدق تلك األخبار وتحققها‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬املعارف والعلوم مما تتقاصر عنها املعرفة البشرية إذ ذاك‪ ،‬بل ما ال يمكن أن يكون متحققا‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫التسليم بين الترغيب والترهيب‬

‫‪ ‬الترغيب‪ ،‬امتدح هللا عبده بالتسليم له‪:‬‬


‫‪ o‬فهو من خير العباد وأن ال دين أحسن من دينه‪:‬‬
‫( َو َم ْن َأ ْح َس ُن د اينا ّم َّم ْن َأ ْس َل َم َو ْج َه ُه َّّلل َو ُه َو ُم ْحسن َو َّات َب َع م َّل َة إ ْب َراه َ‬
‫يم َح ِن ايفا ۗ )‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ o‬وهو املستمسك بالعروة الوثقى‪:‬‬
‫اس َت ْم َس َك ب ْال ُع ْر َوة ْال ُو ْث َقى ۗ َوإ َلى َّ َ َ ُ ْ ُ ُ‬ ‫َ َ ُ ْ ْ َ ْ ُ َ َّ‬
‫اّلل َو ُه َو ُم ْحسن َف َقد ْ‬
‫ور)‬
‫اّلل عا ِقبة األم ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(ومن يس ِلم وج َهه ِإلى ِ‬
‫‪ o‬وهو املوفق لألجر العظيم‪ ،‬املوعود باألمن في الدنيا واآلخرة‪:‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ‬ ‫( َب َلى َم ْن َأ ْس َل َم َو ْج َه ُه َّّلل َو ُه َو ُم ْحسن َف َل ُه َأ ْج ُر ُه ع َ‬
‫ند َرِّب ِه َوال خ ْوف َعل ْي ِه ْم َوال ُه ْم َي ْح َزنون)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬

‫‪ ‬الترهيب‪:‬‬
‫ال إيمان إال بالتسليم‪ ،‬وأن املخالف واقع في ضالل مبين‪ ،‬وأنه متعرض للوعيد والعقوبة والفتنة‪:‬‬
‫ّ َ‬ ‫وك ف َيما َش َج َر َب ْي َن ُه ْم ُث َّم َال َيج ُدوا في َأ ُنفسه ْم َح َر اجا ّم َّما َق َ‬
‫ض ْي َت َو ُي َس ِل ُموا ت ْس ِل ايما)‬ ‫َ َ َ َ ّ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ ُ َ ّ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(فال ور ِبك ال يؤ ِمنون حتى يح ِك ُم ِ‬
‫َ ََ‬ ‫اّلل َو َر ُس ُول ُه َأ ْم ارا َأن َي ُكو َن َل ُه ُم ْالخ َي َر ُة م ْن َأ ْمره ْم ۗ َو َمن َي ْعص َّ َ‬
‫اّلل َو َر ُسول ُه فق ْد‬ ‫ان ملُ ْؤمن َوَال ُم ْؤم َنة إ َذا َق َض ى َّ ُ‬ ‫( َو َما َك َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ا‬ ‫َ َّ َ َ ا‬
‫ضل ضالال مبينا )‬
‫َ ْ َ ْ َ َّ ِ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ْ َ َ َ‬
‫(فليحذ ِر ال ِذين يخ ِالفون عن أم ِر ِه أن ت ِصيبهم ِفتنة أو ي ِصيبهم عذاب أ ِليم)‬
‫َ َ َ ُ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ َ َ ُ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َّ ُ َْ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َّ‬
‫ّلل َوِل َّلر ُسو ِل ِإذا دعاكم ِملا يح ِييكم واعلموا أن اّلل يحول بين املر ِء وقل ِب ِه وأنه ِإلي ِه‬ ‫(يا أي َها ال ِذين آمنوا است ِجيبوا ِ ِ‬
‫ون)‬ ‫ُت ْح َش ُر َ‬
‫يم)‬‫اّلل َو َر ُس َول ُه َف َأ َّن َل ُه َن َار َج َه َّن َم َخال ادا ف َيها ۚ َذل َك ْالخ ْز ُي ْال َعظ ُ‬
‫( َأ َل ْم َي ْع َل ُموا َأ َّن ُه َمن ُي َحادد َّ َ‬
‫ِِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬

‫‪ ‬أسباب عدم التسليم‪:‬‬


‫ا‬
‫مرض في القلب‪ ،‬أو متابعة لهوى‪ ،‬أو ناشئا عن كفر ونفاق‪.‬‬
‫ُ َّ ُ‬ ‫ين في ُق ُلوبهم َّم َرض َّما َو َع َد َنا َّ ُ‬ ‫امل َناف ُقو َن َو َّالذ َ‬ ‫َ ْ َ ُ ُل ْ ُ‬
‫اّلل َو َر ُسول ُه ِإال غ ُرو ارا)‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫(وِإذ يقو‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ين في قلوبهم َّم َرض غ َّر َهؤالء د ُين ُه ْم ۗ َو َمن َيت َوك ْل َعلى اّلل فإ َّن َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬
‫(إ ْذ َي ُقو ُل املنافقون َوالذ َ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬
‫اّلل َع ِزيز َح ِكيم)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َ ُ َ َّ ُ َ َ ْ ُ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َِ َ ْ َ َ َ َّ َ َ ْ ُ ُ َ َ َّ ُ ْ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َ َ ُ‬
‫ِ‬
‫وت وقد أ ِمروا أن‬ ‫(ألم تر ِإلى ال ِذين يزعمون أنهم آمنوا ِبما أ ِنزل ِإليك وما أ ِنزل ِمن قب ِلك ي ِريدون أن يتحاكموا ِإلى الطاغ ِ‬
‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫يل َل ُه ْم َت َع َال ْوا إ َلى َما َأ َنز َل َّ ُ‬
‫اّلل َوإ َلى َّ‬ ‫يدا‪َ ،‬وإ َذا ِق َ‬ ‫ان َأن ُيض َّل ُه ْم َ‬
‫ض َال اال َبع ا‬ ‫الش ْي َط ُ‬ ‫َ ُ ُ َّ‬ ‫َي ْك ُف ُ‬
‫الر ُسو ِل َرأ ْي َت امل َنا ِف ِق َين‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫يد‬ ‫ر‬ ‫ي‬
‫ِ ِ‬‫و‬ ‫ه‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫وا‬ ‫ر‬
‫ا‬
‫نك صدودا )‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫صدو َن َع َ‬ ‫َي ُ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫اّلل َمن َيش ُاء َو َي ْه ِدي َمن َيش ُاء ۚ)‬ ‫اّلل ب َه َذا َم َث اال ۚ َك َذل َك ُيضل َّ ُ‬ ‫َ َ َ َ َ َّ ُ‬ ‫َ َْ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ ُ َ َّ َ ُ ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫(وِليقول ال ِذين ِفي قل ِوب ِهم م َرض والكا ِف ُرون ماذا أ َراد ِ‬
‫َْ‬ ‫َ َّ ْ َ ْ َ ُ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ ْ َ َ َّ َّ َ َ َ َ ُ َ ْ ُ ا ّ َ َّ َّ َّ َ َ‬
‫اّلل ال َي ْه ِدي الق ْو َم‬ ‫(ف ِإن لم يست ِجيبوا لك فاعلم أنما يت ِبعون أهواءهم ۚ ومن أضل ِمم ِن اتبع هواه ِبغي ِر هدى ِمن ِ‬
‫اّلل ۚ ِإن‬
‫َّ‬
‫الظ ِ ِامل َين)‬
‫فمقصود الشريعة ابتالء العباد بالتزام أحكام الشريعة عن طواعية وتسليم‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫‪ ‬تعظيم األمر والنهي‪:‬‬
‫(الدرجة األولى‪ :‬تعظيم األمر والنهي‪ ،‬وهو أن ال يعارضا بترخص جاف‪ ،‬وال يعرضا لتشديد غال‪،‬‬
‫وال يحمال على علة توهن االنقياد) ‪ -‬اإلمام الهروي‬
‫مثال على تحميل النهي على علة تعود عليها باالبطال‪:‬‬ ‫‪o‬‬
‫‪ -‬تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد‪ ،‬فإذا أمن من‬
‫هذا املحذور منه جاز شربه‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معلال باإلسكار! فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر؟‬
‫ّ‬
‫من العلل التي توهن االنقياد‪ :‬أن ُيعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس األمر‪،‬‬ ‫‪o‬‬
‫فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫في استكشاف ِحكم الشريعة أحيانا ما يكون مثبتا للمرء‪ ،‬أمثلة‪:‬‬ ‫‪o‬‬
‫‪ -‬كقول النبي ﷺ في السواك‪( :‬مطهرة للفم‪ ،‬مرضاة للرب)‪.‬‬
‫‪ -‬عن اشتراء التمر بالرطب فقال‪( :‬أينقص الرطب إذا يبس) فقالوا‪ :‬نعم فنهى عن ذلك‪.‬‬
‫الحذر في استكشاف ِحكم الشريعة من‪:‬‬ ‫‪o‬‬
‫‪ .1‬الحذر من القول على هللا بغير علم فهو محرم من أشد املحرمات‪.‬‬
‫َّ َ َ‬ ‫ُ ْ َّ َ َ َّ َ َ ّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ّ َ َ ُ ْ ُ‬
‫اّلل َما ل ْم ُين ّ ِز ْل‬
‫اإلثم والبغ َي ِبغي ِر الح ِق وأن تش ِركوا ِب ِ‬
‫(قل ِإنما حرَم رِبي الفو ِاحش ما ظهر ِمنها وما بطن و ِ‬
‫ُ ْ َ ا َ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َ َ‬
‫اّلل َما ال ت ْعل ُمون)‬
‫ِب ِه سلطانا وأن تقولوا على ِ‬
‫‪ .2‬الحذر من املغاالة واإلسراف في التفتيش عن الحكم‪ ،‬فهو موهن ملقام التسليم بتعويد النفس على‬
‫عدم التسليم فيما لم يستبن حكمته‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫مزالق هدر النصوص‬

‫أين الخلل‬
‫إعتراضات على التسليم‪ :‬يعيد بعض املنهزمين ترتيب املنظومة الشرعية لتتوافق مع معطيات الحضارة الغربية‪،‬‬
‫ا‬ ‫ُْ‬
‫جعله مهيمنا على الواقع‪ ،‬يعترض بما يلي‪:‬‬ ‫فإذا ما نوقش بأن مقتض ى التسليم للنص‬
‫‪ -‬فرق عظيم بين التسليم للنص والتسليم لفهم النص‪ :‬مشكلتنا ليست مع مبدأ التسليم وال مع النص الشرعي‪،‬‬
‫وإنما املشكلة في مطالبتكم بالتسليم لفهمكم للنص واإلذعان لقراءتكم له‪.‬‬
‫‪ -‬وجود االختالف الواسع بين أهل العلم في أصول الدين وفروعه‪ :‬مما يدل على مشروعية االختالف‪ ،‬وأنه ناش ئ‬
‫عن معطيات موضوعية صحيحة كتفاوت األفهام وسعة اإلطالع ال أنه واقع عن زيغ وانحراف وتقصير في مبدأ‬
‫التسليم ‪.‬‬
‫‪ -‬الشريعة مبناها على مراعاة املصالح ودرء املفاسد‪ :‬فإذا كان فهم نص جزئي يناقض املصلحة أو يستوجب‬
‫ا‬
‫املفسدة لم يكن التسليم له منسجما مع الشريعة‪.‬‬
‫‪ -‬الشريعة ليست مجرد نصوص جامدة صلبة ال تقبل الزحزحة أو التطوير‪ :‬بل هي تتطور مع تتطور الواقع‬
‫وتتفاعل معه‪ ،‬وقد أقر الفقهاء بهذا وأصلوه في قاعدتهم الشهيرة‪( :‬ال ينكر تغير األحكام بتغير الزمان واملكان)‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬ال بد من اعتبار العقل مرجعا في حال اختلف مع النصوص‪ :‬إذ ستظل دالئل تلك ظنية خبرية مجردة باملقارنة‬
‫إلى قطعية الداللة العقلية البرهانية‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬من الخلل املنهجي جعل كل ما صدر عن النبي وحيا الزم االتباع‪ :‬إذ ما يصدر عن النبي ﷺ على نوعين سنة‬
‫تشريعية وسنة غير تشريعية‪ .‬والسنة غير التشريعية غير مقصودة بإيجاب املتابعة واالنقياد والتسليم بها‪.‬‬
‫‪ -‬مناقشة األحكام الشرعية واستشكالها ال يناقض التسليم بها‪ :‬فالصحابة رضوان هللا عليهم كانوا يناقشونها‪.‬‬
‫‪ -‬تزكية الذات محضورة‪ :‬كالمكم في مبدأ التسليم ورفعه كاملنارة على منهجكم ثم ادعاؤكم االلتزام به والسير‬
‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫عليه متضمن تزكية لذواتكم‪ ،‬وهو محظور‪ ،‬وقد قال هللا تعالى‪ ( :‬فال ت َزكوا أ ُنف َسك ْم ُه َو أ ْعل ُم ِب َم ِن ا َّتقى)‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫تنبيه إلى عدد من القضايا قبل مناقشة ما سبق من الشبهات ومعالجة مزالق هدر النص الشرعي‪:‬‬
‫ا َ ْ َ ُ َ َ‬
‫ان َعلى ن ْف ِس ِه‬ ‫عمل قلبي عظيم‪ ،‬وأن مرد معرفة حصول تقصير فيه هو إلى صاحبه غالبا (ب ِل ِ‬
‫اإلنس‬ ‫‪ -1‬التسليم‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫َب ِص َيرة ‪َ ،‬ول ْو أل َقى َم َع ِاذ َير ُه )‪.‬‬
‫‪ -2‬مناقشة هذه املزالق ليس من أجل محاكمة اآلخرين في تسليمهم وإنما القصد هو التأكيد على ضرورة‬
‫مالحظة الذات ونوازعها حيال نصوص الشريعة‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -3‬من طبيعة االنحراف أن يبتدأ صغيرا ثم ال يلبث أن يتمدد ويتوسع في حياة اإلنسان‪.‬‬
‫‪ -4‬بيان التفاوت الواقع في رتب النصوص الشرعية من جهة الثبوت والداللة وصلة التفاوت في رتب النصوص‬
‫الشرعية من جهة الثبوت والداللة بحكم التسليم لها‪ ،‬والحكم على مخالفها‪.‬‬
‫‪ -‬إن كان النص الشرعي‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ .a‬قطعيا في الثبوت والداللة‪ ،‬فالتسليم له واألخذ به متعين واجب‪ .‬إن لم يعتقد املخالف القطعية‬
‫فقد يعذر بالتأول والجهل ونحوه‪ ،‬أما إن اعتقد القطعية ورد النص فيترتب عليه أحكامه وآثاره من‬
‫الكفر واإلثم‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .b‬ظنيا في الثبوت والداللة‪ ،‬فالتسليم له واإلذعان متعين أيضا وال يلغي وصف الظنية واجب التسليم‬
‫للنص في االعتقاد والعمل‪ ،‬وإنما يتعين التسليم للنص بحسب ما ترجح لقارئه من املعنى‪ ،‬شريطة‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫أن يؤدي االشتراطات الشرعية الصحيحة املوصلة لفهم معتبر من النص‪ ،‬أو سالكا سبيال صحيحا‬
‫في ترجيح ثبوت النص من عدمه‪.‬‬
‫‪ -‬معيار القطعية والظنية والتي تترتب عليه أحكامهما هو معيار أهل السنة والجماعة فيها ال املعايير‬
‫ا‬
‫املبتدعة (السنة ظنية كلها‪ ،‬أو رد خبر اآلحاد في مسائل العمل‪ ،‬أو االعتقاد مطلقا)‬
‫‪ -‬مسألة القطعية والظنية ليست من املعاني الشرعية املطلقة بل بعض دوائر القطع والظن يدخلها قدر‬
‫من النسبية‪ ،‬مما يؤكد ورورة التحرز من التعجل في إطالق اسم الذم على املخطئين‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫املزلق األول‪ :‬مشكلة القراءة‬

‫بيان املزلق‬
‫أن املشكلة ليست في مبدأ التسليم وال هي مع النص‪ ،‬وإنما في مطالبة فصيل خاص للتسليم لقراءته الخاصة‬
‫للنص‪ ،‬وفرق بين التسليم للنص والتسليم لقراءة النص‪ ،‬فالتسليم للنص ال إشكال في وجوبه أما التسليم‬
‫لواحد من قراءاته فهو محل االعتراض‪.‬‬

‫املناقشة‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫العناصر التي ترسم تصورا صحيحا لعالقة النص املقدس بالفهم البشري‪ ،‬وصلة ذلك بمبدأ التسليم‪:‬‬
‫‪ .1‬بين قدسية الوحي والفهم غير املقدس‬
‫‪ .2‬الوحي بين اإلحكام والتشابه‬
‫‪ .3‬من يملك حق التفسير؟‬
‫‪ .4‬ضبط منهجية الفهم‬
‫‪ .5‬من مشكلة التأويل الى إعادة القراءة‬

‫أوال‪ :‬بين قدسية الوحي والفهم غير املقدس‬


‫الشبهة املركزية التي يدور عليها الخطاب العلماني العربي‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ا‬
‫كقولهم مثال‪( :‬النص مقدس ولكن فهمه غير مقدس)‪ ،‬أو (عندنا إسالمات متعددة فأيها نطبق)‪ ،‬أو (يجب‬ ‫‪-‬‬
‫املحافظة على مسافة بين النص وبين قارئ النص)‪.‬‬
‫هي تصوير نصوص الشريعة وكأنها مزيج هالمي متشابه ال يتمايز منه ش يء عن ش يء من جهة البيان والوضوح‬ ‫‪-‬‬
‫والقطعية‪ ،‬بل الكل قابل لقراءات متعددة متكاثرة‪ ،‬ومع انفتاح مناهج القراءة األجنبية وتعددها واستعمالها‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫في فهم النصوص ازدادت هذه القراءات والتفسيرات كما وتباعدت كيفا‪.‬‬
‫الرد‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪ o‬بطالن هذا التصور‪ ،‬إلن الوحي فيه املحكم الواضح البين بنفسه الذي هو في غنى عن التأويل واالجتهاد‬
‫البشري وفيه ما هو دون ذلك‪ .‬فال يجوز االعتراض على مبدأ التسليم للنص بدعوى تعدد القراءة بإطالق‪،‬‬
‫بل ينبغي مراعاة طبيعة املسألة والنص التي وقعت مطالبة التسليم حياله‪ ،‬وتحديد موقع النص من‬
‫خارطة املحكم واملتشابه‪.‬‬
‫أوجه التفسير حسب قول عبدهللا بن عباس‪:‬‬
‫‪ .2‬وتفسير ال يعذر أحد بجهالته‪.‬‬ ‫‪ .1‬وجه تعرفه العرب من كالمها‪.‬‬
‫‪ .4‬وتفسير ال يعلمه إال هللا‪.‬‬ ‫‪ .3‬وتفسير يعلمه العلماء‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫‪ o‬هذه الدعوى‪:‬‬
‫‪ -‬تخالف املحسوس من شأن هذا الوحي وبيانه ووضوحه‪ ،‬وفيه مكابرة عجيبة‪.‬‬
‫‪ -‬يناقض تمدح القرآن بأنه مبين وبيان وتبيان ونور وهدى وفرقان وكتاب أحكمت آياته‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ -‬تلزم جعل الحديث القرآني املتكرر عن حاكمية الشريعة وهيمنتها‪ ،‬والرد إلى نصوصها في حال‬
‫ا‬
‫االختالف‪ ،‬وبيان الفرق بينها وبين حكم الجاهلية عبثا ال فائدة منه‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬تلزم هدر األدلة الشرعية جميعا‪ ،‬وعدم التعويل عليها إطالقا‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬من يريد أن يبيح لنفسه حق تفسير القرآن بغير أدواته فإنه دون أن يتنبه يعطي هذا الحق أيضا ملن يقف‬
‫ا‬
‫في الضفة املقابلة له تماما‪.‬‬
‫‪ o‬االختالف في املذاهب الوضعية أعمق وأوسع وأكثر من االختالف الحاصل في املشهد اإلسالمي‪ ،‬فلماذا لم‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫يكن التعدد هنا مانعا من املطالبة بالليبرالية أو الديمقراطية أو االشتراكية ‪ ...‬الخ وصار مانعا من املطالبة‬
‫بتطبيق الشريعة‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬الوحي بين اإلحكام والتشابه‬


‫‪ -‬الوحي كما أخبر هللا‪ ،‬فيه النص املحكم الذي يجب التزامه‪ ،‬والنص املتشابه الذي يلزم رده إلى املحكم‪ ،‬فإذا‬
‫غاب عن الباحث قاعدة املحكم واملتشابه فلن يتميز له املراد اإللهي‪ .‬ومتى ما تعلق املرء بالنص املتشابه دون‬
‫ا‬
‫املحكم كان ذلك أمارة على الزيغ‪ ،‬والوقوع في حبال تبعيض الوحي‪ ،‬والتعلق بالنص األقل حضورا‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬جعل هللا عزوجل محكمات الكتاب غالبة على الكتاب‪ ،‬حيث وصف املحكم بأنه (أم الكتاب)‪.‬‬

‫ْ َ َ ُ َّ ُ ْ َ َ ُ َ ُ ُ َ َ َ َ َ َّ َّ َ ُ ُ‬ ‫اب م ْن ُه َ‬ ‫اآلية ( ُه َو َّال ِذي َأ َنز َل َع َل ْي َك ْالك َت َ‬


‫ين ِفي قل ِوب ِه ْم َزْيغ‬ ‫اب وأخر متش ِابهات فأما ال ِذ‬ ‫ت‬
‫ْ ِ ِ‬ ‫ك‬‫ال‬ ‫م‬‫أ‬ ‫ن‬‫ه‬ ‫ات‬‫م‬‫ك‬ ‫ح‬ ‫م‬ ‫ات‬ ‫آي‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َّ‬ ‫َّ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ْ‬
‫َف َي َّتب ُعو َن َما َت َش َاب َه ِم ْن ُه ْاب ِت َغ َاء ال ِفتن ِة َو ْاب ِتغ َاء تأو ِيل ِه ۗ َو َما ي ْعل ُم تأويله إال اّلل ۗ َو َّ‬
‫اسخون ِفي ال ِعل ِم َيقولون َآمنا ِب ِه‬ ‫الر ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ّ َ َ َ َ َّ َّ ُ َّ ُ ُ ْ َ َْ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬
‫اب)‬‫ند رِبنا ۗ وما يذكر ِإال أولو األلب ِ‬ ‫كل ِّمن ِع ِ‬
‫الحديث (فإذا رأيت الذين ي ّتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين َس َّمى هللا َف ْ‬
‫اح َذ ُر ُ‬
‫وه ْم)‪.‬‬

‫ثالثا‪ :‬من يملك حق التفسير؟‬


‫ا‬
‫‪ -‬من كان جاهال يجب عليه سؤال العالم‪( :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ال تعلمون)‪ ،‬بدل الوقوع في مصيبة‬
‫(وأن تقولوا على هللا ما ال تعلمون)‪ .‬ألن التكليف وإن كان يشترط له العلم‪ ،‬إال أن هللا لم يكلف الخلق كلهم‬
‫ا ا‬
‫أن يكون علمهم تفصيليا مبنيا على نظر في األدلة وموازنة بين األقوال والخالفات‪.‬‬
‫‪ -‬أهل العلم حين يتحدثون عن ذم التقليد وإباحته حال الضرورة‪ ،‬إنما يعنون بذلك أهل العلم املتخصصين‬
‫الذي آتاهم هللا العلم‪ ،‬ومع ذلك يصرون على تقليد علماء آخرين متخصصين مثلهم‪ ،‬كاألئمة األربعة‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫رابعا‪ :‬ضبط منهجية الفهم‬
‫‪ -‬فهم الوحي ليست عملية عبثية بل لها قواعد وأصول سار عليها السلف والعلماء‪ ،‬وإخضاع الوحي للمناهج‬
‫القرائية املستحدثة ومخرجاتها خطأ كبير‪.‬‬
‫‪ -‬تفاصيل منهج االستدالل والفهم الصحيح‪:‬‬
‫‪ .1‬أدوات فهم الوحي مبثوثة في الوحي ذاته (عدم تبعيض الوحي‪ ،‬ومتابعة السلف مثال مذكورة في القرآن (‪.‬‬
‫‪ .2‬منهج الفهم الصحيح يعتمد على أمرين‪.١ :‬علم بأصول الخطاب العربي ‪. ٢‬معرفة بأقوال السلف الصالح‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .3‬اعتبار العربية وفق معهود األميين )وهم العرب الذي نزل عليهم) أساسا للفهم‪.‬‬
‫‪ .4‬أساس فهم السلف الصالح (الصحابة ‪-‬تالميذ رسول هللا) ثم التابعون ومن تبعهم؛ فالصحابة أكمل األمة‬
‫اهتداء هلل وعلما بالوحي وإصابة الحق‪.‬‬
‫‪ .5‬داللة الوحي على اعتبار فهم الصحابة جاء باعتبارين‪:‬‬
‫‪ )1‬مباشر‪ :‬األمر باالتباع‪.‬‬
‫‪ )2‬غير مباشر‪ :‬بيان الفضل والعلم‪.‬‬
‫واألدلة على ذلك كثيرة من القرآن والسنة وآثار السلف‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬من مشكلة التأويل الى إعادة القراءة‬


