You are on page 1of 118

‫الدكتور مولود عويمر‬

‫الـع ـلمـاء الخـ اَّلء‬


‫في العصر الحديث‬

‫‪1‬‬
2
‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫ختتلف هذه الطبعة الثانية عن الطبعة السابقة البيت صدرت يف عام‬


‫‪ 3102‬بزيادة أربعة موضوعات تتعلق بالصالت العلمية والعالقات‬
‫اإلنسانية بني عدد من رجال الفكر واإلصالح يف العامل العر ي يف‬
‫القرن العشرين‪ ،‬وهم‪ :‬عبد احلميد بن باديس‪ ،‬حممد البشري‬
‫اإلبراهيمي‪ ،‬الطيب العقيب‪ ،‬حممد الفاض ابن عاوور‪ ،‬حسن البنا‪،‬‬
‫ويبان‪..‬‬ ‫الفضي الورتالين‪ ،‬مفدي زكريا‪ ،‬وعبد الرمحن‬

‫ولقد استخرجت هذه الصفحات املشرقة من تاريخ التواص الفكري‬


‫بني النخبة سواء يف داخ الوطن الواحد أو يف أوطان خمتلفة بفض‬
‫حبثي يف الصحف واجملالت القدمية اليت مل تعد موجودة إال عند فئة‬
‫من اخلوا أو عند بعض العائالت العاملة بأعداد حمدودة جدا أو يف‬
‫املكتبات الوطنية ومراكز التوثيق حمفوظة بعناية ال ترقى دائما إىل‬
‫القيمة العلمية والرمزية واملعنوية هلذا الرتاث الثقايف‪ ،‬ولذلك حرصت‬

‫‪3‬‬
‫باستمرار أن أق ّدم تعريفا موجزا هبذه الدرر وأتبعه برتمجة خمتصرة‬
‫ألصحاهبا العاملني وتنبيه القراء إىل كتاهبا اجملتهدين‪.‬‬

‫وعلى الرغم من قلة امكانيات اإلتصال بني الناس والتنق من مكان‬


‫إىل آخر يف الفرتة املدروسة هنا فضال عن عيون املراقبة وقوانني املنع‬
‫السائدة بشك واضح يف احلقبة االستعمارية إال أن رجال الفكر‬
‫املعوقات والتغلب على‬
‫واإلصالح وجدوا دائما طرقا أخرى لتجاوز ّ‬
‫العقبات من أج احملافظة على الروابط ومتديدها كما تشهد على‬
‫ذلك ك النماذج اليت ذكرهتا يف هذا الكتاب‪.‬‬

‫ب يتعجب املرء اليوم كيف أن العالقات بني األدباء والعلماء مل تعد‬


‫قوية كما كانت يف املاضي رغم توفر ك وسائ االتصال وسهولة‬
‫توظيفها لتمتني أواصر الصداقة‪ ،‬فخدمات االتصال املتقدمة مل تولّد‬
‫هلم دائما فر التواص املثمر واملأمول‪ ،‬ومل تشيّد هلم جسور التقارب‬
‫املفيد واملنشود‪.‬‬

‫فه أصبح اإلنسان عبدا لآللة كما تنبأ بذلك العديد من العلماء‬
‫وأدباء اخليال العلمي وكتاب سيناريوهات األفالم اخليالية؟ ه القيم‬
‫الفردانية ستتغلب على القيم اإلجتماعية يف املستقب ؟ ب هناك من‬
‫يتساءل اليوم‪ :‬ه بقي لكلمة الصداقة معىن؟‬

‫‪4‬‬
‫آمال أن تعود بنا صفحات هذا الكتاب إىل معاين الصداقة والوفاء‬
‫والتضامن وتربز أمهيتها يف بناء اجملتمع الذي ال ميكن له أن يرتقي يف‬
‫سلم السلم واالستقرار ويعلو يف مدارج التقدم إذا غابت فيه تلك‬
‫القيم السامية‪ ،‬فاجملتمع ال يبنيه الفرد املفرد وإمنا يبنيه األفراد أو الفرد‬
‫ضمن اجلمع‪.‬‬

‫ولقد بينت حمنة الكورونا اليت تعصف اليوم بالعامل أن املخرج ال يكون‬
‫إال بتضامن اجلميع وبناء وبكة من العالقات االجتماعية قائمة على‬
‫الصدق والتعاون والتواص والتقارب والتعاون واإليثار‪...‬‬

‫أد‪ .‬مولود عويـمر‬

‫بوغين‪ 32 ،‬جوان ‪ 3130‬م‬

‫‪5‬‬
‫مقدمة الطبعة الولى‬

‫يعج تاريخ األفكار بالصراعات واخلصومات بني العلماء والشعراء‬


‫واألدباء ألسباب عديدة تعود إىل الطبيعة البشرية امليالة إىل حب‬
‫الذات واألنانية والغرور وإقصاء الغري‪.‬‬

‫كما يزخر ذلك التاريخ بنماذج راقية يف الوفاء واإليثار والتواص املثمر‬
‫بني أه العلم واألدب حينما يتغلب اإلنسان على وهواته وهواه‪،‬‬
‫وحيتكم إىل العق واحلكمة ومساحة الدين‪.‬‬

‫وهكذا روت كتب الرتاجم صورا مشرقة عن العالقات املتبادلة بني‬


‫العلماء املسلمني املعاصرين‪.‬‬

‫وكان من أبرز هذه النماذج الصلة الوطيدة بني عبد احلميد بن باديس‬
‫وحممد البشري اإلبراهيمي‪ ،‬أ ي يعلى الزواوي وأ ي بكر جابر اجلزائري‪،‬‬
‫أمحد رضا حوحو وعبد الرمحان ويبان يف اجلزائر‪ ،‬حممد اخلضر حسني‬
‫وحممد الطاهر بن عاوور يف تونس‪ ،‬حممد الغزايل ويوسف القرضاوي‬
‫يف مصر‪ ،‬حممد رويد رضا ووكيب أرسالن يف الشام‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وك هذه النماذج جديرة بالدراسة لالستلهام العرب منها واالقتداء هبا‪.‬‬
‫ورجائ ي أن تتحقق فيهم هذه اآلية الكرمية يف اآلخرة كما جتسدت يف‬
‫ني﴾‪.‬‬ ‫حياة الدنيا‪ ﴿ :‬أاألَخ االء يـَ أوَمئ ٍذ بـَ أعضه أم لبَـ أع ٍ‬
‫ض َعد ٌّو إاال الأمتاق َ‬
‫(الزخرف‪.)76،‬‬

‫أ‪.‬د مولود عويـمر‬

‫اجلزائر‪ 37 ،‬ووال ‪ 0121‬هـ‪ 36 /‬أغسطس ‪ 3102‬م‬

‫‪7‬‬
‫عبد الحميد بن باديس‬
‫ومحمد البشير اإلبراييمي‬

‫اللقاء الول كان في مدينة الرسول (ص)‪:‬‬

‫كتب اهلل أن يتعرف الشيخ عبد احلميد بن باديس املولود بقسنطينة‬


‫على الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي املولود يف سطيف يف املدينة‬
‫املنورة حينما مر هبا ابن باديس عائدا من مكة املكرمة حيث أدى‬
‫فريضة احلج‪.‬‬

‫ورغم أن الرجلني ولدا يف نفس العام (‪ )0881‬ويف نفس املنطقة‪ ،‬وال‬


‫تفرق يبنهما سوى مسافة حمدودة (‪ 021‬كلم) إال أن اللقاء األول مل‬
‫حيص بينهما إال يف احلجاز بعيدا عن اجلزائر بآالف الكيلومرتات‪.‬‬

‫ولنرتك الشيخ اإلبراهيمي حيدثنا عن هذا اللقاء التارخيي الذي وضع‬


‫فيه املصلحان معامل ملشرو تغيري طموح‪ ،‬وأسسا لعم إصالحي‬
‫عميق يف اجلزائر‪ ،‬يقوم على توحيد النخبة الدينية والعلمية يف البالد‬

‫‪8‬‬
‫من أج تصحيح العقائد‪ ،‬وإحياء الدين اإلسالمي‪ ،‬وتنوير عقول‬
‫الناس‪ ،‬وحترير النفوس‪.‬‬

‫ويف هذا السياق قال الشيخ اإلبراهيمي‪« :‬كنا نؤدي فريضة العشاء‬
‫األخرية ك ليل ة يف املسجد النبوي وخنرج إىل منزيل فنسمر مع الشيخ‬
‫ابن باديس منفردين إىل آخر اللي حني يفتح املسجد فندخ مع أول‬
‫داخ لصالة الصبح‪ ،‬مث نفرتق إىل الليلة الثانية إىل هناية ثالثة األوهر‬
‫‪1‬‬
‫اليت أقامها الشيخ باملدينة»‪.‬‬

‫وأكد الشيخ اإلبراهيمي أيضا على أمهية هذه اللقاءات املتكررة‪،‬‬


‫فقال‪ « :‬كانت هذه األمسار املتواصلة كلها تدبريا للوسائ اليت تنهض‬
‫هبا اجلزائر‪ ،‬ووضع الربامج املفصلة لتلك النهضات الشاملة اليت كانت‬
‫كلها صورا ذهنية ترتاءى يف خميلتنا‪ ،‬وصحبنا من حسن النية وتوفيق‬
‫اهلل حققها يف اخلارج بعد بضعة عشرة سنة‪ .‬وأوهد اهلل على أن تلك‬
‫الليايل من سنة ‪ 0102‬ميالدية هي اليت وضعت فيها األسس األوىل‬
‫‪2‬‬
‫جلمعية العلماء املسلمني اجلزائريني»‪.‬‬

‫‪.08‬‬ ‫‪1‬حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬أنا‪ .‬جملة الثقافة‪ ،‬العدد ‪ ،86‬ماي‪-‬جوان ‪،0182‬‬
‫‪.01-08‬‬ ‫‪2‬املصدر السابق‪،‬‬

‫‪9‬‬
‫ومل يتحقق ذلك احللم إال يف سنة ‪ 0120‬أي بعد أن أمثرت جهود‬
‫العم اإلصالحي البن باديس يف قسنطينة‪ ،‬واإلبراهيمي يف سطيف‪،‬‬
‫والطيب العقيب يف بسكرة‪ ،‬ومبارك امليلي يف األغواط‪ ،‬وأ ي اليقضان‬
‫يف غرداية‪...‬اخل‪.‬‬

‫التقدير المتبادل‪:‬‬

‫لقد أثىن الشيخ ابن باديس كثريا على صديقه اإلبراهيمي يف مناسبات‬
‫عديدة‪ ،‬ووصفه بأرو األوصاف‪ ،‬فقال عنه‪« :‬إن اإلبراهيمي وعاء‬
‫من العلم واملعرفة والذكاء‪ ،‬وإنا لنرجو على يده خريا كثريا لإلسالم‬
‫‪3‬‬
‫واجلزائر»‪.‬‬

‫وكان يستأنس برأيه يف أمور مجعية العلماء ويف أموره الشخصية‪.‬‬


‫فكلما وعر بضيق وديد سافر إىل تلمسان للقاء الشيخ اإلبراهيمي‪.‬‬

‫‪3‬باعزيز بن عمر‪ .‬من ذكريايت عن اإلمامني الرئيسني عبد احلميد بن باديس وحممد البشري‬
‫‪.18‬‬ ‫اإلبراهيمي‪ .‬منشورات احلرب‪ ،‬اجلزائر‪،3118 ،‬‬

‫‪10‬‬
‫وكان أحيانا ينزل عليه ليال ويسافر يف الصباح الباكر ال يعلم بوجوده‬
‫أه تلمسان أو أعوان األمن املسؤولني عن مراقبة نشاطات احلركة‬
‫اإلصالحية يف هذه املدينة‪.‬‬

‫وكلما سافر إىل مدينة سطيف اليت بدأ فيها الشيخ اإلبراهيمي نشاطه‬
‫اإلصالحي بعد عودته من احلجاز‪ ،‬وغادرها بعد ذلك ميؤسا منها‪،‬‬
‫حتدث عن فضائ هذا العامل اجللي ‪-‬الذي أجنبته تلك املنطقة‪ -‬على‬
‫العم الدعوي واإلصالحي يف اجلزائر‪.‬‬

‫وكتب الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي عدة مرات عن الشيخ ابن‬


‫فصوره أحسن تصوير مربيا ومفسرا وفقيها وأديبا وصحافيا‪،‬‬
‫باديس ّ‬
‫وقال عنه أنه مجع من صفات العظمة نادرا ما جتتمع يف وخص‬
‫واحد‪.‬‬

‫وقارنه كذلك بأعظم الشخصيات التارخيية قدميا وحديثا‪ ،‬فقال يف هذا‬


‫الشأن‪ " :‬عبد احلميد بن باديس عظيم بأكم ما تعطيه هذه الكلمة‬
‫من معىن‪ ،‬فهو عظيم يف علمه‪ ،‬عظيم يف أعماله‪ ،‬عظيم يف بيانه وقوة‬
‫حجته‪ ،‬عظيم يف تربيته وتثقيفه جلي كام ‪ ،‬عظيم يف مواقفه من‬
‫املألوف الذي صريه السكوت دينا‪ ،‬ومن املخوف الذي صريه اخلضو‬

‫‪11‬‬
‫إهلا‪ ،‬عظيم يف بنائه وهدمه‪ ،‬عظيم يف حربه ويف سلمه‪ ،‬عظيم يف‬
‫‪4‬‬
‫اعتزازه بإخوانه‪ ،‬ووفائه هلم‪ ،‬وعرفانه ألقدارهم‪".‬‬

‫وكان الشيخ اإلبراهيمي عطوفا على ابن باديس ومشفقا عليه لكثرة‬
‫أعماله‪ ،‬وحصر علمه يف اجلزائر‪.‬‬

‫لقد اقرتح عليه اإلبراهيمي مرة أن ينقص األعباء على نفسه‪ ،‬وأوار‬
‫لريوح عن نفسه‪،‬‬‫إليه مرة أخرى إىل السياحة يف العامل اإلسالمي ّ‬
‫ويتعرف عليه املسلمون ويستفيدوا من علمه الغزير ألنه ليس عدال أن‬
‫تبقى جهوده حمصورة يف اجلزائر وهو عامل يفوق علمه وفكره كثريا من‬
‫األمساء املعروفة يف عامل الدين والعلم‪.‬‬

‫أما ابن باديس فإنه كان جييبه دائما بأن قلبه معلق بتعليم أبناء اجلزائر‬
‫الفقراء ومشغول بإحياء الدين يف هذا البلد الذي يتعرض لك أنوا‬
‫اهلدم احلضاري‪.‬‬

‫ولقد تعرض الشيخ اإلبراهيمي ملضايقات عديدة من طرف السلطة‬


‫االستعمارية وعمالئها حىت ضاقت به األرض أحيانا‪ ،‬وفكر يف‬

‫‪4‬اإلبراهيمي‪ .‬ذكرى عبد احلميد بن باديس‪ .‬البصائر‪ ،‬العدد ‪ 07 ،020‬أفري ‪،0120‬‬


‫‪.0‬‬

‫‪12‬‬
‫االستقالة من رئاسة مجعية العلماء يف سنة ‪ 0111‬واهلجرة إىل املشرق‬
‫‪5‬‬
‫العر ي‬

‫ومل يستطع أحد أن يقنعه بالتخلي عن هذه الفكرة إال أحد تالمذة‬
‫ابن باديس الذي ذكره بتضحيات هذا األخري‪ ،‬وما أصابه من سوء يف‬
‫سبي الدعوة واإلصالح وهو ابن أكرب األسر الغنية يف البالد‪.‬‬

‫لقد كان ابن باديس قادرا على أن يعيش يف الرخاء غري أنه ضحى‬
‫مباله ونفسه من أج أن يتحقق مشرو مجعية العلماء‪ ،‬واليت أصبحت‬
‫أمانة يف أعناق أصدقائه وتالمذته‪ ،‬وتراجعها أو موهتا هو خيانة‬
‫لإلسالم والعربية والوطن‪ ،‬وهو عند اهلل إمث عظيم‪ .‬ذلك هو تأثري‬
‫اإلمام ابن باديس حيا وميتا‪.‬‬

‫آخر رسالة من ابن باديس إلى اإلبراييمي‪:‬‬

‫رفضت مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني مساندة احلكومة الفرنسية يف‬


‫حرهبا مع أملانيا‪ ،‬ألهنا تعتربها حربا بني القوى االستعمارية الكربى‬

‫‪5‬البصائر‪ ،‬العدد ‪ 8 ،388‬أكتوبر ‪.0121‬‬

‫‪13‬‬
‫وليست صراعا بني احلق والباط ‪ ،‬أو نزاعا بني اخلري والشر‪ ،‬و ال‬
‫تسعى إىل حترير الشعوب ونصرة الضعفاء‪.‬‬

‫واعتربت السلطة الفرنسية هذا املوقف احملايد احنيازا إىل أملانيا اليت‬
‫وجدت دعما قويا من قادة اإلصالح يف العامل العر ي الواثقني بوعود‬
‫الدعاية األملانية أو املؤمنني مبنطق "عدو العدو صديق"‪.‬‬

‫كان رد السلطة االستعمارية عنيفا جتاه مجعية العلماء‪ ،‬ففرضت‬


‫اإلقامة اجلربية على الشيخ ابن باديس يف قسنطينة‪ ،‬ونفت الشيخ‬
‫اإلبراهيمي من تلمسان إىل بلدة آفلو مبنطقة األغواط‪ ،‬فأمضى فيها‬
‫ثالثة أعوام‪.‬‬

‫وملا مسع الشيخ ابن باديس هبذا اخلرب وهو على فراش املرض‪ ،‬وقب‬
‫موته بأربعة أيام‪ ،‬أرس رسالة إىل صديقه يعرب من خالهلا عن تضامنه‬
‫معه يف حمنته‪ ،‬ويرفع من معنوياته‪ ،‬وخيفف عنه ثق الغربة والوحدة يف‬
‫هذه القرية النائية‪ ،‬ويؤكد له على الوفاء بالصداقة والنصرة لألخوة‪.‬‬

‫وقد جاء يف هذه الرسالة بعد الديباجة‪ " :‬فقد بلغين موقفكم الشريف‬
‫اجللي العادل‪ ،‬فألقول لكم‪ :‬اآلن يا عمر‪ .‬فقد صنت العلوم والدين‪،‬‬
‫صانك اهلل‪ ،‬وحفظك يف تركتك‪ ،‬وعظمتهما عظم اهلل قدرك يف الدنيا‬

‫‪14‬‬
‫واآلخرة‪ .‬وأعززهتا أعزك اهلل أمام التاريخ الصادق‪ ،‬وبيضت حمياها‬
‫‪6‬‬
‫بيض اهلل حمياك يوم القيامة‪ ،‬وثبتك على الصراط املستقيم‪"...‬‬

‫رثاء اإلبراييمي البن باديس‪:‬‬

‫مل مير أسبو على نفيه إىل بلدة آفلو حىت يفجع الشيخ اإلبراهيمي‬
‫بوفاة صديق دربه الشيخ ابن باديس‪ .‬فحزن حزنا وديدا على هذا‬
‫الفراق املفاجئ يف ذلك الظرف العصيب‪.‬‬

‫وحزن الشيخ اإلبراهيمي أيضا ألنه مل يسمح له باحلضور إىل جنازته‬


‫يف قسنطينة‪ .‬ورغم ك هذا مل ينس أسرة مجعية العلماء فأرس إليها‬
‫رسالة تعزية تتدفق حزنا ومرارة وأملا على فقدان الشيخ الرئيس‪.‬‬

‫وجاءت رسالته عل ى وك قصيدة حوارية يف عشرين بيتا يسأل من‬


‫خالهلا نفسه مث جييب عنها‪ ،‬وأذكر منها هنا األبيات التالية‪:‬‬

‫لصروف الدهر يف اليوم العصيب‬ ‫أين يا أخت احلسام املنتضى‬

‫‪6‬أمحد قصيبة‪ .‬الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي يف منفاه مبدينة آفلو‪ .‬جملة الثقافة (اجلزائر)‪،‬‬
‫‪.381‬‬ ‫العدد ‪ ،86‬ماي‪-‬جوان ‪،0182‬‬

‫‪15‬‬
‫ذو البيان احلر والرأي املصيب‬ ‫أين يا أخت اإلمام املرتضى‬

‫يرحض األحمال بالفكر اخلصيب‬ ‫أين من إن أحم الفكر مضى‬

‫فقضى‪ ،‬مل يرض بالدنيا نصيب‬ ‫جاءه احملتوم من صرف القضا‬

‫فارس احللبة كشاف الكرب‬ ‫أين يا أخت هالل الداجيه‬

‫وي قومي إن توارى أو غرب‬ ‫كان نورا يف اللي الساجيه‬

‫و أمني اهلل عن جمد العرب‬ ‫أين يا أخت إمام الناجيه‬


‫‪7‬‬
‫ومتلت حظها منه الرتب‬ ‫حرمت منه النفوس الراجيه‬

‫كما كتب الشيخ اإلبراهيمي مقامة يف رثاء الشيخ ابن باديس تعرب‬
‫عن قمة الوفاء بالصداقة واإلخوة‪ ،‬واالعرتاف بالفض والتقدير لعظمة‬
‫الرجال يف حياهتم ومماهتم‪.‬‬

‫وقد ألف هذه املقامة مبناسبة مرور عام على وفاة ابن باديس عنواهنا‪:‬‬
‫« مناجاة مبتورة لدواعي الضرورة" وكان أكثر العبارات اليت أثرت يف‬
‫نفسي حىت اقشعرت هلا هذه الكلمات القوية‪" :‬يا قرب‪ ،‬أتدري من‬

‫‪.381‬‬ ‫‪7‬قصيبة‪ ،‬املصدر السابق‪،‬‬

‫‪16‬‬
‫حويت؟ وعلى أي اجلواهر احتويت؟ إنك احتويت على أمة يف‬
‫‪8‬‬
‫رمة»‪.‬‬

‫ومبناسبة الذكرى احلادية عشر لوفاة ابن باديس‪ ،‬قال الشيخ‬


‫اإلبراهيمي أن مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني بقيت على العهد‪،‬‬
‫مسرتودة بتوجيهات رئيسها األول‪ ،‬وحمافظة على فلسفتها اليت‬
‫سطرها هلا من أول يوم أسست فيه‪ ،‬سالكة طريق التنوير والتحرير‬
‫حبزم وتضحية‪ ،‬وهي متفائلة باملستقب وحكم التاريخ على رجاهلا‬
‫املخلصني وعلى رأسهم ابن باديس‪.‬‬

‫وقال الشيخ اإلبراهيمي يف هذا السياق‪ « :‬إن هذه النهضة اليت مل‬
‫تزل يف تباوريها‪ ،‬ستمد مدها حىت تصبح تارخيا حافال‪ ،‬وستنشئ‬
‫بنفسها مؤرخها املنصف‪ ،‬ويومئذ يضطر ذلك املؤرخ إىل إرجا‬
‫العناصر إىل أصوهلا‪ ،‬فيجد عبد احلميد بن باديس واضع األس‬
‫‪9‬‬
‫واحلجر»‪.‬‬

‫‪.726‬‬ ‫‪8‬حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬عيون البصائر‪ .‬دار األمة‪ ،‬اجلزائر‪،3116 ،‬‬
‫‪.787‬‬ ‫‪9‬املرجع السابق‪،‬‬

‫‪17‬‬
‫وصدق الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي‪ ،‬فقد سخر اهلل جلمعية العلماء‬
‫مؤرخني جزائريني وأجانب منصفني فأنصفوا نضاهلا‪ ،‬وقدروا حق ابن‬
‫باديس تقديرا‪ ،‬فأبرزوا بصماته اليت ستبقى دائما منقووة يف سج‬
‫التاريخ‪.‬‬

‫‪18‬‬
‫بين مصلحين‪ :‬عبد الحميد بن باديس والطيب العقبي‬

‫من األخطاء التارخيية املتداولة عند بعض الكتاب والباحثني قوهلم أن‬
‫الشيخ الطيب العقيب قاطع صديقه الشيخ عبد احلميد بن باديس يف‬
‫عام ‪ 0128‬بعد انسحابه من مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني‪،‬‬
‫ومات وهو غضبان عليه‪.‬‬

