You are on page 1of 15

‫فيض الخاطر‪ .........................

‬أحمد اال مين‬

‫محمـــد بن عبدالوهاب‬

‫‪1950‬‬

‫‪1206‬هـ ‪1115‬‬ ‫‪-‬‬ ‫هـ‬


‫م‪1703‬‬ ‫‪1791-‬‬ ‫م‬
‫بسم اهلل الرحمن الرحيم‬

‫الشيخ محمد بن عبد الوهاب‬

‫‪ 1206 _ 1115‬هـ الموافق ‪ 1791 _ 1703‬م‬

‫نشأ في بلدة تسمى العيينة في نجد ‪ ،‬وتعلم دروسه األولى بها على رجــال الــدين‬
‫من الحنابلـ ـ ــة ‪ ،‬وسـ ـ ــافر إلى المدينـ ـ ــة ليتم تعلمـ ـ ــه ؛ ثم طـ ـ ـ َّـوف في كثـ ـ ــير من بالد العـ ـ ــالم‬
‫اإلســالمي ‪ ،‬فأقــام نحــو أربــع ســنين في البصــرةـ ‪ ،‬وخمس س ــنين في بغ ــداد ‪ ،‬وســنة في‬
‫كردســتان ‪ ،‬وســنتين في همــدان ‪ ،‬ثم رحــل إلى أصــفهان ودرس هنــاك فلســفة اإلشــراق‬
‫والتصوف ‪ ،‬ثم رحل إلى " قُم " ثم عاد إلى بلده واعتكف عن النــاس نحــو ثمانيــة أشــهر‬
‫‪ ،‬ثم خرج عليهم بدعوته اإلصالحية‪.‬‬

‫وأهم مس ــألة ش ــغلت ذهن ــه في درس ــه ورحالت ــه مس ــألة التوحي ــد ال ــتي هي عم ــاد‬
‫اإلســالم ‪ ،‬والــتي تبلــورت في " ال إلــه إال اهلل " ‪ ،‬والــتي َّ‬
‫تميز اإلســالم بهــا عمــا عــداه ‪،‬‬
‫وأحرهــا ؛ فال أصــنام وال‬
‫ّ‬ ‫والتي دعا إليها " محمد " صــلى اهلل عليــه وســلم أصــدق دعــوة‬
‫أوثــان ‪ ،‬وال عبــادة آبــاء وأجــداد وال أحبــار وال رهبــان وال نحــو ذلــك ‪ .‬ومن أجــل هــذا‬
‫َس َّمى هو وأتباعه أنفسهم " بالموحدين " ؛ أما الوهابية فهو أسم أطلقه عليه خصــومهم ‪،‬‬
‫واستعمله األوروبيون ‪ ،‬ثم جرى على األلسن‪.‬‬

‫وقــد رأى أثنــاء إقامتــه في الحجــاز ورحالتــه إلى كثــير من بالد العــالم اإلســالمي‬
‫أن هذا التوحيد الذي هو مزية اإلسالم الكبرى قد ضاع ‪ ،‬ودخله كثير من الفساد ‪.‬‬

‫‪  ‬فالتوحيد أساسه االعتقاد بأن اهلل وحده هو خالق هذا العالم ‪ ،‬والمسيطر عليــه ‪،‬‬
‫وواضع قوانينه التي يسير عليه ‪ ،‬والمشرع له ‪ ،‬وليس في الخلق من يشاركه في خلقه‬
‫وال في حكم ــه ‪ ،‬وال من يعين ــه على تص ــريف أم ــوره ؛ ألن ــه تع ــالى ليس في حاج ــة إلى‬
‫عون أحد مهمـا كـان من المقـربين إليـه ؛ وهـو الـذي بيـده الحكم وحـده ‪ ،‬وهـو الـذي بيـده‬
‫النفــع والضــر وحــده ‪ ،‬ال شــريك لــه ؛ فمعــنى ال إلــه إال اهلل ؛ ليس في الوجــود ذو ســلطة‬
‫حقيقي ــة تس ــيِّر الع ــالم وفق ـاً لم ــا وض ــع من ق ــوانين إال ه ــو وليس في الوج ــود من يس ــتحق‬
‫العبادة والتعظيم إال هو ‪ ،‬وهذا هو مـحور القرآن‪.‬‬

‫إذن فمــا بــال العــالم اإلســالمي اليــوم يعــدل عن هــذا التوحيــد المطلــق الخــالص من‬
‫كــل شــائبة إلى اإلشــراك مــع اهلل كثــيراً من خلقــه ‪ ،‬فهــذه األوليــاء ُي َح ُّج إليهــا ‪ ،‬وتقـ َّـدم لهــا‬
‫النذور ‪ ،‬ويعتقد فيهـا أنهــا قـادرة على النفـع والضـر ؛ وهـذه األضــرحة ال عـداد لهــا تقـام‬
‫في جمي ـ ــع أقطـ ــاره ‪ ،‬يشـ ـ ُّـد الن ـ ــاس إليهـ ــا رح ـ ــالهم ‪ ،‬ويتمس ـ ــحون به ـ ــا ‪ ،‬ويت ـ ــذلَّلون له ـ ــا ‪،‬‬
‫ولي وأوليــاء ‪ ,‬وفي كــل‬
‫ويطلبون منها جلب الخير لهم ودفع الشر عنهم ؛ ففي كل بلــدة ّ‬
‫بل ــدة ض ــريح وأض ــرحة تُ ْش ـ َرك م ــع اهلل تع ــالى في تص ــريف األم ــور ودف ــع األذى وجلب‬
‫الخير ‪ ،‬كأن اهلل – سبحانه ‪ -‬سلطان من ســالطين الــدنيا الغاشــمين ‪ُ ،‬يتقـ َّـرب إليــه بــذوي‬
‫وي ْر َـج ْـون في إفســاد القــوانين وإ بطــال العــدل ‪ ،‬أليس هــذا‬
‫الجاه عنده وأهل الــزلفى لديــه ‪ُ ،‬‬
‫كم ــا ك ــان يق ــول مش ــركو الع ــرب ‪ ( :‬م ــا نعب ــدهم إال ليقربون ــا إلى اهلل زلفى ) وق ــولهم ‪:‬‬
‫( هؤالء شفعاؤنا عند اهلل ) ؟ بل واسفاه ! لم يكتف المسلمون بــذلك بــل أشــركوا مــع اهلل‬
‫حتى النبات والجماد ؛ فهؤالء أهل بلدة منفوحة باليمامة يعتقدون في نخلة هناك أن لهــا‬
‫ـزوجت لعامهــا ؛ وهــذا الغــار في الدرعيــة يحج‬
‫قدرة عجيبة ‪ ،‬من قصدها من العوانس تـ َّ‬
‫ـبرك ‪ ،‬وفي ك ــل بل ــدة من البالد اإلس ــالمية مث ــل ه ــذا ؛ ش ــجرة الحنفي ‪،‬‬
‫إلي ــه الن ــاس للت ـ ُّ‬
‫شني ‪ ،‬وبوابة المتولي ؛ وفي كل قطــر حجــر وشــجر ‪ ،‬فكيــف يخلص التوحيــد‬‫ونعل ال ُكْل َ‬
‫مع كل هذه العقائد ؟‬

