Professional Documents
Culture Documents
1
منزلة التسليم هلل ولرسوله
تمهيد
بعض البواعث الفعلية التي تقف خلف تبني األفكار واملعتقدات والتصورات ،واملحركات لكثير من املشاهدات
الفكرية:
-1املعرفة والعلم.
-2غلبة هوى أو عصبيات.
-3دوافع نفسية كالكبر والحسد.
-4مصالح شخصية ومكاسب عاجلة.
أمثلة على عدم تصور البواعث الحقيقة التي تقف خلف كثير من اإلشكاليات املعرفية:
oنفي املعتزلة رؤية هللا تبارك وتعالى في الدار اآلخرة:
-إستدلوا بقوله تعالى( :ال تدركه األبصار وهو يدرك األبصار) أو قوله تعالى في قصة موس ى( :لن تراني).
-الدافع الحقيقي الذي َح ّرك املعتزلة صوب تبني هذا التصور املنحرف لم تكن دوافع (نقلية) بقدر ما
كانت الدوافع (عقلية خاطئة).
ا
-ترتيب االستدالل االعتزالي هو االنطاق من حكم عقلي يقض ي باستحالة رؤية هللا تعالى عقال العتبارات
ولوازم توهموها ،ثم تكلفوا تعضيد هذه االستحالة العقلية بدالئل قرآنية أو سنية.
oحد الردة:
-في األطروحات العصرية حول حد الردة ،يحصل ما يلي:
ُيطرح أن حد الردة غير موجود في القرآن. ~
ُيطرح وجود حرمة اإلكراه في الدين (ال إكراه في الدين). ~
يجيء االعتراض الشرعي :ولكن لهذا الحد حضور صريحي في السنة النبوية ،الحديث (ال يحل دم امرئ ~
بالن ْ
س َّ الن ْف ُ
الزانَ ،و َّ ّ
الث ّي ُب َّ
س ،و التارك
ِ ف ِ مسلم يشهد أن ال إله إال هللا وأني رسول هللا إال بإحدى ثالث:
َُ ُ
لدينه املف ِارق للجماعة).
فيأتي الجواب :حكم القتل على أمرين معا :ترك الدين ومفارقة الجماعة ،فمجرد ترك الدين غير ~
مستوجب للقتل حتى تتحقق املفارقة (الخيانة العظمى في العرف السياس ي).
ا
يأتي الرد :قال النبي ﷺ صراحة في املرتد( :من بدل دينه فاقتلوه). ~
فيجيء االعتراض بأن الحديث ضعيف. ~
فيكون الرد :الحديث مروي في صحيح اإلمام البخاري ،وعلى مثله عمل صحابة النبي ﷺ. ~
2
-ما يدل على تأثير عوامل أجنبية عن النص في تشكيل املوقف من حد الردة:
ا ا
.1بعضهم يدعي أن القتل ليس أمرا الزما ،بل عقوبة تعزيرية خاضعة إلرادة اإلمام ونظرته في املصلحة.
ا
اإلشكال واإلرتباك :أن القول بجواز التعزير على الردة بالقتل تعزيرا ال يعالج أصل مشكلة الحريات!
.2بعضهم يتشبث ببعض األقوال الفقهية إلثبات خالف في أصل حكم حد الردة.
ا
اإلشكال :هذه األقوال ال تعدو أن تكون تقريرا الختالف في حكم االستتابة فهو يتناول نوع العقوبة
وليس أصلها (القتل ،الحبس مدة اإلستتابة ،الضرب).
.3بعضهم يرى أن القول بهذا الحد مثير لالشمئزاز في زمن الحريات وحقوق اإلنسان ،مع علمهم أن ثمة
علماء أجلة أكابر يقولون به بل الجماهير من أهل العلم يقرونه وينقلون إجماعات عليه.
ينبوع اإلنحراف الفكري
ا
االنحرافات املعاصرة في املجال العقدي والفكري والثقافي ليس عائدا إلى إشكالية معرفية علمية ،بل الى:
oهيمنة النموذج الثقافي األجنبي.
oمع ضعف التسليم هلل ورسوله ﷺ.
4
أساسيات ومرتكزات التسليم للنص الشرعي
الحديث (قد تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ال يزيغ عنها بعدي إال هالك،
من يعش منكم فسيرى اختالفا كثيرا ،فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الخلفاء الراشدين املهديين
عضوا عليها بالنواجذ ،وعليكم بالطاعة وإن عبدا حبشيا ،فإنما املؤمن كالجمل األنف حيثما قيد انقاد).
ا
وضوح الوحي وطبيعة النص القرآني سبب من أسباب الهداية للحق ،وما يبذله العبد من إيمان واعتصام هي أيضا
أسباب في طلب الهداية ،وأما حصول التوفيق والهداية نفسها فهي إليه وحده سبحانه يمن بها على من يشاء من
عباده.
َ َ
َ َ َّ ُ َ ْ َ َ ُ ُ ْ َ ّ َّ ّ ُ ْ َ َ ْ
نزل َنا إل ْي ُك ْم ُن ا َ
ورا م ِب اينا، (يا أيها الناس قد جاءكم برهان ِمن رِبكم وأ ِ
ا َ
ضل َو َي ْه ِد ِيه ْم ِإل ْي ِه ِص َراطا م ْس َت ِق ايما) ص ُموا به َف َس ُي ْدخ ُل ُه ْم في َر ْح َمة ّم ْن ُه َو َف ْ اع َت َ اّلل َو ْ َّ
ب وان َف َأ َّما َّالذ َ
ين َآم ُ
ِ ِ ِ ِِ ِ ِ ِ
َ ْ َ ُ َ َ َ َ ُ َّ َ َ ّ َ َ َ ْ َ َ ْ َ َّ
(لقد أنزلنا آيات مب ِينات ۚ واّلل ي ْه ِدي من يشاء ِإلى ِص َراط مست ِقيم )
أن هذا (البيان التام) من الرب نعمة ،فإن واجب العبد أن يشكر ربه تعالى عليها بأداء واجب (التسليم) ألمره
سبحانه وخبره.
(من هللا الرسالة ،وعلى رسول هللا ﷺ البالغ ،وعلينا التسليم) – اإلمام الزهري
(من هللا تعالى التنزيل ،وعلى رسوله التبليغ ،وعلينا التسليم) -األوزاعي
5
حقيقة التسليم
ا
حقيقة التسليم ( :بذل الرضا بالحكم) ،فهو عمل قلبي يبذله املسلم عن طواعية منه واختيار رضا بحكم هللا
ا ا
وأمره ،إنه في الحقيقة (عبودية األمر) ،فكل ما أمر هللا به شرعا وقدرا فعبوديته أن ُيتلقى بالتسليم واالنقياد.
كيف يكون التسليم:
.1التسليم ألمر هللا الشرعي يكون ب:
oاعتقاد ما أوجب هللا اعتقاده.
oفعل ما أوجب هللا فعله.
oترك ما أوجب هللا تركه.
.2التسليم ألمر هللا الكوني:
oيكون بالرضا بقضاء هللا وقدره.
oالصبر على املصائب.
oمدافعة القدر بالقدر.
أدواء يجب تنقية القلب وتخليصه منها ليتم التسليم ويكمل:
.1شبهة تعارض الخبر.
.2شهوة تعارض األمر.
.3إرادة تعارض اإلخالص.
.4اعتراض ُيعارض القدر والشرع .
ا
وترجع تلك األدواء كلها الى داء واحد :أن ال يكون التسليم صادرا عن محض الرض ى واالختيار ،بل يشوبه كره وانقباض.
6
شهوة تعارض األمر :
فيكون عند الفرد شهوة تعارض أمر هللا عز وجل ،كأن يشتهى ما حرمه هللا عزوجل أو يشتهى ترك ما أمر هللا تعالى به ،فبدال من
أن يجاهد هواه ويترك ما يشتهى في سبيل مرضاة هللا عزوجل فيفعل ما يحبه سبحانه ،ينازع في األمر الشرعي ويقع في املخالفة وعدم
التسليم أو جحود األمر كليا ،ولن يتحقق التسليم لألمر إال بالتخلص من هذه الشهوة والتغلب عليها .
7
التسليم موقف عقالني
مصادر املعرفة اإلنسانية:
.1العقل.
.2الحس.
.3الخبر.
األدلة العقلية املتوافرة أثبتت اتصاف النبي ﷺ بهاتين الصفتين املحوريتين ،وعليه فالتسليم بخبره تسليم مرتكز
ا ا
على مبدأ عقلي صحيح ،وليس قرارا اعتباطيا يتخذه املؤمن عن عصبية أو جهل أو إيمان بالخرافة والدجل( .قصة
أبي بكر في حادثة اإلسراء واملعراج)
مقدمات عقلية صحيحة تفض ي إلى اإليمان بالوحي وإثبات نبوة النبي ﷺ:
.1حقيقة الوحي :باعتقاد مباينته للمعرفة البشرية ،وأنه حاصل من عند هللا تبارك وتعالى.
.2ثبوت الوحي :باعتقاد صدق نبوة النبي ﷺ وأنه رسول من عند هللا تبارك وتعالى.
ا
.3انتفاء ما يعارض داللة الوحي :باعتقاد أنه حق وما دام حقا فال يتصور أن يتعارض وحق آخر كداللة عقلية،
ا
بل املعارضة بين الوحي والعقل والحس منتفية قطعا.
حقيقة الوحي :إن وظيفة العقل بيان جواز وقوع الوحي ،ودفع دعاوى استحالته إضافة إلى إثبات صحته في حال
وقوعه بإثبات صدق املخبر به .أما معرفة حقيقة هذا الوحي فال مجال ملعرفته إال عن طريق الوحي ذاته.
ثبوت الوحي :طريقه األساس طريق عقلي .األصول التي ترجع إليها دالئل النبوة:
.1أحوال النبي ﷺ :صدق النبي من خالل النظر في سيرته وأحواله ومآل أمره.
.2معجزات النبي ﷺ :ما أجراه هللا لرسوله وعلى يديه من خوارق العادات مقرونة بالتحدي وبغيره.
.3ما تضمنه الوحي الذي جاء به النبي ﷺ:
-القرآن في ذاته معجزة من أعظم املعجزات التي أوتيها النبي.
-األخبار الحاضرة املغيبة أو املاضية واملستقبلية مما ال يقع تحت املعرفة البشرية املحدودة ثم ظهور
صدق تلك األخبار وتحققها.
ا
-املعارف والعلوم مما تتقاصر عنها املعرفة البشرية إذ ذاك ،بل ما ال يمكن أن يكون متحققا.
8
التسليم بين الترغيب والترهيب
الترهيب:
ال إيمان إال بالتسليم ،وأن املخالف واقع في ضالل مبين ،وأنه متعرض للوعيد والعقوبة والفتنة:
ّ َ وك ف َيما َش َج َر َب ْي َن ُه ْم ُث َّم َال َيج ُدوا في َأ ُنفسه ْم َح َر اجا ّم َّما َق َ
ض ْي َت َو ُي َس ِل ُموا ت ْس ِل ايما) َ َ َ َ ّ َ َ ُ ْ ُ َ َ َّ ُ َ ّ َ
ِ ِ ِ ِ ِ (فال ور ِبك ال يؤ ِمنون حتى يح ِك ُم ِ
َ ََ اّلل َو َر ُس ُول ُه َأ ْم ارا َأن َي ُكو َن َل ُه ُم ْالخ َي َر ُة م ْن َأ ْمره ْم ۗ َو َمن َي ْعص َّ َ
اّلل َو َر ُسول ُه فق ْد ان ملُ ْؤمن َوَال ُم ْؤم َنة إ َذا َق َض ى َّ ُ ( َو َما َك َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
ا َ َّ َ َ ا
ضل ضالال مبينا )
َ ْ َ ْ َ َّ ِ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ْ َ َ َ
(فليحذ ِر ال ِذين يخ ِالفون عن أم ِر ِه أن ت ِصيبهم ِفتنة أو ي ِصيبهم عذاب أ ِليم)
َ َ َ ُ ْ َ ُ ْ ُ ْ َ ْ َ ُ َ َّ َّ َ َ ُ ُ َ ْ َ ْ َ ْ َ َ ْ َ َ َّ ُ َْ َ َ َّ َ َ ُ ْ َ ُ َّ
ّلل َوِل َّلر ُسو ِل ِإذا دعاكم ِملا يح ِييكم واعلموا أن اّلل يحول بين املر ِء وقل ِب ِه وأنه ِإلي ِه (يا أي َها ال ِذين آمنوا است ِجيبوا ِ ِ
ون) ُت ْح َش ُر َ
يم)اّلل َو َر ُس َول ُه َف َأ َّن َل ُه َن َار َج َه َّن َم َخال ادا ف َيها ۚ َذل َك ْالخ ْز ُي ْال َعظ ُ
( َأ َل ْم َي ْع َل ُموا َأ َّن ُه َمن ُي َحادد َّ َ
ِِ
ِ ِ ِ ِ ِ
9
تعظيم األمر والنهي:
(الدرجة األولى :تعظيم األمر والنهي ،وهو أن ال يعارضا بترخص جاف ،وال يعرضا لتشديد غال،
وال يحمال على علة توهن االنقياد) -اإلمام الهروي
مثال على تحميل النهي على علة تعود عليها باالبطال: o
-تأول بعضهم تحريم الخمر بأنه معلل بإيقاع العداوة والبغضاء والتعرض للفساد ،فإذا أمن من
هذا املحذور منه جاز شربه.
ا
-جعلوا تحريم ما عدا شراب خمر العنب معلال باإلسكار! فله أن يشرب منه ما شاء ما لم يسكر؟
ّ
من العلل التي توهن االنقياد :أن ُيعلل الحكم بعلة ضعيفة لم تكن هي الباعثة عليه في نفس األمر، o
فيضعف انقياده إذا قام عنده أن هذه هي علة الحكم.
ا ا
في استكشاف ِحكم الشريعة أحيانا ما يكون مثبتا للمرء ،أمثلة: o
-كقول النبي ﷺ في السواك( :مطهرة للفم ،مرضاة للرب).
-عن اشتراء التمر بالرطب فقال( :أينقص الرطب إذا يبس) فقالوا :نعم فنهى عن ذلك.
الحذر في استكشاف ِحكم الشريعة من: o
.1الحذر من القول على هللا بغير علم فهو محرم من أشد املحرمات.
َّ َ َ ُ ْ َّ َ َ َّ َ َ ّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ ْ ْ َ َ ْ َ ْ َ ْ ْ َ ّ َ َ ُ ْ ُ
اّلل َما ل ْم ُين ّ ِز ْل
اإلثم والبغ َي ِبغي ِر الح ِق وأن تش ِركوا ِب ِ
(قل ِإنما حرَم رِبي الفو ِاحش ما ظهر ِمنها وما بطن و ِ
ُ ْ َ ا َ َ ُ ُ َ َ َّ َ َ َ َ
اّلل َما ال ت ْعل ُمون)
ِب ِه سلطانا وأن تقولوا على ِ
.2الحذر من املغاالة واإلسراف في التفتيش عن الحكم ،فهو موهن ملقام التسليم بتعويد النفس على
عدم التسليم فيما لم يستبن حكمته.
10
مزالق هدر النصوص
أين الخلل
إعتراضات على التسليم :يعيد بعض املنهزمين ترتيب املنظومة الشرعية لتتوافق مع معطيات الحضارة الغربية،
ا ُْ
جعله مهيمنا على الواقع ،يعترض بما يلي: فإذا ما نوقش بأن مقتض ى التسليم للنص
-فرق عظيم بين التسليم للنص والتسليم لفهم النص :مشكلتنا ليست مع مبدأ التسليم وال مع النص الشرعي،
وإنما املشكلة في مطالبتكم بالتسليم لفهمكم للنص واإلذعان لقراءتكم له.
-وجود االختالف الواسع بين أهل العلم في أصول الدين وفروعه :مما يدل على مشروعية االختالف ،وأنه ناش ئ
عن معطيات موضوعية صحيحة كتفاوت األفهام وسعة اإلطالع ال أنه واقع عن زيغ وانحراف وتقصير في مبدأ
التسليم .
-الشريعة مبناها على مراعاة املصالح ودرء املفاسد :فإذا كان فهم نص جزئي يناقض املصلحة أو يستوجب
ا
املفسدة لم يكن التسليم له منسجما مع الشريعة.
-الشريعة ليست مجرد نصوص جامدة صلبة ال تقبل الزحزحة أو التطوير :بل هي تتطور مع تتطور الواقع
وتتفاعل معه ،وقد أقر الفقهاء بهذا وأصلوه في قاعدتهم الشهيرة( :ال ينكر تغير األحكام بتغير الزمان واملكان).
ا
-ال بد من اعتبار العقل مرجعا في حال اختلف مع النصوص :إذ ستظل دالئل تلك ظنية خبرية مجردة باملقارنة
إلى قطعية الداللة العقلية البرهانية.
ا
-من الخلل املنهجي جعل كل ما صدر عن النبي وحيا الزم االتباع :إذ ما يصدر عن النبي ﷺ على نوعين سنة
تشريعية وسنة غير تشريعية .والسنة غير التشريعية غير مقصودة بإيجاب املتابعة واالنقياد والتسليم بها.
-مناقشة األحكام الشرعية واستشكالها ال يناقض التسليم بها :فالصحابة رضوان هللا عليهم كانوا يناقشونها.
