You are on page 1of 14

‫نبذة عن حياة الفيلسوف األلماني (فريدريك نيتشه)‬

‫إعداد‪ /‬دمحم سلمان‬


‫‪https://t.me/bookiraqnow‬‬

‫‪https://t.me/bookiraqnow3‬‬

‫‪https://t.me/bookiraqnow1‬‬

‫فريدريش فيلهيلم نيتشه (باأللمانية )‪: Friedrich Nietzsche‬‬


‫(‪ 51‬أكتوبر ‪ 51 – 5411‬أغسطس ‪)5011‬‬
‫فيلسوف ألماني‪ ،‬ناقد ثقافي‪ ،‬شاعر وملحن ولغوي وباحث في الالتينية واليونانية‪ .‬كان لعمله‬
‫تأثير عميق على الفلسفة الغربية وتاريخ الفكر الحديث‪.‬‬

‫بدأ حياته المهنية في دراسة فقه اللغة الكالسيكي‪ ،‬قبل أن يتحول إلى الفلسفة‪ .‬بعمر الرابعة‬
‫والعشرين أصبح أستاذ كرسي اللغة في جامعة بازل في ‪ ،5480‬حتى استقال في عام ‪5480‬‬
‫بسبب المشاكل الصحية التي ابتلي بها معظم حياته‪ ،‬وأكمل العقد التالي من عمره في تأليف أهم‬
‫كتبه‪ .‬في عام ‪ ،5440‬وفي سن الرابعة واألربعين‪ ،‬عانى من انهيار وفقدان لكامل قواه العقلية‪.‬‬
‫عاش سنواته األخيرة في رعاية والدته وشقيقته‪ ،‬حتى توفي عام ‪.5011‬‬

‫كان من أبرز المم ّهدين لعلم النفس وكان عالم لغويات متميز‪ .‬كتب نصوصا ً وكتبا ً نقدية حول‬
‫الدين واألخالق والنفعية والفلسفة المعاصرة المادية والمثالية األلمانية‪ .‬وكتب عن الرومانسية‬
‫األلمانية والحداثة أيضاً‪ ،‬بلغة ألمانية بارعة‪ .‬يُعدّ من بين الفالسفة األكثر شيوعا ً وتداوالً بين‬
‫القراء‬
‫‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫كثيرا ً ما تُفهم أعماله ‪-‬خطأ ً أحيانا‪ -‬على أنها حامل أساسي ألفكار الرومانسية والعدمية ومعاداة‬
‫السامية وحتى النازية‪ ،‬لكن بعض الدارسين يرفضون هذه المقوالت بشدة ويقولون بأنه ضد هذه‬
‫االتجاهات كلها ‪ .‬يُعدّ نيتشه إلهاما للمدارس الوجودية وما بعد الحداثة في مجالي الفلسفة واألدب‬
‫روج ألفكار اعتقد كثيرون أنها مع التيار الالعقالني‪ .‬استخدمت بعض آرائه‬ ‫في أغلب األحيان‪ّ .‬‬
‫فيما بعد من قبل أيديولوجيي الفاشية والنازية‪ .‬رفض نيتشه المثالية األفالطونية‪ ،‬والمسيحية‬
‫واألديان والميتافيزيقيا بشكل عام‪ .‬ودعا إلى تبني قيم أخالقية جديدة‪ ،‬وانتقد الكانتية والهيغلية‪.‬‬

‫سعى نيتشه إلى تبيان أخطار القيم السائدة‪ ،‬عبر الكشف عن آليات عملها عبر التاريخ‪،‬‬
‫كاألخالق السائدة‪ ،‬والضمير‪ .‬يعد نيتشه أول من درس األخالق دراسة تاريخية مفصلة‪ .‬قدم‬
‫نيتشه تصورا ً مهما ً عن تشكل الوعي والضمير‪ ،‬فضالً عن إشكالية الموت‪ .‬كان نيتشه رافضا ً‬
‫للتمييز العنصري ومعاداة السامية واألديان وال سيما المسيحية‪ ،‬لكنه رفض أيضا ً المساواة‬
‫بشكلها االشتراكي أو الليبرالي بصورة عامة‪.‬‬

‫ولد فردرك نيتشه في ‪ 51‬أكتوبر عام ‪ 5411‬في قرية قرب بلدة لوتسن في مقاطعة ساكسونيا‬
‫التابعة لبروسيا‪ ،‬لقس بروتستانتي لوثري‪ .‬وكان أجداده من جهتي األب واألم ينتمون للكنيسة‬
‫البروتستانتية منذ حركة اإلصالح في القرن السادس عشر‪ ،‬وكان العديد من أفراد أسرته‬
‫السابقين قساوسة‪ .‬ادعى نيتشه نفسه في سنواته األخيرة‪ ،‬أنه ينتسب إلى النبالء البولنديين‪ ،‬لكن‬
‫هذا أمر ال يمكن تأكيده‪ .‬سماه والده فريدريك ألنه ولد في نفس اليوم الذي ولد فيه فريدريش‬
‫الكبير ملك بروسيا‪ .‬حيث كان والده مربيا ً للعديد من أبناء األسرة الملكية‪.‬‬

‫ولدت شقيقته إليزابيث في عام ‪ .5418‬بعد وفاة والده في عام ‪ 5410‬وشقيقه األصغر عام‬
‫‪ ،5411‬انتقلت األسرة إلى ناومبورغ‪ .‬وقد أصبح صديق األسرة برنارد داشسيل ‪-‬وزير العدل‬
‫في وقت الحق‪ -‬رسميا الوصي على الشقيقين اليتيمين فريدريك وإليزابيث‪ .‬بعد وفاة والده ‪-‬وهو‬
‫في الخامسة من عمره‪ -‬عرف انقالبا ً و َّجهه إلى التشاؤم[من صاحب هذا الرأي؟‬