‫إنهـــا تصـ ـ ّـد النـــاس عن اهلل الواحـ ــد ‪ ،‬وتشـــرك معـ ــه غ ــيره ‪ ،‬وتسـ ــئ إلى النفـ ــوس‬
‫وتجعلها ذليلة وضيعة منحرفة ‪ ،‬وتجردها من فكرة التوحيد ‪ ،‬وتفقدها التسامي‪.‬‬
‫وأساس آخر يتصل بهذا التوحيد كان يفكر فيه " الشيخ محمــد بن عبــد الوهــاب "‬
‫مشرع العقائد ‪ ،‬وهو وحده هــو الــذي يحلِّل ويحــرم‪ ،‬فليس كالم‬
‫‪ ،‬وهو أن اهلل وحده هو ِّ‬
‫أحد حجة في الدين إال كالم اهلل وسيد المرسلين ‪ ،‬فاهلل يقــول ‪ ( :‬أم لهم شــركاء شــرعوا‬
‫لهم من الـ ـ ــدين مـ ـ ــالم يـ ـ ــأذن بـ ـ ــه اهلل ) ‪ ،‬فكالم المتكلمينـ في العقائـ ـ ــد‪ ،‬وكالم الفقهـ ـ ــاء في‬
‫التحليــل والتحــريم ليس حجــة علينــا ‪ ،‬إنمــا إمامنــا الكتــاب والســنة ‪ ،‬وكــل مســتوف أدوات‬
‫االجتهــاد لــه الحــق أن يجتهــد ‪ ،‬بــل عليــه ان يفعــل ذلــك ويســتخرج من األحكــام _ حســب‬
‫فهم ــه لنص ــوص الكت ــاب وم ــا ص ــح من الس ــنة _ م ــا يؤدي ــه إلي ــه اجته ــاده ‪ .‬وإ قف ــال ب ــاب‬
‫االجتهــاد كــان نكبــة على المســلمين ‪ ،‬إذ أضــاع شخصــيتهم وقــوتهم على الفهم والحكم ‪،‬‬
‫وجعلهم جامــدين مقلِّدين يبحثــون وراء جملــة في كتــاب أو فتــوى من مقلِّد مثلهم ‪ ،‬حــتى‬
‫انحط شأنهم وتفرقــوا أحزابـاً يلعن بعضــهم بعضـاً ‪ ،‬وال منجــاة من هــذا الشــر إال بإبطــال‬
‫هذا كله ‪ ،‬والرجوع إلى الدين في أصوله ‪ ،‬واالستقاء من منبعه األول ‪.‬‬

‫وهكــذا شــغلت ذهنــه فكــرة التوحيــد في العقيــدة مجــردة من كــل شــريك ‪ ،‬والتوحيــد‬
‫في التشريع فال مصدر له إال الكتاب والسنة ‪.‬‬

‫هــذا هــو أســاس دعــوة الشــيخ محمــد بن عبــد الوهــاب ‪ ،‬وعلى هــذا األســاس ُبنِيت‬
‫الجزئيات ‪.‬‬

‫اقتفى في دعوت ــه وتعاليم ــه عالمــاً كب ــيراً ‪ ،‬ظه ــر في الق ــرن الس ــابع الهج ــري في‬
‫عهد السلطان الناصر هو " ابن تيمية " ‪ ،‬وهو _ مــع أنــه حنبلي _ كـان يقــول باالجتهــاد‬
‫ولـ ــو خـ ــالف الحنابلـ ــة ‪ ،‬وكـ ــان حـ ـ َّـر التفكـ ــير في حـ ــدود الكتـ ــاب وصـ ــحيح السـ ــنة ‪ ،‬ذلـ ــق‬
‫اللســان ‪ ،‬قــوي الحجــة ‪ ،‬شــجاع القلب ال يخشــى أحــداً إال اهلل ‪ ،‬وال يعبــأ بســجن مظلم ‪،‬‬
‫وال تعـ ـ ــذيب مرهـ ـ ــق ‪ ،‬فهـ ـ ــاجم الفقهـ ـ ــاء والمتصـ ـ ـ ِّـوفة ‪ ،‬ودعـ ـ ــا إلى عـ ـ ــدم زيـ ـ ــارة القبـ ـ ــور‬
‫واألضرحة وهدمها ‪ ،‬وألَّف في ذلك الرسائل الكثيرة ‪ ،‬ولم يعبأ إال بما ورد في الكتاب‬
‫والسنة ‪ ،‬وخالف إمامه أحمد بن حنبل إذ أداه اجتهاده إلى ذلك ‪.‬‬
‫فيظهــر –واهلل تعــالى أعلم ‪ -‬أن الشــيخ محمــد بن عبــد الوهــاب عــرف ابن تيميــة‬
‫عن طريـ ـ ــق دراسـ ـ ــته الحنبليـ ـ ــة ‪ ،‬فـ ـ ــأعجب بـ ـ ــه ‪ ،‬وعكـ ـ ــف على كتبـ ـ ــه ورسـ ـ ــائله يكتبهـ ـ ــا‬
‫ويدرسـ ـ ــها ‪ .‬وفي المتحـ ـ ــف البريطـ ـ ــاني بعض رسـ ـ ــائل البن تيميـ ـ ــة مكتوبـ ـ ــة بخـ ـ ــط ابن‬
‫عب ــدالوهاب ‪ ،‬فك ــان ابن تيمي ــة إمام ــه ومرش ــده وب ــاعث تفك ــيره باالجته ــاد وال ــدعوة إلى‬
‫اإلصالح‪.‬‬

