You are on page 1of 56

‫منشورات مؤسسة تاوالت الثقافية سلسلة األبحاث التاريخية ‪17 -‬‬

‫عبر الجبل‬
‫(رحلة ماريو كورسي عبر جبل نفوسة)‬

‫ترجمة األستاذين ‪:‬‬


‫عبد الوهاب الداب ‪ -‬موحمد ؤمادي‬
‫مقدمة الناشر‬

‫ضمن أهداف مؤسسة تاوالت الثقافية التي وضعتها على عاتقها هو‪ :‬ترجمة ونشر‬
‫األعمال املهمة واملتعلقة بالتاريخ الليبي على وجه العموم وتاريخ جبل نفوسة على‬
‫وجه اخلصوص‪ ،‬بلغ ماترجمته مؤسستنا الفتية مايربو عن ‪ 45‬كتاب نشرناها على موقع‬
‫املؤسسة خالل السنوات القليلة املاضية‪ ،‬ويأتي كتاب ماريو كورسي تكملة ملا نشر عن‬
‫تاريخ اجلبل املمتد في القدم وإضاءة مغايرة عن إحتالل اجليوش اإليطالية للجبل بعد‬
‫معركة جندوبة‪.‬‬
‫كتب الكتاب من قبل صحفي إيطالي ال تخلوا كتابته من تعصب لبني قومه ولكن‬
‫ال يخلوا أيضامن فوائد جمة عن كيفية إستمالة ايطالية لبعض األعيان الليبيني ضد‬
‫إخوانهم في الدين والوطن‪.‬‬
‫نرجو أن تضيف هذه التراجم إلى املكتبة التاريخية جلبل نفوسة والليبية أيضا مزيدا ً‬
‫من الفائدة‪ ،‬وخصوصا ً لغير الناطقني باللغة اإليطالية التي كتبت بها هذه املذكرات‬
‫والتي كانت بدورها عبارة عن مقاالت لصالح جريدة التربونا‪ ،‬وسوف ننشر من ضمن‬
‫هذه السلسلة املعنونة‪« :‬دراسات شمال إفريقية» مقاالت متنوعة ومتعددة ذات أبعاد‪:‬‬
‫تاريخية ودينية ولغوية واجتماعية‪ ،‬وبعدة لغات‪ :‬كاإليطالية والفرنسية واألملانية‬
‫واإلجنليزية‪.‬‬
‫يندرج هذا العمل الطموح في ترجمة كل األعمال املنجزة عن تاريخ الشمال اإلفريقي‬ ‫حقوق امللكية الفكرية محفوظة للمؤلف‬
‫والتاريخ الليبي‪ ،‬ضمن برنامج متوسع تقوم به مؤسسة تاوالت الثقافية في برنامجها‬ ‫حقوق الترجمة متاحة لكل من يستطيع‬
‫البعيد املدى للبحث في اجلذور‪ ،‬والتعمق بدراسات علمية رصينة في موروث األجداد‪.‬‬ ‫نشر وطباعة وتوزيع الكتاب بكل الوسائل‬
‫الناشر‬ ‫مؤسسة تاوالت الثقافية ‪2011‬‬
‫‪http://www.tawalt.com/‬‬
‫مؤسسة تاوالت الثقافية‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‬

‫‪3‬‬ ‫‪2‬‬
‫المقدمة‬
‫هذا الكتاب هو ترجمة من مؤلَف لـ ‪:‬‬
‫ال يطمح هذا الكتيب إلى أخد مكانة بني الكتب الكثيرة التي أفرزتها حربنا اجلليلة‬ ‫‪Mario Corsi‬‬
‫حتت عنوان ‪:‬‬
‫والتي يستحق بعضها التقدير‪ .‬وال أحتدث في صفحاته عن الفترة التاريخية اجمليدة‬
‫‪A Traverso Il Gebel‬‬
‫للغزو وإن كنت عاينتها منذ بدايتها ولكن عن سفر عبر جبل طرابلس بعد معاهدة‬
‫أوشي (أوشي لوزان) للسالم حني كان صدى الطلقات النارية آلخر الثوار العرب ينتهي في‬
‫األودية املوحشة على مقربة من احلدود التونسية‪.‬‬
‫أرسلتني جريدة التربونا ‪ Tribuna‬مرة ثانية إلى أفريقيا في أواخر شهر مارس من هذه‬
‫السنة حينما كان اللواء لكيو‪ Lequio‬قد بدأ عملية اجتياح اجلبل السريعة والشهيرة‬
‫بعد أشهر عدة من احلرب وحرب العصابات والتي كان الهدف منها إعادة السلم إلى‬
‫طرابلس وفتح أبواب الداخل في وجه ايطاليا‪ .‬حينها استطعت أنا وزمرة من األصدقاء‬
‫اقتفاء اآلثار احلديثة جلنودنا األشداء وعبور األراضي املرتفعة لطرابلس من جانب إلى آخر‬
‫وقد أرسلت بعض املقاالت جلريدتي حول هذا السفر‪.‬‬
‫اليوم بجمعي لتلك االنطباعات الصحافية املشتتة ونشرها بعد إثرائها وإضافة‬
‫فصول جديدة إليها أود أن أساهم ولو بشكل متواضع في التعريف مبنطقة جد هامة في‬
‫مستعمرتنا اجلديدة‪ ،‬وهي منطقة ظلت حتى أشهر قليلة غير معروفة لدى االيطاليني‬
‫ولم يسبق ألي من أبناء ايطاليا أن قطعها برمتها بسبب اعتراض األتراك على ذلك‬
‫بشدة وتعنت‪.‬‬
‫اجلبل هو ذلك اجلدار الكبير الذي يرتفع على بعد حوالي مائة كيلومتر من الساحل‬
‫بني اخلمس وساحل زوارة‪ .‬ورغم أنه يتم تعريفه عموما على أنه سلسلة جبلية فإنه في‬
‫احلقيقة ليس سوى ذلك اإلطار الوعر للمرتفع الذي يشكل الساحل الصخري القدمي‪ .‬مع‬
‫ذلك فهو يبدو على مظهر سلسلة جبلية وهو ما يفسر بسهولة كيف أن املسافرين‬
‫الذين مروا بسرعة من طرابلس متجهني إلى مناطق جد بعيدة‪ ،‬وأمام ضرورة جتاوز اجلدران‬
‫الشاقولية التي تشكل حافة ملدرجات املرتفع الداخلي الشاسع واملتسق‪ ،‬وقعوا في‬
‫نفس اخلطأ الذي أدى وألمد طويل في السودان إلى وضع تخطيط جلبال كونغ ‪ Kong‬التي‬
‫ال وجود لها على اإلطالق‪.‬‬

‫‪5‬‬ ‫‪4‬‬
‫م‪ .‬كورسي‬

‫فضال عن ذلك فاجلبل الزال منطقة تستوجب الدراسة وتكاد ال جتد له دراسات على‬
‫املستوى اجليولوجي مادام أنه ال ميكننا اعتبارها نهائية وكاملة تلك الدراسات السطحية‬
‫واملستعجلة التي قام بها ماتيوزيو ‪ Malthuisieulx‬أو تلك التقريبية اخلاصة بالسواحل‬
‫لفناسا ‪ Vinassa‬وفي األخير تلك التي لم تظهر بعد لبعثة سان فليبو سفورسا ‪San‬‬
‫‪ filippo-sforza‬التي سرعان ما توقفت في رحلتها االستكشافية للداخل‪.‬‬
‫قليل إذن هو ما كتب ونشر عن اجلبل غير أن هذا الكتاب‪ ،‬كما قلت‪ ،‬ال يتوخى سد هذا‬
‫الفراغ وإمنا يريد أن يكون دليال انطباعيا حول تلك املناطق املرتفعة وال شيء أكثر من ذلك‪.‬‬
‫م‪ .‬ك‪.‬‬ ‫ ‬
‫الفصل األول‬
‫أكتوبر ‪1913‬‬ ‫ ‬

‫‪6‬‬
‫غزو الجبل‬

‫اجلبل البعيد – على آثار روما ‪ -‬الكدية البيضاء (العزيزية) – أسطورة الصحراء ‪ -‬عني‬
‫بوغيالن مدير يقدم القرابني لباكو (آله اخلمر)‪ -‬العجائب الثالثة لبوغيالن ‪ -‬اخلطوة األولى‬
‫على اجلبل‪ -‬املضيق الصغير‪ -‬فوق جبل غريان ‪ -‬قصر غريان‪ ،‬مدينة املناجذ‪ -‬املكان الذي‬
‫كان يسجن فيه االيطاليون‪.‬‬
‫قصر غريان‪ ،‬أبريل‪.‬‬ ‫ ‬

‫خالل أيام احلرب الطوال املفعمة بالقلق واإلثارة‪ ،‬كنا نرى‬


‫‪ -‬خاصة في صباح بعض األيام املضيئة بشمس أفريقيا‪،‬‬
‫اجلبل ‪! ...‬‬
‫انطالقا من املتارس الصلبة احمليطة بطرابلس العاصمة ‪ -‬خطا متعرجا يلوح خلف‬
‫الرمال الصفراء اململة‪ .‬كنا ننظر جميعا إلى ذلك اخلط اجلبلي على أنه شيء جد غامض‬
‫وجد بعيد‪ ،‬وكأنه ضفة منشودة وموعودة في غد مخيف وكفردوس يتجلى ألصحاب‬
‫اإلميان الصحيح‪ .‬وهناك يوجد اجلبل‪ ،‬كما كنا نقول‪ .‬وكان هناك من يضيف أسماء غريبة‬
‫عن مسامعنا‪ -‬غير محددة‪ -‬ويكتنفها الغموض‪ :‬هناك توجد غريان‪ .‬ثم يفرن‪،‬الزنتان‬
‫وفساطو‪...‬وكان كل اسم فيما بعد يتالشى ويبتعد مسافات ال تعد وصعبة املنال‪.‬‬
‫دامت احلرب التي كان النصر فيها حليفا لنا طويال ثم جاء السالم غير أن ذلك اخلط‬
‫الطويل الذي يبرز أمامنا في األفق الواضح وتلك األسماء الغريبة لم يسقط عنها بعد‬
‫ثوب الغموض‪ .‬فاجلبل الزال بعيدا خلف بحر الرمال‪! ‬‬
‫لكن ذات يوم وبشكل مفاجئ تقريبا اجنلى هذا الغموض‪ :‬فقد انفتحت أولى بوابات‬
‫الهضبة‪ :‬أصبحت غريان‪ ،‬مفتاح اجلبل‪ ،‬حتت سيطرتنا‪.‬‬
‫بوصولنا إلى الضفة األخرى انفتحت أرض املرتفع املمتنعة أمامنا في صفاءها‬
‫وعذريتها‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫وضعها جنودنا ببسالة عبر الصحراء حني لم تكن احلرب بعد قد انتهت وعبدوها حتى‬ ‫منذ ذلك احلني واقتفاء آلثار لم ميحوها الزمان وحقد الرجال بشكل كلي كان قد‬
‫بلغت العزيزية فور وضع احلرب ألوزارها‪.‬‬ ‫خلفها أولئك الرومان الذين اندفعوا بشجاعة وهيمنة بعد أن هوى جنم قرطاجة عبر‬
‫على منت السكة احلديدية إذن وعبر بحر متموج من رمال ال تكف الريح عن حتريكها‪،‬‬ ‫اجلبل العالي حتى بلغوا فزان‪ .‬غدامس وتوغلوا أكثر جنوبا حتى السودان البعيد ليرسلوا‬
‫على طول الساحل حتى جنزور مبحاذاة واحات جد خضراء جنوبا ومرورا مبحطة سواني‬ ‫إلى روما كل سنة من طرابلس إتاوة ال تقل عن عشرة آالف قنطار من الزيوت وقمحا‬
‫بني أدن الصغيرة التي يبدو أن واحتيها املتواضعتني تريدان أن توحيا بوجود ظل ورطوبة‪،‬‬ ‫كثيرا كان يكفي مللئ خزانات أوستيا ‪ Ostia‬الكبيرة‪ .‬اقتفاء لهذه اآلثار القدمية فتح‬
‫وصلنا خالل ساعتني فقط إلى الكدية البيضاء الناصعة امللتهبة حتت أشعة الشمس‪،‬‬ ‫جنود روما اجلدد طريقهم عبر اجلبل‪ .‬واليوم يرفرف العلم االيطالي فوق كل الهضبة التي‬
‫وصلنا إلى العزيزية كما يطلق عموما على البلدة األوروبية املتكئة برفق على كثبان‬ ‫متتد من مدرجات ترهونة شرقا حتى آخر منحدرات نالوت غربا‪.‬‬
‫رملية صفراء وفراش من حلفاء شاحبة جففتها الشمس‪.‬‬ ‫غداة هذه املسيرة الطويلة الشاقة احملفوفة بالنصر‪ ،‬بل وبينما كانت تتم آخر‬
‫مراحلها‪ ،‬سمحت لنا سلطات طرابلس العاصمة أنا وزمرة من الرفاق بعبور كل مناطق‬
‫اجلبل احملتلة‪ :‬هكذا كنا وبعض اجلنود سباقني كإيطاليني إلى عبور جبل نفوسة برمته‬
‫من الشرق إلى الغرب‪.‬‬

‫القصر التركي بالكدوة (العزيزية)‬


‫ال تكتسي العزيزية أهمية إال كحلقة وصل على طريق القوافل أو كمحطة ملن يخرج‬
‫من طرابلس العاصمة إلى غريان أو – عكس ذلك تتكون البلدة برمتها – هي بلدة حديثة‬
‫العهد ‪ -‬من ساحة شاسعة لها شكل مربع وحتدها من ثالثة جوانب منازل صغيرة‬ ‫احملطة الصغيرة لسواني بن يادم‬
‫يكسوها طالء من اجلير ومن اجلانب الرابع القصر أي الثكنة التركية‪ ،‬و هي عبارة عن‬ ‫حتى األمس القريب كان ينبغي السير لثمان ساعات للوصول إلى العزيزية‪ ،‬أول أكبر‬
‫مبنى خشن تتخلل أسواره فرجات وقد كان فيما مضى مقرا للمدير الذي كان يجمع‬ ‫محطة على طريق اجلبل‪ ،‬وهي ثماني ساعات من السير الشاق املرهق عبر سهل رملي‬
‫بني وظائف قائد العسكر ونائب احلاكم والقاضي وأصبح اآلن مقرا للسلطة العسكرية‬ ‫ال نبات فيه وال أعشاب‪ ،‬شديد احلرارة ال أثر فيه سوى ألقدام جمال آخر قافلة عبرته‪،‬‬
‫االيطالية‪ .‬تطل قمة غريبة‪ ،‬أكمة صغيرة مخروطية الشكل‪ ،‬على هذه الساحة ويوجد‬ ‫أما نحن فللوصول إلى املكان الذي كان يشكل حتى األمس املقر العام لقوات األهالي‬
‫فوقها حصن صغير حترسه وحدة مدفعية ايطالية‪.‬‬ ‫واألتراك فقد استفدنا من خدمات أحدث وسيلة للنقل‪ ،‬أال وهي السكة احلديدية التي‬
‫‪11‬‬ ‫‪10‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫فندق الشيباني‪ ،‬أحد الفنادق الكثيرة املنتشرة في املنطقة‪ ،‬في موقعه على بعد حوالي‬ ‫ال ميكن لهذه الكدية البيضاء أن تكتسب أهمية أكبر ألن البلدة ال تتوفر على‬
‫خمسة عشر كيلومترا من العزيزية وكأنه حارس أمامي للجبل‪.‬‬ ‫ساكنة قارة والعرب الذين يصادفون بها هم رحال ينزلون من املناطق اجلبلية قصد رعي‬
‫ترتفع جدران الفندق املربعة واألكواخ احمليطة به فوق أرض وعرة بها تعاريق صخر‬ ‫قطعانهم أو قيادتها إلى الساحل؛ أو جمالة يقصدون طرابلس العاصمة أو في طريقهم‬
‫كلسي‪ .‬مع ذلك الزال شق طويل من الطريق مناسبا ملرور السيارات وال تبدأ عملية‬ ‫نحو الداخل وناذرا ما تتجاوز مدة توقفهم هنا يومني ألن املنطقة عدمية املياه متاما‪ .‬ال‬
‫الصعود نحو األعلى بشكل ملموس إال في بوغفية‪ .‬بعد أرض وعرة الزال ينمو بينها‬ ‫أعتقد أن السكة احلديدية االيطالية نفسها قد تكسبها أهمية أكبر رغم أنها سوف‬
‫في نذره عنّاب صغير‪ ,‬تأتي حجارة كلسية كبيرة مبعثرة هنا وهناك‪ :‬كانت في أول األمر‬ ‫تيسر نقل البضائع ومتكن من التنقل بسرعة أكبر بني الهضبة والساحل‪ .‬ستبقى إذن‬
‫شظايا بيضاء منفردة ثم اختفت األرض تقريبا حتت بياض الصخور الكلسية وأصبحت‬ ‫مجرد محطة عبور مفقودة فيما يعرف عموما بصحراء طرابلس‪ ،‬وهي أرض رملية جافة‬
‫الشظايا جالميد‪ .‬ضاق الطريق وتعمق وسط فروع اجلبل األولى‪ .‬وصلنا إلى أقصى املدرج‬ ‫وكئيبة‪.‬‬
‫الصخري‪ :‬يبدو بوغيالن وسطه تقريبا كريشة خوذة نحاسية ضخمة‪ .‬في اخللف تنتصب‬ ‫جاء في األسطورة أنها كانت في يوم ما جنة فوق األرض‪ ،‬غابة رائعة متتد من البحر‬
‫في مظهر موحش لكن غير كئيب جدران الغريان الرمادية الوعرة املتآكلة التي تخترقها‬ ‫حتى غريان ثم حتولت فجأة إلى ما هي عليه اآلن بعقاب من اهلل‪ .‬ال تختلف هذه األسطورة‬
‫أخاديد عميقة وأودية صغيرة متعددة‪ .‬على اليسار تبدو إحدى أولى املرتفعات املدرجة‬ ‫كثيرا عن تلك املسيحية التي حتكي عن أول مخلوقني عمرا الفردوس‪ .‬فالسكان الذين‬
‫من بعيد وكأنها أبو الهول؛ ومثله حتتفظ بكنز‪ ،‬إذ تنبع من جنباتها عني ال تنقطع هي‬ ‫عمروا املنطقة أول مرة انغمسوا في الشهوات إلى حد أن اهلل كلف الشيطان ليعاقبهم‬
‫عني بوغيالن‪.‬‬ ‫عقابا شديدا‪ :‬فأرسل الشيطان إلى هذا الشاطئ فتاة رائعة على ظهر سمكة من ذهب‪.‬‬
‫هنا يتوقف اجلمالة القادمون من الساحل وفي بطء ديني يجمعون املاء في حفنات‬ ‫هرع ابن السلطان الذي كان يقيم في غريان إلى الشاطئ لرؤيتها فأغرم بها إلى حد‬
‫أيديهم اخلشنة صافيا ويشربونه في جرعات طويلة بعد أن يلقوا ببعض منه أمامهم‬ ‫اجلنون غير أنه قطع على نفسه عهدا بأن ال يجبرها بالقوة للبقاء معه إذا ما هي خرجت‬
‫وكأنهم يقدمون قربانا إلله غير مرئي يحمي سيرهم الطويل‪.‬‬ ‫من البحر‪ .‬اندفعت الفارسة احلسناء نحو النهر الذي كان منبعه في اجلبل لكن ومبجرد‬
‫دخولها إليه قطع أمامها ابن السلطان الطريق املؤدية إلى املصب والحقها حتى منبع‬
‫لكن ال يشرب اجلمالة وحدهم وليست العني اخملتفية خلف ظالل أشجار النخيل‬ ‫النهر وهنا حصلت املعجزة‪ :‬بينما كان األمير على وشك اإلمساك بهذه اخمللوقة اإللهية‬
‫القليلة املوجودة باملكان وأدغال الواد الصغير هي وحدها من يروي العطاشى في‬ ‫انفتحت هوة جد كبيرة فاختفت فيها ومعها كل ينابيع املنطقة‪ .‬منذ ذلك احلني بدأت‬
‫بوغيالن‪ ,‬ففي املعسكر االيطالي الصغير الذي أقيم هنا حلماية طريق غريان دعانا الرائد‬ ‫النباتات باالندثار وحتولت الغابة الكبيرة في فترة وجيزة‪ ،‬وإلى األبد إلى صحراء‪.‬‬
‫مرسكوتي ‪ Marescotti‬من الفرقة األربعني للمشاة للشرب‪ .‬كان يوجد معه في كوخه‬
‫رجل عربي وقور ومتزن يلتف في عباءة بيضاء‪ .‬سرعان ما مت التعرف عليه‪ ،‬أنه محمد‬ ‫انطلقت رحلتنا على منت السيارة من العزيزية مليئة باملفاجاءات واملغامرات واخملاطر‬
‫ستبا‪ ،‬مدير سيدي الشامس وهي قرية قريبة من هناك في اجتاه اجلبل‪.‬‬ ‫إلى حد يجعلها أحيانا تفوق في اإلثارة تلك الرابطة بني بكني وباريس‪.‬‬

‫مت تبادل التحية برفع اليد إلى اجلهة كما هو معهود مرفوقة بابتسامة خفيفة من‬ ‫أعطيت إشارة االنطالقة في الساعات األولى من الظهيرة‪ .‬وبسرعة تركت الشاحنة‬
‫باب اللياقة ثم فتحت زجاجتني إحداها حتتوي على نبيد الفرموت ‪ Vermouth‬واألخرى‬ ‫العسكرية الثكنة التركية التي أعيد فتحها ليرفرف فوقها علم ايطالي كبير واجتهت‬
‫على مياه معدنية‪.‬‬ ‫في ثبات نحو قاعدة الهضبة التي يحيط بها جو مرجت ومشع وكأنها ميناء شاسع ميد‬
‫إلينا ذراعه على شكل مدرج صخري لضمنا‪ .‬حتى بئر ل ّال‪ ،‬وهي بلدة تستمد اسمها‬
‫نظر محمد ستبا بعني كلها رقة إلى الزجاجة األولى‪ .‬فمأل منها الرائد مرسكوتي‬ ‫من بئر عميق ووفير باملياه‪ ،‬لم يتغير املنظر في شيء‪ : ‬احللفاء وحدها فقط تبدو أكثر‬
‫األقداح وقدم واحدا منها ملدير سيدي الشامس الذي شربه جرعة واحدة واحتفظ بالقدح‬ ‫خضرة وكثافة والطريق أكثر وضوحا على األرض التي أصبحت نوعا ما صلبة‪ .‬يظهر‬

‫‪13‬‬ ‫‪12‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫والقلوب األسدية‪ .‬من نبع بوغيالن‪ ،‬وكشريط أبيض كبير متعرج‪ ،‬تتسلق الطريق الرائعة‬ ‫في يده في انتظار املزيد‪ .‬فوجئت باألمر فأخذت أفكر في أوامر القرآن وبينما أنا كذلك‬
‫اجلبل في ملتويات عدة صعودا نحو اخملروط احلجري لسيدي الشامس املتكون من طبقات‬ ‫جعل العربي الوقور قدحا آخر يسلك مسلك األول‪.‬‬
‫أفقية كبيرة وعرة والتي تبدو صعبة املنال‪ .‬إنه أملس عاري ألن الريح نفسها لم تستطع‬ ‫يا للعجب‪ ! ‬إن محمد ستيبا حقا عربي متقدم‪ :‬إنه ال يرفض كأس نبيد وال يغضب في‬
‫أن تضع فوقه شيئا من التربة التي ميكن أن تتجذر عليها بذرة نبتة ما‪.‬‬ ‫وجه من يقدم له كأسا ثانية وتعلو ابتسامة حميمية شفتيه الغليظتني املنتفختني‬
‫انتهى جنودنا خالل خمسة عشر يوم فقط من إجناز معجزة الطريق الدوار على‬ ‫عند الكأس الثالثة‪ .‬وهو جد متقدم إلى حد أن جتاوز العرف اإلسالمي الصارم وأراد أن‬
‫اجلدار اجلبلي لسيدي الشامس كما تشير إلى ذلك من حني آلخر اللوحات الكلسية التي‬ ‫يقدم زيجاته لبعض الضباط معرضا نفسه بذلك لذم إخوانه في الدين خاصة شيخ‬
‫تركها جنودنا املتسلقون‪ ،‬املنتمون إلى فرق فلتري ‪ ،Feltre‬توملزو ‪ Tolmezzo‬وفستوني‬ ‫بوغيالن الذي يعتبر عدوا قدميا له وال يتورع في استدارة وجهه ومواربته عند لقاءه‪.‬‬
‫‪ ،Vestone‬على حافة الطريق‪.‬‬ ‫لسيدي بيير لوتي ‪ Pierre Loti‬ما يحزنه‪ :‬هوت لبنة أخرى من قصره الفردوسي‬
‫قادتنا هذه الطريق بسرعة إلى أول دك فسيح على اجلبل حيث يفاجأ القادم من‬ ‫اإلسالمي‪ :‬حتى العفة العربية بدأت تصبح أسطورة‪ ،‬وهذا أمر أدركته في بوغيالن‪.‬‬
‫األسفل برؤية منظر رائع يكمن في غابة أشجار زيتون معمرة ال تنتهي‪ .‬إنها طرابلس‬ ‫إن بوغيالن حقا جنة صغيرة تقدم الراحة ملن قدم من الصحراء وعليه أن يتأهب‬
‫جديدة غير متوقعة وغير منتظرة‪.‬‬ ‫لصعود اجلبل الشاق‪ .‬فعند قدم اجلدار الصخري العظيم‪ ،‬في ظل واحة صغيرة يسمع‬
‫حتققت الرؤية‪ ،‬أفريقيا انسحبت من هنا بكل جتلياتها‪ .‬النخلة اختفت في بحر الرمال‬ ‫خرير دائم ملياه نبع جتري في وشل فضي عذب صافي بني صخور وأدغال جد خضراء‪ .‬أنها‬
‫الهائج في األسفل‪ .‬إننا اآلن نعبر منظرا أبينينيا‪ 1‬حقيقيا‪ .‬في أعلى اجلبل تشم بعض‬ ‫أول مياه نبعية أراها بعد اإلقامة ألكثر من سنة في طرابلس وال ميكن وصف الفرحة التي‬
‫أشجار الزيتون املنحنية بفعل الرياح وأشجار تني صغيرة وأدغال الرمت‪ .‬بعدئذ تبدأ املروج‬ ‫غمرت عيني وأدني بسببها‪.‬‬
‫اخلضراء التي تكسوها كميات هائلة من أعني صفراء وحمراء ألزهار األقحوان واخلشخاش‪.‬‬ ‫يعتبر هذا النبع أولى العجائب الثالثة لواد بوغيالن‪ ،‬والثانية عبارة عن أسطورة‬
‫تتواجد على أول أكبر دك للجبل في ارتفاع يبلغ ‪ 400‬فوق سطح البحر؛ فوق املرتفع‬ ‫يستمد منها الوادي اسمه ومبا أن غيالن بالعربية هي جمع غول‪ 1‬وتعني "الشيطان" فان‬
‫اخلصب الذي ميتد في موازاة الساحل تقريبا من الشرق إلى الغرب‪ .‬لقد ميز اجلغرافيون‬ ‫هذا الوادي إذن يحمل اسم وادي الشياطني وقد استوحى اسمه الرومانتيكي هذا حسب‬
‫بشكل غير سليم بني غريان وجبل نفوسة ألنه ليس هناك أي اختالف واضح بني هاتني‬ ‫األسطورة من كون حيوانات خيالية كانت تنزل فيما مضى من ثغرات اجلبل ليال وتزعج‬
‫الكتلتني اللتني تشكالن نفس السلسلة ومتتدان من غريان إلى حدود تونس وتتخللهما‬ ‫النوام بصراخ وخوار وصياح مخيف‪ .‬ال تفصح األسطورة عن فصيلة هذه احليوانات لكن‬
‫من حني آلخر أودية عميقة تقريبا دون أن تغير قط من وحدة منظرهما‪ .‬وألنها تكونت‬ ‫السكان احلاليني لهذا املنخفض يعتقدون حسب زعمهم أنهم رأوا حتت ضوء النجوم‬
‫بفعل التعرية فإن هذه األودية ال تفصل بني مرتفعات مختلفة‪ ،‬فهي ليست سوى أخاديد‬ ‫والقمر حيوانات تشبه قططا ضخمة وكالبا غريبة حمراء وهي تقترب بحذر من مواقد‬
‫كتلة واحدة‪ ،‬أخاديد نفس الكتلة ميكننا تأكيد هذا بإلقاء نظرة على تكوين البالد ولو‬ ‫النار املتقدة ثم تفر صوب قاع الواد موقظة بعويلها صدى أعمق مجاز به‪ .‬رمبا يتعلق‬
‫بشكل عام –التي تشكل في امتدادها نحو الشرق مرتفعات ترهونة وتبلغ سرت حدود‬ ‫األمر بفهود صغيرة وخنازير برية جتذبها الرائحة البشرية في حني تدفعها نيران مراكز‬
‫اخلمس‪ ،‬وتظهر على الساحل اآلخر للخليج الكبير بعد أن تكون قد اختفت حتت سطح‬ ‫احلراسة إلى الهروب‪ .‬لقد أطلعني السكان فعال على جلود إثنني من هذه اخلنازير‪.‬‬
‫البحر‪ ،‬لتشكل قاعدة مرتفع البركة في برقة‪.‬‬ ‫أما األعجوية الثالثة واألخيرة لبوغيالن فهي الطريق الكبيرة التي مت شقها في هذا‬
‫نحن إذن أمام بوابة اجلبل‪ ،‬وأمام طرابلس جديدة غير معروفة‪ .‬تبحث عيني دون جدوى‬ ‫اجلدار الصخري بقوة الفأس من لدن جنودنا اخملتصني في تسلق اجلبال دوي األدرع احلديدية‬
‫‪ - 1‬إحالة على جبال أبينيني ‪ ocininneppA‬اإليطالية التي متتد من شمالها إلى جنوبها‪.‬‬ ‫‪ - 1‬غيالن باالمازيغية تعني احلقل أو احلديقة (املترجم)‪.‬‬

