You are on page 1of 23

‫الّص ْر َفة‬

‫مصدر القول بها‪:‬‬


‫لما أولع الناس بالفلسفة الدخيلة واطلع بعض المتفلسفين من المسلمين على‬
‫أقوال البراهمة في كتابهم «الفيدا»‪،‬الذي يزعمون أنه يشتمل على مجموعة‬
‫من األشعار ليس في كالم الناس ما يماثلها؛ويقول جمهور علمائهم‪ :‬إن البشر‬
‫يعجزون عن أن يأتوا بمثلها ألن براهما صرفهم عن أن يأتوا بمثلها‪،‬‬
‫ولكن خاصتهم يقولون‪ :‬إن في مقدورهم أن يأتوا بمثلها ولكنهم ممنوعون‬
‫من ذلك احتراما لها‪ .‬فدفع ذلك بعضهم إلى إعتناق ذلك القول وتطبيقه على‬
‫القرآن‬
‫وإن كان ال ينطبق ‪ -‬فقال قائلهم‪ :‬إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل‬
‫القرآن ما كان عجزهم ألمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه؛ بل كان‬
‫ألن هللا تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله‪.‬‬
‫حقيقة القول بالصرفة‪:‬‬

‫قالوا‪( :‬لقد ُع رف العرب منذ جاهليتهم بفصاحة الكلم‪ ،‬فلهم القصيد‬


‫الطويل‪ ،‬والنثر البديع‪ ،‬والرجز اللطيف‪ ،‬والسجع الغريب‪ ،‬ولهم‬
‫المعلقات‪ ،‬وقد كانت ندواتهم ومحافلهم تقام لمعرفة ما استجد من‬
‫أفانين القول؛ فكيف يعجزون عن اإلتيان بمثل أقصر سور القرآن‬
‫بمثل سطر واحد ال تتجاوز كلماته العشر؟! فإن ثبت عجزهم فليس‬
‫ذاك إال أن صارفا صرفهم عن االتيان بمثل القرآن أو بمثل سورة‬
‫منه بأن سلب منهم العلوم التي تمكنهم معارضة القرآن بواسطتها‪،‬‬
‫أو صرفهم عن االهتمام بالمعارضة‪ ،‬ولوال ذلك ألمكنهم ذلك)‪.‬‬
‫‪ -‬القائلون بها‪:‬‬

