Professional Documents
Culture Documents
الرسالة الخامسة
اليجــــــــابية في حيــــــــــــاة الداعيـــــــــــة
====\\\========\\\=====
ولكن لبد في الوقت نفسه ،من مناقشة مسألة قد تترافق مع هذا المفهوم الجيد والواضح ،إذ أن
بعض الممارسات الخاطئة والمبالغة في فهم الطاعة بمفهومها الضيق ،دون أن تترافق بمفهوم
( السمع ) الذي يعني التفهم والدراك والوعي ،والذي غالبا ً ما يرد في النصوص الشرعية مع
الطاعة ،قد أدى إلى ظهور سلبية كبيرة أل وهي اعتماد الدعاة في عملهم و تنفيذاتهم اعتمادا ً كلياً
على الخطط ،وأن تكون جميع أعمالهم مرهونة بما يصدر إليهم من توجيه ،دون العتماد على
أنفسهم في إيجاد منافذ العمل ،أو اتخاذ زمام المبادرة إلى الحركة والعطاء ،وإنما اتخاذ الموقف
النسحابي وانتظار تنفيذ الوامر فحسب.
إن هذه السلبية في الدعاة تحتاج إلى مناقشة ودراسة ،لنها أصبحت تشكل عائقا ً في طريق العمل،
وأحد أسباب الفتور الواضحة .ول يمكن أن يقتصر تعليلها على رواسب التربية الخاطئة بمفهوم
الطاعة المجردة ،رغم أن من المؤكد أن بعض الممارسات التربوية لها أثر في حصول هذه السلبية،
إضافة إلى تأثير مجموعة أخرى من العوامل ،لعل منها ضعف القابليات الفطرية ،والمناهج التربوية
المدرسية القاصرة في مدارس العالم السلمي ،التي ل تساعد على تفجير الطاقات البداعية مع
عدم توفر الدوافع النفسية والمادية ،وجنوح الفرد في المجتمعات الشرقية إلى النزواء والكسل،
وغير ذلك من العوامل التي تشكل بمجموعها أثرا نفسيا بالغا في تكون النفس السلبية.
فردية التكليف
إن أول دوافع اليجابية التي يجب أن يتذكرها الداعية هو أن مناط التكليف فردي ،وأن كل فرد
سيحاسب يوم القيامة فردا ً ،وأنه ل تزر وازرة وزر أخرى ،وإن كان المرء يحاسب عن عمله في
الجماعة ،وبعض التكاليف ل تتم إل بجماعة ،أو من خلل تجمع جماعي ،ولكن الحساب بالثواب
والعقاب ل يكون إل فردياً ،ومن اليمان بهذا المنطلق يجب أن ينحصر تفكير الداعية فيما يجلب له
الجر ،ويقربه إلى الطاعة ،دون أن يكون تبعا ،وأن يمتلك زمام المبادرة إلى الطاعات دون اللتفات
إلى عمل فلن أو قول فلن ،ول يجب أن تقعده نشوة الطاعة ،ول تثبطه أثقال المعصية ،ول ينتظر
الذن بالعمل من شخص ما ،إل ما كان جزءا من خطة ،بل يفكر الداعية بنفسه أنه سيحاسب يوم
القيامة عن أعماله ،وعما قدم ،ول يسأل عن الخرين ،كما أن عليه أن ل يرنو ببصره إلى غيره ،فقد
يكون لهم من العذار ما يمنعهم عن شيء ما ،أو ليس لهم من الهمة والطاقة ما يمكنهم من أداء
عمل ما ،و يستطيع هو أداءه ،فل يثبطه الشيطان ،أو تقعد به ثقلة الحياة الدنيا ،والداعية _ بنفس
الوقت _ عليه أن ينصب رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ قدوة عملية أمام عينيه ،ول يجعل
الشخاص الخرين -أيا ً كانوا مثال ً له ،فقد يفتح الله عليه من الهمة أكثر من الخرين ،أو يوفقه الله _
2
تعالى _إلى عمل يتفرد به ،أو إلى فضل يؤثره فيه ،فلله في خلفه شؤون ،وهو المتفضل على عباده،
وقد يختص برحمته من يشاء وكيفما يشاء.
ل تكلف إل نفسك
لقد توارد معنى اليجابية ،وتكرر في القرآن الكريم بصور شتى وأساليب متنوعة ،ليتركز مفهوم
فردية التكليف ،و بالتالي ذاتية العمل ،وما ينعكس عن ذلك من تثبيت مفهوم إيجابية الداعية في
العمل والمثابرة ،ومنها أوضح آية في كتاب الله_ تعالى _ تحدد معنى اليجابية ،أل وهي قوله تعالى:
"فقاتل في سبيل الله ،ل تكلف إل نفسك ،وحرض المؤمنين ." ...والمعنى واضح في أمر الله تعالى
لنبيه في عدم تكليف أحد إل نفسه ،وأن ل ينتظر إعانة من أحد ،رغم أن المعلوم من الشريعة أن
المة كلها مكلفة بالجهاد ،ولكن المعنى أن يفترض كل مسلم من المة_ والقدوة في ذلك نبيها_
صلى الله عليه وسلم _أنه وحده المكلف بالداء ،وأن الله قادر على نصره ،وينحصر واجبه في
تحريض المؤمنين.
(كأن هذا المعنى :ل تدع جهاد العدو ،والستنصار عليهم للمستضعفين من المؤمنين ،ولو وحدك ،لنه
وعده بالنصر..
قال الزجاج :أمر الله تعالى رسوله _ صلى الله عليه وسلم _ بالجهاد ،وإن قاتل وحده ،لنه قد
ضمن له النصرة.
وقال ابن عطية :هذا ظاهر اللفظ ،إل أنه لم يجئ في خبر قط ،أن القتال فرض عليه دون المة مدة
ما ،فالمعنى_والله أعلم _ أنه خطاب له في اللفظ ،وهو مثال ما يقال لكل واحد في خاصة نفسه،
أي أنت يا محمد وكل واحد من أمتك القول له( :فقاتل في سبيل الله ل تكلف إل نفسك) ،ولهذا
ينبغي لكل مؤمن أن يجاهد ولو وحده ،ومن ذلك قول النبي _صلى الله عليه وسلم " :والله
لقاتلنهم حتى تنفرد سالفتي " ،وقول أبي بكر _ وقت الردة :-ولو خالفتني يميني لجاهدتها
1
بشمالي )
فلينظر _ بتأمل _لستنباط القرطبي (رحمه الله) أن يجاهد المسلم -ولو وحده -إقتداء برسول الله
صلى الله عليه وسلم ،-وما أدركه أبو بكر -رضي الله عنه -لليجابية من خلل النصوص.
موقف من هدهد
ولعل كذلك إحدى الصور البليغة التي يستشهد بها من القرآن الكريم قصة الهدهد مع نبي الله
سليمان -عليه السلم ،-إذ يبرز مفهوم اليجابية واضحا ..إذ كيف سار الهدهد بمفرده دون تكليف
مسبق ،أو تنفيذ لمر صادر ،و جلب خبرا للقيادة المؤمنة أدى إلى دخول أمة كاملة في السلم،
وبالطبع فإن تقفد المير للتباع ،وأخذه المر بالحزم ،ثم المحاسبة ،وتبين العذر ..كل ذلك من أسس
الدارة ،وقواعد التخطيط ،ومناهج التربية ،وقد وصف القرآن الكريم عمل هذا الهدهد بقوله" :فمكث
غير بعيد ،قال أحطت بما لم تحط به ،وجئتك من سبأ بنبأ يقين .إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من
2
كل شيء ولها عرش عظيم "
وبالطبع ،فل يعني الستدلل :الحرص على التسيب ،وإنما المقصود الخذ بمعنى اليجابية الهادفة
بضوابطها ،دون الخروج على أهداف الجماعة ووسائلها ،أو مبادئها العامة ،أو أن تكون على حساب
الوامر والعمال الراجحة ،وما إلى ذلك مما هو معلوم ،بل وإن نفس القصة لتدل على ذلك حيث
سمة اليقظة والدقة في العمل ،وتفقد الفراد والحرص عليهم ،وضرورة الطاعة والمحاسبة عليها،
ثم الحزم القيادي وعدم التسيب في معالجة المور ،ثم الصغاء للتباع ومعالجة المواقف ،وغير ذلك
مما هو ليس مجال الستدلل له ،ولكن الستدلل لطبيعة الهدهد صاحب الذكاء والوعي والدراك
واليمان ،حيث استغل فرصة ما ليبلغ خبرا ً مهما ،حرصا ً منه على تبليغ الرسالة ،وطمعا ً في نشر
التوحيد ،مع براعة في حسن الداء ،وجودة العرض ،وشجاعة العتذار.
وما اختيار القصة إل للستدلل بها،كي يؤخذ من ثناياها ثلثة أمور يستنبط بالدنى منها على العلى
3
فالداعية أولى من الهدهد بالعمل اليجابي ،والسعي وراء المصالح ،والبحث عن الخير ،فما
من أفضلية خاصة لهذا الطائر العتيادي ،إذا تجاوزنا السرائيليات أو المبالغات التي ل تسندها
النصوص ،والمؤمن الداعية أدعى أن يقوم بالعمل المثمر ،دون انتظار أوامر أو تعليمات من
المير.
