You are on page 1of 8

‫األيام الطرابلسية (الحلقة الثاني)‪ :‬أيام المخاض‬

‫‪29/01/2008‬‬
‫د‪ .‬محمد محمد المفتي‬
‫والدة عاصمة‬

‫" ‪ ..‬ولما توجهنا إلى‪  ‬طرابلس وأشرفنا عليها كاد بياضها مع شعاع الشمس يغـشى‬
‫األبصار ‪ ..‬وخرج جميع أهلها مظهرين لالستبشار ‪ ..‬فنزلنا (بقصبة البلد ) ‪ ..‬ورأيت‬
‫آثار الضخامة بادية على هذه القصبة غـير أن الخراب قد تمكن منها‪ ..‬وكان فى ما‬
‫يقابل هذه القصبة موضع يعرف بالرياض مخصوص بوالى البلد ‪ ..‬وهو اآلن‬
‫خرب ‪..‬وبالبلد ثالثة‪  ‬حمامات‪ ..‬ورأيت بسورها من اإلعتناء ‪ ..‬وبخارج باب البحر‪ ..‬مرسى المدينة وهو‬
‫مرسى حسن متسع‪ .‘‘ ..  ‬‬

‫عامي ‪1308 – 1306‬م … بلدة وادعة‬ ‫ّ‬ ‫الرحالة التيجانى طرابلس‪ ،‬حين زارها وأقام فيها بين‬
‫هكذا وجد ّ‬
‫خارج مسارات التاريخ‪ .‬وقد ظلت طرابلس طيلة قرون ‪ ..‬مجرد واحة‪ ،‬فى سلسلة واحات الساحل الليبى‪.‬‬
‫ـ منها مرفأ صغير تزوره‬‫تعيش كل واحة على انتاج المزارع المروية المحيطة حيثما تتراجع السباخ‪..‬ولكل‬
‫المراكب الشراعية بين الحين واآلخر من أوروبا أو اإلسكندرية أو من المغرب متجهة إلى الحج في رحلة‬
‫محفوفة بالمخاطر‪ .‬واستوت في ذلك طرابلس مثلها مثل زواره وتاجوراء والخمس وزليطن ومصراتة‬
‫وبنغازى ودرنة‪.‬‬

‫كانت الواحات الساحلية الليبية ‪ ..‬مجتمعات صغيرة شبه مغلقة‪ ،‬محدودة القدرات‪ ،‬تعيش على االكتفاء‬
‫الذاتى‪ ..‬مجتمعات شبه ساكنة‪ ..‬بأسواقها ومساجدها وكتاتيبها وحماماتها‪  ،‬وأيضا بأعيانها وقضاتها‬
‫وشعرائها ومرابطيها (أوليائها)‪ .‬ومنها ما عرف صناعات يدوية مثل النسيج والجرود واألكلمة‪ ،‬وعصر‬
‫الزيتون وصناعة الحصران ‪ ،‬لكن جل معامالتها التجارية كانت تقوم على مقايضة االنتاج الزراعى‬
‫المحدود‪ .‬كانت مستوطنات شبه مغلقة إال إذا وقعت على خطوط قوافل التجارة أو الحجيج‪ .‬وربما زارها‬
‫تاجر بين الحين والحين‪ .‬بينما سمحت مرافئ طرابلس وبنغازى بتجارة خارجية محدودة‪ ،‬لتصدير الملح[‪]i‬‬
‫أو لوصول المصنوعات المعدنية والسالح والزجاجيات واألقمشة‪.‬‬

‫مزيج من القيم واألعراف القبلية والتعاليم اإلسالمية‪ ،‬ولكن دون‬


‫ُ‬ ‫َحـ َكم مجتمع الواحة الساحلية الليبية‬
‫وجود سلطة حقيقية‪ .‬ولم تكن الواحة ترنو الى التوسع ‪ ،‬وإن خاضت حربا فمن أجل الثأر‪ .‬لكن الناس‬
‫كانوا بين الحين واآلخر عرضة للهجرة ‪ ..‬فزعا من وباء أو هربا من مجاعة أو تحت تهديد بثأر‪.‬‬

‫ومثلها مثل بقية الواحات‪ ،‬لم تكن طرابلس‪ ،‬مركز سلطة أو سدة حكم حتى بداية القرن السادس عشر‪،‬‬
‫وبالتحديد حين احتلها األسبان سنة ‪ ،1510‬ولم تصبح عاصمة فعلية إال بعد ذلك بقرنين‪ .‬وال ننسى أن‬
‫مصطلح‪  ‬عاصمة‪  ‬مشتق من العصمة أي الحماية والمنعة والقوة ‪ ،‬وهذا ما اكتسبته طرابلس تدريجيا مع‬
‫احتدام الصراع الدولى قرب شواطئها‪.‬‬

‫بداية الصراع الدولى‬

‫حتى نهاية‪  ‬القرن الخامس عشر تقريبا ‪ ،‬كانت أوروبا معزولة عمليا عن بقية العالم‪  ‬بإستثناء الشام‬
‫ومصر والشمال‪  ‬األفريقى ‪ ...‬الى غربها المحيط‪  ‬الشاسع األسطورى ‪ ،‬والى جنوبها أفريقيا القارة‪ ‬‬
‫المظلمة ‪ ،‬وإلى شرقها بالد مترامية ‪ ،‬ربما غنية ولكن شبه مجهولة ‪ ،‬والى الشمال يباب‪  ‬متجمد ‪...‬‬
‫بعض الرحالة كانوا‪  ‬قد وصلوا الى الصين مثل ماركو بولو‪ ،‬لكن المعلومات التى عادوا بها كانت محدودة‬
‫ملفوفة بالعجائب‪  ‬واألساطير‪ .‬‬

