من الطبيعي أن ُتواَج ه عملية إعادة النظر في المعتقدات
المتوارثة ،عدم قبول تلقائي ممن يخصهم السؤال ،وصوال إلى مقاومتها ،كونها أصبحت تمثل الهوية ،واإلنتماء الثقافي واإلجتماعي ،إلى محيط غير قابل لإلستبدال ،وغالبًا ما يكون إعادة التطبع على المسميات الدينية والمذهبية ،صعبا لدرجة اإلستحالة أحيانا ،ألن تأثيره على كيفية رؤية الشخص لنفسه ولآلخرين كبيرا ،حتى جاءت غزة َت ُقُّص َع َلْي َك َأْح َس َن اْلَقَص ِص ِبَم ا َأْو َح ْي َن ا ِإَلْي َك َه َذ ا اْلُقْر آَن َو ِإْن ُكْن َت ِم ْن َقْب ِلِه َلِم َن اْلَغ اِفِليَن . ومن كان يتخيل أن يرى ماليين "المشركين!" تخرج في المدن األوروبية واألمريكية مناصرة للقضية الفلسطينية، ومعهم آالف المتضامين النشطاء والمؤثرين من ذوي البشرة البيضاء على منصات التواصل ،في حين تُمنع المظاهرات في المدن المصرية ،ويتشفى إعالميين عرب و "مسلمين!" بالمصاب الغزي ،مما يثير تساؤالت حرجة حول قيمة المعقتدات والطقوس ،أيًا كانت ،مع تهافت القيم األخالقية، والمساومة في مبادئ العدالة اإلنسانية ،وصوال إلى انعدام الحس العاطفي تجاه نصرة المظلومين. ولعل أكبر المفاجئات ،كانت في خروج الكثير من الدعوات، لشيوخ السلفية الوهابية ،تحاول بإستماتة ،إعادة بعث الفتنة الطائفية ،محذرين الفلسطينيين فيها ،من الوقوع بخطيئة اإلستعانة والتنسيق مع أتباع الطائفة الشيعية "المجوس!"، وبحملة منظمة تجلب كثيرا من األسئلة ،وبعض الشبهات، في حين خرج الناس من أقصى المشرق والمغرب ،ومن كل الملل والنحل بتلقائية ،مستجيبين لنداء الفطرة اإلنسانية، ومتجردين من كل انتماء ،ألي فكرة جدلية ،ومدفوعين بتمام البراءة والعفوية ،مستنكرين للباطل ورافضين للظلم ،حتى ظهر شيوخنا األعراب ،عن أقنعتهم كاشفين ،وعن وجهتهم فاصحين ،وعن هيئتهم "األمر بالترفيه والنهي عن المعروف" معلنين ،بالرغم أن أعظم حجة تقدموا بها ،هو رد السؤال أوال وآخرا ،إلى ما يراه ولي األمر ،والسلطان، والملقب عندهم بأمير المؤمنين عبر األزمان ؛ طاعته من طاعة هللا ورسوله ،ما دام ال يمنع الناس من ممارسة تعاطي جرعات منتظمة ،من حركات ثني األجساد قياما وقعودا، يدمن فيها الموالين على تمارين الخضوع واإلستسالم.
