You are on page 1of 3

‫لـــــؤلــــؤة الصــــــــــــــــــــــحراء الليبيـــــــــــــة‬

‫م‪ -‬هدي رجب النويصري‬

‫ً‬
‫سوية لوحة فنية رائعة‬ ‫فوق كثبانها الرملية‪ ،‬ناصعة الصفار‪ ،‬تعانق خيوط الشمس حواف الجبال الصخرية‪ ،‬لتش ّكل‬
‫الجمال‪ُ  ‬ت َ‬
‫عر ف بـ “لؤلؤة الصحراء"‪ ،‬تكوِّ ن فيما بينها مثلث الحدود بين الثالثي ليبيا والجزائر وتونس‪ ،‬لتواصل حضورها‬
‫التراثي كنقطة التقاء لجميع حضارات العالم‪.‬‬
‫غدامس‪ ‬الليبية‪  ،‬تلك المدينة التاريخية الضاربة بجذورها في عمق التاريخ‪ ،‬والتي أسالَت منذ األلفية الرابعة قبل الميالد‪ ‬لعاب‬
‫ً‬
‫ومركزا تجار ًّيا لشتى القوافل من كل حدب‬ ‫المستوطنين بشتى عروقهم وأطيافهم الحضارية‪ ،‬فكانت مفترق طرق ثقافاتـ العالم‪،‬‬
‫تقاوم‪.‬‬
‫وصوب‪ ،‬حتى حوّ لت صحراء المتوسط إلى قِبلة جاذبة ال َ‬
‫وبعد قرابة ‪ 10‬آالف عام‪ ،‬هو عمر تلك المدينة الواقعة على بُعد ‪ 600‬كيلومتر من الجنوب الغربي للعاصمة طرابلس‪ ،‬تعاني‬
‫تلك البقعة الساحرة التي صنفتها منظمة اليونسكو‪ ‬عام ‪ 1986‬كمنطقة تراثية تاريخية ومحمية طبيعية‪ ،‬من إهمال وتهميش أو َد َيا‬
‫بها إلى مستنقع التجاهل الرسمي‪ ،‬حتى باتت منطقة طاردة لس ّك انها‪ ،‬وسط دعوات ومناشدات بإنقاذ تلك اللوحة التاريخية الرائعة‬
‫من هذا المستنقع قبل فوات األوان‪.‬‬