‫وهذا الرأي ال أساس له من الصحة‪ ،‬ومن األدلة على ذلك مقال كتبه‬
‫الشيخ العقيب غداة وفاة ابن باديس يف ‪ 07‬أبري ‪ ،0111‬والذي‬
‫نتطرق إليه الحقا‪.‬‬

‫جريدة "اإلصَّلح" في سطور‪:‬‬

‫نشر الشيخ الطيب العقيب ذلك املقال يف جريدة "اإلصالح" يف‬


‫عددها ‪ ،32‬الصادر يف ‪ 8‬ماي ‪ ،0111‬يف الصفحة األوىل‪ .‬وقد‬
‫أصدر الشيخ العقيب هذه اجلريدة اإلصالحية يف ‪ 8‬سبتمرب ‪0136‬‬
‫مبدينة بسكرة‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫وتوقفت اجلريدة عدة مرات ألسباب مطبعية ومالية وإدارية‪ ،‬وظهرت‬
‫للمرة الرابعة مبدينة اجلزائر يف ‪ 01‬أبري ‪ ،0116‬مث توقفت هنائيا يف‬
‫‪10‬‬
‫‪ 2‬مارس ‪ 0118‬بعدما صدر منها ‪ 62‬عددا‪.‬‬

‫وقد ساهم يف حتريرها عرب مراحلها املختلفة العديد من الكتاب‬


‫اجلزائريني‪ ،‬أذكر منهم‪ :‬مبارك امليلي‪ ،‬أبو يعلى الزواوي‪ ،‬حممد السعيد‬
‫الزاهري‪ ،‬حممد العيد‪ ،‬أمحد توفيق املدين‪ ،‬األمني العمودي‪ ،‬حممد‬
‫اهلادي السنوسي‪ ،‬وأبو بكر جابر‪ ،‬وغريهم‪ .‬كما فتحت اجلريدة‬
‫صفحاهتا لكتاب من املغرب وتونس‪.‬‬

‫أما موضوعاهتا فهي متنوعة بني القضايا الدينية والكتابات األدبية‬


‫والدراسات االجتماعية واملسائ السياسية‪ .‬وكانت تنق أيضا من‬
‫حني إىل آخر مقاالت مقتبسة من اجلرائد واجملالت العربية املرموقة اليت‬
‫يصعب على القراء اجلزائريني الوصول إليها‪.‬‬

‫أغتنم هنا ذكرى وفاة ابن باديس لنشر هذا النص كما هو رغم بعض‬
‫الكلمات اليت ميكن أن يتحفظ عليها بعض رجال اإلصالح أو‬
‫يعارضها بعض الباحثني‪ ،‬وغاييت هي اإلسهام يف وضع العالقة بني‬

‫‪10‬عن تاريخ هذه اجلريدة‪ ،‬راجع‪ :‬الصحف العربية اجلزائرية من ‪ 0816‬إىل ‪.0121‬‬

‫اجلزائر‪ ،‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪.0181 ،‬‬

‫‪20‬‬
‫الرجلني يف مكاهنا املناسب دون إمهال ذكر اختالف وجهات نظرمها‬
‫عرب النص‬
‫جتاه بعض القضايا اليت مل تفسد الود بني املصلحني‪ .‬كما ّ‬
‫عن روح ذلك العصر الذي خاضت خالله الفكرة اإلصالحية معارك‬
‫على جبهات خمتلفة بوسائ وإمكانات حمدودة‪ ،‬وأثرت على بعض‬
‫املصلحني تأثريا كبريا مث الشيخ العقيب‪11‬والشيخ حممد السعيد‬
‫الزاهري‪.‬‬

‫العقبي يكتب حول ابن باديس‪:‬‬

‫«وردت علينا وال زالت ترد التعازي الكثرية (وفاهية وبرقية وكتابية)‬
‫من اإلخوان املصلحني يف داخ القطر وخارجه؛ وتقدم لنا بالتعزية‬
‫أيضا إخوان آخرون حىت من غري املسلمني!‬

‫وما كان ذلك منهم إال ملا يعلمونه من الصلة املتينة والرابطة القوية اليت‬
‫بيننا وبني الفقيد العزيز‪ -‬رغم ك ما قي وما عسى أن يقال‪ -‬وقد‬
‫أدرك اجلميع أن أعرف الناس مبقام األستاذ وفضله غنما هم إخوانه يف‬
‫الفكرة اإلصالحية؛ ومبادئ مجعية العلماء اليت هي مبادئ اإلسالم‬
‫الصحيح؛ وعقيدة احلق اخلالدة؛ ويف مقدمتهم ومن أوفاهم إلخوان‬

‫‪11‬عن خروج الشيخ العقيب من مجعية العلماء‪ ،‬أنظر‪ :‬أمحد مريوش‪ .‬الشيخ الطيب العقيب‬
‫ودوره يف احلركة الوطنية اجلزائرية‪ .‬دار هومة‪ ،‬اجلزائر‪.3103 ،‬‬

‫‪21‬‬
‫يتوجه‬
‫وأرعاهم للعهد‪-‬وال فخر‪ -‬صاحب هذه اجلريدة فال غرو أن ّ‬
‫إليه الكثري من املصلحني الذين عرفوه هبذه الصفة‪-‬صفة الوفاء ورعاية‬
‫العهد‪ -‬بتعزيتهم له يف هذا املصاب اجلل واخلطب الذي آمله وأثر‬
‫عليه بأكثر مما أثر يف نفسه وآمله أي مصاب من قبله‪.‬‬

‫ومن من الناس يستطيع التفرقة بني قلوب أولياء اهلل وأنصار احلق؛‬
‫تلك القلوب اليت اجتمعت عليه واتفقت على حمبة دينه واإلميان به؟‬
‫وما مجعته يد اهلل ال تفرقه يد الشيطان كما كان يقول الفقيد نفسه‪.‬‬
‫ومن هو الذي يقدر أن ينسينا عهد صداقة وحمبة لسبع عشرة سنة‬
‫كانت هلل ويف اهلل؟!‬

‫ال ! ال أحد يقدر على ذلك سيما بني العلماء املصلحني وهم هم‬
‫إخوان الصفاء؛ أخدان الصدق والوفاء؛ كلما حصحص احلق؛ وجتلى‬
‫للعيان موقف االمتحان والصدق؛ ذلك ألهنم على حب اهلل ورسوله‬
‫اجتمعوا؛ ويف توحيد اهلل احتدت قلوهبم؛ وما اجتمعوا وال تفرقوا؛ وال‬
‫اتفقوا يف الرأي وال اختلفوا؛ إال وهم ك امرئ منهم وغرضه الوحيد‬
‫إمنا هو حب اخلري واحلر عليه والعم على نفع العموم والتعاون‬
‫على الرب والتقوى؛ والتفكر يف إصالح ما أفسد الناس يف هذا اجملتمع‬
‫اجلزائري احلزين البئيس‪...‬‬

‫‪22‬‬
‫فحق ملن عرفنا مببادئ احلق والصدق هذه وعرف األستاذ ابن باديس‬
‫رئيسا جلمعية العلماء اليت لقينا يف سبيلها وسبي التضامن مع رئيسها‬
‫وك مرؤوسيها ما مل يلقه غرينا أن يعتربنا من أوىل الناس به وأوهلم يف‬
‫تلقي التعزية مبصابه العظيم؛ ورزئه األليم؛ وأن يقدر قدر حزننا العميق‬
‫احملرق على موت األستاذ وفقده‪.‬‬

‫وحق لنا أن نأمل أكثر مما أملنا؛ ونأسى ونأسف أكثر مما أسفنا وحزنا؛‬
‫فقد ج اخلطب وعظم مصاب املصلحني بفقده‪ .‬ولكن ما احليلة‬
‫فيما ال حيلة فيه؟ ومن ذا الذي يرد قضاء اهلل احملتم إن دمهه؛ ومصيبة‬
‫املوت إذا هي فاجأته؟! واهلل يقول لسيد اخللق وأورف العباد‪ :‬ال إله‬
‫إال اهلل احلليم الكرمي؛ ال إله إال اهلل رب العرش العظيم‪ .‬سبحان اهلل‬
‫وحبمده‪ ،‬سبحان اهلل العظيم‪.‬‬

‫إن موت األستاذ عبد احلميد بن باديس ليس حبادث جزائري فقط ب‬
‫هو يف نظرنا ونظر ك من يقدر للشخصيات قدرها‪ ،‬ويعرف قيمة‬
‫الرجال حادث إسالمي عاملي‪ ،‬وال نرى مبالغة يف املقارنة بني فقيدنا‬
‫وفقيد الشرق الشيخ رويد رضا رمحهما اهلل لوال أن مصر غنية بالرجال‬
‫وبالدنا فقرية جدا‪ ،‬وجد فقرية من الرجال!‬

‫‪23‬‬
‫مبوته نكب العلم؛ نكب اإلسالم؛ نكبت اجلزائر اليت كانت علقت‬
‫على علمه الصحيح وعمله النافع أمج اآلمال ورزئت فيه وقت‬
‫طمعها يف قرب حتقق تلك اآلمال‪ ...‬لقد كان لوقع نبأ وفاته يف‬
‫نفوس كافة املصلحني هبذه الديار ما يعلم مقداره وأثره ك من ميت‬
‫إىل اإلصالح واملصلحني بسبب‪.‬‬

‫وإذا كان حضور اجلنازة ورعا إمنا هو فرض كفاية فقد رآه أو كاد يراه‬
‫املصلحون باجلزائر فرض عني عليهم‪ ،‬ولقد أسفنا كثريا لتعذر أداء‬
‫ذلك الواجب وإىل اهلل املشتكى‪ .‬فاكتفينا اكتفاء العاجز املستسلم‬
‫للقدر بإرسال برقية عزاء إىل اإلخوان والتالميذ بقسنطينة وإن كنا‬
‫حنسب أنفسنا أوىل أو من أوىل الناس بتلقي مراسم التعزية واملشاركة‬
‫بالقسط األوفر يف هذا املصاب‪ ،‬مث كتبنا يف العدد األخري من اجلريدة‬
‫النزر الذي تيسر لنا حتريره ونشره يف موضو جدير بأن تكتب فيه ال‬
‫املقاالت الضافية فقط ب األسفار واجمللدات؛ وأورنا إىل استعدادنا ‪-‬‬
‫وال فض وال منة لنا على أحد‪ -‬إلدراج ك ما يرد علينا يف ترمجة‬
‫الفقيد العزيز ووصف موكب جنازته وغري ذلك‪.‬‬

‫كتبنا ما كتبنا وانتظرنا‪ .‬انتظرنا ما يقرب من األسبوعني ومل نتص من‬


‫اإلخوان الكثريين القاطنني بتلك النواحي بشيء ذي بال يف‬
‫املوضو ‪...‬فأخذ منا العجب مأخذه سيما من اإلخوان األفاض‬
‫‪24‬‬
‫أقطاب احلركة اإلصالحية وأساطني مجعية العلماء اليت ضربت يف‬
‫الصميم مبوت رئيسها املوقر‪ .‬كيف مل يكتبوا ومل جيد أحد منهم بنفثة‬
‫قلم؟! وال ندري ه هذا قصور منهم أم تقصري؟ فإن كان األول فال‬
‫ميكننا أن نعلله إال بالضعف والفتور اللذين اعرتيا اإلخوان على أثر‬
‫احلادث اجلل ‪ .‬ونتمىن ونأم أن يزوال عنهما يف أقرب مدة وأن‬
‫يسرتدوا قواهم البدنية والفكرية ويكتبوا ما نعدهم وعدا صادقا جديدا‬
‫بنشره قياما بواجب اعتربناه أمس ونعتربه اليوم واجبا رغم قصور‬
‫اجلماعة "املؤقت"‪ .‬وإن كان الثاين (التقصري) فإننا نك للمستقب أمر‬
‫توضيح أسبابه وكشف الغطاء عن علته احلقيقية واملستقب كشاف‪.‬‬

‫مات ابن باديس ودفن مبكيا مأسوفا عليه؛ فلتمت ولتدفن ال مبكية‬
‫وال مأسوفا عليها حفائظ وحزازات وأحقاد كونتها أغراض وخصية‬
‫ومقاصد سيئة ملن يلذ هلم دائما االصطياد يف املاء العكر؛ وليتقوا اهلل‬
‫يف أنفسهم ويف إخواهنم املسلمني الذين هم يف هذا الوقت أحوج ما‬
‫يكونون إىل اإلحتاد واالتفاق ومجع الكلمة‪ ،‬وليعلموا أن بالدنا الفقرية‬
‫من الرجال العاملني كلما فقد منها رج من رجاهلا القليلني تفقد معه‬
‫ناحية من الكمال ال يقدر غريه على تعويضها؛ وسد الفراغ الذي‬
‫يرتك من وراء فقدها‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وبعد هذا كله فلينته املرجفون يف املدن والقرى عن أراجيفهم وباطلهم‬
‫وليعلموا أنا وهم ميتون؛ وإنا إىل اهلل مجيعا راجعون!!»‪ 12‬انتهى‪.‬‬

‫كلمات على يامش المتن‪:‬‬

‫مل يقتصر الشيخ الطيب العقيب على نشر هذا املقال حول صاحبه يف‬
‫دروب الدعوة واإلرواد اإلمام ابن باديس‪ ،‬فقد خصص صفحات من‬
‫جريدته "اإلصالح" لنشر مقاالت حول " أثر فاجعة األستاذ عبد‬
‫احلميد يف نفوس املصلحني" على حسب تعبريه‪.‬‬

‫كما دعا الشيخ العقيب أصدقاء اإلمام ابن باديس وتالمذته إىل «أن‬
‫خيلدوا الراح الكرمي بسفر تذكر فيه ك نواحي حياته وحتل فيه‬
‫نفسيته وتسج فيه كلماته املأثورة ومجله ووصاياه املنقولة؛ وما ترك‬
‫وخلف من تراث علمي وأثر أد ي»‪.‬‬

‫ولقد جاءت هذه الدعوة لالستكتاب يف الفرتة اليت توقفت فيه ك‬


‫اجلرائد العربية آنذاك بسبب أحداث احلرب العاملية الثانية‪.‬‬

‫‪.0‬‬ ‫‪12‬اإلصالح‪ ،‬العدد ‪ 8 ،32‬ماي ‪،0111‬‬

‫‪26‬‬
‫ال وك أن الشيخ العقيب كان يسعى من وراء ك ذلك إىل التأكيد‬
‫على صفة الوفاء للصديق ورعاية العهد لألخ‪ ،‬والرد الصريح على ك‬
‫الذين عاتبوه على عدم حضور جنازته وتأويلها تأويالت خاطئة‪.‬‬

‫ويف هذا السياق نشر رسالة أرسلها إليه الشيخ محزة بوكووة‪13،‬وعلّق‬
‫وبرر غيابه بعدم مساح سلطة االحتالل‬ ‫عليها مباورة لرفع اللبس‪ّ ،‬‬
‫مبغادرته اجلزائر العاصمة‪ ،‬ومنعه من التنق إىل مدينة قسنطينة حلضور‬
‫جنازة الشيخ ابن باديس‪.‬‬

‫مل يكن ذلك املقال املنشور يف ‪ 8‬ماي ‪ 0111‬وليد حلظة عاطفية‬


‫تأثر خالهلا الشيخ العقيب بفراق صديقه مث نسيه بعد ذلك‪ ،‬ب واص‬
‫فيما بعد نشر مقاالت هلا صلة بابن باديس حررها كتاب‬
‫‪14‬‬
‫جزائريون‪.‬‬

‫كما نشر أيضا يف عام ‪ 0116‬بعض رسائ التعزية اليت وصلته من‬
‫املشرق العر ي يف عام ‪ ،0111‬لكن إدارة االحتالل منعته من نشرها‬
‫حينئذ يف جريدة "اإلصالح"‪ ،‬فاحتفظ هبا ‪ 6‬سنوات‪ ،‬وملا حتص‬

‫‪13‬نفس املصدر‪.‬‬
‫‪14‬أمحد توفيق املدين‪ .‬الذكرى السابعة لوفاة فقيد اإلسالم والعروبة والوطن‪ :‬األستاذ الشيخ‬
‫‪.2‬‬ ‫عبد احلميد بن باديس‪ .‬اإلصالح‪ ،‬العدد ‪ 0 ،16‬ماي ‪،0116‬‬

‫‪27‬‬
‫على رخصة إعادة إصدار جريدته بعد هناية احلرب العاملية الثانية بادر‬
‫بنشرها أداء لألمانة وختليدا لذكرى الشيخ ابن باديس الذي أوادت‬
‫أيضا بعظمته وخصيات عربية مرموقة‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫عبد الحميد بن باديس كما عرفه‬
‫محمد الفاضل ابن عاشور‬

‫يف زياريت العلمية إىل املغرب األقصى يف وهر سبتمرب ‪،3102‬‬


‫اطلعت على ك أعداد جملة "العبقرية" اليت كان يصدرها الشيخ عبد‬
‫الوهاب بن منصور يف مدينة تلمسان يف عام ‪.0116‬‬

‫وصورت منها ما استطعت تصويره من صفحات‪ ،‬ومنها مقالة للشيخ‬


‫ّ‬
‫حممد الفاض ابن عاوور‪ ،‬وهي يف األص متث نص اخلطاب الذي‬
‫ألقاه هذا العامل الزيتوين الشهري يف اجمللس االحتفايل بالذكرى السابعة‬
‫لوفاة الشيخ عبد احلميد بن باديس بتونس يف عام ‪.0116‬‬

‫ومن املفيد أن أذكر هنا أنه "خالل مخس عشرة سنة من وفاة ابن‬
‫باديس أحيا التونسيون تارة مبفردهم‪ ،‬وطورا مبشاركة املهاجرين‬

‫‪29‬‬
‫اجلزائريني إىل تونس سبع مناسبات لتكرميه بداية من سنة ‪0117‬‬
‫‪15‬‬
‫وحىت سنة ‪."0122‬‬

‫إن أحدا من الدارسني لنشاطات اإلمام ابن باديس يف تونس‪ 16‬أو‬


‫املشتغلني على أعمال الشيخ حممد الفاض ابن عاوور‪ ،‬مل يذكر هذا‬
‫النص رغم قيمته التارخيية واألدبية‪.‬‬

‫وحينئذ رأيت ضرورة نشره حىت يستفيد منه الباحثون يف العالقات‬


‫الثقافية بني اجلزائر وتونس‪ .‬وقب ذلك‪ ،‬من املناسب أن أقدم نبذة‬
‫تعريفية خمتصرة حول جملة "العبقرية" املغمورة وصاحبها‪.‬‬

‫وأما الشيخان ابن باديس وابن عاوور‪ ،‬فهما غنيان عن التعريف فال‬
‫داعي هنا لسرد ترمجة ك واحد منهما‪.‬‬

‫‪15‬حممد الصاحل اجلابري‪ .‬التواص الثقايف بني اجلزائر وتونس‪ .‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪.8 ،0111‬‬
‫‪16‬عبد الرزاق توميات‪ .‬رحالت اإلمام عبد احلميد بن باديس إىل تونس وفرنسا ‪-0118‬‬
‫‪ .0128‬رسالة املاجستري يف التاريخ املعاصر‪ ،‬جامعة اجلزائر ‪ ،3101 ،3‬إوراف أد‪ .‬مولود‬
‫عومير؛ خري الدين ورتة‪ .‬الطلبة اجلزائريون جبامع الزيتونة ‪ .0127-0111‬دار البصائر‪،‬‬
‫‪ ،3111‬ج ‪ 0‬و ج‪ .3‬حممد الصاحل اجلابري‪ .‬النشاط الفكري للمهاجرين اجلزائريني بتونس‬
‫‪ .0173-0111‬الدار العربية للكتاب‪ -‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬تونس‪-‬اجلزائر‪،‬‬
‫‪.0182‬‬

‫‪30‬‬
‫مجلة العبقرية وصاحبها في سطور‪:‬‬

‫أسس الشيخ عبد الوهاب بن منصور جملة العبقرية يف مدينة تلمسان‬


‫يف ماي ‪ .0116‬وصدر منها ‪ 2‬أعداد وليس ‪ 2‬كما ذكر البحاثة‬
‫الدكتور عبد امللك مرتاض يف كتابه القيم‪" :‬أدب املقاومة والوطنية يف‬
‫اجلزائر (‪ 17.)0173-0821‬اجمللة صغرية احلجم وتقع يف ‪23‬‬
‫صفحة‪ ،‬وترقيمها متواص لك عدد من أوله إىل آخر عدد‪ ،‬وتارخيها‬
‫حمسوب فقط بالتاريخ اهلجري‪.‬‬

‫وعنوان مقرها كما هو مسج يف الصفحة الداخلية للغالف هو‪:‬‬


‫صندوق الربيد ‪ ،88‬تلمسان‪ ،‬اجلزائر‪ .‬ورغم أن اجمللة تطبع يف‬
‫تلمسان إال أهنا تبا يف كثري من املدن اجلزائرية والتونسية‪ ،‬وكذلك يف‬
‫‪18‬‬
‫املدن املغربية كالرباط وفاس ومكناس وطنجة‪.‬‬

‫وساهم يف حتريرها خنبة من الكتاب‪ ،‬أذكر منهم‪ :‬حممد الصاحل‬


‫رمضان‪ ،‬أبو مدين الشافعي‪ ،‬والكتاب املغاربة عبد اهلل كنون وعبد‬
‫القادر مقدم وإبراهيم األلفي السوسي‪ ،‬والشاعر التونسي مصطفى‬

‫‪17‬عبد امللك مرتاض‪ .‬أدب املقاومة والوطنية يف اجلزائر (‪ .)0173-0821‬منشورات املركز‬


‫الوطين لتاريخ احلركة الوطنية‪ ،‬اجلزائر‪.383 ،3112 ،‬‬
‫‪.62‬‬ ‫‪18‬العبقرية‪ ،‬العدد ‪ ،2‬وعبان ‪ 0277‬هـ‪،‬‬

‫‪31‬‬
‫خريف والعامل التونسي نور الدين بن حممود‪..... ،‬اخل‪ .‬وكانت هتتم‬
‫باألدب والعلوم والفنون‪ ،‬وتنق أخبارا ثقافية حملية ودولية وتعىن بعرض‬
‫الكتب‪.‬‬

‫وكانت العبقرية تقتبس مقاالت لبعض الكتاب اجلزائريني والعرب‪،‬‬


‫منها املقالة املتسلسلة للشيخ عبد احلميد بن باديس حول العقيدة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬واليت نشرها تلميذه حممد الصاحل رمضان بعد استقالل‬
‫اجلزائر‪ ،‬أو مقاالت الكاتبني املصريني حممد عبده عزام وعلي حافظ‬
‫‪19‬‬
‫املنشورة يف جملة "الكاتب املصري"‪.‬‬

‫كما ترمجت العبقرية الدراسة اليت أعدها األستاذ رونيه باسيه حول‬
‫‪20‬‬
‫"مصادر كتاب "سلوة األنفاس"‪ ،‬ونشرهتا يف العدد اخلامس‪.‬‬

‫أما صاحب اجمللة‪ ،‬الشيخ عبد الوهاب بن منصور فإنه ولد يوم ‪06‬‬
‫نوفمرب ‪ 0131‬مبدينة فاس‪ ،‬وتويف يف مدينة الرباط يوم ‪ 03‬نوفمرب‬
‫‪ .3118‬نال وهادة اإلجازة يف الدراسات اإلسالمية من جامع‬
‫القرويني بفاس‪ ،‬واخنرط مبكرا يف العم السياسي الوطين‪ .‬انتق إىل‬
‫اجلزائر واتص جبمعية العلماء املسلمني اجلزائريني اليت كلفته بإدارة‬

‫‪.021-022‬‬ ‫‪19‬العبقرية‪ ،‬العدد ‪ ،2‬ووال ‪ 0277‬هـ‪،‬‬


‫‪.012-010‬‬ ‫‪20‬املصدر السابق‪،‬‬

‫‪32‬‬
‫مدرسة ندرومة‪ .‬ووارك يف نشاطها الثقايف والدعوي‪ ،‬وكتب مقاالت‬
‫نقدية وأدبية وتارخيية يف جريدهتا اإلصالحية "البصائر"‪.‬‬

‫وبعد استقالل املغرب يف عام ‪ ،0127‬عاد الشيخ بن منصور إىل‬


‫الرباط واوتغ أستاذا للتعليم الثانوي الرباط وسال‪ ،‬مث تقلد مناصب‬
‫إدارية سامية‪ :‬مدير عام لإلذاعة والتلفزيون‪ ،‬ورئيس للديوان امللكي‪،‬‬
‫ومدير الوثائق امللكية‪...‬‬