تلك هي قصة المسجد الضرار ،والمعبد ،الذي ُاعيد
مسلخ لذبح الدين ،بتزوير أركانه ،ولمسخ ٍ توظيفه ،إلى المتدين ،بتقزيم أولوياته ،وقد هُبط بممارسة الصلوات ،من جهة تهذيب النفوس ،إلى حظيرةٍ لتخريج التيوس ،بل ُو ِ أصبحت المؤشر األكبر ،على شيطانيةٍ محتملة ،وكامنة لهذه الطقوس؛ وإال ،كان إلقامة الحق والعدل ،موقعا أولى في أركان الدين ،ولإلحسان ،غاية أسمى في سلم تطلعات المتدينين .وأما تغييب األخالق ،عن ركائز اإلسالم ،فتلك وهللا كارثٌة ،ظهرت بأخزى تجلياتها ،في موقف هؤالء الشيوخ من المشهد الغزي؛ فالصوت غير المناصر للحق الفلسطيني هذه األيامُ ،يعد نشازا ،ومن أنكر األصوات ،كفتوى هؤالء الشيوخ ،بما ال يجيز الدفاع عن القدس ،ومظلومية أهلها ،في حين كان القتال عندهم ،واجبا في أفغانستان وسوريا وليبيا، وحيثما كان للمعسكر الصهيوأمريكي مصالح ومآربُ ،اعتبر جهادا في سبيل هللا ،بل ولشدة هوسهم بالغزو ،قال الشيخ محمد بن عثيمين ،بأنه “لو كنت في جهاد ،وكان الحاكم يزني كل يوم بمومس في خيمة فعليك إتباعه ،حتى لو كان يلوط أيضا” ،وقد علق أحد الشيوخ المعاصرين في مقابلة مع اإلعالمي الكويتي محمد المال أن "ابن باز ،واأللباني ،وصالح الفوزان ،وال أي عالم سلفي ،ال ينازعون في هذا الكالم البتة". فممن يستلهم هؤالء الشيوخ وحيهم؟
وهكذا عن وعاظ السالطين بدأنا نسأل متأملين ،وعن مفتين
القصور باحثين ،وعن دعوى المجوس والشرك من التاريخ والقرآن محققينَ ،ي ْو َم ِئٍذ ُتْع َر ُضوَن اَل َت ْخ َفى ِم ْنُك ْم َخ اِفَي ٌة . أوال :المجوس والشرك عبر الحضارات من الناحية التاريخية ،لم أجد بداية توثق لوالدة دينا ،أو فرقة، أو مذهبا ،أو حتى أخوة سرية ،تسمى المجوسية ،وإنما هي حسب التعريف المتداول ،وصفا لمجموعة رجال الدين، والعاملين في خدمة المعابد التي كانت منتشرة قديما ،كما هي في كل عصر ،ولكنها ُاعتبرت من أهم سمات ومظاهر الحضارات الفرعونية ،وما بين النهرين ،وصوال إلى شرق آسيا ،والتي ازدهرت في األلفيات األربعة قبل الميالد .وقد اشتهر معنى الكاهن في الثقافات القديمة بخادم اإلله ،وكذلك المعبد ُعرف ببيت اإلله ،والذي كان يسمى أيضا "بيت الملك" الذي ُخ صص المعبد من أجله ،مما يفسر تالزم ظاهرة بناء المعابد ،مع والدة أنظمة الحكم الملكي واالمبراطوري ،ولم يفترقا عبر العصور ،فكل حاكم يستعبد الناس ،إنما يفعل ذلك بأمر هللا ،وكل ملك هو في الحقيقة الفرعون ،الذي تتجلى به صورة اإلله في األرض. ومهما تعددت طرق التعبير والمسميات لهذه الطبقة ،من حضارة ألخرى ،بقيت الحقيقة ساطعة ضمن إطار ،يتولى كهنة المعبد تنظيم تفاصيله ،مهمتهم المحافظة على ازدهار المزاوجة بين الدين السائد ومصلحة السلطة ،وقد ُعرف هؤالء المتخصصون في بالد فارس بعصور متأخرة بالمجوس ،حيث اشتقت التسمية من طبقة "الموغان"( ،مفردها الموغ) بمعنى الساحر ،والتي ُاخذت منها الحقا كلمة ( ،)magicوكان ذلك طبيعيا عند الثقافات بدائية المنشأ ،ولكن مع ازدهارها ،تطور السحر معها ،ليصبح معتبرا من أهم العلوم الروحية ،يحظى معها الممارسون المحترفون ،احترام القصر والرعية في نفس الوقت. فبفضل السحرة ،وكهنة المعبد عند المصريين ،وتناغما مع ظاهرة عبادة الشيطان التي كان لها انتشارا هناك ،تحولت الديانة التوحيدية القديمة ،إلى مذهب "مجوسي" الصبغة والثقافة ،جعل من فرعون إلها ،والذي كان يجلس أيضا على قمة هرم الكهنوت ،في حين كان يطلق على خدمة المعبد إسم "واب". وبعد تسرب الطقوس الوثنية المصرية ،وعبادة العجل ،إلى الثقافة اليهودية ،قام الأحبار ،أثناء فترة السبي ،وتحت سطوة التأثر واإلعجاب بالثقافتين الفارسية والبابلية ،ال سيما طقوس الشعوذة والسحر ،بإكمال اإلنقالب على التعاليم الموسوية، وتحويلها إلى تلمودية المسمى ،ولكن مجوسية الجوهر ،جعلت من الدين ،منظومة قومية وعنصرية ،وأصبح للكهنة والمعبد، دورا محوريا في تقديس السلطة السياسية ،وإدارة الشؤون االقتصادية واإلجتماعية.