‫كانت الحرير يستورد من الصين عبرالمسالك الجبلية الوعرة والسهوب والصحارى الممتدة عبر آسيا‬
‫دورا‬
‫الوسطى‪ .‬لكن التوابل والبهارات الشرقية (الفلفل ‪ /‬القرفة ‪ /‬الجنزبيل ‪ /‬جوز الطيب ‪ /‬الحبهان)‪  ‬لعبت ً‬
‫أهم فى اإلقتصاد األوروبى فى العصر الوسيط‪ ،‬إلستعمالها كمواد خام إلنتاج العطور ومواد الزينة واألدوية‬
‫واألصباغ ‪ ،‬فضال عن أهمية البهارات فى لحفظ اللحوم خالل شهور الشتاء الطويلة‪  .‬فقد كان الفالحون‬
‫فى أوروبا‪ ،‬خاصة شمالها‪  ،‬يذبحون الفائض‪  ‬من األغنام والمواشى فى فصل‪  ‬الخريف ‪ ،‬تحسبا لتقلص‬
‫المراعى من جراء ثلوج الشتاء ثم تخزين‪  ‬لحمها على هيئة‪  ‬قدّيد‪ .‬وبلغت أهمية‪  ‬التوابل فى أوروبا‬
‫كسلعة أنها كانت تقبل أحيانا كبديل‪  ‬للنقد لتسديد‪  ‬الضرائب‪ .‬وفى حوالى سنة ‪ 1100‬م ‪ ،‬مثال كان ثمن‬
‫رطل الفلفل أربع ليرات فضية !‬

‫لكن مستوردات أوروبا من الشرق شملت أيضا البن ‪ /‬البخور‪ /‬العطور(المسك‪/‬العنبر‪/‬ماء الورد) ‪ /‬السجاد‪/‬‬
‫العاج‪ /‬األحجار الكريمة‪/‬القطن الهندى‪ /‬القلويات المستعملة‪  ‬فى صناعة الصابون‪ /‬ملح النطرون ‪ /‬الش ّبة‬
‫… الخ‪ .‬وكانت هذه السلع المستوردة من الشرق األقصى‪  ‬تصل عبرالخليج‪  ‬العربى‪  ‬ثم عن طريق‬
‫نهرالفرات الى حلب ومنها الى موانى الشام ( صور‪ /‬صيدا ‪ /‬أنطاكية) او بالسفن الشراعية عن طريق‬
‫البحر األحمر الى السويس ثم تنقل الى القاهرة بالقوافل ومنها بالمراكب والدواب الى اإلسكندرية‪ .‬ومن‬
‫هذه الموانى يتم نقل‪  ‬البضائع على سفن البندقية وجنوا‪ .‬كما صدَنداعملا ‪ ،‬رصمو ماشلا ىلا ابوروأ ترّ‬
‫من حديد ونحاس وذهب الفضة واألخشاب واألقمشة‪  ‬الثمينة !‬

‫هذا االتصال التجارى‪  ‬قاد بالضرورة الى إزدهار المدن الواقعة‪  ‬على هذه الخطوط التجارية‪ .‬وأثرى حكام‬
‫المناطق بفضل الضرائب الجمركية (المكوس) التى كانوا يفرضونها على البضائع العابرة ‪ ،‬وإحتكارهم‬
‫للنقل أو لبعض السلع‪ .‬ولعل عوائد التجارة العابرة كانت السند الرئيسى لدولة‪  ‬المماليك‪  ‬في مصر ‪،‬‬
‫ومصدرا من مصادر قوتها العسكرية‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫البعد العلمى والتقنى‬
‫‪ ‬‬
‫هذه الخلفية االقتصادية كانت أهم سبب للكشوف الجغرافية‪ ،‬فقد أراد األوروبيون من ورائها الوصول‬
‫مباشر ًة إلى الشرق األقصى حيث الحرير والتوابل‪ .‬لكن الكشوف الجغرافية لم تحدث بسبب األطماع‬
‫االقتصادية فقط‪ .‬وإال لحققها اليونانيون اإلغريق أو المالحون العرب فى المحيط الهادى ‪ ....‬أو البحارة‬
‫الصينيون أو اليابانيون ‪ ...‬أو قراصنة البحر المتوسط‪ .‬‬

‫الحقيقة … إن الكشوف ما كانت لتنطلق لوال‪  ‬سلسلة من التطورات العلمية واإلنجازات التقنية التى‪  ‬‬
‫حققتها أوروبا فى بداية عصر النهضة[‪ ،]ii‬ومنها بدء استخدام البوصلة ‪ ..‬وتأسيس علم التخريط ‪ ،‬‬
‫وتطوير تقنية بناء السفن العريضة القادرة على مخور المحيطات ‪ ،‬واستعمال البارود للمدافع وكذلك تطوير‬
‫المعادالت الهندسية والفلكية الالزمة للمالحة في أعالي البحار‪.‬‬