‫ا‬
‫‪ -‬مما أخبر به النبي ﷺ أن مركز الصراع في معركة الوحي سينتقل نسبيا من مركز (التنزيل) إلى مركز (التأويل)‪.‬‬
‫‪ -‬مساحة الجدل واالختالف في مجال (فهم النص) أوسع وأكبر من مساحة الجدل في مجال (ثبوت النص)‪.‬‬
‫‪ -‬تقع بعض أوجه املعارضة ملسألة التسليم بإسم املمارسات التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬التأويل‪،‬‬
‫‪ o‬معنى التأويل‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ )1‬التفسير‪ ،‬ومنه قول ابن عباس مثال‪( :‬أنا ممن يعلم تأويله)‬
‫‪ )2‬الحقيقة التي يؤول إليها الش يء‪ ،‬ومنه قوله تعالى‪( :‬هذا تأويل رؤياي من قبل)‪.‬‬
‫‪ o‬التأويل في االصطالح الكالمي‪ :‬فهو صرف اللفظ عن االحتمال الراجح إلى احتمال مرجوح لقرينة‬
‫صارفة‪.‬‬
‫وال مشاحة في اإلصطالح‪ ،‬ولكن ال يصح تنزيل خطاب الوحي مثال في اآلية (وما يعلم تأويله إال هللا‬
‫ا‬ ‫والراسخون في العلم) على هذا املدلول االصطالحي النه مصطلح حادث وليس ا‬
‫معنى معهودا في العربية‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫‪ o‬أصل مشكلة التأويل في الباعث‪ :‬في سبق جملة من األصول والعقائد واحتاللها موقع الصدارة في‬
‫النفس على حساب الوحي‪ .‬والواجب األخذ بظاهر النص ما لم يدل دليل شرعي معتبر يوجب االنتقال‬
‫عن املعنى الظاهر املفهوم‪.‬‬
‫‪ o‬أمارات التأويل الفاسد‪:‬‬
‫‪ )1‬تأويل النص بما ال يحتمله بوضعه اللغوي كتأويل االستواء باالستيالء‪ ،‬في قوله تعالى‪( :‬ثم استوى‬
‫على العرش)‪.‬‬
‫‪ )2‬التأويل بما ال يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع وإن احتمله مفردا كتأويل قوله‬
‫تعالى‪( :‬ملا خلقت بيدي)‪ ،‬تأويله بمعنى القدرة‪.‬‬
‫‪ )3‬التأويل بما ال يحتمل سياقه وتركيبه وإن احتمل في غير ذلك السياق كتأويل قوله تعالى‪َ ( :‬ه ْل‬
‫ات َرِّب َك ۗ) بأن إتيان الرب إتيان بعض‬ ‫ون إ َّال َأن َت ْأت َي ُه ُم ْامل َالئ َك ُة َأ ْو َي ْأت َي َرب َك َأ ْو َي ْأت َي َب ْع ُ َ‬ ‫َ ُ‬
‫نظ ُر َ‬
‫ض آي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ي‬
‫آياته التي هي أمره‪ ،‬وهذا يأباه السياق‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ )4‬التأويل بما لم يؤلف استعماله في ذلك املعنى في لغة املخاطب وإن ألف في اإلصطالح الحادث‪،‬‬
‫كتأويل قوله تعالى‪( :‬فلما أفل) بالحركة‪ ،‬ثم اإلستدالل بحركته على بطالن ربوبيته‪ .‬وال يعرف في‬
‫اللغة التي نزل بها القرآن أن األفول هو الحركة البتة في موضع واحد‪.‬‬
‫‪ )5‬تأويل اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه ولم يعهد استعماله في املعنى املؤول أو‬
‫عهد استعماله فيه نادرا فتأويله حيث ورد وحمله على خالف املعهود من استعمال باطل‪ ،‬كتأويل‬
‫قوله تعالى‪( :‬وكلم هللا موس ى تكليما) أنه من الكلم أي الجرح‪.‬‬
‫‪ )6‬كل تأويل يعود على أصل النص باإلبطال فهو باطل‪.‬‬
‫‪ )7‬تأويل اللفظ الذي له معنى ظاهر ال ُيفهم منه عند إطالقه سواه باملعنى الخفي الذي ال يطلع عليه‬
‫إال أهل النظر والكالم‪ .‬كتأويل لفظ األحد الذي يفهمه الخاصة والعامة بالذات املجردة عن‬
‫الصفات‪ ،‬فيستحيل وضع اللفظ املشهور عند كل أحد لهذا املعنى الذي هو في غاية الخفاء‪.‬‬
‫‪ )8‬التأويل الذي يوجب تعطيل املعنى الذي هو في غاية العلو والشرف ويحطه إلى معنى دونه من‬
‫املراتب‪ ،‬كتأويل الجهمية قوله تعالى‪( :‬وهو القاهر فوق عباده) بأنها فوقية الشرف كقولهم الدرهم‬
‫فوق الفلس وتعطيل حقيقة الفوقية املطلقة التي هي من خصائص الربوبية وحطها إلى كون قدره‬
‫فوق قدر بني آدم وأنه أشرف منهم‪.‬‬
‫‪ )9‬تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق وال معه قرينة تقتضيه‪.‬‬
‫‪ o‬فتأويل التحريف من جنس اإللحاد‪ ،‬فإنه هو امليل بالنصوص عن ما هي عليه إما بالطعن فيها أو‬
‫بإخراجها عن حقائقها مع اإلقرار بلفظها وهو من سنن اليهود‪.‬‬
‫‪16‬‬
‫‪ .2‬إعادة قراءة النص‪:‬‬
‫‪ o‬فهو صورة من صور الغلو في تفعيل أداة التأويل في فهم الوحي‪.‬‬
‫‪ o‬ينطلق أصحابها في قراءتهم للوحي بضغط توهمات أن معضلة التخلف السائد في العالم اإلسالمي‬
‫ناش ئ عن االستمساك بظواهر الوحي وأنه ألجل تحقيق الحداثة والنهضة ال بد من تطوير أدوات‬
‫التعامل مع الوحي‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬سابقا قام العلمانيون العرب ب اإلقصاء املباشر للوحي وتحييده من عملية إدارة الحياة العامة‪ ،‬والتي‬
‫ا‬
‫أفضت إلى جمود املشروع العلماني العربي‪ ،‬وتوليد مزيدا من الثبات والتصلب على املبادئ الشرعية‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬حديثا قاموا ب التعاطي مع الوحي لتمرير تصوراتهم الفكرية من خالله وذلك عبر تحييد مضامينه‬
‫ومعانيه غير املتوافقة مع رؤاهم‪.‬‬
‫‪ o‬أمثلة على أقوال العلمانيون‪:‬‬
‫‪( -‬ال سبيل إلى التجديد والتحديث ونحن نتحدث عن العقل العربي إال من داخل التراث نفسه‬
‫وبوسائله الخاصة وإمكانياته الذاتية أوال) ‪ -‬محمد عابد الجابري‬
‫‪( -‬الخطاب العربي املعاصر هو خطاب محكوم بسلف‪ ،‬واملطلوب تحريره من ربقة السلف‪ ،‬هذا ما‬
‫قادنا إليه الجابري) ‪ -‬تركي الربيعو‬
‫‪( -‬ال بد من إعادة قراءة القرآن على نحو "يحتفظ" فيه بالثقة في أنه "رحمة للعاملين" أي للبشر‬
‫املختلفي التوجهات واملصالح واألفهام) ‪ -‬طيب تزيني‬

‫‪ o‬النص املفتوح أساس القراءة الجديدة‬


‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬األصل التي تقوم عليها مدارس تجديد القراءة هو جعل الوحي نصا مفتوحا غير خاضع ملعنى‬
‫محدد‪ ،‬بل هو فضاء ملعان وتأويالت متكاثرة متعددة‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬هم فعليا يستجلبون‪ :‬أسس وأدوات (الهرمينوطيقيا‪/‬فن فهم وتأويل النصوص حداثيا)‬
‫و(األلسنية الحديثة) و(أركيولوجيا النص) وتطبيقها في عملية فهم القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪ -‬بينما يدعون‪ :‬انعدام البراءة في القراءة‪ ،‬ونسبية املعرفة‪ ،‬وموت املؤلف‪ ،‬وخرافة القصدية‪،‬‬
‫والنهائية املعنى‪ ،‬وانفتاح النص‪ ،‬وتعددية الفهم‪ ،‬والقراءة الرمزية‪ ،‬والداللة اإليحائية‪ ،‬والتفتيش‬
‫في فراغات النص وما بين السطور‪ ،‬واألشكلة والزحزحة‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫‪ o‬ركام القراءة الجديدة‬
‫بإسم تجديد القراءة تم العبث بأحكام الحدود كإنكار حد الرجم وحد الردة واستبدال القطع في حد‬
‫السرقة بالسجن وغير ذلك‪ ،‬كما تم العبث بأحكام األسرة كنظام القوامة‪ ،‬ونظام الطالق‪ ،‬ونظام‬
‫ا‬
‫الحضانة‪ ،‬ونظام التعدد‪ ،‬وحرمة اإلجهاض‪ ،‬وكذلك تم العبث بأحكام املواريث بالتسوية مطلقا بين‬
‫الذكر واألنثى في امليراث‪ ،‬ولم يسلم من هذا العبث حتى أحكام التعبد كالصالة والزكاة والصيام والحج‪.‬‬

‫‪ o‬لم يقدم الشيخ رؤية نقدية مفصلة التجاهات تجديد التراث وإعادة القراءة بسبب‪:‬‬
‫‪ .1‬أن دائرة الجدل بين اإلتجاه اإلسالمي واإلتجاه العلماني يدور حول مسألة بدهية‪ :‬بين رؤية تجعل‬
‫للنص معنى شرعيا معتبرا يجب السعي في تطلبه‪ ،‬وبين رؤية تحاول إلغاء قصدية الوحي بإلغاء‬
‫املعنى‪ ،‬والتدليل على صوابية الرؤية اإلسالمية هنا مقابل الرؤية العلمانية أوضح وأجلى من أن‬
‫يتطلب له تفاصيل األدلة‪ ،‬وكم من جدل في البدهيات يفض ي إلى إضعاف بدهيات عند البعض‪،‬‬
‫ويعطي انطباعا متوهما بدخولها في دائرة الظنيات‪.‬‬
‫‪ .2‬أن الدراسات العلمية املعمقة والجادة لهذا االتجاه متوافرة بحمد هللا‪.‬‬

‫‪ o‬قرر مجمع الفقه اإلسالمي بطالن القراءة الجديدة للنصوص الدينية واعتبره بدعة وأقر ضرورة‬
‫التصدي لتيار هذه القراءات وإعتبارها من فروض الكفاية‬

‫‪18‬‬
‫املزلق الثاني‪ :‬مشكلة الخالف‬

‫بيان املزلق‬
‫إختالف أهل العلم يدل على أن مبدأ التسليم ليس بهذا اإلحكام الذي تصورون‪ ،‬مما يدل على مشروعية‬
‫االختالف‪ ،‬وأنه ناش ئ عن معطيات موضوعية صحيحة كتفاوت األفهام وسعة اإلطالع ال أنه واقع عن زيغ‬
‫ا‬
‫وانحراف وتقصير في مبدأ التسليم‪ .‬وأيضا فوجود االختالف في مسألة يرفع عنها واجب التسليم ويجعلها‬
‫مسألة ظنية يتأرجح فيها املسلم بين حق وحق آخر‪ ،‬فبأي حق أخذ فهو إلى خير إن شاء هللا‪.‬‬

‫املناقشة‬
‫املسائل التي توضح الخلل في تصور أنواع الخالف ودرجاته ورتبه‪ ،‬واملوقف الشرعي الصحيح من كل نوع ‪ ،‬ومعرفة‬
‫ماهية التسليم املطلوب حيال كل قسم‪:‬‬
‫االختالف سنة ربانية‪.‬‬ ‫‪.1‬‬
‫منشأ املشكلة الغفلة عن رتب املسائل‬ ‫‪.2‬‬
‫تفاوت رتب املسائل وضرورة التسليم‪.‬‬ ‫‪.3‬‬
‫مصادر االختالف العلمي بين االستنباط والتنزيل‪.‬‬ ‫‪.4‬‬
‫خطورة توليد األقوال‪.‬‬ ‫‪.5‬‬
‫االحتجاج بالخالف للترخص‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬االختالف سنة ربانية‬
‫‪ -‬وقوع االختالف بين الناس أمر ضروري ال بد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم وقدرات إدراكهم‪.‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -‬الواجب ّ‬
‫تفهم طبيعة هذا الخالف في إطاره الشرعي الصحيح‪ ،‬وتدرس أسبابه‪ ،‬وليس التذمر منه‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬منشأ املشكلة الغفلة عن رتب املسائل‬


‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬املسائل الخالفية ليست على مرتبة واحدة بل هي متفاوتة متباينة فال يصح التعامل مع الكل تعامال واحدا‪،‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫ويكون االختالف سعة ورحمة ال فرقة وعذابا‪ .‬وإنما يكون التعامل معها كالتالي‪:‬‬
‫‪ .1‬األصول والثوابت املعلوم من الدين بالضرورة‪ :‬جزء من الدين الجامع الذي ال يصح االختالف فيه‪،‬‬
‫ا‬
‫فالواجب رد هذا االختالف رأسا‪ ،‬وال يصح أن ُيلتفت إليه‪ ،‬أو ُيتأثر به‪.‬‬
‫‪ .2‬مسائل إجماعية مدركة عند أهل العلم‪ ،‬واألمة ال تجتمع على ضاللة‪ ،‬والخارج عن قولهم ُم ّ‬
‫توعد‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫‪ .3‬مسائل الخالف‪:‬‬
‫‪ )1‬خالف غير سائغ‪:‬‬
‫‪ o‬لشذوذ في القول‪ ،‬أو بعد عن الدليل‪ ،‬أو ضعف في االستدالل‪.‬‬
‫‪ o‬ال يصح األخذ بالقول املرجوح فيه‪ ،‬وال العدول عن القول الصحيح الراجح‪.‬‬
‫‪ o‬بعض أماراته‪ :‬التفرد برأي يخالف املشهور املستقر بين جماهير أهل العلم‪ ،‬أو املخالفة البينة‬
‫لنص املسألة‪.‬‬
‫‪ o‬يسمى املخالفة بزلة العالم‪ ،‬والتي يحرم متابعته عليها‪ ،‬واعتماد قوله فيها‪ .‬كما أنه ال ينبغي أن‬
‫ينسب صاحبها إلى التقصير‪ ،‬وال أن يشنع عليه بها‪ ،‬وال ينتقص من أجلها‪.‬‬
‫‪ )2‬خالف سائغ‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬ما كان واقعا في مسائل االجتهاد مما لم يرد فيه نص أو إجماع‪.‬‬
‫‪ o‬الواجب فيه التعاذر والتغافر مع تطلب الحق فيه‪ ،‬فإن الحق فيه واحد فمن اجتهد في تلمسه‬
‫فأصابه فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور‪.‬‬
‫‪ o‬هو الداخل في إطار قاعدة أهل العلم‪ :‬ال إنكار في مسائل الخالف‪/‬اإلجتهاد ‪.‬‬
‫شريطة ما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن تكون بواعث تبني الرأي في هذا اللون من الخالف طلب الحق وإرادة الوصول إلى مراد‬
‫هللا ال تلمس هوى النفس وما يناسب اإلنسان‪.‬‬
‫‪ .2‬سلوك الطريق الشرعية املعتبرة للترجيح بحسب طبيعة الناظر ومعرفته وعلمه‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬االجتهاد كما قد يقع في عين املسألة فقد يقع أيضا في تصنيف املسألة وإعطاءها الرتبة الالئقة بها‪ ،‬فلدينا إذن‬
‫ثالث دوائر من املسائل‪:‬‬
‫‪ .1‬مسائل إجماع بال إشكال‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .2‬مسائل اجتهاد بال إشكال أيضا‪.‬‬
‫‪ .3‬مسائل مشتبهة مختلف في تقدير وزنها الشرعي‪ ،‬وقد يكون االشتباه في ‪:‬‬
‫‪ o‬دخولها في منطقة اإلجماع أو إلحاقها بمنطقة الخالف املعتبر‪.‬‬
‫‪ o‬دخولها في منطقة الخالف املعتبر‪ ،‬أو إلحاقها بمنطقة الخالف الشاذ‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫ثالثا‪ :‬تفاوت رتب املسائل وضرورة التسليم‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬مع اإلقرار بوجود لون من االختالف السائغ املقبول فإن تطلب مراد هللا فيه مطلوب أيضا وتحكيم الشريعة‬
‫ا‬
‫في كل مسألة خالفية طلبا لحكم هللا تعالى واجب شرعي ضروري‪ ،‬وهو مقتض ى التسليم‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬ال يصح بحال االتكاء على وجود اختالف في مسألة لتبرير االنتقاء فيها بالتشهي أو إدخالها في دائرة املباح رأسا‪،‬‬
‫ا‬
‫بل الواجب تلمس األقرب للحق بصدق مستعمال ما يناسبه من أدوات الترجيح‪.‬‬
‫‪ -‬مع اإلقرار بأنه ال يصح إنكار املرء على غيره في مسائل االجتهاد‪ ،‬فليس له أن يترك ما أداه إليه اجتهاده‪.‬‬

‫رابعا‪ :‬مصادر االختالف العلمي بين االستنباط والتنزيل‪.‬‬


‫‪ -‬االختالفات الواقعة بين أهل العلم له أسبابه العلمية املوضوعية التي أفرزت حالة االختالف‪:‬‬
‫‪ .1‬تفاوتهم في العلم بوجود النص‪ ،‬أو العلم بصحته‪ ،‬أو معرفة معناه أو كيفية استنباط الحكم منه‪.‬‬
‫‪ .2‬قصور في إدراك الحكم‪ ،‬أو خلل في معرفة الواقع‪ :‬إذ أن تصرف املفتي في العادة مركب من قضيتين‪:‬‬
‫‪ o‬حكم شرعي مستنبط‪.‬‬
‫‪ o‬ثم تنزيل لهذا الحكم على واقعة مخصوصة‪.‬‬
‫‪ -‬قد يكون للمستفتي مزيد اختصاص بعلم الواقعة من املفتي‪ ،‬مما يجعله أقدر على تفهمها‪ ،‬ومعرفة صحة‬
‫التنزيل من عدمه‪ ،‬فال يصح إن اتضح للمستفتي خطأ في التنزيل األخذ بالفتوى‪ ،‬بل الواجب توضيح الواقع‬
‫على صورته للمفتي‪ ،‬أو االنتقال ملفتي آخر‪.‬‬
‫‪ -‬ال يقدر بعض الخاصة على دقة التنزيل بخالف بعض العامة لالختصاص‪ ،‬وال تثريب في ذلك‪ ،‬كتمييز املرأة‬
‫ا‬
‫لدم الحيض مثال‪ ،‬ومعرفة املريض للمشقة الواقعة عليه من مرضه‪.‬‬

‫خامسا‪ :‬خطورة توليد األقوال‪.‬‬

‫‪ -‬الخالف املعتبر هو الخالف الدائر بين أهل العلم‪ ،‬فال يصح أن تولد أقوال خارج دائرتهم‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬ال يصح أن يولد املتأخر منهم أقواال فقهية في مسائل تكلم في عينها األوائل‪ ،‬فإن اتفاق األمة على قولين إجماع‬
‫على فساد ما عداهما‪ ،‬سواء في األحكام الفقهية أو تفسير القرآن‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫االحتجاج بالخالف للترخص‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬وجود االختالف في مسألة شرعية ال يصح أن يكون سببا في هدر النصوص الشرعية أو إضعاف مبدأ االلتزام‬
‫بها‪ ،‬فإن وجود الخالف ال يعد حجة شرعية تجوز للمرء الخروج عن االلتزام الشرعي بما ظهر له أو غلب على‬
‫ظنه من أحكام الشريعة‪.‬‬

‫‪ -‬العبد مطالب بالعمل بما اعتقد أو غلب على ظنه أنه مراد له تبارك وتعالى بحسب ما يتوافر لديه من أدوات‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫االجتهاد‪ ،‬إن كان عاملا مجتهدا فبنظره في مصادر التلقي الشرعية‪ ،‬وإال باتباع أهل العلم عبر سؤالهم واالختيار‬
‫من أقوالهم باجتهاد يصلح ملثله بما يعتقد أنه يبلغه مراد هللا‪.‬‬
‫‪ -‬أقوال باطلة‪:‬‬
‫‪" o‬إن املرء في سعة من االختيار بين األقوال الخالفية"‪.‬‬
‫‪" o‬مناط االلتزام بالنص كونه قطعي الثبوت قطعي الداللة"‪.‬‬

‫‪ -‬يترتب على القول بحجية الخالف الفقهي لوازم فاسدة‪ ،‬منها‪:‬‬


‫ا‬
‫‪ .1‬عدم إلزامية الوحي إال ما كان مجمعا عليه‪.‬‬
‫ُ‬ ‫ا‬
‫‪ .2‬إباحة الترخص مطلقا فيما اختلف في حرمته‪.‬‬
‫(إن أخذت برخصة كل عالم اجتمع فيك الشر كله) ‪ -‬سليمان التيمي‬
‫ا‬
‫‪ .3‬يتضمن تعطيال ملقصد االبتالء في وضع الشريعة‪.‬‬
‫ا‬
‫) املقصد الشرعي من وضع الشريعة إخراج املكلف عن داعية هواه‪ ،‬حتى يكون عبدا هلل اختيارا‪ ،‬كما هو‬
‫ا‬
‫عبد هلل اضطرارا) ‪ -‬اإلمام الشاطبي‬
‫ا‬
‫‪ .4‬يتضمن إسقاط التكليف جملة بأحكام الشريعة في كل ما وقع فيه االختالف‪.‬‬
‫(ألن حاصل األمر مع القول بالتخيير أن للمكلف أن يفعل إن شاء‪ ،‬ويترك إن شاء وهو عين إسقاط‬
‫التكليف) ‪ -‬اإلمام الشاطبي‬
‫‪ .5‬جملة من املفاسد‪:‬‬
‫)كاالنسالخ من الدين بترك اتباع الدليل إلى اتباع الخالف‪،‬‬
‫ا‬
‫وكاالستهانة بالدين إذ يصير بهذا االعتبار سياال ال ينضبط‪،‬‬
‫وكترك ما هو معلوم إلى ما ليس بمعلوم؛ ألن املذاهب الخارجة عن مذهب مالك فى هذه األمصار مجهولة‪،‬‬
‫وكانخرام قانون السياسة الشرعية‪ ،‬بترك االنضباط إلى أمر معروف‪،‬‬
‫وكإفضائه إلى القول بتلفيق املذاهب على وجه يخرق إجماعهم) ‪ -‬اإلمام الشاطبي‬

‫‪22‬‬
‫املزلق الثالث‪ :‬مشكلة املقاصد‬

‫بيان املزلق‬
‫أن التسليم هلل ورسوله جزء من بنية شرعية متكاملة متماسكة مبناها على مراعاة املصالح ودرء املفاسد‬
‫وتحقيق مقاصد كلية عليا‪ ،‬فإذا كان فهم نص جزئي يناقض املصلحة أو يستوجب املفسدة أو يضاد مقاصد‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫الشريعة لم يكن التسليم له منسجما مع الشريعة بل مضادا لها‪ ،‬فالتسليم للمقاصد والكليات أولى من‬
‫التسليم للفروع والجزئيات‪ ،‬بل الخضوع لروح الشريعة ومقاصدها العليا في الواقع مقدم على األخذ ببعض‬
‫النصوص التفصيلية‪ ،‬فتلك الكليات مرادة مقصودة‪ ،‬أما الشكليات التفصيلية فمجرد وسائل لتحقيق تلك‬
‫الغايات واملقاصد‪ ،‬وفي تنظيرات الطوفي املصلحية‪ ،‬وتقريرات الشاطبي املقاصدية ما يعين على تحقيق هذه‬
‫املسألة واإلبانة عن موقع النص الجزئي من خارطة الكليات‪.‬‬

‫املناقشة‬
‫وللجواب على هذه اإلشكالية ينبغي مراعاة املسائل التالية‪:‬‬
‫‪ .1‬مشهد من وحي االحتجاج املقاصدي‬
‫‪ .2‬مشكلة الخطاب الحداثي املقاصدي‬
‫‪ .3‬حقيقة االجتهادات العمرية بين خطابين‬
‫‪ .4‬الطوفي والشاطبي في ميزان الشريعة والحداثة‬

‫أوال‪ :‬مشهد من وحي االحتجاج املقاصدي‬

‫‪ -‬بات مصطلح (املقاصدية) بسبب سوءات املمارسة باسمه من املصطلحات املوشومة‪ ،‬والتي تستثير في نفس‬
‫ا‬
‫كثير من الباحثين تخوفا بمجرد رؤية هذه املفردة في سياقات البحث الفقهي‪ ،‬لغلوب الظن أن البحث سيتجه‬
‫صوب التخفف من الضوابط والتقييدات الشرعية‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ُ‬
‫‪ -‬الفرق هائل بين من يتكلم في مثل هذه املسائل ولو ق ِّدر خطؤه منطلقا من تعظيم الشر واستمساكا بأصوله‪،‬‬
‫وبين من وجد في (نظرية املقاصد) وسيلة إلى تعطيل الشريعة باسم الشريعة‪.‬‬

‫‪ -‬السبب في حرص بعض الخطابات العلمانية في توظيف الشريعة لضرب الشريعة‪ ،‬إلن الخطابات العلمانية‬
‫ا‬
‫الصلبة التي تنابذ الشريعة رأسا لن تحظى بأدنى درجات القبول في الواقع اإلسالمي العام‪.‬‬

‫‪ -‬درجة تعلق الخطابات العلمانية بالخطاب الشرعي تتغير بمجرد تغير بيئة الخطاب العلماني (تغير الجمهور أو‬
‫مستوى املمانعة أوغير ذلك)‬
‫‪23‬‬
‫‪ -‬تجد في املشهد العلماني العام‪:‬‬
‫‪ o‬تفاوت املسائل التي يشتغل بها الخطاب العلماني بتفاوت الفضاءات التي يعمل فيها‪ .‬ففي حال هيمنة‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫الخطاب الشرعي في بيئة ما يكون البحث في مشروعية االختالط مثال بضوابطه الشرعية طبعا بينما يكون‬
‫ا‬
‫في بيئة أخرى ردا ألصل حاكمية الشريعة في شؤون الحياة‪.‬‬
‫‪ o‬اصطفاف علمانيو الداخل مع علمانيي الخارج في مسائل يظهر للقارئ السطحي أن اختيارات الخطاب‬
‫العلماني الداخلي يتماهى مع بعض الخطابات اإلسالمية الناعمة في الخارج‪ ،‬لكن سرعان ما تتبدد هذه‬
‫التقاطعات وتزول في اللحظة التي يقع فيها الخالف بين الخط العلماني الخارجي وذلك الخط اإلسالمي‬
‫الناعم مع أن طبيعة الخطاب املعلن لذلك الخطاب الداخلي كان يستوجب أن تكون حالة االصطفاف‬
‫على نحو آخر‪.‬‬

‫ثانيا‪ :‬مشكلة الخطاب الحداثي املقاصدي‬


‫ا‬
‫‪ -‬وجه اإلشكال في طرد (نظرية املقاصد) وجعلها أصال تهدر ألجله األحكام الجزئية التفصيلي‪ ،‬قيامها على‬
‫مقدمات فيها خلل وهي‪:‬‬
‫‪ .1‬معرفة املقاصد عملية منفكة عن إدراك أحكام التشريعات التفصيلية‪.‬‬
‫‪ .2‬التشريعات التفصيلية مجرد وسائل لغايات تمثلها مقاصد الشريعة‪.‬‬

‫‪ -‬إشكالية املقدمة األولى‪ :‬أن معرفة املقاصد عملية منفكة عن إدراك أحكام التشريعات التفصيلية‪:‬‬
‫‪ o‬الخلل في تحديد منهجية التعرف على املقاصد‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬الخطاب العلماني ال يقدم مفهوما منضبطا للمصلحة‪ ،‬وال منهجية منضبطة ملعرفة تلك املصالح‪.‬‬
‫‪ -‬بينما استوعب الفقهاء كل ما تتطلبه املصلحة من مهام ( بيان ماهيتها ومفهومها‪ ،‬تاريخها ومراحلها‪،‬‬
‫أقسامها وأصنافها‪ ،‬ترتيبها وتصنيفها‪ ،‬وبيان حدودها وخصائصها‪ ،‬فوائدها وآثارها)‪.‬‬