والنظر إلى قيادات العمل السلمي في عدم توقعها القيام بكل الخطط ،وتوجيه جميع
الوامر أولى ،فهذا نبي الله المؤيد بالوحي من جهة ،وسخرت له الجن والطير ،لم يكن قادراً
على الحاطة بجميع المور ،ولم يمكن ملما ً بجميع المعلومات ،فاحتاج إلى معلومة صغيرة،
من طائر صغير ،فكانت إيجابية التابع عونا ً لعمل المير.
وكذلك يستدل بالعمل الصغير _ كنبأ ومشاهدة قوم يعبدون الشمس من دون الله _ للهتمام
بما هو أكبر من ذلك ،وقد تقوم إيجابية الداعية بجلب منافع أكبر من الخبار ،وأهم من
الشواهد.
وهكذا يستدل على التابع والمتبوع ونوع العمل من قصة الهدهد لستلهام ما ينبغي أن
يكون عليه الواقع الدعوي ،من إيجابية الدعاة ،وعدم العتماد _ في كل أمر _ على المراء ،مع تنوع
العمال ،وعدم استصغار ما دقَّ منها.
وقال ابن الجوزي :قد يكون النسان صحيحا ،ول يكون متفرغا ً لشغله بالمعاش ،وقد يكون مستغنياً
ول يكون
صحيحا ً ،فإذا اجتمعا فغلب عليه الكسل عن الطاعة فهو المغبون ،وتمام ذلك أن الدنيا مزرعة
الخرة ،وفيها التجارة التي يظهر ربحها في الخرة ،فمن استعمل فراغه وصحته في طاعة الله فهو
المغبون ،ومن استعملها في معصية الله فهو المغبون ،لن الفراغ يعقبه الشغل والصحة يعقبها
السقم ،ولو لم يعقبهن إل الهرم...
وقال الطيبي :ضرب النبي _ صلى الله عليه وسلم _ للمكلف مثل ً بالتاجر الذي له رأس مال فهو
يبتغي الريح مع سلمة رأس المال ،فطريقه في ذلك أن يتحرى فيمن يعامله ،ويلزم الصدق والحذق
لئل يغبن ،ومجاهدة النفس وعدو الدين ،ليريح خيري الدنيا والخرة ،وقريب منه قول الله تعالى" :
هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم " اليات ،وعليه أن يجتنب مطاوعة النفس ،ومعاملة
1
الشيطان ،لئل يضيع رأس ماله مع الريح "
4
ومن خلل تربية المصطفى_ صلى الله عليه وسلم _ الصحابة ،صار كل صحابي أمة لوحده ،وما من
صحابي إل وله سمة معينة ،وموقف خاص ،وإبداع متميز ،فمنهم من أشار واقترح ،ومنهم من أوضح
وشرح ،ومنهم من أضاف واستدرك ،فيما يخدم الدعوة وحركة اليمان ،فسلمان الفارسي يستفيد
من خلفيته الحضارية ويقترح حفر الخندق ،وحباب بن المنذر يقترح الوقوف في بدر على الماء ،وآخر
ينصب المجانيق في غزوة الطائف ،وأبو بصير يخطط لحرب عصابات بعيدا عن بنود صلح الحديبية،
وعمر بن الخطاب يقرب سيفه في نفس الهدنة من أبي جندل طمعا في أن يستله ويقتل أباه دون
مؤاخذة على نقض المعاهدة ،و يستلم خالد بن الوليد الراية يوم مؤتة بلتأمير ،رضي الله عنهم
أجمعين.
والمتتبع لمعارك القادسية واليرموك ،والجسر والبويب ،يجد لكل صحابي فيها موقفا مشهودا.
وللصحابة والتابعين بطولت وجولت ،نستل منها فقط قصة ذلك المجهول في
القادسية صاحب البداع عند ملقاة الفرس حيث نفرت خيل المسلمين من الفيلة..
(فعمد رجل منهم فصنع فيل من طين ،وأنس به فرسه ،حتى ألفه ،فلما أصبح :لم ينفر فرسه من
الفيل ،فحمل على الفيل الذي كان يقدمها ،فقيل له :إنه قاتلك ،قال :ل ضير أن أقتل ،ويفتح
1
للمسلمين)
ولو ترك الجانب العسكري ،لرأينا في الجانب القتصادي ذلك الصحابي الذي تؤرقه كثرة أبناء
المهاجرين والنصار فينقل زراعة القمح للحجاز ،وعبد الرحمن بن عوف يختبر السوق ،فيصفق
لنفسه حتى ل يكون عيال ً على غيره ،وكل ذلك كان يتم دون أوامر ،بل بمبادرات من الصحابة
أنفسهم ،رغم اليمان التام بكفاية القائد المؤيد بالوحي ،ورغم الستعداد التام للطاعة المطلقة،
وذلك ليمانهم الجازم بضرورة العمل اليجابي.
وكذلك في إطار الفكر والتربية يسارع عبد الله بن عمرو لتدوين الحديث ،وزيد ابن
ثابت لجمع القرآن ،إضافة إلى مسارعته لتعلم العبرانية والسريانية إذ قال عن نفسه:
2
( ...قال لي رسول الله :أتحسن السريانية؟ قلت :ل ،قال :فتعلمها ،فتعلمتها في سبعة عشري وما)
وابن عباس يجد بغيته الدعوية في الخروج للسواق والسلم على الناس ،وصحابية تطالب الرسول-
صلى الله عليه وسلم -بحق النساء فتجمعهن للسماع ،وتنقل أسماء بنت عميس بعض تجارب أهل
الحبشة في كفن المرأة ..وغير ذلك.
وفي الطار الجتماعي ،يسابق بعضهم بعضا ً في التزاور والضيافة ،ويتحاور أبو الدرداء
مع سلمان ليبت الرسول _ صلى الله عليه وسلم _ في أمر المناقشة حول حقوق العيال وقيام
الليل.
وللجدد .. ..مواقف
وفي تاريخ من أسلم من النصارى عبر التاريخ ،قصص وعبر ،ومبادرات إيجابية ،وقصص الندلس
طافحة بهذه المثلة ،وقبلها ما حصل عند الروم ،وبينها مبادرات في إفريقية ،أو في فتوحات
العثمانيين في أوروبا ،كقصة البطل اللماني _ صانع المدافع _ الذي استشهد في معارك جزيرة
رودس ،وكل هؤلء البطال لهم سلف في عمل النجاشي _ رحمه الله _ الذي أسلم ،وظل في
قومه.
ويكتفى هنا بقصة المير القاضي أبو محمد عبيد الله بن صليعه ،الذي قرر مع رعيته النصارى ،أن
يخدع الفرنج ويظهر أمامهم بمظهر الخائن ،ووعدهم أن يعينهم إن هم تسللوا إلى برج سماه لهم،
فكان من قائد الفرنج أن انتدب من شجعانهم ثلثمائة ،فطالعهم النصارى في حبال ،وكلما طلع
3
واحد ،قتله ابن صليعه ،حتى أباد الثلثمائة ...ثم حاصروه ،ودكوا برجه ،فأصبح وقد بناه في الليل)
فانظر إلى العزيمة في الداء ،واليجابية في العمل ،دون النظر لما يقول الخرون ،أو حباً
لشهرة يراها المسلمون ،وللقصة تفصيل -ل مجال له هنا -كما أنها غيض من فيض ،ولكن يكتفى
بالقليل اعتبارا ً بها ،ودفعا للدعاة للبحث والنظر.
1تفسير القرطبي 364 / 2
2اسناده صحيح ،أخرجه أحمد 182 / 5والحاكم 422 / 3
3سير أعلم النبلء 298 / 19
5
سر الحضارة النسانية
والمتتبع للحضارة النسانية ،يجد البداع الفردي ،واليجابية الذاتية هما منبع الفكار المتميزة ،وبداية
الفاق الحضارية ،فمنذ فجر التاريخ كانت الختراعات والبتكارات فردية ،ابتداء من صناعة العجلة،
وحتى الطباعة ،والتلغراف ،والمصباح ،وأشباه ذلك ،حتى أدى هذا النعكاس إلى ظهور الفلسفات
التي تؤكد على الذاتية ،وليس هذا المبحث بصدد تقييم هذه الفلسفات ومدى بعدها أو قربها من
النظرة السلمية ،وإنما للستدلل على ما ساد في الحضارة النسانية من رصد صحيح للبداع
والبتكار ،وحتى عند تحول العمال إلى منطلقات جماعية كما يحصل في البحوث السياسية والدارية
والقتصادية ،بل حتى في بحوث العلوم الطبيعية الحالية ،من نزعة جماعية ،فيظل للفرد دوره
المميز في ومضة البداع ،وفي إيجابية الداء والفكر السلمي له نظرة متوازنة بين العمل الفردي
والعمل الجماعي ،ويرفض التفرد والنانية ،كما يرفض الغرور والشخصانية ،إل أن تنفيذ العمال،
ومبدأ التكليف فردي بحت.