-تزكية الذات محضورة :كالمكم في مبدأ التسليم ورفعه كاملنارة على منهجكم ثم ادعاؤكم االلتزام به والسير
َ َ َ ُ َ ََ ُ
عليه متضمن تزكية لذواتكم ،وهو محظور ،وقد قال هللا تعالى ( :فال ت َزكوا أ ُنف َسك ْم ُه َو أ ْعل ُم ِب َم ِن ا َّتقى).
11
تنبيه إلى عدد من القضايا قبل مناقشة ما سبق من الشبهات ومعالجة مزالق هدر النص الشرعي:
ا َ ْ َ ُ َ َ
ان َعلى ن ْف ِس ِه عمل قلبي عظيم ،وأن مرد معرفة حصول تقصير فيه هو إلى صاحبه غالبا (ب ِل ِ
اإلنس -1التسليم
ْ َ َ
َب ِص َيرة َ ،ول ْو أل َقى َم َع ِاذ َير ُه ).
-2مناقشة هذه املزالق ليس من أجل محاكمة اآلخرين في تسليمهم وإنما القصد هو التأكيد على ضرورة
مالحظة الذات ونوازعها حيال نصوص الشريعة.
ا
-3من طبيعة االنحراف أن يبتدأ صغيرا ثم ال يلبث أن يتمدد ويتوسع في حياة اإلنسان.
-4بيان التفاوت الواقع في رتب النصوص الشرعية من جهة الثبوت والداللة وصلة التفاوت في رتب النصوص
الشرعية من جهة الثبوت والداللة بحكم التسليم لها ،والحكم على مخالفها.
-إن كان النص الشرعي:
ا
.aقطعيا في الثبوت والداللة ،فالتسليم له واألخذ به متعين واجب .إن لم يعتقد املخالف القطعية
فقد يعذر بالتأول والجهل ونحوه ،أما إن اعتقد القطعية ورد النص فيترتب عليه أحكامه وآثاره من
الكفر واإلثم.
ا ا
.bظنيا في الثبوت والداللة ،فالتسليم له واإلذعان متعين أيضا وال يلغي وصف الظنية واجب التسليم
للنص في االعتقاد والعمل ،وإنما يتعين التسليم للنص بحسب ما ترجح لقارئه من املعنى ،شريطة
ا ا ا
أن يؤدي االشتراطات الشرعية الصحيحة املوصلة لفهم معتبر من النص ،أو سالكا سبيال صحيحا
في ترجيح ثبوت النص من عدمه.
-معيار القطعية والظنية والتي تترتب عليه أحكامهما هو معيار أهل السنة والجماعة فيها ال املعايير
ا
املبتدعة (السنة ظنية كلها ،أو رد خبر اآلحاد في مسائل العمل ،أو االعتقاد مطلقا)
-مسألة القطعية والظنية ليست من املعاني الشرعية املطلقة بل بعض دوائر القطع والظن يدخلها قدر
من النسبية ،مما يؤكد ورورة التحرز من التعجل في إطالق اسم الذم على املخطئين.
12
املزلق األول :مشكلة القراءة
بيان املزلق
أن املشكلة ليست في مبدأ التسليم وال هي مع النص ،وإنما في مطالبة فصيل خاص للتسليم لقراءته الخاصة
للنص ،وفرق بين التسليم للنص والتسليم لقراءة النص ،فالتسليم للنص ال إشكال في وجوبه أما التسليم
لواحد من قراءاته فهو محل االعتراض.
املناقشة
ا ا
العناصر التي ترسم تصورا صحيحا لعالقة النص املقدس بالفهم البشري ،وصلة ذلك بمبدأ التسليم:
.1بين قدسية الوحي والفهم غير املقدس
.2الوحي بين اإلحكام والتشابه
.3من يملك حق التفسير؟
.4ضبط منهجية الفهم
.5من مشكلة التأويل الى إعادة القراءة
15
oأصل مشكلة التأويل في الباعث :في سبق جملة من األصول والعقائد واحتاللها موقع الصدارة في
النفس على حساب الوحي .والواجب األخذ بظاهر النص ما لم يدل دليل شرعي معتبر يوجب االنتقال
عن املعنى الظاهر املفهوم.
oأمارات التأويل الفاسد:
)1تأويل النص بما ال يحتمله بوضعه اللغوي كتأويل االستواء باالستيالء ،في قوله تعالى( :ثم استوى
على العرش).
)2التأويل بما ال يحتمله اللفظ ببنيته الخاصة من تثنية أو جمع وإن احتمله مفردا كتأويل قوله
تعالى( :ملا خلقت بيدي) ،تأويله بمعنى القدرة.
)3التأويل بما ال يحتمل سياقه وتركيبه وإن احتمل في غير ذلك السياق كتأويل قوله تعالىَ ( :ه ْل
ات َرِّب َك ۗ) بأن إتيان الرب إتيان بعض ون إ َّال َأن َت ْأت َي ُه ُم ْامل َالئ َك ُة َأ ْو َي ْأت َي َرب َك َأ ْو َي ْأت َي َب ْع ُ َ َ ُ
نظ ُر َ
ض آي ِ ِ ِ ِ ِ ِ ي
آياته التي هي أمره ،وهذا يأباه السياق.
ُ
)4التأويل بما لم يؤلف استعماله في ذلك املعنى في لغة املخاطب وإن ألف في اإلصطالح الحادث،
كتأويل قوله تعالى( :فلما أفل) بالحركة ،ثم اإلستدالل بحركته على بطالن ربوبيته .وال يعرف في
اللغة التي نزل بها القرآن أن األفول هو الحركة البتة في موضع واحد.
)5تأويل اللفظ الذي اطرد استعماله في معنى هو ظاهر فيه ولم يعهد استعماله في املعنى املؤول أو
عهد استعماله فيه نادرا فتأويله حيث ورد وحمله على خالف املعهود من استعمال باطل ،كتأويل
قوله تعالى( :وكلم هللا موس ى تكليما) أنه من الكلم أي الجرح.
)6كل تأويل يعود على أصل النص باإلبطال فهو باطل.
)7تأويل اللفظ الذي له معنى ظاهر ال ُيفهم منه عند إطالقه سواه باملعنى الخفي الذي ال يطلع عليه
إال أهل النظر والكالم .كتأويل لفظ األحد الذي يفهمه الخاصة والعامة بالذات املجردة عن
الصفات ،فيستحيل وضع اللفظ املشهور عند كل أحد لهذا املعنى الذي هو في غاية الخفاء.
)8التأويل الذي يوجب تعطيل املعنى الذي هو في غاية العلو والشرف ويحطه إلى معنى دونه من
املراتب ،كتأويل الجهمية قوله تعالى( :وهو القاهر فوق عباده) بأنها فوقية الشرف كقولهم الدرهم
فوق الفلس وتعطيل حقيقة الفوقية املطلقة التي هي من خصائص الربوبية وحطها إلى كون قدره
فوق قدر بني آدم وأنه أشرف منهم.
)9تأويل اللفظ بمعنى لم يدل عليه دليل من السياق وال معه قرينة تقتضيه.
oفتأويل التحريف من جنس اإللحاد ،فإنه هو امليل بالنصوص عن ما هي عليه إما بالطعن فيها أو
بإخراجها عن حقائقها مع اإلقرار بلفظها وهو من سنن اليهود.
16
.2إعادة قراءة النص:
oفهو صورة من صور الغلو في تفعيل أداة التأويل في فهم الوحي.
oينطلق أصحابها في قراءتهم للوحي بضغط توهمات أن معضلة التخلف السائد في العالم اإلسالمي
ناش ئ عن االستمساك بظواهر الوحي وأنه ألجل تحقيق الحداثة والنهضة ال بد من تطوير أدوات
التعامل مع الوحي.
ا
oسابقا قام العلمانيون العرب ب اإلقصاء املباشر للوحي وتحييده من عملية إدارة الحياة العامة ،والتي
ا
أفضت إلى جمود املشروع العلماني العربي ،وتوليد مزيدا من الثبات والتصلب على املبادئ الشرعية.
ا
oحديثا قاموا ب التعاطي مع الوحي لتمرير تصوراتهم الفكرية من خالله وذلك عبر تحييد مضامينه
ومعانيه غير املتوافقة مع رؤاهم.
oأمثلة على أقوال العلمانيون:
( -ال سبيل إلى التجديد والتحديث ونحن نتحدث عن العقل العربي إال من داخل التراث نفسه
وبوسائله الخاصة وإمكانياته الذاتية أوال) -محمد عابد الجابري
( -الخطاب العربي املعاصر هو خطاب محكوم بسلف ،واملطلوب تحريره من ربقة السلف ،هذا ما
قادنا إليه الجابري) -تركي الربيعو
( -ال بد من إعادة قراءة القرآن على نحو "يحتفظ" فيه بالثقة في أنه "رحمة للعاملين" أي للبشر
املختلفي التوجهات واملصالح واألفهام) -طيب تزيني
17
oركام القراءة الجديدة
بإسم تجديد القراءة تم العبث بأحكام الحدود كإنكار حد الرجم وحد الردة واستبدال القطع في حد
السرقة بالسجن وغير ذلك ،كما تم العبث بأحكام األسرة كنظام القوامة ،ونظام الطالق ،ونظام
ا
الحضانة ،ونظام التعدد ،وحرمة اإلجهاض ،وكذلك تم العبث بأحكام املواريث بالتسوية مطلقا بين
الذكر واألنثى في امليراث ،ولم يسلم من هذا العبث حتى أحكام التعبد كالصالة والزكاة والصيام والحج.
oلم يقدم الشيخ رؤية نقدية مفصلة التجاهات تجديد التراث وإعادة القراءة بسبب:
.1أن دائرة الجدل بين اإلتجاه اإلسالمي واإلتجاه العلماني يدور حول مسألة بدهية :بين رؤية تجعل
للنص معنى شرعيا معتبرا يجب السعي في تطلبه ،وبين رؤية تحاول إلغاء قصدية الوحي بإلغاء
املعنى ،والتدليل على صوابية الرؤية اإلسالمية هنا مقابل الرؤية العلمانية أوضح وأجلى من أن
يتطلب له تفاصيل األدلة ،وكم من جدل في البدهيات يفض ي إلى إضعاف بدهيات عند البعض،
ويعطي انطباعا متوهما بدخولها في دائرة الظنيات.
.2أن الدراسات العلمية املعمقة والجادة لهذا االتجاه متوافرة بحمد هللا.
oقرر مجمع الفقه اإلسالمي بطالن القراءة الجديدة للنصوص الدينية واعتبره بدعة وأقر ضرورة
التصدي لتيار هذه القراءات وإعتبارها من فروض الكفاية
18
املزلق الثاني :مشكلة الخالف
بيان املزلق
إختالف أهل العلم يدل على أن مبدأ التسليم ليس بهذا اإلحكام الذي تصورون ،مما يدل على مشروعية
االختالف ،وأنه ناش ئ عن معطيات موضوعية صحيحة كتفاوت األفهام وسعة اإلطالع ال أنه واقع عن زيغ
ا
وانحراف وتقصير في مبدأ التسليم .وأيضا فوجود االختالف في مسألة يرفع عنها واجب التسليم ويجعلها
مسألة ظنية يتأرجح فيها املسلم بين حق وحق آخر ،فبأي حق أخذ فهو إلى خير إن شاء هللا.
املناقشة
املسائل التي توضح الخلل في تصور أنواع الخالف ودرجاته ورتبه ،واملوقف الشرعي الصحيح من كل نوع ،ومعرفة
ماهية التسليم املطلوب حيال كل قسم:
االختالف سنة ربانية. .1
منشأ املشكلة الغفلة عن رتب املسائل .2
تفاوت رتب املسائل وضرورة التسليم. .3
مصادر االختالف العلمي بين االستنباط والتنزيل. .4
خطورة توليد األقوال. .5
االحتجاج بالخالف للترخص. .6
ا
أوال :االختالف سنة ربانية
-وقوع االختالف بين الناس أمر ضروري ال بد منه لتفاوت إراداتهم وأفهامهم وقدرات إدراكهم.
ُ -الواجب ّ
تفهم طبيعة هذا الخالف في إطاره الشرعي الصحيح ،وتدرس أسبابه ،وليس التذمر منه.
19
.3مسائل الخالف:
)1خالف غير سائغ:
oلشذوذ في القول ،أو بعد عن الدليل ،أو ضعف في االستدالل.
oال يصح األخذ بالقول املرجوح فيه ،وال العدول عن القول الصحيح الراجح.
oبعض أماراته :التفرد برأي يخالف املشهور املستقر بين جماهير أهل العلم ،أو املخالفة البينة
لنص املسألة.
oيسمى املخالفة بزلة العالم ،والتي يحرم متابعته عليها ،واعتماد قوله فيها .كما أنه ال ينبغي أن
ينسب صاحبها إلى التقصير ،وال أن يشنع عليه بها ،وال ينتقص من أجلها.
)2خالف سائغ:
ا
oما كان واقعا في مسائل االجتهاد مما لم يرد فيه نص أو إجماع.
oالواجب فيه التعاذر والتغافر مع تطلب الحق فيه ،فإن الحق فيه واحد فمن اجتهد في تلمسه
فأصابه فله أجران ومن اجتهد فأخطأ فله أجر واحد والخطأ مغفور.
oهو الداخل في إطار قاعدة أهل العلم :ال إنكار في مسائل الخالف/اإلجتهاد .
شريطة ما يلي:
.1أن تكون بواعث تبني الرأي في هذا اللون من الخالف طلب الحق وإرادة الوصول إلى مراد
هللا ال تلمس هوى النفس وما يناسب اإلنسان.
.2سلوك الطريق الشرعية املعتبرة للترجيح بحسب طبيعة الناظر ومعرفته وعلمه.
ا
-االجتهاد كما قد يقع في عين املسألة فقد يقع أيضا في تصنيف املسألة وإعطاءها الرتبة الالئقة بها ،فلدينا إذن
ثالث دوائر من املسائل:
.1مسائل إجماع بال إشكال.
ا
.2مسائل اجتهاد بال إشكال أيضا.
.3مسائل مشتبهة مختلف في تقدير وزنها الشرعي ،وقد يكون االشتباه في :
oدخولها في منطقة اإلجماع أو إلحاقها بمنطقة الخالف املعتبر.
oدخولها في منطقة الخالف املعتبر ،أو إلحاقها بمنطقة الخالف الشاذ.
20
ثالثا :تفاوت رتب املسائل وضرورة التسليم.
ا
-مع اإلقرار بوجود لون من االختالف السائغ املقبول فإن تطلب مراد هللا فيه مطلوب أيضا وتحكيم الشريعة
ا
في كل مسألة خالفية طلبا لحكم هللا تعالى واجب شرعي ضروري ،وهو مقتض ى التسليم.
ا
-ال يصح بحال االتكاء على وجود اختالف في مسألة لتبرير االنتقاء فيها بالتشهي أو إدخالها في دائرة املباح رأسا،
ا
بل الواجب تلمس األقرب للحق بصدق مستعمال ما يناسبه من أدوات الترجيح.
-مع اإلقرار بأنه ال يصح إنكار املرء على غيره في مسائل االجتهاد ،فليس له أن يترك ما أداه إليه اجتهاده.
-الخالف املعتبر هو الخالف الدائر بين أهل العلم ،فال يصح أن تولد أقوال خارج دائرتهم.
ا
-ال يصح أن يولد املتأخر منهم أقواال فقهية في مسائل تكلم في عينها األوائل ،فإن اتفاق األمة على قولين إجماع
على فساد ما عداهما ،سواء في األحكام الفقهية أو تفسير القرآن.
21
االحتجاج بالخالف للترخص.
ا
-وجود االختالف في مسألة شرعية ال يصح أن يكون سببا في هدر النصوص الشرعية أو إضعاف مبدأ االلتزام
بها ،فإن وجود الخالف ال يعد حجة شرعية تجوز للمرء الخروج عن االلتزام الشرعي بما ظهر له أو غلب على
ظنه من أحكام الشريعة.
-العبد مطالب بالعمل بما اعتقد أو غلب على ظنه أنه مراد له تبارك وتعالى بحسب ما يتوافر لديه من أدوات
ا ا
االجتهاد ،إن كان عاملا مجتهدا فبنظره في مصادر التلقي الشرعية ،وإال باتباع أهل العلم عبر سؤالهم واالختيار
من أقوالهم باجتهاد يصلح ملثله بما يعتقد أنه يبلغه مراد هللا.
-أقوال باطلة:
" oإن املرء في سعة من االختيار بين األقوال الخالفية".
" oمناط االلتزام بالنص كونه قطعي الثبوت قطعي الداللة".
22
املزلق الثالث :مشكلة املقاصد
بيان املزلق
أن التسليم هلل ورسوله جزء من بنية شرعية متكاملة متماسكة مبناها على مراعاة املصالح ودرء املفاسد
وتحقيق مقاصد كلية عليا ،فإذا كان فهم نص جزئي يناقض املصلحة أو يستوجب املفسدة أو يضاد مقاصد
ا ا
الشريعة لم يكن التسليم له منسجما مع الشريعة بل مضادا لها ،فالتسليم للمقاصد والكليات أولى من
التسليم للفروع والجزئيات ،بل الخضوع لروح الشريعة ومقاصدها العليا في الواقع مقدم على األخذ ببعض
النصوص التفصيلية ،فتلك الكليات مرادة مقصودة ،أما الشكليات التفصيلية فمجرد وسائل لتحقيق تلك
الغايات واملقاصد ،وفي تنظيرات الطوفي املصلحية ،وتقريرات الشاطبي املقاصدية ما يعين على تحقيق هذه
املسألة واإلبانة عن موقع النص الجزئي من خارطة الكليات.
