You are on page 1of 8

‫األيام الطرابلسية (الحلقة األولى) مدخل‪ :‬اشبح كيف‬

‫‪20/01/2008‬‬
‫د‪ .‬محمد محمد المفتي‬

‫‪ .1‬مدخل‪ :‬اشبح كيف‬

‫(‪)1‬‬

‫هـوية المديـنـة‬

‫‪ ’’ ‬بس قـول لي ‪ ..‬تي وينها طرابلس اللي تبي تحكي عليها ‪ ..‬ما هناش ‘‘‪ .‬هكذا فاجأني صديقي عز‬
‫الدين الذي زار مدينته بعد ثالثة عقود من الغربة‪ ’’ ،‬لما ر ّوحت ‪ ..‬دكان بوي ما لقـيتاش‪ .‬وأرضي اللي‬
‫شريتها عدّت ‪ ..‬والمدينة القديمة يسكنوا فيها فـقـراء الوافدين ‪ ..‬مليانة دكاكين وكراريس تبيع في‬
‫المصنوعات الصينية ‪.‘‘ ..‬‬

‫‪ ’’ ‬لكن يا أستاذ المكان موجود ‪ ،‬القلعة موجودة والميناء موجود ‪ ..‬وسوق المشير وميدان الساعة‬
‫وسوق القـزارة وسوق الترك ومدرسة الفنون والصنايع‪ ..  ‬وهناك بين هذا كله طرابلس بمبانيها الجميلة‬
‫وأقواسها الفخمة ‪  ...‬طبعا المجتمع يتغير ‪ ،‬باستمرار ‪ ..‬وسط المدينة مليان بوتيكات ومطاعم لكن إيش‬
‫رايك في محالت شارع بن عاشور والجرابة ‪ ،‬والواحات في قرقارش ‪ ..‬هذي لندن إللي تبيها ‪ ..‬المطلوب‬
‫ـ‬
‫شوية تسامح وشوية خيال ‪.‘‘ ..‬‬

‫‪ .. ’’  ‬وبعدين كيف عاصمة فاخرة ‪ ،‬وباقي المدن حايسة ؟ ‘‘‬

‫‪’’ ‬طرابلس هي‬

‫عاصمة ليبيا‪ ..  ‬بها خمس سكان البالد ‪ ..‬وهي مأهولة بليبيين من كل أرجاء البالد ‪ ..‬من الطبيعي أن‬
‫تحظى بما ال تحظي به المدن األخرى ‪ ..‬طرابلس عاصمة كل الليبيين‪ ،  ‬األخت الكبيرة لكل المدن الليبية ‪.‬‬
‫وقديما كانت ليبيا كلها تس ّمى إقليم طرابلس ‪ ،‬منذ زمن الرومان‪  ‬اللي أعطونا إسمها ‪.‘‘ ..‬‬

‫أوكي طرابلس األخت الكبيرة ‪ ،‬ولذلك فهي متميزة ‪ ..‬وهي محط حب وتحسس في‬
‫ْ‬ ‫‪  ‬ور ّد ولد المدينة ‪’’ ،‬‬
‫آن واحد ‪  ..‬لكن حصتها وتمركزها حول ذاتها جعلها محط نقد ‪ ..‬أهل طرابلس ما يندروش على بقية‬
‫البالد !!‘‘‪.‬‬

‫‪ ’’ ‬ال أعتقد األمور بهذا التبسيط ‪ ..‬نعم عواطفنا متناقضة ولم يأت هذا من فراغ‘‘‪.‬‬

‫ـ‬
‫‪ ’’ ‬لكن الليبي بدون طرابلس ‪ ..‬كاإلنسان الذي ال عنوان له !!!‘‘‪.‬‬

‫(‪)2‬‬

‫قراءة التاريخ كظاهرة اجتماعية ‪ ..‬وليس فقط كأحداث سياسية متعاقبة ‪ ،‬يمنحنا حرية أكثر في فهم‬
‫الوقائع واألحداث والشخصيات‪  .‬فالحرب مثال قد تندلع بقرار سياسي ‪ ،‬لكنها قد تكون بسبب البطالة أو‬
‫التنافس اإلقتصادي ‪ ،‬أو الفتن المذهبية أو الصراع حول مصادر مياه ‪..‬الخ‪  .‬والسياسيون الذين يقررون‬
‫الحروب محكومون بتصوراتهم وخياالتهم وهواجسهم ‪ ،‬ناهيك عن تأثير المقربين اليهم ‪ ،‬والتنافسات‬
‫الخفية داخل تلك الدائرة‪ .‬وتأثير هذه العوامل أكبر وأكثر مباشرة في قرارات الدولة اليومية‪ .‬وهي أكثر‬
‫تأثيرا في انتشار األفكار والحركات االجتماعية والموضات ‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫بالمقابل هل يمكننا مثال أن نرى في ازدهار الحركات الصوفية واحتفال الليبيين بالمولد النبوي ‪ ،‬في الحقبة‬
‫اإليطالية ‪  ،‬إلى تشبثهم بالتقاليد مثل عدم خروج المرأة بل وعدم تعليمها ‪ ..‬هل يمكن أن نرى في كل هذه‬
‫الظواهر نوعا من المقاومة الصامتة للوجود اإليطالي ؟‪ ..‬رفض كلي لالستعمار وثقافته ؟‬