‫‪15‬‬ ‫‪14‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫لم تتوقف الشاحنة فبدأت أشجار الزيتون وحقول الشعير تشح‪ ،‬عادت األرض إلى‬ ‫عن منتهى احلقول‪ ،‬عن احلد الذي تنتهي عنده أشجار الزيتون الشاحبة اللون‪ .‬تعبر‬
‫طبيعتها احلجرية‪ .‬صعدنا الدك الثاني جلبل غريان مرورا حتت القمة احلادة لتوبي‪ ،‬البركان‬ ‫شاحنتنا ‪ -‬عربة جديدة كانت تنتظرنا على قمة غريان ‪ -‬وهي شاحنتنا الفذة رقم ‪340‬‬
‫القدمي اخلامد‪ .‬بعد ذلك بقليل بدا أمامي قامتا وضخما قصر غريان املربع فوق مرتفع‬ ‫التي سوف أحتدث عنها مرارا خالل عبورنا للجبل ‪ -‬تعبر اآلن جادة رائعة وسط أشجار‬
‫صخري وهو يطل على منخفض ينتهي عند السهل وحتيط به املدينة‪.‬‬ ‫زيتون معمرة في هواء نقي ومعطر ينعش الرئتني‪ .‬إن اجلنة التي وعد اهلل بها عباده‬
‫أنها حقا مدينة غريبة مدينة مناجذ‪ ،‬مقبرة غريبة تتوارى وتختفي حتت األرض في‬ ‫اخمللصني توجد هنا في األعلى‪.‬‬
‫تعرجات قامتة ال تنتهي‪ .‬تبدو البلدة بالنظر إليها من القصر تقريبا كامتداد ثدي كبيرة‪،‬‬
‫حمراء اللون‪ .‬إن دخول أحد هذه البيوت الكهفية هو شبيه بالنزول في بئر ورغم هذا فإنني‬
‫أتأهب للقيام بذلك‪ .‬عبر ممر لولبي ضيق يكاد يختفي على اجلدران الترابية‪ ،‬استطعت‬
‫الوصول إلى قعر الفاهة املربعة حيث تسمح أربع فرجات منخفضة بولوج غرف حتت‬
‫أرضية مظلمة فسيحة مت حفرها‪ ،‬رمبا على امتداد سنني‪ ،‬بعناء في الصخر وفي األرض‪.‬‬
‫متثل كل واحدة من هذه الغرف منزال‪ ،‬وفي كل واحدة منها تعيش أسرة متعددة‪ :‬يبدو أن‬
‫حياة املسيحيني األوائل تتجدد بعد قرون عدة في هذه السراديب‪.‬‬

‫مشهد من جبل غريان‬

‫تسير الشاحنة وتقطع أراضي الهضبة الطينية امللونة باألكسيد؛ تسير عبر األرض‬
‫التي كانت إلى غاية البارحة محظورة وما كان األتراك املكرة ليحرسوها بغيرة كبستان‬
‫مغلق دون سبب واضح‪ .‬اآلن أدرك ملاذا لم يكن يسمح قبل احلرب األوروبي‪ ،‬للرومي املمقوت‬
‫بتجاوز الكدية البيضاء امللتهبة حتت أشعة الشمس‪ :‬لكي يحافظ البخالء على كنزهم‬
‫في أمان لم يكونوا يحبون أن يرى منه سوى بؤس رماله املقفرة‪ .‬كانت عيني ال تزال حتت‬
‫وقع مفاجأة الرؤية غير املنتظرة لكل هذه اخلصوبة‪ ،‬ولكل هذا الغنى املغفل عنه حني‬
‫منظر ألشجار الزيتون على قارعة الطريق‬
‫ظهرت قرية أولى أمامنا‪ .‬أنها القواسم حسب اخلريطة العسكرية لقيادة طرابلس التي‬
‫اجلو في هذه البيوت – كما فسر لي ذلك العني (اجلاسوس) العربي الذي يرافقني في‬
‫أحملها معي وسوادية حسب ما أكده لي باإلجماع نفر من العرب سألتهم في الطريق‪.‬‬
‫هذا االستكشاف التحت أرضي‪ -‬بارد نهارا ودافئ ليال سواء كان الوقت صيفا أو شتاءا‪.‬‬
‫وسواء تعلق األمر بالقواسم أو سوادية ‪ ،‬فإنه ليست في العمق سوى مجموعات حدبات‬
‫لن يغير سكان قصر غريان حفرهم هذه حتى مقابل بيوت طرابلس العاصمة البيضاء‬ ‫حمراء أي مجموعة بيوت كهفية تقع على اجلهة اجلنوبية من جبل ّ‬
‫تگوت‪.‬‬
‫اجلميلة‪.‬‬

‫‪17‬‬ ‫‪16‬‬
‫م‪ .‬كورسي‬

‫يجب علي أن أثق به‪ ،‬لكن مبا أني قادم من طرابلس الغرب وال زالت أجهل كل فوائد‬
‫احلياة في املغارات وسحرها الغريب فإني أفضل أن أحل ضيفا في ليل اجلبل القارس على‬
‫القصر القدمي الذي تكاد حتيط به ظالل املساء البنفسجية القادمة من السهل بشكل‬
‫كلي‪.‬‬
‫يبدو أن السماء تنخفض شيئا فشيئا على القصر القدمي اخلشن‪ .‬تهب رياح قوية‬
‫وكأنها ترنحات بؤس ووحدة هذه الليلة اإلفريقية‪.‬‬
‫يظهر على جدران الغرفة الصغيرة القدرة التي تأويني ولعدة مرات اسم خط بغير‬
‫الفصل الثاني‬ ‫إحكام ويقول‪ :‬كركانو بنتفوليو‪ ،‬سالح املشاة الفرقة ‪ 93‬بريش ‪Brescia،93° Fanteria،‬‬
‫‪ :Gargano Bentivoglio‬على واحد من هذه اجلدران التي يكسوها نسيج عنكبوت رقيق‬
‫رسمت بفظاظة عدة خطوط عمودية على اجلير‪ .‬هنا إذن كان يحتجز اجلندي كركانو‬
‫‪ Gargano‬الذي سقط في أسر الوطنيني منذ الشهر األول من حملتنا العسكرية‪ .‬كان‬
‫يشير بكل خط عمودي منقوش على اجلدار إلى كل يوم من أسره في انتظار وصبر‪.‬‬
‫في نفس فناء القصر تذكر غرفة أخرى بائسة ال يتجاوز طولها أربعة أمتار في كل‬
‫جانب بأسر بعثة سانفلبو سفورتسا ‪ Sanfilippo Sforza‬أوال ثم بأسر القائد الطيار‬
‫مويزو ‪ Moizo‬واملالزم كوبلي‬

‫‪18‬‬
‫تناول الشاي في بيت مختار باي‬

‫البرد اإلفريقي –القصر القدمي‪ -‬مقاومة األتراك فوق جبل غريان ‪ -‬بلدة غريان ‪ -‬النائب‬
‫السابق مختار باي – في عقر بيت هذا األخير‪ -‬الضيافة اإلسالمية‪ -‬االسترسال في‬
‫احلديث‪ -‬برابرة اجلبل األصليون‪ -‬طائفة اإلباضيني – اجملموعة الثانية‪...‬‬
‫قصر غريان‪ ،‬أبريل‪.‬‬ ‫ ‬

‫شديد مرت الساعات داخل الغرفة التي تأوي هذه الليلة إلى جانبي‬
‫بردا جبليا قارسا‪ .‬لم يكن القش والغطاء الذي ألتف بهما كافيني‬
‫ببطء‬
‫إلعطائي اإلحساس بالدفء‪ .‬لم أعتقد قط ‪-‬أني أتواجد بعيدا عن إفريقيا‪ -‬مثلما حدث‬
‫لي هذه الليلة من إبريل املوشك على اإلنتهاء لم أكن أعرف الدرجة التي يشير إليها‬
‫املقياس احلراري‪ :‬البد أنها كانت طبعا تقارب الصفر‪ ،‬ويبدو أن هبات الريح التي كانت‬
‫تتسرب عبر احلجارة التي لم يعد يشدها املالط إلى بعضها البعض وعبر النافذة‬
‫الصغيرة التي ال درفة‪ 1‬لها وال زجاج‪ ،‬وكأنها على وشك أن تهز البناية القدمية برمتها‪.‬‬
‫مبجرد ما بدأت أولى أضواء النهار باردة ومعتمة هي أيضا تدخل الغرفة مع برد الصباح‬
‫خرجت من القصر لزيارة البلدة البدائية بشكل أفضل ألن حني وصلنا إليها باألمس كان‬
‫املساء قد ألقى بظالله عليها‪.‬‬
‫ينتصب القصر القدمي قامتا لكن دون مهابة‪ ،‬في علو يبلغ ‪ 700‬متر فوق سطح البحر‪،‬‬
‫على أنف صخري يشرف على ممرات ومنافذ اجلبل وهذا ما يجعل إدراك أهميته العسكرية‬
‫أمرا سهال‪ .‬فغريان ممر إجباري لبلوغ اجلبل‪ .‬كتب فرنسي عبر هذا اجلزء من اجلبل قبيل‬
‫انفجار احلرب بني األتراك وااليطاليني‪ ،‬خالل تلك األشهر األولى من احلرب بروح إخوة التينية‬
‫مؤثرة وبإميان وطني قوي أن األتراك الذين كانوا على علم بأن ايطاليا كانت تبحث عن‬
‫‪ - 1‬تسمى بالدارجة الليبية برسيان (املترجم)‪.‬‬

‫‪21‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫في بدائية وسكون‪ .‬البلدة غنية باآلبار؛ وتربتها خصبة وطينية مما يجعلها تنتج بوفرة‬ ‫مبرر لبدء حرب حاسمة مت االستعداد لها منذ أمد طويل (؟) قرروا مغادرة طرابلس الغرب‬
‫الشعير والزيتون واحللفاء واخلضروات‪.‬‬ ‫عند أول شرارة حرب واالنسحاب إلى اجلبل‪ ،‬إلى قصر غريان الذي يستحيل على أي جيش‬
‫ايطالي الوصول إلى مقربة من حصونه دون أن يعرف هزمية مريرة؛ حيث كانت ستهرع‪،‬‬
‫نظرا للحقد الدفني الذي تكنه ساكنة اجلبل لاليطاليني‪ ،‬مئات اآلالف من املسلمني من‬
‫كل أرجاء طرابلس وبالد اإلسالم للحيلولة عبر مقاومة عنيفة وشرسة دون تقدم اجليش‬
‫الغازي‪.‬‬

‫داخل قصر غريان‬


‫أعيد النظر في اجلدران السوداء للقصر‪ .‬أنها حقا حترس أحد املمرات األساسية للجبل‬
‫بل أنها تصون أهم بوابة له‪ ،‬فالصخور املتواجدة حتتها تنحدر عموديا ملا يقارب مائتي‬
‫متر‪ :‬البد أن القصر كان فيما مضى عش صقر يصعب غزوه‪ ،‬لكن اليوم‪ ،‬أي مقاومة‬
‫في وجه جيش منظم ومزود مبدفعية ميكنها أن تلقي عليه بقذائفها املروعة حتى من‬
‫من داخل بيت َ‬
‫احل ْفر في غريان‬ ‫مسافة ‪ 12‬كيلومترا؟‬
‫إن أشجار الزيتون في غريان حقا رائعة تبدوا وكأنها تودان تنافس في العظمة نخل‬ ‫ال أرى دون القصر بنايات أخرى فوق وجه األرض سوى بيت املدرسة الصغير‪ ،‬مقر بنك‬
‫السهل العالي‪ .‬البد أن بيئة هذه املنطقة تناسبها بشكل كبير خصوصا أن األهالي ال‬ ‫روما‪ ،‬بيت البالط العثماني سابقا‪ :‬بيت اجلهة‪ ،‬أربعة محالت ومقهى‪ ،‬وقد يبدوا للمرء أن‬
‫يهتمون بفالحتها‪ .‬نادرا ما ينفثون األرض حولها‪ .‬ال يسقونها وال يشدبون غصونها وال‬ ‫باقي أجزاء املدينة انغمست في األرض حيث تستمر احلياة بشكل غريب وبنفس الوتيرة‪.‬‬
‫يسمدونها‪ .‬ومع ذلك يجب رؤية أوراق بعض من هذه األشجار‪ .‬أنها كثيفة ومتشابكة‬ ‫ّ‬ ‫يتجاوز عدد سكان كهوف غريان اثني عشر ألف نسمة‪ .‬متضي حياة هؤالء السكان‬

‫‪23‬‬ ‫‪22‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫غرف صغيرة منعزلة خلف تلك الشبابيك اخلضراء التي ينبعث منها عطر صندل وورد‬ ‫أغصانها التي تنكسر حتق ثقل غلتها! على الطريق إلى تغرنّة التي قصدناها بعد‬
‫خفيف‪ :‬هذا ما توجبه احلشمة اإلسالمية‪ .‬نحن لن نرى من هذه النسوة ولو واحدة اليوم‬ ‫الظهيرة لم تكن حقول القمح والشعير اليابسة تقريبا‪ .‬والتي حان وقت حصادها تبدو‬
‫ولن نسمع حتى لغطهن‪ .‬واجب الضيافة يقوم به رب البيت وال أحد يساعده في ذلك‪.‬‬ ‫لي أقل نظارة‪.‬‬
‫أشار علينا مختار باي بالدخول إلى غرفة االستقبال‪ .‬وهي عبارة عن غرفة مستطيلة‬ ‫تبدو تغرنّة‪ ،‬القرية البدائية ذات احلذبات املأوية احلمراء في ظل أشجار الزيتون املعمرة‬
‫ال نوافذ لها غارقة في هدوء وسكون ديني‪ .‬يعطي مزيج صارخ من األثاث والزخرف في‬ ‫من بعيد على الطريق املنعرج املؤدي من غريان‪ ،‬التي تشكل جزءا من إحياءه‪ ،‬إلى األصابعة‬
‫بادئ األمر االنطباع بتواجدنا داخل سوق شرقية (بزار) جد منحطة‪ .‬فوق زرابي فارسية‬ ‫التي تبعد عنه بخمس كيلومترات فقط‪ ،‬تبدو وكأنها بلدة منل منهمك في العمل‪ .‬ال أثر‬
‫وحصير بدوي توجد كراسي وأرائك أوروبية مختلفة عن بعضها البعض‪ ،‬حتت ساعة‬ ‫ألي مخلوق أدمي فوق مقبرة األحياء هذه‪ .‬قد يعتقد أن املكان مهجور لو لم يخرج من‬
‫دقاقة مزخرفة توجد نارجيلة مختلفة األلوان؛ على احلائط يوجد بعض النسيج املشرقي‬ ‫البيت الوحيد املرتفع في البلدة – واحد من تلك البنايات املربعة املشيدة بالتربة واحلجارة‪،‬‬
‫ومجموعة من البطاقات املصورة باأللوان‪ ،‬هي بالطبع غالية ملضيفنا‪ ،‬وجتسد مالمح‬ ‫والتي ال تتوفر على نوافذ خارجية ولها فناء مركزي خشن –للقائنا رجل من األهالي وقور‬
‫ملوك ايطاليا‪ ،‬منظرا عاما لروما واستانبول‪ ،‬بعض قطع أسطولنا البحري‪ ،‬جنديا قناصا‬ ‫يضع حولي (عباءة ليبية)‪ :‬أنه مختار باي‪ ،‬رجل ذو نفوذ في اجلبل‪ ،‬سبق له أن م ّثل غريان‬
‫يضع على رأسه ريشة‪ .‬قبلة شهوانية لعشيقني وأشياء أخرى‪...‬‬ ‫في البرملان العثماني‪.‬‬
‫جلسنا حول الغرفة ومبساعدة مترجم بدأنا حديثا بطيئا وصعبا ومختزال‪ .‬يتوسط‬ ‫إن مختار باي رجل أصيل غليظ بدين له شعر وحلية جد مصففة من لون أشقر مييل‬
‫كل جملة وأخرى فترات سكوت طويلة سكون تولد الرغبة في إطراق اجلفون واالستسالم‬ ‫إلى احلمرة وهو غير مألوف في هذه املناطق ومع ذلك فهو ال يتوفر على سحنة إسالمية‬
‫للنوم‪:‬‬ ‫صرفة أساسها من التواضع والرزانة باألحرى قد يفترض أنه قس وليس رجل سياسة‬
‫أعرب مختار باي عن سعادته جراء احتالل اللواء لكيو باألمس جلادو وفساطو‪.‬‬ ‫وحكم رغم ما كان له من دور سياسي هام في احتاللنا للجبل‪ .‬فبمجرد أن مت إبرام‬
‫السلم مع تركيا أصبح لنا صديقا وفيا وفعاال وقد ساهم عمله الناجع والذكي كثيرا‬
‫‪-‬هكذا‪ -‬كما يقول‪ -‬سيكون قريبا مصير كل طرابلس‪ .‬سترون أن كل القادات العرب‬ ‫في فتح أبواب غريان أمامنا سلميا وتهيئ سكان اجلبل نفسيا للقائنا بشكل ايجابي‬
‫سيخرجون للقاء القوات االيطالية بثقة ووفاء وهذا أمر واجب علينا‪.‬‬ ‫وبثقة‪.‬‬
‫تلفظ في بطء بعض اجلمل األخرى لكن مبا أن املساء قد حل واختفت حتى البطاقات‬ ‫صافح مختار باي اجلميع مجددا أمام كل واحد منا انحناءة خفيفة مرفوقة بحركة‬
‫امللونة العالقة على احلائط في ظل قامت يوحد األشياء واألشكال‪ ،‬دخل خادمني من فزان‬ ‫رفع األصابع إلى اجلبهة املعتادة وقد بدت على شفتيه الغليظتني ابتسامة خفيفة حني‬
‫يحمالن شمعدانا وطاقما يابانيا للشاي وأنيات من احللوى‪.‬‬ ‫تعرف علي (سبق لي أن التقيت به في طرابلس العاصمة شهورا خلت في بيت منتصر‬
‫كما هو من واجب الضيافة فإن مختار باي نفسه هو من هيأ الشاي ومد كال منا‬ ‫باشا)‪ .‬بعد هذه التحية قادنا إلى بيته‪.‬‬
‫بفنجان ممزوج بقشرة الليمون على الطريقة العربية و فاكهة مفندة وبندق أمريكي‬ ‫انتابني شعور كالذي ينتاب من يدخل ديرا‪ :‬تسود سكينة عميقة بني جدران ودعامات‬
‫وماء ورد‪.‬‬ ‫البيت البيضاء‪ .‬ينبعث عطر ورد وصندل خفيف من بعض النوافذ الصغيرة املطلة على‬
‫أخد املشهد عند هذه النقطة طابع طقس ديني تقريبا ثم استأنف احلاضرون احلديث‪:‬‬ ‫الفناء والتي مت إغالقها بأحكام بواسطة تعاريش من خشب أخضر‪ .‬وسط الفناء اخلشن‬
‫ألقى مختار باي خطابا سلسا ليشكرنا على تشريف بيته بزيارتنا‪ .‬بدأ نسيج اجملامالت‬ ‫واملتواضع وبداخل حوض من احلجر تلقي شجرة زيتون معمرة بظاللها على البالط‪.‬‬
‫وأخذت لفيفته تنتقل في الغرفة من جهة إلى أخرى‪.‬‬ ‫أبحث في هذه احلديقة املتواضعة وفي الفناء الذي يشكل قلب الدار ويوحي شيئا ما‬
‫في حلظة قال لنا البرملاني العثماني سابقا‪ :‬إن طرابلس منطقة خصبة وغنية لكن‬ ‫باحلرمي والدير معا دون جدوى عن ساكنات البيت الالئي انسحنب مع اقتراب الضيوف إلى‬

‫‪25‬‬ ‫‪24‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫توقف فرحات باي عن احلديث ويبدو اآلن وكأنه شارد في بحر من األفكار‪ .‬الوقت متأخر‪،‬‬ ‫من سوء احلظ لها ساكنة بدائية وغير متحضرة‪ .‬وختم قائال‪ :‬إنها كامرأة حسناء تضع‬
‫ووجبت العودة إلى قصر غريان‪ .‬تأهبنا للنهوض والتحية لكن أشارات قوية من مختار باي‬ ‫لباسا رديئا‪.‬‬
‫أرغمتنا على اجللوس من جديد فوق الكراسي واألرائك الريفية‪.‬‬ ‫أترفتنا الصورة ألنها نوعا ما أوروبية‪ ،‬بلغ احلديث ذروته عندما وصل ضيف آخر نعرفه‬
‫بعد برهة من ذلك أدركنا سبب إحلاحه‪ :‬مت توزيع ستة فناجني من الشاي ونحن عشرة‬ ‫جميعا‪ :‬أنه فرحات باي نائب الزاوية سابقا‪ .‬وهو عربي مؤرب يتكلم بشكل جيد اللغة‬
‫فوجب انتظار مجموعة ثانية كما هو الشأن في مطاعم القطارات‪..‬‬ ‫الفرنسية‪ .‬سبق له أن زار أوربا وقد انضم إلى صفوفنا منذ يوم إعالن السلم وأصبح‬
‫وسيلة ناجعة في عملية توغلنا في البالد وتهدئة األوضاع‪.‬‬
‫فرحات باي رجل مثقف ومتعلم يعرف جيد العرب وتركيبتهم النفسية وله في‬
‫احلديث شجون‪ ،‬ومبا أن الكالم وقع على الساكنة اجلبلية وألن احلديث قد طال في‬
‫ايطاليا‪ .‬عن برابرة جبل نفوسة اإلباضيني‪ ،‬هؤالء اخلوارج الذين قيل عنهم أنهم طلبوا‬
‫من حكومتنا‪ ،‬عبر ممثلهم القدمي سليمان الباروني‪ ،‬االستقالل السياسي والديني لكل‬
‫اجلبل‪ ،‬فإني طلبت من فرحات باي بعض التوضيحات فهو يعرف جيدا التوزيع اجلغرافي‬
‫للبرابرة األصليني‪.‬‬
‫أوضح لي نائب الزاوية سابقا أن مجموعات من البرابرة األصليني توجد في جبال‬
‫البركة في برقة وفي كل اجلبل الطرابلسي‪ ،‬لكن جبل نفوسة هو باألساس املركز الديني‬
‫لطائفة اإلباضيني اإلسالمية‪.‬‬
‫روى لي قصة اإلباضيني وذكرني بأن يشار بهذا اإلسم في أفريقيا الشمالية إلى‬
‫فرع من اخلوارج الذين انفصلوا عن علي‪ ،‬اخلليفة الرابع‪ ،‬حينما قبل هذا باحلكومة مع‬
‫معاوية‪ ،‬أول خليفة أموي‪ ،‬في النصف األول من القرن الثاني الهجري‪ .‬انتشر املذهب‬
‫اإلباضي بسرعة في أوساط البرابرة وأصبح العقيدة الوطنية التي استغلت كذريعة في‬
‫صراع األفارقة ضد العرب السنيني‪ .‬من مت فإن البرابرة كانوا كفارا في الفترة املسيحية‬
‫إبان حكم اإلمبراطورية الرومانية وكفارهم أيضا في ظل الهيمنة العربية اإلسالمية‪.‬‬
‫وهذا أمر يجب التأكيد عليه كما أشار إلى ذلك أحد الباحثني االيطاليني اخملتصني في‬
‫الدراسات اإلفريقية‪ ،‬جوليانو بونتشي ‪ ، Guliano Bonacci‬ملا له من أهمية تاريخية‬
‫بالغة‪ ،‬أي أن البرابرة في كل فترات تاريخهم أبانوا خصوصا من خالل مواقفهم الدينية‬
‫عن روح ثائرة متحررة ال تقبل اخلضوع ألي قوة أجنبية وعن ميوالت استقاللية باختصار‬
‫ما عرف "باخلاصية البربرية"‪.‬‬
‫هذا أمر يجب أن يتخذه رواد سياستنا االستعمارية بعني االعتبار في كل مرة ينظرون‬
‫فيها في حكم الساكنة البربرية‪.‬‬

‫‪27‬‬ ‫‪26‬‬
‫الفصل الثالث‬
‫الممر الجديد من بوابة الجبل‬

‫إلى يفرن ‪ -‬الرحيل من قصر غريان على ظهر الشاحنة – منبسط األصابعة‪ -‬عبر‬
‫طبيعة عذراء – ككلة والسوادنة ‪ -‬مرور قافلة – الضريح الروماني‪.‬‬
‫على الطريق إلى يفرن‪ .‬أبريل‪.‬‬

‫فجر بارد ومكفهر كالليلة الطويلة التي قضيتها يقضا فيما كان‬
‫سجنا صغيرا داخل قصر غريان استأنفنا املسير‪.‬‬
‫عند‬
‫تسير شاحنتنا من نوع ‪ 340‬التي يقودها رجل من شمال ايطاليا غريب وصغير‬
‫وصموت‪ .‬يبدو كأنه عقدة من العضالت وأعصاب حديدية مثله مثل الشاحنة التي‬
‫تطيعه‪ -‬يدعى باولو زنبوني ‪ Paolo Zaniboni‬وينتمي إلى فرقة الهندسة السادسة و‬
‫يوجد في طرابلس كسائق منذ ثالثة عشر شهرا‪ -‬نسير عبر طبيعة تكسوها طبقة‬
‫كثيفة لؤلؤية من سبيخ ‪ :‬تغطي السحب السماء والضباب يكسو البرية‪.‬‬
‫مررنا مرة أخرى بتغرنّة حيث الزالت الساكنة نائمة في سراديبها املظلمة‪ ،‬ثم أسفل‬
‫بقايا القصر الذي يطل من األعلى على تغرينا تغرنّة ويذكر من بعيد مبدينة أثرية‪ ،‬ثم‬
‫قرب القلعة البربرية املوحشة املهدمة بتارگوت – األصابعة وعبر قرية تبادوت التي تشبه‬
‫مدينة بومبي‪ 1‬التي كنت سأعتبرها مقفرة ومهجورة لو لم أبصر خلف ظلمة أبواب‬
‫مفتوحة جزئيا هيئات بشرية بيضاء ال تتحرك كالتماثيل‪.‬‬
‫تركنا خلفنا بسرعة أيضا جبل كليبة الذي يتوج القمة اجلنوبية للمرتفع اجلبلي‬
‫وتقع على اجلهة الشرقية منه القرية التي حتمل نفس اسمه‪ .‬بعيدا على اجلهة اليمنى‬
‫ترى الرابطة الصغيرة والكبيرة وقمة منطروس الذي ترقب مدخل وادي رمانة‪ .‬أصل هذا‬
‫اجلبل بركاني ويعود إلى العصر الثلثي‪.‬‬
‫‪ - 1‬قرية ايطالية مهجورة بفعل البراكني‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫الذي ابتدعته لنفسها مخلوقات متحضرة‪ ،‬بعيدا عن حاضرنا وعن واقعنا بنفس متعة‬ ‫وادي رمانة عبارة عن منبسط جبلي ضيق وعميق يتبع السفح اجلنوبي للمرتفع الذي‬
‫ونفس نشوة من يقطع ذلك املتسع البحري حيث عالمات االستدالل و اإلرشاد الوحيدة‬ ‫ينتصب عليه قصر غريان‪ .‬قيل لي إنه يسقى من نبع غزير يتدفق من صخور كلسية‪،‬‬
‫هي النجوم اخلالدة وخطوط العرض والطول‪ .‬لو لم يكن يخفق من حتتنا بقوة وانتظام‬ ‫وقد مت توسيع مجراه الذي ينقسم في األسفل إلى عدة شعب تسقي املدرجات التي‬
‫اجملديون ويعقوب‪ ،‬أو أبونا‬
‫محرك من أربعني حصانا لقلت أنه هكذا كان يسافر ملوك ّ‬ ‫مت تشييدها على جنبات اجلبل الغنية خاصة بأشجار التني والرمان‪ .‬من هذه األخيرة‬
‫إبراهيم عبر بالد ما وراء النهرين‪.‬‬ ‫استمدت البلدة اسمها‪ :‬غير أنني شخصيا لم أوفق في رؤية املاء‪.‬‬
‫توجد هناك طبيعة عذراء‪ ،‬كما هو محسوس‪ ،‬تعيش في هدوء وفي معزل عن كل‬ ‫بعد كليبة عبرنا وادي أربعة الغني بالنباتات فوجدنا نفسنا أمام سهل كبير تنعدم‬
‫شيء وكأن الغزو البشري أمر ال يعنيها‪ .‬انتابنا شعور بالفخر جملرد التفكير بأننا أول من‬ ‫فيه األشجار لكنه مخضر عن آخره بفضل مروج جميلة‪ .‬نحن هنا أمام منظر شبيه‬
‫قطع الطرقات غير املعبدة لهذه املناطق غداة غزوها وأول من شق بها سبيال جديدا‪ .‬هل‬ ‫مبناظر صقليا متاما‪ .‬أنه سهل األصابعة‪.‬‬
‫يوجد من بني االيطاليني من سبقنا إلى هذا باستثناء الشاعر املقدام املغامر دومينيكو‬ ‫تقتفي شاحنتنا اآلن اآلثار التي خلفتها القوات االيطالية حديثا‪ .‬هنا من أقصى‬
‫تومياتي ‪ Domenico Tumiati‬الذي متلص من التعليمات العسكرية التركية واستطاع‬ ‫حصن صغير » تومل ّزو «‪ Tolmezzo ‬حترك طابور اللواء لكيو أياما قليلة مضت وتقدم على‬
‫سنوات قبلنا الوصول إلى يفرن؟‬ ‫جبهة واسعة بثقة وعزم دون حماية من نيران العدو‪ ،‬فبلغ خنادق الثوار واملمرات التحت‬
‫لم يكن األتراك احملتالني رغم كسلهم يسمحون لعني الرومي برؤية ودخول املناطق‬ ‫أرضية ملواقع املراقبة األمامية للباروني وجتاوزها ليصل دون توقف أو تردد إلى منحدرات‬
‫الواقعة خلف بحر الرمال‪.‬‬ ‫األصابعة حيث كانت املعركة أكثر ضراوة وأكثر شراسة وكان النصر أكثر روعة‪.‬‬
‫كانت حتى األمس كل احملاوالت األوروبية للدخول إلى اجلبل تنتهي بالفشل أمام‬ ‫كل السهل يتحدث عن ذلك اليوم املشهود‪ .‬وتتحدث القبور احلديثة املنتشرة هنا‬
‫عقبات جد منيعة‪ ،‬من جانب ايطاليا –استطعت أن أحتقق من األمر بنفسي ومن الواجب‬ ‫وهناك عن قساوة الدرس؛ كما يتحدث عنها معسكرين الوطنيني اللذين بوغثا وأضرمت‬
‫االعتراف بذلك‪ -‬فان التجربة الوحيدة للتوغل بداخل طرابلس والتي كللت ببعض النجاح‬ ‫فيهما النار والبيت الشبه البدائي مع بقايا التلغراف التركي املكسور‪ ،‬والسكون الذي‬
‫هي تلك التي قامت بها مؤسسة خاصة وهي بنك روما الذي استطاع وسط العديد من‬ ‫يخيم اآلن فوق كل شيء‪.‬‬
‫الصعوبات اعتمادا على احليلة مع حاكم طرابلس املاكر أربعة سنوات خلت أن يجعل له‬ ‫كانت العملية العسكرية التي قادها اللواء لكيو خاطفة وحاسمة وهذا ما تقتضيه‬
‫ممثلني في غريان‪ ،‬يفرن وفساطو‪ ،‬ممثلني عرب بالطبع لكنهم أهل ثقة وهم أول من أعطى‬ ‫احلرب ضد األفارقة‪ ,‬فقد غادر البرابرة امليدان مفزوعني ومذهولني ولم يتجرأوا على‬
‫قيمة فوق هذه املرتفعات السم وقوة ايطاليا عندما بدءوا بتبادل املنتوجات والنقود بني‬ ‫االستمرار في املقاومة فوق املنحدرات‪ ،‬في األودية واملمرات وعلى قمم جبالهم حيث‪-‬‬
‫الساحل والداخل‪.‬‬ ‫كما تعلمنا ذلك احلمالت العسكرية الفرنسية الشاقة والطويلة في القبائل اجلزائرية‪-‬‬
‫حدثني عن هذا في يفرن قائد عربي أيضا ودلني على مخازن البنك التي هاجمها‬ ‫كان بإمكان بنادق قليلة أن تلحق خسائر جسام بجنودنا هذا إن لم توفق في منعها من‬
‫األتراك ونهبوها عند اندالع احلرب‪.‬‬ ‫التقدم ألمد طويل‪ .‬أما القائد؟ فإنه لم يجد بعد الهزمية من سبيل سوى الفرار إلى ما‬
‫تعود آثارنا األخرى هنا كلها إلى حقب بعيدة‪ ،‬وهي كلها لصقور روما وما أكثرها‪ .‬أبرز‬ ‫وراء احلدود وهذا أمر يدل على أنه لم تكن في جعبته أية وسيلة لتنظيم مقاومة أخرى‬
‫هذه اآلثار وأكثرها جتسيدا للهيمنة الرومانية على هذه الطبيعة املقفرة‪ ،‬هو الضريح‬ ‫بعد الصفعة التي تلقاها باألصابعة في ‪ 28‬من شهر مارس‪.‬‬
‫الذي جنده بعد ‪ 25‬كيلومترا من األصابعة و بعد حوالي ‪ 50‬من غريان على طريق يفرن بعد‬ ‫اختفت مرتفعات األصابعة اخلضراء هي أيضا خلفنا‪ .‬تعبر الشاحنة بصعوبة سهال‬
‫التقدم جنوبا لتفادي نزول وصعود األودية املوجودة بالقرب من ككلة والسوادنة وهما‬ ‫جديدا ووعرا تكسوه األدغال واحلجارة‪.‬‬
‫قريتني لهما بعض األهمية تركناهما على اليمني‪.‬‬ ‫نعبر اآلن أرضا بدائية ال طرق فيها كالبحر‪ .‬نسير من أفق إلى آخر بعيدا عن العالم‬