‫بين ‪ 5411‬إلى ‪ 5418‬عاش نيتشه في “أسرة من النساء”‪ ،‬هم أمه وأخته وجدته وعمتيه غير‬
‫المتزوجتين والخادمة‪ .‬بعد وفاة الجدة في ‪ ،5418‬تمكنت أم نيتشه من أن تستأجر مسكنا مستقال‬
‫لها وألطفالها‪ .‬دخل نيتشه في أول األمر مدرسة عامة للبنين‪ ،‬لكنه شعر أنه معزول جدا هناك‪،‬‬
‫فأُرسل إلى مدرسة خاصة‪ ،‬حيث كون صداقات مع أبناء األسر الراقية‪ .‬وعاش حياة مدرسية‬
‫عادية ومنضبطة‪ ،‬وسماه أصدقائه القسيس الصغير لقدرته على تالوة اإلنجيل بصوت‬

‫‪2‬‬
‫مؤثر‪.‬عام ‪( 5411‬في سن العاشرة) دخل المرحلة المتوسطة بفضل قدراته الفنية واللغوية‬
‫الخاصة‪.‬‬

‫في ‪( 5418‬في سن الثالثة عشرة) ساعده القس غوستاف أوسوالد‪ ،‬الذي كان صديقا مقربا من‬
‫والده‪ ،‬في االستعداد المتحان القبول في الثانوية‪ .‬في ‪ 1‬أكتوبر ‪ 5414‬تم قبول نيتشه لمنحة‬
‫دراسية في مدرسة الدولة المتقدمة “بفورتا”‪ ،‬التي كانت معروفة عالميا‪ .‬وكان مستواه‬
‫األكاديمي جيدا جدا‪ .‬في وقت فراغه كان يكتب الشعر ويؤلف الموسيقى‪ .‬وقد كان نيتشه كل‬
‫حياته يحب الموسيقى الكالسيكية وقام بمحاوالت لتأليفها‪ .‬درس في “بفورتا” حتى عام ‪،5481‬‬
‫التي كانت بيئتها مختلفة جدا عن بيئة أسرته المسيحية‪ .‬تعلم هناك اللغات الالتينية واليونانية‬
‫والعبرية والفرنسية‪ ،‬ليتمكن من قراءة أمهات الكتب بلغاتها األصلية‪.‬‬

‫في تلك الفترة تعرف نيتشه على الشاعر “إرنست أورتلب”‪ ،‬الذي كان غريب األطوار‬
‫ومعروفا بالتجديف وكان أكثر الوقت مخمورا‪ .‬وقد ُوجد ميتا في حفرة بعد أسابيع من لقاء نيتشه‬
‫به‪ .‬كان نيتشه معجبا به جدا‪ ،‬وقد تعرف من خالله على موسيقى ريتشارد فاغنر‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الدراسة في الجامعة‬

‫في شتاء ‪ 5481‬التحق نيتشه بجامعة بون‪ ،‬لدراسة فقه اللغة الكالسيكي والالهوت‬
‫البروتستانتي‪ .‬باإلضافة إلى المنهج المقرر‪ ،‬كرس نيتشه نفسه لدراسة أعمال الهجيليين الشباب‪،‬‬
‫بما في ذلك كتب برونو باور النقدية عن اإلنجيل‪ ،‬وكتاب “حياة يسوع” لدافيد ستراوس‪،‬‬
‫وخاصة كتاب “طبيعة المسيحية” للودفيغ فويرباخ الذي جاء فيه أن الناس هم خلقوا اإلله وليس‬
‫العكس‪ ،‬وترك هذا أثرا على نيتشه الشاب‪ .‬وقد شجعه ذلك (وخيب أمل والدته) في اتخاذ قرار‬
‫ترك دراسة الالهوت بعد فصل دراسي واحد‪ .‬وفي رسالة ألخته ‪-‬المتدينة‪ -‬إليزابيث كتبها في‬
‫يونيو ‪ ،5481‬ظهر فيها فقدانه لإليمان‪:‬‬
‫ومن ثم فإن طرق الرجال تفترق‪ :‬إذا كنت ترغب في سالم الروح والطمأنينة فعليك باإليمان‪،‬‬
‫وإذا كنت ترغب في أن تكون نصيرا للحقيقة‪ ،‬فعليك بالشك‪.‬‬

‫واكتشف في نفس الوقت الفيلسوف األلماني شوبنهاور إثر ذلك قرر نيتشه التركيز على دراسة‬
‫علم اللغة‪ .‬لم يكن مرتاحا للوضع في بون فانتقل الحقا بأستاذه “فريدريش ريتشل” إلى جامعة‬
‫اليبتزغ في عام ‪ .5481‬وهناك ظهرت أول منشورات نيتشه الفلسفية بعد فترة وجيزة‪ .‬في ذلك‬
‫العام درس نيتشه بدقة أعمال آرثر شوبنهاور وانغمس في قراءته‪ .‬وهو مدين بصحوته الفلسفية‬
‫لكتاب شوبنهاور “العالم كإرادة وتصور”‪ ،‬وقد ذكر في وقت الحق أن شوبنهاور واحد من عدد‬
‫قليل من المفكرين الذين يحترمهم‪ ،‬وكرس له مقاال بعنوان “شوبنهاور كمعلم” في كتابه‬
‫“تأمالت قبل األوان”‪ .‬تأثر أيضا ‪-‬في تلك الفترة‪ -‬بالفيلسوف الكانطي “فردرك ألبرت النج”‬
‫وكتابه “تاريخ المادية” الذي صدر عام ‪ .5488‬خالل تلك الفترة أقام صداقة وثيقة مع زميله‬
‫الباحث التاريخي “إروين رود”‪ ،‬واشتركا عام ‪ 5488‬في تأسيس “جمعية فقه اللغة‬
‫الكالسيكي” في جامعة اليبزيغ‪.‬‬