املناقشة
وللجواب على هذه اإلشكالية ينبغي مراعاة املسائل التالية:
.1مشهد من وحي االحتجاج املقاصدي
.2مشكلة الخطاب الحداثي املقاصدي
.3حقيقة االجتهادات العمرية بين خطابين
.4الطوفي والشاطبي في ميزان الشريعة والحداثة
-بات مصطلح (املقاصدية) بسبب سوءات املمارسة باسمه من املصطلحات املوشومة ،والتي تستثير في نفس
ا
كثير من الباحثين تخوفا بمجرد رؤية هذه املفردة في سياقات البحث الفقهي ،لغلوب الظن أن البحث سيتجه
صوب التخفف من الضوابط والتقييدات الشرعية.
ا ا ُ
-الفرق هائل بين من يتكلم في مثل هذه املسائل ولو ق ِّدر خطؤه منطلقا من تعظيم الشر واستمساكا بأصوله،
وبين من وجد في (نظرية املقاصد) وسيلة إلى تعطيل الشريعة باسم الشريعة.
-السبب في حرص بعض الخطابات العلمانية في توظيف الشريعة لضرب الشريعة ،إلن الخطابات العلمانية
ا
الصلبة التي تنابذ الشريعة رأسا لن تحظى بأدنى درجات القبول في الواقع اإلسالمي العام.
-درجة تعلق الخطابات العلمانية بالخطاب الشرعي تتغير بمجرد تغير بيئة الخطاب العلماني (تغير الجمهور أو
مستوى املمانعة أوغير ذلك)
23
-تجد في املشهد العلماني العام:
oتفاوت املسائل التي يشتغل بها الخطاب العلماني بتفاوت الفضاءات التي يعمل فيها .ففي حال هيمنة
ا ا
الخطاب الشرعي في بيئة ما يكون البحث في مشروعية االختالط مثال بضوابطه الشرعية طبعا بينما يكون
ا
في بيئة أخرى ردا ألصل حاكمية الشريعة في شؤون الحياة.
oاصطفاف علمانيو الداخل مع علمانيي الخارج في مسائل يظهر للقارئ السطحي أن اختيارات الخطاب
العلماني الداخلي يتماهى مع بعض الخطابات اإلسالمية الناعمة في الخارج ،لكن سرعان ما تتبدد هذه
التقاطعات وتزول في اللحظة التي يقع فيها الخالف بين الخط العلماني الخارجي وذلك الخط اإلسالمي
الناعم مع أن طبيعة الخطاب املعلن لذلك الخطاب الداخلي كان يستوجب أن تكون حالة االصطفاف
على نحو آخر.
-إشكالية املقدمة األولى :أن معرفة املقاصد عملية منفكة عن إدراك أحكام التشريعات التفصيلية:
oالخلل في تحديد منهجية التعرف على املقاصد.
ا ا
-الخطاب العلماني ال يقدم مفهوما منضبطا للمصلحة ،وال منهجية منضبطة ملعرفة تلك املصالح.
-بينما استوعب الفقهاء كل ما تتطلبه املصلحة من مهام ( بيان ماهيتها ومفهومها ،تاريخها ومراحلها،
أقسامها وأصنافها ،ترتيبها وتصنيفها ،وبيان حدودها وخصائصها ،فوائدها وآثارها).
24
-ومن بعض الحزم الداللية الدالة على تقدم (املصالح األخروية) على (املصالح الدنيوية):
ا
.1بيان الحكمة األساس من خلق اإلنسان ،وهي عبادة هللا تعالى وحده ،وهي مسألة عائدة أصالة إلى
َ َ َ َ ْ ُ ْ َّ َ ْ َ َّ
نس ِإال ِل َي ْع ُب ُدو ِن).اإل
املصالح األخروية ،فقال تعالى (وما خلقت ال ِجن و ِ
.2بيان املحور األساس لدعوة األنبياء ،وحكمة هللا تعالى من بعثة الرسل ،وهي إرشاد الخلق إلى
اج َت ِن ُبوا اع ُب ُدوا َّ َ
اّلل َو ْ حكمة الرب من خلقهم ،فقال تعالىَ ( :و َل َق ْد َب َع ْث َنا في ُك ّل ُأ َّمة َّر ُس اوال َأن ْ
ِ ِ ِ
اغ َ َّ ُ
وت ). الط
َّ
.3التأكيد أن هذه الدنيا إنما هي موضوعة ألجل االبتالء واآلخرة هي دار الجزاء ،فقال تعالى( :ال ِذي
ا ْ َ ُ ُ َ ُ َ َ َ َْ
خل َق امل ْو َت َوال َح َياة ِل َي ْبل َوك ْم أيك ْم أ ْح َس ُن َع َمال ۚ)
ا
.4التأكيد على أن التمكين في الشأن الدنيوي يجب أن يتخذ وسيلة للتمكين ألحكام الشريعة من
َّ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َّ َّ َّ ُ ْ ْ َ ْ َ َ َّ َ
الزكاة َوأ َم ُروا ض أق ُاموا الصالة وآتوا السريان في الواقعْ ،فقال تعالى( :ال ِذين ِإن مكناهم ِفي األر ِ
ُ َ
وف َو َن َه ْوا َع ِن املنك ِر ۗ ). ر ُ ب ْاملَ ْ
ع
ِ ِ
َ ْ .5االحتفاء باملنجزات األخروية في مقابل باملنجزات الدندوية ،فقال تعالىَ ( :من َك َ
ان ُي ِر ُيد َح ْرث اآل ِخ َر ِة
َ ْ ُْ
ان ُي ِر ُيد َح ْرث الدن َيا نؤ ِت ِه ِم ْن َها). َنز ْد َل ُه في َح ْرثه َو َمن َك َ
ِِ ِ ِ
ون .6ذم من قلب املعادلة فقدم العاجلة على اآلخرة ،قال تعالىَ ( :ك َّال َب ْل ُتحبو َن ْال َعاج َل َة َ ،و َت َذ ُر َ
ِ ِ
ْ َ
اآل ِخ َرة).
اع .7تقدم تبة (اآلخرة) على (الدنيا) وذلك في جملة من اآليات ،فقال تعالىَ ( :ف َما ُأوت ُيتم ّمن َش ْيء َف َم َت ُ
ِ ِ ر
َ ْ َ َ َ َ َّ َ ْ ََ
اّلل خ ْير َوأ ْب َقى). الحي ِاة الدنيا وما ِعند ِ
َّ َ َ َ ْ ُ َ َ َّ َ ْ َ
الضاللة ِبال ُه َدى ين اشت َر ُوا .8استعارة اللسان االقتصادي في التعبير عن شؤون اآلخرة (أول ِئك ال ِذ
َ َ َ َ ّ َ َ ُ ُ ْ َ َ َ ُ ُ ْ َ َ َّ َ َّ ُ ْ ُ َّ َ َ ْ ا َ َ ا َ ُ َ َ ُ َ ُ َ َ ُ َْ
اعفه له وله أجر فما رِبحت ِتجارتهم وما كانوا مهت ِدين)( ،من ذا ال ِذي يق ِرض اّلل قرضا حسنا فيض ِ
اس َت ْبش ُروا ب َب ْي ِع ُك ُم َّال ِذي َب َاي ْع ُتم ب ِه ۚ َو َذ ِل َك ُه َو ْال َف ْو ُز ْال َع ِظ ُ
يم). َكريم)َ ( ،ف ْ
ِ ِ ِ ِ
ا
-كما جاء في الوحي ما يدل صراحة على مراعاة املصالح الدنيوية بما ال يخل باملصلحة األخروية ( َو ْاب َت ِغ
َ َ َْ َ َ َ ْ َ َ َّ ُ َ ْ َ َ َ َ َّ ُ َّ َ ْ َ َ َ َ َ َ َ
اّلل ِإل ْي َك َوال ت ْب ِغ الف َس َاد نس ن ِص َيب َك ِم َن الدن َيا َوأ ْح ِسن كما أحسن ِفيما آتاك اّلل الدار اآل ِخرة وال ت
اّلل َال ُيحب ْاملُ ْفسد َ األ ْرض إ َّن َّ َ َْ
ين). ِ ِ ِ ِ ِ ِفي
-طبيعة التعاطي العلماني مع مفهوم املقاصد الشرعية ال تقوم على إستقراء للنصوص الشرعية ،وال
أخذ مقاصد الشريعة من الشريعة ،بل هي تتصور مصالح تتفق مع فكرها وتنسبها الى الشريعة .بينما
ا
بذل الفقهاء جهودا كبيرة في البحث والتنقيب عن مقاصد الشرع ،والتوصل الى أنواع من املقاصد
التي جاءت الشريعة بتحقيقها.
25
-إشكالية املقدمة الثانية :أن التشريعات التفصيلية مجرد وسائل لغايات تمثلها مقاصد الشريعة:
oهذا اإلشكال فرع عن املقدمة األولى ،ناتج عن مشكلة منهج استخراج املقاصد الشرعية ،إذ من الطبيعي
أن تتراجع قيمة املأمورات الشرعية واملنهيات في ظل اختزال طبيعة املقاصد وإرجاعها إلى قيم مادية
دنيوية.
مثال :حين يدعي بعضهم أن تشريع الصيام هو لتحقيق (الحمية الصحية) فمن الطبيعي أن تتراجع
ا
القيمة الفعلية لهذه العبادة في نفسه ،وأن يشكل هذا حاجزا عن إدراك الطبيعة الفعلية ملقاصد هذه
َ ُ الص َي ُام َك َما ُكت َب َع َلى َّالذ َ
ين ِمن ق ْب ِلك ْم العبادة والتي جاء النص عليها ( َيا َأي َها َّالذ َ
ين َآم ُنوا ُكت َب َع َل ْي ُك ُم ّ
ِ ِ ِ ِ ِ
َ َّ ُ َ َ
ل َعلك ْم ت َّت ُقون).
oالدعوى بإمكانية استبدال أحكام الشريعة التفصيلية بأحكام أخرى تحقق عين املقصد الذي تطلبته
الشريعة بتلك التشريعات دعوى فيها (غرور معرفي) بسبب:
.1تفاوت الناس في إدراكهم ووعيهم وذكائهم تفاوت عظيم ،فاإلحالة عليهم وعلى عقولهم مع تفاوتها إحالة
على مظنة اختالف.
.2تتضمن القول على هللا تعالى بغير علم ،فإنه مهما اشتغل العبد بمعرفة أوجه الحكمة في الجوانب
ا
التعبدية فسيظل جمهورها غائبا عنه ،إذ قال بعضهم بإلغاء لزوم العبادات الكبرى في اإلسالم
(الصالة ،الصوم ،الحج) بحجة أن الشريعة جاءت بأحكامها ملصلحة تناسب ذلك العصر فإذا
تحققت مقاصدها في ترقية الروح فلسنا ملزمين بتفاصيلها التشريعية الشكلية.
.3ادعاء أن مثل هذه التعبدات هي مجرد وسائل لتحقيق ترقية الروح هي دعوى غير صحيحة فإن هذه
التعبدات هي في ذاتها مطلوبة مقصودة لذاتها محبوبة هلل تبارك وتعالى.
ا
.4اإلشكالية تظل قائمة حتى في أبواب املعامالت إلن كل حكم شرعي ليس بخال عن حق هللا تعالى ،وهو
جهة التعبد.
.5ادعاء أنه باإلمكان إحداث وسائل أخرى تحقق عين تلك الغايات من غير زيادة أو نقص ،هي دعوى
تحتاج إلى البرهنة واإلثبات.وما اقترحوه من الوسائل البديلة ال يسلم من االعتراض والنقد.
مثال :استبدلوا حد السرقة القطع بالسجن ،وهاتان العقوبتان وإن تقاطعا في ش يء من النتائج إال
أنهما يفترقان في تحقيق القدر املطلوب من الردع.
.6إن كان الكل يوصل إلى نتيجة واحدة حقيقة والغرض تحقيق تلك النتيجة املعبر عنها باملقاصد ،فلم
هذا اإلصرار على تعطيل الوسيلة التي اعتبرها الشارع واستبدالها بوسيلة أخرى.
26
ثالثا :حقيقة االجتهادات العمرية بين خطابين
-من أكثر ما يستدل به الخطاب العلماني في مقام تقرير الصدام بين األحكام التشريعية الجزئية ومقاصد
الشريعة الكلية اجتهادات الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين تولى إمرة املؤمنين.
ا
-سلط الخطاب العلماني الضوء على اجتهادات عمر بن الخطاب في أحكام الشريعة مصورا إياها على أنها تمثل
ا ا
خروجا على النص وتعلقا بمقاصد الشريعة ليكون ذلك ذريعة لهم لهدر أحكام الشريعة.
ا ا
-بينما تضمنت االجتهادات العمرية فقها عميقا ومآخذ شرعية معتبرة في إطار الشريعة ومن داخل نصوصها.
oال يزال الخطاب الحداثي يعدد تكرار ذات االستدالل من غير تطوير أو تعديل أو إجابة على اعتراضات
ا
الخصوم ،رغم أن األجوبة على تلك االجتهادات العمرية حاضرة موجودة في عدد كبير جدا من الكتب،
مما يدل على:
.1املأزق العلمي الكبير الذي يعصف باملوقف الحداثي.
.2انخفاض مستوى الجدية في األداء البحثي وغيبة اإلنصاف واملوضوعية في التعامل مع األفكار
واألطروحات.
28
ا
رابعا :الطوفي والشاطبي في ميزان الشريعة والحداثة
يكثر الخطاب العلماني من االتكاء على خطاب نجم الدين الطوفي وأبي إسحاق الشاطبي في بناء منظومة (املصلحة)
و(املقاصد).
oنظرية الطوفي في عناصرها الجوهرية تدور في فلك التقرير األصولي التقليدي والذي يجيء تحت عنوان
(تخصيص النص) ،حيث يقرر األصوليون أن عموم النص قد يكون ضعيفا أو محتمال لبعض األفراد فيتم
تخصيصه بناء على نص آخر أو قياس أو مصلحة ضرورية أو حاجية مالئمة للشريعة.
oمثال لتوضيح تخصيص النص :نهي النبي عن التسعير؛ فلو أخذنا بعمومه وأنه يشمل أنواع السلع املتباينة
مع تفوات أهميتها واحتياج الناس إليها وتنوعها إلى سلع ضرورية وحاجية وكمالية ،ولو غلت غالء فاحشا،
فإن إعمال املصلحة هنا يكون باستثناء بعض صور التسعير من النهي ،وهذا ليس خروجا عن النص ،بل
عمل بحديث (ال ضرر وال ضرار).
oاإلشكاليات في معالجة الطوفي ملسألة تخصيص النص باملصلحة:
-حماسته الزائدة في تقرير أهمية املصلحة وموقعها من األدلة الشرعية ،مما يوحي بأن كلمه مغاير لكالم
األصوليين.
ّ
-وجود قدر من اإلجمال واالشتباه واإلشكال في كالمه ،بل وسوء تعبير في بعض املواضع خلف نتائج خطيرة
ا
في تحميله معان صرح أحيانا بعدم إرادتها ،ومن تلك التعبيرات( :املصلحة تقدم على النص واإلجماع).
-اإلشكال في تحميل غالب تلك النصوص دالالت ال تتحملها.
-إشكالية بعض ما أقامه من األدلة على تأصيله والتي لم يحققها ويجب عن ثغراتها وإشكاالتها ،وبعضها
ا
جدا .مثل أنه ّ
هون من قوة اإلجماع ،وأنه استدل بوقائع على التمسك ب(العادة) في موح بمعان فاسدة
مقابل النص استدالل خاطئا.
-عدم التمثيل بتطبيقات للقاعدة لتتحرر القاعدة بدقة وتتفهم أبعاد (تقديم املصلحة على النص
واإلجماع) ،ومحاولة الباحثون استنطاق قصد الطوفي في بعض املواطن لإلبانة عن مذهبه لغيبة نطقه.
-حالة الغموض الذي يكتنف شخصية الطوفي نفسه والذي اتهم مع حنبليته بأنه ظاهري أشعري رافض ي.
30
oالفوارق الجوهرية بين تأصيل الطوفي للمصلحة والتوظيف العلماني/الحداثي لها:
ا
.1نظرة الفريقين لطبيعة املصالح وشموليتها للمصالح الدنيوية واألخروية ،فالطوفي يعطي املصلحة بعدا
ا
شموليا يشتمل على مصالح الدنيا واآلخرة ،بخالف الخطاب العلماني الذي ال يكاد يكون للمصالح
األخروية حضور فيه.
.2أثر طبيعة النص ،فحديث الطوفي في تقديم املصلحة على النص ال يتناول النصوص القطعية وإنما
يتناول بعض املدلول الظني للنص العام فتأتي املصلحة بتخصيصه في أبواب املعامالت دون العبادات
واملقدرات ،بخالف الخطاب العلماني فإنه ال عبرة لديهم وال تأثير ملدى قطعية النص.
ا
.3أثر طبيعة املسائل ،فالعبادات واملقدرات خارجة تماما عن هذا التأسيس لنظرية املصالح عند الطوفي،
أما أولئك فإعمال (أصل املصلحة) متاح في كافة مجاالت الشريعة ،حتى بلغ األمر إلى دعوة البعض
الستبدال بعض أشكال التعبد بأشكال أخرى.
.4أثر منهجية النظر في النصوص ،فالطوفي يقصد الجمع بين النصوص وإعمال كافة األدلة ،بينما
ا
منطلقات الخطاب العلماني مختلفة ومعزولة تماما عن النص ،كمراعاة املصالح الدنيوية ،ومواكبة
التطور.