‫المنحى االجتماعي يعني أيضا إعادة تركيب لوقائع الزمن المتعاقبة ‪ ،‬ومراحل تطور المكان ‪ ..‬ولحياة من‬
‫عبروها‪.‬‬

‫لقد شهدت طرابلس عبر القرنين الماضيين اعتداءات خارجية ‪ ،‬وثورات داخلية وفتنا قبلية وجهوية‪ .‬كما‬
‫عرفت هجرات من الخارج ‪ ،‬من ايطاليا ومالطا واليونان ‪ ..‬استقر أبناء تلك المجتمعات وعملوا وقدموا‬
‫خدمات داخل مدينة طرابلس ‪ ،‬وربما تركوا تأثيرهم في المجتمع الطرابلسي سواء في مفردات العامية أو‬
‫أكالت السمك التي تشتهر بها طرابلس اليوم‪ .‬واألكثر أهمية أن جالية تركية عريضة استقرت بطرابلس‬
‫وانصهرت في المجتمع الطرابلسي ‪ ،‬بل ومنحت‪  ‬بعض أسرها كبار المسئولين وأعيان متنفذين‪ .‬كما كان‬
‫ثلث سكان مدينة طرابلس القديمة من اليهود ‪ ،‬كبار تجار وصاغة وحرفيين ‪ ،‬وتواصل وجودهم بالمدينة‬
‫لقرون والبد أنهم تركوا بصماتهم ‪ ..‬ولو على شكل ثقتنا اليوم في "الفضة القديمة" والنقش القديم"‪.‬‬

‫المنحى االجتماعي في كتابة التاريخ ال يعتمد فقط على تجميع المعلومات من المؤلفات والكتب الجادة التي‬
‫تكتفي بسرد تواريخ الساسة والمعارك ‪ ،‬بل يستدعي التقاط البيانات لرسم سمات المجتمع في مراحله‬
‫المتتالية ‪..‬ويستدعي البحث الميداني وتسجيل شهادات من عاصروا الحقب القريبة نسبيا‪.‬‬

‫المنهج االجتماعي ‪ ،‬فوق ذلك ‪ ،‬عمل إبداعي ألنه يعي تركيب وترتيب الوقائع وشحنها بطاقة مسرحية ‪..‬‬
‫تلمس العواطف كما في الروايات التاريخية‪ .‬كما يهتم المنهج التاريخي بتفاصيل الحياة اليومية من مسكن‬
‫ومأكل وملبس وتجارة ‪..‬الخ‪  .‬وإلى هنا ينتهي التشابه بين النمطين التاريخ والرواية الخيالية‪ .‬ألن الرواية‬
‫عادة ما تستند إلى خيط خفي من األخالق التي يمليها المنطق‪ .‬لكن دراما التاريخ الحقيقي عادة ما تكون‪ ‬‬
‫أكثر غرابة وربما أكثر مأساوية أوهزال‪ .‬فإذا كان الروائي يحكي لنا كيف أن عقاب األشرار حتمي ‪ ،‬فإن‬
‫المؤرخ ال يستطيع أن يفرض مثل هذه التصورات على الشخصيات التاريخية‪ .‬فالرجال مزيج من الحكمة‬
‫والشجاعة ‪ ،‬وربما التضحية ‪ ،‬وأيضا الطموح الشخصي الذي قد يدفعهم أحيانا إلى الزلل والظلم ‪ ،‬وأحيانا‬
‫تتملكهم الهواجس والوساوس التي تحرك فيهم رغبات الدمار واالنتقام دون سبب ‪ ،‬وربما األنانية التي قد‬
‫تصل إلى حد الدناءة‪  .‬كل هذه الدوافع المتناقضة والمتضاربة قد توجد في شخص واحد ‪ ،‬إلى جانب نقاط‬
‫ضعف خفية‪ .‬وهناك العوامل الخارجية ‪ ،‬أي من خارج المجتمع ‪ ،‬كالقحط واألوبئة والحروب التي تؤثر في‬
‫حركة المجتمع بشتى أشكالها‪ .‬والخالصة أن الروائي قد ينجح في إدانة أو معاقبة أبطاله‪ .‬لكن كاتب‬
‫موثق وظاهري‪ .‬إال أن التناول االجتماعي يثري قراءتنا للتاريخ ‪،‬‬‫التاريخ ليس له إال أن يتمسك بما هو َ‬
‫ويقربنا إلى حقيقة األمور‪ .‬فاألحداث االجتماعية في نهاية األمر وليدة رغبات وسلوكيات البشر الشديدة‬
‫التنوع والغموض‪.‬‬