‫مبكرا المشروع االستكشافى‪ ،‬وقام األمير هنرى المالح وأعوانه باستكشاف الساحل‬ ‫ورعى البرتغاليون ً‬
‫األفريقى‪ .‬وبفضل هذه اإلنجازات العلمية تحققت نقلة هائلة فى المالحة البحرية ‪ ،‬فبدال من اإلبحار بمحاذاة‬
‫الشواطىء ‪ ،‬كما كانت العادة فى العالم‪  ‬القديم … أمسى باإلمكان اإلبحار‪  ‬فى أمان‪  ‬نسبى عبر المحيطات‪ ‬‬
‫الشاسعة‪ ،‬أو بحار الظلمات كما كانت تس ّمى والتى ال حدود لها‪.‬‬
‫وذهب البحار الماهر والمغامر كريستوفو كولومبوس الى فرديناند العاهل‪  ‬اإلسبانى وزوجته إيزابيلال‪ ،‬سنة‬
‫ـ فقد اكتسبت القصة مع الزمن غالفا‬ ‫‪ …1491‬وحصل على دعمهما بعد مفاوضات متكررة‪ .‬وكالعادة‬
‫أسطوريا من نسج الخيال‪  ‬البشرى‪ .‬لكنها‪  ‬كانت صفقة تجارية محضة ‪  ،‬فقد اشترط كولومبوس أن ُيمنح‬
‫عشر األرباح العائدة من الرحلة‪ ،‬ولقب األمير األعظم للبحر المحيط‪  .‬ورحل كولومبوس قبيل فجر‪ ‬‬ ‫ْ‬
‫‪  .. 3.8.1492‬في أسطول من ثالثة سفن من نوع الكارافيل العريضة‪ .‬كان كولومبوس مالحا خبيرا‪ .‬ولم‬
‫تخيب سفنه الرجاء ‪ ،‬ووصل إلى جزر الهند الغربية التي سماها بهذا اإلسم ألنه توهّـم أنها على أطراف‬
‫الهند !‬
‫و فيما بعد أقلع فاسكو داجاما من لشبونه فى يوليه ‪ ،1497‬ونجح فى الدوران حول رأس الرجاء الصالح‪،‬‬
‫ليصل الهند الحقيقية بعد عشرة شهور وحين عاد الى وطنه فى ‪ ، 1499‬أكد بنجاح رحلته أن ثروات‬
‫الشرق قد أمست‪  ‬فى متناول أوروبا‪ .‬وأبحر ماجالن غربا وعبر المضائق عند طرف أمريكا الجنوبية‬
‫ليدخل المحيط الهادي والوصول إلى الشرق األقصى حيث الفلبين وإندونيسيا الغنية بالتوابل‪.‬‬

‫ماذا كانت النتائج ؟‬

‫أدى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح ‪ ،‬الى تحويل تجارة الشرق بعيدا عن البحر المتوسط ‪ ..‬أي بعيدا‬
‫عن مصر والموانئ اإليطالية ‪ ...‬لتنتهى مباشرة فى اسبانيا والبرتغال…‪ .‬وداللة ذلك باألرقام هى كاآلتى‪:‬‬
‫كان قنطار الفلفل فى الهند‪  ‬يشترى بثالث ليرات بندقية ‪ ،‬ثم يباع فى اإلسكندرية الى التجار األوروبيين‬
‫بثمانين ‪ ،‬فصار المستورد منه عبر المحيط يباع فى لشبونة‪  ‬بثالثين !‬

‫دفع السلطان‪  ‬الغورى فى‬


‫على الصعيد‪  ‬السياسى حاولت البندقية (سيدة البحر المتوسط حتى ذلك الحين) َ‬
‫مصر الى تحريض األمراء المسلمين فى الهند على مقاومة التوسع‪  ‬البرتغالى ‪ ،‬لكنها لم تحقق نجاحا‪.‬‬
‫‪ ‬‬
‫شطرنج البحر المتوسط‬
‫‪ ‬‬
‫في تلك الفترة ظهرت قوة جديدة في البحر المتوسط ‪ ،‬أال وهي االمبراطورية العثمانية‪ .‬وفى سنة ‪،1522‬‬
‫بعد حصار دام ستة أشهر‪ ،‬سقطت جزيرة رودس فى يد العثمانيين ‪ ،‬وطردوا منها فرسان القديس يوحنا‪.‬‬
‫وكان سقوط رودس مفجعا ألوروبا المسيحية‪.‬‬

‫وفى يونيو ‪ ،1510‬احتل اإلسبان طرابلس ‪ ،‬بعد أن استولوا على وهران وتلمسان فى الجزائر‪ .‬ووجد‬
‫االسبان فى طرابلس مغنما يسيرا فتسلق القلعة لم يستغرق أكثر من أربع ساعات ‪ ..‬وهكذا سيطر األسبان‬
‫على مدينة طرابلس بمينائها‪  ‬وقلعتها وبساتينها اليانعة!‪ ‬‬

‫فى عام ‪ ،1522‬منح ملك اسبانيا‪ ،‬االمبراطور المقدس شارل الخامس ( ‪ )1558-1500‬جزيرة مالطا‪،‬‬
‫لطائفة الفرسان‪ ،‬استجابة لرجاء البابا عرفانا بجهودهم فى الدفاع عن المسيحية ضد الخطر اإلسالمي‪.‬‬
‫وهكذا اشتهروا باسمهم الجديد‪ :‬فرسان مالطا‪ .‬وفى سنة ‪ ،1530‬تنازل االسبان عن طرابلس لفرسان‬
‫مالطا‪.‬‬

‫القرصنة الجهادية ؟‬
‫‪ ‬‬
‫أمام هذه الخلفية‪ ،‬ظهرت الحركة الجهادية ‪ ..‬أي مهاجمة السفن والسواحل المسيحية التى طردت‬
‫المسلمين من األندلس‪ .‬لكن الجهادية كانت أيضا ضربا من القرصنة العشوائية لالستيالء على ما تحمله‬
‫السفن التجارية فى عرض البحر‪ ،‬وبالتالى ذات مردود مالى ومصدر دخل للدويلة أو الوالى الذى يرعاها‪.‬‬
‫ولم تكن القرصنة البحرية إال سمة العصر‪ ،‬تمارسها كل الدول وكان هناك قراصنة أوروبيين في أعالي‬
‫البحار‪ .‬وكانت القرصنة‪/‬الجهاد البحري ‪ ،‬يتم تحت مظلة الوجود العثمانى فى البحر المتوسط‪.‬‬