‫ذلك العام‪ ،‬اندلعت الحرب النمساوية البروسية‪ ،‬واحتل البروسيون اليبزيغ‪ .‬وفي ‪ ،5488‬على‬
‫الرغم من ضعف بصره وكونه االبن الوحيد ألمه األرملة‪ ،‬التحق نيتشه بالجيش األلماني‬
‫المتصف بالصرامة تحت نظام “السنة الواحدة” إلى سالح المدفعية البروسية في نومبورغ ‪ .‬في‬
‫مارس ‪ 5484‬تعرض لحادثة سقوط خطيرة من على الفرس وأصبح عاجزا عن المشي ألشهر‪.‬‬
‫بعد أن وقع عن صهوة حصانه دفع هذا قائد فرقته أن يعفيه من الخدمة بعد إصابته‪ .‬وقد استغل‬
‫فترة عالجه للتفرغ وإنهاء دراساته الفلسفية في الجامعة‪ ،‬فأنهاها آخر ذلك العام‪ .‬وقد ظل طول‬
‫‪4‬‬
‫عمره متأثرا ً بالحياة العسكرية واألخالق اإلسبارطية التي عرفها في الجيش [بحاجة لمصدر]‪.‬‬
‫في ذلك العام أيضا كان لقاؤه األول مع الموسيقار األلماني الشهير ريتشارد فاغنر ذا أهمية‬
‫كبيرة‪ .‬اهتم نيتشه في سنة التخرج بالمسرح والفلسفة اإلغريقية القديمة حيث فضَّل الفالسفة‬
‫الذريين على الذين ظهروا فيما بعد كسقراط وأرسطو وتأثر بالفلسفة األبيقورية بشكل خاص‪.‬‬

‫بروفيسور في جامعة بازل (‪(9686 – 9681‬‬

‫بناء على توصية من “فريدريش ريتشل” (أستاذه في جامعتي بون واليبزغ) و”فيلهلم‬
‫عين نيتشه ‪-‬بسن الرابعة والعشرين‪-‬‬ ‫بيلفينجر” (أستاذ جامعي وسياسي سويسري)‪ُ ،‬‬
‫أستاذا مشاركا لعلم اللغة الكالسيكي في جامعة بازل في عام ‪ ،9681‬حتى قبل أن‬
‫يحصل على شهادة الدكتوراه وقبل استالم شهادة التأهل لألستاذية‪ .‬على الرغم من أن‬
‫عرض التدريس هذا جاء في وقت كان فيه نيتشه يفكر في التخلي عن علم اللغة‬
‫واالتجاه للعلوم‪ .‬وحتى يومنا هذا‪ ،‬ال يزال نيتشه من بين أصغر األساتذة المسجلين‪.‬‬
‫عمل في نفس الوقت مدرسا للغات في الثانوية المتقدمة “ساحة الكاتدرائية” في بازل‪.‬‬
‫عمل عام ‪ 9681‬على رسالته للدكتوراه التي لم يقدمها‪ :‬مساهمات في نقد ودراسة‬
‫مصادر ديوجانس الاليرتي‪.‬‬

‫بناء على طلبه‪ ،‬تخلى نيتشه عن الجنسية البروسية بعد انتقاله إلى بازل‪ ،‬وظل بدون جنسية بقية‬
‫حياته‪ .‬مع ذلك فهو قد خدم في الحرب الفرنسية البروسية لفترة قصيرة كمسعف على الجانب‬
‫األلماني‪ .‬وخالل ذلك الوقت‪ ،‬أصيب بأمراض الزحار والخناق‪ ،‬واحتاج لفترة نقاهة طويلة‪.‬‬
‫نظر نيتشه بريب وتشكك إلى تأسيس الرايخ األلماني وحقبة أوتو فون بسمارك‪ .‬لكنه تأثر‬
‫بوحدة ألمانيا وزعيمها بسمارك ورأى فيه ‪-‬في أول األمر‪ -‬كماالً للشخصية األلمانية‪ .‬يقول‬
‫طبه كما لو كانت نبيذا‬ ‫نيتشه في رسالة من عام ‪“ :5484‬بسمارك يمنحني سعادة غامرة‪ .‬أقرأ ُ خ َ‬
‫ُمس ِكرا”‪ .‬لكنه الحقا وصفه بـ”المغامر المضحك‪”.‬‬