.5الفارق في معنى التقديم في نظرية (تقديم املصلحة على النص) ،فالتقديم عند الطوفي ال يعني اطراح
النص وإنما هو من قبيل التخصيص للنص ،أما الخطاب العلماني فإنه حين يعمد إلى استخدام نظرية
املصلحة هذه إنما يريد أن يضرب بها نصوص الشريعة ويهدر دالالتها رأسا.
31
ا
oتوهم الحداثيون أن استجالب الشاطبي في املجال الفقهي سيحقق جملة من املكاسب التحديثية في هذا
املجال ب:
ا ا
.1تكثيف حضور املصالح الدنيوية في الخطاب الشرعي خصوصا ،والخطاب الثقافي العربي عموما.
.2تحرير العقل املسلم من التعقيدات الفنية الفقهية ،واالستغراق في التفاصيل والجزئيات ،لدوران
ا
املقاصد حول املسائل الكلية بعيدا عن سلطة النصوص الجزئية.
ومع ذلك فإن كثير من الحداثيين لم يقرؤوا كتاب (املوافقات).
oاألوهام حيال تراث الشاطبي املقاصدي:
.1أن فقه الشاطبي فقه مقاصدي متسامح يفسح املجال لقدر عال من امليوعة الفقهية.
.2أن فقه الشاطبي فقه مقاصدي يعنى بالكليات دون اإلغراق في التفاصيل والجزئيات.
ا
.3أن فقه الشاطبي فقه مقاصدي يعنى أصالة بتحقيق املصالح الدنيوية.
.4أن فقه الشاطبي يمثل قطيعة إبستمولوجية عن الحالة الفقهية/األصولية املسبقة.
33
-معالجة إشكالية :الشاطبي وموقع املصالح الدنيوية:
ا ا
oمن أوهام الطوائف الفكرية املنحرفة أن األخذ بالفقه الشاطبي سيضمن للمصلحة الدنيوية حضورا مركزيا
ا
ومتقدما في الوعي الفقهي على حساب مركزية املصالح األخروية.
oلعل منشأ الوهم هو اجتزاء كلمة الشاطبي (أن الشريعة موضوعة ملصالح العباد) والتعلق بها دون استقراء
ملفهوم (مصالح العباد) في مشروع الشاطبي.
oبينما يتسم مفهوم املصلحة عند الشاطبي بالشمول واالتساع ليشمل جانبي املصلحة املتعلق ب(الدنيا
واآلخرة) مع مالحظة أن األولى كالوسيلة للثانية .وأن املصالح الدينية مقدمة على املصالح الدنيوية.
oكان الشاطبي يكرر أن حفظ الدين أعظم من حفظ النفس ،وحفظ النفس أعظم من حفظ املال.
34
-والخالصة:
ا ا
أن الشاطبي على خالف ما يعتقد الخطاب الحداثي يمثل حالة شديدة املحافظة فقهيا. o
أن نظريته ال تؤسس قاعدة نظرية لهدر الجزئيات. o
ا ا ا
أن نظريته ال تمثل خطابا دنيويا صرفا ،فللمصالح األخروية حضور أصيل في بناء النظرية. o
أن نظريته امتداد في واقع األمر لتنظير فقهي/أصولي ممتد قبله وسيمتد بعده. o
-الفوارق الجوهرية بين طبيعة الخطاب الذي قدمه الشاطبي وطبيعة الخطابات الحداثية/العلمانية:
لم يكتف الشاطبي بالدعوة إلى األخذ باملصالح وإعمال املقاصد واالهتمام بالكليات ،بل جعل لذلك كله -
ضوابط منهجية صارمة ،أما الخطابات الحداثية فاقتصرت على األخذ بالعنوان دون تحقيق املضامين في
انتقائية سطحية ساذجة لنظرية الشاطبي.
ا
نص الشاطبي على جملة من املقاصد والتي ال تتوافق إطالقا مع تفاصيل املشروع الحداثي/العلماني. -
ا
يطالب الشاطبي باعتبار الجزئيات والكليات جميعا فهي دعوة منه إلى مزيد من االنضباط االستداللي ال -
تمييعه وهو ما ال يتوافق مع الخطاب الحداثي.
أن الواقع العملي/العلمي لإلمام الشاطبي يزيد في االستمساك بأصول الشريعة في التعبدات واملعامالت على -
املستوى الشخص ي واالجتماعي واالقتصادي والسياس ي ...الخ ،أما الخطاب العلماني فيسعى إلى حصر الدين
ا ا ا
في مجال التعبد الذاتي فقط وجعله خيارا شخصيا محضا.
35
املزلق الرابع :مشكلة تغير الفتوى واألحكام
بيان املزلق
أن من عظمة الشريعة استجابتها ملتغيرات الواقع وتقلباته ،وليست الشريعة مجرد نصوص جامدة صلبة ال
تقبل الزحزحة أو التطوير ،بل هي تتطور مع تتطور الواقع للتفاعل معه ،وقد أقر الفقهاء بهذا وأصلوه في
ا
قاعدتهم الشهيرة( :الفتوى تتغير بتغير الزمان واملكان) ،بل ومارسوه عمليا ،وفي فقه الشافعي القديم والجديد
عبرة ،فالتسليم للنص ال يكون إال بمراعاة معطيات الواقع ومتغيراته ال بالجمود على ألفاظه وحروفه.
املناقشة
تعد هذه الشبهة واحدة من أهم األدوات املستعملة لهدر أحكام الشريعة التفصيلية ،وهي تتخذ:
ا ا ا
.1صورة غالية تحت دعوى (تاريخية النص والتشريع) تدعي قطيعة زمانية ومكانية مع النص بادعاء أن
النص الديني إنما نزل في ظل أوضاع وظروف زمانية/مكانية خاصة فال يصح عزله عن سياقه
الزمني/املكاني واستجالبه للتطبيق في حياتنا اليوم.
.2صورة ناعمة أخف تتكئ على قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان) فال تظهر املصادمة ملبدأ تطبيق
الشريعة في هذا الزمان وإنما لهدر بعض من األحكام الشرعية العتبارات يرونها.
-من قواطع الشريعة تقرير هيمنتها وحاكميتها على الواقع وأن هذه الهيمنة تستغرق مجال الزمان واملكان وتمتد
بامتداد الواقع ،إذ من سمات الشريعة (الثبوت والشمول).
-يقر إبن تيمية بإحاطة الوحي بجميع أحكام العباد ،ويستدرك على دعوى بعض األصوليين (أن النصوص ال
ا
تفي بأحكام الحوادث مما يستدعي توسعا في إعمال أداة القياس ،بإلحاق غير املنصوص على املنصوص)،
ّ
فبين أن الوحي يكتسب هذا الطابع من الشمولية عبر تعليق األحكام باألنواع فيندرج فيها أفراد الحوادث.
36
-دالئل من الوحي على أن الشريعة تتسم بطابع الشمولية:
.1أن هللا حصر حق الحكم والتشريع في نفسه سبحانه:
اص ِل َين) ف(إن ْال ُح ْك ُم إ َّال َّّلل َي ُقص ْال َح َّق َو ُه َو َخ ْي ُر ال َ
ْ
ِ ِ ِ ِ ِِ
ُ َ ْ َ
اّلل َرّبي َعل ْي ِه َت َو َّكل ُت َوإل ْي ِه أ ِنيب)ُ ُ َ
اّلل ۚ ذلك ُم َّ ُ َّ َ ُ ُ َ ْ َ ُ ْ اخ َت َل ْف ُت ْ
ََ ْ
ِ ِ ِ ِ ىل إِ ه م ك ح ف ءي ش ن مِ يه
ِ ف
ِ م (وما
أن هللا تعالى أثنى على حكمه .2
َ ّ َ َ ُ ْ َ ْ َ َّ َ ْ ُ َ َ َ ْ ْ َ ُ َ َّ ْ
َ
اّلل ُحك اما ِل َق ْوم ُيو ِق ُنون) (أفحكم الج ِاه ِلي ِة يبغون ۚ ومن أحسن ِمن ِ
ُ ا
أن هللا ّبين أن وحيه شامل لكافة احتياجات العباد وأن حكمه جاء مفصال مبينا .3
ْ ا ْ ُّ َ ( َو َن َّ ْزل َنا َع َل ْي َك ْالك َت َ
اب ِت ْب َي اانا ِلك ِ ّل ش ْيء َو ُه ادى َو َر ْح َمة َو ُبش َرى ِلل ُم ْس ِل ِم َين) ِ
أن هللا ّبين كمال شرعته ودينه .4
ُ َُ ُ ْ َ
اإل ْسال َم ِد اينا) م كل يت ض ر( ْال َي ْو َم َأ ْك َم ْل ُت َل ُك ْم د َين ُك ْم َو َأ ْت َم ْم ُت َع َل ْي ُك ْم ن ْع َمتي َو َ
ِ ِ ِ ِ ِ
وبين أنه ال مبدل لحكمه سبحانه وال معقب له: أن هللا تكفل بحفظ شرعه ّ .5
ُ َ َ َ َ َ ْ ّ ْ
( ِإ َّنا ن ْح ُن ن َّزل َنا ال ِذك َر َوِإ َّنا ل ُه ل َحا ِفظون)
السم ُيع ْال َع ِل َُ َ ْ َ َ ُ ّ َ ْ ا َ َ ْ ا َّ ُ َ ّ َ َ َ َ ُ َ َّ
يم) (وت َّمت ك ِلمت َرِبك ِصدقا وعدال ۚ ال مب ِدل ِلك ِلما ِت ِه ۚ وهو ِ
.6أن هللا إنما أنزل هذه الشريعة لتكون حاكمة على العباد ،والتأكيد على مقصد من أعظم مقاصد الشريعة
وهو تحقيق هيمنتها في األرض.
ين َو ُمنذر َ
ين النب ّي َين ُم َب ّشر َ اس ُأ َّم اة َواح َد اة َف َب َع َث َّ ُ
اّلل َّ الن ُان َّ ( َك َ
ِِ ِ ِ ِِ ِ
ْ َ
اس ِف َيما اخ َتل ُفوا ِف ِيه) الن َو َأ َنز َل َم َع ُه ُم ْالك َت َ
اب ب ْال َح ّق ل َي ْح ُك َم َب ْي َن َّ
ِ ِ ِ ِ ِ
.7أن هللا أوجب على العباد تحكيم شريعته والتحاكم إليها.
َ
اب َو ُم َه ْي ِم انا َعل ْي ِهتص ّد اقا ّملَا َب ْي َن َي َد ْيه م َن ْالك َ
اب ب ْال َح ّق ُم َ
َ ( َو َأن َ ْزل َنا إ َل ْي َك ْالك َ
ت
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
اّلل َوَال َت َّتب ْع َأ ْه َو َاء ُه ْم َع َّما َج َاء َك م َن ْال َحق)ّ
اح ُكم َب ْي َن ُهم ب َما َأ َنز َل َّ َُف ْ
ِ ِ ِ ِ
.8أن هللا نفى عن اإلنسان حق الخروج عن حكمه
َ ُ َ َ ْ ُ َ َ ُ ان ملُ ْؤمن َوَال ُم ْؤم َنة إ َذا َق َض ى َّ ُ
ََ َ َ
اّلل َو َر ُسول ُه أ ْم ارا أن َيكون ل ُه ُم ال ِخ َي َرة ِم ْن أ ْم ِر ِه ْم ۗ ِ ِ (وما ك ِ ِ
َّ َ َ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ َّ َ َ ا
ضالال م ِب اينا) ص اّلل ورسوله فقد ضل ََ َْ
ومن يع ِ
ا ا
.9أن هللا جعل متابعة غير شرعته ضالال مبينا.
َ
اس ُقون) ف ( َو َمن َّل ْم َي ْح ُكم ب َما َأ َنز َل َّ ُ
اّلل َف ُأ َولئ َك ُه ُم ْال َ
ِ ِ ِ
37
-دعوى :هذا التصوير لواقع حاكمية الشريعة يوقعنا في مشكالت متعددة عند إعماله على أرض الواقع،
فالشريعة خالية من الشروحات التفصيلية املتعلقة بكثير من الجوانب الحياتية العمرانية وكذلك التقنينات
ا ا
اإلدارية والقضايا اإلجرائية ،مما يستدعي إعماال للذهن البشري عمليا لسد هذا النقص في طبيعة الدين.
الرد :ينبغي أن نؤسس نظرتنا للشريعة على اإليمان بشموليتها لجانبي الدنيا واآلخرة ،فنجد في نصوص
الشريعة مادة كبيرة من التشريعات الكلية والجزئية التي تتعلق بالشأن الدنيوي ككثير من مسائل املعامالت
واألحكام املتعلقة بالحدود والجنايات وأبواب السياسة الشرعية وغير ذلك.
ثم هناك منطقة العفو واملباح والذي تمثل مساحة هائلة للعقل اإلنساني في استحداث ما يحتاجه ويحقق
املصلحة من التشريعات والتقنينات واإلجراءات بشرط واحد وهو إثبات عدم وجود املعارض الشرعي.
ا
ثانيا :تحرير القول في قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان).
-قاعدة (تغير األحكام بتغير الزمان واملكان) واحدة من القواعد الفقهية التي تكلم فيها غير واحد من أهل العلم
كابن حزم والغزالي والقرافي والشاطبي ،وبحث ووسع القول فيها اإلمام ابن القيم في كتابه (إعالم املوقعين).
38
~ إذا كان ثمة تغير في طبيعة الواقعة التي اتصل بها الحكم فهذه الفوارق قد تكون مؤثرة في إعطاء
ا
الواقعتين أحكاما مختلفة ،وقد ال تكون مؤثرة ،والحكم بتأثير األوصاف من عدمها راجع إلى تقدير
الشارع.
ا
مثال :القتل خطأ أو لكافر أو للولد حكمه مختلف عن القتل العمد .أما القتل العمد المرأة فال
يختلف الحكم.
.5القاعدة توهم أن ثمة قدر من التغير طرأ على الشريعة ذاتها استجابة ملعطيات الواقع وهذا ما لم يرده
قائلوه من جهة ،وال تدل عليه ما ساقوه من أمثلة ونماذج في توضيح هذه القاعدة.
~ ما تم إدراجه تجاوزا تحت القاعدة من الفروع والشواهد:
)1ما تخلف فيه مناط الحكم في الواقع لنقص في الشروط أو وجود مانع .إذ االختالف في الحكم
ليس من قبيل تغير الحكم في حد ذاته لتغير معطى الزمان واملكان وإنما تخلف املناط.
مثال :حكم الحج واجب ،فمن كان غير مستطيع لم يكن واجبا ،إذ اختلف مناط الحكم.
ا
)2ما جاء التنصيص عليه شرعا من مراعاة األحوال بذكر أحكام مناسبة لوقائع مخصوصة.
مثال :كترك قطع األيدي في الغزو.
)3ما يطرأ على العرف من التغير ،والذي يستتبع أحكامه الشرعية فيما كان العرف فيه معتبر.
مثال :رخصة املسافر ،والسفر على الصحيح ليس له معنى ثابت وإنما يحدده العرف.
مثال :كفارة اليمين إطعام أو كسوة ،فاإلطعام والكسوة معان يراعى فيها العرف في ضبطه وتحديد
طبيعته ومقداره.
ا
~ ما يدرجه أهل العلم من املعاني تحت القاعدة ال تنسجم إطالقا مع التوظيفات السيئة للخطاب
ا ا ا ا
العلماني ،فإن القاعدة ال تعني إطالقا أن ثمة تغيرا حقيقيا طارئا على األحكام الشرعية ذاتها ،بل أن
من طبيعة الشريعة السعة والشمول في إعطائها لألحكام املناسبة لظروف الواقع ،مع ثباتها
ورسوخها ،وأنها تراعي في أحكامها عدم التفريق بين املتماثالت أو الجمع بين املختلفات.
ا
.6من التعبيرات لهذه القاعدة استعمال كلمة (الفتوى) كبديل عن التعبير باألحكام ،وهي األكثر حضورا في
املشهد األصولي والفقهي املعاصر.
~ استعمال ذكره وأشاعه ابن القيم.
ا
~ استعمال أكثر انضباطا وأرفع للبس واإليهام إذ الفتوى ناتج عن اجتهاد املفتي.
ا
~ يتصور وقوع قدر من التغيير فيها مما ال يصح أن يكون واقعا في الشريعة العتبارات متعددة بعضها
مقصود (ملن أطلق القاعدة كمراعاة تجدد العرف أو تحقق وجود املناط) أو غير مقصود كاالختالف
في االجتهاد الفقهي بالتراجع عن ترجيح مثال).
39
ا
ثالثا :فقه اإلمام الشافعي بين القديم والجديد.
-لإلمام الشافعي فقهان مشهوران ُعبر عن أحدهما بالقديم وعن اآلخر بالجديد ،فاألول ما كان منه مدة مقامه
بالعراق ،والثاني بعد انتقاله عنها ملصر.
-وظف الخطاب العلماني مشهد التجديد الفقهي الشافعي بأنه دال على أن لكل بيئة (زمانية-مكانية) فقهها
املناسب.
)3اختالفات ُعرفية مؤثرة في فقه الشريعة ،أو قضايا اعتبرها الشارع في ترتيب األحكام كالضرورة
والحاجة وسد الذرائع وغير ذلك مما يمكن أن يتغير من زمان إلى زمان أو مكان إلى مكان مع مالحظة
اعتبار الشارع لهذا التغير.
40
ا
.3وجود ما يؤكد موضوعية املبررات التي سوغت لإلمام الشافعي التغير ،وأن األمر لم يكن فتيا تناسب
أمزجة الناس وأهوائهم ما يلي:
حل من روى عني القديم) .فكان حرصه على )1عدم تجويزه إلعمال فقهه العراقي في عبارته( :ليس في ّ
إماتة مذهبه القديم دليل على عدم تسويغه لتعدد األحكام الشرعية ملجرد تعدد البيئات.