‫واحدة من أقدم مدن العالم‬


‫يعود تاريخ غدامس‪  ‬إلى العصر الروماني‪ ،‬ما يجعلها واحدة من أقدم المدن التاريخية في المنطقة العربيــة والشــرق األوســط‪ ،‬إذ‬
‫عُثر على نقوش حجرية تشير إلى وجود حياة في تلك المدينة منذ أكثر من ‪ 10‬آالف عام‪ ،‬ولع ّل هـذا السـبب وراء العنايـة الـتي‬
‫أولتها المنظماتـ الدولية المعنية باآلثار والثقافة‪ ،‬وفي مقدمتها اليونسكو‪.‬‬
‫سقطت المدينة في أيدي القرطاجيين عام ‪ 795‬قبل الميالد‪ ،‬تالهم الرومان عام ‪ 19‬قبل الميالد كذلك‪ ،‬حــتى فتحهــا العــرب عن‬
‫طريق عقبة بن نافع عــام ‪42‬هـــ‪581 /‬م‪ ،‬لتجمــع بين رمالهــا عصــارة حضــارات متمــيزة‪ ،‬كــان‪ ‬لهــا صــداها في إثــراء المدينــة‬
‫وتمايزها الثقافي واألممي‪.‬‬
‫ونتيجة لهذا الثراء تحولت المدينة التي اشتهرت بعدة مسميات‪،‬ـ أشهرها عروس الصحراء‪ ،‬لؤلؤة الصــحراء‪ ،‬زنبقــة الصــحراء‪،‬‬
‫بوابة الصحراء‪ ،‬بالد الجلد والنحاس‪ ‬والتبر واللبان والعاج وريش النعام؛ إلى قِبلة الرحّالـة األوروبـيين وألفارقــه خالل القـر َنين‬
‫السابع عشر‪  ‬والثامن عشر‪ ،‬كما كانت حلقة الوصل الثقافي والفكري والتجاري بين أوروبا وأفريقيا‪.‬‬
‫ذروة المجد‬
‫تتفق‪  ‬الدراسة لمعنون بـ"الحياة االقتصادية واالجتماعية والثقافية في مدينة غدامس خالل العهد العثماني"‪ ،‬للباحث مروان محمــد‬
‫عمر‪ ،‬مع العديد من األطروحات التاريخية األخرى‪ ،‬على أن غدامس‪ ‬بلغت ذروة مجدها في القرن الثامن عشر عندما خضــعت‬
‫للحكم العثماني الذي كان يبسط هيمنته على ليبيا في ذلك الوقت‪.‬‬
‫وقد تأثرت المدينة الليبية بالعثمانيين على مرحل َتين‪ ،‬األولى خالل الحكم العثماني لتونس في القــرن الســادسـ عشــر‪ ،‬والثانيــة في‬
‫القرن الثامن عشر‪ ،‬وإن كان العهد الثاني هو األكثر ثــراءً‪ ،‬حيث تحـوّ لت المدينــة خاللــه إلى واحــدة من المــدن الجاذبــة للقوافــل‬
‫التجارية والزيارات الثقافية والتبادل الحضاري بين مختلف الشعوب‪.‬‬
‫ومع انتهاء حكم العثمانيين بدأت المدينة‪ ‬بمرحلة األفول الثقافي والحضــاري‪ ،‬حيث ســقطت في بــراثن االحتالل اإليطــالي كبقيــة‬
‫مدن البالد عام ‪ ،1924‬حيث استولوا على خيراتهــا ونهبــوا ثرواتهــا وحوّ لوهــا إلى ثكنــة عســكرية ومســتعمرة لخدمــة جنـودهم‬
‫وقواتهم المتمركزة في ليبيا‪ ،‬وظ َّل اإليطاليون بها قرابة ‪ 16‬عامًا‪ ،‬إلى أن احتلّها الفرنسيون عام ‪ 1940‬ولم يفارقوها حتى عــام‬
‫‪.1955‬‬
‫وفي عهد الملك السنوسي ومن بعده معمر القذافي‪ ،‬عانت المدينة األثريــة من تجاهــل واضــح‪ ،‬رغم الجهــود المبذولــة بين الحين‬
‫واآلخر إلنقاذ معالمهاـ التي تأثرت كثيرً ا بمرحل َت ي االستعمار اإليطالي والفرنسي‪ ،‬لكن رغم كل تلــك المحــاوالت إال أن اإلهمــال‬
‫كان الشعار األبرز لتلك المدينة‪ ،‬وهو ما أودى بها إلى هذا المصير‪.‬‬
‫وفي عام ‪ ،2011‬وأثناء الثورة الليبية ضد نظام القذافي‪ ،‬تع ّرضت المدينة لواحدة من أبشــع الجــرائم الــتي شــهدتهاـ البالد‪ ،‬حيث‬
‫قُتل عشرات المدنيين بها‪ ،‬وت َّم تهجير مئات األسر األخرى في أعقاب الهجوم الذي ش ّنته إحدى‪ ‬الميليشيات التابعة لنظام القذافي‪،‬‬
‫لتتحول المدينة بعدها إلى ثكنة عسكرية بعد تشكيل مجلس عســكري إلدارتهــا‪ ،‬والــذي تع ّهــد بفتح تحقيــق للوقــوف على الجــرائم‬
‫المرتكبة ّ‬
‫بحق سكان المنطقة‪.‬‬
‫أبرز المعالم األثرية‬
‫تحول غدامس إلى قِبلة لمختلف الحضارات‪ ،‬وقبوعها تحت حكم وهيمنة العديد من اإلمبراطوريات ذات الثقافات المختلفة‪،‬‬ ‫ُّ‬
‫جعل منها متح ًفا أثر ًّيا ثر ًّيا‪ ،‬وهو ما تج ّس ده الشواهد األثرية والمعالم التاريخية ذات القيمة الكبيرة التي تنتشر بين جنبات‬
‫المنطقة التي تجمع بين اآلثار الرومانية واألوروبية والعثمانية واألفريقية‪ ،‬فضاًل عن تراث أبنائها الخالد عبر آالف السنين‪.‬‬
‫ومن أبرز الشواهد األثرية في المدينة هو‪" ‬متحف غدامس"‪ ،‬هذا البناء التراثي الحجري الذي يض ُّم بين جنباته عشرات الكنوز‬
‫ضا عين‬‫األثرية من ِح َقب مختلفة‪ ،‬منها األدوات الحجرية وهياكل طيور وحيوانات‪ ،‬وح َِرف وصناعات تقليدية‪ ،‬كما هناك أي ً‬