‫فلقــد دعــا مثلــه إلى ردع البــدع ‪ ،‬والتوجــه بالعبــادة والــدعاء إلى اهلل وحــده ال إلى‬
‫المش ــايخ واألولي ــاء واألض ــرحة ‪ ،‬وال بوس ــاطة تو ُّســل وال ش ــفاعة ‪ ،‬وزي ــارة القب ــور إن‬
‫ك ــانت فللعظـــة واالعتبـــار ‪ ،‬ال للتوســـل واالستشـــفاع ‪ ،‬فهم ال يملك ــون ش ــيئاً بج ــانب اهلل‬
‫وقوانينــه الثابتــة ال ــتي ال تتخلَّف والــتي نظَّم اهلل به ــا كون ــه ؛ فال ــذبح للقب ــور والن ــذور له ــا‬
‫واالســتغاثة بهــا والســجود عنــدها شــرك ال يرضــاه اهلل ‪ ،‬وهــو هــدم للتوحيــد _ الــذي جــاء‬
‫به اإلسالم _ من أساسه ومثل ذلك تجصيص القبور وبناية األضــرحة ‪ ،‬وتشــييد األبنيــة‬
‫َّ‬
‫المذهب وما إلى ذلك ‪ ،‬فكل هذه ال يعرفها اإلسالم ‪.‬‬ ‫عليها وكسوتها بالحرير‬

‫فكــانت دعــوة ابن عبــد الوهــاب حرب ـاً على كــل مــا ابتــدع بعــد اإلســالم األول من‬
‫عادات وتقاليد ‪ ،‬فال اجتمــاع لقــراءة مولــد وال احتفــاء بزيــارة قبــور ‪ ،‬وال خــروج للنســاء‬
‫وراء الجنـ ــازة ‪ ،‬وال إقامـ ــة أذكـ ــار َّ‬
‫يغنى فيـ ــه ويـ ــرقص ‪ ،‬وال "محمـ ــل" يتـ ــبرك ويتمسـ ــح‬
‫ويحتفل به هذا االحتفال الضخم ‪ ،‬وهو ليس إال أعواداً خشبية ال تضر وال تنفع ‪.‬‬

‫كــل هــذا يخــالف لإلســالم الصــحيح يجب أن يــزال ‪ ,‬ويجب أن نعــود إلى اإلســالم‬
‫في صــفاته األولى ‪ ,‬وطهارتــه ونقائــه ووحدانيتــه واتصــال العبــد بربــه من غــير واســطة‬
‫وال شريك ؛ فال إله إال اهلل معناها كــل ذلــك ‪ .‬والكتب المملــوءة بالتوســالت كتب ضــارة‬
‫بالعقائد ‪ ،‬كدالئل الخيرات ‪ ،‬فقول الشاعر عن نبينا محمد صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬

‫يا أكرم الخلق مالي من ألوذ به‪     ‬سواك عند حدوث الحادث العمم‬
‫وقوله ‪:‬‬

‫إن لم تكن معادي آخذ بيدي‪      ‬فضالً إو ال فقل يازلة القدم‬

‫وقوله ‪:‬‬

‫َّ‬
‫فإن من جودك الدنيا وضرتها‪     ‬ومن علومك علم اللوح والقلم‬

‫ونحو ذلك ‪ ،‬أقوال فاسدة كاذبة ‪ ،‬فال التجاء إال إلى اهلل ‪ ،‬وال اعتماد في الدنيا واآلخرة‬
‫إال عليه سبحانه ‪.‬‬

‫لقــد كــان الشــيخ محمــد بن عبــد الوهــاب ومن نحــا نحــوه يــرون ضــعف المســلمين‬
‫وس ــقوط نفس ــيتهم ليس ل ــه من س ــبب إال العقي ــدة ‪ ،‬فق ــد ك ــانت العقي ــدة اإلس ــالمية في أول‬
‫عهـ ــدها صـ ــافية نقيـ ــة من أي شـ ــرك‪ ،‬وكـ ــانت ال إلـ ــه إال اهلل معـ ــنى السـ ــمو بـ ــالنفس عن‬
‫األحج ــار واألوث ــان وعب ــادة العظم ــاء وع ــدم الخ ــوف من الم ــوت في س ــبيل الح ــق ‪ ،‬وال‬
‫خوف من إنكار المنكـر واألمـر بــالمعروف مهمــا تبـع ذلــك من عـذاب ‪ ،‬وال قيمـة للحيــاة‬
‫إال إذا بــذلت في رفــع لــواء الحــق ودفــع الظلم ‪ ،‬وهــذا هــو الفــرق الوحيــد بين العــرب في‬
‫الجاهلية والعرب في اإلسالم‪ ،‬وبهذه العقيدة وحدها غزوا وفتحوا وحكموا‪ .‬ثم ماذا ؟‬