‫‪33‬‬ ‫‪32‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫محمالن بالشعير يجريان من الفزع بحماقة أمام الشاحنة ولم يكن هناك من سبيل‬ ‫تتبع عدة ضواحي لككلة وهي تخضع من وجهة نظر إدارية لنفوذ يفرن‪ .‬يبرز قامتا في‬
‫إلبعادهما عن طريقنا ملا يقارب كيلومترا واحدا‪ .‬هكذا وبعد السهل اجلاف‪ .‬وبعد جتاوز‬ ‫األفق حصن صغير قدمي ومخرب كانت حترسه حتى أشهر قليلة حامية تركية صغيرة‬
‫احلقول التي ال تنتهي ألشجار التني البربري املوزعة في صفوف منتظمة فوق أرض مت‬ ‫على رأسها نقيب في اجليش‪ .‬ينتصب هذا احلصن على أعلى قمة تطل على الوادي‬
‫حرثها حديثا وأتباعا خلط التلغراف التركي بشكل دائم وصلنا إلى مشارف ما يطلق‬ ‫الشاسع العميق الذي يفصل جغرافيا إن لم نقل جيولوجيا جبل غريان عن جبل يفرن‬
‫عليه الضريح الروماني‪.‬‬ ‫ويشكل ممرا طبيعيا من طرابلس العاصمة إلى فزان‪.‬‬
‫يبدو هذا الضريح الروماني الذي منر أسفله وظالل املساء تدفعنا أكثر نحو وجهتنا‬ ‫تقع السوادنة عكس ذلك بعيدا في األسفل شمال طريق القوافل املؤدية من‬
‫وكأنه برج مربع ضخم‪ ،‬جانب منه مدمر وبه ثقب كبير في األعلى مفتوح على السماء‬ ‫األصابعة إلى يفرن تقريبا عند رأس واد الشيخ الكبير الذي نزله وصعده طابور لكيو‬
‫التي بدأت تكسوها ألوان بنفسجية بوثيرة سريعة‪ .‬حسب ما يقال فإن موظفا كبيرا‬ ‫بخطى صعبة لكن سريعة قدوما من ككلة‪ .‬تتكون هذه القرية الصغيرة الواقعة على‬
‫في إدارة روما مات في هذه املستعمرة اإلفريقية ودفن بها ورفع هذا الضريح فوق قبره‬ ‫بعد حوالي ‪ 25‬كيلومترا من األصابعة من منازل صغيرة تنتشر بالضبط عند رأس الواد‬
‫متجيدا له‪.‬‬ ‫املذكور وسط فوضى عارمة جلمع من الكتل الصخرية‪ ،‬وهي غنية بعني ذات ماء عذب‬
‫ترتفع بناية الضريح املركبة من كتل حجرية ضخمة جد مربعة ومتراصة بحوالي‬ ‫وواحة صغيرة بها نباتات نضرة‪.‬‬
‫‪ 12‬مترا فوق مرتفع يتجاوز مستوى سطح البحر بثمان مائة متر وعلى بعد حوالي‬ ‫عبر وادي وليش اجلاف دخلنا إلى سهل تنعدم فيه األشجار غير أنه مخضر عن آخره‬
‫خمسة عشر كيلومترا من يفرن‪ .‬يبلغ طول قاعدته على الواجهتني الشرقية والغربية ‪6‬‬ ‫ومبقع بأزهار أقحوان صفراء‪.‬‬
‫أمتار و‪ 5,80‬على الواجهتني األخريني‪ ,‬توجد بها غرفة مقبوة يرتفع فوقها طابقني‪ :‬يبلغ‬ ‫توقفت قافلة بطيئة قادمة في اجتاهنا‪ :‬انتاب اجلمال واجلمالني إحساس باخلوف‬
‫علو األول ‪ 5‬أمتار‪ ،‬به أعمدة صغيرة في الزوايا ومزين بإفريز جميل؛ أما الثاني فيبلغ علوه‬ ‫ألنهم رأوا ألول مرة في عاملهم هذا دون منازع حيوانا غريبا وجديدا ينفث الدخان ويجري‬
‫‪ 3,25‬مترا‪ .‬زين بأعمدة كورنثية وله نافذتني‪ ،‬واحدة في الواجهة الشرقية مقوسة ولها‬ ‫بسرعة‪ .‬لم أعد أعرف في أولئك العرب ‪ -‬تلك اخمللوقات التي صادفناها حتى ذلك احلني‬
‫دعامات كورنثية خالصة واألخرى على الواجهة الشمالية‪ :‬رمبا كان يوجد بها في األصل‬ ‫في الصحراء ‪ -‬مخلوقات لها سير ثقيل مثلهم‪ ،‬تبدوا وكأن ال وجهة لها‪ ،‬صامتة وكأنها‬
‫متثال‪ .‬يزين البناية في أعالها إفريز ناتئ يبلغ علوه ‪ 1,30‬مترا وهو من حجارة كلسية‬ ‫أطياف وتشبه متاثيل في شكلها األولي‪ .‬استطاعت شاحنتنا أن حتقق املعجزة‪ ،‬أن تزعزع‬
‫جميلة مت استخراجها بعني املكان واكتسبت مع مرور القرون لونا بنيا جميال‪ .‬ال شك‬ ‫وتوقظ حتى تلك األشكال اآلدمية الغريبة النائمة‪ ،‬الهادئة الرابطة جلأشها في صمتها‬
‫في أن األمر يتعلق مبعلمة رومانية غير أنه لم يبق على احلجارة أية نقوش لتشهد على‬ ‫اجلماعي الشرس‪ .‬إني أرى عددا منهم يلوحون بأيديهم الهزيلة ويصيحون‪ .‬توقفت‬
‫السنة التي شيد فيها الضريح وعلى الغاية من تشييده‪ .‬ال شيء يؤكد أنه فعال قبر لكن‬ ‫الشاحنة فذهب عنهم الفزع لكن الدهشة لم تفارقهم فتركوا جمالهم ترعى والتفوا‬
‫خاصياته جتعل هذه الفرضية أكثر مصداقية‪ .‬لقد ترك املعمرون الرومان عدة معالم فوق‬ ‫حولنا ينظرون إلى الشاحنة الغريبة ويصدرون صيحات حنجرية غريبة‪ ،‬بل جترأ أحدهم‬
‫اجلبل من بروج وقالع تقع كلها على خط واحد وتشكل الليمس تريبوليتانوس ‪Limes‬‬ ‫أكثر فأقترب ليلمس إحدى عجالت الشاحنة أو مبرادها الساخن‪.‬‬
‫‪ Tripolitanus‬الذي ميتد من نالوت إلى يفرن‪ ،‬ومن يفرن إلى ترهونة ومنها عبر وادي لبدة‬
‫إلى لبدة الكبيرة‪ ،‬ميكن إذن ملا يسمى بالضريح نظرا الرتفاع موقعه أن يكون مرصدا‬ ‫كنا نستعجل الوصول ألن الثمانني كيلومترا الفاصلة بني قصر غريان ويفرن ‪-‬‬
‫لقلعة عسكرية كانت بالقرب منه‪ .‬وميكن لفرضيتي هذه أن جتد دعما في بقايا قرية‬ ‫مسافة يتطلب قطعها في ايطاليا ساعة أو أكثر بقليل‪ -‬في هذه املناطق املنعدمة‬
‫أو قلعة كبيرة تعود إلى نفس فترة الضريح وتقع على بعد ‪ 400‬متر منه على أكمة‬ ‫الطرق‪ ،‬بل أسوأ من ذلك‪ ،‬وسط ممرات ضيقة عميقة ترتبت عن املرور البطيء املمعن‬
‫تكسوها النباتات اخلضراء‪.‬‬ ‫في القدم للجمال‪ ،‬تصبح سفرا شاقا ومتعبا ال ينتهي لعشر ساعات فأكثر‪ .‬استأنفنا‬
‫السير وسط تلويح جديد باأليادي وهروب فوضوي مفاجئ للجمال‪ .‬كان اثنان منهما‬

‫‪35‬‬ ‫‪34‬‬
‫م‪ .‬كورسي‬

‫كيفما كان األمر فان بناء هذه املعلمة‪ ،‬سواء كانت ضريحا ألحد أعيان روما أو رمزا‬
‫لقوتها وهيمنتها‪ ،‬منذ ‪ 16‬أو ‪ 17‬قرنا مضت البد أن فيه تنبوء بأن أبناء روما سيمرون فوق‬
‫هذه املرتفعات اإلفريقية في يوم بعيد والنصر حليفهم‬

‫الفصل الرابع‬

‫‪36‬‬
‫يفرن (عش الصقر)‬

‫رعن يفرن‪ -‬طوق من قرى من العصور الوسطى‪ -‬آخر أشجار النخيل‪ -‬غومة‪ ،‬بطل‬
‫اجلبل‪ -‬الطريقة التي قمع بها األتراك الثورة‪ -‬احللم الطموح للباروني‪ -‬في بيت الصقر‬
‫الهارب‪ -‬رجل ومخلفاته‪ -‬استقالل اجلبل‪ -‬أسباب مقاومة اجلبل‪ -‬السنيون واإلباضيون‬
‫تأسيس الباروني لدولة الرعب‪ -‬هزمية األهالي في األصابعة‪ -‬العمل العسكري للواء لكيو‬
‫‪ -‬إخماد احلرب في مدغشقر وفي اجلبل‪ :‬مقارنات تاريخية‪ -‬ال يجب الوثوق بالباروني‪! ...‬‬
‫قصر يفرن‪ ،‬أبريل‪.‬‬ ‫ ‬

‫البلدة من رعن يفرن باستدارة الظهر للسهل السفلي الذي يقود إلى‬
‫البحر وكأنها حتيط بها أنسقة عديدة من خنادق طبيعية متراكزة‬
‫تبدو‬
‫عميقة‪ .‬تخترق أودية عديدة عميقة وموحشة األرض التي حتيط من األعلى بجبل يفرن‬
‫على شكل قوس وتشقها شاقوليا ممرات متعرجة صخرية‪ .‬يبدو أن السكان األوائل‬
‫اختاروها عن قصد من بني كل مناطق اجلبل لبناء بلدة رئيسية هذه املنطقة األكثر‬
‫صعوبة وحدة وحجارة‪ .‬البد طبعا أن يكون السكان األصليون ألعشاش الصقور هذه‬
‫محاربني وليس من الغريب أن يكون البرابرة في منتصف القرن املاضي قد واجهوا مبقاومة‬
‫بطولية ودموية من فوق هذه الصخور الكلسية والبركانية األتراك الغزاة ودفعوا بهم‬
‫مرات عديدة نحو األسفل وسفكوا دماءهم حتى سالت منها هذه األودية اجلافة‪.‬‬
‫يشكل صعود اجلبل‪ ،‬أو أكثر تدقيقا هبوط وصعود املنحدرات املتعاقبة للوصول إلى‬
‫قصر يفرن من أم اجلرسان‪ ،‬أول قرية في مقاطعة يفرن مركز للحراسة املتقدم الذي‬
‫يصادف بعد الضريح الروماني‪ ،‬مهمة صعبة رغم أن جنودنا الذين ال يكلون كانوا قد‬
‫بدأوا أياما بعد غزو اجلبل في شق طريق ينعرج بشكل غريب بني الكتل الصخرية في‬
‫دوران ال ينتهي ومنحدرات مدهشة حتى بلوغ مركز يفرن احلقيقي املمتد على الظهر‬
‫املنبسط الذي يقود إلى القصر وينتهي عنده‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫فيودالية قدمية ألقاليمنا‪ ،‬حتتضر وتغط في سبات القرون حتت طبقة من غبار جعل منها‬ ‫يبدو هذا املبنى الفسيح اخلشن املشيد بالكلس واحلصى والتراب املتهالك بفعل‬
‫الزمان قشرة واحدة صلبة‪.‬‬ ‫الرياح والتقلبات اجلوية‪ ،‬الذي تركه األتراك في حالة ال توصف من اإلهمال والوساخة‪،‬‬
‫مما جعل الوهم يكتمل أكثر هناك في األسفل‪ ،‬حتت القصر‪ ،‬في منتصف الطريق‬ ‫يبدو بالنظر إليه من مرتفع آخر كأنه ظهر سفينة متتد مقدمتها الضخمة إلى اخلليج‬
‫برج مردوم ذو مظهر وسيطي وهناك خلف الوادي قرية تاگربوست الكبيرة التي تتسلق‬ ‫الذي يفتحه اجلبل في السهل األصفر الذي تعلوه متوجات خفيفة وتعبره شرائط رقيقة‬
‫بعناء حتى القمة احلجرية والتي حترسها قلعة مهدمة ترسم في السماء التي أصبحت‬ ‫خضراء تشبه سيوال من نباتات نضرة‪.‬‬
‫بنفسجية خطا أسود أعتقد أني أرى فيه جدارا فاصال وشرفات‪ .‬أين رأيت من قبل هذه‬
‫البلدة؟ رمبا في توسكاني ‪ Toscana‬أو رمبا في ابروتزو ؟‬
‫تبدو تاگربوست كبلدة مقفرة ومهجورة لوال أن عبر األبواب املفتوحة كأعني قامتة‬
‫تتوسط البقعة الصفراء احلمراء الكبيرة‪ ،‬ترى من حني آلخر أطياف بيضاء غريبة وهي‬
‫تتحرك‪.‬‬
‫أسفل تاگربوست تقطع واحة صغيرة غير كثيفة تتسلق درجات اجلبل الطريق أمام‬
‫طيف القرون الوسطى‪ .‬ما سر وجود أشجار النخل تلك هناك في األسفل؟ ملاذا حتاول‬
‫عبثا تسلق اجلبل؟ من انتزعها من موطنها األصلي‪ ،‬من سهل الرمال امللتهب؟ رمبا تريد‬
‫أن ّ‬
‫تذكر بأن إفريقيا لم متت عند أقدام هذه اجلبال وبأن خلف املرتفع اجلبلي متتد بحار‬
‫رملية وواحات أخرى؟‬
‫لم يكن لزاما أن تذكرني أشجار النخل القليلة املريضة تلك باحلقيقة التي أجدني‬
‫أمامها‪ .‬فبالقرب مني كان أحدهم يتحدث عن الباروني‪ ،‬عن صقر اجلبل الذي كان يود أن‬ ‫قصر يفرن من بعد‬
‫يعيد هنا األعمال البطولية لغومة‪ ،‬املقاتل البربري الذي استطاع رفقة أصحابه رغم‬ ‫تدخل حتت االسم العام ليفرن‪ ،‬مركز سنجق اجلبل الغربي ومركز متصرف فيما‬
‫قلتهم التصدي لسنوات عديدة لالحتالل التركي وطرد الغزات من هذا احلصن سنة‬ ‫مضى‪ ،‬كل القرى اجلاثمة بشكل غريب‪ ،‬على جنبات وقمم الكتلة األساسية للجبل‬
‫‪1855‬م‪.‬‬ ‫مثل بعض القرى القدمية مبرتفعات األبرتزو‪ .1‬بالنظر إليها من األعلى تبدو هذه القرى‬
‫الزال احلديث ساريا في اجلبل عن غومة وأعماله البطولية والزال أحفاد هذا البطل‬ ‫الصفراء اجملتمعة حول وحتت قصر يفرن وكأنها فراخ صغيرة تلتف حول دجاجة حاضنة‪.‬‬
‫الذي حتول إلى أسطورة يعيشون في يفرن‪ .‬لم ميضي سوى نصف قرن أو أكثر بقليل عن‬ ‫في احلقيقة ليست هذه القرى التي تطوق يفرن سوى ضروبا لها تفصلها عنها مسافات‬
‫حكايته ورغم ذلك تبدو وكأنها تعود إلى القرون الوسطى‪.‬‬ ‫جد قصيرة‪ .‬يظهر أن أهم هذه القرى هي‪ :‬تاگربوست‪ ،‬القصبات‪ ،‬بگيگيلة‪ ،‬الشگارنة‪،‬‬
‫في سنة ‪ 1831‬رفع عبد اجلليل‪ ،‬قائد أوالد سليمان لواء الثورة في طرابلس واستولى‬ ‫الگصير‪ .‬وهي كلها تتشابه وكلها أثارت دهشتي حينما وجدت نفسي أمامها‪.‬‬
‫على فزان‪ .‬اعترض ثوار جبل غريان طريق ابني حاكم طرابلس الغرب‪ ،‬يوسف القرمانلي‬ ‫تكتمل الصورة الوهمية خصوصا بالنظر إلى هذه القرى عند الغروب حينما تلقي‬
‫الشهير‪ ،‬اللذين أوفدهما أبوهما لقتال عبد اجلليل وأرغموهما على العودة من حيث‬ ‫ألياف وردية مذهبة قادمة من الغرب بظاللها املتسقة على كل شيء‪.‬‬
‫أتيا‪ .‬وكأن هذا الوضع في حد ذاته غير كاف فإنه بالضبط في تلك األيام تقدم األميرال‬ ‫أكيد أن هذه القرى املتحجرة في اجلبل تنتمي إلى عصرنا الوسيط‪ ،‬أنها بلدات‬
‫البريطاني دونداس ‪ Dundas‬رفقة فرقة عسكرية إلى ساحل طرابلس وطلب من يوسف‬ ‫‪ - 1‬أوبرتزو ‪ ozzurbA‬مرتفعات شرقي روما‪.‬‬

‫‪41‬‬ ‫‪40‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫لوضع حد للثورة فكر حسن في االعتراف بغومة كقائد للجبل وبعبد اجلليل كسيد‬ ‫أداء مائتي ألف قرش اسباني كتعويض عن اخلسارة التي تعرض لها بعض الرعايا اإلجنليز‬
‫على فزان غير أنه فرض عليهما إتاوة تتمثل في ‪ 5000‬قرش اسباني بالنسبة لألول‬ ‫بسبب القرصنة العربية‪ .‬كان من غير املمكن أن يدفع الباشا مبلغا كهذا‪ :‬كان بيت املال‬
‫و‪ 25000‬بالنسبة الثاني سنويا‪ .‬كان سيتم االتفاق لوال أن حسن بجشعه طلب منهما‬ ‫مستنزف إلى درجة أن يوسف كان قد اضطر قبل ذلك إلى بيع املدافع البرونزية التي تزين‬
‫دفع املستحقات السابقة‪ .‬مت استئناف املفاوضات بنفس الشروط في سنة ‪ 1840‬من‬ ‫قلعة املدينة لبعض التجار املسيحيني‪ .‬في هذا الظرف احلرج اتخذ قرارا سيئا يتمثل‬
‫لدن احلاكم اجلديد عسكر باشا لكن عندما تعلق األمر بالدفع رفض القائدين أن يفيا‬ ‫في فرض ضريبة حرب على سكان املنشية الذين كانوا منذ القدم معفيني دائما من‬
‫بوعدهما‪ .‬جلأ األتراك إلى السالح ورغم استفادتهم من مزايا جيش نظامي منضبط‬ ‫كل الضرائب مقابل اخلدمة العسكرية التي كانت إجبارية بالنسبة إليهم‪ .‬كانت هذه‬
‫ومزود باملدفعية ضد عصابات غير منتظمة وغير مسلحة بالشكل املطلوب فإن الثوار‬ ‫الضريبة مبثابة شرارة للثورة؛ فقد مت اإلعالن عن اإلطاحة بيوسف وعني خلفا له علي أمير‬
‫الذين كان يقودهم غومة بفضل معرفتهم اجليدة باملنطقة دافعوا عن مواقعهم‬ ‫القرمانليني‪ ،‬جد حسونة باشا احلالي‪ .‬كانت املقاومة بكل أشكالها غير مجدية فوجد‬
‫ببسالة ولوقت طويل إلى درجة أن الباشا اضطر إلى استعمال احليلة إلخضاعهم‪.‬‬ ‫يوسف نفسه مجبرا على التنحي لصالح علي‪.‬‬
‫كان أول من سقط في الفخ هو عبد اجلليل‪ .‬فقد دعاه القنصل البريطاني إلى مقابلة‬ ‫قليال بعد ذلك تبنى عبد اجلليل الذي كان قد رفع لواء الثورة واستولى على فزان‬
‫خاصة بالقرب من مصراتة ووعده أن حكومته سوف تقدم له دعمها إذا ما تعهد بالعمل‬ ‫قضية علي باشا كما تبناها أيضا قائد ثوار اجلبل غومة املرعب‪ .‬كان علي باشا سيبقى‬
‫على وقف جتارة العبيد في فزان‪ .‬نزل عبد اجلليل إلى الساحل فاستغل األتراك الفرصة‬ ‫حاكما لطرابلس لوال أن تركيا‪ ،‬رمبا بإيعاز من بريطانيا‪ ،‬لم تستغل الفرصة للتدخل‬
‫ملهاجمة معسكره‪ ،‬وعندما عاد إليه بعد لقاءه للقنصل اإلجنليزي ألقوا عليه القبض‬ ‫حتت ذريعة وضع حد للحرب األهلية بحكم السلطة التي ميارسها سلطان اسطنبول‬
‫وضربوا رأسه وتركوها عالقة لعدة أيام على الباب الرئيسي ملدينة طرابلس‪.‬‬ ‫بصفته اخلليفة األكبر على معظم الشعوب التي تدين بدين محمد (ص) والتي كانت‬
‫أخضع الباشا اجلديد‪ ،‬محمد إميد الذي خلف عسكر في سنة ‪ ،1842‬فزان وواحة‬ ‫أسرة القرمانلي تعترف بها دائما‪ .‬تقدم أسطول تركي يعد على ظهره ‪ 6000‬جنديا إلى‬
‫غدامس بسهولة وركز بعد ذلك كل جهوده ضد غومة الذي كان هو وجنده يستقرون‬ ‫مشارف طرابلس الغرب بقيادة جنيب باشا وتظاهر بأنه جاء ملساعدة علي القرمانلي‬
‫باجلبل ويتخذون من يفرن مقرا عاما لهم‪ .‬كان من العبث التطلع إلى هزميته بالقوة‪.‬‬ ‫ضد الثوار‪ .‬سقط علي بسذاجة كبيرة في الفخ إذ أذن لألتراك بالنزول واحتالل املواقع‬
‫فأودية اجلبل العميقة قد لبست احلمرة كثيرا من دماء األتراك فكان لزاما اللجوء إلى‬ ‫احملصنة وراح يزور جنيب باشا على ظهر سفينته فقام هذا بإذن من السلطان بحبسه‬
‫السالح اآلخر الذي هو الغدر‪ .‬دعي غومة إلى اجتماع في طرابلس من لدن الباشا الذي‬ ‫وخلعه وإرساله إلى إسطنبول‪ .‬في اليوم نفسه أخذ جنيب باشا بزمام األمر في طرابلس‬
‫أعطاه وعدا باألمان وبثقة عمياء حضر املقاتل البربري إلى املدينة فأسر وقيد على ظهر‬ ‫كحاكم لها‪.‬‬
‫سفينة إلى استانبول ومن ثمة انقطع خبره بشكل نهائي‪ .‬رمبا تعرف مياه البوسفور‬ ‫خالل السنوات األولى من الهيمنة التركية تناوب عدة باشاوات على حكم طرابلس‬
‫آخر صفحات حياته‪.‬‬ ‫رمبا ألن حكومة السلطان كانت تخشى أن يعلنوا استقاللهم عنها‪ .‬فبعد ثالثة أشهر‬
‫لكن أسر غومة ال يعني بعد نهاية املقاومة املسلحة في اجلبل‪ .‬فأتباعه لم يستسلموا‬ ‫فقط‪ ،‬في شهر أغسطس من سنة ‪1835‬م‪ ،‬خلف محمد رايت‪ .‬جنيب باشا وقام بنقل كل‬
‫مما اضطر اللواء أحمد باشا الذي بعثه احلاكم للقضاء عليهم إلى اللجوء إلى احليلة‬ ‫األمراء املتبقني من أسرة القرمانلي إلى اسطنبول‪ .‬سنة بعد ذلك عني ظاهر باشا حاكما‬
‫املعهودة‪ :‬استدعى قادات الثوار إلى محادثات لتحديد الشروط النهائية للسالم فألقى‬ ‫على طرابلس وقد أزعج هذا كثيرا بدسائسه الفرنسيني في تونس‪ .‬في أغسطس من‬
‫عليهم القبض وضرب رؤوسهم الستني وحملها إلى طرابلس حيث مت وضعها على‬ ‫سنة ‪1838‬م تقلد مهام احلاكم في طرابلس حسن باشا‪ .‬جتدر اإلشارة إلى أنه حتى آنذاك‬
‫ستني رمحا فوق أسوار القلعة‪ .‬وقد مت العثور على جماجمهم أشهرا قليلة بعد احتاللنا‬ ‫لم يكن االحتالل التركي يتجاوز الساحل وكل محاوالت التوغل في اجلبل باءت بالفشل‬
‫للبالد من لدن جنود ايطاليني اثر أعمال حفر حتت األسوار الصلبة للقلعة‪.‬‬ ‫بسبب مقاومة الساكنة اجلبلية لها‪.‬‬

‫‪43‬‬ ‫‪42‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫ليس ما أحس به بالطبع تعاطفا أو دهشة وأنا اليوم أجدني داخل الغرفة الضيقة‬ ‫هكذا إذن بقوة السالح واخليانة وجدت قبائل اجلبل احملاربة نفسها مرغمة على‬
‫املدهونة بفرشة خشنة وسط السرير احلديدي غير املنضود وخزانة قائد اجلبل الطاغية‬ ‫اخلضوع‪ ،‬مما فتح اجملال لألتراك لتشييد العديد من احلصون فوق هذه املرتفعات‪.‬‬
‫املكسورة‪ .‬يبدو كل شيء حولي بئيسا كما كان احللم األناني للثائر املهزوم‪– .‬في هذه‬ ‫متنى سليمان الباروني‪ ،‬النائب البربري السابق‪ ،‬في حلم طموح إلى اجملد والهيمنة أن‬
‫اخلزانة احلديدية (خزانة حديدية فرنسية جد عصرية)‪ -‬كان يوضح لي أثناء ذلك النقيب‬ ‫يعيد هنا أمجاد غومة صقر اجلبل لكن لكونه أكثر خبثا ودهاء منه قوة‪ .‬أكثر خداعا منه‬
‫فتالي ‪ -Vitale‬وجدنا ورقة نقدية من فئة ‪ 50‬ليرة فرنسية‪ ،‬بعض الفرنكات الفضية‬ ‫عبقرية فإن القوى خانته‪.‬‬
‫التونسية‪ ،‬املراسالت املتعلقة باملفاوضات مع االيطاليني ومحفظتني عربيتني‪ ،‬حتتوي‬
‫إحداها على قطعة نقدية ذهبية بقيمة ‪ 5‬ليرات تركية وواحدة من تلك القالئد الدينية‬ ‫كانت يفرن ‪ -‬التي تكاد تنساه‪ -‬حتى البارحة معقله احلصني والزالت حتتفظ لسلطانه‬
‫التي يضعها الكثير من جنودنا على صدورهم‪ .‬وجدنا في الغرفة أيضا طربوش الباروني‬ ‫القصير األمد بآثار واضحة‪.‬‬
‫وخامت والده الشيخ املريض الذي كان يعيش حتى أيام قليلة مضت في نالوت‪.‬‬ ‫اتخذ مقره العام هنا منذ رحيل األتراك في شهر نوفمبر املنصرم‪ ،‬وهنا ركز دفاعاته‬
‫وجمع صفوف الثوار ونسج خيوط شبكة دسائسه األكثر تعقيدا‪.‬‬
‫دفعتني رغبة شديدة في االستطالع فطلبت من النقيب فتالي‪ ،‬املقيم احلالي بيفرن‪،‬‬
‫أن يرافقني إلى املكان الذي كان حتى أيام قليلة آخر مأوى للثائر املشهور‪ .‬متت تلبية‬
‫رغبتي بلباقة وبلطف ورافقنا في هذه الزيارة فرحات باي‪ ،‬النائب األسبق للزاوية الذي‬
‫التحق بنا بعد وقت وجيز من قصر غريان‪ .‬رافقنا أيضا الشاب‪ ،‬محمد غالب الكيب‪ ،‬جبلي‬
‫سبق له أن شغل منصب مالزم في اجليش التركي وقد التحق عبر مغامرات دراماتيكية‬
‫باملعسكر االيطالي‪.‬‬
‫يشكل مسكن الباروني جزاءا من املدينة الصغيرة التي تتركز بالقرب من القصر‬
‫وتتكون من منازل صغيرة شيدت على الطريقة األوربية لها أبواب ومصارع خضراء‬
‫وجدرانها مطلية باجلير وهي الوحيدة من نوعها التي رأيتها في اجلبل‪ .‬ويقع هذا املسكن‬
‫في آخر زقاق ضيق ينتهي فجأة عند حافة واد عميق قبالة تاگربوست‪.‬‬
‫آه‪ ! ‬كم يبدو بئيسا وضيقا بالط الطاغية الذي أرادت ايطاليا في حلظة رفعه إلى‬
‫يفرن من برج القصر‬
‫فخفخة الشهرة واعتبرته تقريبا كملك‪ ...‬يشكل دور أرضي جد صغير ودور علوي جد‬
‫لكنني أعرف أن هذه ليست النقود الوحيدة التي تركها الباروني في يفرن أثناء هروبه‬ ‫منخفض به أربع أو خمس نوافذ يسدها شباك خشبي أخضر على الطريقة اإلسالمية‬
‫منها على وجه السرعة‪ :‬في البناية التي كان يستعملها كمكتب ودار للمحفوظات‬ ‫البيت الذي وضعه أحد األقارب في األشهر األخيرة رهن إشارة الباروني‪.‬‬
‫عثر جنودنا على كيسني بهما ما يقارب ‪ 15000‬ليرة من الذهب والفضة‪ ،‬وهذه نقود‬
‫دخلنا إلي البيت يتقدمنا فرحات باي وصعدنا السلم املتأرجح لنجد أنفسنا في‬
‫انتزعها‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬النائب األسبق جلادو من القادات الذين أسرهم عند عودتهم من‬
‫الشقة‪ .‬ال يوجد بها سوى ثالثة غرف صغيرة بسيطة وجد متسخة‪ :‬بهو من مترين على‬
‫طرابلس حيث كانوا يقدمون الوالء اليطاليا‪،‬‬
‫اجلانب‪ ،‬غرفة لألكل وأخرى للنوم وهي كلها على حالها كما تركها جاللته أياما قبل‬
‫كان الباروني عنيفا وشرسا في أحقاده‪ .‬أطلعني محمد غالب الكيب‪ ،‬املالزم العربي‬ ‫الهزمية التي تلقاها في األصابعة‪.‬‬
‫في اجليش التركي سابقا‪ ،‬الذي انضم إلينا بعد أداء قسم الوالء والذي كان قد سقط في‬