ا ا
)2أن أئمة املذهب الشافعي كانوا واعين تماما بأن لإلمام الشافعي أسبابا شرعية معتبرة في تغيير جملة
من آرائه الفقهية .ولذا فقد كانوا يتابعونه على هذا املسلك املنهجي في متابعة الدليل ،فإن خالفوه
بترجيح رأيه القديم لرجحان دليله في نظرهم ،لم ينسبوا ذلك املذهب إليه إذ هو على خالف قوله
الجديد.
)3تصريح أئمة الشافعية بعدم جواز تقليد الشافعي في مذهبه القديم مما رجع عنه ولو كان املقلد
ا
عراقيا.
)4تصريح أئمة الشافعية بأن ما لم يتغير فيه اجتهاد الشافعي من اختياراته (العراقية/مذهبه القديم)
ا ا
ولم ُيحدث فيه مذهبا جديدا فهو مذهبه ،وهو ما يؤكد على طبيعة تطلب الحق في التغير الطارئ على
مذهب الشافعي.
)5وجود قدر من الخالف بين أئمة الشافعية في تأريخ مذهبيه القديم والجديد فيجعلون مبتدأ الجديد
(في العراق قبيل خروجه منها ،أو من وجوده في مكة قبل انتقاله ملصر ،أو من مبتدأ دخوله ملصر) مما
يؤكد على أن تغير البيئة فقط واعتبارات الزمان واملكان لم تكن العامل الرئيس ي املؤثر في التغير
الفقهي.
ا ا
)6جملة من املسائل التي رجع عنها اإلمام الشافعي ال عالقة لها مطلقا بمجرد مراعاة البيئة الجديدة أو
مطلق التسهيل الفقهي ،وإنما هو لتجدد النظر في مآخذ األدلة.
مثال :إنصراف املصلي من رعاف ،أجاز له إتمام الصالة أوال ثم عاد فقال أنه يبتدئ الصالة.
أمثلة :التثويب في أذان الصبح ،والتباعد عن النجاسة في املاء الكثير ،وقراءة السورة في الركعتين األخيرتين ،ومسألة ملس
املحارم ،وتعجيل العشاء ،ووقت املغرب ،ومسألة املنفرد إذا نوى االقتداء في أثناء الصالة ،والجهر بالتأمين للمأموم في
الصالة الجهرية ،ومسألة استحباب الخط بين يدي املصلى إذا لم يكن معه عصا.
)7أن اإلمام الشافعي كغيره من األئمة شديد التحري للدليل الشرعي وله في ذلك تقريرات حسنة،
ومواقف مشهودة ،وهو القائل( :إذا صح الدليل فهو مذهبي) وقال( :إذا وجدتم سنة رسول هللا ﷺ
خالف قولي فخذوا بالسنة ودعوا قولي فإني أقول بها).
41
املزلق الخامس :مشكلة العقل
بيان املزلق
أن العقل هو من أجل نعم هللا تعالى على البشرية ،وهو الفيصل بين اإلنسان والحيوان ،وبه عرفت صحة
ا
النبوة وصدق الوحي ،فال بد من اعتباره مرجعا في حال اختلف مع النصوص ،إذ هو الكاشف عن صحتها،
وبرده يسقط الدليل الكاشف عن صحة النصوص فلزم األخذ به ،ثم إن دالئل تلك النصوص ظنية خبرية
باملقارنة إلى قطعية الداللة العقلية البرهانية ،وال شك أن تقديم الداللة األقوى مقصود مطلوب والتعلق
بالظن غير مشروع.
املناقشة
تعتبر مشكلة العقل أس موارد هدر النصوص ،إذ كثير منها عائد في نهاية املطاف إلى هذا املورد.
أهم القضايا التي ينبغي أن يراعيها من يريد تحرير الجواب الشرعي لسؤال (العقل):
مقدمات حول العقل .1
منزلة العقل في الخطاب الشرعي .2
مجاالت العمل العقلي .3
العقل بين الوحدة واالختالف .4
سؤال التعارض بين العقل والنقل .5
ش يء من مآالت املعارضة العقلية. .6
ا
أوال :مقدمات حول العقل
ا
-العقل في اللغة :مأخوذ من الحبس واملنع واإلمساكُ ،سمي عقال ألنه يعقل صاحبه ،أي :يحجزه ويمنعه عن
الوقوع في الهلكةُ .سمي ح ْج ارا ،ألنه يحجره عن ارتكاب الخطأُ ،
وسمي ُنهيه ،ألنه ينهى صاحبه عن فعل ما ال ِ
يحمد.
42
-العقل في االصطالح:
oإبن القيم :العقل عقالن
.1عقل غريزي طبعي ،هو أبو العلم ومربيه ومثمره.
.2وعقل كسبي مستفاد ،وهو ولد العلم وثمرته ونتيجته.
oإبن تيمية :أربع معان
.1أحدها :علوم ضرورية يفرق بها بين املجنون الذي رفع القلم عنه وبين العاقل الذي جرى عليه القلم
فهذا مناط التكليف.
.2الثاني :علوم مكتسبة تدعو اإلنسان إلى فعل ما ينفعه ،وترك ما يضره.
.3الثالث :العمل بالعلم ،وهو من أخص ما يدخل في اسم العقل املمدوح.
.4الرابع :الغريزة التي بها يعقل اإلنسان.
-العقل في القران:
oلفظ العقل اسم ليس له وجود في القرآن.
oيوجد في القرآن -1 :ما تصرف منه لفظ العقل نحو (يعقلون) ،و(تعقلون) و(ما يعقلها إال العاملون).
-2األسماء املتضمنة له كاسم الحجر ،والنهى ،واأللباب ونحو ذلك.
oمن املعاني التي جاءت بها تصاريف مفردة العقل في القرآن:
.1فهم الكالم:
َ
َ َ ُ َ ُ ْ ُ ُ َ َ ْ َ َ َ ّ ْ َ ْ ُ َ َ َ َّ َ َ ْ َ
(أفتط َمعون أن يؤ ِمنوا لك ْم وقد كان ف ِريق ِمن ُه ْم يس َمعون كالم ِ
اّلل
َ َ ُث َّم ُي َح ّر ُف َون ُه من َب ْعد َما َع َق ُل ُ
وه َو ُه ْم َي ْعل ُمون) ِ ِ ِ
َّ َ َ ْ َ ُ ُ ْ ا َ َ ًّ َّ َ َّ ُ ْ َ ْ ُ نَ
( ِإنا أنزلناه قرآنا عرِبيا لعلكم تع ِقلو )
.2عدم التناقض في القول:
َ ُ َ َ َ َ َّ ْ
الت ْو َر ُاة َواإلنج ُ َ ُ ( َيا َأ ْه َل ْالك َتاب ل َم ُت َحاجو َن في إ ْب َراه َ
يم َو َما أنزلت َّ
يل ِإال ِمن َب ْع ِد ِه ۚ أفال ت ْع ِقلون) ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
.3اختيار النافع وترك الضار:
َ َ َ ُ َ َ َ َ َ َ
( َو َما ْال َح َي ُاة الد ْن َيا إ َّال لعب َول ْهو َول َّلد ُار ْاآلخ َر ُة َخ ْير ّل َّلذ َ
ين َي َّت ُقون ۗ أفال ت ْع ِقلون) ِ ِ ِ ِ ِ
ْ ُ ُ ْ َ َ َ َ ْ ُ نَ ا َ ْ َ َ ْ َ َْ َ َ ْ ُ
(لقد أنزلنا ِإليكم ِكتابا ِف ِيه ِذكركم أفال تع ِقلو )
.4استخالص العبر الصحيحة من الحوادث:
ُ َ ا ا ّ ْ َ
( َول َقد َّت َرك َنا ِم ْن َها َآية َب ِّي َنة ِل َق ْوم َي ْع ِقلون)
َ
.5ف ْهم دالالت اآليات الكونية:
ُ َ ّ َ َ َ س َو ْال َق َم َر َوالن ُج ُ َ َ َّ َ َ ُ ُ َّ
وم ُم َس َّخ َرات ِبأ ْم ِر ِه ۗ ِإ َّن ِفي ذ ِل َك آل َيات ِل َق ْوم َي ْع ِقلون) الش ْم َالل ْي َل َوا َّلن َه َار َو َّ (وسخر لكم
43
oهذه املعاني تعود إلى اختالف وظائف العمل العقلي ،ال إلى تباين في معنى العقل نفسه .فلم يرد ذكر
(العقل) في القرآن إال بصيغ الفعل (يعقلون) لإلشارة إلى الوظيفية العقلية الالئقة بكل مقام.
-العقل جوهر أم عرض؟
ا
oالذي عليه أهل السنة والجماعة أن العقل عرض أو صفة وليس بجوهر خالفا لبعض املتكلمة
ا ا
والفالسفة ،فالعقل ليس شيئا قائما بذاته وإنما هو صفة ال بد أن يقوم بغيره ،وهو العاقل املوصوف به.
-العقل محله القلب أم الدماغ؟
oاختلف أهل العلم في هذه املسألة على قولين:
.1أن محله القلب :نسب للمالكية والشافعية وعليه بعض الحنابلة وصححه الباجي واستدلوا ب:
ْ َ ْ َ َ ُ َ َ ُ ْ ُ ُ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ َ ْ َ ُ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ
األ ْب َ ~ ( َأ َف َل ْم َي ِس ُ
ص ُار ض فتكون لهم قلوب يع ِقلون ِبها أو آذان يسمعون ِبها ف ِإنها ال تعمى ِ ر األ يفِ واير
ُ َ َ َ ْ َ ْ ُ ُ ُ َّ
ول ِكن تعمى القلوب ال ِتي ِفي الصدو ِر).
َ ان َل ُه َق ْلب َأ ْو أل َقى َّ
الس ْم َع َو ُه َو ش ِهيد)
ْ َ ~ (إ َّن في َذل َك َلذ ْك َرى ملَن َك َ
ِ ِ ِ ِ
ِ
ا ا ا ا
~ قول عمر في ابن عباس (إن ذاكم فتى كهول له لسانا سؤوال وقلبا عقوال).
.2أن محله الدماغ :منسوب لألحناف والحنابلة واستدلوا ب:
ضرب شخص على رأسه وهو محل الدماغ ضربة قوية لزال معها العقل. ~ الحس واملشاهدة :لو ُ
~ اللسان العربي :العرب تقول للعاقل وافر الدماغ ولضعيف العقل خفيف الدماغ.
ا
ثانيا :منزلة العقل في الخطاب الشرعي
44
أن االنتفاع باملواعظ والذكر والقصص والتشريع واألمثال القرآنية مقصورة على أصحاب العقول )3
َ َ َ َّ َّ ُ َّ ُ ُ ْ َ
األ ْل َ
اب).
ِ ب يقول تعالى ( :وما يذكر ِإال أولو
َ َ أن هللا نعى على من أطفؤوا نور عقولهم بتقليد غيرهم ّ
وبين مغبة ذلك ،فقال عز وجلَ ( :وِإذا ِقي َل ل ُه ُم )4
َ َ ُ َ َ َّ ُ َ َ َ َ َّ ُ َ ُ َ ْ َ َّ ُ َ َ ْ َ ْ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ َ ْ َ َ ُ َ
ان َآباؤ ُه ْم ال َي ْع ِقلون ش ْي ائا َوال َي ْه َت ُدون ، ات ِبعوا ما أنزل اّلل قالوا بل نت ِبع ما ألفينا علي ِه آباءنا ۗ أولو ك
ُ َ َ َ َ َ َ ُ َّ َ َ َ ُ َ َ َ َّ َ ْ ُ َ َ َ ْ َ ُ َّ ُ َ ا َ َ ا ُ ْ
صم ُبكم ُع ْمي ف ُه ْم ال َي ْع ِقلون ). ومثل ال ِذين كفروا كمث ِل ال ِذي ين ِعق ِبما ال يسمع ِإال دعاء و ِنداء ۚ
َ ْ َ
أن للعقل وظيفة كبرى في استنباط األحكام والنظر في األدلة ،قال تعالىِ (:ك َتاب أ َنزل َن ُاه ِإل ْي َك ُم َبا َرك )5
اب). ّل َي َّد َّب ُروا َآياته َول َي َت َذ َّك َر ُأ ُولو ا ْ َأل ْل َ
ب
ِ ِِ ِ ِ
ا
أن الشرع جعل العقل واحدا من الضروريات الخمس التي جاء اإلسالم للمحافظة عليها ،فنهى عن )6
َْ ْ َ االعتداء عليه كما حرم كل ما من أثره زوال العقل .قال تعالىَ ( :يا َأي َها َّالذ َ
ين َآم ُنوا ِإ َّن َما الخ ْم ُر َوامل ْي ِس ُر ِ
َ َّ ْ َ َ ْ َ ُ ُ َ َّ ُ ُ َ َْ َ ُ ََْ
وه ل َعلك ْم ت ْف ِل ُحون). اب َواأل ْزال ُم ِر ْجس ِّم ْن َع َم ِل الشيط ِان فاجت ِنب واألنص
ا
ثالثا :مجاالت العمل العقلي
-حدد اإلسالم للعقل مجاالته التي يخوض فيها حتى ال يضل ،ألنه مهما اتسعت امللكات العقلية فسيظل
ا
محدودا في قدراته ،وإذا ما حاول الخوض فيما ال طاقة له للخوض فيه ،فسيعرض صاحبه لاللتباس
والتخبط بل ربما قاده إلى الضالل والتيه.
-الغيبيات التي ال تقع تحت مدارك العقل ال مجال له أن يخوض فيها ،وال يخرج فيها عما دلت عليه النصوص
الشرعية كمعرفة حقيقة صفات هللا تعالى ،وتفاصيل أمور املالئكة والجن والروح والقيامة والجنة والنار.
-تفاصيل التعبدات واستبانة وجه الحكمة فيها خارج عن حدود القدرة العقلية.
ا ا ا
-إدراك العقل لكثير من القضايا إدراك مجمل ال مفصل ،وقد يكون إدراكا بعضيا ال شموليا .فالعقل عنده
قدرة على التحسين والتقبيح مع مالحظة محدودية هذه القدرة من جهتين:
.1أن قدرته محدودة ال تشمل كل ش يء ،فقد يعجز العقل عن تقييم حسن بعض األشياء أو قبحها.
.2أنها ملكة ال تستتبع التكليف الشرعي وال يترتب عليها الثواب والعقاب( .اللجنة العلمية :أي أن مجرد تحسين
العقل وتقبيحه ألشياء ال يترتب عليه تكليف وال يتبعه ثواب أو عقاب ،بل ال بد من ورود الشرع بالثواب أو العقاب على ذلك).
ا
رابعا :العقل بين الوحدة واالختالف
ا ا
-العقل ليس شيئا واحدا يقع لكل الناس على وجه يتفقون فيه ،فهو من األمور النسبية اإلضافية.
-العقل املطلق أو العقل املثالي تجريد ال وجود له في عالم الواقع.
ا
-صعوبة جعل العقل معيارا بسبب التفاوت الكبير في تصويب وتخطئة املعارف العقلية.
45
ا
خامسا :سؤال التعارض بين العقل والنقل
-معطيات حول عالقة العقل بالنقل:
ا ا ا
.1العقل ليس أصال لثبوت الشرع ،وال معطيا له صفة لم تكن له ،وال مفيدا له صفة كمال .فال يمكن أن
ا ا
يكون تصديق الرسول فيما أخبر به معلقا بشرط ،وال موقوفا على انتفاء مانع بل ال بد من تصديقه في كل
ا ا
ما أخبر به تصديقا جازما كما في أصل اإليمان به.
.2أن العقل هو آلة استنباط من النقل ،وهو يعمل في ضوء أصول وقواعد نقلية وعقلية ولغوية لضبط
عملية االستنباط ،والعقل في نهاية املطاف أداة قد تصيب وقد تخطئ.
.3أن العقل الصريح جاء بالداللة على كثير مما دل عليه النقل ،كإثبات وجود هللا تبارك وتعالى ،وأن كل ما
سواه سبحانه فهو محدث مخلوق.
ا
.4أن األصل في املسائل الشرعية أن تكون مآخذها ُمبينة في النقل .ولو جاز للعقل تخطي مأخذ النقل؛ لم
يكن للحد الذي حده النقل فائدة ،وإن جاز للعقل تعدي حد واحد؛ جاز له تعدي جميع الحدود.
ا ا
.5أن النقل قد يجيء بأمر ال قول للعقل في إثباته أو نفيه فإما أن يكون متوقفا أو محتارا وهذا ال يبيح رد
النقل ،إذ النقل مثبت والعقل متوقف مع الحيرة أو بدونها.
)األنبياء عليهم السالم قد يخبرون بما يعجز العقل عن معرفته ال بما يعلم العقل بطالنه
فيخبرون بمحارات العقول ال بمحاالت العقول) – إبن تيمية
-من أحسن وأشهر من كتب في نقد هذه الشبهة شيخ اإلسالم ابن تيمية في كتابه (درء تعارض العقل والنقل).
-إشكالية االعتراض الشهير( :أنتم ليس عندكم إال ابن تيمية!)
oقائل هذا الكالم واقع في إشكاليات ثالث:
)1عدم تصور طبائع العلوم.
)2عدم تصور طبيعة فقه ابن تيمية.
