You are on page 1of 54

‫ما الفلسفة ؟‬

‫) انظر الّتحليل (‬

‫بهذا ا لسؤال نمس موضوعا واسعا جدا ‪ ،‬موضوعا مترامي الطراف ‪ ،‬ولن الموضوع واسع‬
‫فقد بقي بغير تحديظظد‪ ،‬ولنظظه بغيظظر تحديظظد ففظظي مقظظدورنا أن نتنظظاوله مظظن خلل أكظظثر وجهظظات النظظظر‬
‫اختلفا‪ .‬ومع ذلك فسوف نعثر دائما على شيء مظظن الحظق‪ .‬ولكظظن بمظا أن الراء الممكنظظة كلهظا‪ ،‬فظي‬
‫تناول هذا الموضوع المتشعب الطراف ‪ -‬متداخل بعضها في بعض ‪ ،‬فنحن علظظى شظظفا الوقظظوع فظظي‬
‫خطر يفتقد معه حديثنا إلى الحكام اللزم ‪.‬‬
‫من أجل ذلك يجب أن نحاول تحديد السؤال على نحو أدق ‪ .‬فبهذه الطريقة نوجه الحديث وجهة‬
‫محددة‪ ،‬وسيسير تبعا لذلك على طريق واحد‪ .‬أقول على طريق واحد‪ ،‬لننا نسلم ‪ -‬ونحن علظظى يقيظظن‬
‫‪ -‬بأن هذا الطريق ما هو بالطريق الوحيد‪ .‬و الواقع أن ثمة مشكلة ل بد أن تبقى قائمة‪ ،‬وهظظي مظظا إذا‬
‫كان الطريق الذي أود تخطيطه هو في الحقيقة الطريق الذي يتيح لنا أن نضع السظظؤال ‪ ،‬وأن نجيظظب‬
‫عنه ‪.‬‬
‫ولنفترض الن بأننا استطعنا العثور علظظى طريظظق يظظؤدي بنظظا إلظظى تحديظظد أدق للسظظؤال ‪ ،‬عنظظدها‬
‫يظهر على الفور اعتراض خطير ضد موضوع حديثنا هو ‪ :‬أننا عنظظدما نسظظأل ‪ :‬مظظا هظظذا ‪ -‬الفلسظظفة‪،‬‬
‫فنحن نتكلم عن الفلسظظفة‪ .‬وتسظظاؤلنا بهظظذه الطريقظظة يضظظعنا ‪ -‬بشظظكل واضظظح ‪ -‬فظظي موقظظف عظظال علظظى‬
‫الفلسفة‪ ،‬أي بمعزل عنها‪ .‬بينما الهدف من سؤالنا هو أن ندخل في الفلسظظفة‪ ،‬وأن نقيظظم فيهظظا ‪ ،‬فنسظظلك‬
‫وفق طريقتها‪ ،‬أي أن نتفلسف ‪ ،‬لذلك يتحتم على الطريق الذي تسظظير فيظه أحاديثنظظا أل يكظون واضظظح‬
‫التجاه فحسظظب ‪ ،‬بظظل لبظظد لهظظذا التجظظاه أن يعطينظظا فظظي نفظظس الظظوقت الضظظمان بأننظظا نتحظظرك ‪.‬داخظظل‬
‫الفلسفة ‪ ،‬ل أن ندور من الخارج حولها)‪.(...‬‬
‫سؤال ‪ :‬ما الفلسفة ؟ هذا السؤال قد أجاب عنه أرسطو‪ .‬وعلى هذا فحديثنا لم يعد ضروريا‪ .‬إنظظه‬
‫منته قبل أن يبدأ‪ ،‬وسيكون الرد الفوري على ذلك قائما علظظى أسظظاس أن عبظظارة أرسظظطو عظظن ماهيظظة‬
‫الفلسفة لم تكن بالجابة الوحيدة عن السؤال ‪ .‬وفي أحسن الحوال إن هي إل إجابة واحدة بيظظن عظظدة‬
‫إجابات ‪.‬‬
‫ويستطيع المرء ‪ -‬بمعونة التعريظظف الرسظظطي للفلسظظفة ‪ -‬أن يتمّثظظل وأن يفسظظر كل مظظن التفكيظظر‬
‫السابق على أرسطو وأفلطون و الفلسفة اللحقة لرسظظطو‪ .‬ومظظع ذلظظك سظظيلحظ المظظرء بسظظهولة أن‬
‫الفلسفة‪ ،‬والطريقة التي بها أدركظظت ماهيتهظظا قظظد تغيظظرا فظظي اللفظظي سظظنة اللحقظظة لرسظظطو تغييظظرات‬
‫عديدة‪ ،‬فمن ذا الذي أراد أن ينكر هذا ؟‬
‫وفي نفس الوقت ينبغي مع ذلك أل نتجاهل أن الفلسفة منذ أرسطو حظظتى نيتشظظه ظلظظت ‪-‬‬
‫على أساس تلك التغيرات وغيرها ‪ -‬هي هي لن التحظظولت هظظي علظظى وجظظه الدقظظة‪ .‬احتفظظاظ‬
‫بالتماثل داخل الهو هو )‪(...‬‬
‫صل بمقتضاها على معظظارف متنوعظظة وعميقظظة‪ ،‬بظظل ونافعظظة‬ ‫صحيح أن تلك الطريقة نتح ّ‬
‫عن كيفية ظهور الفلسفة في مجرى التاريخ ‪ ،‬لكننا على هذا الطريظظق لظظن نسظظتطيع الوصظظول‬
‫إلى إجابة حقيقية أي شرعية عن سؤال‪ " :‬ما الفلسفة ؟ "‬

‫ملخص الحقيقة‬

‫تقديم‪:‬‬

‫يحيل مفهوم الحقيقة على معنيين رئيسيين هما‪ :‬الواقع والصدق‪ .‬وهي بذلك تأتي في مقابل الوهم‬
‫والكذب‪ .‬هكذا فالفكرة الصادقة والحقيقية هي تلك التي تعبر عن حكم مطابق للواقع الفعلي‪ .‬كما تعتبر‬
‫الحقيقة كل فكرة تمت البرهنة عليها عقليا ومنطقيا‪ .‬من هنا يتم الحديث عن الحقيقة في مجالت متعددة‪:‬‬
‫دينية وعلمية واجتماعية…الخ‪ .‬وفي جميع الحوال‪ ،‬فالحقيقة يتم التعبير عنها دائما بواسطة اللغة‬
‫والخطاب‪ ،‬والنسان دائم البحث عنها‪ ،‬وهو يستخدم في ذلك عدة وسائل وطرق‪.‬وغالبا ما يتم ربط‬
‫الحقيقة بما يتم إنتاجه بالمناهج العقلية أو التجريبية الصارمة‪ ،‬لذلك يتم التمييز بينها وبين الرأي الذي‬
‫ل يتأسس على تلك المناهج‪ .‬لكن ما حقيقة التمييز الحاصل بين الحقيقة والرأي؟ هل يمكن الفصل بينهما‬
‫نهائيا؟ وكيف يمكن التمييز بين الخطابات التي تعبر عن الحقيقة وتلك التي ل تعبر عنها؟ ما هي‬
‫المعايير التي يجب اعتمادها لتحديد ما هو حقيقي؟ وأخيرا لماذا نبحث عن الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها؟‬

‫المحور الول‪ :‬الرأي والحقيقة‬

‫عادة ما يتم التمييز في الفلسفة التقليدية بين الرأي كمعرفة ذاتية ناقصة‪ ،‬وبين الحقيقة كمعرفة يقينية‬
‫وموضوعية‪ .‬فالرأي هو » العتقاد المحتمل‪ ،‬ل العتقاد اليقيني‪ ،‬وهو وسط بين الشك واليقين«‪ .‬كما‬
‫يحيل الرأي إلى العتقاد الجماعي أو العتقاد الذي يشترك فيه الجمهور‪ ،‬ولذلك فهو يطابق الراء‬
‫الشائعة لدى الحس المشترك‪ .‬فالرأي إذن هو اعتقاد يعوزه اليقين‪ ،‬وهو يرد في مقابل الحقيقة التي‬
‫يفترض أنها يقينية ومبرهن عليها‪ .‬إن الحقيقة غالبا ما ترتبط بفئة خاصة هي فئة العلماء والفلسفة‬
‫بينما الرأي متاح للجميع‪ ،‬ولذلك فهو يأتي كمرادف للحس المشترك‪ ،‬أي للراء المتداولة بين الناس‪.‬‬
‫لكن ما يلحظ هنا هو أنه توجد الكثير من الراء المتداولة تكتسي صبغة يقينية وحقيقية‪ ،‬بحيث يصعب‬
‫على أصحابها الشك فيها‪ ،‬وبالمقابل نجد الكثير من الحقائق سواء العلمية أو الفلسفية لها طابع احتمالي‬
‫ويتم تفنيدها وتجاوزها في الكثير من الحيان‪ .‬وهذا ما ينتج عنه نوع من التداخل بين مفهومي الحقيقة‬
‫والرأي‪ ،‬بحيث يصعب الفصل بينهما بشكل نهائي وقاطع‪ .‬وهذا التداخل يدفعنا إلى طرح التساؤلت‬
‫التالية‪ :‬كيف تتحدد العلقة بين الحقيقة والرأي؟ هل يمكن الفصل بينهما نهائيا؟ هل بينهما قطيعة أم‬
‫استمرارية؟ وهل يمكن الدفاع عن الرأي باعتباره نمطا من أنماط الحقيقة؟ أل يمكن للرأي أحيانا أن‬
‫يكون له دور مهم في تشييد الحقيقة؟‬

‫‪ -1‬الحقيقة تتجاوز الرأي وتشكل قطيعة معه‪.‬‬

‫‌أ‪ -‬موقف أفلطون‪ :‬للوصول إلى الحقيقة ينبغي تجاوز الرأي‪.‬‬

‫يذهب أفلطون إلى أن طريق بلوغ الحقيقة هو التأمل العقلي الذي يمكن الفيلسوف من تجاوز الراء‬
‫والمعتقدات السائدة‪ ،‬والرتقاء إلى عالم المثل من أجل إدراك الحقائق اليقينية والمطلقة‪ .‬هكذا فالحواس‬
‫حسب أفلطون ل تمدنا سوى بالظلل أو الوهام‪ ،‬التي هي مجرد أشباه حقائق أو آراء ظنية صادرة عن‬
‫عامة الشعب‪ ،‬بينما تعتبر الفلسفة هي العلم الموضوعي بالحقيقة‪ ،‬وهي تعتمد على الجدل الصاعد‬
‫كمنهج عقلي تأملي يتعارض تماما مع الراء الظنية السائدة‪.‬‬
‫إذن فإدراك الحقيقة من طرف الفيلسوف يقتضي منه بالضرورة تجاوز الراء السائدة لدى الناس عن‬
‫طريق استخدام التأمل العقلي الفلسفي الذي من شأنه تمكين الفيلسوف من بلوغ الحقيقة الموجودة في‬
‫عالم المثل‪ ،‬والتي تشكل قطيعة تامة مع الراء السائدة والتي تظل مجرد أوهام وأشباه حقائق‪.‬‬

‫ب ‪ -‬موقف باشلر‪ :‬يمثل الرأي عائقا أمام بلوغ الحقيقة‬


‫يميز باشلر بين الحقيقة العلمية والرأي‪ ،‬ويقر بتعارضهما؛ إذ يعتبر هذا الخير عائقا إيبستمولوجيا‬
‫يحول دون الوصول إلى المعرفة العلمية الصحيحة‪.‬‬
‫هكذا اعتبر باشلر بأن الرأي دائما على خطأ مادام أنه غير قابل للتبرير النظري العلمي‪،‬‬
‫ومادام أنه مرتبط بالحاجات والمنافع المباشرة‪ ،‬ويعتمد على التلقائية والعفوية في تناوله للمور‪ .‬وهذا‬
‫ما جعل باشلر يتحدث عن قطيعة إبيستمولوجية بين الرأي والحقيقة العلمية‪ ،‬إذ تبنى معارف الفكر‬
‫العلمي بناءا نظريا وعقليا‪ .‬كما تخضع لمناهج عقلية ووسائل علمية تمنحها طبيعة خاصة‪ ،‬تجعلها‬
‫تختلف بشكل جذري عن الراء العامية السائدة في المجتمع‪.‬‬

‫في هذا السياق يرى باشلر أن الفكر العلمي ل يتناول سوى القضايا التي يستطيع البرهنة عليها‪ ،‬كما‬
‫أنه ل يطرح سوى السئلة التي يمكنه الجابة عنها‪ .‬وهذا ما يجعل الحقيقة العلمية مبنية ومؤسسة على‬
‫قواعد العقل العلمي‪ ،‬في حين يسمح الرأي لنفسه بالعتقاد في كل القضايا وطرح كل المسائل‪ ،‬حتى تلك‬
‫التي ل يقوى على الجابة عنها أو التدليل عليها‪.‬‬
‫أمام كل هذا وجب حسب باشلر تخطي الرأي والعمل على هدمه حتى ل يشكل عائقا أمام بلوغ المعرفة‬
‫العلمية الصحيحة‪.‬‬

‫‪ -2‬الرأي يتداخل مع الحقيقة ويصعب الفصل بينهما‪.‬‬

‫إذا كان الكثير من الفلسفة قد عملوا على تبخيس الرأي واعتبروه عائقا أمام الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬مثل‬
‫أفلطون وديكارت وباشلر‪ ،‬فإن هناك بعض الفلسفة الخرين حاولوا إعادة العتبار للرأي باعتباره‬
‫يشكل معرفة ويلعب دورا مهما في تطوير المعرفة البشرية‪ ،‬كما بينوا أن الكثير من الراء السائدة‬
‫تكتسي صبغة يقينية ويصعب الشك فيها‪ .‬ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى موقفين‪:‬‬

‫‌أ‪ -‬موقف ل يبنتس‪ :‬للرأي دور مهم في تطور المعرفة البشرية‪.‬‬

‫يقول ل يبنتس‪ » :‬إن الرأي القائم على الحتمال قد يستحق اسم معرفة‪ ،‬وإل سوف يتم إسقاط كل معرفة‬
‫تاريخية وغيرها من المعارف «‪.‬‬
‫هكذا يدافع ليبنتس عن الرأي القائم على الحتمال‪ ،‬ويعتبره معرفة يمكن العتماد عليها‪ .‬فليس كل‬
‫المعارف تمتلك اليقين المطلق‪ ،‬بل أغلبها يقوم على الحتمال‪ .‬فالبحث عن درجات الحتمال في معرفة ما‬
‫سيفيدنا ول شك حينما ل نستطيع أن نجزم في مسألة ما بكيفية قطعية‪.‬‬
‫وقد لعب الرأي القائم على الحتمال دورا انقلبيا في تاريخ الفكر البشري‪ ،‬والدليل القوي على ذلك مثل‬
‫الراء العلمية التي قدمها كوبرنيك؛ فرغم كونها مجرد احتمالت في حينها إل أنها شكلت فيما بعد ثورة‬
‫علمية حقيقية في تاريخ العلوم‪.‬‬