‫(‪)3‬‬

‫ليست المدينة ‪ ..‬أي مدينة ‪ ،‬مجرد مشهد عمراني ‪ ..‬إنها تاريخ وثقافة بالمعنى الواسع ‪ ..‬قيم ‪ ،‬تقاليد ‪،‬‬
‫سلوكيات ‪ ..‬بل إن مبانيها وشوارعها أشبه بالهيكل ‪ ..‬هيكل عظمي تغطيه تكوينات الجسم الحي القادر‬
‫على التأثير في ما حوله ‪ ،‬والذي يتأثر بالكوارث كالحروب وسنوات الجفاف والمجاعة واألوبئة‪ .‬مجتمع‬
‫المدينة قد يصنع االزدهار ويتأثر بمسبباته من صناعة أو تجارة خارجية ‪ ..‬ومثل الجسم الحي يمر مجتمع‬
‫المدينة بأطوار الشباب والنشاط ‪ ،‬وقد يبلغ مرحلة الشيخوخة والخمول‪.‬‬
‫‪ ‬‬

‫‪  ‬الباحث في تاريخ المدينة أشبه ما يكون بعالم اآلثار الذي ينقب ويكتشف طبقات وطبقات من تحوالت‬
‫المدينة عبر التاريخ ‪ ..‬أسواق المدينة القديمة كانت ترتكز تجارتها على الحوالى (الجرود) والرداوات ‪،‬‬
‫صناعتها وبيعها‪ .‬وكان كل الصاغة تقريبا من اليهود‪ .‬اآلن كل التجار والصاغة ليبيين‪ .‬لكن األسواق‬
‫أغرقتها البضائع المستوردة من جنوب شرق آسيا‪ .‬مثل هذا التحول ال يحدث دون تغيرات عميقة في قيم‬
‫وتفكير الناس‪  .‬شوارع المدينة القديمة أزقة ضيقة محكومة بتقنيات البناء ‪ ..‬على عكس المباني الحديثة‬
‫القائمة على الخرسانة المسلحة ‪ ،‬شبابيك حياش المدينة القديمة قليلة وضيقة ألنها بنيت في زمن محافظ‬
‫لم يكن يسمح لرؤية النساء‪ .. .‬وبهذه الكيفية نستطيع أن نقرأ المشهد العمراني بمنهج تحليلي يضيف‬
‫جديدا لفهمنا‪.‬‬

‫عمران المدينة قد يتغير ‪ ..‬وهو في ذلك يعكس تحوالت أخرى ‪ ..‬يوم وصل الديناميت القادر على اختراق‬
‫سور المدينة القديمة مثال ‪ ،‬بدأ ترك بواباتها مفتوحة ‪ ..‬وأهمل السور وبدأ في التهاوي‪ .‬إزدهار طرابلس‬
‫في أواخر القرن ‪ ، 19‬أدى إلى امتداد مبانيها إلى خارج السور حيث ابتنى‪  ‬الناس أحياء جديدة‪.‬‬

‫المدينة ‪ ،‬مثل طرابلس لم تكن نسيجا واحدا متجانسا ‪ ..‬كانت هناك تمايزات دينية وعرقية وثقافية ‪ ..‬كان‬
‫بها يهود يشكلون ثلث سكان المدينة القديمة ‪  ..‬وسكنها أندلسيون وأتراك ومالطيون‪ ..  ‬وجاءها‬
‫جزائريون وجرابة ‪ ..‬ومنذ العهد اإليطالي هيمنت فيها جالية ايطالية ضخمة ‪ ،‬لمدة ستين سنة ‪.‬‬

‫وعرفت طرابلس الغزو والحروب وثورات الدواخل (مثل ثورة غومة المحمودي وثورة عبد الجليل سيف‬
‫النصر في فزان)‪.‬‬

‫كل هذه‪  ‬التفاعالت ‪ ..‬تركت بالتأكيد آثارها في لهجة أبناء طرابلس ‪ ،‬وملبسهم وطعامهم وسلوكهم‬
‫اليومي‪.‬‬

‫(‪)4‬‬

‫من أبرز مفارقات الدارجة ‪ /‬العامية الطرابلسية ‪ ..‬عبارة " قاعد ماجاش" ‪ ،‬أي لم يأت بعد أو بدقة أكبر‬
‫"حتى اآلن لم يأت" ‪ ..‬وهي عبارة كثيرا ما يتندر بها غير الطرابلسيين‪ .‬هل هي ارتباك في التعبير ؟ أم‬
‫أنها مراوغة لفظية ؟‬
‫لكن ثمة مفارقة أكبر‪.‬‬

‫فطرابلس هي أكبر المدن الليبية‬


‫وهي تاريخيا عاصمة هذا الفضاء الممتد بين مصر وتونس ‪ ،‬ومركز حاكمه منذ العصر القرمللي‪.‬‬
‫لكن ال أحد من الليبيين يعترف بها كعاصمة !‬
‫وال هم استطاعوا االستغناء عنها وتناسيها‪.‬‬
‫ليس األمر مجرد اعتراف قانوني في دستور أو غيره‪  .‬بل األمر يمتـد إلى مستوى االنتماء الشخصي‪.‬‬

