You are on page 1of 13

‫النزعة الطبيعية في التربية عند جان جاك روسو‬

‫في القرن الثامن عشر‪ ،‬وفي بداية العقد الثاني منه تحديدا‪ ،‬كان الفكر اإلنساني موعد خالق مع والدة المفكر واألديب الفرنسي‬
‫المشهور جان جاك روسو ‪Jean‬‬
‫)‪ Jacques Roussea(1778-1712‬فيلسوف الحرية الذى مأل الدنيا وش‪B‬غل الن‪B‬اس بعطاءات‪B‬ه الفكري‪B‬ة ال‪B‬تي ت‪B‬دفقت لتش‪B‬كل‬
‫منطلقا للفكر الحر في أوروبا وفي العالم قاطبة‪.‬‬
‫ويعد روسو زعيما للنزع‪B‬ة الطبيعي‪B‬ة فى الفلس‪B‬فة والفك‪B‬ر بال من‪B‬ازع وواح‪B‬دا من أب‪B‬رز عمالق‪B‬ة أك‪B‬ثرهم ت‪B‬أثيرا على اإلطالق‪،‬‬
‫والسيما في مجالي التربية والفكر السياسي‬
‫عصر التنوير واالجتماعي استطاع روسو‪ ،‬بعبقريته الفذة‪ ،‬أن يولد في النظريات التربوية روحا جديدة تت‪BB‬دفق إيمان‪BB‬ا بالحري‪BB‬ة‬
‫ورفض‪BB‬ا لك‪BB‬ل أش‪BB‬كال القه‪BB‬ر والعبودي‪BB‬ة وتجلى إلهام‪BB‬ه ه‪BB‬ذا في كتابي‪BB‬ه ‪" :‬بي‪BB‬ل" ‪ ،Emile‬ال‪BB‬ذي أح‪BB‬دث ث‪BB‬ورة ش‪BB‬املة في بني‪BB‬ة‬
‫التصورات والعقائد التربوية في عصره‪ ،‬وفتح الباب على مصراعيه لكل إبداع الحق في ميدان التربية والتعليم؛ ثم في كتابه‬
‫"العقد االجتماعي "‪ ، )( Le Contrate social‬الذي شكل مهمازا للثورة الفرنسية بما اشتمل علي‪B‬ه من أفك‪B‬ار وتص‪B‬ورات‬
‫يعتقد أنها أشعلت فتيل الثورة الفرنس‪BB‬ية ع‪BB‬ام ‪ ،1789‬وش‪BB‬كلت برن‪BB‬امج عم‪BB‬ل منهجي اس‪BB‬توحاه الث‪BB‬وار في مختل‪BB‬ف ممارس‪BB‬اتهم‬
‫السياسية والثورية‪ .‬وفي هذا يقول نابليون " لوال كتاب "العقد االجتماعي" لما قامت للث‪B‬ورة الفرنس‪B‬ية قائم‪B‬ة‪ .‬وق‪B‬د بل‪B‬غ روس‪B‬و‬
‫بكتابيه مبلغا عظيما من الشهرة والمجد‪ ،‬وكيف ال وفيه يقول الفيلسوف األلمانى كانط فیلس‪BB‬وف عص‪BB‬ره قول‪BB‬ه المش‪BB‬هور " إني‬
‫اعتبر روسو نیوتن عصره الكتشافه العنصر األخالقي بوصفه المكون الرئيس للطبيعة اإلنسانية‪ ،‬مثلما اكتش‪B‬ف ني‪B‬وتن المب‪B‬دأ‬
‫الذي ربط بين جميع قوانين الطبيعة الفيزيقية فيه أن الرجل قد أحدث ثورة حقيقية في الفكر التربوي والسياسي في أوروب‪B‬ا في‬
‫القرن الثامن عشر‪.‬‬

‫لم يسجل تاريخ الفكر اإلنساني حياة أكثر غرابة وتناقضا من حياة جان جاك روسو الذي ترك سجال إنس‪BB‬انيا يت‪BB‬دفق ب‪BB‬األحزان‬
‫والمآسي ويفيض بكل معاني القهر وأشكال الهزيمة‪ .‬كانت شخص‪BB‬يته نقط‪B‬ة تق‪BB‬اطع لك‪BB‬ل التناقض‪BB‬ات اإلنس‪B‬انية‪ ،‬إذ ت‪B‬آلفت فيه‪BB‬ا‬
‫أقدار القوة والضعف‪ ،‬وتآزرت في أعماقها العبقرية والعاطفة والصدق والخداع واالنفعاالت‪ .‬ومع كل هذا كان يس‪BB‬تحوذ على‬
‫بصيرة نافذة وعطف إنساني ال حدود له‪ .‬لقد شكلت عوامل البؤس والشقاء والمصائب والهزائم البوتقة التي تشكلت فيها‬

‫عبقرية الرجل‪ ،‬فاهتزت هذه العبقرية إيمانا ساحرا بال حدود بمبادئ الحرية والسالم واألمن‪ ،‬ودع‪BB‬وة مطلق‪BB‬ة للث‪BB‬ورة والتم‪BB‬رد‬
‫على كل أشكال التسلط والقهر والطغيان في عصره‪ .‬يتحدر جان جاك روسو من عائلة فرنس‪B‬ية األص‪B‬ل بروتس‪B‬تانتية الم‪B‬ذهب‬
‫حطت رحالها في جنيف قادمة من فرنسا في منتصف القرن السادس عش‪BB‬ر ول‪BB‬د روس‪BB‬و في مدين‪BB‬ة ج‪BB‬نيف في سويس‪BB‬را ع‪BB‬ام ‪.‬‬
‫‪ 1712‬وكان على موعد مع مصائب الدهر التي كانت ترتقب قدومه‪ ،‬فقد ولد مريضا ضعيفا هزيال ‪ ،‬ولم يمض أسبوع واح‪BB‬د‬
‫على والدته ح‪BB‬تى ‪ .‬ي‪BB‬د الق‪BB‬در والدت‪BB‬ه "س‪BB‬وزان" وتركت‪BB‬ه يتيم‪BB‬ا تحت رحم‪BB‬ة اآلخ‪BB‬رين ويص‪BB‬ف بنفس‪BB‬ه ه‪BB‬ذه المأس‪BB‬اة في كتاب‪BB‬ه‬
‫"االعترافات" حيث يقول ‪" :‬لقد ولدت ضعيفًا ومريضًا‪ ،‬وق‪BB‬د دفعت وال‪BB‬دتي حياته‪BB‬ا ثمن والدتي وك‪BB‬انت ه‪BB‬ذه ال‪BB‬والدة البائس‪BB‬ة‬
‫أولى مصائبي ‪ .‬وكانت أخالقه متأثرة أعمق تأثر بمشاعره وانفعاالته أكثر من تأثرها بعقله ‪.‬‬
‫ك‪BB‬ان وال‪BB‬ده يش‪BB‬تغل في ص‪BB‬ناعة الس‪BB‬اعات وتجارته‪BB‬ا ولكن‪BB‬ه ت‪BB‬رك المهن‪BB‬ة وانتق‪BB‬ل للعم‪BB‬ل مدرس‪BB‬ا لل‪BB‬رقص‪ ،‬ثم ت‪BB‬زوج س‪BB‬وزان‬
‫والدة ‪،‬روسو‪ ،‬وكانت فتاة يتيمة تعاني من ظروف قاسية‪ ،‬لم تفتًا أن عانت المزيد منها بعد أن تركها زوجها والد روسو الحق‪BB‬ا‬
‫في رحلة له إلى القسطنطينية‪ ،‬لكنه بعد مغامرات فاشلة عاد إليها من جديد‪.‬‬

‫بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة اضطر للهرب من جنيف خوفا من مالحقة العدالة له ع‪BB‬ام‪ ، 1720‬وق‪BB‬د عه‪BB‬د بابن‪BB‬ه روس‪BB‬و‬
‫الذي كان في الثامنة من العمر إلى خاله الذي عهد به بدوره إلى ال مبرسيه ‪ Lambercier‬وهو أحد رجال الدين المس‪BB‬يحيين‪،‬‬
‫لكن روسو لم يستمر هناك كثيرا وعاد إلى خاله فى جنيف‪ ،‬حيث عاش متعطًال ثالث سنوات كاملة‪ ،‬ثم اشتغل مساعدا لك‪BB‬اتب‬
‫أحد المكاتب القضائية ‪ ،‬لكنه طرد منه بس‪BB‬بب اهمال‪BB‬ه الش‪BB‬ديد‪ ،‬وأرس‪BB‬ل في ع‪BB‬ام ‪ 1726‬ليتلقى تم‪BB‬ارين عن‪BB‬د أح‪BB‬د المص‪BB‬ورين‪،‬‬
‫وهناك كما يقول في االعترافات أصبح شخصًا ال ضابط لسلوكه‪ ،‬كاذبًا ولصًا‪ .‬ثم ترك جنيف عام ‪ 1728‬إلى آنسي ‪Annecy‬‬
‫في فرنس‪BB‬ا حيث أق‪BB‬ام عن‪BB‬د الس‪BB‬يدة وارين ‪ ، Warens‬وهي من أص‪BB‬ل سويس‪BB‬ري‪ ،‬واعتن‪BB‬ق الكاثوليكي‪BB‬ة على ي‪BB‬دها ثم ع‪BB‬اد إلى‬
‫سويسرا وإلى مدينة جنيف الحقا‪ ،‬وألحقته إحدى السيدات بملجأ ديني بمدين‪BB‬ة تورين‪BB‬و‪ ،‬وهن‪BB‬اك غ‪BB‬ير مذهب‪BB‬ه البروتس‪BB‬تانتي إلى‬
‫الكاثوليكي‪ ،‬ثم بدأ يرتحل منذ عام ‪ 1729‬من بلد إلى آخر‪.‬‬

‫بدأ روسو حياته الثقافية بقراءة القصص والروايات التي تركتها ل‪B‬ه والدت‪B‬ه في مكتبته‪B‬ا ثم انتق‪B‬ل إلى ق‪B‬راءة المؤلف‪B‬ات األدبي‪B‬ة‬
‫والفلسفية التي وجدها في مكتبة والده‪ ،‬والسيما المؤلفات اليونانية والرومانية والفرنسية‬