‫‪ o‬االختزال الشديد ملفهوم (املقصد الشرعي) والتضييق من دالالته‪:‬‬


‫‪ -‬بحيث يشمل قائمة قصيرة من (املتطلبات املادية الدنيوية) كسياسة املصالح العامة أو تحقيق الرفاه‬
‫املادي أو تهذيب األخالق االجتماعية‪،‬‬
‫‪ -‬أما احتياجات الروح ووظائف التعبد ومتطلبات اآلخرة فليس لها حضور في مشهد املقاصد‪.‬‬
‫‪ -‬مع أن شأن (املصالح األخروية) في النظر الشرعي أعمق وأكبر من مطلق القصدية‪.‬‬

‫‪24‬‬
‫‪ -‬ومن بعض الحزم الداللية الدالة على تقدم (املصالح األخروية) على (املصالح الدنيوية)‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ .1‬بيان الحكمة األساس من خلق اإلنسان‪ ،‬وهي عبادة هللا تعالى وحده‪ ،‬وهي مسألة عائدة أصالة إلى‬
‫َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َّ‬
‫نس ِإال ِل َي ْع ُب ُدو ِن)‪.‬‬‫اإل‬
‫املصالح األخروية‪ ،‬فقال تعالى (وما خلقت ال ِجن و ِ‬
‫‪ .2‬بيان املحور األساس لدعوة األنبياء‪ ،‬وحكمة هللا تعالى من بعثة الرسل‪ ،‬وهي إرشاد الخلق إلى‬
‫اج َت ِن ُبوا‬ ‫اع ُب ُدوا َّ َ‬
‫اّلل َو ْ‬ ‫حكمة الرب من خلقهم‪ ،‬فقال تعالى‪َ ( :‬و َل َق ْد َب َع ْث َنا في ُك ّل ُأ َّمة َّر ُس اوال َأن ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫اغ َ‬ ‫َّ ُ‬
‫وت )‪.‬‬ ‫الط‬
‫َّ‬
‫‪ .3‬التأكيد أن هذه الدنيا إنما هي موضوعة ألجل االبتالء واآلخرة هي دار الجزاء‪ ،‬فقال تعالى‪( :‬ال ِذي‬
‫ا‬ ‫ْ َ ُ ُ َ ُ َ‬ ‫َ َ َْ‬
‫خل َق امل ْو َت َوال َح َياة ِل َي ْبل َوك ْم أيك ْم أ ْح َس ُن َع َمال ۚ)‬
‫ا‬
‫‪ .4‬التأكيد على أن التمكين في الشأن الدنيوي يجب أن يتخذ وسيلة للتمكين ألحكام الشريعة من‬
‫َّ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ‬ ‫َّ َّ َّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ‬ ‫َّ َ‬
‫الزكاة َوأ َم ُروا‬ ‫ض أق ُاموا الصالة وآتوا‬ ‫السريان في الواقع‪ْ ،‬فقال تعالى‪( :‬ال ِذين ِإن مكناهم ِفي األر ِ‬
‫ُ َ‬
‫وف َو َن َه ْوا َع ِن املنك ِر ۗ )‪.‬‬ ‫ر‬ ‫ُ‬ ‫ب ْاملَ ْ‬
‫ع‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ ْ‬ ‫‪ .5‬االحتفاء باملنجزات األخروية في مقابل باملنجزات الدندوية‪ ،‬فقال تعالى‪َ ( :‬من َك َ‬
‫ان ُي ِر ُيد َح ْرث اآل ِخ َر ِة‬
‫َ ْ ُْ‬
‫ان ُي ِر ُيد َح ْرث الدن َيا نؤ ِت ِه ِم ْن َها)‪.‬‬ ‫َنز ْد َل ُه في َح ْرثه َو َمن َك َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ون‬ ‫‪ .6‬ذم من قلب املعادلة فقدم العاجلة على اآلخرة‪ ،‬قال تعالى‪َ ( :‬ك َّال َب ْل ُتحبو َن ْال َعاج َل َة ‪َ ،‬و َت َذ ُر َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬
‫اآل ِخ َرة)‪.‬‬
‫اع‬‫‪ .7‬تقدم تبة (اآلخرة) على (الدنيا) وذلك في جملة من اآليات‪ ،‬فقال تعالى‪َ ( :‬ف َما ُأوت ُيتم ّمن َش ْيء َف َم َت ُ‬
‫ِ ِ‬ ‫ر‬
‫َ‬ ‫ْ َ َ َ َ َّ َ‬ ‫ْ ََ‬
‫اّلل خ ْير َوأ ْب َقى)‪.‬‬ ‫الحي ِاة الدنيا وما ِعند ِ‬
‫َّ َ َ َ ْ‬ ‫ُ َ َ َّ َ ْ َ‬
‫الضاللة ِبال ُه َدى‬ ‫ين اشت َر ُوا‬ ‫‪ .8‬استعارة اللسان االقتصادي في التعبير عن شؤون اآلخرة (أول ِئك ال ِذ‬
‫َ َ َ َ ّ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َّ َ َّ ُ ْ ُ َّ َ َ ْ ا َ َ ا َ ُ َ َ ُ َ ُ َ َ ُ َْ‬
‫اعفه له وله أجر‬ ‫فما رِبحت ِتجارتهم وما كانوا مهت ِدين)‪( ،‬من ذا ال ِذي يق ِرض اّلل قرضا حسنا فيض ِ‬
‫اس َت ْبش ُروا ب َب ْي ِع ُك ُم َّال ِذي َب َاي ْع ُتم ب ِه ۚ َو َذ ِل َك ُه َو ْال َف ْو ُز ْال َع ِظ ُ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫َكريم)‪َ ( ،‬ف ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ا‬
‫‪ -‬كما جاء في الوحي ما يدل صراحة على مراعاة املصالح الدنيوية بما ال يخل باملصلحة األخروية ( َو ْاب َت ِغ‬
‫َ َ َْ‬ ‫َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ‬
‫اّلل ِإل ْي َك َوال ت ْب ِغ الف َس َاد‬ ‫نس ن ِص َيب َك ِم َن الدن َيا َوأ ْح ِسن كما أحسن‬ ‫ِفيما آتاك اّلل الدار اآل ِخرة وال ت‬
‫اّلل َال ُيحب ْاملُ ْفسد َ‬ ‫األ ْرض إ َّن َّ َ‬ ‫َْ‬
‫ين)‪.‬‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِفي‬
‫‪ -‬طبيعة التعاطي العلماني مع مفهوم املقاصد الشرعية ال تقوم على إستقراء للنصوص الشرعية‪ ،‬وال‬
‫أخذ مقاصد الشريعة من الشريعة‪ ،‬بل هي تتصور مصالح تتفق مع فكرها وتنسبها الى الشريعة‪ .‬بينما‬
‫ا‬
‫بذل الفقهاء جهودا كبيرة في البحث والتنقيب عن مقاصد الشرع‪ ،‬والتوصل الى أنواع من املقاصد‬
‫التي جاءت الشريعة بتحقيقها‪.‬‬
‫‪25‬‬
‫‪ -‬إشكالية املقدمة الثانية‪ :‬أن التشريعات التفصيلية مجرد وسائل لغايات تمثلها مقاصد الشريعة‪:‬‬
‫‪ o‬هذا اإلشكال فرع عن املقدمة األولى‪ ،‬ناتج عن مشكلة منهج استخراج املقاصد الشرعية‪ ،‬إذ من الطبيعي‬
‫أن تتراجع قيمة املأمورات الشرعية واملنهيات في ظل اختزال طبيعة املقاصد وإرجاعها إلى قيم مادية‬
‫دنيوية‪.‬‬
‫مثال‪ :‬حين يدعي بعضهم أن تشريع الصيام هو لتحقيق (الحمية الصحية) فمن الطبيعي أن تتراجع‬
‫ا‬
‫القيمة الفعلية لهذه العبادة في نفسه‪ ،‬وأن يشكل هذا حاجزا عن إدراك الطبيعة الفعلية ملقاصد هذه‬
‫َ ُ‬ ‫الص َي ُام َك َما ُكت َب َع َلى َّالذ َ‬
‫ين ِمن ق ْب ِلك ْم‬ ‫العبادة والتي جاء النص عليها ( َيا َأي َها َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا ُكت َب َع َل ْي ُك ُم ّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ َّ ُ َ َ‬
‫ل َعلك ْم ت َّت ُقون)‪.‬‬

‫‪ o‬الدعوى بإمكانية استبدال أحكام الشريعة التفصيلية بأحكام أخرى تحقق عين املقصد الذي تطلبته‬
‫الشريعة بتلك التشريعات دعوى فيها (غرور معرفي) بسبب‪:‬‬
‫‪ .1‬تفاوت الناس في إدراكهم ووعيهم وذكائهم تفاوت عظيم‪ ،‬فاإلحالة عليهم وعلى عقولهم مع تفاوتها إحالة‬
‫على مظنة اختالف‪.‬‬
‫‪ .2‬تتضمن القول على هللا تعالى بغير علم‪ ،‬فإنه مهما اشتغل العبد بمعرفة أوجه الحكمة في الجوانب‬
‫ا‬
‫التعبدية فسيظل جمهورها غائبا عنه‪ ،‬إذ قال بعضهم بإلغاء لزوم العبادات الكبرى في اإلسالم‬
‫(الصالة‪ ،‬الصوم‪ ،‬الحج) بحجة أن الشريعة جاءت بأحكامها ملصلحة تناسب ذلك العصر فإذا‬
‫تحققت مقاصدها في ترقية الروح فلسنا ملزمين بتفاصيلها التشريعية الشكلية‪.‬‬
‫‪ .3‬ادعاء أن مثل هذه التعبدات هي مجرد وسائل لتحقيق ترقية الروح هي دعوى غير صحيحة فإن هذه‬
‫التعبدات هي في ذاتها مطلوبة مقصودة لذاتها محبوبة هلل تبارك وتعالى‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .4‬اإلشكالية تظل قائمة حتى في أبواب املعامالت إلن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق هللا تعالى‪ ،‬وهو‬
‫جهة التعبد‪.‬‬
‫‪ .5‬ادعاء أنه باإلمكان إحداث وسائل أخرى تحقق عين تلك الغايات من غير زيادة أو نقص‪ ،‬هي دعوى‬
‫تحتاج إلى البرهنة واإلثبات‪.‬وما اقترحوه من الوسائل البديلة ال يسلم من االعتراض والنقد‪.‬‬
‫مثال‪ :‬استبدلوا حد السرقة القطع بالسجن‪ ،‬وهاتان العقوبتان وإن تقاطعا في ش يء من النتائج إال‬
‫أنهما يفترقان في تحقيق القدر املطلوب من الردع‪.‬‬
‫‪ .6‬إن كان الكل يوصل إلى نتيجة واحدة حقيقة والغرض تحقيق تلك النتيجة املعبر عنها باملقاصد‪ ،‬فلم‬
‫هذا اإلصرار على تعطيل الوسيلة التي اعتبرها الشارع واستبدالها بوسيلة أخرى‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫ثالثا‪ :‬حقيقة االجتهادات العمرية بين خطابين‬

‫‪ -‬من أكثر ما يستدل به الخطاب العلماني في مقام تقرير الصدام بين األحكام التشريعية الجزئية ومقاصد‬
‫الشريعة الكلية اجتهادات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين تولى إمرة املؤمنين‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬سلط الخطاب العلماني الضوء على اجتهادات عمر بن الخطاب في أحكام الشريعة مصورا إياها على أنها تمثل‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫خروجا على النص وتعلقا بمقاصد الشريعة ليكون ذلك ذريعة لهم لهدر أحكام الشريعة‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬بينما تضمنت االجتهادات العمرية فقها عميقا ومآخذ شرعية معتبرة في إطار الشريعة ومن داخل نصوصها‪.‬‬

‫‪ -‬وقفات حول حقيقة االجتهادات العمرية بين الخطابين‪:‬‬


‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ o‬أن كثيرا ممن يوظف هذه االجتهادات في سياق هدر أحكام الشريعة التفصيلية إنما يوظفها ال قناعة بهذه‬
‫االجتهادات‪ ،‬وإنما ألنه يجد فيها األداة األنسب لتمرير املشروع العلماني‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ o‬أن ثمة خلال عظيما في تصور حقيقة هذه االجتهادات وبواعثها‪ ،‬فهي ال تعد خروجا عن سلطة النص بل‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫تمثل تطبيقا عمليا مباشرا ألحكام الشريعة التفصيلية‪ ،‬كما يلي‪:‬‬
‫‪ .1‬تعطيل حد السرقة عام الرمادة‪ :‬هو في حقيقته ناش ئ عن قيام الشبهة املانعة من إقامة الحد‪ ،‬فمجرد‬
‫السرقة غير موجب إلقامة الحد حتى تتوافر شروطه الشرعية التالية‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ .2‬أن ال يكون فيه شبهة ملك‪.‬‬ ‫‪ .1‬أن يبلغ املسروق نصابا‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .4‬أن ال يكون آخذه محتاجا إليه لسد رمقه‪.‬‬ ‫‪ .3‬أن يكون من حرز‪.‬‬
‫ا‬
‫والشرط األخير كان حاضرا في مشهد عام الرمادة‪ .‬ومن مبدأ درء الحد بالشبهة‪ ،‬أوقف عمر تطبيق‬
‫الحد كإيقاف مؤقت متعلق بظرف زماني خاص‪.‬‬

‫‪ .2‬ترك إعطاء املؤلفة قلوبهم من الزكاة‪:‬‬


‫ْ‬ ‫َْ‬ ‫َّ َ َ ُ ْ َ‬
‫ات ِلل ُفق َر ِاء َوامل َس ِاك ِين َوال َع ِام ِل َين‬‫~ من مصارف الزكاة املؤلفة قلوبهم بدليل قوله تعالى‪ِ ( :‬إ َّن َما الصدق‬
‫اّلل ۗ َو َّ ُ‬
‫اّلل‬
‫َ َ ا ّ َ َّ‬ ‫َّ‬
‫اّلل َو ْابن َّ‬ ‫الر َق َ ْ َ َ َ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ْ َ َ ْ ُ َ َّ َ ُ ُ ُ ُ ْ َ‬
‫الس ِب ِيل ف ِريضة ِمن ِ‬ ‫اب والغا ِر ِمين و ِفي س ِب ِيل ِ ِ‬ ‫عليها واملؤلف ِة قلوبهم و ِفي ِ ِ‬
‫ا‬
‫َع ِليم َح ِكيم)‪ ،‬كما أن النبي أعطى عددا من املؤلفة قلوبهم من مال الزكاة‪.‬‬
‫~ قال عمر رض ي هللا عنه لعيينه بن حصن واألقرع بن حابس ملا ذكرا أرضا يريدان زرعها وحرثها‬
‫وتملكها‪" :‬أن رسول هللا ﷺ كان يتألفكما واإلسالم يومئذ ذليل‪ ،‬وإن هللا قد أعز اإلسالم فاذهبا‬
‫فاجهدا جهدكما ال أرعى هللا عليكما إن رعيتما"‪.‬‬
‫~ لم يعطل عمر سهم املؤلفة قلوبهم تعطيال كليا وإنما إجتهد في كون فالن من املؤلفة قلوبهم‪ ،‬فهو‬
‫إجتهاد في تحقيق مناط النص في الواقع ال تعطيل للنص‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫‪ o‬عدم النزاهة البحثية في طبيعة الخطاب العلماني من حيث اعتماد منهج انتقائي في اإلستدالل باالجتهادات‬
‫العمرية واإلعراض عن جزء كبير من التصرفات العمرية الصريحة في التأكيد على مبدأ االلتزام بالنص‬
‫حتى لقب رض ي هللا عنه ب(الوقاف عند كتاب هللا)‪ .‬ومنها‪:‬‬
‫‪ .1‬جاء عمر إلى الحجر األسود فقبله فقال‪ :‬إني أعلم أنك حجر ال تضر‪ ،‬وال تنفع ولوال أني ُ‬
‫أيت النبي ﷺ‬ ‫ر‬
‫َ ْ‬ ‫ُ‬
‫ُيق ِّبل َك َما ق َّبل ُت َك‪.‬‬
‫‪ .2‬قال عمر للركن‪ :‬أما وهللا إني ألعلم أنك حجر‪ ،‬ال تضر وال تنفع‪ ،‬ولوال أني رأيت النبي ﷺ استلمك ما‬
‫استلمتك‪ ،‬فاستلمه‪.‬‬
‫‪ .3‬كتب عمر رض ي هللا عنه إلى شريح‪ :‬إذا أتاك أمر في كتاب هللا تعالى فاقض به‪ ،‬وال يلفتنك الرجال عنه‪،‬‬
‫فإن لم يكن في كتاب هللا وكان في سنة رسول هللا فاقض ﷺ به‪ ،‬فإن لم يكن في كتاب هللا وال في سنة‬
‫رسوله فاقض بما قض ى به أئمة الهدى‪ ،‬فإن لم يكن في كتاب هللا وال في سنة رسوله وال فيما قض ى به‬
‫أئمة الهدى فأنت بالخيار إن شئت تجتهد رأيك وإن شئت أن تؤامرني وال أرى مؤامرتك إياي إال أسلم‬
‫لك‪.‬‬
‫‪ .4‬كان عمر بن الخطاب يقول‪ :‬الدية للعاقلة وال ترث املرأة من دية زوجها شيئا‪ ،‬حتى قال له الضحاك‬
‫ُ َ‬
‫بن سفيان‪ :‬كتب إلى رسول هللا ﷺ أن أ َو ّ ِرث امرأة أشيم الضبابى من دية زوجها‪ .‬فرجع عمر‪.‬‬

‫‪ o‬ال يزال الخطاب الحداثي يعدد تكرار ذات االستدالل من غير تطوير أو تعديل أو إجابة على اعتراضات‬
‫ا‬
‫الخصوم‪ ،‬رغم أن األجوبة على تلك االجتهادات العمرية حاضرة موجودة في عدد كبير جدا من الكتب‪،‬‬
‫مما يدل على‪:‬‬
‫‪ .1‬املأزق العلمي الكبير الذي يعصف باملوقف الحداثي‪.‬‬
‫‪ .2‬انخفاض مستوى الجدية في األداء البحثي وغيبة اإلنصاف واملوضوعية في التعامل مع األفكار‬
‫واألطروحات‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫ا‬
‫رابعا ‪:‬الطوفي والشاطبي في ميزان الشريعة والحداثة‬

‫يكثر الخطاب العلماني من االتكاء على خطاب نجم الدين الطوفي وأبي إسحاق الشاطبي في بناء منظومة (املصلحة)‬
‫و(املقاصد)‪.‬‬

‫‪ -‬نجم الدين الطوفي‪:‬‬


‫‪ o‬واحد من فقهاء وأصوليي الحنابلة املشاهير‪ ،‬وقد ارتبط اسمه في كثير من املباحث الفكرية واألصولية‬
‫باملصلحة حتى نسب إليه القول ب(تقديم املصلحة على النص)‪.‬‬
‫‪ o‬مثال على التذرع بتراث الطوفي في تبرير تحريف أحكام الشريعة‪ :‬هل يجوز نقل صالة الجمعة إلى األحد "رعاية‬
‫للمصلحة" في أميركا‪.‬‬
‫‪ o‬بحث الطوفي مسألة املصلحة في موضعين‪:‬‬
‫‪ .1‬شرح مختصر الروضة‪ ،‬وضعه في شرح رسالة مختصرة له سماها (البلبل)‪,‬‬
‫‪ .2‬شرحه لألربعين النووية والتي طبعت باسم (التعيين في شرح األربعين) في بعض الطبعات‪ ،‬وذلك أثناء‬
‫شرحه لحديث (ال ضرر وال ضرار)‪ .‬وطبع في كتيب مستقل تحت عنوان‪( :‬رسالة في رعاية املصلحة)‪ .‬وهذا‬
‫املوضع الذي ولد االقتران بين اسم (الطوفي) ومصطلح (املصلحة)‪.‬‬
‫‪ o‬املالمح الرئيسية لنظرية املصلحة عند الطوفي‪:‬‬
‫أن أدلة الشريعة دالة على رعاية للمصلحة‪ ،‬بل هي مصرحة على أن الشريعة موضوعة لتحصيل النفع‬ ‫‪-‬‬
‫واملصلحة‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫أن حديث (ال ضرر وال ضرار) يقتض ي رعاية املصالح إثباتا واملفاسد نفيا‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أن األصل إعمال هذا الحديث على عمومه إال ما جاء الدليل بتخصيصه كالحدود والعقوبات‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أن عموم الحديث يقتض ي تقديم مقتضاه على جميع أدلة الشرع وتخصيصها به في نفي الضرر‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫أن أقوى األدلة الشرعية النص واإلجماع وللمصلحة معها احتماالت‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫~ فإن توافقت على رعاية املصلحة فبها ونعمت وال نزاع‪.‬‬
‫جمع‪ ،‬وإن تعذر الجمع وجب تقديم املصلحة ال بطريق‬ ‫~ وإن اختلفت‪ ،‬فإن أمكن الجمع بينهما بوجه ما ُ‬
‫االفتئات عليهما والتعطيل وإنما بطريق التخصيص والبيان‪.‬‬
‫من اإلشكاالت التي تضعف دليل اإلجماع في مقابل دليل املصلحة‪:‬‬ ‫‪-‬‬
‫~ املصلحة دليل متفق عليه‪ ،‬بخالف اإلجماع فإنه مختلف فيه‪.‬‬
‫~ املصلحة دليل متفق عليه‪ ،‬بخالف النصوص فإنه مختلف في فهمها‪.‬‬
‫~ معارضة النصوص باملصلحة جاءت في السنة‪.‬‬
‫رعاية املصلحة هو أقوى أدلة الشرع‪ ،‬ألنها أقوى من اإلجماع‪ ،‬واألقوى من األقوى أقوى‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫‪29‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬ليس في تقديم املصلحة على النص مراغمة للنص ألن رعاية املصلحة ليس تركا ألدلة الشرع بغيرها بل هي تترك‬
‫لدليل شرعي راجح مستند لحديث (ال ضرر وال ضرار)‪.‬‬
‫‪ -‬أن رعاية املصلحة على النحو املذكور هنا ليس هو القول باملصالح املرسلة على ما ذهب إليه اإلمام مالك بل هي‬
‫أبلغ من ذلك‪.‬‬
‫‪ -‬تستثنى من قاعدة (تقديم املصلحة على النص)‪:‬‬
‫~ ما دل عليه دليل خاص قطعي‪ ،‬كالحدود‪.‬‬
‫~ ما كان في أبواب العبادات واملقدرات فالتعويل فيها على النص واإلجماع ألن العبادات حق الشرع خاص به‪.‬‬

‫‪ o‬نظرية الطوفي في عناصرها الجوهرية تدور في فلك التقرير األصولي التقليدي والذي يجيء تحت عنوان‬
‫(تخصيص النص)‪ ،‬حيث يقرر األصوليون أن عموم النص قد يكون ضعيفا أو محتمال لبعض األفراد فيتم‬
‫تخصيصه بناء على نص آخر أو قياس أو مصلحة ضرورية أو حاجية مالئمة للشريعة‪.‬‬
‫‪ o‬مثال لتوضيح تخصيص النص‪ :‬نهي النبي عن التسعير؛ فلو أخذنا بعمومه وأنه يشمل أنواع السلع املتباينة‬
‫مع تفوات أهميتها واحتياج الناس إليها وتنوعها إلى سلع ضرورية وحاجية وكمالية‪ ،‬ولو غلت غالء فاحشا‪،‬‬
‫فإن إعمال املصلحة هنا يكون باستثناء بعض صور التسعير من النهي‪ ،‬وهذا ليس خروجا عن النص‪ ،‬بل‬
‫عمل بحديث (ال ضرر وال ضرار)‪.‬‬
‫‪ o‬اإلشكاليات في معالجة الطوفي ملسألة تخصيص النص باملصلحة‪:‬‬
‫‪ -‬حماسته الزائدة في تقرير أهمية املصلحة وموقعها من األدلة الشرعية‪ ،‬مما يوحي بأن كلمه مغاير لكالم‬
‫األصوليين‪.‬‬
‫ّ‬
‫‪ -‬وجود قدر من اإلجمال واالشتباه واإلشكال في كالمه‪ ،‬بل وسوء تعبير في بعض املواضع خلف نتائج خطيرة‬
‫ا‬
‫في تحميله معان صرح أحيانا بعدم إرادتها‪ ،‬ومن تلك التعبيرات‪( :‬املصلحة تقدم على النص واإلجماع)‪.‬‬
‫‪ -‬اإلشكال في تحميل غالب تلك النصوص دالالت ال تتحملها‪.‬‬
‫‪ -‬إشكالية بعض ما أقامه من األدلة على تأصيله والتي لم يحققها ويجب عن ثغراتها وإشكاالتها‪ ،‬وبعضها‬
‫ا‬
‫جدا‪ .‬مثل أنه ّ‬
‫هون من قوة اإلجماع‪ ،‬وأنه استدل بوقائع على التمسك ب(العادة) في‬ ‫موح بمعان فاسدة‬
‫مقابل النص استدالل خاطئا‪.‬‬
‫‪ -‬عدم التمثيل بتطبيقات للقاعدة لتتحرر القاعدة بدقة وتتفهم أبعاد (تقديم املصلحة على النص‬
‫واإلجماع)‪ ،‬ومحاولة الباحثون استنطاق قصد الطوفي في بعض املواطن لإلبانة عن مذهبه لغيبة نطقه‪.‬‬
‫‪ -‬حالة الغموض الذي يكتنف شخصية الطوفي نفسه والذي اتهم مع حنبليته بأنه ظاهري أشعري رافض ي‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫‪ o‬الفوارق الجوهرية بين تأصيل الطوفي للمصلحة والتوظيف العلماني‪/‬الحداثي لها‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ .1‬نظرة الفريقين لطبيعة املصالح وشموليتها للمصالح الدنيوية واألخروية‪ ،‬فالطوفي يعطي املصلحة بعدا‬
‫ا‬
‫شموليا يشتمل على مصالح الدنيا واآلخرة‪ ،‬بخالف الخطاب العلماني الذي ال يكاد يكون للمصالح‬
‫األخروية حضور فيه‪.‬‬
‫‪ .2‬أثر طبيعة النص‪ ،‬فحديث الطوفي في تقديم املصلحة على النص ال يتناول النصوص القطعية وإنما‬
‫يتناول بعض املدلول الظني للنص العام فتأتي املصلحة بتخصيصه في أبواب املعامالت دون العبادات‬
‫واملقدرات‪ ،‬بخالف الخطاب العلماني فإنه ال عبرة لديهم وال تأثير ملدى قطعية النص‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .3‬أثر طبيعة املسائل‪ ،‬فالعبادات واملقدرات خارجة تماما عن هذا التأسيس لنظرية املصالح عند الطوفي‪،‬‬
‫أما أولئك فإعمال (أصل املصلحة) متاح في كافة مجاالت الشريعة‪ ،‬حتى بلغ األمر إلى دعوة البعض‬
‫الستبدال بعض أشكال التعبد بأشكال أخرى‪.‬‬
‫‪ .4‬أثر منهجية النظر في النصوص‪ ،‬فالطوفي يقصد الجمع بين النصوص وإعمال كافة األدلة‪ ،‬بينما‬
‫ا‬
‫منطلقات الخطاب العلماني مختلفة ومعزولة تماما عن النص‪ ،‬كمراعاة املصالح الدنيوية‪ ،‬ومواكبة‬
‫التطور‪.‬‬
‫‪ .5‬الفارق في معنى التقديم في نظرية (تقديم املصلحة على النص)‪ ،‬فالتقديم عند الطوفي ال يعني اطراح‬
‫النص وإنما هو من قبيل التخصيص للنص‪ ،‬أما الخطاب العلماني فإنه حين يعمد إلى استخدام نظرية‬
‫املصلحة هذه إنما يريد أن يضرب بها نصوص الشريعة ويهدر دالالتها رأسا‪.‬‬