‫في جامعة بازل عام ‪ ،5481‬تعرف على زميله أستاذ اإللهيات الملحد “فرانز أوفيربيك”‪ ،‬الذي‬
‫ظل صديقا لنيتشه حتى فترة مشاكله العقلية‪ .‬كما كان يكن تقديرا لزميله األكبر سنا أستاذ‬
‫التاريخ المعروف يعقوب بوركهارت وكان يشهد محاضراته‪ .‬كان نيتشه يزور باستمرار‬
‫ريتشارد فاغنر في بيته في كانتون لوتسيرن‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫في عام ‪ ،5485‬نشر نيتشه أول عمل مهم له‪“ ،‬والدة المأساة من روح الموسيقى”‪ ،‬وهي‬
‫دراسة تبحث أصل المأساة‪ ،‬وقد استبدل طرق الدراسة اللغوية الكالسيكية بالدراسة الفلسفية‬
‫التكهنية‪ .‬يتحدث فيها عن األساطير اإلغريقية وارتباط الحضارة بالموسيقى‪ .‬في تلك الدراسة‬
‫طور أسلوبه في علم النفس‪ ،‬حيث حاول شرح المأساة اليونانية من خالل مفهومي أبولو‪-‬‬
‫ديونيسوس‪ .‬ولم يعجب البحث معظم زمالئه الكالسيكيين‪ .‬وقد هاجم أستاذ فقه اللغة الكالسيكي‬
‫“أولريش موليندورف” دراسة نيتشه بكتاب “فيلولوجيا المستقبل”‪ .‬فتدخل صديقاه “إروين‬
‫رود” (الذي كان بروفسورا في كيل) وفاغنر للدفاع عنه‪ .‬عبر نيتشه بصراحة حول العزلة التي‬
‫شعر بها داخل مجتمع علماء اللغة وحاول دون جدوى االنتقال إلى منصب في مجال الفلسفة في‬
‫بازل‪ .‬وإن كان كتابه “المأساة” قد القى بعض المديح [بحاجة لمصدر]‪ .‬الم نيتشه الجامعات‬
‫والمعاهد األلمانية على نبذها لشوبنهاور وغيره من الفالسفة مما حدا بهم إلى نبذه هو اآلخر‬
‫حيث رأوا فيه عالما ً لغويا ً ال غير‪.‬‬

‫في عام ‪ ،5481‬بدأ نيتشه في تجميع كراسات تم نشرها بعد وفاته تحت عنوان “الفلسفة في‬
‫العصر المأساوي لليونانيين”‪ .‬بين ‪ 5481‬و‪ ،5488‬نشر أربعة مقاالت طويلة منفصلة‪“ :‬ديفيد‬
‫شتراوس‪ :‬المعترف والكاتب”‪“ ،‬حول استخدام وإساءة استخدام التاريخ من أجل الحياة”‪،‬‬
‫“شوبنهاور كمعلم” و “ريتشارد فاغنر في بايرويت”‪ .‬ظهرت هذه المقاالت األربعة في وقت‬
‫الحق في كتاب تحت عنوان “تأمالت قبل األوان”‪ .‬اتجهت هذه المقاالت نحو النقد الثقافي‪ ،‬في‬
‫هجوم على الثقافة األلمانية النامية على ضوءأفكار شوبنهاور وفاغنر‪ .‬ولم تالق هذه المقاالت‬
‫صدى يذكر‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫القطيعة مع فاغنر‬

‫خالل ذلك الوقت‪ ،‬في حلقة فاغنر الثقافية‪ ،‬التقى نيتشه بهانز فون بولوف والكاتبة “مالويدا‬
‫فون ميسنبوج”‪ ،‬وبدأت أيضا صداقته مع الفيلسوف “بول ري”‪ ،‬الذي حضّه في عام ‪9688‬‬
‫على رفض التشاؤم الذي رآه في كتاباته المبكرة‪ .‬في ذلك العام أيضا أصيب نيتشه بخيبة أمل‬
‫من “مهرجان بايرويت” الموسيقي الذي كان يقيمه فاغنر سنويا‪ ،‬حيث أثار اشمئزازه تفاهة‬
‫العروض المقدمة وانحطاط الحضور‪ .‬وكان ردة فعله موجهة باألخص إلى فاغنر واستنكر‬
‫احتفاءه بـ”الثقافة األلمانية” التي يراها نيتشه متناقضة‪ ،‬وكذلك احتفاله بشهرته وسط الجمهور‬
‫األلماني‪ .‬كل هذا دفع نيتشه لينأى بنفسه عن فاغنر‪.‬‬

‫مع نشر كتابه “إنساني‪ ،‬إنساني جدا” في عام ‪( 9686‬وهو عبارة عن مجموعة من‬
‫األمثال التي تتراوح بين الميتافيزيقا واألخالق إلى الدين والدراسات الجنسانية)‪،‬‬
‫ظهر بوضوح أسلوب نيتشه الجديد‪ ،‬المتأثر بشكل كبير بكتاب “الفكر والواقع”‬
‫للفيلسوف الروسي الكانطي “أفريكان سبير”‪ .‬حمل الكتاب رد فعل ضد الفلسفة‬
‫المتشائمة لفاغنر وشوبنهاور‪ .‬شاب البرود أيضا صداقة نيتشه برفيقيه “إروين رود”‬
‫و”بول ديوسن‪”.‬‬

‫بعد انحدار كبير في صحته‪ ،‬وتفاقم أمراض الطفولة (نوبات الصداع النصفي واضطرابات‬
‫المعدة‪ ،‬فضال عن قصر النظر الشديد الذي أدى في النهاية إلى العمى العملي) التي عطلته عن‬
‫واجباته في التدريس‪ ،‬استقال نيتشه عام ‪ 9681‬من منصبه في جامعة بازل‪.‬‬

‫تعرف على ريشارد فاغنر قد رأى فيه تجسيدا ً للعبقرية وعاش معه فترة رافقه‬
‫كان نيتشه حين َّ‬
‫فيها في رحالته‪ ،‬لكنه انقلب ضده وكانت القطيعة بينهما هي الشرارة التي أطلقت فكر نيتشه‬
‫مثل العاصفة على القيم األوروبية[من صاحب هذا الرأي؟]‪ ،‬إذ رأى في المسيحية انحطاطا ً‬
‫ونفاقا[‪ ،]43‬وأن النمط األخالقي الصائب هو النمط اإلغريقي الذي كان يمجد القوة والفن‬
‫ويستخف بالرقة والنعومة وطيبة القلب التي رآها من صفات المسيحية‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫التفرغ للفلسفة (‪(9666 – 9681‬‬