‫وفي عام ‪ 1930‬سافر إلى إيطاليا وكان في الثامنة عشرة من عمره‪ ،‬وهناك في مدينة سافواي تعهدت‪BB‬ه ام‪BB‬رأة تس‪BB‬مى م‪BB‬دام دي‬
‫وارنز ‪ Madame de Warnes‬وهي امراة على جانب كبير من الرقة والجمال قدر لها أن توجه عنايتها ورعايتها المشرقة‬
‫لروسو ولم تبخل عليه بعطفها وحبها الكبيرين وقد شجعته على اعتناق الكاثوليكية التي كانت تدين بها‪ ،‬وقد ق‪BB‬در ل‪BB‬ه أن يعيش‬
‫معها عشر سنوات من أفضل أيام عمره‪ ،‬تعلم خاللها اللغة الالتينية و الموسيقى و الفلسفة و بعض العلوم األخرى‪ ،‬ثم اختل‪BB‬ف‬
‫م‪BB‬ع الم‪BB‬رأة وغ‪BB‬ادر س‪BB‬افواي في ع‪BB‬ام ‪ 1741‬متجه‪BB‬ا إلى ب‪BB‬اريس ثم غادره‪BB‬ا إلى إيطالي‪BB‬ا حيث عم‪BB‬ل كاتب‪BB‬ا لس‪BB‬فير فرنس‪BB‬ا‬
‫‪ Montaigne‬فيها ثم عاد إلى باريس مرة أخرى (‪.)310‬‬
‫وانتقل بعد ذلك إلى لي‪BB‬ون حيث عم‪BB‬ل مدرس‪ًB‬ا خاص‪ًB‬ا ألوالد م‪BB‬ابلي ‪ Mably‬ح‪BB‬اكم مدين‪BB‬ة لي‪BB‬ون ‪ .1740‬ثم س‪BB‬افر إلى ب‪BB‬اريس‬
‫وتعرف إلى ديدرو ‪ ،Diderot 1743‬وتق‪BB‬دم بمش‪BB‬روعه عن التس‪BB‬جيل الموس‪BB‬يقي للمجم‪BB‬ع الفرنس‪BB‬ي للعل‪BB‬وم وفي ع‪BB‬ام ‪1745‬‬
‫تع‪BB‬رف إلى اآلنس‪BB‬ة ت‪BB‬يريز لوفاس‪BB‬ور ‪ ، Theresa Levasseur‬وهي كم‪BB‬ا يص‪BB‬فها ك‪BB‬انت خادم‪BB‬ة غبي‪BB‬ة على ج‪BB‬انب كب‪BB‬ير من‬
‫الخشونة‪ ،‬وعاش معها بقية عمره فقد كانت صديقته مدة ثالثة وعشرين عام‪BB‬ا‪ ،‬ثم تزوجه‪BB‬ا أنجب منه‪BB‬ا خمس‪BB‬ة أطف‪BB‬ال أودعهم‬
‫جميعا في دار األيتام ألنه ال يمتلك إمكانية تربيتهم والعناية بهم‪ .‬خالل إقامته في باريس‪ ،‬وبعد أن وثق عالقته بنخبة المجتم‪BB‬ع‬
‫الباريسي مثل ديدرو وفولتير‪ ،‬اشترك روسو ‪-‬بحكم المصادفة ‪ -‬في مس‪B‬ابقة علمي‪B‬ة أدبي‪B‬ة أقامته‪B‬ا جامع‪B‬ة ديج‪B‬ون ‪ Dion‬ع‪B‬ام‬
‫‪ 1749‬حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد األخالق أو إصالحها‪.‬‬

‫والسؤال الذي طرحته الجامعة هو ‪ :‬هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى تقدم األخالق أمإلى فسادها؟ وبوحي‬
‫من عبقريته الطبيعية وتجربته اإلنسانية الفريدة أجاب روسو بأن تقدم العلوم والفن‪BB‬ون ي‪BB‬ؤدي إلى فس‪BB‬اد األخالق وتراج‪BB‬ع القيم‬
‫وليس إلى تقدم األخالق ومن أن الطبيعي ان ترتدي إجابته طابعا أدبيا ساحرا ومقنعا في اآلن نفسه‪ ،‬تمكن على أثرها من ني‪BB‬ل‬
‫الجائزة‪ .‬وقد أطلق على عمله العبقري هذا "رسالة في العلوم والفنون" ‪Le Discours sur les sciences et les arts‬‬
‫)‪ .(12‬ثم نال الجائزة في عام ‪ ،1750‬وهذا ما جلب لروسو شهرة واسعة وشجعه ذلك على المض‪BB‬ي في الكتاب‪BB‬ة‪ ،‬فاش‪BB‬ترك في‬
‫مسابقة أخرى عبر بحث له بعنوان "مقالة" في أصل التفاوت بين البشر" ‪ Discours sur l'origine de l'inégalité‬عام‬
‫‪ ، 1755‬ولم يحصد الجائزة المنشودة‪ .‬وفي عام ‪ 1761‬أنجز مؤلفه هيلواز الجدي‪BB‬دة )‪ .La Nouvelle Heloise(314‬وفي‬
‫عام ‪ 1762‬قدم لإلنسانية كتابيه الشهيرين "العقد االجتماعي" )‪ Le contrat social(315‬و "إميل"‪les‬‬
‫‪ .)Emile ou l'education‬وفي ع‪BBB‬ام ‪ 1765‬أنج‪BBB‬ز كتاب‪BBB‬ه االعتراف‪BBB‬ات ‪ Confessions‬ثم كتاب‪BBB‬ه ق‪BBB‬اموس الموس‪BBB‬يقى‬
‫‪Dictionnaire de musique). 1767‬‬

‫ومع أن مؤلفات روسو حظيت بشهرة واسعة وإقبال شديد عبر أرجاء أوروبا‪ ،‬فإن كتابيه "العقد االجتماعي " ‪Le contrate‬‬
‫‪ social‬و"إميل " ‪ Emil‬جلبا له النقمة والسخط وغضب المؤمنين والملحدين معا‪ .‬لقد حكم البرلمان الباريس‪B‬ي‪ ،‬بع‪B‬د عش‪B‬رين‬
‫يومًا من نشر كتاب إميل‪ ،‬بح‪BB‬رق الكت‪BB‬ابين وس‪BB‬جن ‪،‬مؤلفهم‪BB‬ا مم‪BB‬ا اض‪BB‬طره إلى اله‪BB‬رب إلى سويس‪BB‬را ال‪BB‬تي ب‪BB‬دورها ك‪BB‬انت ق‪BB‬د‬
‫أصدرت حكمًا مماثًال على الكتابين فلجأ روسو إلى إنجلترا‪ ،‬حيث تعرف هناك إلى الفيلسوف اإلنكليزي المعروف دافيد هيوم‬
‫‪ D.Hume‬ونزل ضيفًا عليه ‪ ،‬لكنه ما لبث أن تخاصم مع هيوم وع‪B‬اد إلى فرنس‪B‬ا ليعم‪B‬ل كناس‪B‬خ نوت‪B‬ات ح‪B‬تى وفات‪B‬ه في ع‪B‬ام‬
‫‪1778‬‬

‫وعندما بلغ الستين من عمره ازداد بؤسه وفقره وانصرف الناس عنه حتى زوجته ‪ ،‬فكان يتمنى لنفسه الم‪BB‬وت والخالص وق‪BB‬د‬
‫تعرض في نهاية أمره ألزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته‪ ،‬ف‪BB‬دفن في مق‪BB‬برة تبع‪BB‬د خمس‪BB‬ين كيلوم‪BB‬ترا عن ب‪BB‬اريس وبع‪BB‬د أن حققت‬
‫الثورة الفرنسية نجاحها المظفر نقل رفاته باحتفال طقوسي إلى البانثيون‪ ،‬وهو مدفن عظماء الفرنسيين‪.‬‬

‫مؤثرات روسو‬

‫لم يكن في حياة روسو المعذبة والشقية والبائسة ما يؤهله ألن يكون في مك‪BB‬ان الص‪BB‬دارة بين ص‪BB‬فوف العب‪BB‬اقرة والمفك‪BB‬رين في‬
‫عصره‪ .‬لقد أثار روسو دهش‪B‬ة المفك‪B‬رين في عص‪B‬ره‪ ،‬إذ كي‪B‬ف يمكن لش‪B‬خص مغل‪B‬وب مقه‪B‬ور مس‪B‬تلب مث‪B‬ل روس‪B‬و أن يفج‪B‬ر‬
‫عبقرية تربوية وسياسية بلغت مداها في عصره ووصلت إلى أوج عظمتها في المراحل الفكرية الالحقة؟‬

‫كثير من النقاد والمفكرين يعتقدون أن حياة روسو المعذبة توجد في أصل العبقرية التي فجرها في عصره ه‪BB‬ذه الحي‪BB‬اة‪ ،‬ال‪BB‬تي‬
‫غلب عليها طابع اإلثارة والتمرد والجنون وسرعة الحركة واالنتقال في دائرة الزمان والمكان‪ ،‬كان لها أك‪BB‬بر األث‪BB‬ر في تنمي‪BB‬ة‬
‫عواطفه المتمردة وحّسه اإلنساني النبيل الذي تفجر تمردا وثورة ورفضا منهجيا لكل أشكال الطغيان‪.‬‬