‫ب‪ -‬موقف فتجنشتين‪:‬هناك آراء تكتسي صبغة الحقيقة‬


‫‌‬

‫يرى فتجنشتين أن هناك اعتقادات نؤمن بها دون أن نبرهن عليها عن طريق الستدللت العقلية أو‬
‫التجارب العلمية‪ ،‬بل هي حقائق ترسخت لدينا كمعارف متضمنة في اللغة التي نتعلمها خصوصا ونحن‬
‫صغار‪.‬‬
‫هكذا نجد أن هناك أفكار ومعتقدات يتلقاها الطفل من خلل تعلمه للغة‪ ،‬ويضفي عليها نوعا من اليمان‬
‫بحيث ل يكلف نفسه عناء التفكير في صحتها‪ .‬وكمثال على ذلك العتقاد بأن هناك جزيرة تدعى‬
‫أستراليا‪ ،‬أو أن لدي أجدادا‪ ،‬أو أن هؤلء هم والداي‪ .‬فالطفل حسب فتجنشتين يتعلم مجموعة من‬
‫العتقادات من الراشدين‪ ،‬كما يقبل ببعض الحقائق المتداولة دون أن يكون بإمكانه الستدلل عليها‪،‬‬
‫فقط لن المجتمع يقبل بها؛ كأن يعتبر الطفل أن ما هو مكتوب في مقررات الكتب المدرسية حقيقي لنه‬
‫يعتبر أنه تم التأكد منها مئات المرات‪.‬‬
‫هكذا يتحدث فتجنشتين عما يسميه ” صورة العالم”؛ أي مجموع العتقادات والراء التي ترسخت لدي‬
‫حول العالم‪ ،‬والتي اعتبرها منطلقا وأساسا لكل ما أبحث عنه فيما بعد‪ .‬وكل القضايا التي تريد وصف‬
‫تلك الصورة غير خاضعة بدورها للتحقق؛ فأثناء كل تحقق نفترض أن هناك شيء ما ل يمكن التحقق‬
‫منه‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬معايير الحقيقة‪:‬‬


‫المعيار هو المقياس الذي ينبغي أن يكون عليه الشيء‪ ،‬وهو القاعدة التي نصدر من خللها حكمنا عليه‪.‬‬
‫إن المعيار إذن هو مقياس للحكم على الشياء‪ ،‬وإذا طبقناه على مفهوم الحقيقة يمكن أن نتساءل‪ :‬ما هو‬
‫المعيار الذي يجعلنا نحكم على فكرة ما بأنها حقيقية؟ هل هو معيار مادي أم صوري؟ تجريبي أم عقلي؟‬
‫وهل هناك معيار كوني للحقيقة؟‬

‫‪ -1‬موقف ديكارت‪ :‬معيار الحقيقة في بداهتها أو انسجامها المنطقي‪.‬‬

‫تتعارض الحقيقة عند ديكارت مع الرأي‪ ،‬إذ أنها تعتمد على المنهج وعلى قواعد عقلية صارمة يمكن‬
‫اختصارها في أربع قواعد رئيسية‪ :‬البداهة‪ ،‬التحليل‪ ،‬النظام والمراجعة‪ .‬وتتأسس الفكار البديهية على‬
‫مبدأ الحدس‪ ،‬في حين تتأسس الفكار الخرى على مبدأ الستنباط‪ .‬هكذا يحدد ديكارت للحقيقة معيارين‬
‫رئيسيين هما‪ :‬البداهة والنسجام العقلي‪.‬فهناك أفكار واضحة متميزة في الذهن تدرك إدراكا حدسيا‬
‫مباشرا‪ ،‬ول يحتاج العقل لثبات صحتها إلى براهين وأدلة عقلية‪ ،‬ولذلك فمعيار صحتها في بداهتها؛‬
‫بحيث يمكن القول هنا مع ديكارت بأن كل فكرة بديهية فهي فكرة حقيقية‪ ،‬كأن أدرك أنني موجود أو أن‬
‫المثلث هو شكل ذو ثلثة أضلع او أن الكل أكبر من الجزء‪ .‬وهناك أفكار نحتاج لثبات صحتها إلى‬
‫الستدلل عليها عقليا‪ ،‬بحيث نستنبطها من الفكار البديهية الولية‪ ،‬ولذلك فمعيار صحتها يرتبط بمدى‬
‫انسجامها المنطقي ومطابقتها لقواعد العقل ومبادئه‪ .‬ولذلك فالحقائق التي يتوصل إليها عن طريق‬
‫الستنباط ل تقل أهمية ويقينية عن الحقائق الحدسية الولية‪ ،‬ما دامت صادرة عنها بواسطة حركة‬
‫فكرية مترابطة ومتصلة تفضي إلى نتائج ضرورية‪.‬‬
‫هكذا فالحدس والستنباط هما أساس المنهج المؤدي إلى الحقيقة‪ .‬وبذلك فمعيار الحقيقة يتحدد أول في‬
‫البداهة المرتبطة بالحدس؛ إذ أن كل فكرة بديهية هي فكرة حقيقية تدرك بواسطة الحدس العقلي‬
‫الخالص‪ ،‬كما يتحدد هذا المعيار ثانيا بواسطة التماسك المنطقي المرتبط بالستنباط؛ إذ أن كل فكرة‬
‫منسجمة منطقيا ومتطابقة مع قواعد الستنباط العقلي تعتبر فكرة صحيحة ومنطقية‪ .‬وينبغي الشارة هنا‬
‫إلى أن معيار البداهة عند ديكارت هو معيار كوني؛ إذ أن الفكار البديهية هي بديهية بالنسبة لجميع‬
‫العقول‪ ،‬خصوصا وان ديكارت يعتقد أن العقل أعدل قسمة بين الناس وأنه يحتوي على أفكار أولية‬
‫وفطرية معيار صحتها في بداهتها‪ ،‬أي في وضوحها وتميزها‪.‬‬
‫‪ -1‬موقف جون لوك‪ :‬معيار الحقيقة في مطابقتها للواقع التجريبي‪.‬‬

‫يرفض جون لوك معيار البداهة الذي قال به الفلسفة العقلنيون كديكارت واسبينوزا‪ ،‬وهذا نابع من‬
‫رفضه لوجود أفكار أولية وفطرية في العقل‪ .‬هكذا اعتبر جون لوك أن العقل صفحة‬
‫بيضاء وأن التجربة هي التي تمده بالمعارف والفكار‪ .‬من هنا فالتجربة هي المعيار الساسي‬

‫والوحيد للحقيقة‪ .‬فالحواس تمدنا بالفكار البسيطة كالمتداد والشكل والحركة‪ ،‬ثم يعمل العقل على‬
‫التأليف بينها لنتاج الفكار المركبة كفكرة الجوهر والعلية واللمتناهي‪ .‬هكذا فكل أفكارنا ذات أصل‬
‫حسي‪ ،‬والحواس هي التي تمنح لفكارنا الصدق والحقيقة‪ .‬وإذا تعذر إرجاع فكرة ما إلى أصلها الحسي‬
‫التجريبي‪ ،‬فهي فكرة وهمية وباطلة‪ .‬فمعيار الحقيقة إذن هو مطابقتها للواقع الحسي التجريبي‪ .‬ويبدو‬
‫أنه يتعذر وجود معيار كوني للحقيقة التجريبية مادام أن تجارب الناس مختلفة ومتعددة‪ ،‬وهو ما ينعكس‬
‫على تصورهم لموضوع الحقيقة ومعاييرها‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف كانط‪:‬‬

‫يتساءل كانط‪ :‬هل هناك معيار كوني ومادي للحقيقة؟ وهل هناك معيار كوني وصوري للحقيقة؟‬
‫وفي إطار إجابته عن هذين السؤالين‪ ،‬رأى كانط أنه ل يمكن أن يوجد معيار كوني ومادي للحقيقة لن‬
‫الحقيقة المادية هي تلك المطابقة لموضوعها‪ ،‬والحال أن موضوعات الحقيقة تختلف وتتعدد مما يتعذر‬
‫معه وجود معيار كوني لها‪ .‬وبالمقابل يرى كانط أنه يمكن الحديث عن وجود معيار كوني وصوري‬
‫للحقيقة‪ ،‬ويتمثل هذا المعيار في مطابقة المعرفة لمبادئ العقل وقواعد المنطق‪.‬‬

‫المحور الثالث‪ :‬الحقيقة بوصفها قيمة‪.‬‬

‫جاء في معجم جميل صليبا ما يلي‪:‬‬


‫» القيمة تطلق على كل ما هو جدير باهتمام المرء وعنايته… وقيمة الشيء من الناحية الذاتية هي‬
‫الصفة التي تجعل ذلك الشيء مطلوبا ومرغوبا فيه… ويطلق لفظ القيمة من الناحية الموضوعية على‬
‫ما يتميز به الشيء من صفات تجعله مستحقا للتقدير «‪.‬‬

‫هكذا فالحديث عن قيمة الحقيقة يتعلق أساسا بخصائص تتميز بها الفكار تجعلنا نهتم بها ونرغب فيها‪.‬‬
‫من هنا يحق لنا التساؤل‪ :‬ما الذي يجعلنا نرغب في الحقيقة؟ أين تكمن قيمتها بالنسبة لنا؟ هل لها قيمة‬
‫في ذاتها أم أنها مجرد وسيلة لشباع حاجات أخرى؟ وهل للحقيقة قيمة أخلقية سامية ومطلقة أم قيمة‬
‫نفعية نسبية؟‬

‫‪ -1‬الموقف التقليدي‪ :‬للحقيقة قيمة نظرية وأخلقية مطلقة‪.‬‬

‫يبين لنا تاريخ الفلسفة الكلسيكية أنه كانت للحقيقة قيمة نظرية مطلقة‪ ،‬وأنها كانت منشودة لذاتها؛‬
‫أومصالح أخرى‪.‬‬ ‫فالفلسفة عند اليونان كانت بحثا عن الحقيقة من أجل الحقيقة وليس لي أغراض‬
‫وقد جسد سقراط في حياته هذا المر؛ إذ تشبث بأفكاره إلى آخر لحظة في حياته حينما سيق به إلى‬
‫العدام وهو متشبث بالحقيقة وساخر من قومه الذين يتشبثون بالوهام والمعتقدات الباطلة‪.‬‬
‫وفي نفس السياق اعتبر كانط أن للحقيقة قيمة أخلقية عليا ومطلقة وغير مشروطة‪ .‬وهي بذلك تنشد‬
‫لذاتها كحقيقة موضوعية نزيهة وبعيدة عن المنفعة والمصلحة الخاصة‪ .‬فالصدق واجب في ذاته‪ ،‬ويجب‬
‫على النسان أن يقول الحقيقة ويسلكها مهما كانت الظروف والشروط “لن الكذب مضر بالغير دائما‪،‬‬
‫حتى إن لم يضر إنسانا بعينه فهو يضر النسانية قاطبة‪ ،‬مادام يجرد منبع الحق من الصفة الشرعية‪”.‬‬

‫‪ -2‬الموقف البرغماتي المعاصر‪ :‬للحقيقة قيمة نفعية نسبية‪.‬‬

‫لقد ارتبطت قيمة الحقيقة في الفلسفة المعاصرة بقيم العصر كالمنفعة والعمل والمردودية والنتاج‪،‬‬
‫واللتصاق بالواقع النساني‪ .‬من هنا أصبحت للحقيقة قيمة عملية واقعية من جهة‪ ،‬وقيمة نسبية‬
‫ومتغيرة من جهة أخرى‪ .‬وفي هذا الطار يمكن تقديم التصور البرغماتي الذي يمثله وليام جيمس ‪W‬‬
‫‪: James‬‬
‫تكمن قيمة الحقيقة حسب الموقف البرجماتي المعاصر الذي يمثله وليام جيمس في كل ما هو نفعي‪،‬‬
‫عملي ومفيد في تغيير الواقع والفكر معا‪ .‬من هنا فالحقيقة ليست غاية في ذاتها‪ ،‬بل هي مجرد وسيلة‬
‫لشباع حاجات حيوية أخرى‪ .‬والفكار الحقيقية هي تلك التي نستطيع أن نستعملها وأن نتحقق منها‬
‫واقعيا‪ ،‬أما الفكار التي ل نستطيع أن نستعملها وأن نتأكد من صلحيتها فهي خاطئة‪ .‬وعموما‪ ،‬يرى‬
‫وليام جيمس‪ ،‬أن الفكار الصادقة هي تلك التي تزيد من سلطاننا على الشياء؛ فنحن نخترع الحقائق‬
‫لنستفيد من الوجود كما نخترع الجهزة الصناعية للستفادة من قوى الطبيعة‪.‬‬
‫هكذا يقدم لنا وليام جيمس تصورا أداتيا للحقيقة‪ ،‬أصبحت معه هذه الخيرة مجرد أداة للعمل وتحقيق‬
‫منافع مختلفة قد تتغير بتغير الظروف والحوال‪ ،‬مما يعطي للحقيقة طابعا نسبيا ومتجددا‪.‬‬

‫الدولة‬

‫ينظر إلى الدولة على أنها تنظيم سياسي يكفل حماية القانون وتأمين النظام لجماعة من‬
‫الناس تعيش على أرض معينة بصفة دائمة‪ ،‬وتجمع بين أفرادها روابط تاريخية وجغرافية‬
‫وثقافية مشتركة‪ .‬ولذلك ل يمكن الحديث عن الدولة في مجال ترابي معين إل إذا كانت‬
‫السلطة فيها مؤسساتية وقانونية‪ ،‬وأيضا مستمرة ودائمة ل تحتمل الفراغ‪.‬‬
‫كما يقترن اسم الدولة بمجموع الجهزة المكلفة بتدبير الشأن العام للمجتمع‪ .‬هكذا تمارس‬
‫الدولة سلطتها بالستناد إلى مجموعة من القوانين والتشريعات السياسية التي تروم تحقيق‬
‫المن والحرية والتعايش السلمي‪.‬‬
‫وهذا ما يجعلنا نتساءل عن المشروعية التي تتأسس عليها الدولة من جهة‪ ،‬وعن الغاية‬
‫من وجودها من جهة أخرى؟‬
‫كما تدفعنا إلى التساؤل عن طبيعة ممارسة الدولة لسلطتها السياسية؟ وعن مدى‬
‫مشروعية الدولة في استخدام العنف؟‬
‫مشروعية الدولة وغاياتها‬ ‫المحور الول‪:‬‬

‫فيما يخص مفهوم المشروعية‪ ،‬ينبغي التمييز بين ما هو مشروع ‪ ((légitime‬يستهدف‬


‫إحلل العدل والحق‪ ،‬ومن ثمة فهو يشير إلى ما ينبغي أن يكون‪ .‬أما ما هو شرعي )‪(légal‬‬
‫فيعني ما هو عادل بالنظر إلى النصوص المتواضع عليها‪ ،‬ومن ثمة فهو يشير إلى ما هو‬
‫واقعي وفعلي‪.‬‬
‫وحينما نتحدث عن مشروعية الدولة‪ ،‬فإننا نشير إلى مجموع التبريرات والدعائم التي‬
‫ترتكز عليها الدولة من أجل ممارسة سلطتها على مواطنيها‪.‬‬
‫أما مفهوم الغاية فيدل على “ما لجله إقدام الفاعل على فعله‪ ،‬وهي ثابتة لكل فاعل فعل‬
‫بالقصد والختيار‪ ،‬فل توجد الغاية في الفعال غير الختيارية”‪.‬‬
‫هكذا فكل دولة تستند إلى مشروعية ما‪ ،‬وانطلقا من هذه المشروعية يتم اختيار غايات من‬
‫وجودها؛ إذ يصعب الفصل هنا بين المشروعية والغايات فيما يخص مسألة الدولة‪.‬‬
‫فما الغاية من وجود الدولة إذن؟ ومن يختار لها هذه الغاية؟ ووفق أية اسس ومنطلقات؟‬
‫ومن أين تستمد مشروعيتها؟‬