‫طرابلس كأي مدينة ‪ ،‬أو حاضرة ‪ ،‬سكانها من الوافدين ‪ ..‬من األرياف المحيطة ‪ ،‬من بقية المدن الليبية‬
‫من زواره وغريان وبنغازي ودرنة ‪ ..‬الخ ‪ ....‬بل من مراكز اإلمبراطورية العثمانية ‪ ،‬من مهاجري‬
‫األندلس ‪ ،‬من اليهود والمالطيين ‪ ،‬من أسري معارك القرصنة البحرية ‪ ،‬والرقيق المجلوب من أفريقيا‪.‬‬
‫هذا قانون عام يصدق على كل الحواضر في كل أقطار العالم‪  .‬والهجرة مصدر ثراء بشري ألي مدينة‪.‬‬

‫لكن ؟‬
‫المهاجرين إلى بنغازي ‪ ..‬من مصراته وورفلة وزليتن وترهونة ‪ ..‬يستقرون بها ‪ ،‬وينصهرون ‪ ،‬بل‬
‫ويتعصبون لمدينتهم الجديدة ‪ ..‬ضد طرابلس !‬
‫وكذلك استقر في درنة أبناء تاجورة ومصراتة وزليتن في درنة ‪ ،‬منذ حمالت يوسف باشا قبل قرنين‪.‬‬

‫بالمقابل اعتمدت طرابلس على اجتذاب التجار والجنود ‪ ..‬وحديثا الموظفين ‪ ،‬الذين انتقلوا إليها من كل‬
‫أرجاء ليبيا ‪ ،‬من بنغازي ودرنة ‪ ،‬من فزان حتى غات وآبراك ويفرن ومرزق ‪  .‬لكن جل الوافدين كانوا‬
‫من المناطق األقرب‪ :‬من الزاوية وغريان ونالوت وغدامس والخمس وترهونة ومصراتة‪..‬الخ‪ .‬هؤالء‬
‫ولقرب مواطنهم ‪ ،‬جاؤا ليتاجروا أو يتوظفوا ‪ ،‬لكن معظمهم لم يقطع صلته بمسقط رأسه ‪ ..‬وإلى اليوم‬
‫تجدهم يرحلون لقضاء عطلة نهاية األسبوع في مواطنهم وبين أقاربهم ‪ ..‬بل الكثير منهم عندما يتيسر‬
‫حاله ‪ ،‬يبني منزله هناك‪.‬‬

‫طرابلس مدينة كبيرة وكونية (كوزموبوليتية) في نسيجها ‪ ،‬سكانها من مختلف الجذور ‪ ..‬ومدينة يلتقي‬
‫معظم سكانها آلداء وظيفة اجتماعية ‪ ..‬هذه العالقات المهنية تطمس الروابط القديمة كالجهة والقبيلة ‪..‬‬
‫ومثل كل المدن الكبرى الشبيهة من القاهرة إلى نيويورك ‪ ،‬تتراجع فيها العالقات اإلنسانية إلى عالقات‬
‫قائمة على المصلحة والتعامل ‪ ..‬التي ال تحفل بالعواطف البدائية ‪ ..‬وإذا بدت لندن باردة وغير مكترثة‬
‫للزائر الليبي ‪ ..‬فكذلك تبدو طرابلس لبقية الليبيين !‬
‫أم أن العواطف التي تحيط بطرابلس أكثر تعقيدا ؟‬

‫‪ ‬‬
‫(‪)5‬‬

‫أذكر إبان إحدى زياراتي لطرابلس أثناء إعداد هذه الفصول ‪ ،‬أن التقيت على غداء من السمك المشوي‬
‫[ الصحن المميز لطرابلس !] ‪ ..‬مع الصديق الكاتب والصحفي رضا بن موسى إبن المدينة القديمة‬
‫والمولود قرب باب الحرية ‪ ،‬وأذكر أنه طرح عليًروصت ّا جدي ًرا بالتسجيل هنا‪ .. ’’ :‬حتى دواخل إقليم‬
‫طرابلس ‪ ،‬كانوا ينظرون للمدينة على أساس أنها مركز السلطة ‪ ..‬منها كانت تخرج حمالت التأديب وجبي‬
‫الميري أو الخراج ‪ ..‬غومة المحمودي حارب سلطة طرابلس ‪ ..‬وكذلك فعل عبد الجليل سيف النصر ‪ ..‬في‬
‫ظني هذا ما جعل أهل الدواخل ينظرون إلى طرابلس بعين العداء ‪ ..‬وأمست القلعة رمز المدينة وبؤرة‬
‫العسف ‪  ..‬وهل قال سيدي عبد السالم األسمر "طرابلس يا حفرة الدم ‪ ، "...‬ألن ش ّرا كثيرا كان يأتي منها‬
‫بين الحين واآلخر؟‪  ‬عبر العصور ‪ ،‬كانت طرابلس لكونها مركز الدولة ‪ ،‬تحاول السيطرة على األطراف ‪..‬‬
‫أن تشد األطراف إليها ‪ ،‬وتضمها ‪ ..‬ألن الدواخل كانت مصدر ثروة لباشا طرابلس‪ .‬بل كان باشا طرابلس‬
‫يأخذ رهائن ‪ ..‬أوالد مشايخ القبائل األقوياء ‪ ،‬ويربيهم عنده في القصر ‪ ،‬كما فعل مع عبد الجليل سيف‬
‫النصر إبن شيخ قبائل أوالد سليمان المهيمنة على فزان وتجارة القوافل مع أفريقيا في القرن التاسع عشر‬
‫‘‘‬