‫لقد فجرت هذه الحياة المقهورة عشقا للحرية وولعا بالثورة والتمرد في أعماقه‪ ،‬وكانت في نهاية األمر البوتقة التي تنامت فيها‬
‫إمكانات رؤية ثورية للوجود والحياة‪.‬‬
‫وال يخفى على أحد عشق روسو للمطالعة ونهم‪B‬ه الش‪B‬ديد للمعرف‪B‬ة وجوع‪B‬ه المتم‪B‬رد إلى األدب والش‪B‬عر العاطف‪B‬ة ك‪B‬ان ش‪B‬غوفا‬
‫بالمعرفة‪ ،‬ولم يترك لحظة ممكنة أتاحت له أن يتبحر في كتاب أو أن يقرا في شعر أو أن يستغرق في رواية عاطفية‪.‬‬
‫وهذا الشغف الكبير بالمطالعة منذ السادسة من العمر ‪.‬مكنه من امتالك حس أدبي متميز وبراعة فنية في صوغ‬
‫الخطاب المضمخ بعاطفة إنسانية فياضة وجارفة إن من يقرأ روسو في أس‪BB‬لوبه الس‪BB‬احر يج‪BB‬د أن‪BB‬ه يتح‪BB‬رك ويتج‪BB‬اوز إمكان‪BB‬ات‬
‫العقل ليستقر دفعة واحدة في مكنون العاطفة التي يبدأ على األثر تدفقها بالعواطف اإلنسانية النبيلة والمتمردة في آن واحد‪ .‬لق‪B‬د‬
‫كان روسو يقرأ بنهم أسطوري كل ما يقع بين يديه من كتب األقدمين والمحدثين‪ ،‬ولم يكن خافيا أن‪BB‬ه ك‪BB‬ان ي‪BB‬درس الرياض‪BB‬يات‬
‫والفلك وقد قيل إن هذه الحياة التي قضاها في القراءة والعمل وإن تل‪BB‬ك الح‪BB‬وادث األس‪BB‬طورية ال‪BB‬تي تتخلله‪BB‬ا وه‪BB‬ذه المغ‪BB‬امرات‬
‫الدافئة واألخطار المحدقة التي كان يكابدها ألهمته وفجرت فيه قدرة هائلة على العطاء‪ ،‬ألن ه‪B‬ذه األح‪B‬داث والمفارق‪B‬ات ك‪B‬انت‬
‫توقظ خياله وتفجر أحاسيسه وكان فعلها وتأثيرها يضاهي ويتجاوز تأثير دروس منظمة في كلية بليسس "‪Plessis‬‬
‫لقد أضفت تجارب الترحال دون انقطاع على إحساسه العبقري طابع‪BB‬ا إنس‪BB‬انيا وجمالي‪B‬ا متش‪BB‬بعا ب‪B‬الخبرة والعط‪B‬اء‪ .‬لق‪BB‬د ع‪BB‬رف‬
‫دروب فرنسا وسويسرا وإيطاليا وبريطانيا في ترحال لم ينقطع‪ ،‬وفي تجوال لم يتوقف ولم يكن خافيا على أحد أن تجواله هذا‬
‫كان في مرات عديدة راجال على قدميه وتلك هي رحلته األولى إلى ليون التي قطع المسافة إليه‪BB‬ا من ج‪BB‬نيف راجال إن لم يكن‬
‫حافيا‪ .‬هذه التجارب عركته بالخبرة وعجنته بأحاسيس إنسانية متفردة تتعايش فيها لحظات األلم والحرمان مع لحظات الح‪BB‬نين‬
‫والشوق والفرح والشعور بالزهو واالنتصار‪.‬‬

‫وال يمكن ألحد أن ينكر حصاد تواصله مع أهل الحصافة والرأي من علماء ومفكرين وأدباء وقساوسة ورجال دين وقد منح‪BB‬ه‬
‫هذا التواصل مع ثقاة المعرفة وسدنة الفكر طموحا عبقريا انطلق منه لتسجيل أمجاده الفكرية عبر أعماله المختلفة‪.‬‬
‫وهنا يجب علينا أن نتوقف عند الخصائص الشخصية والفردية في شخص‪BB‬ية الفيلس‪BB‬وف‪ ،‬إذ يجب االع‪BB‬تراف ب‪B‬أن روس‪BB‬و ك‪BB‬ان‬
‫ذكيا مرهف األحاسيس نبيال بطبعه‪ ،‬ولم يكن قط طفال عاديا‪ .‬لقد كتب لنا يقول " لم أكن أملك أية فكرة عن األشياء في ال‪BB‬وقت‬
‫الذي كنت أعرف فيه كل العواطف والمشاعر ولم أفكر في شيء تفكيرا بل أحسست كل شيء إحساسا وفي هذا القول إش‪BB‬راقة‬
‫عبقرية تؤكد أن روسو كان أكثر من طفل عادي إن لم يكن قد استجمع في ذاته بذور عبقرية تأصلت في فطرته‬
‫هذه الظروف والتجارب والخبرات والمكابدات والهزائم شكلت بوتقة نضج فيها إبداع روسو‪ ،‬وس‪BB‬مت معه‪BB‬ا مواهب‪BB‬ه الفكري‪BB‬ة‬
‫والتربوية فسجلته بين أكثر رجاالت عصره عبقرية وتأثيرا وشهرة‪.‬‬
‫في مفهوم الطبيعة عند جان جاك روسو‬
‫ال يستقيم البحث في نظرية روسو التربوية والسيما في التربية الطبيعية دون العو إلى مفهوم الطبيعة؛ ألن تحديد هذا المفه‪BB‬وم‬
‫يشكل حجر الزاوية في فهم معمق ألبـعاد واتجاهات نظرية روسو الطبيعية في التربية‪.‬‬
‫يحدد روسو ثالثة تجليات لمفهوم الطبيعة‪ ،‬يأخذ األول منها صورة الكون أو العالم الخارجي على نحو‬
‫ما يتبدى لنا بصورة موضوعية فالطبيعة وفقا لهذا التصور هي مقاطعات كوني‪BB‬ة في دائ‪BB‬رتي الزم‪BB‬ان والمك‪BB‬ان ف‪BB‬األرض وم‪BB‬ا‬
‫عليها من بشر وشجر وحجر والسماء وما فيها من كواكب ونجوم واجرام كونية تشكالن الحدود القصوى لمفهوم‬

‫الطبيعة بصورته الشمولية عند روسو‬

‫ويتجلى المفهوم الثاني للطبيعة عند روسو في العالم الداخلي عند اإلنسان‪ ،‬فغرائزنا وميولنا األصيلة وما فطرنا عليه من قوى‬
‫داخلية منحتنا إياها الطبيعة يمثل مفهوم الطبيعة اإلنسانية‪ .‬وهذه الطبيعة خيرة بكل ما تنطوي عليه من غرائ‪BB‬ز ومي‪BB‬ول وق‪BB‬وى‬
‫داخلية‪ ،‬ألنها صناعة كونية إلهية وليست من صنع اإلنسان‬

‫أما التصور الثالث للطبيعة فيتحدد بالطبيعة االجتماعية للوجود البشري‪ .‬لقد كان روسو يعتق‪BB‬د أن اإلنس‪BB‬انية ك‪BB‬انت في العه‪BB‬ود‬
‫الغابرة تعيش حياة طبيعية سابقة للحضارة الحالة الطبيعية‪ .‬كان الناس في حالتهم الطبيعية االجتماعية كما يصورهم في كتاب‪BB‬ه‬
‫" مقالة في العلوم والفنون " يعيشون حالة إنسانية تتميز بأصالتها وسموها وعظمتها‪ ،‬إذ كانت حياة الن‪B‬اس الب‪B‬دائيين تخل‪B‬و من‬
‫الحقد والكراهية والحسد‪ .‬إنها حياة آمنة يتفانى فيها اإلنسان في خدمة اإلنسان ويضحي فيها الف‪BB‬رد من أج‪BB‬ل اآلخ‪BB‬ر والجماع‪BB‬ة‬
‫في هذه الحالة الطبيعية كان أفراد الجماعة اإلنس‪B‬انية يعيش‪B‬ون دونم‪B‬ا ‪ ،‬فالن‪B‬اس ي‪B‬أكلون م‪B‬ا يجمع‪B‬ون ويعيش‪B‬ون في ظ‪B‬ل س‪B‬مو‬
‫أخالقي يفيض عليهم بكل معاني التسامح والمحبة التي كانت قانونا كليا يحكم الوجود اإلنس‪BB‬اني برمت‪BB‬ه إال أن‪BB‬ه ظه‪BB‬ور الملكي‪BB‬ة‬
‫الخاصة لألرض‪ ،‬مع اللحظة تدجين الحيوان‪ ،‬ومع اللحظة التي بدأ فيها اإلنسان يقول ألخيه اإلنسان هذه لي وه‪B‬ذا ل‪B‬ك‪ ،‬ب‪B‬دأت‬
‫مرحلة الجشع والطمع والفزع وبدأ الصراع اإلنساني نحو مزيد من السيطرة والتسلط واالستبداد‪ ،‬وظهر الح‪B‬اكم الق‪BB‬وي ال‪B‬ذي‬
‫فرض على الجماعة قوته وبسط جناح سلطانه وتحول اإلنسان إلى عبد ألخيه اإلنسان فظهرت المظالم والشقاء وامت‪BB‬د الب‪BB‬ؤس‬
‫اإلنساني ليضع الناس جميعا في حالة استالب واغتراب فالحالة الطبيعية االجتماعية هنا قد انتهكت وفقدت طهارتها وأصالتها‬
‫ونقاء انتمائها وصفاء وجودها‪ .‬لق‪BB‬د انتهكت الطبيع‪BB‬ة اإلنس‪BB‬انية ودنس‪BB‬ت طهارته‪BB‬ا م‪BB‬ع والدة الثقاف‪BB‬ة والملكي‪BB‬ة وص‪BB‬ولة الطغ‪BB‬اة‬
‫وتسلط الحكام‪ .‬وهذه األفكار الطبيعية هنا تج‪B‬د م‪B‬دها في كت‪B‬اب روس‪B‬و مقال‪B‬ة في أص‪B‬ل التف‪B‬اوت بين البش‪B‬ر "‪ ،‬حيث ي‪B‬بين لن‪B‬ا‬
‫الكيفية التي تطورت بها اإلنسانية من حالة الطهارة والحرية إلى حالة العبودية والقهر‬

‫ومهما يكن األمر‪ ،‬فالخير كامن في طبقات الطبيعة بأبعادها الثالثة ‪ :‬في الكون وفي اإلنسان وفي المجتمع‪ .‬ومن أج‪BB‬ل خ‪BB‬روج‬
‫اإلنسان من حالته المأساوية يجب عليه أن يبحث عن الفردوس في العودة إلى الطبيعة في اإلنسان وفي الك‪BB‬ون وفي المجتم‪BB‬ع‪.‬‬
‫لقد جاء كتابه " العقد االجتماعي " دعوة مطلقة للعودة إلى حالة الطبيعة وإحياء طقوس الحري‪BB‬ة والمس‪BB‬اواة ال‪BB‬تي ك‪BB‬انت تس‪BB‬ود‬
‫المجتمعات القديمة قبل أن يلفها الفس‪BB‬اد‪ .‬وفي التربي‪BB‬ة على اإلنس‪BB‬ان كي يتح‪BB‬رر من رق العبودي‪BB‬ة والقه‪BB‬ر وينتق‪BB‬ل إلى الفض‪BB‬اء‬
‫األرحب للحرية أن يعمل على بناء اإلنسان وفقا لمبدأ الطبيعة وروحها‬

