You are on page 1of 392

‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كتاب العتصام‬
‫للعلمة أبي إسحاق إبراهيم بن موسى‬
‫الشاطبي‬

‫خطبة الكتاب‬
‫المد ل الحمود على كل حال‪ ،‬الذي بمده يستفتح كل أمر ذي بال‪ ،‬خالق اللق لا شاء‪،‬‬
‫وميسرهم على وفق علمه وإرادته‪ ،‬ل على وفق أغراضهم لا سر وساء‪ ،‬ومصرفهم بقتضى‬
‫القبضتي ‪ ،‬فمنهم شقي وسعيد‪ ،‬وهداهم النجدين فمنهم قريب وبعيد‪ ،‬ومسويهم على قبول اللامي‬
‫ففاجر وتقي ‪ ،‬كما قدر أرزاقهم بالعدل على حكم الطرفي ففقي وغن ‪ ،‬كل منهم جار على ذلك‬
‫السلوب فل يعدوه‪ ،‬فلو تالؤوا على أن يسدوا ذلك الفتق ل يسدوه‪ ،‬أو يردوا ذلك الكم السابق‬
‫ل ينسخوه ول يردوه‪ ،‬فل إطلق لم على تقييده ول انفصال ‪ " ،‬ول يسجد من ف السماوات‬
‫والرض طوعا وكرها وظللم بالغدو والصال " ‪.‬‬
‫والصلة والسلم على سيدنا ومولنا ممد نب الرحة ‪ ،‬وكاشف الغمة ‪ ،‬الذي نسخت شريعته كل‬
‫شريعة ‪ ،‬وشلت دعوته كل أمة ‪ ،‬فلم يبق لحد حجة دون حجته ‪ ،‬ول استقام لعاقل طريق سوى ل‬
‫حب مجته ‪ ،‬وجعت تت حكمتها كل معن مؤتلف ‪ ،‬فل يسمع بعد وضعها خلف مالف ول‬
‫قول متلف ‪ ،‬فالسالك سبيلها معدود ف الفرقة الناجية ‪ ،‬والناكب عنها مصدود إل الفرق القصرة أو‬
‫الفرق الغالية ‪ .‬صلى ال عليه وعلى آله وصحبه الذين اهتدوا بشمسه النية ‪ ،‬واقتفوا آثاره‬
‫اللئحة ‪ ،‬وأنواره الواضحة وضوح الظهية ‪ ،‬وفرقوا بصوارم أيديهم وألسنتهم بي كل نفس فاجرة‬
‫ومبورة ‪ ،‬وبي كل حجة بالغة وحجة مبية ‪ ،‬وعلى التابعي لم على ذلك السبيل ‪ ،‬سائر النتمي‬
‫إل ذلك القبيل ‪ ،‬وسلم تسليما كثيا ‪.‬‬
‫أما بعد ‪ :‬فإن أذكرك أيها الصديق الوف ‪ ،‬والالصة الصفى ‪ ،‬ف مقدمة ينبغي تقديها قبل الشروع‬
‫ف القصود ‪ ،‬وهي معن قول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬

‫ف معن قول صلى ال عليه وسلم بدىء السلم غريبا‬


‫وهي معن قول رسول ال صلى ال عليه وسلم "بدىء السلم غريبا وسيعود غريبا كما بدىء‬
‫فطوب للغرباء ‪ ،‬قيل ‪ :‬ومن الغرباء يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬الذين يصلحون عند فساد الناس" وف رواية‬
‫قيل ‪ ":‬ومن الغرباء يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬الناع من القبائل" وهذا ممل ولكنه مبي ف الرواية‬
‫الخرى ‪ .‬وجاء من طريق آخر" بدىء السلم غريبا ول تقوم الساعة حت يكون غريبا كما بدىء‬
‫فطوب للغرباء حي يفسد الناس" ‪ ،‬وف رواية لبن وهب قال عليه الصلة والسلم ‪ ":‬طوب للغرباء‬
‫الذين يسكون بكتاب ال حي يترك ويعملون بالسنة حي تطفى" ‪ ،‬وف رواية ‪" :‬إن السلم بدىء‬

‫‪1‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوب للغرباء قالوا ‪ :‬يا رسول ال كيف يكون غريبا ؟ قال ‪ :‬كما‬
‫يقال للرجل ف حي كذا وكذا إنه لغريب" وف رواية ‪ ":‬أنه سئل عن الغرباء قال ‪ :‬الذين ييون ما‬
‫أمات الناس من سنت" ‪ .‬وجلة العن فيه من جهة وصف الغربة ما ظهر بالعيان والشاهدة ف أول‬
‫السلم وآخره ‪ ،‬وذلك أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بعثه ال تعال على حي فترة من الرسل ‪،‬‬
‫وف جاهلية جهلء ‪ ،‬ل تعرف من الق رسا ‪ ،‬ول تقيم به ف مقاطع القوق حكما ‪ ،‬بل كانت‬
‫تنتحل ما وجدت عليه آباءها ‪ ،‬وما استحسنه أسلفها ‪ ،‬من الراء النحرفة ‪ ،‬والنحل الخترعة ‪،‬‬
‫والذاهب البتدعة ‪ ،‬فحي قام فيهم صلى ال عليه وسلم بشيا ونذيرا ‪ ،‬وداعيا إل ال بإذنه وسراجا‬
‫منيا ‪ ،‬فسرعان ما عارضوا معروفه بالنكر ‪ ،‬وغيوا ف وجه صوابه بالفك ‪ ،‬ونسبوا إليه إذ خالفهم‬
‫ف الشرعة ‪ ،‬ونابذهم ف النحلة ‪ ،‬كل مال ‪ ،‬ورموه بأنواع البهتان ‪ ،‬فتار ًة يرمونه بالكذب وهو‬
‫الصادق الصدوق ‪ ،‬الذي ل يربوا عليه قط خبا بلف مبه ‪ ،‬وآونة يتهمونه بالسحر ‪ ،‬وف‬
‫علمهم أنه ل يكن من أهله ول من يدعيه ‪ ،‬وكرة يقولون ‪ :‬إنه منون مع تققهم بكمال عقله ‪،‬‬
‫وبراءته من مس الشيطان وخبلة ‪ ،‬وإذا دعاهم إل عبادة العبود بق وحده ل شريك له ‪ ،‬قالوا ‪" :‬‬
‫أجعل اللة إلا واحدا إن هذا لشيء عجاب " مع القرار بقتضى هذه الدعوة الصادقة ‪" :‬فإذا ركبوا‬
‫ف الفلك دعوا ال ملصي له الدين " وإذا أنذرهم بطشة يوم القيامة ‪ ،‬أنكروا ما يشاهدون من الدلة‬
‫على إمكانه ‪ ،‬وقالوا ‪ " :‬أإذا متنا وكنا ترابا ذلك رجع بعيد " وإذا خوفهم نقمة ال ‪ ،‬قالوا ‪" :‬اللهم‬
‫إن كان هذا هو الق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم " اعتراضا على‬
‫صحة ما أخبهم به ما هو كائن ل مالة ‪ ،‬وإذا جاءهم بآية خارقة افترقوا ف الضللة على فرق ‪،‬‬
‫واخترقوا فيها بجرد العناد ما ل يقبله أهل التهدي إل التفرقة بي الق والباطل ‪ ،‬كل ذلك منهم إل‬
‫التأسي بم والوافقة لم على ما ينتحلون ‪ ،‬إذ رأوا خلف الخالف لم ف باطلهم ردا لا هم عليه ‪،‬‬
‫ونبذا لا شدوا عليه يد الظنة ‪ ،‬واعتقدوا إذ ل يتمسكوا بدليل أن اللف يوهن الثقة ويقبح جهة‬
‫الستحسان ‪ ،‬وخصوصا حي اجتهدوا ف النتصار بعلم فلم يدوا أكثر من تقليد الباء ‪ .‬ولذلك‬
‫أخب ال تعال عن إبراهيم عليه السلم ف ماجة قومه ‪ " :‬ما تعبدون * قالوا نعبد أصناما فنظل لا‬
‫عاكفي * قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك‬
‫يفعلون " فحادوا كما ترى عن الواب القاطع الورد ‪ ،‬مورد السؤال إل الستمساك بتقليد الباء ‪.‬‬
‫وقال ال تعال ‪ " :‬أم آتيناهم كتابا من قبله فهم به مستمسكون * بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة‬
‫وإنا على آثارهم مهتدون " فرجعوا عن جواب ما ألزموا إل التقليد ‪ ،‬فقال تعال ‪ " :‬قال أو لو‬
‫جئتكم بأهدى ما وجدت عليه آباءكم " فأجابوا بجرد النكار ‪ ،‬ركونا إل ما ذكروا من التقليد ل‬
‫بواب السؤال ‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فكذلك كانوا مع النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأنكروا ما توقعوا معه زوال ما بأيديهم ‪ ،‬لنه خرج‬
‫عن معتادهم ‪ ،‬وأتى بلف ما كانوا عليه من كفرهم وضللم ‪ ،‬حت أرادوا أن يستنلوه على وجه‬
‫السياسة ف زعمهم ‪ ،‬ليوقعوا بينهم وبي الؤالفة والوافقة ولو ف بعض الوقات ‪ ،‬أو ف بعض‬
‫الحوال ‪ ،‬أو على بعض الوجوه ‪ ،‬ويقنعوا منه بذلك ‪ ،‬ليقف لم بتلك الوافقة واهي بنائهم ‪ ،‬فأب‬
‫عليه الصلة والسلم إل الثبوت على مض الق والحافظة على خالص الصواب ‪ ،‬وأنزل ال ‪" :‬قل‬
‫يا أيها الكافرون * ل أعبد ما تعبدون " إل آخر السورة ‪ ،‬فنصبوا له عند ذلك حرب العدواة ‪،‬‬
‫ورموه بسهام القطيعة ‪ ،‬وصار أهل السلم كلهم حربا عليه ‪ ،‬عاد الول الميم ‪ ،‬عليه كالعذاب الليم‬
‫‪ ،‬فأقربم إليه نسبا كان أبعد الناس عن موالته ‪ ،‬كأب جهل وغيه ‪ ،‬وألصقهم به رحا ‪ ،‬كانوا‬
‫أقسى قلوبا عليه ‪ ،‬فأي غربة توازي هذه الغربة ؟ ومع ذلك فلم يكله ال إل نفسه ‪ ،‬ول سلطهم‬
‫على النيل من أذاه ‪ ،‬إل نيل الصلوفي ‪ ،‬بل حفظه وعصمه ‪ ،‬وتوله بالرعاية والكلء ‪ ،‬حت بلغ‬
‫رسالة ربه ‪.‬‬
‫ث ما زالت الشريعة ف أثناء نزولا ‪ ،‬وعلى توال تقريرها ‪ ،‬تبعد بي أهلها وبي غيهم ‪ ،‬وتضع‬
‫الدود بي حقها وبي ما ابتدعوا ‪ ،‬ولكن على وجه من الكمة عجيب ‪ ،‬وهو التأليف بي أحكامها‬
‫وبي أكابرهم ف أصل الدين الول الصيل ‪ ،‬ففي العرب نسبتهم إل أبيهم إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬وف‬
‫غيهم لنبيائهم البعوثي فيهم ‪ ،‬كقوله تعال بعد ذكر كثي من النبياء ‪" :‬أولئك الذين هدى ال‬
‫فبهداهم اقتده " وقوله تعال ‪ " :‬شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما‬
‫وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ول تتفرقوا فيه كب على الشركي " ‪.‬‬
‫وما زال عليه الصلة والسلم يدعو لا ‪ ،‬فيؤوب إليه الواحد بعد الواحد على حكم الختفاء ‪ ،‬خوفا‬
‫من عادية الكفار ‪ ،‬زمان ظهورهم على دعوة السلم ‪ ،‬فلما اطلعوا على الخالفة أنفوا ‪ ،‬وقاموا‬
‫وقعدوا ‪ ،‬فمن أهل السلم من لأ إل قبيلة فحموه على إغماض ‪ ،‬أو على دفع العار ف الخفار ‪.‬‬
‫ومنهم من فر من الذاية وخوف الغرة ‪ ،‬هجرةً إل ال وحبا ف السلم ‪ .‬ومنهم من ل يكن له وزر‬
‫يميه ‪ ،‬ول ملجأ يركن إليه ‪ ،‬فلقي منهم من الشدة والغلطة والعذاب أو القتل ما هو معلوم ‪ ،‬حت‬
‫زل منهم من زل فرجع أمره بسبب الرجوع إل الوافقة ‪ ،‬وبقي منهم من بقي صابرا متسبا ‪ ،‬إل أن‬
‫أنزل ال تعال الرخصة ف النطق بكلمة الكفر على حكم الوافقة ظاهرا ‪ ،‬ليحصل بينهم وبي الناطق‬
‫الوافقة ‪ ،‬وتزول الخالفة ‪ ،‬فنل إليها من نزل على حكم التقية ‪ ،‬ريثما يتنفس من كربه ويتروح من‬
‫خناقه ‪ ،‬وقلبه مطمئن باليان ‪ .‬وهذه غربة أيضا ظاهرة ‪ ،‬وإنا كان هذا جهلً منهم بواقع الكمة ‪،‬‬
‫وأن ما جائهم به نبيهم صلى ال عليه وسلم هو الق ضد ما هم عليه ‪ ،‬فمن جهل شيئا عاداه ‪ ،‬فلو‬
‫علموا لصل الوفاق ‪ ،‬ول يسمع اللف ‪ ،‬ولكن سابق القدر حتم على اللق ما هم عليه قال ال‬
‫تعال ‪" :‬ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك " ‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث استمر تزيد السلم ‪ ،‬واستقام طريقه على مدة حياة النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ومن بعد موته‬
‫وأكثر قرن الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬إل أن نبغت فيهم نوابغ الروج عن السنة ‪ ،‬واصغوا إل البدع‬
‫الضلة كبدعة القدر وبدعة الوارج وهي الت نبه عليها الديث بقوله ‪" :‬يقتلون أهل السلم ‪،‬‬
‫ويدعون أهل الوثان ‪ ،‬يقرؤون القرآن ل ياوز تراقيهم" يعن ل يتفقهون فيه ‪ ،‬بل يأخذونه على‬
‫الظاهر ‪ :‬كما بينه حديث ابن عمر الت بول ال ‪ .‬وهذا كله ف آخر عهد الصحابة ‪.‬‬
‫ث ل تزل الفرق تكثر حسبما وعد به الصادق صلى ال عليه وسلم ف قوله ‪:‬‬
‫"افترقت اليهود على إحدى وسبعي فرقة والنصارى مثل ذلك وتفترق أمت على ثلث وسبعي فرقة"‬
‫وف الديث الخر ‪:‬‬
‫"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبا بشب وذراعا بذراع حت لو دخلوا ف جحر ضب لتبعتموهم قلنا‬
‫يا رسول ال اليهود والنصارى ؟ قال ‪ :‬فمن ؟" وهذا أعم من الول فإن الول عند كثي من أهل‬
‫العلم خاص بأهل الهواء وهذا الثان عام ف الخالفات ‪ ،‬ويدل على ذلك من الديث قوله ‪" :‬حت‬
‫لو دخلوا ف جحر ضب لتبعتموهم" ‪.‬‬
‫وكل صاحب مالفة فمن شأنه أن يدعو غيه إليها ‪ ،‬ويص سؤاله بل سواه عليها ‪ ،‬إذ التأسي ف‬
‫الفعال والذاهب موضوع طلبه ف البلة ‪ ،‬وبسببه تقع ف الخالف الخالفة ‪ ،‬وتصل من الوافق‬
‫الؤالفة ‪ ،‬ومنه تنشأ العدواة والبغضاء للمختلفي ‪.‬‬
‫كان السلم ف أوله وجدته مقاوما بل ظاهرا ‪ ،‬وأهله غالبون وسوادهم أعظم السودة ‪ ،‬فخل من‬
‫وصف الغربة بكثرة الهل والولياء الناصرين ‪ ،‬فلم يكن لغيهم من ل يسلك سبيلهم أو سلكه‬
‫ولكنه ابتدع فيه صولة يعظم موقعها ‪ ،‬ول قوة يضعف دونا حزب ال الفلحون ‪ ،‬فصار على‬
‫استقامة ‪ ،‬وجرى على اجتماع واتساق ‪ ،‬فالشاذ مقهور مضطهد ‪ ،‬إل أن أخذ اجتماعه ف الفتراق‬
‫الوعود ‪ ،‬وقوته إل الضعف النتظر ‪ ،‬والشاذ عنه تقوى صولته ويكثر سواده ‪ ،‬واقتضى سر التأسي‬
‫الطالبة بالوافقة ول شك أن الغالب أغلب ‪ ،‬فتكالبت على سواد السنة البدع والهواء ‪ ،‬فتفرق‬
‫أكثرهم شيعا ‪ .‬وهذه سنة ال ف اللق ‪ :‬إن أهل الق ف جنب أهل الباطل قليل لقوله تعال ‪ " :‬وما‬
‫أكثر الناس ولو حرصت بؤمني " وقوله تعال ‪ " :‬وقليل من عبادي الشكور " ولينجز ال ما وعد به‬
‫نبيه صلى ال عليه وسلم من عود وصف الغربة إليه ‪ ،‬فإن الغربة ل تكون إل مع فقد الهل أو‬
‫قلتهم ‪ ،‬وذلك حي يصي العروف منكرا ‪ ،‬والنكر معروفا ‪ ،‬وتصي السنة بدع ًة ‪ ،‬والبدعة سنة ‪،‬‬
‫فيقام على أهل السنة بالتثريب والتعنيف ‪ ،‬كما كان أولً يقام على أهل البدعة طمعا من البتدع أن‬
‫تتمع كلمة الضلل ‪ ،‬ويأب ال أن تتمع حت تقوم الساعة ‪ ،‬فل تتمع الفرق كلها على كثرتا على‬
‫مالفة السنة عادة وسعا ‪ ،‬بل ل بد أن تثبت جاعة أهل السنة حت يأت أمر ال ‪ ،‬غي أنم لكثرة ما‬
‫تناوشهم الفرق الضالة وتناصبهم العداوة والبغضاء استدعاء إل موافقتهم ‪ ،‬ل يزالون ف جهاد‬

‫‪4‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ونزاع ‪ ،‬ومدافعة وقراع ‪ ،‬آناء الليل والنهار ‪ ،‬وبذلك يضاعف ال لم الجر الزيل ويثيبهم الثواب‬
‫العظيم ‪.‬‬
‫فقد تلخص ما تقدم أن مطالبة الخالفة بالوافقة جار مع الزمان ل يتص بزمان دون زمان ‪ ،‬فمن‬
‫وافق فهو عند الطالب الصيب على أي حال كان ‪ ،‬ومن خالف فهو الخطىء الصاب ‪ ،‬ومن وافق‬
‫فهو الحمود السعيد ‪ ،‬ومن خالف فهو الذموم الطرود ‪ ،‬ومن وافق فقد سلك سبيل الداية ‪ ،‬ومن‬
‫خالف فقد تاه ف طرق الضللة والغواية ‪.‬‬
‫وإنا قدمت هذه القدمة لعن أذكره ‪ .‬وذلك أن ول المد ل أزل منذ فتق للفهم عقلي ووجه شطر‬
‫العلم طلب ‪ ،‬أنظر ف عقلياته ‪ ،‬وشرعياته ‪ ،‬وأصوله وفروعه ل أقتصر منه على علم دون علم ‪ ،‬ول‬
‫أفردت عن أنواعه نوعا دون آخر ‪ ،‬حسبما اقتضاه الزمان والكان ‪ ،‬وأعطته النة الخلوقة ف أصل‬
‫فطرت ‪ ،‬بل خضت ف لجه خوض الحسن للسباحة ‪ ،‬وأقدمت ف ميادينه إقدام الريء ‪ ،‬حت‬
‫كدت أتلف ف بعض أعماقه ‪ ،‬أو أنقطع ف رفقت ‪ ،‬الت بالنس با تاسرت على ما قدر ل ‪ ،‬غائبا‬
‫عن مقال القائل وعذل العاذل ‪ ،‬ومعرضا عن صد الصاد ولوم اللئم ‪ ،‬إل أن من علي الرب الكري ‪،‬‬
‫الرؤوف الرحيم ‪ ،‬فشرح ل من معان الشريعة ما ل يكن ف حساب ‪ ،‬وألقى ف نفسي القاصرة أن‬
‫كتاب ال وسنة نبيه ل يتركا ف سبيل الداية لقائل ما يقول ول أبقيا لغيها مالً يعتد فيه ‪ ،‬وإن‬
‫الدين قد كمل ‪ ،‬والسعادة الكبى فيما وضع ‪ ،‬والطلبة فيما شرع ‪ ،‬وما سوى ذلك فضلل‬
‫وبتان ‪ ،‬وإفك وخسران ‪ ،‬وأن العاقد عليهما بكلتا يديه مستمسك بالعروة الوثقى ‪ ،‬مصل لكليت‬
‫الي دنيا وأخرى ‪ ،‬وما سواها فأحلم وخيالت وأوهام ‪ ،‬وقام ل على صحة ذلك البهان الذي ل‬
‫شبهة تطرق حول حاه ‪ ،‬ول ترتي نو مرماه ‪ " :‬ذلك من فضل ال علينا وعلى الناس ولكن أكثر‬
‫الناس ل يشكرون " والمد ل والشكر كثيا كما هو أهله ‪ .‬فمن هنالك قويت نفسي على الشي‬
‫ف طريقه بقدار ما يسر ال فيه ‪ ،‬فابتدأت بأصول الدين عملً واعتقادا ‪ ،‬ث بفروعه البينة على تلك‬
‫الصول ‪ ،‬وف خلل ذلك أبي ما هو من السنن أو من البدع ‪ ،‬كما أبي ما هو من الائز وما هو‬
‫من المتنع ‪ ،‬وأعرض ذلك على علم الصول الدينية والفقهية ‪ ،‬ث أطالب نفسي بالشي مع للجماعة‬
‫الت ساها رسول ال صلى ال عليه وسلم بالسواد العظم ‪ ،‬ف الوصف الذي كان عليه هو وأصحابه‬
‫وترك البدع الت نص عليها العلماء أنا بدع وأعمال متلفة ‪.‬‬
‫وكنت ف اثناء ذلك قد دخلت ف بعض خطط المهور من الطابة والمامة ونوها فلما أردت‬
‫الستقامة على الطريق ‪ ،‬وجدت نفسي غريبا ف جهور أهل الوقت لكون خططهم قد غلبت عليها‬
‫العوائد ‪ ،‬ودخلت على سننها الصلية شوائب من الحدثات الزوائد ‪ ،‬ول يكن ذلك بدعا ف الزمنة‬
‫التقدمة ‪ ،‬فكيف ف زماننا هذا فقد روي عن السلف الصال من التنبيه على ذلك كثي ‪ ،‬كما" روي‬
‫عن أب الدرداء أنه قال ‪ :‬لو خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم عليكم ما عرف شيئا ما كان عليه‬

‫‪5‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫هو وأصحابه إل الصلة" ‪ .‬قال الوزاعي ‪ :‬فكيف لو كان اليوم ؟ قال عيسى بن يونس ‪ :‬فكيف لو‬
‫أدرك الوزاعي هذا الزمان ؟‬
‫وعن أم الدرداء قالت ‪ :‬دخل أبو الدراداء وهو غضبان ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ما أغضبك ؟ فقال ‪ :‬وال ما أعرف‬
‫فيهم شيئا من أمر ممد إل أنم يصلون جيعا ‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك قال ‪ :‬ما أعرف منكم ما كنت أعهده على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫غي قولكم ‪ :‬ل إله إل ال ‪ .‬قلنا ‪ :‬بلى يا أبا حزة ؟ قال ‪ :‬قد صليتم حت تغرب الشمس ‪ ،‬أفكانت‬
‫تلك صلة رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ وعن أنس قال ‪ :‬لو أن رجلً أدرك السلف الول ث‬
‫بعث اليوم ما عرف من السلم شيئا ‪ ،‬قال ‪ :‬ووضع يده على خده ث قال ‪ :‬إل هذه الصلة ‪ ،‬ث‬
‫قال ‪ :‬أما وال على ذلك لن عاش ف النكر ول يدرك ذلك السلف الصال فرأى مبتدعا يدعو إل‬
‫بدعته ‪ ،‬ورأى صاحب دنيا يدعو إل دنياه ‪ ،‬فعصمه ال من ذلك ‪ ،‬وجعل قلبه ين إل ذلك السلف‬
‫الصال ‪ ،‬يسأل عن سبلهم ‪ ،‬ويقتص آثارهم ‪ ،‬ويتبع سبيلهم ‪ ،‬ليعوض أجرا عظيما ‪ ،‬وكذلك‬
‫فكونوا إن شاء ال ‪.‬‬
‫وعن ميمون بن مهران قال ‪ :‬لو أن رجلً أنشر فيكم من السلف ما عرف غي هذه القبلة ‪.‬‬
‫وعن سهل بن مالك عن أبيه قال ‪ :‬ما أعرف شيئا ما أدركت عليه الناس إل النداء بالصلة ‪ .‬إل ما‬
‫أشبه هذا من الثار الدالة على أن الحدثات ‪ ،‬تدخل ف الشروعات ‪ ،‬وأن ذلك قد كان قبل زماننا ‪،‬‬
‫وإنا تتكاثر على توال الدهور إل الن ‪.‬‬
‫فتردد النظر بي أن أتبع السنة على شرط مالفة ما اعتاد الناس فل بد من حصول نو ما حصل‬
‫لخالفي العوائد ‪ ،‬ول سيما إذا ادعى أهلها أم ما هم عليه هو السنة ل سواها إل أن ف ذلك العبء‬
‫الثقيل ما فيه من الجر الزيل وبي أن أتبعهم على شرط مالفة السنة والسلف الصال ‪ ،‬فأدخل تت‬
‫ترجة الضلل عائذا بال من ذلك ‪ ،‬إل أن أوافق العتاد ‪ ،‬وأعد من الؤالفي ‪ ،‬ل من الخالفي ‪،‬‬
‫فرأيت أن اللك ف أتباع السنة هو النجاة ‪ ،‬وأن الناس لن يغنوا عن من ال شيئا ‪ ،‬فأخذت ف ذلك‬
‫على حكم التدريج ف بعض المور ‪ ،‬فقامت علي القيامة ‪ ،‬وتواترت علي اللمة ‪ ،‬وفوق إل العتاب‬
‫سهامه ‪ ،‬ونسبت إل البدعة والضللة ‪ ،‬وأنزلت منلة أهل الغباوة والهالة ‪ ،‬وإن لو التمست لتلك‬
‫الحدثات مرجا لوجدت ‪ ،‬غي أن ضيق العطن ‪ ،‬والبعد عن أهل الفطن ‪ ،‬رقى ب مرتقى صعبا‬
‫وضيق علي مالً رحبا ‪ ،‬وهو كلم يشي بظاهره إل أن اتباع التشابات ‪ ،‬لوافقات العادات ‪ ،‬أول‬
‫من اتباع الواضحات ‪ ،‬وإن خالفت السلف الول ‪.‬‬
‫وربا ألوا ف تقبيح ما وجهت إليه وجهت با تشمئز منه القلوب ‪ ،‬أو خرجوا بالنسبة إل بعض الفرق‬
‫الارجة عن السنة شهادة ستكب ويسألون عنها يوم القيامة فتارةً نسبت إل القول بأن الدعاء ل‬

‫‪6‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ينفع ول فائدة فيه كما يعزى إل بعض الناس ‪ ،‬بسبب أن ل ألتزم الدعاء بيئة الجتماع ف أدبار‬
‫الصلة حالة المامة ‪ .‬وسيأت ما ف ذلك من الخالفة للسنة وللسلف الصال والعلماء ‪.‬‬
‫وتارةً نسبت إل الرفض وبغض الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬بسبب أن ل ألتزم ذكر اللفاء الراشدين‬
‫منهم ف الطبة على الصوص ‪ ،‬إذ ل يكن ذلك من شأن السلف ف خطبهم ‪ ،‬ول ذكره أحد من‬
‫العلماء العتبين ف أجزاء الطب ‪ .‬وقد سئل ( أصبغ ) عن دعاء الطيب للخلفاء التقدمي فقال ‪:‬‬
‫هو بدعة ول ينبغي العمل به ‪ ،‬وأحسنه أن يدعو للمسلمي عامة ‪ .‬قيل له ‪ :‬فدعاؤه للغزاة‬
‫والرابطي ؟ قال ‪ :‬ما أرى به بأسا عند الاجة إليه ‪ ،‬وأما أن يكون شيئا يصمد له ف خطبته دائما‬
‫فإن أكره ذلك ‪ .‬ونص أيضا عز الدين بن عبد السلم ‪ :‬على أن الدعاء للخلفاء ف الطبة بدعة غي‬
‫مبوبة ‪.‬‬
‫وتارةً أضيف إل القول بواز القيام على الئمة ‪ ،‬وما أضافوه إل من عدم ذكري لم ف الطبة ‪،‬‬
‫وذكرهم فيه مدث ل يكن عليه من تقدم ‪.‬‬
‫وتارة أحل على التزام الرج والتنطع ف الدين ‪ ،‬وإنا حلهم على ذلك أن التزمت ف التكليف‬
‫والفتيا المل على مشهور الذهب اللتزم ل أتعداه ‪ ،‬وهم يتعدونه ويفتون با يسهل على السائل‬
‫ويوافق هواه ‪ ،‬وإن كان شاذا ف الذهب اللتزم أو ف غيه وأئمة أهل العلم على خلف ذلك‬
‫وللمسألة بسط ف كتاب ( الوافقات ) ‪.‬‬
‫وتارةً نسبت إل معاداة أولياء ال ‪ ،‬وسبب ذلك أن عاديت بعض الفقراء البتدعي الخالفي للسنة‬
‫النتصبي بزعمهم لداية اللق ‪ ،‬وتكلمت للجمهور على جلة من أحوال هؤلء الذين نسبوا إل‬
‫الصوفية ول يتشبهوا بم ‪.‬‬
‫وتارةً نسبت إل مالفة السنة والماعة ‪ ،‬بناءً منهم على أن الماعة الت أمر بأتباعها وهي الناجية ما‬
‫عليه العموم ‪ ،‬ول يعلموا أن الماعة ما كان عليه النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه والتابعون لم‬
‫بإحسان ‪ .‬وسيأت بيان ذلك بول ال ‪ ،‬وكذبوا علي ف جيع ذلك ‪ ،‬أو وهوا ‪ ،‬والمد ل على كل‬
‫حال ‪.‬‬
‫فكنت على حالة تشبه حالة المام الشهي عبد الرحن بن بطة الافظ مع أهل زمانه إذ حكى عن‬
‫نفسه فقال ‪ :‬عجبت من حال ف سفري وحضري مع القربي من والبعدين ‪ ،‬والعارفي‬
‫والنكرين ‪ ،‬فإن وجدت بكة وخراسان وغيها من الماكن أكثر من لقيت با موافقا أو مالفا ‪،‬‬
‫دعان إل متابعته على ما يقوله ‪ ،‬وتصديق قوله والشهادة له ‪ ،‬فإن كنت صدقته فيما يقول وأجزت‬
‫له ذلك كما يفعله أهل هذا الزمان ـ سان موافقا وإن وقفت ف حرف من قوله أو ف شيء من‬
‫فعله ـ سان مالفا ‪ ،‬وإن ذكرت ف واحد منها أن الكتاب والسنة بلف ذلك وارد ‪ ،‬سان‬
‫خارجيا ‪ ،‬وإن قرأت عليه حديثا ف التوحيد سان مشبها ‪ ،‬وإن كان ف الرؤية سان ساليا ‪ ،‬وإن‬

‫‪7‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كان ف اليان سان مرجئيا ‪ ،‬وإن كان ف العمال ‪ ،‬سان قدريا ‪ ،‬وإن كان ف العرفة سان كراميا‬
‫‪ ،‬وإن كان ف فضائل أب بكر وعمر ‪ ،‬سان ناصبيا ‪ ،‬وإن كان ف فضائل أهل البيت سان رافضيا ‪،‬‬
‫وإن سكت عن تفسي آية أو حديث فلم أجب فيهما إل بما ‪ ،‬سان ظاهريا ‪ ،‬وإن أجبت بغيها ‪،‬‬
‫سان باطنيا ‪ ،‬وإن أجبت بتأويل ‪ ،‬سان أشعريا وإن جحدتما ‪ ،‬سان معتزليا ‪ ،‬وإن كان ف السنن‬
‫مثل القراءة ‪ ،‬سان شفعويا ‪ ،‬وإن كان ف القنوت ‪ ،‬سان حنفيا ‪ ،‬وإن كان ف القرآن ‪ ،‬سان‬
‫حنبليا ‪ ،‬وإن ذكرت رجحان ما ذهب كل واحد إليه من الخبار ـ إذ ليس ف الكم والديث‬
‫ماباة ـ قالوا ‪ :‬طعن ف تزكيتهم ‪ ،‬ث أعجب من ذلك أنم يسمونن فيما يقرؤون علي من أحاديث‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ما يشتهون من هذه السامي ‪ ،‬ومهما وافقت بعضهم عادان غيه ‪،‬‬
‫وإن داهنت جاعتهم أسخطت ال تبارك وتعال ‪ ،‬ولن يغنوا عن من ال شيئا ‪ .‬وإن مستمسك‬
‫بالكتاب والسنة وأستغفر ال الذي ل إله إل هو وهو الغفور الرحيم ‪.‬‬
‫ل مذكورا‬ ‫هذا تام الكاية فكأنه رحه ال تكلم على لسان الميع ‪ .‬فقلما تد عالا مشهورا أو فاض ً‬
‫‪ ،‬إل وقد نبذ بذه المور أو بعضها ‪ ،‬لن الوى قد يداخل الخالف ‪ ،‬بل سبب الروج عن السنة‬
‫الهل با ‪ ،‬والوى التبع الغالب على أهل اللف ‪ ،‬فإذا كان كذلك حل على صاحب السنة ‪ ،‬إنه‬
‫غي صاحبها ‪ ،‬ورجع بالتشنيع عليه والتقبيح لقوله وفعله ‪ ،‬حت ينسب هذه الناسب ‪.‬‬
‫وقد نقل عن السيد العباد بعد الصحابة ( أويس ) القرن أنه قال ‪ :‬إن المر بالعروف والنهي عن‬
‫النكر ل يدعا للمؤمن صديقا ‪ ،‬نأمرهم بالعروف فيشتمون أعراضنا ويدون ف ذلك أعوانا من‬
‫الفاسقي ‪ ،‬حت ـ وال لقد رمون بالعظائم ‪ ،‬وأي ال ل أدع أن أقوم فيهم بقه ‪.‬‬
‫فمن هذا الباب يرجع السلم غريبا كما بدأ ‪ ،‬لن الؤالف فيه على وصفه الول قليل ‪ ،‬فصار‬
‫الخالف هو الكثي ‪ ،‬فاندرست رسوم السنة حت مدت البدع أعناقها ‪ ،‬فأشكل مرماها على المهور‬
‫فظهر مصداق الديث الصحيح ‪.‬‬
‫ولا وقع علي من النكار ما وقع مع ما هدى ال إليه وله المد ‪ ،‬ل أزل أتبع البدع الت نبه عليها‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وحذر منها ‪ ،‬وبي أنا ضللة وخروج عن الادة وأشار العلماء إل‬
‫تييزها والتعريف بملة منها ‪ ،‬لعلي أجتنبها فيما استطعت ‪ ،‬وأبث عن السنن الت كادت تطفىء‬
‫نورها تلك الحدثات لعلي أجلو بالعمل سناها ‪ ،‬وأعد يوم القيامة فيمن أحياها ‪ ،‬إذ ما من بدعة‬
‫تدث إل ويوت من السنن ما هو ف مقابلتها ‪ ،‬حسبما جاء عن السلف ف ذلك ‪ .‬فعن ابن عباس‬
‫قال ‪ :‬ما يأت على الناس من عام إل أحدثوا فيه بدعة وأماتوا فيه سنة ‪ ،‬حت تيا البدعة وتوت السنن‬
‫‪ .‬وف بعض الخبار ‪ :‬ل يدث رجل بدعة إل ترك من السنة ما هو خي منها ‪ .‬وعن لقمان بن أب‬
‫إدريس الولن أنه كان يقول ‪ :‬ما أحدثت أمة ف دينها بدعة إل رفع با عنهم سنة ‪ .‬وعن حسان‬

