Professional Documents
Culture Documents
في القرن الثامن عشر ،وفي بداية العقد الثاني منه تحديدا ،كان الفكر اإلنساني موعد خالق مع والدة المفكر واألديب الفرنسي
المشهور جان جاك روسو Jean
) Jacques Roussea(1778-1712فيلسوف الحرية الذى مأل الدنيا وشBغل النBاس بعطاءاتBه الفكريBة الBتي تBدفقت لتشBكل
منطلقا للفكر الحر في أوروبا وفي العالم قاطبة.
ويعد روسو زعيما للنزعBة الطبيعيBة فى الفلسBفة والفكBر بال منBازع وواحBدا من أبBرز عمالقBة أكBثرهم تBأثيرا على اإلطالق،
والسيما في مجالي التربية والفكر السياسي
عصر التنوير واالجتماعي استطاع روسو ،بعبقريته الفذة ،أن يولد في النظريات التربوية روحا جديدة تتBBدفق إيمانBBا بالحريBBة
ورفضBBا لكBBل أشBBكال القهBBر والعبوديBBة وتجلى إلهامBBه هBBذا في كتابيBBه " :بيBBل" ،EmileالBBذي أحBBدث ثBBورة شBBاملة في بنيBBة
التصورات والعقائد التربوية في عصره ،وفتح الباب على مصراعيه لكل إبداع الحق في ميدان التربية والتعليم؛ ثم في كتابه
"العقد االجتماعي " ، )( Le Contrate socialالذي شكل مهمازا للثورة الفرنسية بما اشتمل عليBه من أفكBار وتصBورات
يعتقد أنها أشعلت فتيل الثورة الفرنسBBية عBBام ،1789وشBBكلت برنBBامج عمBBل منهجي اسBBتوحاه الثBBوار في مختلBBف ممارسBBاتهم
السياسية والثورية .وفي هذا يقول نابليون " لوال كتاب "العقد االجتماعي" لما قامت للثBورة الفرنسBية قائمBة .وقBد بلBغ روسBو
بكتابيه مبلغا عظيما من الشهرة والمجد ،وكيف ال وفيه يقول الفيلسوف األلمانى كانط فیلسBBوف عصBBره قولBBه المشBBهور " إني
اعتبر روسو نیوتن عصره الكتشافه العنصر األخالقي بوصفه المكون الرئيس للطبيعة اإلنسانية ،مثلما اكتشBف نيBوتن المبBدأ
الذي ربط بين جميع قوانين الطبيعة الفيزيقية فيه أن الرجل قد أحدث ثورة حقيقية في الفكر التربوي والسياسي في أوروبBا في
القرن الثامن عشر.
لم يسجل تاريخ الفكر اإلنساني حياة أكثر غرابة وتناقضا من حياة جان جاك روسو الذي ترك سجال إنسBBانيا يتBBدفق بBBاألحزان
والمآسي ويفيض بكل معاني القهر وأشكال الهزيمة .كانت شخصBBيته نقطBة تقBBاطع لكBBل التناقضBBات اإلنسBانية ،إذ تBآلفت فيهBBا
أقدار القوة والضعف ،وتآزرت في أعماقها العبقرية والعاطفة والصدق والخداع واالنفعاالت .ومع كل هذا كان يسBBتحوذ على
بصيرة نافذة وعطف إنساني ال حدود له .لقد شكلت عوامل البؤس والشقاء والمصائب والهزائم البوتقة التي تشكلت فيها
عبقرية الرجل ،فاهتزت هذه العبقرية إيمانا ساحرا بال حدود بمبادئ الحرية والسالم واألمن ،ودعBBوة مطلقBBة للثBBورة والتمBBرد
على كل أشكال التسلط والقهر والطغيان في عصره .يتحدر جان جاك روسو من عائلة فرنسBية األصBل بروتسBتانتية المBذهب
حطت رحالها في جنيف قادمة من فرنسا في منتصف القرن السادس عشBBر ولBBد روسBBو في مدينBBة جBBنيف في سويسBBرا عBBام .
1712وكان على موعد مع مصائب الدهر التي كانت ترتقب قدومه ،فقد ولد مريضا ضعيفا هزيال ،ولم يمض أسبوع واحBBد
على والدته حBBتى .يBBد القBBدر والدتBBه "سBBوزان" وتركتBBه يتيمBBا تحت رحمBBة اآلخBBرين ويصBBف بنفسBBه هBBذه المأسBBاة في كتابBBه
"االعترافات" حيث يقول " :لقد ولدت ضعيفًا ومريضًا ،وقBBد دفعت والBBدتي حياتهBBا ثمن والدتي وكBBانت هBBذه الBBوالدة البائسBBة
أولى مصائبي .وكانت أخالقه متأثرة أعمق تأثر بمشاعره وانفعاالته أكثر من تأثرها بعقله .
كBBان والBBده يشBBتغل في صBBناعة السBBاعات وتجارتهBBا ولكنBBه تBBرك المهنBBة وانتقBBل للعمBBل مدرسBBا للBBرقص ،ثم تBBزوج سBBوزان
والدة ،روسو ،وكانت فتاة يتيمة تعاني من ظروف قاسية ،لم تفتًا أن عانت المزيد منها بعد أن تركها زوجها والد روسو الحقBBا
في رحلة له إلى القسطنطينية ،لكنه بعد مغامرات فاشلة عاد إليها من جديد.
بعد دخول والده في مشاجرة عنيفة اضطر للهرب من جنيف خوفا من مالحقة العدالة له عBBام ، 1720وقBBد عهBBد بابنBBه روسBBو
الذي كان في الثامنة من العمر إلى خاله الذي عهد به بدوره إلى ال مبرسيه Lambercierوهو أحد رجال الدين المسBBيحيين،
لكن روسو لم يستمر هناك كثيرا وعاد إلى خاله فى جنيف ،حيث عاش متعطًال ثالث سنوات كاملة ،ثم اشتغل مساعدا لكBBاتب
أحد المكاتب القضائية ،لكنه طرد منه بسBBبب اهمالBBه الشBBديد ،وأرسBBل في عBBام 1726ليتلقى تمBBارين عنBBد أحBBد المصBBورين،
وهناك كما يقول في االعترافات أصبح شخصًا ال ضابط لسلوكه ،كاذبًا ولصًا .ثم ترك جنيف عام 1728إلى آنسي Annecy
في فرنسBBا حيث أقBBام عنBBد السBBيدة وارين ، Warensوهي من أصBBل سويسBBري ،واعتنBBق الكاثوليكيBBة على يBBدها ثم عBBاد إلى
سويسرا وإلى مدينة جنيف الحقا ،وألحقته إحدى السيدات بملجأ ديني بمدينBBة تورينBBو ،وهنBBاك غBBير مذهبBBه البروتسBBتانتي إلى
الكاثوليكي ،ثم بدأ يرتحل منذ عام 1729من بلد إلى آخر.
