Professional Documents
Culture Documents
20/01/2008
د .محمد محمد المفتي
()1
هـوية المديـنـة
’’ بس قـول لي ..تي وينها طرابلس اللي تبي تحكي عليها ..ما هناش ‘‘ .هكذا فاجأني صديقي عز
الدين الذي زار مدينته بعد ثالثة عقود من الغربة ’’ ،لما ر ّوحت ..دكان بوي ما لقـيتاش .وأرضي اللي
شريتها عدّت ..والمدينة القديمة يسكنوا فيها فـقـراء الوافدين ..مليانة دكاكين وكراريس تبيع في
المصنوعات الصينية .‘‘ ..
’’ لكن يا أستاذ المكان موجود ،القلعة موجودة والميناء موجود ..وسوق المشير وميدان الساعة
وسوق القـزارة وسوق الترك ومدرسة الفنون والصنايع .. وهناك بين هذا كله طرابلس بمبانيها الجميلة
وأقواسها الفخمة ...طبعا المجتمع يتغير ،باستمرار ..وسط المدينة مليان بوتيكات ومطاعم لكن إيش
رايك في محالت شارع بن عاشور والجرابة ،والواحات في قرقارش ..هذي لندن إللي تبيها ..المطلوب
ـ
شوية تسامح وشوية خيال .‘‘ ..
’’ طرابلس هي
عاصمة ليبيا .. بها خمس سكان البالد ..وهي مأهولة بليبيين من كل أرجاء البالد ..من الطبيعي أن
تحظى بما ال تحظي به المدن األخرى ..طرابلس عاصمة كل الليبيين ، األخت الكبيرة لكل المدن الليبية .
وقديما كانت ليبيا كلها تس ّمى إقليم طرابلس ،منذ زمن الرومان اللي أعطونا إسمها .‘‘ ..
أوكي طرابلس األخت الكبيرة ،ولذلك فهي متميزة ..وهي محط حب وتحسس في
ْ ور ّد ولد المدينة ’’ ،
آن واحد ..لكن حصتها وتمركزها حول ذاتها جعلها محط نقد ..أهل طرابلس ما يندروش على بقية
البالد !!‘‘.
’’ ال أعتقد األمور بهذا التبسيط ..نعم عواطفنا متناقضة ولم يأت هذا من فراغ‘‘.
ـ
’’ لكن الليبي بدون طرابلس ..كاإلنسان الذي ال عنوان له !!!‘‘.
()2
قراءة التاريخ كظاهرة اجتماعية ..وليس فقط كأحداث سياسية متعاقبة ،يمنحنا حرية أكثر في فهم
الوقائع واألحداث والشخصيات .فالحرب مثال قد تندلع بقرار سياسي ،لكنها قد تكون بسبب البطالة أو
التنافس اإلقتصادي ،أو الفتن المذهبية أو الصراع حول مصادر مياه ..الخ .والسياسيون الذين يقررون
الحروب محكومون بتصوراتهم وخياالتهم وهواجسهم ،ناهيك عن تأثير المقربين اليهم ،والتنافسات
الخفية داخل تلك الدائرة .وتأثير هذه العوامل أكبر وأكثر مباشرة في قرارات الدولة اليومية .وهي أكثر
تأثيرا في انتشار األفكار والحركات االجتماعية والموضات ..الخ.
بالمقابل هل يمكننا مثال أن نرى في ازدهار الحركات الصوفية واحتفال الليبيين بالمولد النبوي ،في الحقبة
اإليطالية ،إلى تشبثهم بالتقاليد مثل عدم خروج المرأة بل وعدم تعليمها ..هل يمكن أن نرى في كل هذه
الظواهر نوعا من المقاومة الصامتة للوجود اإليطالي ؟ ..رفض كلي لالستعمار وثقافته ؟
المنحى االجتماعي يعني أيضا إعادة تركيب لوقائع الزمن المتعاقبة ،ومراحل تطور المكان ..ولحياة من
عبروها.