‫ـمو التوحي ــد إلى حض ــيض الش ــرك ‪،‬‬ ‫ثم لم يتغ ــير ش ــئ إال العقي ــدة ‪ ،‬فت ـ َّ‬
‫ـدنوا من س ـ ِّ‬
‫فتعددت آلهتهم من حجر وشجر وأعواد أخشــاب وقبــور وأوليــاء ‪ ،‬وركنــوا إلى ذلــك في‬
‫حياتهم العامة ؛ فالزرع ينجح لرضا ولي ويخيب لغضبه‪ ،‬والبقرة تحيا إذا نذرت للسيد‬
‫‪ ،‬وتموت إذ لم تنذر ‪ ،‬وهكذا في األمراض والعلـل والغـنى والفقـر ‪ ،‬كلهــا ال ترجــع إلى‬
‫ق ــوانين اهلل الطبيعي ــة وإ نم ــا ترج ــع إلى غض ــب األرواح ورض ــاها ‪ .‬ومث ــل ه ــذه النف ــوس‬
‫الضــعيفة الــتي تــذل للحجــر والشــجر واألرواح ال تســتطيع أن تقــف أمــام الــوالة والحكــام‬
‫الظالمين تأمر بمعروف وتنهاهم عن منكر‪ .‬فذلوا للحكــام واألغنيــاء كمــا ذلــوا لألخشـاب‬
‫واألحجــار ‪ .‬ومــازال كــل قــرن يمــر تــزداد معــه اآللهــة عــدداً وتــزداد النفــوس ذلــة‪ ,‬حــتى‬
‫وصلت الحال باألمة اإلسالمية إلى فقد سيادتها‪ ،‬وانهيار عزتها ‪ .‬وال يصلح حـال آخـر‬
‫هــذة األمــة إال بمــا صــلح بــه أولهــا‪ ،‬فال بــد من العــودة إلى الحيــاة اإلســالمية األولى حيث‬
‫التوحيـد الصـحيح والعـزة الحقـة‪ ،‬وال بـد من هـدم هـذه البـدع والخرافـات بـاللين إن نجح‪،‬‬
‫وبالقوة إن لم ينجح ‪ ،‬واهلل المستعان‪     .‬‬

‫لم ينظ ــر الش ــيخ محم ــد بن عب ــد الوه ــاب إلى المدين ــة الحديث ــة وموق ــف المس ــلمين‬
‫منه ــا ولم يتج ــه في إص ــالحه إلى الحي ــاة المادي ــة كم ــا فع ــل معاص ــره محم ــد علي باش ــا‪،‬‬
‫وإ نم ــا اتج ــه للعقي ــدة وح ــدها وال ــروح وح ــدها ؟ فعن ــده أن العقي ــدة وال ــروح هم ــا األس ــاس‬
‫وهما القلب‪ ،‬وإ ن صلحا صلح كل شئ وإ ن فسدا فسد كل شئ ‪ ،‬وطبيعي أن يكون هــذا‬
‫الفرق بين رئيس الدين في نجد ورئيس الحكم في مصر ‪.‬‬

‫أمــا بعــد‪ ،‬فــإن التوحيــد الصــحيح المطلــق المجــرد عن شــائبة كل تجســيم‪َّ ،‬‬
‫المنزهــه‬
‫عن كل تشخيص‪ ،‬الذي يصل العبد بربه من غير وســاطة وال وســيلة‪ ،‬مطلب عســير ال‬
‫يس ــتطيعه إال الخاص ــة أو خاص ــة الخاص ــة‪ ،‬أم ــا ع ــداهم فيش ــعرون بالتوحي ــد لحظ ــات ثم‬
‫سرعان ما يتدهورون ويشوب عقيدتهم نوع من التشخيص‪ ،‬وأسـلوب من التجسـيم على‬
‫نحو ما‪ ،‬ثم يتخذون من الصـالحين وسـائل وزلفى كـان ذلـك في الجاهليـة وكـان ذلـك في‬
‫اإلسالم ُبعيد البعثة إلى اآلن ‪.‬‬

‫ف ــالمؤرخون ي ــرون أه ــل الط ــائف لم ــا أس ــلموا ك ــان لهم َبنَّية على الالت ‪ ،‬ف ــأمر‬
‫الن ــبي ص ــلى اهلل علي ــه وس ــلم‪  ‬به ــدمها فطلب ــوا من ــه أن ي ــترك ه ــدمها ش ــهراً لئال يروعِّوا‬
‫نســائهم وصــبيانهم حــتى يــدخلون في الــدين ‪ ،‬فــأبى ذلــك عليهم وأرســل معهم المغــيرة بن‬
‫شعبة وأبا سفيان بن حرب رضي اهلل عنهما وأمرهما بهدمها ‪.‬‬
‫وفي الحـــديث أن العـ ــرب كـ ــانت لهم في الجاهليـ ــة ش ــجرة تسـ ــمى " ذات أنـ ــواط "‬
‫كانوا يعلِّقون بهــا ســالحهم ويعكفـون حولهــا ويعظمونهـا ‪ ،‬فسـأل بعض المسـلمين رسـول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪  ‬أن يجعل لهم " ذات أنواط " فنهاهم عن ذلك ‪.‬‬

‫ولم ــا ج ــاء عم ــر رض ــي اهلل عن ــه ش ــعر أن بعض الن ــاس أخ ــذ يحن إلى الع ــادات‬
‫الجاهلية القديمة‪ ،‬فرآهم يأتون الشجرة التي بايع رسول اهلل صلى اهلل عليه وســلم تحتهــا‬
‫بيعة الرضوان فيصلون عندها فبلغ ذلك عمر فأمر بها فقطعت ‪.‬‬

‫ولما رأى عمر رضي اهلل عنه كعب األحبار يخلع نعله ويلمس برجلــه الصـخرة‬
‫عند فتح بيت المقدس ‪ ،‬قال له ‪ " :‬ضاهيت واهلل اليهودية ياكعب " ‪.‬‬

‫وهك ــذا م ــا لبث بعض الن ــاس ح ــتى تراج ــع عن التوحي ــد المطل ــق ال ــذي ج ــاء ب ــه‬
‫اإلســالم‪ ،‬ألن التحــرر من المــادة بكافــة أشــكالها‪ ،‬واإلفالت من قيــود الحس ‪ ،‬والتســامي‬
‫إلى اهلل فـ ــوق المـ ــادة وفـ ــوق الحس وفـ ــوق التشـ ــخيص يتطلب منزلـ ــة رفيعـ ــة من السـ ــمو‬
‫العقلي تعجز عنه الجماهير ‪.‬‬

‫ومن وص ــايا الن ــبي ص ــلى اهلل علي ــه وس ــلم ‪ " :‬إن من ك ــان قبلكم ك ــانوا يتخ ــذون‬
‫القبور مساجد ‪ ،‬أفال تتخذون القبور مساجد ‪ ،‬فإني أنهاكم عن ذلك " ‪.‬‬

‫ثم ســرعان مــا اتخــذ المســلمون قبــور الصــالحين وغــير الصــالحين مســاجد ‪ ،‬ولم‬
‫يكن الصـحابة األولــون رضـوان اهلل عليهم يش ُّـدون الرحــال إلى المشـاهد‪ ،‬ثم كـان ذلــك ‪،‬‬
‫وهكـــذا كلمـــا مضـــى زمن كـــثرت فيـــه أصـــناف التعظيم للقب ــور واألض ــرحة وكث ــير من‬
‫األشجار والجماد ‪.‬‬