بدأ روسو حياته الثقافية بقراءة القصص والروايات التي تركتها لBه والدتBه في مكتبتهBا ثم انتقBل إلى قBراءة المؤلفBات األدبيBة
والفلسفية التي وجدها في مكتبة والده ،والسيما المؤلفات اليونانية والرومانية والفرنسية
وفي عام 1930سافر إلى إيطاليا وكان في الثامنة عشرة من عمره ،وهناك في مدينة سافواي تعهدتBBه امBBرأة تسBBمى مBBدام دي
وارنز Madame de Warnesوهي امراة على جانب كبير من الرقة والجمال قدر لها أن توجه عنايتها ورعايتها المشرقة
لروسو ولم تبخل عليه بعطفها وحبها الكبيرين وقد شجعته على اعتناق الكاثوليكية التي كانت تدين بها ،وقد قBBدر لBBه أن يعيش
معها عشر سنوات من أفضل أيام عمره ،تعلم خاللها اللغة الالتينية و الموسيقى و الفلسفة و بعض العلوم األخرى ،ثم اختلBBف
مBBع المBBرأة وغBBادر سBBافواي في عBBام 1741متجهBBا إلى بBBاريس ثم غادرهBBا إلى إيطاليBBا حيث عمBBل كاتبBBا لسBBفير فرنسBBا
Montaigneفيها ثم عاد إلى باريس مرة أخرى (.)310
وانتقل بعد ذلك إلى ليBBون حيث عمBBل مدرسًBا خاصًBا ألوالد مBBابلي MablyحBBاكم مدينBBة ليBBون .1740ثم سBBافر إلى بBBاريس
وتعرف إلى ديدرو ،Diderot 1743وتقBBدم بمشBBروعه عن التسBBجيل الموسBBيقي للمجمBBع الفرنسBBي للعلBBوم وفي عBBام 1745
تعBBرف إلى اآلنسBBة تBBيريز لوفاسBBور ، Theresa Levasseurوهي كمBBا يصBBفها كBBانت خادمBBة غبيBBة على جBBانب كبBBير من
الخشونة ،وعاش معها بقية عمره فقد كانت صديقته مدة ثالثة وعشرين عامBBا ،ثم تزوجهBBا أنجب منهBBا خمسBBة أطفBBال أودعهم
جميعا في دار األيتام ألنه ال يمتلك إمكانية تربيتهم والعناية بهم .خالل إقامته في باريس ،وبعد أن وثق عالقته بنخبة المجتمBBع
الباريسي مثل ديدرو وفولتير ،اشترك روسو -بحكم المصادفة -في مسBابقة علميBة أدبيBة أقامتهBا جامعBة ديجBون DionعBام
1749حول دور النهضة العلمية والفنية في إفساد األخالق أو إصالحها.
والسؤال الذي طرحته الجامعة هو :هل أدى تقدم العلوم والفنون إلى تقدم األخالق أمإلى فسادها؟ وبوحي
من عبقريته الطبيعية وتجربته اإلنسانية الفريدة أجاب روسو بأن تقدم العلوم والفنBBون يBBؤدي إلى فسBBاد األخالق وتراجBBع القيم
وليس إلى تقدم األخالق ومن أن الطبيعي ان ترتدي إجابته طابعا أدبيا ساحرا ومقنعا في اآلن نفسه ،تمكن على أثرها من نيBBل
الجائزة .وقد أطلق على عمله العبقري هذا "رسالة في العلوم والفنون" Le Discours sur les sciences et les arts
) .(12ثم نال الجائزة في عام ،1750وهذا ما جلب لروسو شهرة واسعة وشجعه ذلك على المضBBي في الكتابBBة ،فاشBBترك في
مسابقة أخرى عبر بحث له بعنوان "مقالة" في أصل التفاوت بين البشر" Discours sur l'origine de l'inégalitéعام
، 1755ولم يحصد الجائزة المنشودة .وفي عام 1761أنجز مؤلفه هيلواز الجديBBدة ) .La Nouvelle Heloise(314وفي
عام 1762قدم لإلنسانية كتابيه الشهيرين "العقد االجتماعي" ) Le contrat social(315و "إميل"les
.)Emile ou l'educationوفي عBBBام 1765أنجBBBز كتابBBBه االعترافBBBات Confessionsثم كتابBBBه قBBBاموس الموسBBBيقى
Dictionnaire de musique). 1767
ومع أن مؤلفات روسو حظيت بشهرة واسعة وإقبال شديد عبر أرجاء أوروبا ،فإن كتابيه "العقد االجتماعي " Le contrate
socialو"إميل " Emilجلبا له النقمة والسخط وغضب المؤمنين والملحدين معا .لقد حكم البرلمان الباريسBي ،بعBد عشBرين
يومًا من نشر كتاب إميل ،بحBBرق الكتBBابين وسBBجن ،مؤلفهمBBا ممBBا اضBBطره إلى الهBBرب إلى سويسBBرا الBBتي بBBدورها كBBانت قBBد
أصدرت حكمًا مماثًال على الكتابين فلجأ روسو إلى إنجلترا ،حيث تعرف هناك إلى الفيلسوف اإلنكليزي المعروف دافيد هيوم
D.Humeونزل ضيفًا عليه ،لكنه ما لبث أن تخاصم مع هيوم وعBاد إلى فرنسBا ليعمBل كناسBخ نوتBات حBتى وفاتBه في عBام
1778
وعندما بلغ الستين من عمره ازداد بؤسه وفقره وانصرف الناس عنه حتى زوجته ،فكان يتمنى لنفسه المBBوت والخالص وقBBد
تعرض في نهاية أمره ألزمة قلبية حادة أدت إلى وفاته ،فBBدفن في مقBBبرة تبعBBد خمسBBين كيلومBBترا عن بBBاريس وبعBBد أن حققت
الثورة الفرنسية نجاحها المظفر نقل رفاته باحتفال طقوسي إلى البانثيون ،وهو مدفن عظماء الفرنسيين.
مؤثرات روسو
لم يكن في حياة روسو المعذبة والشقية والبائسة ما يؤهله ألن يكون في مكBBان الصBBدارة بين صBBفوف العبBBاقرة والمفكBBرين في
عصره .لقد أثار روسو دهشBة المفكBرين في عصBره ،إذ كيBف يمكن لشBخص مغلBوب مقهBور مسBتلب مثBل روسBو أن يفجBر
عبقرية تربوية وسياسية بلغت مداها في عصره ووصلت إلى أوج عظمتها في المراحل الفكرية الالحقة؟
كثير من النقاد والمفكرين يعتقدون أن حياة روسو المعذبة توجد في أصل العبقرية التي فجرها في عصره هBBذه الحيBBاة ،الBBتي
غلب عليها طابع اإلثارة والتمرد والجنون وسرعة الحركة واالنتقال في دائرة الزمان والمكان ،كان لها أكBBبر األثBBر في تنميBBة
عواطفه المتمردة وحّسه اإلنساني النبيل الذي تفجر تمردا وثورة ورفضا منهجيا لكل أشكال الطغيان.
لقد فجرت هذه الحياة المقهورة عشقا للحرية وولعا بالثورة والتمرد في أعماقه ،وكانت في نهاية األمر البوتقة التي تنامت فيها
إمكانات رؤية ثورية للوجود والحياة.
وال يخفى على أحد عشق روسو للمطالعة ونهمBه الشBديد للمعرفBة وجوعBه المتمBرد إلى األدب والشBعر العاطفBة كBان شBغوفا
بالمعرفة ،ولم يترك لحظة ممكنة أتاحت له أن يتبحر في كتاب أو أن يقرا في شعر أو أن يستغرق في رواية عاطفية.
وهذا الشغف الكبير بالمطالعة منذ السادسة من العمر .مكنه من امتالك حس أدبي متميز وبراعة فنية في صوغ
الخطاب المضمخ بعاطفة إنسانية فياضة وجارفة إن من يقرأ روسو في أسBBلوبه السBBاحر يجBBد أنBBه يتحBBرك ويتجBBاوز إمكانBBات
العقل ليستقر دفعة واحدة في مكنون العاطفة التي يبدأ على األثر تدفقها بالعواطف اإلنسانية النبيلة والمتمردة في آن واحد .لقBد
كان روسو يقرأ بنهم أسطوري كل ما يقع بين يديه من كتب األقدمين والمحدثين ،ولم يكن خافيا أنBBه كBBان يBBدرس الرياضBBيات
والفلك وقد قيل إن هذه الحياة التي قضاها في القراءة والعمل وإن تلBBك الحBBوادث األسBBطورية الBBتي تتخللهBBا وهBBذه المغBBامرات
الدافئة واألخطار المحدقة التي كان يكابدها ألهمته وفجرت فيه قدرة هائلة على العطاء ،ألن هBذه األحBداث والمفارقBات كBانت
توقظ خياله وتفجر أحاسيسه وكان فعلها وتأثيرها يضاهي ويتجاوز تأثير دروس منظمة في كلية بليسس "Plessis
لقد أضفت تجارب الترحال دون انقطاع على إحساسه العبقري طابعBBا إنسBBانيا وجماليBا متشBBبعا بBالخبرة والعطBاء .لقBBد عBBرف
دروب فرنسا وسويسرا وإيطاليا وبريطانيا في ترحال لم ينقطع ،وفي تجوال لم يتوقف ولم يكن خافيا على أحد أن تجواله هذا
كان في مرات عديدة راجال على قدميه وتلك هي رحلته األولى إلى ليون التي قطع المسافة إليهBBا من جBBنيف راجال إن لم يكن
حافيا .هذه التجارب عركته بالخبرة وعجنته بأحاسيس إنسانية متفردة تتعايش فيها لحظات األلم والحرمان مع لحظات الحBBنين
والشوق والفرح والشعور بالزهو واالنتصار.