‫‪ - 1‬الّنّظام‪ :‬أبو إسحاق إبراهيم بن سّيار بن هانئ البصري‪ ،‬اقترن اسم الصرفة‬
‫باسمه‪ ،‬واشتهر أنه أول المنادين بها والمظهرين لها‪.‬‬
‫وقيل له النظام؛ ألنه كان ينظم الخرز في سوق البصرة‪ .‬تتلمذ للعالف في االعتزال‬
‫ثم انفرد عنه وكّو ن له مذهبا خاصا‪ ،‬وعاشره في بغداد حينا ومات وهو شاب في‬
‫نحو السادسة والثالثين من عمره سنة ‪ 231‬هـ‪ .‬وكان أستاذ الجاحظ‪.‬‬
‫عاشرالّنظام في شبابه قوما من الثنوية وقوما من الّس منّية القائلين بتكافؤ األدلة‪،‬‬
‫وخالط بعد كبره قوما من مالحدة الفالسفة‪ ،‬ثم دّو ن مذاهب الثنوية وبدع الفالسفة‬
‫وشبه المالحدة في دين اإلسالم‪ ،‬وأعجب بقول البراهمة بإبطال النبوات‪ ،‬ولم يجسر‬
‫على إظهار هذا القول خوفا من السيف‪ ،‬فأنكر إعجاز القرآن في نظمه‪ ،‬وأنكر ما‬
‫روي في معجزات نبينا ‪ ‬ليتوصل بإنكارها إلى إنكار نبوته ‪ ‬وله غيرها‬
‫من اآلراء الشاذة والمعتقدات الباطلة‪...‬‬
‫‪ - 2‬الشريف المرتضى من الشيعة‪:‬‬
‫علي بن الحسين بن موسى بن محمد‪ ،‬من أحفاد الحسين بن علي‬
‫بن أبي طالب‪،‬أحد األئمة في علم الكالم واألدب والشعر‪ .‬يقول‬
‫باالعتزال‪ .‬مولده ووفاته ببغداد‪ .‬وله تصانيف كثيرة أشهرها‪:‬‬
‫أمالي المرتضى‪ ،‬وديوان شعره‪ .‬توفي‪.436:‬‬
‫ولكنه فّس ر الصرفة بأن هللا سلبهم العلوم التي يحتاج إليها في‬
‫معارضة القرآن واإلتيان بمثله‪ .‬ومؤّد ى كالمه أنهم أوتوا القدرة‬
‫على المعارضة بما كانوا عليه من بيان وبالغة وفصاحة‪ ،‬فهم‬
‫قادرون على النظم والعبارات‪ ،‬ولكنهم عاجزون عن اإلتيان بمثل‬
‫القرآن بسبب أنهم سلبوا العلم الذي يستطيعون به محاكاة القرآن‬
‫في معناه‪.‬‬
‫‪ - 3‬ابن حزم الظاهري ‪:‬‬
‫أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم األندلسي المتوفى سنة ‪ 456‬هـ‪.‬‬
‫عالم األندلس في عصره‪ ،‬ولد بقرطبة‪ ،‬وكانت له وألبيه من قبله رئاسة الوزراء وتدبير‬
‫المملكة‪ ،‬فزهدها وانصرف إلى العلم والتأليف‪...‬أشهر مصنفاته‪« :‬الفصل في الملل‬
‫واألهواء والّنحل»‪ ،‬و«المحلى» في الفقه‪،‬و«اإلحكام في أصول األحكام» وغيرها‪...‬‬
‫قال في سبب اإلعجاز‪ :‬لم يقل أحد إن كالم غير هللا معجز‪ ،‬لكن لّم ا قاله هللا تعالى‪ ،‬وجعله‬
‫كالما له‪ ،‬أصاره معجزا‪ ،‬ومنع من مماثلته ‪ ..‬ثم قال‪ :‬وهذا برهان كاف ال يحتاج إلى غيره‪.‬‬
‫يقول أبو زهرة‪ «:‬ولئن كان كل من الّنّظام والمرتضى متهما بنوع من التهمة في عقيدته‪،‬‬
‫فالنظام قد اّتهم باإللحاد والزندقة‪ ،‬والمرتضى اّتهم باّطالعه على فلسفة المعتزلة وكالمهم‪،‬‬
‫فإن ابن حزم لم يّتهم بشيء من ذلك‪ ،‬وإنما يفسر قوله بالصرفة تمشيا مع مبدئه في عدم‬
‫جواز تعليل كالم هللا وشرعه‪ ،‬فقد ألزم نفسه باألخذ بظاهر النصوص من غير تعليل‪،‬‬
‫فاالتجاه إلى تعليل اإلعجاز الوارد في قوله تعالى‪َ( :‬فِإْن َلْم َتْفَعُلوا َو َلْن َتْفَعُلوا) وغيرها من‬
‫اآليات بأن السبب فيه بالغته التي علت عن طاقة العرب والتي جعلتهم يخّر ون صاغرين‬
‫بين يديه من غير مراء وال جدال‪ ،‬يعّد هذا تعليال‪ ،‬وهو من باب الرأي الذي ينفيه»‪.‬‬
‫‪ - 4‬ابن سنان الخفاجي‪:‬‬
‫أبو محمد عبد هللا بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي‪ ،‬ينتسب إلى بني خفاجة من بني َح ْز ن‬
‫المتوفى سنة (‪ )466‬هـ‪ .‬يقول في كتابه «سر الفصاحة»‪ :‬وإذا عدنا إلى التحقيق وجدنا وجه إعجاز‬
‫القرآن صرف العرب عن معارضته‪ ،‬بأن سلبوا العلوم التي بها كانوا يتمّك نون من المعارضة في وقت‬
‫مرامهم ذلك ‪ ...‬ومتى رجع اإلنسان إلى نفسه‪ ،‬وكان معه أدنى معرفة بالتأليف المختار وجد في كالم‬
‫العرب ما يضاهي القرآن في تأليفه)‬
‫بالصرفة‬ ‫مذاهب القائلين‬
‫مما تقدم نتعرف على مذهبين‬