‫وظهــر الــدعاة والمصــلحون على تــوالي العصــورـ يحــاولون أن يــردوا النــاس عن‬
‫هذا ويرجعونهم إلى التوحيد وحــده وكلمـا دعــا داع إلى ذلـك عــذب وأهين ورمي بـالكفر‬
‫واإللحاد كمـا فُعـل شـيخ اإلسـالم ابن تيميـة‪ ،‬فقـد ألـف الرسـائل في هـذا الموضـوع وانتقـد‬
‫ح ـ ــال المس ـ ــلمين في اس ـ ــتغاثتهم ب ـ ــالقبور ورحيلهم إليه ـ ــا‪ ،‬وط ـ ــوافهم بالص ـ ــخرة في بيت‬
‫المقـ ــدس‪ ،‬ورحيلهم إلى مشـ ــهد الخليـ ــل ومشـ ــاهد عسـ ــقالن‪ ،‬وتعظيمهم حـ ــتى بعض آثـ ــار‬
‫فعذب وسجن‪ ،‬وأتى بعده بقرون الشــيخ محمــد ابن عبــد الوهــاب ‪ ،‬فــدعا إلى‬ ‫النصرانية‪ِّ ،‬‬
‫العـ ــدول عن التوسـ ــل والشـ ــفاعة والزيـ ــارة للقبـ ــور‪ ،‬ومأل دروسـ ــه في التفسـ ــير وتفسـ ــيره‬
‫لجزء " عم " بمثل هذه الدعوة ‪ ،‬فلقي من أهل زمنه مالم يغب عن أذهاننا بعد ‪.‬‬

‫‪       ‬كانت جزيرة العرب عنـدما دعـا الشـيخ محمـد بن عبـد الوهـاب دعوتـه أشـبه شـئ‬
‫بحالتهـ ــا في الجاهليـ ــة ‪ ,‬كـ ــل قبيلـ ــة تسـ ــكن موضـ ــعاً يرأسـ ــها أمـ ــير منهـ ــا ‪ :‬هـ ــذا أمـ ــير في‬
‫األحســـاء ‪ ,‬وهـــذا أمـــير في عســـير ‪ ,‬وهـــؤالء أمـــراء نج ــد الخ ‪ ,‬وال عالق ــة بين األم ــير‬
‫واألم ــير إال عالق ــة الخص ــومة غالبــاً ‪ .‬ثم َّ‬
‫تتوزعه ــا _ أيض ـاً _ الخص ــومة بين الحض ــر‬
‫والبدو ‪ ,‬فمن قـدر من البــدو على خطــف شــئ من الحضـر فعـل ‪ ,‬ومن قـدر من الحضــر‬
‫على التنكيل ببدو فعل ؛ والطرق غير مأمونة ‪ ,‬والسلب والنهب على ِّ‬
‫أشدهما ‪ ,‬وسلطة‬
‫الخالفـ ــة في اآلسـ ــتانة تكـ ــاد تكـ ــون سـ ــلطة أسـ ــمية ومظهرهـ ــا تعـ ــيين األشـ ــراف في مكـ ــة‬
‫وإ مدادهم ببعض الجنود وكفى ‪.‬‬

‫لقد بدأ " محمـد بن عبـدالوهاب " يـدعو دعوتـه _ الـتي ذكرناهـا _ في لين ورفـق‬
‫بين قومه ‪ .‬ثم أخذ يرسـل الـدعوة ألمـراء الحجـاز والعلمـاء في األقطـار األخـرى ‪ ,‬حاثـا‬
‫لهم على استنهاض الهمم في مكافحة البدع والرجوع إلى اإلسالم الصحيح ‪.‬‬

‫‪       ‬كم من المصــلحين دعــوا مثــل هــذه الــدعوة ولكنهــا مـ َّـرت بســالم وإ ن شــابها شــئ‬
‫فســجن الــداعي أو التشــهير بــه ‪ ,‬ورميــه بــالكفر أو الزندقــة ‪ ,‬ثم ينتهي األمــر ويعــود إلى‬
‫س ــيرتهم األولى ؛ ب ــل ن ــرى من ق ــام بمث ــل ه ــذه ال ــدعوة فعالً‪  ‬في المغ ــرب كالش ــيخ أبي‬
‫العباس التيجاني ‪ ,‬فقـد أمـر بـترك البـدع ونهى عن زيـارة القبـور ‪ ,‬وكـثرت أتباعـه حـتى‬
‫بلغت مئـ ـ ـ ــات األلـ ـ ـ ــوف‪ ,‬ولكن لم يلفت النـ ـ ـ ــاس والحكـ ـ ـ ــام أمـ ـ ـ ــره كمـ ـ ـ ــا لفتهم محمـ ـ ـ ــد بن‬
‫عبدالوهاب؛ وكذلك الشيخ محمد عبده دعا مثل هذه الدعوة فأجابـه بعضـهم وأنكـر عليـه‬
‫بعضهم‪ ,‬ثم أسدل الستار‪ ,‬فما السبب في نجاح دعوة الشيخ محمد بن عبــد الوهــاب دون‬
‫األخرى ؟‬