وال يمكن ألحد أن ينكر حصاد تواصله مع أهل الحصافة والرأي من علماء ومفكرين وأدباء وقساوسة ورجال دين وقد منحBBه
هذا التواصل مع ثقاة المعرفة وسدنة الفكر طموحا عبقريا انطلق منه لتسجيل أمجاده الفكرية عبر أعماله المختلفة.
وهنا يجب علينا أن نتوقف عند الخصائص الشخصية والفردية في شخصBBية الفيلسBBوف ،إذ يجب االعBBتراف بBأن روسBBو كBBان
ذكيا مرهف األحاسيس نبيال بطبعه ،ولم يكن قط طفال عاديا .لقد كتب لنا يقول " لم أكن أملك أية فكرة عن األشياء في الBBوقت
الذي كنت أعرف فيه كل العواطف والمشاعر ولم أفكر في شيء تفكيرا بل أحسست كل شيء إحساسا وفي هذا القول إشBBراقة
عبقرية تؤكد أن روسو كان أكثر من طفل عادي إن لم يكن قد استجمع في ذاته بذور عبقرية تأصلت في فطرته
هذه الظروف والتجارب والخبرات والمكابدات والهزائم شكلت بوتقة نضج فيها إبداع روسو ،وسBBمت معهBBا مواهبBBه الفكريBBة
والتربوية فسجلته بين أكثر رجاالت عصره عبقرية وتأثيرا وشهرة.
في مفهوم الطبيعة عند جان جاك روسو
ال يستقيم البحث في نظرية روسو التربوية والسيما في التربية الطبيعية دون العو إلى مفهوم الطبيعة؛ ألن تحديد هذا المفهBBوم
يشكل حجر الزاوية في فهم معمق ألبـعاد واتجاهات نظرية روسو الطبيعية في التربية.
يحدد روسو ثالثة تجليات لمفهوم الطبيعة ،يأخذ األول منها صورة الكون أو العالم الخارجي على نحو
ما يتبدى لنا بصورة موضوعية فالطبيعة وفقا لهذا التصور هي مقاطعات كونيBBة في دائBBرتي الزمBBان والمكBBان فBBاألرض ومBBا
عليها من بشر وشجر وحجر والسماء وما فيها من كواكب ونجوم واجرام كونية تشكالن الحدود القصوى لمفهوم
ويتجلى المفهوم الثاني للطبيعة عند روسو في العالم الداخلي عند اإلنسان ،فغرائزنا وميولنا األصيلة وما فطرنا عليه من قوى
داخلية منحتنا إياها الطبيعة يمثل مفهوم الطبيعة اإلنسانية .وهذه الطبيعة خيرة بكل ما تنطوي عليه من غرائBBز وميBBول وقBBوى
داخلية ،ألنها صناعة كونية إلهية وليست من صنع اإلنسان
أما التصور الثالث للطبيعة فيتحدد بالطبيعة االجتماعية للوجود البشري .لقد كان روسو يعتقBBد أن اإلنسBBانية كBBانت في العهBBود
الغابرة تعيش حياة طبيعية سابقة للحضارة الحالة الطبيعية .كان الناس في حالتهم الطبيعية االجتماعية كما يصورهم في كتابBBه
" مقالة في العلوم والفنون " يعيشون حالة إنسانية تتميز بأصالتها وسموها وعظمتها ،إذ كانت حياة النBاس البBدائيين تخلBو من
الحقد والكراهية والحسد .إنها حياة آمنة يتفانى فيها اإلنسان في خدمة اإلنسان ويضحي فيها الفBBرد من أجBBل اآلخBBر والجماعBBة
في هذه الحالة الطبيعية كان أفراد الجماعة اإلنسBانية يعيشBون دونمBا ،فالنBاس يBأكلون مBا يجمعBون ويعيشBون في ظBل سBمو
أخالقي يفيض عليهم بكل معاني التسامح والمحبة التي كانت قانونا كليا يحكم الوجود اإلنسBBاني برمتBBه إال أنBBه ظهBBور الملكيBBة
الخاصة لألرض ،مع اللحظة تدجين الحيوان ،ومع اللحظة التي بدأ فيها اإلنسان يقول ألخيه اإلنسان هذه لي وهBذا لBك ،بBدأت
مرحلة الجشع والطمع والفزع وبدأ الصراع اإلنساني نحو مزيد من السيطرة والتسلط واالستبداد ،وظهر الحBاكم القBBوي الBذي
فرض على الجماعة قوته وبسط جناح سلطانه وتحول اإلنسان إلى عبد ألخيه اإلنسان فظهرت المظالم والشقاء وامتBBد البBBؤس
اإلنساني ليضع الناس جميعا في حالة استالب واغتراب فالحالة الطبيعية االجتماعية هنا قد انتهكت وفقدت طهارتها وأصالتها
ونقاء انتمائها وصفاء وجودها .لقBBد انتهكت الطبيعBBة اإلنسBBانية ودنسBBت طهارتهBBا مBBع والدة الثقافBBة والملكيBBة وصBBولة الطغBBاة
وتسلط الحكام .وهذه األفكار الطبيعية هنا تجBد مBدها في كتBاب روسBو مقالBة في أصBل التفBاوت بين البشBر " ،حيث يBبين لنBا
الكيفية التي تطورت بها اإلنسانية من حالة الطهارة والحرية إلى حالة العبودية والقهر
ومهما يكن األمر ،فالخير كامن في طبقات الطبيعة بأبعادها الثالثة :في الكون وفي اإلنسان وفي المجتمع .ومن أجBBل خBBروج
اإلنسان من حالته المأساوية يجب عليه أن يبحث عن الفردوس في العودة إلى الطبيعة في اإلنسان وفي الكBBون وفي المجتمBBع.
لقد جاء كتابه " العقد االجتماعي " دعوة مطلقة للعودة إلى حالة الطبيعة وإحياء طقوس الحريBBة والمسBBاواة الBBتي كBBانت تسBBود
المجتمعات القديمة قبل أن يلفها الفسBBاد .وفي التربيBBة على اإلنسBBان كي يتحBBرر من رق العبوديBBة والقهBBر وينتقBBل إلى الفضBBاء
األرحب للحرية أن يعمل على بناء اإلنسان وفقا لمبدأ الطبيعة وروحها
ينطلق روسو في منظومته التربوية من المبدأ الذي يقول بأن الطبيعة اإلنسانية خيرة وإن فطرة اإلنسان معدن كBBل خBBير وهBBو
وفقا لهذه الرؤية يعارض األفكار السائدة في عصBBره الBBتي تبBBنى على أن الشBBر أصBBيل في طبيعBBة اإلنسBBان وهي الفكBBرة الBBتي
يؤسس لها الفيلسوف اإلنكليزي هوبز ومعظم رجال القرن الثامن عشر ،كما يؤسBBس لهBBا رجBال الBدين والكنيسBBة في عصBBره.