‫طبعا هذه عواطف وانطباعات ‪ ،‬وال بد من تبيان أسبابها الموضوعية ‪ ،‬بقصد إزالة غشاوتها‪ .‬وضرورة‬
‫رؤية مدينة طرابلس كمركز للتقدم واالستقرار ‪ ،‬أو هكذا يجب أن ترى‪.‬‬

‫بالمقابل ‪ ،‬في العقود الحديثة انحازت السلطة إلى الدواخل ‪ ،‬الصحراء ‪ ،‬نقاء البادية ‪ ..‬ضد المدن وأولها‬
‫طرابلس‪ .‬حتى المقيمين فيها ‪ ،‬تجدهم سرعان ما يتشبثون بهويتهم البدوية ‪ ،‬ويرفعون راية الجهة أو‬
‫القبيلة ‪ ..‬غرياني ‪ ،‬ترهوني ‪ ،‬ورفلي ‪ ..‬وهل مثل هذه االستجابة تنطوي على قلق البعد عن مسقط الرأس‬
‫‪ ،‬وعداء مضمر تجاه طرابلس ‪ ،‬مستقرهم الجديد ؟‬

‫بَـدونة‬
‫َ‬ ‫خالل نصف القرن الماضي شهدت كثير من المدن العربية خاصة في الدول النفطية " ظاهرة‬
‫المدن"‪ .‬أي أن المدن تفتح مجال العمل الحرفي والوظيفي ألبناء الدواخل من الريفيين والبدو‪ .‬يتقاضون‬
‫مرتبات في دولة تعتمد على ريع البترول ‪ ..‬لكنها أي هذه المدن بطيئة في استيعاب الوافدين إليها‪ .‬وذلك‬
‫على عكس ماحدث في مدن أوروبا عند بداية الثورة الصناعية‪ .‬فآنئذ كان الريفيون يأتون ليستوعبوا‬
‫سريعا قيم المجتمع الصناعي ‪ ،‬من خالل العمل في المصانع والمناجم ‪ ..‬مثل انضباطية المواعيد وروح‬
‫العمل في فريق ‪ ..‬واألهم انقطاع صالتهم بمجتمعهم القديم‪ .‬أما عندنا فالمهاجر إلى المدينة يحتفظ في كثير‬
‫من األحيان بكل روابطه وقيمه وعاداته القديمة‪ .‬وتصبح األحياء أقرب إلى النجوع أو القرى!‬

‫(‪)  6  ‬‬

‫ـ أحوال" ‪ ..‬ال‬
‫االنطباع لدى بقية الليبيين عن أهل طرابلس ‪ ،‬أبناء المدينة ‪ ..‬أنهم ليسوا " قـيّــادي‬
‫تهمهم شئونك الشخصية و ال يتدخلون فيها ‪ ..‬على عكس حال المدن الصغيرة ‪ ..‬ولكنهم أيضا باردي‬
‫العواطف‪ ،‬محدودي الترحاب ‪ ،‬شئ قريب من البخل ولكنه مختلف عنه‪ .‬ثم إن حس النكتة لديهم عالي‪..‬‬
‫على عكس بقية الليبيين ‪ ،‬وحتى مقارنة بسكان دواخل إقليم طرابلس نفسه ‪ :‬الزاوية ‪ ،‬وغريان ‪ ..‬الخ‪.‬‬

‫هل من تفسير؟‬
‫أوال لسنا بصدد إصدار أحكام أخالقية‪ ..  ‬أو تقييم األمور بمنطق هذا أفضل من ذاك ‪ ..‬كل ما هناك أنها‬
‫سلوكيات ‪ ،‬ترسخت كطباع اجتماعية ‪ ،‬فما مصدرها ؟‬
‫ربما طبيعة المكان ؟ ربما كيفية كسب الرزق ؟‬
‫طرابلس مدينة كبيرة ‪ ،‬مفتوحة على العالم الخارجي ‪ ،‬على جنوبي أوروبا ‪ ،‬وعلى أفريقيا عبر فزان‪.‬‬
‫منطقة تجارة وتجارة عبور أساسا‪.‬‬
‫وطرابلس أيضا سدة حكم ‪ ،‬على األقل طيلة القرون الخمسة الماضية‪.‬‬

‫اإلعتماد على التجارة ووجود سلطة ‪ ،‬ربما رسخا في الثقافة الطرابلسية قيم ومعايير‪ .‬أولها ضرورة كسب‬
‫رضا السلطان ‪ ،‬لتبقى المدينة في أمان ونظام وازدهار‪ .‬وثانيها أن الثراء يأتي عبر الصفقات ‪ ..‬مع‬
‫اآلخرين‪ .‬إذن المصلحة هي أساس العالقات‪.‬‬
‫المدن الليبية الصغيرة على اتصال مباشر بالبادية ‪ ..‬وتعتمد عليها‪ .‬وأثرياءها يمارسون نشاط الموالة أي‬
‫االستثمار في حراثة القمح والشعير واألغنام‪ .‬وهذه نشاطات دورية موسمية شبه مضمونة‪.‬‬