‫‪       ‬السبب في هذا ماأحاط "بالدعوة الوهابية" من ظروف لم تتهيأ لغيرها ‪.‬‬

‫‪       ‬فقـــد اضـــطهد في بلـــده العيينـــة‪ ,‬واضـــطر ان يخ ــرج منه ــا إلى الدرعي ــة مق ــر آل‬
‫سعود؛ وهناك عرض دعوته على أميرها محمد بن سعود فقبلها ‪ ,‬وتعاهــدا على الــدفاع‬
‫عن الــدين الصــحيح ومحاربــة البــدع ‪ ,‬ونشــر الــدعوة في جميــع جزيــرة العــرب باللســان‬
‫عنـد من يقبلهـا ‪ ,‬وبالسـيف عنـد من لم يقبلهـا ؛ وإ ذ ذاك دخلت الـدعوة في دور خطـير ‪,‬‬
‫وهــو اجتمــاع الســيف واللســان ‪ ,‬وزاد األمــر خطــورة نجــاح الــدعوة شــيئاً فشــيئاً ‪ ,‬دخــول‬
‫النــاس أفواجـاً فيهــا ‪ ,‬وإ خضــاع بعض األمــراء بــالقوة لحكمهــا ‪ ,‬وكلمــا دخلــوا بلــدة أزالــوا‬
‫البــدع وأقــاموا تعــاليمهم ‪ ,‬حــتى هــددت الحركــة كــل جزيــرة العــرب ‪ .‬ولمــا مــات األمــير‬
‫ومــات الشــيخ تعاقــد أبنــاء األمــير وأبنــاء الشــيخ على أن يســيروا ســيرة آبــائهم في نصــرة‬
‫الدعوة متكاتفين ‪ ,‬وظلوا يعملون حتى غلبوا على مكة والمدينة ‪.‬‬

‫‪       ‬وشعرت الدولة العثمانيـة بـالخطر الـذي يهـددها بخـروج الحجـاز من يـدها ‪ ,‬وهـو‬
‫مـوطن الحـرمين الشـريفين اللـذين يجعالن لهم مركـزاً إسـالمياً ممتـازاً ‪ ,‬تفقـد الكثـير منـه‬
‫إذا فقدتهما ‪.‬‬

‫‪       ‬فأرســل الســلطان محمــود إلى محمــد باشــا في مصــر بــان يســيِّر جيوشــه لمقاتلــة "‬
‫الوه ـ ــابيين" ؛ وكم ـ ــا أرس ـ ــلت الجي ـ ــوش لمق ـ ــاتلتهم أرس ـ ــلت الدعاي ـ ــة من جمي ـ ــع األقط ـ ــار‬
‫وح َمــل علمـاء المســلمين عليهــا حمالت‬
‫اإلسالمية للنيل من هذه الدعوة وتكفير مبتـدعيها َ‬
‫منكرة ‪ ,‬وألِّفت الكتب الكثيرة في التخويف منها والتشنيع عليها ‪.‬‬
‫‪       ‬وهكذا حدثت الحرب بالسيف والحرب بالكالم‪ ,‬كل ذلــك خــدم " الــدعوة الوهابيــة"‬
‫بلفت األنظار إليها‪ ,‬ودورانها على كل لسان‪ ,‬وزاد في شأنها أن " ال ــوهابيين" انتص ــروا‬
‫على حملة محمد علي باشا بقيادة األمير طوسون ‪.‬‬

‫العـ ّـدة القوي ــة الكب ــيرة‪ ,‬وس ــار بنفس ــه وح ــاربهم فانتص ــر‬
‫‪       ‬ثم أع ــد محم ــد علي باش ــا ُ‬
‫عليهم‪ ,‬وأتم النصر ابنــه إبــراهيم باشــا‪ ,‬وانهــزمت قــوة " الوهــابيين" ؛ ولكن بقيت الــدعوة‬
‫إلى أن ُهَّيئ لهـ ــا في العهـ ــد الحاضـ ــر المملكـ ــة العربيـ ــة السـ ــعودية الحاضـ ــرة في تـ ــاريخ‬
‫طويل ال يعنينا هنا‪ ,‬وإ نما يهمنا الدعوة وما تم لها ‪.‬‬

‫‪       ‬إن الدعايــة الــتي أحكمت ضــدها‪ ,‬وتعلــق النــاس بالدولــة العثمانيــة‪ ,‬وميلهم الشــديد‬
‫أن تظــل بالدهــا وحــدة ال ينفصــل عنهــا جــزء‪ ,‬جعلت عامــة المســلمين في أقطــار العــالم‬
‫اإلسالمي يفرحون بهزيمة " الوهابية "‪ ,‬ولو لم يفهموا جوهر دعوتها‪.‬‬

‫وشـئ آخـر كـان كبـير األثـر في تنفـير عامـة المسـلمين من هـذه الحركـة‪ ,‬وهـو أنهـا حيث‬
‫اس ــتولت على بل ــد نفَّذت تعاليمه ــا ب ــالقوة ولم تنتظ ــر ح ــتى ي ــؤمن الن ــاس ب ــدعوتها؛ فلم ــا‬
‫دخلــوا مكــة هــدموا كثــير من القبــاب األثريــة كقبــة الســيدة خديجــة رضــي اهلل عنهــا؛ وقبــة‬
‫مولد النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ ,‬ومولد أبي بكر وعلي رضي اهلل عنهمــا؛ ولمــا دخلــوا‬
‫المدين ــة رفع ــوا بعض الحلي والزين ــة ال ــتي ك ــانت على ق ــبر الرس ــول؛ فه ــذه كله ــا أث ــارت‬
‫غضب كثير من الناس وجرحت عواطفهم‪ ,‬فمنهم من حزن على ضياع معــالم التــاريخ‪,‬‬
‫ومن ح ــزن على الفن اإلس ــالمي‪ ,‬ومنهم من ح ــزن ألن مق ــبرة الرس ــول ص ــلى اهلل علي ــه‬
‫وس ـ ــلم وفخامته ـ ــا مظه ـ ــر للعاص ـ ــمة اإلس ـ ــالمية وق ـ ــوة الدول ـ ــة؛ وهك ـ ــذا اختلفت األس ـ ــباب‬
‫واشــتركوا في الغضــب ‪ ,‬و"الوهــابيون" لم يعــبئوا إال بإزالــة البــدع والرجــوع بالــدين إلى‬
‫أصله‪.‬‬
‫‪       ‬قد اهتمـوا بالناحيـة الدينيـة وتقويـة العقيـدة‪ ,‬وبالناحيـة الخلقيـة كمـا ص َّـورها الـدين‪,‬‬
‫ولذلك حيث سادوا قلَّت الســرقة والفجــور وشــرب الخمــور وأمن الطريــق ومــا إلى ذلــك؛‬
‫ولكنهم لم يمسوا الحياة العقلية ولم يعملوا على ترقيتهــا إال في دائــرة التعليم الــديني‪ ,‬ولم‬
‫ينظروا مشاكل المدنية الحاضرة ومطالبها ‪ .‬وكان كثير منهم يرون أن مـا عـدا قطــرهم‬
‫وأن األقطــار اإلســالمية الــتي تنتشــر فيهــا البــدع ليســت ممالــك إســالمية‪ ,‬وأن دارهم دار‬
‫جهاد؛ فلما تولَّت حكومة ابن سعود الحاضرة كان ال بد أن تواجــه الظــروف الحاضــرة‪,‬‬
‫وتق ـ ــف أم ـ ــام منط ـ ــق الح ـ ــوادث‪ ,‬ورأت نفس ـ ــها أم ـ ــام ق ـ ـ َّـوتين قوي ـ ــتين ال مع ـ ــدى له ـ ــا عن‬
‫مســايرتهما‪ ,‬قــوة رجــال الــدين في نجــد المتمســكين أشــد التمســك بتعــاليم ابن عبــد الوهــاب‬
‫والمتشــددين أمــام كــل جديــد فكــانوا يــرون أن التلغــرافـ والســيارات والعجالت من البــدع‬
‫التي ال يرضى عنها الــدين‪ ,‬وقــوة التيـار المــدني الــذي يتطلب نظــام الحكم فيــه كثـيراً من‬
‫وســائل المدنيــة الحديثــة كمــا يتطلب المصــانعة والمــداراة‪,‬ـ فــاختطت لنفســها طريقـاً وســطاً‬
‫شـاقاً بين القــوتين‪ ,‬فقــد عــدلت نظرهــا إلى األقطــار اإلســالمية األخــرى وعـ َّـدتهم مســلمين‪,‬‬
‫وبدأت تنشر التعليم المدني بجانب التعليم الــديني وتنظم اإلدارة الحكوميــة على شــئ من‬
‫النمط الحديث‪ ,‬وتسمح للسيارات والطــائرات والالســلكي بــدخول البالد واالســتعمال ومــا‬
‫إلى ذل ــك‪ ,‬وم ــا أشــقَّه عمالً ‪ :‬التوفي ــق بين علم ــاء نج ــد ومقتض ــيات ال ــزمن‪ ,‬وبين طب ــائع‬
‫البادية ومطالب الحضارة ‪.‬‬