‫دفعته أمراضه في البحث المستمر عن الظروف المناخية المثلى بالنسبة له‪ ،‬فسافر كثيرا‬
‫وعاش في أماكن مختلفة ككاتب مستقل حتى عام ‪ ،9661‬جال أصقاع أوروبا لكي يجد مكان‬
‫يناسب حالته الصحية‪ ،‬وأقام فترات الصيف في سلس ماريا جنوب شرقي سويسرا في أعالي‬
‫الجبال‪ .‬كان يعتمد قبل كل شيء على راتب التقاعد الممنوح له؛ كما كان يتلقى المساعدات‬
‫المالية من حين آلخر من األصدقاء‪ .‬كان يقضي الصيف غالبا في سان موريتز في سويسرا‪،‬‬
‫وفصل الشتاء في إيطاليا (جنوة‪ ،‬رابالو‪ ،‬تورينو) وفي فرنسا في نيس‪ .‬بعد االحتالل الفرنسي‬
‫لتونس فكر في السفر إلى تونس كي يرى أوروبا من الخارج‪ ،‬لكنه استبعد الفكرة ألسباب‬
‫صحية‪ .‬كان يزور عائلته باستمرار في ناومبورغ‪ ،‬وكان دائم الخالف ثم المصالحة مع أخته‬
‫إليزابيث‪.‬‬

‫أثناء وجوده في جنوة‪ ،‬دفعه ضعف النظر إلى محاولة استخدام اآلالت الكاتبة كوسيلة‬
‫لمواصلة الكتابة‪ .‬لكنه في النهاية‪ ،‬استعان بطالبين سابقين عنده‪ ،‬ليعمال لديه ‪-‬تقريبا‪-‬‬
‫كسكرتيرين‪ .‬وتكفل أحدهما (بيتر غاست) بنقل ما كتبه نيتشه بخط يده‪ ،‬وظل “بيتر غاست”‬
‫منذ ذلك الوقت ينسخ ويدقق ويصحح كل أعمال نيتشه تقريبا‪ .‬كان غاست واحدا من عدد قليل‬
‫جدا من األصدقاء الذين سمح لهم نيتشه بانتقاده‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫اللقاء مع لو سالومي‬

‫عام ‪ 9661‬نشر جزءا من كتابه “الحكمة الماتعة” الذي يصفه نيتشه بأنه أقرب كتبه إليه‪.‬‬
‫احتوى الكتاب على عدد كبير من القصائد‪ ،‬وظهرت فيه ألول مرة فكرة “موت اإلله”‪ .‬في‬
‫ذلك العام التقى ألول مرة بلو أندرياس سالومي (فتاة روسية عمرها ‪ )19‬وأمضيا الصيف في‬
‫تورينغن وكانت ترافقه أخته إليزابيث‪ .‬لم يكن نيتشه يعتبر سالومي ندا مساويا له بل كطالبة‬
‫موهوبة‪ .‬وقد ذكرت سالومي أن نيتشه طلب منها الزواج في ثالث مناسبات وأنها رفضت‪،‬‬
‫على الرغم من أن مصداقية حديثها موضع تساؤل‪ .‬كانت عالقة نيتشه بسالومي معقدة‪ .‬وهي‬
‫في األساس صديقة صديقه “بول ري”‪ .‬فهو يذكر في اقتباسات له من تلك المرحلة‪“ :‬خلف كل‬
‫مشاعر الرجل تجاه امرأة‪ ،‬يقبع احتقار لجنسها”‪“ ،‬اإلنسان شيء غير كامل أبدا‪ .‬حبّ شخص‬
‫ما سيدمرني”‪“ ،‬في كل حوار بين ثالثة أشخاص‪ ،‬شخص ما يكون غير ذي ضرورة ويمنع‬
‫تعمق الحوار‪”.‬‬