والناظر المستقرئ لمدنية اليوم ،يظن أنها نتاج حكومات ومؤسسات ،ل أن المتتبع لها ،ولبداياتها
يعلم أنه ابتدأت بمحاولت فردية ،فكثير مما نشاهده من شركات أو مؤسسات بدأت بزمام مبادرات
فردية ،تطورت_ مع اليام _ إلى جماعية ،وكثير من متاحف العلوم والجيولوجيا ومعاهد البحوث ،كان
إنشاؤها فرديا ً حتى أثبتت وجودها ودعمت من قبل الحكومات ،بل حتى المعارض والحدائق العامة،
كانت ملكا ً لفراد صبوا جهود حياتهم فيها ،حتى وصلت إلى مرحلة استحقت أن يشارك المجتمع
فيها.
وما تنعم المجتمعات الحديثة فيه الن من طائرات وسيارات ،وأجهزة ،بل ومن علوم إنسانية وأفكار
مدينة إلى جهود رواد الحضارة ،وبناة المدنية من أشخاص ملكوا قدرة البداع _ بفضل الله وحكمته_
وزمام المبادرة ،وتحملوا العوائق حتى وصلوا إلى البداع الذي قاد إلى أعمار هذه الرض.
لذا ..صار من الضروري إدراك مثل هذا الستقراء ،كي يكون دافعا ً للداعية ،إلى التفكير
المستمر ،والعمل الدائب ،للمشاركة اليجابية ،حتى يشارك في مسيرة البناء ،أما في المجتمعات
السلمية المعاصرة ،فيضمر هذا المعنى مع السف كثيراً..
وذلك الداعية اليجابي الذي آلمته المجاعة في إفريقية ،فترك مهنة الطب ،والعيش الفاره ،
وبدأ عمل الغاثة بمجهود فردي ،وصب كل أفكاره فيها ،حتى تحول _ بإذن الله تعالى ثم
بمؤازة مجاميع العمل السلمي _ عمل الغاثة من جهود فردية إلى منظمة كبيرة تخدم الكثير
من المور في إفريقية ،وتحولت إلى سمة بارزة في العمل السنادي ،وصار مثال ً يحتذى به
في خدمة القضايا السلمية.
وقس على ذلك ..المحاولت الرائدة في محاولة تجميع الزكاة وتوزيعها ،التي بدأت بإيجابية
بعض الدعاة ،حتى تطورت مع اليام إلى أعمال جماعية ،تخدم قضايا المة السلمية ،وتربطها
مع جماهير المة أخذا وعطاءا.
وإن الكثير من الجمعيات السلمية ،ودور الرعاية والتحادات الطلبية ،في الغرب ،لم يخطط
لها الشرق _حسب علمنا _ بل كانت جميعها بجهود إيجابية لداعية التف حوله بضع دعاة في
بادئ المر ،ثم تطورت مع اليام ،فأصبحت فيما بعد مؤسسات جماعية ،تؤدي أعمال ً كبيرة لها
أثرها.
وهناك المجهولون من الوائل الذين جمعوا الناشيد السلمية ،أو قاموا بتسجيلها ،أو كانت
لهم محاولت التصوير والنشر ،أو الذين قاموا بتسجيل الناشيد وأغاني الطفال حتى تحولت
6
هذه الوسائل العلمية إلى ظاهرة كبيرة ل يخفى إسنادها للعمل الدعوي ،وانتشار الوعي
السلمي.
وتأتي مثل هذه المحاولت فردية .في أمور كثيرة +ل يمكن حصرها ،كلها تبرهن أن العمال
الكبيرة تبدأ فردية بعمل إيجابي يتطور مع اليام ،أو أن العمال الكبيرة ذاتها قد تكون مجموعة
من أعمال صغيرة ،وأدوار صغيرة تتراكم مع الزمن ،ويطرح الله +تعالى +فيها البركة والنماء.
وكذلك العتذار للقائد في أداء الواجب ،ولو أخذنا قصة الهدهد كمثال على العمل اليجابي لرأينا فيها
من المعذرة والعتذار الشيء اللطيف ،حيث كان علمه نافعا ً للقائد معتذرا ً به إليه ،بل كان في
العلم ،حيث النبأ اليقين ،نوع سلطان قوي ،ول يتنافى هذا مع النية ،فإن طاعة القائد واجبة،
واليجابية مظهر غير مباشر للطاعة.
(إن سليمان لما توعد الهدهد بأن يعذبه عذابآ شديدآ ،أو يذبحه ،إنما نجا منه بالعلم ،وأقدم عليه في
خطابه له بقوله" :أحطت بما لم تحط به " خبرآ ،وهذا الخطاب إنما جرأه عليه العلم ،وإل فالهدهد
1
مع ضعفة ل يتمكن من خطابه لسليمان مع قوته ،بمثل هذا الخطاب ،لول سلطان العلم)
إذ لول إيجابية الهدهد ،لما قبل القائد اعتذاره ،لن عموم الرتباط بجماعة المؤمنين يقتضي أداء
عمل ،ضمن الهداف المعلومة ،وليست بالضرورة أن يكون التابع منفذا ً لوامر فقط ،وكذا الدعاة
يجب أن ل يقفوا عن حد الواجبات ،أو عتبة الوامر ،فالسكون تقصير ،والوقوف ضعف ،ولكن العمل
اليجابي يدرأ عتب أو ملمة المير.
(وفي قوله أصدقت أم كنت من الكاذبين ،دليل على أن المام يجب عليه أن يقبل عذر رعيته ،ويدرأ
العقوبة عنهم في ظاهر أحوالهم بباطن أعذارهم ،لن سليمان لم يعاقب الهدهد حين اعتذر إليه،
وإنما صار صدق الهدهد عذرا ً لنه أخبر بما يقتضي الجهاد ،وكان سليمان -عليه السلم -حبب إليه
الجهاد ،وفي الصحيح :ليست أحد أح ُّ
ب إليه العذر من الله ،ومن أجل ذلك أنزل الكتاب ،وأرسل
2
الرسل) .
7
ومن الثقة بالنفس معرفتها ،والتوجه إلى المعالي دائمآ ،والرنو نحو القمم السامقة ،أما رأيت لذلك
الرجل الذي قيل له :عندي لك حويجة ،فقال له :أطلب لها رجيلً ،فإنه يبحث عن القضايا التي
يطلب لها الرجال ،وهكذا يفعل أصحاب العزائم ،حتى ولو كانوا من طلبة الدنيا ،ولعل من هؤلء يزيد
بن المهلب الذي هرب من الحبس ،فقيل في قصته أنه مر برهط من أهل البرية رعاة ،فقال لغلمه:
1
استسقنا منهم لبناً ،فسقوه ،فقال :أعطهم آلفاً ،قال :إن هؤلء ل يعرفونك ،قال :لكني أعرف نفسي
فانظر إلى مقدار معرفته بنفسه ،وما أراد لها أن تنزل عن مقدارها ،فكيف بهمم أهل الدين التي
يجب أن تكون أعلى وأسمى ،وهكذا كانت مطالب الصحابة _ رضوان الله عليهم _ فكل منهم كان
في الموضع العلى من الرغبة في المعالي ،فهذا ربيعة بن كعب السلمي أقصى أمانيه عندما سأله
الرسول -صلى الله عليه وسلم( :-أسألك مرافقتك في الجنة) ،والمام علي -رضي الله عنه_ يحدد
غاية ما يشتاق إلى فعله (الضرب بالسيف ،والصوم بالصيف ،وإكرام الضيف) ،وسيف الله المسلول
الذي ل يريد أن تقر عيون الجبناء يقول:
(ما من ليلة يهدى إلي فيها عروس ،أنا لها محب ،أحب إلي من ليلة شديدة البرد ،كثيرة الجليد ،في
2
سرية ،أصبّح فيها العدو).
ل تبخل بالقليل
ب صغير عظمته النية ،ور َّ
ب ومن خصائص اليجابية عدم استصغار المر ،وعدم استكثار الكثير ،فر َّ
عظيم صغرته النية ،وقد تؤتي الكلمة الطيبة ثمارها_بإذن الله تعالى _ ،ولقد سئل أحد العلماء (إلى
متى تظل تكتب العلم؟ فقال :لعل الكلمة التي فيها نجاتي لم تكتب بعد) ،وما يدري النسان متى
يقول الكلمة فيهدي الله بها خلقا كثيرا..
وقد أورد الرسول_ صلى الله عليه وسلم _ أن من البر أن يُفرغ أحدكم في دلو أخيه ،أو أن يتبسم
النسان في وجه أخيه ،أو حتى أن يلقاه بوجه طلق"..
فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره " ....( 3قال ابن مسعود :هذه أحكم
آية في القرآن ،وصدق ،وقد اتفق العلماء على عموم هذه الية ،القائلون بالعموم ،ومن لم يقل
به .....وأن الرسول -صلى الله عليه وسلم -لما سئل عما في أجر الحمر ،قال( :وإن في الحمير
مثاقيل ذر كثيرة)...
وأن أم المؤمنين قالت عن صدقة حبة العنب :كم ترى في هذه الحبة من مثقال ذرة ...وعن سعد
بن أبي وقاص عندما دفع لسائل تمرتين :ويقبل الله منا مثاقيل الذر ،وفي التمرتين مثاقيل ذر كثيرة.