‫وله مؤلفات عديدة منها‪" :‬أعالم املغرب العر ي"‪ ،‬يف عدة أجزاء‪،‬‬
‫"مشكلة احلماية القنصلية باملغرب من نشأهتا إىل مؤمتر مدريد سنة‬
‫‪ ،"0881‬و"وقبائ املغرب"‪ ...‬وحقق كذلك العديد من كتب الرتاث‬
‫العر ي‪ ،‬أذكر هنا بعضا منها‪" :‬روضة اآلس العاطرة األنفاس يف ذكر‬
‫من لقيته من أعالم احلاضرتني مراكش وفاس" للمقري‪" ،‬أخبار‬
‫املهدي ابن تومرت وبداية دولة املوحدين" أل ي بكر ابن علي‬
‫الصنهاجي‪ ،‬و"مثلى الطريقة يف ذم الوثيقة" حملمد بن اخلطيب‬
‫‪21‬‬
‫السلماين‪...‬اخل‪.‬‬

‫‪21‬عن حياة الشيخ عبد الوهاب بن منصور‪ ،‬أنظر‪ :‬عبد اهلل اجلراري‪ .‬التأليف وهنضته‬
‫باملغرب يف القرن العشرين ‪ .0163-0111‬مكتبة املعارف‪ ،‬الرباط‪ ،0182 ،‬ج ‪،3‬‬
‫‪.101-106‬‬

‫‪33‬‬
‫حيثيات نص ابن عاشور‪:‬‬

‫نشرت جملة العبقرية نص خطاب الشيخ ابن عاوور يف العدد (‪،)2‬‬


‫الصادر يف وهر وعبان ‪0277‬هـ‪ ،‬واملوافق لـ جويلية ‪ ،0116‬يف‬
‫الصفحتني ‪ 61‬و‪ .81‬ورغم أن اجمللة مل تشر إىل اهليئة اليت نظمت‬
‫هذه احلفلة التكرميية للعامل اجلزائري ابن باديس‪ ،‬ومل حتدد مكان‬
‫انعقادها أو أمساء املشاركني يف فعالياهتا إال أن هنالك بعض القرائن‬
‫اليت تدفع إىل القول أن اهليئة املنظمة هي مجعية الطلبة الزيتونيني‬
‫اجلزائريني يف مركز مجعية الشبان املسلمني‪.‬‬

‫وجدير بالقول أن أذكر أن الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي أرس‬


‫رسالة إىل املشاركني يف تلك الندوة االحتفالية اليت حضرها خنبة من‬
‫العلماء التونسيني والطلبة اجلزائريني‪ .‬واجمللة نشرت رسالة الشيخ‬
‫اإلبراهيمي‪ ،‬وكذلك مداخلة الشيخ نور الدين بن حممود واليت عنواهنا‪:‬‬
‫" أسلوب ابن باديس"‪ ،‬سأعود إليهما حبول اهلل يف مناسبة أخرى‪.‬‬

‫العَّلقة بين ابن باديس وابن عاشور‪:‬‬

‫إذا كان ابن باديس قد درس على الشيخ حممد الطاهر ابن عاوور يف‬
‫جامع الزيتونة خالل وجوده يف تونس بني ‪0118‬و‪ ،0100‬فإنه مل‬
‫يكن يعرف يف تلك الفرتة ابنه حممد الفاض الذي كان يصغر ابن‬

‫‪34‬‬
‫باديس بعشرين سنة‪ .‬غري أن ابن باديس عاد مرات عديدة إىل تونس‬
‫والتقى أساتذته القدماء‪ ،‬وكذلك علماء الزيتونة املعروفني‪ ،‬ومنهم‬
‫الشيخ حممد الفاض الذي استقبله يف ماي ‪ 0126‬باجلمعية‬
‫اخللدونية ليقدم حماضرة حول األستاذ بشري صفر‪.‬‬

‫وال وك أهنما التقيا يف مناسبات أخرى حينما كان حممد الفاض‬


‫يزور اجلزائر أيام دراسته يف جامعة اجلزائر أو خالل مروره بالقطر‬
‫اجلزائري متجها إىل املغرب األقصى الذي زاره عدة مرات وقدم فيه‬
‫حماضرات عديدة‪ ،‬مجعها فيما بعد الباحث عبد الكرمي حممد حتت‬
‫عنوان‪" :‬حماضرات مغربيات"‪ .‬كما ساهم الشيخ ابن عاوور ببعض‬
‫املقاالت يف جملة "الشهاب" لصاحبها ابن باديس‪.‬‬

‫ومهما يكن عدد اللقاءات بني العاملني أو تنو طرق التواص الفكري‬
‫بينهما فإن عالقاهتما كانت دائما قوية ومتينة‪ ،‬جتسد روح الوحدة بني‬
‫البلدين‪ 22‬وأواصر احملبة بني الشعبني‪ ،‬وسريى القارئ للمقال التايل‬
‫دليال ساطعا على ذلك‪.‬‬

‫‪22‬عن الفكر الوحدوي عند الشيخ حممد الفاض بن عاوور‪ ،‬أنظر‪ :‬حممد علي الشتيوي‪.‬‬
‫الشيخ حممد الفاض بن عاوور والرهان املغار ي‪ .‬احلياة الثقافية‪ ،‬نوفمرب ‪،3101‬‬
‫‪.036-033‬‬

‫‪35‬‬
‫خطاب ابن عاشور‪:‬‬

‫«مل يكن من سابق أملي أن أحظي البدن هبذا الشرف العظيم‪ ،‬ورف‬
‫االورتاك باإلوادة بذكرى الزعيم اإلسالمي الشهري خالد الذكر‬
‫العالمة املرحوم الشيخ عبد احلميد بن باديس الصنهاجي القسنطيين‬
‫الزيتوين‪ ،‬فقد كان واجب أكيد يدعوين ألن أكون يف هذه الساعة‬
‫بعيدا عن احلاضرة ببالد اجلريد‪ ،‬ولكن ملا دعيت من طرف اإلخوان‬
‫اجلزائريني ألن أتكلم يف هذا اجملتمع املبارك الرهيب وعرت بأن واجب‬
‫اإلجابة إىل هذه الدعوة هو أوكد‪ ،‬كما أنه إذا وزن بواجب آخر‬
‫رجح‪ ،‬فقررت أن أبقى هنا ألخطب بني أيديكم وأن أرجئ الرحلة‬
‫اليت اعتزمت القيام هبا يف سبي الواجب‪.‬‬

‫وه من واجب على املسلم يف مشارق األرض ومغارهبا أوكد من‬


‫واجب الوقوف يف صف الشعب اجلزائري وتلبية الوطن اجلزائري كلما‬
‫دعا داعية فإن فض النهضة اجلزائرية على العامل اإلسالمي فض‬
‫عظيم وإن أثر الشيخ عبد احلميد بن باديس يف تلك النهضة أثر‬
‫إنشائي رئيسي‪.‬‬

‫وإن الذي يدرك أن العامل اإلسالمي من حبر طنجة ألرخبي الفلبني‬


‫هو جسم واحد متماسك األعضاء مثخن باجلراح‪ ،‬يستطيع أن يدرك‬

‫‪36‬‬
‫بوضوح أن ك جرح من اجلراح الدامية بذلك اجلسم إن أمه فسد‬
‫وتعفن واستقر فيه وكان من املستحي بعد ذلك أن يقف اهلالك عند‬
‫حد دون أن يطغى على اجلسد كله السيما إذا مل يكن هذا العضو‬
‫من األعضاء اليت ال يستطا قطعها‪.‬‬

‫لذلك كانت ك قضية من قضايا العامل اإلسالمي هي قضية اإلسالم‬


‫كله فليس موقفنا من أند ونسيا ومصر وفلسطني‪ 23‬موقف تضامن‬
‫ومعاضدة أخوية فحسب‪ ،‬ولكنه موقف الدفا عن الذات ورد لغائلة‬
‫اخلطر املهدد جلوهر احلياة‪ ،‬وما تكرمينا للشيخ عبد احلميد إال تكرمي‬
‫للفكرة العبقرية والنزعة اإلصالحية الفلسفية اليت دفعت به فريدا إىل‬
‫موقف إحياء التعاليم اإلسالمية يف وطن أووكت مشس اإلسالم أن‬
‫تتخلص يف ربوعه بعد مثانني عاما قضاها يف أغالل األسر‪ ،‬فإن وقع‬
‫املصيبة واستمرارها وطول أمدها وخيبة املصارعات الكربى اليت بذلت‬
‫كونت حول الشعب اجلزائري دائرة من‬
‫يف سبي اإلفالت من الغ قد ّ‬
‫التصورات املزعجة إن مل تزر فيه روح االستسالم واليأس‪ ،‬فقد زرعت‬
‫ّ‬

‫‪23‬عن اهتمامات الشيخ حممد الفاض بن عاوور عن القضية الفلسطينية‪ ،‬أنظر‪ :‬عمرية علية‬
‫الصغري‪ .‬الشيخ حممد الفاض ابن عاوور والقضية الفلسطينية‪ .‬يف كتاب‪ :‬الشيخ حممد‬
‫الفاض ابن عاوور وقضايا جتديد الفكر الديين وحتديث اجملتمعات اإلسالمية‪ .‬منشورات‬
‫‪.121-100‬‬ ‫وزارة الشؤون الدينية‪ ،‬تونس‪،3101 ،‬‬

‫‪37‬‬
‫فيه الذهول والسموم واالستلقاء حبر جارف التيار يف غفلة عن غايته‬
‫فأصبحت احلالة املفروضة على اجلزائر ال يطمئن إليها اجلزائريون‪،‬‬
‫ولكنهم يسريون معها‪ ،‬وال يسلمون هبا ولكنهم يتقبلوهنا‪ ،‬فكان ذلك‬
‫عرضا خطريا من عوارض اإلغفاء القليب‪ ،‬وكان يف حقيقة اجتماعية‬
‫حتول بني األمة وبني تفكري يف مصريها ألهنا فقدت وعور النفور من‬
‫احلاضر الذي هو أص النظر يف املستقب ‪.‬‬

‫فكان الذي راحت يف نفسه الدهشة واسرتعاه النفور جدير أن يعترب‬


‫يف منزلة ممتازة من منازل اإلدراك اإلنساين‪ ،‬هي منزلة الشعور العقلي‬
‫الذي يفوق حميط العوائد املسلمة وينفر من ك وضعية ويندهش يف‬
‫ك قضية اندهاوا يدفع به إىل تطلب عللها وبراهينها وقدميا قال‬
‫املعلم األول أرسطاطاليس‪" :‬إن الدهشة أول باعث يف الفلسفة"‪.‬‬

‫تلقى فقيدنا الشيخ عبد احلميد تعاليم اإلسالم‪ ،‬وتشرب روح العروبة‪،‬‬
‫فكانت روحه الفلسفية متوجهة حنو تسليط تلك التعاليم وهاتيك‬
‫الروح على ما بني جنبيه وجنيب عموم الشعب اجلزائري من حالة‬
‫الذهول عن الذات‪ ،‬واالنقطا عن تأثري تلك التعاليم الطاهرة‪ ،‬والروح‬
‫اإلنسانية‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫لقد كان يقول يف نفسه كما تلقى حقيقة جديدة يف اجلامعة الزيتونية‪،‬‬
‫هذه هي نفسي‪ ،‬وهذه حقيقتها ألين مسلم عر ي‪ ،‬وهذا أمر يشاركه‬
‫فيه ك أحد‪ ،‬ولكن الذي كان يزيد به هو على الناس هو تساؤله عن‬
‫حقيقة األمر الواقع ه هي كذلك أو ال؟ وه اجلزائريون يعتربون عند‬
‫أنفسهم وعند غريهم هبذا االعتبار؟‬

‫فيجيب الواقع خمالفا‪ ،‬ويندفع حنو حبث الواقع كما هو‪ ،‬مث كما ينبغي‬
‫أن يكون وذلك هو عماد الفلسفة مث يستمد من عزميته القعساء روح‬
‫اجملاهرة بـ (الذروة) فإذا هو يصرح باحلقائق البسيطة يف النظر املتعبة‬
‫يف العم فيقول‪" :‬إن نتعلم غري تعليمنا ونعش يف غري جمتمعنا وننظر‬
‫بغري أبصارنا وندرك بغري عقولنا فه حنن موجودون؟"‬

‫كال! ال يكم وجودنا إال بعد أن يستكم عقوال وأبصارا وعيشا‬


‫وتعليما وأن خنرج من هذه الفوضى احليوانية أنت أنت‪ ،‬أنا أنا إىل‬
‫احلقيقة الناصعة الوضاءة اليت وضع قاعدهتا يف خالصة فلسفية‪:‬‬

‫وإىل العروبة ينتسب‬ ‫وعب اجلزائر مسلم‬

‫أو قال مات فقد كذب »‪.‬‬ ‫من قال حاد عن أصله‬

‫‪39‬‬
‫مسك الختام‪:‬‬

‫لطرافة هذا املقال وما يف كلماته وعباراته من وفاء وتقدير‪ ،‬نقلته كامال‬
‫إىل القراء‪ ،‬وآمال أن يكون يف نشره نفع كثري للمهتمني بتاريخ الفكر‬
‫اإلصالحي املعاصر‪ ،‬وللباحثني املشتغلني يف هذا امليدان‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫عبد الحميد بن باديس‬
‫تصور مفدي زكريا‬
‫في ّ‬

‫«الشاب النابغ األديب والشاعر العبقري اجمليد السيد مفدي زكريا من‬
‫وباب بين ميزاب املتنورين الشاعرين بآالم هذه األمة اجلزائرية منذ‬
‫نعومة أظفارهم واملتطلبني هلا العالج السريع والدواء الناجع من يوم‬
‫عرفوها حبالتها الراهنة وصفتها احلقيقية‪ ،‬وعرفوا أهنم جزء من هذه‬
‫‪24‬‬
‫األمة ال يسعد الواحد منهم إال بسعادهتا»‪.‬‬

‫مفدي زكريا وصلته بجمعية العلماء‪:‬‬

‫عرفت جريدة "البصائر" لسان حال‬


‫هبذه الكلمات القوية واملعربة ّ‬
‫مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني الشاعر مفدي زكريا )‪1908‬ـ‬
‫‪ (1977‬يف عام ‪ 0127‬وهو مازال وابا يافعا مل يكشف بعد عن‬

‫‪.6‬‬ ‫‪ 24‬البصائر‪ ،‬العدد ‪ 01 ،36‬جويلية ‪،0127‬‬

‫‪41‬‬
‫ك عبقريته األدبية وكفاحه الوطين وحنكته السياسية ووجاعته‬
‫النادرة‪.‬‬

‫تربط مفدي زكريا املنخرط مبكرا يف النضال الوطين يف حزب الشعب‬


‫اجلزائري صلة قوية باحلركة اإلصالحية بشك عام ومجعية العلماء‬
‫اجلزائريني بشك خا واليت كانت متث يف نظره‪ « :‬أعظم مؤسسة‬
‫جزائرية بارزة حتم املث األعلى للجهاد والتضحية يف سبي هذا‬
‫الشعب املكتوف اليدين‪ ،‬املغلول الرجلني‪ ،‬املقيد اللسان‪ ،‬املغلوب‬
‫‪25‬‬
‫على أمره ‪ ،‬احملروم من ك ويء يف هذا الوجود»‪.‬‬

‫وقد وضع مفدي زكريا مشروعا لتأسيس "مجعية التوحيد"‪ 26‬جلمع‬


‫مش التيارات الفكرية والدينية اجلزائرية‪ ،‬واقرتح الشيخ الطيب العقيب‬
‫ممث العلماء يف اجلزائر العاصمة رئيسا هلا‪ .‬وتراس يف هذا الشأن‬
‫الرجالن‪.‬‬

‫غري أن الشيخ العقيب اعترب مجعية العلماء تستجيب لك األهداف‬


‫والغايات اليت تبنتها مجعية التوحيد فلهذا ال يرى أي مربر إلنشاء‬

‫‪ 25‬مفدي زكريا‪ .‬تعليق على مالحظة حول مجعية التوحيد‪ .‬البصائر‪ ،‬العدد ‪ 31 ،31‬جويلية‬
‫‪.2 ،0127‬‬
‫‪ 26‬مفدي زكريا‪ .‬رأي جديد يف تأسيس مجعية باسم مجعية التوحيد‪ .‬البصائر‪ ،‬العدد ‪،36‬‬
‫‪.6‬‬ ‫‪ 01‬جويلية ‪،0127‬‬

‫‪42‬‬
‫مجعية ألخرى‪ .‬فجمعية العلماء مفتوحة لك خملص للجزائر ولوحدة‬
‫أبنائها‪.‬‬

‫ورغم فش هذا املشرو ‪ ،‬وعدم جتاوب العلماء معه‪ ،‬بقي مفدي زكريا‬
‫وفيا جلمعيتهم ومروجا لرسالتها ومعرفا بأعماهلا‪ .‬وقد اغتنم فرصة‬
‫الذكرى العشرين لوفاة الشيخ عبد احلميد ابن باديس‪ ،‬واليت تزامنت‬
‫مع مرور ست سنوات على اندال الثورة اجلزائرية‪ ،‬للكتابة عن رائد‬
‫اإلصالح والنهضة يف اجلزائر والتنويه جبهوده اإلصالحية وكفاحه‬
‫الوطين‪.‬‬

‫من القصيدة إلى المقالة‪:‬‬

‫وعلى غري عادته‪ ،‬نشر زكريا مقاال نثريا يف هذا الشأن وليس قصيدة‪،‬‬
‫كأنه يريد من ذلك أن بقول أن ما كتبه هو من صميم الواقع والتاريخ‬
‫وليس فيه أي خيال أو عاطفة‪ .‬فهو يؤرخ ملرحلة مبوضوعية الباحث‬
‫وصرامة املؤرخ‪.‬‬

‫وهذا النص الذي أضعه بني يدي القارئ قد نشره مفدي زكريا يف‬
‫العدد ‪ ،8‬الصادر يف ماي ‪ 0171‬من جملة "الفكر" التونسية اليت‬
‫كان يشرف عليها الكاتب والسياسي حممد مزايل‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫ابن باديس الخالد‪:‬‬

‫« ها أنا أعاهدكم على أن أجع حيايت وقفا مؤبدا على اإلسالم‬


‫عموما واألمة اجلزائرية خصوصا ما بقيت الروح‪ ،‬ومن بدل أو خان‬
‫فليطبق عليه‪:‬‬

‫" إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات واهلدى من بعد ما بيناه‬


‫للناس يف الكتاب‪ .‬أولئك يلعنهم اهلل ويلعنهم الالعنون"‬

‫ذلك هو القسم الذي أقسم به ابن باديس يوم أن رجع من تونس‬


‫حامال وهادة العاملية‪ 27‬انتصب بقسنطينة عام ‪ 0103‬يبىن العقول‬
‫وينشئ األجيال وانه لقسم لو تعلمون عظيم !‬

‫فه وىف عبد احلميد مبا عاهد اهلل واألمة عليه؟‬

‫مل يكن ابن باديس مصلحا دينيا فحسب‪ ،‬وال وطنيا صادقا وصحافيا‬
‫واعيا فقط كما يقولون‪.‬‬

‫إن ابن باديس كان أمة‪ .‬إن ابن باديس كان أبا جلي ‪ .‬ذلك اجلي‬
‫الصاعد الذي ابتدأ سنة ‪ 0132‬بالثورة على اجلهالة والضالل وانتهى‬
‫‪ 0121‬بالثورة على السالس واألغالل‪.‬‬

‫‪ 27‬يقصد وهادة التطويع‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫انه يفتخر هبذه األبوة انه يقول‪ ":‬أنا مل أجنب أطفاال ولكين أب‪ ،‬ألن‬
‫ك اجلزائريني أبنائي"‬

‫ولنرتك التاريخ يتحدث‪.‬‬

‫ولد ابن باديس يف قسنطينة عام ‪ 0881‬يف أحضان عائلة مرتفة‬


‫تتمتع مبركز اجتماعي ممتاز‪ .‬وكان والده حممد مصطفى من أغنياء‬
‫البالد ووجهائها احملظوظني ولو واء عبد احلميد لعاش مث أبيه وأفراد‬
‫عائلته يف حببوحة من العيش ووفرة من الثراء وجانب من تقدير السلطة‬
‫احلاكمة‪ .‬وأن يبقى مدلال كما كان صبيا‪ .‬وأن ال حيرق خمه وينهك‬
‫جسمه بالعم الفكري الكادح‪ ،‬وكان يف إمكانه أن يتمتع حبياة‬
‫الزوجية الدافئة كك أضرابه من أبناء الذوات املرتفني‪ ،‬ولكنه استقب‬
‫احلياة يوم أن استقبلته احلياة وهو يصرخ يف وجهها‪:‬خلقت للجزائر‬
‫وسأعيش للجزائر‪.‬‬

‫أدخله والده أحد الكتاتيب القرآنية وهو يف اخلامسة من عمره فحفظ‬


‫القرآن على الشيخ حممد املداسي‪ ،‬مث درس العلوم الدينية يف قسنطينة‬
‫على الشيخ محدان الونيسي‪ .‬وقد كان حي ّذره من االلتحاق بأي‬
‫وظيفة‪ .‬وهي أغلى نصيحة مسعها يف حياته‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫أرسله والده مصطفى إىل تونس ليأخذ نصيبه األوىف من املعارف‬
‫فعكف على التحصي وأمت دراسته سنة ‪ 0118‬حيث حتص على‬
‫الشهادة العليا‪ -‬العاملية من جامع الزيتونة بعد وهادة التطويع مث رجع‬
‫إىل قسنطينة‪.‬‬

‫وسافر إىل البقا املقدسة سنة ‪ 0103‬ألداء فريضة احلج وطاف‬


‫باألقطار العربية سوريا ولبنان ومصر واتص بعلماء هذه األقطار‪.‬‬
‫وأجازه املرحوم حممد خبيت يف مصر إجازة العاملية‪ .‬ويف رحلته هذه‬
‫التقى يف احلجاز بك من الشيخني البشري اإلبراهيمي والطيب العقيب‬
‫حيث كان األول مدرسا بسوريا والثاين باملدينة‪ ،‬وهناك اتفق الثالثة‬
‫على القيام حبركة إصالحية باجلزائر إلنقاذ األمة من براثني مشائخ‬
‫الطرق الصوفية الذين سخروا اجلزائر لفائدة املستعمرين بنشر‬
‫الضالالت واألوهام وختدير العقول‪.‬‬

‫ومبجرد رجو ابن باديس إىل قسنطينة سنة ‪ 0102‬انتصب باجلامع‬


‫األخضر للتدريس والدعوة لإلصالح‪ .‬فكان يقوم بإلقاء (‪ )03‬درسا‬
‫يوميا‪ .‬وقد ابتكر طريقة جديدة لتفسري القرآن كان ابتكر مثلها الشيخ‬
‫رويد رضا مبصر‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫وإىل جانب اجتهاده يف احلق اإلصالحي فتح واجهة جديدة للكفاح‬
‫القلمي فأنشأ بقسنطينة جريدة املنتقد سنة ‪ 0132‬قامت حبمالت‬
‫صادقة ضد سياسة فرنسا التعسفية باجلزائر وإذ مل يتسع هلا اجلو‬
‫السياسي املتعفن لفظت أنفاسها على يد‪ -‬مريانط‪ -‬مدير الشؤون‬
‫األهلية يف العدد الثامن عشر منها‪.‬وخلفتها جريدة الشهاب يوم ‪03‬‬
‫نوفمرب سنة ‪ 0132‬مث تطورت إىل جملة يوم ‪ 32‬أوت سنة ‪0137‬‬

‫كان من البديهي أن تتضايق احلكومة االستعمارية يف اجلزائر من هذه‬


‫احلركة وأن تعتربها‪ -‬كما هي يف الواقع‪ -‬حركة خطرية ترمي إىل حترير‬
‫األفكار والعقول من االستعمار العقائدي املريع الذي ظ ردحا من‬
‫الزمن حيجب العيون عن املعرفة واحلقيقة والنور‪ ،‬ويصد النفوس اليت‬
‫تنهشها املخاوف بأنياهبا عن االنطالق وراء حياة سعيدة وعيش كرمي‪.‬‬