‫‪ -1‬موقف اسبينوزا‪ :‬الحرية هي الغاية الساسية من قيام الدولة‪.‬‬

‫لقد قطع فلسفة التعاقد الجتماعي مع التصور الديني للدولة‪ ،‬ولذلك فمشروعية الدولة‬
‫عندهم تستمد من اللتزام بمبادئ التعاقد المبرم بين الفراد ككائنات عاقلة وحرة‪ .‬هذا‬
‫التعاقد الحر بين الفراد سيؤسس الدولة على قوانين العقل‪ ،‬التي من شأنها أن تتجاوز‬
‫مساوئ حالة الطبيعة القائمة على قوانين الشهوة‪ ،‬والتي أدت إلى الصراع والفوضى‬
‫والكراهية والخداع‪ .‬ولذلك فغاية الدولة هي تحقيق المصلحة العامة المتمثلة حسب‬
‫اسبينوزا في تحرير الفراد من الخوف وضمان حقوقهم الطبيعية المشروعة‪ ،‬والمتمثلة‬
‫أساسا في الحق في الحياة و المن والحرية‪ .‬هكذا يرى اسبينوزا أن الغاية من تأسيس‬
‫الدولة هي تحرير الفراد من الخوف‪ ،‬وإتاحة الفرصة لعقولهم لكي تفكر بحرية وتؤدي‬
‫وظائفها بالشكل المطلوب دون استخدام لدوافع الشهوة من حقد وغضب وخداع‪ .‬ويختصر‬
‫اسبينوزا الغاية من وجود الدولة بقوله‪“ :‬الحرية هي الغاية الحقيقية من قيام الدولة”‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف هيجل‪ :‬الدولة غاية ذاتها‪ ،‬وهي تجسيد للعقل الموضوعي‪.‬‬

‫لقد انتقد هيجل التصور التعاقدي الذي يعتبر أن للدولة غاية خارجية مثل السلم أو الحرية‬
‫أو الملكية‪ ،‬ورأى أن غاية الدولة ل تكمن في أية غاية خارجية‪ ،‬وإنما تتمثل في غاية‬
‫باطنية؛ فالدولة غاية في ذاتها من حيث إنها تمثل روح وإرادة ووعي أمة من المم‪،‬‬
‫وتعتبر تجسيدا للعقل الخلقي الموضوعي‪ .‬إن الدولة هي التحقق الفعلي للروح الخلقي‬
‫باعتباره إرادة جوهرية وكونية‪ .‬ومن واجب الفراد أن يكونوا أعضاء في الدولة وأن‬
‫يتعلقوا بها لن في ذلك سموهم وعلو مرتبتهم؛ فل يكون للفرد وجود حقيقي وأخلقي إل‬
‫بانتسابه إلى الدولة‪.‬‬
‫هكذا يعطي هيجل الولوية في تحليله إلى الكل على الجزاء‪ ،‬وإلى الدولة على الفراد‪،‬‬
‫ويجعل مصيرهم في أن يحيوا حياة عامة وكونية‪ .‬فمشروعية الدولة إذن ل تستمد عند‬
‫هيجل من التحالفات القائمة بين الفراد‪ ،‬بل تستمد من مبادئ عقلية وموضوعية تتأسس‬
‫عليها الدولة بشكل حتمي يتجاوز الرادات الفردية ذاتها‪.‬‬

‫‪ -3‬موقف ماكس فيبر‪ :‬هناك ثلث مشروعيات تستند عليهم الدولة‪.‬‬


‫وقد بين فيما بعد ماكس فيبر بأن هناك أنواعا متعددة من المشروعية عبر التاريخ؛‬
‫مشروعية الحكم اعتمادا على التراث وحماية الماضي واستلهام الجداد‪ ،‬والمشروعية‬
‫المرتبطة بشخص ملهم يمثل سلطة دينية وأخلقية أو إيديولوجية ويحكم باسمها‪.‬‬
‫والمشروعية المؤسسية المستمدة من التمثيلية النتخابية ومرجعية القانون والمؤسسات‬
‫وتوزيع السلط‪ .‬ويشير ماكس فيبر إلى أنه نادرا ما نجد هذه النماذج من المشروعية‬
‫مجسدة بشكل خالص على أرض الواقع‪ ،‬بل غالبا ما نجد تداخلت فيما بينها على مستوى‬
‫ممارسة الدولة لسلطتها على الفراد‪.‬‬
‫فكيف تمارس الدولة سلطتها السياسية؟‬

‫طبيعة السلطة السياسية‬ ‫المحور الثاني‪:‬‬

‫حينما يتم التساؤل عن طبيعة السلطة السياسية‘ فإن المر يتطلب بالضرورة الحديث عن‬
‫علقة الدولة بالمواطنين‪ ،‬أو علقة الحاكم بالمحكومين‪ .‬فإذن ما هي طبيعة العلقة التي‬
‫ينبغي أن تكون بين رجل السياسة من جهة‪ ،‬ومن يمارس عليهم سلطته السياسية من جهة‬
‫أخرى؟ وبتعبير آخر؛ ما هي الخصائص التي يجب أن تميز الممارسة السياسية للمير أو‬
‫السلطان مع شعبه أو رعيته؟‬
‫هنا يمكن تقديم موقفين متعارضين؛ موقف ماكيافيلي وموقف ابن خلدون‪.‬‬

‫‪ -1‬موقف ماكيافيلي‪ :‬السياسة صراع وقوة وخداع‪.‬‬


‫بين ماكيافيلي أن هناك أمراء في عصره أصبحوا عظماء دون أن يلتزموا بالمبادئ‬
‫الخلقية السامية‪ ،‬كالمحافظة على العهود مثل‪ ،‬بل قد استخدموا كل وسائل القوة والخداع‬
‫للسيطرة على الناس والتغلب على خصومهم‪.‬‬
‫هكذا دعا ماكيافيلي إلى ضرورة استخدام المير لطريقتين من أجل تثبيت سلطته السياسية؛‬
‫الولى تعتمد القوانين‪ ،‬بحيث يستعملها بحكمة ومكر ودهاء‪ ،‬وبشكل يمكن من تحقيق‬
‫مصلحة الدولة‪ ،‬أما الثانية فتعتمد على القوة والبطش‪ ،‬ولكن في الوقت المناسب‪ .‬من هنا‬
‫يجب على المير أن يكون أسدا قويا لكي يرهب الذئاب‪ ،‬وأن يكون ثعلبا ماكرا لكي ل يقع‬
‫في الفخاخ‪.‬‬
‫إن الغاية عند ماكيافيلي تبرر الوسيلة‪ .‬وما دام أن الناس ليسوا أخيارا في الواقع‪ ،‬فل يلزم‬
‫أن ينضبط المير للمبادىء الخلقية في تعامله معهم‪ ،‬بل ل بد أن تكون له القدرة الكافية‬
‫على التمويه والخداع‪ ،‬وسيجد من الناس من ينخدع بسهولة‪.‬‬
‫هكذا يتبين أن السياسة‪ ،‬مع ماكيافيلي‪ ،‬تنبني على القوة والمكر والخداع‪ .‬وهذا ما‬
‫سيرفضه مجموعة من المفكرين‪ ،‬ومن بينهم ابن خلدون‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف ابن خلدون‪ :‬السياسة رفق واعتدال‪.‬‬

‫إن علقة السلطان بالرعية حسب ابن خلدون هي علقة ملك بمملوكين‪ .‬ولذلك يجب أن‬
‫يتأسس هذا الملك على الجودة والصلح‪ .‬من هنا يجب أن يحقق السلطان لرعيته كل ما هو‬
‫صالح لهم‪ ،‬وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يلحق بهم السوء والضرر‪.‬‬
‫ولذلك وجب أن تكون العلقة بين السلطان والرعية مبنية على الرفق والعتدال في‬
‫التعامل‪ .‬فقهر السلطان للناس وبطشه بهم يؤدي إلى إفساد أخلقهم‪ ،‬بحيث يعاملونه‬
‫بالكذب والمكر والخذلن‪ ،‬أما إذا كان رفيقا بهم ‪ ،‬فإنهم يطمئنون إليه ويكنون له كل المحبة‬
‫والحترام‪ ،‬ويكونون عونا له أوقات الحروب والمحن‪.‬‬
‫انطلقا من هذا حدد ابن خلدون خصلتين رئيسيتين يجب أن يتصف بهما رجل السياسة‪،‬‬
‫وهما الرفق والعتدال‪ .‬ولذلك عليه مثل أن يتصف بالكرم والشجاعة كصفتين يتوفر فيهما‬
‫العتدال المطلوب بين التبذير والبخل من جهة‪ ،‬وبين التهور والجبن من جهة أخرى‪.‬‬
‫← هكذا إذا كان ماكيافيلي يحدد طبيعة السلطة السياسية في القوة والمكر والصراع‪،‬‬
‫واستخدام كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة لتحقيق مصلحة الدولة‪ ،‬فإن ابن‬
‫خلدون يحدد طبيعتها في التشبث بمكارم الخلق المتمثلة أساسا في الرفق والعتدال‪.‬‬
‫وهذا ما سيقود إلى إثارة إشكالية الدولة بين الحق والعنف‪.‬‬

‫المحورالثالث‪ :‬الدولة بين الحق والعنف‪.‬‬

‫حينما نتحدث عن الدولة بين الحق والعنف‪ ،‬فإننا نثير بالضرورة إشكالية العلقة بين‬
‫الدولة كأجهزة ومؤسسات منظمة للمجتمع‪ ،‬وبين الفراد الخاضعين لقوانينها‪ .‬فإذا انبنت‬
‫هذه العلقة على احترام المبادئ الخلقية المتعارف عليها والقوانين المتعاقد عليها‪ ،‬فإن‬
‫ممارسة الدولة تكون في هذه الحالة ممارسة مشروعة تجعلنا نتحدث عن دولة الحق‪ ،‬أما‬
‫إذا كانت هذه العلقة مبنية على أسس غير أخلقية وغير قانونية‪ ،‬فإنها ستكون مؤسسة‬
‫على القوة والعنف وهاضمة للحقوق والحريات الفردية والجماعية‪.‬‬
‫فما المقصود بمفهومي الحق والعنف؟‬
‫يحدد المعجم الفلسفي لندري للند الحق باعتباره “ما ل يحيد عن قاعدة أخلقية‪ ،‬وما هو‬
‫مشروع وقانوني في مقابل ما هو واقعي وفعلي”‪ .‬كما يحدده كانط باعتباره يحيل إلى‬
‫“مجموع الشروط التي تسمح لحرية كل فرد بأن تنسجم مع حرية الخرين”‪.‬‬
‫أما العنف فيمكن القول بأنه “اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته‪،‬‬
‫وهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق”‪) .‬المعجم الشامل لمصطلحات الفلسفة‪،‬د‪.‬عبد‬
‫المنعم الحفني‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة الثالثة‪(2000،‬‬
‫هكذا يتبين أن الحق هو نقيض العنف؛ إذ أن الول يمارس بإرادة الفراد ويضمن لهم‬
‫حرياتهم المشروعة‪ ،‬في حين أن الثاني يمارس ضد إرادتهم ويغتصبهم حرياتهم‪.‬‬
‫فإذا كان المر كذلك‪ ،‬فهل يمكن البحث عن مشروعية لممارسة الدولة العنف ضد الفراد‬
‫أوالجماعات؟ وهل العنف ضروري للدولة لكي تمارس سلطتها؟ أل يتعارض العنف في هذه‬
‫الحالة مع الحق والقانون؟‬
‫لمعالجة هذا الشكال يمكن تقديم موقفين يبدوان متعارضين؛ أحدهما لماكس فيبر والثاني‬
‫لجاكلين روس‪.‬‬

‫‪ -1‬موقف ماكس فيبر‪ :‬الدولة وحدها لها الحق في ممارسة العنف المادي‪.‬‬

‫إن الدولة تتأسس في نظر ماكس فيبر على العنف‪ .‬ولذلك يرى أنه إذا وجدت تجمعات‬
‫بشرية ل تعرف العنف‪ ،‬فمعنى ذلك أنه ل يمكن الحديث عن وجود الدولة‪ ،‬كجهاز يحكم هذه‬
‫التجمعات السياسية‪ .‬فما سيبقى في حالة اختفاء العنف هو الفوضى بين مختلف مكونات‬
‫البناء الجتماعي‪ ،‬نظرا لختفاء القوة العنيفة القادرة على إزالة هذه الفوضى‪.‬‬
‫إن العنف إذن هو الوسيلة المميزة للدولة‪ ،‬والعلقة بينهما هي علقة وطيدة وحميمية‪.‬‬
‫وللدولة وحدها الحق في ممارسة العنف المادي‪ ،‬إذ ل يحق لي فرد أو جماعة ممارسة‬
‫هذا العنف إل بتفويض من الدولة‪.‬‬
‫لكن أل تتعارض ممارسة العنف مع المواصفات التي يجب أن تتوفر في دولة الحق؟‬

‫‪ -2‬موقف جاكلين روس‪ :‬تتمسك دولة الحق بكرامة الفرد ضد كل أنواع العنف‬
‫والتخويف‪.‬‬

‫اعتبرت جاكلين روس أن دولة الحق هي ممارسة معقلنة لسلطة الدولة‪ ،‬يخضع فيها الحق‬
‫والقانون إلى مبدإ احترام الشخص البشري وضمان كرامته النسانية‪ .‬هكذا فالفرد في دولة‬
‫الحق هو قيمة عليا ومعيار أسمى لصياغة القوانين والتشريعات التي تمنع كل أنواع‬
‫الستعباد والضطهاد التي قد يتعرض لها‪.‬‬
‫وما يمكن ملحظته هنا هو أن الغاية هنا هي الفرد وليس الدولة؛ فهذه الخيرة هي مجرد‬
‫وسيلة لخدمة الفرد‪ ،‬إذ تعتبره الغاية الساسية من كل تشريع‪ .‬ولن يتم ذلك إل من خلل‬
‫مبدأ فصل السلط الذي يمكن من إحقاق الحق وإخضاعه للممارسة المعقلنة القائمة على‬
‫الحترام وتطبيق القانون‪ ،‬ونبذ كل أشكال الرهاب والعنف‪.‬‬

‫‪ -3‬موقف غاندي‪ :‬العنف رذيلة وتعبير عن الحقد‪ ،‬وبالتالي فل مشروعية له‪.‬‬

‫يتبنى غاندي موقف اللعنف باعتباره يمثل ذلك الحب أو الرادة الطيبة تجاه كل الناس‪.‬‬
‫ولذلك فهو يرفض السلوك العنيف لن وراءه نية من أجل إلحاق الذى واللم بالخر‪ ،‬كما‬
‫أنه تعبير عن نشيد الحقد الذي تعبت النسانية من عواقبه الوخيمة‪ .‬هكذا يدعو غاندي إلى‬
‫تعميم الصداقة بين كل الناس‪ ،‬ومكافحة العنف والشر بسلح الذهن والفكر الخلقي‪ ،‬وهو‬
‫ما يقتضي مواجهة العنف بمقاومة روحية تمكن من خلق خيبة أمل لدى الممارس للعنف‬
‫بأن ل أواجهه بسلحه من جهة‪ ،‬وتمكن من الرفع من مستواه النساني والخلقي بأن‬
‫يصبح هو الخر رافضا للعنف من جهة أخرى‪.‬‬
‫انطلقا من كل هذا فاللعنف عند غاندي يستمد قوته من الروح؛ إذ يعتبر عقيدة روحية‬
‫وأخلقية قبل أن يصبح ممارسة جسدية وسلوكية‪ .‬وهذا أمر يقتضي رفض العنف رفضا‬
‫نهائيا ومبدئيا واعتباره رذيلة في ذاته‪ ،‬وأنه القانون الذي يحكم عالم الحيوانات‪ ،‬بينما‬
‫اللعنف هو القانون الذي يحكم العالم النساني‪.‬‬