وعلى هذا األساس كانت التربية ،وفقا لمبدأ الشر األصيل في النفس ،تؤكد أهمية اقتالع الشBBر من النفس اإلنسBBانية بمBBا تBBوفره
التربية ذاتها من أدوات التسلط والقوة والقهر الستئصال الشBBر الBBدفين في النفس اإلنسBBانية .وعلى خالف هBBذه الرؤيBBة البائسBBة
للطبيعة اإلنسانية كان روسو يعتقد أن الطبيعة خيرة وخيرها يفيض
بالمطلق ،ولذلك فإن التربية يجب أن تنطلق على أساس الميول الطبيعية ليكون الطفل ابن الطبيعة وربيبها وألن الطبيعة خيرة
فإن التربية الحرة يجب أن تعمل على :النمو الحر الطليق لطبيعة اإلنسان ولقواه وميوله الطبيعية.
في التربية الطبيعية عند روسو:
يشار إلى روسو بوصفه زعيما للنزعة الطبيعية في الفلسفة والتربية الحديثة دون منازع .وقBBد أودع أفكBBاره الطبيعيBBة هBBذه في
مختلف أعماله ومؤلفاته ،بدءا من كتابه األول رسالة في العلوم والفنون " ،مرورا بكتابه " مقالة في أصل التفاوت بين البشBBر
" ،ثم في سفره المشهور "العقد االجتماعي " ،وأخيرا في كتابه الذي يعرف بإنجيل التربية الحديثة " إميل والتربية ( . .)321
وفي هذه األعمال جميعها نجد نسقا متكامال من األفكار واالتجاهات الطبيعية في المجتمع والتربيBة والسياسBة والفلسBفة .ويعBد
كتاباه "إميل" و" العقد االجتماعي" أروع ما أهداه روسو لبني البشر ) ..وبهذا الصدد يقول بورجوالن Burgellinفي كتابه
المعروف "فلسفة الوجود عند روسو يشكل كتاب جان جاك روسو إميل أحد مفاتيح حضارتنا الحديثة
ويأخذ كتابه إميل صورة عمل أدبي وتربوي صقله إلهام ارتجBBال عبقBBري يتضBBوع األحاسBBيس اإلنسBBانية النبيلBBة ولم يكن هBBذا
الكتاب مجرد تلبية لرغبة السيدة شونسو Chenonceauمن أجل تربية ابنها بل كان حركة عبقرية ألهمت الحضارة اإلنسBان
في القرن الثامن عشر وفي األزمنة الحديثة طرا .
يتضمن كتاب "إميل" منظومة عبقرية من األفكار التربوية ،التي تؤسس النظرية متكاملة في التربية حسب الطبيعة وبمقتضى
الطبيعة .ويأتي هذا الكتاب بلورة منهجية لمنظومة أعماله السBابقة الBتي كتبهBا والسBيما كتابBاه في العلBوم والفنBون وفي أصBل
التفاوت بين البشر.
يفتتح روسو كتابه هذا بقوله " كل شيء صنعه خالق البرايا حسن وكل شيء يفسد بين يدي اإلنسان وهو في هذا القول يضBBع
استراتيجية نظرية يؤسس عليها نظريته الطبيعيBBة في التربيBBة والحيBBاة وخالصBBة هBBذا القBBول تكمن في عبBBارة قصBBيرة قوامهBBا
"الطبيعة خيرة واإلنسان يفسدها".
فالطبيعة خيرة وخيرها يتدفق بالمطلق وعلينا " أن نؤمن إيمانا ال مرية فيه بأن الحركات األولى للطبيعة هي دوما رشيقة وما
من فساد أصيل في النفس اإلنسانية أو في القلب البشري" فالمجتمع عين الشر وينبوعه وعلينBBا أن نحصBBن الطفBBل ضBBد الشBBر
المستطير الذي يميد بالحياة االجتماعية وتأسيسا على هذا الحذر الكبير من شرور مبدأ الخير ومنهBBا يجب أن ننطلBBق إلى بنBBاء
الخير في النفوس ،وتشكيل المناعة األخالقية في العقول ،فالطبيعة هي المبتدأ والخبر في معادلBBة البنBBاء اإلنسBBاني الخBBير وفي
أحضانها يجب أن ينمو األطفال ليكونوا في منعة وامتناع عن كل ضروب اإلثم والشر في التكBBوين اإلنسBBاني للفBBرد .فإميBBل "
ابن الطبيعة ،تربية الطبيعة وفق قواعد الطبيعة إلرضاء حاجات الطبيعة ..ومن هنBا يتBدفق تمBرد روسBو ضBد المجتمBع منبBع
الشرور واآلثام.
هذا ويعتقد روسو أن الطبيعة قادرة بذاتها على تنمية ملكات الطفل ،ولذلك يجب أن نتوكل أمر تربيتBBه إلى الطبيعBBة ذاتهBBا ألن
الطبيعة تريد للطفل أن ينمو نموا حرا وأن يعمل بمقتضى تكوينه الطبيعي بوصفه طفال
إن أعظم ما قدمه روسو للتربية يتمثل في عبقرية الكشف عن طبيعة للطفل مفارقة لما هBBو معهBBود ومBBألوف في عصBBره وفي
العصور التي سبقته .يرفض روسو المبدأ التربوي الذي ينظر إلى الطفل بوصفه راشدا صغيرا ،وهBBو على خالف ذلBBك يBBرى
أن الطفل صغير الراشد فطبيعة الطفBل مفارقBة لطبيعBة الراشBد نوعيBا وليس من الجBانب الكمي .فالطفBل يختلBف في مسBتوى
قدرته على اإلدراك والنظر والتحليل اختالفا نوعيا عما نجده عند الكبار .يروي روسو قصة ذلك الطفل الذي حكيت له حكاية
اإلسكندر الكبير وطبيبه ،لقد كان هذا الطفل معجبا إلى حد كبBير بشBBخص اإلسBكندر وشBBجاعته ،ولكن هBل تعلمBBون أين كBBان
يرى موطن هذه الشجاعة ؟ كان يراها في قدرة اإلسكندر على تجرع شBراب سBيىء الطعم ،وفي هBذا المثBال يBبين روسBو أن
إدراكات الطفل وطريقة نظرته إلى الوجود مختلفة كليا عن الراشBBد فالطفBBل ال يمتلBك هBذا التفتح الBذهني الBذي يمكنBه من فهم
العالم بما ينطوي عليه على النحو الذي يدركه الراشدون ومن هذا المنطلق ينادي روسو بأهمية معرفة طبيعة الطفل على نحو
ما تفرضه هBذه الطبيعBة من خصوصBية مفارقBة لطبيعBة الراشBدين ولروسBو فيض من القBول في طبيعBة الطفBل ،ومن أشBهر
مقوالته في هذا الخصوص " :تعلموا كيف تتعرفون إلى أوالدكم ألنكم يقينا تجهلBBونهم كBBل الجهBBل" ،ولمBBاذا هBBذا الجهBBل؟ ألن
الكبار ينظرون إلى الصغار نظرة الراشد إلى الراشد وليس نظBرة الكبBير نجهBل الطفولBة الجهBل كلBه وكلمBا راودتنBا األفكBار
الخاطئة التي نملكها عنها ازداد ضاللنا إن هدف التربية الطبيعية يتمثل في بناء اإلنسان على صBBورة الطبيعBBة ،أي كمBBا خلقBBه
هللا وكما يريد له أن يكون.