‫صمد ابن باديس الصنهاجي أمام ك معارضة‪ .‬ووقف ساخرا من‬


‫األحداث يف خنوة وكربياء يردد ذلك الصوت الذي جيلج يف أعماقه‪.‬‬

‫" تستطيع الظروف أن تكيفنا ولكنها ال تستطيع أبدا أن تتلفنا"‬

‫اليت قنت منها عق عبد احلميد واليت كان على ضوئها يسطر ‪...‬‬
‫االستعمار يف أعنائه والكيد له إال ازداد محاسا وانبعاثا‪ .‬فإذا عصرت‬
‫قلبه اآلالم ‪ -‬وداعبت روحه اآلمال‪ -‬الفساح‪ -‬حدج األقدار العاقة‬

‫‪47‬‬
‫بعينني تربقان كالقبس ونظر إىل األفق الالزوردي يف أحضان الالهناية‬
‫وقال‪" :‬إن مجيع األبواب ميكن أن تغلق أمامنا ولكن بابا واحدا لن‬
‫يغلق أبدا هو باب السماء"‪.‬‬

‫وأخريا انتصرت كلمة اإلصالح على ذبذبة العمالء املخاذي ‪ ،‬وظهر‬


‫احلق على الظلم والطغيان ‪ -‬وسكنت تلك األصوات النكراء‬
‫احملمومة‪ .‬وانطلقت الفكرة اإلصالحية الوطنية يف هلفة وسعورة‪.‬‬
‫وانبعثت كالقذيفة اجملنونة تشق طريقها لتنفجر‪ ،‬فإذا جبمعية العلماء‬
‫تربز من ركام دخاهنا كالعمالق! ‪-‬‬

‫وهذه جريدة "السنة" تربز باسم اجلمعية يوم ‪ 03‬نوفمرب ‪0122‬‬


‫لتحم رسالتها إىل اجملتمع اإلسالمي العر ي عامة وإىل اجلزائر خاصة‪،‬‬
‫وإذا باحلكومة ختتصر أجلها بعد ‪ 03‬عددا‪ 28‬آخرها يف ربيع تلك‬
‫السنة‪.‬‬

‫مل تقف اجلمعية مكتوفة األيدي إزاء هذا التعطي الذي أصبح عادة‬
‫رتيبة‪ .‬فأصدرت جريدة "الشريعة" يوم ‪ 31‬من نفس الشهر فكان هلا‬
‫نفس املصري حيث عطلتها اإلدارة بعد ‪ 7‬أعداد‪ .29‬وخلفتها جريدة‬

‫‪28‬ب صدر منها ‪ 02‬عددا‪.‬‬


‫‪29‬ب صدر منها ‪ 6‬أعداد‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫الصراط يوم ‪ 00‬سبتمرب ‪ ،0122‬فبعثت هبا احلكومة إىل مرقدها‬
‫األخري بعد العدد السابع‪ 30‬مث امتنعت اإلدارة عن الرتخيص للسيد‬
‫أمحد بومشال بإصدار جريدة جديدة‪.‬‬

‫وقد كان مديرا جلميع جرائد اجلمعية‪ .‬فكان الشيخ حممد خري الدين‬
‫هذه املرة مديرا جلريدة "البصائر" وصدر عددها األول بعاصمة اجلزائر‬
‫يوم ‪ 36‬ديسمرب سنة ‪ 0122‬مث أسندت إدارهتا إىل مؤرخ اجلزائر‬
‫املرحوم الشيخ مبارك امليلي ابتداء من عددها ‪.18‬‬

‫كانت هذه اجلرائد إىل جانب نادي الرتقي باجلزائر‪ .‬ميادين فسيحة‬
‫استطا أن يقدم فيها ابن باديس ومن ورائه مجعية العلماء‪ -‬خبوض‬
‫معركة احلياة الطاحنة وان يواكب احلركة االستقاللية املتبلورة يف‬
‫"حزب جنم الشمال اإلفريقي" مث حزب الشعب من بعده وأن تولد‬
‫بعد ك ذلك من أعماق الغيب جزائر جديدة عرفت كيف تعرب‬
‫للعامل عما يصرخ يف عروقها ويصخب يف كياهنا‪ :‬بلغة غري اللغة اليت‬
‫اعتاد االستعمار تأويلها وحتريفها‪ .‬لغة جديدة واضحة ال تقب‬
‫التأوي ‪ :‬لغة احلديد والنار!‬

‫‪30‬ب صدر منها ‪ 06‬عددا‪.‬‬

‫‪49‬‬
‫ما كان لعبد احلميد أن يغرت مبناورات سافرة دبرت حوله إبان احلرب‬
‫العاملية الثانية‪ -‬ليقول كلمة تأييد لفرنسا وحلفائها ضد األملان‪ ،‬إنه ال‬
‫يثق باالستعمار وال يطمئن لرجاله‪ .‬هو يرتاب حىت يف كلمة الشهادة‬
‫إذا طلب إليه املستعمرون أن يقوهلا‪" :‬أما واهلل لو قالوا يل ق ‪:‬ال اله‬
‫إال اهلل ملا قلتها»‪ .‬انتهى‪.‬‬

‫كلمة أخيرة‪:‬‬

‫لقد كشف هذا النص اجملهول لدى الباحثني يف احلركة اإلصالحية‬


‫وتاريخ الشاعر مفدي زكريا عن دور الشيخ عبد احلميد بن باديس يف‬
‫إحياء الدين وبعث اللغة العربية ونشر العلم وحماربة االستعباد وتعميق‬
‫الوعي الوطين وتأسيس الفكر الثوري‪ ،‬بشهادة واعر الثورة اجلزائرية‬
‫ونار معركة التحرير كانت ال تزال مشتعلة‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫أبو يعلى الزواوي‬
‫كما عرفه أبو بكر جابر الجزائري‬

‫عندما تويف الشيخ أبو يعلى الزواوي يف ‪ 0‬جوان ‪ 0123‬كتبت عنه‬


‫العديد من الصحف اجلزائرية منها جريدة "اللواء" لسان حال مجعية‬
‫"وباب املوحدين" بقلم الشيخ أ ي بكر جابر اجلزائري‪.‬‬

‫ونشر هذا املقال – وهو نص جمهول عند املهتمني برتاث الشيخ‬


‫الزواوي أو الشيخ جابر‪ -‬يف العدد ‪ 2‬املؤرخ يف ‪ 3‬ووال ‪ 0260‬هـ‪/‬‬
‫املوافق ‪ 32‬جوان ‪ .0123‬وسبب التأخري يعود إىل صدور اجلريدة‬
‫وهريا‪.‬‬

‫ونشر املقال يف الصفحة الثالثة‪ ،‬بينما نشرت "اللواء" يف الصفحة‬


‫الثانية خرب وفاة الشيخ الزواوي بعنوان "مصاب عظيم"‪ ،‬وفيه تذكري‬
‫سريع حبياته ومناقبه وإوارة إىل صالة جنازته اليت ّأمها الشيخ الطيب‬
‫العقيب‪ ،‬وحضرها كثري من الناس‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫وأود هنا أن أقدم نبذة خمتصرة عن حياة الشيخ أ ي بكر جابر اجلزائري‬
‫مشريا فيها إىل جوانب خفية من سريته‪ .‬أما ترمجة الشيخ الزواوي فقد‬
‫‪31‬‬
‫خصصت هلا مقاال يف موضع آخر‪.‬‬

‫مسيرة الشيخ أبي بكر جابر‪:‬‬

‫هو أبو بكر جابر بن موسى بن عبد القادر‪ .‬ولد يف قرية ليوة بنواحي‬
‫بسكرة سنة ‪ .0130‬درس بالزاوية العثمانية بطولقة‪ .‬كما تتلمذ على‬
‫الشيخ نعيم النعيمي أحد أقطاب مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني‪.‬‬
‫‪32‬‬
‫انتق إىل اجلزائر العاصمة واوتغ بالتعليم يف املدرسة اجلاللية احلرة‬
‫والدعوة واإلرواد إىل جانب الشيخ الطيب العقيب‪ .‬وبقي أبو بكر وفيا‬
‫ألستاذه العقيب إىل غاية وفاة هذا األخري‪.‬‬
‫ويف عام ‪ 0118‬نشر أبو بكر جابر كتابا يف الرتبية والتوجيه املدرسي‬
‫عنوانه‪" :‬مرآة التلميذ"‪ .‬وقد اطلعت على نسخة منه يف املكتبة الوطنية‬
‫بباريس يف عام ‪.0118‬‬

‫‪31‬مولود عومير‪ .‬مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني مسارات وبصمات‪ .‬وركة األصالة للنشر‪،‬‬
‫اجلزائر‪.02-1 ،3102 ،‬‬
‫‪32‬تقع املدرسة اجلاللية احلرة يف ‪ 0‬هنج بارودي باجلزائر‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫وحيتوي الكتاب تفسري سورة العصر‪ ،‬وورح احلديث النبوي " إياكم‬
‫والظن‪ ،"...‬وقصائد وعرية وقصصا وتوجيهات هادفة‪.‬‬
‫وقرظ الشيخ أبو يعلى الزواوي هذا الكتاب كما أوار إىل ذلك‬
‫صاحبه يف النص الذي بني أيدينا‪.‬‬
‫وساهم الشيخ أبو بكر يف تأسيس مجعية وباب املوحدين‪33‬وإصدار‬
‫جرائدها "الداعي" يف سنة ‪ ،0121‬واللواء" يف عام ‪ .0123‬وكتب‬
‫أيضا يف جريدة "اإلصالح" اليت كان يصدرها الشيخ الطيب العقيب‪.‬‬
‫وغادر الشيخ جابر اجلزائر يف عام ‪ ،0122‬واستقر يف احلجاز طالبا‬
‫للعلم يف مكة واملدينة‪ ،‬مث تفرغ للتدريس يف املسجد النبوي وجامعة‬
‫املدينة املنورة فيما بعد‪.‬‬
‫ورغم الغربة بقي الشيخ جابر على عالقة متينة باجلزائر‪ ،‬وتواص مع‬
‫اجلزائريني‪ .‬ولقد عثرت مؤخرا على رسالة له وجهها إىل مكتب جبهة‬
‫التحرير الوطين بالقاهرة تكشف عن دعمه للثورة اجلزائرية ومجعه‬
‫التربعات هلا‪.‬‬

‫‪33‬عن تاريخ هذه اجلمعية‪ ،‬أنظر‪ :‬كتابنا‪ :‬أعالم وقضايا يف التاريخ اإلسالمي املعاصر‪ .‬دار‬
‫‪.010-080‬‬ ‫اخللدونية‪ ،‬اجلزائر‪،3116 ،‬‬

‫‪53‬‬
‫كما زار اجلزائر بعد االستقالل‪ ،‬وألقى عدة دروس وحماضرات يف‬
‫املساجد‪ .‬وهو ما زال مقيما يف املدينة املنورة‪ ،‬ويتابع باهتمام وديد‬
‫‪34‬‬
‫أحوال اجلزائر وتطور األحداث السياسية والعلمية فيها‪.‬‬
‫ويف جمال البحث والكتابة‪ ،‬أصدر الشيخ جمموعة من الكتب ومن‬
‫أوهرها‪ :‬منهاج املسلم‪ ،‬عقيدة املؤمن‪ ،‬أيسر التفاسري لكالم العلي‬
‫الكبري‪ ،‬املرأة املسلمة‪ ،‬الدولة اإلسالمية‪ ،‬الضروريات الفقهية‪ ،‬هذا‬
‫احلبيب حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬العلم والعلماء‪...‬اخل‪.‬‬
‫وقد أعيد نشر معظم هذه الكتب يف اجلزائر يف الثمانينات من القرن‬
‫املاضي‪ ،‬وقررت بعضها على طلبة الدراسات الشرعية يف اجلامعات‬
‫‪35‬‬
‫اجلزائرية‪.‬‬
‫جريدة اللواء في سطور‪:‬‬
‫أما جريدة "اللواء" اليت نشرت املقال فقد صدر عددها األول يف ‪06‬‬
‫أفري ‪ .0123‬ومل يظهر منها إال ثالثة أعداد‪ .‬وهي صحيفة وهرية‬
‫مقرها بنادي الرتقي باجلزائر العاصمة‪.‬‬

‫‪ 34‬لقد وجه الشيخ أبو بكر جابر اجلزائري نداء إىل اجلزائريني حيثهم فيه على املشاركة يف‬
‫االنتخابات التشريعية اليت نظمت يف ‪ 01‬مايو ‪.3103‬‬
‫‪35‬طبعت بعض كتب أ ي بكر جابر اجلزائري يف دار النشر الرمسية لوزارة التعليم العايل‪ ،‬وهي‬
‫ديوان املطبوعات اجلامعية‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫وحتتوي أربع صفحات كبرية‪ ،‬تنشر فيها مقاالت يف الدعوة واألدب‬
‫نثرا ووعرا‪ .‬ومن أبرز كتاهبا األستاذ حممد اهلادي السنوسي‪ 36.‬كما‬
‫تتابع نشاط مجعية وباب املوحدين وزعيمها الروحي الشيخ الطيب‬
‫العقيي‪.‬‬
‫وحتر اجلريدة على نشر أخبار العامل اإلسالمي حىت ال يبقى الشاب‬
‫اجلزائري غائبا عن احلراك السياسي والثقايف الذي كانت تعج به بعض‬
‫العواصم العربية‪ ،‬وتدعم بذلك أواصر التواص مع إخوانه املسلمني يف‬
‫العامل‪.‬‬
‫وتتبىن هذه اجلريدة أحيانا مواقف سياسية نقدية جتاه خصومها أو‬
‫سلطة اإلحتالل‪ ،‬وعلى سبي املثال أذكر هنا املقال املنشور يف‬
‫الصفحة األوىل من العدد الثالث عربت من خالله عن معارضتها‬
‫لنفي الزعيم مصايل احلاج إىل فرنسا‪ ،‬واستنكارها للنظام االستعماري‬
‫اجلائر‪.‬‬

‫‪36‬نشر الشيخ حممد اهلادي السنوسي قصيدة طويلة عنواهنا‪ :‬من إهلام رمضان‪ ،‬ومطلعها‪:‬‬
‫الرحابا‪.‬‬ ‫مآل‬ ‫قد‬ ‫باليمن‬ ‫وهر اهلدى باخلري آبا ***‬
‫أنظر مقالنا‪ :‬قصيدة مغمورة عن وهر رمضان للشيخ حممد اهلادي السنوسي‪ .‬البصائر‪ ،‬العدد‬
‫‪.8‬‬ ‫‪ 08 ،0171‬أفري ‪،3130‬‬

‫‪55‬‬
‫ولع هذا املقال هو السبب وراء توقيف هذه اجلريدة‪ .‬بينما يرى‬
‫الباحث فوزي مصمودي يف كتابه "تاريخ الصحافة والصحفيني" أن‬
‫‪37‬‬
‫جريدة اللواء توقفت عن الصدور بسبب تفرغ صاحبها للتعليم‪.‬‬
‫واحلقيقة أن مهنة التعليم مل تكن يوما سببا مانعا للشيخ جابر الهتمام‬
‫بالصحافة واالوتغال هبا‪ ،‬بدلي أنه ساهم يف نشر جريدة "القبس"‬
‫وهي أيضا لسان حال مجعية وباب املوحدين‪.‬‬
‫إليك اآلن أيها القارئ النص الذي رثى به الشيخ جابر أستاذه الشيخ‬
‫ال زواوي راجيا أن يفيد ك املهتمني برتاث احلركة اإلصالحية بشك‬
‫عام وتراث العاملني بشك خا ‪.‬‬

‫اهلل أكبر ‪ ...‬وإنها لفاجعة‪:‬‬

‫"حقا إهنا لفاجعة كربى غشت فأذهلت‪ ،‬وأهالت فأسالت‪ ...‬ومل‬


‫تكن إال من أخوات القواصم وبنات الفواصم‪.‬‬

‫وكيف وركن يف اإلسالم قد اهنار‪ ،‬وطود يف اإلصالح عظيم قد اندك‪.‬‬


‫وهيصور يذوى‪ ،‬وذائد صبور يقضى‪.‬‬

‫‪37‬فوزي مصمودي‪ .‬تاريخ الصحافة والصحافيني يف بسكرة وإقليمها ‪.0127-0111‬‬


‫‪.078‬‬ ‫منشورات اجلمعية اخللدونية‪ ،‬بسكرة‪،3117 ،‬‬

‫‪56‬‬
‫كانت حقا فاجعة‪ ،‬وكانت حقا فادحة تلك نعية املصلحني‪ ،‬وذلك‬
‫استيفاء أج ‪ ،‬أج الصاحلني‪ ،‬وإن يف ذلك لرزء لإلسالم عظيم‪،‬‬
‫وخطب لإلصالح جسيم‪.‬‬

‫وال فرس ميوت و ال بعري‬ ‫لعمرك ما الرزية فقد مال‬

‫ميوت ملوته خلق كثري‬ ‫ولكن الرزية فقد حر‬

‫أي سعيد لقد رزىء مبوتك اإلسالم واإلصالح معا فماذا عسى أن‬
‫يكون هلما فيك من عزاء؟‬

‫أال فليبك اإلسالم واإلصالح يا سعيد‪ ،‬والناس وقيهم والسعيد‪.‬‬

‫وإين لباكيك ما وجدت للبكاء سبيال‪ .‬وه جيدي البكاء؟‬

‫أي سعيد الشهيد‪ ،‬مل أكن أمت إليك بنسب فيقال بكاه نسيب‪،‬‬
‫ولكن أبكيك وأنا بعيد كأود ما يبكيك قريب‪ .‬وليبكك معي مجيع‬
‫املسلمني محيت عقائدهم وذت إسالمهم وأكربت وأهنم وصنت‬
‫لساهنم فإن مل يبكوك فقد عقوك وما بروك‪.‬‬

‫حامي الدين (وصاحلا) يف اجلزائريني من بعدك خيطب على أعواد‬


‫صنعها االستعمار وأجلس عليها األغرار األغمار‪ ،‬فيقول كما كنت‬
‫تقول‪ :‬إن الذي يتقاضى إىل غري اإلسالم ليس من أه اإلسالم‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫وإن الذي يعرض عما يف الكتاب لعليه لعنة أه الكتاب‪ ،‬وإن الذي‬
‫يستبدل بالعربية غريها ليس بعر ي‪ .‬وإن من يقدم صغريته ملدرسة‬
‫أجنبية كان كمن وأدها حية‪ ،‬وأن من يذر زوجه تزور القبور كان كمن‬
‫يكرهها على البغي ويعلمها الفجور‪.‬‬

‫أي ويخ اإلصالح إين لذاكر لك يف هذه الندبة نقيبة هي آية يف‬
‫األخالق ونادرة يف العاملني‪ :‬عرفتك منذ عرفتك ويخا مسنا أورفت‬
‫على التسعني‪ ،‬وعرفتين حدثا دون الثالثني‪.‬‬

‫وكنت تصغي حلديثي إن حدثت فتعجب إن أكربت وتتأوه إن‬


‫وتؤمن لدعائي إن دعوت كأمنا لبست من الفض ثيا ي أو‬
‫حتسرت ّ‬
‫أحد من أترا ي‪.‬‬

‫ويوم قدمت إليك كلمات يف حجم كتيب‪38‬فأمسيتها كتابا ودعوتين‬


‫الكاتب‪ .‬وما ظننت يوم استقرظتك لعلمك وفضلك فأقرظت‪ ،‬وال‬
‫يوم سألتك فقد أجبت وما استنكفت وال استكربت‪ ،‬وبدون هذا‬
‫استكملت الفضائ وسدت مجيع القبائ فال أنت بالذي تزيده‬
‫صحبيت فضال وال وهاديت نبال‪.‬‬

‫‪38‬يقصد كتاب "مرآة التلميذ" الصادر يف عام ‪.0118‬‬

‫‪58‬‬
‫واحلق أيها الراح أقول أنك ما ادخرت وسعا يف محاية‬
‫اإلسالم ونشر اإلصالح‪ ،‬وإنك ألوىل الناس باخللود والبقاء‬
‫وأحقهم بالرثاء والبكاء»‪.‬‬

‫(أبو بكر)‬

‫‪59‬‬
‫محمد البشير اإلبراييمي‬
‫في ذكريات عبد الرحمن شيبان‬

‫ملا رأيت أول مرة صورة نادرة مجعت اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي‬
‫والشيخ عبد الرمحان ويبان متنيت يف تلك اللحظة أن أجلس ساعات‬
‫مع هذا األخري كما كنت أفع معه يف سنواته األخرية ألستمع فيها‬
‫إىل قصته مع الشيخ اإلبراهيمي‪.‬‬

‫غري أن هذه األمنية مل تتحقق يف تلك الفرتة لسبب بسيط وهو أن‬
‫ليس ك ما يتمناه املرء يدركه‪.‬‬

‫وبقيت رغبيت قوية يف التعرف أكثر عن هذه العالقة املتينة بني هذين‬
‫العظيمني‪ ،‬فقمت ببعض "احلفريات" يف هذا اجملال‪ ،‬وتتبعت أثارها‬
‫بني ‪ 0116‬و‪ ،3112‬فكان من مثار هذه اجلهود‪ ،‬املقال التايل‪.‬‬

‫البدايات‪:‬‬

‫بدأت العالقات بني اإلبراهيمي وويبان حينما أصبح هذا األخري‬


‫رئيسا جلمعية الطلبة الزيتونيني اجلزائريني بتونس‪ .‬وقد راسله اإلبراهيمي‬
‫يف جوان ‪ 0116‬خيربه بتحضريات مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني‬
‫‪60‬‬
‫لفتح معهد إسالمي بقسنطينة حيم اسم اإلمام عبد احلميد بن‬
‫باديس يف أكتوبر من العام نفسه‪.‬‬

‫وطلب إليه أيضا االتصال مبدير جامع الزيتونة ‪-‬آنذاك‪ -‬الشيخ حممد‬
‫الطاهر بن عاوور لالعرتاف هبذه املؤسسة اجلديدة كفر من فرو‬
‫الزيتونة‪.‬‬

‫وتفطن الشيخ ويبان إىل حيلة إلقنا الشيخ ابن عاوور بقبول هذا‬
‫الطلب‪ ،‬فنظم يف نادي الطلبة حفلة تكرمي على ورف هذا العامل‬
‫اجللي حبضور العلماء والوجهاء والطلبة‪.‬‬

‫ويف هناية احلف كشف ويبان عن مضمون رسالة اإلبراهيمي‪ ،‬فأكرب‬


‫الشيخ ابن عاوور هذه املبادرة العلمية وقب ربط هذا املعهد الذي‬
‫حيم اسم تلميذه النجيب عبد احلميد بن باديس جبامع الزيتونة‬
‫‪39‬‬
‫العامر‪.‬‬

‫وأسر الطالب ويبان إىل نشر االعرتاف يف اجلريدتني املسائيتني‪:‬‬


‫"النهضة" و"الزهرة" مضمرا ضمن تغطية احلدث بعنوان عريض‪" :‬‬

‫‪39‬عبد الرمحان ويبان‪ .‬الذكرى األربعني لوفاة الشيخ حممد الشاذيل بن القاضي‪ .‬األصالة‪،‬‬
‫‪.88-86‬‬ ‫العدد ‪ ،26‬ماي ‪،0168‬‬

‫‪61‬‬
‫مجعية الطلبة الزيتونيني اجلزائريني حتتف برئيسها الشريف‪ :‬فضيلة مدير‬
‫‪40‬‬
‫اجلامعة الزيتونية"‪.‬‬

‫وهكذا وجدت سلطة احلماية الفرنسية ‪-‬اليت ال تقب مبث هذه‬


‫القرارات‪ -‬نفسها أمام أمر الواقع‪.‬‬

‫وأعجب اإلمام اإلبراهيمي بالطالب عبد الرمحان ويبان ملا قدمه من‬
‫اجنازات يف رحاب مجعية الطلبة الزيتونيني‪ ،‬وبكتاباته يف الصحافة‬
‫التونسية‪ ،‬ونشاطاته يف الساحة الثقافية إىل غاية رجوعه إىل اجلزائر‬
‫بعد نيله لشهاديت التحصي والعاملية‪.‬‬

