Professional Documents
Culture Documents
29/01/2008
د .محمد محمد المفتي
والدة عاصمة
" ..ولما توجهنا إلى طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يغـشى
األبصار ..وخرج جميع أهلها مظهرين لالستبشار ..فنزلنا (بقصبة البلد ) ..ورأيت
آثار الضخامة بادية على هذه القصبة غـير أن الخراب قد تمكن منها ..وكان فى ما
يقابل هذه القصبة موضع يعرف بالرياض مخصوص بوالى البلد ..وهو اآلن
خرب ..وبالبلد ثالثة حمامات ..ورأيت بسورها من اإلعتناء ..وبخارج باب البحر ..مرسى المدينة وهو
مرسى حسن متسع .‘‘ ..
عامي 1308 – 1306م … بلدة وادعة ّ الرحالة التيجانى طرابلس ،حين زارها وأقام فيها بين
هكذا وجد ّ
خارج مسارات التاريخ .وقد ظلت طرابلس طيلة قرون ..مجرد واحة ،فى سلسلة واحات الساحل الليبى.
ـ منها مرفأ صغير تزورهتعيش كل واحة على انتاج المزارع المروية المحيطة حيثما تتراجع السباخ..ولكل
المراكب الشراعية بين الحين واآلخر من أوروبا أو اإلسكندرية أو من المغرب متجهة إلى الحج في رحلة
محفوفة بالمخاطر .واستوت في ذلك طرابلس مثلها مثل زواره وتاجوراء والخمس وزليطن ومصراتة
وبنغازى ودرنة.
كانت الواحات الساحلية الليبية ..مجتمعات صغيرة شبه مغلقة ،محدودة القدرات ،تعيش على االكتفاء
الذاتى ..مجتمعات شبه ساكنة ..بأسواقها ومساجدها وكتاتيبها وحماماتها ،وأيضا بأعيانها وقضاتها
وشعرائها ومرابطيها (أوليائها) .ومنها ما عرف صناعات يدوية مثل النسيج والجرود واألكلمة ،وعصر
الزيتون وصناعة الحصران ،لكن جل معامالتها التجارية كانت تقوم على مقايضة االنتاج الزراعى
المحدود .كانت مستوطنات شبه مغلقة إال إذا وقعت على خطوط قوافل التجارة أو الحجيج .وربما زارها
تاجر بين الحين والحين .بينما سمحت مرافئ طرابلس وبنغازى بتجارة خارجية محدودة ،لتصدير الملح[]i
أو لوصول المصنوعات المعدنية والسالح والزجاجيات واألقمشة.
ومثلها مثل بقية الواحات ،لم تكن طرابلس ،مركز سلطة أو سدة حكم حتى بداية القرن السادس عشر،
وبالتحديد حين احتلها األسبان سنة ،1510ولم تصبح عاصمة فعلية إال بعد ذلك بقرنين .وال ننسى أن
مصطلح عاصمة مشتق من العصمة أي الحماية والمنعة والقوة ،وهذا ما اكتسبته طرابلس تدريجيا مع
احتدام الصراع الدولى قرب شواطئها.
حتى نهاية القرن الخامس عشر تقريبا ،كانت أوروبا معزولة عمليا عن بقية العالم بإستثناء الشام
ومصر والشمال األفريقى ...الى غربها المحيط الشاسع األسطورى ،والى جنوبها أفريقيا القارة
المظلمة ،وإلى شرقها بالد مترامية ،ربما غنية ولكن شبه مجهولة ،والى الشمال يباب متجمد ...
بعض الرحالة كانوا قد وصلوا الى الصين مثل ماركو بولو ،لكن المعلومات التى عادوا بها كانت محدودة
ملفوفة بالعجائب واألساطير .