‫‪ -‬إبراهيم بن موس ى الشاطبي‪:‬‬


‫‪ o‬يرتبط اسم الشاطبي ارتباطا وثيقا بنظرية (املقاصد)‪ ،‬وقد حظي كتابه (املوافقات) بثناءات عطرة من جماعة‬
‫من أهل العلم‪.‬‬
‫‪ o‬يرى الحداثيون أن الشاطبي حرر العقل العربي من سلطة النص ليطلقه في فضاء املقاصد‪ ،‬ويفتح املجال‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫واسعا للعقل ليعمل ويجتهد في تعاطيه مع النص‪ ،‬متحررا من حالة الحبس والتقييد التي أسسها الشافعي‬
‫(بالرسالة)‪.‬‬
‫‪ o‬في الوعي الحداثي‪/‬العلماني تعبر‪:‬‬
‫‪ -‬لقطة (اإلمام الشافعي) و (الرسالة)‪ :‬عن لحظة العقم واالنغالق والجمود وتأسيس الالعقالنية في الفكر‬
‫العربي اإلسالمي‪.‬‬
‫‪ -‬لقطة (اإلمام الشاطبي) و(املوافقات) ‪ :‬عن وعي شديد العقالنية واالنفتاح‪ ،‬وتأسيس لخطاب فقهي متطور‬
‫قابل للثراء واإلثراء‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬توهم الحداثيون أن استجالب الشاطبي في املجال الفقهي سيحقق جملة من املكاسب التحديثية في هذا‬
‫املجال ب‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .1‬تكثيف حضور املصالح الدنيوية في الخطاب الشرعي خصوصا‪ ،‬والخطاب الثقافي العربي عموما‪.‬‬
‫‪ .2‬تحرير العقل املسلم من التعقيدات الفنية الفقهية‪ ،‬واالستغراق في التفاصيل والجزئيات‪ ،‬لدوران‬
‫ا‬
‫املقاصد حول املسائل الكلية بعيدا عن سلطة النصوص الجزئية‪.‬‬
‫ومع ذلك فإن كثير من الحداثيين لم يقرؤوا كتاب (املوافقات)‪.‬‬
‫‪ o‬األوهام حيال تراث الشاطبي املقاصدي‪:‬‬
‫‪ .1‬أن فقه الشاطبي فقه مقاصدي متسامح يفسح املجال لقدر عال من امليوعة الفقهية‪.‬‬
‫‪ .2‬أن فقه الشاطبي فقه مقاصدي يعنى بالكليات دون اإلغراق في التفاصيل والجزئيات‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .3‬أن فقه الشاطبي فقه مقاصدي يعنى أصالة بتحقيق املصالح الدنيوية‪.‬‬
‫‪ .4‬أن فقه الشاطبي يمثل قطيعة إبستمولوجية عن الحالة الفقهية‪/‬األصولية املسبقة‪.‬‬

‫‪ -‬معالجة إشكالية‪ :‬الشاطبي والتساهل الفقهي‪:‬‬


‫‪ o‬الجانب التأريخي ألزمة الشاطبي مع ظاهرتي التساهل الفقهي والبدعي‪ ،‬وسيرته العملية في مقاومة الظاهرتين‪:‬‬
‫‪ -‬كان الشاطبي في بداية طلبه للعلم يدرس عند أحد أشهر مشايخ غرناطة الشيخ أبي سعيد بن لب التغلبي‪.‬‬
‫‪ -‬كان ابن لب معروفا بالتساهل الفقهي في الفتيا في بعض األحيان‪ ،‬وكان يفتي باأليسر ‪( -‬إذا جاء مستفت‬
‫ا‬
‫في مسألة خالفية لم يبحث في األرجح دليال بل يفتي بأهون القولين على املستفتي)‪.‬‬
‫‪ -‬كان الشاطبي – مع احترامه الشديد الستاذه ‪ -‬يستشكل طريقة ابن لب في الفتيا حتى أقنعه بها‪.‬‬
‫‪ -‬بعد أن واصل الشاطبي مشواره العلمي اكتشف أن طريقة شيخه في الفتيا طريقة مناقضة إلصول‬
‫الشريعة‪ ،‬فصار يقرر وجوب حمل الناس في املسائل الخالفية على األرجح دليال وليس على األيسر عمال‪.‬‬
‫‪ -‬ثم كتب كتابه الحافل (املوافقات)‪ ،‬وعقد فصوال كثيرة كلها في نقد طريقة التيسير على املستفتي باألهون‬
‫في الخالفيات‪ .‬فوقع بينه وبين شيخه وحشة ومنافرة لهذا السبب‪.‬‬
‫‪ -‬الخالف مع شيخه ابن لب لم يتوقف فقط في قضية (التساهل الفقهي) بل تعداه إلى مشكلة تساهل ابن‬
‫لب في (البدع العبادية) ‪ -‬تقسيم البدعة إلى بدعة حسنة وبدعة قبيحة‪.‬‬
‫‪ -‬وجهت اليه تهم منها‪ :‬تهمة التنطع الديني والتزمت ملحاربته ظاهرة التمييع الفقهي واتهامات كثيرة لدعوته‬
‫ُ‬
‫إلى مقاومة ومجانبة البدع‪ ،‬ونسب الى الرافضة ُوبغض الصحابة‪.‬‬
‫‪ -‬ثم كتب بعد ذلك كتاب (اإلعتصام)‪ ،‬والذي يعد (املرجع) للمهتمين في مباحث البدعة‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ o‬الجانب التنظيري أصوليا وفقهيا في معالجة مشكلة التساهل الفقهي (التأصيل للمحافظة الفقهية)‪:‬‬
‫‪ -‬تتجلى مظاهر االنضباط الفقهي في تأصيالت اإلمام الشاطبي الفقهية‪/‬األصولية في أمور‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ .1‬التأكيد املستمر على أن الشريعة موضوعة لالبتالء على خالف الهوى‪.‬‬
‫‪ .2‬نقد ظاهرة تتبع رخص الفقهاء ّ‬
‫وبين حرمتها‪.‬‬
‫‪ .3‬نقده لظاهرة التوسع في الترخصات‬
‫ا‬
‫‪ .4‬تأكيده على ضرورة لزوم طريق العدل‪/‬الوسط في املنهج الفقهي‪ ،‬بعيدا عن التشدد والتساهل‪.‬‬
‫‪ .5‬موقفه من الفتيا بالرأي املذموم‪.‬‬
‫‪ .6‬تحريمه للقول على هللا بغير علم‪.‬‬
‫‪ .7‬تحذيره من األخذ بزلل العلماء‪.‬‬
‫‪ .8‬تقريره لقاعدة سد الذريعة (التحرز مما عس ى أن يكون طريقا إلى مفسدة)‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .9‬موقع املستحبات من فقه الشاطبي (اعتناؤه بأمر املستحبات فضال عن الفرائض والواجبات)‪.‬‬
‫‪ .10‬لزوم موافقة عمل املفتي لعلمه‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .11‬التقيد باملشهور من فقه املالكية (يعد نفسه مقلدا للمذهب املالكي)‪.‬‬
‫‪ .12‬فتاوى شاطبيه‪:‬‬
‫~ صالة الجماعة‪ ،‬من داوم على تركها يجرح‪ ،‬فال تقبل شهادته‪.‬‬
‫~ كشف الرأس‪ ،‬يختلف بحسب البقاع‪ ،‬فهو قبيح في البالد املشرقية‪ ،‬وغير قبيح في البالد املغربية‪.‬‬
‫~ الحكم بقتل رجل شهد عليه ثالثة شهود بأقوال كفرية من غير استتابة‪.‬‬
‫‪ .13‬تنبيه املستفتي على مقتض ى الورع‪.‬‬
‫(هذا ما ظهر لي في املسألة من جهة الفقه‪ .‬وأما طريق الورع‪ ،‬فترك الجميع) ‪ -‬الشاطبي‬

‫‪ -‬معالجة إشكالية‪ :‬الشاطبي وقيمة الجزئيات‪:‬‬


‫‪ o‬من أوهام الطوائف الفكرية املنحرفة حول مقاصد الشريعة واملوافقات والشاطبي‪ ،‬ظنهم أن هذا التراث‬
‫الفقهي‪/‬األصولي يؤدي إلى التقليل من قيمة الجزئيات‪.‬‬
‫‪ o‬بينما الشاطبي املقاصدي يؤكد على ضرورة اعتبار الجزئيات والكليات عند التنظير الفقهي‪ ،‬وبتقدير حالة‬
‫التعارض بين الكلي واملقصد الشرعي العام مع النص الجزئي‪ ،‬فإنه يسعى للجمع بينهما‪.‬‬
‫‪ o‬نقد الشاطبي بعض الفتاوى املقاصدية‪ ،‬مثل فتوى الكفارة (فهي تكون العتق أو الطعام أو الصيام)‪ ،‬فال‬
‫يجوز إلزام املفتي للمستفتي بما يضمن الزجر‪ ،‬وتكون الكفارة إما تخيير املستفتي أو حسب ترتيبها‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫‪ -‬معالجة إشكالية ‪:‬الشاطبي وموقع املصالح الدنيوية‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ o‬من أوهام الطوائف الفكرية املنحرفة أن األخذ بالفقه الشاطبي سيضمن للمصلحة الدنيوية حضورا مركزيا‬
‫ا‬
‫ومتقدما في الوعي الفقهي على حساب مركزية املصالح األخروية‪.‬‬
‫‪ o‬لعل منشأ الوهم هو اجتزاء كلمة الشاطبي (أن الشريعة موضوعة ملصالح العباد) والتعلق بها دون استقراء‬
‫ملفهوم (مصالح العباد) في مشروع الشاطبي‪.‬‬
‫‪ o‬بينما يتسم مفهوم املصلحة عند الشاطبي بالشمول واالتساع ليشمل جانبي املصلحة املتعلق ب(الدنيا‬
‫واآلخرة) مع مالحظة أن األولى كالوسيلة للثانية‪ .‬وأن املصالح الدينية مقدمة على املصالح الدنيوية‪.‬‬
‫‪ o‬كان الشاطبي يكرر أن حفظ الدين أعظم من حفظ النفس‪ ،‬وحفظ النفس أعظم من حفظ املال‪.‬‬

‫‪ -‬معالجة إشكالية ‪:‬الشاطبي وحالة القطيعة الفقهية‪/‬األصولية عن املوروث املسبق‪:‬‬


‫‪ o‬يعتبر الحداثيون أن الشاطبي يمثل تدشينا ملرحلة أصولية جديدة منقطعة معرفيا عن السياق األصولي‬
‫املسبق والذي رسم معامله الشافعي متسببا في حالة من اإلنحباس واالنغالق التي عانى منها الخطاب األصولي‬
‫لقرون تلت‪.‬‬
‫بينما يتضح لنا حالة االنسجام املنهجي العالي بين واقع اإلمام الشاطبي ومن تقدمه من أهل العلم‪ ،‬وأن ما‬ ‫‪o‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫قدمه في هذا السياق ‪-‬وإن كان عمال تجديديا مبتكرا ‪ -‬لكنه في جوهره مؤسس على جهود علماء تقدموه‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫حسب السياق التاريخي لعلم (مقاصد الشريعة) نجد نموا مطردا في مباحثه ومسائله وأنه لم يزل يتمدد‬ ‫‪o‬‬
‫ويتوسع بتمدد املعامل الزمني‪ ،‬حيث كان الحكيم الترمذي من أوائل من أدخل مصطلح (املقاصد) للوسط‬
‫ا ا‬ ‫ا‬
‫العلمي‪ ،‬ويمكن القول بأن إمام الحرمين الفقيه الشافعي الكبير الجويني يعد مفصال تأريخيا مهما في مسيرة‬
‫ا‬
‫علم املقاصد ثم جاء أبو حامد الغزالي‪ ،‬ثم كان البحر أبو العباس ابن تيمية الذي وسع الكالم جدا في فلسفة‬
‫التشريع‪ ،‬ثم انتقلت التقريرات التيمية في املجال املقاصدي إلى ماشطة كتبه ابن قيم الجوزية‪ ،‬وهكذا نكون‬
‫قد دخلنا في السياق الزمني لإلمام الشاطبي‪.‬‬
‫ا‬
‫أطروحة الشاطبي جاءت متزامنة مع أطروحات تجديدية متقدمة في ذات املجال في املشرق اإلسالمي على يد‬ ‫‪o‬‬
‫أمثال ابن تيمية وابن القيم وغيرهم‪ ،‬بما يؤكد أن الجو العلمي العام كان يدفع باتجاه االهتمام باملقاصدية‬
‫وبلورة وتحرير كثير من مفاهيمه وقضاياه‪.‬‬
‫ا‬
‫موارد الشاطبي في املوافقات كانت منوعة وممتدة بعمق زمانيا‪ ،‬وتدل على نحو قاطع على حجم االستفادة التي‬ ‫‪o‬‬
‫ا‬
‫حصلها الشاطبي منها في تأسيس نظريته وتحريرها على نحو ما صنع في املوافقات‪ .‬فنجد (املوافقات) مليئا‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫حافال بأقوال أئمة اإلسالم‪ ،‬كما أن الشافعي ورسالته حاضرة أيضا‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫‪ -‬والخالصة‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫أن الشاطبي على خالف ما يعتقد الخطاب الحداثي يمثل حالة شديدة املحافظة فقهيا‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫أن نظريته ال تؤسس قاعدة نظرية لهدر الجزئيات‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫أن نظريته ال تمثل خطابا دنيويا صرفا‪ ،‬فللمصالح األخروية حضور أصيل في بناء النظرية‪.‬‬ ‫‪o‬‬
‫أن نظريته امتداد في واقع األمر لتنظير فقهي‪/‬أصولي ممتد قبله وسيمتد بعده‪.‬‬ ‫‪o‬‬

‫‪ -‬كما يمثل الشاطبي أنموذجا صارما في املجال اللغوي واملجال العقلي‪:‬‬


‫‪ o‬مما يؤكد على عناية الشاطبي بالعربية‪:‬‬
‫‪ -‬أقر الشاطبي ضرورة إتقان اللغة العربية لفهم القرآن‪.‬‬
‫‪ -‬للشاطبي مصنفات مفردة في شأن علوم العربية ومنها (املقاصد الشافية في شرح الخالصة الوافية)‬
‫و(عنوان االتفاق في علم االشتقاق) و(أصول النحو)‪.‬‬
‫‪ o‬موقف الشاطبي من االستدالل العقلي‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬قرر صراحة أن العقل ليس بشارع‪.‬‬
‫‪ o‬أكد على تبعية العقل ألدلة النقل‪.‬‬
‫حرم تقدم العقل بين يدي الشرع‪.‬‬‫‪ّ o‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ّ o‬بين أن العقل متى لم يكن تابعا للشرع كان واقعا في الهوى‪.‬‬
‫‪ o‬أكد على محدودية القدرة العقلية‪.‬‬
‫‪ o‬وقع في ش يء من التحجيم الزائد لألداة العقلية‪ ،‬فأطلق القول مرا ارا بأن العقل ال ُي ّ‬
‫حسن وال ُي ّ‬
‫قبح‪.‬‬

‫‪ -‬الفوارق الجوهرية بين طبيعة الخطاب الذي قدمه الشاطبي وطبيعة الخطابات الحداثية‪/‬العلمانية‪:‬‬
‫لم يكتف الشاطبي بالدعوة إلى األخذ باملصالح وإعمال املقاصد واالهتمام بالكليات‪ ،‬بل جعل لذلك كله‬ ‫‪-‬‬
‫ضوابط منهجية صارمة‪ ،‬أما الخطابات الحداثية فاقتصرت على األخذ بالعنوان دون تحقيق املضامين في‬
‫انتقائية سطحية ساذجة لنظرية الشاطبي‪.‬‬
‫ا‬
‫نص الشاطبي على جملة من املقاصد والتي ال تتوافق إطالقا مع تفاصيل املشروع الحداثي‪/‬العلماني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫ا‬
‫يطالب الشاطبي باعتبار الجزئيات والكليات جميعا فهي دعوة منه إلى مزيد من االنضباط االستداللي ال‬ ‫‪-‬‬
‫تمييعه وهو ما ال يتوافق مع الخطاب الحداثي‪.‬‬
‫أن الواقع العملي‪/‬العلمي لإلمام الشاطبي يزيد في االستمساك بأصول الشريعة في التعبدات واملعامالت على‬ ‫‪-‬‬
‫املستوى الشخص ي واالجتماعي واالقتصادي والسياس ي ‪...‬الخ‪ ،‬أما الخطاب العلماني فيسعى إلى حصر الدين‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫في مجال التعبد الذاتي فقط وجعله خيارا شخصيا محضا‪.‬‬
‫‪35‬‬
‫املزلق الرابع‪ :‬مشكلة تغير الفتوى واألحكام‬

‫بيان املزلق‬
‫أن من عظمة الشريعة استجابتها ملتغيرات الواقع وتقلباته‪ ،‬وليست الشريعة مجرد نصوص جامدة صلبة ال‬
‫تقبل الزحزحة أو التطوير‪ ،‬بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه‪ ،‬وقد أقر الفقهاء بهذا وأصلوه في‬
‫ا‬
‫قاعدتهم الشهيرة‪( :‬الفتوى تتغير بتغير الزمان واملكان)‪ ،‬بل ومارسوه عمليا‪ ،‬وفي فقه الشافعي القديم والجديد‬
‫عبرة‪ ،‬فالتسليم للنص ال يكون إال بمراعاة معطيات الواقع ومتغيراته ال بالجمود على ألفاظه وحروفه‪.‬‬

‫املناقشة‬
‫تعد هذه الشبهة واحدة من أهم األدوات املستعملة لهدر أحكام الشريعة التفصيلية‪ ،‬وهي تتخذ‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .1‬صورة غالية تحت دعوى (تاريخية النص والتشريع) تدعي قطيعة زمانية ومكانية مع النص بادعاء أن‬
‫النص الديني إنما نزل في ظل أوضاع وظروف زمانية‪/‬مكانية خاصة فال يصح عزله عن سياقه‬
‫الزمني‪/‬املكاني واستجالبه للتطبيق في حياتنا اليوم‪.‬‬
‫‪ .2‬صورة ناعمة أخف تتكئ على قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان) فال تظهر املصادمة ملبدأ تطبيق‬
‫الشريعة في هذا الزمان وإنما لهدر بعض من األحكام الشرعية العتبارات يرونها‪.‬‬

‫ويتم الجواب عن هاتين اإلشكاليتين في العناصر التالية‪:‬‬


‫‪ .1‬الشريعة بين الثبات والشمول‪.‬‬
‫‪ .2‬تحرير القول في قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان)‪.‬‬
‫‪ .3‬فقه اإلمام الشافعي بين القديم والجديد‪.‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬الشريعة بين الثبات والشمول‪.‬‬

‫‪ -‬من قواطع الشريعة تقرير هيمنتها وحاكميتها على الواقع وأن هذه الهيمنة تستغرق مجال الزمان واملكان وتمتد‬
‫بامتداد الواقع‪ ،‬إذ من سمات الشريعة (الثبوت والشمول)‪.‬‬

‫‪ -‬يقر إبن تيمية بإحاطة الوحي بجميع أحكام العباد‪ ،‬ويستدرك على دعوى بعض األصوليين (أن النصوص ال‬
‫ا‬
‫تفي بأحكام الحوادث مما يستدعي توسعا في إعمال أداة القياس‪ ،‬بإلحاق غير املنصوص على املنصوص)‪،‬‬
‫ّ‬
‫فبين أن الوحي يكتسب هذا الطابع من الشمولية عبر تعليق األحكام باألنواع فيندرج فيها أفراد الحوادث‪.‬‬

‫‪36‬‬
‫‪ -‬دالئل من الوحي على أن الشريعة تتسم بطابع الشمولية‪:‬‬
‫‪ .1‬أن هللا حصر حق الحكم والتشريع في نفسه سبحانه‪:‬‬
‫اص ِل َين)‬ ‫ف‬‫(إن ْال ُح ْك ُم إ َّال َّّلل َي ُقص ْال َح َّق َو ُه َو َخ ْي ُر ال َ‬
‫ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِِ‬
‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫اّلل َرّبي َعل ْي ِه َت َو َّكل ُت َوإل ْي ِه أ ِنيب)ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫اّلل ۚ ذلك ُم َّ ُ‬ ‫َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ ْ َ ُ ْ‬ ‫اخ َت َل ْف ُت ْ‬
‫ََ ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ى‬‫ل‬ ‫إ‬‫ِ‬ ‫ه‬ ‫م‬ ‫ك‬ ‫ح‬ ‫ف‬ ‫ء‬‫ي‬ ‫ش‬ ‫ن‬ ‫م‬‫ِ‬ ‫يه‬
‫ِ‬ ‫ف‬
‫ِ‬ ‫م‬ ‫(وما‬
‫أن هللا تعالى أثنى على حكمه‬ ‫‪.2‬‬
‫َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ َ ْ ْ َ ُ َ َّ ْ‬
‫َ‬
‫اّلل ُحك اما ِل َق ْوم ُيو ِق ُنون)‬ ‫(أفحكم الج ِاه ِلي ِة يبغون ۚ ومن أحسن ِمن ِ‬
‫ُ ا‬
‫أن هللا ّبين أن وحيه شامل لكافة احتياجات العباد وأن حكمه جاء مفصال مبينا‬ ‫‪.3‬‬
‫ْ‬ ‫ا ْ‬ ‫ُّ َ‬ ‫( َو َن َّ ْزل َنا َع َل ْي َك ْالك َت َ‬
‫اب ِت ْب َي اانا ِلك ِ ّل ش ْيء َو ُه ادى َو َر ْح َمة َو ُبش َرى ِلل ُم ْس ِل ِم َين)‬ ‫ِ‬
‫أن هللا ّبين كمال شرعته ودينه‬ ‫‪.4‬‬
‫ُ َُ ُ ْ َ‬
‫اإل ْسال َم ِد اينا)‬ ‫م‬ ‫ك‬‫ل‬ ‫يت‬ ‫ض‬ ‫ر‬‫( ْال َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم د َين ُك ْم َو َأ ْت َم ْم ُت َع َل ْي ُك ْم ن ْع َمتي َو َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وبين أنه ال مبدل لحكمه سبحانه وال معقب له‪:‬‬ ‫أن هللا تكفل بحفظ شرعه ّ‬ ‫‪.5‬‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ ْ ّ ْ‬
‫( ِإ َّنا ن ْح ُن ن َّزل َنا ال ِذك َر َوِإ َّنا ل ُه ل َحا ِفظون)‬
‫السم ُيع ْال َع ِل ُ‬‫َ َ ْ َ َ ُ ّ َ ْ ا َ َ ْ ا َّ ُ َ ّ َ َ َ َ ُ َ َّ‬
‫يم)‬ ‫(وت َّمت ك ِلمت َرِبك ِصدقا وعدال ۚ ال مب ِدل ِلك ِلما ِت ِه ۚ وهو ِ‬
‫‪ .6‬أن هللا إنما أنزل هذه الشريعة لتكون حاكمة على العباد‪ ،‬والتأكيد على مقصد من أعظم مقاصد الشريعة‬
‫وهو تحقيق هيمنتها في األرض‪.‬‬
‫ين َو ُمنذر َ‬
‫ين‬ ‫النب ّي َين ُم َب ّشر َ‬ ‫اس ُأ َّم اة َواح َد اة َف َب َع َث َّ ُ‬
‫اّلل َّ‬ ‫الن ُ‬‫ان َّ‬ ‫( َك َ‬
‫ِِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ْ َ‬
‫اس ِف َيما اخ َتل ُفوا ِف ِيه)‬ ‫الن‬ ‫َو َأ َنز َل َم َع ُه ُم ْالك َت َ‬
‫اب ب ْال َح ّق ل َي ْح ُك َم َب ْي َن َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .7‬أن هللا أوجب على العباد تحكيم شريعته والتحاكم إليها‪.‬‬
‫َ‬
‫اب َو ُم َه ْي ِم انا َعل ْي ِه‬‫ت‬‫ص ّد اقا ّملَا َب ْي َن َي َد ْيه م َن ْالك َ‬
‫اب ب ْال َح ّق ُم َ‬
‫َ‬ ‫( َو َأن َ ْزل َنا إ َل ْي َك ْالك َ‬
‫ت‬
‫ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اّلل َوَال َت َّتب ْع َأ ْه َو َاء ُه ْم َع َّما َج َاء َك م َن ْال َحق)ّ‬
‫اح ُكم َب ْي َن ُهم ب َما َأ َنز َل َّ ُ‬‫َف ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ .8‬أن هللا نفى عن اإلنسان حق الخروج عن حكمه‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ان ملُ ْؤمن َوَال ُم ْؤم َنة إ َذا َق َض ى َّ ُ‬
‫ََ َ َ‬
‫اّلل َو َر ُسول ُه أ ْم ارا أن َيكون ل ُه ُم ال ِخ َي َرة ِم ْن أ ْم ِر ِه ْم ۗ‬ ‫ِ ِ‬ ‫(وما ك ِ ِ‬
‫َّ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َّ َ َ ا‬
‫ضالال م ِب اينا)‬ ‫ص اّلل ورسوله فقد ضل‬ ‫ََ َْ‬
‫ومن يع ِ‬
‫ا ا‬
‫‪ .9‬أن هللا جعل متابعة غير شرعته ضالال مبينا‪.‬‬
‫َ‬
‫اس ُقون)‬ ‫ف‬ ‫( َو َمن َّل ْم َي ْح ُكم ب َما َأ َنز َل َّ ُ‬
‫اّلل َف ُأ َولئ َك ُه ُم ْال َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬

‫‪37‬‬
‫‪ -‬دعوى‪ :‬هذا التصوير لواقع حاكمية الشريعة يوقعنا في مشكالت متعددة عند إعماله على أرض الواقع‪،‬‬
‫فالشريعة خالية من الشروحات التفصيلية املتعلقة بكثير من الجوانب الحياتية العمرانية وكذلك التقنينات‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫اإلدارية والقضايا اإلجرائية‪ ،‬مما يستدعي إعماال للذهن البشري عمليا لسد هذا النقص في طبيعة الدين‪.‬‬
‫الرد‪ :‬ينبغي أن نؤسس نظرتنا للشريعة على اإليمان بشموليتها لجانبي الدنيا واآلخرة‪ ،‬فنجد في نصوص‬
‫الشريعة مادة كبيرة من التشريعات الكلية والجزئية التي تتعلق بالشأن الدنيوي ككثير من مسائل املعامالت‬
‫واألحكام املتعلقة بالحدود والجنايات وأبواب السياسة الشرعية وغير ذلك‪.‬‬
‫ثم هناك منطقة العفو واملباح والذي تمثل مساحة هائلة للعقل اإلنساني في استحداث ما يحتاجه ويحقق‬
‫املصلحة من التشريعات والتقنينات واإلجراءات بشرط واحد وهو إثبات عدم وجود املعارض الشرعي‪.‬‬
‫ا‬
‫ثانيا‪ :‬تحرير القول في قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان)‪.‬‬

‫‪ -‬قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان) واحدة من القواعد الفقهية التي تكلم فيها غير واحد من أهل العلم‬
‫كابن حزم والغزالي والقرافي والشاطبي‪ ،‬وبحث ووسع القول فيها اإلمام ابن القيم في كتابه (إعالم املوقعين)‪.‬‬

‫‪ -‬مالحظات حتى تتضح معالم هذه القاعدة‪:‬‬


‫‪ .1‬وصف أحكام الشريعة بالعموم والثبات والشمول هو أصل شرعي محكم يجب االنطالق منه في بحث‬
‫مسألة تغير األحكام بتغير الزمان واملكان‪ ،‬ال قلب املسألة أو بحثها معزولة عن هذا السياق‪.‬‬
‫‪ .2‬منطلق أهل العلم في تأصيل هذه القاعدة هو مالحظة تصرف الشريعة ذاتها‪ ،‬فالشريعة راعت التغيرات‬
‫الطارئة على الواقع‪ .‬وليس منشأ القاعدة عندهم هو النظر العقلي املجرد أو التعويل على فكرة التاريخية‪.‬‬
‫‪ .3‬ثمة قدر من اإلجمال في تعبيرات هذه القاعدة تسبب في حالة التوظيف العلماني لها‪ .‬ولعل دوران القاعدة‬
‫في النطاق الفقهي والتداول بين أهل العلم بما لديهم من انضباط معرفي وخلفيات فقهية مسبقة صانهم‬
‫من سوء التوظيف لهذه القاعدة‪.‬‬
‫‪ .4‬منشأ الخلل واإلشكال في حالة التوظيف السلبية لهذه القاعدة يكمن في الخلل في تصور طبيعة الواقع‬
‫الذي تغير ألجله الحكم أو الفتوى‪ .‬فيجب التساؤل في تأثير بعد الزمن واملكان في طبيعة الواقعة التي يتعلق‬
‫بها الحكم‪ ،‬وليس في طبيعة الحكم الشرعي‪.‬‬
‫~ إذا كان مناط الحكم واحد مع تغير األزمنة واألمكنة فمن الطبيعي أن يكون حكم الشريعة فيها واحد‪.‬‬
‫مثال‪ :‬القتل العمد لرجل‪ ،‬مهما اختلف الزمان واملكان فالحكم واحد‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫~ إذا كان ثمة تغير في طبيعة الواقعة التي اتصل بها الحكم فهذه الفوارق قد تكون مؤثرة في إعطاء‬
‫ا‬
‫الواقعتين أحكاما مختلفة‪ ،‬وقد ال تكون مؤثرة‪ ،‬والحكم بتأثير األوصاف من عدمها راجع إلى تقدير‬
‫الشارع‪.‬‬
‫ا‬
‫مثال‪ :‬القتل خطأ أو لكافر أو للولد حكمه مختلف عن القتل العمد‪ .‬أما القتل العمد المرأة فال‬
‫يختلف الحكم‪.‬‬
‫‪ .5‬القاعدة توهم أن ثمة قدر من التغير طرأ على الشريعة ذاتها استجابة ملعطيات الواقع وهذا ما لم يرده‬
‫قائلوه من جهة‪ ،‬وال تدل عليه ما ساقوه من أمثلة ونماذج في توضيح هذه القاعدة‪.‬‬
‫~ ما تم إدراجه تجاوزا تحت القاعدة من الفروع والشواهد‪:‬‬
‫‪ )1‬ما تخلف فيه مناط الحكم في الواقع لنقص في الشروط أو وجود مانع‪ .‬إذ االختالف في الحكم‬
‫ليس من قبيل تغير الحكم في حد ذاته لتغير معطى الزمان واملكان وإنما تخلف املناط‪.‬‬
‫مثال‪ :‬حكم الحج واجب‪ ،‬فمن كان غير مستطيع لم يكن واجبا‪ ،‬إذ اختلف مناط الحكم‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ )2‬ما جاء التنصيص عليه شرعا من مراعاة األحوال بذكر أحكام مناسبة لوقائع مخصوصة‪.‬‬
‫مثال‪ :‬كترك قطع األيدي في الغزو‪.‬‬
‫‪ )3‬ما يطرأ على العرف من التغير‪ ،‬والذي يستتبع أحكامه الشرعية فيما كان العرف فيه معتبر‪.‬‬
‫مثال‪ :‬رخصة املسافر‪ ،‬والسفر على الصحيح ليس له معنى ثابت وإنما يحدده العرف‪.‬‬
‫مثال‪ :‬كفارة اليمين إطعام أو كسوة‪ ،‬فاإلطعام والكسوة معان يراعى فيها العرف في ضبطه وتحديد‬
‫طبيعته ومقداره‪.‬‬
‫ا‬
‫~ ما يدرجه أهل العلم من املعاني تحت القاعدة ال تنسجم إطالقا مع التوظيفات السيئة للخطاب‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫العلماني‪ ،‬فإن القاعدة ال تعني إطالقا أن ثمة تغيرا حقيقيا طارئا على األحكام الشرعية ذاتها‪ ،‬بل أن‬
‫من طبيعة الشريعة السعة والشمول في إعطائها لألحكام املناسبة لظروف الواقع‪ ،‬مع ثباتها‬
‫ورسوخها‪ ،‬وأنها تراعي في أحكامها عدم التفريق بين املتماثالت أو الجمع بين املختلفات‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .6‬من التعبيرات لهذه القاعدة استعمال كلمة (الفتوى) كبديل عن التعبير باألحكام‪ ،‬وهي األكثر حضورا في‬
‫املشهد األصولي والفقهي املعاصر‪.‬‬
‫~ استعمال ذكره وأشاعه ابن القيم‪.‬‬
‫ا‬
‫~ استعمال أكثر انضباطا وأرفع للبس واإليهام إذ الفتوى ناتج عن اجتهاد املفتي‪.‬‬
‫ا‬
‫~ يتصور وقوع قدر من التغيير فيها مما ال يصح أن يكون واقعا في الشريعة العتبارات متعددة بعضها‬
‫مقصود (ملن أطلق القاعدة كمراعاة تجدد العرف أو تحقق وجود املناط) أو غير مقصود كاالختالف‬
‫في االجتهاد الفقهي بالتراجع عن ترجيح مثال)‪.‬‬
‫‪39‬‬
‫ا‬
‫ثالثا‪ :‬فقه اإلمام الشافعي بين القديم والجديد‪.‬‬

‫‪ -‬لإلمام الشافعي فقهان مشهوران ُعبر عن أحدهما بالقديم وعن اآلخر بالجديد‪ ،‬فاألول ما كان منه مدة مقامه‬
‫بالعراق‪ ،‬والثاني بعد انتقاله عنها ملصر‪.‬‬

‫‪ -‬وظف الخطاب العلماني مشهد التجديد الفقهي الشافعي بأنه دال على أن لكل بيئة (زمانية‪-‬مكانية) فقهها‬
‫املناسب‪.‬‬

‫‪ -‬الجواب عن هذه االشكالية‪:‬‬


‫‪ .1‬أن نسبة القديم والجديد إلى مذهب اإلمام الشافعي نسبة اصطالحية‪ ،‬كان املقصود منها بيان قدر من‬
‫التغير الذي طرأ على اجتهادات اإلمام الشافعي الفقهية‪.‬‬
‫املذهب القديم‪ :‬من بداية إفتائه وحتى ‪ 199‬ه وجمهور ذلك واقع منه بالعراق وتخلله وجود في مكة وفي‬
‫تلك املدة ألف كتابيه الحجة والرسالة (القديمة)‪.‬‬
‫ا‬ ‫املذهب الجديد‪ :‬من ‪ 199‬ه وحتى وفاته ‪ 204‬ه حيث ّ‬
‫غير كثيرا من اجتهاداته وعاد على كتبه باملراجعة‬
‫وإعادة التصنيف‪ ،‬وألف في هذه املدة األم والرسالة (الجديدة)‪.‬‬
‫‪ .2‬مما يكشف حجم املغالطة الحداثية في إستخدامهم للتغير الفقهي الذي وقع من اإلمام الشافعي معرفة‬
‫بواعث هذا التغير الفقهي ومنها‪:‬‬
‫‪ )1‬اتساع دائرة املعرفة والعلم باطالعه على كثير من السنن واآلثار مما لم يكن قد سمعها من قبل‪.‬‬
‫‪ )2‬اعتماده على اجتهاد وقياس ونظر جديد في أدلة الشريعة‪ ،‬ولدت قناعة بمرجوحية الرأي األول‬
‫ا‬
‫جحانا للثاني‪ .‬ومن أقواله (ليس في ّ‬
‫حل من روى عني القديم)‪.‬‬ ‫ور‬

‫‪ )3‬اختالفات ُعرفية مؤثرة في فقه الشريعة‪ ،‬أو قضايا اعتبرها الشارع في ترتيب األحكام كالضرورة‬
‫والحاجة وسد الذرائع وغير ذلك مما يمكن أن يتغير من زمان إلى زمان أو مكان إلى مكان مع مالحظة‬
‫اعتبار الشارع لهذا التغير‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫ا‬
‫‪ .3‬وجود ما يؤكد موضوعية املبررات التي سوغت لإلمام الشافعي التغير‪ ،‬وأن األمر لم يكن فتيا تناسب‬
‫أمزجة الناس وأهوائهم ما يلي‪:‬‬
‫حل من روى عني القديم)‪ .‬فكان حرصه على‬ ‫‪ )1‬عدم تجويزه إلعمال فقهه العراقي في عبارته‪( :‬ليس في ّ‬
‫إماتة مذهبه القديم دليل على عدم تسويغه لتعدد األحكام الشرعية ملجرد تعدد البيئات‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ )2‬أن أئمة املذهب الشافعي كانوا واعين تماما بأن لإلمام الشافعي أسبابا شرعية معتبرة في تغيير جملة‬
‫من آرائه الفقهية‪ .‬ولذا فقد كانوا يتابعونه على هذا املسلك املنهجي في متابعة الدليل‪ ،‬فإن خالفوه‬
‫بترجيح رأيه القديم لرجحان دليله في نظرهم‪ ،‬لم ينسبوا ذلك املذهب إليه إذ هو على خالف قوله‬
‫الجديد‪.‬‬
‫‪ )3‬تصريح أئمة الشافعية بعدم جواز تقليد الشافعي في مذهبه القديم مما رجع عنه ولو كان املقلد‬
‫ا‬
‫عراقيا‪.‬‬
‫‪ )4‬تصريح أئمة الشافعية بأن ما لم يتغير فيه اجتهاد الشافعي من اختياراته (العراقية‪/‬مذهبه القديم)‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ولم ُيحدث فيه مذهبا جديدا فهو مذهبه‪ ،‬وهو ما يؤكد على طبيعة تطلب الحق في التغير الطارئ على‬
‫مذهب الشافعي‪.‬‬
‫‪ )5‬وجود قدر من الخالف بين أئمة الشافعية في تأريخ مذهبيه القديم والجديد فيجعلون مبتدأ الجديد‬
‫(في العراق قبيل خروجه منها‪ ،‬أو من وجوده في مكة قبل انتقاله ملصر‪ ،‬أو من مبتدأ دخوله ملصر) مما‬
‫يؤكد على أن تغير البيئة فقط واعتبارات الزمان واملكان لم تكن العامل الرئيس ي املؤثر في التغير‬
‫الفقهي‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ )6‬جملة من املسائل التي رجع عنها اإلمام الشافعي ال عالقة لها مطلقا بمجرد مراعاة البيئة الجديدة أو‬
‫مطلق التسهيل الفقهي‪ ،‬وإنما هو لتجدد النظر في مآخذ األدلة‪.‬‬
‫مثال‪ :‬إنصراف املصلي من رعاف‪ ،‬أجاز له إتمام الصالة أوال ثم عاد فقال أنه يبتدئ الصالة‪.‬‬
‫أمثلة‪ :‬التثويب في أذان الصبح‪ ،‬والتباعد عن النجاسة في املاء الكثير‪ ،‬وقراءة السورة في الركعتين األخيرتين‪ ،‬ومسألة ملس‬
‫املحارم‪ ،‬وتعجيل العشاء‪ ،‬ووقت املغرب‪ ،‬ومسألة املنفرد إذا نوى االقتداء في أثناء الصالة‪ ،‬والجهر بالتأمين للمأموم في‬
‫الصالة الجهرية‪ ،‬ومسألة استحباب الخط بين يدي املصلى إذا لم يكن معه عصا‪.‬‬

‫‪ )7‬أن اإلمام الشافعي كغيره من األئمة شديد التحري للدليل الشرعي وله في ذلك تقريرات حسنة‪،‬‬
‫ومواقف مشهودة‪ ،‬وهو القائل‪( :‬إذا صح الدليل فهو مذهبي) وقال‪( :‬إذا وجدتم سنة رسول هللا ﷺ‬
‫خالف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي فإني أقول بها)‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫املزلق الخامس‪ :‬مشكلة العقل‬

‫بيان املزلق‬
‫أن العقل هو من أجل نعم هللا تعالى على البشرية‪ ،‬وهو الفيصل بين اإلنسان والحيوان‪ ،‬وبه عرفت صحة‬
‫ا‬
‫النبوة وصدق الوحي‪ ،‬فال بد من اعتباره مرجعا في حال اختلف مع النصوص‪ ،‬إذ هو الكاشف عن صحتها‪،‬‬
‫وبرده يسقط الدليل الكاشف عن صحة النصوص فلزم األخذ به‪ ،‬ثم إن دالئل تلك النصوص ظنية خبرية‬
‫باملقارنة إلى قطعية الداللة العقلية البرهانية‪ ،‬وال شك أن تقديم الداللة األقوى مقصود مطلوب والتعلق‬
‫بالظن غير مشروع‪.‬‬

‫املناقشة‬

‫عدم حماس الشيخ ملعالجة (سؤال العقل والنقل) لسببين‪:‬‬


‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .1‬أن املكتبة الشرعية‪/‬الفكرية حافلة جدا بكتابات كثيرة جدا تبلغ آالف الصفحات في معالجة مختلف‬
‫زوايا هذا املوضوع‪.‬‬
‫‪ .2‬أن أكثر ما يكتبه املخالفون في تقرير هذه املسألة هو إعادة إنتاج رديء لكتابات متقدمة في هذا الباب‪.‬‬

‫تعتبر مشكلة العقل أس موارد هدر النصوص‪ ،‬إذ كثير منها عائد في نهاية املطاف إلى هذا املورد‪.‬‬

‫أهم القضايا التي ينبغي أن يراعيها من يريد تحرير الجواب الشرعي لسؤال (العقل)‪:‬‬
‫مقدمات حول العقل‬ ‫‪.1‬‬
‫منزلة العقل في الخطاب الشرعي‬ ‫‪.2‬‬
‫مجاالت العمل العقلي‬ ‫‪.3‬‬
‫العقل بين الوحدة واالختالف‬ ‫‪.4‬‬
‫سؤال التعارض بين العقل والنقل‬ ‫‪.5‬‬
‫ش يء من مآالت املعارضة العقلية‪.‬‬ ‫‪.6‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬مقدمات حول العقل‬
‫ا‬
‫‪ -‬العقل في اللغة‪ :‬مأخوذ من الحبس واملنع واإلمساك‪ُ ،‬سمي عقال ألنه يعقل صاحبه‪ ،‬أي‪ :‬يحجزه ويمنعه عن‬
‫الوقوع في الهلكة‪ُ .‬سمي ح ْج ارا‪ ،‬ألنه يحجره عن ارتكاب الخطأ‪ُ ،‬‬
‫وسمي ُنهيه‪ ،‬ألنه ينهى صاحبه عن فعل ما ال‬ ‫ِ‬
‫يحمد‪.‬‬

‫‪42‬‬
‫‪ -‬العقل في االصطالح‪:‬‬
‫‪ o‬إبن القيم‪ :‬العقل عقالن‬
‫‪ .1‬عقل غريزي طبعي‪ ،‬هو أبو العلم ومربيه ومثمره‪.‬‬
‫‪ .2‬وعقل كسبي مستفاد‪ ،‬وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته‪.‬‬
‫‪ o‬إبن تيمية‪ :‬أربع معان‬
‫‪ .1‬أحدها‪ :‬علوم ضرورية يفرق بها بين املجنون الذي رفع القلم عنه وبين العاقل الذي جرى عليه القلم‬
‫فهذا مناط التكليف‪.‬‬
‫‪ .2‬الثاني‪ :‬علوم مكتسبة تدعو اإلنسان إلى فعل ما ينفعه‪ ،‬وترك ما يضره‪.‬‬
‫‪ .3‬الثالث‪ :‬العمل بالعلم‪ ،‬وهو من أخص ما يدخل في اسم العقل املمدوح‪.‬‬
‫‪ .4‬الرابع‪ :‬الغريزة التي بها يعقل اإلنسان‪.‬‬

‫‪ -‬العقل في القران‪:‬‬
‫‪ o‬لفظ العقل اسم ليس له وجود في القرآن‪.‬‬
‫‪ o‬يوجد في القرآن‪ -1 :‬ما تصرف منه لفظ العقل نحو (يعقلون)‪ ،‬و(تعقلون) و(ما يعقلها إال العاملون)‪.‬‬
‫‪ -2‬األسماء املتضمنة له كاسم الحجر‪ ،‬والنهى‪ ،‬واأللباب ونحو ذلك‪.‬‬
‫‪ o‬من املعاني التي جاءت بها تصاريف مفردة العقل في القرآن‪:‬‬
‫‪ .1‬فهم الكالم‪:‬‬
‫َ‬
‫َ َ ُ َ ُ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ّ ْ َ ْ ُ َ َ َ َّ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫(أفتط َمعون أن يؤ ِمنوا لك ْم وقد كان ف ِريق ِمن ُه ْم يس َمعون كالم ِ‬
‫اّلل‬
‫َ َ‬ ‫ُث َّم ُي َح ّر ُف َون ُه من َب ْعد َما َع َق ُل ُ‬
‫وه َو ُه ْم َي ْعل ُمون)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ا َ َ ًّ َّ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ نَ‬
‫( ِإنا أنزلناه قرآنا عرِبيا لعلكم تع ِقلو )‬
‫‪ .2‬عدم التناقض في القول‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫ْ‬
‫الت ْو َر ُاة َواإلنج ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫( َيا َأ ْه َل ْالك َتاب ل َم ُت َحاجو َن في إ ْب َراه َ‬
‫يم َو َما أنزلت َّ‬
‫يل ِإال ِمن َب ْع ِد ِه ۚ أفال ت ْع ِقلون)‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫‪ .3‬اختيار النافع وترك الضار‪:‬‬
‫َ َ َ ُ َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫( َو َما ْال َح َي ُاة الد ْن َيا إ َّال لعب َول ْهو َول َّلد ُار ْاآلخ َر ُة َخ ْير ّل َّلذ َ‬
‫ين َي َّت ُقون ۗ أفال ت ْع ِقلون)‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُ نَ‬ ‫ا‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َ ْ َ َْ َ َ ْ ُ‬
‫(لقد أنزلنا ِإليكم ِكتابا ِف ِيه ِذكركم أفال تع ِقلو )‬
‫‪ .4‬استخالص العبر الصحيحة من الحوادث‪:‬‬
‫ُ َ‬ ‫ا ا ّ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬
‫( َول َقد َّت َرك َنا ِم ْن َها َآية َب ِّي َنة ِل َق ْوم َي ْع ِقلون)‬
‫َ‬
‫‪ .5‬ف ْهم دالالت اآليات الكونية‪:‬‬
‫ُ َ‬ ‫ّ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫س َو ْال َق َم َر َوالن ُج ُ‬ ‫َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ‬
‫وم ُم َس َّخ َرات ِبأ ْم ِر ِه ۗ ِإ َّن ِفي ذ ِل َك آل َيات ِل َق ْوم َي ْع ِقلون)‬ ‫الش ْم َ‬‫الل ْي َل َوا َّلن َه َار َو َّ‬ ‫(وسخر لكم‬
‫‪43‬‬
‫‪ o‬هذه املعاني تعود إلى اختالف وظائف العمل العقلي‪ ،‬ال إلى تباين في معنى العقل نفسه‪ .‬فلم يرد ذكر‬
‫(العقل) في القرآن إال بصيغ الفعل (يعقلون) لإلشارة إلى الوظيفية العقلية الالئقة بكل مقام‪.‬‬
‫‪ -‬العقل جوهر أم عرض؟‬
‫ا‬
‫‪ o‬الذي عليه أهل السنة والجماعة أن العقل عرض أو صفة وليس بجوهر خالفا لبعض املتكلمة‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫والفالسفة‪ ،‬فالعقل ليس شيئا قائما بذاته وإنما هو صفة ال بد أن يقوم بغيره‪ ،‬وهو العاقل املوصوف به‪.‬‬
‫‪ -‬العقل محله القلب أم الدماغ؟‬
‫‪ o‬اختلف أهل العلم في هذه املسألة على قولين‪:‬‬
‫‪ .1‬أن محله القلب‪ :‬نسب للمالكية والشافعية وعليه بعض الحنابلة وصححه الباجي واستدلوا ب‪:‬‬
‫ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ‬
‫األ ْب َ‬ ‫~ ( َأ َف َل ْم َي ِس ُ‬
‫ص ُار‬ ‫ض فتكون لهم قلوب يع ِقلون ِبها أو آذان يسمعون ِبها ف ِإنها ال تعمى‬ ‫ِ‬ ‫ر‬ ‫األ‬ ‫ي‬‫ف‬‫ِ‬ ‫وا‬‫ير‬
‫ُ‬ ‫َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َّ‬
‫ول ِكن تعمى القلوب ال ِتي ِفي الصدو ِر)‪.‬‬
‫َ‬ ‫ان َل ُه َق ْلب َأ ْو أل َقى َّ‬
‫الس ْم َع َو ُه َو ش ِهيد)‬
‫ْ‬ ‫َ‬ ‫~ (إ َّن في َذل َك َلذ ْك َرى ملَن َك َ‬
‫ِ ِ ِ ِ‬
‫ِ‬
‫ا‬ ‫ا ا‬ ‫ا‬
‫~ قول عمر في ابن عباس (إن ذاكم فتى كهول له لسانا سؤوال وقلبا عقوال)‪.‬‬
‫‪ .2‬أن محله الدماغ‪ :‬منسوب لألحناف والحنابلة واستدلوا ب‪:‬‬
‫ضرب شخص على رأسه وهو محل الدماغ ضربة قوية لزال معها العقل‪.‬‬ ‫~ الحس واملشاهدة‪ :‬لو ُ‬
‫~ اللسان العربي‪ :‬العرب تقول للعاقل وافر الدماغ ولضعيف العقل خفيف الدماغ‪.‬‬
‫ا‬
‫ثانيا‪ :‬منزلة العقل في الخطاب الشرعي‬

‫‪ -‬وقفات في تحديد موقع العقل من خارطة اإلسالم وبيان منزلته‪:‬‬


‫‪ .1‬يسلم الوحي إلى نتيجة معتدلة في التعاطي مع الدليل العقلي فثمة احتفاء شرعي به مع ضبط ملجاالت‬
‫العمل العقلي‪.‬‬
‫‪ .2‬تعدد مظاهر احتفاء الشريعة بالعقل وضرورة إعماله للتوصل إلى الحق‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫َ َ‬ ‫‪ )1‬أن العقل هو واحد من مناطات التكليف‪ ،‬قال النبي ﷺ‪ُ ( :‬رف َع ْال َق َل ُم َع ْن َث َال َثة َعن َّ‬
‫النا ِئ ِم َح َّتى َي ْست ِيقظ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يعق َل)‪.‬‬ ‫ى‬‫ت‬‫الصب ّى َح َّتى َي ْح َتل َم َو َعن ْاملَ ْج ُنون َح َّ‬
‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫وع ِن ِ ِ‬
‫‪ )2‬أن هللا عز وجل قد حث على التعقل والتفكر والتدبر في آياته وأمثاله وفي تشريعاته وفي مخلوقاته‪.‬‬
‫َّ ْ َ َّ َ َ َ ّ ُ ْ َ‬
‫األ ْل َباب ‪َّ ،‬الذ َ‬
‫ين َي ْذ ُك ُر َ‬ ‫ْ َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ‬ ‫َّ َ ْ‬
‫ون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ض َواخ ِتال ِف اللي ِل والنه ِار آليات ِأل ِولي‬
‫ِ‬ ‫ر‬‫األ ْ‬ ‫و‬ ‫ات‬
‫ِ‬ ‫او‬‫م‬ ‫الس‬ ‫ق‬‫قال تعالى‪ِ ( :‬إن ِفي خ ِ‬
‫ل‬
‫َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َّ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ ا‬ ‫َْ‬ ‫َ‬ ‫َّ َ َ ا َ ُ ُ ا َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ َ َُّ‬
‫اطال‬
‫ض ربنا ما خلقت هذا ب ِ‬ ‫ات واألر ِ‬‫اّلل ِقياما وقعودا وعلى جن ِوب ِهم ويتفكرون ِفي خل ِق السماو ِ‬
‫اب َّ‬
‫الن ِار)‪.‬‬ ‫ُس ْب َح َان َك َفق َنا َع َذ َ‬
‫ِ‬