‫الفرس‪  ‬التي هي النواة األولى للمياه في المدينة‪ ،‬وكانت أحد العوامل وراء استمرار عطاء المدينة حتى اليوم‪.‬‬
‫هذا بجانب قصر مقدول‪  ‬الدائري‪ ،‬الموجود غرب المدينة‪ ،‬والذي تشير بناياته وطرازها إلى العصر الروماني‪ ،‬ويُعت َقد أن من‬
‫بناه هو‪ ‬اإلمبراطور الروماني‪ ‬كركال‪ ،‬كأحد الحصون المشيَّدة للدفاع عن غدامس في مواجهة الغزاة‪ ،‬ويتميَّز بوجود باب خفي‬
‫كان يُستخدَم في الرقابة والتج ُّسس على كل ما يحيط بالقصر‪.‬‬
‫وفي جنوب غرب المدينة تتواجد عشرات المعالم األثرية التي تعود إلى الرومانيين‪ ،‬فيما ذهب بعض الباحثين إلى أنها تعود إلى‬
‫قبل ذلك‪ ،‬في إشارة إلى حضارة الجرمنتيين‪ ‬أسالف الطوارق‪ ،‬وهي الحضارة التي سبقت مجيء‪ ‬الرومانيين‪ ،‬فضاًل عن‬
‫بحير َتي‪ ‬مجزم‪ ‬الشهير َتين‪ ‬الشديد َتي‪ ‬الملوحة‪ ،‬والتي يبلغ‪ ‬عمق إحداهما أكثر من ‪ 70‬مترً ا‪.‬‬
‫ومن أشهر المعالم األثرية الموجودة في غدامس‪  ‬ذلك النتوء الجبلي بالقرب من الحدود الجزائرية‪ ،‬والذي يُسمّى برأس‬
‫الغول‪  ،‬وتتباين الروايات التاريخية حول تاريخ بنائه ودالالته الرمزية‪ ،‬فيما تشير الحكايات الشعبية إلى أنه آخر معاقل الك ّفار‬
‫في ليبيا قبل الفتح اإلسالمي على يد عقبة بن نافع‪ ،‬علمًا بأنه ال يوجد دليل علمي َّ‬
‫موثق حول تلك الرواية‪.‬‬
‫الحفاظ على الموروثات‬
‫يسعى سكان غدامس‪ ،‬البالغ عددهم قرابة ‪ 25‬ألف نسمة (معظمهم من قبيل َتي الوازيت والوليد‪ ،‬وهما من قبائل الزناتة‬
‫األمازيغية‪ ،‬بجانب أجناس مختلفة من العرب والتجّ ار والعبيد)‪ ،‬إلى التم ُّسك بالتراث في ممارساتهمـ الحياتية المختلفة‪ ،‬بدءًا من‬
‫المنازل المبنية من الطين واللبن‪ ،‬وأخشاب النخيل المتالصقة‪ ‬بما يشبه أكواخ العصور القديمة‪ ،‬وبعض تلك المنازل يكون من‬
‫طاب َقين بجانب الطابق األرضي المخصَّص‪  ‬لتحزين السلع والمواد الغذائية الخاصة بأهل البيت‪ ،‬حيث األول مخصَّص للسكن‪،‬‬
‫ّكن بأريحية كاملة‪.‬‬
‫والثاني مخصَّص للنساءـ‪ ‬ليتحر َ‬
‫وتشتهر المدينة التاريخية المقسَّمة إلى ‪ 3‬أقسام‪ ‬بالمدينة العتيقة‪ ‬حيث السور والجامع‪ ‬وغابة النخيل‪ ،‬والمدينة الحديثة‪ ‬حيث‬
‫المباني الحديثة نسب ًّي ا‪ ،‬وبوجود أقدم المطارات في ليبيا‪ ،‬وهو مطار غدامس القديم‪ ‬الذي ت َّم إنشاؤه إبّان االحتالل الفرنسي‪ ،‬إال‬
‫أنه تقريبًا خارج نطاق الخدمة في الوقت الراهن‪ ،‬هذا بجانب مطار آخر حديث مهيَّأ الستقبال الطائرات العمالقة‪.‬‬
‫ومن أبرز العادات المتوارثة التي يحرص عليها أهالي غدامس‪ ،‬إقامة مهرجان التمور والزيتون‪ ،‬وهو مهرجان سنوي يحضره‬
‫اآلالف من الرواد من داخل ليبيا وخارجها‪ ،‬ويُعت َبر أحد أشهر مهرجاناتـ التمور في العالم لما يتضمّنه من نخبة منتقاة من أجود‬
‫أنواع التمور التي يتميز بها النخيل الليبي الصحراوي‪.‬‬
‫هناك أيضً ا مهرجان غدامس الدولي السنوي‪ ،‬الذي يُقام في أكتوبر‪/‬تشرين األول ونوفمبر‪ /‬تشرين الثاني من كل عام‪ ،‬أحد أشهر‬
‫األحداث الملوَّ نة في الصحراء‪ ،‬ويستمر لفترة ‪ 3‬أيام‪  ‬يحتفي فيها سكان المدينة بالتقاليد التراثية‪ ،‬من لباس بطراز تقليدي ورقص‬
‫وغناء واحتفاالت تراثية كسباق الخيول والجمال‪.‬‬
‫وفي األعراس تحرص الفتيات على ارتداء الحلى التقليدية التراثية التي تتميز بها المرأة الغدامسية‪ ،‬من أبرزها الخلخال الذي‬
‫يُلبس في القدم‪ ،‬وارتداء بعض القطع الفضية المزيَّنة بالعقيق األحمر والتي ُتسمّى بـ"التمشط" و"التكارورت"‪ ،‬بجانب ارتداء‬
‫بعض المالبس المصنوعة من الجلد األحمر المطرّ ز بالحرير والمعروفة بـ"السلفس" وبها تضع المرأة نقودها الخاصة‪.‬‬
‫وفي الوقت الذي تمثله تلك القلعة التاريخية التي جمعت فوق كثبانها العديد من حضارات العالم القديم والحديث‪ ،‬من أهمية‬
‫تراثية تستوجب الرعاية واالهتمام‪ ،‬إذ بها تسقط في ف ّخ التجاهل والتهميش‪ ،‬بل وص َل األمر إلى تهجير السكان من المناطق‬
‫العامرة بالمعالم األثرية إلى األخرى الحديثة باسم التم ُّد ن‪ ،‬لتواجه تلك اآلثار شبح االندثار‪ ،‬رغم ناقوس الخطر الذي د ّقته‬
‫عشرات الكيانات والمنظمات الدولية‪ ..‬فهل تجد تلك الصرخات آذا ًن ا صاغية إلنقاذ تلك اللوحة األثرية العامرة بالكنوز قبل أن‬
‫ُتمحى من ذاكرة التاريخ والجغرافيا معًا؟‬