‫‪ - 2‬الشريف المرتضى وابن سنان الخفاجي ومن‬


‫تابعهما‪ :-‬ذهبوا إلى أن هللا سلب من العرب‬
‫‪ - 1‬النظام ومن تبعه‪ :‬ذهبوا إلى أن العرب صرفوا‬
‫علومهم التي يحتاج إليها في معارضة القرآن‬ ‫عن المعارضة أصال ولم يتوّج هوا إليها‪ ،‬ولو‬
‫واالتيان بمثله‪ ،‬ولو توّج هوا لما استطاعوا أن‬ ‫توّج هوا لقدروا على االتيان بمثل القرآن‬
‫يأتوا بمثل القرآن‪.‬‬
‫وكال القولين مردود بأدلة نقلية وعقلية‪:‬‬

‫‪:‬وكال القولين مردود بأدلة نقلية وعقلية‬


‫أما األدلة النقلية‪:‬‬
‫‪- 1‬أجمعت األمة قبل ظهور القول بالصرفة على أن إعجاز‬
‫القرآن ذاتي الشتماله على ميزات جعلته يفضل كالم البشر‪.‬‬
‫والقول بالصرفة يسلب عن القرآن إعجازه الذاتي‪ ،‬ويجعل‬
‫المعجزة لهذا الصرف‪..‬‬
‫‪ - 2‬وصف هللا سبحانه وتعالى القرآن بأوصاف ذاتية تجعله في منزلة ال‬
‫تصل إليها المعجزات األخرى‪ ،‬وبّين أن وجود القرآن بينهم يتلى‬
‫عليهم كافيا ومغنيا عن كل معجزة مادية أخرى‪َ( :‬و قاُلوا َلْو ال‬
‫ُأْنِزَل َع َلْيِه آياٌت ِم ْن َر ِّبِه ُقْل ِإَّنَم ا اآْل ياُت ِع ْنَد ِهَّللا َو ِإَّنما َأَنا َنِذ يٌر‬
‫ُمِبيٌن * َأَو َلْم َيْك ِفِهْم َأَّنا َأْنَز ْلنا َع َلْيَك اْلِكتاَب ُيْتلى َع َلْيِهْم ِإَّن ِفي ذِلَك‬
‫َلَر ْح َم ًة َو ِذ ْك رى ِلَقْو ٍم ُيْؤ ِم ُنوَن )‬
‫[العنكبوت‪]51 - 50 :‬‬
‫فهذه األوصاف والمزايا توجب أن يكون إعجازه ذاتيا وقد قال‬
‫سبحانه وتعالى‪َ( :‬و َلْو َأَّن ُقْر آنًا ُسِّيَر ْت ِبِه اْلِج باُل َأْو ُقِّطَع ْت ِبِه‬
‫أي لو كان من‬ ‫اَأْلْر ُض َأْو ُك ِّلَم ِبِه اْلَم ْو تى َبْل ِهَّلِل اَأْلْم ُر َجِم يعًا)‬
‫[الرعد‪.]31 :‬‬

‫شأن كتاب أن يظهر له أثر في مثل هذه األشياء لكان هذا القرآن‬
‫أولى من كل كتاب بذلك‪.‬‬
‫ويقول جّل شأنه‪ُ( :‬هَّللا َنَّز َل َأْح َس َن اْلَحِد يِث ِكتابًا ُم َتشاِبهًا َم ثاِنَي‬
‫َتْقَش ِع ُّر ِم ْنُه ُج ُلوُد اَّلِذ يَن َيْخ َش ْو َن َر َّبُهْم ُثَّم َتِليُن ُج ُلوُدُهْم َو ُقُلوُبُهْم ِإلى‬
‫ِذ ْك ِر ِهَّللا ذِلَك ُهَد ى ِهَّللا َيْهِد ي ِبِه َم ْن َيشاُء َو َم ْن ُيْض ِلِل ُهَّللا َفما َلُه ِم ْن‬
‫‪.‬‬ ‫هاٍد )‬
‫[الزمر‪]23 :‬‬