)3عدم تصور واقع الخطاب السلفي.
oالرد:
ُ )1يعلم عن طبائع العلوم أن لكل علم وفن عمالقته وعباقرته ومبدعوه ،فاملشتغلين في مختلف العلوم
ا
ليسوا على درجة واحدة ،وهذه ظاهرة بشرية متفهمة تماما .وهكذا ،فكما شاء هللا لصحيح البخاري
أن يكون أصح كتب الحديث ،وأن يكون الطبري أعظم مفسري اإلسالم ،وأن يكون سيبويه أعظم أئمة
النحو ،وأن يكون الذهبي أعظم كتاب التراجم ،فكذلك شاء هللا أن يكون ابن تيمية أملع املتأخرين في
ا ا
تحقيق طريقة الصحابة في العقيدة والفقه .وهذا القول ليس قرارا اعتباطيا ،بل هو مبني على استقراء
ومقارنة كتابات ابن تيمية ببقية كتابات املتأخرين.
46
)2أن العالم إنما ينبل عند أهل السنة والجماعة بمقدار تحقيقه لطريقة الصحابة ومن تبعهم بإحسان،
ولذلك فمن طعن في فقه الصحابة وزعم أن االنحراف بدأ من عندهم ،فقد طعن في أداء النبي
ا
لألمانة ،أي أمانة تعليم الكتاب والحكمة والتزكية .ولهذا استفاد ابن تيمية كثيرا من وضعه نموذج
الصحابة نصب عينيه أثناء تحليله لفروع واجتهادات املتأخرين .وقد رفض ابن تيمية كثير من
تعقيدات املتأخرين ومنها:
~ رفض نظرية تأويل الصفات املعقدة ،واحتج بأن الصحابة أعلم باهلل ولم يتكلموا عنها.
ا
~ رفض تقسيماتهم وتنويعاتهم املعقدة في علم الفروع ،مثال رفض تنويعاتهم في املياه.
~ رفض كثير من فروع باب التيمم املعقدة التي فرعوها على أساس أن التيمم مبيح ال رافع.
~ رفض الشروط الدقيقة التي اشترطوها للخف الذي يجوز املسح عليه.
ا
~ رفض أيضا تقسيماتهم املعقدة في باب الحيض.
)3يضاف إلى ما سبق ما يتصل بالجوانب املعرفية العقلية عند ابن تيمية كاإلحاطة الضخمة باملعارف
العقلية والنقلية ،وحسن الفهم والذكاء ،وتوافر أدوات االجتهاد ،والدراية التامة بمذاهب املخالفين،
مع ما تميز به في القضايا األسلوبية في املجال الكتابي كاملباشرة والوضوح والقوة.
ا
)4بلوغ قطعة طيبة من تراث ابن تيمية في مختلف املعارف الشرعية خصوصا مجالي االعتقاد والفقه.
ا ا ّ
)5أن إبن تيمية قد َعلم ور َّب تالمذة متميزين جدا في مختلف املجاالت الشرعية خصوصا ابن القيم
وابن مفلح وابن عبدالهادي وابن كثير وتالمذتهم ،فنحن أمام مدرسة علمية متميزة ال أمام شخصية
علمية مفردة.
)6تأثر اإلمام محمد بن عبدالوهاب بكتابات الشيخ ّ
طبع حضور ابن تيمية في الحركة العلمية الشرعية
من بعده.
)7أما الزعم بأن أئمة أهل السنة والجماعة املعاصرين ال يخالفون ابن تيمية فهذا إطالق غير دقيق،
فأكبر مرجعيتين فقهيتين محليتين أفرزهما الحرك العلمي الحديث الشيخان ابن باز وابن عثيمين،
وقد وقعت منهما أقوال على خالف اخيارات ابن تيمية.
47
-إشكالية التوهين من داللة النقل على املعاني واألحكام ،في مقابل تقوية الداللة العقلية:
oتقوم فكرة التوهين من داللة النقل في مقابل تقوية الداللة العقلية على فرضيتين:
.1األول :أن داللة النقل داللة خبرية مجردة ،وهي خلو من الدالئل العقلية.
.2الثاني :أن األدلة النقلية أدلة لفظية ال تفيد اليقين.
oإشكالية تجريد النقل عن الدليل العقلي:
~ تعتبر من األوهام الغليظة القول بأن األدلة النقلية مجرد أخبار عارية عن الدالئل العقلية فهذه مجرد
دعوى مرسلة وتدل على عدم قراءة فاحصة للوحي ،فإن القرآن والسنة مليئان بالدالئل العقلية.
ا ا
~ إن من الخطأ جعل الدليل العقلي مقابال للدليل الشرعي وقسيما له ،فالدليل العقلي في حقيقته واحد
من أدلة الشرع .فالصواب أن األدلة الشرعية تنقسم إلى:
.1أدلة سمعية/خبرية.
.2أدلة عقلية.
ص َحاب َّ َ ُ َ َ َ ُ َ ُ َ
( َوقالوا ل ْو ك َّنا ن ْس َم ُع أ ْو ن ْعق ُل َما ك َّنا في أ ْ
الس ِع ِير) ِ َ َِ ِ
َّ ْ َ َ ُ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ َ َ َ ُ َ ْ ْ َْ
( ِإن ِفي ذ ِلك ل ِذكرى ِملن كان له قلب أو ألقى السمع وهو ش ِهيد)
oفكرة تجريد األدلة النقلية عن إفادة اليقين:
~ ترتكز على دعوى أن (األلفاظ) موصل رديء (للمعاني).
~ يراد بهذه الدعوى نزع الوثوقية عن دالئل النقل ،بالزعم بأنها مجرد ألفاظ ال يمكن االطالع على ما
ترمي إليه من معان حتى نستيقن من عشرة شروط.
~ إعمال هذه الفكرة في الواقع سيؤدي إلى نتائج كارثية:
.1أن هذا القول يؤدي إلى إلغاء حجية الوحي بالكلية في حال وجود التعارض أو عدمه ،إذ تحصيل
الجزم بمراد هللا من كتابه عند هؤالء محال إال عند استيفاء شروطه العشر وانتفاء موانعه ،وهذه
مسألة ال يمكن التحقق منها على نحو جازم.
.2أن هذا القول في حقيقته الزم لكل املخاطبات الشفاهية بل هي أولى بهذا من الوحي لقصورها عن
رتبته في البيان والوضوح والداللة على املعاني ،وما من شك أن التشكيك بداللة كل لفظ وتركيب
وسياق ملعان محددة هو نوع من أنواع السفسطة ،ومما يدل على ذلك:
.aأن اإلنسان مدني بطبعه والناطقية خاصية ذاتية فيه ،وال بد في معيشته مع بني جنسه أن
يفهمهم ويفهموه ليحصل االستئناس والتعاون.
48
.bمن املعلوم من أحوال جميع الناس وجميع األمم معرفتهم بمقاصد بعضهم البعض من
املخاطبة.
.cأننا نجزم أنهم يتحصلون على اليقين من مخاطبة بعضهم البعض بما ال يحصل مما يسميه
ا
هؤالء علوما عقلية ،بل الجزم بمرادات املتكلم أحضر في نفوسهم وأقوى من هذه االشتراطات
العشر التي يذكرونها.
ا
.dأن الطفل أول ما يميز يعرف مراد من يربيه بلفظه قبل أن يعرف شيئا من علومهم الضرورية
وهذه قضية فطرية بدهية محسوسة.
.eأن التعريف باألدلة اللفظية أصل للتعريف باألدلة العقلية ،فإذا شككت في داللة األلفاظ
على معانيها تسرب القدح إلى املعاني العقلية وانغلق باب نقلها وتقريرها.
.3أن من إدعى هذه الدعوى فقد ناقض دالئل القرآن املتواترة الدالة على شدة وضوحه وبيانه.
ومما يورث اليقين باملعاني التي دلت عليها ألفاظ الوحي:
.aدالئل القرآن املتواترة الدالة على شدة وضوحه وبيانه
.bعدم وجود قصد التعمية والغموض واإللغاز.
ا
.cابتعاث هللا نبيه محمدا ﷺ ألداء واجب البالغ الذي هو في أعلى درجات الفصاحة والبيان
والوضوح ،الشامل على ألفاظ الوحي ومعانيه.
.4أن األدلة السمعية اللفظية مبنية في الحقيقة على مقدمتين معلومتين باالضطرار:
.aأن ناقليها إلينا فهموا مراد املتكلم.
.bأنهم نقلوا إلينا ذلك املراد كما نقلوا اللفظ الدال عليه.
واملعروف أن الحرص على معرفة املراد أعظم من الحرص على مجرد حفظ األلفاظ .ولهذا يضبط
الناس من معاني املتكلم أكثر مما يضبطونه من لفظه.
.5أن من حكمة هللا تبارك وتعالى بإنزال الكتب وإرسال الرسل إقامة الحجة على العباد ،وهو معنى
متواتر في القرآن والسنة ،وفي هذه الدعوى معارضة لهذا التواتر .فمن زعم أن كالم هللا ورسوله
ال يفيد اليقين والعلم ،والعقل معارض للنقل فأي حجة تكون قد قامت على املكلفين بالكتاب
والرسول.
49
oيقوم هذا القانون على ثالث مرتكزات أساسية:
.1دعوى إمكان التعارض بين العقل والنقل.
.2دعوى حصر االحتماالت املمكنة فيما يؤخذ به ويترك (العقل أو النقل) في حال التعارض في أربعة
احتماالت هي:
ا
)1يؤخذان جميعا ،وهو محال ألنه جمع بين النقيضين.
ا ا
)2يردان جميعا ،وهو محال أيضا ألنه رفع للنقيضين.
)3يقدم النقل على العقل ،وال يجوز ألن العقل أصل النقل ،وبه ُعرف صدق النقل ،فلو قدم
ا
النقل على العقل للزم تكذيب العقل في صدق النقل فيبطل النقل والعقل معا.
)4تقديم العقل على النقل.
.3دعوى لزوم تقديم العقل على النقل بتقدير التعارض ،وهي ثمرة دعوى انحصار االحتماالت في
التعاطي مع العقل والنقل عند التعارض في أربع احتماالت فقط.
50
حتى نجيب عن هذه اإلشكالية ال بد من فك حالة االلتباس واإلجمال في مسألتين:
هل هي العلوم العقلية املستفادة هل هي القوة الغريزية التي فينا والتي
من تلك الغريزة؟ يتميز بها اإلنسان عن سائر الحيوانات؟
بطالن هذا القول ألن من املعلوم أنه ليس كل ما ا ا
يمنع هذا ،ألن تلك الغريزة ليست علما بطالن هذا القول ألن كون الحق حقا
ُيعرف بالعقل يكون أصال للسمع ودليال على يتصور أن يعارض النقل ،وهي شرط في
ا
والباطل باطال غير تابع لتصور العقل
صحته فإن املعارف العقلية أكثر من أن كل علم عقلي أو سمعي كالحياة ،وما كان عنه ،إذ هي معان مستقرة في نفسها قبل
ُ ا ا ا
تحصر ،والعلم بصحة السمع غايته أن يتوقف شرطا في الش يء امتنع أن يكون منافيا له. وجود العقل أصال.
على ما ُيعلم به صدق الرسول وليس كل العلوم (يلزم منه أنه لو لم يوجد بشر يخاطبون
العقلية ُيعلم بها صدق الرسول بل ذلك يعلم بالقرآن ملا كان القرآن حقا ،وهذا اليقول
بما يعلم به أن هللا أرسله ،مثل إثبات الصانع به مسلم).
وتصديقه للرسول باآليات وإن كان كذلك لم
تكن جميع املعقوالت أصال للنقل.
51
السؤال في الصفحة السابقة :هل هي العلوم العقلية املستفادة من تلك الغريزة؟
ا
سادسا :ش يء من مآالت املعارضة العقلية
(ذكر املؤلف هنا جملة من أحوال بعض أساطين املعرفة الفلسفية الكالمية وما آل اليه حالهم من الحيرة
والشك والندم).
52
املزلق السادس :مشكلة السنة غير التشريعية
بيان املزلق
ا
قولهم :من الخلل املنهجي في مسألة اتباع السنة النبوية جعل كل ما صدر عن النبي ﷺ وحيا الزم االتباع ،إذ
ما يصدر عن النبي ﷺ على نوعين :سنة تشريعية وسنة غير تشريعية ،فالتسوية بين النوعين في مسألة
التسليم انحراف منهجي مخالف ملقصد الشارع ،إذ السنة التشريعية غير مقصودة بإيجاب املتابعة واإلذعان
واالنقياد والتسليم بها.
املناقشة
-من األصول الشرعية املقررة أن األصل في أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته أنها صادرة عن الوحي ،وموضوعة
للتشريع ،ومحل للتدين واالتباع .فمن أصول منهج أهل السنة والجماعة في االستدالل والتلقي االعتماد على
ما صح عن النبي ﷺ في استنباط األحكام.
53
ُ َ َ ْ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ ْ َ ُ َ َ ّ َ َ َ َّ َ َ
ين ال َي ْر ُجو َن ِل َق َاء َنا ْائ ِت ِب ُق ْرآن َغ ْي ِر َهذا أ ْو َب ِّدل ُه ۚ ُق ْل َما َيكو ُن oاآلية( :وِإذا تتلى علي ِهم آياتنا ب ِينات قال ال ِذ
ص ْي ُت َرّبي َع َذ َ اف إ ْن َع َ ْ َ َّ ُ َّ َ ُ َ َ َّ ّ َ ُ
َ لي َأ ْن ُأ َب ّد َل ُه من ت ْل َقاء َن ْ
اب َي ْوم َع ِظيم). ِ ِ خ أ ي نإ ي
ِ ِِ ل إ ىوح ي ا م ال إ عبت أ نإ ي س ف
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ
قال القرطبي( :وقد يستدل بهذا من يمنع نسخ الكتاب بالسنة ،فإن اآلية وردت في طلب املشركين مثل
القرآن نظما ،ولم يكن الرسول قادرا على ذلك ،ولم يسألوه تبديل الحكم دون اللفظ ،والن الذي
يقوله الرسول إذا كان وحيا لم يكن من تلقاء نفسه ،بل كان من عند هللا تعالى).
oالحديث( :أال إني أوتيت القرآن ومثله معه ،أال يوشك رجل شبعان على أريكته يقول :عليكم بهذا
القرآن ،فما وجدتم فيه من حالل فأحلوه ،وما وجدتم فيه من حرام فحرموه ،أال وإن ما حرم رسول
هللا ﷺ كما حرم هللا).
oقوله ﷺ لعبدهللا بن عمرو بن العاص مشيرا الى فمه( :اكتب فوالذى نفس ى بيده ما يخرج منه إال
حق).
ُ
oحديث الرجل الذي ود لو رأى النبي وقد أنزل عليه الوحي ،فلما نظر اليه رأى له غطيط.
.2الوظيفة املحورية للنبي ﷺ :فهو رسول من عند هللا تعالى جاء بتعليم الكتاب والحكمة وتزكية املؤمنين.
-صيانة ملقتضيات النبوة والرسالة فقد عصم هللا تبارك وتعالى الرسول:
ا
oفهو املعصوم في شأن تبليغ الوحي مطلقا.
oوهو معصوم كذلك عن كبائر الذنوب.
ا
oوما يقع منه ﷺ من خطأ فيما وراء ذلك فمعصوم من أن يقر عليه بل متى ما وقع منه نسيانا أو
ا
عمدا فال بد أن يأتي من الوحي ما يصحح الخطأ ،ويكون لوقوع الخطأ ِحكم ربانية عظيمة.
مثال :ما وقع من ﷺ من سهو في الصالة وما ترتب عليه من بيان تشريعات تتصل بهذا املقام.
-ومن الدالئل الشرعية املبينة لحقيقة الوظيفة املحمدية:
ّ ّ ُ َ َ ا ْ َ َ َ ْ َ َّ َّ ُ َ ْ ُ ْ
اّلل َعلى املؤ ِم ِن َين ِإذ َب َعث ِف ِيه ْم َر ُسوال ِّم ْن أ ُنف ِس ِه ْم َي ْتلو َعل ْي ِه ْم َآيا ِت ِه َو ُي َز ِك ِيه ْم َو ُي َع ِل ُم ُه ُم oاآلية( :لقد من
ََ َ َ َ ُ ْ َ َ ْ ْ َ
ضالل م ِبين). اب َوال ِحك َمة َوِإن كانوا ِمن ق ْب ُل ل ِفي ال ِكت
َ َ ْ َ َْ ُ ْ َ ُ ا ّ ُ ْ َُْ ََْ ُ ْ َ َ َُ َّ ُ ْ َُ َّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ َ
اب َوال ِحك َمة oاآلية( :كما أرسلنا ِفيكم رسوال ِمنكم يتلو عليكم آيا ِتنا ويز ِكيكم ويع ِلمكم ال ِكت
َ َُ ُ َ َ َ ّ ُ
َو ُي َع ِل ُمكم َّما ل ْم تكونوا ت ْعل ُمون).
ُ َ َّ َ َ َ ْ ُ ّ ّ َ َ ُ ا ّ ْ ُ ْ َ ْ ُ َ َ ْ ْ َ َ ُ َ ّ ْ َ ُ َ ّ ُ ُ ُ ْ َ َ ْ ْ َ
اب َوال ِحك َمة َوِإن oاآلية( :هو ال ِذي بعث ِفي األ ِم ِيين رسوال ِمنهم يتلو علي ِهم آيا ِت ِه ويز ِك ِيهم ويع ِلمهم ال ِكت
ََ َ َ َ ُ
ضالل م ِبين). كانوا ِمن ق ْب ُل ل ِفي
نتاب َو ْالح ْك َم َة َو ُي َز ّكيه ْم ۚ إ َّن َك َأ َ oاآليةَ ( :رَّب َنا َو ْاب َع ْث فيه ْم َر ُس اوال ّم ْن ُه ْم َي ْت ُلو َع َل ْيه ْم َآيات َك َو ُي َع ّل ُم ُه ُم ْالك َت َ
ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِ ِِ
ْال َعز ُيز ْال َح ِك ُ
يم). ِ
54
.3الدالئل الشرعية الكثيرة واملتنوعة على لزوم طاعة النبي ﷺ:
-الدالئل الشرعية اآلمرة بطاعة الرسول ﷺ:
ين).
