You are on page 1of 7

‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬

‫أساس الفوضى‪٤‬‬
‫د عبدالمنعم عبدالباقى على‬
‫‪abdelmoniem2@hotmail.com‬‬

‫نستكمل السياحة الفكرّية فى هذه الحلقة وننظر لألشياء من‬


‫زاوية أخرى‪ .‬إّن جذور حياتنا الحالّية بكّل أشكالها تمتّد عميقًا‬
‫فى تربة الماضى وفهم تاريخ هذا الماضى وسياقه هو الّنور‬
‫الذى يفتح لنا أبواب فهم الحاضر واستشراف المستقبل وهو‬
‫الّترياق الذى ُيبطل السموم التى انتشرت وتفاقمت شرورها‬
‫‪.‬فى جسد السودان وأّم ة اإلسالم‬

‫فى عام ‪ُ ١٥٦٤‬و لد جاليليو جليلى وفى نفس العام تقريبًا رجع‬
‫جّد ى األكبر الحاج داود بن عبدالجليل بن حجازى بن معين‬
‫مؤسس وادى الشعير من مكة المكّر مة وبصحبته تاج الّد ين‬
‫البهارى خليفة الشيخ عبدالقادر الجيلى أو الجيالنى‪ ،‬الذى‬
‫زرع بذور الطريقة القادرّية المنتشرة فى السودان‪ ،‬والتى‬
‫رفعت درجة الوعى الّد ينى والفكرى بين الشعوب السودانّية‬
‫‪.‬ومّهدت لكل الّتغّيرات المستقبلّية‬

‫جمعهما حّب العلم والرسول والمغامرة والمبادرة فالـمُـعِّلم‬


‫األكبر المصطفى صّلى هللا عليه وسّلم يقول‪" :‬بادروا‬
‫باألعمال"‪ ،‬أى باألعمال الصالحة‪ ،‬ويضيف‪" :‬بادروا‬
‫باألعمال فتنًا كقطع الليل المظلم‪ ،‬يصبح الّر جل مؤمنًا‪،‬‬
‫وُيمسى كافرًا‪ ،‬ويمسى مؤمنًا ويصبح كافرًا‪ ،‬يبيع أحدهم دينه‬
‫‪".‬بعَر ٍض من الّد نيا قليل‬

‫علم هللا أن الحاج داود بن عبدالجليل كان أثرى أهل السودان‬


‫وقد ذكره ود ضيف هللا فى سفره العظيم وعّر فه "بالتاجر‬
‫السودانى المشهور"‪ ،‬كان مبادرًا باألعمال الصالحة ومن‬
‫خلفه ورثته من الصالحين‪ ،‬ترك متاع الّد نيا وغامر بالسفر‬
‫للحّج وعاد بكنز معرفة وصالح معه فى شخص الشيخ تاج‬
‫الّد ين البهارى ثم اّتخذ من بعد ذلك مغارتين يلجأ إليهما كّلما‬
‫‪.‬داهمته الّد نيا بغرورها زهدًا فيها‬