‫تخطيط المدينة‬
‫كل حي من أحياء المدينة يتألف من شارع رئيسي يكون كبيرا وأكثر اتساعا به عدة أزقة متفرعة اقل عرضا تؤدي الي ممرات‬
‫أضيق تتكون اغلب هذه الشبكة من منحنيات وتقع أبواب المنازل في الشوارع واالزقة والممرات‪ .‬كل حي لديه أماكن عامة‬
‫موقعها مناسب وحجمها أيضا مناسبـ بما في ذلك الجامع الرئيسي وعدد من المساجد وزوايا ومدارسا القران والساحاتـ العامة‬
‫التي تستخدم ألنشطة الثقافية المختلفة‪ .‬بالقرب من المساجد هناك أماكن جلوس شبيهة بالمقاعد لمختلف االعمار وتأخذ أماكنها‬
‫بالقرب او البعد عن المسجد وفق تلك االعمار وفي مواقع استراتيجية على طول الشوارع واالزقة والممرات‪ .‬الشوارع واالزقة‬
‫والممرات مغطاة باستثناء الثقوب والفتحات الضوئية المنتشرة على طول ‪ 10-15‬متر‪ ،‬وتضم األحياء أكثر من ‪ 1600‬مبني‬
‫منها حوالي ‪1350‬منزال ‪242.‬مبنيعام وخاص (محالت تجارية ومخازن وغيرها) و‪ 23‬مسجدا و‪ 10‬زوايا و‪ 10‬مدارس‬
‫قرآنية و‪ 7‬بوابات و‪7‬مداخل‪.‬‬

You might also like