‫‪8‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بن عطية قال ‪ :‬ما أحدث قوم بدعة ف دينهم إل نزع ال من سنتهم مثلها ث ل يعدها إليهم إل يوم‬
‫القيامة ‪ ،‬إل غي ذلك ما جاء ف هذا العن وهو مشاهد معلوم حسبما يأت بيانه إن شاء ال تعال ‪.‬‬
‫وجاء من الترغيب ف إحياء السنن ما جاء ‪ .‬فقد خرج ابن وهب حديثا عن النب صلى ال عليه‬
‫وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫" من أحيا سنة من سنت قد أميتت بعدي فإن له من الجر مثل من عمل با من الناس ل ينقص ذلك‬
‫من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن ابتدع بدعة ضللة ل يرضاها ال رسوله فإن عليه إث من عمل با ل ينقص‬
‫ذلك من آثام الناس شيئا" وأخرجه الترمذي باختلف ف بعض اللفاظ مع اتفاق العن وقال فيه ‪:‬‬
‫حديث حسن ‪.‬‬
‫وف الترمذي "عن أنس قال ‪ :‬قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫يا بن إن قدرت أن تصبح وتسي ليس ف قلبك غش لحد فافعل ث قال ل ‪ :‬يا بن وذلك من‬
‫سنت ‪ ،‬ومن أحيا سنت فقد أحبن ‪ ،‬ومن أحبن كان معي ف النة" حديث حسن ‪.‬‬
‫فرجوت بالنظر ف هذا الوضع النتظام ف سلك من أحيا سنة وأمات بدعة ‪ .‬وعلى طول العهد‬
‫ودوام النظر اجتمع ل ف البدع والسنن أصول قررت أحكامها الشريعة ‪ ،‬وفروع طالت أفنانا لكنها‬
‫تنتظمها تلك الصول ‪ ،‬وقلما توجد على الترتيب الذي سنح ف الاطر ‪ ،‬فمالت إل بثها النفس ‪،‬‬
‫ورأت أنه من الكيد الطلب لا فيه من رفع اللتباس الناشىء بي السنن والبدع ‪ ،‬لنه لا كثرت‬
‫البدع وعم ضررها ‪ ،‬واستطار شررها ‪ ،‬ودام الكباب على العمل با ‪ ،‬والسكوت من التأخرين عن‬
‫النكار لا ‪ ،‬وخلفت بعدهم خلوف جهلوا أو غفلوا عن القيام بفرض القيام فيها ‪ ،‬صارت كأنا‬
‫سنن مقررات ‪ ،‬وشرائع من صاحب الشرع مررات ‪ ،‬فاختلط الشروع بغيه ‪ ،‬فعاد الراجع إل‬
‫مض السنة كالارج عنها كما تقدم ‪ ،‬فالتبس بعضها ببعض ‪ ،‬فتأكد الوجوب بالنسبة إل من عنده‬
‫فيها علم ‪ ،‬وقلما صنف فيها على الصوص تصنيف ‪ ،‬وما صنف فيها فغي كاف ف هذه الواقف ‪،‬‬
‫مع أن الداخل ف هذا المر اليوم فاقد الساعد ‪ ،‬عدي العي ‪ ،‬فالوال ل يلد به إل الرض ‪ ،‬ويلقي‬
‫له باليد إل العجز عن بث الق ‪ ،‬بعد رسوخ العوائد ف القلوب ‪ ،‬والعادي يريسه بالردبيس ويروم‬
‫أخذه بالعذاب البئيس ‪ ،‬لنه يرد عوائده الراسخة ف القلوب ‪ ،‬التداولة ف العمال ‪ ،‬دينا يتعبد به ‪،‬‬
‫وشريعة يسلك عليها ل حجة له إل عمل الباء والجداد ‪ ،‬مع بعض الشياخ العالي ‪ ،‬كانوا من‬
‫أهل النظر ف هذه المور أم ل ‪ .‬ول يلتفتوا إل أنم عند موافقتهم للباء والشياخ مالفون للسلف‬
‫الصال ‪ ،‬فالعترض لثل هذا المر ينحو نو عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ف العمل حيث قال ‪:‬‬
‫أل وإن أعال أمرا ل يعي عليه إل ال قد فن عليه الكبي ‪ ،‬وكب عليه الصغي ‪ ،‬وفصح عليه‬
‫العجمي ‪ ،‬وهاجر عليه العراب ‪ ،‬حت حسبوه دينا ل يرون الق غيه ‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكذلك ما نن بصدد الكلم عليه ‪ ،‬غي أنه أمر ل سبيل إل إهاله ‪ ،‬ول يسع أحدا من له منة إل‬
‫الخذ بالزم والعزم ف بثه ‪ ،‬بعد تصيله على كماله ‪ ،‬وإن كره الخالف فكراهيته ل حجة فيها على‬
‫الق إل يرفع منارة ‪ ،‬ول تكشف وتلى أنواره ‪ ،‬فقد خرج أبو الطاهر السلفي بسنده "إل أب هريرة‬
‫أن النب صلى ال عليه وسلم قال له ‪:‬‬
‫يا أبا هريرة علم الناس القرآن وتعلمه ‪ ،‬فإنك إن مت وأنت كذلك زارت اللئكة قبك كما يزار‬
‫البيت العتيق ‪ ،‬وعلم الناس سنت وإن كرهوا ذلك ‪ ،‬وإن أحببت أل توقف على الصراط طرفة عي‬
‫حت تدخل فل تدث ف دين ال حدثا برأيك" ‪.‬‬
‫قال أبو عبد ال بن القطان ‪ :‬وقد جع ال له ذلك كله من إفراء كتاب ال والتحديث بالسنة ‪ ،‬أحب‬
‫الناس أم كرهوا ‪ ،‬وترك الدث حت إنه كان ل يتأول شيئا ما روى تتميما للسلمة من الطأ ‪.‬‬
‫على أن أبا العرب التميمي حكى عن ابن فروخ أنه كتب إل مالك بن أنس ‪ :‬إن بلدنا كثي البدع‬
‫وإنه ألف كلما ف الرد عليهم ‪ .‬فكتب إليه مالك يقول له ‪ :‬إن ظننت ذلك بنفسك خفت أن تزل‬
‫فتهلك ‪ ،‬ل يرد عليهم إل من كان ضابطا عارفا با يقول لم ل يقدرون أن يعرجوا عليه فهذا ل‬
‫بأس به ‪ ،‬وأما غي ذلك فإن أخاف أن يكلمهم فيخطىء فيمضوا على خطئه أو يظفروا منه بشيء‬
‫فيطغوا ويزدادوا تاديا على ذلك ‪.‬‬
‫وهذا الكلم يقضي لثلي بالحجام دون القدام ‪ ،‬وشياع هذا النكر وفشوا العمل به وتظاهر أصحابه‬
‫يقضي لن له بذا القام منة بالقدام دون الحجام ‪ ،‬لن البدع قد عمت وجرت أفراسها من غي‬
‫مغي ملء أعنتها ‪.‬‬
‫وحكى ابن وضاح عن غي واحد ‪ :‬أن أسد بن موسى كتب إل أسد بن الفرات ‪ :‬اعلم يا أخي أن‬
‫ما حلن على الكتب إليك ما أنكر أهل بلدك من صال ما أعطاك ال من إنصافك الناس ‪ ،‬وحسن‬
‫حالك ما أظهرت من السنة ‪ .‬وعيبك لهل البدع وكثرة ذكرك لم وطعنك عليهم ‪ ،‬فقمعهم ال‬
‫بك ‪ ،‬وشد بك ظهر أهل السنة ‪ ،‬وقواك عليهم بإظهار عيبهم ‪ ،‬والطعن عليهم ‪ ،‬واذلم ال بذلك‬
‫وصاروا ببدعتهم مستترين ‪ .‬فأبشر يا أخي بثواب ال ‪ ،‬واعتد به من أفضل حسناتك من الصلة‬
‫والصيام والج والهاد ‪ .‬وأين تقع هذه العمال من إقامة كتاب ال وإحياء سنة رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ؟! وقد قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ومن أحيا شيئا من سنت كنت أنا وهو ف النة كهاتي وضم بي إصبعيه ‪ ،‬وقال أيا داع دعا إل‬
‫هذه فاتبع عليه كان له مثل أجر من تبعه إل يوم القيامة" ‪ ،‬فمن يدرك يا أخي هذا بشيء من‬
‫عمله ؟! وذكر أيضا ‪ :‬إن ل عند كل بدعة كيد با السلم وليا ل يذب عنها ‪ ،‬وينطق بعلمتها ‪،‬‬
‫فاغتنم يا أخي هذا الفضل وكن من أهله ‪" ،‬فإن النب صلى ال عليه وسلم قال لعاذ حي بعثه إل‬
‫اليمن فأوصاه وقال ‪:‬‬

‫‪10‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ل واحدا خي لك من كذا وكذا" ‪ .‬وأعظم القول فيه ‪ ،‬فاغتنم ذلك وادع إل‬ ‫لن يهدي ال بك رج ً‬
‫السنة حت يكون لك ف ذلك ألفة وجاعة يقومون مقامك إن حدث بك حدث ‪ ،‬فيكونون أئمة‬
‫بعدك فيكون لك ثواب إل يوم القيامة كما جاء الثر ‪ .‬فاعمل على بصية ونية حسنة فيد ال بك‬
‫البتدع والفتون الزائغ الائر ‪ ،‬فتكون خلفا من نبيك صلى ال عليه وسلم فأحي كتاب ال وسنة نبيه‬
‫‪ ،‬فإنك لن تلقى ال بعمل يشبهه ‪.‬‬
‫انتهى ما قصدت إيراده من كلم أسد رحه ال ‪ .‬وهو ما يقوي جانب القدام مع ما روي عن عمر‬
‫بن عبد العزيز رضي ال عنه أنه خطب الناس فكان من جلة كلمه ف خطبته أن قال ‪ :‬وال إن لول‬
‫أن أنعش سنة قد أميتت ‪ ،‬أو أن أميت بدعة قد أحييت ‪ ،‬لكرهت أن أعيش فيكم فواقا ‪.‬‬
‫وخرج ابن وضاح ف كتاب القطعان وحديث الوزاعي أنه بلغه عن السن أنه قال ‪ :‬لن يزال ل‬
‫نصحاء ف الرض من عباده يعرضون أعمال العباد على كتاب ال فإذا وافقوه حدوا ال ‪ ،‬وإذا‬
‫خالفوه عرفوا بكتاب ال ضللة من ضل وهدى من اهتدى ‪ ،‬فأولئك خلفاء ال ‪.‬‬
‫وفيه عن سفيان قال ‪ :‬اسلكوا سبيل الق ول تستوحشوا من قلة أهله ‪ .‬فوقع الترديد بي النظرين ‪.‬‬
‫ث إن أخذت ف ذلك مع بعض الخوان الذين أحللتهم من قلب مل السويداء وقاموا ل ف عامة‬
‫أدواء نفسي مقام الدواء ‪ ،‬فرأوا أنه من العمل الذي ل شبهة ف طلب الشرع نشره ‪ ،‬ول إشكال ف‬
‫أنه بسب الوقت من أوجب الواجبات ‪ ،‬فاستخرت ال تعال ف وضع كتاب يشتمل على بيان‬
‫البدع وأحكامها وما يتعلق با من السائل أصولً وفروعا وسيته بـ العتصام ‪ .‬وال أسأل أن يعله‬
‫عملً خالصا ‪ ،‬ويعل ظل الفائدة به مدودا ل قالصا ‪ ،‬والجر على العناء فيه كاملً ل ناقصا ‪ ،‬ول‬
‫حول ول قوة إل بال العلي العظيم ‪.‬‬
‫وينحصر الكلم فيه بسب الغرض القصود ف جلة أبواب وف كل باب منها فصول اقتضاها بسط‬
‫السائل النحصرة فيه وما انر معها من الفروع التعلقة به ‪.‬‬

‫الباب الول ف تعريف البدع وبيان معناها وما اشتق منه لفظا‬
‫وأصل مادة بدع للختراع على غي مثال سابق ‪ ،‬ومنه قول ال تعال ‪" :‬بديع السموات والرض"‬
‫أي مترعها من غي مثال سابق متقدم ‪ ،‬وقوله تعال ‪" :‬قل ما كنت بدعا من الرسل" أي ما كنت‬
‫أول من جاء بالرسالة من ال إل العباد بل تقدمن كثي من الرسل ‪ ،‬ويقال ‪ :‬ابتدع فلن بدعة يعن‬
‫ابتدأ طريقة ل يسبقه إليها سابق ‪ .‬وهذا أمر بديع ‪ ،‬يقال ف الشيء الستحسن الذي ل مثال له ف‬
‫السن ‪ ،‬فكأنه ل يتقدمه ما هو مثله ول ما يشبهه ‪.‬‬

‫‪11‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومن هذا العن سيت البدعة بدعة ‪،‬فاستخراجها للسلوك عليها هو البتداع ‪ ،‬وهيئتها هي البدعة ‪،‬‬
‫وقد يسمى العلم العمول على ذلك الوجه بدعة ‪ ،‬فمن هذا العن سي العمل الذي ل دليل عليه ف‬
‫الشرع بدعة‪ ،‬وهو إطلق أخص منه ف اللغة حسبما يذكر بول ال ‪.‬‬
‫ثبت ف علم الصول أن الحكام التعلقة بأفعال العباد وأقوالم ثلثة ‪ :‬حكم يقتضيه معن المر ‪،‬‬
‫كان للياب أو الندب ‪ .‬وحكم يقتضيه معن النهي ‪ ،‬كان للكراهة أو التحري ‪ .‬وحكم يقتضيه‬
‫معن التخيي ‪ ،‬وهو الباحة ‪ .‬فأفعال العباد وأقوالم ‪ ،‬ل تعدو هذه القسام الثلثة ‪ :‬مطلوب فعله ‪،‬‬
‫ومطلوب تركة ‪ ،‬ومأذون ف فعله وتركه ‪ .‬والطلوب تركه ل يطلب تركه إل لكونه مالفا للقسمي‬
‫الخيين ‪ ،‬لكنه على ضربي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يطلب تركه ‪ ،‬وينهى عنه لكونه مالفة خاصة مع مرد النظر عن غي ذلك ‪ ،‬وهو إن‬
‫ل معصية وإثا ‪ ،‬وسي فاعله عاصيا وآثا وإل ل يسم بذلك ‪ ،‬ودخل ف حكم‬ ‫كان مرما سي فع ً‬
‫العفو حسبما هو مبي ف غي هذا الوضع ‪ ،‬ول يسمى بسب الفعل جائزا ول مباحا ‪ ،‬لن المع‬
‫بي الواز والنهي ‪ ،‬جع بي متنافيي ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يطلب تركه وينهى عنه لكونه مالفة لظاهر التشريع من جهة ضرب الدود ‪ ،‬وتعيي‬
‫الكيفيات ‪ ،‬والتزام اليئات العينة أو الزمنة العينة مع الدوام ونو ذلك ‪.‬‬
‫وهذا هو البتداع والبدعة ‪ ،‬ويسمى فاعله مبتدعا ‪ ،‬فالبدعة إذن عبارة عن طريقة ف الدين مترعة‬
‫تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها البالغة ف التعبد ل سبحانه ‪ ،‬وهذا على رأي من ل يدخل‬
‫العادات ف معن البدعة ‪ ،‬وإنا يصها بالعبادات ‪ ،‬وأما على رأي من أدخل العمال العادية ف معن‬
‫البدعة فيقول ‪ :‬البدعة طريقة ف الدين مترعة تضاهي الشرعية يقصد بالسلوك عليها ما يقصد‬
‫بالطريقة الشرعية ‪ ،‬ول بد من بيان ألفاظ هذا الد ‪ .‬فالطريقة ‪ ،‬والطريق والسبيل والسنن هي بعن‬
‫واحد وهو ما رسم للسلوك عليه وإنا قيدت بالدين لنا فيه تترع وإليه يضيفها صاحبها وأيضا فلو‬
‫كانت طريقة مترعة ف الدنيا على الصوص ل تسم بدعة كإحداث الصنائع والبلدان الت ل عهد با‬
‫فيما تقدم ‪.‬‬
‫ولا كانت الطرائق ف الدين تنقسم ـ فمنها ما له أصل ف الشريعة ‪ ،‬ومنها ما ليس له أصل فيها ـ‬
‫خص منها ما هو القصود بالد وهو القسم الخترع ‪ ،‬أي طريقة ابتدعت على غي مثال تقدمها من‬
‫الشارع ‪ ،‬إذ البدعة إنا خاصتها أنا خارجة عما رسه الشارع ‪ ،‬وبذا القيد انفصلت عن كل ما‬
‫ظهر لبادي الرأي أنه مترع ما هو متعلق بالدين ‪ ،‬كعلم النحو والتصريف ومفردات اللغة وأصول‬
‫الفقه وأصول الدين ‪ ،‬وسائر العلوم الادمة للشريعة ‪ .‬فإنا وإن ل توجد ف الزمان الول فأصولا‬
‫موجودة ف الشرع ‪ ،‬إذ المر بإعراب القرآن منقول ‪ ،‬وعلوم اللسان هادية للصواب ف الكتاب‬
‫والسنة فحقيقتها إذا أنا فقه التعبد باللفاظ الشرعية الدالة على معانيها كيف تؤخذ وتؤذي ‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأصول الفقه إنا معناها استقراء كليات الدلة حت تكون عند الجتهد نصب عي وعند الطالب‬
‫سهلة اللتمس ‪.‬‬
‫وكذلك أصول الدين ‪ ،‬وهو علم الكلم ‪ ،‬إنا حاصله تقرير لدلة القرآن والسنة أو ما ينشأ عنها ف‬
‫التوحيد وما يتعلق به ‪ ،‬كما كان الفقه تقريرا لدلتها ف الفروع العبادية ‪.‬‬
‫( فإن قيل ) ‪ :‬فإن تصنيفها على ذلك الوجه مترع ‪.‬‬
‫( فالواب ) ‪ :‬أن له أصلً ف الشرع ‪ ،‬ففي الديث ما يدل عليه ‪ ،‬ولو سلم أنه ليس ف ذلك دليل‬
‫على الصوص ‪ ،‬فالشرع بملته يدل على اعتباره ‪ ،‬وهو مستمد من قاعدة الصال الرسلة ‪ ،‬وسيأت‬
‫بسطها بول ال ‪.‬‬
‫فعلى القول بإثباتا أصلً شرعيا ل إشكال ف أن كل علم خادم للشريعة داخل تت أدلته الت ليست‬
‫بأخوذة من جزئي واحد ‪ ،‬فليست ببدعة البتة ‪.‬‬
‫وعلى القول بنفيها ل بد أن تكون تلك العلوم مبتدعات ‪ ،‬إذا دخلت ف علم البدع كانت قبيحة ‪،‬‬
‫لن كل بدعة ضللة من غي إشكال ‪ ،‬كما يأت بيانه إن شاء ال ‪.‬‬
‫ويلزم من ذلك أن يكون كتب ا لصحف وجع القرآن قبيحا ‪ ،‬وهو باطل بالجاع فليس أذا ببدعة‬
‫‪.‬‬
‫ويلزم أن يكون له دليل شرعي ‪ ،‬وليس إل هذا النوع من الستدلل ‪ ،‬وهو الأخوذ من جلة الشريعة‬
‫‪.‬‬
‫وإذا ثبت جزئي ف الصال الرسلة ‪ ،‬ثبت مطلق الصال الرسلة ‪.‬‬
‫فعلى هذا ل ينبغي أن يسمى علم النحو أو غيه من علوم اللسان أو علم الصول أو ما أشبه ذلك‬
‫ل‪.‬‬‫من العلوم الادمة للشريعة ‪ ،‬بدعة أص ً‬
‫ومن ساه بدعة فإما على الجاز كما سى عمر بن الطاب رضي ال عنه قيام الناس ف ليال رمضان‬
‫بدعة ‪ ،‬وإما جهلً بواقع السنة والبدعة ‪ ،‬فل يكون قول من قال ذلك معتدا به ول معتمدا عليه ‪.‬‬
‫وقوله ف الد تضاهي الشرعية يعن أنا تشابه الطريقة الشرعية من غي أن تكون ف القيقة‬
‫كذلك ‪ ،‬بل هي مضادة لا من أوجه متعددة ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬وضع الدود كالناذر للصيام قائما ل يقعد ‪ ،‬ضاحيا ل يستظل ‪ ،‬والختصاص ف النقطاع‬
‫للعبادة ‪ ،‬والقتصار من الأكل واللبس على صنف دون صنف من غي علة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬التزام الكيفيات واليئات العينة ‪ ،‬كالذكر بيئة الجتماع على صوت واحد ‪ ،‬واتاذ يوم‬
‫ولدة النب صلى ال عليه وسلم عيدا ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬التزام العبادات العينة ف أوقات معينة ل يوجد لا ذلك التعيي ف الشريعة ‪ ،‬كالتزام صيام يرم‬
‫النصف من شعبان وقيام ليلته ‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وث أوجه تضاهي با البدعة المور الشروعة ‪ ،‬فلو كانت ل تضاهي المور الشروعة ل تكن بدعة‬
‫ـ لنا تصي من باب الفعال العادية ‪.‬‬
‫وأيضا فإن صاحب البدعة إنا يترعها ليضاهي با السنة حت يكون ملبسا با على الغي ‪ ،‬أو تكون‬
‫هي ما تلتبس عليه بالسنة ‪ ،‬إذ النسان ل يقصد الستتباع بأمر ل يشابه الشروع ‪ ،‬لنه إذ ذاك ل‬
‫يستجلب به ف ذلك البتداع نفعا ول يدفع به ضررا ‪ ،‬ول ييبه غيه إليه ‪.‬‬
‫ولذلك تد البتدع ينتصر لبدعته بأمور تيل التشريع ولو بدعوى القتداء بفلن العروف منصبه ف‬
‫أهل الي ‪.‬‬
‫فأنت ترى العرب الاهلية ف تغيي ملة إبراهيم عليه السلم كيف تأولوا فيما أحدثوا احتجاجا‬
‫منهم ‪ ،‬كقولم ف أصل الشراك "ما نعبدهم إل ليقربونا إل ال زلفى" وكترك المس الوقوف بعرفة‬
‫لقولم ‪ :‬ل نرج من الرم اعتدادا برمته ‪ .‬وطواف من طاف منهم بالبيت عريانا قائلي ‪ :‬ل‬
‫نطوف بثياب عصينا ال فيها ‪ ،‬وما أشبه ذلك ما وجهوه ليصيوه بالتوجيه كالشروع ‪ ،‬فما ظنك‬
‫بن عد أو عد نفسه من خواص أهل اللة؟ فهم أحرى بذلك ‪ ،‬وهم الخطئون وظنهم الصابة ‪ ،‬وإذا‬
‫تبي هذا ظهر أن مضاهاة المور الشروعة ضرورية الخذ ف أجزاء الد ‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬يقصد بالسلوك عليها البالغة ف التعبد ل تعال هو تام معن البدعة إذ هو القصود‬
‫بتشريعها ‪.‬‬
‫وذلك أن أصل الدخول فيها يث على النقطاع إل العبادة والترغيب ف ذلك ‪ ،‬لن ال تعال يقول‬
‫‪" :‬وما خلقت الن والنس إل ليعبدون" فكأن البتدع رأى أن القصود هذا العن ‪ ،‬ول يتبي له أن‬
‫ما وضعه الشارع فيه من القواني والدود كاف ‪ ،‬فرأى من نفسه أنه ل بد لا أطلق المر فيه من‬
‫قواني منضبطة ‪ ،‬وأحوال مرتبطة ‪ ،‬مع ما يداخل النفوس من حب الظهور أو عدم مظنته ‪ ،‬فدخلت‬
‫ف هذا الضبط شائبة البدعة ‪.‬‬
‫وأيضا فإن النفوس قد تل وتسأم من الدوام على العبادات الرتبة ‪ ،‬فإذا جدد لا أمر ل تعهده ‪،‬‬
‫حصل با نشاط آخر ل يكون لا مع البقاء على المر الول ‪ ،‬ولذلك قالوا ‪ ( :‬لكل جديد لذة )‬
‫بكم هذا العن ‪ ،‬كمن قال ‪ :‬كما تدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ‪ ،‬فكذلك‬
‫تدث لم مرغبات ف الي بقدر ما حدث لم من الفتور ‪.‬‬
‫وف حديث معاذ بن جبل رضي ال عنه ‪ :‬فيوشك قائل أن يقول ما هم بتبعي فيتبعون وقد قرأتك‬
‫القرآن فل يتتبعن حت أبتدع لم غيه ‪ .‬فإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضللة ‪.‬‬
‫وقد تبي بذا القيد أن البدع ل تدخل ف العادات ‪ .‬فكل ما اخترع من الطرق ف الدين ما يضاهي‬
‫الشروع ول يقصد به التعبد فقد خرج عن هذه التسمية ‪ ،‬كالغارم اللزمة على الموال وغيها على‬
‫نسبة مصوصة وقدر مصوص ما يشبه فرض الزكوات ول يكن إليها ضرورة ‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكذلك اتاذ الناخل وغسل اليد بالشنان وما أشبه ذلك من المور الت ل تكن قبل ‪ ،‬فإنا ل‬
‫تسمى بدعا على إحدى الطريقتي ‪.‬‬
‫وأما الد على الطريقة الخرى فقد تبي معناه إل قوله ‪ :‬يقصد با ما يقصد بالطريقة الشرعية ‪.‬‬
‫ومعناه أن الشريعة إنا جاءت لصال العباد ف عاجلتهم وآجلتهم لتأتيهم ف الدارين على أكمل‬
‫وجوهها ‪ ،‬فهو الذي يقصده البتدع ببدعته ‪ .‬لن البدعة إما أن تتعلق بالعادات أو العبادات ‪ ،‬فإن‬
‫تعلقت بالعبادات فإنا أراد با أن يأت تعبده على أبلغ ما يكون ف زعمه ليفوز بأت الراتب ف الخرة‬
‫ف ظنه ‪.‬وإن تعلقت بالعادات فكذلك ‪ ،‬لنه إنا وضعها لتأت أمور دنياه على تام الصلحة فيها ‪.‬‬
‫فمن يعل الناخل ف قسم البدع فظاهر أن التمتع عنده بلذة الدقيق النخول أت منه بغي النخول ‪.‬‬
‫وكذلك البناءات الشيدة الختلفة ‪ ،‬التمتع با أبلغ منه بالشوش والرب ‪.‬‬
‫ومثله الصادرات ف الموال بالنسبة إل أول المر ‪ ،‬وقد أباحت الشريعة التوسع ف التصرفات ‪،‬‬
‫فيعد البتدع هذا من ذلك ‪.‬‬
‫وقد ظهر معن البدعة وما هي ف الشرع والمد ل ‪.‬‬

‫فصل ف الد‬
‫وف الد أيضا معن آخر ما ينظر فيه ‪ .‬وهو أن البدعة من حيث قيل فيها ‪ :‬أنا طريقة ف الدين‬
‫مترعة ـ إل آخره ـ يدخل ف عموم لفظها البدعة التركية ‪ ،‬كما يدخل فيه البدعة غي التركية‬
‫ل ـ يكون حللً‬ ‫فقد يقع البتداع بنفس الترك تريا للمتروك أو غي تري ‪ ،‬فإن الفعل ـ مث ً‬
‫بالشرع فيحرمه النسان على نفسه أو يقصد تركه قصدا ‪.‬‬
‫فبهذا الترك إما أن يكون لمر يعتب مثله شرعا أو ل ‪ ،‬فإن كان لمر يعتب فل حرج فيه ‪ ،‬إذ معناه‬
‫أنه ترك ما يوز تركه أو ما يطلب بتركه ‪ ،‬كالذي يرم على نفسه الطعام الفلن من جهة أنه يضره‬
‫ف جسمه أو عقله أو دينه وما أشبه ذلك ‪ ،‬فل مانع هنا من الترك ‪ :‬بل إن قلنا بطلب التداوي‬
‫للمريض فإن الترك هنا مطلوب ‪ ،‬وإن قلنا بإباحة التداوي ‪ ،‬فالترك مباح ‪.‬‬
‫فهذا راجع إل العزم على المية من الضرات وأصله قوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬يا معشر الشباب‬
‫من استطاع منكم الباءة فليتزوج" ـ إل أن قال ـ ‪ ":‬ومن ل يستطع فعليه بالصوم "الذي يكسر‬
‫من شهوة الشباب حت ل تطغى عليه الشهوة فيصي إل العنت ‪.‬‬
‫وكذلك إذا ترك ما ل بأس به حذرا ما به البأس فذلك من أوصاف التقي ‪ ،‬وكتارك التشابه ‪،‬‬
‫حذرا من الوقوع ف الرام ‪ ،‬واستباءً للدين والعرض ‪.‬‬

‫‪15‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإن كان الترك لغي ذلك ‪ ،‬فإما أن يكون تدينا أو ل ‪ ،‬فإن ل يكن تدينا فالتارك عابث بتحريه‬
‫الفعل أو بعزيته على الترك ‪ .‬ول يسمى هذا الترك بدعة إذ ل يدخل تت لفظ الد إل على الطريقة‬
‫الثانية القائلة ‪ :‬إن البدعة تدخل ف العادات ‪ .‬وأما على الطريقة الول فل يدخل ‪ .‬لكن هذا التارك‬
‫يصي عاصيا بتركه أو باعتقاده التحري فيما أحل ال ‪.‬‬
‫وأما إن كان الترك تدينا فهو البتداع ف الدين على كلتا الطريقتي ‪ ،‬إذ قد فرضنا الفعل جائزا‬
‫شرعا فصار الترك القصود معارضة للشارع ف شرع التحليل وف مثله نزل قول ال تعال ‪ " :‬يا أيها‬
‫الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يب العتدين " فنهى أولً عن‬
‫تري اللل ‪ .‬ث جاءت الية تشعر بأن ذلك اعتداء ل يبه ال ‪.‬‬
‫وسيأت للية تقرير إن شاء ال ‪.‬‬
‫لن بعض الصحابة هم أن يرم على نفسه النوم بالليل ‪ ،‬وآخر الكل بالنهار ‪ ،‬وآخر إتيان النساء ‪،‬‬
‫وبعضهم هم بالختصاء ‪ ،‬مبالغة ف ترك شأن النساء ‪ .‬وف أمثال ذلك قال النب صلى ال عليه وسلم‬
‫‪:‬‬
‫"من رغب عن سنت فليس من" ‪.‬‬
‫فإذا كل من منع نفسه من تناول ما أحل ال من غي عذر شرعي فهو خارج عن سنة النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ .‬والعامل بغي السنة تدينا ‪ ،‬هو البتدع بعينه ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فتارك الطلوبات الشرعية ندبا أو وجوبا ‪ ،‬هل يسمى مبتدعا أم ل ؟ ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬أن التارك للمطلوبات على ضربي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يتركها لغي التدين إما كسلً أو تضييعا أو ما أشبه ذلك من الدواعي النفسية ‪ .‬فهذا‬
‫الضرب راجع إل الخالفة للمر ‪ ،‬فإن كان ف واجب فمعصية وإن كان ف ندب فليس بعصية ‪ ،‬إذا‬
‫كان الترك جزئيا ‪ ،‬وإن كليا فمعصية حسبما تبي ف الصول ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يتركها تدينا ‪ .‬فهذا الضرب من قبيل البدع حيث تدين بضد ما شرع ال ‪ ،‬ومثاله أهل‬
‫الباحة القائلي بإسقاط التكاليف إذا بلغ السالك عندهم البلغ الذي حدوه ‪.‬‬
‫فإذا قوله ف الد ‪ :‬طريقة مترعة تضاهي الشرعية يشمل البدعة التركية ‪ ،‬كما يشمل غيها ‪ ،‬لن‬
‫الطريقة الشرعية أيضا تنقسم إل ترك وغيه ‪.‬‬
‫وسواء علينا قلنا ‪ :‬إن الترك فعل أم قلنا ‪ :‬إنه نفي الفعل ‪ .‬الطريقتي الذكورتي ف أصول الفقه ‪.‬‬
‫وكما يشمل الد الترك يشمل أيضا ضد ذلك ‪.‬‬
‫وهو ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫قسم العتقاد ‪ ،‬وقسم القول ‪ ،‬وقسم الفعل ‪ ،‬فالميع أربعة أقسام ‪.‬‬
‫وبالملة ‪ ،‬فكل ما يتعلق به الطاب الشرعي ‪ ،‬يتعلق به البتداع ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الباب الثان ف ذم البدع وسوء منقلب أصحابا‬


‫ل خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها ‪ ،‬لن اتباعها خروج عن الصراط الستقيم‬
‫ورمي ف عماية ‪ .‬وبيان ذلك من جهة النظر ‪ ،‬والنقل الشرعي العام ‪.‬‬
‫أما النظر فمن وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنه قد علم بالتجارب والبة السارية ف العال من أول الدنيا إل اليوم أن العقول غي‬
‫مستقلة بصالها ‪ ،‬استجلبا لا ‪ ،‬أو مفاسدها ‪ ،‬استدفاعا لا ‪ .‬لنا إما دنيوية أو أخروية ‪.‬‬
‫فأما الدنيوية فل يستقل باستدراكها على التفصيل البتة ل ف ابتداء وضعها أولً ‪ ،‬ول ف استدراك ما‬
‫عسى أن يعرض ف طريقها ‪ ،‬إما ف السوابق ‪ ،‬وإما ف اللواحق ‪ ،‬لن وضعها أولً ل يكن إل بتعليم‬
‫ال تعال ‪.‬‬
‫لن آدم عليه السلم لا أنزل إل الرض علم كيف يستجلب مصال دنياه إذ ل يكن ذلك من معلومة‬
‫أو ًل ‪ ،‬إل على قول من قال ‪ :‬إن ذلك داخل تت مقتضى قول ال تعال ‪ " :‬وعلم آدم الساء كلها‬
‫" وعند ذلك يكون تعليما غي عقلي ‪ .‬ث توارثته ذريته كذلك ف الملة ‪ .‬لكن فرعت العقول من‬
‫أصولا تفريعا تتوهم استقللا به ‪.‬‬
‫ودخل ف الصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات ‪ ،‬إذ ل تر مصال الفترات على‬
‫استقامة ‪ ،‬لوجود الفت والرج ‪ ،‬وظهور أوجه الفساد ‪.‬‬
‫فلول أن من ال على اللق ببعثة النبياء ل تستقم لم حياة ‪ ،‬ول جرت أحوالم على كمال‬
‫مصالهم وهذا معلوم بالنظر ف أخبار الولي والخرين ‪.‬‬
‫ل ‪ .‬فإن‬‫وأما الصال الخروية ‪ ،‬فأبعد عن مصال العقول من جهة وضع أسبابا ‪ ،‬وهي العبادات مث ً‬
‫العقل ل يشعر با على الملة ‪ ،‬فضلً عن العلم با على التفصيل ‪.‬‬
‫ومن جهة تصور الدار الخرى وكونا آتية فل بد وأنا دار جزاء على العمال فإن الذي يدرك‬
‫العقل من ذلك مرد المكان أن يشعر با ‪.‬‬
‫ول يغترن ذو الجى بأحوال الفلسفة الدعي لدراك الحوال الخروية بجرد العقل ‪ ،‬قبل النظر ف‬
‫الشرع ‪ ،‬فإن دعواهم بألسنتهم ف السألة بلف ما عليه المر ف نفسه ‪ .‬لن الشرائع ل تزل واردة‬
‫على بن آدم من جهة الرسل ‪ .‬والنبياء أيضا ل يزالوا موجودين ف العال وهم أكثر ‪ .‬وكل ذلك من‬
‫لدن آدم عليه السلم إل أن انتهت بذه الشريعة الحمدية ‪.‬‬
‫غي أن الشريعة كانت إذا أخذت ف الدروس بعث ال نبيا من أنبيائه يبي للناس ما خلقوا لجله وهو‬
‫التعبد ل ‪ .‬فل بد أن يبقى من الشريعة الفروضة ‪ ،‬ما بي زمان أخذها ف الندراس وبي إنزال‬
‫الشريعة بعدها ـ بعض الصول العلومة ‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فأتى الفلسفة إل تلك الصول فتلقفوها أو تلقفوا منها ‪ ،‬فأرادوا أن يرجوه على مقتضى عقولم ‪،‬‬
‫وجعلوا ذلك عقليا ل شرعيا ‪ ،‬وليس المر كما زعموا ‪.‬‬
‫فالعقل غي مستقل البتة ‪ .‬ول ينبن على غي أصل ‪ ،‬وإنا ينبن على أصل متقدم مسلم على الطلق‬
‫‪ .‬ول يكن ف أحوال الخرة قبلهم أصل مسلم إل من طريق الوحي ‪.‬‬
‫ولذا العن بسط سيأت إن شاء ال ‪.‬‬
‫فعلى الملة ‪ ،‬العقول ل تستقل بإدراك مصالها دون الوحي ‪ .‬فالبتداع مضاد لذا الصل ‪ ،‬لنه‬
‫ليس له مستند شرعي بالفرض ‪ ،‬فل يبقى إل ما ادعوه من العقل ‪ .‬فالبتدع ليس على ثقة من بدعته‬
‫أن ينال بسبب العمل با ‪ ،‬ما رام تصيله من جهتها ‪ ،‬فصارت كالعبث ‪.‬‬
‫هذا إن قلنا ‪ :‬إن الشرائع جاءت لصال العباد ‪.‬‬
‫وأما على القول الخر فأحرى أن ل يكون صاحب البدعة على ثقة منها ‪ ،‬لنا إذ ذاك مرد تعبد‬
‫وإلزام من جهة المر للمأمور ‪ .‬والعقل بعزل عن هذه الطة حسبما تبي ف علم الصول ‪ .‬وناهيك‬
‫من نلة ينتحلها صاحبها ف أرفع مطالبة ل ثقة با ‪ ،‬ويلقي من يدها ما هو على ثقة منه ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن الشريعة جاءت كاملة ل تتمل الزيادة ول النقصان ‪ ،‬لن ال تعال قال فيها ‪" :‬اليوم‬
‫أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمت ورضيت لكم السلم دينا " ‪.‬‬
‫وف حديث العرباض بن سارية ‪:‬‬
‫"وعظنا رسول ال صلى ال عليه وسلم موعظة ذرفت منها العي ووجلت منها القلوب ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬يا‬
‫رسول ال ‪ ،‬إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال ‪ :‬تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ‪ ،‬ول‬
‫يزيغ عنها بعدي إل هالك ‪ ،‬ومن يعش منكم فسيى اختلفا كثيا فعليكم با عرفتم من سنت وسنة‬
‫الراشدين من بعدي " الديث ‪.‬‬
‫وثبت أن النب صلى ال عليه وسلم ل يت حت أتى ببيان جيع ما يتاج إليه ف أمر الدين والدنيا‬
‫وهذا ل مالف عليه من أهل السنة ‪.‬‬
‫فإذا كان كذلك ‪ ،‬فالبتدع إنا مصول قوله بلسان حالة أو مقالة ‪ :‬إن الشريعة ل تتم ‪ ،‬وأنه بقي‬
‫منها أشياء يب أو يستحب استدراكها ‪ ،‬لنه لو كان معتقدا لكمالا وتامها من كل وجه ‪ ،‬ل‬
‫يبتدع ول استدرك عليها وقائل هذا ضال عن الصراط الستقيم ‪.‬‬
‫قال ابن الاجشون ‪ :‬سعت مالكا يقول ‪ :‬من ابتدع ف السلم بدعة يراها حسنة زعم أن ممدا‬
‫صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ‪ ،‬لن ال يقول ‪ " :‬اليوم أكملت لكم دينكم " فما ل يكن يومئذ‬
‫دينا ‪ ،‬فل يكون اليوم دينا ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن البتدع معاند للشرع ومشاق له ‪ ،‬لن الشارع قد عي لطالب العبد طرقا خاصة على‬
‫وجوه خاصة ‪ ،‬وقصر اللق عليها بالمر والنهي والوعد والوعيد وأخب أن الي فيها ‪ ،‬وأن الشر ف‬