‫ينطلق روسو في منظومته التربوية من المبدأ الذي يقول بأن الطبيعة اإلنسانية خيرة وإن فطرة اإلنسان معدن ك‪BB‬ل خ‪BB‬ير وه‪BB‬و‬
‫وفقا لهذه الرؤية يعارض األفكار السائدة في عص‪BB‬ره ال‪BB‬تي تب‪BB‬نى على أن الش‪BB‬ر أص‪BB‬يل في طبيع‪BB‬ة اإلنس‪BB‬ان وهي الفك‪BB‬رة ال‪BB‬تي‬
‫يؤسس لها الفيلسوف اإلنكليزي هوبز ومعظم رجال القرن الثامن عشر‪ ،‬كما يؤس‪BB‬س له‪BB‬ا رج‪B‬ال ال‪B‬دين والكنيس‪BB‬ة في عص‪BB‬ره‪.‬‬
‫وعلى هذا األساس كانت التربية‪ ،‬وفقا لمبدأ الشر األصيل في النفس‪ ،‬تؤكد أهمية اقتالع الش‪BB‬ر من النفس اإلنس‪BB‬انية بم‪BB‬ا ت‪BB‬وفره‬
‫التربية ذاتها من أدوات التسلط والقوة والقهر الستئصال الش‪BB‬ر ال‪BB‬دفين في النفس اإلنس‪BB‬انية‪ .‬وعلى خالف ه‪BB‬ذه الرؤي‪BB‬ة البائس‪BB‬ة‬
‫للطبيعة اإلنسانية كان روسو يعتقد أن الطبيعة خيرة وخيرها يفيض‬

‫بالمطلق‪ ،‬ولذلك فإن التربية يجب أن تنطلق على أساس الميول الطبيعية ليكون الطفل ابن الطبيعة وربيبها وألن الطبيعة خيرة‬
‫فإن التربية الحرة يجب أن تعمل على ‪ :‬النمو الحر الطليق لطبيعة اإلنسان ولقواه وميوله الطبيعية‪.‬‬
‫في التربية الطبيعية عند روسو‪:‬‬

‫يشار إلى روسو بوصفه زعيما للنزعة الطبيعية في الفلسفة والتربية الحديثة دون منازع‪ .‬وق‪BB‬د أودع أفك‪BB‬اره الطبيعي‪BB‬ة ه‪BB‬ذه في‬
‫مختلف أعماله ومؤلفاته‪ ،‬بدءا من كتابه األول رسالة في العلوم والفنون "‪ ،‬مرورا بكتابه " مقالة في أصل التفاوت بين البش‪BB‬ر‬
‫"‪ ،‬ثم في سفره المشهور "العقد االجتماعي "‪ ،‬وأخيرا في كتابه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة " إميل والتربية ( ‪. .)321‬‬
‫وفي هذه األعمال جميعها نجد نسقا متكامال من األفكار واالتجاهات الطبيعية في المجتمع والتربي‪B‬ة والسياس‪B‬ة والفلس‪B‬فة‪ .‬ويع‪B‬د‬
‫كتاباه "إميل" و" العقد االجتماعي" أروع ما أهداه روسو لبني البشر ) ‪ ..‬وبهذا الصدد يقول بورجوالن ‪ Burgellin‬في كتابه‬
‫المعروف "فلسفة الوجود عند روسو يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة‬
‫ويأخذ كتابه إميل صورة عمل أدبي وتربوي صقله إلهام ارتج‪BB‬ال عبق‪BB‬ري يتض‪BB‬وع األحاس‪BB‬يس اإلنس‪BB‬انية النبيل‪BB‬ة ولم يكن ه‪BB‬ذا‬
‫الكتاب مجرد تلبية لرغبة السيدة شونسو ‪ Chenonceau‬من أجل تربية ابنها بل كان حركة عبقرية ألهمت الحضارة اإلنس‪B‬ان‬
‫في القرن الثامن عشر وفي األزمنة الحديثة طرا ‪.‬‬
‫يتضمن كتاب "إميل" منظومة عبقرية من األفكار التربوية‪ ،‬التي تؤسس النظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعة وبمقتضى‬
‫الطبيعة‪ .‬ويأتي هذا الكتاب بلورة منهجية لمنظومة أعماله الس‪B‬ابقة ال‪B‬تي كتبه‪B‬ا والس‪B‬يما كتاب‪B‬اه في العل‪B‬وم والفن‪B‬ون وفي أص‪B‬ل‬
‫التفاوت بين البشر‪.‬‬
‫يفتتح روسو كتابه هذا بقوله " كل شيء صنعه خالق البرايا حسن وكل شيء يفسد بين يدي اإلنسان وهو في هذا القول يض‪BB‬ع‬
‫استراتيجية نظرية يؤسس عليها نظريته الطبيعي‪BB‬ة في التربي‪BB‬ة والحي‪BB‬اة وخالص‪BB‬ة ه‪BB‬ذا الق‪BB‬ول تكمن في عب‪BB‬ارة قص‪BB‬يرة قوامه‪BB‬ا‬
‫"الطبيعة خيرة واإلنسان يفسدها"‪.‬‬
‫فالطبيعة خيرة وخيرها يتدفق بالمطلق وعلينا " أن نؤمن إيمانا ال مرية فيه بأن الحركات األولى للطبيعة هي دوما رشيقة وما‬
‫من فساد أصيل في النفس اإلنسانية أو في القلب البشري" فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلين‪BB‬ا أن نحص‪BB‬ن الطف‪BB‬ل ض‪BB‬د الش‪BB‬ر‬
‫المستطير الذي يميد بالحياة االجتماعية وتأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور مبدأ الخير ومنه‪BB‬ا يجب أن ننطل‪BB‬ق إلى بن‪BB‬اء‬
‫الخير في النفوس‪ ،‬وتشكيل المناعة األخالقية في العقول‪ ،‬فالطبيعة هي المبتدأ والخبر في معادل‪BB‬ة البن‪BB‬اء اإلنس‪BB‬اني الخ‪BB‬ير وفي‬
‫أحضانها يجب أن ينمو األطفال ليكونوا في منعة وامتناع عن كل ضروب اإلثم والشر في التك‪BB‬وين اإلنس‪BB‬اني للف‪BB‬رد‪ .‬فإمي‪BB‬ل "‬
‫ابن الطبيعة‪ ،‬تربية الطبيعة وفق قواعد الطبيعة إلرضاء حاجات الطبيعة‪ ..‬ومن هن‪B‬ا يت‪B‬دفق تم‪B‬رد روس‪B‬و ض‪B‬د المجتم‪B‬ع منب‪B‬ع‬
‫الشرور واآلثام‪.‬‬
‫هذا ويعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل‪ ،‬ولذلك يجب أن نتوكل أمر تربيت‪BB‬ه إلى الطبيع‪BB‬ة ذاته‪BB‬ا ألن‬
‫الطبيعة تريد للطفل أن ينمو نموا حرا وأن يعمل بمقتضى تكوينه الطبيعي بوصفه طفال‬

‫إن أعظم ما قدمه روسو للتربية يتمثل في عبقرية الكشف عن طبيعة للطفل مفارقة لما ه‪BB‬و معه‪BB‬ود وم‪BB‬ألوف في عص‪BB‬ره وفي‬
‫العصور التي سبقته‪ .‬يرفض روسو المبدأ التربوي الذي ينظر إلى الطفل بوصفه راشدا صغيرا‪ ،‬وه‪BB‬و على خالف ذل‪BB‬ك ي‪BB‬رى‬
‫أن الطفل صغير الراشد فطبيعة الطف‪B‬ل مفارق‪B‬ة لطبيع‪B‬ة الراش‪B‬د نوعي‪B‬ا وليس من الج‪B‬انب الكمي‪ .‬فالطف‪B‬ل يختل‪B‬ف في مس‪B‬توى‬
‫قدرته على اإلدراك والنظر والتحليل اختالفا نوعيا عما نجده عند الكبار‪ .‬يروي روسو قصة ذلك الطفل الذي حكيت له حكاية‬
‫اإلسكندر الكبير وطبيبه ‪ ،‬لقد كان هذا الطفل معجبا إلى حد كب‪B‬ير بش‪BB‬خص اإلس‪B‬كندر وش‪BB‬جاعته‪ ،‬ولكن ه‪B‬ل تعلم‪BB‬ون أين ك‪BB‬ان‬
‫يرى موطن هذه الشجاعة ؟ كان يراها في قدرة اإلسكندر على تجرع ش‪B‬راب س‪B‬يىء الطعم‪ ،‬وفي ه‪B‬ذا المث‪B‬ال ي‪B‬بين روس‪B‬و أن‬
‫إدراكات الطفل وطريقة نظرته إلى الوجود مختلفة كليا عن الراش‪BB‬د فالطف‪BB‬ل ال يمتل‪B‬ك ه‪B‬ذا التفتح ال‪B‬ذهني ال‪B‬ذي يمكن‪B‬ه من فهم‬
‫العالم بما ينطوي عليه على النحو الذي يدركه الراشدون ومن هذا المنطلق ينادي روسو بأهمية معرفة طبيعة الطفل على نحو‬
‫ما تفرضه ه‪B‬ذه الطبيع‪B‬ة من خصوص‪B‬ية مفارق‪B‬ة لطبيع‪B‬ة الراش‪B‬دين ولروس‪B‬و فيض من الق‪B‬ول في طبيع‪B‬ة الطف‪B‬ل‪ ،‬ومن أش‪B‬هر‬
‫مقوالته في هذا الخصوص ‪" :‬تعلموا كيف تتعرفون إلى أوالدكم ألنكم يقينا تجهل‪BB‬ونهم ك‪BB‬ل الجه‪BB‬ل"‪ ،‬ولم‪BB‬اذا ه‪BB‬ذا الجه‪BB‬ل؟ ألن‬
‫الكبار ينظرون إلى الصغار نظرة الراشد إلى الراشد وليس نظ‪B‬رة الكب‪B‬ير نجه‪B‬ل الطفول‪B‬ة الجه‪B‬ل كل‪B‬ه وكلم‪B‬ا راودتن‪B‬ا األفك‪B‬ار‬
‫الخاطئة التي نملكها عنها ازداد ضاللنا إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء اإلنسان على ص‪BB‬ورة الطبيع‪BB‬ة‪ ،‬أي كم‪BB‬ا خلق‪BB‬ه‬
‫هللا وكما يريد له أن يكون‪.‬‬
‫وهنا نجد أن روسو غالبا ما يكرر أقواله المأثورة ‪ " :‬دعوا الطفولة تنمو في األطفال"‪" ...‬دع‪B‬وا الطبيع‪B‬ة تعم‪B‬ل وح‪B‬دها زمن‪B‬ا‬
‫أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها‪" .‬احترموا الطفولة وال تتسرعوا أبدا بالحكم عليه‪BB‬ا خ‪BB‬يرا ك‪BB‬ان أم‬
‫شرا" (‪ " )....‬فاإليقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله بل وظيفة ضرورية للنمو"‪ .‬وكثيرا ما ك‪BB‬ان يق‪BB‬ول ‪ " :‬الطبيع‪BB‬ة ال‬
‫تحتاج إلى تربية والغريزة خيرة طالما تعمل وح‪BB‬دها وتص‪BB‬بح مش‪BB‬بوهة عن‪BB‬دما تت‪BB‬دخل المؤسس‪BB‬ات اإلنس‪BB‬انية وينبغي علين‪BB‬ا أن‬
‫ننظمها ال أن نقضي عليها وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها‬

