Professional Documents
Culture Documents
كتاب العتصام
للعلمة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى
الشاطبي
خطبة الكتاب
المد ل الحمود على كل حال ،الذي بمده يستفتح كل أمر ذي بال ،خالق اللق لا شاء،
وميسرهم على وفق علمه وإرادته ،ل على وفق أغراضهم لا سر وساء ،ومصرفهم بقتضى
القبضتي ،فمنهم شقي وسعيد ،وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد ،ومسويهم على قبول اللامي
ففاجر وتقي ،كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفي ففقي وغن ،كل منهم جار على ذلك
السلوب فل يعدوه ،فلو تالؤوا على أن يسدوا ذلك الفتق ل يسدوه ،أو يردوا ذلك الكم السابق
ل ينسخوه ول يردوه ،فل إطلق لم على تقييده ول انفصال " ،ول يسجد من ف السماوات
والرض طوعا وكرها وظللم بالغدو والصال " .
والصلة والسلم على سيدنا ومولنا ممد نب الرحة ،وكاشف الغمة ،الذي نسخت شريعته كل
شريعة ،وشلت دعوته كل أمة ،فلم يبق لحد حجة دون حجته ،ول استقام لعاقل طريق سوى ل
حب مجته ،وجعت تت حكمتها كل معن مؤتلف ،فل يسمع بعد وضعها خلف مالف ول
قول متلف ،فالسالك سبيلها معدود ف الفرقة الناجية ،والناكب عنها مصدود إل الفرق القصرة أو
الفرق الغالية .صلى ال عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه النية ،واقتفوا آثاره
اللئحة ،وأنواره الواضحة وضوح الظهية ،وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بي كل نفس فاجرة
ومبورة ،وبي كل حجة بالغة وحجة مبية ،وعلى التابعي لم على ذلك السبيل ،سائر النتمي
إل ذلك القبيل ،وسلم تسليما كثيا .
أما بعد :فإن أذكرك أيها الصديق الوف ،والالصة الصفى ،ف مقدمة ينبغي تقديها قبل الشروع
ف القصود ،وهي معن قول رسول ال صلى ال عليه وسلم .
1
الشاطبي كتاب العتصام
غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوب للغرباء قالوا :يا رسول ال كيف يكون غريبا ؟ قال :كما
يقال للرجل ف حي كذا وكذا إنه لغريب" وف رواية ":أنه سئل عن الغرباء قال :الذين ييون ما
أمات الناس من سنت" .وجلة العن فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والشاهدة ف أول
السلم وآخره ،وذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعثه ال تعال على حي فترة من الرسل ،
وف جاهلية جهلء ،ل تعرف من الق رسا ،ول تقيم به ف مقاطع القوق حكما ،بل كانت
تنتحل ما وجدت عليه آباءها ،وما استحسنه أسلفها ،من الراء النحرفة ،والنحل الخترعة ،
والذاهب البتدعة ،فحي قام فيهم صلى ال عليه وسلم بشيا ونذيرا ،وداعيا إل ال بإذنه وسراجا
منيا ،فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر ،وغيوا ف وجه صوابه بالفك ،ونسبوا إليه إذ خالفهم
ف الشرعة ،ونابذهم ف النحلة ،كل مال ،ورموه بأنواع البهتان ،فتار ًة يرمونه بالكذب وهو
الصادق الصدوق ،الذي ل يربوا عليه قط خبا بلف مبه ،وآونة يتهمونه بالسحر ،وف
علمهم أنه ل يكن من أهله ول من يدعيه ،وكرة يقولون :إنه منون مع تققهم بكمال عقله ،
وبراءته من مس الشيطان وخبلة ،وإذا دعاهم إل عبادة العبود بق وحده ل شريك له ،قالوا " :
أجعل اللة إلا واحدا إن هذا لشيء عجاب " مع القرار بقتضى هذه الدعوة الصادقة " :فإذا ركبوا
ف الفلك دعوا ال ملصي له الدين " وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة ،أنكروا ما يشاهدون من الدلة
على إمكانه ،وقالوا " :أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد " وإذا خوفهم نقمة ال ،قالوا " :اللهم
إن كان هذا هو الق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " اعتراضا على
صحة ما أخبهم به ما هو كائن ل مالة ،وإذا جاءهم بآية خارقة افترقوا ف الضللة على فرق ،
واخترقوا فيها بجرد العناد ما ل يقبله أهل التهدي إل التفرقة بي الق والباطل ،كل ذلك منهم إل
التأسي بم والوافقة لم على ما ينتحلون ،إذ رأوا خلف الخالف لم ف باطلهم ردا لا هم عليه ،
ونبذا لا شدوا عليه يد الظنة ،واعتقدوا إذ ل يتمسكوا بدليل أن اللف يوهن الثقة ويقبح جهة
الستحسان ،وخصوصا حي اجتهدوا ف النتصار بعلم فلم يدوا أكثر من تقليد الباء .ولذلك
أخب ال تعال عن إبراهيم عليه السلم ف ماجة قومه " :ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لا
عاكفي * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك
يفعلون " فحادوا كما ترى عن الواب القاطع الورد ،مورد السؤال إل الستمساك بتقليد الباء .
وقال ال تعال " :أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة
وإنا على آثارهم مهتدون " فرجعوا عن جواب ما ألزموا إل التقليد ،فقال تعال " :قال أو لو
جئتكم بأهدى ما وجدت عليه آباءكم " فأجابوا بجرد النكار ،ركونا إل ما ذكروا من التقليد ل
بواب السؤال .
2
الشاطبي كتاب العتصام
فكذلك كانوا مع النب صلى ال عليه وسلم ،فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم ،لنه خرج
عن معتادهم ،وأتى بلف ما كانوا عليه من كفرهم وضللم ،حت أرادوا أن يستنلوه على وجه
السياسة ف زعمهم ،ليوقعوا بينهم وبي الؤالفة والوافقة ولو ف بعض الوقات ،أو ف بعض
الحوال ،أو على بعض الوجوه ،ويقنعوا منه بذلك ،ليقف لم بتلك الوافقة واهي بنائهم ،فأب
عليه الصلة والسلم إل الثبوت على مض الق والحافظة على خالص الصواب ،وأنزل ال " :قل
يا أيها الكافرون * ل أعبد ما تعبدون " إل آخر السورة ،فنصبوا له عند ذلك حرب العدواة ،
ورموه بسهام القطيعة ،وصار أهل السلم كلهم حربا عليه ،عاد الول الميم ،عليه كالعذاب الليم
،فأقربم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالته ،كأب جهل وغيه ،وألصقهم به رحا ،كانوا
أقسى قلوبا عليه ،فأي غربة توازي هذه الغربة ؟ ومع ذلك فلم يكله ال إل نفسه ،ول سلطهم
على النيل من أذاه ،إل نيل الصلوفي ،بل حفظه وعصمه ،وتوله بالرعاية والكلء ،حت بلغ
رسالة ربه .
ث ما زالت الشريعة ف أثناء نزولا ،وعلى توال تقريرها ،تبعد بي أهلها وبي غيهم ،وتضع
الدود بي حقها وبي ما ابتدعوا ،ولكن على وجه من الكمة عجيب ،وهو التأليف بي أحكامها
وبي أكابرهم ف أصل الدين الول الصيل ،ففي العرب نسبتهم إل أبيهم إبراهيم عليه السلم ،وف
غيهم لنبيائهم البعوثي فيهم ،كقوله تعال بعد ذكر كثي من النبياء " :أولئك الذين هدى ال
فبهداهم اقتده " وقوله تعال " :شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما
وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه كب على الشركي " .
وما زال عليه الصلة والسلم يدعو لا ،فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الختفاء ،خوفا
من عادية الكفار ،زمان ظهورهم على دعوة السلم ،فلما اطلعوا على الخالفة أنفوا ،وقاموا
وقعدوا ،فمن أهل السلم من لأ إل قبيلة فحموه على إغماض ،أو على دفع العار ف الخفار .
ومنهم من فر من الذاية وخوف الغرة ،هجرةً إل ال وحبا ف السلم .ومنهم من ل يكن له وزر
يميه ،ول ملجأ يركن إليه ،فلقي منهم من الشدة والغلطة والعذاب أو القتل ما هو معلوم ،حت
زل منهم من زل فرجع أمره بسبب الرجوع إل الوافقة ،وبقي منهم من بقي صابرا متسبا ،إل أن
أنزل ال تعال الرخصة ف النطق بكلمة الكفر على حكم الوافقة ظاهرا ،ليحصل بينهم وبي الناطق
الوافقة ،وتزول الخالفة ،فنل إليها من نزل على حكم التقية ،ريثما يتنفس من كربه ويتروح من
خناقه ،وقلبه مطمئن باليان .وهذه غربة أيضا ظاهرة ،وإنا كان هذا جهلً منهم بواقع الكمة ،
وأن ما جائهم به نبيهم صلى ال عليه وسلم هو الق ضد ما هم عليه ،فمن جهل شيئا عاداه ،فلو
علموا لصل الوفاق ،ول يسمع اللف ،ولكن سابق القدر حتم على اللق ما هم عليه قال ال
تعال " :ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك " .
3
الشاطبي كتاب العتصام
ث استمر تزيد السلم ،واستقام طريقه على مدة حياة النب صلى ال عليه وسلم ،ومن بعد موته
وأكثر قرن الصحابة رضي ال عنهم ،إل أن نبغت فيهم نوابغ الروج عن السنة ،واصغوا إل البدع
الضلة كبدعة القدر وبدعة الوارج وهي الت نبه عليها الديث بقوله " :يقتلون أهل السلم ،
ويدعون أهل الوثان ،يقرؤون القرآن ل ياوز تراقيهم" يعن ل يتفقهون فيه ،بل يأخذونه على
الظاهر :كما بينه حديث ابن عمر الت بول ال .وهذا كله ف آخر عهد الصحابة .
ث ل تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى ال عليه وسلم ف قوله :
"افترقت اليهود على إحدى وسبعي فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمت على ثلث وسبعي فرقة"
وف الديث الخر :
"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبا بشب وذراعا بذراع حت لو دخلوا ف جحر ضب لتبعتموهم قلنا
يا رسول ال اليهود والنصارى ؟ قال :فمن ؟" وهذا أعم من الول فإن الول عند كثي من أهل
العلم خاص بأهل الهواء وهذا الثان عام ف الخالفات ،ويدل على ذلك من الديث قوله " :حت
لو دخلوا ف جحر ضب لتبعتموهم" .
وكل صاحب مالفة فمن شأنه أن يدعو غيه إليها ،ويص سؤاله بل سواه عليها ،إذ التأسي ف
الفعال والذاهب موضوع طلبه ف البلة ،وبسببه تقع ف الخالف الخالفة ،وتصل من الوافق
الؤالفة ،ومنه تنشأ العدواة والبغضاء للمختلفي .
كان السلم ف أوله وجدته مقاوما بل ظاهرا ،وأهله غالبون وسوادهم أعظم السودة ،فخل من
وصف الغربة بكثرة الهل والولياء الناصرين ،فلم يكن لغيهم من ل يسلك سبيلهم أو سلكه
ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ،ول قوة يضعف دونا حزب ال الفلحون ،فصار على
استقامة ،وجرى على اجتماع واتساق ،فالشاذ مقهور مضطهد ،إل أن أخذ اجتماعه ف الفتراق
الوعود ،وقوته إل الضعف النتظر ،والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده ،واقتضى سر التأسي
الطالبة بالوافقة ول شك أن الغالب أغلب ،فتكالبت على سواد السنة البدع والهواء ،فتفرق
أكثرهم شيعا .وهذه سنة ال ف اللق :إن أهل الق ف جنب أهل الباطل قليل لقوله تعال " :وما
أكثر الناس ولو حرصت بؤمني " وقوله تعال " :وقليل من عبادي الشكور " ولينجز ال ما وعد به
نبيه صلى ال عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه ،فإن الغربة ل تكون إل مع فقد الهل أو
قلتهم ،وذلك حي يصي العروف منكرا ،والنكر معروفا ،وتصي السنة بدع ًة ،والبدعة سنة ،
فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف ،كما كان أولً يقام على أهل البدعة طمعا من البتدع أن
تتمع كلمة الضلل ،ويأب ال أن تتمع حت تقوم الساعة ،فل تتمع الفرق كلها على كثرتا على
مالفة السنة عادة وسعا ،بل ل بد أن تثبت جاعة أهل السنة حت يأت أمر ال ،غي أنم لكثرة ما
تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إل موافقتهم ،ل يزالون ف جهاد
4
الشاطبي كتاب العتصام
ونزاع ،ومدافعة وقراع ،آناء الليل والنهار ،وبذلك يضاعف ال لم الجر الزيل ويثيبهم الثواب
العظيم .
فقد تلخص ما تقدم أن مطالبة الخالفة بالوافقة جار مع الزمان ل يتص بزمان دون زمان ،فمن
وافق فهو عند الطالب الصيب على أي حال كان ،ومن خالف فهو الخطىء الصاب ،ومن وافق
فهو الحمود السعيد ،ومن خالف فهو الذموم الطرود ،ومن وافق فقد سلك سبيل الداية ،ومن
خالف فقد تاه ف طرق الضللة والغواية .
وإنا قدمت هذه القدمة لعن أذكره .وذلك أن ول المد ل أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر
العلم طلب ،أنظر ف عقلياته ،وشرعياته ،وأصوله وفروعه ل أقتصر منه على علم دون علم ،ول
أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر ،حسبما اقتضاه الزمان والكان ،وأعطته النة الخلوقة ف أصل
فطرت ،بل خضت ف لجه خوض الحسن للسباحة ،وأقدمت ف ميادينه إقدام الريء ،حت
كدت أتلف ف بعض أعماقه ،أو أنقطع ف رفقت ،الت بالنس با تاسرت على ما قدر ل ،غائبا
عن مقال القائل وعذل العاذل ،ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللئم ،إل أن من علي الرب الكري ،
الرؤوف الرحيم ،فشرح ل من معان الشريعة ما ل يكن ف حساب ،وألقى ف نفسي القاصرة أن
كتاب ال وسنة نبيه ل يتركا ف سبيل الداية لقائل ما يقول ول أبقيا لغيها مالً يعتد فيه ،وإن
الدين قد كمل ،والسعادة الكبى فيما وضع ،والطلبة فيما شرع ،وما سوى ذلك فضلل
وبتان ،وإفك وخسران ،وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى ،مصل لكليت
الي دنيا وأخرى ،وما سواها فأحلم وخيالت وأوهام ،وقام ل على صحة ذلك البهان الذي ل
شبهة تطرق حول حاه ،ول ترتي نو مرماه " :ذلك من فضل ال علينا وعلى الناس ولكن أكثر
الناس ل يشكرون " والمد ل والشكر كثيا كما هو أهله .فمن هنالك قويت نفسي على الشي
ف طريقه بقدار ما يسر ال فيه ،فابتدأت بأصول الدين عملً واعتقادا ،ث بفروعه البينة على تلك
الصول ،وف خلل ذلك أبي ما هو من السنن أو من البدع ،كما أبي ما هو من الائز وما هو
من المتنع ،وأعرض ذلك على علم الصول الدينية والفقهية ،ث أطالب نفسي بالشي مع للجماعة
الت ساها رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسواد العظم ،ف الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه
وترك البدع الت نص عليها العلماء أنا بدع وأعمال متلفة .
وكنت ف اثناء ذلك قد دخلت ف بعض خطط المهور من الطابة والمامة ونوها فلما أردت
الستقامة على الطريق ،وجدت نفسي غريبا ف جهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها
العوائد ،ودخلت على سننها الصلية شوائب من الحدثات الزوائد ،ول يكن ذلك بدعا ف الزمنة
التقدمة ،فكيف ف زماننا هذا فقد روي عن السلف الصال من التنبيه على ذلك كثي ،كما" روي
عن أب الدرداء أنه قال :لو خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم عليكم ما عرف شيئا ما كان عليه
5
الشاطبي كتاب العتصام
هو وأصحابه إل الصلة" .قال الوزاعي :فكيف لو كان اليوم ؟ قال عيسى بن يونس :فكيف لو
أدرك الوزاعي هذا الزمان ؟
وعن أم الدرداء قالت :دخل أبو الدراداء وهو غضبان ،فقلت :ما أغضبك ؟ فقال :وال ما أعرف
فيهم شيئا من أمر ممد إل أنم يصلون جيعا .
وعن أنس بن مالك قال :ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم
غي قولكم :ل إله إل ال .قلنا :بلى يا أبا حزة ؟ قال :قد صليتم حت تغرب الشمس ،أفكانت
تلك صلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ وعن أنس قال :لو أن رجلً أدرك السلف الول ث
بعث اليوم ما عرف من السلم شيئا ،قال :ووضع يده على خده ث قال :إل هذه الصلة ،ث
قال :أما وال على ذلك لن عاش ف النكر ول يدرك ذلك السلف الصال فرأى مبتدعا يدعو إل
بدعته ،ورأى صاحب دنيا يدعو إل دنياه ،فعصمه ال من ذلك ،وجعل قلبه ين إل ذلك السلف
الصال ،يسأل عن سبلهم ،ويقتص آثارهم ،ويتبع سبيلهم ،ليعوض أجرا عظيما ،وكذلك
فكونوا إن شاء ال .
وعن ميمون بن مهران قال :لو أن رجلً أنشر فيكم من السلف ما عرف غي هذه القبلة .
وعن سهل بن مالك عن أبيه قال :ما أعرف شيئا ما أدركت عليه الناس إل النداء بالصلة .إل ما
أشبه هذا من الثار الدالة على أن الحدثات ،تدخل ف الشروعات ،وأن ذلك قد كان قبل زماننا ،
وإنا تتكاثر على توال الدهور إل الن .
فتردد النظر بي أن أتبع السنة على شرط مالفة ما اعتاد الناس فل بد من حصول نو ما حصل
لخالفي العوائد ،ول سيما إذا ادعى أهلها أم ما هم عليه هو السنة ل سواها إل أن ف ذلك العبء
الثقيل ما فيه من الجر الزيل وبي أن أتبعهم على شرط مالفة السنة والسلف الصال ،فأدخل تت
ترجة الضلل عائذا بال من ذلك ،إل أن أوافق العتاد ،وأعد من الؤالفي ،ل من الخالفي ،
فرأيت أن اللك ف أتباع السنة هو النجاة ،وأن الناس لن يغنوا عن من ال شيئا ،فأخذت ف ذلك
على حكم التدريج ف بعض المور ،فقامت علي القيامة ،وتواترت علي اللمة ،وفوق إل العتاب
سهامه ،ونسبت إل البدعة والضللة ،وأنزلت منلة أهل الغباوة والهالة ،وإن لو التمست لتلك
الحدثات مرجا لوجدت ،غي أن ضيق العطن ،والبعد عن أهل الفطن ،رقى ب مرتقى صعبا
وضيق علي مالً رحبا ،وهو كلم يشي بظاهره إل أن اتباع التشابات ،لوافقات العادات ،أول
من اتباع الواضحات ،وإن خالفت السلف الول .
وربا ألوا ف تقبيح ما وجهت إليه وجهت با تشمئز منه القلوب ،أو خرجوا بالنسبة إل بعض الفرق
الارجة عن السنة شهادة ستكب ويسألون عنها يوم القيامة فتارةً نسبت إل القول بأن الدعاء ل
6
الشاطبي كتاب العتصام
ينفع ول فائدة فيه كما يعزى إل بعض الناس ،بسبب أن ل ألتزم الدعاء بيئة الجتماع ف أدبار
الصلة حالة المامة .وسيأت ما ف ذلك من الخالفة للسنة وللسلف الصال والعلماء .
وتارةً نسبت إل الرفض وبغض الصحابة رضي ال عنهم ،بسبب أن ل ألتزم ذكر اللفاء الراشدين
منهم ف الطبة على الصوص ،إذ ل يكن ذلك من شأن السلف ف خطبهم ،ول ذكره أحد من
العلماء العتبين ف أجزاء الطب .وقد سئل ( أصبغ ) عن دعاء الطيب للخلفاء التقدمي فقال :
هو بدعة ول ينبغي العمل به ،وأحسنه أن يدعو للمسلمي عامة .قيل له :فدعاؤه للغزاة
والرابطي ؟ قال :ما أرى به بأسا عند الاجة إليه ،وأما أن يكون شيئا يصمد له ف خطبته دائما
فإن أكره ذلك .ونص أيضا عز الدين بن عبد السلم :على أن الدعاء للخلفاء ف الطبة بدعة غي
مبوبة .
وتارةً أضيف إل القول بواز القيام على الئمة ،وما أضافوه إل من عدم ذكري لم ف الطبة ،
وذكرهم فيه مدث ل يكن عليه من تقدم .
وتارة أحل على التزام الرج والتنطع ف الدين ،وإنا حلهم على ذلك أن التزمت ف التكليف
والفتيا المل على مشهور الذهب اللتزم ل أتعداه ،وهم يتعدونه ويفتون با يسهل على السائل
ويوافق هواه ،وإن كان شاذا ف الذهب اللتزم أو ف غيه وأئمة أهل العلم على خلف ذلك
وللمسألة بسط ف كتاب ( الوافقات ) .
وتارةً نسبت إل معاداة أولياء ال ،وسبب ذلك أن عاديت بعض الفقراء البتدعي الخالفي للسنة
النتصبي بزعمهم لداية اللق ،وتكلمت للجمهور على جلة من أحوال هؤلء الذين نسبوا إل
الصوفية ول يتشبهوا بم .
وتارةً نسبت إل مالفة السنة والماعة ،بناءً منهم على أن الماعة الت أمر بأتباعها وهي الناجية ما
عليه العموم ،ول يعلموا أن الماعة ما كان عليه النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه والتابعون لم
بإحسان .وسيأت بيان ذلك بول ال ،وكذبوا علي ف جيع ذلك ،أو وهوا ،والمد ل على كل
حال .
فكنت على حالة تشبه حالة المام الشهي عبد الرحن بن بطة الافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن
نفسه فقال :عجبت من حال ف سفري وحضري مع القربي من والبعدين ،والعارفي
والنكرين ،فإن وجدت بكة وخراسان وغيها من الماكن أكثر من لقيت با موافقا أو مالفا ،
دعان إل متابعته على ما يقوله ،وتصديق قوله والشهادة له ،فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت
له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان ـ سان موافقا وإن وقفت ف حرف من قوله أو ف شيء من
فعله ـ سان مالفا ،وإن ذكرت ف واحد منها أن الكتاب والسنة بلف ذلك وارد ،سان
خارجيا ،وإن قرأت عليه حديثا ف التوحيد سان مشبها ،وإن كان ف الرؤية سان ساليا ،وإن
7
الشاطبي كتاب العتصام
كان ف اليان سان مرجئيا ،وإن كان ف العمال ،سان قدريا ،وإن كان ف العرفة سان كراميا
،وإن كان ف فضائل أب بكر وعمر ،سان ناصبيا ،وإن كان ف فضائل أهل البيت سان رافضيا ،
وإن سكت عن تفسي آية أو حديث فلم أجب فيهما إل بما ،سان ظاهريا ،وإن أجبت بغيها ،
سان باطنيا ،وإن أجبت بتأويل ،سان أشعريا وإن جحدتما ،سان معتزليا ،وإن كان ف السنن
مثل القراءة ،سان شفعويا ،وإن كان ف القنوت ،سان حنفيا ،وإن كان ف القرآن ،سان
حنبليا ،وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الخبار ـ إذ ليس ف الكم والديث
ماباة ـ قالوا :طعن ف تزكيتهم ،ث أعجب من ذلك أنم يسمونن فيما يقرؤون علي من أحاديث
رسول ال صلى ال عليه وسلم ما يشتهون من هذه السامي ،ومهما وافقت بعضهم عادان غيه ،
وإن داهنت جاعتهم أسخطت ال تبارك وتعال ،ولن يغنوا عن من ال شيئا .وإن مستمسك
بالكتاب والسنة وأستغفر ال الذي ل إله إل هو وهو الغفور الرحيم .
ل مذكورا هذا تام الكاية فكأنه رحه ال تكلم على لسان الميع .فقلما تد عالا مشهورا أو فاض ً
،إل وقد نبذ بذه المور أو بعضها ،لن الوى قد يداخل الخالف ،بل سبب الروج عن السنة
الهل با ،والوى التبع الغالب على أهل اللف ،فإذا كان كذلك حل على صاحب السنة ،إنه
غي صاحبها ،ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله ،حت ينسب هذه الناسب .
وقد نقل عن السيد العباد بعد الصحابة ( أويس ) القرن أنه قال :إن المر بالعروف والنهي عن
النكر ل يدعا للمؤمن صديقا ،نأمرهم بالعروف فيشتمون أعراضنا ويدون ف ذلك أعوانا من
الفاسقي ،حت ـ وال لقد رمون بالعظائم ،وأي ال ل أدع أن أقوم فيهم بقه .
فمن هذا الباب يرجع السلم غريبا كما بدأ ،لن الؤالف فيه على وصفه الول قليل ،فصار
الخالف هو الكثي ،فاندرست رسوم السنة حت مدت البدع أعناقها ،فأشكل مرماها على المهور
فظهر مصداق الديث الصحيح .
ولا وقع علي من النكار ما وقع مع ما هدى ال إليه وله المد ،ل أزل أتبع البدع الت نبه عليها
رسول ال صلى ال عليه وسلم وحذر منها ،وبي أنا ضللة وخروج عن الادة وأشار العلماء إل
تييزها والتعريف بملة منها ،لعلي أجتنبها فيما استطعت ،وأبث عن السنن الت كادت تطفىء
نورها تلك الحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها ،وأعد يوم القيامة فيمن أحياها ،إذ ما من بدعة
تدث إل ويوت من السنن ما هو ف مقابلتها ،حسبما جاء عن السلف ف ذلك .فعن ابن عباس
قال :ما يأت على الناس من عام إل أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ،حت تيا البدعة وتوت السنن
.وف بعض الخبار :ل يدث رجل بدعة إل ترك من السنة ما هو خي منها .وعن لقمان بن أب
إدريس الولن أنه كان يقول :ما أحدثت أمة ف دينها بدعة إل رفع با عنهم سنة .وعن حسان
8
الشاطبي كتاب العتصام
بن عطية قال :ما أحدث قوم بدعة ف دينهم إل نزع ال من سنتهم مثلها ث ل يعدها إليهم إل يوم
القيامة ،إل غي ذلك ما جاء ف هذا العن وهو مشاهد معلوم حسبما يأت بيانه إن شاء ال تعال .
وجاء من الترغيب ف إحياء السنن ما جاء .فقد خرج ابن وهب حديثا عن النب صلى ال عليه
وسلم أنه قال :
" من أحيا سنة من سنت قد أميتت بعدي فإن له من الجر مثل من عمل با من الناس ل ينقص ذلك
من أجورهم شيئا ،ومن ابتدع بدعة ضللة ل يرضاها ال رسوله فإن عليه إث من عمل با ل ينقص
ذلك من آثام الناس شيئا" وأخرجه الترمذي باختلف ف بعض اللفاظ مع اتفاق العن وقال فيه :
حديث حسن .
وف الترمذي "عن أنس قال :قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم :
يا بن إن قدرت أن تصبح وتسي ليس ف قلبك غش لحد فافعل ث قال ل :يا بن وذلك من
سنت ،ومن أحيا سنت فقد أحبن ،ومن أحبن كان معي ف النة" حديث حسن .
فرجوت بالنظر ف هذا الوضع النتظام ف سلك من أحيا سنة وأمات بدعة .وعلى طول العهد
ودوام النظر اجتمع ل ف البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة ،وفروع طالت أفنانا لكنها
تنتظمها تلك الصول ،وقلما توجد على الترتيب الذي سنح ف الاطر ،فمالت إل بثها النفس ،
ورأت أنه من الكيد الطلب لا فيه من رفع اللتباس الناشىء بي السنن والبدع ،لنه لا كثرت
البدع وعم ضررها ،واستطار شررها ،ودام الكباب على العمل با ،والسكوت من التأخرين عن
النكار لا ،وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها ،صارت كأنا
سنن مقررات ،وشرائع من صاحب الشرع مررات ،فاختلط الشروع بغيه ،فعاد الراجع إل
مض السنة كالارج عنها كما تقدم ،فالتبس بعضها ببعض ،فتأكد الوجوب بالنسبة إل من عنده
فيها علم ،وقلما صنف فيها على الصوص تصنيف ،وما صنف فيها فغي كاف ف هذه الواقف ،
مع أن الداخل ف هذا المر اليوم فاقد الساعد ،عدي العي ،فالوال ل يلد به إل الرض ،ويلقي
له باليد إل العجز عن بث الق ،بعد رسوخ العوائد ف القلوب ،والعادي يريسه بالردبيس ويروم
أخذه بالعذاب البئيس ،لنه يرد عوائده الراسخة ف القلوب ،التداولة ف العمال ،دينا يتعبد به ،
وشريعة يسلك عليها ل حجة له إل عمل الباء والجداد ،مع بعض الشياخ العالي ،كانوا من
أهل النظر ف هذه المور أم ل .ول يلتفتوا إل أنم عند موافقتهم للباء والشياخ مالفون للسلف
الصال ،فالعترض لثل هذا المر ينحو نو عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ف العمل حيث قال :
أل وإن أعال أمرا ل يعي عليه إل ال قد فن عليه الكبي ،وكب عليه الصغي ،وفصح عليه
العجمي ،وهاجر عليه العراب ،حت حسبوه دينا ل يرون الق غيه .
9
الشاطبي كتاب العتصام
وكذلك ما نن بصدد الكلم عليه ،غي أنه أمر ل سبيل إل إهاله ،ول يسع أحدا من له منة إل
الخذ بالزم والعزم ف بثه ،بعد تصيله على كماله ،وإن كره الخالف فكراهيته ل حجة فيها على
الق إل يرفع منارة ،ول تكشف وتلى أنواره ،فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده "إل أب هريرة
أن النب صلى ال عليه وسلم قال له :
يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه ،فإنك إن مت وأنت كذلك زارت اللئكة قبك كما يزار
البيت العتيق ،وعلم الناس سنت وإن كرهوا ذلك ،وإن أحببت أل توقف على الصراط طرفة عي
حت تدخل فل تدث ف دين ال حدثا برأيك" .
قال أبو عبد ال بن القطان :وقد جع ال له ذلك كله من إفراء كتاب ال والتحديث بالسنة ،أحب
الناس أم كرهوا ،وترك الدث حت إنه كان ل يتأول شيئا ما روى تتميما للسلمة من الطأ .
على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إل مالك بن أنس :إن بلدنا كثي البدع
وإنه ألف كلما ف الرد عليهم .فكتب إليه مالك يقول له :إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل
فتهلك ،ل يرد عليهم إل من كان ضابطا عارفا با يقول لم ل يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا ل
بأس به ،وأما غي ذلك فإن أخاف أن يكلمهم فيخطىء فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء
فيطغوا ويزدادوا تاديا على ذلك .
وهذا الكلم يقضي لثلي بالحجام دون القدام ،وشياع هذا النكر وفشوا العمل به وتظاهر أصحابه
يقضي لن له بذا القام منة بالقدام دون الحجام ،لن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غي
مغي ملء أعنتها .
وحكى ابن وضاح عن غي واحد :أن أسد بن موسى كتب إل أسد بن الفرات :اعلم يا أخي أن
ما حلن على الكتب إليك ما أنكر أهل بلدك من صال ما أعطاك ال من إنصافك الناس ،وحسن
حالك ما أظهرت من السنة .وعيبك لهل البدع وكثرة ذكرك لم وطعنك عليهم ،فقمعهم ال
بك ،وشد بك ظهر أهل السنة ،وقواك عليهم بإظهار عيبهم ،والطعن عليهم ،واذلم ال بذلك
وصاروا ببدعتهم مستترين .فأبشر يا أخي بثواب ال ،واعتد به من أفضل حسناتك من الصلة
والصيام والج والهاد .وأين تقع هذه العمال من إقامة كتاب ال وإحياء سنة رسول ال صلى ال
عليه وسلم ؟! وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"ومن أحيا شيئا من سنت كنت أنا وهو ف النة كهاتي وضم بي إصبعيه ،وقال أيا داع دعا إل
هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إل يوم القيامة" ،فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من
عمله ؟! وذكر أيضا :إن ل عند كل بدعة كيد با السلم وليا ل يذب عنها ،وينطق بعلمتها ،
فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله " ،فإن النب صلى ال عليه وسلم قال لعاذ حي بعثه إل
اليمن فأوصاه وقال :
10
الشاطبي كتاب العتصام
ل واحدا خي لك من كذا وكذا" .وأعظم القول فيه ،فاغتنم ذلك وادع إل لن يهدي ال بك رج ً
السنة حت يكون لك ف ذلك ألفة وجاعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ،فيكونون أئمة
بعدك فيكون لك ثواب إل يوم القيامة كما جاء الثر .فاعمل على بصية ونية حسنة فيد ال بك
البتدع والفتون الزائغ الائر ،فتكون خلفا من نبيك صلى ال عليه وسلم فأحي كتاب ال وسنة نبيه
،فإنك لن تلقى ال بعمل يشبهه .
انتهى ما قصدت إيراده من كلم أسد رحه ال .وهو ما يقوي جانب القدام مع ما روي عن عمر
بن عبد العزيز رضي ال عنه أنه خطب الناس فكان من جلة كلمه ف خطبته أن قال :وال إن لول
أن أنعش سنة قد أميتت ،أو أن أميت بدعة قد أحييت ،لكرهت أن أعيش فيكم فواقا .
وخرج ابن وضاح ف كتاب القطعان وحديث الوزاعي أنه بلغه عن السن أنه قال :لن يزال ل
نصحاء ف الرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب ال فإذا وافقوه حدوا ال ،وإذا
خالفوه عرفوا بكتاب ال ضللة من ضل وهدى من اهتدى ،فأولئك خلفاء ال .
وفيه عن سفيان قال :اسلكوا سبيل الق ول تستوحشوا من قلة أهله .فوقع الترديد بي النظرين .
ث إن أخذت ف ذلك مع بعض الخوان الذين أحللتهم من قلب مل السويداء وقاموا ل ف عامة
أدواء نفسي مقام الدواء ،فرأوا أنه من العمل الذي ل شبهة ف طلب الشرع نشره ،ول إشكال ف
أنه بسب الوقت من أوجب الواجبات ،فاستخرت ال تعال ف وضع كتاب يشتمل على بيان
البدع وأحكامها وما يتعلق با من السائل أصولً وفروعا وسيته بـ العتصام .وال أسأل أن يعله
عملً خالصا ،ويعل ظل الفائدة به مدودا ل قالصا ،والجر على العناء فيه كاملً ل ناقصا ،ول
حول ول قوة إل بال العلي العظيم .
وينحصر الكلم فيه بسب الغرض القصود ف جلة أبواب وف كل باب منها فصول اقتضاها بسط
السائل النحصرة فيه وما انر معها من الفروع التعلقة به .
الباب الول ف تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا
وأصل مادة بدع للختراع على غي مثال سابق ،ومنه قول ال تعال " :بديع السموات والرض"
أي مترعها من غي مثال سابق متقدم ،وقوله تعال " :قل ما كنت بدعا من الرسل" أي ما كنت
أول من جاء بالرسالة من ال إل العباد بل تقدمن كثي من الرسل ،ويقال :ابتدع فلن بدعة يعن
ابتدأ طريقة ل يسبقه إليها سابق .وهذا أمر بديع ،يقال ف الشيء الستحسن الذي ل مثال له ف
السن ،فكأنه ل يتقدمه ما هو مثله ول ما يشبهه .
11
الشاطبي كتاب العتصام
ومن هذا العن سيت البدعة بدعة ،فاستخراجها للسلوك عليها هو البتداع ،وهيئتها هي البدعة ،
وقد يسمى العلم العمول على ذلك الوجه بدعة ،فمن هذا العن سي العمل الذي ل دليل عليه ف
الشرع بدعة ،وهو إطلق أخص منه ف اللغة حسبما يذكر بول ال .
ثبت ف علم الصول أن الحكام التعلقة بأفعال العباد وأقوالم ثلثة :حكم يقتضيه معن المر ،
كان للياب أو الندب .وحكم يقتضيه معن النهي ،كان للكراهة أو التحري .وحكم يقتضيه
معن التخيي ،وهو الباحة .فأفعال العباد وأقوالم ،ل تعدو هذه القسام الثلثة :مطلوب فعله ،
ومطلوب تركة ،ومأذون ف فعله وتركه .والطلوب تركه ل يطلب تركه إل لكونه مالفا للقسمي
الخيين ،لكنه على ضربي :
أحدها :أن يطلب تركه ،وينهى عنه لكونه مالفة خاصة مع مرد النظر عن غي ذلك ،وهو إن
ل معصية وإثا ،وسي فاعله عاصيا وآثا وإل ل يسم بذلك ،ودخل ف حكم كان مرما سي فع ً
العفو حسبما هو مبي ف غي هذا الوضع ،ول يسمى بسب الفعل جائزا ول مباحا ،لن المع
بي الواز والنهي ،جع بي متنافيي .
والثان :أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الدود ،وتعيي
الكيفيات ،والتزام اليئات العينة أو الزمنة العينة مع الدوام ونو ذلك .
وهذا هو البتداع والبدعة ،ويسمى فاعله مبتدعا ،فالبدعة إذن عبارة عن طريقة ف الدين مترعة
تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها البالغة ف التعبد ل سبحانه ،وهذا على رأي من ل يدخل
العادات ف معن البدعة ،وإنا يصها بالعبادات ،وأما على رأي من أدخل العمال العادية ف معن
البدعة فيقول :البدعة طريقة ف الدين مترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد
بالطريقة الشرعية ،ول بد من بيان ألفاظ هذا الد .فالطريقة ،والطريق والسبيل والسنن هي بعن
واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنا قيدت بالدين لنا فيه تترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضا فلو
كانت طريقة مترعة ف الدنيا على الصوص ل تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان الت ل عهد با
فيما تقدم .
ولا كانت الطرائق ف الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل ف الشريعة ،ومنها ما ليس له أصل فيها ـ
خص منها ما هو القصود بالد وهو القسم الخترع ،أي طريقة ابتدعت على غي مثال تقدمها من
الشارع ،إذ البدعة إنا خاصتها أنا خارجة عما رسه الشارع ،وبذا القيد انفصلت عن كل ما
ظهر لبادي الرأي أنه مترع ما هو متعلق بالدين ،كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول
الفقه وأصول الدين ،وسائر العلوم الادمة للشريعة .فإنا وإن ل توجد ف الزمان الول فأصولا
موجودة ف الشرع ،إذ المر بإعراب القرآن منقول ،وعلوم اللسان هادية للصواب ف الكتاب
والسنة فحقيقتها إذا أنا فقه التعبد باللفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤذي .
12
الشاطبي كتاب العتصام
وأصول الفقه إنا معناها استقراء كليات الدلة حت تكون عند الجتهد نصب عي وعند الطالب
سهلة اللتمس .
وكذلك أصول الدين ،وهو علم الكلم ،إنا حاصله تقرير لدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها ف
التوحيد وما يتعلق به ،كما كان الفقه تقريرا لدلتها ف الفروع العبادية .
( فإن قيل ) :فإن تصنيفها على ذلك الوجه مترع .
( فالواب ) :أن له أصلً ف الشرع ،ففي الديث ما يدل عليه ،ولو سلم أنه ليس ف ذلك دليل
على الصوص ،فالشرع بملته يدل على اعتباره ،وهو مستمد من قاعدة الصال الرسلة ،وسيأت
بسطها بول ال .
فعلى القول بإثباتا أصلً شرعيا ل إشكال ف أن كل علم خادم للشريعة داخل تت أدلته الت ليست
بأخوذة من جزئي واحد ،فليست ببدعة البتة .
وعلى القول بنفيها ل بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات ،إذا دخلت ف علم البدع كانت قبيحة ،
لن كل بدعة ضللة من غي إشكال ،كما يأت بيانه إن شاء ال .
ويلزم من ذلك أن يكون كتب ا لصحف وجع القرآن قبيحا ،وهو باطل بالجاع فليس أذا ببدعة
.
ويلزم أن يكون له دليل شرعي ،وليس إل هذا النوع من الستدلل ،وهو الأخوذ من جلة الشريعة
.
وإذا ثبت جزئي ف الصال الرسلة ،ثبت مطلق الصال الرسلة .
فعلى هذا ل ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيه من علوم اللسان أو علم الصول أو ما أشبه ذلك
ل.من العلوم الادمة للشريعة ،بدعة أص ً
ومن ساه بدعة فإما على الجاز كما سى عمر بن الطاب رضي ال عنه قيام الناس ف ليال رمضان
بدعة ،وإما جهلً بواقع السنة والبدعة ،فل يكون قول من قال ذلك معتدا به ول معتمدا عليه .
وقوله ف الد تضاهي الشرعية يعن أنا تشابه الطريقة الشرعية من غي أن تكون ف القيقة
كذلك ،بل هي مضادة لا من أوجه متعددة .
منها :وضع الدود كالناذر للصيام قائما ل يقعد ،ضاحيا ل يستظل ،والختصاص ف النقطاع
للعبادة ،والقتصار من الأكل واللبس على صنف دون صنف من غي علة .
ومنها :التزام الكيفيات واليئات العينة ،كالذكر بيئة الجتماع على صوت واحد ،واتاذ يوم
ولدة النب صلى ال عليه وسلم عيدا ،وما أشبه ذلك .
ومنها :التزام العبادات العينة ف أوقات معينة ل يوجد لا ذلك التعيي ف الشريعة ،كالتزام صيام يرم
النصف من شعبان وقيام ليلته .
13
الشاطبي كتاب العتصام
وث أوجه تضاهي با البدعة المور الشروعة ،فلو كانت ل تضاهي المور الشروعة ل تكن بدعة
ـ لنا تصي من باب الفعال العادية .
وأيضا فإن صاحب البدعة إنا يترعها ليضاهي با السنة حت يكون ملبسا با على الغي ،أو تكون
هي ما تلتبس عليه بالسنة ،إذ النسان ل يقصد الستتباع بأمر ل يشابه الشروع ،لنه إذ ذاك ل
يستجلب به ف ذلك البتداع نفعا ول يدفع به ضررا ،ول ييبه غيه إليه .
ولذلك تد البتدع ينتصر لبدعته بأمور تيل التشريع ولو بدعوى القتداء بفلن العروف منصبه ف
أهل الي .
فأنت ترى العرب الاهلية ف تغيي ملة إبراهيم عليه السلم كيف تأولوا فيما أحدثوا احتجاجا
منهم ،كقولم ف أصل الشراك "ما نعبدهم إل ليقربونا إل ال زلفى" وكترك المس الوقوف بعرفة
لقولم :ل نرج من الرم اعتدادا برمته .وطواف من طاف منهم بالبيت عريانا قائلي :ل
نطوف بثياب عصينا ال فيها ،وما أشبه ذلك ما وجهوه ليصيوه بالتوجيه كالشروع ،فما ظنك
بن عد أو عد نفسه من خواص أهل اللة؟ فهم أحرى بذلك ،وهم الخطئون وظنهم الصابة ،وإذا
تبي هذا ظهر أن مضاهاة المور الشروعة ضرورية الخذ ف أجزاء الد .
وقوله :يقصد بالسلوك عليها البالغة ف التعبد ل تعال هو تام معن البدعة إذ هو القصود
بتشريعها .
وذلك أن أصل الدخول فيها يث على النقطاع إل العبادة والترغيب ف ذلك ،لن ال تعال يقول
" :وما خلقت الن والنس إل ليعبدون" فكأن البتدع رأى أن القصود هذا العن ،ول يتبي له أن
ما وضعه الشارع فيه من القواني والدود كاف ،فرأى من نفسه أنه ل بد لا أطلق المر فيه من
قواني منضبطة ،وأحوال مرتبطة ،مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته ،فدخلت
ف هذا الضبط شائبة البدعة .
وأيضا فإن النفوس قد تل وتسأم من الدوام على العبادات الرتبة ،فإذا جدد لا أمر ل تعهده ،
حصل با نشاط آخر ل يكون لا مع البقاء على المر الول ،ولذلك قالوا ( :لكل جديد لذة )
بكم هذا العن ،كمن قال :كما تدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ،فكذلك
تدث لم مرغبات ف الي بقدر ما حدث لم من الفتور .
وف حديث معاذ بن جبل رضي ال عنه :فيوشك قائل أن يقول ما هم بتبعي فيتبعون وقد قرأتك
القرآن فل يتتبعن حت أبتدع لم غيه .فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضللة .
وقد تبي بذا القيد أن البدع ل تدخل ف العادات .فكل ما اخترع من الطرق ف الدين ما يضاهي
الشروع ول يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ،كالغارم اللزمة على الموال وغيها على
نسبة مصوصة وقدر مصوص ما يشبه فرض الزكوات ول يكن إليها ضرورة .
14
الشاطبي كتاب العتصام
وكذلك اتاذ الناخل وغسل اليد بالشنان وما أشبه ذلك من المور الت ل تكن قبل ،فإنا ل
تسمى بدعا على إحدى الطريقتي .
وأما الد على الطريقة الخرى فقد تبي معناه إل قوله :يقصد با ما يقصد بالطريقة الشرعية .
ومعناه أن الشريعة إنا جاءت لصال العباد ف عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم ف الدارين على أكمل
وجوهها ،فهو الذي يقصده البتدع ببدعته .لن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات ،فإن
تعلقت بالعبادات فإنا أراد با أن يأت تعبده على أبلغ ما يكون ف زعمه ليفوز بأت الراتب ف الخرة
ف ظنه .وإن تعلقت بالعادات فكذلك ،لنه إنا وضعها لتأت أمور دنياه على تام الصلحة فيها .
فمن يعل الناخل ف قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق النخول أت منه بغي النخول .
وكذلك البناءات الشيدة الختلفة ،التمتع با أبلغ منه بالشوش والرب .
ومثله الصادرات ف الموال بالنسبة إل أول المر ،وقد أباحت الشريعة التوسع ف التصرفات ،
فيعد البتدع هذا من ذلك .
وقد ظهر معن البدعة وما هي ف الشرع والمد ل .
فصل ف الد
وف الد أيضا معن آخر ما ينظر فيه .وهو أن البدعة من حيث قيل فيها :أنا طريقة ف الدين
مترعة ـ إل آخره ـ يدخل ف عموم لفظها البدعة التركية ،كما يدخل فيه البدعة غي التركية
ل ـ يكون حللً فقد يقع البتداع بنفس الترك تريا للمتروك أو غي تري ،فإن الفعل ـ مث ً
بالشرع فيحرمه النسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا .
فبهذا الترك إما أن يكون لمر يعتب مثله شرعا أو ل ،فإن كان لمر يعتب فل حرج فيه ،إذ معناه
أنه ترك ما يوز تركه أو ما يطلب بتركه ،كالذي يرم على نفسه الطعام الفلن من جهة أنه يضره
ف جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك ،فل مانع هنا من الترك :بل إن قلنا بطلب التداوي
للمريض فإن الترك هنا مطلوب ،وإن قلنا بإباحة التداوي ،فالترك مباح .
فهذا راجع إل العزم على المية من الضرات وأصله قوله عليه الصلة والسلم " :يا معشر الشباب
من استطاع منكم الباءة فليتزوج" ـ إل أن قال ـ ":ومن ل يستطع فعليه بالصوم "الذي يكسر
من شهوة الشباب حت ل تطغى عليه الشهوة فيصي إل العنت .
وكذلك إذا ترك ما ل بأس به حذرا ما به البأس فذلك من أوصاف التقي ،وكتارك التشابه ،
حذرا من الوقوع ف الرام ،واستباءً للدين والعرض .
15
الشاطبي كتاب العتصام
وإن كان الترك لغي ذلك ،فإما أن يكون تدينا أو ل ،فإن ل يكن تدينا فالتارك عابث بتحريه
الفعل أو بعزيته على الترك .ول يسمى هذا الترك بدعة إذ ل يدخل تت لفظ الد إل على الطريقة
الثانية القائلة :إن البدعة تدخل ف العادات .وأما على الطريقة الول فل يدخل .لكن هذا التارك
يصي عاصيا بتركه أو باعتقاده التحري فيما أحل ال .
وأما إن كان الترك تدينا فهو البتداع ف الدين على كلتا الطريقتي ،إذ قد فرضنا الفعل جائزا
شرعا فصار الترك القصود معارضة للشارع ف شرع التحليل وف مثله نزل قول ال تعال " :يا أيها
الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يب العتدين " فنهى أولً عن
تري اللل .ث جاءت الية تشعر بأن ذلك اعتداء ل يبه ال .
وسيأت للية تقرير إن شاء ال .
لن بعض الصحابة هم أن يرم على نفسه النوم بالليل ،وآخر الكل بالنهار ،وآخر إتيان النساء ،
وبعضهم هم بالختصاء ،مبالغة ف ترك شأن النساء .وف أمثال ذلك قال النب صلى ال عليه وسلم
:
"من رغب عن سنت فليس من" .
فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل ال من غي عذر شرعي فهو خارج عن سنة النب صلى ال
عليه وسلم .والعامل بغي السنة تدينا ،هو البتدع بعينه .
فإن قيل :فتارك الطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا ،هل يسمى مبتدعا أم ل ؟ .
فالواب :أن التارك للمطلوبات على ضربي :
أحدها :أن يتركها لغي التدين إما كسلً أو تضييعا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية .فهذا
الضرب راجع إل الخالفة للمر ،فإن كان ف واجب فمعصية وإن كان ف ندب فليس بعصية ،إذا
كان الترك جزئيا ،وإن كليا فمعصية حسبما تبي ف الصول .
والثان :أن يتركها تدينا .فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع ال ،ومثاله أهل
الباحة القائلي بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم البلغ الذي حدوه .
فإذا قوله ف الد :طريقة مترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية ،كما يشمل غيها ،لن
الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إل ترك وغيه .
وسواء علينا قلنا :إن الترك فعل أم قلنا :إنه نفي الفعل .الطريقتي الذكورتي ف أصول الفقه .
وكما يشمل الد الترك يشمل أيضا ضد ذلك .
وهو ثلثة أقسام :
قسم العتقاد ،وقسم القول ،وقسم الفعل ،فالميع أربعة أقسام .
وبالملة ،فكل ما يتعلق به الطاب الشرعي ،يتعلق به البتداع .
16
الشاطبي كتاب العتصام
17
الشاطبي كتاب العتصام
فأتى الفلسفة إل تلك الصول فتلقفوها أو تلقفوا منها ،فأرادوا أن يرجوه على مقتضى عقولم ،
وجعلوا ذلك عقليا ل شرعيا ،وليس المر كما زعموا .
فالعقل غي مستقل البتة .ول ينبن على غي أصل ،وإنا ينبن على أصل متقدم مسلم على الطلق
.ول يكن ف أحوال الخرة قبلهم أصل مسلم إل من طريق الوحي .
ولذا العن بسط سيأت إن شاء ال .
فعلى الملة ،العقول ل تستقل بإدراك مصالها دون الوحي .فالبتداع مضاد لذا الصل ،لنه
ليس له مستند شرعي بالفرض ،فل يبقى إل ما ادعوه من العقل .فالبتدع ليس على ثقة من بدعته
أن ينال بسبب العمل با ،ما رام تصيله من جهتها ،فصارت كالعبث .
هذا إن قلنا :إن الشرائع جاءت لصال العباد .
وأما على القول الخر فأحرى أن ل يكون صاحب البدعة على ثقة منها ،لنا إذ ذاك مرد تعبد
وإلزام من جهة المر للمأمور .والعقل بعزل عن هذه الطة حسبما تبي ف علم الصول .وناهيك
من نلة ينتحلها صاحبها ف أرفع مطالبة ل ثقة با ،ويلقي من يدها ما هو على ثقة منه .
والثان :أن الشريعة جاءت كاملة ل تتمل الزيادة ول النقصان ،لن ال تعال قال فيها " :اليوم
أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمت ورضيت لكم السلم دينا " .
وف حديث العرباض بن سارية :
"وعظنا رسول ال صلى ال عليه وسلم موعظة ذرفت منها العي ووجلت منها القلوب ،فقلنا :يا
رسول ال ،إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال :تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ،ول
يزيغ عنها بعدي إل هالك ،ومن يعش منكم فسيى اختلفا كثيا فعليكم با عرفتم من سنت وسنة
الراشدين من بعدي " الديث .
وثبت أن النب صلى ال عليه وسلم ل يت حت أتى ببيان جيع ما يتاج إليه ف أمر الدين والدنيا
وهذا ل مالف عليه من أهل السنة .
فإذا كان كذلك ،فالبتدع إنا مصول قوله بلسان حالة أو مقالة :إن الشريعة ل تتم ،وأنه بقي
منها أشياء يب أو يستحب استدراكها ،لنه لو كان معتقدا لكمالا وتامها من كل وجه ،ل
يبتدع ول استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط الستقيم .
قال ابن الاجشون :سعت مالكا يقول :من ابتدع ف السلم بدعة يراها حسنة زعم أن ممدا
صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ،لن ال يقول " :اليوم أكملت لكم دينكم " فما ل يكن يومئذ
دينا ،فل يكون اليوم دينا .
والثالث :أن البتدع معاند للشرع ومشاق له ،لن الشارع قد عي لطالب العبد طرقا خاصة على
وجوه خاصة ،وقصر اللق عليها بالمر والنهي والوعد والوعيد وأخب أن الي فيها ،وأن الشر ف
18
الشاطبي كتاب العتصام
تعديها ـ إل غي ذلك ،لن ال يعلم ونن ل نعلم ،وأنه إنا أرسل الرسول صلى ال عليه وسلم
رحة للعالي .فالبتدع راد لذا كله ،فإنه يزعم أن ث طرقا أخر ،ليس ما حصره الشارع
بحصور ،ول ما عينه بتعي ،كأن الشارع يعلم ،ونن أيضا نعلم .بل ربا يفهم من استدراكه
الطرق على الشارع ،أنه علم ما ل يعلمه الشارع .
وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع ،وإن كان غي مقصود فهو ضلل مبي
.
وإل هذا العن أشار عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ،إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيه ف
بعض القدرية ،فكتب إليه :
أما بعد ،فإن أوصيك يتقوى ال والقتصاد ف أمره واتباع سنة نبيه صلى ال عليه وسلم ،وترك ما
أحدث الحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته ،فعليك بلزوم السنة ،فإن السنة إنا سنها من قد
عرف ما ف خلفها من الطأ والزلل والمق والتعمق ،فارض لنفسك با رضي به القوم لنفسهم ،
فإنم على علم وقفوا ،وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف المور أقوى ،وبفضل كانوا
فيه أحرى .فلئن قلتم :أمر حدث بعدهم ،ما أحدثه بعدهم إل من اتبع غي سننهم ،ورغب بنفسه
عنهم ،إنم لم السابقون ،فقد تكلموا منه با يكفي ،ووصفوا منه ما يشفي ،فما دونم مقصرا ،
وما فوقهم مسر ،لقد قصر عنهم آخرون فغلوا وأنم بي ذلك لعلى هدى مستقيم .
ث ختم الكتاب بكم مسألته .
فقوله فإن السنة إنا سنها من قد عرف ما ف خلفها فهو مقصود الستشهاد .
والرابع :أن البتدع قد نزل نفسه منلة الضاهي للشارع ،لن الشارع وضع الشرائع وألزم اللق
الري على سننها ،وصار هو النفرد بذلك ،لنه حكم بي اللق فيما كانوا فيه يتلفون .وإل فلو
كان التشريع من مدركات اللق ل تزل الشرائع ،ول يبق اللف بي الناس .ول احتيج إل بعث
الرسل عليهم السلم .
هذا الذي ابتدع ف دين ال قد صي نفسه نظيا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع ،وفتح للختلف
بابا ،ورد قصد الشارع ف النفراد بالتشريع وكفى بذلك .
والامس :أنه ابتاع للهوى لن العقل إذا ل يكن متبعا للشرع ل يبق له إل الوى والشهوة ،وأنت
تعلم ما ف اتباع الوى وأنه ضلل مبي .أل ترى قول ال تعال " :يا داود إنا جعلناك خليفة ف
الرض فاحكم بي الناس بالق ول تتبع الوى فيضلك عن سبيل ال إن الذين يضلون عن سبيل ال
لم عذاب شديد با نسوا يوم الساب " .
فحصر الكم ف أمرين ل ثالث لما عنده ،وهو الق والوى ،وعزل العقل مردا إذ ل يكن ف
العادة إل ذلك .وقال " :ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه " .
19
الشاطبي كتاب العتصام
فجعل المر مصورا بي أمرين ،اتباع الذكر ،واتباع الوى ،وقال " :ومن أضل من اتبع هواه
بغي هدى من ال " .
وهي مثل ما قبلها .وتأملوا هذه الية فإنا صرية ف أن من ل يتبع هدى ال ف هوى نفسه ،فل
أحد أضل منه .
وهذا شأن اليتدع ،فإنه اتبع هواه بغي هدى من ال .وهدى ال هو القرآن .وما بينته الشريعة
وبينته الية أن اتباع الوى على ضربي :
أحدها :أن يكون تابعا للمر والنهي فليس بذموم ول صاحبه بضال .كيف وقد قدم الدى
فاستنار به ف طريق هواه ،وهو شأن الؤمن التقي .
والخر :أن يكون هواه هو القدم بالقصد الول ،كان المر والنهي تابعي بالسنة إليه أو غي تابعي
وهو الذموم .
والبتدع قدم هوى نفسه على هدى ال فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى .
وقد انر هنا معن يتأكد التنبيه عليه ،وهو أن الية الذكورة عينت للتباع ف الحكام الشرعية
طريقي :
أحدها :الشريعة ،ول مرية ف أنا علم وحق وهدى ،والخر :الوى وهو الذموم ،لنه ل يذكر
ف القرآن إل ف سياق الذم ،ول يعل ث طريقا ثالثا .ومن تتبع اليات ،ألفى ذلك كذلك .
ث العلم الذي أحيل عليه والق الذي حد إنا هو القرآن وما نزل من عند ال ،كقوله تعال " :قل
آلذكرين حرم أم النثيي أما اشتملت عليه أرحام النثيي نبئون بعلم إن كنتم صادقي" وقال بعد
ذلك " :أم كنتم شهداء إذ وصاكم ال بذا فمن أظلم من افترى على ال كذبا ليضل الناس بغي علم
" وقال " :قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغي علم وحرموا ما رزقهم ال افتراء على ال قد
ضلوا وما كانوا مهتدين " .وهذا كله لتباع أهوائهم ف التشريع بغي هدى من ال ،وقال " :ما
جعل ال من بية ول سائبة ول وصيلة ول حام ولكن الذين كفروا يفترون على ال الكذب " .
وهو اتباع الوى ف التشريع ،إذ حقيقته افتراء على ال .وقال " :أفرأيت من اتذ إله هواه وأضله
ال على علم وختم على سعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد ال " أي ل يهديه
دون ال شيء .وذلك بالشرع ل بغيه وهو الدى .
وإذا ثبت هذا وأن المر دائر بي الشرع والوى ،تزلزلت قاعدة حكم العقل الجرد ،فكأنه ليس
للعقل ف هذا اليدان مال إل من تت نظر الوى ،فهو إذا اتباع الوى بعينه ف تشريع الحكام .
ودع النظر العقلي ف العقولت الحضة فل كلم فيه هنا ،وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالبتداع
فإنا زلوا من حيث ورود الطاب ومن حيث التشريع ،ولذلك عذر الميع قبل إرسال الرسل ،
20
الشاطبي كتاب العتصام
أعن ف خطئهم ف التشريعات والعقليات ،حت جاءت الرسل فلم يبق لحد حجة يستقيم إليها
"رسل مبشرين ومنذرين لئل يكون للناس على ال حجة بعد الرسل " ول الجة البالغة .
فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر ف هذا القام ،وإن كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة
من كتاب ال .انتهى .
21
الشاطبي كتاب العتصام
ث قرأ " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " إل قوله " ففي رحة ال
هم فيها خالدون " قلت :هم هؤلء يا أبا أمامة ؟ قال :نعم .قلت من قبلك تقول أو شيء سعت
من النب صلى ال عليه وسلم ؟ قال :إن إذا لريء ،بل سعته من رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،ل مرة ول مرتي ـ حت عد سبعا ـ ث قال :
إن بن إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعي فرقة وإن هذه المة تزيد عليها فرقة كلها ف النار إل
السواد العظم قلت :يا أبا أمامة أل ترى ما فعلوا ؟ قال " :عليه ما حل وعليكم ما حلتم " "
خرجه إساعيل القاضي وغيه .
وف رواية قال :قال " أل ترى ما فيه السواد العظم " وذلك ف أول خلفة عبد اللك والقتل يومئذ
ظاهر .قال :عليه ما حل وعليكم ما حلتم وخرجه الترمذي متصرا وقال فيه :حديث حسن ،
وخرجه الطحاوي أيضا باختلف ف بعض اللفاظ وفيه فقيل له :يا أبا أمامة تقول لم هذا القول
ث تبكي ! ـ يعن قوله :شر قتلى ـ إل آخره ـ قال :رحة لم إنم كانوا من أهل السلم
فخرجوا منه ث تل " :هو الذي أنزل عليك الكتاب " حت ختمها .ث قال :هم هؤلء ث تل
هذه الية " :يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " حت ختمها .ث قال :هم هؤلء .
وذكر الجري عن طاوس قال :ذكر لبن عباس الوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن ،فقال
يؤمنون بحكمه ،ويضلون عند متشابه .وقرأ " :وما يعلم تأويله إل ال والراسخون ف العلم
يقولون آمنا به " .
فقد ظهر بذا التفسي أنم أهل البدع ،لن أبا أمامة رضي ال عنه جعل الوارج داخلي ف عموم
الية ،وأنا تتنل عليهم .وهم من أهل البدع عند العلماء ،إما على أنم خرجوا ببدعتهم عن أهل
السلم ،وإما على أنم من أهل السلم ل يرجوا عنهم ،على اختلف العلماء فيهم .
وجعل هذه الطائفة من ف قلوبم زيغ فزيغ بم .وهذا الوصف موجود ف أهل البدع كلهم ،مع أن
لفظ الية عام وف غيهم من كان على صفاتم .
أل ترى أن صدر هذه السورة غنما نزل ف نصارى نران ومناظرتم لرسول ال صلى ال عليه وسلم
ف اعتقادهم ف عيسى عليه السلم ،حيث تأولوا عليه أنه الله أو أنه ابن ال أو أنه ثالث ثلثة ،
بأوجه متشابة وتركوا ما هو الواضح ف عبوديته حسبما نقله أهل السي! ث تأوله العلماء من السلف
الصال على قضايا دخل أصحابا تت حكم اللفظ كالوارج فهي ظاهرة ف العموم .
ث تل أبو أمامة الية الخرى ،وهي قوله سبحانه " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما
جاءهم البينات " إل قوله " :ففي رحة ال هم فيها خالدون " وفسرها بعن ما فسر به الية
الخرى ،فهي الوعيد والتهديد لن تلك صفته ،ونى الؤمني أن يكونوا مثلهم .
22
الشاطبي كتاب العتصام
ونقل عبيد عن حيد بن مهران قال :سألت السن كيف يصنع أهل هذه الهواء البيثة بذه الية
ف آل عمران " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " قال :نبذوها
ورب الكعبة وراء ظهورهم .
وعن أب أمامة أيضا قال :هم الرورية .
وقال ابن وهب :سعت مالكا يقول :ما آية ف كتاب ال أشد على أهل الختلف من أهل
الهواء من هذه الية " :يوم تبيض وجوه " إل قوله " :با كنتم تكفرون " قال مالك :فاي كلم
أبي من هذا ؟ فرأيته يتأولا لهل الهواء .ورواه ابن القاسم وزاد :قال ل مالك :إنا هذه الية
لهل القبلة .وما ذكره ف الية قد نقل عن غي واحد كالذي تقدم للحسن .
وعن قتادة ف قوله تعال " :كالذين تفرقوا واختلفوا " يعن أهل البدع .
وعن ابن عباس ف قوله " :يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال :تبيض وجوه أهل السنة ،وتسود
وجوه أهل البدعة .
ومن اليات قوله تعال " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله
ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " فالصراط الستقيم هو سبيل ال الذي دعا عليه وهو السنة ،والسبل
هي سبل الختلف الائدين عن الصراط الستقيم وهم أهل البدع .وليس الراد سبل العاصي ،لن
العاصي من حيث هي معاص ل يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع .وإنا هذا
الوصف خاص بالبدع الحدثات .
ويدل على هذا ما روى إساعيل عن سليمان بن حرب ،قال :حدثنا حاد بن زيد عن عاصم بن
بدلة عن أب وائل عن عبد ال قال :
ل ،وخط ل ،وخط لنا سليمان خطا طوي ً "خط لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما خطا طوي ً
عن يينه وعن يساره فقال :هذا سبيل ال ث خط لنا خطوطا عن يينه ويساره وقال :هذه سبل
وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ث تل هذه الية " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول
تتبعوا السبل " ـ يعن الطوط ـ "فتفرق بكم عن سبيله" ".
وعن عمر بن سلمة المدان قال :كنا جلوسا ف حلقة ابن مسعود ف السجد وهو بطحاء قبل أن
يصب .فقال له عبيد ال بن عمر بن الطاب ،وكان أتى غازيا :ما الصراط الستقيم يا أبا عبد
الرحن ؟ قال :هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حت دخل النة .ث حلف على ذلك ثلث
أيان ولء ،ث خط ف البطحاء ،خطا بيده وخط بنبيه خطوطا وقال :ترككم نبيكم صلى ال
عليه وسلم على طرفه وطرفه الخر ف النة ،فمن ثبت عليه دخل النة ،ومن أخذ ف هذه الطوط
هلك .
23
الشاطبي كتاب العتصام
وف رواية :يا أبا عبد الرحن ،ما الصراط الستقيم ؟ قال :تركنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ف
أدناه وطرفه ف النة ،وعن يينه جواد وعن يساره جواد ؟ وعليها رجال يدعون من مر بم :هلم
لك ،فمن أخذ منهم ف تلك الطرق انتهت به إل النار ،ومن استقام إل الطريق العظم أنتهى به
إل النة .ث تل ابن مسعود " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " الية كلها .
وعن ماهد ف قوله " :ول تتبعوا السبل " قال :البدع والشبهات .
وعن عبد الرحن بن مهدي :قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال :هي ما ل إسم له غي السنة ،
تل " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " .
قال بكر بن العلء :يريد ـ إن شاء ال ـ حديث ابن مسعود"أن النب صلى ال عليه وسلم خط له
خطا" ،وذكر الديث .
فهذا التفسي يدل على شول الية لميع طرق البدع ل تتص ببدعة دون أخرى .
ومن اليات قول ال تعال " :وعلى ال قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لداكم أجعي " فالسبيل
القصد هو طريق الق ،وما سواه جار عن الق ،أي عادل عنه ،وهي طرق البدع والضللت ،
أعاذنا ال من سلوكها بفضله .وكفى بالائر أن يذر منه .فالساق يدل على التحذير والنهي .
وذكر ابن وضاح قال :سئل عاصم بن بدلة وقيل له :أبا بكر ،هل رأيت قول ال تعال " :وعلى
ال قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لداكم أجعي " قال :حدثنا أبو وائل عن عبد ال بن مسعود
قال ":خط عبد ال خطا مستقيما وخط خطوطا عن يينه وخطوطا عن شاله ،فقال :خط رسول
ال صلى ال عليه وسلم هكذا ،فقال للخط الستقيم :هذا سبيل ال وللخطوط الت عن يينه وشاله
:هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه" والسبيل مشتركة قال ال تعال " :وأن
هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " إل آخرها .
عن التستري :قصد السبيل طريق السنة ،ومنها جائر والتقصي ،وذلك يفيد أن الائر هو الغال
أو القصر ،وكلها من أوصاف البدع .
وعن علي رضي ال عنه أنه كان يقرؤها و منكم جائر .قالوا :يعن هذه المة ،فكأن هذه الية
مع الية قبلها يتواردان على معن واحد .
ومنها قوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء إنا أمرهم إل ال ث
ينبئهم با كانوا يفعلون" .
هذه الية قد جاء تفسيها ف الديث من طريق عائشة رضي ال عنها ،قالت " :قال رسول ال
صلى ال عليه وسلم :يا عائشة "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " من هم ؟ قلت :ال وسوله
أعلم .قال هم أصحاب الهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضللة من هذه المة ،يا عائشة إن
24
الشاطبي كتاب العتصام
لكل ذنب توبة ،ما خل أصحاب الهواء والبدع ليس لم توب ًة ،وأنا بريء منهم وهم من برآء ".؟
.
قال ابن عطية :هذه الية نعم أهل الهواء والبدع الشذوذ ف الفروع وغي ذلك من أهل التعمق ف
الدال والوض ف الكلم .هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء العتقد .ويريد ـ وال أعلم ـ
بأهل التعمق ف الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد الب ف فصل ذم الرأي من كتاب العلم له ،وسيأت
ذكره بول ال .
وحكى ابن بطال ف شرح البخاري عن أب حنيفة أنه قال :لقيت عطاء بن أب رباح بكة فسألته
عن شيء فقال :من أين أنت ؟ قلت :من أهل الكوفة ،قال :أنت من أهل القرية الذين فرقوا
دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت :نعم ،قال :من أي الصناف أنت ،قلت :من ل يسب السلف ،
ويؤمن بالقدر ول يكفر أحدا بذنب ،فقال عطاء :عرفت فالزم .
وعن السن قال :خرج علينا عثمان بن عفان رضي ال عنه يوما يطبنا ،فقطعوا عليه كلمه ،
فتراموا بالبطحاء ،حت جعلت ما أبصر أدي السماء ،قال :وسعنا صوتا من بعض حجر أزواج
النب صلى ال عليه وسلم ،فقيل :هذا صوت أم الؤمني ،قال :فسمعتها وهي تقول :أل إن
نبيكم قد برىء من فرق دينه واحتزب ،وتلت " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف
شيء " .
قال القاضي إساعيل :أحسبه يعن بقوله :أم الؤمني أم سلمة ،وأن ذلك قد ذكر ف يعض
الديث ،وقد كانت عائشة ف ذلك الوقت حاجة .
وعن أب هريرة أنا نزلت ف هذه المة .وعن أب أمامة هم الوارج .
قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع ف الدين بدعة من الوارج وغيهم فهو داخل
ف هذه الية ،لنم إذا ابتدعوا تادلوا وتاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا .
ومنها قوله تعال " :ول تكونوا من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب با
لديهم فرحون " .
قرىء فارقوا دينهم وفسر عن أب هريرة أنم الوارج .ورواه أبو أمامة مرفوعا.
وقيل :هم أصحاب الهواء والبدع .قالوا :روته عائشة رضي ال عنها مرفوعا إل النب صلى ال
عليه وسلم .وذلك لن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إساعيل القاضي وكما تقدم ف الي الخر
.
ومنها قوله تعال " :قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تت أرجلكم أو
يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف اليات لعلهم يفقهون" .
25
الشاطبي كتاب العتصام
فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الهوء الختلفة ،ويكون على هذا قوله " :ويذيق بعضكم بأس
بعض " تكفي البعض للبعض حت يتقاتلوا ،كما جرى للخوارج حي خرجوا على أهل السنة
والماعة .وقيل معن "أو يلبسكم شيعا " ما فيه إلباس من الختلف .
وقال ماهد وأبو العالية :إن الية لمة ممد صلى ال عليه وسلم .قال أبو العالية :هن أربع ،ظهر
اثنتان بعد وفاة النب صلى ال عليه وسلم بمس وعشرين سنة ،فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس
بعض ،وبقيت اثنتان ،فهما ول بد واقعتان ،السف من تت أرجلكم والسخ من فوقكم ،وهذا
كله صريح ف أن اختلف الهواء مكروه غي مبوب ومذموم غي ممود .
وفيما نقل عن ماهد ف قول ال " :ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك ولذلك خلقهم" قال ف
الختلفي :إنم أهل الباطل " .إل من رحم ربك " قال :فإن أهل الق ليس فيهم اختلف .
وروي عن مطرف بن الشخي أنه قال :لو كانت الهواء واحدا لقال القائل :لعل الق فيه .فلما
تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الق ل يتفرق .
وعن عكرمة " ول يزالون متلفي " يعن ف الهواء "إل من رحم ربك " هم أهل السنة .
ونقل أبو بكر ثابت الطيب عن منصور بن عبد ال بن الرحن قال :كنت جالسا عند السن
ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرن أن أسأله عن قول ال " :ول يزالون متلفي" قال :نعم ل يزالون
متلفي على أديان شت إل من رحم ربك فمن رحم غي متلف .
وروى ابن وهب ،عن عمر بن عبد العزيز ،ومالك بن أنس أن أهل الرحة ل يتلفون .
ولذه الية بسط يأت بعد إن شاء ال .
وف البخاري عن عمرو عن مصعب قال :سألت أب عن قوله تعال " :قل هل ننبئكم بالخسرين
أعمال" هم الرورية ؟ قال :ل :هم اليهود والنصارى ،أما اليهود فكذبوا ممدا صلى ال عليه
وسلم ،وأما النصارى فكذبوا بالنة وقالوا :ل طعام فيها ول شراب .والرورية "الذين ينقضون
عهد ال من بعد ميثاقه" وكان شعبه يسميهم الفاسقي .
وف تفسي سعيد بن منصور ،عن مصعب بن سعد قال :قلت لب " :الذين ضل سعيهم ف الياة
الدنيا وهم يسبون أنم يسنون صنعا " أهم الرورية ؟ قال :ل ! أولئك أصحاب الصوامع .ولكن
الرورية الذين قال ال فيهم " :فلما زاغوا أزاغ ال قلوبم " .
وخرج عبد بن حيد ف تفسيه هذا العن بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الية " :قل
هل ننبئكم بالخسرين أعمال" إل قوله " :يسنون صنعا " قلت :أهم الرورية ؟ قال :ل ! هم
اليهود والنصارى ،أما اليهود فكفروا بحمد صلى ال عليه وسلم ،وأما النصارى فكفروا بالنة
وقالوا :ليس فيها طعام ول شراب ،ولكن الرورية " :الذين ينقضون عهد ال من بعد ميثاقه
ويقطعون ما أمر ال به أن يوصل ويفسدون ف الرض "
26
الشاطبي كتاب العتصام
فالول :لنم خرجوا عن طريق الق بشهادة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لنم تأولوا
التأويلت الفاسدة ،وكذا فعل البتدعة وهو بابم الذي دخلوا فيه .
والثان :لنم تصرفوا ف أحكام القرآن والسنة هذا التصرف .
فأهل حروراء وغيهم من الوارج قطعوا قوله تعال " :إن الكم إل ل" عن قوله " :يكم به ذوا
عدل " وغيها .
وكذا فعل سائر البتدعة حسبما يأتيك بول ال .
ومنه روى عمرو بن مهاجر قال :بلغ عمر بن عبد العزيز رحه ال أن غيلن القدري يقول ف القدر
،فيعث إليه فحجبه أياما ،ث أدخله عليه فقال يا غيلن! ما هذا الذي بلغن عنك ؟ قال عمرو بن
مهاجر :فأشرت إليه أل يقول شيئا .قال فقال :نعم يا أمي الؤمني :إن ال عز وجل يقول "هل
أتى على النسان حي من الدهر ل يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا النسان من نطفة أمشاج نبتليه
فجعلناه سيعا بصيا" "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" قال عمر إقرأ إل آخر السورة " :وما
تشاؤون إل أن يشاء ال إن ال كان عليما حكيما * يدخل من يشاء ف رحته والظالي أعد لم
عذابا أليما" ث قال :ما تقول يا غيلن ؟ قال أقول :قد كنت أعمى فبصرتن ،وأصم فأسعتن ،
وضالً فهديتن .فقال عمر :اللهم إن كان عبدك غيلن صادقا وإل فاصلبه ! قال فأمسك عن
الكلم ف القدر فوله عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق ،فلما مات عمر بن عبد العزيز
وأفضت اللفة إل هشام تكلم ف القدر ،فبعث إليه هشام فقطع يده ،فمر به رجل والذباب على
يده ،فقال :يا غيلن! هذا قضاء وقدر .قال :كذبت لعمر ال ما هذا قضاء ول قدر .فبعث إليه
هشام فصلبه .
والثالث :لن الرورية جردوا السيوف على عباد ال وهو غاية الفساد ف الرض ،وذلك كثي من
أهل البدع شائع ،وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بي أهل السلم .
وهذه الوصاف الثلثة تقتضيها الفرقة الت نبه عليها الكتاب والسنة كقوله تعال " :ول تكونوا
كالذين تفرقوا واختلفوا " وقوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" وأشباه ذلك .
وف الديث :إن المة تتفرق على بضع وسبعي فرقة .
وهذا التفسي ف الرواية الول لصعب بن سعد أيضا فقد وافق أباه على العن الذكور .
ث فسر سعد بن أب وقاص ف رواية سعيد بن منصور :أن ذلك بسبب الزيغ الاصل فيهم :وذلك
قوله تعال " :فلما زاغوا أزاغ ال قلوبم" وهو راجع إل آية أل عمران ف قوله " :فأما الذين ف
قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" .الية ،فإنه أدخل رضي ال عنه الرورية ف اليتي بالعن ،وهو
الزيغ ف إحداها ،والوصاف الذكورة ف الخرى لنا فيهم موجودة .فآية الرعد تشمل بلفظها ،
لن اللفظ فيها يقتضي العموم لغةً ،وإن حلناها على الكفار خصوصا فهي تعطي أيضا فيهم حكما
27
الشاطبي كتاب العتصام
من جهة ترتيب الزاء على الوصاف الذكورة حسبما هو مبي ف الصول .وكذلك آية الصف
لنا خاصة بقوم موسى عليه السلم .ومن هنا كان شبعة يسميهم الفاسقي ـ أعن الرورية ـ
لن معن الية واقع عليهم .وقد جاء فيها " :وال ل يهدي القوم الفاسقي" والزيغ أيضا كان
موجودا فيهم ،فدخلوا ف معن قوله " :فلما زاغوا أزاغ ال قلوبم" ومن هنا يفهم أنا ل تتص من
أهل البدعة بالرورية ،بل تعم كل من اتصف بتلك الوصاف الت أصلها الزيغ ،وهو اليل عن
الق ابتاعا للهوى .وإنا فسرها سعد رضي ال عنه بالرورية لنه إنا سئل عنهم على الصوص
وال أعلم ،لنم أول من ابتدع ف دين ال ،فل يقتضي ذلك تصيصا .
وأما السؤال عنها أو ًل ،وهي آية الكهف ،فإن سعدا نفى أن تشمل الرورية .
وقد جاء عن علي بن أب طالب رضي ال عنه أنه فسر الخسرين أعمالً بالرورية أيضا .فروى
عبد بن حيد عن ابن الطفيل قال :قام ابن الكواء إل علي فقال :يا أمي الؤمني ! من الذين ضل
سعيهم ف الياة الدنيا وهم يسبون أنم يسنون صنعا ؟ قال :منهم أهل حروراء وهو أيضا
منقول ف تفسي سفيان الثوري .وف جامع ابن وهب أنه سأله عن الية فقال له :ارق إل أخبك
ـ وكان على النب ـ فرقى إليه درجتي ،فتناوله بعصا كانت ف يده ،فجعل يضربه با ،ث قال له
علي :أنت وأصحابك .وخرج عبد بن حيد أيضا عن ممد بن جبي بن مطعم قال :أخبن رجل
من بن أود أن عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع ،فصاح به ابن الكواء من أقصى السجد فقال
:يا أمي الؤمني ! من الخسرين أعمالً ؟ قال :أنت .فقتل ابن الكواء يوم الوارج .ونقل
بعض أهل التفسي أن ابن الكواء سأله فقال :أنتم أهل حروراء ،وأهل الرياء ،والذين يبطون
الصنيعة بالنة .فالرواية الول تدل على أن أهل حروراء بعض من شلته الية .
ولا قال سبحانه ف وصفهم " :الذين ضل سعيهم ف الياة الدنيا" وصفهم بالضلل مع ظن
الهتداء ،دل على أنم البتدعون ف أعمالم عموما ،كانوا من أهل الكتاب أولً ،من حيث قال
النب " :كل بدعة ضللة" وسيأت شرح ذلك بعون ال .فقد يتمع التفسيان ف الية :تفسي سعد
بأنم اليهود والنصارى ،وتفسي علي بأنم أهل البدعة .لنم قد اتفقوا على البتداع ولذلك فسر
كفر النصارى بأنم تأولوا ف النة غي ما هي عليه ،وهو التأويل بالرأي .فاجتمعت اليات الثلث
على ذم البدعة ،وأشعر كلم سعد ين أب وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف البتدعة
فهم مقصدون با فيها من الذم والزي وسوء الزاء إما بعموم اللفظ وإما بعن الوصف .
وروى ابن وهب "أن النب صلى ال عليه وسلم أتى بكتاب ف كتف فقال :
كفى بقوم حقا ـ أو قال ضللً ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إل غي نبيهم ،أو كتاب إل
غي كتابم فنلت " :أول يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " " .
وخرج عبد الميد عن السن قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
28
الشاطبي كتاب العتصام
"من رغب عن سنت فليس من ث تل هذه الية " :قل إن كنتم تبون ال فاتبعون يببكم ال" إل
آخر الية " .
وخرج هو وغيه عن عبد ال بن عباس رضي ال عنه ف قول ال " :علمت نفس ما قدمت وأخرت"
قال :ما قدمت من عمل خيأو شر ،وما أخرت من سنة يعمل با من بعده .وهذا التفسي قد
يتاج إل تفسي .فروي عن عبد ال قال :ما قدمت من خي وما أخرت من سنة صالة يعمل با
من بعدها ،فغن له مثل أجر من عمل با ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا ،وما أخرت من سنة
سيئة ،كان عليه مثل وزر من عمل با ل ينقص ذلك من أوزارهم شيئا :أخرجه ابن مبارك وغيه
.
وجاء عن سفيان بن عيينة وأب قلبة وغيها أنم قالوا :كل صاحب بدعة أو فرية ذليل .واستدلوا
بقول ال تعال " :إن الذين اتذوا العجل سينالم غضب من ربم وذلة ف الياة الدنيا وكذلك نزي
الفترين " .
وخرج ابن وهب عن ماهد ف قول ال " :إنا نن نيي الوتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" يقول :ما
قدموا من خي ،وآثارهم الت أورثوا الناس بعدهم من الضللة .
وخرج أيضا عن ابن عون ،عن ممد بن سيين أنه قال :إن أرى أسرع الناس ردةً ،أصحاب
الهواء " :وإذا رأيت الذين يوضون ف آياتنا فأعرض عنهم حت يوضوا ف حديث غيه" .
وذكر الجري عن أب الوزاء أنه ذكر أصحاب الهواء فقال :والذي نفس أب الوزاء بيده لن
تتلىء داري قردة وخنازير أحب إل من أن ياورن رجل منهم ،ولقد ،دخلوا ف هذه الية " :ها
أنتم أولء تبونم ول يبونكم وتؤمنون بالكتاب كله" إل قوله " :إن ال عليم بذات الصدور" .
واليات الصرحة والشية إل ذمهم والنهي عن ملبسة أحوالم كثية ،فلنقتصر على ما ذكرنا ،
ففيه ـ إن شاء ال ـ الوعظة لن اتعظ ،والشفاء لا ف الصدور .
29
الشاطبي كتاب العتصام
وخرج مسلم ،عن جابر بن عبد ال "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول ف خطبته :
أما بعد فإن خي الديث كتاب ال ،وخي الدي هدي ممد ،وشر المور مدثاتا ،وكل بدعة
ضللة " .
وف رواية قال " :كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يطب الناس ،يمد ال ويثن عليه با هو
أهله ث يقول :من يهده ال فل مضل له ،ومن يضلل فل هادي له ،وخي الديث كتاب ال ،
وخي الدي هدي ممد ،وشر المور مدثاتا وكل مدثة بدعة" .
وف رواية للـنسائي "وكل مدثة بدعة ،وكل بدعة ف النار" .
وذكر أن عمر رضي ال عنه كان يطب بذه الطبة .وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا :أنه كان
يقول :
إنا ها اثنتان ـ الكلم ،والدى ـ فأحسن الكلم كلم ال ،وأحسن الدى هدى ممد ،أل
وإياكم ومدثات المور ،فإن شر المور مدثاتا ،إن كل مدثة بدعة .وف لفظ غي أنكم
ستحدثون ويدث لكم ،فكل مدثة ضللة وكل ضللة ف النار كان ابن مسعود يطب بذا كل
خيس .
وف رواية أخرى عنه :إنا ها اثنتان ـ الدى والكلم ـ فأفضل الكلم ـ أو أصدق الكلم ـ
كلم ال ،وأحسن الدى هدى ال بل ممد ،وشر المور مدثاتا ،وكل مدثة بدعة ،أل ل
يتطاولن عليكم المر فتقسوا قلوبكم ،ول يلهينكم المل ،فإن كل ما هو آت قريب ،أل إن بعيدا
ما ليس آتيا .
وف رواية أخرى عنه :أحسن الديث كتاب ال ،وأحسن الدى هدى ممد وشر المور مدثاتا ،
و " إنا توعدون لت وما أنتم بعجزين " .
وروى ابن ماجة مرفوعا عن ابن مسعود أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إياكم ومدثات
المور ،فإن شر المور مدثاتا ،وإن كل مدثة بدعة وإن كل بدعة ضللة" والشهور أنه موقوف
على ابن مسعود .
وف الصحيح من حديث أب هريرة قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من دعا إل الدى كان له من الجر مثل أجور من يتبعه ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا .ومن
دعا إل ضللة كان عليه من الث مثل آثام من يتبعه ل ينقص ذلك من آثامهم شيئا" .
وف الصحيح أيضا عنه عليه الصلة والسلم أنه قال :
"من سن سنة خي فاتبع عليها فله أجره .ومثل أجور من أتبعه غي منقوص من أجورهم شيء ومن
سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غي منقوص من أوزارهم شيء" خرجه
الترمذي .
30
الشاطبي كتاب العتصام
وروى الترمذي أيضا وصححه ،وأبو داود وغيها عن العرباض بن سارية قال :
"صلى بنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم ث أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغة ذرفت منها
العيون ووجلت منها القلوب .فقال قائل :يا رسول ال ؟ كأن هذا موعظة مودع ،فماذا تعهد إلينا
؟ فقال أوصيكم بتقوى ال والسمع والطاعة لولة المر وإن كان عبدا حبشيا .فإنه من يعيش منكم
بعدي فسيى اختلفا كثيا ،فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين الهديي ،تسكوا با وعضوا
عليها بالنواجذ ،وإياكم ومدثات المور ،فإن كل مدثة بدعة وكل ضللة " وروى على وجوه
من طرق .
وف الصحيح "عن حذيفة أنه قال :يا رسول ال ! هل بعد هذا الي شر ؟ قال :نعم قوم يستنون
بغي سنت ،ويهتدون بغي هديي قال فقلت :هل بعد ذلك الشر من شر ؟ قال :نعم دعاة على نار
جهنم من أجابم قذفوه فيها قلت :يا رسول ال ،صفهم لنا .قال نعم هم من جلدتنا ،ويتكلمون
بألسنتنا قلت :فما تأمرن إن أدركت ذلك ؟ قال :تلزم جاعة السلمي وإمامهم قلت :فإن ل يكن
إمام ول جاعة ؟ قال :فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حت يدرك الوت وأنت
على ذلك" وخرجه البخاري على نو آخر .
وف حديث الصحيفة :
" الدينة حرم ما بي عي إل ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى مدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس
أجعي ،ل يقبل ال منه يوم القيامة صرفا ول عدلً"وهذا الديث ف سياق العموم فيشمل كل
حدث أحدث فيها ما يناف الشرع .والبدع من أقبح الدث .وقد استدل به مالك ف مسألة تأت
ف موضعها بول ال .وهو وإن كان متصا بالدينة فغيها أيضا يدخل ف العن .
وف الوطأ من حديث أب هريرة :
"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إل القبة :فقال :السلم عليكم دار قوم مؤمني ،وإنا
إن شاء ال بكم لحقون" الديث ـ إل أن قال فيه "فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعي
الضال ،أناديهم أل هلم ! أل هلم ! فيقال :أنم قد بدلوا بعدك .فأقول :فسحقا ! فسحقا!
فسحقا " حله جاعة من العلماء على أنم أهل البدع ،وحله آخرون على الرتدين عن السلم .
والذي يدل على الول ما خرجه خثيمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال :سألت أنس بن مالك
فقلت :إن ها هنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ،ويكذبون بالوض والشفاعة ،فهل سعت
من رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذلك شيئا ؟ قال :نعم سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم
يقول :
"بي العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلة ،فإذا تركها فقد أشرك .وحوضي كما بي أيلة إل
مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال :كعدد نوم السماء ـ له ميزابان من النة ،كلما نضب
31
الشاطبي كتاب العتصام
أمداه ،من شرب منه شربة ل يظمأ بعدها أبدا ،وسيده أقوام ذابلة شفاههم فل يطعمون منه قطرة
واحدة .من كذب به اليوم ل يصب منه الشراب يومئذ" فهذا الديث على أنم من أهل القبلة .
فنسبتهم أهل السلم إل الكفر من أوصاف الوارج ،والتكذيب بالوض من أوصاف أهل
العتزال وغيهم .مع ما ف حديث الوطأ من قول النب صلى ال عليه وسلم " :أل هلم" لنه
عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ،وإل فلو ل يكونوا من المة ل يعرفهم
بالعلمة الذكورة .
وصح من حديث ابن عباس رضي ال عنه قال :
"قام فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالوعظة فقال :إنكم مشورون إل ال حفاةً عراةً غرل
"كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلي" قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ـ
وإنه يستدعى برجال من أمت فيؤخذ بم ذات الشمال ،فأقول كما قال العبد الصال " :وكنت
عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتن كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن
تعذبم فإنم عبادك وإن تغفر لم فإنك أنت العزيز الكيم" فيقال هؤلء ل يزالوا مرتدين على
أعقابم منذ فارقتهم" .
ويتمل هذا الديث أن يراد به أهل البدع كحديث الوطأ ،ويتمل أن يراد به من ارتد بعد النب
صلى ال عليه وسلم .
وف الترمذي ،عن أب هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"تفرقت اليهود على إحدى وسبعي فرقة ،والنصارى مثل ذلك ،وتفترق أمت على ثلث وسبعي
فرقة" حسن صحيح .
وف الديث روايات أخرى سيأت ذكرها والكلم عليها إن شاء ال .ولكن الفرق فيها عند أكثر
العلماء فرق أهل البدع .وف الصحيح أنه صلى ال عليه وسلم قال :
"إن ال ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ،ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ،حت إذا ل يبق
عال اتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم فضلوا وأضلوا" وهو آت على وجوه كثية ف
البخاري وغيه .
وف مسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه أنه قال :
" من سره أن يلقى ال غدا مسلما فليحافظ على هؤلء الصلوات حيث ينادى بن ،فإن ال عز
وجل شرع لنبيكم صلى ال عليه وسلم سنن الدى ،وأنن من سنن الدى ،ولو أنكم صليتم ف
بيوتكم كما يصلي هذا التخلف ف بيته لتركتم سنة نبيكم ،ولو تركتم سنة نبيكم صلى ال عليه
وسلم لضللتم " الديث .
فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضللة ! وف رواية :
32
الشاطبي كتاب العتصام
"لو تركتم سنة نبيكم صلى ال عليه وسلم لكفرت" وهو أشد ف التحذير .
وفيه أن النب صلى ال عليه وسلم قال :
"إن تارك فيكم ثقلي أولما كتاب ال فيه الدى والنور ـ وف رواية فيه الدى ـ من استمسك به
وأخذ به كان على الدى .ومن أخطأه ضل وف رواية :من اتبعه كان على الدى ومن تركه كان
على ضللة" .
وما جاء ف هذا الباب أيضا ما خرج ابن وضاح ونوه لبن وهب عن أب هريرة أن رسول ال صلى
ال عليه وسلم قال :
" سيكون ف أمت دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الديث ل تسمعوه أنتم ول آباؤهم ،فإياكم
إياهم ل يفتنونكم" .
وف الترمذي أنه عليه الصلة والسلم قال :
"من أحيا سنةً من سنت قد أميتت بعدي فإن له من الجر مثل أجر من عمل با من غي أن يتقص
ذلك من أجورهم شيئا ،ومن ابتدع بدعة ضللة ل ترضي ال ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل
با ل ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا" حديث حسن .
ولبن وضاح وغيه من حديث عائشة رضي ال عنها :
" من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم السلم " .
وعن السن أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"إن أحببت أن ل توقف على الصراط طرفة عي حت تدخل النة فل تدث ف دين ال حدثا
برأيك" .
وعنه عليه الصلة والسلم أنه قال :
"من اقتدى ب فهو من ومن رغب عن سنت فليس من" .
وخرج الطحاوي أن النب صلى ال عليه وسلم قال :
"ستة ألعنهم لعنهم ال وكل نب ماب :الزائد ف دين ال ،والكذب بقدر ال ،والتسلط بالبوت
يذل به من أعز ال ويعز به من أذل ال ،والتارك لسنت ،والستحل لرم ال ،والستحل من عترت
ما حرم ال" .
وف رواية أب بكر بن ثابت الطيب " :ستة لعنهم ال ولعنتهم" وفيه " :والراغب عن سنت إل بدع"
.
وف الطحاوي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"إن لكل عابد شرةً ولكل شرة فترة فإما إل سنة وإما إل بدعة ـ فمن كانت فترته إل سنت فقد
اهتدى ،ومن كانت فترته إل غي ذلك فقد هلك" .
33
الشاطبي كتاب العتصام
وف معجم البغوي عن ماهد قال :دخلت أنا وأبو يي بن جعدة على رجل من النصار من
أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :ذكروا عند رسول ال صلى ال عليه وسلم مولة
لبن عبد الطلب فقالوا :إنا قامت الليل وصامت النهار فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
لكن أنام وأصلي ،وأصوم وأفطر ،فمن اقتدى ب فهو من ،ومن رغب عن سنت فليس من ،إن
لكل عامل شرةً ث فترة فمن كانت فترته إل بدعة فقد ضل ،ومن كانت فترته إل سنة فقد اهتدى"
.
وعن أب وائل ،عن عبد ال ،عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال :
"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نب ،وإمام ضللة ومثل من السلمي" .
وف منتقى حديث خثيمة ،عن سليمان ،عن عبد ال أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلة عن مواقيتها فيحدثون البدعة ،قال عبد ال بن مسعود :
فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال :تسألن يا ابن أم عبد ال كيف تصنع ؟ ل طاعة لن عصى ال" .
وف الترمذي عن أب سعيد الدري قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من أكل طيبا وعمل ف سنة وأمن الناس بوائقة دخل النة فقال رجل :يا رسول ال إن هذا اليوم
ف الناس لكثي ،قال :وسيكون ف قرون بعدي" حديث غريب .
وف كتاب الطحاوي عن عبد ال بن عمرو بن العاص أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"كيف بكم وبزمان ـ أو قال :يوشك أن يأت زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة ،وتبقى حثالة من
الناس قد مرجت عهودهم وأماناتم ،اختلفوا فصارت هكذا ـ وشبك بي أصابعه ـ قالوا :
وكيف بنا يا رسول ال ؟ قال :تأخذون با تعرفون ،وتذرون ما تنكرون ،وتقبلون على أمر
خاصتكم ـ وتذرون أمر عامتكم" .
وخرج ابن وهب مرسلً "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :إياكم والشعاب قالوا :وما
الشعاب يا رسول ال ؟ قال الهواء" .
وخرج أيضا :
"إن ال ليدخل العبد النة بالسنة يتمسك با" .وف كتاب السنة للجري من طريق الوليد بن مسلم
عن معاذ بن جبل قال :قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"إذا حدث ف أمت البدع وشتم أصحاب ،فليظهر العال علمه ،فمن ل يفعل فعليه لعنة ال واللئكة
والناس أجعي" .
قال عبد ال بن السن :فقلت للوليد بن مسلم :ما إظهار العلم ؟ قال :إظهار السنة .والحاديث
كثية .
34
الشاطبي كتاب العتصام
وليعلم الوفق أن بعض ما ذكر من الحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنا أتى با عملً با أصله
الحدثون ف أحاديث الترغيب والترهيب .وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآن
والدليل السن الصحيح ،فما زيد من غيه فل حرج ف التيان به إن شاء ال .
35
الشاطبي كتاب العتصام
وهذا العن موافق لا ثبت من حديث أب رافع عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال :
"ل ألفي أحدكم متكئا على أريكته يأتيه المر من أمري ما أمرت به أو نيت عنه فيقول :ل أدري
ل أدري ،ما وجدنا ف كتاب ال اتبعناه" فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من
غي معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة .
فلذلك يقول القائل :لقد ضل من كان قبلنا إل آخره .
وهذه الثار عن حذيفة من تريج ابن وضاح .
وخرج أيضا عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه أنه قال :اتبعوا آثارنا ول تبتدعوا فقد كفيتم .
وخرج عنه ابن وهب أيضا انه قال :عليكم بالعلم قبل أن يقبض ،وقبضه بذهاب أهله .عليكم
بالعلم فإن أحدكم ل يدري مت يفتقر إل ما عنده .وستجدون أقواما يزعمون أنم يدعون إل
كتاب ال وقد نبذوه وراء ظهورهم ،فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم
بالعتيق .
وعنه أيضا :ليس عام إل والذي بعده شر منه .ل أقول :عام أمطر من عام ،ول عام أخصب من
عام ،ول أمي خي من أمي ،ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ث يدث قوم يقيسون المور بآرائهم
فيهدم السلم ويثلم .
وقال أيضا :كيف أنتم إذا ألبستم فتنةً يهرم فيها الكبي وينشأ فيها الصغي تري على الناس يدثونا
سنة .وإذا غيت ،قيل :هذا منكر .
وقال أيضا :أيها الناس ! ل تبتدعوا ول تنطوا ول تعمقوا ،وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا
ما تنكرون .
وعنه أيضا :القصد ف السنة خي من الجتهاد ف البدعة .
وقد روي معناه مرفوعا إل النب صلى ال عليه وسلم :
"عمل قليل ف سنة ،خي من عمل كثي ف بدعة" .
وعنه أيضا خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال " :أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس
بغي ما أنزل ال ،ومصور ،ورجل قتل نبيا أو قتله نب ".
وعن أب بكر الصديق رضي ال عنه قال :لست تاركا شيئا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم
يعمل به إل عملت به ،إن أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ.
خرج ابن البارك عن عمر بن الطاب :أن يزيد بن أب سفيان يأكل ألوان الطعام ،فقال عمر لول
له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه ،فأعلمن .فلما حضر عشاؤه أعلمه ،فأتاه
عمر فسلم عليه ،فاستأذن فأذن له فدخل ،فقرب عشاؤه فجاء بثريد لم فأكل عمر معه منها ،ث
36
الشاطبي كتاب العتصام
قرب شواء فبسط يزيد يده ،وكف عمر يده ث قال :وال يا يزيد بن أب سفيان ،أطعام بعد
طعام ؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم .
وعن ابن عمر :صلة السفر ركعتان من خالف السنة كفر .
وخرج الجري عن السائب بن يزيد قال :أتى عمر بن الطاب فقالوا :يا أمي الؤمني إنا لقينا
رجلً يسأل عن تأويل القرآن ،فقال :اللهم أمكن منه ،قال :فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ
جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حت إذا فرغ قال :يا أمي الؤمني "والذاريات ذروا * فالاملت
وقرا" فقال عمر :أنت ،هو ؟ فقام غليه مسرا عن ذراعيه فلم يزل يلده حت سقطت عمامته فقال
:والذي نفسي بيده لو وجدتك ملوقا لضربت رأسك ،ألبسوه ثيابه واحلوه على قتب ث أخرجوه
حت تقدموا به بلده ،ث ليقم خطيبا ث ليقل :إن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا ف قومه
حت هلك ،وكان سيد قومه .
وخرج ابن البارك وغيه عن أب بن كعب أنه قال :عليكم بالسبيل والسنة ،فإنه ما على الرض
من عبد على السبيل والسنة ذكر ال ففاضت عيناه من خشية ال فيعذبه ال أبدا .وما على الرض
من عبد على السبيل والسنة ذكر ال ف نفسه فاقشعر جلده من خشية ال إل كان مثله كمثل شجرة
قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إل حط ال عنه خطاياه كما
تات عن الشجرة ورقها ،فإن اقتصادا ف سبيل ال وسنة خي من اجتهاد ف خلف سبيل ال وسنة
،وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج النبياء وسنتهم .
وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال :ما يأت على الناس من عام إل أحدثوا فيه بدعة وأماتوا
سنة ،حت تيا البدع وتوت السنن .
وعنه أنه قال :عليكم بالستفاضة والثر وإياكم والبدع .
وخرج ابن وهب عنه أيضا قال :من أحدث رأيا ليس ف كتاب ال ول تض به سنة من رسول
ال صلى ال عليه وسلم ل يدر ما هو عليه إذا لقي ال عز وجل .
وخرج أبو داود وغيه عن معاذ بن جبل رضي ال عنه أنه قال يوما :إن من ورائكم فتنا يكثر فيها
الال ،ويفتح فيه القرآن ،حت يأخذه الؤمن والنافق ،والرجل ،والرأة ،والصغي ،والكبي ،
والعبد ،والر ،فيوشك قائل أن يقول ،ما للناس ل يتبعون وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بتبعي حت
أبتدع لم غيه ،وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضللة ،وأحذركم زيغة الكيم فإن الشيطان قد
يقول كلمة الضللة على لسان الكيم ،وقد يقول النافق كلمة الق .
قال الراوي :قلت لعاذ :وما يدرين يرحك ال إن الكيم قد يقول كلمة ضللة ،وإن النافق قد
يقول كلمة الق ؟ قال :بلى ! اجتنب من كلم الكيم غي الشتهرات الت يقال فيها :ما هذه ؟
ول يثنينك ذلك عنه ،فإنه لعله أن يراجع وتلق الق إذا سعته فإن على الق نورا .
37
الشاطبي كتاب العتصام
وف رواية مكان الشتهرات الشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حت يقال :ما أراد بذه
الكلمة ؟ ويريد ـ وال أعلم ـ ما ل يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حت تنكره القلوب ويقول
الناس :ما هذه ؟ وذلك راجع إل ما يذر من زلة العال حسبما يأت بول ال .
وما جاء عمن بعد الصحابة رضي ال عنهم ما ذكر ابن وضاح عن السن قال :صاحب البدعة ل
يزداد اجتهادا ،صياما وصلةً ،إل ازداد من ال بعدا .
وخرج ابن وهب عن أب إدريس الولن أنه قال :لن أرى ف السجد نارا ل أستطيع إطفاءها ،
أحب إل من أن أرى فيه بدعة ل أستطيع تغييها .
وعن الفضيل بن عياض :اتبع طرق الدى ول يضرك قلة السالكي ،وإياك وطرق الضللة ول تغتر
بكثرة الالكي .
وعن السن :ل تالس صاحب هوى فيقذف ف قلبك ما تتبعه عليه فتهلك ،أو تالفه فيمرض
قلبك .
وعنه أيضا ف قول ال تعال " :كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" قال :كتب
ال صيام رمضان على أهل السلم كما كتبه على من كان قبلهم ،فأما اليهود فرفضوه ،وأما
النصارى فشق عليهم فزادوا فيه عشرا وآخروه إل أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الزمنة ،
فكان السن إذا حدث بذا الديث قال :عمل قليل ف سنة خي من عمل كثي ف بدعة .
وعن أب قلبة :ل تالسوا أهل الهواء ول تادلوهم فإن ل آمن أن يغمسوكم ف ضللتهم
ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ،قال أيوب :وكان ـ وال ـ من الفقهاء ذوي اللباب .
وعنه أيضا :أنه كان يقول :إن أهل الهواء أهل ضللة ،ول أرى مصيهم إل إل النار .
وعن السن :ل تالس صاحب بدعة فإنه يرض قلبك .
وعن أيوب السخيان أنه كان يقول :ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إل ازداد من ال بعدا .
وعن أب قلبة :ما ابتدع رجل بدعة إل استحل السيف .
وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول :إن الوارج اختلفوا ف السم واجتمعوا على
السيف .
وخرج ابن وهب عن سفيان قال :كان رجل فقيه يقول :ما أحب أن هديت الناس كلهم
ل واحدا .وأضللت رج ً
وخرج عنه أنه كان يقول :ل يستقيم قول إل بعمل ،ول قول وعمل إل بنية ،ول قول ول عمل
ول نية إل موافقا للسنة .
وذكر الجري أن ابن سيين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الهواء .
38
الشاطبي كتاب العتصام
وعن يي بن أب كثي قال :إذا لقيت صاحب بدعة ف طريق ،فخذ ف طريق آخر .
وعن بعض السلف :من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ،ووكل إل نفسه .
وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لبنه :يا عيسى ،أصلح قلبك وأقلل مالك ،وكان يقول :
وال لن أرى عيسى ف مالس أصحاب البابط والشربة والباطل أحب إل من أن أراه يالس
أصحاب الصومات .
قال ابن وضاح :يعن أهل البدع .
وقال رجال لـ أب بكر بن عياش :يا أبا بكر ،من السن ؟ قال :الذي إذا ذكرت الهواء ل
يغضب لشيء منها .
وقال يونس بن عبيد :إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب ،وأغرب منه صاحبها .
وعن يي بن أب عمر الشيبان قال :كان يقال يأب لصاحب بدعة بتوبة ،وما انتقل صاحب بدعة
إل إل شر منها .
وعن أب العالية :تعلموا السلم فإذا تعلمتموه فل ترغبوا عنه ،وعليكم بالصراط الستقيم فإنه
السلم ،ول ترفوا يينا ول شا ًل وعليكم بسنة نبيكم ،وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا
صاحبهم ،ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا .قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن
يفعلوا الذي فعلوا ،وإياكم وهذه الهواء ،الت تلقي بي الناس العداوة والبغضاء .فحدث السن
بذلك فقال :رحه ال ،صدق ونصح .
خرجه ابن وضاح وغيه .
وكان مالك كثيا ما ينشد :
وخيأمور الدين ما كان سنة وشر المور الحدثات البدائع
وعن مقاتل بن حيان قال :أهل هذه الهواء آفة أمة ممد صلى ال عليه وسلم ،أنم يذكرون النب
صلى ال عليه وسلم وأهل بيته فيتصيدون بذا الذكر السن عند الهال من الناس فيقذفون بم ف
الهالك ،فما أشبههم بن يسقي الصب باسم العسل ،ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق !
فأبصرهم فإنك إن ل تكن أصبحت ف بر الاء ،فقد أصبحت ف بر الهواء الذي هو أعمق غورا
39
الشاطبي كتاب العتصام
وأشد اضطرابا ،وأكثر صواعق وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ،ففلك مطيتك الت تقطع با سفر
الضلل اتباع السنة .
وعن ابن البارك قال :أعلم أي أخي ! إن الوت كرامةً لكل مسلم لقي ال على السنة ،فإنا ل وإنا
إليه راجعون ،فإل ال نشكو وحشتنا وذهاب الخوان ،وقلة العوان ،وظهور البدع .وإل ال
نشكو عظيم ما حل بذه المة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع .
وكان إبراهيم التيمي يقول :اللهم اعصمن بدينك وبسنة نبيك من الختلف ف الق ،ومن اتباع
الوى ،ومن سبل الضللة ،ومن شبهات المور ،ومن الزيغ والصومات .
وعن عمر بن عبد العزيز رحه ال كان يكتب ف كتبه :إن أحذركم ما مالت إليه الهواء والزيغ
البعيدة .
ولا بايعه الناس صعد على النب فحمد ال وأثن عليه ث قال :أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نب ،
ول بعد كتابكم كتاب ،ول بعد سنتكم سنة ،ول بعد أمتكم أمة ،أل وإن اللل ما أحل ال ف
كتابه على لسان نبيه حلل إل يوم القيامة ،أل وإن الرام ما حرم ال ف كتابه على لسان نبيه حرام
إل يوم القيامة .أل وإن لست ببتدع ولكن متبع ،أل وإن لست بقاض ولكن منفذ ،أل وإن
لست بازن ولكن أضع حيث أمرت ،أل وإن لست بيكم ولكن أثقلكم حلً .أل ول طاعة
لخلوق ف معصية الالق .ث نزل .
وفيه :قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه با :
وأحييت ف السلم علما وسن ًة ول تبتدع حكما من الكم أسحما
ففي كل يوم كنت تدم بدع ًة وتبن لنا من سنة ما تدما
ومن كلمه الذي عن به ويفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا ،وهو أن قال :سن رسول ال
صلى ال عليه وسلم وولة المر من بعده سننا الخذ با تصديق لكتاب ال ،واستكمال لطاعة
ال ،وقوةً على دين ال ،ليس لحد تغييها ول تبديلها ول النظر ف شيء خالفه .من عمل با
مهتد ،ومن انتصر با منصور ،ومن خالفها اتبع غي سبيل الؤمني ،ووله ال ما تول ،واصله
جهنم وساءت مصيا.
وبق وكان يعجبهم فإنه كلم متصر جع أصولً حسنة من السنة :منها ما نن فيه لن قوله :ليس
لحد تغييها ول تبديلها ول النظر ف شيء خالفها ،قطع لادة البتداع جلة .وقوله :من عمل با
مهتد ـ إل آخر الكلم ـ مدح لتبع السنة وذم لن خالفها بالدليل الدال على ذلك ،وهو قول ال
سبحانه وتعال " :ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبي له الدى ويتبع غي سبيل الؤمني نوله ما تول
ونصله جهنم وساءت مصيا" .ومنها ما سنه ولة المر من بعد النب صلى ال عليه وسلم فهو سنة
ل بدعة فيه البتة ،وإن ل يعلم ف كتاب ال ول سنة نبيه صلى ال عليه وسلم نص عليه على
40
الشاطبي كتاب العتصام
الصوص .فقد جاء ما يدل عليه ف الملة ،وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي ال عنه
حيث قال فيه " :فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين والهديي ،تسكوا با وعضوا عليها بالنواجذ
،وإياكم ومدثات المور" فقرن عليه السلم ـ كما ترى ـ سنة اللفاء الراشدين بسنته وإن من
اتباع سنته اتباع سنتهم ،وإن الحدثات خلف ذلك ليست منها ف شيء .لنم رضي ال عنهم
فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلم نفسها ،وإما متبعون لا فهموا من سنته صلى ال عليه
وسلم ف الملة والتفصيل على وجه يفى على غيهم مثله ،ل زائد على ذلك .وسيأت بيانه بول
ال .
على أن أبا عبد ال الاكم نقل عن يي بن آدم قول السلف الصال :سنة أب بكر وعمر رضي
ال عنهما أن العن فيه أن يعلم أن النب صلى ال عليه وسلم مات وهو على تلك السنة ،وأنه ل
يتاج مع قول النب صلى ال عليه وسلم إل قول أحد وما قال صحيح ف نفسه فهو ما يتمله
حديث العرباض رضي ال عنه ،فل زائد إذا على ما ثبت ف السنة النبوية .إل أنه قد ياف أن
تكون منسوخة بسنة أخرى ،فافتقر العلماء إل النظر ف عمل اللفاء بعده ،لعلموا أن ذلك هو الذي
مات عليه النب صلى ال عليه وسلم من غي أن يكون له ناسخ ،لنم كانوا يأخذون بالحداث
فالحداث من أمره .وعلى هذا العن ،بن مالك بن أنس ف احتجاجه بالعمل ،ورجوعه إليه عند
تعارض السنن .
ومن الصول الضمنة ف أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولة المر وعملهم تفسي لكتاب ال وسنة
رسوله صلى ال عليه وسلم ،لقوله :الخذ با تصديق لكتاب ال ،واستكمال لطاعة ال ،وقوة
على دين ال .وهو أصل مقرر ف غي هذا الوضع ،فقد جع كلم عمر بن عبد العزيز رحه ال
أصولً حسنة وفوائد مهمة .
وما يعزى لـأب إلياس اللبان :ثلث لو كتب ف ظفر لوسعهن ،وفيهن خي الدنيا والخرة ،
اتبع ل تبتدع ،اتضع ل ترتفع ،ومن ورع ل يتسع .ولثار هنا كثية .
41
الشاطبي كتاب العتصام
وسلم ل يتسم أفاضلهم ف عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ ل فضيلة فوقها ،ث سي من يليهم
التابعي ،ورأوا هذا السم أشرف الساء ،ث قيل لن بعدهم أتباع التابعي .ث اختلف الناس
وتباينت الراتب ،فقيل لواص الناس من له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد .قال :ث ظهرت
البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص أهل السنة الراعون أنفسهم مع ال
الافظون قلوبم عن الغفلة باسم التصوف .هذا معن كلمه ،فقد عد هذا اللقب مصوصا باتباع
السنة ومباينة البدعة .وف ذلك ما يدل على خلف ما يعتقده الهال ومن ل عبة به من الدعي
للعلم .
وف غرضي إن فسح ال ف الدة وأعانن بفضله ويسر ل السباب أن ألص ف طريقة القوم نوذجا
يستدل به على صحتها وجريانا على الطريقة الثلى ،وأنه إنا داخلتها الفاسد وتطرقت إليها البدع
من جهة قوم تأخرت أزمانم عن عهد ذلك السلف الصال ،وادعوا الدخول فيها من غي سلوك
شرعي ول فهم لقاصد أهلها ؟ وتقولوا عليهم ما ل يقولوا به ،حت صارت ف هذا الزمان الخي
كأنا شريعة أخرى غي ما أتى با ممد صلى ال عليه وسلم .وأعظم من ذلك أنم يتساهلون ف
اتباع السنة ،ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا ،وطربقة القوم بريئة من هذا الباط
بمد ال .
فقد قال الفضيل بن عياض :من جلس مع صاحب بدعة ل يعط الكمة .
وقيل لـإبراهيم بن أدهم :إن ال يقول ف كتابه "ادعون أستجب لكم" .ونن ندعوه منذ دهر
فل يستجيب لنا ! فقال :ماتت قلوبكم ف عشرة أشياء أولا عرفتم ال فلم تؤدوا حقه .والثان :
قرأت كتاب ال ول تعملوا به ،والثالث :ادعيتم حب رسول ال صلى ال عليه وسلم وتركتم سنته
.والرابع :ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه .والامس :قلتم نب النة وما تعملون لا إل آخر
الكاية .
وقال ذو النون الصري :من علمة حب ال متابعة حبيب ال صلى ال عليه وسلم ف أخلقه
وأفعاله وأمره وسنته .
وقال :إنا دخل الفساد على اللق من ستة أشياء ،الول :ضعف النية بعمل الخرة .والثان :
صارت أبدانم مهيئة لشهواتم .والثالث :غلبهم طول المل مع قصر الجل .والرابع :آثروا
رضاء الخلوقي على رضاء ال .والامس :اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى ال عليه وسلم ،
والسادس :جعلوا زلت السلف حجة لنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم .
وقال لرجل أوصاه :ليكن آثر الشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض ال عليك ،واتقاء ما
ناك عنه ،فإن ما تعبدك ال به خي لك ما تتاره لنفسك من أعمال الب الت تب عليك ،وأنت
ترى أنا أبلغ لك فيما تريد ،كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ،وإنا للعبد أن
42
الشاطبي كتاب العتصام
يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يكمه على تام حدوده ،وينظر إل ما ني عنه فيتقيه على
أحكام ما ينغب ،فإن الذي قطع العباد عن ربم ،وقطعهم عن أن يذوقوا حلوة اليان وأن يبلغوا
حقائق الصدق ،وحجب قلوبم عن النظر إل الخرة ،تاونم بأحكام ما فرض عليهم ف قلوبم
وأساعهم وأبصارهم وألسنتهم وايديهم وأرجلهم وبطونم وفروجهم .ولو وقفوا على هذه الشياء
وأحكموها لدخل عليهم الب إدخالً تعجز أبدانم وقلوبم عن حل ما رزقهم ال من حسن معونته ،
وفوائد كرامته ،ولكن أكثر القراء والنساك حقروا مقرات الذنوب ،وتانوا بالقليل ما هم فيه من
العيوب ،فحرموا ثواب لذة الصادقي ف العاجل .
وقال بشر الاف :رأيت النب صلى ال عليه وسلم ف النام فقال ل :يا بشر ! تدري ل رفعك
ال بي أقرانك ؟قلت :ل يا رسول ال ،قال :لتباعك سنت ،وحرمتك للصالي ،ونصيحتك
لخوانك ،ومبتك لصحاب وأهل بيت هو الذي بلغك منازل البرار.
وقال يي بن معاذ الرازي :اختلف الناس كلهم يرجع إل ثلثة أصول ،فلكل واحد منها ضد ،
فمن سقط عنه وقع ف ضده :التوحيد وضده الشرك ،والسنة وضدها البدعة ،والطاعة وضدها
العصية .
وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران النيد :كنت مارا ف تيه بن إسرائيل فخطر ببال أن علم
القيقة مباين لعلم الشريعة ،فهتف ب هاتف :كل حقيقة ل تتبعها الشريعة فهي كفر .
وقال أبو علي السن بن علي الوزجان :من علمات السعادة على العبد تيسي الطاعة عليه ،
وموافقة السنة ف أفعاله ،وصحبته لهل الصلح ،وحسن أخلقه مع الخوان ،وبذل معروفه
للخلق واهتمامه للمسلمي ،ومراعاته لوقاته .
وسئل كيف الطريق إل ال ؟ فقال :الطرق إل ال كثية ،وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع
ل وعزما وعقدا ونيةً ،لن ال يقول " :وإن تطيعوه تتدوا" فقيل له :كيف الطريق إل قولً وفع ً
السنة ؟ فقال :مانية البدع ،واتباع ما أجع عليه الصدر الول من علماء السلم ،والتباعد عن
مالس الكلم وأهله ،ولزوم طريقة القتداء وبذلك أمر النب صلى ال عليه وسلم بقوله تعال " :ث
أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم" .
وقال أبو بكر الترمذي :ل يد أحد تام المة بأوصافها إل أهل الحبة ،وإنا أخذوا ذلك باتباع
السنة ومانية البدعة ،فإن ممد صلى ال عليه وسلم كان أعلى اللق كلهم هة وأقربم زلفى .
وقال أبو السن الوراق :ل يصل العبد إل ال إل بال وبوافقة حبيبه صلى ال عليه وسلم ف
شرائعه .ومن جعل الطريق إل الوصول ف غي القتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال :الصدق
استقامة الطريق ف الدين واتباع السنة ف الشرع .وقال :علمة مبة ال متابعة حبيبه صلى ال عليه
وسلم .
43
الشاطبي كتاب العتصام
ومثله عن إبراهيم القمار قال :علمة مبة ال إيثار طاعته ومتابعة نبيه .
وقال أبو ممد بن عبد الوهاب الثقفي :ل يقبل ال من العمال إل ما كان صوابا ،ومن صوابا
إل ما كان خالصا ،ومن خالصها إل ما وافق السنة .
وإبراهيم بن شيبان القرميسين صحب أبا عبد ال الغرب وإبراهيم الواص ،وكان شديدا على أهل
البدع متمسكا بالكتاب والسنة ،لزما لطريق الشايخ والئمة ،حت قال فيه عبد ال بن منازل :
إبراهيم بن شيبان حجة ال على الفقراء وأهل الداب والعاملت .
وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب النيد وغيه :العتصام بال هو المتناع من الغفلة
والعاصي والبدع والضللت .
وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب النيد والثوري وغيها :كان الناس ف الاهلية يتبعون
ما تستحسنه عقولم وطبائعهم ،فجاء النب صلى ال عليه وسلم فردهم إل الشريعة والتباع ،
فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه .
وقيل لساعيل بن ممد السلمي جد أب عبد الرحن السلمي ،ولقي النيد وغيه :ما الذي ل بد
للعبد منه ؟ فقال :ملزمة العبودية على السنة ودوام الراقبة .
وقال أبو عثمان الغرب التونسي :هي الوقوف مع الدود ل يقصر فيها ول يتعداها قال ال تعال :
"ومن يتعد حدود ال فقد ظلم نفسه" .
وقال أبو يزيد البسطامي :عملت ف الجاهدة ثلثي سنة فما وجدت شيئا أشد من العلم ومتابعته ،
ولول اختلف العلماء لشقيت .واختلف العلماء رحة إل ف تريد التوحيد ،ومتابعة العلم هي
متابعة السنة ل غيها
ل مقصودا وروي عنه أنه قال :قم بنا ننظر إل هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولية ـ كان رج ً
مشهورا بالزهد ـ قال الرواي :فمضينا ،فلما خرج من نبيه ودخل السجد رمى ببصاقة تاه القبلة
،فانصرف أبو يزيد ول يسلم عليه ،وقال :هذا غي مأمون على أدب من آداب رسول ال صلى
ال عليه وسلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه ؟ .
وهذا أصل أصله أبو يزيد رحه ال للقوم :وهو أن الولية ل تصل لتارك السنة وإن كان ذلك
ل منه ،فما ظنك به إذا كان عاملً بالبدعة كفاحا ؟ . جه ً
وقال :همت أن أسأل ال أن يكفين مؤنة الكل ومؤنة النساء ث قلت :كيف يوز أن أسأل ال
هذا ؟ ول يسأله رسول ال صلى ال عليه وسلم فلم أسأله ؟ ث إن ال سبحانه كفان مؤنة النساء
حت ل أبال استقبلتن امرأة أم حائط .
وقال :لو نظرت إل رجل أعطي من الكرامات حت يرتقي ف الواء فل تغتروا به حت تنظروا كيف
تدونه عند المر والنهي ،وحفظ الدود وآداب الشريعة .
44
الشاطبي كتاب العتصام
وقال سهل التستري :كل فعل يفعله العبد بالقتداء :طاع ًة كان أو معصية ،فهو عيش النفس ـ
يعن باتباع الوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعن لنه ل هوى له
فيه ـ واتباع الوى هو الذموم ،ومقصود القوم تركه البتة .
وقال :أصولنا سبعة أشياء ،التمسك بكتاب ال ،والقتداء بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
وأكل اللل ،وكف الذى ،واجتناب الثام ،والتوبة ،وأداء القوق .وقال :قد أيس اللق من
هذه الصال الثلث :ملزمة التوبة ،ومتابعة السنة ،وترك أذى اللق .وسئل عن الفتوة فقال :
اتباع السنة .
وقال أبو سليمان الداران :ربا تقع ف قلب النكتة من نكتة القوم أياما فل أقبل منه إل بشاهدين
عدلي ـ الكتاب والسنة .
ل بل اتباع سنة فباطل عمله .وقال أحد بن أب الواري :من عمل عم ً
وقال أبو حفص الداد :من ل يزن أفعاله وأحواله ف كل وقت بالكتاب والسنة ول يتهم خواطره
فل تعده ف ديوان الرجال .وسئل عن البدعة فقال :التعدي ف الحكام ،والتهاون ف السنن ،
واتباع الراء والهواء ،وترك التباع والقتداء قال :وما ظهرت حالة عالية إل من ملزمة أمر
صحيح .
وسئل حدون القصار :مت يوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال :إذا تعي عليه أداء فرض من
فرائض ال ف عمله ،أو خاف هلك إنسان ف بدعة يرجو أن ينجيه ال منها .
وقال :من نظر ف سي السلف عرف تقصيه ،وتلفه عن درجات الرجال .
وهذه ـ وال أعلم ـ إشارة إل الثابرة على القتداء بم فإنم أهل السنة .
وقال أبو القاسم النيد لرجل ذكر العرفة وقال :أهل العرفة بال يصلون إل ترك الركات من باب
الب والتقرب إل ال فقال النيد :إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط العمال عن ال تعال وإليه
يرجعون فيها .قال :ولو بقيت ألف عام ل أنقص من أعمال الب ذرة ،إل أن يال ب دونا .
وقال :الطرق كلها مسدودة على اللق إل على من اقتفى أثر الرسول صلى ال عليه وسلم .
وقال :مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة .
وقال :من ل يفظ القرآن ويكتب الديث ل يقتدى به ف هذا المر لن علمنا هذا مقيد بالكتاب
والسنة .وقال :هذا مشيد بديث رسول ال صلى ال عليه وسلم .
وقال أبو عثمان البي :الصحبة مع ال تعال بسن الدب ودوام اليبة والراقبة ،والصحبة مع
رسول ال صلى ال عليه وسلم باتباع سنته ،ولزوم ظاهر العلم ،والصحبة مع أولياء ال بالحترام
والدمة .إل آخر ما قال .
45
الشاطبي كتاب العتصام
ولا تغي عليه الال مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ،ففتح أبو عثمان عينيه وقال ،خلف السنة
يا بن ف
الظاهر ،علمة رياء ف الباطن .
وقال :من أمر السنة على نفسه قولً وفعلً نطق بالكمة ،ومن أمر الوى على نفسه قولً وفعلً
نطق بالبدعة ،قال ال تعال " :وإن تطيعوه تتدوا" .
قال أبو السي النوري :من رأيته يدعي مع ال حالة ترجه عن حد العلم الشرعي فل تقربن منه
.
وقال ممد بن الفضل البلخي :ذهاب السلم من أربعة :ل يعملون با يعلمون ،ويعملون با ل
يعلمون ،ول يتعلمون ،وينعون الناس من التعلم .
هذا ما قال ،وهو وصف صوفيتنا اليوم ،عياذا بال .
وقال :أعرفهم بال أشدهم ماهدةً ف أوامره ،وأتبعهم لسنة نبيه .
وقال شاة الكرمان :من غض بصره عن الحارم ،وأمسك نفسه عن الشبهات ،وعمر باطنه بدوام
الراقبة ،وظاهره باتباع السنة ،وعود نفسه أكل اللل ،ل تطىء له فراسه .
وقال أبو سعيد الراز :كل باطن يالفه ظاهر فهو باطل .
وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران النيد :من ألزم نفسه آداب ال نور ال قلبه بنور العرفة ،
ول مقام أشرف من مقام متابعة البيب صلى ال عليه وسلم ف أوامره وأفعاله وأخلقه .
وقال أيضا :أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز وجل وغفلته عن أوامره ،وغفلته عن آداب معاملته
.
وقال إبراهيم الواص :ليس العال بكثرة الرواية ،وإنا العال من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن
وإن كان قليل العلم .
وسئل عن العافية فقال :العافية أربعة أشياء ،دين بل بدعة ،وعمل بل آفة ،وقلب بل شغل ،
ونفس بل شهوة .
وقال :الصب ،الثبات على أحكام الكتاب والسنة .
وقال بنان المال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية فقال : ،الثقة بالضمون والقيام بالوامر ،
ومراعاة السر ،والتخلي من الكوني .
وقال أبو حزة البغدادي :من علم طريق الق سهل عليه سلوكه ،ول دليل على الطريق إل ال إل
متابعة سنة الرسول صلى ال عليه وسلم ف أحواله وأفعاله وأقواله .
وقال أبو إسحاق الرقاشي :علمة مبة ال إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ .ودليله قوله تعال " :قل
إن كنتم تبون ال فاتبعون يببكم ال" .
46
الشاطبي كتاب العتصام
وقال مشاذ الدينوري :آداب الريد ف التزام حرمات الشايخ ،وحرمة الخوان ،والروج عن
السباب ،وحفظ آداب الشرع على نفسه .