كانت الحرير يستورد من الصين عبرالمسالك الجبلية الوعرة والسهوب والصحارى الممتدة عبر آسيا
دورا
الوسطى .لكن التوابل والبهارات الشرقية (الفلفل /القرفة /الجنزبيل /جوز الطيب /الحبهان) لعبت ً
أهم فى اإلقتصاد األوروبى فى العصر الوسيط ،إلستعمالها كمواد خام إلنتاج العطور ومواد الزينة واألدوية
واألصباغ ،فضال عن أهمية البهارات فى لحفظ اللحوم خالل شهور الشتاء الطويلة .فقد كان الفالحون
فى أوروبا ،خاصة شمالها ،يذبحون الفائض من األغنام والمواشى فى فصل الخريف ،تحسبا لتقلص
المراعى من جراء ثلوج الشتاء ثم تخزين لحمها على هيئة قدّيد .وبلغت أهمية التوابل فى أوروبا
كسلعة أنها كانت تقبل أحيانا كبديل للنقد لتسديد الضرائب .وفى حوالى سنة 1100م ،مثال كان ثمن
رطل الفلفل أربع ليرات فضية !
لكن مستوردات أوروبا من الشرق شملت أيضا البن /البخور /العطور(المسك/العنبر/ماء الورد) /السجاد/
العاج /األحجار الكريمة/القطن الهندى /القلويات المستعملة فى صناعة الصابون /ملح النطرون /الش ّبة
… الخ .وكانت هذه السلع المستوردة من الشرق األقصى تصل عبرالخليج العربى ثم عن طريق
نهرالفرات الى حلب ومنها الى موانى الشام ( صور /صيدا /أنطاكية) او بالسفن الشراعية عن طريق
البحر األحمر الى السويس ثم تنقل الى القاهرة بالقوافل ومنها بالمراكب والدواب الى اإلسكندرية .ومن
هذه الموانى يتم نقل البضائع على سفن البندقية وجنوا .كما صدَنداعملا ،رصمو ماشلا ىلا ابوروأ ترّ
من حديد ونحاس وذهب الفضة واألخشاب واألقمشة الثمينة !
هذا االتصال التجارى قاد بالضرورة الى إزدهار المدن الواقعة على هذه الخطوط التجارية .وأثرى حكام
المناطق بفضل الضرائب الجمركية (المكوس) التى كانوا يفرضونها على البضائع العابرة ،وإحتكارهم
للنقل أو لبعض السلع .ولعل عوائد التجارة العابرة كانت السند الرئيسى لدولة المماليك في مصر ،
ومصدرا من مصادر قوتها العسكرية.
البعد العلمى والتقنى
هذه الخلفية االقتصادية كانت أهم سبب للكشوف الجغرافية ،فقد أراد األوروبيون من ورائها الوصول
مباشر ًة إلى الشرق األقصى حيث الحرير والتوابل .لكن الكشوف الجغرافية لم تحدث بسبب األطماع
االقتصادية فقط .وإال لحققها اليونانيون اإلغريق أو المالحون العرب فى المحيط الهادى ....أو البحارة
الصينيون أو اليابانيون ...أو قراصنة البحر المتوسط .
الحقيقة … إن الكشوف ما كانت لتنطلق لوال سلسلة من التطورات العلمية واإلنجازات التقنية التى
حققتها أوروبا فى بداية عصر النهضة[ ،]iiومنها بدء استخدام البوصلة ..وتأسيس علم التخريط ،
وتطوير تقنية بناء السفن العريضة القادرة على مخور المحيطات ،واستعمال البارود للمدافع وكذلك تطوير
المعادالت الهندسية والفلكية الالزمة للمالحة في أعالي البحار.
مبكرا المشروع االستكشافى ،وقام األمير هنرى المالح وأعوانه باستكشاف الساحل ورعى البرتغاليون ً
األفريقى .وبفضل هذه اإلنجازات العلمية تحققت نقلة هائلة فى المالحة البحرية ،فبدال من اإلبحار بمحاذاة
الشواطىء ،كما كانت العادة فى العالم القديم … أمسى باإلمكان اإلبحار فى أمان نسبى عبر المحيطات
الشاسعة ،أو بحار الظلمات كما كانت تس ّمى والتى ال حدود لها.