‫‪45‬‬ ‫‪44‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫من املفيد الوقوف عند هذا احلد على أسباب املقاومة في اجلبل ويجب البحث عنها‬ ‫أيدي أتباع الباروني ديسمبر املاضي قرب أجال‪ ،‬أطلعني على مذكرة وعني منها صفحة‬
‫باألساس في االنقسام العرقي والديني لساكنة طرابلس وهو االنقسام الذي أشرنا إليه‬ ‫ترجمها لي فرحات باي ‪ :‬حتت أية قرآنية كتبها الشاب العربي توجد كلمات أخرى كتبها‬
‫في فصل آخر من هذا الكتاب‪.‬‬ ‫ووقع عليها الباروني نفسه وهي تقول باحلرف‪" :‬أنت كلب ملعون‪ ،‬خائن ومرتد حل بك‬
‫تشكل طائفتان رئيستان الساكنة املسلمة لطرابلس‪ :‬طائفة السنيون وطائفة‬ ‫عذاب اهلل وعذابي"‪.‬‬
‫اإلباضيون‪ .‬ال توجد اختالفات جوهرية بني هاتني الطائفتني وال يفصل بينهما سوى أمور‬ ‫كان االيطاليون يتحدثون ويكتبون عن الباروني وكأنه شخصية أسطورية حتيط بها‬
‫شكلية فقط‪.‬‬ ‫هالة من الغرابة والرومانسية‪.‬‬
‫على سبيل املثال‪ ،‬يؤمن السنيون بأن اجلنة بعد املوت هي لكل الناس بينما يخص‬ ‫علمت عنه الكثير في يفرن مباشرة من أفواه الذين عرفوه كما علمت الكثير عن‬
‫بها اإلباضيون الفضالء؛ للسنيني طريقة خاصة في الصالة لإلباضيني طريقتهم إلى‬ ‫أعماله‪ ،‬يبلغ من العمر اليوم أكثر من أربعني سنة بقليل وهو قصير القامة وبدين اجلسد‪.‬‬
‫آخره‪ ،‬لكن هناك أمر أكثر أهمية‪ ،‬متيز أكثر وضوحا‪ ،‬هوة أكثر عمقا‪ ،‬هناك انقسام عرقي‬ ‫كان منذ ‪ ،98‬السنة التي مت فيها اإلعالن عن الدستور التركي‪ ،‬يشغل منصب نائب عن‬
‫بني هؤالء وأولئك‪ :‬فالسنيون هم أحفاد العرب الغزات واإلباضيون هم أحفاد البرابرة‬ ‫دائرة جادو وفساطو‪ ،‬وكان هو من أعلن في تلك السنة انطالقا من قصر حاكم طرابلس‬
‫الدين انكسروا وزج بهم نحو الداخل‪ .‬اآلن وألن اجلبل يسكنه باألساس ألسباب وراثية‬ ‫العاصمة في خطاب ليبيرالي بهيج حلول النظام اجلديد‪ .‬هو رجل ذو فطنة ال تناقش‬
‫اإلباضيون‪ ،‬وخوفا من طردهم مرة أخرى نحو الداخل ونوعا ما حقدا منهم على سنيي‬ ‫على حظ من الثقافة وذو روح متعصبة وعنيدة‪ ،‬ال يخضع لسلطة أحد‪ ،‬وفوق كل شيء‬
‫السهل الذين قدموا لنا والءهم‪ ،‬يفهم بسهولة كيف أن املد العسكري االيطالي واجه‬ ‫طموح‪ .‬استطاع في السنوات األخيرة أن يفرض ذاته إلى حد ما على األتراك أنفسهم‬
‫مقاومة أخيرة فوق هذا اجلبل وكيف أن قبائل عدة بايعت قائدا ذو نفوذ استطاع باخلديعة‬ ‫وأن يكتسب احترام اجلبل كله من غريان حتى نالوت رغم أنه لم يكن يتوفر على أموال‬
‫واالحتيال أن يقنعها بأن اجلنود االيطاليني سوف يلقى بهم في البحر يوما ما ويسطع‬ ‫طائلة ولم تكن له قبائل تابعة له بشكل مباشر‪.‬‬
‫جنم االستقالل على طرابلس‪.‬‬ ‫كما قلت‪ ،‬هو أكثر طموحا منه تعصبا‪ ،‬عرف عند اندالع احلرب كيف يصبح في وقت‬
‫لكن بإخضاع كل القبائل الرئيسة للسهل‪ ،‬ترهونة‪ ،‬ورشفانة‪ ،‬مسالته‪ ،‬جنزور‪،‬‬ ‫وجيز محركا للمقاومة الوطنية التركية في طرابلس ويجمع صفوف املقاومة األهلية‬
‫الزاوية واخلمس وغريان أيضا‪ .‬وبفتح بوابة اجلبل فكر حاكم طرابلس أنه ميكن الوصول‬ ‫املشتتة في قبضة يده‪.‬‬
‫إلى نفس النتيجة في اجلبل وذلك باستقطاب القاداة الوازنني في اجلبل شيئا فشيئا‬ ‫تفوق الباروني على األتراك أنفسهم وأصبح يشكل تهديدا لهم بعد توقيع معاهدة‬
‫لكي تضعف شوكة املقاومة امللتهبة هناك‪ .‬جنحت املكاتب السياسية بالعزيزية وقصر‬ ‫السالم‪ ،‬بل أرغمهم على التفاوض معه ملغادرة البالد وحملهم على تسليمه كل مخازن‬
‫غريان في هذه الغاية وذلك بعون ملموس من قادات البلدات التي سبق احتاللها‪ .‬مبوازاة‬ ‫األسلحة والذخيرة املوجودة في اجلبل وكميات كبيرة من املؤونة ودفع فدية هامة على‬
‫مع ذلك كان أعيان آخرون من يفرن وجادو ‪ -‬فساطو يتقدمون من تلقاء أنفسهم إلى‬ ‫األسرى االيطاليني احملبوسني في يفرن وفساطو‪.‬‬
‫الزاوية ومنها إلى طرابلس إلعالن والئهم لاليطاليني‪ .‬كان أيضا من بني أولئك الذين‬
‫جاءونا بعض اإلباضيني‪.‬‬ ‫لقد سبقت اإلشارة إلى طموح الباروني‪ ،‬وهناك أحداث كثيرة تعود حتى إلى ما قبل‬
‫احلرب تثبت أن ال حدود لهذا الطموح‪...‬‬
‫لكن ال ميكن القول مع ذلك بأن وضع اجلبل قد اتضح ألن القادة الذين قدموا إلى‬
‫طرابلس تركوه في قبضة الباروني املنزعج والذي فطن باخلطر الذي يتهدد بنيانه‬ ‫كان األمر إذن عبارة عن ترشيح النائب األسبق في البرملان التركي نفسه لقيادة اجلبل‬
‫فاستغل الفرصة دون تردد حلبس أزواج هؤالء القادة ونزع السالح من أتباعهم وتأسيس‬ ‫وقد دشن حملته االنتخابية الفريدة من نوعها قبل األوان بالنهب واالختطاف والسرقة‬
‫فرقة جديدة من الزبيطة (احلرس التركي) وهي نوع من احلرس اإلمبراطوري اخلاص‪ .‬عند‬ ‫والهجومات الليلية ضد مواقعنا العسكرية‪ .‬وكان كل هذا مرفوقا بصوت البنادق‪.‬‬

‫‪47‬‬ ‫‪46‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫هكذا إذن مت وبشكل نهائي‪ ،‬أوال من لدن جنودنا الشجعان الذين عرفوا القضاء‬ ‫عودة القادة الذين نزلوا إلى طرابلس إلى اجلبل أمر بحبسهم وزج بهم في سجن يفرن‪.‬‬
‫بعمليات خاطفة وحاسمة على احلركة التي بدأها الباروني ثم من لدن ناخبي اجلبل‬ ‫هكذا كان روبسبيير‪ 1‬اجلبل الصغير هذا يؤسس ململكة الرعب في يفرن‪ .‬لم تكن‬
‫نفسهم‪ ،‬أي من لدن النهاب والسراق البرابرة الذين انضموا إلى النائب األسبق في‬ ‫قواته بالطبع ذات أهمية لكن كانت تعد ضمن أتباعه أحد قبائل اجلنوب األكثر قتالية‪،‬‬
‫محاولته الطائشة و سارعوا إلى التخلي عنه بعد الدرس القاسي في األصابعة؛ مت‬ ‫أال وهي قبيلة أوالد بوسيف املتمركزين في مزدة والذين يلقون التقدير في كل مكان‬
‫رفض ترشيح الباروني النابع من تخمني سيء لفتح اجملال أمام هذا للتفكير اآلن‪ ،‬في‬ ‫كمحاربني شجعان ويعتبرون تقريبا كمجاهدين‪ .‬لم يكن عدد هؤالء أكثر من ‪ 500‬نفر‬
‫خمول الضيافة املفروضة عليه بالذهيبات أو في بن گردان‪ ،‬في حتمية زوال وفناء كل ما‬ ‫وكان الباروني يجهد نفسه لكسب ودهم ووالئهم باالمتيازات والعطايا من كل نوع‪.‬‬
‫هو بشري‪.‬‬ ‫ورغم أن أوالد بوسيف يكنون لنا العداوة فإنهم لم يكونوا دائما يؤيدون سياسة الباروني‪،‬‬
‫لنترك الباروني يواجه القدر الذي اختاره لنفسه ولنتوقف حلظة للنظر في السرعة‬ ‫بل احتشدوا مرة ضده علنا عندما لم يف النائب التركي السابق بوعده وحاول حبس‬
‫التي استطاع بها اللواء لكيو‪ ،‬بعد األحداث العسكرية السعيدة لألصابعة ودون قتال‪،‬‬ ‫عدوه اللدود فكيني قائمقام جادو ‪ -‬فساطو الذي كان قد جاء إلى يفرن بضمان شخصي‬
‫أن يغزو ويدخل إلى البلدات الرئيسة في جبل نفوسة‪ .‬إن مثل هذا العمل العسكري‬ ‫من محمد بن عبد اهلل أحد قادات قبيلة مزدة احملاربة‪.‬‬
‫الذي قيل عنه بإنصاف أنه خاطف وحاسم هو ما يجب تبنيه ضد الشعوب اإلفريقية‪.‬‬ ‫يجدر بنا إثارة االنتباه إلى أنه بينما كان الباروني يدخل في مفاوضات مع مبعوثي‬
‫غير أن األمور ليست بهذه السهولة كما علمنا ذلك كبار اجلنود السياسيني الذين غزوا‬ ‫احلكومة االيطالية‪ ,‬أدركنا أن هناك تضييع للوقت من جهتنا‪ ,‬ومبا أن عمليات النهب‬
‫ألوطانهم ووطدوا األمن بشكل نهائي في مستعمرات جد شاسعة‪ .‬وكما نبهنا إلى ذلك‬ ‫التي تستهدفنا كانت تتزايد يوما بعد يوم فإن القيادة العسكرية في طرابلس قطعت‬
‫بشكل خاص اجلنرال گالييني ‪ Gallieni‬الذي ربط اسمه رباطا وثيقا بالعمل االستعماري‬ ‫الطريق أمام كل شك وتردد ومراوغات وأمرت اللواء لكيو لبدء صبيحة عيد الفصح تلك‬
‫الكبير املتمثل في توطيد األمن في مدغشقر ذلك اللواء الذي يقول الفرنسيون بفخر‬ ‫احلملة احلاسمة التي مت التهيئ لها منذ شهرين لكن في آخر حلظة‪ ،‬بالضبط يوما قبل‬
‫عن التعليمات الصادرة عنه خالل السنوات األربعة التي قضاها في حكم مدغشقر‪.‬‬ ‫تقدم جيوشنا وصلت برقية من روما تعلق العمليات لفسح اجملال أمام مفاوضات غير‬
‫بخصوص تنظيم عمل األهالي‪ ،‬نزع ملكية الدولة‪ ،‬استغالل املناجم‪ ،‬األعمال العمومية‬ ‫سديدة وهزلية تلعب فيها تونس دور الوسيط مع الثائر الذي كان يهزأ بنا‪.‬‬
‫إلى آخره أنها تشكل مرجعية رائعة في احلقل املعرفي االستعماري‪ .‬لنتوقف فقط عند‬
‫العمل السياسي والعسكري الذي باشره عندما اندلعت ثورة هوفا ‪ Hova‬في مدغشقر‬ ‫في ذلك اليوم مت هزم رجال الباروني األربعة آالف أي أوالد بوسيف‪ .‬املشاشة‪ ،‬والسبع‬
‫بعد فترة وجيزة عن االتفاقية التي فرضها اللواء دوشسن ‪ Duchesne‬على امللكة‬ ‫مائة جبلي‪ ،‬اخلمس مائة ورفلي التابعني للقائم مقام عبد النبي الذي أطحنا به‪ ،‬مت‬
‫رنافالو ‪ ، Ranavalo‬وذلك اثر دخول الطابور اخلفيف الذي يقوده هذا األخير إلى تننريفا‬ ‫هزمهم في األصابعة ومنطروس وولوا مدبرين‪ .‬ملا رأى سيد يفرن الذي كان دائما خالل‬
‫‪ Tananariva (30‬سبتمبر ‪ .)1908‬تشبه تلك األحداث في أشياء كثيرة األحداث التي‬ ‫املعركة في منأى عن نيراننا أن آخر خدعه احلربية واملتمثلة في وقف تقدم اللواء لكيو‬
‫عرفها اجلبل مؤخرا وميكنها أن تكون مصدر إلهام لنا اليوم كما في غد غير بعيد‪.‬‬ ‫بذريعة استئناف املفاوضات فشلت هي أيضا‪ .‬إنسحب من السوادنة إلى يفرن على‬
‫صهوة جواده ولم يستطع حتى الدخول إلى هذا الكوخ جلمع أغراضه بل التف في عباءة‬
‫يجب على أولئك الذين يتولون مصير مستعمراتنا اجلديدة‪ ،‬أولئك الذين يجب عليهم‬ ‫حتى ال يعرف ودائما على ظهر فرسه‪ ،‬كطيف نيروني جديد‪ ،‬متبوعا بزمرة من أتباعه‬
‫باسم ايطاليا‪ ،‬سواء كانوا عسكريني أو مدنيني‪ ،‬أن يتمموا العمل الذي مت تدشينه‪،‬‬ ‫األوفياء فر نحو أراضيه في كباو مديرية نالوت ومنها توجه إلى احلدود التونسية‪ .‬في‪27‬‬
‫يجب عليهم اليوم الرجوع إلى الدوريات السياسية التي كان يوجهها اللواء كالييني‬ ‫مارس دخل طابور لكيو إلى قلعة الصقر الهارب منتصرا وتلقى الطاعة الكاملة من كل‬
‫إلى القادة العسكريني بالدوائر واملقاطعات التابعة لنفوذه‪ .‬سوف يتلقون بصوت من‬ ‫ساكنة املنطقة التي حتررت من قيود مطامع الباروني‪.‬‬
‫كان جنديا باسال وحاكما كبيرا املبادئ الراسخة التي يجب أن تقود خطوات اجليوش‬
‫واملوظفني املوجهني إلى غزو مستعمرات أهلة بالسكان وإخماد نيران الفتنة بها؛ سوف‬ ‫‪ - 1‬ماكسميليان روبسبير ‪ ،)4971 - 8571( erreipseboR‬محام فرنسي وزعيم سياسي‪ .‬أصبح أحد أهم‬
‫الشخصيات املؤثرة في الثورة الفرنسية‪.‬‬

‫‪49‬‬ ‫‪48‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫مبدأ السياسة العسكرية في سياسة االحتالل الذي يشجب اجتماعات البالط الذي‬ ‫يدركون نوعية العالقات التي يجب أن تسري بني العمل السياسي والعمل العسكري‬
‫يريد أن يتحكم من العاصمة في حتركات القادة العسكريني أمام العدو؛ وهو املبدأ الذي‬ ‫حتى ال يكونا متناقضني مختلفني ومتناحرين وإمنا متعاونني ومتكاملني ومتواطئني‬
‫بنى عليه نيكوال مكيافيلي ‪Nicola Machiavelli‬معلمة رائعة تتحدى آثار القرون في‬ ‫‪1‬‬
‫لتحقيق نفس الغاية‪.‬‬
‫ذلك الفصل من خطاباته "خطابات حول الكتب العشر من تاريخ روما لتيتوليفيو ‪Tito‬‬ ‫إن خملتلف مراحل أحداث مدغشقر نفس مسار أحداث اجلبل‪ .‬يرد على سبيل املثال في‬
‫‪ "Livio‬الذي يحمل العنوان التالي‪" :‬كيف كان الرومان يعطون لقادة جيوشهم انتدابات‬ ‫"إخماد الفتنة في مدغشقر‪" :‬كانت النزعة احلربية لعصابات الثوار تتقوى شيئا فشيئا‬
‫حرة" ويؤسس للنظرية احلديثة حول العالقات التي يجب أن تربط احلكومة املركزية بقادة‬ ‫وكانت تدخل مع جيوشنا في معارك عديدة وتستنزفها باستمرار؛ كانت مجهوداتنا غير‬
‫اجليوش في حالة احلرب‪.‬‬ ‫مثمرة ألن هذا العدو الذي يتحرك باستمرار كان يراوغ ضرباتنا متفاديا بذلك الصدمات‬
‫رمبا إن حديثي عن الفرنسيني في مدغشقر قد طال‪ ،‬فلنعد إذن إلى الباروني‬ ‫احلاسمة ليعود بعد مرور طوار بنا إلى احتالل املواقع التي أخرج منها والتي يهدد انطالقا‬
‫وااليطاليني فوق اجلبل‪ .‬هكذا سيتاح لنا رويدا رويدا مقارنة املبادئ التي وضعها اجلينرال‬ ‫منها وبشكل متواصل املسافرين العزل والقوافل غير احملروسة مبا فيه الكفاية"‪ .‬هذا ما‬
‫الفرنسي للتوغل في مدغشقر وإخماد احلرب بها والتدابير التي اتخذها االيطاليون في‬ ‫كان يحدث تقريبا في ضواحي طرابلس وفوق منحدرات اجلبل‪.‬‬
‫طرابلس‪.‬‬ ‫لنرى اآلن كيف استطاع اللواء كالييني أن يحل هذه املعضلة وأخريات أساسية‬
‫إن العمل بواسطة القوة الذي أطلق عليه گالييني "العمل البطئ" هو الذي بدأ‬ ‫مرتبطة بغزو وإخماد الفتنة في مستعمرة مدغشقر‪.‬‬
‫به جنودنا بنجاح في املناطق األقل توثرا بطرابلس‪ :‬في جبل غريان‪ ،‬بني أهالي ورفلة‬ ‫أثبتت ثورة هوفا في اإلميرن ‪ Emyrne‬الذي تعتبر تتنريفا عاصمة مدغشقر مركزا له‪،‬‬
‫وفي سرت‪ .‬هناك ال ميكن التنكر ملكتسبات غزونا احلضاري‪ ،‬الدليل على هذا تقدمي الوالء‬ ‫والطرق التي واجهها بها الفرنسيون أهمية املواقع احملصنة واحملروسة بشكل جيد إلى‬
‫حلاكم طرابلس الغرب من لدن العديد من قادة مناطق بعيدة قادهم مؤخرا إلى العاصمة‬ ‫جانب العمليات العسكرية القوية التي يتذكرها األهالي لوقت طويل‪ .‬إن الطريقة التي‬
‫مقيموا ورفلة وسرت‪ .‬يجب التمييز في كل أفريقيا الشمالية كما هو الشأن في كل‬ ‫تبعها اللواء كالييني إلخماد الفتنة في إميرن كان محورها هو القضاء على ازدواجية‬
‫البلدان التي اجتاحتها موجة الغزو العربي بني الساكنة املستقرة التي تفلح الواحات‬ ‫االختصاص التي سنها مرسوم سابق وتعويضها بوحدة التسيير اإلداري للمستعمرة‪،‬‬
‫والساكنة الرحالة التي تهتم أساسا بالرعي؛ األولى أقل توحشا وقابلة للغزو والهدنة‬ ‫ويتم بلوغ هذه الوحدة األساسية في كل مراتب التنظيم اإلداري والعسكري بتركيز كل‬
‫والهيمنة األوروبية والثانية يصعب التحكم فيها لكنها سهلة اخلضوع‪ .‬اثبت ليون‬ ‫النفوذ السياسي واإلداري والعسكري في أيدي قادة الدوائر واملقاطعات‪ .‬كان الضباط أو‬
‫كيتاني ‪ Leone Caetani‬في دراساته لتاريخ الشرق أن التمييز بهذا الشكل بني هذين‬ ‫اإلداريون الذين يشرفون على األقسام اإلدارية يتوفرون على كل اإلمكانيات‪ ،‬كانت لهم‬
‫العنصرين كان واضحا حتى في بالد العرب منذ زمن الرسول محمد (ص) الذي كان في‬ ‫السلطة على القادة احملليني وكانوا مسؤولني أمام املقيم العام على حسن سير األعمال‪.‬‬
‫صراع دائم خالل مقامه في املدينة مع بدو األرياف اجملاورة الذين كانوا منذ البداية أكثر‬ ‫ركز إذن اجلينرال كالييني في يده خالل الفترة احلرجة التي كانت متر منها املستعمرة إدارة‬
‫بكثير تعنثا أمام الثورة الدينية التي جاء بها النبي املكي (ص)‪ .‬غير أنه ملا بدأت الفتوحات‬ ‫كل األعمال سواء منها املدنية أو العسكرية‪ .‬بعد حتقيق تقدم ايجابي على مستوى‬
‫اإلسالمية الكبرى أصبح البدو الدين انكسرت شوكتهم يشكلون القوة الضارية ضمن‬ ‫توطيد األمن وأصدر أمرا آخر يستجيب بشكل جيد ملتطلبات االحتالل ويتمثل في‬
‫اجليوش اإلسالمية‪ .‬لقد كان اجلهاد متنفسا صحيا حلماستهم وأهوائهم وروحهم‬ ‫خلق وحدات إدارية جديدة لها صالحيات عسكرية وإدارية‪ .‬عندما تعلق األمر بالتوغل‬
‫املهتاجة‪.‬‬ ‫في املناطق الداخلية سلم كالييني لقادة املناطق اخملتلفة السلطات الضرورية التي‬
‫ال احد ميكنه اليوم أن يشك في الطبع الفوضوي‪ ،‬الالاجتماعي للبدو الرحل ونزعتهم‬ ‫تخولهم استعمال اإلمكانيات احمللية‪ ،‬العسكرية منها والسياسية‪ ،‬لتحقيق أهدافهم‪.‬‬
‫للسطو والنهب التي ال تكتبح‪ .‬هؤالء هم من يجدر في حقهم أحيانا استعمال ما‬ ‫هذا والى جانب االستقاللية الكبيرة التي متع بها قادته العسكريني طبق بعقالنية‬
‫‪ - 1‬جولياني بوناتشي‪ :‬االيطاليون فوق اجلبل‪ ،‬روما‪.3191 ،‬‬
‫‪51‬‬ ‫‪50‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫لم يبق أمام الباروني‪ ،‬صقر يفرن‪ ،‬حتى أمل دخول واعتناق األسطورة كما حدث ذلك‬ ‫يطلق عليه اللواء گالييني "العمل الشديد" مبعنى عمل الطوابير العسكرية ذو‬
‫مع الرهيب غومة عندما خرجنا من الكوخ الذي نسج فيه ثائر اجلبل آخر خيوط شبكة‬ ‫األهداف املعينة‪ .‬وهذه الطوابير كما كتب عنها املقيم العام ملدغشقر يجب أن توجه‬
‫دسائسه وجبروته أخذ فرحات باي بذراعي قائال في حلم وفطنة وهو ميسح على حليته‬ ‫فقط ضد التجمعات الكثيفة واخلطيرة كالتي تتجمهر عادة حول ذلك العنصر املضر‬
‫املدببة‪:‬‬ ‫جوهريا والذي هو القائد الثائر؛ يجب ترك الفراغ حول هذا وتقويض نفوذه بكل الوسائل‬
‫‪ -‬لم تعد لكل هذا أهمية وال قيمة‪ .‬فقد ولى زمن الباروني وغربت قواه إلى األبد‪ ...‬هذا‬ ‫املتاحة‪ ،‬السياسية منها والعسكرية‪ ،‬وذلك بواسطة ضربات متكررة ومستمرة حتى‬
‫إن لم يقم بارتكاب خطاء يعيده من جديد إلى الواجهة‪.‬‬ ‫يختفي أو يخضع بشكل تام‪.‬‬

‫بعد صمت وجيز وكأنه يتحدث إلى نفسه أضاف هذا العربي العالم بكل خبايا‬ ‫ألم يكن هذا بالضبط هو حال سليمان الباروني وأتباعه من برابرة جبل نفوسة‬
‫النفس العربية‬ ‫اإلباضيني؟ أيجب اإلسهاب في احلديث إلبراز أن اللواء لكيو ومساعديه من كل شرائح‬
‫التنظيم العسكري طبقوا بشكل سليم املبادئ املنظمة لغزو وتوطيد األمن في البلدات‬
‫‪ -‬ال تضعوا ثقتكم في الباروني أبدا‪ . ! ‬فهو لن يبادلكم قط الود إن تعصبه أساسه‬
‫احملتلة؟ إن األفعال أكثر فصاحة من أي خطاب آخر‪ ،‬واليوم ميكن التأكيد بأن التقدم‬
‫الطموح‪.‬‬
‫السريع للجنرال لكيو عبر اجلبل‪ ،‬من غريان‪ ،‬التي يفصلها عن طرابلس ‪ 92‬كيلومترا إلى‬
‫يبدو لي أن الريح التي جتوب الوديان وتصفع جدران القصر القدمي املتآكلة تردد نفس‬ ‫نالوت التي تقع على بعد ‪ 318‬كيلومترا من العاصمة‪ ،‬كان رائعا وأنه سيدون ويذكر ألمد‬
‫التحذير‪ .‬ال تثقوا‪ ...‬ال تثقوا أبدا !‬ ‫طويل في حوليات العمليات االستعمارية‪ .‬كما ميكن القول بأن العملية لم تكن أقل‬
‫أهمية من حيث أثارها ال من وجهة نظر سياسية وال عسكرية‪.‬‬
‫تقريبا في كل مكان‪ ،‬خاصة في املنطقة الواقعة في أقصى شرق جبل نفوسة‪،‬‬
‫استقبل السكان جيوشنا كمحررين وأرسلوا قاداتهم مسافات بعيدة لتقدمي الوالء‬
‫والتقدير لقائد الطابور‪ .‬وهذا دليل على أن هذه احلملة مت التهيئ لها بشكل حكيم وفعال‬
‫على املستوى السياسي وإال فإن برابرة اجلبل املهزومني في األصابعة كانوا سيواجهون‬
‫بشراسة تقدم قواتنا عند مضايق جبالهم‪ .‬أو في حالة ما إذا اعتبروا أشواطا أخرى‬
‫من املقاومة أمر مستحيال‪ ،‬بسبب ذلك االرتياب الذي يكاد يكون فطريا في الشعوب‬
‫اإلفريقية حيال الدخول األوربي إلى أراضيها‪ ،‬فإنهم كانوا سيغادرون بشكل جماعي‬
‫بلدانهم للتعاطي بالنهب أو االحتماء وراء احلدود‪ .‬عكس ذلك فإن معظمهم دخلوا في‬
‫عالقات سلمية مع رجالنا‪.‬‬
‫من لم يكن يحس عكس ذلك إطالقا بأنه في مستوى مواجهة العاصفة هو قائد‬
‫برابرة اجلبل‪ .‬سليمان الباروني الذي فكر جيدا في االحتماء حتت وابل الضربات املتكررة‬
‫واملستمرة جلنودنا‪ .‬إن اخلطة التي أراد اجلنرال گالييني تطبيقها ضد كبار القادة الثوار قد‬
‫مت تطبيقها بشكل كلي وجزئي من لدن جنودنا حيال هذا الثائر‪ .‬ولنثني إذن على من دبر‬
‫وعلى من نفذ هذه اخلطة التي حصدت في وقت وجيز نتائج هامة ودائمة طبعا‪.‬‬

‫‪53‬‬ ‫‪52‬‬
‫الفصل الخامس‬
‫في عين الرومية العذبة‬

‫عاصفة ليلية – طرابلس اجلبل – جتارة عربية وعالمة فرنسية – معمل الباروني‬
‫لصناعة األسلحة – مرشدنا إبراهيم بن علي – بساتني يفرن – عني الرومية – كيف‬
‫حصلت يفرن على التجهيزات املائية ولم حتصل على املاء – خفير املاء‪.‬‬
‫يفرن – الرومية‪ ،‬إبريل‪.‬‬ ‫ ‬