َ ْ
اّلل ال ُيحب الكافر َ َ َّ
الر ُسو َل َفإن َت َول ْوا فإ َّن َّ َ
َ يعوا َّ َ
اّلل َو َّ oاآليةُ ( :ق ْل َأط ُ
ِِ ِ ِ ِ ِ
َّ َ َ َ ُ َّ َ َ َ َ ُ َّ ُ َل َ َ َّ ُ ْ ُ ْ َ ُ نَ َ
oاآليةَ ( :وأ ِق ُيموا الصالة وآتوا الزكاة وأ ِطيعوا الرسو لعلكم ترحمو ).
َّ ُ َ َ ْ َّ ُ ََ َ َ َْ
oاآلية ( :وما أ ْرسلنا ِمن َّرسول ِإال ِليطاع ِب ِإذ ِن ِ
اّلل).
اب).قاّلل َشد ُيد ْالع َ
اّلل إ َّن َّ َ الر ُسو ُل َف ُخ ُذ ُوه َو َما َن َه ُاك ْم َع ْن ُه َف َ
انت ُهوا ۚ َو َّات ُقوا َّ َ oاآليةَ ( :و َما َآت ُاك ُم َّ
ِ ِ ِ ِ
-بيان أن طاعة النبي صلى هللا عليه وسلم من طاعة هللا تعالى:
َّ ُ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ ْ َ َ َ َ ْ ْ َ ا
oاآليةَّ ( :من ُي ِط ِع الرسول فقد أطاع اّلل ومن تولى فما أرسلناك علي ِهم ح ِفيظا).
َ ْ َ َ َ َ َ ْ َ َ َ َّ َ َ َ ْ َ َ
صاني َف َق ْد َع َص ى َّ َ
اّلل). oالحديث( :من أطاع ِني فقد أطاع اّلل ومن ع ِ
-األمر املؤكد باالستمساك بالسنة:
َ ُ
ين َت َم َّسكوا ب َها َو َعضوا َعل ْي َها ب َّ
الراشد َ َ ْ َ ْ
oالحديثَ ( :ف َع َل ْي ُك ْم ب ُس َّنتي َو ُس َّنة ال ُخل َفاء امل ْهد ّي َ
الن َو ِاج ِذ). ِ ِ ِ ِ َّ ين ِ ِِ ِ ِ ِ
-ترتيب الهداية والثواب على من أطاعه ﷺ:
ْ ُ َ َ َ َّ َ َ
الر ُسو َل ف ِإن ت َول ْوا ف ِإ َّن َما َعل ْي ِه َما ُح ِّم َل َو َعل ْيكم َّما ُح ِّمل ُت ْم َوِإن يعوا َّ اّلل َو َأط ُ
يعوا َّ َ oاآليةُ ( :ق ْل َأط ُ
ِ ِ
ُ َّ ْ َ َ ُ ْ ُ ُ َ
وه َت ْه َت ُدوا ۚ وما على َّ
َ َ َ ُتط ُ
يع ُ
الرسو ِل ِإال البالغ امل ِبين ) ِ
-ترتيب الوعيد على من خالف أمر النبي ﷺ:
َ ْ َ ْ َ َّ َ ُ َ ُ َ َ ْ َ ْ َ ُ َ ُ ْ ْ َ َ ْ ُ َ ُ ْ َ َ َ
oاآلية( :فليحذ ِر ال ِذين يخ ِالفون عن أم ِر ِه أن ت ِصيبهم ِفتنة أو ي ِصيبهم عذاب أ ِليم)
-نفي الخيار عن املؤمنين إذا صدر حكم عن رسول هللا ﷺ:
َ ُ َ َ ْ ُ َ َ ُ ان ملُ ْؤمن َوَال ُم ْؤم َنة إ َذا َق َض ى َّ ُ
ََ َ َ
اّلل َو َر ُسول ُه أ ْم ارا أن َيكون ل ُه ُم ال ِخ َي َرة ِم ْن أ ْم ِر ِه ْم). ِ ِ oاآلية( :وما ك ِ ِ
َُْ ْ ُ َ ْ َ َ ُُ َ ْ َ ُْ ُ َ ْ
اس َتط ْع ُت ْم). وهَ ،وإذا أ َم ْرتك ْم ِبأمر فأتوا ِمنه ما اج َتن ُب ُ
oالحديث ( :فإذا ن َهيتك ْم عن ش يء ف ِ
-بيان أن املعرض عن سنته واقع في النفاق:
َ
الر ُسول َرأ ْي َت ْاملُ َنافق َين َي ُ
ص ُّدو َن َع َ َ َ َ َ ُ ْ َ َ َ ْ َٰ َ َ َ َ ه ُ َ َ
ص ُدودا).
نك ُ
ِِ ِ ه ى ل oاآلية( :و ِإذا ِقيل لهم تعالوا ِإلى ما أنزل اَّلل و ِإ
-حرمة التقديم بين يدي سنته ﷺ:
اّلل ۚ إ َّن َّ َ َ َ َ َّ َ َ ُ َ ُ َ ّ ُ َ ْ َ َ َ َّ
اّلل َو َر ُسوله َو َّات ُقوا َّ َ
اّلل َس ِميع َع ِليم). ِ ِِ oاآلية( :يا أيها ال ِذين آمنوا ال تق ِدموا بين يد ِي ِ
-األمر بالرد إلى الرسول ﷺ عند التنازع:
ْ ُ ُ ْ ُ ْ ُ َ َّ ْ َ َ ُ َ َّ ََ َ ُْ
اّلل َوال َي ْو ِم اآل ِخ ِر). اّلل َو َّ ُ
الرسو ِل ِإن كنتم تؤ ِمنون ِب ِ oاآلية( :فإن تنازعت ْم ِفي ش ْيء ف ُردوه ِإلى ِ
55
-بيان طبيعة القدوة في شخص النبي ﷺ واألمر باتباعه:
ْ َّ ُ ْ َ َ َ َ ّ َ َ َ َ ْ ُ َّ َ ْ َّ َ ْ َ َ َ ُ
اّلل َوال َي ْو َم اآل ِخ َر). اّلل أسوة حسنة ِملن كان يرجو ُ
oاآلية( :لقد كان لك ْم ِفي َرسو ِل ِ
قال ابن كثير( :هذه اآلية أصل كبير في التآس ي برسول هللا ﷺ في أقواله وأفعاله وأحواله).
َ َّ ّ ْ ُ ّ ّ َّ ُ ْ ُ َّ َ َ َ َ َّ ُ ُ َ َّ ُ oاآليةَ ( :فآم ُنوا ب َّ َ َ ُ
وه ل َعلك ْم َت ْه َت ُدون). اّلل ورس ِول ِه الن ِب ِي األ ِم ِي ال ِذي يؤ ِمن ِب ِ
اّلل وك ِلما ِت ِه وات ِبع ِ ِ ِ
قال ابن تيمية( :وذلك ألن املتابعة أن يفعل مثل ما فعل على الوجه الذي فعل).
ا
ثانيا :تفاصيل في طبيعة التصرافات النبوية
-األصل في أقوال النبي ﷺ وأفعاله وتقريراته أنها:
ّ .1
حجة.
.2تشكل بمجموعها مفهوم السنة النبوية.
.3منبع يصدر عنه في تقرير األحكام وبيان التشريعات.
-أقسام التصرفات النبوية ،منها:
.1القسم األول :التصرفات التشريعية:
هي التي يقصد بها البيان والتشريع وإيضاح كيفية امتثال األحكام الشرعية (كأفعال الصالة والحج) فهذا
ا ا
القسم هو الذي يطلب اتباعه فيه ،وقد يكون واجبا وقد يكون مستحبا.
.2القسم الثاني :التصرفات الجبلية:
كل ما صدر عن النبي ﷺ باعتبارات جبلية محضة (كالقيام ،والقعود ،واألكل ،والشرب) ليس املقصود
محال للتعبد ،فإن الرسول ﷺ مع نبوته بشر (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى ّا
إلي) بها التشريع وليست
ويستفاد من هذه التصرفات تأكيد اإلباحة.
.3القسم الثالث :التصرفات العادية:
ا ا
هي ما جرى من النبي ﷺ بمقتض ى العادة مما كان معروفا مألوفا في قومه وال تدل على قربة أو عبادة:
~ أفعال تدل على إباحة فعل الش يء ال استحبابه؛ ألن ذلك لم يقصد به التشريع ،ولم يتعبد به.
ا
(كأحواله في مأكله ومشربه وملبسه ومنامه ويقظته :كأن َيأكل الدباء ،أو أن يبيت طاويا يربط الحجر على
بطنه أو ينام على الحصير ،أو يلبس القطن أو يطيل الشعر).
~ أفعال شرعية إذا ورد األمر بش يء من األمور العادية أو جاء الترغيب فيها أو وجدت القرينة التي تدل
على قصد التشريع؛ ألن الشارع قصد إخراج هذه العادات من حد العادة إلى حد التعبد.
(كلبس البياض من الثياب ،وإعفاء اللحية ،وتوجيه امليت في قبره إلى القبلة ،وما يتعلق بأبواب اآلداب كآداب
النوم ،وآداب األكل والشرب ،وآداب السالم والعطاس ،وآداب التخلي).
56
.4التصرفات الجتهادية :التفاصيل الحقا.
.5التصرفات الخاصة به ﷺ:
هي التي ثبت بالدليل اختصاصه بها (كالجمع بين تسع نسوة ،والتبرك بآثاره) ،ويحرم التأس ي به فيها.
.6التصرفات املعجزة:
كخوارق العادات التي أجراها هللا تبارك وتعالى على يد نبيه سواء قصد بها التحدي أو لم يقصد ،وليس
ا
محال للتكليف ،وهو بإذن هللا تعالى الذي خرق ثمة مدخل لالقتداء به ﷺ فيها ألن الخارق نفسه ليس
العادة حقيقة.
ا
ثالثا :إشكالية السنة التشريعية وغير التشريعية
-أعمق اإلشكاليات في التعاطي مع السنة النبوية:
oاالتكاء على فكرة تقسيم السنة النبوية إلى )1 :سنة تشريعية )2 .سنة غير تشريعية.
oثم توسيع مجاالت السنة غير التشريعية على حساب التشريعية.
oفتكون النتيجة تضييق مجال السنة النبوية في الشأن التعبدي.
-تحاول الخطابات العلمانية من خالل اإلشكالية السابقة ،ترسيخ مبدأ املفاصلة بين الشأن الديني والشأن
ا
الدنيوي ،فأكثر األحاديث حظوة وحضورا لديهم قول الرسول ﷺ( :أنتم أعلم بأمور دنياكم).
-أحاديث داخلة في إطار السنة التشريعية:
صيد الكلب ،وحل ميتة السمك ،وميتة الجراد ،وتحريم كل ذي ناب من السباع ،وكل ذي مخلب من الطير ،والنهي
عن األكل والشرب فى صحائف الذهب والفضة ،والنهي عن األكل في أواني الكفار إال بعد غسلها.
57
-رأي الشيخ في سبب املشكلة هو:
االتكاء على هذه القسمة اإلصطالحية (سنة تشريعية وغير تشريعية) إلخراج جملة تقل وتكثر من السنة
التشريعية وإدخالها في إطار السنة غير التشريعية بغير انضباط شرعي وال معرفة صحيحة بطبيعة االجتهاد
النبوي وما يتصل بها من مظاهر العصمة.
-تدرجت الجناية على السنة النبوية تحت ذريعة (السنة غير التشريعية) كما يلي:
oكان الكالم عن بعض الجوانب املتعلقة بمظهر املسلم (كإعفاء اللحية وتقص ي الشارب).
ا
oامتد الكالم إلى أقوال النبي ﷺ في أبواب (الطب) جميعا.
oازداد األمر لتخرج تصرفات النبوي ﷺ السياسية من السنة التشريعية.
ا
oإخراج السنن املتعلقة بالشأن الدنيوي عموما من السنة التشريعية تحت بند ( أنتم أعلم بأمور دنياكم).
-ال بد من اإلحاطة بثالثة معاني لإلجابة على هذه اإلشكاليات:
.1أوال :طبيعة اإلجتهادات النبوية
~ مسألة وقوع اإلجتهاد من النبي ﷺ مسألة خالفية في كتب األصوليين ،خالصة ما فيها:
ا
)1ثمة من منعه مطلقا.
)2ثمة من أجازه في الشأن الدنيوي بخالف الديني ،ونقل بعضهم اإلجماع عليه.
)3ثمة من أجازه في الشأن الدنيوي والديني وهم األكثر ،وهو األظهر ،وهم صنفان:
ا ا
ابتداء عن وقوع الخطأ. -من أدخل اجتهاده في باب العصمة فجعل االجتهاد منزها
من أخرج اجتهاده عن حد العصمة ف ّ
جوز وقوع الخطأ فيه ،ولكن منع من اإلقرار عليه -
فيكون معصوما فيها باعتبار املآلّ .
عبر عنه بعض الحنفية بالوحي الباطن.
~ أنواع الوحي:
)1الوحي الباطن :اجتهاده ﷺ الذي وقع إقراره.
ا
ابتداء. )2الوحي الظاهر :ما كان منه ﷺ من تصرفات بمقتض ى الوحي
~ أوسع ما في األقوال األصولية في السنة غير التشريعية :أنه يمنع من اإلقرار على الخطأ ويؤكد على أن
الوحي سيعقب ذلك بتأييد أو سكوت أو تخطئة فيؤول األمر الى معرفة الحق في املسألة بالوحي إما
بالتأييد واإلقرار أو بالتخطئة والتصويب.
~ األخذ بإجتهاد النبي ﷺ أو تركه مرهون بطبيعة ما يعقبه من وحي أو حدث يكشف عن صوابية
ا
االجتهاد أو خطئه ،وال يصح أن يترك مطلقا.
58
~ مثال على إجتهاد النبي :قصة أسرى بدر
في قصة أسرى بدر اتخذ الرسول ﷺ قراره بأخذ الفدية منهم ال القتل بعد مشاورته أبا بكر (ورأيه
َ ُ َ َ َ مبينا الخطأَ ( :ما َك َ ا
ان ِل َن ِب ّي أن َيكون ل ُه أ ْس َرى َح َّتى أخذ الفدية) وعمر (ورأيه القتل) ،ثم نزل الوحي
َّ ْ َ َ ّ َ َّ اّلل ُير ُيد ْاآلخ َر َة ۗ َو َّ ُ
ض الد ْن َيا َو َّ ُ ُْ َ َْ
األ ْرض ۚ ُتر ُيدو َن َ
ّلل َس َب َق
ِ ا ن م
ِ اب ت ك
ِ الو ل * يم كِ
اّلل َعزيز َ
ح ِ ِ ِ
َ َ
ر ع ِ ِ يث ِخن ِفي
َ ُ ُ َّ َ ْ ُ ْ َ َ ا َ ّ ا َ َّ ُ َّ َ َّ َّ َ َ َ َ ُْ َ ََ ُ
اّلل غ ُفور َّر ِحيم ). مل َّسك ْم ِف َيما أخذت ْم َعذاب َع ِظيم * فكلوا ِمما غ ِنمتم حالال ط ِيبا ۚ واتقوا اّلل ۚ ِإن
وجعلت املوافقة هنا من فضائل عمر رض ي هللا عنه) -ابن مسعود. (ونزل القرآن بقول عمرُ ،
(استشكال القرطبي :ما سبب التوعد بالعذاب في تتمة اآلية؟ الجواب :أن الوعيد ملن أراد الفدية يريد
عرض الدنيا ،وهذا ليس للنبي وال ألبي بكر).
ا
.2ثانيا :األصل في التصرف النبوي صدوره عنه باعتبارات النبوة:
~ بعض الدالئل الشرعية املطلقة املقررة لهذا األصل:
-قول هللا تعالىَ ( :و َما َينط ُق َعن ْال َه َوى ،إ ْن ُه َو إ َّال َو ْحي ُي َ
وحى) ِ ِ ِ ِ
-قول النبي ﷺ لعبدهللا بن عمرو( :اكتب فوالذي نفس ي بيده ما يخرج منه إال حق)
~ األصل في التصرفات النبوية أنها واقعة باعتبارات النبوة ،فال يصح الخروج عن هذا األصل إال مع
القرائن املرجحة للخروج عنه.
~ الصحابة في تعاطيهم مع ما يصدر عن النبي :أن تصرفاته موضع للتسليم واالنقياد ،فإذا اشتبه عليهم
طبيعة هذا التصرف بادروا إلى السؤال للتحقق ،بعد وجود قرينة دفعت لحالة االشتباه.
ا
~ أمثلة تدل على أن األصل في الخطاب النبوي املتعلق بشأن الدنيا أن يكون موضوعا للتشريع:
ا
oحادثة تأبير النخل وترك الصحابة للتأبير ،ثم استبان لهم أن النبي ﷺ إنما قاله من عنده ظنا وليس
عن الوحي.