‫فالقول بالصرفة يسلب هذه الصفات الذاتية عن القرآن الكريم‬


‫ويجعل اإلعجاز في المنع الذي حال بينهم وبين اإلتيان بمثله‪.‬‬
‫وأما األدلة العقلية‪:‬‬
‫‪ - 1‬فقول النظام ومن تبعه‪« :‬إن هللا صرفهم بصرف الدواعي عن االهتمام‬
‫بالمعارضة» يكذبه الواقع التاريخي‪:‬‬
‫فكيف يقال إنهم لم يهتموا بأمر القرآن والتوّج ه لمعارضته وهم الذين لم‬
‫يّد خروا وسعا في سبيل القضاء على القرآن والتخلص ممن أنزل عليه‪.‬‬

‫‪ -‬هل يقال ذلك وهم الذين أوفدوا عتبة بن ربيعة ليفاوض محمدا ‪ ‬على ترك‬
‫سب آلهتهم وتسفيه أحالمهم وله مقابل ذلك الملك والمال والجاه والنساء‬
‫وكل ما يرغب؟!‪.‬‬
‫‪ -‬أيقال ذلك وهم الذين وجهوا أشرافهم إلى عم النبي ‪ ‬أبي طالب لكي‬
‫يسلمهم محمدا يقتلوه ويعطوه بدله أنهد فتى في قريش‪ ،‬عمارة بن الوليد بن‬
‫المغيرة؟!‪.‬‬
‫‪ -‬كيف يقال ذلك وهم الذين لّم ا يئسوا من المفاوضات قرروا إرسال فتى من‬
‫كل قبيلة الغتيال محمد ‪ ‬في بيته لكي يتفّر ق دمه في القبائل فال يستطيع‬
‫بنو هاشم حرب العرب جميعا فيضطرون إلى قبول ديته؟!‬
‫ولما أنجاه هللا منهم جمعوا الجيوش تلو الجيوش لخوض المعارك الضارية وهم‬
‫يقدمون وقودا لها أبناءهم وفلذات أكبادهم في سبيل إطفاء نور هللا والقضاء على‬
‫دعوة محمد ‪. ‬‬
‫كل هذا وكان يكفيهم مؤنة ذلك ويبطل دعوة محمد ‪ ‬اإلتيان بمثل أقصر‬
‫سورة من سور القرآن‪ ،‬إن ترك المعارضة بالحرف واللسان واللجوء إلى‬
‫الضرب والطعن بالسنان من قريش‪ -‬ذؤابة العرب وأهل الحجا والّن هى فيهم‪-‬‬
‫لدليل على إحساسهم بالعجز المطلق أمام آيات هللا البينات‪.‬‬
‫بل كان هذا العقل الراجح يمنعهم من ارتكاب حماقات مثل حماقات مسيلمة في‬
‫زعمه اإلتيان بمثل سور القرآن فأصبح أضحوكة األجيال واألزمان‪.‬‬
‫‪ - 2‬وعن قول المرتضى ومن شايعه‪« :‬أن هللا سلب من العرب العلوم التي‬
‫يحتاجون في معارضة القرآن»‪ ،‬نقول‪:‬‬
‫‪ -‬وهل انحطت علومهم وعقولهم بعد التحّد ي عما كانت عليه قبل التحّد ي؟! إننا‬
‫إذا قارّن ا بين أساليبهم في الكالم قبل بعثة محمد ‪ ‬وبعد البعثة لم نجد تفاوتا‬
‫بين أساليبهم‪ ،‬وعلى هذا الزعم كان ينبغي أن تسف أساليبهم بعد التحّد ي‪.‬‬
‫ولو أن العلوم سلبت منهم فلماذا لم يلجأوا إلى كالم فصحائهم من القدماء الذين لم يحضروا‬
‫عصر التنزيل ولم تسلب منهم العلوم‪ ،‬فيأتوا بقطعة شعرية أو خطبة محفلية فيعارضوا بها‬
‫القرآن؟‬
‫ولماذا لم ينطقوا بهذا السلب ويشيعوا بأنهم سلبوا علومهم فال يقدرون على معارضة‬
‫القرآن؟‪.‬‬
‫وال يقال إن ذلك سيكون حجة عليهم ملزمة لهم لتصديقه‪ ،‬ألن باب االفتراء كان مفتوحا‬
‫عندهم‪ ،‬فكانوا يستطيعون أن يّد عوا أن علومهم سلبت بطريق السحر كما افتروا إن تأثير‬
‫القرآن على األنفس إنما هو من قبيل السحر‪.‬‬