‫طرابلس محاطة ببساتين أو واحات (عين زارة ‪ ،‬قصر بن غشير ‪ ،‬جنزور ‪ )..‬تمتد على طول الساحل إلى‬
‫مصراته شرقا وزوارة غربا‪ .‬ثمار مثل الزيتون والبرتقال وخضروات ‪ ،‬وهو ما كانت تبيع منه طرابلس‬
‫إلى السفن المارة بمينائها‪.‬‬
‫بالمقابل فإن سكان دواخل إقليم طرابلس (خاصة البدو منهم مثل المحاميد ‪ ،‬والفرجان وورفلة وبادية‬
‫سرت) ‪ ،‬ال يختلفون كثيرا في دفء عواطفهم واحتفائهم بالغريب ‪ ،‬بل وشعرهم الشعبي عن بدو برقة‪.‬‬

‫(‪) 7  ‬‬

‫أذكر مرة أن أحد األصدقاء ‪ ،‬في جلسة دردشة ‪ ،‬الحظ قائال‪ ’’  :‬إنقولك حاجة ‪ ..‬طرابلس مياهها حلوة ‪..‬‬
‫أحكي عن أيام زمان ‪ ،‬وتربتها ليّـنة ‪ .‬كانت دائما فيها زراعة مستقرة وملكية ‪ ..‬الحوازة ‪ ،‬نص هكتار ‪،‬‬
‫س فيهم ليونة ؟ ثم كانت دائما عندهم حكومة ‪ ..‬الباشا وديوانه‪ .‬ثقافة‬ ‫تعيّـش عيلة ‪ .‬هل هذا ما غ َر َ‬
‫طرابلس توارثت الطاعة‪  .‬أما بنغازي ‪ ،‬فقد نشأت مدينة تجارة ‪ ،‬من البداية ‪ ..‬مياهها مالحة وتربة‬
‫بَـ ّر ها قاسية ‪ ..‬لم تكن في بر بنغازي زراعة دائمة ‪ ..‬حراثة موسمية فقط ‪ ..‬وتشربت روح البادية في‬
‫محيطها ‪ ..‬ربما ‪ ،‬ربما هذا ميز ثقافة بنغازي بأنها ثقافة استقاللية ‪ ..‬عناد وتمرد ‪ .. ..‬هذا اللي يجعل‬
‫الطرابلسية إداريين منضبطين وأكفاء ‪ ..‬لكنهم يقولوا ما يريد سيدهم ‪ ..‬ولذلك في المراتب العليا ‪،‬‬
‫البراوقة أحسن ألنهم يقولوا الحقيقة ‪ ..‬لكن مزعجين !‘‘‪.‬‬

‫‪ ’’ -‬أشبح ‪..‬؟ ‪ ..‬هل يمكن تلخيص العقلية الطرابلسية في عبارة قاعد ماجاش ‪  ..‬؟ هل هي عبارة‬
‫مفتوحة تحمل أكثر من معنى ؟ نعم ‪ ،‬تعني لم يأت بعد‪ .‬هل تنطوي على المجاملة ؟ المداورة ؟ لدينا أيضا‬
‫ِطو يّس ‪ ،‬ف ّوت ‪ .. ،‬تنبي عن سلوكيات ‪ ،‬بل مهارات حضرية ‪ ،‬قد تختلف درجاتها من مدينة إلى‬
‫ْ‬ ‫مش‬
‫أخري! ‘‘‪.‬‬

‫‪  -‬وشرح الثالث على يميني لجاره ما قيل ‪ ،‬فالتفت نحونا‪ ’’ :‬آه طقيتوا في اللحم الحي ‪ ..‬أنا من أوالد‬
‫الظهرة ‪ ..‬جيت الصبح ع البراق ‪ ..‬طرابلس هي طرابلس ‪ ..‬وبعدين أنا عندي نظرية ‪ ..‬راكم كلكم عرب‬
‫غرب يا شراوقة ‪ ،‬حضور وبوادي ‪ ..‬لكن اللي يستقر في مكان يرتبط بيه ‪ ..‬كِذه عدي قول للدرناوي وإال‬
‫أي شرقاوي عاش في طرابلس يرجع لكم ‪ ..‬وانقولك حتى جماعتنا اللي استقروا ف الشرق يتغيروا‬
‫سبحان اهلل ‪  ..‬انتوا ياعرب الشرق ‪ ..‬الحق ينقال‪ :‬كلمة كلمة ‪ ..‬ثقة كاملة ‪ ..‬وعلى ذكر‪  ‬م ّية طرابلس‬
‫كانت حلوة ‪ ..‬بالك تخششوا الطعام حتى هو ‪ ..‬أخطر شئ كان الشراقة تعلموا الكسكسي بالحوت ‪ ..‬هنا‬
‫سر الحضارة ‪ ، ‘‘..‬وانفجر الجميع ضاحكين ‪ ،‬وواصل‪ .. ’’ :‬وين السر ؟ في أكل الحوت وإال في‬
‫البيئة ؟ ‪ ..‬ديروها عاصمة ثقافية ‪ ..‬نحنا كاسبين على كل ريح ‘‘‪.‬‬