‫وواءت األقدار أن يزور الشيخ اإلبراهيمي يف تلك الفرتة قرية الشرفة‬


‫فينزل ضيفا على أسرة آل ويبان‪ .‬واستأذن اإلبراهيمي احلاج البشري‬
‫ويبان أن يسمح البنه عبد الرمحان بالتدريس يف معهد عبد احلميد‬
‫بن باديس بقسنطينة‪ ،‬فوافق الوالد على ذلك‪.‬‬

‫وهكذا أصبح أستاذا لألدب العر ي يف هذا املعهد وحمررا يف جريدة‬


‫"البصائر"‪ ،‬لسان حال مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني‪.‬‬

‫‪.88‬‬ ‫‪40‬نفسه‪،‬‬

‫‪62‬‬
‫اإلبراييمي يكلّف شيبان بالمهمات الدقيقة‪:‬‬

‫كان الشيخ اإلبراهيمي يكلف الشيخ ويبان مبهمات عديدة‪ .‬ولع‬


‫أوهلا مهمة ربط معهد عبد احلميد بن باديس جبامع الزيتونة بتونس‬
‫كما أورت إىل ذلك يف بداية هذا املقال‪.‬‬

‫أما املهمة الثانية فهي تتمث باالتصال بالنخبة الوطنية بشقيها العر ي‬
‫والفرنسي لربط صلة مع مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني‪ .‬فكان كثري‬
‫من املثقفني اجلزائريني خرجيي اجلامعات واملدارس األوروبية تتثاق‬
‫أقدامهم يف سريها حنو هذه اجلمعية اليت تبدو هلم منظمة دينية تقليدية‬
‫ال صلة هلا بالقضايا املعاصرة‪.‬‬

‫كما كان منهم من يرتدد يف االنضمام إليها ألسباب خمتلفة على‬


‫الرغم من اقتناعهم برسالتها اإلصالحية ودورها الفعال يف بناء الوعي‬
‫الوطين وتبصري القلوب وحترير العقول‪.‬‬

‫ومل جيد الشيخ اإلبراهيمي يف مجعية العلماء أفض من األستاذ ويبان‬


‫صاحب اهلندام األنيق‪ ،‬املتفتح على الثقافة اجلديدة واملطلع على‬
‫األدب املعاصر واملرن يف معامالته ليكون جسرا بني العلماء واملثقفني‬
‫املتألقني‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫وهكذا كلف اإلبراهيمي الشيخ ويبان باالتصال باملفكر مالك بن نيب‬
‫"ومساعدته مبا تيسر يف وؤونه اخلاصة املادية واألدبية"‪ ،‬ومرافقته‬
‫‪41‬‬
‫خالل حماضراته يف نادي ابن باديس بقسنطينة‪.‬‬

‫وكانت هلذه العالقة الفض يف إنقاذ فصلني من كتاب "العفن" الذي‬


‫كاد أن حيرقه بن نيب يف حلظة ضعف بشري جراء املضايقات‬
‫االستعمارية فأخذمها ويبان منه واحتفظ هبما إال أن عاد صاحبهما‬
‫من فرنسا فأعادمها له‪.‬‬

‫كما اقرتح عليه الشيخان ويبان وإبراهيم مزهودي التدريس مبعهد ابن‬
‫‪42‬‬
‫باديس غري أن بن نيب اعتذر النشغاله باهلجرة إىل املشرق العر ي‪.‬‬

‫وك السيد وريف بلقاسم وزير اإلرواد القومي بعد االستقالل جلنة‬
‫وطنية إلدماج املعلمني األحرار يف إطار الوظيف العمومي برئاسة‬
‫الشيخ حممد البشر اإلبراهيمي‪ ،‬وعضوية خنبة من العلماء‪.‬‬

‫وكان األستاذ ويبان العضو يف اجمللس الوطين التأسيسي ومقرر حلنة‬


‫الرتبية الوطنية من أبرز أعضائها‪ .‬وتوجت أعماهلم بإصدار الرئيس بن‬

‫‪.221‬‬ ‫‪41‬ويبان‪ .‬سوانح يف الفكر واألدب والسياسة‪ .‬دار اخللدونية‪ ،‬اجلزائر‪،3103 ،‬‬
‫‪42‬‬
‫‪Malek Bennabi. Mémoires d'un témoin du siécle. Samar, Alger,‬‬
‫‪2006, p 353.‬‬

‫‪64‬‬
‫بله مرسوما يف ‪ 01‬مارس ‪ 0171‬يقضي بإدماج املعلمني األحرار‬
‫يف سلك التعليم الرمسي يف مراحله الثالث حسب مؤهالت ك معلم‪.‬‬

‫شيبان يؤازر الشيخ اإلبراييمي في محنته‪:‬‬

‫مبناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لوفاة الشيخ عبد احلميد بن باديس‪،‬‬


‫أصدر اإلمام اإلبراهيمي بيانا يف ‪ 07‬أفري ‪ 0171‬انتقد فيه بشدة‬
‫سياسة الرئيس أمحد بن بله اليت احنرفت يف نظره عن املنهج اإلسالمي‬
‫بفرض اإليديولوجية االورتاكية على الشعب اجلزائري‪ ،‬وابتعدت عن‬
‫رسالة ثورة أول نوفمرب ‪.0121‬‬

‫لقد قال بشك صريح‪ » :‬إن بالدنا تنزلق أكثر فأكثر حنو حرب‬
‫أهلية ال ميكن تفاديها‪ ،‬وحنن أمام أزمة أخالقية مل يسبق هلا مثي ‪ ،‬إن‬
‫أولئك الذين حيكموننا ال يقدرون بأن وعبنا يتيم فَـ َق َد ك ويء‬
‫الوحدة واإلسالم‪ ،‬واالزدهار‪ ،‬وأن األسس النظرية ألفعاهلم جيب أن‬

‫‪65‬‬
‫تكون مستمدة من عقيدتنا العربية اإلسالمية وليس من عقائد‬
‫‪43‬‬
‫أجنبية»‪.‬‬

‫فأسرعت احلكومة اجلزائرية إىل وضع اإلبراهيمي حتت اإلقامة اجلربية‬


‫حبجة أن خطابه ال يساعد على إعادة بناء أركان الدولة وتعزيز‬
‫االستقرار ودفع عجلة التنمية يف البالد‪.‬‬

‫ونظرا للمناخ السياسي احلاد الذي متيزت به تلك املرحلة من صرا‬


‫وديد بني السلطة احلاكمة واملعارضة السياسية واملسلحة‪ ،‬اختار كثري‬
‫من أصدقاء اإلبراهيمي وتالمذته الصمت باستثناء ثلة قليلة ومنهم‬
‫األستاذ عبد الرمحان ويبان الذي آزره يف حمنته بك وجاعة‪.‬‬

‫تصحيح‬ ‫الشيخ ويبان بالرئيس اجلزائري من أج‬ ‫لقد اتص‬


‫املغالطات اليت تروج هلا بعض اجلهات املعادية للتيار اإلصالحي‪.‬‬

‫يروي األستاذ ويبان يف هذا السياق خماطبا أمحد بن بله مباورة‪« :‬إين‬
‫عضو يف احتادية جبهة التحرير لوالية سطيف‪ ،‬ومنسق نواهبا يف‬
‫اجمللس الوطين التأسيسي‪ ،‬فال أرضى أبدا أن اعم يف نظام يذكر فيه‬
‫اإلبراهيمي بسوء من جهة‪ ،‬ومن جهة فإين أربأ بكم ‪-‬يا حضرة‬

‫‪43‬حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬آثار اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬دار الغرب اإلسالمي‪،‬‬
‫بريوت‪.3112 ،‬‬

‫‪66‬‬
‫الرئيس – أن تعتمدوا يف التنديد بالشيخ اإلبراهيمي على روايات‬
‫كاذبة مغرضة سيستغرهبا ويستنكرها نبهاء العرب واملسلمني الذين‬
‫يعرفون حقيقة جهاد اإلبراهيمي يف دعوة اجلزائريني والعرب واملسلمني‬
‫‪44‬‬
‫الزج بأنفسهم يف أتون الثورة التحريرية املقدسة‪»...‬‬
‫إىل ّ‬
‫ومل يكن غريبا أن يوفق الشيخ ويبان يف اإلصالح بينهما‪ ،‬نظرا‬
‫حنكته السياسية ومقدراته القيادية‪ ،‬وملا حيظى من تقدير كبري لدى‬
‫أصحاب القرار‪.‬‬

‫وقد جتسد هذا التوفيق يف زيارة الرئيس بن بلة دار اإلمام اإلبراهيمي‬
‫رفقة الشيخ ويبان مبناسبة عيد األضحى‪ ،‬فتساحما الرجالن بعد حوار‬
‫مثمر‪ ،‬وتعهد بن بله على صيانة الدين اإلسالمي واحملافظة على القيم‬
‫‪45‬‬
‫األخالقية وتكريس الوحدة الوطنية‪.‬‬

‫شيبان وإحياء ذكرى اإلبراييمي‪:‬‬

‫تويف الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي يوم ‪ 31‬ماي ‪ ،0172‬وكان‬


‫يوما مشهودا يف تاريخ اجلزائر املعاصر‪ .‬وحر األستاذ عبد الرمحان‬

‫‪44‬ويبان‪ .‬حقائق وأباطي ‪ .‬منشورات اجمللس اإلسالمي األعلى‪ ،‬اجلزائر‪،3118 ،‬‬


‫‪.310‬‬
‫‪.311‬‬ ‫‪45‬نفسه‪،‬‬

‫‪67‬‬
‫ويبان على إحياء الذكرى األوىل لوفاته وفاء للصداقة والتزاما بالعهد‪.‬‬
‫وهكذا تشكلت جلنة االحتفال هبذه املناسبة برئاسة األستاذ ويبان‪.‬‬

‫وقد جنحت هذه اللجنة بفض حيوة وفعالية رئيسها وإخالصه‬


‫للمشرو ودأبه على تنزيله على أرض الواقع‪ ،‬فانعقد حف هبيج يف‬
‫قاعة ابن خلدون باجلزائر يوم السبت ‪ 30‬ماي ‪ ،0177‬وحضره‬
‫العديد من الوزراء وسفراء الدول العربية واإلسالمية والعلماء وطلبة‬
‫العلم القادمني من ك أحناء الوطن‪ .‬وقدمت هبذه املناسبة مداخالت‬
‫وقصائد وعرية تناولت مسار الشيخ اإلبراهيمي ودرست آراءه‬
‫اإلصالحية ومواقفه الوطنية والقومية‪.‬‬

‫وألقى األستاذ عبد الرمحان ويبان خطابا افتتاحيا أبرز فيه مالمح‬
‫العبقرية عند اإلبراهيمي‪ ،‬فهو " قائد من قادة الثورة اإلصالحية‬
‫السلفية" و"إمام يف العربية وبالغتها" و"فيلسوف يف ميدان الرتبية‬
‫والتعليم" و"خطيب مصقع"‪.‬‬

‫وهو كذلك "حمدث بار لطيف" و"ديوان أليام العرب وآداهبم‬


‫وتقاليدهم"‪ .‬وهو أيضا " وطين صادق الوطنية‪ ،‬كرس حياته خلدمة‬
‫وطنه‪ ،‬داعيا قومه للثورة واجلهاد من أج التحرر واإلنعتاق"‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫واستمر الشيخ عبد الرمحان ويبان يف إحياء ذكرى اإلبراهيمي بقلمه‬
‫ولسانه‪ ،‬وكان آخر عمله يف هذا اجملال تنظيم ملتقى دويل يف ماي‬
‫‪ 3112‬باعتباره رئيسا جلمعية العلماء املسلمني اجلزائريني‪.‬‬

‫وقد وارك فيه خنبة من العلماء اجلزائريني (أبو القاسم سعد اهلل‪ ،‬عبد‬
‫الرزاق قسوم‪ ،‬حممد اهلادي احلسين‪ ،‬عبد امللك مرتاض‪،)...‬‬
‫واألجانب (يوسف القرضاوي‪ ،‬حممد سعيد رمضان البوطي‪ ،‬حممد‬
‫‪46‬‬
‫عمارة‪ ،‬عبد السالم اهلراس‪ ،‬حممد املختار السالمي‪.)...‬‬

‫كما ساهم األستاذ عبد الرمحان ويبان يف التعريف برتاث الشيخ‬


‫اإلبراهيمي حينما كان مفتشا عاما يف وزارة الرتبية بربجمة نصو من‬
‫كتاباته يف املقررات املدرسية‪ ،‬باإلضافة إىل العديد من املقاالت اليت‬
‫كتبها حول حياة الرئيس الثاين جلمعية العلماء واحملاضرات اليت قدمها‬
‫حول فكره اإلصالحي وإبداعاته األدبية ومواقفه جتاه القضايا الوطنية‬
‫‪47‬‬
‫واإلسالمية‪.‬‬

‫‪46‬صدرت أعمال هذا امللتقى الدويل يف عام ‪ 3117‬عن دار الغرب اإلسالمي ببريوت‪.‬‬
‫‪47‬منها حماضرة قدمها باملركز الثقايف االسالمي باجلزائر العاصمة يف عام ‪ ،3111‬عنواهنا‪:‬‬
‫اإلمام الرائد حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬أنظر الشيخ العالمة عبد الرمحن ويبان رج القيم‬
‫‪.16-12‬‬ ‫واملواقف‪ .‬منشورات املركز الثقايف اإلسالمي‪ ،‬اجلزائر‪،3106 ،‬‬

‫‪69‬‬
‫لقد كشفت هذه الصفحات من سج العالقات بني اإلمام حممد‬
‫البشري اإلبراهيمي والشيخ عبد الرمحان ويبان عن أبعاد نفسية‬
‫وقدرات قيادية عالية لدى األول‪ ،‬ووفاء بعهد الصداقة لدى الثاين يف‬
‫أوكال خمتلفة‪ ،‬عالوة عن علمهما الغزير ونضاهلما املستمر يف الفرتة‬
‫االستعمارية وكذلك بعد ني االستقالل وبناء الدولة الوطنية‪.‬‬

‫كما تؤكد على أنه ال منفعة لعلم مفصول عن احلياة‪ ،‬وال معىن‬
‫للدعوة بال قدوة‪ ،‬وال أم يف مستقب بال تواص األجيال ونق‬
‫التجارب‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫محمد رشيد رضا وشكيب أرسَّلن‬
‫أو إخاء أربعين سنة‬

‫اللقاء الول في بيروت‪:‬‬

‫تعرف الشيخ حممـد روـيد رضـا علـى األمـري وـكيب أرسـالن يف بـريوت‬
‫يف ع ــام ‪ 0812‬بع ــد أن تع ــرف علي ــه مـ ــن بعي ــد م ــن خ ــالل مطالعـ ــة‬
‫مقاالته يف الصحف العربية وقراءة وعره وحفظ كثريا مـن قصـائد ديوانـه‬
‫"البــاكورة"‪ ،‬ومتابعــة أخبــاره مــع اإلمــامني مجــال الــدين األفغــاين وحممــد‬
‫عبده‪.‬‬

‫وهك ــذا س ــج أرس ــالن ه ــذا اللق ــاء األول‪« :‬ج ــاءين وكن ــت ن ــازال يف‬
‫فنــدق ببــريوت يقــال لــه "كوكــب الشــرق"‪ ،‬فرأيــت وــابا س ـريا‪ ،‬ظــاهرة‬
‫عليه سيماء النجابة واألصالة‪ ،‬وضئ الطلعـة‪ ،‬وقـور اجمللـس‪ ،‬غالبـا عليـه‬
‫‪48‬‬
‫األدب وحب العلم»‪.‬‬

‫‪48‬وكيب أرسالن‪ .‬السيد رويد رضا أو إخاء أربعني سنة‪ .‬دار الفضيلة‪ ،‬القاهرة‪،3117 ،‬‬
‫‪.002-001‬‬

‫‪71‬‬
‫واستمرت العالقة بني الرجلني وان اختلفـا أحيانـا يف قضـايا سياسـية إال‬
‫أهنمــا بقيــا علــى صــلة قويــة‪ ،‬وتعــاون مثم ــر‪ ،‬وكث ـريا م ــا تبــادل الزيــارات‬
‫الرسـ ــائ كمـ ــا سنوضـ ــحه الحق ـ ــا للتنسـ ــيق والتش ـ ــاور يف قضـ ــايا عام ـ ــة‬
‫وخاصة‪.‬‬

‫التعاون المثمر في مجال اإلصَّلح‪:‬‬

‫أصـدر الشـيخ حممــد روـيد رضــا جملـة املنــار يف عـام ‪ ،0818‬واســتمرت‬


‫إىل غايــة مــاي ‪ ،0122‬وصــدر منهــا ‪ 21‬جملــدا خــالل ثالثــة وثالثــني‬
‫ســنة‪ .‬وفــتح صــفحاهتا للعلمــاء واملفك ـرين العــرب واملســلمني للمســامهة‬
‫فيها بأقالمهم وأفكارهم‪.‬‬

‫وك ــان م ــن أب ــرزهم األمـ ــري و ــكيب أرس ــالن الـ ــذي أحت ــف ه ــذه اجمللـ ــة‬
‫مبقاالت يف األدب والتاريخ والسياسة‪ ،‬كمـا ع ّـرف باإلسـالم يف أوروبـا‪،‬‬
‫ورد على وبهات ومطاعن املستشرقني‪.‬‬

‫وحــر ك ـ واحــد منهم ــا عل ــى الــرتويج لعم ـ اآلخ ــر‪ ،‬والتعري ــف ب ــه‪.‬‬
‫وهكــذا كتــب الشــيخ حممــد روــيد رضــا ع ــن وــكيب أرســالن يف عــام‬
‫معرفــا بــه للق ـراء‪ ،‬مشــيدا بأدبــه الراقــي‪ ،‬ومثنيــا‬
‫‪ 0100‬يف جملــة املنــار‪ّ ،‬‬
‫عل ــى نض ــاله يف س ــبي القض ــايا العربي ــة‪ .‬ومجعتهم ــا لق ــاءات عدي ــدة يف‬

‫‪72‬‬
‫مص ــر والش ــام وسويس ـ ـرا لتب ــادل اآلراء ووجه ــات النظ ــر‪ ،‬والتنس ــيق يف‬
‫قضايا التنوير والتحرير يف العامل اإلسالمي‪.‬‬

‫مجلتا المنار والمة العربية تحت المجهر االستعماري‪:‬‬

‫وكلت جملة املنار حملمد رويد رضا واألمة العربية لشكيب أرسالن‬
‫مصدر قلق للقوى االستعمارية وك القوى الداخلية يف العامل العر ي‬
‫واإلسالمي املناهضة حلركة اإلصالح والتجديد‪ ،‬حماولة إيقاف املد‬
‫التنويري والتحرري الذي حوته هاتان اجمللتان الرائدتان‪.‬‬

‫كانت جملة املنار حم دراسة ومتابعة مراصد االستعمار واإلستشراق‪،‬‬


‫ولع من أهم الدراسات اليت أجنزت حوهلا وتأثريها يف احلياة الدينية‬
‫والفكرية يف العامل العر ي املعاصر ما كتبه املستشرق الفرنسي املعروف‬
‫هنري الووست‪49‬يف عام ‪ 0123‬قائال أن هذه اجمللة ختتلف كثريا يف‬

‫‪49‬‬
‫» ‪Henri Laoust. Le réformisme orthodoxe des « Salafiyya‬‬
‫‪et les caractères généraux de son orientation actuelle,‬‬
‫‪Librairie orientaliste Paul Geuthner, Paris, 1932, pp. 175-‬‬
‫‪224.‬‬

‫‪73‬‬
‫منهاجها ورسالتها وتأثريها عن ك اجلرائد واجملالت اليت كانت تعج‬
‫هبا مصر والعامل العر ي واإلسالمي يف الثلث األول من القرن العشرين‪.‬‬

‫وما زالت هذه اجمللة تشغ اهتمامات املؤسسات االستشراقية إىل‬


‫يومنا‪ .‬وآخر ما قرأته عنها هو حبث نشرته الباحثة نادية إليسا‬
‫موندغر‪ 50‬يف عام ‪ 3113‬يف "جملة العامل اإلسالمي والبحر املتوسط"‬
‫الصادرة عن مركز مشهور متخصص يف دراسة العامل العر ي وهو‬
‫موجود يف أكس أون بروفانس جبنوب فرنسا‪.‬‬

‫كما تابعت املصاحل االستعمارية حركة جملة "األمة العربية" اليت‬


‫أصدرها وكيب أرسالن يف جنيف بني ‪ 0121‬و‪ .0128‬واهتم هبا‬
‫الباحثون الغربيون حتليال ونقدا‪ ،‬أذكر منهم بسيس جوليات‪ ،51‬وليام‬

‫‪50‬‬
‫‪Nadia Elissa-Mondeguer, « Al-Manâr de 1925 à 1935 :‬‬
‫‪la dernière décennie d'un engagement intellectuel »,‬‬
‫‪Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée . 95-‬‬
‫‪98, avril 2002.‬‬

‫‪51‬‬
‫‪Juliette Bessis. « Chekib Arslan et les mouvements‬‬
‫‪nationalistes au Maghreb », Revue historique, 1978,‬‬
‫‪CCLIX, pp. 467-489.‬‬

‫‪74‬‬
‫كليفيلون‪ ،52‬آن بونيفي ‪ ،53‬وغريهم من املهتمني بتاريخ العامل العر ي‬
‫املعاصر‪.‬‬

‫كرس حياته لدراسة احلضارة‬ ‫وأقف هنا عند لفي‪-‬بروفنسال الذي ّ‬


‫اإلسالمية يف األندلس إال أنه اهتم بواقع العامل العر ي وبادر يف عام‬
‫‪ 0116‬بنشر أول حبث عميق عن األمري وكيب أرسالن وجملته‬
‫"األمة العربية" يف جملة أكادميية قريبة من اإلدارة االستعمارية الفرنسية‪،‬‬
‫وهي جملة "املشرق املعاصر"‪ 54.‬ومازال هذا البحث مرجعا للباحثني‬
‫رغم مرور أكثر من ‪ 61‬عاما على صدوره‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪William Cleveland. Islam against The West : Shakib‬‬
‫‪Arslan and the Campaign for Islamic Nationalism.‬‬
‫‪University of Texas Press, Londres, 1985, Al Saqi Books.‬‬
‫‪53‬‬
‫‪Anne-Claire de Gayffier-Bonneville, « Renaissance‬‬
‫‪arabe et solidarité musulmane dans La Nation arabe »,‬‬
‫‪Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée. 95-‬‬
‫‪98 | avril 2002, pp.‬‬

‫‪54‬‬
‫‪Émile Levy-Provençal, 1947, « L'émir Chekib Arslan‬‬
‫‪(1869-1946) » Cahier de l'Orient contemporain, IX-X,‬‬
‫‪pp. 5-19.‬‬

‫‪75‬‬
‫مراسَّلت بين رضا وأرسَّلن‪:‬‬

‫تب ـ ــادل الش ـ ــيخان مئ ـ ــات الرس ـ ــائ من ـ ــذ لقائهم ـ ــا يف ع ـ ــام ‪ 0812‬يف‬
‫بــريوت‪ ،‬واحــتفظ أرســالن بالرســائ الــيت وصــلته وهــو يف سويس ـرا بينمــا‬
‫فقــد الرســائ األخــرى‪ .‬وقــد نشــر الكثــري منهــا يف كتابــه‪" :‬الســيد روــيد‬
‫رضا أو إخاء أربعني سنة"‪.‬‬

‫وتـربز هــذه الرســائ الـيت متتــد علــى مخسـة عشــر عامــا الصـلة القويــة الــيت‬
‫ت ـ ـربط العلمـ ــني‪ ،‬وتكشـ ــف عـ ــن صـ ــفحات جمهول ـ ــة مـ ــن ت ـ ــاريخ حرك ـ ــة‬
‫اإلصــالح والتجديــد يف العــامل اإلســالمي يف هنايــة القــرن التاســع عشــر‬
‫والثلث األول من القرن العشرين‪.‬‬

‫وكم متنيت أن ينشر القائمون على تراث األمري أرسـالن رسـائله الكثـرية‬
‫مع أعـالم اجلزائـر أمثـال عبـد احلميـد بـن بـاديس‪ ،‬مبـارك امليلـي‪ ،‬الطيـب‬
‫العقــيب‪ ،‬أ ي يعلــى الــزواوي وأمحــد توفيــق املــدين‪...‬اخل‪ .‬غــري أن صــيحاتنا‬
‫وجهودن ــا املس ــتمرة مل تثم ــر بع ــد ومل يقتن ــع كث ــري م ــنهم ب ــذلك‪ .‬ويبق ــى‬
‫السـؤال التــايل مطروحــا دائمــا‪ :‬ملــاذا مل تنشــر هــذه الرســائ يف األعمــال‬
‫الكاملة لألمري وكيب أرسالن؟‬