وهنا نجد أن روسو غالبا ما يكرر أقواله المأثورة " :دعوا الطفولة تنمو في األطفال"" ...دعBوا الطبيعBة تعمBل وحBدها زمنBا
أطول قبل أن تتدخلوا بالعمل مكانها خشية أن تعرقلوا عملها" .احترموا الطفولة وال تتسرعوا أبدا بالحكم عليهBBا خBBيرا كBBان أم
شرا" ( " )....فاإليقاع البطيء لزمن النمو ليس شرا نحتمله بل وظيفة ضرورية للنمو" .وكثيرا ما كBBان يقBBول " :الطبيعBBة ال
تحتاج إلى تربية والغريزة خيرة طالما تعمل وحBBدها وتصBBبح مشBBبوهة عنBBدما تتBBدخل المؤسسBBات اإلنسBBانية وينبغي علينBBا أن
ننظمها ال أن نقضي عليها وقد يكون تنظيمها أصعب من تدميرها
تتضمن التربية الطبيعية عند روسو فيضا متدفقا بالحب والحنان على الطفولة واألطفال .وقد استلهم روسو هBBذا العطBBف على
الطفولة من الحرمان العظيم والبؤس الخانق واآلالم الفادحة والمدمرة التي عاناها في طفولته المعذبBBة .وفي حنانBBه هBBذا زفBBرة
طفولة مقهورة وصرخة إنسانية تدعو إلى محبة األطفال والعناية بهم .يقول روسو والقول يتدفق بأعظم معاني الحنBBان والحب
للطفولة واألطفال :أحبوا الطفولة ،يسروا لها ألعابها ومسراتها وفطرتها المحبوبة من منكم ال يأسف أحيانBBا على تلBBك السBBنين
التي ال تفارق فيها االبتسامة الشفتين ( )...فلم تريدون أن تحرموا هBBؤالء الصBBغار األبريBBاء من متعBBة فBBترة تكBBاد من قصBBرها
تفوتهم ( )...ولم تريدون أن تملؤوا بالمرارة واآلالم هذهـ السنوات األولى الخاطفة التي ال تعود إليكم أيها اآلباء ،هBBل تعلمBBون
األجل الذي ينتظر فيه الموت أبناءكم؟ قال تتهيؤوا للندامة إذ تحرمونهم من الهنيهات القليلة التي منحتهم إياها الطبيعة متعBBوهم
بلذة الوجود منذ أن يصBBبحوا قBBادرين على االسBBتمتاع بهBBا حBBتى إذا دعتهم المنيBBة في سBBاعة من السBBاعات ،لم يموتBBوا قبBBل أن
يتذوقوا الحياة ويقضوا منها وطرا
ويمكن تحديد أهم المبادئ األساسية لطبيعة الطفولة في التربية عند روسو على النحو التالي
-1طبيعة الطفل خيرة وليس شريرة.
2-يجب احترام ميول الطفل الطبيعية وتنميتها وفقا لمبدأ التربية السلبية.
-3التأكيد على تجربة الطفل الخاصة في اكتساب المعرفة واستبعاد دور المعلم ما أمكن
ذلك.
-4تقسيم التربية إلى مراحل تتناسب مع عمر األطفال ألن طبيعة الطفل هي تحدد نوع التربية الممكن.
التي
-5العمل على فهم طبيعة الطفل ودراستها ورصد مكوناتها لكي تستقيم العملية
التربوية.
التربية السلبية أو التربية الحرة
ينطوي مفهوم التربية السلبية عند روسو على شحنة ثورية هائلة وإيمان متفجBر بمبBدأ الحريBة اإلنسBانية وتتجلى هBذه التربيBة
السلبية في رفض مطلق لكل إكراهات التسلط والقهر والعبودية التي تنبث في عادات الناس وتشع في تصوراتهم وممارساتهم
اإلنسانية والتربوية.
يقول روسو
" الحكمة البشرية ذاتها ال تنطوي إال على تحكمات استعبادية ،فعاداتنا ال تعدو أن تكون إذالال واستعبادا وكبتا وألمBا .فالرجBل
المتمدن يولد ويعيش ويموت في حالة عبودية :يلف عليه القماط يوم يولد ويزج في الكفن يوم يموت ويغلق عليه التابوت يBوم
يدفن ،وما دام حيا فإنه يكون مقيدا بأغالل األنظمة
إنه يقترح عبر مفهوم التربية السلبية ثورة تربوية عارمة تحرر اإلنسان من قيوده وتحطم أغالله وأصفاده نادى روسBBو بمبBBدأ
التربية السلبية ،فالتربية األولى التي تقدم للطفل يجب أن تكBون سBلبية وهي ال تكBون بBالتلقين لمبBادئ الفضBيلة ،ولكن قوامهBا
المحافظة على القلب من الرذيلة والعقل من الزلل .ويعتقد روسو أن التربية الحقة تكون في النمو الحر الطليق لطبيعBBة الطفBBل
وقواه الداخلية وميوله الفطرية.
فالتربية التي ينشدها روسو ليست نفيا للتربية بل هي رفض لألساليب التربوية التقليدية السائدة الBBتي تBBزج اإلنسBBان في مBBدافن
العبودية واإلكراه .فالتربية السلبية هي التربية الحرة التي تترك للطفل أن ينمو بمقتضى فطرته وطبيعته الخيرة .إنهBBا التربيBBة
التي تتيح للطفل أن ينمو روحيا وعقليا ونفسيا نموا حرا أصيال خارج دوائر اإلكراه والتسلط والقهBBر .فالتربيBBة السBBائدة تربيBBة
إكراه ،تفقد اإلنسان براءته وأصالته ألنها تستأصل قدرته على المبادهة وعلى العيش وفق قانون الطبيعة .ولBBذلك فBBإن التربيBBة
السلبية تشكل نفيا للعادات واألساليب التربوية السائدة في عصره .وهو يقول في معBرض وصBفه للتربيBة اإليجابيBة بأنهBا هBذا
النوع من التربية الذي يسBاعد على تكBوين العقBل قبBل األوان كمBا يسBاعد على تلقين الطفBل واجبBات الرجBال .وهBو ال يعBني
بالتربية السلبية حالة من السكون والكسل بل هي نوع من التربية الحرة التي ال تسبب الفضBBيلة لكنهBا تحمي القلب من الرذيلBBة
وعلى خالف ما هو معهود وسائد في عصره يؤكد اال شر أصيال في النفس اإلنسBانية ،ومن هBذا المنطلBق فBإن طبيعBة الطفBل
خيرة بالمطلق ،وأن التربية الحقة تجري على نبض اإليقاع الداخلي لهذه الطبيعة .
التربية السلبية تعني باختصار أن نحقق للطفل نماء طبيعيا بعيدا عن تدخل الراشدين وعبثهم.
وكأننا بروسو في هذا التوجه يميل إلى االستغناء عن المربي كليا وميال إلى أن يوكBBل مهمBBة تربيBBة الطفBBل إلى الطبيعBBة ذاتهBBا
وان يدع الطفل منفردا في صدامه مع الحياة بتجاربها وعبثها ومفارقاتها فوظيفة المربي ال تكاد تتجاوز حدود اإلشBBراف على
إميل عن بعد ،وهو ليس مطالبا بالتدخل إال حينما تقتضي الضرورة تدخله .وليس على المربي أن يحتسب الزمن والBBوقت في
عملية نماء الطفل القصوى وتربيته بل يجب عليه أن يبدد الزمن ويهدر إمكانية اإلحساس به؛ ألن إميل يختمر ويتكBون وكلمBا
كان نضجه في ظرف زمني هادئ مستريح في صدر الزمن كان ذلك في مصلحة البناء والتكوين واإلعداد التربوي عند إميل
والقاعدة التي يعلنها روسو بهذا الصدد تقول وتشدد على القول " ليست أهم قاعدة في التربية أن نBBربح الBBوقت بBBل أن نضBBيعه
وانطالقا من مقولة روسو بأن الطبيعة خيرة وأن المجتمع يفسدها ،فإن مفهوم التربية السلبية يرتكز على أمرين أساسيين :
-1-حماية إميل من الفساد االجتماعي وإبعاده تربويا عن سطوة الراشدين وتدخلهم المباشر في التربية.