‫‪18‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫تعديها ـ إل غي ذلك ‪ ،‬لن ال يعلم ونن ل نعلم ‪ ،‬وأنه إنا أرسل الرسول صلى ال عليه وسلم‬
‫رحة للعالي ‪ .‬فالبتدع راد لذا كله ‪ ،‬فإنه يزعم أن ث طرقا أخر ‪ ،‬ليس ما حصره الشارع‬
‫بحصور ‪ ،‬ول ما عينه بتعي ‪ ،‬كأن الشارع يعلم ‪ ،‬ونن أيضا نعلم ‪ .‬بل ربا يفهم من استدراكه‬
‫الطرق على الشارع ‪ ،‬أنه علم ما ل يعلمه الشارع ‪.‬‬
‫وهذا إن كان مقصودا للمبتدع فهو كفر بالشريعة والشارع ‪ ،‬وإن كان غي مقصود فهو ضلل مبي‬
‫‪.‬‬
‫وإل هذا العن أشار عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ‪ ،‬إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيه ف‬
‫بعض القدرية ‪ ،‬فكتب إليه ‪:‬‬
‫أما بعد ‪ ،‬فإن أوصيك يتقوى ال والقتصاد ف أمره واتباع سنة نبيه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وترك ما‬
‫أحدث الحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته ‪ ،‬فعليك بلزوم السنة ‪ ،‬فإن السنة إنا سنها من قد‬
‫عرف ما ف خلفها من الطأ والزلل والمق والتعمق ‪ ،‬فارض لنفسك با رضي به القوم لنفسهم ‪،‬‬
‫فإنم على علم وقفوا ‪ ،‬وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف المور أقوى ‪ ،‬وبفضل كانوا‬
‫فيه أحرى ‪ .‬فلئن قلتم ‪ :‬أمر حدث بعدهم ‪ ،‬ما أحدثه بعدهم إل من اتبع غي سننهم ‪ ،‬ورغب بنفسه‬
‫عنهم ‪ ،‬إنم لم السابقون ‪ ،‬فقد تكلموا منه با يكفي ‪ ،‬ووصفوا منه ما يشفي ‪ ،‬فما دونم مقصرا ‪،‬‬
‫وما فوقهم مسر ‪ ،‬لقد قصر عنهم آخرون فغلوا وأنم بي ذلك لعلى هدى مستقيم ‪.‬‬
‫ث ختم الكتاب بكم مسألته ‪.‬‬
‫فقوله فإن السنة إنا سنها من قد عرف ما ف خلفها فهو مقصود الستشهاد ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن البتدع قد نزل نفسه منلة الضاهي للشارع ‪ ،‬لن الشارع وضع الشرائع وألزم اللق‬
‫الري على سننها ‪ ،‬وصار هو النفرد بذلك ‪ ،‬لنه حكم بي اللق فيما كانوا فيه يتلفون ‪ .‬وإل فلو‬
‫كان التشريع من مدركات اللق ل تزل الشرائع ‪ ،‬ول يبق اللف بي الناس ‪ .‬ول احتيج إل بعث‬
‫الرسل عليهم السلم ‪.‬‬
‫هذا الذي ابتدع ف دين ال قد صي نفسه نظيا ومضاهيا حيث شرع مع الشارع ‪ ،‬وفتح للختلف‬
‫بابا ‪ ،‬ورد قصد الشارع ف النفراد بالتشريع وكفى بذلك ‪.‬‬
‫والامس ‪ :‬أنه ابتاع للهوى لن العقل إذا ل يكن متبعا للشرع ل يبق له إل الوى والشهوة ‪ ،‬وأنت‬
‫تعلم ما ف اتباع الوى وأنه ضلل مبي ‪ .‬أل ترى قول ال تعال ‪ " :‬يا داود إنا جعلناك خليفة ف‬
‫الرض فاحكم بي الناس بالق ول تتبع الوى فيضلك عن سبيل ال إن الذين يضلون عن سبيل ال‬
‫لم عذاب شديد با نسوا يوم الساب " ‪.‬‬
‫فحصر الكم ف أمرين ل ثالث لما عنده ‪ ،‬وهو الق والوى ‪ ،‬وعزل العقل مردا إذ ل يكن ف‬
‫العادة إل ذلك ‪ .‬وقال ‪ " :‬ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه " ‪.‬‬

‫‪19‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فجعل المر مصورا بي أمرين ‪ ،‬اتباع الذكر ‪ ،‬واتباع الوى ‪ ،‬وقال ‪ " :‬ومن أضل من اتبع هواه‬
‫بغي هدى من ال " ‪.‬‬
‫وهي مثل ما قبلها ‪ .‬وتأملوا هذه الية فإنا صرية ف أن من ل يتبع هدى ال ف هوى نفسه ‪ ،‬فل‬
‫أحد أضل منه ‪.‬‬
‫وهذا شأن اليتدع ‪ ،‬فإنه اتبع هواه بغي هدى من ال ‪ .‬وهدى ال هو القرآن ‪ .‬وما بينته الشريعة‬
‫وبينته الية أن اتباع الوى على ضربي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يكون تابعا للمر والنهي فليس بذموم ول صاحبه بضال ‪ .‬كيف وقد قدم الدى‬
‫فاستنار به ف طريق هواه ‪ ،‬وهو شأن الؤمن التقي ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬أن يكون هواه هو القدم بالقصد الول ‪ ،‬كان المر والنهي تابعي بالسنة إليه أو غي تابعي‬
‫وهو الذموم ‪.‬‬
‫والبتدع قدم هوى نفسه على هدى ال فكان أضل الناس وهو يظن أنه على هدى ‪.‬‬
‫وقد انر هنا معن يتأكد التنبيه عليه ‪ ،‬وهو أن الية الذكورة عينت للتباع ف الحكام الشرعية‬
‫طريقي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬الشريعة ‪ ،‬ول مرية ف أنا علم وحق وهدى ‪ ،‬والخر ‪ :‬الوى وهو الذموم ‪ ،‬لنه ل يذكر‬
‫ف القرآن إل ف سياق الذم ‪ ،‬ول يعل ث طريقا ثالثا ‪ .‬ومن تتبع اليات ‪ ،‬ألفى ذلك كذلك ‪.‬‬
‫ث العلم الذي أحيل عليه والق الذي حد إنا هو القرآن وما نزل من عند ال ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬قل‬
‫آلذكرين حرم أم النثيي أما اشتملت عليه أرحام النثيي نبئون بعلم إن كنتم صادقي" وقال بعد‬
‫ذلك ‪" :‬أم كنتم شهداء إذ وصاكم ال بذا فمن أظلم من افترى على ال كذبا ليضل الناس بغي علم‬
‫" وقال ‪" :‬قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغي علم وحرموا ما رزقهم ال افتراء على ال قد‬
‫ضلوا وما كانوا مهتدين " ‪ .‬وهذا كله لتباع أهوائهم ف التشريع بغي هدى من ال ‪ ،‬وقال ‪" :‬ما‬
‫جعل ال من بية ول سائبة ول وصيلة ول حام ولكن الذين كفروا يفترون على ال الكذب " ‪.‬‬
‫وهو اتباع الوى ف التشريع ‪ ،‬إذ حقيقته افتراء على ال ‪ .‬وقال ‪" :‬أفرأيت من اتذ إله هواه وأضله‬
‫ال على علم وختم على سعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد ال " أي ل يهديه‬
‫دون ال شيء ‪ .‬وذلك بالشرع ل بغيه وهو الدى ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا وأن المر دائر بي الشرع والوى ‪ ،‬تزلزلت قاعدة حكم العقل الجرد ‪ ،‬فكأنه ليس‬
‫للعقل ف هذا اليدان مال إل من تت نظر الوى ‪ ،‬فهو إذا اتباع الوى بعينه ف تشريع الحكام ‪.‬‬
‫ودع النظر العقلي ف العقولت الحضة فل كلم فيه هنا ‪ ،‬وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالبتداع‬
‫فإنا زلوا من حيث ورود الطاب ومن حيث التشريع ‪ ،‬ولذلك عذر الميع قبل إرسال الرسل ‪،‬‬

‫‪20‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أعن ف خطئهم ف التشريعات والعقليات ‪ ،‬حت جاءت الرسل فلم يبق لحد حجة يستقيم إليها‬
‫"رسل مبشرين ومنذرين لئل يكون للناس على ال حجة بعد الرسل " ول الجة البالغة ‪.‬‬
‫فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر ف هذا القام ‪ ،‬وإن كانت أصولية فهذه نكتتها مستنبطة‬
‫من كتاب ال ‪ .‬انتهى ‪.‬‬

‫فصل ف النقل الوجه الول‬


‫وأما النقل فمن وجوه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬ما جاء ف القرآن الكري ما يدل على ذم من ابتدع ف دين ال ف الملة ‪.‬‬
‫فمن ذلك قول ال تعال ‪ " :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مكمات هن أم الكتاب وأخر‬
‫متشابات فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إل‬
‫ال " فهذه الية أعظم الشواهد ‪ .‬وقد جاء ف الديث تفسيها ‪ ،‬فصح " من حديث عائشة رضي‬
‫ال عنها أنا قالت ‪ :‬سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن قوله ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ‬
‫فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله " قال ‪ :‬فإذا رأيتهم فاعرفيهم" ‪.‬‬
‫وصح عنها أنا قالت ‪ " :‬سئل رسول ال صلى ال عليه وسلم عن هذه الية ‪ " :‬هو الذي أنزل‬
‫عليك الكتاب " إل آخر الية فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إذا رأيتم الذين يتبعون ما‬
‫تشابه منه فأولئك الذين سى ال فاحذروهم" ‪.‬‬
‫وهذا التفسي مبهم ‪ ،‬ولكنه جاء ف رواية عن عائشة أيضا قالت ‪ ":‬تل رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم هذه الية ‪ " :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات مكمات " الية ـ قال ‪ :‬فإذا رأيتم‬
‫الذين يادلون فيه ‪ ،‬فهم الذين عن ال فاحذروهم " وهذا أبي لنه جعل علمة الزيغ الدال ف‬
‫القرآن ‪ .‬وهذا الدال مقيد باتباع التشابه ‪.‬‬
‫فإذا الذم إنا لق من جادل فيه بترك الحكم ـ وهو أم الكتاب ومعظمه ـ والتمسك بتشابه ‪.‬‬
‫ولكنه بعد مفتقر إل تفسي أظهر ‪ .‬فجاء " عن أب غالب واسه حزور قال ‪ :‬كنت بالشام فبعث‬
‫الهلب سبعي رأسا من الوارج فنصبوا على درج دمشق ‪ ،‬فكنت على ظهر بيت ل فمر أبو أمامة‬
‫فنلت فاتبعته ‪ ،‬فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال ‪ :‬سبحان ال ! ما يصنع السلطان ببن آدم ! ـ‬
‫قالا ثلثا ـ كلب جهنم كلب جهنم شر قتلى تت ظل السماء ـ ثلث مرات ـ خي قتلى من‬
‫قتلوه ‪ ،‬طوب لن قتلهم أو قتلوه ‪ .‬ث التفت إل فقال ‪ :‬أبا غالب إنك بأرض هم با كثي فاعاذك‬
‫ال منهم قلت ‪ :‬رأيتك بكيت حي رأيتهم قال ‪ :‬بكيت رحة حي رأيتهم كانوا من أهل‬
‫السلم ‪ ،‬هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت نعم ‪ :‬فقرأ ‪ " :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات‬
‫مكمات هن أم الكتاب " حت بلغ ‪ " :‬وما يعلم تأويله إل ال " وإن هؤلء كان ف قلوبم زيغ بم‬

‫‪21‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث قرأ ‪ " :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " إل قوله " ففي رحة ال‬
‫هم فيها خالدون " قلت ‪ :‬هم هؤلء يا أبا أمامة ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قلت من قبلك تقول أو شيء سعت‬
‫من النب صلى ال عليه وسلم ؟ قال ‪ :‬إن إذا لريء ‪ ،‬بل سعته من رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ل مرة ول مرتي ـ حت عد سبعا ـ ث قال ‪:‬‬
‫إن بن إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعي فرقة وإن هذه المة تزيد عليها فرقة كلها ف النار إل‬
‫السواد العظم قلت ‪ :‬يا أبا أمامة أل ترى ما فعلوا ؟ قال ‪ " :‬عليه ما حل وعليكم ما حلتم " "‬
‫خرجه إساعيل القاضي وغيه ‪.‬‬
‫وف رواية قال ‪ :‬قال " أل ترى ما فيه السواد العظم " وذلك ف أول خلفة عبد اللك والقتل يومئذ‬
‫ظاهر ‪ .‬قال ‪ :‬عليه ما حل وعليكم ما حلتم وخرجه الترمذي متصرا وقال فيه ‪ :‬حديث حسن ‪،‬‬
‫وخرجه الطحاوي أيضا باختلف ف بعض اللفاظ وفيه فقيل له ‪ :‬يا أبا أمامة تقول لم هذا القول‬
‫ث تبكي ! ـ يعن قوله ‪ :‬شر قتلى ـ إل آخره ـ قال ‪ :‬رحة لم إنم كانوا من أهل السلم‬
‫فخرجوا منه ث تل ‪ " :‬هو الذي أنزل عليك الكتاب " حت ختمها ‪ .‬ث قال ‪ :‬هم هؤلء ث تل‬
‫هذه الية ‪ " :‬يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " حت ختمها ‪ .‬ث قال ‪ :‬هم هؤلء ‪.‬‬
‫وذكر الجري عن طاوس قال ‪ :‬ذكر لبن عباس الوارج وما يصيبهم عند قراءة القرآن ‪ ،‬فقال‬
‫يؤمنون بحكمه ‪ ،‬ويضلون عند متشابه ‪ .‬وقرأ ‪ " :‬وما يعلم تأويله إل ال والراسخون ف العلم‬
‫يقولون آمنا به " ‪.‬‬
‫فقد ظهر بذا التفسي أنم أهل البدع ‪ ،‬لن أبا أمامة رضي ال عنه جعل الوارج داخلي ف عموم‬
‫الية ‪ ،‬وأنا تتنل عليهم ‪ .‬وهم من أهل البدع عند العلماء ‪ ،‬إما على أنم خرجوا ببدعتهم عن أهل‬
‫السلم ‪ ،‬وإما على أنم من أهل السلم ل يرجوا عنهم ‪ ،‬على اختلف العلماء فيهم ‪.‬‬
‫وجعل هذه الطائفة من ف قلوبم زيغ فزيغ بم ‪ .‬وهذا الوصف موجود ف أهل البدع كلهم ‪ ،‬مع أن‬
‫لفظ الية عام وف غيهم من كان على صفاتم ‪.‬‬
‫أل ترى أن صدر هذه السورة غنما نزل ف نصارى نران ومناظرتم لرسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ف اعتقادهم ف عيسى عليه السلم ‪ ،‬حيث تأولوا عليه أنه الله أو أنه ابن ال أو أنه ثالث ثلثة ‪،‬‬
‫بأوجه متشابة وتركوا ما هو الواضح ف عبوديته حسبما نقله أهل السي! ث تأوله العلماء من السلف‬
‫الصال على قضايا دخل أصحابا تت حكم اللفظ كالوارج فهي ظاهرة ف العموم ‪.‬‬
‫ث تل أبو أمامة الية الخرى ‪ ،‬وهي قوله سبحانه ‪ " :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما‬
‫جاءهم البينات " إل قوله ‪ " :‬ففي رحة ال هم فيها خالدون " وفسرها بعن ما فسر به الية‬
‫الخرى ‪ ،‬فهي الوعيد والتهديد لن تلك صفته ‪ ،‬ونى الؤمني أن يكونوا مثلهم ‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ونقل عبيد عن حيد بن مهران قال ‪ :‬سألت السن كيف يصنع أهل هذه الهواء البيثة بذه الية‬
‫ف آل عمران ‪ " :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات " قال ‪ :‬نبذوها‬
‫ورب الكعبة وراء ظهورهم ‪.‬‬
‫وعن أب أمامة أيضا قال ‪ :‬هم الرورية ‪.‬‬
‫وقال ابن وهب ‪ :‬سعت مالكا يقول ‪ :‬ما آية ف كتاب ال أشد على أهل الختلف من أهل‬
‫الهواء من هذه الية ‪ " :‬يوم تبيض وجوه " إل قوله ‪ " :‬با كنتم تكفرون " قال مالك ‪ :‬فاي كلم‬
‫أبي من هذا ؟ فرأيته يتأولا لهل الهواء ‪ .‬ورواه ابن القاسم وزاد ‪ :‬قال ل مالك ‪ :‬إنا هذه الية‬
‫لهل القبلة ‪ .‬وما ذكره ف الية قد نقل عن غي واحد كالذي تقدم للحسن ‪.‬‬
‫وعن قتادة ف قوله تعال ‪ " :‬كالذين تفرقوا واختلفوا " يعن أهل البدع ‪.‬‬
‫وعن ابن عباس ف قوله ‪ " :‬يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " قال ‪ :‬تبيض وجوه أهل السنة ‪ ،‬وتسود‬
‫وجوه أهل البدعة ‪.‬‬
‫ومن اليات قوله تعال ‪ " :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله‬
‫ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون " فالصراط الستقيم هو سبيل ال الذي دعا عليه وهو السنة ‪ ،‬والسبل‬
‫هي سبل الختلف الائدين عن الصراط الستقيم وهم أهل البدع ‪ .‬وليس الراد سبل العاصي ‪ ،‬لن‬
‫العاصي من حيث هي معاص ل يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع ‪ .‬وإنا هذا‬
‫الوصف خاص بالبدع الحدثات ‪.‬‬
‫ويدل على هذا ما روى إساعيل عن سليمان بن حرب ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثنا حاد بن زيد عن عاصم بن‬
‫بدلة عن أب وائل عن عبد ال قال ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬وخط‬ ‫ل ‪ ،‬وخط لنا سليمان خطا طوي ً‬ ‫"خط لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما خطا طوي ً‬
‫عن يينه وعن يساره فقال ‪ :‬هذا سبيل ال ث خط لنا خطوطا عن يينه ويساره وقال ‪ :‬هذه سبل‬
‫وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ث تل هذه الية ‪ " :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول‬
‫تتبعوا السبل " ـ يعن الطوط ـ "فتفرق بكم عن سبيله" "‪.‬‬
‫وعن عمر بن سلمة المدان قال ‪ :‬كنا جلوسا ف حلقة ابن مسعود ف السجد وهو بطحاء قبل أن‬
‫يصب ‪ .‬فقال له عبيد ال بن عمر بن الطاب ‪ ،‬وكان أتى غازيا ‪ :‬ما الصراط الستقيم يا أبا عبد‬
‫الرحن ؟ قال ‪ :‬هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حت دخل النة ‪ .‬ث حلف على ذلك ثلث‬
‫أيان ولء ‪ ،‬ث خط ف البطحاء ‪ ،‬خطا بيده وخط بنبيه خطوطا وقال ‪ :‬ترككم نبيكم صلى ال‬
‫عليه وسلم على طرفه وطرفه الخر ف النة ‪ ،‬فمن ثبت عليه دخل النة ‪ ،‬ومن أخذ ف هذه الطوط‬
‫هلك ‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وف رواية ‪ :‬يا أبا عبد الرحن ‪ ،‬ما الصراط الستقيم ؟ قال ‪ :‬تركنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ف‬
‫أدناه وطرفه ف النة ‪ ،‬وعن يينه جواد وعن يساره جواد ؟ وعليها رجال يدعون من مر بم ‪ :‬هلم‬
‫لك ‪ ،‬فمن أخذ منهم ف تلك الطرق انتهت به إل النار ‪ ،‬ومن استقام إل الطريق العظم أنتهى به‬
‫إل النة ‪ .‬ث تل ابن مسعود ‪ " :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " الية كلها ‪.‬‬
‫وعن ماهد ف قوله ‪ " :‬ول تتبعوا السبل " قال ‪ :‬البدع والشبهات ‪.‬‬
‫وعن عبد الرحن بن مهدي ‪ :‬قد سئل مالك بن أنس عن السنة قال ‪ :‬هي ما ل إسم له غي السنة ‪،‬‬
‫تل ‪ " :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " ‪.‬‬
‫قال بكر بن العلء ‪ :‬يريد ـ إن شاء ال ـ حديث ابن مسعود"أن النب صلى ال عليه وسلم خط له‬
‫خطا" ‪ ،‬وذكر الديث ‪.‬‬
‫فهذا التفسي يدل على شول الية لميع طرق البدع ل تتص ببدعة دون أخرى ‪.‬‬
‫ومن اليات قول ال تعال ‪ " :‬وعلى ال قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لداكم أجعي " فالسبيل‬
‫القصد هو طريق الق ‪ ،‬وما سواه جار عن الق ‪ ،‬أي عادل عنه ‪ ،‬وهي طرق البدع والضللت ‪،‬‬
‫أعاذنا ال من سلوكها بفضله ‪ .‬وكفى بالائر أن يذر منه ‪ .‬فالساق يدل على التحذير والنهي ‪.‬‬
‫وذكر ابن وضاح قال ‪ :‬سئل عاصم بن بدلة وقيل له ‪ :‬أبا بكر ‪ ،‬هل رأيت قول ال تعال ‪ " :‬وعلى‬
‫ال قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لداكم أجعي " قال ‪ :‬حدثنا أبو وائل عن عبد ال بن مسعود‬
‫قال ‪ ":‬خط عبد ال خطا مستقيما وخط خطوطا عن يينه وخطوطا عن شاله ‪ ،‬فقال ‪ :‬خط رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم هكذا ‪ ،‬فقال للخط الستقيم ‪ :‬هذا سبيل ال وللخطوط الت عن يينه وشاله‬
‫‪ :‬هذه سبل متفرقة على كل سبيل منها شيطان يدعوإليه" والسبيل مشتركة قال ال تعال ‪ " :‬وأن‬
‫هذا صراطي مستقيما فاتبعوه " إل آخرها ‪.‬‬
‫عن التستري ‪ :‬قصد السبيل طريق السنة ‪ ،‬ومنها جائر والتقصي ‪ ،‬وذلك يفيد أن الائر هو الغال‬
‫أو القصر ‪ ،‬وكلها من أوصاف البدع ‪.‬‬
‫وعن علي رضي ال عنه أنه كان يقرؤها و منكم جائر ‪ .‬قالوا ‪ :‬يعن هذه المة ‪ ،‬فكأن هذه الية‬
‫مع الية قبلها يتواردان على معن واحد ‪.‬‬
‫ومنها قوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء إنا أمرهم إل ال ث‬
‫ينبئهم با كانوا يفعلون" ‪.‬‬
‫هذه الية قد جاء تفسيها ف الديث من طريق عائشة رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪ " :‬قال رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا عائشة "إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " من هم ؟ قلت ‪ :‬ال وسوله‬
‫أعلم ‪ .‬قال هم أصحاب الهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضللة من هذه المة ‪ ،‬يا عائشة إن‬

‫‪24‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫لكل ذنب توبة ‪ ،‬ما خل أصحاب الهواء والبدع ليس لم توب ًة ‪ ،‬وأنا بريء منهم وهم من برآء‪ ".‬؟‬
‫‪.‬‬
‫قال ابن عطية ‪ :‬هذه الية نعم أهل الهواء والبدع الشذوذ ف الفروع وغي ذلك من أهل التعمق ف‬
‫الدال والوض ف الكلم ‪ .‬هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء العتقد ‪ .‬ويريد ـ وال أعلم ـ‬
‫بأهل التعمق ف الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد الب ف فصل ذم الرأي من كتاب العلم له ‪ ،‬وسيأت‬
‫ذكره بول ال ‪.‬‬
‫وحكى ابن بطال ف شرح البخاري عن أب حنيفة أنه قال ‪ :‬لقيت عطاء بن أب رباح بكة فسألته‬
‫عن شيء فقال ‪ :‬من أين أنت ؟ قلت ‪ :‬من أهل الكوفة ‪ ،‬قال ‪ :‬أنت من أهل القرية الذين فرقوا‬
‫دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬من أي الصناف أنت ‪ ،‬قلت ‪ :‬من ل يسب السلف ‪،‬‬
‫ويؤمن بالقدر ول يكفر أحدا بذنب ‪ ،‬فقال عطاء ‪ :‬عرفت فالزم ‪.‬‬
‫وعن السن قال ‪ :‬خرج علينا عثمان بن عفان رضي ال عنه يوما يطبنا ‪ ،‬فقطعوا عليه كلمه ‪،‬‬
‫فتراموا بالبطحاء ‪ ،‬حت جعلت ما أبصر أدي السماء ‪ ،‬قال ‪ :‬وسعنا صوتا من بعض حجر أزواج‬
‫النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقيل ‪ :‬هذا صوت أم الؤمني ‪ ،‬قال ‪ :‬فسمعتها وهي تقول ‪ :‬أل إن‬
‫نبيكم قد برىء من فرق دينه واحتزب ‪ ،‬وتلت ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف‬
‫شيء " ‪.‬‬
‫قال القاضي إساعيل ‪ :‬أحسبه يعن بقوله ‪ :‬أم الؤمني أم سلمة ‪ ،‬وأن ذلك قد ذكر ف يعض‬
‫الديث ‪ ،‬وقد كانت عائشة ف ذلك الوقت حاجة ‪.‬‬
‫وعن أب هريرة أنا نزلت ف هذه المة ‪ .‬وعن أب أمامة هم الوارج ‪.‬‬
‫قال القاضي ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع ف الدين بدعة من الوارج وغيهم فهو داخل‬
‫ف هذه الية ‪ ،‬لنم إذا ابتدعوا تادلوا وتاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا ‪.‬‬
‫ومنها قوله تعال ‪ " :‬ول تكونوا من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب با‬
‫لديهم فرحون " ‪.‬‬
‫قرىء فارقوا دينهم وفسر عن أب هريرة أنم الوارج ‪ .‬ورواه أبو أمامة مرفوعا‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬هم أصحاب الهواء والبدع ‪ .‬قالوا ‪ :‬روته عائشة رضي ال عنها مرفوعا إل النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ .‬وذلك لن هذا شأن من ابتدع حسبما قاله إساعيل القاضي وكما تقدم ف الي الخر‬
‫‪.‬‬
‫ومنها قوله تعال ‪" :‬قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تت أرجلكم أو‬
‫يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض انظر كيف نصرف اليات لعلهم يفقهون" ‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الهوء الختلفة ‪ ،‬ويكون على هذا قوله ‪ " :‬ويذيق بعضكم بأس‬
‫بعض " تكفي البعض للبعض حت يتقاتلوا ‪ ،‬كما جرى للخوارج حي خرجوا على أهل السنة‬
‫والماعة ‪ .‬وقيل معن "أو يلبسكم شيعا " ما فيه إلباس من الختلف ‪.‬‬
‫وقال ماهد وأبو العالية ‪ :‬إن الية لمة ممد صلى ال عليه وسلم ‪ .‬قال أبو العالية ‪ :‬هن أربع ‪ ،‬ظهر‬
‫اثنتان بعد وفاة النب صلى ال عليه وسلم بمس وعشرين سنة ‪ ،‬فألبسوا شيعا وأذيق بعضكم بأس‬
‫بعض ‪ ،‬وبقيت اثنتان ‪ ،‬فهما ول بد واقعتان ‪ ،‬السف من تت أرجلكم والسخ من فوقكم ‪ ،‬وهذا‬
‫كله صريح ف أن اختلف الهواء مكروه غي مبوب ومذموم غي ممود ‪.‬‬
‫وفيما نقل عن ماهد ف قول ال ‪" :‬ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك ولذلك خلقهم" قال ف‬
‫الختلفي ‪ :‬إنم أهل الباطل ‪" .‬إل من رحم ربك " قال ‪ :‬فإن أهل الق ليس فيهم اختلف ‪.‬‬
‫وروي عن مطرف بن الشخي أنه قال ‪ :‬لو كانت الهواء واحدا لقال القائل ‪ :‬لعل الق فيه ‪ .‬فلما‬
‫تشعبت وتفرقت عرف كل ذي عقل أن الق ل يتفرق ‪.‬‬
‫وعن عكرمة " ول يزالون متلفي " يعن ف الهواء "إل من رحم ربك " هم أهل السنة ‪.‬‬
‫ونقل أبو بكر ثابت الطيب عن منصور بن عبد ال بن الرحن قال ‪ :‬كنت جالسا عند السن‬
‫ورجل خلفي قاعد فجعل يأمرن أن أسأله عن قول ال ‪" :‬ول يزالون متلفي" قال ‪ :‬نعم ل يزالون‬
‫متلفي على أديان شت إل من رحم ربك فمن رحم غي متلف ‪.‬‬
‫وروى ابن وهب ‪ ،‬عن عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬ومالك بن أنس أن أهل الرحة ل يتلفون ‪.‬‬
‫ولذه الية بسط يأت بعد إن شاء ال ‪.‬‬
‫وف البخاري عن عمرو عن مصعب قال ‪ :‬سألت أب عن قوله تعال ‪" :‬قل هل ننبئكم بالخسرين‬
‫أعمال" هم الرورية ؟ قال ‪ :‬ل ‪ :‬هم اليهود والنصارى ‪ ،‬أما اليهود فكذبوا ممدا صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وأما النصارى فكذبوا بالنة وقالوا ‪ :‬ل طعام فيها ول شراب ‪ .‬والرورية "الذين ينقضون‬
‫عهد ال من بعد ميثاقه" وكان شعبه يسميهم الفاسقي ‪.‬‬
‫وف تفسي سعيد بن منصور ‪ ،‬عن مصعب بن سعد قال ‪ :‬قلت لب ‪" :‬الذين ضل سعيهم ف الياة‬
‫الدنيا وهم يسبون أنم يسنون صنعا " أهم الرورية ؟ قال ‪ :‬ل ! أولئك أصحاب الصوامع ‪ .‬ولكن‬
‫الرورية الذين قال ال فيهم ‪" :‬فلما زاغوا أزاغ ال قلوبم " ‪.‬‬
‫وخرج عبد بن حيد ف تفسيه هذا العن بلفظ آخر عن مصعب بن سعد فأتى على هذه الية ‪" :‬قل‬
‫هل ننبئكم بالخسرين أعمال" إل قوله ‪ " :‬يسنون صنعا " قلت ‪ :‬أهم الرورية ؟ قال ‪ :‬ل ! هم‬
‫اليهود والنصارى ‪ ،‬أما اليهود فكفروا بحمد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأما النصارى فكفروا بالنة‬
‫وقالوا ‪ :‬ليس فيها طعام ول شراب ‪ ،‬ولكن الرورية ‪" :‬الذين ينقضون عهد ال من بعد ميثاقه‬
‫ويقطعون ما أمر ال به أن يوصل ويفسدون ف الرض "‬

‫‪26‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فالول ‪ :‬لنم خرجوا عن طريق الق بشهادة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لنم تأولوا‬
‫التأويلت الفاسدة ‪ ،‬وكذا فعل البتدعة وهو بابم الذي دخلوا فيه ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬لنم تصرفوا ف أحكام القرآن والسنة هذا التصرف ‪.‬‬
‫فأهل حروراء وغيهم من الوارج قطعوا قوله تعال ‪" :‬إن الكم إل ل" عن قوله ‪" :‬يكم به ذوا‬
‫عدل " وغيها ‪.‬‬
‫وكذا فعل سائر البتدعة حسبما يأتيك بول ال ‪.‬‬
‫ومنه روى عمرو بن مهاجر قال ‪ :‬بلغ عمر بن عبد العزيز رحه ال أن غيلن القدري يقول ف القدر‬
‫‪ ،‬فيعث إليه فحجبه أياما ‪ ،‬ث أدخله عليه فقال يا غيلن! ما هذا الذي بلغن عنك ؟ قال عمرو بن‬
‫مهاجر ‪ :‬فأشرت إليه أل يقول شيئا ‪ .‬قال فقال ‪ :‬نعم يا أمي الؤمني ‪ :‬إن ال عز وجل يقول "هل‬
‫أتى على النسان حي من الدهر ل يكن شيئا مذكورا * إنا خلقنا النسان من نطفة أمشاج نبتليه‬
‫فجعلناه سيعا بصيا" "إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا" قال عمر إقرأ إل آخر السورة ‪" :‬وما‬
‫تشاؤون إل أن يشاء ال إن ال كان عليما حكيما * يدخل من يشاء ف رحته والظالي أعد لم‬
‫عذابا أليما" ث قال ‪ :‬ما تقول يا غيلن ؟ قال أقول ‪ :‬قد كنت أعمى فبصرتن ‪ ،‬وأصم فأسعتن ‪،‬‬
‫وضالً فهديتن ‪ .‬فقال عمر ‪ :‬اللهم إن كان عبدك غيلن صادقا وإل فاصلبه ! قال فأمسك عن‬
‫الكلم ف القدر فوله عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق ‪ ،‬فلما مات عمر بن عبد العزيز‬
‫وأفضت اللفة إل هشام تكلم ف القدر ‪ ،‬فبعث إليه هشام فقطع يده ‪ ،‬فمر به رجل والذباب على‬
‫يده ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا غيلن! هذا قضاء وقدر ‪ .‬قال ‪ :‬كذبت لعمر ال ما هذا قضاء ول قدر ‪ .‬فبعث إليه‬
‫هشام فصلبه ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬لن الرورية جردوا السيوف على عباد ال وهو غاية الفساد ف الرض ‪ ،‬وذلك كثي من‬
‫أهل البدع شائع ‪ ،‬وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بي أهل السلم ‪.‬‬
‫وهذه الوصاف الثلثة تقتضيها الفرقة الت نبه عليها الكتاب والسنة كقوله تعال ‪" :‬ول تكونوا‬
‫كالذين تفرقوا واختلفوا " وقوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" وأشباه ذلك ‪.‬‬
‫وف الديث ‪ :‬إن المة تتفرق على بضع وسبعي فرقة ‪.‬‬
‫وهذا التفسي ف الرواية الول لصعب بن سعد أيضا فقد وافق أباه على العن الذكور ‪.‬‬
‫ث فسر سعد بن أب وقاص ف رواية سعيد بن منصور ‪ :‬أن ذلك بسبب الزيغ الاصل فيهم ‪ :‬وذلك‬
‫قوله تعال ‪" :‬فلما زاغوا أزاغ ال قلوبم" وهو راجع إل آية أل عمران ف قوله ‪" :‬فأما الذين ف‬
‫قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" ‪ .‬الية ‪ ،‬فإنه أدخل رضي ال عنه الرورية ف اليتي بالعن ‪ ،‬وهو‬
‫الزيغ ف إحداها ‪ ،‬والوصاف الذكورة ف الخرى لنا فيهم موجودة ‪ .‬فآية الرعد تشمل بلفظها ‪،‬‬
‫لن اللفظ فيها يقتضي العموم لغةً ‪ ،‬وإن حلناها على الكفار خصوصا فهي تعطي أيضا فيهم حكما‬