وسئل أبو علي الروزباري عمن يسمع اللهي ويقول :هي ل حلل ،لن قد وصلت إل درجة
ل يؤثر ف اختلف الحوال .فقال :نعم قد وصل ولكن إل سقر .
وقال أبو ممد عبد ال بن منازل :ل يضيع أحد فريضة من الفرائض إل ابتله ال بتضييع السنن ،
ول يبتل بتضييع السنن أحد إل يوشك أن يبتلي بالبدع .
وقال أبو يعقوب النهرجوري :أفضل الحوال ما قارن العلم .
وقال أبو عمرو بن نيد :كل حال ل يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه .
وقال بندار بن السي :صحبة أهل البدع تورث العراض عن الق .
وقال أبو بكر الطمستان :الطريق واضح ،والكتاب والسنة قائم بي أظهرنا ،وفضل الصحابة
معلوم لسبقهم إل الجرة ولصحبتهم ،فمن صحب منا الكتاب والسنة ،وتغرب عن نفسه واللق ،
وهاجر بقلبه إل ال ،
فهو الصادق الصيب .
وقال أبو القاسم النصراباذي :أصل التصوف ملزمة الكتاب والسنة ـ وترك البدع والهواء ،
وتعظيم حرمات الشايخ ،ورؤية أعذار اللق .والداومة على الوراد ،وترك ارتكاب الرخص
والتأويلت .
وكلمهم ف هذا الباب يطول .وقد نقلنا عن جلة من اشتهر منهم ينيف على الربعي شيخا ،
جيعهم يشي أو يصرح بأن البتداع ضلل ـ والسلوك عليه تيه ،واستعماله رمي ف عماية ،وأنه
مناف لطلب النجاة ،وصاحبه غي مفوظ ،وموكول إل نفسه ،ومطرود عن نيل الكمة .وأن
الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مموعون على تعظيم الشريعة ،مقيمون على متابعة السنة ،غي
ملي بشيء من آدابا ،أبعد الناس عن البدع وأهلها .ولذلك ل ند منهم من ينسب إل فرق من
الفرق الضالة ،ول من ييل إل خلف السنة .وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومدثون ومن
يؤخذ عنه الدين أصولً وفروعا ومن ل يكن كذلك ،فل بد من أن يكون فقهيا ف دينه بقدار
كفايته .
وهم كانوا أهل القائق والواجد والذواق والحوال والسرار التوحيدية .فهم الجة لنا على كل
من ينتسب إل طريقهم ول يري على منهاجهم ،بل يأت ببدع مدثات ،وأهواء متبعات ،وينسبها
إليهم ،تأويلً عليهم .من قول متمل ،أو فعل من قضايا الحوال ،أو استمساكا بصلحة شهد
الشرع بإلغائها ،أو ما أشبه ذلك .فكثيا ما ترى التأخرين من يتشبه بم ،يرتكب من العمال ما
أجع الناس على فساده شرعا ،ويتج بكايات هي قضايا أحوال ،إن صحت ل يكن فيها حجة ،
47
الشاطبي كتاب العتصام
لوجوه عدة ،ويترك من كلمهم وأحوالم ما هو واضح ف الق الصريح ،والتباع الصحيح ،شأن
من اتبع من الدلة الشرعية ما تشابه با .
ولا كان أهل التصرف ف طريقهم بالنسبة إل إجاعهم على أمر كسائر أهل العلوم ف علومهم ،
أتيت من كلمهم با يقوم منه دليل على مدعي السنة وذم البدعة ف طريقتهم حت يكون دليلً لنا من
جهتهم ،على أهل البدع عموما ،وعلى الدعي ف طريقهم خصوصا ،وبال التوفيق .
48
الشاطبي كتاب العتصام
وف رواية لـابن وهب :أن أصحاب الرأي أعداء السنة ،أعيتهم أن يفظوها ،وتفلتت منهم أن
يعوها ،واستحيوا حي يسألوا أن يقولوا :ل نعلم ،فعارضوا السنن برأيهم ،فإياكم وإياكم .
قال أبو بكر بن أب داود :أهل الرأي هم أهل البدع .
وعن ابن عباس رضي ال عنه قال :من أحدث رأيا ليس ف كتاب ال ،ول تض به سنةً من رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،ل يدر ما هو عليه إذا لقي ال عز وجل .
وعن ابن مسعود رضي ال عنه :قراؤكم يذهبون ،ويتخذ الناس رؤساء جهالً يقيسون المور
برأيهم .
وخرج ابن وهب وغيه عن عمر بن الطاب أنه قال :السنة ما سنه ال ورسوله ،ل تعلوا حظ
الرأي سنةً للمة .
وخرج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال :ل يزل أمر بن إسرائيل مستقيما حت أدرك فيهم
الولدون أبناء سبايا المم ،فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بن إسرائيل .
وعن الشعب :إنا هلكتم حي تركتم الثار وأخذت بالقاييس .
وعن السن :إنا هلك من كان قبلكم حي شعبت بم السبل ،وحادوا عن الطريق فتركوا الثار ،
وقالوا ف الدين برأيهم ،فضلوا وأضلوا .
وعن دراج بن السهم بن أسح قال :يأت على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حت تعقد
شحما ،ث يسي عليها ف المصار حت تعود نقضا ،يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل با فل يد إل
من يفتيه بالظن .
وقد اختلف العلماء ف الرأي القصود بذه الخبار والثار .فقد قالت طائفة :الراد به رأي أهل
البدع الخالفي للسنن ،لكن ف العتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلم لنم استعملوا
آراءهم ف رد الحاديث الثابتة عن النب صلى ال عليه وسلم ،بل وف رد ظواهر القرآن لغي سبب
يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالحتملت ،ونفي عذاب القب ،
ونفي اليزان والصراط .وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والوض ـ إل أشياء يطول ذكرها ـ
وهي مذكورة ف كتب الكلم .
وقالت طائفة :إنا الرأي الذموم العيب الرأي البتدع وما كان مثله من ضروب البدع ،فإن حقائق
جيع البدع رجوع إل الرأي ،وخروج عن الشرع وهذا هو القول الظهر .إذ الدلة التقدمة ل
تقتضي بالقصد الول من البدع نوعا دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم ف كل بدعة حدثت أو
تدث إل يوم القيامة ،كانت من الصول أو الفروع ،كما قاله القاضي إساعيل ف قوله تعال :
"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء" بعدما حكى أنا نزلت ف الوارج .وكأن
القائل بالتخصيص ـ وال أعلم ـ ل يقل به بالقصد الول ،بل أتى بثال ما تتضمنه الية ،كالثال
49
الشاطبي كتاب العتصام
الذكور فإنه موافق لا كان مشتهرا ف ذلك الزمان ،فهو أول ما يثل به ويبقى ما عداه مسكوتا عن
ذكره عند القائل به ،ولو سئل عن العموم لقال به .وهكذا كل ما تقدم من القوال الاصة ببعض
أهل البدع إنا تصل على التفسي بسب الاجة .أل ترى أن الية الول من سورة آل عمران إنا
نزلت ف قصة نصارى نران ؟ ث نزلت على الوارج حسبما تقدم إل غي ذلك ما يذكر ف التفسي
ـ إنا يملون على ما يشمله الوضع بسب الاجة الاضرة ل بسب ما يقتضيه اللفظ لغ ًة .
وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال الفسرين التقدمي ،وهو الول لناصبهم ف العلم ،ومراتبهم ف فهم
الكتاب والسنة .ولذا العن تقرير ف غي هذا الوضع .
وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد الب جهور أهل العلم :الرأي الذكور ف هذه الثار هو القول
ف أحكام شرائع الدين بالستحسان والظنون ،والشتغال بفظ العضلت والغلوطات ،ورد
الفروع والنوازع بعضها إل بعض قياسا ،دون ردها إل أصولا والنظر ف عللها واعتبارها ،
فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنل ،وفرعت قبل أن تقع ،وتكلم فيها قبل أن تكون ،بالرأي الضارع
للظن ،قالوا :لن ف الشتغال بذا والستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها ،وترك
الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ،ومن كتاب ال تعال ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياءً ،
منها :أن عمر رضي ال عنه لعن من سأل عما ل يكن وما جاء من النهي عن الغلوطات ،وهي
صعاب السائل ،وعن كثرة السؤال ،وأنه كره السائل وعابا ،وإن كثيا من السلف ل يكن ييب
إل عما نزل من النوازل دون ما ل ينل .
وهذا القول غي مالف لا قبله ،لن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غي مذموم ،لن الكثار
منه ذريعة إل الرأي الذموم ،وهو ترك النظر ف السنن اقتصارا على الرأي ،وإذا كان كذلك اجتمع
مع ما قبله ،فإن من عادة الشرع أنه إذا نى عن شيء وشدد فيع منع ما حواليه ،وما دار به ورتع
حول حاه .أل ترى إل قوله عله السلم :
"اللل بي والرام بي وبينهما أمور مشتبهة" ،وكذلك جاء ف الشرع أصل سد الذرائع ،وهو
منع الائز لنه ير إل غي الائز .وبسب عظم الفسدة ف المنوع ،يكون اتساع النع ف الذريعة
وشدته .
وما تقدم من الدلة يبي ذلك عظم النفسدة ف البتداع فالرم حول حاه يتسع جدا ،ولذلك تنصل
العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ،فامتنع جاعة من الفتيا به قبل نزول
السألة ،وحكوا ف ذلك حديثا عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال :
"ل تعجلوا بالبلية قبل نزولا فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا" وصح نيه عليه
الصلم عن كثرة السؤال .وقال :
50
الشاطبي كتاب العتصام
"إن ال فرض فرائض فل تضيعوها ،ونى عن أشياء فل تنتهكوها ،وحد حدودا فل تعتدوها ،
وعفا أشياء رحةً لكم ل عن نسيان فل تبحثوا عنها" .وأحال با جاعة على المراء فلم يكونوا
يفتون حت يكون المي هو الذي يتول ذلك ،ويسمونا :صواف المراء .
وكان جاعة يفتون على الروج عن العهدة ،وأنه رأي ليس بعلم ،كما قال أبو بكر الصديق رضي
ال عنه إذ سئل ف الكللة :أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن ال وإن كان خطأً فمن ومن
الشيطان .ث أجاب .
وجاء رجل إل سعيد بن السيب فسأله عن شيء فأمله عليه ،ث سأله عن رأيه فأجابه ،فكتب
الرجل ،فقال رجل من جلساء سعيد :أتكتب يا أبا ممد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل :ناولنيها
فناوله الصحيفة فخرقها .
وسئل القاسم بن ممد عن شيء فأجاب ،فلما ول الرجل دعاه فقال له :ل تقل إن القاسم زعم أن
هذا هو الق ،ولكن إن اضطررت إليه عملت به .
وقال مالك بن أنس :قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد ت هذا المر واستكمل ،فإنا ينبغي
أن نتبع آثار رسول ال صلى ال عليه وسلم ول نتبع الرأي ،فإنه مت أتبع الرأي جاء رجل آخر
أقوى ف الرأي منك ،فأتبعته ،فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ،أرى هذا ل يتم .
ث ثبت أنه كان يقول برأيه ،ولكن كثيا ما كان يقول بعد أن يتهد رأيه ف النازلة " :إن نظن إل
ظنا وما نن بستيقني" ولجل الوف على من كان يتعمق فيه ل يزل يذمه ويذم م تعمق فيه ،فقد
كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به ف الحكام ،فحكي عنه ف ذلك أشياء من أخفها
قوله :الستحسان تسعة أعشار العلم ول يكاد الغرق ف القياس إل يفارق السنة .
والثار التقدمة ليست عند مالك مصوصة بالرأي ف العتقاد .فهذه كلها تشديدات ف الرأي وإن
كان جاريا على الصول ،حذرا من الوقوع ف الرأي غي الاري على أصل .
ولبن عبد الب ـ هنا ـ كلم كثي كرهنا التيان به .
والاصل من جيمع ما تقدم أن الرأي الذموم ما بن على الهل واتباع الوى من غي أن يرجع إليه ،
وما كان منه ذريعة إليه وإن كان ف أصله ممودا ،وذلك راجع إل أصل شرعي ،فالول داخل
تت حد البدعة وتتنل عليه أدلة الذم ،والثان خارج عنه ول يكون بدعةً أبدا .
51
الشاطبي كتاب العتصام
يذكر فيه بعض ما ف البدع من الوصاف الحذورة ،والعان الذمومة ،وأنواع الشؤم ،وهو
كالشرح لا تقدم أو ًل ،وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم ف أثناء الدلة ،فلنتكلم على ما
يسع ذكره بسب الوقت والال .
فاعملوا أن البدعة ل يقبل معها عبادة من صلةول صيام ول صدقة ول غي ها من القربات .
ومالس صاحبها تنع منه العصمة ويوكل إل نفسه ،والاشي إليه وموقره معي على هدم السلم ،
فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ،ويزداد من ال بعبادته بعدا ؟ ! وهي مظنة إلقاء
العدواة والبغضاء ،ومانعة من الشفاعة الحمدية ،ورافعة للسنن الت تقابلها ،وعلى مبتدعها إث من
عمل با ،وليس له من توبة ،وتلقى عليه الذلة والغضب من ال ،ويبعد عن حوض رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وياف عليه أن يكون معدودا ف الكفار الارجي عن اللة ،وسوء الاتة عند
الروج من الدنيا ،ويسود وجهه ف الخرة يعذب بنار جهنم ،وقد تبأ منه رسول ال صلى ال
عليه وسلم ،وتبأ منه السلمون وياف عليه الفتنة ف الدنيا زيادة إل عذاب الخرة .
فأما أن البدعة ل يقبل معها عمل ،فقد روي عن الوزاعي أنه قال :كان بعض أهل العلم يقول :
ل يقبل ال من ذي بدعة صلةً ول صياما ول صدقةً ول جهادا ول حجا ول عمرةً ول صرفا ول
عد ًل .
وفيما كتب به أسد بن موسى :وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب ،فإنه جاء
الثر :من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إل نفسه ،ومن مشى إل صاحب بدعة
مشى إل هدم السلم .وجاء :ما من إله يعبد من دون ال أبغض إل ال من صاحب هوى ،
ووقعت اللعنة من رسول ال صلى ال عليه وسلم على أهل البدع ،وإن ال ل يقبل منهم صرفا ول
عد ًل ،ول فريضةً ول تطوعا ،وكلما ازدادوا اجتهادا ـ صوما وصلةً ـ ازدادوا من ال بعدا .
فارفض مالستهم وأذلم وأبعدهم ،كما أبعدهم وأذلم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأئمة الدى
بعده .
وكان أيوب السخيتان يقول :ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إل ازداد من ال بعدا .
وقال هشام بن حسان :ل يقبل ال من صاحب بدعة صلةً ول صياما ول زكاةً ول حجا ول
جهادا ول عمرةً ول صدقةً ول عتقا ول صرفا ول عدلً .
وخرج ابن وهب عن عبد ال بن عمر قال :من كان يزعم أن مع ال قاضيا أو رازقا أو يلك لنفسه
ضرا أو نفعا أو موتا أو حياةً أو نشورا ،لقي ال فأدحض حجته ،وأخرس لسانه ،وجعل صلته
وصيامه هبا ًء منثورا ،وقطع به السباب ،وكبه ف النار على وجهه .
وهذه الحاديث وما كان نوها ما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها .فإن العن القرر فيها له ف
الشريعة أصل صحيح ل مطعن فيه .
52
الشاطبي كتاب العتصام
أما أولً :فإنه قد جاء ف بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو ف الصحيح كبدعة القدرية حيث قال
فيها عبد بن عمر :
إذا لقيت أولئك فأخبهم أن بريء منهم ،وأنم براء من ،فوالذي يلف به عبد ال بن عمر لو
كان لحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله ال منه حت يؤمن بالقدر .ث استشهد بديث جبيل
الذكور ف صحيح مسلم .
ومثله حديث الوارج وقوله فيه :
يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ " تقرون صلتكم مع صلتم
وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالم" .الديث .
وإذا ثبت ف بعضهم هذا لجل بدعة فكل مبتدع باف عليه مثل من ذكره .
وأما ثانيا :فإن كان البتدع ل يقبل منه عمل ،إما أن يراد أنه ل يقبل له بإطلق على أي وجه وقع
من وفاق سنة أو خلفها ،وإما أن يراد أنه ل يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما ل يبتدع فيه .
فأما الول :فيمكن على أحد أوجه ثلثة .
الول :أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت ،فأعماله ل تقبل معها ـ داخلتها
تلك البدعة أم ل .ويشي إليه حديث ابن عمر الذكور آنفا ،ويدل عليه حديث علي بن أب طالب
رضي ال عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة ،فقال وال ما عندنا كتاب نقرؤه إل
كتاب ال وما ف هذه الصحيفة ،فنشرها فإذا فيها ـ أسنان البل ،وإذا فيها :الدينة حرم من عي
إل كذا .من أحدث فيها حدثا فعليه لعنه ال واللئكة والناس أجعي ل يقبل ال منه صرفا ول عدلً
.وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة .وهذا شديد جدا على أهل الحداث
ف الدين .
ل يتفرع عليه سائر العمال ،كما إذا ذهب إل إنكار العمل بب الواحد الثان :أن تكون بدعته أص ً
بإطلق ،فإن عامة التكليف مبن عليه ،لن المر إنا يرد على الكلف من كتاب ال أو من سنة
رسوله .وما تفرع منهما راجع إليهما .فإن كان واردا من السنة فمعظم نقل السنة بالحاد ،بل قد
أعوز أن يوجد حديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم متواترا ،وإن كان واردا من الكتاب فإنا
تبينه السنة فكل ما ل يبي ف القرآن فل بد لطرح نقل الحاد أن يستعمل رأيه وهو البتداع بعينه ،
فيكون فرع ينبن على ذلك بدعة ل يقبل منه شيء ،كما ف الصحيح من قوله عليه السلم :
"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وكما إذا كانت البدعة الت ينبن عليها كل عمل ،فإن العمال
بالنيات ،وإنا لكل امرىء ما نوى .
53
الشاطبي كتاب العتصام
ومن أمثلة ذلك قول من يقول :إن العمال إنا تلزم من ل يبلغ درجة الولياء الكاشفي بقائق
التوحيد ،فأما من رفع له الجاب وكوشف بقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه ،بناءً منهم
على أصل هو كفر صريح ل يليق ف هذا الوضع ذكره .
وف الترمذي عن أب رافع عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال :
"ل ألفي أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نيت عنه فيقول :ل أدري ! ما
وجدنا ف كتاب ال اتبعناه !" .
وف رواية " :أل! هل عسى رجل يبلغه عن الديث وهو متكىء على أريكته فيقول :بيننا وبينكم
كتاب ال ( قال ) فما وجدنا فيه حل ًل حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ،وإن ما حرم رسول
ال كما حرم ال" حديث حسن .
وإنا جاء هذا الديث على الذم وإثبات أن سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ف التحليل والتحري
ككتاب ال ،فمن ترك ذلك فقد بن أعماله على رأيه على كتاب ال ول على سنة رسول ال صلى
ال عليه وسلم .
ومن المثلة إذا كانت البدعة ترج صاحبها عن السلم باتفاق أو باختلف ،إذ للعملء ف تكفي
أهل البدع قولن .وف الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلم ف بعض روايات حديث
الوارج حي ذكر السهم بصيغة الوارج من الرمية بي الفرث والدم ومن اليات قوله سبحانه
وتعال":يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" ،ونو الظواهر التقدمة .
الوجه الثالث :أن صاحب البدعة ف بعض المور التعبدية أو غيها قد يره اعتقاد بدعته الاصة إل
التأويل الذي يصي اعتقاده ف الشريعة ضعيفا ،وذلك يبطل عليه جيع عمله .بيان ذلك أمثلة :
منها :أن يترك العقل مع الشرع ف التشريع ،وإنا يأت الشرع كاشفا لا اقتضاه العقل ،فما ليت
شعري هل حكم هؤلء ف التعبد ل شرعه أم عقولم ؟ بل صار الشرع ف نلتهم كالتابع العي ل
حاكما متبعا ،وهذا هو التشريع الذي ل يبق للشرع معه أصالة ،فكل ما عمل هذا العامل مبنيا
على ما اقتضاه عقله ،وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة ل على إفراد الشرع ،فل يصح بناء
على الدليل الدال على إبطال التحسي والتقبيح العقليي ،إذ هو عند علماء الكلم من مشهور البدع
،وكل بدعة ضللة .
ومنها :أن الستحسن للبدع يلزمه عادةً أن يكون الشرع عنده ل يكمل بعد ،فل يكون لقوله تعال
" :اليوم أكملت لكم دينكم" معن يعتب به عندهم ،ومسن الظن منهم يتأولا حت يرجها عن
ظاهرها ،وذلك أن هؤلء الفرق الت تبتدع العبادات أكثرها من يكثر الزهد والنقطاع والنفراد
عن اللق ،وإل القتداء بم يري أغمار العوام ،والذي يلزم الماعة وإن كان أتقى خلق ال ل
يعدونه إل من العامة .وأما الاصة فهم أهل تلك الزيادات ،ولذلك تد كثيا من العتزين بم ،
54
الشاطبي كتاب العتصام
والائلي إل جهتهم ،يزدرون بغيهم من ل ينتحل مثل ما انتحلوا ،ويعدونم من الحجوبي عن
أنوارهم ،فكل من يعتقد هذا العن يضعف ف يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصال ،وبي
حدوده الفقهاء الراسخون ف العلم ،إذ ليس هو عنده ف طريق السلوك بنهض حت يدخل مداخل
خاصتهم ،وعند ذلك ل يبقى لعمل ف أيديهم روح العتماد القيقي ،وهو باب عدم القبول ف
تلك العمال ،وإن كانت بسب ظاهر المر مشروعة ،لن العتقاد فيها أفسدها عليهم ،فحقيق
أن ل يقبل من هذا شأنه صرف ول عدل ،والعياذ بال ! .
وأما الثان :وهو أن يراد بعدم القبول لعمالم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا ،وعليه يدل
الديث التقدم " :كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" والميع من قوله " :كل بدعة ضللة" أي أن
صاحبها ليس على الصراط الستقيم ،وهو معن عدم القبول ،وفاق قول ال " :ول تتبعوا السبل
فتفرق بكم عن سبيله" ،وصاحب البدعة ل يقتصر ف الغالب على الصلة دون الصيام ،ول على
الصيام دون الزكاة ،ول على الزكاة دون الج ،ول على الج دون الهاد ،إل غي ذلك من
العمال ،لن الباعث له على ذلك حاضر معه ف الميع ،وهو الوى والهل بشريعة ال ،كما
سيأت إن شاء ال .
وف البسوطة عن يي بن يي أنه ذكر العراف وأهله فتوجع واسترجع ،ث قال :قوم أرادوا وجها
من الي فلم يصيبوه فقيل له :يا أبا ممد ! أفيجى لم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال :ليس ف
خلف السنة رجاء ثواب .
وأما أن صاحب البدعة تنع منه العصمة ويوكل إل نفسه فقد تقدم نقله ،ومعناه ظاهر جدا ،فإن
ال تعال بعث إلينا ممدا صلى ال عليه وسلم رح ًة للعالي حسبما أخب ف كتابه ،وقد كنا قبل
ل ،ول نعرف من مصالنا الدنيوية إل قليلً على غي طلوع ذلك النور العظم ل نتدي سبي ً
كمال ،ول من مصالنا الخروية قليلً ول كثيا ،بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما
فيه ،ويطرح هوى غيه فل يلتفت إليه ،فل يزال الختلف بينهم والفساد فيهم يص ويعم ،حت
بعث ال نبيه صلى ال عليه وسلم لزوال الريب واللتباس ،وارتفاع اللف الواقع بي الناس ،كما
قال ال تعال " :كان الناس أمة واحدة فبعث ال النبيي" إل قوله " :فهدى ال الذين آمنوا لا
اختلفوا فيه من الق بإذنه" وقوله " :وما كان الناس إل أمة واحدة فاختلفوا" ول يكن حاكما بينهم
فيما اختلفوا فيه إل وقد جاءهم با ينتظم به شلهم ،وتتمع به كلمتهم ،وذلك راجع إل الهة الت
من أجلها اختلفوا ،وهو ما يعود عليهم بالصلح ف العاجل والجل ،ويدرأ عنهم الفساد على
الطلق ،فانفضت الديان والدماء والعقل والنساب والموال ،من طرق يعرف مآخذها العلماء
.وذلك ،القرآن النل على النب صلى ال عليه وسلم قو ًل وعملً وإقرارا ،ول يردوا إل تدبي
أنفسهم للعلم بأنم ل يستطيعون ذلك ول يستقلون بدرك مصالهم ول تدبي أنفسهم ،فإذا ترك
55
الشاطبي كتاب العتصام
البتدع هذه البات العظيمة ،والعطايا الزيلة ،وأخذ ف استصلح نفسه أو دنياه بنفسه با ل يعل
الشرع عليه دليلً ،فكيف له بالعصمة والدخول تت هذه الرحة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة
إل تدبي نفسه ،فهو حقيق بالبعد عن الرحة .قال ال تعال " :واعتصموا ببل ال جيعا ول
تفرقوا" بعد قوله " :اتقوا ال حق تقاته" فأشعر أن العتصام ببل ال هو تقوى ال حقا ،وأن ما
سوى ذلك تفرقة ،لقوله " :ول تفرقوا" والفرقة من أخس أوصاف البتدعة ،لنه خرج عن حكم
ال وباين جاعة أهل السلم .
روى عبد بن حيد بن عبد ال :أن حبل ال الماعة .
وعن قتادة :حبل ال التي ،هذا القرآن وسنته ،وعهده إل عباده الذي أمر أن يعتصم با فيه من
الي ،والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا ببله ،إل آخر ما قال ومن ذلك قوله تعال " :واعتصموا
بال هو مولكم" .
وأما أن الاشي إليه والوقر له معي على هدم السلم فقد تقدم من نقله .
وروي أيضا مرفوعا :
"من أتى صاحب بدعة ليوقره ،فقد أعان على هدم السلم" .
وعن هشام بن عروة قال :
قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ":من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم السلم" .
ويامعها ف العن ما صح من قوله عليه الصلة والسلم " :من أحدث حدثا أو آوى مدثا فعليه لعنة
ال واللئكة والناس أجعي" الديث .
فإن اليواء يامع التوقي ،ووجه ذلك ظاهر لن الشي إليه والتوقي له تعظيم له لجل بدعته ،وقد
علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلله با هو اشد من هذا ،كالضرب والقتل ،فصار توقيه
صدودا عن العمل بشرع السلم ،وإقبالً على ما يضاده وينافيه ،والسلم ل ينهدم إل بترك العمل
به والعمل با ينافيه .
وأيضا فإن توقي صاحب البدعة مظنة لفسدتي تعودان على السلم بالدم :
إحداها :التفات الهال والعامة إل ذلك التوقي ،فيعتقدون ف البتدع أنه أفضل الناس ،وأن ما هو
عليه خي ما عليه غيه ،فيؤدي ذلك إل اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم .
والثانية :أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالادي الحرض له على إنشاء البتداع ف كل شيء
.
وعلى كل حال فتحيا البدع وتوت السنن ،وهو هدم السلم بعينه .
56
الشاطبي كتاب العتصام
وعلى ذلك دل حديث معاذ :فيوشك قائل أن يقول :ما لم ل يتبعون وقد قرأت القرآن ؟ ما هم
بتبعي حت أبتدع لم غيه ،وإياكم وما ابتدع ،فإن ما ابتدع ضللة فهو يقتضي أن السنن توت
إذا أحييت البدع ،وإذا ماتت اندم السلم .
وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إل صحة العتبار ،لن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل
بالق كما ف العكس ،لن الحل الواحد ل يشتغل إل بأحد الضدين .
وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع ،فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة .
فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي ال عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدها على
الخر ث قال لصحابه :هل ترون ما بي هذين الجرين من النور ؟ قالوا :يا أبا عبد ال ! ما نرى
بينهما إل قليلً ،قال :والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حت ل يرى من الق إل قدر ما بي هذين
الجرين من النور ،وال لتفشون البدع حت إذا ترك منها شيء قالوا :تركت السنة .وله آخر قد
تقدم .
وعن أب إدريس الولن أنه كان يقول :ما أحدثت أمة ف دينها بدعة إل رفع ال با عنهم سنته .
وعن حسان بن عطية قال :ما أحدث قوم بدعة ف دينهم إل نزع ال من سنتهم مثلها ،ث ل يعدها
إليهم إل يوم القيامة .
وعن بعض السلف يرفعه :
"ل يدث رجل ف السلم بدعةً إل ترك من السنة ما هو خي منها" .
وعن ابن عباس رضي ال عنه قال :ما يأت على الناس من عام إل أحدثوا فيه بدعةً وأماتوا فيه سن ًة ،
حت تيا البدع وتوت السنن .
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة ،فلقوله عليه الصلة والسلم :
"من أحدث حدثا آو آوى مدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس أجعي" .
وعد من الحاديث ،والستنان بسنة سوء ل تكن .
وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيانه ،وقد شهد أن بعثه النب صلى ال
عليه وسلم حق ل شك فيها ،وجاءه الدى من ال والبيان الشاف ،وذلك قول ال تعال " :كيف
يهدي ال قوما كفروا بعد إيانم وشهدوا أن الرسول حق " إل قوله " :أولئك جزاؤهم أن عليهم
لعنة ال واللئكة والناس أجعي" إل آخرها .
واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل ال وبينه ف كتابه .وذلك قوله تعال " :إن الذين يكتمون ما
أنزلنا من البينات والدى من بعد ما بيناه للناس ف الكتاب أولئك يلعنهم ال ويلعنهم اللعنون" إل
آخرها .
57
الشاطبي كتاب العتصام
فتأملوا العن الذي اشترك البتدع فيه مع هاتي الفرقتي ،وذلك مضادة الشارع فيما شرع ،لن ال
تعال أنزل الكتاب وشرع الشرائع ،وبي الطريق للسالكي على غاية ما يكن من البيان ،فضادها
الكافر بأن جحدها جحدا ،وضادها كاتها بنفس الكتمان ،لن الشارع يبي ويظهر ،وهذا يكتم
ويفي ،وضادها البتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بي وإخفاء ما أظهر ،لن من شأنه أن يدخل
الشكال ف الواضحات ،من أجل اتباع التشابات ،لن الواضحات ،تدم له ما بن عليه من
التشابات ،فهو آخذ ف إدخال الشكال على الواضح ،حت يرتكب ما جاءت اللعنة ف البتداع
به من ال واللئكة والناس أجعي .
قال أبو مصعب صاحب مالك :قدم علينا ابن مهدي ـ يعن الدينة ـ فصلى ووضع رداءه بي
يدي الصف فلما سلم المام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ،وكان قد صلى خلف المام ،
فلما سلم قال :من ها هنا من الرس ؟ فجاءه نفسان فقال :خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه .
فحبس ،فقيل له :إنه ابن مهدي فوجه إليه ،وقال له :أما خفت ال واتقيته أن وضعت ثوبك بي
يديك ف الصف وشغلت الصلي بالنظر إليه ،وأحدثت ف مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ،وقد قال
النب صلى ال عليه وسلم :
"من أحدث ف مسجدنا حدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس أجعي؟" فبكى ابن مهدي وآل على
نفسه أن ل يفعل ذلك أبدا ف مسجد النب صلى ال عليه وسلم ول ف غيه .
وهذا غاية ف التوقي والتحفظ ف ترك إحداث ما ل يكن خوفا من تلك اللعنة .فما ظنك با سوى
وضع الثوب ؟
وتقدم حديث الطحاوي :ستة ألعنهم .لعنهم ال فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلة والسلم
أخذا بالبدعة .
وأما أنه يزداد من ال بعدا .فلما روي عن السن أنه قال :صاحب البدعة ما يزداد من ال اجتهادا
،صياما وصلةً ،إل ازداد من ال بعدا .
وعن أيوب السختيان قال :ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إل ازداد من ال بعدا .
58
الشاطبي كتاب العتصام
ف أصل الشريعة ،وف فروع العمال والعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من ال
وتوصله إل النة .
وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه ل يقربه إل ال إل العمل با شرع ،وعلى الوجه الذي شرع
ـ وهو تاركه ،وأن البدع تبط العمال ـ وهو ينتحلها .
وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بي أهل السلم ,فلنا تقتضي التفرق شيعا .
وقد أشار إل ذلك القرآن الكري حسبما تقدم ف قوله تعال " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا
من بعد ما جاءهم البينات" وقوله " :ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ،وقوله " :ول تكونوا
من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب با لديهم فرحون" ،وقوله " :إن
الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء" وما أشبه ذلك من اليات ف هذا العن .
وقد بي عليه الصلة والسلم :
"أن الفساد ذات البي هي الالقة وأنا تلق الدين" هذه الشواهد تدل على وقوع الفتراق والعداوة
عند وقوع البتداع .
وأول شاهد عليه ف الواقع قصة الوارج إذ عادوا أهل السلم حت صاروا يقتلونم ويدعون الكفار
كما أخب عنه الديث الصحيح ،ث يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب اللوك فإنم تناولوا أهل
السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا ،حسبما بينه جيع أهل الخبار .
ث يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونم ويزعمون
أنم الرجاس الناس الكبي على الدنيا ويضعون عليهم شواهد اليات ف ذم الدنيا وذم الكبي
عليها ،كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال :لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبي على
شراك نعل ما أجزت شهادتم .
وعن معاذ بن معاذ قال :قلت لعمرو بن عبيد :كيف حدث السن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد
الرحن بعد انقضاء عدتا ؟ فقال :إن فعل عثمان ل يكن سنة .
وقيل له :كيف حدث السن عن سرة ف السكتتي ؟ فقال :ما تصنع بسمرة ! قبح ال سرة اهـ
.بل قبح ال عمرو بن عبيد ،وسئل يوما عم شيء فأجاب فيه .
قال الراوي :قلت ليس هكذا يقول أصحابنا .قال :ومن أصحابك ل أبا لك ؟ قلت :أيوب ،
ويونس ،وأبن عون ،والتميمي .قال أولئك أناس أرجاس ،أموات غي أحياء .
فهكذا أهل الضلل يسبون السلف الصال لعل بضاعتهم تنفق " .ويأب ال إل أن يتم نوره" .
وأصل هذا الفساد من قبل الوراج فهم أول من لعن السلف الصال ،وكفر الصحابة رضي ال عن
الصحابة ،ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء .
59
الشاطبي كتاب العتصام
وأيضا فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بم والتنكيل بن اناش
إل جهتهم يالقتل فما دونه ،وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومالستهم حسبما تقدم ،وذلك
مظنة إلقاء العداوة والبغضاء .لكن الدرك فيها على من تسبب ف الوراج عن الماعة با أحدثه من
اتباع غي سبيل الؤمني ل على التعادي مطلقا .كيف ونن مأمورون بعاداتم وهم مأمورون
بوالتنا والرجوع إل الماعة ؟
وأما أنا مانعة من شفاعة ممد صلى ال عليه وسلم ،فلما روي أنه عليه السلم قال :
"حلت شفاعت لمت إل صاحب بدعة" ويشي إل صحة العن فيه ما ف الصحيح قال :
" أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ،وأنه سيؤتى برجال من أمت فيؤخذ بم ذات الشمال ـ إل
قوله ،فيقال ل يزالوا مرتدين على أعقابم " الديث ،وقد تقدم .ففيه أنه ل يذكر لم شفاعة
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإنا قال " :فأقول لم سحقا كما قال العبد الصال" ويظهر من
أول الديث أن ذلك الرتداء ل يكن ارتداد كفر لقوله " :وإنه سيؤتى برجال من أمت" ولو كانوا
مرتدين عن السلم لا نسبوا إل أمته ،ولنه عليه السلم أتى بالية وفيها "وإن تغفر لم فإنك أنت
العزيز الكيم" ،ولو علم النب صلى ال عليه وسلم أنم خارجون عن السلم جلة لا ذكرها ،لن
من مات على الكفر ل غفران له البتة ،وإنا يرجى الغفران لن ل يرجه عمله عن السلم لقول ال
تعال " :إن ال ل يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لن يشاء" .
ومثل هذا الديث حديث الوطأ لقوله فيه " :فأقول فسحقا فسحقا" .
وأما أنا رافعة للسنن الت تقابلها ،فقد تقدم الستشهاد عليه ف أن الوقر لصاحبها معي على هدم
السلم .
وأما أن على مبتدعها إث من عمل با إل يوم القيامة ،فلقوله تعال " :ليحملوا أوزارهم كاملة يوم
القيامة ومن أوزار الذين يضلونم بغي علم " ولا ف الصحيح من قوله عليه الصلة والسلم :
"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل با" الديث .
وإل ذلك أشار الديث الخر :
"ما من نفس تقتل ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل منها ،لنه أول من سن القتل" .
وهذا التعليل يشعر بقتضى الديث قبله ،إذ علل تعليق الث على ابن آدم لكونه أول من سن القتل ،
فدل على أن من سن ما ل يرضاه ال ورسوله فهو مثله ،إذ ل يتعلق الث بن سن القتل لكونه قتلً
دون غيه ،بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقا مسلوكة .
ومثل هذا ما جاء ف معناه ما تقدم أو يأت كقوله :
"ومن ابتدع بدعة ضللة ل ترضي ال ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل با ل ينقص ذلك من
أوزار الناس شيئا" وغي ذلك من الحاديث .
60
الشاطبي كتاب العتصام
فليتق ال امرؤ ربه ولينظر قبل الحداث ف أي مزلة يضع قدمه ف مصون أمره ،يثق بعقله ف
التشريع ويتهم ربه فيما شرع ،ول يدري السكي ما الذي يوضع له ف ميزان شيئاته ما ليس ف
حسابه ،ول شعر أنه من عمله ،فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل با من بعده ،إل كتب عليه إث
ذلك العامل ،زيادةً إل إث ابتداعه أولً ،ث عمله ثانيا .
وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فل تزداد على طول الزمان إل مضيا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا
وانتشارا ،فعلى وزان ذلك يكون إث البتدع لا ،كما أن من سن سن ًة حسنةً كان له أجرها وأجر
من عمل با إل يوم القيامة ،وأيضا .فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها ،كان على
البتدع إث ذلك أيضا ،فهو إث زائد على إث البتداع ،وذلك الث يتضاعف تضاعف إث البدعة
بالعمل با ،لنا كلما تددت ف قول أو عمل تددت ف قول إماتة السنة كذلك .
واعتبوا ذلك ببدعة الوراج فإن النب صلى ال عليه وسلم عرفنا بأنم :
"يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" الديث إل آخره .ففيه بيان أنم ل يبق لم من
الدين إل ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتارى .هل هو موجود فيهم أم ل ؟ وإنا سببه البتداع ف
دين ال ،وهو الذي دل عليه قوله " :يقتلون أهل السلم ويدعون أهل الوثان " ،وقوله :
"يقرؤون القرآن ل يتجاوز تراقيهم" فهذه بدع ثلث ،إعاذة ال بفضله .
وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلة والسلم :
"إن ال حجر التوبة على كل صاحب بدعة" .
وعن يي بن أب عمرو الشيبان قال :كان يقال يأب ال لصاحب بدعة بتوبة ،وما انتقل صاحب
بدعة إل إل أشر منها .
ونوه عن طريق علي بن أب طالب رضي ال عنه قال :ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إل
إل ما هو شر منه .
خرج هذه الثار ابن وضاح .
وخرج ابن وهب ،عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول :اثنان ل نعاتبهما :صاحب طمع ،
وصاحب هوى ،فإنما ل ينعان .
وعن ابن شوذب قال :سعت عبد ال بن القاسم وهو يقول :ما كان عبد على هوى تركه إل ما
هو شر منه .قال :فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال :تصديقه ف حديث عن النب صلى ال عليه
وسلم :
"يرقون من الدين مروق السهم من الرمية ث ل يرجعون إليه حت يرجع السهم على فوقه" .
وعن أيوب قال :كان رجل يرى رأيا فرجع فأتيت ممدا فرحا بذلك أخبه ،فقلت :أشعرت أن
فلنا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال :انظر إلم يتحول ؟ إن آخر الديث أشد عليهم من الول ،
61
الشاطبي كتاب العتصام
وأوله " :يرقون من الدين" وآخره " :ث ل يعودون" وهو حديث أب ذر أن النب صلى ال عليه
وسلم قال :
"سيكون من أمت قوم يقرؤون القرآن ول ياوز حلقيمهم ،يرجون من الدين كما يرج السهم
من الرمية ث ل يعودون فيه ،هم شر اللق والليقة" .
فهذه شهادة الديث الصحيح لعن هذه الثار .وحاصلها أنه [ ل ] توبةً لصاحب البدعة عن بدعته
فإن خرج عنها فإنا يرج إل ما هو شر منها كما ف حديث أيوب ،أو يكون من يظهر الروج
عنها وهو مصر عليها بعد ،كقصة غيلن مع عمر بن عبد العزيز .
ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه :
"وإنه سيخرج ف أمت أقوام تارى بم تلك الهواء ،كما يتجارى الكلب بصاحبه ،ل يبقى منه
عرق ول مفصل إل دخله" وهذا النفي يقتضي العموم بإطلق ،ولكنه قد يمل على العموم
العادي ،إذ ل يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إل الق ،كما نقل عن عبد ال بن السن العنبي ،
وما نقلوه ف مناظرة ابن عباس الرورية الارجي على علي رضي ال عنه ،وف مناظرة عمر بن عبد
العزيز لبعضهم .ولكن الغالب ف الواقع الصرار .
ومن هنالك قلنا :يبعد أن يتوب بعضهم لن الديث يقتضي العموم بظاهره ،وسيأت بيان ذلك
بأبسط من هذا إن شاء ال .
وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تت تكاليف الشريعة صعب على النفس لنه أمر مالف للهوى ،
وصاد عن سبيل الشهوات ،فيثقل عليها جدا لن الق ثقيل ،والنفس إنا تنشط با يوافق هواها ل
با يالفه ،وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ،لنا راجعة إل نظر مترعها ل إل نظر الشارع ،فعلى
حكم التبع ل بكم الصل مع ضميمة أ خرى ،وهي أن البتدع ل بد له من تعلق بشبهة دليل
ينسبها إل الشارع ،ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ،فصار هواه مقصودا بدليل شرعي ف
زعمه ،فكيف يكنه الروج عن ذلك وداعي الوى مستمسك بسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل
الشرعي ف الملة .
ومن الدليل على ذلك ما روي عن الوزاعي قال :بلغن أن من ابتدع بدعة ضللة آلفه الشيطان
العبادة أو ألقى عليه الشوع والبكاء كي يصطاد به .وقال بعض الصحابة :أشد الناس عبداة مفتون
.واحتج بقوله عليه الصلة والسلم " :يقر أحدكم صلته ف صلته وصيامه ف صيامه" إل آخر
الديث .
ويقق ما قاله الواقع كما نقل ف الخبار عن الوارج وغيهم .
فالبتدع يزيد ف الجتهاد لينال ف الدنيا التعظيم والال والاه وغي ذلك من أصناف الشهوات ،بل
التعظيم على شهوات الدنيا ،أل ترى إل انقطاع الرهبان ف الصوامع والديارات ،عن جيع
62
الشاطبي كتاب العتصام
63
الشاطبي كتاب العتصام
"أنا فرطكم على الوض ليفعن إل رجال منكم حت إذا تأهبت لتناولم اختلجوا دون ،فأقول :
أي رب ! أصحاب ،يقول :ل تدري ما أحدثوه بعدك" .
والظهر أنم من الداخلي ف غمار هذه المة لجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل ،
لن ذلك ل يكون لهل الكفر الحض ،كان كفرهم أصلً أو ارتدادا .
ولقوله " :قد بدلوا بعدك" ولو كان الكفر لقال :قد كفروا بعدك .وأقرب ما يمل عليه تبديل
السنة ،وهو واقع على أهل البدع .ومن قال :إنه النفاق .فذلك غي خارج عن مقصودنا ،لن
أهل النفاق إنا أخذوا الشريعة تقيةً ل تعبدا ،فوضعوها غي مواضعها وهو عي البتداع .
ويري هذا الجرى كل من اتذ السنة والعمل با حيلةً وذريع ًة إل نيل حطام الدنيا ل على التعبد با
ل تعال ،لنه تبديل لا وإخراج لا عن وضعها الشرعي .
وأما الوف عليه من أن يكون كافرا .فلن العلماء من السلف الول وغيهم اختلفوا ف تكفي
كثي من فرقهم مثل الوارج والقدرية وغيهم ،ودل ذلك ظاهر قوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا لست منهم ف شيء" ،وقوله " :يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" .الية .وقد حكم
العلماء بكفر جلة منهم كالباطنية وسواهم ،لن مذهبهم راجع إل مذهب اللولية القائلي با يشبه
قول النصارى ف اللهوت والناسوت ،والعلماء إذا اختلفوا ف أمر :هل هو كفر أم ل ؟ فكل عاقل
يربأ بنفسه أن ينسب إل خطه خسف كهذه بيث يقال له :إن العلماء اختلفوا :هل أنت كافر أم
ضال غي كافر؟ أو يقال :إن جاعةً من أهل العلم قالوا
بكفرك وأنت حلل الدم .
وأما أنه ياف على صاحبها سوء الاتة والعياذ بال .فلن صاحبها مرتكب إثا ،وعاص ل تعال
حتما ،ول تقول الن :هو عاص بالكبائر أو بالصغائر ،بل نقول :هو مصر على ما نى ال عنه ،
والصرار يعظم الصغية إن كانت صغية حت تصي كبية ،وإن كانت كبية فأعظم .ومن مات
مصرا على العصية فيخاف عليه ،فربا إذا كشف الغطاء وعاين علمات الخرة استفزه الشيطان
وغلبه على قلبه ،حت يوت على التغيي والتبديل ،وخصوصا حي كان مطيعا له فيما تقدم من
زمانه ،مع حب الدنيا الستول عليه .
قال عبد الق الشبيلي :إن سوء الاتة ل يكون لن استقام ظاهره وصلح باطنه ،ما سع بذا قط
ول علم به والمد ل ،وإنا يكون لن كان له فساد ف العقل أو إصرار على الكبائر ،وإقدام على
العظائم ،أو لن كان مستقيما ث تغيت حاله وخرج عن سننه ،وأخذ ف طريق غي طريقه ،فيكون
عمله ذلك سببا لسوء خاتته وسوء عاقبته ،والعياذ بال .قال ال تعال " :إن ال ل يغي ما بقوم
حت يغيوا ما بأنفسهم" .
64
الشاطبي كتاب العتصام
فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية .فإذا نظرنا إل كونا بدعة فذلك أعظم ،لن
البتدع مع كونه مصرا على ما ني عنه يزيد على الصر بأنه معارض للشريعة بعقله ،غي مسلم لا
ف تصيل أمره ،معتقدا ف العصية أنا طاعة ،حيث حسن ما قبحه الشارع ،وف الطاعة أنا ل
تكون طاعة إل بضميمه نظره ،فهو قد قبح ما حسنه الشارع ،ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من
سوء الاتة إل ما شاء ال .وقد قال تعال ف جلة ذم " :أفأمنوا مكر ال فل يأمن مكر ال إل القوم
الاسرون" .
والكر جلب السوء من حيث ل يفطن له ،وسوء الاتة من مكر ال ،إذ يأت النسان من حيث ل
يشعر به .اللهم إنا نسألك العفو العافية .
وأما اسوداد وجهه ف الخرة فقد تقدم ف ذلك معن قوله " :يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " .
وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله " :فذوقوا العذاب با كنتم تكفرون" وقوله قبل ذلك " :وأولئك
لم عذاب عظيم " .
حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال :لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الشراك
بال شيئا ث نا من هذه الهواء لرجوت أن يكون ف أعلى جنات الفردوس ،لن كل كبية بي
العبد وربه وهو منها على رجاء ،وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنا يهوي بصاحبه ف نار
جهنم .
وأما الباءة منه ففي قوله " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " .وف الديث
:
"أنا بريء منهم وهم براء من" .
وقال ابن عمر رضي ال عنه ف أهل القدر :إذا لقيت أولئك فأخبهم أن بريء منهم وأنم براء من
.
وجاء عن السن :ل تالس صاحب بدعة فإنه يرض قلبك .
وعن سفيان الثوري :من جالس صاحب بدعة ل يسلم من إحدى ثلث :إما أن يكون فتنةً لغيه ،
وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار ،وإما أن يقول :وال ل أبال ما تكلموا به ،وإن واثق
بنفسي .فمن يأمن بغي ال طرفة عي على دينه سلبه إياه .
وعن يي بن أب كثي قال :إذا لقيت صاحب بدعة ف طريق فخذ ف طريق آخر .
وعن أب قلبة قال :ل تالسوا أهل الهواء ول تادلوهم فإن ل آمن أن يغمروكم ف ضللتهم
ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون .
وعن إبراهيم قال :ل تالسوا أصحاب الهواء ول تكلموهم فإن أخاف أن ترتد قلوبكم .
والثار ف ذلك كثية .ويعضدها ما روي عنه عليه السلم أنه قال :
65
الشاطبي كتاب العتصام
"الرء على دين خليله ،فلينظر أحدكم من يالل" .ووجه ذلك ظاهر منبه عليه ف كلم أب قلبة ،
إذ قد يكون الرء على يقي من أمر من أمور السنة ،فيلقي له صاحب الوى فيه هوى ما يتمله
اللفظ ل أصل له ،أو يزيد له فيه قيدا من رأيه ،فيقبله قلبه ،فإذا رجع إل ما كان يعرفه وجده
مظلما فإما أن يشعر به فيده بالعلم ،أو ل يقدر على رده .وأما أن ل يشعر به فيمضي مع من
هلك .
قال ابن وهب :وسعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الهواء يقول :أما أنا فعلى بينة من رب ،وأما
أنت فشاك ،فاذهب إل شاك مثلك فخاصمه ،ث قرأ :
"قل هذه سبيلي أدعو إل ال على بصية " .
فهذا شأن من تقدم من عدم تكي زائغ القلب أن يسمع كلمه .
ومثل رده بالعلم جوابه لن سأله ف قوله " :الرحن على العرش استوى" كيف استوى ؟ فقال له :
الستواء معلوم والكيف مهول ،والسؤال عنه بدعة .وأراك صاحب بدعة ث أمر بإخراج السائل .
ومثل ما ل يقدر على رده ما حكى الباجي قال :قال مالك :كان يقال :ل تكن زائغ القلب من
أذنك ،فإنك ل تدري ما يعلقك من ذلك .
ولقد سع رجل من النصار من أهل الدينة شيئا من بعض أهل القدر ،فعلق قلبه ،فكان يأت إخوانه
الذين يستنصحهم ،فإذا نوه قال :فكيف با علق قلب لو علمت أن ال يرضى أن ألقي نفسي من
فوق هذه النارة فعلت .
ث حكى أيضا عن مالك أنه قال :ل تالس القدري ول تكلمه إل أن تلس إليه ،فتغلظ عليه ،
لقوله " :ل تد قوما يؤمنون بال واليوم الخر يوادون من حاد ال ورسوله" فل توادوهم .
وأما أنه يشى عليه الفتنة ،فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال :سألت مالكا عمن
أحرم من الدينة وراء اليقات ؟ فقال :هذا مالف ل ورسوله ،أخشى عليه الفتنة ف الدنيا ،
والعذاب الليم ف الخرة .أما سعت قوله تعال " :فليحذر الذين يالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة
أو يصيبهم عذاب أليم" .وقد أمر النب صلى ال عليه وسلم أن يهل من الواقيت .
وحكى ابن العرب عن الزبي بن بكار قال :سعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال :يا أبا عبد ال
من أين أحرم ؟ ـ قال :من ذي الليفة من حيث أحرم رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال :
إن أريد أن أحرم من السجد .فقال ل تفعل .قال :فإن أريد أن أحرم من السجد من عند القب .
قال :ل تفعل فإن أخشى عليك الفتنة .فقال :واي فتنة هذه ؟ إنا هي أميال أزيدها ،قال :وأي
فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إل فضيلة قصر عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ إن سعت
ال يقول " :فليحذر الذين يالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" .
66
الشاطبي كتاب العتصام
وهذه الفتنة الت ذكرها مالك رحه ال تفسي الية هي شأن أهل البدع وقاعدتم الت يؤسسون عليها
بنيانم ،فإنم يرون أن ما ذكره ال ف كتابه وما سنه نبيه صلى ال عليه وسلم دون ما اهتدوا إليه
بعقولم .
وف مثل ذلك قال ابن مسعود رضي ال عنه فيما روي عن ابن وضاح :لقد هديتم لا ل يهتد له
نبيكم ،وإنكم لتمسكون بذنب ضللة ـ إذ مر بقوم كان رجل يمعهم يقول :رحم ال من قال
كذا وكذا مرة سبحان ال فيقول القوم .ويقول رحم ال من قال كذا وكذا مرة المد ل فيقول
القوم .
ث إن ما استدل به مالك من اليات الكرية نزلت ف شان النافقي حي أمر رسول ال صلى ال عليه
وسلم بفر الندق ،وهم الذين كانوا يتسللون لواذا .
وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة ،لنه وضع بدعة ف الشريعة على غي ما وضعها ال تعال ،
ولذلك لا أخب تعال عن النافقي قال " :أولئك الذين اشتروا الضللة بالدى" فمن حيث كانت
عامة ف الخالفي عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى .
فهذه جلة يستدل با على ما بقي ،إذ ما تقدم من اليات والحاديث فيها ما يتعلق بذا العن
كثي ،وبسط معانيها طويل ،فلنقتصر على ما ذكرنا وبال التوفيق .
67
الشاطبي كتاب العتصام
فصاحب البدعة لا غلب الوى مع الهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القوي
دون غيه ،فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق الستقيم ،فهو ضال من حيث ظن أنه راكب
للجادة ،كالار بالليل على الادة وليس له دليل يهديه ،يوشك أن يضل عنها فيقع ف متابعة ،وإن
كان بزعمه يتحرى قصدها .فالبتدع من هذه المة إنا ضل ف أدلتها حيث أخذها مأخذ الوى
والشهوة ل مأخذ النقياد تت أحكام ال .وهذا هو الفرق بي البتدع وغيه ،لن البتدع جعل
الوى أول مطالبه ،وأخذ الدلة بالتبع ،ومن شأن الدلة أنا جارية على كلم العرب ومن شأن
كلمها الحتراز فيه بالظواهر ،فكما تد فيه نصا ل يتمل التأويل تد فيه الظاهر الذي يتمله
احتمالً مرجوحا حسبما قرره من تقدم ف غي العلم ،وكل ظاهر يكن فيه أن يصرف عن مقتضاه
ف الظاهر القصود ،ويتأول على غي ما قصد فيه .فإذا انضم إل ذلك الهل بأصول الشريعة ،
وعدم الضطلع بقاصدها ،كان المر أشد وأقرب إل التحريف والروج عن مقاصد الشرع .
فكان الدرك أعرق ف الروج عن السنة ،وأمكن ف ضلل البدعة ،فإذا غلب الوى أمكن انقياد
ألفاظ الدلة إل ما اراد منها .
والدليل على ذلك أنك ل تد مبتدعا من ينسب إل اللة إل وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي
فينله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت ف الكمة الزلية الت ل مرد لا .قال تعال :
"يضل به كثيا ويهدي به كثيا " وقال " :كذلك يضل ال من يشاء ويهدي من يشاء" .لكن إنا
ينساق لم من الدلة التشابه منها ل الواضح ،والقليل منها كالكثي ،وهو أدل الدليل على اتباع
الوى فإن العظم والمهور من الدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الق ،فإن جاء على ما ظاهره
اللف فهو النادر والقليل ،فكان من حق الظاهر رد القليل إل الكثي ،والتشابه إل الواضح ،غي
أن الوى زاغ بن أراد ال زيغه فهو ف تيه ،من حيث يظن أنه على الطريق ،بلف غي البتدع
فإنه إنا جعل الداية إل الق أول مطالبه ،وأخر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع ،فوجد جهور
الدلة ومعظم الكتاب واضحا ف الطلب الذي بث عنه ،فوجد الادة ،وما شذ له عن ذلك ،فإما
أن يرده إليه .وإما أن يكله إل عاله ول يتكلف البحث عن تأويله .
وفيصل القضية بينهما قوله تعال " :فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" إل قوله :
"والراسخون ف العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فل يصح أن يسمى من هذه حالة مبتدعا ول
ضا ًل ،وإن حصل ف اللف أو خفي عليه .
أما أنه غي مبتدع فلنه اتبع الدلة ملقيا إليه حكمة النقياد ،باسطا يد الفتقار ،مؤخرا ،ومقدما
لمر ال .
وأما كونه غي ضال فلنه على الادة سلك ،وإليها لأ ،فإن خرج عنها يوما فأخطأ فل حرج عليه
،بل يكون مأجورا حسبما بينه الديث الصحيح :
68
الشاطبي كتاب العتصام
"إذ اجتهد الاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" وإن خرج متعمدا فليس على أن يعل
خروجه طريقا مسلوكا له أو لغيه ،وشرعا يدان به .
على أنه إذا وقع الذنب موقع القتداء قد يسمى استنانا فيعامل من سنه كما جاء ف الديث :
"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل با" الديث ،وقوله عليه السلم :
"ما من نفس تقتل ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل منها لنه أول من سن القتل" فسمي القتل
سنةً بالنسبة إل من عمل به عملً يقتدى به فيه لكنه ل يسمى بدعة لنه ل يوضع على أن يكون
تشريعا ول يسمى ضللً لنه ليس ف طريق الشروع أو ف مضاهاته له .
وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع ف تسمية البدع ضللت ،ويشهد له أيضا أحوال من تقدم قبل
السلم ،وف زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فإن ال تعال قال " :وإذا قيل لم أنفقوا ما
رزقكم ال قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء ال أطعمه" فإن الكفار لا أمروا بالنفاق
شحوا على أموالم وأرادوا أن يعلوا لذلك الشح مرجا فقالوا :أنطعم من لو يشاء ال أطعمه ؟
ومعلوم أن ال لو شاء ل يوج أحدا إل أحد ،لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون ،فقص هواهم
على هذا الصل العظيم ،واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لم " :إن أنتم إل ف
ضلل مبي" .
وقال تعال " :أل تر إل الذين يزعمون أنم آمنوا با أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن
يتحاكموا إل الطاغوت" فكأن هؤلء قد أقروا بالتحكيم ،غي أنم أرادوا أن يكون التحيكم على
وفق أغراضهم زيغا عن الق وظنا منهم أن الميع حكم ،وأن ما يكم به كعب بن الشرف أو
غيه مثل ما يكم به النب صلى ال عليه وسلم ،وجهلوا أن حكم النب صلى ال عليه وسلم هو
حكم ال الذي ل يرد ،وأن حكم غيه معه مردود ،إن ل يكن جاريا على حكم ال ،فلذلك قال
تعال " :ويريد الشيطان أن يضلهم ضلل بعيدا" لن ظاهر الية يدل على أنا نزلت فيمن دخل ف
السلم لقوله " :أل تر إل الذين يزعمون" كذا ـ إل آخره .وجاعة من الفسرين قالوا :إنا نزلت
ف رجل من النافقي ،أو ف رجل من النصار .
وقال سبحانه " :ما جعل ال من بية ول سائبة ول وصيلة ول حام" فهم شرعوا شرعة ،وابتدعوا
ف ملة إبراهيم عليه السلم هذه البدعة ،توها أن ذلك يقربم من ال كما يقرب من ال ما جاء به
إبراهيم عليه السلم من الق ،فنلوا وافتروا على ال الكذب ،إذ زعموا أن هذا من ذلك ،وتاهوا
ف الشروع ،فلذلك قال ال تعال على أثر الية " :يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم
من ضل إذا اهتديتم" ،وقال سبحانه " :قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغي علم وحرموا ما
رزقهم ال افتراء على ال" ،فهذه فذلكه لملة بعد تفصيل تقدي ،وهو قوله تعال " :وجعلوا ل ما
ذرأ من الرث والنعام نصيبا" الية .فهذا تشريع كالذكور قبل هذا ،ث قال " :وكذلك زين لكثي
69
الشاطبي كتاب العتصام
من الشركي قتل أولدهم شركاؤهم ليدوهم وليلبسوا عليهم دينهم" وهو تشريع أيضا بالرأي مثل
الول ،ث قال " :وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ل يطعمها إل من نشاء بزعمهم" إل آخرها ،
فحاصل المر أنم قتلوا أولدهم بغي علم وحرموا ما أعطاهم ال من الرزق بالرأي على جهة
التشريع فلذلك قال تعال " :قد ضلوا وما كانوا مهتدين" ث قال تعال بعد تعزيزهم على هذه
الحرمات الت حرموها وهي ما ف قوله " :قل آلذكرين حرم أم النثيي أما اشتملت عليه أرحام
النثيي" ،وإل قوله " :فمن أظلم من افترى على ال كذبا ليضل الناس بغي علم إن ال ل يهدي
القوم الظالي" وقوله " :عليه أرحام" يعن أنه يضله .
واليات الت قرر فيها حال الشركي ف إشراكهم أتى فيها بذكر الضلل لن حقيقته أنه خروج عن
الصراط الستقيم ،لنم وضعوا آلتهم لتقربم إل ال زلفى ف زعمهم ،فقالوا " :ما نعبدهم إل
ليقربونا إل ال زلفى" فوضعوهم موضع من يتوسل به حت عبدوهم من دون ال ،إذ كان أول
وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونم ويتبكون بم ث عبدت فأخذتا العرب من غيها على
ذلك القصد ،وهو الضلل البي .
وقال تعال " :لقد كفر الذين قالوا إن ال ثالث ثلثة وما من إله إل إله واحد" فزعموا ف الله
الق ما زعموا من الباطل ،بناء على دليل عندهم متشابه ف نفس المر حسبما ذكره أهل السي ،
فتاهوا بالشبهة عن الق ،لتركهم الواضحات ،وميلهم إل التشابات ،كما أخب ال تعال ف آية
آل عمران ،فلذلك قال تعال " :قل يا أهل الكتاب ل تغلوا ف دينكم غي الق ول تتبعوا أهواء قوم
قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيا وضلوا عن سواء السبيل" وهم النصارى ،ضلوا ف عيسى عليه السلم
،ومن ث قال تعال بعد ذكر شواهد العبودية ف عيسى " :ذلك عيسى ابن مري قول الق الذي فيه
يترون" وبعد ذكر دلئل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعال عن اتاذ الولد وذكر اختلفهم ف
مقالتم الشنيعة قال " :لكن الظالون اليوم ف ضلل مبي" .
وذكر ال النافقي وأنم يادعون ال والذين آمنوا ،وذلك لكونم يدخلون معهم ف احوال
التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يلصهم ،أو أنه يغن عنهم شيئا وهم ف اليقية إنا يادعون
أنفسهم ،وهذا هو الضلل بعينه ،لنه إذا كان يفعل شيئا يظن أنه له ،فإذا هو عليه ،فليس على
هدى من عمله ،ول هو سالك على سبيله ،فلذلك قال " :إن النافقي يادعون ال وهو خادعهم"
إل قوله " :ومن يضلل ال فلن تد له سبيل" .
وقال تعال حكايةً عن الرجل الذي جاء من أقصى الدينة يسعى " :أأتذ من دونه آلة إن يردن
الرحن بضر ل تغن عن شفاعتهم شيئا ول ينقذون" ؟ معناه كيف أبعد من دون ال ما ل يغن
شيئا ،وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع ؟ هذا خروج عن طريق إل غي طريق "إن إذا لفي
ضلل مبي" .
70
الشاطبي كتاب العتصام
والمثلة ف تقرير هذا الصل كثية ،جيعها يشهد بأن الضلل ف غالب المر إنا يستعمل ف
موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له ،أو تقليد من عرضت له الشبهة ،فيتخذ ذلك الزلل شرعا
ودينا يدين به ،مع وجود واضحة الطريق الق ومض الصواب .
ولا ل يكن الكفر ف الواقع مقتصرا على هذا الطريق بل ث طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عنادا
أو ظلما ،ذكر ال تعال الصنفي ف السورة الامعة وهي أم القرآن فقال " :اهدنا الصراط الستقيم
* صراط الذين أنعمت عليهم " فهذه هي الجة العظمى الت دعا النبياء عليهم السلم إليها .ث قال
" :غي الغضوب عليهم ول الضالي" فالغضوب عليهم هم اليهود لنم كفروا بعد معرفتهم نبوة
ممد صلى ال عليه وسلم .أل ترى إل قول ال فيهم " :الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون
أبناءهم" .
"يعن اليهود ،والضالون هم النصارى" لنم ضلوا ف الجة ف عيسى عليه السلم ،وعلى هذا
التفسي أكثر الفسرين وهو مروي عن النب صلى ال عليه وسلم .
ويلحق بم ف الضلل الشركون الذين أشركوا مع ال إلا غيه ،لنه قد جاء ف أثناء القرآن ما يدل
على ذلك ،لن لفظ القرآن ف قوله " :ول الضالي" يعمهم وغيهم ،فكل من ضل عن سواء
السبيل داخل فيه .
ول يبعد أن يقال :إن الضالي يدخل فيه كل من ضل عن الصراط الستقيم كان من هذه المة أو
ل ،إذ قد تقدم ف اليات الذكورة قبل هذا مثله ،فقوله تعال " :ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن
سبيله" عام ف كل ضال كان ضلله كضلل الشرك أو النفاق ،أو كضلل الفرق العدودة ف اللة
السلمية ،وهو أبلغ وأعلى ف قصد حصر أهل الضلل ،وهو اللئق بكلية فاتة الكتاب والسبع
الثان والقرآن العظيم ،الذي أوتيه ممد صلى ال عليه وسلم .
وقد خرجنا عن القصود بعض خروج ،ولكنه عاضد لا نن فيه وبال التوفيق .
الباب الثالث
ف أن ذم البدع والحدثات عام ل يص مدثة دون غيها ويدخل تت هذه الترجة جلة من شبه
البتدعة الت احتجوا با
فاعلموا ـ رحكم ال ـ أن ما تقدم من الدلة حجة ف عموم الذم من أوجه :
أحدها :أنا جاءت مطلقة عامة على كثرتا ل يقع فيها استثناء البتة ،ول يأت فيها ما يقتضي أن
منها ما هو هدى ،ول جاء فيها :كل بدعة ضللة إل كذا وكذا ،ول شيء من هذه العان ،فلو
كان هنالك مدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الستحسان أو أنا لحقة بالشروعات ،لذكر ذلك ف
71
الشاطبي كتاب العتصام
آية أو حديث ،لكنه ل يوجد ،فدل على أن تلك الدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية الت
ل يتخلف عن مقتضاها فرد من الفراد .
والثان :أنه قد ثبت ف الصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت ف
مواضيع كثية وأتى با شواهد على معان أصولية أو فروعية ،ول يقترن با تقييد ول تصيص ،مع
تكررها ،وإعادة تقررها ،فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعال " :أل
تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للنسان إل ما سعى" وما أشبه ذلك .وبسط الستدلل على
ذلك هناك ،فما نن بصدده من هذا القبيل ،إذ جاء ف الحاديث التعددة والتكررة ف أوقات شت
وبسب الحوال الختلفة :
أن كل بدعة ضللة ،وأن كل مدثة بدعة .وما كان نو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع
مذمومة .ول يأت ف آية ول حديث تقييد ول تصيص ول ما يفهم منه خلف ظاهر الكلية فيها .
فدل ذلك دللة واضحة على أنا على عمومها وإطلقها .
والثالث :إجاع السلف الصال من الصحابة والتابعي ومن يليهم على ذمها كذلك ،وتقبيحها
والروب عنها ،وعمن اتسم بشيء منها ،ول يقع منهم ف ذلك توقف ول مثنوية .فهو ـ بسب
الستقراء ـ إجاع ثابت ،فدل على أن كل بدعة ليست بق بل هي من الباطل .
والرابع :أن متعقل البدعة ذلك بنفسه ،لنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع ،وكل ما كان
بذه الثابة فمحال أن ينقسم إل حسن وقبيح ،وأن يكون منه ما يدح ومنه ما يذم ،إذ ل يصح ف
معقول ول منقول استحسان مشاقة الشارع .وقد تقدم بسط هذا ف أول الباب الثان .وأيضا فلو
فرض أنه جاء ف النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم ل يتصور لن البدعة طريقة
تضاهي الشروعة من غي أن تكون كذلك .وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها ،إذ لو
قال الشارع :الحدثة الفلنية حسنة لصارت مشروعة ،كما أشاروا إليه ف الستحسان حسبما
يأت إن شاء ال .
ولا ثبت ذمها ذم صاحبها لنا ليست بذمومة من حيث تصورها فقط ،بل من حيث اتصف با
التصف ،فهو إذا الذموم على القيقة ،والذم خاص التأثيم ،فالبتدع مذموم آث ،وذلك على
الطلق والعموم .ويدل على ذلك أربعة أوجه :
أحدها :أن الدلة الذكورة إن جاءت فيهم نصا فظاهر ،كقوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم
وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " وقوله " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البينات" إل آخر الية .وقوله عليه السلم :
"فليذادن رجال عن حوضي" الديث .إل سائر ما نص فيه عليهم .وإن كانت نصا ف البدعة
فراجعة العن إل البتدع من غي إشكال ،وإذا رجع الميع إل ذمهم ،رجع الميع إل تأثيمهم .
72
الشاطبي كتاب العتصام
والثان :أن الشرع قد دل على أن الوى هو التبع الول ف البدع ،وهو القصود السابق ف حقهم
ودليل الشرع كالتبع ف حقهم .ولذلك تدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ،ويتبعون كل شبهة
وافقت أغراضهم .أل ترى إل قوله تعال " :فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء
الفتنة وابتغاء تأويله" فأثبت لم الزيغ أو ًل ،وهو اليل عن الصواب ،ث اتباع التشابه وهو خلف
الحكم الواضح العن ،الذي هو أم الكتاب ومعظمه .ومتشابه على هذا قليل ،فتركوا اتباع العظم
إل اتباع القل التشابه الذي ل يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله ،وطلبا لعناه الذي ل يعلمه إل
ال ،أو يعلمه ال والراسخون ف العلم ،وليس إل برده إل الحكم ول يفعل البتدعة ذلك .فانظروا
كيف اتبعوا أهواءهم أولً ف مطالبة الشرع ،بشهادة ال .
وقال ال تعال " :إن الذين فرقوا دينهم" الية .
فنسب إليهم التفريق ،ولو كان التفريق من مقتضى الدليل ل ينسبه إليهم ول أتى به ف معرضهم
الذم وليس ذلك إل باتباع الوى .
وقال تعال " :ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فجعل طريق الق واضحا مستقيما ونى عن
البنيات .والواضح من الطرق والبنيات ،كل ذلك معلوم بالعوائد الارية ،فإذا وقع التشبيه با
بطريق الق مع البنيات ف الشرع فواضح أيضا ،فمن ترك الواضح واتبع غيه فهو متبع لواه ل
للشرع .
وقال تعال " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" فهذا دليل على ميء
البيان الشاف ،وأن التفرق إنا حصل من جهة التفرقي ل من جهة الدليل ،فهو إذا من تلقاء
أنفسهم ،وهو اتباع الوى بعينه .والدلة على هذا كثية تشي أو تصرح بأن كل مبتدع إنا يتبع
هواه ،وإذا اتبع هواه كان مذموما وآثا .والدلة عليه أيضا كثية ،كقوله " :ومن أضل من اتبع
هواه بغي هدى من ال" وقوله " :ول تتبع الوى فيضلك عن سبيل ال إن الذين يضلون عن سبيل
ال لم عذاب شديد " وقوله :
"ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" وما أشبه ذلك .فإذا كل مبتدع مذموم آث .
والثالث :أن عامة البتدعة قائلة بالتحسن والتقبيح ،فهو عمدتم الول وقاعدتم الت يبنون عليها
الشرع ،فهو القدم ف نلهم بيث ل يتهمون العقل ،وقد يتهمون الدلة إذا ل توافقهم ف الظاهر ،
حت يردوا كثيا من الدلة الشرعية .
وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا ،ولذلك تراهم يرتضون
اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ،ث يصيون بعد غد إل رأي ثالث .ولو كان كل ما يقضي به حقا
لكفى ف إصلح معاش اللق ومعادهم ،ول يكن لبعثة الرسل عليهم السلم فائدة ،ولكان على
هذا الصل تعد الرسالة عبثا ل معن له ،وهو كله باطل ،فما أدى إليه مثله .
73
الشاطبي كتاب العتصام
فأنت ترى أنم قدموا أهواءهم على الشرع ،ولذلك سوا ف بعض الحاديث وف إشارة القرآن أهل
الهواء ،وذلك لغلبة الوى على عقولم واشتهاره فيهم ،لن التسمية بالشتق إنا يطلق إطلق
اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على السمى با ،فإذا تأثيم من هذه صفته ظاهر ،لن مرجعه إل
اتباع الرأي وهو اتباع الوى الذكور آنفا .
والرابع :أن كل راسخ ل يبتدع أبدا ،وإنا يقع البتداع من ل يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه ،
حسبما دل عليه الديث ويأت تقريره بول ال ،فإنا يؤتى الناس من قبل جهالم الذين يسبون أنم
علماء ،وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ ل يستكمل شروط الجتهاد ،فهو على
أصل العمومية ،ولا كان العامي حراما عليه النظر ف الدلة والستنباط ،كان الخضرم الذي بقي
عليه كثي من الهلت مثله ف تري الستنباط والنظر العمول به ،فإذا أقدم على مرم عليه كان آثا
بإطلق .
وبذه الوجه الخية ظهر وجه تأثيمه وتبي الفرق بينه وبي الجتهد الخطىء ف اجتهاده ،وسيأت
له تقرير أبسط من هذا إن شاء ال .
وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آث ولو فرض عاملً بالبدعة الكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة
التنيه ـ لنه إما مستنبط لا فاستنباطه على الترتيب الذكور غي جائز ،وإما نائ
فصل ل يلو النسوب إلىالبدعة أن يكون متهدا أو مقلدا
ل يلو النسوب إل البدعة أن يكون متهدا فيها أو مقلدا ،والقلد إما مقلد مع القرار بالدليل الذي
ل والخذ فيه بالنظر ،وإما مقلد له فيه من غي نظر كالعامي الصرف ،فهذه ثلثة زعمه الجتهد دلي ً
أقسام :
فالقسم الول :على ضربي :أحدها أن يصح كونه متهدا ،فالبتداع منه ل يقع إل فلته
وبالعرض ل بالذات ،وإنا تسمىغلطة أو زلة لن صاحبها ل يقصد اتباع التشابه ابتغاء الفتنة تأويل
الكتاب ،أي ل يتبع هواه ول جعله عمدة ،والدليل عليه أنه إذا ظهر له الق أذعن له وأقر به .
ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد ال بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالرجاء ث رجع عنه ،وقال
:وأول ما أفارق ـ غي شاك ـ أفارق ما يقول الرجئون .
وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقي قال :كنت قد شغفن رأي من رأي الوارج ،فخرجنا ف
عصابة ذوي عدد نريد أن نج ،ث نرج على الناس .قال فمررنا على الدينة ،فإذا جابر بن عبد
ال يدث القوم جالسا إل سارية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قال :وإذا هو قد ذكر
الهنميي قال :فقلت له :يا صاحب رسول ال ،ما هذا الذي تدثون ؟ ـ وال يقول " :إنك
من تدخل النار فقد أخزيته" و"كلما أرادوا أن يرجوا منها أعيدوا فيها" فما هذا الذي تقولون ؟
قال :فقال :أفتقرأ القرآن ؟ قلت :نعم ،قال :فهل سعت بقام ممد صلى ال عليه وسلم ؟ ـ
74
الشاطبي كتاب العتصام
يعن الذي بعثه ال فيه ـ قلت :نعم ،قال :فإنه مقام ممد صلى ال عليه وسلم الحمود الذي
يرج ال به من يرج من النار .قال :ث نعت وضع الصراط ومر الناس عليه .قال :وأخاف
أل أكون أحفظ ذلك .قال :غي أنه قد زعم أن قوما يرجون من النار بعد أن يونوا فيها .قال
:يعن فيخرجون كأنم القراطيس ،فرجعنا وقلنا :ويكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول ال
صلى ال عليه وسلم ؟ فرجعنا فل وال ما خرج منا غي رجل واحد .أو كما قال .
ويزيد الفقي من ثقات أهل الديث ،وثقة ابن معي ،وأبو زرعة .وقال أبو حات :صدوق ،
وخرج عنه البخاري .
وعبيد ال بن السن العنبي كان من ثقة أهل الديث ،ومن كبار العلماء العارفي بالسنة ،إل أن
الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول :بأن كل متهد من أهل الديان
مصيب ،حت كفره القاضي أبو بكر وغيه .وحكى القتيب عنه كان يقول :إن القرآن يدل على
الختلف فالقول بالقدر صحيح وله أصل ف الكتاب ،والقول بالجبار صحيح وله أصل ف
الكتاب ،ومن قال بذا فهو مصيب لن الية الواحدة ربا دلت على وجهي متلفي .
وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الجبار ،قال :كل مصيب ،هؤلء قوم عظموا ال ،وهؤلء قوم
نزهوا ال .قال :وكذلك القول ف الساء ،فكل من سى الزان مؤمنا فقد أصاب ،ومن ساه
كافرا فقد أصاب ،ومن قال هو فاسق وليس بؤمن ول كافر فقد أصاب ،ومن قال هو كافر وليس
بشرك فقد أصاب لن القرآن يدل على كل هذه العان .قال :وكذلك السنن الختلفة ،كالقول
بالقرعة وخلفه ،والقول بالسعاية وخلفه ،وقتل الؤمن بالكافر ،ول يقتل مؤمن بكافر ،وبأي
ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب .قال :ولو قال قائل :إن القاتل ف النار .كان مصيبا ،ولو قال :ف
النة .كان مصيبا ،ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبا إذا كان إنا يريد بقوله إن ال تعبده بذلك
وليس عليه علم الغيب .
قال ابن أب خثيمة :أخبن سليمان بن أب شيخ قال :كان عبيد ال بن السن بن السي بن أب
الريقي العنبي البصري اتم بأمر عظيم ،وروى عنه كلم رديء .
قال بعض التأخرين :هذا الذي ذكره ابن أب شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لا تبي له الصواب ،
وقال :إذا أرجع وأنا من الصاغر ،ولن أكون ذنبا ف الق ،أحب إل أن أكون رأا ف الباطل
اهـ .
فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العال ،وقد رجع عنها رجوع الفاضل إل الق ،
لنه بسب ظاهر حالة فيما نقل عنه إنا اتبع ظواهر الدلة الشرعية فيما ذهب إليه ،ول يتبع عقله ،
ول صادم الشرع بنظره ،فهو أقرب من مالفة الوى .
ومن ذلك الطريق ـ وال أعلم ـ وفق إل الرجوع إل الق .
75
الشاطبي كتاب العتصام
وكذلك يزيد الفقي فيما ذكره عنه ،ل كما عارض الوارج عبد ال بن عباس رضي ال عنه ،إذ
طالبه بالجة ،فقال بعضهم :ل تاصموه فإنه من قال ال فيه " :بل هم قوم خصمون" فرجحوا
التشابه على الحكم ،وناصبوا باللف السواد العظم .
وأما إن ل يصح بسبار العلم أنه من الجتهدين فهو الري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم ،إذ
قد اجتمع له مع الهل بقواعد الشرع ،الوى الباعث عليه ف الصل ،وهو التبعية ،إذ قد تصل له
مرتبة المامة والقتداء ،وللنفس فيها من اللذة ما ل مزيد عليه ،ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة
من القلب إذا انفرد ،حت قال الصوفية :حب الرئاسة آخر ما يرج من قلوب الصديقي ،فكيف
إذا انضاف إليه الوى من الصل وانضاف إل هذين المرين دليل ـ ف ظنه ـ شرعي على صحة
ما ذهب إليه ،فيتمكن الوى من قلبه تكنا ل يكن ف العادة النفكاك عنه ،وجرى منه مرى
الكلب من صاحبه .
كما جاء ف حديث الفرق .فهذا النوع ظاهر أنه آث ف ابتداعه إث من سن سن ًة سيئ ًة .
ومن أمثلته أن المامية من الشيعة تذهب إل وضع خليفة دون النب صلى ال عليه وسلم ،وتزعم أنه
مثل النب صلى ال عليه وسلم ف العصمة ،بناءً على أصل متوهم ،فوضعوه على أن الشريعة أبدا
مفتقرة إل شرح وبيان لميع الكلفي ،إما بالسافهة أو بالنقل من شافه العصوم ،وإنا وضعوا ذلك
بسب ما ظهر لم بادىء الرأي من غي دليل عقلي ول نقلي ،بل بشبهة زعموا أنا عقلية ،وشبه
من النقل باطلة ،إما ف أصلها ،وإما ف تقيق مناطها ،وتقيق ما يدعون ولا يرد عليهم به مذكرو
ف كتب الئمة ،وهو يرجع ـ ف القيقة ـ إل دعاو ،وإذا طولبوا بالدليل عليها سقط ف
أيديهم ،إذ ل برهان لم من جهة من الهات .
وأقوى شبههم مسألة اختلف المة وأنه ل بد من واحد يرتفع به اللف ،أن ال يقول " :ول
يزالون متلفي * إل من رحم ربك" ول يكون كذلك إل إذا أعطي العصمة كما أعطيها النب صلى
ال عليه وسلم ،لنه وارث ،وإل فكل مق أو مبطل يدعي أنه الرحوم ،وأنه الذي وصل إل الق
دون من سواه فإن طولبوا بالدليل على العصمة ل يأتوا بشيء غي أن لم مذهبا يفونه ول يظهرونه
إل لواصهم ،لنه كفر مض ودعوى بغي برهان .
قال ابن العرب ف كتاب العواصم :خرجت من بلدي على الفطرة ،فلم ألق ف طريقي إل مهتديا ،
حيث بلغت هذه الطائفة ـ يعن المامية والباطنية من فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت ،ولو
فجأتن بدعة مشبهة كالقول بالخلوق أو نفي الصفات أو الرجاء ل آمن الشيطان .فلما رأيت
حاقاتم أقمت على حذر ،وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ،ولبثت بينهم ثانية أشهر .
ث خرجت إل الشام فوردت بيت القدس فألفيت فيها ثان وعشرين حلقة ومدرستي ـ مدرسة
الشافعية بباب السباط وأخرى للحنفية ـ وكان فيها من رؤوس العلماء البتدعة ومن أحبار اليهود
76
الشاطبي كتاب العتصام
والنصارى كثي ،فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بضرة شيخنا أب بكر الفهري وغيه من أهل
السنة .
ث نزلت إل الساحل لغراض وكان ملوءا من هذه النحل الباطنية والمامية ـ فطفت ف مدن
الساحل لتلك الغراض نوا من خسة أشهر ،ونزلت بعكا ،وكان رأس المامية با حينئذ أبو
الفتح العكي ،وبا من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي ،فاجتمعت بأب الفتح ف ملسه وأنا
ابن العشرين .فلما رآن صغي السن كثي العلم متدربا ولع أب ،فيهم ـ لعمر ال ،وإن كانوا على
باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ،فكان ل يفارقن ،ويساومن الدال ول
يفاترن ،فتكلمت على مذهب المامية والقول بالتعليم من العصوم با يطول ذكره .
ومن جلة ذلك أنم يقولون :إن ال ف عباده أسرارا وأحكاما والعقل ل يستقل بدركها ،فل
يعرف ذلك إل من قبل إمام معصوم ،فقلت لم :أمات المام البلغ عن ال لول ما أمره بالتبليغ أم
هو ملد ؟ فقال ل :مات وليس هذا بذهبه ولكنه تستر معي .فقلت :هل خلفه أحد ؟ فقال :
خلفه وصيه علي ،قلت :فهل قضى بالق وأنفذه ؟ قال :ل يتمكن لغلبة العاند .قلت :فهل
أنفذه حي قدر ؟ قال :منعته التقية ول تفارقه إل الوت إل أنا كانت تقوى تار ًة وتضعف أخرى ،
فلم يكن إل الدارة لئل تنفتح عليه أبواب الختلل ،قلت :وهذه الدارة حق أم ل ؟ فقال :باطل
أباحته الضرورة .قلت :فأين العصمة ؟ قال :إنا نعن العصمة مع القدرة .قلت :فمن بعده إل
الن وجدوا القدرة أم ل ؟ قال :ل .قلت :فالدين مهمل ،والق مهول ممل ؟ قال :سيظهر
.قلت :بن ؟ قال :بالمام النتظر .قلت :لعله الدجال .فما بقي أحد إل ضحك ،وقطعنا
الكلم على غرض من لن خفت أن ألمه فينتقم من ف بلده .
ث قلت :ومن أعجب ما ف هذا الكلم أن الكلم أن المام إذا أوصى إل من ل قدرة له فقد ضيع
فل عصمة له .وأعجب منه أن الباري تعال ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه ل علم إل بعلم وأرسله
عاجزا مضطربا ل يكنه أن يقول ما علم ،فكأنه ما علمه وما بعثه .وهذا عجز منه وجور ،ل
سيما على مذهبهم .
فرأوا من الكلم ما ل يكنهم أن يقوموا معه بقائمة ،وشاع الديث .فرأى رئيس الباطنية السمي
بالساعيلية أن يتمع معي ،فجاءن أبو الفتح إل ملس الفقيه الديبقي وقال :إن رئيس الساعيلية
رغب ف الكلم معك .فقلت :أنا مشغول .فقال :هنا موضع مرتب قد جاء إليه ،وهو مرس
الطبانيي ،مسجد ف قصر على البحر .وتامل علي ،فقمت ما بي حشمة وحسبة ،ودخلت
قصر الحرس ،وطلعنا إليه فوجدتم قد اجتمعوا ف زاوية الحرس الشرقية ،فرأيت النكر ف
وجوههم ،فسلمت ث قصدت جهة الحراب فركعت عنده ركعتي ل عمل ل فيهما إل تدبي القول
معهم ،واللص منهم ،فلعمر الذي قضى علي بالقبال إل أن أحدثكم ،إن ما كنت رجوت
77
الشاطبي كتاب العتصام
الروج عن ذلك الجلس أبدا .ولقد كنت أنظر ف البحر يضرب ف حجارة سود مددة تت
طاقات الحرس ،فأقول :هذا قبي الذي يدفنون فيه ،وأنشد ف سري :
أل ! هل إل الدنيا معاد؟ وهل لنا سوى البحر قب ؟ أو سوى الاء أكفان
وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذن ال منها فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم
عن أحوالم عادة ،وقد اجتمعت إل نفسي ،وقلت :أشرف ميتة ف أشرف موطن أناضل فيه عن
الدين .فقال ل أبو الفتح ـ وأشار إل فت حسن الوجه ـ هذا سيد الطائفة ومقدمها .فدعوت له
فسكت ،فبادرن وقال :قد بلغتن مالسك وأني إل كلمك ،وأنت تقول :قال ال وفعل ،فأي
شيء هو ال الذي تدعو إليه ؟ أخبن وأخرج عن هذه الخرقة الت جازت لك على هذه الطائفة
الضعيفة وقد اختطفن أصحابه قبل الواب ،فعمدت ـ بتوفيق ال إل كنانت واستخرجت منها
سهما أصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم .
وشرح ذلك أن المام أبا بكر أحد بن إبراهيم الساعيلي الافظ الرجان قال :كنت أبغض الناس
فيمن يقرأ علم الكلم ،فدخلت يوما إل الري ،ودخلت جامعها أول دخول واستقبلت سارية
أركع عندها ،وإذا بواري رجلن يتذكران علم الكلم ،فتطيت بما ،وقلت :أول ما دخلت
هذا البلد سعت فيه ما أكره وجعلت أخفف الصلة حت أبعد عنهما ،فعلق ب من قولما :إن
ل ولكن يطالبهم بلم هؤلء الباطنية أسخف خلق ال عقولً ،وينبغي للنحرير أن ل يتكلف لم دلي ً
فل قبل لم با .وسلمت مسرعا .
وشاء ال بعد ذلك أن كشف رجل من الساعيلية القناع ف اللاد ،وجعل يكاتب وشكي المي
يدعوه إليه ويقول له :إن ل أقبل دين ممد إل بالعجزة فإن أظهرتوها رجعنا إليكم ،وانرت الال
إل أن اختاروا منهم رجلً له دهاء ومنة ( أي قوة ) فورد على وشكي رسو ًل ،فقال له :إنك أمي
ومن شأن المراء واللوك أن تتخصص عن العلوم ول تقلد أحدا ف عقيدة ،وإنا حقهم أن يفصحوا
عن الباهي .فقال وشكي :أختار رجلً من أهل ملكت ،ول أنتدب للمناظرة بنفسي ،فيناظرك
بي يدي .فقال له اللحد :اختر أبا بكر الساعيلي .لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنا
كان إماما ف الديث .ولكن كان وشكي ـ لعاميه فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الرض بأنواع
العلوم .فقال وشكي :ذلك مرادي ،فإنه رجل جيد .فأرسل إل أب بكر الساعيلي برجان
ليحل إليه إل غزنه .فلم يبق من العلماء أحد إل يئس من الدين ،وقال سيبهت الساعيلي الكافر
مذهبا الساعيلي الافظ مذهبا .ول يكنهم أن يقولوا للملك :إنه ل علم عنده بذلك لئل يتهمهم
.فلجأوا إل ال ف نصر دينه .
قال الساعيلي الافظ :فلما جائن البيد ،وأخذت ف السي وتدانت ل الدار قلت :إنا ل .
وكيف أناظر فيما ل أدري ؟ هل أتبأ عند اللك وأرشده إل من يسن الدل ،ويعلم بجج ال
78
الشاطبي كتاب العتصام
على دينه ؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا ل أنظر ف شيء من علم الكلم ،ث أذكرن ال ما
كنت سعته من الرجلي بامع الري فقويت نفسي ،وعولت على أن أجعل ذلك عمدت ،وبلغت
البلد فتلقان اللك ث جيع اللق .وحضر الساعيلي الذهب مع الساعيلي النسب .وقال اللك
للباطن :أذكر قولك يسمعه المام .فلما أخذ ف ذكره واستوفاه .قال له الافظ :ل ؟ سعها
اللحد قال :هذا إمام قد عرف مقالت .ففهمت .قال الساعيلي :فخرجت من ذلك الوقت ،
وأمرت بقراءة علم الكلم ،وعملت أنه عمدة من عمد السلم .
قال ابن العرب :وأنا حي انتهى ب المر إل ذلك قلت :إن كان ف الجل تنفس فهذا شبيه بيوم
الساعيلي .فوجهت إل أب الفتح الكلم وقلت له :لقد كنت ف ل شيء ولو خرجت من عكا
قبل أن أجتمع بذا العال ما رحلت إل عريا عن نادرة اليام ،ونظر إل حذقه بالكلم ومعرفته حيق
قال ل :أي شيء هو ال ؟ ول يسأل بثل هذا إل مثله .ولكن بقيت ها هنا نكتة ،ل بد من أن
نأخذها اليوم عنه ،وتكون ضيافتنا عنده .ل قلت :أي شيء هو ال فاقتصرت من حروف
الستفهام على أي وتركت المزة وهل وكيف وأن وكم وما ،هي أيضا من ثوان حروف
الستفهام وعدلت عن اللم من حروفه ،وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية ،وهو أن لـ أي معنيي
ف الستفهام .فأي العنيي قصدت با ؟ ول سألت برف متمل ؟ ول تسأل برف مصرح بعن
واحد ؟ هل وقع ذلك بغي علم ول قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا .
فما هو إل أن افتتحت هذا الكلم وانبسطت فيه وهو يتغي حت اصفر آخرا من الوجل ،كما اسود
أو ًل من القد .ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يينه إل آخر كان بانبه ،وقال له :ما هذا
الصب إل بر زاخر من العلم ،ما رأينا مثله قط ،وهم ما رأوا واحدا به رمق إل أهلكوه ،لن
الدولة لم ،ولول مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووال عكا كان يظينا ما تلصت منهم ف العادة
أبدا .
وحي سعت تلك الكلمة من إعظامي قلت :هذا ملس عظيم ،وكلم طويل ،يفتقر إل تفصيل ،
ل. ولكن نتواعد إل يوم آخر .وقمت وخرجت ،فقاموا كلهم معي وقالوا :ل بد أن تبقى قلي ً
فقلت :ل .وأسرعت حافيا وخرجت على الباب أعدو حت أشرفت على قارعة الطريق ،وبقيت
هناك مبشرا نفسي بالياة ،حت خرجوا بعدي وأخرجوا ل ( ل يكي ) ولبستها ومشيت معهم
متضاحكا ،ووعدون بجلس آخر فلم اوف لم ،وخفت وفات ف وفائي .
قال ابن العرب :وقد قال ل أصحابنا النصرية بالسجد القصى :إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم
القدسي اجتمع برئيس من الشيعة المامية ،فشكا إليه فساد اللق ،وأن هذا المر ل يصلح إل
بروج المام النتظر ،فقال نصر :هل لروجه ميقات أم ل ؟ قال الشيعي :نعم ،قال له أبو الفتح
79
الشاطبي كتاب العتصام
:ومعلوم هو أو مهول ؟ قال :معلوم .قال نصر :ومت يكون ؟ قال :إذا فسد اللق .قال أبو
الفتح :فهل تبسونه عن اللق وقد فسد جيعهم إل أنتم فلو فسدت لرج ،فأسرعوا به وأطلقوه من
سجنه وعجلوا بالرجوع إل مذهبنا .فبهت .وأظنه سعها عن شيخه أب الفتح سليمان بن أيوب
الرازي الزاهد .
انتهى ما حكاه ابن العرب وغيه ،وفيه غنية لن عرج عن تعرف أصولم ،وف أثناء الكتاب منه أمثلة
كثية .
القسم الثان :يتنوع أيضا ،وهو الذي ل يستنبط بنفسه وإنا اتبع غيه من الستنبطي ،لكن بيث
أقر بالشبهة واستصوبا ،وقام بالدعوة با مقام متبوعه ،لنقداحها ف قلبه ،فهو مثل الول ،وإن ل
يصر إل تلك الال ولكنه تكن حب الذهب من قلبه حت عادى عليه ووال .
وصاحب هذا القسم ل يلو من استدلل ولو على أعم ما يكون .فقد يلحق بن نظر ف الشبهة وإن
كان عاميا ،لنه عرض للستدلل ،وهو علم أنه ل يعرف النظر ول ما ينظر فيه ،ومع ذلك فل
يبلغ من استدل بالدليل الملي مبلغ من استدل على التفصيل ،وفرق بينهما ف التمثيل :
أن الول أخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها ،حت إذا طولب فيها بالريان على مقتضى العلم تبلد
وانقطع ،أو خرج إل ما ل يعقل ،وأما الثان فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ،ول يكن له دليل
على التفصيل يتعلق به ،إل تسي الظن بالبتدع خاصة .وهذا القسم ف العوام كثي .
فمثال الول حال حدان بن قرمط النسوب إليه القرامطة ،إذ كان أحد دعاة الباطنية فاستجاب له
جاعة نسبوا إليه ،وكان رجلً من أهل الكوفة مائلً إل الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو
متوجه إل قريته وبي يديه بقر يسوقه ،فقال له حدان ـ وهو ل يعرف حاله ـ :أراك سافرت
عن موضع بعيد ،فأين مقصدك ؟ فذكر موضعا هو قرية حدان ،فقال له حدان :اركب بقرة من
هذا البقر لتستريح به عن تعب الشي ،فلما رآه مائلً إل الديانة أتاه من ذلك الباب ،وقال :إن ل
أؤمن بل أؤمر بذلك ،فقال له :وكأنك ل تعمل إل بأمر ،فقال :نعم ،فقال حدان :وبأمر من
تعمل ؟ قال بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والخرة ،قال :ذلك هو رب العالي ،قال :
صدقت ،ولكن ال يهب ملكه من يشاء .قال :وما غرضك ف البقعة الت أنت متوجه إليها ؟ قال
:أمرت أن أدعو أهلها من الهل إل العلم .ومن الضلل إل الدى ،ومن الشقاوة إل السعادة .
وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ،وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب .فقال له حدان
:أنقذن أنقذك ال ،وافض علي من العمل ما تيين به ،فما أشد احيتاجي لثل ما ذكرت ! فقال :
فما أمرت أن أخرج السر الكنون إل أحد إل بعد الثقة به والعهد إليه ،فقال :فما عهدك ؟ فاذكره
فإن ملتزم له .فقال :أن تعل ل وللمام عهد ال على نفسك وميثاقك أل ترج سر المام الذي
ألقيه إليك ول تفشي سري أيضا .فالتزم حدان عهده .ث اندفع الداعي ف تعليمه فنون جهله ،
80
الشاطبي كتاب العتصام
حت استدرجه واستغواه ،واستجاب له ف جيع ما ادعاه ،ث انتدب للدعوة وصار أصلً من أصول
هذه البدعة ،فسمي أتباعه القرامطة .
ومثال الثان ما حكاه ال ف قوله تعال " :وإذا قيل لم تعالوا إل ما أنزل ال وإل الرسول قالوا
حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" وقوله تعال " :قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون
* قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " .
وحكى السعودي أنه كان ف أعلى صعيد مصر رجل من القبط من يظهر دين النصرانية وكان يشار
إليه بالعلم والفهم ،فبلغ خبه أحد بن طولون ،فاستحضره وسأله عن أشياء كثية ،من جلتها أنه
أمر ف بعض اليام وقد أحضر ملسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ،
فسألوه عن ذلك .فقال :دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية ،تدفعها العقول وتنفر
منها النفوس ،لتباينها وتضادها ،ل نظر يقويها ،ول جدل يصححها ،ول برهان يعضدها من
العقل والس عند أهل التأمل فيها ،والفحص عنها .ورأيت مع ذلك أما كثية وملوكا عظيمة
ذوي معرفة ،وحسن سياسة ،وعقول راجحة ،قد انقادوا إليها ،وتدينوا با مع ما ذكرت من
تناقضها ف العقل فعلمت أنم ل يقبلوها ول تدينوا با إل بدلئل شاهدوها ،وآيات ومعجزات
عرفوها ،أوجبت انقيادهم إليها ،والتدين با .
فقال له السائل :وما التضاد الذي فيها ؟ وهل يدرك ذلك أم تعلم غايته ؟ منها قولم بأن الثلثة
واحد وأن الواحد ثلثة .ووصفهم للقانيم والوهر وهو الثالوثي ،وهل القانيم ف أنفسها قادرة
عالة أم ل ؟ وف اتاد ربم القدي بالنسان الحدث ،وما جرى ف ولدته وصلبه وقتله .وهل ف
التشنيع أكب وأفحش من إله صلب وبصق ف وجهه ؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك وضرب رأسه
بالقضيب ؟ وسرت قدماه ،ونز بالسنة والشب جنباه ؟ وطلب الاء فسقي الل من بطيخ النظل
؟ فأمسكوا عن مناظرته ،لا قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده اهـ .
81
الشاطبي كتاب العتصام
وهذا حال من بعث فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فإنم تركوا دينهم الق ورجعوا إل باطل
آبائهم .ول ينظروا نظر الستبصر ،حت ل يفرقوا بي الطريقي ،وغطى الوى على عقولم دون أن
يبصروا الطريق ،فكذلك أهل هذا النوع .
وقل ما تد من هذه صفته إل وهو يوال فيما ارتكب ويعادي بجرد التقليد .
خرج البغوي " عن أب الطفيل الكنان أن رجلً ولد له غلم على عهد رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فأت به النب صلى ال عليه وسلم فدعا له بالبكة وأخذ ببهته فنبتت شعرة ببهته كأنا سلفة
فرس .قال :فشب الغلم ،فلما كان زمن الوارج أجابم فسقطت الشعرة عن جبهته ،فأخذه
أبوه فقيده وحبسه مافة أن يلحق بم أحد ،قال :فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له :أل تر بركة النب
صلى ال عليه وسلم وقعت ؟ قال :فلم نزل به حت رجع عن رأيهم .قال :فرد ال عز وجل
الشعرة ف جبهته إذ تاب " .
وإن ل يكن هناك منتصبون إل هذا القلد الامل بي الناس ،مع أنه قد نصب نفسه منصب
الستحقي ،ففي تأثيمه نظر .ويتمل أن يقال فيه :إنه آث .
ونظيه مسألة أهل الفترات العاملي تبعا لبائهم ،واستنامة لا عليه أهل عصرهم ،من عبادة غي ال
وما أشبه ذلك .لن العلماء يقولون ف حكمهم :إنم على قسمي :قسم غابت عليه الشريعة ول
يدر ما يتقرب به إل ال تعال ،فوقف عن العمل بكل ما يتوهه العقل أنه يقرب إل ال ،ورأى ما
أهل عصره عاملون به ما ليس لم فيه مستند إل استحسانم ،فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه .
وهؤلء هم الداخلون حقيقة تت عموم الية الكرية " :وما كنا معذبي حت نبعث رسول " .
وقسم لبس ما عليه أهل عصره من عبادة غي ال ،والتحري والتحليل بالرأي ووافقوهم ف اعتقاد ما
اعتقدوا من الباطل ،فهؤلء نص العلماء على أنم غي معذورين ،مشاركون لهل عصرهم ف
الؤاخذة ،لنم وافقوهم ف العمل والوالة والعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها .فكذلك
ما نن ف الكلم عليه ،إذ ل فرق بينهما .
ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول :كيفما كان ل يعذب أحد إل بعد الرسل وعدم القبول منهم .
وهذا إن ثبت قولً هكذا ،فنظيه ف مسألتنا أن يأت عال أعلم من ذلك النتصب يبي السنة من
البدعة ،فإن راجعه هذا القلد ف أحكام دينه ول يقتصر على الول فقد أخذ بالحتياط الذي هو
شأن العقلء ورجاء السلمة ،وإن اقتصر على الول ظهر عناده ،لنه مع هذا الفرض ل يرض بذا
الطارىء ،وإذا ل يرضه كان ذلك لوى داخله ،وتعصب جرى ف قلبه مرى الكلب ف صاحبه .
وهو إذا بلغ هذا البلغ ل يبعد أن يقتصر لذهب صاحبه ،ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه ف
عموميته .وحكمه قد تقدم ف القسم قبله .
82
الشاطبي كتاب العتصام
فأنت ترى صاحب الشريعة صلى ال عليه وسلم ـ حي بعث إل أصحاب أهواء وبدع ،وقد
استندوا إل آبائهم وعظمائهم فبها ،وردوا ما جاء به النب صلى ال عليه وسلم ،وغطى على قلوبم
رين الوى حت التبست عليهم العجزات بغيها ـ كيف صارت شريعته صلى ال عليه وسلم حجة
عليهم على الطلق والعموم ،وصار اليت منهم مسوقا إل النار على العموم ،من غي تفرقة بي
العاند صراحا وغيه ،وما ذاك إل لقيام الجة عليهم ،بجرد بعثته وإرساله لم ،مبينا للحق الذي
خالفوه .فمسألتنا شبيهة بذلك ،فمن أخذ بالزم فقد استبأ لدينه ،ومن تابع الوى خيف عليه
اللك ،وحسبنا ال .
83
الشاطبي كتاب العتصام
فحقيقة السألة أنا تتوي على قسمي :مبتدع ومقتد به .فالقتدي به كأنه ل يدخل ف العبارة
بجرد القتداء لنه ف حكم التبع ،والبتدع هو الخترع .أو الستدل على صحة ذلك الختراع ،
وسواء علينا أكان ذلك الستدلل من قبيل الاص بالنظر ف العلم ،أو كان من قبيل الستدلل
العامي ،فإن ال سبحانه ذم أقواما قالوا " :إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"
فكأنم استدلوا إل دليل جلي ،وهو الباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ،وقد كانوا على هذا
الدين ،وليس إل لنه صواب ،فنحن عليه ،لنه لو كان خطأ لا ذهبوا إليه .
وهو نظي من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلح ،ول ينظر إل كونه
من أهل الجتهاد ف الشريعة أو من أهل التقليد ،ول كونه يعمل بعلم أو بهل .ولكن مثل هذا يعد
استدللً ف الملة من حيث جعل عمدةً ف اتباع الوى واطراح ما سواه .فمن أخذ به فهو آخذ
بالبدعة بدليل مثله ،ودخل ف مسمى أهل البتداع ،إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر ف
الق إن جاءه ،ويبحث ويتأن ويسأل حت يتبي له فيتبعه ،أو الباطل فيجتنبه .ولذلك قال تعال
ردا على الحتجي با تقدم " :قال أو لو جئتكم بأهدى ما وجدت عليه آباءكم " وف الية الخرى
" :وإذا قيل لم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" فقال تعال " :أو لو كان آباؤهم
ل يعقلون شيئا ول يهتدون " وف الية الخرى " :أو لو كان الشيطان يدعوهم إل عذاب السعي "
وأمثال ذلك كثي .
وعلمة من هذا شأنه أن يرد خلف مذهبه با عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجال ،ويتعصب لا
هو عليه غي ملتفت إل غيه ،وهو عي اتباع الوى .فهو الذموم حقا .وعليه يصل الث ،فإن
من كان مسترشدا مال إل الق حيث وجده ول يرده ،وهو العتاد ف طالب الق .ولذلك بادر
الحققون إل اتباع رسول ال صلى ال عليه وسلم حي تبي لم الق .
فإن ل يد سوى ما تقدم له من البدعة ،ول يدخل مع التعاصيي لكنه عمل با ،فإن قلنا :إن
أهل الفترة معذبون على الطلق إذا اتبعوا من اخترع منهم ،فالتبعون للمبتدع إذا ل يدوا مقا
مؤخذون أيضا .وإن قلنا :ل يعذبون حت يبعث لم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلء ل
يؤخذون ما ل يكن فيه مق ،فإذا ذاك يؤاخذون من حيث إنم معه بي أحد أمرين :إما أن يتبعوه
على طريق الق فيتركوا ما هم عليه .وإما أن ل يتبعوه فل بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك
تت عبارة ( أهل الهواء ) فيأثون .
وكل من اتبع بيان سعان ف بدعته الت اشتهرت عند العلماء مقلدا فيها على حكم الرضاء با ورد ما
سواها ،فهو ف الث مع من اتبع ،فقد زعم أن معبوده ف صورة النسان وأنه يهلك كله إل وجهه
ث زعم أن روح الله حل ف علي ث ف فلن ،ث ف بيان نفسه .
84
الشاطبي كتاب العتصام
وكذلك من اتبع الغية بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يي الوتى بالسم
العظم ،وأن لعبوده أعضاء على حروف الجاء على كيفية يشمئز منها قلب الؤمن إل إلادات
أخر .
وكذلك من اتبع الهدي الغرب النسوب إليه كثي من بدع الغرب ،فهو ف الث والتسمية مع من
اتبع إذا انتصب ناصرا لا ومتجا عليها .وقانا ال شر التعصب على غي بصية من الق بفضله
ورحته .
85
الشاطبي كتاب العتصام
وسيأت ـ بول ال ـ أن الذريعة قد تري مرى التذرع إليه أو تفارقه ،فانضم إل وزر العمل با
وزر نصبها لن يقتدي به فيها ،والوزر ف ذلك أعظم بل إشكال .
ومثاله ما حكى الطرطوشي ف أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أب ممد القدسي ،قال :ل
يكن عندنا ببيت القدس صلة الرغائب هذه الت تصلى ف رجب وشعبان .وأول ما أحدثت عندنا
ف سنة ثان وأربعي وأربعمائة :قدم علينا رجل ف بيت القدس يعرف بابن أب المراء ،وكان
حسن التلوة ،فقام فصلى ف السجد القصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ،ث
انضاف إليهما ثالث ورابع ،فما ختمها إل وهو ف جاعة كبية ،ث جاء ف العال القابل فصلى
معه خلق كثي ،وشاعت ف السجد وانتشرت الصلة ف السجد القصى وبيوت الناس ومنازلم ،
ث استمرت كأنا سنة إل يومنا هذا .فقلت له :فرأيتك تصليها ف جاعة .
قال :نعم ! وأستغفر ال منها .
وأما الختلف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضا ،لن غي الداعي وإن كان عرضة
بالقتداء فقد ل يقتدى به ،ويتلف الناس ف توفر دواعيهم على القتداء به ،إذ قد يكون خامل
الذكر ،وقد يكون مشتهرا ول يقتدي به ،لشهرة من هو أعظم عند الناس منلة منه .
وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة القتداء أقوى وأظهر ،ول سيما البتدع اللسان الفصيح الخذ
بجامع القلوب ،إذا أخذ ف الترغيب والترهيب ،وأدل بشبهته الت تداخل القلب بزخرفها ،كما
كان معبد الهن يدعو الناس إل ما هو عليه من القول بالقدر ،ويلوي بلسانه نسبته إل السن
البصري .
فروي عن سفيان بن عيينة أن عمرو بن عبيد عن مسألة فأجاب فيها وقال :هو من رأي السن
فقال له رجل :إنم يروون عن السن خلف هذا .فقال :إنا قلت لك هذا من رأيي السن
يريد نفسه .
وقال ممد بن عبد ال النصاري :كان عمرو بن عبيد إذا سئل عن شيء قال :هذا من قول
السن فيوهم
أنه السن بن أب السن وإنا هو قوله .
وأما الختلف من جهة كونه خارجا على أهل السنة أو غي خارج ،فلن غي الارج ل يزد على
الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليه إث ،والارج زاد الروج على الئمة ـ وهو موجب للقتل ـ
والسعي ف الرض بالفساد ،وإثارة الفت والروب ،إل حصول العداوة والبغضاء بي أولئك الفرق
،فله من الث العظيم أوفر حظ .
ومثاله قصة الوارج الذين قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم :
86
الشاطبي كتاب العتصام
"يقتلون أهل السلم ،ويدعون أهل الوثان ،يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ،
وأخبارهم شهية .
وقد ل يرجون هذا الروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه أدعى إل الجابة ،لن فيه
نوعا من الكراه والخافة ،فل هو مرد دعوة ،ول هو شق العصا من كل وجه .وذلك أن
يستعي على دعوة بأول المر من الولة والسلطي ،فإن القتداء هنا أقوى بسبب خوف الولة ف
ل ،كما اتفق لبشر الريسي ف زمن الأمون ،ولحد بن أب داؤد اليقاع بالب سجنا أو ضربا أو قت ً
ف خلفة الواثق ،وكما اتفق لعلماء الالكية بالندلس إذ صارت وليتها للمهديي ،فمزقوا كتب
الالكية وسوها كتب الرأي ،ونكلوا بملة من الفضلء بسبب أخذهم ف الشريعة بذهب مالك .
وكانوا هم مرتكبي للظاهرية الحضة ،الت هي عند العلماء بدع ًة ظهرت بعد الائتي من الجرة .
ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه ! لكنهم تعدوا ذلك إل أن قالوا برأيهم ووضعوا للناس
مذاهب ل عهد لم با ف الشريعة ،وحلوهم عليها طوعا أو كرها ،حت عم داؤها ف الناس ،
ل ،ث ذهب منها جلة وبقيت أخرى إل اليوم .ولعل الزمان يتسع إل ذكر جلة وثبتت زمانا طوي ً
منها ف أثناء الكتاب بول ال .
فهذا الوجه ،الوزر فيه أعظم من مرد الدعوة من وجهي :الول الخافة والكراه بالسلم
والقتل ،والخر كثرة الداخلي ف الدعوة ،لن العذار والنذر الخريي قد ل يقوم له كثي من
النفوس ،بلف الدنيوي .ولجل ذلك شرعت الدود والزواجر ف الشرع ،و إن ال ليزع
بالسلطان ،ما ل يزعه بالقرآن بالبتدع إذا ل ينتصر بإجابة دعوته بجرد العذار والنذار الذي يعظ
به ،حاول النتهاض بأول المر ،ليكون ذلك أحرى بالجابة .
وأما الختلف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ،فإن القيقية أعظم وزرا ،لنا الت باشرها
النتهي بغي واسطة ،ولنا مالفة مضة وخروج عن السنة ظاهر .كالقول بالقدر ،والتحسي
والتقبيح ،والقول بإنكار خب لواحد ،وإنكار الجاع ،وإنكار تري المر ،والقول بالمام
العصوم ،وما أشبه ذلك .
فإذا فرضت غضافية :فمعن الضافية أنا مشروعة من وجه ،ورأي مرد من وجه .
إذ يدخلها من جهة الخترع رأي ف بعض أحوالا فلم تناف الدلة من كل وجه .هذا وإن كانت
تري مرى القيقة ،ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأت إن شاء ال .
وبسب ذلك الختلف يتلف الوزر .ومثاله جعل الصاحف ف الساجد للقراءة آخر صلة الصبح
بدعة .
قال مالك :أول من جعل مصحفا الجاج بن يوسف .يريد أنه أول من رتب القراءة ف الصحف
إثر صلة الصبح ف السجد .قال ابن رشد :مثل ما يصنع عندنا إل اليوم .
87
الشاطبي كتاب العتصام
فهذه مدثة ـ أعن وضعه ف السجد ـ لن القراءة ف السجد مشروع ف الملة معمول به ،إل
أن تصيص السجد بالقراءة على ذلك الوجه هو الحدث .
ومثله وضع الصاحف ف زماننا للقراءة يوم المعة وتبيسها على ذلك القصد .
وأما الختلف من جهة كونا ظاهرة الأخذ أو مشكلة .فلن الظاهر عند القدام عليها مض مالفة
،فإن كانت مشكلة فليست بحض مالفة ،لمكان أن ل تكون بدعة والقدام على الحتمل ،
أخفظ رتبة من القدام على الظاهر ،ولذلك عذ العلماء ترك التشابه من قبيل الندوب إليه ف الملة
.ونبه الديث على أن ترك التشابه لئل يقع ف الرام ،فهو حى له ،وإن الواقع ف التشابه واقع ف
الرام ،وليس ترك الرام ف الملة من قبيل الندوب بل من قبيل الواجب ،فكذلك حكم الفعل
الشتبه ف البدعة ،فالتقارب بينهما بي .
وإن قلنا :إن ترك التشابه من باب الندوب ،وإن مواقعته من باب الكروه فالختلف أيضا واقع
من هذه الهة ،فإن الث ف الحرمة هو الظاهر .وأما الكروهة فل إث فيها ف الملة ،ما ل يقترن
با ما يوجبها ،كالصرار عليها ،إذ الصرار على الصغية يصيها كبية ،فكذلك الصرار على
الكروه فقد يصيه صغية ،ول فرق بي الصغية والكبية ف مطلق التأثيم ،وإن حصل الفرق من
جهة أخرى .بلف الكروه مع الصغية .والشأن ف البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ ف الدوام
عليها وإظهارها من القتدى بم ف مامع الناس وف الساجد .فقلما تقدم بل تقع منهم على أصلها
من الكراهية إل ويقترن با ما يدخلها ف مطلق التأثيم من إصرار أو تعليم أو إشاعة أو تعصب لا أو
ما أشبه ذلك .فل يكاد يوجد ف البدع ـ بسب الوقوع ـ مكروه ل زائد فيه على الكراهية .
وال أعلم .
وأما الختلف بسب الصرار عليها أو عدمه فلن الذنب قد يكون صغيا فيعظم بالصرار عليه .
كذلك البدعة تكون صغية فتعظم بالصرار عليها .فإذا كانت فلته فهي أهون منها إذا داوم عليها
.ويلحق بذا العن إذا تاون با البتدع وسهل أمرها ،نظي الذنب إذا تاون به .فالتهاون أعظم
وزرا من غيه .
وأما الختلف من جهة كونا كفرا وعدمه فظاهر أيضا .لن ما هو كفر جزاؤه التخليد ف العذاب
ـ عافانا ال ـ وليس كذلك ما ل يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر ف العاصي ،فل بدعة أعظم
وزرا من بدعة ترج عن السلم ،كما أنه ل ذنب أعظم من ذنب يرج عن السلم .فبدعة
الباطنية والزنادقة ،ليس كبدعة العتزلة والرجئة وأشباههم ،ووجوه التفاوت كثية ،ولظهورها عند
العلماء ل نبسط الكلم عليها .وال الستعان بفضله .
فصل
88
الشاطبي كتاب العتصام
ويتعلق بذا الفصل أمر آخر وهو الكم ف القيام على أهل البدع من الاصة أو العامة وهذا باب
كبي ف الفقه تعلق بم من جهة جنايتهم على الدين ،وفسادهم ف الرض .وخروجهم عن جادة
السلم ،إل بنيات الطريق الت نبه عليها قول ال تعال " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " وهو فصل من تام الكلم على التأثيم .لكنه مفتقر إل النظر ف
شعب كثية ،منها ما تكلم عليها العلماء ،ومنها ما ل يتكلموا عليها ،لن ذلك حدث بعد موت
الجتهدين ،وأهل الماية للدين ،فهو باب يكثر التفريغ فيه بيث يستدعي تأليفا مستقلً ،فرأينا أن
بسط ذلك يطول ،مع أن العناء فيه قليل الدوى ف هذه الزمنة التأخرة لتكاسل الاصة ،عن
النظر فيما يصلح العامة ،وغلبة الهل على العامة ،حت إنم ل يفرقون بي السنة والبدعة .
بل قد انقلب الال إل أن عادت السنة بدعة ،فقاموا ف غي موضع القيام ،واستقاموا إل غي
مستقام ،فعم الداء ،وعدم الطباء ،حسبما جاءت به الخبار .فرأينا أن ل نفرد هذا العن بباب
يصه ،وأن ل نبسط القول فيه ،وأن نقتصر من ذلك على لحة تكون خاتة لذا الباب ،ف
الشارة إل أنواع الحكام الت يقام عليهم با ف الملة ل ف النفصيل ،وبال التوفيق .
فنقول :إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو البعاد أو النكائر هو بسب حال البدعة
ف نفسها من كونا عظيمة الفسدة ف الدين ،أم ل ،وكون صاحبها مشتهرا با أو ل ،وداعيا
إليها أو ل ،ومستطيا بالتباع وخارجا عن الناس أو ل ،وكونه عاملً با على جهة الهل أو ل .
وكل من هذه القسام له حكم اجتهادي يصه ،إذ ل يأت ف الشرع ف البدعة حد ل يزاد عليه ول
ينقص منه ،كما جاء ف كثي من العاصي ،كالسرقة والرابة والقتل والقذف والراح والمر وغي
ذلك .ل جرم أن الجتهدين من المة نظروا فيها بسب النوازل ،وحكموا باجتهاد الرأي ،تفريعا
على ما تقدم لم ف بعضها من النص ،كما جاء ف الوارج من الثر بقتلهم ،وما جاء عن عمر بن
الطاب رضي ال عنه ف صبيغ العراقي .
فخرج من مموع ما تكلم فيه العلماء أنواع .
أحدها :الرشاد والتعليم وإقامة الجة كمسألة ابن عباس رضي ال عنه حي ذهب إل الوارج
فكلمهم حت رجع منهم ألفان أو ثلثة آلف .
والثان :الجران وترك الكلم والسلم حسبما تقدم عن جلة من السلف ف هجرانم لن تلبس
ببدعة ،وما جاء عن عمر رضي ال عنه من قصة صبيغ العراقي .
والثالث :كما غرب عمر صبيغا .ويري مراه السجن وهو :
الرابع :كما سجنوا اللج قبل قتله سني عديدة .
والامس :ذكرهم با هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يذروا ،ولئل يغتر بكلمهم ،كما جاء عن
كثي من السلف ف ذلك .
89
الشاطبي كتاب العتصام
السادس :القتل إذا ناصبوا السلمي وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي ال عنه الوارج ،وغيه
من خلفاء السنة .
والسابع :القتل إن ل يرجعوا من الستتابة ،وهو قد أظهر بدعته وأما من أسرها وكانت كفرا أو
ما يرجع إليه فالقتل بل استتابة وهو :
الثامن :لنه من باب النفاق كالزنادقة .
والتاسع :تكفي من دل الدليل على كفره ،كما إذا كانت البدعة صرية ف الكفر كالباحية
والقائلي باللول كالباطنية ،أو كانت السألة ف باب التكفي بالآل ،فذهب الجتهد إل كابن
الطيب ف تكفيه جلةً من الفرق .وينبن على ذلك :
والعاشر :وذلك أنه ل يرثهم ورثتهم من السلمي ول يرثون أحدا منهم ،ول يغسلون إذا ماتوا ،
ول يصلون عليهم ول يدفنون ف مقابر السلمي ،ما ل يكن الستتر ،فإن الستتر يكم له بكم
الظاهر ،وورثته أعرف بالنسبة إل الياث .
والادي عشر :المر بأن ل يناكحوا ،وهو من ناحية الجران ،وعدم الواصلة .
والثان عشر :تريهم على الملة ،فل تقبل شهادتم ول روايتهم ،ول يكونون ولةً ول قضا ًة ،
ول ينصبون ف مناصب العدالة من إمامة أو خطابة .إل أنه قد ثبت عن جلة من السلف رواية
جاعة منهم ،واختلفوا ف الصلة خلفهم من باب الدب ليجعوا عما هم عليه .
والثالث عشر :ترك عيادة مرضاهم ،وهو من باب الزجر والعقوبة .
والرابع عشر :ترك شهود جنائزهم كذلك .
والامس عشر :الضرب كما ضرب عمر رضي ال عنه صبيغا .
وروي عن مالك رضي ال عنه ف القائل بالخلوق :أنه يوجع ضربا ويسجن حت يوت .
ورأيت ف بعض تواريخ بغداد عن الشافعي أنه قال :حكم ف أصحاب الكلم أن يضربوا بالرائد ،
ويملوا على البل ،ويطاف بم ف العشائر والقبائل ويقال :هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ،
وأخذ ف الكلم ،يعن أهل البدع .
90
الشاطبي كتاب العتصام
91
الشاطبي كتاب العتصام
وأما قوله لبلن بن الارث " ،ومن ابتدع بدعة ضللة" فظاهر أن البدعة ل تذم بإطلق بل بشرط
أن تكون ضللة ،وأن تكون ل يرضاها ال ورسوله ،فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا ل تكن ل
يلحقها ذم ،ول تبع صاحبها وزر ،فعادت إل أنا سنةً حسن ًة ،ودخلت تت الوعد بالجر .
والثان :أن السلف الصال رضي ال عنهم ـ وأعلهم الصحابة ـ قد عملوا با ل يأت به كتاب
ول سنة ما رأوه حسنا وأجعوا عليه ،ول تمتع أمة ممد صلى ال عليه وسلم على ضللة ،وإنا
يتمعون على هدى وما هو حسن .
فقد أجعوا على جع القرآن وكتبه ف الصاحف ،وعلى جع الناس على الصاحف العثمانية ،
واطراح ما سوى ذلك من القراءات الت كانت مستعملة ف زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
ول يكن ف ذلك نص ول حظر ،ث اقتفى الناس أثرهم ف ذلك الرأي السن ،فجمعوا العلم
ودونوه وكتبوه ،ومن سباقهم ف ذلك مالك بن أنس رضي ال عنه ،وقد كان من أشدهم اتباعا
وأبعدهم من البتداع .
هذا وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الديث وغيه ،فإنا هو ممول إما على الوف
من التكال على الكتب استغناء به عن الفظ والتحصيل ،وما على ما كان رأيا دون ما كان نقلً
من كتاب أو سنة .
ث اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الميع لا ضعف المر ،وقل الجتهدون ف التحصيل ،فخافوا
على الدين جل ًة .
قال اللخمي لا ذكر كلمالك وغيه ف كراهية بيع كتب العلم والجارة على تعليمه ،وخرج عليه
الجارة على كتبه ،وحكى اللف وقال :ل أرى اليوم أن يتلف ف ذلك أنه جائز ،لن حفظ
الناس وأفهامهم قد نقصت ،وقد كان كثي من تقدم ليست لم كتب .
قال مالك :ول يكن للقاسم ول لسعيد كتب ،وما كنت أقرأ على أحد يكتب ف هذه اللواح ،
ولقد قلت لبن شهاب :أكنت تكتب العلم ؟ فقال :ل ،فقلت :أكنت تب أن يقيدوا عليك
الديث ؟ فقال :ل .فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيتم لضاع العلم ول يكن بيننا منه
ولو رسه أو اسه ،وهكذا الناس اليوم يقرؤون كتبهم ،ث هم ف التقصي على ما هم عليه .
وأيضا فإنه خلف عندنا ف مسائل الفروع أن القول فيها بالجتهاد والقياس واجب ،وإذا كان
كذلك كان إهال كتبها وبيعها يؤدي إل التقصي ف الجتهاد وأن ل يوضع مواضعه ،لن ف معرفة
أقوال التقدمي والترجيح بي أقاويلهم قوى وزيادة ف وضع الجتهاد مواضعه .
انتهى ما قاله اللخمي ،وفيه إجازة العمل با ل يكن عليه من تقدم لن له وجها صحيحا ،فكذلك
نقول :كل ما كان من الحدثات له وجه صحيح فليس بذموم ،بل هو ممود ،وصاحبه الذي سنه
مدوح ،فأين ذمها بإطلق أو على العموم ؟
92
الشاطبي كتاب العتصام
وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه :تدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور .
فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث القضية واحترعها على قدر اختراع الفجار للفجور ،وإن ل يكن
لتلك الحدثات أصل ،وقتل الماعة بالواحد وهو مكي عن عمر وعلي وابن عباس والغية بن
شعبة رضي ال عنهم .
وأخذ مالك وأصحابه بقول اليت :دمي عند فلن ،ول يأت له ف الوطأ بأصل ساعي ،وإنا علل
بأمر مصطلحي ،وف مذهبه من ذلك مسائل كثية ،فإن كان ذلك جائزا مع أنه مترع ،فلم ل
يوز مثله ـ وقد اجتمعا ف العلة ـ لن الميع مصال معتبة ف الملة ،وإن ل يكن شيء من
ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جلة وفرع غيهم على بعضها ؟ ول يبقى إل أن يقال :إنم يتابعون
على ما عمل هؤلء دون غيهم وإن اجتمعا ف العلة السوغة للقياس ،وعند ذلك يصي القتصار
تكما ،وهو باطل فما أدى إليه مثله ،فثبت أن البدع تنقسم .
فالواب وبال التوفيق أن يقول :
أما الوجه الول :وهو قوله صلى ال عليه وسلم :
"من سن سنةً حسنةً" الديث .فليس الراد به الختراع البتة ،وإل لزم من ذلك التعارض بي الدلة
القطعية ـ إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به ،فإن زعم أنه مظنون فما تقدم
من الدليل على ذم البدع مقطوع به ،فيلزم التعارض بي القطعي والظن ،والتفاق من الحققي ،
ولكن فيه بثا ـ أو نظرا ـ من وجهي :
أحدها :أنه يقال :إنه من قبيل التعارضي ،إذ تقدم اولً أن أدلة الذم تكرر عمومها ف أحاديث
كثية من غي تصيص ،وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص ،ل يقبل بعد ذلك التخصيص .
والثان :على التنل لفقد التعارض ،فليس الراد بالديث الستنان بعن الختراع ،وإنا الراد به
العمل با ثبت من السنة النبوية ،وذلك لوجهي :
أحدها :أن السبب الذي جاء لجله الديث هو الصدقة الشروعة ،بدليل ما ف الصحيح من
حديث جرير بن عبد ال رضي ال عنهما قال :
"كنا عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ف صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة متاب النمار ـ أو
العباء ـ متقلدي السيوف ،عامتهم مضر ،بل كلهم من مضر ،فتعمر وجه رسول ال صلى ال
عليه وسلم لا رآهم من الفاقة ،فدخل ث خرج فأمر بللً فأذن وأقام ،فصلى ث خطب فقال :
"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" والية الت ف سورة الشر " :اتقوا ال
ولتنظر نفس ما قدمت لغد" تصدق رجل من ديناره ،من درهه ،من ثوبه ،من صاع بره ،من
صاع تره ،حت قال :ولو بشق ترة ،قال :فجاءه رجل من النصار بصرة كادت كفه تعجز عنها
،بل قد عجزت .قال :ث تتابع الناس حت رأيت كومي من طعام وثياب ،حت رأيت وجه رسول
93
الشاطبي كتاب العتصام
ال صلى ال عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :من سن ف
السلم سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل با بعده من غي أن ينقص من أجورهم شيء ،ومن
سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل با من غي أن ينقص من أوزارهم شيء" .