لقد شهدت طرابلس عبر القرنين الماضيين اعتداءات خارجية ،وثورات داخلية وفتنا قبلية وجهوية .كما
عرفت هجرات من الخارج ،من ايطاليا ومالطا واليونان ..استقر أبناء تلك المجتمعات وعملوا وقدموا
خدمات داخل مدينة طرابلس ،وربما تركوا تأثيرهم في المجتمع الطرابلسي سواء في مفردات العامية أو
أكالت السمك التي تشتهر بها طرابلس اليوم .واألكثر أهمية أن جالية تركية عريضة استقرت بطرابلس
وانصهرت في المجتمع الطرابلسي ،بل ومنحت بعض أسرها كبار المسئولين وأعيان متنفذين .كما كان
ثلث سكان مدينة طرابلس القديمة من اليهود ،كبار تجار وصاغة وحرفيين ،وتواصل وجودهم بالمدينة
لقرون والبد أنهم تركوا بصماتهم ..ولو على شكل ثقتنا اليوم في "الفضة القديمة" والنقش القديم".
المنحى االجتماعي في كتابة التاريخ ال يعتمد فقط على تجميع المعلومات من المؤلفات والكتب الجادة التي
تكتفي بسرد تواريخ الساسة والمعارك ،بل يستدعي التقاط البيانات لرسم سمات المجتمع في مراحله
المتتالية ..ويستدعي البحث الميداني وتسجيل شهادات من عاصروا الحقب القريبة نسبيا.
المنهج االجتماعي ،فوق ذلك ،عمل إبداعي ألنه يعي تركيب وترتيب الوقائع وشحنها بطاقة مسرحية ..
تلمس العواطف كما في الروايات التاريخية .كما يهتم المنهج التاريخي بتفاصيل الحياة اليومية من مسكن
ومأكل وملبس وتجارة ..الخ .وإلى هنا ينتهي التشابه بين النمطين التاريخ والرواية الخيالية .ألن الرواية
عادة ما تستند إلى خيط خفي من األخالق التي يمليها المنطق .لكن دراما التاريخ الحقيقي عادة ما تكون
أكثر غرابة وربما أكثر مأساوية أوهزال .فإذا كان الروائي يحكي لنا كيف أن عقاب األشرار حتمي ،فإن
المؤرخ ال يستطيع أن يفرض مثل هذه التصورات على الشخصيات التاريخية .فالرجال مزيج من الحكمة
والشجاعة ،وربما التضحية ،وأيضا الطموح الشخصي الذي قد يدفعهم أحيانا إلى الزلل والظلم ،وأحيانا
تتملكهم الهواجس والوساوس التي تحرك فيهم رغبات الدمار واالنتقام دون سبب ،وربما األنانية التي قد
تصل إلى حد الدناءة .كل هذه الدوافع المتناقضة والمتضاربة قد توجد في شخص واحد ،إلى جانب نقاط
ضعف خفية .وهناك العوامل الخارجية ،أي من خارج المجتمع ،كالقحط واألوبئة والحروب التي تؤثر في
حركة المجتمع بشتى أشكالها .والخالصة أن الروائي قد ينجح في إدانة أو معاقبة أبطاله .لكن كاتب
موثق وظاهري .إال أن التناول االجتماعي يثري قراءتنا للتاريخ ،التاريخ ليس له إال أن يتمسك بما هو َ
ويقربنا إلى حقيقة األمور .فاألحداث االجتماعية في نهاية األمر وليدة رغبات وسلوكيات البشر الشديدة
التنوع والغموض.
()3
ليست المدينة ..أي مدينة ،مجرد مشهد عمراني ..إنها تاريخ وثقافة بالمعنى الواسع ..قيم ،تقاليد ،
سلوكيات ..بل إن مبانيها وشوارعها أشبه بالهيكل ..هيكل عظمي تغطيه تكوينات الجسم الحي القادر
على التأثير في ما حوله ،والذي يتأثر بالكوارث كالحروب وسنوات الجفاف والمجاعة واألوبئة .مجتمع
المدينة قد يصنع االزدهار ويتأثر بمسبباته من صناعة أو تجارة خارجية ..ومثل الجسم الحي يمر مجتمع
المدينة بأطوار الشباب والنشاط ،وقد يبلغ مرحلة الشيخوخة والخمول.