‫أمطار طوفانية هذه الليلة على يفرن‪ .‬كان لهبوب الرياح في‬
‫املضايق الصخرية العميقة زفير حانق‪ ،‬وكانت املياه تنزل دون‬
‫هطلت‬
‫انقطاع‪ ،‬وكأنها تخرج من مرشة كبيرة‪ ،‬عبر سقف البيت فوق أوراق الباروني وكتب‬
‫تركية ضخمة للحسابات وفوق شخوصنا املنكمشة فوق دوالب مقلوب‪ .‬قد يعتقد‬
‫أن كل قطرة جتد لها ثقبا وعلى كل منا ينفتح سيل بارد دون انقطاع‪ .‬كان زفير و خرير‬
‫العاصفة اجلبلية يجد أن صدى وحزنا في القذف اجلماعي الغريب ألصدقائي البؤساء‪.‬‬
‫كان أحدهم يؤكد أن عبر فتحات وثقوب السقف ترى أهداب كاملة من سماء ممطرة‪،‬‬
‫في حني كان واحد آخر يصب جم غضبه ضد األتراك الذين يسقفون البيوت باملناخل أو‬
‫ضد بعض االيطاليني الذين كانوا يؤكدون عند بداية احلرب أن السماء ال متطر قط في‬
‫طرابلس‪ .‬وحده فقط صديقي اجلالس بجنبي فوق الدوالب كان صامتا يتأمل السقف‬
‫املريب وحتى يتمكن من تتبع اخليوط الفضية املتساقطة من األعلى بشكل أفضل كان‬
‫يغمض عينا ويضع في األخرى كدرع واق عدسته الكبيرة‪.‬‬
‫استمر تهاطل املياه لبضع ساعات لكن عندما خرجت من البيت حوالي الساعة‬
‫السابعة كانت زرقة فاقعة وصافية تلف املشهد كله من جديد‪ .‬أصبح الهواء كماء‬
‫رباني يسقي ويسيل فوق كل شيء‪ .‬منابع احلياة مفتوحة عن آخرها فوق هذه األرض‪ .‬في‬
‫السهل عند قدم اجلبل كانت شبكة من أسالك فضية تلمع‪ :‬أنها مياه الليلة تسيل‬
‫هناك في األسفل في مشاتل رقيقة‪ .‬بعد ذلك عرف الضوء رجة مفاجئة‪ :‬ظهر قوس‬
‫لهيب في األفق البعيد‪ ،‬انفتح واكتسب حجما أكبر كوردة حمراء‪ .‬فجأة اتسع العالم‬
‫من حولي وارتدى أشعة الشمس‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫حتمل موطنا مزيفا هي مصنعة في مرسيليا ألنها ملفوفة بفخفخة في ورق أبيض‬ ‫على الفور من ذلك وكأن حشدا من احلشرات استيقظ من سباته أعاين من الرعن‬
‫أحمر وأخضر وقد وصلت بأعجوبة إلى هنا أياما بعد وصول قواتنا‪ .‬نزلنا إلى وادي الرومية‬ ‫الذي أقف عليه حركة غريبة ودؤوبة في أزقة يفرن‪ ،‬تاگربوست وعلى جنبات اجلبل‪ .‬لم‬
‫ووجدنا به آثارا فرنسية أخرى‪.‬‬ ‫أكن اعتقد أن عددا هائال من الناس يقطن فوق القمم الصخرية هذه‪.‬‬
‫قررنا استئناف السير صوب جادو‪-‬فساطو بعد أن سكنت العاصفة وبعد أن فسح‬ ‫أوضح لي النقيب فيتالي أن أكثر من ثالثني ألف نفر من األهالي يشكلون ساكنة‬
‫لنا يوم من التوقف بزيارة يفرن عن آخرها مبا فيها قصرها‪ ،‬آخر بيت للباروني‪ ،‬مصنع‬ ‫يفرن وضواحيها‪ .‬ليس من باب الصدفة أن يطلق على يفرن طرابلس اجلبل‪ ،‬وقد وصلت‬
‫الثائر املهرب للذخيرة‪ ،‬مخزن األسلحة الذي يحتوي على أكثر من ألف بندقية من نوع‬ ‫إليها احلضارة أكثر من أي بلدة أخرى في اجلبل رغم أن األتراك تفادوا دائما حتسني أوضاعها‬
‫موزر ‪ ،Mauser‬مارتني‪ ، Martini‬كراتز ‪ ،Gatz‬مانليكر ‪ ،Manliker‬كباك ‪ ،Kabak‬وينشستر‬ ‫ودعم تطورها الطبيعي‪.‬‬
‫‪Wionchester‬؛ مستشفى الهالل األحمر والكوخ الذي قضى فيه أعضاء بعثة سان‬ ‫كانت يفرن في ظل احلكم العثماني مقر احلاكم العام جلبل نفوسة أي مقر متصرف‬
‫فلييو سفورسا ‪ Sanfilippo-sforza‬أشهرا من السجن‪.‬‬ ‫كان يخضع لوالي طرابلس ويتبع له بدوره قائمقامات عدة مقاطعات‪ .‬لم تكن تركيا تأبه‬
‫كثيرا حلكم ممثليها هؤالء‪ ،‬كان لزاما عليهم أن يراعوا أمورهم بأنفسهم وأن يعملوا على‬
‫وصول بعض اجلبايات من حني آلخر إلى صناديق اإلدارة العامة‪ .‬في مثل هذا الوضع‪ ،‬وألن‬
‫األتراك كانت لديهم القناعة بفقدان طرابلس في يوم أواخر‪ ،‬يفهم كيف أن الساكنة‬
‫هنا تركت في حالة من الهجر املؤسف وكيف أن بعض التحسينات وبعض التطورات‬
‫جاءت من جهة أخرى‪ ،‬من جهة تونس التي سبق لها أن مدت يدها جتاريا إلى اجلبل حتى‬
‫بلغت يفرن‪.‬‬
‫تصل قوافل كثيرة إلى هنا قادمة من تونس‪ :‬بل إن آخرها وصلت إلى املنطقة غداة‬
‫احتاللنا اجلبل قادمة من بن گردان وكانت محملة بالسكر‪ ،‬الشاي‪ ،‬النب‪ ،‬الثوب وأدوات ذات‬
‫استعمال منزلي‪ .‬كانت هذه القافلة موجهة إلى الباروني غير أن جنودنا الذين بقوا دون‬
‫زاد بسبب يوم من السير السريع استقبلوها بحفاوة وتشريف‪.‬‬
‫كانت كل املبادالت التجارية تقريبا قبل احلرب تعبر احلدود التونسية‪ .‬مبهارة وفي‬
‫استغفال لألتراك أنفسهم استطاع الفرنسيون في اآلونة األخيرة حتويل القوافل‬
‫نساء زجنيات في مدينة يفرن‬
‫القادمة من الداخل إلى يفرن‪ .‬فساطو ونالوت والدفع بها نحو التخوم التونسية عوض‬
‫نحن مدينون للباروني مبواصلة سفرنا هذه املرة ألنه لوال صفائح الوقود الفرنسي‬ ‫توجيهها إلى طرابلس‪ .‬بعد انغالق املنافذ الساحلية بسبب احلرب‪ ،‬وكما يسهل فهم‬
‫التي تركها في يفرن ملا استطاعت شاحنتنا ‪ 340‬املقدامة استئناف سيرها عبر اجلبل‪.‬‬ ‫ذلك‪ ،‬اتخذت هذه الظاهرة وثيرة أكبر‪.‬‬
‫أراد املالزم أول بوريلو ‪ ، Boriello‬قائدنا الصبور وصديقنا اللطيف‪ ،‬أن يحمل معه على‬ ‫لقد حتققت من األمر بنفسي‪ ،‬كل شيء في يفرن من أصل فرنسي‪ :‬فرنسية هي‬
‫ظهر الشاحنة مرشدا من أهل البلدة ليدلنا السبيل خالل هذه املرحلة الطويلة من‬ ‫املعدات واألدوات وبارود وصنع الذخيرة التي مت العثور عليها في مخزن جد منظم قرب‬
‫سفرنا‪ .‬إنه الزبيطة (عسكري من األهالي) من حرس اإلقامة العامة بيفرن‪ .‬له بنية‬ ‫القصر‪ ،‬فرنسية هي معدات إصالح األسلحة‪ ،‬فرنسيني هما أيضا محركني جيدين مت‬
‫جسدية كبيرة وضخمة أصله من فزان وله مالمح قاسية ومآلنة جتعله يبدو وكأنه خرج‬ ‫وضعهما في القصر‪ ،‬السكر والشاي من نوع فرنسي وحتى بعض علب البسكويت التي‬

‫‪59‬‬ ‫‪58‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫واملتروكة حلتفها وخلق زراعات جديدة غنية‪ .‬هل ميكننا أن ننسى أن هذه األراضي كانت‬ ‫لتوه من كتلة رخام أسود‪ .‬كان يجلس فوق خزانات الوقود مكتوف الساقني مستقيما ال‬
‫تشكل فيما مضى خزان حبوب لروما؟‬ ‫يتحرك في انضباط ورجولية البد أنه ألفهما في الصالة‪ .‬إبراهيم بن علي – هذا اسمه‬
‫حسب ما صرح لي به‪ -‬ال يتكلم وال يبتسم‪ .‬ورغم ذلك فإنه يبدو لي أن ابتسامة خفيفة‬
‫تهز شفاهه الغليظة ويتمدد بؤبؤ عينيه بشكل كبير كلما أسرعت الشاحنة في‬
‫سيرها‪ .‬بالطبع إنه فخور بركوب الشاحنة وقد كنت أالحظ عندما منر قرب جمالني‬
‫يتسلقون في بطء إلى جانب دوابهم الناعسة مرتفعات يفرن أن إبراهيم يقوم أكثر‬
‫وكأنه يريد أن يرى بشكل أفضل من لدن إخوانه البؤساء‪.‬‬
‫بعد نزول وصعود األودية التي سبق وأن عبرناها للوصول إلى يفرن –الطريق امللتوية‬
‫املقفرة اخمليفة املعلقة شاقوليا فوق األودية بعد جتاوز قرية أم اجلرسان وللوصول إلى وادي‬
‫رومية التمست الشاحنة طريقا آخر في مشهد بهيج من مرتفعات صغيرة يكسوها‬
‫أشجار زيتون معمرة يبدو أنها تلتمس خلفا لها‪.‬‬
‫هذه هي بساتني يفرن‪ .‬هنا يباشر جزء هام من ساكنة مقاطعة يفرن أعماله الفالحية‬
‫احملدودة جدا بينما ميارس اجلزء اآلخر ‪ -‬يتكون باألساس من البرابرة الرحل ‪ -‬الرعي وجتارة‬
‫القوافل‪.‬‬
‫البد أن األرض هنا تتميز بخصوبة عجيبة إذا ما نظرنا إلى حقول الشعير الرائعة‬
‫واملناطق الصغيرة التي تنمو فيها احلبوب‪ .‬فإذا كانت هذه األراضي مبجرد حتريكها سطحيا‬
‫من لدن األهالي اجلهالء اخلاملني تعطي دالالت على كثرة خصوبتها فماذا ستصير غدا‬
‫إذا كشفنا مبجهوداتنا وآلياتنا الفالحية عن الثروة التي تخفيها؟ ما الغاية من تكليف‬
‫بعثات علمية بدراسة األراضي الفالحية باملنطقة الساحلية والتطلع إلى مستقبل‬
‫فالحي مزدهر في املنبسطات الرملية والى عودة واحة نضرة إلى حيث ال يتواجد سوى‬
‫كثيب رملي حتركه الرياح؟ ألي غاية وهنا في اجلبل على بعد أقل من مائة كيلو متر من‬
‫الساحل ال تنتظر مناطق شاسعة سوى اليد التي تزرعها وجتمع غالتها؟‪.‬‬
‫زبيطة الباروني اآلن في خدمتنا‬ ‫ليست املياه هنا في األعلى بالشيء الناذر ألن األمطار تتهاطل لعدة أشهر من‬
‫روما‪ ! ‬روما التي تظهر من جديد‪ ،‬أوال عبر بقايا معلمة خالدة شيدت كتذكار ألحد‬ ‫السنة وتكون جد غزيرة أحيانا واحلرارة دائما معتدلة بسبب الرياح واألرض بطبيعتها‬
‫رعاياها‪ ،‬واآلن عبر واد فتان وعني يبدو أنها تبوح بني اخلضرة بحكايات قدمية‪ ،‬تظهر لتدلنا‬ ‫جد غنية‪ .‬إذا كان هناك خصاص في املياه فإنه لن يكون من الصعب العثور عليها‬
‫على الطريق الذي مت عبوره فيما مضى على أجنحة النصر‪.‬‬ ‫في هذه األودية وذلك بحفر اآلبار ووضع قنوات للينابيع املنتشرة هنا وهناك‪ .‬ميكن عبر‬
‫دراسة جيولوجية دقيقة وصارمة مع األخذ بعني االعتبار التوجيهات التي أسفرت عنها‬
‫يا عني الرومية العذبة كم هو عزيز على شفاه املارة العطاشى دائما نطق اسمك‬
‫األبحاث الهيدرولوجية احلديثة‪ .‬إحداث جتديد على مستوى الغطاء النباتي للجبل املتناثر‬
‫القدمي رومية‪ ،‬رومية‪! ....‬‬

‫‪61‬‬ ‫‪60‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫لتوه وهو يجري فوق نسيجه جتاه ذبابة سقطت أسيرة في فخه القتراب أحد ما‪.‬‬ ‫همس إبراهيم بوجهه الهادئ الذي غير منه تقريبا إحساس بالفرحة والفخر مشددا‬
‫وقفت انظر إليه في اندهاش فجاء إبراهيم ليخرجني من حيرتي موضحا لي أن ذلك‬ ‫على احلركة ما قبل األخيرة‪.‬‬
‫اليهودي يرقب عني رومية منذ سنني‪ ،‬أنه كمحافظ املياه‪...‬يجلس هذا احلارس ذو العظام‬ ‫‪ -‬هنا عني رومية – إنها جيدة‪ ،‬إنها جيدة‪! ‬‬
‫البارزة هناك من الفجر حتى الغروب يرقب مياه رومية العذبة الصافية وكوما من أنابيب‬ ‫نحن بقعر واد صغير يبدو وكأنه زمرد خالص كبير وسط صخور صفراء‪ .‬انفتحت‬
‫ضخمة وطويلة نقش عليها اسم‪ :‬تونس‪.‬‬ ‫أمامنا جادة أشجار وزيتون ونخل – من جديد أشجار النخل التي يداعب سعفها قمم‬
‫أشجار الزيتون التي فقدت شحوبتها وكأنه ريش نعام كبيرة‪-‬‬
‫بينما نتقدم‪ ،‬ببطء اآلن‪ ،‬في إعجاب وتأثر بسبب الرؤية غير املرتقبة لهذه اجلنة‬
‫األرضية التي ظهرت بشكل مفاجئ في هذا البلد املوحش ارتفعت أسراب طيور لها‬
‫أجنحة ملونة في حفيف يبدو وكأنه همسات متناغمة غريبة‪ .‬لكن خريرا متزايدا وأكثر‬
‫حيوية يصل إلى مسامعنا‪ .‬أنه ينبعث من مخمل عشب وزهور‪ :‬أنها العني الصغيرة‪،‬‬
‫سيل رومية الذي يجري كخيط فضي رقيق في قعر الواد اليانع‪ .‬تخرج املياه من بني‬
‫طبقة حصوية مصقولة ثم تختفي لتظهر من جديد بعيدا من هناك صافية وعذبة‬
‫وهي جتري في ظل أشجار النخيل والزيتون وبعض أشجار اخلروب اجلليل القامت‪.‬‬
‫عند عقفة مفاجئة للوادي اختفى اجلدول الذي تنبسط عليه هنا وهناك أغصان‬
‫كروم لها أوراق كبيرة منفتحة على الشمس في عمق األرض‪ .‬لكنه عاد للظهور بعيدا‬
‫من هناك ببعض مئات األمتار حتت القرى األربعة الصغيرة للرومية املبنية على جنبات‬
‫اجلبل كقالع قرى من العصور الوسطى وقد ازدادت حمولته ليهوي من علو حوالي ثالثني‬
‫نساء يغسلن املالبس في عني الرومية‬
‫مترا نحو األسفل‪.‬‬
‫إنها حكاية مريرة بالنسبة لسكان يفرن‪ ،‬فهم يتوفرون على العني وتلك األنابيب‬ ‫تنزل نحو هذه العني الصافية من القرى األربعة ومن يفرن دون توقف النساء الالئي‬
‫التي ال جتدي‪! ‬‬ ‫يأتني ألخذ املاء وغسل الثياب‪ .‬أنه موكب بطئ لظهور منحنية حتت ثقل جرات الفخار‪،‬‬
‫منذ سنوات وبسبب اخلصاص الذي تعرفه يفرن على مستوى املياه ارتأى األتراك أن‬ ‫لكن مجموعة غريبة استرعت انتباهي بشكل خاص‪ :‬مرت برشاقة هيئة امرأة تضع شاال‬
‫عني الرومية البعيدة عن مركز اجلبل بحوالي خمس كيلومترات فقط ميكنها أن تزوده‬ ‫بدويا يكاد يخفي وجهها أمام نساء أخريات يقفن في وضع غريب فوق حافة منحدر‪ .‬أنها‬
‫مبا يكفيه من املياه و كلفوا مقاوال من تونس لبناء أنابيب لهذه الغاية‪ .‬لكن عمل هذا‬ ‫لوحة مكتي‪ Michetti 1‬وقد دبت فيها احلياة أمام عيني‪ :‬أنها ابنة جوريو ‪ Jorio‬وهي متر‪...‬‬
‫التونسي لم يحقق سوى نتائج هزيلة منذ البداية مما جعل األتراك يتوجهون نحو مقاول‬ ‫بينما أنا منحن في العني ألبلل شفاهي إذا بهيئة أخرى تقف أمامي حتت شجرة من‬
‫آخر من قسنطينة‪ .‬من السيئ إلى األسوأ‪ ! ‬فقد بدأ هذا من حيث كان يجب أن ينتهي‬ ‫تني‪ .‬أنه يهودي من نوع عجيب‪ ،‬جد هرم‪ ،‬ذو عظام بارزة ومظهر كاسر‪ .‬كان يرفع يده وكأنه‬
‫أي أنه شيد أوال وقبل كل شيء اخلزان الذي كان سيستقبل املياه في يفرن‪ ،‬ثم بدأ بوضع‬ ‫يتأهب لالنقضاض على فريسة معلقة في األعلى‪ .‬ثم رجع إلى اخللف خوفا أو توجسا‬
‫األنابيب على طول بعض الكيلومترات‪ .‬امتدت األعمال على مدار سنتني وعند وضع كل‬ ‫محدقا إلي بحدة وعدوانية‪ .‬يبدو وكأنه طير صيد بوغث في عشه أو عنكبوتا يتوقف‬
‫مائة متر من األنابيب كان املقاول املكار يطلب املزيد من املال لالستمرار في عمله‪.‬‬ ‫‪ - 1‬فنان إيطالي وولد سنة ‪ 1581‬وله لوحات عديدة عن البراري ومشاهد توراتية (املترجم)‪.‬‬

‫‪63‬‬ ‫‪62‬‬
‫م‪ .‬كورسي‬

‫بعد نفاذ املبلغ الذي خصصته احلكومة لهذا الغرض تطلب األمر من جتار يفرن أداء‬
‫الباقي‪ .‬رغم ذلك فإنهم انتشوا في يوم سعيد برؤية هذا العمل منجزا‪ .‬طبعا كان منجزا‬
‫لكن ولغياب الضغط الضروري فان املياه لم تبلغ قط خزان يفرن كما لم تبلغ السلطات‬
‫التركية وجتار املدينة قط هذا املسلم احملتال الذي دفعوا له أمواال أخرى إلحضار املياه‪ ،‬كما‬
‫وعدهم بذلك‪ ،‬آلة عجيبة جللب املاء من الرومية‪ .‬ال أثر ملهندس اسطنبول وال للخمسني‬
‫ألف ليرة التي مت دفعها للتمتع باجلفاف‪ .‬اختفى التركي ومعه النقود‪! ‬‬
‫اليوم يحرس اليهودي الهرم بنفس الغيرة األنابيب الفرنسية املهجورة وعني الرومية‬
‫الفصل السادس‬ ‫العذبة واملاء ال يصل إلى يفرن إال على ظهور النساء البدويات في جرات من فخار‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫من الرومية إلى فساطو الناعسة‬

‫تقييم املسافات عند العرب ‪ -‬وادي اخلاليفة – ممرات صعبة‪ -‬سهل الرياينة – الليمس‬
‫تربوليتانوس‪ -‬أبراج وقلع‪ -‬الغزو الروماني وآثاره – دراية الرومان بأساليب االحتالل ‪ -‬الزنتان‬
‫املوحشة واملريبة‪ -‬سكونية اإلحياء واألشياء‪ -‬قصة إبراهيم‪ -‬ليلة في العراء‪.‬‬
‫الرومية ‪ -‬جادو ‪ -‬فساطو إبريل‬ ‫ ‬

‫تقييم املسافات عند العرب يخضع لنفس طفرات البارومتر‪ .‬اطلبوا من بدوي‬
‫هنا أن يدلكم على الوقت الضروري لبلوغ هذه البلدة أو تلك وسيجيبكم‬
‫إن‬
‫بكل ثقة ودون تردد بعشر ساعات على سبيل املثال‪ .‬واصلوا سيركم لبعض الكلومترات‬
‫وتوجهوا بنفس السؤال ألحد أولئك املارة الذين يغشاهم النوم ويتهيأ لك أنه محكوم‬
‫عليهم بسفر أبدي فوق هذه األرض وسيقول لك في هدوء وبنفس الثقة‪ :‬ثالث ساعات‪.‬‬
‫عندها ينشرح القلب بأمل جميل‪ .‬لكن إذا عاد الشك ليلدغكم بعد مرور ثالث ساعات‬
‫فال تستغربوا إن أكد لكم مار آخر أنه للوصول إلى تلك البلدة يلزمكم سير يومني‪.‬‬
‫هذا ما حدث لنا خالل املرحلة الرابطة من سفرنا بني يفرن وجادو‪ -‬فساطو‪ .‬فقد قيل‬
‫لنا أن – علينا قطع ‪ 45‬كيلومترا للوصول‪ ،‬وفي الطريق كانت هذه املسافة تزداد وتنقص‬
‫كلما سألنا هذا أو ذاك من السكان احملليني ملدة ثالث ساعات تكرر على مسامعنا أننا‬
‫على بعد ثالثني دقيقة من الزنتان بالرغم من أن الشاحنة تتقدم شيئا فشيئا‪ ،‬وحني‬
‫اقتربنا من وجهتنا بعد يوم عسير من السير سألنا صاحب قافلة فأخبرنا بكل وقاحة‬
‫أنه ال يزال أمامنا يوم من السير للوصول إلى فساطو وحلسن احلظ كان خبره احملزن هذا‬
‫غير معقوال‪.‬‬
‫كانت مسافة ‪ 45‬كيلومترا الفاصلة بني يفرن والزنتان بال شك األكثر صعوبة واألكثر‬
‫وعورة في سفرنا عبر اجلبل بدأت األمور تتعقد بعد أن جتاوزنا بساتني الرومية النضرة‪.‬‬
‫فالطريق الوحيد الذي يجب سلكه هو الطريق اخليالي الذي يقتفي آثار خط التلغراف‬
‫التركي الذي يستحق (بني قوسني) كل العرفان منا ألنه كان الشريط املضيء الذي قادنا‬
‫في كل األحوال إلى وجهتنا‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫اخلضراء الكثيرة املعروفة في وسط ايطاليا وبينما أنا كذلك فإذا مبعلمة رومانية أخرى‬ ‫كان التلغراف حتى بستان الزيتون اليانع الذي يتقدم الزنتان يتبع بشكل طبيعي‬
‫تزيد وهمي قوة‪...‬‬ ‫الطريق األكثر اختصارا؛ يتسلق أكمات وعرة وينزل في أودية ذات جدران صخرية‪ ،‬يقطع‬
‫اكتشفنا هذه املعلمة على اجلانب األيسر من طريق القوافل وخط التلغراف حيث‬ ‫سهوال مهجورة وحقول شعير خضراء وكان لزاما على شاحنتنا فعل نفس الشيء‪.‬‬
‫تتالحق عدة أكمات صغيرة يغطيها خباز وأزهار أقحوان تبدوا كأصداف من ذهب‪،‬‬ ‫واجهتنا أولى الصعوبات مبا للكلمة من معنى في واد اخلاليفة على بعد ‪ 20‬كيلومترا‬
‫وخشخاش أحمر وأزهار النبتلي العطرة؛ وهي تبدوا‪ ،‬أي األكمات‪ ،‬كأنها أمواج خضراء‬ ‫من يفرن وبالضبط في مفترق طرق به أشجار زيتون وغنى بآبار بها كميات ال بأس بها من‬
‫لبحر شديد اخلضرة‪ ،‬يتموقع اإلحتالل الروماني هنا أيضا بالضبط مع اجلزء األكثر‬ ‫املياه يعود واحد منها حسب ما بدا لي إلى الفترة الرومانية ألنه شيد بحجارة جد مربعة‬
‫خصوبة من البلد‪ ،‬لم يبق حاليا على املرتفع الزمردي سوى اآلثار السطحية ملا كان‬ ‫وموضوعة بشكل منتظم فوق بعضها البعض‪.‬‬
‫حسب اعتقادي قلعة رومانية‪ .‬يبدو شكل البناية واضحا وهو عبارة عن مضلع رباعي‬ ‫كان لزاما علينا عند نقطة معينة من سهل اخلاليفة‪ ،‬للسماح لشاحنتنا ‪ 340‬باملرور‬
‫من ‪ 50‬مترا تقريبا‪.‬‬ ‫من طريق يختلف مستواه بشكل بارز تشييد شطر من هذا الطريق يبلغ طوله ‪ 30‬مترا‬
‫وذلك برفع ما يجب رفعه منه بحجارة كبيرة وحفر ما يجب خفضه بالفأس‪ .‬اشتغل‬
‫أعضاء السرية ألكثر من ساعتني حتت الشمس احلارقة بحماسة وانضباط وكأنهم‬
‫حشد من جند الهندسة أو من املتسلقني‪ .‬كان قائدنا وصديقنا املالزم بوريلو يحثنا على‬
‫العمل ويخلص فيه‪ .‬كان من الضروري املرور مهما كلف ذلك ألنه لم يكن هناك من‬
‫سبيل آخر‪.‬‬
‫كنا ننهي األمتار األخيرة من املمر عند ما التحقت بنا قافلة من خمسني رجال تقريبا‪.‬‬
‫ترك هؤالء اجلمال تواصل طريقها املألوف في هدوء والتفوا حولنا في فضول وساعدونا‬
‫في آخر األمر في دفع الشاحنة الثقيلة لتجاوز النقطة الصعبة واخلطيرة من الطريق‪.‬‬
‫لكن عمل املعول والفأس لم ينته بعد‪ :‬لعدة كيلومترات كان على شاحنتنا الوفية‬
‫التقدم بحذر‪ ،‬والتوقف عند كل بضع مئات األمتار للسماح لنا بتفقد أفضل املمرات أو‬
‫لتمهيد الطريق بإزالة الدرجات املفاجئة التي تعوق سيرنا‪.‬‬
‫وصلنا في حوالي منتصف النهار – كان املقياس احلراري يسجل ‪ 36‬درجة‪ -‬إلى سهل‬
‫آثار رومانية في جادو‬
‫شاسع أال وهو سهل الرياينة الذي تنتشر فيه حقول صغيرة مت حرثها حديثا وتبقعه‬
‫فوق مرتفع قريب من هذه البقايا‪ ،‬على بعد ‪ 200‬متر تقريبا في األعلى‪ ،‬تالحظ بقايا‬ ‫حقول شعير يانع‪.‬‬
‫بناية أصغر رمبا كانت مركز حراسة متقدم أو برجا للمراقبة‪.‬‬
‫تعتبر الرياينة واحدة من أخصب مناطق اجلبل‪ .‬البد طبعا لساكنة لها ميوالت‬
‫هنا أيضا خلفت الهندسة االستعمارية لروما آثارا خالدة‪ .‬من هنا إذن كان مير الليمس‬ ‫فالحية بارزة أن تعيش في هذه األرض ومنها لكن ورغم إنني أمعن النظر لم استطع‬
‫تريبوليتانوس املشهور‪ ،‬الطريق العسكري التجاري الكبير الذي ينطلق من نالوت مارا‬ ‫لكيلومترات وكيلومترات رؤية ظل مخلوق حي‪.‬‬
‫بيفرن ومن هناك عبر واد لبدة في لبدة والذي شيد القادة الرومان على طوله قالعا‬
‫ومراكز للحراسة جلعل الطريق الرابط بني تونس وسرت أمنا وإلحكام سيطرتهم على‬ ‫لم يكن هذا الغياب الغريب لألهالي إال ليزيد من توهمي إني أعبر إحدى املناطق‬
‫األهالي وحمايتهم من الغارات املتكررة (القادمة) من اجلنوب‪.‬‬