‫‪76‬‬
‫أرسَّلن ورضا في ديوان الصحافة الجزائرية‪:‬‬

‫لقد سبق وأن تناولنا يف مقال نشرناه يف جريدة البصائر‪ 55‬اهتمام‬


‫الصحافة اجلزائرية بشخصية األمري وكيب أرسالن والتعريف بنضاله‬
‫وكتاباته‪ .‬وقلنا أن األمري وكيب أرسالن أكثر الشخصيات األدبية‬
‫والسياسية املشرقية حضورا يف الصحافة اجلزائرية‪ ،‬فال ينافسه يف املرتبة‬
‫األوىل من حيث اقتباس املقاالت أي مفكر أو سياسي من املشرق‬
‫العر ي‪.‬‬

‫وقد نقلت هذه الصحف مقاالت حممد رويد رضا وحمب الدين‬
‫اخلطيب وأمحد حسن الزيات ومصطفى صادق الرافعي‪ ...‬لكن‬
‫عددها حمدود وال يرقى إىل ما نشرته من نصو األمري أرسالن‪ .‬فهو‬
‫يتمتع مبكانة خاصة يف قلوب النخبة اجلزائرية مبختلف أطيافها‬
‫والسبب يف ذلك يف نظري يعود إىل اخنراطه الكلي يف نضال وكفاح‬
‫وعوب املغرب العر ي‪.‬‬

‫‪55‬مولود عومير‪ .‬األمري وكيب أرسالن يف ديوان الصحافة اجلزائرية‪ .‬يف كتا ي‪ :‬العالقات‬
‫الثقافية بني اجلزائر واملشرق العر ي يف القرن العشرين‪ .‬دار اهلدى‪ ،‬اجلزائر‪،3107 ،‬‬
‫‪.011-11‬‬

‫‪77‬‬
‫ومل تقتصر مساندته على الكتابة عن قضايا املغرب العر ي وإمنا خاض‬
‫يف سبيلها معارك خطرية‪ ،‬وسخر ك ما ميلكه من مال وحظوة ونفوذ‬
‫وعالقات ملساعدة الزعماء املغاربة على جتاوز حمنهم‪ ،‬وفتح هلم قنوات‬
‫إليصال أصواهتم إىل العامل‪ .‬فهو رج قول وعم ‪ ،‬وجماهد يف ميادين‬
‫متعددة‪ ،‬ومكافح يف جبهات خمتلفة‪.‬‬

‫أما الشيخ حممد رويد رضا‪ ،‬فكان تأثريه حمصورا يف أعالم مجعية‬
‫العلماء املسلمني اجلزائريني بفض عالقته بالشيخ حممد عبده‪ ،‬وجملته‬
‫الشهرية املنار وتفسريه املعروف‪.‬‬

‫نقلت جملة "الشهاب" عدة مقاالت للشيخ حممد رويد رضا‪ .‬وملا مسع‬
‫الشيخ ابن باديس بوفاته أسر إىل نشر اخلرب لتعزية األمة اإلسالمية‬
‫اليت خسرت عاملا جمتهدا ق نظريه يف ذلك الزمان‪.‬‬

‫ومما جاء يف حديث الشيخ ابن باديس أن األستاذ رضا كان «نسيج‬
‫وحده يف هذا العصر فقها يف الدين‪ ،‬وعلما بأسرار التشريع‪ ،‬وإحاطة‬
‫بعلوم الكتاب والسنة ذا منزلة كاملة يف معرفة أحوال الزمان وسري‬
‫‪56‬‬
‫العمران واالجتما »‪.‬‬

‫‪56‬الشهاب‪ .‬مج ‪ ،00‬ج ‪ ،7‬سبتمرب ‪.217 ،0122‬‬

‫‪78‬‬
‫وكتب الشيخ ابن باديس بعد ذلك مقاال يف ثالث حلقات تناول‬
‫فيها اجلوانب املختلفة من حياته وأعماله مؤكدا يف األخري على أثره يف‬
‫العامل اإلسالمي قائال‪« :‬هذه احلركة الدينية اإلسالمية الكربى اليوم يف‬
‫‪57‬‬
‫العامل إصالحا وهداية‪ ،‬بيانا ودفاعا‪ ،‬كلها من آثاره»‪.‬‬

‫أما الشيخ حممد البشري اإلبراهيمي فرتبطه عالقة متينة بالشيخ حممد‬
‫رويد رضا الذي تعرف عليه يف القاهرة يف سنة ‪ 0100‬وجالسه كثريا‬
‫يف دمشق رفقة الشيخ حممد هبجة البيطار والشيخ حممد اخلضر‬
‫حسني‪ ،‬فقال عن ذلك اجمللس الذي كان الشيخ رويد رضا " يفيض‬
‫‪58‬‬
‫من كالمه العذب يف وؤون خمتلفة"‪.‬‬

‫وذكر كذلك خبصاله وعلمه الغزير ملحا على فضله يف إنقاذ تراث‬
‫أستاذه اإلمام حممد عبده‪ .‬واعترب الشيخ اإلبراهيمي الشيخ رضا أحد‬
‫الروافد العلمية والفكرية اليت استفادت منها مجعية العلماء اجلزائريني‬
‫يف فلسفتها ورسالتها اإلصالحية‪.‬‬

‫‪57‬عبد احلميد بن باديس‪ .‬حجة اإلسالم السيد حممد رويد رضا‪ .‬الشهاب‪ ،‬مج ‪ ،00‬ج‬
‫‪ ،6‬أكتوبر ‪102-111 ،0122‬؛ ج ‪ ،8‬نوفمرب ‪122-111 ،0122‬؛ ج‪،1‬‬
‫ديسمرب ‪.201-218 ،0122‬‬
‫‪58‬حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬آثار اإلمام حممد البشري اإلبراهيمي‪ .‬دار الغرب اإلسالمي‪،‬‬
‫‪.081‬‬ ‫بريوت‪ ،0116 ،‬ج ‪،0‬‬

‫‪79‬‬
‫كما كتب الشيخ باعزيز بن عمر مقاال عن الشيخ رضا‪ ،‬بني فيه‬
‫قيمته العلمية‪ ،‬وكشف عن تأثريه يف احلركة اإلصالحية املعاصرة خاصة‬
‫‪59‬‬
‫من خالله جملته الشهرية املنار‪.‬‬

‫كــذلك نق ـ الشــيخ ابــن بــاديس بعــض مــا قي ـ عنــه اقتباســا مــن جملــة‬
‫األزهر‪ 60.‬كمـا نشـرت لألسـتاذ حمـب الـدين اخلطيـب مقـاال مط ّـوال عـن‬
‫‪61‬‬
‫حممد رويد رضا نقال عن جملته "الفتح"‪.‬‬

‫كمــا نشــرت جملــة "الشــهاب" صــورة كبــرية للشــيخ رضــا مووــحة هب ـذه‬
‫‪62‬‬
‫العبارة "حجة اإلسالم السيد حممد رويد رضا صـاحب جملـة املنـار"‪.‬‬
‫ذل ـ ــك تق ـ ــدير علم ـ ــاء اجلزائ ـ ــر لرج ـ ــال اإلص ـ ــالح والتجدي ـ ــد يف الع ـ ــامل‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫‪59‬باعزيز بن عمر‪ .‬تأبني األستاذ السيد حممد رويد رضا‪ .‬يف‪ :‬مولود عومير‪ .‬تراث احلركة‬
‫اإلصالحية اجلزائرية‪ .‬دار قرطبة‪ ،‬اجلزائر‪ ،3100 ،‬ج ‪.322-321 ،2‬‬
‫‪60‬عبد احلميد بن باديس‪ .‬السيد حممد رويد رضا فقيد العلم والدين‪ .‬الشهاب (اجلزائر)‪ ،‬مج‬
‫‪ ،00‬ج ‪.221-211 ،0127 ،01‬‬
‫‪61‬حمب الدين اخلطيب‪ .‬السيد رويد رضا‪ .‬الشهاب‪ ،‬مج ‪ ،00‬ج ‪،0127 ،01‬‬
‫‪.221-220‬‬
‫‪62‬الشهاب‪ ،‬مج ‪ ،00‬ج ‪ ،6‬أكتوبر ‪.0122‬‬

‫‪80‬‬
‫محمد الخضر حسين ومحمد الطاير‬
‫بن عاشور أو صداقة ستين عاما‬

‫عالمان في سطور‪:‬‬

‫ولد الشيخ حممد اخلضر حسني يف عام ‪ 0862‬يف نفطة يف تونس‪.‬‬


‫ويرجع أصله إىل مدينة طولقة القريبة من بسكرة يف اجلنوب اجلزائري‪.‬‬
‫حفظ القرآن الكرمي‪ ،‬والتحق جبامع الزيتونة‪ ،‬وحتص على وهادة‬
‫درس جبامع الزيتونة‪ ،‬وأصبح من أكرب‬
‫التطويع يف عام ‪ّ .0818‬‬
‫أساتذهتا‪.‬‬

‫اهتم مبكرا باإلعالم فأسس يف عام ‪ ،0111‬أول جملة علمية وأدبية‬


‫يف تونس عنواهنا "السعادة العظمى"‪ .‬كما ساهم كثريا يف احلراك‬
‫الفكري‪ ،‬ويف هذا السياق‪ ،‬ألقى يف عام ‪0117‬حماضرته الشهرية‬
‫حول احلرية باملدرسة الصادقية‪ ،‬تناول فيها تصوره للحرية يف ضوء‬
‫اإلسالم‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫ويف سنة ‪ ، 0103‬سافر إىل دمشق وفيها توىل التدريس باملدرسة‬
‫السلطانية‪ .‬وقدم دروسا يف اجلامع األموي‪ .‬ويف عام ‪ ،0107‬أدخ‬
‫السجن بتهمة التعاطف مع الوطنيني الذين قاموا مبظاهرات ضد‬
‫احلكم العثماين‪.‬‬

‫وبعد احلرب العاملية األوىل‪ ،‬غادر أملانيا عائدا إىل سوريا‪ ،‬وتفرغ‬
‫وعني عضوا باجملمع العلمي العر ي السوري‪.‬‬
‫لتأليف الكتب‪ّ ،‬‬
‫وعندما فرض االنتداب الفرنسي على سوريا يف سنة ‪ ،0131‬هاجر‬
‫إىل مصر وعم مصححا بدار الكتب املصرية بالقاهرة ملدة مخس‬
‫سنوات‪ ،‬وتعرف خالهلا على النخبة املصرية والعربية‪.‬‬

‫انتسب الشيخ حممد اخلضر حسني للجامع األزهر وحتص منه على‬
‫وهادة العاملية اليت قادته للتدريس السياسة الشرعية يف كلية أصول‬
‫الدين‪ .‬ويف ‪ ،0122‬وأختري عضوا يف اجملمع اللغوي‪ ،‬ويف عام‬
‫‪ 0123‬توىل منصب ويخ األزهر‪.‬‬

‫ألف هذا العامل عدة كتب نذكر منها‪"- :‬نقض كتاب اإلسالم و‬
‫أصول احلكم" للشيخ علي عبد الرازق‪ ،‬رسالة يف السرية النبوية‪ ،‬موجز‬
‫يف آداب احلرب يف اإلسالم‪،‬القياس يف اللغة العربية‪ ،‬بالغة القرآن‬

‫‪82‬‬
‫الكرمي‪ ،‬حممد رسول اهلل‪ ،‬رسائ اإلصالح‪ ،‬تونس وجامع الزيتونة‪- ،‬‬
‫‪63‬‬
‫الرحالت‪ ،‬تراجم الرجال‪ ،‬خواطر احلياة‪ ،‬ديوان وعر‪...‬اخل‪.‬‬

‫أما الشيخ حممد الطاهر بن عاوور فقد ولد يف عام ‪ 0861‬باملرسى‬


‫يف مشال العاصمة التونسية‪ .‬انتسب إىل جامع الزيتونة يف سنة‬
‫‪0812‬م‪ ،‬ودرس فيها علوما كثرية كاللغة والفقه والتاريخ على كبار‬
‫علماء عصره منهم‪ :‬سامل بوحاجب‪ ،‬عمر بن الشيخ‪ ،‬حممد النجار‪،‬‬
‫صاحل الشريف‪ ،‬حممد النخلي‪...‬اخل‪.‬‬

‫وبعد التخرج‪ ،‬أقب على التدريس يف جامع الزيتونة بداية من عام‬


‫‪ ،0811‬وترقى يف خمتلف الرتب حىت بلغ مرتبة مشيخة اجلامع‬
‫األعظم ومفيت املالكية يف عام ‪ .0123‬وأسندت إليه رئاسة اجلامعة‬
‫الزيتونية يف عام ‪ 0127‬غداة االستقالل‪.‬‬

‫وجتاوزت مسعته العلمية تونس فتلقى دعوات من خمتلف املؤسسات‬


‫العلمية والدينية للمشاركة يف ملتقياهتا وتوجيه طلبتها‪ ،‬فسافر إىل عدة‬

‫‪63‬حممد مواعدة‪ .‬حممد مواعدة‪ .‬اخلضر حسني‪ .‬حياته وآثاره‪ .‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫‪0161‬؛ مولود عومير‪ .‬حممد اخلضر حسني يف مسار التواص بني املشرق واملغرب‪ .‬اجمللة‬
‫‪.012-12‬‬ ‫اخللدونية‪ ،‬العدد ‪ ،8‬ديسمرب ‪،3101‬‬

‫‪83‬‬
‫دول عربية وإسالمية وأوروبية‪ .‬ووارك يف مؤمتر املستشرقني باستانبول‬
‫‪64‬‬
‫يف سبتمرب ‪.0120‬‬

‫ومل تشغله الوظائف العلمية والقضائية واإلفتاء عن تأليف الكتب‪ .‬وقد‬


‫عد له الباحث الدكتور بلقاسم الغايل يف كتابه النفيس‪" :‬ويخ جامع‬
‫األعظم حممد الطاهر بن عاوور حياته وآثاره" أكثر من أربعني كتابا‬
‫يف العلوم اإلسالمية والسياسة الشرعية والتاريخ والنقد‪.‬‬

‫وال بأس أن نذكر هنا أوهر مؤلفاته‪ :‬تفسري التحرير والتنوير‪ ،‬مقاصد‬
‫الشريعة اإلسالمية‪ ،‬أصول النظام االجتماعي يف اإلسالم‪ ،‬أليس‬
‫الصبح بقريب‪ ،‬أصول التقدم يف اإلسالم‪ ،‬ورح ديوان بشار‪ ،‬سرقات‬
‫‪65‬‬
‫املتنيب‪ ،‬ديوان النابغة الذبياين‪...‬اخل‪.‬‬

‫وساهم كذلك يف حترير املقاالت يف اجلرائد واجملالت العلمية أذكر‬


‫منها‪ :‬اجمللة الزيتونية‪ ،‬هدى اإلسالم‪ ،‬نور اإلسالم‪ ،‬الرسالة‪ ،‬الزهرة‪،‬‬
‫النهضة‪ ،‬الصباح‪...‬اخل‪.‬‬

‫‪64‬حممد الفاض بن عاوور‪ .‬احلركة األدبية والفكرية يف تونس‪ .‬الدار التونسية للنشر‪ ،‬تونس‪،‬‬
‫‪.08-06 0182‬‬
‫‪65‬بلقاسم الغايل‪ .‬ويخ جامع األعظم حممد الطاهر بن عاوور حياته وآثاره‪ .‬دار ابن حزم‪،‬‬
‫‪.61-78‬‬ ‫بريوت‪،0117 ،‬‬

‫‪84‬‬
‫ما جمعته الزيتونة ال تفرقه اليام‪:‬‬

‫تعرف حممد اخلضر حسني القادم من جنوب البالد على حممد الطاهر‬
‫بن عاوور يف جامع الزيتونة أيام التحصي العلمي‪ .‬فدرسا معا على‬
‫كوكبة من العلماء خمتلف العلوم الشرعية واألدبية‪ .‬وقد تأثرا بثالثة‬
‫منهم وهم‪ :‬الشيخ عمر بن الشيخ‪ ،‬الشيخ سامل بوحاجب‪ ،‬والشيخ‬
‫حممد النجار‪.‬‬

‫وعلى مقاعد الدراسة نسج ابن عاوور واخلضر أواصر األخوة‬


‫والصداقة اليت دامت ستني سنة (‪ 0266-0206‬هـ) قال عنها هذا‬
‫األخري أهنا " الصداقة النادرة املثال"‪ ،‬ووصفها أيضا أهنا " صداقة‬
‫بلغت يف صفائها ومتانتها الغاية اليت ليس بعدها غاية‪".‬‬

‫وحينما سئ الشيخ حسني عن عالقته بالشيخ ابن عاوور‪ ،‬خلصها‬


‫يف هذه األبيات الثالثة اليت تؤكد على تلك املعاين‪:‬‬

‫أحببت من مأل الوداد فؤاده‬ ‫أحببته م ء الفؤاد وإمنا‬

‫أوكوه جاىف ما وكوت رقاده‬ ‫فظفرت منه بصاحب إن يدر ما‬

‫‪85‬‬
‫‪66‬‬
‫عرف الوفاء جناده ووهاده‬ ‫ودريت منه كما درى مين فىت‬

‫ومل تفرت هذه الصداقة مع مرور الزمن وتغري األحوال‪ ،‬منها خروج‬
‫الشيخ اخلضر من تونس هربا من مطاردة االستعمار الفرنسي سواء‬
‫إىل دمشق أو القاهرة‪.‬‬

‫وملا هاجر الشيخ حممد اخلضر إىل دمشق يف سنة ‪ 0103‬أرس له‬
‫الشيخ حممد الطاهر بن عاوور رسالة وعرية تتكون من ‪ 1‬أبيات جاء‬
‫فيها‪:‬‬

‫فلم يغن عنها يف احلنان قصيد‬ ‫بعدت ونفسي يف لقاك تصيد‬

‫جتلى لنا مرآك وهو بعيد‬ ‫إذا ذكروا للود وخصا حمافظا‬
‫‪67‬‬
‫ذكرتك إيقانا بأنك فريد‬ ‫إذا قي من للعلم والفكر والتقى‬

‫مكونة من ‪ 02‬بيتا عرب من خالهلا‬


‫ورد الشيخ اخلضر برسالة وعرية ّ‬
‫عن ووقه إىل رؤية صديقه والعودة إىل تونس وهي حرة مستقلة‪:‬‬

‫ولألمد األمسى علي عهود‬ ‫بعدت وآماد احلياة كثرية‬

‫‪.2380‬‬ ‫‪66‬حسني‪ ،‬مصدر سابق‪ ،‬مج ‪،6‬‬


‫‪.2381-2382‬‬ ‫‪67‬نفسه‪،‬‬

‫‪86‬‬
‫لديك وللود الصميم قيود‬ ‫بعدت جبثماين وروحي رهينة‬
‫‪68‬‬
‫تعود وجيش الغاصبني طريد‬ ‫ليال قضيناها بتونس ليتها‬

‫التهنئة عربون التواصل‪:‬‬

‫وال يغف الرجالن يف هتنئة ك واحد منهما كلما نال أحدهم ترقية يف‬
‫العلم والعم ‪ ،‬فلما توىل ابن عاوور القضاء‪ ،‬أرس له الشيخ اخلضر‬
‫قصيدة ي هنئه فيها هبذا املنصب احلساس‪ ،‬ويذكره بنزعته اإلصالحية‪.‬‬
‫ومما قاله هذين البيتني‪:‬‬

‫يا طاهر اهلمم احتمت بك خطة تبغي هذى ومروءة ومساحا‬


‫‪69‬‬
‫لك من فؤاد يعشق اإلصالحا‬ ‫سحبت رداء الفخر واثقة مبا‬

‫وكذلك فع ملا توىل الشيخ ابن عاوور التدريس يف جامع الزيتونة سنة‬
‫‪0223‬هـ فقال يف قصيدة ميمية‪:‬‬

‫مساعي الورى وىت وك له مرمى ومسعى ابن عاوور له األمد األمسى‬

‫‪68‬نفسه‪.‬‬
‫‪.2371‬‬ ‫‪69‬نفسه‪،‬‬

‫‪87‬‬
‫فكانت له روحا وكان هلا جسما‬ ‫فىت آنس اآلداب أول نشئه‬
‫‪70‬‬
‫ختط له يف لوح إحساسه رمسا‬ ‫وما أدب اإلنسان إال عوائد‬

‫وال وك أن الشيخ حممد الطاهر بن عاوور فرح لتويل صديقه حممد‬


‫اخلضر ملشيخة األزهر يف عام ‪ .0123‬وهو تتويج ملسرية طويلة يف‬
‫الدعوة ونشر العلم‪ .‬وهو يف الوقت نفسه اعرتاف جبامع الزيتونة‬
‫وتقدير لعلمائها‪.‬‬

‫وال ندري إن التقى الرجالن يف القاهرة خاصة بعد انتخاب الشيخ ابن‬
‫عاوور عضوا يف جممع اللغة العربية كما سلف ذكره‪ .‬غري أننا نعلم أن‬
‫هذا األخري راس الشيخ اخلضر يف وأن زيارته ملصر‪.‬‬

‫وكان جواب هذا األخري مشجعا للغاية إذ اعترب ذلك فرصة مثينة‬
‫للتعرف على العلماء املصريني‪ ،‬وإلقاء احملاضرات ومتثي علماء تونس‬
‫‪71‬‬
‫متثيال مشرفا‪.‬‬

‫ومفيد أن أذكر هنا أن الشيخ حممد اخلضر حسني حرر يف جملة‬


‫"اهلداية اإلسالمية" سلسلة من املقاالت حول "تونس وجامع الزيتونة"‬

‫‪.2117‬‬ ‫‪70‬نفسه‪ ،‬مج ‪،6‬‬


‫‪.2262‬‬ ‫‪71‬نفسه‪ ،‬مج ‪،00‬‬

‫‪88‬‬
‫حتدث فيها عن تاريخ هذه املؤسسة العريقة وأوهر علمائها املصلحني‬
‫واجملددين‪ ،‬و كان منهم الشيخ حممد الطاهر بن عاوور الذي خصص‬
‫وبني الصلة الوثيقة اليت‬
‫له مقاال أبرز من خالله حياته وأعماله‪ّ ،‬‬
‫جتمعهما منذ أيام الدراسة‪.‬‬

‫ووصف صديقه الشيخ ابن عاوور بأوصاف عالية منها‪ " :‬لألستاذ‬
‫فصاحة منطق‪ ،‬وبراعة بيان‪ ،‬ويضيف إىل غزارة العلم وقوة النظر‪:‬‬
‫صفاء الذوق‪ ،‬وسعة اإلطال يف آداب اللغة‪ ...‬فكنت أرى لسانا‬
‫هلجته الصدق‪ ،‬وسريرة نقية من ك خاطر سيئ‪ ،‬ومهة طماحة إىل‬
‫املعايل‪ ،‬وجدا يف العم ال ميسه كل ‪ ،‬وحمافظة على واجبات الدين‬
‫‪72‬‬
‫وآدابه"‪.‬‬

‫عرف الشيخ حممد اخلضر القراء بأعمال صديقه الشيخ ابن‬ ‫كما ّ‬
‫عاوور يف جمال اإلصالح والقضاء والتدريس‪ ،‬وع ّدد إنتاجه العلمي‬
‫واألد ي اجلدير بالقراءة والدرس لكنه لألسف ال يص إىل الشرق وال‬
‫يعرفه إال القلي من علمائه وال يسمع به طالبه املنتشرون يف املدارس‬
‫واملعاهد العلمية‪.‬‬

‫‪.2322‬‬ ‫‪72‬نفسه‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫مراسَّلت بين العالمين‪:‬‬

‫ونشر األستاذ علي الرضا احلسيين ‪ 02‬رسالة أرسلها الشيخ حممد‬


‫اخلضر إىل صديقه الشيخ ابن عاوور على فرتات خمتلفة من بنزرت‬
‫ودمشق والقاهرة‪.‬‬

‫وتكشف هذه املراسالت عن التواص بني الرجلني رغم البعد‬


‫اجلغرايف‪ ،‬وكثرة التزاماهتما يف التعليم والقضاء واإلوراف على‬
‫املؤسسات التعليمية‪.‬‬