‫تتضمن التربية الطبيعية عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة واألطفال‪ .‬وقد استلهم روسو ه‪BB‬ذا العط‪BB‬ف على‬
‫الطفولة من الحرمان العظيم والبؤس الخانق واآلالم الفادحة والمدمرة التي عاناها في طفولته المعذب‪BB‬ة‪ .‬وفي حنان‪BB‬ه ه‪BB‬ذا زف‪BB‬رة‬
‫طفولة مقهورة وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة األطفال والعناية بهم‪ .‬يقول روسو والقول يتدفق بأعظم معاني الحن‪BB‬ان والحب‬
‫للطفولة واألطفال ‪ :‬أحبوا الطفولة‪ ،‬يسروا لها ألعابها ومسراتها وفطرتها المحبوبة من منكم ال يأسف أحيان‪BB‬ا على تل‪BB‬ك الس‪BB‬نين‬
‫التي ال تفارق فيها االبتسامة الشفتين (‪ )...‬فلم تريدون أن تحرموا ه‪BB‬ؤالء الص‪BB‬غار األبري‪BB‬اء من متع‪BB‬ة ف‪BB‬ترة تك‪BB‬اد من قص‪BB‬رها‬
‫تفوتهم (‪ )...‬ولم تريدون أن تملؤوا بالمرارة واآلالم هذهـ السنوات األولى الخاطفة التي ال تعود إليكم أيها اآلباء‪ ،‬ه‪BB‬ل تعلم‪BB‬ون‬
‫األجل الذي ينتظر فيه الموت أبناءكم؟ قال تتهيؤوا للندامة إذ تحرمونهم من الهنيهات القليلة التي منحتهم إياها الطبيعة متع‪BB‬وهم‬
‫بلذة الوجود منذ أن يص‪BB‬بحوا ق‪BB‬ادرين على االس‪BB‬تمتاع به‪BB‬ا ح‪BB‬تى إذا دعتهم المني‪BB‬ة في س‪BB‬اعة من الس‪BB‬اعات‪ ،‬لم يموت‪BB‬وا قب‪BB‬ل أن‬
‫يتذوقوا الحياة ويقضوا منها وطرا‬