‫‪27‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫من جهة ترتيب الزاء على الوصاف الذكورة حسبما هو مبي ف الصول ‪ .‬وكذلك آية الصف‬
‫لنا خاصة بقوم موسى عليه السلم ‪ .‬ومن هنا كان شبعة يسميهم الفاسقي ـ أعن الرورية ـ‬
‫لن معن الية واقع عليهم ‪ .‬وقد جاء فيها ‪" :‬وال ل يهدي القوم الفاسقي" والزيغ أيضا كان‬
‫موجودا فيهم ‪ ،‬فدخلوا ف معن قوله ‪" :‬فلما زاغوا أزاغ ال قلوبم" ومن هنا يفهم أنا ل تتص من‬
‫أهل البدعة بالرورية ‪ ،‬بل تعم كل من اتصف بتلك الوصاف الت أصلها الزيغ ‪ ،‬وهو اليل عن‬
‫الق ابتاعا للهوى ‪ .‬وإنا فسرها سعد رضي ال عنه بالرورية لنه إنا سئل عنهم على الصوص‬
‫وال أعلم ‪ ،‬لنم أول من ابتدع ف دين ال ‪ ،‬فل يقتضي ذلك تصيصا ‪.‬‬
‫وأما السؤال عنها أو ًل ‪ ،‬وهي آية الكهف ‪ ،‬فإن سعدا نفى أن تشمل الرورية ‪.‬‬
‫وقد جاء عن علي بن أب طالب رضي ال عنه أنه فسر الخسرين أعمالً بالرورية أيضا ‪ .‬فروى‬
‫عبد بن حيد عن ابن الطفيل قال ‪ :‬قام ابن الكواء إل علي فقال ‪ :‬يا أمي الؤمني ! من الذين ضل‬
‫سعيهم ف الياة الدنيا وهم يسبون أنم يسنون صنعا ؟ قال ‪ :‬منهم أهل حروراء وهو أيضا‬
‫منقول ف تفسي سفيان الثوري ‪ .‬وف جامع ابن وهب أنه سأله عن الية فقال له ‪ :‬ارق إل أخبك‬
‫ـ وكان على النب ـ فرقى إليه درجتي ‪ ،‬فتناوله بعصا كانت ف يده ‪ ،‬فجعل يضربه با ‪ ،‬ث قال له‬
‫علي ‪ :‬أنت وأصحابك ‪ .‬وخرج عبد بن حيد أيضا عن ممد بن جبي بن مطعم قال ‪ :‬أخبن رجل‬
‫من بن أود أن عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع ‪ ،‬فصاح به ابن الكواء من أقصى السجد فقال‬
‫‪ :‬يا أمي الؤمني ! من الخسرين أعمالً ؟ قال ‪ :‬أنت ‪ .‬فقتل ابن الكواء يوم الوارج ‪ .‬ونقل‬
‫بعض أهل التفسي أن ابن الكواء سأله فقال ‪ :‬أنتم أهل حروراء ‪ ،‬وأهل الرياء ‪ ،‬والذين يبطون‬
‫الصنيعة بالنة ‪ .‬فالرواية الول تدل على أن أهل حروراء بعض من شلته الية ‪.‬‬
‫ولا قال سبحانه ف وصفهم ‪" :‬الذين ضل سعيهم ف الياة الدنيا" وصفهم بالضلل مع ظن‬
‫الهتداء ‪ ،‬دل على أنم البتدعون ف أعمالم عموما ‪ ،‬كانوا من أهل الكتاب أولً ‪ ،‬من حيث قال‬
‫النب ‪" :‬كل بدعة ضللة" وسيأت شرح ذلك بعون ال ‪ .‬فقد يتمع التفسيان ف الية ‪ :‬تفسي سعد‬
‫بأنم اليهود والنصارى ‪ ،‬وتفسي علي بأنم أهل البدعة ‪ .‬لنم قد اتفقوا على البتداع ولذلك فسر‬
‫كفر النصارى بأنم تأولوا ف النة غي ما هي عليه ‪ ،‬وهو التأويل بالرأي ‪ .‬فاجتمعت اليات الثلث‬
‫على ذم البدعة ‪ ،‬وأشعر كلم سعد ين أب وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف البتدعة‬
‫فهم مقصدون با فيها من الذم والزي وسوء الزاء إما بعموم اللفظ وإما بعن الوصف ‪.‬‬
‫وروى ابن وهب "أن النب صلى ال عليه وسلم أتى بكتاب ف كتف فقال ‪:‬‬
‫كفى بقوم حقا ـ أو قال ضللً ـ أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إل غي نبيهم ‪ ،‬أو كتاب إل‬
‫غي كتابم فنلت ‪" :‬أول يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم " " ‪.‬‬
‫وخرج عبد الميد عن السن قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪28‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"من رغب عن سنت فليس من ث تل هذه الية ‪" :‬قل إن كنتم تبون ال فاتبعون يببكم ال" إل‬
‫آخر الية " ‪.‬‬
‫وخرج هو وغيه عن عبد ال بن عباس رضي ال عنه ف قول ال ‪" :‬علمت نفس ما قدمت وأخرت"‬
‫قال ‪ :‬ما قدمت من عمل خيأو شر ‪ ،‬وما أخرت من سنة يعمل با من بعده ‪ .‬وهذا التفسي قد‬
‫يتاج إل تفسي ‪ .‬فروي عن عبد ال قال ‪ :‬ما قدمت من خي وما أخرت من سنة صالة يعمل با‬
‫من بعدها ‪ ،‬فغن له مثل أجر من عمل با ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا ‪ ،‬وما أخرت من سنة‬
‫سيئة ‪ ،‬كان عليه مثل وزر من عمل با ل ينقص ذلك من أوزارهم شيئا ‪ :‬أخرجه ابن مبارك وغيه‬
‫‪.‬‬
‫وجاء عن سفيان بن عيينة وأب قلبة وغيها أنم قالوا ‪ :‬كل صاحب بدعة أو فرية ذليل ‪ .‬واستدلوا‬
‫بقول ال تعال ‪" :‬إن الذين اتذوا العجل سينالم غضب من ربم وذلة ف الياة الدنيا وكذلك نزي‬
‫الفترين " ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن ماهد ف قول ال ‪" :‬إنا نن نيي الوتى ونكتب ما قدموا وآثارهم" يقول ‪ :‬ما‬
‫قدموا من خي ‪ ،‬وآثارهم الت أورثوا الناس بعدهم من الضللة ‪.‬‬
‫وخرج أيضا عن ابن عون ‪ ،‬عن ممد بن سيين أنه قال ‪ :‬إن أرى أسرع الناس ردةً ‪ ،‬أصحاب‬
‫الهواء ‪" :‬وإذا رأيت الذين يوضون ف آياتنا فأعرض عنهم حت يوضوا ف حديث غيه" ‪.‬‬
‫وذكر الجري عن أب الوزاء أنه ذكر أصحاب الهواء فقال ‪ :‬والذي نفس أب الوزاء بيده لن‬
‫تتلىء داري قردة وخنازير أحب إل من أن ياورن رجل منهم ‪ ،‬ولقد ‪ ،‬دخلوا ف هذه الية ‪" :‬ها‬
‫أنتم أولء تبونم ول يبونكم وتؤمنون بالكتاب كله" إل قوله ‪" :‬إن ال عليم بذات الصدور" ‪.‬‬
‫واليات الصرحة والشية إل ذمهم والنهي عن ملبسة أحوالم كثية ‪ ،‬فلنقتصر على ما ذكرنا ‪،‬‬
‫ففيه ـ إن شاء ال ـ الوعظة لن اتعظ ‪ ،‬والشفاء لا ف الصدور ‪.‬‬

‫فصل الوجه الثان من النقل‬


‫ما جاء ف الحاديث النقولة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهي كثية تكاد تفوت الصر إل‬
‫أنا نذكر منها ما تيسر ما يدل على الباقي ونتحرى ف ذلك ـ بول ال ـ ما هو أقرب إل الصحة‬
‫‪.‬‬
‫فمن ذلك ما ف الصحيح من حديث عائشة رضي ال عنها عن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"من أحدث ف أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد" وف رواية لـمسلم ‪ ":‬من عمل عملً ليس عليه أمرنا‬
‫فهو رد" وهذا الديث عده العلماء ثلث السلم ‪ ،‬لنه جع وجه الخالفة لمره عليه السلم ‪.‬‬
‫ويستوي ف ذلك ما كان بدعة أو معصية ‪.‬‬

‫‪29‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وخرج مسلم ‪ ،‬عن جابر بن عبد ال "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يقول ف خطبته ‪:‬‬
‫أما بعد فإن خي الديث كتاب ال ‪ ،‬وخي الدي هدي ممد ‪ ،‬وشر المور مدثاتا ‪ ،‬وكل بدعة‬
‫ضللة " ‪.‬‬
‫وف رواية قال ‪ " :‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يطب الناس ‪ ،‬يمد ال ويثن عليه با هو‬
‫أهله ث يقول ‪ :‬من يهده ال فل مضل له ‪ ،‬ومن يضلل فل هادي له ‪ ،‬وخي الديث كتاب ال ‪،‬‬
‫وخي الدي هدي ممد ‪ ،‬وشر المور مدثاتا وكل مدثة بدعة" ‪.‬‬
‫وف رواية للـنسائي "وكل مدثة بدعة ‪ ،‬وكل بدعة ف النار" ‪.‬‬
‫وذكر أن عمر رضي ال عنه كان يطب بذه الطبة ‪ .‬وعن ابن مسعود موقوفا ومرفوعا ‪ :‬أنه كان‬
‫يقول ‪:‬‬
‫إنا ها اثنتان ـ الكلم ‪ ،‬والدى ـ فأحسن الكلم كلم ال ‪ ،‬وأحسن الدى هدى ممد ‪ ،‬أل‬
‫وإياكم ومدثات المور ‪ ،‬فإن شر المور مدثاتا ‪ ،‬إن كل مدثة بدعة ‪ .‬وف لفظ غي أنكم‬
‫ستحدثون ويدث لكم ‪ ،‬فكل مدثة ضللة وكل ضللة ف النار كان ابن مسعود يطب بذا كل‬
‫خيس ‪.‬‬
‫وف رواية أخرى عنه ‪ :‬إنا ها اثنتان ـ الدى والكلم ـ فأفضل الكلم ـ أو أصدق الكلم ـ‬
‫كلم ال ‪ ،‬وأحسن الدى هدى ال بل ممد ‪ ،‬وشر المور مدثاتا ‪ ،‬وكل مدثة بدعة ‪ ،‬أل ل‬
‫يتطاولن عليكم المر فتقسوا قلوبكم ‪ ،‬ول يلهينكم المل ‪ ،‬فإن كل ما هو آت قريب ‪ ،‬أل إن بعيدا‬
‫ما ليس آتيا ‪.‬‬
‫وف رواية أخرى عنه ‪ :‬أحسن الديث كتاب ال ‪ ،‬وأحسن الدى هدى ممد وشر المور مدثاتا ‪،‬‬
‫و " إنا توعدون لت وما أنتم بعجزين " ‪.‬‬
‫وروى ابن ماجة مرفوعا عن ابن مسعود أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إياكم ومدثات‬
‫المور ‪ ،‬فإن شر المور مدثاتا ‪ ،‬وإن كل مدثة بدعة وإن كل بدعة ضللة" والشهور أنه موقوف‬
‫على ابن مسعود ‪.‬‬
‫وف الصحيح من حديث أب هريرة قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من دعا إل الدى كان له من الجر مثل أجور من يتبعه ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا ‪ .‬ومن‬
‫دعا إل ضللة كان عليه من الث مثل آثام من يتبعه ل ينقص ذلك من آثامهم شيئا" ‪.‬‬
‫وف الصحيح أيضا عنه عليه الصلة والسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"من سن سنة خي فاتبع عليها فله أجره ‪ .‬ومثل أجور من أتبعه غي منقوص من أجورهم شيء ومن‬
‫سن سنة شر فاتبع عليها كان عليه وزره ومثل أوزار من اتبعه غي منقوص من أوزارهم شيء" خرجه‬
‫الترمذي ‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وروى الترمذي أيضا وصححه ‪ ،‬وأبو داود وغيها عن العرباض بن سارية قال ‪:‬‬
‫"صلى بنا رسول ال صلى ال عليه وسلم ذات يوم ث أقبل علينا فوعظنا موعظةً بليغة ذرفت منها‬
‫العيون ووجلت منها القلوب ‪ .‬فقال قائل ‪ :‬يا رسول ال ؟ كأن هذا موعظة مودع ‪ ،‬فماذا تعهد إلينا‬
‫؟ فقال أوصيكم بتقوى ال والسمع والطاعة لولة المر وإن كان عبدا حبشيا ‪ .‬فإنه من يعيش منكم‬
‫بعدي فسيى اختلفا كثيا ‪ ،‬فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين الهديي ‪ ،‬تسكوا با وعضوا‬
‫عليها بالنواجذ ‪ ،‬وإياكم ومدثات المور ‪ ،‬فإن كل مدثة بدعة وكل ضللة " وروى على وجوه‬
‫من طرق ‪.‬‬
‫وف الصحيح "عن حذيفة أنه قال ‪:‬يا رسول ال ! هل بعد هذا الي شر ؟ قال ‪ :‬نعم قوم يستنون‬
‫بغي سنت ‪ ،‬ويهتدون بغي هديي قال فقلت ‪ :‬هل بعد ذلك الشر من شر ؟ قال ‪ :‬نعم دعاة على نار‬
‫جهنم من أجابم قذفوه فيها قلت ‪ :‬يا رسول ال ‪ ،‬صفهم لنا ‪ .‬قال نعم هم من جلدتنا ‪ ،‬ويتكلمون‬
‫بألسنتنا قلت ‪ :‬فما تأمرن إن أدركت ذلك ؟ قال ‪ :‬تلزم جاعة السلمي وإمامهم قلت ‪ :‬فإن ل يكن‬
‫إمام ول جاعة ؟ قال ‪ :‬فاعتزل تلك الفرق كلها ولو أن تعض بأصل شجرة حت يدرك الوت وأنت‬
‫على ذلك" وخرجه البخاري على نو آخر ‪.‬‬
‫وف حديث الصحيفة ‪:‬‬
‫" الدينة حرم ما بي عي إل ثور من أحدث فيها حدثا أو آوى مدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس‬
‫أجعي ‪ ،‬ل يقبل ال منه يوم القيامة صرفا ول عدلً"وهذا الديث ف سياق العموم فيشمل كل‬
‫حدث أحدث فيها ما يناف الشرع ‪ .‬والبدع من أقبح الدث ‪ .‬وقد استدل به مالك ف مسألة تأت‬
‫ف موضعها بول ال ‪ .‬وهو وإن كان متصا بالدينة فغيها أيضا يدخل ف العن ‪.‬‬
‫وف الوطأ من حديث أب هريرة ‪:‬‬
‫"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إل القبة ‪ :‬فقال ‪ :‬السلم عليكم دار قوم مؤمني ‪ ،‬وإنا‬
‫إن شاء ال بكم لحقون" الديث ـ إل أن قال فيه "فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعي‬
‫الضال ‪ ،‬أناديهم أل هلم ! أل هلم ! فيقال ‪ :‬أنم قد بدلوا بعدك ‪ .‬فأقول ‪ :‬فسحقا ! فسحقا!‬
‫فسحقا " حله جاعة من العلماء على أنم أهل البدع ‪ ،‬وحله آخرون على الرتدين عن السلم ‪.‬‬
‫والذي يدل على الول ما خرجه خثيمة بن سليمان عن يزيد الرقاشي قال ‪ :‬سألت أنس بن مالك‬
‫فقلت ‪ :‬إن ها هنا قوما يشهدون علينا بالكفر والشرك ‪ ،‬ويكذبون بالوض والشفاعة ‪ ،‬فهل سعت‬
‫من رسول ال صلى ال عليه وسلم ف ذلك شيئا ؟ قال ‪ :‬نعم سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يقول ‪:‬‬
‫"بي العبد والكفر ـ أو الشرك ـ ترك الصلة ‪ ،‬فإذا تركها فقد أشرك ‪ .‬وحوضي كما بي أيلة إل‬
‫مكة أباريقه كنجوم السماء ـ أو قال ‪ :‬كعدد نوم السماء ـ له ميزابان من النة ‪ ،‬كلما نضب‬

‫‪31‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أمداه ‪ ،‬من شرب منه شربة ل يظمأ بعدها أبدا ‪ ،‬وسيده أقوام ذابلة شفاههم فل يطعمون منه قطرة‬
‫واحدة ‪ .‬من كذب به اليوم ل يصب منه الشراب يومئذ" فهذا الديث على أنم من أهل القبلة ‪.‬‬
‫فنسبتهم أهل السلم إل الكفر من أوصاف الوارج ‪ ،‬والتكذيب بالوض من أوصاف أهل‬
‫العتزال وغيهم ‪ .‬مع ما ف حديث الوطأ من قول النب صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أل هلم" لنه‬
‫عرفهم بالغرة والتحجيل الذي جعله من خصائص أمته ‪ ،‬وإل فلو ل يكونوا من المة ل يعرفهم‬
‫بالعلمة الذكورة ‪.‬‬
‫وصح من حديث ابن عباس رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫"قام فينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالوعظة فقال ‪ :‬إنكم مشورون إل ال حفاةً عراةً غرل‬
‫"كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلي" قال ـ أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ـ‬
‫وإنه يستدعى برجال من أمت فيؤخذ بم ذات الشمال ‪ ،‬فأقول كما قال العبد الصال ‪" :‬وكنت‬
‫عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتن كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شيء شهيد * إن‬
‫تعذبم فإنم عبادك وإن تغفر لم فإنك أنت العزيز الكيم" فيقال هؤلء ل يزالوا مرتدين على‬
‫أعقابم منذ فارقتهم" ‪.‬‬
‫ويتمل هذا الديث أن يراد به أهل البدع كحديث الوطأ ‪ ،‬ويتمل أن يراد به من ارتد بعد النب‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وف الترمذي ‪ ،‬عن أب هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"تفرقت اليهود على إحدى وسبعي فرقة ‪ ،‬والنصارى مثل ذلك ‪ ،‬وتفترق أمت على ثلث وسبعي‬
‫فرقة" حسن صحيح ‪.‬‬
‫وف الديث روايات أخرى سيأت ذكرها والكلم عليها إن شاء ال ‪ .‬ولكن الفرق فيها عند أكثر‬
‫العلماء فرق أهل البدع ‪ .‬وف الصحيح أنه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"إن ال ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ‪ ،‬حت إذا ل يبق‬
‫عال اتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم فضلوا وأضلوا" وهو آت على وجوه كثية ف‬
‫البخاري وغيه ‪.‬‬
‫وف مسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه أنه قال ‪:‬‬
‫" من سره أن يلقى ال غدا مسلما فليحافظ على هؤلء الصلوات حيث ينادى بن ‪ ،‬فإن ال عز‬
‫وجل شرع لنبيكم صلى ال عليه وسلم سنن الدى ‪ ،‬وأنن من سنن الدى ‪ ،‬ولو أنكم صليتم ف‬
‫بيوتكم كما يصلي هذا التخلف ف بيته لتركتم سنة نبيكم ‪ ،‬ولو تركتم سنة نبيكم صلى ال عليه‬
‫وسلم لضللتم " الديث ‪.‬‬
‫فتأملوا كيف جعل ترك السنة ضللة ! وف رواية ‪:‬‬

‫‪32‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"لو تركتم سنة نبيكم صلى ال عليه وسلم لكفرت" وهو أشد ف التحذير ‪.‬‬
‫وفيه أن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"إن تارك فيكم ثقلي أولما كتاب ال فيه الدى والنور ـ وف رواية فيه الدى ـ من استمسك به‬
‫وأخذ به كان على الدى ‪ .‬ومن أخطأه ضل وف رواية ‪ :‬من اتبعه كان على الدى ومن تركه كان‬
‫على ضللة" ‪.‬‬
‫وما جاء ف هذا الباب أيضا ما خرج ابن وضاح ونوه لبن وهب عن أب هريرة أن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫" سيكون ف أمت دجالون كذابون يأتونكم ببدع من الديث ل تسمعوه أنتم ول آباؤهم ‪ ،‬فإياكم‬
‫إياهم ل يفتنونكم" ‪.‬‬
‫وف الترمذي أنه عليه الصلة والسلم قال ‪:‬‬
‫"من أحيا سنةً من سنت قد أميتت بعدي فإن له من الجر مثل أجر من عمل با من غي أن يتقص‬
‫ذلك من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن ابتدع بدعة ضللة ل ترضي ال ورسوله كان عليه مثل وزر من عمل‬
‫با ل ينقص ذلك من أوزار الناس شيئا" حديث حسن ‪.‬‬
‫ولبن وضاح وغيه من حديث عائشة رضي ال عنها ‪:‬‬
‫" من أتى صاحب بدعة ليوقره فقد أعان على هدم السلم " ‪.‬‬
‫وعن السن أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"إن أحببت أن ل توقف على الصراط طرفة عي حت تدخل النة فل تدث ف دين ال حدثا‬
‫برأيك" ‪.‬‬
‫وعنه عليه الصلة والسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"من اقتدى ب فهو من ومن رغب عن سنت فليس من" ‪.‬‬
‫وخرج الطحاوي أن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"ستة ألعنهم لعنهم ال وكل نب ماب ‪ :‬الزائد ف دين ال ‪ ،‬والكذب بقدر ال ‪ ،‬والتسلط بالبوت‬
‫يذل به من أعز ال ويعز به من أذل ال ‪ ،‬والتارك لسنت ‪ ،‬والستحل لرم ال ‪ ،‬والستحل من عترت‬
‫ما حرم ال" ‪.‬‬
‫وف رواية أب بكر بن ثابت الطيب ‪" :‬ستة لعنهم ال ولعنتهم" وفيه ‪" :‬والراغب عن سنت إل بدع"‬
‫‪.‬‬
‫وف الطحاوي أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"إن لكل عابد شرةً ولكل شرة فترة فإما إل سنة وإما إل بدعة ـ فمن كانت فترته إل سنت فقد‬
‫اهتدى ‪ ،‬ومن كانت فترته إل غي ذلك فقد هلك" ‪.‬‬

‫‪33‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وف معجم البغوي عن ماهد قال ‪ :‬دخلت أنا وأبو يي بن جعدة على رجل من النصار من‬
‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ " :‬ذكروا عند رسول ال صلى ال عليه وسلم مولة‬
‫لبن عبد الطلب فقالوا ‪ :‬إنا قامت الليل وصامت النهار فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫لكن أنام وأصلي ‪ ،‬وأصوم وأفطر ‪ ،‬فمن اقتدى ب فهو من‪ ،‬ومن رغب عن سنت فليس من ‪ ،‬إن‬
‫لكل عامل شرةً ث فترة فمن كانت فترته إل بدعة فقد ضل ‪ ،‬ومن كانت فترته إل سنة فقد اهتدى"‬
‫‪.‬‬
‫وعن أب وائل ‪ ،‬عن عبد ال ‪ ،‬عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"إن أشد الناس عذابا يوم القيامة رجل قتل نبيا أو قتله نب ‪ ،‬وإمام ضللة ومثل من السلمي" ‪.‬‬
‫وف منتقى حديث خثيمة ‪ ،‬عن سليمان ‪ ،‬عن عبد ال أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"سيكون من بعدي أمراء يؤخرون الصلة عن مواقيتها فيحدثون البدعة ‪ ،‬قال عبد ال بن مسعود ‪:‬‬
‫فكيف أصنع إذا أدركتهم ؟ قال ‪ :‬تسألن يا ابن أم عبد ال كيف تصنع ؟ ل طاعة لن عصى ال" ‪.‬‬
‫وف الترمذي عن أب سعيد الدري قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من أكل طيبا وعمل ف سنة وأمن الناس بوائقة دخل النة فقال رجل ‪ :‬يا رسول ال إن هذا اليوم‬
‫ف الناس لكثي ‪ ،‬قال ‪:‬وسيكون ف قرون بعدي" حديث غريب ‪.‬‬
‫وف كتاب الطحاوي عن عبد ال بن عمرو بن العاص أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"كيف بكم وبزمان ـ أو قال ‪ :‬يوشك أن يأت زمان ـ يغربل الناس فيه غربلة ‪ ،‬وتبقى حثالة من‬
‫الناس قد مرجت عهودهم وأماناتم ‪ ،‬اختلفوا فصارت هكذا ـ وشبك بي أصابعه ـ قالوا ‪:‬‬
‫وكيف بنا يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬تأخذون با تعرفون ‪ ،‬وتذرون ما تنكرون ‪ ،‬وتقبلون على أمر‬
‫خاصتكم ـ وتذرون أمر عامتكم" ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب مرسلً "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬إياكم والشعاب قالوا ‪ :‬وما‬
‫الشعاب يا رسول ال ؟ قال الهواء" ‪.‬‬
‫وخرج أيضا ‪:‬‬
‫"إن ال ليدخل العبد النة بالسنة يتمسك با" ‪ .‬وف كتاب السنة للجري من طريق الوليد بن مسلم‬
‫عن معاذ بن جبل قال ‪ :‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إذا حدث ف أمت البدع وشتم أصحاب ‪ ،‬فليظهر العال علمه ‪ ،‬فمن ل يفعل فعليه لعنة ال واللئكة‬
‫والناس أجعي" ‪.‬‬
‫قال عبد ال بن السن ‪ :‬فقلت للوليد بن مسلم ‪ :‬ما إظهار العلم ؟ قال ‪ :‬إظهار السنة ‪ .‬والحاديث‬
‫كثية ‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وليعلم الوفق أن بعض ما ذكر من الحاديث يقصر عن رتبة الصحيح وإنا أتى با عملً با أصله‬
‫الحدثون ف أحاديث الترغيب والترهيب ‪ .‬وإذ قد ثبت ذم البدع وأهلها بالدليل القاطع القرآن‬
‫والدليل السن الصحيح ‪ ،‬فما زيد من غيه فل حرج ف التيان به إن شاء ال ‪.‬‬

‫فصل الوجه الثالث من النقل‬


‫ما جاء عن السلف الصال من الصحابة والتابعي رضي ال عنهم ف ذم البدع وأهلها وهو كثي ‪.‬‬
‫فما جاء عن الصحابة ما صح عن عمر بن الطاب رضي ال عنه أنه خطب الناس فقال ‪ :‬أيها‬
‫الناس ! قد سنت لكم السنن ‪ ،‬وفرضت لكم الفرائض ‪ ،‬وتركتم على الواضحة ‪ ،‬إل أن تضلوا‬
‫بالناس يينا وشا ًل ‪ .‬وصفق بإحدى يديه على الخرى ‪ .‬ث قال ‪ :‬إياكم أن تلكوا عن آية الرجم ـ‬
‫أن يقول قائل ‪ :‬ل ند حدين ف كتاب ال ‪ .‬فقد رجم رسول ال صلى ال عليه وسلم ورجنا ـ‬
‫إل آخر الديث ‪.‬‬
‫وف الصحيح عن حذيفة رضي ال عنه أنه قال ‪ :‬يا معشر القراء استقيموا فقد سبقتم سبقا يعيدا ‪،‬‬
‫ولئن أخذت يينا وشالً لقد ضللتم ضللً بعيدا ‪.‬‬
‫وروى عنه من طريق آخر أنه كان يدخل السجد فيقف على اللق فيقول ‪ :‬يا معشر القراء ‪ ،‬اسلكوا‬
‫الطريق فلئن سلكتموها لقد سبقتم سبقا بعيدا ‪ ،‬ولئن أخذت يينا وشا ًل لقد ضللتم ضللً بعيدا ‪.‬‬
‫وف رواية ابن البارك ‪ :‬فو ال لئن استقمتم لقد سبقتم سبقا بعيدا ‪ .‬الديث ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ‪ :‬أخوف ما أخاف على الناس اثنتان ‪ :‬أن يؤثروا ما يرون على ما يعملون وأن يضلوا‬
‫وهم ل يشعرون ‪ .‬قال سفيان ‪ :‬وهو صاحب البدعة ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ‪ :‬أنه أخذ حجرين فوضع أحدها على الخر ث قال لصحابه ‪ :‬هل ترون ما بي هذين‬
‫الجرين من النور ؟ قالوا ‪ :‬يا أبا عبد ال ما نرى بينهما من النور إل قليلً ‪ .‬قال ‪ :‬والذي نفسي‬
‫بيده لتظهرن البدع حت ل يرى من الق إل قدر ما بي هذين الجرين من النور ‪ ،‬وال لتفشون‬
‫البدع حت إذا ترك منها شيء قالوا ‪ :‬تركت السنة ‪.‬‬
‫وعنه أنه قال ‪ :‬أول ما تفقدون من دينكم المانة ‪ ،‬وآخر ما تفقدون الصلة ولتنقضن عرى السلم‬
‫عرو ًة عروةً وليطئن نساءكم وهن حيض ‪ ،‬ولتسلكن طريق من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ‪،‬‬
‫وحذو النعل بالنعل ‪ ،‬ل تطئون طريقهم ول تطىء بكم ‪ ،‬وحت تبقى فرقتان من فرق كثية تقول‬
‫إحداها ‪ :‬ما بال الصلوات المس ؟ لقد ضل من كان قبلنا إنا قال ال ‪" :‬وأقم الصلة طرف النهار‬
‫وزلفا من الليل" ل تصلون إل ثلثا ‪.‬‬
‫وتقول الخرى ‪ :‬إنا الؤمنون بال كإيان اللئكة ‪ ،‬ما فيها كافر ول منافق ‪ .‬حق على ال أن‬
‫يشرها مع الدجال ‪.‬‬

‫‪35‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذا العن موافق لا ثبت من حديث أب رافع عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"ل ألفي أحدكم متكئا على أريكته يأتيه المر من أمري ما أمرت به أو نيت عنه فيقول ‪ :‬ل أدري‬
‫ل أدري ‪ ،‬ما وجدنا ف كتاب ال اتبعناه" فإن السنة جاءت مفسرة للكتاب فمن أخذ بالكتاب من‬
‫غي معرفة بالسنة زل عن الكتاب كما زل عن السنة ‪.‬‬
‫فلذلك يقول القائل ‪ :‬لقد ضل من كان قبلنا إل آخره ‪.‬‬
‫وهذه الثار عن حذيفة من تريج ابن وضاح ‪.‬‬
‫وخرج أيضا عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه أنه قال ‪ :‬اتبعوا آثارنا ول تبتدعوا فقد كفيتم ‪.‬‬
‫وخرج عنه ابن وهب أيضا انه قال ‪ :‬عليكم بالعلم قبل أن يقبض ‪ ،‬وقبضه بذهاب أهله ‪ .‬عليكم‬
‫بالعلم فإن أحدكم ل يدري مت يفتقر إل ما عنده ‪ .‬وستجدون أقواما يزعمون أنم يدعون إل‬
‫كتاب ال وقد نبذوه وراء ظهورهم ‪ ،‬فعليكم بالعلم وإياكم والتبدع والتنطع والتعمق وعليكم‬
‫بالعتيق ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ‪ :‬ليس عام إل والذي بعده شر منه ‪ .‬ل أقول ‪ :‬عام أمطر من عام ‪ ،‬ول عام أخصب من‬
‫عام ‪ ،‬ول أمي خي من أمي ‪ ،‬ولكن ذهاب علمائكم وخياركم ث يدث قوم يقيسون المور بآرائهم‬
‫فيهدم السلم ويثلم ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬كيف أنتم إذا ألبستم فتنةً يهرم فيها الكبي وينشأ فيها الصغي تري على الناس يدثونا‬
‫سنة ‪ .‬وإذا غيت ‪ ،‬قيل ‪ :‬هذا منكر ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬أيها الناس ! ل تبتدعوا ول تنطوا ول تعمقوا ‪ ،‬وعليكم بالعتيق خذوا ما تعرفون ودعوا‬
‫ما تنكرون ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ‪ :‬القصد ف السنة خي من الجتهاد ف البدعة ‪.‬‬
‫وقد روي معناه مرفوعا إل النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"عمل قليل ف سنة ‪ ،‬خي من عمل كثي ف بدعة" ‪.‬‬
‫وعنه أيضا خرجه قاسم بن أصبغ أنه قال ‪ " :‬أشد الناس عذابا يوم القيامة إمام ضال يضل الناس‬
‫بغي ما أنزل ال ‪ ،‬ومصور ‪ ،‬ورجل قتل نبيا أو قتله نب "‪.‬‬
‫وعن أب بكر الصديق رضي ال عنه قال ‪ :‬لست تاركا شيئا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫يعمل به إل عملت به ‪ ،‬إن أخشى إن تركت شيئا من أمره أن أزيغ‪.‬‬
‫خرج ابن البارك عن عمر بن الطاب ‪ :‬أن يزيد بن أب سفيان يأكل ألوان الطعام ‪ ،‬فقال عمر لول‬
‫له ـ يقال له يرفأ ـ إذا علمت أنه قد حضر عشاؤه ‪ ،‬فأعلمن ‪ .‬فلما حضر عشاؤه أعلمه ‪ ،‬فأتاه‬
‫عمر فسلم عليه ‪ ،‬فاستأذن فأذن له فدخل ‪ ،‬فقرب عشاؤه فجاء بثريد لم فأكل عمر معه منها ‪ ،‬ث‬

‫‪36‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قرب شواء فبسط يزيد يده ‪ ،‬وكف عمر يده ث قال ‪ :‬وال يا يزيد بن أب سفيان ‪ ،‬أطعام بعد‬
‫طعام ؟ والذي نفس عمر بيده لئن خالفتم عن سنتهم ليخالفن بكم عن طريقهم ‪.‬‬
‫وعن ابن عمر ‪ :‬صلة السفر ركعتان من خالف السنة كفر ‪.‬‬
‫وخرج الجري عن السائب بن يزيد قال ‪ :‬أتى عمر بن الطاب فقالوا ‪ :‬يا أمي الؤمني إنا لقينا‬
‫رجلً يسأل عن تأويل القرآن ‪ ،‬فقال ‪ :‬اللهم أمكن منه ‪ ،‬قال ‪ :‬فبينما عمر ذات يوم يغدي الناس إذ‬
‫جاءه عليه ثياب وعمامة فتغدى حت إذا فرغ قال ‪ :‬يا أمي الؤمني "والذاريات ذروا * فالاملت‬
‫وقرا" فقال عمر ‪ :‬أنت ‪ ،‬هو ؟ فقام غليه مسرا عن ذراعيه فلم يزل يلده حت سقطت عمامته فقال‬
‫‪ :‬والذي نفسي بيده لو وجدتك ملوقا لضربت رأسك ‪ ،‬ألبسوه ثيابه واحلوه على قتب ث أخرجوه‬
‫حت تقدموا به بلده ‪ ،‬ث ليقم خطيبا ث ليقل ‪ :‬إن صبيغا طلب العلم فأخطأ فلم يزل وضيعا ف قومه‬
‫حت هلك ‪ ،‬وكان سيد قومه ‪.‬‬
‫وخرج ابن البارك وغيه عن أب بن كعب أنه قال ‪ :‬عليكم بالسبيل والسنة ‪ ،‬فإنه ما على الرض‬
‫من عبد على السبيل والسنة ذكر ال ففاضت عيناه من خشية ال فيعذبه ال أبدا ‪ .‬وما على الرض‬
‫من عبد على السبيل والسنة ذكر ال ف نفسه فاقشعر جلده من خشية ال إل كان مثله كمثل شجرة‬
‫قد يبس ورقها فهي كذلك إذا أصابتها ريح شديدة فتحات عنها ورقها إل حط ال عنه خطاياه كما‬
‫تات عن الشجرة ورقها ‪ ،‬فإن اقتصادا ف سبيل ال وسنة خي من اجتهاد ف خلف سبيل ال وسنة‬
‫‪ ،‬وانظروا أن يكون عملكم إن كان اجتهادا واقتصادا أن يكون على منهاج النبياء وسنتهم ‪.‬‬
‫وخرج ابن وضاح عن ابن عباس قال ‪ :‬ما يأت على الناس من عام إل أحدثوا فيه بدعة وأماتوا‬
‫سنة ‪ ،‬حت تيا البدع وتوت السنن ‪.‬‬
‫وعنه أنه قال ‪ :‬عليكم بالستفاضة والثر وإياكم والبدع ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عنه أيضا قال ‪ :‬من أحدث رأيا ليس ف كتاب ال ول تض به سنة من رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ل يدر ما هو عليه إذا لقي ال عز وجل ‪.‬‬
‫وخرج أبو داود وغيه عن معاذ بن جبل رضي ال عنه أنه قال يوما ‪ :‬إن من ورائكم فتنا يكثر فيها‬
‫الال ‪ ،‬ويفتح فيه القرآن ‪ ،‬حت يأخذه الؤمن والنافق ‪ ،‬والرجل ‪ ،‬والرأة ‪ ،‬والصغي‪ ،‬والكبي ‪،‬‬
‫والعبد ‪ ،‬والر‪ ،‬فيوشك قائل أن يقول ‪ ،‬ما للناس ل يتبعون وقد قرأت القرآن ؟ ما هم بتبعي حت‬
‫أبتدع لم غيه ‪ ،‬وإياكم وما ابتدع فإن ما ابتدع ضللة ‪ ،‬وأحذركم زيغة الكيم فإن الشيطان قد‬
‫يقول كلمة الضللة على لسان الكيم ‪ ،‬وقد يقول النافق كلمة الق ‪.‬‬
‫قال الراوي ‪ :‬قلت لعاذ ‪ :‬وما يدرين يرحك ال إن الكيم قد يقول كلمة ضللة ‪ ،‬وإن النافق قد‬
‫يقول كلمة الق ؟ قال ‪ :‬بلى ! اجتنب من كلم الكيم غي الشتهرات الت يقال فيها ‪ :‬ما هذه ؟‬
‫ول يثنينك ذلك عنه ‪ ،‬فإنه لعله أن يراجع وتلق الق إذا سعته فإن على الق نورا ‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وف رواية مكان الشتهرات الشتبهات وفسر بأنه ما تشابه عليك من قول حت يقال ‪ :‬ما أراد بذه‬
‫الكلمة ؟ ويريد ـ وال أعلم ـ ما ل يشتمل ظاهره على مقتضى السنة حت تنكره القلوب ويقول‬
‫الناس ‪ :‬ما هذه ؟ وذلك راجع إل ما يذر من زلة العال حسبما يأت بول ال ‪.‬‬