‫فما الذى يجمع جاليليو جاليلى والحاج داود الجليالبى والشيخ‬


‫تاج الدين البهارى والشيخ عبدالقادر الجيالنى؟‬
‫أّو ًال صدفة عجيبة أّن جميع األسماء تشتمل على حرف الجيم‬
‫بل بعضها يكاد يتطابق مثل جاليليو جليلى والجليالبى‬
‫والجيالنى أو الجيلى‪ ،‬ولكن األهّم من ذلك أّن جميعهم كان من‬
‫المتدّينين والمبادرين فى عصرهم من أجل رفع راية التنوير‬
‫ونشره‪ ،‬وبّث الّتغيير الموجب المسنود بإعمال العقل والعلم‬
‫فى المجتمع؛ أى أّنهم لم يستكينوا لحالة السكون أو حالة‬
‫الجهل السائدة فى عصرهم تقودهم فى ذلك روٌح مغامرٌة‬
‫وشوق للجديد‪ ،‬وُيعينهم نبٌل وجسارة تمّهد لهم طريق‬
‫‪.‬المشّقات‬
‫أليس الشيخ عبدالقادر الجيالنى هو القائل‪" :‬ليس الرجل الذى‬
‫ُيسِّلم لألقدار‪ ،‬وإّنما الّرجل الذى يدفع األقدار باألقدار"‪ ،‬تمُثًال‬
‫بقول سيدنا عمر الفاروق رضى هللا عنه ساعة ضرب‬
‫الّطاعون أرض الشام‪":‬نهرب من قدر هللا إلى قدر هللا"‪،‬‬
‫والشيخ عبدالقادر الجيرنى هو أيضًا القائل فى القضاء والقدر‪:‬‬
‫"إّن جميع الحوادث خيرها وشّر ها كائنة بقدر هللا‪ ،‬ولكن‬
‫المؤمن مأمور أن يدفع ما ُقِّد ر من الشر بما ُقِّد ر من الخير؛‬
‫فيزيل الكفر باإليمان‪ ،‬والبدعة بالسّنة‪ ،‬والمعصية بالطاعة‪،‬‬
‫والمرض بالّد واء‪ ،‬والجهل بالمعرفة‪ ،‬والعدوان بالجهاد‪،‬‬
‫والفقر بالعمل‪ ،‬فنازعوا أقدار الحّق بالحِّق للحِّق فالرجل هو‬
‫‪".‬المنازع للقدر ال الموافق عليه‬

‫وبكل المقاييس فقد أحدثوا جميعًا ثورة علمّية ناعمة تركت‬


‫إرثًا ذا أثٍر دائٍم وخالٍد نشأ فى أركان متباعدة من العالم فى‬
‫قاّر ات مختلفة تمتد من آسيا الصغرى إلى أفريقيا إلى أوروّبا‬
‫‪.‬وانتشر لكّل أرجاء العالم اإلنسانى‬

‫فالشيخ عبدالقادر الجيالنى الذى ُو ِلد فى ‪ ١٠٧٧‬ميالدّية أتى‬


‫فى زمان اختلطت فيه المفاهيم وانتشرت الفلسفة‪ ،‬وتعارك‬
‫أهل الشريعة مع أهل الحقيقة المتصّو فة‪ ،‬بل وتعارك أهل‬
‫السّنة عندما تعّد دت الفرق وانضوى كّل مسلم إلى فرقة يدافع‬
‫عنها حّتى أّن بعضهم كّفر بعضًا مثل الحنفّية للشافعّية ولم‬
‫ُيجيزوا حتى الزواج بنسائهم إال على افتراض أنّهن ُيعاملن‬
‫معاملة الكتابّيات‪ ،‬وكّل ذلك ألّن اإلمام الشافعى رضى هللا‬
‫‪".‬عنه كان يقول‪" :‬أنا مؤمن إن شاء هللا‬