2-مجاراة التطور الطبيعي في الطفل ،ألن الطفل يمتلك شروط نموه طبيعيا وهو ينمو وفقا لمبدأ القانونية الطبيعية.
تنطوي التربية السلبية على ثالثة جوانب لمفهوم الحرية الطبيعة :
الحرية الجسدية :التي توفر للطفBل كBل مBا يحتBاج إليBه من إيقاعBات النمBاء الجسBدي الحBر الBذي يأخBذ مسBاره عBبر -1
النشاطات والفعاليات واأللعاب وتترك لجسده الحرية .وهنا يجب رفض كل ما من شأنه أن يقيد حرية الطفBل الجسBدية.
ومن هنا جاء رفض روسو للقماط وهجومBBه العBBنيف على األسBBاليب التربويBBة الBBتي تمنBBع الطفBBل من إمكانBBات الحركBBة
والقفز واالنطالق واللعب وغير ذلك من هذه الحريات الجسدية الضرورية لنمو الطفل .كان روسBBو يعتقBBد أنBBه ال يمكن
للمرء أن يكون حرا بجسد مهزوم محاصر ،ألن الحرية كينونة صماء ال تقبل التجزئة واالنشطار .وال يمكن إلنسان ما
أن يكون حرا في المستوى العقلي أو العاطفي بجسد مهزوم ومحاصر.
الحرية العاطفية واالنفعالية : -2
إذ يجب إبعاد إميBل عن كBل مBا من شBأنه أن يفBرض على الطفBل مشBاعر مقننBة وعواطBف جامBدة معلبBة أو مثلجBة فBالتطور
الطبيعي للطفل يتمثل في أن نترك المشاعره الداخلية حرية النمو وفقBBا النBBدفاعات إنسBBانية داخليBBة نابعBBة من أحاسBBيس الطفBBل
وتجربته ومشاعره وتلك هي الخصوصية الBBتي يجب أال تتعBBرض لعBBدوان الراشBBدين وتسBBلطهم .إن التBBدخل في توجيBBه النمBBو
العاطفي واالنفعالي هو قمع للروح الداخلية للطفل ،وهBو إكBراه يتجBاوز كBل إكBراه ،ألن الBروح ،وهي أعمBق وأقBدس مBا في
اإلنسان ،يجب أن تترك حرة أصيلة رشيقة كما تفرضها الطبيعة .دعوا األطفال يتذوقوا العالم عBبر إحساسBهم اإلنسBاني بعيBدا
عن كل أشكال التسلط واإلكراه ،فللطفل أن يشعر بحرية ،و أن يحب ويكره ويغضب ويتسBامح بحكم مشBاعره الداخليBة وعلى
منوال ما تفرضه روحه الداخلية التي تفيض بالعطاء.
-الحرية العقلية :
ليس لنا أو علينا أن نفرض على عقل الطفل ما ال يحتمل وما ال يستسيغ إن االغتراب الحقيقي يكون عندما نفBBرض على عBBالم
الصغار رؤانا ومعتقداتنا ،وأن نعلمهم بصورة مبكرة ما نرغب من العلوم والمعارف إن التعليم المبكر يقض مضاجع األطفال
ويحرمهم من عطاء الطبيعة بوصفهم أطفاال وهنا يرى روسو أن القاعدة في تعليم األطفال وتشكيل عقولهم ليست فى أن نربح
الوقت ونقتنص الزمن بل تكون في هدر الزمن وتضييع الوقت بالمعنى التقليدي ،فتضييع الوقت وهBBدره في التربيBBة الطبيعيBBة
وفقا لمفهوم روسو هو عملية استثمار عظيمة ،ألن كل لحظة تبذل في سبيل التربية تجBBد مردودهBBا العظيم في التكBBوين الخلقي
واإلنساني للطفل ،ألن عقل الطفل يكون في المراحل األولى في مرحلة التكوين وهو الخاصة اإلنسانية الBBتي تنضBBج متBBأخرة.
وفي هذا يقول روسو :لو كان بيدي لجعلت الطفل ال يعرف يمينه من يساره حBتى الثانيBة عشBرة من عمBره وهBو بBذلك يريBد
للطفل أن يكون قادرا على تشكيل رؤاه الخاصة للعالم ،وأن يكون في مرحلة يمتلك فيها زمام نفسه وعقله بحيث ال يقبل إال ما
يراه وفقا لمقتضى طبيعته بأنه صحيح وخير وأصيل .إنه ينادي بأال نهتم باإلعداد العقلي للطفل حتى بعBد سBن الثانيBة عشBرة،
ألن فترة الطفولة هي فترة الركBBود العقلي وهي مرحلBBة كمونيBBة ال نسBBتطيع أن نتصBBور مBBدى أهميتهBBا ،ولBBذلك يجب أال نBBدفع
الطفل بالف إلى التفكير أو إلى القراءة أو إلى بذل أي مجهود عقلي في هذه المرحلة.
وتعتمد التربية السلبية على قانون الجزاء الطبيعي ،بحيث ندع الطفل يتحمBل النتBائج الطبيعيBة ألعمالBه دون تBدخل أي إنسBان
ويرى روسو في ذلك أن المربي يمكنه يقوم أخالق الطفBل مBادام يBبين لBه أن العقوبBة كBانت طبيعيBة ،مثBال :إذا أبطBأ الطفBل
ارتداء مالبسة للخروج للنزهة فاتركه في المنزل .وإذا أفرط في األكل فاتركه يعاني ألم التخمة وباختصار دعه يتحمل النتائج
الطبيعية لعدم خضوعه لقوانين الطبيعة.
وباختصار شديد ،فإن التربية السلبية ال تعني نفيا للتربية ،بل هي تربية حرة تتوافق مع الطبيعة ،وإذا كانت التربيBBة اإليجابيBBة
تسعى إلى تكوين النفس قبل األوان فإن التربية السلبية تسBBعى إلى تعبيBBد طريBBق المعرفBBة وجعBBل أدواتهBBا جBBاهزة قبBBل إعطBBاء
المعرفة ،إنها التربية التي تسعى إلى تحقيBق التBوازن بين نمBو العضBوية والنفس والعقBل تنطلBق من مبBدأ النمBو الBذاتي الحBر
لطبيعة الطفل .إنها ال تعلم عند األطفال .وهي الفضيلة بل تجنيب القلب من الوقوع في الرذيلة ،وهي في جماع عبارة واحBBدة،
النمو الحر لطبيعة الطفل وميوله الطبيعية.
من الميالد إلى الخامسة
يؤكد روسو على أهمية األبوين كمربيين طبيعيين للطفل ،فاألبوان هما األكثر قدرة على أن يمنحBا الطفBل الحنBان الضBروري
لنموه إنسانيا وأخالقيا على نحو طبيعي .فاألب هBBو المعلم الطBBبيعي واألم هي حاضBBنته ويعلي روسBBو هنBBا من شBBأن األم على
نحو خاص في العملية التربوية ،وكان يلح دائما على دور األم بقوله إذا أردتم أن تعيدوا كل إنسBBان إلى واجباتBBه األولى عليكم
البدء باألمهات وستعجبون لمBا تحدثونBه من تغBيرات" في هBذه المرحلBة يجب على األبBوين رفض جميBع األسBاليب التربويBة
التقليدية السائدة واعتماد المنهج الطبيعي في التربية وتكون البداية بإرضاع الطفل إرضاعا طبيعيا من صدر األم ،ويحBBذر من
تغذية الطفل من غير صدر أمه كما كان سائدا في ذلك العصر .ويرفض روسو بمطلق الرفض أن يعهد باألطفال إلى مربيات
ومرضعات ،ويهيب باألمهات أن يقمن بواجبات األمومة ،ألن غير ذلBك يBؤدي إلى مخBاطر مذهلBة يتصBدع لهBا عقBل الطفBل
وقلبه .وكان بهذا الصدد يرفض أن يغسل الطفل بالخمرة والنبيذ ،ويرفض هذا على مبBBدأ أن الخمBBرة شBBراب متخمBBر ،ومن ثم
فإن الطبيعة ال تنتج ما هو متخمر.