وذهب البحار الماهر والمغامر كريستوفو كولومبوس الى فرديناند العاهل اإلسبانى وزوجته إيزابيلال ،سنة
ـ فقد اكتسبت القصة مع الزمن غالفا …1491وحصل على دعمهما بعد مفاوضات متكررة .وكالعادة
أسطوريا من نسج الخيال البشرى .لكنها كانت صفقة تجارية محضة ،فقد اشترط كولومبوس أن ُيمنح
عشر األرباح العائدة من الرحلة ،ولقب األمير األعظم للبحر المحيط .ورحل كولومبوس قبيل فجر ْ
.. 3.8.1492في أسطول من ثالثة سفن من نوع الكارافيل العريضة .كان كولومبوس مالحا خبيرا .ولم
تخيب سفنه الرجاء ،ووصل إلى جزر الهند الغربية التي سماها بهذا اإلسم ألنه توهّـم أنها على أطراف
الهند !
و فيما بعد أقلع فاسكو داجاما من لشبونه فى يوليه ،1497ونجح فى الدوران حول رأس الرجاء الصالح،
ليصل الهند الحقيقية بعد عشرة شهور وحين عاد الى وطنه فى ، 1499أكد بنجاح رحلته أن ثروات
الشرق قد أمست فى متناول أوروبا .وأبحر ماجالن غربا وعبر المضائق عند طرف أمريكا الجنوبية
ليدخل المحيط الهادي والوصول إلى الشرق األقصى حيث الفلبين وإندونيسيا الغنية بالتوابل.
أدى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ،الى تحويل تجارة الشرق بعيدا عن البحر المتوسط ..أي بعيدا
عن مصر والموانئ اإليطالية ...لتنتهى مباشرة فى اسبانيا والبرتغال… .وداللة ذلك باألرقام هى كاآلتى:
كان قنطار الفلفل فى الهند يشترى بثالث ليرات بندقية ،ثم يباع فى اإلسكندرية الى التجار األوروبيين
بثمانين ،فصار المستورد منه عبر المحيط يباع فى لشبونة بثالثين !
وفى يونيو ،1510احتل اإلسبان طرابلس ،بعد أن استولوا على وهران وتلمسان فى الجزائر .ووجد
االسبان فى طرابلس مغنما يسيرا فتسلق القلعة لم يستغرق أكثر من أربع ساعات ..وهكذا سيطر األسبان
على مدينة طرابلس بمينائها وقلعتها وبساتينها اليانعة!
فى عام ،1522منح ملك اسبانيا ،االمبراطور المقدس شارل الخامس ( )1558-1500جزيرة مالطا،
لطائفة الفرسان ،استجابة لرجاء البابا عرفانا بجهودهم فى الدفاع عن المسيحية ضد الخطر اإلسالمي.
وهكذا اشتهروا باسمهم الجديد :فرسان مالطا .وفى سنة ،1530تنازل االسبان عن طرابلس لفرسان
مالطا.
القرصنة الجهادية ؟
أمام هذه الخلفية ،ظهرت الحركة الجهادية ..أي مهاجمة السفن والسواحل المسيحية التى طردت
المسلمين من األندلس .لكن الجهادية كانت أيضا ضربا من القرصنة العشوائية لالستيالء على ما تحمله
السفن التجارية فى عرض البحر ،وبالتالى ذات مردود مالى ومصدر دخل للدويلة أو الوالى الذى يرعاها.
ولم تكن القرصنة البحرية إال سمة العصر ،تمارسها كل الدول وكان هناك قراصنة أوروبيين في أعالي
البحار .وكانت القرصنة/الجهاد البحري ،يتم تحت مظلة الوجود العثمانى فى البحر المتوسط.