فتأملوا أين قال رسول ال صلى ال عليه وسلم من سن سن ًة سيئة ؟ تدوا ذلك فيمن عمل بقتضى
الذكور على أبلغ ما يقدر عليه حت بتلك الصرة ،فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه البلغ ،
فسر بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم حت قال " :من سنة ف السلم سن ًة حسنةً" الديث ،
فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحاب وهو العمل ،با ثبت كونه سنة ،وأن الديث
مطابق لقوله ف الديث الخر " :من أحيا سنةً من سنت قد أميتت بعدي ـ الديث إل قوله ـ
ومن ابتدع بدعة ضللة" فجعل مقابل تلك السنة البتداع ،فظهر أن السنة السنة ليست ببتدعة ،
وكذلك قوله صلى ال عليه وسلم " :ومن أحيا سنت فقد أحبن" .
ووجه ذلك ف الديث الول ظاهر لنه صلى ال عليه وسلم لا مضى على الصدقة أولً ث جاء ذلك
النصاري با جاء به فانثال بعده العطاء إل الكفاية ،فكأنا كانت سنة أيقظها رضي ال تعال عنه
بفعله .فليس معناه من اخترع سن ًة وابتدعها ول تكن ثابتة .
ونو هذا الديث ف رقائق ابن البارك ما يوضع معناه عن حذيفة رضي ال عنه قال ":قام سائل
على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأل ،فسكت القوم .ث إن رجلً أعطاء فأعطاه القوم ،
فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
من است خيا فاست به فله أجره ومثل أجور من تبعه غي منتقص من أجورهم شيئا ،ومن است
شرا فاست به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غي منتقص من أوزارهم" فإذا قوله " :من سنة سنةً"
معناه من عمل بسنة ،ل من اخترع سنة .
والوجه الثان من وجهي الواب :أن قوله " :من سن سنةً حسنةً ومن سن سن ًة سيئةً" ل يكن حله
على الختراع من أصل ،لن كونا حسنة أو سيئة ل يعرف إل من جهة الشرع ،لن التحسي
والتقبيح متص بالشرع ،ل مدخل للعقل فيه وهو مذهب جاعة أهل السنة .وإنا يقول به البتدعة .
أعن التحسي والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة ف الديث إما حسنة ف الشرع وإنا قبيحة
بالشرع ،فل يصدق إل على مثل الصدقة الذكورة ،وما أشبهها من السنن الشروعة .وتبقى السنة
السيئة منلة على العاصي الت ثبت بالشرع كونا معاصي ،كالقتل النبه عليه ف حديث ابن آدم
حيث قال عليه السلم " :لنه أول من سن القتل" وعلى البدع لنه قد ثبت ذمها والنهي عنها
بالشرع كما تقدم .
وأما قوله " :من ابتدع بدعة ضللة" فهو على ظاهره ،لن سبب الديث ل يقيده بشيء فل بد من
حله على ظاهر اللفظ كالعمومات البتدأة الت ل تثبت لا أسباب .ويصح أن يمل على نو ذلك
94
الشاطبي كتاب العتصام
قوله " :ومن سن سنةً سيئةً" أي من اخترعها .وشل ما كان منها مترعا ابتداءً من العاصي كالقتل
من أحد ابن آدم ،وما كان مترعا بكم الال ،إذ كانت قبل مهملة متناساة ،فاثارها عمل هذا
العامل .
فقد عاد الديث ـ والمد ل ـ حج ًة على أهل البدع من جهة لفظه ،وشرح الحاديث الخر له
.
وإنا يبقى النظر ف قوله " :ومن ابتدع بدعة ضللة" وإن تقييد البدعة بالضللة يفيد مفهوما ،والمر
فيه قريب لن الضافة فيه ل تفد مفهوما .وإن قلنا بالفهوم على رأي طائفة من أهل الصول ،فإن
الدليل دل على تعطليه ف هذا الوضع كما دل دليل تري الربا قليله وكثية على تعطيل الفهوم ف
قوله ال تعال " :ل تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" ولن الضللة لزمة للبدعة بإطلق ،بالدلة
التقدمة ،فل مفهوم أيضا .
والواب عن الشكال الثان :أن جيع ما ذكر فيه من قبيل الصال الرسلة ،ل من قبيل البدعة
الحدثة .والصال الرسلة قد عمل بقتضاها السلف الصال من الصحابة ومن بعدهم .فهي من
الصول الفقهية الثابتة عند أهل الصول ،وإن كان فيها خلف بينهم .ولكن ل يعد ذلك قدحا
على ما نن فيه .
أما جع لصحف وقصر الناس عليه فهو على القيقة من هذا الباب ،إذ أنزل القرآن على سبعة
أحرف كلها شاف كاف تسهيلً على العرب الختلفات اللغات ،فكانت الصلحة ف ذلك ظاهرة ،
إل أنه عرض ف إباحة ذلك بعد زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم فتح لباب الختلف ف القرآن
،حيث اختلفوا ف القراءة حسبما يأت بول ال تعال ،فخاف الصحابة ـ رضوان ال تعال عليهم
ـ اختلف المة ف ينبوع اللة ،فقصروا الناس على ما ثبت منها ف مصاحف عثمان رضي ال
عنه ،واطرحوا ما سوى ذلك ،علما بأن ما اطرحوه ،مضمن فيما أثبتوه لنه من قبيل القراءات الت
يؤدي با القرآن .
ث ضبطوا ذلك بالرواية حي فسدت اللسنة ،ودخل ف السلم أهل العجمة خوفا من فتح باب
آخر من الفساد ،وهو أن يدخل أهل اللاد ف القرآن أو ف القراءات ما ليس منها فيستعينوا بذلك
ف بث إلادهم .أل ترى أنه لا ل بكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى
ف معان القرآن ،حسبما يأت ذكره إن شاء ال تعال .
فحق ما فعل أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،لن له أصلً يشهد له ف الملة .وهو المر
بتبليغ الشريعة ،وذلك ل خلف فيه ،لقوله تعال " :يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"
وأمته مثله .وف الديث :
95
الشاطبي كتاب العتصام
"ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وأشباهه .والتبليغ كما ل يتقيد بكيفية معلومة لنه من قبيل العقول
العن ،فيصح بأي شيء أمكن من الفظ والتلقي والكتابة وغيها ،وكذلك ل يتقيد حفظه عن
التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ،إذا ل يعد على الصل بإبطال كمسألة الصحف ولذلك أجع
عليه السلف الصال .
وأما ما سوى الصحف فالمر فيه أسهل ،فقد ثبت ف السنة كتابة العلم .ففي الصحيح قوله صلى
ال عليه وسلم :
"اكتبوا لب شاه" وعن أب هريرة رضي ال عنه أنه قال :ليس أحد من أصحاب رسول ال صلى ال
عليه وسلم أكثر حديثا من عن رسول ال صلى ال عليه وسلم إل عبد ال بن عمرو ،فإنه كان
يكتب وكنت ل أكتب .
وذكر أهل السي أنه كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيه ،منهم
عثمان وعلي معاوية والغية بن شعبة وأب كعب وزيد بن ثابت وغيهم ،وأيضا فإن الكتابة من
قبيل ما ل يتم الواجب إل به إذا تعي لضعف الفظ ،وخوف اندراس العلم ،كما خيف دروسه
حينئذ .وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم .
وإن تعلق با ورد من اللف ف الصال الرسلة ،وأن البناء عليها غي صحيح عند جاعة من
الصوليي ،فالجة عليهم إجاع الصحابة على الصحف والرجوع إليه .وإذا ثبت اعتبارها ف
صورة ثبت اعتبارها مطلقا .ول يبقى بي الختلفي نزاع إل ف الفروع .
وف الصحيح قوله صلى ال عليه وسلم :
"فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين الهديي ،تسكوا با ،وعضوا عليها بالنواجذ ،وإياكم
ومدثات المور" فأعطى الديث ـ كما ترى ـ أن ما سنه اللفاء الراشدون لحق بسنة رسول
ال صلى ال عليه وسلم .لن ما سنوه ل يعدو أحد أمرين :إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي ،
فذلك سنةً ل بدعة .وإما بغي دليل ـ ومعاذ ال من ذلك ـ ولكن هذا الديث دليل على إثباته
سنة ،إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة صلى ال عليه وسلم .ودليله من الشرع ثابت فليس ببدعة
.ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلق .ولو كان عملهم ذلك بدعةً لوقع ف الديث
التدافع .
وبذلك ياب عن مسألة قتل الماعة بالواحد لنه منقول عن عمر بن الطاب رضي ال عنه ،وهو
أحد اللفاء الراشدين ،وتضمي الصناع وهو منقول عن اللفاء الربعة رضي ال عنهم .
وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز فلم أره ثابتا من طريق صحيح .وإن سلم فراجع إما لصل
الصال الرسلة ـ إن ل نقل :إن أصله قصة البقرة .وإن ثبت أن الصال الرسلة مقول با عند
96
الشاطبي كتاب العتصام
السلف ،مع أن القائلي با يذمون البدع وأهلها ويتبؤن منهم ـ دل على أن البدع مباينة لا
وليست منها ف شيء ولذه السألة باب تذكر فيه .
97
الشاطبي كتاب العتصام
المور تتلف باختلف المصار والقرون وأحوال .فكذلك يتاج إل تديد زخارف وسيايات ل
تكن قدية ،وربا وجبت ف بعض الحوال .
القسم الرابع :بدعة مكروهة وهي ماتناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص اليام
الفاضلة أو غيها بنوع من العبادة .ولذلك ورد ف الصحيح ـ خرجه مسلم وغيه :
أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نى عن تصيص يوم المعة بصيام ،أو ليلة بقيام .
ومن هذا الباب الزيادة ف الندوبات الحدودات .
كما ورد ف التسبيح عقب الفريضة ثلثا وثلثي ،فتفعل مائة .
وورد صاع ف زكاة الفطر فيجعل عشرة أصواع ،بسبب أن الزيادة فيها إظهار الستظهار على
الشارع وقلة أدب معه .بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده وعد الروج عنه قلة أدب .
ولزيادة ف الواجب أو عليه أشد ف النع ،لنه يؤدي إل أن يعتقد أن الواجب هو الصل والزيد
عليه ،ولذلك نى مالك رضي ال عنه عن إيصال ستة أيام من شوال ،لئل يعتقد أنا من رمضان
ل دخل إل مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم فصلى الفرض وخرج أبو داود ف سننه "أن رج ً
وقام ليصلي ركعتي ،فقال له عمر بن الطاب رضي ال عنه :اجلس حت تفصل بي فرضك
ونفلك ،فهكذا من قبلنا .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :اصاب ال بك يا ابن الطاب"
يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الميع واجبا ،وذلك تغيي للشرائع ،وهو
حرام إجاعا .
القسم الامس :البدع الباحة ،وهي ما تناولته أدلة الباحة وقواعدها من الشريعة ،كاتاذ الناخل
للدقيق ،ففي الثار :أول شيء أحدثه الناس بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم اتاذ الناخل .لن
تليي العيش وإصلحه من الباحات فوسائله مباحة .
فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته ،فأي شيء تناولا من الدلة والقواعد ألقت
به من إياب أو تري أو غيها .وإن نظر إليها من حيث الملة بالنظر إل كونا بدع ًة مع قطع النظر
فيما يتقاضاها كرهت ،فإن الي كله ف التباع ،والشر كله ف البتداع .
وذكر شيخه ف قواعده ف فصل البدع منها ـ بعد ما قسم أحكامها إل المسة ـ أن الطريق ف
معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ،فإن دخلت ف قواعد الياب فهي واجبة إل أن
قال :وللبدع الواجبة أمثلة .
أحدها :الشتغال بالذي يفهم به كلم ال تعال وكلك رسوله صلى ال عليه وسلم ،وذلك
واجب لن حفظ الشريعة واجب .
والثان :حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة .
والثالث :تدوين أصول الفقه .
98
الشاطبي كتاب العتصام
99
الشاطبي كتاب العتصام
الرسلة ،وساها بدعا ف اللفظ ،كما سى عمر رضي ال عنه المع ف قيام رمضان ف السجد
بدعة ،كما سيأت إن شاء ال تعال .
أما القراف فل عذر له ف نقل تلك القسام على غي مراد شيخه ،ول على مراد الناس ،لنه خالف
الكل ف ذلك التقسيم فصار مالفا للجاع .
ث نقول :أما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفا فل نعيده ،وأما قسم التحري فليس فيه ما هو بدعة
هكذا بإطلق ،بل ذلك كله مالفة للمر الشروع .فل يزيد على تري أكل الال بالباطل إل من
جهة كونه موضوعا على وزان الحكام الشرعية اللزمة ،كالزكوات الفروضة ،والنفقات القدرة ،
وسيأت بيان ذلك ف موضعه إن شاء ال تعال ،وقد تقدم ف الباب الول منه طرف .
فإذا ل يصح أن يطلق القول ف هذا القسم بأنه بدعة أن يقسم المر ذلك .
وأما قسم الندوب فليس من البدع بال وتبيي ذلك بالنظر ف المثلة الت مثل لا بصلة التراويح ف
رمضان جاعة ف السجد .فقد قام با النب صلى ال عليه وسلم ف السجد واجتمع الناس خلفه .
فخرج أبو داود عن أب ذر قال :
"صمنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم رمضان ،فلم يقم بنا شيئا من الشهر حت بقي سبع ،
فقام بنا حت ذهب ثلث الليل ،فلما كانت السادسة ل يقم بنا ؟ فلما كانت الامسة قام بنا حت
ذهب شطر الليل فقلنا :يا رسول ال لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ ـ قال ـ فقال :إن الرجل إذا
صلى مع المام حت ينصرف حسب له قيام الليلة ،قال :فلما كانت الرابعة ل يقم ،فلما كانت
الثالثة جع أهله ونساءه والناس ،فقام بنا حت خشينا أن يفوتنا الفلح ـ قال ـ قلت :وما
الفلح ؟ قال :السحور " .ث ل يقم بنا بقية الشهر ،ونوه ف الترمذي ،وقال فيه حس ًن صحيح .
لكنه صلى ال عليه وسلم لا خاف افتراضه على المة أمسك عن ذلك ،ففي الصحيح عن عائشة
رضي ال عنها " :أن النب صلى ال عليه وسلم صلى ف السجد ذات ليلة فصلى بصلته ناس ،ث
صلى القابلة فكثر الناس ث اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يرج إليهم النب صلى ال عليه وسلم ،
فلما أصبح قال :
قد رأيت الذي صنعتم ،فلم ينعن من الروج إل أن خشيت أن يفرض عليكم " ،وذلك ف
رمضان ،وخرجه مالك ف الوطأ .
فتأملوا ففي هذا الديث ما يدل على كونا سنة ،فإن قيامه أو ًل بم دليل على صحة القيام ف
السجد جاعة ف رمضان وامتناعه بعد ذلك من الروج خشية الفتراض ل يدل على امتناعه
مطلقا ،لن زمانه كان زمان زحي وتشريع ،فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس باللزام ،فلما
زالت علة التشريع بوت رسول ال صلى ال عليه وسلم رجع المر إل أصله ،وقد ثبت الواز فل
ناسخ له .
100
الشاطبي كتاب العتصام
وإنا ل يقم ذلك أبو بكر رضي ال عنه لحد أمرين :إما لنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم
به عليه كان أفضل عنده من جعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي ،وإما لضيق زمانه رضي
ال عنه عن النظر ف هذه الفروع ،مع شغله بأهل الردة وغي ذلك ما هو أوكد من صلة التراويح .
فلما تهد السلم ف زمن عمر رضي ال عنه ورأى الناس ف السجد أوزاعا ـ كما جاء ف الب ـ
قال :لو جعت الناس على قارىء واحد لكان أمثل ،فلما ت له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل
أفضل ،ث اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره ،والمة ل تتمع على ضللة .
وقد نص الصوليون أن الجاع ل يكون إل عن دليل شرعي .
فإن قيل :فقد ساها عمر رضي ال عنه بدعة وحسنها بقوله :نعمت البدعة هذه وإذا ثبتت بدعة
مستحسنة ف الشرع ثبت مطلق الستحسان ف البدع .
فالواب :إنا ساها بدعة باعتبار ظاهر الال من حيث تركها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
واتفق أن ل تقع ف زمان أب بكر رضي ال عنه ،ل أنا بدعة ف العن ،فمن ساها بدعة بذا
العتبار فل مشاحة ف الساسي ،وعند ذلك فل يوز أن يستدل با على جواز البتداع بالعن
التكلم فيه ،لنه نوع من تريف الكلم عن مواضعه ،فقد قالت عائشة رضي ال تعال عنها :
إن كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ليدع العمل وهو يب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس
فيفرض عليهم .
وقد نى النب صلى ا ل عليه وسلم عن الوصال رحةً بالمة وقال :
"إن لست كهيئتكم ،إن أبيت عند رب يطعمن ويسقين" وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة
النهي حسبما يأت إن شاء ال تعال .
وذكر القراف من جلة المثلة إقامة صور الئمة والقضاة إل ما قال ،وليس ذلك من قبيل البدع
بسبيل ،أما أولً فإن التجمل بالنسبة إل ذوي اليئات والناصب الرفيعة مطلوب ،وقد كان للنب
صلى ال عليه وسلم حلة يتجمل با للوفود ،ومن العلة ف ذلك ما قاله القراف من أن ذلك أهيب
وأوقع ف النفوس ،من تعظيم العظماء ،ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء ف حديث أشج عبد
القيس ،وأما ثانيا :فإن سلمنا أن ل دليل عليه بصوصه فهو من قبيل الصال الرسلة ،وقد مر أنا
ثابتة ف الشرع .وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعي ويفرض لعامله نصف شاة ،فليس فيه
تفخيم صورة المام ول عدمه ،بل فرض له ما يتاج إليه خاصة ،وإل فنصف شاة لبعض العمال قد
ل يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يتاج إليه من لباس وركوب وغيها ،فذلك قريب
من أكل الشعي ف العن ،وأيضا فإن ما يرجع إل الأكول والشروب ل تمل فيه بالنسبة إل
الظهور للناس .
101
الشاطبي كتاب العتصام
وقوله :فكذلك يتاجون إل تديد زخارف وسياسات ل تكن قدية ،وربا وجبت ف بعض
الحوال ،مفتقر إل التأمل ،ففيه ـ على الملة ـ أنه مناقض لقوله ف آخر الفصل :الي كله ف
التباع ،والشر كله ف البتداع مع ما ذكره قبله .
فهذا كلم يقتضي أن البتداع شر كله ،فل يكن أن يتمع مع فرض الوجوب .وهو قد ذكر أن
البدعة قد تب ،وإذا وجبت لزم العمل با ،وهي لا فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها المر
با والمر بتركها ،ول يكن فيهما النفكاك ـ وإن كانا من جهتي ـ لن الوقوع يستلزم
الجتماع ،وليسا كالصلة ف الدار الغصوبة .لن النفكاك ف الوقوع مكن ،وها هنا إذا وجبت
فإنا تب على الصوص ،وقد فرض أن الشر فيها على الصوص فلزم التناقض ،وأما على التفصيل
فإن تديد الزخارف فيه من الطأ ما ل يفى .
وأما السياسات ،فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع ،وإن خرجت عن
ذلك فكيف يندب إليها ؟ وهي مسألة الناع .
وذكر ف قسم الكروه أشياء هي من قبيل البدع ف الملة ول كلم فيها ،أو من قبيل الحتياط على
العبادات الحضة أن ل يزداد فيها ول ينقص منها ،وذلك صحيح ،لن الزيادة فيها والنقصان منها
بدع منكرة .فحالتها وذرائعها يتاط با ف جانب النهي .
وذكر ف قسم الباح مسألة الناخل ،وليست ـ ف القيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ،
ول يقال فيمن تنعم بباح :إنه قد ابتدع ،وإنا يرجع ذلك ـ إذا اعتب ـ إل جهة السراف ف
الأكل ،لن السراف كما يكون ف جهة الكمية يكون ف جهة الكيفية ،فالناخل ل تعدو القسمي
،فإن كان السراف من ماله ،فإن كره ،وإل اغتفر مع أن الصل الواز .
وما يكيه أهل التذكي من الثار أو أول ما أحدث الناس أربعة أشياء :الناخل ،والشبع ،وغسل
ل ـ ليس ببدعة ،وإنا اليدين بالشنان بعد الطعام ،والكل على الوائد ،وهذا كله ـ إن ثبت نق ً
يرجع إل أمر آخر ،وإن سلم أنه بدعة فل نسلم أنا مباحة ،بل هي ضللة ومنهي عنها ،ولكنا
نقول بذلك .
102
الشاطبي كتاب العتصام
أما هذا الثان فقد تقدم ،وأما الول لو كان ث من يسي إل فريضة الج طيانا ف الواء أو مشيا
على الاء ل يعد مبتدعا بشيه كذلك ،لن القصود إنا هو التوصل إل مكة لداء الفرض وقد حصل
على الكمال .فكذلك هذا .
على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من الصنفي ف طريقة التصوف وعدها من جلة ما ابتدع
الناس ،وذلك غي صحيح ،ويكفي ف رده إجاع الناس قبله على خلف ما قال .
على أنه نقل عن القاسم بن ميمرة :أنه ذكرت عنده العربية فقال :أولا كب ،وآخرها بغي ،
وحكي أن بعض السلف قال :النحو يذهب الشوع من القلب ،ومن أراد أن يزدري الناس كلهم
فلينظر ف النحو ،ونقل نو من هذه ،وهذه كلها ل دليل فيها على الذم لنه ل يذم النحو من حيث
هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد ،كما يذم سائر علماء السوء ل لجل علومهم بل
لجل ما يدث لم بالعرض من الكب به والعجب وغيها ،ول يلزم من ذلك كون العلم بدعة ،
فتسمية العلوم الت يكتسب با أمر مذموم بدعا إما على الجاز الحض من حيث ل يتج إليها أولً ث
احيتج بعد ،أو من عدم العرفة بوضوع البدعة ،إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكب
والزهو وغيها ،ول يعود ذلك عليها بذم .
وما حكى بعض هذه التصوفة عن بعض علماء اللف قال :العلوم تسعة .أربعة منها سنة معروفة
من الصحابة والتابعي ،وخسة مدثة ل تكن تعرف فيما سلف ،فأما الربعة العروفة .فعلم اليان
،وعلم القرآن ،وعلم الثار ،والفتاوى ،وأما المسة الحدثة :فالنحو ،والعروض ،وعلم
القاييس ،والدل ف الفقه ،وعلم العقول بالنظر .
وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولً كما قال ،فإن أهل العربية يكون عن أب السود الدؤل أن
علي بن أب طالب رضي ال عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء ف النحو حي سع أعرابيا قارئا .
"أن ال بريء من الشركي ورسوله" ـ بالر ـ وقد روي عن ابن مليكة أن عمر بن الطاب
رضي ال عنه أمر أن ل يقرأ القرآن إل عال باللغة ،وأمر أبا السود فوضع النحو ،والعروض من
جنس النحو ،وإذا كانت الشارة من واحد من اللفاء الراشدين صار النحو والنظر ف الكلم العرب
من سنة اللفاء الراشدين ،وإن سلم أنه ليس كذلك ،فقاعدة الصال تعم علوم العربية ،أي تكون
من قبيل الشروع ،فهي من جنس كتب الصحف وتدوين الشرائع ،وما ذكر عن القاسم بن ميمرة
قد رجع عنه .
قال أحد بن يي ثعلبا ( ؟ ) قال :كان أحد الئمة ف الدين يعيب النحو ويقول :أول تعلمه
شغل ،وآخره يزدري العال به الناس ،فقرأ يوما " :إنا يشى ال من عباده العلماء" برفع ال
ونصب العلماء فقيل له :كفرت من حيث ل تعلم :تعل ال يشى العلماء ؟ فقال :ل طعنت
( ؟ ) قال عن علم يدل إل معرفة هذا أبدا .
103
الشاطبي كتاب العتصام
قال عثمان بن سعيد الدان :المام الذي ذكره أحد بن يي هم القاسم بن بن ميمرة .قال :وقد
جرى لعبد ال بن أب إسحاق مع ممد بن سيين كلم ،وكان ابن سيين ينتقص النحويي ،
فاجتمعا ف جنازة فقرأ ابن سيين "إنا يشى ال من عباده العلماء" برفع اسم ال ،فقال له ابن أب
إسحاق :كفرت يا أبا بكر .تعيب على هؤلء الذين يقيمون كتاب ال ؟ فقال ابن سيين :إن
كنت أخطأت فأستغفر ال .
وأما علم القاييس فأصله ف السنة ،ث ف علم السلف بالقياس .ث قد جاء ف ذم القياس أشياء
حلوها عل
فصل وما يتعلق به بعض التكلفي
وما يتعلق به بعض التكلفي أن الصوفية هم الشهورون باتباع السنة ،القتدون أفعال السلف
الصال ،الثابرون ف أقوالم وأفعالم على القتداء التام والفرار عما يالف ذلك ،ولذلك جعلوا
طريقتهم مبنية على أكل اللل ،واتباع السنة والخلص وهذا هو الق .ولكنهم ف كثي من
المور يستحسنون أشياء ل تأت ف كتاب ول سنة ،ول عمل بأمثالا السلف الصال .فيعملون
بقتضاها ،ويثابرون عليها ،ويكمونا طريقا لم مهيعا وسنة ل تلف ،بل ربا أوجبوها ف بعض
الحوال فلول أن ف ذلك رخصة ل يصح لم ما بنوا عليه .
فمن ذلك أنم يعتمدون ف كثي من الحكام على الكشف والعاينة ،وخرق العادة ،فيحكمون
بالل والرمة ،ويثبتون على ذلك القدام والحجام ،كما يكى عن الحاسب أنه كان إذا تناول
طعاما ف شبهة ينبض له عرق ف أصبعه فيمتنع منه .
وقال الشبلي :اعتقدت وقتا أن ل آكل إل من حلل ،فكنت أدور ف الباري ،فرأيت شجرة تي
فمددت يدي إليها لكل فنادتن الشجرة :احفظ عليك عهدك ،ل تأكل من فإن ليهودي .
وقال إبراهيم الواص رحه ال :دخلت خربة ف بعض السفار ف طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع
عظيم فخفت ،فهتف ب هاتف :اثبت فإن حولك سبعي ألف ملك يفظونك .
فمثل هذه الشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها ،إذ الكاشفة ،أو الاتف
الجهول ،أو ترك بعض العروق ،ل يدل على التحليل ول التحري لمكانه ف نفسه ،وإل لو
حضر ذلك حاكم أو غيه لكان يب عليه أو يندب البحث عنه حت يستخرج من يد واضعة بي
أيديهم إل مستحقه .ولو هتف هاتف بأن فلنا قتل القتول الفلن ،أمر أخذ مال فلن ،أو زن ،
أو سرق .أكان يب عليه العمل بقوله ؟ و يكون شاهدا ف بعض الحكام ؟ شرعي ؟ هذا ما ل
يعهد ف الشرع مثله .
ولذلك قال العلماء :لو أن نبيا من النبياء ادعى الرسالة .وقال :إنن إن أدع هذه الشجرة
ل علىتكلمن ،ث دعاها فأتت وكلمته وقالت :إنك كاذب .لكان ذلك دليلً على صدقة ل دلي ً
104
الشاطبي كتاب العتصام
كذبه ،لنه تدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه .وكون الكلم تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن
مقتضى الدعوى ل حكم له .
فكذلك نقول ف هذه السألة :إذا فرضنا أن انقباض العرق لزم لكون الطعام حراما ،ل يدل ذلك
على أن الكم بالمساك عنه إذا ل يدل عليه دليل معتب ف الشرع معلوم .
فكذلك مسألة الواص .فإن التوقي من مظان الهلكات مشروع ،فخلفه يظهر أنه خلف
الشروع ،وهو معتاد ف أهل هاته الطريقة .
وكذلك كلم الشجرة للشبلي من جلة الوارق وبناء الكم عليه غي معهود .
ومن ذلك أنم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جلة ،حت إن شيخهم الذي مهد لم الطريقة أبا
القاسم القشيي قال ف باب وصية الريدين من رسالته :إن اختلف على الريد فتاوى الفقهاء يأخذ
بالحوط ،ويقصد أبدا الروج عن اللف ،فإن الرخص ف الشريعة للمستضعفي وأصحاب
الوائج والشغال ،وهؤلء الطائفة ـ يعن الصوفية ـ ليس لم شغل سوى القيام بقه سبحانه .
ولذا قيل :إذا انط الفقي عن درجة القيقة إل رخصة الشريعة ،فقد فسخ عقده ،ونقص عهده
فيما بينه وبي ال .
فهذا الكلم ظاهر ف أنه ليس من شأنم الترخص ف مواطن الترخص الشروع ،وهو ما كان عليه
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،والسلف الصال من الصحابة والتابعي .فالتزام العزائم مع وجود
مضار الرخص التيي قال فيها رسول ال عليه وسلم :
"إن ال يب أن تؤتى رخصه كما يب أن تؤتى عزائمه" فيه ما فيه .وظاهره أنه بدعة استحسنوها
قمعا للنفس عن السترسال ف اليل إل الراحة وإيثارا إل ما يبن عليه من الجاهدة .
ومن ذلك
الباب الرابع ف مأخذ أهل البدع بالستدلل
كل خارج عن السنة من يدعي الدخول فيها والكون من أهلها ل بد له من تكلف ف الستدلل
بأدلتها على خصوصات مسائلهم ،وإل كذب اطراحها دعواهم ،بل كل مبتدع من هذه المة إما
أن تدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فل يكنه الرجوع إل التعلق بشبهها ،وإذا
رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الستدلل مأخذ أهله العارفي بكلم العرب وكليات الشريعة
ومقاصدها ،كما كان السلف الول يأخذونا ،إل أن هؤلء ـ كما يتبي بعد ـ ل يبلغوا مبلغ
الناظرين فيها بإطلق .إما لعدم الرسوخ ف معرفة كلم العرب والعلم بقاصدها .وإما لعدم
الرسوخ ف العلم بقواعد الصول الت من جهتها تستنبط الحكام الشرعية ،وإما لعدم المرين جيعا
.فبالري أن تصي مآخذهم للدلة مالفة لأخذ من تقدمهم من الحققي للمرين .
وإذا تقرر هذا فل بد من التنبيه على تلك الآخذ لكي تذر وتتقى فنقول :
105
الشاطبي كتاب العتصام
قال ال سبحانه وتعال " :فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"
وذلك أن هذه الية شلت قسمي ها أصل الشي على طريق الصواب أو على طريق الطأ .
أحدها :الراسخون ف العلم وهم الثابتو القدام ف علم الشريعة .ولا كان ذلك متعذرا إل على من
حصل المرين التقدمي ل يكن بد من العرفة بما معا على حسب ما تعطيه النة النسانية ،وإذ ذاك
يطلق عليه ( أنه راسخ ف العلم ) ومقتضى الية مدحه ،فهو إذا أهل للهداية والستنباط .
وحي خص أهل الزيغ باتباع التشابه دل التخصيص على أن الراسخي ل يتبعونه ،فإذا ل يتبعون إل
الحكم وهو أم الكتاب ومعظمه .
فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح ،وما سواه فاسد .إذ ليس بي
الصحيح والفاسد واسطة ف الدلة يستند إليها .وإذ لو كان ث ثالث لنصت عليه الية .
ث لا خص الزائغون بكونم يتبعون التشابه أيضا علم أن الراسخي ل يتبعونه ،فإن تأولوه فبالرد إل
الحكم بأن أمكن حله على الحكم ،بقتضى القواعد ،فهذا التشابه الضاف ل القيقي .وليس ف
الية نص على حكمه بالنسبة إل الراسخي ،فليجع عندهم إل الحكم الذي هو أم الكتاب ،وإن
ل يتأولوه بناءً على أنه متشابه حقيقي ،فيقاتلون بالتسليم وقولم " :آمنا به كل من عند ربنا"
وهؤلء هم أولو اللباب .
وكذلك ذكر ف أهل الزيغ أنم يتبعون التشابه ابتغاء الفتنة .فهم يطلبون به أهواءهم لصول الفتنة .
فليس ف نظرهم إذا ف الدليل نظر الستبصر حت يكون هواه تت حكمه ،بل نظر من حكم بالوى
،ث أتى بالدليل كالشاهد له ،ول يذكر مثل ذلك ف الراسخي ،فهم إذن بضد هؤلء حيث وقفوا
ف التشابه فلم يكموا فيه ول عليه سوى التسليم ،وهذا العن خاص بن طلب الق من الدلة ،ل
يدخل فيه من طلب ف الدلة ما يصحح هواه السابق .
ولقسم الثان :من ليس براسخ ف العلم وهو الزائغ فحصل له من الدلة وصفان :
أحدها بالنص وهو الزيغ لقوله تعال " :فأما الذين ف قلوبم زيغ " والزيغ هو اليل عن الصراط
الستقيم وهو ذم لم .
والوصف الثان بالعن الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ ف العلم ،وكل منفي عنه الرسوخ
فإل الهل ما هو مائل ،ومن جهة الهل حصل له الزيغ ،لن من نفي عنه طريق الستنباط ،
واتباع الدلة لبعض الهالت ،ل يل له أن يتبع الدلة الحكمة ول التشابة ،ولو فرضنا أنه يتبع
الحكم ل يكن اتباعه مفيدا لكمه لمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلن أو متشابه .فما ظنك
به إذا اتبع التشابه .
ث اتباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة السترشاد به ل للفتنة به ـ ل يصل به مقصودا على حال
.فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة ؟ وهكذا الحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به .فكثيا ما ترى الهال
106
الشاطبي كتاب العتصام
يتجون لنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيح اقتصارا بالنظر على دليل ما ،واطراحا للنظر ف غيه
من الدلة الصولية والفروعية العاضدة لنظره أو العارضة له .
وكثي من يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا ،وربا أفت بقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه
غرض ،أو أعرض عن غرض له عرض ف الفتيا ،كجواز تنفيل المام اليش جيع ما غنموا على
طريقة من عز بز ل طريقة الشرع ،بناءً على نقل بعض العلماء أنه يوز تنفيل السرية جيع ما
غنمت ث عزا ذلك ـ وهو مالكي الذهب ـ إل مالك حيث قال ف كلم روي عنه :ما نفل
المام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصا على جواز تنفيل المام اليش جيع ما غنم ،ول يلتفت ف
النفل إل أن السرية هي القطعة من اليش بعينه .ول التفت أيضا إل أن النفل عند مالك ل يكون
إل من المس ،ل اختلف عنه ف ذلك أعلمه ،ول عن أحد من أصحابه ،فما نفل المام منه فهو
جائز ،لنه ممول على الجتهاد .
وكذلك المر ف كل مسألة فيها الوى أو ًل ،ث يطلب لا الخرج من كلم العلماء أو من أدلة
الشرع وكلم العرب أبدا ،لتساعه وتصرفه ،واحتمالتا كثية لكن يعلم الراسخون الراد منه من
أوله إل آخره وفحواه ،أو بساط حاله أو قرائنه .فمن ل يعتبه من أوله إل آخره ويعتب ما ابتن
عليه زل ف فهمه .وهو شأن من يأخذ الدلة من أطراف العبارة الشرعية ول ينظر بعضها ببعض ،
فيوشك أن يزل .وليس هذا من شأن الراسخي ،وإنا هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج ف
دعواه .
فقد حصل من الية الذكورة أن الزيغ ل يري على طريق الراسخ بغي حكم التفاق ،وأن الراسخ
ل زيغ معه بالقصد البتة .
107
الشاطبي كتاب العتصام
"خط لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم خطا فقال :هذا سبيل ال مستقيما .ث خط خطوطا عن
يي ذلك الط وعن شاله ث قال :هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ث تل هذه الية
.
ففي الديث أنا خطوط متعددة غي مصورة بعدد ،فلم يكن لنا سبيل إل حصر عددها من جهة
النقل ،ول لنا أيضا سبيل إل حصرها من جهة العقل أو الستقراء .
أما العقل فإنه ل يقضي بعدد دون آخر ،لنه غي راجع إل أمر مصور ،أل ترى أن الزيغ راجع إل
الهالت ؟ ووجوه الهل ل تنحصر ،فصار طلب حصرها عناء من غي فائدة .
وأما الستقراء فغي نافع أيضا ف هذا الطلب ،لنا لا نظرنا ف طرق البدع من حي نبتت وجدناها
تزداد على اليام ،ول يأت زمان إل وغريبة من غرائب الستنباط تدث ،إل زماننا هذا .
وإذا كان كذلك فيمكن أن يدث بعد زماننا استدللت أخر ل عهد لنا يها فيما تقدم .ل سيما
عند كثرة الهل ،وقلة العلم ،وبعد الناظرين فيه عن درجة الجتهاد فل يكن إذا حصرها من هذا
الوجه .ول يقال :إنا ترجع إل مالفة طريق الق .فإن أوجه الخالفة ل تنحصر أيضا .
فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء .لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها .
فمنها :اعتمادهم على الحاديث الواهية الضعيفة ،والكذوب فيها على رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،والت ل يقبلها أهل صناعة الديث ف البناء عليها .
وإنا أخذ بعض العلماء بالديث السن للاقه عند الحدثي بالصحيح ،لن سنده ليس فيه من
يعاب برحه متفق عليها ،وكذلك أخذ من أخذ منهم بالرسل ليس إل من حيث ألق بالصحيح ف
أن التروك ذكره كالذكور والعدل ،فأما ما دون ذلك فل يؤخذ به بال عند علماء الديث .
ولو كان من شأن أهل السلم إذا يبي ( ؟ ) عنه الخذ من الحاديث بكل ما جاء عن كل من
جاء ل يكن لنتصابم للتعديل والتجريح معن ،مع أنم قد أجعوا على ذلك ،ول كان لطلب
السناد معن يتحصل ،فلذلك جعلوا السناد من الدين ول يعنون حدثن فلن عن فلن مردا ،
بل يريدون ذلك لا تضمنه من معرفة الرجال الذين براويته عنهم ،حت ل يسند عن مهول ول
مروح ول منهم ،إل عمن تصل الثقة بروايته ،لن روح السألة أن يغلب على الظن من غي ريبة
أن ذلك الديث قد قاله النب صلى ال عليه وسلم ،لنعتمد عليه ف الشريعة ،ونسند إليه الحكام .
والحاديث الضعيفة السناد ل يغلب على الظن أن النب صلى ال عليه وسلم ،قالا فل يكن أن
يسند إليها حكم ،فما ظنك بالحاديث العروفة الكذب ؟
نعم الامل على اعتمادها ف الغالب إنا هو ما تقدم من الوى التبع ،وهذا كله على فرض أن ل
يعارض الديث أصل من أصول الشريعة ،وأما إذا كان له معارض فأجرى أن ل يؤخذ به ،فهو
هدم لصل من أصول الشريعة ،والجاع على منعه إذا كان صحيحا ف الظاهر ،وذلك دليل على
108
الشاطبي كتاب العتصام
الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان .فما الظن به إذا ل يصح ؟ على أنه قد
روي عن أحد بن حنبل أنه قال :الديث الضعيف خي من القياس .وظاهره يقتضي العمل
بالديث غي الصحيح ،لنه قدمه على القياس العمول به عند جهور السلمي ،بل هو إجاع
السلف رضي ال عنهم .فدل على أنه عنده أعلى رتبة ف العمل من القياس .
والواب عن هذا :أنه كلم متهد يتمل اجتهاده الطأ والصواب ،إذ ليس له على ذلك دليل
يقطع العذر ،وإن سلم فيمكن حله على خلف ظاهره ،لجاعهم على طرح الضعيف السناد
فيجب تأويله على أن يكون أراد به السن السند وما دار به على القول بإعماله ،أو أراد خي من
القياس لو كان مأخوذا به فكأنه يرد القياس بذلك الكلم مبالغة ف معارضة من اعتمده أصلً حت
رد به الحاديث وقد كان رحه ال تعال ييل إل نفي القياس ،ولذلك قال :ما زلنا نلعن أهل
الرأي ويلعنونا حت جاء الشافعي فخرج بيننا .أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي ل أصل له من
كتاب ول سنة ول إجاع ،ففضل عليه الديث الضعيف وإن ل يعمل به .وأيضا فإذا أمكن أن
يمل كلم أحد على ما يسوغ ل يصح العتماد عليه ف معارضة كلم الئمة رضي ال عنهم .
فإن قيل :هذا كله رد على الئمة الذين اعتمدوا على الحاديث الت ل تبلغ درجة الصحيح ،فإنم
كما نصوا على اشتراط صحة السناد ،كذلك نصوا أيضاعلى أن أحاديث الترغيب والترهيب ل
يشترط ف نقلها للعتماد صحة ،السناد ،بل إن كان ذلك فبها ونعمت ،وإل فل حرج على من
نقلها واستند إليها ،فقد فعله الئمة كـ مالك ف الوطأ ،وابن البارك ف رقائقه ،وأحد بن حنبل
ف رقائقه ،وسفيان ف جع الي ،وغيهم .
فكل ما ف هذا النوع من النقولت راجع إل الترغيب والترهيب ،وإذا جاز اعتماد مثله ،جاز فيما
كان نوه ما يرجع إليه كصلة الرغائب والعراج ،وليلة النصف من شعبان ،وليلة أول جعة من
رجب ،وصلة اليان والسبوع ،وصلة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب ،والسابع
والعشرين منه ،وما أشبه ذلك ،فإن جيعها راجع إل الترغيب ف العمل الصال ،فالصلة على
الملة ثابت أصلها ،وكذلك الصيام وقيام الليل ،كل ذلك راجع إل خي نقلت فضيلته على
الصوص .
وإذا ثبت هذا فكل ما نقلت فضيلته ف الحاديث فهو من باب الترغيب ،فل يلزم فيه شهادة أهل
الديث بصحة السناد بلف الحكام .
فإذا هذا الوجه من الستدلل من طريق الراسخي ل من طريق الذين ف قلوبم زيغ ،حيث فرقوا
بي أحاديث الحكام فاشترطوا فيها الصحة ،وبي أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها
ذلك .
109
الشاطبي كتاب العتصام
فالواب :أن ما ذكره علماء الديث من التساهل ف أحاديث الترغيب والترهيب ل ينتظم مع
ل، مسألتنا الفروضة ،وبيانه :أن العمل التكلم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جلة وتفصي ً
ل.ل ،أو يكون منصوصا عليه جلةً ل تفصي ً أو ل يكون منصوصا عليه ل جلةً ول تفصي ً
فالول :ل إشكال ف صحته ،كالصلوات الفروضات والنوافل الرتبة لسباب وغيها ،وكالصيام
الفروض ،أو الندوب على الوجه العروف ،إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غي زيادة ول
نقصان ،كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل ،وصلة الكسوف .فالنص جاء ف
هذه الشياء صحيحا على ما شرطوا ،فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والستحباب ،فإذا ورد
ف مثلها أحاديث ترغيب فيها ،أو تذير من ترك الفرض منها ،وليست بالغة مبلغ الصحة ،ول هي
أيضا من الضعف بيث ل يقبلها أحد ،أو كانت موضوعة ل يصح الستشهاد با ،فل بأس
بذكرها والتحذير با والترغيب ،بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح .
والثان :ظاهر أنه غي صحيح ،وهو عي البدعة .لنه ل يرجع إل لجرد الرأي البن على الوى ،
وهو أبدع البدع وأفحشها ،كالرهبانية النفية عن السلم ،والصاء لن خشي العنت ،والتعبد
بالقيام ف الشمس ،أو بالصمت من غي كلم أحد .فالترغيب ف مثل هذا ل يصح ،إذ ل يوجد
ف الشرع ،ول أصل له يرغب ف مثله ،أو يذر من مالفته .
والثالث :ربا يتوهم أنه كالول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة ف الملة ،فيسهل ف التفصيل
نقله من طريق غي مشترط الصحة ،فمطلق التنفل بالصلة مشروع ،فإذا جاء ترغيب ف صلة ليلة
النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب ف صلة النافلة .وكذلك إذا ثبت أصل صيام ،ثبت
صيام السابع والعشرين من رجب ،وما أشبه ذلك .وليس كما توهوا ،لن الصل إذا ثبت ف
الملة ل يلزم غثباته ف التفصيل ،فإذا ثبت مطلق الصلة ل يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر
أو غيها حت ينص عليها على الصوص .وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام ل يلزم منه إثبات صوم
رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غي ذلك ،حت يثبت بالفصيل بدليل صحيح .ث ينظر بعد ذلك
ف أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إل ذلك العمل الاص الثايت بالدليل الصحيح .
وليس فيما ذكر ف السؤال شيء من ذلك ،إذ ل ملزمة بي ثبوت التنفل الليلي والنهاري ف
الملة ،وبي قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة .يقرأ ف كل لكعة منها بسورة كذا
على الصوص كذا وكذا مرة .ومثله صيام اليوم الفلن من الشهر الفلن ،حت تصي تلك العبادة
مقصودة على الصوص ،ليس ف شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلة أو الصيام .
والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من اليام أو زمان من الزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه
ل ،أو لعرفة ،أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام ،
على الصوص ،كما ثبت لعاشوراء مث ً
فإنه ثبت له مزية على الصيام ف مطلق اليام .فتلك الزية اقتضت مرتبة ف الحكام أعلى من غيها
110
الشاطبي كتاب العتصام
بيث ل تفهم من مطلق مشروعية الصلة النافلة ،لن مطلق الشروعية يقتضي أن السنة بعشر
أمثالا إل سبعمائة ضعف ف الملة .وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة الت قبله ،فهو أمر
زائد على مطلق الشروعية ،ومساقه يفيد له مزية ف الرتبة ،وذلك راجع إل الكم .
فإذا هذا الترغيب الاص يقتضي مرتبة ف نوع من الندوب خاصة ،فل بد من رجوع إثبات الكم
إل الحاديث الصحيحة بنا ًء على قولم :إن الحكام ل تثبت إل من طريق صحيح والبدع
الستدل عليها بغي الصحيح ل بد فيها من الزيادة على الشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية
ما .فليزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغي الصحيح ،وهو ناقض لا أسسه العلماء .
ول يقال :إنم يريدون أحكام الوجوب والتحري فقط .لنا نقول :هذا تكم من غي دليل ،بل
الحكام خسة .فكما ل يثبت الوجوب إل بالصحيح فإذا ثبت الكم فاستسهل أن يثبت ف
أحاديث الترغيب والترهيب ،ول عليك .فعلى كل تقدير :كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه
ومرتبته ف الشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغي الصحيح مغتفر .وإن ل يثبت إل من
فصل ومنها ضد هذا وهو ردهم للحاديث الت جرت غي موافقة لغراضهم
ومنها ضد هذا .وهو ردهم للحاديث الت جرت غي موافقة لغراضهم ومذاهبهم ،ويدعون أنا
مالفة للمعقول ،وغيجارية على مقتضى الدليل ،فيجب ردها .كلمنكرين لعذاب القب ،
والصراط ،واليزان ،ورؤية ال عز وجل ف الخرة .وكذلك .
حديث الذباب وقتله .وأن ف أحد جناحيه داء وف الخر دواء ،وأنه يقدم الذي فيه الداء !
وحديث :
الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النب صلى ال عليه وسلم بسقيه العسل ،وما أشبه ذلك من الحاديث
الصحيحة النقولة نقل العدول .
ربا قدحوا ف الرواة من الصحابة والتابعي رضي ال تعال عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الئمة
من الحدثي على عدالتهم وإمامتهم .كل ذلك ليدوا به على من خالفهم ف الذهب ،وربا ردوا
فتاويهم وقبحوها ف أساع العامة ،لينفروا المة عن اتباع السنة وأهلها .كما روي عن أب بكر بن
ممد أنه قال :قال عمرو بن عبيد :أل يعفى عن اللص دون السلطان .قال فحدثته بديث
صفوان بن أمية عن النب صلى ال عليه وسلم حيث قال :
"فهل قبل أن تأتين به" قال :أتلف بال أن النب صلى ال عليه وسلم قاله ؟ قلت :أفتحلف بال أن
النب صلى ال عليه وسلم ل يقله ؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت اللقة قال :يا ابا
بكر حديث .
111
الشاطبي كتاب العتصام
وقد جعلوا القول بإثبات الصراط واليزان والوض قولً با ل يعقل .وقد سئل بعضهم :هل يكفر
من قال برؤية الباري ف الخرة ؟ فقال :ل يكفر لنه قال ما ل يعقل ،ومن قال ما ل يعقل فليس
بكافر .
وذهبت طائفة إل نفي أخبار الحاد جلةً ،والقتصار على ما استحسنته عقولم ف فهم القرآن ،
حت أباحوا المر بقوله " :ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالات جناح فيما طعموا " الية .ففي
هؤلء وأمثالم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"ل ألفي أحدكم متكئا على أريكته يأتيه المر من أمري ما أمرت به أو نيت عنه ،فيقول :ل
أدري ما وجدنا ف كتاب ال اتبعناه" وهذا وعيد شديد تضمنه النهي ،لحق بن ارتكب رد السنة .
ولا ردوها بتحكم العقول كان الكلم معهم راجعا إل أصل التسحي والتقبيح وهو مذكور ف
الصول ،وسيأت له بيان إن شاء ال .
وقال عمر بن النضر :سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه .فقلت له :
ليس هكذا يقول أصحابنا ،قال :ومن أصحابك ل أبا لك ؟ قلت :أيوب ،ويونس ،وابن عون ،
والتميمي .قال :أولئك أناس أرجال أموات غي أحياء .
وقال ابن علية :حدثن اليسع ،قال :تكلم واصل ( يعن ابن عطاء ) يوما ـ قال ـ فقال عمرو
بن عبيد :أل تسمعون ؟ ما كلم السن وابن سيين عندما تسمعون إل خرقة حيضة ملقاة .كان
واصل بن عطاء أول من تكلم ف العتزال فدخل معه ف ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به ،فزوجه
أخته .وقال لا :وزجتك برجل ما يصلح إل أن يكون خليفة .ث تاوزوا الد حت ردوا القرآن
بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء .فحكى عمرو بن علي أنه سع من يثق به أنه قال :كنت عند
عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل فقال :يا أبا عثمان ! ما
سعت من السن يقول ف قول ال عز وجل " :قل لو كنتم ف بيوتكم لبز الذين كتب عليهم القتل
إل مضاجعهم" قال :تريد أخبك برأي حسن .قال :ل أريد إل ما سعت من السن .قال :
ل ،وكتب على قوم الدم فل يوتون سعت السن يقول :كتب ال على قوم القتل فل يوتون إل قت ً
إل هدما ،وكتب على قوم الغرق فل يوتون إل غرقا ،وكتب على قوم الريق فل يوتون إل حرقا
.فقال له عثمان الطويل :يا أبا عثمان ،ليس هذا قولنا .قال عمرو :قد قلت أريد أن أخبك برأي
السن ،فأنا أكذب على السن .
وعن الثرم عن أحد بن حنبل قال :حدثنا معاذ .قال :كنت عند عمرو بن عبيد فجاءه عثمان بن
فلن .فقال :يا أبا عثمان ! سعت ـ وال ـ بالكفر .قال ما هو ؟ ل تعجل بالكفر .قال :
هاشم الوقص زعم أن "تبت يدا أب لب " وقوله تعال " :ذرن ومن خلقت وحيدا" ل يكن هذا ف
أم الكتاب ،وال تعال يقول " :حم * والكتاب البي * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه
112
الشاطبي كتاب العتصام
ف أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " فما الكفر إل هذا فسكت ساعة ث تكلم فقال :وال لو كان المر
كما تقول ما كان علي أب لب من لوم ،ول كان على الوحيد من لوم .قال عثمان ـ ف ملسه
ـ :هذا وال الدين ـ قال معاذ ـ ث قال ف آخره :فذكرته لوكيع ،فقال :يستتاب قائلها فإن
تاب .....وإل ضربت عنقه .
ومثل هذا مكي ،لكن عن بعض الرموقي من أئمة الديث ،فروي عن علي بن الدين ،عن
الؤمل ،عن السن بن وهب المحي ،قال :الذي كان بين وبي فلن خاص فانطلق بأهله إل بئر
ميمون ،فأرسل إل :أن ائتن ،فأتيته عشية فبت عنده .قال :فهو ف فسطاط وأنا ف فسطاط آخر
،فجعلت أسع صوته الليل كله كأنه دوي النحل .قال :فلما أصبحنا جاء بغذائه فتغذينا قال :
وذكر ما بين وبينه من الخاء والق .قال :فقال ل :أدعوك إل رأي السن .قال :وفتح ل
شيئا من القدر .قال :فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حت لقي ال .قال :فأنا يوما خارج من
الطريق ف الطواف وهو داخل ،أو أنا داخل وهو خارج ،فأخذ بيدي فقال :يا أبا عمر ،حت مت
؟ حت مت ؟ قال :فلم أكلمه ،فقال :ما ل ؟ أرأيت لو أن رجلً قال :تبت يدا أب لب ليست
من القرآن ؟ ما كنت تقول له ؟ قال :فنعت يدي من يده .قال علي :قال مؤمل :فحدثت به
سفيان بن عيينة .فقال ل :ما كنت أرى أنه أبلغ هذا كله .
قال علي :وسعته أنا وأحد بن حنبل .
قال :حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه ،فقال :ما أحوج صاحب هذا
الرأي إل أن يقتل ؟
فانظروا إل تاسرهم على كتاب ال تعال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم ! كل ذلك ترجيح
لذاهبهم على مض الق ،وأقربم إل هيبة الشريعة من يتطلب با الخرج فيتأول لا الواضحات ،
ويتبع التشابات ،وسياـي .والميع داخلون تت ذمها .
وربا احتج طائفة من نابته البتدعة على رد الحاديث بأنا إنا تفيد الظن ،وقد ذم الظن ف القرآن ،
كقوله تعال " :إن يتبعون إل الظن وما توى النفس " وقال " :إن يتبعون إل الظن وإن الظن ل
يغن من الق شيئا " وما جاء ف معناه ،حت أحلوا أشياء ما حرمها ال تعال على لسان نبيه صلى
ال عليه وسلم ،وليس تريها ف القرآن نصا ،وإنا قصدوا من ذلك أن يثبت لم من أنظار عقولم
ما استحسنوا .
والظن الراد ف الية وف الديث أيضا غي ما زعموا ،وقد وجدنا له مال ثلثة :
أحدها :الظن ف أصول الدين ،فإنه ل يغن عند العلماء لحتماله النقيض عند الظان ،بلف الظن
ف الفروع فإنه معمول به عند أهل الشريعة للدليل الدال على إعماله ،فكان الظن مذموما إل ما
تعلق منه بالفروع ،وهذا صحيح ذكره العلماء ف هذا الوضع .
113
الشاطبي كتاب العتصام
والثان :أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضي على الخر من غي دليل مرجح ،ول شك أنه
مذموم هنا لنه من التحكم ،ولذلك أتبع ف الية بوى النفس ف قوله " :إن يتبعون إل الظن وما
توى النفس " فكأنم مالوا إل أمر بجرد الغرض والوى ولذلك أثبت ذمه ،بلف الظن الذي
أثاره دليل ،فإنه غي مذموم ف الملة ،لنه خارج عن اتباع الوى ،ولذلك أثبت وعمل بقتضاه
حيث يليق العمل بثله كالفروع .
والثالث :أن الظن على ضربي :ظن يستند إل أصل قطعي ،وهذه هي الظنون العمول با ف
الشريعة أينما وقعت لنا استندت إل أصل معلوم ،فهي من قبيل العلوم جنسه ،وظن ل يستند إل
ل وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إل ظن مثله ، قطعي ،بل إما مستند إل غي شيء أص ً
فلذلك الظن إن استند أيضا إل قطعي ،فكالول ،أو إل ظن ،رجعنا إليه ،فل بد أن يستند إل
قطعي ،وهو ممود ،أو إل غي شيء ،وهو مذموم ،فعلى كل تقدير :خب واحد صح سنده ،
فل بد من استناده إل أصل ف الشريعة قطعي فيجب قبوله ،ومن هنا قبلناه مطلقا ،كما أن ظنون
الكفار غي مستندة إل شيء ،فل بد من ردها وعدم اعتبارها ،وهذا الواب الخي مستمد من
أصل وقع بسطه ف كتابالوافقات والمد ل .
ولقد بالغ بعض الضالي ف رد الحاديث ،ورد قول من اعتمد على ما فيها ،حت عدوا القول به
مالفا للعقل ،والقائل به معدود ف الجاني .
فحكى أبو بكر العرب عن بعض من لقي بالشرق من النكرين للرؤية ،أنه قيل له :هل يكفر من
يقول بإثبات رؤية الباري أم ل ؟ فقال :ل ! لنه قال با ل يعقل ،ومن قال با ل يعقل ل يكفر .
قال ابن العرب :فهذه منلتنا عندهم ،فليعتب الوفق با يؤدي إليه اتباع الوى ،أعاذنا ال من ذلك
بفضله .
وزل بعض الرموقي ف زماننا ف هذه السألة ،فزعم أن خب الواحد كله زعم وهو ما حكى ف الثر
:
" بئس مطية الرجل زعموا " والثر الخر :
" إياكم والظن فإن الظن أكذب الديث " ،وهذه من كلم هذا التأخر زلة عفا ال عنه .
114
الشاطبي كتاب العتصام
الصرصر ،يعن صرار الليل .وعن النظام أنه كان يقول :إذا آل الرء بغي اسم ال ل يكن موليا .
قال :لن اليلء مشتق من اسم ال ،وقال بعضهم ف قول ال تعال " :وعصى آدم ربه فغوى" ،
لكثرة أكله من السجرة ،يذهبون إل قول العرب غوى الفصيل إذا أكثر من اللب حت بشم ،ول
يقال فيه غوى ،وإنا غوى من الغي ،وف قوله سبحانه " :ولقد ذرأنا لهنم" أي :ألقينا فيها ،
كأنه عندهم من قول العرب ذرته الريح وذلك ل يوز لن ذرأنا مهموز وذرته غي مهموز ،
وكذلك إذا كان من أذرته الدابة عن ظهرها لعدم المزة .ولكنه رباعي وذرأنا ثلثي .
وحكى ابن قتيبة عن بشر الريسي أنه كان يقول للسائه :قضى ال لكم الوائج على أحسن
الوجوه وأهيئتها ،فسمع قاسم التمار قوما يضحكون ،فقال :هذا كما قال الشاعر :
ضنت بشيء ما كلن يرزؤها إن سليمى وال يكلؤها
وبشر الريسي رأس ف الرأي ،وقاسم التمار رأس ف على الكلم .
قال ابن قتيبة :واحتجاجه ببشر أعجب من لن بشر .واستدل بعضهم تليل شحم النير بقول ال
تعال
" :ولم النير" فاقتصر على تري اللحم دون غيه ،فدل على أنه حلل .وربا سلم بعض العلماء
ما قالوا ،وزعم أن الشحم إنا حرم بالجاع .والمر أيسر من ذلك ،فإن اللحم يطلق على الشحم
وغيه حقيقة ،حت إذا خص بالذكر قيل :شحم كما يقال :عرق ،وعصب ،وجلد .ولو كان
على ما قالوا لزم أن ل يكون العرق والعصب ول اللد ول الخ ول النخاع ول غي ذلك ما خص
بالسم مرما .وهو خروج عن القول بتحري النير .
ويكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الوارج ف زعمهم :أن ل تكيم .
استدللً بقوله تعال " :إن الكم إل ل" فإنه مبن على أن اللفظ ورد بصيغة العموم ،فل يلحقه
تصيص ،فلذلك أعرضوا عن قول ال تعال " :فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" وقوله :
"يكم به ذوا عدل منكم" وإل فلو علموا تقيقا قاعدة العرب ف أن من العموم ل يرد به الصوص
ل يسرعوا إل النكار ولقالوا ف أنفسهم هل هذا العام مصوص ؟ فيتأولون ،وف الوضع وجه آخر
مذكور ف موضع غي هذا ،وكثيا ما يوقع الهل بكلم العرب ف ماز ل يرضى با عاقل ،اعاذنا
ال من الهل والعمل به بفضله .
فمثل هذه الستدللت ل يعبأ با ،وتسقط مكالة أهلها ،ول يعد خلف أمثالم ،وما استدلوا
عليه من الحكام الفروعية أو الصولية فهو عي البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلم العرب إل
اتباع الوى .فحق ما حكي عن عمر بن الطاب رضي ال عنه حيث قال :إنا هذا القرآن كلم
فضعوه مواضعه ول تتبعوا به أهواءكم .أي فضعوه على مواضع الكلم ول ترجوه عن ذلك ،فإنه
خروج عن طريقة الستقيم إل اتباع الوى .
115
الشاطبي كتاب العتصام
وعنه أيضا :إنا أخاف عليكم رجلي .رجل تأول القرآن على غي تأويله ،ورجل ينفس الال على
أخيه .وعن السن رضي ال تعال عنه أنه قيل له :أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم با لسانه ويقيم
با منطقه ؟ قال :نعم .فليتعلمها ،فإن الرجل يقرأ بالية فيعياه توجيهيها فيهلك .وعنه أيضا قال :
أهلكتكم العجمة ،تتأولون القرآن على غي تأويله .
116
الشاطبي كتاب العتصام
أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا ف قوله تعال " :ليس كمثله شيء " وهذه الية نقلية عقلية ،لن
الشابه للمخلوق ف وجه ما ،ملوق مثله .إذ ما وجب للشيء وجب لثله .فكما تكون الية دليلً
ل لؤلء ،لنم عاملوه ف التنيه معاملة الخلوق ،حيث توهوا أن اتصاف على نفي الشبه تكون دلي ً
ذاته بالصفات يقتضي التركيب .
وأما تركهم لعان الطاب ،فإن العرب ل تفهم من قوله " :السميع البصي" و "السميع العليم" أو
"القدير" ،وما اشبه ذلك إل من له سع وبصر وعلم وقدرة اتصف با ،فإخراجها عن حقائق
معانيها الت نزل القرآن با خروج عن أم الكتاب إل اتباع ما تشابه منه من غي حاجة .
وحيث ردوا هذه الصفات إل الحوال الت هي العالية والقادرية ،فما ألزموه ف العلم والقدرة لزم
لم ف العالية والقادرية ،لنا إما موجودة فيلزم التركيب ،أو معدومة ،والعدم نفي مض .
وأما كون الكلم هو الصوات والروف .فبناء على عدم النظر ف الكلم النفسي ،وهو مذكور ف
الًول .
وأما الشبهة السمعية فكأنا عندهم بالتبع ،لن العقول عندهم هي العمدة العتمدة .ولكنهم يلزمهم
بذلك الدليل مثل ما مر وال لن قوله تعال " :ال خالق كل شيء " إما أن يكون على عمومه ل
يتخلف عنه شيء ،أو ل .فإن كان على عمومه ،فتخصيصه إما بغي دليل ـ وهو التحكم ـ وإما
بدليل ،فأبرزوا حت ننظر فيه .ويلزم مثله ف الرادة إن ردوا الكلم إليها ،وكذلك غيها من
الصفات إن قرأوا با ،أو الحوال إن أنكروها ،وهذا الكلم معهم بسب الوقت .
والذي يليق بالسألة أنواع أخر من الدلة الت تقتضي كون هذا الذهب بدعة ل يلئم قواعد الشريعة
.
ومن أغرب ما يوضع ههنا ما حكاه السعودي وذكره الجري ـ ف كتاب الشريعة ـ بأبسط ما
ذكره السعودي .واللفظ هنا للمسعودي مع إصلح بعض اللفاظ ،قال :ذكر صال بن علي
الاشي قال :حضرت يوما من اليام جلوس الهتدي للمظال ،فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ
الكتب عنه إل النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته ،فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر ف القصص ،
فإذا رفع طرفه إل أطرقت ،فكأنه علم ما ف نفسي .
فقال ل :يا صال أحسب أن ف نفسك شيئا تب أن تذكره ـ قال ـ فقلت :نعم يا أمي الؤمني
ل ،فقمت إليه .فأمسك .فلما فرغ من جلوسه أمر أن ل أبرح ،ونض ،فجلست جلوسا طوي ً
وهو على حصي الصلة فقال ل :يا صال أتدثن با ف نفسك ؟ أم أحدثك ؟ فقلت :بل هو أمي
الؤمني أحسن .
فقال :كأنن بك وقد استحسنت من ملسنا ،فقلت :أي خليفة خليفتنا إن ل يكن يقول بقول
أبيه من القول بلق القرآن .فقال :قد كنت على ذلك برهة من الدهر ،حت أقدم علي الواثق
117
الشاطبي كتاب العتصام
شيخا من أهل الفقه والديث من أذنة من الثغر الشامي ،مقيدا طوا ًل ،حسن الشبيه ،فسلم غي
هائب ،ودعا فأوجز ،فرأيت الياء منه ف حاليق عين الواثق والرحة عليه .
فقال :يا شيخ أجب أبا عبد ال أحد بن أب داؤد عما يسألك عنه ،فقال :يا أمي الؤمني أحد
يصغر ويضعف ويقل عند الناظرة ،فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحة غضبا عليه .فقال :أبو
عبد ال يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك ؟ فقال :هون عليك يا أمي الؤمني ،أتأذن ل ف
كلمه ؟ فقال له الواثق :قد أذنت ذلك .
فأقبل الشيخ على أحد فقال :يا أحد إلم دعوت الناس ؟ فقال أحد :إل القول بلق القرآن ،
فقال له الشيخ :مقالتك هذه الت دعوت الناس إليها من القول بلق القرآن أداخله ف الدين فل
يكون الدين تاما إل بالقول با ؟ قال :نعم .قال الشيخ :فرسول ال صلى ال عليه وسلم دعا
الناس إليها أم تركهم ؟ قال :ل .قال له :يعلمها أم ل يعلمها ؟ قال :علمها .قال :فلم دعوت
الناس إل ما ل يدعهم رسول ال صلى ال عليه وسلم إليه وتركهم منه ؟ فأمسك ،فقال الشيخ :يا
أمي الؤمني هذه واحدة .
ث قال له :أخبن يا أحد ،قال ال تعال ف كتابه العزيز " :اليوم أكملت لكم دينكم" ،فقلت أنت
:الدين ل يكون تاما إل بقالتك بلق القرآن ،فال تعال عز وجل صدق ف تام وكماله أم أنت ف
نقصانك ؟ فأمسك ،فقال الشيخ :يا أمي الؤمني ،وهذه ثانية .
ث قال بعد ساعة :أخبن يا أحد ،قال ال عز وجل " :يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك
وإن ل تفعل فما بلغت رسالته" فمقالتك هذه الت دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول ال صلى ال
عليه وسلم إل المة أم ل ؟ فأمسك ،فقال الشيخ :يا أمي الؤمني ،وهذه ثالثة .ث قال بعد ساعة
:أخبن يا أحد .
لا علم رسول ال صلى ال عليه وسلم مقالتك هذه الت دعوت الناس إليها :اتسع له عن أن أمسك
عنهم أم ل ؟ قال أحد :بل اتسع له ذلك .فقال الشيخ :وكذلك لب بكر ؟ وكذلك لعمر ؟
وكذلك لعثمان ؟ وكذلك لعلي ؟ رحة ال عليهم قال :نعم ،فصرف وجهه إل الواثق وقال :يا
أمي الؤمني :إذا ل يتسع لنا ما اتسع لنا ما اتسع لرسول ال صلى ال عليه ولصحابه فل وسع ال
علينا .ث قال الواثق :اقطعوا قيوده .فلما فكت جاذب عليها .فقال الواثق :دعوه .ث قال :يا
شيخ ل جاذبت عليها ؟ قال لن عقدت ف نيت أن أجاذب عليها ،فإذا أخذتا أوصيت أن تعل
بي يدي وكفي .ث أقول :يا رب ،سل عبدك :ل قيدن ظلما وارتاع ب أهلي ؟ فبكى الواثق
والشيخ وكل من حضر .ث قال له الواثق :يا شيخ :اجعلن ف حل .فقال :يا أمي الؤمني :ما
خرجت من منل حت جعلتك ف حل إعظاما لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،ولقرابتك منه .
فتهلل وجه الواثق وسر ،ث قال له :أقم عندي آنس بك .فقال له :مكان ف ذلك الثغر أنفع ،
118
الشاطبي كتاب العتصام
وأنا شيخ كبي ،ول حاجة .قال :سل ما بدا لك .قال :يأذن أمي الؤمني ف رجوعي إل الوضع
الذي أخرجن منه هذا الظال .قال :قد أذنت لك .وأمر له بائزة فلم يقبلها .فرجعت من ذلك
الوقت عن تلك القالة ،وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها .
فتأملوا هذه الا\كاية ففيها عبة لول اللباب ز وأنظروا كيف مأخذ الصوم ف لفحامهم
لصومهم بالرد عليهم بكتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم .
ومدار الغلط ف هذا الفصل إنا هو على حرف واحد .وهو الهل بقاصد الشرع ،وعدم ضم
أطرافه بعضها لبعض .فإن مأخذ الدلة عند الئمة الراسخي إنا هو على أن تؤخذ الشريعة
كالصورة الواحدة بسب ما ثبت من كلياتا وجزئياتا الرتبة عليها ،وعامها الرتب على خاصها ،
ومطلقها الحمول على مقيدها ،ومملها الفسر بينهما ،إل ما سوى ذلك من مناحيها ،فإذا حصل
للناظر من جلتها حكم من الحكام فلذلك الذي نظمت به حي استنبطت .
وما مثلها إل مثل النسان الصحيح السوي ،فكما أن النسان ل يكون إنسانا حت يستنطق فل
ينطق باليد وحدها ول بالرجل وحدها ول بالرأس وحده زل باللسان وحده ،بل بملته الت سي
با إنسانا .كذلك الشريعة ل يطلب منها الكم على حقيقة الستنباط إل بملتها ،ل من دليل
منها أي كان نطق ذلك الدليل .فإنا هو توهي ل حقيقي ،كاليد إذا استنقطت فإنا تنطق توها ل
حقيقة ،من حيث علمت أنا يد إنسان ل من حيث هي إنسان لنه مال .
فشأن الراسخي تصور الشريعة صورة واحدة يدم بعضها كأعضاء افنسان إذا صورت صورة مثمرة
.
وشأن متبعي التشابات أخذ دليل ما أي كان عفوا وأخذا أوليا ،وإن كان ث ما يعارضه من كلي
أو جزئي .فكأن العضو الواحد ل يعطى ف مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا .فمتبعه متبع
متشابه ،ول يتبعه إل من ف قلبه زيغ كما شهد ال به " :ومن أصدق من ال قيل " .
119
الشاطبي كتاب العتصام
فمثال الول :أن الشريعة قد ورد طلبها على الكلفي على الطلق والعموم ،ول يرفعها عذر إل
العذر الرافع للخطاب رأسا ،وهو زوال العقل ،فلو بلغ الكلف ف مراتب الفضائل الدينية إل أي
رتبة بلغ ،بقي التكليف عليه كذلك إل الوت ول رتبة لحد يبلغها ف الدين كرتبة رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ث رتبة أصحابه البرة ،ول يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة ،إل ما كان من
تكليف ما ل يطاق بالنسبة إل الحاد ،كالزمن ل يطالب بالهاد ،والقعد ل يطالب بالصلة قائما
،والائض ل تطالب بالصلة الخاطب با ف حال حيضها ،ول ما أشبه ذلك .
فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إل مرتبة ما من مراتب الدين ـ كما يقوله أهل الباحة ـ
كان قوله بدعة مرجة عن الدين .
ومنه دعاوى أهل البدع على الحاديث الصحيحة مناقضتها للقرآن ،أو مناقضة بعضها بعضا ،
وفساد معانيها ،أو مالفتها للعقول ـ كما حكموا بذلك ف قوله صلى ال عليه وسلم للمتحاكمي
إليه :
"والذي نفسي بيده لقضي بينكما بكتاب ال :مائة الشاة والادم رد عليك ،وعلى ابنك جلد مائة
وتغريب عام ،وعلى الرأة هذه الرجم واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجها" فغدا عليها
فاعترفت ،فرجها .قالوا :هذا مالف لكتاب ال .لنه قضى بالرجم والتغريب ،وليس للرجم ول
ل فهو ما أردنا ،وإن كان حقا فقد ناقض كتاب للتغريب ف كتاب ال ذكر ،فإن كان الديث باط ً
ال بزيادة الرجم والتغريب .
فهذا اتباع للمتشابه ،لن الكتاب ف كلم العرب وف الشرع على وجوه :منها الكم والفرض
كقوله تعال " :كتاب ال عليكم" ،وقال تعال " :كتب عليكم الصيام" "وقالوا ربنا ل كتبت علينا
القتال" فكان العن :لقضي بينكما بكتاب ال ،أي بكم ال الذي شرع لنا .كما أن الكتاب
يطلق على القرآن ،فتخصيصهم الكتاب بأحد الحامل من غي دليل اتباع لا تشابه من الدلة .
وف الديث :
"مثل أمت كمطر ل يدري أوله خي أم آخره؟" قالوا :فهذا يقتضي أنه ل يثبت لول هذه المة فضل
على الصوص دون آخرها ول العكس ث نقل :
"إن السلم بدىء غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوب للغرباء" ،فهذا يقتضي تفضيل الولي
والخرين على الوسط .ث نقل :
"خي القرون قرن ث الذين يلونم ث الذين يلونم" ،فاقتضي أن الولي أفضل على الطلق .
قالوا :فهذا تناقض .وكذبوا ،ليس ث تناقض ول اختلف .
ل، وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي ف القولت الشرعية .فإما أن ل يكن المع بينهما أص ً
وإما أن يكن فإن ل يكن فهذا الفرض بي قطعي وظن ،أو بي ظني ،فأما بي قطعيي فل يقع ف
120
الشاطبي كتاب العتصام
الشريعة ،ول يكن وقوعه ،لن تعارض القطعيي مال .فإن وقع بي قطعي وظن بطل الظن ،وإن
وقع بي ظنيي فههنا للعلماء فيه الترجيح ،والعمل بالرجح متعي ،وإن أمكن المع ـ فقد اتفق
النظار على إعمال وجه المع ،وإن كان وجه المع ضعيفا ،فإن المع أول عندهم ،وإعمال
الدلة أول من إهال بعضها ،فهؤلء البتدعة ل يرفعوا بذا الصل رأسا ،إما جهلً به أو عنادا .
فإذا ثبت هذا فقوله " :خي القرون قرن" هو الصل ف الباب فل يبلغ أحد منا مبلغ الصحابة رضي
ال عنهم .وما سواه يتمل التأويل على حال أو زمان أو ف بعض الوجوه .
وأما قوله " :فطوب للغرباء" ل نص فيه على التفضيل الشار إليه ،بل هو دليل على جزاء حسن ،
ويبقى النظر ف كونم مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه متمل ،فليس ف الديث عليه دليل ،فل
بد من حله الصل ول إشكال .
ومن ذلك قولم بالتناقض ف قوله صلى ال عليه وسلم :
"ل تفضلون على يونس بن مت ول تيوا بي النبياء وبين" وقوله :
"أنا سيد ولد آدم ول فخر" ووجه المع بينمها ظاهر .
ومنه أنم قالوا ف قوله صلى ال عليه وسلم :
"إذا استيقظ أحدكم من نومه فل يغمس يده ف الناء حت يغسلها ثلثا ،فإن أحدكم ل يدري أين
باتت يده" :إن هذا الديث يفسد آخره أوله ،فإن أوله صحيح لول قوله :فإن أحدكم ل يدري
كذا .فما منا أحد إل درى أين باتت يده .وأشد المور أن يكون مس با فرجه ،ولو أن رجلً
فعل ذلك ف اليقظة لا طلب بغسل يده .فكيف يطلب بالغسل ول يدري هل مس فرجه أم ل ؟
وهذا العتراض من النمط الذي قبله :إذ النائم قد يس فرجه فيصيبه شيء من ناسة ف الحل لعدم
استنجاء تقدم النوم ،أو يكون استجمر فوق موضع الستجمار ،وهو لو كان يقظان فمس لعلم
بالنجاسة إذا علقت بيده فيغسلها ف الناء لئل يفسد الاء .وإذا أمكن هذا ل يتوجه العتراض .
فجميع ما ذكر ف هذا الفصل راجع إل إسقاط الحاديث بالرأي الذموم الذي تقدم الستشهاد عليه
أنه من البدع الحدثات .
121
الشاطبي كتاب العتصام
وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا ف الملة ما يتعلق بالعبادات ـ مثلً فأتى به الكلف
ف الملة أيضا ،كذكر ال والدعاء والنوافل الستحبات وما أشبهها ما يعلم من الشارع فيها
التوسعة .كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتي :من جهة معناه ،ومن جهة عمل السلف الصال
به ،فإن أتى الكلف ف ذلك المر بكيفية مصوصة ،أو زمان مصوص ،أو مكان مصوص ،أو
مقارنا لعباده مصوصة ،والتزم ذلك بيث صار متخيلً أن الكيفية ،أو الزمان ،أو الكان ،مقصود
شرعا من غي أن يدل الدليل عليه .كان الدليل بعزل عن ذلك العن الستدل عليه .
فإذا ندب الشرع مثلً إل ذكر ال فالتزم قوم الجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو ف وقت
معلوم مصوص عن سائر الوقات ـ ل يكن ف ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص اللتزم ،
بل فيه ما يدل على خلفه ،لن التزام المور غي اللزمة شرعا شأنا أن تفهم التشريع ،وخصوصا
مع من يقتدى به ف مامع الناس كالساجد .فإنا إذا ظهرت هذا الظهار ،ووضعت ف الساجد
كسائر الشعائر الت وضعها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الساجد وما أشبهها كالذان وصلة
العيدين والستسقاء والكسوف ـ فهم منها بل شك أنا سنن إذا ل تفهم منها الفرضية ،فأحرى
أن ل يتناولا الدليل الستدل به فصارت من هذه الهة بدعا مدثة بذلك .
وعلى ذلك ترك التزام السلف لتلك الشياء أو عدم العمل با ،وهم كانوا أحق با وأهلها لو كانت
مشروعة على مقتضى القواعد ،لن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا ف مواضع كثية ،حت إنه ل
يطلب ف تكثي عبادة من العبادات ما طلب من التكثي من الذكر ،كقوله تعال " :يا أيها الذين
آمنوا اذكروا ال ذكرا كثيا " الية وقوله " :وابتغوا من فضل ال واذكروا ال كثيا لعلكم تفلحون
" بلف سائر العبادات .
ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر ال .ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ،ول قيدوه بأوقات مصوصة
بيث تشعر بيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الوقات ،إل ما عينه الدليل كالغداة والعشي .ول
أظهروا منه إل ما نص الشارع على إظهاره كالذكر ف العيدين وشبهه ،وما سوى فكانوا مثابرين
على إخفائه وسره .ولذلك قال لم حي رفعوا أصواتم :
"أربعوا على أنفسكم إنكم ل تدعون أصم ول غائبا" واشباهه ،ول يظهرون ف الماعات .
فكل من خالف هذا الصل فقد خالف إطلق الدليل أو ًل ،لنه قيد فيه بالرأي .وخالف من كان
أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصال رضي ال عنهم ،بل :
كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يترك العمل وهو يب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس
فيفرض عليهم .
وف فصل من الوافقات جلة من هذا ،وهو مزلة قدم .فقد يتوهم أن إطلق اللفظ يشعر بواز كل
ما يكن ف مدلوله وقوعا وليس خصوصا ف العبادات ،فإنا ممولة على التعبد على حسب ما تلقي
122
الشاطبي كتاب العتصام
عن النب صلى ال عليه وسلم والسلف الصال ،كالصلوات حي وضعت بعيدة عن مدارك العقول
ف أركانا وترتيبها وأزمانا وكيفياتا ومقاديرها ،وسائر ما كان مثلها ـ حسبما يذكر ف باب
الصال الرسلة من هذا الكتاب إن شاء ال تعال ـ فل يدخل العبادات الرأي والستحسان هكذا
مطلقا لنه كالناف لوضعها ،ولن العقول ل تدرك معانيها على التفصيل .
وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها ،كمالك بن أنس رضي ال عنه ،فإنه حافظ
على طرح الرأي جدا ،ول يعمل فيها من أنواع القياس إل قياس نفي الفارق حيث اضطر إليه ،
وكذلك غيه من العلماء ،وإن تفاوتوا فهم مافظون جيعا ف العبادات على التباع لنصوصها
لـ ومنقولتا ،بلف غيها فبحسبها ل مطلقا ،فإن النسان قد أمر بذلك ف الملة ـ مث ً
فالخصص كالخالف لفهوم التوسعة ،وإن ل يفهم من ذلك توسعه فل بد من الرجوع إل أصل
الوقف من النقول ،لنا إن خرجنا عنه شككنا ف كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة على
الطريقتي النبه عليهما ف كتاب الوافقات ،فيتعي الرجوع إل النقول وقوفا من غي زيادة ول
نقصان .
ث إذا فهمنا التوسعة :فل بد من اعتبار أمر آخر ،وهو أن يكون العمل بيث ل يوهم التخصيص
زمانا دون غيه ،أو مكانا دون غيه ،أو كيفية دون غيها أو يوهم انتقال الكم من الستحباب
ـ مثلً ـ إل السنة أو الفرض .لنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما ،ف مامع الناس أو
مساجد الماعات أو نو ذلك موها لكونه سنة أو فرضا .. .بل هو كذلك .
أل ترى أن كل ما أظهره رسول ال صلى ال عليه وسلم وواظب عليه جاعة إذا ل يكن فرضا فهو
سنة عند العلماء ،كصلة العيدين والستسقاء والكسوف ونو ذلك ؟ بلف قيام الليل وسائر
النوافل ،فإنا مستحبات ،وندب صلى ال عليه وسلم إل إخفائها :وإنا يضر إذا كانت تشاع
ويعلن با .
ومن أمثلة هذا الصل التزام الدعاء بعد الصلوات باليئة الجتماعية معلنا با ف الماعات .وسيأت
بسط ذلك ف بابه إن شاء ال تعال .
فصل ومنها :بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلت ل تعقل
ومنها :بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلت ل تعقل ـ يدعون فيها أنا هي القصود
والراد ،ل ما يفهم العرب ـ مسندة عندهم إل أصل ل يعقل وذلك أنم فيما ذكره العلماء :قوم
ل ،وإلقاء ذلك فيما بي الناس لينحل الدين ف أيديهم ،فلم
أرادوا إبطال الشريعة جلةً وتفصي ً
يكنهم إلقاء ذلك صراحا ،فيد ذلك ف وجوههم ،وتتد إليهم أيدي الكام ،فصرفوا إعناقهم إل
التحيل على ما قصدوا بأنواع من اليل من جلهتا صرف الم من الظواهر إحالة على أن لا بواطن
123
الشاطبي كتاب العتصام
هي القصودة ،وأن الظواهر غي مرادة .فقالوا :كل ما ورد ف الشرع من الظواهر ف التكاليف
والشر والنشر ،والمور اللية فهي أمثلة ورموز إل بواطن .
فمما زعموا ف الشرعية :أن النابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة
الستحقاق .ومعن الغسل تديد العهد على من فعل ذلك .ومعن مامعة البهيمة مقابة من ل عهد
له ول يؤد شيئا من صدقة النجوى ـ وهو مائة وتسعة عشر درها ـ قالوا :فلذلك أوجب الشرع
القتل على الفاعل والفعول به ،وإل فالبهيمة مت يب القتل عليها ؟
والحتلم أن يسبق لسانه إل إفشاء السر ف غي مله ،فعليه الغسل ،أي تديد العاهدة والطهر هو
التبؤ من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة المام .والتيمم الخذ من الأذون إل أن يسعد بشاهدة
الداعي والمام .والصيام هو المساك عن كشف السر .
ولم من هذا الفك كثي ف المور اللية ن وأمور التكليف ،وأمور الخرة .وكله حوم على
إبطال الشريعة جلةً وتفصيلً ،إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية ،منكرون للنبوة والشرائع والشر
والنشر والنة والنار واللئكة ،بل هم منكرون للربوبية .وهم السمون بالباطنية .
وربا تسكوا بالروف والعداد بأن الثقب ف رأس الدمي سبع ،والكواكب السيارة سبع ،وأيام
السبوع سبع ،فهذا يدل على أن دور الئمة سبعة ،وبه يتم .وأن الطبائع أربع ،وفصول السنة
أربع ،فدل على أن أصول الربعة هي السابق والتال اللان ـ عندهم ،والناطق والساس ـ وها
المامان ـ والبوج اثنا عشر يدل على أن الجج اثنا عشر ،وهم الدعاة ،إل أنواع من هذا القبيل
.وجيعها ليس فيه ما يقابل بالرد ،لن كل طائفة من البتدعة سوى هؤلء ربا يتمسكون بشبهة
تتاج إل النظر فيها معهم .أما هؤلء فقد خلعوا ف الذيان ( الربقة ) ،وصاروا عرضة للمز ،
وضحك ًة للعالي .وإنا ينسبون هذه الباطيل إل المام العصوم الذي زعموه ،وإبطال الئمة معلوم
ف كتب التكلمي .ولكن ل بد من نكتة متصرة ف الرد عليهم .
فل يلو أن يكون ذلك عندهم إما من جهة دعوى الضرورة وهو مال .لن الضروري هو ما
يشترك فيه العقلء علما وإداركا ،وهذا ليس كذلك .
وإما من جهة المام العصوم بسماعهم منه لتلك التأويلت .فنقول لن زعم ذلك :ما الذي دعاك
إل تصديق ممد صلى ال عليه وسلم سوى العجزة ؟ وليس لمامك معجزة ،فالقرآن يدل على أن
الراد ظاهره ،ل ما زعمت .فإن قال :ظاهر القرآن رموز إل بواطن فهمها المام العصوم ول
يفهمها فتعلمناها منه .قيل لم :من أي جهة تعلمتموها منه ؟ أبشاهد قلبه بالعي ؟ أو بسماع
منه ؟ ول بد من الستناد إل السماع بالذن .فيقال :فلعل لفظه ظاهر له باطن ل تفهمه ،ول
يطلعك عليه ،فل يوثق با فهمت من ظاهر لفظه ،فإن قال :صرح بالعن .وقال :ما ذكرته ظاهر
ل رمز فيه ،أو والراد ظاهره .قيل له :وباذا عرفت قوله أنه ظاهر ل رمز فيه ،بل أنه كما قال ؟
124
الشاطبي كتاب العتصام
إذ يكن أن يكون له باطن ل تفهمه أيضا ،حت لو حلف بالطلق الظاهر أنه ل يقصد إل الظاهر ،
لحتمل أن يكون ف طلقه رمز وهو باطنه وليس مقتضى الظاهر .فإن قال :ذلك يؤدي إل حسم
باب التفهيم .
قيل له :فأنتم حسمتموه بالنسبة إل النب صلى ال عليه وسلم ،فإن القرآن دائر على تقرير
الوحدانية ،والنة ،والنار ،والشر ،والنشر ،والنبياء ،والوحي ،واللئكة ،مؤكدا ذلك كله
بالقسم .وأنتم تقولون :إن ظاهره غي مراد وإن تته رمزا .فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إل النب
صلى ال عليه وسلم لصلحة وسر له ف الرمز ،جاز بالنسبة إل معصومكم أن يظهر لكم خلف ما
يضمره لصلحة وسر له فيه ،وهذا ل ميص لم عنه .
قال أبو حامد الغزال رحه ال :ينبغي أن يعرف النسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل
فرقة من فرق الضلل ،إذ ل تد فرقة تنقض مذهبها بنفس الذهب سوى هذه الت هي الباطنية .إذ
مذهبها إبطال النظر ،وتغيي اللفاظ عن موضوعها بدعوى الرمز ،وكل ما يتصور أن تنطق به
ألسنتهم فإما نظر أو نقل ،أما النظر فقد أبطلوه ،وأما النقل فقد جوزوا أن يراد باللفظ غي
موضوعة ،فل يبقى لم معتصم ،والتوفيق بيد ال .
وذكر ابن العرب ف العواصم مأخذا آخر ف الرد عليهم أسهل من هذا ـ وقال إنم ل قبل لم به
ـ وهو أن يسلط عليهم ف كل ما يدعونه السؤال بـ ل ؟ خاصة ،فكل من وجهت عليه منهم
سقط ف يده ،وحكى ف ذلك حكاية ظريفة يسن موقعها ها هنا ،وتصور الذهب كاف ف ظهور
بطلنه إل أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعا فاحشة ( .منها
) مذهب الهدي الغرب ،فإنه عد نفسه المام النتظر وأنه معصوم ،حت أن من شك ف عصمته ،
أو ف أنه الهدي النتظر كافر .
وقد زعم ذووه أنه ألف ف المامة كتابا ذكر فيه أن ال استخلف آدم ونوحا وإبراهيم وموسى
وعيسى وممدا عليهم السلم ،وأن مدة اللفة ثلثون سنة ،وبعد ذلك فرق وأهواء ،وشح مطاع
،وهوى متبع ،وإعجاب كل ذي رأي برأيه ،فلم يزل المر على ذلك ،والباطل ظاهر والق
كامن ،والعلم مرفوع ـ كما أخب عليه الصلة والسلم :الهل ظاهر ،ول يبق من الدين اسه ،
ول من القرآن إل رسه حت جاء ال بالمام فأعاد به الدين ـ كما قال عليه الصلة والسلم :
"بدىء السلم غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوب للغرباء" وقال :إن طائفته هم الغرباء ،زعما
من غي برهان زائد على الدعوى ،وقال ف ذلك الكتاب :جاء ال بالهدي ،وطاعته نقية ،ل ير
مثلها قبل ول بعد ،وأن به قامت السموات ،والرض به تقوم ،ول ضد له ،ول مثل ،ول ند ،
ول كذب ،تعال ال عن قوله ،وهذا كما نزل أحاديث الترمذي و أب داود ف الفاطمي على نفسه
وأنه هو بل شك .
125
الشاطبي كتاب العتصام
وأول إظهاره لذلك أنه قام ف أصحابه خطيبا فقال :المد ل الفعال لا يريد ،القاضي لا يشاء ،ل
راد لمره ،ول معقب لكمه ،وصلى ال على النب البشر بالهدي يل الرض قسطا وعد ًل ،كما
ملئت ظلما وجورا يبعثه ال إذا نسخ الو بالباطل ،وأزيل العدل بالور ،مكانه بالغرب القصى ،
وزمانه آخر الزمان ،واسه اسم النب عليه الصلة والسلم ،ونسبه نسب النب صلى ال عليه
وسلم ،وقد ظهر جور المراء ،وامتلت الرض بالفساد ،وهذا آخر الزمان ،والسم السم
والنسب النسب والفعل الفعل .يشي إل ما جاء ف أحاديث الفاطمي .
فلما فرغ بادر إليه من أصحابه عشرة ،فقالوا :هذه الصفة ل توجد إل فيك ،فأنت الهدي ،
فبايعوه على ذلك .وأحدث ف دين ال أحداثا كثية زيادة إل القرار بأنه الهدي العلوم ،
والتخصيص بالعصمة ،ث وضع ذلك ف الطب ،وضرب ف السكك ،بل كانت تلك الكلمة
عندهم ثالثة الشهادة ،فمن ل يؤمن با ،أو شك فيها ،فهو كافر كسائر الكفار ،وشرع القتل ف
مواضع ل يضعه الشرع فيها ،وهي نو من ثانية عشر موضعا ،كترك امتثال أمر من يستمع أمره ،
وترك حضور مواعظة ثلث مرات ،والداهنة إذا ظهرت ف أحد قتل ،وأشياء كثية .
وكان مذهبه البدعة الظاهرية ،ومع ذلك فابتدع أشياء ،كوجوه من التثويب ،إذ كانوا ينادون عند
الصلة بتاصاليت السلم و بقيام تاصاليت ,سوردين و باردي و وأصبح ول المد وغيه
،فجرى العمل بميعها ف زمان الوحدين ،وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حت إن أدركت
بنفسي ف جامع غرناطة العظم الرضا عن المام العصوم ،الهدي العلوم ،إل أن أزيلت وبقيت
أشياء مثية غفل عنها أو
غفلت .
وقد كان السلطان أبو العلء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد الؤمن بن علي منهم ،ظهر له
قبح ما هم عليه من هذه البتداعات ،فأمر ـ حي استقر براكش ـ خليفته بإزالة جيع ما ابتدع
من قبله ،وكتب بذلك رسالة إل القطار يأمر فيها بتغيي تلك السنة ،ويوصي بتقوى ال والستعانة
به ،والتوكل عليه ،وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الق ،وأن ل مهدي إل عيسى ،وأن ما ادعوه أنه
الهدي بدعة أزالا ،وأسقط اسم من ل تثبت عصمته .
وذكر أن أباه النصور هم بأن يصدع با به صدع ،وأن يرفع الرف الذي رفع ،فلم يساعده الجل
لذلك ،ث لا مات واستخلف ابنه أبو ممد عبد الواحد اللقب بالرشيد ،وفد إليه جاعة من أهل
الذهب التسمي بالوحدين ،فقتلوا منه ف الذروة والغارب ،وضمنوا على أنفسهم الدخول تت
طاعته ،والوقوف على قدم الدمة بي يديه ،والدافعة عنه با استطاعوا ،لكن على شرط ذكر
الهدي وتصيصه بالعصمة ف الطبة والخاطبات ،ونقش اسه الاص ف السكك ،وإعادة الدعاء
126
الشاطبي كتاب العتصام
بعد الصلة ،والنداء عليها بتاصاليت السلم عند كمال الذان ،و بتقام تاصاليت وهي إقامة
الصلة ،وما أشبه دلك من سودرين ،و قادري و أصبح ول المد وغي ذلك .
وقد كان الرشيد استمر على العمل با رسم أبوه من ترك ذلك كله ،فلما انتدب الوحدون إل
الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك ،فأسعفوا فيه ،فلما احتلوا منازلم أياما ول يعد شيء من تلك
العوائد ،ساءت ظنونم ،وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتم ف دينهم ،وبلغ ذلك الرشيد ،فجدد
تأنيسهم بإعادتا .
قال الؤرخ :فيا ل ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الرتياح لسماع تلك المور ،
واطلقت ألسنتهم بالدعاء لليفتهم بالنصر والتأييد ،وشلت الفراح فيهم الكبي والصغي ،وهذا
شأن صاحب البدعة ،فلن يسر بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها "ومن يرد ال فتنته فلن تلك له
من ال شيئا" وهذا كله دائر على القول بالمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة .
127
الشاطبي كتاب العتصام
وقد حدثن بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق ف النقل أنه قال :أقمت زمانا ف بعض القرى البادية
،وفيها من هذه الطائفة الشار إليها كثي قال :فخرجت يوما من منل لبعض شأن ،فرأيت
رجلي منهم قاعدين ،فتوهت أنما يتحدثان ف بعض فروع طريقتهم ،فقربت منهما على استخفاء
لسع من كلمهم ـ إذ من شأنم الستخفاء بأسرارهم ـ فتحدثا ف شيخهم وعظم منلته ،وأنه
ل أحد ف الدنيا مثله ،وطربا لذه القابلة طربا عظيما ،ث قال أحدها للخر :أتب الق ؟ هو
النب ،قال :نعم ،هذا هو الق .قال الخب :فقمت من ذلك الكان فارا أن يصيبن معهم قارعة .
وهذا نط الشيعة المامية ،ولول الغلو ف الدين والتكالب على نصر الذهب والتهالك ف مبة
البتدع ،لا وسع ذلك عقل أحد ،ولكن النب صلى ال عليه وسلم قال :
"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبا بشب وذراعا بذراع" الديث ،فهؤلء غلوا كما غلت النصارى
ف عيسى عليه السلم ،حيث قالوا :إن ال هو السيح ابن مري ،فقال ال تعال " :قل يا أهل
الكتاب ل تغلوا ف دينكم غي الق ول تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيا وضلوا عن
سواء السبيل" وف الديث :
"ول تطرون كما أطرت النصارى عيسى ابن مري ،ولكن قولوا :عبد ال ورسوله" .
ومن تأمل هذه الصناف وجد لا من البدع ف فروع الشريعة كثيا ،لن البدعة إذا دخلت ف
الصل سهلت مداخلتها الفروع .
128
الشاطبي كتاب العتصام
وعن أب يزيد البسطامي رحه ال ،قال :رأيت رب ف النام ،فقلت :كيف الطريق إليك ؟ فقال :
أترك نفسك وتعال ؟ وشأن هذا الكلم من الشرع موجود فالعمل بقتضاه صحيح ،لنه كالتنبيه
لوضع الدليل ،لن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلق ،والوقوف على قدم العبودية ،واليات
تدل على هذا العن ،كقوله تعال " :وأما من خاف مقام ربه ونى النفس عن الوى*فإن النة هي
الأوى" وما أشبه ذلك ،فلو رأى ف النوم قائلً يقول :إن فلنا سرق فاقطعه ،أو عال فاسأله ،أو
اعمل با يقول لك ،أو فلن زن فحده ،وما أشبه ذلك ،ل يصح له العمل حت يقوم له الشاهد ف
اليقظة ،وإل كان عاملً بغي شريعة ،إذ ليس بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم وحي .
ول يقال :إن الرؤيا من أجزاء النبوة ،فل ينبغي أن تمل ،وأيضا إن الخب ف النام قد يكون النب
صلى ال عليه وسلم ،وهو قد قال :
"من رآن ف النوم فقد رآن حقا ،فإن الشيطان ل يتمثل ب" وإذا كان ...فإخباره ف النوم
كإخباره ف اليقظة .
لنا نقول :إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ،بل جز من أجزائه ،
والزء ل يقوم مقام الكل ف جيع الوجوه ،بل إنا يقوم مقامه ف بعض الوجوه ،وقد صرفت إل
جهة البشارة والنذارة ،وفيها كاف .
وأيضا فإن الرؤيا الت هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالة من الرجل الصال ،
وحصول الشروط ما ينظر فيه ،فقد تتوفر ،وقد ل تتوفر .
وأيضا فهي منقسمة إل اللم ،وهو من الشيطان ،وإل حديث النفس ،وقد تكون سبب هيجان
بعض أخلط ،فمت تتعي الصالة حت يكم با وترك غي الصالة ؟
ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تديد وحي بكم بعد الن ضلى ال عليه وسلم ،وهو منهي عنه
بالجاع .
يكى أن شريك بن عبد ال القاضي دخل على الهدي ،فلما رآه قال :علي بالسيف والنطع ،قال
:ول يا أمي اليؤمني ؟ قال :رأيت ف منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عن ،فقصصت
رؤياي على من عبها ،فقال ل :يظهر لك طاعة ويضمر معصية .فقال له شريك :وال ما رؤياك
برؤيا إبراهيم الليل عليه السلم ،ول أن معبك بيوسف الصديق عليه السلم ،فبالحلم الكاذبة
تضرب أعناق الؤمني ؟ فاستحي الهدي ،وقال :اخرج عن .ث صرفه وأبعده .
وحكى الغزال إن بعض الئمة أنه أفت بوجوب قتل رجل يقول بلق القرآن ،فروجع فيه فاستدل
بأن رجلً رأى ف منامه إبليس قد اجتاز بباب الدينة ول يدخلها ؟ فقيل :هل دخلتها ؟ فقال :
أغنان عن دخولا رجل يقول بلق القرآن ،فقام ذلك الرجل فقال :لو أفت إبليس بوجوب قتلي ف
اليقظة هل تقلدونه ف فتواه ؟ فقالوا :ل ! فقال :قوله ف النام ل يزيد على قوله ف اليقظة .
129
الشاطبي كتاب العتصام
وأما الرؤيا الت يب فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم الرائي بالكم فل بد من النظر فيها أيضا ،
لنه إذا أخب بكم موافق لشريعته ،فالكم با استقر ،وإن أخب بخالف ،فمحال ،لنه صلى ال
عليه وسلم ل ينسخ بعد موته شريعته الستقرة ف حياته ،لن الدين ل يتوقف استقراره بعد موته
على حصول الرائي النومية ،لن ذلك باطل بالجاع .فمن رأى شيئا من ذلك فل عمل عليه ،
وعند ذلك نقول :إن رؤياه غي صحيحة .إذ لو رآه حقا ل يبه با يالف الشرع .
لكن يبقى النظر ف معن قوله صلى ال عليه وسلم :
"من رآن ف النوم فقد رآن" وفيه تأويلن :
احدها :ما ذكره ابن رشيد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلن مشهوران بالعدالة ف قضية ،فلما
نام الاكم ذكر أنه رأى النب صلى ال عليه وسلم ،فقال له :ما تكم بذه الشهادة ؟ فإنا باطلة .
فأجاب بأنه ل يل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ،لن ذلك إبطال لحكام الشريعة بالرؤيا ،
وذلك باطل ل يصح أن يعتقد ،إذ ل يعلم الغيب من ناحيتها إل النبياء الذين رؤياهم وحي ،ومن
سواهم إنا رؤياهم :
جزء من ستة وأربعي جزءا من النبوة .
ث قال :وليس معن قوله :
"من رآن فقد رآن حقا" أن كل من رأى ف منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة .بدليل أن الرئي قد يراه
مرات على صور متلفة ،ويراه الرائي على صفة ،وغيه على صفة أخرى .ول يوز أن تتلف
صور النب صلى ال عليه وسلم ول صفاته .وإنا معن الديث " :من رآن على صورت الت خلقت
عليها .فقد رآن ،إذ ل يتمثل الشيطان ب" إذ ل يقل :من رآن أنه رآن .وإنا قال :من رآن فقد
رآن .وأن لذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ؟ وإن ظن أنه رآه ،ما ل يعلم
أن تلك الصورة صورته بعينها ،وهذا ما طريق لحد إل معرفته .
فهذا ما نقل عن ابن رشيد .وحاصله يرجع إل أن الرئي قد يكون غي النب صلى ال عليه وسلم ،
وإن اعتقد الرائي أنه هو .
والتأويل الثان يقوله علماء التعبي :إن الشيطان قد يأت النائم ف صورة ما من معارف الرائي وغيهم
فيشي له إل رجل آخر :هذا فلن النب ،وهذا اللك الفلن ،أو من أشبه هؤلء من ل يتمثل
الشيطان به .فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علمة عندهم .وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه
الشار إليه بالمر والنهي غي الوافقي للشرع ،فيظن الرائي أنه من قبل النب صلى ال عليه وسلم ،
ول يكون كذلك ،فل يوثق با يقول له أو يأمر أو ينهى .
وما أحرى هذا الضرب أن يكون المر أو النهي فيه مالفا لكمال الول ،حقيق بأن يكون فيه
موافقا ،وعند ذلك ل يبقى ف السألة إشكال .نعم ل يكم بجرد الرؤيا حت يعرضها على العلم ،
130
الشاطبي كتاب العتصام
لمكان اختلط أحد القسمي بالخر وعلى الملة فل يستدل بالرؤيا ف الحكام إل ضعيف النة .
نعم يأت الرئي تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة ،بيث ل يقطعون بقتضاها حكما ،ول يبنون عليها
أصلً ،وهو العتدال ف أخذها ،حسبما فهم من الشرع فيها ،وال أعلم .
فصل وقد رأينا أن تتم الكلم ف الباب بفصل جع جلة من الستدللت التقدمة
وقد رأينا أن تتم الكلم ف الباب بفصل جع جلة من الستدللت التقدمة ،وغيها ف معناها ،
وفيه من نكت هذا الكتاب جلة أخرى ،فهو ما يتاج إليه بسب الوقت والال ،وإن كان فيه
طول ولكنه يدم ما نن فيه إن شاء ال تعال .
وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنم سلكوا طريق الصوفية ،فيجتمعون ف
بعض الليال ويأخذون ف الذكر الهوري على صوت واحد ،ث ف الغناء والرقص ،إل آخر الليل ،
ويضر معهم بعض التسمي بالفقهاء ـ يترسون برسم الشيوخ الداة إل سلوك ذلك الطريق :هل
هذا العمل صحيح ف الشرع أم ل ؟
فوقع الواب بأن ذلك كله من البدع الحدثات ،الخالفة طريقة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،
وطريقة أصحابه والتابعي لم بإحسان ،فنفع بذلك ن شاء من خلقه .
ث إن الواب وصل إل بعض البلطان ،فقامت على العاملي بتلك البدع ،وخافوا اندراس
طريقتهم ،وانقطاع اكلهم با ،فأرادوا النتصار لنفسهم ،بعد أن راموا ذلك بالنتساب بالسنة
إل شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت ف النقطاع إل ال ،والعمل بالسنة طريقتهم ،
فلم يستقر لم الستدلل لكونم على ضد ما كان عليه القوم ،فإنم كانوا بنوا نلتهم على ثلثة
أصول :القتداء بالنب صلى ال عليه وسلم ف الخلق والفعال ،وأكل اللل ،وإخلص النية ف
جيع العمال ،وهؤلء قد خالفوهم ف هذه الصول ،فل يكنهم الدخول تت ترجتهم .
وكان من قدر ال أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت ف مسألة تشبه هذه ،لكن حسن
ظاهرها بيث يكاد باطنها يفى على غي التأمل .فأجاب عفا ال عنه على مقتضى ظاهرها من غي
تعرض إل ما هم عليه من البدع والضللت ،ولا سع بعضهم بذا الواب أرسل به إل بلدة أخرى
،فأتى به فرحل إل غي بلده ،وشهر ف شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة ،وأنه طالب
للمناظرة فيها ،فدعي لذلك فلم يقم فيه ول قعد ،غي أنه قال :إن هذه حجت ،وألقى بالبطاقة
الت بط الجيب ،وكان هو ومبه وأشياعه يطيون با رحا ،فوصلت السألة إل غرناطة ،وطلب
من الميع النظر فيها .فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها إل أن يظهر وجه الصواب فيها الذي
يدان ال به لنه من النصيحة الت هي الدين القوي ،والصراط الستقيم .
131
الشاطبي كتاب العتصام
ونص خلصة السؤال :ما يقول الشيخ فلن ف جاعة من السلمي يتمعون ف رباط على ضفة
البحر ف الليال الفاضلة ،يقرؤون جزءا من القرآن ،ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن
ف الوقت ،ويذكرون ال بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ،ث يقوم من بينهم قوال يذكر شيئا ف
مدح النب صلى ال عليه وسلم ،ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق ساعه من صفات
الصالي ،وذكر آلء ال ونعمائه ،ويشوقهم بذكر النازل الجازية ،والعاهد النبوية ،فيتواجدون
اشتياقا لذلك ،ث يأكلون ما حضر من الطعام ،ويمدون ال تعال ،ويرددون الصلة على النب
صلى ال عليه وسلم ،ويبتهلون بالدعية إل اللله ف صلح أمورهم ،ويدعون للمسلمي ولمامهم
ويفترقون .
فهل يوز اجتماعهم هلى ماذكر ؟ أم ينعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من الحبي إل منله بقصد
التبك ،هل ييبون دعوته ويتمعون على الوجه الذكور أم ل ؟
فأجاب با مصوله :مالس تلوة القرآن وذكر ال هي رياض النة ث أتى بالشواهد على طلب ذكر
ال .وأما النشادات الشعرية .فإنا الشعر كلم حسنه حسن وقبيحه قبيح ،وف القرآن ف شعراء
السلم " :إل الذين آمنوا وعملوا الصالات وذكروا ال كثيا " وذلك أن حسان بن ثابت ،وعبد
ال بن رواحة ،وكعبا لا سعوا قوله تعال " :والشعراء يتبعهم الغاوون" .بكوا عند ساعها فنل
الستثناء وقد أنشد الشعر بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،ورقت نفسه الكرية وذرفت
عيناه لبيات أخت النضر لا طبع عليه من الرأفة والرحة .
وأما التواجد عند السماع ،فهو ف الصل رقد النفس ،واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن
.قال ال تعال " :الذين إذا ذكر ال وجلت قلوبم" أي اضطربت رغبا أو رهبا .وعن اضطراب
القلب يصل اضطراب السم ،قال ال تعال " :لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " الية .وقال
" :ففروا إل ال" فإنا التواجد رقة نفسية ،وهزة قلبية ،ونضة روحانية .وهذا هو التواجد عن
وجد .ول يسمع فيه نكي من الشرع .وذكر السلمي أنه كان يستدل بذه الية على حركة الوجد
ف وقت السماع .وهي " :وربطنا على قلوبم إذ قاموا فقالوا ربنا" الية .وكان يقول :إن القلوب
مربوطة باللكوت ،حركتها أنوار الذكار ،وما يرد عليها من فنون السماع .
ووراء هذا تواجد ل عن وجد ،فهو مناط الذم لخالفة ما ظهر لا بطن ،وقد يعزب فيه المر عند
القصد إل استنهاض العزائم ،وأعمال الركة ف يقظة القلب النائم :
"يا أيها الناس ابكوا فإن ل تبكوا فتباكوا" ولكن شتان ما بينهما .
وأما من دعا طائفة إل منله فتجاب دعوته ،وله ف ذلك قصده ونيته .فهذا ما ظهر تقييده على
مقتضى الظاهر ،وال يتول السرائر ،وإنا العمال بالنيات انتهى ما قيده .
132
الشاطبي كتاب العتصام
فكان ما ظهر ل ف هذا الواب :أن ما ذكره ف مالس الذكر الصحيح إذا كان على حسب ما
اجتمع عليه السلف الصال ،فإنم كانوا يتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ،حت يتعلم بعضهم من
بعض ،ويأخذ بعضهم من بعض ،فهو ملس من مالس الذكر الت جاء ف مثلها من حديث أب
هريرة رضي ال عنه عن النب صلى ال عليه وسلم :
"ما اجتمع قوم ف بيت من بيوت ال يتلون كتاب ال ويتدارسونه بينهم ،إل نزلت عليهم السكينة
وغشيتهم الرحة ،وحفت بم اللئكة وذكرهم ال فيمن عنده" وهو الذي فهمه الصحابه رضي ال
تعال عنهم من الجتماع على تلوة كلم ال .
وكذلك الجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر ال ففي رواية أخرى أنه قال :
"ل يقعد قوم يذكرون ال إل حفتهم اللئكة" الديث الذكور .ل الجتماع للذكر على صوت
واحد ،وإذا اجتمع القوم على التذكي لنعم ال ،أو التذاكر ف العلم إن كانوا علماء ،أو كان فيهم
عال فجلس إليه متعلمون ،أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضا بالعمل بطاعة ال والبعد عن معصيته ـ
وما أشبه ذلك ما كان يعمل به رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أصحابه ،وعمل به الصحابة
والتابعون ـ فهذه الجالس كلها مال ذكر وهي الت جاء فيها من الجر ما جاء .
كما يكى عن أب ليلى أنه سئل عن القصص .فقال :أدركت أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم
ويدث هذا با سع وهذا با سع ـ فأما أن يلسوا خطيبا فل ـ وكان كالذي نراه معمولً به ف
الساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علما من العلوم الشرعية .أو تتمع إليه
العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بال ويبي لم سنة نبيهم ليعملوا با ،ويبي لم الحدثات الت
هي ضللة ليحذروا منها ،ويتجنبوا مواطنها والعمل با .
فهذه مالس الذكر على القيقة وهي الت حرمها ال أهل البدع من هؤلء الفقراء الذين زعموا أنم
سلكوا طريق التصوف ،وقل ما تد منهم من يسن قراءة الفاتة ف الصلة إل على اللحن ،فضلً
عن غيها ،ول يعرف كيف يتعبد ول كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من النابة .وكيف
يعلمون ذلك وهم قد حرموا مالس الذكر الت تغشاها الرحة ،وتنل فيها السكينة ،وتف با
اللئكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا ،فاقتدوا بهال أمثالم ،وأخذوا يقرؤون الحاديث النبوية
واليات القرآنية فينلونا على آرائهم ،ل على ما قال أهل العلم فيها .فخرجوا عن الصراط
الستقيم ،إل أن يتمعوا ويقرأ أحدهم شيئا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد
التلحي تشبه قراءته الغناء الذموم ،ث يقولون :تعالوا نذكر ال فيفعون أصواتم يشون ذلك
الذكر مداولة ،طائفة ف جهة ،وطائفة ف جهة أخرى ،على صوت واحد يشبه الغناء ،ويزعمون
أن هذا من مالس الذكر الندوب إليها ،وكذبوا :فإنه لو كان حقا لكان السلف الصال أول
133
الشاطبي كتاب العتصام
بإدراكه وفهمه والعمل به ؟ وقد قال تعال " :ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه ل يب العتدين"
والعتدون ف التفسي هم الرافعون أصواتم بالدعاء .
"وعن أب موسى قال :كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ف سفر فجعل الناس يهرون بالتكبي
،فقال النب صلى ال عليه وسلم :أربعوا على أنفسكم ،إنكم ل تدعون أصم ول غائبا تدعون
سيعا قريبا ،وهو معكم" .وهذا الديث من تام تفسي الية ،ول يكونوا رضي ال عنهم يكبون
على صوت واحد ،ولكنه ناهم عن رفع الصوت ليكونوا متثلي للية .وقد جاء عن السلف أيضا
النهي عن الجتماع على الذكر ،والدعاء باليئة الت يتمع عليها هؤلء البتدعون وجاء عنهم النهي
عن الساجد التخذة لذلك ،وهي الربط الت يسمونا بالصفة .وذكر من ذلك ابن وهب وابن
وضاح وغيها ما فيه كفاية لن وفقه ال .
فالاصل من هؤلء أنم حسنوا الظن بأنم فيما هم عليه مصيبون ،وأساؤوا الظن بالسلف الصال
أهل العمل الراجح الصريح ،وأهل الدين الصحيح .ث لا طالبهم لسان الال بالجة أخذوا كلم
الجيب وهم ل يعملون ،وقولوه ما ل يرضى به العلماء ،وقد بي ذلك ف كلم آخر إذ سئل عن
ذكر فقراء زماننا ،فأجاب بأن مالس الذكر الذكورة بي الحاديث أنا هي الت يتلى فيها القرآن ،
والت يتعلم فيها العلم والدين ،والت تعمر بالعلم والتذكي بالخرة والنة والنار .وكمجالس سفيان
الثوري ،والسن ،وابن سيين ،وأضرابم .
أما مالس الذكر اللسان فقد صرح با ف حديث اللئكة السياحي ،لكن ل يذكر فيه جهرا
بالكلمات ،ول رفع أصوات ،وكذلك غيه .لكن الصل الشروع إعلن الفرائض وإخفاء
النوافل ،وأتى بالية وبقوله تعال " :إذ نادى ربه نداء خفيا " وبديث :
"أربعوا على أنفسكم" .قال :وفقراء الوقت قد تيوا بآيات ،وتيزوا بأصوات ،هي إل العتداء ،
أقربق منها إل القتداء وطريقتهم إل اتاذها مأكلة وصناعة ،أقرب منها إل اعتدادها قربةً وطاع ًة .
انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد .وهي دليل على أن فتواه الحتج با ليس معناها ما رام
هؤلء البتدعة .فإنه سئل ف هذه عن فقراء الوقت ،فأجاب بذمهم ،وأن حديث النب صلى ال
عليه وسلم ل يتناول عملهم .وف الول إنا سئل عن قوم يتمعون لقراءة القرآن ،أو لذكر ال .
وهذا السؤال يصدق على قوم يتمعون مثلً ف السجد فيذكرون ال كل واحد منهم ف نفسه أو
يتلو القرآن نفسه كما يصدق على مالس العلمي والتعلمي ،وما أشبه ذلك ما تقدم التنبيه عليه فل
يسعه وغيه من العلماء إل أن يذكر ماسن ذلك والثواب عليه .فلما سئل عن أهل البدع ف الذكر
والتلوة بي ما ينبغي أن يعتمد عليه الوفق ،ول توفيق إل بال العلي العظيم .
134
الشاطبي كتاب العتصام
وأما ما ذكره ف النشادات الشعرية ،فجائز للنسان أن ينشد الشعر الذي ل رفث فيه ،ول يذكر
بعصية ،وأن يسمعه من غيه إذا أنشد ،على الد الذي ينشد بي يدي رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء ،وذلك أنه كان ينشد ويسمع
لفوائد .
منها :النافخة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعن السلم وأهله ،ولذلك " كان حسان بن
ثابت رضي ال عنه قد نصب له منب ف السجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود ،حت يقولوا :خطيبه
أخطب من خطيبنا ،وشاعره أشعر من شاعرنا ،ويقول له صلى ال عليه وسلم :اهجهم وجبيل
معك" وهذا من باب الهاد ف سبيل ال ،ليس للفقراء من فضله ف غنائهم بالشعر قليل ول كثي .
ومنها :أنم كانوا يتعرضون لاجاتم ويستشفعون بتقدي البيات بي يدي طلباتم .كما فعل ابن
زهي رضي ال عنه ،وأخت النضر بن الارث ،ومثل ما يفعل الشعراء مع الكباء .هذا ل حرج
فيه ما ل يكن ف الشعر ذكر ما ل يوز .ونظيه ف سائر الزمنة تقدي الشعر للخلفاء واللوك ومن
أشبههم قطعا من أشعارهم بي يدي حاجاتم ،كما يفعله أهل الوقت الجردون للسعاية على
الناس ،مع القدرة على الكتساب .وف الديث :
"ل تصح الصدقة لغن ،ول لذي مرة سوي" فإنم ينشدون الشعار الت فيها ذكر ال وذكر
رسوله ،وكثيا ما يكون فيها ما ل يوز شرعا ،ويتمندلون بذكر ال ورسوله ف السواق والواضع
القذرة ،ويعلون ذلك آلة الخذ ما ف أيدي الناس ،لكن بأصوات مطربة ياف بسببها على النساء
ومن ل عقل له من الرجال .
ومنها :أنم ربا أنشدوا الشعر ف السفار الهادية تنشيطا لكلل النفوس ،وتنبيها للرواحل أن
تنهض ف اثقالا ،وهذا حسن ،لكن العرب ل يكن لا من تسي النغمات ما يري مرى ما الناس
عليه اليوم ،بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا من غي أن يتعلموا هذه الترجيعات الت حدثت بعدهم ،
بل كانوا يرققون الصوت ويططونه على وجه ل يليق بأمية العرب الذين ل يعرفوا صنائع الوسيقى ،
فلم يكن فيه إلذاذ ول إطراب يلهي ،وإنا كان لم شيء من النشاط كما كان البشة وعبد ال بن
رواحة يدوان بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وكما كان النصار يقولون عند حفر
الندق :
على الهاد ما حيينا أبدا نن الذين بايعوا ممدا
فيجيبهم صلى ال عليه وسلم بقوله :
"اللهم ل خي إل خي الخرة .فاغفر للنصار والهاجرة" .
ومنها :أن يتمثل الرجل بالبيت أو البيات من الكمة ف نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يركها
لقتضى معن الشعر ،أو يذكرها ذكرا مطلقا ،كما حكى أبو السن القراف الصوف عن السن أن
135
الشاطبي كتاب العتصام
قوما أتوا عمر بن الطاب رضي ال عنه فقالوا :يا أمي الؤمني ! إن لنا إماما إذا فرغ من صلته
تغن .فقال عمر :من هو ؟ فذكر الرجل .فقال :قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تسسنا
عليه أمره .قال :فقام عمر مع جاعة من أصحاب النب صلى ال عليه وسلم حت أتوا الرجل وهو
ف السجد ،فلما أن نظر إل عمر قام فاستقبله فقال :يا أمي الؤمني ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟
إن كانت الاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك ،وإن
136
الشاطبي كتاب العتصام
القواف .فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودا إل أصل اللقة ل يتصنعون
ول يتكلفون .
هذا ما قال .فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك الحدث .وحت سئل مالك بن أنس رضي ال
عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل الدينة .فقال :إنا يفعله الفساق ولكن التقدمون أيضا يعدون
الغناء جزءا من أجزاء طريقة التعبد ،وطلب رقة النفوس ،وخشوع القلوب ،حت يقصدونه
قصدا ،ويتعمدون الليال الفاضلة ،فيجتمعون لجل الذكر الهري ،والشطح ،والرقص ،
والتغاشي ،والصياح ،وضرب القدام على وزن إيقاع الكف أو اللت ،وموافقة النغمات .
هل ف كلم النب صلى ال عنه وعمله النقول ف الصحاح أو عمل السلف الصال أو أحد من العلماء
اثر؟ أو ف كلم الجيب ما يصرح بكلم مثل هذا ؟
بل سئل عن إنشاد الشعار بالصوامع كما يفعله الؤذنون اليوم ف الدعاء بالسحار ؟ فأجاب بأن
ذلك بدعة مضافة إل بدعة ،لن الدعاء بالصوامع بدعة .وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى ،إذ
ل يكن ذلك ف زمن السلف القتدى بم .
وأما ما ذكره الجيب ف التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب ،فإنه ل يبي
ذلك الثر ما هو ،كما أنه ل يبي معن الرقة ،ول عرج عليها بتفسي يرشد إل فهم التواجد عند
الصوفية ،وإنا ف كلمه أن ث أثرا ظاهرا يظهر على جسم التواجد ،وذلك الثر يتاج إل تفسي ،
ث التواجد يتاج إل شرح بسب ما يظهر من كلمه .
والذي يظهر ف التواجد ما كان يبدو على جلة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وهو
البكاء واقشعرار اللد التابع للخوف الخذ بامع القلوب ،وبذلك وصف ال عباده ف كلمه حي
قال " :ال نزل أحسن الديث كتابا متشابا مثان تقشعر منه جلود الذين يشون ربم ث تلي
جلودهم وقلوبم إل ذكر ال" وقال تعال " :وإذا سعوا ما أنزل إل الرسول ترى أعينهم تفيض من
الدمع ما عرفوا من الق" وقال " :إنا الؤمنون الذين إذا ذكر ال وجلت قلوبم وإذا تليت عليهم
آياته زادتم إيانا" إل قوله " :أولئك هم الؤمنون حقا" .
وعن عبد ال بن الي رضي ال عنه قال :
انتهيت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يصلي ،ولوفه أزير كأزير الرجل ( يعن من البكاء
) والزير صوت يشبه صوت غليان القدر .وعن السن قال :قرأ عمر بن الطاب رضي ال عنه :
"إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع" فرب لا ربوة ،عيد منها عشرين يوما .وعن عبيد ال بن
عمر ،قال :صلى بنا عمر بن الطاب رضي ال عنه صلة الفجر ،فافتتح سورة يوسف فقرأها
حت إذا بلغ " :وابيضت عيناه من الزن فهو كظيم" بكى حت انقطع .وف رواية لا انتهى إل قوله
" :إنا أشكو بثي وحزن إل ال" بكى حت سع نشيجه من وراء الصفوف .وعن أب صال قال :لا
137
الشاطبي كتاب العتصام
قدم أهل اليمن ف زمان أب بكر رضي ال عنه سعوا القرآن فجعلوا يبكون ،فقال أبو بكر :هكذا
كنا حت قست قلوبنا .وعن ابن أب ليلى أنه قرأ سورة مري حت انتهى إل السجدة " :خروا سجدا
وبكيا" فسجد با ،فلما رفع رأسه قال :هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء؟ إل غي ذلك من
الثار الدالة على أن أثر الوعظة الذي يكون بغي تصنع إنا هو على هذه الوجوه وما أشبهها .
ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعال " :وربطنا على قلوبم إذ قاموا فقالوا ربنا رب
السماوات والرض" ذكره بعض الفسرين .وذلك أنه لا ألقى ال اليان ف قلوبم حضروا عند
ملكهم دقيانوس الكافر ،فتحركت فأرة أو هرة خاف لجلها اللك ،فنظر الفتية إل بعض ،ول
يتمالكوا أن قاموا مصرحي بالتوحيد ،معلني بالدليل والبهان ،منكرين على اللك نلة الكفر ،
باذلي أنفسهم ف ذات ال .فأوعدهم ث أخلفهم ،فتواعدوا الروج إل الغار ،إل أن كان منهم
ما حكى ال تعال ف كتابه ،فليس ف ذلك صعق ول صياح ،ول شطح ،ول تغاش مستعمل ،ول
شيء من ذلك ،وهو شأن فقرائنا اليوم .
وخرج سعيد بن منصور ف تفسيه عن عبد ال بن عروة بن الزبي ،قال :قلت لدت أساء :كيف
كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا قرؤوا القرآن ؟ قالت :كانوا كما نعتهم ال ،
تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم .قلت :إن ناسا ها هنا إذا سعوا ذلك تأخذهم عليه غشية .فقالت
:أعوذ بال من الشيطان الرجيم .
وخرج أبو عبيد من أحاديث أب حازم .قال :مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس
حوله ،فقال :ما هذا ؟ فقالوا :إذا قرئ عليه القرآن ،أو سع ال يذكر خر من خشية ال .قال
ابن عمر :وال إنا لنخشى ال ول نسقط .وهذا إنكار .
وقيل لعائشة رضي ال عنها :إن قوما إذا سعوا القرآن يغشى عليهم .فقالت :إن القرآن أكرم من
أن تنف عنه عقول الرجال ،ولكنه كما قال ال تعال " :تقشعر منه جلود الذين يشون ربم ث
تلي جلودهم وقلوبم إل ذكر ال" وعن أنس بن مالك رضي ال عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم
القرآن فيصعقون فقال :ذلك فعل الوارج .
وخرج أبو نعيم عن جابر بن عبد ال أن ابن الزبي رضي ال تعال عنه قال :جئت أب ،فقال :اين
كنت ؟ فقلت :وجدت أقواما يذكرون ال فيعد أحدهم حت يغشى عليه من خشية ال فقعدت
معهم ،فقال :ل تقعد بعدها .فرآن كأنه ل يأخذ ذلك ف فقال :رأيت رسول ال صلى ال عليه
وسلم يتلو القرآن .ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن ،فل يصيبهم هذا ،أفتراهم أخشع ل من
أب بكر وعمر ؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم ،وهذا بأن ذلك كله تعمل وتكلف ل يرضى به أهل
الدين .
138
الشاطبي كتاب العتصام
وسئل ممد بن سيين ،عن الرجل يقرأ عنده فيصعق ،فقال :ميعاد ما بيننا وبينه أن يلس على
حائط ث يقرأ عليه القرآن من أوله إى آخره ،فإن وقع فهو كما قال .
وهذا الكلم حسن ف الحق والبطل ،لنه إنا كان عند الوارج نوعا من القحة ف النفوس الائلة
عن الصواب ،وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالً صحيحا وليس كذلك .والدليل عليه أنه ل يظهر
على أحد من الصحابة ل هو ول ما يشبهه ،فإن مبناهم كان على الق ،فلم يكونوا يستعملون ف
دين ال هذه اللعب القبيحة السقطة للدب والروءة .
نعم قد ل ينكر اتفاق الغشي ونوه أو الوت لن سع الوعظة بق فضعف عن مصابرة الرقة الاصلة
بسببها .فجعل اابن سيين ذلك الضابط ميزانا للمحق والبطل وهو ظاهر ،فإن القحة ل تبقى مع
خوف السقوط من الائط .فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد .
فحكي عن أب وائل ،قال :خرجنا مع عبد ال بن مسعود رضي ال عنه ومعناالربيع بن خثيمة
فممرنا على حداد ،فقام عبد ال ينظر إل حديده ف النار ،فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط ،ث إن
عبد ال مضى كما هو حت أتينا على شاطىء الفرات على أتون فلما رآه عبد ال والنار تلتهب ف
جوفه قرأ هذه الية " :إذا رأتم من مكان بعيد سعوا لا تغيظا وزفيا" إل قوله " :دعوا هنالك ثبورا
"فصعق الربيع ،يعن غشي عليه .فاحتملناه فأتينا به أهله ـ قال ـ ورابطة عبد ال إل الظهر فلم
يفق ،فرابطه إل الغرب
فأفاق ،ورجع عبد ال إل أهله .
فهذه حالت طرأت لواحد من أفاضل التابعي بحضر صحاب ،ول ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج
عن طاقته ،فصار بتلك الوعظة السنة كالغمى عليه ،فل حرج إذا .
وحكي أن شابا كان يصحب النيد رضي ال عنه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا
سع شيئا من الذكر يزعق ،فقال له النيد يوما :إن فعلت ذلك مرةً أخرى ل تصحبن .فكان إذا
سع شيئا يتغي ،ويضبط نفسه حت كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة ،فيوما من اليام
صاح صيحه تلفت نفسه ،فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف ،لنه لو كانت صيحته
الول غلبته ل يقدر على ضبط نفسه ،وإن كان بشدة ،كما ل يقدر على ضبط نفسه الربيع بن
خثيمة ،وعليه أدبه الشيخ حي أنكر عليه ووعده بالفرقة ،إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا
رعونة النفس ،فلما خرج المر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفوا ل حرج عليه فيها
إن شاء ال .
بلف هؤلء القوم الذين ل يشموا من أوصاف الفضلء فأخذوا بالتشبه بم ،فابرز لم هواهم
التشبه بالوارج ،ويا ليتهم وقفوا عند هذا الد الذموم ،ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر
139
الشاطبي كتاب العتصام
والدوران والضرب على الصدور ،وبعضهم يضرب على رأسه .وما أشبه ذلك من العمل الضحك
للحمقى ،لكونه من أعمال الصبيان والجاني ،البكي للعقلء ،رح ًة لم ،إذ ل يتخذ مثل هذا
طريقا إل ال وتشبها بالصالي .
وقد صح من حديث العرياض بن سارية رضي ال عنه ،قال :
"وعظنا رسول ال صلى ال عليه وسلم موعظ ًة بليغة ذرفت منها العيون ،ووجلت منها القلوب "،
الديث ،فقال المام الجري العال السن أبو بكر رضي ال عنه :ميزوا هذا الكلم ،فإنه ل يقل :
صرخنا من موعظة ،ول طرقنا على رؤوسنا ،ول ضربنا على صدورنا ،ول زفنا ول رقصنا ،كما
يفعل كثي من الهال يصرخون عند الواعظ ويزعقون ،وينتاشون ـ قال ـ :وهذا كله من
الشيطان يلعب بم ،وهذا كله بدعة وضللة ،ويقال لن فعل هذا :
اعلم أن النب صلى ال عليه وسلم أصدق الناس موعظ ًة ،وأنصح الناس لمته ،وأرق الناس قلبًأ ،
وخي الناس من جاء بعده ـ ل يشك ف ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ول زعقوا ول
رقصوا ول زفنوا ،ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بي يدي رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك .انتهى كلمه .وهو واضح فيما نن فيه .
ول بد من النظر ف المر كله الوجب للتأثر الظاهر ف السلف الولي مع هؤلء الدعي ،فوجدنا
الولي يظهر عليهم ذلك الثر بسبب ذكر ال ،أو بسماع آية من كتاب ال ،وبسبب رؤية
اعتبارية ـ كما ف قصة الربيع عند رؤيته للحداد والتون وهو موقد النار ـ ولسبب قراءة ف صلة
أو غيها ،ول ند أحدا منهم ـ فيما نقل العلماء ـ يستعملون الترن بالشعار لترق نفوسهم ،
فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم ،فإنم يستعملون القرآن والديث والوعظ والتذكي
فل تتأثر ظواهرهم ،فإذا قام الزمر تسابقوا إل حركاتم العروفة لم ،فبالري أل يتأثروا على تلك
الوجوه الركوهة البتدعة .لن الق ل ينتج إل حقا كما أن الباطل
ل.ل ينتج إل باط ً
وعلى هذا التقرير ينبن النظر ف حقيقة الرقة الذكورة ،وهي الحركة للظاهر .وذلك أن الرقة ضد
الغلط ،فنقول :هذا رقيق ليس بغليط ،ومكان رقيق إذا كان لي التراب ،ومثله الغليط ،فإذا
وصف بذلك فهو راجع إل لينه وتأثره ضد القسوة ،ويشعر بذلك قوله تعال " :ث تلي جلودهم
وقلوبم إل ذكر ال" لن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الوعظة خضع لا ولن وانقاد ،ولذلك قال
تعال " :إنا الؤمنون الذين إذا ذكر ال وجلت قلوبم" فإن الوجل تأثر ولي يصل ف القلب بسبب
الوعظة ،فترى اللد من أجل ذلك يقسعر ،والعي تدمع ،واللي إذا حل بالقلب ـ وهو باطن
النسان ـ حل باللد بشهادة ال ـ وهو ظاهر النسان ـ فقد حل النفعال بجموع النسان
140
الشاطبي كتاب العتصام
الولي ـ كما تقدم ـ فإذا رأيت أحدا سع موعظ ًة أي موعظة كانت ،فيظهر عليه من الثر ما
ظهر على السلف الصال ،علمت أنا رقة هي أول الوجد ،وأنا صحيحة ل اعتراض فيها .
وإذا رأيت أحدا سع موعظة قرآنيةً أو سنيةً أو حكميةً ول يظهر عليه من تلك الثار شيء ،حت
يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر ،فإنه ل يظهر عليه ف الغالب من تلك الثار شيء ،وإنا
يظهر عليه انزعاج بقيام ،أو دوران ،أو شطح ،أو صياح ،أو ما يناسب الغناء ،لن الرقة ضد
القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب
للحركة ،لنه ثوران الطباع ،ولذلك اشترك فيه مع النسان اليوان ،كالبل والنحل ،ومن ل
عقل له من الطفال ،وغي ذلك .والشوع ضده ،لنه راجع إل السكون ،وقد فسر به لغة ،
كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب النسان من حزن أو سرور .
قال الشاعر :
طرب الواله أو كالختبل
والتطريب مد الصوت وتسينه .
وبيانه أن الشعر الغن به قد اشتمل على أمرين :
أحدها :ما فيه من الكمة والوعظة ،وهذا متص بالقلوب .ففيها تعمل وبا تنفعل ،ومن هذه
الهة ينسب السماع إل الرواح .
والثان :ما فيه من النغمات الرتبة على النسب التلحيينة ،وهو الؤثر ف الطبائع ،فيهيجها إل ما
يناسبها ،وهي الركات على اختلفها ،فكل تأثر ف القلب من جهة السماع تصل عنه آثار
الكون والضوع فهو رقة ،وهو التواجد الذي أشار إليه كلم الجيب -ول شك أنه ممود -
وكل تأثر يصل عنه ضد السكون ،
فهو طرب ل رقة فيه ول تواجد ،ول هو عند شيوخ الصوفية ممود ،لكن هؤلء الفقراء ليس لم
من التواجد -ف الغالب -إل الثان الذموم ،فهم إذا متواجدون بالنغم واللحون ،ل يدركون من
معان الكمة شيئا .فقد باؤوا إذا بأخسر الصفقتي .نعوذ بال .
وإنا جاءهم الغلط من جهة اختلط الناطي عليهم ،ومن جهة أنم استدلوا بغيه فقوله تعال :
"ففروا إل ال" وقوله " :لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا" ل دليل فيه على العن .وكذلك قوله
تعال " :إذ قاموا فقالوا ربنا" أين فيه أنم قاموا يرقصون ،أو يزفنون ،أو يدورون على أقدامهم ؟
ونو ذلك ،فهو من الستدلل الداخل تت هذا الواب .
ووقع ف كلم الجيب لفظ السماع غي مفسر ،ففهم منه الجتمع أنه الغناء الذي تستعمله شيعته ،
وهو فهم عموم الناس ،ل فهم الصوفية ،فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يضع لا
القلب ،ويلي لا اللد .وهو الذي يتواجدون عنده التواجد الحمود ،فسماع القرآن عنهم ساع ،
141
الشاطبي كتاب العتصام
وكذلك ساع السنة وكلم الكماء والفضلء حت أصوات الطي وخرير الاء ،وصرير الباب .ومنه
ساع النظور أيضا إذا أعطى حكمة ،ول يستمعون هذا الخي إل ف الفرط ،وعلى غي استعداد
وعلى غي وجه اللتذاذ والطراب ،ول هم من يدوام عليه أو يتخذه عادة ،لن ذلك كله قادح ف
مقاصدهم الت بنوا عليها .
قال النيد :إذا رأيت الريد يب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة .وإنا لم من ساعة إذا اتفق
وجه الكمة إن كان فيه حكمة ،فاستوى عندهم النظم والنثر .وإن أطلق أحد منهم السماع ،
فمن حيث فهم الكمة ل من حيث يلئم الطباع لن من سعه من حيث يستحسنه فهو متعرض
للفتنة فيصي إل ما صار إليه السماع اللذ الطرب .
ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ،ما ذكر عن أب عثمان الغرب أنه قال :من ادعى
السماع ول يسمع صوت الطي وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع .وقال الصري :
أيش أعمل بسماع ينقطع من يسمع منه ؟ وينبغي أن يكون ساعك ساعا متصلً غي منقطع .وعن
أحد بن سال قال :خدمت سهل بن عبد ال التستري سني ،فما رأيته تغي عند ساع شيء يسمعه
من الذكر أو القرآن أو غيه ،فلما كان ف آخر عمره قرىء بي يديه " :فاليوم ل يؤخذ منكم فدية"
تغي وارتعد وكاد يسقط ،فلما رجع إل حال صحوه سألته عن ذلك فقال :يا حبيب ضعفنا .وقال
السلمي دخلت على أب عثمان الغرب وواحد يستقي الاء من البئر على بكرة ،فقال ل :يا أبا عبد
الرحن ! تدري إيش تقول هذه البكرة ؟ فقلت :ل .فقال :تقول ال .
فهذه الكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم ،وأنم ل يؤثرون ساع الشعار
ل على أن يتصنعوا فيها بالغان الطربة .ولا طال الزمان وبعدوا عن أحوال السلف على غيها فض ً
الصال ،أخذ الوى ف التفريع ف السماع حت صار يستعمل منع الصنوع على قانون اللان ،
فتعشقت به الطباع ،وكثر العمل به ودام ـ وإن كان قصدهم به الراحة فقط ـ فصار قذى ف
طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ،ث طال المد حت اعتقده الهال ف هذا الزمان وما قاربه أنه
قربة ،وجزء أجزاء طريقة التصوف ،وهو الدهى .
وقول الجيب :وأما من دعا طائفة إل منله فتجاب دعوته وله ف دعوته قصده مطابق حسب ما
ذكر أولً ،بأن من دعا قوما إل منله لتعلم آية أو سورة من كتاب ال ،أو سنة من سنن رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،أو مذاكرة ف علم أو ف نعم ال ،أو مؤانسة ف شعر فيه حكمة ليس فيه غناء
مكروه ول صحبه شطح ول زفن ول صياح ،وغي ذلك من النكرات ،ث ألقى إليهم من الطعام
على غي وجه التكلف والباهاة ،ول يقصد بذلك بدعة ،ول امتيازا لفرقة ترج بأفعالا وأقوالا عن
السنة فل شك ف استحسان ذلك ،لنه داخل ف حكم الأدبة القصود با حسن العشرة بي اليان
142
الشاطبي كتاب العتصام
والخوان ،والتودد بي الصحاب ،وهي ف حكم الستحباب ،فإن كان فيها تذاكر ف علم أو
نوه ،فهي من باب التعاون على الي .
ومثال ما يكى عن ممد بن حنيف ،قال :دخلت يوما على القاضي علي بن أحد ،فقال ل :يا
أبا عبد ال ! قلت :لبيك أيها القاضي ،قال :ها هنا أحكي لكم حكاية تتاج أن تكتبها باء
الذهب ،فقلت :أيها القاضي ! ما الذهب فل أجده ،ولكن أكتبها بالب اليد ،فقال :بلغن أنه
قيل أب عبد ال أحد بن حنبل :أن الارث الحاسب يتكلم ف علوم الصوفية ويتج عليه بالي ،
فقال أحد :أحب أن أسع كلمه من حيث ل يعلم ،فقال أنا أجعك معه ،فاتذ دعوة ودعا
الارث وأصحابه ودعا أحد ،فجلس بيث يرى الارث ،فحضرت الصلة ،فتقدم وصلى بم
الغرب ،وأحضر الطعام ،فجعل يأكل ويتحدث معهم ،فقال أحد :هذا منالسنة .
فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الارث وجلس أصحابه ،فقال :من أراد منكم أن
يسأل شيئا فليسأل ،فسئل عن الخلص ،وعن الرياء ،ومسائل كثية ،فاستشهد بالي والديث
،أحد يسمع ل ينكر شيئا من ذلك فلما مضى هدي من الليل أمر الارث قارئا يقرأ شيئا من
القرآن على الدو فقرأ ،فبكى بعضهم وانتخب آخرون ،ث سكت القارىء ،فدعا الارث
بدعوات خفاف ،ث قام إل الصلة ،فلما أصبحوا قال أحد :قد كان بلغن أن ها هنا مالس
للذكر يتمعون عليها ،فإن كان هذا من تلك الجالس فل أنكر منها شيئا .
ففي هذه الكاية أن أحوال الصوفية توزن بيزان الشرع ،وأن مالس الذكر ليست ما زعم هؤلء
بل ما تقدم لنا ذكره ،وأما ما سوى ذلك ما اعتادوه فهو ما ينكر .
والارث الحاسب من كبار الصوفية القتدى بم فإذا ليس ف كلم الجيب ما يتعلق به هؤلء
التأخرون إذ باينوا التقدمي من كل وجه ،وبال التوفيق .
والمثلة ف الباب كثية لو تتبعت لرجنا عن القصود ،وإنا ذكرنا أمثلة تبي من استللتم الواهية
ما يضاهيها ،وحاصلها الروج ف الستدلل عن الطريق الذي أوضحه العلماء ،وبينه الئمة ،
وحصر أنواعه الراسخون ف العلم .
ومن نظر إل طريق أهل البدع ف الستدللت عرف أنا ل تنضبط ،لنا سيالة ل تقف عند حد .
وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حت ينسب النحلة الت التزمها
إل الشريعة .
فقد رأينا وسعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن .كما استدل بعض النصارى
على تشريك عيسى بقوله تعال " :وكلمته ألقاها إل مري وروح منه" ،واستدل على أن الكفار من
أهل النة بإطلق قوله تعال " :إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئي من آمن بال
واليوم الخر" واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه " :اذكروا نعمت الت أنعمت
143
الشاطبي كتاب العتصام
عليكم وأن فضلتكم على العالي" .وبعض اللولية استدل على قوله تعال " :ونفخت فيه من
روحي" والتناسخي استدل بقوله " :ف أي صورة ما شاء ركبك" .
وكذلك كل من اتبع التشابات ،أو حرف الناطات ،أو حل اليات ،ما ل تمله عند السلف
الصال ،أو تسك بالحاديث الواهية ،أو اخذ الدلة ببادي الرأي ،له أن يستدل على كل فعل أو
قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث ل يفوز بذلك أصلً ،والدليل عليه استدلل كل فرقة
شهرت بالبدعة على بدعتها يآية أو حديث من غي توقف ـ حسبما تقدم ذكره ـ وسيأت له نظائر
أيضا إن شاء ال .
فمن طلب خلص نفسه تثبت حت يتضح له الطريق ،ومن تساهل رمته أيدي الوى ف معاطب ل
ملص له منها إل ما شاء ال .
144
الشاطبي كتاب العتصام
الحكام الت هي مقصودا هذا الكتاب أن تشرح فيه ،بلف الضافية ،فإن لا أحكاما خاصة
وشرحا خاصا ـ وهو القصود ف هذا الباب إل أن الضافية أولً على ضربي :أحدها يقرب من
القيقية حت تكاد البدعة تعد حقيقية ،والخر يبعد منها حت يكاد سنة مضة .
ولا انقسمت هذا النقسام صار من الكيد على كل قسم على حدته ،فلنعقد ف كل واحد منهما
فصولً بسب ما يقتضيه الوقت ،وبال التوفيق .
فصل من فصول البدع الضافية قال ال سبحانه ف شأن عيسى عليه السلم ومن اتبعه :وجعلنا
ف قلوب الذين اتبعوه رأفة إل آخر الية
قال ال سبحانه ف شأن عيسى عليه السلم ومن اتبعه " :وجعلنا ف قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحة
ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء رضوان ال فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا
منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون " .
فخرج عبد بن حيد وإساعيل بن إسحاق القاضي وغيها " عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه
قال :قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم :هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت :ال ورسوله أعلم
.قال :أعلم الناس أبصرهم بالق إذا اختلف الناس ،وإن كان مقصرا ف العمل ،وإن كان يزحف
على أليتيه ،واختلف من كان قبلنا على اثنتي وسبعي فرقة ،نا منها ثلث وهلك سائرها ،فرقة
آذت اللوك وقاتلتهم على دين ال ـ ودين عيسى ابن مري عليهما السلم ـ فساحوا ف البال
وترهبوا فيها ،هم الذين قال ال عز وجل فيهم " :ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء
رضوان ال فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون" فالؤمني
الذين آمنوا ب وصدقوا ب والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا" ،وهذا الديث من أحاديث الكوفيي
.والرهبانية فيه بعن اعتزال اللق ف السياحة واطراح الدنيا ولذاتا من النساء وغي لك ،ومنه لزوم
الصوامع والديارة ـ على ما كان عليه أمر النصارى قبل السلم ـ مع التزام العبادة .وعلى هذا
التفسي جاعة من الفسرين .
ويتمل أن يكون الستثناء ف قوله تعال " :إل ابتغاء رضوان ال" متصلً ومنفصلً فإذا بنينا على
التصال فكأنه يقول :ما كتبناها عليهم إل على هذا الوجه الذي هو العمل با ابتغاء رضوان ال .
فالعن أنا ما كتبت عليهم ـ أي ما شرعت لم ـ لكن بشرط قصد الرضوان ،فما رعوها حق
رعايتها ،بدليل أنم تركوا رعايتها حي ل يؤمنوا برسول ال صلى ال عليه وسلم .وهو قول طائفة
من الفسرين لن قصد الرضوان إذا كان شرطا ف العمل با شرع لم ،فمن حقهم أن يتبعوا ذلك
القصد فإل أين سار بم ساروا ،وإنا شرع لم على شرط أنه إذا نسخ بغيه رجعوا إل ما أحكم
وتركوا ما نسخ ،وهو معن ابتغاء الرضوان على القيقة ،فإذا ل يفعلوا وأصروا على الول كان
145
الشاطبي كتاب العتصام
ذلك ابتاعا للهوى ل اتباعا للمشروع ،واتباع الشروع هو الذي يصل له الرضوان ،وقصد
الرضوان بذلك .
قال تعال " :فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون " فالذين أمنوا هم الذين اتبعوا
الرهبانية ابتغاء رضوان ال ،والفاسقون هم الارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ ل يؤمنوا برسول
ال صلى ال عليه وسلم .
إل أن هذا التقرير يقتضي أن الشروع لم يسمى ابتداعا ،وهو خلف ما دل عليه حد البدعة .
والواب أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط الشروع ،إذ شرط عليهم فلم يقوموا به .وإذا
كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل با دون شرطها ل تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة ،
كالخل قصدا بشرط من شروط الصلة ،مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيها ،فحيث عرف
بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع .فيكون ترهب
النصارى صحيحا قبل بعث ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما بعث وجب الرجوع عن
ذلك كله إل ملته ،فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ،وهو عي البدعة .
وإذا بنينا على أن الستثناء منقطع ـ وهو قول فريق من الفسرين ـ فالعن :ما كتبناها عليهم
أصلً ،ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان ال ،فلم يعملوا با بشرطها ،وهو اليان برسول ال صلى
ال عليه وسلم ،إذ بعث إل الناس كافة .وإنا سيت بدعة على هذا الوجه لمرين :
أحدها :يرجع إل أنا بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لنا داخلة تت حد البدعة .
والثان :يرجع إل أنا بدعة إضافية ،لن ظاهر القرآن دل على أنا ل تكن مذمومة ف حقهم
بإطلق ،بل لنم أخلوا بشرطها ،فمن ل يل منهم بشرطها وعمل با قبل بعث النب صلى ال
عليه وسلم حصل له فيها أجر ،حسبما دل عليه قوله " :فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" أي أن من
عمل با ف وقتها ث آمن بالنب صلى ال عليه وسلم بعد بعثه وفيناه أجره .
وإنا قلنا :إنا ف هذا الوجه إضافية ،لنا لو كانت حقيقية لالفوا با شرعهم الذي كانوا عليه ،
لن هذا حقيقة البدعة ،فلم يكن لم با أجر ،بل كانوا يستحقون العقاب لخالفتهم لوامر ال
ونواهيه ،فدل على أنم فعلوا ما كانوا جائزا لم فعله ،فل تكون بدعتهم حقيقية ،لكنه ينظر على
أي معن أطلق عليها لفظ البدعة وسيأت بعد بول ال .
وعلى كل تقدير فهذا القول ل يتعلق بذه المة منه حكم ،لنه نسخ ف شريعتنا فل رهبانية ف
السلم .وقال النب صلى ال عليه وسلم :
"من رغب عن سنت فليس من" .
146
الشاطبي كتاب العتصام
على أن ابن العرب نقل ف الية أربعة أقوال :الول ما تقدم .والثان أن الرهبانية رفض النساء ،
وهو النسوخ ف شرعنا .والثالث اتاذ الصوامع للعزلة .والرابع السياحة .قال :وهو مندوب إليه
ف ديننا عند فساد الزمان .
وطاهره يقتضي أنا بدعة ،لالذين ترهبوا قبل السلم إنا فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم .وسيت
بدعة .والندب إليها يقتضي أن ل ابتداع فيها ،فكيف يتمعان ؟ ولكن للمسألة بيان فقد يذكر
بول ال .
وقيل :إن معن قوله تعال " :ورهبانية ابتدعوها" إنم تركوا الق ،وأكلوا لوم النازير ،وشربوا
المر ،ول يغتسلوا من جنابة ،وتركوا التان " ،فما رعوها" يعن الطاعة واللة "حق رعايتها" فالاء
راجعة إل غي مذكور ،وهو اللة الفهوم معناها من قوله " :وجعلنا ف قلوب الذين اتبعوه رأفة
ورحة " لنه يفهم منه أن ث ملة متبعة ،كما دل قوله " :إذ عرض عليه بالعشي" على الشمس حت
عاد عليها الضمي ف قوله " :توارت بالجاب" ،وكان العن على هذا القول :ما كتبناها عليهم
على هذا الوجه الذي فعلوه ،وإنا أمرناهم بالق .فالبدعة فيه إذا حقيقية ل إضافية ،وعلى كل
تقدير ،فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ،فل نظر فيه بالنسبة إل هذه المة .
وخرج سعيد بن منصور وإساعيل القاضي عن أب أمامة الباهلي رضي ال عنه أنه قال :أحدثتم قيام
شهر رمضان ول يكتب عليكم ،إنا كتب عليكم الصيام ،فدموا على القيام إذ فعلتموه ول
تتركوه ،فإن أناسا من ين إسرائيل ابتدعوها بدعا ل يكتبها ال عليهم ابتغوا با رضوان ال فما
رعوها حق رعايتها فعاتبهم ال بتركها فقال " :ورهبانية ابتدعوها" الية .
وف رواية :فإن أناسا من بن إسرائيل ابتدعوها بدعة ابتغاء رضوان ال ،فلم يرعوها حق رعايتها ،
فعاتبهم ال بتركها ،وتل هذه الية " :ورهبانية ابتدعوها" الية .
وهذا القول يقرب من قول بعض الفسرين ف قوله ك "فما رعوها حق رعايتها" يريد أنم قصروا فيها
ول يدوموا عليها .
قال بعض نقلة التفسي :وف هذا التأويل لزوم التام لكل من بدأ بتطوع ونقل ،وأن يرعوه حق
رعايته .
قال ابن العرب ـ وقد زاغ عن منهج الصواب ـ من يظن أنا رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها
.قال :وليس يرج هذا عن مضمون الكلم ،ول يعطيه أسلوبه ول معناه ،ول يكتب على أحد
شيء إل بشرع أو نذر .قال :وليس ف هذا اختلف بي أهل اللل ،وال أعلم .
وهذا القول متاج إل النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وقفه ،إذ أكثر العلماء على القول الول ،
فإن هذ اللة ل بدعة فيها ول تتمل القول بواز البتداع بال للقطع بالدليل ،غذ كل بدعة ضللة
ـ حسبما تقدم ـ فالصل أن يتبع الدليل ول عمل على خلفه .
147
الشاطبي كتاب العتصام
ومع ذلك فل نلي ـ بول ال ـ قول أب أمامة رضي ال عنه من نظر صحيح على وفق الدليل
الشرعي ،وإن كان فيه بعد بالنسبة إل ظاهر المر ،وذلك أنه عد عمل عمر رضي ال عنه ف جع
الناس ف السجد على قارىء واحد ف رمضان بدعة لقوله حي دخل السجد وهم يصلون :نعمت
البدعة هذه ،والت ينامون عنها أفضل .
وقد مر أنه إنا ساها باعتبار ما ،وأن قيام المام بالناس ف السجد ف رمضان سنة ،عمل با
صاحب السنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإنا تركها خوفا من الفتراض ،فلما انقضى زمن
الوحي زالت العلة فعاد العمل با إل نصابه إل أن ذلك ل يتأت لب بكر رضي ال عنه زمان خلفته
،لعارضة ما هو أول بالنظر فيه ،وكذلك صدر خلفة عمر رضي ال عنه ،حت تأتى النظر فوقع
منه ،لكنه صار ف ظاهر المر كأنه أمر ل ير به عمل من تقدمه دائما ،فسماه بذلك السم ،ل
أنه أمر على خلف ما ثبت من السنة .
فكأن أبا أمامة رضي ال عنه ،اعتب فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثا ،موافقة لتسمية عمر
رضي ال عنه ،ث أمر بالداومة عليه بناءً على ما فهم من هذه الية من أن ترك الرعاية هو ترك
دوامهم على التزام عمل ليس بكتوب بل هو مندوب ،فلم يوفوا بقتضى ما التزموه ،لن الخذ ف
التطوعات غي اللزمة ،ول السنن الراتبة يقع على وجهي :
أحدها :أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع النسان ،فتارة بنشط لا وتارة ل ينشط ،أو يكنه
تارة بسب العادة ول يكنه أخرى لزاحة أشغال ونوها .وما أشبه ذلك ،كالرجل يكون له اليوم
ما يتصدق به قيتصدق ول يكون له ذلك غدا ،أو يكون له إل أنه ل ينشط للعطاء ،أو يرى
إمساكه أصلح ف عادته الارية له ،أو غي ذلك من المور الطارئة للنسان .فهذا الوجه ل حرج
على أحد ترك التطوعات كلها فيه ول لوم عليه ،إذ لو كان ث لوم أو عتب ل يكن تطوعا ،وهو
خلف الفرض .
والثان :أن تأخذ مأخذ اللتزمات ،كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبه من عمل صال ف وقت من
الوقات ،كالتزام قيام حظ من الليل مثلً ،وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الصوص ،
كعاشوراء وعرفة ،أو يتخذ وظيفة من ذكر ال بالغداوة والعشي ،وما أشبه ذلك .فهذا الوجه
أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ،أنه لا نوى الدؤوب عليها ف الستطاعة ،اشبهت
الواجبات والسنن الراتبة ،كما أنه لو كان ذلك الياب غي لزم بالشرع ل يصر واجبا إذ تركه
أصلً ل حرج فيه ف الملة ،أعن ترك اللتزام ،ونظيه عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنا
مستحبة ف الصل ،ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات .
وهذا العن هو الفهوم من قوله صلى ال عليه وسلم ف الركعتي بعد العصر حي صلها فسئل
عنهما فقال :
148
الشاطبي كتاب العتصام
" يا ابنة أب أمية سألت عن الركعتي بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالسلم من قومهم
فشغلون عن الركعتي اللتي بعد الظهر فهما هاتان" لنه سئل عن صلته لما بعد ما نى عنهما ،
فإنه صلى ال عليه وسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ،فإما فاتتاه صلها بعد وقتهما
كالقضاء لما حسبما يقضى الواجب .
فصار حينئذ لذا النوع حالة من التطوع بي حالتي ،إل أنه راجع إل خية الكلف .بسب ما
فهمنا من الشرع .وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الخذ بالرفق والتيسي ،وأن
ل يلزم الكلف ما لعله يعجز عنه ،أو يرج بالتزامه ،فإن ترك اللتزام إن ل يبلغ مبلغ القدر الذي
يكره ابتداء ،فهو يقرب من العهد الذي يعله النسان بينه وبي ربه ،والوفاء بالعهد مطلوب ف
الملة ،فصار الخلل به مكروها .
ناهم النب صلى ال عليه وسلم عن الوصال رح ًة لم قالوا :إنك تواصل .قال :إن لست كهيئتكم
،إن أبيت عند رب ـ يطعمن ويسقين" .
وعن أنس رضي ال عنه قال :
" واصل رسول ال صلى ال عليه وسلم ف آخر شهر رمضان ،فواصل ناس من السلمي فبلغه ذلك
فقال :لو مد لنا شهر لواصلنا وصلً حت يدع التعمقون تعمقهم" وهذا إنكار .
149
الشاطبي كتاب العتصام
وعن أب هريرة رضي ال عنه قال ":نى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوصال ،فقال رجل
من السلمي فإنك يا رسول ال تواصل .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :وأيكم مثلي ؟ إن
أبيت عند رب يطعمن ويسقين" فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال بم يوما ،ث يوما .ث رأوا اللل ،
فقال :لو تأخر الشهر لزدتكم كالنكل ،حي أبوا أن ينتهوا.
ومن ذلك مسألة قيام النب صلى ال عليه وسلم بم ف رمضان .فإنه تركه مافة أن يفرض عليهم
فيعجزوا عنه فيقعوا ف الث والرج ،فكان ذلك رفقا منه بم .
قال القاضي أبو الطيب :يتمل أن يكون ال تعال أوحى إليه أنه إن واصل وفقا هذه الصلة معهم
فرضت عليهم .
و"قالت عائشة رضي ال تعال عنها :
إن كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ليدع العمل وهو يب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس
فيفرض عليهم" .
وقد قيل هذا العن ف قوله صلى ال عليه وسلم :
"ل تصوا يوم المعة بصيام" .
قال الهلب :وجهه خشيت أن يستمر عليه فيفرض .
وبذا العن يتمع النهي مع قول مالك رضي ال عنه ف الوطأ ،ول يكون به إشكال .
ومن ذلك حديث الولء بنت تويت ".قالت عائشة رضي ال عنها :دخل علي رسول ال صلى
ال عليه وسلم وعندي امرأة فقال :من هذه ؟ فقلت ؟ امرأة ل تنام تصلي .فقال صلى ال عليه
وسلم ل تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون ،فوال ل يسأم ال حت تسأموا" .
فأعاد لفظ ل تنام منكرا عليها ـ وال أعلم ـ غي راض فعلها ،لا خافه عليها من الكلل والسآمة
أو تعطيل حق أوكد .ونوه حديث أنس رضي ال عنه قال ":دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم
السجد ـ وحبل مدود بي سارتي ـ فقال :ما هذا ؟ قالوا :حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو
فترت أمسكت به ،فقال :حلوه ،ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد" وف رواية " :ل ،
حلوه" .
و"عن عبد ال بن عمرو رضي ال عنها قال :بلغ النب صلى ال عليه وسلم أن أصوم أسرد وأصلي
الليل ،فإما أرسل إل وإما لقيته :فقال :أل أخب أنك تصوم ل تفطر وتصلي الليل ؟ فل تفعل .
فإن لعينك حظا ،ولنفسك حظا ،ولهلك حظا ،فصم وأفطر وصل ون" الديث .
وف رواية عن ابن سلمة قال ":حدثن عبد ال بن عمرو العاص رضي ال عنهما ،قال :كنت
أصوم الدهر ،وأقرأ القرآن كل ليلة ،فإما ذكرت للنب صلى ال عليه وسلم وإما أرسل إل فأتيته
فقال :أل أخب أنك تصوم الدهر ،وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ فقلت :بلى يا رسول ال ،ول أر ف
150
الشاطبي كتاب العتصام
ذلك إل الي ،قال :فإن كان كذلك ـ أو قال كذلك ـ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلثة أيام
فقلت :يا نب ال إن أطيق أفضل من ذلك .قال :فإن لزوجك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ،
ولسدك عليك حقا ،قال :فصم صوم داود نب ال ،فإنه كان أعبد الناس ،قال :فقلت يا نب ال
ـ وما صوم داود؟ قال :كان يصوم يوما ويفطر يوما ـ قال واقرأ القرآن ف كل شهر ،قال :
فقلت يا نب ال إن أطيق أفضل من ذلك .قال :فاقرأه ف كل سبع ،ول تزد على ذلك .فإن
لزوجك عليك حقا ،ولزوارك عليك حقا ولسدك عليك حقا قال :فشددت فشدد ال علي .قال
:وقال ل النب صلى ال عليه وسلم :إنك ل تدري لعلك يطول بك عمر قال :فصرت إل الذي
قال ل النب صلى ال عليه وسلم .فلما كبت وددت أن كنت قبلت رخصة نب ال صلى ال عليه
وسلم " .وف رواية قال ":صم يوما وأفطر يوما ،وذاك صيام داود وهو أعدل الصيام ،قال ،
فقلت :إن أطيق أفضل من ذلك .قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :ل أفضل من ذلك ،قال
عبد ال بن عمرو :لن أكون قبلت الثلثة اليام الت قال رسول ال صلى ال عليه وسلم أحب إل
من أهلي ومال"
وف الترمذي عن جابر رضي ال عنه قال :ذكر رجل عند رسول ال صلى ال عليه وسلم بعبادة
واجتهاد ،وذكر عنده آخر بدعة .فقال النب صلى ال عليه وسلم :
"ل يعدل بالدعة" والدعة الراد با هنا الرفق والتيسي .قال فيه الترمذي :حسن غريب.
وعن أنس رضي ال عنه قال :
"جاء ثلثة رهط إل بيوت أزواج النب صلى ال عليه وسلم يسألون عن عبادة النب صلى ال عليه
وسلم فلما أخبوا كأنم تقالوها .فقالوا :وأين نن من النب صلى ال عليه وسلم ؟ وقد غفر ال له
ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم :أما أنا فإن أصلي الليل أبدا .وقال الخر :إن أصوم
الدهر ول أفطر .وقال الخر :إن أعتزل النساء فل أتزوج أبدا .فجاء رسول ال صلى ال عليه
وسلم فقال :أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما وال إن لخشاكم ل وأتقاكم له لكن أصوم وأفطر ،
وأصلي وارقد ،وأتزوج النساء ،فمن رغب عن سنت فليس من" .
والحاديث ف هذا العن كثية ،وهي بملتها تدل على الخذ ف التسهيل والتيسي وإنا يتصور
ذلك على الوجه الول من عدم اللتزام ،وإن تصور مع اللتزام فعلى جهة ما ل يشق الدوام فيه
حسبما نفسره الن .
151
الشاطبي كتاب العتصام
النذر ،يقول :إنه ل يرد شيئا ،وإنا يستخرج به من الشحيح ـ وف رواية ـ النذر ل يقدم شيئا
ول يؤخره ،وإنا يستخرج به من البخيل" .
وعن أب هريرة رضي ال عنه أن النب صلى ال عليه وسلم قال :
"ل تنذروا فإن النذر ل يغن من القدر شيئا ،وإنا يستخرج به من البخيل" .
وإنا ورد هذا الديث ـ وال أعلم ـ تنبيها على عادة العرب ف أنا كانت تنذر ،إن شفى ال
مريضي فعلي صوم كذا ،وإن قدم غائب .أو أن أغنان ال فعلي صدقة كذا .فيقول :ل يغن من
قدر ال شيئا ،بل من قدر ال له الصحة ،أو الرض ،أو الغن أو الفقر ،أو غي ذلك ،فالنذر ل
ل على الوجه الذي ذكره يوضع سببا لذلك ،كما وضعت صلة الرحم سببا ف الزيادة ف العمر مث ً
العلماء ،بل النذر وعدمه ف ذلك سواء ،ولكن ال يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله
تعال " :وأوفوا بعهد ال إذا عاهدت" وقوله صلى ال عليه وسلم :
"من نذر أن يطيع ال فليطعه" وبه قال جاعة من العلماء ،كمالك و الشافعي .
ووجه النهي أنه من باب التشديد على النفس ،وهو الذي تقدم الستشهاد على كراهته .وأما على
جهة اللتزام غي النذري ،فكأنه نوع من الوعد ،والوفاء بالعهد مطلوب ،فكأنه أوجب على نفسه
ما ل يوجبه عليه الشرع ،فهو تشديد أيضا ،وعليه يأت ما تقدم من .
حديث الثلثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النب صلى ال عليه وسلم :وقولم أين نن من النب صلى
ال عليه وسلم ؟ أل .وقال أحدهم :أما أنا فأفعل كذا أل .
ونوه وقع ف بعض الروايات :
"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخب أن عبد ال بن عمرو رضي ال عنهما يقول :لقومن الليل
ولصومن النهار ما عشت " .وليس بعن النذر إذ لو كان كذلك ل يقل له " :صم من الشهر ثلثة
أيام " ،صم كذا ولقال له :أوف بنذرك .لنه صلى ال عليه وسلم قال :
"من نذر أن يطيع ال فليطعه" .
فأما اللتزام بالعن النذري فل بد من الوفاء به وجوبا ل ندبا ـ على ما قاله العلماء ـ وجاء ف
الكتاب والسنة ما يدل عليه ،وهو مذكور ف كتب الفقه ،فل نطيل به .
وأما العن الثان فالدلة تقتضي الوفاء به ف الملة ،ولكن ل تبلغ مبلغ العتاب على الترك ،حسبما
دلت عليه الدلة ف مأخذ أب أمامة رضي ال عنه للقيام ف السجد جاعة كان ذلك بصورة النوافل
الراتبة القتضية للدوام ف القصد الول ،فأمرهم بالدوام حت ل يكونوا كمن عاهد ث ل يوف بعهده
فيصي معاتبا ،لكن هذا القسم على وجهي :
الوجه الول :أن يكون ف نفسه ما ل يطاق ،أو ما فيه حرج أو مشقة فادحة أو يؤدي إل تضييع
ما هو أول .فهذه هي الرهبانية الت قال فيها النب صلى ال عليه وسلم :
152
الشاطبي كتاب العتصام
"من رغب عن سنت فليس من" وسيأت الكلم ف ذلك إن شاء ال .
والوجه الثان :أن ل يكون ف الدخول فيه مشقة ول حرج ،ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه
الشقة والرج ،أو تضييع ما هو أوكد .فها هنا أيضا يقع النهي ابتداءً ،وعليه دلت الدلة التقدمة ،
وجاء ف بعض روايات مسلم تفسي ذلك حيث قال :فشددت فشدد علي ،وقال ل النب صلى
ال عليه وسلم :
"إنك ل تدري لعلك يطول بك عمر" .
فتأملوا كيف اعتب ف التزام ما ل يلزم ابتداء ،أن يكون بيث ل يشق الدوام عليه إل الوت قال :
فصرت إل الذي قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فلما كبت وددت أنن قبلت رخصة نب ال
صلى ال عليه وسلم .
وعلى ذلك العن ينغب أن يمل قوله صلى ال عليه وسلم ف حديث أب قتادة رضي ال عنه كيف
بن يصوم يومي ويفطر يوما؟ قال :
ويطيق أحد ذلك ؟ ث قال ف صوم يوم وإفطار يوم :وددت أن طوقت ذلك فمعناه ـ وال أعلم ـ
وددت أن طوقت الدوام عليه وإل فقد كان يواصل الصيام ويقول :
"إن لست كهيئتكم ،إن أبيت عند رب ـ يطعمن ويسقين" .
وف الصحيح :
"كان يصوم حت نقول :ل يفطر ،ويفطر حت نقول :ل يصوم" .
فصل إذا ثبت هذا ،فالدخول ف عمل على نية اللتزام له
إذا ثبت هذا ،فالدخول ف عمل على نية اللتزام له إن كان ف العتاد بيث إذا داوم عليه أورث مللً
،ينبغي أن يعتقد أن هذا اللتزام مكروه ابتداء ،إذ هو مؤد إل أمور جيعها منهي عنه :
أحدها :أن ال ورسوله أهدى ف هذا الدين التسهيل والتيسي ،وهذا اللتزم يشبه من ل يقبل
هديته ،وذلك يضاهي ردها على مهديها ،وهو غي لئق بالملوك مع سيده ،فكيف يليق بالعبد مع
ربه ؟
والثان :خوف التقصي أو العجز عن القيام با هو أول وآكد ف الشرع ،وقال صلى ال عليه وسلم
إخبارا عن داود عليه السلم :
"إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ،ول يفر إذا لقى" تنبيها على أنه ل يضعفه الصيام عن لقاء لعدو
فيفر ويترك الهاد ف مواطن نكيده بسبب ضعفه .
وقيل لعبد ال بن مسعود رضي ال عنه :إنك لتقل الصوم ،فقال :إنه يشغلن عن قراءة القرآن ،
وقراءة أحب إل منه .
153
الشاطبي كتاب العتصام
ولذلك كره مالك إحياء الليل كله ،وقال :لعله يصبح مغلوبا ،وف رسوله ال صلى ال عليه وسلم
أسوة ،ث قال :ل بأس به ما ل يضر بصلة الصبح .
وقد جاء ف :صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتي ،ث إن الفطار فيه للحاج أفضل ،لنه قوة على
الوقوف والدعاء ،ولبن وهب ف ذلك حكاية ،وقد جاء ف الديث :
"إن لهلك عليك حقا ،ولزوارك عليك حقا ،ولنفسك عليك حقا" فإذا انقطع إل عباده ل تلزمه
الصل فربا أخل بشيء من هذه القوق .
وعن أب جحيفة رضي ال تعال عنه ،قال :
"آخر ما آخى رسول ال صلى ال عليه وسلم بي سلمان وأب الدرداء ،فزارسلمان أبا الدرداء ،
فرأى أم الدرداء متبذلة ،فقال :ما شأنك مبتذلة ؟ قالت :إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة ف
الدنيا .قال :فلما جاء ابو الدرداء قرب إليه طعاما .فقال :كل فإن صائم ،قال :ما أنا بآكل
حت تأكل .قال :فأكل ،فلما كان الليل ذهب ابو الدرداء ليقوم ،فقال له سلمان :ن ،فنام ،
ث ذهب يقوم ،فقال له :ن فنام ،فلما كان عند الصبح قال له سلمان :قم الن ،فقاما فصليا ،
فقال سلمان :إن لنفسك عليك حقا ،ولربك عليك حقا ،ولضيفك عليك حقا ،ولهلك عليك
حقا ،فأعط لكل ذي حق حقه .فأتيا النب صلى ال عليه وسلم فذكرا ذلك له ،فقال :صدق
سلمان " قال الترمذي :صحيح .وهذا الديث قد جع التنبيه على حق الهل بالوطء والستمتاع ،
وما يرجع إليه ،والضيف بالدمة والتأنيس والؤاكلة وغيها ،والولد يالقيام عليهم بالكتساب
والدمة .والنفس بترك إدخال الشتقات عليها ،وحق الرب سبحانه بميع ما تقدم ،وبوظائف
أخر ،فرائض ونوافل آكد ما هو فيه .
والواجب أن يعطى لكل ذي حق حقه ،وإذا التزم النسان أمرا من المور الندوبة ،أو أمرين أو
ثلثة ،فقد يصده ذلك عن القيام بغيها ،أو عن كماله على وجهة ،فيكون ملوما .
والثالث :خوف كراهية النفس لذلك العمل اللتزم ،لنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه ،
فتدخل الشقة بيث ل يقرب من وقت العمل إل والنفس تشمئز منه ،وتود لو ل تعمل ،أو تتمن
لو ل تلتزم ،وإل هذا العن يشي حديث عائشة رضي ال عنها عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال
:
"إن هذا الدين متي فأوغلوا فيه برفق ،ول تبغضوا لنفسكم عبادة ال ،فإن النبت ل أرضا قطع
ول ظهرا أبقى" يشبه الوغل بالعنف بالنبت ،وهو النقطع ف بعض الطريق تعنيفا على الظهر ـ
وهو الركوب ـ حت وقف فلم يقدر على السي ،ولو رفق بدايته لوصل إل رأس السافة .
154
الشاطبي كتاب العتصام
فكذلك النسان عمره مسافة ،والغاية الوت ،ودابته نفسه ،فكما هو الطلوب الرفق بنفسه .حت
يسهل عليها قطع مسافة العمر بمل التكليف فنهى ف الديث عن التسبب ف تبغيض العبادة
للنفس ،وما نى الشرع عنه ل يكون حسنا .
وخرج الطبان من حديث ابن عباس رضي ال عنهما قال :
"لا نزلت " :يا أيها النب إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إل ال بإذنه وسراجا منيا" دعا
رسول ال صلى ال عليه وسلم عليا ومعاذا فقال :انطلقا فبشرا ،ويسرا ول تعسرا ،فإن أنزلت
علي " :يا أيها النب إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إل ال بإذنه وسراجا منيا " " .
وخرج مسلم " عن سعيد بن أب بردة عن أبيه عن جده :أن النب صلى ال عليه وسلم بعثه ومعاذا
إل اليمن ،فقال :
بشرا ول تنفرا ،ويسرا ول تعسرا ،وتطاوعا ول تتلفا" .
وعنه "أن النب صلى ال عليه وسلم كان إذا بعث أحدا من أصحابه ف بعض أمره قال :بشروا ول
تنفروا ،ويسروا ول تعسروا" وهذا ني عن التعسي الذي التزام الرج ف التعبد نوع منه .
وف الطبي عن جابر بن عبد ال قال " :مر النب صلى ال عليه وسلم على رجل يصلي على صخرة
بكة فأتى ناحية مكة فمكث مليا ،ث انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله ،فقال :أيها الناس
عليكم بالقصد والقسط ـ ثلثاـ فإن ال لن يل حت تلوا" .
وعن بريدة السلمي :
"أن النب صلى ال عليه وسلم رأى رجلً يصلي ،فقال :من هذا ؟ فقلت :هذا فلن .فذكرت من
عبادته وصلته .فقال :إن خي دينكم يسره" .
وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الالة ،وإنا ذلك مافة الكراهية للعمل ،وكراهية العمل مظنة للترك
الذي هو مكروه لن ألزم نفسه لجل نقض العهد .
وهو الوجه الرابع :وقد مر ف الوجه الثالث ما يدل عليه ،فإن قوله صلى ال عليه وسلم " :فإن
النبت ل أرضا قط ًع ،ول ظهرا أبقى ،ومع قوله :ول تبغضوا إل أنفسكم العبادة" يدل على أن
بعض العمل وكراهيته مظنة النقطاع ،ولذلك مثل صلى ال عليه وسلم بالنبت ـ وهو النقطع عن
استيفاء السافة ـ وهو الذي دل عليه قول ال تعال " :فما رعوها حق رعايتها" على التفسي
الذكور .
والامس :الوف من الدخول تت الغلو ف الدين ،فإن الغلو هو البالغة ف المر ،وماوزة الد
فيه إل حيز السراف ،وقد دل عليه ما تقدم أشياء ،حيث قال النب صلى ال عليه وسلم " :يا ايها
الناس عليكم أنفسكم بالقصد" الديث .وقال ال عز وجل " :يا أهل الكتاب ل تغلوا ف دينكم" .
155
الشاطبي كتاب العتصام
"وعن ابن عباس رضي ال عنهما ،قال :قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم غداة العقبة :اجع
ل حصيات من حصى الذف فلما وضعتهن ف يده قال :بأمثال هؤلء ؟ بأمثال هؤلء ؟ إياكم
والغلو ف الدين ،فإنا هلك من كان قبلكم بالغلو ف الدين" .
فأشار إل أن الية ف النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط ،واكثر هذه
الحاديث القيدة آنفا ،اخرجها الطبي .
وخرج أيضا عن يي بن جعدة ،قال :كان يقال اعمل وأنت مشفق ،ودع العمل وأنت تبه :
عمل دائم وإن قل ،خي من عمل كثي منقطع .وأتى معاذا رجل فقال :أوصن .قال :أمطيعي
أنت ؟ قال :نعم ،قال :صل ون ،وأفطر وصم ،واكتسب ول تأت ال إل وأنت مسلم ،وإياك
ودعوة الظلوم .
وعن إسحاق بن سويد "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لعبد بن مطرف :يا عبد الله ،العلم
أفضل من العمل ،والسنة بي السيئتي ،وخي المور أوسطها ،وشر السي القحقة " .
ومعن قوله " :إن السنة بي السيئتي" ،أن السنة هي القصد والعدل ،والسيئتي ماوزة الد
والتقصي ،وهو الذي دل على معناه قول ال تعال " :ول تعل يدك مغلولة إل عنقك ول تبسطها
كل البسط " الية ،وقوله " :والذين إذا أنفقوا ل يسرفوا ول يقتروا " الية .ومعن القحقة ارفع
السي ،وإتعاب الظهر ،وهو راجع إل الغلو والفراط .
ونوه عن يزيد بن مرة العفيقال :العلم خي من العمل ،والسنة بي السيئتي .
وعن كعب الحبار :إن هذا الدين متي فل تبغض إليك دين ال وأوغل برفق ،فإن النبت ل يقطع
بعدا ول يسبق ظهرا ،واعمل عمل الرء الذي يرى أنه ل يوت اليوم ،واحذر حذر الرء الذي يرى
أنه يوت غدا .
وخرج ابن وهب نوه عن عبد ال بن عمرو بن العاص .
وهذه إشارة إل الخذ بالعمل الذي يقتضي الداومة عليه من غي حرج .
وعن عمر بن إسحاق ،قال أدركت من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم أكثر من سبقن
منهم ؟ فمارأيت قوما أيسر سية ول أقل تشديدا منهم .
وقال السن :دين ال وضع فوق التقصي ودون الغلو .
والدلة ف هذا العن جيعها راجع إل أنه ل حرج ف الدين ،والرج كما ينطبق على الرج الال
ـ كالشروع ف عبادة شاقة ف نفسها ـ كذلك ينطلق على الرج الآل إذ كان الرج لزما مع
الدوام .كقصة عبد ال بن عمرو رضي ال عنهما وغيها ـ ما تقدم ـ مع أن الدوام مطلوب
حسبما اقتضاه قول اب أمامة رضي ال عنه ف قوله تعال " :فما رعوها حق رعايتها" وقوله صلى ال
عليه وسلم :
156
الشاطبي كتاب العتصام
"أحب العمل إل ال ما داوم عليه صاحبه وإن قل" فلذلك كان صلى ال عليه وسلم إذا عمل عملً
أثبته ،حت قضى ركعتي ما بي الظهر والعصر بعد العصر .
هذا إن كان العامل ل ينوي الدوام فيه ،فكيف إذ عقد ف نيته أن ل يتركه ؟ فهو أحرى بطلب
الدوام ،فلذلك "قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعبد ال بن عمرو :يا عبد ال ،ل تكن مثل
فلن ،كان يقوم الليل فترك قيام الليل" وهو حديث صحيح .فنهاه صلى ال عليه وسلم أن يكون
مثل فلن ،وهو ظاهر ف كراهته الترك من ذلك الفلن وغيه .
فالاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام ـ مطلوب الترك لعلة كثرته ففهم عند
تقريره أنه إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إل أصل العمل ـ وهو طلب
الفعل ـ
فالداخل فيه على التزام شرطه داخل ف مكروه ابتداء من وجه ،لمكان عدم الوفاء بالشرط ،وف
الندوب إليه حلً على ظاهر العزية على الوفاء .
فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ،ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه .
وحي صارت الكراهة هي القدمة كان دخوله ف العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغي أمر ،
فأشبه البتدع الداخل ف عبادة غي مأمور با .فقد يستسهل بذا العتبار إطلق البدعة عليها كما
استسهله أبو أمامة رضي ال عنه .
ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر ف الآل ،أو مع قطع النظر عن الشقة ،أو مع
اعتقاد الوفاء بالشرط ،أشبه صاحبه من دخل ف نافلة قصدا للتعبد با ،وذلك صحيح جار على
مقتضى أدلة الندب ،ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء ،كان نذرا أو التزاما بالقلب غي نذر .
ولو كان بدعة .داخلة ف حد البدعة ل يؤمر بالوفاء ،ولكان عمله باطلً .
ل قائما ف الشمس ،فقال : ولذلك جاء ف الديث "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رج ً
مابال هذا ؟ فقالوا :نذر أن ل يستظل ول يتكلم ول يلس ويصوم ،فقال صلى ال عليه وسلم :
مروه فليجلس وليتكلم وليستظل ،وليتم صيامه " .
فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع با ليس بشروع ،وأمره بالوفاء با هو مشروع ف الصل ،فلول
الفرق بينهما معن ل يكن للتفرقة بينهما معن مفهوم .وأيضا فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام لزم
من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل ل بد ،لن الباح فضلً عن الكروه والحرم ل يؤمر بالدوام
عليه ،ول نظي لذلك ف الشريعة .عليه أيد قوله صلى ال عليه وسلم :
"من نذر أن يطيع ال فليطعه" ولن ال مدح من أوف بنذره ف قوله سبحانه " :يوفون بالنذر" ف
معرج الدح وترتب الزاء السن ،وف آية الديد" :فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" ،ول يكون
الجر إى على مطلوب شرعا .
157
الشاطبي كتاب العتصام
فتأملوا هذا العن فهو الذي يري عليه عمل السلف الصال رضي ال عنهم بقتضى الدلة ،وبه
يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي ،حت تنتظم اليات والحاديث وسي من تقدم ،والمد
ل .غي أنه يبقى بعدها إشكالن قويان ،وبالنظر ف الواب عنهما ينتظم معن السألة على تامه ،
ل.
فنعقد ف كل إشكال فص ً
158
الشاطبي كتاب العتصام
وعن الربيع بن خيثم أنه قال :أتيت أويسا القرن فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت :ل أشغله
عن التسبيح ،فلما كان وقت الصلة قام فصلى إل الظهر ،فلما صلى الظهر صلى إل العصر ،فلما
صلى العصر قعد يذكر ال إل الغرب ،فلما صلى الغرب صلى العشاء ،فلما العشاء صلى إل
الصبح جلس فأخذته عينه ،ث انتبه فسمعته يقول :اللهم إن أعوذ بك من عي نوامه ،وبطن ل
تشبع .
والثار ف هذا العن كثية عن الولي ،وهي تدل على الخذ با هو شاق ف الدوام ول يعدهم
بذلك مالفي للسنة ،بل عدوهم من السابقي ،جعلنا ال منهم .
وأيضا فإن النهي ليس عن العبادة الطلوبة ،بل هو عن الغلو فيها ،غلوا يدخل الشقة على العامل ،
فإذا فرضنا من فقدت ف حقه تلك العلة ،فل ينتهض النهي ف حقه ،كما إذا قال الشارع :
ل يقضي القاضي وهو غضبان ـ وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الجج ـ اطرد
النهي مع كل مشويش ،وانتفى عند انتفائه ،حت إنه منتف مع وجود الغضب اليسي الذي ل ينع
من استيفاء الجج ،وهذا صحيح جار على الصول .
وحال من فقدت ف حقه العلة حال من يعمل بكم غلبة الوف أو الرجاء أو الحبة فإن الوف
سوط سائق ،والرجاء حاد قائد ،والحبة سيل حامل ،فالائف إن وجد الشقة ،فالوف ما هو
أشق ،يمله على الصب ما هو أهون ،وإن كان العمل شاقا ،والراجي يعمل وإن وجد الشقة ،
لن رجاء الراحة التامة يمله على الصب على بعض التعب ،والحب يعمل ببذل الجهود شوقا إل
الحبوب ،فيسهل عليه الصعب ،ويقرب عليه البعيد ،وهو القوي ( ،كذا ) ول يرى أنه أوف
بعهد الحبة ،ول قام بشكر النعمة ،ويعمر النفاس ول يرى أنه أقصى نمته .
وإذا كان كذلك صح المع بي الدلة ،وجاز الدخول ف العمل التزاما مع اليغال فيه ،إما
مطلقا ،وإما مع ظن انتفاء العلة ،وإن دخلت الشقة فيما بعد ،إذا صح مع العامل الدوام على
العمل ،ويكون ذلك جاريا على مقتضى الدلة وعمل السلف الصال .
والواب :أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح ،وما نقل عن الولي يتمل ثلثة أوجه :
أحدها :أن يمل أنم إنا عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام ،فلم يلزموا أنفسهم با لعله
يدخل عليهم الشقة حت يتركوا بسببه ما هو أول ،أو يتركوا العمل ،أو يبغضوه لثقله على
ل ف حقهم ،فإنا طلبوا اليسر ل العسر ،وهو الذي كان أنفسهم ،بل التزموا ما كان النفوس سه ً
حال رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وحال من تقدم النقل عنه من التقدمي ،بناء على أنم إنا
عملوا بحض السنة والطريقة العامة لميع الكلفي .وهذه طريقة الطبي ف الواب .وما تقدم ف
السؤال ما يظهر منه خلف ذلك فقضايا أحوال يكن حلها على وجه صحيح ،إذا ثبت أن العامل
من يقتدى به .
159
الشاطبي كتاب العتصام
والثان :يتمل أن يكونوا عملوا على البالغة فيما استطاعوا ،لكن ل على جهة اللتزام ،ل بنذر
ول غيه وقد يدخل النسان ف أعمال يشق الدوام عليها ول يشق ف الال .فيغتنم نشاطه ف حالة
خاصة ،غي ناظر فيها فيما يأت ،ويكون جاريا فيه على أصل رفع الرج ،حت إذا ل يستطعه
تركه ول حرج عليه لن الندوب ل حرج ف تركه ف الملة .
ويشعر بذا العن ما ف هذا الديث عن عائشة رضي ال عنها ،قالت :
"كان رسول ال يصوم حت نقول :ل يفطر .ويفطر حت نقول :ل يصوم .وما رأيته استكمل
صيام شهر قط إل رمضان " .الديث .
فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من القوق التعلقة .أو القوة ف العمال وكذلك قول عبد ال
بن عمرو ف صيام يوم وإفطار يومي ليتن طوقت ذلك .إنا يريد الداومة ،لنه قد كان يوال
الصيام حت يقولوا ل يفطر .ول يعترض هذا الأخذ بقوله صلى ال عليه وسلم :
"أحب العمل إل ال ما دام عليه صاحبه وإن قل" وإن كان عمله دائما ،لنه ممول على العمل
الذي يشق فيه الدوام .
وأما ما نقل عنهم أدلة صلة الصبح بوضوء العشاء وقيام جيع الليل ،وصيام الدهر ونوه ،فيحتمل
أن يكون على الشرط الذكور ،وهو أن ل يلتزم ذلك .وإنا يدخل ف العمل ما ل يغتنم نشاطه ،
فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا ،وإذا ل يل با هو أول عمل كذلك ،فيتفق أن يدوم له
هذا النشاط زمانا طويلً .وف كل حالة هو ف فسحه الترك ،لكنه ينتهز الفرصة مع الوقات .فل
بعد ف أن يصحبه النشاط إل آخر العمر ،فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام .وهذا صحيح ،ول
سيما مع سائق الوف أو حادي الرجاء أو حامل الحبة ،وهو معن قول صلى ال عليه وسلم :
"وجعلت قرة عين ف الصلة" فلذلك قام صلى ال عليه وسلم حت تورمت قدماه ،وامتثل أمر ربه
ف قوله تعال " :قم الليل إل قليلً" الية .
والثالث :أن دخول الشقة وعدمه على الكلف ف الدوام أو غيه ليس أمرا منضبطا بل هو إضاف
متلف بسب اختلف الناس ف قوة أجسامهم .أو ف قوة عزائمهم ،أو ف قوة يقينهم ،أو نو
ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يتلف العمل الواحد بالنسبة إل رجلي ،لن أحدها
أقوى جسما ،أو أقوى عزية أو يقينا بالوعود .والشقة قد تضعف بالنسبة إل قوة هذه المور
وأشباهها ،وتقوى مع ضعفها .
فنحن نقول :كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إل زيد فهو منهي عنه ،ول يشق على عمرو
فل ينهى عنه .فنحن نمل ما داوم عليه الولون من العمال على أنه ل يكن شاقا عليهم ،وإن
كان ما هو أقل منه شاقا علينا ،فليس عمل مثلهم با عملوا به حج ًة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ،
160
الشاطبي كتاب العتصام
إل بشرط أن يتد مناط السألة فيما بيننا وبينهم .وهو أن يكون ذلك العمل ل يشق الدوام على مثله
.
وليس كلمنا ف هذا لشاهدة الميع ،فإن التوسط والخذ بالرفق هو الول والحرى بالميع ،
وهو الذي دلت عليه الدلة .دون اليغال الذي ل يسهل مثله على جيع اللق ول أكثرهم .إل
على القليل النادر منهم .
والشاهد لصحة هذا العن قوله صلى ال عليه وسلم :
"إن لست كهيئتكم ،إن أبيت عند رب ـ يطعمن ويسقين" يريد صلى ال عليه وسلم أنه ل يشق
عليه الوصال ،ول ينعه عن قضاء حق ال وحقوق اللق .فعلى هذا :من رزق أنوذجا ما أعطيه
صلى ال عليه وسلم فصار يوغل ف العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فل حرج .
وأما رده صلى ال عليه وسلم على عبد ال بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه ل يطيق الدوام ،
ولذلك وقع له ما كان متوقعا ،حت قال :ليتن قبلت رخصة نب ال صلى ال عليه وسلم ،ويكون
عمل ابن الزبي وابن عمر وغيها ف الوصال جاريا على انم أعطوا حظا ما أعطيه رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وهذا بناء على أصل مذكور ف كتاب الوافقات والمد ل ،وإذا كان كذلك ل
يكن ف العمل النقول عن السلف مالفة لا سبق .
161
الشاطبي كتاب العتصام
لكن لقائل أم يقول :إن النهي ها هنا معلق بالرفق الراجع إل العامل ،كما قالت عائشة رضي ال
عنها :
"نى النب صلى ال عليه وسلم عن الوصال رحة لم" ،فكأنه قد اعتب حظ النفس ف التعبد .فقيل
له :افعل واترك .أي ل تتكلف ما يشق عليك ،كما ل تتكلف ف الفرائض ما يشق عليك لن ال
إنا وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسي يشترك فيه القوي والضعيف ،والصغي والكبي ،
والر والعبد ،والرجل والرأة ،حت إذا كان بعض الفرائض يدخل الرج على الكلف يسقط عنه
جلة أو يعوض عنه ما ل حرج فيه كذلك النوافل التكلم فيها .
وإذا روعي حظ النفس ،فقد صار المر ف اليغال إل العامل .فله أن ل يكنها من حظها ،وأن
يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ـ بنا ًء على القاعدة الؤصلة ف أصول الوافقات ف إسقاط
الظوظ .فل يكون إذا منهيا ـ على ذلك التقدير ـ فكما يب على النسان حق لغيه ما دام
طالبا له ،وله الية ف ترك الطلب به فيتفع الوجوب .كذلك جاء النهي حفظا على حظوظ
النفس .فإذا أسقطها صاحبها زال النهي ورجع العمل إل أصل الندب .
والواب :أن حظوظ النفوس بالنسبة إل الطلب با قد يقال :إنه من حقوق ال على العباد ،وقد
يقال :إنه من حقوق العباد ،فل ينهض ما قلتم ،إذ ليس للمكلف خية فيه .فكما أنه متعبد
بالرفق بغيه كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله صلى ال عليه وسلم :
"إن لنفسك عليك حقا" إل آخر الديث .فقرن حق النفس بق الغي ف الطلب ف قوله " :فأعط
كل ذي حق حقه" ث جعل ذلك حقا من القوق .
ول يطلق هذا اللفظ إل على ما كان لزما .ويدل عليه أنه ل يل للنسان أن يبيح لنفسه ول لغيه
دمه .ول قطع طرف من أطرافه ،ول إيلمه بشيء من اللم ،ومن فعل ذلك إث واستحق العقاب
.وهو ظاهر .
وإن قلنا :إنه من حق العبد ،وراجع إل خيته .فليس ذلك على الطلق ،إذ قد تبي ف الصول
أن حقوق العباد ليست مردة من حق ال .
والدليل على ذلك ـ فيما نن فيه ـ أنه لو كان إل خيتنا بإطلق ل يقع النهي فيه علينا .بل كنا
ني فيه ابتداء ،وإل ذلك ( ؟ ) فإنه لو كان بية الكلف مضا لاز للناذر العبادة أن يتركها مت
شاء ويفعلها مت شاء .
وقد اتفق الئمة على وجوب الوفاء بالنذر ،فيجري ما يشبه مراه .وايضا فقد فهمنا من الشرع أنه
حبب إلينا اليان وزينه ف قلوبنا ،ومن جلة التزيي تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ،ول
يكون هذا مع شرعية الشقات .وإذا كان اليغال ف العمال من شأنه ف العادة أن يورث الكلل
162
الشاطبي كتاب العتصام
والكراهية والنقطاع ـ الذي كالضد لتحبيب اليان وتزيينه ف القلوب ـ كان مكروها لنه على
خلف وضع الشريعة ،فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه .
وأما الثان :فإن القوق التعلقة بالكلف على أصناف كثية ،وأحكامها تتلف حسبما تعطيه
أصول الدلة ،ومن العلوم أنه إذا تعارض على الكلف حقان ول يكن المع بينهما ،فل بد من
تقدي ما هو آكد ف مقتضى الدليل ،فلو تعارض على الكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على
الندوب ،وصار الندوب ف ذلك الوقت غي مندوب بل صار واجب الترك عقلً أوشرعا ،من باب
ما ل يتم الواجب إل به .
وبقي النظر ف الندوب :هل وقع موقعه ف الندب أم ل ؟ فإن قلت :إن ترك الندوب هنا واجب
عقلً ،فقد ينهض الندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب .وإن قلت :إنه
واجب شرعا ،بعد من انتهاضه سببا للثواب إل على وجه ما ،وفيه أيضا ما فيه .
فأنت ترى ما ف التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان
اللتزام صادا عن الوفاء بالواجبات مباشرة ،قصدا أو غي قصد ،ويدخل فيه ما ف حديث سلمان
مع أب الدرداء رضي ال عنهما إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة ،من
الستمتاع الواجب عليه ف الملة وكذلك التزام صيام النهار .
ومثله لو كان التزام صلة الضحى أو غيها من النوافل ملً بقيامه على مريضه ،الشرف والقيام
على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك ويري مراه ـ وإن ل يكن ف رتبته ـ أن لو كان ذلك
اللتزام يفضي به إل ضعف بدنه ،أو نك قواه ،حت ل يقدر على الكتساب لهله ،أو أداء
فرائضه على وجهها ،أو الهاد ،أو طلب العلم .كما نبه عليه حديث داود عليه السلم ،أنه كان
يصوم يوما ويفطر ول يفر إذا ل قى .
وقد جاء ف مفروض الصيام ف السفر من التخيي ما جاء ،ث "إن رسول ال صلى ال عليه وسلم
قال عام الفتح :إنكم قد دنوت من عدوكم ،والفطر أقوى لكم .قال أبو سعيد الدري رضي ال
عنه :فأصبحنا منا الصائم ومنا الفطر .قال :ث سرنا فنلنا منلً فقال :إنكم تصبحون عدوكم
والفطر أقوى لكم فأفطروا قال :فكانت عزيةً من رسول ال صلى ال عليه وسلم " .
وهذه إشارة إل أن الصيام ربا أضعف عن ملقاة العدو وعمل الهاد ،فصيام النفل أول بذا الكم
.
وعن جابر رضي ال عنه "أن النب صلى ال عليه وسلم رأى رجلً يظلل عليه ،والزحام عليه ،فقال
:ليس من الب الصيام ف السفر" يعن أن الصيام [ف السفر] وإن كان واجبا ،ليس برا ف السفر ،
إذا بلغ به النسان ذلك الد .مع وجود الرخصة ،فالرخصة إذا مطلوبة ف مثله بيث تصي به آكد
من أداء الواجب ،فما ليس بواجب ف أصله أول .
163
الشاطبي كتاب العتصام
فالاصل أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق الب على حده .
164
الشاطبي كتاب العتصام
من أمر متوقع ،كما قالت عائشة رضي ال تعال عنها :إن النهي عن الوصال كالتنكيل بم ،ولو
كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لا فعل .
فانظر كيف اجتمع ف الشيء الواحد كونه عبادةً ومنهيا عنه ،لكن باعتبارين ،ونظيه ف
الفقهيات ،ما يقوله جاعة من الحققي ف البيه بعد نداء المعة ،فإنه نى عنه ل من جهة كونه بيعأً
،بل من جهة كونه مانعا من حضور المعة ،فيجيزون البيع بعد الوقوع ،ويعلونه فاسدا ،وإن
وجد التصريح بالنهي فيه ،للعلم بأن النهي ليس براجع إل نفس البيع ،بل إل أمر ياوره ،ولذلك
يعلل جاعة من يقول بفسخ البيع لنه زجر للمتبايعي ل لجل النهي عنه ،فليس عند هؤلء ببيع
فاسد أيضا ،ول النهي راجع إل نفس البيع .
فالمر بالعبادة شيء وكون الكلف يوف با أو ل ،شيء آخر ،فإقرار النب صلى ال عليه وسلم
لبن عمرو رضي ال عنهما على ما التزم ونيه إياه ابتداء ،ل يدل على الفساد ،وإل لزم التدافع ،
وهو مال ،إل أن ها هنا نظرا آخر :وهو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم صار ف هذه السائل
كالرشد للمكلف وكالبتدىء ( ؟ ) بالنصيحة عند وجود مظنة الستنصاح ،فلما تكلف الكلف
على اجتهاده دون نصيحة الناصح العرف بعوارض النفوس ،صار كالتبع لرأيه مع وجود النص وإن
كان بتأويل ،فإن سي ف اللفظ فبهذا العتبار ،وإل فهو متبع للدليل النصوص من صاحب
النصيحة ،وهو الدال على النقطاع إل ال تعال بالعبادة .
ومن هنا قيل فيها إنا بدعة إضافية ل حقيقية ،ومعن كونا إضافية أن الدليل فيها مرجوع بالنسبة
لن يشق عليه الدوام عليها ،وراجح بالنسبة إل من وف بشرطها ولذلك وف با عبد ال بن عمرو
رضي ال عنهما بعد ما ضعف ،وإن دخل عليه فيها بعض الرج حت تن قبول الرخصة ،بلف
البدعة القيقية ،فإن الدليل عليها مفقود حقيقة ،فضلً عن أن يكون مرجوحا ،فهذه السألة تشبه
مسألة خطأ الجتهد ،فالقول فيهما متقارب ،وسيأت الكلم فيهما إن شاء ال تعال .
وأما قول السائل ف الشكال :إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها ـ إل آخره ـ فصحيح ،
إل قوله :فإن تركها لعارض فل حرج كالريض ،فإن ما نن فيه ليس كذلك ،بل ث قسم آخر ،
لـ وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه .وإن ظهر أن ليس من سببه ،فإن ترك الهاد ـ مث ً
باختياره مالفة ظاهرة وتركه لرض أو نوه ل مالفة فيه ،فإن عمل ف سبب يلحقه عادة بالريض
حت ل يقدر على الهاد فهذه واسطة بي الطرفي ،فمن حيث تسببه ف الانع ل يكون ممودا عليه
،وهو نظي اليغال ف العمل الذي هو سبب ف كراهية العمل أو التقصي على الواجب ،وهذا
الكلف قد خالف النهي .ومن حيث وقع له الرج الانع ف العبادة من أدائها على وجهها قد
معذورا ،فصار هنا نظر بي نظرين ل يتخلص مع العمل إل واحد منهما .
165
الشاطبي كتاب العتصام
وأما قوله :ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بنمهي عنه ،فليس كما قال ،وذاك أن الندوب هو من
حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق المر ،ويشبه الياح من جهة رفع الرج على التارك
،فهو واسطة بي الطرفي ل يتخلى إل واحد منهما ،إل أن قواعد الشرع شرطت ف ناحية العمل
شرطا ،كما شرطت ف ناحية تركه شرطا ،فشرط العمل به أن ل يدخل فيه مدخلً يؤديه إل
الرج الؤدي إل انرام الندب فهي رأسا ،أو انرام ما هو أول منه ،وما وراء هذا موكول إل
خية الكلف ،فإذا دخل فيه فل يلو أن يدخل فيه على قصد انرام الشرط أو ل ،فإن كان
كذلك ،فهو القسم الذي يأت إن شاء ال ،وحاصله أن الشارع طالبه برفع الرج ،وهو يطالب
نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما ل يستطاع ،مع زيادة الخلل بكثي من الواجبات
والسنن الت هي أول ما دخل فيه ،ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة .
وإن دخل على غي ذلك القصد ،فل يلو أن يري الندوب على مراه أو ل ،فإن أجراه كذلك
بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ول يعارضه ما هو أول ما دخل فيه ،فهو مض السنة الت
ل مقال فيها ،لجتماع الدلة على صحة ذلك العمل ،إذ قد أمر فهو غي تارك ،ونى عن اليغال
وإدخال الرج فهو متحرز ،فل إشكال ف صحته ،وهو كان شأن السلف الول ومن بعدهم ،
وإن ل يره على مراه ولكنه أدخل فيه رأي اللتزام والدوام ،فذلك الرأي مكروه ابتدا ًء .
لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو ـ إن شاء ال ـ كفارة النهي ،فل يصدق
عليه ف هذا القسم معن البدعة ،لن ال تعال مدح الوفي بالنذر والوفي بعهدهم إذا عاهدوا ،
وإن ل يصل الوفاء تحض وجه النهي ،وربا أث ف اللتزام غي النذري ،ولجل احتمال عدم
الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ،ل لجل أنه عمل ل دليل عليه ،بل الدليل عليه قائم .
ولذلك إذا التزم النسان بعض الندوبات الت يعلم أو يظن أن الدوام فيها ل يوقع ف حرج أصلً ـ
وهو الوجه الثالث من الوجه الثلثة البنه عليها ـ ل يقع ف ني ،بل ف مض الندوبات ،كالنوافل
الرواتب مع الصلوات ،والتسبيح والتحميد والتكبي ف آثارها ،والذكر اللسان اللتزم بالعشي
والبكار ،وما أشبه ذلك ما ل يل با هو أول ،ول يدخل حرجا بنفس العمل به ول بالدوام عليه
.
وف هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريا ،ومنه كان جع عمر رضي ال عنه الناس ف
رمضان ف السجد ،ومضى عليه الناس ،لنه كان أولً سنة ثابتة من رسول ال صلى ال عليه وسلم
،ث إنه أقام للناس با كانوا قادرين عليه ومبي فيه ،وف شهر واحد من السنة ل دائما ،وموكولً
إل اختيارهم ،لنه قال :والت ينامون عنها أفضل .
وقد فهم السلف الصال أن القيام ف البيوت أفضل ،فكان كثي منهم ينصرفون فيقومون ف
منازلم ،ومع ذلك فقد قال :نعمت البدعة هذه .فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا
166
الشاطبي كتاب العتصام
ـ وال أعلم ـ إلىاعتبار الدوام ،وإن كان شهرا ف السنة ،وأنه ل يقع فيمن قبله عملً دائما ،
أو أنه أظهره ف السجد الامع مالفا لسائر النوافل ،وإن كان ذلك واقعا ف أصله كذلك ،فلما
كان الدليل على ذلك القيام على الصوص واضحا قال :نعمت البدعة هذه .فحسنها بصيغة نعم
الت تقتضي من الدح ما تقتضيه صيغة التعجب ،لو قال :ما أحسنها من بدعة ! وذلك يرجها
قطعا عن كونا بدعة .
وعلى هذا العن جرى كلم أب أمامة رضي ال عنه مستشهدا بالية حيث قال :أحدثتم قيام
رمضان ول يكتب عليكم .إنا معناه ما ذكرناه .ولجله قال :فدوموا عليه .ولو كان بدعة على
القيقة لنهى عنه ،ومن هذه الهة أجرينا الكلم على ما نى صلى ال عليه وسلم عنه من التعبد
الخوف الرج ف الآل ،واستسهلنا وضع ذلك ف قسم البدع الضافية ،تنبيها على وجهها
ووضعها ف الشرع مواضعها ،حت ل يغتر با مغتر فيأخذها على غي وجهها ،ويتج با على العمل
بالبدعة القيقية قياسا عليها ول يدري ما عليه ف ذلك ،وإنا تشمنا إطلق اللفظ هنا ،وكان
ينبغي أن ل يفعل لول الضرورة ،وبال التوفيق .
فصل قال ال تعال :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم إل آخر اليتي
قال ال تعال " :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يب
العتدين" "وكلوا ما رزقكم ال حلل طيبا واتقوا ال الذي أنتم به مؤمنون" روي ف سبب نزول
هذه الية أخبار جلتها تدور على معن واحد ،وهو يتحري ما أحل ال من الطيبات تدينا أو شبه
التدين وال نى عن ذلك وجعله اعتداء ،وال ل يب العتدين .ث قرر الباحة تقريرا زائدة على ما
تقرر بقوله " :وكلوا ما رزقكم ال حلل طيبا " ث أمرهم بالتقوى ،وذلك مشعر بأن تري ما أحل
ال خارج عن درجة التقوى .
فخرج إساعيل القاضي من حديث أب قلبة رضي ال عنه قال " :أراد ناس من أصحاب رسول ال
صلى ال عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا .فقام رسول ال صلى ال عليه وسلم
فغلظ فيهم القالة ،فقال :إنا هلك من كان قبلكم بالتشديد ،شددوا على أنفسهم فشدد ال عليهم
،فأولئك بقاياهم ف الديار والصوامع اعبدوا ال ول تشركوا به شيئا ،وحجوا واعتمروا ،
واستقيموا يستقم بكم" قال :نزلت فيهم " :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم "
.
وف الترمذي عن ابن عباس رضي ال عنهما قال :
"إن رجلً أتى النب صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ! إن إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء
وأخذتن شهوت فحرمت علي اللحم .فأنزل ال الية " .حديث حسن .
167
الشاطبي كتاب العتصام
168
الشاطبي كتاب العتصام
وعن قتادة ،قال :نزلت ف ناس م نأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن
الدنيا ،وتركوا النساء وترهبوا ،منهم علي بن أب طالب ،وعثمان بن مظعون .
وخرج ابن البارك "أن عثمان بن مظعون أتى النب صلى ال عليه وسلم ،فقال :أئذن ل ف
الختصاء ،فقال النب صلى ال عليه وسلم :ليس منا من خصى أو اختصى إن اختصاء أمت الصيام ،
قال يا رسول ال ! ائذن ل ف السياحة .قال :إن سياحة أمت الهاد ف سبيل ال ،قال :يا رسول
ال ! ائذن ل ف الترهب .قال :إن ترهب أمت اللوس ف الساجد لنتظار الصلة " .
وف الصحيح :
رد رسول ال صلى ال عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ،ولو أذن له لختصى .
وهذا كله واضح ف أن جيع هذه الشياء تري لا هو حلل ف الشرع ،وإهال لا قصد الشارع
إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الخرة ـ لنه نوع من الرهبانية ف السلم .
وإل منع تري اللل ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم ،إل أنه إذا كان التحري غي ملوف
عليه فل كفارة ،وإن كان ملوفا عليه ،ففيه الكفارة ،ويعمل الالف با أحل ال له .
ومن ذلك ما ذكر إساعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود رضي ال عنه فقال :إن حلفت
أن ل أنام على فراشي سنة .فتل عبد ال " :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا" الية ،ادن فكل وكفر
عن يينك ،ون على فراشك .
وف رواية :كان معقل يكثر الصوم والصلة ،فحلف أن ل ينام على فراشه ،فأتى ابن مسعود
رضي ال عنه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الية .
وعن الغية قال :قلت لبراهيم ف هذه الية " :ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" أهو الرجل يرم
الشيء ،ما أحل ال له ؟ قال :نعم .
وعن مسروق قال :أتى عبد ال بضرع فقال للقوم :ادنوا ،فأخذوا يطعمون .فقال رجل :إن
حرمت الضرع .فقال عبد ال :هذا من خطوات الشيطان "يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما
أحل ال لكم" ادن فكل ،وكفر عن يينك .
وعلى ذلك جرت الفتيا ف السلم :إن كل من حرم على نفسه شيئا ما أحل ال له فليس ذلك
التحري بشيء ،فليأكل إن كان مأكو ًل ،وليشرب إن كان مشروبا ،وليلبس إن كان ملبوسًأ ،
وليملك إن كان ملوكا .وكأنه إجاع منهم منقول عن مالك و أب حنيفة و الشافعي وغيهم ،
واختلفوا ف الزوجة .ومذهب مالك أن التحري طلق كالطلق الثلث ،وما سوى ذلك فهو باطل
،لن القرآن شهد بكونه اعتداء ،حت إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيه قاصدا به العتق فوطؤها
حلل .وكذلك سائر الشياء من اللباس والسكن والصمت والستظلل والستضحاء .وقد تقدم
الديث ف الناذر للصوم قائما ف الشمس ساكتا ،فإنه تري للجلوس والكلم والستظلل ،والنب
169
الشاطبي كتاب العتصام
صلى ال عليه وسلم أمره باللوس والتكلم والستظلل .قال مالك :أمره ليتم ما كان له فيه طاعة
ويترك ما كان عليه فيه معصية .
فتأملوا كيف جعل مالك ترك اللل معصية ! وهو مقتضى الية ف قوله تعال " :ول تعتدوا" الية .
ومقتضى قول ابن مسعود رضي ال عنه لصاحب الضرع :هذا من خطوات الشيطان .
وقد ضعف ابن رشد الفيد الستدلل من الالكية بالديث ،وتفسي مالك له ،وذكر أن قوله ف
الديث :ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهر أن ترك الكلم معصية ،وقد أخب ال تعال
أنه نذر مري ـ قال ـ وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إل ما يتعلق من جهة
تعب السم والنفس ،وقد يستحب للحاج أن ل يستظل .فإن قيل :فيه معصية .فالقياس على ما
ني عنه من التعب ل بالنص ،والصل فيه أنه من الباحات .
وما قاله ابن رشد غي ظاهر ،ول يقل مالك ف الديث ما قال استنباطا منه ،بل الظاهر أنه استدل
بالية التكلم فيها ،وحل الديث عليها بترك الكلم ،وإن كان ف الشرائع الول مشروعا فهو
منسوخ بذه الشريعة ،فهو عمل ف مشروع بغي مشروع .وكذلك القيام ف الشمس زيادة من
باب تري اللل ،وإن استحب ف موضع ،فل يلزم استحبابه ف آخر .
170
الشاطبي كتاب العتصام
الرابع :أن يلف على بعض اللل أن ل يفعله ،ومثله قد يسمى تريا .
قال إساعيل القاضي :إذا قال الرجل لمته :وال ل أقربا .فقد حرمها على نفسه باليمي ،فإذا
غشيها وجبت عليه كفارة اليمي .وأتى بسألة ابن مقرن ف سؤاله ابن مسعود رضي ال عنه إذ قال
:إن حلفت أن ل أنام على فراشي سنة ـ قال ـ فتل عبد ال " :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا
طيبات ما أحل ال لكم" الية ،وقال له :كفر عن يينك ،ون على فراشك .
فأمره أن ل يم ما أحل ال له ،وأن يكفر من أجل اليمي .
فهذا الطلق يقتضي أنه نوع من التحري ،وله وجه ظاهر ،فقد أشار إساعيل إل أن الرجل كان
إذا حلف أن ل يفعل شيئا من اللل ل يز له أن يفعله حت نزلت كفارة اليمي ،لجل ما كان
قبل من التحري ،ولا وردت الكفارة سي تريا ،ومن ث ـ وال أعلم ـ سيت كفارة .
171
الشاطبي كتاب العتصام
ولعل هذا الحل أول من قول من قال :إن الثوم ونوه كانت مرمة عليه بالعن الختص بالشارع .
والعنيان متقاربان ،وكلها غي داخل ف معن المر .
وأما التحري بالعن الرابع فيحتمل أن يدخل ف عبارة التحري ،فيكون قوله تعال " :ل ترموا طيبات
ما أحل ال لكم" قد شل التحري بالنذر ،والتحري باليمي ،والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها
بقوله تعال " :فكفارته إطعام عشرة مساكي" إل .
وما تقدم من أنه كان تريا مردا قبل نزول الكفارة ،وأن جاعة من الفسرين قالوا ف قوله تعال :
"يا أيها النب ل ترم ما أحل ال لك" :إن التحري كان باليمي حي حلف النب صلى ال عليه وسلم
أن ل يشرب العسل ،وسيأت ذكر ذلك بول ال .
فإن قيل :هل يكون "قول الرجل لرسول ال صلى ال عليه وسلم :إن إذا أصبت اللحم انتشرت
للنساء" ـ الديث ـ من قبيل التحري الثان ل من الثالث ـ لن الرجل قد يرم الشيء للضرر
الاصل به ،وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحري حقيقة ،فكذلك ها هنا ل يريد بالتحري النذر ،بل يريد
به التوقي ،أي إن أخاف على نفسي العنت ،وكان هذا العن ـ وال أعلم ـ هو مقصود
الصحاب رضي ال عنه .
فالواب :أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئا يكنه أن يسك عنه من غي تري ،والتارك
لمر ل يلزمه أن يكون مرما له ،فكم من رجل ترك الطعام الفلن أو النكاح لنه ف ذلك الوقت
ل يشتهيه ،أو لغي ذلك من العذار ! حت إذا زال عذره تناول منه .
وقد :ترك صلى ال عليه وسلم أكل الضب ،ول يكن تركه موجبا لتحريه .
والدليل على أن الراد بالتحري الظاهر ،وأنه ل يصح ،وإن كان تقدم أن النب صلى ال عليه وسلم
رد عليه بالية ،فلو كان وجود مثل تلك العذار مبيحا للتحري بالعن الثالث لوقع التفصيل ف الية
بالنسبة إل من حرم لعذر أو غي عذر .
وأيضا فإن النتشار للنساء ليس بذموم ،فإن النب صلى ال عليه وسلم قال :
"من استطاع منكم الباءة فليتزوج" الديث ،فإذا أحب النسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له ما ف
الديث زيادة إل النسل الطلوب ف اللة ،فكأن مرم ما يصل به النتشار ساع ف التشبه بالرهبانية
،وكان ذلك منتفيا عن السلم كسائر ما ذكر ف الية .
172
الشاطبي كتاب العتصام
والواب :أنه ل دليل ف الية ،لن ما تقدم يقرر أن ل تري ف السلم ،فيبقى ما كان شرعا
لغينا منفيا عن شرعنا كما تقرر ف الصول .
خرج القاضي إساعيل وغيه عن ابن عباس رضي ال عنهما :
أن إسرائيل النب يعقوب عليه السلم أخذه عرق النسا ،فكان يبيت عليه زقاء ،فجعل عليه إن شفاه
ال ليحرمن عليه العروق .وذلك قبل نزول التوراة .قالوا :فلذلك نسل اليهود ل يأكلونا .وف
رواية :جعل على نفسه أن ل يأكل لوم البل ـ قال ـ فحرمته اليهود .
وعن الكلب أن يعقوب عليه السلم قال :
إن ال شفان لحرمن أطيب الطعام والشراب ـ أو قال :ـ أحب الطعام أو الشراب إل .فحرم
لوم البل وألبانا .
قال القاضي :الذي نسب ـ وال أعلم ـ أن إسرائيل حي حرم على نفسه من اللل ما حرم ل
يكن ف ذلك الوقت منهيا عن ذلك ،وأنم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من اللل ل يز لم
أن يفعلوه حت نزلت كفارة اليمي .قال ال تعال " :قد فرض ال لكم تلة أيانكم"
والالف إذا حلف على شيء ول يقل :إن شاء ال كان باليار ،إن شاء فعل وكفر ،وإن شاء ل
يفعل .قال :وهذه الشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والنسوخ ،فكان الناسخ ف
هذا قوله تعال " :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" قال :فلما وقع النهي ل يز
للنسان أن يقول :الطعام علي حرام ،وما أشبه ذلك من اللل .فإن قال إنسان شيئا من ذلك
كان قوله باطلً ،وإن حلف على ذلك بال كان له أن يأت الذي هو خي ،ويكفر عن يينه .
173
الشاطبي كتاب العتصام
ل يفعل ،واللف إذا وقع فصاحبه مي بي أن يترك الحلوف عليه وبي أن يفعله ويكفر .وقد جاء
ف آية التحري " :قد فرض ال لكم تلة أيانكم" فدل على أنه كان يينا حلف صلى ال عليه وسلم
با .وذلك أن الناس اختلفوا ف هذا التحري فقال جاعة :إن كان تريا لم ولده مارية القبطية .
بناءً على أن الية نزلت ف شأنا ،ومن قال به السن و وقتادة و الشعب و نافع مول ابن عمر ،أو
كان ترميا لعسل زينب ،وهو قول عطاء وعبد ال بن عتبة ،وقال جاعة :إنا كان تريا بيمي .
قال إساعيل بن إسحاق :يكن أن يكون النب صلى ال عليه وسلم حرمها ـ يعن جاريته ـ بيمي
ال ،لن الرجل إذا قال لمته :وال ل أقربك .فقد حرمها على نفسه باليمي ،فإذا غشيها وجبت
عليه كفارة اليمي .ث أتى بسألة ابن مقرن .
ويكن أن يكون السبب شرب العسل ،وهو الذي وقع ف البخاري من طريق هشام عن ابن جريج
قال فيه :
شربت عسلً عند زينب بنت جحش ،فلن أعود له ،وقد حلفت فل تبي بذلك أحدا ،وإذا
كان كذلك فلم يبق ف السألة إشكال .ول فرق بي الارية والعسل ف الكم ،لن تري الارية
كيف ما كان بنلة تري ما يؤكل ويشرب .
وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحري فيحتمل وجهي كالول .
أحدها :أن يكون التحري ف سورة التحري بعن اللف .
والثان :أن تكون آية العقود غي متناولة للنب صلى ال عليه وسلم ،وأن قوله تعال " :يا أيها الذين
آمنوا ل ترموا" ل تدخل فيه بناء على قول من قال بذلك من الصوليي ،وعند ذلك ل يبقى ف
القضية فيه ،ول يكون للمجتمع بالية متعلق ،وال أعلم .
174
الشاطبي كتاب العتصام
الول عند عروض العوارض ،وعندما يصي النكاح ومالطة الناس وبالً على النسان ،ومؤدبا إل
اكتساب الرام والدخول فيما ل يوز ،كما جاء ف الصحيح من قوله صلى ال عليه وسلم :
"يوشك أن يكون خي مال السلم غنم يتبع با شعف البال ومواقع القطر يفر بدينه من الفت" وسائر
ما جاء ف هذا العن .وأيضا فإن ال تعال قال لنبيه صلى ال عليه وسلم " :واذكر اسم ربك وتبتل
إليه تبتيل" والتبتل ـ على ما قاله زيد بن أسلم ـ رفض الدنيا من قولم :بتلت البل بتلً إذا قطعته
،ومعناه القطع من كل شيء إل منه .
وقال السن وغيه :بتل إليه نفسك واجتهد .وقال ابن زيد :تفرغ لعبادته هذا إل ما جاء عن
السلف الصال من النقطاع إل عبادة ال ورفض أسباب الدنيا .والتخلي عن الواضر إل البوادي ،
واتاذ اللوات ف البال والباري حت إن بعض البال الشامية قد خصها ال بالولياء والنقطعي إل
لبنان ونوه ،فما وجه ذلك .
فالواب :أن الرهبانية إن كانت بالعن القرر ف شرائع الول فل نسلم أنا ف شرعنا ،لا تقدم من
الدلة على نسخها ،كانت لعارض أو لغي عارض ،إذ ل رهبانية ف السلم ،وقد رد صلى ال
عليه وسلم التبتل حسبما تقدم .
وإن كانت بعن النقطاع إل ال حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول ال صلى ال عليه
وسلم وهو التخاطب بقوله " :وتبتل إليه تبتيلً" فهذا هو الذي نن ف تقريره وأنه السنة التبعة
والدي الصال والصراط الستقيم ،وليس ف كلم زيد بن أسلم وغيه ف معن التبتل ما يناقض هذا
العن ،لن رفض الدنيا ليس بعن طرح اتاذها جلة وترك الستمتاع با ،بل بعن ترك الشغل با
عما كلف النسان به من الوظائف الشرعية .
واجعل سي السلف الصال مرآة لك تنظر فيها معن التبتل على وجه القتداء برسول ال صلى ال
عليه وسلم ،فلقد كانوا رضي ال تعال عنهم مكتسبي للمال به فيما أبيح لم منفقي له حيث ندبوا
ل يتعلق بقلوبم منه شيء ،إذا عن لم أمر أو ني ،بل قدموا أمر ال ونيه على حظوظ أنفسهم
الباطلة على وجه ل يل بظوظهم فيه ،وهو التوسط الذي تقدم ذكره .
ث ندبم الشارع إل اتاذ الهل والولد فبادروا إل المتثال ،ول يقولوا :هو شاغل لنا عما أمرنا به
.لن هذا القول مشعر بالغفلة عن معن التكليف به ،فإن الصل الشرعي أن كل مطلوب هو من
جلة ما يتعبد به إل ال تعال ويتقرب به إليه ،فالعبادات الحضة ظاهر فيها ذلك ،والعادات كلها
إذا قصدت با امتثال أمر ال عبادات ،إل أنه إذا ل يقصد با ذلك القصد ،وييء با نو الظ
مردا ،فإذا ذاك ل تقع متعبدا با ،ول مثابا عليها ،وإن صح وقوعها شرعا .
فالصحابة رضي ال تعال عنهم قد فهموا هذا العن ول يكن مع فهمهم أن تتعارض الوامر ف
حقهم ول ف حق من فهم منها ما فهموا منها ،فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل ف الريان
175
الشاطبي كتاب العتصام
على السنة ،وكذلك كلم السن وغيه ف تفسي الية .صحيح إذا أخذ هذا الأخذ ،أي اتبع
الدى واتبع أمر ربك فإنه العليم با يصلح لك والقائم على تدبيك ،ولذلك قال على أثرها " :رب
الشرق والغرب ل إله إل هو فاتذه وكيلً" أي بك ،وإنه وكيل لك بالنسبة إل ما ليس من كسبك
،فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تت كسبك ،ما هو تكليف ف حقك ،ومن جلة ما توكل
لك فيه أن ل تدخل نفسك ف عمل ترج بسببه حالً ومالً .
وقد فسر التبتل بأنه الخلص ،وهو قول ماهد والضحاك ،وقال قتادة :أخلص له العبادة والدعوة
،فعلى هذا التفسي ل تعلق فيها لورد السؤال .
وإذا تقرر هذا فالسياحة واتاذ الصوامع وسكن البال والكهوف إن كان على شرط أن ل يرموا ما
أحل ال من المور الت حرمها الرهبان ،بل على حد ما كانوا عليه ف الواضر ومامع الناس :ل
يشددون على أنفسهم بقدار ما يشق عليهم ،فل إشكال ف صحة هذه الرهبانية ،غي أنا ل تسمى
رهبانية إل بنوع من الجاز ،أو النقل العرف الذي ل يز عليه معتاد اللغة ،فل تدخل ف مقتضى قو
له تعال " :ورهباني ًة ابتدعوها" ل ف السم ول ف العن .
وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ،فل نسلم أنه ف هذه الشريعة مندوب إليه ول مباح ،بل هو
ما ل يوز ،لنه كالشرع بغي شريعة ممد صلى ال عليه وسلم ،فل ينتظمه معن قوله صلى ال
عليه وسلم :
"من رغب عن سنت فليس من" .
وأما ما ذكره الغزال وغيه من تفصيله على الخالطة ،وترجيح الغربة على اتاذ أهل عند اعتوار
العوارض ،فذلك يستمد من أصل آخر ل من هنا .
وبيانه أن الطلوبات الشرعية ل تلو أن يكون الكلف قادرا على المتثال فيها مع سلمته عند العمل
لا من وقوعه ف منهي عنه أو ل ،فإن كان قادرا ف ماري العادات بيث ل يعارضه مكروه أو
مرم ،فل إشكال ف كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصال عليه
قبل وقوع الفت ،وإن ل يقدر على ذلك إل بوقوعه ف مكروه أو مرم ،ففي بقاء الطلب هنا
تفصيل ـ بسب ما يظهر من كلم أب حامد رحه ال تعال ـ إذ يكون الطلوب مندوبا ،لكنه ل
يعمل به إل بوقوعه ف منوع ،فالندوب ساقط عنه بل إشكال ،كالندوب للصدقة على الحتاج ل
مال بيده إل مال الغي ،فل يوز له العمل بالندب ،لنه يقع بسببه ف التصرف ف مال الغي بغي
إذنه ،وذلك ل يوز فهو كالفاقد لا يتصدق به ،وكالقادم على مريضه الشرف ،أو دفن ميت
ياف تغييه بتركه ،ث يقوم يصلي نافلة ،والتزوج ل يد إل مالً حراما ،وأشباه ذلك .
وقد يكون الطلوب واجبا إل أن وقوعه فيه يدخله ف مكروه ،وهذا غي معتد به ،لن القيام
بالواجب آكد ،أو يوقعه ف منوع ،فهذا هو الذي يتعارض على القيقة ،إل أن الواجبات ليست
176
الشاطبي كتاب العتصام
على وزان واحد كما أن الحرمات كذلك ،فل بد من الوازنة ،فإن ترجح جانب الواجب صار
الحرم ف حكم العفو ،أو حكم التلف إن كان ما تتلف مفسدته ،وإن ترجح جانب الحرم سقط
حكم الواجب ،أو طلب بالتلف ،وإن تعادل ف نظر الجتهد فهو مال نظر الجتهدين ،والول ـ
عند جاعة ـ رعاية جانب الحرم لن درء الفاسد آكد من جلب الصال ،فإذا كانت العزلة مؤدية
إل السلمة فهي الول ف أزمنة الفت ،والفت ل تتص بفت الروب فقط فهي جارية ف الاه
والال وغيها من مكتسبات الدنيا ،وضابطها ما صد عن طاعة ال ،ومثل هذا يري بي الندوب
والكروه ،وبي الكروهي .
وإن كانت العزلة مؤدية إل ترك المعيات والماعات ،والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنا
أيضا سلمة من جهة أخرى ،ويقع التوازن بي الأمورات والنهبات ،وكذلك النكاح ،إذا أدى إل
العمل بالعاصي ول يكن ف تركه معصية كان تركه أول .
ومن أمثلة ذلك ـ غي أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إل حبيب بن مسلمة أنه قال
لـمعن بن ثور :هل تدري ل اتذت النصارى الديارات ؟ قال معن :ول ؟ قال :إنه لا أحدث
اللوك البدع ،وضيعوا أمر النبيي ،وأكلوا النازير ،اعتزلوهم ف الديارات وتركوهم وما ابتدعوا ،
فتخلوا للعبادة ،قال حبيب لـ معن :فهل لك ؟ .....قال :
ليس بيوم ذلك .
فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع ف ديننا كذلك ،ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم
بالبدع وغلبه الهواء على حد ما شرع ف ديننا ،ل أن نفس ما فعلت النصارى ف رهبانيتها متيسر
لنا ،لا ثبت من نسخه ،فعلى هذه الحرف جرى كلم المام أب حامد وغيه من نقل هو عنهم
واحتج بم ،ويدل على ذلك أن جاعة من نقل عنهم الترغيب ف العزلة كانوا متزوجي ول يكن
ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه ،بناءً منهم على التحري ف الوازنة بي ما يلحقهم بسبب
التزوج ،فل إشكال إذا على هذا التقرير ف كلم الغزال ول غيه من سلك مسلكه ،لنم بنوا
على أصل قطعي ف الشرع ،مكم ل ينسخه شيء وليس من مسألتنا بسبيل ،ولكن ث تقيق زائد
ل يسع إيراده ها هنا ،وأصله مأخوذ من كتاب الوافقات من ترن فيه حقق هذا العن على التمام ،
وبال تعال التوفيق .
والاصل ،أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية النفية ف الية بدعة من البدع
القيقية ل الضافية ،لرد رسول ال صلى ال عليه وسلم لا أصلً وفرعا .
فصل ثبت بضمون هذه الفصول التقدمة آنفا أن الرج منفي عن الدين جلة وتفصيلً
177
الشاطبي كتاب العتصام
ثبت بضمون هذه الفصول التقدمة آنفا أن الرج منفي عن الدين جلة وتفصيلً ـ وإن كان قد
ثبت أيضا ف الصول الفقهية على وجه من البهان أبلغ ـ فلنب عليه فنقول :
قد فهم قوم من السلف الصال وأهل النقطاع إل ال من ثبت وليتهم أنم كانوا يشددون على
أنفسهم ،ويلزمون غيهم الشدة أيضا والتزام الرج ديدنا ف سلوك طريق الخرة ،وعدوا من ل
يدخل تت هذا اللتزام مقصرا مطرودا ومروما ،وربا فهموا ذلك من بعض الطلقات الشرعية ،
فرشحوا بذلك ما التزموه ،فأفضى المر بم إل الروج عن السنة إل البدعة القيقية أو الضافية .
فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان ف سلوكه للخرة ،أحدها سهل والخر صعب ،وكلها ف
التوصل إل الطلوب على حد واحد ،فيأخذ بعض التشددين بالطريق الصعب الذي يشق على
الكلف مثله ،ويترك الطريق السهل بناء على التشديد على النفس ،كالذي يد للطهارة ماءين :
سخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ،ويترك الخر ،فهذا ل يعط النفس حقها الذي طلبه
الشارع منه ،وخالف دليل رفع الرج من غي معن زائد ،فالشارع ل يرض بشرعية مثله ،وقد قال
ال تعال " :ول تقتلوا أنفسكم إن ال كان بكم رحيما " فصار متبعا لواه ،ول حجة له ف قوله
عليه الصلة والسلم :
"أل أدلكم على ما يحو ال به الطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات "
الديث .
من حيث كان السباغ مع كراهية النفس سببا لحو الطايا ورفع الدرجات ،ففيه دليل على أن
للنسان أن يسعى ف تصيل هذا الجر بإكراه النفس ،ول يكون إل بتحري إدخال الكراهية
عليها ،لنا نقول :ل دليل ف الديث على ما قلتم ،وإنا فيه أن السباغ مع وجود الكراهية ،ففيه
أمر زائد ،كالرجل يد ماء باردا ف زمان الشتاء ول يده سخنا فل ينعه شدة برده عن كمال
السباغ .
وأما القصد إل الكراهية فليس ف الديث ما يقتضيه ،بل ف الدلة التقدمة ما يدل على أنه مرفوع
عن العباد ،ولو سلم أن الديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الرج تعارضه وهي قطعية وخب الواحد
ظن ،فل تعارض بينهما للتفاق على تقدي القطعي ،ومثل الديث قول ال تعال " :ذلك بأنم ل
يصيبهم ظمأ ول نصب ول ممصة " الية .
ومن ذلك القتصار من الأكول على أخشنه وأفظعه لجرد التشديد ل لغرض سواه ،فهو من النمط
الذكور فوقه ،لن الشرع ل يقصد إل تعذيب النفس ف التكليف ،وهو أيضا مالف لقوله عليه
الصلة والسلم :
"إن لنفسك عليك حقا" .
وقد كان النب صلى ال عليه وسلم :يأكل الطيب إذا وجده .
178
الشاطبي كتاب العتصام
179
الشاطبي كتاب العتصام
ارتكبت جزاء على خلف الول ،ليكون جيع ذلك منهضا لعزائم الكلفي ف المتثال ،حت إنه
وضع لهل المتثال الثائرين على البايعة ف أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة ،والنوار
الشارحة للصدور ،ما ل يعدله من لذات الدنيا شيء ،حت يكون سببا لستلذاذ الطاعة والفرار
إليها وتفضيلها على غيها ،فيخف على العامل العمل حت يتحمل منه ما ل يكن قادرا قبل على
تمله إل بالشقة النهي عنها ،فإذا سقطت سقط النهي .
بل تأملوا كيف وضع للطعمة على اختلفها لذات متلفات اللوان ،وللشربة كذلك ،وللوقوع
الوضوع سببا لكتساب العيال ـ وهو أشد تعبا عن النفس ـ لذة أعلى من لذة الطعم والشرب ،
إل غي ذلك من المور الارجية عن نفس التناول ،كوضع القبول ف الرض وترفيع النازل ،
والتقدم على سائر الناس ف المور العظائم وهي أيضا تقتضي لذات تستصغر جنبها لذات الدنيا .
وإذا كان كذلك ،فأين هذا الوضوع الكري من الرب اللطيف البي ؟ فمن يأت متعبدا بزعمه
بلف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسي والسباب الوصلة إل مبته ،فيأخذ بالشق والصعب
،ويعله هو السلم الوصل والطريق الخص هل ذها كله إلغاية ف الهاله ،وتلف ف تيه الضللة ؟
عافانا ال من ذلك بفضله فإذا سعتم بكاية تقتضي تشديدا على هذا السبيل ،أو يظهر منها تنطع أو
تكلف فإما أن يكون صاحبها من يعتب كالسلف الصال ،أو من غيهم من ل يعرف ول ثبت
إعتباره عند أهل الل والعقد من العلماء ،فإن كان الول فل بد أن يكون على خلف ما ظهر
لبادي الرأي ـ كما تقدم ـ إن كان الثان فل حجة فيه ،وإنا الجة ف القتدين برسول ال صلى
ال عليه وسلم .فهذه خسة ف التشديد ف سلوك طريق الخرة يقاس عليها ما سواها .
فصل قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصي جاريا مرى البدعة من باب الذرائع
قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصي جاريا مرى البدعة من باب الذرائع ،ولكن على غي
ل ـ فيعمل به العامل ف
الوجه الذي فرغنا من ذكره .وبيانه أن العمل يكون مندوبا إليه ـ مث ً
خاصة نفسه على وضعه الول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا القدار ل يكن بأس ،ويري
مراه إذا دام عليه ف خاصيته غي مظهر له دائما ،بل إذا أظهره ل يظهره على حكم اللتزمات من
السنن الرواتب والفرائض اللوازم ،فهذا صحيح ل إشكال فيه .وأصله ندب رسول ال صلى ال
عليه وسلم لخفاء النوافل والعمل با ف البيوت ،وقوله :
"أفضل الصلة صلتكم ف بيوتكم إل الكتوبة" فاقتصر ف الظهار على الكتوبات ـ كما ترى ـ
وإن كان ذلك ف مسجده عليع السلم أو ف السجد الرام أو ف مسجد بيت القدس ،حيث قالوا
:إن النافلة ف البيت أفضل منها ف أحد هذه الساجد الثلثة با اقتضاه ظاهر الديث .وجرى
الفرائض ف الظهار السنن كالعيدين والسوف والستسقاء وشبه ذلك ،فبقي ما سوى ذلك حكمة
180
الشاطبي كتاب العتصام
الخفاء ،ومن هنا ثابر السلف الصال رضي ال عنهم على إخفاء العمال فيما استطاعوا أو خف
عليهم القتداء بالديث وبفعله عليه الصلة والسلم ،لنه القدوة والسوة .
ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل با ف البيوت دائما أن يقام جاعة ف الساجد البتة ،ما عدا
رمضان ـ حسبما تقدم ـ ول ف البيوت دائما ،وإن وقع ذلك ف الزمان الول ف الفرط كقيام
ابن عباس رضي ال عنهما مع رسول ال صلى ال عليه وسلم عندما بات عند خالته ميمونة ،وما
ثبت من قوله عليه الصلة والسلم :
"قوموا فلصل لكم" .
وما ف الوطأ من صلة يرفأ ـ هو خادم عمر ـ مع عمر بن الطاب رضي ال عنه وقت الضحى ،
فمن فعله ف بيته وقتا ما فل حرج ،ونص العلماء على جواز ذلك بذا القيد الذكور ،وإن كان
الواز قد وقع ف الدونة مطلقا ،فما ذكره تقييد له ،وأظن ابن حبيب نقله عن مالك مقيدا ،فإذا
اجتمع ف النافلة أن يلتزم السنن الرواتب إما دائما وإما ف أوقات مدودة ،وأقيمت ف الماعة ف
الساجد الت تقام فيها الفرائض ،أو الواضع الت تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع .والدليل
عليه أنه ل يأت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ول عن أصحابه ول عن التابعي لم بإحسان
فعل هذا الجموع هكذا مموعا ،وإن أتى مطلقا من غي تلك التقييدات .فالتقييد ف الطلقات الت
ل يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي ف التشريع ،فكيف إذا عارضه الدليل ،وهو المر بإخفاء النوافل
مثلً؟ .
ووجه دخول البتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم من النوافل وأظهره
ف لماعات فهو سنة ،فالعمل بالنافلة الت ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ،إخراج للنافلة عن
مكانا الخصوص با شرعا .ث يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن ل علم عنده أنا سنة .وهذا
فساد عظيم ،لن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل با على حد العمل بالسنة نو من تبدليل الشريعة ،
كما لو اعتقد ف الفرض أنه ليس بفرض ،أو فيما ليس بفرض أنه فرض ،ث عمل وفق اعتقاده فإنه
فاسد ،فهب العمل ف الصل صحيحا فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملً من باب إفساد الحكام
الشرعية ،ومن هنا ظهر عذر السلف الصال ف تركهم سننا قصدا لئل يعتقد الاهل أنا من
الفرائض كالضحية وغيها ـ كما تقدم ذلك ـ .
ولجله أيضا نى أكثرهم عن اتباع الثار ،كما خرج الطحاوي و ابن وضاح وغيها عن معرور
بن سويد السدي قال :وافيت الوسم مع أمي الؤمني عمر بن الطاب رضي ال عنه ،فلما
انصرفنا إل الدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلة الغداة فقرأ فيها " :أل تر كيف فعل ربك" و
"ليلف قريش" ث رأى ناسا يذهبون مذهبا ،فقال :أين يذهب هؤلء ؟ قالوا :يأتون مسجدا ها
181
الشاطبي كتاب العتصام
هنا صلى فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال :إنا هلك من كان قبلكم بذا ،يتبعون آثار
أنبيائهم فاتذوها كنائس وبيعا ،من أدركته الصلة ف شيء من هذه الساجد الت صلى فيها رسول
ال صلى ال عليه وسلم فليصل فيها وإل فل يتعمدها .
وقال ابن وضاح :سعت عيسى بن يونس مفت أهل طرسوس يقول :أمر عمر بن الطاب رضي ال
عنه بقطع الشجرة الت بويع تتها النب صلى ال عليه وسلم ،فقطعها لن الناس كانوا يذهبون
فيصلون تتها فخاف عليهم الفتنة .
قال ابن وضاح :وكان مالك بن أنس وغيه من علماء الدينة يكرهون إتيان تلك الساجد وتلك
الثار للنب صلى ال عليه وسلم ما عدا قباء وحده .وقال :وسعتهم يذكرون أن سفياندخل
مسجد بيت القدس فصلى فيه ول يتبع تلك الثار ول الصلة فيها ،وكذلك فعل غيه أيضا من
يقتدى به ،وقدم وكيع أيضا مسجد بيت القدس فلم يعد فعل سفيان .
قال ابن وضاح :فعليكم بالتباع لئمة الدى العروفي ،فقد قال بعض من مضى :كم من أمر هو
اليوم معروف عند كثي من الناس كان منكرا عند من مضى .
وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت ف خي .
وجيع هذا ذريعة لئل يتخذ سنة ماليس بسنة ،أو يعد مشروعا ماليس معروفا .
وقد كان مالك يكره الجيء إل بيت القدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة ،وكان يكره ميء قبور
الشهداء ،ويكره ميء قباء خوفا من ذلك ،مع ما جاء ف الثار من الترغيب فيه .
ولكن لا خاف العلماء عاقبه ذلك تركوه .
وقال ابن كتانة وأشهب :سعنا مالكا لا أتاه سعد بن أب وقاص قال :وددت أن رجلي تكسرت
وأن ل أفعل .
وسئل ابن كتانة عن الثار الت تركوا بالدينة فقال :أثبت ما ف ذلك عندنا قباء .إل أن مالكا كان
يكره ميئها خوفا من أن يتخذ سنة .
وقال سعيد بن حسان :كنت أقرأ على ابن نافع ،فلما مررت بديث التوسعة ليلة عاشوراء قال ل
:حوق عليه قلت :ول ذلك يا أبا ممد ؟ قال :خوفا من أن يتخذ سنة .
فهذه امور جائزة أو مندوب إليها ،ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لن اتاذها سنة إنا هو
بأن يواظب الناس عليها مظهرين لا ،وهذا شأن السنة ،وإذا جرت مرى السنن صارت من البدع
بل شك .
فإن قيل :كيف صارت هذه الشياء من البدع الضافية ؟ والظاهر منها أنا بدع حقيقية ! لن تلك
الشياء إذا عمل با على اعتقاد أنا سنة فهي حقيقية إذ ل يضعها صاحب السنة رسول ال صلى ال
182
الشاطبي كتاب العتصام
عليه وسلم على هذا الوجه ،فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنا غي واجبة واعتقدها عبادة
فإنا بدعة من غي إشكال،
ل.هذا إذا نظرنا إليها بآلا ،وإذا نظرنا إليها أولً فهي مشروعة من غي نسبة إل بدعة أًص ً
فالواب :أن السؤال صحيح ،إل أن لوضعها أولً نظرين :
أحدها :من حيث هي مشروعة فل كلم فيها .
والثان :من حيث صارت كالسبب الوضوع العتقاد البدعة أو للعمل با على غي السنة ،فهي من
هذا القبيل غي مشروعة ،لن وضع السباب للشارع ل للمكلف والشارع ل يضع الصلة ف
مسجد قباء أو بيت القدس ـ مثلًـ سببا لن تتخذ سنة فوضع الكلف لا كذلك رأي غي مستند
إل الشرع ،فكان ابتداعا .
وهذا معن كونا بدعة إضافية .أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة ،
والعمل على وفقه ،فذلك بدعة حقيقية ل إضافية ،ولذا الصل أمثلة كثية وقعت الشارة إليها ف
أثناء الكلم ،فل معن للتكرار .
وإذا ثبت ف المور الشروعة أنا قد تعد بدعا بالضافة ،فما ظنك بالبدع القيقية ،فإنا قد تتمع
فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا ،لكن من جهتي ،فإذا بدعة أصبح ول المد ف نداء الصبح
ظاهرة .ث لا عمل با ف الساجد والماعات مواظبا عليها ل تترك كما ل تترك الواجبات وما
أشبهها ،كان تشريعا أولً يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة ،وهذا ابتداع ثان إضاف .ث إذا
اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلثة أوجه ،ومثله يلزم ف كل بدعة أظهرت
والتزمت .وأما إذا خفيت واختص با صاحبها فالمر عليه أخف ،فيا ل ويا للمسلمي ! ماذا ين
البتدع على نفسه ما ل يكون ف حسابه ؟ وقانا ال شرور أنفسنا بفضله .
183
الشاطبي كتاب العتصام
للجماعة منه حظ ،إل أن يقولوا مثل قوله ،أو نوا من قوله كما ف غي أدبار الصلوات ،كما جاء
أنه كان يقول ف دبر كل صلة :
" ل إله إل ال وحده ل شريك له ،له اللك وله المد ،وهو على كل شيء قدير ،اللهم ل مانع
لا أعطيت ،ول معطي لا منعت ،ول ينفع ذا الد منك الد" ،وقوله :
"اللهم أنت السلم ومنك السلم ،تباركت وتعاليت يا ذا اللل والكرام" ،وقوله " :سبحان ربك
رب العزة عما يصفون" ونو ذلك ،فإنا كان يقول ف خاصة نفسه كسائر الذكار ،فمن قال مثل
قوله ،فحسن ول يكن ف هذا كله هيئة اجتماع .
وإن كان دعاء فعامة ما جاء عن دعائه عليه السلم بعد الصلة ما سع منه إنا كان يص به نفسه
دون الاضرين ،كما ف الترمذي عن علي بن أب طالب رضي ال عنه " ،عن رسول ال صلى ال
عليه وسلم أنه كان إذا قام إل الصلة الكتوبة رفع يديه " ..الديث .إل قوله ":ويقول عند
انصرافه من الصلة :اللهم اغفر ل ما قدمت وما أخرت ،وما أسررت وما أعلنت ،أنت إلي ل
إله إل أنت" حسن صحيح .وف رواية أب داود ":كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا سلم من
الصلة قال :
اللهم اغفر ل ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أعلم به من ،أنت
القدم وأنت الؤخر ل إله إل أنت " .
وخرج أبو داود ":كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول دبر كل صلة :
اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن ممدا عبدك ورسولك ،اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد
أن العباد كلهم إخوة ،اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلن ملصا لك وأهلي ف كل ساعة ف الدنيا
والخرة ،يا ذا اللل والكرام اسع واستجب ،ال أكب ،ال أكب ،ال نور السموات والرض ،
ال أكب ،ال أكب ،حسب ال ونعم الوكيل" .
ولـأب داود ف رواية :
"رب أعن ول تعن علي ،وانصرن ولتنصر علي ،وأمكن ل ول تكن علي ،واهدن ويسر هداي
إل وانصرن على من بغى علي" إل آخر الديث .
وف النسائي "أنه عليه الصلة والسلم كان يقول ف دبر الفجر إذا صلى :اللهم اغفر إن أسألك علما
ل ،ورزقا طيبا" .وعن بعض النصار قال ":سعت رسول ال صلى ال عليه نافعا ،وعملً متقب ً
وسلم يقول ف دبر الصلة :اللهم اغفر ل وتب علي إنك أنت التواب الغفور" ،حت يبلغ مائة
مرة ،وف رواية ،أن هذه الصلة كانت صلة الضحى .
184
الشاطبي كتاب العتصام
فتأملوا سياق هذه الدعية كلها مساق تصيص نفسه با دون الناس! فيكون مثل هذا حجة لفعل
الناس اليوم إل أن يقال :قد جاء الدعاء للناس ف مواطن ،كما ف الطبة الت استسقى فيها ،ونو
ذلك .فيقال :نعم :فأين التزام ذلك جهرا للحاضرين ف دبر كل صلة .
ث نقول :إن العلماء يقولون ف مثل الدعاء والذكر الوارد على أثر الصلة ،إنه مستحب ل سنة ول
واجب .وهو دليل على أمرين :
أحدها :أن هذه الدعية ل تكن منه عليه والسلم على الدوام .
والثان :أنه ل يكن يهر با دائما ول يظهرها للناس ف غي مواطن التعليم ،إذ لو كانت على
الدوام وعلى الظهار لكانت سنة ول يسع العلماء أن يقولوا فيها بغي السنة ،إذ خاصيته ـ حسبما
ذكروه ـ الدوام والظهار ف مامع الناس .ول يقال :لو كان دعاؤه عليه السلم سرا ل يؤخذ
عنه .لنا نقول :من كانت عادته السرار فل بد أن يظهر منه إما بكم العادة وإما بقصد التنبيه
على التشريع .
فإن قيل :ظواهر الحاديث تدل على الدوام بقول الرواة :كان يفعل فإنه يدل على الدوام كقولم
:كان حات يكرم الضيفان .قلنا .ليس كذلك ،بل يطلق على الدوام وعلى الكثي والتكرار على
الملة ،كما جاء ف حديث عائشة رضي ال عنها "أنه عليه الصلة والسلم كان إذا أراد أن ينام
وهو جنب توضأ وضوءه للصلة" .وروت أيضا أنه :
"كان عليه الصلة والسلم ينام وهو جنب من غي أن يس ماء" .بل قد يأت ف بعض الحاديث :
"كان يفعل فيما ل يفعله إل مرة واحدة" نص عليه أهل الديث .
ولو كان يدوام الداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيه ،ولو سلم :فأين هيئة الجتماع ؟ .
فقد حصل أن الدعاء بيئة الجتماع دائما ل يكن من فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم .كما ل
يكن قوله ول إقراره .
وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى ال عليه وسلم :
" كان يكث إذا سلم يسيا " .قال ابن شهاب :حت ينصرف الناس فيما نرى .وف مسلم عن
عائشة رضي ال عنها :
"كان إذا سلم ل يقعد إل مقدار ما يقول :اللهم أنت السلم ومنك السلم تباركت يا ذا اللل
والكرام" .
وأما فعل الئمة بعده نقل الفقهاء من حديث أنس ف غي كتب الصحيح :
صليت خلف النب صلى ال عليه وسلم ،فكان إذا سلم يقوم ،وصليت خلف أب بكر رضي ال عنه
فكان إذا سلم وثب كأنه على رفضه ( يعن الجر الحمى ) ،ونقل ابن يونس الصقلي عن ابن
وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الئمة قعودهم بعد السلم وقال :إنا كانت الئمة ساعة
185
الشاطبي كتاب العتصام
تسلم تقوم ،وقال ابن عمر :جلوسه بدعة .وعن ابن مسعود رضي ال عنه قال :لن يلس على
الرضف خي له من ذلك .وقال مالك ف الدونة :إذا سلم فليقم ول يقعد إل أن يكون ف سفر أو
ف فنائه .
وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلة ،ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل
عليه فيه كب وترفع على الماعة ،وانفراده بوضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم ،وأما انفراده
به حال الصلة فضروري .قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم ،وإذا كان هذا ف انفراده ف
الوضع ،فكيف بنا انضاف إليه من تقدمه أمامهم ف التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه
جهرا ؟ قال :ولو كان هذا حسنا لفعله النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه رضي ال عنهم ول
ينقل ذلك أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جيع أموره حت :هل كان ينصرف من الصلة عن
اليمي أو عن الشمال ؟
وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله با فيه كفاية .
هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلة بيئة الجتماع دائما بدعة قبيحة ،واستدل على
عدم ذلك ف الزمان الول بسرعة القيام والنصراف ،لنه مناف للدعاء لم وتأمينهم على دعائه ،
بلف الذكر ،ودعاء النسان لنفسه ،فإن النصراف وذهاب النسان لاجته غي مناف لما .
فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر ،فرد على ذلك المام ردا أمرع فيه على خلف ما عليه
الراسخون ،وبلغ من الرد ـ على زعمه ـ إل أقصى غاية ما قدر عليه .واستدل بأمور إذا تأملها
الفطن عرف ما فيها ،كالمر بالدعاء إثر الصلة قرآنا وسنة ،وهو ـ كما تقدم ـ ل دليل فيه ،
ث ضم ذلك جواز الدعاء بيئة الجتماع ف الملة إل ف أدبار الصلوات ول دليل فيه أيضا ـ كما
تقدم ـ لختلف التأصلي .
وأما ف التفصيل فزعم أنه ما زال معمولً به ف جيع أقطار الرض أوف جلها من الئمة ف مساجد
الماعات من غي نكي إل نكي أب عبد ال ،ث أخذ ف ذمه وهذا النقل تور بل شك ،لنه نقل
إجاع يب على الناظر فيه والحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بث أصل عن الجاع ،لنه
ل بد من النقل عن جيع الجتهدين من هذه المة من أول زمان الصحابة رضي ال عنهم إل الن ،
هذا أمر مقطوع به .ول خلف أنه ل اعتبار بإجاع العوام وإن ادعوا المامة .
وقوله :من غي نكي توز ،بل ما زال النكار عليهم من الئمة فقد نقل الطرطوشي عن مالك ف
ذلك أشياء تدم السألة فحصل إنكار مالك لا ف زمانه ،وإنكار المام الطرطوشي ف زمانه ،واتبع
هذا أصحابه وهذا أصحابه ،ث القراف قد عد ذلك من البدع الكروهة على مذهب مالك ،وسلمه
ول ينكره عليه أهل زمانه ـ فيما نعلمه ـ مع وعمه أن من البدع ما هو حسن .
186
الشاطبي كتاب العتصام
ث الشيوخ الذين كانوا بالندلس حي جخلتها هذه البدعة ـ حسبما يذكر بول ال ـ وقد
أنكروها ،وكان من معتقدهم ف ذلك أنه مذهب مالك .وكان الزاهد أبو عبد ال بن ماهد
وتلميذه أبوعمران اليتلي رحهما ال ملتزمي لتركها ،حت اتفق للشيخ أب عبد ال ف ذلك ما
سنذكره إن شاء ال .
قال بعض شيوخنا رادا على بعض من نصر هذا العمل :فإنا قد شاهدنا العمل من الئمة الفقهاء
الصلحاء التبعي للسنة التحفظي بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ،ول نر من ترك ذلك إل
من شذ ف احواله ـ فقال ـ وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا ل يزل الناس يفعلونه فلم يأت
بشيء ،لن الناس الذين يقتدى بم ثبت أنم ل يكونوا يفعلونه .قال ولا كانت البدع والخالفات
وتواطؤ الناس عليها صار الاهل يقول :لو كان هذا منكرا لا فعله الناس .ث حكى أثر الوطأ :ما
أعرف شيئا ما أدركت عليه الناس إل النداء بالصلة ـ قال :فإذا كان هذا ف عهد التابعي يقول
:كثرت الحداثات فكيف بزماننا ؟ ث هذا الجاع لو ثبت لزم منه مظور ،لنه مالف لا نقل عن
الولي من تركه ،فصار نسخ إجاع بإجاع ،وهذا مال ف الصول .
وأيضا فل تكون مالفة التأخرين لجاع التقدمي على سنة حجة على تلك السنة أبدا ،فما أشبه
هذه السألة با حكى عن أب علي بشاذان بسند يرفعه إل أب عبد ال بن إسحاق العفري ،قال :
كان عبد ال بن السن ـ يعن ابن السن بن علي بن أب طالب رضي ال عنهم ـ يكثر اللوس
إل ربيعة ،فتذكروا يوما فقال رجل كان ف الجلس :ليس العمل على هذا فقالعبد ال أرأيت إن
كثر الهال حت يكونوا هم الكام أفهم الجة على السنة ؟ فقال ربيعة :أشهد أن هذا كلم أبناء
النبياء انتهى .إل أن أقول :أرأيت إن كثر القلدون ث أحدثوا بآرائهم فحكموا با ،أفهم الجة
على السنة ول كرامة ؟ .
ث عضد ما ادعاه بأشياء من جلتها قوله .ومن أمثال الناس :أخطىء مع الناس ول تصب وحدك
أي أن خطأهم هم الصواب ،وصوابك هو الطأ .قال ،ومعن ما جاء ف حديث :
"عليك بالماعة فإنا يأكل الذئب من الغنم القاصية" .فجعل تارك الدعاء على الكيفية الذكورة
مالفا للجاع ـ كما ـ ترى ـ وحض على اتباع الناس وترك الخالفة لقوله عليه الصلة والسلم
:
"ل تتلفوا فتختلف قلوبكم" ،وكل ذلك مبن على الجاع الذي ذكروا ،وأن الماعة هم جاعة
الناس كيف كانوا .وسيأت معن الماعة الذكورة ف حديث الفرق ،وأنا التبعة للسنة وإن كانت
ل واحدا ف العال .