‫لكن القرصنة الجهادية ‪ ،‬كانت حركة عاطفية أكثر منها تحديا‬


‫استراتيجيا‪ .‬أوال لغياب التوازن بين الطرفين ‪ ،‬فالمعسكر اإلسالمي‬
‫كان يعتمد على السفن واألسلحة التي ينتجها خصومه‪ .‬وهي معادلة‬
‫مستحيلة ‪ ..‬وحلها الوحيد كان نقل التقنية الحربية وتوطينها‪.‬‬
‫ومع ذلك تألقت قيادات بطولية فى تلك المواجهات المحتومة‪ ،‬عرفت‬
‫بحماسها وجرأتها وذكائها التكتيكى … مثل خير الدين برباروسا[‬
‫‪  ]iii‬الذى تولى حكم‪  ‬الجزائر سنة ‪ ،1517‬وشارك بعد ذلك فى‬
‫قيادة األسطول العثمانى‪ ،‬وتوفى بالقسطنطينية عام ‪ .1546‬وبرز‬
‫تلميذه مراد رايس آغا الذى أقام‪  ‬منذ ‪  1537‬قاعدة منيعة فى‬
‫تاجوراء حيث بنى مسجدًا‪.‬‬

‫ً‬
‫شجاعة وإقداما وكفاءة ‪ ،‬كان درغوت‬ ‫لكن تلميذ بربروسا األجدر‪،‬‬
‫باشا األناضولى األصل‪ .‬وفي إحدى المعارك وقع "الشيطان" درغوت‬
‫الجنوي وبقى رهينة لديهم أربع سنوات‪ .‬وما أن‬
‫ّ‬ ‫فى أسر األسطول‬
‫أطلق سراحه حتى أعاد تجميع أسطول صغير‪ ،‬استأنف به غزواته‬
‫من قواعد فى جربة والمهدية بتونس‪ ،‬مهاجما شواطئ ايطاليا واسبانيا‪ ،‬وحيثما قابلته سفن أوروبية‪.‬‬

‫واستطاع القراصنة‪/‬المجاهدون أن يلحقوا الشلل بالمالحة المسيحية فى غرب البحر المتوسط … بل‬
‫أصبحت البحرية الطرابلسية تثير الفزع والرعب فى الجنوب االيطالى وفى نفوس البحارة المسيحيين حتى‬
‫أصبح دعاء المودعين للمراكب الراحلة أن‪" :‬يحفظكم الرب من القوارب الطرابلسية"!‬

‫وكلف االمبراطور شارل الخامس أسطوال لمطاردة درغوت الذى نشر الرعب فى غرب المتوسط‪ ،‬بتكتيكاته‬
‫المذهلة والمباغتة‪ ،‬التى جعلته ’’ ‪ ..‬موجودا فى كل مكان‪ ،‬وال تجده فى أى مكان‘‘ كما كان يقال‪ ..‬وقادرا‬
‫بإصراره ومعرفته الواسعة بفنون الحرب‪ ،‬أن يخلق النصر من ال شئ وفى أسوأ الظروف!‪ ‬‬

‫كما حاول االسطول التركى بقيادة اآلدميرال سنان باشا بالتحالف مع درغوت‪ ،‬حاول احتالل مالطا فى‬
‫صيف‪ 1551  ‬دون نجاح‪ .‬وقادت الحملة الى أسر بضعة آالف من المسيحيين تم توطينهم فى ترهونة‪.‬‬
‫لكن فشل الحملة على مالطا‪ ،‬وجه األسطول العثمانى نحو طرابلس‪ .‬ونجحوا فى طرد حامية الفرسان‬
‫يوحنا‪ ،‬الذين غادروا المدينة فى سفن تحت الحماية الفرنسية‪ .‬وهكذا دخل العثمانيون طرابلس فى ‪16‬‬
‫أغسطس ‪ ، 1551‬ونصبوا مراد واليا عليها لبضع سنين‪.‬‬

‫حكم درغوت طرابلس إلثني عشر سنة بقسوة وصرامة‪ .‬وبحمالته على غريان ثم ترهونة ثم بنى وليد‬
‫ومصراته‪ ،‬إلخماد كل عصيان أو تطاول أو تلكؤ فى دفع األعشار ‪ ،‬حقق درغوت لطرابلس مكانتها الجديد‬
‫كميناء ومركز عسكري في جنوب المتوسط‪ .‬بل استولى على جربة سنة ‪  .1558‬وبالطبع جعل طرابلس‬
‫قاعدة للسفن الجهادية‪ .‬ولم يكن يتوانى عن خوض المعارك بنفسه‪ .‬و شارك مع‪  ‬األسطول العثمانى فى‬
‫حصار مالطا‪ ،‬حيث قتل يوم ‪ 1569 / 6 / 18‬من جراء شظية أصابته فى ميدان المعركة قرب مدينة‬
‫ـ‬
‫سليما الحالية ‪ ،‬في موقع يسمى إلى يومنا هذا "راس دراغوت"‪ .‬وخلفه فى حكم طرابلس الرايس العـلـج‬
‫على الـفـرطاس‪.‬‬
‫وهكذا ولدت طرابلس‪ ،‬قاعدة بحرية‪ ،‬ومركز سلطة‪ ،‬وعاصمة إلقليمها‪ ،‬من جوف الصراع الدولى فى غرب‬
‫المتوسط‪.‬‬

‫وتوالى علي طرابلس دايات ووالة بدرجات مختلفة من االستقاللية والمبادرة‪ .‬سلسة من الطغاة ‪ ،‬الذين‬
‫قلما تذكر أسماءهم ناهيك عن محاسنهم‪ .‬كانوا أسرى للصراعات فى صفوف االنكشارية‪ ،‬أو المجاعات‬
‫والطواعين‪ ،‬أو‪  ‬ثورات فى الدواخل احتجاجا على الضرائب وقسوة الجند‪  .‬كان الوالة يأتون بمؤامرة ‪ ،‬ثم‬
‫ينتقمون ويقمعون ‪ ..‬ثم ينهبون ‪ ..‬وحين تنضب الموارد وتتسع دائرة الخصوم ‪ ،‬يختفون عبرانقالب داخل‬
‫القلعة‪.‬‬