4
)00
وفي استلهام الداعية لمثل هذه النصوص دافع كبير إلى عدم استصغار العمال الصغيرة ،أو القوال
العارضة في دعوته ،فل يبخس في الحديث للهل ،أو الكلم لطفل ،أو التربيت على كتف غلم ،أو
التبسم لجار في طريق ،أو النصح لمرافق في العمل ،أو الستماع لكلمة أو مقالة ،أو التنصت
للقرآن الكريم أثناء سياقة السيارة ،وشبه ذلك مما يكسب الجر الكبير ،والمثوبة العظيمة ،والله
يضاعف لمن يشاء.
وعدم الزهد في القليل أولى من القعود ،والسكوت والقعود أولى من الحديث بالباطل ،فإن النفوس
مجبولة على العمل وحب الحديث ،فإذا لم تجتمع على الحق ،فرقتها أحاديث الباطل ،والشيطان ل
يدع النسان في عزلة من أمره ،فما أن يترك النسان العمل الصائب حتى يشغله الشيطان بترهات
الباطل ،وكم هي التجارب الناطقة من محيط الدعاة ،فإن أحاديث الغيبة ،وعبارات التهكم
والسخرية ،وأقوال النقد والتثبيط ،ل تتم إل من القاعدين والكسالى ،ول تنمو إل في أجواء الراحة
والفتور ،وخصوصا ً عند الشباب ،وفي هذا يقول أبو العتاهية في حكمته التي تتردد عبر الجيال:
ورجاله رجال الصحيح . 1سير أعلم النبلء 375/ 3،5،1 / 4
ورجاله رجال الصحيح . 2سير أعلم النبلء 375/ 3،5،1 / 4
3الزلزلة 8 - 7
4تفسير القرطبى 152 /20
8
إنما الفراغ والشباب والجده **** مفسدة للمرء أي مفسده
و إياك والفراغ
وقبله كره ابن مسعود الفراغ للمرء مهما كان ،فقال( :إني لكره أن أرى الرجل فارغا ً ليس في
عمل آخرة ،ول دنيا )...وما أكثر ما نطق الشعراء والحكماء بهذا المعنى ،حيث إدراكهم لمعنى الحياة،
وضرورة استثمارها...
وإذا كان القدمون يستشعرون هذا المعنى من دقات القلب ،فما أحرى بداعية اليوم استشعارها من
دقات الساعات في كل مكان ،ومن إشاراتها الرقمية في كل معصم ،وهي تسجل مرور الثواني
والدقائق التي لن تعود ،ناهيك عن اليام والليالي ،وأن يكون مع المام الشهيد في حكمته الخالدة
حيث يقول( :الوقت هو الحياة) ،وكان يكرر أيضا( :الوقت كالسيف ،إن لم تقطعه قطعك).
م في القلب الفهم والوعيولكن الرجوع إلى تتبع دقات القلب أجزل معنى وأوضح تذكيراً ،فإنه ث َّ
والدراك واليمان.
فلول تفقد داعية قلبه ،ثم رجع فتفقد ..ثم رجع ،لعله يقرب من البداع واليجابية خطوات..
و إياك والهوى
وهناك مجموعة من السباب والعوامل تؤثر في إيجاد اليجابية الدعوية ،أو تقويتها ،أو المنع من
فتورها ،لبد من أخذها بنظر العتبار والتنبيه المستمر عليها من خلل الوعظ الدعوي ،والمناهج
التربوية ،أو جداول المحاسبة الذاتية ،ولعل أهمها ومبتدأها :تقوية اليمان .واليمان بداية المر ،وأس
العمل ،ولشك ،ولكن المقصود هنا اللتزام بعوامل تقوية اليمان ،وأنشطة زيادته بالطاعات التي من
شأنها أن تزداد إيجابية المؤمن بها ،وتتقوى ذاتيته بمقتضاها ..والعوامل هذه كثيرة -ل يمكن
الستطراد بها في هذا المبحث -ولكن يشار إليها فحسب إذ أن من أهمها ،الذكر وتلوة ا لقرآن،
وتذكر الخرة ،وحضور ا لجنائز ،وزيارة ا لمقابر ،وكثرة ا لسنن ،وقيام الليل ،وصيام التطوع ،والزيادة
من كل بر ،والخذ بكل معروف.
كما أن اليمان مرتبط بصحة النية ،وسلمة القصد ،وعدم حصول الهوى،أو غلبة الشبهة ،لن اتباع
الهوى يضل عن السبيل ،ويقعد عن العمل الصائب ،وشعور المؤمن بأن عمله لله -تعالى -يدفعه
للمعالي ،ويفجر مكنوناته ،و يستسهل الصعب فيه ،و يتجاوز العقبات له ،وتتكون العزيمة التي تدفع
كل حواسه ،وتظهر كل طاقاته على شكل عمل مثمر وبناء ،وكما أن صحة النية مهمة ،فإن النشغال
بالعمل الصالح ،وترك الشهوة ،هو الخر يقود إلى تفتح البصيرة ،وترك الباطل ،والتمتع بلذة الطاعة،
وينمي القوة في طاعة الله ،ويقوي البصار في الحق ،وكل من صحة النية وصواب العمل ،وإن كانا
مما يقوي إيجابية المؤمن ،فهما بنفس الوقت بحاجة إلى إيجابية ،ولكنها سنة الحياة ،فالعمل يدفع
إلى العمل ،والحسنة تقود إلى الحسنة ،والحركة تولد الحركة ،والطاعة تجلب الطاعات ،وهذا من
فضله تعالى على العباد.
9
إذا هبت رياحك فاغتنمها **** فإن لكل خافقة سكونا
1
( إذا فتح أحدكم باب خير ،فليسرع إليه ،فإنه ل يدري متى يغلق عنه )
أودية بقدرها
ومما يحقق اليجابية عند الداعية :العلم ،والعلم الصائب ،دافع للعمل الصائب( ..إن العلم إمام
العمل ،وقائد له ،والعمل تابع له و مؤتم به ،فكل عمل ل يكون خلف العلم مقتديا ً به فهو غير نافع
لصاحبه ،بل مضرة عليه ،كما قال بعض السلف :من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح،
والعمال تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعمل ومخالفتها له ،فالعمل الموافق للعلم هو
2
المقبول والمخالف له هو المردود ،فالعلم هو الميزان ،وهو المحك)...
فالعلم الفاسد قد يقود إلى العمل الفاسد ،والعلم الصالح يذكر الداعية باستمرار،
بماهية الحياة وطبيعة التكليف ،وعاقبة النسان ،كما أنه يذكره بالخرة ،وما أعد الله لعباده من
الثواب والعقاب ،ويحرك مشاعره الخيّرة نحو السمو ،ويزيد همته نحو الفضيلة ،ويكون له من زاد
العلم ما ينبهه من عاقبة الكسل ومغبة الفتور ،فيدفعه إلى العمل المثمر ،والعلم يذكر بمصارع
القوام ،ومهلك الظالمين ،والعاقبة التي كانت للمصلحين ،فيستزيد من الخير ،ويندفعا نحو العمل،
وبالعلم تصفو النفوس ،ويذهب كدر المعاصي ،كما شبهه الله تعالى بالودية التي تذهب بالزبد،
وتجعله جفاء ،وتشبيه القرآن الكريم للعلم النافع بالماء الجاري دليل على روعة العلم المتحرك
وأثره في الحياة والنفوس ،كأثر الماء المتحرك في إزالة العوائق ،واكتساح الشوائب
لذا ...فلبد للعلم من أن يكون متحركا ً في قلب الداعية ،يدفعه للعمل حتى تصفو القلوب ،ويذهب
الكدر ،كما وصفه تعالى:
ً ً
"فسالت أودية بقدرها ،فاحتمل السيل زبدا رابيا "
(وهذا مثل ضربه الله تعالى للعلم حين تخالط بشاشته القلوب ،فإنه يستخرج منها زبد الشبهات
الباطلة فيطفو على وجه القلب ،كما يستخرج السيل من الوادي زبدا ً يعلو فوق الماء ،وأخبر سبحانه
ب يطفو ويعلو على الماء ل يستقر في أرض الوادي زبداً ،كذلك الشبهات الباطلة إذا وتعالى أنه را ِ
أخرجها العلم ربت فوق القلوب ،وطفت ،فل تستقر فيه ،بل تجفى وترمى فيستقر في الوادي الماء
3
الصافي ،ويذهب الزبد جفاء ،وما يعقل عن الله أمثاله إل العالمون )
صناعة الحياة
ويأتي بعد ذلك كله ،عامل مهم يكتسب أهمية بالغة في الزمن المعاصر ،لتشعب مطالب الحياة،
ولتأثير بعضها ببعض ،بل وأصبح التأثير حادا ً بسبب سهولة التصال ،وكثرة السفر ،وسهولة
المواصلت ،ذلك العامل هو البداع الذاتي ،بالستفادة من التخصص المهني ،والخذ منه كبعد دعوي،
أو استحداث الداعية تخصصا ً حياتيا ً لنفسه ،يجتهد فيه حسب استعداداته ،وكفاياته ومقدرته ،فإن
إيجاد مثل هذا التخصص ،أو تحويل مجرى التخصص إلى ما ينفع الدعوة ،يفجر البداع عند الداعية،
ويدفعه إلى المزيد من العمل اليجابي ،ويصعد عنده الهمة ،فيجعل وقته مثمراً ،وحياته دافقة.