‫إن الذين ادعوا أن إعجاز القرآن كان بسلب العلوم‪ ،‬يثبتون للعرب قدرة هم لم يدعوها‬
‫ألنفسهم‪ ،‬بل جاء على لسان أهل البيان منهم ما ظهر الحق عليه من غير إرادة منه (ما‬
‫يقول هذا بشر)‪.‬‬

‫وإن كان القرآن غير معجز بشيء ذاتي فيه‪ ،‬وإنما لم يعارضه العرب لصرف دواعيهم‬
‫عن المعارضة أو لسلب العلوم منهم‪ ،‬فهل أحس الّنّظام والمرتضى بما وصفوا العرب به‬
‫من صرف وسلب؟ فلماذا لم يأتيا بمعارضة للقرآن‪ ،‬وكان الّنّظام من األذكياء الماهرين كما‬
‫يشهد له تلميذه الجاحظ‪ ،‬والمرتضى مشهود له أنه كان من فرسان البالغة والبيان؟‪.‬‬
‫إننا نقول إن تحّد ي القرآن وإثبات العجز للناس ليس‬
‫مقتصرا على عهد النبوة فقط بل هذا التحّد ي قائم‪ ،‬وهذا العجز‬
‫من البشر ثابت إلى قيام الساعة‪ .‬فمن قال بالصرفة فليحاول هو‪،‬‬
‫وهل يحّس بشيء من الصرف أو السلب في نفسه؟‪.‬‬
‫إن استعظام العرب لفصاحة القرآن وبالغته وتعجبهم من‬
‫ذلك لهو دليل على بطالن الصرفة‪ ،‬فلو كانوا مصروفين عن‬
‫المعارضة بنوع من الصرف لكان تعجبهم للصرف ال للبيان‬
‫المعجز‪ .‬ولو كان هنالك سلب علومهم لكان الفرق بين كالمهم‬
‫بعد التحّد ي وكالمهم قبله كالفرق بين كالمهم بعد التحّد ي وبين‬
‫القرآن‪ ،‬ولما لم يكن كذلك بطل القول بالصرفة‪.‬‬
‫اإلعجاز عند علماء أهل السنة والجماعة‬
‫تصّد ى علماء أهل السّنة للرد على القائلين بالصرفة النافين لإلعجاز الذاتي عن القرآن‬
‫الكريم‪ ،‬وكان أسلوبهم في هذا الرد مشابها ألساليب علماء المعتزلة الذين توّلوا الرّد على‬
‫النظام وأتباعه حيث كان طابع هذه الردود بشكل عام التوجه إلى‪:‬‬