‫وبعد درغوت لم تستعد طرابلس مجدها أو مكانتها كقوة بحرية ‪ ،‬إال فى عهد يوسف القرمللى ‪ ،‬المهووس‬
‫كشخص بالسلطة ‪ ،‬والذى غرس كحاكم مفهوم الدولة لدى مواطنيه‪ .‬لكن يوسف باشا لم يمتلك صدق‬
‫وشجاعة درغوت ‪ ..‬فكان يتعامل مع القوى األوروبية بدهاء وخوف وطمع ‪ ،‬يخفيهما وراء ستار من‬
‫الشراسة حيال رعيته‪.‬‬

‫البـعـد الجغرافي‬

‫كان العامل الجغرافى دائما أساسيا فى تحديد العواصم‪ ،‬وأبسط عنصر فى هذا االختيار توسط العاصمة (كما‬
‫هو الحال بالنسبة للقاهرة أو بغداد)‪ ،‬أو أن تقع فى مأمن عن االعتداءات الخارجية ‪ ،‬واألهم أن تكون على‬
‫مقربة من مصادر الثروة األساسية فى البالد كاألراضى الخصبة ‪ ،‬أو المناجم‪ .‬لكن كل هذه العوامل‬
‫تراجعت إثر الثورة الصناعية‪ ،‬التى خلقت مصادر جديدة لثراء العاصمة ومن ثم تمويل إداراتها وحكامها‬
‫وجيشها‪ .‬وهكذا أمسى وجود المصانع‪ ،‬وموانئ التصدير‪ ،‬واألسواق المالية عناصر هامة فى تعزيز تطور‬
‫أى مدينة الى منزلة العاصمة في العصر الحديث‪  .‬وحين تراجعت أهمية كل هذه العوامل‪ ،‬أمام زحف‬
‫وسائل االتصال ‪ ،‬بدءا من التلغراف فى القرن التاسع عشر‪ ،‬ظهرت العواصم اإلدارية المحضة مثل‬
‫واشنطن وبيرن وغيرها‪.‬‬

‫بشئ من التمعن نستطيع أن نرى أن طرابلس تقع على الساحل الجنوبى‪  ‬لمضيق هو خاصرة‪  ‬البحر‬
‫األبيض المتوسط ‪ ،‬بين صقلية ومالطا فى الشمال والساحل األفريقى فى الجنوب‪ .‬ومبكرا اكتسبت أهمية‬
‫أخرى كمصدر للملح المستخرج من منطقة زواره ‪ ،‬والذي كانت تشتريه جمهورية البندقية‪.‬‬

‫لكن طرابلس وجنوبها الفزانى‪ ،‬اكتسبا أهمية جديدة فى القرون التالية‪ ،‬كإحدى البوابات‪  ‬التجارية الى‬
‫وسط أفريقيا ‪ ،‬وكواحدة من أهم الطرق المأمونة للرحالة والستكشاف منطقة جنوب الصحراء‪ .‬ومن هنا‬
‫جاء اهتمام انجلترا بطرابلس‪ .‬أما اهتمام فرنسا فقد ظهر عندما قاد نابليون حملته على مصر سنة ‪1798‬‬
‫من أجل فتح طريق للتجارة الفرنسية مع الشرق‪  .‬فقام أوال باحتالل مالطا ‪ ،‬واتصل بيوسف باشا القرملى‬
‫الذى أبدى استعداده للتعاون وقام بالفعل بتصدير األبقار واألغنام الى القوات الفرنسية فى مالطا‪ .‬كما كان‬
‫بريد الحملة الفرنسية يبعث عن طريق القنصل الفرنسى فى طرابلس‪.‬‬

‫وقاد ذلك التقارب الجديد بين فرنسا وإيالة طرابلس الى تفجير أزمة حادة مع بريطانيا‪ .‬وكان أن اتصل‬
‫اآلدميرال نيلسون (الذى دمر أسطول نابليون فى خليج أبي قير فى مصر‪ ،‬فيما بعد) بالباب العالى العثمانى‬
‫يطلب ممارسة الضغوط على يوسف باشا‪ .‬ونظرا لدقة الموقف‪ ،‬وتلكؤ يوسف باشا‪ ،‬بعث نيلسون بسفينة‬
‫حربية بقيادة نائبه‪ ،‬وصلت الى طرابلس وقدمت مطالبها بطرد القنصل الفرنسى وعدم السماح للسفن‬
‫الفرنسية بدخول ميناء طرابلس‪ ،‬واعالن الحرب على فرنسا ‪ ..‬على أن يتم ذلك خالل ساعتين! ولكن‬
‫القصف الشديد بعد يومين ‪ ،‬أرغم الباشا على االستجابة‪ .‬‬

‫العاصمة وإعادة تعريف الوطن‬

‫استغرق تحول طرابلس من واحة ساحلية الى مدينة ومركز حضري ‪ ،‬أكثر من قرنين ‪ ،‬شابها كثير من‬
‫االضطراب السياسي الناجم عن‪  ‬انقالبات االنكشارية واألوبئة[‪ ،]1‬والمجاعات نتيجة الجفاف الدورى‪،‬‬
‫وثورات البدو فى الدواخل‪.‬‬

‫ً‬
‫عاصمة ‪ ،‬كان البد لها أن توسع نطاق سيطرتها‪  .‬وبالطبع سعى الوالة المتعاقبون‪،‬‬ ‫ولكي تمسي طرابلس‬
‫بدرجات مختلفة من الحماس والنجاح ‪  ،‬الى تحقيق ذلك بالحمالت العسكرية ‪ ،‬واستمالة مشايخ القبائل‪.‬‬
‫ولعل أول محاولة لم ّد سلطان طرابلس شرقا‪ ،‬كانت حملة عثمان بك الساقزلى فى سبتمبر ‪ 1640‬على‬
‫أوجلة ‪ ،‬الواحة الثرية نتيجة موقعها االستراتيجى على تقاطع طرق القوافل‪ .‬ومن تلك الحملة عاد عثمان‬
‫منتصرا الى طرابلس وبرفقته إثنى عشر جمال محملة بالذهب ‪ ،‬حسب ما سجل معاصروه‪.‬‬