‫وأيضًا كّفروا اإلمام أبى حامد الغزالى لمخالفته األشعرى‬


‫فكتب فيهم رسالة هاجمهم فيها أسماها‪":‬فيصل الّتفرقة بين‬
‫اإلسالم والّز ندقة"‪ ،‬وأظهر فيها من االستقاللّية الفكرّية‬
‫والشجاعة األدبّية قدرًا منقطع الّنظير فى زمانه‪ ،‬كانت لها‬
‫تأثير واضح على منهج الشيخ عبدالقادر الجيالنى الذى أيضًا‬
‫لم ُيطق التقليد والُم قّلدين والّتعّصب والُغ لُّو والّتطّرف وقال‬
‫اإلمام الغزالى رضى هللا عنه‪":‬أن حقائق األشياء ال تظهر‬
‫للقلوب المدّنسة بطلب الجاه والمال وحّبهما‪ ،‬بل إّنما ينكشف‬
‫دون ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الّد نيا أوًال‪ ،‬ثّم‬
‫ُصقلت بالرياضة الكاملة ثانيًا‪ ،‬ثّم نّو رت بالذكر الصافى ثالثًا‪،‬‬
‫ثّم ُغ ّذ يت بالفكر الصائب رابعًا‪ ،‬ثّم ُز ّينت بمالزمة الشرع‬
‫خامسًا‪ ،‬حتى فاض عليها من مشكاة الّنبّو ة‪ ،‬وصارت كأّنها‬
‫مرآة مجلّو ة‪ ،‬وصار اإليمان فى زجاجة قلبه مشرق األنوار‪،‬‬
‫يكاد زيته يضىء ولو لم تمسسه نار‪ ،‬وأّنى تتجّلى أسرار‬
‫الملكوت لقوم إلههم هواهم‪ ،‬ومعبودهم سالطينهم‪ ،‬وقبلتهم‬
‫دراهمهم ودنانيرهم‪ ،‬وشريعتهم رعوناتهم‪ ،‬وإرادتهم جاههم‬
‫وشهواتهم‪ ،‬وعبادتهم خدمتهم أغنياءهم‪ ،‬وذكرهم وساوسهم‪،‬‬
‫وكنزهم سواسهم‪ ،‬وفكرهم استنباط الحيل لما تقتضيه‬
‫حشمتهم‪ ،‬فهؤالء من أين تتمّيز لهم ظلمة الكفر من ضياء‬
‫اإليمان؟ أبإلهاٍم إلهٍّى ولم ُيفرغوا القلوب عن كدورات الّد نيا‪،‬‬
‫أم بكمال علمّى وإّنما بضاعتهم فى العلم مسألة الّنجاسة وماء‬
‫‪".‬الزعفران وأمثالها؟‪ ،‬هيهات هيهات‬
‫بل ويقول‪":‬إّن أكثر نصارى الروم والترك فى هذا الزمان‬
‫تشملهم الرحمة إن شاء هللا تعالى‪ ،‬أعنى الذين هم فى أقاصى‬
‫الروم والترك ولم تبلغهم الّد عوة‪ ،‬فإّنهم ثالثة أصناف‪ :‬صنف‬
‫لم يبلغهم اسم محّم د صلى هللا عليه وسّلم أصًال فهم‬
‫معذورون‪ ،‬وصنف بلغهم اسمه ونعته وما ظهر عليه من‬
‫المعجزات وهم المجاورون لبالد اإلسالم المخالطون لهم‪،‬‬
‫وهم الكّفار الملحدون‪ ،‬وصنف ثالث بين الدرجتين بلغهم اسم‬
‫محّم د صلى هللا عليه وسّلم ولم يبلغهم نعته ووصفه‪ ،‬بل‬
‫سمعوا أيضًا منذ الصبا أّن كّذ ابًا ملّبسًا اسمه محّم د اّد عى‬
‫الّنبّو ة‪ ،‬كما سمع صبياننًا أن كّذ ابًا يقال له المقّفع تحّد ى بالّنبّو ة‬
‫‪".‬كاذبًا‪ ،‬فهؤالء عندى فى معنى الصنف األّو ل‬

‫فى ذلك الظرف العصيب؛ الذى سادت فيه الفوضى كاّفة‬


‫أرجاء الّد ولة العّباسّية حيث شّل الّتمّز ق عالم المسلمين فاحتل‬
‫الصليبّيون القدس الشريف وأنطاكية‪ ،‬بل الحقًا وصلت سفنهم‬
‫إلى شواطىء جّد ة تبتغى هدم الكعبة ونبش قبر الّرسول صلى‬
‫هللا عليه وسّلم‪ ،‬وقامت الحروب بين سالطين المسلمين‪،‬‬
‫واغتنم المجرمون انشغال السالطين بالحروب فعاثوا فسادًا‬
‫وعبثوا باألمن‪ ،‬ونشطت فرقة الباطنّية فحّرفت الدين وبّثت‬
‫عمالءها يغتالون األمراء ويتآمرون على دولة المسلمين‪ ،‬فى‬
‫مثل هذا الوقت الذى عّم ته الفوضى بعث هللا الشيخ عبدالقادر‬
‫‪.‬الجيالنى رضى هللا عنه‬
‫ومن يتأّم ل الساحات السياسّية والفكرّية واالجتماعّية والدينّية‬
‫فى زماننا الراهن بما فيها من تّيارات متصارعة متناحرة‪،‬‬
‫وتشويش فكرّى ‪ ،‬وانهيار أخالقى‪ ،‬وُنظم شمولّية ويقارنها‬
‫بزمنّى اإلمام الغزالى والشيخ عبدالقادر الجيالنى ال يجد فرقًا‬
‫‪ُ.‬يذكر إال فى األسماء‬