‫‪44‬‬
‫أن االنتفاع باملواعظ والذكر والقصص والتشريع واألمثال القرآنية مقصورة على أصحاب العقول‬ ‫‪)3‬‬
‫َ َ َ َّ َّ ُ َّ ُ ُ ْ َ‬
‫األ ْل َ‬
‫اب)‪.‬‬
‫ِ‬ ‫ب‬ ‫يقول تعالى‪ ( :‬وما يذكر ِإال أولو‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫أن هللا نعى على من أطفؤوا نور عقولهم بتقليد غيرهم ّ‬
‫وبين مغبة ذلك‪ ،‬فقال عز وجل‪َ ( :‬وِإذا ِقي َل ل ُه ُم‬ ‫‪)4‬‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ َ‬ ‫َّ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ‬
‫ان َآباؤ ُه ْم ال َي ْع ِقلون ش ْي ائا َوال َي ْه َت ُدون ‪،‬‬ ‫ات ِبعوا ما أنزل اّلل قالوا بل نت ِبع ما ألفينا علي ِه آباءنا ۗ أولو ك‬
‫ُ َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ َ ا َ َ ا ُ ْ‬
‫صم ُبكم ُع ْمي ف ُه ْم ال َي ْع ِقلون )‪.‬‬ ‫ومثل ال ِذين كفروا كمث ِل ال ِذي ين ِعق ِبما ال يسمع ِإال دعاء و ِنداء ۚ‬
‫َ ْ َ‬
‫أن للعقل وظيفة كبرى في استنباط األحكام والنظر في األدلة‪ ،‬قال تعالى‪ِ (:‬ك َتاب أ َنزل َن ُاه ِإل ْي َك ُم َبا َرك‬ ‫‪)5‬‬
‫اب)‪.‬‬ ‫ّل َي َّد َّب ُروا َآياته َول َي َت َذ َّك َر ُأ ُولو ا ْ َأل ْل َ‬
‫ب‬
‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ا‬
‫أن الشرع جعل العقل واحدا من الضروريات الخمس التي جاء اإلسالم للمحافظة عليها‪ ،‬فنهى عن‬ ‫‪)6‬‬
‫َْ‬ ‫ْ َ‬ ‫االعتداء عليه كما حرم كل ما من أثره زوال العقل‪ .‬قال تعالى‪َ ( :‬يا َأي َها َّالذ َ‬
‫ين َآم ُنوا ِإ َّن َما الخ ْم ُر َوامل ْي ِس ُر‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َّ ْ َ َ ْ َ ُ ُ َ َّ ُ ُ‬ ‫َ َْ َ ُ ََْ‬
‫وه ل َعلك ْم ت ْف ِل ُحون)‪.‬‬ ‫اب َواأل ْزال ُم ِر ْجس ِّم ْن َع َم ِل الشيط ِان فاجت ِنب‬ ‫واألنص‬
‫ا‬
‫ثالثا‪ :‬مجاالت العمل العقلي‬
‫‪ -‬حدد اإلسالم للعقل مجاالته التي يخوض فيها حتى ال يضل‪ ،‬ألنه مهما اتسعت امللكات العقلية فسيظل‬
‫ا‬
‫محدودا في قدراته‪ ،‬وإذا ما حاول الخوض فيما ال طاقة له للخوض فيه‪ ،‬فسيعرض صاحبه لاللتباس‬
‫والتخبط بل ربما قاده إلى الضالل والتيه‪.‬‬
‫‪ -‬الغيبيات التي ال تقع تحت مدارك العقل ال مجال له أن يخوض فيها‪ ،‬وال يخرج فيها عما دلت عليه النصوص‬
‫الشرعية كمعرفة حقيقة صفات هللا تعالى‪ ،‬وتفاصيل أمور املالئكة والجن والروح والقيامة والجنة والنار‪.‬‬
‫‪ -‬تفاصيل التعبدات واستبانة وجه الحكمة فيها خارج عن حدود القدرة العقلية‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬إدراك العقل لكثير من القضايا إدراك مجمل ال مفصل‪ ،‬وقد يكون إدراكا بعضيا ال شموليا‪ .‬فالعقل عنده‬
‫قدرة على التحسين والتقبيح مع مالحظة محدودية هذه القدرة من جهتين‪:‬‬
‫‪ .1‬أن قدرته محدودة ال تشمل كل ش يء‪ ،‬فقد يعجز العقل عن تقييم حسن بعض األشياء أو قبحها‪.‬‬
‫‪ .2‬أنها ملكة ال تستتبع التكليف الشرعي وال يترتب عليها الثواب والعقاب‪( .‬اللجنة العلمية‪ :‬أي أن مجرد تحسين‬
‫العقل وتقبيحه ألشياء ال يترتب عليه تكليف وال يتبعه ثواب أو عقاب‪ ،‬بل ال بد من ورود الشرع بالثواب أو العقاب على ذلك)‪.‬‬
‫ا‬
‫رابعا‪ :‬العقل بين الوحدة واالختالف‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬العقل ليس شيئا واحدا يقع لكل الناس على وجه يتفقون فيه‪ ،‬فهو من األمور النسبية اإلضافية‪.‬‬
‫‪ -‬العقل املطلق أو العقل املثالي تجريد ال وجود له في عالم الواقع‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬صعوبة جعل العقل معيارا بسبب التفاوت الكبير في تصويب وتخطئة املعارف العقلية‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫ا‬
‫خامسا‪ :‬سؤال التعارض بين العقل والنقل‬
‫‪ -‬معطيات حول عالقة العقل بالنقل‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .1‬العقل ليس أصال لثبوت الشرع ‪ ،‬وال معطيا له صفة لم تكن له‪ ،‬وال مفيدا له صفة كمال‪ .‬فال يمكن أن‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقا بشرط‪ ،‬وال موقوفا على انتفاء مانع بل ال بد من تصديقه في كل‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ما أخبر به تصديقا جازما كما في أصل اإليمان به‪.‬‬
‫‪ .2‬أن العقل هو آلة استنباط من النقل‪ ،‬وهو يعمل في ضوء أصول وقواعد نقلية وعقلية ولغوية لضبط‬
‫عملية االستنباط‪ ،‬والعقل في نهاية املطاف أداة قد تصيب وقد تخطئ‪.‬‬
‫‪ .3‬أن العقل الصريح جاء بالداللة على كثير مما دل عليه النقل‪ ،‬كإثبات وجود هللا تبارك وتعالى‪ ،‬وأن كل ما‬
‫سواه سبحانه فهو محدث مخلوق‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .4‬أن األصل في املسائل الشرعية أن تكون مآخذها ُمبينة في النقل‪ .‬ولو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل؛ لم‬
‫يكن للحد الذي حده النقل فائدة‪ ،‬وإن جاز للعقل تعدي حد واحد؛ جاز له تعدي جميع الحدود‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .5‬أن النقل قد يجيء بأمر ال قول للعقل في إثباته أو نفيه فإما أن يكون متوقفا أو محتارا وهذا ال يبيح رد‬
‫النقل‪ ،‬إذ النقل مثبت والعقل متوقف مع الحيرة أو بدونها‪.‬‬
‫)األنبياء عليهم السالم قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته ال بما يعلم العقل بطالنه‬
‫فيخبرون بمحارات العقول ال بمحاالت العقول) – إبن تيمية‬
‫‪ -‬من أحسن وأشهر من كتب في نقد هذه الشبهة شيخ اإلسالم ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل)‪.‬‬
‫‪ -‬إشكالية االعتراض الشهير‪( :‬أنتم ليس عندكم إال ابن تيمية!)‬
‫‪ o‬قائل هذا الكالم واقع في إشكاليات ثالث‪:‬‬
‫‪ )1‬عدم تصور طبائع العلوم‪.‬‬
‫‪ )2‬عدم تصور طبيعة فقه ابن تيمية‪.‬‬
‫‪ )3‬عدم تصور واقع الخطاب السلفي‪.‬‬
‫‪ o‬الرد‪:‬‬
‫‪ُ )1‬يعلم عن طبائع العلوم أن لكل علم وفن عمالقته وعباقرته ومبدعوه‪ ،‬فاملشتغلين في مختلف العلوم‬
‫ا‬
‫ليسوا على درجة واحدة‪ ،‬وهذه ظاهرة بشرية متفهمة تماما‪ .‬وهكذا‪ ،‬فكما شاء هللا لصحيح البخاري‬
‫أن يكون أصح كتب الحديث‪ ،‬وأن يكون الطبري أعظم مفسري اإلسالم‪ ،‬وأن يكون سيبويه أعظم أئمة‬
‫النحو‪ ،‬وأن يكون الذهبي أعظم كتاب التراجم‪ ،‬فكذلك شاء هللا أن يكون ابن تيمية أملع املتأخرين في‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫تحقيق طريقة الصحابة في العقيدة والفقه‪ .‬وهذا القول ليس قرارا اعتباطيا‪ ،‬بل هو مبني على استقراء‬
‫ومقارنة كتابات ابن تيمية ببقية كتابات املتأخرين‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫‪ )2‬أن العالم إنما ينبل عند أهل السنة والجماعة بمقدار تحقيقه لطريقة الصحابة ومن تبعهم بإحسان‪،‬‬
‫ولذلك فمن طعن في فقه الصحابة وزعم أن االنحراف بدأ من عندهم‪ ،‬فقد طعن في أداء النبي‬
‫ا‬
‫لألمانة‪ ،‬أي أمانة تعليم الكتاب والحكمة والتزكية‪ .‬ولهذا استفاد ابن تيمية كثيرا من وضعه نموذج‬
‫الصحابة نصب عينيه أثناء تحليله لفروع واجتهادات املتأخرين‪ .‬وقد رفض ابن تيمية كثير من‬
‫تعقيدات املتأخرين ومنها‪:‬‬
‫~ رفض نظرية تأويل الصفات املعقدة‪ ،‬واحتج بأن الصحابة أعلم باهلل ولم يتكلموا عنها‪.‬‬
‫ا‬
‫~ رفض تقسيماتهم وتنويعاتهم املعقدة في علم الفروع‪ ،‬مثال رفض تنويعاتهم في املياه‪.‬‬
‫~ رفض كثير من فروع باب التيمم املعقدة التي فرعوها على أساس أن التيمم مبيح ال رافع‪.‬‬
‫~ رفض الشروط الدقيقة التي اشترطوها للخف الذي يجوز املسح عليه‪.‬‬
‫ا‬
‫~ رفض أيضا تقسيماتهم املعقدة في باب الحيض‪.‬‬
‫‪ )3‬يضاف إلى ما سبق ما يتصل بالجوانب املعرفية العقلية عند ابن تيمية كاإلحاطة الضخمة باملعارف‬
‫العقلية والنقلية‪ ،‬وحسن الفهم والذكاء‪ ،‬وتوافر أدوات االجتهاد‪ ،‬والدراية التامة بمذاهب املخالفين‪،‬‬
‫مع ما تميز به في القضايا األسلوبية في املجال الكتابي كاملباشرة والوضوح والقوة‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ )4‬بلوغ قطعة طيبة من تراث ابن تيمية في مختلف املعارف الشرعية خصوصا مجالي االعتقاد والفقه‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ّ‬
‫‪ )5‬أن إبن تيمية قد َعلم ور َّب تالمذة متميزين جدا في مختلف املجاالت الشرعية خصوصا ابن القيم‬
‫وابن مفلح وابن عبدالهادي وابن كثير وتالمذتهم‪ ،‬فنحن أمام مدرسة علمية متميزة ال أمام شخصية‬
‫علمية مفردة‪.‬‬
‫‪ )6‬تأثر اإلمام محمد بن عبدالوهاب بكتابات الشيخ ّ‬
‫طبع حضور ابن تيمية في الحركة العلمية الشرعية‬
‫من بعده‪.‬‬
‫‪ )7‬أما الزعم بأن أئمة أهل السنة والجماعة املعاصرين ال يخالفون ابن تيمية فهذا إطالق غير دقيق‪،‬‬
‫فأكبر مرجعيتين فقهيتين محليتين أفرزهما الحرك العلمي الحديث الشيخان ابن باز وابن عثيمين‪،‬‬
‫وقد وقعت منهما أقوال على خالف اخيارات ابن تيمية‪.‬‬

‫‪ -‬تقوم فكرة (معارضة النقل بالعقل) عند أهله على أساسين‪:‬‬


‫‪ .1‬التوهين من داللة النقل على املعاني واألحكام‪ ،‬في مقابل تقوية الداللة العقلية‪.‬‬
‫‪ .2‬لزوم تقديم العقل على النقل في حال املعارضة‪ ،‬ألنه املخرج الوحيد املمكن من إشكالية التعارض‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫‪ -‬إشكالية التوهين من داللة النقل على املعاني واألحكام‪ ،‬في مقابل تقوية الداللة العقلية‪:‬‬
‫‪ o‬تقوم فكرة التوهين من داللة النقل في مقابل تقوية الداللة العقلية على فرضيتين‪:‬‬
‫‪ .1‬األول‪ :‬أن داللة النقل داللة خبرية مجردة‪ ،‬وهي خلو من الدالئل العقلية‪.‬‬
‫‪ .2‬الثاني‪ :‬أن األدلة النقلية أدلة لفظية ال تفيد اليقين‪.‬‬
‫‪ o‬إشكالية تجريد النقل عن الدليل العقلي‪:‬‬
‫~ تعتبر من األوهام الغليظة القول بأن األدلة النقلية مجرد أخبار عارية عن الدالئل العقلية فهذه مجرد‬
‫دعوى مرسلة وتدل على عدم قراءة فاحصة للوحي‪ ،‬فإن القرآن والسنة مليئان بالدالئل العقلية‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫~ إن من الخطأ جعل الدليل العقلي مقابال للدليل الشرعي وقسيما له‪ ،‬فالدليل العقلي في حقيقته واحد‬
‫من أدلة الشرع‪ .‬فالصواب أن األدلة الشرعية تنقسم إلى‪:‬‬
‫‪ .1‬أدلة سمعية‪/‬خبرية‪.‬‬
‫‪ .2‬أدلة عقلية‪.‬‬
‫ص َحاب َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫( َوقالوا ل ْو ك َّنا ن ْس َم ُع أ ْو ن ْعق ُل َما ك َّنا في أ ْ‬
‫الس ِع ِير)‬ ‫ِ‬ ‫َ َِ‬ ‫ِ‬
‫َّ ْ َ َ ُ َ َ‬ ‫َّ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ ْ ْ َْ‬
‫( ِإن ِفي ذ ِلك ل ِذكرى ِملن كان له قلب أو ألقى السمع وهو ش ِهيد)‬
‫‪ o‬فكرة تجريد األدلة النقلية عن إفادة اليقين‪:‬‬
‫~ ترتكز على دعوى أن (األلفاظ) موصل رديء (للمعاني)‪.‬‬
‫~ يراد بهذه الدعوى نزع الوثوقية عن دالئل النقل‪ ،‬بالزعم بأنها مجرد ألفاظ ال يمكن االطالع على ما‬
‫ترمي إليه من معان حتى نستيقن من عشرة شروط‪.‬‬
‫~ إعمال هذه الفكرة في الواقع سيؤدي إلى نتائج كارثية‪:‬‬
‫‪ .1‬أن هذا القول يؤدي إلى إلغاء حجية الوحي بالكلية في حال وجود التعارض أو عدمه‪ ،‬إذ تحصيل‬
‫الجزم بمراد هللا من كتابه عند هؤالء محال إال عند استيفاء شروطه العشر وانتفاء موانعه‪ ،‬وهذه‬
‫مسألة ال يمكن التحقق منها على نحو جازم‪.‬‬

‫‪ .2‬أن هذا القول في حقيقته الزم لكل املخاطبات الشفاهية بل هي أولى بهذا من الوحي لقصورها عن‬
‫رتبته في البيان والوضوح والداللة على املعاني‪ ،‬وما من شك أن التشكيك بداللة كل لفظ وتركيب‬
‫وسياق ملعان محددة هو نوع من أنواع السفسطة‪ ،‬ومما يدل على ذلك‪:‬‬
‫‪ .a‬أن اإلنسان مدني بطبعه والناطقية خاصية ذاتية فيه‪ ،‬وال بد في معيشته مع بني جنسه أن‬
‫يفهمهم ويفهموه ليحصل االستئناس والتعاون‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫‪ .b‬من املعلوم من أحوال جميع الناس وجميع األمم معرفتهم بمقاصد بعضهم البعض من‬
‫املخاطبة‪.‬‬
‫‪ .c‬أننا نجزم أنهم يتحصلون على اليقين من مخاطبة بعضهم البعض بما ال يحصل مما يسميه‬
‫ا‬
‫هؤالء علوما عقلية‪ ،‬بل الجزم بمرادات املتكلم أحضر في نفوسهم وأقوى من هذه االشتراطات‬
‫العشر التي يذكرونها‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .d‬أن الطفل أول ما يميز يعرف مراد من يربيه بلفظه قبل أن يعرف شيئا من علومهم الضرورية‬
‫وهذه قضية فطرية بدهية محسوسة‪.‬‬
‫‪ .e‬أن التعريف باألدلة اللفظية أصل للتعريف باألدلة العقلية‪ ،‬فإذا شككت في داللة األلفاظ‬
‫على معانيها تسرب القدح إلى املعاني العقلية وانغلق باب نقلها وتقريرها‪.‬‬

‫‪ .3‬أن من إدعى هذه الدعوى فقد ناقض دالئل القرآن املتواترة الدالة على شدة وضوحه وبيانه‪.‬‬
‫ومما يورث اليقين باملعاني التي دلت عليها ألفاظ الوحي‪:‬‬
‫‪ .a‬دالئل القرآن املتواترة الدالة على شدة وضوحه وبيانه‬
‫‪ .b‬عدم وجود قصد التعمية والغموض واإللغاز‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .c‬ابتعاث هللا نبيه محمدا ﷺ ألداء واجب البالغ الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والبيان‬
‫والوضوح‪ ،‬الشامل على ألفاظ الوحي ومعانيه‪.‬‬

‫‪ .4‬أن األدلة السمعية اللفظية مبنية في الحقيقة على مقدمتين معلومتين باالضطرار‪:‬‬
‫‪ .a‬أن ناقليها إلينا فهموا مراد املتكلم‪.‬‬
‫‪ .b‬أنهم نقلوا إلينا ذلك املراد كما نقلوا اللفظ الدال عليه‪.‬‬
‫واملعروف أن الحرص على معرفة املراد أعظم من الحرص على مجرد حفظ األلفاظ‪ .‬ولهذا يضبط‬
‫الناس من معاني املتكلم أكثر مما يضبطونه من لفظه‪.‬‬

‫‪ .5‬أن من حكمة هللا تبارك وتعالى بإنزال الكتب وإرسال الرسل إقامة الحجة على العباد‪ ،‬وهو معنى‬
‫متواتر في القرآن والسنة‪ ،‬وفي هذه الدعوى معارضة لهذا التواتر‪ .‬فمن زعم أن كالم هللا ورسوله‬
‫ال يفيد اليقين والعلم‪ ،‬والعقل معارض للنقل فأي حجة تكون قد قامت على املكلفين بالكتاب‬
‫والرسول‪.‬‬

‫‪ -‬إشكالية لزوم تقديم العقل على النقل في حال املعارضة‪:‬‬


‫‪ o‬الشهير (بالقانون الكلي) والذي انتهى تأسيسه والتقعيد له على يد الرازي‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫‪ o‬يقوم هذا القانون على ثالث مرتكزات أساسية‪:‬‬
‫‪ .1‬دعوى إمكان التعارض بين العقل والنقل‪.‬‬
‫‪ .2‬دعوى حصر االحتماالت املمكنة فيما يؤخذ به ويترك (العقل أو النقل) في حال التعارض في أربعة‬
‫احتماالت هي‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ )1‬يؤخذان جميعا‪ ،‬وهو محال ألنه جمع بين النقيضين‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ )2‬يردان جميعا‪ ،‬وهو محال أيضا ألنه رفع للنقيضين‪.‬‬
‫‪ )3‬يقدم النقل على العقل‪ ،‬وال يجوز ألن العقل أصل النقل‪ ،‬وبه ُعرف صدق النقل‪ ،‬فلو قدم‬
‫ا‬
‫النقل على العقل للزم تكذيب العقل في صدق النقل فيبطل النقل والعقل معا‪.‬‬
‫‪ )4‬تقديم العقل على النقل‪.‬‬
‫‪ .3‬دعوى لزوم تقديم العقل على النقل بتقدير التعارض‪ ،‬وهي ثمرة دعوى انحصار االحتماالت في‬
‫التعاطي مع العقل والنقل عند التعارض في أربع احتماالت فقط‪.‬‬

‫‪ o‬خالصة ما قرره ابن تيمية في نقض هذا القانون‪:‬‬


‫‪ .1‬إبطال فرض التعارض بين العقل والنقل‪:‬‬
‫ا‬
‫يقرر ابن تيمية أنه ال يتصور إطالقا وقوع التعارض بين العقل الصريح والنقل الصحيح‪ ،‬وأنه في حال‬
‫ا‬
‫تحقق التعارض فالخلل داخل على أحد الطرفين‪ ،‬إما أن العقل ليس صريحا بل شبهات عقلية باطلة‪،‬‬
‫ا‬
‫أو النقل ليس صحيحا بل نقل ضعيف أو موضوع‪.‬‬
‫‪ .2‬إبطال انحصار االحتماالت املمكنة في االحتماالت األربعة في حال التعارض‪:‬‬
‫ا‬
‫باستجالب معامل القطعية والظنية عند بحث املسألة فالعقل والنقل قد يكون قطعيا وقد يكون‬
‫ا‬
‫ظنيا‪ ،‬ولذا ففرض االحتماالت املمكنة إذن سيشمل ‪ 16‬احتماال‪ .‬لذا من الخطأ إطالق القول بانحصار‬
‫االحتماالت املمكنة في االحتماالت األربعة‪.‬‬
‫واملراد األساس من ذلك هو إدخال احتمال (تقديم العقل القطعي على النقل الظني) واحتمال (تقديم‬
‫النقل القطعي على العقل الظني) وبيان أن التعويل على القطعي مطلقا‪.‬‬
‫‪ .3‬إبطال دعوى لزوم تقديم العقل على النقل‪:‬‬
‫~ اتكأت دعوى لزوم تقديم العقل على الوحي على فكرة أن العقل أصل الشرع‪ ،‬فلو رددنا العقل‬
‫بالشرع لكذبنا الشاهد الذي شهد بصدق النقل‪ ،‬وإذا كذبنا الشاهد لزمنا الطعن فيمن شهد له‬
‫ا‬
‫وهو النقل فنقع في مشكلة رد العقل والنقل جميعا‪ ،‬فاألسلم تقديم العقل على النقل لحفظ‬
‫ا‬
‫سالمة شهادة العقل‪ ،‬ولئال نقع في فخ رد الدليل العقلي والنقلي معا‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫حتى نجيب عن هذه اإلشكالية ال بد من فك حالة االلتباس واإلجمال في مسألتين‪:‬‬

‫‪ .1‬ما معنى كون العقل أصل الشرع؟‬

‫هل املقصود أن العقل أصل‬ ‫هل املقصود أن العقل أصل‬


‫في علمنا بصحة النقل؟‬ ‫في ثبوت النقل في نفس األمر؟‬

‫‪ .2‬ما حقيقة العقل الذي هو أصل في ثبوت الشرع؟‬

‫هل هي العلوم العقلية املستفادة‬ ‫هل هي القوة الغريزية التي فينا والتي‬
‫من تلك الغريزة؟‬ ‫يتميز بها اإلنسان عن سائر الحيوانات؟‬

‫بطالن هذا القول ألن من املعلوم أنه ليس كل ما‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫يمنع هذا‪ ،‬ألن تلك الغريزة ليست علما‬ ‫بطالن هذا القول ألن كون الحق حقا‬
‫ُيعرف بالعقل يكون أصال للسمع ودليال على‬ ‫يتصور أن يعارض النقل‪ ،‬وهي شرط في‬
‫ا‬
‫والباطل باطال غير تابع لتصور العقل‬
‫صحته فإن املعارف العقلية أكثر من أن‬ ‫كل علم عقلي أو سمعي كالحياة‪ ،‬وما كان‬ ‫عنه‪ ،‬إذ هي معان مستقرة في نفسها قبل‬
‫ُ‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫تحصر‪ ،‬والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف‬ ‫شرطا في الش يء امتنع أن يكون منافيا له‪.‬‬ ‫وجود العقل أصال‪.‬‬
‫على ما ُيعلم به صدق الرسول وليس كل العلوم‬ ‫(يلزم منه أنه لو لم يوجد بشر يخاطبون‬
‫العقلية ُيعلم بها صدق الرسول بل ذلك يعلم‬ ‫بالقرآن ملا كان القرآن حقا‪ ،‬وهذا اليقول‬
‫بما يعلم به أن هللا أرسله‪ ،‬مثل إثبات الصانع‬ ‫به مسلم‪).‬‬
‫وتصديقه للرسول باآليات وإن كان كذلك لم‬
‫تكن جميع املعقوالت أصال للنقل‪.‬‬
‫‪51‬‬
‫السؤال في الصفحة السابقة‪ :‬هل هي العلوم العقلية املستفادة من تلك الغريزة؟‬

‫‪ -‬الجواب بطريقة اخرى أيضا‪:‬‬


‫املعارف العقلية التي دلت على صحة النقل هي حق في نفسها وأن تقديم النقل في قضية ما على توهم عقلي‬
‫ليس طعن في املعارف العقلية التي دلت على صحة النقل وإنما في معارف عقلية أخرى‪ ،‬فاملعارف العقلية‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ليست شيئا واحدا متى ما طعنت في بعضه لزم ضرورة الطعن في الكل بل املسألة قابلة للتجزئة والتفريق‪ ،‬فال‬
‫ا‬
‫يصح والحالة هذه أن يقال أن في تقديم النقل على العقل في الصورة املذكورة طعنا في شهادة العقل بصحة‬
‫النقل فإن هذه الشهادة مقبولة غير مطعون فيها وإنما الطعن في شهادة عقلية أخرى وقع فيها لبس وخطأ‬
‫ووهم‪.‬‬