‫وما جاء عمن بعد الصحابة رضي ال عنهم ما ذكر ابن وضاح عن السن قال ‪ :‬صاحب البدعة ل‬
‫يزداد اجتهادا ‪ ،‬صياما وصلةً ‪ ،‬إل ازداد من ال بعدا ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن أب إدريس الولن أنه قال ‪ :‬لن أرى ف السجد نارا ل أستطيع إطفاءها ‪،‬‬
‫أحب إل من أن أرى فيه بدعة ل أستطيع تغييها ‪.‬‬
‫وعن الفضيل بن عياض ‪ :‬اتبع طرق الدى ول يضرك قلة السالكي ‪ ،‬وإياك وطرق الضللة ول تغتر‬
‫بكثرة الالكي ‪.‬‬
‫وعن السن ‪ :‬ل تالس صاحب هوى فيقذف ف قلبك ما تتبعه عليه فتهلك ‪ ،‬أو تالفه فيمرض‬
‫قلبك ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ف قول ال تعال ‪" :‬كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم" قال ‪ :‬كتب‬
‫ال صيام رمضان على أهل السلم كما كتبه على من كان قبلهم ‪ ،‬فأما اليهود فرفضوه ‪ ،‬وأما‬
‫النصارى فشق عليهم فزادوا فيه عشرا وآخروه إل أخف ما يكون عليهم فيه الصوم من الزمنة ‪،‬‬
‫فكان السن إذا حدث بذا الديث قال ‪ :‬عمل قليل ف سنة خي من عمل كثي ف بدعة ‪.‬‬
‫وعن أب قلبة ‪ :‬ل تالسوا أهل الهواء ول تادلوهم فإن ل آمن أن يغمسوكم ف ضللتهم‬
‫ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ‪ ،‬قال أيوب ‪ :‬وكان ـ وال ـ من الفقهاء ذوي اللباب ‪.‬‬
‫وعنه أيضا ‪ :‬أنه كان يقول ‪ :‬إن أهل الهواء أهل ضللة ‪ ،‬ول أرى مصيهم إل إل النار ‪.‬‬
‫وعن السن ‪ :‬ل تالس صاحب بدعة فإنه يرض قلبك ‪.‬‬
‫وعن أيوب السخيان أنه كان يقول ‪ :‬ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إل ازداد من ال بعدا ‪.‬‬
‫وعن أب قلبة ‪ :‬ما ابتدع رجل بدعة إل استحل السيف ‪.‬‬
‫وكان أيوب يسمي أصحاب البدع خوارج ويقول ‪ :‬إن الوارج اختلفوا ف السم واجتمعوا على‬
‫السيف ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن سفيان قال ‪ :‬كان رجل فقيه يقول ‪ :‬ما أحب أن هديت الناس كلهم‬
‫ل واحدا ‪.‬‬‫وأضللت رج ً‬
‫وخرج عنه أنه كان يقول ‪ :‬ل يستقيم قول إل بعمل ‪ ،‬ول قول وعمل إل بنية ‪ ،‬ول قول ول عمل‬
‫ول نية إل موافقا للسنة ‪.‬‬
‫وذكر الجري أن ابن سيين كان يرى أسرع الناس ردة أهل الهواء ‪.‬‬

‫‪38‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن إبراهيم ‪ :‬ول تكلموهم إن أخاف أن ترتد قلوبكم ‪.‬‬


‫وعن هشام بن حسان قال ‪ :‬ل يقبل ال من صاحب بدعة صياما ول صلةً ول حجا ول جهادا‬
‫ول عمرةً ول صدقةً ول عتقا ول صرفا ول عد ًل ـ زاد ابن وهب عنه ـ وليأتي على الناس زمان‬
‫يشتبه فيه الق والباطل ‪ ،‬فإذا كان ذلك ل ينفع فيه دعاء إل كدعاء الغرق ‪.‬‬

‫وعن يي بن أب كثي قال ‪ :‬إذا لقيت صاحب بدعة ف طريق ‪ ،‬فخذ ف طريق آخر ‪.‬‬
‫وعن بعض السلف ‪ :‬من جالس صاحب بدعة فزعت منه العصمة ‪ ،‬ووكل إل نفسه ‪.‬‬
‫وعن العوام بن حوشب أنه كان يقول لبنه ‪ :‬يا عيسى ‪ ،‬أصلح قلبك وأقلل مالك ‪ ،‬وكان يقول ‪:‬‬
‫وال لن أرى عيسى ف مالس أصحاب البابط والشربة والباطل أحب إل من أن أراه يالس‬
‫أصحاب الصومات ‪.‬‬
‫قال ابن وضاح ‪ :‬يعن أهل البدع ‪.‬‬
‫وقال رجال لـ أب بكر بن عياش ‪ :‬يا أبا بكر ‪ ،‬من السن ؟ قال ‪ :‬الذي إذا ذكرت الهواء ل‬
‫يغضب لشيء منها ‪.‬‬
‫وقال يونس بن عبيد ‪ :‬إن الذي تعرض عليه السنة فيقبلها الغريب ‪ ،‬وأغرب منه صاحبها ‪.‬‬
‫وعن يي بن أب عمر الشيبان قال ‪ :‬كان يقال يأب لصاحب بدعة بتوبة ‪ ،‬وما انتقل صاحب بدعة‬
‫إل إل شر منها ‪.‬‬
‫وعن أب العالية ‪ :‬تعلموا السلم فإذا تعلمتموه فل ترغبوا عنه ‪ ،‬وعليكم بالصراط الستقيم فإنه‬
‫السلم ‪ ،‬ول ترفوا يينا ول شا ًل وعليكم بسنة نبيكم ‪ ،‬وما كان عليه أصحابه من قبل أن يقتلوا‬
‫صاحبهم ‪ ،‬ومن قبل أن يفعلوا الذي فعلوا ‪ .‬قد قرأنا القرآن من قبل أن يقتلوا صاحبهم ومن قبل أن‬
‫يفعلوا الذي فعلوا ‪ ،‬وإياكم وهذه الهواء ‪ ،‬الت تلقي بي الناس العداوة والبغضاء ‪ .‬فحدث السن‬
‫بذلك فقال ‪ :‬رحه ال ‪ ،‬صدق ونصح ‪.‬‬
‫خرجه ابن وضاح وغيه ‪.‬‬
‫وكان مالك كثيا ما ينشد ‪:‬‬
‫وخيأمور الدين ما كان سنة وشر المور الحدثات البدائع‬
‫وعن مقاتل بن حيان قال ‪ :‬أهل هذه الهواء آفة أمة ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أنم يذكرون النب‬
‫صلى ال عليه وسلم وأهل بيته فيتصيدون بذا الذكر السن عند الهال من الناس فيقذفون بم ف‬
‫الهالك ‪ ،‬فما أشبههم بن يسقي الصب باسم العسل ‪ ،‬ومن يسقي السهم القاتل باسم الترياق !‬
‫فأبصرهم فإنك إن ل تكن أصبحت ف بر الاء ‪ ،‬فقد أصبحت ف بر الهواء الذي هو أعمق غورا‬

‫‪39‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأشد اضطرابا ‪ ،‬وأكثر صواعق وأبعد مذهبا من البحر وما فيه ‪ ،‬ففلك مطيتك الت تقطع با سفر‬
‫الضلل اتباع السنة ‪.‬‬
‫وعن ابن البارك قال ‪ :‬أعلم أي أخي ! إن الوت كرامةً لكل مسلم لقي ال على السنة ‪ ،‬فإنا ل وإنا‬
‫إليه راجعون ‪ ،‬فإل ال نشكو وحشتنا وذهاب الخوان ‪ ،‬وقلة العوان ‪ ،‬وظهور البدع ‪ .‬وإل ال‬
‫نشكو عظيم ما حل بذه المة من ذهاب العلماء وأهل السنة وظهور البدع ‪.‬‬
‫وكان إبراهيم التيمي يقول ‪ :‬اللهم اعصمن بدينك وبسنة نبيك من الختلف ف الق ‪ ،‬ومن اتباع‬
‫الوى ‪ ،‬ومن سبل الضللة ‪ ،‬ومن شبهات المور ‪ ،‬ومن الزيغ والصومات ‪.‬‬
‫وعن عمر بن عبد العزيز رحه ال كان يكتب ف كتبه ‪ :‬إن أحذركم ما مالت إليه الهواء والزيغ‬
‫البعيدة ‪.‬‬
‫ولا بايعه الناس صعد على النب فحمد ال وأثن عليه ث قال ‪ :‬أيها الناس ! إنه ليس بعد نبيكم نب ‪،‬‬
‫ول بعد كتابكم كتاب ‪ ،‬ول بعد سنتكم سنة ‪ ،‬ول بعد أمتكم أمة ‪ ،‬أل وإن اللل ما أحل ال ف‬
‫كتابه على لسان نبيه حلل إل يوم القيامة ‪ ،‬أل وإن الرام ما حرم ال ف كتابه على لسان نبيه حرام‬
‫إل يوم القيامة ‪ .‬أل وإن لست ببتدع ولكن متبع ‪ ،‬أل وإن لست بقاض ولكن منفذ ‪ ،‬أل وإن‬
‫لست بازن ولكن أضع حيث أمرت ‪ ،‬أل وإن لست بيكم ولكن أثقلكم حلً ‪ .‬أل ول طاعة‬
‫لخلوق ف معصية الالق ‪ .‬ث نزل ‪.‬‬
‫وفيه ‪ :‬قال عروة بن أذينة عن أذينة يرثيه با ‪:‬‬
‫وأحييت ف السلم علما وسن ًة ول تبتدع حكما من الكم أسحما‬
‫ففي كل يوم كنت تدم بدع ًة وتبن لنا من سنة ما تدما‬
‫ومن كلمه الذي عن به ويفظه العلماء وكان يعجب مالكا جدا ‪ ،‬وهو أن قال ‪ :‬سن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وولة المر من بعده سننا الخذ با تصديق لكتاب ال ‪ ،‬واستكمال لطاعة‬
‫ال ‪ ،‬وقوةً على دين ال ‪ ،‬ليس لحد تغييها ول تبديلها ول النظر ف شيء خالفه ‪ .‬من عمل با‬
‫مهتد ‪ ،‬ومن انتصر با منصور ‪ ،‬ومن خالفها اتبع غي سبيل الؤمني ‪ ،‬ووله ال ما تول ‪ ،‬واصله‬
‫جهنم وساءت مصيا‪.‬‬
‫وبق وكان يعجبهم فإنه كلم متصر جع أصولً حسنة من السنة ‪ :‬منها ما نن فيه لن قوله ‪ :‬ليس‬
‫لحد تغييها ول تبديلها ول النظر ف شيء خالفها ‪ ،‬قطع لادة البتداع جلة ‪ .‬وقوله ‪ :‬من عمل با‬
‫مهتد ـ إل آخر الكلم ـ مدح لتبع السنة وذم لن خالفها بالدليل الدال على ذلك ‪ ،‬وهو قول ال‬
‫سبحانه وتعال ‪" :‬ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبي له الدى ويتبع غي سبيل الؤمني نوله ما تول‬
‫ونصله جهنم وساءت مصيا" ‪ .‬ومنها ما سنه ولة المر من بعد النب صلى ال عليه وسلم فهو سنة‬
‫ل بدعة فيه البتة ‪ ،‬وإن ل يعلم ف كتاب ال ول سنة نبيه صلى ال عليه وسلم نص عليه على‬

‫‪40‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الصوص ‪ .‬فقد جاء ما يدل عليه ف الملة ‪ ،‬وذلك نص حديث العرباض بن سارية رضي ال عنه‬
‫حيث قال فيه ‪" :‬فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين والهديي ‪ ،‬تسكوا با وعضوا عليها بالنواجذ‬
‫‪ ،‬وإياكم ومدثات المور" فقرن عليه السلم ـ كما ترى ـ سنة اللفاء الراشدين بسنته وإن من‬
‫اتباع سنته اتباع سنتهم ‪ ،‬وإن الحدثات خلف ذلك ليست منها ف شيء ‪ .‬لنم رضي ال عنهم‬
‫فيما سنوه إما متبعون لسنة نبيهم عليه السلم نفسها ‪ ،‬وإما متبعون لا فهموا من سنته صلى ال عليه‬
‫وسلم ف الملة والتفصيل على وجه يفى على غيهم مثله ‪ ،‬ل زائد على ذلك ‪ .‬وسيأت بيانه بول‬
‫ال ‪.‬‬
‫على أن أبا عبد ال الاكم نقل عن يي بن آدم قول السلف الصال ‪ :‬سنة أب بكر وعمر رضي‬
‫ال عنهما أن العن فيه أن يعلم أن النب صلى ال عليه وسلم مات وهو على تلك السنة ‪ ،‬وأنه ل‬
‫يتاج مع قول النب صلى ال عليه وسلم إل قول أحد وما قال صحيح ف نفسه فهو ما يتمله‬
‫حديث العرباض رضي ال عنه ‪ ،‬فل زائد إذا على ما ثبت ف السنة النبوية ‪ .‬إل أنه قد ياف أن‬
‫تكون منسوخة بسنة أخرى ‪ ،‬فافتقر العلماء إل النظر ف عمل اللفاء بعده‪ ،‬لعلموا أن ذلك هو الذي‬
‫مات عليه النب صلى ال عليه وسلم من غي أن يكون له ناسخ ‪ ،‬لنم كانوا يأخذون بالحداث‬
‫فالحداث من أمره ‪ .‬وعلى هذا العن ‪ ،‬بن مالك بن أنس ف احتجاجه بالعمل ‪ ،‬ورجوعه إليه عند‬
‫تعارض السنن ‪.‬‬
‫ومن الصول الضمنة ف أثر عمر بن عبد العزيز أن سنة ولة المر وعملهم تفسي لكتاب ال وسنة‬
‫رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لقوله ‪ :‬الخذ با تصديق لكتاب ال ‪ ،‬واستكمال لطاعة ال ‪ ،‬وقوة‬
‫على دين ال‪ .‬وهو أصل مقرر ف غي هذا الوضع ‪ ،‬فقد جع كلم عمر بن عبد العزيز رحه ال‬
‫أصولً حسنة وفوائد مهمة ‪.‬‬
‫وما يعزى لـأب إلياس اللبان ‪ :‬ثلث لو كتب ف ظفر لوسعهن ‪ ،‬وفيهن خي الدنيا والخرة ‪،‬‬
‫اتبع ل تبتدع ‪ ،‬اتضع ل ترتفع ‪ ،‬ومن ورع ل يتسع ‪ .‬ولثار هنا كثية ‪.‬‬

‫فصل الوجه الرابع من النقل‬


‫ما جاء ف ذم البدع وأهلها عن الصوفية الشهورين عند الناس ‪ .‬وإنا خصصنا هذا الوضع بالذكر‬
‫وإن كان فيما تقدم من النقل كفاية ‪ ،‬لن كثيا من الهال يعتقدون فيهم أنم متساهلون ف‬
‫التباع ‪،‬وأن اختراع العبادات والتزام ما ل يأت ف الشرع التزامه ما يقولون به ويعملون عليه ‪،‬‬
‫وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه أو يقولوا به ‪ ،‬فأول شيء بنوا عليه طريقتهم اتباع السنة واجتناب ما‬
‫خالفها حت زعم مذكرهم ‪ ،‬وحافظ مأخذهم ‪ ،‬وعمود نلتهم ‪ ( ،‬أبو القاسم القشيي ) أنم إنا‬
‫اختصوا باسم التصوف انفرادا به عن أهل البدع ‪ ،‬فذكر أن السلمي بعد رسول ال صلى ال عليه‬

‫‪41‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وسلم ل يتسم أفاضلهم ف عصرهم باسم علم سوى الصحبة إذ ل فضيلة فوقها ‪ ،‬ث سي من يليهم‬
‫التابعي ‪ ،‬ورأوا هذا السم أشرف الساء ‪ ،‬ث قيل لن بعدهم أتباع التابعي ‪ .‬ث اختلف الناس‬
‫وتباينت الراتب ‪ ،‬فقيل لواص الناس من له شدة عناية من الدين الزهاد والعباد ‪ .‬قال ‪ :‬ث ظهرت‬
‫البدع وادعى كل فريق أن فيهم زهادا وعبادا فانفرد خواص أهل السنة الراعون أنفسهم مع ال‬
‫الافظون قلوبم عن الغفلة باسم التصوف ‪ .‬هذا معن كلمه ‪ ،‬فقد عد هذا اللقب مصوصا باتباع‬
‫السنة ومباينة البدعة ‪ .‬وف ذلك ما يدل على خلف ما يعتقده الهال ومن ل عبة به من الدعي‬
‫للعلم ‪.‬‬
‫وف غرضي إن فسح ال ف الدة وأعانن بفضله ويسر ل السباب أن ألص ف طريقة القوم نوذجا‬
‫يستدل به على صحتها وجريانا على الطريقة الثلى ‪ ،‬وأنه إنا داخلتها الفاسد وتطرقت إليها البدع‬
‫من جهة قوم تأخرت أزمانم عن عهد ذلك السلف الصال ‪ ،‬وادعوا الدخول فيها من غي سلوك‬
‫شرعي ول فهم لقاصد أهلها ؟ وتقولوا عليهم ما ل يقولوا به ‪ ،‬حت صارت ف هذا الزمان الخي‬
‫كأنا شريعة أخرى غي ما أتى با ممد صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وأعظم من ذلك أنم يتساهلون ف‬
‫اتباع السنة ‪ ،‬ويرون اختراع العبادات طريقا للتعبد صحيحا ‪ ،‬وطربقة القوم بريئة من هذا الباط‬
‫بمد ال ‪.‬‬
‫فقد قال الفضيل بن عياض ‪ :‬من جلس مع صاحب بدعة ل يعط الكمة ‪.‬‬
‫وقيل لـإبراهيم بن أدهم ‪ :‬إن ال يقول ف كتابه "ادعون أستجب لكم" ‪ .‬ونن ندعوه منذ دهر‬
‫فل يستجيب لنا ! فقال ‪ :‬ماتت قلوبكم ف عشرة أشياء أولا عرفتم ال فلم تؤدوا حقه ‪ .‬والثان ‪:‬‬
‫قرأت كتاب ال ول تعملوا به ‪ ،‬والثالث ‪ :‬ادعيتم حب رسول ال صلى ال عليه وسلم وتركتم سنته‬
‫‪ .‬والرابع ‪ :‬ادعيتم عداوة الشيطان ووافقتموه ‪ .‬والامس ‪ :‬قلتم نب النة وما تعملون لا إل آخر‬
‫الكاية ‪.‬‬
‫وقال ذو النون الصري ‪ :‬من علمة حب ال متابعة حبيب ال صلى ال عليه وسلم ف أخلقه‬
‫وأفعاله وأمره وسنته ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬إنا دخل الفساد على اللق من ستة أشياء ‪ ،‬الول ‪ :‬ضعف النية بعمل الخرة ‪ .‬والثان ‪:‬‬
‫صارت أبدانم مهيئة لشهواتم ‪ .‬والثالث ‪ :‬غلبهم طول المل مع قصر الجل ‪ .‬والرابع ‪ :‬آثروا‬
‫رضاء الخلوقي على رضاء ال ‪ .‬والامس ‪ :‬اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫والسادس ‪ :‬جعلوا زلت السلف حجة لنفسهم ودفنوا أكثر مناقبهم ‪.‬‬
‫وقال لرجل أوصاه ‪ :‬ليكن آثر الشياء عندك وأحبها إليك أحكام ما افترض ال عليك ‪ ،‬واتقاء ما‬
‫ناك عنه ‪ ،‬فإن ما تعبدك ال به خي لك ما تتاره لنفسك من أعمال الب الت تب عليك ‪ ،‬وأنت‬
‫ترى أنا أبلغ لك فيما تريد ‪ ،‬كالذي يؤدب نفسه بالفقر والتقلل وما أشبه ذلك ‪ ،‬وإنا للعبد أن‬

‫‪42‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يراعي أبدا ما وجب عليه من فرض يكمه على تام حدوده ‪ ،‬وينظر إل ما ني عنه فيتقيه على‬
‫أحكام ما ينغب‪ ،‬فإن الذي قطع العباد عن ربم ‪ ،‬وقطعهم عن أن يذوقوا حلوة اليان وأن يبلغوا‬
‫حقائق الصدق ‪ ،‬وحجب قلوبم عن النظر إل الخرة ‪ ،‬تاونم بأحكام ما فرض عليهم ف قلوبم‬
‫وأساعهم وأبصارهم وألسنتهم وايديهم وأرجلهم وبطونم وفروجهم ‪ .‬ولو وقفوا على هذه الشياء‬
‫وأحكموها لدخل عليهم الب إدخالً تعجز أبدانم وقلوبم عن حل ما رزقهم ال من حسن معونته ‪،‬‬
‫وفوائد كرامته ‪ ،‬ولكن أكثر القراء والنساك حقروا مقرات الذنوب ‪ ،‬وتانوا بالقليل ما هم فيه من‬
‫العيوب ‪ ،‬فحرموا ثواب لذة الصادقي ف العاجل ‪.‬‬
‫وقال بشر الاف ‪ :‬رأيت النب صلى ال عليه وسلم ف النام فقال ل ‪ :‬يا بشر ! تدري ل رفعك‬
‫ال بي أقرانك ؟قلت ‪ :‬ل يا رسول ال ‪ ،‬قال ‪ :‬لتباعك سنت ‪ ،‬وحرمتك للصالي ‪ ،‬ونصيحتك‬
‫لخوانك ‪ ،‬ومبتك لصحاب وأهل بيت هو الذي بلغك منازل البرار‪.‬‬
‫وقال يي بن معاذ الرازي ‪ :‬اختلف الناس كلهم يرجع إل ثلثة أصول ‪ ،‬فلكل واحد منها ضد ‪،‬‬
‫فمن سقط عنه وقع ف ضده ‪ :‬التوحيد وضده الشرك ‪ ،‬والسنة وضدها البدعة ‪ ،‬والطاعة وضدها‬
‫العصية ‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الدقاق وكان من أقران النيد ‪ :‬كنت مارا ف تيه بن إسرائيل فخطر ببال أن علم‬
‫القيقة مباين لعلم الشريعة ‪ ،‬فهتف ب هاتف ‪ :‬كل حقيقة ل تتبعها الشريعة فهي كفر ‪.‬‬
‫وقال أبو علي السن بن علي الوزجان ‪ :‬من علمات السعادة على العبد تيسي الطاعة عليه ‪،‬‬
‫وموافقة السنة ف أفعاله ‪ ،‬وصحبته لهل الصلح ‪ ،‬وحسن أخلقه مع الخوان ‪ ،‬وبذل معروفه‬
‫للخلق واهتمامه للمسلمي ‪ ،‬ومراعاته لوقاته ‪.‬‬
‫وسئل كيف الطريق إل ال ؟ فقال ‪ :‬الطرق إل ال كثية ‪ ،‬وأوضح الطرق وأبعدها عن الشبه اتباع‬
‫ل وعزما وعقدا ونيةً ‪ ،‬لن ال يقول ‪" :‬وإن تطيعوه تتدوا" فقيل له ‪ :‬كيف الطريق إل‬ ‫قولً وفع ً‬
‫السنة ؟ فقال ‪ :‬مانية البدع ‪ ،‬واتباع ما أجع عليه الصدر الول من علماء السلم ‪ ،‬والتباعد عن‬
‫مالس الكلم وأهله ‪ ،‬ولزوم طريقة القتداء وبذلك أمر النب صلى ال عليه وسلم بقوله تعال ‪" :‬ث‬
‫أوحينا إليك أن اتبع ملة إبراهيم" ‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الترمذي ‪ :‬ل يد أحد تام المة بأوصافها إل أهل الحبة ‪ ،‬وإنا أخذوا ذلك باتباع‬
‫السنة ومانية البدعة ‪ ،‬فإن ممد صلى ال عليه وسلم كان أعلى اللق كلهم هة وأقربم زلفى ‪.‬‬
‫وقال أبو السن الوراق ‪ :‬ل يصل العبد إل ال إل بال وبوافقة حبيبه صلى ال عليه وسلم ف‬
‫شرائعه ‪ .‬ومن جعل الطريق إل الوصول ف غي القتداء يضل من حيث أنه مهتد وقال ‪ :‬الصدق‬
‫استقامة الطريق ف الدين واتباع السنة ف الشرع ‪ .‬وقال ‪ :‬علمة مبة ال متابعة حبيبه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومثله عن إبراهيم القمار قال ‪ :‬علمة مبة ال إيثار طاعته ومتابعة نبيه ‪.‬‬
‫وقال أبو ممد بن عبد الوهاب الثقفي ‪ :‬ل يقبل ال من العمال إل ما كان صوابا ‪ ،‬ومن صوابا‬
‫إل ما كان خالصا ‪ ،‬ومن خالصها إل ما وافق السنة ‪.‬‬
‫وإبراهيم بن شيبان القرميسين صحب أبا عبد ال الغرب وإبراهيم الواص ‪ ،‬وكان شديدا على أهل‬
‫البدع متمسكا بالكتاب والسنة ‪ ،‬لزما لطريق الشايخ والئمة ‪ ،‬حت قال فيه عبد ال بن منازل ‪:‬‬
‫إبراهيم بن شيبان حجة ال على الفقراء وأهل الداب والعاملت ‪.‬‬
‫وقال أبو بكر بن سعدان وهو من أصحاب النيد وغيه ‪ :‬العتصام بال هو المتناع من الغفلة‬
‫والعاصي والبدع والضللت ‪.‬‬
‫وقال أبو عمر الزجاجي وهو من أصحاب النيد والثوري وغيها ‪ :‬كان الناس ف الاهلية يتبعون‬
‫ما تستحسنه عقولم وطبائعهم ‪ ،‬فجاء النب صلى ال عليه وسلم فردهم إل الشريعة والتباع ‪،‬‬
‫فالعقل الصحيح الذي يستحسن ما يستحسنه الشرع ويستقبح ما يستقبحه ‪.‬‬
‫وقيل لساعيل بن ممد السلمي جد أب عبد الرحن السلمي ‪ ،‬ولقي النيد وغيه ‪ :‬ما الذي ل بد‬
‫للعبد منه ؟ فقال ‪ :‬ملزمة العبودية على السنة ودوام الراقبة ‪.‬‬
‫وقال أبو عثمان الغرب التونسي ‪ :‬هي الوقوف مع الدود ل يقصر فيها ول يتعداها قال ال تعال ‪:‬‬
‫"ومن يتعد حدود ال فقد ظلم نفسه" ‪.‬‬
‫وقال أبو يزيد البسطامي ‪ :‬عملت ف الجاهدة ثلثي سنة فما وجدت شيئا أشد من العلم ومتابعته ‪،‬‬
‫ولول اختلف العلماء لشقيت ‪ .‬واختلف العلماء رحة إل ف تريد التوحيد ‪ ،‬ومتابعة العلم هي‬
‫متابعة السنة ل غيها‬
‫ل مقصودا‬ ‫وروي عنه أنه قال ‪ :‬قم بنا ننظر إل هذا الرجل الذي قد شهر نفسه بالولية ـ كان رج ً‬
‫مشهورا بالزهد ـ قال الرواي ‪ :‬فمضينا ‪ ،‬فلما خرج من نبيه ودخل السجد رمى ببصاقة تاه القبلة‬
‫‪ ،‬فانصرف أبو يزيد ول يسلم عليه ‪ ،‬وقال ‪ :‬هذا غي مأمون على أدب من آداب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم فكيف يكون مأمونا على ما يدعيه ؟ ‪.‬‬
‫وهذا أصل أصله أبو يزيد رحه ال للقوم ‪ :‬وهو أن الولية ل تصل لتارك السنة وإن كان ذلك‬
‫ل منه ‪ ،‬فما ظنك به إذا كان عاملً بالبدعة كفاحا ؟ ‪.‬‬ ‫جه ً‬
‫وقال ‪ :‬همت أن أسأل ال أن يكفين مؤنة الكل ومؤنة النساء ث قلت ‪ :‬كيف يوز أن أسأل ال‬
‫هذا ؟ ول يسأله رسول ال صلى ال عليه وسلم فلم أسأله ؟ ث إن ال سبحانه كفان مؤنة النساء‬
‫حت ل أبال استقبلتن امرأة أم حائط ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬لو نظرت إل رجل أعطي من الكرامات حت يرتقي ف الواء فل تغتروا به حت تنظروا كيف‬
‫تدونه عند المر والنهي ‪ ،‬وحفظ الدود وآداب الشريعة ‪.‬‬

‫‪44‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقال سهل التستري ‪ :‬كل فعل يفعله العبد بالقتداء ‪ :‬طاع ًة كان أو معصية ‪ ،‬فهو عيش النفس ـ‬
‫يعن باتباع الوى ـ وكل فعل يفعله العبد بالقتداء فهو عتاب على النفس ـ يعن لنه ل هوى له‬
‫فيه ـ واتباع الوى هو الذموم ‪ ،‬ومقصود القوم تركه البتة ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬أصولنا سبعة أشياء ‪ ،‬التمسك بكتاب ال ‪ ،‬والقتداء بسنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وأكل اللل ‪ ،‬وكف الذى ‪ ،‬واجتناب الثام ‪ ،‬والتوبة ‪ ،‬وأداء القوق ‪ .‬وقال ‪ :‬قد أيس اللق من‬
‫هذه الصال الثلث ‪ :‬ملزمة التوبة ‪ ،‬ومتابعة السنة ‪ ،‬وترك أذى اللق ‪ .‬وسئل عن الفتوة فقال ‪:‬‬
‫اتباع السنة ‪.‬‬
‫وقال أبو سليمان الداران ‪ :‬ربا تقع ف قلب النكتة من نكتة القوم أياما فل أقبل منه إل بشاهدين‬
‫عدلي ـ الكتاب والسنة ‪.‬‬
‫ل بل اتباع سنة فباطل عمله ‪.‬‬‫وقال أحد بن أب الواري ‪ :‬من عمل عم ً‬
‫وقال أبو حفص الداد ‪ :‬من ل يزن أفعاله وأحواله ف كل وقت بالكتاب والسنة ول يتهم خواطره‬
‫فل تعده ف ديوان الرجال ‪ .‬وسئل عن البدعة فقال ‪ :‬التعدي ف الحكام ‪ ،‬والتهاون ف السنن ‪،‬‬
‫واتباع الراء والهواء ‪ ،‬وترك التباع والقتداء قال ‪ :‬وما ظهرت حالة عالية إل من ملزمة أمر‬
‫صحيح ‪.‬‬
‫وسئل حدون القصار ‪ :‬مت يوز للرجل أن يتكلم على الناس ؟ فقال ‪ :‬إذا تعي عليه أداء فرض من‬
‫فرائض ال ف عمله ‪ ،‬أو خاف هلك إنسان ف بدعة يرجو أن ينجيه ال منها ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬من نظر ف سي السلف عرف تقصيه ‪ ،‬وتلفه عن درجات الرجال ‪.‬‬
‫وهذه ـ وال أعلم ـ إشارة إل الثابرة على القتداء بم فإنم أهل السنة ‪.‬‬
‫وقال أبو القاسم النيد لرجل ذكر العرفة وقال ‪ :‬أهل العرفة بال يصلون إل ترك الركات من باب‬
‫الب والتقرب إل ال فقال النيد ‪ :‬إن هذا قول قوم تكلموا بإسقاط العمال عن ال تعال وإليه‬
‫يرجعون فيها ‪ .‬قال ‪ :‬ولو بقيت ألف عام ل أنقص من أعمال الب ذرة ‪ ،‬إل أن يال ب دونا ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬الطرق كلها مسدودة على اللق إل على من اقتفى أثر الرسول صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬مذهبنا هذا مقيد بالكتاب والسنة ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬من ل يفظ القرآن ويكتب الديث ل يقتدى به ف هذا المر لن علمنا هذا مقيد بالكتاب‬
‫والسنة ‪ .‬وقال ‪ :‬هذا مشيد بديث رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقال أبو عثمان البي ‪ :‬الصحبة مع ال تعال بسن الدب ودوام اليبة والراقبة ‪ ،‬والصحبة مع‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم باتباع سنته ‪ ،‬ولزوم ظاهر العلم ‪ ،‬والصحبة مع أولياء ال بالحترام‬
‫والدمة ‪ .‬إل آخر ما قال ‪.‬‬