‫السعادة‬

‫تقديم‪:‬‬
‫يمكن القممول مممن وجهممة نظممر فلسممفية عامممة أن‬
‫السعادة هي “حالة إرضاء تممام للممذات‪ ،‬يتسممم بممالقوة‬
‫والثبممات‪ ،‬ويتميممز عممن اللممذة للحظيتهمما وعممن الفممرح‬
‫لحركيته”‪.‬‬
‫من هنا يمكن التساؤل‪ :‬ىىىى ىىىىىى ىىىى ىىىىى‬
‫ىىى ىىىىىى ىىىىىى ىىىىى ىىىىىىىى ىى ى ى ىىى ىى‬
‫ىى ىىىى ى ىى ىى ىىىى وبمعنممى آخممر‪ :‬ى ى ىىى ىىىى‬
‫ىىىى ىى ىىىىى ىى ىىىىى ‪/‬ىىىىىىىى‬
‫وفي مستوى آخممر يمكممن التسمماؤل‪ :‬ى ى ىىى ىىىى‬
‫ىىىىى ىى ىىىى ىى ىىىىى ىىى ىى ىىىى ىىىىىىىى‬
‫هممل السممعادة إرضمماء للبممدن أم للعقممل أم‬ ‫‪-I‬‬
‫للقلب؟‬
‫‪ (1‬السعادة إرضاء للبدن‪:‬‬
‫يرى دعاة مذهب اللذة أن نشدان اللذة ودفع اللممم‬
‫هو الغاية الولى والخيرة من وجود النسممان‪ ،‬وهكممذا‬
‫يرى أرستبوس أنه بازدياد عممدد اللممذات تممزداد خبرتنمما‬
‫بالسعادة‪ ،‬ومن ثم يجب اغتنام الفرص لقتناص أكممبر‬
‫عدد ممكن من اللذات الحاضرة‪ .‬إن اللذة الحسية هنا‪،‬‬
‫هي معيار لتحديممد كممل القيممم النسممانية‪ ،‬بممما ي ذلممك‬
‫قيمة السعادة‪.‬‬
‫‪ (2‬السعادة إرضاء للعقل‪:‬‬
‫يميممممز المفكممممرون المسمممملمون تبعمممما للتمممموجه‬
‫الفلطمموني‪-‬الرسممطي فممي الوجممود بيممن النفممس‬
‫والجسد‪ ،‬فيتم تمجيد النفس والعقل واحتقار الجسم‬
‫والبدن‪ ،‬وفي هذا السياق تم اعتبممار السممعادة عقليممة‬
‫ترتبط بكل ما يحقق اللذة العقلية من معرفة وعلم‪:‬‬
‫‌أ( الرازي‪:‬‬
‫يرى الرازي أن اللذات العقلية أشممرف مممن اللممذات‬
‫الحسية‪ ،‬لن هذه الخيرة ل تخص النسان وحممده بممل‬
‫يشترك فيها مع الحيوان الممذي قممد يتفموق عليممه فممي‬
‫تحصيلها‪ ،‬ثم إن اللذة الحسية هي مجممرد دفممع لللممم‪،‬‬
‫فهي لذة مؤقتممة تنتهممي بعممد تحقيممق الشممباع‪ ،‬لممذلك‬
‫كانت السعادة الدائمة مممن طبيعممة عقليممة تكمممن فممي‬
‫تحصيل العلوم والتحلي بالخلق الفاضلة‪.‬‬
‫‌ب(مسكويه‬
‫الكمال الخاص بالنسان كمممالن‪ :‬الكمممال النظممري‬
‫والذي يكون بالقوة العالمة والتي يشتاق بها النسان‬
‫إلى المعرفة والعلوم‪ ،‬والكمال الخلقي الممذي يكممون‬
‫بالقوة العاملة الممتي يسممتعملها النسممان فممي تنظيممم‬
‫المممور وحسمب تممدبيرها‪ .‬أممما الكمممال الول فمنزلتممه‬
‫منزلممة الصممورة بينممما الكمممال الثمماني منزلتممه منزلممة‬
‫المادة‪ ،‬ول يتم أحدهما بدون الخممر‪ ،‬لن العلممم مبممدأ‪،‬‬
‫والعمل تمام‪ ،‬وهذين الكمالين هممما طريقمما السممعادة‬
‫القصوى‪.‬‬
‫‌ج( الفارابي‬
‫يرى الفمماربي أن الفلسممفة هممي السممبيل لتحصمميل‬
‫السعادة لنه بها يتم اكتسمماب القممدرة علممى التمييممز‪،‬‬
‫وإدراك الصواب‪ ،‬والتعرف على الحق فيتممم اعتقمماده‪،‬‬
‫وعلى الباطل فيتم اجتنابه‪ ،‬وبممذلك تسممتكمل النفممس‬
‫حقيقتها وتصل إلى السعادة القصوى‪.‬‬
‫‪ (3‬السعادة إرضاء للقلب‪:‬‬
‫يرى المتصوفة أن القيسة العقلية التي يستخدمها‬
‫الفلسفة غير قادرة علممى إدراك نممور الحممق وجللممه‪،‬‬
‫ومن تم فهممي غيممر موصمملة للسممعادة الحقممة‪ ،‬وهكممذا‬
‫فاللهام والشراق هما طريقا السممعادة ويتمممان فممي‬
‫القلب ل في العقل‪ .‬وفي هذا الطار يرى ابن عربممي‬
‫أن القلب هو السبيل المؤدي إلى السممعادة وهممو مممن‬
‫رحمة الله التي أودعها في مخلوقاته‪ ،‬وهذه السممعادة‬
‫تتحقق عندما يتمكن العارف من مشاهدة تجلي الحممق‬
‫في مرآة الوجود‪ ،‬فيفيض قلبه نورا بحيث ل يسع هذا‬
‫القلب شيئا آخر غير الله‪.‬‬
‫\ يبممدو أن جمموهر السممعادة هممو حسممن التممدبير‬
‫والعتدال‪ ،‬وذلممك بتحقيممق متطلبممات الجسممد والعقممل‬
‫والقلمممب جميعممما دون إغفمممال أي جمممانب ممممن همممذه‬
‫الجوانب‪ ،‬على أساس أن يكون ذلك في إطار التوازن‬
‫والمعقولية بحيث يكون العقل هو المدبر الفعلي من‬
‫أجل تحقيق كل تلك المطالب‪.‬‬
‫‪ -II‬هل السعادة تدبير للفرد أم للمدينة؟‬
‫لقممد أكممد الفلسممفة المسمملمون علممى الختيممار‬
‫العقلني والجتماعي والمدني في تحقيممق السممعادة‪،‬‬
‫وذلك من خلل تحقيق شرطين أساسيين‪ ،‬هما‪:‬‬
‫‌أ( الرادة‬
‫إن الرادة فممي ارتباطهمما بالسممعادة تعنممي أساسمما‬
‫قممدرة النسممان علممى الختيممار والتحكممم فممي أفعمماله‬
‫وتدبير أحواله‪.‬‬
‫وهكذا فالسعادة ليسممت وليممدة الصممدفة والتفمماق‪،‬‬
‫وإنما تحصل بواسطة العمل والجهد والبرمجممة‪ ،‬وفممي‬
‫هذا الصدد يذهب مسكويه إلى أن السعادة لتتممأتى إل‬
‫عن صناعة وتأديب‪ ،‬وهو ما يضفي عليها طابعا تربويا‬
‫ومؤسساتيا‪.‬‬
‫‌ب(الجماعة‬
‫يرى الفممارابي أن النسممان يحتمماج فممي حيمماته إلممى‬
‫التعمماون مممع أبنمماء جنسممه مممن أجممل تحقيممق حاجمماته‬
‫اليومية ومن تم تحصيل سعادته‪ ،‬فبلوغ هممذه الخيممرة‬
‫يتطلب تضافر جهود عدة أفراد فممي إطممار ممما أسممماه‬
‫الفممارابي بالتممدبير المممدني الممذي يممؤدي إلممى سممعادة‬
‫العمال والوظائف بين الناس تبعا لطبممائعهم‪ ،‬وذلممك‬
‫بهدف تحقيق الخير الفضل والكمال القصى الذي ل‬
‫ينال إل في المدينة الفاضلة‪.‬‬
‫\إن الطابع الجماعي الذي تأخذه السعادة عند كممل‬
‫مممن الفممارابي ومسممكويه‪ ،‬هممو رفممض ونقممد لموقممف‬
‫المتصوفة الذين يختممارون العزلممة والخلمموة بحثمما عممن‬
‫سعادة فردية تتم في إطار مممن الزهممد والبتعمماد عممن‬
‫الناس‪.‬‬
‫وهكذا يربط مسكويه السعادة بالفضائل الخلقيممة‬
‫الممتي ل تتحقممق إل بمعاشممرة النمماس والختلط بهممم‪،‬‬
‫وفي هذا الصممدد يقممول مسممكويه‪“ :‬ليسممت الفضممائل‬
‫أعداما‪ ،‬بل هي أفعال وأعمال تظهممر عنممد مشمماركات‬
‫النممماس ومسممماكنتهم‪ ،‬وفمممي المعممماملت وضمممروب‬
‫الجتماعات”‪.‬‬

‫ملخص العنف‬

‫يمكن القول بأن العنف هو “اللجوء إلى القوة من أجل إخضاع أحد من الناس ضد إرادته‪،‬‬
‫وهو ممارسة القوة ضد القانون أو الحق”‪ .‬وهو يتخذ أشكال متعددة ومتداخلة في حياة‬
‫النسان‪ .‬كما يرتبط مفهوم العنف بمجموعة من المفاهيم الخرى كالقوة والعدوانية‬
‫والسلطة والحق والقانون‪ ،‬كما يطال مجالت متعددة؛ اقتصادية وسياسية وثقافية‪ .‬مما‬
‫يجعله يثير العديد من الشكالت المتعلقة بمنشئه ومظاهره ووسائله‪ ،‬ومدى ضرورته‬
‫ومشروعيته من وجهة نظر القانون والخلق‪.‬‬

‫المحور الول‪ :‬أشكال العنف‪.‬‬

‫إن العنف واقعة أساسية في تاريخ المجتمعات البشرية‪ ،‬وهو يعتمد على تقنيات ووسائل‬
‫مختلفة‪ ،‬كما يتخذ أشكال متعددة‪.‬‬
‫من هنا يمكن صياغة إشكال هذا المحور من خلل التساؤلت التالية‪ :‬ما هي طبيعة العنف؟‬
‫وما هي أشكاله ومظاهره؟ وهل ينحصر العنف في مظاهره المثيرة كالحروب أم أنه قد‬
‫يوجد على نحو خفي وكامن؟‬

‫‪ -1‬موقف ميشو‪ :‬تكنولوجيا العنف المادي وأشكاله‪.‬‬

‫يمكن الحديث مع إيف ميشو ‪ YVES MICHAUD‬عن أشكال مختلفة من العنف‬


‫المادي التي ميزت المجتمعات البشرية في القرن العشرين؛ كالحروب والبادات والضطهاد‬
‫ومعسكرات العتقال والجرام وغير ذلك‪ .‬وقد ساهمت التكنولوجيا في تطوير وسائل العنف‬
‫المادي؛ حيث عملت التجارة الدولية للسلحة على نشر وسائل العنف وجعله أكثر تخريبا‬
‫وفتكا‪ ،‬وفي متناول كل الفراد والجماعات‪ .‬كما ساهم التقدم التقني في تطوير اللت‬
‫والسلحة المستخدمة في العنف‪ ،‬مما جعل هذا الخير مختلفا عما كان عليه في السابق‪،‬‬
‫سواء من الناحية الكمية أو من الناحية الكيفية والنوعية‪.‬‬
‫ويشير ميشو أيضا إلى ارتباط العنف المادي بوسائل العلم التي أدت إلى انتشاره‬
‫والخبار عنه‪.‬‬
‫وإذا كان الطابع المادي للعنف يجعله ملموسا وظاهرا للعيان‪ ،‬فإنه يمكن الحديث مع بيير‬
‫بورديو عن شكل آخر للعنف أكثر خفاء ولطفا‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف بيير بورديو‪ :‬طبيعة العنف الرمزي ووسائله‪.‬‬

‫يتحدث بيير بورديو عن العنف الرمزي الذي هو عنف غير فيزيائي‪ ،‬يتم أساسا عبر‬
‫وسائل التربية وتلقين المعرفة واليديولوجيا‪ ،‬وهو شكل لطيف وغير محسوس من العنف‪،‬‬
‫وهو غير مرئي بالنسبة لضحاياهم أنفسهم‪ .‬وينتقد بورديو الفكر الماركسي الذي لم يولي‬
‫اهتماما كبيرا للشكال المختلفة للعنف الرمزي‪ ،‬مهتما أكثرا بأشكال العنف المادي‬
‫والقتصادي‪ .‬كما أشار بورديو إلى أن العنف الرمزي يمارس تأثيره حتى في المجال‬
‫القتصادي نفسه‪ ،‬كما أنه فعال ويحقق نتائج أكثر من تلك التي يمكن أن يحققها العنف‬
‫المادي أو البوليسي‪.‬‬
‫إن العنف الرمزي يمارس على الفاعلين الجتماعيين بموافقتهم وتواطئهم‪ .‬ولذلك فهم‬
‫غالبا ما ل يعترفون به كعنف؛ بحيث أنهم يستدمجونه كبديهيات أو مسلمات من خلل‬
‫وسائل التربية والتنشئة الجتماعية وأشكال التواصل داخل المجتمع‪ .‬ومن هذه الزاوية‬
‫يمكن‪ ،‬حسب بورديو فهم الساس الحقيقي الذي تستند إليه السلطة السياسية في بسط‬
‫سيطرتها وهيمنتها؛ فهي تستغل بذكاء التقنيات والليات التي يمرر من خللها العنف‬
‫الرمزي‪ ،‬والتي تسهل عليها تحقيق أهدافها بأقل تكلفة وبفعالية أكثر‪ ،‬خصوصا وأن هناك‬
‫توافقا بين البنيات الموضوعية السائدة على أرض الواقع وبين البنيات الذهنية الحاصلة‬
‫على مستوى الفكر‪.‬‬
‫هكذا يتبين أن العنف يتخذ شكلين رئيسيين؛ الول هو العنف المادي الذي حدثنا إيف ميشو‬
‫عن مظاهره المختلفة‪ ،‬والثاني هو العنف الرمزي الذي بين بورديو بعض وسائله ومدى‬
‫فعاليته في تثبيت دعائم الدولة والسلطة السياسية‪ .‬من هنا يبدو أنه من المستحيل الحديث‬
‫عن مجتمعات إنسانية خالية من العنف؛ فهو ظاهرة أكيدة في تاريخ المجتمعات البشرية‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬العنف في التاريخ‪.‬‬

‫وإذا كان المر كذلك‪ ،‬فما الذي يفسر ظاهرة العنف في التاريخ؟ أو بتعبير آخر؛ كيف يتولد‬
‫العنف في التاريخ البشري؟ وما الذي دفع النسان لممارسته؟‬
‫هكذا فالشكال يتعلق بأسباب تواجد العنف في تاريخ النسان‪ .‬وهو إشكال يمكن مقاربته‬
‫انطلقا من زاويتين متمايزتين‪ ،‬إحداهما سوسيواقتصادية يتبناها ماركس‪ ،‬والخرى‬
‫تحليلنفسية يقول بها فرويد‪.‬‬