يرفض روسو قطعيا وضع الطفل في القماط المعهود أو في " المهاد"؛ ألن المهBBاد يمنBBع عليBBه الحركBBة وتBBدفق الBBدماء ويميت
قلبه الحر ،ويحذر من استخدام هذه الطريقة كما يحذر من اثارها المدمرة للطفل جسديا ونفسيا ويؤكد أهميBBة اللعب بمسBBتوياته
المختلفة ،حيث يأخذ اللعب مستويات تتدرج وفقا لعمBBر الطفBBل في مBBدى وحBBدود هBBذه الفئBBة ،أي من الميالد إلى الخامسBBة من
العمر .فإميل في هBذه المرحلBة يجب أن يتكBون جسBديا على محBك األلعBاب الرياضBية فالرياضBة المضBمخة بBاللهو والتسBلية
واللعب هي الرياضة التي تناسب نمو إميل جسدا وعقال وهو يعتقد بهذا الصدد أن جميع الرغبBBات الشBBهوانية تجBBد لهBBا مسBBكنا
في األجسام الضعيفة ،وكل ضعف يولد ضعفا ،والطفل ال يكون سيىء الخلق إال ألنه ضعيف ،فإذا قويته تحسن وتم له النمBBاء
األخالقي والجسدي في آن واحد يرفض روسو تلقين إميل فيضا من الكلمات والمفردات اللغوية ،ويريBد إلميBل هBذا أن يحقBBق
تناسقا بين نموه اللغوي ونموه الفكري.
وباختصار فإن روسو يؤكد في هذه المرحلة العمرية على :
-عدم استخدام القماط
-دعوة إلى الرضاعة الطبيعية.
-أن تكون التربية عملية نمو داخلية عضوية.
-االبتعاد عن األوامر والنواهي.
-التأكيد على التربية الجسدية.
- 3التربية الخلقية يجب أن تكون عن طريق الجزاء الطبيعي ،فعندما يسقط إميل يتألم ،وعندما يتخم يعاني من األلم ،وعندما
يخرج في ليلة باردة يصاب بالزكام ،وعندما يضع يBBده على مكBBان الهب يشBBعر بBBألم الحBBرارة ووخزهBBا ،وفي كBBل هBBذا يجب
يشعر الطفل بأن العقاب الذي استحقه كان عقابا طبيعيا ينبع من طبيعة األشياء ذاتها ،وأن هذا العقاب لم يكن انتقاما أو إكراهBا
يمارسه الكبار.
وباختصار أيضا يؤكد روسو على المبادئ التالية في هذه المرحلة :
-التربية السلبية في مختلف مستويات هذه المرحلة - .العربية األخالقية عن طريق النتائج الطبيعية.
في هذه المرحلة تبدأ عملية تعليم إميل ألن مرحلة الغفوة والسبات انتهت ،واكتملت إلميل أسباب التعلم بعد أن نضجت ملكاتBBه
الطبيعية ،وبعد أن خمرته الطبيعة وسوته وهيأته لتلقي المعرفة اإلنسانية وما تنطوي عليه من قيم ومعايير ثقافية.
لقد آن األوان لتعليم إميل وتزوده بالمعرفة والمعلومات والمعارف .وفي هذه الفترة كما يقول روسو تزداد قBBوة الفBBرد على مBBا
يحتاج إليه.
ومع أهمية هذه المرحلة وضرورة التعلم فيها فإن روسو يرسم سبل التعلم واالكتساب ويحدد مساره وطريقته
فالتعلم واالكتساب يجب أن يتما عن طريق التشويق وأن يتساوقا مع الرغبة في التعلم وحب االستطالع ،وهنا يجب أن يكBBون
ميل إميل وتعطشه للعلم والمعرفة ناجما عن رغبات طبيعية أصيلة في أعماقه.
ومن حيث طبيعة المعرفة التي يجب أن نزودها للطفل يجب أن تكون متوافقة مع اهتمامات الطفل ،والسيما هBBذه الBBتي تBBدفعنا
غرائزنا إلى تتبعها والتي تتضح وفائدتها العملية بالنسبة إلميل.
على الطفل كما يؤكد روسو وينصح أن يقرأ قصة "روبنسون كروزو" ،ألن هذه القصة تؤكBBد أهميBBة التعلم وفهم الحيBBاة وفقBBا
لقوانين الطبيعة حيث تبرز أهمية االعتماد على النفس فيها.
ويجب على إميل أن يتعلم حرفة بحد ذاتها ،وذلك ليس من أجل الكسب ،بل من أجل غرض أسBBمى من هBBذا وهBBو التغلب على
العقائد الفاسدة التي تحBط من قBدر هBذه الحرفBة ،وعنBدما نؤكBد من جديBد على أهميBة التجربBة الذاتيBة ،ويكBون التعليم مناسBبا
لحاجات إميل وميوله ،فإن إميل سيصبح شخصا مجدا هادئا صبورا مفعما بالشجاعة والثقة ،وقادرا على أداء وظيفته الحيويBBة
واالجتماعية بصورة تجعله أكثر قدرة على التكيف واالستمتاع بحياته وتحقيق السعادة الطبيعية المنشودة.
وفيما يتعلق بالمواد الدراسية يجب علينا أن نعلم إميل العلوم الطبيعية مثل الفلك والجغرافيا ،وخBBير وسBBيلة لتعلم الخرائBBط هي
األسفار والتنقل والترحال .وهو يرفض تعليم إميل النحو واللغات القديمBBة والتBاريخ ألنBه يريBد إلميBل أن يعيش في عزلBة عن
المجتمع وفي دائرة الطبيعة تحديدا.
وفي منهج التعليم ،يرفض روسو مبدأ الخطب الرنانة المصقعة ،ومبدأ النصح اإلرشاد ويؤكد على األهمية الكبرى للممارسBBة
والتجربة ويقول " لنحول إحساساتنا إلى أفكار وعلينا أن نتجنب القفز مباشرة من عالم المحسوس إلى العالم المجرد ولنتحرك
بأناة ورّو ية من فكرة محسوسة إلى فكرة محسوسة لنتعلم عن طريBBق األشBBياء ،وعلينBBا أن نبتعBBد عن معالجBBة األشBBياء بBBالرمز
مادمنا نستطيع أن نرصدها أشياء في دائرة المكان والزمان".
من سن الخامسة عشرة إلى العشرين
في هذه المرحلة تنمو استعدادات إميل وقدراته على التكيف مع اآلخرين والحياة االجتماعية ،وقد آن األوان ليصبح إميل كائنا
اجتماعيا فاعال ومشاركا في دائرة الحياة التي تنتظره في المجتمع ومن أجل هBBذه الغايBBة يجب علينBBا أن ندربBBه على العالقBBات
االجتماعية والتفاعل االجتماعي مع اآلخرين في هذه المرحلة يكون إميل قد اكتمل
نضجه جسديا وحسيا وعقليا وقد آن األوان لكي يتشكل عاطفيا وروحيا .فالتربية في المراحل السابقة كانت تربية ذاتية تهBBدف
إلى بناء الجسد والنفس ،أما اآلن فيجب إعداد إميل من أجل الحياة االجتماعيBBة وعلينBBا أن ندربBBه على امتالك شBBروط العالقBBة
االجتماعية وفقا للمعايير االجتماعية التي يفرضها تكيف األنا مع اآلخر .تسعى التربيBBة في هBBذه المرحلBBة إلى تنميBBة الوجBBدان
وبناء األخالق االجتماعية ،حيث في هذه المرحلة فترة التعليم أو التربية العادية أو السلبية كما يحلو لروسBو أن يسBميها .وهنBا
يؤكد روسو في هذه المرحلة على التربية الدينية واألخالقية .ولكنه يرفض األساليب القديمة في تشكيل إميل أخالقيBBا والسBBيما
أخالق النصح واإلرشاد ،حيث يجب على إميل أن يكتسب عمقه األخالقي عن طريق الممارسة ومحاكاة أبطال التاريخ.