‫تضمنت هذه الرسائ معلومات عامة وخاصة‪ .‬وخيرب الشيخ اخلضر‬


‫صديقه عن بعض نشاطاته العلمية خاصة أحاديثه يف اإلذاعة اليت‬
‫عرف أمهيتها يف الدعوة والتوعية ونشر العلم واملعرفة‪.‬‬

‫كما كان يطلعه على مشاركاته يف جممع اللغة العربية وما يصادفه من‬
‫بريوقراطية خاصة يف جمال الطبع والنشر‪.‬‬

‫وتثبت هذه املراسالت أن للشيخ اخلضر اليد الطوىل يف انضمام‬


‫عرفه‬
‫الشيخ ابن عاوور إىل جممع اللغة العربية يف القاهرة بعد أن ّ‬

‫‪90‬‬
‫ألعضاء اجملمع‪ ،‬ونشر له مقاالت يف جملة "اهلداية اإلسالمية" يف‬
‫‪73‬‬
‫الدين واللغة العربية‪.‬‬

‫وكان الشيخ حسني حريصا على التعريف بعلماء تونس يف املشرق‬


‫العر ي‪ .‬فقد قال يف إحدى رسائله‪" :‬نريد اطال املصريني وعلماء‬
‫الشرق على آثار علماء تونس‪ ،‬وخصوصا بعد أن رأيناهم يعجبون مبا‬
‫يكتبه أولئك األساتذة‪ ،‬ويقوم لديهم واهد على أن يف تونس هنضة‬
‫‪74‬‬
‫علمية راقية‪".‬‬

‫وفعال نشر الشيخ حممد اخلضر حسني مقاالت وحبوث حررها الشيخ‬
‫ابن عاوور يف جمالت خمتلفة ك "اهلداية اإلسالمية" و"نور اإلسالم"‪.‬‬
‫ونتج عنها كتب منها‪ :‬تفسريه التحرير والتنوير (بعض الفصول)‪،‬‬
‫و"الوقف وآثاره يف اإلسالم"‪.‬‬

‫ومل يكتف الشيخ حممد اخلضر حسني بنشرها‪ ،‬ب أصدر هذا الكتاب‬
‫يف طبعة خاصة‪ ،‬ووزعها على نطاق واسع للرتويج له بني العلماء‬
‫وأه الصحف واجملالت الفكرية‪.‬‬

‫‪.2212‬‬ ‫‪73‬نفسه‪،‬‬
‫‪.2222‬‬ ‫‪74‬املصدر السابق‪،‬‬

‫‪91‬‬
‫ولقد استفدنا من بعض رسائ حممد اخلضر حسني بفض ابن أخيه‬
‫األستاذ علي الرضا احلسيين‪ ،‬وسنستفيد أكثر لو اطلعنا على رسائ‬
‫حممد الطاهر بن عاوور اليت مل نعثر عليها حلد اآلن‪.‬‬

‫وال وك أن نشر رسائ الرجلني كاملة ستساعدنا على اكتشاف‬


‫معلومات علمية هامة تضاف إىل تاريخ األفكار والذهنيات الذي‬
‫مازال متعثرا يف اجلامعات العربية واإلسالمية‪.‬‬

‫‪92‬‬
‫الشيخ حسن البنا كما عرفه الشيخ الفضيل الورتَّلني‬

‫تربط الشيخني الفضي الورتالين وحسن البنا عالقة متينة جتسدت يف‬
‫صور مشرقة كثرية‪ ،‬عربت عن األخوة الصادقة والوفاء بالعهد والتعاون‬
‫املثمر يف سبي الكفاح العر ي والنضال اإلسالمي‪ .‬وكثريا ما تساءلت‬
‫وأنا أقرأ عن هذه الصلة‪ :‬كيف بدأت بني الرجلني؟‬
‫وبقي هذا السؤال يراودين كلما عدت إىل هذا املوضو ‪ ،‬وقرأت‬‫َ‬
‫دراسات جديدة حوله غري أنين ال أجد يف ك مرة ما يشبع فضويل‬
‫ويقنعين باجلواب الكايف ويرد على تساؤيل بالرد الشايف‪ ،‬إىل أن عثرت‬
‫مؤخرا على مقالة كتبها الشيخ الفضي الورتالين عن الشيخ حسن‬
‫البنا‪.‬‬

‫جريدة الدعوة في سطور‪:‬‬


‫هذا املقال نشرته جريدة الدعوة يف عددها (‪ )011‬الصادر يف ‪01‬‬
‫فرباير ‪ .0122‬وكانت هذه اجلريدة تصدر أسبوعيا بالقاهرة ويشرف‬
‫عليها األستاذ صاحل عشماوي (‪.)0182-0101‬‬
‫وهي صحيفة قريبة من حركة اإلخوان املسلمني‪ .‬صدر العدد األول‬
‫منها يف ‪ 21‬يناير ‪ ،0120‬وتوقفت يف ‪ 0‬ديسمرب ‪.0121‬‬

‫‪93‬‬
‫نشر فيها الشيخ الفضي الورتالين عدة مقاالت دعوية وسياسية‬
‫تطرقت إليها يف أعمايل األخرى‪ 75.‬وقد اطلعت على هذه اجلريدة‬
‫بأعدادها وبه الكاملة احملفوظة يف املكتبة الوطنية بباريس‪ ،‬واستفدت‬
‫منها يف كتابة حبوثي وإعداد حماضرايت‪ .‬وإليك اآلن أيها القارئ نص‬
‫املقال‪:‬‬

‫مقال مؤثر‪:‬‬

‫«كنت قب عام ‪0128‬م أمسع عن األستاذ اإلمام وعن اإلخوان‬


‫املسلمني كهيئة إسالمية تعم كغريها من اهليئات يف جانب من‬
‫جوانب احلياة‪.‬‬

‫وملا حضرت إىل القاهرة‪ ،‬وكان أول لقاء بيين وبني اإلمام يف مجع من‬
‫الناس‪ ،‬ودار احلديث يف ذلك الوقت عن أمور روحية صوفية‪ ،‬ختيلت‬
‫عندها األستاذ البنا رجالً صوفيّا ال أكثر وال أق ‪ ،‬وكنا حينذاك يف‬
‫التصوف على اجملتمع‬
‫ّ‬ ‫اجلزائر حنارب البد اليت أدخلها من يداعون‬
‫اإلسالمي‪.‬‬

‫‪75‬تطرقت إىل هذه املقاالت يف كتا ي‪ :‬أعالم وقضايا يف التاريخ اإلسالمي املعاصر‪ .‬دار‬
‫اخللدونية‪ ،‬اجلزائر‪.3116 ،‬‬

‫‪94‬‬
‫وجرى بيين وبني املرود نقاش حول هذه املعاين‪ ،‬ملست فيه علم‬
‫الرج وتأثره مبا يعلم‪ ،‬ولكن صورة أخرى عنه غري الصورة الصوفية مل‬
‫ختطر لنفسي‪.‬‬

‫وكثرت االجتماعات بيننا بعد ذلك‪ ،‬وتوطدت الصلة‪ ،‬فتعارفنا جيداً‪،‬‬


‫وتصادقنا‪ ،‬مث تآخينا يف اهلل أخوة كاملة‪ ،‬فعرفت يف حسن البنا معاين‬
‫أخرى كثرية غري املعىن الذي ملسته فيه أول مرة؛ وهو املعىن الصويف‪،‬‬
‫والذي وبهته فيه بـابن القيم‪.‬‬

‫كان لـحسن البنا صفات تفرقت يف الناس‪ ،‬وقل اما اجتمعت يف‬
‫وخص واحد‪ ،‬اللهم إال طائفة نادرة من أويل العزم من الناس‪ ،‬ففي‬
‫الناحية العلمية كانت للرج طاقة علمية ينفرد الناس يف ناحية من‬
‫نواحيها‪ ،‬وال جتتمع هلم؛ فإذا حدثه الفقيه وجد فيه الفقيه املمتاز‪،‬‬
‫وختي أن هذه صفته‪ ،‬وإذا اجتمع به األديب توهم أن صفته هذه وما‬
‫له من غريها‪ ،‬إمنا هو مكم ‪.‬‬

‫وإذا لقيه السياسي وجد فيه سياسياً من طراز فريد‪ ،‬وحسب أن ما له‬
‫من الصفات األخرى إمنا هو جزء يسري‪ ،‬وإذا استمع إليه الناس‬
‫وجدوه خطيباً فحسب‪ ...‬إخل‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫ما اجتمع لـحسن البناا من الصفات اليت خيتص بواحدة منها العباقرة‬
‫من الناس‪ ،‬واليت كان يتومهه على واحدة منها ك من نظر إليه من‬
‫الزاوية اليت يفهمها‪ ،‬واحلق أن حسن البنا هو تلك الصورة الضخمة‬
‫اليت جتمع تلك الصفات مجيعاً وحبظ وافر يوازي– إن مل يزد– ما‬
‫للمتخصصني فيها من حظ‪.‬‬

‫أما طاقته العلمية فكانت فريدة؛ فهو يعم لي هنار دون أن يبدو‬
‫عليه أثر من جهد أو كل ؛ ب كان هناك من يلقاه وميضي معه اللي‬
‫يظن أن يف الصباح راحته‪ ،‬وهناك من يلقاه يف الصباح ويظن أنه قد‬
‫أخذ حظه من الراحة ليالً‪ ،‬ولكنه كان يف احلالني يعم ‪.‬‬

‫وكان مؤمناً برسالته‪ ،‬وبأن املسلم جيب أن يكون صورة من الرسول‬


‫( ) فهو يأخذ نفسه مبا علمه وعرفه عن الرسول‪ ،‬وما أكثر ما علم‬
‫وعرف عنه وهلذا استعذب ك ويء‪.‬‬

‫أما ما اجتمع له من مرونة اخللق ورقته‪ ،‬فذلك مل يتح ألحد‪ ،‬فكثري‬


‫من الناس كان يأيت إليه ليناقشه يف أمور‪ ،‬ويعتقد أن هناية املناقشة‬
‫أحد أمرين؛ إما عداوة سافرة‪ ،‬أو خالف دائم‪.‬‬

‫‪96‬‬
‫وإنين ألدعو وباب املسلمني أن يتخذوا من حياة حسن البنا حمال‬
‫لدراسة عميقة؛ لريوا كيف جنح‪ ،‬وكيف توافرت له هذه املزايا اليت‬
‫ذكرت بعضاً منها حىت ينسجوا على منواله‪ ،‬فيتموا ما بدأ‪ ،‬ويصلوا إىل‬
‫ما مل ميهله القدر يف الوصول إليه»‪ 76.‬انتهى‪.‬‬

‫اللقاء بين العلمين‪:‬‬

‫لقد التقى الرجالن يف هناية الثالثينات بعد هروب الورتالين من فرنسا‬


‫متجها إىل القاهرة‪ ،‬فقد كان مهددا باالعتقال بسبب نشاطه‬
‫اإلصالحي والسياسي يف صفوف املهاجرين اجلزائريني بشك خا‬
‫‪77‬‬
‫واملهاجرين العرب واملسلمني بشك عام‪.‬‬

‫ويتضح من هذا املقال مدى إعجاب الورتالين بشخصية حسن البنا‬


‫الذي كان يف هذه الفرتة من أوهر رجال اإلصالح والدعوة يف العامل‬
‫اإلسالمي‪ ،‬ويتزاحم العلماء والسياسيون القادمون إىل مصر للزيارة أو‬

‫‪76‬الدعوة‪ ،‬العدد ‪ 01 ،011‬فرباير ‪.0122‬‬


‫‪77‬مولود عومير‪ .‬التجربة الدعوية جلمعية العلماء املسلمني اجلزائريني يف فرنسا ‪-0127‬‬
‫‪ .0127‬جملة تعارف (باريس)‪ ،‬العدد ‪ ،0‬أفري ‪.3110‬‬

‫‪97‬‬
‫اإلقامة ملواصلة الكفاح ضد االستعمار الفرنسي أو الربيطاين‪،‬‬
‫لالتصال به والتعرف عليه‪.‬‬

‫أما الشيخ الورتالين الذي انبهر بثقافة الداعية املصري الواسعة وحنكته‬
‫السياسية وصفاته القيادية‪ ،‬فقد انضم إىل حركته وصار من أوهر‬
‫رجاالهتا بعد أن عرف فضله الشيخ البنا‪ ،‬واكتشف قدراته العالية يف‬
‫اخلطابة وتعبئة الناس وصالبته على دعوة احلق‪ ،‬فاستخلفه يف دروسه‬
‫األسبوعية‪ ،‬وكلافه مبهمات خاصة خارج مصر‪.‬‬

‫وأخريا‪ ،‬أوري هنا إىل أن الفضي الورتالين مل تقتصر مسامهته يف‬


‫جريدة "الدعوة" على نشر هذا املقال‪ ،‬فقد كتب فيها مقاالت‬
‫أخرى‪ ،‬تناول فيها قضايا التحرر يف العامل العر ي واإلسالمي‪.‬‬
‫عرب الورتالين من خالهلا عن مساندته للثورة اجلزائرية يف‬ ‫كذلك ّ‬
‫أسبوعها األول‪ ،‬يف مقال عنوانه‪" :‬الثورة اجلزائرية واملغرب‬
‫العر ي"‪78،‬داعيا ك اجلزائريني والتونسيني واملغاربة إىل دعم كفاح‬
‫اجملاهدين لتحرير البالد والعباد من االحتالل الفرنسي‪.‬‬

‫‪78‬الفضي الورتالين‪ .‬الثورة اجلزائرية واملغرب العر ي‪ .‬الدعوة‪ ،‬العدد ‪ 1 ،012‬نوفمرب‬


‫‪ .0121‬وقد درست هذا املقال يف كتا ي‪ :‬الثورة اجلزائرية يف الكتابات املعاصرة‪ .‬وركة‬
‫‪.83-66‬‬ ‫األصالة للنشر‪ ،‬اجلزائر‪،3106 ،‬‬

‫‪98‬‬
‫محمد الغزالي ويوسف القرضاوي‬
‫أو إخاء خمسين عاما‬

‫القرضاوي قارئ نهم للغزالي‪:‬‬

‫بدأت العالقة بني الشيخني باملطالعة حيث كان الشيخ الغزايل قد‬
‫نشر جمموعة من الكتب اليت نالت رواجا بني أوساط الشباب املصري‬
‫رغم التعتيم واملراقبة واملتابعة القضائية واملصادرة‪.‬‬

‫وقد نق الشيخ الغزايل يف مذكراته وقائع اجللسة اليت وقف فيها أمام‬
‫القاضي مدافعا عن أوهر كتبه املصادرة وهو كتاب " كفاح دين"‬
‫الذي حتدث فيه عن املؤامرات اليت حتاك يف مصر ضد الصحوة‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫وكان من أجنح كتبه يف األربعينات‪ :‬اإلسالم واألوضا االقتصادية‪،‬‬
‫اإلسالم واملناهج االورتاكية‪ ،‬اإلسالم املفرتى عليه بني الشيوعيني‬
‫والرأمساليني‪.‬‬

‫كما لقيت مقاالته األسبوعية يف جملة " اإلخوان املسلمون" قبوال كبريا‬
‫عند القراء‪ ،‬فكان الشيخ الغزايل يكتب يف ك أسبو مقاال نقديا يف‬
‫ركنه الثابت‪" :‬خواطر حرة"‪.‬‬

‫وكان مقاله األول بعنوان‪" :‬اإلخوان املسلمون واألحزاب"‪ ،‬بعد أن‬


‫اكتشفه الشيخ حسن البنا ضمن املقاالت املهملة‪ ،‬مث راسله ليثين على‬
‫باكورة إنتاجه الرصني‪ ،‬ويشجعه على مواصلة الكتابة‪.‬‬

‫ولنرتك الشيخ الغزايل يروي هذا احلدث الذي وقع له وهو ما زال طالبا‬
‫يف جامع األزهر‪ ،‬وأثر فيه كثريا‪ .‬قال الشيخ الغزايل‪ « :‬كتبت يوما‬
‫مقاال‪ ،‬وأرسلته إىل جملة "اإلخوان"‪ ،‬وارتقبت نشره‪ ،‬فلم ينشر‪ ،‬وساء‬
‫ظين بنفسي فرتكت الكتابة‪ ...‬وبغتة تلقيت بالربيد رسالة من املرود‬
‫العام‪ ،‬عرفت فيما بعد نبأها‪ ...‬لقد دخ إدارة اجمللة وساءل األستاذ‬
‫صاحل عشماوي رئيس التحرير‪ :‬ملاذا ال أقرأ لإلخوان مقاالت جيدة؟‬
‫وما السبب يف ضعف اجمللة؟ وم ّد يده – غري متعمد‪ -‬إىل ملف‬

‫‪100‬‬
‫احملفوظات املنتفخ باملقاالت اليت رئي عدم نشرها‪ ،‬ووقع بصره على‬
‫‪79‬‬
‫مقايل! وغضب غضبا إلمهاله‪ ،‬وأمر جبعله افتتاحية العدد املقب »‪.‬‬

‫وأورد الشيخ الغزايل بعد ذلك النص الكام لتك الرسالة اليت تكشف‬
‫عن فراسة األستاذ البنا وقدراته القيادية العالية‪ ،‬وحتم الثناء اجلمي‬
‫والتشجيع الصادق من أج أن يواص هذا الشاب الكتابة واإلبدا‬
‫الفكري‪.‬‬

‫وهكذا دأب الشيخ الغزايل على الكتابة يف جملة "اإلخوان املسلمون"‬


‫حىت صار من أوهر كتاهبا‪ .‬وتشجيعا له مرة أخرى‪ ،‬عيّنه الشيخ‬
‫حسن البنا سكرتريا للتحرير فأصبح يكتب مقاالت عديدة بامسه‬
‫‪80‬‬
‫وكذلك بتوقيعات مستعارة‪.‬‬

‫ويف فرتة قصرية‪ ،‬جتاوزت وهرة الغزايل مصر لتص إىل القراء يف الدول‬
‫العربية واإلسالمية اليت تنتشر فيها هذه اجمللة املصرية‪.‬‬

‫وكان من أكثر املعجبني بكتاباته الطالب يوسف القرضاوي الذي كان‬


‫حير دائما على مطالعة هذه اجمللة‪ .‬قال يف هذا السياق‪ « :‬كان‬
‫يشدين إليه فكره الثائر‪ ،‬وبيانه الساحر‪ ،‬وأسلوبه الساخر‪ .‬وكان الغزايل‬

‫‪.071‬‬ ‫‪79‬حممد الغزايل‪ .‬قصة حياة‪ .‬إسالمية املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،6‬يناير ‪،0116‬‬
‫‪.080‬‬ ‫‪80‬املصدر السابق‪،‬‬

‫‪101‬‬
‫حيم روح الرافعي وتألقه‪ ،‬وسهولة املنفلوطي وتدفقه‪ ،‬وتأم العقاد‬
‫وتعمقه‪ .‬وانعقدت بيين وبني الغزايل الكاتب – على بعد‪ -‬صلة عقلية‬
‫وروحية عميقة‪ ،‬من جانب واحد طبعا‪ ،‬حبيث كنت أترقب اجمللة ألقرأ‬
‫– أول ما أقرأ فيها‪ -‬مقالتني‪ :‬مقالة حممد الغزايل‪ ،‬ومقالة عبد العزيز‬
‫‪81‬‬
‫كام »‪.‬‬

‫وازداد القرضاوي حبا وتعلقا بالشيخ الغزايل حينما اكتشف أنه خريج‬
‫جامع األزهر الذي ينتمي إليه هو أيضا‪ ،‬بعد أن أعتقد ردحا من‬
‫الزمن أنه من خرجيي املدارس احلديثة نظرا ملعاجلته لقضايا معاصرة‬
‫بأسلوب جذاب‪.‬‬

‫وأصبح يتابع الغزايل فيما يكتب من مقاالت يف جمالت خمتلفة‪ ،‬وما‬


‫يصدر من كتب‪ .‬كما كان يدافع عن أفكاره‪ ،‬وينصره يف معاركه‬
‫الفكرية مع الشيوعيني واحلداثيني املتطرفني‪.‬‬

‫لقاء في الطريق إلى السجن‪:‬‬

‫‪.13‬‬ ‫‪81‬يوسف القرضاوي‪ .‬الشيخ الغزايل كما عرفته‪ .‬دار الشروق‪ ،‬القاهرة‪،3111 ،‬‬

‫‪102‬‬
‫كانت سنة ‪ 0118‬عام حزن وابتالء جلماعة اإلخوان املسلمني‪،‬‬
‫اغتي فيه مرودها العام حسن البنا‪ ،‬وصدر قرار ح اجلماعة‪،‬‬
‫واعتق عدد كبري من أعضائها وقادهتا‪ ،‬وكان منهم الشيخ الغزايل‬
‫ويوسف القرضاوي الطالب آنذاك يف السنة اخلامسة ثانوي مبعهد‬
‫طنطا الديين‪.‬‬

‫ونق املعتقلون يف سفينة إىل معتق الطور بسيناء‪ .‬وألقى الشيخ‬


‫الغزايل أثناء الرحلة خطابا مؤثرا اكتشف القرضاوي بشك مفاجئ أن‬
‫اخلطيب املصقا هو ذلك الكاتب الذي أحبه وأعجب به عن بعد‪،‬‬
‫وهو يقف قريبا منه يرفع من معنويات اجلميع‪.‬‬

‫وكان الشيخ الغزايل يؤمهم يف الصلوات‪ ،‬ويلقي عليهم الدروس يف‬


‫وؤون الدين واحلياة‪ ،‬ويقدم هلم حماضرات يف الفكر والسياسة‪ .‬وقد‬
‫مجعها فيما بعد يف كتاب‪ ،‬ونشره بعنوان‪" :‬اإلسالم واالستبداد‬
‫السياسي‪ ".‬وحكى الشيخ القرضاوي تفاصي هذه الصحبة يف سجن‬
‫الطور يف مذكراته املنشورة يف دار الشروق‪.‬‬

‫التقارب والتعاون‪:‬‬

‫وبعد خروجهما من السجن يف سنة ‪ ،0111‬بقيا على صلة‪ ،‬وازدادا‬


‫قربا‪ ،‬فلمس األستاذ يف الطالب الذكاء وصفاء النفس والغرية على‬

‫‪103‬‬
‫الدين والفعالية‪ ،‬بينما وجد الطالب يف األستاذ العلم النافع‪ ،‬الصدق‬
‫يف القول والعم ‪.‬‬

‫قال القرضاوي متذكرا تلك األيام اجلميلة‪« :‬كنت أنا وأخي وزميلي‬
‫أمحد العسال على صلة وثيقة به‪ ،‬نزوره‪ ،‬ونتحدث إليه‪ ،‬ونستمع منه‪،‬‬
‫وكثريا ما كان يدعونا إىل الغذاء يف بيته يف درب سعادة حبي األزهر‪،‬‬
‫فنشبع من جيد طعامه‪ ،‬كما نشبع من جيد كالمه‪ ،‬هذا لعقولنا ‪،‬‬
‫‪82‬‬
‫وذاك لبطوننا»‪.‬‬

‫واستمرت العالقة بني الغزايل والقرضاوي بعد ذلك ومل تنقطع‪ .‬ورحال‬
‫االثنان عن مصر للتدريس يف اخلليج العر ي‪.‬‬

‫القرضاوي يكتب عن الشيخ الغزالي‪:‬‬

‫كتب الشيخ القرضاوي كتابا عنوانه " الشيخ الغزايل كما عرفته"‪.‬‬
‫وكان الكتاب يف األص مقالة كتبها للمسامهة يف حف تكرمي الشيخ‬
‫الغزايل مبناسبة بلوغه سبعني سنة يف عام ‪.0186‬‬

‫وصدر الكتاب والشيخ الغزايل على قيد احلياة‪ ،‬فقرأ جزءا منه‪ ،‬ومحله‬
‫معه إىل الرياض يف رحلته األخرية للمشاركة يف مؤمتر اجلنادرية‪ ،‬وهو‬

‫‪.01‬‬ ‫‪82‬القرضاوي‪ ،‬املصدر السابق‪،‬‬

‫‪104‬‬
‫الذي تويف خالله يوم ‪ 9‬مارس ‪ .0117‬وصدرت هلذا الكتاب منذ‬
‫هذا التاريخ عدة طبعات‪.‬‬