ولو عدنا إلى ما استدل به من إيجابية الهدهد ،لشوهد أنه يمكن أن يؤخذ من القصة ،تميزه بشيء
من البداع ،إذ كانت له معرفة بالماء تحت الرض ،فكان بعض المفاهيم الدعوية بما يدركه فنوّه
بقدرته تعالى بإخراج الخبء في السموات والرض ،ولذا كان لبد لكل داعية ،أن ينظر بنور الله
تعالى ،حتى يظهر الفن والعلم والبداع في منطقه وروائه ،ويكون في خدمة الدعوة ،وثمرته تصب
في مجال الحركة ،بل إن القدرة العلمية والفنية تنعكس في الداء الدعوي ،ففي المجال الول،
استنبط الزمخشري نفس المعنى من قصة الهدهد ،فقال:
10
( ...وفي إخراج الخبء أمارة على أنه من كلم الهدهد ،لهندسته ،ومعرفته الماء تحت الرض ،وذلك
بالهام من يخرج الخبء في السماوات والرض -جلت قدرته ،ولطف علمه -ول يكاد يخفى على ذي
الفراسة الناظر بنور الله مخايل كل شخص بصناعة أو فن من العلم ،في روائه ومنطقه
1
وشمائله،فما عمل آدمي عمل ً إل ألقى الله عليه رداء عمله)...
وفي المعنى الثاني ،قال ابن القيم _ رحمه الله _ شارحا ً للية الكريمة:
( ...والنبأ هو الخبر الذي له شأن ،والنفوس متطلعة إلى معرفته ،ثم وصفه بأنه نبأ يقين ،لشك فيه
ول ريب ،فهذه مقدمة بين يدي إخباره لنبي الله بذلك النبأ ،إستفرغت قلب المخبر ،لتلقي الخبر،
وأوجبت له التشوف التام إلى سماعه ،ومعرفته ،وهذا نوع من براعة الستهلل ،وخطاب التهييج ،ثم
2
الكشف عن حقيقة الخبر كشفا ً مؤكدا ً بأدلة التوكيد)...
والله سبحانه وتعالى قص أحسن القصص للعتبار ،وللقياس عليها ،وفي هذه القصة نعم العبرة،
وأفضل الستدلل للدعاة ،كي يضعوا فن التخصص ،وموهبة العلم ،في خدمة الدعوة ،وصلح
النفوس ،ولقد تكفل كتاب الراشد (صناعة الحياة) بتوضيح المعنى للدعاة.
ضرورة الستيعاب
ومن الضروري بمكان معرفة الداعية ،إن ما قد يعرفه ،أو يتقنه ،قد ل تتقنه قيادات ،ول يكاد يمر
على ذهن المراء ،فكل أمر قد استأثر الله به بعض الخلق ،أل يلحظ الداعية ،أن الله استأثر بعض
مخلوقاته بما يعجز عنه النسان ،حتى يستدل به على عظمة الخالق من جهة ،وضعف المخلوق من
جهة أخرى ،وأن كل مخلوق محتاج إلى غيره من جهة ثالثة ،ورابعة أخرى أن كل فضل من الله،
وإليه ،وفي كل أمر عبادة ،وإدراكها عبادة ،والسعي بمقتضاها عبادة ،وفضل الله أوسع بعد ذلك كله.
ولعل هذا المعنى_ يعود لنا _ مرة أخرى من قصة الهدهد ،فهذا النبي الذي أوتي من كل شيء
تقريباً ،وسخر له الجن والنس ،ظهر ضعفه أمام الهدهد ،ورد عليه ،وتصاغرت عنده نفسه ،وهو
يشعر باحتياجه للطير الضعيف ،بل ودافع الهدهد عن نفسه ،ونافح عن تغيبه بحجة بليغة..
مة،
(ألهم الله الهدهد فكافح سليمان بهذا الكلم على ما أوتي من فضل النبوة والحكمة ،والعلوم الج ّ
والحاطة بالمعلومات الكثيرة ،ابتلء له في علمه ،وتنبيها ً على أدنى خلقه وأضعفه من أحاط علما ً بما
لم يحط به ،لتتحاقر إليه نفسه ،ويتصاغر إليه علمه ،ولكون لطفا ً له في ترك العجاب الذي هو فتنة
3
العلماء ،وأعظم بها فتنة ،والحاطة بالشيء علما ً أن يعلم من جميع جهاته ،ل يخفى منه معلوم)...
وبالمناسبة ،يشار هنا إلى معنى ملزم ،وهو ضرورة استيعاب المربين لهذا المعنى ،واحترام ما يصل
إليهم من إبداع الفراد ،وأفكار التباع ،وإيجابيات الدعاة ،ويدعموا ذلك بالعانة ،ويتمنوا لهم التوفيق،
ويباركوا ذلك بالتشجيع ،ما دام ضمن مسيرة العمل الصالح ،اقتداءً بالنبياء والمرسلين ،وعدم الوقوع
بفتنة العجب ،أو العتزاز بالرأي ،أو الحرص على رأي معين ،فالحكمة ضالة المؤمن ،وهو أولى بها،
أنَى وجدها...
ففي مجال تقوية اليمان ،عمل كل ما يؤدى إليه ،من زيارة القبور ،وحضور المساجد ،أو
العتكاف فيها ،وقبل ذلك تلوة القرآن وحفظه ،بل وفي الدرجات الدنيا ،التفكر في خلق الله،
والتأمل في مصالح الدعوة،
4
صي الله عنه _ أنه كان يقول( :تفكر ساعة ،خير من قيام ليلة)
ولقد روي عن أبي الدرداء _ ر ْ
11
علم وتعلم
وفي مجال العلم بجانبيه :التعليم والتعلم ،ما ضر الداعية بدل ً من صرف الوقت بما ل ينفع،
تناول كتاب لقراءته وتلخيصه ،أو الستماع إلى محاضرة إسلمية ،أو حضارية نافعة ،أو
المطالعة في كتب الصحابة وآثارهم ،والعيش مع أنفاسهم..
(قيل لعبد الله بن المبارك :إذا أنت صليت ،لم ل تجلس معنا ؟ قال :أجلس مع الصحابة والتابعين،
1
أنظر في كتبهم وآثارهما فما أصنع معكم؟ إنكم تغتابون الناس)
وعلى الداعية أن ل يتكبر أن يسمع غيره ،فل يدري الكلمة التي ينتفع منها ،وما من خطيب أو واعظ
إل و تستفيد منه فكرة ،أو خبراً ،أو تذكيرا ً بعلم قديم قد نسي ،أو ربطا ً بحادثة واقعية ،أو على القل
ل يخلو الواعظ من عرض جديد لمعلومة معروفة ،أو نبرة تبلغ إلى أعماق القلب ،ولقد كان الرسول
_ صلى الله عليه وسلم -يستمع إلى قراءة أبُي بن كعب ،وأبي بكر -رضي الله عنهما -للقرآن ،وعليه
اُنزل ،كما أن الداعية قد يسمع الكلمة من شخص آخر ،فيبني عليها من المعاني ،وتزدحم عليه
الفكار فيصل إلى مجموعة من الحقائق ،ويربط بين مجموعة من القضايا لم تكن في ذهن
المتحدث ،ومما قيل في ذلك ما قاله التابعي الجليل عكرمة تلميذ ابن عباس( :إني لخرج إلى
السوق ،فأسمع الرجل يتكلم بالكلمة ،فيفتح لي خمسون بابا ً من العلم)...
أما المتخصص في مسألة ما ،أو فن معين فله المجال الرحب ،كتصنيف كتاب ،أو كتابة مقالة ،أو
تحقيق مخطوط ،وما أسهل ما يمكن للداعية من إتعاب نفسه ،بتجميع المعلومات ،وشحذ الذهن
لكتابة مقال لحد المجلت السلمية ،أو تحضير درس للقائه في مسجد ،وليس -في مجال العلم-
بأقل من السؤال والستفادة ،وإل فهو الفلس المحض ،والخسارة القاتلة ،فقد قال أبو مسلمة
سعيد بن زيد:
2
(سمعت عكرمة يقول :ما لكم ل تسألوني ،أ أفلستم)..
زيارات و دروس
وما أكثر العمال الممكنة!ي الطار الجتماعي ،كزيارة تكسب فيها صديقاً ،أو أمرا ً بالمعروف ،أو
تجلب فيه خبرا ً لجماعة المؤمنين ،أو تتعرف فيها على تاجر أو متبرع يعين النشطة بماله ،أو على
شيخ ووجيه يؤثر في أتباعه ومحبيه ،ول يقتصر العمل السلمي على المجتمع ،فالبيت أحوج إلى
الداعية ،فعليه تجاوز الفتور وقصور الهمة ،وأن يقوم بدرس للزوجة وإرشادها ،وللطفال والقرباء،
حتى ولو بالتلوة من كتاب.