الباحث في تاريخ المدينة أشبه ما يكون بعالم اآلثار الذي ينقب ويكتشف طبقات وطبقات من تحوالت
المدينة عبر التاريخ ..أسواق المدينة القديمة كانت ترتكز تجارتها على الحوالى (الجرود) والرداوات ،
صناعتها وبيعها .وكان كل الصاغة تقريبا من اليهود .اآلن كل التجار والصاغة ليبيين .لكن األسواق
أغرقتها البضائع المستوردة من جنوب شرق آسيا .مثل هذا التحول ال يحدث دون تغيرات عميقة في قيم
وتفكير الناس .شوارع المدينة القديمة أزقة ضيقة محكومة بتقنيات البناء ..على عكس المباني الحديثة
القائمة على الخرسانة المسلحة ،شبابيك حياش المدينة القديمة قليلة وضيقة ألنها بنيت في زمن محافظ
لم يكن يسمح لرؤية النساء .. .وبهذه الكيفية نستطيع أن نقرأ المشهد العمراني بمنهج تحليلي يضيف
جديدا لفهمنا.
عمران المدينة قد يتغير ..وهو في ذلك يعكس تحوالت أخرى ..يوم وصل الديناميت القادر على اختراق
سور المدينة القديمة مثال ،بدأ ترك بواباتها مفتوحة ..وأهمل السور وبدأ في التهاوي .إزدهار طرابلس
في أواخر القرن ، 19أدى إلى امتداد مبانيها إلى خارج السور حيث ابتنى الناس أحياء جديدة.
المدينة ،مثل طرابلس لم تكن نسيجا واحدا متجانسا ..كانت هناك تمايزات دينية وعرقية وثقافية ..كان
بها يهود يشكلون ثلث سكان المدينة القديمة ..وسكنها أندلسيون وأتراك ومالطيون .. وجاءها
جزائريون وجرابة ..ومنذ العهد اإليطالي هيمنت فيها جالية ايطالية ضخمة ،لمدة ستين سنة .
وعرفت طرابلس الغزو والحروب وثورات الدواخل (مثل ثورة غومة المحمودي وثورة عبد الجليل سيف
النصر في فزان).
كل هذه التفاعالت ..تركت بالتأكيد آثارها في لهجة أبناء طرابلس ،وملبسهم وطعامهم وسلوكهم
اليومي.
()4
من أبرز مفارقات الدارجة /العامية الطرابلسية ..عبارة " قاعد ماجاش" ،أي لم يأت بعد أو بدقة أكبر
"حتى اآلن لم يأت" ..وهي عبارة كثيرا ما يتندر بها غير الطرابلسيين .هل هي ارتباك في التعبير ؟ أم
أنها مراوغة لفظية ؟
لكن ثمة مفارقة أكبر.
طرابلس كأي مدينة ،أو حاضرة ،سكانها من الوافدين ..من األرياف المحيطة ،من بقية المدن الليبية
من زواره وغريان وبنغازي ودرنة ..الخ ....بل من مراكز اإلمبراطورية العثمانية ،من مهاجري
األندلس ،من اليهود والمالطيين ،من أسري معارك القرصنة البحرية ،والرقيق المجلوب من أفريقيا.
هذا قانون عام يصدق على كل الحواضر في كل أقطار العالم .والهجرة مصدر ثراء بشري ألي مدينة.
لكن ؟
المهاجرين إلى بنغازي ..من مصراته وورفلة وزليتن وترهونة ..يستقرون بها ،وينصهرون ،بل
ويتعصبون لمدينتهم الجديدة ..ضد طرابلس !
وكذلك استقر في درنة أبناء تاجورة ومصراتة وزليتن في درنة ،منذ حمالت يوسف باشا قبل قرنين.
بالمقابل اعتمدت طرابلس على اجتذاب التجار والجنود ..وحديثا الموظفين ،الذين انتقلوا إليها من كل
أرجاء ليبيا ،من بنغازي ودرنة ،من فزان حتى غات وآبراك ويفرن ومرزق .لكن جل الوافدين كانوا
من المناطق األقرب :من الزاوية وغريان ونالوت وغدامس والخمس وترهونة ومصراتة..الخ .هؤالء
ولقرب مواطنهم ،جاؤا ليتاجروا أو يتوظفوا ،لكن معظمهم لم يقطع صلته بمسقط رأسه ..وإلى اليوم
تجدهم يرحلون لقضاء عطلة نهاية األسبوع في مواطنهم وبين أقاربهم ..بل الكثير منهم عندما يتيسر
حاله ،يبني منزله هناك.
طرابلس مدينة كبيرة وكونية (كوزموبوليتية) في نسيجها ،سكانها من مختلف الجذور ..ومدينة يلتقي
معظم سكانها آلداء وظيفة اجتماعية ..هذه العالقات المهنية تطمس الروابط القديمة كالجهة والقبيلة ..