وأما المسيحية الكاثوليكية ،نرى على األغلب ،دور القيصر
وقساوسة روما ،بإختزال تعاليم المسيح السماوية ،بطبقية كهنوتية ،مع أن قسطنطين نفسه ،والذي تم تعميده على فراش موته ،ال أحد يعرف ،إن بقي مخلًصا للوثنية ،ال سيما مع وجود شكوك بتحوله للمسيحية ،كوسيلة لخدمة المصالح السياسية، وللحفاظ على تماسك اإلمبراطورية .وفي محاولة السلطة، تسهيل التحول من الوثنية إلى المسيحية ،قام القساوسة بتكييف بعض الطقوس والممارسات الوثنية ،لتكون أكثر قبواًل ضمن السياق الديني .ومع األيام ،بدأ دور الكهنوت المسيحي يتطور، ويأخذ مكانة مركزية في الحياة الدينية واالجتماعية لإلمبراطورية. فهل نستبعد أن يحذو فقهاء السلطان األموي سابقيهم ،حذو النعل بالنعل ،وفي تمام الموافقة مع نبوءة الرسول الكريم في المُلك العضوض ،وإن ُنسب إليه زورا ،ما يشرعن طاعة الحكام الفجرة "ما أقاُموا ِفيُك ُم الَّصالَة" ،وتبرير الحكم الجبري في تحريم الخروج على السلطان ،حتى لو كان شيطان ،كما أخرج مسلم في صحيحه " :يكون بعدي أئمة ال يهتدون بهداي وال يستنون بسنتي وسيقوم فيهم رجال قلوبهم قلوب الشياطين في جثمان إنس ،قال :قلت :كيف أصنع يا رسول هللا إن أدركت ذلك؟ قال :تسمع وتطيع لألمير وإن ضرب ظهرك وأخذ مالك فاسمع وأطع" .وقال فقهاء السلطان تعليال لذلك ،أنه دليل على وجوب طاعة األئمة وإن ظلموا ،مع أن اإلمام أبو حنيفة أفتى بالخروج على السلطان الجائر ،فضال عن تسابق العديد من علماء السلف والخلف ،بتفضيل العادل الكافر على المسلم الظالم ،بل أقول أن اإلسالم أولى بذلك الحاكم العادل، وأما من ظلم ،فالكفر أولى به ،حتى لو قام آناء الليل وأطراف النهار. وهذه تجربة في الحقيقة ،تتكرر في كل عصر يشهد صراعا بين الحكمة اإللهية ،والحكام المتألهين ،يكون الغلبة فيه لسلطان القوة ،يتوَّج باختطاف الدين وإعادة تشكيله ،ال سيما مع توظيف سياسة تفرقة الدين الواحد إلى شيع متعددة ،يُسهِّل سيادة السلطة عليها ،ألن المسألة الروحية كانت ،وال زالت، بضاعة في موضع التنافس األبدي بين قوتي الخير والشر. وبالنظر إلى كل هذه المعطيات التاريخية ،والتي توثق أسبقية سيادة "الثقافة" المجوسية ،على ظهور الديانة الزردشتية ،التي ُو لدت في فارس قبل ما يقارب من ثالثة آالف سنة ،لم يكن مستغربا ،أن يكون "الموغان" أول من يقف في وجه زرادشت ،ودعوته التوحيدية ،إلى أن طغت مع األيام سلطة المعبد بنكهتها الطقوسية ،والمعززة لسلطان الملك ،على حساب األسس الزردشتية بجوهرها الروحي واألخالقي ،حتى بدأ مسمى ذلك التيار المجوسي ،وتدريجيا ،يأخذ محل الدين الزردشتي ،وخصوصا مع ظهور مذاهب ،كالمزدكية والمانوية في مراحل الحقة ،انحرفت عن الدين األم ،وساهمت في إضعافه وتشويه معالمه ،حتى غدت المجوسية والزرداشتية في الثقافة المتوارثة ،كما لو كانا دينا واحدا ،وما هما كذلك؛ فاألولى ممارسة شيطانية ،والثانية عقيدة إلهية، بنفس الطريقة التي ال يجوز فيها الخلط بين الحركة الصهيونية ،األقرب إلى الفرعونية ،والديانة اليهودية الموسوية ،فهما غير مرتبطان أبدا ،مهما بدت المظاهر ساطعة .وكما أعطت اليونان بسقراطها ،اسم الفلسفة لمريدي ومحبي الحكمة ،إنسانية األصل والمنبع ،أعطت فارس لطبقة كهنة المعبد الزردشتي إسم المجوس ،مع أن الحكمة لم تكن يوما حكرا على اليونان ،وال المجوسية كانت اختراعا فارسيا.