تحليل ونقد
وفي إطار المر بالمعروف والنهي عن المنكر ،بالشكل اليجابي ،مجال واسع ،وآفاق ممتدة ،حيث
الملحظة اليومية لمور المنكر التي ينبغي إزالتها من المجتمع ،فيسهم بكتابة موضوع نقدي في
الصحافة ،أو يقوم بإرسال رسالة ترد على موضوع ،أو تؤيد موقف ،أو تستنكر مقالة ،أو أن يقوم
بإرسال برقية إلى جهة ،أو يرفع سماعة الهاتف مستنكرا ً برنامجا ً سيئاً ،أو مؤيدا ً لمحاضرة موفقة ،أو
أن يقوم بالكتابة إلى وزير أو مسؤول يدعم رأيه اليد في موقف ،ويستنكر منه الموقف السيئ ..
وهكذا يحاول أن يكون الداعية ،ولو عمل كل الدعاة بهذا المنهج ،وأدى كل واحد واجبه ..لدى هدْا
المر -إلى الكثير من الخير ،إذ سوف يستلم الصحفي والعلمي ،والمدير والوزير ،مئات بل ربما
اللف من الردود أو المعارضة لموقف الشر ،فيقود إلى المتناع؟ ،أو على القل للتوقف عن المزيد
ول يستغرب هذا الموقف ،فحتى الفاسق من الناس – مهما كان سيئا ً – فهو بشر ،إذا لم تمنعه
العتراضات خشية من الله ،فإنه سيمتنع خوفا ً على مركزه ،أو حرصا ً على سمعته… أما سكوت
الجميع عن الشر ،فسيقود إلى شر أكبر ،وعدم تشجيع المعروف ،يقود إلى الزهد في إتيانه.
12
وفي إطار الجهاد والداء الحضاري ،قد تذكر هنا عبارة المام الجنيد:
إبداع وتجميع
ثم أليس -فوق ذلك كله يمكن للداعية أن يجمع ما يقرأ فقط ،ويتخصص في موضوع ما ،في عالم
السياسة أو التاريخ ،أو الدارة والجغرافية ،أو حتى في الرحلت والمغامرة ،فيجمع أرشيفا ً ويكون
مختصا ً دعويا ً في أحد أبواب المعرفة ،بل أليس من السهل أن يجمع النسان خواطره في إطار
معين لتكون تجربة دعوية ،كما فعل الستاذ عباس السيسي -جزاه الله خيراً -بتجميع قصصه
الدعوية الجميلة ،فأنتج ثروة جميلة في معاني التصال الفردي ،والتجميع ،كانت مثال ً ينسج عليه.
(لما عد نعمه السالفة ووعوده النفة ،يحثه على الشكر والجتهاد في العبادة والنصب فيها ،وأن
يواصل بين بعضها وبعض ،ويتابع ويحرص على أن ل يخلي وقتا ً من أوقاته منها ،فإذا فرغ من عبادة
ذنبها بأخرى.
ولبد من التذكرة دوما ً بضرورة المداومة ،فكم من داعية تحمس لعمل ،ثم فتر عنه ،وإنما البركة في
المداومة بعد حسن القصد ،وصدق النية ،بل إن المداومة على العمل أحد مظاهر صدق النية،
وسلمة القصد ،والتذكر أن النجاة إنما تتم بذلك ،وليس بكثرة العمل الذي ل نية معه ،أو ل فائدة
منه ..فعن عائشة أم المؤمنين ،قالت :إن رسول الله_ صلى الله عليه وسلم _ قال:
(سددوا وقاربوا ،و اعلموا أنه لن يدخل أحدكم عمله الجنة ،وإن أحب العمال أدومها إلى الله ،وإن
2
قل ) ..
ومعناه :اقصدوا السداد ،أي الصواب ،ومعنى هذا الستدراك أنه قد يفهم من النفي المذكور نفي
فائدة العمل ،فكأنه قيل بل له فائدة ،وهو أن العمل علمة على وجود الرحمة التي تدخل العامل
الجنة ،فاعملوا واقصدوا بعملكم الصواب ،أي اتباع السنة ،من الخلص وغيره ،ليقبل عملكم ،فينزل
13
عليكم الرحمة ،قوله (وقاربوا) أي ل تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة ،لئل يفضي بكم ذلك إلى
1
الملل ا فتتركوا العمل فتفرطوا ) .. ..
شبهت بها ،والتيوللبحث عن خصائص هذه الكلمة المعطاء لبد من البحث عن صفات الشجرة التي ُ
تظهر من الَية أنها أربعة خصائص:
( ...فالصفة الولى لتلك الشجرة كونها طيبة ،وذلك يحتمل أموراً:
أحدها :كونها طيبة المنظر والصورة والشكل.
وثانيها :كونها طيبة الرائحة.
وثالثها :كونها طيبة الثمرة......
ورابعها :كونها طيبة بحسب المنفعة.....
والصفة الثانية قوله( :أصلها ثابت) أي :راسخ باق آمن النقلع و الزوال و الفناء....
والصفة الثالثة قوله( :وفرعها في السماء) وهذا الوصف يدل على كمال "حال تلك الشجرة من
وجهين:
الول :أن ارتفاع الغصان وقوتها في التصاعد يدل على ثبات الصل.
والثاني :أنها متى كانت متصاعدة مرتفعة كانت بعيدة عن عفونات ا لرض...
والصفة الرابعة قوله (تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها) .....وهي أن ثمراتها لبد أن تكون حاضرة دائمة
في كل الوقات..
3
ومن المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيم )
وهذا يقود إلى بعض ملمح الكلمة الطيبة إذ أنها جميلة رقيقة ل تؤذي المشاعر ،ول تخدش النفوس،
جميلة في اللفظ والمعنى ،يشتاق إليها السامع ويطرب لها القلب ،كما أنها طيبة الثمر ،نتائجها
مفيدة ،وغايتها بنَاءة ،ومنفعتها واضحة ،وفوق ذلك فإن أصلها ثابت مستمدة من المنبع الصافي كتاب
الله وسنة نبيه -صلى الله عليه وسلم -وتمتد إلى السماء بفرعها لنها نقية صادرة عن نية صادقة،
وتؤتي أكلها باستمرار ،يسمع السامع فينتفع بها ،وينقلها لغيره فينتفع ،حتى لينتفع بها الخلق الكثير،
بل و يستمر النتفاع بها إلى ما شاء الله .وليس ألصق بهذه الخصائص وأكثر قربا ً من كلمات الدعاة
المؤدية للمر بالمعروف والنهي عن المنكر ،والداعية إلى العمل السلمي ،وبناء مقوماته ،والهادية
الناس إلى الخير و مستلزماته ،والتي تعلم الداعة البناء وطرقه ،وتهديهم إلى الجهاد ومعرفة قواعده
الشرعية ،وما قد يقود ذلك إلى تخطيط لدولة السلم ،أو من مناهج لنشر الحق بين النام.
وتشبيه الكلمة الطيبة بالشجرة ،لن الشجرة تثمر الثمر النافع ،كالكلمة التي تؤدي إلى العمل
الصالح ،وقد قال بعض السلف :إن الشجرة الطيبة هي النخلة لحديث عبد الله بن عمر في الصحيح،
ول فرق بين خصوص النخلة أو عموم الشجر الطيب ،ففي كليهما يتأدى المعنى ،والصل التشبيه
بالشجرة والمشبه بها شجرة اليمان ليحصل التطابق.
(فعروقها العلم والمعرفة واليقين ،وساقها الخلص ،وفروعها العمال ،وثمرتها ما
توجبه العمال الصالحة من الثار الحميدة ،والصفات الممدوحة ،والخلق الزكية ،والسمت الصالح،
4
والهدى والدل المرضي ،فيستدل على غرس هذه الشجرة في القلب وثبوتها فيه بهذه المور ) ..
1فتح الباري 298 / 11
2ابراهيم 25 _ 24
3تفسير الرازي 116 / 19
4إعلم الموقعين 189 / 1
14
وقد قال بعض السلف عن الكلمة الطيبة أنها كلمة التوحيد ،وعموم اللفظ أنها كل كلمة طيبة ،ول
منافاة بين القولين ،فإن الكلمة ل تطيب إل أن تكون مبنية على أصل التوحيد ،وكلمة التوحيد ل تثمر
إل الكلمات الطيبة ،والصل في الكلم الطيب المثمر ما كان مبنيا ً على أسس الشريعة ،وقواعد
ن أصلها ثابت.
العقيدة ،ولهذا فإ ّ
الكلمة الطيبة هي شهادة أن ل إله إل الله فإنها تثمر جميع العمال الصالحة الظاهرة
والباطنةِ ،فكل عمل صالح مرضي لله ثمرة هذه الكلمة ...فل ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب
على هذا اللسان ل تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد الى الرب تعالى ،وهذه الكلمة
الطيبة هي التي رفعت هذا ِ العمل الصالح الى الرب تعالى ،وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلما ً كثيرا ً طيباً
يقارنه عمل صالح فيرفع العمل الصالح الكلم الطيب ،كما قال تعالى:
"إليه يصعد الكلم الطيب ،والعمل الصالح يرفعه" ،فأخبر سبحانه وتعالى أن العمل
1
الصالح يرفع الكلم الطيب " ،وأخبر أن الكلمة الطيبة تثمر لقائلها عمل ً صالحا ً كل وقت)..