ً
شجاعة وإقداما وكفاءة ،كان درغوت لكن تلميذ بربروسا األجدر،
باشا األناضولى األصل .وفي إحدى المعارك وقع "الشيطان" درغوت
الجنوي وبقى رهينة لديهم أربع سنوات .وما أن
ّ فى أسر األسطول
أطلق سراحه حتى أعاد تجميع أسطول صغير ،استأنف به غزواته
من قواعد فى جربة والمهدية بتونس ،مهاجما شواطئ ايطاليا واسبانيا ،وحيثما قابلته سفن أوروبية.
واستطاع القراصنة/المجاهدون أن يلحقوا الشلل بالمالحة المسيحية فى غرب البحر المتوسط … بل
أصبحت البحرية الطرابلسية تثير الفزع والرعب فى الجنوب االيطالى وفى نفوس البحارة المسيحيين حتى
أصبح دعاء المودعين للمراكب الراحلة أن" :يحفظكم الرب من القوارب الطرابلسية"!
وكلف االمبراطور شارل الخامس أسطوال لمطاردة درغوت الذى نشر الرعب فى غرب المتوسط ،بتكتيكاته
المذهلة والمباغتة ،التى جعلته ’’ ..موجودا فى كل مكان ،وال تجده فى أى مكان‘‘ كما كان يقال ..وقادرا
بإصراره ومعرفته الواسعة بفنون الحرب ،أن يخلق النصر من ال شئ وفى أسوأ الظروف!
كما حاول االسطول التركى بقيادة اآلدميرال سنان باشا بالتحالف مع درغوت ،حاول احتالل مالطا فى
صيف 1551 دون نجاح .وقادت الحملة الى أسر بضعة آالف من المسيحيين تم توطينهم فى ترهونة.
لكن فشل الحملة على مالطا ،وجه األسطول العثمانى نحو طرابلس .ونجحوا فى طرد حامية الفرسان
يوحنا ،الذين غادروا المدينة فى سفن تحت الحماية الفرنسية .وهكذا دخل العثمانيون طرابلس فى 16
أغسطس ، 1551ونصبوا مراد واليا عليها لبضع سنين.
حكم درغوت طرابلس إلثني عشر سنة بقسوة وصرامة .وبحمالته على غريان ثم ترهونة ثم بنى وليد
ومصراته ،إلخماد كل عصيان أو تطاول أو تلكؤ فى دفع األعشار ،حقق درغوت لطرابلس مكانتها الجديد
كميناء ومركز عسكري في جنوب المتوسط .بل استولى على جربة سنة .1558وبالطبع جعل طرابلس
قاعدة للسفن الجهادية .ولم يكن يتوانى عن خوض المعارك بنفسه .و شارك مع األسطول العثمانى فى
حصار مالطا ،حيث قتل يوم 1569 / 6 / 18من جراء شظية أصابته فى ميدان المعركة قرب مدينة
ـ
سليما الحالية ،في موقع يسمى إلى يومنا هذا "راس دراغوت" .وخلفه فى حكم طرابلس الرايس العـلـج
على الـفـرطاس.
وهكذا ولدت طرابلس ،قاعدة بحرية ،ومركز سلطة ،وعاصمة إلقليمها ،من جوف الصراع الدولى فى غرب
المتوسط.
وتوالى علي طرابلس دايات ووالة بدرجات مختلفة من االستقاللية والمبادرة .سلسة من الطغاة ،الذين
قلما تذكر أسماءهم ناهيك عن محاسنهم .كانوا أسرى للصراعات فى صفوف االنكشارية ،أو المجاعات
والطواعين ،أو ثورات فى الدواخل احتجاجا على الضرائب وقسوة الجند .كان الوالة يأتون بمؤامرة ،ثم
ينتقمون ويقمعون ..ثم ينهبون ..وحين تنضب الموارد وتتسع دائرة الخصوم ،يختفون عبرانقالب داخل
القلعة.