‫‪-1‬موقف ماركس‪ :‬الصراع الطبقي كمولد لظاهرة العنف في التاريخ‪.‬‬

‫بين ماركس أن ظاهرة العنف في التاريخ ناتجة عن الصراع الطبقي الذي هو المحرك‬
‫الول لعجلة التاريخ؛ والذي عرف دوما حروبا ل تتوقف بين فئة مستغلة ومضطهدة من‬
‫جهة‪ ،‬وفئة مستغلة ومضطهدة من جهة أخرى‪ .‬وهذه الحروب والصراعات هي التي تولد‬
‫أشكال العنف المختلفة‪ ،‬والتي يكون لها أثر فعال على مستوى تغيير أشكال الحياة‬
‫الجتماعية‪.‬‬
‫ومن خلل استقرائه للتاريخ‪ ،‬بين ماركس أن المجتمع كان مقسما إلى طبقات تعيش‬
‫أوضاعا وشروطا اجتماعية مختلفة؛ بحيث نجد في المجتمع الروماني القديم طبقتين‬
‫متمايزتين؛ هما السادة والفرسان من جهة والقنان والعبيد من جهة أخرى‪ .‬كما نجد في‬
‫القرون الوسطى السادة والشرفاء من جهة‪ ،‬والقنان والحرفيون العاديون من جهة أخرى‪.‬‬
‫وإذا انتقلنا إلى العصر الحديث‪ ،‬عصر سيادة البورجوازية )الطبقة المالكة لوسائل النتاج(‪،‬‬
‫فإننا نجد أن الصراع لم ينته بعد؛ إذ أصبح المجتمع منقسما إلى معسكرين متعاديين‪ ،‬أي‬
‫إلى طبقتين متعارضتين تعارضا كليا هما البورجوازية والبروليتاريا‪ .‬وهذا الصراع‬
‫القتصادي والجتماعي في جوهره هو الذي يولد أشكال مختلفة من العنف والستلب‬
‫والستغلل الذي تمارسه الطبقة المالكة لوسائل النتاج المادي على الطبقة الشغيلة‪ .‬وقد‬
‫يتخذ هذا الصراع طابعا فرديا ل يعيه الفرد ذاته‪ ،‬كما قد يتخذ طابع صراع نقابي أو سياسي‬
‫أو إيديولوجي واضح‪.‬‬

‫‪-2‬موقف فرويد‪ :‬الطبيعة العدوانية للنسان هي التي تولد العنف في التاريخ‪.‬‬

‫ويمكن تقديم تحليل آخر لظاهرة العنف في التاريخ‪ ،‬هو ذلك الذي يقوم به فرويد حيث‬
‫يربط العنف بطبيعة الجهاز النفسي للنسان‪ ،‬حيث نجد “الهو” كنسق أصلي في هذا‬
‫الجهاز يميل إلى تحقيق دوافعه الغريزية‪ ،‬والتي تستهدف تحقيق اللذة والمصلحة الذاتية‬
‫بشتى الوسائل بما فيها تلك التي تعتمد على العنف‪ .‬هكذا يعتبر فرويد أن النسان كائن‬
‫عدواني وشرس بطبعه؛ فهو كائن تندرج العدوانية لديه بالضرورة ضمن معطياته‬
‫الغريزية‪ .‬ولذلك فلنسان ينزع إلى تلبية حاجاته العدوانية على حساب الخر‪ ،‬وإلى‬
‫استغلله وإهانته وإنزال اللم به واضطهاده وقتله‪.‬‬
‫ولذلك ل يمكن سوى قمع العنف وكبح جماحه دون التمكن من القضاء عليه‪ ،‬ما دام يعاود‬
‫الظهور حينما يتم إلغاء الزجر في فترات الحرب‪ ،‬التي تنزع عن النسان قناع الوحش‬
‫المفترس الذي ل يقيم أي اعتبار لبني جنسه‪.‬‬
‫هكذا يرى فرويد أن هذه العدوانية المتجذرة في النسان هي الذي تولد أشكال العنف‬
‫المختلفة في التاريخ‪ ،‬وتهدد العلقات القائمة بين الناس داخل المجتمع‪ .‬فالمبدأ العام عند‬
‫فرويد هو أن الصراع بين الناس تتم تسويته بواسطة العنف‪.‬‬
‫‪ .‬وقد عرف مسار العنف تطورا في تاريخ البشرية؛ حيث تم النتقال من العنف العضلي إلى‬
‫العنف الذي يستخدم الدوات‪ ،‬ثم إلى عنف عقلي سيشكل قوى موحدة ضد عنف القوى‪.‬‬
‫من هنا فقد تم كسر شوكة عنف القوى عن طريق اتحاد مجموعة من القوى الضعيفة‪،‬‬
‫التي ستتخذ القانون والحق كقوة تستخدمها الجماعة لتحقيق أغراضها‪ .‬فالعنف إذن لم‬
‫يختفي نهائيا‪ ،‬وإنما تم تعزيزه بواسطة العقل وأصبح يمارس باسم القانون‪.‬‬
‫وهذا ما سيطرح مسألة مشروعية العنف من زوايا القانون والحق والخلق‪.‬‬

‫المحور الثالث‪ :‬العنف والمشروعية‪.‬‬

‫يبدو أن العنف هو ممارسة القوة ضد الخر‪ .‬لكن ما يلحظ هو أن هذه الممارسة قد تتم‬
‫باسم الحق والقانون‪ .‬من هنا يتم التساؤل‪ :‬هل من مبررات معقولة تجعل ممارسة عنفا ما‬
‫مشروعا؟ وهل يمكن القرار بمشروعية العنف من زاوية الحق والقانون والعدالة؟‬

‫‪ -1‬موقف ماكس فيبر‪ :‬إعطاء مشروعية قانونية لممارسة العنف‪.‬‬


‫يتحدث ماكس فيبر عن مشروعية العنف المادي الممارس من طرف الدولة‪ ،‬وعن حقها‬
‫في احتكار هذا النوع من العنف‪ ،‬مستشهدا بتروتسكي الذي يرى “أن كل دولة هي جهاز‬
‫مؤسس على العنف”‪ .‬فالدولة هي التجمع السياسي الذي يحتكر العنف المادي الذي تعطى‬
‫له الشرعية القانونية‪ ،‬المتمثلة أساسا في المحافظة على النظام الداخلي من جهة‪ ،‬والدفاع‬
‫عن المجتمع ضد الخطار الخارجية من جهة أخرى‪ .‬هكذا يرى فيبر أن جوهر السلطة هو‬
‫ممارسة العنف‪ ،‬وأن هذا الخير هو الوسيلة المميزة لها‪ ،‬وأن بينها وبينه علقة وطيدة‬
‫وحميمية؛ ذلك أن ما سيبقى في حالة اختفاء العنف من ممارسة الدولة هو الفوضى‬
‫وضياع مصالح الناس‪.‬‬
‫وإذا كان العنف هو الوسيلة العادية التي استخدمت من طرف السلطة لدى الجماعات‬
‫السياسية المختلفة‪ ،‬فإن الدولة المعاصرة هي الوحيدة التي تحتكر العنف المادي المشروع‪،‬‬
‫بحيث ل تسمح لي فرد أو جماعة ما بممارسته إل بتفويض منها‪ .‬وإذا كان للدولة الحق‬
‫في استعمال العنف‪ ،‬فلنها في جوهرها‪ ،‬شأن أي تجمع سياسي سابق‪ ،‬ترتكز على علقة‬
‫السيطرة والسيادة التي يمارسها النسان على النسان‪.‬‬
‫لكن أل يمكن أن يكون العنف الممارس من قبل الدولة عنفا شرعيا بالنظر إلى القوانين‬
‫الموضوعة فقط ‪ ،‬والتي قد ل تكون في أساسها مشروعة ومطابقة لما هو حق وعادل؟‬
‫وبمعنى آخر؛ أل يمكن أن يكون تبرير العنف نابع من رغبة القوي في الهيمنة على‬
‫الضعيف وتحقيق مصالحه على حسابه؟ ثم أل يمكن قيام حياة خالية من العنف ورافضة‬
‫له؟ أل يمكن رفض العنف مبدئيا وبصفة مطلقة؟‬
‫هذه التساؤلت تقودنا إلى موقف الزعيم الهندي الرافض للعنف‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف غاندي‪ :‬العنف رذيلة وتعبير عن الحقد‪ ،‬وبالتالي فل مشروعية له‪.‬‬


‫يتبنى غاندي موقف اللعنف باعتباره يمثل ذلك الحب أو الرادة الطيبة تجاه كل الناس‪.‬‬
‫ولذلك فهو يرفض السلوك العنيف لن وراءه نية من أجل إلحاق الذى واللم بالخر‪ ،‬كما‬
‫أنه تعبير عن نشيد الحقد الذي تعبت النسانية من عواقبه الوخيمة‪ .‬هكذا يدعو غاندي إلى‬
‫تعميم الصداقة بين كل الناس‪ ،‬ومكافحة العنف والشر بسلح الذهن والفكر الخلقي‪ ،‬وهو‬
‫ما يقتضي مواجهة العنف بمقاومة روحية تمكن من خلق خيبة أمل لدى الممارس للعنف‬
‫بأن ل أواجهه بسلحه من جهة‪ ،‬وتمكن من الرفع من مستواه النساني والخلقي بأن‬
‫يصبح هو الخر رافضا للعنف من جهة أخرى‪.‬‬
‫انطلقا من كل هذا فاللعنف عند غاندي يستمد قوته من الروح؛ إذ يعتبر عقيدة روحية‬
‫وأخلقية قبل أن يصبح ممارسة جسدية وسلوكية‪ .‬وهذا أمر يقتضي رفض العنف رفضا‬
‫نهائيا ومبدئيا واعتباره رذيلة في ذاته‪ ،‬وأنه القانون الذي يحكم عالم الحيوانات‪ ،‬بينما‬
‫اللعنف هو القانون الذي يحكم العالم النساني‪.‬‬

‫ملخص الغير‬

‫ذ‪.‬محمد الشبة‬

‫جاء في معجم روبير بأن “الغير هم الخرون من الناس بوجه عام”‪ .‬كما نجد تحديدا في‬
‫معجم للند الفلسفي جاء فيه مايلي‪“ :‬الغير هو آخر النا‪ ،‬منظورا إليه ليس بوصفه‬
‫موضوعا‪ ،‬بل بوصفه أنا آخر”‪ .‬ويقول جان بول سارتر‪“ :‬الغير هو الخر‪ ،‬النا الذي ليس‬
‫أنا”‪ .‬انطلقا من هذه التحديدات يمكن أن نلحظ بأن الغير هو مخالف ومشابه للنا في‬
‫نفس الوقت؛ إنه مماثل له في النسانية‪ ،‬أي يتمتع مثله بمقومات الشخص من وعي‬
‫وحرية وكرامة وغير ذلك‪ .‬لكنه مع ذلك يختلف عنه في الكثير من الخصائص المتعلقة‬
‫بالجوانب السيكولوجية والجتماعية والثقافية وغير ذلك‪ .‬انطلقا من هنا يطرح السؤال‬
‫التالي‪ :‬هل وجود الغير ضروري لوجود الغير ووعيه بذاته؟ وإذا كانت معرفة الموضوعات‬
‫الطبيعية ممكنة بفضل تطور العلوم الدقيقة‪ ،‬فإن معرفة الغير كوعي آخر تطرح العديد من‬
‫الصعوبات؛ فهل معرفة الغير ممكنة؟ وكيف تتم معرفته بوصفه وعيا؟ غير أن العلقة بين‬
‫النا والغير ل تنحصر في المستوى المعرفي‪ ،‬بل تتجلى في مستويات عدة؛ عاطفية‬
‫وأخلقية واجتماعية…فما هي طبيعة العلقة التي يجب أن تسود داخل هذه المستويات بين‬
‫النا والغير؟ وعلى ماذا يجب أن تتأسس هذه العلقة؟‬

‫‪ -І‬وجود الغير‪:‬‬

‫الطرح الشكالي‪:‬‬

‫إذا كان النا يتميز عن باقي الكائنات والشياء بصفة الوعي‪ ،‬فأن وعيه هذا يتخذ عدة‬
‫أشكال؛ كالوعي السيكولوجي والوعي المعرفي والوعي الخلقي‪ .‬فمن الناحية‬
‫السيكولوجية تصدر عن النا انفعالت مثل الحب والكراهية‪ ،‬كما تصدر عنه من الناحية‬
‫المعرفية عمليات فكرية مختلفة مثل الشك والتخيل‪ ،‬ومن الناحية الخلقية يتميز بصفات‬
‫مثل الشجاعة والكرم‪ .‬ولذلك نتساءل؛ هل يمكن أن يمارس النا هذه الفعال والعمليات دون‬
‫حضور الغير كطرف فيها؟ فإذا لم يكن هناك وجود للغير في عالم النا‪ ،‬فمن سيحب هذا‬
‫الخير ومن سيكره؟ وهل يمكنه أن يفكر في قضايا سياسية واجتماعية وغيرها دون‬
‫حضور الغير كطرف أساسي مولد لهذه القضايا؟ ثم كيف للنا أن يعرف أنه شجاع أو كريم‬
‫دون وجود الغير؟ وعلى العموم هل وجود الغير ضروري لوجود النا أم أنه مجرد وجود‬
‫جائز ومحتمل؟‬

‫‪ -1‬موقف ديكارت‪ :‬وجود الغير غير ضروري لوجود النا ووعيه بذاته‪.‬‬

‫لقد اعتمد ديكارت على الشك من أجل بلوغ الحقيقة؛ وهكذا فقد شك في كل شيء إل في‬
‫حقيقة واحدة‪ ،‬بديهية ويقينية‪ ،‬وهي أنه يشك‘ أي يفكر‪ ،‬وبالتالي فهو يقينا يوجد كذات أو‬
‫كجوهر مفكر‪ .‬إن وجود النا كفكر وكوعي هو وجود يقيني ل يطاله الشك مادام أنه‬
‫موضوع لدراك حدسي مباشر‪ ،‬أما وجود الغير كذات مفكرة وواعية فل يتم إثباته إل عن‬
‫طريق الفتراض أنه شبيه للنا‪ ،‬وبالتالي فوجود الغير في فلسفة ديكارت يتم التوصل إليه‬
‫عن طريق استدلل قياسي‪ ،‬وكل ما يحصل عن طريق الستدلل فهو قابل للشك‪.‬‬
‫إن الوعي عند ديكارت هو حضور الذات إزاء نفسها‪ ،‬لذلك يصعب إدراك الغير كوعي آخر‬
‫من طرف وعيي أنا‪ .‬وهذا ما جعل ديكارت يسقط فيما يمكن تسميته بعزلة الذات مادام أنه‬
‫متأكد من ذاته وحدها‪ ،‬في حين يبقى وجود الغير مجرد وجود افتراضي‪ ،‬جائز ومحتمل‪.‬‬
‫‪ -2‬موقف هيجل‪ :‬إثبات وجود النا ل يكون إل من خلل الصراع مع الغير‪.‬‬