ثانيا :المجوس والشرك في القرآن الكريم
مع اعتبار ما تعنيه كلمة المجوس في العرف التاريخي ،نجد
لهذه الطبقة إشارات قرآنية عديدة ،مع أنها لم ترد حرفيا سوى مرة واحدةِ" :إَّن اَّلِذيَن آَم ُنوا َو اَّلِذيَن َهاُدوا َو الَّص اِبِئيَن َو الَّن َص اَر ٰى َو اْلَمُج وَس َو اَّلِذيَن َأْش َر ُك وا ِإَّن الَّلـَه َي ْف ِص ُل َبْي َن ُهْم َيْو َم اْلِقَي اَم ِةۚ ِإَّن الَّلـَه َع َلٰى ُك ِّل َش ْي ٍء َش ِه يٌد ﴿ ﴾١٧سورة الحج" ،حيث نرى األمر بترك الفتوى بشأن إيمان األفراد والجماعات إلى هللا الخالق ،المطلع وحده على القلوب وسرها ،وبذلك يكون له وحده حق الفصل فيما ُاختِلف بين الناس ،والذين تم تصنيفهم إلى ست فئات ،في نفس درجة التكافؤ ،من حيث المبدأ ،وعدم جواز المفاضلة بينهم ،برغم كل ما يمكن أن يحمله هذا التوجيه من استنكار ،لوضع الذين آمنوا والذين أشركوا بنفس السلة ،تساؤل في إجابته ما يفتح بعضًا من األبواب الموصدة ،في وجه كل من يجرؤ على محاولة تفكيك اللغزية الدينية؛ فأين الذين كفروا والمنافقين والفاسقين ،ومن يقابلهم من الصالحين والمتقين ،ولماذا لم ُيشار إلى المسلمين؟
وفي موقع آخر (ومكرر) من كتاب هللاُ ،اعيد ذكر الفئات
األربع األولى ،دون األخيرتينِ" :إَّن اَّلِذيَن آَم ُنوا َو اَّلِذيَن َهاُدوا َو الَّن َص اَر ٰى َو الَّص اِبِئيَن َم ْن آَم َن ِبالَّلـِه َو اْلَيْو ِم اآْل ِخِر َو َع ِم َل َص اِلًح ا َفَلُهْم َأْج ُر ُه ْم ِع نَد َر ِّب ِه ْم َو اَل َخ ْو ٌف َع َلْي ِه ْم َو اَل ُه ْم َيْح َز ُنوَن ﴿ ﴾٦٢سورة البقرة" .وليس من المبالغة القول أن هذه اآلية ،وعند ضمها إلى مقصود اآلية األخرى أعاله، هي من أهم ما ُيستَح ق النظر إليه ،في سياق بحوث الطائفية الدينية ،وما يمكن أن تعنيه من حقيقة صارخة في واقع تعريف للدين الحق ،في سياق من ٍ الناس ،تفضي إلى بلورة العالمية ،وعلى أسس قرآنية أصيلة ،ضاعت مقاصدها ،تحت ركام الموروث الطاغي على الثقافة المذهبية ،بين جميع الفرق والمعتقدات ،وإال كيف نفسر إعطاء المجموعات األربع ،قابلية مشروطة للنجاة يوم القيامة ،دون أي تميزٍ لطائفة على أخرى؟ في حين تركت مجموعتي المجوس والذين أشركوا ،في ساحة من العراء ،يلفهما الغموض حول سوء المصير!