‫وكانت تلك الحملة بداية ضم بنغازى وشرق ليبيا‪ ،‬تحت سلطة طرابلس‪ .‬ولكن القرملليون وظهور "قبيلة"‬
‫الكراغلة ‪ ،‬هم من بدأ توحيد طرابلس ببقية ليبيا[‪.]2‬‬

‫لكن وصول أحمد القرمللى الى السلطة ‪ ،‬يمثل في اعتقادي عالمة فارقة فى تاريخ طرابلس وليبيا‪  .‬فأحمد‬
‫الذى كان ضابطا فى جيش الدولة‪ ،‬جاء من أسرة ترسخ انصهارها فى المجتمع الليبى‪ ،‬بدليل أن مؤرخا‬
‫مثل الفرنسى شارل فيرو‪ ،‬يفسر ما حدث على أنه أول استالم لليبيين للسلطة فى طرابلس‪ .‬وتأكد ذلك حين‬
‫أقدم أحمد باشا على تصفية النخبة الحاكمة ذات األصول التركية واألجنبية فى مذبحة شهيرة فى مأدبة‬
‫ببيته فى منطقة الظهرة‪ .‬ورغم أن تفاصيل الحكم القرمللي لم تختلف عن سابقيه ‪ ،‬إال أنه حرص على‬
‫توحيد ليبيا ‪ ،‬فقمع ثورات الدواخل كما فى تاجورا وترهونة ومسالتة ومرزق ‪ ،‬واألهم أنه بعث ابنه ‪ ،‬‬
‫محمود بك ‪  ،‬حاكما على بنغازى سنة ‪  . 1720‬‬

‫تمويل العاصمة‬

‫كان محمد داى (‪ ) 1649 -1633‬مستنيرا‪ ،‬وذا عقل منفتح‪  ‬وعملي‪ .‬وقد مات مسموما ‪ ..‬وهو الذى‬
‫ط ّو ر تجارة طرابلس وخاصة تجارة الذهب مع ملك بورنو‪ ،‬مما رفع دخل طرابلس وحسن قدراتها البحرية‪.‬‬
‫وكانت تخرج من طرابلس قافلتان سنويا عبر فزان ‪ ،‬تحمل المنسوجات والمعدنيات وخاصة األسالك واإلبر‬
‫والسكاكين‪ ،‬وتعود بتبر الذهب والتوابل والرقيق‪ .‬وفى عهده‪  ‬دشنت صناعة المراكب‪ ،‬باستثمار مهارات‬
‫صناع السفن من األسرى المسيحيين‪ ،‬ثم مكافأتهم بإطالق سراحهم‪ .‬كما تم تقنين توزيع ريع القرصنة‪،‬‬
‫بحيث يخصص نصفه لإلنكشارية ‪ ،‬ونسبة ‪ %11‬لبالط الباشا‪.‬‬

‫وخلف عثمان قائد الجيش سيده المصلح محمد داى‪ ،‬ليبقى فى سدة الحكم ‪ 23‬سنة‪ ،‬استطاع إبانها أن‬
‫يحقق استقرارا ويطور المدينة ‪  ،‬ويشيد سوق الترك الشهير‪ .‬لكن موته كان بداية لحقبة من التدهور فى‬
‫أوضاع طرابلس‪ ،‬لم يوقفها إال تأسيس دولة األسرة القرملية فى ‪.1711 / 7 / 28‬‬
‫وإذا كانت العالقات مع الخارج‪ ،‬سمة العاصمة ‪ ،‬فإن التجارة هى أول مجال لذلك التفاعل‪ .‬ويعود أقدم عقد‬
‫تجاري رسمى‪  ‬في طرابلس‪ ،‬إلى سنة ‪ ، 1675‬في عهد الداى بالى‪ ،‬وكان بإسم تاجر من مارسيليا‪ .‬من‬
‫جهة أخرى فإن حركة الميناء تعطى مؤشرا على أهمية المدينة فى التجارة الدولية‪ .‬وفى القرن ‪ 18‬كان‬
‫يأتى من البندقية الى ميناء طرابلس‪ .. ’’ :‬مركب أو مركبان فى السنة من أجل التجارة فضال عن المراكب‬
‫الخاصة بتجارة الملح من زواره ‪ ،‬لشحنه الى ميالنو‪.‬‬

‫كانت هناك أيضا تجارة القوافل مع دواخل أفريقيا ‪ ..‬وخاصة تجارة الرقيق‪ .‬وكلها كانت تعود بالدخل على‬
‫الوالي وحكومته‪ .‬لكن اتفاقية الصلح بين البندقية وطرابلس ‪ ،‬أدت الى تضاعف عدد السفن‪ .‬وبالمقابل‬
‫كانت تصل طرابلس أربعة مراكب فرنسية سنويا‪ ،‬محملة بالحرير والمنسوجات والنبيذ وغيرها‪ .‬كما عمل‬
‫القنصل الفرنسى على تصدير كثير من األعمدة الرخامية من لبدة‪ ،‬بموافقة حكومة طرابلس‪ ،‬استخدم‬
‫بعضها فى تجميل كنيسة سان جرمان فى باريس‪ ! .‬‬