‫‪       ‬لم تقتصــر " الــدعوة الوهابيــة " على الحجــاز والجزيــرة العربيــة‪ ,‬بــل تعـ َّـدتها إلى‬
‫غيره ــا من كث ــير من األقط ــار اإلس ــالمية ‪ .‬وك ــان موس ــم الحج مي ــداناً ص ــالحاً وفرص ــة‬
‫س ــانحة لعـــرض الـــدعوة على أكـــابر الحج ــاج واســـتمالتهم إلى قبوله ــا ‪ ,‬ف ــإذا ع ــادوا إلى‬
‫بالدهم دعــوا إليهــا ‪ .‬فــنرى في زنجبــار طائفــة كبــيرة من المســلمين يعتنقــون أفكــار هــذه‬
‫الحركة‪ ,‬ويدعون إلى ترك البدع‪ ,‬وعدم التقرب إلى باألولياء ‪.‬‬

‫‪       ‬وق ــام في الهن ــد زعيم أس ــمه الس ــيد أحم ــد ‪َّ ,‬‬
‫حج س ــنة ‪1822‬م‪ ,‬وع ــاد إلى بالده ‪,‬‬
‫فنشــر هــذه الــدعوة في البنجــاب وأنشــأ بهــا دولــة "شــبه وهابيــة"‪ ,‬وأخــذ ســلطانه يمتــد حــنى‬
‫شــمال الهنــد‪ ,‬وأقــام حرب ـاً عوان ـاً على البــدع والخرافــات‪ ,‬وهــاجم الوعــاظ ورجــال الــدين‬
‫هن ــاك وأعلن الجه ــاد ض ــد من لم يعتن ــق مذهب ــه أو يقب ــل دعوت ــه‪ ,‬وأن الهن ــد دار ح ــرب‪,‬‬
‫ولقيت الحكومة اإلنجليزية متاعب كثيرة شاقة من أتباعه حتى استطاعت إخضاعهم ‪.‬‬

‫‪       ‬وكـ ــذلك حضـ ــر اإلمـ ــام السنوسـ ــي مكـ ــة حاج ـ ـاً‪ ,‬وسـ ــمع بـ ــدعوة الشـ ــيخ محمـ ــد بن‬
‫عبــدالوهاب واعتنقهــا وعــاد إلى الجزائــر يبشــر بهــا‪ ,‬ويؤســس طريقتــه الخاصــة في بالد‬
‫المغرب ‪.‬‬

‫‪       ‬وفي اليمن ظهــر أعلم علمائــه‪ ,‬وإ مــام أئمتــه وهــو اإلمــام ال َّش ـوكاني المولــود ســنة‬
‫‪1172‬هـ‪ ,‬فسار على نفس النهج‪ ,‬وإ ن لم يتلقه عن ابن عبد الوهاب‪ ,‬وألَّف كتابــه القيم "‬
‫نيـ ــل األوط ـ ــار " شـ ــارحاً فيـ ــه كت ـ ــاب ابن تيميـ ــة " منتقى األخبـ ــار "‪ ,‬عارض ـ ـاً األحـ ــاديث‬
‫النبويــة‪ ,‬مجتهــداً في فهمهــا‪ ,‬وفي اســتنباط األحك ــام الش ــرعية منه ــا ولــو خــالف الم ــذاهب‬
‫األربعـة كلهـا ؛ وحـارب التقليـد ودعـا إلى االجتهــاد وثــارت من أجـل ذلــك حـرب كالميــة‬
‫شــعواء بينــه وبين علمــاء زمنــه‪ ,‬كــان أشــدها في صــنعاء‪ ,‬وألــف في ذلــك رســالة ســمها "‬
‫القول المفيد في حكم التقليد "؛ ودعا قومه إلى عدم زيارة القبور والتوسل بها‪ ,‬فقال في‬
‫نيــل األوطــار(‪ " : )1‬وكم ســرى عن تشــييد أبنيــة القبــور وتحســينها من مفاســد يبكي لهــا‬
‫وعظُم ذلــك فظنــوا أنهــا‬
‫اإلســالم‪ ( ,‬منهــا ) اعتقــاد الجهلــة لهــا كاعتقــاد الكفــار لألصــنام‪َ ,‬‬
‫قـادرة على جلب النفــع ودفـع الضـررـ ؛ فجعلوهـا مقصــداً لطلب قضــاء الحـوائج ‪ ,‬وملجــأ‬
‫لنجح المطالب وسألوا منها ما يسأل العبــاد من ربهم ‪ ,‬وشــدوا إليهــا الرحــال ‪ ,‬وتمســحوا‬
‫واستغاثوا‪ ,‬وبالجملة فإنهم لم يدعوا شيئاً مما كانت الجاهليـه تفعلـه باألصـنام إال فعلـوه ‪,‬‬
‫فإنا هلل وإ نا إليه راجعون ‪.‬‬