ومثل كل المدن الكبرى الشبيهة من القاهرة إلى نيويورك ،تتراجع فيها العالقات اإلنسانية إلى عالقات
قائمة على المصلحة والتعامل ..التي ال تحفل بالعواطف البدائية ..وإذا بدت لندن باردة وغير مكترثة
للزائر الليبي ..فكذلك تبدو طرابلس لبقية الليبيين !
أم أن العواطف التي تحيط بطرابلس أكثر تعقيدا ؟
()5
أذكر إبان إحدى زياراتي لطرابلس أثناء إعداد هذه الفصول ،أن التقيت على غداء من السمك المشوي
[ الصحن المميز لطرابلس !] ..مع الصديق الكاتب والصحفي رضا بن موسى إبن المدينة القديمة
والمولود قرب باب الحرية ،وأذكر أنه طرح عليًروصت ّا جدي ًرا بالتسجيل هنا .. ’’ :حتى دواخل إقليم
طرابلس ،كانوا ينظرون للمدينة على أساس أنها مركز السلطة ..منها كانت تخرج حمالت التأديب وجبي
الميري أو الخراج ..غومة المحمودي حارب سلطة طرابلس ..وكذلك فعل عبد الجليل سيف النصر ..في
ظني هذا ما جعل أهل الدواخل ينظرون إلى طرابلس بعين العداء ..وأمست القلعة رمز المدينة وبؤرة
العسف ..وهل قال سيدي عبد السالم األسمر "طرابلس يا حفرة الدم ، "...ألن ش ّرا كثيرا كان يأتي منها
بين الحين واآلخر؟ عبر العصور ،كانت طرابلس لكونها مركز الدولة ،تحاول السيطرة على األطراف ..
أن تشد األطراف إليها ،وتضمها ..ألن الدواخل كانت مصدر ثروة لباشا طرابلس .بل كان باشا طرابلس
يأخذ رهائن ..أوالد مشايخ القبائل األقوياء ،ويربيهم عنده في القصر ،كما فعل مع عبد الجليل سيف
النصر إبن شيخ قبائل أوالد سليمان المهيمنة على فزان وتجارة القوافل مع أفريقيا في القرن التاسع عشر
‘‘
طبعا هذه عواطف وانطباعات ،وال بد من تبيان أسبابها الموضوعية ،بقصد إزالة غشاوتها .وضرورة
رؤية مدينة طرابلس كمركز للتقدم واالستقرار ،أو هكذا يجب أن ترى.
بالمقابل ،في العقود الحديثة انحازت السلطة إلى الدواخل ،الصحراء ،نقاء البادية ..ضد المدن وأولها
طرابلس .حتى المقيمين فيها ،تجدهم سرعان ما يتشبثون بهويتهم البدوية ،ويرفعون راية الجهة أو
القبيلة ..غرياني ،ترهوني ،ورفلي ..وهل مثل هذه االستجابة تنطوي على قلق البعد عن مسقط الرأس
،وعداء مضمر تجاه طرابلس ،مستقرهم الجديد ؟
بَـدونة
َ خالل نصف القرن الماضي شهدت كثير من المدن العربية خاصة في الدول النفطية " ظاهرة
المدن" .أي أن المدن تفتح مجال العمل الحرفي والوظيفي ألبناء الدواخل من الريفيين والبدو .يتقاضون
مرتبات في دولة تعتمد على ريع البترول ..لكنها أي هذه المدن بطيئة في استيعاب الوافدين إليها .وذلك
على عكس ماحدث في مدن أوروبا عند بداية الثورة الصناعية .فآنئذ كان الريفيون يأتون ليستوعبوا
سريعا قيم المجتمع الصناعي ،من خالل العمل في المصانع والمناجم ..مثل انضباطية المواعيد وروح
العمل في فريق ..واألهم انقطاع صالتهم بمجتمعهم القديم .أما عندنا فالمهاجر إلى المدينة يحتفظ في كثير
من األحيان بكل روابطه وقيمه وعاداته القديمة .وتصبح األحياء أقرب إلى النجوع أو القرى!
() 6
ـ أحوال" ..ال
االنطباع لدى بقية الليبيين عن أهل طرابلس ،أبناء المدينة ..أنهم ليسوا " قـيّــادي
تهمهم شئونك الشخصية و ال يتدخلون فيها ..على عكس حال المدن الصغيرة ..ولكنهم أيضا باردي
العواطف ،محدودي الترحاب ،شئ قريب من البخل ولكنه مختلف عنه .ثم إن حس النكتة لديهم عالي..