‫ضد الموقف الديكارتي شيد هيجل فلسفة للوعي يحتل فيها مفهوم الغير موقعا مركزيا‪ .‬فكل‬
‫شيء بالنسبة لهيجل يحمل نقيضه في ذاته كشرط لتحقق وجوده واستمراريته‪ .‬هكذا‬
‫فوجود النا ل يمكن أن يتحقق إل من خلل وجود نقيضه أي النا الخر أو الغير‪ .‬فل يمكن‬
‫للوعي أن يعرف نفسه إل من خلل انفتاحه على كل ماهو آخر بالنسبة إليه؛ أي أن الوعي‬
‫يبحث عن وساطة بينه وبين معرفته لنفسه‪ ،‬وهذا ما ينعته هيجل بمفهوم التوسط )‪La‬‬
‫‪. (médiation‬‬
‫وباعتبار الموجودات الطبيعية مجردة من الوعي‪ ،‬فهي موضوعات لشباع حاجات الوعي‬
‫الطبيعية‪ ،‬لذلك فهي تغرقه في الحياة العضوية وتجعله ل يتجاوز درجة الحساس المباشر‬
‫بالذات‪ ،‬ولهذا أيضا فهي ل تصلح كوساطة تمكن الوعي من تحقيق معرفة كاملة بنفسه‪.‬‬
‫إن الوعي الخر )الغير( هو الوحيد القادر على القيام بدور التوسط بين النا ومعرفته‬
‫بذاته؛ ذلك أن النا يسعى إلى العتراف به من طرف الخر‪ .‬غير أن هذا العتراف يتم من‬
‫خلل عملية الصراع التي تقوم بين النا والغير‪ ،‬والتي تنتهي بإخضاع أحد الوعيين للخر‬
‫وإجباره على العتراف له بوجوده‪ .‬وبذلك تنشأ العلقة النسانية الولى‪ ،‬علقة السيد‬
‫بالعبد‪.‬‬
‫وهكذا فليس للنا وجودا حقيقيا إل من خلل علقته بالنا الخر )الغير( وليس قبلها‪.‬‬
‫فوجود الغير شرط ضروري لوجود النا؛ مادام أن كل من السيد والعبد يتوقف وجود‬
‫أحدهما على وجود الخر‪.‬‬
‫‪ -ІІ‬معرفة الغير‪:‬‬

‫الطرح الشكالي‪:‬‬

‫حينما نتحدث عن معرفة الغير‪ ،‬فإن المر ل يتعلق بمعرفته كجسم أو كعضوية بيولوجية بل‬
‫معرفته كروح وكذات تحمل أفكارا ومشاعرا‪ .‬وإذا كانت عملية المعرفة تفترض ذاتا عارفة‬
‫وموضوعا للمعرفة ومنهجا تعتمده الذات لتحقيق معرفة بالموضوع‪ ،‬فإن الصعوبات‬
‫المطروحة هنا هو أننا إزاء ذات تريد أن تعرف ذاتا أخرى؛ فموضوع المعرفة الذي هو‬
‫الغير هو أيضا ذات واعية وتمتلك جهازا سيكولوجيا مثلها مثل النا‪ ،‬أي الذات الولى التي‬
‫تريد أن تعرفها‪ .‬هكذا فالمعرفة المتعلقة بالغير كذات أو أنا آخر‪ ،‬تختلف ول شك عن‬
‫المعرفة المتعلقة بالموضوعات الطبيعية أو الشياء المادية‪ .‬فإذا كانت معرفة هذه الخيرة‬
‫ممكنة إلى حد كبير حينما تتوفر الوسائل العلمية‪ ،‬فهل معرفة الغير ممكنة؟ وما الذي يحول‬
‫بيني وبين معرفته؟ وما هي السبل الكفيلة بأن تجعلنا نحقق معرفة بالعالم الداخلي للغير؟‬

‫‪ -1‬ةةةةة ةةةةة ةةة ةةةةةةة ةةةةةةةةةة‪:‬‬

‫‌أ‪ -‬موقف جان بول سارتر‪ :‬استحالة معرفة الغير‪.‬‬


‫يرى سارتر أن وجود الغير ضروري من أجل وجود النا ومعرفته لذاته‪ ،‬وذلك واضح في‬
‫قوله‪“ :‬الغير هو الوسيط الضروري بين النا وذاته”‪ .‬من هنا فالغير هو عنصر مكون للنا‬
‫ول غنى له عنه في وجوده‪ .‬غير أن العلقة الموجودة بينهما هي علقة تشييئية‪ ،‬خارجية‬
‫وانفصالية ينعدم فيها التواصل مادام يعامل بعضهما البعض كشيء وليس كأنا آخر‪ .‬هكذا‬
‫فالتعامل مع الغير كموضوع مثله مثل الموضوعات والشياء يؤدي إلى إفراغه من‬
‫مقومات الوعي والحرية والرادة‪ .‬ويقدم سارتر هنا مثال النظرة المتبادلة بين النا والغير؛‬
‫فحين يكون إنسان ما وحده يتصرف بعفوية وحرية‪ ،‬وما إن ينتبه إلى أن أحدا آخر يراقبه‬
‫وينظر إليه حتى تتجمد حركاته وأفعاله وتفقد عفويتها وتلقائيتها‪ .‬هكذا يصبح الغير جحيما‪،‬‬
‫وهو ما تعبر عنه قولة سارتر الشهيرة‪”:‬الجحيم هم الخرون”‪.‬‬
‫وحينما يخضع النا الغير للمعرفة ويتعامل معه كموضوع او شيء‪ ،‬فهو يفرغه من‬
‫مقومات الوعي والحرية والرادة‪ ،‬وبالتالي خلق هوة فاصلة بينه وبين النا الذي يريد‬
‫معرفته‪ .‬من هنا يرى سارتر أن النا يدرك الغير كجسم‪ ،‬ومن ثم فهو يدركه إدراكا إمبريقيا‪،‬‬
‫والعلقة بينهما هي في أساسها علقة خارجية وانفصالية ينعدم فيها التواصل‪.‬‬
‫هكذا يبدو أن معرفة الغير كأنا آخر مستحيلة‪ ،‬مادام أن نظرتنا إليه ل تتجاوز ما هو ظاهري‬
‫وتبقى مرتبطة بمجال الدراك الحسي الخارجي‪.‬‬
‫لكن أل يمكن معرفة الغير عن طريق القتراب منه والنفوذ إلى أعماقه؟ وكيف السبيل إلى‬
‫تحقيق ذلك؟‬

‫ب‪ -‬موقف ميرلوبنتي‪ :‬إمكانية معرفة الغير‪.‬‬


‫‌‬
‫يحلل ميرلوبنتي مثال “النظرة” الذي قدمه سارتر‪ ،‬ويعتبرها نظرة تشييئية ترتكز على‬
‫النظر إلى الغير كموضوع‪ ،‬كما أنها نظرة قائمة على النفي والنسحاب والتقوقع حول‬
‫الذات‪ ،‬ولذلك فهي نظرة ل إنسانية تعامل الغير كحشرة‪ .‬ومع ذلك فهي نظرة استثنائية‪،‬‬
‫قائمة على فعل إرادي وقصدي يفهم منه أن التواصل ممكن ولكننا نمتنع عنه بإرادتنا‪.‬‬
‫هكذا يرى ميرلوبنتي أننا حينما نعامل الغير معاملة ل إنسانية‪ ،‬وننظر إليه كموضوع‪ ،‬فإن‬
‫ذلك يؤدي حتما إلى الحيلولة دون علقة المودة والعطف بيننا وبينه‪ ،‬مما يؤدي إلى تعليق‬
‫التواصل معه دون أن يؤدي إلى إعدامه‪ .‬وهذا دليل في نظر ميرلوبنتي على إمكانية‬
‫التواصل مع الغير ومعرفته‪ .‬وتعتبر اللغة وسيلة أساسية لتحقيق هذا التواصل عن طريق‬
‫إرغام الغير على الخروج من صمته والبتعاد عن حالة العطالة والنغلق الكلي على الذات‪.‬‬
‫وإذا كانت معرفة الغير ممكنة‪ ،‬فما السبيل إلى تحقيقها؟‬

‫‪ -2‬سبل معرفة الغير‪:‬‬

‫من بين السبل المقترحة لمعرفة الغير هناك “الستدلل بالمماثلة”‪ .‬ويرتكز استدلل‬
‫المماثلة على التعبيرات الجسدية الخارجية التي تقوم كوسيط بيني وبين معرفة الحالت‬
‫الشعورية للغير؛ باعتبار أنني أقوم بنفس التعبيرات الجسدية التي يقوم بها الغير حينما‬
‫أحس ببعض المشاعر‪ ،‬فأستنتج أن الغير هو أيضا يحس بها حينما يقوم بتعبيرات جسدية‬
‫مماثلة لتلك التي أقوم بها‪.‬‬
‫غير أن استدلل المماثلة يطرح كثيرا من الصعوبات‪ ،‬من بينها أن الغير قد يتستر عن‬
‫مشاعره فيبدي من التعبيرات الجسدية عكس ما يبطنه من حالت وجدانية‪ ،‬كما أنه قد‬
‫يسيء التعبير عنها‪ ،‬فضل على أن بأعماق الذات مناطق لشعورية ل يملك الشخص نفسه‬
‫معرفة حقيقية بها‪ ،‬فكيف له إذن أن يعبر عنها للخر بواسطة اليحاءات الجسدية‬
‫الخارجية؟!‬
‫أمام هذه الصعوبات التي يطرحها استدلل المماثلة‪ ،‬كأحد السبل المقترحة لمعرفة الغير‪،‬‬
‫يقترح ماكس شيلر المعرفة الحدسية المباشرة التي تدرك الغير في كليته‪.‬‬
‫فمعرفة الغير تتم من خلل الدراك الكلي الذي يجمع بين إدراك المظاهر الجسمية‬
‫الخارجية وإدراك الحالت النفسية والفكرية الداخلية‪.‬هكذا فمعرفة الغير ل تتم من خلل‬
‫تقسيمه إلى ظاهر وباطن‪ ،‬إلى جسم وروح؛ بحيث أن الول يدرك خارجيا‪ ،‬والثانية تدرك‬
‫داخليا‪ ،‬إن معرفة بهذا الشكل غير ممكنة لن الغير كل ل يقبل القسمة‪ ،‬ومعرفته ل تتم إل‬
‫بوصفه كذلك‪.‬‬
‫من هنا يرى شيلر أنه ل يمكن تجزيء ظاهرة التعبير لدى النسان إلى وحدات صغرى‬
‫لعادة تركيبها لحقا‪ ،‬بل يجب إدراكها كوحدة غير قابلة للقسمة إلى أجزاء‪ .‬فمعرفة الغير‬
‫ل تتم من خلل الملحظة والستقراء العلميين‪ ،‬لن نمط معرفة الغير كأنا آخر غير مماثلة‬
‫لنمط المعرفة المتعلقة بالظواهر الطبيعية‪ ،‬بل إنها معرفة تتم من خلل التعاطف معه‪،‬‬
‫والنفوذ إلى أعماقه من خلل الترابط الموجود بين تعبيراته الجسدية ومشاعره الباطنية؛‬
‫فحقيقة الغير تبدو مجسدة فيه كما يبدو ويتجلى للنا‪ ،‬حركات التعبير الجسدية لديه حاملة‬
‫لمعناها ودللتها مباشرة كما تظهر؛ الباطن يتجلى عبر الظاهر ول انفصال بينهما‪.‬‬

‫‪ -ІІІ‬العلقة مع الغير من خلل الصداقة والغرابة‪.‬‬

‫· الطرح الشكالي‪:‬‬
‫إن العلقة مع الغير ل ترتد إلى مجرد علقة معرفية‪ ،‬بل هي أيضا علقة سيكولوجية‬
‫وأخلقية‪ .‬ولذلك سنتساءل في هذا المحور عن نوع المشاعر التي يجب أن نكنها للغير‪،‬‬
‫كما سنتساءل عن طبيعة المبادئ الخلقية التي يجب أن تحكم علقتي بالغير‪ .‬وإذا طبقنا‬
‫هذين التساؤلين عن الصداقة والغرابة‪ ،‬كوجهين أساسيين من وجوه العلقة مع الغير‪،‬‬
‫فسيصبح الشكال على النحو التالي‪ :‬ما هو أساس الصداقة؟ وعلى ماذا يجب أن تنبني‬
‫علقتي بالصديق؟ وإذا كان الغير يتخذ شكل الغريب أيضا‪ ،‬فما هو الغريب على وجه‬
‫التحديد؟ وما هي نوع المشاعر والمبادئ الخلقية التي يجب أن تحكم علقتي به؟‬

‫‪ -1‬الصداقة كوجه من وجوه العلقة مع الغير‪:‬‬

‫عرف أرسطو الصداقة باعتبارها فضيلة أخلقية‪ ،‬كما أنها تلك الرابطة التي تجمع بين‬
‫الناس داخل المدينة‪ ،‬والتي إن سادت على الوجه الكمل لم نكن في حاجة إلى قوانين‬
‫العدالة أصل‪ .‬كما يرى أرسطو أن الصداقة ضرورية في الحياة سواء تعلق المر بالغنياء‬
‫أو الفقراء؛ إذ يحتاج الغنياء إلى الصدقاء لكي ينالوا المدح والثناء من جراء ما يسدونه‬
‫لهم من خيرات‪ ،‬كما يحتاج الفقراء أيضا إلى الصداقة‪ ،‬إذ تعتبر الملذ الذي يلتجئون إليه‬
‫من أجل التخفيف من نوائب الدهر‪.‬‬
‫ويحدد أرسطو ثلثة أسس تنبني عليها الصداقة؛ المنفعة والمتعة والفضيلة الخلقية‪ .‬هكذا‬
‫نكون أمام ثلثة أنواع من الصداقة؛ صداقة المنفعة وصداقة المتعة وصداقة الفضيلة‪.‬‬
‫فالصداقتان الوليتان ترتكزان على المنفعة والمتعة‪ ،‬ولذلك فهما متغيرتان وزائلتان‪ .‬بينما‬
‫الصداقة الحقيقية هي صداقة الفضيلة التي تنبني على حب الخير لذاته أول‪ ،‬وللصدقاء‬
‫ثانيا‪.‬‬
‫وفي نفس السياق حاول أفلطون أن يحدد أساس الصداقة؛ فذهب إلى أنها تقوم على نوع‬
‫من الشعور بالنقص‪ ،‬وتعبر عن نزوع النا إلى الكمال من خلل حاجته الماسة إلى الغير‪.‬‬
‫هكذا فالصداقة في نظره ل تكون بين الطيبين ول بين الخبيثين‪ ،‬بل بين ما ليس طيبا ول‬
‫خبيثا من جهة وبين الطيب من جهة أخرى‪ .‬فلكي تكون هناك صداقة بين النا والغير ل بد‬
‫أن تكون الذات في حالة من النقص النسبي الذي يجعلها تسعى إلى تحقيق الكمال مع من‬
‫هو أفضل‪ .‬ولو هيمن الشر على الذات‪ ،‬فإنها ستكون في حالة نقص مطلق ل تستطيع معه‬
‫أن تسمو إلى الخير‪ .‬ولو كانت الذات في حالة خير مطلق لعاشت نوعا من الكتفاء الذاتي‬
‫الذي يجعلها ل تحتاج إلى الصديق‪ .‬فأساس الصداقة هو الرغبة في تحقيق سمو الذات‬
‫وكمالها من خلل الغير‪.‬‬
‫وفي إطار البحث عن أساس الصداقة كشكل من أشكال العلقة مع الغير‪ ،‬يمكن أن نقدم‬
‫تصور كانط الذي أسس العلقة بين النا والغير على مبادئ أخلقية وعقلية كونية‪ .‬ويتجلى‬
‫ذلك من خلل حديثه عن الصداقة باعتبارها علقة تقوم على مشاعر الحب والحترام‬
‫المتبادلة بين شخصين‪ .‬وغاية الصداقة‪ ،‬في صورتها المثلى‪ ،‬هي غاية أخلقية طيبة‪،‬‬
‫تتمثل في تحقيق الخير للصديقين معا‪ .‬وقد اعتبر كانط الصداقة واجبا عقليا يجب على‬
‫النسان السعي نحو تحقيقه‪ ،‬وإن كان يتعذر تحقيقها في صورتها المثلى على أرض الواقع‪.‬‬
‫فالعلقة مع الغير يجب أن تراعي نوعا من التوازن بين عناصر الواجب الخلقي؛ بين‬
‫مشاعر الحب من جهة‪ ،‬ومشاعر الحترام من جهة أخرى‪.‬‬
‫لكن علقتي بالغير ل تكون دائما في إطار الصداقة؛ إذ أكون مجبرا أيضا على التعامل مع‬
‫الغريب‪ .‬فمن هو الغريب على وجه الدقة؟ وكيف ينبغي أن تكون علقتي به؟‬
‫‪ -2‬الغرابة كوجه من وجوه العلقة مع الغير‪:‬‬