‫انقطعت عالقة نيتشه مع سالومي في شتاء ‪ ،9664‬ويرجع ذلك جزئيا إلى مؤامرات أخته‬
‫إليزابيث‪ .‬أحبّ تلميذته الفتاة البروسية التي فارقته بعد رفضها له وزواجها ببتشارلز اندرياس‪،‬‬
‫وقبل األرض من تحت قدميها لكي تقبل به لكنها رفضته؛ فاستهام بها وقادته إلى الجنون‪ .‬كما‬
‫أنه وقع في الحب عدة مرات لكنه فشل بسبب عينيه الحادتين ونظراته المخيفة برأي الفتيات‬
‫لذا اتسمت حياته بالكآبة حتى نهايتها [من صاحب هذا الرأي؟]‪ .‬وفي خضم نوبات متجددة من‬
‫المرض‪ ،‬عاش نيتشه في عزلة بعد مقاطعته والدته وشقيقته بسبب سالومي‪ ،‬ففر إلى رابالو‪،‬‬
‫وهناك كتب ‪-‬في عشرة أيام فقط‪ -‬الجزء األول من كتابه األشهر هكذا تكلم زرادشت‪ ،‬الذي‬
‫مزج شعرا ً قويا ً وحساسا ً مع مبادئ فلسفية مبتكرة وواقعية ونداء إلى نظرة فلسفية جديدة حيث‬
‫أعاد النظر بالمبادئ األخالقية الفلسفية ولم تعد بعده الفلسفة األخالقية كما كانت‪ .‬في تلك الفترة‬
‫كان يجد صعوبة في النوم‪ ،‬وكان يتعاطى األفيون (الذي كان شائعا في القرن ‪ .)91‬يقول في‬
‫أحد رسائله‪:‬‬
‫ي‪“ ،‬لو” و “ري” … اعتبراني كليكما‪ ،‬كما المخبول ملتهب الرأس الذي حيرته تماما‬‫«عزيز ّ‬
‫العزلة الطويلة ‪ ..‬الحالة التي صرت إليها بعد أن تعاطيت جرعة كبيرة من األفيون بسبب‬
‫اليأس‪ .‬بدال من أن يضيع عقلي بسبب ذلك‪ ،‬أظن أن شيئا من عقلي قد عاد لي»‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫في ‪ ،3881‬حين كان يقيم في نيس‪ ،‬كان يصرف وصفات طبية لدواء هيدرات الكلورال‬
‫المهدئ‪ ،‬وكان يذيلها بتوقيع “الدكتور نيتشه”‪ .‬أصيب نيتشه بمرض شديد وشارف على الموت‬
‫ي‬ ‫حيث أوصى أخته وخاطبها قائلا‪ :‬إنما إذا ما ّ‬
‫مت يا أختاه ال تجعلي أحد القساوسة يتلو عل ّ‬
‫بعض الترهات في لحظة ال أستطيع فيها الدفاع عن نفسي‪( .‬ولكن لم تتحقق أمنيته إذ تلى عليه‬
‫القساوسة في ساعة دفنه) [بحاجة لمصدر]‪ .‬ولكنه بعد ذلك شفي وذهب إلى جبال األلب‬
‫ليتعافى ويكمل كتابة هكذا تكلم زرادشت‪.‬‬

‫العزلة‬
‫بعد أن قطع نيتشه عالقاته الفلسفية مع شوبنهاور‪ ،‬وعالقاته االجتماعية مع ر‬
‫فاغن‪ ،‬لم يبق‬
‫لنيتشه إال عدد قليل من األصدقاء‪ .‬بعد كتاب “زرادشت” ذي األسلوب الجديد‪ ،‬صارت‬
‫ويشتك منه‪،‬‬ ‫أعمال نيتشه ر‬
‫أكن غرابة‪ ،‬واستقبلها السوق بأقل اهتمام‪ .‬كان نيتشه يعرف ذلك‬
‫ي‬ ‫ر‬
‫كبن‪ .‬يف عام ‪ ،5881‬لم يطبع إال ‪ 04‬نسخة‬ ‫غن مباعة إىل حد ر‬
‫لكنه زاد من عزلته‪ .‬ظلت كتبه ر‬
‫رر‬
‫المقربي‪.‬‬ ‫فقط من الجزء الرابع من “زرادشت”‪ ،‬وزع معظمها ر ر‬
‫بي األصدقاء‬

‫‪11‬‬
‫فريدريش نيتشه عام ‪9661‬‬

‫في عام ‪ 5441‬حاول وفشل في الحصول على وظيفة محاضر في جامعة اليبزيغ‪ .‬وقد اتضح‬
‫له بعد ذلك‪ ،‬أنه نظرا لمواقفه من المسيحية ومن اإلله‪ ،‬أصبح غير مقبول في أي جامعة ألمانية‪.‬‬
‫يقول في رسالة لمساعده “بيتر غاست” أن قد أثارته “مشاعر االنتقام واالستياء … وغضبي‬
‫ألنني أدركت بكل معنى ممكن أن هذه الوسائل البائسة (سوء سمعة اسمي وشخصيتي وأهدافي)‬
‫كافية لتأخذ مني الثقة واإلمكانية في الحصول على تالميذ‪”.‬‬

‫في عام ‪ 5448‬اختلف نيتشه مع ناشره “إرنست شميتسنر” بعد أن استاء من سوء تسويق كتبه‪.‬‬
‫فقد رأى نيتشه أن كتبه “مهملة ومدفونة في هذا المستودع المعادي للسامية” واصفا شميتسنر‬
‫وحركة معاداة السامية بأنه يجب “على كل عقل راشد أن يرفضها كلية وبكل ازدراء”‪ .‬بعد ذلك‬
‫طبع نيتشه كتابه “ما وراء الخير والشر” على نفقته الخاصة‪ .‬كما حصل على حقوق النشر‬
‫ألعماله السابقة‪ ،‬وعلى مدى العام المقبل أصدر طبعات ثانية من كتبه “والدة المأساة”‬
‫و”إنساني‪ ،‬إنساني جدا” و”الحكمة الماتعة” وأضاف إليها مقدمات جديدة ليضع مجمل أعماله‬
‫في سياق أكثر تماسكا‪ .‬بعد هذا رأى أن عمله قد اكتمل‪ ،‬وأعرب عن أمله في أن يزداد قراؤه‬
‫قريبا‪ .‬في الواقع‪ ،‬ازداد االهتمام بفكر نيتشه شيئا ما في ذلك الوقت‪ ،‬وإن كان ببطء وبالكاد‬
‫الحظه هو‪.‬‬