‫القنصلية ‪ ..‬تعريف واعتراف‬

‫لم تكن بطرابلس ثروات تجنى‪  ‬كالذهب أو اللؤلؤ ‪ ..‬وال كانت على طرق التجارة الدولية ‪ ..‬لكن طرابلس‬
‫اكتسبت أهميتها من موقعها االستراتيجي فى عصر التنافس األوروبي وتوسعه االستعماري‪ .‬وهكذا بدأ‬
‫افتتاح قنصليات لفرنسا (عام ‪ )1640‬وانجلترا (سنة ‪ ، )1658‬والبندقية‪ ،‬وفى ما بعد قنصليات لنابولى‬
‫والسويد وهولندا‪ .‬وكان وجود القنصليات األجنبية يمنح التجار األوروبيين شعورا باألمان والثقة‪.‬‬

‫وفى ‪ 1730‬جدد باشا طرابلس اتفاق السالم مع بريطانيا‪ ،‬ومما جاء فى الرسالة‪ .. ’’ :‬الى صاحب‬
‫الجاللة الذى ال يقهر‪ ،‬ملك وامبراطور دولة بريطانيا ‪ ..‬لقد وصل بكل ترحيب صاحب السعادة السيد كيبل‬
‫قائد مراكب جاللتكم‪ ،‬وقدم إلينا رغبتكم فى تجديد اتفاق السالم والصداقة القائم بينكم وبين هذه اإلياله‪.‬‬
‫وبعد عرض الموضوع على ديواننا المستنير اتفق جميع أعضائه على أن التجديد هو من المصلحة‬
‫والحكمة ‪ ..‬و قد أمرنا ربابنة سفننا المكلفين بالدفاع عن علمنا المجيد بأن يعاملوا جميع مراكب الدولة‪ ‬‬
‫اإلنجليزية التي يلتقون‪  ‬بها معاملة‪  ‬األصدقاء ‪  .’’..‬ورغم تلك الوعود حدثت اختراقات‪ ،‬أدت الى‬
‫مواجهات‪ ،‬مثل قدوم فرقاطة انجليزية عام ‪ 1765‬لتهديد طرابلس وتحرير مركب كان قد أسرته بحرية‬
‫الباشا‪.‬‬

‫وفى الفترة نفسها ‪ ،‬انفجرت أزمة مع البندقية نتيجة‬


‫دخول قراصنة طرابلسيين فى مياه خليج البندقية‪،‬‬
‫هاجموا الشواطئ واستولوا على غنائم‪ ،‬وكان أكثرهم‬
‫جرأة الرايس أحمد األرناؤوطى‪ .‬لكن الباشا على‪ ‬‬
‫القرمللى كتب الى الدوج (رئيس البندقية) رافضا‬
‫التهمة‪ ..’’  :‬ألمير البندقية‪  ‬المجيد العظيم والصديق‪ ‬‬
‫الحميم‪  (  ‬ندعو له بحسن الختام‪ .. )  ‬أنتم‪  ‬تدّعون أن‬
‫الذنب يقع على بحارة جالوتى‪ ..‬وليس على‪ ‬‬
‫جنودكم ‪ ..‬ما هذا الكالم ‪ ..‬لقد أنزلتم بي‪  ‬العار ‪ ..‬وإما‬
‫إلي فدية الدم المراق ‪.‘‘..‬‬
‫أن تدفعوا ّ‬

‫وكان أن قطعت العالقات الدبلوماسية‪ ،‬وأعدت البندقية‬


‫حملة بقيادة االدميرال نانى الذى نجح فى " إقناع "‬
‫طرابلس التى لم تكن تملك من السفن سوى ‪ ..‬ثالثة‬
‫شبابك وقليل من الجوالت‪."..‬‬

‫أوراق السفير هوية العاصمة‬

‫الدبلوماسية هي إدارة عالقات الدولة مع الخارج ‪،‬‬


‫إعتمدت قديما على إرسال المبعوثين ‪ ،‬وحديثا على‬
‫تعيين السفراء المقيمين‪ .‬وقد تألق فى منتصف القرن‬
‫‪ ،18‬رجل اسمه عبد الرحمن آغا‪ ،‬ويشار اليه أحيانا بحاجى عبد الرحمن‪ ،‬ولقبه البديرى (‪-1720‬‬
‫‪ .)1792‬ويبدو أن عبد الرحمن هذا كان دبلوماسيا محنكا ومراوغا‪ ،‬ولذلك نجد قنصل البندقية يصب عليه‬
‫وتكرارا فى تقاريره السرية‪ .‬لكن عبد الرحمن كان أول من حقق اتفاقية مفصلة مع‬
‫ً‬ ‫جام غضبه مرا ًرا‬
‫البندقية فى سنة ‪.1763‬‬

‫لكن عبد الرحمن آغا كان مقنعا كوزير‪ ..‬يصل البندقية فى اكتوبر ‪ ، 1763‬وبعد اجراءات الحجر‬
‫الصحى ‪ ..‬يستضاف فى دارة الزوار الرسميين‪ ،‬التى أثثت غرفها خصيصا على النمط الشرقى‪ ،‬مع‬
‫تخصيص مبلغ للنفقات اليومية‪ ،‬وكان يرافقه ‪ 12‬شخصا وترجمان تركي‪ .‬ودخل في مفاوضات امتدت‬
‫ثمانية أشهر ‪ ..‬الى شهر يونيه ‪ ،‬ختمت بتوقيع معاهدة صلح‪ .‬وتأكيدا لمصداقية الرجل‪ ،‬استقبلت سفن‬
‫البندقية فى طرابلس بعد أربع شهور‪ ،‬بسالم وحفاوة مع عتق ‪ 88‬أسيرا مسيحيا‪.‬‬

‫وتصف لنا المس توللى شقيقة القنصل البريطانى آنذاك بكل دقتها وشغفها بالتفاصيل ‪ ،‬شخصية عبد‬
‫نموذجا لنخبة طرابلسية منفتحة على العالم فى طورها‬
‫ً‬ ‫الرحمن وزوجته وبيته ومأتمه‪  .‬ولعله كان‬
‫الجنينى‪.‬‬