على عكس بقية الليبيين ،وحتى مقارنة بسكان دواخل إقليم طرابلس نفسه :الزاوية ،وغريان ..الخ.
هل من تفسير؟
أوال لسنا بصدد إصدار أحكام أخالقية .. أو تقييم األمور بمنطق هذا أفضل من ذاك ..كل ما هناك أنها
سلوكيات ،ترسخت كطباع اجتماعية ،فما مصدرها ؟
ربما طبيعة المكان ؟ ربما كيفية كسب الرزق ؟
طرابلس مدينة كبيرة ،مفتوحة على العالم الخارجي ،على جنوبي أوروبا ،وعلى أفريقيا عبر فزان.
منطقة تجارة وتجارة عبور أساسا.
وطرابلس أيضا سدة حكم ،على األقل طيلة القرون الخمسة الماضية.
اإلعتماد على التجارة ووجود سلطة ،ربما رسخا في الثقافة الطرابلسية قيم ومعايير .أولها ضرورة كسب
رضا السلطان ،لتبقى المدينة في أمان ونظام وازدهار .وثانيها أن الثراء يأتي عبر الصفقات ..مع
اآلخرين .إذن المصلحة هي أساس العالقات.
المدن الليبية الصغيرة على اتصال مباشر بالبادية ..وتعتمد عليها .وأثرياءها يمارسون نشاط الموالة أي
االستثمار في حراثة القمح والشعير واألغنام .وهذه نشاطات دورية موسمية شبه مضمونة.
طرابلس محاطة ببساتين أو واحات (عين زارة ،قصر بن غشير ،جنزور )..تمتد على طول الساحل إلى
مصراته شرقا وزوارة غربا .ثمار مثل الزيتون والبرتقال وخضروات ،وهو ما كانت تبيع منه طرابلس
إلى السفن المارة بمينائها.
بالمقابل فإن سكان دواخل إقليم طرابلس (خاصة البدو منهم مثل المحاميد ،والفرجان وورفلة وبادية
سرت) ،ال يختلفون كثيرا في دفء عواطفهم واحتفائهم بالغريب ،بل وشعرهم الشعبي عن بدو برقة.
() 7
أذكر مرة أن أحد األصدقاء ،في جلسة دردشة ،الحظ قائال ’’ :إنقولك حاجة ..طرابلس مياهها حلوة ..
أحكي عن أيام زمان ،وتربتها ليّـنة .كانت دائما فيها زراعة مستقرة وملكية ..الحوازة ،نص هكتار ،
س فيهم ليونة ؟ ثم كانت دائما عندهم حكومة ..الباشا وديوانه .ثقافة تعيّـش عيلة .هل هذا ما غ َر َ
طرابلس توارثت الطاعة .أما بنغازي ،فقد نشأت مدينة تجارة ،من البداية ..مياهها مالحة وتربة
بَـ ّر ها قاسية ..لم تكن في بر بنغازي زراعة دائمة ..حراثة موسمية فقط ..وتشربت روح البادية في
محيطها ..ربما ،ربما هذا ميز ثقافة بنغازي بأنها ثقافة استقاللية ..عناد وتمرد .. ..هذا اللي يجعل
الطرابلسية إداريين منضبطين وأكفاء ..لكنهم يقولوا ما يريد سيدهم ..ولذلك في المراتب العليا ،
البراوقة أحسن ألنهم يقولوا الحقيقة ..لكن مزعجين !‘‘.
’’ -أشبح ..؟ ..هل يمكن تلخيص العقلية الطرابلسية في عبارة قاعد ماجاش ..؟ هل هي عبارة
مفتوحة تحمل أكثر من معنى ؟ نعم ،تعني لم يأت بعد .هل تنطوي على المجاملة ؟ المداورة ؟ لدينا أيضا
ِطو يّس ،ف ّوت .. ،تنبي عن سلوكيات ،بل مهارات حضرية ،قد تختلف درجاتها من مدينة إلى
ْ مش
أخري! ‘‘.