‫‪69‬‬ ‫‪68‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫ليس فقط في املسافات ولكن أيضا بني األسماء احلالية واألسماء الالتينية‪ .‬لم يعد‬ ‫يزودنا الدليل الالتيني الذي تركه انطوان ‪ Antinino‬وألواح بوتنغر ‪ Peutinger‬بأسماء‬
‫هناك إذا أي مجال للشك‪ :‬من نالوت إلى يفرن ميتد خط البروج والقالع على قمة اجلبل؛‬ ‫كل املراحل و البنايات العسكرية الفالحية التي شيدها الرومان في اجلبل في إشارة إلى‬
‫من يفرن ينزل نحو اجلنوب شرقا لتفادي الشعب اجلانبية الوعرة لغريان وترهونة ثم يتبع‬ ‫طريق تاكابي ‪ Tacapè‬املعروف (من قابس إلى لبدة الكبيرة)‪ .‬كما هو معلوم مت التعرف‬
‫واد متسينان لينتهي في لبدة الكبيرة‪.‬‬ ‫على مراحل هذا الليمس ذو األهمية اإلستراتيجية والتجارية بشكل كلي تقريبا في‬
‫يحدثنا هذا الليمس الذي يعبر املدرجات اخلضراء التي أطلق عليها هردوت "اكمات‬ ‫تونس في حني مت االكتفاء في املقطع الطرابلسي منه بالفرضيات مبا أن األتراك لم تكن‬
‫النعم" عن أهمية الهيمنة الرومانية في طرابلس‪ .‬هناك كان يسكن املعمرون وموظفوا‬ ‫لديهم قط الرغبة في فتح أبواب األجزاء الداخلية من البالد في وجه املستكشفني‬
‫روما الذين حتولوا إلى مدرسني وولوا مهام نشر اللغة واملعرفة الفالحية والفن املعماري‬ ‫األوربيني‪ .‬بطبيعة احلال اتضح أن هذه الفرضيات التي متت بلورتها مؤخرا خاطئة أو غير‬
‫الروماني‪ .‬كانت احملطات الرومانية املوزعة بشكل محكم فوق هذا املرتفع‪ ،‬كما تبني‬ ‫صحيحة في مجملها بسبب عدم معرفة البنية اجلغرافية للبالد‪.‬‬
‫البقايا ذلك‪ :‬تسمح للمسافرين باالرتياح كل ليلة في مكان آمن من قابس حتى اخلمس‪.‬‬ ‫كان بعض علماء اآلثار يشيرون إلى أن الليمس مير من غدامس لكن خط الرحلة هذا‬
‫كان يشرف على حراسة هذه احلصون والقالع حاميات عسكرية رومانية حقيقية ال‬ ‫يتجاوز بشكل واضح املسافات التي تشير إليها النصوص الالتينية‪ ،‬أكثر من هذا كيف‬
‫مثيل لها‪ .‬لم تكن الفيالق الرومانية تزود هذه احلاميات بالرجال‪ .‬فروما البخيلة بدمائها‬ ‫كان ميكن للخط الروماني أن مير بغدامس إذا كان اسم سيداموس ‪ ،Cydamus‬أي البلدة‬
‫وثرواتها كانت تفوض عادة حراسة حدودها البعيدة لعساكرة من األهالي يؤطرهم‬ ‫األكثر أهمية باملناطق الداخلية لطرابلس‪ ،‬غير وارد في مرجع انطوان ‪Antinino‬؟ اعتقد‬
‫قادات املائة (عند الرومان) وقادات العشرة (عند الرومان) تقريبا كجيوشنا السوداء في‬ ‫البعض اآلخر من العلماء أنه ميكن للخط أن مير باجلفارة لكن ال أدري على أي أساس مبا‬
‫إريتريا واالسبايي‪ Spahis 1‬في تونس واجلزائر الذين يؤطرهم ضباط وصف ضباط أوروبيني‪.‬‬ ‫أنه ال توجد أي معلمة رومانية بهذا السهل تشهد على ذلك‪ .‬فضال عن هذا‪ ،‬أي فائدة‬
‫كل هؤالء األعوان‪ ،‬سواء كانوا فرسان االلوكا أو مشاة الكوروتس‪ ،‬كانوا يخدمون بوفاء‬ ‫كان سيجني املعمرون الرومان األذكياء واملتمرسني في وضع طريق كبير في الصحراء‪! ‬‬
‫كبير حتت إمرة الضباط الفرسان‪ .‬كانت هذه الوحدات احمللية تؤدي خدمات جليلة ألن‬ ‫جمع دوفيري ‪ Duveyrier‬دالئل محلية انطلق منها تيسوت ‪ Tissot‬لوضع الطريق القدمي‬
‫الرومان كانوا يسهرون على توجيهها إلى أماكن تالئمها أكثر ويتركونها بها بشكل‬ ‫في املنطقة الوسطى للجبل‪ .‬لكن لو أن تيسوت قطع هذه املناطق مرة واحدة وعاين‬
‫دائم‪ .‬بتعودها على املناخ احمللي وتآلفها مع الساكنة احمللية ومع أساليب العدو الذي‬ ‫هذه املتاهة من األودية العميقة والقمم املقفرة لكان بال شك سيغير كثيرا من رأيه‪ .‬إن‬
‫كان يتشكل كما اليوم من القبائل الرحل وقطاع الطرق فان هذه امللشيات كانت تقوم‬ ‫األطالل التي يذكرها ليست سوى آثار بربرية يعتقد سكان اجلبل أنها رومانية وهذا كل‬
‫مبهامها دون ارتكاب أخطاء فادحة كالتي تقع فيها باستمرار– حاميات مستعمراتنا‪.‬‬ ‫ما في األمر‪.‬‬
‫إذا ألقينا نظرة عامة على كل بقايا احلضارة الرومانية هذه في اجلبل ال ميكننا سوى‬ ‫إن من استطاع أن يعرف بشكل موثوق به الليمس تربوليتانوس في السنوات األخيرة‬
‫االعتراف بأن ازدهارا كبيرا وحقيقيا عم هذه األراضي املرتفعة خالل القرون اخلمسة‬ ‫هو ماثيوزيو هذا السائح الفرنسي الذي حالفه احلظ في عبور جزء كبير من طرابلس‬
‫األولى من عصرنا‪.‬‬ ‫وتولد لديه اليقني مرورا من بلدة إلى أخرى بأن الليمس كان يعبر اجلبل خلف املنطقة‬
‫يظهر من تقييم‪ ،‬تقريبي بالطبع‪ ،‬أن الزراعات القدمية لم تكن تغطي في مجملها‬ ‫األكثر تقطعا‪ .‬وقد أثار انتباهه عند مروره من الزنتان التشابه املوجود بني تنتيوس‬
‫سوى ربع املساحة الكلية للمنطقة لكن النوعية كانت تعوض الكمية مبا أن املؤسسات‬ ‫‪ Thenteo‬أو زنتيوس ‪ Zenteos‬والزنتان ‪ Zintan‬وكما هو معروف فان زوج األحرف –‪-Th‬‬
‫الفالحية كانت‪ ،‬حسب قول املؤرخني‪ ،‬غنية بشكل خارق للعادة‪ .‬لقد عرف الرومان كيف‬ ‫الليبي ينطق كنظيره اإلجنليزي‪ .‬إذا كانت فرضيته صحيحة فال شك أن هناك بقايا‬
‫يجعلوا من طرابلس التي وجدوها قاحلة بلدا جميال‪ .‬كان التطور حتت إدارتهم مستمرا‬ ‫رومانية بالقرب من هنا‪ ،‬في سهول املرتفع القريبة جدا‪ .‬وقد عثر على هذه البقايا فعال‬
‫وتتمثل في قصور وقبور وقرى شيدت كلها بحجارة مربعة‪ .‬انطالقا من هنا استطاع‬
‫‪ - 1‬وحدة عسكرية فرنسية كانت تنسق اجلنود من األهالي في تونس واجلزائر (املترجم)ژ‬ ‫التعرف على بلدات أخرى من تلك التي يذكرها انطوان في رحلته‪ :‬كان هناك تطابق دائما‬

‫‪71‬‬ ‫‪70‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫من يفرن‪ .‬تبدو وكأنها قلعة نحتت في صخر قاحل وجففتها أشعة الشمس‪ .‬هناك‬ ‫فأينما حطوا رحالهم كان املعمرون يعرفون سبيلهم إلى املاء في أعماق اجلبال ويعملون‬
‫اختالف صارخ بني هذه البلدة املوحشة وطبيعة الرياينة اخلصبة جدا‪ .‬مع ذلك فالزنتان ال‬ ‫على تخصيب التربة‪ .‬كانوا خبراء في أساليب االستعمار‪ .‬كانت روما جد بعيدة والزالت‬
‫تشكو من ندرة املياه‪ ،‬على عكس من ذلك أكد لي أحدهم أنه في الوادي الواقع في اجلزء‬ ‫كذلك اليوم أيضا‪ .‬وهذه حقيقة أدركها مجلس الشيوخ آنذاك وترك حكم املستعمرة‬
‫الشمالي الغربي توجد عدة خزانات مائية وأن عينا جيدة تنبجس في وادي حسباك على‬ ‫بشكل كلي في أيدي ممثليه‪ .‬وأدرك هؤالء الرجال املتمرسني أنه يستحيل عليهم احتالل‬
‫بعد ساعة من السير‪.‬‬ ‫بلد شاسع كهذا دون مساعدة من السكان األصليني فعملوا على كسب ودهم بدهاء‬
‫تشكل ثالثة أو أربع جتمعات سكنية شبه بدائية‪ ،‬أي خليط من مساكن حتت أرضية‬ ‫و حكمة‪ :‬لم يفرضوا عليهم مؤسسات العاصمة الرومانية ولم يلغوا أشكال اجملالس‬
‫(كهفية) وحوالي ‪ 500‬كوخ من دور أرضي‪ ،‬تشكل البلدة التي‪ ،‬وكما قلت‪ ،‬مييزها طابع‬ ‫البلدية التي كانت قائمة عندهم واقتصر حتديثهم على إعطاء قبائل البدو حق املواطنة‬
‫موحش وبدائي‪ .‬بالنظر إليها من األعلى‪ ،‬وألن املساكن منكمشة على نفسها في شكل‬ ‫واالمتيازات التي تترتب عنها‪.‬‬
‫قدح رمادي‪ ،‬تبدو وكأنها مقبرة أثرية قدمية مت الكشف عنها‪ .‬بالفعل تنبعث من كل فج‬ ‫هكذا استوعبت واحتضنت ديانتهم معتقدات السكان األصليني؛ اختلط اآللهة‬
‫في القرية ريح غريبة مفعمة بالسكينة واملوت وقد نفترض أن شعبا برمته لقي حتفه‬ ‫بكاكس ‪ ، Bacax‬بالديز ‪ Baldiz‬إلى آخره بدين السكان اجلدد ومت تبني آلهة افريقية‬
‫هنا بقدر وقضاء‪.‬‬ ‫أخرى حتى في روما حيث أصبحت اآللهة كويلستس ‪ Dea Coelestis‬تانيت ‪ Tanit‬وبان‬
‫بتوفر السنوسيون هنا في حي الگواسن على زاوية ذات أهمية وميلكون قطيعا كبيرا‬ ‫هامون ‪ Baan Hammoun‬صار ساتورن األكبر ‪ ....Saturno‬وهكذا امتد نفوذ روما بعيدا‬
‫من اجلمال اخلاصة للتوالد‪ .‬مبا أن البلدة حتيط بها أنضر حقول الزيتون في اجلبل فإنها‬ ‫حتى وصل إلى غدامس بل أبعد من ذلك وصل حتى إلى فزان‪.‬‬
‫تعج مبعاصر الزيتون التي تديرها جمال تغطى أعينها على الطريقة التقليدية‪.‬‬ ‫حقا إن الرومان أمضوا قرونا لتحقيق ذلك االزدهار الذي يجب أن ننشده نحن اليوم‪.‬‬
‫روى لي فيما بعد أن ساكنة الزنتان تعتبر واحدة من تلك التي ال تؤمتن في اجلبل وأنه‬ ‫ولتكن أثار ماضينا اجمليد هذه تذكيرا وحتذيرا وحافزا لنا حتى تعود األيام السعيدة إلى‬
‫كثيرا ما دخلت في صراع طاحن مع قبائل البلدات القريبة منها وبأنه سنوات مضت‬ ‫هذه األراضي اجلبلية التي أصبحت تابعة لروما من جديد وبشكل دائم‪.‬‬
‫اغتيل بها رائد تركي كان على رأس حامية عسكرية صغيرة وأن الباروني كان يعول‬ ‫سترافقنا آثار روما حتى أقصى نقطة في اجلبل‪ .‬لترك كتل القلعة الرومانية الصامدة‬
‫بشكل خاص على أناسها خالل حكمه الوهمي الوجيز‪ .‬هذا ما يقال‪ .‬لكن الزنتانيني في‬ ‫وتاريخها اخلالد ونستأنف طريقنا الذي ال يزال طويال‪.‬‬
‫احلقيقة استقبلوا بخضوع ال ريب فيه اجلنود االيطاليني‪ ،‬وأنا‪ ،‬في الزنتان كما في أماكن‬ ‫واصلنا سيرنا دون مصادفة أي مخلوق حي وسط أراضي رائعة وحقول من شعير‬
‫أخرى‪ ،‬تأكدت من املغاالة واإلصرار الساذج في االعتقاد على أن الرومي سيواجه عدوانية‬ ‫وبساتني تني أقزم يبدو أنها تنتظر بشغف منذ سنني طويلة معمرين مجدين وأذكياء‪.‬‬
‫شرسة ال تقاوم إذا ما قام بأية محاولة للتوغل في طرابلس وهذا أمر يبقى في عاتق من‬ ‫علمت من إبراهيم‪( ،‬الزابيطة الفزاني) الذي وقع عليه االختيار كمرشد لنا في يفرن‪،‬‬
‫كانت له بواعث خاصة ليكون األمر كذلك‪.‬‬ ‫أن هذا السهل اجلميل يزرعه سكان قرى أهلة تركناها على مييننا بعيدا في الشمال‬
‫لنقنع أنفسنا اليوم بأن العربي الطرابلسي له عيوب شتى‪ ،‬عيوب مميزة جلنسه‪ ،‬لكن‬ ‫بني األودية وكان يقصد بذلك أوالد علي‪ ،‬أوالد عبد العني وأوالد عبد العزيز وكلها قرى‬
‫مت ثلبه أكثر مما يستحق وذلك بالنسب إليه نوعا من التطرف الديني املتحجر وحتى‬ ‫يسكنها عرب مساملون ال يهتمون سوى بالزراعة والرعي‪.‬‬
‫إن كان هذا التطرف موجودا فإنه يظل نسبيا‪ .‬وماذا لم يقل عن البربري حتى األمس‬ ‫بعد عبورنا أيضا لبستان الزيتون النطر الذي تريد األسطورة أن يكون سليمان هو‬
‫القريب؟ لقد جعلنا منه مخلوقا فوضويا وشرسا قد يواجه ويدفع من أعلى قصوره في‬ ‫غارسه وصلنا إلى الزنتان‪.‬‬
‫اجلبل أي هيمنة مسيحية ولو تطلب ذلك قرونا حبا منه الستقالليته واعتزازا بعرقه‪.‬‬
‫الزنتان بلدة غريبة يسكنها خمسة أو ستة آالف نسمة تقع على بعد ‪ 45‬كيلومترا‬

‫‪73‬‬ ‫‪72‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫إلى أولئك الذين جتاوزناهم الحظت نفس االنفعالية‪ ،‬نفس السكون اجلماعي الشرس‪.‬‬ ‫ترحل اآللهة وحتى األساطير تتجرد من مغزاها كما تتجرد الوردة من أوراقها‪ .‬إن ذلك‬
‫لتفادي التفكير في طول املرحلة حاولت جتاذب أطراف احلديث مع إبراهيم مستعينا‬ ‫احلاجز الذي اعترض ألمد طويل وبشراسة التوسع الفرنسي في أفريقيا‪ ،‬أي اإلسالم‪ ،‬لم‬
‫باحلركات حيث تخونني الكلمات العربية‪.‬‬ ‫يعد مصدر إزعاج لنا أكثر من الالزم‪ .‬لقد سبرنا أغواره في اجلبل وسوف تتأكد أكثر من‬
‫هذه احلقيقة بتوغلنا في داخل البالد بشكل أكبر‪ .‬إن الدين احملمدي الذي حاول كعقيدة‬
‫كما سبق لي القول فإن إبراهيم رجل قوي ولطيف من فزان‪ .‬البد أنه الزال في ريعان‬ ‫ووسيلة للعمل السياسي حتى األمس سد الطريق أمام أي غزو مسيحي مستغال في‬
‫شبابه وتفاديا للحرج سوف لن أحاول حتديد عمره‪ .‬فكل شيء في هؤالء العرب يلفه‬ ‫كثير من األحوال كبديل للمواجهة املفتوحة لقوى النصر املسيحية معارضة صماء‪،‬‬
‫الغموض والسرية‪ .‬فضال عن ذلك فهو نفسه يجهل عدد السنني التي عمرها‪.‬‬ ‫حرب تأثير ودعوة مع األمل الذي يطبعه اإلميان بأن الرسول سوف يجلي يوما عن األرض‬
‫هكذا حدد لي نفر متواضع من أتباع اإلسالم ببساطة ودون معرفة بذلك الفرق‬ ‫املقدسة الكافر امللعون؛ قد غير هذا املذهب من هيئته‪ ،‬على األقل في طرابلس‪ .‬بل أجرؤ‬
‫األساسي بني العالم اإلسالمي وعاملنا‪.‬‬ ‫على القول بأن زمنه قد مضى مثله مثل غالب األشياء في هذا العالم‪ .‬لنترك األمور‬
‫في يوم كان فيه الناس ميوتون جوعا في بلده فزان ترك إبراهيم زوجته وأبناءه واجته‬ ‫تتخذ مجراها الطبيعي ولنعد إلى طريقنا‪.‬‬
‫نحو الشاطئ‪ .‬جنده األتراك في يفرن كزابيطة ثم اضطرته الظروف إلى الدخول في‬ ‫كان الطريق لبعض الكيلومترات بعد الزنتان شاقا و مليئا باحلجارة وتخترقه أودية‬
‫خدمة الباروني وها هو اليوم يعمل أجيرا لنا‪ .‬ال يتأسف لرحيل األتراك وال يتألم لهزمية‬ ‫عميقة‪ ،‬وبعد ذلك دخلنا في سهب ال ينتهي ولم يكن هناك من شيء يكسر رتابة‬
‫وفرار ثائر اجلبل ويخدمنا اليوم بوفاء وطوع ألننا نعامله معاملة إنسانية سوى على‬ ‫منظره سوى بعض أشجار اخلروب املعمرة أو بعض الواحات الصغيرة من أشجار زيتون‬
‫مستوى املادي واملعنوي‪ :‬نؤدي له أجرا أفضل بكثير مما كان يؤديه له ساداته القدماء وهذا‬ ‫تنفش الرياح أوراقها‪.‬‬
‫حالنا مع كل مأجورينا تقريبا‪.‬‬ ‫لم نصادف لعدة كيلومترات أي مخلوق حي وبينما نحن كذلك التحقنا ببعض‬
‫أثناء هذا كانت الكيلومترات والساعات متر في بطء وسط هذا املشهد اململ‪ .‬أسدل‬ ‫القوافل وتركناها خلفنا‪.‬‬
‫الليل كحلته على األرض واحتجب األفق ولم يبق من األحياء حولنا سوى السماء التي‬ ‫إن أمر رجال القوافل عجيب‪ ،‬خطاهم بطيئة‪ ،‬هادئة وتقريبا آلية‪ .‬يسير كل منهم‬
‫يعمرها عدد غريب من عوالم أخرى‪ .‬استمرت الشاحنة في سيرها بقيادة ضوء عجيب‪.‬‬ ‫بجانب جمله وال يلتفت وال ينظر إال أمامه وكأن العالم احمليط به غير موجود بالنسبة‬
‫وسحري حتت هذه القبة السوداء وهو ينبعث من أكثر النجوم زرقة وتوهجا‪ ،‬من جنم‬ ‫إليه أو أنه يوجد منه فقط ذلك الدرب الضيق احملدد منذ قرون والذي تتبعه دابته الناعسة‬
‫سيريو امللكي املرجت كحدقة إلهية في األفق الذي توسده كحلة ظالم الليل الدامس‪.‬‬ ‫املتمايلة‪ .‬يبدو قائد القافلة املهيب اجلاثم على ظهر أحد جمال املؤخرة بوجهه املربع‬
‫لم يعد أي منا يتكلم‪ ،‬فقط نبض الشاحنة املنتظم وحده يجرأ على خرق سكوت‬ ‫باللحية التقليدية السوداء وكأنه أسقف خرج في رعاية أسقفية‪.‬‬
‫هذه الليلة اإلفريقية الكوكبية‪ .‬رمبا تكون هذه أول مرة نحس فيها أيضا أننا كعابري‬ ‫بعيدا من هناك‪ ،‬ومبا أن الليل بدأ يلقي بظالله‪ ،‬حطت قوافل أخرى رحالها في السهل‪.‬‬
‫احللم األسطوريني‪.‬‬ ‫يبدو أولئك اجلمالون في سكونهم وجلوسهم أرضا وأيديهم قابضة على ركبهم ملفوفني‬
‫عاد بنا إلى ارض الواقع صياح دو نبرة ميالنية (نسبة إلى ميالنو) صادر عن السائق‬ ‫في برانيسهم وكأنهم متاثيل قدمية‪ .‬ال شيء ينم عن احلياة في وجوههم الشاحبة سوى‬
‫الضخم الذي أوقف الشاحنة في منحدر وعر ومظلم‪:‬‬ ‫أعينهم‪ .‬تكاد أطيافهم تختلط بسطح األرض في ظلمة املساء‪ .‬ينظرون إلينا على ظهر‬
‫‪ -‬يستحيل السير أكثر من هذا في هذا الظالم‪ .‬يبدو الطريق كسرير حجري لنهر‬ ‫الشاحنة النفاثة التي يصادفونها بالتأكيد ألول مرة على طريقهم دون استغراب مفرط‬
‫جبلي‪...‬‬ ‫ودون اهتمام كبير في ال‪-‬انفعالية قدماء احلكماء‪ .‬قد يهيأ للمرء أن كل واحدة من تلك‬
‫اخمللوقات تود أن تتجاهل كل شيء حتى وجود مخلوق آخر بالقرب منها‪ .‬عندما ألتفت‬

‫‪75‬‬ ‫‪74‬‬
‫م‪ .‬كورسي‬

‫دخلنا في اجتماع حربي مصغر متخض عنه استحالة استئناف السير في طريق‬
‫كهذا ليال‪ .‬ال نعرف أين توجد جادو‪-‬فساطو وعلى أية مسافة تقع‪ .‬ليس أمامنا من خيار‬
‫سوى التوقف على الطريقة واالستلقاء أرضا واالستسالم للنوم في العراء‪.‬‬
‫بعد االتفاق على تولي حراسة قافلتنا بالتناوب استلقينا أرضا منهوكني وتركنا بريق‬
‫النجوم يطرق جفوننا‪.‬‬
‫تغلب العياء على صالبة سريرنا احلجري وعلى العطش وعلى اجلوع وحتى على البرد‬
‫الفصل السابع‬ ‫القارس‪...‬‬

‫‪76‬‬
‫جادو‪-‬فساطو مدينة النوم‬

‫كازا فساطو ‪ -‬أطالل وخمول‪ -‬املقابر اإلسالمية – األذان ‪ -‬عني تسنوگدت ‪ -‬فيكني‬
‫امللقب بدو اللحية النحاسية‪.‬‬
‫جادو ‪ -‬فساطو‪ ،‬إبريل‬ ‫ ‬

‫أدري كم استغرقنا في النوم‪ .‬فقد كان الفجر يبزغ عندما استيقظت‬


‫على ضجيج مفاجئ‪ .‬بالقرب مني كان ال يزال الرفيق الذي تطوع‬
‫لست‬
‫باألمس للقيام بالساعتني األوليتني من احلراسة نائما نوم البراءة وهو ميسك ببندقيته‬
‫بني يديه وركبتيه‪ .‬هكذا ولهذه الليلة كانت النجوم وحدها حارسة لنا‪ .‬كان الضجيج‬
‫الذي سمعته صادرا عن نصف فرقة عسكرية قادمة من فساطو‪ .‬قال لنا الضابط‬
‫املرافق لها ‪ :‬يجب قطع آخر طلعة على األقدام للوصول إلى البلدة‪ .‬وهكذا حملنا متاعنا‬
‫املتواضع على أكتافنا واجتهنا إلى فساطو‪.‬‬
‫تعتبر جادو مركزا ملنطقة فساطو ولها أربع مديريات تابعة‪ .‬تقع البلدة على علو‬
‫‪700‬م فوق سطح البحر وتنقسم إلى شعبتني كبيرتني ويبلغ عدد سكانها حوالي ‪15‬‬
‫ألف نسمة تتعاطى باألساس للرعي وجمع الزيتون ألن املنطقة في معظمها فقيرة‬
‫وكثيرة احلجارة وال توجد بها مصادر أخرى‪ .‬على األقل إلى يومنا هذا‪ ،‬ألنه لم يتم بعد‬
‫استغالل املناجم فيها ويبدو أنها جد هامة هنا‪.‬‬
‫رغم تعدد عناصرها الفنية فإن فساطو ليست بالطبع بلدة جميلة‪ .‬تلتف كعقد‬
‫أطالل في منتصف اجلبل حتت القصر الذي يتوفر على نفس الهندسة املعمارية الصلبة‬
‫لباقي قصور اجلبل‪ ،‬على نفس اجلدران اخلشنة املنخفضة وعلى نفس الغرف الصغيرة‬
‫القذرة في الداخل‪ .‬تبدو البيوت بالنظر إليها من هذا القصر العفن كأنها ركام من احلجر‬
‫والتراب‪ .‬ال تستجيب حقا ألي من متطلبات احلياة‪ .‬تتوفر على أبواب منحرفة‪ ،‬نوافذها ال‬
‫شكل لها‪ ،‬أسقفها توشك على السقوط إن لم تكن قد انهارت‪ .‬تنتصب هنا وهناك‬
‫بروج فظة متواضعة وهي عبارة عن مراصد قدمية‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫قيل لي أنه الزالت توجد في مقاطعة فساطو النماذج األكثر أصالة لإلنسان البربري‬ ‫أما هي فهي مدينة للنوم‪ .‬النعاس واخلمول هنا في كل مكان‪ .‬يبدو أن شعبا يخبو هنا‬
‫القدمي في طرابلس‪ :‬وقد وجدت بها فعال أشخاصا لهم قامات تتجاوز املتوسط العام‪.‬‬ ‫في فقره‪ ،‬في أنيميا ال شفاء لها وفي خرافات املاضي‪ .‬األزقة عبارة عن منعرجات متاهة‬
‫لهم أجساد متناسقة وقوية العضالت رغم أنها أقل رشاقة من العرب‪ ،‬أشخاص لهم‬ ‫هادئة تعبرها ببطء أشكال أدمية غير محددة‪ .‬هنا وهناك متر امرأة ملفوفة ومحجوبة‬
‫بشرة سمراء‪ ،‬شعر كثيف أسود وأجعد‪ ،‬أعني قامتة‪ ،‬أنف مستقيم‪ ،‬وجه بيضوي الشكل‬ ‫في كتان أبيض أكثر مما تكون عليه اجلثة في كفنها‪ .‬أو رجل دو خطى ثقيلة ال وجهة له‬
‫وجبهة واسعة‪ ،‬لقد التجأوا إلى هذا اجلبال عندما طردهم العرب الغزاة من الساحل‬ ‫هذا كله في هدوء وشدة‪.‬‬
‫وبها أصبحوا يشكلون كإخوانهم في القبائل باجلزائر قبائل جبلية محضة‪ .‬لقد قاوم‬
‫سكان اجلبل هؤالء ببسالة الغزاة لسبعة قرون وعندما توقفت احلروب في السهل‬
‫قاوموا الغزو السلمي ولم يقرب ولو زواج بينهم وبني العرب ألمد طويل‪ .‬لكن اإلسالم‬
‫استطاع شيئا فشيئا وإن بصعوبة تسلق هذه القمم الصخرية فاحتا بذلك اجملال أمام‬
‫قبول تراكمات تقاليد بدائية‪ .‬بعدما كان البرابرة وثنيني ثم مسيحيني أصبحوا مسلمني‬
‫على طريقتهم‪ ،‬وهم جد أوفياء لطائفتهم ومناهضون لإلسالم الرسمي‪ .‬الزال الغموض‬
‫يلف قصة حتولهم الديني هذا‪ .‬لم يعرف لنا املؤرخون العرب مراحله وحتى كتابات هؤالء‬
‫اجلبليني نفسهم باللغة العربية وإن بأحرف أمازيغية تشبه أحرف لغة الطوارق‪ .‬فهي‬
‫محفوظة بغيره في املساجد من لدن القضاة‪.‬‬
‫تكلل هذه املساجد وهي عبارة عن بنايات بئيسة خشنة مت هجر العديد منها اليوم‬
‫في حالة خراب مؤسف‪ .‬الزال علم التاريخ والفلسفة تقليدا يدرس بهذه املساجد لذلك‬
‫ينظر البرابرة إلى هذا اإلقليم وكأنه مكان مقدس‪.‬‬
‫كان يلزمني للوصول إلى القصر أن اقطع مقابر صغيرة متتالية وأن أعبر دروبا جرداء‬ ‫قرية من قرى جادو‬
‫تشبه أودية صغيرة وممرات ضيقة تعرف احلياة واملوت ألنه مير منها األحياء منذ سنني‬ ‫إني أتساءل‪ :‬هل لهذه األقلية املتبقية من ساللة مجيدة يبدو أن سبات القرون ألم‬
‫وسنني ليقودوا األموات إلى مثواهم األخير‪.‬‬ ‫بها وأعي ذاتها؟ أو أنها موجودة فقط كمخلوقات منحطة تخلد إلى الراحة؟ يسهل‬
‫رمبا ألن فساطو تبدو كلها كمقبرة شاسعة أو ألن مهجتي حزينة في هذا الصباح‬ ‫بالطبع من خالل مالمحها املوحدة وانطوائها على نفسها استنتاج غياب أي مجهود‬
‫املضيء وهذا السكون الكبير فإنه انتابني إحساس لم يسبق ألية مقبرة أن أثرت في‬ ‫فكري لديها أكثر من وجود فوضى أفكار وأحالم في قرارة نفسها‪ .‬تتوفر معظمها‬
‫نفسي‪ .‬لم تعد هذه املقابر الصغيرة لفساطو تشكل سوى مقبرة أثرية ممتدة طوال‪ .‬قد‬ ‫على انفعالية الراحة التي تكاد تتاخم النوم بالفطرة‪ .‬لكن يبدو لي أن اجلانب السري‬
‫يهيأ للمرء من بعيد أنها مدن أوربية منغرزة حتى النصف في األرض‪ .‬تبدو قبور الكلس‬ ‫والغامض لهؤالء األشخاص الذين يقضون ساعات وساعات جالسني كأبي الهول وعزة‬
‫وسط األخضر اليانع متساوية وعلى شكل أسقف أو مماثلة أيضا ألغطية مدافن غوطية‬ ‫نفسهم التي ال تركن قط البتسامة حقيقية يعبران عوض ذلك عن شيء ما‪ .‬أحس بقوة‬
‫موجهة كلها نحو القبلة‪ .‬ال يحيط أي سور بهذه املقابر وال اثر فيها ألية منقوشات‪،‬‬ ‫وتأثير أفكار بسيطة ومحددة في هؤالء الناس‪ ،‬تلك األفكار التي تشكل جوهر وأسلوب‬
‫تضم فقط قبورا غريبة مجهولة تأوي أموات اليوم واألمس ورمبا أموات مائة سنة مضت‬ ‫حضارة ما‪ ،‬أفكار من أصل ديني‪ ،‬أفكار تشير إلى ما يليق والى ما ال يليق‪ ...‬لقد تطبع‬
‫دون متييز في مستوياتهم وأعمارهم وجنسهم‪.‬‬ ‫هؤالء الناس باملساجد‪ ،‬فالسكون العنيد لهذا الشعب هو بالضبط سكون األماكن‬
‫التي يصلون فيها‪.‬‬