وفي هذه المرحلة أيضا تبدأ إمكانية بناء صلة دينية بين إميBBل وربBBه ،ويجب تربيتBBه الدينيBBة على قيم الحBBق والخBBير والجمBBال.
فالطفل يمتلك القدرة في هذه المرحلة على فهم
أمور الدين ،ويمكنه أيضا أن يدرس البالغة والتاريخ والمسرح ،ألن هذه المرحلة تمكنه من تBBذوق الفن واالسBBتمتاع بBBالقراءة
المطالعة.
فإميل يمتلك في هذا العمر رصيدا محدودا من المعرفBة ،ولكنBه يمتلBك هBذه المعرفBة امتالكBBا حقيقيBا والمعرفBة الBتي يمتلكهBBا
معرفة نابعة من صميم االشياء وراسخة في قلب إميل وعقله ،وهناك اشياء كثيرة أيضBBا مBBازال يحتBBاج إلى معرفتهBBا ،وهنBBاك
أشياء ال يعرفها وال يحتاج إلى معرفتها ولكنه يمتلك القدرة الكلية على معرفة كل األشياء.
تربية المرأة أو صوفيا
يكرس روسو الجزء الخامس من كتابه إميل لتربية المرأة التي أطلق عليهBBا اسBBم (صBBوفي) ،وهي تظهBBر مباشBBرة في الكتBBاب
دون تمهيد يذكر .يؤكBد روسBو في هBذا الجBزء أهميBة التربيBة الجسBدية الصBوفيا ،ويBرى أن عليهBا أيضBا أن تتعلم فن الطهي
والتطريز والموسيقى والعناية بالطفل وعدم االهتمBBام بBالعلوم .وهنBا نجBد أن روسBBو كBBان كالسBيكيا وعBBدوانيا في نظرتBه إلى
المرأة فوظيفة المرأة هي إسعاد الرجل وإرضاؤه والقيام بتربية األطفال.
يقف روسو موقفا سلبيا من المرأة المثقفة التي قد تكون وباال على زوجها وأطفالها وعائلتها .وكثيرا ما يؤخذ على روسو هBBذا
الموقف المتوحش من المرأة ،ويؤخذ عليه أيضا أن آراءه متطرفة وعنصرية وغير إنسانية فيما يتعلق بدور المBBرأة ووضBBعها
اإلنساني واالجتماعي.
ومن أوجه الغرابة في هذا الموقف أن روسو كان في سيرة حياته كلها يدين للمBBرأة الBBتي كBBانت عونBBه في مسBBيرته اإلبداعيBBة
والفكرية والحياتية .فعبقرية روسو وحياته كانت وليدة عناية أنثوية خالصة ،وال يخفى على من يقرأ سيرة حياته أنه كان مدينا
للمرأة األم والصديقة والزوجة والعمة التي كثيرا ما كBBان ينهمBBر دمعBBه على عمتBBه وعلى عBBدة نسBBاء كBBان لهن دور عظيم في
حياته ،فلمسة الحنان الوحيدة في حياته كانت .المسة المرأة .صوفيا في هBBذا الكتBBاب ال تمتلBBك إال على فضBBائل ثانويBBة ،وهي
الفضائل التي تتصل بالحياة الزوجية واألسرية ،وهي كما يصورها روسBBو شBBخص نBBاقص يحتBBل مرتبBBة دنيBBا في عBBالم إميBBل
وحياته.
الخاتمة
سجل روسو نفسه في تاريخ الفكBBر مربيBBا ومعلمBBا وفيلسBBوفا وأديبBBا وثBBائرا ،وكBBانت سBBيرته
الحياتيBBة والفكريBBة من أغBBرب السBBير التاريخيBBة في تBBاريخ الفكBBر إن لم تكن أغربهBBا على
اإلطالق .ومن أوجه الغرابBBة واإلدهBBاش في هBBذه السBBيرة أننBBا مBBع روسBBو نجBBد أنفسBBنا أمBBام
عبقرية شمخت ونهضت على أعمدة القهر وعلى ثوابت األلم والهزيمة .وعلى هذا األسBBاس
شّيد مملكته الفكرية الجبارة الفّياضة بكل المعاني اإلنسانية النبيلة والخالقة.
لقد أحدث انقالبا فكريا في عصره وفي العصور التي تتابعت بعده وال غرابة في ذلBBك فهBBو
مؤسس التربية الحديثة وصاحب أكثر النظريات التربوية عبقرية وغرابة
ومBBا يBBدهش أن علم النفس الحBBديث والنظريBBات التربويBBة الحديثBBة قBBد اسBBتجابت النBBدفاعات
روسو العبقرية الجامحة المتمردة .ولم تستطع االنتقBBادات الBتي وجههBBا العلمBBاء والمفكBBرون
والكتاب لنظريته التربوية واالجتماعية أن تنال من شموخ هذه النظريBة بBل زادتهBا شBموخا
وتمردا صحيح أن مظاهر النظرية قد تبدو غريبة مستغربة ولكن جوهرها اإلنساني مBBازال
يحلق في األجواء الشامخة .إن ما اكتشفه روسو بفطرته وعواطفه ونبBل إحساسBBه اإلنسBBاني
وعبقريته األدبية كBان كشBفا عن منBاطق مظلمBة في حيBاة اإلنسBانية ،فBأراد أن يطBرد منهBا
العتمة ويحررها من الجمود عبر شطحات عقل ثائر متمرد .وما حملBه روسBBو إلى البشBBرية
عبر نظريته التربوية تارة واالجتماعية تارة أخرى ال يضاهيه عطاء؛ ألنBBه باختصBBار جBBاء
ينتصر لألطفال والضعفاء والمظلومين والمحBBرومين والمقهBBورين جBBاء ليحBBرر الطفBBل من
ظلمات القرون الوسBطى ،ألن الطفBل في نظريتBه رمBز الBبراءة والعطBاء بBل هBو هبBة هللا،
ولذلك فإن سعادة
األطفال يجب أن تكون هدف التربية بالمطلق
وإذا كان عصره لم ينصفه ،إذ عاش حالة التشرد والقهر مظلوما مهزوما في وطنه فان روسو
يمثل رمزا من رموز الحضارة اإلنسانية التي تفتخر بها فرنسا ثقافة وحضارة وهو الذي هجرته األيام فعBBاش متوحBBدا حزينBBا
مقهورا مغلوبا مطاردا من قبل ل األمن والسلطات في عصره ومن من المفكرين في القرن التاسع عشBBر -والحقBBا في القBBرن
العشرين من ال يدين لروسو األب الروحي للتربية الحديثة .فالتBBاريخ يعلمنBBا أن المبBBدعين من بعBBده في مجBBال التربيBBة والفكBBر
االجتماعي يدينون له ويأخذون عنه ويتمثلون جوهر رؤيته للتربية واإلنسان.
ليس غريبا أن يكون كتابه العقد االجتماعي طفرة فكرية وجهت عمل الثBBورة فرنسBBا ،وهي أعظم ثBBورة تشBBهدها أوروبBBا ضBBد
القهر واالستبداد واإلرهاب .وليس غريبا أيضا أن يحدث ثورة تأخذ طابع االستمرار في مجال التربية .لقد وضع روسو حجر
الزاوية النقالب فكري تربوي أتى على كل التراث القديم في مجال التربيBة ،وأحBدث انقالبBا كوبرنيكيBا في المفBاهيم والBرؤى
والتصورات وستبقى نظريته في العقد االجتماعي
ونظريته في التربية أحجارا كريمة براقة في عقد الفكر اإلنساني الحر إلى األبد.