‫‪ -‬مثال‪ :‬العامي حين يدل على ُمفتي ثم يعترض على فتواه‪.‬‬


‫كما أن العامي إذا علم عين املفتي ودل غيره عليه‪ّ ،‬‬
‫وبين له أنه عالم مفت‪ ،‬ثم اختلف العامي الدال واملفتي‪،‬‬
‫وجب على املستفتي أن يقدم قول املفتي‪.‬‬
‫فإذا قال له العامي‪ :‬أنا األصل في علمك بأنه مفت فإذا قدمت قوله على قولي عند التعارض قدحت في األصل‬
‫الذي به علمت أنه مفت‪.‬‬
‫قال له املستفتي‪ :‬أنت ملا شهدت بأنه مفت‪ ،‬ودللت على ذلك‪ ،‬شهدت بوجوب تقليده دون تقليدك‪ ،‬كما شهد‬
‫به دليلك‪ ،‬وموافقتي لك في هذا العلم املعين‪ ،‬ال يستلزم أني أوافقك في العلم بأعيان املسائل‪ ،‬وخطؤك فيما‬
‫خالفت فيه املفتي الذي هو أعلم منك ال يستلزم خطأك في علمك بأنه مفت‪ ،‬وأنت إذا علمت أنه مفت باجتهاد‬
‫ا‬
‫واستدالل ثم خالفته باجتهاد واستدالل كنت مخطئا في االجتهاد واالستدالل الذي خالفت به من يجب عليك‬
‫ا‬
‫تقليده واتباع قوله‪ ،‬وإن لم تكن مخطئا في االجتهاد واالستدالل الذي به علمت أنه عالم مفت يجب عليك‬
‫تقليده‪.‬‬

‫ا‬
‫سادسا‪ :‬ش يء من مآالت املعارضة العقلية‬

‫(ذكر املؤلف هنا جملة من أحوال بعض أساطين املعرفة الفلسفية الكالمية وما آل اليه حالهم من الحيرة‬
‫والشك والندم‪).‬‬

‫‪52‬‬
‫املزلق السادس‪ :‬مشكلة السنة غير التشريعية‬

‫بيان املزلق‬
‫ا‬
‫قولهم‪ :‬من الخلل املنهجي في مسألة اتباع السنة النبوية جعل كل ما صدر عن النبي ﷺ وحيا الزم االتباع ‪ ،‬إذ‬
‫ما يصدر عن النبي ﷺ على نوعين‪ :‬سنة تشريعية وسنة غير تشريعية‪ ،‬فالتسوية بين النوعين في مسألة‬
‫التسليم انحراف منهجي مخالف ملقصد الشارع‪ ،‬إذ السنة التشريعية غير مقصودة بإيجاب املتابعة واإلذعان‬
‫واالنقياد والتسليم بها‪.‬‬

‫املناقشة‬

‫يمكن الجواب عن هذه اإلشكالية من خالل العناصر التالية‪:‬‬


‫األصل فيما نقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬ ‫‪.1‬‬
‫تفاصيل في طبيعة التصرافات النبوية‬ ‫‪.2‬‬
‫إشكالية السنة التشريعية وغير التشريعية‬ ‫‪.3‬‬
‫(أنتم أعلم بأمور دنياكم)‬ ‫‪.4‬‬
‫أنموذج تطبيقي في شأن السنة السياسية‬ ‫‪.5‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬األصل فيما نقل عن النبي صلى هللا عليه وسلم‬

‫‪ -‬من األصول الشرعية املقررة أن األصل في أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته أنها صادرة عن الوحي‪ ،‬وموضوعة‬
‫للتشريع‪ ،‬ومحل للتدين واالتباع‪ .‬فمن أصول منهج أهل السنة والجماعة في االستدالل والتلقي االعتماد على‬
‫ما صح عن النبي ﷺ في استنباط األحكام‪.‬‬

‫‪ -‬مما يبين طبيعة السنة النبوية‪:‬‬


‫‪ .1‬األدلة الشرعية املبينة لطبيعة السنة النبوية‪ ،‬واملؤكدة لوجوب التسليم لها‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫‪ o‬اآلية‪َ ( :‬و َما َينط ُق َعن ْال َه َوى ‪ ،‬إ ْن ُه َو إ َّال َو ْحي ُي َ‬
‫وحى)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫قال القرطبي‪( :‬وفيها ‪ ...‬داللة على أن السنة كالوحي املنزل في العمل)‪.‬‬
‫َ َ َ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ ْ َ َ َ َ َّ َ َ َ َ ْ َ ُ َ ْ َ ُ َ َ َ َ ْ ُ َّ َ‬
‫اّلل َعل ْي َك َع ِظ ايما)‪.‬‬
‫‪ o‬اآلية‪( :‬وأنزل اّلل عليك ال ِكتاب وال ِحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم ۚ وكان فضل ِ‬
‫فسمعت من أرض ى من أهل العلم‬ ‫ُ‬ ‫قال الشافعي‪( :‬فذكر هللا الكتاب وهو القرآن‪ ،‬وذكر الحكمة‪،‬‬
‫بالقرآن يقول‪ :‬الحكمة سنة رسول هللا)‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ُ‬ ‫َ َ ْ‬ ‫َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ ّ َ َ َ َّ َ َ‬
‫ين ال َي ْر ُجو َن ِل َق َاء َنا ْائ ِت ِب ُق ْرآن َغ ْي ِر َهذا أ ْو َب ِّدل ُه ۚ ُق ْل َما َيكو ُن‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬وِإذا تتلى علي ِهم آياتنا ب ِينات قال ال ِذ‬
‫ص ْي ُت َرّبي َع َذ َ‬ ‫اف إ ْن َع َ‬ ‫ْ َ َّ ُ َّ َ ُ َ َ َّ ّ َ ُ‬
‫َ‬ ‫لي َأ ْن ُأ َب ّد َل ُه من ت ْل َقاء َن ْ‬
‫اب َي ْوم َع ِظيم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫خ‬ ‫أ‬ ‫ي‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫ي‬
‫ِ ِِ‬ ‫ل‬ ‫إ‬ ‫ى‬‫وح‬ ‫ي‬ ‫ا‬ ‫م‬ ‫ال‬ ‫إ‬ ‫ع‬‫ب‬‫ت‬ ‫أ‬ ‫ن‬‫إ‬ ‫ي‬ ‫س‬ ‫ف‬
‫ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫قال القرطبي‪( :‬وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة‪ ،‬فإن اآلية وردت في طلب املشركين مثل‬
‫القرآن نظما‪ ،‬ولم يكن الرسول قادرا على ذلك‪ ،‬ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ‪ ،‬والن الذي‬
‫يقوله الرسول إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه‪ ،‬بل كان من عند هللا تعالى)‪.‬‬

‫‪ o‬الحديث‪( :‬أال إني أوتيت القرآن ومثله معه‪ ،‬أال يوشك رجل شبعان على أريكته يقول‪ :‬عليكم بهذا‬
‫القرآن ‪ ،‬فما وجدتم فيه من حالل فأحلوه‪ ،‬وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ‪ ،‬أال وإن ما حرم رسول‬
‫هللا ﷺ كما حرم هللا)‪.‬‬

‫‪ o‬قوله ﷺ لعبدهللا بن عمرو بن العاص مشيرا الى فمه‪( :‬اكتب فوالذى نفس ى بيده ما يخرج منه إال‬
‫حق)‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ o‬حديث الرجل الذي ود لو رأى النبي وقد أنزل عليه الوحي‪ ،‬فلما نظر اليه رأى له غطيط‪.‬‬

‫‪ .2‬الوظيفة املحورية للنبي ﷺ‪ :‬فهو رسول من عند هللا تعالى جاء بتعليم الكتاب والحكمة وتزكية املؤمنين‪.‬‬
‫‪ -‬صيانة ملقتضيات النبوة والرسالة فقد عصم هللا تبارك وتعالى الرسول‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬فهو املعصوم في شأن تبليغ الوحي مطلقا‪.‬‬
‫‪ o‬وهو معصوم كذلك عن كبائر الذنوب‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬وما يقع منه ﷺ من خطأ فيما وراء ذلك فمعصوم من أن يقر عليه بل متى ما وقع منه نسيانا أو‬
‫ا‬
‫عمدا فال بد أن يأتي من الوحي ما يصحح الخطأ‪ ،‬ويكون لوقوع الخطأ ِحكم ربانية عظيمة‪.‬‬
‫مثال‪ :‬ما وقع من ﷺ من سهو في الصالة وما ترتب عليه من بيان تشريعات تتصل بهذا املقام‪.‬‬
‫‪ -‬ومن الدالئل الشرعية املبينة لحقيقة الوظيفة املحمدية‪:‬‬
‫ّ‬ ‫ّ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ‬ ‫ا‬ ‫ْ َ‬ ‫َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ ْ ُ ْ‬
‫اّلل َعلى املؤ ِم ِن َين ِإذ َب َعث ِف ِيه ْم َر ُسوال ِّم ْن أ ُنف ِس ِه ْم َي ْتلو َعل ْي ِه ْم َآيا ِت ِه َو ُي َز ِك ِيه ْم َو ُي َع ِل ُم ُه ُم‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬لقد من‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬ ‫ْ َ َ ْ ْ َ‬
‫ضالل م ِبين)‪.‬‬ ‫اب َوال ِحك َمة َوِإن كانوا ِمن ق ْب ُل ل ِفي‬ ‫ال ِكت‬
‫َ َ ْ َ َْ ُ ْ َ ُ ا ّ ُ ْ َُْ ََْ ُ ْ َ َ َُ َّ ُ ْ َُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ‬
‫اب َوال ِحك َمة‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬كما أرسلنا ِفيكم رسوال ِمنكم يتلو عليكم آيا ِتنا ويز ِكيكم ويع ِلمكم ال ِكت‬
‫َ َُ ُ َ َ َ‬ ‫ّ ُ‬
‫َو ُي َع ِل ُمكم َّما ل ْم تكونوا ت ْعل ُمون)‪.‬‬
‫ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ ّ ّ َ َ ُ ا ّ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ ُ َ ّ ْ َ ُ َ ّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ‬
‫اب َوال ِحك َمة َوِإن‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬هو ال ِذي بعث ِفي األ ِم ِيين رسوال ِمنهم يتلو علي ِهم آيا ِت ِه ويز ِك ِيهم ويع ِلمهم ال ِكت‬
‫ََ‬ ‫َ َ‬ ‫َ ُ‬
‫ضالل م ِبين)‪.‬‬ ‫كانوا ِمن ق ْب ُل ل ِفي‬
‫نت‬‫اب َو ْالح ْك َم َة َو ُي َز ّكيه ْم ۚ إ َّن َك َأ َ‬ ‫‪ o‬اآلية‪َ ( :‬رَّب َنا َو ْاب َع ْث فيه ْم َر ُس اوال ّم ْن ُه ْم َي ْت ُلو َع َل ْيه ْم َآيات َك َو ُي َع ّل ُم ُه ُم ْالك َت َ‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬
‫ْال َعز ُيز ْال َح ِك ُ‬
‫يم)‪.‬‬ ‫ِ‬
‫‪54‬‬
‫‪ .3‬الدالئل الشرعية الكثيرة واملتنوعة على لزوم طاعة النبي ﷺ‪:‬‬
‫‪ -‬الدالئل الشرعية اآلمرة بطاعة الرسول ﷺ‪:‬‬
‫ين)‪.‬‬
‫َ‬ ‫ْ‬
‫اّلل ال ُيحب الكافر َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬
‫الر ُسو َل َفإن َت َول ْوا فإ َّن َّ َ‬
‫َ‬ ‫يعوا َّ َ‬
‫اّلل َو َّ‬ ‫‪ o‬اآلية‪ُ ( :‬ق ْل َأط ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َّ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ُ َّ ُ َل َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ُ نَ‬ ‫َ‬
‫‪ o‬اآلية‪َ ( :‬وأ ِق ُيموا الصالة وآتوا الزكاة وأ ِطيعوا الرسو لعلكم ترحمو )‪.‬‬
‫َّ ُ َ َ ْ َّ‬ ‫ُ‬ ‫ََ َ َ َْ‬
‫‪ o‬اآلية‪ ( :‬وما أ ْرسلنا ِمن َّرسول ِإال ِليطاع ِب ِإذ ِن ِ‬
‫اّلل)‪.‬‬
‫اب)‪.‬‬‫ق‬‫اّلل َشد ُيد ْالع َ‬
‫اّلل إ َّن َّ َ‬ ‫الر ُسو ُل َف ُخ ُذ ُوه َو َما َن َه ُاك ْم َع ْن ُه َف َ‬
‫انت ُهوا ۚ َو َّات ُقوا َّ َ‬ ‫‪ o‬اآلية‪َ ( :‬و َما َآت ُاك ُم َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬بيان أن طاعة النبي صلى هللا عليه وسلم من طاعة هللا تعالى‪:‬‬
‫َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ا‬
‫‪ o‬اآلية‪َّ ( :‬من ُي ِط ِع الرسول فقد أطاع اّلل ومن تولى فما أرسلناك علي ِهم ح ِفيظا)‪.‬‬
‫َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ‬
‫صاني َف َق ْد َع َص ى َّ َ‬
‫اّلل)‪.‬‬ ‫‪ o‬الحديث‪( :‬من أطاع ِني فقد أطاع اّلل ومن ع ِ‬
‫‪ -‬األمر املؤكد باالستمساك بالسنة‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ‬
‫ين َت َم َّسكوا ب َها َو َعضوا َعل ْي َها ب َّ‬
‫الراشد َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫‪ o‬الحديث‪َ ( :‬ف َع َل ْي ُك ْم ب ُس َّنتي َو ُس َّنة ال ُخل َفاء امل ْهد ّي َ‬
‫الن َو ِاج ِذ)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬ ‫ين‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫‪ -‬ترتيب الهداية والثواب على من أطاعه ﷺ‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫َّ‬ ‫َ َ‬
‫الر ُسو َل ف ِإن ت َول ْوا ف ِإ َّن َما َعل ْي ِه َما ُح ِّم َل َو َعل ْيكم َّما ُح ِّمل ُت ْم َوِإن‬ ‫يعوا َّ‬ ‫اّلل َو َأط ُ‬
‫يعوا َّ َ‬ ‫‪ o‬اآلية‪ُ ( :‬ق ْل َأط ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ُ‬ ‫َّ ْ َ َ ُ ْ ُ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫وه َت ْه َت ُدوا ۚ وما على َّ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُتط ُ‬
‫يع ُ‬
‫الرسو ِل ِإال البالغ امل ِبين )‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬ترتيب الوعيد على من خالف أمر النبي ﷺ‪:‬‬
‫َ ْ َ ْ َ َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ْ َ َ َ‬
‫‪ o‬اآلية‪( :‬فليحذ ِر ال ِذين يخ ِالفون عن أم ِر ِه أن ت ِصيبهم ِفتنة أو ي ِصيبهم عذاب أ ِليم)‬
‫‪ -‬نفي الخيار عن املؤمنين إذا صدر حكم عن رسول هللا ﷺ‪:‬‬
‫َ‬ ‫ُ َ َ ْ ُ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ان ملُ ْؤمن َوَال ُم ْؤم َنة إ َذا َق َض ى َّ ُ‬
‫ََ َ َ‬
‫اّلل َو َر ُسول ُه أ ْم ارا أن َيكون ل ُه ُم ال ِخ َي َرة ِم ْن أ ْم ِر ِه ْم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬وما ك ِ ِ‬
‫َُْ ْ ُ َ ْ َ‬ ‫َ ُُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ ُْ ُ َ ْ‬
‫اس َتط ْع ُت ْم)‪.‬‬ ‫وه‪َ ،‬وإذا أ َم ْرتك ْم ِبأمر فأتوا ِمنه ما‬ ‫اج َتن ُب ُ‬
‫‪ o‬الحديث‪ ( :‬فإذا ن َهيتك ْم عن ش يء ف ِ‬
‫‪ -‬بيان أن املعرض عن سنته واقع في النفاق‪:‬‬
‫َ‬
‫الر ُسول َرأ ْي َت ْاملُ َنافق َين َي ُ‬
‫ص ُّدو َن َع َ‬ ‫َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َٰ َ َ َ َ ه ُ َ َ‬
‫ص ُدودا)‪.‬‬
‫نك ُ‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫ه‬ ‫ى‬ ‫ل‬‫‪ o‬اآلية‪( :‬و ِإذا ِقيل لهم تعالوا ِإلى ما أنزل اَّلل و ِإ‬
‫‪ -‬حرمة التقديم بين يدي سنته ﷺ‪:‬‬
‫اّلل ۚ إ َّن َّ َ‬ ‫َ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ّ ُ َ ْ َ َ َ َّ‬
‫اّلل َو َر ُسوله َو َّات ُقوا َّ َ‬
‫اّلل َس ِميع َع ِليم)‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِِ‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬يا أيها ال ِذين آمنوا ال تق ِدموا بين يد ِي ِ‬
‫‪ -‬األمر بالرد إلى الرسول ﷺ عند التنازع‪:‬‬
‫ْ‬ ‫ُ ُ ْ ُ ْ ُ َ َّ ْ‬ ‫َ َ ُ َ َّ‬ ‫ََ َ ُْ‬
‫اّلل َوال َي ْو ِم اآل ِخ ِر)‪.‬‬ ‫اّلل َو َّ ُ‬
‫الرسو ِل ِإن كنتم تؤ ِمنون ِب ِ‬ ‫‪ o‬اآلية‪( :‬فإن تنازعت ْم ِفي ش ْيء ف ُردوه ِإلى ِ‬

‫‪55‬‬
‫‪ -‬بيان طبيعة القدوة في شخص النبي ﷺ واألمر باتباعه‪:‬‬
‫ْ‬ ‫َّ ُ ْ َ َ َ َ ّ َ َ َ َ ْ ُ َّ َ ْ‬ ‫َّ َ ْ َ َ َ ُ‬
‫اّلل َوال َي ْو َم اآل ِخ َر)‪.‬‬ ‫اّلل أسوة حسنة ِملن كان يرجو‬ ‫ُ‬
‫‪ o‬اآلية‪( :‬لقد كان لك ْم ِفي َرسو ِل ِ‬
‫قال ابن كثير‪( :‬هذه اآلية أصل كبير في التآس ي برسول هللا ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله)‪.‬‬
‫َ‬ ‫َّ ّ ْ ُ ّ ّ َّ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ َّ ُ ُ َ َّ ُ‬ ‫‪ o‬اآلية‪َ ( :‬فآم ُنوا ب َّ َ َ ُ‬
‫وه ل َعلك ْم َت ْه َت ُدون)‪.‬‬ ‫اّلل ورس ِول ِه الن ِب ِي األ ِم ِي ال ِذي يؤ ِمن ِب ِ‬
‫اّلل وك ِلما ِت ِه وات ِبع‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫قال ابن تيمية‪( :‬وذلك ألن املتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل)‪.‬‬
‫ا‬
‫ثانيا‪ :‬تفاصيل في طبيعة التصرافات النبوية‬
‫‪ -‬األصل في أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته أنها‪:‬‬
‫‪ّ .1‬‬
‫حجة‪.‬‬
‫‪ .2‬تشكل بمجموعها مفهوم السنة النبوية‪.‬‬
‫‪ .3‬منبع يصدر عنه في تقرير األحكام وبيان التشريعات‪.‬‬
‫‪ -‬أقسام التصرفات النبوية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ .1‬القسم األول‪ :‬التصرفات التشريعية‪:‬‬
‫هي التي يقصد بها البيان والتشريع وإيضاح كيفية امتثال األحكام الشرعية (كأفعال الصالة والحج) فهذا‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫القسم هو الذي يطلب اتباعه فيه‪ ،‬وقد يكون واجبا وقد يكون مستحبا‪.‬‬
‫‪ .2‬القسم الثاني‪ :‬التصرفات الجبلية‪:‬‬
‫كل ما صدر عن النبي ﷺ باعتبارات جبلية محضة (كالقيام‪ ،‬والقعود‪ ،‬واألكل‪ ،‬والشرب) ليس املقصود‬
‫محال للتعبد‪ ،‬فإن الرسول ﷺ مع نبوته بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ّ‬‫ا‬
‫إلي)‬ ‫بها التشريع وليست‬
‫ويستفاد من هذه التصرفات تأكيد اإلباحة‪.‬‬
‫‪ .3‬القسم الثالث‪ :‬التصرفات العادية‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫هي ما جرى من النبي ﷺ بمقتض ى العادة مما كان معروفا مألوفا في قومه وال تدل على قربة أو عبادة‪:‬‬
‫~ أفعال تدل على إباحة فعل الش يء ال استحبابه؛ ألن ذلك لم يقصد به التشريع‪ ،‬ولم يتعبد به‪.‬‬
‫ا‬
‫(كأحواله في مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته‪ :‬كأن َيأكل الدباء‪ ،‬أو أن يبيت طاويا يربط الحجر على‬
‫بطنه أو ينام على الحصير ‪ ،‬أو يلبس القطن أو يطيل الشعر)‪.‬‬

‫~ أفعال شرعية إذا ورد األمر بش يء من األمور العادية أو جاء الترغيب فيها أو وجدت القرينة التي تدل‬
‫على قصد التشريع؛ ألن الشارع قصد إخراج هذه العادات من حد العادة إلى حد التعبد‪.‬‬
‫(كلبس البياض من الثياب‪ ،‬وإعفاء اللحية‪ ،‬وتوجيه امليت في قبره إلى القبلة‪ ،‬وما يتعلق بأبواب اآلداب كآداب‬
‫النوم‪ ،‬وآداب األكل والشرب‪ ،‬وآداب السالم والعطاس‪ ،‬وآداب التخلي)‪.‬‬
‫‪56‬‬
‫‪ .4‬التصرفات الجتهادية‪ :‬التفاصيل الحقا‪.‬‬
‫‪ .5‬التصرفات الخاصة به ﷺ‪:‬‬
‫هي التي ثبت بالدليل اختصاصه بها (كالجمع بين تسع نسوة‪ ،‬والتبرك بآثاره)‪ ،‬ويحرم التأس ي به فيها‪.‬‬
‫‪ .6‬التصرفات املعجزة‪:‬‬
‫كخوارق العادات التي أجراها هللا تبارك وتعالى على يد نبيه سواء قصد بها التحدي أو لم يقصد‪ ،‬وليس‬
‫ا‬
‫محال للتكليف‪ ،‬وهو بإذن هللا تعالى الذي خرق‬ ‫ثمة مدخل لالقتداء به ﷺ فيها ألن الخارق نفسه ليس‬
‫العادة حقيقة‪.‬‬
‫ا‬
‫ثالثا‪ :‬إشكالية السنة التشريعية وغير التشريعية‬
‫‪ -‬أعمق اإلشكاليات في التعاطي مع السنة النبوية‪:‬‬
‫‪ o‬االتكاء على فكرة تقسيم السنة النبوية إلى‪ )1 :‬سنة تشريعية‪ )2 .‬سنة غير تشريعية‪.‬‬
‫‪ o‬ثم توسيع مجاالت السنة غير التشريعية على حساب التشريعية‪.‬‬
‫‪ o‬فتكون النتيجة تضييق مجال السنة النبوية في الشأن التعبدي‪.‬‬
‫‪ -‬تحاول الخطابات العلمانية من خالل اإلشكالية السابقة‪ ،‬ترسيخ مبدأ املفاصلة بين الشأن الديني والشأن‬
‫ا‬
‫الدنيوي‪ ،‬فأكثر األحاديث حظوة وحضورا لديهم قول الرسول ﷺ‪( :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم)‪.‬‬
‫‪ -‬أحاديث داخلة في إطار السنة التشريعية‪:‬‬
‫صيد الكلب‪ ،‬وحل ميتة السمك‪ ،‬وميتة الجراد‪ ،‬وتحريم كل ذي ناب من السباع‪ ،‬وكل ذي مخلب من الطير‪ ،‬والنهي‬
‫عن األكل والشرب فى صحائف الذهب والفضة‪ ،‬والنهي عن األكل في أواني الكفار إال بعد غسلها‪.‬‬