‫العاصمة ‪ ..‬مجتمع انصهارى‬

‫إذا كانت القبيلة‪ ،‬والى حد ما القرية ‪ ،‬تنمو من الداخل ‪ ،‬بالتكاثر ‪ ..‬فإن المدينة مركز جذب ‪ ..‬تنمو‬
‫بالقادمين من خارجها ‪ ،‬للعمل فى التجارة ‪ ،‬الميناء ‪ ،‬وفى مراكز التعليم ‪ ،‬أو فى إدارات السلطة‬
‫وجيوشها‪ .‬المدينة إذن‪   ‬مجتمع إنصهارى ‪ ،‬فى حالة من التمازج المتواصل‪ .‬وهذا التمازج يبلغ ذروته فى‬
‫المدينة‪-‬العاصمة‪.‬‬

‫وإذا كان شيخ البادية ‪ ،‬يتحرك مع قبيلته ‪ ،‬فإن الحاكم الحضري بحاجة الى آلة ثابتة ‪ ..‬هيكل إدارى‬
‫لتنظيم األمور‪ ،‬وحفظ األمن‪ ،‬وتحقيق السيطرة ‪ ،‬والحفاظ على وحدة الوطن‪ ،‬وصد العدوان الخارجي‬
‫بجيش محترف‪ ،‬متفرغ للقتال مقابل راتب‪.‬‬

‫واذا كانت الغاية تبرر الوسيلة فى السياسة ‪ ،‬فإن الوسائل هى جوهر الدولة‪ .‬فدوام السلطة يعتمد على‬
‫آداء أجهزتها ومؤسساتها‪ .‬وهذه الكفاءة ال تتحقق بتوظيف أبناء العمومة‪ .‬فالمهارات يتم استقطابها من‬
‫كل حدب وصوب‪ .‬وهناك مهارات نادرة ‪ ،‬فأنت لن تجد مثال‪ ،‬كثيرين يشغـفون بالمالحة‪ ،‬ويقضون‬
‫الشهور فى عرض البحر‪ ،‬ويقاتلون من أجل مركب ‪ ..‬ثمة دوافع أخرى البد من توفرها‪ :‬حب المغامرة ‪،‬‬
‫التحدى ‪ ،‬عدو جدير بالكراهية ‪ ،‬واإليمان بفكرة ما ‪  ،‬إضافة الى القدرة والمهارة‪ .‬يصدق هذا المثال‬
‫النادر‪ ،‬على شتى مراتب الدولة العليا ‪ ،‬وإن تنوعت المهام والدوافع‪ .‬ورغم تضاؤل دور بعض هذه‬
‫العوامل فى عصر االتصاالت والمواصالت الحديثة‪ ،‬إال أن مزيج المؤهل والموهبة ما يزال أساسيا‪.‬‬
‫والوظيفة في النهاية هى التى تختار وتصنع رجالها‪.‬‬

‫فى القرون ‪ 16‬الى ‪ُ ، 18‬كتب تاريخ طرابلس بأسماء سلسلة من الوالة القساة‪ ،‬وقصيرى النظر‪ ،‬وشاحبى‬
‫السَيـّر ‪ ..‬تفاوتت حكوماتهم بين المأساوى والمضحك ‪ ..‬وقلة منهم ‪ ،‬مثل درغوت ‪ ،‬طغت سيرتهم‬
‫الرومانسية على ما حققوه بالفعل‪ .‬لكن المدينة كانت تمر بتحوالت أعمق‪ ،‬رغم ما عرفته من فترات شقاء‬
‫ـ‬
‫وتردى من جراء الفوضى والحروب األهلية واألوبئة ‪  ..‬لتكتسب هوية جديدة ‪ :‬مدينة تنتمى للعالم‪،‬‬
‫وتخترق حواجز المحلى‪.‬‬

‫شهدت طرابلس مجئ وانصهار جماعات من الخارج‪ :‬عرب ويهود األندلس‪ ،‬المقاتلين اإلنكشارية ‪،‬‬
‫المسيحيين من بحارة ورقيق ومرتزقة‪  .‬وكل هؤالء امتصهم مجتمع المدينة ‪ ،‬ورغم اختفائهم كجماعات‬
‫أو ثقافات متميزة‪ ،‬إال أن قيمهم انبثت فى نسيج ثقافة العاصمة لتعيد تشكيل رؤية‪’’  ‬الطرابلسى ‪ /‬ولد‬
‫المدينة ‘‘‪  ‬لذاته ولآلخرين‪ .‬من ذلك ما يتسم به أهل طرابلس من مرونة وصبر فى التعامل مع السلطة‪،‬‬
‫وغياب الحدّة واالنفعال فى استجاباتهم‪ .‬وليست هذه إال تعميمات‪ ،‬ثم أن تلك التحوالت كانت بين مد وجزر‬
‫مع امتصاص المدينة للوافدين من الدواخل‪ ،‬ومعهم قيمهم‪ ،‬وهؤالء كانوا تيارا متصال لم ينقطع عبر‬
‫السنين‪ .‬‬
‫وعلى صعيد وجدانى‪ ،‬تظهر طرابلس ارتباطا أكثر حميمية بالبحر‪ ،‬مقارنة ببقية مدن الساحل الليبى‪ ،‬حتى‬
‫على مستويات بسيطة ويومية‪ ،‬مثل ثقافة الطعام !‬

‫تلك كانت سمات طرابلس فى مراحلها الجنينية قبل بضع قرون‪ ،‬أكسبتها هوية جديدة‪ :‬كعاصمة للفضاء‬
‫الليبى منذ منتصف القرن التاسع عشر‪ ..‬وعاد الفضل األكبر في ذلك إلى موقعها الجغرافي المتاخم للفضاء‬
‫األوروبى‪.‬‬
‫___________‬

You might also like