وبعد درغوت لم تستعد طرابلس مجدها أو مكانتها كقوة بحرية ،إال فى عهد يوسف القرمللى ،المهووس
كشخص بالسلطة ،والذى غرس كحاكم مفهوم الدولة لدى مواطنيه .لكن يوسف باشا لم يمتلك صدق
وشجاعة درغوت ..فكان يتعامل مع القوى األوروبية بدهاء وخوف وطمع ،يخفيهما وراء ستار من
الشراسة حيال رعيته.
البـعـد الجغرافي
كان العامل الجغرافى دائما أساسيا فى تحديد العواصم ،وأبسط عنصر فى هذا االختيار توسط العاصمة (كما
هو الحال بالنسبة للقاهرة أو بغداد) ،أو أن تقع فى مأمن عن االعتداءات الخارجية ،واألهم أن تكون على
مقربة من مصادر الثروة األساسية فى البالد كاألراضى الخصبة ،أو المناجم .لكن كل هذه العوامل
تراجعت إثر الثورة الصناعية ،التى خلقت مصادر جديدة لثراء العاصمة ومن ثم تمويل إداراتها وحكامها
وجيشها .وهكذا أمسى وجود المصانع ،وموانئ التصدير ،واألسواق المالية عناصر هامة فى تعزيز تطور
أى مدينة الى منزلة العاصمة في العصر الحديث .وحين تراجعت أهمية كل هذه العوامل ،أمام زحف
وسائل االتصال ،بدءا من التلغراف فى القرن التاسع عشر ،ظهرت العواصم اإلدارية المحضة مثل
واشنطن وبيرن وغيرها.
بشئ من التمعن نستطيع أن نرى أن طرابلس تقع على الساحل الجنوبى لمضيق هو خاصرة البحر
األبيض المتوسط ،بين صقلية ومالطا فى الشمال والساحل األفريقى فى الجنوب .ومبكرا اكتسبت أهمية
أخرى كمصدر للملح المستخرج من منطقة زواره ،والذي كانت تشتريه جمهورية البندقية.
لكن طرابلس وجنوبها الفزانى ،اكتسبا أهمية جديدة فى القرون التالية ،كإحدى البوابات التجارية الى
وسط أفريقيا ،وكواحدة من أهم الطرق المأمونة للرحالة والستكشاف منطقة جنوب الصحراء .ومن هنا
جاء اهتمام انجلترا بطرابلس .أما اهتمام فرنسا فقد ظهر عندما قاد نابليون حملته على مصر سنة 1798
من أجل فتح طريق للتجارة الفرنسية مع الشرق .فقام أوال باحتالل مالطا ،واتصل بيوسف باشا القرملى
الذى أبدى استعداده للتعاون وقام بالفعل بتصدير األبقار واألغنام الى القوات الفرنسية فى مالطا .كما كان
بريد الحملة الفرنسية يبعث عن طريق القنصل الفرنسى فى طرابلس.
وقاد ذلك التقارب الجديد بين فرنسا وإيالة طرابلس الى تفجير أزمة حادة مع بريطانيا .وكان أن اتصل
اآلدميرال نيلسون (الذى دمر أسطول نابليون فى خليج أبي قير فى مصر ،فيما بعد) بالباب العالى العثمانى
يطلب ممارسة الضغوط على يوسف باشا .ونظرا لدقة الموقف ،وتلكؤ يوسف باشا ،بعث نيلسون بسفينة
حربية بقيادة نائبه ،وصلت الى طرابلس وقدمت مطالبها بطرد القنصل الفرنسى وعدم السماح للسفن
الفرنسية بدخول ميناء طرابلس ،واعالن الحرب على فرنسا ..على أن يتم ذلك خالل ساعتين! ولكن
القصف الشديد بعد يومين ،أرغم الباشا على االستجابة .
استغرق تحول طرابلس من واحة ساحلية الى مدينة ومركز حضري ،أكثر من قرنين ،شابها كثير من
االضطراب السياسي الناجم عن انقالبات االنكشارية واألوبئة[ ،]1والمجاعات نتيجة الجفاف الدورى،
وثورات البدو فى الدواخل.