‫وكلي‪ .‬أما‬
‫ّ‬ ‫‪ ’’ -‬صحيح أن معظم األدباء والكتاب أصلهم من خارج بنغازي‪ .‬لكن انتماءهم للمدينة صريح‬
‫في طرابلس ‪ ..‬يوم الخميس ‪ ..‬كتّـابكم وموظفيكم‪  ‬يقلّعوا ‪ ،‬كل واحد لقريته ‪ ..‬هنا ما فيش‘‘‪.‬‬

‫‪ -‬وحينها وصل أصدقاء فجلسوا قبالتنا وسرعان ما شدهم النقاش‪ .‬وعلق أحدهم من الدواخل‪’’ :‬‬
‫القصقصة في بنغازي أكثر ‪ ..‬تخش أي مكان ‪ ..‬من هذا ؟ لمن ؟ إيش يشتغل ؟ تحس بحرارة األسئلة‬
‫تلفح رقبتك من الخلف‪ .‬لكن نفس هذه الروح لها‬
‫إيجابيتها‪ .‬عالقات مع جيرانك في العمارة‪ .‬صاحب الدكان في الشارع يسأل كيف حال ابنك ‪‘‘ ..‬‬

‫‪ -‬وعلق صديق رسام ‘‘ أنا نقول هوا بنغازي ‪ ..‬ربما موقعها ‪ ..‬فيه جاذبية ‪ ..‬مثل م ّية النيل ‪ ..‬كما‬
‫ـ‪ ‬‬‫يقول المصرية اللي يذوقها الزم يرجع لها ‪.‘‘..‬‬

‫‪ ’’  -‬سبحان اهلل ‪ ..‬العالم يتقدم ونحن نتشبث بالمحليات ‪ ،‬وبعدين الليبيين اليوم خاشين في بعضهم ‪ ،‬بس‬
‫احسب المصاهرات ‪ ،‬ال عاد تلقي قبائل وال جهات ‪.‘‘ ..‬‬
‫‪ ’’ -‬هذا فولكلور ‪ ..‬حتى في أمريكا ‪ ،‬وبريطانيا ‪ ..‬يبدو إن الناس شغوفين بتكراره ‪ ،‬مثل الحديث عن‬
‫الجو والحر والمطر‪ ..  ‬وأهو سبلة ‪ ،‬تنفيس ‪ ..‬ربما حتى بسبب هالتطور‪ ..  ‬يعني البحث عن هوية‬
‫محاولة للتغلب على إحساس الواحد منا بهذه الوالءات المتعددة ‪ ..‬هذا زالوي وعايش في بنغازي ومتزوج‬
‫منين ‪ ..‬وعضو هيئة تدريس في جامعة وأستاذ لغة انجليزية ‪ ..‬كل وحدة هوية ‪ ،‬وكل دائرة مغلقة على‬
‫األخريات ‪ ..‬وجميعها قابعة في نفس واحدة‪ .‬كل واحد منا ه ّكي!‘‘‪.‬‬
‫ـ‬

‫( ‪)  8‬‬

‫طرابلس مزدحمة وزاخرة بالحياة والتنوع ‪ .‬وإذا ما تأملت أسماء أسرها ستجد معظمهم وافدين ‪ ..‬من‬
‫الدواخل ‪ ،‬من تركيا ‪ ..‬أو حتى من القوقاز‪.‬‬

‫وتبقى طرابلس محيرة إلى يومنا هذا‪ ..‬في داخلها تنقسم إلى أحياء‪ :‬المدينة القديمة ‪ ،‬ميزران ‪ ،‬الظهرة ‪،‬‬
‫سوق الجمعة ‪ ..‬كل واحدة قرية أو شبه قرية ‪ ،‬يشدها وهم يشبه العصبية القبلية ‪ ..‬سوى أنها استبدلت‬
‫اإلنتماء الى جد واحد باالنتماء إلى الشارع أو الزقاق أو النادي‪ .‬واستبدلت الحروب بمباريات الكرة‪.‬‬
‫واستبدلت المقاتلين والفرسان بنجوم الرياضة والغناء‪  .‬وتطورت فيها تجمعات أوالد العم إلى مهرجانات‬
‫الحضرة والزوايا والمالوف‪.‬‬

‫طرابلس أيضا مدينة كبيرة مفتوحة ‪ ..‬يصدق عليها المصطلح األوروبي ميتروبول ‪ ..‬مفتوحة لكل الجاليات‬
‫والثقافات ‪ ..‬أو هكذا كانت إلى أمد قريب ‪ ..‬تعايش فيها العرب‪/‬المسلمون مع اليهود والطليان والمالطيين‪.‬‬

‫طرابلس أيضا متقدمة على بقية المدن الليبية‪ .‬شئ ما يربطها بعالم ما وراء البحر‪ .‬وهي تعرف ذلك ‪.‬‬
‫ومزهوة به‪ .‬وبالتالي مستحوذة ومتعالية على بقية الليبيين بحكم تاريخها الذي رفع مكانتها‪.‬‬
‫طرابلس كاألخت الكبرى ‪ :‬هيبتها وحظها مستمدة من كونها ولدت قبل أخواتها‪.‬‬
‫الشارع الطرابلسي ينضح بمالمح الحياة الحديثة العجولة وبرود األعصاب! حركة مستمرة ‪ ،‬والدكاكين‬
‫الجتذاب الزبائن وليس لجلسات األصحاب وللدردشة كما في درنة أو بنغازي‪.‬‬
‫هل ألن كل شئ موجه للكسب ‪ ..‬والبقاء ؟‬