‫‪ -‬توسع مفهوم السنة غير التشريعية قائم على أساسين متداخلين‪:‬‬


‫‪ .1‬أن النبي ﷺ لم تكن كل تصرفاته تنطلق باعتبار كونه نبيا بل قد يتصرف بمقتض ى بشريته أو أدواره‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬ ‫اا‬ ‫ا‬
‫الحياتية (ككونه قائدا سياسيا أو قائدا عسكريا أو قاضيا أو أبا أو زوجا)‪.‬‬
‫فتجوز إدخال األدوار الحياتية في مفهوم السنة باعتبار صدورها عن الرسول ﷺ ولكنها ليست تشريعية‬
‫باعتبار عدم صدورها عن مقام النبوة‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .2‬ما كان يصدر عن النبي ﷺ من تصرفات لم يكن صادرا بالضرورة عن وحي مباشر بل قد يكون باجتهاد‬
‫منه ﷺ فتكون عرضة للخطأ فيأتي الوحي ببيان خطئه‪ ،‬ويسوغ فيها أن يجتهد غيره كما اجتهد ﷺ‪.‬‬
‫‪ -‬أصل اإلشكالية في الحقيقة يؤول إلى تحقيق املوقف من طبيعة االجتهادات النبوية وتحديد ما يتصل بها من‬
‫أحكام وأين موقعها من الوحي ومن التشريع‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫‪ -‬رأي الشيخ في سبب املشكلة هو‪:‬‬
‫االتكاء على هذه القسمة اإلصطالحية (سنة تشريعية وغير تشريعية) إلخراج جملة تقل وتكثر من السنة‬
‫التشريعية وإدخالها في إطار السنة غير التشريعية بغير انضباط شرعي وال معرفة صحيحة بطبيعة االجتهاد‬
‫النبوي وما يتصل بها من مظاهر العصمة‪.‬‬
‫‪ -‬تدرجت الجناية على السنة النبوية تحت ذريعة (السنة غير التشريعية) كما يلي‪:‬‬
‫‪ o‬كان الكالم عن بعض الجوانب املتعلقة بمظهر املسلم (كإعفاء اللحية وتقص ي الشارب)‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬امتد الكالم إلى أقوال النبي ﷺ في أبواب (الطب) جميعا‪.‬‬
‫‪ o‬ازداد األمر لتخرج تصرفات النبوي ﷺ السياسية من السنة التشريعية‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬إخراج السنن املتعلقة بالشأن الدنيوي عموما من السنة التشريعية تحت بند ( أنتم أعلم بأمور دنياكم)‪.‬‬
‫‪ -‬ال بد من اإلحاطة بثالثة معاني لإلجابة على هذه اإلشكاليات‪:‬‬
‫‪ .1‬أوال‪ :‬طبيعة اإلجتهادات النبوية‬
‫~ مسألة وقوع اإلجتهاد من النبي ﷺ مسألة خالفية في كتب األصوليين‪ ،‬خالصة ما فيها‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ )1‬ثمة من منعه مطلقا‪.‬‬
‫‪ )2‬ثمة من أجازه في الشأن الدنيوي بخالف الديني‪ ،‬ونقل بعضهم اإلجماع عليه‪.‬‬
‫‪ )3‬ثمة من أجازه في الشأن الدنيوي والديني وهم األكثر‪ ،‬وهو األظهر‪ ،‬وهم صنفان‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ابتداء عن وقوع الخطأ‪.‬‬ ‫‪ -‬من أدخل اجتهاده في باب العصمة فجعل االجتهاد منزها‬
‫من أخرج اجتهاده عن حد العصمة ف ّ‬
‫جوز وقوع الخطأ فيه‪ ،‬ولكن منع من اإلقرار عليه‬ ‫‪-‬‬
‫فيكون معصوما فيها باعتبار املآل‪ّ .‬‬
‫عبر عنه بعض الحنفية بالوحي الباطن‪.‬‬
‫~ أنواع الوحي‪:‬‬
‫‪ )1‬الوحي الباطن‪ :‬اجتهاده ﷺ الذي وقع إقراره‪.‬‬
‫ا‬
‫ابتداء‪.‬‬ ‫‪ )2‬الوحي الظاهر‪ :‬ما كان منه ﷺ من تصرفات بمقتض ى الوحي‬
‫~ أوسع ما في األقوال األصولية في السنة غير التشريعية‪ :‬أنه يمنع من اإلقرار على الخطأ ويؤكد على أن‬
‫الوحي سيعقب ذلك بتأييد أو سكوت أو تخطئة فيؤول األمر الى معرفة الحق في املسألة بالوحي إما‬
‫بالتأييد واإلقرار أو بالتخطئة والتصويب‪.‬‬
‫~ األخذ بإجتهاد النبي ﷺ أو تركه مرهون بطبيعة ما يعقبه من وحي أو حدث يكشف عن صوابية‬
‫ا‬
‫االجتهاد أو خطئه‪ ،‬وال يصح أن يترك مطلقا‪.‬‬
‫‪58‬‬
‫~ مثال على إجتهاد النبي‪ :‬قصة أسرى بدر‬
‫في قصة أسرى بدر اتخذ الرسول ﷺ قراره بأخذ الفدية منهم ال القتل بعد مشاورته أبا بكر (ورأيه‬
‫َ ُ َ َ َ‬ ‫مبينا الخطأ‪َ ( :‬ما َك َ‬ ‫ا‬
‫ان ِل َن ِب ّي أن َيكون ل ُه أ ْس َرى َح َّتى‬ ‫أخذ الفدية) وعمر (ورأيه القتل)‪ ،‬ثم نزل الوحي‬
‫َّ ْ َ َ ّ َ َّ‬ ‫اّلل ُير ُيد ْاآلخ َر َة ۗ َو َّ ُ‬
‫ض الد ْن َيا َو َّ ُ‬ ‫ُْ َ َْ‬
‫األ ْرض ۚ ُتر ُيدو َن َ‬
‫ّلل َس َب َق‬
‫ِ‬ ‫ا‬ ‫ن‬ ‫م‬
‫ِ‬ ‫اب‬ ‫ت‬ ‫ك‬
‫ِ‬ ‫ال‬‫و‬ ‫ل‬ ‫*‬ ‫يم‬ ‫ك‬‫ِ‬
‫اّلل َعزيز َ‬
‫ح‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫ر‬ ‫ع‬ ‫ِ ِ‬ ‫يث ِخن ِفي‬
‫َ ُ ُ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ا َ ّ ا َ َّ ُ َّ َ َّ َّ َ َ‬ ‫َ َ ُْ َ‬ ‫ََ ُ‬
‫اّلل غ ُفور َّر ِحيم )‪.‬‬ ‫مل َّسك ْم ِف َيما أخذت ْم َعذاب َع ِظيم * فكلوا ِمما غ ِنمتم حالال ط ِيبا ۚ واتقوا اّلل ۚ ِإن‬
‫وجعلت املوافقة هنا من فضائل عمر رض ي هللا عنه) ‪ -‬ابن مسعود‪.‬‬ ‫(ونزل القرآن بقول عمر‪ُ ،‬‬

‫(استشكال القرطبي‪ :‬ما سبب التوعد بالعذاب في تتمة اآلية؟ الجواب‪ :‬أن الوعيد ملن أراد الفدية يريد‬
‫عرض الدنيا‪ ،‬وهذا ليس للنبي وال ألبي بكر‪).‬‬
‫ا‬
‫‪ .2‬ثانيا‪ :‬األصل في التصرف النبوي صدوره عنه باعتبارات النبوة‪:‬‬
‫~ بعض الدالئل الشرعية املطلقة املقررة لهذا األصل‪:‬‬
‫‪ -‬قول هللا تعالى‪َ ( :‬و َما َينط ُق َعن ْال َه َوى‪ ،‬إ ْن ُه َو إ َّال َو ْحي ُي َ‬
‫وحى)‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫‪ -‬قول النبي ﷺ لعبدهللا بن عمرو‪( :‬اكتب فوالذي نفس ي بيده ما يخرج منه إال حق)‬
‫~ األصل في التصرفات النبوية أنها واقعة باعتبارات النبوة‪ ،‬فال يصح الخروج عن هذا األصل إال مع‬
‫القرائن املرجحة للخروج عنه‪.‬‬
‫~ الصحابة في تعاطيهم مع ما يصدر عن النبي‪ :‬أن تصرفاته موضع للتسليم واالنقياد‪ ،‬فإذا اشتبه عليهم‬
‫طبيعة هذا التصرف بادروا إلى السؤال للتحقق‪ ،‬بعد وجود قرينة دفعت لحالة االشتباه‪.‬‬
‫ا‬
‫~ أمثلة تدل على أن األصل في الخطاب النبوي املتعلق بشأن الدنيا أن يكون موضوعا للتشريع‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬حادثة تأبير النخل وترك الصحابة للتأبير‪ ،‬ثم استبان لهم أن النبي ﷺ إنما قاله من عنده ظنا وليس‬
‫عن الوحي‪.‬‬
‫ُ‬
‫‪ o‬جواب الرسول ﷺ للحباب بن املنذر ابن الجموح عن املنزل‪ ( :‬بل هو الرأي والحرب واملكيدة)‪.‬‬
‫‪ o‬حادثة مشاطرة تمر املدينة‪ ،‬حين سأل الحارث الغطفاني ذلك للرسول ﷺ فكان رده له‪( :‬حتى أستأمر‬
‫السعود)‪ ،‬فكان سؤالهم للرسول‪" :‬أوحي من السماء‪ ،‬فالتسليم ألمر هللا‪ ،‬أو عن رأيك"‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬استجارة ُ(مغيث) بالرسول ﷺ ليشفع له أمام زوجته وسؤالها للرسول ﷺ إن كان أمرا‪ ،‬ورده عليها ﷺ‪:‬‬
‫( ال إنما أنا شافع)‪ .‬ثم سالت دموعه لتعجبه من حال املغيث وزوجته‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ .3‬ثالثا‪ :‬طبيعة االجتهاد النبوي مقارنا باجتهاد غيره‪:‬‬
‫~ ليس من الصحيح التقليل من شأن االجتهادات النبوية وتسويتها باجتهادات غيره‪ ،‬ألن‪:‬‬
‫‪ )1‬أن النبي ﷺ أعلم وأعقل وأورع ممن دونه يقينا منه‪.‬‬
‫‪ )2‬احتمال أن يصيب النبي ويخطئ غيره‪ ،‬أقرب من أن يكون الخطأ منه ﷺ‪.‬‬
‫~ ما كان من إجتهادات النبي ﷺ‪:‬‬
‫‪ )1‬ناشئة عن نظر في األدلة واستنباط لألحكام‪ ،‬أو تخير في أساليب الدعوة أو سياسة الناس‪،‬‬
‫فاألصل أنه مصيب فيها ابتداء وال يصح الخروج عن هذا األصل إال بدليل ّبين‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ )2‬متصال بشؤون الدنيا املحضة (كطرائق الزراعة والصناعة واإلدارة وتدابير الحرب)‪ ،‬فاجتهاده فيها‬
‫معتبر إذ األصل أنه ال يتكلم فيها إال عن معرفة وعلم‪ ،‬مع إمكان خطئه ﷺ وأن يكون غيره أعلم‬
‫بها منه‪.‬‬
‫ا‬
‫~ يشير إبن القيم الى أن الخطأ من النبي ﷺ فيما خفي عليه من شأن الدنيا دليال على نبوته‪.‬‬

‫‪ -‬ال يصح تعكير مبدأ التسليم للوحي ومنه السنة‪ ،‬إلن التصرفات االجتهادية في األصل باب مضيق‪ ،‬والخطأ في‬
‫ُ‬
‫هذا الباب املضيق مضيق‪ ،‬ومتى ق ِّدر وقوع ش يء منه فسيعقبه بيان يكشف عن وجه الخطأ‪.‬‬
‫ا‬
‫رابعا‪( :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم)‬
‫ا‬
‫‪ -‬من أكثر األحاديث النبوية دورانا على ألسنة العلمانيين ما جاء من حديث تأبير النخل‪ :‬أن النبي ﷺ مر بقوم‬
‫ا‬
‫يلقحون فقال‪( :‬لو لم تفعلوا لصلح) قال‪ :‬فخرج شيصا‪ ،‬فمر بهم‪ ،‬فقال‪( :‬ما لنخلكم؟) قالوا‪ :‬قلت كذا وكذا‪،‬‬
‫قال‪( :‬أنتم أعلم بأمر دنياكم)‬
‫‪ -‬الرد على من يجعل هذا الحديث أصال في إخراج األقوال واألفعال النبوية املتصلة بشأن الدنيا عن دائرة‬
‫التشريع‪:‬‬
‫‪ .1‬أن مثل هذا التوسع في رد السنة مخالف لهدي أهل العلم وفهمهم لهذا الحديث‪ .‬ومن ذلك باب للنووي‬
‫ا‬
‫بعنوان (باب وجوب امتثال ما قاله شرعا‪ ،‬دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سبيل الرأي)‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .2‬أن األمور التي يقال فيها‪( :‬أنتم أعلم بأمور دنياكم) هي تلك األمور التي لم تتناولها األدلة الشرعية تناوال‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫عاما أو تناوال خاصا‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫ا‬
‫‪ .3‬األصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية ‪-‬ولو كان متعلقا بأمر الدنيا أو غيره‪ -‬أن يكون على سبيل‬
‫التشريع إال أن يدل الدلبل أو القرينة على خالف ذلك‪ .‬وهو ما جعل الصحابة يتركون تأبير النخل‪.‬‬
‫‪ .4‬التأمل في حديث تأبير النخل يبين أن ثمة قرائن في الحديث تفيد خروجه عن دائرة التشريع؛ فالرسول‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫ﷺ لم ينههم نهيا مطلقا عن التأبير‪ ،‬وغالب الروايات في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره‬
‫ا‬
‫الرسول ﷺ للصحابة كان من قبيل الرأي املتعلق بأمور املعاش‪ ،‬ولم يكن كالما على سبيل التشريع‪.‬‬

‫‪ -‬قوله ﷺ‪( :‬أنتم أعلم بأمر دنياكم) ال يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا‪ ،‬وبالتالي‬
‫فإنه ال يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن جميع املسائل املتعلقة بالنظام السياس ي هي من األمور املتروكة‬
‫للبشر‪ ،‬وذلك ألن النظام السياس ي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة‪.‬‬
‫ا‬
‫خامسا‪ :‬أنموذج تطبيقي في شأن السنة السياسية‬
‫‪ -‬من التطبيقات التي تبين توظيف العلمانيين لهذا الحديث التمييز بين مقام النبوة ومقام رئاسة الدولة‪ ،‬والذي‬
‫ا‬
‫خرج بنتيجة أن الفعل السياس ي النبوي خارج عن إطار التشريع وليس محال الستنباط األحكام بل هي‬
‫اجتهادات مخصوصة بسياقاتها الزمانية واملكانية ليس لها صفة العموم واإلطالق‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬هذه الفكرة لقيت قدرا من الترحاب عند بعض املنتسبين للعمل اإلسالمي ومنهم الدكتور (سعد الدين‬
‫العثماني) في كتابه (الدين والسياسة تمييز ال فصل)‪.‬‬
‫‪ -‬مالحظات على كتاب (الدين والسياسة تمييز ال فصل)‪:‬‬
‫‪ .1‬العلمانية بمفاهيم أصولية‪:‬‬
‫‪ o‬يجسر الكتاب الهوة بين اإلسالم والعلمانية‪ ،‬ويفتح الباب لقارع العلمانية للولوج للحياة السياسية‬
‫بوجه شرعي‪.‬‬
‫‪ o‬في عالقة الدين بالسياسة ثمة مستويان من الشريعة امللزمة‪:‬‬
‫~ القيم العامة مثل العدل‪ ،‬الصدق‪ ،‬الوفاء ‪ ..‬الخ‪( .‬ال مشكلة فيها بالنسبة للعلمانين)‬
‫~ األحكام الجزئية التفصيلية مثل إقامة الصالة‪ ،‬تحريم الربا‪ ،‬إقامة الحدود ‪..‬الخ‪( .‬العلمانيون‬
‫يريدون فصل الدين عن الدنيا)‪.‬‬
‫‪ o‬موقع الدكتور سعدالدين من هذان املستويان‪:‬‬
‫~ القيم العامة ‪ :‬يقول الدكتور (الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة‪ ،‬لكن املمارسة‬
‫السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين)‪.‬‬
‫~ األحكام الجزئية التفصيلية‪ :‬فهي عند الدكتور خارج دائرة اإللزام‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫‪ .2‬تفريغ السنة النبوية من مصدرية الوحي في املجال السياس ي‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ o‬تفريغ السنة النبوية شيئا فشيئا من دائرة اإللزام الشرعي‪ ،‬ليتسع مع الزمن مجال السنة غير‬
‫التشريعية على حساب التشريعية‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬يتكئ الدكتور في هذا التقرير على كالم لإلمام القرافي‪ ،‬والحق أن القرافي ما أراد أبدا تقرير ما ذهب‬
‫إليه العثماني العتبارين‪:‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ )1‬أن القرافي يتكلم في تمييز تصرفات النبي ﷺ باعتبار مقاماته إماما وقاضيا ومفتيا وهكذا‪،‬‬
‫ا‬
‫فإخراج الخطاب النبوي السياس ي من دائرة التشريع مطلقا اتكاء على تمييز مقام اإلمامة وتحميل‬
‫ذلك اإلمام القرافي خطأ ّبين‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ )2‬أن القرافي ال ُيخرج تصرفات النبي ﷺ بمقتض ى إمامته من دائرة التشريع مطلقا وإنما يجعل‬
‫أحكامها مختصة باألئمة‪.‬‬
‫‪ )3‬أن العثماني جعل مستند التصرف السياس ي هو املصلحة الراجحة أو الخالصة فقط‪.‬‬

‫‪ .3‬جاء في الكتاب ذكر بعض املصطلحات املجملة أو الوافدة والتي تحمل في طياتها حمولة فكرية للبيئة‬
‫التي ولدت فيها‪ ،‬وبالتالي فجعلها موضع قبول بإطالق فيه قدر كبير من اإلشكال‪ ،‬فمن هذه األمثلة‬
‫ا‬
‫)الدولة املدنية‪ ،‬القانون املدني‪ ،‬الديمقراطية‪ ،‬املواطنة( فجميعا جاءت كصيغ مقبولة في النظام‬
‫السياس ي اإلسالمي‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫املزلق السابع‪ :‬مشكلة السؤال واالستشكال‬

‫بيان املزلق‬
‫أن مناقشة األحكام الشرعية بل واستشكالها ال يناقض مبدأ التسليم بها‪ ،‬فالصحابة رضوان هللا عليهم كانوا‬
‫يناقشون النبي ﷺ ويوردون استشكاالتهم بين يديه‪ ،‬فليس من حقكم غلق هذا الباب ( ُبق ْفل التسليم)‬
‫فتطلبوا التسليم لنصوص غير مفهومة أو مشكلة‪ ،‬وكيف يمكن للمرء االنقياد ملا ال يستطيع فهمه أو ال‬
‫يتصور معناه ناهيك عن العمل به وتطبيقه‪.‬‬

‫املناقشة‬

‫يتضح الفوارق الصميمية بين بواعث الصحابة في تساؤالتهم وطبيعة تلك التساؤالت‪ ،‬وبواعث تساؤالت واستشكاالت‬
‫من يتخذ من االستشكال قنطرة لهدر النصوص من خالل‪:‬‬
‫‪ .1‬طبيعة استشكاالت الصحابة‪.‬‬
‫‪ .2‬مراعاة بواعث االستشكال‪.‬‬
‫ا‬
‫أوال‪ :‬طبيعة استشكاالت الصحابة‬
‫‪ -‬درجات استشكاالت الصحابة حيال النصوص الشرعية‪:‬‬
‫‪ .1‬استشكاالت تتضمن في طياتها مبدأ التسليم للنص الذي كان مبعث التسا ؤل‪:‬‬
‫ابتداء باملعنى العقدي الذي تضمنه الحديث‪ ،‬وإنما وقع االستشكال على مسألة فقهية‬‫ا‬ ‫‪ o‬يتضمن اإلقرار‬
‫عملية بعد أداء واجب التسليم للنص‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬مثال‪ :‬حين أخبر النبي ﷺ بخبر الدجال وتحدث عن مدة مكثه في األرض وأخبر أنه يمكث أربعين يوما‬
‫يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم‪ ،‬سألوه مستشكلين‪ :‬يا رسول هللا فذلك‬
‫اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صالة يوم؟ قال‪( :‬ال اقدروا له قدره)‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ .2‬استشكاالت تتضمن قدرا من التسليم وتتطلب تكميله‪:‬‬
‫ا‬
‫‪ o‬نشأ اإلستشكال من التسليم لنص في املسألة‪ ،‬فلما ورد نص آخر أوهم قدرا من املعارضة للنص‬
‫ا‬
‫األول‪ ،‬وقع التساؤل لعدم إمكانية التسليم للنصين معا مع بقاء وهم التعارض‪.‬‬
‫‪ o‬أمثلة‪:‬‬
‫~ ما جاء عن حفصة رض ي هللا عنها قالت ‪ :‬قال النبي ﷺ‪( :‬إني ألرجو أال يدخل النار أحد‪ ،‬إن شاء‬
‫ا‬
‫هللا تعالى ممن شهد بدرا‪ ،‬والحديبية) قالت‪ :‬قلت‪ :‬يا رسول هللا‪ ،‬أليس قد قال هللا‪( :‬وإن منكم‬
‫‪63‬‬
‫ا‬
‫إال واردها كان على ربك حتما مقضيا)‪ ،‬قال‪( :‬ألم تسمعيه يقول‪( :‬ثم ننجي الذين اتقوا‪ ،‬ونذر‬
‫ا‬
‫الظاملين فيها جثيا))‪.‬‬
‫~ ما جاء عن أم املؤمنين عائشة عن النبي ﷺ قال‪( :‬من نوقش الحساب عذب) قالت‪ :‬قلت‪ :‬أليس‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫يقول هللا تعالى‪( :‬فسوف يحاسب حسابا يسيرا) قال‪( :‬ذلك العرض)‪.‬‬
‫‪ o‬املسلم في حال توهم التعارض بين دالالت النصوص إما‪:‬‬
‫~ يسلم لواحد منها‪ ،‬وال يسلم لآلخر‪.‬‬
‫ا‬
‫~ يسلم لها جميعا مع بقاء وهم التعارض‪.‬‬
‫ا‬
‫~ يسلم لها جميعا بعد ارتفاع وهم التعارض‪.‬‬
‫والواجب تحصيل املقام الثالث بحسب الوسع والطاقة‪ ،‬إذ من أصول منهج أهل السنة والجماعة‬
‫درء التعارض عن النصوص الشرعية‪ .‬ولو قدر أن املرء عجز عن معرفة وجه الجمع‪ ،‬فله أن يتوقف‬
‫حتى يستبين له وجه الجمع ليقع التسليم ملقتض ى النص كما يريده هللا‪.‬‬
‫‪ .3‬استشكاالت يراد منها التأكد من داللة النص وتثبيته‬
‫ا ا ا‬
‫‪ o‬مثال‪ :‬ما جاء عن عائشة رض ي هللا عنها قالت‪ :‬قال رسول هللا ﷺ‪( :‬تحشرون حفاة عراة غرال) قالت‬
‫عائشة فقلت‪ :‬يا رسول هللا الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال‪( :‬األمر أشد من أن يهمهم‬
‫ذاك)‪.‬‬
‫‪ o‬التساؤل الذي وقع من عائشة حملها عليه شدة وقع الخبر عليها مع غلبة طبع الحياء عليها فوقع‬
‫ا‬
‫السؤال استعظاما‪ ،‬فلما بين النبي األمر لم يكن منها إال اإلذعان والتسليم‪.‬‬
‫‪ .4‬استشكاالت ترتب عليها االستدراك على بعض األخبار‪:‬‬
‫‪ o‬هذا اللون هو ألصق األنواع بأصل اإلشكال‪ ،‬وهو يفض ي إلى أثر من جهة قبول الرواية وردها‪.‬‬
‫‪ o‬من أشهر األمثلة إستدراكات أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها على غيرها من الصحابة‪.‬‬
‫(جمعها أبي منصور البغدادي ‪ ،‬والزركش ي في "اإلجابة ملا ما استدركته عائشة على الصحابة"‪،‬‬
‫والسيوطي في "عين اإلجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة")‪.‬‬
‫‪ o‬أمثلة‪:‬‬
‫ُ‬
‫~ ذكر عند عائشة قول ابن عمر‪( :‬امليت يعذب ببكاء أهله عليه) فقالت‪ :‬رحم هللا أبا عبدالرحمن‬
‫ا‬
‫سمع شيئا فلم يحفظه‪ ،‬إنما مرت على رسول هللا ﷺ جنازة يهودي وهم يبكون عليه‪ ،‬فقال‪( :‬أنتم‬
‫تبكون وإنه ليعذب)‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫~ عن عروة بن الزبير قال‪ :‬قالت عائشة‪ :‬ما يقطع الصالة؟ قال‪ :‬فقلنا‪ :‬املرأة والحمار‪ .‬فقالت‪ :‬إن‬
‫املرأة لدابة سوء‪ ،‬لقد رأيتني بين يدي رسول هللا ﷺ معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي‪.‬‬
‫ا‬
‫~ ما جاء عن أمير املؤمنين عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه في شأن املطلقة ثالثا أنه قال‪( :‬ال نترك‬
‫كتاب هللا وسنة نبينا ﷺ لقول امرأة ال ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة‪ ،‬قال‬
‫َ‬ ‫َّ َ ْ‬ ‫َ ْ‬ ‫هللا عز وجل‪َ ( :‬ال ُت ْخر ُج ُ‬
‫وه َّن ِمن ُب ُي ِوت ِه َّن َوال َيخ ُر ْج َن ِإال أن َيأ ِت َين ِب َف ِاحشة م َب ِّي َنة ۚ))‪.‬‬ ‫ِ‬
‫~ قول أبي هريرة (يا ابن أخي إذا سمعت حديثا عن رسول هللا ﷺ فال تضرب له مثال)‪.‬‬
‫‪ o‬مالحظات حول االستدراكات‪:‬‬
‫~ أن الذي أوجب حالة االستدراك هنا هو ترجيح رواية في مقابل رواية أخرى‪ ،‬فيرى املستدرك أنه‬
‫ُ‬
‫ضبط لفظ النبي ﷺ على أمر يخالف ما نقل إليه‪ ،‬فيستمسك بما يعرفه عنه ويتطرق إليه الشك‬
‫في خطأ الناقل‪.‬‬
‫~ وقد يتأكد األمر أكثر بتعضيد ظاهر القرآن ملوقف املستدرك كاستدالل عائشة مع روايتها بقوله‬
‫تعالى‪( :‬وال تزر وازرة وزر أخرى)‪ ،‬واستدالل عمر باآلية‪( :‬ال تخرجوهن من بيوتهن وال يخرجن إال‬
‫أن يأتين بفاحشة مبينة)‪.‬‬
‫‪ o‬فاإلستدراك هو من قبيل (نقد املتون) ومسالك (الجمع والترجيح) بين األدلة وله منهجيته العلمية‬
‫املنضبطة‪ ،‬فلم يكن الصحابة يردون األحاديث واآلثار بالتشهي أو ملحض االشتباه‪.‬‬
‫ا‬
‫ثانيا‪ :‬مراعاة بواعث االستشكال‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬فرق هائل بين من يورد إشكاله املتعلق بالنص طلبا لالنقياد له واإلذعان وبين من يستشكل معترضا ليهدر‬
‫النص‪.‬‬
‫ا‬
‫‪ -‬ممارسات الصحابة خالية من االعتراض أصال‪ ،‬فمهما استعظموا داللة النص واستشكلوه فليس لهم حياله‬
‫إال التسليم واالنقياد واإلذعان‪.‬‬
‫ا‬ ‫ا‬ ‫ا‬
‫‪ -‬حديث سارت األمة عليه متقبلة له ُيبعد جدا أن يكون موضعا لالعتراض والرد‪.‬‬

‫‪65‬‬
‫املزلق الثامن‪ :‬مشكلة تزكية النفس‬

‫بيان املزلق‬
‫كالمكم في مبدأ التسليم ورفعه كاملنارة على منهجكم ثم ادعاؤكم االلتزام به والسير عليه‪ ،‬متضمن تزكية‬
‫َ َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬ ‫ََ ُ‬
‫لذواتكم‪ ،‬وهو محظور‪ ،‬وقد قال هللا تعالى‪( :‬فال ت َزكوا أ ُنف َسك ْم ُه َو أ ْعل ُم ِب َم ِن َّات َقى)‪.‬‬

‫املناقشة‬
‫ا‬
‫ابتداء أو إلى مبدأ التسليم ذاته‪ ،‬بقدر ما هو محاولة لتشويه حملة‬ ‫‪ -‬هذا اإلشكال ليس موجها إلى النص‬
‫ا‬
‫الخطاب السلفي بادعاء أنهم يمارسون دورا من تزكية النفس والوصاية على النص‪ ،‬فكأن فهمهم وحدهم‬
‫للنص هو الفهم الصحيح‪ ،‬وأن تسليمهم هو التسليم الشرعي السالم من اإلشكاالت‪.‬‬

‫‪ -‬الرد‪:‬‬

‫‪ o‬فأما دعوى الوصاية على النص فهو عين االستشكال الوارد في املزلق األول وسبق الرد عليه‪.‬‬

‫‪ o‬وأما تزكية النفس فدعوة الناس إلى تحقيق مبدأ التسليم والتذكير به والتأكيد على أهميته واجب شرعي‪،‬‬
‫يجب أن يتعاون على تحقيقه والدعوة إليه الجميع‪ ،‬بغض النظر عن طبيعة املمارسات‪ .‬وفي حالة وجود‬
‫ا‬
‫تحفظ على بعض التفاصيل من مشهد التسليم في الخارطة السلفية‪ ،‬فال يصح إطالقا ان يكون ثمة‬
‫تحفظ على املبدأ ذاته‪.‬‬

‫‪66‬‬

You might also like