‫ويمكن تحديد أهم المبادئ األساسية لطبيعة الطفولة في التربية عند روسو على النحو التالي‬
‫‪ -1‬طبيعة الطفل خيرة وليس شريرة‪.‬‬
‫‪ 2-‬يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية‪.‬‬
‫‪ -3‬التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن‬
‫ذلك‪.‬‬
‫‪ -4‬تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر األطفال ألن طبيعة الطفل هي تحدد نوع التربية الممكن‪.‬‬
‫التي‬
‫‪ -5‬العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية‬
‫التربوية‪.‬‬
‫التربية السلبية أو التربية الحرة‬
‫ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة وإيمان متفج‪B‬ر بمب‪B‬دأ الحري‪B‬ة اإلنس‪B‬انية وتتجلى ه‪B‬ذه التربي‪B‬ة‬
‫السلبية في رفض مطلق لكل إكراهات التسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتشع في تصوراتهم وممارساتهم‬
‫اإلنسانية والتربوية‪.‬‬
‫يقول روسو‬
‫" الحكمة البشرية ذاتها ال تنطوي إال على تحكمات استعبادية‪ ،‬فعاداتنا ال تعدو أن تكون إذالال واستعبادا وكبتا وألم‪B‬ا‪ .‬فالرج‪B‬ل‬
‫المتمدن يولد ويعيش ويموت في حالة عبودية ‪ :‬يلف عليه القماط يوم يولد ويزج في الكفن يوم يموت ويغلق عليه التابوت ي‪B‬وم‬
‫يدفن‪ ،‬وما دام حيا فإنه يكون مقيدا بأغالل األنظمة‬
‫إنه يقترح عبر مفهوم التربية السلبية ثورة تربوية عارمة تحرر اإلنسان من قيوده وتحطم أغالله وأصفاده نادى روس‪BB‬و بمب‪BB‬دأ‬
‫التربية السلبية‪ ،‬فالتربية األولى التي تقدم للطفل يجب أن تك‪B‬ون س‪B‬لبية وهي ال تك‪B‬ون ب‪B‬التلقين لمب‪B‬ادئ الفض‪B‬يلة‪ ،‬ولكن قوامه‪B‬ا‬
‫المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل‪ .‬ويعتقد روسو أن التربية الحقة تكون في النمو الحر الطليق لطبيع‪BB‬ة الطف‪BB‬ل‬
‫وقواه الداخلية وميوله الفطرية‪.‬‬
‫فالتربية التي ينشدها روسو ليست نفيا للتربية بل هي رفض لألساليب التربوية التقليدية السائدة ال‪BB‬تي ت‪BB‬زج اإلنس‪BB‬ان في م‪BB‬دافن‬
‫العبودية واإلكراه‪ .‬فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل أن ينمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيرة‪ .‬إنه‪BB‬ا التربي‪BB‬ة‬
‫التي تتيح للطفل أن ينمو روحيا وعقليا ونفسيا نموا حرا أصيال خارج دوائر اإلكراه والتسلط والقه‪BB‬ر‪ .‬فالتربي‪BB‬ة الس‪BB‬ائدة تربي‪BB‬ة‬
‫إكراه‪ ،‬تفقد اإلنسان براءته وأصالته ألنها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة‪ .‬ول‪BB‬ذلك ف‪BB‬إن التربي‪BB‬ة‬
‫السلبية تشكل نفيا للعادات واألساليب التربوية السائدة في عصره‪ .‬وهو يقول في مع‪B‬رض وص‪B‬فه للتربي‪B‬ة اإليجابي‪B‬ة بأنه‪B‬ا ه‪B‬ذا‬
‫النوع من التربية الذي يس‪B‬اعد على تك‪B‬وين العق‪B‬ل قب‪B‬ل األوان كم‪B‬ا يس‪B‬اعد على تلقين الطف‪B‬ل واجب‪B‬ات الرج‪B‬ال‪ .‬وه‪B‬و ال يع‪B‬ني‬
‫بالتربية السلبية حالة من السكون والكسل بل هي نوع من التربية الحرة التي ال تسبب الفض‪BB‬يلة لكنه‪B‬ا تحمي القلب من الرذيل‪BB‬ة‬
‫وعلى خالف ما هو معهود وسائد في عصره يؤكد اال شر أصيال في النفس اإلنس‪B‬انية‪ ،‬ومن ه‪B‬ذا المنطل‪B‬ق ف‪B‬إن طبيع‪B‬ة الطف‪B‬ل‬
‫خيرة بالمطلق‪ ،‬وأن التربية الحقة تجري على نبض اإليقاع الداخلي لهذه الطبيعة ‪.‬‬
‫التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نماء طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم‪.‬‬
‫وكأننا بروسو في هذا التوجه يميل إلى االستغناء عن المربي كليا وميال إلى أن يوك‪BB‬ل مهم‪BB‬ة تربي‪BB‬ة الطف‪BB‬ل إلى الطبيع‪BB‬ة ذاته‪BB‬ا‬
‫وان يدع الطفل منفردا في صدامه مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها فوظيفة المربي ال تكاد تتجاوز حدود اإلش‪BB‬راف على‬
‫إميل عن بعد‪ ،‬وهو ليس مطالبا بالتدخل إال حينما تقتضي الضرورة تدخله‪ .‬وليس على المربي أن يحتسب الزمن وال‪BB‬وقت في‬
‫عملية نماء الطفل القصوى وتربيته بل يجب عليه أن يبدد الزمن ويهدر إمكانية اإلحساس به؛ ألن إميل يختمر ويتك‪B‬ون وكلم‪B‬ا‬
‫كان نضجه في ظرف زمني هادئ مستريح في صدر الزمن كان ذلك في مصلحة البناء والتكوين واإلعداد التربوي عند إميل‬
‫والقاعدة التي يعلنها روسو بهذا الصدد تقول وتشدد على القول " ليست أهم قاعدة في التربية أن ن‪BB‬ربح ال‪BB‬وقت ب‪BB‬ل أن نض‪BB‬يعه‬
‫وانطالقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيرة وأن المجتمع يفسدها‪ ،‬فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز على أمرين أساسيين ‪:‬‬
‫‪ -1-‬حماية إميل من الفساد االجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية‪.‬‬
‫‪ 2-‬مجاراة التطور الطبيعي في الطفل‪ ،‬ألن الطفل يمتلك شروط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية‪.‬‬
‫تنطوي التربية السلبية على ثالثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة ‪:‬‬
‫الحرية الجسدية ‪ :‬التي توفر للطف‪B‬ل ك‪B‬ل م‪B‬ا يحت‪B‬اج إلي‪B‬ه من إيقاع‪B‬ات النم‪B‬اء الجس‪B‬دي الح‪B‬ر ال‪B‬ذي يأخ‪B‬ذ مس‪B‬اره ع‪B‬بر‬ ‫‪-1‬‬
‫النشاطات والفعاليات واأللعاب وتترك لجسده الحرية‪ .‬وهنا يجب رفض كل ما من شأنه أن يقيد حرية الطف‪B‬ل الجس‪B‬دية‪.‬‬
‫ومن هنا جاء رفض روسو للقماط وهجوم‪BB‬ه الع‪BB‬نيف على األس‪BB‬اليب التربوي‪BB‬ة ال‪BB‬تي تمن‪BB‬ع الطف‪BB‬ل من إمكان‪BB‬ات الحرك‪BB‬ة‬
‫والقفز واالنطالق واللعب وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل‪ .‬كان روس‪BB‬و يعتق‪BB‬د أن‪BB‬ه ال يمكن‬
‫للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر‪ ،‬ألن الحرية كينونة صماء ال تقبل التجزئة واالنشطار‪ .‬وال يمكن إلنسان ما‬
‫أن يكون حرا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر‪.‬‬
‫الحرية العاطفية واالنفعالية ‪:‬‬ ‫‪-2‬‬
‫إذ يجب إبعاد إمي‪B‬ل عن ك‪B‬ل م‪B‬ا من ش‪B‬أنه أن يف‪B‬رض على الطف‪B‬ل مش‪B‬اعر مقنن‪B‬ة وعواط‪B‬ف جام‪B‬دة معلب‪B‬ة أو مثلج‪B‬ة ف‪B‬التطور‬
‫الطبيعي للطفل يتمثل في أن نترك المشاعره الداخلية حرية النمو وفق‪BB‬ا الن‪BB‬دفاعات إنس‪BB‬انية داخلي‪BB‬ة نابع‪BB‬ة من أحاس‪BB‬يس الطف‪BB‬ل‬
‫وتجربته ومشاعره وتلك هي الخصوصية ال‪BB‬تي يجب أال تتع‪BB‬رض لع‪BB‬دوان الراش‪BB‬دين وتس‪BB‬لطهم‪ .‬إن الت‪BB‬دخل في توجي‪BB‬ه النم‪BB‬و‬
‫العاطفي واالنفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل‪ ،‬وه‪B‬و إك‪B‬راه يتج‪B‬اوز ك‪B‬ل إك‪B‬راه‪ ،‬ألن ال‪B‬روح‪ ،‬وهي أعم‪B‬ق وأق‪B‬دس م‪B‬ا في‬
‫اإلنسان‪ ،‬يجب أن تترك حرة أصيلة رشيقة كما تفرضها الطبيعة‪ .‬دعوا األطفال يتذوقوا العالم ع‪B‬بر إحساس‪B‬هم اإلنس‪B‬اني بعي‪B‬دا‬
‫عن كل أشكال التسلط واإلكراه‪ ،‬فللطفل أن يشعر بحرية‪ ،‬و أن يحب ويكره ويغضب ويتس‪B‬امح بحكم مش‪B‬اعره الداخلي‪B‬ة وعلى‬
‫منوال ما تفرضه روحه الداخلية التي تفيض بالعطاء‪.‬‬
‫‪ -‬الحرية العقلية ‪:‬‬
‫ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما ال يحتمل وما ال يستسيغ إن االغتراب الحقيقي يكون عندما نف‪BB‬رض على ع‪BB‬الم‬
‫الصغار رؤانا ومعتقداتنا‪ ،‬وأن نعلمهم بصورة مبكرة ما نرغب من العلوم والمعارف إن التعليم المبكر يقض مضاجع األطفال‬
‫ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفاال وهنا يرى روسو أن القاعدة في تعليم األطفال وتشكيل عقولهم ليست فى أن نربح‬
‫الوقت ونقتنص الزمن بل تكون في هدر الزمن وتضييع الوقت بالمعنى التقليدي‪ ،‬فتضييع الوقت وه‪BB‬دره في التربي‪BB‬ة الطبيعي‪BB‬ة‬
‫وفقا لمفهوم روسو هو عملية استثمار عظيمة‪ ،‬ألن كل لحظة تبذل في سبيل التربية تج‪BB‬د مردوده‪BB‬ا العظيم في التك‪BB‬وين الخلقي‬
‫واإلنساني للطفل‪ ،‬ألن عقل الطفل يكون في المراحل األولى في مرحلة التكوين وهو الخاصة اإلنسانية ال‪BB‬تي تنض‪BB‬ج مت‪BB‬أخرة‪.‬‬
‫وفي هذا يقول روسو ‪ :‬لو كان بيدي لجعلت الطفل ال يعرف يمينه من يساره ح‪B‬تى الثاني‪B‬ة عش‪B‬رة من عم‪B‬ره وه‪B‬و ب‪B‬ذلك يري‪B‬د‬
‫للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم‪ ،‬وأن يكون في مرحلة يمتلك فيها زمام نفسه وعقله بحيث ال يقبل إال ما‬
‫يراه وفقا لمقتضى طبيعته بأنه صحيح وخير وأصيل‪ .‬إنه ينادي بأال نهتم باإلعداد العقلي للطفل حتى بع‪B‬د س‪B‬ن الثاني‪B‬ة عش‪B‬رة‪،‬‬
‫ألن فترة الطفولة هي فترة الرك‪BB‬ود العقلي وهي مرحل‪BB‬ة كموني‪BB‬ة ال نس‪BB‬تطيع أن نتص‪BB‬ور م‪BB‬دى أهميته‪BB‬ا‪ ،‬ول‪BB‬ذلك يجب أال ن‪BB‬دفع‬
‫الطفل بالف إلى التفكير أو إلى القراءة أو إلى بذل أي مجهود عقلي في هذه المرحلة‪.‬‬
‫وتعتمد التربية السلبية على قانون الجزاء الطبيعي‪ ،‬بحيث ندع الطفل يتحم‪B‬ل النت‪B‬ائج الطبيعي‪B‬ة ألعمال‪B‬ه دون ت‪B‬دخل أي إنس‪B‬ان‬
‫ويرى روسو في ذلك أن المربي يمكنه يقوم أخالق الطف‪B‬ل م‪B‬ادام ي‪B‬بين ل‪B‬ه أن العقوب‪B‬ة ك‪B‬انت طبيعي‪B‬ة‪ ،‬مث‪B‬ال ‪ :‬إذا أبط‪B‬أ الطف‪B‬ل‬
‫ارتداء مالبسة للخروج للنزهة فاتركه في المنزل‪ .‬وإذا أفرط في األكل فاتركه يعاني ألم التخمة وباختصار دعه يتحمل النتائج‬
‫الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة‪.‬‬
‫وباختصار شديد‪ ،‬فإن التربية السلبية ال تعني نفيا للتربية‪ ،‬بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة‪ ،‬وإذا كانت التربي‪BB‬ة اإليجابي‪BB‬ة‬
‫تسعى إلى تكوين النفس قبل األوان فإن التربية السلبية تس‪BB‬عى إلى تعبي‪BB‬د طري‪BB‬ق المعرف‪BB‬ة وجع‪BB‬ل أدواته‪BB‬ا ج‪BB‬اهزة قب‪BB‬ل إعط‪BB‬اء‬
‫المعرفة‪ ،‬إنها التربية التي تسعى إلى تحقي‪B‬ق الت‪B‬وازن بين نم‪B‬و العض‪B‬وية والنفس والعق‪B‬ل تنطل‪B‬ق من مب‪B‬دأ النم‪B‬و ال‪B‬ذاتي الح‪B‬ر‬
‫لطبيعة الطفل‪ .‬إنها ال تعلم عند األطفال‪ .‬وهي الفضيلة بل تجنيب القلب من الوقوع في الرذيلة ‪،‬وهي في جماع عبارة واح‪BB‬دة‪،‬‬
‫النمو الحر لطبيعة الطفل وميوله الطبيعية‪.‬‬
‫من الميالد إلى الخامسة‬
‫يؤكد روسو على أهمية األبوين كمربيين طبيعيين للطفل‪ ،‬فاألبوان هما األكثر قدرة على أن يمنح‪B‬ا الطف‪B‬ل الحن‪B‬ان الض‪B‬روري‬
‫لنموه إنسانيا وأخالقيا على نحو طبيعي‪ .‬فاألب ه‪BB‬و المعلم الط‪BB‬بيعي واألم هي حاض‪BB‬نته ويعلي روس‪BB‬و هن‪BB‬ا من ش‪BB‬أن األم على‬
‫نحو خاص في العملية التربوية‪ ،‬وكان يلح دائما على دور األم بقوله إذا أردتم أن تعيدوا كل إنس‪BB‬ان إلى واجبات‪BB‬ه األولى عليكم‬
‫البدء باألمهات وستعجبون لم‪B‬ا تحدثون‪B‬ه من تغ‪B‬يرات" في ه‪B‬ذه المرحل‪B‬ة يجب على األب‪B‬وين رفض جمي‪B‬ع األس‪B‬اليب التربوي‪B‬ة‬
‫التقليدية السائدة واعتماد المنهج الطبيعي في التربية وتكون البداية بإرضاع الطفل إرضاعا طبيعيا من صدر األم‪ ،‬ويح‪BB‬ذر من‬
‫تغذية الطفل من غير صدر أمه كما كان سائدا في ذلك العصر‪ .‬ويرفض روسو بمطلق الرفض أن يعهد باألطفال إلى مربيات‬
‫ومرضعات‪ ،‬ويهيب باألمهات أن يقمن بواجبات األمومة‪ ،‬ألن غير ذل‪B‬ك ي‪B‬ؤدي إلى مخ‪B‬اطر مذهل‪B‬ة يتص‪B‬دع له‪B‬ا عق‪B‬ل الطف‪B‬ل‬
‫وقلبه‪ .‬وكان بهذا الصدد يرفض أن يغسل الطفل بالخمرة والنبيذ‪ ،‬ويرفض هذا على مب‪BB‬دأ أن الخم‪BB‬رة ش‪BB‬راب متخم‪BB‬ر‪ ،‬ومن ثم‬
‫فإن الطبيعة ال تنتج ما هو متخمر‪.‬‬
‫يرفض روسو قطعيا وضع الطفل في القماط المعهود أو في " المهاد"؛ ألن المه‪BB‬اد يمن‪BB‬ع علي‪BB‬ه الحرك‪BB‬ة وت‪BB‬دفق ال‪BB‬دماء ويميت‬
‫قلبه الحر‪ ،‬ويحذر من استخدام هذه الطريقة كما يحذر من اثارها المدمرة للطفل جسديا ونفسيا ويؤكد أهمي‪BB‬ة اللعب بمس‪BB‬توياته‬
‫المختلفة ‪ ،‬حيث يأخذ اللعب مستويات تتدرج وفقا لعم‪BB‬ر الطف‪BB‬ل في م‪BB‬دى وح‪BB‬دود ه‪BB‬ذه الفئ‪BB‬ة‪ ،‬أي من الميالد إلى الخامس‪BB‬ة من‬
‫العمر‪ .‬فإميل في ه‪B‬ذه المرحل‪B‬ة يجب أن يتك‪B‬ون جس‪B‬ديا على مح‪B‬ك األلع‪B‬اب الرياض‪B‬ية فالرياض‪B‬ة المض‪B‬مخة ب‪B‬اللهو والتس‪B‬لية‬
‫واللعب هي الرياضة التي تناسب نمو إميل جسدا وعقال وهو يعتقد بهذا الصدد أن جميع الرغب‪BB‬ات الش‪BB‬هوانية تج‪BB‬د له‪BB‬ا مس‪BB‬كنا‬
‫في األجسام الضعيفة‪ ،‬وكل ضعف يولد ضعفا‪ ،‬والطفل ال يكون سيىء الخلق إال ألنه ضعيف‪ ،‬فإذا قويته تحسن وتم له النم‪BB‬اء‬
‫األخالقي والجسدي في آن واحد يرفض روسو تلقين إميل فيضا من الكلمات والمفردات اللغوية‪ ،‬ويري‪B‬د إلمي‪B‬ل ه‪B‬ذا أن يحق‪BB‬ق‬
‫تناسقا بين نموه اللغوي ونموه الفكري‪.‬‬
‫وباختصار فإن روسو يؤكد في هذه المرحلة العمرية على ‪:‬‬
‫‪ -‬عدم استخدام القماط‬
‫‪ -‬دعوة إلى الرضاعة الطبيعية‪.‬‬
‫‪ -‬أن تكون التربية عملية نمو داخلية عضوية‪.‬‬
‫‪ -‬االبتعاد عن األوامر والنواهي‪.‬‬
‫‪ -‬التأكيد على التربية الجسدية‪.‬‬