رج ً
قال بعض النابلة :ل تعبأ با يعرض من السائل ويدعي فيها الصحة بجرد التهويل أو بدعوي أن
ل خلف ف ذلك :وقال ذلك ل يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلً عن نفي اللف فيها ،ليس
187
الشاطبي كتاب العتصام
الكم فيها من الليات الت ل يقدر الخالف ،قال :وف مثل هذه السائل قال المام أحد بن حنبل
:من ادعى الجاع فهو كاذب وإنا هذه دعوى كثي ،وابن عليه يريدون أن يبطلوا السنن بذلك .
يعن أحد أن التكلمي ف الفقه على أهل البدع إذا ناظرتم بالسنن والثار قالوا :هذا خلف
الجاع .وذلك القول الذي يالف ذلك الديث ل يفظونه إل عن بعض فقهاء الدينة أو فقهاء
الكوفة ـ مثلً ـ فيدعون الجاع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالراء
،حت كان بعضهم يسرد عليه الحاديث الصحيحة ف خيار الجلس ونوه من الحكام فل يد لا
معتصما إل أن يقول :هذا ل يقل به أحد من العلماء ،وهو ل يعرف إل أبا حنيفة أو مالكا ،ل
يقولوا بذلك ،ولو له علم لرأي من الصحابة والتابعي وتابعيهم من قال بذلك خلقا كثيا .
ففي هذا الكلم إرشاد لعن ما نن فيه ،وأنه ل ينبغي أن ينقل حكم شرعي عن أحد من أهل العلم
إل بعد تققه والتثبت ،لنه مب عن حكم ال ،فإياكم والتساهل فإنه مظنة الروج عن الطريق
الواضح إل السيئات .
ث عد من الفاسد ف مالفة المهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل ،وهذا دعوى من خالفه فيما قال
،وعلى تسليمها ،فليست بفسدة على فرض اتباع السنة ،وقد جاء عن السلف الض على العمل
بالق ،وعدم الستيحاش من قلة أهله .
وأيضا فمن شنع على البتدع بلفظ البتداع فاطلق العبارة بالنسبة إل الجتمعي يوم عرفة بعد العصر
للدعاء ف غي عرفة ـ إل نظائرها ـ فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إل بشر الريسي ومعبد الهن
وفلن ،ول يدخل بذلك ـ إن شاء ال ـ ف حديث :
"من قال :هلك الناس .فهو أهلكهم" لن الراد أن يقول ذلك ترفعا على الناس واستحقارا ،وأما
إن قاله تزنا وتسرا فل بأس .قال بعضهم :ونن نرجو أن نعرج على ذلك ـ إن شاء ال ـ
فالستدلل به ليس على وجهه .
وعد من الفاسد الوف من فساد نيته با يدخل عليه من العجب والشهرة النهي عنها ،فكأنه يقول
:اترك اتباع السنة ف زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب .وهذا شديد من القول وهو
معارض بثله ،فإن انتصابه لن يكون داعيا للناس بأثر صلواتم دائما مظنة لفساد نيته با يدخل عليه
من العجب والشهرة ،وهو تعليل القراف ،وهو أول ف طريق التباع ،فصار تركه للدعاء لم
مقرونا بالقتداء بلف الداعي فإنه ف غي طريق من تقدم فهو أقرب إل فساد النية .
وعد منها ما يظن به من القول برأي أهل البدع القائلي بأن الدعاء غي نافع ،وهذا كالذي قبله ،
لنه يقول للناس :اتركوا اتباع النب صلى ال عليه وسلم ف ترك الدعاء بيئة الجتماع بعد
الصلوات لئل يظن بكم البتداع .وهذا كما ترى .
188
الشاطبي كتاب العتصام
قال ابن العرب :ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه ،
وهو مذهب مالك و الشافعي ،وتفعله الشيعة ـ قال ـ فحضر عندي يوما ف مرس أب الشعراء
بالثغر موضع تدريس عند صلة الظهر .ودخل السجد من الحرس الذكور ،فتقدم إل الصف
الول وأنا ف مؤخرة قاعدا على طاقات البحر ،أتنسم الريح من شدة الر ،ومعي ف صف واحد
أو ثنة رئيس البحر وقائده ف نفر من أصحابه ينتظر الصلة .ويتطلع على مراكب النار ،فلما رفع
الشيخ الفهري يديه ف الركوع وف رفع الرأس منه .قال .قال أبو ثنة وأصحابه :أل ترى إل هذا
الشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ قوموا إليه فاقتلوه وارموا به ف البحر فل يراكم أحد ،فطار قلب من
بي جواني ؟ وقلت :سبحان ال ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت ،فقالوا ل :ول يرفع يديه ؟ فقلت
:كذلك كان النب صلى ال عليه وسلم يفعل ،وهو مذهب مالك ف رواية أهل الدينة عنه ،
وجعلت أسكنهم وأسكنهم حت فرغ من صلته ،وقمت معه إل السكن من الحرس ،ورأى تغي
وجهي فأنكر ،وسألن فأعلمته فضحك ،وقال :من أين ل أن أقتل على سنة ؟ فقلت له :ويل
لك هذا ،فإنك بي قوم إن قمت با قاموا عليك ،وربا ذهب دمك .فقال :دع هذا الكلم وخذ
ف غيه .
فتأملوا ف هذه القصة ففيها الشفاء .إذ ل مفسدة ف الدنيا توازي مفسدة إماتة السنة ،وقد حصلت
النسبة إل البدعة ،ولكن الطرطوسي رحه ال ل ير ذلك شيئا فكلمه للتباع أول من كلم هذا
الراد ،إذ بينهما ف العلم ما بينهما .
وأيضا فلو اعتب ما قال لزم اعتباره بثله ف كل من أنكر الدعاء بيئة الجتماع يوم عرفة ف غي عرفة
،ومنهم نافع مول ابن عمر و مالك و الليث وغيهم من السلف ،ولا كان ذلك غي لزم
فمسألتنا كذلك .
ث ختم هذا الستدلل الجاعي بقوله :وقد اجتمع أئمة السلم ف مساجد الماعات ف هذه
العصار ف جيع القطار على الدعاء أدبار الصلة :فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجاعية
عصرية .
فإن أراد الدعاء على هيئة الجتماع دائما ل يترك كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا الفروضة ـ
فقد تقدم ما فيه .
189
الشاطبي كتاب العتصام
يعملوا به ،فالترك ليس بوجب لكم ف التروك إل جواز الترك وانتفاء الرج خاصة ،ل تري ول
كراهية .
وجيع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصا ف العبادات ـ الت هي مسألتنا ـ إذ ليس لحد
من خلق ال أن يترع ف الشريعة من رأيه أمرا ليوجد عليه منها دليل ،لنه عي البدعة ،وهذا
كذلك ،إذ ل دليل فيها على اتاذ الدعاء جهرا للحاضرين ف آثار الصلوات دائما ،على حد ما
تقام ،بيث يعد الارج عنه خارجا عن جاعة أهل السلم متحيزا ومتميزا إل سائر ما ذكر ،
وكل ما ل يد ل عليه دليل فهو البدعة .
وعلى هذا فإن ذلك الكلم يوهم أن اتباع التأخرين القلدين خي من اتباع الصالي من السلف ،
ولو كان ف أحد جائزين ،فكيف إذا كان أمرين أحدها متيقن أنه صحيح والخر مشكوك فيه ؟
فيتبع الشكوك ف صحته ،ويترك ما ل مرية ف صحته ،ولو لعا من يتبعه .
ث إطلقه بأن الترك ل يوجب حكما ف التروك إل جواز الترك ،غي جار على أًول الشرع الثابتة .
فنقول إن هنا أصلً لذه السألة لعل ال ينفع به من أنصف ف نفسه ،وذلك أن سكوت الشارع عن
الكم ف مسألة أو تركه لمر ما على ضربي :
أحدها :أن يسكت عنه أو يتركه لنه ل داعية له تقتضيه ،ول موجب يقرر لجله ،ول وقع
سبب تقريره .كالنوازل الادثة بعد وفاة النب صلى ال عليه وسلم فإنا ل تكن موجودة ث سكت
عنها مع وجودها ،وإنا حدثت بعد ذلك ،فاحتاج أهل الشريعة إل النظر فيها وإجرائها على ما
تبي ف الكليات الت كمل با الدين ،وإل هذا الضرب يرجع جيع ما نظر فيه السلف الصال ما ل
يسنه رسول ال صلى ال عليه وسلم على الصوص ما هو معقول العن ،كتضمي الصناع ،
ومسألة الرام والد مع الخوة ،وعول الفرائض .ومنه الصحف ث تدوين الشرائع ،وما أشبه
ذلك ما ل يتج ف زمانه عليه السلم إل تقريره للتقدي كلياته الت تستنبط با منها ،وإذا ل تقع
أسباب الكم فيها ول الفتوى با منه عليه الصلة والسلم ،فلم يذكر لا حكم مصوص .
فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فل بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات ،أو
من العبادات الت ل يكن القتصار فيها على ما سع ،كمسائل السهو والنسيان ف إجراء العبادات .
ول إشكال ف هذا الضرب ،لن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الحكام ل تكن ف زمان
الوحي ،فالسكوت عنها على الصوص ليس بكم يقتضي جواز الترك أو غي ذلك ،بل إذا
عرضت النوازل روجع با أصولا فوجدت فيها ول يدها من ليس بجتهد ،وإنا يدها الجتهدون
الوصوفون ف علم أصول الفقه .
والضرب الثان :أن يسكت الشارع عن الكم الاص أو يترك أمرا ما من المور ،وموجبه
القتضى له قائم ،وسببه ف زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إل أنه ل يدد فيه أمر زائد على
190
الشاطبي كتاب العتصام
ما كان من الكم العام ف أمثاله ول ينقص منه ،لنه لا كان العن الوجب لشرعية الكم العقلي
الاص موجودا ،ث ل يشرع ول نبه على السبطا كان صرياف أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة
زائدة ومالفة لقصد الشارع ،إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك ل الزيادة عليه ول
النقصان منه .
ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس ف ساع أشهب و ابن نافع هو غاية فيما نن فيه ،وذلك
أن مذهبه ف سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بشروع ،وعليه بن كلمه .قال ف العتبية :وسئل
مالك عن الرجل يأتيه المر يبه فيسجد ل عز وجل شكرا ؟ فقال ل يفعل هذا ما مضى من أمر
الناس .قيل له :إن أبا بكر الصديق رضي ال عنه ـ فيما يذكرونه ـ سجد يوم اليمامة شكرا ل .
أفسمعت ذلك قال :ما سعت ذلك وأنا أرى أنم قد كذبوا على أب بكر .وهذا من الضلل أن
يسمع الرء الشيء فيقول :هذا ل تسمعه من .قد فتح ال على رسول ال صلى ال عليه وسلم
وعلى السلمي بعده .أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذ ما قد كان ف الناس وجرى على
أيديهم سع عنهم فيه شيء ،فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر ،لنه من أمر الناس الذي قد كان
فيهم ،فهل سعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجاع .وإذا جاءك أمر ل تعرفه فدعه ـ تام الرواية
ـ وقد احتوت على فرض سؤال والواب با تقدم .
ل ـ إنا فعل سكت الشارع عن حكمه ف الفعل والترك ، وتقرير السؤال أن يقال ف البدعة ـ مث ً
فلم يكم عليه بكم على الصوص ،فالصل جواز فعله ،كما أن الصل جواز تركه ،إذ هو معن
الائز ،فإن كان له أصل جلي فأحرى أن يوز فعله حت يقوم الدليل على منعه أو كراهته ،وإذا
كان كذلك ،فليس هنا مالفة لقصد الشارع ،ول ث دليل خالفه هذا النظر ،بل حقيقة ما نن فيه
أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع ،والسكوت عند الشارع ل يقتضي مالفة ول موافقة ،ول يعي
الشارع قصدا ما دون ضده وخلفه ،وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بخالف إذ ل يثبت ف الشريعة
ني عنه .
وتقرير الواب :معن ما ذكره مالك رحه ال ،وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا
وجد العن القتضى له إجاع من كل ساكت على أن ل زائد على ما كان .إذ لو كان ذلك لئقا
شرعا أو سائغا لفعلوه ،فهم كانوا أحق بإداركه والسبق إل العمل به وذلك إذا نظرنا إل الصلحة
فإنه ل يلو إما أن يكون ف هذه الحداث مصلحة أو ل ،والثان ل يقول به أحد .والول إما أن
تكون تلك الصلحة الادثة آكد من الصلحة الوجودة ف زمان التكليف أو ل .ول يكن أن يكون
مع كون الحدثة زيادة تكليف ،ونقصه عن الكلف أحرى بالزمنة التأخرة لا يعلم من قصور المم
واستيلء الكسل ،ولنه خلف بعث النب صلى ال عليه وسلم بالنفية السمحة ،ورفع الرج عن
المة وذلك ف تكليف العبادات ،لن العادات أمر آخر ـ كما سيأت ـ وقد مر شيء منه فلم يبق
191
الشاطبي كتاب العتصام
إل أن تكون الصلحة الظاهرة الن مساوية للمصلحة الوجودة ف زمان التشريع أو أضعف منها .
وعند ذلك تصي الحداث عيثا أو استدراكا على الشارع ،لن تلك الصلحة الوجودة ف زمان
التشريع إن حصلت للولي من غي هذا الحداث فهي إذا عبث إذ ل يصح أن يصل للولي دون
الخرين ،فقد صارت هذه الزيادة تشريعأً بعد الشارع إل بسبب الخرين ما فات الولي فلم يكمل
الدين إذا دونا ،ومعاذ ال من هذا الأخذ .
وقد ظهر من العادات الارية فيما نن فيه أن ترك الولي لمر ما من غي أن يعينوا فيه وجها مع
احتماله ف الدلة الملية ووجود الظنة دليل على أن ذلك المر ل يعمل به ،وأنه إجاع منهم على
تركه .
قال ابن رشد ف شرح مسألة العتبية :الوجه ف ذلك أنه ل يرد ما شرع ف الدين ـ يعن سجود
ل ،إذ ل يأمر بذلك النب صلى ال عليه وسلم ول فعله ،ول أجع السلمون الشكر ـ فرضا ول نف ً
على اختيار فعله ،والشرائع ل تثبت إل من أحج هذه المور .قال :واستدلله على أن رسول ال
صلى ال عليه وسلم ل يفعل ذلك ول السلمون بعده ،بأن ذلك لو كان لنقل صحيح ،إذ يصح أن
تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ،وقد أمر بالتبليغ .قال :وهذا أصل من
الصول وعليه يأت إسقاط الزكاة من الضر والبقول مع وجود الزكاة فيها ،لعموم قول النب صلى
ال عليه وسلم :
"فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ،وفيما سقي بالنضح نصف العشر" ،لنا نزلنا ترك نقل
أخذ النب صلى ال عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة ف أن ل زكاة فيها .فكذلك نزل ترك
نقل السجود عن النب صلى ال عليه وسلم ف الشكر كالسنة القائمة ف أن ل سجود فيها .ث حكي
خلف الشافعي والكلم عليه ،والقصود من السألة توجيه مالك لا من حيث إنا بدعة ،ول توجيه
أنا بدعة على الطلق .
وعلى هذا النحو جرى بعضهم ف تري نكاح الحلل ،وأنه بدعة منكرة فمن حيث وجد ف زمانه
عليه السلم العن القتضي للتخفيف والترخيص للزوجي بإجازة التحليل ليتراجعا كما كان أول مرة
،وأنه لا ل يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بشروع
لا ول لغيها .وهو أصل صحيح إذا اعتب وضح به ما نن بصدده لن التزام الدعاء بآثار الصلوات
جهرا للحاضرين ف مساجد الماعات لو كان صحيحا شرعا أو جائزا لكان النب صلى ال عليه
وسلم أول بذلك أن يفعله .
وقد علل النكر هذا الوضع بعلل تقتضي الشروعية ،وبن على فرض أنه ل يأت ما يالفه وأن
الصل الواز ف كل مسكوت عنه .
192
الشاطبي كتاب العتصام
أما أن الصل الواز فيمتنع ،لن طائفة من العلماء يذهبون إل أن الشياء قبل وجود الشرع على
النع دون الباحة ،فما الدليل على ما قال من الواز ؟ وإن سلمنا له من قال :فهل هو على
الطلق أم ل ؟ أما ف العاديات فمسلم ،ول نسلم أن ما نن فيه من العاديات بل من العبادات ،
ول يصح أن يقال فيما فيه تعبد :إنه متلف فيه على قولي هل هو على النع ؟ أم هو على الباحة ؟
لـ بل هو أمر زائد على النع .لن التعبدبات إنا وضعها للشارع فل يقال ف صلة سادسة ـ مث ً
إنا على الباحة ،فللمكلف وضعها ـ على أحد القولي ليتعبد با ل .لنه باطل بإطلق ،وهو
اصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع .ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل
معناه ،فل يصح العمل به أيضا لن ترك العمل به من النب صلى ال عليه وسلم ف جيع عمره ،
وترك السلف الصال له على توال أزمنتهم قد تقدم أنه نص ف الترك وإجاع من كل من ترك ،لن
عمل الجاع كنصه ،كما أشار مالك ف كلمه .
وأيضا فيما يعلل له ل يصح التعليل به ،وقد أتى الراد بأوجه منه :
أحدها :أن الدعاء بتلك اليئة ليظهر وجه التشريع ف الدعاء .وأنه بآثار الصلوات مطلوب .وما
قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والظهار ف الماعات والساجد وليس بسنة اتفاقا منا ومنه
،فانقلب إذا وجه التشريع .
وأيضا فإن إظهار التشريع كان ف زمان النب صلى ال عليه وسلم أول ،فكانت تلك الكيفية التكلم
فيها أول للظهار ،ولا ل يفعله عليه الصلة والسلم دل على ترك مع وجود العن القتضي ،فل
يكن بعد زمانه ف تلك الكيفية إل الترك .
والثان :أن المام يمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إل الجابة .وهذه العلة كانت ف
زمانه عليه الصلة والسلم ،لنه ل يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه ،إذ كان ماب الدعوة بل
إشكال ،بلف غيه ،وإن عظم قدره ف الدين فل يبلغ رتبته ،فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء
لم خس مرات ف اليوم والليلة زيادة إل دعائهم لنفسهم .
وأيضا فإن قصد الجتماع على الدعاء ل يكون بعد زمانه أبلغ ف البكطة من اجتماع يكون فيه سيد
الرسلي صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،فكانوا بالتنبيه لذه النقبة أول .
والثالث :قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لنفسهم لئل يدعوا با ل يوز عقلً
أو شرعا ،وهذا التعليل ل ينهض فإن النب صلى ال عليه وسلم كان العلم الول ،ومنه تلقينا ألفاظ
الدعية ومعانيها ،وقد كان من العرب من يهل قدر الربوبية فيقول :
رب العباد ما لنا وما لك أنزل علينا الغيث ل أبا لك
وقال الخر :
ول تغيك المور بعدي ل هم إن كنت الذي بعهدي
193
الشاطبي كتاب العتصام
194
الشاطبي كتاب العتصام
ث استدل الستنصر بالقياس فقال :وإن صح أن السلف ل يعملوا به فقد عمل السلف با ل يعمل به
من قبلهم ما هو خي ـ ث قال بعد ـ قد قال عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه :تدث للناس
أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تدث لم مرغبات ف الي بقدر ما أحدثوا من الفتور .
وهذا الستدلل غي جار على الصول :
أما أولً :فإنه ف مقابلة النص ،وهو ما أشار إليه مالك ف مسألة العتبية ،فذلك من باب فساد
العتبار .
وأما ثانيا :فإنه قياس على نص ل يثبت بعد من طريق مرضي ،وهذا ليس كذلك .
وأما ثالثا :فإن كلم عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل متهد يكن أن يطىء فيه
كما يكن أن يصيب ،وإنا حقيقة الصل أن يأت عن النب صلى ال عليه وسلم أو عن أهل الجاع
،وهذا ليس عن واحد منهما .
وأما رابعا :فإنه قياس بغي معن جامع أو بعن جامع غي طردي ،ولكن الكلم فيه سيأت ـ إن
شاء ال ـ ف الفرق بي الصال الرسلة والبدع .
وقوله :إن السلف عملوا با ل يعمل به من قبلهم حاش ل أن يكونوا من يدخل تت هذه الترجة
.
وقوله :ما هو خي أما بالنسبة إل السلف فما عملوا خي ،وأما فرعه القيس فكونه خيا دعوى ،
لن كون الشيء خيا أو شرا ل يثبت إل بالشرع ،أو لن الدعاء على تلك اليئة خي شرعا .
وأما قياسه على قوله :تدث للناس أقضية فمما تقدم يعلم بطلنه وفيه أمر آخر ،وهو التصريح
بأن إحداث العبادات جائز قياسا على قول عمر ،وإنا كلم عمر بعد تسليم القياس عليه ف معن
عادي يتلف فيه مناط الكم الثابت فيما تقدم ،كتضمي الصناع ،أو الظنة ف توجيه اليان ،
دون مرد الدعاوى ،فيقول
إن الولي توجهت عليهم بعض الحكام لصحة المانة والديانة والفضيلة ،فلما حدثت أضدادها
اختلف الناط فوجب اختلف الكم ،وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم ،فأثر هذا العن
ظاهر مناسب بلف ما نن فيه ،فإنه على الضد من ذلك ،أل ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور
عن الفرائض فضلً عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ فما ظنك بم إذا زيد عليهم
أشياء أخرى يرغبون فيها ،ويضون على استعمالا ،فل شك أن الوطائف تتكاثر حت يؤدي إل
أعظم من الكسل الول ،وإل ترك الميع ،فإن حدث للعامل بالبدعة هو ف بدعته ،أو لن شايعه
فيها .فل بد من كسله ما هو أول .
فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلة الحدثة ل يأتيه الصبح إل وهو نائم أو ف
غاية الكسل فيخل بصلة الصبح ،وكذلك سائر الحدثات فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو
195
الشاطبي كتاب العتصام
أول منها بالبطال أو الخلل ،وقد مر أن ما من بدعة تدث إل ويوت من السنة ما هو خي منها
.
وأيضا ،فإن هذا القياس مالف لصل شرعي ،وهو طلب النب صلى ال عليه وسلم السهولة والرفق
والتيسي وعدم التشديد ،وزيادة وظيفة ل تشرع فتظهر ويعمل با دائما ف مواطن السنن ،فهو
تشديد بل شك ،وإن سلمنا ما قال ،فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إل إحداث البدع ،
وأخذ هذا الكلم بيده حجة وبرهانا على صحة ما يدثه كائنا ما كان ،وهو مرمى بعيد .
فصل ويكن أن يدخل ف البدع الضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبي أهو بدعة
ويكن أن يدخل ف البدع الضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبي أهو بدعة فينهى عنه ؟ أم غي بدعة
فيعمل به ؟ فإنا إذا اعتبناه بالحكام الشرعية وجدناه من الشتبهات الت قد ندبنا إل تركها حذرا
من الوقوع ف الحظور .والحظور هنا هو العمل بالبدعة ،فإذا العامل به ل يقطع أنه عمل ببدعة ،
196
الشاطبي كتاب العتصام
كما أنه ل يقطع أنه عمل بسنة ،فصار من جهة هذا التردد غي عامل ببدعة حقيقية ،ول يقال أيضا
:إنه خارج عن العمل با جلة .
وبيان ذلك أن النهي الوارد ف الشتبهات إنا هو حاية أن يقع ف ذلك المنوع الواقع فيه الشتباه ،
ل للميتة ف الشتباهفإذا اختلطت اليتة بالذكية نيناه عن القدام ،فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آك ً
،فالنهي الخف إذا منصرف نو اليتة ف الشتباه ،كما انصرف إليها النهي الشد ف التحقق .
وكذلك اختلط الرضيعة بالجنبية :النهي ف الشتباه منصرف إل الرضيعة كما انصرف إليها ف
التحقق ،وكذلك سائر الشتبهات إنا ينصرف ني القدام على الشتبه إل خصوص المنوع
الشتبه ،فإذا الفعل الدائر بي كونه سنة أو بدعة إذا ني عنه ف باب الشتباه ني عن البدعة ف
الملة ،فمن أقدم على منهي عنه ف باب البدعة لنه متمل أن يكون بدعة ف نفس المر ،فصار
من هذا الوجه كالعامل بالبدعة النهي عنها ،وقد مر أن البدعة الضافية هي الواقعة ذات وجهي ،
فلذلك قيل :إن هذا القسم من قبيل البدع الضافية ،ولذا النوع أمثلة :
أحدها :إذا تعارضت الدلة على الجتهد ف أن العمل الفلن مشروع يتعبد به ،أو غي مشروع
فل يتعبد به ،ول يتبي جع بي الدليلي ،أو إسقاط أحدها بنسخ أو ترجيح أو غيها ،فقد ثبت
ف الصول أن فرضه التوقف ،فلو عمل بقتضى دليل التشريع من غي مرجح لكان عاملً بتشابه ،
لمكان صحة الدليل بعدم الشروعية ،فالصواب الوقوف عن الكم رأسا ،وهو الفرض ف حقه .
والثان :إذا تعارضت القوال على القلد ف السألة بعينها ،فقال بعض العلماء :يكون العمل بدعة ،
وقال بعضهم :ليس ببدعة ،ول يتبي له الرجح من العالي بأعلمية أو غيها ،فحقه الوقوف
والسؤال عنهما حت يتبي له الرجح فيميل إل تقليده دون الخر ،فإن أقدم على تقليد أحدها من
غي مرجح كان حكمه حكم الجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلي من غي ترجيح ،فالثالن ف
العن واحد .
والثالث :أنه ثبت ف الصحاح عن الصحابة رضي ال عنهم كانوا يتبكون بأشياء من رسول ال
صلى ال عليه وسلم ،ففي البخاري عن "أب جحيفة رضي ال عنه قال :
خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالاجرة فأت بوضوء فتوضأ ،فجعل الناس يأخذون من
فضل وضوئه فيتمسحون به " الديث ،وفيه :كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه .
وعن السور رضي ال عنه ف حديث الديبية " :وما انتخم النب صلى ال عليه وسلم نامة إل
وقعت ف كف رجل منهم فدلك با وجهه وجلده" ،وخرج غيه من ذلك كثيا ف التبك بشعره
وثوبه وغيها ،حت أنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلم حت
مات .
197
الشاطبي كتاب العتصام
وبالغ بعضهم ف ذلك حت شرب دم حجامته إل أشياء كهذا كثية ،فالظاهر ف مثل هذا النوع أن
يكون مشروعا ف حق وليته واتباعه لسنة رسول ال صلىال عليه وسلم ،وأن يتبك بفضل وضوئه
،ويتدلك بنخامته ،ويستشفى بآثاره كلها ،ويرجى نو ما كان ف آثار التبوع الصل صلى ال
عليه وسلم .
إل أنه عارضنا ف ذلك أصل مقطوع به ف متنه ،مشكل ف تنيله ،وهو أن الصحابة رضي ال
عنهم بعد موته عليه السلم ل يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إل من خلفه ،إذ ل يترك
النب صلى ال عليه وسلم بعده ف المة أفضل من أب بكر الصديق رضي ال عنه ،فهو كان
خليفته ،ول يفعل به شيء من ذلك ول عمر رضي ال عنهما ،وهو كان ف المة ،ث كذلك
عثمان ث علي ث سائر الصحابة الذين ل أحد أفضل منهم ف المة ،ث ل يثبت لواحد منهم من
طريق صحيح معروف أن متبكا تبك به على أحد تلك الوجوه أو نوها ،بل اقتصروا فيهم على
القتداء بالفعال والقوال والسي الت اتبعوا فيها النب صلى ال عليه وسلم ،فهو إذا إجاع منهم
على ترك تلك الشياء .
أحدها :أن يعتقدوا فيه الختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا
من البكة والي ،لنه عليه السلم كان نورا كله ف ظاهره وباطنه ،فمن التمس منه نورا وجده
على أي جهة التمسه ،بلف غيه من المة ـ وإن حصل له من نور القتداء به والهتداء بديه ما
شاء ال ـ ل يبلغ مبلغه على حال توازيه ف مرتبته ،ول تقاربه فصار هذا النوع متصا به
كاختصاصه بنكاح ما زاد على الربع ،وإحلل بضع الواهبة نفسها له ،وعدم وجوب القسم عليه
للزوجات وشبه ذلك ،فعلى هذا الأخذ :ل يصح لن بعده القتداء به ف التبك على أحد تلك
الوجوه ونوها ،ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة ،كما كان القتداء به ف الزيادة على أربع نسوة
بدعة .
الثان :أن ل يعتقدوا الختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يعل ذلك سنة
ـ كما تقدم ذكره ف اتباع الثار ـ والنهي عن ذلك ،أو لن العامة ل تقتصر ف ذلك على حد ،
بل تتجاوز فيه الدود ،وتبالغ بهلها ف التماس البكة ،حت يداخلها للمتبك به تعظيم يرج به
عن الد فربا اعتقد فيالتبك به ما ليس فيه ،وهذا التبك هو أصل العبادة ،ولجله قطع عمر رضي
ال عنه الشجرة الت بويع تتها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،بل هو كان أصل عبادة الوثان ف
المم الالية ـ حسبما ذكره أهل السي ـ فخاف عمر رضي ال عنه أن يتمادى الال ف الصلة
إل تلك الشجرة حت تعبد من دون ال ،فكذلك يتفق عند التوغل ف التعظيم .
ولقد حكى الفرغان مذيل تاريخ الطبي عن اللج أن أصحابه بالغوا ف التبك به حت كانوا
يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته ،حت ادعوا فيه اللية تعال ال عنا يقولون علوا كبيا .
198
الشاطبي كتاب العتصام
ولن الولية وإن ظهر لا ف الظاهر آثار فقد يفى أمرها ،لنا ف القيقة راجعة إل أمر باطن ل
يعلمه إل ال ،فربا ادعيت الولية لن ليس بول ،أو ادعاها هو لنفسه ،أو أظهر خارقة من خوارق
العادات هي من باب الشعوذة ل من باب الكرامة ،أو من باب السحر ،أو الواص أوغي ذلك ،
والمهور ل يعرف الفرق بي الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بن ل قدوة فيه
ـ وهو الضلل البعيد ـ إل غي ذلك من الفاسد ،وتركوا العمل با تقدم ـ وإن كان له أصل ـ
لا يلزم عليه من الفساد ف الدين .
وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثان أرجح ،لا ثبت ف الًصول العلمية أن كل قربة أعطيها
الن صلى ال عليه وسلم فإن لمته أنوذجا منها ،ما ل يدل دليل على الختصاص .
إل أن الوجه الول راجح من جهة أخرى ،وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع
لعمل بع بعضهم بعده ،أو عملوا به ولو ف بعض الحوال إما وقوفا مع أصل الشروعية ،وإما بناء
على اعتقاد انتقاء العلة الوجبة للمتناع .
وقد خرج ابن وهب ف جامعه من حديث يونس ين يزيد ،عن ابن شهاب قال :
حدثن رجل من النصار :
"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من السلمي وضوءه
ونامته فشربوه ومسحوا به جلودهم ،فلما رآهم يصنعون ذلك سألم :ل تفعلون هذا ؟ قالوا :
نلتمس الطهور والبكة بذلك .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :من كان منكم يب ال
ورسوله فليصدق الديث ،وليؤد المانة ول يؤذ جاره" فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الول
تركه وأن يتحرى ما هو آكد والحرى من وظائف التكليف ،ول يلزم النسان ف خاصة نفسه ،
ول يثبت من ذلك كله إل ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها أو دعاء الرجل لغيه على وجه سيأت
بول ال .
فقد صارت السألة من أصلها دائرة بي أمرين :أن تكون مشروعة ،فدخلت تت حكم التشابه أو
تكون غي مشروعة وال أعلم .
فصل ومن البدع الضافية الت تقرب من القيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا
ومن البدع الضافية الت تقرب من القيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إل أنا ترج عن أصل
شرعيتها بغي دليل توها أنا باقية على أصلها تت مقتضى الدليل ،وذلك بأن يقيد إطلقها بالرأي ،
أو يطلق تقييدها ،وبالملة فتخرج عن حدها الذي حد لا .
ومثال ذلك أن يقال :إن الصوم ف الملة مندوب إليه ل يصه الشارع بوقت دون وقت ،ول حد
فيه زمانا دون زمان ،ما عدا ما ني عن صيامه على الصوص كالعيدين ،وندب إليه على
199
الشاطبي كتاب العتصام
الصوص كعرفة وعاشوراء بقول ،فإذا خص منه يوما من المعة بعينه ،أو أياما من الشهر بأعيانا
ـ ل من جهة ما عينه الشارع ـ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار الكلف ،كيوم الربعاء مثلً
ف المعة ،والسابع والثامن ف الشهر ،وما أشبه ذلك ،بيث ل يقصد بذلك وجها بعينه ما ل
ينثن عنه .فإذا قيل له :ل خصصت تلك اليام دون غيها ؟ ل يكن له بذلك حجة غي التصميم ،
أو يقول :إن الشيخ الفلن مات فيه أو ما أشبه ذلك ،فل شك أنه رأي مض بغي دليل ،ضاهى
به تصيص الشارع أياما بأعيانا دون غيها ،فصار التخصيص من الكلف بدعة ،إذ هي تشريع
بغي مستند .
ومن ذلك تصيص اليام الفاضلة بأنواع من العبادات الت ل تشرع لا تصيصا ،كتخصيص اليوم
بكذا وكذا من الركعات ،أو بصدقة كذا وكذا ،أو الليلة الفلنية بقيام كذا وكذا ركعة ،أو بتم
القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا ل يكن بكم الوفاق أو بقصد يقصد
مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ،كان تشريعا زائدا .
ول حجة له ف أن يقول :إن هذا الزمان ثبت فضله على غيه فيحسن فيه إيقاع العبادات لنا نقول
:هذا السن هل ثبت له أصل أم ل ؟ فإن ثبت فهو مسألتنا كما ثبت الفضل ف قيام ليال رمضان ،
وصيام ثلثة أيام من كل شهر ،وصيام الثني والميس ،فإن ل يثبت فما مستندك فيه العقل ل
يسن ول يقبح ول شرع يستند إليه ؟ فلم يبق إل أنه ابتداع ف التخصيص ،كإحداث الطب
وتري ختم القرآن ف بعض ليال رمضان .
ومن ذلك التحدث مع العوام با ل تفهمه ول تعقل معناه ،فإنه من باب وضع الكمة غي
موضعها ،فسامعها إنا أن يفهمها على غي وجهها ـ وهو الغالب ـ وهو فتنة تؤدي إل التكذيب
بالق ،وإل العمل بالباطل .وإما ل يفهم منها شيئا وهو أسلم ،ولكن الحدث ل يعط الكمة
حقها من الصون ،بل صار التحدث با كالعابث بنعمة ال .
ث إن ألقاها لن ل يعقلها ف معرض النتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف با ل يطاق .وقد
جاء النهي عن ذلك .فخرج أبو داود حديثا عن النب صلى ال عليه وسلم :
"أنه نى عن الغلوطات " .قالوا :وهي صعاب السائل أو شرار السائل ،وف الترمذي ـ أو غيه
ل أتى النب صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ! أتيتك لتعلمن من غرائب العلم ، ـ "أن رج ً
فقال عليه السلم :ما صنعت ف رأس العلم ؟ قال :وما رأس العلم ؟ قال :هل عرفت الرب ؟ قال
:نعم .قال :فما صنعت ف حقه ؟ قال :ما شاء ال ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :اذهب
فأحكم ما هنالك ث تعال أعلمك من غرائب العلم" ،وهذا العن هو مقتضى الكمة ،ل تعلم
الغرائب إل يعد إحكام الصول ،وإل دخلت الفتنة ،وقد قالوا ف العال الربان :إنه الذي يرب
بصغار العلم قبل كباره .
200
الشاطبي كتاب العتصام
وهذه الملة شاهدها ف الديث الصحيح مشهور .وقد ترجم على ذلك البخاري فقال ( :باب
من رخص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن ل يفهموا ) ،ث أسند عن علي بن أب طالب رضي ال
عنه أنه قال :حدثوا الناس با يعرفون ،اتبون أن يكذب ال ورسوله ؟ ث ذكر حديث معاذ الذي
أخب به عند موته تأثيما ،وإنا ل يذكره إل عند موته لن النب صلى ال عليه وسلم ل يأذن له ف
ذلك لا خشي من تنيله غي منلته ،وعلمه معاذا لنه من أهله .
وف مسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه قال :
ما أنت بحدث قوما حديثا ل تبلغه عقولم إل كان لبعضهم فتنة :قال ابن وهب :وذلك أن
يتأولوه غي تأويله ويملوه على غي وجهه .
وخرج شعبة عن كثي بن مرة الضرمي أنه قال :إن عليك ف عملك حقا كما أن عليك ف مالك
حقا ،ل تدث بالعلم غي أهله فتجهل ،ول تنع العلم أهله فتأث ،ول تدث بالكمة عند
السفهاء فيكذبوك ،ول تدث بالباطل عند الكماء فيمقتوك .
وقد ذكر العلماء هذا العن ف كتبهم وبسطوه بسطا شافيا والمد ل .وإنا نبهنا عليه لن كثيا
من ل يقدر قدر هذا الوضع يزل فيه فيحدث الناس با ل تبلغه عقولم ،وهو على خلف الشرع ،
وما كان عليه سلف هذه المة .
ومن ذلك أيضا جيع ما تقدم ف فضل السنة ،الت يكون العمل با ذريعة إل البدعة ،من حيث إنا
عمل با ول يعمل با سلف هذه المة .
ومنه تكرار السورة الواحدة ف التلوة أو ف الركعة الواحدة ،فإن التلوة ل تشرع على ذلك الوجه
ول أن يص من القرآن شيئا دون شيء ل ف صلة ول ف غيها ـ فصار الخصص لا عاملً برأيه
ف التعبد ل .
وخرج ابن وضاح عن مصعب قال :سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة " :قل هو ال أحد" ل يقرا
غيها كما يقرؤها ،فكرهه وقال :إنا أنتم متبعون فاتبعوا الولي ،ول يبلغنا عنهم نو هذا .وإنا
أنزل القرآن ليقرأ ول يص شيء دون شيء .
وخرج أيضا ـ وه ف العتبية من ساع ابن القاسم ـ عن مالك رحه ال أنه سئل على قراءة "قل هو
ال أحد" مرارا ف الركعة الواحدة فكره ذلك وقال :هذا من مدثات المور الت أحدثوا .
وممل هذا عند ابن رشد من باب الذريعة ،ولجل ذلك ل يأت مثله عن السلف .
وإن كانت تعدل ثلث القرآن ـ كما ف الصحيح ـ وهو صحيح فتأمله ف الشرح .
وف الديث أيضا ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل مدث ف مشروع الصل بناء على ما قاله ابن
رشد فيه .
201
الشاطبي كتاب العتصام
ومن ذلك قراءة القرآن بيئة الجتماع عشية عرفة ف السجد للدعاء تشبها بأهل عرفة ،ونقل الذان
يوم المعة من النار وجعله قدام المام .ففي ساع ابن القاسم وسئل عن القرى الت ل يكون فيها
إمام إذا صلى بم رجل منهم المعة :أيطب بم ؟ قال :نعم ! ل تكون المعة إل بطبة ،فقيل له
:أفيؤذن قدامه ؟ قال :ل ،واحتج على ذلك بفعل أهل الدينة .
قال ابن رشد :الذان بي يدي المام ف المعة مكروه لنه مدث .قال وأول من أحدثه هشام بن
عبد اللك ،وإنا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا زالت الشمس وخرج فرقى النب ،فإذا رآه
الؤذن ـ وكانوا ثلثة ـ قاموا فأذنوا ف الشرفة واحدا بعد واحد كما يؤذن ف غي المعة ،فإذا
فرغوا أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ف خطبته .ث تله أبو بكر وعمر رضي ال عنهما ،
فزاده عثمان رضي ال عنه لا كثر الناس أذانا بالزوراء عند زوال الشمس ،ويؤذن الناس فيه بذلك
أن الصلة قد حضرت ،وترك الذان ف الشرفة بعد جلوسه على النب على ما كان عليه ،فاستمر
المر على ذلك إل زمان هشام ،فنقل الذان الذي كان بالزوراء إل الشرفة ونقل الذان الذي كان
بالشرفة بي يديه ،وأمرهم أن يؤذنوا صفا .وتله على ذلك من بعده من اللفاء إل زماننا هذا .
قال ابن رشد :وهو بدعة .قال :والذي فعله رسول ال صلى ال عليه وسلم واللفاء الراشدون
بعده هو السنة .
وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه السلم وفعل اللفاء بعده كما ذكر ابن رشد وكأنه نقله من
كتابه ،وذكر قصة هشام .ث قال :والذي كان فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم هي السنة .
وثد حدثن أسد بن موسى ،عن يي بن سليم ،عن حعفر بن ممد بن جابر بن عبيد ال "أن
رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ف خطبته :أفضل الدي هدي ممد ،وشر المور مدثاتا ،
وكل بدعة ضللة" .
وما قاله ابن حبيب من أن الذان عند صعود المام على النب كان باقيا ف زمان عثمان رضي ال عنه
موافق لا نفله أرباب النقل الصحيح ،وأن عثمان ل يزد على ما كان قبله إل الذان على الزوراء ،
فصار إذا نقل هشام الذان الشروع ف النار إل ما بي يديه بدعة ف ذلك الشروع .
فإن قيل :فكذلك أذان الزوراء مدث أيضا ،بل هو مدث من أصله غي منقول من موضعه ،
فالذي يقال هنا يقال مثله ف أذان هشام ،بل هو أخف منه.
فالواب :أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله من العلم بوقت الصلة وجعله بذلك الوضع
لنه ل يكن ليسمع إذا وضع بالسجد كما كان ف زمان من قبله ،فصارت كائنة أخرى ل تكن
فيما تقدم ،فاجتهد لا كسائر مسائل الجتهاد ،وحي كان مقصودا الذان العلم فهو باق كما
كان ،فليس وضعه هنالك بناف ،إذ ل تترع فيه أقاويل مدثة ،ول ثبت أن الذان بالنار أ وف
سطح السجد تعبد غي معقول العن ،فهو اللئم من أقسام الناسب ،بلف نقله من النار إل ما
202
الشاطبي كتاب العتصام
بي يدي المام ،فإنه قد أخرج بذلك أولً عن أصله من العلم ،إذ ل يشرع لهل السجد إعلم
بالصلة إل بالقامة ،وأذان جع الصلتي موقوف على مله ،ث أذانم على صوت واحد زيادة ف
الكيفية .
ومن ذلك الذان والقامة ف العيدين ،فقد نقل ابن عبد الب اتفاق الفقهاء على أن ل أذان ول إقامة
فيهما ،ول ف شيء من الصلوات السنونات والنوافل ،وإنا الذان للمكتوبات ،وعلى هذا مضى
عمل اللفاء :أب بكر وعمر وعثمان وعلي ،وجاعة الصحابة رضي ال عنهم ،وعلماء التابعي ،
وفقهاء المصار ،وأول من أحدث الذان والقامة ف العيدين ـ فيما ذكر ابن حبيب ـ هشام بن
عبد اللك أراد أن يؤذن الناس بالذان بجيء المام ،ث بدا بالطبة قبل الصلة كما بدأ با مروان ،
ث أمر بالقامة بعد فراغه من الطبة ليؤذن الناس بفراغه من الطبة ودخوله ف الصلة لبعدهم عنه .
( قال ) :ول يرد مروان وهشام إل الجتهاد فيما رأيا ،إل أنه ل يوز اجتهاد ف خلف رسول ال
صلى ال عليه وسلم ( قال ) :وقد حدثن ابن الاجشون أنه سع مالكا يقول :من أحدث ف هذه
المة شيئا ل يكن عليه سلفها ،فقد زعم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ،لن ال
يقول " :اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمت ورضيت لكم السلم دينا" فما ل يكن
يومئذ دينا فل يكون اليوم دينا .
وقد روي أن الذي أحدث الذان معاوية ،وقيل :زياد ،وأن ابن الزبي فعله آخر إمارته ،والناس
على خلف هذا النقل .
ولقائل أن يقول :إن الذان هنا نظي أذان الزوراء لعثمان رضي ال عنه ،فما تقدم فيه من التوجيه
الجتهادي جار هنا ،ول يكون بسبب ذلك مالفا للسنة ،لن قصة هشام نازلة ل عهد با فيما
تقدم ،لن الذان إعلم بجيء المام لفاء ميئه عن الناس لبعدهم عنه ،ث القامة للعلم
بالصلة ،إذ لولها ل يعرفوا دخوله ف الصلة فصار ذلك أمرا ل بد منه كأذان الزوراء .
والواب :أن ميء المام ل يشرع فيه الذان وإن خفي على بعض الناس لبعده بكثرة الناس ،
فكذلك ل يشرع فيما بعد ،لن العلة كانت موجودة ث ل تشرع ،إذ ل يصح أن تكون العلة غي
مؤثرة ف زمان النب صلى ال عليه وسلم واللفاء بعده ث تصي مؤثرة ،وأيضا فإحداث الذان
والقامة انبن على إحداث تقدي الطبة على الصلة ،وما انبن على الحدث مدث ،ولنه لا ل
يشرع ف النوافل أذان ول اقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بي النفل والفرض لئل تكون
النوافل كالفرائض ف الدعاء إليها ،فكان إحداث الدعاء إل النوافل ل يصادف ملً ،وبذه الوجه
الثلثة يصل الفرق بي أذان الزوراء وبي ما نن فيه ،فل يصح أن يقاس أحدها على الخر ،
والمثلة ف هذا العن كثية .
203
الشاطبي كتاب العتصام
ومن نوادرها الت ل ينبغي أن تغفل ما جرى به عمل جلة من ينتمي إل طريقة الصوفية من تربصهم
ببعض العبادات أوقاتا مصوصة غي ما وقته الشرع فيها ،فيضعون نوعا من العبادات الشروعة ف
زمن الربيع ،ونوعا آخر ف زمن الصيف ،ونوعا آخر ف زمن الريف ،ونوعا آخر ف زمن الشتاء
.
وربا وضعوا لنواع من العبادات لباسا مصوصا ،وأشباه ذلك من الوضاع الفلسفية يضعونا
شرعية ،أي متقربا با إل الضرة اللية ف زعمهم ،وربا وضعوها على مقاصد غي شرعية ،
كأهل التصريف بالذكار والدعوات ليستجلبوا با الدنيا من الال والاه والظوة ورفعة النلة ،بل
ليقتلوا با إن شاؤوا أو يرضوا ،أو يتصرفوا وفق أغراضهم .فهذه كلها بدع مدثات بعضها أشد
من بعض ،لبعد هذه الغراض عن مقاصد الشريعة السلمية الوضوعة مبأة عن مقاصد
التخرصي ،مطهرة لن تسك با عن أوضار اتباع الوى ،إذ كل متدين با عارف بقاصدها.
ينهها عن أمثال هذه القاصد الواهية ،فالستدلل على بطلن دعاويهم فيها من باب شغل الزمان
بغي ما هو أول .وقد تقرر ـ بول ال ـ ف أصل القاصد من كتاب الوافقات ما يؤخذ منه حكم
هذا النمط والبهان على بطلنه ،لكن على وجه كلي مفيد وبال التوفيق .
وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعا ،فإن كان أصلها غي مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة
كالذكار والدعية بزعم العلماء أنا مبنية على علم الروف .وهو الذي اعتن به البون وغيه من
حذا حذوه أو قاربه .فإ ن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الول وهو أرسطاطاليس ،
فردوها إل أوضاع الروف ،وجعلوها هي الاكمة ف العال .وربا أشاروا عند العمل بقتضى
تلك الذكار وما قصد با إل تري الوقات والحوال اللئمة لطبائع الكواكب ليحصل التأثي
عندهم وحيا ،فحكموا العقول والطبائع ـ كما ترى ـ وتوجهوا شطرها ،وأعرضوا عن رب
العقل والطبائع ،وإن ظنوا أنم يقصدونه اعتقادا ف استدللم لصحة ما انتحلوا على وقوع المر
وفق ما يقصدون ،فإذا توجهوا بالذكر والدعاء الفروض على الغرض الطلوب حصل ،سواء عليهم
أنفعا كان أو ضرا ،وخيا كان أم شرا ،ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية ف إجابة الدعاء .أو
حصل نوع من كرامات الولياء ،كل ! ليس طريق ذلك التأثي من مرادهم ،ول كرامات الولياء
أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم ،فل تلقي بي الرض والسماء ،ول مناسبة بي النار والاء .
فإن قلت :فلم يصل التأثي حسبما قصدوا؟ فالواب :إن ذلك ف الصل قبيل الفتنة الت اقتضاها
ف اللق "ذلك تقدير العزيز العليم" فالنظر إل وضع السباب والسببات أحكام وضعها الباري تعال
ف النفوس يظهر عندها ما شاء ال من التأثيات ،على نو ما يظهر على العيون عند الصابة ،
وعلى السحور عند عمل السحر ،بل هو بالسحر أشبه لستمدادها من أصل واحد ،وشاهده ما
جاء ف الصحيح خرجه مسلم من حديث أب هريرة رضي ال عنه قال " :قال رسول ال صلى ال
204
الشاطبي كتاب العتصام
عليه وسلم :إن ال يقول :أنا عند ظن عبدي ب ،وأنا معه إذا دعان " ـ وف بعض الروايات ـ "
أنا عند ظن عبدي ب فليظن ب ما شاء" وشرح هذه العان ل يليق با نن فيه .
والاصل :أن وضع الذكار والدعوات ،على نو ما تقدم من البدع الحدثات ،لكن تارة تكون
البدعة فيها إضافية ،بإعتبار أصل الشروعة .
فصل فهذه أربعة أقسام ال ـ فأما القسم الول :وهو أن تنفرد البدعة عن العمل
فهذه أربعة أقسام ل بد من بيانا ف تصيل هذا الطلوب بول ال .
فأما القسم الول :وهو أن تنفرد البدعة عن العمل الشروع فالكلم فيه ظاهر ما تقدم ،إل إن
كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية ،وإل فهو فعل من جلة الفعال العادية ل مدخل له فيما
نن فيه ،فالعبادة سالة والعمل العادي خارج من كل وجه .مثاله الرجل يريد القيام إل الصلة
فيتنحنح مثلً أو يتمخط أو يشي خطوات أو يفعل شيئا ول يقصد بذا وجها راجعا إل الصلة ،
وإنا يفعل ذلك عادة أو تقززا .فمثل هذا ل حرج فيه ف نفسه ول بالنسبة إل الصلة ،وهو من
205
الشاطبي كتاب العتصام
جلة العادات الائزة ،إل أنه يشترط فيه أيضا أن ل يكون بيث يفهم منه النضمام إل الصلة
ل أو قصدا ،فإنه إذ ذاك يصي بدعة .وسيأت بيانه إن شاء ال . عم ً
ل ،ث قام بعده إل الصلة الشروعة وكذلك أيضا إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب ما ل يشرع أص ً
ول يقصد فعله لجل الصلة ،ول كان مظنة لن يفهم منه انضمامه إليها ،فل يقدح ف الصلة ،
وإنا يرجع الذم فيه إل العمل به على النفراد .ومثله لو أرادالقيام إل العبادة ففعل عبادة مشروعة
من غي قصد النضمام ،ول جعله عرضة لقصد انضمامه ،فتلك العبادتان على أصالتهما ،وكقول
الرجل عند الذبح أو العتق :اللهم منك وإليك .على غي التزام ول قصد النضمام ،وكقراءة
القرآن ف الطواف ل بقصد الطواف ول على اللتزام ،فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها فل
حرج فيها .
وعلى ذلك نقول :لو فرضنا أن الدعاء بيئة الجتماع وقع من أئمة الساجد ف بعض الوقات للمر
يدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزا ،لنه على الشرط الذكور ،إذ ل يقع ذلك على
وجه ياف منه مشروعية النضمام ،ول كونه سنة تقام ف الماعات ويعلن به ف الساجد ،كما
دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم دعاء الستسقاء بيئة الجتماع وهو يطب ،وكما أنه دعا
أيضا ف غي أعقاب الصلوات على هيئة الجتماع ،لكن ف الفرط وف بعض الحايي كسائر
الستحبات الت ل يتربص با وقتا بعينه وكيفية بعينها.
وخرج عن أب سعيد مول أسيد ...قال كان عمر رضي ال عنه إذا صلى العشاء أخرج الناس من
السجد ،فتخلف ليلة مع قوم يذكرون ال فأتى عليهم فعرفهم ،فألقى درته وجلس معهم ،فجعل
يقول :يا فلن ! ادع ال لنا ،يا فلن ادع ال لنا ،حت صار الدعاء إل غي ( ؟ )فكانوا يقولون :
عمر فظ غليظ ،فلم أر أحدا من الناس تلك الساعة أرق من عمر رضي ال عنه ل ثكلى ول أحدا .
وعنسلم العلوي قال :قال رجل لنس رضي ال عنه يوما :يا أبا حزة ! لو دعوت لنا بدعوات
...فقال :اللهم آتنا ف الدنيا حسنة وف الخرة حسنة ـقال ـ فأعادها مرارا ثلثا .فقال يا أبا
حزة ! لو دعوت ...فقال مثل ذلك ل يزيد عليه .فإذا كان المر على هذا فل إنكار فيه ،حت إذا
دخل فيه أمر زائد صار بتلك الزيادة مالفا للسنة ،فقد جاء ف دعاء النسان لغيه الكراهية عن
السلف ،ل على حكم الصالة بل بسبب ما ينضم إليه من المور الخرجة عن الصل .ولنذكره
هنا لجتماع أطراف السألة ف التشبيه على الدعاء بيئة الجتماع بآثار الصلوات ف الماعات دائما
.
فخرج الطبي عن مدرك بن عمران ،قال :كتب رجل إل عمر رضي ال عنه :فادع ال ل .
فكتب إليه عمر :إن لست بنب ،ولكن إذا أقيمت الصلة فاستغفر ال لذنبك .فإباية عمر رضي
ال عنه ف هذا الوضع ليس من جهة أصل الدعاء ،ولكن من جهة أخرى ،وإل تعارض كلمه مع
206
الشاطبي كتاب العتصام
ما تقدم فكأنه فهم من السائل أمرا زائدا على الدعاء فلذلك قال :لست بنب .وبذلك على هذا ما
روي عن سعد بن أب وقاص رضي ال عنه أنه لا قدم الشام أتاه رجل فقال :استغفر ل .فقال :
غفر لك .ث أتاه آخر فقال :استغفر ل .فقال :ل غفر ال لك ول لذاك ،أنب أنا ؟ فهذا أوضح
ف أنه فهم من السائل أمرا زائدا ،وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النب ،أو أنه وسيلة إل أن يعتقد ذلك ،
أو يعتقد أنه سنة تلزم ،أو يري ف الناس مرى السنن اللتزمة .
ل قال لذيفة رضي ال عنه :استغفر ل .فقال :ل غفر ال لك . ونوه عن زيد بن وهب أن رج ً
ث قال :هذا يذهب إل نسائه فيقول استغفر ل حذيفة أترضي أن أدعو ال أن تكن مثل حذيفة ؟
فدل هذا على أنه وقع ف قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حت يرج عن أصله ،لقوله بعد ما
دعا على الرجل :هذا يذهب إل نسائه فيقول كذا .أي فيأت نساؤه لثلها ،ويشتهر المر حت
يتخذ سنة ،ويعتقد ف حذيفة ما ل يبه هو لنفسه ،وذلك يرج الشروع عن كونه مشروعا ،
ويؤدي إل التشيع واعتقاد أكثر ما يتاج إليه .
وقد تبي هذا العن بديث رواه ابن علية عن ابن عون ،قال :جاء رجل إل إبراهيم .فقال :يا أبا
عمران ! دع ال أن يشفين .فكره ذلك إبراهيم وقطب وقال :جاء رجل إل حذيفة فقال :ادع
ال أن يغفر ل .فقال :ل غفر ال لك .فتنحى الرجل فجلس ،فلما كان بعد ذلك ،قال :
فأدخلك ال مدخل حذيفة أقد رضيت ؟ الن يأت أحدكم الرجل كأنه قد أحصر شأنه .ث ذكر
إبراهيم السنة فرغب فيها وذكر ما أحدث الناس فكرهه .
وروى منصور عن إبراهيم قال :كانوا يتمعون فيتذاكرون فل يقول بعضهم لبعض :استغفر لنا .
فتأملوا يا أول اللباب ما ذكره من هذه الصنام النضمة إل الدعاء ،حت كرهوا الدعاء إذا انضم
إليه ما ل يكن عليه سلف المة ،فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون ف دعائنا بآثار الصلة ،بل ف
كثي من الواطن ،وانظروا إل اسبتارة ( ؟ ) إبراهيم ترغيبه ف السنة وكراهيته ما أحدث الناس ،
بعد تقرير ما تقدم .
وهذه الثار من تريج الطبي ف تذيب الثار له ،وعلى هذا ينبن ما خرجه ابن وهب عن الارث
بن نبهان عن أيوب عن أب قلبة عن أب الدرداء رضي ال عنه :أن ناسا من أهل الكوفة يقرأون
عليك السلم ويأمرونك أن تدعو لم وتوصيهم ،فقال :اقرأوا عليهم السلم ومرورهم أن يعطوا
القرآن حقه ،فإنه يملهم ،أو يأخذ بم على القصد والسهولة ،وينبهم الور والزونة ،ول يذكر
أنه دعا لم .
فصل وأما القسم الثان :وهو أن يصي العمل أو غيه كالوصف للعمل الشروع
207
الشاطبي كتاب العتصام
وأما القسم الثان :وهو أن يصي العمل العادي أو غيه كالوصف للعمل الشروع إل أن الدليل على
أن العمل الشروع ل يتصف ف الشرع بذلك الوصف فظاهر المر انقلب العمل الشروع غي
مشروع .ويبي ذلك من الدلة عموم قوله عليه الصلة والسلم :
"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا العمل عند اتصافه بالوصف الذكور عمل ليس عليه أمره
عليه الصلة والسلم ،فهو إذا رد ،كصلة الفرض مثلً إذا صلها القادر الصحيح قاعدا أو سبح
ف موضع القراءة ،أو قرأ التسبيح ،وما أشبه ذلك .
وقد نى عليه الصلة والسلم عن الصلة بعد الصبح ،وبعد العصر ،ونى عن الصلة عند طلوع
الشمس وغروبا ،فبالغ كثي من العلماء ف تعميم النهي ،حت عدوا صلة الفرض ف ذلك الوقت
داخلً تت النهي ،فباشر النهي الصلة لجل اتصافها بأنا واقعة ف زمان مصوص ،كما اعتب فيها
الزمان باتفاق ف الفرض ،فل تصلى الظهر قبل الزوال ،ول الغرب قبل الغروب .
ونى عليه الصلة والسلم عن صيام الفطر والضحى ،والتفاق على بطلن الج ف غي أشهر الج
.فكل من تعبد ل تعال بشيء من هذه العبادات الواقعة ف غي أزمانا تعبد ببدعة حقيقية ل
إضافية ،فل جهة لا إل الشروع بل غلبت عليها جهة البتداع ،فل ثواب فيها على ذلك التقدير ،
فلو فرضنا قائلً يقول بصحة الصلة الواقعة ف وقت الكراهية ،أو صحة الصوم الواقع يوم العيد ،
فعلى فرض أن النهي راجع إل أمر ل يصر للعبادة كالوصف بل المر منفك منفرد ـ حسبما تبي
بول ال .
ويدخل ف هذا القسم ما جرى به العمل ف بعض الناس كالذي حكى القراف عن العجم ف اعتقاده
كون صلة الصبح يوم المعة ثلث ركعات ،فإن قراءة سورة السجدة لا التزمت فيها وحوفظ
عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة ،فصارت السجدة إذا وصفا لزما وجزءا من صلة
صبح المعة ،فوجب أن تبطل .
وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تري العبادات الشروعة إذا خصت بأزمان مصوصة بالرأي الجرد ،
من حيث فهمنا تلبسا بالعمال على الملة ،فصيوا ذلك الزائد وصفا فيه مرج له عن أصله ،
وذلك أن الصفة مع الوصوف من حيث هي صفة له ل تفارقه هي من جلته .
وذلك لنا نقول :إن الصفة هي عي الوصوف إذا كانت لزمة له حقيقةً أو اعتبارا ،ولو فرضنا
ارتفاعها عنه لرتفع الوصوف من حيث هو موصوف با ،كارتفاع النسان بارتفاع الناطق أو
الضاحك ،فإذا كانت الصفة الزائدة على الشروع على هذه النسبة صار الجموع منهما غي
مشروع ،فارتفع اعتبار الشروع الصلي .
ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالدارة على صوت واحد ،فإن تلك اليئة زائدة على مشروعية
القراءة ،وكذلك الهر الذي اعتاده أرباب الزوايا وربا لطف اعتبار الصفة فيشك ف بطلن
208
الشاطبي كتاب العتصام
الشروعية ،كما وقع ف العتبية عن مالك ف مسألة العتماد ف الصلة ل يرك رجليه ،وأن أول من
أحدثه رجل قد عرف ـ قال ـ وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) فقيل له :أفعيب ؟ قال :
قد عيب عليه ذلك ،وهذا مكروه من الفعل ،ول يذكر فيها أن الصلة باطلة وذلك لضعف وصف
العتماد أن يؤثر ف الصلة ،ولطفه بالنسبة إل كمال هيئتها ،وهكذا ينبغي أن يكون النظر ف
السألة بالنسبة إل اتصاف العمل با يؤثر فيه أو ل يؤثر فيه ،فإذا غلب الوصف على العمل كان
أقرب إل الفساد ،وإذا ل يغلب ل يكن أقرب وبقي ف حكم النظر ،فيدخل ها هنا نظر الحتياط
للعبادة إذا صار العمل ف العتبار من التشابات .
واعلموا أنه حيث قلنا :إن العمل الزائد على الشروع يصي وصفا لا أو كالوصف ،فإنا يعتب بأحد
أمور ثلثة :إما القصد ،وإما بالعادة ،وإما بالشرع أو النقصان .
أما بالعادة فكالهر والجتماع ف الذكر الشهور بي متصوفة الزمان ،فإن بينه وبي الذكر الشروع
بونا بعيدا ،إذ ها كالتضادين عادة ،وكالذي حكى ابن وضاح عن العمش عن بعض أصحابه ،
قال :مر عبد ال برجل يقص ف السجد على أصحابه وهو يقول :سبحوا عشرا وهللوا عشرا :
فقال عبد ال :إنكم لهدى من أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم أو أضل بل هذه ( يعن أضل) ،
وف رواية عنه أن رجلً كان يمع الناس فيقول :رحم ال من قال كذا وكذا مرة سبحان ال ـ
قال ـ فيقول القوم ،ويقول :رحم ال من قال كذا وكذا مرة المد ل ـ قال ـ فيقول القوم ـ
قال ـ فمر بم عبد ال بن مسعود رضي ال عنه فقال لم :هديتم لا ل يهد نبيكم ! وإنكم
لتمسكون بذنب ضللة .
وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالصى ف السجد ،فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بي يديه
كوما من حصى ـ قال ـ فلم يزل يصبهم بالصى حت أخرجهم من السجد ،ويقول :لقد
أحدثتم بدعة وظلما ،وقد فضلتم أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم علما ؟ فهذه أمور أخرجت
الذكر الشروع كالذي تقدم من النهي عن الصلة ف الوقات الكروهة ،أوالصلوات الفروضة إذا
صليت قبل أوقاتا ،فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إل النهي عنها ،والنهي عنه ل يكون متعبدا به
وكذلك صيام يوم العيد .
وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أب عباس ،قال :لقيت طلحة بن عبيد ال الزاعي ،فقلت
له :قوم من إخوانك من أهل السنة والماعة ل يطعنون على أحد من السلمي ،يتمعون ف بيت
هذا يوما وف بيت هذا يوما ،ويتمعون يوم النيوز والهرجان ويصومونا ،فقال طلحة :بدعة
من أشد البدع ،وال لم أشد تعظيما للنيوز والهرجان من عبادتم .ث استيقظ أنس بن مالك
رضي ال عنه فرقيت إليه وسألته كما سألت طلحة ،فرد علي مثل قول طلحة ،كأنما كان على
209
الشاطبي كتاب العتصام
ميعاد .فجعل صوم تلك اليام من تعظيم ما تعظمه الجوس وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة
فكذلك ما كان نوه .
ل قال للـ حسن :يا أبا سعيد ! ما ترى ف ملسنا هذا ؟ قوم من أهل وعن يونس بن عبيد أن رج ً
السنة والماعة ل يطعنون على أحد نتمع ف بيت هذا يوما ،وف بيت هذا يوما ،فنقرأ كتاب ال
وندعو لنفسنا ولعامة السلمي ؟ قال :فنهى السن عن ذلك أشد النهي .
والنقل ف هذا العن كثي ،فلو ل يبلغ العمل الزائد ذلك البلغ كان أخف .وانفرد العمل بكمه ،
والعمل الشروع بكمه ،كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحن أب بكرة ،قال :كنت جالسا عند
السود بن سريع ،وكان ملسه ف مؤخر السجد الامع ،فافتتح سورة بن إسرائيل حت بلغ :
(وكبه تكبيا) فرفع أصواتم الذين كانوا حوله جلوسا ،فجاء مالد بن مسعود متوكئا على
عصاه ،فلما رآه القوم قالوا :مرحبا اجلس ،قال :ما كنت لجلس إليكم ،وإن كان ملسكم
حسنا ،ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره السلمون ،فإياكم وما أنكر السلمون ،فتحسينه الجلس
كان لقراءة القرآن ،وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك ،فلم ينضم إل العمل السن ،حت
إذا انضم إليه صار الجموع غي مشروع .
ويشبه هذا ما ف ساع ابن القاسم عن مالك ف القوم يتمعون جيعا فيقرؤون ف السورة الواحدة
مثل ما يفعل أهل السكندرية فكره ذلك ،وأنكر أن يكون من عمل الناس .
وسئل ابن القاسم أيضا عن نو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ،ونى عنها ورآها بدعة .
وقال ف رواية أخرى عن مالك :وسئل عن القراءة بالسجد ،فقال :ل يكن بالمر القدي ،وإنا
هو شيء أحدث ،ول يأت آخر هذه المة بأهدى ما كان عليه أولا ،والقرآن حسن .
قال ابن رشد :يريد التزام القراءة ف السجد بإثر صلة من الصلوات على وجه ما مصوص حت
يصي ذلك كله ما يامع قرطبة إثر صلة الصبح ( .قال ) :فرأى ذلك بدعة .
فقوله ف الرواية :والقرآن حسن يتمل أن يقال :إنه يعن أن تلك الزيادة من الجتماع وجعله ف
السجد منفصل ل يقدح ف حسن قراءة القرآن ،ويتمل ـ وهو الظاهر ـ أنه يقول :قراءة حسن
على غي ذلك الوجه بدليل قوله ف موضع آخر :ما يعجبن أن يقرأ القرآن إل ف الصلة والساجد ،
ل ف السواق والطرق ،فييد أنه ل يقرأ إل على النحو الذي يقرؤه السلف ،وذلك يدل على أن
ل وترز بقوله :والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة قراءة الدارة مكروهة عنده فل تفعل أص ً
القرآن مطلقا ،فل يكون ف كلم مالك دليل على انفكاك الجتماع من القراءة وال أعلم .
210
الشاطبي كتاب العتصام
وأما القسم الثالث :وهو أن يصي الوصف عرضة لن ينضم إل العبادة حت يعتقد فيه أنه من
أوصافها أوجزء منها ،فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع ،وهو إن كان ف الملة
متفقا عليه ،ففيه ف التفصيل نزاع بي العلماء ،إذ ليس كل ما هو ذريعة إل منوع ينع ،بدليل
اللف الواقع ف بيوع الجال ،وما كان نوها ،غي أن أبا بكر الطرطوشي يكي التفاق ف هذا
النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سدا للذريعة ،وإذا ثبت اللف ف بعض التفاصيل
ل ينكر أن يقول به قائل ف بعض ما نن فيه ،ولنمثله أولً ث نتكلم حكمه بول ال .
فمن ذلك .
ما جاء ف حديث من :ني رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو
يومي .ووجه ذلك عند العلماء مافة أن يعد ذلك من جلة رمضان .
ومنه ما ثبت عن عثمان رضي ال عنه أنه كان ل يقصر ف السفر ،فيقال له :ألست قصرت مع
النب صلى ال عليه وسلم ؟ فيقول :بلى ! ولكن إمام الناس فينظر إل العراب وأهل البادية أصلي
ركعتي ،فيقول :هكذا فرضت ،فالقصر ف السفر سنة أو واجب ،ومع ذلك تركه خوف أن
يتذرع به لمر حادث ف الدين غي مشروع .
ومنه قصة عمر رضي ال عنه ف غسله من الحتلم حت أسفر ،وقوله لن راجعه ف ذلك ،وأن
يأخذ من أثوابم ما يصلي به ،ث يغسل ثوبه على السعة :لو فعلته لكانت سنة ،بل أغسل ما رأيت
،وأنصح ما ل أر .
وقال حذيفة بن أسيد :شهدت أبا بكر وعمر رضي ال عنهما وكانا ل يضحيان مافة أن يرى أنا
واجبة .
ونو ذلك عن ابن مسعود رضي ال عنه قال :إن لترك أضحيت ـ وإن لن أيسركم ـ مافة أن
يظن اليان أنا واجبة .
وكثي من هذا عن السلف الصال .
وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال ،وواقفه أبو حنيفة فقال :ل أستحبها ،مع ما جاء
ف ذلك من الديث الصحيح ،وأخب مالك عن غيه من يقتدى به أنم كانوا ل يصومونا ويافون
بدعتها .
ومنه ما تقدم ف اتباع الثار كمجيء قبا ونو ذلك .
وبالملة ،فكل عمل أصله ثابت شرعا إل أن ف إظهار العمل به والداومة عليه ما ياف أن يعتقد
أنه سنة ،فتركه مطلوب ف الملة أيضا ،من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد
الحرام وقبل القراءة ،وكره غسل اليد قبل الطعام ،وأنكر على من جعل ثوبه ف السجد أمامه ف
الصف .
211
الشاطبي كتاب العتصام
ولنرجع إل ما كنا فيه ،فاعلموا أنه إن ذهب متهد إل عدم سد الذريعة ف غي مل النص ما
يتضمنه هذا الباب ،فل شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره ،ومن ذهب إل
سدها ـ ويظهر ذلك من كثي من السلف من الصحابة والتابعي وغيهم ـ فل شك أن ذلك
العمل منوع ،ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه ،وموجب للذم إل أن يذهب إل أن النهي فيه
راجع إل أمر ماور ،فهو مل نظر واشتباه ربا يتوهم فيه انفكاك المرين ،بيث يصح أن يكون
العمل مأمورا به من جهة نفسه ،ومنهيا عنه من جهة مآله .ولنا فيه مسلكان :
أحدها :التمسك بجرد النهي ف أصل السألة كقوله تعال " :يا أيها الذين آمنوا ل تقولوا راعنا"
وقوله تعال " :ول تسبوا الذين يدعون من دون ال فيسبوا ال عدوا بغي علم" وف الديث أنه عليه
الصلة والسلم :
"نى عن أن يمع بي التفرق ،ويفرق الجتمع ،خشية الصدقة ".
و" نى عن بيع السلف " وعلله العلماء بالربا التذرع إليه ف ضمن السلف .ونى عن اللوة
بالجنبيات ،وعن سفر الرأة مع غي ذي مرم ،وأمر النساء بالحتجاب عن أبصار الرجال ،
والرجال بغض البصار ،إل أشباه ذلك ما عللوا المر فيه والنهي بالتذرع ل بغيه.
ل ،وصرفه إل أمر ماور خلف أصل الدليل ، والنهي أصله أن يقع على النهي عنه وإن كان معل ً
فل يعدل عن الصل إل بدليل ،فكل عبادة نى عنها فليست بعبادة ،إذ لو كانت عبادة ل ينه عنها
،فالعامل با عامل بغي مشروع ،فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعا با .
ل يقال :إن نفس التعليل يشعر بالجاورة ،وإن الذي ني عنه غي الذي أمربه ،وانفكاكهما
متصور .لنا نقول :قد تقرر أن الجاور إذا صار كالوصف اللزم انتهض النهي عن الملة ل عن
نفس الوصف بانفراده ،وهو مبي ف القسم الثان .
السلك الثان :ما دل ف بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع ف الكم بنلة التذرع إليه ،ومنه ما
ثبت ف الصحيح من قول رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"من أكب الكبائر أن يسب الرجل والديه ،قالوا :يا رسول ال ! وهل يسب الرجل والديه ؟ قال :
نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه " ،فجعل سب الرجل لوالدي غيه بنلة سبه لوالديه نفسه ،
حت ترجه عنها بقوله " :أن يسب الرجل والديه" ول يقل :أن يسب الرجل والديه ،أو نو ذلك .
وهو غاية معن ما نن فيه .
ومثله حديث عائشة رضي ال عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضي ال عنه ،وقولا :أبلغي زيد بن
أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ل يبت ،وإنا يكون هذا الوعيد
فيمن فعل ما ل يل له ،ل ما فعله كبية حت ترغب آخرا بالية " :فمن جاءه موعظة من ربه
فانتهى فله ما سلف " .
212
الشاطبي كتاب العتصام
وهي نازلة ف غي العمل بالربا ،فعدت العمل با يتذرع به إل الربا بنلة العمل بالربا ،مع أنا نقطع
أن زيد بن أرقم وأم ولده ل يقصدوا قصد الربا ،كما ل يكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب .
وإذا ثبت هذا العن ف بعض الذرائع ثبت ف الميع ،إذ ل فرق فيما ل يدع ما ل ينص عليه ،إل
ألزم الصم مثله ف النصوص عليه .فل عبادة أو مباحا يتصور فيه أن يكون ذريعة إل غي جائز إل
وهو غي عبادة ول مباح .
لكن هذا القسم إنا يكون النهي بسب ما يصي وسيلة إليه ف مراتب النهي ،إن كانت البدعة من
قبيل الكبائر ،فالوسيلة كذلك ،أو من قبيل الصغائر فهي كذلك ،والكلم ف هذه السألة يتسع ،
ولكن هذه الشارة كافية فيها ،وبال التوفيق .
الباب السادس .ف أحكام البدع وأنا ليست على رتبة واحدة
اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إل الحكام المسة فل إشكال ف اختلف رتبتها ،لن
النهي من جهة انقسامه إل ني الكراهية وني التحري يستلزم أن أحدها أشد ف النهي من الخر ،
فإذا انضم إليهما قسم الباحة ظهر الختلف ف القسام ،فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم
الوجوب كان الختلف فيها أوضح ـ وقد مر من أمثلتها أشياء كثية ـ لكنا ل نبسط القول ف
هذا التقسيم ول بيان بالشد والضعف ،لنه إما أن يكون حقيقيا فالكلم فيه عناء ،وإن كان غي
حقيقي فقد تقدم أنه غي صحيح ،فل فائدة ف التفريع على ما ل يصح ،وإن عرض ف ذلك نظر أو
تفريع فإنا يذكر بكم التبع بول ال .
فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلثة أقسام :قسم الوجوب ،وقسم الندب ،وقسم الباحة ،انصر
النظر فيما بقي وهو الذي ثبت من التقسيم ،غي أنه ورد النهي عنها على وجه واحد ،ونسبته إل
الضللة واحدة ،ف قوله :
"إياكم ومدثات المور ،فإن كل بدعة ضللة ،وكل ضللة ف النار" وهذا عام ف كل بدعة ،
فيقع السؤال :هل لا حكم واحد أم ل ؟ فنقول :ثبت ف الصول أن الحكام الشرعية خسة ،
ترج عنها الثلثة ،فيبقى حكم الكراهية وحكم التحري ،فاقتضى النظر انقسام البدع إل
القسمي ،فمنها بدعة مرمة ،ومنها بدعة مكروهة ،وذلك أنا داخلة تت جنس النهيات وهي ل
تعدو الكراهة والتحري ،فالبدع كذلك .هذا وجه .
ووجه ثان :أن البدع إذا تؤمل معقولا وجدت رتبتها متفاوتة ،فمنها ما هو كفر صراح ،كبدعة
الاهلية الت نبه عليها القرآن ،كقوله تعال " :وجعلوا ل ما ذرأ من الرث والنعام نصيبا فقالوا
هذا ل بزعمهم وهذا لشركائنا " ،وقوله تعال " :وقالوا ما ف بطون هذه النعام خالصة لذكورنا
ومرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء" وقوله تعال " :ما جعل ال من بية ول سائبة
213
الشاطبي كتاب العتصام
ول وصيلة ول حام " ،وكذلك بدعة النافقي حيث اتذوا الذين ذريعة لفظ النفس والال ،وما
أشبه ذلك ما يشك أنه كفر صراح .
ومنها ،ما هو من العاصي الت ليست بكفر أو يتلف هل هي كفر أم ل ! كبدعة الوارج والقدرية
والرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة .
ومنها ،ما هو مكروه كما يقول مالك ف اتباع رمضان بست من شوال ،وقراءة القرآن بالدارة ،
والجتماع للدعاء عشية عرفة ،وذكر السلطي ف خطبة المعة ـ على ما قاله ابن عبد السلم
الشافعي ـ وما أشبه ذلك .
فمعلوم أن هذه البدع ليست ف رتبة واحدة فل يصح مع هذا أن يقال :إنا على حكم واحد ،هو
الكراهة فقط ،أو التحري فقط .
ووجه ثالث :إن العاصي منها صغائر ومنها كبائر ،ويعرف ذلك بكونا واقعة ف الضروريات أو
الاجيات أو التكميليات ،فإن كانت ف الضروريات فهي أعظم الكبائر ،وإن وقعت ف التحسينات
فهي أدن رتبة بل إشكال ،وإن وقعت ف الاجيات فمتوسطة بي الرتبتي .
ث إن كل رتبة من هذه الرتب لا مكمل ،ول يكن ف الكمل أن يكون ف رتبة الكمل ،فإن
الكمل مع الكمل ف نسبة الوسيلة مع القصد ،ول تبلغ الوسيلة رتبة القصد ،فقد ظهر تفاوت
رتب العاصي والخالفات .
وأيضا ،فإن من الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب ف التأكيد وعدمه ،فليست مرتبة
النفس كمرتبة الدين ،وليس تستصغر حرمة النفس ف جنب حرمة الدين ،فيبيح الكفر الدم ،
والحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والتلف ،ف المر بجاهدة الكفار والارقي عن
الدين .
ومرتبة العقل والال ليست كمرتبة النفس ،أل ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ؟ فالقتل بلف
العقل والال ،وكذلك سائر ما بقي ،وإذا نظرت ف مرتبة النفس تباينت الراتب ،فليس قطع العضو
كالذبح ،ول الدش كقطع العضو وهذا كله مل بيانه الصول .
214
الشاطبي كتاب العتصام
فمثال وقوعه ف الدين ما تقدم من اختراع الكفار وتغييهم ملة إبراهيم عليه السلم ،من نو قوله
تعال " :ما جعل ال من بية ول سائبة ول وصيلة ول حام" فروي عن الفسرين فيها أقوال كثية ،
وفيها عن ابن السيب أن البحية من البل هي الت ينح درها للطواغيت ،والسائبة هي الت يسيبونا
لطواغيتهم ،والوصيلة هي الناقة تبكر بالنثى ث تثن بالنثى ،يقولون :وصلت انثيي ليس بينهما
ذكر ،فيجدعونا لطواغيتهم ،والامي هو الفحل من البل كان يضرب الضراب العدودة ،فإذا بلغ
ذلك قالوا :حي ظهره ،فيترك فيسمونه الامي .
وروى إساعيل القاضي عن زيد بن أسلم ،قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"إن لعرف أول من سيب السوائب ،وأول من غي عهد إبراهيم عليه السلم قال قالوا :من هو يا
رسول ال ؟ قال :عمرو بن لي أبو بن كعب ،لقد رأيته ير قصبه ف النار ،يؤذي ريه أهل النار
،وإن لعرف أول من بر البحائر ،قالوا :من هو يا رسول ال ؟ قال رجل من بن مدل ،وكانت
له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانما ،ث شرب ألبانما بعد ذلك ،فلقد رأيته ف النار هو وها
يعضانه بأفواههما ويبطانه بأخفافهما" .
وحاصل ما ف هذه الية تري ما أحل ال على نية التقرب به إليه ،مع كونه حللً بكم الشريعة
التقدمة .ولقد هم بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يرموا على أنفسهم ما أحل
ال ،وإنا كان قصدهم بذلك النقطاع إل ال عن الدنيا وأسبابا وشواغلها ،فرد ذلك عليهم
رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فأنزل ال عز وجل " :يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل
ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يب العتدين" .
215
الشاطبي كتاب العتصام
وهذا القتل متمل أن يكون دينا وشرعة ابتدعوها ،ويتمل أن يكون عادة تعودوها ،بيث ل
يتخذوها شرعة ،إل أن ال تعال ذمهم عليها فل يكم عليها بالبدعة بل لجرد العصية ،فنظرنا هل
ند لحد الحتملي عاضدا يكون هو الول ف حل اليات عليه ؟ فوجدنا قوله سبحانه وتعال :
"وكذلك زين لكثي من الشركي قتل أولدهم شركاؤهم ليدوهم وليلبسوا عليهم دينهم" فإن الية
صرحت أن لذا التزين سببي :أحدها الرداء وهو الهلك ،والخر ليس الدين ،وهو قوله :
"وليلبسوا عليهم دينهم" ول يكون ذلك إل بتغيه وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه ،وهو
البتداع بل إشكال ،وإنا كان دينهم أولً دين أبيهم ( إبراهيم ) فصار ذلك من جلة ما بدلوا فيه ،
كالبحية والسائبة ونصب الصنام وغيها ،حت عد من جلة دينهم الذي يدينون به .
ويعضده قوله تعال بعد " :فذرهم وما يفترون" فنسبهم إل الفتراء ـ كما ترى ـ والعصيان من
حيث هو عصيان ل يكون افتراء ،وإنا يقع الفتراء ف نفس التشريع ف أن هذا القتل من جلة ما
جاء من الدين .ولذلك قال تعال على إثر ذلك " :قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغي علم
وحرموا ما رزقهم ال افتراء على ال قد ضلوا" فجعل قتل الولد مع تري ما أحل ال من جلة
الفتراء ،ث ختم بقوله ( :قد ضلوا ) وهذه خاصية البدعة ـ كما تقدم ـ فإذا ما فعلت الند نو
ما فعلت الاهلية ،وسيأت مذهب الهدي الغرب ف شرعية القتل .
على أن بعض الفسرين قال ف قوله تعال " :وكذلك زين لكثي من الشركي قتل أولدهم
شركاؤهم" أنه قتل الولد على جهة النذر والتقرب به إل ال ،كما فعل عبد الطلب ف ابنه عبد
ال أب النب صلى ال عليه وسلم .
وهذا القتل قد يشكل ،إذ يقال لعل ذلك من جلة ما اقتدوا فيه بأبيهم إبراهيم عليه السلم ،لن ال
أمره بذبح ابنه ،فل يكون ذلك اختراعا وافتراءً لرجوعها إل أصل صحيح وهو عمل أبيهم عليه
السلم ،وإن صح هذا القول وتؤول فعل إبراهيم عليه السلم على أنه ل يكن شريعة لن بعده من
طريته فوجه اختراعه دينا ظاهر ،ل سيما عند عروض شبهة الذبح ،وهو شأن أهل البدع ،إذ ل بد
لم من شبهة يتعلقون با ـ كما تقدم التنبيه عليه .
وكون ما تفعل أهل الند من هذا القبيل ظاهر جدا .
ويري مرى إتلف النفس إتلف بعضها ،كقطع عضو من العضاء ،أو تعطيل منفعة من منافعه
بقصد التقرب إل ال بذلك ،فهو من جلة البدع ،وعليه يدل الديث حيث قال :
رد رسول ال صلى ال عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لختصينا .فالصاء
بقصد التبتل وترك الشتغال بلبسة النساء واكتساب الهل والولد مردود مذموم ،وصاحبه معتد
غي مبوب عند ال ،حسبما نبه قوله تعال " :ول تعتدوا إن ال ل يب العتدين" وكذلك فقىء
العي لئل ينظر إل ما ل يل له .
216
الشاطبي كتاب العتصام
217
الشاطبي كتاب العتصام
ويكى عن الشيعة أنا تزعم أن النب صلى ال عليه وسلم أسقط عن أهل بيته ومن دان ببهم جيع
العمال ،وأنم غي مكلفي إل با تطوعوا ،وأن الحظورات مباحة لم كالنير والزنا والمر
وسائر الفواحش ،وعندهم نساء يسمي النوابات يتصدقن بفوجهن على الحتاجي رغبةً ف الجر ،
وينكحون ما شاؤوا من الخوات والبنات والمهات ،ل حرج عليهم ف ذلك ول ف تكثي النساء .
وهؤلء العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية .
وما يكى عنهم ف ذلك أنه يكون للمرأة ثلثة أزواج وأكثر ف بيت واحد يستدلونا وتنسب الولد
لكل واحد منهم ،ويهنأ به كل واحد منهم ،كما التزمت الباحية خرق هذا الجاب بإطلق ،
وزعمت أن الحكام الشرعية إنا هي خاصة بالعوام ،وأما الواص منهم فقد ترقوا عن تلك الرتبة ،
فالنساء بإطلق حلل لم ،كما أن جيع ما ف الكون من رطب ويابس حلل لم أيضا ،مستدلي
على ذلك برافات عجائز ل يرضاها ذو عقل " :قاتلهم ال أن يؤفكون" فصاروا أضر على الدين من
متبوعهم إبليس لعنهم ال ،كقوله :
ب الفسق حت صار إبليس من جندي ! وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى
طرائق فسق ليس يسنها بعدي ! فلو مات قبلي كنت أحسن بعده
فصل ومثال ما يقع ف العقل ،أن حكم ال على العباد ل يكون إل با شرع
ومثال ما يقع ف العقل ،أن الشريعة بينت أن حكم ال على العباد ل يكون إل با شرع ف دينه على
ألسنة أنبيائه ورسله ،ولذلك قال تعال " :وما كنا معذبي حت نبعث رسول " وقال تعال " :فإن
تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول " وقال " :إن الكم إل ل" وأشباه ذلك من اليات
والحاديث .
فخرجت عن هذا الصل فرقة زعمت أن العقل له مال ف التشريع ،وأنه مسن ومقبح ،فابتدعوا ف
دين ال ما ليس فيه .
ومن ذلك أن المر لا حرمت ،ونزل من القرآن ف شأن من مات قبل التحري وهو ويشربا .قوله
تعال " :ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالات جناح فيما طعموا" .الية تأولا قوم ـ فيما ذكر
ـ على أن المر حلل ،وأنا داخلة تت قوله :فيما طعموا .
فذكر إساعيل بن إسحاق عن علي رضي ال عنه ،قال :شرب نفر من أهل الشام المر وعليهم
يزيد بن أب سفيان ،فقالوا :هي لنا حلل .وتأولوا هذه الية " :ليس على الذين آمنوا" الية .قال
فكتب فيهم إل عمر .
قال :فكتب عمر إليه :أن ابعث بم إل قبل أن يفسدوا من قبلك ،فلما قدموا إل عمر استشار
فيهم الناس ،فقالوا :يا أمي الؤمني! نرى أنم قد كذبوا على ال وشرعوا ف دينه ما ل يأذن به
218
الشاطبي كتاب العتصام
فاضرب أعناقهم ،وعلي رضي ال عنه ساكت ،قال :فما تقول يا أبا السن ؟ فقال :أرى أن
تستتيبهم فإن تابوا جلدتم ثاني لشربم المر ،وإن ل يتوبوا ضربت أعناقهم ،فإنم قد كذبوا على
ال وشرعوا ف دين ال ما ل يأذن به .
فهؤلء استحلوا بالتأويل ما حرم ال بنص الكتاب ،وشهد فيهم علي رضي ال عنه ،وغيه من
الصحابة ،بأنم شرعوا ف دين ال ،وهذه هي البدعة بعينها ،فهذا وجه .
وأيضا ،فإن بعض الفلسفة السلميي تأول فيها غي هذا ،وأنه إنا يشربا للنفع ل للهو ،وعاهد
ال على ذلك ،فكأنا عندهم من الدوية أو غذاء صال يصلح لفظ الصحة .ويكى هذا العهد عن
ابن سيناء .
ورأيت ف بعض كلم الناس من عرف عنه أنه كان يستعي ف سهره للعلم والتصنيف والنظر
بالمر ،فإذا رأى من نفسه كسلً أو فترةً شرب منها قدر ما ينشطه وينفي عنه الكسل ،بل ذكروا
فيها أن لا حرارة خاصة تفعل أفعا ًل كثية تطيب النفس ،وتصي النسان مبا للحكمة ،وتعله
حسن الركة ،والذهن ،والعرفة ،فإذا استعملها على العتدال عرف الشياء ،وفهمها ،وتذكرها
بعد النسيان .
فلهذا ـ وال أعلم ـ كان ابن سينا ل يترك استعمالا ـ على ما ذكر عنه ـ وهو كله ضلل مبي
،عياذا بال من ذلك .
ول يقال :إن هذا داخل تت مسألة التداوي با .وفيها خلف شهي ،لنا نقول :إنا ثبت عن
ابن سينا أنه كان يستعملها استعمال المور النشطة من الكسل والفظ للصحة ،والقوة على القيام
بوظائف العمال ،أو ما يناسب ذلك ،ل ف المراض الؤثرة ف الجسام .وإنا اللف ف
استعمالا ف المراض ل ف غي ذلك ،فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة ال مبتدعون
فيها ،وقد تقدم رأي أهل الباحة ف المر وغيها ،ول توفيق إل بال .
فصل ومثال ما يقع ف الال ،أن الكفار قالوا :إنا البيع مثل الربا
ومثال ما يقع ف الال ،أن الكفار قالوا " :إنا البيع مثل الربا" فإنم لا استحلوا العمل به واحتجوا
بقياس فاسد ،فقالوا :إذا فسخ العشرة الت اشترى با إل شهر ف خسة عشر إل شهرين ،فهو
كما لو باع بمسة عشر إل شهرين ،فأكذبم ال تعال ورد عليهم ،فقال " :ذلك بأنم قالوا إنا
البيع مثل الربا وأحل ال البيع وحرم الربا" أي :ليس البيع مثل الربا ،فهذه مدثة أخذوا با مستندين
إل رأي فاسد ،فكان من جلة الحدثات ،كسائر ما أحدثوا ف البيوع الارية بينهم البنية على
الطر والغرر .
219
الشاطبي كتاب العتصام
وكانت الاهلية قد شرعت أيضا أشياء ف الموال كالظوظ الت كانوا يرجونا للمي من الغنيمة ،
حت قال شاعرهم :
وحكمك والنشيطة والفضول لك الرباع فيها والصفايا
فالرباع :ربع الغنم يأخذه الرئيس .والصفايا :جع صفي .وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنم
،والنشيطة :ما يغنمه الغزاة ف الطريق ،قبل بلوغهم إل الوضع الذي قصدوه ،فكان يتص به
الرئيس دون غيه .والفضول :ما يفضل من الغنيمة عند القسمة .
وكانت تتخذ الرضي تميها عن الناس أن ل يدخلوها ول يرعوها ،فلما نزل القرآن بقسمة
الغنيمة ف قوله تعال " :واعلموا أنا غنمتم من شيء" الية ،راتفع حكم هذه البدعة إل بعض من
جرى ف السلم على حكم الاهلية ،فعمل بأحكام الشيطان ،ول يستقم على العمل بأحكام ال
تعال .
وكذلك جاء ف الديث :
"ل حى إل حى ال ورسوله" ث جرى بعض الناس من آثر الدنيا على طاعة ال ،على سبيل حكم
الاهلية "ومن أحسن من ال حكما لقوم يوقنون" ولكن الية والديث وما كان ف معناها أثبت
أصلً ف الشريعة مطردا ل ينخرم ،وعاما ل يتخصص ،ومطلقا ل يتقيد .وهو أن الصغي من
الكلفي والكبي ،والشريف والدنء ،والرفيع والوضيع ف احكام الشريعة سواء ،فكل من خرج
عن مقتضى هذا الصل خرج من السنة إل البدعة ،ومن الستقامة إل العوجاج .
وتت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الوقع ،لعلها تذكر فيما بعد إن شاء ال ،وقد أشي إل جلة منها .
فصل إذا تقرر أن البدع ليست ف الذم ول ف النهي على رتبة واحدة
إذا تقرر أن البدع ليست ف الذم ول ف النهي على رتبة واحدة ،وأن منها ما هو مكروه ،كما أن
منها ما هو مرم ،فوصف الضللة لزم لا وشامل لنواعها لا ثبت من قوله صلى ال عليه وسلم :
"كل بدعة ضللة" .
لكن يبقى ها هنا إشكال ،وهو أن الضللة ضد الدى لقوله تعال " :أولئك الذين اشتروا الضللة
بالدى" وقوله " :ومن يضلل ال فما له من هاد" "ومن يهد ال فما له من مضل" وأشباه ذلك ما
قوبل فيه بي الدى والضلل .فإنه بقتضي أنما ضدان وليس بينهما واسطة تعتب ف الشرع ،فدل
على أن البدع الكروهة خروج عن الدى .
ونظيه ف الخالفات الت ليست ببدع ،الكروهة من الفعال ،كاللتفات اليسي ف الصلة من غي
حاجة ،
والصلة وهو يدافعه الخبثان وما أشبه ذلك .
220
الشاطبي كتاب العتصام
221
الشاطبي كتاب العتصام
واحدة ف الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيي الكراهة الت معناها نفي إث فاعلها وارتفاع الرج
البتة ،فهذا ما ل يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ول من كلم الئمة على الصوص .
أماالشرع ففيه ما يدل على خلف ذلك ،لن رسول ال صلى ال عليه وسلم رد على من قال :
"أما أنا فأقوم الليل ول أنام " ،وقال الخر " :أما أنا فل أنكح النساء " إل آخر ما قالوا ،فرد
عليهم ذلك صلى ال عليه وسلم وقال ":من رغب عن سنت فليس من ".
وهذه العبارة أشد شيء ف النكار ،ول يكن ما التزموا إل فعل مندوب أو ترك مندوب إل فعل
مندوب آخر ،وكذلك ما ف الديث "أنه عليه السلم رأى رجلً قائما ف الشمس فقال :ما بال
هذا ؟ قالوا :نذر أن ل يستظل ول يتكلم ول يلس ويصوم ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم
:مره فليجلس وليستظل وليتم صومه " قال مالك :أمره أن يتم ما كان ل عليه فيه طاعة ،ويترك ما
كان عليه فيه معصية .
ويعضد هذا الذي قاله مالك ما ف البخاري عن قيس بن أب حازم ،قال دخل أبو بكر على امرأة من
أحس يقال لا زينب فرآها ل تتكلم ،فقال :
ما لا فقال حجت مصمتة قال لا :تكلمي ،فإن هذا ل يل ،هذا من عمل الاهلية فتكلمت
الديث إل .
وقال مالك أيضا ف قوله عليه الصلة والسلم :
"من نذر أن يعصي ال فل يعصيه"إن ذلك أن ينذر الرجل أن يشي إل الشام وإل مصر وأشباه ذلك
ما ليس فيه طاعة ،أو أن ل أكلم فلنا ،فليس عليه ف ذلك شيء إن هو كلمه لنه ليس ل ف هذه
الشياء طاعة ،وإنا يوف ل بكل نذر فيه طاعة من مشي إل بيت ال أو صيام أو صدقة أو صلة ،
فكل ما ل فيه طاعة فهو واجب على من نذره .
فتأمل كيف جعل القيام ف الشمس وترك الكلم ونذر الشي إل الشام أو مصر معاصي ،حت فسر
فيها الديث الشهور ،مع أنا ف أنفسها أشياء مباحات ،لكنه لا أجراها مرى ما يتشرع به ويدان
ل به صارت عند مالك معاصي ل ،وكلية قوله " :كل بدعة ضللة " شاهدة لذا العن ،
والميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد ،وهي خاصية الحرم .
وقد مر ما روى الزبي بن بكار وأتاه رجل فقال :يا أبا عبد ال ! من أين أحرم ؟ قال من ذي
الليفة من حيث أحرم رسول ال صلى ال عليه وسلم .فقال :إن أريد أن أحرم من السجد :
فقال :ل تفعل .قال :غن أريد أن أحرم من السجد من عند القب .قال :ل تفعل فإن أخشى
عليك الفتنة .قال :وأي فتنة ف هذا ؟ إنا هي أميال أزيدها ،قال :وأي فتنة أعظم من أن ترى
أنك سبقت إل فضيلة قصر عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ إن سعت ال تعال يقول :
"فليحذر الذين يالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" .
222
الشاطبي كتاب العتصام
فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة ف الحرام من موضع فاضل ل بقعة أشرف منه ،وهو مسجد ال
ورسول ال صلى ال عليه وسلم وموضع قبه ،لكنه أبعد من اليقات فهو زيادة ف التعب قصدا
لرضا ال ورسوله ،فبي أن ما استسهله من ذلك المر اليسي ف بادىء الرأي ياف على صاحبه
الفتنة ف الدنيا والعذاب ف الخرة ،واستدل بالية .فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ
ف معن الية ،فأين كراهية التنيه ف هذه المور الت يظهر بأول النظر أنا سهلة ويسية؟ .
وقال ابن حبيب :أخبن ابن الاجشون أنه سع مالكا يقول :التثويب ضلل ؟ قال مالك :ومن
أحدث ف هذه المة شيئا ل يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خان
الدين ،لن ال تعال يقول " :اليوم أكملت لكم دينكم" فما ل يكن يومئذ دينا ،ل يكون اليوم
دينا .
وإنا التثويت الذي كرهه أن الؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بي الذان والقامة :قد قامت
الصلة ،حي على الصلة ،حي على الفلح وهو قول إسحاق بن راهوية أنه التثويب الحدث .
قال الترمذي لا نقل هذا عن سحنون :وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل
العلم ،والذي أحدثوه بعد النب صلى ال عليه وسلم .وإذا اعتب هذا اللفظ ف نفسه فكل أحد
يستسهله ف بادىء الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكي بالصلة .
وقصة صبيغ العراقي ظاهرة ف هذا العن ،فحكة ابن وهب قال :حدثنا مالك بن أنس قال :جعل
صبيغ يطوف بكتاب ال معه ،ويقول :من يتفقه يفقهه ال ،من يتعلم يعلمه ال ،فأخذه عمر بن
الطاب رضي ال عنه فضربه بالريد الرطب ،ث سجنه حت إذا خف الذي به أخرجه فضربه ،
فقال :يا أمي الؤمني! إن كنت تريد قتلي فأجهز علي ،وإل فقد شفيتن شفاك ال فخله عمر .
قال ابن وهب :قال مالك ،وقد ضرب عمر بن الطاب رضي ال عنه صبيغا حي بلغه ما يسأل
عنه من القرآن وغي ذلك اهـ .
وهذا الضرب إنا كان لسؤاله عن أمور من القرآن ل ينبن عليها عمل وربا نقل عنه أنه كان يسأل
عن السابات سبحا ،والرسلت عرفا وأشباه ذلك ،والضرب إنا يكون لناية أربت على كراهية
التنيه ،إذ ل يستباح دم امرىء مسلم ،ول عرضه بكروه كراهية تنيه ،ضربه إياه خوف البتداع
ف الدين أن يشتغل منه با ل ينبن عليه عمل ،وأن يكون ذلك ذريعة ،لئل يبحث عن التشابات
القرآنية ولذلك لا قرأ عمر بن الطاب رضي ال عنه " :وفاكهة وأبا" قال :هذه الفاكهة ،فما
الب ! ث قال :ما أمرنا بذا .
وف رواية :نينا عن التكلف .
وجاء ف قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث أنه ضربه مرتي ث أراد أن يضربه الثالثة فقال له
ل ،وإن كنت تريد أن تداوين فقد وال برئت .فأذن له صبيغ :إن كنت تريد قتلي فاقتلن قتلً جي ً
223
الشاطبي كتاب العتصام
إل أرضه ،وكتب إل أب موسى الشعري رضي ال عنه أن ل يالسه أحد من السلمي ،فاشتد
ذلك على الرجل ،فكتب أبو موسى إل عمر أن قد حسنت سيئتة ،فكتب إليه عمر أن يأذن للناس
بجالسته .والشواهد ف هذا العن كثية ،وهي تدل على أن الي عند الناس من البدع شديد وليس
بي "وتسبونه هينا وهو عند ال عظيم" .
وأما كلم العلماء فإنم وإن أطلقوا الكراهية ف المور النهي عنها ل يعنون با كراهية التنيه فقط ،
وإنا هذا اصطلح للمتأخرين حي أرادوا أن يفرقوا بي القبلتي .فيطلقون لفظ الكراهية على
كراهية التنيه فقط ،ويصون كراهية التحري بلفظ التحري والنع ،وأشباه ذلك .
وأما التقدمون من السلف فإنم ل يكن من شأنم فيما ل نص فيه صريا أن يقولوا :هذا حلل
وهذا حرام .ويتحامون هذه العبارة خوفا ما ف الية من قوله " :ول تقولوا لا تصف ألسنتكم
الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على ال الكذب" وحكى مالك عمن تقدمه هذا العن .فإذا
وجدت ف كلمهم ف البدعة أو غيها :أكره هذا ،ول أحب هذا ،وهذا مكروه .وما أشبه
ذلك ،فل تقطعن على أنم يريدون التنيه فقط ،فإنه إذا دل الدليل ف جيع البدع على أنا ضللة
فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنيه ؟ اللهم إل أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له
أصل ف الشرع ،ولكن يعارضه أمر آخر معتب ف الشرع فيكره لجله ،ل لنه بدعة مكروهة ،
على تفصيل يذكر ف موضعه .
وأما ثالثا :فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مالفة للمكروه من النهيات
الخالفة التامة .وبيان ذلك من أوجه :
ل على العفو اللزم فيه ،
أحدها :أن مرتكب الكروه إنا قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متك ً
ورفع الرج الثابت ف الشريعة ،فهو إل الطمع ف رحة ال أقرب .وأيضا فليس عقده اليان
بتزحزح ،لنه يعتقد الكروه مكروها كما يعتقد الرام حراما وإن ارتكبه ،فهو ياف ال
ويرجوه ،والوف والرجاء شعبتان من شعب اليان .
فكذلك مرتكب الكروه يرى أن الترك أول ف حقه من الفعل ،وأن نفسه المارة زينت له الدخول
فيه .ويود لو ل يفعل ،وايضا فل يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا ف القلع سواء عليه
أخذ ف أسباب القلع أم ل .
ومرتكب أدن البدع يكاد يكون على ضد هذه الحوال ،فإنه يعد ما دخل فيه حسنا ،بل يراه أول
با حد له الشارع ،فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه ؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلً ،ونلته أول
بالتباع .هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع باليات والحاديث أنه متبع للهوى .
وسيأت لذلك تقرير إن شاء ال .
224
الشاطبي كتاب العتصام
وقد مر ف أول الباب الثان تقرير لملة من العان الت تعظم أمر البدع على الطلق ،وكذلك مر
ف آخر الباب أيضا أمور ظاهرة ف بعد ما بينهما وبي كراهية التنيه فراجعها هنالك يتبي لك
مصداق ما أشي إليه ها هنا ،وبال التوفيق .
والاصل أن النسبة بي الكروه من العمال وبي أدن البدع بعيد اللتمس .
فصل إذا ثبت هذا انتقلنا منه إل معن آخر :وهو أن الحرم ينقسم ف الشرع إل ما هو صغية
وإل ما هو كبية
إذا ثبت هذا انتقلنا منه إل معن آخر :وهو أن الحرم ينقسم ف الشرع إل ما هو صغية وإل ما هو
كبية ـ حسبما تبي ف علم الصول الدينية ـ فكذلك يقال ف البدع الحرمة :إنا تنقسم إل
الصغية والكبية اعتبارا بتفاوت درجاتا ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن العاصي تنقسم إل
الصغية والكبية .ولقد اختلفوا ف الفرق بينهما على أوجه وجيع ما قالوه لعله ل يوف بذلك
القصود على الكمال فلنترك التفريع عليه .
وأقرب وجه يلتمس لذا الطلب ما تقرر ف كتاب الوافقات أن الكبائر منحصرة ف الخلل
بالضروريات العتبة ف كل ملة .وهي الدين والنفس والنسل والعقل والال ،وكل ما نص عليه
راجع إليها ،وما ل ينص عليه جرت ف العتبار والنظر مراها ،وهو الذي يمع أشتات ما ذكره
العلماء وما ل يذكروه ما هو ف معناه .
فكذلك نقول ف كبائر البدع :ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبية ،وما ل ،فهي
صغية .وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب .فكما انصرت كبائر العاصي أحسن انصار ـ
حسبما أشي إليه ف ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا ،وعند ذلك يعترض ف
السألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه ف إثبات الصغائر فيها .وذلك أن جيع
البدع راجعة إل الخلل بالدين إما أصلً وإما فرعا ،لنا إنا أحدثت لتلحق بالشروع زيادة فيه أو
نقصانا منه أو تغييا لقوافيه ،أو ما يرجع إل ذلك وليس ذلك بختص بالعبادات دون العادات ،
وإن قلنا بدخولا ف العادات ،بل تنع ف الميع .وإذا كانت بكليتها إخللً بالدين فهي إذا إخلل
بأول الضروريات وهو الدين ،وقد أثبت الديث الصحيح أن كل بدعة ضللة ،وقال ف الفرق :
" كلها ف النار إل واحدة" وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل .
وهذا وإن تفاوتت مراتبها ف الخلل بالدين فليس ذلك بخرج لا عن أن تكون كبائر ،كما أن
القواعد المس أركان الدين وهي متفاوتة ف الترتيب ،فليس الخلل بالشهادتي كالخلل
بالصلة ،ول الخلل بالصلة كالخلل بالزكاة ،ول الخلل بالزكاة كالخلل برمضان ،
وكذلك سائرها مع الخلل ،فكل منها كبية .فقد آل النظر إل أن كل بدعة كبية .
225
الشاطبي كتاب العتصام
وياب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره ،ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغية
من أوجه :
أحدها :أنا نقول :الخلل بضرورة النفس كبية بل إشكال ،ولكنها على مراتب أدناها ل يسمى
كبية ،فالقتل كبية ،وقطع العضاء من غي إجهاز كبية دونا ،وقطع عضو واحد كبية دونا ،
وهلم جرا إل أن تنتهي إل اللطمة ،ث إل أقل خدش يتصور ،فل يصح أن يقال ف مثله كبية ،
كما قال العلماء ف السرقة :إنا كبية لنا إخلل بضرورة الال .فإن كانت السرقة ف لقمة أو
تطفيف ببة فقد عدوه من الصغائر .وهذا ف ضرورة الدين أيضا .
فقد جاء ف بعض الحاديث عن حذيفة رضي ال عنه قال :
أول ما تفقدون من دينكم المانة ،وآخر ما تفقدون الصلة ،ولتنقضن عرى اليان عرو ًة عروة ،
وليصلي نساء وهن حيض ـ ث قال ـ حت تبقى فرقتان من فرق كثية تقول إحداها :ما بال
الصلوات المس ؟ لقد ضل من كان قبلنا ،إنا قال ال " :وأقم الصلة طرف النهار وزلفا من الليل"
ل تصلن إل ثلثا .وتقول أخرى :إنا لنؤمن بال إيان اللئكة ،ما فينا كافر ،حق على ال أن
يشرها مع الدجال فهذا الثر ـ وإن ل تلتزم عهده صحته ـ مثال من أمثلة السألة .
فقد نبه على أن ف آخر الزمان من يرى أن الصلوات الفروضة ثلث ل خس ،وبي أن من النساء
من يصلي وهن حيض .كأنه يعن بسبب التعمق وطلب الحتياط بالوساوس الارج عن السنة .
فهذه مرتبة دون الول .
وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خس ركعات ل أربع ركعات ،ث وقع ف العتبية .
قال ابن القاسم :وسعت مالكا يقول :أول من أحدث العتماد ف الصلة ـ حت ل يرك رجليه
ـ رجل قد عرف وسي إل أن ل أحب أن أذكره ،وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) قال :
قد عيب ذلك عليه ،وهذا مكروه من الفعل .قالوا :ومساء أي يساء الثناء عليه .
قال ابن رشد :جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه ف الصلة ،قاله ف الدونة ،وإنا كره أن
يقرنما حت ل يعتمد على إحداها دون الخرى ،لن ذلك ليس من حدود الصلة إذ ل يأت ذلك
عن النب صلى ال عليه وسلم ول عن أحد من السلف والصحابة الرضيي ،وهو من مدثات المور
:انتهى .
فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من ماسن الصلة وإن ل يأت به أثر ـ فيقال ف مثله :إنه من
كبار البدع .كما يقال ذلك ف الركعة الامسة ف الظهر ونوها ،بل إنا يعد مثله من صغائر البدع
إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنيه ،وإذا ثبت ذلك ف بعض المثلة ف قاعدة الدين ،
فمثله يتصور ف سائر البدع الختلفة الراتب ،فالصغائر ف البدع ثابتة كما أنا ف العاصي ثابتة .
226
الشاطبي كتاب العتصام
والثان :أن البدع تنقسم إل ما هي كلية ف الشريعة وإل جزئية ،ومعن ذلك أن يكون اللل الواقع
بسبب البدعة كليا ف الشريعة ،كبدعة التحسي والتقبيح العقليي ،وبدعة إنكار الخبار السنية
اقتصارا على القرآن ،وبدعة الوارج ف قولم :ل حكم إل ل .وما أشبه ذلك من البدع الت ل
تتص فرعا من فروع الشريعة دون فرع ،بل ستجدها تنتظم ما ل ينحصر من الفروع الزئية ،أو
يكون اللل الواقع جزئيا إنا يأت ف بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلة الذي قال فيه
مالك :التثوب ضلل وبدعة الذان والقامة ف العيدين ،وبدعة العتماد ف الصلة على إحدى
الرجلي ،وما أشبه ذلك .فهذا القسم ل تتعدى فيه البدعة ملها ،ول تنتظم تتها غيها حت
ل لا .
تكون أص ً
فالقسم الول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلً تت عموم الثنتي
والسبعي فرقة ،ويكون الوعيد الت ف الكتاب والسنة مصوصا به ل عاما فيه وف غيه ،ويكون
ما عدا ذلك من قبيل اللمم الرجو فيه العفو الذي ل ينحصر إل ذلك العدد ،فل قطع على أن
جيعها من واحد ،وقد ظهر وجه انقسامها .
والثالث :أن العاصي قد ثبت انقسامها إل الصغائر والكبائر ،ول شك أن البدع من جلة العاصي
ـ على مقتضى الدلة التقدمة ـ ونوع من أنواعها ،فاقتضى إطلق التقسيم أن البدع تنقسم
أيضا ،ول يصص وجوها بتعميم الدخول ف الكبائر ،لن ذلك تصيص من غي مصص ،ولو
كان ذلك معتبا لستثن من تقدم من العلماء القائلي بالتقسيم ،قسم البدع ،فكانوا ينصون على
أن العاصي ما عدا البدع تنقسم إل الصغائر والكبائر ،إل أنم ل يلتفتوا إل الستثناء وأطلقوا القول
بالنقسام ،فظهر أنه شامل لميع أنواعها .
فإن قيل :إن ذلك التفاوت ل دليل فيه على إثبات الصغية مطلقا ،وإنا يدل ذلك على أنا تتفاضل
،فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف ،والفة هل تنتهي إل حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم ؟
هذا فيه نظر ،وقد ظهر معن الكبية والصغية ف العاصي غي البدع .
وأما ف البدع فثبت لا أمران :
أحدها :أنا مضادة للشارع ومراغمة له ،حيث نصب البتدع نفسه نصب الستدرك على
الشريعة ،ل نصب الكتفي با حد له .
والثان :أن كل بدعة ـ وإن قلت ـ تشريع زائد أو ناقص ،أو تغي للصل الصحيح ،وكل ذلك
قد يكون على النفراد ،وقد يكون ملحقا با هو مشروع ،فيكون قادحا ف الشروع .ولو فعل
أحد مثل هذا ف نفس الشريعة عامدا لكفر ،إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيي ـ قل أو كثر ـ
كفر ،فل فرق بي ما قل منه وما كثر .فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه ،أو
227
الشاطبي كتاب العتصام
ألقه بالشروع إذا ل تكفره ل يكن ف حكمه فرق بي ما قل منه وما كثر ،لن الميع جناية ل
تملها الشريعة بقليل ول بكثي .
ويعضد هذا النظر عموم الدلة ف ذم البدع من غي استثناء ،فالفرق بي بدعة جزئية وبدعة كلية ،
وقد حصل الواب عن السؤال الول والثان .
وأما الثالث :فل حجة فيه لن قوله عليه السلم " :كل بدعة ضللة" وما تقدم من كلم السلف
يدل على عموم الذم فيها .وظهر أنا مع العاصي ل تنقسم ذلك النقسام ،بل إنا ينقسم ما سواها
من العاصي .واعتب با تقدم ذكره ف الباب الثان يتبي لك عدم الفرق فيها .وأقرب منها عبارة
تناسب هذا التقرير أن يقال :كل بدعة كبية عظيمة بالضافة إل ماوزة حدود ال بالتشريع ،إل
أنا وإن عظمت لا ذكرناه ،فإذا نسب بعضها إل بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار ،
إما بإعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض ،فالشد عقابا أكب ما دونه ،وإما بإعتبار فوت الطلوب
ف الفسدة ،فكما انقسمت الطاعة بإتباع السنة إل الفاضل والفضل ،لنقسام مصالها إل
الكامل والكمل ،انقسمت البدع لنقسام مفاسدها إل الرذل والرذل ،والصغر والكب ،من باب
النسب والضافات ،فقد يكون الشيء كبيا ف نفسه لكنه صغي بالنسبة إل ما هو أكب منه .
وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الرمي لكن ف انقاسم العاصي إل الكبائر والصغائر فقال :الرضي
عندنا أن كل ذنب كبي وعظيم بالضافة إل مالفة ال ،ولذلك يقال :معصية ال أكب من معصية
العباد ،قولً مطلقا ،إل أنا وإن عظمت لا ذكرناه ،فإذا نسب بعضها إل بعض تفاوتت رتبها .ث
ذكر معن ما تقدم ،ول يوافقه غيه على ما قال وإن كان له وجه ف النظر وقعت الشارة إليه ف
كتاب الوافقات .ولكن الظاهر يأب ذلك ـ حسبما ذكره غيه من العلماء ـ والظواهر ف البدع
ل تأب كلم المام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من
التشابات ،كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنيه عنها من الواضحات .
فليتأمل هذا الوضع أشد التأمل ويعط من النصاف حقه ،ول ينظر إل خفة المر ف البدعة بالنسبة
إل صورتا وإن دقت ،بل ينظر إل مصادمتها للشريعة ورميها لا بالنقص والستدراك ،وأنا ل
تكمل بعد حت يوضع فيها ،بلف سائر العاصي فإنا ل تعود على الشريعة بتنقيص ول غص من
جانبها ،بل صاحب العصية متنصل منها ،مقر ل بخالفتة لكمها .
وحاصل العصية أنا مالفة ف فعل الكلف لا يعتقد صحته من الشريعة ،والبدعة حاصلها مالفة ف
اعتقاد كمال الشريعة ،ولذلك قال مالك بن أنس :من أحدث ف هذه المة شيئا ل يكن عليه
سلفها فقد زعم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ،لن ال يقول " :اليوم أكملت
لكم دينكم" إل آخر الكاية .وقد تقدمت .
228
الشاطبي كتاب العتصام
ومثلها جوابه لن أراد أن يرم من الدينة وقال :أي فتنة فيها ؟ إنا هي أميال أزيدها .فقال :وأي
فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلً قصر عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم ،إل آخر الكاية ،
وقد تقدمت أيضا ،فإذا يصح أن يكون ف البدع ما هو صغية .
فالواب :ان ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء ال أنا تقيق ف تشقيق هذه السألة .
وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالا بكونا بدعة وأن يكون غي عال بذلك .وغي العال
بكونا بدعة على ضربي ،وها الجتهد ف استنباطها وتشريعها والقلد له فيها .وعلى كل تقدير
فالتأويل يصاحبه فيها ول يفارقه إذا حكمنا له بكم أهل السلم ،لنه مصادم للشارع مراغم
للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له ،فل بد له من تأويل كقوله :هي بدعة ولكنها
مستحسنة أو يقول :إنا بدعة ولكن رأيت فلنا الفاضل يعمل با أو يقر با ولكنه يفعلها لظ
عاجل ،كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه ،أو فرارا من خوف على حظه ،أو
فرارا من العتراض عليه ف اتباع السنة ،كما هو الشأن اليوم ف كثي من يشار إليه ،وما أشبه
ذلك .
وأما غي العال وهو الواضع لا ،لنه ل يكن أن يعتقدها بدعة ،بل هي عنده ما يلحق
الشروعات ،كقول من جعل يوم الثني يصام لنه يوم مولد النب صلى ال عليه وسلم ،وجعل
الثان عشر من ربيع الول ملحقا بأيام العياد لنه عليه السلم ولد فيه ،وكمن عد السماع والغناء
ما يتقرب به إل ال بناء على أنه يلب الحوال السنية ،أو رغب ف الدعاء بئية الجتماع ف أدبار
الصلوات دائما بناء على ما جاء ف ذلك حالة الواحدة ،أو زاد ف الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر
ف زعمه سنة ممد صلى ال عليه وسلم .فلما قيل له :إنك تكذب عليه وقد قال :
" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" قال :ل أكذب عليه وإنا كذبت له .أو نقص
ل عليها لقوله تعال ف ذم الكفار " :إن يتبعون إل الظن وإن الظن ل يغن من الق شيئا" منها تأوي ً
فأسقط اعتبار الحاديث النقوله بالحاد لذلك ولا أشبه ،لن خب الواحد ظن ،فهذه كلها من قبل
التأويل .
وأما القلد فكذلك أيضا لنه يقول :فلن القتدى به يعمل بذا العمل ويثن عليه ،كاتاذ الغناء
جزءا من أجزاء طريقة التصوف بنا ًء على أن شيوخ التصوف قد سعوه وتواجدوا عليه ،ومنهم من
مات بسببه ،وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لنم قد فعلوه ،وأكثر ما يقع مثل هذا
ف هؤلء النتمي إل التصوف .
وربا احتجوا على بدعتهم بالنيد و البسطامي والشبلي وغيهم فيما صح عندهم أو ل يصح ،
ويتركون أن يتجوا بسنة ال ورسوله وهي الت ل شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها الكبون
229
الشاطبي كتاب العتصام
على فهمها وتعلمها .ولكنهم مع ذلك ل يقرون باللف للسنة بثا ،بل يدخلون تت أذيال
ل.التأويل ،إذ ل يرضى منتم إل السلم بإبداء صفحة اللف للسنة أص ً
وإذا كان كذلك فقول مالك :من أحدث ف هذه المة شيئا ل يكن عليه سلفها فقد زعم أن النب
صلى ال عليه وسلم خان الرسالة .وقوله لن أراد أن يرم من الدينة :أي فتنة أعظم من أن تظن
أنك سبقت إل فضيلة قصر عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ إل آخر الكاية ،إنا إلزام
للخصم على عادة أهل النظر ،كأنه يقول :يلزمك ف هذا القول كذا .لنه يقول :قصدت إليه
قصدا ،لنه ل يقصد إل ذلك مسلم ،ولزم الذهب :هل هو نذهب أم ل ؟ هي مسألة متلف
فيها بي أهل الصول ،والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والغربيون ويرون أنه رأي الحققي
أيضا :أن لزم الذهب ليس بذهب ،فلذلك إذا قرر على الصم أنكره غاية النكار ،فإذا اعتبار
ذلك العن على التحقيق ل ينهض ،وعند ذلك تستوي البدعة مع العصية صغائر وكبائر ،فكذلك
البدع .
ث إن البدع على ضربي :كلية وجزئية ،فأما الكلية فهي السارية فيما ل ينحصر من فروع الشريعة
،ومثالا بدع الفرق الثلث والسبعي ،فإنا متصة بالكليات منها دون الزئيات ،حسبما يتبي بعد
إن شاء ال .
وأما الزئية فهي الواقعة ف الفروع الزئية ،ول يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تت الوعيد
بالنار ،وإن دخلت تت الوصف بالضلل ،كما ل يتحقق ذلك ف سرقة لقمة أو التطفيف ببه ،
ل تت وصف السرقة ،بل التحقق دخول عظائمها وكلياتا كالنصاب ف وإن كان داخ ً
فصل وإذا قلنا :إن من البدع ما يكون صغية
وإذا قلنا :إن من البدع ما يكون صغية ،فذلك بشروط :
أحدها :أن ل يدوام عليها ،فإن الصغية من العاصي لن داوم عليها تكب بالنسبة إليه ،لن ذلك
ناشىء عن الصرار عليها ،والصرار على الصغية يصيها كبية ،ولذلك قالوا " :ل صغية مع
إصرار ،ول كبية مع استغفار " فكذلك البدعة من غي فرق ،إل أن العاصي من شأنا ف الواقع
أنا قد يصر عليها ،وقد ل يصر عليها ،وقد ل يصر عليها ،وعلى ذلك ينبن طرح الشهادة
وسخطه الشاهد با أو عدمه ،بلف البدعة فإن شأنا ف الداومة والرص على أن ل تزال من
موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة ،وتنطلق عليه ألسنة اللمة ،ويرمى بالتسفيه والتجهيل ،
وينبز بالتبديع والتضليل ،ضد ما كان عليه سلف هذه المة ،والقتدى بم من الئمة ،والدليل على
ذلك العتبار والنقل ،فإن أهل البدع كان من شأنم القيام بالنكي على أهل السنة إن كان لم
عصبة ،أو لصقوا بسلطان تري أحكامه ف الناس وتنفذ أوامره ف القطار ،ومن طالع سي
التقدمي ،وجد من ذلك ما ل يفى .
230
الشاطبي كتاب العتصام
وأما النقل ،فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت ل تزيد إل مضيا ،وليست كذلك
العاصي ،فقد يتوب صاحبها وينيب إل ال ،بل قد جاء ما يشد ذلك ف حديث الفرق ،حيث
جاء ف بعض الروايات :
تتجارى بم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن البتدع ل توبة له
منها حسبما تقدم .
والشرط الثان :أن ل يدعو إليها ،فإن البدعة قد تكون صغية بالضافة ،ث يدعو مبتدعها إل
القول با والعمل على مقتضاها فيكون إث ذلك كله عليه ،فإنه الذي أثارها ،وسبب كثرة وقوعها
والعمل با ،فإن الديث الصحيح قد أثبت :
" أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل با ل ينقص ذلك من أوزارهم شيئا "
والصغية مع الكبية إنا تفاوتا بسب كثرة الث وقلته ،فربا تساوي الصغية ـ من هذا الوجه ـ
الكبية أو ترب عليها .
وف هذا الوجه قد يتعذر الروج ،فإن العصية فيما بي العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما
يتعذر عليه مع الدعاء إليها ،وقد مر ف باب ذم البدع وباقي الكلم ف السألة سيأت إن شاء ال .
والشرط الثالث :أن ل تفعل ف الواضع الت هي متمعات الناس ،أو الواضع الت تقام فيها السنن ،
وتظهر فيها أعلم الشريعة ،فأما إظهارها ف الجتمعات من يقتدى به أو بن يسن به الظن فذلك
من أضر الشياء على سنة السلم ،فإنا ل تعدو أمرين :إما أن يقتدى بصاحبها فيها ،فإن العوام
أبتاع كل ناعق ،ل سيما البدع الت وكل الشيطان بتحسينها للناس ،والت للنفوس ف تسينها
هوى ،وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغية كبت بالنسبة إليه ،لن كل من دعا إل ضللة كان
عليه وزرها ووزر من عمل با ،فعلى حسب كثرة التباع يعظم عليه الوزر .
وهذا بعينه موجود ف صغائر العاصي ،فإن العال مثلً إذا أظهر العصية ـ وإن صغرت ـ سهل
على الناس ارتكابا ،فإن الاهل يقول :لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب ،ل يرتكبه ،وإنا
ارتكبه لمر علمه دوننا .فكذلك البدعة إذا أظهرها العال القتدى فيها ،ل مالة ،فإنا ف مظنة
التقرب ف ظن الاهل ،لن العال يفعلها على ذلك الوجه ،بل البدعة أشد ف هذا العن ،إذ الذنب
قد ل يتبع عليه ،بلف البدعة فل يتحاشى أحد عن اتباعه إل من كان عالا بأنا بدعة مذمومة ،
فحينئذ يصي ف درجة الذنب ،فإذا كانت كذلك صارت كبية بل شك ،فإن كان داعيا إليها فهو
أشد ،وإن كان الظهار باعثا على التباع ،فبالدعاء يصي أدعى إليه .
وقد روي عن السن أن رجلً من بن إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع ،وأنه لا عرف
ذنبه عمد إل ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ث جعل فيها سلسلة ث أوثقها ف شجرة فيجعل يبكي
231
الشاطبي كتاب العتصام
ويعج إل ربه ،فأوحى ال إل نب تلك المة أن ل توبة له قد غفر له الذي أصاب .فكيف بن ضل
فصار من أهل النار ؟
وأما اتاذها ف الواضع الت تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ،لن عمل إظهار الشرائع
السلمية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر ،فكأن الظهر لا يقول :هذه سنة فاتبعوها .
قال أبو مصعب :قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بي يدي الصف ،فلما سلم المام رمقه
الناس بأبصارهم ورمقوامالكا ـ وكان قد صلى خلف المام ـ فلما سلم قال :من ها هنا من
الرس ؟ فجاءه نفسان فقال :خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه :فحبس ،فقيل له :إنه ابن مهدي
فوجه إليه وقال له :ما خفت ال واتقيته أن وضعت ثوبك بي يديك ف لصف ،وشغلت الصلي
بالنظر إليه ،وأحدثت ف مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النب صلى ال عليه وسلم :
" من أحدث ف مسجدنا حدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس أجعي" فبكى ابن مهدي وآل على
نفسه أن ل يفعل ذلك أبدا ف مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم ول ف غيه .
وف رواية عن ابن مهدي قال :فقال :يا عبد الرحن ! تصلي مستلبا ؟ فقلت :يا أبا عبد ال ،إنه
كان يوما حارا ـ كما رأيت ،فثقل ردائي علي .فقال :آل ما أردت بذلك الطعن على من مضى
واللف عليه ؟ قلت :آل ،قال :خلياه .
وحكى ابن وضاح قال :ثوب الؤذن بالدينة ف زمان مالك ،فأرسل إليه مالك فجاءه ،فقال له
مالك :ما هذا الذي تفعل ؟ فقال :أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون .فقال له مالك :
ل تفعل ،ل تدث ف بلدنا شيئا ل يكن فيه ،قد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بذا البلد
عشر سني وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ،فل تدث ف بلدنا ما ل يكن فيه ،فكف
الؤذن عن ذلك وأقام زمانا ،ث إنه تنحنح ف النارة عند طلوع الفجر ،فأرسل إليه مالك فقال له :
ما الذي تفعل ؟ قال :أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر .فقال له :أل أنك أن ل تدث عندنا
ما ل يكن ؟ فقال :إنا نيتن عن التثويب .فقال له :ل تفعل .فكف زمانا .ث جعل يضرب
البواب ،فأرسل إليه مالك فقال :ما هذا الذي تفعل :أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر .فقال
له مالك :ل تفعل ،ل تدث ف بلدنا ما ل يكن فيه .