‫في عام ‪ ،9668‬تزوجت شقيقته إليزابيث وسافرت هي وزوجها إلى الباراغواي ليؤسسا‬
‫“ألمانيا الجديدة” وهي مستعمرة ألمانية‪ .‬استمرت عالقة نيتشه بأخته إليزابيث من خالل‬
‫المراسالت‪ ،‬تخللتها فترات خالفات ومصالحات‪ ،‬ولم يلتقيا مرة أخرى إال بعد انهياره العقلي‪.‬‬
‫ظل نيتشه يتعرض لهجمات متكررة ومؤلمة من المرض‪ ،‬ما جعل العمل المتواصل مستحيال‪.‬‬
‫صاحب نيتشه الجهد سواء كان جسديا ً أو عقليا ً وكانت حياته حياة استثنائية في مصارعة األلم‬
‫والصداع وآالم الرأس واالستفراغ نتيجة إلى مرض السفلس الذي التقطه من بيت دعارة في‬
‫اليبزيغ‪ .‬في عام ‪ ،9668‬كتب نيتشه مؤلفه المثير للجدل عن جنيالوجيا األخالق‪ .‬خالل العام‬
‫نفسه‪ ،‬اتجه لقراءة أعمال فيودور دوستويفسكي‪ ،‬وشعر مباشرة بقرابة بينهما‪ .‬كما تبادل‬
‫رسائل مع المؤرخ الفرنسي إيبوليت تين والناقد الدنماركي “جورج براندز”‪ .‬وقد دعاه‬
‫يدرس فلسفة سورين كيركغور) إلى قراءة فلسفة كيركغور‪ ،‬فرد نيتشه‬ ‫“براندز” (الذي كان ّ‬
‫بأنه سيأتي إلى كوبنهاغن ليقرأ كيركغور معه‪ ،‬لكن المرض منعه من الوفاء بهذا الوعد‪ .‬في‬
‫بداية عام ‪ ،9666‬قدم براندز ‪-‬في كوبنهاغن‪ -‬واحدة من أوائل المحاضرات عن فلسفة نيتشه‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫على الرغم من أن نيتشه قد ذكر في نهاية كتابه “عن جنيالوجيا األخالق” أن عمله القادم‬
‫سيكون بعنوان “إرادة القوة‪ :‬محاولة إلعادة تقييم جميع القيم”‪ ،‬فإنه تخلى عن هذه الفكرة‪ ،‬وبدال‬
‫من ذلك استخدم بعض مسودات ذلك الكتاب في تأليف كتبه التي نشرها ذلك العام‪.‬‬
‫في نفس العام ألف نيتشه خمسة كتب‪ .‬وقد تحسنت صحته مؤقتا‪ ،‬وفي الصيف كان في معنويات‬
‫عالية‪ .‬لكن كتاباته ورسائله من خريف عام ‪ ،5444‬تشير بالفعل إلى بدء إصابته بالوهام‪ .‬كان‬
‫يبالغ في رؤية ردود الفعل على كتاباته‪ ،‬خاصة كتابه المثير للجدل “قضية فاغنر”‪ .‬في عيد‬
‫ميالده ال‪ ،11‬قرر أن يكتب سيرته الذاتية “هو ذا اإلنسان” بعد أن أنهى كتابيه “شفق‬
‫األصنام” (الذي كتبه في أسبوع) و”المسيح الدجال”‪ .‬وفي ديسمبر‪ ،‬في رسائل له مع الكاتب‬
‫السويدي أوغست ستريندبرغ‪ ،‬اعتقد نيتشه أنه كان على وشك تحقيق انطالقة دولية حيث حاول‬
‫شراء حقوق كتبه القديمة من الناشر األول‪ ،‬وكان يخطط ألن تترجم إلى اللغات األوروبية‬
‫الرئيسية‪ .‬إضافة إلى ذلك‪ ،‬كان يعتزم تجميع ونشر مقالة بعنوان “نيتشه ضد فاغنر” وتجميع‬
‫قصائد له في ديوان‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫المرض العقلي والوفاة (‪(9111 – 9661‬‬

‫في ‪ 1‬يناير ‪ ،5440‬تعرض نيتشه النهيار عصبي‪ .‬حيث لحق به شرطيان بعد اضطراب أحدثه‬
‫في شوارع تورينو‪ .‬القصة الحقيقية غير معلومة‪ ،‬لكن الشائع أن نيتشه سمع صهيل حصان‬
‫يُجلد بالسوط في آخر ساحة قصر كارينيانو‪ ،‬فركض إلى الحصان ثم رمى ذراعيه حول عنقه‬
‫واحتضنه ليحميه‪ ،‬ثم انهار على األرض‪ .‬شخص البعض سبب االنهيار على أنه شلل تدريجي‬
‫نتيجة لمرض الزهري‪ ،‬ويعتبر هذا التحليل مثيرا للجدل حتى اليوم‪.‬‬

‫في األيام القليلة التالية‪ ،‬بعث نيتشه بمجموعة رسائل قصيرة (عرفت فيما بعد باسم “رسائل‬
‫الجنون”) إلى عدد من األصدقاء‪ ،‬من ضمنهم ياكوب بوركهارت وزوجة ريتشارد فاغنر‪،‬‬
‫بعضها ذيّلت بتوقيع “ديونيسوس” وبعضها عليه توقيع “المصلوب”‪ .‬بعد رؤية تلك الرسائل‬
‫تنبه أصدقاؤه وأمه فأُر ِسل إلى مستشفى األمراض النفسية‪ .‬في لحظات معينة كان يظن نفسه‬
‫شكسبير أو قيصر أو ملك إيطاليا أو فاغنر‪ ،‬أو يسوع ونابليون ووبوذا واالسكندر المقدوني‪.‬‬