‫التربية من الخامسة إلى الثانية عشرة‬


‫يركز روسو على أهمية هذه المرحلة ويعتقد أنها من أخطر المراحل التربوية في حياة اإلنسان‪ .‬وهو يؤس‪BB‬س للتربي‪BB‬ة في ه‪BB‬ذه‬
‫المرحلة وفقا لمبادئ ثالثة ‪ :‬امام‬
‫‪ -1‬على إميل أن يستمد معلوماته وخبراته عن طريق الحواس والتجربة واالحتكاك المباشر مع الطبيعة‪.‬‬
‫‪ -2‬يجب على التربية في هذه المرحلة أن تكون تربية س‪BB‬لبية‪ ،‬حيث ي‪BB‬ترك الطف‪BB‬ل في غف‪BB‬وة أش‪BB‬به بالس‪BB‬بات بعي‪BB‬دا عن مختل‪BB‬ف‬
‫التأثيرات الخارجية‪ .‬وهنا يجب على المربي عدم التدخل إال عندما تقتضي الضرورة؛ ألن إميل يتكّون تكون‪BB‬ا طبيعي‪BB‬ا في ه‪BB‬ذه‬
‫المرحلة وحري بنا أن نجعل الطبيعة تفعل فعلها وتنهض بواجبها دون تدخل المربين والكبار‪.‬‬

‫‪ - 3‬التربية الخلقية يجب أن تكون عن طريق الجزاء الطبيعي‪ ،‬فعندما يسقط إميل يتألم‪ ،‬وعندما يتخم يعاني من األلم‪ ،‬وعندما‬
‫يخرج في ليلة باردة يصاب بالزكام‪ ،‬وعندما يضع ي‪BB‬ده على مك‪BB‬ان الهب يش‪BB‬عر ب‪BB‬ألم الح‪BB‬رارة ووخزه‪BB‬ا‪ ،‬وفي ك‪BB‬ل ه‪BB‬ذا يجب‬
‫يشعر الطفل بأن العقاب الذي استحقه كان عقابا طبيعيا ينبع من طبيعة األشياء ذاتها‪ ،‬وأن هذا العقاب لم يكن انتقاما أو إكراه‪B‬ا‬
‫يمارسه الكبار‪.‬‬
‫وباختصار أيضا يؤكد روسو على المبادئ التالية في هذه المرحلة ‪:‬‬

‫‪ -‬التربية السلبية في مختلف مستويات هذه المرحلة‪ - .‬العربية األخالقية عن طريق النتائج الطبيعية‪.‬‬

‫‪ -‬تدريب الحواس ال تدريب العقل‬

‫‪ -‬التعلم باألشياء والخبرة والتجربة‪.‬‬

‫‪ -‬ال حاجة إلى القراءة والكتابة‪.‬‬

‫التربية من سن الثانية عشرة إلى الخامسة عشرة‬

‫في هذه المرحلة تبدأ عملية تعليم إميل ألن مرحلة الغفوة والسبات انتهت‪ ،‬واكتملت إلميل أسباب التعلم بعد أن نضجت ملكات‪BB‬ه‬
‫الطبيعية‪ ،‬وبعد أن خمرته الطبيعة وسوته وهيأته لتلقي المعرفة اإلنسانية وما تنطوي عليه من قيم ومعايير ثقافية‪.‬‬

‫لقد آن األوان لتعليم إميل وتزوده بالمعرفة والمعلومات والمعارف‪ .‬وفي هذه الفترة كما يقول روسو تزداد ق‪BB‬وة الف‪BB‬رد على م‪BB‬ا‬
‫يحتاج إليه‪.‬‬