ُ
oجواب الرسول ﷺ للحباب بن املنذر ابن الجموح عن املنزل ( :بل هو الرأي والحرب واملكيدة).
oحادثة مشاطرة تمر املدينة ،حين سأل الحارث الغطفاني ذلك للرسول ﷺ فكان رده له( :حتى أستأمر
السعود) ،فكان سؤالهم للرسول" :أوحي من السماء ،فالتسليم ألمر هللا ،أو عن رأيك".
ا
oاستجارة ُ(مغيث) بالرسول ﷺ ليشفع له أمام زوجته وسؤالها للرسول ﷺ إن كان أمرا ،ورده عليها ﷺ:
( ال إنما أنا شافع) .ثم سالت دموعه لتعجبه من حال املغيث وزوجته.
59
ا ا
.3ثالثا :طبيعة االجتهاد النبوي مقارنا باجتهاد غيره:
~ ليس من الصحيح التقليل من شأن االجتهادات النبوية وتسويتها باجتهادات غيره ،ألن:
)1أن النبي ﷺ أعلم وأعقل وأورع ممن دونه يقينا منه.
)2احتمال أن يصيب النبي ويخطئ غيره ،أقرب من أن يكون الخطأ منه ﷺ.
~ ما كان من إجتهادات النبي ﷺ:
)1ناشئة عن نظر في األدلة واستنباط لألحكام ،أو تخير في أساليب الدعوة أو سياسة الناس،
فاألصل أنه مصيب فيها ابتداء وال يصح الخروج عن هذا األصل إال بدليل ّبين.
ا
)2متصال بشؤون الدنيا املحضة (كطرائق الزراعة والصناعة واإلدارة وتدابير الحرب) ،فاجتهاده فيها
معتبر إذ األصل أنه ال يتكلم فيها إال عن معرفة وعلم ،مع إمكان خطئه ﷺ وأن يكون غيره أعلم
بها منه.
ا
~ يشير إبن القيم الى أن الخطأ من النبي ﷺ فيما خفي عليه من شأن الدنيا دليال على نبوته.
-ال يصح تعكير مبدأ التسليم للوحي ومنه السنة ،إلن التصرفات االجتهادية في األصل باب مضيق ،والخطأ في
ُ
هذا الباب املضيق مضيق ،ومتى ق ِّدر وقوع ش يء منه فسيعقبه بيان يكشف عن وجه الخطأ.
ا
رابعا( :أنتم أعلم بأمور دنياكم)
ا
-من أكثر األحاديث النبوية دورانا على ألسنة العلمانيين ما جاء من حديث تأبير النخل :أن النبي ﷺ مر بقوم
ا
يلقحون فقال( :لو لم تفعلوا لصلح) قال :فخرج شيصا ،فمر بهم ،فقال( :ما لنخلكم؟) قالوا :قلت كذا وكذا،
قال( :أنتم أعلم بأمر دنياكم)
-الرد على من يجعل هذا الحديث أصال في إخراج األقوال واألفعال النبوية املتصلة بشأن الدنيا عن دائرة
التشريع:
.1أن مثل هذا التوسع في رد السنة مخالف لهدي أهل العلم وفهمهم لهذا الحديث .ومن ذلك باب للنووي
ا
بعنوان (باب وجوب امتثال ما قاله شرعا ،دون ما ذكره ﷺ من معايش الدنيا على سبيل الرأي).
ا
.2أن األمور التي يقال فيها( :أنتم أعلم بأمور دنياكم) هي تلك األمور التي لم تتناولها األدلة الشرعية تناوال
ا ا ا
عاما أو تناوال خاصا.
60
ا
.3األصل في كل ما تناولته النصوص الشرعية -ولو كان متعلقا بأمر الدنيا أو غيره -أن يكون على سبيل
التشريع إال أن يدل الدلبل أو القرينة على خالف ذلك .وهو ما جعل الصحابة يتركون تأبير النخل.
.4التأمل في حديث تأبير النخل يبين أن ثمة قرائن في الحديث تفيد خروجه عن دائرة التشريع؛ فالرسول
ا ا
ﷺ لم ينههم نهيا مطلقا عن التأبير ،وغالب الروايات في مبتداها ومنتهاها متضافرة على أن ما ذكره
ا
الرسول ﷺ للصحابة كان من قبيل الرأي املتعلق بأمور املعاش ،ولم يكن كالما على سبيل التشريع.
-قوله ﷺ( :أنتم أعلم بأمر دنياكم) ال يتعارض مع النصوص الشرعية التي جاءت متعلقة بأمور الدنيا ،وبالتالي
فإنه ال يمكن أن يستفاد من ذلك الحديث أن جميع املسائل املتعلقة بالنظام السياس ي هي من األمور املتروكة
للبشر ،وذلك ألن النظام السياس ي جاءت في شأنه نصوص شرعية من الكتاب والسنة عامة.
ا
خامسا :أنموذج تطبيقي في شأن السنة السياسية
-من التطبيقات التي تبين توظيف العلمانيين لهذا الحديث التمييز بين مقام النبوة ومقام رئاسة الدولة ،والذي
ا
خرج بنتيجة أن الفعل السياس ي النبوي خارج عن إطار التشريع وليس محال الستنباط األحكام بل هي
اجتهادات مخصوصة بسياقاتها الزمانية واملكانية ليس لها صفة العموم واإلطالق.
ا
-هذه الفكرة لقيت قدرا من الترحاب عند بعض املنتسبين للعمل اإلسالمي ومنهم الدكتور (سعد الدين
العثماني) في كتابه (الدين والسياسة تمييز ال فصل).
-مالحظات على كتاب (الدين والسياسة تمييز ال فصل):
.1العلمانية بمفاهيم أصولية:
oيجسر الكتاب الهوة بين اإلسالم والعلمانية ،ويفتح الباب لقارع العلمانية للولوج للحياة السياسية
بوجه شرعي.
oفي عالقة الدين بالسياسة ثمة مستويان من الشريعة امللزمة:
~ القيم العامة مثل العدل ،الصدق ،الوفاء ..الخ( .ال مشكلة فيها بالنسبة للعلمانين)
~ األحكام الجزئية التفصيلية مثل إقامة الصالة ،تحريم الربا ،إقامة الحدود ..الخ( .العلمانيون
يريدون فصل الدين عن الدنيا).
oموقع الدكتور سعدالدين من هذان املستويان:
~ القيم العامة :يقول الدكتور (الدين حاضر في السياسة كمبادئ موجهة ،لكن املمارسة
السياسية مستقلة عن أي سلطة باسم الدين).
~ األحكام الجزئية التفصيلية :فهي عند الدكتور خارج دائرة اإللزام.
61
.2تفريغ السنة النبوية من مصدرية الوحي في املجال السياس ي:
ا ا
oتفريغ السنة النبوية شيئا فشيئا من دائرة اإللزام الشرعي ،ليتسع مع الزمن مجال السنة غير
التشريعية على حساب التشريعية.
ا
oيتكئ الدكتور في هذا التقرير على كالم لإلمام القرافي ،والحق أن القرافي ما أراد أبدا تقرير ما ذهب
إليه العثماني العتبارين:
ا ا ا
)1أن القرافي يتكلم في تمييز تصرفات النبي ﷺ باعتبار مقاماته إماما وقاضيا ومفتيا وهكذا،
ا
فإخراج الخطاب النبوي السياس ي من دائرة التشريع مطلقا اتكاء على تمييز مقام اإلمامة وتحميل
ذلك اإلمام القرافي خطأ ّبين.
ا
)2أن القرافي ال ُيخرج تصرفات النبي ﷺ بمقتض ى إمامته من دائرة التشريع مطلقا وإنما يجعل
أحكامها مختصة باألئمة.
)3أن العثماني جعل مستند التصرف السياس ي هو املصلحة الراجحة أو الخالصة فقط.
.3جاء في الكتاب ذكر بعض املصطلحات املجملة أو الوافدة والتي تحمل في طياتها حمولة فكرية للبيئة
التي ولدت فيها ،وبالتالي فجعلها موضع قبول بإطالق فيه قدر كبير من اإلشكال ،فمن هذه األمثلة
ا
)الدولة املدنية ،القانون املدني ،الديمقراطية ،املواطنة( فجميعا جاءت كصيغ مقبولة في النظام
السياس ي اإلسالمي.
62
املزلق السابع :مشكلة السؤال واالستشكال
بيان املزلق
أن مناقشة األحكام الشرعية بل واستشكالها ال يناقض مبدأ التسليم بها ،فالصحابة رضوان هللا عليهم كانوا
يناقشون النبي ﷺ ويوردون استشكاالتهم بين يديه ،فليس من حقكم غلق هذا الباب ( ُبق ْفل التسليم)
فتطلبوا التسليم لنصوص غير مفهومة أو مشكلة ،وكيف يمكن للمرء االنقياد ملا ال يستطيع فهمه أو ال
يتصور معناه ناهيك عن العمل به وتطبيقه.
املناقشة
يتضح الفوارق الصميمية بين بواعث الصحابة في تساؤالتهم وطبيعة تلك التساؤالت ،وبواعث تساؤالت واستشكاالت
من يتخذ من االستشكال قنطرة لهدر النصوص من خالل:
.1طبيعة استشكاالت الصحابة.
.2مراعاة بواعث االستشكال.
ا
أوال :طبيعة استشكاالت الصحابة
-درجات استشكاالت الصحابة حيال النصوص الشرعية:
.1استشكاالت تتضمن في طياتها مبدأ التسليم للنص الذي كان مبعث التسا ؤل:
ابتداء باملعنى العقدي الذي تضمنه الحديث ،وإنما وقع االستشكال على مسألة فقهيةا oيتضمن اإلقرار
عملية بعد أداء واجب التسليم للنص.
ا
oمثال :حين أخبر النبي ﷺ بخبر الدجال وتحدث عن مدة مكثه في األرض وأخبر أنه يمكث أربعين يوما
يوم كسنة ويوم كشهر ويوم كجمعة وسائر أيامه كأيامكم ،سألوه مستشكلين :يا رسول هللا فذلك
اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صالة يوم؟ قال( :ال اقدروا له قدره).
ا
.2استشكاالت تتضمن قدرا من التسليم وتتطلب تكميله:
ا
oنشأ اإلستشكال من التسليم لنص في املسألة ،فلما ورد نص آخر أوهم قدرا من املعارضة للنص
ا
األول ،وقع التساؤل لعدم إمكانية التسليم للنصين معا مع بقاء وهم التعارض.
oأمثلة:
~ ما جاء عن حفصة رض ي هللا عنها قالت :قال النبي ﷺ( :إني ألرجو أال يدخل النار أحد ،إن شاء
ا
هللا تعالى ممن شهد بدرا ،والحديبية) قالت :قلت :يا رسول هللا ،أليس قد قال هللا( :وإن منكم
63
ا
إال واردها كان على ربك حتما مقضيا) ،قال( :ألم تسمعيه يقول( :ثم ننجي الذين اتقوا ،ونذر
ا
الظاملين فيها جثيا)).
~ ما جاء عن أم املؤمنين عائشة عن النبي ﷺ قال( :من نوقش الحساب عذب) قالت :قلت :أليس
ا ا
يقول هللا تعالى( :فسوف يحاسب حسابا يسيرا) قال( :ذلك العرض).
oاملسلم في حال توهم التعارض بين دالالت النصوص إما:
~ يسلم لواحد منها ،وال يسلم لآلخر.
ا
~ يسلم لها جميعا مع بقاء وهم التعارض.
ا
~ يسلم لها جميعا بعد ارتفاع وهم التعارض.
والواجب تحصيل املقام الثالث بحسب الوسع والطاقة ،إذ من أصول منهج أهل السنة والجماعة
درء التعارض عن النصوص الشرعية .ولو قدر أن املرء عجز عن معرفة وجه الجمع ،فله أن يتوقف
حتى يستبين له وجه الجمع ليقع التسليم ملقتض ى النص كما يريده هللا.
.3استشكاالت يراد منها التأكد من داللة النص وتثبيته
ا ا ا
oمثال :ما جاء عن عائشة رض ي هللا عنها قالت :قال رسول هللا ﷺ( :تحشرون حفاة عراة غرال) قالت
عائشة فقلت :يا رسول هللا الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض؟ فقال( :األمر أشد من أن يهمهم
ذاك).
oالتساؤل الذي وقع من عائشة حملها عليه شدة وقع الخبر عليها مع غلبة طبع الحياء عليها فوقع
ا
السؤال استعظاما ،فلما بين النبي األمر لم يكن منها إال اإلذعان والتسليم.
.4استشكاالت ترتب عليها االستدراك على بعض األخبار:
oهذا اللون هو ألصق األنواع بأصل اإلشكال ،وهو يفض ي إلى أثر من جهة قبول الرواية وردها.
oمن أشهر األمثلة إستدراكات أم املؤمنين عائشة رض ي هللا عنها على غيرها من الصحابة.
(جمعها أبي منصور البغدادي ،والزركش ي في "اإلجابة ملا ما استدركته عائشة على الصحابة"،
والسيوطي في "عين اإلجابة فيما استدركته عائشة على الصحابة").
oأمثلة:
ُ
~ ذكر عند عائشة قول ابن عمر( :امليت يعذب ببكاء أهله عليه) فقالت :رحم هللا أبا عبدالرحمن
ا
سمع شيئا فلم يحفظه ،إنما مرت على رسول هللا ﷺ جنازة يهودي وهم يبكون عليه ،فقال( :أنتم
تبكون وإنه ليعذب).
64
~ عن عروة بن الزبير قال :قالت عائشة :ما يقطع الصالة؟ قال :فقلنا :املرأة والحمار .فقالت :إن
املرأة لدابة سوء ،لقد رأيتني بين يدي رسول هللا ﷺ معترضة كاعتراض الجنازة وهو يصلي.
ا
~ ما جاء عن أمير املؤمنين عمر بن الخطاب رض ي هللا عنه في شأن املطلقة ثالثا أنه قال( :ال نترك
كتاب هللا وسنة نبينا ﷺ لقول امرأة ال ندري لعلها حفظت أو نسيت لها السكنى والنفقة ،قال
َ َّ َ ْ َ ْ هللا عز وجلَ ( :ال ُت ْخر ُج ُ
وه َّن ِمن ُب ُي ِوت ِه َّن َوال َيخ ُر ْج َن ِإال أن َيأ ِت َين ِب َف ِاحشة م َب ِّي َنة ۚ)). ِ
~ قول أبي هريرة (يا ابن أخي إذا سمعت حديثا عن رسول هللا ﷺ فال تضرب له مثال).
oمالحظات حول االستدراكات:
~ أن الذي أوجب حالة االستدراك هنا هو ترجيح رواية في مقابل رواية أخرى ،فيرى املستدرك أنه
ُ
ضبط لفظ النبي ﷺ على أمر يخالف ما نقل إليه ،فيستمسك بما يعرفه عنه ويتطرق إليه الشك
في خطأ الناقل.
~ وقد يتأكد األمر أكثر بتعضيد ظاهر القرآن ملوقف املستدرك كاستدالل عائشة مع روايتها بقوله
تعالى( :وال تزر وازرة وزر أخرى) ،واستدالل عمر باآلية( :ال تخرجوهن من بيوتهن وال يخرجن إال
أن يأتين بفاحشة مبينة).
oفاإلستدراك هو من قبيل (نقد املتون) ومسالك (الجمع والترجيح) بين األدلة وله منهجيته العلمية
املنضبطة ،فلم يكن الصحابة يردون األحاديث واآلثار بالتشهي أو ملحض االشتباه.
ا
ثانيا :مراعاة بواعث االستشكال.
ا ا
-فرق هائل بين من يورد إشكاله املتعلق بالنص طلبا لالنقياد له واإلذعان وبين من يستشكل معترضا ليهدر
النص.
ا
-ممارسات الصحابة خالية من االعتراض أصال ،فمهما استعظموا داللة النص واستشكلوه فليس لهم حياله
إال التسليم واالنقياد واإلذعان.
ا ا ا
-حديث سارت األمة عليه متقبلة له ُيبعد جدا أن يكون موضعا لالعتراض والرد.
65
املزلق الثامن :مشكلة تزكية النفس
بيان املزلق
كالمكم في مبدأ التسليم ورفعه كاملنارة على منهجكم ثم ادعاؤكم االلتزام به والسير عليه ،متضمن تزكية
َ َ ُ َ ََ ُ
لذواتكم ،وهو محظور ،وقد قال هللا تعالى( :فال ت َزكوا أ ُنف َسك ْم ُه َو أ ْعل ُم ِب َم ِن َّات َقى).
املناقشة
ا
ابتداء أو إلى مبدأ التسليم ذاته ،بقدر ما هو محاولة لتشويه حملة -هذا اإلشكال ليس موجها إلى النص
ا
الخطاب السلفي بادعاء أنهم يمارسون دورا من تزكية النفس والوصاية على النص ،فكأن فهمهم وحدهم
للنص هو الفهم الصحيح ،وأن تسليمهم هو التسليم الشرعي السالم من اإلشكاالت.
-الرد:
oفأما دعوى الوصاية على النص فهو عين االستشكال الوارد في املزلق األول وسبق الرد عليه.
oوأما تزكية النفس فدعوة الناس إلى تحقيق مبدأ التسليم والتذكير به والتأكيد على أهميته واجب شرعي،
يجب أن يتعاون على تحقيقه والدعوة إليه الجميع ،بغض النظر عن طبيعة املمارسات .وفي حالة وجود
ا
تحفظ على بعض التفاصيل من مشهد التسليم في الخارطة السلفية ،فال يصح إطالقا ان يكون ثمة
تحفظ على املبدأ ذاته.
66