ً
عاصمة ،كان البد لها أن توسع نطاق سيطرتها .وبالطبع سعى الوالة المتعاقبون، ولكي تمسي طرابلس
بدرجات مختلفة من الحماس والنجاح ،الى تحقيق ذلك بالحمالت العسكرية ،واستمالة مشايخ القبائل.
ولعل أول محاولة لم ّد سلطان طرابلس شرقا ،كانت حملة عثمان بك الساقزلى فى سبتمبر 1640على
أوجلة ،الواحة الثرية نتيجة موقعها االستراتيجى على تقاطع طرق القوافل .ومن تلك الحملة عاد عثمان
منتصرا الى طرابلس وبرفقته إثنى عشر جمال محملة بالذهب ،حسب ما سجل معاصروه.
وكانت تلك الحملة بداية ضم بنغازى وشرق ليبيا ،تحت سلطة طرابلس .ولكن القرملليون وظهور "قبيلة"
الكراغلة ،هم من بدأ توحيد طرابلس ببقية ليبيا[.]2
لكن وصول أحمد القرمللى الى السلطة ،يمثل في اعتقادي عالمة فارقة فى تاريخ طرابلس وليبيا .فأحمد
الذى كان ضابطا فى جيش الدولة ،جاء من أسرة ترسخ انصهارها فى المجتمع الليبى ،بدليل أن مؤرخا
مثل الفرنسى شارل فيرو ،يفسر ما حدث على أنه أول استالم لليبيين للسلطة فى طرابلس .وتأكد ذلك حين
أقدم أحمد باشا على تصفية النخبة الحاكمة ذات األصول التركية واألجنبية فى مذبحة شهيرة فى مأدبة
ببيته فى منطقة الظهرة .ورغم أن تفاصيل الحكم القرمللي لم تختلف عن سابقيه ،إال أنه حرص على
توحيد ليبيا ،فقمع ثورات الدواخل كما فى تاجورا وترهونة ومسالتة ومرزق ،واألهم أنه بعث ابنه ،
محمود بك ،حاكما على بنغازى سنة . 1720
تمويل العاصمة
كان محمد داى ( ) 1649 -1633مستنيرا ،وذا عقل منفتح وعملي .وقد مات مسموما ..وهو الذى
ط ّو ر تجارة طرابلس وخاصة تجارة الذهب مع ملك بورنو ،مما رفع دخل طرابلس وحسن قدراتها البحرية.
وكانت تخرج من طرابلس قافلتان سنويا عبر فزان ،تحمل المنسوجات والمعدنيات وخاصة األسالك واإلبر
والسكاكين ،وتعود بتبر الذهب والتوابل والرقيق .وفى عهده دشنت صناعة المراكب ،باستثمار مهارات
صناع السفن من األسرى المسيحيين ،ثم مكافأتهم بإطالق سراحهم .كما تم تقنين توزيع ريع القرصنة،
بحيث يخصص نصفه لإلنكشارية ،ونسبة %11لبالط الباشا.
وخلف عثمان قائد الجيش سيده المصلح محمد داى ،ليبقى فى سدة الحكم 23سنة ،استطاع إبانها أن
يحقق استقرارا ويطور المدينة ،ويشيد سوق الترك الشهير .لكن موته كان بداية لحقبة من التدهور فى
أوضاع طرابلس ،لم يوقفها إال تأسيس دولة األسرة القرملية فى .1711 / 7 / 28
وإذا كانت العالقات مع الخارج ،سمة العاصمة ،فإن التجارة هى أول مجال لذلك التفاعل .ويعود أقدم عقد
تجاري رسمى في طرابلس ،إلى سنة ، 1675في عهد الداى بالى ،وكان بإسم تاجر من مارسيليا .من
جهة أخرى فإن حركة الميناء تعطى مؤشرا على أهمية المدينة فى التجارة الدولية .وفى القرن 18كان
يأتى من البندقية الى ميناء طرابلس .. ’’ :مركب أو مركبان فى السنة من أجل التجارة فضال عن المراكب
الخاصة بتجارة الملح من زواره ،لشحنه الى ميالنو.