‫وتضمن الكتاب عشرة فصول منها ما سبق أن نشره يف جملة إسالمية‬


‫املعرفة‪ 83،‬أو قدمه حماضرة‪ 84‬يف الندوة اليت نظمتها ثالث مؤسسات‬
‫فكرية (املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ ،‬اجملمع امللكي لبحوث‬
‫احلضارة اإلسالمية ومجعية الدراسات والبحوث اإلسالمية) يف عمان‬
‫باألردن يف جوان ‪.0117‬‬

‫واحلق أن الكتاب هو دراسة لرتاث الغزايل ألنه مل يتناول احلياة‬


‫املشرتكة بني العلمني إال يف صفحات قليلة اقتصرت على فرتة‬
‫األربعينات من القرن العشرين‪ ،‬بينما عاش الرجالن قرابة نصف قرن‬
‫يف صحبة وإخاء مضربة للمث يف الوفاء واإلخال ‪.‬‬

‫والبد أن أوري هنا إىل أن عددا من تالمذة الشيخ الغزايل وأصدقائه‬


‫ألفوا حوله كتبا ودراسات أذكر منهم على سبي املثال‪ :‬حممد‬

‫‪83‬يوسف القرضاوي‪ .‬نظرات يف تراث الشيخ الغزايل‪ .‬جملة إسالمية املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،6‬يناير‬
‫‪.16-06 ،0116‬‬
‫‪84‬يوسف القرضاوي‪ .‬الغزايل رج الدعوة‪ .‬يف العطاء الفكري للشيخ حممد الغزايل‪ .‬حترير‪.‬‬
‫فتحي حسن ملكاوي‪ .‬إصدارات املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ ،0117 ،‬عمان‪،‬‬
‫‪.330-316‬‬

‫‪105‬‬
‫عمارة‪ 85‬وعبد احلليم عويس‪ 86‬وعمار الطاليب‪ 87‬وطه جابر العلواين‬
‫وفهمي جدعان‪ 88‬وكاتب هذه السطور‪...89‬اخل‪.‬‬

‫الصحبة ‪ ...‬الصحبة‪:‬‬

‫مناسبات ومواقف كثرية مجعت بني الشيخني الغزايل والقرضاوي‪ ،‬يف‬


‫مصر وخارجها يف جمال الدعوة والتبصري والتعليم‪ .‬فما أكثر امللتقيات‬
‫واملؤمترات اليت وارك فيها الرجالن جنبا إىل جنب‪ ،‬كان أوهر هذه‬
‫امللتقيات اليت جتمعهما يف ك عام ملتقى الفكر اإلسالمي يف اجلزائر‪.‬‬

‫‪85‬حممد عمارة‪ .‬الشيخ حممد الغزايل‪ .‬املوقع الفكري واملعارف الفكرية‪ .‬اهليئة املصرية العامة‬
‫للكتاب‪ ،‬القاهرة‪.0118 ،‬‬
‫‪86‬عبد احلليم عويس‪ .‬حممد الغزايل تارخيه وجهوده وآراؤه‪ .‬دار القلم‪ ،‬دمشق‪.3103 ،‬‬
‫‪87‬عمار الطاليب‪ .‬الشيخ الغزايل كما عرفته يف اجلزائر‪ .‬جملة إسالمية املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،6‬يناير‬
‫‪61-11 ،0116‬؛ طه جابر العلواين‪ .‬عامل فقدناه‪ :‬الشيخ حممد الغزايل رمحه اهلل‪ .‬جملة‬
‫إسالمية املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،6‬يناير ‪.03-2 ،0116‬‬
‫‪88‬فهمي جدعان‪ .‬العامل بني حدين‪ :‬نظرة يف املبادئ املوجهة للتجربة الغزالية‪ .‬جملة إسالمية‬
‫املعرفة‪ ،‬العدد ‪ ،6‬يناير ‪.82-60 ،0116‬‬
‫‪89‬مولود عومير‪ .‬الشيخ حممد الغزايل يف اجلزائر‪ .‬جملة اجملتمع (الكويت)‪ ،‬العدد ‪،0113‬‬
‫مارس ‪ .3113‬املقال منشور أيضا يف كتا ي‪ :‬أعالم وقضايا يف التاريخ اإلسالمي املعاصر‪.‬‬
‫‪.62-77‬‬ ‫دار اخللدونية‪ ،‬اجلزائر‪،3116 ،‬‬

‫‪106‬‬
‫درسا معا يف كلية الشريعة جبامعة قطر لعدة سنوات‪ ،‬وألفا كتبا‬
‫كما ّ‬
‫يف سالس واحدة ك"كتاب األمة"‪ ،90‬أو "قضايا الفكر‬
‫اإلسالمي"‪ 91‬اليت ينشرها املعهد العاملي للفكر اإلسالمي‪ .‬وكتبا معا‬
‫يف جمالت إسالمية متعددة‪.92‬‬

‫ولقد أوصى الشيخ الغزايل احلكومة اجلزائرية باستقدام الشيخ‬


‫القرضاوي إىل اجلزائر بعد أن غادرها يف سنة ‪ 0111‬ليخلفه يف‬
‫التدريس ورئاسة اجمللس العلمي جبامعة األمري عبد القادر للعلوم‬
‫اإلسالمية‪.‬‬

‫ودرس‬
‫واستجيب فعال الختياره‪ ،‬فقدم الشيخ القرضاوي إىل قسنطينة ّ‬
‫جبامع تها ملدة سنة‪ ،‬واستفاد منه الطلبة اجلزائريون كما استفادوا من‬
‫قب من الشيخ حممد الغزايل رمحه اهلل وطيّب ثراه‪ ،‬ونفع اهلل الناس‬
‫بعلم هذين العاملني‪ ،‬وعلم ك العلماء املخلصني والصادقني‪.‬‬

‫‪90‬حممد الغزايل‪ .‬مشكالت يف طريق احلياة اإلسالمية؛ يوسف القرضاوي‪ .‬الصحوة اإلسالمية‬
‫بني التطرف واجلحود‪.‬‬
‫‪91‬حممد الغزايل‪ .‬كيف نتعام مع القرآن؛ يوسف القرضاوي‪ .‬كيف نتعام مع السنة النبوية‪.‬‬
‫‪92‬خاصة يف جملة الدوحة وجملة األمة القطريتني‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫بين أحمد رضا حوحو وعبد الرحمان شيبان‬

‫أتناول هنا العالقة املتينة اليت تربط بني الشيخ عبد الرمحن ويبان مع‬
‫األديب اجلزائري أمحد رضا حوحو الذي مجعتهما معا األقدار يف‬
‫قسنطينة بني ‪ 0118‬و‪.0127‬‬

‫وبقي الشيخ ويبان وفيا لعهد الصداقة‪ ،‬فقد كان له الفض يف تعرف‬
‫جيلي من الطلبة الثانويني على أدب أمحد رضا حوحو‪ ،‬فهو الذي‬
‫أدرج نصوصه يف الكتب املقررة يف األدب العر ي حينما كان مفتشا‬
‫عاما يف وزارة الرتبية الوطنية يف السبعينات من القرن املاضي‪.‬‬

‫وتعرفنا بعد ذلك على روائع األستاذ حوحو وأدركنا قيمتها الفنية‬
‫واألدبية اليت كشف عنها األكادمييون أبو القاسم سعد اهلل وعبد اهلل‬
‫الركييب وعبد امللك مرتاض وأمحد منور وصاحل اخلريف يف كتبهم‬
‫ومقاالهتم وحبوثهم النفيسة اليت درسوا من خالهلا حياة هذا األديب‬
‫الشهيد واهتموا بأعماله األدبية املتنوعة‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫التعارف في معهد عبد الحميد بن باديس‪:‬‬

‫تعارف عبد الرمحان ويبان وأمحد رضا حوحو يف معهد عبد احلميد‬
‫بن باديس بقسنطينة يف عام ‪ .0118‬فنمت بينهما أواصر الصداقة‬
‫واملودة الدائمة‪.‬‬

‫كان مسار ك واحد منهما خمتلفا‪ .‬فشيبان املولود يف بلدة الشرفة‬


‫بالبويرة درس يف جامع الزيتونة بني ‪ 0128‬و‪ ،0116‬وحتص منه‬
‫على وهاديت األهلية والتحصي ‪ .‬وعرف خالل هذه الفرتة بنشاطه‬
‫الطال ي يف رحاب مجعية الطلبة اجلزائريني الزيتونيني‪ 93‬اليت ترأسها سنة‬
‫واحدة‪.‬‬

‫أما أمحد رضا حوحو املولود يف سنة ‪ 0101‬بسيدي عقبة مبنطقة‬


‫بسكرة فقد درس العربية يف مسقط رأسه وتعلم الفرنسية يف ثانوية‬
‫سكيكدة‪ ،‬مث هاجر إىل املدينة املنورة حيث أتيحت له فرصة االلتحاق‬
‫مبدرسة العلوم الشرعية وني الشهادة العالية يف عام ‪ .0128‬وعم‬

‫‪93‬عبد الرمحان ويبان‪ .‬الذكرى األربعينية لوفاة الشيخ حممد الشاذيل بن القاضي‪ .‬جملة‬
‫‪.81-87‬‬ ‫األصالة (اجلزائر)‪ ،‬العدد ‪ ،26‬ماي ‪،0168‬‬

‫‪109‬‬
‫بعد ذلك مدرسا يف هذه املدرسة الشرعية ومشاركا يف الصحافة‬
‫‪94‬‬
‫بكتاباته القصصية وترمجة نصو أدبية من الفرنسية إىل العربية‪.‬‬

‫يف عام ‪ 0116‬فتحت مجعية العلماء املسلمني اجلزائريني معهدا علميا‬


‫للعلوم الشرعية أطلقت عليه اسم رئيسها األول الشيخ عبد احلميد بن‬
‫باديس الذي كان حيلم بتأسيس معهد إسالمي ثانوي وكلية ورعية يف‬
‫اجلزائر تستقب طلبته املتخرجني من جامع األخضر والطلبة اجلزائريني‬
‫النجباء غري القادرين على السفر إىل املغرب وتونس ومصر ملواصلة‬
‫دراساهتم العليا‪.‬‬

‫التحق حوحو مبعهد عبد احلميد بن باديس بعد عودته من احلجاز‬


‫الذي قضى فيه أكثر من عشرين عاما‪ ،‬كمراقب عام‪ ،‬بينما انضم‬
‫ويبان إىل هيئة التدريس هبذا املعهد بعد عودته من جامع الزيتونة‪.‬‬

‫في رياض الدب‪:‬‬

‫توجت الصداقة بني الرجلني بتأسيس مجعية أدبية امسها "إخوان‬


‫حتولت إىل نادي أو صالون أسبوعي جيمع خنبة‬
‫الصفا" اليت سرعان ما ّ‬

‫‪94‬عن إسهامات األستاذ حوحو يف الصحافة السعودية‪ ،‬أنظر صاحل اخلريف‪ .‬وهيد الثورة‬
‫اجلزائرية أمحد رضا حوحو يف احلجاز ‪ .0112-0121‬دار الغرب اإلسالمي‪ ،‬بريوت‪،‬‬
‫‪.0113‬‬

‫‪110‬‬
‫من املثقفني القسنطنيني يف دار حوحو يتناقشون فيه قضايا األدب‬
‫والثقافة‪ .‬وكان من مثرة هذه اللقاءات تأليف حوحو لرائعته "مع محار‬
‫احلكيم"‪.‬‬

‫قال الشيخ ويبان يف هذا الشأن‪ " :‬يف ليلة من تلك الليايل الزاخرة‪،‬‬
‫قدمت لألخ حوحو " محاري قال يل" لألستاذ توفيق احلكيم‬
‫‪...‬فالتهمه يف سهرة واحدة‪ .‬وأعاده إيل يف الغد‪ ،‬وهو معجب‬
‫مبوضوعه‪ ،‬مأخوذ بأسلوبه‪ ،‬فقلت‪ ...‬ال تد هذه اجلذوة اليت أوقدها‬
‫األديب احلكيم يف نفسك ختمد دون أن تقوم بعم ما ! فقال‪ :‬ما ذا‬
‫تريدين أن أعم ؟ قلت‪ :‬جتند قلمك لتوجيه هذا الشعب الذي كثر‬
‫مستغلوه وق خادموه على حنو ما فع توفيق احلكيم مبصر‪ .‬وذلك ما‬
‫‪95‬‬
‫كان‪".‬‬

‫وهكذا نشر حوحو سلسلة من املقاالت يف جريدة البصائر يف هذا‬


‫املعىن فلقيت صدى كبريا‪ ،‬ونالت إعجاب القراء وتقديرهم‪ ،‬وجذبت‬
‫لصاحبها وهرة أدبية‪ .‬ومجعت هذه املقاالت فيما بعد‪ ،‬ونشرت يف‬
‫اجلزائر بتقدمي الشيخ ويبان‪.‬‬

‫‪95‬أمحد رضا حوحو‪ .‬مع محار احلكيم‪ .‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬اجلزائر‪،0182 ،‬‬
‫‪ 8‬و‪.1‬‬ ‫تقدمي عبد الرمحان ويبان‪،‬‬

‫‪111‬‬
‫معا في عالم الصحافة‪:‬‬

‫يف عام ‪ 0111‬أسس أمحد رضا حوحو يف قسنطينة مع أمحد محاين‬


‫والصادق محاين وأمحد بومشال جريدة هزلية نقدية إمسها الشعلة‪ .‬صدر‬
‫عددها األول يف ‪ 02‬ديسمرب ‪ .0111‬بينما صدر العدد األخري‬
‫(‪ )21‬يف ‪ 8‬فرباير ‪ .0120‬وهي صحيفة أسبوعية تصدر ك يوم‬
‫اخلميس‪.‬‬

‫وساهم الشيخ ويبان يف هذه اجلريدة بأمساء مستعارة وبدون توقيع‪.‬‬


‫وقد اطلعت على أعداد كثرية من هذه اجلريدة فلم أجد فيها أمساء‬
‫صرحية للكتاب الذين كانوا يعاجلون مواضعهم ويناقشون قضاياهم‬
‫بنربة وديدة وسخرية الذعة ونقد مكشوف‪.‬‬

‫توقف األستاذ أمحد رضا حوحو عن الكتابة حىت تساءل عنه القراء‪،‬‬
‫فكتب الشيخ عبد الرمحان ويبان مقاال يف جريدة البصائر متسائال‪:‬‬
‫‪96‬‬
‫عود قراءه مبوضوعات هامة يف خمتلف‬‫"أين محار احلكيم؟" الذي ّ‬
‫الفنون بأسلوب طريف وجذاب‪ .‬وحثه على العودة إىل الكتابة‬
‫ومواصلة نضال الكلمة‪.‬‬

‫‪96‬عبد الرمحان ويبان‪ .‬أين محار احلكيم؟ البصائر‪ ،‬العدد ‪ 08 ،86‬جويلية ‪.0111‬‬

‫‪112‬‬
‫واستجاب أمحد رضا حوحو لنصيحة الشيخ ويبان‪ ،‬وأعلن عن عودة‬
‫محار احلكيم بصراحته وجرأته املعهودة لكنه مل يقدم األسباب اليت‬
‫منعته من الكتابة طوال تلك املدة‪.‬‬

‫ورغم عزميته املعلنة‪ ،‬فإن حوحو مل يكتب ما وعد به‪ ،‬فبعد فرتة‬
‫قصرية‪ ،‬ظهرت له مسامهة وهي عبارة عن ردود على رسائ القراء‬
‫وليس مقاال يف املوضو املنتظر‪.‬‬

‫يستأنف حوحو بعد ذلك سلسلته الشهرية يف أربع حلقات‪ ،‬مث ينشر‬
‫بريد محار احلكيم يف حلقتني‪ .‬لقد جاءته رسائ كثرية من املعجبني‬
‫والساخطني‪.‬‬

‫ولع أغرهبا تتمث يف تلك الرسالة الطويلة اليت اهتم فيها صاحبها‬
‫أمحد رضا حوحو بوسخ جريدة البصائر ألهنا جريدة دينية حمرتمة وال‬
‫عالقة هلا باحلديث عن احلمار وفصيلته‪.‬‬

‫وقال مراس آخر أنه خيشى أن تصبح هذه اجلريدة اإلصالحية حديقة‬
‫تتحول إىل كتاب يف علم احليوان!‬
‫للحيوانات‪ ،‬أو ّ‬
‫كتب األستاذ أمحد رضا حوحو سلسلة من املقاالت يف جريدة‬
‫البصائر على ستة أساتذة معهد ابن باديس‪ ،‬وهم‪ :‬نعيم النعيمي‪،‬‬

‫‪113‬‬
‫أمحد محاين‪ ،‬عبد الرمحان ويبان‪ ،‬عبد القادر الياجوري‪ ،‬العباس بن‬
‫الشيخ احلسني‪ ،‬محزة بوكووة‪ .‬ورسم لك واحد منهم بورتريا مزج فيه‬
‫بني اجلد والفكاهة‪.‬‬

‫ووصف حوحو صديقه ويبان بالربجوازي األنيق الذي يعشق األدب‬


‫والبالغة وحيب وراء الكتب واجملالت الشرقية اليت يتداول على‬
‫‪97‬‬
‫مطالعتها زمالؤه وطلبته يف معهد ابن باديس‪.‬‬

‫وكتب الشيخ ويبان مقاالت أدبية واجتماعية وسياسية يف جريدة‬


‫البصائر‪ ،‬ومل يتوقف عن الكتابة إال بعد مصادرة البصائر وتوقيفه من‬
‫طرف السلطة االستعمارية يف أبري ‪.0127‬‬

‫شيبان يكتب عن حوحو في الصحافة التونسية‪:‬‬

‫مر عام على استشهاد حوحو يف عام ‪ ،0126‬والشيخ ويبان كان‬


‫حينئذ بتونس أين كان يعم يف جلنة اإلعالم جلبهة التحرير الوطين‪،‬‬
‫فكتب عنه مقاال يف جريدة الصباح التونسية يف ‪ 2‬حلقات‪ 98‬رسم‬

‫‪97‬أمحد رضا حوحو‪ .‬عبد الرمحان ويبان يف امليزان‪ .‬البصائر‪ ،‬العدد ‪ 3 ،372‬أبري ‪.0121‬‬
‫‪98‬حممد صاحل اجلابري‪ .‬النشاط العلمي والفكري للمهاجرين اجلزائريني بتونس‪ .‬الدار العربية‬
‫‪.211‬‬ ‫للكتاب‪-‬الشركة الوطنية للنشر والتوزيع‪ ،‬تونس‪-‬اجلزائر‪،0182 ،‬‬

‫‪114‬‬
‫وبني‬
‫فيه األجواء الصعبة يف قسنطينة اليت كان يعيش فيها حوحو‪ّ ،‬‬
‫الظروف اليت استشهد فيها حتت تعذيب رجال األمن االستعماريني‪.‬‬

‫كما قدم ويبان تعريفا عن هذا الكاتب وأسلوبه ونزعته التحررية‬


‫وجرأته األدبية‪ ،‬وكشف أيضا عن جوانب جمهولة يف وخصيته‪ ،‬تربز‬
‫كفاءاته ومواهبه املتعددة اليت ال يعرفها إال من كان قريبا منه مث‬
‫الشيخ ويبان‪.‬‬

‫قال الشيخ ويبان يف هذا الشأن‪ « :‬حيسن كاتبنا الفقيد إىل جانب‬
‫مهارته يف األدب والصحافة والفن واإلدارة فنونا تطبيقية عديدة‪ ،‬فقد‬
‫باور فن التمريض مبعهد ابن باديس أمدا طويال‪ ،‬وحيسن الضرب على‬
‫اآلالت الكاتبة‪ :‬العربية والفرنسية‪ ،‬ويتقن جتليد الكتب إتقانا‪ ...‬وهو‬
‫حيسن استعمال وإصالح أدوات املنزل العصرية كالراديو‬
‫‪99‬‬
‫والكهرباء»‪.‬‬

‫هبذا الوصف اجلمي أختم حديثي عن األديبني‪ ،‬داعيا اهلل أن يرمحهما‬


‫ويعوض األمة اإلسالمية ‪-‬عنهما وعن ك‬
‫ويسكنهما فسيح جنته‪ّ ،‬‬
‫األعالم الذين تطرقت إليهم يف هذا الكتاب‪ -‬علماء عاملني‬
‫وخملصني‪.‬‬

‫‪.33‬‬ ‫‪99‬عبد الرمحان ويبان‪ .‬يف موكب الثورة‪ .‬دار اخللدونية‪ ،‬اجلزائر‪،3101 ،‬‬

‫‪115‬‬
‫الفهرس‬
‫‪2‬‬ ‫مقدمة الطبعة الثانية‬

‫‪7‬‬ ‫مقدمة الطبعة األوىل‬


‫‪8‬‬ ‫عبد احلميد بن باديس وحممد البشري اإلبراهيمي‬

‫‪01‬‬ ‫بني مصلحني‪ :‬عبد احلميد بن باديس والطيب العقيب‬

‫‪31‬‬ ‫عبد احلميد بن باديس كما عرفه حممد الفاض ابن عاوور‬

‫‪10‬‬ ‫تصور مفدي زكريا‬


‫عبد احلميد بن باديس يف ّ‬
‫‪20‬‬ ‫أبو يعلى الزواوي كما عرفه أبو بكر جابر اجلزائري‬
‫‪71‬‬ ‫حممد البشري اإلبراهيمي يف ذكريات عبد الرمحن ويبان‬

‫‪60‬‬ ‫حممد رويد رضا ووكيب أرسالن أو إخاء أربعني سنة‬

‫حممد اخلضر حسني وحممد الطاهر بن عاوور أو صداقة ستني عاما ‪80‬‬
‫‪12‬‬ ‫حسن البنا كما عرفه الفضي الورتالين‬

‫‪11‬‬ ‫حممد الغزايل ويوسف القرضاوي أو إخاء مخسني عاما‬


‫‪018‬‬ ‫بني أمحد رضا حوحو وعبد الرمحان ويبان‬
‫‪007‬‬ ‫الفهرس‬

‫‪116‬‬
‫المؤلف في سطور‬

‫من مواليد ‪ 2‬جوان ‪ 0178‬مبدينة بوغين (اجلزائر) حاص على‬


‫وهادة الدكتوراه يف التاريخ املعاصر من جامعة باريس يف أفري ‪.0118‬‬
‫وارك يف عدة ملتقيات دولية حول «العالقات بني اإلسالم والغرب»‬
‫و«الفكر اإلصالحي املعاصر» يف اجلزائر واخلارج‪ .‬يعم حاليا أستاذاً‬
‫للتعليم العايل يف التاريخ املعاصر بكلية العلوم اإلنسانية جبامعة اجلزائر ‪.3‬‬
‫صدرت له عدة كتب‪ ،‬وهي‪« :‬أعالم وقضايا يف التاريخ اإلسالمي‬
‫املعاصر»‪« ،‬مالك بن نيب رج احلضارة»‪« ،‬اإلسالم والغرب بني‬
‫رواسب التاريخ وحتديات املستقب »‪« ،‬جمالس فكرية»‪« ،‬تراث احلركة‬
‫اإلصالحية اجلزائرية»‪« ،‬عبد احلميد بن باديس مسار وأفكار»‪،‬‬
‫«وخصيات وذكريات»‪« ،‬مقاربات يف االستشراق واالستغراب»‪،‬‬
‫«العلماء األخالء»‪« ،‬السجاالت الفكرية يف اجلزائر»‪« ،‬التواص‬
‫الفكري بني النخبة اإلصالحية يف املغرب الكبري»‪« ،‬العالقات الثقافية‬
‫بني اجلزائر واملشرق العر ي يف القرن العشرين»‪« ،‬الفكر اإلصالحي‬

‫‪117‬‬
‫املعاصر وقضايا التنوير»‪« ،‬مالك بن نيب يف الكتابات املعاصرة»‪« ،‬الثورة‬
‫اجلزائرية يف الدراسات املعاصرة»‪« ،‬الرحلة الصينية»‪« ،‬التاريخ‬
‫واملؤرخون املعاصرون»‪« ،‬حوارات يف الفكر والتاريخ»‪« ،‬كتب عشت‬
‫معها»‪....‬‬

‫وللمؤلف أيضا عدة مؤلفات مشرتكة مع زمالئه الباحثني‪.‬‬

‫‪118‬‬

You might also like