وهكذا تثمر الكلمة الطيبة -بحسن نية قائلها -أو بحسنها ذاتها ،أو لمحض رحمة الله عز وجل بما
جعله من بركة العلم مما قد يكون أضعافا ً مضاعفة عن أجر العمل ذاته ،وما قد تؤديه لصلح الخلق،
وما أخصب تاريخنا السلمي بكثرة الخلق الذي انتفعوا بالمواعظ ،ثم صاروا من قادة المة ،وكتب
الله لقائل الكلمة مثل أجور أعمالهم من غير أن ينقص منها شيئاً.
فهذا التابعي أبو محمد حبيب يقبل على الجلة ،وينتقل عن العاجلة بسبب موعظة البصري
حيث وقعت موعظته في قلبه ،وأقبل على العلم والعمل بعد الموعظة.
وهذا التابعي الكوفي الثقة أبو عبد الله زاذان الكندي الذي كان يضرب ويغني بالدف ،وكان
له صوت حسن فمر عليه عبد الله بن مسعود فقال( :ما أحسن هذا الصوت لو كان بقراءة
كتاب الله) فتاب من ضرب العود وكسره ،ولزم ابن مسعود حتى صار إماما ً في العلم.
والكلمة الطيبة ،قد ينتفع بها سامعها المباشر ،وقد ينتفع بها -فيما بعد -بل قد يكون
نفعه أشد وأكبر ،وقد تلقي الكلمة قلبا ً صافياً ،ونية صادقة ،فتتمكن من القلب ،وتثمر الكلمة بالنية،
كما تصادف البذرة الماء الصالح ،والتربية الصالحة ،فتؤتي الشجرة أكلها بإذن ربها ،وهكذا (فرب
مبلغ أوعى من سامع) ،وأجر الكلمة المعطاء ،وما يكتبه الله عز وجل ا للسامع وللمبلغ ،بل
ولسلسلة المبلغين ،فلقائل الكلمة كفل منها من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ،وهذا من فضل
الله على عَباده ،ومما فضل به المتكلمين بالعلم عن غيره ،إذا تبقى ثمرتهم منتجة ،وعملهم
مستمراً ،وفضلهم دائما ً إلى ما يشاء الله ،والناس في استقبال الكلمة أنواع فمنهم من يسمعها
ويعمل بها ،ومنهم من ل ينتفع بها إطلقاً ،ومنم من يقوم بنقلها للغير ،وما ضر المتحدث أن يتحدث
بما يعلم ،ويبلغ الرسالة للناس ،وينقل الكلمة الطيبة ،فسوف يظل الناس على هذه النماذج ،ويجب
أن ل يقف الصنف الثالث مانعا ً من تبليغ العلم ،ول حاجزا ً في بث الكلمة الطيبة ،وقد شبه الرسول _
صلى الله عليه وسلم _ هذه الصناف الثلثة في استقبال الكلمة الطيبة بأنواع من الرض فقال
صلى الله عليه وسلم (مثل ما بعثني الله من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ،فكان
منها ثغبة قبلت الماء ،فأنبتت الكل
والعشب الكثير ،وكانت منها أجادب أمسكت الماء ،فنفع الله بها الناس ،فشربوا وسقوا وزرعوا،
وأصاب منها طائفة أخرى ،إنما هي قيعان ل تمسك ماءً ،ول تنبت كل ،فذلك مثل من فقه في دين
ل من لم يرفع بذلك رأساً ،ولم يقبل هدى الله الذي الله ،ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعمل ،ومث َ
أرسلت به) .حديث متفق عليه...
(فالنبي -صلى الله عليه وسلم -جعل العالم كمثل المطر ،ومثل قلوب الناس فيه ،كمثل الرض في
قبَول الماء ،فشبه من تحمل العلم والحديث وتفقه فيه بالرض الطيبة ،أصابها المطر فتنبت وانتفع
بها الناس ،وشبه من تحمله ولم يتفقه بالرض الصلبة التي ل تنبت ،ولكنها تمسك الماء فيأخذه
15
الناس ،وينتفعون به ،وشبه من ل يفهم ،ولم يحمل بالقيعان التي ل تنبت ول تمسك الماء ،فهو الذي
1
ل خير فيه)...
وهكذا ،ما على الداعية سوى أن يقول كلمته المعطاء الطيبة ول يهتم بكثرة الخاسرين الذين هم
كالقيعان ،فهنالك من الناس من هم كالرض الصلبة سينقلون الكلمة الطيبة وتنتفع بها خلئق ويشر
كثير ،وقد تثمر في مكان آخر ،أو تؤتي أكلها في زمن آخر ،وقد يستمع للكلمة أناس كالرض الطيبة
ل تلبث أن تسمع مع صدى الكلمة تكبيرات مدوية ،ول تمكث حتى ترى لنور الكلمة بريقا ً يأخذ
بالنظار ،فتحيا بالتكبير نفوس ،و بالبروق تبصر عيون ،والجر من بعد ذلك مكتوب لصاحب الكلمة.
وأخيراً ..فلعل هذه الكلمة الطيبة هي من أنواع ما عناه سيد الخلق صلى الله عليه و سلم بقوله
فيما رواه البخاري:
ً
(إن العبد ليتكلم بالكلمة من رضوان الله ل يُلقي لها بال يرفعه الله بها درجات ،وإن العبد ليتكلم
بالكلمة من سخط الله ل يلقي لها بال ً يهوي بها في جهنم).
وقد ركز العلماء السابقون على الشطر الثاني من الحديث لكثرة المتحدثين في المجتمع السلمي،
ولم يُتحدث عن شطره الول إل القليل ،ومما قيل:
(والكلمة التي ترفع بها الدرجات ،ويكتب بها الرضوان هي التي يدفع بها عن المسلم مظملة أو يفرج
ً 2
عنه كربة ،أو ينصر بها مظلوما).
فكيف بالكلمة التي تدفع عن مجموع المسلمين المظالم ،وتدفع عنهم الكرب بدعوتهم لقامة شرع
الله؟ وكيف بالكلمة التي تقلع الظلم من جذوره بتطبيق حكم الله؟ وكيف بعبارات المر بالمعروف
والنهي عن المنكر؟ وإذا كانت الدرجات ترفع بما يحقق المصالح الدنيوية فكيف بما يحقق المصالح
الخروية؟ ،وعلى ا لدنى يقاس العلى.
إن الجر عظيم ،والثواب جزيل -إذا صحت النية -في الكلمات التي تقيم خيراً ،وتدفع باطلً ،وتحيي
سنة ،وتميت بدعة ،بل ويزداد الجر ،ويرتفع الثواب فيما يدفع العمل السلمي وينميه ،ويدعو جمهور
المسلمين لتبنيه،
أو يدفع عنه السوء وما قد يعتريه ،فكيف إذن بما ينشئ العمل ابتداءً ويغذيه؟ ويعلم الدعاة النظام
وفنونه ،وقواعد العمل و أصوله؟ مما يؤدي إلى هداية الخلق الكثير ،وانضمامهم لركب الدعوة
وإتمام المسير ،ومع هذا يقال أيضاً :ما هو فضل الكلمات التي تقود -فوق ذلك كله إلى قيام مجتمع
إسلمي ،أو بناء حكومة إسلمية؟ وكيف بما يخرج الناس من الظلمات إلى النور؟ أو تحويل المجتمع
من الجاهلية إلى السلم؟ وإقامة شرع الله بدل عن شرع الطاغوت؟
ومن هنا ينبغي للداعية أن ل يزهد أبدا ً بما عنده من العلم ،أو يبتعد -بحجة الزهد -عن تبليغ المانة،
فما يدري أين يكون الخير؟ ومتى تؤتي كلمته عطاءها ،بل ومتى تثمر؟
فالكلمة الواحدة قد تنشئ دعوة ،وقد تبني مؤسسة؟ وقد ينقذ الله تعالى بها قلوباً ،أو يعمر بها
نفوساً ،بل وقد يحيي الله بها أقواما ً من السبات ،أو يخرج بها الله عز وجل أمما من عالم الموات،
وما على الداعية إل تبليغ الرسالة ،ونقل المانة ،والله تعالى يختار الرض الصالحة لها ولو بعد حين،
وينبتها نباتا ً حسنا ً ولو بعد سنين ،وقد تؤتي الكلمة ثمارها في الكان البعيد حتى يكتب الجر للداعية
دون أن يشعر ولعل الله تعالى يكتب له حجر النية ،ويبعده -بحكمته -عن سيئة الرياء...
وما على الداعية إل التبليغ ول يترك الفرصة تفوت من يديه لعل الله تعالى يكتب له
أجر الكلمة المعطاء التي ل يلقي لها بال ً وترضعه الدرجات ،فل يفوت "ممل!يه فرصة رفيق السفر
في القطار أو الطائرة ،ول فرصة اللقاء العابر على وليمة أو مناسبة ،ول جلسة الستراحة في ناد أو
مقهى ا ول جلسة المرافقة في الدائرة أو الدراسة ،ول يفوت مجال الرتباط في تجارة أو معاملة،
ول يزهد في الكلمة الطيبة الصغيرة في السوق وعند الشراء ،أو في الحدائق عند السترخاء ،أو في
المسجد بعد الصلوات ،أو عند التعارف مع الغير في السفرات والخلوات ،وأشباه ذلك مما قد ييسره
الله ،والموفق السعيد من وفقه الله لكلمة الخير التي تنتشر في الفاق فيكتب الله له أجرها وأجر
من يعمل بها إلى ما يشاء الله ،والله على كل شيء قدير.