‫" ومع هذا المنكر الشنيع والكفر الفضيع ‪ ,‬ال نجد من يغضب هلل ‪ ,‬ويغــار َح ِمَّيمــة للــدين‬
‫الحـ ــنيف ال عالمـ ـ ـاً وال متعلمـ ـ ـاً‪ ,‬وال أمـ ــيراً وال وزيـ ــراً وال ملكـ ـ ـاً‪ ,‬وقـ ــد ت ـ ــوارد إلينـ ــا من‬
‫األخبــار مــا ال يشــك معــه أن كثــيراً من هــؤالء القبــور بيِّن أو أكــثرهم إذا تـ َّ‬
‫ـوجهت عليــه‬
‫يمين من قبــل خصــمه حلــف باهلل فــاجراً‪ ,‬فــإذا قيــل لــه بعــد ذلــك احلــف بشــيخك ومعتقــدك‬
‫الــولي الفالني تلعثم وتلكــأ‪ ,‬وأبى واعــترف بــالحق؛ وهــذا من أبين األدلــة الدالــة على أن‬
‫شركهم قد بلغ فوق شرك من قال إنه تعالى ثاني اثنين وثالث ثالثة ‪.‬‬

‫آي رزء لإلســالم أشـ ُّـد من الكفــر ‪ُّ ,‬‬


‫وأي بالء‬ ‫" فيــا علمــاء الــدين ‪ ,‬ويــا ملــوك المســلمين ‪ّ ,‬‬
‫وأي مصيبة يصــاب بهــا المســلمون تعــدل هــذه‬
‫لهذا الدين أضر عليه من عبادة غير اهلل‪ّ ,‬‬
‫المصيبة‪ ,‬وأي منكر يجب إنكاره إن لم يكن إنكاره هذا الشرك المبين ؟ " ‪.‬‬

‫‪       ‬وقـ ــد مـ ــات اإلمـ ــام الشـ ــوكاني سـ ــنة ‪1250‬م بعـ ــد أن أبلى في هـ ــذا بالء عظيم ـ ـاً‪,‬‬
‫وخلَّف تالميذ كثيرين يدينون برأيه ‪.‬‬

‫‪       ‬وفي مص ــر ش ــب الش ــيخ محم ــد عب ــده ف ــرأى تع ــاليم ابن عب ــد الوه ــاب تمأل الج ــو‪,‬‬
‫فرجع إلى هذه التعاليم في أصولها من عهــد الرســول إلى عهــد ابن تيميــة‪ ,‬إلى عهــد ابن‬
‫عبد الوهـاب؛ وكـان أكـبر أملـه أن يقـوم في حياتـه للمسـلمين بعمـل صـالح‪ ,‬فـأداه اجتهـاده‬
‫وبحثه إلى نفس األساسـين اللذين بنى عليهما محمد بن عبدالوهاب تعاليمه وهما‪:‬‬

‫(‪ )1‬محاربــة البــدع ومــا دخــل على العقيــدة اإلســالمية من فســاد باإلشــراك مــع اهلل تعــالى‬
‫األولياء والقبور واألضرحة‪.‬‬

‫(‪ )2‬فتح باب االجتهاد الذي أغلقه ضعاف العقــول المقلــدين ؛ وجـ َّـرد نفســه لخدمــة هــذين‬
‫الغرضين‪.‬‬

‫‪       ‬إن كل الحركات السابقة كانت مؤسسة على الــدين واإلصــالح الــديني‪ ,‬والرجــوع‬
‫إلى األص ــول الديني ــة‪ ,‬وليس على العق ــل المطل ــق‪ ,‬واإلص ــالح االجتم ــاعي من غ ــير أن‬
‫يكون الوازع عليها الرغبة في اإلصالح الديني ‪.‬‬
‫‪       ‬وأخــيراً وقــد مضــى على هــذه الــدعوة اإلصــالحية من عهــد الشــيخ محمــد بن عبــد‬
‫الوهاب إلى اآلن عشــرات الســنين‪ ,‬واشـترك في تنظيمهـا عشــرات األبطـال‪ ,‬فمـاذا كــانت‬
‫النتيجة ؟‬

‫‪       ‬ظــل ‪ -‬مــع األســف الشــديد‪ -‬عامــة المســلمين في جميــع األقطــار اإلســالمية‪ ،‬كمــا‬
‫هم من حيث االلتجاء في قضاء الحوائج إلى المشايخ والقبور واألضــرحة‪ ,‬وظلت على‬
‫عادته ــا في االحتف ــال به ــا وإ ن ق ــل بهاؤه ــا ورونقه ــا‪ ,‬لق ــد ت ــأثر به ــذه ال ــدعوة الخاص ــة أو‬
‫خاصة الخاصة‪ ,‬كما تأثرت بهــا ناشــئة الشــباب المثقَّفين بحكم ثقـافتهم ونمـ ِّـو عقليتهم‪ ,‬فلم‬
‫يلجئوا إلى المزارات والمشايخ كما كان يلجأ آباؤهم؛ ولكن أخشى أال يكــون كثــير منهم‬
‫يلجأ إلى اهلل أيضاً كما كان يلجأ آباؤهم ‪.‬‬

‫من فيض الخاطر ألحمد أمين (‪ 1950‬م)‬

‫‪ ‬‬
‫‪ ‬‬

‫(‪  )1‬جزء ‪ 3‬ص ‪ 124‬المطبعة األميرية‬

You might also like