‫ترى جوليا كريستيفا أنه عادة ما يتم النظر إلى الغريب باعتباره ذلك الدخيل‪/‬الجنبي الذي‬
‫يهدد أمن الجماعة‪ ،‬ويشكل مصدر قلق لها ومهددا لمنها واستقرارها‪ .‬ولذلك تتخذ‬
‫الجماعة من هذا الغريب موقف القصاء والتهميش والنبذ والحقد‪ ،‬باعتباره عدوا يجب‬
‫القضاء عليه أو على القل الحذر منه‪.‬‬
‫لكن كريستيفا ترفض تحديد الغريب انطلقا من هذا التصور الشائع‪ ،‬وتقدم بالمقابل تحديدا‬
‫تعتبره أكثر عمقا وتعبيرا عن الغرابة الحقيقية‪ .‬هكذا تعتبر أن الغريب يسكننا على نحو‬
‫غريب؛ فهو إذن ليس خارجيا أجنبيا بل داخليا‪ ،‬يسكننا‪ ،‬إنه يوجد فينا‪ .‬إن الغرابة بهذا‬
‫المعنى الخير تتجلى في جهل النسان بذاته وبأعماقه ومكونات هويته‪ .‬كما تتجلى أيضا في‬
‫أشكال التصدع والنحلل والنسف الذي يطال النظم الثقافية والروابط الجتماعية والقيم‬
‫الخلقية للجماعة البشرية‪ ،‬مما يجعل الفرد يشعر بالغرابة داخل بلده وبين أهله‪.‬‬
‫هكذا إذا كان الغريب‪ ،‬حسب كريستيفا‪ ،‬قابع فينا ويسكننا من الداخل‪ ،‬وجب أن ل تكون‬
‫علقتنا به مبنية على الكراهية والعداوة والقصاء والعنف‪ ،‬بل يجب أن تكون مبنية على‬
‫الحب والتسامح والسلم والعتراف المتبادل‪.‬‬

‫ملخص الواجب‬

‫إن النسان حيوان أخلقي‪ ،‬ولذلك فتميزه بهذه الصفة جعله يطرح السؤال الخلقي التالي‪:‬‬
‫ما الذي ينبغي أن نعمله؟ وفي هذا الطار استثمر النسان عقله الخلقي العملي من أجل‬
‫تشريع قوانين لسلوكه‪ ،‬وسن واجبات لتحقيق الغايات المنشودة من أفعاله‪ .‬وإذا كان‬
‫الواجب كلفظ يحيل إلى معنى الكراه واللزام‪ ،‬فإنه مع ذلك يعبر عن سمو النسان وحريته‬
‫والتزامه بما يشرعه لنفسه‪ .‬وإذا كان الوعي الخلقي سمة من سمات الكائن البشري‪،‬‬
‫باعتباره ما يسمح له بالتمييز بين الخير والشر‪ ،‬فإن هناك من جعل أساس هذا الوعي في‬
‫الفطرة البشرية‪ ،‬وهناك من أرجعه إلى العقل‪ ،‬وهناك من عاد به إلى منشئه التاريخ في‬
‫إطار الصراع حول المصالح‪ .‬وأمام هذا التعدد في المرجعيات التي تحكم الواجب‪ ،‬نجد‬
‫أنفسنا أحيانا أمام واجبات ترتبط بسلطة مجتمع ما وظروفه الخاصة‪ ،‬مما قد يؤدي إلى‬
‫انغلق القيم الخلقية ودخولها في صراع مع مرجعيات أخلقية أخرى‪ ،‬وهذا أمر يحتم‬
‫ضرورة المراهنة على أخلق كونية تؤسس لواجب النسان إزاء النسان‪.‬‬

‫المحور الول‪ :‬الواجب والكراه‪.‬‬

‫* إشكال المحور‪ :‬هل يمكن أن يكون الواجب حرا أم أن قبوله ل يتم سوى تحت‬
‫الكراه؟ وهل يستمد الواجب سلطته من وازع عقلي داخلي أم يستمدها من إلزام خارجي؟‬

‫‪ -1‬موقف هيوم‪ :‬الواجب إلزام صادر عن المنفعة وضرورات المجتمع‪.‬‬

‫يرى دفيد هيوم أنه ل يمكن تأسيس الخلق على دعامة من العقل وحده‪ ،‬لن الحكام‬
‫الخلقية خاضعة للعرف والعادة والبيئة الجتماعية‪ .‬هكذا فجريمة واحدة قد تصادف‬
‫أحكاما مختلفة باختلف الظروف والحوال‪ .‬فالحكم على الفعال بالخير أو الشر راجع إلى‬
‫عاطفة أو إحساس نابع من التجربة والمجتمع اللذين يجعلن النسان يتشبث بالحسن لما‬
‫يجلبه له من منفعة‪ ،‬ويبتعد عن القبيح لما يجلبه له من ضرر‪.‬‬
‫ويقسم هيوم الواجبات الخلقية إلى نوعين‪ :‬الواجبات الولى هي تلك التي يقوم بها الناس‬
‫بدافع غريزي طبيعي‪ ،‬وبدون أي إلزام أو سعي نحو تحقيق منفعة ما؛ مثل حب الطفال‬
‫والعطف على المحتاجين‪ .‬أما الواجبات الثانية فهي تلك التي تكون صادرة عن إلزام نابع‬
‫من ضرورة المحافظة على المجتمع البشري‪.‬‬
‫هكذا فالطابع اللزامي للواجب عند هيوم مرتبط بالثار المترتبة عنه على مستوى الحياة‬
‫الجتماعية‪ .‬والتجربة وحدها هي التي تبين لنا مدى ما نجنيه من منفعة أو فائدة إذا ما‬
‫تقيدنا بأوامر الواجب‪.‬‬
‫من هنا فالتجربة والتفكير المرتبط بها هما اللذان يمارسان الرقابة على الميولت الذاتية‬
‫والغريزية‪ ،‬ويجعلنها خاضعة للحكام الصادرة عن الواجب‪.‬‬
‫إن إلزامية الواجب إذن صادرة‪ ،‬حسب هيوم‪ ،‬عن دوافع خارجية‪ ،‬كما أنها ترتبط بالمنفعة‬
‫وبالنتائج المفيدة المترتبة عنها‪ .‬وهو المر الذي سيرفضه إيمانويل كانط‪.‬‬

‫‪ -2‬موقف كانط‪ :‬الواجب التزام حر‪ ،‬نابع من الذات وغير مشروط‪.‬‬

‫يرى كانط أن النسان حينما يخضع للقوانين التي يمليها الواجب الصادر عن العقل‪ ،‬فإنه ل‬
‫يخضع سوى لتشريعه الخاص‪ ،‬ول يتصرف إل طبقا لرادته الخاصة‪ .‬هذه الرادة التي‬
‫تتميز بالستقلل الذاتي‪ ،‬لنها تشرع لنفسها في استقلل عن أية شروط أو غايات خارجية‪.‬‬
‫ويرى كانط من جهة أخرى بأن الرادة ل تخضع دوما لوامر العقل‪ ،‬لذلك يمارس عليها‬
‫هذا الخير نوعا من الكراه‪ ،‬إل أنه إكراه حر؛ مادامت الرادة تخضع للقانون الخلقي‬
‫الصادر عن العقل من أجل مقاومة التأثير الذي تمارسه الميولت الغريزية من جهة‪ ،‬ومن‬
‫أجل المحافظة على كرامة النسان واحترامه من جهة أخرى‪.‬‬
‫ويميز كانط بين نوعين من الوامر الخلقية؛ أوامر أخلقية شرطية ترتبط بالنتائج التي‬
‫تتطلبها الضرورات العملية‪ ،‬فتكون الواجبات في هذه الحالة مجرد وسائل لتحقيق غايات‬
‫معينة؛ كأن نقول الصدق من أجل أن نكسب ثقة الناس‪ ،‬وأوامر أخلقية قطعية أو مطلقة‪،‬‬
‫وهي تلك التي تنظر إلى الفعال في ذاتها ل من حيث النتائج المترتبة عنها؛ كأن نقول‬
‫الصدق دائما لنه واجب أخلقي صادر عن العقل العملي‪.‬‬
‫هكذا فالواجب المرتبط بهذه الوامر الخيرة يتميز بكونه غير مشروط بأية نتائج منتظرة‪،‬‬
‫فهو يحمل غايته في ذاته‪ ،‬كما أنه ذا صبغة كونية وشمولية‪ .‬وهو زيادة على ذلك يتسم‬
‫بطابعه الصوري والعقلي المجرد‪.‬‬
‫وبالرغم من هذا الطابع الصوري والكوني للواجب الخلقي عند كانط‪ ،‬فهو يعبر عن‬
‫حرية النسان والتزامه بقوانين كونية نابعة من العقل‪ ،‬كما يجعله يتصرف كما لو كان في‬
‫نفس الوقت مشرعا وفردا في مملكة الرادة‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬الوعي الخلقي‪.‬‬

‫* إشكال المحور‪ :‬ما هو مصدر الوعي الخلقي؟ وأين يجد أساسه ومبدأه؟ وكيف‬
‫يتأتى للنسان الوعي بالوامر الخلقية؟ وكيف له أن يميز بين الخير والشر؟‬

‫‪ -1‬موقف روسو‪ :‬الفطرة كأساس للوعي الخلقي‪.‬‬

‫إن أساس الوعي الخلقي عند روسو هو مبدأ فطري يمكن النسان من التمييز بين الخير‬
‫والشر‪ .‬وهذا المبدأ هو ما ينعته روسو بالوعي الخلقي الذي يصدر عن إحساس عميق‬
‫في النفس البشرية‪ ،‬يمكنها من إصدار أحكام على الفعال ووصفها بالخيرة أو الشريرة‪.‬‬
‫هكذا فمصدر الوعي الخلقي هو إحساس داخلي متأصل في الطبيعة النسانية‪ ،‬وهو الذي‬
‫يميزها عن طبيعة أي كائن آخر‪ .‬وهذا ما يجعل الجتماع البشري ل يتأسس فقط على‬
‫الحاجيات البيولوجية وضروريات العيش‪ ،‬بل يتأسس أيضا على الروابط الخلقية التي تجد‬
‫مرتكزها في الحاسيس الفطرية التي تميز الكائن البشري‪ ،‬وتدله على ما هو خير وما‬
‫يسمح له بتأسيس علقته مع ذاته ومع الخرين في إطار أخلقي وإنساني‪.‬‬
‫ويميز روسو بين معرفة الخير ومحبته؛ فمعرفة الخير هي معرفة عقلية مكتسبة‪ ،‬لكن‬
‫محبته هي نابعة عن إحساس فطري لدى النسان‪ .‬من هنا فالوعي الخلقي عند روسو هو‬
‫غريزة إلهية خالدة ومعصومة‪ ،‬وهي الضامنة والمرشدة للنسان بحيث تمكنه من التمييز‬
‫بين الخير والشر‪ ،‬وتمنح أفعاله صبغة أخلقية متميزة‪.‬‬
‫وإذا كان روسو يؤسس الوعي الخلقي على الفطرة والغريزة‪ ،‬فإنه يتجاهل الظروف‬
‫التاريخية والعوامل الجتماعية التي تقف وراء نشأة الوعي الخلقي‪ .‬وهو ما أكد عليه‬
‫مجموعة من الفلسفة‪ ،‬ومن بينهم نيتشه‪.‬‬
‫] ملحظة‪ :‬يمكن استثمار موقف كانط في هذا المحور الثاني‪ ،‬باعتبار أن كانط يجعل مصدر‬
‫الواجب في العقل ويؤسسه على القانون الخلقي الصادر عنه‪[...‬‬

‫‪ -2‬موقف نيتشه‪ :‬يجد الوعي الخلقي أساسه في العلقات التجارية‬


‫الولى بين الناس‪.‬‬

‫لقد كشف نيتشه من خلل بحثه الجينيالوجي عن أصل الخلق ومنشئها‪ ،‬عن الحداث‬
‫التاريخية الولى والحقيقية التي كانت وراء تبلور ما يسمى بالوعي الخلقي‪.‬‬
‫هكذا فقد نشأ الوعي الخلقي في إطار علقة تجارية بين الدائن والمدين؛ حيث أن هذا‬
‫الخير عجز عن أداء ما عليه من دين للول‪ ،‬باعتباره واجبا عليه‪ ،‬فعوض له ذلك‬
‫بخضوعه له وانصياعه لوامره‪ .‬من هنا فأصل الوعي الخلقي‪ ،‬وبالتالي أصل الخير‬
‫والشر‪ ،‬هو تلك القيم والواجبات التي وضعها الدائنون ليعاقبوا بها المدينين ويصبحوا‬
‫سادة عليهم‪.‬‬
‫إن العقاب في هذه الحالة لم يتخذ شكل تعويض مالي أو عقاري‪ ،‬وإنما اتخذ شكل عقاب‬
‫معنوي وأخلقي‪ .‬وقد ترتب عنه ظهور مبادئ وواجبات وأوامر يكون لزاما على‬
‫المستضعفين الخضوع لها من أجل المحافظة على حياتهم‪.‬‬
‫وهكذا وبدل تعويض الدين مباشرة‪ ،‬تم تعويضه بشكل غير مباشر عن طريق تخلي المدين‬
‫العاجز لسلطة القرار لصالح الدائن‪ ،‬الذي أصبح منذ هذه اللحظة‪ ،‬وبفضل قوته وجبروته‪،‬‬
‫يصدر الوامر ويمارس مختلف أشكال العقاب على من هم تحت سيطرته‪.‬‬
‫هذه إذن هي العلقة التاريخية الولى التي كانت وراء تشكل الوعي الخلقي‪ ،‬في نظر‬
‫نيتشه‪ ،‬غير أن العبيد والمستضعفين فيما بعد عملوا على قلب القيم الخلقية وإعطائها‬
‫معاني جديدة تخدم مصالحهم‪.‬‬
‫← يتبين إذن‪ ،‬مع نيتشه‪ ،‬كيف أن الوعي الخلقي ذو جذور تاريخية وتجارية؛ إذ أنه يجد‬
‫مرتكزاته في الصراع الذي حصل بين الناس حول المصالح الجتماعية والقتصادية‪ .‬ولذلك‬
‫فالنسان ل يلتزم بالواجبات الخلقية في ذاتها‪ ،‬كما ل تكتسي هذه الواجبات صبغة ثابتة‬
‫ومطلقة‪ ،‬بل إنه يتوخى النتائج النافعة المترتبة عن تلك الواجبات‪ ،‬مما يضفي عليها طابع‬
‫النسبية والتغير‪.‬‬
‫وهذه الفكرة الخيرة تقودنا إلى إشكال الواجب بين المطلق والنسبي؛ فهل يرتبط الواجب‬
‫بكل مجتمع على حدة فيتخذ طابع النسبية‪ ،‬أم أنه مطلق ويتعلق بالنسانية ككل؟‬

‫المحور الثالث‪ :‬الواجب والمجتمع‪.‬‬


‫*إشكال المحور‪ :‬هل الواجب الخلقي هو مجرد صدى لصوت المجتمع أم أنه‬
‫يتجاوزه إلى مستوى النسانية ككل؟ وهل هو خاص يتعلق بكل مجتمع على حدة أم أنه‬
‫كوني يتعلق بجميع الناس؟ وهل الفرد ملزم بواجبات نحو مجتمعه فقط أم بواجبات نحو‬
‫النسانية أيضا؟‬