‫الحيز المتاح للعواطف ضيق في طرابلس‪  .‬ألن الناس في المدينة الكبيرة ‪ ..‬لندن أو طرابلس أو طوكيو ‪..‬‬
‫أشبه بذرات مستقلة ‪ ،‬متجاورة ‪ ،‬قليلة التفاعل‪ .‬العالقات مصلحية‪ :‬القادم زبون ‪ ،‬يشترى خبزا أو‬
‫قميصا ‪ ..‬يطلب ماكياتا في مقهى ‪ ،‬أو يوقف تاكسي ليوصله في رحلة صامتة أو في نقاش عام عن الجو‬
‫والمطر أو شدة الزحام أو مسح مباني حي الفالح ‪  ..‬وهكذا‪.‬‬
‫قيمة األفراد بما يطلبون من خدمات وما في وسعهم إنفاقه ‪ ..‬وال يه ّم أحد‪  ‬لون بشرتهم أو لهجتهم أو‬
‫معتقداتهم‪.‬‬

‫روح عدم االكتراث لدى سكان المدن الكبيرة ‪ ،‬ومنها طرابلس ‪ ،‬تجد أفصح تعبيراتها في مدى اهتمامهم‬
‫بالسياسة‪ .‬أو على األصح عدم االكتراث بالسياسة‪ .‬لكنه موقف أيضا‪ .‬فالمهم هو االستقرار واألمن فقط ‪،‬‬
‫والتنافس لتقديم خدمة أفضل ومن ثم جني ربح أكبر ‪ ..‬وتأمين رزق العيال‪.‬‬

‫في القرية ‪ ،‬أو المدينة‪/‬القرية ‪ ،‬كما في معظم مدن ليبيا‪  ‬وكل المدن الصغيرة في كل أقطار العالم ‪ ..‬هناك‬
‫الفضول ومراقبة اآلخرين والحكم على مسلكهم بل والتدخل في شئونهم ‪ ،‬وما يترتب عليها من مواقف‬
‫وتحيزات‪ .‬وكامتداد لتلك السلوكيات ‪ ،‬يظهر قاطن القرية‪ /‬المدينة " قلقا " أكبر على الصالح العام ‪ ،‬أو ما‬
‫يعتبره كذلك ‪ ..‬وبالتالي فهو أكثر اهتماما واستجابة وأسرع مبادرة ‪ ..‬إزاء الحدث االجتماعي ‪..‬‬
‫والسياسي‪.‬‬

‫في المدن الكبيرة ‪ ..‬خليني في حالي وماليش دعوة ‪ ..‬هي االستجابة األغلب نحو الحدث العام والسياسة‬
‫ليس األمر مجرد موقف عملي ‪ ..‬ليس فقط أن تبتعد عن السياسة ألنها خطرة ‪ ..‬وأن الصحيح أن تظهر‬
‫يخصـك‪.‬‬
‫الطاعة والركون‪ .‬وأن ال تتدخل في ما ال ّ‬
‫السياسة في عين قاطن المدينة الكبيرة غير مجدية ومضيعة للوقت‪  .‬فالحكام كما تعرف المدن الكبرى ‪،‬‬
‫وكما تعلمت طرابلس عبر القرون ‪ ..‬كلهم قساة ومتوجسون ‪ ..‬مهما اختلفت أسماءهم ولغاتهم ودياناتهم‬
‫وشعاراتهم‪ .‬ولهذا ‪ ،‬كما تقول فلسفة المدن الكبيرة ‪ ،‬أمن الشارع وأمان أسرتك يأتي من العيش بعيدا عن‬
‫دائرة السلطة ‪ ..‬أو خليك في حالك‪  .‬وتبقى فقط عالقة تكافلية ‪ ..‬هكذا كانت حياة المدينة القديمة في‬
‫األزمنة الغابرة ‪ ..‬فيوسف باشا القرمللي ‪ ،‬نموذج القسوة واالستقرار ‪ ،‬كان بحاجة إلى ما يجبيه من أهل‬
‫الحارات ‪ ،‬بقدر ما كانوا هم بحاجة إلى تسلطه وما يترتب عليه من استقرار يسمح باستمرار األسواق‬
‫والحياة‪.‬‬

‫هل ينبع هذا من موقف استسالمي ؟ أم أنه إجرائي وعملي ؟!‬

‫ذلك ألن كثافة السكنى وتداخل أرزاق الناس ‪ ..‬في المدينة الكبيرة ‪ ،‬تنسج بين أهلها روابط المنفعة أكثر‬
‫من العاطفة ‪ ،‬وتعيد ترتيب األولويات ‪ ..‬فتـؤكد التعـقـل وتقـبل بحلول الوسط‪  ‬بدال من التطرف‬
‫والمواجهة‪.‬‬

You might also like