كانت هناك أيضا تجارة القوافل مع دواخل أفريقيا ..وخاصة تجارة الرقيق .وكلها كانت تعود بالدخل على
الوالي وحكومته .لكن اتفاقية الصلح بين البندقية وطرابلس ،أدت الى تضاعف عدد السفن .وبالمقابل
كانت تصل طرابلس أربعة مراكب فرنسية سنويا ،محملة بالحرير والمنسوجات والنبيذ وغيرها .كما عمل
القنصل الفرنسى على تصدير كثير من األعمدة الرخامية من لبدة ،بموافقة حكومة طرابلس ،استخدم
بعضها فى تجميل كنيسة سان جرمان فى باريس ! .
لم تكن بطرابلس ثروات تجنى كالذهب أو اللؤلؤ ..وال كانت على طرق التجارة الدولية ..لكن طرابلس
اكتسبت أهميتها من موقعها االستراتيجي فى عصر التنافس األوروبي وتوسعه االستعماري .وهكذا بدأ
افتتاح قنصليات لفرنسا (عام )1640وانجلترا (سنة ، )1658والبندقية ،وفى ما بعد قنصليات لنابولى
والسويد وهولندا .وكان وجود القنصليات األجنبية يمنح التجار األوروبيين شعورا باألمان والثقة.
وفى 1730جدد باشا طرابلس اتفاق السالم مع بريطانيا ،ومما جاء فى الرسالة .. ’’ :الى صاحب
الجاللة الذى ال يقهر ،ملك وامبراطور دولة بريطانيا ..لقد وصل بكل ترحيب صاحب السعادة السيد كيبل
قائد مراكب جاللتكم ،وقدم إلينا رغبتكم فى تجديد اتفاق السالم والصداقة القائم بينكم وبين هذه اإلياله.
وبعد عرض الموضوع على ديواننا المستنير اتفق جميع أعضائه على أن التجديد هو من المصلحة
والحكمة ..و قد أمرنا ربابنة سفننا المكلفين بالدفاع عن علمنا المجيد بأن يعاملوا جميع مراكب الدولة
اإلنجليزية التي يلتقون بها معاملة األصدقاء .’’..ورغم تلك الوعود حدثت اختراقات ،أدت الى
مواجهات ،مثل قدوم فرقاطة انجليزية عام 1765لتهديد طرابلس وتحرير مركب كان قد أسرته بحرية
الباشا.
لكن عبد الرحمن آغا كان مقنعا كوزير ..يصل البندقية فى اكتوبر ، 1763وبعد اجراءات الحجر
الصحى ..يستضاف فى دارة الزوار الرسميين ،التى أثثت غرفها خصيصا على النمط الشرقى ،مع
تخصيص مبلغ للنفقات اليومية ،وكان يرافقه 12شخصا وترجمان تركي .ودخل في مفاوضات امتدت
ثمانية أشهر ..الى شهر يونيه ،ختمت بتوقيع معاهدة صلح .وتأكيدا لمصداقية الرجل ،استقبلت سفن
البندقية فى طرابلس بعد أربع شهور ،بسالم وحفاوة مع عتق 88أسيرا مسيحيا.
وتصف لنا المس توللى شقيقة القنصل البريطانى آنذاك بكل دقتها وشغفها بالتفاصيل ،شخصية عبد
نموذجا لنخبة طرابلسية منفتحة على العالم فى طورها
ً الرحمن وزوجته وبيته ومأتمه .ولعله كان
الجنينى.
إذا كانت القبيلة ،والى حد ما القرية ،تنمو من الداخل ،بالتكاثر ..فإن المدينة مركز جذب ..تنمو
بالقادمين من خارجها ،للعمل فى التجارة ،الميناء ،وفى مراكز التعليم ،أو فى إدارات السلطة
وجيوشها .المدينة إذن مجتمع إنصهارى ،فى حالة من التمازج المتواصل .وهذا التمازج يبلغ ذروته فى
المدينة-العاصمة.