قال ابن وضاح :وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنا أحدث هذا بالعراق .قيل لـابن
وضاح :فهل كان يعمل به بكة أو الدينة أو مصر أو غيها من المصار ؟ فقال :ما سعته إل عند
بعض الكوفيي والباضيي .
فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يف شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمرا مدثا ،
وقد قال ف التثويب :إنه ضلل ،وهو بي ،لن :
232
الشاطبي كتاب العتصام
" كل مدثة بدعة وكل بدعة ضللة" ول يسامح للمؤذن ف التنحنح ول ف ضرب البواب ،لن
ذلك جدير بأن يتخذ سنة ،كما منع من وضع رداء عبد الرحن بن مهدي خوف أن يكون حدثا
أحدثه .
وقد أحدث بالغرب التسمى بالهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولم أصبح ول المد إشعارا
بأن الفجر قد طلع ،للزام الطاعة ،ولضور الماعة ،وللغد ولكل ما يؤمرون به .فيخصه هؤلء
التأخرون تثويبا بالصلة كالذان .ونقل أيضا إل أهل الغرب الزب الحدث بالسكندرية ،وهو
العتاد ف جوامع الندلس وغيها ،فصار ذلك كله سنة ف الساجد إل الن ،فإنا ل وإنا إليه
راجعون .
وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن الؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بي الذان والقامة :
قد قامت الصلة ،حي على الصلة ،حي على الفلح .وهذا نظي قولم عندنا :الصلة ـ
رحكم ال .
وروي عن ابن عمر رضي ال عنهما أنه دخل مسجدا أراد أن يصلي فيه ،فثوب الؤذن ،فخرج
عبد ال بن عمر من السجد ،وقال :اخرج بنا من عند هذا البتدع ول يصل فيه .قال ابن رشد :
وهذا نو ما كان يفعل عندنا بامع قرطبة من أن يفرد الؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر
بقوله :حي على الصلة :ث ـ قال ـ وقيل :إنا عن بذلك قول الؤذن ف أذانه :حي على خي
العمل .لنا كلمة زادها ف الذان من خالف السنة من الشيعة .ووقع ف الجموعة :أن من سع
التثويب وهو ف السجد خرج عنه ،كفعل ابن عمر رضي ال عنهما .
وف السألة كلم ،القصود منه التثويب الكروه الذي قال فيه مالك :إنه ضلل ،والكلم يدل على
التشديد ف المور الحدثة أن تكون ف مواضع الماعة ،أو ف الواطن الت تقام فيها السنن ،
والحافظة على الشروعات أشد الحافظة ،لنا إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا با ،فكان
وزر ذلك عائدا على الفاعل أو ًل ،فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته .
والشرط الرابع :أن ل يستصغرها ول يستحقرها ـ وإن فرضناها صغية ـ فإن ذلك استهانة با ،
والستهانة بالذنب أعظم من الذنب ،فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغي ،وذلك أن الذنب له
نظران :نظر من جهة رتبته ف الشرط ،ونظر من جهة مالفة الرب العظيم به ،فأما النظر الول
فمن ذلك الوجه يعد صغيا إذا فهمنا من الشرع أنه صغي ،لنا نضعه حيث وضعه الشرع ،وأما
الخر فهو راجع إل اعتقادنا ف العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالخالفة ،والذي كان
يب ف حقنا أن نستعظم ذلك جدا ،إذ ل فرق ف التحقيق بي الواجهتي ـ الواجهة بالكبية ،
والواجهة بالصغية .
233
الشاطبي كتاب العتصام
ل ،لن تصورها موقوف عليهما ، والعصية من حيث هي معصية ل يفارقها النظران ف الواقع أص ً
فالستعظام لوقوعها مع كونا يعتقد فيها أنا صغية ل يتنافيان ،لنما اعتباران من جهتي :
فالعاصي وإن كان يعمل العصية ل يقصد بتعمده الستهانة بالانب العلي الربان ،وإنا قصد اتباع
شهوته مثلً فيما جعله الشارع صغيا أو كبيا ،فيقع الث على حسبه ،كما أن البدعة ل يقصد با
صاحبها منازعة الشارع ول التهاون بالشرع ،وإنا قصد الري على مقتضاه ،لكن بتأويل زاده
ورجحه على غيه ،بلف ما إذا تاون بصغرها ف الشرع فإنه إنا تاون بخالفة اللك الق ،لن
النهي حاصل ومالفته حاصلة ،والتهاون با عظيم ،ولذلك يقال :ل تنظر إل صغر الطيئة وانظر
إل عظيمة من واجهته با .
وف الصحيح " أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ف حجة الوداع :أي يوم هذا ؟ قالوا :يوم
الج الكب ،قال :فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا ف بلدكم
هذا ،ل ين جان إل على نفسه ،أل ل ين جان على ولده ول مولود على والده ،أل وإن
الشيطان قد يئس أن يعبد ف بلدكم هذا أبدا ،ول تكون له طاعة فيما تتقرون من أعمالكم
فسيضى به " ،فقوله عليه الصلة والسلم ":فسيضى به " دليل على عظم الطب فيما يستحقر .
وهذا الشرط ما اعتبه الغزال ف هذا القام ،فإنه ذكر ف الحياء أن ما تعظم به الصغية أن
يستصغرها ( .قال ) :فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند ال ،وكلما استصغره
كب عند ال .بي ذلك وبسطه .
فإذا تصلت هذه الشروط فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيتا صغية ،فإن تلف شرط منها أو أكثر
صارت كبية ،أو خيف أن تصي كبية ،كما أن العاصي كذلك ،وال أعلم .
الباب السابع :ف البتداع .هل يدخل ف المور العادية أم يتص بالمور العبادية؟
قد تقدم ف حد البدعة ما يقتضي اللف فيه :هل يدخل ف المور العادية أم ل ؟ أما العبادية فل
إشكال ف دخوله فيها ،وهي عامة الباب ،إذ المور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية ،وإما
أعمال جوارح من قول أو فعل ،وكل القسمي قد دخل فيه البتداع كمذهب القدرية والرجئة ،
والوارج والعتزلة ،وكذلك مذهب الباحة واختراع العبادات على غي مثال سابق ول أصل
مرجوع إليه .
وأما العادية فاقتضى النظر وقوع اللف فيها وأمثلتها ظاهرة ما تقدم ف تقسيم البدع ،كالكوس
والحدثة من الظال ،وتقدي الهال على العلماء ف الوليات العلمية وتولية الناصب الشريفة من
ليس لا بأهل بطريق الوراثة ،وإقامة صور الئمة وولة المور والقضاة ،واتاذ الناخل وغسل اليد
بالشنان ولبس الطيالس وتوسيع الكمام ،وأشباه ذلك من المور الت ل تكن ف الزمن الفاضل
234
الشاطبي كتاب العتصام
والسلف الصال ،فإنا أمور جرت ف الناس وكثر العمل با ،وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع ،
وصارت كالعبادات الخترعة الارية ف المة ،وهذا من الدلة الدالة على ما قلنا ،وإليه مال القراف
وشيخه ابن عبد السلم ،وذهب إليه بعض السلف .
فروى أبو نعيم الافظ ،عن ممد بن أسلم أنه ولد له ولد ـ قال ممد بن القاسم الطوسي ـ فقال
:اشتر ل كبشي عظيمي ودفع إل دراهم ،فاشتريت له وأعطان عشرة أخرى ،وقال ل :اشتر
با دقيقا ول تنخله واخبزه ،قال :فنخلت الدقيق وخبزته ث جئت به ،فقال :نلت هذا ؟
وأعطان عشرة أخرى وقال :اشتر به دقيقا ول تنخله واخبزه وحلته إليه ،فقال ل :يا أبا عبد ال
العقيقة سنة ،ونل الدقيق بدعة ،ول ينبغي أن يكون ف السنة بدعة ،ول أحب أن يكون ذلك
البز ف بيت بعد أن كان بدعة .وممد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الديث إسحاق بن راهوية
حيث سئل عن السواد العظم ف قوله عليه الصلة والسلم :
"عليكم بالسواد العظم" فقال :ممد واصحابه ،حسبما يأت ـ إن شاء ال ـ ف موضعه من هذا
الكتاب .
وأيضا ،فإن تصور ف العبادات وقوع البتداع وقع ف العادات لنه ل فرق بينهما فالمور الشروعة
تارة تكون عبادية وتارة عادية ،فكلها مشروع من قبل الشارع ،فكما تقع الخالفة بالبتداع ف
أحدها تقع ف الخر .
ووجه ثالث ،وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون ف آخر الزمان هي خارجة عن سنته .
فتدخل فيما تقدم تثيله ،لنا من جنس واحد .
ففي الصحيح عن عبد ال رضي ال عنه قال " :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :إنكم سترون
بعدي أثرة وأمورا تنكرونا ،قالوا :فما تأمرنا يا رسول ال ؟ قال :أدوا إليهم حقهم وسلوا ال
حقكم " ،وعن ابن عباس رضي ال عنهما "،عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال :
من كره من أميه شيئا فليصب" ،وف رواية " من رأى من أميه شيئا يكرهه فليصب عليه ،فإنه من
فارق الماعة شبا فمات ،مات ميتة جاهلية " .
وف الصحيح أيضا :
"إذا أسند المر إل غي أهله فانتظروا الساعة " .و" عن أب هريرة رضي ال عنه ،عن النب صلى
ال عليه وسلم قال :يتقارب الزمان ،ويقبض العلم ،ويلقى الشح ،وتظهر الفت ،ويكثر الرج ،
قال :يا رسول ال أيا هو ؟ قال :القتل القتل" .وعن أب موسى رضي ال عنه قال :قال النب
صلى ال عليه وسلم :
"إن بي يدي الساعة لياما ينل فيها الهل ويرفع فيها العلم ،ويكثر فيها الرج والرج القتل" .
235
الشاطبي كتاب العتصام
و"عن حذيفة رضي ال عنه .قال :حدثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حديثي ،رأيت أحدها
وأنا أنتظر الخر .حدثنا :أن المانة نزلت ف جذر قلوب الرجال ،ث علموا من القرآن ،ث علموا
من السنة" وحدثنا عن رفعها ث قال " :ينام النومة فتقبض المانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ،
ث ينام النومة فتقبض ،فيبقى أثرها مثل أثر الجل ،كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه ينتثر
وليس فيه شيء ،ويصبح الناس يتبايعون ول يكاد أحد يؤدي المانة .فيقال :إن ف بن فلن رجلً
أمينا .ويقال للرجل :ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده ! وما ف قلبه مثقال حبة خردل من إيان"
الديث .
وعن أب هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
" ل تقوم الساعة حت تقتتل فئتان عظيمتان ،يكون بينهما مقتلة عظيمة ،دعواها واحدة ،حت
يبعث دجالون كذابون قريب من ثلثي ،كلهم يزعم أنه رسول وحت يقبض العلم ،ث قال :وحت
يتطاول الناس ف البنيان" إل آخر الديث .
وعن عبد ال رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
" يرج ف آخر الزمان أحداث السنان ،سفهاء الحلم ،يقرؤون القرآن ،ل ياوز تراقيهم ،
يقولون من قول خي البية ،يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" .
ومن حديث أب هريرة رضي ال عنه أنه عليه الصلة والسلم قال " :بادروا بالعمال فتنا كقطع
الليل الظلم ،يصبح الرجل مؤمنا ويسي كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا" ،وف ذلك السن قال :
يصبح مرما لدم أخيه وعرضه وماله ،ويسي مستحلً له ،كأنه تأوله على الديث الخر .
"ل ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ،وال أعلم .
وعن أنس بن مالك رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن من أشراط الساعة
أن يرفع العلم ،ويظهر الهل ،ويفشو الزنا ،ويشرب المر ،وتكثر النساء ،ويقل الرجال ،حت
يكون للخمسي امرأة قيم واحد" .
ومن غريب حديث علي بن أب طالب رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"إذا فعلت أمت خس عشرة خصلة حل با البلء .قيل :وما هي يا رسول ال ؟ قال :إذا صار
الغنم دو ًل ،والمانة مغنما ،والزكاة مغرما ،وأطاع الرجل زوجته وعق أمه ،وبر صديقه ،وجفا
أباه ،وارتفعت الصوات ف الساجد ،وكان زعيم القوم أرذلم ،وأكرم الرجل مافة شره ،
وشربت المور ،ولبس الرير ،واتذت القيان والعازف ،ولعن آخر هذه المة أولا .فليتقبوا
عند ذلك ريا حراء ،وزلزلة وخسفا ،أو مسخا وقذفا" .
وف الباب عن أب هريرة رضي ال عنه قريب من هذا .
236
الشاطبي كتاب العتصام
وفيه " :ساد القبيلة فاسقهم ،وكان زعيم القوم أرذلم " وفيه " :ظهرت القيان والعازف " ،وف
آخره " :فليتقبوا عند ذلك ريا حراء ،وزلزلة ،وخسفا ،ومسخا ،وقذفا ،وآيات تتابع ،
كنظام بال قطع سلكه فتتابع" .
فهذه الحاديث وأمثالا ما أخب به النب صلى ال عليه وسلم أنه يكون ف هذه المة بعده إنا هو ـ
ف القيقة ـ تبديل العمال الت كانوا أحق بالعمل با ،فلما عوضوا منها غيها ،وفشا فيها كأنه
من العمول به تشريعا ،كان من جلة الوادث الطارئة على نو ما بي ف العبادات .
والذين ذهبوا إل أنه متص بالعبادات ل يسلمون جيع ما قاله الولون .
أما ما تقدم عن القراف وشيخه فقد مر الواب عنه ،فإنا معاص ف الملة ،ومالفات للمشروع ،
كلمكوس والظال وتقدي الهال على العلماء وغي ذلك .
والباح منها كالناخل ،إن فرض مباحا ـ كما قالوا ـ فإنا إباحته بدليل شرعي فل ابتداع فيه .
وإن فرض مكروها ـ كما أشار إليه ممد بن أسلم ـ فوجه الكراهية عنده كونا عدت من
الحدثات ،إذ ف المر :أول ما أحدث بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم الناخل ـ أو كما قال
ـ فأخذه بظاهر اللفظ من أخذ به ،كمحمد بن أسلم .
وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إل كراهيته قوله تعال " :أذهبتم طيباتكم ف
حياتكم الدنيا" الية ،ل من جهة أنه بدعة .
وقولم :كما يتصور ذلك ف العبادات يتصور ف العادات مسلم ،وليس كلمنا ف الواز العقلي ،
وإنا الكلم ف الوقوع ،وفيه الناع .
وأما ما احتجوا به من الحاديث فليس فيها على السألة دليل واحد ،إذ ل ينص على أنا بدع أو
مدثات ،أو ما يشي إل ذلك العن ،وأيضا إن عدوا كل مدث العادات بدعة ،فليعدوا جيع ما ل
يكن فيهم من الآكل والشارب واللبس والكلم والسائل النازلة الت ل عهد با ف الزمان الول
بدعا ،وهذا شنيع ،فإن من العوائد ما تتلف بسب الزمان والمكنة والسم ،فيكون كل من
خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غي متبعي لم ،هذا من الستنكر جدا
.
نعم ل بد من الحافظة ف العوائد الختلفة على الدود الشرعية والقواني الارية على مقتضى الكلم
والسنة .
وأيضا ،فقد يكون التزام الزي الواحد والالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لختلف
الخلق والزمنة والحوال ،والشريعة تأب التضييق والرج فيما دل الشرع على جوازه ول يكن ث
معارض .
237
الشاطبي كتاب العتصام
وإنا جعل الشارع ما تقدم ف الحاديث الذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها
وفحشها بالنسبة إل متقدم الزمان ،فإن الي كان أظهر ،والشر كان أخفى وأقل ،بلف آخر
الزمان فإن المر فيه على العكس ،والشر فيه أظهر والي أخفى .
وأما كون تلك الشياء بدعا فغي مفهوم على الطريقتي ف حد البدعة فراجع النظر فيها تده كذلك
.
والصواب ف السألة طريقة أخرى وهي تمع شتات النظرين ،وتقق القصود ف الطريقتي ،وهو
الذي بن عليه ترجة هذا الباب ،فلنفرده ف فصل على حدته وال الوفق للصواب .
238
الشاطبي كتاب العتصام
كذلك فقد ظهر اشتراك القسمي ف معن التعبد ،فإن جاء البتداع ف المور العادية من ذلك
الوجه ،صح دخوله ف العاديات كالعباديات ،وإل فل .
وهذه هي النكتة الت يدور عليها حكم الباب ،ويتبي ذلك بالمثلة فمما أتى به القراف من جواز
وضع الكوس ف معاملت الناس ،فل يلو هذا الوضع الحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات
وقتا ما ،أو ف حالة ما ،لنيل حطام الدنيا ،على هئية غصب الغاصب ،وسرقة السارق ،وقطع
القاطع للطريق ،وما أشبه ذلك ،أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الوضوع والمر
الحتوم عليهم دائما ،أو ف أوقات مدودة ،على كيفيات مضروبة ،بيث تضاهي الشروع الدائم
الذي يمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على المتنع منه العقوبة ،كما ف أخذ زكاة الواشي
والرث وما أشبه ذلك .
فأما الثان فظاهر أنه بدعة ،إذ هو تشريع زائدة ،وإلزام للمكلفي يضاهي إلزامهم الزكاة الفروضة ،
والديات الضروبة ،والغرامات الحكوم با ف أموال الغصاب والتعبدين ،بل صار ف حقهم
كالعبادات الفروضة ،واللوازم الحتومة ،أو ما أشبه ذلك ،فمن هذه الهة يصي بدعة بل شك ،
لنه شرع مستدرك وسن ف التكليف مهيع ،فتصي الكوس على هذا الفرض لا ،نظران :نظر من
جهة كونا مرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ،ونظر من جهة كونا اختراعا لتشريع
يؤخذ به الناس إل الوت كما يؤخذون بسائر التكاليف ،فاجتمع فيها نيان :ني عن العصية ،
وني عن البدعة ،وليس ذلك موجودا ف البدع ف القسم الول ،وإنا يوجد به النهي من جهة
كونا تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب ،إذ ليس فيه جهة أخرى يكون با معصية ،
بل نفس التشريع هو نفس المنوع .
وكذلك تقدي الهال على العلماء ،وتولية الناصب الشريفة من ل يصلح بطريق التوريث ،هو من
قبيل ما تقدم ،فإن جعل الاهل ف موضع العال حت يصي مفتيا ف الدين ،ومعمولً بقوله ف
الموال والدماء والبضاع وغيها ،مرم ف الدين ،وكون ذلك يتخذ ديدنا حت يصي البن
مستحقا لرتبة الب ـ وإن ل يبلغ رتبة الب ف ذلك النصب ـ بطريق الوراثة أو غي ذلك ،بيث
يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي ل يالف بدعة بل إشكال ،زيادة إل القول
بالرأي غي الاري على العلم ،وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأت تفسيه إن شاء ال ،وهو
الذي بينه النب صلى ال عليه وسلم بقوله :
"حت إذا ل يبق عال اتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم فضلوا وأضلوا" وإنا ضلوا لنم
أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم .
وأما إقامة الئمة والقضاء وولة المر على خلف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة ل
تتصور هنا ،وذلك صحيح ،فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدا ،وذلك بفرض أن يعتقد ف
239
الشاطبي كتاب العتصام
ذلك العمل أنه ما يطلب به الئمة على الصوص تشريعا خارجا عن قبيل الصال الرسلة ،بيث
يعد من الدين الذي يدين به هؤلء الطلوبون به ،أو يكون ذلك ما يعد خاصا بالئمة دون غيهم ،
كما يزعم بعضهم :أن خات الذهب جائز لذوي السلطان ،أو يقول :إن الرير جائز لم لبسه دون
غيهم ،وهذا أقرب من الول ف تصور البدعة ف حق هذا القسم .
ويشبهه على قرب زخرفة الساجد ،إذ كثي من الناس يعتقد أنا من قبيل ترفيع بيوت ال ،وكذلك
تعليق الثريات الطية الثان ،حت يعد النفاق ف ذلك إنفاقا ف سبيل ال ،وكذلك إذا اعتقد ف
زخارف اللوك وإقامة صورهم أنا من جلة ترفيع السلم وإظهار معاله وشعائره ،أو قصد ذلك ف
فعله أولً بأنه ترفيع للسلم لا ل يأذن ال به ،وليس ما حكاه القراف عن معاوية من قبيل هذه
الزخارف ،بل من قبيل العتاد ف اللباس والحتياط ف الجاب مافة من انراق خرق يتسع فل يرفع
ـ هذا إن صح ما قال ،وإل فل يعول على نقل الؤرخي ومن ل يعتب من الؤلفي ،وأحرى أل
ينبن عليه حكم .
وأما مسألة الناخل فقد مر ما فيها ،والعتاد فيها أنه ل يلحقها أحد بالدين ول بتدبي الدنيا بيث ل
ينفك عنه كالتشريع فل نطول به ،وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلم من غي فرق ،
فتبي مال البدعة ف العاديات من مال غيها ،وقد تقدم أيضا فيها كلم فراجعه إن احتجت إليه .
وأما وجه النظر ف أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول البتداع ف العاديات على ما أريد تقيقه ،
فنقول :إن مدارك تلك الحاديث على بضع عشرة خصلة ،يكن ردها إل أصول هي كلها أو
غالبها بدع ،وهي قلة العلم وظهور الهل ،والشح وقبض المانة ،وتليل الدماء والزنا والرير
والغناء والربا والمر ،وكون الغنم دولً ،والزكاة مغرما ،وارتفاع الصوات ف الساجد ،وتقدي
الحداث ولعن آخر المة أولا ،وخروج الدجالي ،ومفارقة الماعة .
أما قلة العلم وظهور الهل فبسبب التفرغ للدنيا ،وهذا إخبار بقدمة أنتجتها الفتيا بغي علم ـ
حسبما جاء ف الديث الصحيح :
"إن ال ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس "إل آخره ـ وذلك أن الناس ل بد لم من قائد
يقودهم ف الدين برائمهم ،وإل وقع الرج وفسد النظام ،فيضطرون إل الروج إل من انتصب
لم منصب الداية ،وهو الذي يسمونه عالا ،فل بد أن يملهم على رأيه ف الدين ،لن الفرض أنه
جاهل ،فيضلهم عن الصراط الستقيم :كما إنه ضال عنه .وهذا عي البتداع ،لنه التشريع بغي
أصل من كتاب ول سنة .ودل هذا الديث على أنه ل يؤتى الناس قط من قبل العلماء ،وإنا يؤتون
من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفت من ليس بعال فتؤتى الناس من قبله ،وسيأت لذا العن بسط
أوسع من هذا إن شاء ال .
240
الشاطبي كتاب العتصام
وأما الشح ،فإنه مقدمة لبدعة الحتيال على تليل الرام .وذلك أن الناس يشحون بأموالم فل
يسمحون بتصريفها ف مكارم الخلق وماسن الشيم .كالحسان بالصدقات والبات والواساة
واليثار على النفس .ويليه أنواع القرض الائز .ويليه التجاوز ف العاملت بإنظار العسر .
وبالسقاط كما قال " :وأن تصدقوا خي لكم إن كنتم تعلمون " ،وهذا كان شأن من تقدم من
السلف الصال .ث نقص الحسان بالوجوه الول .فتسامح الناس بالقرض .ث نقض ذلك حت
صار الوسر ل يسمح با ف يديه فيضطر العسر إل أن يدخل ف العاملت الت ظاهرها الواز
وباطنها النع .كالربا والسلف الذي ير النفع فيجعل بيعا ف الظاهر ،ويري ف الناس شرعا
شائعا ،ويدين له العامة ،وينصبون هذه العاملت متاجر ،وأصلها الشح بالموال وحب الزخارف
الدنيوية والشهوات العاجلة ،فإذا كان كذلك فالري أن يصي ذلك ابتداعا ف الدين ،وأن يعل
من أشراط الساعة .
فإن قيل :هذا انتجاع من مكان بعيد ،وتكلف ل دليل عليه .فالواب :أنه لول أن ذلك مفهوم
من الشرع لا قبل به ،فقد روى أحد ف مسنده من حديث ابن عمر رضي ال عنهما قال :سعت
رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :
"إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ،وتبايعوا بالعينة ،واتبعوا أذناب البقر ،وتركوا الهاد ف سبيل ال
،أنزل ال بم بلءً فل يرفعه حت يراجعوا دينهم" .
ورواه أبو داود أيضا وقال فيه :
"إذا تبايعتم بالعينة وأخذت أذناب البقر ورضيتم بالزرع ،وتركتم الهاد ،سلط ال عليكم ذلً ل
ينتزعه حت ترجعوا إل دينكم" .
فتأملوا كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس ،فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالموال .
وهو معقول ف نفسه ،فإن الرجل ل يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يد من يسلفه أو من يعينه ف
حاجته ،إل أن يكون سفيها ل عقل له .
ويشهد لذا العن ما خرجه أبو داود أيضا عن علي رضي ال عنه قال :
سيأت على الناس زمان عضوض يعض الوسر على ما ف يده ،ول يؤمر بذلك .قال ال تعال :
"وما أنفقتم من شيء فهو يلفه وهو خي الرازقي" ،وينشد شرار خلق ال يبايعون كل مضطر .أل
أن بيع الضطر حرام :الكسلك أخو السلم ل يظلمه ول يونه ،إن كان عندك خي فعد به على
أخيك ول تزده هلكا إل هلكه .
وهذه الحاديث الثلثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ ما يعضد بعضه بعضا ،وهو خب
حق ف نفسه يشهد له الواقع .قال بعضهم :عامة العينة إنا تقع من رجل يضطر إل نفقة يضن عليه
الوسر بالقرض إل أن يربه ف الائة ما أحب ،فيبيعها ثن الائة بضعفها أو نو ذلك ،ففسر بيع
241
الشاطبي كتاب العتصام
الضطر ببيع العينة ،وبيع العينة إنا هو العي بأكثر منها إل أجل ـ حسبما هو مبسوط ف الفقهيات
ـ فقد صار الشح إذا سببا ف دخول هذه الفاسد ف البيوع .
فإن قيل :كلمنا ف البدعة ف فساد العصية ،لن هذه الشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر
ل كلم لنا فيه .
فالواب :أن مدخل البدعة ها هنا من باب الحتيال الذي أجازه بعض الناس ،فقد عده العلماء من
البدع الحدثات ،حت قال ابن البارك ف كتابوضع ف اليل :من وضع هذا فهو كافر ،ومن سع
به فرضي به فهو كافر ،ومن حله من كورة فهو كافر ،ومن كان عنده فرضي به فهو كافر ،
وذلك أنه وقع فيه الحتيالت بأشياء منكرة ،حت احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد .
وقال إسحاق بن راهوية ،عن سفيان بن عبد اللك :أن ابن البارك قال ف قصة بنت أب روح
حيث أمرت بالرتداد ،وذلك ف أيام أب غشان :فذكر شيئا .ث قال ابن البارك وهو مغضب :
أحدثوا ف السلم ،ومن كان أمر بذا فهو كافر .ومن كان هذا الكتاب عنده أو ف بيته ليأمر أو
صوبه ول يأمر به فهو كافر ،ث قال ابن مبارك :ما أرى الشيطان يسن مثل هذا ،حت جاء هؤلء
فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ،ولو كان يسنها ل يد من يضيها فيهم ،حت جاء هؤلء .
وإنا وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم ف أن يتالوا للحرام حت يصي حل ًل ،
وللواجب حت يكون غي واجب .وما أشبه ذلك من المور الارجة عن نظام الدين ،كما أجازوا
نكاح الحلل ،وهو احتيال على رد الطلقة ثلثا لن طلقها ،وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالبة
الستعارة ،وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الشارة ف الحاديث التقدمة الذكور فيها الشح ،وأنا
تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصي جة .
وأما قبض المانة فعبارة عن شياع اليانة ،وهي من ساة أهل النفاق ،ولكن يوجد ف الناس بعض
أنواعها تشريعا ،وحكيت عن قوم من ينتمي إل العلم كما حكيت عن كثي من المراء ،فإن أهل
اليل الشار إليهم إنا بنوا ف بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدا ،فأخفوه لتظهر
صحته ،فإن بيعه الثوب بائة وخسي إل أجل ،لكنهما أظهرا وساطة الثوب ،وأنه هو البيع
والشتري ،وليس كذلك ،بدليل الواقع .
وكذلك يهب ماله عند رأس الول قائلً بلسان حاله ومقاله :انا غي متاج إل هذا الال وأنت
أحوج إليه من .ث يهبه ،فإذا جاء الول الخر قال الوهوب له للواهب مثل القالة الول ،
والميع ف الالي ،بل ف الولي ف تصريف الال سواء ،أليس هذا خلف المانة ؟ والتكليف من
أصله أمانة فيما بي العبد وربه ،فالعمل بلف خيانة .
ومن ذلك أن بعض الناس كان [يفر الزينة ويرد من الكذب] ،ومعن الزينة التدليس بالعيوب ،
وهذا خلف المانة والنصح لكل مسلم .وايضا فإن كثيا من المراء يتاجون أموال الناس اعتقادا
242
الشاطبي كتاب العتصام
منهم أنا لم دون السلمي .ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك ف الغنائم الأخوذة عنوة من الكفار ،
فيجعلونا ف بيت الال ،ويرمون الغاني من حظوظهم منها تأويلً على الشريعة بالعقول .فوجه
البدعة ها هنا ظاهر .
وقد تقدم التنبيه على ذلك ف تثيل البدع الداخلة ف الضروريات ف الباب قبل هذا ،ويدخل تت
هذا النمط كون الغنائم تصي دولً وقوله :
"سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونا ،ث قال :أدوا إليهم حقهم وسلوا ال حقكم" .
وأما تليل الدماء والربا والرير والغناء والمر ،فخرج أبو داود و أحد وغيها عن أب مالك
الشعري رضي ال عنه أنه سع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :
"لبشرين ناس من أمت المر يسمونا بغي اسها" ـ زاد ابن ماجه ـ " يعزف على رؤوسهم
بالعازف والقينات ،يسف ال بم الرض ،ويعل منهم القردة والنازير " وخرجه البخاري ،عن
أب عامر وأب مالك الشعري قال فيه :
" ليكونن من أمت أقوام يستحلون الز والرير والمر والعازف ،ولينلن أقوام إل جنب علم ،
تروح عليهم سارحة لم يأتيهم رجل لاجة فيقولون :ارجع إلينا غدا ،فيبيتهم ال ويضع العلم ،
ويسخ آخرين قردة وخنازير إل يوم القيامة" .وف سنن أب داود " :ليكونن من أمت أقوام يستحلون
الز والرير" ـ وقال ف آخره ـ " يسخ منهم آخرين قردة وخنازير إل يوم القيامة" .
والز هنا نوع من الرير ليس الز الأذون فيها النسوج من حرير وغيه .وقوله ف الديث " :
ولينلن أقوام " يعن ـ وال أعلم ـ من هؤلء الستحلي ،والعن إن هؤلء الستحلي ينل منهم
لـ أقوام إل جنب علم ،وهو البل ،فيواعدهم إل الغد ،فيبيتهم ال ـ وهو أخذ العذاب لي ً
ويسخ منهم آخرين كما ف حديث أب داود كما ف الديث قبل :يسف ال بم الرض ويسخ
منهم قردة وخنازير .وكأن السف ها هنا التبييت الذكور ف الخر .
وهذا نص ف أن هؤلء الذين استحلوا هذه الحارم كانوا متأولي فيها حيث زعموا أن الشراب الذي
شربوه ليس هو المر ،وإنا له اسم آخر إما النبيذ أو غيه ،وإنا المر عصي العنب النء ،وهذا
رأي طائفة من الكوفيي وقد ثبت أن كل مسكر خر .
قال بعضهم :وإنا أتى على هؤلء حيث استحلوا الحرمات با ظنوه من انتفاء السم ،ول يلتفتوا
إل وجود العن الحرم وثبوته .قال :وهذه بعينها شبهة اليهود ف استحللم أخذ اليتان يوم الحد
با أوقعوها به يوم السبت ف الشباك والفائر من فعلهم يوم المعة حيث قالوا :ليس هذا بصيد ول
عمل يوم السبت ،وليس هذا باستباحة السبت .
بل الذي يستحل المر زاعما أنه ليس خرا مع علمه بأن معناه المر ومقصوده مقصود المر ،
أفسد تأويلً من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا ،فلئن كان من القياس ما هو حق ،فإن
243
الشاطبي كتاب العتصام
قياس المر النبوذة على المر العصية من القياس ف معن الصل .وهو من القياس اللي .إذ ليس
بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر ف التحري .
فإذا كان هؤلء الذكورون ف الديث إنا شربوا المر استحللً لا لا ظنوا أن الحرم مرد ما وقع
عليه اللفظ ،وظنوا أن لفظ المر ل يقع على غي عصي العنب النء فشبهتهم ف استحلل الرير
والعازف أظهر بأنه أبيح الرير للنساء مطلقا ،وللرجال ف بعض الحوال ،فكذلك الغناء والدف
قد أبيح ف العرس ونو ،وابيح منه الداء وغيه ،وليس ف هذا النوع من دلئل التحري ما ف المر
،فظهر ذم الذين يسف بم ويسخون ،إنا فعل ذلك بم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به
الحارم بطريق اليلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته ف تري هذه الشياء .
وقد خرج ابن بطة عن الوزاعي أن النب صلى ال عليه وسلم قال "يأت على الناس زمان يستحلون
فيه الربا بالبيع" قال بعضهم :يعن العينة .وروي ف استحلل الربا حديث رواه إبراهيم الرب عن
أب ثعلبة عن النب صلى ال عليه وسلم قال :
"أول دينكم نبوة ورحة ،ث ملك وجبية ،ث ملك عضوض يستحل فيه الر والز" يريد استحلل
الفروج الرام ،والر بكسر الاء الهملة والراء الخففة الفرج ،قالوا :ويشبه ـ وال أعلم ـ أن
يراد بذلك ظهور استحلل نكاح الحلل ونو ذلك ما يوجب استحلل الفروج الحرمة ،فإن المة
ل يستحل أحد منها الزنا الصريح ،ول يرد بالستحلل مرد الفعل ،فإن هذا ل يزل معمولً ف
الناس ث لفظ الستحلل إنا يستعمل ف الصل فيمن اعتقد الشيء حللً ،والواقع كذلك ،فإن هذا
اللك العضوض الذي كان بعد اللك والبية قد كان ف أواخر عصر التابعي ف تلك الزمان صار
ل. ف أول المر من يفت بنكاح الحلل ونوه ،ول يكن قبل ذلك من يفت به أص ً
ويؤيد ذلك أنه ف حديث ابن مسعود رضي ال عنه الشهور أن رسول ال صلى ال عليه وسلم :
"لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والحلل والحلل له" .
وروى أحد ،عن ابن مسعود رضي ال عنه ،عن النب صلى ال عليه وسلم قال " :ما ظهر ف قوم
الربا والزنا إل أحلوا بأنفسهم عقاب ال" فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا ،كما يشعر أن العينة من
الربا .وقد جاء عن ابن عباس رضي ال عنهما موقوفا قال " :يأت على الناس زمان يستحل فيه خسة
أشياء :يستحلون المر بأساء يسمونا با ،والسحت بالدية ،والقتل بالريبة ،والزنا بالنكاح ،
والربا بالبيع " ،فإن الثلثة الذكورة أولً قد سنت ،وأما السحت الذي هو العطية للوال والاكم
ونوها بإسم الدية فهو ظاهر ،واستحلل القتل بإسم الرهاب الذي يسميه ولة الظلم سياسية
وأبة اللك ونو ذلك ،فظاهر أيضا ،وهو نوع من أنواع شريعة القتل الخترعة .
وقد وصف النب صلى ال عليه وسلم الوارج بذا النوع من الصال فقال " :إن من ضئضىء هذا
قوما يقرؤون القرآن ل يتجاوز حناجرهم ،يقتلون أهل السلم ،ويدعون أهل الوثان ،يرقون من
244
الشاطبي كتاب العتصام
الدين كما يرق السهم من الرمية " ،ولعل هؤلء الرادون بقوله عليه الصلة والسلم ف حديث أب
هريرة رضي ال عته :
" يصبح الرجل مؤمنا ويسي كافرا " الديث .يدل عليه تفسي السن قال ك يصبح مرما لدم أحيه
وعرضه ويسي مستحلً ،إل آخره .
وقد وضع القتل شرعا معمولً به على غي سنة ال وسنة رسوله التسمي بالهدي الغرب الذي زعم
أنه البشر به ف الحاديث ،فجعل القتل عقابا ف ثانية عشر صنفا ،ذكروا منها :الكذب ،
والداهنة ،وأخذهم أيضا بالقتل ف ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك ،وكان
يعظهم ف كل وقت ويذكرهم ،ومن ل يضر أدب ،فإن تادى قتل ،وكل من ل يتأدب با أدب
به ضرب بالسوط الرة والرتي ،فإن ظهر منه عناد ف ترك امتثال الوامر قتل ،ومن داهن على أخيه
أو أبيه أو من يكرم أو القدم عليه قتل .وكل من شك ف عصمته قتل أو شك ف أنه الهدي البشر
به ،وكل من خالف أمره ،أمر اصحابه فعروه ،فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ كما أنه
كان من رأيه أن ل يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرا على المامة أو الطابة ،وكذلك لبس
الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حل ًل ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلة خلف
خطيب أغمات بذلك السبب ،فقدم خطيب آخر ف ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك
الصلة خلفه .
وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية ،قال العلماء :وهو بدعة ظهرت ف الشريعة بعد
الائتي ،ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله .
وذكر ف كتاب المامة أنه هو المام ،وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم :
"بدىء السلم غريبا وسيعود كما بديء ،فطوب للغرباء" ،وقال ف الكتاب الذكور :جاء ال
بالهدي وطاعته صافية نقية ل ير مثلها قبل ول بعد ،وأن به قامت السموات والرض ،وبه تقوم ،
ول ضد له ول مثل ول ند انتهى .وكذب ،فالهدي عيس عليه السلم .
وكان يأمرهم بلزوم الزب بعد صلة الصبح ،وبعد الغرب ،فأمر الؤذني إذا طلع الفجر أن ينادوا
:أصبح ول المد إشعارا ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع للزام الطاعة ،ولضور الماعة ،
وللغدو لكل ما يؤمرون به .
وله اختراعات وابتداعات غي ما ذكرنا ،وجيع ذلك إل أنه قائل برأيه ف العبادات والعادات ،مع
زعمه أنه قائل بالرأي .وهو التناقض بعينه .فقد ظهر إذن جريان تلك الشياء على البتداع .
وأما كون الزكاة مغرما ،فالغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات ،كان الولة يلزمونا الناس
بشيء معلوم من غي نظر إل قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره ،بل
يأخذونم با على كل حال إل الوت ،وكون هذا بدعة ،ظاهر .
245
الشاطبي كتاب العتصام
وأما ارتفاع الصوات ف الساجد فناشىء عن بدعة الدال ف الدين ،فإن من عادة قراءة العلم
وإقرائه وساعه أن يكون ف الساجد ،ومن آدابه أن ل ترفع فيه الصوات ف غي الساجد ،فما
ظنك به ف الساجد ؟ فالدال فيه زيادة الوى ،فإنه غي مشروع ف الصل .فقد جعل العلماء من
عقائد السلم ترك الراء والدال ف الدين .وهو الكلم فيما ل يؤذن ف الكلم فيه .كالكلم ف
التشابات من الصفات والفعال وغيها .وكمتشابات القرآن .ولجل ذلك جاء ف الديث عن
عائشة رضي ال عنها أنا قلت " :تل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية " :هو الذي أنزل
عليك الكتاب منه آيات مكمات " قال :فإذا رأيتم الذين يادلون فيه فهم الذين عن ال
فأحذروهم" وف الديث :
"ما ضل قوم بعد هدى إل أوتوا الدل" ،وجاء عنه عليه السلم أنه قال " :ل تاروا ف القرآن فإن
الراء فيه كفر" وعنه عليه السلم أنه قال " :إن القرآن يصدق بعضه بعضا ،فل تكذبوا بعضه ببعض
ما علمتم منه فاقبلوه وما ل تعلموه فكلوه إل عاله" ،وقال عليه السلم " :اقرؤوا القرآن ما ائتلفت
عليه قلوبكم .فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه" ،وخرج ابن وهب ،عن معاوية بن قرة قال :إياكم
والصومات ف الدين فإنا تبط العمال .
وقال النخعي ف قوله تعال " :وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " قال :الدال والصومات ف الدين .
وقال معن بن عيسى :انصرف مالك يوما إل السجد وهو متكىء على يدي .فلحقه رجل يقال له
أبو الديرة يتهم بالرجاء .فقال :يا أبا عبد ال ! اسع من شيئا أكلمك به وأحاجك برأيي .فقال
له :احذر أن اشهد عليك .قال :وال ما اريد إل الق .اسع من فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم
.قال :فإن غلبتن ؟ قال :اتبعن .قال :فإن غلبتك ؟ قال :اتبعتك .قال :فإن جاء رجل فكلمناه
فغلبناه ؟ قال :اتبعنا .فقال له مالك :يا عبد ال ! بعث ال ممدا بدين واحد وأراك تنتقل .
وقال عمر بن عبد العزيز :من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل .
وقال مالك :ليس الدال ف الدين بشيء .
والكلم ف ذم الدال كثي .فإذا كان مذموما فمن جعله ممودا وعده من العلوم النافعة بإطلق
فقد ابتدع ف الدين .ولا كان اتباع الوى أصل البتداع ل يعدم صاحب الدال أن ياري ويطلب
الغلبة ،وذلك مظنة رفع الصوات .
فإن قيل :عددت رفع الصوات من فروع الدال وخواصه وليس كذلك ،فرفع الصوات قد يكون
ف العلم ،ولذلك كره رفع الصوات ف السجد ،وإن كان ف العلم أو ف غي العلم .
قال ابن القاسم ف البسوط :رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتم ف السجد .
246
الشاطبي كتاب العتصام
وعلل ذلك ممد بن مسلمة بعلتي :إحداها :أنه يب أن ينه السجد عن مثل هذا لنه أمر
بتعظيمه وتوقيه .والثانية :انه مبن للصلة ،وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار ،فأن يلزم
ذلك ف موضعها التخذ لا أول .
وروى مالك أن عمر بن الطاب رضي ال عنه بن رحبه بي ناحية السجد تسمى البطيحاء وقال :
من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إل هذه الرحبة .فإذا كان كذلك ،
فمن أين يدل ذم رفع الصوت ف السجد على الدل النهي عنه ؟
فالواب من وجهي :
أحدها :أن رفع الصوت من خواص الدل الذموم ،أعن ف أكثر المر دون الفلتات ،لن رفع
الصوت والروج عن العتدال فيه ناشىء عن الوى ف الشيء التكلم فيه ،واقرب الكلم الاص
بالسجد إل رفع الصوت ،الكلم فيما ل ياذن فيه ،وهو الدال الذي نبه عليه الديث التقدم .
وأيضا ،ل يكثر الكلم جدا ف نوع من أنواع العلم ف الزمان التقدم إل ف علم الكلم ،وإل
غرضه تصويب سهام النقد والذم ،فهو إذا هو .وقد روي عن عمية بن أب ناجية الصري أنه رأى
قوما يتعارون ف السجد وقد علت أصواتم فقال :هؤلء قوم قد ملوا العبادة ،وأقبلوا على الكلم ،
ل يقول :مات ف هذه اللهم أمت عمية ،فمات من عامة ذلك ف الج ،فرأى رجل ف النوم قائ ً
الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة ،فجاء موت عمية هذا .
والثان :أنا لو سلمنا أن مرد رفع الصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عد كأنه من
الائز ف جيع أنواع العلم فصار معمولً به ل نفي ول يكف عنه فجرى مرى البدع الحدثات .
وأما تقدي الحداث على غيهم ،فمن قبيل ما تقدم ف كثرة الهال وقلة العلم ،كان ذلك التقدي
ف ريب العلم أو غيه ،لن الدث أبدا أو ف غالب المر غر ل يتحنك ،ول يرتض ف صناعة
رياضة تبلغه مبالغ الراسخي القدام ف تلك الصناعة ،ولذلك قالوا ف الثل :
247
الشاطبي كتاب العتصام
فإذا تقدي الحداث على غيهم ،من باب تقدي الهال على غيهم ،ولذلك قال فيهم " :سفهاء
الحلم " وقال " :يقرؤون القرآن ل ياوز تراقيهم " إل آخره ،وهو منل على الديث الخر ف
الوارج :
" إن من ضئضيء هذا قوما يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم " إل آخر الديث ،يعن أنم ل
يتفقهوا فيه ،فهو ف ألسنتهم ل ف قلوبم .
وأما لعن آخر هذه المة أولا ،فظاهر ما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة ،فإن الكاملية من
الشيعة كفرت الصحابة رضي ال عنهم ،حي ل يصرفوا اللفة إل علي رضي ال عنه بعد رسول
ال صلى ال عليه وسلم ،وكفرت عليا رضي ال عنه حي ل يأخذ بقه فيها .
قا ل مصعب الزبيي و ابن نافع :دخل هارون ( يعن الرشيد ) السجد فركع ،ث أتى قب النب
صلى ال عليه وسلم فسلم عليه ،ث أتى ملس مالك فقال :السلم عليك ورحة ال وبركاته ،ث
قال لـ مالك :هل لن سب أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الفيء حق ؟ قال :ل !
ول كرامة ول مسرة ،قال :من أين قلت ذلك ؟ قال :قال ال عز وجل " :ليغيظ بم الكفار" فمن
عابم فهو كافر ،ول حق لكافر ف الفيء .
واحتج مرة أخرى ف ذلك بقوله تعال " :للفقراء الهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالم" إل
آخر اليات الثلث قال :فيهم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم الذين هاجروا معه ،
وأنصاره "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا باليان" فمن عدا
هؤلء فل حق لم فيه ،وف فعل خواص الفرق من هذا العن كثي .
وأما بعث الدجالي ،فقد كان ذلك جلة ،منهم من تقدم ف زمان بن العباس وغيهم .ومنهم معد
من العبيدية الذين ملكوا إفريقية ،فقد حكى عنه أنه جعل الؤذن يقول :أشهد أن معدا رسول ال ،
عوضا من كلمة الق أشهد أن ممدا رسول ال فهم السلمون بقتله ث رفعوه إل معد ليوا هل
هذا عن أمره ؟ فلما انتهى كلمهم إليه ،قال :أردد عليهم أذانم لعنهم ال .
ومن يدعي لنفسه العصمة ،فهو شبه من يدعي النبوة ،ومن يزعم أنه به قامت السموات والرض ،
فقد جاوز دعوى النبوة ،وهو الغرب التسمي بالهدي .
وقد كان ف الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة ،واستظهر عليها بأمور موهة
للكرامات ،والخبار بالغيبات ،وميلة لوارق العادات ،تبعه على ذلك من العوام جلة ،ولقد
سعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس ـ وهو مالقة ـ آخذا ينظر ف قوله تعال :
"وخات النبيي" وهل يكن تأويله ؟ وجعل يطرق إليه الحتمالت ،ليسوغ إمكان بعث نب بعد
ممد صلى ال عليه وسلم ،وكان مقتل هذا الفتري على يد شيخ شيوخنا أب جعفر بن الزبي رحه
ال .
248
الشاطبي كتاب العتصام
ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال :حدثن شيخنا أبو السن بن الياب قال :لا أمر بالتأهب يوم
قتله وهو ف السجن الذي أخرج منه إل مصرعه جهر بتلوة سورة يس ،فقال أحد الذعرة من جع
السجن بينهما :اقرأ قرآنك ،ل شيء تنفصل على قرآننا اليوم ؟ أو ف معن هذا ،فتركها مثلً
بلوذعيته .
وأما مفارقة الماعة ،فبدعتها ظاهرة ،ولذلك يازي مفارقتها باليتة الاهلية .
وقد ظهر ف الوارج وغيهم من سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم .
فهذه ايضا من جلة ما اشتملت عليه تلك الحاديث .وباقي الصال الذكورة عائد إل نو آخر ،
ككثرة النساء وقلة الرجال ،وتطاول الناس ف البنيان ،وتقارب الزمان .
فالاصل أن أكثر الوادث الت أخب با النب صلى ال عليه وسلم من أنا تقع وتظهر وتنتشر أمور
مبتدعة على مضاهاة التشريع ،لكن من جهة التعبد ،ل من جهة كونا عادية ،وهو الفرق بي
العصية الت هي بدعة ،والعصية الت هي ليست ببدعة .
وأن العاديات من حيث هي عادية ل بدعة فيها ،ومن حيث يتعبد با أو توضع وضع التعبد تدخلها
البدعة ،وحصل بذلك اتفاق القولي ،وصار الذهبان مذهبا واحدا ،وبال التوفيق .
249
الشاطبي كتاب العتصام
250
الشاطبي كتاب العتصام
فإذا عدم النكار من شأنه النكار ،مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف النكر ووجوده القدرة
عليه ،فلم يفعل ،دل عند العوام على أنه فعل جائز ل حرج فيه ،فنشأ فيه هذا العتقاد الفاسد
بتأويل يقنع بثله من كان من العوام فصارت الخالفة بدعة ،كما ف القسم الول .
وقد ثبت ف الصول أن العال ف الناس قائم مقام النب عليه الصلة والسلم ،والعلماء ورثة
النبياء ،فكما أن النب صلى ال عليه وسلم يدل على الحكام بقوله وفعله وإقراره ،كذلك وارثة
يدل على الحكام بقوله وفعله وإقراره .واعتب ذلك ببعض ما أحدث ف الساجد من المور النهي
عنها فلم ينكرها العلماء ،أو عملوا با فصارت بعد سننا ومشروعات ،كزيادتم مع الذان :
اصبح ول المد و الوضوء للصلة و تأهبوا ودعاء الؤذني بالليل ف الصوامع ،وربا احتجوا
على ذلك با يفعله بعض الناس وبا وضع ف نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه ،وقد قيدنا ف
ذلك جزءا مفردا فمن أراد الشفاء ف السألة فعليه به ،وبال التوفيق .
وخرج أبو داود عن[ أب عمي بن أنس عن عمومة له من النصار ،قال ] :
"إهتم النب صلى ال عليه وسلم للصلة كيف يمع الناس لا ،فقيل :انصب راية عند حضور
الصلة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا .فلم يعجبه ذلك ـ قال ـ فذكر له القنع ،يعن الشبور ،
وف رواية شبور اليهود فلم يعجبه ،وقال :هو من أمر اليهود ،قال :فذكر له الناقوس ،فقال :هو
من أمر النصارى ،فانصرف عبد ال بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لم رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فأري الذان ف منامه" إل آخر الديث .
وف مسلم عن أنس بن مالك أنه قال :
ذكروا أن يعلموا وقت الصلة بشيء يعرفونه ،فذكروا أن ينوروا نارا ،أو يضربوا ناقوسا فأمر بلل
أن يشفع الذان ويوتر القامة .والقنع والشبور ـ هو البوق ـ وهو القرن الذي وقع ف حديث ابن
عمر رضي ال عنهما .
فأنت ترى كيف كره النب صلى ال عليه وسلم شأن الكفار فلم يعمل على موافقته .فكان ينبغي
لن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك ف الساجد إعلما بالوقات أو غي إعلم با ،أما
الراية فقد وضعت إعلما بالوقات ،وذلك شائع ف بلد الغرب ،حت إن الذان معها قد صار ف
حكم التبع .
وأما البوق ،فهو العلم ف رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الفطار ،ث هو علم أيضا
بالغرب والندلس على وقت السحور ابتداءً وانتهاءً والديث قد جعل علما لنتهاء نداء ابن أم
مكتوم .قال ابن شهاب :وكان ابن أم مكتوم رجلً أعمى ل ينادي حت يقال له :أصبحت
أصبحت .
وف مسلم و أب داود :
251
الشاطبي كتاب العتصام
" ل ينعن أحدكم نداء بلل من سحوره فإنه يؤذن ليجع قائمكم ويوقظ نائمكم " الديث .فقد
جعل أذان بلل لن ينتبه النائم لا يتاج إليه من سحوره وغيه ،فالبوق ما شأنه ؟ وقد كرهه عليه
الصلة والسلم ،ومثله النار الت ترفع دائما ف أوقات الليل وبالعشاء والصبح ف رمضان أيضا ،
إعلما بدخوله ،فتوقد ف داخل السجد ث ف وقت السحور ،ث ترفع ف النار إعلما بالوقت ،
والنار شعار الجوس ف الصل .
قال ابن العرب :أول من اتذ البخور ف السجد بنو برمك يي بن خالد وممد بن خالد ـ ملكهما
الوال أمر الدين فكان ممد بن خالد حاجبا ويي وزيرا ث ابنه جعفر بن يي ـ قال ـ وكانوا
باطنية يعتقدون آراء الفلسفة ،فأحيوا الجوسية ،واتذوا البخور ف الساجد ـ وإنا تطيب
باللوق ـ فزادوا التجمي ويعمرونا بالنار منقولة حت يعلونا عند الندلس ببخورها ثابتة .انتهى
.
وحاصلة ،أن النار ليس إيقادها ف الساجد من شأن السلف الصال ،ول كانت ما تزين با
الساجد البتة ،ث أحدث التزيي با حت صارت من جلة ما يعظم به رمضان ،واعتقد العامة هذا
كما اعتقدوا طلب البوق ف رمضان ف الساجد ،حت لقد سأل بعض عنه :أهو سنة أم ل ؟ ول
يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه المور مشروعة على الملة ف الساجد ،وذلك
بسبب ترك الواص النكار عليهم .
وكذلك أيضا لا ل يتخذ الناقوس للعلم ،حاول الشيطان فيه بكيدة أخرى فعلق بالساجد واعتد
به ف جلة اللت الت توقد عليها النيان وتزخرف با الساجد ،زيادة إل زخرفتها بغي ذلك ،كما
تزخرف الكنائس والبيع .
ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ،ذكر النووي أنا من البدع القبيحة ،وأنا ضللة فاحشة جع
فيها أنواع من القبائح .منها إضاعة الال ف غي وجهه ،ومنها إظهار شعائر الجوس ،ومنها
اختلط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ،ومنها تقدي دخول عرفة قبل وقتها
الشروع .ا هـ .
وقد ذكر الطرطوشي ف إيقاد الساجد ف رمضان بعض هذه المور وذكر أيضا قبائح سواها .فأين
هذا كله من إنكار مالك لتنحنح الؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر ،أو وضع الرداء ؟ وهو أقرب
مراما وأيسر خطبا من أن تنشأ بدع مدثات ،يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والواص
عن النكار وسبب عملهم با .
وأما الفسدة الالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملي بكم الخالفة ،وأنا قد ينشأ الصغي على
رؤيتها وظهورها ،ويدخل ف السلم أحد من يراها شائعة ذائعة فيعتقدونا جائزة أو مشروعة .
252
الشاطبي كتاب العتصام
لن الخالفة إذا فشا ف الناس فعلها من غي إنكار .ل يكن عند الاهل با فرق بينها وبي سائر
الباحات أو الطاعات .
وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة ف أسواق السلمي لعملهم بالربا فكل من يراهم من
العامة صيارف وتارا ف أسواقنا من غي إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك ،وأنت ترى مذهب
مالك العروف ف بلدنا أن اللي الصنوع من الذهب والفضة ل يوز بيعه بنسه إل وزنا بوزن ،
ل ،والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا ول اعتبار بقيمة الصياغة أص ً
قيمة الصياغة أو إجارتا ،ويعتقدون أن ذلك جائز لم ،ول يزل العلماء من السلف الصال ومن
بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الشياء ،حت كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو
أشد من ترك السنن ،وأول أن يتركوا الباحات أن ل يعتقد فيها أمر ليس بشروع ،وقد مر بيان
هذا ف باب البيان من كتاب الوافقات فقد ذكروا أن عثمان رضي ال عنه كان ل يقصر ف السفر
فيقال له :أليس قد قصرت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فيقول :بلى ولكن إمام الناس
فينظر إل العراب وأهل البادية أصلي ركعتي فيقولون :هكذا فرضت .
قال الطرطوشي :تأملوا رحكم ال ! فإن ف القصر قولي لهل السلم :
منهم من يقول :فريضة ،ومن أت فإنا يتم ويعيد أبدا .
ومنهم من يقول :سنة ،يعيد من أت ف الوقت ،ث اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لا خاف من
سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان .
وكان الصحابة رضي ال عنهم ل يضحون ( يعن أنم ل يلتزمون الضحية ) .
قال حذيفة بن أسد :شهدت أبا بكر وعمر رضي ال عنهما ل يضحيان مافة أن يرى أنا واجبة .
وقال بلل :ل أبال أن أضحي بكبشي أو بديك .
وعن ابن عباس رضي ال عنهما أنه كان يشتري لما بدرهم يوم الضحى ،ويقول لعكرمة :من
سألك فقل هذه أضحية ابن عباس .
وقال ابن مسعود :إن لترك أضحيت ـ وإن لن أيسركم ـ مافة أن يظن أنا واجبة .
وقال طاوس :ما رأيت بيتا أكثر لما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس ،يذبح وينحر كل يوم ،ث
ل يذبح يوم العيد .وإنا يفعل ذلك لئل يظن الناس أنا واجبة .وكان إماما يقتدى به .
قال الطرطوشي :والقول ف هذا كالذي قبله ،وإن لهل السلم قولي ف الضحية .أحدها
سنة ،والثان واجبة ،ث اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرا من أن يضع الناس المر على غي وجهة
فيعتقدونا فريضة .
قال مالك ف الوطأ ف صيام ستة بعد الفطر من رمضان :إنه ل ير أحدا من أهل العلم والفقه
يصومها ـ قال ـ ول يبلغن ذلك عن أحد من السلف ،وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويافون
253
الشاطبي كتاب العتصام
بدعته ،وأن يلحق أهل الهالة والفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا ف ذلك رخصة من أهل العلم ،
ورأوهم يقولون ذلك .
فكلم مالك هنا ليس فيه دليل على أنه ل يفظ الديث كما توهم بعضهم ،بل لعل كلمه مشعر
بأنه يعلمه ،لكنه ل ير العمل عليه وإن كان مستحبا ف الصل ،لئل يكون ذريعة لا قال ،كما فعل
الصحابة رضي ال عنهم ف الضحية ،وعثمان ف التام ف السفر .
وحكى الاوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان الصل ،فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا ف الصحن
من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ،لنه كان مفروشا ،
فأمر زياد بإلقاء الصا ف صحن السجد ،وقال :لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغي إذا
نشأ أن مسح البهة من أثر السجود سنة ف الصلة ،وهذا ف مباح ،فكيف به ف الكروه أو
المنوع ؟
ولقد بلغن ف هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالسلم أنه قال ف المر :ليست برام ول
عيب فيها ،وإنا العيب أن يفعل با ما ل يصلح كالقتل وشبهه .
وهذا العتقاد لو كان من نشأ ف السلم كان كفرا ،لنه إنكار لا علم من دين المة ضرورة ،
وبسبب ذلك ترك النكار من الولة على شاربا ،والتخلية بينهم وبي اقتنائها ،وشهرته بارة أهل
الذمة فيها وأشباه ذلك .
ول معن للبدعة إل أن يكون الفعل ف اعتقاد البتدع مشروعا وليس بشروع .وهذا الال متوقع أو
واقع ،فقد حكى القراف عن العجم ما يقتضي أن الستة اليام من شوال ملحقة عندهم برمضان ،
لبقائهم حالة رمضان الاصة به كما هي إل تام الستة اليام ،وكذلك وقع عندنا مثله ،وقد مر ف
الباب الول .
وجيع هذا منوط إثه بن يترك النكار من العلماء أو غيهم ،أو من يعمل ببعضها برآى من الناس
أو ف مواقعهم ،فإنم الصل ف انتشار هذه العتقادات ف العاصي أو غيها .
254
الشاطبي كتاب العتصام
والرابع :من باب الذرائع ،وهي أن يكون العمل ف أصله معروفا ،إل أنه يبتدل العتقاد فيه مع
طول العهد بالذكرى .
إل أن هذه القسام ليست على وزان واحد ،ول يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ ،بل هي ف القرب
والبعد على تفاوت ،فالول هو القيق باسم البدعة ،فإنا تؤخذ علة بالنص عليها ،ويليه القسم
الثان ،فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول ،بل قد يكون أبلغ منه ف مواضع ـ كما تبي ف
الصول ـ غي أنه ل ينل ها هنا من كل وجه منلة الدليل أن العال قد يعمل وينص على قبح عمله
،ولذلك قالوا :ل تنظر إل عمل العال ،ولكن سله بصدقك .وقال الليل بن أحد أو غيه :
ينفعك علمي ول يضررك تقصيي اعمل بعلمي ول تنظر إل عملي
ويليه القسم الثالث ،فإن ترك النكار ـ مع أن رتبة النكر رتبة من بعد ذلك منه إقرارا ـ يقتضي
أن الفعل غي منكر ،ولكن يتنل منلة ما قبله ،لن الصوارف للقدرة
كثية ،قد يكون الترك لعذر بلف الفعل ،فإنه ل عذر ف فعل النسان بالخالفة ،مع علمه
بكونه مالفة .
ويليه القسم الرابع ،لن الحظور الال فيما تقدم غي واقع فيه بالعرض ،فل تبلغ الفسدة التوقعة
أن تساوي رتبة الواقعة أصلً ،فلذلك كانت من باب الذرائع ،فهي إذا ل تبلغ أن تكون ف الال
بدعة ،فل تدخل بذا النظر تت حقيقة البدعة .
وأما القسم الثان والثالث فالخالفة فيه بالذات ،والبدعة من خارج ،إل أنا لزمة لزوما عاديا ،
ولزوم الثان أقوى من لزوم الثالث ،وال أعلم .
255
الشاطبي كتاب العتصام
وإذا ثبت هذا ،فإن كان اعتبار الصال الرسلة حقا ،فاعتبار البدع الستحسنة حق ،لنما يريان
من واد واحد .وإن ل يكن اعتبار البدع حقا ،ل يصح اعتبار الصال الرسلة .
وأيضا ،فإن القول بالصال الرسلة ليس متفقا عليه ،بل قد اختلف فيه أهل الصول على أربعة
أقوال .فذهب القاضي وطائفة من الصوليي إل رده ،وأن العن ل يعتب ما ل يستند إل أصل .
وذهب مالك إل اعتبار ذلك ،وبن الحكام عليه على الطلق ،وذهب الشافعي ومعظم النفية
إل التمسك بالعن الذي ل يستند إل أصل صحيح ،لكن يشرط قربه من معان الصول الثابتة هذا
ما حكى المام الوين .
وذهب الغزال إل أن الناسب إن وقع ف رتبة التحسي والتزيي ل يعتب حت يشهد له أصل معي ،
وإن وقع ف رتبة الضروري فميله إل قبوله ،لكن بشرط ،قال :ول يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد
متهد .واختلف قوله ف الرتبة التوسطة ،وهي رتبة الاجي ،فرده ف الستصفى وهو آخر قوليه ،
وقبله ف شفاء العليل كما قل ما قبله .وإذا اعتب من الغزال اختلف قوله ،فالقوال خسة ،فإذا
الراد لعتبارها ل يبقى له ف الوقائع الصحابية مستند إل أنا بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن
الطاب رضي ال عنه ف الجتماع لقيام رمضان :نعمت البدعة هذه ـ إذ ل يكنهم ردها ،
لجتماعهم عليها .
وكذلك القول ف الستحسان ،فإنه على ما ذهب إليه التقدمون راجع إل الكم بغي دليل ،والناف
له ل يعد الستحسان سببا فل يعتب ف الحكام البتة ،فصار كالصال الرسلة إذا قيل بردها .
فلما كان هذا الوضع مزلة قدم ،لهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الق التعي
النظر ف مناط الغلط الواقع لؤلء ،حت يتبي أن الصال الرسلة ليست من البدع ف ورد ول
صدر ،بول ال ،وال الوفق فنقول :
العن الناسب الذي يربط به الكم ل يلو من ثلثة أقسام :
أحدها :أن يشهد الشرع بقبوله ،فل إشكال ف صحته ،ول خلف ف أعماله ،وإل كان مناقضة
للشريعة ،كشريعة القصاص حفظا للنفوس والطراف وغيها .
والثان :ما شهد الشرع برده فل سبيل إل قبوله ،إذ الناسبة ل تقتضي الكم لنفسها ،وإنا ذلك
مذهب أهل التسحي العقلي ،بل إذا ظهر العن وفهمنا من الشرع اعتباره ف اقتضاء الحكام ،
فحينئذ نقبله ،فإن الراد بالصلحة عندنا ما فهم رعايته ف حق اللق من جلب الصال ودرء الفاسد
على وجه ل يستقل العقل بدركه على حال ،فإذا ل يشهد الشرع باعتبار ذلك العن ،بل يرده ،
كان مردودا باتفاق السلمي .
ومثال ما حكى الغزال عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلطي فسأله عن الوقاع ف
نار رمضان ،فقال :عليك صيام شهرين متتابعي .فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له :
256
الشاطبي كتاب العتصام
القادر على اعتاق الرقبة كيف يعدل له إل الصوم والصوم وظيفة العسرين ،وهذا اللك يلك عبيدا
غي مصورين ؟ فقال لم :لو قلت له عليك إعتاق رقبة ل ستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا ،فل
يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعي .
فهذا العن مناسب ،لن الكفارة ،مقصود الشرع منها الزجر ،واللك ل يزجره العتاق ويزجره
الصيام .وهذه الفتيا باطلة لن العلماء بي قائلي :قائل بالتخيي ،وقائل بالترتيب ،فيقدم العتق على
الصيام ،فتقدي الصيام بالنسبة إل الغن ل قائل به ،على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ،
لكنه على صريح الفقه .
قال يي بن بكي :حنث الرشيد ف يي فجمع العلماء فأجعوا أن عليه عتق رقبة .فسأل مالكا
.فقال :صيام ثلثة أيام .واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة .
حكى ابن بشكوال أن الكم أمي الؤمني أرسل ف الفقهاء وشاورهم ف مسألة نزلت به ،فذكر لم
عن نفسه أنه عمد إل إحدى كرائمه ووطئها ف رمضان ،فأفتوا بالطعام ،و إسحاق بن إبرهيم
ساكت .فقال له أمي الؤمني :ما يقول الشيخ ف فتوى أصحابه ؟ فقال له :ل أقول بقولم ،
وأقول بالصيام .فقيل له :أليس مذهبمالك الطعام ؟ فقال لم :تفظون مذهب مالك ،إل أنكم
تريدون مصانعة أمي الؤمني إنا أمر بالطعام لن له مال ،وأمي الؤمني ل مال له ،إنا هو مال
بيت السلمي ،فأخذ بقوله أمي الؤمني وشكر له عليه .ا هـ .وهذا صحيح .
نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحن بن الكم مثل هذا ف رمضان ،فسأل الفقهاء عن توبته
من ذلك وكفارته .فقال يي بن يي :يكفر ذلك صيام شهرين متتابعي .فلما برز ذلك من يي
سكت سائر الفقهاء حت خرجوا من عنده ،فقالوا ليحي :ما لك ل تفته بذهبنا عن مالك من أنه
مي بي العتق والطعام والصيام ؟ فقال لم :لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق
رقبة ،ولكن حلته على أصعب المور لئل يعود .
فإن صح هذا عن يي بن يي رحه ال ،وكان كلمه على ظاهره ،كان مالفا للجاع .
والثالث :ما سكتت عنه الشواهد الاصة ،فلم تشهد باعتباره ول بإلغائه .فهذا على وجهي :
أحدها :أن يرد نص على وفق ذلك العن ،كتعليل منع القتل للمياث ،فالعاملة بنقيض القصود
تقدير إن ل يرد نص على وفقه ،فإن هذه العلة ل عهد با ف تصرفات الشرع بالفرض ول بلئمها
بيث يوجد لا جنس معتب ،فل يصح التعليل با ،ول بناء الكم عليها باتفاق ،ومثل هذا تشريع
من القائل به فل يكن قبوله .
والثان :أن يلئم تصرفات الشرع ،وهو أن يوجد لذلك العن جنس اعتبه الشارع ف الملة بغي
دليل معي ،وهو الستدلل الرسل ،السمى بالصال الرسلة ول بد من بسطه بالمثلة حت يتبي
وجهه بول ال .
257
الشاطبي كتاب العتصام
258
الشاطبي كتاب العتصام
العراق ! ويا أهل الكوفة :اكتموا الصاحف الت عندكم وغلوها ،فإن ال يقول " :ومن يغلل يأت
با غل يوم القيامة" وألقوا إليه بالصاحف ،فتأمل كلمه فإنه ل يالف ف جعه ،وإنا خالف أمرا
آخر .ومع ذلك فقد قال ابن هشام :بلغن أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل
أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم .
ول يرد نص عن النب صلى ال عليه وسلم با صنعوا من ذلك ،ولكنهم رأوه مصلحة تناسب
تصرفات الشرع قطعا ،فإن ذلك راجع إل حفظ الشريعة ،والمر بفظها معلوم ،وإل منع
الذريعة للختلف ف أصلها الذي هو القرآن ،وقد علم النهي عن الختلف ف ذلك با ل مزيد
عليه .
وإذا استقام هذا الصل فاحل عليه كتب العلم من السنن وغيها ،إذا خيف عليها الندراس ،زيادة
على ما جاء ف الحاديث من المر بكتب العلم .
وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل ،لن رأيت باب
البدع ف كلم العلماء مغفلً جدا إل من النقل اللي كما نقل ابن وضاح ،أو يؤتى بأطراف من
الكلم ل يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ،ول أجد على شدة بثي عنه إل ما وضع فيه أبو بكر
الطرطوشي ،وهو يسي ف جنب ما يتاج إليه فيه ،وإل ما وضع الناس ف الفرق الثنتي والسبعي ،
وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه ،فأخذت نفسي بالعناء فيه ،عسى أن ينتفع به واضعه
،وقارئه ،وناشره ،وكاتبه ،والنتفع به ،وجيع السلمي ،إنه ول ذلك ومسديه بسعة رحته .
الثال الثان :اتفاق أًصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على حد شارب المر
اتفاق أًصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على حد شارب المر ثاني ،وإنا مستندهم فيه
الرجوع إل الصال والتمسك بالستدلل الرسل ،قال العلماء :ل يكن فيه ف زمان رسول ال
صلى ال عليه وسلم حد مقدر ،وإنا جرى الزجر فيه مرى التعزير ،ولا انتهى المر إل أب بكر
رضي ال عنه قرره على طريق النظر بأربعي ،ث انتهى المر إل عثمان رضي ال عنه فتتابع الناس
فجمع الصحابة رضي ال عنهم فاستشارهم ،فقال علي رضي ال عنه :من سكر هذى ومن هذى
افترى ،فأرى عليه حد الفتري .
ووجه إجراء السألة على الستدلل الرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم السباب ف بعض الواضع
مقام السببات ،والظنة مقام الكمة ،فقد جعل اليلج ف أحكام كثية يري مرى النزال ،
وجعل الافر للبئر ،ف مل العدوان وإن ل يكن ث مرد كالردي نفسه ،وحرم اللوة بالجنبية
حذرا من الذريعة إل الفساد ،إل غي ذلك من الفساد ،فرأوا الشرب ذريعة إل الفتراء الذي
تقتضيه كثرة الذيان ،فإنه أول سابق إل السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الدلة على إسناد
259
الشاطبي كتاب العتصام
الحكام إل العان الت ل أصول لا ( يعن على الصوص به ) وهو مقطوع من الصحابة رضي ال
عنهم .
260
الشاطبي كتاب العتصام
النفس ،وتؤثر ف القلب نوعا من الظن .فالتعذيب ف الغالب ل يصادف البيء ،وإن أمكن
مصادفته فتغتفر ،كما اغتفرت ف تضمي الصناع .
فإن قيل :ل فائدة ف الضرب ،وهو لو أقر ل يقبل إقراره ف تلك الال فالواب :
إحداها :أن يعي التاع فتشهد عليه البينة لربه ،وهي فائدة ظاهرة .
والثانية :أن غيه قد يزدجر حت ل يكثر القدام .فتقل أنواع هذا الفساد .
وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو القرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده با أقر ف تلك الال .
قالوا :وهو ضعيف .فقد قال ال تعال " :ل إكراه ف الدين " ولكن نزله سحنون على من أكره
بطريق غي مشروع كما إذا أكره على طلق زوجته ،أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به .
فالكافر يسلم تت ظلل السيوف فإنه مأخؤذ به ،وقد تتفق له بذه الفائدة على مذهب غي
سحنون إذا أقر حالة التعذيب ث تادى على القرار بعد أمنه فيؤخذ به .
قال الغزال بعد ما حكى عن الشافعي :أنه ل يقول بذلك ،وعلى الملة فالسألة ف مل الجتهاد
ـ قال ـ ولسنا نكم بذهب مالك على القطع .فإذا وقع النظر ف تعارض الصال ،كان ذلك
قريبا من النظر ف تعارض القيسة الؤثرة .
الثال الامس :إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إل تكثي النود
إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إل تكثي النود لسد الثغور وحاية اللك التسع القطار ،وخل
بيت الال وارتفعت حاجات الند إل ما ل يكفيهم ،فللمام إذا كان عدلً أن يوظف على الغنياء
ما يراه كافيا لم ف الال ،إل أن يظهر مال بيت الال ،ث إليه النظر ف توظيف وذلك على الغلت
والثمار وغي ذلك ،كيل يؤدي تصيص الناس به إل إياش القلوب ،وذلك يقع قليلً من كثي
بيث ل يجف بأحد ول يصل القصود .
وإنا ل ينقل مثل هذا عن الولي لتساع مال بيت الال ف زمانم بلف زماننا ،فإن القضية فيه
أحرى ،ووجه الصلحة هنا ظاهر ،فإنه لو ل يفعل المام ذلك النظام بطلب شوكة المام ،
وصارت ديارنا عرضة لستيلء الكفار .
وإنا النظام ذلك كله شوكة المام بعدله .فالذين يذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة ،
يستحقرون بالضافة إليها أموالم كلها ،فضلً عن اليسي منها ،فإذا عورض هذا الضرر العظيم
بالضرر اللحق لم يأخذ البعض من أموالم ،فل يتمارى ف ترجيح الثان عن الول .وهو ما يعلم
من مقصود الشرع قبل النظر ف الشواهد .
واللئمة الخرى ،أن الب ف طفله ،أن الوصي ف يتيمه ،أو الكافل فيمن يكفله ،مأمور برعاية
الصلح له ،وهو يصرف ماله إل وجوه من النفقات أو الؤن الحتاج إليها .وكل ما يراه سببا
261
الشاطبي كتاب العتصام
لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل الال ف تصيله .ومصلحة السلم عامة ل تتقاصر عن
مصلحة طفل ،ول نظر إمام السلمي يتقاعد عن نظر واحد من الحاد ف حق مجوره .
ولو وطىء الكفار أرض السلم لوجب القيام بالنصرة ،وإذا دعاهم المام وجبت الجابة ،وفيه
إتعاب النفوس وتعريضها إل اللكة ،زيادة إل إنفاق الال .وليس ذلك إل لماية الدين ،ومصلحة
السلمي .
فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الكفار الذين ياف من جهتهم ،فل يؤمن من انفتاح باب الفت بي
السلمي فالسألة على حالا كما كانت ،وتوقع الفساد عتيد ،فل بد من الراس .
فإذا قدرنا انعدام الكفار الذين ياف من جهتهم ،فل يؤمن من انفتاج باب الفت بي السلمي
فالسألة على حالا كما كانت ،وتوقع الفساد عتيد ،فل بد من الراس .
فهذه ملئمة صحيحة ،إل أنا ف مل ضرورة ،فتقدر بقدرها ،فل يصح هذا الكم إل مع
وجودها .والستقراض ف الزمات إنا يكون حيث يرجى لبيت الال دخل ينتظر أو يرتي ،وأما
إذا ل ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بديث ل يغن كبي شيء ،فل بد من جريان حكم
التوظيف .
وهذه السألة نص عليها الغزال ف مواضع من كتبه ،وتله ف صحيحها ابن العرب ف أحكام القرآن
له ،وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة المام ،وإيقاع التصرف ف أخذ الال وإعطائه على الوجه
الشروع .
262
الشاطبي كتاب العتصام
أحدها :كما صوره الغزال ،فل مرية ف أنه غي صحيح ،على أن ابن العطار ف رقائقه صغى إل
إجازة ذلك ،فقال :ف إجازة أعوان القاضي إذا ل يكن بيت مال .أنا على الطالب ،فإن أدى
الطلوب كانت الجازة عليه .ومال إليه ابن رشد .ورده عليه ابن النجار القرطب ،وقال :إن ذلك
من باب العقوبة ف الال ،وذلك ل يوز على حال .
والثان :أن تكون جناية ف نفس ذلك الال أو ف عوضه ،فالعقوبة فيه عنده ثابتة .فإنه قال ف
الزعفران الغشوش إذا وجد بيد الذي غشه :إنه يتصدق به على الساكي ،قل أو كثر .
وذهب ابن القاسم و مطرف وابن الاجشون إل أنه يتصدق با قل منه دون ما كثر ،وذلك مكي
عن عمر بن الطاب رضي ال عنه ،وأنه أراق اللب الغشوش بالاء ،ووجه ذلك التأديب للغاش .
وهذا التأديب ل نص يشهد له لكن من باب الكم على الاصة لجل العامة .وقد تقدم نظيه ف
مسألة تضمي الصناع .
على أن أبا السن اللخمي قد وضع له أصلً شرعيا ،وذلك :
أنه عليه الصلة والسلم أمر بإكفاء القدور الت أغليت بلحوم المر قبل أن تقسم .
وحديث العتق بالثلة أيضا من ذلك .
ومن مسائل مالك ف السألة :إذا اشترى مسلم من نصران خرا فإنه يكسر على السلم ،ويتصدق
بالثمن أدبا للنصران إن كان النصران ل يقبضه .وعلى هذا العن فرع أصحابه ف مذهبه ،وهو
كله من العقوبة ف الال ،إل أن وجهة ما تقدم .
263
الشاطبي كتاب العتصام
وقد بسط الغزال هذه السألة ف الحياء بسطا شافيا جدا ،وذكرها ف كتبه الصولية كـ النخول
و شفاء العليل.
الثال التاسع :أن العلماء نقلوا التفاق على أن المامة الكبى ل تنعقدإل لن نال رتبة الجتهاد
إن العلماء نقلوا التفاق على أن المامة الكبى ل تنعقد إل لن نال رتبة الجتهاد والفتوى ف علوم
الشرع ،كما أنم اتفقوا أيضا ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاة بي الناس ل يصل إل لن
رقي ف رتبة الجتهاد .وهذا صحيح على الملة ،ولكن إذا فرض خلو الزمان عن متهد يظهر بي
الناس ،وافتقروا إل إمام يقدمونه لريان الحكام وتسكي ثورة الثائرين ،والياطة على دماء
السلمي وأموالم ،فل بد من إقامة المثل من ليس بجتهد ،لنا بي أمرين ،إما أن يترك الناس
فوضى ،وهو عي الفساد والرج .وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ،ول يبقى إل فوت
الجتهاد ،والتقليد كاف بسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل المامة ،وهو
مقطوع به بيث ل يفتقر ف صحته وملئمته إل شاهد .
هذا ،وإن كان ظاهره مالفا ،لا نقلوا من الجاع ف القيقة ،إنا انعقد على فرض أن ل يلو
الزمان من متهد ،فصار مثل هذه السألة ما ل ينص عليه ،فصح العتماد فيه على الصلحة .
264
الشاطبي كتاب العتصام
إن الغزال قال ف بيعة الفضول مع وجود الفضل :إن رددنا ف مبدأ التولية بي متهد ف علوم
الشرائع وبي متقاصر عنها ،فيتعي تقدي الجتهد .لن اتباع الناظر علم نفسه .له مزية على اتباع
علم غيه .فالتقليد والزايا ل سبيل إل إهالا مع القدرة على مراعاتا .
أما إذا انعقدت المامة بالبيعة أو تولية العهد النفك عن رتبة الجتهاد ،وقامت له الشوكة ،
وأذعنت له الرقاب ،بأن خل الزمان عن قرشي متهد مستجمع جيع الشرائط ،وجب الستمرار .
وإن قدر حضور قرشي متهد مستجمع للفروع والكفاية ،وجيع شرائط المامة واحتاج السلمون
ف خلع الول إل تعرضه لثارة فت واضطراب أمور ،ل يز لم خلعه والستبدال به ،بل تب
عليهم الطاعة له ،والكم بنفوذ وليته ،وصحة إمامته ،لنا نعلم أن العلم مزية روعيت المامة
تصيلً لزيد الصلحة ف الستقلل بالنظر والستغناء عن التقليد ،وأن الثمرة الطلوبة من المام
تطفئه الفت الثائرة من تفرق الراء التنافرة ،فكيف يستجيز العاقل تريك الفتنة ،وتشويش النظام ،
وتفويت أصل الصلحة ف الال ؟ تشوفا إل مزيد دقيقة ف الفرق بي النظر والتقليد .
قال :وعند هذا ينبغي أن يقيس النسان ما ينال اللق من الضرر بسبب عدول المام عن النظر إل
التقليد ،با ينالم لو تعرضوا للعه والستبدال به ،أو حكموا بأن إمامته غي منعقدة .
هذا ما قال ،وهو متجه بسب النظر الصلحي ،وهو ملئم لتصرفات الشرع ،وإن ل يعضده نص
على التعيي .
وما قرره هو أصل مذهب مالك :قيل ليحي بن يي :البيعة مكروهة ؟ قال :ل .قيل له :فإن
كانوا أئمة جور؟ فقال :قد بايع ابن عمر لعبد اللك بن مروان ،وبالسيف أخذ اللك .أخبن
بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب ال وسنة نبيه .
قال يي :والبيعة خي من الفرقة .
قال :ولقد أتى مالكا العمري فقال له :يا أبا عبد ال ،بايعن أهل الرمي ،وأنت ترى سية أب
جعفر ،فما ترى ؟ فقال له مالك :أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يول رجلً صالا ؟
فقال العمري :ل أدري ،قال مالك لكن أنا أدري ،إنا كانت البيعة ليزيد بعده ،فخاف عمر إن
ول رجلً صالا أن يكون ليزيد بد من القيام ،فتقوم هجمة فيفسد ما ل يصلح ،فصدر رأي هذا
العمري على رأي مالك .
فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غي الستحق وإقامة الستحق أن تقع فتنة وما ل يصلح ،
فالصلحة ف الترك .
وروى البخاري عن نافع قال :لا خلع أهل الدينة يزيد بن معاوية جع ابن عمر حشمه وولده ،
فقال :إن سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول :
265
الشاطبي كتاب العتصام
" ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة " وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة ال ورسوله ،وإن ل أعلم
أحدا منكم خلعه ول تابع ف هذا المر إل كانت الفيصل بين وبينه .
قال ابن العرب :وقد قال ابن الياط :إن بيعة عبد ال ليزيد كانت كرها ،وأين يزيد من من ابن
عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لمر ال والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الموال
والنفس ما ل يفى .فخلع يزيد لو تقق أن المر يعود ف نصابه تعرض للفتنة ،فكيف ول يعلم
ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء ال .
266
الشاطبي كتاب العتصام
ث أمر بصلة النوافل ونى عن الصلة ف أوقات مصوصة ،وعلل النهي بأمر غي معقول العن .
ث شرعت الماعة ف بعض النوافل كالعيدين والسوف والستسقاء ،دون صلة الليل ورواتب
النوافل .
فإذا صرنا إل غسل اليت وجدناه ل معن له معقو ًل ،فإنه غي مكلف ،ث أمرنا بالصلة عليه
بالتكبي دون ركوع أو سجود أو تشهد ،والتكبي أربع تكبيات دون اثنتي أو ست أو سبع أو
غيها من العداد .
فإذا صرنا إل الصيام وجدنا فيه من التعبدات غي العقولة كثيا كإمساك النهار دون الليل ،
والمساك عن الأكولت والشروبات ،دون اللبوسات والركوبات ،والنظر والشي والكلم ،
وأشباه ذلك ،وكان الماع ـ وهو راجع إل الخراج ـ كالأكول ـ وهو راجع إل الضد ،
وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ول يكن أيام المع ،وإن كانت خي أيام
طلعت عليها الشمس ،أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل .ث الج أكثر تعبدا من الميع .
وهكذا تد عامة التعبدات ف كل باب من أبواب الفقه ما عملوا ( ؟ ) إن ف هذا الستقراء معن
يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونى نوه واعتبت جهته ،وهو أن ما كان من التكاليف
من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الجتهادي جلة ،وأن يوكل إل
واضعه ويسلم له فيه ،وسواء علينا أقلنا :إن التكاليف معللة بصال العباد ،أم ل نقله :اللهم إل
قليلً من مسائلها ظهر فيها معن فهمناه من الشرع فاعتبنا به أو شهدنا ف بعضها بعدم الفرق بي
النصوص عليه ،والسكوت عنه ،فل حرج حينئذ فإن أشكل المر ،فل بد من الرجوع إل ذلك
الصل ،فهو العروة الوثقى للمتفقه ف لشريعة والوزر الحى .
ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي ال عنه :كل عبادة ل يتعبدها أصحاب رسول ال صلى ال عليه
وسلم ،فل تعبدوها فإن الول ل يدع للخر مقالً ،فاتقوا ال يا معشر القراء ،وخذوا بطريق من
كان قبلكم ونوه لبن مسعود أيضا ،وقد تقدم من ذلك كثي .
ولذلك التزم مالك ف العبادات عدم اللتفات إل العان وإن ظهرت لبادي الرأي ،وقوفا مع ما فهم
من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ،فلم يلتفت ف إزالة الخباث ،ورفع
الحداث ،إل مطلق النظافة الت اعتبها غيه ،حت اشترط ف رفع الحداث النية ،ول يقم غي
الاء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حت يكون بالاء الطلق ،وامتنع من إقامة التكبي والقراءة
بالعربية مقامها ف التحري والتحليل والجزاء ،ومنع من إخراج القيم ف الزكاة ،واختصر ف
الكفارات على مراعاة العدد ،وما أشبه ذلك .
ودورانه ف ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معن مناسب ـ إن تصور ـ
لقلة ذلك ف التعبدات وندوره ،بلف قسم العادات الذي هو جار على العن الناسب الظاهر
267
الشاطبي كتاب العتصام
للعقول ،فإنه استرسل فيه استرسال الدل العريق ف فهم العان الصلحية ،نعم مع مراعاة مقصود
الشارع أن ل يرج عنه ول يناقض أصلً من أصوله ،حت لقد استشنع العلماء كثيا من وجوه
استرساله زاعمي أنه خلع الربقة ،وفتح باب التشريع ،وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحه ال ،بل
هو الذي رضي لنفسه ف فقهه بالتباع ،بيث ييل لبعض أنه مقلد لن قبله ،بل هو صاحب
البصية ف دين ال ـ حسبما بي أصحابه ف كتاب سيه ـ .
بل حكي عن أحد بن حنبل أنه قال :إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع ،وهذه غاية
ف الشهادة بالتباع .
وقال أبو داود :أخشى عليه البدعة ( يعن البغض لـ مالك ) .
وقال ابن الهدي :إذا رأيت الجازي يب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة ،وإذا رأيت أحدا
يتناوله فاعلم أنه على خلف السنة .
وقال إبراهيم بن يي بن هشام :ما سعت ابا داود لعن أحدا قط إل رجلي :أحدها :رجل ذكر
له أنه لعن مالكا ،والخر :بشر الريسي .
وعلى الملة فغي مالك أيضا موافق له ف أن أصل العبادات عدم معقولية العن ،وإن اختلفوا ف
بعض التفاصيل ،فالصل متفق عليه عند المة ،ما عدا الظاهرية ،فإنم ل يفرقون بي العبادات
والعادات ،بل الكل غي معقول العن ،فهم أحرى بأن ل يقولوا بأصل الصال فضلً عن أن يعتقدوا
الصال الرسلة .
والثالث :أن حاصل الصال الرسلة يرجع إل حفظ أمر ضروري ،ورفع حرج لزم ف الدين ،
وأيضا مرجعها إل حفظ الضروري من باب ما ل يتم الواجب إل به ...فهي إذا من الوسائل ل
من القاصد ،ورجوعها إل رفع الرج راجع إل باب التخفيف ل إل التشديد .
أما رجوعها إل ضروري فقد ظهر من المثلة الذكورة .
وكذلك رجوعها إل رفع حرج لزم ،وهو إما لحق بالضروري ،وإما من الاجي ،وعلى كل
تقدير فليس فيها ما يرجع إل التقبيح والتزيي البتة ،فإن جاء من ذلك شيء :فإما من باب آخر
منها ،كقيام رمضان ف الساجد جاعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود من قبيل البدع الت أنكرها
السلف الصال ـ كزخرفة الساجد والتثويب بالصلة ـ وهو من قبيل ما يلئم .
وأما كونا ف الضروري من قبيل الوسائل و ما ل يتم الواجب إل به إن نص على اشتراطه ،فهو
شرط شرعي فل مدخل له ف هذا الباب ،لن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه .
وإن ل ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ،فل يلزم أن يكون شرعيا ،كما أنه ل يلزم أن
يكون على كيفية معلومة ،فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغي كتب مطردا لصح ذلك ،
وكذلك سائر الصال الضرورية يصح لنا حفظها ،كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة المامة
268
الشاطبي كتاب العتصام
الكبى بغي إمام على تقدير عدم النص با لصح ذلك ،وكذلك سائر الصال الضرورية يصح لنا
حفظها ،كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة المامة الكبى بغي إمام على تقدير عدم النص با لصح
ذلك ،وكذلك سائر الصال الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ ل يصح أن يستنبط من بابا شيء من
القاصد الدينية الت ليست بوسائل .
وأما كونا ف الاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا ،وهو أقوى ف الدليل الرافع للحرج ،فليس
فيه ما يدل على تشديد ول زيادة تكليف ،والمثلة مبينة لذا الصل أيضا .
إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالضادة للمصال الرسلة لن موضوع الصال الرسلة ما
عقل معناه على التفصيل ،والتعبدات من حقيقتها أن ل يعقل معناها على التفصيل .وقد مر أن
العادات إذا دخل فيها البتداع فإنا يدخلها من جهة ما فيها من التعبد ل بإطلق .
وأيضا ،فإن البدع ف عامة أمرها ل تلئم مقاصد الشرع .بل إنا تتصور على أحد وجهي :إما
منقاضة لقصوده ـ كما تقدم ف مسألة الفت بصيام شهرين متتابعي ـ وإما مسكوتا عنه فيه
كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به .
وقد تقدم نقل الجاع على اطراح القسمي وعدم اعتبارها .ول يقال :إن السكوت عنه يلحق
بالأذون فيه .إذ يلزم من ذلك خرق الجاع لعدم اللءمة .ولن العبادات ليس حكمها حكم
العادات ف أن السكوت عنه كالأذون فيه ،إن قيل بذلك ،فهي تفارقها .إذ ل يقدم على استنباط
عبادة ل أصل لا ،لنا مصوصة بكم الذن الصرح به بلف العادات ،والفرق بينهما ما تقدم
من اهتداء العقول للعاديات ف الملة .وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إل ال تعال .وقد أشي إل
هذا العن ف كتابالوافقات وإل هذا .
فإذا ثبت أن الصال الرسلة ترجع إل حفظ ضروري من باب الوسائل أو إل التخفيف ،فل يكن
إحداث البدع من جهتها ول الزيادة ف الندوبات ،لن البدع من باب الوسائل .لنا متعبد با
بالفرض .ولنا زيادة ف التكليف وهو مضادة للتخفيف .
فحصل من هذا كله أن ل تعلق للمبتدع بباب الصال الرسلة إل القسم اللغى باتفاق العلماء .
وحسبك به متعلقا .وال الوفق .
وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه ل يكل شيئا من التعبدات إل آراء العباد فلم يبق إل الوقوف
عند ما حده .والزيادة عليه بدعة ،كما أن النقصان منه بدعة .وقد مر لما أمثلة كثية وسيأت
أخيا ف إثناء الكتاب بول ال .
269
الشاطبي كتاب العتصام
وأما الستحسان ،فلن لهل البدع أيضا تعلقا به ،فإن الستحسان ل يكون إل بستحسن ،وهو
إما العقل أو الشرع .
أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ،لن الدلة اقتضت ذلك فل فائدة لتسميته
استحسانا ،ول لوضع ترجة له زائدة على الكتاب والسنة والجاع ،وما ينشأ عنها من القياس
والستدلل ،فلم يبق إل العقل هو الستحسن ،فإن كان بدليل فل فائدة لذه التسمية ،لرجوعه إل
الدلة ل إل غيها ،وإن كان بغي دليل فذلك هو البدعة الت تستحسن .
ويشهد لذلك قول من قال ف الستحسان :إنه ما يستحسنه الجتهد بعقله ،وييل إليه برأيه قالوا :
وهو عند هؤلء من جنس ما يستحسن ف العوائد ،وتيل إليه الطباع فيجوز الكم بقتضاه إذا ل
يوجد ف الشرع ما يناف هذا الكلم ما بي أن ث من التعبدات ما ل يكون عليه دليل ،وهو الذي
سى بالبدعة ،فل بد أن ينقسم إل حسن وقبيح ،إذ ليس كل استحسان حقا .
وأيضا ،فقد يري على التأويل الثان للصوليي ف الستحسان .وهو أن الراد به دليل ينقدح ف
نفس الجتهد ل تساعده العبارة عنه ول يقدر على إظهاره .وهذا التأويل ،فالستحسان لبعده ف
ماري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غي شبهة دليل ينقدح له .بل عامة البدع ل بد لصاحبها من
متعلق دليل شرعي .لكن قد يكنه إظهاره وقد ل يكنه ـ وهو الغلب ـ فهذا ما يتجون به .
وربا ينقدح لذا العن وجه بالدلة الت استدل با أهل التأويل الولون ،وقد أتو بثلثة أدلة :
أحدها :قول ال سبحانه " :واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" وقوله تعال " :ال نزل أحسن
الديث" وقوله تعال " :فبشر عباد*الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" هو ما تستحسنه عقولم .
والثان :قوله عليه الصلة والسلم :
"ما رآه السلمون حسنا فهو عند ال حسن" وإنا يعن بذلك ما رأوه بعقولم ،وإل لو كان حسنة
بالدليل الشرعي ل يكن من حسن ما يرون ،إذ ل مال للعقول ف التشريع على ما زعمتم ،فلم
يكن للحديث فائدة ،فدل على أن الراد ما رأوه برأيهم .
والثالث :أن المة قد استحسنت دخول المام من غي تقدير أجرة ول تقدير مدة اللبث ول تقدير
الاء الستعمل ،ول سبب لذلك إل ان الشاحة ف مثله قبيحة ف العادة ،فاستحسن الناس تركه ،
مع أنا نقطع أن الجارة الجهولة ،أو مدة الستئجار أو مقدار الشترى إذا جهل فإنه منوع ،وقد
ل.استحسنت إجارته مع مالفة الدليل ،فأول أن يوز إذا ل يالف دلي ً
فأنت ترى أن هذا الوضع مزلة قدم أيضا لن أراد أن يبتدع ،فله أن يقول :إن استحسنت كذا
وكذا فغيي من العلماء استحسن .وإذا كان كذلك فل بد من فضل اعتناء بذا الفصل ،حت ل
يغتر به جاهل أو زاعم أنه عال ،وبال التوفيق ،فنقول :
270
الشاطبي كتاب العتصام
إن الستحسان يراه معتبا ف الحكام مالك و أبو حنيفة ،بلف الشافعي فإنه منكر له جدا حت
قال :من استحسن فقد شرع والذي يستقرىء من مذهبها أنه يرجع إل العمل بأقوى الدليلي .
هكذا قال ابن العرب ـ قال ـ فالعموم إذا استمر ،والقياس إذا اطرد ،فإن مالكا و أبا حنيفة يريان
تصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معن ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يص بالصلحة ،
ويستحسن أبو حنيفة أن يص بقول الواحد من الصحابة الوارد بلف القياس ـ قال ـ ويريان
معا تصيص القياس ونقص العلة ،ول يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تصيصا .
هذا ما قال ابن العرب .ويشعر بذلك تفسي الكرخي أنه العدول عن الكم ف السألة بكم نظائرها
إل خلفه لوجه أقوى .
وقال بعض النفية :إنه القياس الذي يب العمل به ،لن العلة كانت علة بأثرها :سوا الضعيف
الثر قياسا والقوي الثر استحسانا ،أي قياسا مستحسنا ،وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسي ،
وهو يظهر من استقراء مسائلهم ف الستحسان بسب النوازل الفقهية .
بل قد جاء عن مالك أن الستحسان تسعة أعشار العلم .رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك ،
قال أصبغ ف الستحسان :قد يكون أغلب من القياس .وجاء عن مالك :إن الفرق ف القياس
يكاد يفارقه السنة .
وهذا الكلم ل يكن أن يكون بالعن الذي تقدم قبل ،وأنه ما يستحسنه الجتهد بعقله ،أو أنه دليل
ينقدح ف نفس الجتهد تعسر عبارته عنه ،فإن مثل هذا ل يكون تسعة أعشار العلم ،ول أغلب من
القياس الذي هو أحد الدلة .
وقال ابن العرب ف موضع آخر :الستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الستثناء
والترخص ،لعارضة ما يعارض به ف بعض مقتضياته .وقسمه أقساما عد منها أربعة اقسام ،وهي
ترك الدليل للعرف ،وتركه للمصلحة ،وتركه لليسي ،وتركه لرفع الشقة ،وإيثار التوسعة .
وحده غي ابن العرب من أهل الذهب بأنه عند مالك :استعمال مصلحة جزئية ف مقابلة قياس كلي
ـ قال ـ فهو تقدي الستدلل الرسل على القياس .
وعرفه ابن رشد فقال :الستحسان الذي يكثر استعماله حت يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون
طرحا لقياس يؤدي إل غلو ف الكم ومبالغة فيه فيعدل عنه ف بعض الواضع لعن يؤثر ف الكم
يتص به ذلك الوضع .
وهذه تعريفات ،قريب بعضها من بعض .
وإذا كان هذا معناه عن مالك و أب حنيفة فليس بارج عن الدلة البتة ،لن الدلة يقيد بعضها
ل .فلويصص بعضها بعضا ،كما ف الدلة السنية مع القرآنية .ول يرد الشافعي مثل هذا أص ً
حجة ف تسميته استحسانا لبتدع على حال .
271
الشاطبي كتاب العتصام
ول بد من التيان بأمثلة تب القصود بول ال ،ويقتصر على عشرة أمثلة :
أحدها :أن يعدل بالسألة عن نظائرنا بدليل الكتاب .كقوله تعال " :خذ من أموالم صدقةً
تطهرهم وتزكيهم با" فظاهر اللفظ العموم ف جيع ما يتمول به ،وهو مصوص ف الشرع بالموال
الزكوية خاصة ،فلو قال قائل :مال صدقة .فظاهر لفظه يعم كل مال ،ولكنا نمله على مال
الزكاة ،لكونه ثبت المل عليه ف الكتاب .قال العلماء :وكأن هذا يرجع إل تصيص العموم
بعادة فهم خطاب القرآن .وهذا الثال أورده الكرخي تثيلً لا قاله ف الستحسان .
والثان :أن يقول النفي :سؤر سباع الطي نس ،قياسا على سباع البهائم .وهذا ظاهر الثر ،
ولكنه ظاهر استحسانا ،لن السبع ليس بنجس العي ،ولكن لضرورة تري لمه ،فثبتت ناسته
بجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطي ،لنه يشرب بنقاره وهو طاهر بنفسه ،فوجب
الكم بطهارة سؤره ،لن هذا أثر قوي وإن خفي ،فترجع على الول ،وإن كان أمره جليا ،
والخذ بأقوى القياسي متفق عليه .
والثالث :أن أبا حنيفة قال :إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عي كل واحد غي الهة الت
عينها ( الخر ) ،فالقياس أن ل يد ،ولكن استحسن حده .ووجه ذلك أنه ل يد إل من شهد
عليه أربعة ،فإذا عي كل واحد دارا ،فلم يأت على كل مرتبة بأربعة .لمتناع اجتماعهم على
رتبة واحدة .فإذا عي كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ،ويكن التزاحف .
فإذا قال :القياس أن ل يد ،فمعناه أن الظاهر أنه ل يتمع الربعة على زنا واحد ،ولكنه يؤول ف
الصي إل المر الظاهر تفسيق العدول ،فإنه إن ل يكن مدودا صار الشهود فسقه ،ول سبيل إل
التفسيق ما وجدنا إل العدول عنه سبيلً فيكون حل الشهود على مقتضى العدالة عند المكان ير
ذلك المكان البعيد ،فليس هذا حكما بالقياس ،وإنا هو تسك باحتمال تلقي الكم من القرآن ،
وهذا يرجع ـ ف القيقة ـ إل تيقي مناطه .
والرابع :أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف ،فإنه رد اليان إل العرف ،مع أن
اللغة تقتضي ف ألفاظها غي ما يقتضيه العرف ،كقوله :وال ل دخلت مع فلن بيتأً :فهو ينث
بدخول كل موضع يسمى بيتا ف اللغة ،والسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك ،إل أن عرف
الناس أن ل يطلقوا هذا اللفظ عليه ،فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فل ينث .
والامس :ترك الدليل لصلحة ،كما ف تضمي الجي الشترك وإن ل يكن صانعا ،فإن مذهب
مالك ف هذه السألة على قولي ،كتضمي صاحب المام الثياب ،وتضمي صاحب السفينة ،
وتضمي السماسرة الشتركي ،وكذلك حال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ،ولحق
عنده بالصناع .والسبب ف ذلك بعد السبب ف تضمي الصناع .
272
الشاطبي كتاب العتصام
فإن قيل :فهذا من باب الصال الرسلة ل من باب الستحسان ،قلنا :نعم ! إل أنم صوروا
الستحسان بصورة الستثناء من القواعد .بلف الصال الرسلة .ومثل ذلك يتصور ف مسألة
التضمي .فإن الجراء مؤتنون بالدليل ل بالباءة الصلية .فصار تضمينهم ف حيز الستثن من ذلك
الدليل .فدخلت تت معن الستحسان بذلك النظر .
والسادس :أنم يكون الجاع على إياب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي .يريدون غرم
قيمة الدابة ل قيمة النقص الاصل فيها .ووجه ذلك ظاهر .فإن بغلة القاضي ل يتاج إليها إل
للركوب .وقد امتنع ركوبه لا بسبب فحش ذلك العيب .حت صارت بالنسبة إل ركوب مثله ف
حكم العدم .فألزموا الفاعل غرم قيمة الميع .
وهو متجه بسب الغرض الاص .وكان الصل أن ل يغرم إل قيمة ما نقصها القطع خاصة .لكن
استحسنوا ما تقدم .
وهذا الجاع ما ينظر فيه .فإن السألة ذات قولي ف الذهب وغيه ،ولكن الشهر ف الذهب
الالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب .
والسابع :ترك مقتضى الدليل ف اليسي لتفاهته ونزارته لرفع الشقة .وإيثار التوسعة على اللق .فقد
أجازوا التفاصيل اليسي ف الراطلة الكثية .وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدها تابعا للخر .
وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنارة ما بينهما .بينهما .والصل النع ف الميع ،لا ف
الديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلً بثل سواءً بسواء ،ولن من زاد أو ازداد فقد
أرب .ووجه ذلك أن التافه ف حكم العدم ،ولذلك ل تنصرف إليه الغراض ف الغالب ،وأن
الشاحة ف اليسي قد تؤدي إل الرج والشقة ،وها مرفوعان عن الكلف .
والثامن :أن ف العتبية من ساع أصبغ ف الشريكي يطآن المة ف طهر واحد فتأت فتأت بولد فينكر
أحدها الولد دون الخر ،أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به ،فإن كان ف صفته ما
يكن معه النزال ل يلتفت إل إنكاره ،وكان كما لو اشتركا فيه ،وإن كان يدعي العزل من الوطء
الذي أقر به ،فقال أصبغ :إن أستحسن ها هنا أن ألقه بالخر ،والقياس أن يكونا سواء ،فلعله
غلب ول يدري .
وقد قال عمرو بن العاص ف نو هذا :إن الوكاء قد ينقلب ـ قال ـ والستحسان ها هنا أن ألقه
بالخر ،والقياس أن يكونا ف العلم ،قد يكون أغلب من القياس (؟) ـ ث حكى عن مالك ما تقدم
.ووجه ذلك ابن رشد بأن الصل :من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لق به وإن كان له منكرا
،وجب على قياس ذلك إذا كانت بي رجلي فوطئاها جيعا ف طهر واحد وعزل أحدها عنها
فأنكر الولد وادعاه الخر الذي ل يعزل عنها أن يكون الكم ف ذلك بنلة ما إذا كانا جيعا يعزلن
أو ينلن .والستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينل ،وتبأ منه
273
الشاطبي كتاب العتصام
الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل ،لن الولد يكون مع النزال غالبا ول يكون مع العزل إل نادرا ،
فيغلب على الظن أن الولد إنا هو للذي ادعاه وكان ينل ،ل الذي أنكره وهو يعزل ،والكم بغلبة
الظن أصل ف الحكام ،وله ف هذا الكم تأثي ،فوجب أن يصار إليه استحسانا ـ كما قال أصبغ
ـ وهو ظاهر فيما نن فيه .
والتاسع :ما تقدم أولً من أن المة استسحنت دخول المام من غي تقدير أجرة ول تقدير مدة
اللبث ول تقدير الاء الستعمل .والصل ف هذا النع إل أنم أجازوا ،ل كما قال الحتجون على
البدع ،بل لمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بارج عن الدلة ،فأما تقدير العوض فالعرف هو
الذي قدره فل حاجة إل التقدير ،وأما مدة اللبث وقدر الاء الستعمل فإن ل يكن ذلك مقدرا
بالعرف أيضا فإنه يسقط للضرورة إليه .
وذلك لقاعدة فقهية ،وهي أن نفي جيع الغرر ف العقود ل يقدر عليه ،وهو يضيق أبواب العاملت
،وهو تسيم ابواب الفاوضات ( ؟ ) ،ونفي الضرر إنا يطلب تكميلً ورفعا لا عسى أن يقع من
نزاع ،فهو من المور الكملة والتكميلت إذا أفضى اعتبارها إل إبطال الكملت سقطت جلة ،
تصيلً للمهم ـ حسبما تبي ف الصول ـ فوجب أن يسامح ف بعض أنواع الغرر الت ل ينفك
عنها ،إذ يشق طلب النفكاك عنها ،فسومح الكلف بيسي الغرر ،لضيق الحتراز مع تفاهة ما
يصل من الغرر ،ول يسامح ف كثية إذ ليس ف مل الضرورة ،ولعظيم ما يترتب عليه من الطر ،
لكن الفرق بي القليل والكثي ،غي منصوص عليه ف جيع المور ،وإنا نى عن بعض أنواعه ما
يعظم فيه الغرر ،فجعلت أصولً يقاس عليها غي القليل أصلً ف عدم العتبار وف الواز ،وصار
الكثي ف حكم النع ودار ف الصلي فروع تتجاذب العلماء النظر فيها ،فإذا قل الغرر وسهل المر
وقل الناع ومست الاجة إل السامة فل بد من القول با ،ومن هذا القبيل مسألة التقدير ف ماء
المام ومدة اللبث .
قال العلماء :ولقد بالغ مالك ف هذا الباب وأمعن فيه ،فيجوز أن يستأجر الجي بطعامه وإن كان
ل ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم الشاحة ،وفرق بي تطرق يسي الغرر إل
الجل فأجازه ،وبي تطرقه للثمن فمنعه ،فقال :يوز للنسان أن يشتري سلعة إل الصاد أو إل
الذاذ ،وإن كان اليوم بعينه ل ينضبط ،ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه ل يز ،والسبب ف
التفرقة ،الضايقة ف تعيي الثان وتقديرها ليست ف العرف ،ول مضايقة ف الجل .إذ قد يسامح
البائع ف التقاضي اليام .ول يسامح ف مقدار الثمن على حال .
ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضي ال عنه أن النب عليه الصلة والسلم أمر بشراء البل إل
خروج الصدق .وذلك ل يضبط يومه ول يعي ساعته .ولكنه على التقريب والتسهيل .
فتأملوا كيف وجه الستثناء من الصول الثابتة بالرج والشقة .
274
الشاطبي كتاب العتصام
وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بسب العوائد فقط ؟ فتبي لك بون ما بي النلتي .
العاشر :أنم قالوا :إن من جلة أنواع الستحسان مراعاة خلف العلماء .وهو أصل ف مذهب
مالك ينبن عليه مسائل كثية .
منها :أن الاء اليسي إذا حلت فيه النجاسة اليسية ول تغي أحد أوصافه أنه ل يتوضأ به بل يتيمم
ويتركه .فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام ف الوقت .ول يعد بعد الوقت .وإنا قال :يعيد ف
الوقت مراعاة لقول من يقول :إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء .وكان قياس هذا
القول أن يعيد أبدا .إذ ل يتوضأ إل باء يصح له تركه والنتقال عنه إل التيمم .
ومنها :قولم ف النكاح الفاسد الذي يب فسخه :إن ل يتفق على فساده فيفسخ بطلق .ويكون
فيه الياث .ويلزم فيه الطلق على حده ف النكاح الصحيح .فإن اتفق العلماء على فساده فسخ
بغي طلق .ول يكون فيه مياث ول يلزم فيه طلق .
ومنها :مسألة من نسي تكبية الحرام وكب للركوع وكان مع المام وجب أن يتمادى .لقول من
قال :إن ذلك يزئه .فإذا سلم المام أعاد هذا الأموم .
وهذا العن كثي جدا ف الذهب ووجهه أنه راعى دليل الخالف ف بعض الحوال ،لنه ترجح
عنده ،ول يترجح عنده ف بعضها فلم يراعه .
ولقد كتبت ف مسألة مراعاة اللف إل بلد الغرب وإل بلد أفريقية لشكال عرض فيها من
وجهي :أحدها ما يص هذا الوضع على فرض صحتها ،وهو ما أصلها من الشريعة وعلم تبن
من قواعد أصول الفقه ؟ فإن الذي يظهر الن أن الدليل هو التبع فحيثما صار صي إليه ،ومت رجح
للمجتهد أحد الدليلي على الخر ـ ولو بأدن وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه
على ما هو مقرر ف الصول ،فإذا رجوعه ـ أعن الجتهد ـ إل قول الغي إعمال لدليله الرجوح
عنده ،وإهال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلف القواعد .
فأجابن بعضهم بأجوبة منها القرب والبعد ،إل أن راجعت بعضهم بالبحث ،وهو أخي ومفيدي
أبو العباس بن القباب رحه ال عليه ،فكتب إل با نصه :
وتضمن الكتاب الذكور عودة السؤال ف مسألة مراعاة اللف ،وقلتم إن رجحان إحدى
المارتي على الخرى أن تقديها على الخرى اقتضى ذلك عدم الرجوحة مطلقا ،واستشنعتم أن
يقول الفت هذا ل يوز ابتداءً ،وبعد الوقوع يقول بوازه ،لنه يصي المنوع إذا فعل جائزا .
وقلتم :إنه إنا يتصور المع ف هذا النحو ف منع التنيه ل منع التحري ،إل غي ذلك ما أوردت ف
السألة .
وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قرية قياسية منكرة لطريقة الستحسان ،وإل هذه الطريقة ميل
فحول من الئمة والنظار ،حت قال المام أبو عبد ال الشافعي :من استحسن فقد شرع .
275
الشاطبي كتاب العتصام
ولقد ضاقت العبارة عن معن أصل الستحسان ـ كما ف علمكم ـ حت قالوا :أصح عبارة فيه
أنه معن ينقدح ف نفس الجتهد تعسر العبارة عنه ،فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه ،
فكيف ما يبن عليه ؟ فل بد أن تكون العبارة عنها أضيق .
ولقد كنت أقول بثل ما قال هؤلء العلم ف طرح الستحسان وما بن عليه ،ولول أنه أعتضد
وتقوى لوجدانه كثيا ف فتاوى اللفاء وأعلم الصحابة وجهورهم مع عدم النكي ،فتقوى ذلك
عندي غاية .وسكنت إليه النفس ،وانشرح إليه الصدر ،ووثق به القلب ،فلمر باتباعهم والقتداء
بم ،رضي ال عنهم .
فمن ذلك الرأة يتزوجها رجلن ول يعلم الخر بتقدم نكاح غيه إل بعد البناء ،فأبانا عليه بذلك
عمر ومعاوية والسن رضي ال عنهم .وكل ما أوردت ف قضية السؤال وأرد عليه ،فإنه إذا تقق
أن الذي ل يب هو الول ،فدخول الثان با دخول بزوج غيه ،وكيف يكون غلطة على زوج
غيه مبيحا على الدوام ،ومصححا لعقده الذي ل يصادف ملً ،ومبطلً لعقد نكاح ممع على
صحته ،لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا ؟ وإنا الناسب أن الغلط يرفع عن الغالط
الث والعقوبة .ل إباحة زوج غيه دائما .ومنع زوجها منها .
ومثل ذلك ما قاله العلماء ف مسألة امرأة الفقود :أنه إن قدم الفقود قبل نكاحها فهو أحق با ،وإن
كان بعد نكاحها والدخول با بانت ،وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولن ،فإنه يقال :الكم
لا بالعدة من الول إن كان قطعا لعصمته فل حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها ،أو ليس بقاطع
للعصمة ،فكيف تباح لغيه ف عصمة الفقود ؟
وما روي عن عمر وعثمان ف ذلك أغرب وهو أنما قال :إذا قدم الفقود يي بي امرأته أو صداقها
،فإن اختار صداقها بقيت للثان ،فأين هذا من القياس ؟ وقد صحح ابن عبد الب هذا النقل عن
الليفتي عمر وعثمان رضي ال عنهما ،ونقل عن علي رضي اله عنه أنه قال بثل ذلك ،أو أمضى
الكم به ،وإن كان الشهر عنه خلفه ،ومثله ف قضايا الصحابة كثي من ذلك .
قال ابن العدل لو أن رجلي حضرها وقت الصلة ،فقام أحدها فأوقع الصلة بثوب نس مانا (؟)
وقعد الخر حت خرج الوقت ول يقاربه (؟) مع نقل غي واحد من الشياخ الجاع على وجوب
النجاسة (؟) عامدا جع الناس أنه ل يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلة ،ومن نقله
اللخمي ،والازري ،وصححه الباجي ،وعليه مضى عبد الوهاب ف تلقينه .
وعلى الطريقة الت أوردت ،أن النهي عنه ابتداء غي معتب ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلي
بعكس ما قال ابن العدل ،لن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه ،والخر ل يعمل كما
أمر ،ول قضى شيئا .وليس كل منهي عنه ابتداء غي معتب بعد وقوعه .
276
الشاطبي كتاب العتصام
وقد صحح الدارقطن حديث أب هريرة رضي ال عنه ،عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال " :ل
تزوج الرأة الرأة ول تزوج الرأة نفسها ،فإن الزانية هي الت تزوج نفسها" وأخرج أيضا من حديث
عائشة رضي ال عنها " :أيا امرأة نكحت بغيإذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلث مرات ـ فإن
دخل با فالهر لا با أصاب منها" .فحكم أولً ببطلن العقد ،وأكده بالتكرار ثلثا ،وساه زنا .
وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جلة .لكنه صلى ال عليه وسلم عقبة با اقتضى اعتباره بعد
الوقوع بقوله " :ولا مهرها با أصاب منها ومهر البغي حرام" .
وقد قال تعال " :يا أيها الذين آمنوا ل تلوا شعائر ال" .فعلل النهي عن استحلله بابتغائهم فضل
ال ورضوانه مع كفرهم بال تعال ،الذي ل يصح معه عبادة ،ول يقبل عمل ،وإن كان هذا
الكم الن منسوخا ،فذلك ل ينع الستدلل به ف هذا العن .
ومن ذلك قول الصديق رضي ال عنه :وستجد أقواما زعموا أنم حبسوا أنفسهم ل ،فذرهم وما
زعموا أنم حبسوا أنفسهم له .ولذا ل يسب الراهب وترك له ماله أو ما قل منه ،على اللف ف
ذلك ،وغيه من ل يقاتل يسب ويلك ،وإنا ذلك لا زعم أنه حبس نفسه له ،وهي عبادة ال تعال
،وإن كانت عبادته أبطل الباطل ،فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي ل يقطع
بطأ فيه ،وإن كان يظن ذلك ظنا .وتتبع مثل هذا يطول .
وقد اختلف فيما تقق فيه ني من الشارع :هل يقتضي فساد النهي عنه ؟ وفيه بي الفقهاء
والصوليي ما ل يفى عليكم ،فكيف بذا ؟ .
وإذا خرجت السألة الخلف فيها إل أصل متلف فيه ،فقد خرجت عن حيز الشكال .ول يبق
إل الترجيح لبعض تلك السائل .ويرجح كل أحد ما ظهر له بسب ما وفق له .ولنكتف بذا القدر
ف هذه السألة .
انتهى ما كتب ل به وهو بسط أدلة شاهدة لصل الستحسان ،فل يكن مع هذا التقرير كله أن
يتمسك به من أراد أن يستحسن بغي دليل أصلً .
277
الشاطبي كتاب العتصام
وأيضا ،فإنا نعلم أن الصحابة رضي ال عنهم حصروا نظرهم ف الوقائع الت ل نصوص فيها ف
الستنباط والرد إل ما فهموا من الصول الثابتة .ول يقل أحد منهم :إن حكمت ف هذا بكذا لن
طبعي مال إليه ،أو لنه يوافق مبت ورضائي .ولو قال ذلك لشتد عليه التكبي ،وقيل له :من أين
لك أن تكم على عبادة ال بحض ميل النفس وهوى القلب ؟ هذا مقطوع ببطلنه .
بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ،ويصرون ضوابط الشرع .
وأيضا ،فلو رجع الكم إل مرد الستحسان ل يكن للمناظرة فائدة ،لن الناس تتلف أهواؤهم
وأغراضهم ف الطعمة والشربة واللباس وغي ذلك ول يتاجون إل مناظرة بعضهم بعضا :ل كان
هذا الاء أشهى عندك من الخر ؟ والشريعة ليست كذلك .
على أن أرباب البدع العملية أكثرهم ل يبون أن يناظروا أحدا .ول يفاتون عالا ول غيه فيما
يبتغون ،خوفا من الفضيحة أن ل يدوا مستندا شرعيا ،وإنا شأنم إذا وجدوا عالا أو لقوة أن
يصانعوا ،وإذا وجدوا جاهلً عاميا ألقوا عليه ف الشريعة الطاهرة إشكالت ،حت يزلزلوهم
ويلطوا عليهم ،ويلبسوا دينهم ،فإذا عرفوا منهم الية واللتباس .ألقوا إليهم من بدعهم على
التدريج شيئا فشيئا ،وذموا أهل العلم بأنم أهل الدنيا الكبون عليها ،وأن هذه الطائفة هم أهل ال
وخاصيته .وربا أوردوا عليهم من كلم غلة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم ،حت يهووا بم
ف نار جهنم ،وأما أن يأتوا المر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخي فل .
وتأمل ما نقله الغزال ف استدراج الباطنية غيهم إل مذهبهم ،تدهم ل يعتمدون إل على خديعة
الناس من غي تقرير علم ،والتحيل عليهم بأنواع اليل ،حت يرجونم من السنة ،أو عن الدين
جلة .ولول الطالة لتيت بكلمه ،فطالعه ف كتابه فضائح الباطنية .
وأما الد الثان فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الجج وادعى كل من شاء ما شاء ،واكتفى
بجرد القول ،فألأ الصم إل البطال .وهذا ير فسادا ل خفاء له .وإن سلم فذلك الدليل إن
كان فاسدا فل عبة به ،وإن كان صحيحا فهو راجع إل الدلة الشرعية فل ضرر فيه .
وأما الدليل الول فل متعلق به ،فإن أحسن التباع إلينا ،اتباع الدلة الشرعية ،وخصوصا القرآن ،
فإن ال تعال يقول ك "ال نزل أحسن الديث كتابا متشابا" .وجاء ف صحيح الديث ـ خرجه
مسلم ـ "أن النب صلى ال عليه وسلم قال ف خطبته :أما بعد فأحسن الديث كتاب ال" فيفتقر
أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس ما أنزل إلينا ،فضلً عن أن يقول من
أحسنه .
وقوله تعال " :الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" الية .يتاج إل بيان أن ميل النفوس يسمى
قو ًل .وحينئذ ينظر إل كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد .
278
الشاطبي كتاب العتصام
ث إنا نعارض هذا الستحسان بأن عقولنا تيل إل إبطاله ،وأنه ليس بجة ،وإنا الجة الدلة
الشرعية التلقاة من الشرع .
وأيضا ،فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر ،إذا فرض أن الكم يتبع مرد ميل
النفوس وهوى الطباع ،وذلك مال ،للعمل بأن ذلك مضاد للشريعة ،فضلً عن أن يكون من
أدلتها .
وأما الدليل الثان فل حجة فيه من أوجه :
أحدها :أن ظاهره يدل على أن ما رآه السلمون حسنا فهو حسن ،والمة ل تتمع على باطل .
فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا ،لن الجتماع يتضمن دليلً شرعيا ،
فالديث دليل عليكم ل لكم .
والثان :أنه خب واحد ف مسألة قطعية فل يسمع .
والثالث :أنه إذا ل يرد به أهل الجاع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام ،وهو باطل
بإجاع .ل يقال :إن الراد استحسان أهل الجتهاد ،لنا نقول :هذا ترك للظاهر ،فيبطل
الستدلل .ث إنه ل فائدة ف اشتراط الجتهاد ،لن الستحسن بالفرض ل ينحصر ف الدلة ،فأي
حاجة إل اشتراط الجتهاد ؟
فإن قيل :إنا يشترط حذرا من مالفة الدلة فإن العامي ل يعرفها .قيل :بل الراد استحسان ينشأ
عن الدلة ،بدليل أن الصحابة رضي ال عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الدلة وفهم مقاصد
الشرع .
فالاصل ،إن تعلق البتدعة بثل هذه المور تعلق با ل يغنيهم ول ينفعهم البتة ،لكن ربا يتعلقون
ف آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر ف مواضعها إن شاء ال ،ومنها ما قد مضى .
279
الشاطبي كتاب العتصام
وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن .قال :يا رسول ال ! فما الث ؟ قال :إذا حاك شيء ف صدرك
فدعه" .وعن أنس بن مالك رضي ال عنه قال :سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :دع
ما يريبك إل ما ل يريبك" ،و"عن وابصة رضي ال عنه قال :سألت رسول ال صلى ال عليه
وسلم عن الب والث فقال :يا وابصة ! استفت قلبك ،واستفت نفسك ،الب ما اطمأنت إليه النفس
واطمأن إليه القلب ،والث ما حاك ف النفس وتردد ف الصدر ،وإن أفتاك الناس وأفتوك" وخرج
البغوي ف معجمه عن عبد الرحن بن معاوية :
"أن رجلً سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال :يا رسول ال ! ما يل ل ما يرم علي ؟
فسكت رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فرد عليه ثلث مرات ،كل ذلك يسكت رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،ث قال :أين السائل ؟ فقال :أنا ذا يا رسول ال .فقال :ـ ونقر بأصبعه ـ :ما
أنكر قلبك فدعه" .
وعن عبد ال قال :الث حواز القلوب ،فما حاك من شيء ف قلبك فدعه ،وكل شيء فيه نظرة
فإن للشيطان فيه مطمعا ،وقال أيضا :اللل بي والرام بي وبينهما أمور مشتبهات ،فدع ما
يريبك إل ما ل يريبك ،وعن أب الدرداء رضي ال عنه :أن الي طمأنينة ،وأن الشر ريبة ،فدع
ما يريبك إل ما ل يريبك ،وقال شريح :دع ما يريبك إل ما يريبك ،فوال ما وجدت فقد شيء
تركته ابتغاء وجه ال .
فهذه ظهر من معناها الرجوع ف جلة من الحكام الشرعية إل ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس
ويعرض بالاطر ،وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالقدم عليه صحيح ،وإذا توقفت أو ارتابت فالقدام
عليه مظور ،وهو عي ما وقع إنكاره من الرجوع إل الستحسان الذي يقع بالقلب وييل إليه
الاطر ،وإن ل يكن ث دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيدا
بالدلة الشرعية ل يل به على ما ف النفوس ول على ما يقع بالقلوب ،مع أنه عندكم عبث وغي
مفيد ،كمن ييل بالحكام الشرعية على المور الوفاقية ،أو الفعال الت ل ارتباط بينها وبي
شرعية الحكام .فدل ذلك على أن لستحسان العقول وميل النفوس أثرا ف شرعية الحكام ،وهو
الطلوب .
والواب :أن هذه الحاديث وما كان ف معناها قد زعم الطبي ف تذيب الثار أن جاعة من
السلف قالوا بتصحيحها ،والعمل با دل عليه ظاهرها .وأتى بالثار التقدمة عن عمر وابن مسعود
وغيها ،ث ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها .
وكلمه وترتيبه بالنسبة إل ما نن فيه لئق أن يؤتى به على وجهه ،فأتيت به على تري معناه دون
لفظه لطوله ،فحكى عن جاعة أنم قالوا :ل شيء من أمر الدين إل وقد بينه ال تعال بنص عليه
280
الشاطبي كتاب العتصام
بعناه ،فإن كان حللً فعلى العامل به إذا كان عالا تليله ،أو حراما فعليه تريه ،أو مكروها غي
حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنيها .
فأما العامل بديث النفس والعارض ف القلب فل ،فإن ال حظر ذلك على نبيه فقال " :إنا أنزلنا
إليك الكتاب بالق لتحكم بي الناس با أراك ال " فأمره بالكم با أراه ال ل با رآه وحدثته به
نفسه ،فغيه من الشرك أول أن يكون ذلك مظورا عليه .وأما إن كان جاهلً فعليه مسألة العلماء
دون ما حدثته نفسه .
ونقل عن عمر رضي ال عنه أنه خطب فقال :إيها الناس ! قد سنت لكم السنن ،وفرضت لكم
الفرائض ،وتركتم على الواضحة ،ان تضلوا بالناس يينا وشالً.
وعن ابن عباس رضي ال عنهما :ما كان ف القرآن من خلل أو حرام فهو كذلك ،وما سكت
عنه فهو ما عفي عنه .
وقال مالك :قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد ت هذا المر واستكمل ،فينبغي أن تتبع آثار
رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ول ينبع الرأي ،فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى
ف الرأي منه فاتبعه ،فكلما غلبه رجل اتبعه ،أرى أن هذا بعد ل يتم .
واعملوا من الثار با روي عن جابر رضي ال عنه .أن النب صلى ال عليه وسلم قال " :قد تركت
فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به :كتاب ال وسنت ولن يتفرقا حت يردا على الوض" .