‫‪ -1‬موقف دوركايم‪ :‬الواجب الخلقي هو ترديد لصوت المجتمع‪.‬‬

‫]ملحظة‪ :‬يمكن استثمار موقف دوركايم أيضا في المحورين السابقين؛ حيث أن دوركايم‬
‫يقول بإلزامية الواجب الخلقي وخارجيته في حين أن كانط يقول باللتزام الصادر من‬
‫داخل الذات‪ .‬أما في المحور الثاني فإن دوركايم يحدد أساس الوعي الخلقي في المجتمع‬
‫أو ما يسميه بالضمير الجمعي‪[...‬‬

‫إن مصدر الواجب عند دوركايم هو المجتمع الذي هو كائن معنوي يتجاوز الفراد ويؤثر‬
‫فيهم‪ .‬هكذا فلدى الفراد مشاعر عديدة تعبر عن صوت المجتمع الذي يحيى داخل ذواتهم‪،‬‬
‫ويمارس عليهم نوعا من القهر والكراه الخفي‪ .‬إن المجتمع بهذا المعنى ‪ ،‬هو جزء ل‬
‫يتجزأ من الذوات الفردية التي ل تستطيع أبدا النفصال عنه؛ فهو الذي بث فيها تلك‬
‫المشاعر والمعايير التي تحدد لها واجباتها الخلقية‪ ،‬أي ما ينبغي عليها فعله وما يجب‬
‫تجنبه‪ .‬فالضمير الخلقي إذن هو تعبير عن صوت المجتمع‪ ،‬وهو يتردد داخل الذات‬
‫الفردية بلغة المر والناهي‪ ،‬مما يجعله يتمتع بسلطة قاهرة ويمنح بالضرورة لقواعد‬
‫السلوك الفردي صفة الكراه المميزة لللزام الخلقي‪.‬‬
‫لكن إذا كان الواجب يرتبط بالمجتمع وبإكراهاته‪ ،‬فإنه بذلك يسقط في النغلق والنسبية؛‬
‫مادام أن لكل مجتمع خصوصيته الثقافية والحضارية التي تميزه عن باقي المجتمعات‪ .‬كما‬
‫أن الواجب في هذه الحالة من شأنه أن يؤدي نوع من الصدام الحضاري‪ ،‬والصراع الفكري‬
‫والخلقي بين المم والشعوب‪.‬‬
‫فهل يمكن أن نرتقي بالخلق إلى مستوى الكونية ونخرجها من انغلقها لتنفتح على القيم‬
‫والواجبات النسانية؟‬

‫‪ -2‬موقف برجسون‪ :‬من الواجب إزاء المجتمع إلى الواجب إزاء النسان‪.‬‬

‫يرى برجسون أنه بالرغم من أن المجتمع يتكون من إرادات فردية حرة‪ ،‬فإن هذه الرادات‬
‫تؤلف في انتظامها جهازا عضويا يرسخ أنساقا من العادات الجماعية التي تمارس إلزامها‬
‫وسلطتها على الفراد‪.‬‬
‫هكذا فالمجتمع هو الذي يحدد للفرد واجباته وقواعد سلوكه اليومي‪ .‬ويتم خضوع الفرد‬
‫للمجتمع بنوع من اللية والعفوية التي ل يكاد يشعر الفراد خللها بذلك الضغط الممارس‬
‫عليهم من قبل المجتمع‪ .‬غير أن هذه الواجبات تتحول إلى عادات محدودة وذات طابع‬
‫سكوني ومنغلق‪ ،‬مما يحتم ضرورة‪ ،‬حسب برغسون‪ ،‬النتقال بها إلى مجال المجتمع‬
‫المفتوح الذي هو النسانية ككل‪.‬‬
‫إن علينا واجبات نحو النسان كإنسان‪ ،‬كاحترام حياة الخرين واحترام حرياتهم‬
‫ومعتقداتهم‪ ،‬ولذلك يجب ترسيخ قيم وواجبات كونية من شأنها أن ترسخ السلم والتسامح‬
‫بين كل أفراد بني النسان‪.‬‬

‫نصوص وأقوال للستثمار‬


‫في درس النظرية والتجربة‬

‫‪ -1‬مفهوم النظرية‪:‬‬

‫‪ -‬جاء في معجم روبير ما يلي‪:‬‬

‫· » النظرية هي مجموعة من الفكار والمفاهيم المجردة المنظمة قليل أو‬


‫كثيرا‪ ،‬والمطبقة على ميدان مخصوص «‪.‬‬
‫· » النظرية بناء عقلي ذو طابع فرضي تركيبي «‪.‬‬
‫·‬
‫‪ -‬جاء في المعجم الفلسفي لندري للند ما يلي‪:‬‬
‫* » النظرية هي إنشاء تأملي للفكر يربط نتائج بمبادئ «‪.‬‬

‫‪ -2‬مفهوما التجربة والتجريب‪:‬‬

‫· يقول فردناند ألكيي ‪: Ferdinand Alquuié‬‬

‫» لو قمنا بتأويل التجربة وفهمها‪ ،‬فإنها تنطوي باستمرار‬


‫على شيء من الخضوع ‪ ،‬أي خضوع النا‪ .‬ولذلك تقترن‬
‫التجربة عادة بالفشل؛ وكأن اللم ضروري لكي نغير‬
‫مواقفنا من الحياة…‬
‫والتجريب العلمي نفسه ليستحق نعت تجربة إل لنه وفي‬
‫أكثر لحظاته فعالية إنما يمهد ويعلن عن لحظة السلبية‬
‫التامة‪ :‬أي اللحظة التي نكتفي فيها بتقبل واستقبال‬
‫الواقعة التي تمثل جوابا بالنسبة للنشاط الفكري…‬
‫نستطيع إذن أن نمنح لكلمة “تجربة” معنى دقيقا فنعلن أن‬
‫أن واقعة ما أو إحساسا أو فكرة أو حقيقة تكون معطاة من‬
‫طرف التجربة عندما تكون موضع معاينة خالصة تستبعد كل‬
‫اصطناع أو تدخل أو بناء من طرف الفكر‪ .‬بيد أن هذا مثل‬
‫هذا التعريف يفتقر إلى الصفة الواقعية مادام ان مساهمة‬
‫المعطى الخارجي تمتزج دائما بشيء من الستجابة الفكرية‬
‫الفعالة‪.‬‬
‫يشير المفهوم الفلسفي للتجربة إذن إلى “تجربة خالصة”‬
‫لتجريب فيها أبدا؛ تدل كلمة “تجربة” على ذلك عنصر‬
‫السلبية الموجود في كل معرفة إنسانية«‪.‬‬

‫‪Ferdinand Alquié, L’experience, PUF, 1957 pp.3-5‬‬

‫‪Cité par A.Rousel et G.Durozoi, Philosophie‬‬


‫‪Notions et textes Nathan‬‬ ‫‪1979 p156‬‬

‫· جاء في معجم فولكيي ما يلي‪:‬‬


‫» التجريب ‪ ، Expérimentation‬أو فن الحصول على تجارب دقيقة ومحددة‪ ،‬هو‬
‫الساس العملي‪ ،‬وبشكل ما الجزء التنفيذي للمنهج التجريبي ) كلود برنار( «‪.‬‬

‫· يقول ألبير جاكار ‪: Albert Jacquard‬‬

‫» علينا أن نميز بين التجربة‪ ،‬بما هي جماع ملحظتنا للظواهر التي تعطانا من قبل‬
‫الطبيعة مباشرة‪ ،‬وبين التجريب باعتباره ملحظة لستجابات معطيات العالم الواقعي‪ ،‬حينما‬
‫نخضعها لشروط منظورة وموجهة من طرف فكرنا «‪.‬‬

‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬مباهج الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم النسانية‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬إفريقيا‬
‫الشرق ‪ ،2007‬ص ‪.71‬‬

‫· يقول ألكسندر كويري ‪: A.Koyré‬‬

‫» التجربة بمعنى التجربة الخام والملحظة العامية لم تلعب أي دور في نشأة العلم‬
‫الكلسيكي؛ اللهم إل دور العائق… أما التجريب –وهو المساءلة المنهجية للطبيعة‪-‬‬
‫فيفترض افتراضا مسبقا اللغة التي يطرح فيها أسئلته وقاموسا يتيح تأويل أجوبته‪ .‬والحال‬
‫إنه إذا كان العلم الكلسيكي يسائل الطبيعة بلغة رياضية…فإن هذه اللغة أو بالحرى قرار‬
‫استعمالها ل يمكن أن تمليه التجربة التي يتحكم فيها ذلك القرار «‪.‬‬

‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬منار الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم النسانية‪ ،‬طبعة ‪ ،2007‬ص ‪.68‬‬
‫‪ -2‬محور العقلنية العلمية‪:‬‬

‫يمكن لنجاز هذا المحور استثمار النصوص و القوال التالية‪:‬‬

‫· يقول ألبير إنشتين ‪: A.Einstein‬‬

‫» إن نسقا كامل من الفيزياء النظرية يتكون من مفاهيم وقوانين أساسية للربط بين تلك‬
‫المفاهيم والنتائج التي تشتق منها بواسطة الستنباط المنطقي‪ ،‬وهذه النتائج هي التي يجب‬
‫أن تتطابق معها تجاربنا الخاصة…‬
‫ل يمكن استنتاج القاعدة الكسيومية للفيزياء النظرية انطلقا من التجربة‪ ،‬إذ يجب أن‬
‫تكون إبداعا حرا…‬
‫إنني متيقن أن البناء الرياضي الخالص يمكننا من اكتشاف المفاهيم والقوانين التي‬
‫تحكمها والتي تمكننا من فهم الظواهر الطبيعية… إن المبدأ الخلق الحقيقي يوجد في‬
‫الرياضيات‪.‬‬
‫وبمعنى ما‪ ،‬إني أصادق على أن الفكر الخالص قادر على فهم الواقع‪ ،‬كما كان يحلم بذلك‬
‫القدماء «‪.‬‬

‫المرجع‪ :‬القرر السابق؛ الفكر السلمي والفلسفة‪ ،‬الشعبة الدبية‪ ،‬طبعة ‪ ،2005‬ص ‪.66‬‬

‫· يقول هانز رايشنباخ ‪: Hans.Reichenbach‬‬


‫» المعرفة العلمية يتم التوصل إليها باستخدام مناهج معقولة لنها تقتضي استخدام العقل‬
‫مطبقا على مادة الملحظة‪ .‬غير أنها ليست عقلنية‪ ،‬إذ أن هذه الصفة ل تنطبق على‬
‫المنهج العلمي‪ ،‬وإنما على المنهج الفلسفي الذي يتخذ من العقل مصدرا للمعرفة التركيبية‬
‫لمتعلقة بالعلم‪ ،‬ول يشترط ملحظة لتحقيق هذه المعرفة…‬
‫وعندما يتخلى الفيلسوف عن الملحظة التجريبية بوصفها مصدرا للحقيقة‪ ،‬ل تعود بينه‬
‫وبين النزعة الصوفية إل خطوة قصيرة «‪.‬‬

‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬مباهج الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم النسانية‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬إفريقيا‬
‫الشرق ‪ ،2007‬ص ‪.72‬‬

‫· يقول غاستون باشلر ‪: Gaston.Bachelard‬‬

‫» ل يمكن تأسيس العلوم الفيزيائية دون الدخول في حوار فلسفي بين العالم العقلني‬
‫والعالم التجريبي … وبعبارة أخرى يحتاج عالم الفيزياء المعاصر ليقين مندوج‪:‬‬
‫أول‪ :‬يقين بوجود الواقع في قبضة ما هو عقلي…‬
‫ثانيا‪ :‬يقين بأن الحجج العقلية المرتبطة بالتجربة هي من صميم لحظات هذه التجربة‪.‬‬
‫وباختصار ل توجد عقلنية فارغة‪ ،‬كما لتوجد اختبارية عمياء‪ .‬هذان هما اللزامان‬
‫الفلسفيان اللذان يؤسسان التركيب الدقيق لكل من النظرية والتجربة في الفيزياء المعاصرة‬
‫إن هذا اليقين المزدوج ل يمكن أن يتحقق إل في إطار فلسفة لها نشاطان يمارسان عبر‬
‫حوار دقيق ووثيق بين العقل والتجربة «‪.‬‬
‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬في رحاب الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم اللنسانية‪ ،‬طبعة ‪ ،2007‬ص‬
‫‪.72‬‬

‫‪ -3‬محور معايير علمية النظريات العلمية‪:‬‬

‫يمكن إنجاز هذا المحور من خلل النصوص والقوال الفلسفية التالية‪:‬‬

‫· يقول بيير دوهايم ‪: duhem P.‬‬

‫» إن النظرية الفيزيائية ليست تفسيرا‪ .‬إنها نسق من القضايا الرياضية المستنبطة من‬
‫عدد قليل من المبادئ‪ ،‬غايتها أن تمثل تماما وببساطة‪ ،‬وبصورة صحيحة‪ ،‬مجموعة من‬
‫القوانين التجريبية… إن التفاق مع التجربة هو الذي يشكل بالنسبة للنظرية المعيار‬
‫الوحيد للحقيقة «‪.‬‬

‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬منار الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم النسانية‪ ،‬طبعة ‪ ،2007‬ص ‪.77‬‬
‫· بالنسبة لموقف إنشتين يمكن استثمار النص الذي أوردناه في المحور الثاني‪.‬‬
‫يؤكد إنشتين على التساق المنطقي كمعيار لصحة النظرية في الفيزياء النظرية‪.‬‬

‫· يقول كارل بوبر ‪: k.Popper‬‬


‫» ل يعتبر أي نسق نظري نسقا اختباريا إل إذا كان قابل للخضوع لختبارات تجريبية…‬
‫غير أن قابلية التزييف ) أو التكذيب ( وليس قابلية تحقق النسق هي التي ينبغي أن نتخذها‬
‫معيار الفصل بين ما هو علمي وما ليس علميا «‪.‬‬

‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬مباهج الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم النسانية‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬إفريقيا‬
‫الشرق ‪ ،2007‬ص ‪.80‬‬

‫· ويقول كارل بوبر أيضا‪:‬‬

‫» لن أستطيع الزعم بأن نظريتي لها خاصية النظرية التجريبية‪ ،‬إل إذا كنت أستطيع أن‬
‫أقول كيف يمكن تفنيد نظريتي أو تكذيبها‪ .‬هذا المعيار للتمييز بين النظريات التجريبية‬
‫والنظريات اللتجريبية قد أطلقت عليه أيضا معيار القابلية للتكذيب‪ .‬وليس معنى هذا أن‬
‫النظريات غير القابلة للتفنيد كاذبة؛ ول أنها فارغة من المعنى‪ .‬غير أنه يتضمن أن نظرية‬
‫معينة تعد خارج مجال العلم التجريبي عندما ل نستطيع وصف كيف يمكن تفنيد نظريتي أو‬
‫تكذيبها…‬
‫إن النظرية التي تعرف مقدما أنه ل يمكن تبيان العيب فيها أو تفنيدها لهي نظرية غير قابلة‬
‫للختبار «‪.‬‬

‫المرجع‪ 2 :‬باك‪ ،‬مباهج الفلسفة‪ ،‬مسلك الداب والعلوم النسانية‪ ،‬الطبعة الولى‪ ،‬إفريقيا‬
‫الشرق ‪ ،2007‬ص ‪.74‬‬

You might also like