‫فى جوف الفوضى الّض اربة والجهل المستشرى‪ ،‬أعلى الشيخ‬


‫عبدالقادر الجيالنى مكانة العلم وربطه بالعمل‪ ،‬فجّد د أمر‬
‫الّد ين وصّفاه من شوائبه ورّد ه ناصعًا قشيبًا يطير بجناحى‬
‫الشريعة والحقيقة بال ُغ لّو ‪ ،‬ودعا للتعايش والعمل‪ ،‬وإعمال‬
‫‪.‬العقل والفكر‪ ،‬وترتيب األولوّيات‪ ،‬وربط أمور الّد نيا باآلخرة‬

‫هذه كانت ثورة واعية استخدمت قّو ة ناعمة واستخدمت‬


‫سلطان الحّج ة ولذلك ال تزال ُتؤتى ثمارها إلى اليوم فى حين‬
‫اندحرت الممالك وصارت أثرًا بعد أن مألت الّد نيا ضجيجًا‬
‫‪.‬وسفكت من دماء الّناس الكثير‬

‫وقد قيل فيه‪":‬ذاك رجل بحر الشريعة عن يمينه وبحر الحقيقة‬


‫عن يساره‪ ،‬من أّيهما شاء اغترف"‪ .‬يقول عنه الشيخ على بن‬
‫الهيتى‪":‬فهو عبد سما عن مصاحبة الّتفرقة إلى مطالعة الجمع‬
‫‪".‬مع لزوم أحكام الشريعة‬

‫الشيخ عبدالقادر الجيالنى رضى هللا عنه‪ ،‬لم يقف بباب حاكٍم‬
‫قط وال جلس على بساطه وال أكل من طعامه‪ ،‬وال خاف من‬
‫حاكم قط بل كانت تهابه الملوك وإذا أتوا لداره دخل للداخل‬
‫وإن تبعوه خرج منها‪ ،‬وال خاف من قول الحّق بل كان‬
‫‪ُ.‬م تحّد يًا‪ ،‬سّيدًا جريئًا فى الحق‬

‫وقد ذاع عن الشيخ عبدالقادر الجيالنى رضى هللا عنه الكالم‬


‫عن الخواطر وفى ذلك تصديق قول المصطفى صّلى هللا عليه‬
‫وسّلم‪" :‬اّتقوا فراسة المؤمن فإّنه ينظر بنور هللا"‪ ،‬وقد قال‬
‫الشيخ عبدالقادر الجيالنى‪":‬إّنما ُأنّطق فأنطق‪ ،‬وُأعَطى فأفّر ق‪،‬‬
‫وُأوَم ْر فأفعل‪ ،‬والعهدة على من أمرنى والّد ية على العاقلة‪،‬‬
‫لوال لجام الشريعة على لسانى ألخبرتكم بما تأكلون وما‬
‫تّد خرون فى بيوتكم‪ .‬أنتم بين يدّى كالقوارير ُيرى ما فى‬
‫بواطنكم وظواهركم‪ ،‬لوال لجام الحكم على لسانى لنطق صاع‬
‫يوسف بما فيه‪ ،‬لكن العلم مستجير بذيل العالم كى ال يبدى‬
‫‪".‬مكنونه‬
‫وسنواصل إن أذن الله ودمتم ألبى سلمى‬

You might also like