وروي عن عمرو بن [ شعيب عن أبيه عن جده ] ـ " خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما
وهم يادلون ف القرآن ،فخرج و وجهه أحر كالدم فقال :يا قوم ! على هذا هلك من كان قبلكم
جادلوا ف القرآن وضربوا بعضه ببعض ،فما كان من حلل فاعملوا به ،وما كان من حرام فانتهوا
عنه ،وما كان من متشابه فآمنوا به" .
و"عن أب الدرداء رضي ال عنه يرفعه قال :ما أحل ال ف كتابه فهو حلل ،وما حرم فيه فهو
حرام ،وما سكت عنه فهو عافية ،فاقبلوا من ال عافيته ،فإن ال ل يكن لينسى شيئا " :وما كان
ربك نسيا" " .
قالوا :فهذه الخبار وردت بالعمل با ف كتاب ال ،والعلم بأن العامل به لن يضل ،ول يأذن
لحد ف العمل بعن ثالث غي ما ف الكتاب والسنة ،ولو كان ث ثالث ل يدع بيانه ،فعدل على
أن ل ثالث ،ومن ادعاه فهو مبطل .
قالوا :فإن قيل :فإنه عليه السلم قد سن لمته وجها ثالثا وهو قوله " :استفت قلبك" وقوله :
"الث حواز القلوب" إل غي ذلك ،قلنا :لو صحت هذه الخبار لكان ذلك إبطالً لمره بالعمل
بالكتاب والسنة إذ صحا معا ،لن أحكام ال ورسوله ل ترد با استحسنته النفوس واستقبحته ،
281
الشاطبي كتاب العتصام
وإنا كان يكون وجها ثالثا لو خرج شيء من الدين عنهما ،وليس بارج ،فل ثالث يب العمل به
.
فإن قيل :قد يكون قوله " :استفت قلبك" ونوه أمرا لن ف مسألته نص من كتاب ول سنة ،
واختلفت فيه المة ،فيعد وجها ثالثا .قلنا :ل يوز ذلك لمور :
أحدها :أن كل ما ل نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دللة ،فلو كان فتوى القلب ونوه دليلً
ل يكن لنصت الدللة الشرعية عليه معن ،فيكون عبثا ،وهو باطل .
والثان :أن ال تعال قال " :فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" .فأمر التنازعي بالرجوع
إل ال والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب .
والثالث :أن ال تعال قال " :فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون" .فأمرهم بسألة أهل الذكر
ليخبوهم بالق فيما اختلفوا فيه من أمر ممد صلى ال عليه وسلم ،ول يأمرهم أن يستفتوا ف
ذلك أنفسهم .
والرابع :أن ال تعال قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته " :أفل ينظرون إل البل كيف
خلقت" .إل آخرها .فأمرهم بالعتبار بعبته ،والستدلل بأدلته على صحة ما جاءهم به ،ول
يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ،ويصدوا عما اطمأنت إليه قلوبم ،وقد وضع العلم والدلة ،
فالواجب ف كل ما وضع ال عليه الدللة أن يستدل بأدلته على ما دلت ،دون فتوى النفوس
وسكون القلوب من أهل الهل بأحكام ال .
وهذا ما حكاه الطبي عمن تقدم ،ث اختار إعمال تلك الحاديث ،إما لنا صحت عنده أو صح
منها عنده ما تدل عليه معانيها ،كحديث :
"اللل بي والرام بي" إل آخر الديث ،فإنه صحيح خرجه المامان .ولكنه ل يعملها ف كل
من أبواب الفقه ،إذ ل يكن ذلك ف تشريع العمال وإحداث التعبدات ،فل يقال بالنسبة إل
إحداث العمال :إذا اطمأنت نفسك إل هذا العمل فهو بر ،أو :استفت قلبك ف إحداث هذا
العمل ،فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإل فل .
وكذلك ف النسبة إل التشريع التركي ،ل يتأتى تنيل معان الحاديث عليه بأن يقال :إن اطمأنت
نفسك إل ترك العمل الفلن فاتركه ،وإل فدعه .أي فدع الترك واعمل به .وإنا يستقيم إعمال
الحاديث الذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلة والسلم " :اللل بي والرام بي" الديث .
وما كان من قبيل العادات من استعمال الاء والطعام والشراب والنكاح واللباس ،وغي ذلك ما ف
هذا العن ،فمنه ما هو بي اللية وما هو بي التحري ،وما فيه إشكال ،وهو المر الشتبه الذي ل
يدرى أحلل هو أم حرام ؟ فإن ترك القدام أول من القدام مع جهلة باله ،نظي قوله عليه السلم
":إن لجد التمرة ساقطة على فراشي ،فلول أن أخشى أن تكون من الصدقة لكلتها" ،فهذه
282
الشاطبي كتاب العتصام
التمرة ل شك أنا ل ترج من إحدى الالي :إما من الصدقة وهي حرام عليه ،وإما من غيها
وهي حلل له ،فترك أكلها حذرا من أن تكون من الصدقة ف نفس المر .
قال الطبي :فكذلك حق ال على العبد فيما اشتبه عليه ما هو سعة من تركه والعمل به ،أو ما هو
غي واجب ـ أن يدع ما يريبه إل ما ل يريبه ،إذ يزول بذلك عن نفسه الشك ،كمن يريد خطبة
امرأة فتخبه امرأة أنا قد أرضعته وإياها ول يعلم صدقها من كذبا ،فإن تركها أزال عن نفسه
الريبة اللحقة له بسبب إخبار الرأة ،وليس تزوجه إياها بواجب ،بلف ما لو أقدم ،فإن النفس ل
تطمئن إل حلية تلك الزوجة .
وكذلك قول عمر إنا هو فيما أشكل أمره ف البيوع فلم يدر حلل هو أم حرام ؟ ففي تركه سكون
النفس وطمأنينة القلب ،كما ف القدام شك :هل هو آث أم ل ؟ وهو معن قوله عليه السلم
للنواس ووابصة رضي ال عنهما .ودل على ذلك حديث الشتبهات ،ل ما ظن أولئك من أنه أمر
للجهال أن يعلموا با رأته أنفسهم ،ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم .
قال الطبي ،فإن قيل :إذا قال الرجل لمرأته :أنت علي حرام .فسأل العلماء فاختلفوا عليه .
فقال بعضهم :قد بانت منك بالثلث :وقال بعضهم :إنا حلل غي أن عليك كفارة يي .وقال
بعضهم :ذلك إل نيته إن أراد الطلق فهو طلق .أو الظهار فهو ظهار .أو يينا فهو يي .وإن ل
ينو شيئا فليس بشيء :أيكون هذا اختلفا ف الكم كإخبار الرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق ،
كما يؤمر هناك أن ل يتزوجها خوفا من الوقوع ف الحظور أو ل ؟ قيل :حكمه ف مسألة العلماء
أن يبحث عن أحوالم وأمانتهم ونصيحتهم ث يقلد الرجح .فهذا مكن ،والزازة مرتفعة بذا
البحث .بلف ما إذا بث مثلً عن أحوال الرأة فإن الزازة ل تزول .وإن أظهر البحث أن
أحوالا غي حيدة ،فهما على هذا متلفان .وقد يتفقان ف الكم إذا بث عن العلماء فاستوت
أحوالم عنده ،ل يثبت له ترجيح لحدهم ،فيكون العمل الأمور به من الجتناب كالعمول به ف
مسألة الخبة بالرضاع سواء ،إذ ل فرق بينهما على هذا التقدير .انتهى معن كلم الطبي .
وقد أثبت ف مسألة اختلف العلماء على الستفت أنه غي مي ،بل حكمه حكم من التبس عليه
المر فلم يدر أحلل هو أم حرام ؟ فل خلص له من الشبهة إل باتباع أفضلهم والعمل با أفت به .
وإل فالترك .إذ ل تطمئن النفس إل بذلك حسبما اقتضته الدلة التقدمة .
283
الشاطبي كتاب العتصام
تكون معتبة أو غي معتبة شرعا ،فإن ل تكن معتبة فهو خلف ما دلت عليه تلك الخبار ،وقد
تقدم أنا معتبة بتلك الدلة وإن كانت معتبة فقد صار ث قسم ثالث غي الكتاب والسنة ،وهو غي
ما نفاه الطبي وغيه .
وإن قيل :إنا تعتب ف الحجام دون القدام .ل ترج تلك عن الشكال الول ،لن كل واحد
من القدام والحجام فعل ل بد أن يتعلق به حكم شرعي ،وهو الواز وعدمه ،وقد علق ذلك
بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها .فإن كان ذلك عن دليل ،فهو ذلك الول بعينه ،باق على كل
تقدير .
والواب :أن الكلم الول صحيح .وإنا النظر ف تقيقه .
فاعلم أن كل مسألة تفتقر إل نظرين :تظر ف دليل الكم ،ونظر ف مناطه ،فأما النظر ف دليل
الكم ل يكن أن يكون إل من الكتاب والسنة ،أو ما يرجع إليهما عن إجاع أو قياس أو غيها ،
ول يعتب فيه طمأنينة النفس ،ول نفي ريب القلب ،إل من جهة اعتقاد كون الدليل دليلً أو غي
دليل .ول يقول أحد ( ؟ ) إل أهل البدع الذين يستحسنون المر بأشياء ل دليل عليها ،أو
يستقبحون كذلك من غي دليل إل طمأنينة النفس ( ؟ ) أن المر كما زعموا ،وهو مالف لجاع
السلمي .أ
وأما النظر ف مناط الكم ،فإن الناط ل يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط ،بل يثبت بدليل
ل :عن غي شرعي أو بغي دليل ،فل يشترط فيه بلوغ درجة الجتهاد ،بل ل يشترط فيه العلم فض ً
درجة الجتهاد :أل ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلة إذا فعله الصلي
:هل تبطل به الصلة أم ل ؟ فقال العامي :إن كان يسيا فمغتفر ،وإن كان كثيا فمبطل ،ل
يغتفر ف ا لسي إل أن يققه له العال .بل العاقل يفرق بي الفعل اليسي والكثي .فقد انبن ها هنا
الكم ـ وهو البطلن أو عدمه ـ على ما يقع بنفس
العامي ،وليس واحدا من الكتاب أو السنة ،لنه ليس ما وقع بقلبه دليلً على الكم ،وإنا هو
مناط الكم ،فإذا تقق له الناط بأي وجه تقق ،فهو اللطوب فيقع عليه الكم بدليله الشرعي .
وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور ف الطهارة ،وفرقنا بي اليسي والكثي ف التفريق الاصل أثناء
الطهارة ،فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه ف اليسي أو الكثي ،فتبطل طهارته أو تصح
بناء على ذلك الواقع ف القلب ،لنه نظر ف مناط الكم .
فإذا ثبت هذا فمن ملك لم شاة ذكية حل له أكله ،لن حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط
اللية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه :أو ملك لم شاة ميتة ل يل له أكله ،لن تريه ظاهر من جهة
فقده شرط اللية ،فتحقق مناطها بالنسبة إليه .وكل واحد من الناطي راجع إل ما وقع بقلبه ،
واطمأنت إليه نفسه ،ل بسب المر ف نفسه .ال ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد
284
الشاطبي كتاب العتصام
واحد حليته بناء على ما تقق له من مناطه بسبه ،ويعتقد آخر تريه بناء على ما تقق له من مناطه
بسبه ،فيأكل أحدها حللً ويب على الخر الجتناب ،لنه حرام ؟ ولو كان ما يقع بالقلب
يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي ل يصح هذا الثال وكان ما ًل ،لن أدلة الشرع ل تناقض أبدا
.فإذا فرضنا لما أشكل على الالك تقيق مناطه ل ينصرف إل إحدى الهتي ،كاختلط اليتة
بالذكية ،واختلط الزوجة بالجنبية .
فها هنا قد وقع الريب والشك والشكال والشبهة .
وهذا الناط متاج إل دليل شرعي يبي حكمه ،وهي تلك الحاديث التقدمة ،كقوله " :دع ما
يريبك إل ما ل يريبك" وقوله " :الب ما اطمأنت إليه النفس ،والث ما حاك ف صدرك" كأنه يقول
:إذا اعتبنا باصطلحنا ما تققت مناطه ف اللية أو الرمة ،فالكم فيه من الشرع بي .
وما أشكل عليك تقيقه فاتركه وإياك والتلبس به .وهو معن قوله ـ إن صح ـ " :استفت قلبك "
وإن أفتوك فإن تقيك لناط مسألتك أخص بك من تقيق غيك له إذا كان مثلك .
ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك الناط ول يشكل على غيك ،لنه ل يعرض له ما عرض لك .
وليس الراد بقوله " :وإن أفتوك" أي إن نقلوا إليك الكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك ،
فإن هذا باطل ،وتقول على التشريع الق .وإنا الراد ما يرجع إل تقيق الناط .
نعم قد ل يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه لك غيك ،وتقلده فيه ،وهذه الصورة خارجة عن
الديث ،كما أنه قد يكون تقيق الناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع ،كحد الغن الوجب
للزكاة ،فإنه يتلف باختلف الحوال ،فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائت درهم وأشباه ذلك ،
وإنا النظر هنا فيما وكل تقيقه إل الكلف .
فقد ظهر معن السألة وأن الحاديث ل تتعرض لقتناص الحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل
القلب كما أورده السائل الستشكل ،وهو تقيق بالغ .والمد ل الذي بنعته تتم الصالات .
الباب التاسع .ف السبب الذي لجله افترقت فرق البتدعة عن جاعة السلمي
فاعلموا رحكم ال أن اليات الدالة على ذم البدعة وكثيا من الحاديث أشعرت بوصف لهل
البدعة ،وهو الفرقة الاصلة ،حت يكونوا بسببها شيعا متفرقة ،ل ينتظم شلهم بالسلم ،وإن
كانوا من أهله ،وحكم لم بكمه .
أل ترى أن قوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " وقوله تعال :
"ول تكونوا من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " الية ،وقوله " :وأن هذا صراطي
مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" إل غي ذلك من اليات الدالة على وصف
التفرق ؟
285
الشاطبي كتاب العتصام
286
الشاطبي كتاب العتصام
وهو قول جاعة من الفسرين ،منهم عطاء قال " :ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك ولذلك
خلقهم " قال قال :اليهود والنصارى والجوس ،والنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ النيفية ،
خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي ف الية الذكورة .
وأصل هذا الختلف هو ف التوحيد والتوجه للواحد الق سبحانه ،فإن الناس ف عامة المر ل
يتلفوا ف أن لم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم ،إل أنم اختلفوا ف تعيينه على آراء متلفة .من
قائل بالثني وبالمسة ،وبالطبيعة أو الدهر ،أو بالكواكب ،إل أن قالوا بالدميي وبالشجر
وبالجارة وما ينحتون بأيديهم .
ومنهم من أقر بواجب الوجود الق لكن على آراء متلفة أيضا ،إل أن بعث ال النبياء مبيني
لمهم حق ما اختلفوا فيه من باطله ،فعرفوا بالق على ما ينبغي ،ونزهوا رب الرباب عما ل يليق
بلله من نسبة الشركاء والنداد ،وإضافة الصاحبة والولد ،فأقر بذلك من أقر به ،وهم
الداخلون تت مقتضى قوله " :إل من رحم ربك" وأنكر من أنكر ،فصار إل مقتضى قوله :
"لملن جهنم من النة والناس أجعي " وإنا دخل الولون تت وصف الرحة لنم خرجوا عن
وصف الختلف إل وصف الوفاق واللفة ،وهو قوله " :واعتصموا ببل ال جيعا ول تفرقوا"
وهو منقول عن جاعة من الفسرين .
وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ف قوله " :ولذلك خلقهم" خلق أهل الرحة أن ل
يتلفوا .وهو معن ما نقل عن مالك و طاوس ف جامعه ،وبقي الخرون على وصف الختلف ،
إذ خالفوا الق الصريح ،ونبذوا الدين الصحيح .
وعن مالك أيضا قال :الذين رحهم ل يتلفوا .وقول ال تعال " :كان الناس أمة واحدة فبعث ال
النبيي مبشرين ومنذرين" إل قوله " :فهدى ال الذين آمنوا لا اختلفوا فيه من الق بإذنه" ومعن :
"كان الناس أمة واحدة " فاختلفوا "فبعث ال النبيي " فأخب ف الية أنم اختلفوا ول يتفقوا ،فبعث
النبيي ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الق ،وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الختلف
.
وف الديث الصحيح :
"نن الخرون السابقون يوم القيامة ،بيد أنم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ،هذا
يومهم الذي فرض ال عليهم ،فاختلفوا فيه فهدانا ال له ،فالناس لنا فيه تبع ،فاليهود غدا
والنصارى بعد غد" .
وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم ف قوله تعال " :كان الناس أمة واحدة " فهذا يوم أخذ ميثاقهم
ل يكونوا أم ًة واحدةً غي ذلك اليوم " .فبعث ال النبيي مبشرين ومنذرين" إل قوله " :فهدى ال
الذين آمنوا لا اختلفوا فيه من الق بإذنه " .
287
الشاطبي كتاب العتصام
وختلفوا ف يوم المعة فاتذ اليهود يوم السبت واتذ النصارى يوم الحد فهدى ال أمة ممد صلى
ال عليه وسلم ليوم المعة .
واختلفوا ف القبلة فاستقبلت النصارى الشرق ،واستقبلت اليهود بيت القدس ،وهدى ال أمة ممد
صلى ال عليه وسلم للقبلة .
واختلفوا ف الصلة فمنهم من يركع ول يسجد ،ومنهم من يسجد ول يركع ومنهم من يصلي ول
يتكلم ،ومنهم من يصلي وهو يشي ،وهدى ال أمة ممد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك .
واختلفوا ف إبراهيم عليه السلم ،فقالت اليهود كان يهوديا ،وقالت النصارى نصرانيا ،وجعله ال
حنيفا مسلما ،فهدى ال أمة ممد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك .
واختلفوا ف عيسى عليه السلم فكفرت به اليهود وقالوا لمه بتانا عظيما وجعلته النصارى إلا
وولدا ،وجعله اللخ روحه وكلمته ،فهدى ال أمة ممد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك .
ث إن هؤلء التفقي قد يعرض لم الختلف بسب القصد الثان ل القصد الول ،فإن ال حكم
بكمته أن تكون فروع هذه اللة قابلة للنظار ومالً للظنون ،وقد ثبت عند النظار أن النظريات ل
يكن التفاق فيها عادة ،فالظنيات عريقة ف إمكان الختلف ،لكن ف الفروع دون الصول
وفب الزئيات دون الكليات ،فلذلك ل يضر هذا الختلف .
وقد نقل الفسرون عن السن ف هذه الية أنه قال :أما أهل رحة ال فإنم ل يتلفون اختلفا
يضرهم .يعن لنه ف مسائل الجتهاد الت ل نص فيها بقطع العذر ،بل لم فيه أعظم العذر ،ومع
أن الشارع لا علم أن هذا النوع من الختلف واقع ،أتى فيه بأصل يرجع إليه ،وهو قول ال تعال
" :فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" الية ،فكل اختلف من هذا القبيل حكم ال فيه
أن يرد إل ال ،وذلك رده إل كتابه ،وإل رسول ال صلى ال عليه وسلم .وذلك رده إليه إذا
كان حيا وإل سنته بعد موته ،وكذلك فعل العلماء رضي ال عنهم .
إل أن لقائل أن يقول :هل هم داخلون تت قوله تعال " :ول يزالون متلفي" أم ل ؟ والواب :
أنه ل يصح أن يدخل تت مقتضاها أهل هذا الختلف من أوجه .
أحدها :أن الية اقتضت أن أهل الختلف الذكورين مباينون لهل الرحة لقوله " :ول يزالون
متلفي * إل من رحم ربك " فإنا اقتضت قسمي :أهل الختلف ،والرحومي ،فظاهر التقسيم
أن أهل الرحة ليسوا من أهل الختلف وإل كان قسم الشيء قسيما له ،ول يستقم معن الستثناء
.
والثان :أنه قال فيها " :ول يزالون متلفي" فظاهر هذا أن وصف الختلف لزم لم حت أطلق
عليهم لفظ اسم الفاعل الشعر بالثبوت ،وأهل الرحة مبؤون من ذلك ،لن وصف الرحة يناف
الثبوت على الخالفة ،بل إن خالف أحدهم ف مسألة فإنا يالف فيها تريا لقصد الشارع فيها ،
288
الشاطبي كتاب العتصام
حت إذا تبي له الطأ فيها راجع نفسه وتلف أمره ،فخلفه ف السألة بالعرض ل بالقصد الول ،
فلم يكن وصف الختلف لزما ول ثابتا ،فكان التعبي عنه بالفعل الذي يقتضي العلج والتقطاع
أليق ف الوضع .
والثالث :أنا نقطع بأن اللف ف مسائل الجتهاد واقع من حصل له مض الرحة ،وهم الصحابة
ومن اتبعهم بإحسان رضي ال عنهم ،بيث ل يصح إدخالم ف قسم الختلفي بوجه ،فلو كان
الخالف منهم ف بعض السائل معدودا من أهل الختلف ـ ولو بوجه ما ـ ل يصح إطلق القول
ف حقه :انه من أهل الرحة .وذلك باطل بإجاع أهل السنة .
والرابع :أن جاعة من السلف الصال جعلوا اختلف المة ف الفروع ضربا من ضروب الرحة ،
وإذا كان من جلة الرحة ،فل يكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحة .
وبيان كون الختلف الذكور رحة ما روي عن القاسم بن ممد قال :لقد نفع ال باختلف
أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ف العمل ،ل يعمل العامل بعمل رجل منهم إل رأى أنه ف
سعة .وعن ضمرة بن رجاء قال :اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن ممد فجعل يتذاكرن
الديث ـ قال ـ فجعل عمر ييء بالشيء يالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك
عليه حت يتبي ذلك فيه فقال له عمر :ل تفعل ! فما يسرن باختلفهم حر النعم .وروى ابن
وهب عن القاسم أيضا قال :لقد أعجبن قول عمر بن عبد العزيز :ما أحب أن أصحاب ممد
رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يتلفون ،لنه لو كان قولً واحدا لكان الناس ف ضيق ،وإنم
أئمة يقتدى بم ،فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة .
ومعن هذا أنم فتحوا للناس باب الجتهاد وجواز الختلف فيه ،لنم لو ل يفتحوه لكان
الجتهدون ف ضيق ،لن مال الجتهاد ومالت الظنون ل تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيضي أهل
الجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونم مكلفي باتباع خلفهم ،وهو نوع من تكليف ما
ل يطاق ،وذلك من أعظم الضيق .فوسع ال على المة بوجود اللف الفروعي فيهم ،فكان فتح
باب المة ،للدخول ف هذه الرحة ،فكيف ل يدخلون ف قسم من رحم ربك ؟ ! فاختلفهم
ف الفروع كاتفاقهم فيها ،والمد ل .
وبي هذين الطريقي واسطة أدن من الرتبة الول وأعلى من الرتبة الثانية ،وهي أن يقع التفاق ف
أصل الدين ،ويقع الختلف ف بعض قواعده الكلية ،وهو الؤدي إل التفرق شيعا .
فيمكن أن تكون الية تنتظم هذا القسم من الختلف ،ولذلك صح عنه صلى ال عليه وسلم " :أن
أمته تفترق على بضع و سبعي فرقة " ،وأخب :
"أن هذه المة تتبع سنن من كان قبلها شبا بشب وذراعا بذراع " ،وشل ذلك الختلف الواقع ف
المم قبلنا ،ويرشحه وصف أهل البدع بالضللة وإيعادهم بالنار ،وذلك بعيد من تام الرحة .
289
الشاطبي كتاب العتصام
ولقد كان عليه الصلة والسلم حريصا على ألفتنا وهدايتنا ،حت ثبت من حديث ابن عباس رضي
ال عنهما أنه قال " :لا حضر النب صلى ال عليه وسلم ـ قال وف البيت رجال فيهم عمر بن
الطاب رضي ال عنهم ـ فقال :هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده ،فقال عمر :إن النب
صلى ال عليه وسلم غلبه الوجع ،وعندكم القرآن فحسبنا كتاب ال ،واختلف أهل البيت
واختصموا فمنهم من يقول :قربوا يكتب لكم رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده
ومنهم من يقول كما قال عمر ،فلما كثر اللغط والختلف عند النب صلى ال عليه وسلم قال :
قوموا عن فكان ابن عباس يقول :إن الرزية كل الرزية ما حال بي رسول ال صلى ال عليه وسلم
وبي أن يكتب لم ذلك الكتاب من اختلفهم ولغطهم".
فكان ذلك ـ وال أعلم ـ وحيا أوحى ال إليه أنه إن كتب لم ذلك الكتاب ل يضلوا بعده البتة ،
فتخرج المة عن مقتضى قوله " :ول يزالون متلفي" بدخولا تت قوله " :إل من رحم ربك" فأب
ال إل ما سبق به علمه من اختلفهم كما اختلف غيهم .رضينا بقضاء ال وقدره ،ونسأله أن
يثبتنا على الكتاب والسنة ،وييتنا على ذلك بفضله .
وقد ذهب جاعة من الفسرين إل أن الراد بالختلفي ف الية أهل البدع ،وأن من رحم ربك أهل
السنة ،ولكن لذا الكتاب أصل يرجع إل سابق القدر ل مطلقا ،بل مع إنزال القرآن متمل العبارة
للتأويل ،وهذا ل بد من بسطه .
فاعلموا أن الختلف ف بعض القواعد الكلية ل يقع ف العاديات الارية بي التبحرين ف علم
الشريعة الائضي ف لتها العظمى ،العالي بواردها ومصادرها .
والدليل على ذلك اتفاق العصر الول وعامة العصر الثان على ذلك ،وإنا وقع اختلفهم ف القسم
الفروغ منه آنفا ،بل كل على الوصف الذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلثة قد تتمع وقد تفترق
:
أحدها :أن يعتقد النسان ف نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والجتهاد ف الدين ـ ول يبلغ
تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ،ويعد رأيه رأيا وخلفه خلفا ،ولكن تارة يكون ذلك ف جزئي
وفرع من الفروع ،وتارة يكون ف كل أصل من أصول الدين ـ كان من الصول العتقادية أو من
الصول العملية ـ فتارة آخذا ببعض جزئيات الشريعة ف هدم كلياتا ،حت يصي منها ما ظهر له
بادىء رأيه من غي إحاطة بعانيها ول رسوخ ف فهم مقاصدها ،وهذا هو البتدع ،وعليه نبه
الديث الصحيح أنه صلى ال عليه وسلم قال :
"ل يقبض ال العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ،ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ،حت إذا ل يبق عال
إتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم فضلوا وأضلوا" .
290
الشاطبي كتاب العتصام
قال بعض أهل العلم :تقدير هذا الديث يدل على أنه ل يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ،وإنا
يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفت من ليس بعال .فيؤتى الناس من قبله ،وقد صرف هذا
العن تصريفا ،فقيل :ما خان أمي قط ولكنه ائتمن غي أمي فخان .قال ونن نقول :ما ابتدع
عال قط ،ولكنه استفت من ليس بعال .
قال مالك بن أنس :بكى ربيعة يوما بكاءً شديدا ،فقيل له :مصيبة نزلت بك ؟ فقال ل! ولكن
استفت من ل علم عنده .
وف البخاري عن أب هريرة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :قبل الساعة
سنون خداعا ،يصدق فيهن الكاذب ،ويكذب فيهن الصادق ،ويون فيهن المي ،ويؤتن
الائن ،وينطق فيهن الرويبضة" قالوا :هو الرجل التافة القي ينطق ف أمور العامة ،كأنه ليس بأهل
أن يتكلم ف أمور العامة فيتكلم .
وعن عمر بن الطاب رضي ال عنه قال :قد علمت مت يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل
الصغي عليه الكبي ،وإذا جاء الفقه من قبل الكبي تابعه الصغي فاهتديا .
وقال ابن مسعود رضي ال عنه :ل يزال الناس بي ما أخذوا العلم من أكابرهم ،فإذا أخذوه عن
أصاغرهم وشرارهم هلكوا .
واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار ،فقال ابن البارك :هم أهل البدع ،وهو موافق ،لن أن
أهل البدع أصاغر ف العلم ،ولجل ذلك صاروا أهل بدع .
وقال الباجي :يتمل أن يكون الصاغر من ل علم عنده .قال :وقد كان عمر يستشي الصغار ،
وكان القراء أهل مشاورته كهولً وشبانا .قال :ويتمل أن يريد بالصاغر من ل قدر له ول حال
،ول يكون ذلك إل بنبذ الدين والروءة .فأما من التزمهما فل بد أن سو أمره ،ويعظم قدره .
وما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن السن قال :العامل على غي علم
كالسائر على غي طريق ،والعامل على غي علم ما يفسد أكثر ما يصلح ،فاطلبوا العلم طلبا ل يضر
بترك العبادة ،واطلبوا العبادة طلبا ل يضر بترك العلم ،فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حت
خرجوا بأسيافهم على أمة ممد صلى ال عليه وسلم ،ولو طلبوا العلم ل يدلم على ما فعلوا ـ يعن
الوارج ـ وال أعلم ،لنم قرؤوا القرآن ول يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الديث .
"يقرؤون القرآن ل ياوز تراقيهم" .
وروي عن مكحول أنه قال :تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا ،وتفقه السفلة فساد الدين .
وقال الفرياب :كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلء النبط يكتبون العلم تغي وجهه ،فقلت :يا أبا
عبد ال ! أراك إذا رأيت هؤلء يكتبون العلم يشتد عليك .قال :كان العلم ف العرب وف سادات
الناس ،وإذا خرج عنهم وصار إل هؤلء النبط والسفلة غي الدين .
291
الشاطبي كتاب العتصام
وهذه الثار أيضا إذا حلت على تأويل التقدم استدت واستقامت ،لن ظواهرها مشكلة ،ولعلك
إذا استقريت أهل البدع من التكلمي ،أو أكثرهم وجدتم من أبناء سبايا المم ،ومن ليس له
أصالة ف اللسان العرب ،فعما قريب يفهم كتاب ال على غي وجهه ،كما أن من ل يتفقه ف
مقاصد الشريعة فهمها على غي وجهها .
292
الشاطبي كتاب العتصام
،وأمر بإعادة ممد بن لبابة إل الشورى على حالته الول ،ث أمر القاضي بإعادة الشورة ف السألة
.فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم .وعرفهم القاضي ابن بقي بالسألة الت جعهم من
أجلها وغبطة العارضة .
فقال جيعهم بقولم الول من النع من تغيي البس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له
القاضي :ما تقول أنت يا أبا عبد ال ؟ قال :أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا
ل ،وهم علماء أعلم يقتدى بم أكثر المة ، الفقهاء .وأما أهل العراق فإنم ل ييزون البس أص ً
وإذا بأمي الؤمني من الاجة إل هذا الجشر ما به ،فما ينبغي أن يرد عنه ،وله ف السنة فسحة ،
وأنا أقول بقول أهل العراق ،وأتقلد ذلك رأيا .
فقال له الفقهاء :سبحان ال ! تترك قول مالك الذي أفت به أسلفنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم
وأفتينا به ل نيد عنهم بوجه ،وهو رأي أمي الؤمني ورأي الئمة آبائه ؟ فقال لم ممد بن يي :
ناشدتكم ال العظيم ! أل تنل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذت فيها بغي قول مالك ف خاصة
أنفسكم .وأرخصتم لنفسكم ف ذلك ؟ قالوا :بلى ! قال :فأمي الؤمني أول بذلك ،فخذوا به
مأخذكم ،وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة .فسكتوا .فقال للقاضي :أنه إل أمي
الؤمني فتياي .
فكتب القاضي إل أمي الؤمني بصورة الجلس ،وبقي مع أصحابه بكانم إل أن أتى الواب بأن
يؤخذ له بفتيا ممد بن لبابة ،وينفذ ذلك ويعوض الرضى من هذا الجشر بأملك ثينة عجيبة ،
وكانت عظيمة القدر جدا ،تزيد أضعافا على الجشر .ث جيء بكتاب من عند أمي الؤمني منه إل
ابن لبابة بولية خطة الوثائق ليكون هو التول لعقد هذه العارضة ،فهنء بالولية ،وأمضى القاضي
الكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ،فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إل أن مات
سنة 336ست وثلثي وثلثائة .
قال القاضي عياض :ذاكرت بعض مشاينا مرة بذا الب ،فقال :ينبغي أن يضاف هذا الب الذي
حل سجل السخطة إل سجل السخطة ،فهو أول وأشد ف السخطة ما تضمنه ـ أو كما قال .
ل من وجهي : فتأملوا كيف اتباع الوى ،وأول أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا ل يل أص ً
احدها :أنه ل يتحقق الذهب الذي حكم به ،لن أهل العراق ل يبطلون الحباس هكذا على
الطلق ،ومن حكى عنهم ذلك ،فإما على غي تثبيت ،وإما أنه كان قولً لم رجعوا عنه ،بل
مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور ف كتب النفية .
والثان :أنه إن سلمنا فل يصح للحاكم أن يرجع ف حكمه ف أحد القولي بالحبة والمارة أو قضاء
الاجة ،إنا الترجيح بالوجوه العتبة شرعا ،وهذا متفق عليه بي العلماء ،فكل من اعتمد على
293
الشاطبي كتاب العتصام
تقليد قول غي مقق ،أو رجح بغي معن فقد خلع الربقة واستند إل غي شرع ،عافانا ال من ذلك
بفضله .
فهذه الطريقة ف الفتيا من جلة البدع الحدثات ف دين ال تعال ،كما أن تكيم العقل على الدين
مطلقا مدث ،وسيأت بيان ذلك بعد إن شاء ال .
وقد ثبت بذا وجه اتباع الوى ،وهو أصل الزيغ عن الصراط الستقيم .قال ال تعال " :هو الذي
أنزل عليك الكتاب منه آيات مكمات هن أم الكتاب وأخر متشابات فأما الذين ف قلوبم زيغ " ـ
أي ميل عن الق ـ "فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" وقد تقدم معن الية ،فمن
شأنم أن يتركوا الواضح ويتبعوا التشابه ،عكس ما عليه الق ف نفسه .
وقد روي عن ابن عباس رضي ال عنهما ـ وذكرت الوارج وما يلقون ف القرآن فقال :يؤمنون
بحكمه ،ويهلكون عند متشابه ،وقرأ ابن عباس الية .خرجه ابن وهب .
وقد دل على ذمة القرآن ف قوله " :أفرأيت من اتذ إله هواه" الية ،ول يأت ف القرآن ذكر الوى
إل ف معرض الذم .حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال :ما ذكر ال هوى ف القرآن إل ذمه ،
وقال " :ومن أضل من اتبع هواه بغي هدى من ال" إل غي ذلك من اليات .وحكى أيضا عن عبد
الرحن بن مهدي أن رجلً سأل إبراهيم النخعي عن الهواء :أيها خي ؟ فقال :ما جعل ال ف
شيء منها مثقال ذرة من خي وما هي إل زينة الشيطان وما المر إل المر الول .يعن ما كان عليه
السلف الصال .
ل أتى ابن عباس رضي ال عنهما ،فقال :أنا على هواك .فقال له ابن وخرج عن الثوري أن رج ً
عباس :الوى كله ضللة :أي شيء انا على هواك ؟ .
والثالث من أسباب اللف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مالفة للحق
وهو إتباع ما كان عليه الباء والشياخ ،وأشباه ذلك ،وهو التقليد الذموم ،فإن ال ذم بذلك ف
كتابه بقوله " :إنا وجدنا آباءنا على أمة " الية .ث قال " :قال أو لو جئتكم بأهدى ما وجدت عليه
آباءكم قالوا إنا با أرسلتم به كافرون " وقوله " :هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو
يضرون" فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بجرد تقليد الباء ،فقالوا " :بل وجدنا آباءنا
كذلك يفعلون" وهو مقتضى الديث التقدم أيضا ف قوله :
"اتذ الناس رؤساء جهالً" إل آخره ،فإنه يشي إل الستنان بالرجال كيف كان .
وفيما يروى عن علي بن أب طالب رضي ال عنه :إياكم والستنان بالرجال ،فإن الرجل يعمل
بعمل أهل النة ث ينقلب لعلم ال فيه فيعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ،وإن الرجل ليعمل
بعمل أهل النار ،فينقلب لعلم ال فيعمل بعمل أهل النة فيموت وهو من أهل النة ،فإن كنتم ل
294
الشاطبي كتاب العتصام
بد فاعلي ،فبالموات ل بالحياء .فهو إشارة إل الخذ بالحتياط ف الدين ،وأن النسان ل
ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة ،حت يتثبت فيه ويسأل عن حكمه ،إذ لعل العتمد على
عمله يعمل على خلف السنة .ولذلك قيل :ل تنظر إل عمل العال .ولكن سله يصدقك .وقالوا
:ضعف الروية أن يكون رأى فلنا يعمل مثله .ولعله فعله ساهيا .وليس من هذا القبيل عمل أهل
الدينة .وما أشبه ذلك .لنه دليل ثابت عند جاعة من العلماء على وجه ليس ما نن فيه .
وقول علي رضي ال عنه :فإن كنتم ل بد فاعلي فبالموات نكتة ف الوضع .
يعن الصحابة ،ومن جرى مراهم من يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه .وأما غيهم من ل يل ذلك
الحل فل .كأن يرى النسان رجلً يسن اعتقاده فيه فيفعل فعلً متملً أن يكون مشروعا أو غي
مشروع فيقتدى به على الطلق ويعتمد عليه ف التعبد .ويعله حجة ف دين ال ،فهذا هو الضلل
بعينه .وما ل يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل من هو أهل الفتوى .
وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر التأخرين من عوام البتدعة ،إذا اتفق أن ينضاف إل شيخ جاهل أو
ل يبلغ مبلغ العلماء ،فياه يعمل عملً فيظنه عبادة فيقتدى به .كائنا ما كان ذلك العمل .موافقا
للشرع أو مالفا .ويتج به على من يرشده ويقول :كان الشيخ فلن من الولياء وكان يفعله وهو
أول أن يقتدى به علماء الظاهر .فهو ف القيقة راجع إل تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب
.كالذين قلدوا آباءهم سواء .وإنا قصارى هؤلء أن يقولوا :إن آباءنا أو شيوخنا ل يكونوا
ينتحلون مثل هذه المور سدى .
وما هي إل مقصودة بالدلئل والباهي مع أنم يرون أن ل دليل عليها .ول برهان يقود إل القول
با .
295
الشاطبي كتاب العتصام
وقد وقع لبن عباس تفسي ذلك على معن ما نن فيه ،فخرج أبو عبيد ف فضائل القرآن ،و سعيد
بن منصور ف تفسيه عن إبراهيم التميمي قال :خل عمر رضي ال عنه ذات يوم ،فجعل يدث
نفسه :كيف تتلف هذه المة ونبيها واحد ؟ فأرسل إل ابن عباس رضي ال عنهما فقال :كيف
تتلف هذه المة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابا واحد ـ قال ،فقال ابن عباس :
يا أمي الؤمني :إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ،وعلمنا فيما أنزل ،وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون
القرآن ول يدرون فيما نزل ،فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا ،وقال سعيد :
فيكون لكل قوم رأي ،فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا ،فإذا اختلفوا اقتتلوا .قال :فزجره عمر
وانتهره علي فانصرف ابن عباس ،ونظر عمر فيما قال فعرفه ،فأرسل إليه وقال :أعد علي ما قلته .
فأعاد عليه ،فعرف عمر قوله وأعجبه .
وما قاله ابن عباس رضي ال عنهما هو الق ،فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الية أو السورة عرف
مرجها وتأويلها وما قصد با ،فلم يتعد ذلك فيها ،وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها
.فذهب كل إنسان مذهبا ل يذهب إليه الخر ،وليس عندهم من الرسوخ ف العلم ما يهديهم إل
الصواب ،أو يقف بم دون اقتحام حى الشكلت ،فلم يكن بد من الخذ ببادىء الرأي ،أو
التأويل بالتخرص الذي ل يغن من الق شيئا ،إذ ل دليل عليه من الشريعة ،فضلوا وأضلوا .
وما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكي أنه سأل نافعا :كيف رأي ابن عمر ف الرورية ؟
قال :يراهم شرار خلق ال إنم انطلقوا إل آيات أنزلت ف الكفار فجعلوها على الؤمني .فسر
سعيد بن جبي من ذلك ،فقال :ما يتبع الرورية من التشابه قول ال تعال " :ومن ل يكم با
أنزل ال فأولئك هم الكافرون" ويقرنون معها " :ث الذين كفروا بربم يعدلون" فإذا رأوا المام
يكم بغي الق قالوا :قد كفر ،ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ،فهؤلء مشركون
خرجوا على المة يقتلون ما يرونه مالفا لم لنم يتأولون هذه الية .فهذا معن الرأي الذي نبه
عليه ابن عباس ،وهو الناشىء عن الهل بالعن الذي نزل فيه القرآن .
فإن قيل :فرضت الختلف التكلم عنه ف واسطة بي طرفي .فكان من الواجب أن تردد النظر فيه
عليهما .فلم تفعل .بل رددته إل الطرف الول ف الذم والضلل .ول تعتبه بانب الختلف
الذي ل يضي ،وهو الختلف ف الفروع .
فالواب عن ذلك :أن كون ذلك القسم واسطة بي الطرفي ل يتاج إل بيانه إل من الهة الت
ذكرنا .أما الهة الخرى ،فإن عدم ذكرهم ف هذه المة وإدخالم فيها أوضح أن هذا الختلف
ل يلحقهم بالقسم الول ،وإل فلو كان ملحقا لم به ل يقع ف المة اختلف ول فرقة .ول أخب
الشارع به .ول نبه السلف الصال عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق اللق على اللة بعد [ما ] كانوا
مفارقي لا ل نقل :اتفقت المة بعد اختلفها .كذلك ل نقول :اختلفت المة .وافترقت المة
296
الشاطبي كتاب العتصام
بعد اتفاقها .أو خرج بعضهم إل الكفر بعد السلم .وإنا يقال :افترقت وتفترق المة .إذا كان
الفتراق واقعا فيها مع بقاء اسم المة هذا هو القيقة .ولذلك " قال رسول ال صلى ال عليه وسلم
ف الوارج :يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ث قال " :وتتمارى ف الفوق " وف رواية
:
"فينظر الرامي إل سهمه إل نصله إل رصافه فيتمارى ف الفوقة :هل علق با من الدم شيء"
و"التمارى ف الفوق "فيه هل فيه فرث ودم أم ل ؟ شك بسب التمثيل :هل خرجوا من السلم
ل.حقيقة؟ وهذه العبارة ل يعب با عمن خرج من السلم بالرتداد مث ً
وقد اختلفت المة ف تكفي هؤلء الفرق أصحاب البدع العظمى .ولكن الذي يقوى ف النظر
وبسب الثر عدم القطع بتكفيهم .والدليل عليه عمل السلف الصال فيهم ،أل ترى إل صنع علي
رضي ال عنه ف الوارج ؟ وكونه عاملهم ف قتالم معاملة أهل السلم على مقتضى قول ال تعال
" :وإن طائفتان من الؤمني اقتتلوا فأصلحوا بينهما" ،فإنه لا اجتمعت الرورية وفارقت الماعة ل
يهيجهم علي ول قاتلهم ،ولو كانوا بروجهم مرتدين ل يتركهم ،لقوله عليه الصلة والسلم :
"من بدل دينه فاقتلوه" ولن أبا بكر رضي ال عنه خرج لقتال أهل الردة ول يتركهم ،فدل ذلك
على اختلف ما بي السألتي .
وأيضا ،فحي ظهر معبد الهن وغيه من أهل القدر ل يكن من السلف الصال لم إل الطرد
والبعاد والعداوة والجران ،ولو كانوا خرجوا إل كفر مض لقاموا عليهم الد القام على الرتدين
،وعمر بن عبد العزيز أيضا لا خرج ف زمانه الرورية بالوصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به
علي رضي ال عنه ،ول يعاملهم معاملة الرتدين .
ومن جهة العن ! إنا وإن قلنا :إنم متبعون الوى ،ولا تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله
،فإنم ليسوا بتبعي للهوى بإطلق ،ول متبعي لا تشابه من الكتاب من كل وجه ،ولو فرضنا
أنم كذلك لكانوا كفارا ،إذ ل يتأتى ذلك من أحد ف الشريعة إل مع رد مكماتا عنادا ،وهو
كفر .وأما من صدق الشريعة ومن جاء با ،وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه مبتع للدليل يثله ،ل يقال
:إنه صاحب هوى بإطلق .بل هو متبع للشرع ف نظره لكن بيث يازجه الوى ف مطالبه من
جهة إدخال الشبه ف الحكمات بسبب اعتبار التشابات ،فشارك أهل الوى ف دخول الوى ف
نلته ،وشارك أهل الق ف أنه ل يقبل إل ما دل عليه الدليل على الملة .
وأيضا ،فقد ظهر منهم اتاد القصد مع أهل السنة على الماعة من مطلب واحد ،وهو النتساب
ل ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ، إل الشريعة .ومن أشد مسائل اللف ـ مث ً
فإنا إذا نظرنا إل مقاصد الفريقي وجدنا كل واحد منهما حائما حول حى التنيه ونفي النقائص
297
الشاطبي كتاب العتصام
وسات الدوث ،وهو مطلوب الدلة .وإنا وقع اختلفهم ف الطريق ،وذلك ل يل بذا القصد
ف الطرفي معا ،فحصل ف هذا اللف أشبه الواقع بينه وبي اللف الواقع ف الفروع ؟
وأيضا ،فقد يعرض الدليل على الخالف منهم فيجع إل الوفاق لظهوره عنده ،كما رجع من
الرورية الارجي على علي رضي ال عنه ألفان ،وإن كان الغالب عدم الرجوع ،كما تقدم ف أن
البتدع ليس له توبة .
حكى ابن عبد الب بسند يرفعه إل ابن عباس رضي ال عنهما قال :لا اجتمعت الرورية يرجون
على علي ،جعل يأتيه الرجل فيقول :يا أمي الؤمني ! إن القوم خارجون عليك ،قال :دعهم حت
يرجوا .فلما كان ذات يوم قلت :يا أمي الؤمني ! أبرد بالصلة فل تفتن حت آت القوم ـ قال
ـ فدخلت عليهم وهو قائلون ،فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر ،قد أثر السجود ف جباههم ،
كأن أيديهم ثفن البل عليهم قمص مرخصة فقالوا :ما جاء بك با بن عباس ؟ وما هذه اللة
عليك ؟ ـ قال ـ قلت :ما تعيبون من ذلك ؟ فلقد رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم وعليه
أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ ث قرأت هذه الية " :قل من حرم زينة ال الت أخرج
لعباده والطيبات من الرزق " فقالوا :ما جاء بك ؟ قال :جئتكم من عند أصحاب رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،وليس فيكم منهم أحد ،ومن عند ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وعليهم
نزل القرآن وهم أعلم بتأويله ،جئت لبلغكم عنهم وأبلغكم عنكم ،فقال بعضهم :ل تاصموا
قريشا فإن ال يقول " :بل هم قوم خصمون " فقال بعضهم :بلى ! فلنكلمه ـ قال ـ فكلمن
منهم رجلن ،أو ثلثة ـ قال ـ قلت ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا :ثلثا .فقلت :ما هن ؟ قالوا :
حكم الرجال ف أمر ال وقال ال تعال " :إن الكم إل ل" ـ قال ـ هذه واحدة ،ماذا أيضا ؟
قالوا :فإنه قاتل فلم سب ول يغنم ،فلئن كانوا مؤمني ما حل قتالم ،ولئن كانوا كافرين لقد حل
قتالم وسبيهم ـ قال ـ قلت :وماذا أيضا ؟ قالوا :وما نفسه من إمرة الؤمني ،فإن ل يكن امي
الؤمني فهو أمي الكافرين ـ قال ـ قلت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب ال وسنة رسوله با ينقض
قولكم هذا ،أترجعون ؟ قالوا :وما لنا ل نرجع ؟
قال ـ قلت ـ أما قولكم حكم الرجال ف أمر ال فإن ال قال ف كتابه " :يا أيها الذين آمنوا ل
تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يكم به ذوا عدل منكم
" وقال ف الرأة وزوجها " :وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها "
فصي ال ذلك إل حكم الرجال ،فناشدتكم ال ! أتعلمون حكم الرجال ف دماء السلمي وف
إصلح ذات بينهم أفضل أو ف دم أرنب ثنه ربع درهم ؟ وف بضع امرأة ؟ قالوا :بلى ! هذا أفضل
:قال :أخرجتم من هذه ؟ قالوا :نعم !
298
الشاطبي كتاب العتصام
قال وأما قولكم :قاتل ول سب ول يغنم أتسبون أمكم عائشة ؟ فإن قلتم ،نسبيها فنستحل منها
ما نستحل من غيها .فقد كفرت ،وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرت ،فأنتم ترددون بي ضللتي ،
اخرجتم من هذه ؟ قالوا :بلى !
قال :وأما قولكم :ما نفسه من إمرة الؤمني فأنا آتيكم بن ترضون "إن نب ال يوم الديبية حي
صال أبا سفيان وسهيل بن عمرو ،قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :اكتب يا علي :هذا ما
صال عليه ممد رسول ال فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو :ما نعلم أنك رسول ال ،ولو نعلم
أنك رسول ال ما قاتلناك .قال رسول ال :اللهم إنك تعلم أن رسولك ،يا علي اكتب :هذا ما
اصطلح عليه ممد بن عبد ال وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال :فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم
فخرجوا فقتلوا أجعون" .
299
الشاطبي كتاب العتصام
وهذا الديث بذه الرواية الخية قدح فيه ابن عبد الب لن ابن معي قال :إنه حديث باطل ل أصل
له .شبه فيه على نعيم حاد ،قال بعض التأخرين :إن الديث قد روي عن جاعة من الثقات ،ث
تكلم ف إسناده با يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد الب ،ث قال :وف الملة فإسناده ف الظاهر
جيد إل أن يكون ـ يعن ابن معي ـ قد اطلع منه على علة خفية .
وأغرب من هذا كله رواية رأيتها ف جامع ابن وهب .
"إن بن إسرائيل تفرقت إحدى وثاني ملة وستفترق أمت على اثنتي وثاني ملة ،كلها ف النار إل
واحدة قالوا :وما هي يا رسول ال ؟ قال :ـ الماعة" .
فإذا تقرر هذا تصدى النظر ف الديث ف مسائل :
300
الشاطبي كتاب العتصام
السألة الثانية إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع ف العدواة والبغضاء ،فإما أن يكون
راجعا إل أمر هو معصية غي بدعة
إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع ف العدواة والبغضاء ،فإما أن يكون راجعا إل أمر هو
معصية غي بدعة ،ومثاله أن يقع بي أهل السلم افتراق بسبب دنيوي ،كما يتلف مثلً أهل قرية
مع قرية أخرى بسبب تعد ف مال أو دم ،حت تقع بينهم العدواة فيصيوا حزبي ،أو يتلفون ف
تقدي وال أو غي ذلك فيفترقون ،ومثل هذا متمل ،وقد يشعر به .
"من فارق الماعة قيد شب فميتته جاهلية " وف مثل هذا جاء ف الديث :
"إذا بويع الليفتان فاقتلوا الخر منهما" وجاء ف القرآن الكري " :وإن طائفتان من الؤمني اقتتلوا
فأصلحوا بينهما" إل آخر القصة .
وأما أن يرجع إل أمر هو بدعة ،كما افترق الوارج من المة ببدعهم الت ينوا عليها ف الفرقة ،
وكالهدي الغرب الارج عن المة نصرا للحق ف زعمه ،فابتدع أمورا سياسية وغيها خرج با
عن السنة ـ كما تقدمت الشارة إليه قبل ـ وهذا هو الذي تشي إليه اليات التقدمة والحاديث ،
لطابقتها لعن الديث .وأما أن يراد العنيان معا .
فأما الول ،فل أعلم قائلً به ،وإن كان مكنا ف نفسه ،إذ ل أر أحدا خص هذه با إذا افترقت
المة بسبب أمر دنيوي ل بسبب بدعة ،وليس ث دليل يدل على التخصيص ،لن قوله عليه الصلة
والسلم " :من فارق الماعة قيد شب"الديث ،ل يدل على الصر .وكذلك " :إذ بويع الليفتان
فاقتلوا الخر منهما" ،وقد اختلف الفرقة ف الراد بالماعة الذكورة ف الديث حسبما يأت ،فلم
يكن منهم قائل بأن الفرقة الضادة للجماعة هي فرقة العاصي غي البدع على الصوص .
وأما الثان :وهو أن يراد العنيان معا ،فلذلك أيضا مكن ،إذ الفرقة النبه عليها قد تصل بسبب
أمر دنيوي ل مدخل فيها للبدع وإنا هي معاص ومالفات كسائر العاضي ،وإل هذا العن يرشد
قول الطبي ف تفسي الماعة ـ حسبما يأت بول ال ـ ويعضده حديث الترمذي :
"ليأتي على أمت من يصنع ذلك" ( ؟ ) فجعل الغاية ف اتباعهم ما هو معصية كما ترى .
وكذلك ف الديث الخر :
"لتتبعن سنن من كان قبلكم ـ إل قوله ـ حت لو دخلوا جحر ضب خرب لتبعتموهم" فجعل
الغاية ما ليس ببدعة .
وف معجم البغوي عن جابر رضي ال عنه "أن النب صلى ال عليه وسلم قال لكعب بن عجرة
رضي ال عنه :أعاذك ال يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء ـ قال :وما إمارة السفهاء ؟ ـ
قال أمراء يكونون بعدي ل يهتدون بديي ،ول يستنون بسنت ،فمن صدقهم بكذبم ،وأعانم
301
الشاطبي كتاب العتصام
على ظلمهم ،فأولئك ليسوا من ،ولست منهم ،ول يردون علي الوض ،ومن ل يصدقهم على
كذبم ول يعنهم على ظلمهم فأولئك من وأنا منهم ،ويردون علي الوض" الديث .
وكل من ل يهتد بيده ول يست بسنته فإما إل بدعة أو معصية .فل اختصاص بأحدها ،غي أن
الكثر ف نقل أرباب الكلم ،وغيهم أن الفرقة الذكورة إنا هي بسبب البتداع ف الشرع على
الصوص ،وعلى ذلك حل الديث من تكلم عليه من العلماء ،ول يعدوا منها الفترقي بسبب
العاصي الت ليست بدع ،وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء ال .
السألة الثالثة :إن هذه الفرق يتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجي عن اللة
إن هذه الفرقة تتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجي عن اللة بسبب ما أحدثوا .
فهم قد فارقوا أهل السلم بإطلق ،وليس ذلك إل لكفر ،إذ ليس بي النلتي منلة ثالثة تتصور .
ويدل على هذا الحتمال ظواهر من القرآن والسنة ،كقوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا
شيعا لست منهم ف شيء" وهي آية نزلت ـ عند الفسرين ـ ف أهل البدع ،ويوضحه من قرأ :
"إن الذين فرقوا دينهم" والفارقة للدين بسب الظاهر إنا هي الروج عنه ،وقوله " :فأما الذين
اسودت وجوههم أكفرت بعد إيانكم" الية وهي عند العلماء منلة ف أهل القبلة وهم أهل البدع ،
وهذا كالنص ،إل غي ذلك من اليات .
وأما الديث فقوله عليه الصلة والسلم " :ل ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "
وهذا نص ف كفر من قبل ذلك فيه ،وفسره السن با تقدم ف قوله
" ويصبح مؤمنا ويسي كافرا ويسي مؤمنا ويصبح كافرا" الديث ،وقوله عليه الصلة والسلم ف
الوارج :
" دعه فإن له أًصحابا يقر أحدكم صلته مع صلتم وصيامه مع صيامهم ،يقرؤون القرآن ل ياوز
تراقيهم ،يرقون من السلم كما يرق السهم من الرمية ،ينظر إل نصله فل يوجد فيه شيء ،ث
ينظر إل رصافه فل يوجد فيه شيء ،ث ينظر إل نضيه فل يوجد فيه شيء ـ وهو القدح ـ ث ينظر
إل قذذه فل يوجد فيه شيء من الفرث والدم" فانظر إل قوله " :من الفرث والدم" فهو الشاهد على
أنم دخلوا ف السلم فل يتعلق بم منه شيء .
وف رواية أب ذر رضي ال عنه :
"سيكون بعدي من أمت قوم يقرؤون القرآن ل ياوز حلقيمهم يرجون من الدين كما يرج السهم
من الرمية ث ل يعودون فيه ،هم شر اللق والليقة" إل غي ذلك من الحاديث ـإنا هي قوم
بأعيانم ،فل حجة فيها على غيهم ،لن العلماء استدلوا با على جيع أهل الهواء ،كما استدلوا
باليات .
302
الشاطبي كتاب العتصام
وأيضا ،فاليات إن دلت بصيغ عمومها فالحاديث تدل بعانيها لجتماع الميع ف العلة .
فإن قيل :الكم بالكفر واليان راجع إل حكم الخرة ،والقياس ل يري فيها .فالواب :إن
كلً منا ف الحكام الدنيوية ،وهل يكم لم بكم الرتدين أم ل ؟ وإنا أمر الخرة ل ،لقوله تعال
" :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء إنا أمرهم إل ال ث ينبئهم با كانوا
يفعلون" .
ويتمل أن ل يكونوا خارجي عن السلم جلة ،وإن كانوا قد خرجوا عن جلة من شرائعه وأصوله
.
ويدل على ذلك جيع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل ،فل فائدة ف العادة .
ويتمل وجها ثالثا ،وهو أن يكون منهم من فارق السلم لكن مقالته كفر وتؤدي معن الكفر
الصريح ،ومنهم من ل يفارقه ،بل انسحب عليه حكم السلم وإن عظم مقالة وشنع مذهبه ،لكنه
ل يبلغ به مبلغ الروج إل الكفر الحض والتبديل الصريح .
ويدل على ذلك الدليل بسب كل نازلة ،وبسب كل بدعة ،إذ ل شك ف أن البدع يصح أن
يكون منها ما هو كفر كاتاذ الصنام لتقربم إل ال زلفى ،ومنها ما ليس بكفر كالقول بالهة
عند جاعة وإنكار الجاع وإنكار القياس وما أشبه ذلك .
ولقد فصل بعض التأخرين ف التكفي تفصيلً ف هذه الفرق ،فقال :ما كان من البدع راجعا إل
اعتقاد وجود إله مع ال ،كقوله السبئية ف علي رضي ال عنه إنه إله أو خلق الله ف بعض أشخاص
الناس كقول الناحية :إن ال تعال له روح يل ف بعض بن آدم ،ويتوارث أو إنكار رسالة ممد
صلى ال عليه وسلم كقول الغرابية :إن جبيل غلط ف الرسالة فأذاها إل ممد صلى ال عليه وسلم
،وعلي كان صاحبها أو استباحة الحرمات وإسقاط الواجبات ،وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر
الغل ة من الشيعة ،ما ل يتلف السلمون ف التكفي به ،وما سوى ذلك من القالت فل يبعد أن
يكونوا معتقدها غي كافر .
واستدل على ذلك بأمور كثية ل حاجة إل إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب
الحققي من أهل الصول إن الكفر بالآل ،ليس بكفر ف الال كيف والكافر ينكر ذلك الآل
أشد النكار ويرمي مالفة به تبن له وجه لزوم الكفر من مقالته ل يقل با على حال .
وإذا تقرر نقل اللف فلنرجع إل ما يقتضيه الديث الذي نن بصدده من هذه القالت .
أما ما صح منه فل دليل على شيء ،لنه ليس فيه إل تعديد الفرق خاصة .وأما على رواية من قال
ف حديثه :
303
الشاطبي كتاب العتصام
"كلها ف النار إل واحدة" فإنا يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ،ويبقى اللود وعدمه مسكوتا عنه ،فل
دليل فيه على شيء ما أردنا ،إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة الؤمني كما يتعلق بالكفار على
الملة ،وإن تباينا ف التخليد وعدمه .
السألة الرابعة إن هذه القوال الذكورة آنفا مبنية على أن الفرق الذكورة ف الديث هي
البتدعة
إن هذه القوال الذكورة آنفا مبنية على أن الفرق الذكورة ف الديث هي البتدعة ف قواعد العقائد
على الصوص ،كالبية والقدرية والرجئة وغيها وهو ما ينظر فيه .فإن إشارة القرآن والديث
تدل على عدم الصوص ،وهو رأي الطرطوشي ،إفل ترى إل قوله تعال " :فأما الذين ف قلوبم
زيغ " و ما ف قوله تعال " :ما تشابه" ل تعطى خصوصا ف اتباع التشابه ل ف قواعد العقائد ول
ف غيها ،بل الصيغة تشمل ذلك كله ،فالتخصيص تكم .
وكذلك قوله تعال " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " فجعل ذلك التفريق
ف الدين ،ولفظ الدين ،ويشمل العقائد وغيها ،وقوله " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول
تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فالصراط الستقيم هو الشريعة على العموم ،وشبه ما تقدم ف
السورة من تري ما ذبح لغي ال لغي ال وتري اليتة والدم ولم النير وغيه ،وإياب الزكاة ،
كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق .
ث قال تعال " :قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن ل تشركوا به شيئا " فذكر أشياء من القواعد
وغيها ،فابتدأ بالنهي عن الشتراك ،ث المر بب الوالدين ،ث النهي عن قتل الولد ،ث عن
الفواحش ما ظهر منها وما بطن ،ث عن قتل النفس بإطلق ،ث عن أكل مال اليتيم ،ث المر بتوفية
الكيل والوزن ،ث العدل ف القول ،ث الوفاء بالعهد .
ث ختم ذلك بقوله " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" .
فأشار إل ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية ،ول يص ذلك بالعقائد ،فدل
على أن إشارة الديث ل تتص با دون غيها .
وف حديث الوارج ما يدل عليه أيضا فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالم ،وقال ف جلة ما ذمهم به :
"يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم" فذمهم بترك التدبر والخذ بظواهر التشابات ،كما قالوا :
حكم الرجال ف دين ال ،وال بقول " :إن الكم إل ل" .
وقال أيضا :
"ويقتلون أهل السلم ويدعون أهل الوثان" فذمهم بعكس ما عليه الشرع ،لن الشريعة جاءت
بقتل الكفار والكف عن السلمي ،وكل المرين غي مصوص بالعقائد .
304
الشاطبي كتاب العتصام
فدل على أن المر على العموم ل على الصوص فيما رواه نعيم بن حاد ف هذا الديث :
" أعظمها فتنة الذين يقيسون المور برأيهم فيحلون الرام ويرمون اللل" وهذا نص ف أن ذلك
العدد ل يتص با قالوا من العقائد .
واستدل الطرطوشي على أن البدع ل تتص بالعقائد با جاء عن الصحابة والتابعي وسار العلماء من
تسيتهم القوال والفعال بدعا إذا خالفت الشريعة ،ث أتى بآثار كثية كالذي رواه مالك عن عمه
أب سهيل عن أبيه أنه قال :ما أعرف شيئا ما أدركت عليه الناس إل لنداء بالصلة .يعن بالناس
الصحابة ،وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ،ورآها مالفة لفعال الصحابة .
وكذلك أبو الدراداء سأله رجل فقال :رحك ال لو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أظهرنا
هلة ينكر شيئا ما نن عليه ؟ فغضب واشتد غضبه ،ث قال :وهل يعرف شيئا ما أنتم عليه ؟
وف البخاري عن أم الدرداء قالت :دخل أبو الدرداء مغضبا فقلت له :ما لك ؟ فقال :وال ما
اعرف منهم من أمر ممد أنم يصلون جيعا .وذكر جلة من أقاويلهم ف هذا العن ما يدل على أن
مالفة السنة ف الفعال قد ظهرت .
وف مسلم قال ماهد :دخلت أنا وعروة بن الزبي السجد فإذا عبد ال بن عمر مستند إل حجرة
عائشة ،وإذا ناس ف السجد يصلون الضحى ،فقلنا :ما هذه الصلة ؟ فقال :بدعة .
قال الطرطوشي :فحمله عندنا على أحد وجهي :إنا أنم يصلونا جاعة ،وإما أفذاذا على هيئة
النوافل ف أعقاب الفرائض .وذكر أشياء من البدع القولية ما نص العلماء على أنا بدع .فصح أن
البدع ل تتص بالعقائد .وقد تقررت هذه السألة ف كتاب الوافقات بنوع آخر من التقرير .
نعم ث معن آخر ينبغي أن يذكر هنا .وهي :
السألة الامسة أن هذه الفرق إنا تصي فرقا للفها للفرقة الناجية
وذلك أن هذه الفرق إنا تصي فرقا بلفها للفرقة الناجية ف معن كلي ف الدين وقاعدة من قواعد
الشريعة ،ل ف جزئي من الزئيات ،إذ الزئي والفرع الشاذ ل ينشأ عنه مالفة يقع بسببها التفرق
شيعا ،وإنا ينشأ التفرق عند وقوع الخالفة ف المور الكلية ،لن الكليات تقتضي عددا من
الزئيات غي قليل ،وشاذها ف الغالب أن ل يتص بحل دون مل ول بباب دون باب .
واعتب ذلك بسألة التحسي العقلي ،فإن الخالفة فيها أنشأت بي الخالفي خلفا ف فروع ل
تنحصر ،ما بي فروع عقائد وفروع أعمال .
ويري مرى القاعدة الكلية كثرة الزئيات ،فإن البتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع الخترعة عاد
ذلك على كثي من الشريعة بالعارضة ،كما تصي القاعدة الكلية معارضة أيضا ،وأما الزئي
فبخلف ذلك ،بل بعد وقوع ذلك من البتدع له كالزلة والفلتة ،وإن كانت زلة العال ما يهدم
الدين ،حيث قال عمر بن الطاب رضي ال عنه :ثلث يهدمن الدين :زلة العال ،وجدال منافق
305
الشاطبي كتاب العتصام
بالقرآن ،وأئمة مضلون .ولكن إذا قرب موقع الزلة ل يصل بسببها تفرق ف الغالب ول هدم
للدين .بلف الكليات .
فأنت ترى موقع اتباع التشابات كيف هو ف الدين إذا كان اتباعا ملً بالواضحات .وهي أم
الكتاب .وكذلك عدم تفهم القرآن موقع ف الخلل بكلياته وجزئياته .
وقد ثبت أيضا للكفار بدع فرعية .ولكنها ف الضروريات وما قاربا .كجعلهم ل ما ذرأ من
الرث والنعام نصيبا ،ولشركائهم نصيبا ث فرعوا عليه أن ما كان لشركائهم فل يصل إل اله ،
وما كان ل وصل إل شركائهم .وتريهم البحية والسائبة والوصيلة والامي ،وقتلهم أولدهم
سفها بغي علم ،وترك العدل ف القصاص والياث ،واليف ف النكاح والطلق ،وأكل مال
اليتيم على نوع من اليل ،إل أشباه ذلك ما نبه عليه الشرع وذكره العلماء ،حت صار التشريع
ل مضافا إليهم وقاعدة
ل عليهم ،فأنشأ ذلك أص ًديدنا لم ،وتغيي ملة إبراهيم عليه السلم سه ً
رضوا با ،وهي التشريع الطلع ل الوى ،ولذلك لا نبههم ال تعال على إقامة الجة عليهم بقوله
تعال " :قل آلذكرين حرم أم النثيي" قال فيها " :نبئون بعلم إن كنتم صادقي" فطالبهم بالعلم
الذي شأنه أن ل يشرع إل حقا وهو علم الشريعة ل غيه ،ث قال تعال " :أم كنتم شهداء إذ
وصاكم ال بذا" تنبيها لم على أن هذا ليس ما شرعه ف ملة إبراهيم :ث قال " :فمن أظلم من
افترى على ال كذبا ليضل الناس بغي علم" فثبت أن هذه الفرق إنا افترقت بسب أمور كلية
اختلفوا فيها وال أعلم .
306
الشاطبي كتاب العتصام
وإما أن ل نتبع الكفر ف إطلق القول بالتكفي ،ونفصل المر إل نو ما فصله صاحب القول
الثالث ،ويرج من العدد من حكمنا بكفره ،ول يدخل تت عمومه إل ما سواه مع غيه من ل
يذكر ف تلك العدة .
والحتمال الثان :أن نعدهم من المة على طريقة لعلها تتمشى ف الواضع ،وذلك أن كل فرقة
تدعي الشريعة ،وأنا على صوبا ،وأنا التبعة للمتبعة لا ،وتتمسك بأدلتها ،وتعمل على ما ظهر
لا من طريقها ! وهي تناصب العداوة من نسبتها إل الروج عنها ،وترمي بالهل وعدم العلم من
ناقضها .لنا تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط الستقيم دون غيه .وبذلك يالفون من خرج
عن السلم ،لن الرتد إذا نسبته إل الرتداد أقر به ورضيه ول يسخطه ،ول يعادل لتلك النسبة ،
كسائر اليهود والنصارى ،وأرباب النحل الخالفة للسلم .
بلف هؤلء الفرق فإنم مدعون الوالفة للشارع والرسوخ ف اتباع شريعة ممد رسول ال صلى
ال عليه وسلم ،فإنا وقعت العداوة بينهم وبي أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الروج
عن السنة ،ولذلك تدهم مبالغي ف العمل والعبادة ،حت بعض أشد الناس عبادة مفتون .
والشاهد لذا كله ـ مع اعتبار الواقع ـ حديث الوارج ،فإنه قال عليه الصلة والسلم " :تقرون
صلتكم مع صلتم ،وصيامكم مع صيامهم ،وأعمالكم مع أعمالم" ،وف رواية :
"يرج من أمت قوم يقرؤون القرآن ،ليست قراءتكم من قراءتم بشيء ول صلتكم من صلتم
بشيء" وهذه شدة الثابرة على العمل به ،ومن ذلك قولم كيف يكم الرجال وال يقول " :إن
الكم إل ل" ؟ ففي ظنهم أن الرجال ل يكمون بذا الدليل ،ث قال عليه الصلة والسلم :
"يقرؤون القرآن يسبون أنه لم وهو عليهم ل تاوز صلتم تراقيهم" .
فقوله عليه الصلة والسلم " :يسبون أنه لم " واضح فيما قلنا ،ث إنم يطلبون اتباعه بتلك
العمال ليكونوا من أهله ،وليكون حجة لم ،فحي ابتغوا تأويله وخرجوا عن الادة كان عليهم ل
لم .
وف معن ذلك من قول "ابن مسعود قال :وستجدون أقواما يزعمون أنم يدعون إل كتاب ال وقد
نبذوه وراء ظهورهم ،عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق ،عليكم بالعتيق" فقوله ":يزعمون "
كذا .دليل على أنم على الشرع فيما يزعمون .
ومن الشواهد أيضا حديث أب هريرة رضي ال عنه " :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إل
القبة فقال :السلم عليكم دار قوم مؤمني ! وإنا إن شاء ال بكم لحقون ،وددت أن قد رأيت
إخواننا ـ قالوا :يا رسول ال ألسنا إخوانك ؟ ـ قال :بل أنتم أصحاب وإخواننا الذين ل يأتوا
بعد ،وأنا فرطكم على الوض قالوا :يا رسول ال كيف تعرف من يأت بعدك من أمتك ؟ قال :
307
الشاطبي كتاب العتصام
أرأيت لو كان لحدكم خيل غر مجلة ف خيل دهم بم ،أل يعرف خيله ؟ قالوا :بلى يا رسول
ال .قال :فإنم يأتون يوم القيامة غرا مجلي من الوضوء ،وأنا فرطهم على الوض ،فيذادن
رجال عن حوضي كما يذاد البعي الضال ،أناديهم :أل هلم أل هلم ! فيقال ،قد بدلوا بعدك .
فأقول :فسحقا فسحقا فسحقا" .
فوجه الدليل من الديث أن قوله " :فيلذادن رجال عن حوضي" إل قوله " :أناديهم أل هلم" مشعر
بأنم من أمته .وأنه عرفهم ،وقد بي أنم يعرفون بالغرر والتحجيل ،فدل على أن هؤلء الذين
دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتجيل ،وذلك من خاصية هذه المة .فبأن أنم معدودن من
المة ولو حكم لم بالروج من المة ل يعرفهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بغرة أو تجيل
لعدمه عندهم .
ول علينا أقلنا :إنم خرجوا ببدعتهم عن المة أو ل ،إذ أثبتنا لم وصف النياش إليها .
وف الديث الخر :
"فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ،فأقول :يا رب أصحاب ! قال :فيقال :ل تدري ما أحدثوا
بعدك .فأقول كما قال العبد الصال " :وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم" إل قوله " :العزيز
الكيم" ـ قال ـ فيقال :إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك ،إنم ل يزالوا مرتدين على أعقابم منذ
فارقتهم" .
فإن كان الراد بالصحابة المة ،فالديث موافق لا قبله :
"بل أنتم أصحاب وإخواننا الذين ل يأتوا بعد" فل بد من تأويله على أن الصحاب يعن بم من آمن
ب ف حياته وإن ل يره ،ويصدق لفظ الرتدين على أعقابم بعد موته ،أو مانعي الزكاة تأويلً على
أن أخذها إنا كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم وحده ،فإن عامة أصحابه رأوه وأخذوا عنه
براءة من ذلك .
308
الشاطبي كتاب العتصام
309
الشاطبي كتاب العتصام
تكاد توجد إل ف هذه الفرق الربع ،وإن ل تكن البدعة الثانية فرعا للول ول شعبة من شعبها ،
بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الول بسبيل .
ث بي ذلك بالثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ،ث اختلف أهله ف مسائل من شعب القدر ،
وف مسائل ل تعلق لا بالقدر ،فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد ملوقة لم من دون ال تعال .
ث اختلفوا ف فرع من فروع القدر .فقال أكثرهم :ل يكون فعل بي فعلي ملوقي على التولد .
أحال مثله بي القدي والحدث .
ث اختلفوا فيما ل يعود إل القدر ف مسائل كثية .كاختلفهم ف الصلح والصلح :فقال
البغداديون منهم :يب على ال تعال فعل الصلح لعباده ف دينهم .
ويب عليه ابتداء اللق الذين علم أنه يكلفهم .ويب عليه إكمال عقولم وإقدارهم وإزاحة عللهم
.
وقال البصريون منهم :ل يب على ال إكمال عقولم ول أن يؤتيهم أسباب التكليف .
وقال البغداديون منهم :يب على ال ـ تعال عن قولم ـ عقاب العصاة إذا ل يتوبوا .والغفرة
من غي توبة سفه من الغافر .
وأما الضربون منهم ذلك .
310
الشاطبي كتاب العتصام
فهذا هو الذي أراده عليه الصلة والسلم ـ والعلم عند ال ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من
اثنتي وسبعي .
ووجه تصحيح الديث على هذا ،أن ترج من الساب غلة أهل البدع ،ول يعدون من المة ول
ف أهل القبلة ،كنفاة العراض من القدرية لنه ل طريق إل معرفة حدوث العال وإثبات الصانع إل
بثبوت العراض ،وكاللولية والنصيية وأشباههم من الغلة .
هذا ما قال الطرطوشي رحه ال تعال ،وهو حسن من التقرير ،غي أنه يبقى للنظر ف كلمه ملن
:
أحدها :أن ما اختار .من ليس الراد الجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع
القولية والعملية فمشكل ،لنا إذا اعتبنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدع كيف كانت
لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة ،فل تقف ف مائة ول مائتي ،فضلً عن وقوعها ف اثنتي
وسبعي ،وأن البدع ـ كما قال ـ ل تزال تدث مع مرور الزمنة إل قيام الساعة .
وقد مر من النقل ما يشعر بذا العن ،وهو قول ابن عباس :ما من عام إل والناس ييون فيه بدعة
وييتون فيه سنة ،حت تيا البدع وتوت السنن .وهذا موجود ف الواقع ،فإن البدع قد نشأت إل
الن ول تزال تكثر ،وإن فرضنا إزالة بدع الزائغي ف العقائد كلها ،لكان الذي يبقى أكثر من
اثنتي وسبعي فما قاله ـ وال أعلم ـ غي ملص .
والثان :أن حاصل كلمه أن هذه الفرق ل تتعي بعد ،بلف القول التقدم ،وهو أصح ف النظر ،
لن ذلك التعيي ليس عليه دليل ،والعقل ل يقتضيه .وأيضا فالنازع له أن يتكلف من مسائل
اللف الت بي الشعرية ف قواعد العقائد فرقا يسميها ويبىء نفسه وفرقته عن ذلك الحظور .
فالول ما قاله من عدم التعيي .وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فل ينبغي التعيي .
أما أولً :فإن الشريعة قد فهمنا منها أنا تشي إل أوصافهم من غي تصريح ليحذر منها ،ويبقى
المر ف تعيي الداخلي ف مقتضى الديث مرجى ،وإنا ورد التعيي ف النادر كما قال عليه الصلة
والسلم ف الوارج :
"إن من ضئضىء هذا قوما يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم" الديث ،مع أنه عليه الصلة
والسلم ل يعرف أنم من شلهم حديث الفرق .وهذا الفصل مبسوط ف كتاب الوافقات والمد
ل.
وأما ثانيا :فلن عدم التعيي هو الذين ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على المة كما سترت عليهم
قبائحهم فلم يفضحوا ف الدنيا ف الغالب ،وأمرنا بالستر على الؤمني ما ل تبد لنا صفحة اللف ،
ليس كما ذكر عن بن إسرائيل أنم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلً أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة ،
وكذلك ف شأن قربانم :فإنم كانوا إذا قربوا ل قربانا فإن كان مقبولً عند ال نزلت نار من
311
الشاطبي كتاب العتصام
السماء فأكلته ،وإن ل يكن مقبولً ل تأكله النار ،وف ذلك افتضاح الذنب .ومثل ذلك ف الغنائم
أيضا ،فكثي من هذه الشياء خصت هذه المة بالستر فيها .
وأيضا ،فللستر حكمة أخرى ،وهي أنا لو أظهرت مع أن أصحابا من المة لكان ف ذلك داع إل
الفرقة وعدم اللفة الت أمر ال ورسوله با ،حيث قال تعال " :واعتصموا ببل ال جيعا ول
تفرقوا" وقال تعال " :فاتقوا ال وأصلحوا ذات بينكم" وقال تعال " :ول تكونوا كالذين تفرقوا
واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" وف الديث :
"ل تاسدوا ول تدابروا ول تباغضوا وكونوا عباد ال إخوانا" ،وأمر عليه الصلة والسلم بإصلح
ذات البي ،وأخب أن فساد ذات البي هي الالقة الت تلق الدين .
فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بم على التعيي يورث العداوة بينهم والفرقة ،لزم من ذلك
أن يكون منهيا عنه ،إل أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الوارج ،وذكرهم بعلمتهم حت
يعرفوا ،ويلحق بذلك ما هو مثله ف الشناعة أو قريب منه بسب نظر الجتهد ،وما عدا ذلك
فالسكوت عنه أول .
وخرج أبو داود عن عمرو بن أب قرة قال :
"كان حذيفة بالدائن فكان يذكر أشياء قالا رسول ال لناس من أصحابه ف الغضب ،فينطلق ناس
من سع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان :حذيفة أعلم با
يقول فيجعون إل حذيفة فيقولون :قد ذكرنا قولك إل سلمان فما صدقك ول كذبك .فأتى
حذيفة سلمان وهو ف مبقلة فقال :يا سلمان! ما ينعك أن تصدقن با سعت من رسول ال صلى
ال عليه وسلم ؟ فقال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه
ويرضى فيقول ف الرضى :أما تنتهي حت تورث رجا ًل حب رجال ورجالً بغض رجال .وحت
توقع اختلفا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خطب فقال :أيا رجل سببته
سبة أو لعنته لعنة ف غضب فإنا أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنا بعثن ال رحة للعالي
إجعلها عليهم صلة يوم القيامة .فوال لتنتهي أو أكتب إل عمر" .
فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي ال عنه ! وهو جار ف مسألتنا ،فمن هنا ل ينبغي
للراسخ ف العلم أن يقول :هؤلء الفرق هم بنو فلن وبنو فلن ! وإن كان يعرفهم بعلمتهم بسب
اجتهاده ،اللهم إل ف موطني :
أحدها :حيث نبه الشرع على تعيينهم كالوارج ،فإنه ظهر من استقرائه أنم متمكنون تت
حديث الفرق ،ويري مراهم من سلك سبيلهم ،فإن أقرب الناس إليهم شيعة الهدي الغرب ،فإنه
ظهر فيهم المران اللذان عرف النب صلى ال عليه وسلم بما ف الوارج من أنم يقرؤون القرآن ل
ياوز حناجرهم ،وأنم يقتلون أهل السلم ويدعون أهل الوثان ،فإنم أخذوا أنفسهم بقراءة
312
الشاطبي كتاب العتصام
القرآن وإقرائه حت ابتدعوا فيه ث ل يتفقهوا فيه ،ول عرفوا مقاصده .ولذلك طرحوا كتب العلماء
وسوها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها ،مع أن الفقهاء هم الذين بينوا ف كتبهم معان الكتاب
والسنة على الوجه الذي ينبغي ،وأخذوا ف قتال أهل السلم بتأويل فاسد ،زعموا عليهم أنم
مسمون وأنم غي موحدين ،وتركوا النفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والجاورين لم وغيهم
.
فقد اشتهر ف الخبار والثار ما كان من خروجهم على علي بن أب طالب رضي ال عنه وعلى من
بعده كعمر بن عبد العزيز رحه ال وغيهم ،حت لقد روي ف حديث خرجه البغوي ف معجمه
عن حيد بن هلل أن عبادة بن قرط غزا فمكث ف غزاته تلك ما شاء ال ،ث رجع مع السلمي
منذ زمان فقصد نو الذان يريد الصلة فإذا هو بالزارقة ـ صنف من الوارج ـ فلما رأوه قالوا :
ما جاء بك يا عدو ال ؟ قال :ما أنتم يا إخوت ؟ قالوا :أنت أخو الشيطان ،لنقتلنك .قال .ما
ترضون من با رضي به رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قالوا :وأي شيء رضي به منك ؟ قال :
أتيته وأنا كافر فشهدت أن ل إله إل ال وأنه رسول ال فخلى عن ـ قال ـ فأخذوه فقتلوه .
وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه ،وقد جاء ف القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو
رضي ال عنهما ،أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :القدرية موس هذه المة ،إن مرضوا
فل تعودوهم ،وإن ماتوا فل تشهدوهم" .
وعن حذيفة رضي ال عنه أنه عليه الصلة والسلم قال :
313
الشاطبي كتاب العتصام
"قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :صنفان من أمت ل سهم لم ف السلم يوم القيامة :الرجئة
والقدرية" ،و" عن معاذ بن جبل وغيه يرفعه قال :لعنت القدرية والرجئة على لسان سبعي نبيا
آخرهم ممد صلى ال عليه وسلم " .وعن ماهد بن جب :
"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :سيكون من أمت قدرية وزنديقية أولئك موس " .
وعن نافع قال :بينما نن عند عبد ال بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال :إن فلنا يقرأ عليك
السلم ـ لرجل من أهل الشام ـ فقال عبد ال :بلغن أنه قد أحدث حدثا ،فإن كان كذلك فل
تقرأن عليه السلم .سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :سيكون ف أمت مسخ وخسف
وهو ف الزنديقية" .
وعن ابن الديلمي قال :اتينا أب كعب فقلت له :وقع ف نفسي شيء من القدر فحدثن لعل ال
يذهبه من قلب فقال :لو أن ال عذب أهل ساواته وأهل أرضه عذبم وهو غي ظال لم ،ولو
رحهم كانت رحته خيا لم من أعمالم ،ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ف سبيل ال ما قبله منك حت
تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك ل يكن ليخطئك وما أخطأك ل يكن ليصيبك ،ولو مت على غي
هذا لدخلت النار .قال :ث أتيت عبد ال بن مسعود فقال ل مثل ذلك .قال :ث أتيت حذيفة بن
اليمان فقال مثل ذلك .وف بعض الديث :
" ل تكلموا ف القدر فإنه سر ال " وهذا كله أيضا غي صحيح .
وجاء ف الرجئة والهمية شيء ل يصح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فل تعديل عليه .
نعم نقل الفسرون أن قوله تعال " :يوم يسحبون ف النار على وجوههم ذوقوا مس سقر*إنا كل
شيء خلقناه بقدر" نزل ف أهل القدر .فروى عبد بن حيد عن أب هريرة رضي ال عنه قال :
أتى مشركوا قريش إل النب صلى ال عليه وسلم ياصمونه ف القدر فنلت الية .وروى ماهد
وغيه أنا نزلت ف الكذبي بالقدر ،ولكن إن صح ففيه دليل ،وإل فليس ف الية ما يعي أنم من
الفرق ،وكلمنا فيه .
والثان :حيث تكون الفرقة تدعو إل ضللتها وتزيينها ف قلوب العوام ومن ل علم عنده ،فإن ضرر
هؤلء على السلمي كضرر إبليس ،وهم من شياطي النس ،فل بد من التصريح بأنم من أهل
البدعة والضللة ،ونسبتهم إل الفرق إذا قامت له الشهود على أنم منهم .كما اشتهر عن عمرو بن
عبيد وغيه .فروى عاصم الحوال .قال :جلست إل قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال
منه .فقلت :أبا الطاب :أل أرى العلماء يقع بعضهم ف بعض ؟ فقال :يا أحول أو ل تدري أن
الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لا أن تذكر حت تذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم با سعت من
قتادة ف عمرو بن عبيد ،وما رأيت من نسكه وهديه ،فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن
314
الشاطبي كتاب العتصام
عبيد والصحف ف حجره وهو يك آية من كتاب ال .فقلت :سبحان ال ! تك آية من كتاب
ال ؟ قال إن سأعيدها .قال :فتركته حت حكها .فقلت له :أعدها .فقال :ل أستطيع .
فمثل هؤلء ل بد من ذكرهم والتشريد بم ،لن ما يعود على السلمي من ضررهم إذا تركوا ،
أعظم من الضرر الاصل بذكرهم والتنفي عنهم إذا كان سبب ترك التعيي الوف من التفرق
والعدواة .ول شك أن التفرق بي السلمي وبي الداعي للبدعة وحدهم ـ إذا أقيم ـ عليهم
أسهل من التفرق بي السلمي وبي الداعي ومن شايعهم واتبعهم ،وإذا تعارض الضرران يركتب
أخفهما وأسهلهما ،وبعض الشر أهون من جيعه ،كقطع اليد التآكلة ،إتلفها أسهل من إتلف
النفس .وهذا شأن الشرع أبدا :يطرح حكم الخف وقاية من الثقل .
فإذا فقد المران فل ينبغي أن يذكروا لن يعنيوا وإن وجدوا ،لن ذلك أول مثي للشر وإلقاء
العداوة والبغضاء ،ومت حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ،ول يره أنه خارج من السنة ،بل يريه
أنه مالف للدليل الشرعي ،وأن الصواب الوافق للسنة كذا وكذا .فإن فعل ذلك من غي تعصب
ول إظهار غلبة فهو الج ،وبذه الطريقة دعي اللق أولً إل ال تعال ،حت إذا عاندوا وأشاعوا
اللف وأظهروا الفرقة قوبلوا بسب ذلك .
قال الغزال ف بعض كتبه :أكثر الهالت إنا رسخت ف قلوب العوام بتعصب جاعة من جهل أهل
الق ،أظهروا الق ف معرض التحدي والدلل ونظروا إل ضعفاء الصوم بعي التحقي والزدراء ،
فثارت من بواطنهم دواعي العاندة والخالفة ،ورسخت ف قلوبم العتقادات الباطلة ،وتعذر على
العلماء التلطفي موها مع ظهور فسادها ،حت انتهى التعصب بطائفة إل أن اعتقدوا أن الروف الت
نطقوا با ف الال بعد السكوت عنها طول العمر قدية .ولول استيلء الشيطان بواسطة العناد
والتعصب للهواء ،لا وجد مثل هذا العتقاد مستفزا ف قلب منون فضلً عن قلب عاقل .
هذا ما قال .وهو الق الذي تشهد له العوائد الارية فالواجب تسكي الثائرة ما قدر على ذلك .
وال أعلم .
السألة الثامنة أنه لا تبي أنم ل يتعينون فلهم خواص وعلمات يعرفون با ،وهي على قسمي :
علمات إجالية ،وعلمات تفصيلية .
فأما الجالية فثلث .إحداها :الفرقة الت نبه عليها قوله تعال :ول تكونوا كالذين تفرقوا
أنه لا تبي أنم ل يتعينون فلهم خواص وعلمات يعرفون با ،وهي على قسمي :
علمات إجالية ،وعلمات تفصيلية .
فأما العلمات الجالية فثلث .
315
الشاطبي كتاب العتصام
إحداها :الفرقة الت نبه عليها قوله تعال " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم
البينات" وقوله تعال " :وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إل يوم القيامة" روى ابن وهب عن إبراهيم
النخعي أنه قال :هي الدال والصومات ف الدين ،وقوله تعال " :واعتصموا ببل ال جيعا ول
تفرقوا" وف الصحيح عن أب هريرة رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن
ال يرضى لكم ثلثا ويكره لكم ثلثا ،فيضى لكم أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا ،وأن تعتصموا
ببل ال جيعا ول تفرقوا ،وصدق الديث" .
وهذا التفريق ـ كما تقدم ـ إنا هو الذي يصي الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا .
قال بعض العلماء :صاروا فرقا لتباع أهوائهم .وبفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ،وهو قوله
تعال " :إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" ث برأه ال منهم بقوله :
"لست منهم ف شيء" وهم أصحاب البدع وأصحاب الضللت ،والكلم فيما ل يأذن ال فيه ول
رسوله .
قال :ووجدنا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم من بعده قد اختلفوا ف أحكام الدين ول
يتفرقوا ،ول صاروا شيعا لنم ل يفارقوا الدين ،وإنا اختلفوا فيما أذن لم من اجتهاد إل الرأي ،
والستنباط من الكتاب والسنة فيما ل يدوا فيه نصا ،واختلف ف ذلك أقوالم فصاروا ممودين ،
لنم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلف أب بكر وعمر وعلي وزيد ف الد مع الم ،وقول عمر
وعلي ف أمهات الولد ،وخلفهم ف الفريضة الشتركة ،وخلفهم ف الطلق قبل النكاح ،وف
البيوع وغي ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ،وأخوة السلم فيما بينهم
قائمة ،فلما حدثت الهواء الردية ،الت حذر منها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وظهرت
العداوات وتزب أهلها فصاروا شيعا ،دل على أنه إنا حدث ذلك من السائل الحدثة الت ألقاها
الشيطان على أفواه أوليائه .
قال :كل مسألة حدثت ف السلم واختلف الناس فيها ول يورث ذلك الختلف بينهم عداوة ول
بغضاء ول فرقة ،علمنا أنا من مسائل السلم .وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة
والبغضاء والتدابر والقطيعة ،علمنا أنا ليست من أمر الدين ف شيء ،وأنا الت عن رسول ال صلى
ال عليه وسلم بتفسي الية .
وذلك ما روي عن عائشة رضي ال عنها قالت ":قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :يا عائشة
"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" من هم ؟ ـ قلت :ال ورسوله أعلم .قال :هم أصحاب
الهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضللة من هذه المة" الديث الذي تقدم ذكره .
316
الشاطبي كتاب العتصام
قال :فيجب على كل ذي عقل ودين أن يتنبها ،ودليل ذلك قوله تعال " :واذكروا نعمة ال
عليكم إذ كنتم أعداء فألف بي قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك ،كان
لدث أحدثوه من اتباع الوى .
هذا ما قاله .وهو ظاهر ف أن السلم يدعو إل اللفة والتحاب والتراحم والتعاطف ،فكل رأي
أدى إل خلف ذلك فخارج عن الدين .وهذه الاصية قد دل عليها الديث التكلم عليه ،وهي
موجودة ف كل فرقة من الفرق التضمنة ف الديث .
أل ترى كيف كانت ظاهرة ف الوارج الذين أخب بم النب صلى ال عليه وسلم ف قوله " :يقتلون
أهل السلم ويدعون أهل الوثان" :وأي فرقة توازي هذه الفرقة الت بي أهل السلم وأهل
الكفر ؟ وهي موجودة ف سائر من عرف من الفرق أو ادعي ذلك فيهم ،إل أن الفرقة ل تعتب على
أي وجه كانت ،لنا تتلف بالقوة والضعيف .
وحيث ثبت أن مالفة هذه الفرق من الفروع الزئية باب الفرقة ،فل بد يب النظر ف هذا كله .
الاصية الثانية هي الت نبه عليها قوله تعال :فأما الذين ف قلوبم زيغ الية
هي الت نبه عليها قوله تعالة " :فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" الية .فبينت الية أن
أهل الزيغ يتبعون متشابات القرآن ،وجعلوا من شأنه أن يتبع التشابه ل الحكم .ومعن التشابه :
ما أشكل معناه ،ول يبي مغزاه ،سواء كان من التشابه القيقي ـ كالجمل من اللفاظ وما يظهر
من التشبيه ـ أو من التشابه الضاف ،وهو ما يتاج ف بيان معناه القيقي إل دليل خارجي ،وإن
كان ف نفسه ظاهر العن لبادي الرأي ،كاستشهاد الوارج على إبطال التحكيم بقوله " :إن الكم
إل ل" فإنظاهر الية صحيح على الملة ،وأما على التفصيل فمحتاج إل البيان ،وهو ما تقدم
ذكره لبن عباس رضي ال عنهما ،لنه بي أن الكم ل تارة بغي تكيم لنه إذا أمرنا بالتحكيم
فالكم به حكم ال .
وكذلك قولم :قاتل ول يسب فإنم حصروا التحكيم ف القسمي وتركوا قسما ثالثا وهو الذي
نبه قوله تعال " :وإن طائفتان من الؤمني اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداها على الخرى
فقاتلوا الت تبغي" الية .فهذا قتال من غي سب ،لكن ابن عباس نبههم على وجه أظهر وهو أن
السباء إذا حصل فل بد من وقوع بعض القاتلي على أم الؤمني ،وعند ذلك يكون حكمها حكم
السبايا ف النتفاع با كالسبايا ،فيخالفون القرآن الذي ادعوا التمسك به .
وكذلك ف مو السم من إمارة الؤمني ،اقتضى عندهم أنه إثبات لمارة الكافرين ،وذلك غي
صحيح لن نفي السم منها ل يقتضي نفي السمى .
317
الشاطبي كتاب العتصام
وأيضا :فإن فرضنا أنه يقتضي نفي السمى ل يقتض إثبات إمارة أخرى .فعارضهم ابن عباس بحو
النب صلى ال عليه وسلم إسم الرسالة من الصحيفة ،معارضة ل قبل لم با .ولذلك رجع منهم
ألفان ـ أو من رجع منهم ـ .
فتأملوا وجه اتباع التشابات ،وكيف أدى إل الضلل والروج عن الماعة ،ولذلك قال رسول
ال صلى ال عليه وسلم :
"فإذا رأيتم الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سى ال ،فاحذروهم" .
318
الشاطبي كتاب العتصام
وأما الاصية الثانية ،فراجعة إل العلماء الراسخي ف العلم ،لن معرفة الحكم والتشابه راجع إليهم
يعرفونا ويعرفون أهلها ،فهم الرجوع إليهم ف بيان من هم متبع للمحكم فيقلد ف الدين ،ومن هو
ل.التبع للمتشابه فل يقلد أص ً
ولكن له علمة ظاهرة أيضا نبه عليها الديث الذي فسرت الية به ،قال فيه :
فإذا رأيتم الذين يادلون فيه ،فهم الذين عن ال فاحذروهم ،خرجه القاضي إساعيل بن إسحاق ،
وقد تقدم أول الكتاب .فجعل من شأن التبع للمتشابه أنه يادل فيه ويقيم الناع على اليان ،
وسبب ذلك أن الزائغ التبع لا تشابه من الدليل ل يزال ف ريب وشك ،إذ التشابه ل يعطى بيانا
شافيا ،ول يقف منه متبعه على حقيقة ،فاتباع الوى يلجئه إل التمسك به ،والنظر فيه ل يتخلص
له ،فهو على شك أبدا ،وبذلك يفارق الراسخ ف العلم ،لن جداله إن افتقر إليه فهو ف مواقع
الشكال العارض طلبا لزالته ،فسرعان ما يزول إذا بي له موضع النظر .
وأما ذو الزيغ فإن هواه ل يليه إل طرح التشابه .فل يزال ف جدال عليه وطلب لتأويله .
ويدل على ذلك أن الية نزلت ف شأن نصارى نران ،وقصدهم أن يناظروا رسول ال صلى ال
عليه وسلم ف عيسى ابن مري عليهما السلم ،وأنه ال ،أو أنه ثالث ثلثة ،مستدلي بأمور
متشابات من قوله :فعلنا وخلقنا وهذا كلم جاعة .ومن أنه يبىء الكمة والبرص وييي الوتى
وهو كلم طائفة أخرى ،ول ينظروا إل أصله ونشأته بعد أن ل يكن ،وكونه كسائر بن آدم يأكل
ويشرب وتلحقه الفات والمراض .والب مذكور ف السي .
والاصل :انم إنا أتوا لناظرة رسول ال صلى ال عليه وسلم ومادلته ل يقصدون اتباع الق .
والدال على هذا الوجه ل ينقطع ،ولذلك لا بي لم الق ول يرجعوا عنه دعوا إل أمر آخر خافوا
منه اللكة فكفوا عنه ،وهو الباهلة .وهو قوله تعال " :فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم
فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" .الية ،وشأن هذا الدال أنه
شاغل عن ذكر ال وعن الصلة ،كالنرد ،والشطرنج وغيها .
وقد نقل عن حاد بن زيد أنه قال :جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمون إل طلوع
الفجر .
قال :فلما صلوا جعل عمرو يقول :هيه أبا معمر ! هيه أبا معمر! فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الدال
ف السائل مع كل أحد من أهل العلم ،ث ل يرجع ول يرعوي ،فاعلموا أنه زيغ القلب متبع
للمتشابه فاحذروه .
319
الشاطبي كتاب العتصام
وأما ما يرجع للول فعامة لميع العقلء من السلم ،لن التواصل والتقاطع معروف عند الناس
كلهم ،وبعرفته يعرف أهله .وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إل الفتراق شيعا بقوله :
"وستفترق هذه المة على كذا" ولكن هذا الفتراق إنا يعرف بعد اللبسة والداخلة ،وأما قبل ذلك
فل يعرفه كل أحد ،فله علمات تتضمن الدللة على التفرق .أولا :مفاتة الكلم ،وذلك إلقاء
الخالف لن لقيه ذم التقدمي من اشتهر علمهم وصلحهم واقتداء اللف بم ،ويتص بالدح من
ل يثبت له ذلك من شاذ مالف لم ،وما أشبه ذلك .
وأصل هذه العلمة ف العتبار تكفي الوارج ـ لعنهم ال ـ الصحابة الكرام رضي ال عنهم ،
فإنم ذموا من مدحه ال ورسوله واتفق السلف الصال على مدحهم والثناء عليهم ،ومدحوا من
اتفق السلف الصال على ذمه كعبد الرحن بن ملجم قاتل علي رضي ال عنه ،وصوبوا قتله إياه ،
وقالوا :إن ف شأنه نزل قوله تعال " :ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة ال" وأما الت قبلها
وهي قوله " :ومن الناس من يعجبك قوله ف الياة الدنيا" ،فإنا نزلت ف شأن علي رضي ال عنه ،
وكذبوا ـ قاتلهم ال ـ وقال عمران بن حطان ف مدحه لبن ملجم .
إل ليبلغ من ذي العرش رضوانا يا ضربةً من تقي ما أراد با
أوف البية عند ال ميزانا إن لذكره يوما فأحسبه
وكذب ـ لعنه ال ـ فإذا رأيت من يري على هذا الطريق ،فهو من الفرق الخالفة ،وبال التوفيق
.
وروي عن إساعيل بن علية ،قال :حدثن اليسع ،قال :تكلم واصل بن عطاء يوما ـ يعن العتزل
ـ فقال عمرو بن عبيد :أل تسمعون ؟ ما كلم السن و ابن سيين ـ عندما تسمعون ـ إل
خرقة حيض ملقاة .
روي أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلم على الفقه ،فكان يقول :إن علم
الشافعي و أب حنيفة ،جلته ل يرج من سراويل امرأة .
هذا كلم هؤلء الزائغي ،قاتلهم ال .
والعلمة التفصيلية
وأما العلمة التفصيلية ف كل فرقة فقد نبه عليها و أشي إل جلة منها ف الكتاب والسنة ،وف ظن
أن من تأملها ف كتاب ال وجدها منبها عليها ومشارا إليها ،ولول أنا فهمنا من الشرع الستر عليها
لكان ف الكلم ف تعيينها مال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي ،وقد كنا همنا بذلك ف ماضي
الزمان .فغلبنا عليه ما دلنا على أن الول خلف ذلك .
320
الشاطبي كتاب العتصام
فأنت ترى أن الديث الذي تعرضنا لشرحه ل يعي ف الرواية الصحيحة واحدة منها ،لذا العن
الذكور ،وال أعلم ـ وإنا نبه عليه ف الملة لتحذر مظانا ،وعي ف الديث الحتاج إليه منها
وهي الفرقة الناجية ليتحراها الكلف ،وسكت عن ذلك ف الرواية الصحيحة ،لن ذكرها ف الملة
يفيد المة الوف من الوقوع فيها ،وذكر ف الرواية الخرى فرقة من الفرق الالكة لنا ـ كما
قال ـ أشد الفرق على المة .وبيان كونا أشد فتنة من غيها سيأت آخرا إن شاء ال .
321
الشاطبي كتاب العتصام
هذه المة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الخرى اليهود والنصارى ،فالثنتان والسبعون من
الالكي التوعدين بالنار ،والواحدة ف النة .فإذا انقسمت هذه المة بسب هذا الفتراق قسمي
:قسم ف النار ،وقسم ف النة ،ول يبي ذلك ف فرق اليهود ول ف فرق النصارى ،إذ ل يبي
الديث أن ل تقسيم لذه المة ،فيبقى النظر :هل ف اليهود والنصارى فرقة ناجية أم ل ؟ وينبن
على ذلك نظران :هل زادت هذه المة فرقة هالكة :أم ل ؟ وهذا النظر وإن كان ل ينبن عليه ...
لكنه من تام الكلم ف الديث .
فظاهر النقل ف مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى ل بد أن يوجد فيها من آمن
بكتابه وعمل بسنته ،كقوله تعال " :ول يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم المد
فقست قلوبم وكثي منهم فاسقون" ففيه إشارة إل أن منهم من ل يفسق ،وقال تعال " :فآتينا
الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون" وقال تعال " :ومن قوم موسى أمة يهدون بالق وبه
يعدلون " وقال تعال " :منهم أمة مقتصدة " وهذا كالنص .
وف الديث الصحيح عن أب موسى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
"أيا رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن ب فله أجران" فهذا يدل بإشارته على العمل با جاء به
نبيه .وخرج عبد ال بن عمر " ،عن ابن مسعود قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم :يا عبد
ال بن مسعود :ـ قلت :لبيك رسول ال قال ـ أتدري أي عرى اليان أوثق ؟ ـ قال ـ قلت
:ال ورسوله أعلم .قال :الولية ف ال والب ف ال ،والبغض فيه ـ ث قال :يا عبد ال بن
مسعود ! ـ قلت :لبيك رسول ال ! ثلث مرات ،قال ـ أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت :ال
ورسوله أعلم .قال ـ فإن أفضل الناس أفضلهم عملً إذا فقهوا ف دينهم ـ ث قال ـ يا عبد ال
بن مسعود ! ـ قلت لبيك يا رسول ال ! ثلث مرات .قال ـ هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت :
ال ورسوله أعلم .قال :أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس ،وإن كان مقصرا ف العمل ،
وإن كان يزحف على استه ،واختلف من قبلنا على ثنتي وسبعي فرقة نا منهم ثلث وهلك
سائرها ،فرقة آذت اللوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مري حت قتلوا ،وفرقة ل يكن لم طاقة
بؤاذاة اللوك ،فأقاموا بي ظهران قومهم فدعوهم إل دين ال ودين عيسى ابن مري ،فأخذتم
اللوك وقطعتهم بالناشي ،وفرقة ل يكن لم طاقة بؤاذاة اللوك ول بأن يقيموا بي ظهران قومهم
فيدعوهم إل دين ال ودين عيسى ابن مري ،فساحوا ف البال وهربوا فيها ،فهم الذين قال ال عز
وجل فيهم " :ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء رضوان ال فما رعوها حق رعايتها فآتينا
الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون" " .فالؤمنون ،الذين آمنوا ب وصدقوا ب ،
والفاسقون الذين كذبوا ب وجحدوا ب ،فأخب أن فرقا ثلثا نت من تلك الفرق العدودة والباقية
هلكت.
322
الشاطبي كتاب العتصام
وخرج ابن وهب من حديث علي رضي ال عنه أنه دعا رأس الالوت وأسقف النصارى فقال :إن
سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فل تكتما ،يا رأس جالوت ! أنشدك ال الذي أنزل التوراة على
موسى ،وأطعمكم الن والسلوى ،وضرب لكم ف البحر طريقا يبسا ،وجعل لكم الجر الطوري
يرج لكم منه اثنت عشرة عينا لكل سبط من بن إسرائيل عي ! إل ما أخبتن على كم افترقت
اليهود من فرقة بعد موسى ؟ فقال له :ول فرقة واحدة .فقال له علي :كذبت والذي ل إله إل هو
،لقد افترقت على إحدى وسبعي فرقة كلها ف النار إل فرقة واحدة .
ث دعا السقف ،فقال :انشدك ال الذي أنزل النيل على عيسى ،وجعل على رجله البكة ،
واراكم العبة ،فأبرأ الكمة والبرص وأحيا الوتى ،وصنع لكم من الطي طيورا وأنبأكم با
تأكلون وما تدخرون ف بيوتكم .فقال :دون هذا الصدق يا أمي الؤمني .فقال له علي رضي ال
عنه .كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مري من فرقة ؟ قال :ل .وال ول فرقة .فقال ثلث
مرات :كذبت وال الذي ل إله إل ال .لقد افترقت على اثنتي وسبعي فرقة كلها ف النار إل
واحدة ،فقال :أما أنت يا يهودي ! فإن ال يقول " :ومن قوم موسى أمة يهدون بالق وبه
يعدلون" فهي الت تنجو ،وأما نن فيقول ال فينا " :ومن خلقنا أمة يهدون بالق وبه يعدلون" فهذه
الت تنجو من هذه المة .ففي هذا أيضا دليل .
وخرجهالجري أيضا من طريق أنس بعن حديث علي رضي ال عنه :إن واحدة من فرق اليهود
ومن فرق النصارى ف النة .
وخرج سعيد بن منصور ف تفسيه من حديث عبد ال :أن بن إسرائيل لا طال عليهم المد
فقست قلوبم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبم واستحلته ألسنتهم ،وكان الق يول
بي كثي من شهواتم ،حت نبذوا كتاب ال وراء ظهورهم كأنم ل يعلمون ،فقالوا :اعرضوا هذا
الكتاب على بن إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم ،وإن خالفوكم فاقتلوهم ،قالوا :ل ! بل أرسلوا
إل فلن ـ رجل من علمائهم ـ فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يالفكم أحد بعده ،
وإن خالفكم فاقتلوه فلن يتلف علقها ف عنقه ،ث لبس عليها الثياب ،ث أتاهم فعرضوا عليه
الكتاب ،فقالوا :أتؤمن بذا ؟ فأومأ إل صدره فقال :آمنت بذا ،وما ل ل أؤمن بذا ؟ ( يعن
الكتاب الذي ف القرن ) فخلوا سبيله ،وكان له أصحاب يغشونه ،فلما مات نبشوه فوجدوا القرن
ووجدوا الكتاب ،فقالوا :أل ترون قوله :آمنت بذا ،وما ل ل أؤمن بذا ؟ وإنا عن هذا الكتاب
.فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعي ملة ،وخي مللهم أصحاب ذلك القرن ـ قال عبد ال ـ
:وإن من بقي منكم سيى منكرا بسب أمره ،يرى منكرا ل يستطيع أن يغيه ،إن يعلم ال من
قلبه خيا كاره .
323
الشاطبي كتاب العتصام
فهذا الب يدل على أن ف بن إسرائيل فرقة كانت على الق الصريح ف زمانم ،لكن ل أضمن
عهدة صحته ول صحة ما قبله .
وإذا ثبت أن ف اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون ف هذه المة فرقة ناجية زائدة
على رواية الثنتي والسبعي ،أو فرقتي بناء على رواية الحدى والسبعي ،فيكون لا نوع من
التفرق ل يكن لن تقدم من أهل الكتاب ،لن الديث التقدم أثبت أن هذه المة تبعث من قبلها
من أهل الكتابي ف أعيان مالفتها ،فثبت أنا تبعتها ف أمثال بدعتها ،وهذه هي :
324
الشاطبي كتاب العتصام
دون ال ،ل أنه هو بنفسه فلذلك ل يلزم العتبار بالنصوص عليه ما ل ينص عليه مثله من كل
وجه ،وال أعلم .
السألة الثانية عشرة كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله ف الشيئة
أنه عليه الصلة والسلم أخب أنا كلها ف النار ،وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت
كل واحدة منها معصية كبية أو ذنبا عظيما ،إذ قدر تقرر ف الصول أن ما يتوعد الشر عليه
فخصوصيته كبة .إذ ل يقل ":كلها ف النار" .إل من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن
السواد العظم وعن جاعته ،وليس ذلك إل لبدعة مفرقة ،إل أنه ينظر ف هذا الوعيد .هل هو
أبدي أم ل ؟ وإذا قلنا :إنه غي أبدي :هل هو نافذ أم ف الشيئة .
أما الطلب الول :فينبن على أن بعض البدع مرجة من السلم ،أو ليست مرجة ،واللف ف
الوارج وغيهم من الخالفي ف العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول
بالتكفي لزم منه تأبيد التحري على القاعدة إن الكفر والشرك ل يغفره ال سبحانه .
325
الشاطبي كتاب العتصام
وأول من هذه العبارة أن نقول :ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على
الجن عليه :إما ببذل القيمة له ،وهو أمر ل يكن بعد فوت القتول .فكذلك ل يكن ف صاحب
البدعة من جهة الدلة ،فراجع ما تقدم ف الباب الثان تد فيه كثيا من التهديد والوعيد الخوف
جدا .
وانظر ف قوله تعال " :ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لم
عذاب عظيم " فهذا وعيد ،ث قال تعال " :يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " وتسويد الوجوه علمة
الزي ودخول النار ،ث قال تعال " :أكفرت بعد إيانكم" وهو تقريع وتوبيخ ،ث قال تعال :
"فذوقوا العذاب" وهو تأكيد آخر .
وكل هذا التقرير بناء على أن الراد باليات أهل القبلة من أهل البدع .
لن البتدع إذا اتبع ف بدعته ل يكنه التلف ـ غالباـ فيها ،ول يزل أثرها ف الرض يستطيل إل
قيام الساعة ،وذلك كله بسببه ،فهي أدهى من قتل النفس .
قال مالك رحة ال عليه :إن العبد لو ارتكب جيع الكبائر بعد أن ل يشرك بال شيئا وجبت له
ارفع النازل ،لن كل ذنب بي العبد وربه هو منه على رجاء ،وصاحب البدعة ليس هو منها على
رجاء ،إنا يهوى به ف نار جهنم فهذا منه نص ف إنفاذ الوعيد .
والثان :أن يكون مقيدا بأن يشاء ال تعال إصلءهم ف النار ،وإنا حل قوله " :كلها ف النار" أي
هي من يستحق النار ،كما قالت الطائفة الخرى ف قوله تعال " :فجزاؤه جهنم خالدا فيها" أي
ذلك جزاؤه إن ل يعف ال عنه ،فإن عفا عنه فله العفو إن شاء ال ،لقوله تعال ":إن ال ل يغفر
أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لن يشاء" فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إل أن القاتل
ف الشيئة ،وإن ل يكن الستدراك ،كذلك يصح أن يقال هنا بثله .
326
الشاطبي كتاب العتصام
واحد فل يسع أن يكون أهل الق فرقا .وقال تعال " :وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا
السبل" وهو نص فيما نن فيه ،فإن السبيل الواحد ل يقتضي الفتراق ،بلف السبل الختلفة .
فإن قيل :فقد تقدم ف السألة العاشرة ف حديث ابن مسعود :
"واختلف من كان قبلنا على ثنتي وسبعي فرقة ،نا منها ثلث وهلك سائرها" إل آخر الديث ،
فلو لزم ما قلت ل يعل أولئك الفرق ثلثا ،وكانوا فرقة واحدة ،وحي بينوا ظهر كلهم على الق
والصواب .فكذلك يوز أن تكون الفرق ف هذه المة ،لول أن الديث أخب أن الناجية واحدة .
فالواب أولً :أن ذلك الديث ل نشترط الصحة ف نقله ،إذ ل نده ف الكتب الت لدينا الشترط
فيها الصحة .
وثانيا :أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلثا فإنا عدت هناك واحدة لعدم الختلف بينهم ف أصل
التباع ،وإنا الختلف ف القدرة على المر بالعروف والنهي عن النكر أو عدمها ،وف كيفية
المر والنهي خاصة .
فهذه الفرق ل تناف صحة المع بينهما ،فنحن نعلم أن الخاطبي ف ملتنا بالمر بالعروف والنهي
عن النكر على مراتب :فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم اللوك والكام ومن أشبههم ،ومنهم
من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ،ومنهم من ل يقدر إل بالقلب ـ إما مع البقاء بي
ظهرانيهم إذ ل يقدر على الجرة أو مع الجرة إن قدر عليها ـ وجيع ذلك خطة واحدة من خصال
اليان ،ولذلك جاء ف الديث قوله عليه الصلة والسلم " :ليس بعد ذلك من اليان حبة خردل"
.
فإذا كان كذلك فل يضرنا عد الناجية ف بعض الحاديث ثلثا باعتبار ،وعدها واحدة باعتبار آخر
،وإنا يبقى النظر ف عدها اثنتي وسبعي فتصي بذا العتبار سبعي ،وهو معارض لا تقدم من
جهة المع بي فرق هذه المة وفرق غيها ،مع قوله " :لتركب سنن من كان قبلكم شبا بشب
وذراعا بذراع" .
ويكن أن يكون ف الواب أحد أمرين :إما أن يترك الكلم ف هذا رأسا إذا خالف الديث
الصحيح ،لنه ثبت فيه " إحدى وسبعي " ،وف حديث ابن مسعود " :ثنتي وسبعي" .
وإما أن يتأول أن الثلثة الت نت ليست فرقا ثلثا ،وإنا هي فرقة واحدة انقمست إل الراتب
الثلث ،لن الرواية الواقعة ف تفسي عبد بن حيد هي قوله " نا منها ثلث " ول يفسرها بثلث
فرق وإن كان هو ظاهر الساق .ولكن قصد المع بي الروايات ومعان الديث ألأ إل ذلك وال
أعلم با أراد رسوله من ذلك .
327
الشاطبي كتاب العتصام
وقوله عليه الصلة والسلم " :كلها ف النار إل واحدة" ظاهر ف العموم ،لن كلً من صيغ
العموم ،وفسره الديث الخر " :ثنتان وسبعون ف النار وواحدة ف النة" وهذا نص ل يتمل
التأويل .
السألة الرابعة عشرة أن النب صلى ال عليه وسلم ل يعي من الفرق إل فرقة واحدة
أن النب صلى ال عليه وسلم ل يعي من الفرق إل فرقة واحدة ،وإنا تعرض لعدها خاصة ،وأشار
إل الفرق الناجية حي سئل عنها ،وإنا وقع ذلك كذلك ول يكن المر بالعكس لمور :
أحدها :أن تعيي الفرقة الناجية هو الكد ف البيان بالنسبة إل تعبد الكلف والحق بالذكر ،إذ ل
يلزم تعيي الفرق الباقية إذا عينت الواحدة .وأيضا لو عينت الفرق كلها إل هذه المة ل يكن بد من
بيانا ،لن الكلم فيها يقتضي ترك أمور وهي البدع .والترك للشيء ل يقتضي فعل شيء آخر ل
ضدا ول خلفا ،فذكر الواحدة هو الفيد على الطلق .
أسباب تعيي النب صلى ال عليه وسلم الفرقة الناجية فقط وهي ثلثة أحدها أن تعيي الفرقة
الناجية هو الكد ف البيان والثان أن ذلك أوجز
والثان :أن ذلك أوجز لنه إذا ذكرت نلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها ما يالفها
ليس بناج ،وحصل التعيي بالجتهاد ،بلف ما إذا ذكرت الفرق إل الناجية فإنه يقتضي شرحا
كثيا ،ول يقتضي ف الفرقة الناجية اجتهاد ،لن إثبات العبادات الت تكون مالفتها بدعا ل حظ
للعقل ف الجتهاد فيها .
328
الشاطبي كتاب العتصام
وحاصل المر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بديه ،وقد جاء مدحهم ف القرآن الكري وأثن
على متبوعهم ممد صلى ال عله وسلم ،وإنا خلقه صلى ال عليه وسلم القرآن ،فقال تعال :
"وإنك لعلى خلق عظيم" فالقرآن إنا هو التبوع على القيقة ،وجاءت السنة مبينة له ،فالتبع للسنة
متبع للقرآن .والصحابة كانوا أول الناس بذلك ،فكل من اقتدى بم فهو من الفرقة الناجية
الداخلية للجنة بفضل ال ،وهو معن قوله عليه الصلة والسلم ":ما أنا عليه وأصحاب " .
329
الشاطبي كتاب العتصام
وإذا رجعنا إل الستدللت القرآنية أو الشنية على الصوص ،فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا .
فالوارج تتج بقوله عليه الصلة والسلم " :ل تزال طائفة من أمت ظاهرين على الق حت يأت أمر
ال" وف رواية :
"ل يضرهم خلف من خالفهم ،ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد" .
والقاعدة يتج بقوله :
"عليكم بالماعة ،فإن يد ال مع الماعة ،ومن فارق الماعة قيد شب فقد خلع ربقة السلم من
عنقه" وقوله " :كن عبد ال القتول ول تكن عبد ال القاتل" .
والرجئي يتحج بقوله " :من قال ل إله إل ال ملصا من قلبه فهو ف النة وإن زن وإن سرق " .
والخالف له متج بقوله " :ل يزن الزان حي يزن وهو مؤمن " .
والقدري يتج بقوله تعال " :فطرة ال الت فطر الناس عليها" وبديث " :كل مولود يولد على
الفطرة" الديث .
والفوض يتج بقوله تعال " :ونفس وما سواها * فألمها فجورها وتقواها" وبديث " :اعملوا فكل
ميسر لا خلق له" .
والرافضة تتج قوله عليه الصلة والسلم " :ليدن الوض أقوام ث ليتخلفن دون ،فأقول :يا رب
أصحاب! فيقال :إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك ،ث ل يزالوا مرتدين على أعقابم منذ فارقتهم"
ويتجون ف تقدي علي رضي ال عنه ك بـ " :أنت من بنلة هارون من موسى ،غي أنه ل نب
بعدي " و " :من كنت موله فعلي موله" ومالفوهم يتجون ف تقدي أب بكر وعمر رضي ال
عنهما بقوله " :اقتدوا باللذين من بعدي أب بكر وعمر ويأب ال والسلمون إل أبا بكر" إل أشباه
ذلك ،ما يرجع إل معناه .
والمع مومون ـ ف زعمهم ـ على النتظام ف سلك الفرقة الناجية ،وإذا كان كذلك أشكل
على البتدع ف النظر ما كان عليه النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه ،ول يكن أن يكون مذهبهم
مقتضى هذه الظواهر ،فإنا متدافعة متناقضة .وإنا يكن المع فيها إذا جعل بعضها أصلً .فيد
الخر إل ذلك الصل بالتأويل .
وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الدلة وترد ما سواها إليها ،أو تمل
اعتبارها بالترجيح ،إن كان الوضع من الظنيات الت يسوغ فيها الترجيح ،أو تدعي أن أصلها الذي
ترجع إليه قطعي والعارض له ظن فل يتعارضان .
وإنا كانت طريقة الصحابة ظاهرة ف الزمنة التقدمة ،أما وقد استقرت مآخذ اللف فمحال ،
وهذا الوضع ما يتضمنه قول ال تعال " :ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك ولذلك خلقهم" .
فتأملوا ـ رحكم ال ـ كيف صار التفاق ما ًل ف العادة ليصدق العقل بصحة ما أخب ال به .
330
الشاطبي كتاب العتصام
والاصل ،أن تعيي هذه الفرقة الناجية ف مثل زماننا صعب ،ومع ذلك فل بد من النظر فيه ،وهو
نكتة هذا الكتاب ،فليقع به فضل اعتناء ما هيأه ال ،وبال التوفيق .
ولا كان ذلك يقتضي كلما كثيا أرجأنا القول فيه إل باب آخر ،وذكره فيه على حدته إذ ليس
هذا موضع ذكره ،وال الستعان .
السألة الامسة عشرة أنه قال عليه الصلة والسلم :كلها ف النار إل واحدة فهل يدخل ف
الالكة البتدع ف الزيئات كالبتدع ف الكليات ؟
أنه قال عليه الصلة والسلم ":كلها ف النار إل واحدة" وحتم ذلك .وقد تقدم أنه ل يعد من
الفرق إل الخالف ف أمر كلي وقاعدة عامة ،ول ينتظم الديث ـ على الصوص ـ إل أهل
البدع الخالفي للقواعد ،وأما من ابتدع ف الدين لكنه ل يبتدع ما ينقض أمرا كليا ،أو يرم أصلً
من الشرع عاما ،فل دخول له ف النص الذكور ،فينظر ف حكمه :هل يلحق بن ذكر أو ل ؟ .
والذي يظهر ف السألة أحد أمرين :إما أن نقول :إن الديث ل يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ول
معن ،إل أن ذلك يؤخذ من عموم الدلة التقدمة ،كقوله :
"كل بدعة ضللة" وما أشبه ذلك .وإما أن نقول :إن الديث وإن ل يكن ف لفظه دللة ففي معناه
ما يدل على قصده ف الملة ،وبيانه تعرض لذكر الطرفي الواضحي .
أحدها :طرف السلمة والنجدة من غي داخلة شبهة ول إلام بدعة ،وهو قوله :
"ما أنا عليه وأصحاب" .
والثان :طرف الغراق ف البدعة ،وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو ترم أصلً كليا ،جريا
على عادة ال ف كتابه العزيز ،لنه تعال لا ذكر أهل الي وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأهلي ما
يمل من خي أو شر ،ليبقى الؤمن فيها بي الطرفي خائفا راجيا ،إذ جعل التنبيه بالطرفي
الواضحي ،فإن الي على مراتب بعضها أعلى من بعض ،والشر على مراتب بعضها أشد من بعض
،فإذا ذكر أهل الي الذين ف أعلى الدرجات خاف أهل الي الذين دونم أن ل يلحقوا بم ،أو
رجوا أن يلحقوا بم ،وإذا ذكر أهل الشر الذين ف أسفل الراتب خاف أهل الشر الذين دونم أن
يلحقوا بم ،أو رجوا أن ل يلحقوا بم .
وهذا العن معلوم بالستقراء ،وذلك الستقراء ـ إذ ت ـ يدل على قصد الشارع إل ذلك العن ،
ويقويه ما روى سعيد بن منصور ف تفسيه عن عبد الرحن بن ساباط قال :لا بلغ الناس أن أبا بكر
يريد أن يستخلف عمرا قالوا :ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا ـ ةهة ل يقدر
على شيء ـ فكيف لو قدر .فبلغ ذلك أبا بكر فقال :أبرب توفون ؟ أقول :استخلفت خي
ل بالنهار ل يقبله
خلقك .ث أرسل إل عمر فقال .إن ل عملً بالليل ل يقبله بالنهار ،وعم ً
331
الشاطبي كتاب العتصام
بالليل ،واعلم أنه ل يقبل نافلة حت تؤدى الفريضة ،أل تر أن ال ذكر أهل النة بأحسن اعمالم !
وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حت يقول القائل :عملي خي من هذا ،أل تر أن ال أنزل
الرغبة والرهبة لكي يرغب الؤمن فيعمل ويرهب ،فل يلقي بيده إل التهلكة ؟ أل تر أنا ثقلت
موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق ليزان ل يوضع فيه إل
الق أن يثقل ،أل تر إنا خفت موزاين من خفت موازينه بابتاعهم الباطل وتركهم الق ؟ وحق
ليزان ل يوضع فيه إل الباطل أن يف ـ ث قال ـ :أما إن حفظت وصيت ل يكن غائب أحب
إليك من الوت ،وأنت ل بد لقيه ،وإن ضيعت وصيت ل يكن غائب أبغض غليك من الوت ول
تعجزه .
وهذا الديث وإن ل يكن هنالك ،ولكن معناه صحيح يشهد له الستقراء لن تتبع آيات القرآن
الكري ،ويشهد لا تقدم من أن هذا العن مقصود استشهاد عمر بن الطاب رضي ال عنه بثله ،إذ
رأى بعض أصحابه وقد اشترى لما بدرهم :أين تذهب بكم هذه الية ":أذهبتم طيباتكم ف
حياتكم الدنيا واستمتعتم با" .والية إنا نزلت ف الكفار ،لقوله تعال " :ويوم يعرض الذين كفروا
على النار أذهبتم" الية إل أن قال تعال " :فاليوم تزون عذاب الون با كنتم تستكبون ف الرض
بغي الق وبا كنتم تفسقون" ول ينعه رضي ال عنه إنزالا ف الكفار من الستشهاد با ف مواضع
اعتبارا با تقدم ،وهو أصل شرعي تبي ف كتاب الوافقات .
فالاصل ،أن من عد الفرق من البتدعة البتداع الزئي ل يبلغ مبلغ أهل البدع ف الكليات ،ف
الذم والتصريح بالوعيد بالنار ،ولكنهم اشتركوا ف العن القتضي للذم والوعيد ،كما اشترك ف
اللفظ صاحب اللحم ـ حي تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما ف اجتهاد عمر ـ مع
من أذهب طيباته ف حياته الدنيا من الكفار ،وإن كان ما بينهما من البون البعيد ،والقرب والبعد
من العارف الذموم بسب ما يظهر من الدلة للمجتهد .وقد تقدم بسط ذلك ف بابه ،والمد ل .
السألة السادسة عشرة أن رواية من روى ف تفسي الفرق الناجية هي الماعة متاجة إل
التفسي
أن رواية من روى ف تفسي الفرق الناجية وهي الماعة متاجة إل التفسي لنه إن كان معناه بينا
من جهة تفسي الرواية الخرى ـ وهي قوله " :ما أنا عليه وأصحاب" ـ فمعن لفظ :الماعة
من حيث الراد به ف إطلق الشرع متاج إل التفسي .
فقد جاء ف أحاديث كثية منها الديث الذي نن ف تفسيه ،ومنها ما صح عن ابن عباس عن
النب صلى ال عليه وسلم قال :
332
الشاطبي كتاب العتصام
"من رأى من أميه شيئا يكرهه فليصب عليه ،فإنه من فارق الماعة شيئا فمات مات ميتة جاهليلة"
.