‫‪45‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولا تغي عليه الال مزق ابنه أبو بكر قميصا على نفسه ‪ ،‬ففتح أبو عثمان عينيه وقال ‪ ،‬خلف السنة‬
‫يا بن ف‬
‫الظاهر ‪ ،‬علمة رياء ف الباطن ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬من أمر السنة على نفسه قولً وفعلً نطق بالكمة ‪ ،‬ومن أمر الوى على نفسه قولً وفعلً‬
‫نطق بالبدعة ‪ ،‬قال ال تعال ‪" :‬وإن تطيعوه تتدوا" ‪.‬‬
‫قال أبو السي النوري ‪ :‬من رأيته يدعي مع ال حالة ترجه عن حد العلم الشرعي فل تقربن منه‬
‫‪.‬‬
‫وقال ممد بن الفضل البلخي ‪ :‬ذهاب السلم من أربعة ‪ :‬ل يعملون با يعلمون ‪ ،‬ويعملون با ل‬
‫يعلمون ‪ ،‬ول يتعلمون ‪ ،‬وينعون الناس من التعلم ‪.‬‬
‫هذا ما قال ‪ ،‬وهو وصف صوفيتنا اليوم ‪ ،‬عياذا بال ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬أعرفهم بال أشدهم ماهدةً ف أوامره ‪ ،‬وأتبعهم لسنة نبيه ‪.‬‬
‫وقال شاة الكرمان ‪ :‬من غض بصره عن الحارم ‪ ،‬وأمسك نفسه عن الشبهات ‪ ،‬وعمر باطنه بدوام‬
‫الراقبة ‪ ،‬وظاهره باتباع السنة ‪ ،‬وعود نفسه أكل اللل ‪ ،‬ل تطىء له فراسه ‪.‬‬
‫وقال أبو سعيد الراز ‪ :‬كل باطن يالفه ظاهر فهو باطل ‪.‬‬
‫وقال أبو العباس بن عطاء وهو من أقران النيد ‪ :‬من ألزم نفسه آداب ال نور ال قلبه بنور العرفة ‪،‬‬
‫ول مقام أشرف من مقام متابعة البيب صلى ال عليه وسلم ف أوامره وأفعاله وأخلقه ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪ :‬أعظم الغفلة غفلة العبد عن ربه عز وجل وغفلته عن أوامره ‪ ،‬وغفلته عن آداب معاملته‬
‫‪.‬‬
‫وقال إبراهيم الواص ‪ :‬ليس العال بكثرة الرواية ‪ ،‬وإنا العال من اتبع العلم واستعمله واقتدى بالسنن‬
‫وإن كان قليل العلم ‪.‬‬
‫وسئل عن العافية فقال ‪ :‬العافية أربعة أشياء ‪ ،‬دين بل بدعة ‪ ،‬وعمل بل آفة ‪ ،‬وقلب بل شغل ‪،‬‬
‫ونفس بل شهوة ‪.‬‬
‫وقال ‪ :‬الصب ‪ ،‬الثبات على أحكام الكتاب والسنة ‪.‬‬
‫وقال بنان المال ـ وسئل عن أصل أحوال الصوفية فقال ‪ : ،‬الثقة بالضمون والقيام بالوامر ‪،‬‬
‫ومراعاة السر ‪ ،‬والتخلي من الكوني ‪.‬‬
‫وقال أبو حزة البغدادي ‪ :‬من علم طريق الق سهل عليه سلوكه ‪ ،‬ول دليل على الطريق إل ال إل‬
‫متابعة سنة الرسول صلى ال عليه وسلم ف أحواله وأفعاله وأقواله ‪.‬‬
‫وقال أبو إسحاق الرقاشي ‪ :‬علمة مبة ال إيثار طاعته ومتابعة نبيه اهـ ‪ .‬ودليله قوله تعال ‪" :‬قل‬
‫إن كنتم تبون ال فاتبعون يببكم ال" ‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقال مشاذ الدينوري ‪ :‬آداب الريد ف التزام حرمات الشايخ ‪ ،‬وحرمة الخوان ‪ ،‬والروج عن‬
‫السباب ‪ ،‬وحفظ آداب الشرع على نفسه ‪.‬‬
‫وسئل أبو علي الروزباري عمن يسمع اللهي ويقول ‪ :‬هي ل حلل ‪ ،‬لن قد وصلت إل درجة‬
‫ل يؤثر ف اختلف الحوال ‪ .‬فقال ‪ :‬نعم قد وصل ولكن إل سقر ‪.‬‬
‫وقال أبو ممد عبد ال بن منازل ‪ :‬ل يضيع أحد فريضة من الفرائض إل ابتله ال بتضييع السنن ‪،‬‬
‫ول يبتل بتضييع السنن أحد إل يوشك أن يبتلي بالبدع ‪.‬‬
‫وقال أبو يعقوب النهرجوري ‪ :‬أفضل الحوال ما قارن العلم ‪.‬‬
‫وقال أبو عمرو بن نيد ‪ :‬كل حال ل يكون عن نتيجة علم فإن ضرره على صاحبه أكثر من نفعه ‪.‬‬
‫وقال بندار بن السي ‪ :‬صحبة أهل البدع تورث العراض عن الق ‪.‬‬
‫وقال أبو بكر الطمستان ‪ :‬الطريق واضح ‪ ،‬والكتاب والسنة قائم بي أظهرنا ‪ ،‬وفضل الصحابة‬
‫معلوم لسبقهم إل الجرة ولصحبتهم ‪ ،‬فمن صحب منا الكتاب والسنة ‪ ،‬وتغرب عن نفسه واللق ‪،‬‬
‫وهاجر بقلبه إل ال ‪،‬‬
‫فهو الصادق الصيب ‪.‬‬
‫وقال أبو القاسم النصراباذي ‪ :‬أصل التصوف ملزمة الكتاب والسنة ـ وترك البدع والهواء ‪،‬‬
‫وتعظيم حرمات الشايخ ‪ ،‬ورؤية أعذار اللق ‪ .‬والداومة على الوراد ‪ ،‬وترك ارتكاب الرخص‬
‫والتأويلت ‪.‬‬
‫وكلمهم ف هذا الباب يطول ‪ .‬وقد نقلنا عن جلة من اشتهر منهم ينيف على الربعي شيخا ‪،‬‬
‫جيعهم يشي أو يصرح بأن البتداع ضلل ـ والسلوك عليه تيه ‪ ،‬واستعماله رمي ف عماية ‪ ،‬وأنه‬
‫مناف لطلب النجاة ‪ ،‬وصاحبه غي مفوظ ‪ ،‬وموكول إل نفسه ‪ ،‬ومطرود عن نيل الكمة ‪ .‬وأن‬
‫الصوفية الذين نسبت إليهم الطريقة مموعون على تعظيم الشريعة ‪ ،‬مقيمون على متابعة السنة ‪ ،‬غي‬
‫ملي بشيء من آدابا ‪ ،‬أبعد الناس عن البدع وأهلها ‪ .‬ولذلك ل ند منهم من ينسب إل فرق من‬
‫الفرق الضالة ‪ ،‬ول من ييل إل خلف السنة ‪ .‬وأكثر من ذكر منهم علماء وفقهاء ومدثون ومن‬
‫يؤخذ عنه الدين أصولً وفروعا ومن ل يكن كذلك ‪ ،‬فل بد من أن يكون فقهيا ف دينه بقدار‬
‫كفايته ‪.‬‬
‫وهم كانوا أهل القائق والواجد والذواق والحوال والسرار التوحيدية ‪ .‬فهم الجة لنا على كل‬
‫من ينتسب إل طريقهم ول يري على منهاجهم ‪ ،‬بل يأت ببدع مدثات ‪ ،‬وأهواء متبعات ‪ ،‬وينسبها‬
‫إليهم ‪ ،‬تأويلً عليهم ‪ .‬من قول متمل ‪ ،‬أو فعل من قضايا الحوال ‪ ،‬أو استمساكا بصلحة شهد‬
‫الشرع بإلغائها ‪ ،‬أو ما أشبه ذلك ‪ .‬فكثيا ما ترى التأخرين من يتشبه بم ‪ ،‬يرتكب من العمال ما‬
‫أجع الناس على فساده شرعا ‪ ،‬ويتج بكايات هي قضايا أحوال ‪ ،‬إن صحت ل يكن فيها حجة ‪،‬‬

‫‪47‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫لوجوه عدة ‪ ،‬ويترك من كلمهم وأحوالم ما هو واضح ف الق الصريح ‪ ،‬والتباع الصحيح ‪ ،‬شأن‬
‫من اتبع من الدلة الشرعية ما تشابه با ‪.‬‬
‫ولا كان أهل التصرف ف طريقهم بالنسبة إل إجاعهم على أمر كسائر أهل العلوم ف علومهم ‪،‬‬
‫أتيت من كلمهم با يقوم منه دليل على مدعي السنة وذم البدعة ف طريقتهم حت يكون دليلً لنا من‬
‫جهتهم ‪ ،‬على أهل البدع عموما ‪ ،‬وعلى الدعي ف طريقهم خصوصا ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫فصل الوجه الامس من النقل‬


‫ما جاء منه ف ذم الرأي الذموم ‪ ،‬وهو البن على غي أسس ‪ ،‬والستند إل غي أصل من كتاب ول‬
‫سنة ‪ ،‬لكنه وجه تشريعي فصار نوعا من البتداع ‪ ،‬بل هو النس فيها ‪ ،‬فإن جيع البدع إنا هي‬
‫رأي على غي أصل ‪ ،‬ولذلك وصف بوصف الضلل ‪ .‬ففي الصحيح ‪ ،‬عن عبد ال بن عمرو بن‬
‫العاص قال ‪ :‬سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫"إن ال ل ينتزع العلم من الناس بعد إذ أعطاهوه انتزاعا ‪ .‬ولكن ينتزعه منهم مع قبض العلماء‬
‫بعلمهم ‪ ،‬فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم فيضلون ويضلون" ‪.‬‬
‫فإذا كذلك ‪ ،‬فذم الرأي عائد على البدع بالذم ل مالة ‪.‬‬
‫وخرج ابن البارك وغيه ‪ ،‬عن عوف بن مالك الشجعي قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪" :‬تفترق أمت على بضع وسبعي فرقة ‪ ،‬أعظمها فتنة قوم يقيسون الدين برأيهم يرمون به ما أحل‬
‫ال ‪ ،‬ويلون به ما حرم" ‪.‬‬
‫قال ابن عبد الب ‪ :‬هذا هو القياس على غي أصل والكلم ف الدين بالتخرص والظن ‪ ،‬أل ترى إل‬
‫قوله ف الديث ‪ :‬يلون الرام ويرمون اللل ؟ ومعلوم أن اللل ما ف كتاب ال وسنة رسوله‬
‫تليله ‪ ،‬والرام ما كان ف كتاب ال وسنة رسوله تريه ‪ .‬فمن جهل ذلك وقال فيما سئل عنه‬
‫بغيعلم ‪ ،‬وقاس برأيه ما خرج منه عن السنة ‪ ،‬فهذا الذي قاس برأيه فضل وأضل ‪ ،‬ومن رد الفروع‬
‫ف علمه إل أصولا فلم يقل برأيه ‪.‬‬
‫وخرج ابن البارك حديثا ‪ ،‬قال ‪ :‬إن من أشراط الساعة ثلثا ‪ ،‬وإحداهن ‪ :‬أن يلتمس العلم عند‬
‫الصاغر ‪ ،‬قيل لبن البارك ‪ :‬من الصاغر ؟ قال ‪ :‬الذين يقولون برأيهم ‪ .‬فأما صغي يروي عن‬
‫كبي ‪ ،‬فليس بصغي ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن عمر بن الطاب رضي ال عنه أنه قال ‪ :‬أصبح أهل الرأي أعداء السنن ‪،‬‬
‫أعيتهم الحاديث أن يعوها وتفلتت منهم ‪ .‬قال سحنون ‪ :‬يعن البدع ‪.‬‬
‫وف رواية ‪ :‬إياكم وأصحاب الرأي ‪ ،‬فإنم أعداء السنن ‪ ،‬أعيتهم الحاديث أن يفظوها فقالوا‬
‫بالرأي ‪ ،‬فضلوا وأضلوا ‪.‬‬

‫‪48‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وف رواية لـابن وهب ‪ :‬أن أصحاب الرأي أعداء السنة ‪ ،‬أعيتهم أن يفظوها ‪ ،‬وتفلتت منهم أن‬
‫يعوها ‪ ،‬واستحيوا حي يسألوا أن يقولوا ‪ :‬ل نعلم ‪ ،‬فعارضوا السنن برأيهم ‪ ،‬فإياكم وإياكم ‪.‬‬
‫قال أبو بكر بن أب داود ‪ :‬أهل الرأي هم أهل البدع ‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي ال عنه قال ‪ :‬من أحدث رأيا ليس ف كتاب ال ‪ ،‬ول تض به سنةً من رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ل يدر ما هو عليه إذا لقي ال عز وجل ‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬قراؤكم يذهبون ‪ ،‬ويتخذ الناس رؤساء جهالً يقيسون المور‬
‫برأيهم ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب وغيه عن عمر بن الطاب أنه قال ‪ :‬السنة ما سنه ال ورسوله ‪ ،‬ل تعلوا حظ‬
‫الرأي سنةً للمة ‪.‬‬
‫وخرج أيضا عن هشام بن عروة عن أبيه قال ‪ :‬ل يزل أمر بن إسرائيل مستقيما حت أدرك فيهم‬
‫الولدون أبناء سبايا المم ‪ ،‬فأخذوا فيهم بالرأي فأضلوا بن إسرائيل ‪.‬‬
‫وعن الشعب ‪ :‬إنا هلكتم حي تركتم الثار وأخذت بالقاييس ‪.‬‬
‫وعن السن ‪ :‬إنا هلك من كان قبلكم حي شعبت بم السبل ‪ ،‬وحادوا عن الطريق فتركوا الثار ‪،‬‬
‫وقالوا ف الدين برأيهم ‪ ،‬فضلوا وأضلوا ‪.‬‬
‫وعن دراج بن السهم بن أسح قال ‪ :‬يأت على الناس زمان يسمن الرجل راحلته حت تعقد‬
‫شحما ‪ ،‬ث يسي عليها ف المصار حت تعود نقضا ‪ ،‬يلتمس من يفتيه بسنة قد عمل با فل يد إل‬
‫من يفتيه بالظن ‪.‬‬
‫وقد اختلف العلماء ف الرأي القصود بذه الخبار والثار ‪ .‬فقد قالت طائفة ‪ :‬الراد به رأي أهل‬
‫البدع الخالفي للسنن ‪ ،‬لكن ف العتقاد كمذهب جهم وسائر مذاهب أهل الكلم لنم استعملوا‬
‫آراءهم ف رد الحاديث الثابتة عن النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بل وف رد ظواهر القرآن لغي سبب‬
‫يوجب الرد ويقتضي التأويل كما قالوا بنفي الرؤية نفيا للظاهر بالحتملت ‪ ،‬ونفي عذاب القب ‪،‬‬
‫ونفي اليزان والصراط ‪ .‬وكذلك ردوا أحاديث الشفاعة والوض ـ إل أشياء يطول ذكرها ـ‬
‫وهي مذكورة ف كتب الكلم ‪.‬‬
‫وقالت طائفة ‪ :‬إنا الرأي الذموم العيب الرأي البتدع وما كان مثله من ضروب البدع ‪ ،‬فإن حقائق‬
‫جيع البدع رجوع إل الرأي ‪ ،‬وخروج عن الشرع وهذا هو القول الظهر ‪ .‬إذ الدلة التقدمة ل‬
‫تقتضي بالقصد الول من البدع نوعا دون نوع بل ظاهرها تقتضي العموم ف كل بدعة حدثت أو‬
‫تدث إل يوم القيامة ‪ ،‬كانت من الصول أو الفروع ‪ ،‬كما قاله القاضي إساعيل ف قوله تعال ‪:‬‬
‫"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء" بعدما حكى أنا نزلت ف الوارج ‪ .‬وكأن‬
‫القائل بالتخصيص ـ وال أعلم ـ ل يقل به بالقصد الول ‪ ،‬بل أتى بثال ما تتضمنه الية ‪ ،‬كالثال‬

‫‪49‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الذكور فإنه موافق لا كان مشتهرا ف ذلك الزمان ‪ ،‬فهو أول ما يثل به ويبقى ما عداه مسكوتا عن‬
‫ذكره عند القائل به ‪ ،‬ولو سئل عن العموم لقال به ‪ .‬وهكذا كل ما تقدم من القوال الاصة ببعض‬
‫أهل البدع إنا تصل على التفسي بسب الاجة ‪ .‬أل ترى أن الية الول من سورة آل عمران إنا‬
‫نزلت ف قصة نصارى نران ؟ ث نزلت على الوارج حسبما تقدم إل غي ذلك ما يذكر ف التفسي‬
‫ـ إنا يملون على ما يشمله الوضع بسب الاجة الاضرة ل بسب ما يقتضيه اللفظ لغ ًة ‪.‬‬
‫وهكذا ينبغي أن تفهم أقوال الفسرين التقدمي ‪ ،‬وهو الول لناصبهم ف العلم ‪ ،‬ومراتبهم ف فهم‬
‫الكتاب والسنة ‪ .‬ولذا العن تقرير ف غي هذا الوضع ‪.‬‬
‫وقالت طائفة وهم فيما زعم ابن عبد الب جهور أهل العلم ‪ :‬الرأي الذكور ف هذه الثار هو القول‬
‫ف أحكام شرائع الدين بالستحسان والظنون ‪ ،‬والشتغال بفظ العضلت والغلوطات ‪ ،‬ورد‬
‫الفروع والنوازع بعضها إل بعض قياسا ‪ ،‬دون ردها إل أصولا والنظر ف عللها واعتبارها ‪،‬‬
‫فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنل ‪ ،‬وفرعت قبل أن تقع ‪ ،‬وتكلم فيها قبل أن تكون ‪ ،‬بالرأي الضارع‬
‫للظن ‪ ،‬قالوا ‪ :‬لن ف الشتغال بذا والستغراق فيه تعطيل السنن والبعث على جهلها ‪ ،‬وترك‬
‫الوقوف على ما يلزم الوقوف عليه منها ‪ ،‬ومن كتاب ال تعال ومعانيه واحتجوا على ذلك بأشياءً ‪،‬‬
‫منها ‪ :‬أن عمر رضي ال عنه لعن من سأل عما ل يكن وما جاء من النهي عن الغلوطات ‪ ،‬وهي‬
‫صعاب السائل ‪ ،‬وعن كثرة السؤال ‪ ،‬وأنه كره السائل وعابا ‪ ،‬وإن كثيا من السلف ل يكن ييب‬
‫إل عما نزل من النوازل دون ما ل ينل ‪.‬‬
‫وهذا القول غي مالف لا قبله ‪ ،‬لن من قال به قد منع من الرأي وإن كان غي مذموم ‪ ،‬لن الكثار‬
‫منه ذريعة إل الرأي الذموم ‪ ،‬وهو ترك النظر ف السنن اقتصارا على الرأي ‪ ،‬وإذا كان كذلك اجتمع‬
‫مع ما قبله ‪ ،‬فإن من عادة الشرع أنه إذا نى عن شيء وشدد فيع منع ما حواليه ‪ ،‬وما دار به ورتع‬
‫حول حاه ‪ .‬أل ترى إل قوله عله السلم ‪:‬‬
‫"اللل بي والرام بي وبينهما أمور مشتبهة" ‪ ،‬وكذلك جاء ف الشرع أصل سد الذرائع ‪ ،‬وهو‬
‫منع الائز لنه ير إل غي الائز ‪ .‬وبسب عظم الفسدة ف المنوع ‪ ،‬يكون اتساع النع ف الذريعة‬
‫وشدته ‪.‬‬
‫وما تقدم من الدلة يبي ذلك عظم النفسدة ف البتداع فالرم حول حاه يتسع جدا ‪ ،‬ولذلك تنصل‬
‫العلماء من القول بالقياس وإن كان جاريا على الطريقة ‪ ،‬فامتنع جاعة من الفتيا به قبل نزول‬
‫السألة ‪ ،‬وحكوا ف ذلك حديثا عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"ل تعجلوا بالبلية قبل نزولا فإنكم إن تفعلوا تشتت بكم الطرق ها هنا وها هنا" وصح نيه عليه‬
‫الصلم عن كثرة السؤال ‪ .‬وقال ‪:‬‬

‫‪50‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"إن ال فرض فرائض فل تضيعوها ‪ ،‬ونى عن أشياء فل تنتهكوها ‪ ،‬وحد حدودا فل تعتدوها ‪،‬‬
‫وعفا أشياء رحةً لكم ل عن نسيان فل تبحثوا عنها" ‪ .‬وأحال با جاعة على المراء فلم يكونوا‬
‫يفتون حت يكون المي هو الذي يتول ذلك ‪ ،‬ويسمونا ‪ :‬صواف المراء ‪.‬‬
‫وكان جاعة يفتون على الروج عن العهدة ‪ ،‬وأنه رأي ليس بعلم ‪ ،‬كما قال أبو بكر الصديق رضي‬
‫ال عنه إذ سئل ف الكللة ‪ :‬أقول فيها برأيي فإن كان صوابا فمن ال وإن كان خطأً فمن ومن‬
‫الشيطان ‪ .‬ث أجاب ‪.‬‬
‫وجاء رجل إل سعيد بن السيب فسأله عن شيء فأمله عليه ‪ ،‬ث سأله عن رأيه فأجابه ‪ ،‬فكتب‬
‫الرجل ‪ ،‬فقال رجل من جلساء سعيد ‪ :‬أتكتب يا أبا ممد رأيك ؟ فقال سعيد للرجل ‪ :‬ناولنيها‬
‫فناوله الصحيفة فخرقها ‪.‬‬
‫وسئل القاسم بن ممد عن شيء فأجاب ‪ ،‬فلما ول الرجل دعاه فقال له ‪ :‬ل تقل إن القاسم زعم أن‬
‫هذا هو الق ‪ ،‬ولكن إن اضطررت إليه عملت به ‪.‬‬
‫وقال مالك بن أنس ‪ :‬قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد ت هذا المر واستكمل ‪ ،‬فإنا ينبغي‬
‫أن نتبع آثار رسول ال صلى ال عليه وسلم ول نتبع الرأي ‪ ،‬فإنه مت أتبع الرأي جاء رجل آخر‬
‫أقوى ف الرأي منك ‪ ،‬فأتبعته ‪ ،‬فأنت كلما جاء رجل غلبك اتبعته ‪ ،‬أرى هذا ل يتم ‪.‬‬
‫ث ثبت أنه كان يقول برأيه ‪ ،‬ولكن كثيا ما كان يقول بعد أن يتهد رأيه ف النازلة ‪" :‬إن نظن إل‬
‫ظنا وما نن بستيقني" ولجل الوف على من كان يتعمق فيه ل يزل يذمه ويذم م تعمق فيه ‪ ،‬فقد‬
‫كان ينحى على أهل العراق لكثرة تصرفهم به ف الحكام ‪ ،‬فحكي عنه ف ذلك أشياء من أخفها‬
‫قوله ‪ :‬الستحسان تسعة أعشار العلم ول يكاد الغرق ف القياس إل يفارق السنة ‪.‬‬
‫والثار التقدمة ليست عند مالك مصوصة بالرأي ف العتقاد ‪ .‬فهذه كلها تشديدات ف الرأي وإن‬
‫كان جاريا على الصول ‪ ،‬حذرا من الوقوع ف الرأي غي الاري على أصل ‪.‬‬
‫ولبن عبد الب ـ هنا ـ كلم كثي كرهنا التيان به ‪.‬‬
‫والاصل من جيمع ما تقدم أن الرأي الذموم ما بن على الهل واتباع الوى من غي أن يرجع إليه ‪،‬‬
‫وما كان منه ذريعة إليه وإن كان ف أصله ممودا ‪ ،‬وذلك راجع إل أصل شرعي ‪ ،‬فالول داخل‬
‫تت حد البدعة وتتنل عليه أدلة الذم ‪ ،‬والثان خارج عنه ول يكون بدعةً أبدا ‪.‬‬

‫فصل الوجه السادس من النقل‬

‫‪51‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يذكر فيه بعض ما ف البدع من الوصاف الحذورة ‪ ،‬والعان الذمومة ‪ ،‬وأنواع الشؤم ‪ ،‬وهو‬
‫كالشرح لا تقدم أو ًل ‪ ،‬وفيه زيادة بسط وبيان زائد على ما تقدم ف أثناء الدلة ‪ ،‬فلنتكلم على ما‬
‫يسع ذكره بسب الوقت والال ‪.‬‬
‫فاعملوا أن البدعة ل يقبل معها عبادة من صلةول صيام ول صدقة ول غي ها من القربات ‪.‬‬
‫ومالس صاحبها تنع منه العصمة ويوكل إل نفسه ‪ ،‬والاشي إليه وموقره معي على هدم السلم ‪،‬‬
‫فما الظن بصاحبها وهو ملعون على لسان الشريعة ‪ ،‬ويزداد من ال بعبادته بعدا ؟ ! وهي مظنة إلقاء‬
‫العدواة والبغضاء ‪ ،‬ومانعة من الشفاعة الحمدية ‪ ،‬ورافعة للسنن الت تقابلها ‪ ،‬وعلى مبتدعها إث من‬
‫عمل با ‪ ،‬وليس له من توبة ‪ ،‬وتلقى عليه الذلة والغضب من ال ‪ ،‬ويبعد عن حوض رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وياف عليه أن يكون معدودا ف الكفار الارجي عن اللة ‪ ،‬وسوء الاتة عند‬
‫الروج من الدنيا ‪ ،‬ويسود وجهه ف الخرة يعذب بنار جهنم ‪ ،‬وقد تبأ منه رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وتبأ منه السلمون وياف عليه الفتنة ف الدنيا زيادة إل عذاب الخرة ‪.‬‬
‫فأما أن البدعة ل يقبل معها عمل ‪ ،‬فقد روي عن الوزاعي أنه قال ‪ :‬كان بعض أهل العلم يقول ‪:‬‬
‫ل يقبل ال من ذي بدعة صلةً ول صياما ول صدقةً ول جهادا ول حجا ول عمرةً ول صرفا ول‬
‫عد ًل ‪.‬‬
‫وفيما كتب به أسد بن موسى ‪ :‬وإياك أن يكون لك من البدع أخ أوجليس أو صاحب ‪ ،‬فإنه جاء‬
‫الثر ‪ :‬من جالس صاحب بدعة نزعت منه العصمة ووكل إل نفسه ‪ ،‬ومن مشى إل صاحب بدعة‬
‫مشى إل هدم السلم ‪ .‬وجاء ‪ :‬ما من إله يعبد من دون ال أبغض إل ال من صاحب هوى ‪،‬‬
‫ووقعت اللعنة من رسول ال صلى ال عليه وسلم على أهل البدع ‪ ،‬وإن ال ل يقبل منهم صرفا ول‬
‫عد ًل ‪ ،‬ول فريضةً ول تطوعا ‪ ،‬وكلما ازدادوا اجتهادا ـ صوما وصلةً ـ ازدادوا من ال بعدا ‪.‬‬
‫فارفض مالستهم وأذلم وأبعدهم ‪ ،‬كما أبعدهم وأذلم رسول ال صلى ال عليه وسلم وأئمة الدى‬
‫بعده ‪.‬‬
‫وكان أيوب السخيتان يقول ‪ :‬ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إل ازداد من ال بعدا ‪.‬‬
‫وقال هشام بن حسان ‪ :‬ل يقبل ال من صاحب بدعة صلةً ول صياما ول زكاةً ول حجا ول‬
‫جهادا ول عمرةً ول صدقةً ول عتقا ول صرفا ول عدلً ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن عبد ال بن عمر قال ‪ :‬من كان يزعم أن مع ال قاضيا أو رازقا أو يلك لنفسه‬
‫ضرا أو نفعا أو موتا أو حياةً أو نشورا ‪ ،‬لقي ال فأدحض حجته ‪ ،‬وأخرس لسانه ‪ ،‬وجعل صلته‬
‫وصيامه هبا ًء منثورا ‪ ،‬وقطع به السباب ‪ ،‬وكبه ف النار على وجهه ‪.‬‬
‫وهذه الحاديث وما كان نوها ما ذكرناه تتضمن عمدة صحتها كلها ‪ .‬فإن العن القرر فيها له ف‬
‫الشريعة أصل صحيح ل مطعن فيه ‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أما أولً ‪ :‬فإنه قد جاء ف بعضها ما يقتضي عدم القبول وهو ف الصحيح كبدعة القدرية حيث قال‬
‫فيها عبد بن عمر ‪:‬‬
‫إذا لقيت أولئك فأخبهم أن بريء منهم ‪ ،‬وأنم براء من ‪ ،‬فوالذي يلف به عبد ال بن عمر لو‬
‫كان لحدهم مثل أحد ذهبا فأنفقه ما تقبله ال منه حت يؤمن بالقدر ‪ .‬ث استشهد بديث جبيل‬
‫الذكور ف صحيح مسلم ‪.‬‬
‫ومثله حديث الوارج وقوله فيه ‪:‬‬
‫يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية ـ بعد قوله ـ " تقرون صلتكم مع صلتم‬
‫وصيامكم مع صيامهم وأعمالكم مع أعمالم" ‪ .‬الديث ‪.‬‬
‫وإذا ثبت ف بعضهم هذا لجل بدعة فكل مبتدع باف عليه مثل من ذكره ‪.‬‬
‫وأما ثانيا ‪ :‬فإن كان البتدع ل يقبل منه عمل ‪ ،‬إما أن يراد أنه ل يقبل له بإطلق على أي وجه وقع‬
‫من وفاق سنة أو خلفها ‪ ،‬وإما أن يراد أنه ل يقبل منه ما ابتدع فيه خاصة دون ما ل يبتدع فيه ‪.‬‬
‫فأما الول ‪ :‬فيمكن على أحد أوجه ثلثة ‪.‬‬
‫الول ‪ :‬أن يكون على ظاهره من أن كل مبتدع أي بدعة كانت ‪ ،‬فأعماله ل تقبل معها ـ داخلتها‬
‫تلك البدعة أم ل ‪ .‬ويشي إليه حديث ابن عمر الذكور آنفا ‪ ،‬ويدل عليه حديث علي بن أب طالب‬
‫رضي ال عنه أنه خطب الناس وعليه سيف فيه صحيفه معلقة ‪ ،‬فقال وال ما عندنا كتاب نقرؤه إل‬
‫كتاب ال وما ف هذه الصحيفة ‪ ،‬فنشرها فإذا فيها ـ أسنان البل ‪ ،‬وإذا فيها ‪ :‬الدينة حرم من عي‬
‫إل كذا ‪.‬من أحدث فيها حدثا فعليه لعنه ال واللئكة والناس أجعي ل يقبل ال منه صرفا ول عدلً‬
‫‪ .‬وذلك على رأي من فسر الصرف والعدل بالفريضة والنافلة ‪ .‬وهذا شديد جدا على أهل الحداث‬
‫ف الدين ‪.‬‬
‫ل يتفرع عليه سائر العمال ‪ ،‬كما إذا ذهب إل إنكار العمل بب الواحد‬ ‫الثان ‪ :‬أن تكون بدعته أص ً‬
‫بإطلق ‪ ،‬فإن عامة التكليف مبن عليه ‪ ،‬لن المر إنا يرد على الكلف من كتاب ال أو من سنة‬
‫رسوله ‪ .‬وما تفرع منهما راجع إليهما ‪ .‬فإن كان واردا من السنة فمعظم نقل السنة بالحاد ‪ ،‬بل قد‬
‫أعوز أن يوجد حديث عن رسول ال صلى ال عليه وسلم متواترا ‪ ،‬وإن كان واردا من الكتاب فإنا‬
‫تبينه السنة فكل ما ل يبي ف القرآن فل بد لطرح نقل الحاد أن يستعمل رأيه وهو البتداع بعينه ‪،‬‬
‫فيكون فرع ينبن على ذلك بدعة ل يقبل منه شيء ‪ ،‬كما ف الصحيح من قوله عليه السلم ‪:‬‬
‫"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وكما إذا كانت البدعة الت ينبن عليها كل عمل ‪ ،‬فإن العمال‬
‫بالنيات ‪ ،‬وإنا لكل امرىء ما نوى ‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومن أمثلة ذلك قول من يقول ‪ :‬إن العمال إنا تلزم من ل يبلغ درجة الولياء الكاشفي بقائق‬
‫التوحيد ‪ ،‬فأما من رفع له الجاب وكوشف بقيقة ما هنالك فقد ارتفع التكليف عنه ‪ ،‬بناءً منهم‬
‫على أصل هو كفر صريح ل يليق ف هذا الوضع ذكره ‪.‬‬
‫وف الترمذي عن أب رافع عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"ل ألفي أحدكم متكئا على أريكته يأتيه أمري فيما أمرت به أو نيت عنه فيقول ‪ :‬ل أدري ! ما‬
‫وجدنا ف كتاب ال اتبعناه !" ‪.‬‬
‫وف رواية ‪ " :‬أل! هل عسى رجل يبلغه عن الديث وهو متكىء على أريكته فيقول ‪ :‬بيننا وبينكم‬
‫كتاب ال ( قال ) فما وجدنا فيه حل ًل حللناه وما وجدنا فيه حراما حرمناه ‪ ،‬وإن ما حرم رسول‬
‫ال كما حرم ال" حديث حسن ‪.‬‬
‫وإنا جاء هذا الديث على الذم وإثبات أن سنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ف التحليل والتحري‬
‫ككتاب ال ‪ ،‬فمن ترك ذلك فقد بن أعماله على رأيه على كتاب ال ول على سنة رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ومن المثلة إذا كانت البدعة ترج صاحبها عن السلم باتفاق أو باختلف ‪ ،‬إذ للعملء ف تكفي‬
‫أهل البدع قولن ‪ .‬وف الظواهر ما يدل على ذلك كقوله عليه السلم ف بعض روايات حديث‬
‫الوارج حي ذكر السهم بصيغة الوارج من الرمية بي الفرث والدم ومن اليات قوله سبحانه‬
‫وتعال‪":‬يوم تبيض وجوه وتسود وجوه"‪ ،‬ونو الظواهر التقدمة ‪.‬‬
‫الوجه الثالث ‪ :‬أن صاحب البدعة ف بعض المور التعبدية أو غيها قد يره اعتقاد بدعته الاصة إل‬
‫التأويل الذي يصي اعتقاده ف الشريعة ضعيفا ‪ ،‬وذلك يبطل عليه جيع عمله ‪ .‬بيان ذلك أمثلة ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أن يترك العقل مع الشرع ف التشريع ‪ ،‬وإنا يأت الشرع كاشفا لا اقتضاه العقل ‪ ،‬فما ليت‬
‫شعري هل حكم هؤلء ف التعبد ل شرعه أم عقولم ؟ بل صار الشرع ف نلتهم كالتابع العي ل‬
‫حاكما متبعا ‪ ،‬وهذا هو التشريع الذي ل يبق للشرع معه أصالة ‪ ،‬فكل ما عمل هذا العامل مبنيا‬
‫على ما اقتضاه عقله ‪ ،‬وإن شرك الشرع فعلى حكم الشركة ل على إفراد الشرع ‪ ،‬فل يصح بناء‬
‫على الدليل الدال على إبطال التحسي والتقبيح العقليي ‪ ،‬إذ هو عند علماء الكلم من مشهور البدع‬
‫‪ ،‬وكل بدعة ضللة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن الستحسن للبدع يلزمه عادةً أن يكون الشرع عنده ل يكمل بعد ‪ ،‬فل يكون لقوله تعال‬
‫‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم" معن يعتب به عندهم ‪ ،‬ومسن الظن منهم يتأولا حت يرجها عن‬
‫ظاهرها ‪ ،‬وذلك أن هؤلء الفرق الت تبتدع العبادات أكثرها من يكثر الزهد والنقطاع والنفراد‬
‫عن اللق ‪ ،‬وإل القتداء بم يري أغمار العوام ‪ ،‬والذي يلزم الماعة وإن كان أتقى خلق ال ل‬
‫يعدونه إل من العامة ‪ .‬وأما الاصة فهم أهل تلك الزيادات ‪ ،‬ولذلك تد كثيا من العتزين بم ‪،‬‬

‫‪54‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والائلي إل جهتهم ‪ ،‬يزدرون بغيهم من ل ينتحل مثل ما انتحلوا ‪ ،‬ويعدونم من الحجوبي عن‬
‫أنوارهم ‪ ،‬فكل من يعتقد هذا العن يضعف ف يده قانون الشرع الذي ضبطه السلف الصال ‪ ،‬وبي‬
‫حدوده الفقهاء الراسخون ف العلم ‪ ،‬إذ ليس هو عنده ف طريق السلوك بنهض حت يدخل مداخل‬
‫خاصتهم ‪ ،‬وعند ذلك ل يبقى لعمل ف أيديهم روح العتماد القيقي ‪ ،‬وهو باب عدم القبول ف‬
‫تلك العمال ‪ ،‬وإن كانت بسب ظاهر المر مشروعة ‪ ،‬لن العتقاد فيها أفسدها عليهم ‪ ،‬فحقيق‬
‫أن ل يقبل من هذا شأنه صرف ول عدل ‪ ،‬والعياذ بال ! ‪.‬‬
‫وأما الثان ‪ :‬وهو أن يراد بعدم القبول لعمالم ما ابتدعوا فيه خاصة فيظهر أيضا ‪ ،‬وعليه يدل‬
‫الديث التقدم ‪" :‬كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" والميع من قوله ‪" :‬كل بدعة ضللة" أي أن‬
‫صاحبها ليس على الصراط الستقيم ‪ ،‬وهو معن عدم القبول ‪ ،‬وفاق قول ال ‪" :‬ول تتبعوا السبل‬
‫فتفرق بكم عن سبيله" ‪ ،‬وصاحب البدعة ل يقتصر ف الغالب على الصلة دون الصيام ‪ ،‬ول على‬
‫الصيام دون الزكاة ‪ ،‬ول على الزكاة دون الج ‪ ،‬ول على الج دون الهاد ‪ ،‬إل غي ذلك من‬
‫العمال ‪ ،‬لن الباعث له على ذلك حاضر معه ف الميع ‪ ،‬وهو الوى والهل بشريعة ال ‪ ،‬كما‬
‫سيأت إن شاء ال ‪.‬‬
‫وف البسوطة عن يي بن يي أنه ذكر العراف وأهله فتوجع واسترجع ‪ ،‬ث قال ‪ :‬قوم أرادوا وجها‬
‫من الي فلم يصيبوه فقيل له ‪ :‬يا أبا ممد ! أفيجى لم مع ذلك لسعيهم ثواب ؟ قال ‪ :‬ليس ف‬
‫خلف السنة رجاء ثواب ‪.‬‬
‫وأما أن صاحب البدعة تنع منه العصمة ويوكل إل نفسه فقد تقدم نقله ‪ ،‬ومعناه ظاهر جدا ‪ ،‬فإن‬
‫ال تعال بعث إلينا ممدا صلى ال عليه وسلم رح ًة للعالي حسبما أخب ف كتابه ‪ ،‬وقد كنا قبل‬
‫ل ‪ ،‬ول نعرف من مصالنا الدنيوية إل قليلً على غي‬ ‫طلوع ذلك النور العظم ل نتدي سبي ً‬
‫كمال ‪ ،‬ول من مصالنا الخروية قليلً ول كثيا ‪ ،‬بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما‬
‫فيه ‪ ،‬ويطرح هوى غيه فل يلتفت إليه ‪ ،‬فل يزال الختلف بينهم والفساد فيهم يص ويعم ‪ ،‬حت‬
‫بعث ال نبيه صلى ال عليه وسلم لزوال الريب واللتباس ‪ ،‬وارتفاع اللف الواقع بي الناس ‪ ،‬كما‬
‫قال ال تعال ‪" :‬كان الناس أمة واحدة فبعث ال النبيي" إل قوله ‪" :‬فهدى ال الذين آمنوا لا‬
‫اختلفوا فيه من الق بإذنه" وقوله ‪" :‬وما كان الناس إل أمة واحدة فاختلفوا" ول يكن حاكما بينهم‬
‫فيما اختلفوا فيه إل وقد جاءهم با ينتظم به شلهم ‪ ،‬وتتمع به كلمتهم ‪ ،‬وذلك راجع إل الهة الت‬
‫من أجلها اختلفوا ‪ ،‬وهو ما يعود عليهم بالصلح ف العاجل والجل ‪ ،‬ويدرأ عنهم الفساد على‬
‫الطلق ‪ ،‬فانفضت الديان والدماء والعقل والنساب والموال ‪ ،‬من طرق يعرف مآخذها العلماء‬
‫‪ .‬وذلك ‪ ،‬القرآن النل على النب صلى ال عليه وسلم قو ًل وعملً وإقرارا ‪ ،‬ول يردوا إل تدبي‬
‫أنفسهم للعلم بأنم ل يستطيعون ذلك ول يستقلون بدرك مصالهم ول تدبي أنفسهم ‪ ،‬فإذا ترك‬