-وشرح الثالث على يميني لجاره ما قيل ،فالتفت نحونا ’’ :آه طقيتوا في اللحم الحي ..أنا من أوالد
الظهرة ..جيت الصبح ع البراق ..طرابلس هي طرابلس ..وبعدين أنا عندي نظرية ..راكم كلكم عرب
غرب يا شراوقة ،حضور وبوادي ..لكن اللي يستقر في مكان يرتبط بيه ..كِذه عدي قول للدرناوي وإال
أي شرقاوي عاش في طرابلس يرجع لكم ..وانقولك حتى جماعتنا اللي استقروا ف الشرق يتغيروا
سبحان اهلل ..انتوا ياعرب الشرق ..الحق ينقال :كلمة كلمة ..ثقة كاملة ..وعلى ذكر م ّية طرابلس
كانت حلوة ..بالك تخششوا الطعام حتى هو ..أخطر شئ كان الشراقة تعلموا الكسكسي بالحوت ..هنا
سر الحضارة ، ‘‘..وانفجر الجميع ضاحكين ،وواصل .. ’’ :وين السر ؟ في أكل الحوت وإال في
البيئة ؟ ..ديروها عاصمة ثقافية ..نحنا كاسبين على كل ريح ‘‘.
وكلي .أما
ّ ’’ -صحيح أن معظم األدباء والكتاب أصلهم من خارج بنغازي .لكن انتماءهم للمدينة صريح
في طرابلس ..يوم الخميس ..كتّـابكم وموظفيكم يقلّعوا ،كل واحد لقريته ..هنا ما فيش‘‘.
-وحينها وصل أصدقاء فجلسوا قبالتنا وسرعان ما شدهم النقاش .وعلق أحدهم من الدواخل’’ :
القصقصة في بنغازي أكثر ..تخش أي مكان ..من هذا ؟ لمن ؟ إيش يشتغل ؟ تحس بحرارة األسئلة
تلفح رقبتك من الخلف .لكن نفس هذه الروح لها
إيجابيتها .عالقات مع جيرانك في العمارة .صاحب الدكان في الشارع يسأل كيف حال ابنك ‘‘ ..
-وعلق صديق رسام ‘‘ أنا نقول هوا بنغازي ..ربما موقعها ..فيه جاذبية ..مثل م ّية النيل ..كما
ـ يقول المصرية اللي يذوقها الزم يرجع لها .‘‘..
’’ -سبحان اهلل ..العالم يتقدم ونحن نتشبث بالمحليات ،وبعدين الليبيين اليوم خاشين في بعضهم ،بس
احسب المصاهرات ،ال عاد تلقي قبائل وال جهات .‘‘ ..
’’ -هذا فولكلور ..حتى في أمريكا ،وبريطانيا ..يبدو إن الناس شغوفين بتكراره ،مثل الحديث عن
الجو والحر والمطر .. وأهو سبلة ،تنفيس ..ربما حتى بسبب هالتطور .. يعني البحث عن هوية
محاولة للتغلب على إحساس الواحد منا بهذه الوالءات المتعددة ..هذا زالوي وعايش في بنغازي ومتزوج
منين ..وعضو هيئة تدريس في جامعة وأستاذ لغة انجليزية ..كل وحدة هوية ،وكل دائرة مغلقة على
األخريات ..وجميعها قابعة في نفس واحدة .كل واحد منا ه ّكي!‘‘.
ـ
( ) 8
طرابلس مزدحمة وزاخرة بالحياة والتنوع .وإذا ما تأملت أسماء أسرها ستجد معظمهم وافدين ..من
الدواخل ،من تركيا ..أو حتى من القوقاز.
وتبقى طرابلس محيرة إلى يومنا هذا ..في داخلها تنقسم إلى أحياء :المدينة القديمة ،ميزران ،الظهرة ،
سوق الجمعة ..كل واحدة قرية أو شبه قرية ،يشدها وهم يشبه العصبية القبلية ..سوى أنها استبدلت
اإلنتماء الى جد واحد باالنتماء إلى الشارع أو الزقاق أو النادي .واستبدلت الحروب بمباريات الكرة.
واستبدلت المقاتلين والفرسان بنجوم الرياضة والغناء .وتطورت فيها تجمعات أوالد العم إلى مهرجانات
الحضرة والزوايا والمالوف.
طرابلس أيضا مدينة كبيرة مفتوحة ..يصدق عليها المصطلح األوروبي ميتروبول ..مفتوحة لكل الجاليات
والثقافات ..أو هكذا كانت إلى أمد قريب ..تعايش فيها العرب/المسلمون مع اليهود والطليان والمالطيين.