وصح من حديث "حذيفة ،قال :قلت يا رسول ال ! إنا كنا ف جاهلية وشر فجاءنا ال بذا الي ،
فهل بعد هذا الي من شر ؟ قال :نعم ـ قلت :وهل بعد ذلك الشر من خي ؟ ـ قال :نعم ،
وفيه دخن ـ قلت :وما دخنه ؟ قال ـ قوم يستنون بغي سنت ويهدون بغي هديي تعرف منهم
وتنكر ـ قلت :فهل بعد ذلك الي من شر ؟ قال ـ نعم :دعاة على أبواب جهنم من أجابم إليها
قذفوه فيها ـ قلت :يا رسول ال ! صفهم لنا .قال :هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ـ قلت :
فما تأمرن إن أدركن ذلك ؟ قال :تلزم جاعة السلمي وإمامهم ـ قلت :فإن ل يكن لم جاعة
ول إمام ؟ قال :فاعتزل تلك الفرق كلها ،ولو أن تعض بأصل شجرة حت يدركك الوت وأنت
على ذلك" .
وخرج الترمذي و الطبي "عن ابن عمر قال :خطبنا عمر بن الطاب رضي ال عنه بالابية فقال :
إن قمت فيكم كمقام رسول ال صلى ال عليه وسلم فينا .فقال :أوصيكم بأصحاب ،ث الذين
يلونم ،ث الذين يلونم ،ث يفشو الكذب حت يلف الرجل ول يستحلف ،ويشهد ول يستشهد ،
عليكم بالماعة ،وإياكم والفرقة ،ل يلون رجل بامرأة ،فإنه ل يلون رجل بامرأة إل كان
ثالثهما الشيطان ،الشيطان مع الواحد وهو من الثني أبعد ،ومن أراد ببوحة النة فليلزم
الماعة ،ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو الؤمن" .
وف الترمذي عن ابن عباس رضي ال عنه قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :إن ال ل
يمع أمت على ضللة ،ويد ال مع الماعة ،ومن شذ شذ إل النار" ،وخرج أبو داود عن أب ذر
قال :قال رسول ال صلى ال عليه وسلم " :من فارق الماعة قيد شب فقد خلع ربقة السلم من
عنقه" .
وعن عرفجة قال :سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول " :سيكون ف أمت هنيات
وهنيات ،فمن أراد أن يفرق أمر السلمي وهم جيع فاضربوه بالسيف كائنا من كان" .
فاختلف الناس ف معن الماعة الرادة ف هذه الحاديث على خسة أقوال :
إختلف الناس ف معن الماعة الرادة ف هذه الحاديث على خسة أقوال أحدها :أنا السواد
العظم
أحدها :إنا السواد العظم من أهل السلم وهو الذي يدل عليه كلم أب غالب :إن السواد
العظم هم الناجون من الفرق ،فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الق ،ومن خالفهم مات ميتة
جاهلية ،سواء خالفهم ف شيء من الشريعة أو ف إمامهم وسلطانم ،فهو مالف للحق .
333
الشاطبي كتاب العتصام
ومن قال بذا أبو مسعود النصاري وابن مسعود ،فروى أنه لا قتل عثمان سئل أبو مسعود
النصاري عن الفتنة ،فقال :عليك بالماعة فإن ال ل يكن ليجمع أمة ممد صلى ال عليه وسلم
على ضللة ،واصب حت تستريح أو يستراح من فاجر .وقال :إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضللة
.وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنا حبل ال الذي أمر به .ث قبض يده وقال :إن الذي
تكرهون ف الماعة خي من الذين تبون ف الفرقة .
وعن السي قيل له :أبو بكر خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فقال :أي والذي ل إله إل
هو ،ما كان ال ليجمع أمة ممد على ضللة .
فعلى هذا القول يدخل ف الماعة متهدو المة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون با ،ومن سواهم
داخلون ف حكمهم ،لنم تابعون لم ومقتدون بم ،فكل من خرج عن جاعتهم فهم الذين شذوا
وهم نبة الشيطان ويدخل ف هؤلء جيع أهل البدع لنم مالفون لن تقدم من المة ،ل يدخلوا ف
سوادهم بال .
334
الشاطبي كتاب العتصام
مسألة الت ابتدع فيها ،لنم ف نفس البدعة مالفون للجاع :فعلى كل تقدير ل يدخلون ف
السواد العظم رأسا .
335
الشاطبي كتاب العتصام
وكأن هذا القول يرجع إل الثان وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه ،أو يرجع إل القول الول وهو
الظهر ،وفيه من العن ما ف الول من أنه ل بد من كون الجتهدين فيهم ،وعند ذلك ل يكون مع
ل ،فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية .
اجتماعهم على هذا القول بدعة أص ً
الامس ما اختاره الطبي المام من أن الماعة جاعة السلمي إذا اجتمعوا على أمي
والامس :ما اختاره الطبي المام من أن الماعة جاعة السلمي إذا اجتمعوا على أمي ،فأمر عليه
الصلة والسلم بلزومه ونى عن فراق المة فيما اجتمعوا عليه من تقديه عليهم ،لن فراقهم ل
يعدو إحدى حالتي ،إما للنكي عليهم ف طاعة أميهم والطعن عليه ف سيته الرضية لغي موجب ،
بل بالتأويل ف إحداث بدعة ف
الدين ،كالرورية الت أمرت المة بقتالا وساها النب صلى ال عليه وسلم مارقة من الدين ،وإما
لطلب إمارة من انعقاد البيعة لمي الماعة ،فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه .
وقد قال صلى ال عليه وسلم " :من جاء إل أمت ليفرق جاعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان" .
قال الطبي :فهذا معن المر بلزوم الماعة .
قال :وأما الماعة الت إذا اجتمعت على الرضى بتقدي أمي كان الفارق لا ميتا ميتة جاهلية ،فهي
الماعة الت وصفها أبو مسعود النصاري ،وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين
وغيهم ،وهم السواد العظم .
قال :وقد بي ذلك عمر بن الطاب رضي ال عنه ،فروي عن عمر بن ميمون الودي قال :قال
عمر حي طعن لصهيب :صل بالناس ثلثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبي وسعد وعبد
الرحن ،وليدخل ابن عمر ف جانب البيت وليس له من المر شيء ،فقم يا صهيب على رؤوسهم
بالسيف فإن بايع خسة ونكص واحد فاجلد راسه بالسيف ،وإن بايع أربعة ونكص رجلن فاجلد
رأسيهما حت يستوثقوا على رجل .
قال :فالماعة الت أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بلزومها وسى النفرد عنها مفارقا لا نظي
الماعة ال أوجب عمر اللفة لن اجتمعت عليه ،وأمر صهيبا بضرب رأس النفرد عنهم بالسيف .
فهم ف معن كثرة العدد الجتمع على بيعته وقلة العدد النفرد عنهم .
قال :وأما الب الذي ذكر فيه أن ل تتمع المة على ضللة فمعناه أن ل يمعهم على إضلل الق
فيما نابم من أمر دينهم حت يضل جيعهم عن العلم ويطئوه ،وذلك ل يكون ف المة .
هذا تام كلمه وهو منقول بالعن و تر ف أكثر اللفظ .
336
الشاطبي كتاب العتصام
وحاصله :أن الماعة راجعة إل الجتماع على المام الوافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر ف أن
الجتماع على غي سنة خارج عن معن الماعة الذكور ف الحاديث الذكورة ،كالوارج ومن
جرى مراهم .
فهذه خسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والتباع ،وأنم الرادون بالحاديث ،فلنأخذ ذلك
أصلً ويبن عليه معن آخر ،وهي :
السألة السابعة عشرة أن الميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والجتهاد سواء ضموا إليهم
العوام أم ل
وذلك أن الميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم ل ،فإن ل
يضموا إليهم فل إشكال أن العتبار إنا هو بالسواد العظم من العلماء العتب اجتهادهم ،فمن شذ
عنهم فمات فميتته جاهلية ،وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لنم غي عارفي بالشريعة ،فل بد
من رجوعهم ف دينهم إل العلماء ،فإنم لو تالوا على مالفة العلماء فيما حدوا لم لكانوا هو
الغالب والسواد العظم ف ظاهر المر ،لقلة العلماء وكثرة الهال ،فل يقول أحد :إن اتباع
جاعة العوام هو الطلوب ،وإن العلماء هم الفارقون للجماعة والذمومون ف الديث .بل المر
بالعكس ،وأن العلماء هم السواد العظم وإن قلوا ،والعوام هو الفارقون للجماعة إن خالفوا ،فإن
وافقوا فهو الواجب عليهم .
ومن هنا لا سئل ابن البارك عن الماعة الذين يقتدى بم أجاب بأن قال :ابو بكر وعمر ـ قال ـ
فلم يزل يسب حت انتهى إل ممد بن ثابت والسي بن واقد ،قيل :فهؤلء ماتوا ! فمن الحياء
؟ قال :أبو حزة السكري وهو ممد بن ميمون الروزي ،فل يكن أن يعتب العوام ف هذه العان
بإطلق ،وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن متهد ل يكن اتباع العوام لمثالم ،ول عد سوادهم
أنه السواد العظم النبه عليه ف الديث الذي من خالفه فميتته جاهلية ،بل يتنل النقل عن
الجتهدين منلة وجود الجتهدين ،فالذي يلزم العوام مع وجود الجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان
الفروض الال عن الجتهد .
وأيضا ،فاتباع نظر من ل نظر له واجتهاد من ل اجتهاد له مض ضللة ،ورمي ف عماية ،وهو
مقتضى الديث الصحيح :
"إن ال ل يقبض العلم انتزاعا" الديث
روى أبو نعيم عن ممد بن القاسم الطوسي قال :سعت إسحاق بن راهوية وذكر ف حديث رفعه
إل النب صلى ال عليه وسلم قال :
337
الشاطبي كتاب العتصام
"إن ال ل يكن ليجمع أمة ممد على ضللة ،فإذا رأيتم الختلف فعليكم بالسواد العظم" ،فقال
رجل يا ابا يعقوب ! من السواد العظم ؟ فقال ممد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ،ث قال :سأل
رجل ابن البارك :من السواد العظم ؟ قال :أبو حزة السكري ،ث قال إسحاق :ف ذلك الزمان
( يعن أبا حزة ) وف زماننا ممد بن أسلم ،ومن تبعه ،ث قال إسحاق :لو سألت الهال عن
السواد العظم لقالوا :جاعة الناس .ول يعلمون أن الماعة عال متمسك بأثر النب صلى ال عليه
وسلم وطريقه ،فمن كان معه وتبعه فهو الماعة ،ث قال إسحاق :ل أسع عالا منذ خسي سنة
كان أشد تسكا بأثر النب صلى ال عليه وسلم من ممد بن أسلم .
فانظر ف حكايته تتبي غلط من ظن أن الماعة هي جاعة الناس وإن ل يكن فيهم عال ،وهو وهم
العوام ،ل فهم العلماء .فليثبت الوفق ف هذه الزلة قدمه لئل يضل عن سواء السبيل ،ول توفيق إل
بال .
السألة الثامنة عشرة ف بيان معن قوله صلى ال عليه وسلم :وإنه سيخرج ف أمت أقوام تارى
بم تلك الهواء ما يتجارى الكلب بصاحبه
ف بيان معن رواية أب داود وهي قوله عليه الصلة والسلم " :وإنه سيخرج ف أمت أقوام تارى بم
تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ،ل يبقى منه عرق ول مفصل إل دخله" .
وذلك أن معن هذه الرواية أنه عليه الصلة والسلم أخب با سيكون ف أمته من هذه الهواء الت
افترقوا فيها إل تلك الفرق ،وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الهواء قلوبم حت ل يكن ف العادة
انفصالا عنها وتوبتهم منها ،على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فل يبقى من ذلك السم
جزء من أجزائه ول مفصل ول غيها إل دخله ذلك الداء ،وهو جريان ل يقبل العلج ول ينفع فيه
الدواء ،فكذلك صاحب الوى إذا دخل قلبه ،وأشرب حبه ،ل تعمل فيه الوعظة ول يقبل البهان
،ول يكترث بن خالفه .واعتب ذلك بالتقدمي من أهل الهواء كمعبد الهن وعمرو بن عبيد
وسواها ،فإنم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة ،مجوبي عن كل لسان ،مبعدين عند
كل مسلم ،ث مع ذلك ل يزدادوا إل تاديا على ضللم ،ومداومة على ما هم عليه "ومن يرد ال
فتنته فلن تلك له من ال شيئا" .
وحاصل ما عولوا عليه تكيم العقول مردة ،فشركوها مع الشرع ف التحسي والتقبيح .ث قصروا
أفعال ال على ما ظهر لم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا :يب على ال كذا ول يوز أن يفعل
كذا .فجعلوه مكوما عليه كسائر الكلفي .ومنهم من ل يبلغ هذا القدار ،بل استحسن شيئا
يفعله واستقبح آخر وألقها بالشروعات ،ولكن الميع بقوا على تكيم العقول ،ولو وقفوا هنالك
لكانت الداهية على عظمتها أيسر ،ولكنهم تاوزوا هذه الدود كلها إل أن نصبوا الحاربة ل
338
الشاطبي كتاب العتصام
ورسوله ،باعتراضهم على كتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم ،وادعائهم عليهما من التناقض
والختلف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل .
قال العتب :وقد اعترض على كتاب ال تعال بالطعن ملحدون ،ولغوا وهجروا ،واتبعوا ما
تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ،بأفهام كليلة ،وأبصار عليلة ،ونظر مدخول ،فحرفوا الكلم
عن مواضعه ،وعدلوا به عن سبيله ،ث قضوا عليه بالتناقض والستحالة واللحن ،وفساد النظم
والختلف ،وادلوا بذلك بعلل ربا أمالت الضعيف الغمر ،والديث الغر ،واعترضت بالشبهة ف
القلوب ،وقدحت بالشكوك ف الصدور ،قال :ولو كان ما لنوا إليه ،على تقريرهم وتأويلهم
لسبق إل الطعن فيه من ل يزل رسول ال صلى ال عليه وسلم يتج بالقرآن عليهم ،ويعله علم
نبوته ،والدليل على صدقه ،ويتحداهم ف مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله ،وهم الفصحاء
والبلغاء ،والطباء والشعراء ،والخصوصون من بي جيع النام ،وباللسنة الداد واللدد ف
الصام ،مع اللب والنهى وأصالة الرأي .فقد وصفهم ال بذلك ف غي موضع من الكتاب .وكانوا
يقولون مرة :هو سحر .ومرة :هو شعر .ومرة :هو قول الكهنة .ومرة :اساطي الولي .ول
يك ال عنهم العتراض على الحاديث ودعوى التناقض والختلف فيها ،وحكى عنهم ،لجل
ذلك القدح ف خي أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي ال عنهم ،واتبعوهم بالدس قالوا ما
شان ،أو جروا ف الطعن على الديث جري من ل يرى عليه متسبا ف الدنيا ول ماسبا ف الخرة
.
وقد بسط الكلم ف الرد عليهم والواب عما اعترضوا فيه أبو ممد بن قتيبة ف كتابي صنفهما لذا
العن ،وها من ماسن كتبه رحه ال .ول أرو قط تلك العتراضات تعزيزا للمعترض فيه ،ل أعن
بردها لن غيي ـ والمد ل ـ قد ترد له ،ولكن أردت بالكاية عنهم على الملة بيان معن
قوله " :تارى بم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه" وقبل وبعد فأهل الهواء إذا
استحكمت فيهم أهواؤهم ل يبالوا بشيء ،ول يعدوا خلف أنظارهم شيئا ،ول راجعوا عقولم
مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف ف موارد الشكال ( وهو شأن العتبين من أهل العقول ) وهؤلء
صنف من أصناف من اتبع هواه ،ول يعبأ بعذل العاذل فيه ،ث أصناف أخر تمعهم مع هؤلء
إشراب الوى ف قلوبم ،حت ل يبالوا بغي ما هو عليه .
فإذا تقرر معن الرواية بالتمثيل ،صرنا منه إل معن آخر ،وهي :
السألة التاسعة عشرة أن قوله :تتجارى بم تلك الهواء فيه الشارة بـ تلك فل تكون
إشارة إل غي مذكور ،ول مال با
339
الشاطبي كتاب العتصام
إن قوله " :تتجارى بم تلك الهواء" فيه الشارة بـ تلك فل تكون إشارة إل غي مذكور ،ول
مالً با على غي معلوم ،بل ل بد لا من متقدم ترجع إليه ،وليس إل الحوال الت كانت السبب
ف الفتراق ،فجاءت الزيادة ف الديث مبينة أنا الهواء ،وذلك قوله " :تتجارى بم تلك الهواء"
فدل على أن كل خارج عما هو عليه واصحابه إنا خرج باتباع الوى عن الشرع وقد مر بيان هذا
قبل فل نعيده .
السألة العشرون أن قوله عليه الصلة والسلم :أنه سيخرج من أمت أقوام على وصف كذا ،
يتمل أمرين أحدها :من يري فيه هواه مرى الكلب بصاحبه فل يرجع عنه .والثان :من يكون
عند دخوله ف البدعة مشرب القلب با
إن قوله عليه الصلة والسلم " :وأنه سيخرج ف أمت أقوام على وصف كذا" ،يتمل أمرين :
أحدها :أن يريد أن كل من دخل من أمته ف هوى من تلك الهواء ورآها وذهب إليها ،فإن هواه
يري فيه مرى الكلب بصاحبه فل يرجع أبدا عن هواه ول يتوب من بدعته .
والثان :أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله ف البدعة مشرب القلب با فل يكنه التوبة ومنهم
من ل يكون كذلك ،فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها .
والذي يدل على صحة الول هو النقل القتضى الجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ،كقوله
عليه الصلة والسلم :
"يرقون من الدين ث ل يعودون حت يعود السهم على فوقه" وقوله " :إن ال حجر التوبة عن
صاحب البدعة" ،وما أشبه ذلك ،ويشهد له الواقع ،فإنه قلما تد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه
يرج عنها أو يتوب منها ،بل هو يزداد بضللتها بصية .
روي عن الشافعي أنه قال :مثل الذي ينظر ف الرأي ث يتوب منه مثل الجنون الذي عول حت
برىء ،فأعقل ما يكون قد هاج .
ويدل على صحة الثان أن ما تقدم من النقل ل يدل على أن ل توبة له أصلً ،لن العقل يوز ذلك
والشرع إن يشاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنا يعتب عاديا ،والعادة إنا تقتضي ف العموم
الكثرية ،ل نتاج الشمول الذي يزم به العقل إل بكم التفاق ،وهذا مبي ف الصول .
والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملً ببدع ث تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ،كما
رجع من الوارج من رجع حي ناظرهم ابن عباس رضي ال عنهما ،وكما رجع الهتدي والواثق
وغيهم من كان قد خرج عن السنة ث رجع إليها ،وإذا جعل تصيص بفرد ل يبق الفظ عاما
وحصل النقسام .
340
الشاطبي كتاب العتصام
وهذا الثان هو الظاهر ،لن الديث أعطى أوله أن المة تفترق ذلك الفتراق من غي إشعار
بإشراف أو عدمه ،ث بي أن ف أمته الفترقي عن الماعة من يشرب تلك الهواء ،فدل أن فيهم
من ل يشربا ،وإن كان من أهلها ،ويبعد أن يريد أن ف مطلق المة من يشرب تلك الهواء ،إذ
كان يكون ف الكلم نوع من التداخل الذي ل فائدة فيه ،فإذا بي أن العن أنه يرج ف المة
الفترقة بسبب الوى من يتجارى به ذلك الوى استقام الكلم واتسق ،وعند ذلك يتصور النقسام
.وذلك بأن يكون ف الفرقة من يتجارى به الوى كتجارى الكلب ،ومن ل يتجارى به ذلك
القدار ،لنه يصح أن يتلف التجاري ،فمنه ما يكون ف الغاية حت يرج إل الكفر أو يكاد ،ومنه
ما ل يكون كذلك .
فمن القسم الول من ل ترجى توبته الوارج ،ومن القسم الثان من ترجى توبته أهل التقبيح
والتحسي على الملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع
فمن القسم الول الوارج بشهادة الصادق الصدوق رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال :
"يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ،ومنه هؤلء الذين أعرقوا ف البدعة حت اعترضوا
على كتاب ال وسنة نبيه ،وهم بالتكفي أحق من غيهم من ل يبلغ مبلغهم .
ومن القسم الثان أهل التحسي والتقبيح على الملة ،إذا ل يؤدهم عقلهم إل ما تقدم .
ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك .وذلك أنه يقول :
من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فل يلو صاحبها من تاريها ف قلبه وإشرابا له ،لكن
على قدرها ،وبذلك أيضا تدخل تت ما تقدم من الدلة على أن ل توبة له ،لكن التجاري الشبه
بالكلب ل يبلغه كل صاحب بدعة ،إل أنه يبقى وجه التفرقة بي من أشرب قلبه بدعة من البدع
ذلك الشراب ،وبي من ل يبلغ من هو معدود ف الفرق ،فإن الميع متصفون بوصف الفرقة الت
هي نتيجة العداوة والبغضاء .
وسبب التفريق بينهما ـ وال أعلم ـ أمران :إما أن يقال :إن الذي أشربا من شأنه أن يدعو إل
بدعته فيظهر بسببها العاداة ،والذي ل يشربا ل يدعو إليها ول ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن
الول ل يدع إليها إل وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بيث يطرح ما سواها ف جنبها ،حت
صار ذا بصية فيها ل ينثن عنها ،وقد أعمت بصره وأصمت سعه واستولت على كليته وهي غاية
الحبة .ومن أحب شيئا من هذا النوع من الحبة وإل بسببه وعادى ،ول يبال با لقي ف طريقه ،
بلف من ل يبلغ ذلك البلغ ،فإنا هي عنده بنلة مسألة علمية حصلها ،ونكته اهتدى إليها فهي
مدخرة ف خزانة حفظه يكم با على من وافق وخالف ،لكن بيث يقدر على إمساك نفسه عن
الظهار مافة النكال ،والقيام عليه بأنواع الضرار ،ومعلوم أن كل من داهن على نفسه ف شيء
341
الشاطبي كتاب العتصام
وهو قادر على إظهاره ل يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الستيلء ،فكذلك البدعة إذا استخفى با
صاحبها .
وإما أن يقال :إن من أشربا ناصب عليها بالدعوة القترنة بالروج عن الماعة والسواد العظم ،
وهي الاصية الت ظهرت ف الوارج وسائر من كان على رأيهم .
ومثل ما حكى ابن العرب ف العواصم قال :أخبن جاعة من أهل السنة بدينة السلم :أنه ورد
با الستاذ ابو القاسم عبد الكري بن هوران القشيي الصوف من نيسابور فعقد ملسا للذكر ،
وحضر فيه كافة اللق ،وقرأ القارىء " :الرحن على العرش استوى" قال ل أخصهم :من أنت ـ
يعن النابلة ـ يقومون ف أثناء الجلس ويقولون قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ،وثار إليهم أهل
السنة من أصحاب القشيي ومن أهل الضرة ،وتثاور الفئتان وغلبت العامة ،فاحجروهم إل
مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب ،فمات منهم قوم ،وركب زعيم الكفاة وبعض
الدادية فسكنوا ثورانم .
فهذا أيضا من أشرب قلبه حب البدعة حت أداه ذلك إل القتل ،فكل من بلغ هذا البلغ حقيق أن
يوصف بالوصف الذي وصف به رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وإن بلغ من ذلك الرب .
وكذلك هؤلء الذين داخلوا اللوك فأدلوا إليهم بالجة الواهية ،وصغروا ف أنفسهم حلة السنة
وحاة اللة ،حت وقفوهم مواقف البلوى ،وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ،وانتهى بأقوام إل القتل
،حسبما وقعت الحنة به زمان بشر الريسي ف حضرة الأمون وابن أب داؤد وغيها .
فإن ل تبلغ البدعة بصاحبها هذه الناصبة فهو غي مشرب حبها ف قلبه كالثال ف الديث ،وكم من
أهل بدعة ل يقوموا ببدعتهم قيام الوارج وغيهم ،بل استتروا با جدا ،ول يتعرضوا للدعاء إلبها
جهارا ،كما فعل غيهم ،ومنهم من يعد ف العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتم با
انتحلوه .
فهذا الوجه يظهر أنه أول الوجوه بالصواب ،وبال التوفيق .
السألة الادية والعشرون إن هذا الشراب الشار إليه هل يتص ببعض البدع دون بعض أم ل
يتص ؟
إن هذا الشراب الشار إليه هل يتص ببعض البدع دون بعض أم ل يتص ؟ وذلك أنه يكن أن
بعض البدع من شأنا أن تشرب قلب صاحبها جدا ،ومنها ما ل يكون كذلك ،فالبدعة الفلنية
مثلً من شأنا أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلنية ليست كذلك ،
فبدعة الوارج مثلً ف طرف الشراب كبدعة النكرين للقياس ف الفروع اللتزمي الظاهر ف الطرف
الخر ،ويكن أن يتجارى ذلك ف كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تارت به كما
342
الشاطبي كتاب العتصام
يتجارى الكلب بصاحبه ،كعمرو بن عبيد ،حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة
"تبت يدا أب لب " وقوله تعال " :ذرن ومن خلقت وحيدا" ومنهم من ل يبلغ به الال إل هذا
النحو كجملة من علماء السلمي ،كالفارسي النحوي وابن جن .
والثان :بدعة الظاهرية فإنا تارت بقوم حت قالوا عند ذكر قوله تعال " :على العرش استوى" قاعد
! قاعد! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ،ول يبلغ بقوم آخرين ذلك القدار ،كداود بن علي ف الفروع
وأشباهه .
والثالث :بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على اليئة الجتماعية ،فإنا بلغت بأصحابا إل أن
كان الترك لا موجبا للقتل عنده ،فحكى القاضي أبو الطاب بن خليل حكاية عن أب عبد ال بن
ل من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطو وبسط ماهد العابد :أن رج ً
اليد ـ نزل ف جوار ابن ماهد وصلى ف مسجده الذي كان يؤم فيه ،وكان ل يدعو ف أخريات
الصلوات تصميما ف ذلك على الذهب ( يعن مذهب مالك ) لنه مكروه ف مذهبه .وكان ابن
ماهد مافظا عليه .فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء .وأمره أن يدعو فأب ،وبقي على عادته ف
تركه ف أعقاب الصلوات ،فلما كان ف بعض الليال صلى ذلك الرجل العتمة ف السجد ،فلما
انقضت وخرج ذلك الرجل إل داره قال لن حضره من أهل السجد :قد قلنا لذا الرجل يدعو إثر
الصلوات فأب ،فإذا كان ف غدوة غد أضرب رقبته بذا السيف وأشار ف يده فخافوا على ابن
ماهد من قوله لا علموا منه ،فرجعت الماعة بملتها إل دار ابن ماهد ،فخرج إليهم وقال :ما
شأنكم ؟ فقال لم :وال لقد خفنا من هذا الرجل ،وقد اشتد الن غضبه عليك ف تركك الدعاء .
فقال لم :ل أخرج عن عادت ،فأخبوه بالقصة .فقال لم ـ وهو مبتسم ـ :انصرفوا ول تافوا
فهو الذي تضرب رقبته ف غدوة غد بذلك السيف بول ال ،ودخل داره ،وانصرفت الماعة على
ذعر من قول ذلك الرجل .فلما كان مع الصبح وصل إل دار الرجل قوم من أهل السجد ومن علم
حال البارحة حت وصلوا إليه إل دار المامة بباب جوهر من أشبيلية ،وهناك أمر بضرب رقبته
بسيفه ،فكان ذلك تقيقا للجابة وإثباتا للكرامة .
وقد روى بعض الشبيليي الكاية بعن هذه لكن على نو آخر .
ولا رد ولد ابن الصقر على الطيب ف خطبته وذلك حي فاه باسم الهدي وعصمته ،اراد الرتضى
من ذرية عبد الؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله ،فاب الشياخ والوزراء من فرقة
الوحدين إل قتله ،فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيه .فتختل عليهم القاعدة الت بنوا
دينهم عليها .
وقد ل تبلغ البدعة ف الشراب ذلك القدار فل يتفق اللف فيها با يؤدي إل مثل ذلك .
343
الشاطبي كتاب العتصام
فهذه المثلة بينت بالواقع مراد الديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النب صلى ال عليه وسلم
إنا تكون ابتناء على وفق مبه من غي تلف البتة .
ويشهد لذا التفسي استقراء أحوال اللق من انقسامها إل العلى والدن والوسط ،كالعلم والهل
،والشجاعة والب ،والعدل والور ،والود والبخل ،والغن والفقر ،والعز والذل ،غي ذلك من
الحوال والوصاف فإنا تتردد ما بي الطرفي :فعال ف أعلى درجات العلم ،وآخر ف أدن
درجاته وجاهل كذلك ،وشجاع كذلك ،إل سائرها .
فكذلك سقوط البدع بالنفوس ،إل أن ف ذكر النب صلى ال عليه وسلم لا فائدة أخرى ،وهي
التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابا وهي :
السألة الثانية والعشرون أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع
وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ،فإن أصل الكلب واقع بالكلب .ث إذا عض ذلك
الكلب أحدا صار مثله ول يقدر على النفصال منه ف الغالب إل باللكة ،فكذلك البتدع إذا أورد
على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته ،بل إما أن يقع معه ف مذهبه ويصي من شيعته ،وإما
أن يثبت ف قلبه شكا يطمع ف النفصال عنه فل يقدر .
هذا بلف سائر العاصي فإن صاحبها ل يضاره ول يدخله فيها غالبا إل مع طول الصحبة والنس
به ،والعتياد لضور معصيته .وقد أتى ف الثار ما يدل على هذا العن .فإن السلف الصال نوا
عن مالستهم ومكالتهم وكلم مكالهم ،وأغلظوا ف ذلك ،وقد تقدم منه ف الباب الثان آثار جة
.
ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال :من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مالطة الشيطان ومالسة
أصحاب الهواء فإن مالستهم ألصق من الرب .
وعن حيد العرج قال :قدم غيلن مكة ياور با ،فأتى غيلن ماهدا فقال :يا أبا الجاج ،
بلغن أنك تنهى الناس عن وتذكرن ،وأنه بلغك عن شيء ل أقوله ؟ إنا أقول كذا ،فجاء بشيء ل
ينكر ،فلما قام قال ماهد :ل تالسوه فإنه قدري .قال حيد :فإن لا كنت ذات يوم ف الطواف
لقن غيلن من خلفي يذب ردائي ،فالتفت فقال :كيف يقول ماهد خرفا كذا وكذا
فأخبته ،فمشى معي ،فبصر ب ماهد معه ،فأتيته فجعلت أكلمه فل يرد علي ،وأسأله فل ييبن
ـ فقال ـ فغدوت إليه فوجدته على تلك الال ،فقلت :يا أبا الجاج ! أبلغك عن شيء ؟ ما
أحدثت حدثا ،ما ل ! قال :أل أرك مع غيلن وقد نيتكم أن تكلموه أو تالسوه ؟ قال ،قلت :
يا با الجاج ما أنكرت قولك ،وما بدأته ،وهو بدأن .قال :وال يا حيد لول أنك عندي مصدق
ما نظرت ل ف وجه منبسط ما عشت ،ولئن عدت ل تنظر ل ف وجه منبسط ما عشت .
344
الشاطبي كتاب العتصام
وعن أيوب قال :كنت يوما عند ممد بن سيين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع
ممد يده ف بطنه وقام ،فقلت لعمرو :انطلق بنا ـ قال ـ فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت
فقلت :يا أبا بكر ؟ قد فطنت إل ما صنعت .قال :أقد فطنت ؟ قلت :نعم ! قال :أما إنه ل
يكن ليضمن معه سقف بيت .
وعن بعضهم قال :كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآن ابن عون فأعرض عن .وقيل :دخل ابن
عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لا رآه ،وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ـ فمكثت
هنيهة ث قال ابن عون :ب استحل أن دخل داري بغي إذن ؟ ـ مرارا يرددها ـ أما إنه لو تكلم
...
وعن مؤمل بن إساعيل ،أنه قال :قال بعض أصحابنا لـحماد بن زيد :ما لك ل ترو عن عبد
الكري إل حديثا واحدا ؟ قال :ما أتيته إل مرة واحدة لساقة ف هذا الديث ،وما أحب أن أيوب
علم بإتيان إليه وأن ل كذا وكذا ،وإن لظنه لو علم لكانت الفصيلة بين وبينه .
وعن إبراهيم ،أنه قال لـ ممد بن السائب :ل تقربنا ما دمت على رأيك هذا .وكان مرجئا .
وعن حاد بن زيد قال :لقين سعيد بن جبي فقال :أل أرك مع طلق ؟ قلت :بلى ! فما له ؟
قال :ل تالسه فإنه مرجىء .
وعن ممد بن واسع قال :رأيت صفوان بن مرز وقريب منه شيبة ،فرآها يتجادلن ،فرأيته
قائما ينفض ثيابه ويقول :إنا أنتم جرب .
وعن أيوب قال :دخل رجل على ابن سيين فقال :يا أبا بكر ! اقرأ عليك آية من كتاب ال ل
أزيد أن أقرأها ث أخرج ؟ فوضع إصبعيه ف أذنيه ث قال :أعزم عليك إن كنت مسلما إل خرجت
من بيت ـ قال ـ فقال ـ يا أبا بكر ! ل أزيد على أن أقرأ ( آية ) ث أخرج .فقام لزاره يشده
وتيأ للقيام فأقبلنا على الرجل ،فقلنا :قد عزم عليك إل خرجت ،أفيحل لك أن ترج رجلً من
بيته ؟ قال :فخرج ،فقلنا :يا أبا بكر ! ما عليك لو قرأ آية ث خرج ؟ قال :إن وال لو ظننت أن
قلب يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ،ولكن خفت أن يلقى ف قلب شيئا أجهد ف إخراجه
من قلب فل أستطيع .
وعن الوزاعي قال :ل تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته .
فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الديث إليه إن كان مقصودا وال أعلم .تأثي كلم
صاحب البدعة ف القلوب معلوم .وث معن آخر قد يكون من فوائد تنبيه الديث بثال داء الكلب
وهي :
345
الشاطبي كتاب العتصام
السألة الثالثة والعشرون التنبيه على السبب ف بعد صاحب البدعة عن التوبة
وهو التنبيه على السبب ف بعد صاحب البدعة عن التوبة ،إذ كان مثل العاصي الواقعة بأعمال العباد
قولً أو فعلً أو اعتقادا ،كمثل المراض النازلة بسمه أو روحه ،فأدوية المراض البدنية معلومة ،
وأدوية المراض العملية التوبة والعمال الصالة ،وكما أن من المراض البدنية ما يكن فيه التداوي
،ومنه ما ل يكن فيه التداوي أو يعسر ،كذلك الكلب الذي ف أمراض العمال ،فمنها ما يكن
فيه التوبة عادة ،ومنها ما ل يكن .
فالعاصي كلها ـ غي البدع ـ يكن فيه التوبة من أعلها ،وهي الكبائر ـ إل أدناها ـ وهي
اللمم ـ والبدع أخبنا فيها إخبارين كلها يفيد أن ل توبة منها .
الخبار الول :ما تقدم ف ذم البدع من أن البتدع ل توبة له ،من غي تصيص .
والخر :ما نن ف تفسيه ،وهو تشبيه البدع با ل نح فيه من المراض كالكلب ،فأفاد أن ل
نح من ذنب البدع ف الملة من غي اقتضاء عموم ،بل اقتضى أن عدم التوبة مصوص بن تارى
به الوى كما يتجارى الكلب بصاحبه ،وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الوى على ذلك
الوجه وتبي الشاهد عليه ،ونشأ من ذلك معن زائد هو من فوائد الديث ،وهي :
السألة الرابعة والعشرون أن من تلك الفرق من ل يشرب هوى البدعة ذلك الشراب
وهو أن من تلك الفرق من ل يشرب هوى البدعة ذلك الشراب ،فإذا يكن فيه التوبة ،وإذا أمكن
ف أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم ،وهم أهل البدع الزئية .
فإما أن يرجح ما تقدم من الخبار على هذا الديث ،لن هذه الرواية ف إسنادها شيء ،وأعلى ما
يرى ف السان ،وف الحاديث الخر ما هو صحيح ،كقوله :
"يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية ث ل يعودون كما يعود السهم على فوقه" وما أشبه .
وأما أن يمع بينهما ،فتجعل النقل الول عمدة ف عموم قبول التوبة ،ويكون هذا الخبار أمرا
زائدا على ذلك ،إذ ل يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الوى ،وغلبة الوى للنسان ف
الشيء الفعول أو التروك له أبدا أثر فيه ،والبدع كلها تصاحب الوى ،ولذلك سي أصحابا أهل
الهواء ،فوقعت التسمية با ،وهو الغالب عليهم ،إذ يصاحبه دليل شرعي إنا نشأ عن الوى مع
شبهة دليل ،ل عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي ف الظاهر ،فكان أجرى ف
البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبه ،ث إنه يتفاوت ،إذ ليس ف رتبة واحدة ولكنه تشريع
كله ،واستحق صاحبه أن ل توبة له ،عافانا ال من النار بفضله ومنه .
346
الشاطبي كتاب العتصام
وإما أن يعمل هذا الديث مع الحاديث الول ـ على فرض العمل به ـ ونقول :إن ما تقدم من
الخبار عامة ،وهذا يفيد الصوص كما تفيده ،أو يفيد معن يفهم منه الصوص ،وهو الشراب
ف أعلى الراتب مسوقا مساق التبغيض ،لقوله :
"وإنه سيخرج ف أمت أقوام" إل آخره ،فدل أن ث أقواما أخر ل تتجارى بم تلك الهواء على ما
قال ،بل هي أدن من ذلك ،وقد ل تتجارى بم ذلك .
وهذا التفسي بسب ما أعطاه الوضع ،وتام السألة قد مر ف الباب الثان والمد ل .لكن على
وجه ل يكون ف الحاديث كلها تصيص ،وبال التوفيق .
السألة الامسة والعشرون أنه جاء ف بعض روايات الديث :أعظمها فتنة الذين يقيسون المور
برأيهم
أنه جاء ف بعض روايات الديث :
"أعظمها فتنة الذين يقيسون المور برأيهم ،فيحلون الرام ويرمون اللل" فجعل أعظم تلك
الفرق فتنة على المة أهل القياس ،ول كل قياس ،بل القياس على غي أصل ،فإن أهل القياس
متفقون على أنه على غي أصل يصح ،وإنا يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجاع
معتب ،فإذا ل يكن للقياس أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي ل يصح أن يوضع ف الدين ـ
فإنه يؤدي إل مالفة الشرع وأن يصي اللل بالشرع حراما بذلك القياس ،والرام حللً ،فإن
الرأي من حيث هو رأي ل ينضبط إل قانون شرعي إذا ل يكن له أصل شرعي فإن العقول
تستحسن ما ل يستحسن شرعا ،وتستقبح ما ل يستقبح شرعا .وإذا كان كذلك صار القياس على
غي أصل فتن ًة على الناس .
ث أخب ف الديث أن العلمي لذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق ،واشد فتنة .وبيانه
أن مذاهب أهل الهواء قد اشتهرت الحاديث الت تردها واستفاضت ،وأهل الهواء مقموعون ف
المر الغالب عند الاصة والعامة ،بلف الفتيا ،فإن أدلتها من الكتاب والسنة ل يعرفها إل
الفراد ،ول ييز ضعيفها من قويها إل الاصة ،وقد ينتصب للفتيا والقضاء من يالفها كثي .
347
الشاطبي كتاب العتصام
القياس الادم للسلم ما عارض الكتاب والسنة وبيان ما عليه سلف المة
ومعلوم أن هذه الثار الذامة للرأي ل يكن أن يكون القصود با ذم الجتهاد على الصول ف نازلة
ل توجد ف كتاب ول سنة ول إجاع ،من يعرف الشباه والنظائر ،ويفهم معان الحكام فيقيس
قياس تشبيه وتعليل ،قياسا ل يعارضه ما هو أول منه ،فإن هذا ليس فيه تليل وتري ول العكس ،
وإنا القياس الادم ما عارض الكتاب والسنة ،أو ما عليه سلف المة ،أو معانيها العتبة .
مالفة الصول ف الفتاء قسمان أحدها مالفة أصل من غي استمساك بأصل آخر
ث إن مالفة هذه الصول على قسمي :
أحدها :أن يالف أصلً مالفة ظاهرة من غي استمساك بأصل آخر ،فهذا ل يقع من مفت مشهور
إل إذا كان الصل ل يبلغه ،كما وقع لكثي من الئمة حيث ل يبلغهم بعض السنن فخالفوها
خطأ ،وأما الصول الشهورة فل يالفها مسلم خلفا ظاهرا من غي معارضة بأصل آخر ،فضلً
عن أن يالفها بعض الشهورين بالفتيا .
348
الشاطبي كتاب العتصام
فظهر أن الراد إنا هو استحلل الحرمات الظاهرة أو العلومة عنده بنوع تأويل ،وهذا بي ف
البتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته ،وتواطأت على معناه شواهده ،
وأخذوا ف اتباع بعض التشابات وترك أم الكتاب .
فإذا هذا ـ كما قا ل ال تعال ـ زيغ وميل عن الصراط الستقيم ،فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى
بم بأقوالم وأعمالم سكنت إليهم الدهاء ظنا أنم بالغوا لم ف الحتياط على الدين ،وهم يضلون
بغي علم ،ول شيء أعظم على النسان من داهية تقع به من حيث ل يتسب ،فإنه لو علم طريقها
لتوقاها ما استطاع ،فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به ،وهو ظاهر ،
فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا ،لنه يستند ف دينه إل من ظهر ف رتبة أهل
العلم ،فيضل من حيث يطلب الداية :اللهم "اهدنا الصراط الستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم
".
السألة السادسة والعشرون أن ههنا نظرا لفظيا ف الديث هو من تام الكلم فيه الخبار بالعن
عن الثة وبالصفة عن الوصوف
إن ها هنا نظرا لفظيا ف الديث هو من تام الكلم فيه ،وذلك أنه لا أخب عليه الصلة والسلم أن
جيع الفرق ف النار إل فرقة واحدة ،وهي الماعة الفسرة ف الديث الخر ،فجاء ف الرواية
الخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيي ـ فقالوا :من هي يا رسول ال ؟ فأصل الواب أن يقال :
أنا وأصحاب ،ومن عمل مثل عملنا .أو ما اشبه ذلك ما يعطي تعيي الفرقة ،إما بالشارة أو
بوصف من أوصافها .إل أن ذلك ل يقع ،وإنا وقع ف الواب تعيي الوصف ل تعيي الوصوف ،
فلذلك أتى با أتى ،فظاهرها الوقوع على غي العاقل من الوصاف وغيها ،والراد هنا الوصاف
الت هو عليها صلى ال عليه وسلم وأصحابه رضي ال عنهم ،فلم يطابق السؤال الواب ف اللفظ .
والعذر عن هذا أن العرب ل تلتزم ذلك النوع إذا فهم العن ،لنم لا سألوا عن تعيي الفرقة الناجية
بي لم الوصف الذي به صارت ناجية ،فقال " :ما أنا عليه واصحاب" .
وما جاء غي مطابق ف الظاهر وهو ف العن مطابق قول ال تعال " :قل أؤنبئكم بي من ذلكم" ؟
فإن هذا الكلم معناه :هل أخبكم با هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل :نعم ! أخبنا ،فقال
ال تعال " :للذين اتقوا عند ربم جنات تري من تتها النار" الية .أي للذين اتقوا استقر لم
"عند ربم جنات تري من تتها النار" .الية .فأعطى مضمون الكلم معن الواب على غي لفظه
.وهذا التقرير على قول جاعة من الفسرين .
349
الشاطبي كتاب العتصام
وقال تعال " :مثل النة الت وعد التقون فيها أنار " الية .فقوله :مثل النة يقتضي الثل ل
المثل ،كما قال تعال " :مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" ولنه كلما كان القصود المثل جاء به
بعينه .
ويكن أن يقال :أن النب صلى ال عليه وسلم لا ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ،كان الول
السؤال عن أعمال الفرقة الناجية ،ل عن نفس الفرقة .لن التعريف فيها من حيث هي ل فائدة فيه
إل من جهة أعمالا الت نت با .فالتقدم ف العتبار هو العمل ل العامل ،فلو سألوا :ما وصفها ؟
أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة ف اللفظ والعن ،فلما فهم عليه الصلة والسلم
منهم ما قصدوا أجابم على ذلك .
ونقول :لا تركوا السؤال عما كان الول ف حقهم ،أتى به جوابا عن سؤالم ،حرصا منه عليه
الصلة والسلم على تعليمهم ما ينبغي لم تعلمه والسؤال عنه .
ويكن أن يقال :إن ما سألوا عنه ل يتعي ،إذ ل تتص النجاة بن تقدم دون من تأخر ،إذ كانوا
قد اتصفوا بوصف التأخي .
ومن شأن هذا السؤال التعيي وعدم انصارهم بزمان أو مكان ل يقتضي التعيي ،وانصرف القصد
إل تعيي الوصف الضابط للجميع ،وهو ما كان عليه هو وأصحابه .
وهذا الواب بالنسبة إلينا كالبهم ،وهو بالنسبة إل السائل معي ،لن أعمالم كانت للحاضرين
معهم رأي عي ،فلم يتج إل أكثر من ذلك ،لنه غاية التعيي اللئق بن حضر ،فأما غيهم من
ل يشاهد أحوالم ول ينظر أعمالم فليس مثلهم ،ول يرج الواب بذلك عن التعيي القصود .وال
أعلم .انتهى .
الباب العاشر :ف بيان معن الصراط الستقيم الذي انرفت عنه سبل أهل البتداع فضلت عن
الدى بعد البيان هذا وجه أول
قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنا على الصراط الستقيم وأن ما سواها منحرف
عن الادة وراكب بنيات الطريق .فوقع بينهم الختلف إذا ف تعيينه وبيانه ،حت أشكلت السألة
على كل من نظر فيها ،حت قال من قال :كل متهد ف العقليات أو النقليات مصيب .فعدد
القوال ف تعيي هذا الطلب على عدد الفرق ،وذلك من أعظم الختلف ،إذ ل تكاد تد ف
الشريعة مسألة يتلف العلماء فيها على بضع وسبعي قولً إل هذه السألة فتحرير النظر حت تتضح
الفرقة الناجية الت كان عليه النب صلى ال عليه وسلم واصحابه من أغمض السائل .
ووجه ثان :أن الصراط الستقيم لو تعي لن بعد الصحابة ل يقع خلف
350
الشاطبي كتاب العتصام
ل ،لن
ووجه ثان :أن الصراط الستقيم لو تعي بالنسبة إل من بعد الصحابة ل يقع اختلف أص ً
الختلف مع تعيي مله مال ،والفرض أن اللف ليس بقصد العناد ،لنه على ذلك الوجه مرج
عن السلم ،وكلمنا ف الفرق .
ووجه رابع فهمنا من مقاصد الشرع الستر على هذه المة وكون تعيي الصراط الستقيم
بالجتهاد ل يقتضي التفاق
ووجه رابع :وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع ف الستر على هذه المة وإن حصل التعيي
بالجتهاد ،فالجتهاد ل يقتضي التفاق على مله .
أل ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين ل يكن التفاق عليهما عادة ؟ فلو تعينوا بالنص ل يبق
إشكال .بل أمر الوارج على ما كانوا عليه ،وإن كان النب صلى ال عليه وسلم قد عينهم وعي
علمتهم ف الخدج حيث قال " :آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي الرأة ،ومثل البضعة
تدردر" الديث .وهم الذين قاتلهم علي بن أب طالب رضي ال عنه ،إذ ل يرجعوا عما كانوا عليه
ول ينتهوا ،فما الظن بن ليس له ف القتل تعيي ؟
ووجه خامس ف قول ال تعال ولو شاء ربك لعل الناس أمة واحدة
351
الشاطبي كتاب العتصام
ووجه خامس :وهو ما تقدم تقريره ف قوله سبحانه وتعال " :ولو شاء ربك لعل الناس أم ًة واحدة
ول يزالون متلفي*إل من رحم ربك ولذلك خلقهم" الية ـ يشعر ف هذا الطلوب أن اللف ل
يرتفع ،مع ما يعضده من الديث الذي فرغنا من بيانه ،وهو حديث الفرق إذ الية ل تشعر
بصوص مواضع اللف ،لمكان أن يبقى اللف ف الديان دون دين السلم ،لكن الديث بي
أنه واقع ف المة أيضا ،فانتظمته الية بل إشكال
فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيي للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي ل ينقطع اللف فيه ،وإن
ادعي فيه القطع دون الظن فهو نظري ل ضروري ولكنا مع ذلك نسلك ف السألة ـ بول ال ـ
مسلكا وسطا يذعن إل قبوله عقل الوفق ويقر بصحنه العال بكليات الشريعة وجزئياتا ،وال الوفق
للصواب .فنقول :
ل بد من تقدي مقدمة قبل الشروع ف الطلوب ،وذلك أن الحداث ف الشريعة إنا يقع من جهة
الهل ،وإما من جهة تسي الظن بالعقل ،وإما من جهة اتباع الوى ف طلب الق ،وهذا الصر
بسب الستقراء من الكتاب والسنة ،وقد مر ف ذلك ما يؤخذ منه شواهد السألة ،إل أن الهات
الثلث قد تنفرد وقد تتمع ،فإذا اجتمعت فتارة تتمع منها اثنتان وتارة تتمع الثلث ،فأما جهة
الهل فتارة تتعلق بالدوات الت با تفهم القاصد ،وتارة تتعلق بالقاصد ،وأما جهة تسي الظن
فتارة يشرك ف التشريع مع الشرع ،وتارة يقدم عليه ،وهذان النوعان يرجعان إل نوع واحد ،وأما
جهة اتباع الوى ،فمن شأنه أن يغلب الفهم حت يغلب صاحبه الدلة أو يستند إل غي دليل ،
وهذان النوعان يرجعان إل نوع واحد ،فالميع أربعة أنواع :وهي الهل بأدوات الفهم والهل
بالقاصد ،وتسيم الظن بالعقل ،واتباع الوى .فلنتكلم على كل واحد منها وبال التوفيق .
النوع الول الهل بأدوات القاصد ن ال عز وجل أنزل القرآن عربيا ل يفهم إل من ألفاظ لغة
العرب وأساليبها
إن ال عز وجل أنزل القرآن عربيا ل عجمة فيه ،بعن أنه جاء ف ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان
العرب ،قال ال تعال " :إنا جعلناه قرآنا عربيا" وقال تعال " :قرآنا عربيا غي ذي عوج" وقال تعال
" :نزل به الروح المي * على قلبك لتكون من النذرين * بلسان عرب مبي" وكان النل عليه
القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو ممد بن عبد ال صلىال عليه وسلم ،وكان الذين بعث
فيهم عربا أيضا ،فجرى الطاب به على معتادهم ف لسانم ،فليس فيه شيء من اللفاظ والعان
إل وهو جار على ما اعتادوه ،ول يداخله شيء بل نفي عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعال
" :ولقد نعلم أنم يقولون إنا يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عرب مبي" .
وقال تعال ف موضع آخر " :ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لول فصلت آياته" .
352
الشاطبي كتاب العتصام
هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن ال جعل جيع المم وعامة اللسنة ف هذا المر تبعا للسان
العرب ،وإذا كان كذلك فل يفهم كتاب ال تعال إل من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار
ألفاظها ومعانيها وأساليبها .
353
الشاطبي كتاب العتصام
وقال تعال " :الذين قال لم الناس إن الناس قد جعوا لكم فاخشوهم" فالراد بالناس الثان الصوص
ل العموم .وإل فالجموع لم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا .لكن لفظ الناس يقع على ثلثة
منهم .وعلى جيع الناس ،وعلى ما بي ذلك .فيصح أن يقال :إن الناس قد جعوا لكم .والناس
الول القائلون كانوا أربعة نفر .
وقال تعال " :يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له" فالراد بالناس هنا الذين اتذوا من دون ال
إلا ،دون الطفال والجاني والؤمني .
وقال تعال " :واسألم عن القرية الت كانت حاضرة البحر" فظاهرا السؤال عن القرية نفسها ،
وسياق قوله تعال " :إذ يعدون ف السبت" إل آخر الية يدل على أن الراد أهلها لن القرية ل تعدو
ول تفسق .
وكذلك قوله تعلى " :وكم قصمنا من قرية كانت ظالة" الية ،فإنه لا قال كانت ظالة دل على
أن الراد أهلها .
وقال تعال " :واسأل القرية الت كنا فيها" الية ،فالعن بي أن الراد أهل القرية ،ول يتلف أهل
العلم باللسان ف ذلك ،لن القرية والعي ل يبان بصدقهم .
هذا كله معن تقرير الشافعي رحه ال ف هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالملة مبي أن القرآن
ل يفهم إل عليه ،وإنا أتى الشافعي بالنوع الغمض من طرائق العرب ،لن سائر أنواع التصرفات
العربية قد بسطها أهلها ،وهم أهل النحو والتصريف ،وأهل العان والبيان ،وأهل الشتقاق وشرح
مفردات اللغة ،وأهل الخبار النقولة عن العرب لقتضيات الحوال ،فجميعه نزل به القرآن .
ولذلك أطلق عليه عبارة العرب .
354
الشاطبي كتاب العتصام
ل يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث ل يعرفه غي ممودة ،وكان ف
تطئته غي معذور ،إذ نظر فيما ل ييط علمه بالفرق بي الصواب والطأ فيه .
وما قاله حق ،فإن القول ف القرآن والسنة بغي علم تكلف ـ وقد نينا عن التكلف ـ ودخول
تت معن الديث ،حيث قال عليه الصلة والسلم :
"حت إذا ل يبق عال اتذ الناس رؤساء جهالً" الديث ،لنم إذا ل يكن لم لسان عرب يرجعون
إليه ف كتاب ال وسنة نبيه رجع العجمي إل فهمه وعقله الجرد عن التمسك بدليل يضل عن
الادة .
وقد خرج ابن وهب عن السن أنه قيل له :أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم با لسانه ،ويصلح با
منطقه ؟ قال :نعم ! فليتعلمها ،فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك .
وعن السن قا ل :أهلكتهم العجمة ،يتأولون على غي تأويله .
المر الثان أنه إذا أشكل عليه ف الكتاب أو ف السنة لفظ فل يقدم على القول فيه دون أن
يستظهر بغيه من علماء العربية
والمر الثان :أنه إذا أشكل عليه ف الكتاب أو ف السنة لفظ أو معن فل يقدم على القول فيه دون أ
ن يستظهر بغيه من له علم بالعربية ،فقد يكون إماما فيها ،ولكنه يفى عليه المر ف بعض
الوقات .فالول ف حقه الحتياط ،إذ قد يذهب على العرب الحض بعض العان الاصة حت
يسأل عنها ...وقد نقل شيء من هذا ...عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيهم .
نقل عن ابن عباس رضي ال عنهما أنه قال :كنت ل أدري ما فاطر السموات وألرض حت أتان
أعرابيان يتصمان ف بئر .فقال أحدها :أنا فطرتا .أي أنا ابتدأتا .
وفيما يروى عن عمر رضي ال عنه أنه سأل وهو على النب عن معن قوله تعال " :أو يأخذهم على
توف" فأخبه رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثية .
كلم الشافعي ف فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب
قا ل الشافعي :لسان العرب أوسع اللسنة مذهبا ،وأكثرها ألفاظا .
قال :ول نعلمه ييط بميع علمه إنسان غي نب .ولكنه ل يذهب منه شيء على عامته حت ل
يكون موجودا فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم ل نعلم
ل جع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ،فإذا جع علم عامة أهل العلم با أتى على السنن ، رج ً
وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ،ث كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيه من
كان ف طبقته وأهل علمه قال :وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها ل يذهب منه شيء عليها
355
الشاطبي كتاب العتصام
ول يطلب عند غيها ،ول يعلمه إل من نقله عنها ،ول يشركها فيه إل من اتبعها ف تعلمه منها،
ومن قبله منها فهو من أهل لسانا،وإنا صار غيهم من غي أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله .
هذا ما قال ول يالف فيه أحد ،فإذا كان المر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر ف الكتاب
والسنة أن يتعلم الكلم الذي به أديت ،وأن ل يسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية
بأنه يستحق النظر ،وأن ل يستقل بنفسه ف السائل الشكلة الت ل يط با علمه دون أن يسأل عنها
من هو من أهلها ،فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء ل ـ موافقا لا كان عليه رسول ال
صلى ال عليه وسلم وأصحابه الكرام .
روي "عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما أنه قال :قلنا يا رسول ال .من خي الناس ؟ قال :ذو
القلب الخموم واللسان الصادق قلنا :قد عرفنا اللسان الصادق ،فما ذو القلب الخموم ؟ قال :هو
التقي النقي الذي ل إث فيه ول حسد ،قلنا فمن على أثره ؟ قال :الذي ينسى الدنيا ويب الخرة .
قلنا :ما نعرف هذا فينا إل رافعا مول رسول ال صلى ال عليه وسلم ،قلنا :فمن على أثره ؟ قال
:مؤمن ف خلق حسن ،قلنا :أما هذا فإنه فينا" .
ويروي " :أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاءه رجل فقال :يا رسول ال ! أيدالك الرجل امرأته
؟ قال :نعم إذا كان مفلجا فقال له أبو بكر رضي ال عنه :ما قلت وما قال لك يا رسول ال صلى
ال عليك وسلم ؟ فقال :قال :أياطل الرجل امرأته ؟ قلت :نعم إذا كان فقيا ،فقال أبو بكر :
ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول ال فقال :كيف ل وأنا من قريش ،وأرضعت ف بن
سعد؟" .
أمثلة لوقوع الطأ ف العربية ف كلم ال وسنة نبيه أحدها :قول جابر العفي ف قوله تعال :
فلن أبرح الرض حت يأذن ل أب
فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ،فالواجب السؤال كما سألوا
فيكون على ما كانوا عليه ،وإل زل فقال ف الشريعة برأيه ل بلسانا .
ولنذكر لذلك ستة أمثلة :
أحدها :قول جابر العفي ف قوله تعال " :فلن أبرح الرض حت يأذن ل أب" أن تأويل هذه الية ل
يىء بعد ـوكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ،فإنا تقول إن عليا ف السحاب فل يرج
مع من خرج من ولده حت ينادي علي من السماء :اخرجوا مع فلن فهذا معن قوله تعال" :فلن
أبرح الرض حت يأذن ل أب" الية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله :ل يىء بعد .
بل هذه الية كانت ف إخوة يوسف ،وقع ذلك ف مقدمة كتاب مسلم ،ومن كان ذا عقل فل
يرتاب ف أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان ،وأن ما قاله جابر ل ينساق .
356
الشاطبي كتاب العتصام
الرابع قول من قال :أن كل شيء فان حت ذات الباري ما عدا الوجه
والرابع :قول من قال :إن كل فان حت ذات ال ـ تعال عما يقولون علوا كبيا ـ ما عدا الوجه
بدليل "كل شيء هالك إل وجهه" وإنا الراد بالوجه هنا غي ما قال ،فإن للمفسرين فيه تأويلت
وقصد هذا القائل ما ل يتجه لغة ول معن .وأقرب قول لقصد هذا السكي أن يراد به ذو الوجه
كما تقول :فعلت هذا لوجه فلن :أي لفلن ،فكان معن الية :كل شيء هالك إل هو .وقوله
تعال " :إنا نطعمكم لوجه ال" ومثله قوله تعال " :كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو اللل
والكرام" .
الامس قول من زعم أن ل جنبا
والامس :قول من زعم أن ل سبحانه وتعال جنبا ،مستدلً بقوله " :أن تقول نفس يا حسرتى
على ما فرطت ف جنب ال" وهذا ل معن للجنب فيه ل حقيقة ول مازا ،لن العرب تقول :هذا
المر يصغر ف جنب هذا ،أي يصغر بالضافة إل آخر ،فكذلك الية معناها :يا حسرتا على
مافرطت ف جنب ال أي فيما بين وبي ال ،إذ أضفت تفريطي إل أمره ونيه إياي .
السادس قول من قال ف قوله صلى ال عليه وسلم ل تسبوا الدهر .أن فيه مذهب الدهرية
والسادس :قول من قال ف قول النب صلى ال عليه وسلم " :ل تسبوا الدهر فإن ال هو الدهر" إن
هذا الذي ف الديث هو مذهب الدهرية ،ول يعرف أن العن :ل تسبوا الدهر إذا أصابتكم
الصائب ،ول تنسبوها إليه ،فإن ال هو الذي أصابكم بذلك ل الدهر ،فإنكم إذا سببتم الدهر وقع
السب على الفاعل ل على الدهر ،لن العرب كان من عادتا ف الاهلية أن تنسب الفعال إل
357
الشاطبي كتاب العتصام
الدهر فتقول :أصابه الدهر ف ماله ،ونابته قوارع الدهر ومصائبه .فينسبون إل كل شيء تري به
أقدار ال تعال عليهم إل الدهر ،فيقولون :لعن ال الدهر ،وما ال الدهر .واشباه ذلك وإنا
يسبونه لجل الفعال النسوبة إليه ،فكأنم إنا سبوا الفاعل ،والفاعل هو ال وحده ،فكأنم يسبونه
سبحانه وتعال .
فقد ظهر بذه المثلة كيف يقع الطأ ف العربية ف كلم ال سبحانه وتعال وسنة نبيه صلى ال عليه
وسلم ،وأن ذلك يؤدي إل تريف الكلم عن مواضعه ،والصحابة رضوان ال عليهم برآء من ذلك
.لنم عرب ل يتاجوا ف فهم كلم ال تعال إل أدوات ول تعلم ،ث من جاء بعدهم من ليس
بعرب اللسان تكلف ذلك حت علمه ،وحينئذ داخل القوم ف فهم الشريعة وتنيلها على ما ينبغي
فيها كسلمان الفارسي وغيه ،فكل من اقتدى بم ف تنيل الكتاب والسنة على العربية ـ إن أراد
أن يكون من أهل الجتهاد فهو ـ إن شاء ال ـ داخل ف سوادهم العظم ،كائن على ما كانوا
عليه ،فانتظم ف سلك الناجية .
النوع الثان الهل بالقاصدأن ال تعال أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء
أن ال تعال أنزل الشريعة على رسوله صلى ال عليه وسلم فيها تبيان كل شيء يتاج إليه اللق ف
تكاليفهم الت أمروا با ،وتعبداتم الت طوقوها ف أعناقهم ،ول يت رسول ال صلى ال عليه وسلم
حت كمل الدين بشهادة ال تعال بذلك حيث قال تعال " :اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم
نعمت ورضيت لكم السلم دينا " فكل من زعم أنه بقي ف الدين شيء ل يكمل فقد كذب بقوله :
اليوم أكملت لكم دينكم .
فل يقال :قد وجدنا من النوازل والوقائع التجددة ما ل يكن ف الكتاب ول ف السنة نص عليه ،
ول عموم ينتظمه ،وأن مسائل الد ف الفرائض ،والرام ف الطلق ،ومسألة الساقط على جريح
مفوف برحى ،وسائر السائل الجتهادية الت ل نص فيها من كتاب ول سنة فأين الكلم فيها ؟
فيقال ف الواب :أولً أن قوله تعال " :اليوم أكملت لكم دينكم" إن اعتبت فيها الزئيات من
السائل والنوازل فهو كما أوردت ،ولكن الراد كلياتا ،فلم يبق للدين قاعدة يتاج إليها ف
الضروريات والاجيات أو التكميليات إل وقد بينت غاية البيان ،نعم يبقى تنيل الزئيات على تلك
الكليات موكولً إل نظر الجتهد ،فإن قاعدة الجتهاد أيضا ثابتة ف الكتاب والسنة ،فل بد من
إعمالا .ول يسع الناس تركها ،وإذا ثبت ف الشريعة أشعرت بأن ث مالً للجتهاد ،وليوجد
ذلك إل فيما ل نص فيه .ولو كان الراد بالية الكمال بسب تصيل الزئيات بالفعل ،فالزئيات
ل ناية لا ،فل تنحصر برسوم ،وقد نص العلماء على هذا العن ،فإنا الراد الكمال بسب ما
يتاج إليه من القواعد الت يري عليها ما ل ناية له من النوازل .
358
الشاطبي كتاب العتصام
ث نقول ثانيا :إن النظر ف كمالا بسب خصوص الزئيات يؤدي إل الشكال واللتباس ،وإل
فهو الذي أدى إل إيراد هذا السؤال ،إذ لو نظر السائل إل الالة الت وضعت عليها الشريعة ،وهي
حالة الكلية ل يورد سؤاله ،لنا موضوعة على البدية ،وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية .
وأما الزئية فموضوعة على النهاية الؤدية إل الصر ف التفصيل ،وإذ ذاك قد يتوهم أنا ل تكمل
فيكون خلفا لقوله تعال " :اليوم أكملت لكم دينكم" وقوله تعال " :ونزلنا عليك الكتاب تبيانا
لكل" الية ،ول شك أن كلم ال هو الصادق ،وما خالفه فهو الخالف .فظاهر إذ ذاك أن الية
على عمومها وإطلقها ،وأن النوازل الت ل عهد با ل تؤثر ف صحة هذا الكمال لنا إما متاج
إليها وإما غي متاج إليها ،فإن كانت متاجا إليها فهي مسائل الجتهاد الارية على الصول
الشرعية فأحكامها قد تقدمت ،ول يبق إل منظر الجتهد إل أي دليل يستند خاصة وإن كانت غي
متاج إليها ،فهي البدع الحدثات ،إذ لو كانت متاجا إليها لا سكت عنها ف الشرع ،لكنها
مسكوت عنها بالفرض ول دليل عليها فيه كما تقدم ،فليست بحتاج إليها .فعلى كل تقدير قد
كمل الدين والمد ل .
ومن الدليل على أن هذا العن هو الذي فهمه الصحابة رضي ال عنهم ،أنم ل يسمع عنهم قط
إيراد ذلك السؤال ،ول قال أحد منهم :ل ل ينص على حكم الد مع الخوة ؟ وعلى حكم من
قال لزوجته :أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك ما ل يدوا فيه عن الشارع نصا ،بل قالوا فيها
وحكموا بالجتهاد ،واعتبوا بعان شرعية ترجع ف التحصيل إل الكتاب والسنة ،وإن ل يكن
بالنص فإنه بالعن .فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أت الوجوه .
وننتقل منه إل معن آخر ،وهو أن ال سبحانه وتعال أنزل القرآن مبأ عن الختلف والتضاد ،
ليحصل فيه كمال التدبر والعتبار ،فقال سبحانه وتعال " :أفل يتدبرون القرآن ولو كان من عند
غي ال لوجدوا فيه اختلفا كثيا " فدل معن الية على أنه بريء من الختلف ،فهو يصدق بعضه
بعضا ،ويعضد بعضه بعضا ،من جهة اللفظ ومن جهة العن .
فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بلف كلم الخلوق .
فإنك تراه إل الختلف ما هو فيأت بالفصل من الكلم الزل الفصيح فل يكاد يتمه إل وقد عرض
له ف أثنائه ما نقص من منصب فصاحته ،وهكذا تد القصيدة الواحدة ،منها ما يكون على نسق
الفصاحة اللئقة ،ومنها ما ل يكون كذلك .
وأما جهة العن ،فإن معان القرآن على كثرتا أو على تكرارها بسب مقتضيات الحوال على
حفظ وبلوغ غاية ف إيصالا إل غايتها من غي إخلل بشيء منها ،ول تضاد ول تعارض ،على
وجه ل سبيل إل البشر أن يدانوه ،ولذلك لا سعته أهل البلغة الول والفصاحة الصلية ـ وهم
العرب ـ ل يعارضوه ،ول يغيوا ف وجه إعجازه بشيء ما نفي ال تعال عنه ،وهم أحرص ما
359
الشاطبي كتاب العتصام
كانوا على العتراض فيه والغض من جانبه ،ث لا أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا ف غرائبه ،ل
يزدهم البحث إل بصية ف أنه ل اختلف فيه ول تعارض ،والذي نقل من ذلك يسي توقفوا فيه
توقف السترشد حت يرشدوا إل وجه الصواب ،أو توقف التثبت ف الطريق .
وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفي وحكم الكمي :يا أيها الناس اتموا رأيكم ،فلقد
رأيتنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم أب جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول ال صلى ال
عليه وسلم أمره لرددناه ،وإي ال ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لمر يفظعنا إل
أسهلن بنا أمر نعرفه الديث .
فوجد الشاهد منه أمران :قوله اتموا الرأي فإن معارضة الظواهر ف غالب المر رأي غي مبن
على أصل يرجع إليه ،وقوله ف الديث ـ وهو النكتة ف الباب ـ :وال ما وضعنا سيوفنا إل
آخره ،فإن معناه :أن كل ما ورد عليهم ف شرع ال ما يصادم الرأي فإنه حق يتبي على التدريج
حت يظهر فساد ذلك الرأي ،وأنه كان شبه ًة عرضت وإشكالً ينبغي أن ل يلتفت إليه ،بل يتهم
أولً ويعتمد على ما جاء ف الشرع ،فإنه إن ل يتبي اليوم تبي غدا ،ولو فرض أنه ل يتبي أبدا فل
حرج ،فإنه متمسك بالعروة الوثقى .
وف الصحيح "عن عمر رضي ال عنه قال :سعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان ف
حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فاستمعت لقراءته ،فإذا هو يقرأ على حروف كثية ل
يقرئنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فكدت أساوره ف الصلة ،فصبت حت سلم ،فلببته
بردائه ،فقلت :من أقرأك هذه السورة الت سعتك تقرأ ؟ ...فقال :أقرأنيها رسول ال صلى ال
عليه وسلم .فقلت :كذبت ،فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أقرأنيها على غي ما قرأت
فانطلقت به أقوده إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ،فقلت :إن سعت هذا يقرأ سورة الفرقان
على حروف ل تقرئنيها .فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :أرسله .اقرأ يا هشام ،فقرأ عليه
القراءة الت سعته يقرأ ،فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم :كذلك أنزلت ـ ث قال ـ اقرأ يا
عمر ! القراءة الت أقرأن فقال ـ كذلك أنزلت ،إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ،فاقرؤوا ما
تيسر منه" .
وهذه السألة إنا هي إشكال وقع لبعض الصحابة ف نقل الشرع بي لم جوابه النب صلى ال عليه
وسلم ،ول يكن ذلك دليلً على أن فيه اختلفا ،فإن الختلف بي الكلفي ف بعض معانيه أو
مسائله ل يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلف ،فقد اختلفت المم ف النبوات ول يكن ذلك دليلً
على وقوع الختلف ف نفس النبوات .واختلفت ف مسائل كثية من علوم التوحيد ول يكن
اختلفهم دليلً على وقوع الختلف فيما اختلفوا فيه ،فكذلك ما نن فيه .
360
الشاطبي كتاب العتصام
وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن ف نفسه ل اختلف فيه ،ث نبن على هذا معن آخر ،وهو أنه لا
تبي تنهه عن الختلف ،صح أن يكون حكما بي جيع الختلفي ،لنه إنا يقرر معن هو الق ،
والق ل يتلف ف نفسه ،فكل اختلف صدر من مكلف فالقرآن هو الهيمن عليه ،قال ال تعال :
"فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خي وأحسن
تأويل " فهذه الية وما أشبهها صرية ف الرد إل كتاب ال تعال وإل سنة نبيه ،لن السنة بيان
الكتاب ،وهو دليل على أن الق فيه واضح ،وأن البيان فيه شاف ،ل شيء بعده يقوم مقامه ،
وهكذا فعل الصحابة رضي ال عنهم ،لنم كانوا إذا اختلفوا ف مسألة ردوها إل الكتاب والسنة ،
وقضاياهم شاهدة بذا العن ،ل يهلها من زوال الفقه ،فل فائدة ف جلبها إل هذا الوضع لشهرتا
،فهو إذا ما كان عليه الصحابة .
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر ف الشريعة بسب هذه القدمة أمران أحدها :أن ينظر إليها بعي
الكمال
فإذا تقرر هذا فعلى الناظر ف الشريعة بسب هذه القدمة أمران :
أحدها :أن ينظر إليها بعي الكمال ل بعي النقصان ،ويعتبها اعتبارا كليا ف العبادات والعادات ،
ول يرج عنها البتة ،لن الروج عنها تيه وضلل ورمي ف عماية ،كيف وقد ثبت كمالا
وتامها ؟ فالزائد والنقص ف جهتها هو البتدع بإطلق والنحرف عن الادة إل بنيات الطرق .
361
الشاطبي كتاب العتصام
وحكي عن ممد بن سعيد العروف بالردن أنه قال :إذا كان الكلم حسنا ل أر بأسا أن أجعل له
إسنادا .فلذلك كان يدث بالوضوعات ،وقد قتل ف الزندقة وصلب .
وقد تقدم لذا القسم أمثلة كثية .
وأما المر الثان :فإن قوما أغفلوه أيضا ول يعنوا النظر حت اختلف عليهم الفهم ف القرآن
والسنة ،فأحالوا بالختلف عليها تسينا للظن بالنظر الول ،وهذا هو الذي عاب رسول ال صلى
ال عليه وسلم من حال الوارج حيث قال " :يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم" فوصفهم بعدم
الفهم للقرآن ،وعند ذلك خرجوا على أهل السلم ،إذ قالوا :ل حكم إل ل ،وقد حكم الرجال
ف دين ال ،حت بي لم حب القرآن عبد ال بن عباس رضي ال عنهما معن قوله تعال " :إن الكم
إل ل" على وجه أذعن بسببه منهم ألفان ،أو من رجع منهم إل الق ،وتادى الباقون على ما
كانوا عليه ،اعتقادا ـ وال أعلم ـ على قول من قال منهم :ل تناظروه ول تاصموه فإنه من
الذين قال ال فيهم " :بل هم قوم خصمون" .
فتأملوا رحكم ال كيف كان فهمهم ف القرآن .ث ل يزل هذا الشكال يعتري أقواما حت اختلفت
عليهم اليات والحاديث ،وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر .
عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم اليات والحاديث فظنوا أن ف الشريعة تناقضا أحدها تناقض
آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ ف الصور
ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة :
أحدها :قول من قال :إن قوله تعال " :وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" يتناقض مع قوله تعال
" :فإذا نفخ ف الصور فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون" .
والثان تناقض آية فيومئذ ل يسأل عن ذنبه إنس ول جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا
والثان :قول من قال ف قوله تعال " :فيومئذ ل يسأل عن ذنبه إنس ول جان " مضاد لقوله :
"وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون" وقوله تعال " :ولتسألن عما كنتم تعملون" .
362
الشاطبي كتاب العتصام
فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والرض بعد ذلك دحاها " فصرح بأن الرض ملوقة بعد
السماء .
ومن هذه السئلة ما أورده نافع بن الزرق ـ أوغيه على ابن عباس رضي ال عنهما ،فخرج
البخاري ف العلقات عن سعيد بن جبي قال :قال رجل لبن عباس :إن أجد ف القرآن أشياء
تتلف علي وهي قوله تعال " :فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون" " ،وأقبل بعضهم على بعض
يتساءلون" " ،ول يكتمون ال حديثا " " ،وال ربنا ما كنا مشركي" فقد كتموا ف هذه الية ":أم
السماء بناها * رفع سكها فسواها" إل قوله تعال ":والرض بعد ذلك دحاها" فذكر خلق السماء
قبل الرض ث قال " :أإنكم لتكفرون بالذي خلق الرض ف يومي " إل قوله " :ث استوى إل
السماء وهي دخان " إل قوله "طائعي" فذكر ف هذه خلق الرض قبل خلق السماء ،وقال :
"وكان ال غفورا رحيما " " عزيزا حكيما " "سيعا بصيا" فكأنه كان ث مضى فقال ـ يعن ابن
عباس " :فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون " ف النفخة الول" ونفخ ف الصور فصعق من ف
السماوات ومن ف الرض إل من شاء ال" فل أنساب بينهم عند ذلك ول يتساءلون ،ث ف النفخة
الخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون .
وأما قوله " :ما كنا مشركي" "ول يكتمون ال حديثا " فإن ال عز وجل يغفر لهل الخلص
ذنوبم ،وقال الشركون تعالوا نقول :ل نكن مشركي .فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند
ذلك عرفوا أن ال ل يكتم حديثا ،وعنده " ،يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بم الرض
".
وقوله عز وجل " :خلق الرض ف يومي" "ث استوى إل السماء فسواهن سبع ساوات" ف يومي
آخرين ث دحا الرض ،ودحوها أن أخرج منها الاء والرعى .وخلق البال والكام وما بينهما ف
يومي آخرين فذلك قوله :دحاها وقوله تعال " :خلق الرض ف يومي" فخلقت الرض وما فيها
من شيء ف أربعة أيام ،وخلقت السموات ف يومي " .وكان ال غفورا رحيما " سى نفسه
بذلك ،وذلك ( قوله ) أي ل يزل كذلك ،فإن ال عز وجل ل يرد شيئا إل أصاب به الذي أراد ،
فل يتلف عليك القرآن ،فإن كل من عند ال .
و الرابع مالفة آية وإذ أخذ ربك من بن آدم الديث أن ال خلق آدم
والرابع :قول من قال :إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال " :إن ال لا خلق آدم مسح ظهره
بيمينه فأخرج منه ذريته إل يوم القيامة "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى"" الديث
كما وقع مالف لقول ال تعال " :وإذ أخذ ربك من بن آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على
أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" ! فالديث أنه أخذهم من ظهر آدم ،والكتاب يب أنه أخذ من
363
الشاطبي كتاب العتصام
ظهور آدم ،وهذا إذا تؤمل ل خلف فيع لن هيمكن المع بينهما ،بأن يرجوا من صلب آدم
عليه الصلة والسلم دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إل الدنيا ،ول
مال ف هذا بأن يتفطر ف تلك الخذة البناء عن البناء من غي ترتيب زمان ،وتكون النسبتان معا
صحيحتي ف القيقة ل على الجاز .
منع نكاح الرأة على عمتها وخالتها وكون ما يرم بالرضاع يرم بالنسب مع عدم ذكره ف القرآن
ف مرمات النكاح
والسابع :قولم :إن الديث :
364
الشاطبي كتاب العتصام
"جاء بأن الرأة ل تنكح على عمتها ،ول على خالتها ،وأنه يرم من الرضاع ما يرم من النسب"
وال تعال لا ذكر الحرمات ل يذكر من الرضاع إل الم والخت ،ومن المع إل المع بي
الختي ،وقال بعد ذلك " :وأحل لكم ما وراء ذلكم" فاقتضى أن الرأة تنكح على عمتها وعلى
خالتها ،وإن كان رضاع سوى الم والخت حللً .
وهذه الشياء من باب تصيص العموم ل تعارض فيه على حال .
و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم ل يستأخرون ساعة
ول يستقدمون
والثامن :قول من قال :إن قوله عليه الصلة والسلم :
"غسل المعة واجب على كل متلم" مالف .
لقوله " :من توضأ يوم المعة فبها نعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل " .
والراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة ،بيث ل يكون تركا للفرض ،وبه يتفق معن الديثي فل
اختلف .
والتاسع :قولم جاء ف الديث :
"صلة الرحم تزيد العمر" وال تعال يقول " :إذا جاء أجلهم فل يستأخرون ساعةً ول يستقدمون"
فكيف تزيد صلة الرحم ف أجل ل يؤخر ول يقدم البتة .
وأجيب عنه بأجوبة ( .منها ) :أن يكون ف علم ال أن هذا الرجل إن وصل رحه عاش مائة سنة ،
ل. وإل عاش ثاني سنة ،مع أن ف علمه أنه يفعل بل بد ،أو أنه ل يفعل أص ً
وعلى كل الوجهي إذا جاء أجله ل يستأخر ساعة ول يستقدم .قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القراف .
و العاشر تدافع حديث توضئته صلى ال عليه وسلم وهو جنب لجل النوم وحديث نومه وهو
جنب
والعاشر :قال ف الديث :
"إنه عليه الصلة والسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلة " ،ث فيه :
"كان عليه الصلة والسلم ينام وهو جنب من غي أن يس ماءً" ،وهذا تدافع .والديثان معا
لعائشة رضي ال عنها .
والواب سهل .فالديثان يدلن على أن المرين موسع فيهما ،لنه إذا فعل أحد المرين وأكثر
منه ،وفعل الخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك ،
وهذا شأن الستحب فل تعارض بينهما .
365
الشاطبي كتاب العتصام
فهذه عشرة أمثلة تبي لك مواقع الشكال ،وإن رتبتها مع ثلج اليقي ،فإن الذي عليه كل موقن
بالشريعة أنه ل تناقض فيها ول اختلف .فمن توهم ذلك فيها فهو ل ينعم النظر ول أعطى وحي
ال حقه .ولذلك قال ال تعال " :أفل يتدبرون القرآن" ؟ فحضهم على التدبر أولً ،ث أعقبه :
"ولو كان من عند غي ال لوجدوا فيه اختلفا كثيا" فبي أنه ل اختلف فيه وأن التدبر يعي على
تصديق ما أخب به .
فصل النوع الثالث أي من مناشئ البتداع وهو تسي الظن بالعقل أن ال جعل للعقول ف
إدراكها حدا
النوع الثالث :
ل إل الدراك ف كل أن ال جعل للعقول ف إداركها حدا تنتهي إليه ل تتعداه ،ول يعل لا سبي ً
مطلوب .ولو كانت كذلك لستوت مع الباري تعال ف إدراك جيع ما كان وما يكون وما ل
يكون ،إذ لو كان كيف كان يكون ؟ فمعلومات ال ل تتناهى .ومعلومات العبد متناهية .والتناهي
ل يساوي ما ل يتناهى .
ل ،وصفاتا وأحوالا وأفعالا وأحكامها جلةً وقد دخل ف هذه الكلية ذوات الشياء جل ًة وتفصي ً
ل ،فالشيء الواحد من جلة الشياء يعلمه الباري تعال على التمام والكمال ،بيث ل يعزب وتفصي ً
عن علمه مثقال ذرة ل ف ذاته ول ف صفاته ول ف أحواله ول ف أحكامه ،بلف العبد فإن علمه
بذلك الشيء قاصر ناقص ،سواء كان ف تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه ،وهو ف
النسان أمر مشاهد مسوس ل يرتاب فيه عاقل ترجه التجربة إذا اعتبها النسان ف نفسه .
انقسام العلومات إل ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على
الخبار
وأيضا :فأنت ترى العلومات عند العلماء تنقسم إل ثلثة أقسام :
قسم ضروري ل يكن التشكيك فيه ،كعلم النسان بوجوده ،وعلمه بأن الثني أكثر من الواحد ،
وأن الضدين ل يتمعان .
وقسم ل يعلمه البتة إل أن يعلم به أو يعل له طريق إل العلم به ،وذلك كعلم الغيبات عنه ،كانت
من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو ل ،كعلمه با تت رجليه ،إل أن مغيبه عنه تت الرض بقدار
شب .وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي ل يتقدم له به عهد .فضلً عم علمه با ف السموات وما ف
البحار وما ف النة أو النار على التفصيل .فعلمه لا ل يعل له عليه دليل غي مكن .
366
الشاطبي كتاب العتصام
وقسم نظري يكن العلم به ويكن أن ل يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو
المكنات الت تعلم بواسطة ل بأنفسها .إل أن يعلم با إخبارا .
وقد زعم أهل العقول أن النظريات ل يكن التفاق فيها عادة لختلف القرائح والنظار .فإذا وقع
الختلف فيها ل يكن بد من مب بقيقتها ف أنفسها إن احتيج إليها ،لته لو ل تفتقر إل الخبار
ل يصح العلم با لن العلومات ل تتلف باختلف النظار لتا حقائق ف أنفسها .فل يكن أن
يكون كل متهد فيها مصيبا ـ كما هو معلوم ف الصول ـ وإنا الصيب فيها واحد .وهو ل
يتعي إل بالدليل .
وقد تعارضت الدلة ف نظر الناظر .فنحن نقطع بأن أحد الدليلي دليل حقيقة .والخر شبهة ول
يعي .فل بد من إخبار بالتعيي .
ول يقال :إن هذا قول المامية :لنا نقول :بل هو يلزم الميع ،فإن القول بالعصوم غي النب
صلى ال عليه وسلم يفتقر إل دليل ،لنه ل ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر .
فالقول بإثباته نظري ،فهو ما وقع اللف فيه .فكيف يرج عن اللف بأمر فيه خلف ؟ هذا ل
يكن .
فإذا ثبت هذا رجعنا إل مسألتنا فنقول :الحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال الكلفي من
قبيل الضروريات ف الملة .وإن اختلفوا ف بعض التفاصيل فلتماسها ( ؟ ) .
ونرجع إل ما بقي من القسام فإنم قد أقروا ف الملة ـ أعن القائلي بالتشريع العقلي ـ أن منه
نظريا ،ومنه ما ل يعلم بضرورة ول نظر ،وها القسمان الباقيان ما ل يعلم له أصل إل من جهة
الخبار ،فل بد فيه من الخبار لن العقل غي مستقل فيه ،وهذا إذا راعينا قولم وساعدناهم عليه ،
ل ،فضلً عن أن يكون له فإنا إن ل نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن ل نكم العقل أص ً
قسم ل حكم له ،وعندهم أنه ل بد من حكم ،فلجل ذلك نقول :ل بد من الفتقار إل الب ،
وحينئذ يكون العقل غي مستقل بالتفريع .فإن قالوا :بل هو مستقل ،لن ما ل يقض فيه فإما أن
يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الظر أو الباحة ـ كما ذهب إليه
آخرون .
فإن قالوا :بالثان فهو مستقل ،وإن قالوا بالول فكذلك أيضا ،لنه قد ثبت استقلله بالبعض
فافتقاره ف بعض الشياء ل يدل على افتقاره مطلقا .قلنا :بل هو مفتقر على الطلق ،لن
القائلي بالوقف اعترفوا بعدم استقلله ف البعض ،وإذا ثبت الفتقار ف صورة ثبت مطلقا إذ وقف
فيه العقل قد ثبت فيه ذلك ،وما ل يقف فيه فإنه نظري :فيجع إل ما تقدم ف النظر ،وقد مر أنه
ل بد من حكم ول يكن إل من جهة الخبار .
367
الشاطبي كتاب العتصام
وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالم أيضا إلية أن السألة نظرية فل بد من الخبار ،وذلك معن
كون العقل ل يستقل بإدراك الحكام حت يأت الصدق للعقل أو الكذب له .
فإن قالوا :فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الستقلل .قلنا :إن ساعدناكم على ذلك فل يضرنا ف
دعوى الفتقار ،لن الخبار قد تأت با يدركه النسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر ،أو
إيقاظا لغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا ،فهو إذا متاج إليه ،ول بد للعقل من التنبيه من
خارج .وهي فائدة بعث الرسل ،فإنكم تقولون :إن حسن الصدق النافع واليان ،وقبح الكذب
أيضا والكفران ،معلوم ضرورة ،وقد جاء الشرع بدح هذا وذم ذلك .وأمر بذا ونى عن ذلك .
فلو كان العقل غي مفتقر إل التنبيه لزم الحال وهو الخبار با ل فا ئدة فيه ،لكنه أتى بذلك فدلنا
على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إل التنبيه عليه .هذا وجه .
368
الشاطبي كتاب العتصام
ووجه ثالث :وهو أن ما ندعي علمه ف الياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إل البديهي الضروري وغيه
إل من طريق ضروري إما بواسطة أو بغي واسطة ،إذ قد اعترف الميع أن العلوم الكتسبة ل بد ف
تصيلها من توسيط مقدمتي معترف بما ،فإن كانتا ضروريتي فذاك ،وإن كانت مكتسبتي فل
بد ف اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتي ،وينظر فيهما كما تقدم ،وكذلك إن كانت واحدة
ضرورية وأخرى مكتسبة فل بد للمكتسبة من مقدمتي ،فإن انتهينا إل ضروريتي فهو الطلوب ،
وإل لزم التسلسل أو الدور ،وكلها مال ،فإذا ل يكن أن نعرف غي الضروري إل بالضروري .
وحاصل المر أنه ل بد من معرفتها بقدمتي حصلت لنا كل واحدة منهما ما عقلناه وعلمناه من
مشاهد باطنة ،كالل واللذة أو بدعي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الثني أكثر من الواحد ،وبأن
الضدين ل يكن اجتماعهما وما أشبه ذلك ما هو لنا معتاد ف هذه الدار ،فإنا ل يتقدم لنا علم إل
با هو معتاد ف هذا الدار ،وأما ما ليس بعتاد فقبل النبوات ل يتقدم لنا به معرفة ،فلو بقينا على
ذلك ل نل ما ل نعرف إل على ما عرفنا ،وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا واليوان
حجرا ،وما أشبه ذلك ،لن الذي نعرفه من العتادات التقدمة خلف هذه الدعوى .
369
الشاطبي كتاب العتصام
وكون اللب والمر والعسل فيها أنارا من غي حلب ول عصر ول نل ،وكون المر ل تسكر
غي معتاد ،وكون ذلك كله بيث لو استعمله النسان دائما ل يتلىء ول يصيبه كظة ول تمة ول
يرج من جسده ل من أذنه ول أنفه ول ارفاغه ول سائر جسده أوساخ ول أقذار غي معتاد ،
وكون أحد من أهل النة ل يهرم ول يشيخ ول يوت ول يرض غي معتاد .
وكذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذا بال ـ وجدت من ذلك كثيا ،ككون النار ل تأت عليه
حت يوت ،كما قال تعال " :ل يوت فيها ول ييا " وسائر أنواع الحوال الت هم عليها ،كلها
خارق للعادة .
فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنا ليست بعقلية ،وإنا هي وضعية يكن تلفها .
وإنا ل نتج بالكرامات لن أكثر العتزلة ينكرونا رأسا وقد أقر با بعضهم .وإن ملنا إل التعريف
فلو اعتب الناظر ف هذا العال لوجد لذلك نظائر جارية على غي معتاد .
370
الشاطبي كتاب العتصام
كل ملوق ،ولذلك قال بعض الحققي من أهل العتبار :سبحان من ربط السباب بسبباتا
وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا العن القرر .
العقل غي حاكم بإطلق .والشرع حاكم عليه بإطلق ،خرق العوائد ل ينبغي للعقل إنكاره
بإطلق
والثان :أنه إذا وجد ف الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق لعادة الارية العتادة ،فل ينبغي له أن
يقدم بي يديه النكار يإطلق ،بل له سعة ف أحد أمرين :إما أن يصدق به على حسب ما جاء
ويكل علمه إل عاله .وهو ظاهر قوله تعال " :والراسخون ف العلم يقولون آمنا به كل من عند
ربنا" يعن الواضح الحكم ،والتشابه الجمل ،إذ ل يلزمه العلم به ،ولو لزم العلم به لعل له طريق
إل معرفته ،وإل كان تكليفا با ل يطاق .وإما أن يتأوله على ما يكن حله عليه مع القرار بقتضى
الظاهر ،لن إنكاره إنكار لرق العادة فيه .
وعلى هذا السبيل يري حكم الصفات الت وصفت الباري با نفسه ،لن من نفاها نفى شبه
صفات الخلوقي ،وهذا منفي عند المهور ،فبقي اللف ف نفي عي الصفة أو إثباتا ،فالثبت
أثبتها على شرط نفي التشبيه ،والنكر لن يكون ث صفة غي شبيهة بصفات الخلوقي منكر لن
يثبت أمر إل على وفق العتاد .
فإن قالوا :هذا لزم فيما تنكره العقول بديهة ،كقوله :
"رفع عن أمت الطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ،فإن الميع أنكروا ظاهره ،إذ العقل والس
يشهدان بأنا غي مرفوعة ،وأنت تقول :اعتقدوا أنا مرفوعة ،وتأولوا الكلم .
371
الشاطبي كتاب العتصام
قيل :ل نعن ما هو منكر ببداهة العقول ،وإنا عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب ،كما نقول :إن
الصراط ثابت ،والواز عليه قد أخب الشارع به ،فنحن نصدق به لنه إن كان كحد السيف
وشبهه ل يكن استقرار النسان فوقه عادة فكيف يشي عليه ؟ فالعادة قد ترق حت يكن الشي
والستقرار ،والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ول يلتفتون إل إمكان انراق
العوائد ،فإن فرقوا صار ذلك تكما .لنه ترجيح ف أحد الثلي دون الخر من غي مرجح عقلي ،
وقد صادفهم النقل ،فالق القرار دون النكار .
ولنشرح هذا الطلب بأمثلة عشرة :
372
الشاطبي كتاب العتصام
والامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الوارح و السابع رؤية ال ف الخرة
والامس :مسألة تطاير الصحف وقراءة من ل يقرأ قط ،وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك
يكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها .
والسادس :مسألة إنطاق الوارح شاهدة على صاحبها ل فرق بينها وبي الحجار والشجار الت
شهدت لرسول ال صلى ال عليه وسلم بالرسالة .
والسابع :رؤية ال ف الخرة جائزة ،إذ ل دليل ف العقل يدل على أنه ل رؤية إل على الوجه العتاد
عندنا ،إذ يكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ول مقابلة ول تصور
جهة ول فضل جسم شفاف ول غي ذلك ،والعقل ل يزم بامتناع ذلك بديهة ،وهو إل القصور
ف النظر أميل ،والشرع قد جاء بإثباتا فل معدل عن التصديق .
والعاشر تكيم العقل على ال تعال وبيان فساد ذلك وكون ال تعال له الجة البالغة والشيئة
الطلقة
373
الشاطبي كتاب العتصام
والعاشر :تكيم العقل على ال تعال ،بيث يقول :يب عليه بعثة الرسل ،ويب عليه الصلح
والصلح ،ويب عليه اللطف ،ويب عليه كذا ـ إل آخر ما ينطق به ف تلك الشياء ـ وهذا
إنا نشأ من ذلك الصل التقدم ،وهو العتياد ف الياب على العباد .ومن أجل الباري وعظمه ل
يترىء على إطلق هذه العبارة ،ول أل بعناها ف حقه ،لن ذلك العتاد إنا حسن ف الخلوق من
حيث هو عبد مصور منوع ،وال تعال ما ينعه شيء ،ول يعارض أحكامه حكم ،فالواجب
الوقوف مع قوله " :قل فلله الجة البالغة فلو شاء لداكم أجعي" وقوله تعال " :يفعل ما يشاء"
وقوله تعال " :إن ال يكم ما يريد" "وال يكم ل معقب لكمه" "ذو العرش الجيد * فعال لا
يريد" .
374
الشاطبي كتاب العتصام
وقال يونس بن عبد العلى :سعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال ل :يا أبا موسى ! لن
يلقى ال العبد بكل ذنب ما خل الشرك خي من أن يلقاه بشيء من الكلم ،لقد سعت من حفص
كلما ل أقدر أن أحكيه .
وقال أحد بن حنبل :ل يفلح صاحب الكلم أبدا ول تكاد ترى أحدا نظر ف السائل إل وف قلبه
دغل .
( وقال ) عن السن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل ف زفر بن الذيل ـ أكان ينظر ف الكلم ؟
فقال :سبحان ال ما أحقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا
عنهم ـ ههم غي الفقه والقتداء بن تقدمهم .
وقال ابن عبد الب :أجع أهل الفقه والثار ف جيع المصار أن أهل الكلم أهل بدع وزيغ ،ول
يعدون عند الميع ف المصار ف جيع طبقات العلماء ،وإنا العلماء أهل الثر والتفقه فيه
ويتفاضلون فيه بالتفاق واليز والفهم .
وعن أب الزناد أنه قال :واي ال إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ،ونتعلمها شبيها
بتعلمنا آي القرآن ،وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس ،يعيبون أهل
الدل والتنقيب والخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومالستهم ،ويذروننا مقاربتهم أشد التحذير ،
ويبون أنم أهل ضلل وتريف لتأويل كتاب ال وسنن رسوله ،وما توف رسول ال صلى ال
عليه وسلم حت كره السائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك ،وحذره السلمي ف غي
موطن .حت كان من قوله كراهية لذلك .
"ذرون ما تركتكم فإنا هلك الذين من قبلكم بسؤالم واختلفهم على أنبيائهم فإذا نيتكم عن شيء
فاجتنبوه .وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم" .
وعن عمر بن الطاب رضي ال عنه قال :اتقوا ال ف دينكم .قال سحنون :يعن النتهاء عن
الدل فيه ،وخرج ابن وهب عن عمر أيضا :إن أصحاب الرأي أعداء السنن ،أعيتهم أن
يفظوها ،وتفلتت منهم أن يعوها ،واستحيوا حي سئلوا أن يقولوا ل نعلم فعارضوا السنن
برأيهم ،فإياكم وإياهم .قال أبو بكر بن أب داود :أهل الرأي هم أهل البدع .وهو القائل ف
قصيدته ف السنة :
ودع عنك آراء الرجال وقولم فقول رسول ال أزكى وأشرح
وعن السن قال :إنا هلك من كان قبلكم حي تشعبت بم السبل ،وحادوا عن الطريق ،فتركوا
الثار وقالوا ف الدين برأيهم فضلوا وأضلوا .
375
الشاطبي كتاب العتصام
وعن مسروق قال :من رغب برأيه عن أمر ال يضل .وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول
:السنن السنن ،إن السنن قوام الدين ،وعن هشام بن عروة قال :إن بن إسرائيل ل يزل أمرهم
معتدلً حت نشأ فيهم مولدون سبايا المم ،فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا .
فهذه الثار وأشباهها تشي إل ذم إيثار نظر العقل على آثار النب صلى ال عليه وسلم .
وذهب جاعة من العلماء إل أن الراد بالرأي الذموم ف هذه الخبار البدع الحدثة ف العتقاد .
كرأي جهم وغيه من أهل الكلم .لنم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم ف رد الحاديث .فقالوا :
ل يوز أن يرى ال ف الخرة أنه تعال يقول ":ل تدركه البصار وهو يدرك البصار وهو اللطيف"
الية .
فردوا قوله عليه الصلة والسلم " :إنكم ترون ربكم يوم القيامة" وتأولوا قول اله تعال " :وجوه
يومئذ ناضرة * إل ربا ناظرة " وقالوا :ل يوز أن يسأل اليت ف قبه .لقول ال تعال " :أمتنا
اثنتي وأحييتنا اثنتي" فردوا الحاديث التواترة ف عذاب القب وفتنته ،وردوا الحاديث ف الشفاعة
على تواترها ،وقالوا :لن يرج من النار من دخل فيها :وقالوا :ل نعرف حوضا ول ميزانا ،ول
نعقل ما هذا .وردوا السنن ف ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إل أشياء يطول ذكرها من كلمهم
ف صفة الباري ،وقالوا :العلم مدث ف حال حدوث العلوم لنه ل يقع علم إل على معلوم ،فرارا
من قدم العال ـ ف زعمهم ـ .
وقال جاعة :الرأي الذموم الراد به الرأي البتدع وشبهه من ضروب البدع .وهذا القول أعم من
الول ،لن الول خاص بالعتقاد ،وهذا عام ف العمليات وغيها .
وقال آخرون ـ قال ابن عبد الب :وهم المهور ـ إن الراد به القول ف الشرع بالستحسان
والظنون ،والشتغال بفظ العضلت ،ورد الفروع بعضها إل بعض دون ردها إل أصولا ،
فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنل ،قالوا :وف الشتغال بذا تعطيل السنن والتذرع إل جهلها .
وهذا القول غي خارج عما تقدم .وإنا الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إل الرأي الذموم .
وهو معارضة النصوص .لنه إذا ل يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إل الرأي .فلحق بالولي
الذين عارضوا السنن حقيقة .فجميع ذلك راجع إل معن واحد .وهو إعمال النظر العقلي مع طرح
ل ،والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضللة . السنن .إما قصدا أو غلطا وجه ً
فالاصل من مموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم ل يعارضوا ما جاء ف السنن بآرائهم ،علموا
معناه أو جهلوه ،جرى لم على معهودهم أو ل ،وهو الطلوب من نقله ،وليعتب فيه من قدم
الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم ال الربيع بن خثيم حيث يقول :يا
عبد ال ! ما علمك ال ف كتابه من علم فاحد ال ،وما استأثر عليك به من علم فكله إل عاله ،
ل تتكلف ،فإن ال يقول لنبيه " :قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من التكلفي" .
376
الشاطبي كتاب العتصام
وعن معمر بن سليمان ،عن جعفر ،عن رجل من علماء أهل الدينة ،قال :إن ال علم علما
علمه العباد ،وعلم علما ل يعلمه العباد ،فمن تكلف العلم الذي ل يعلمه العباد ل يزدد منه إل بعدا
.قال :والقدر منه .
وقال الوزاعي :كان مكحول و الزهري يقولن :أمروا هذه الحاديث كما جاءت ول تتناظروا
فيها :ومثله عن مالك ،و الوزاعي ،وسفيان بن سعيد ،و سفيان بن عيينة ،ومعمر بن راشد ،
ف الحاديث ف الصفات أنم أمرواها كما جاءت ....نو الديث :
"التنل" .
"وخلق آدم على صورته ،وشبههما" وحديث مالك ف السؤال عن الستواء مشهور .
وجيع ما قالوه مستمد من معن قول ال تعال " :فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه
ابتغاء الفتنة" الية .ث قال " :والراسخون ف العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فإنا صرية ف
هذا الذي قررناه ،فإن كل ما ل ير على العتاد ف الفهم متشابه ،فالوقف عنه هو الحرى با كان
عليه الصحابة التبعون لرسول ال صلى ال عليه وسلم ،إذ لو كان من شأنم اتباع الرأي ل يذموه
ول ينهوا عنه ،لن أحدا ل يرتضي طريقا ث ينهى عن سلوكه .كيف وهم قدوة المة باتفاق
السلمي ! .
وروي عن السن كان ف ملس فذكر فيه أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم فقال :إنم كانوا أبر
هذه المة قلوبا ،وأعمقها علما ،وأقلها تكلفا ،قوم اختارهم ال لصحبة تبيه صلى ال عليه
وسلم ،فتشبهوا بأخلقهم وطرائقهم ،فإنم ـ ورب الكعبة ـ على الدي الستقيم .
وعن حذيفة أنه كان يقول :اتقوا ال يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم ،فلعمري لئن
اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ،ولئن تركتموه يينا أو شا ًل لقد ضللتم ضللً بعيدا .
وعن ابن مسعود :من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب ممد صلى ال عليه وسلم ،فإنم كانوا
أبر هذه المة قلوبا ،وأعمقها علما ،وأقلها تكلفا ،وأقومها هديا ،وأحسنها خل ًل ،قوم
اختارهم ال لصحبة نبيه صلى ال عليه وسلم ،وإقامة دينه ،فاعرفوا لم فضلهم ،واتبعوهم ف
آثارهم ،فإنم كانوا على الدي الستقيم .
والثار ف هذا العن كثية جيعها يدل على القتداء بم والتباع لطريقهم على كل حال ،وهو
طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق ف قوله " :ما أنا عليه وأصحاب" .
377
الشاطبي كتاب العتصام
أن الشريعة موضوعة لخراج الكلف عن داعية هواه ،حت يكون عبدا ل .وهذا أصل قد تقرر ف
قسم القاصد من كتاب الوافقات .لكن على وجه كلي يليق بالصول .فمن أراد الطلع عليه
فليطالعه من هنالك .
ولا كانت طرق الق متشعبة ل يكن أن يؤتى عليها بالستيفاء .فلنذكر منها شعبة واحدة تكون
كالطريق لعرفة ما سواها .
378
الشاطبي كتاب العتصام
الصلة والسلم مذعنا ملبيا نداءه .واقفا عند حكمه .وهذه الاصية كانت من أعظم الدلة على
صدقه فيما جاء به .إذ قد جاء بالمر وهو مؤتر .وبالنهي وهو منته .وبالوعظ وهو متعظ
وبالتخوف وهو أول الائفي .وبالترجية وهو سائق دابة الراجي .
وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة النلة عليه حجة حاكمة عليه .ودللة له على الصراط الستقيم
الذي سار عليه السلم .ولذلك صار عبد ال حقا .وهو أشرف اسم تسمى به العباد .فقال ال
تعال " :سبحان الذي أسرى بعبده ليلً" "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" "وإن كنتم ف ريب
ما نزلنا على عبدنا" وما أشبه ذلك من اليات الت وقع مدحه بصحة العبودية .
وإذا كان كذلك فسائر اللق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون با إل
الق ،وشرفهم إنا يثبت بسب ما اتصفوا به من الدخول تت أحكامها والعمل با قو ًل واعتقادا
ل ،ل بسب عقولم فقط ،ول بسب شرفهم ف قومهم فقط ،لن ال تعال إنا اثبت وعم ً
الشرف ل غيها لقوله تعال " :إن أكرمكم عند ال أتقاكم" فمن كان أشد مافظة على اتباع
الشريعة فهو أول بالشرف والكرم ،ومن كان دون ذلك ل يكن أن يبلغ ف الشرف مبلغ العلى ف
اتباعها ،فالشرف إذا إنا هو بسب البالغة ف تكيم الشريعة .
379
الشاطبي كتاب العتصام
غيهم كالقدرة والرادة والعقل وغي ذلك ،إذ ل مزية ف ذلك من حيث القدر الشترك ،لشتراك
الميع فيها ،وإنا صاروا حكاما على اللق مرجوعا إليهم بسبب جلهم للعلم الاكم ،فلزم من
ذلك أنم ل يكونون حكاما على اللق إل من ذلك ،كما أنم مدحون من ذلك الوجه أيضا ،فل
يكن أن يتصفوا بوصف الكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الاكم ،إذ ليسوا حجة إل من
جهته ،فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا أحكاما ؟ هذا مال .
وكما أنه ل يقال ف العال بالعربية مهندس ،ول ف العال بالندسة عرب ،فكذلك ل يقال ف الزائغ
عن الكم الشرعي حاكم بالشرع ،بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نو ذلك ،فل يصح
أن يعل حجة ف العلم الاكم ،لن العلم الاكم يكذبه ويرد عليه ،وهذا العن أيضا ف الملة
متفق عليه ل يالف فيه أحد من العقلء .
ث نصي من هذا إل معن آخر مرتب عليه ،وهو أن العال بالشريعة إذ اتبع ف قوله ،وانقاد إليه
الناس ف حكمه ،فإنا اتبع من حيث هو عال وحاكم با وحاكم بقتضاها ،ل من جهة أخرى ،
فهو ف القيقة مبلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ،البلغ عن ال عز وجل ،فيتلقى منه ما بلغ
على العلم بأنه بلغ ،أو على غلبة الظن بأنه بلغ ل من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا ،إذ ل
يثبت ذلك لحد على القيقة .وإنا هو ثابت للشريعة النلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم .
وثبت ذلك له عليه الصلة والسلم وحده دون اللق من جهة دليل العصمة .والبهان أن جيع ما
يقوله أو يفعله حق .فإن الرسالة القترنة بالعجزة على ذلك دلت .فغيه ل يثبت له عصمة بالعجزة
بيث بقتضاها حت يساوي النب صلى ال عليه وسلم ف النتصاب للحكم بإطلق ،بل إنا يكون
منتصبا على شرط الكم بقتضى الشريعة .بيث إذا وجد الكم ف الشرع بلف ما حكم ل يكن
حاكما .إذا كان ـ بالفرقـ خارجا عن مقتضى الشريعة الاكمة ،وهو أمر متفق عليه بي العلماء
،ولذلك إذا وقع الناع ف مسألة شرعية وجب ردها إل الشريعة حيث يثبت الق فيها لقوله تعال :
"فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" .
الكلف بأمور الشريعة ل يلو من أحد أمور ثلثة أحدها أن يكون متهدا فيها حكمه ما أداه إليه
إجتهاده
فإذا الكلف بأحكامها ل يلو من أحد أمور ثلثة :
أحدها :أن يكون متهدا فيها ،فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها ،لن اجتهاده ف المور الت
ليست دللتها واضحة إنا يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو القرب إل قصد الشارع
والول بأدلة الشريعة .دون ما ظهر لغيه من الجتهدين .فيجب عليه اتباع ما هو القرب .بدليل
380
الشاطبي كتاب العتصام
أنه ل يسعه فيما اتضح فيه الدليل إل اتباع الدليل ،دون ما أداه إليه اجتهاده .ويعد ما ظهر له لغوا
كالعدم .لنه على غي صوب الشريعة الاكمة .فإذا ليس قوله بشيء يعتد به ف الكم .
381
الشاطبي كتاب العتصام
كل ما يلقيه العال يكون حقا على الطلق ،لمكان الزلل والطأ وغلبة الظن ف بعض المور ،
وما اشبه ذلك .
أما إذا كان هذا التبع ناظرا ف العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم ف زماننا ،فإن توصله إل
الق سهل ،لن النقولت ف الكتب إما تت حفظه ،وإما معدة لن يققها بالطالعة أو الذاكرة .
382
الشاطبي كتاب العتصام
ومن معن كلم مالك رحه ال :ما كان من كلمي موافقا للكتاب والسنة فخذوا به ،وما ل يوافق
فاتركوه .هذا معن كلمه دون لفظه .
ومن كلم الشافعي رحه ال :الديث مذهب فما خالفه فاضربوا به الائط أو كما قال ،قال
العلماء :وهذا لسان حال الميع .ومعناه أنكل ما تتكلمون به على تري أنه طابق الشريعة
الاكمة ،فإن كان كذلك فبها ونعمت ،وما ل فليس بنسوب إل الشريعة ول هم أيضا من يرضى
أن تنسب إليهم مالفتها .
لكن يتصور ف هذا القام وجهان :أن يكون التبوع متهدا ،فالرجوع ف التخطئة والتصويب إل ما
اجتهد فيه ،وهو الشريعة ،وأن يكون مقلدا لبعض العلماء ،كالتأخرين الذين من شأنم تقليد
التقدمي بالنقل من كتبهم والتفقه ف مذاهبهم ،فالرجوع ف التخطئة والتصويب إل صحة النقل
عمن نقلوا عنه وموافقتهم لن قلدوا ،أو خلف ذلك ،لن هذا القسم مقلدون بالعرض ،فل
يسعهم الجتهاد ف استنباط الحكام ،إذ ل يبلغوا درجته ،فل يصح تعرضهم للجتهاد ف الشريعة
مع قصورهم عن درجته .فإن فرض انتصابه للجتهاد فهو مطىء آث أصاب أم ل يصب ،لنه أتى
المر من غيه ،وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث ل
يدري ،وخطؤه هو العتاد ،فل يصح ابتاعه كسائر العوام إذا راموا الجتهاد ف أحكام ال ،
ولخلف أن مثل هذا الجتهاد غي معتب ،وأن مالفة العامي كالعدم ،وأنه ف مالفته لهل العلم
آث مطىء ،فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غي متهد ف مسألة أتى فيها باجتهاده ؟
ولقد زل ـ بسبب العراض عن الدليل والعتماد على الرجال ـ اقوام خرجوا بسبب ذلك عن
جادة الصحابة والتابعي واتبعوا أهواءهم بغي علم فضلوا عن سواء السبيل .
عشرة أمثلة لتباع الوى والتقليد أحدها :قول من جعل إتباع الباء ف أصل الدين هو الرجوع
إليه
ولنذكر عشرة أمثلة :
أحدها :وهو أشدها ،قول من جعل اتباع الباء ف أصل الدين هو الرجوع إليه دون غيه ،حت
ردوا بذلك براهي الرسالة ،وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا " :إنا وجدنا آباءنا على أمة " .فحي
نبهوا على وجه الجة بقوله تعال " :قال أو لو جئتكم بأهدى ما وجدت عليه آباءكم " ل يكن لم
جواب إل النكار ،اعتمادا على اتباع الباء واطراحا لا سواه ،ول يزل مثل هذا مذموما ف
الشرائع ،كما حكى ال عن قوم نوح عليه السلم بقوله " :ولو شاء ال لنزل ملئكة ما سعنا بذا
ف آبائنا الولي" وعن قوم إبراهيم عليه الصلة والسلم بقوله تعال " :قال هل يسمعونكم إذ تدعون
383
الشاطبي كتاب العتصام
* أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " إل آخر ذلك ما ف معناه ،
فكان الميع مذمومي حي اعتبوا واعتقدوا أن الق تابع لم ول يلتفتوا إل أن الق هو القدم .
والثان رأي المامية و الثالث مذهب الفرقة الهدوية و الرابع رأي بعض القلدة لذهب إمام
والثان :رأي المامية ف اتباع المام العصوم ـ ف زعمهم ـ وإن خالف ما جاء يه النب العصوم
حقا ،وهو ممد صلى ال عليه وسلم ،فحكموا الرجال على الشريعة ول يكموا الشريعة على
الرجال ،وإنا أنزل الكتاب ليكون حكما على اللق على الطلق والعموم .
والثالث :لحق بالثان ،وهو مذهب الفرقة الهدوية الت جعلت أفعال مهديهم حجة ،وافقت
حكم الشريعة أو خالفت ،بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة ( ؟ ) ف عقد إيانم من خالفها كفروه
وجعلوا حكمه حكم الكافر الصلي ،وقد تقدم من ذلك أمثلة .
والرابع :رأي القلدة لذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة ،بيث يأنفون أن تنسب إل أحد
من العلماء فضيلة دون إمامهم ،حت إذا جاءهم من بلغ درجة الجتهاد وتكلم ف السائل ول يرتبط
إل إمامهم رموه بالنكي ،وفوقوا إليه سهام النقد ،وعدوه من الارجي عن الادة ،والفارقي
للجماعة من غي استدلل منهم بدليل ،بل بجرد العتياد العامي .
ولقد لقي المام بقي بن ملد حي دخل الندلس آتيا من الشرق من هذا الصنف المرين ،حت
أصاروه مهجور الفناء ،مهتضم الانب ،لنه من العلم با ل يدي لم به ،إذ لقي بالشرق المام
أحد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ،ولقي أيضا غيه ،حت صنف السند الصنف الذي ل
يصنف ف السلم مثله ،وكان هؤلء القلدة قد صمموا على مذهب مالك ،بيث أنكروا ما
عداه ،وهذا تكيم الرجال على الق ،والغلو ف مبة الذهب ،وعي النصاف ترى أن الميع أئمة
فضلء ،فمن كان متبعا لذهب متهد لكونه ل يبلغ درجة الجتهاد فل يضره مالفة غي إمامه
لمامه ،لن الميع سالك على الطريق الكلف به ،فقد يؤدي التغال ف التقليد إل إنكار لا أجع
الناس على ترك إنكاره .
384
الشاطبي كتاب العتصام
إن صاحب هذا الكلم ثبتت وليته ،فكل ما يفعله أو يقلوه حق ،وإن كان مالفا فهو أيضا من
يقتدى به ،والفقه للعموم ،وهذه طريقة الصوص !
فتراهم يسنون الظن بتلك القوال والفعال ول يسنون الظن بشريعة ممد صلى ال عليه وسلم ،
وهو عي اتباع الرجال وترك الق ،مع أن أولئك التصوفة الذين ينقل عنهم ل يثبت أن ما نقل
عنهم كان ف النهاية دون البداية ،ول علم أنم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم ل ،وأيضا
فقد يكون من أئمة التصوف وغيهم من زل زلة يب سترها عليه ،فينقلها عنه من ل يعلم حاله من
ل يتأدب بطريق كل التأدب .
وقد حذر السلف الصال من زلة العال ،وجعلوها من المور الت تدم الدين ،فإنه ربا ظهرت
فتطي ف الناس كل مطار ،فيعدونا دينا ،وهي ضد الدين ،فتكون الزلة حجة ف الدين .
فكذلك أهل التصوف ل بد ف القتداء بالصوف من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يكم عليها :
هل هي من جلة ما يتخذ دينا أم ل ؟ والاكم هو الشرع وأقوال العال تعرض على الشرع أيضا ،
وأقل ذلك ف الصوف أن نسأله عن تلك العمال إن كان عالا بالفقه ،كالنيد وغيه رحهم ال .
ولكن هؤلء الرجال النابتة ل يفعلون ذلك ،فصاروا متبعي الرجال من حيث هم رجال ل من
حيث هم راجحون بالاكم الق ،وهو خلف ما عليه السلف الصال وما عليه التصوفة أيضا ،إذ
قال إمامهم سهل بن عبد ال التستري :مذهبنا مبن على ثلثة أصول :القتداء بالنب صلى ال عليه
وسلم ف الخلق والفعال ،والكل من اللل ،وإخلص النية ف جيع العمال .ول يثبت ف
طريقهم اتباع الرجال على انراف ،وحاشاهم من ذلك ،بل اتباع الرجال ،شأن أهل ا لضلل .
385
الشاطبي كتاب العتصام
وفضلء ،فلو كانت خطأ لردوها علينا .وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال التقدمي فيها رأسا
تسي ظن الرجال ،وتمة للعلم ،فصارت بدعة جارية ـ أعن القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا
بأنا الق الصريح ،فتعوذ بال من الخالفة .
ولقد ل بعضهم حي وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا ،فكان القرشي القرىء أقرب مراما منهم .
حكي عن يوسف بن عبد ال بن مغيث أنه قال :أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي ،وكان ل
يسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما " :وجاءت سكرة الوت بالق ذلك ما كنت منه تيد" فرد عليه
القرشي تيد بالتنوين ،فراجعه القارىء ـ وكان يسن النحو ـ فلج عليه القرىء وثبت على
التنوين .فانتشر الي إل أن بلغ يي بن ماهد اللبيي الزاهد ـ وكان صديقا لذا القرىء ـ
فنهض إليه ،فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن ماهد :إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على
مقرىء فأردت تديد ذلك عليك فأجابه إليه ،فقال :أريد أن أبتدىء بالفصل فهو الذي يتردد ف
الصلوات ،فقال القرىء :ما شئت .فقرأ عليه من أول الفصل فلما بلغ الية الذكورة ردها عليه
القرىء بالتنوين ،فقال له ابن ماهد :ل تفعل ،ما هي إل غي منونة بل شك .فلج القرىء ،فلما
رأى ابن ماهد تصميمه قال له :يا أخي إن ل يملن على القراءة عليك إل لتراجع الق ف لطف ،
وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو ،فإن الفعال ل يدخلها التنوين ،فتحي القرىء ،إل أنه
ل يقنع بذا ،فقال له ابن ماهد :بي وبينك الصاحف .فأحصر منه جلة فوجدوها مشكولة بغي
تنوين ،فرجع القرىء إل الق .انتهت الكاية .ويا ليت مسألتنا مثل هذه .ولكنهم عفا ال عنهم
أبوا النقياد إل الصواب .
والسابع رأي نابتة أن ما عليه المهور اليوم صحيح بإطلق كإلزام الدعاء بالجتماع عقب
الصلوات
والسابع :رأي نابتة أيضا يرون أن عمل المهور اليوم ـ من التزام الدعاء بيئة الجتماع بإثر
الصلوات ،والتزام الؤذني التثويب بعد الذان ـ صحيح بإطلق ،من غي اعتبار بخالفة الشريعة
أو موافقتها ،وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة السلمي ،بناءً
منهم على أمور تبطوا فيها من غي دليل معتب .فنهم من ييل إل أن هذا العمل العمول به ف
المهور ثابت عن فضلء وصالي علماء .
فلو كان خطأ ل يعملوا به .
وهذا ما نن فيه اليوم .تتم الدلة وأقوال العلماء التقدمي ،ويسن الظن بن تأخر ،وربا نوزع
بأقوال من تقدم ،فيميها الرامي بالظنون واحتمال الطأ ،ول يرمي بذلك التأخرين ،الذين هم
أول به بإجاع السلمي .وإذا سئل عن أصل هذا العمل التأخر :هل عليه دليل من الشريعة ؟ ل
386
الشاطبي كتاب العتصام
يأت بشيء أو يأت بأدلة متملة ل علم له بتفصيلها ،كقوله هذا خي أو حسن ،وقد قال تعال :
"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" أو يقول :هذا بر ،وقال تعال " :وتعاونوا على الب
والتقوى" فإذا سئل عن أصل كونه خيا أو برا وقف ،وميله إل أنه ظهر له بعقله أنه خي وبر ،
فجعل التحسي عقليا ،وهو مذهب أهل الزيغ ،وثابت عند أهل السنة أنه من البدع الحدثات .
ومنهم من طالع كلم القراف و ابن عبد السلم ف أن البدع خسة أقسام .فنقول :هذا من الحدث
الستحسن .وربا رشح ذلك با جاء ف الديث :
"ما رآه السلمون حسنا فهو عند ال حسن" وقد مر ما فيه .وأما الديث فإنا معناه عند العلماء أن
علماء السلم إذا نظروا ف مسألة متهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند ال حسن ،لنه جار
على أصول الشريعة .والدليل على ذلك التفاق .على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إل
استحسان حكم شرعي ل يكن عند ال حسنا حت يوافق الشريعة .والذين نتكلم معهم ف هذه
السألة ليسوا من الجتهدين بإتفاق منا ومنهم ،فل اعتبار بالحتجاج بالديث على استحسان شيء
واستقباحه بغي دليل شرعي .
ومنهم من ترقى ف الدعوى حت يدعي فيها الجاع من أهل القطار ،وهو ل يبح من قطره ،ول
بث عن علماء أهل القطار ،ول عن تبيانم فيما عليه المهور ،ول عرف من أخبار القطار خبا
،فهو من يسأل عن ذلك يوم القيامة .
وهذا الضطراب كله منشؤه تسي الظن بأعمال التأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بلف ذلك ـ
والوقوف مع الرجال دون التحري للحق .
والثامن رأي قوم من تقدم زمان الصنف ومن أهله اتذوا الرجال ذريعة لهوائهم
والثامن :رأي قوم من تقدم زماننا هذا ـ فضلً عن زماننا ـ اتذوا الرجال ذريعة لهوائهم وأهواء
من داناهم ،ومن رغب إليهم ف ذلك ،فإذا عرفوا غرض بعض هؤلء ف حكم حاكم أو فتيا تعبدا
وغي ذلك ،بثوا عن أقوال العلماء ف السألة السؤول عنها حت يدوا القول الوافق للسائل فأفتوا به
،زاعمي أن الجة ف ذلك لم قول من قال :اختلف العلماء رحة .ث ما زال هذا الشر يستطي
ف التباع وأتباعهم ،حت لقد حكى الطاب عن بعضهم أنه يقول :كل مسألة ثبت لحد من
العلماء فيها القول بالواز ـ شذ عن الماعة أو ل ـ فالسألة جائزة ،وقد تقررت هذه السألة
على وجهها ف كتاب الوافقات ،والمد ل .
والتاسع ما حكى ال عن الحبار والرهبان ف قوله اتذوا أحبارهم ورهبانم أربابا أي العمل
بأقوالم ف اللل والرام
387
الشاطبي كتاب العتصام
والتاسع :ما حكى ال عن الحبار والرهبان قوله " :اتذوا أحبارهم ورهبانم أربابا من دون ال"
فخرج الترمذي عن" عدي بن حات قال :أتيت النب صلى ال عليه وسلم ـ وف عنقي صليب من
ذهب ـ فقال :يا عدي ،اطرح عنك هذا الوثن ،وسعته يقرأ ف سورة براءة " :ومن خفت
موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم" قال :أما إنم ل يكونوا يعبدونم ،ولكن إذا أحلوا لم شيئا
استحلوه ،وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه" حديث غريب .
وف تفسي سعيد ين منصور قيل لذيفة ،أرأيت قول ال تعال " :اتذوا أحبارهم ورهبانم أربابا
من دون ال" ؟ قال حذيفة :أما أنم ل يصلوا لم ،ولكنهم كانوا ما أحلوا لم من حرام
استحلوه ،وما حرموا عليهم من حلل حرموه ،فتلك ربوبيتهم .
وحكى الطبي عن عدي مرفوعا إل النب صلى ال عليه وسلم ،وهو قول ابن عباس أيضا وأب
العالية .
فتأملوا يا أول اللباب ! كيف حال العتقاد ف الفتوى على الرجال من غي تر للدليل الشرعي ،
بل لجرد العرض العاجل ،عافانا ال من ذلك بفضله .
فالاصل ما تقدم أن تيكم الرجال من غي التفات إل كونم وسائل للحكم الشرعي الطلوب
شرعا ضلل
فالاصل ما تقدم أن تكيم الرجال من غي التفات إل كونم وسائل للحكم الشرعي الطلوب شرعا
ضلل ،وما توفيقي إل بال ،وإن الجة القاطعة والاكم العلى هو الشرع ل غي .
388
الشاطبي كتاب العتصام
بعث أسامة
والثانية :أن ابا بكر رضي ال عنه ل يلتفت إل ما يلقى هو والسلمون ف طريق طلب الزكاة من
مانعيها من الشقة إذ لا امتنعوا صار مظنة للقتال وهلك من شاء من الفرقتي ،ودخول الشقة على
السلمي ف النفس والموال والولد ولكنه رضي ال عنه ل يعتب إل إقامة اللة على حسب ما
كانت قبل ،فكان ذلك أصلً ف أنه ل يعتب العوارض الطارئة ف إقامة الدين وشعائر السلم ،نظي
ما قال ال تعال " :إنا الشركون نس فل يقربوا السجد الرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة
فسوف يغنيكم ال من فضله" فإن ال ل يعذرهم ف ترك منع الشركي خوف العيلة ،فكذلك ل
يعد أبو بكر ما يلقى السلمون من الشقة عذرا يترك به الطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت ف
زمان النب صلى ال عليه وسلم وجاء ف القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول
ال صلى ال عليه وسلم مع أسامة بن زيد ـ ول يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا
على قتال أهل الردة فأب من ذلك ،وقال :ما كنت لرد بعثا أنفذه رسول ال صلى ال عليه وسلم
.فوقف مع شرع ال ول يكم غيه .
وعن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال " :إن أخاف على أمت من بعدي من أعمال ثلثة .قالوا :
وما هي يا رسول ال ؟ قال :أخاف عليكم من زلة العال ،ومن حكم جائر ،ومن هوى متبع" .
389
الشاطبي كتاب العتصام
وإنا زلة العال بأن يرج عن طريق الشرع ،فإذا كان من يرج عنه فكيف يعل حجة على
الشرع ؟ هذا مضاد لذلك .
390
الشاطبي كتاب العتصام
العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الاهلي" فوال ما جاوز عمر حي تلها عليه ،وكان وقافا عند
كتاب ال .
وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلة والسلم " :فأما الؤمن ـ أو السلم ـ فيقول :ممد
جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا ،فيقال :ن صالا قد علمنا أنك موقن .وأما النافق أو الرتاب فيقول
:ل أدري ،سعت الناس يقولون شيئا فقلته" .
وحديث ماصمة علي والعباس عمر ف مياث رسول ال صلى ال عليه وسلم ،وقوله لرهط
الاضرين :هل تعلمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال :
" ل نورث ما تركناه صدقة " فأقروا بذلك ـ إل أن قال لعلي والعباس " :أفتلتمسان من قضاء غي
ذلك ؟ فوال الذي بإذنه تقوم السماء والرض ل أقضي فيها قضاءً غي ذلك حت تقوم الساعة "ـ
إل آخر الديث
391
الشاطبي كتاب العتصام
الدين وأحكامه وقال النب صلى ال عليه وسلم " :من بدل دينه فاقتلوه " وكان القراء أصحاب
مشورة عمر كهولً كانوا أو شبانا ،وكت وقافا عند كتاب ال .
هذا جلة ما قال ف جلة تلك الترجة ما يليق بذا الوضع ،ما يدل على أن الصحابة ل يأخذوا
أقوال الرجال ف طريق الق إل من حيث هم وسائل للتوصل إل شرع ال ،ل من حيث هم
أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم .
وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ،عن ابن القاسم ،عن مالك أنه قال :ليس كل ما قال رجل
قولً وإن كان له فضل يتبع عليه لقول ال عز وجل " :الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" .
392