و لم يُقصد بفئة الذين أشركوا ،كما يبدو لي ،نفس طائفة
وبذلك يكون الشرك المنسوب إلى فئة "الذين أشركوا" ،قيمة
معنوية ال حرفية ،وباطنية ال ظاهرية ،ولكن فيها ما يكفي من السلبية ،ما يعيب ويجرح في منهاج أي من المدعين لإليمان، أو الزاعمين للتدين من الفئات األربع األولى ،وصوال إلى عدميته (َو ِمَن الَّن اِس َم ن َي ُقوُل آَم َّن ا ِباِهَّلل َو ِباْلَيْو ِم اآْل ِخِر َو َم ا ُهم ِبُم ْؤ ِمِنيَن ) فيكون وضع الذين أشركوا ضمن الفئات الستة ،يهدف إلى دفع اإلنتباه نحو الحقيقة ،التي تجعل من اإليمان ،تجربة حسية عميقة ومتفاعلة ،تعبر عن لسان الحال ،وليس مجرد قول شهادتين أو ثالثة ،تعبيرا عن حال اللسان (َأَح ِس َب الَّن اُس َأْن ُيْت َر ُك وا َأْن َي ُقوُلوا آَم َّن ا َو ُه ْم ال ُيْف َتُنوَن * َو َلَق ْد َفَتَّن ا اَّلِذيَن ِمن َقْب ِلِه ْم ۖ َفَلَيْع َلَم َّن ُهَّللا اَّلِذيَن َص َد ُقوا َو َلَيْع َلَم َّن اْل َك اِذ ِبيَن ).
وفي ذلك نكون قد وصلنا إلى تمام المواجهة والتصادم ،مع
معضلة الغموض الديني ،واستحالة حسم الموقف اإليماني للمخاَط بين بدعوته ،بل ودليٌل يمكن استخالصه ،لمن يريد اإلستبصار بحقيقة "الدين عند هللا" الذي ال ُيقبل غيره؛ ضمن إطار يتجاوز الشكليات التي تظهر في األقوال والطقوس، وإن كانت طوائفنا ومذاهبنا ال ُتعرف إال بها ،وخصوصا أن الغالبية المطلقة من األتباع ،هم في الحقيقة ،مجرد وارثين لمعتقد اآلباء واألجداد ،فلماذا تتوقع طائفة أن تكون أقرب الى الحقيقة من غيرها ،على أساس مذموم من صميم القرآن؟
وهكذا يلحق بفئة المجوس ،نفس المنطق الموصوف في
الفقرتين األخيرتين للذين أشركوا ،كونهما ذكرتا مرادفتين، ولكن بفارق ينبغي توضيحه؛ فالشرك عام عنوانه عبادة األهواء ،ويكون المجوس تبعا لذلك ،عنوانا خاصا يصف عبادة األسياد. ومن ذلك يمكننا القول أن الفئات الستة سابقة الذكر ،هي في الأصل أربعة فقط:
الذين آمنوا (وهم الذين قالوا آمنا بمحمد من السنة والشيعة
واألباضية وغيرهم). الذين هادوا (وهم الموسويين من غير اليهود المحكوم بفسادهم). النصارى (وهم الموحدين وإن قالوا بفلسفة التثليث ،دون َم ن كفر ِم ن القائلين ِإَّن َهللا َث اِلُث َث اَل َث ٍة). الصابئين (منظومة الصابئين أراها مظلة تتسع لكل المؤمنين خارج إطار فرق أهل الكتاب الثالث السابقة، ومنهم الصابئة المندائية والزردشتية والهندوسية والبوذية والماوية وغيرها).