طرابلس أيضا متقدمة على بقية المدن الليبية .شئ ما يربطها بعالم ما وراء البحر .وهي تعرف ذلك .
ومزهوة به .وبالتالي مستحوذة ومتعالية على بقية الليبيين بحكم تاريخها الذي رفع مكانتها.
طرابلس كاألخت الكبرى :هيبتها وحظها مستمدة من كونها ولدت قبل أخواتها.
الشارع الطرابلسي ينضح بمالمح الحياة الحديثة العجولة وبرود األعصاب! حركة مستمرة ،والدكاكين
الجتذاب الزبائن وليس لجلسات األصحاب وللدردشة كما في درنة أو بنغازي.
هل ألن كل شئ موجه للكسب ..والبقاء ؟
الحيز المتاح للعواطف ضيق في طرابلس .ألن الناس في المدينة الكبيرة ..لندن أو طرابلس أو طوكيو ..
أشبه بذرات مستقلة ،متجاورة ،قليلة التفاعل .العالقات مصلحية :القادم زبون ،يشترى خبزا أو
قميصا ..يطلب ماكياتا في مقهى ،أو يوقف تاكسي ليوصله في رحلة صامتة أو في نقاش عام عن الجو
والمطر أو شدة الزحام أو مسح مباني حي الفالح ..وهكذا.
قيمة األفراد بما يطلبون من خدمات وما في وسعهم إنفاقه ..وال يه ّم أحد لون بشرتهم أو لهجتهم أو
معتقداتهم.
روح عدم االكتراث لدى سكان المدن الكبيرة ،ومنها طرابلس ،تجد أفصح تعبيراتها في مدى اهتمامهم
بالسياسة .أو على األصح عدم االكتراث بالسياسة .لكنه موقف أيضا .فالمهم هو االستقرار واألمن فقط ،
والتنافس لتقديم خدمة أفضل ومن ثم جني ربح أكبر ..وتأمين رزق العيال.
في القرية ،أو المدينة/القرية ،كما في معظم مدن ليبيا وكل المدن الصغيرة في كل أقطار العالم ..هناك
الفضول ومراقبة اآلخرين والحكم على مسلكهم بل والتدخل في شئونهم ،وما يترتب عليها من مواقف
وتحيزات .وكامتداد لتلك السلوكيات ،يظهر قاطن القرية /المدينة " قلقا " أكبر على الصالح العام ،أو ما
يعتبره كذلك ..وبالتالي فهو أكثر اهتماما واستجابة وأسرع مبادرة ..إزاء الحدث االجتماعي ..
والسياسي.
في المدن الكبيرة ..خليني في حالي وماليش دعوة ..هي االستجابة األغلب نحو الحدث العام والسياسة
ليس األمر مجرد موقف عملي ..ليس فقط أن تبتعد عن السياسة ألنها خطرة ..وأن الصحيح أن تظهر
يخصـك.
الطاعة والركون .وأن ال تتدخل في ما ال ّ
السياسة في عين قاطن المدينة الكبيرة غير مجدية ومضيعة للوقت .فالحكام كما تعرف المدن الكبرى ،
وكما تعلمت طرابلس عبر القرون ..كلهم قساة ومتوجسون ..مهما اختلفت أسماءهم ولغاتهم ودياناتهم
وشعاراتهم .ولهذا ،كما تقول فلسفة المدن الكبيرة ،أمن الشارع وأمان أسرتك يأتي من العيش بعيدا عن
دائرة السلطة ..أو خليك في حالك .وتبقى فقط عالقة تكافلية ..هكذا كانت حياة المدينة القديمة في
األزمنة الغابرة ..فيوسف باشا القرمللي ،نموذج القسوة واالستقرار ،كان بحاجة إلى ما يجبيه من أهل
الحارات ،بقدر ما كانوا هم بحاجة إلى تسلطه وما يترتب عليه من استقرار يسمح باستمرار األسواق
والحياة.
ذلك ألن كثافة السكنى وتداخل أرزاق الناس ..في المدينة الكبيرة ،تنسج بين أهلها روابط المنفعة أكثر
من العاطفة ،وتعيد ترتيب األولويات ..فتـؤكد التعـقـل وتقـبل بحلول الوسط بدال من التطرف
والمواجهة.