‫ومع أهمية هذه المرحلة وضرورة التعلم فيها فإن روسو يرسم سبل التعلم واالكتساب ويحدد مساره وطريقته‬
‫فالتعلم واالكتساب يجب أن يتما عن طريق التشويق وأن يتساوقا مع الرغبة في التعلم وحب االستطالع‪ ،‬وهنا يجب أن يك‪BB‬ون‬
‫ميل إميل وتعطشه للعلم والمعرفة ناجما عن رغبات طبيعية أصيلة في أعماقه‪.‬‬
‫ومن حيث طبيعة المعرفة التي يجب أن نزودها للطفل يجب أن تكون متوافقة مع اهتمامات الطفل‪ ،‬والسيما ه‪BB‬ذه ال‪BB‬تي ت‪BB‬دفعنا‬
‫غرائزنا إلى تتبعها والتي تتضح وفائدتها العملية بالنسبة إلميل‪.‬‬
‫على الطفل كما يؤكد روسو وينصح أن يقرأ قصة "روبنسون كروزو"‪ ،‬ألن هذه القصة تؤك‪BB‬د أهمي‪BB‬ة التعلم وفهم الحي‪BB‬اة وفق‪BB‬ا‬
‫لقوانين الطبيعة حيث تبرز أهمية االعتماد على النفس فيها‪.‬‬
‫ويجب على إميل أن يتعلم حرفة بحد ذاتها‪ ،‬وذلك ليس من أجل الكسب‪ ،‬بل من أجل غرض أس‪BB‬مى من ه‪BB‬ذا وه‪BB‬و التغلب على‬
‫العقائد الفاسدة التي تح‪B‬ط من ق‪B‬در ه‪B‬ذه الحرف‪B‬ة‪ ،‬وعن‪B‬دما نؤك‪B‬د من جدي‪B‬د على أهمي‪B‬ة التجرب‪B‬ة الذاتي‪B‬ة‪ ،‬ويك‪B‬ون التعليم مناس‪B‬با‬
‫لحاجات إميل وميوله‪ ،‬فإن إميل سيصبح شخصا مجدا هادئا صبورا مفعما بالشجاعة والثقة‪ ،‬وقادرا على أداء وظيفته الحيوي‪BB‬ة‬
‫واالجتماعية بصورة تجعله أكثر قدرة على التكيف واالستمتاع بحياته وتحقيق السعادة الطبيعية المنشودة‪.‬‬
‫وفيما يتعلق بالمواد الدراسية يجب علينا أن نعلم إميل العلوم الطبيعية مثل الفلك والجغرافيا‪ ،‬وخ‪BB‬ير وس‪BB‬يلة لتعلم الخرائ‪BB‬ط هي‬
‫األسفار والتنقل والترحال‪ .‬وهو يرفض تعليم إميل النحو واللغات القديم‪BB‬ة والت‪B‬اريخ ألن‪B‬ه يري‪B‬د إلمي‪B‬ل أن يعيش في عزل‪B‬ة عن‬
‫المجتمع وفي دائرة الطبيعة تحديدا‪.‬‬
‫وفي منهج التعليم‪ ،‬يرفض روسو مبدأ الخطب الرنانة المصقعة‪ ،‬ومبدأ النصح اإلرشاد ويؤكد على األهمية الكبرى للممارس‪BB‬ة‬
‫والتجربة ويقول " لنحول إحساساتنا إلى أفكار وعلينا أن نتجنب القفز مباشرة من عالم المحسوس إلى العالم المجرد ولنتحرك‬
‫بأناة ورّو ية من فكرة محسوسة إلى فكرة محسوسة لنتعلم عن طري‪BB‬ق األش‪BB‬ياء‪ ،‬وعلين‪BB‬ا أن نبتع‪BB‬د عن معالج‪BB‬ة األش‪BB‬ياء ب‪BB‬الرمز‬
‫مادمنا نستطيع أن نرصدها أشياء في دائرة المكان والزمان"‪.‬‬
‫من سن الخامسة عشرة إلى العشرين‬
‫في هذه المرحلة تنمو استعدادات إميل وقدراته على التكيف مع اآلخرين والحياة االجتماعية‪ ،‬وقد آن األوان ليصبح إميل كائنا‬
‫اجتماعيا فاعال ومشاركا في دائرة الحياة التي تنتظره في المجتمع ومن أجل ه‪BB‬ذه الغاي‪BB‬ة يجب علين‪BB‬ا أن ندرب‪BB‬ه على العالق‪BB‬ات‬
‫االجتماعية والتفاعل االجتماعي مع اآلخرين في هذه المرحلة يكون إميل قد اكتمل‬
‫نضجه جسديا وحسيا وعقليا وقد آن األوان لكي يتشكل عاطفيا وروحيا‪ .‬فالتربية في المراحل السابقة كانت تربية ذاتية ته‪BB‬دف‬
‫إلى بناء الجسد والنفس‪ ،‬أما اآلن فيجب إعداد إميل من أجل الحياة االجتماعي‪BB‬ة وعلين‪BB‬ا أن ندرب‪BB‬ه على امتالك ش‪BB‬روط العالق‪BB‬ة‬
‫االجتماعية وفقا للمعايير االجتماعية التي يفرضها تكيف األنا مع اآلخر‪ .‬تسعى التربي‪BB‬ة في ه‪BB‬ذه المرحل‪BB‬ة إلى تنمي‪BB‬ة الوج‪BB‬دان‬
‫وبناء األخالق االجتماعية‪ ،‬حيث في هذه المرحلة فترة التعليم أو التربية العادية أو السلبية كما يحلو لروس‪B‬و أن يس‪B‬ميها‪ .‬وهن‪B‬ا‬
‫يؤكد روسو في هذه المرحلة على التربية الدينية واألخالقية‪ .‬ولكنه يرفض األساليب القديمة في تشكيل إميل أخالقي‪BB‬ا والس‪BB‬يما‬
‫أخالق النصح واإلرشاد‪ ،‬حيث يجب على إميل أن يكتسب عمقه األخالقي عن طريق الممارسة ومحاكاة أبطال التاريخ‪.‬‬
‫وفي هذه المرحلة أيضا تبدأ إمكانية بناء صلة دينية بين إمي‪BB‬ل ورب‪BB‬ه‪ ،‬ويجب تربيت‪BB‬ه الديني‪BB‬ة على قيم الح‪BB‬ق والخ‪BB‬ير والجم‪BB‬ال‪.‬‬
‫فالطفل يمتلك القدرة في هذه المرحلة على فهم‬
‫أمور الدين‪ ،‬ويمكنه أيضا أن يدرس البالغة والتاريخ والمسرح‪ ،‬ألن هذه المرحلة تمكنه من ت‪BB‬ذوق الفن واالس‪BB‬تمتاع ب‪BB‬القراءة‬
‫المطالعة‪.‬‬
‫فإميل يمتلك في هذا العمر رصيدا محدودا من المعرف‪B‬ة ‪ ،‬ولكن‪B‬ه يمتل‪B‬ك ه‪B‬ذه المعرف‪B‬ة امتالك‪BB‬ا حقيقي‪B‬ا والمعرف‪B‬ة ال‪B‬تي يمتلكه‪BB‬ا‬
‫معرفة نابعة من صميم االشياء وراسخة في قلب إميل وعقله‪ ،‬وهناك اشياء كثيرة أيض‪BB‬ا م‪BB‬ازال يحت‪BB‬اج إلى معرفته‪BB‬ا‪ ،‬وهن‪BB‬اك‬
‫أشياء ال يعرفها وال يحتاج إلى معرفتها ولكنه يمتلك القدرة الكلية على معرفة كل األشياء‪.‬‬
‫تربية المرأة أو صوفيا‬
‫يكرس روسو الجزء الخامس من كتابه إميل لتربية المرأة التي أطلق عليه‪BB‬ا اس‪BB‬م (ص‪BB‬وفي)‪ ،‬وهي تظه‪BB‬ر مباش‪BB‬رة في الكت‪BB‬اب‬
‫دون تمهيد يذكر‪ .‬يؤك‪B‬د روس‪B‬و في ه‪B‬ذا الج‪B‬زء أهمي‪B‬ة التربي‪B‬ة الجس‪B‬دية الص‪B‬وفيا‪ ،‬وي‪B‬رى أن عليه‪B‬ا أيض‪B‬ا أن تتعلم فن الطهي‬
‫والتطريز والموسيقى والعناية بالطفل وعدم االهتم‪BB‬ام ب‪B‬العلوم‪ .‬وهن‪B‬ا نج‪B‬د أن روس‪BB‬و ك‪BB‬ان كالس‪B‬يكيا وع‪BB‬دوانيا في نظرت‪B‬ه إلى‬
‫المرأة فوظيفة المرأة هي إسعاد الرجل وإرضاؤه والقيام بتربية األطفال‪.‬‬
‫يقف روسو موقفا سلبيا من المرأة المثقفة التي قد تكون وباال على زوجها وأطفالها وعائلتها‪ .‬وكثيرا ما يؤخذ على روسو ه‪BB‬ذا‬
‫الموقف المتوحش من المرأة‪ ،‬ويؤخذ عليه أيضا أن آراءه متطرفة وعنصرية وغير إنسانية فيما يتعلق بدور الم‪BB‬رأة ووض‪BB‬عها‬
‫اإلنساني واالجتماعي‪.‬‬
‫ومن أوجه الغرابة في هذا الموقف أن روسو كان في سيرة حياته كلها يدين للم‪BB‬رأة ال‪BB‬تي ك‪BB‬انت عون‪BB‬ه في مس‪BB‬يرته اإلبداعي‪BB‬ة‬
‫والفكرية والحياتية‪ .‬فعبقرية روسو وحياته كانت وليدة عناية أنثوية خالصة‪ ،‬وال يخفى على من يقرأ سيرة حياته أنه كان مدينا‬
‫للمرأة األم والصديقة والزوجة والعمة التي كثيرا ما ك‪BB‬ان ينهم‪BB‬ر دمع‪BB‬ه على عمت‪BB‬ه وعلى ع‪BB‬دة نس‪BB‬اء ك‪BB‬ان لهن دور عظيم في‬
‫حياته‪ ،‬فلمسة الحنان الوحيدة في حياته كانت ‪ .‬المسة المرأة‪ .‬صوفيا في ه‪BB‬ذا الكت‪BB‬اب ال تمتل‪BB‬ك إال على فض‪BB‬ائل ثانوي‪BB‬ة ‪ ،‬وهي‬
‫الفضائل التي تتصل بالحياة الزوجية واألسرية‪ ،‬وهي كما يصورها روس‪BB‬و ش‪BB‬خص ن‪BB‬اقص يحت‪BB‬ل مرتب‪BB‬ة دني‪BB‬ا في ع‪BB‬الم إمي‪BB‬ل‬
‫وحياته‪.‬‬
‫الخاتمة‬
‫سجل روسو نفسه في تاريخ الفك‪BB‬ر مربي‪BB‬ا ومعلم‪BB‬ا وفيلس‪BB‬وفا وأديب‪BB‬ا وث‪BB‬ائرا‪ ،‬وك‪BB‬انت س‪BB‬يرته‬
‫الحياتي‪BB‬ة والفكري‪BB‬ة من أغ‪BB‬رب الس‪BB‬ير التاريخي‪BB‬ة في ت‪BB‬اريخ الفك‪BB‬ر إن لم تكن أغربه‪BB‬ا على‬
‫اإلطالق‪ .‬ومن أوجه الغراب‪BB‬ة واإلده‪BB‬اش في ه‪BB‬ذه الس‪BB‬يرة أنن‪BB‬ا م‪BB‬ع روس‪BB‬و نج‪BB‬د أنفس‪BB‬نا أم‪BB‬ام‬
‫عبقرية شمخت ونهضت على أعمدة القهر وعلى ثوابت األلم والهزيمة‪ .‬وعلى هذا األس‪BB‬اس‬
‫شّيد مملكته الفكرية الجبارة الفّياضة بكل المعاني اإلنسانية النبيلة والخالقة‪.‬‬
‫لقد أحدث انقالبا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده وال غرابة في ذل‪BB‬ك فه‪BB‬و‬
‫مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة‬
‫وم‪BB‬ا ي‪BB‬دهش أن علم النفس الح‪BB‬ديث والنظري‪BB‬ات التربوي‪BB‬ة الحديث‪BB‬ة ق‪BB‬د اس‪BB‬تجابت الن‪BB‬دفاعات‬
‫روسو العبقرية الجامحة المتمردة‪ .‬ولم تستطع االنتق‪BB‬ادات ال‪B‬تي وجهه‪BB‬ا العلم‪BB‬اء والمفك‪BB‬رون‬
‫والكتاب لنظريته التربوية واالجتماعية أن تنال من شموخ هذه النظري‪B‬ة ب‪B‬ل زادته‪B‬ا ش‪B‬موخا‬
‫وتمردا صحيح أن مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة ولكن جوهرها اإلنساني م‪BB‬ازال‬
‫يحلق في األجواء الشامخة‪ .‬إن ما اكتشفه روسو بفطرته وعواطفه ونب‪B‬ل إحساس‪BB‬ه اإلنس‪BB‬اني‬
‫وعبقريته األدبية ك‪B‬ان كش‪B‬فا عن من‪B‬اطق مظلم‪B‬ة في حي‪B‬اة اإلنس‪B‬انية‪ ،‬ف‪B‬أراد أن يط‪B‬رد منه‪B‬ا‬
‫العتمة ويحررها من الجمود عبر شطحات عقل ثائر متمرد‪ .‬وما حمل‪B‬ه روس‪BB‬و إلى البش‪BB‬رية‬
‫عبر نظريته التربوية تارة واالجتماعية تارة أخرى ال يضاهيه عطاء؛ ألن‪BB‬ه باختص‪BB‬ار ج‪BB‬اء‬
‫ينتصر لألطفال والضعفاء والمظلومين والمح‪BB‬رومين والمقه‪BB‬ورين ج‪BB‬اء ليح‪BB‬رر الطف‪BB‬ل من‬
‫ظلمات القرون الوس‪B‬طى‪ ،‬ألن الطف‪B‬ل في نظريت‪B‬ه رم‪B‬ز ال‪B‬براءة والعط‪B‬اء ب‪B‬ل ه‪B‬و هب‪B‬ة هللا‪،‬‬
‫ولذلك فإن سعادة‬
‫األطفال يجب أن تكون هدف التربية بالمطلق‬
‫وإذا كان عصره لم ينصفه‪ ،‬إذ عاش حالة التشرد والقهر مظلوما مهزوما في وطنه فان روسو‬
‫يمثل رمزا من رموز الحضارة اإلنسانية التي تفتخر بها فرنسا ثقافة وحضارة وهو الذي هجرته األيام فع‪BB‬اش متوح‪BB‬دا حزين‪BB‬ا‬
‫مقهورا مغلوبا مطاردا من قبل ل األمن والسلطات في عصره ومن من المفكرين في القرن التاسع عش‪BB‬ر ‪ -‬والحق‪BB‬ا في الق‪BB‬رن‬
‫العشرين من ال يدين لروسو األب الروحي للتربية الحديثة‪ .‬فالت‪BB‬اريخ يعلمن‪BB‬ا أن المب‪BB‬دعين من بع‪BB‬ده في مج‪BB‬ال التربي‪BB‬ة والفك‪BB‬ر‬
‫االجتماعي يدينون له ويأخذون عنه ويتمثلون جوهر رؤيته للتربية واإلنسان‪.‬‬
‫ليس غريبا أن يكون كتابه العقد االجتماعي طفرة فكرية وجهت عمل الث‪BB‬ورة فرنس‪BB‬ا‪ ،‬وهي أعظم ث‪BB‬ورة تش‪BB‬هدها أوروب‪BB‬ا ض‪BB‬د‬
‫القهر واالستبداد واإلرهاب‪ .‬وليس غريبا أيضا أن يحدث ثورة تأخذ طابع االستمرار في مجال التربية‪ .‬لقد وضع روسو حجر‬
‫الزاوية النقالب فكري تربوي أتى على كل التراث القديم في مجال التربي‪B‬ة‪ ،‬وأح‪B‬دث انقالب‪B‬ا كوبرنيكي‪B‬ا في المف‪B‬اهيم وال‪B‬رؤى‬
‫والتصورات وستبقى نظريته في العقد االجتماعي‬
‫ونظريته في التربية أحجارا كريمة براقة في عقد الفكر اإلنساني الحر إلى األبد‪.‬‬

You might also like