‫‪55‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫البتدع هذه البات العظيمة ‪ ،‬والعطايا الزيلة ‪ ،‬وأخذ ف استصلح نفسه أو دنياه بنفسه با ل يعل‬
‫الشرع عليه دليلً ‪ ،‬فكيف له بالعصمة والدخول تت هذه الرحة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة‬
‫إل تدبي نفسه ‪ ،‬فهو حقيق بالبعد عن الرحة ‪ .‬قال ال تعال ‪" :‬واعتصموا ببل ال جيعا ول‬
‫تفرقوا" بعد قوله ‪" :‬اتقوا ال حق تقاته" فأشعر أن العتصام ببل ال هو تقوى ال حقا ‪ ،‬وأن ما‬
‫سوى ذلك تفرقة ‪ ،‬لقوله ‪" :‬ول تفرقوا" والفرقة من أخس أوصاف البتدعة ‪ ،‬لنه خرج عن حكم‬
‫ال وباين جاعة أهل السلم ‪.‬‬
‫روى عبد بن حيد بن عبد ال ‪ :‬أن حبل ال الماعة ‪.‬‬
‫وعن قتادة ‪ :‬حبل ال التي ‪ ،‬هذا القرآن وسنته ‪ ،‬وعهده إل عباده الذي أمر أن يعتصم با فيه من‬
‫الي ‪ ،‬والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا ببله ‪ ،‬إل آخر ما قال ومن ذلك قوله تعال ‪" :‬واعتصموا‬
‫بال هو مولكم" ‪.‬‬
‫وأما أن الاشي إليه والوقر له معي على هدم السلم فقد تقدم من نقله ‪.‬‬
‫وروي أيضا مرفوعا ‪:‬‬
‫"من أتى صاحب بدعة ليوقره ‪ ،‬فقد أعان على هدم السلم" ‪.‬‬
‫وعن هشام بن عروة قال ‪:‬‬
‫قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪":‬من وقر صاحب بدعة فقد أعان على هدم السلم" ‪.‬‬
‫ويامعها ف العن ما صح من قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬من أحدث حدثا أو آوى مدثا فعليه لعنة‬
‫ال واللئكة والناس أجعي" الديث ‪.‬‬
‫فإن اليواء يامع التوقي ‪ ،‬ووجه ذلك ظاهر لن الشي إليه والتوقي له تعظيم له لجل بدعته ‪ ،‬وقد‬
‫علمنا أن الشرع يأمر بزجره وإهانته وإذلله با هو اشد من هذا ‪ ،‬كالضرب والقتل ‪ ،‬فصار توقيه‬
‫صدودا عن العمل بشرع السلم ‪ ،‬وإقبالً على ما يضاده وينافيه ‪ ،‬والسلم ل ينهدم إل بترك العمل‬
‫به والعمل با ينافيه ‪.‬‬
‫وأيضا فإن توقي صاحب البدعة مظنة لفسدتي تعودان على السلم بالدم ‪:‬‬
‫إحداها ‪ :‬التفات الهال والعامة إل ذلك التوقي ‪ ،‬فيعتقدون ف البتدع أنه أفضل الناس ‪ ،‬وأن ما هو‬
‫عليه خي ما عليه غيه ‪ ،‬فيؤدي ذلك إل اتباعه على بدعته دون اتباع أهل السنة على سنتهم ‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬أنه إذا وقر من أجل بدعته صار ذلك كالادي الحرض له على إنشاء البتداع ف كل شيء‬
‫‪.‬‬
‫وعلى كل حال فتحيا البدع وتوت السنن ‪ ،‬وهو هدم السلم بعينه ‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعلى ذلك دل حديث معاذ ‪ :‬فيوشك قائل أن يقول ‪ :‬ما لم ل يتبعون وقد قرأت القرآن ؟ ما هم‬
‫بتبعي حت أبتدع لم غيه ‪ ،‬وإياكم وما ابتدع ‪ ،‬فإن ما ابتدع ضللة فهو يقتضي أن السنن توت‬
‫إذا أحييت البدع ‪ ،‬وإذا ماتت اندم السلم ‪.‬‬
‫وعلى ذلك دل النقل عن السلف زيادة إل صحة العتبار ‪ ،‬لن الباطل إذا عمل به لزم ترك العمل‬
‫بالق كما ف العكس ‪ ،‬لن الحل الواحد ل يشتغل إل بأحد الضدين ‪.‬‬
‫وأيضا فمن السنة الثابتة ترك البدع ‪ ،‬فمن عمل ببدعة واحدة فقد ترك تلك السنة ‪.‬‬
‫فمما جاء من ذلك ما تقدم ذكره عن حذيفة رضي ال عنه أنه أخذ حجرين فوضع أحدها على‬
‫الخر ث قال لصحابه ‪ :‬هل ترون ما بي هذين الجرين من النور ؟ قالوا ‪ :‬يا أبا عبد ال ! ما نرى‬
‫بينهما إل قليلً ‪ ،‬قال ‪ :‬والذي نفسي بيده لتظهرن البدع حت ل يرى من الق إل قدر ما بي هذين‬
‫الجرين من النور ‪ ،‬وال لتفشون البدع حت إذا ترك منها شيء قالوا ‪ :‬تركت السنة ‪ .‬وله آخر قد‬
‫تقدم ‪.‬‬
‫وعن أب إدريس الولن أنه كان يقول ‪ :‬ما أحدثت أمة ف دينها بدعة إل رفع ال با عنهم سنته ‪.‬‬
‫وعن حسان بن عطية قال ‪ :‬ما أحدث قوم بدعة ف دينهم إل نزع ال من سنتهم مثلها ‪ ،‬ث ل يعدها‬
‫إليهم إل يوم القيامة ‪.‬‬
‫وعن بعض السلف يرفعه ‪:‬‬
‫"ل يدث رجل ف السلم بدعةً إل ترك من السنة ما هو خي منها" ‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي ال عنه قال ‪ :‬ما يأت على الناس من عام إل أحدثوا فيه بدعةً وأماتوا فيه سن ًة ‪،‬‬
‫حت تيا البدع وتوت السنن ‪.‬‬
‫وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة ‪ ،‬فلقوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"من أحدث حدثا آو آوى مدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس أجعي" ‪.‬‬
‫وعد من الحاديث ‪ ،‬والستنان بسنة سوء ل تكن ‪.‬‬
‫وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيانه ‪ ،‬وقد شهد أن بعثه النب صلى ال‬
‫عليه وسلم حق ل شك فيها ‪ ،‬وجاءه الدى من ال والبيان الشاف ‪ ،‬وذلك قول ال تعال ‪" :‬كيف‬
‫يهدي ال قوما كفروا بعد إيانم وشهدوا أن الرسول حق " إل قوله ‪" :‬أولئك جزاؤهم أن عليهم‬
‫لعنة ال واللئكة والناس أجعي" إل آخرها ‪.‬‬
‫واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل ال وبينه ف كتابه ‪ .‬وذلك قوله تعال ‪" :‬إن الذين يكتمون ما‬
‫أنزلنا من البينات والدى من بعد ما بيناه للناس ف الكتاب أولئك يلعنهم ال ويلعنهم اللعنون" إل‬
‫آخرها ‪.‬‬

‫‪57‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فتأملوا العن الذي اشترك البتدع فيه مع هاتي الفرقتي ‪ ،‬وذلك مضادة الشارع فيما شرع ‪ ،‬لن ال‬
‫تعال أنزل الكتاب وشرع الشرائع ‪ ،‬وبي الطريق للسالكي على غاية ما يكن من البيان ‪ ،‬فضادها‬
‫الكافر بأن جحدها جحدا ‪ ،‬وضادها كاتها بنفس الكتمان ‪ ،‬لن الشارع يبي ويظهر ‪ ،‬وهذا يكتم‬
‫ويفي ‪ ،‬وضادها البتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بي وإخفاء ما أظهر ‪ ،‬لن من شأنه أن يدخل‬
‫الشكال ف الواضحات ‪ ،‬من أجل اتباع التشابات ‪ ،‬لن الواضحات ‪ ،‬تدم له ما بن عليه من‬
‫التشابات ‪ ،‬فهو آخذ ف إدخال الشكال على الواضح ‪ ،‬حت يرتكب ما جاءت اللعنة ف البتداع‬
‫به من ال واللئكة والناس أجعي ‪.‬‬
‫قال أبو مصعب صاحب مالك ‪ :‬قدم علينا ابن مهدي ـ يعن الدينة ـ فصلى ووضع رداءه بي‬
‫يدي الصف فلما سلم المام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ‪ ،‬وكان قد صلى خلف المام ‪،‬‬
‫فلما سلم قال ‪ :‬من ها هنا من الرس ؟ فجاءه نفسان فقال ‪ :‬خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ‪.‬‬
‫فحبس ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إنه ابن مهدي فوجه إليه ‪ ،‬وقال له ‪ :‬أما خفت ال واتقيته أن وضعت ثوبك بي‬
‫يديك ف الصف وشغلت الصلي بالنظر إليه ‪ ،‬وأحدثت ف مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ‪ ،‬وقد قال‬
‫النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من أحدث ف مسجدنا حدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس أجعي؟" فبكى ابن مهدي وآل على‬
‫نفسه أن ل يفعل ذلك أبدا ف مسجد النب صلى ال عليه وسلم ول ف غيه ‪.‬‬
‫وهذا غاية ف التوقي والتحفظ ف ترك إحداث ما ل يكن خوفا من تلك اللعنة ‪ .‬فما ظنك با سوى‬
‫وضع الثوب ؟‬
‫وتقدم حديث الطحاوي ‪ :‬ستة ألعنهم ‪ .‬لعنهم ال فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلة والسلم‬
‫أخذا بالبدعة ‪.‬‬
‫وأما أنه يزداد من ال بعدا ‪ .‬فلما روي عن السن أنه قال ‪ :‬صاحب البدعة ما يزداد من ال اجتهادا‬
‫‪ ،‬صياما وصلةً ‪ ،‬إل ازداد من ال بعدا ‪.‬‬
‫وعن أيوب السختيان قال ‪ :‬ما ازداد صاحب بدعة اجتهادا إل ازداد من ال بعدا ‪.‬‬

‫فصل‪:‬الوجه السادس من النقل‬


‫ويصحح هذا النقل ما أشار إليه الديث الصحيح ف قوله عليه الصلة والسلم ف الوارج ‪:‬‬
‫"يرج من ضئضىء هذا قوم تقرون صلتكم مع صلتم وصيامكم مع صيامهم ـ إل أن قال ـ‬
‫يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" فبي أولً اجتهادهم ث بي آخرا بعدهم من ال تعال ‪.‬‬
‫وهو بي أيضا من جهة أنه ل يقبل منه صرف ول عدل كما تقدم ‪ ،‬فكل عمل يعمله على البدعة‬
‫فكما لو ل يعمله ويزيد على تارك العمل بالعناد الذي تضمنه ابتداعه ‪ ،‬والفساد الداخل على الناس به‬

‫‪58‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ف أصل الشريعة ‪ ،‬وف فروع العمال والعتقادات وهو يظن مع ذلك أن بدعته تقربه من ال‬
‫وتوصله إل النة ‪.‬‬
‫وقد ثبت بالنقل الصحيح الصريح بأنه ل يقربه إل ال إل العمل با شرع ‪ ،‬وعلى الوجه الذي شرع‬
‫ـ وهو تاركه ‪ ،‬وأن البدع تبط العمال ـ وهو ينتحلها ‪.‬‬
‫وأما أن البدع مظنة إلقاء العداوة والبغضاء بي أهل السلم ‪ ,‬فلنا تقتضي التفرق شيعا ‪.‬‬
‫وقد أشار إل ذلك القرآن الكري حسبما تقدم ف قوله تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا‬
‫من بعد ما جاءهم البينات" وقوله ‪" :‬ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ‪ ،‬وقوله ‪" :‬ول تكونوا‬
‫من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب با لديهم فرحون" ‪ ،‬وقوله ‪" :‬إن‬
‫الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء" وما أشبه ذلك من اليات ف هذا العن ‪.‬‬
‫وقد بي عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"أن الفساد ذات البي هي الالقة وأنا تلق الدين" هذه الشواهد تدل على وقوع الفتراق والعداوة‬
‫عند وقوع البتداع ‪.‬‬
‫وأول شاهد عليه ف الواقع قصة الوارج إذ عادوا أهل السلم حت صاروا يقتلونم ويدعون الكفار‬
‫كما أخب عنه الديث الصحيح ‪ ،‬ث يليهم كل من كان له صولة منهم بقرب اللوك فإنم تناولوا أهل‬
‫السنة بكل نكال وعذاب وقتل أيضا ‪ ،‬حسبما بينه جيع أهل الخبار ‪.‬‬
‫ث يليهم كل من ابتدع بدعة فإن من شأنم أن يثبطوا الناس عن اتباع الشريعة ويذمونم ويزعمون‬
‫أنم الرجاس الناس الكبي على الدنيا ويضعون عليهم شواهد اليات ف ذم الدنيا وذم الكبي‬
‫عليها ‪ ،‬كما يروى عن عمرو بن عبيد أنه قال ‪ :‬لو شهد عندي علي وعثمان وطلحة والزبي على‬
‫شراك نعل ما أجزت شهادتم ‪.‬‬
‫وعن معاذ بن معاذ قال ‪ :‬قلت لعمرو بن عبيد ‪ :‬كيف حدث السن عن عثمان أنه ورث امرأة عبد‬
‫الرحن بعد انقضاء عدتا ؟ فقال ‪ :‬إن فعل عثمان ل يكن سنة ‪.‬‬
‫وقيل له ‪ :‬كيف حدث السن عن سرة ف السكتتي ؟ فقال ‪ :‬ما تصنع بسمرة ! قبح ال سرة اهـ‬
‫‪ .‬بل قبح ال عمرو بن عبيد ‪ ،‬وسئل يوما عم شيء فأجاب فيه ‪.‬‬
‫قال الراوي ‪ :‬قلت ليس هكذا يقول أصحابنا ‪ .‬قال ‪ :‬ومن أصحابك ل أبا لك ؟ قلت ‪ :‬أيوب ‪،‬‬
‫ويونس ‪ ،‬وأبن عون ‪ ،‬والتميمي ‪ .‬قال أولئك أناس أرجاس ‪ ،‬أموات غي أحياء ‪.‬‬
‫فهكذا أهل الضلل يسبون السلف الصال لعل بضاعتهم تنفق ‪" .‬ويأب ال إل أن يتم نوره" ‪.‬‬
‫وأصل هذا الفساد من قبل الوراج فهم أول من لعن السلف الصال ‪ ،‬وكفر الصحابة رضي ال عن‬
‫الصحابة ‪ ،‬ومثل هذا كله يورث العدواة والبغضاء ‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأيضا فإن فرقة النجاة وهم أهل السنة مأمورون بعداوة أهل البدع والتشريد بم والتنكيل بن اناش‬
‫إل جهتهم يالقتل فما دونه ‪ ،‬وقد حذر العلماء من مصاحبتهم ومالستهم حسبما تقدم ‪ ،‬وذلك‬
‫مظنة إلقاء العداوة والبغضاء ‪ .‬لكن الدرك فيها على من تسبب ف الوراج عن الماعة با أحدثه من‬
‫اتباع غي سبيل الؤمني ل على التعادي مطلقا ‪ .‬كيف ونن مأمورون بعاداتم وهم مأمورون‬
‫بوالتنا والرجوع إل الماعة ؟‬
‫وأما أنا مانعة من شفاعة ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلما روي أنه عليه السلم قال ‪:‬‬
‫"حلت شفاعت لمت إل صاحب بدعة" ويشي إل صحة العن فيه ما ف الصحيح قال ‪:‬‬
‫" أول من يكسى يوم القيامة إبراهيم ‪ ،‬وأنه سيؤتى برجال من أمت فيؤخذ بم ذات الشمال ـ إل‬
‫قوله ‪ ،‬فيقال ل يزالوا مرتدين على أعقابم " الديث ‪ ،‬وقد تقدم ‪ .‬ففيه أنه ل يذكر لم شفاعة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإنا قال ‪" :‬فأقول لم سحقا كما قال العبد الصال" ويظهر من‬
‫أول الديث أن ذلك الرتداء ل يكن ارتداد كفر لقوله ‪" :‬وإنه سيؤتى برجال من أمت" ولو كانوا‬
‫مرتدين عن السلم لا نسبوا إل أمته ‪،‬ولنه عليه السلم أتى بالية وفيها "وإن تغفر لم فإنك أنت‬
‫العزيز الكيم" ‪ ،‬ولو علم النب صلى ال عليه وسلم أنم خارجون عن السلم جلة لا ذكرها ‪ ،‬لن‬
‫من مات على الكفر ل غفران له البتة ‪ ،‬وإنا يرجى الغفران لن ل يرجه عمله عن السلم لقول ال‬
‫تعال ‪" :‬إن ال ل يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لن يشاء" ‪.‬‬
‫ومثل هذا الديث حديث الوطأ لقوله فيه ‪" :‬فأقول فسحقا فسحقا" ‪.‬‬
‫وأما أنا رافعة للسنن الت تقابلها ‪ ،‬فقد تقدم الستشهاد عليه ف أن الوقر لصاحبها معي على هدم‬
‫السلم ‪.‬‬
‫وأما أن على مبتدعها إث من عمل با إل يوم القيامة ‪ ،‬فلقوله تعال ‪" :‬ليحملوا أوزارهم كاملة يوم‬
‫القيامة ومن أوزار الذين يضلونم بغي علم " ولا ف الصحيح من قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل با" الديث ‪.‬‬
‫وإل ذلك أشار الديث الخر ‪:‬‬
‫"ما من نفس تقتل ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل منها ‪ ،‬لنه أول من سن القتل" ‪.‬‬
‫وهذا التعليل يشعر بقتضى الديث قبله ‪ ،‬إذ علل تعليق الث على ابن آدم لكونه أول من سن القتل ‪،‬‬
‫فدل على أن من سن ما ل يرضاه ال ورسوله فهو مثله ‪ ،‬إذ ل يتعلق الث بن سن القتل لكونه قتلً‬
‫دون غيه ‪ ،‬بل لكونه سن سنة سوء وجعلها طريقا مسلوكة ‪.‬‬
‫ومثل هذا ما جاء ف معناه ما تقدم أو يأت كقوله ‪:‬‬
‫"ومن ابتدع بدعة ضللة ل ترضي ال ورسوله كان عليه مثل آثام من عمل با ل ينقص ذلك من‬
‫أوزار الناس شيئا" وغي ذلك من الحاديث ‪.‬‬

‫‪60‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فليتق ال امرؤ ربه ولينظر قبل الحداث ف أي مزلة يضع قدمه ف مصون أمره ‪ ،‬يثق بعقله ف‬
‫التشريع ويتهم ربه فيما شرع ‪ ،‬ول يدري السكي ما الذي يوضع له ف ميزان شيئاته ما ليس ف‬
‫حسابه ‪ ،‬ول شعر أنه من عمله ‪ ،‬فما من بدعة يبتدعها أحد فيعمل با من بعده ‪ ،‬إل كتب عليه إث‬
‫ذلك العامل ‪ ،‬زيادةً إل إث ابتداعه أولً ‪ ،‬ث عمله ثانيا ‪.‬‬
‫وإذا ثبت أن كل بدعة تبتدع فل تزداد على طول الزمان إل مضيا ـ حسبما تقدم ـ واشتهارا‬
‫وانتشارا ‪،‬فعلى وزان ذلك يكون إث البتدع لا ‪ ،‬كما أن من سن سن ًة حسنةً كان له أجرها وأجر‬
‫من عمل با إل يوم القيامة ‪ ،‬وأيضا ‪ .‬فإذا كانت كل بدعة يلزمها إماتة سنة تقابلها ‪ ،‬كان على‬
‫البتدع إث ذلك أيضا ‪ ،‬فهو إث زائد على إث البتداع ‪ ،‬وذلك الث يتضاعف تضاعف إث البدعة‬
‫بالعمل با ‪ ،‬لنا كلما تددت ف قول أو عمل تددت ف قول إماتة السنة كذلك ‪.‬‬
‫واعتبوا ذلك ببدعة الوراج فإن النب صلى ال عليه وسلم عرفنا بأنم ‪:‬‬
‫"يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" الديث إل آخره ‪ .‬ففيه بيان أنم ل يبق لم من‬
‫الدين إل ما إذا نظر فيه الناظر شك فيه وتارى ‪ .‬هل هو موجود فيهم أم ل ؟ وإنا سببه البتداع ف‬
‫دين ال ‪ ،‬وهو الذي دل عليه قوله ‪" :‬يقتلون أهل السلم ويدعون أهل الوثان " ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫"يقرؤون القرآن ل يتجاوز تراقيهم" فهذه بدع ثلث ‪ ،‬إعاذة ال بفضله ‪.‬‬
‫وأما أن صاحبها ليس له من توبة فلما جاء من قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"إن ال حجر التوبة على كل صاحب بدعة" ‪.‬‬
‫وعن يي بن أب عمرو الشيبان قال ‪ :‬كان يقال يأب ال لصاحب بدعة بتوبة ‪ ،‬وما انتقل صاحب‬
‫بدعة إل إل أشر منها ‪.‬‬
‫ونوه عن طريق علي بن أب طالب رضي ال عنه قال ‪ :‬ما كان رجل على رأي من البدعة فتركه إل‬
‫إل ما هو شر منه ‪.‬‬
‫خرج هذه الثار ابن وضاح ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب ‪،‬عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يقول ‪ :‬اثنان ل نعاتبهما ‪ :‬صاحب طمع ‪،‬‬
‫وصاحب هوى ‪ ،‬فإنما ل ينعان ‪.‬‬
‫وعن ابن شوذب قال ‪ :‬سعت عبد ال بن القاسم وهو يقول ‪ :‬ما كان عبد على هوى تركه إل ما‬
‫هو شر منه ‪ .‬قال ‪ :‬فذكرت ذلك لبعض أصحابنا فقال ‪ :‬تصديقه ف حديث عن النب صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪:‬‬
‫"يرقون من الدين مروق السهم من الرمية ث ل يرجعون إليه حت يرجع السهم على فوقه" ‪.‬‬
‫وعن أيوب قال ‪ :‬كان رجل يرى رأيا فرجع فأتيت ممدا فرحا بذلك أخبه ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أشعرت أن‬
‫فلنا ترك رأيه الذي كان يرى ؟ فقال ‪ :‬انظر إلم يتحول ؟ إن آخر الديث أشد عليهم من الول ‪،‬‬

‫‪61‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأوله ‪" :‬يرقون من الدين" وآخره ‪" :‬ث ل يعودون" وهو حديث أب ذر أن النب صلى ال عليه‬
‫وسلم قال ‪:‬‬
‫"سيكون من أمت قوم يقرؤون القرآن ول ياوز حلقيمهم ‪ ،‬يرجون من الدين كما يرج السهم‬
‫من الرمية ث ل يعودون فيه ‪ ،‬هم شر اللق والليقة" ‪.‬‬
‫فهذه شهادة الديث الصحيح لعن هذه الثار ‪ .‬وحاصلها أنه [ ل ] توبةً لصاحب البدعة عن بدعته‬
‫فإن خرج عنها فإنا يرج إل ما هو شر منها كما ف حديث أيوب ‪ ،‬أو يكون من يظهر الروج‬
‫عنها وهو مصر عليها بعد ‪ ،‬كقصة غيلن مع عمر بن عبد العزيز ‪.‬‬
‫ويدل على ذلك أيضا حديث الفرق إذ قال فيه ‪:‬‬
‫"وإنه سيخرج ف أمت أقوام تارى بم تلك الهواء ‪ ،‬كما يتجارى الكلب بصاحبه ‪ ،‬ل يبقى منه‬
‫عرق ول مفصل إل دخله" وهذا النفي يقتضي العموم بإطلق ‪ ،‬ولكنه قد يمل على العموم‬
‫العادي ‪ ،‬إذ ل يبعد أن يتوب عما رأى ويرجع إل الق ‪ ،‬كما نقل عن عبد ال بن السن العنبي ‪،‬‬
‫وما نقلوه ف مناظرة ابن عباس الرورية الارجي على علي رضي ال عنه ‪ ،‬وف مناظرة عمر بن عبد‬
‫العزيز لبعضهم ‪ .‬ولكن الغالب ف الواقع الصرار ‪.‬‬
‫ومن هنالك قلنا ‪ :‬يبعد أن يتوب بعضهم لن الديث يقتضي العموم بظاهره ‪ ،‬وسيأت بيان ذلك‬
‫بأبسط من هذا إن شاء ال ‪.‬‬
‫وسبب بعده عن التوبة أن الدخول تت تكاليف الشريعة صعب على النفس لنه أمر مالف للهوى ‪،‬‬
‫وصاد عن سبيل الشهوات ‪ ،‬فيثقل عليها جدا لن الق ثقيل ‪ ،‬والنفس إنا تنشط با يوافق هواها ل‬
‫با يالفه ‪ ،‬وكل بدعة فللهوى فيها مدخل ‪ ،‬لنا راجعة إل نظر مترعها ل إل نظر الشارع ‪ ،‬فعلى‬
‫حكم التبع ل بكم الصل مع ضميمة أ خرى ‪ ،‬وهي أن البتدع ل بد له من تعلق بشبهة دليل‬
‫ينسبها إل الشارع ‪ ،‬ويدعي أن ما ذكره هو مقصود الشارع ‪ ،‬فصار هواه مقصودا بدليل شرعي ف‬
‫زعمه ‪ ،‬فكيف يكنه الروج عن ذلك وداعي الوى مستمسك بسن ما يتمسك به ؟ وهو الدليل‬
‫الشرعي ف الملة ‪.‬‬
‫ومن الدليل على ذلك ما روي عن الوزاعي قال ‪ :‬بلغن أن من ابتدع بدعة ضللة آلفه الشيطان‬
‫العبادة أو ألقى عليه الشوع والبكاء كي يصطاد به ‪ .‬وقال بعض الصحابة ‪ :‬أشد الناس عبداة مفتون‬
‫‪ .‬واحتج بقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬يقر أحدكم صلته ف صلته وصيامه ف صيامه" إل آخر‬
‫الديث ‪.‬‬
‫ويقق ما قاله الواقع كما نقل ف الخبار عن الوارج وغيهم ‪.‬‬
‫فالبتدع يزيد ف الجتهاد لينال ف الدنيا التعظيم والال والاه وغي ذلك من أصناف الشهوات ‪ ،‬بل‬
‫التعظيم على شهوات الدنيا ‪ ،‬أل ترى إل انقطاع الرهبان ف الصوامع والديارات ‪ ،‬عن جيع‬

‫‪62‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫اللذوذات ‪ ،‬ومقاساتم ف أصناف العبادات ‪ ،‬والكف عن الشهوات ؟ وهم مع ذلك خالدون ف‬


‫جهنم ‪ .‬قال ال ‪" :‬وجوه يومئذ خاشعة * عاملة ناصبة * تصلى نارا حامية" وقال ‪" :‬قل هل ننبئكم‬
‫بالخسرين أعمال * الذين ضل سعيهم ف الياة الدنيا وهم يسبون أنم يسنون صنعا" وما ذاك إل‬
‫لفة يدونا ف ذلك اللتزام ‪،‬ونشاط بداخلهم يستسهلون به الصعب بسبب ما داخل النفس من‬
‫الوى ‪ ،‬فإذا بدا للمبتدع ما هو عليه رآه مبوبا عنده لستبعاده للشهوات وعمله من جلتها ورآه‬
‫موافقا للدليل عنده ‪ ،‬فما الذي يصده عن الستمساك به ‪ ،‬والزدياد منه ؟ وهو يرى أن أعماله‬
‫أفضل من أعمال غيه ‪ ،‬واعتقاد أنه أوفق وأعلى ؟ أفيفيد البهان مطلبا ؟ "كذلك يضل ال من يشاء‬
‫ويهدي من يشاء" ‪.‬‬
‫وأما أن البتدع يلقى عليه الذل ف الدنيا والغضب من ال تعال ‪ :‬فلقوله تعال ‪" :‬إن الذين اتذوا‬
‫العجل سينالم غضب من ربم وذلة ف الياة الدنيا وكذلك نزي الفترين" حسبما جاء ف تفسي‬
‫الية عن بعض السلف وقد تقدم ‪ .‬ووجهه ظاهر لن التخذين للعجل إنا ضلوا به حت عبدوه ‪ ،‬لا‬
‫سعوا من خواره ‪ ،‬ولا ألقى إليهم السامري فيه ‪ ،‬فكان ف حقهم شبهة خرجوا با عن الق الذي‬
‫كان ف أيديهم ‪ .‬قال ال تعال ‪" :‬وكذلك نزي الفترين" فهو عموم فيهم وفيمن أشبههم ‪ ،‬من‬
‫حيث كانت البدع كلها افتراء على ال حسبما أخب ف كتابه ف قوله تعال ‪" :‬قد خسر الذين قتلوا‬
‫أولدهم سفها بغي علم وحرموا ما رزقهم ال افتراء على ال" ‪.‬‬
‫فإذا كل من ابتدع ف دين ال فهو ذليل حقي بسبب بدعته وإن ظهر لبادي الرأي عزه وجبيته فهم‬
‫ف أنفسهم أذلء ‪ ،‬وأيضا فإن الذلة الاضرة بي أيدينا موجودة ف غالب الحوال ‪ .‬أل ترى أحوال‬
‫البتدعة ف زمان التابعي ‪ ،‬وفيما بعد ذلك ؟ حت تلبسوا بالسلطي ولذوا بأهل الدنيا ‪ ،‬ومن ل‬
‫يقدر على ذلك استخفى ببدعته وهرب با عن مالطة المهور ‪ ،‬وعمل بأعمالا على التقية ‪.‬‬
‫وقد أخب ال أن هؤلء الذين اتذوا العجل سينالم ما وعدهم فأنز ال وعده ‪ ،‬فقال ‪" :‬وضربت‬
‫عليهم الذلة والسكنة وباءوا بغضب من ال" وصدق ذلك الواقع باليهود حيثما حلوا ف أي مكان‬
‫وزمان كانوا ل يزالون أذلء مقهورين ‪" :‬ذلك با عصوا وكانوا يعتدون" ومن جلة العتداء اتاذهم‬
‫العجل ‪ ،‬هذا بالنسبة إل الذلة ‪ ،‬وأما الغضب فمضمون بصادق أن يكون البتدع داخلً ف حكم‬
‫الغضب وال الواقي بفضله ‪.‬‬
‫وأما البعد عن حوض رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فلحديث الوطأ ‪:‬‬
‫"فليذادن رجال عن حوضي كما يذاد البعي الضال ‪ "..‬الديث ‪ .‬وف البخاري ‪ ،‬عن أساء ‪ ،‬عن‬
‫النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫"أنا على حوضي أنتظر من يرد علي ‪ ،‬فيؤخذ بناس من دون ‪،‬فأقول ‪ :‬أمت ! فيقال ‪ :‬إنك ل‬
‫تدري ‪ ،‬مشوا القهقرى" ‪ .‬وف حديث عبد ال ‪:‬‬

‫‪63‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"أنا فرطكم على الوض ليفعن إل رجال منكم حت إذا تأهبت لتناولم اختلجوا دون ‪ ،‬فأقول ‪:‬‬
‫أي رب ! أصحاب ‪ ،‬يقول ‪ :‬ل تدري ما أحدثوه بعدك" ‪.‬‬
‫والظهر أنم من الداخلي ف غمار هذه المة لجل ما دل على ذلك فيهم وهو الغرة والتحجيل ‪،‬‬
‫لن ذلك ل يكون لهل الكفر الحض ‪ ،‬كان كفرهم أصلً أو ارتدادا ‪.‬‬
‫ولقوله ‪" :‬قد بدلوا بعدك" ولو كان الكفر لقال ‪ :‬قد كفروا بعدك ‪ .‬وأقرب ما يمل عليه تبديل‬
‫السنة ‪ ،‬وهو واقع على أهل البدع ‪ .‬ومن قال ‪ :‬إنه النفاق ‪ .‬فذلك غي خارج عن مقصودنا ‪ ،‬لن‬
‫أهل النفاق إنا أخذوا الشريعة تقيةً ل تعبدا ‪ ،‬فوضعوها غي مواضعها وهو عي البتداع ‪.‬‬
‫ويري هذا الجرى كل من اتذ السنة والعمل با حيلةً وذريع ًة إل نيل حطام الدنيا ل على التعبد با‬
‫ل تعال ‪ ،‬لنه تبديل لا وإخراج لا عن وضعها الشرعي ‪.‬‬
‫وأما الوف عليه من أن يكون كافرا ‪ .‬فلن العلماء من السلف الول وغيهم اختلفوا ف تكفي‬
‫كثي من فرقهم مثل الوارج والقدرية وغيهم ‪ ،‬ودل ذلك ظاهر قوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم‬
‫وكانوا شيعا لست منهم ف شيء" ‪ ،‬وقوله ‪" :‬يوم تبيض وجوه وتسود وجوه" ‪ .‬الية ‪ .‬وقد حكم‬
‫العلماء بكفر جلة منهم كالباطنية وسواهم ‪ ،‬لن مذهبهم راجع إل مذهب اللولية القائلي با يشبه‬
‫قول النصارى ف اللهوت والناسوت ‪ ،‬والعلماء إذا اختلفوا ف أمر ‪ :‬هل هو كفر أم ل ؟ فكل عاقل‬
‫يربأ بنفسه أن ينسب إل خطه خسف كهذه بيث يقال له ‪ :‬إن العلماء اختلفوا ‪ :‬هل أنت كافر أم‬
‫ضال غي كافر؟ أو يقال ‪ :‬إن جاعةً من أهل العلم قالوا‬
‫بكفرك وأنت حلل الدم ‪.‬‬
‫وأما أنه ياف على صاحبها سوء الاتة والعياذ بال ‪ .‬فلن صاحبها مرتكب إثا ‪ ،‬وعاص ل تعال‬
‫حتما ‪ ،‬ول تقول الن ‪ :‬هو عاص بالكبائر أو بالصغائر ‪ ،‬بل نقول ‪ :‬هو مصر على ما نى ال عنه ‪،‬‬
‫والصرار يعظم الصغية إن كانت صغية حت تصي كبية ‪ ،‬وإن كانت كبية فأعظم ‪ .‬ومن مات‬
‫مصرا على العصية فيخاف عليه ‪ ،‬فربا إذا كشف الغطاء وعاين علمات الخرة استفزه الشيطان‬
‫وغلبه على قلبه ‪ ،‬حت يوت على التغيي والتبديل ‪ ،‬وخصوصا حي كان مطيعا له فيما تقدم من‬
‫زمانه ‪ ،‬مع حب الدنيا الستول عليه ‪.‬‬
‫قال عبد الق الشبيلي ‪ :‬إن سوء الاتة ل يكون لن استقام ظاهره وصلح باطنه ‪ ،‬ما سع بذا قط‬
‫ول علم به والمد ل ‪ ،‬وإنا يكون لن كان له فساد ف العقل أو إصرار على الكبائر ‪ ،‬وإقدام على‬
‫العظائم ‪ ،‬أو لن كان مستقيما ث تغيت حاله وخرج عن سننه ‪ ،‬وأخذ ف طريق غي طريقه ‪ ،‬فيكون‬
‫عمله ذلك سببا لسوء خاتته وسوء عاقبته ‪ ،‬والعياذ بال ‪ .‬قال ال تعال ‪" :‬إن ال ل يغي ما بقوم‬
‫حت يغيوا ما بأنفسهم" ‪.‬‬