‫‪ -1‬بيان أساليب العرب في كالمهم في ‪ -‬شعرهم ونثرهم ‪ -‬ثم أخذ‬


‫نماذج منه‪ ،‬ودراسته وبيان وجوه البالغة فيه ( من المجاز والتشبيه‬
‫واالستعارة والكناية والسجع والتضمين وغير ذلك من أفانين القول‬
‫فيه)‪،‬‬
‫ثم مقارنته بما ورد في القرآن الكريم من ألوان بالغته وإبراز مزايا ما‬
‫ورد في القرآن الكريم على سائر الكالم‪ ،‬وأن المستوى الرفيع المذكور‬
‫خارج عن طوق البشر معجز لقدرات المخلوقين‪.‬‬
‫‪ - 2‬دراسة نماذج من اآليات الكريمة وبيان طريقة نظم األلفاظ واختيار‬
‫الكلمات للداللة على المعاني الجليلة التي ال عهد للبشر في طرقها‬
‫والتعرض لها‪ ،‬فهي هدايات قرآنية جليلة اختص القرآن الكريم بها‪.‬‬
‫نلحظ هذا االتجاه في المناقشة والرد من خالل مؤلفات علماء اللغة وعلم‬
‫الكالم واألدب والفقه والتفسير‪ .‬فانظر مثال في كالم ابن قتيبة في كتابه‬
‫«تأويل مشكل القرآن»‪ ،‬وكذلك في كالم الخّطابي في رسالته «بيان إعجاز‬
‫القرآن» فهم يبدأون بالحديث عن البالغة وعلومها وضرب األمثلة من‬
‫كالم العرب على ذلك ثم يصلون إلى إعجاز القرآن من خالل المقارنة‪.‬‬
‫إال أن هذا اللون في البحث اختلف مساره على يد الباقاّل ني المتوفى سنة ‪ 403‬هـ‬
‫حيث قصد إلى بحث إعجاز القرآن ابتداء فجعل البحث في وجوهه نقطة‬
‫البدء‪.‬‬
‫‪:‬اإلعجاز في كتب أهل السّنة والجماعة‬
‫وجه اإلعجاز عند الخطابي‪:‬‬
‫وهو أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخّطابي المتوفى سنة ‪ 388‬هـ‪ .‬وهو من علماء‬
‫أهل السّنة والجماعة البارزين‪ ،‬وعرف بمؤلفاته الجليلة مثل «غريب الحديث» و‬
‫«معالم السنن» و «بيان إعجاز القرآن»‪.‬‬
‫لقد اّطلع الخطابي على ما كتبه السابقون عن إعجاز القرآن كالجاحظ وابن‬
‫قتيبة والرماني‪ .‬وكان موضوع النظم القرآني هو ميدان البحث في كتابات‬
‫المتصّد ين لبيان وجه اإلعجاز‪ ،‬إال أن حديث الخطابي عن النظم القرآني‬
‫يختلف بعض االختالف عن حديث الجاحظ وابن قتيبة والرماني‪ .‬فبينما اهتم‬
‫السابقون ببيان وجوه المجاز واالستعارات والتشبيهات‪ ،‬واستخدام األلفاظ‬
‫المختارة للداللة على األغراض المعّينة‪ ،‬وقارنوا كل ذلك بما ورد عن العرب‬
‫في أشعارهم وفصيح كالمهم في محافلهم‪ ،‬وأبرزوا مزايا القرآن الكريم على‬
‫كل ذلك‪ ،‬نجد الخطابي يضيف بعدا جديدا إلى مفهوم النظم حيث يقول‪:‬‬
‫(وإنما يقوم الكالم بهذه األشياء الثالثة‪:‬‬
‫لفظ حامل‪،‬‬
‫ومعنى به قائم‪،‬‬
‫ورباط لهما ناظم‪.‬‬
‫وإذا تأملت القرآن وجدت هذه األمور منه في غاية الشرف‬
‫والفضيلة حتى ال ترى شيئا من األلفاظ أفصح وال أجزل وال أعذب‬
‫من ألفاظه‪ ،‬وال ترى نظما أحسن تأليفا وأشد تالؤما وتشاكال من‬
‫نظمه‪ ،‬وأما المعاني فال خفاء على ذي عقل أنها هي التي تشهد لها‬
‫العقول بالتقدم في أبوابها والترقي إلى أعلى درجات الفضل من‬
‫نعوتها وصفاتها)‪.‬‬
‫والخطابي عندما يطلق هذه األوصاف العامة في النظم القرآني وألفاظه‬
‫الفصيحة الجزلة ونظمه المتآلف المتالئم ومعانيه الفاضلة‪ ،‬لم يسق أمثلة‬
‫تطبيقية من خالل نصوص آي الذكر كما فعل الجرجاني الذي جاء بعده‪.‬‬