‫‪81‬‬ ‫‪80‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫الوادي تظهر بلدات صغيرة عديدة وسط حقول غريبة من نخل وتني وزيتون باخلصوص‬ ‫ظهر لي املوت هنا أكثر من أي مكان آخر كعامل تسوية كبيرة لغرور األحياء ال يهتم‬
‫جنّاون التي تعتبر بعني تسنوگدت القريبة منها ركنا صغيرا من جنة عدن‪.‬‬ ‫لقبور الذين أصبحوا في خبر كان‪ :‬فقط القبور احلديثة تزينها بعض غصون الزيتون‪،‬‬
‫وفقط فوق قبور بعض األولياء كدست شمعدانات فخار خضراء وحجارة وال شيء أكثر‬
‫رافقني إليها هذا الصباح أمة في مقتبل العمر نشيطة وكثيرة الكالم قالت لي ‪- :‬‬
‫من ذلك‪.‬‬
‫إن أعطيتني النقود –الفلوس‪ -‬سآخذك لترى املاء ‪ :‬فتعاقدت معها على ذلك فورا‪.‬‬
‫ومع ذلك كم هي تعيسة مقابرنا باملقارنة مع هذه التي يسودها في سناء ضوء‬
‫لم يكن باألمر الهني علي اقتفاء أثارها في املمرات الوعرة املنحدرة التي تقود إلى‬
‫وسكون توحي مبشهد سحري شكسبيري‪! ‬‬
‫العني‪ .‬كانت مبروكة‪ ،‬هذا اسمها‪ ،‬جتري بساقيها الرشيقتني النحيفتني البرونزيتني بني‬
‫احلجارة والشوك كأنها أنثى وعل صغيرة وتستقر جرة كبيرة على رأسها في توازن ال‬ ‫ينبعث من بعض أزقة املدينة حزن أكبر بكثير من ذلك الذي ينبعث من هذه األرض‬
‫تفسير له‪ .‬ومن حني آلخر كانت تلتفت إلى اخللف لتلقي لي بكلمات غير مفهومة‪.‬‬ ‫التي تنتشر فيها القبور‪ .‬إن بيوت األموات هي األكثر حيوية في أواسط هذه الساكنة‬
‫التي يبدو أنها تنطفئ ببطء في سبات وجمود‪ .‬يبدو لي الصوت الذي سمعته وأنا أمر‬
‫بالقرب من مسجد صغير أبيض كأنه قادم تقريبا من عالم األموات‪ .‬إن صوت هادئ جعله‬
‫قرب املسيحيني اليوم أقل قوة وتقريبا خجوال‪ .‬وتعلوه نبرة نواح وصالة‪.‬‬
‫ثالث مرات في اليوم‪ ،‬في نفس التوقيت؛ حني تبزغ الشمس في األفق البعيد وحني‬
‫تصعد في السماء وفي األخير حني ميتقع النهار بسرعة وحتل السكينة على كل شيء‪،‬‬
‫حني تغطي شارة ذهبية السماء من الشرق إلى الغرب وتصبح شيئا فشيئا قرمزية‪،‬‬
‫عندها يقوم املؤذن من فوق تلك الصومعة البيضاء التي تشبه لعبة خشنة من ورق‬
‫مقوى بدعوة الناس إلى الصالة‪ .‬في دعوته هذه ترنيمة طمأنينة وسالم‪ .‬ينشد ذلك‬
‫الرجل وكأنه في حلم عجيب‪ :‬ويبدو لي أن ليس لصوته أي شيء أدمي‪ .‬يبدو غريبا حتى‬
‫لصاحبه وكأنه يأتي من بعيد ليمضي إلى حال سبيله‪ .‬تخرج هذه الدعوة ببطء ودون‬
‫حماسة من أعماق ماضي األجداد‪ ،‬عبرها يحدث األموات األحياء ليأتوهم بالطمأنينة‪ .‬بل‬
‫أنهم يكادون ينيمونهم‪ ...‬تتكرر الدعوة أربع مرات‪ .‬يدفع املؤذن برأسه إلى اخللف ويضع‬
‫نساء وأطفال من جادو‬ ‫يده قرب فمه حتى تصل صيحته املتسقة احلزينة بعيدا في أنشودة تؤكد مرة أخرى على‬
‫هكذا‪ ،‬وفي تدحرج نحو األسفل‪ ،‬وصلنا إلى جتويف صخري تنبعث منه عني صافية‬ ‫شعار اإلسالم اخلالد‪ :‬اهلل أكبر‪! ‬‬
‫وعذبة تنزل بعد ذلك في شالالت صغيرة نحو السهل في ظل أشجار تني ضخمة وبعض‬ ‫تبدو املدينة النائمة املتآكلة اخملربة التي الزال ماضيها اإلسالمي قائما وكأنه في‬
‫النخالت‪.‬‬ ‫منأى عن متغيرات العالم البشري وكأنها تردد كلمات اهلل أكبر!‬
‫من هذه العني املعيونة تأخذ كل ساكنة البلدات اجملاورة املاء‪ .‬حدثني عنها فكيني‬ ‫لكن إذا ما صمت األذان لدعوة املؤذن اخلالدة وإذا ما جتاوزت أعني الناظر املقابر الصغيرة‬
‫وكأنها ثروة‪ .‬وحقيقية األمر أنها الثروة الوحيدة الني تتوفر عليها فساطو‪.‬‬ ‫دون أن تسيطر عليه األحاسيس الغربية املنبعثة من مدينة النوم‪ ،‬إذا ما جتاوز فساطو‬
‫من هو فكيني؟ محمد بأي فكيني قائد عربي‪ ،‬وهو أكبر سلطة في فساطو وهو‬ ‫وتوقف عند السهل اجلبلي لشارب سنوادا‪ ،‬آنذاك ستتجلى أمامه رؤية أخرى‪ ،‬ففي أسفل‬
‫حقا شخصية مثيرة تكاد تكون تاريخية‪ .‬يبدو وجهه وكأنه تهكم من الطبيعة غير أن‬

‫‪83‬‬ ‫‪82‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫أجابه قائد أوالد بوسيف‪" :‬حاول ذلك وأنا سأرسل في طلب قومي ولنرى كيف‬ ‫فكيني أكثر تهكما من الطبيعة نفسها فأرادا أن يزيدا من حدة هذا التهكم ليجعل‬
‫ستنتهي األمور‪"! ‬‬ ‫خيشومه الصقري املبرنس األعمى من عني واحدة أكثر غرابة وذلك بصبغ شواربه وحليته‬
‫بالطبع كانت األمور ستأخذ منحا خطيرا وقد فهم الباروني ذلك مما خول لفكيني‬ ‫الطويلة بلون برتقالي رائع ال مجال لوصفه هنا‪.‬‬
‫اخلروج من يفرن والعودة إلى فساطو منتصرا‪.‬‬ ‫أنه يشغل منذ سنوات منصب قائمقام جادو‪-‬فساطو؛ وكان أخوه أحمد باي نائبا في‬
‫قال لي محمد فكيني هذا الصباح وهو ميسح على حليته املصبوغة باحلناء بينما‬ ‫البرملان التركي‪ .‬انه رجل ذو نفوذ‪ ،‬نشيط ومتسلط له لقب يناسبه أال وهو "ذو اللحية‬
‫كان يرافقني لرؤية زنزانة الرجل الطائر – أي زنزانة القائد مويزو ‪ Moizo‬الصغيرة املظلمة‬ ‫النحاسية" ويتوفر على صفحة جميلة في تاريخ أحداث اجلبل األخيرة‪.‬‬
‫بداخل القصر‪ ،‬قال لي بأنه رجل يصدق القول وأنه لن يتخلف قط عما وعد به دولة‬ ‫كما هو معلوم كانت السلطات في طرابلس العاصمة قد بدأت في شهر نوفمبر‬
‫كبيرة كايطاليا‪.‬‬ ‫من السنة املاضية مفاوضات مع أكبر قادة اجلبل وهي املفاوضات التي رحل على آثرها‬
‫عند قوله لهذا بدا لي أن وجه فكيني غادرته السخرية والتهكم‪.‬‬ ‫العديد من األعيان إلى طرابلس ليقدموا الوالء اليطاليا‪.‬‬
‫لم يقدم محمد باي فكيني أنداك إلى العاصمة لكنه أعلم السلطات االيطالية بأن‬
‫عليه البقاء في مكانه بفساطو وبأن قوات هذه األخيرة سوف تلقى ترحيبا في مدينته‪.‬‬
‫لقد حتدثت في فصل آخر عن املنحى الذي أخذته األحداث عندما رأى الباروني‪ ،‬مستبد‬
‫يفرن‪ ،‬قواته تتضاءل إذ أمر بإلقاء القبض على القادة العائدين من طرابلس وحبسهم‬
‫وذلك في ديسمبر املاضي وألنه كان يرى في فكيني خطرا أكبر فإنه أمره بالقدوم إلى‬
‫يفرن‪.‬‬
‫أجابه سيد فساطو‪" :‬إن كنت تريدني فاخرج في طلبي" ودون تأخير تهيأ الستقباله‬
‫بحفاوة خاصة‪ :‬تسلح ونظم دفاعاته‪.‬‬
‫بعد ذلك بقليل استدعى الباروني قادة اجلبل وجدد الدعوة لفكيني لاللتحاق بهم‪.‬‬
‫أجابه قائمقام فساطو املقدام مرة أخرى‪" :‬اخرج في طلبي بالقوة‪ ،‬أني انتظرك"‪.‬‬
‫عندها ولتفادي نشوب صراع دموي بني الرجلني قام محمد بن عبد اهلل‪ ،‬أحد كبار‬
‫قادة قبيلة أوالد بوسيف املعروفة بنزعتها احلربية‪ ،‬بزيارة لفساطو وقال لفكيني‪" :‬إذهب‬
‫إلى يفرن وأنا أتكفل بسالمتك"‪ .‬فانتقل فكيني إلى يفرن لكن الباروني اخلائن أمر بإلقاء‬
‫القبض على القائمقام ذو اللحية احلمراء وأرسل جنده في طلبه‪.‬‬
‫علم فيكيني باألمر فدخل بيتا وحتصن به هو وقلة من أتباعه فتدخل بن عبد اهلل‬
‫الذي عاتب الباروني على خيانته‪ .‬احتج الباروني قائال‪ :‬أنه يجب حبسه ولتنفيذ هذا‬
‫أرسلت في طلب محلتي الوفية بالزنتان‪.‬‬

‫‪85‬‬ ‫‪84‬‬
‫الفصل الثامن‬
‫في اتجاه الحدود التونسية‬

‫نالوت ‪ -‬الطريقان ‪ -‬ظاهرة جيولوجية ‪ -‬واحات م ّزو وشكشوك الصغيرة ‪ -‬قصر‬


‫الروم ‪ -‬اجلوش وصبريا القدمية – بدارنة‪ ،‬تريزن‪ ،‬كباو ‪ -‬التلغراف التركي ‪ -‬نالوت ‪ :‬موقعها‬
‫‪ -‬القلعة البربرية ‪ -‬قرية بدائية ‪ -‬مياه نالوت ‪ -‬احلدود التونسية ‪ -‬الدهيبات ‪ -‬رجال قوافل‬
‫اجلنوب ‪ -‬استقامة رجال القوافل‪.‬‬

‫حوالي ثمانون كيلومترا‪ -‬ما يعادل ‪ 23-22‬ساعة من السير على‬


‫اجلمال‪ -‬سيرا في اجتاه القمة اجلبلية بني جادو وفساطو ونالوت‪.‬‬
‫تفصل‬
‫يوجد طريق فوق هذه األراضي املرتفعة لبلوغ نالوت لكنه حقا في حالة جد سيئة ويعبر‬
‫في شقه األول املنطقة األكثر وعورة في اجلبل‪ .‬مير هذا الطريق من بلدات ال أهمية لها‬
‫وتكاد تكون مقفرة‪ ،‬على األقل حتى كباو‪ ،‬ويعرج على فم الغريب ويعبر أرضا متقطعة‬
‫وفقط بعد واد نانا تاال حيث جتري املياه بوفرة ودون انقطاع يسلك لبعض الكيلومترات‬
‫أرضا نوعا ما منبسطة‪ ،‬منطقة سيح العرب حيث تنمو أشجار البطوم وأدغال وأعشاب‬
‫للرعي‪ .‬ال تتغير معالم الطريق حتى أوالد محمود وهي قرية صغيرة تقع عند منبع واد‬
‫عميق على بعد حوالي ثالث ساعات من نالوت‪.‬‬
‫عموما لبلوغ آخر مدينة في اجلبل تنحرف القوافل جنوبا لتفادي خواصر أودية عدة أو‬
‫تسلك طريقا آخر وذلك بالنزول من جادو نحو السهل‪ ،‬سهل اجلفارة القاحل‪ ،‬وااللتحاق‬
‫باجلبل بعد املرور باجلوش أو أيضا من أعلى تيزي كما فعل بالضبط مؤخرا طابور اللواء‬
‫لكيو الحتالل آخر جزء من اجلبل الطرابلسي‪.‬‬
‫لنودع إذن فكيني الطيب ذو اللحية احلمراء ولنتدحرج نحو األسفل‪ ،‬كحجارة القصر‬
‫القدمي‪ ،‬حيث الوادي‪ ،‬صوب عني جنّاون‪ .‬هنا تصبح األرض أقل قحولة وتتوفر البلدات‬
‫املنتشرة هنا وهناك وسط بساتني النخل والزيتون والتني على مظهر أكثر حميمية وبال‬
‫شك أفضل بكثير‪.‬‬
‫نزوال نحو الوادي‪ ،‬تصادف شمال جادو م ّزو التي حتيط بها اخلضرة ‪ -‬وبها مسجد ذو‬
‫قبة بيضاء يشرف على األكواخ ‪.-‬‬

‫‪89‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫طرابلس الغرب من لدن فردناد الكاثوليكي إال في ‪1511‬م ولم تتجاوز سيطرته قط أسوار‬ ‫نحن على أول درجة في اجلبل‪ .‬إذا ما التفتنا للنظر إلى اجلبال التي نزلناها وتوقفنا‬
‫املدينة نفسها‪ .‬سنوات بعد ذلك وهبها كارلو اخلامس لفرسان مالطا الذين انتزعها‬ ‫لإلمعان في األودية العديدة اجلافة التي تقطع هذا احلاجز اجلبلي ال ميكن إال مالحظة‬
‫منهم بسرعة القرصان الشهير بربروس "ذو اللحية احلمراء" إلى أن استرجعها كارلو‬ ‫خاصية مثيرة في عمق هذه األسرة النهرية القدمية تشهد على حركية جيولوجية‬
‫اخلامس ليعيدها إليهم‪ .‬حكمها هؤالء حتى سنة ‪1551‬م‪ .‬السنة التي انتزعها منهم‬ ‫حديثة عرفتها كل البالد‪ ،‬عوض االنخفاض من اجلبل نحو البحر والشمال فإن أسرة هذه‬
‫ومن املسيحيني وبشكل نهائي القبطان العثماني سنان باشا بعد أن أصبحت ولوقت‬ ‫األودية اجلافة عكس ذلك ترتفع عند قاعدة اجلبل نحو البحر‪ .‬إن هذا االرتفاع غير ملموس‬
‫وجيز شبه واحة مسيحية ودفاعا متقدما في وجه التهديدات التركية املستمرة‪ .‬هذا‬ ‫لكنه ملحوظ على امتداد خمسني كيلومترا حتى بلوغ خط يعبر موازيا للسلسلة‬
‫املرتد املسيني (نسبة إلى مدينة مسينا)‪ ،‬شبيون سيسيليا‪ ،‬الشهير الذي اختطفه‬ ‫اجلبلية من الغرب إلى الشرق‪ .‬ال ميكن تفسير هذه الظاهرة سوى بحركة عامة‬
‫لألرض رافقها انخفاض في اجلنوب‪ ،‬كانت هناك إذن حركة أرجوحية على شكل وادي‬
‫منعرج وبعمق‪ .‬البد أن هذا االرتفاع في التضاريس الهيدروغرافية مت حتديده قبل حركة‬
‫االنخفاض التي عرفها الداخل والتي تعود إلى فترة حديثة الحقة لفترة تكون األودية‪ .‬إن‬
‫هذه الظاهرة عامة ألنها تالحظ على امتداد بعض مئات الكيلومترات‪ .‬فانحدار األودية‬
‫غير الطبيعي هو نفسه يالحظ في انحراف الطبقات الكلسية اجلبلية املنخفضة هي‬
‫األخرى نحو اجلنوب بشكل ال يكاد يكون ملموسا لكنه متواصل‪ .‬بسبب ظواهر تأرجح‬
‫األرض‪ .‬يتقلص االرتفاع بانتظام كلما ابتعدنا من ذروة اجلبل نحو اجلنوب داخل األراضي‬
‫املرتفعة‪ .‬إلعطاء فكرة عن هذا األمر جند أن نالوت تقع على ارتفاع ‪620‬م فوق مستوى‬
‫البحر‪ ،‬بئر زار على ‪ 500‬متر شانا على ‪ 450‬متر وأخيرا غدامس على ارتفاع ‪ 350‬مترا‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إلى املرتفع من حيث تطوره حسب خطوط العرض فإنه من السهل‬
‫مالحظة ارتفاع تدريجي من الغرب نحو الشرق‪ .‬بالفعل تقع جادو على علو ‪ 710‬مترا‬
‫فوق سطح البحر ويبلغ علو جبل تراشت ‪ 900‬مترا‪ .‬تؤكد هذه املعطيات احلركة األرضية‬
‫الكبيرة التي عرفتها البالد وحتدد طبيعة املنطقة كما هي اليوم على شكل سلسلة‬
‫جبلية ال شكل لها رتيبة في تكوينها وبنيتها‪.‬‬
‫لنترك هذا جانبا ولنستأنف طريقنا نحو الغرب مرورا مبحاذاة أقدام اجلبال التي تكاد‬
‫تنزل عموديا في سهل جفارة‪ .‬إن أول بلدة تصادف بعد م ّزو هي شكشوك التي تتشكل‬
‫من عدة جتمعات سكنية تتوسط بساتني نخل وزيتون‪ .‬هنا تنتصب فوق أكمة أكثر‬
‫ارتفاعا بقايا قصر‪ .‬يطلق عليه األهالي قصر الروم أي املسيحيني غير أن أصوله يلفها‬
‫الغموض‪ .‬حسب برنت ‪ Bernet‬قد يكون األسبان هم من أسسوه في النصف األول من‬
‫القرن ‪ 16‬قصد حماية مصاحلهم‪ .‬لكن هذه الفرضية في نظري قابلة للنقاش بل أجرؤ‬
‫على القول أن ال أساس لها من الصحة ألن هيمنة األسبان في طرابلس كان عمرها‬
‫القصر التركي القدمي ‪ -‬مسجد نالوتي‬ ‫وجيزا وكانت تقتصر على الساحل فقط وتنحصر في أماكن قليلة‪ .‬فعال لم يتم غزو‬

‫‪91‬‬ ‫‪90‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫وسيلة االتصال السريعة هذه كانت جد فعالة خالل كل فترة احلرب أكثر مما كنا نعتقد‪.‬‬ ‫القراصنة املسلمون صغيرا ورعوه حتى اشتد صلبه‪ ,‬كيف ميكن إذن االعتقاد بأن األسبان‬
‫قال لي مبرق وطني كان في خدمة العثمانيني حتى أشهر قليلة مضت يتحدث‬ ‫توغلوا خالل حكمهم املؤقت واملتأرجح في البالد حتى منحدرات اجلبل ليؤسسوا بها‬
‫اللغة الفرنسية والتركية بشكل جيد‪ :‬خالل فترة احلرب كلها ورغم أنها لم تكتمل بعد‬ ‫قالعا محصنة؟‬
‫فان شبكة اخلط التلغرافي التركي لم يكن يشوبها أي عيب‪ .‬كان أمرا صعبا تشييد‬ ‫على العكس من ذلك البد أن قصر شكشوك عبارة عن بناية بربرية هامة مت تشييدها‬
‫شبكة تلغرافية في بلد مثل هذا هو عرضة لعواصف متكررة وال تتوفر فيه طرق نقل‬ ‫في فترة الحقة عند مدخل وادي جادو‪-‬فساطو الشاسع في وجه الغزو التركي‪.‬‬
‫مريحة ووسط ساكنة ترتاب لكل ما هو جديد‪ .‬رغم ذلك مت جتاوز هذه الصعوبات بشكل‬ ‫باستثناء هذه البقايا التي ال أهمية لها هي أيضا ال تقدم شكشوك شيئا آخر يذكر‪.‬‬
‫مرض جدا وقام اخلط بوظيفته بشكل منتظم خالل احلرب‪ ،‬ليس فقط بني ثكنة وأخرى‬ ‫تعتبر واحة اجلوش التي تبعد عن هذه األخيرة مبا يقارب ‪ 15‬كيلومترا أكبر مساحة وأكثر‬
‫(في طرابلس وبرقة) ولكن أيضا بشكل مباشر مع قسطنطينية عبر الدهيبات وتونس‬ ‫غنا بنخيلها‪ .‬إنها تتوفر على بساتني خصبة خضراء ومياه وفيرة وقريتها نوعا ما كبيرة‬
‫والسلوم واإلسكندرية في مصر حتى أن حكومة اسطنبول كانت على علم بكل كبيرة‬ ‫وبها مقر قائمقام‪ .‬يطل عليها أحد القصور املعتادة‪ .‬تظهر فوق األرض بالواحة هنا‬
‫وصغيرة هنا‪.‬‬ ‫وهناك بقايا أسوار رومانية‪ .‬يؤكد ماتيوزيو أن هناك كانت تنتصب قرية رومانية هامة‬
‫أضاف املبرق قائال ‪ :‬إن التلغراف كان يشتغل بشكل منتظم حتى أنه كان يتم تلقي‬ ‫عرفت حتت اسم صبريا املقابل االسم الساحلي الشهير صبراتة ويقول‪" :‬يبدو لي أن هذا‬
‫برقيات اإلجابة من القسطنطينية في اليوم نفسه تقريبا‪ .‬وميكن احلصول على دليل‬ ‫االسم األجنبي بال شك يدل على مكان صبراتة داخلية أنكر العديد من العلماء وجودها‬
‫بذلك بالبحث في أرشيفات مصالح مختلفة وبقراءة نسخ البرقيات املرسلة واملتوصل‬ ‫رغم مزاعم طولومير ‪ .Tolomeo‬فاجلغرافي اليوناني أكثر معرفة منا وإذا كان امليناء‬
‫بها وأوكد لك أنها مجموعة برقيات جد هامة ألنه من خاللها ميكن معرفة كل تفاصيل‬ ‫املتوسطي الكبير يتوفر على خان للقوافل فال بد أنه كان ينتصب هنا بالقرب من أحد‬
‫عملية مقاومة األهالي واألتراك ودخولكم إلى البالد‪.‬‬ ‫املنافذ الرئيسية للجبل"‪.‬‬
‫علمت أن عدد هذه املصالح التلغرافية يصل إلى ‪ 42‬مصلحة‪ .‬كان خط التلغراف‬ ‫هناك طريقني لبلوغ نالوت انطالقا من اجلوش‪ :‬إما تسلق اجلبل من جديد ومواصلة‬
‫ينتهي في جنوب اجلبل عند سيناون على طريق القوافل املؤدية إلى غدامس حيث كان‬ ‫السير من البدارنة فوق قمة اجلبل أو االستمرار في السير عند قدم احلاجز الصخري مرورا‬
‫يجب إقامة آخر مصلحة للتلغراف حسب املشروع العثماني‪.‬‬ ‫بتيزي‪ .‬غير أن هذا الطريق األخير تكاد تنعدم فيه املياه وحيثما هي موجودة فإنها غير‬
‫سألته‪ :‬هل كان األهالي يستخدمون التلغراف قبل احلرب؟ أجابني‪ :‬نادرا ما يلجأ‬ ‫صاحلة للشرب‪ .‬من األفضل إذن صعود اجلبل من جديد‪.‬‬
‫السكان األصليون إلى وسيلة االتصال هذه‪ .‬فالوطني ال يولي اهتماما للمسافات‪ :‬لزيارة‬ ‫تشكل البدارنة جزءا من مرتفعات جبل نفوسة لكنه يبدو وكأنه جبل منعزل بسبب‬
‫شخص أو حمل رسالة يقدم على أيام وأيام من السير بال مباالة وفي غالب األحيان حتى‬ ‫الوادي العميق الذي يفصله عنه في شكل مقوس‪ .‬يبدو بالنظر إليه من هنا وكأنه‬
‫دون أن يعد هذه األيام‪ .‬يسافر هكذا ألسابيع وشهور أولئك الذين ينتقلون من هذه الربوع‬ ‫جلمود كبير يخرج من بحر رملي أصفر‪ .‬مع ذلك فهو يتوفر على خاصيات اجلبل ويتبني‬
‫حلج زوايا بعيدة أو مكة أيضا؟‬ ‫بالنظر إليه من السهل أنه ينطوي على نفس الطبقات الكلسية لباقي املرتفع‪ .‬تتسلق‬
‫بعد انتهاء احلرب أخذ األتراك معهم آليات اإلرسال واالستقبال من نوع مورس القدمي‬ ‫عدة قرى جنباته وحتمل أكبرها اسمه‪.‬‬
‫لكنهم تركوا الشبكة كما هي بشكل جعل االيطاليني يعيدون تشغيلها فورا وذلك‬ ‫لاللتحاق من بدارنة بطريق القوافل اجلبلي يجب نزول الواد ثم الصعود حتى تريزن (أو‬
‫بإدخال آليات حديثة عليها‪.‬‬ ‫تينزريت) وهي قرية كبيرة تقع في أقصى السفح اجلبلي‪ .‬ظهر من جديد خط التلغراف‬
‫تعد كباو بعد تينزرت القرية األكثر أهمية على طريق نالوت للقوافل‪ ،‬يتم بلوغها‬ ‫التركي الذي رافقنا من قصر غريان حتى جادو ليدلنا على الطريق‪ .‬يجب االعتراف بأن‬

‫‪93‬‬ ‫‪92‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫ال تختلف هذه القرية الكبيرة التي تضم حوالي ‪ 2000‬نسمة وبها بيوت فوق وحتت‬ ‫بعد عبور أحد أوسع أودية اجلبل أي وادي شروس الذي ميتد على بعض الكيلومترات وبه‬
‫أرضية شيد جزء منها في عمق الوادي وجزء آخر فوق ضفافه العالية وجزء ثالث فوق‬ ‫بساتني نخل صغيرة تشبه جزرا ً خضراء صغيرة‪.‬‬
‫سفح مرتفع في الشمال‪ ،‬ال تختلف كثيرا عن جادو‪-‬وفساطو ومثلما في هذه األخيرة‬ ‫تلمع كباو بطالئها األبيض حتت أشعة الشمس وال تختلف كثيرا عن البلدات األخرى‪.‬‬
‫قد يهيأ للمرء أن إعصارا مر بها فدمرها ولم يبق منها سوى أطالل ال شكل لها‪.‬‬ ‫تشتهر ساكنتها املنحدرة من قبيلة احلرابة بتضلعها في علوم الدين وهي التي تزود كل‬
‫نالوت هي مركز املنطقة التي سميت بها وتكتسب أهميتها أساسا من قربها‬ ‫املنطقة بالفقهاء‪ .‬حتيط حوالي أربع مائة بيت بالقصر وتتدرج حتى الوصول إلى مسجد‬
‫للحدود التونسية‪ .‬كما في كل قرى اجلبل األخرى تطل على البلدة بناية القلعة البربرية‬ ‫حتت أرضي‪ .‬في األسفل ينفتح الوادي عموديا بشكل مفاجئ ويبلغ عمقه تقريبا مائة‬
‫الضخمة القدمية املشيدة على حافة رعن جبلي‪.‬‬ ‫متر‪ .‬فيه حقا شيئا موحشا‪ .‬يصعد دوي رعد بعيد من عمقه‪ :‬إنها مياه سيل تهوي من‬
‫تظهر ملن يصعد بعناء عبر مسالك وعرة نحو القمة فوق سفح أول بقايا قصر قدمي‬ ‫شالل إلى آخر في ظل أشجار تني شامخة ومعمرة‪.‬‬
‫تشهد مواقعه احملصنة واخلنادق احمليطة به على املقاومة الباسلة التي أبالها في وجه‬ ‫يشكل الطريق بعد كباو جباال روسية حقيقية‪ .‬وذلك بالنزول والصعود دون توقف‬
‫العدو قدميا‪ .‬قيل لي أنه دارت صراعات شرسة ومعارك دموية هنا‪ ،‬وقد حاول اجليش‬ ‫عبر أودية نوعا ما عميقة؛ بعضها عار ال نبات فيه وموحش والبعض اآلخر تعبره سيول‬
‫العثماني لعدة مرات اجتياح هذه القلعة دون جدوى‪ .‬فموقعها وطبيعة األرض والوسائل‬ ‫وتغطية اخلضرة للقرى نادرة‪ .‬ها هي محمود بقصرها القدمي اخملرب نصفه واملنتصب في‬
‫املتوفرة آنذاك جعلت منها مكانا حصينا‪ .‬وقد قضى األتراك الذين كان املقاتلون البرابرة‬ ‫توازن خارق على حافة هاوية ويبدو كأنه سيسقط فيها من حني آلخر‪ .‬وها هناك على‬
‫األشداء يحبطون دائما محاوالتهم القتحام القلعة سنوات وسنوات في مجهودات‬ ‫بعد عشر كيلومترات تقريبا تيرهيت‪ .‬القلعة القابعة هي أيضا في األعلى على حافة‬
‫دموية ال فائدة منها‪ .‬وبعد تأكدهم من عبثية أية محاولة اقتحام بالقوة قاموا مبحاصرة‬ ‫اجلبل‪.‬‬
‫القلعة حصارا منيعا‪ .‬بعد مضي وقت طويل الحظ األتراك غياب أي حركة في القلعة‬ ‫تيرهيت قرية كبيرة وهامة يقطنها مئات السكان؛ يعيش معظمهم في مساكن‬
‫فتأهبوا لتسلق اجلبل‪.‬‬ ‫بدائية غير مختلفة عن تلك املوجودة في غريان وهي تتوزع في مدرجات حتت القلعة‬
‫كانت اجليوش التركية تخشى أن تباغث أو تقع في كمني لذلك كانت حذرة في‬ ‫التي حتتل اجلزء األعلى من قمة صخرية‪ .‬ال تكاد القلعة والبيوت ترى من بعيد فصبغتها‬
‫عملها‪ .‬لم يكن يظهر أي مخلوق فوق جدران القلعة وحني دخلوا إليها وجدوا أمامهم‬ ‫تختلط باللون الرمادي للطبقات الكلسية اجلبلية‪ .‬يتكون الوادي الرئيسي لتيرهيت من‬
‫مشهدا مروعا‪ :‬هنا وهناك كانت توجد أكوام من جثث متعفنة‪ .‬فقد فضل البرابرة عزة‬ ‫شبكة غريبة من أودية صغيرة تنموا في أعماقها نباتات جد نادرة‪ .‬شيد السكان خزانات‬
‫منهم أن ميوتوا جوعا على أن يوصموا بعار الهزمية واالستسالم‪ .‬منذ ذلك احلني دخلت‬ ‫جلمع املياه الشتوية لكنها جتف خالل فصل الصيف فتصبح بئر تقع في الوادي وسط‬
‫البلدة في كنف نفوذ السلطان واختفت منها الصراعات الدموية‪ ،‬وحيث أبدى آخر ثوار‬ ‫بستان ساحر املصدر الوحيد للمياه‪ .‬تعتبر تيرهيت آخر محطة للوصول إلى نالوت‪.‬‬
‫اجلبل مقاومة سامية انتهت مبوت تطوعي فظيع‪ ،‬أعاد األحفاد ‪ -‬الذين نسوا بسرعة‬ ‫بعد عبور واد بو احلسا الذي تعزل شعبه مرتفع نالوت تظهر للمسافر القرية الكبيرة‬
‫ملحمتهم – بناء مخازنهم‪.‬‬ ‫التي يطلق عليها الساكن احملليون اللوت‪.‬‬
‫اليوم تعطي الفرجات الثالث مائة الغرف في مختلف طبقات الصخر للبناية‬ ‫يعتبر موقع نالوت من بني املواقع األكثر غرابة‪ :‬من أميا جهة يأتيها املرء يجب عليه‬
‫الضخمة مظهر حظيرة حمام وبها يقام سوق البلدة بشكل رئيسي‪ .‬هنا يتوفر كل‬ ‫النزول في واد عميق ملئ باحلجارة وتسلق الرعن الصخري املقفر الذي تنتصب عليه‬
‫تاجر على دكانه اخلشن ويقفله احتراسا عند املساء‪.‬‬ ‫البلدة في كآبة‪ .‬قدوما من اجلبل ينزل الشطر األخير من الطريق – طريق ال ميكن سلكها‬
‫هناك قلعة أخرى أحسن حاال من األولى وقد احتفظت بطابعها العسكري‪ ،‬انها‬ ‫إال على األقدام أو على ظهر فرس‪ -‬ثم يصعد وادي نالوت أو يعرج نحو اجلنوب الغربي‬
‫البناية الكبيرة املربعة التي أسسها األتراك منذ سنني عديدة على أعلى أكمة في‬ ‫لعبور الوادي جنوب القصر‪.‬‬