وإذا كان شيخ البادية ،يتحرك مع قبيلته ،فإن الحاكم الحضري بحاجة الى آلة ثابتة ..هيكل إدارى
لتنظيم األمور ،وحفظ األمن ،وتحقيق السيطرة ،والحفاظ على وحدة الوطن ،وصد العدوان الخارجي
بجيش محترف ،متفرغ للقتال مقابل راتب.
واذا كانت الغاية تبرر الوسيلة فى السياسة ،فإن الوسائل هى جوهر الدولة .فدوام السلطة يعتمد على
آداء أجهزتها ومؤسساتها .وهذه الكفاءة ال تتحقق بتوظيف أبناء العمومة .فالمهارات يتم استقطابها من
كل حدب وصوب .وهناك مهارات نادرة ،فأنت لن تجد مثال ،كثيرين يشغـفون بالمالحة ،ويقضون
الشهور فى عرض البحر ،ويقاتلون من أجل مركب ..ثمة دوافع أخرى البد من توفرها :حب المغامرة ،
التحدى ،عدو جدير بالكراهية ،واإليمان بفكرة ما ،إضافة الى القدرة والمهارة .يصدق هذا المثال
النادر ،على شتى مراتب الدولة العليا ،وإن تنوعت المهام والدوافع .ورغم تضاؤل دور بعض هذه
العوامل فى عصر االتصاالت والمواصالت الحديثة ،إال أن مزيج المؤهل والموهبة ما يزال أساسيا.
والوظيفة في النهاية هى التى تختار وتصنع رجالها.
فى القرون 16الى ُ ، 18كتب تاريخ طرابلس بأسماء سلسلة من الوالة القساة ،وقصيرى النظر ،وشاحبى
السَيـّر ..تفاوتت حكوماتهم بين المأساوى والمضحك ..وقلة منهم ،مثل درغوت ،طغت سيرتهم
الرومانسية على ما حققوه بالفعل .لكن المدينة كانت تمر بتحوالت أعمق ،رغم ما عرفته من فترات شقاء
ـ
وتردى من جراء الفوضى والحروب األهلية واألوبئة ..لتكتسب هوية جديدة :مدينة تنتمى للعالم،
وتخترق حواجز المحلى.
شهدت طرابلس مجئ وانصهار جماعات من الخارج :عرب ويهود األندلس ،المقاتلين اإلنكشارية ،
المسيحيين من بحارة ورقيق ومرتزقة .وكل هؤالء امتصهم مجتمع المدينة ،ورغم اختفائهم كجماعات
أو ثقافات متميزة ،إال أن قيمهم انبثت فى نسيج ثقافة العاصمة لتعيد تشكيل رؤية’’ الطرابلسى /ولد
المدينة ‘‘ لذاته ولآلخرين .من ذلك ما يتسم به أهل طرابلس من مرونة وصبر فى التعامل مع السلطة،
وغياب الحدّة واالنفعال فى استجاباتهم .وليست هذه إال تعميمات ،ثم أن تلك التحوالت كانت بين مد وجزر
مع امتصاص المدينة للوافدين من الدواخل ،ومعهم قيمهم ،وهؤالء كانوا تيارا متصال لم ينقطع عبر
السنين .
وعلى صعيد وجدانى ،تظهر طرابلس ارتباطا أكثر حميمية بالبحر ،مقارنة ببقية مدن الساحل الليبى ،حتى
على مستويات بسيطة ويومية ،مثل ثقافة الطعام !
تلك كانت سمات طرابلس فى مراحلها الجنينية قبل بضع قرون ،أكسبتها هوية جديدة :كعاصمة للفضاء
الليبى منذ منتصف القرن التاسع عشر ..وعاد الفضل األكبر في ذلك إلى موقعها الجغرافي المتاخم للفضاء
األوروبى.
___________