‫في ‪ 8‬يناير ‪ ،5440‬أطلع بوركهارت صديقه “فرانز أوفربك” على رسالة نيتشه‪ .‬في اليوم‬
‫التالي استلم أوفربك رسالة مماثله من نيتشه‪ .‬قرر أصدقاء نيتشه أن عليهم إحضاره إلى بازل‪،‬‬
‫فسافر أوفربك إلى تورينو وأتى بنيتشه وعرضه على عيادة نفسية في بازل‪ .‬مع مرور الوقت‬
‫اتضح أن نيتشه كان يعاني مرضا عقليا خطيرا‪ ،‬فقررت والدته نقله إلى مستشفى في ينا تحت‬
‫إشراف طبيب النفس واألعصاب السويسري “أوتو بينزوانجر”‪ .‬في ذلك الشهر (يناير ‪)5440‬‬
‫تم نشر كتاب نيتشه ‪-‬الذي كان جاهزا‪“ -‬أفول األصنام”‪ .‬بين نوفمبر ‪ 5440‬وفبراير ‪،5401‬‬
‫حاول المؤرخ “يوليوس النجبان” عالج نيتشه بنفسه‪ ،‬مدعيا بأن أساليب األطباء كانت غير‬
‫فعالة في عالج حالة نيتشه‪ .‬وكانت والدة النجبان قد تعرضت لمرض مماثل‪ .‬تولى النجبان‬
‫عالج نيتشه لفترة لكنه لم ينجح‪ .‬في مارس ‪ ،5401‬أخرجت أم نيتشه ابنها من المستشفى‪ ،‬وفي‬
‫مايو ‪ ،5401‬جلبته إلى منزلها في ناومبورغ‪ .‬كان نيتشه حتى ذلك الوقت يستطيع إجراء بعض‬
‫المحادثات القصيرة‪.‬‬

‫خالل تلك الفترة كان صديقا نيتشه “فرانز أوفربك” و”بيتر غاست” يفكران فيما يجب القيام به‬
‫بأعمال نيتشه غير المنشورة؛ فطبعا كتاب “نيتشه ضد فاغنر” في طبعة محدودة بخمسين‬
‫نسخة‪ ،‬وقررا عدم نشر كتابي “المسيح الدجال” و”إيكو هومو” بسبب محتواهما الراديكالي‪.‬‬
‫وفي ذلك الوقت بالذات بدأت أعمال نيتشه تلقى االهتمام واالعتراف ألول مرة‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫قام صديق نيتشه وسكرتيره “بيتر غاست” بالتصرف و”تصحيح” كتابات نيتشه بعد انهياره‬
‫دون أخذ اإلذن‪ .‬في عام ‪ ،5401‬عادت أخت نيتشه إليزابيث من الباراغواي بعد انتحار‬
‫زوجها‪ .‬قرأت إليزابيث ودرست كل أعمال نيتشه‪ ،‬وتولت مذّاك العناية بها ونشرها‪ ،‬فأسست‬
‫عام ‪“ 5401‬أرشيف نيتشه”‪ .‬بعد والدته في عام ‪ 5408‬نقل نيتشه لإلقامة في فايمار حيث تقيم‬
‫أخته إليزابيث‪ ،‬التي تولت رعايته وسمحت بمجيء الزوار له‪ ،‬وكان منهم رودلف شتاينر (الذي‬
‫ألف عام ‪ 5401‬واحدا من أوائل الكتب التي تشيد بنيتشه)‪ .‬وقد استعانت إليزابيث بشتاينر لفترة‬
‫لمساعدتها على فهم فلسفة شقيقها‪.‬‬

‫تم تشخيص مرض نيتشه في األصل بأنه ناتج عن تفاقم مرض الزهري‪ ،‬وفقا للرؤية الطبية‬
‫السائدة في ذلك الوقت‪ .‬يرى معظم المعلقين أن انهياره العقلي ليس له عالقة بفلسفته‪ ،‬إال أن‬
‫سد يجب أن يصاب بالجنون)‪ ،‬وكذلك‬ ‫جورج باطاي ألمح إلى عكس ذلك (هذا اإلنسان المج ّ‬
‫التحليل النفسي الذي أجراه الفيلسوف الفرنسي “رينيه جيرار” الذي رأى فيه أن السبب هو‬
‫خصومة نيتشه مع ريتشارد فاغنر‪ .‬ومنذ ذلك الحين ظهرت تحليالت عديدة عن سبب االنهيار‪،‬‬
‫منها تشخيص حدوث “مرض الهوس االكتئابي ثم الذهان يليه الخرف الوعائي‪”.‬‬

‫ماذا تنبأ بيتر غاست لمستقبل أفكار نيتشه؟‬

‫بين ‪ 5404‬و‪ ،5400‬تعرض نيتشه مرتين على األقل للسكتة الدماغية‪ ،‬التي سببت له شلال‬
‫جزئيا جعله غير قادر على الكالم أو المشي‪ .‬بحلول عام ‪ 5400‬تعرض لخزل شقي (شلل‬
‫نصفي سريري) في الجانب األيسر من جسده‪ .‬بعد إصابته بالتهاب رئوي منتصف شهر‬
‫أغسطس عام ‪ ،5011‬تعرض ليلة ‪ 51‬أغسطس لسكتة دماغية أخيرة‪ ،‬وتوفي ظهر اليوم‬
‫التالي‪ .‬دفنته إليزابيث بجانب والده في كنيسة في لوتزن‪ .‬ألقى صديقه وسكرتيره “بيتر غاست”‬
‫كلمة التأبين في جنازته معلنا‪“ :‬سيكون اسمك (المقدس) لجميع األجيال القادمة”!‬

‫‪14‬‬

You might also like