المنتسبين لهذه المنظومات التوحيدية األربعة ،ويصلح عملهم بعين الحق ،يكونوا من المهتدين بالنور اإللهي ،ولكن ليس قبل سير هؤالء الصالحون ،الذين أسلموا وجوههم للخالق الحق ،والمتجلي بكل موقٍف أرضي حق ،في صراط الذين أنعم الرحمن عليهم ،وعبر محطاٍت من مواقع اإلسراء الرمادية ،األشد غموضا ،نحو األكثر انفتاحا ،وصوال إلى معراج المتقين بآفاق أعلىُ ،تقِّر ب من كمال النور ،واللقاء، حيث المأوى والمنتهى المنشود ،وإال يكون السقوط تلقائيا في ُسبل الضالل ،ومنزلقات الظالم ،تدحرجا عبر دركات الفاسقين والمنافقين ،ومن مواقع الرمادية األكثر ظلمًة ، وظلمًا ،وصوال إلى مقام الذين كفروا اَل ُيَفَّت ُر َع ْن ُهْم َو ُه ْم ِفيِه ُمْب ِلُسوَن .ونخلص إلى تصنيف جميع الخاسرين في سياق المنظومة الفرعونية ،وعبادة الشيطان ،ضمن عنوانين عريضين: الذين أشركوا وهم الضالين المجوس وهم المغضوب عليهم مع أن هذه الفئة األخيرة ،قد خصصت مهبطا حصريا ،لمن فسد من شيوخ الإفتاء والوعظ الديني ،بل وعموم كهنة المعابد، وذوي األلقاب الموازية كالمستشارين والوزراء ،فضال عن النخب النافذة في النواحي األكاديمية واإلعالمية ،وغيرهم من ذوي المواقع المقربة من السلطان الفاسد ،مما يعطينا مؤشرات تلمح إلى توسيع الوجود المجوسي في القرآن الكريم ،يتجاوز حرفية اإلسم ،ليشمل كل من ينطبق عليه هذه المواصفات "الهامانية" المسخرة في خدمة السالطين ،ال سيما تلك اآليات التي أسهبت في تفصيل دور السحرة (واإلعالميين) في تأليه فرعون ،ومعهم شعراء (ومؤلفين ونشطاء) يتبعهم الغاوون، وفي أودية الملوك يهيمون. وبعبارات أخرى ،يمكن القول أن "التمجس" قيمة تتقاطع مع الوصف المشار إلى الشرك العام ،ولكن بخصوصية ،يتم فيها تسخير رجال دين ونخب ،هم بنظر العوام والمقلدين ،جسرا مفترضا يربط بين العابد والمعبود ،أو بابا ُيطرق للمعرفة والتنوير ،يتم إعادة توظيفهم ،ليلعبوا دورا شيطانيا ،يكونوا فيه واسطة بين المواطن والسلطة السياسية المهيمنة ،تتمحور مهمتها في اختزال الطاعة اإللهية ،بالوالء المطلق للحاكم ،وما يمثله من أجندات ،والذي سيصبح في هذه الحالة جبارا ،يُعبد من دون هللا ،ال سيما مع وجود من يشرعن له كل ممارسة فاسدة ،ضمن إطار من القدر المحتوم ،وبفتاوى ومقاالت ،يتم تفصيلها في سياقات من الضرورات الوطنية ،كاإلقتصادية والسياسية مثال ،أو غير ذلك من المسوغات الأمنية والقومية؛ فعملية قلب الحقائق ،أو إعادة توجيهها بما يرضي األهواء واألسياد ،تعتبر دروبا من السحر ،ومهنة تتطلب اإلبداع في التمويه ،وإحترافية لممارسة اإلفك والشعوذة ،مما يفسر ذلك الترابط العضوي بين فقهاء السلطان وسلطة الخالفة ،دون السماح لضبابية األسماء ،ورمادية الصفات ،أن تضلنا عن تشخيص هوية المضلين المجوس ،المبحوث عنهم في هذا المقال.
ومن ذلك نخلص إلى رؤية المجوسية ،ظاهرة الزمت إفساد
اإلنسان لألديان ،في كل زمان ومكان ،وإن كان ال بد من إسقاط هذا المسمى على فئة بعينها في هذه األيام ،فإن الشيوخ والقساوسة ،وغيرهم من النخب الذين وقفوا في الجانب الخاطئ ،من عدالة القضية الفلسطينية ،والمظلومية الغزية ،هم بعين الحق األعلى ،والمنطق األسمى ،مجوس هذا العصر بإمتياز.