‫ولعل جانبا آخر تمّيزت به نظرية الخطابي في اإلعجاز وهو مزيتا‬


‫القرآن الكريم التي قال عنها الخطابي‪( :‬صفتا الفخامة والعذوبة) يقول في‬
‫ذلك‪:‬‬
‫( ‪ ...‬فحازت بالغات القرآن من كل قسم من هذه األقسام حصة‪ ،‬وأخذت من‬
‫كل نوع من أنواعها شعبة (‪ ،)2‬فانتظم لها بامتزاج هذه األوصاف نمط من‬
‫الكالم يجمع صفتي الفخامة والعذوبة‪ ،‬وهما على االنفراد في نعوتهما‬
‫كالمتضاّد ين ألن العذوبة نتاج السهولة‪ ،‬والجزالة والمتانة في الكالم تعالجان‬
‫نوعا من الوعورة‪،‬‬
‫فكان اجتماع األمرين في نظمه مع نبّو كل واحد منهما على اآلخر‬
‫فضيلة خّص بها القرآن‪ ،‬يسّرها هللا بلطيف قدرته من أمره‪ ،‬ليكون آية‬
‫بينة لنبيه‪ ،‬وداللة على صحة ما دعا إليه من أمر دينه)‪.‬‬
‫فهذه المزايا في نظم القرآن الكريم هي التي أعجزت العرب عن‬
‫اإلتيان بمثله أو بمثل أقصر سورة منه‪(،‬لذا انقطع الخلق دونه‬
‫وعجزوا عن معارضته بمثله أو مناقضته في شكله‪ .‬ثم صار‬
‫المعاندون له ممن كفر به وأنكره يقولون مرة إنه شعر لما رأوه كالما‬
‫منظوما‪ ،‬ومرة سحر إذ رأوه معجوزا عنه غير مقدور عليه‪ ،‬وقد‬
‫كانوا يجدون له وقعا في القلوب وقرعا في النفوس يريبهم‪ ،‬فلم‬
‫يتمالكوا أن يعترفوا به نوعا من االعتراف‪ ،‬ولذلك قال قائلهم إن له‬
‫حالوة وإن عليه طالوة ‪.) ..‬‬
‫وهكذا نجد الخطابي قد استوعب ما قاله سابقوه في وجه اإلعجاز‬
‫وعّم ق مفهوم النظم القرآني بهذه التقسيمات‪.‬‬
‫باإلضافة إلى ما تعرض له في كتابه في الرد على الصرفة والقائلين‬
‫بها‪ ،‬وما أورده من وجوه أخرى في اإلعجاز وإن لم يرتضها كالقول‬
‫باإلعجاز الغيبي ألن اإلخبار بالغيب ال تشتمل عليه جميع سور القرآن‪،‬‬
‫وقد جعل كل سورة من القرآن معجزة قائمة بذاتها‪.‬‬
‫ثم يذكر من وجوه اإلعجاز ما قال عنه‪« :‬إن الناس قد ذهبوا عنه فال يكاد‬
‫يعرفه إال الشاذ من آحادهم وهو صنيعه بالقلوب وتأثيره في النفوس‪،‬‬
‫فإنك ال تسمع كالما غير القرآن منظوما أو منثورا إذا قرع السمع خلص‬
‫له إلى القلب‪ -‬من اللذة والحالوة في الحال‪ ،‬ومن الروعة والمهابة في‬
‫أخرى‪ -‬ما يخلص من القرآن إليه‪ ،‬تستبشر به النفوس‪ ،‬وتنشرح له‬
‫الصدور‪ ،‬حتى إذا أخذت حظها منه عادت مرتاعة‪ ،‬وقد عراها الوجيب‬
‫والقلق وتغشاها الخوف والفرق‪ ،‬تقشعر منه الجلود وتنزعج له القلوب ‪..‬‬
‫الباقالني وكتابه «إعجاز القرآن»‪:‬‬
‫هو أبو بكر محمد بن الطيب بن محمد بن جعفر بن القاسم المعروف‬