إن قول الكلمة بهذه النيات ظاهرة من ظواهر اليجابية في حياة الداعية.
1شرح السنة للبغوي 289 / 1
2فتح الباري 311 / 11
16
كنز العجز وثروة الفتقار إلى الله
ويظل شعور المؤمن بالعجز وافتقاره إلى توفيق الله تعالى وعونه وتسديده هو العامل المحرك
والمولد لكل أسباب هذه اليجابية ،وبمقدار تذلله لريه تعالى واستمداده منه "تكون إلهامات تنويع
سننا ً في الخير لم يسبقه إليها أحد ،ثم يصبر على لواء
العمل لدية والمبادرة والبتكار ،حتى ليسن ُ
مرافقة وطول طريق ،فيكون النصر.
إن عجًزا لداعية عن وصوله إلى هدفه -أيا ً كان ذلك الهدف -بعد أن يستفرغ وسعه ،ويبذل جهده،
ويفني طاقته ،هو الكنز الحقيقي الموصل إلى الله ،لنه قد وصل بهذا العجز إلى مرحلة الفتقار إلى
الله ،واستشعر أن ل ملجأ إل إليه ،فقطع العلئق مع السباب ،وترك بعد ذلك الختيار ،واسترسل في
ح منه التوكل ،وقدمجاري القدار ،فزاد يقينه بقدر الله ،وعلم قلبه بكفاية الله ،ورضي بالمقدور ،وص َ
يدرك المؤمن التوكل بعمومة ،ولكن معنى (العجز) أدق وأخص ،وفيه ل يبقى اضطراب من تشويش
السباب ،ول سكون إليها ،بل اللجوء لله الواحد القهار.
فاسمع -أيها الداعية .صرخة النورسي رحمه الله في (المثنوي العربي)" :كنزي عجزي "
ومن هذا المنطلق فإن النصر معلق بالله عز وجل ،حتى تبذل النفوس كل طاقاتها ،وما معنى الجهاد
اللفظي إل استفراغ الوسع كله ،فإذا فرغت النفوس من حظ النفوس ،انطبقت عليها القاعدة (إن
تنصروا الله ينصركم) ،وما عمل الداعية إل ستارا ً للقدرة ،فما عليه إل أن يعمل حتى يصل إلى الكنز
المخبوء تحت ظلل العجز.
(نحن في هذه الحياة الدنيا نتحرك ،تحركنا أشواق وهواتف ،ومطامع ومطامع ،وآلم
وآمال ،وإن هي إل السباب الظاهرة للغاية المضمرة ،والستار الذي تراه العيون للي!د التي ل تراها
1
النظار ،ول تدركها البصار ،يد المدبر المهيمن القهار)000 .
ولعل من أسرار ذلك ،ومما أراده الله أن نعلمه ،أن العمل قد ل يؤدي إلى النجاح وإن كان الداعية
يتقن عمله ليصل إليه ،إذ أن النجاح خير يسوقه الله لعبادها والنصر موهبة من الله تعالى على العمل
ل نتيجة له ،لن الله تعالى وهو خالق النفوس ،عرف محبتها للنصر ،فوعدها به( .وأخرى تحبونها،
نصر من الله وفتح قريب وبشر المؤمنين)
وإل فهنالك من النبياء ،والقدرة تحوطهم ،ومع هذا قد يأتي أحدهم -يوم القيامة -وليس معه أحد،
وفي هذا عزاء أيما عزاء لكل العاملين الذي يستبطئون النصر.
(عن ابن عباس قال :خرج علينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم -يوماً ،فقال :ع ُرضت عل ّ
ي المم،
2
ي معه الرجلن ،والنبي معه الرهط ،والنبي ليس معه أحد فجعل يمر النبي معه الرجل ،والنب ُ
ه وإدراك (التوكل) ليس بالمر السهل لنه من مقتضيات اليمان ،واليمان يزيد وينقص ،وكذلك ُ
شعَب ُ
تزيد بالطاعات وتنقص بالمعاصي ،فالمؤمن يدرك القدر وسريانه ،والقضاء وجريانه بحدهما الدنى،
ولكن التوكل بمعناه العلى وإدراك (كنز العجز) مرحلة من التوفيئ ل يوصل لها إل بالطاعات ،وترك
الهوى ،واجتناب الشهوات،
3
وقد قال الفضيل بن عياض( :من استحوذ عليه الهوى واتباع الشهوات انقطعت عنه موارد التوفيق)
وكان النبياء السابقون على هذا المنهج تنال منهم (البأساء) بالشدة والفقر والمسكنة ،وتضييق
جهات ا لخير( ،والضراء) باللم والوجاع وضروب ا لخوف ،وانفتاح جهاز ا لشر ،وينال منهم (ا
لزلزال) بأنواع ا لبليا والرزايا ،تم مع هذا ينتظرون النصر ،ويتساءلون عنه -دون شك أو ارتياب-
لنهم بذلوا من الجهد أقصاه ،ومن العمل نهايته ،فيأتيهم النصر إذ وصلوا إلى مرحلة العجز إل من
فضل الله وقوته.
(أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و أل يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا
4
حتى يقول الرسول والذين آمنوا معها متى نصر الله؟ أل إن نصر الله قريب)
17
ن سبحانه وتعالى :أنه أرسل رسله ،والناس رجلن :رجل يقول أنا مؤمن به مطيعة ،فهذا لبد
(فبي ّ
أن يمتحن حتى يعلم صدقه من كذبه)...
ثم يقول شيخ السلم لجماعته عن اللذة التي يحصل عليها المرء عند معرفته الله بعد المتحان
والبلء ،واكتشافه الكنز الذي سماه اللذة والسرور ،فيقول متحدثا ً عن سجنه:
( ....فأنا أحب لهم أن ينالوا من اللذة والسرور والنعيم ما تقر به أعينهم ،وأن يفتح لهم من معرفة
الله وطاعته ،والجهاد في سبيله ما يصلون به إلى أعلى الدرجات ،واُع َرف أكثر الناس قَدَْر ذلك ،فإنه
ل يُعَْرف إل بالذوق والوجد ،لكن ما من مؤمن إل له نصيب من ذلك ،و يستدل منه بالقليل على
1
الكثير ،وإن كان ل يُقدر قدُره الكبير) ..
وقال المام الرازي في تفسير الية السابقة بما يشهد لنفس المعنى من وصول الرسل لمرحلة
العجز:
الن الرسل عليهم السلم يكونون في غاية الثبات والصبر وضبط النفس عند نزول البلء ،فإذا لم
يبق صبر حتى ضجوا ،كان ذلك هو الغاية القصوى في الشدة ،فلما بلغت بهم الشدة إلى هذه الدرجة
العظيمة قيل لهم( :أل إن نصر الله قريب) .....وأنتم يا معشر المسلمين كونوا على ذلك وتحملوا
2
ت قريب)....
الذى والمشقة في طلب الحق ،فإن نصر الله قريب ،لنه آت ،وكل ما هو آ ً
ومن هذا كله ونظائره لبد من استنفاد الجهد ،واستفراغ الطاقة حتى مرحلة العجز ،وحصاد الكنز.
وعلى مستوى الجماعة ،وطلب النصر الدعوي ،فليعلم _ الداعية _ أن نصر الله قريب إذا وصل
الغاية.
( إنه مدخر لمن يستحقونه ،ولن يستحقه إل الذين يثبتون حتى النهاية ،الذين يثبتون على البأساء
والضراء ،الذين يصمدون للزلزلة ،الذين ل يحنون رؤوسهم للعاصفة ،الذين يستيقنون أن ل نصر إل
نصر الله ،وعندما يشاء الله ،وحتى حين تبلغ المحنة ذروتها ،فهم يتطلعون فحسب إلى (نصر الله)،
3
ل إلى أي حل أخرا ول إلى أي نصر ل يجيء من عند الله ،ول نصر إل من عندا لله ) ..
وليس ( كنز العجز ) على مستوى الجماعة فقط ،بل ولك _ أيها الداعية _ ،وفي كل إطار عمل أنت
فيه ..ففي الخطط المرحلية ،وفي طلبك للنجاح دون النصر النهائي ،إذا ما ادلهمت عليك الخطوب،
وسدت عليك المنافذ فاركن إلى الكنز الذي ل يضيع ول ينفذ ،واستمع إلى قول أحد الزهاد في
دعائه:
4
(اللهم أغنني بالفتقار إليك ،ول تفقرني بالستغناء عنك)
(وإذا عظم المطلوب ،وأعوزك الرفيق الصالح ،فارحل بهمتك بين الموات ،وعليك
بمعلم إبراهيم ...ومن الله سبحانه الستماد ،وعليه التوكل ،وإليه الستناد ،فإنه ل يخيب من توكل
5
عليه ،ول يضيع من لذ به ،وفوض أمره إليه ،وهو حسبنا ونعم الوكيل)
18