‫‪95‬‬ ‫‪94‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫كما تشكل غريان منفذا طبيعيا على السهل الساحلي لطرق فزان فإن نالوت تشكل‬ ‫املنطقة‪ .‬كما قلت فإن باقي أجزاء البلدة ال تثير أي اهتمام وتبدو كركام ردوم خشنة‪.‬‬
‫منفذا طبيعيا لطرق القوافل القادمة من غات وغدامس‪.‬‬ ‫يسكن اجلزء األعظم من الساكنة الكهوف ويقضون حياتهم البائسة الهادئة في‬
‫تقضي القوافل حوالي ستة أيام للوصول إلى نالوت انطالقا من واحة غدامس التي‬ ‫أماكن ضيقة ومظلمة مت حفرها في الصخر بعمل بطيء وشاق على مدار سنني طويلة‪.‬‬
‫مت من حسن احلظ تأكيد السيطرة االيطالية عليها وذلك مرورا كما اعتادت من غدامس‪،‬‬ ‫مع ذلك فلهذه املساكن البدائية ميزتها ‪ :‬فهي تتمتع بدرجة حرارة معتدلة ومستقرة‬
‫سانية يعقوب‪ ،‬سيناون ثم نالوت‪ .‬لقد قلت كما اعتادت ألن الطرق التي تربط السودان‬ ‫سواء كانت رياح البرد القارس تهب في األعلى أو كانت احلجارة تلتهب حتت وطأة حر‬
‫بالساحل املتوسطي عبر طرابلس عديدة أكثر مما يعتقد عموما‪ .‬للتأكد من ذلك يكفي‬ ‫شمس الصيف‪.‬‬
‫النظر في مراحل سفر أولئك الذين زاروا هذه املناطق أو مساءلة األهالي الذين قطعوها‬ ‫يقود األهالي هنا حياة بائسة‪ .‬وإذا كانت املنطقة ال توفر مصادر هامة فإنها ال تشكو‬
‫لقضاء مآربهم‪.‬‬ ‫ندرة املياه ‪ :‬فعال توجد في األسفل شرق نالوت عني غزيرة‪ ،‬بئر تروى منها احليوانات وآبار‬
‫ليست هناك حقا حواجز طبيعية جتعل الطرق تتجه نحو ممرات محددة بينما كانت‬ ‫أخرى لسقي البساتني‪ .‬تعد اثنتني منها األفضل ‪ :‬بئر تارليس وبئر أخرى تقع غير بعيد‬
‫ضرورة تفادي بلدان متزقها صراعات سياسية ضرورة تفادي التعرض للنهب ترغم القوافل‬ ‫عن القصر كانت فيما مضى خاصة باألتراك‪ .‬تنتشر أبار أخرى وسط بساتني النخيل في‬
‫في كل األزمنة على اختيار واقتفاء طرق جديدة‪ .‬من املعلوم أن رجال القوافل في بعض‬ ‫قعر وادي شانگا على بعد ثالث كيلومترات غرب نالوت‪.‬‬
‫األحيان لم يكونوا يكتفون بهجر طريق ما وإمنا كانوا يخربون ويخفون آباره ليضييقوا‬ ‫تعتبر نالوت موقع مراقبة جد متقدم في اجلبل‪ .‬ميكن القول أن ها هنا ينتهي اجلدار‬
‫اخلناق على قطاع الطرق بالصحراء‪.‬‬ ‫اجلبلي الذي ميتد من مرتفعات ترهونة حتى أراضي اجلفارة على طول ‪ 400‬كيلومترات‬
‫حتويل الطرقات هذا ممكن ألن ما يعرف عموما بالصحراء هو كذلك لبعض األشهر‬ ‫تقريبا‪ .‬ينخفض املرتفع بعد نالوت بشكل ملموس وتدريجي وينتهي في احلمادة‪ ،‬السهل‬
‫من السنة فقط‪ ،‬بينما في فترات أخرى يعمره باألساس الرعاة والقطعان التي تنزل من‬ ‫الرملي اجلاف‪ .‬تفصلنا بعض األكمات و مرتفعات مبرابا والزرگة عن احلدود التونسية التي‬
‫اجلبل‪ .‬إن العدد الكبير نسبيا من اآلبار احملفورة من لدن هؤالء الرعاة إلى جانب االستغناء‬ ‫تشرف الدهيبات على مراقبتها‪ .‬ال يفصل بني نالوت والدهيبات سوى أربعني كيلومترا أو‬
‫عن أماكن التوقف الذي تسمح به قناعة اجلمال واملسافرين احملليني‪ ،‬يسهل حتويل طرق‬ ‫أقل لذلك من السهل إدراك األهمية التي كانت لنالوت بالنسبة لألتراك والعرب خالل‬
‫القوافل واالنتقال من طريق إلى آخر‪.‬‬ ‫احلرب‪ :‬حتت أعني الفرنسيني كانت القوافل احململة بالسلع املهربة تعبر باستمرار من‬
‫الدهيبات في اجتاه نالوت التي كانت تشكل قاعدة كبيرة لتموين كل أراضي طرابلس‪.‬‬
‫هكذا يحدث كثيرا أن ينتقل األهالي في وصفهم لطريق من خط رحلة إلى آخر‪ .‬هذه‬ ‫ملا يزيد عن سنة حول الصراع التركي االيطالي مركز اجلبل الغربي إلى سوق نشيطة‪،‬‬
‫اخلطوط التي نريد أن نحددها انطالقا من تصورنا لسبل االتصال والذي يختلف كثيرا‬ ‫إلى مخزن كبير‪ .‬بانتهاء احلرب فضل اجلزء األكبر من ساكنة هذا املركز أمام تقدم طابور‬
‫عن تصور األهالي لها‪ .‬ترتبط الواحات‪ ،‬اآلبار‪ ،‬الغدران واألضحال املعشوشبة على طول‬ ‫اللواء لكيو مغادرة البالد والعبور إلى تونس إلحساسه بالشبهة‪ .‬لهذا السبب وجد‬
‫السنة تقريبا ببعضها البعض في كل االجتاهات عبر مسالك جد كثيرة تشكل على‬ ‫جنودنا هذه املنطقة شبه خالية‪.‬‬
‫مستوى ما يعرف مبنطقة العبور اخلاصة بقبائل معينة شبكة كبيرة يسهل لألهالي‬
‫التنقل عبرها من موقع إلى آخر؛ هذه التنقالت ليست سهلة بالنسبة لنا نحن الذين‬ ‫فقدت نالوت ريادتها التجارية اليوم ولم تعد متثل مركز حتى للتجارة الصحراوية‪،‬‬
‫نربطها دائما باألهمية اللوجستيكية لطرق القوافل‪.‬‬ ‫فالدهيبات حتاول أن متتص كل احلركة التجارية الداخلية لطرابلس وباألساس تلك‬
‫القادمة من غدامس‪ .‬لكنه إذا ما مت اتخاذ اإلجراءات الناجعة والعمل بحزم فان األزمة‬
‫حتى جتارة العبور رغم ٱلتماسها للطريق اخملتصر بني مركز وآخر لتفادي املكوس التي‬ ‫احلالية ستكون عابرة وسوف تستعيد نالوت أهمية دائمة وبارزة ألن من صالح القوافل‬
‫تفرضها عليها القبائل التي تقود القوافل أو ضرائب العبور املرتفعة املدفوعة لهذه‬ ‫القادمة من اجلنوب ألسباب عدة التوجه إلى هذه البلدة الواقعة في أقصى اجلبل‪ .‬فعال‬

‫‪97‬‬ ‫‪96‬‬
‫عبر الجبل‬ ‫م‪ .‬كورسي‬

‫بها أسفارها الطويلة‪ ،‬أهميتها التجارية والظروف اليومية التي متر منها‪ ،‬قد تشكل‬ ‫القبيلة أو تلك فإنها تنتقل بسهولة من درب إلى آخر مساهمة بذلك في ارتفاع هذه‬
‫موضوعا ال يقل أهمية وقد تعطي فكرة عما كان عليه وعلى ما قد يكون عليه غدا‬ ‫الدروب‪ .‬ميارس جتارة القوافل هنا عموما جتار يف ّوضون قيادة البضائع لرجال قبائل لها‬
‫التطور التجاري لطرابلس‪.‬‬ ‫حقوق خاصة على طرق معينة أو أجزاء منها وقد كانت هذه التجارة دائما موضع ضرائب‬
‫كانت كل أهمية اجلبل حتى األمس ترجع إلى كونه منطقة عبور للقوافل القادمة‬ ‫الوقوف والعبور إلى آخره بشكل جعل رجال القوافل يتفادون عموما األماكن املعمرة‬
‫من الداخل أو املتجهة إليه‪ .‬أقول كانت ألن حربنا أوقفت ملدة سنتني تقريبا كل هذا‬ ‫التي ال يجب عليهم التوقف فيها ألسباب جتارية‪.‬‬
‫النشاط التجاري‪ ،‬وقد كانت القوافل تنظم في طرابلس حتى األمس بطرق مختلفة‪.‬‬ ‫يعتبر الطوارق على سبيل املثال‪ ،‬وهم فعال كذلك‪ ،‬سادة الطرقات خاصة منها تلك‬
‫بعضها كان يقوده وطنيون لهم سمعة حسنة لكن وألنهم ال يتوفرون على رؤوس‬ ‫التي تربط غدامس بالسودان‪ .‬فهم يتقاضون منذ زمن بعيد خراجا من القوافل التي‬
‫األموال الضرورية لتزويد القافلة بالبضائع كانوا يشترون بالدين ويعطون رهونا على‬ ‫تعبر مناطق نفوذهم والتي يستعمل فيها من يريد األمان جلمالهم‪ ،‬ولم يكونوا يدفعوا‬
‫ممتلكاتهم‪ .‬كانت قوافل أخرى ينظمها جتار طرابلسيون‪ ،‬كثيرا ما كان من بينهم اليهود‬ ‫أية ضريبة‪ ،‬سوى واحدة خاصة باجلمال‪ ،‬مقابل صيانتهم للطرقات‪.‬‬
‫أيضا‪ ،‬يزودون القافلة بالبضائع ويفوضون أمر قيادتها لرجال قوافل محترفني‪ :‬في هذه‬
‫من املفيد االطالع في هذا الصدد على املعاهدة التي أبرمها قائد "بعثة غدامس"‬
‫احلالة كانت األرباح تقتسم مناصفة‪ .‬في كلتا احلالتني تبقى خاصية هذه التجارة املبنية‬
‫ميرشر ‪Mircher‬مع الطوارق‪ .‬يأتي العقيد مونتاي ‪ Monteil‬في كتابه "من سان لوي حتى‬
‫على املغامرة هي حسن النية بني الطرفني املتعاقدين‪ .‬لقد مت التأكيد لي على أن العالقات‬
‫طرابلس عبر بحيرة التشاد" (‪ )1894‬باملثال التالي حول قيادة القوافل من وإلى السودان‪:‬‬
‫بني القافلة واألخرى تطبعها دائما االستقامة والوفاء وال يحدث قط أن تسيطر قافلة‬
‫كبيرة بالقوة على بضائع قافلة أصغر منها وال حتى على البضائع التي قد تضطر قافلة‬ ‫"تنطلق كل سنة في حوالي شهر سبتمبر من أير أو أزبن (منطقة جبلية بالصحراء‬
‫لتركها على الطريق بسبب حدث عارض‪ .‬في احلقيقة يبدو لي أن هذا األمر مبالغ فيه‬ ‫الوسطى) قافلة من ثالثة إلى أربعة آالف جمل تدعى أيري‪ .‬تذهب هذه القافلة احململة‬
‫نوعا ما مع ذلك فإن دفيريي ‪ Duveyrier‬يؤكد أنه وجد على طريق غدامس بضائع تركتها‬ ‫باحلبوب والثمور إلى بلما (جنوب واحة كافار وشمال تشاد) ملقايضة حمولتها بامللح‬
‫قافلة في رعاية اهلل وحده وال أحد جترأ على مسها‪.‬‬ ‫اجليد الذي يجمع هناك‪ .‬تعود القافلة – األيري‪ -‬احململة بامللح إلى تنتلوست (عاصمة األير)‬
‫ثم تتجه بعد ذلك إلى زندر وكانو‪ .‬في زندر يتجه جزء من القافلة إلى كثزينا وسكوتو‪.‬‬
‫لم تكن هذه القوافل املتجهة نحو الداخل قبل احلرب مرورا باجلبل عبر غريان‪ ،‬يفرن‪،‬‬
‫فساطو ونالوت حتمل سوى بضائع للمقايضة ألن النقود لم تكن معروفة بعد بشكل‬ ‫حتل القافلة في شهر يناير بكانو ومنها حتمل منتوجات من ريش نعام وعاج وجلود‬
‫جيد في اجلنوب‪ .‬اليوم وبعد سقوط احلاجز العدواني الذي رفعه األتراك بني الساحل‬ ‫إلى غدامس‪.‬‬
‫والداخل وعودة األمان إلى الطرقات ميكن لتجارة القوافل أن تزدهر بشكل سريع في هذه‬ ‫"إن رجال القوافل الذين يأمتنهم التجار الوطنيون على بضائعهم هم الطوارق‬
‫املناطق وإذا ما مت توجيهها بحكمة سوف تبلغ منوا فقدته بشكل ملموس خالل الثالثني‬ ‫الكلويني (كل وي)‪ .‬عند بئر أوسيون‪ ،‬حد منطقة نفوذهم‪ ،‬يسلم هؤالء القافلة لطوارق‬
‫سنة املاضية بسبب الدعاية النشيطة للفرنسيني في تونس‪.‬‬ ‫أزگر (أزجر) الذين يتكلفون بالنقل حتى غدامس"‪.‬‬
‫حسب هيرودوت فإن القرطاجيني الذين كانوا غزاتا وجتارا في نفس الوقت توصلوا منذ‬ ‫"تتركز جتارة الصحراء في يد أربع أو خمس مائة وطني ميثلون محالت جتارية في‬
‫قدمي الزمان إلى ربط عالقات جتارية هامة على السواحل الليبية مع سكان الداخل‪.‬‬ ‫طرابلس وغدامس‪ .‬لكن هذه احلركة التجارية ليست في نظري سوى خمس احلركة‬
‫هل نكون نحن أقل منهم؟‬ ‫التجارية لكانو التي تتمركز في غالبيتها في يد رجال قبيلة احلاسا"‪.‬‬
‫قد تشكل الطريقة التي يتم بها تنظيم هذه القوافل والكيفية التي تقضي‬

‫‪99‬‬ ‫‪98‬‬
‫من قصر غريان إلى نالوت‬

‫خريطة من وضع المؤلف تبين الطرق التي يمكن إتباعها لتجاوز مناطق الجبل‬

‫ﺇﻟﻰ ﻏﺪﺍﻣﺲ‬
‫ﻛﺎﺑﺎﻭ‬ ‫ﻧﺎﻟﻮﺕ‬
‫ﺗﻴﻨﺰﻏﺖ‬

‫ﺍﻟﺴﻮﺍﺩﻧﺔ‬
‫ﺍﻟﺮﻭﻣﻴﺔ‬ ‫ﺍﻟﺰﻧﺘﺎﻥ‬
‫ﺟﺎﺩﻭ‬ ‫ﺗﻴﺰﻱ‬
‫ﺍﳉﻮﺵ‬
‫ﺍﻷﺻﺎﺑﻌﺔ‬ ‫ﻳﻔﺮﻥ‬ ‫ﺍﻟﺮﻳﺎﻳﻨﺔ‬
‫ﻏﺮﻳﺎﻥ‬ ‫ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺪﻫﻴﺒﺎﺕ‬
‫ﺍﻟﺮﺍﺑﻄﺔ‬
‫ﺗﺎﺭﺩﻳﺖ‬

‫ﺷﻜﺸﻮﻙ‬

‫ﺑﻴﺮ ﻟﻐﻨﻢ‬
‫ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺑﺤﺠﻢ‬
‫ﺍﻟﻌﺰﻳﺰﻳﺔ‬ ‫‪1: 800 000‬‬
‫طريق صلب أرض متموجة وصلبة‪ ،‬بها العديد من أشجار‬ ‫من سواني بن يادم‬
‫‪-2‬‬
‫العناب‪ ،‬باستثناء‪ ،‬شريط رملي يتطلب عبوره '‪.20‬‬ ‫إلى بئر ميامني‬ ‫بيان الرحلة ( طرابلس‪ -‬قصر غريان‪ -‬يفرن‪ -‬جادو‪ -‬فساطو‪ -‬نالوت)‬
‫بها فندق‪ ،‬بئرين بهما مياه جيدة (يصل عمقهما إلى‬
‫بئر ميامني‬
‫حوالي ‪ 10‬أمتار)‬
‫من بئر ميامني إلى‬ ‫أحداث مختلفة‬ ‫التوقيت‬ ‫املكان‬
‫طريق مماثل للمذكور أعاله‪ .‬بئر كثيرة املياه‬ ‫‪1,15‬‬
‫بئر أم العدم‬
‫الطريق تقريبا من منبسط ومتني حلوالي ساعة من السير‬
‫من بئر أم العدم‬
‫طريق مماثل للمذكور أعاله‪ .‬أرض تكاد تكون منبسطة على‬ ‫ثم أصبح رمليا حلوالي ‪ 20‬دقيقة‪ .‬بعد ذلك عاد إلى متانته‬
‫‪1.15‬‬ ‫إلى‬ ‫من طرابلس إلى‬
‫الوجه األكمل بها العديد من أشجار العناب‪.‬‬ ‫ماعدا شريطا رمليا من ‪ 300‬متر قبل الوصول إلى فندق‬ ‫‪2.30‬‬
‫سواني بن ناصر‬ ‫فندق توغار‬
‫التوغار الطريق قابل للعبور بواسطة الشاحنات حتى‬
‫بها بئر يبلغ عمقه حوالي ‪ 35‬مترا به مياه طيبة ووفيرة‪.‬‬ ‫غريان‪ .‬أرض متموجة ورملية‪.‬‬
‫وبها بستان من أشجار الزيتون والتني وفاكهة أخرى‪ .‬قبل‬
‫بيت يحيط به – سور وبه بئر مياهه جيدة‪ .‬هناك بئر آخر‬
‫سواني بن ناصر يتفرع طريق على الشمال (شرقا) يلف‬ ‫سواني بن ناصر‬ ‫‪-‬‬ ‫فندق توغار‬
‫أصغر قبل الوصول إلى الفندق بعشرين دقيقة ‪.20‬‬
‫حول سيدي رمضان ويلتحم فيما بعد بطريق العزيزية ‪-‬‬
‫بئر الالّ‬ ‫من فندق توغار‬
‫طريق جيد ومتني األرض أكثر صالبة مما سبق‪ .‬يوجد بفندق‬
‫‪1,30‬‬ ‫إلى‬
‫من سواني بن‬ ‫ماگوز بناية الفندق وبئر‪.‬‬
‫فندق ماگوز‬
‫طريق يشبه املذكور أعاله‪.‬‬ ‫‪0,45‬‬ ‫ناصر‬
‫إلى عزيزية‬ ‫يعبر الطريق حلوالي '‪ 45‬جنيلة جافة صيفا ومتعددة اآلبار‬
‫شتاء‪ .‬غير أن الطريق صالح لالستعمال حتى خالل فصل‬ ‫من فندق ماگوز‬
‫هناك قصر غرب الطريق‪ .‬في الشرق يوجد مرتفع ينتصب‬
‫الشتاء وميكن تفادي البرك املائية باخلروج عن الطريق إلى‬ ‫‪2,15‬‬ ‫إلى‬
‫عليه ضريح سيدي رمضان ومقبرة‪ .‬بني القصر واملرتفع‬
‫األراضي اجملاورة‪ .‬بعد اجنال هناك ‪ 3-2‬كيلومترات من أرض‬ ‫سواني بن يادم‬
‫توجد مدرسة وبعض الدكاكني‪ ،‬منازل وفنادق‪ .‬يتوفر‬
‫رملية غير مرتفعة‬
‫القصر على حوالي ‪ 20‬غرفة‪ .‬بالقرب منه يوجد بئرين‬
‫أحدهما كبير وبه مياه وفيرة‪ .‬توجد آبارا أخرى مختلفة‬ ‫بها محطة قطار ومكان لالستراحة‪ .‬بها حديقة على‬
‫حول عزيزية تبعد مسافة ساعة من السير عن بعضها‬ ‫الطريق‪ .‬حوالي ' ‪ 10‬غربا توجد حديقة أخرى سواني بن‬
‫العزيزية‬
‫البعض‪.‬‬ ‫موسى‪ ..‬توجد أشجار النخل في كلتا احلديقتني‪ .‬بها‬
‫توجد بها حاليا آخر محطة للقطار الرابط بني طرابلس‬ ‫أبار جيدة‪ .‬ووفيرة املياه ال يتعدى عمقها ‪ 2‬أو ‪ 6‬أمتار‪.‬‬
‫سواني بن يادم‬
‫سواني بن يادم ‪ -‬العزيزية‪.‬‬ ‫حتيط بسواني بن يادم أدغال وأشجار (غير كثيرة) من‬
‫توجد جنوب عزيزية أرض بها أدغال كثيرة‪.‬‬ ‫العناب منطلق طريق للقوافل من سواني بن يادم صالح‬
‫ينطلق من العزيزية طريق قوافل يعرف بطريق قطيس مير‬ ‫للشاحنات ومير من فندق بن گصير‪ ،‬مواجن محمود أبيار‬
‫من بئر شوشا وهنشير األبيض ويتجه إلى يفرن‪.‬‬ ‫ميلگا لينتهي في ترهونة‪.‬‬
‫الطريق منبسط تقريبا حلوالي كيلومتر ويعبر بساتني‬ ‫طريق حسن‪ .‬منبسط ومتني‪ .‬األرض منبسطة وتكسوها‬ ‫من العزيزية إلى‬
‫_ ‪3,‬‬
‫زيتون جد كثيفة تتقلص بشكل تدريجي حتى جبل تو ّبي؛‬ ‫أشجار العناب‪.‬‬ ‫بئر الالّ‬
‫من قدم اجلبل إلى‬
‫األرض متموجة‪ ،‬بها مرتفعات صغيرة في اجلهة الغربية‬ ‫_‪2,‬‬ ‫بها بئر كبير يصل عمقه إلى ‪ 70‬مترا وهو غزير املياه ال‬
‫جبل تو ّبي‬ ‫بئر الالّ‬
‫تشكل إحداها جبل تاشوت الذي يرتفع بحوالي ‪ 200‬متر‬ ‫يتوفر على بناء فوقي‪.‬‬
‫فوق مستوى املرتفع‬
‫من بئر الالّ إلى‬
‫يصعد الطريق بشكل عادي على أحد جنبات جبل تو ّبي‬ ‫الطريق واألرض كما هو مذكور أعاله‪.‬‬ ‫_ ‪2,‬‬ ‫فندق‬
‫حلوالي '‪ 45‬ثم تصبح األرض تقريبا منبسطة‪ .‬يعبر الطريق‬ ‫الشيباني‬
‫بساتني زيتون وتني وخضر قبل الوصول إلى القصر‪.‬‬
‫من جبل تو ّبي إلى‬ ‫به فندق وخزان ماء‪.‬‬
‫شمال جبل تو ّبي‪ ،‬في األسفل على يسار الطريق ب '‪10‬‬ ‫‪1,30‬‬
‫قصر غريان‬ ‫يصبح الطريق بني عزيزية وبئر لال غير صالح لالستعمال‬
‫توجد ثالث أبار بها مياه جيدة وغزيرة‪.‬‬
‫جنوب غرب القصر توجد عني‪ ،‬عني التركي‪ ،‬بها مياه غزيرة‬ ‫بعد سقوط أمطار غزيرة بسبب املياه الراكضة فيه في‬
‫وممتازة‪.‬‬ ‫هذه احلاالت يسلك األهالي طريقا مير من أم الگروم‪ ،‬رأس‬ ‫فندق الشيباني‬
‫املاجن‪ .‬وادي الهير‪ ،‬بئر لقمان ليصل إلى فندق الشيباني‬
‫مركز املنطقة التي اقتبس منها اسمه‪ ،‬يقع فوق مرتفع‬ ‫ويستغرقون تقريبا نفس الوقت‪.‬‬
‫ويشرف على األرض احمليطة به‪ ،‬يتوفر في اجلهة الشمالية‬
‫على سفح منحدر ووعر وفي اجلهات األخرى على مدرجات‬
‫بها بساتني زيتون وتني ولوز‪.‬‬ ‫يقطع الطريق من فندق الشيباني‪ ،‬أرضا مرتفعة رملية‬
‫قصر غريان‬ ‫وموحلة على امتداد حوالي كيلومترين و ذلك حسب‬
‫البيوت عبارة عن كهوف‪ .‬ال يوجد فوق سطح األرض سوى‬ ‫فندق الشيباني‬
‫(‪)620‬‬ ‫الفصول قبل أن يدخل في منطقة كثيرة احلجارة‪.‬‬ ‫_ ‪3,‬‬
‫القصر‪ ،‬مقر بنك روما‪ ،‬مقر احلاكم العثماني‪ ،‬دار اجلهة‪،‬‬ ‫إلى بوغيالن‬
‫أربعة دكاكني‪ ،‬مقهى ومدرسة‪ ،‬بضواحي القصر توجد‬ ‫"تكاد احلجارة الكبيرة تكسوا األرض كلها خاصة في‬
‫عدة قرى بها ساكنة تصل في مجملها إلى ‪13,000‬‬ ‫املقطع األخير من الطريق‪.‬‬
‫نسمة تقريبا‬ ‫عبارة عن عني مياهما جيدة وغزيرة وهي تنبع من أحد‬
‫جنبات الوادي الذي حتمل اسمه‪ .‬على ميني الطريق توجد‬
‫بساتني للنخيل‪ .‬اجلانب الغربي من اجلبل عبارة عن جرف‬
‫يستغرق السفر من طرابلس إلى غريان حوالي ‪ 26‬ساعة‬ ‫بوغيالن‬
‫من صخور كبيرة غير متسقة‪.‬‬
‫عكس ذلك فاجلانب الشرقي من الوادي جد وعر لكنه‬
‫متسق ومتماسك‪.‬‬
‫من بوغيالن إلى‬
‫يرتفع مستوى الطريق بحوالي ‪7%‬‬ ‫‪1,30‬‬
‫قدم اجلبل‬
‫فهرس‬
‫الفصل األول‪ :‬غزو الجبل‬
‫اجلبل البعيد – على آثار روما ‪ -‬الكدية البيضاء (العزيزية) – أسطورة الصحراء ‪ -‬عني‬
‫بوغيالن مدير يقدم القرابني لباكو (اله اخلمر)‪ -‬العجائب الثالثة لبوغيالن ‪ -‬اخلطوة األولى‬
‫على اجلبل ‪ -‬فوق جبل غريان ‪ -‬قصر غريان‪ ،‬مدينة املناجذ‪ -‬املكان الذي كان يسجن فيه‬
‫اإليطاليون‪-‬‬

‫الفصل الثاني‪ :‬تناول الشاي في بيت مختار باي‬


‫البرد اإلفريقي – القصر القدمي ‪ -‬مقاومة األتراك فوق جبل غريان ‪ -‬بلدة غريان ‪ -‬النائب‬
‫السابق مختار باي – في عقر بيت هذا األخير ‪ -‬الضيافة اإلسالمية ‪ -‬االسترسال في‬
‫احلديث ‪ -‬برابرة اجلبل األصليون ‪ -‬طائفة اإلباضيني – اجملموعة الثانية‪...‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬الممر الجديد من بوابة الجبل‬


‫إلى يفرن ‪ -‬الرحيل من قصر غريان على ظهر الشاحنة – منبسط األصابعة ‪ -‬عبر‬
‫طبيعة عذراء – كلكلة والسوادنة ‪ -‬مرور قافلة – الضريح الروماني‪.‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬يفرن‪ ،‬عش الصقر‪-‬‬


‫رعن يفرن‪ -‬طوق من قرى القرون الوسطى‪ -‬آخر أشجار النخيل ‪ -‬غومة‪ ،‬بطل اجلبل‪-‬‬
‫الطريقة التي قمع بها األتراك الثورة ‪ -‬احللم الطموح للباروني ‪ -‬في بيت الصقر الهارب‪-‬‬
‫رجل ومخلفاته‪ -‬استقالل اجلبل‪ -‬أسباب مقاومة اجلبل‪ -‬السنيون واإلباضيون تأسيس‬
‫الباروني لدولة الرعب‪ -‬هزمية األصابعة‪ -‬العمل العسكري للواء لوكيو ‪ -‬إخماد احلرب في‬
‫مدغشقر وفي اجلبل‪ :‬مقارنات تاريخية ‪ -‬ال يجب الوثوق بالباروني‪! ...‬‬
‫الفصل الخامس ‪ :‬في عين رومية العذبة‬
‫عاصفة ليلية – طرابلس اجلبل – جتارة وطنية وعالمة فرنسية – معمل الباروني‬
‫لصناعة األسلحة – مرشدنا إبراهيم بن علي – بساتني يفرن – عني الرومية – كيف‬
‫حصلت يفرن على التجهيزات املائية ولم حتصل على املاء – خفير املاء‪.‬‬

‫الفصل السادس‪ :‬من الرومية إلى فساطو الناعسة‬


‫تقييم املسافات عند العرب‪ -‬وادي اخلاليفة – ممرات صعبة – سهل الرياينة – الليمس‬
‫تربوليتانوس‪ -‬أبراج وقالع‪ -‬الغزو الروماني وآثاره – دراية الرومان بأساليب االحتالل ‪ -‬الزنتان‬
‫املوحشة واملريبة‪ -‬سكونية اإلحياء واألشياء‪ -‬قصة إبراهيم‪ -‬ليلة في العراء‪.‬‬

‫الفصل السابع‪ :‬جادو‪-‬فساطو مدينة النوم‬


‫كازا فساطو ‪ -‬أطالل وخمول‪ -‬املقابر – األذان‪ -‬عني تسنوگدت – فكيني امللقب بدو‬
‫اللحية النحاسية‪.‬‬

‫الفصل الثامن‪ :‬في اتجاه الحدود التونسية‬


‫نالوت ‪ -‬الطريقان‪ -‬ظاهرة جيولوجية‪ -‬واحات م ّزو وشكشوك الصغيرة ‪ -‬قصر الروم –‬
‫اجلوش صبرا القدمية – بدارنة‪ ،‬تريزن‪ ،‬كباو ‪ -‬التلغراف التركي – نالوت ‪ :‬موقعها ‪ -‬القلعة‬
‫البربرية‪ -‬قرية بدائية ‪ -‬مياه نالوت ‪ -‬احلدود التونسية – الدهيبات ‪ -‬رجال قوافل اجلنوب‬
‫‪ -‬استقامة رجال القوافل‪.‬‬

You might also like