‫بالباقالني أو ابن الباقالني‪ .‬ولد بالبصرة‪ ،‬وتلقى العلم على أعالمها ثم‬
‫استوطن بغداد وأخذ من علمائها‪ ،‬وتوفي بها عام ‪ 403‬هـ‪.‬‬
‫من أشهر مؤلفاته‪«:‬إعجاز القرآن»و«التمهيد» و«هداية‬
‫المسترشدين والمقنع في معرفة أصول الدين» و«االنتصار‬
‫لصحة نقل القرآن والرد على من نحله الفساد بزيادة أو نقصان»‬
‫وغيرها‪...‬‬
‫كتابه «إعجاز «القرآن»‪:‬‬
‫يعتبر كتابه من أوسع الكتب التي أّلفت لبيان إعجاز القرآن‪ .‬وقصد إلى البحث مواجهة‪ ،‬وذكر‬
‫كل قول يحتمل أو يرد على اإلعجاز‪ .‬وأكثر من الفصول التي تعرض فيها آلراء السابقين‬
‫ومناقشتها والرد عليها‪ -‬إن خالف رأيه آراءهم‪ -‬وذكر أهمية البحث في إعجاز القرآن ألن‬
‫نبوة محمد ‪ ‬مبنية على داللة معجزة القرآن‪.‬‬
‫وأفاض في إبطال الصرفة وذكر جملة من وجوه إعجاز القرآن أجملها في ثالثة وجوه‪:‬‬
‫‪ - 1‬اإلخبار عن الغيوب‪ - 2 ،‬واإلنباء عن قصص األولين وسير المتقدمين‪ - 3 ،‬وبراعة‬
‫النظم والتأليف والرصف ‪ ،‬ثم فصل هذا اإلجمال بضرب األمثلة الكثيرة على كل وجه يذكره‪.‬‬
‫وأغلب الوجوه التي ذكرها تتعلق باإلعجاز البياني‪.‬‬
‫ولعل الجديد الذي أضافه على وجوه اإلعجاز التي ذكرها من تقّد مه هو هذا التفصيل‬
‫والردود المطولة التي ناقش فيها اآلخرين‪ ،‬انظر مثال الفصل الذي عقده في نفي الشعر عن‬
‫القرآن واآلخر في نفي السجع عن القرآن‪.‬‬
‫وقد أكثر الباقالني من ذكر نصوص من خطب النبي ‪ ‬وخطب أبي بكر وعمر وعثمان‬
‫وعلّي وغيرهم من الصحابة والتابعين رضوان هللا عليهم‪.‬‬
‫وكان قصده من سوق هذه النصوص الطويلة ليتدبرها العاقل (ويتأملهابسكون طائر وخفض‬
‫جناح وتفريغ لب وجمع عقل‪،‬‬
‫حتى يقع له الفصل بين كالم اآلدميين وبين كالم رب العالمين‪ ،‬ويعلم أن‬
‫نظم القرآن يخالف نظمهم‪ ،‬ويتبين الحد الذي يتفاوت بين كالم البليغين‬
‫والخطيبين والشاعرين؛ وبين نظم القرآن جملة)‪.‬‬
‫كما اختار نماذج من الشعر المشهود له بالجودة من شعر امرئ القيس‬
‫وشعر البحتري‪ .‬ومن خالل نقده لقصيدة امرئ القيس وقصيدة البحتري‬
‫ذكر بعض اآليات وأبرز وجوه اإلعجاز فيها‪.‬‬
‫ثم تعرض لبيان القدر المعجز من القرآن وأقوال العلماء في ذلك ثم عقد‬
‫فصال عن حقيقة المعجزة‪ ،‬وخصص فصال للرد على بعض الشبهات‬
‫التي أثارها المالحدة‪ ،‬ثم ختم كتابه بذكر مزايا للقرآن الكريم‪.‬‬
‫وهكذا نجد أن كتاب الباقالني قد استوفى الجوانب التي تطرق لها في‬
‫إعجاز القرآن بأسلوب مشرق‪ ،‬وحجة قوية بّينة‪ ،‬وحماس منقطع النظير‪.‬‬

You might also like