‫‪64‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فهذا ظاهر إذا اغتر بالبدعة من حيث هي معصية ‪ .‬فإذا نظرنا إل كونا بدعة فذلك أعظم ‪ ،‬لن‬
‫البتدع مع كونه مصرا على ما ني عنه يزيد على الصر بأنه معارض للشريعة بعقله ‪ ،‬غي مسلم لا‬
‫ف تصيل أمره ‪ ،‬معتقدا ف العصية أنا طاعة ‪ ،‬حيث حسن ما قبحه الشارع ‪ ،‬وف الطاعة أنا ل‬
‫تكون طاعة إل بضميمه نظره ‪ ،‬فهو قد قبح ما حسنه الشارع ‪ ،‬ومن كان هكذا فحقيق بالقرب من‬
‫سوء الاتة إل ما شاء ال ‪ .‬وقد قال تعال ف جلة ذم ‪" :‬أفأمنوا مكر ال فل يأمن مكر ال إل القوم‬
‫الاسرون" ‪.‬‬
‫والكر جلب السوء من حيث ل يفطن له ‪ ،‬وسوء الاتة من مكر ال ‪ ،‬إذ يأت النسان من حيث ل‬
‫يشعر به ‪ .‬اللهم إنا نسألك العفو العافية ‪.‬‬
‫وأما اسوداد وجهه ف الخرة فقد تقدم ف ذلك معن قوله ‪" :‬يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " ‪.‬‬
‫وفيها أيضا الوعيد بالعذاب لقوله ‪" :‬فذوقوا العذاب با كنتم تكفرون" وقوله قبل ذلك ‪" :‬وأولئك‬
‫لم عذاب عظيم " ‪.‬‬
‫حكى عياض عن مالك من رواية ابن نافع عنه قال ‪ :‬لو أن العبد ارتكب الكبائر كلها دون الشراك‬
‫بال شيئا ث نا من هذه الهواء لرجوت أن يكون ف أعلى جنات الفردوس ‪ ،‬لن كل كبية بي‬
‫العبد وربه وهو منها على رجاء ‪ ،‬وكل هوى ليس هو منه على رجاء إنا يهوي بصاحبه ف نار‬
‫جهنم ‪.‬‬
‫وأما الباءة منه ففي قوله ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " ‪ .‬وف الديث‬
‫‪:‬‬
‫"أنا بريء منهم وهم براء من" ‪.‬‬
‫وقال ابن عمر رضي ال عنه ف أهل القدر ‪ :‬إذا لقيت أولئك فأخبهم أن بريء منهم وأنم براء من‬
‫‪.‬‬
‫وجاء عن السن ‪ :‬ل تالس صاحب بدعة فإنه يرض قلبك ‪.‬‬
‫وعن سفيان الثوري ‪ :‬من جالس صاحب بدعة ل يسلم من إحدى ثلث ‪ :‬إما أن يكون فتنةً لغيه ‪،‬‬
‫وإما أن يقع بقلبه شيء يزل به فيدخله النار ‪ ،‬وإما أن يقول ‪ :‬وال ل أبال ما تكلموا به ‪ ،‬وإن واثق‬
‫بنفسي ‪ .‬فمن يأمن بغي ال طرفة عي على دينه سلبه إياه ‪.‬‬
‫وعن يي بن أب كثي قال ‪ :‬إذا لقيت صاحب بدعة ف طريق فخذ ف طريق آخر ‪.‬‬
‫وعن أب قلبة قال ‪ :‬ل تالسوا أهل الهواء ول تادلوهم فإن ل آمن أن يغمروكم ف ضللتهم‬
‫ويلبسوا عليكم ما كنتم تعرفون ‪.‬‬
‫وعن إبراهيم قال ‪ :‬ل تالسوا أصحاب الهواء ول تكلموهم فإن أخاف أن ترتد قلوبكم ‪.‬‬
‫والثار ف ذلك كثية ‪ .‬ويعضدها ما روي عنه عليه السلم أنه قال ‪:‬‬

‫‪65‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"الرء على دين خليله ‪ ،‬فلينظر أحدكم من يالل" ‪ .‬ووجه ذلك ظاهر منبه عليه ف كلم أب قلبة ‪،‬‬
‫إذ قد يكون الرء على يقي من أمر من أمور السنة ‪ ،‬فيلقي له صاحب الوى فيه هوى ما يتمله‬
‫اللفظ ل أصل له ‪ ،‬أو يزيد له فيه قيدا من رأيه ‪ ،‬فيقبله قلبه ‪ ،‬فإذا رجع إل ما كان يعرفه وجده‬
‫مظلما فإما أن يشعر به فيده بالعلم ‪ ،‬أو ل يقدر على رده ‪ .‬وأما أن ل يشعر به فيمضي مع من‬
‫هلك ‪.‬‬
‫قال ابن وهب ‪ :‬وسعت مالكا إذا جاءه بعض أهل الهواء يقول ‪ :‬أما أنا فعلى بينة من رب ‪ ،‬وأما‬
‫أنت فشاك ‪ ،‬فاذهب إل شاك مثلك فخاصمه ‪ ،‬ث قرأ ‪:‬‬
‫"قل هذه سبيلي أدعو إل ال على بصية " ‪.‬‬
‫فهذا شأن من تقدم من عدم تكي زائغ القلب أن يسمع كلمه ‪.‬‬
‫ومثل رده بالعلم جوابه لن سأله ف قوله ‪" :‬الرحن على العرش استوى" كيف استوى ؟ فقال له ‪:‬‬
‫الستواء معلوم والكيف مهول ‪ ،‬والسؤال عنه بدعة ‪ .‬وأراك صاحب بدعة ث أمر بإخراج السائل ‪.‬‬
‫ومثل ما ل يقدر على رده ما حكى الباجي قال ‪ :‬قال مالك ‪ :‬كان يقال ‪ :‬ل تكن زائغ القلب من‬
‫أذنك ‪ ،‬فإنك ل تدري ما يعلقك من ذلك ‪.‬‬
‫ولقد سع رجل من النصار من أهل الدينة شيئا من بعض أهل القدر ‪ ،‬فعلق قلبه ‪ ،‬فكان يأت إخوانه‬
‫الذين يستنصحهم ‪ ،‬فإذا نوه قال ‪ :‬فكيف با علق قلب لو علمت أن ال يرضى أن ألقي نفسي من‬
‫فوق هذه النارة فعلت ‪.‬‬
‫ث حكى أيضا عن مالك أنه قال ‪ :‬ل تالس القدري ول تكلمه إل أن تلس إليه ‪ ،‬فتغلظ عليه ‪،‬‬
‫لقوله ‪" :‬ل تد قوما يؤمنون بال واليوم الخر يوادون من حاد ال ورسوله" فل توادوهم ‪.‬‬
‫وأما أنه يشى عليه الفتنة ‪ ،‬فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة أنه قال ‪ :‬سألت مالكا عمن‬
‫أحرم من الدينة وراء اليقات ؟ فقال ‪ :‬هذا مالف ل ورسوله ‪ ،‬أخشى عليه الفتنة ف الدنيا ‪،‬‬
‫والعذاب الليم ف الخرة ‪ .‬أما سعت قوله تعال ‪" :‬فليحذر الذين يالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة‬
‫أو يصيبهم عذاب أليم" ‪ .‬وقد أمر النب صلى ال عليه وسلم أن يهل من الواقيت ‪.‬‬
‫وحكى ابن العرب عن الزبي بن بكار قال ‪ :‬سعت مالك بن أنس ـ وأتاه رجل فقال ‪ :‬يا أبا عبد ال‬
‫من أين أحرم ؟ ـ قال ‪ :‬من ذي الليفة من حيث أحرم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫إن أريد أن أحرم من السجد ‪ .‬فقال ل تفعل ‪ .‬قال ‪ :‬فإن أريد أن أحرم من السجد من عند القب ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ل تفعل فإن أخشى عليك الفتنة ‪ .‬فقال ‪ :‬واي فتنة هذه ؟ إنا هي أميال أزيدها ‪ ،‬قال ‪ :‬وأي‬
‫فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إل فضيلة قصر عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ إن سعت‬
‫ال يقول ‪" :‬فليحذر الذين يالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" ‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذه الفتنة الت ذكرها مالك رحه ال تفسي الية هي شأن أهل البدع وقاعدتم الت يؤسسون عليها‬
‫بنيانم ‪ ،‬فإنم يرون أن ما ذكره ال ف كتابه وما سنه نبيه صلى ال عليه وسلم دون ما اهتدوا إليه‬
‫بعقولم ‪.‬‬
‫وف مثل ذلك قال ابن مسعود رضي ال عنه فيما روي عن ابن وضاح ‪ :‬لقد هديتم لا ل يهتد له‬
‫نبيكم ‪ ،‬وإنكم لتمسكون بذنب ضللة ـ إذ مر بقوم كان رجل يمعهم يقول ‪ :‬رحم ال من قال‬
‫كذا وكذا مرة سبحان ال فيقول القوم ‪ .‬ويقول رحم ال من قال كذا وكذا مرة المد ل فيقول‬
‫القوم ‪.‬‬
‫ث إن ما استدل به مالك من اليات الكرية نزلت ف شان النافقي حي أمر رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم بفر الندق ‪ ،‬وهم الذين كانوا يتسللون لواذا ‪.‬‬
‫وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة ‪ ،‬لنه وضع بدعة ف الشريعة على غي ما وضعها ال تعال ‪،‬‬
‫ولذلك لا أخب تعال عن النافقي قال ‪" :‬أولئك الذين اشتروا الضللة بالدى" فمن حيث كانت‬
‫عامة ف الخالفي عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى ‪.‬‬
‫فهذه جلة يستدل با على ما بقي ‪ ،‬إذ ما تقدم من اليات والحاديث فيها ما يتعلق بذا العن‬
‫كثي ‪ ،‬وبسط معانيها طويل ‪ ،‬فلنقتصر على ما ذكرنا وبال التوفيق ‪.‬‬

‫فصل وبقي ما هو متاج إل ذكره ف هذا الوضع‬


‫وبقي ما هو متاج إل ذكره ف هذا الوضع شرح معن عام يتعلق با تقدم ‪.‬‬
‫وهو أن البدع ضللة ‪ ،‬وأن البتدع ضال ومضل ‪ ،‬والضللة مذكورة ف كثي من النقل الذكور ‪،‬‬
‫ويشي إليها ف آيات الختلف والتفرق شيعا وتفرق الطرق ‪ ،‬بلف سائر العاصي ‪ ،‬فإنا ل‬
‫توصف ف الغالب بوصف الضللة إل أن تكون بدعة أو شبه البدعة ‪ .‬وكذلك الطأ الواقع ف‬
‫الشروعات ـ وهو العفو ـ ل يسمى ضللً ‪ ،‬ول يطلق على الخطىء اسم ضال ‪ ،‬كما ل يطلق‬
‫على العتمد لسائر العاصي ‪ .‬وإنا ذلك ـ وال أعلم ـ لكمة قصد التنبيه عليها ‪ ،‬وذلك أن‬
‫الضلل والضللة ضد الدي والدى ‪ ،‬والعرب تطلق الدى حقيقة ف الظاهر الحسوس ‪ ،‬فتقول ‪:‬‬
‫هديته الطريق وهديته إل الطريق ‪ .‬ومنه ‪ :‬نقل إل طريق الي والشر ‪ ،‬قال تعال ‪" :‬إنا هديناه‬
‫السبيل" ‪" ،‬وهديناه النجدين" ‪" ،‬اهدنا الصراط الستقيم" ‪ ،‬والصراط والطريق والسبيل بعن واحد ‪،‬‬
‫فهو حقيقة ف الطريق الحسوس ‪ ،‬وماز ف الطريق العنوي ‪ ،‬وضده الضلل ‪ ،‬وهو الروج عن‬
‫الطريق ومنه البعي الضال ‪ ،‬والشاة الضالة ‪ .‬ورجل ضل عن الطريق إذا خرج عنه ؟ لنه التبس عليه‬
‫المر ول يكن له هاد يهديه ‪ ،‬وهو الدليل ‪.‬‬

‫‪67‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فصاحب البدعة لا غلب الوى مع الهل بطريق السنة توهم أن ما ظهر له بعقله هو الطريق القوي‬
‫دون غيه ‪ ،‬فمضى عليه فحاد بسببه عن الطريق الستقيم ‪ ،‬فهو ضال من حيث ظن أنه راكب‬
‫للجادة ‪ ،‬كالار بالليل على الادة وليس له دليل يهديه ‪ ،‬يوشك أن يضل عنها فيقع ف متابعة ‪ ،‬وإن‬
‫كان بزعمه يتحرى قصدها ‪ .‬فالبتدع من هذه المة إنا ضل ف أدلتها حيث أخذها مأخذ الوى‬
‫والشهوة ل مأخذ النقياد تت أحكام ال ‪ .‬وهذا هو الفرق بي البتدع وغيه ‪ ،‬لن البتدع جعل‬
‫الوى أول مطالبه ‪ ،‬وأخذ الدلة بالتبع ‪ ،‬ومن شأن الدلة أنا جارية على كلم العرب ومن شأن‬
‫كلمها الحتراز فيه بالظواهر ‪ ،‬فكما تد فيه نصا ل يتمل التأويل تد فيه الظاهر الذي يتمله‬
‫احتمالً مرجوحا حسبما قرره من تقدم ف غي العلم ‪ ،‬وكل ظاهر يكن فيه أن يصرف عن مقتضاه‬
‫ف الظاهر القصود ‪ ،‬ويتأول على غي ما قصد فيه ‪ .‬فإذا انضم إل ذلك الهل بأصول الشريعة ‪،‬‬
‫وعدم الضطلع بقاصدها ‪ ،‬كان المر أشد وأقرب إل التحريف والروج عن مقاصد الشرع ‪.‬‬
‫فكان الدرك أعرق ف الروج عن السنة ‪ ،‬وأمكن ف ضلل البدعة ‪ ،‬فإذا غلب الوى أمكن انقياد‬
‫ألفاظ الدلة إل ما اراد منها ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أنك ل تد مبتدعا من ينسب إل اللة إل وهو يستشهد على بدعته بدليل شرعي‬
‫فينله على ما وافق عقله وشهوته وهو أمر ثابت ف الكمة الزلية الت ل مرد لا ‪ .‬قال تعال ‪:‬‬
‫"يضل به كثيا ويهدي به كثيا " وقال ‪" :‬كذلك يضل ال من يشاء ويهدي من يشاء" ‪ .‬لكن إنا‬
‫ينساق لم من الدلة التشابه منها ل الواضح ‪ ،‬والقليل منها كالكثي ‪ ،‬وهو أدل الدليل على اتباع‬
‫الوى فإن العظم والمهور من الدلة إذا دل على أمر بظاهره فهو الق ‪ ،‬فإن جاء على ما ظاهره‬
‫اللف فهو النادر والقليل ‪ ،‬فكان من حق الظاهر رد القليل إل الكثي ‪ ،‬والتشابه إل الواضح ‪ ،‬غي‬
‫أن الوى زاغ بن أراد ال زيغه فهو ف تيه ‪ ،‬من حيث يظن أنه على الطريق ‪ ،‬بلف غي البتدع‬
‫فإنه إنا جعل الداية إل الق أول مطالبه ‪ ،‬وأخر هواه ـ إن كان ـ فجعله بالتبع ‪ ،‬فوجد جهور‬
‫الدلة ومعظم الكتاب واضحا ف الطلب الذي بث عنه ‪ ،‬فوجد الادة ‪ ،‬وما شذ له عن ذلك ‪ ،‬فإما‬
‫أن يرده إليه ‪ .‬وإما أن يكله إل عاله ول يتكلف البحث عن تأويله ‪.‬‬
‫وفيصل القضية بينهما قوله تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" إل قوله ‪:‬‬
‫"والراسخون ف العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فل يصح أن يسمى من هذه حالة مبتدعا ول‬
‫ضا ًل ‪ ،‬وإن حصل ف اللف أو خفي عليه ‪.‬‬
‫أما أنه غي مبتدع فلنه اتبع الدلة ملقيا إليه حكمة النقياد ‪ ،‬باسطا يد الفتقار ‪،‬مؤخرا ‪ ،‬ومقدما‬
‫لمر ال ‪.‬‬
‫وأما كونه غي ضال فلنه على الادة سلك ‪ ،‬وإليها لأ ‪ ،‬فإن خرج عنها يوما فأخطأ فل حرج عليه‬
‫‪ ،‬بل يكون مأجورا حسبما بينه الديث الصحيح ‪:‬‬

‫‪68‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"إذ اجتهد الاكم فأخطأ فله أجر وإن أصاب فله أجران" وإن خرج متعمدا فليس على أن يعل‬
‫خروجه طريقا مسلوكا له أو لغيه ‪ ،‬وشرعا يدان به ‪.‬‬
‫على أنه إذا وقع الذنب موقع القتداء قد يسمى استنانا فيعامل من سنه كما جاء ف الديث ‪:‬‬
‫"من سن سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل با" الديث ‪ ،‬وقوله عليه السلم ‪:‬‬
‫"ما من نفس تقتل ظلما إل كان على ابن آدم الول كفل منها لنه أول من سن القتل" فسمي القتل‬
‫سنةً بالنسبة إل من عمل به عملً يقتدى به فيه لكنه ل يسمى بدعة لنه ل يوضع على أن يكون‬
‫تشريعا ول يسمى ضللً لنه ليس ف طريق الشروع أو ف مضاهاته له ‪.‬‬
‫وهذا تقرير واضح يشهد له الواقع ف تسمية البدع ضللت ‪ ،‬ويشهد له أيضا أحوال من تقدم قبل‬
‫السلم ‪ ،‬وف زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإن ال تعال قال ‪" :‬وإذا قيل لم أنفقوا ما‬
‫رزقكم ال قال الذين كفروا للذين آمنوا أنطعم من لو يشاء ال أطعمه" فإن الكفار لا أمروا بالنفاق‬
‫شحوا على أموالم وأرادوا أن يعلوا لذلك الشح مرجا فقالوا ‪ :‬أنطعم من لو يشاء ال أطعمه ؟‬
‫ومعلوم أن ال لو شاء ل يوج أحدا إل أحد ‪ ،‬لكنه ابتلى عباده لينظر كيف يعملون ‪ ،‬فقص هواهم‬
‫على هذا الصل العظيم ‪ ،‬واتبعوا ما تشابه من الكتاب بالنسبة إليه فلذلك قيل لم ‪" :‬إن أنتم إل ف‬
‫ضلل مبي" ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬أل تر إل الذين يزعمون أنم آمنوا با أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن‬
‫يتحاكموا إل الطاغوت" فكأن هؤلء قد أقروا بالتحكيم ‪ ،‬غي أنم أرادوا أن يكون التحيكم على‬
‫وفق أغراضهم زيغا عن الق وظنا منهم أن الميع حكم ‪ ،‬وأن ما يكم به كعب بن الشرف أو‬
‫غيه مثل ما يكم به النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وجهلوا أن حكم النب صلى ال عليه وسلم هو‬
‫حكم ال الذي ل يرد ‪ ،‬وأن حكم غيه معه مردود ‪ ،‬إن ل يكن جاريا على حكم ال ‪ ،‬فلذلك قال‬
‫تعال ‪" :‬ويريد الشيطان أن يضلهم ضلل بعيدا" لن ظاهر الية يدل على أنا نزلت فيمن دخل ف‬
‫السلم لقوله ‪" :‬أل تر إل الذين يزعمون" كذا ـ إل آخره ‪ .‬وجاعة من الفسرين قالوا ‪ :‬إنا نزلت‬
‫ف رجل من النافقي ‪ ،‬أو ف رجل من النصار ‪.‬‬
‫وقال سبحانه ‪" :‬ما جعل ال من بية ول سائبة ول وصيلة ول حام" فهم شرعوا شرعة ‪ ،‬وابتدعوا‬
‫ف ملة إبراهيم عليه السلم هذه البدعة ‪ ،‬توها أن ذلك يقربم من ال كما يقرب من ال ما جاء به‬
‫إبراهيم عليه السلم من الق ‪ ،‬فنلوا وافتروا على ال الكذب ‪ ،‬إذ زعموا أن هذا من ذلك ‪ ،‬وتاهوا‬
‫ف الشروع ‪ ،‬فلذلك قال ال تعال على أثر الية ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم ل يضركم‬
‫من ضل إذا اهتديتم" ‪ ،‬وقال سبحانه ‪" :‬قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغي علم وحرموا ما‬
‫رزقهم ال افتراء على ال" ‪ ،‬فهذه فذلكه لملة بعد تفصيل تقدي ‪ ،‬وهو قوله تعال ‪" :‬وجعلوا ل ما‬
‫ذرأ من الرث والنعام نصيبا" الية ‪ .‬فهذا تشريع كالذكور قبل هذا ‪ ،‬ث قال ‪" :‬وكذلك زين لكثي‬

‫‪69‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫من الشركي قتل أولدهم شركاؤهم ليدوهم وليلبسوا عليهم دينهم" وهو تشريع أيضا بالرأي مثل‬
‫الول ‪ ،‬ث قال ‪" :‬وقالوا هذه أنعام وحرث حجر ل يطعمها إل من نشاء بزعمهم" إل آخرها ‪،‬‬
‫فحاصل المر أنم قتلوا أولدهم بغي علم وحرموا ما أعطاهم ال من الرزق بالرأي على جهة‬
‫التشريع فلذلك قال تعال ‪" :‬قد ضلوا وما كانوا مهتدين" ث قال تعال بعد تعزيزهم على هذه‬
‫الحرمات الت حرموها وهي ما ف قوله ‪" :‬قل آلذكرين حرم أم النثيي أما اشتملت عليه أرحام‬
‫النثيي" ‪ ،‬وإل قوله ‪" :‬فمن أظلم من افترى على ال كذبا ليضل الناس بغي علم إن ال ل يهدي‬
‫القوم الظالي" وقوله ‪" :‬عليه أرحام" يعن أنه يضله ‪.‬‬
‫واليات الت قرر فيها حال الشركي ف إشراكهم أتى فيها بذكر الضلل لن حقيقته أنه خروج عن‬
‫الصراط الستقيم ‪ ،‬لنم وضعوا آلتهم لتقربم إل ال زلفى ف زعمهم ‪ ،‬فقالوا ‪" :‬ما نعبدهم إل‬
‫ليقربونا إل ال زلفى" فوضعوهم موضع من يتوسل به حت عبدوهم من دون ال ‪ ،‬إذ كان أول‬
‫وضعها فيما ذكر العلماء صورا لقوم يودونم ويتبكون بم ث عبدت فأخذتا العرب من غيها على‬
‫ذلك القصد ‪ ،‬وهو الضلل البي ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬لقد كفر الذين قالوا إن ال ثالث ثلثة وما من إله إل إله واحد" فزعموا ف الله‬
‫الق ما زعموا من الباطل ‪ ،‬بناء على دليل عندهم متشابه ف نفس المر حسبما ذكره أهل السي ‪،‬‬
‫فتاهوا بالشبهة عن الق ‪ ،‬لتركهم الواضحات ‪ ،‬وميلهم إل التشابات ‪ ،‬كما أخب ال تعال ف آية‬
‫آل عمران ‪ ،‬فلذلك قال تعال ‪" :‬قل يا أهل الكتاب ل تغلوا ف دينكم غي الق ول تتبعوا أهواء قوم‬
‫قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيا وضلوا عن سواء السبيل" وهم النصارى ‪ ،‬ضلوا ف عيسى عليه السلم‬
‫‪ ،‬ومن ث قال تعال بعد ذكر شواهد العبودية ف عيسى ‪" :‬ذلك عيسى ابن مري قول الق الذي فيه‬
‫يترون" وبعد ذكر دلئل التوحيد وتقديس الواحد تبارك وتعال عن اتاذ الولد وذكر اختلفهم ف‬
‫مقالتم الشنيعة قال ‪" :‬لكن الظالون اليوم ف ضلل مبي" ‪.‬‬
‫وذكر ال النافقي وأنم يادعون ال والذين آمنوا ‪ ،‬وذلك لكونم يدخلون معهم ف احوال‬
‫التكاليف على كسل وتقية أن ذلك يلصهم ‪ ،‬أو أنه يغن عنهم شيئا وهم ف اليقية إنا يادعون‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وهذا هو الضلل بعينه ‪ ،‬لنه إذا كان يفعل شيئا يظن أنه له ‪ ،‬فإذا هو عليه ‪ ،‬فليس على‬
‫هدى من عمله ‪ ،‬ول هو سالك على سبيله ‪ ،‬فلذلك قال ‪" :‬إن النافقي يادعون ال وهو خادعهم"‬
‫إل قوله ‪" :‬ومن يضلل ال فلن تد له سبيل" ‪.‬‬
‫وقال تعال حكايةً عن الرجل الذي جاء من أقصى الدينة يسعى ‪" :‬أأتذ من دونه آلة إن يردن‬
‫الرحن بضر ل تغن عن شفاعتهم شيئا ول ينقذون" ؟ معناه كيف أبعد من دون ال ما ل يغن‬
‫شيئا ‪ ،‬وأترك إفراد الرب الذي بيده الضر والنفع ؟ هذا خروج عن طريق إل غي طريق "إن إذا لفي‬
‫ضلل مبي" ‪.‬‬

‫‪70‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والمثلة ف تقرير هذا الصل كثية ‪ ،‬جيعها يشهد بأن الضلل ف غالب المر إنا يستعمل ف‬
‫موضوع يزل صاحبه لشبهة تعرض له ‪ ،‬أو تقليد من عرضت له الشبهة ‪ ،‬فيتخذ ذلك الزلل شرعا‬
‫ودينا يدين به ‪ ،‬مع وجود واضحة الطريق الق ومض الصواب ‪.‬‬
‫ولا ل يكن الكفر ف الواقع مقتصرا على هذا الطريق بل ث طريق آخر وهو الكفر بعد العرفان عنادا‬
‫أو ظلما ‪ ،‬ذكر ال تعال الصنفي ف السورة الامعة وهي أم القرآن فقال ‪" :‬اهدنا الصراط الستقيم‬
‫* صراط الذين أنعمت عليهم " فهذه هي الجة العظمى الت دعا النبياء عليهم السلم إليها ‪ .‬ث قال‬
‫‪" :‬غي الغضوب عليهم ول الضالي" فالغضوب عليهم هم اليهود لنم كفروا بعد معرفتهم نبوة‬
‫ممد صلى ال عليه وسلم ‪ .‬أل ترى إل قول ال فيهم ‪" :‬الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون‬
‫أبناءهم" ‪.‬‬
‫"يعن اليهود ‪ ،‬والضالون هم النصارى" لنم ضلوا ف الجة ف عيسى عليه السلم ‪ ،‬وعلى هذا‬
‫التفسي أكثر الفسرين وهو مروي عن النب صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ويلحق بم ف الضلل الشركون الذين أشركوا مع ال إلا غيه ‪ ،‬لنه قد جاء ف أثناء القرآن ما يدل‬
‫على ذلك ‪ ،‬لن لفظ القرآن ف قوله ‪" :‬ول الضالي" يعمهم وغيهم ‪ ،‬فكل من ضل عن سواء‬
‫السبيل داخل فيه ‪.‬‬
‫ول يبعد أن يقال ‪ :‬إن الضالي يدخل فيه كل من ضل عن الصراط الستقيم كان من هذه المة أو‬
‫ل ‪ ،‬إذ قد تقدم ف اليات الذكورة قبل هذا مثله ‪ ،‬فقوله تعال ‪" :‬ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن‬
‫سبيله" عام ف كل ضال كان ضلله كضلل الشرك أو النفاق ‪ ،‬أو كضلل الفرق العدودة ف اللة‬
‫السلمية ‪ ،‬وهو أبلغ وأعلى ف قصد حصر أهل الضلل ‪ ،‬وهو اللئق بكلية فاتة الكتاب والسبع‬
‫الثان والقرآن العظيم ‪ ،‬الذي أوتيه ممد صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وقد خرجنا عن القصود بعض خروج ‪ ،‬ولكنه عاضد لا نن فيه وبال التوفيق ‪.‬‬

‫الباب الثالث‬
‫ف أن ذم البدع والحدثات عام ل يص مدثة دون غيها ويدخل تت هذه الترجة جلة من شبه‬
‫البتدعة الت احتجوا با‬
‫فاعلموا ـ رحكم ال ـ أن ما تقدم من الدلة حجة ف عموم الذم من أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنا جاءت مطلقة عامة على كثرتا ل يقع فيها استثناء البتة ‪ ،‬ول يأت فيها ما يقتضي أن‬
‫منها ما هو هدى ‪ ،‬ول جاء فيها ‪ :‬كل بدعة ضللة إل كذا وكذا ‪ ،‬ول شيء من هذه العان ‪ ،‬فلو‬
‫كان هنالك مدثة يقتضي النظر الشرعي فيها الستحسان أو أنا لحقة بالشروعات ‪ ،‬لذكر ذلك ف‬

‫‪71‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫آية أو حديث ‪ ،‬لكنه ل يوجد ‪ ،‬فدل على أن تلك الدلة بأسرها على حقيقة ظاهرها من الكلية الت‬
‫ل يتخلف عن مقتضاها فرد من الفراد ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أنه قد ثبت ف الصول العلمية أن كل قاعدة كلية أو دليل شرعي كلي إذا تكررت ف‬
‫مواضيع كثية وأتى با شواهد على معان أصولية أو فروعية ‪ ،‬ول يقترن با تقييد ول تصيص ‪ ،‬مع‬
‫تكررها ‪ ،‬وإعادة تقررها ‪ ،‬فذلك دليل على بقائها على مقتضى لفظها من العموم كقوله تعال ‪" :‬أل‬
‫تزر وازرة وزر أخرى * وأن ليس للنسان إل ما سعى" وما أشبه ذلك ‪ .‬وبسط الستدلل على‬
‫ذلك هناك ‪ ،‬فما نن بصدده من هذا القبيل ‪ ،‬إذ جاء ف الحاديث التعددة والتكررة ف أوقات شت‬
‫وبسب الحوال الختلفة ‪:‬‬
‫أن كل بدعة ضللة ‪ ،‬وأن كل مدثة بدعة ‪ .‬وما كان نو ذلك من العبارات الدالة على أن البدع‬
‫مذمومة ‪ .‬ول يأت ف آية ول حديث تقييد ول تصيص ول ما يفهم منه خلف ظاهر الكلية فيها ‪.‬‬
‫فدل ذلك دللة واضحة على أنا على عمومها وإطلقها ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬إجاع السلف الصال من الصحابة والتابعي ومن يليهم على ذمها كذلك ‪ ،‬وتقبيحها‬
‫والروب عنها ‪ ،‬وعمن اتسم بشيء منها ‪ ،‬ول يقع منهم ف ذلك توقف ول مثنوية ‪ .‬فهو ـ بسب‬
‫الستقراء ـ إجاع ثابت ‪ ،‬فدل على أن كل بدعة ليست بق بل هي من الباطل ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن متعقل البدعة ذلك بنفسه ‪ ،‬لنه من باب مضادة الشارع واطراح الشرع ‪ ،‬وكل ما كان‬
‫بذه الثابة فمحال أن ينقسم إل حسن وقبيح ‪ ،‬وأن يكون منه ما يدح ومنه ما يذم ‪ ،‬إذ ل يصح ف‬
‫معقول ول منقول استحسان مشاقة الشارع ‪ .‬وقد تقدم بسط هذا ف أول الباب الثان ‪ .‬وأيضا فلو‬
‫فرض أنه جاء ف النقل استحسان بعض البدع أو استثناء بعضها عن الذم ل يتصور لن البدعة طريقة‬
‫تضاهي الشروعة من غي أن تكون كذلك ‪ .‬وكون الشارع يستحسنها دليل على مشروعيتها ‪ ،‬إذ لو‬
‫قال الشارع ‪ :‬الحدثة الفلنية حسنة لصارت مشروعة ‪ ،‬كما أشاروا إليه ف الستحسان حسبما‬
‫يأت إن شاء ال ‪.‬‬
‫ولا ثبت ذمها ذم صاحبها لنا ليست بذمومة من حيث تصورها فقط ‪ ،‬بل من حيث اتصف با‬
‫التصف ‪ ،‬فهو إذا الذموم على القيقة ‪ ،‬والذم خاص التأثيم ‪ ،‬فالبتدع مذموم آث ‪ ،‬وذلك على‬
‫الطلق والعموم ‪ .‬ويدل على ذلك أربعة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن الدلة الذكورة إن جاءت فيهم نصا فظاهر ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم‬
‫وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " وقوله ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم‬
‫البينات" إل آخر الية ‪ .‬وقوله عليه السلم ‪:‬‬
‫"فليذادن رجال عن حوضي" الديث ‪ .‬إل سائر ما نص فيه عليهم ‪ .‬وإن كانت نصا ف البدعة‬
‫فراجعة العن إل البتدع من غي إشكال ‪ ،‬وإذا رجع الميع إل ذمهم ‪ ،‬رجع الميع إل تأثيمهم ‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والثان ‪ :‬أن الشرع قد دل على أن الوى هو التبع الول ف البدع ‪ ،‬وهو القصود السابق ف حقهم‬
‫ودليل الشرع كالتبع ف حقهم ‪ .‬ولذلك تدهم يتأولون كل دليل خالف هواهم ‪ ،‬ويتبعون كل شبهة‬
‫وافقت أغراضهم ‪ .‬أل ترى إل قوله تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء‬
‫الفتنة وابتغاء تأويله" فأثبت لم الزيغ أو ًل ‪،‬وهو اليل عن الصواب ‪ ،‬ث اتباع التشابه وهو خلف‬
‫الحكم الواضح العن ‪ ،‬الذي هو أم الكتاب ومعظمه ‪ .‬ومتشابه على هذا قليل ‪ ،‬فتركوا اتباع العظم‬
‫إل اتباع القل التشابه الذي ل يعطي مفهوما واضحا ابتغاء تأويله ‪ ،‬وطلبا لعناه الذي ل يعلمه إل‬
‫ال ‪ ،‬أو يعلمه ال والراسخون ف العلم ‪ ،‬وليس إل برده إل الحكم ول يفعل البتدعة ذلك ‪ .‬فانظروا‬
‫كيف اتبعوا أهواءهم أولً ف مطالبة الشرع ‪ ،‬بشهادة ال ‪.‬‬
‫وقال ال تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم" الية ‪.‬‬
‫فنسب إليهم التفريق ‪ ،‬ولو كان التفريق من مقتضى الدليل ل ينسبه إليهم ول أتى به ف معرضهم‬
‫الذم وليس ذلك إل باتباع الوى ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فجعل طريق الق واضحا مستقيما ونى عن‬
‫البنيات ‪ .‬والواضح من الطرق والبنيات ‪ ،‬كل ذلك معلوم بالعوائد الارية ‪ ،‬فإذا وقع التشبيه با‬
‫بطريق الق مع البنيات ف الشرع فواضح أيضا ‪ ،‬فمن ترك الواضح واتبع غيه فهو متبع لواه ل‬
‫للشرع ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" فهذا دليل على ميء‬
‫البيان الشاف ‪ ،‬وأن التفرق إنا حصل من جهة التفرقي ل من جهة الدليل ‪ ،‬فهو إذا من تلقاء‬
‫أنفسهم ‪ ،‬وهو اتباع الوى بعينه ‪ .‬والدلة على هذا كثية تشي أو تصرح بأن كل مبتدع إنا يتبع‬
‫هواه ‪ ،‬وإذا اتبع هواه كان مذموما وآثا ‪ .‬والدلة عليه أيضا كثية ‪ ،‬كقوله ‪" :‬ومن أضل من اتبع‬
‫هواه بغي هدى من ال" وقوله ‪" :‬ول تتبع الوى فيضلك عن سبيل ال إن الذين يضلون عن سبيل‬
‫ال لم عذاب شديد " وقوله ‪:‬‬
‫"ول تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه" وما أشبه ذلك ‪ .‬فإذا كل مبتدع مذموم آث ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن عامة البتدعة قائلة بالتحسن والتقبيح ‪ ،‬فهو عمدتم الول وقاعدتم الت يبنون عليها‬
‫الشرع ‪ ،‬فهو القدم ف نلهم بيث ل يتهمون العقل ‪ ،‬وقد يتهمون الدلة إذا ل توافقهم ف الظاهر ‪،‬‬
‫حت يردوا كثيا من الدلة الشرعية ‪.‬‬
‫وقد علمت ـ أيها الناظر ـ أنه ليس كل ما يقضي به العقل يكون حقا ‪ ،‬ولذلك تراهم يرتضون‬
‫اليوم مذهبا ويرجعون عنه غدا ‪ ،‬ث يصيون بعد غد إل رأي ثالث ‪ .‬ولو كان كل ما يقضي به حقا‬
‫لكفى ف إصلح معاش اللق ومعادهم ‪ ،‬ول يكن لبعثة الرسل عليهم السلم فائدة ‪ ،‬ولكان على‬
‫هذا الصل تعد الرسالة عبثا ل معن له ‪ ،‬وهو كله باطل ‪ ،‬فما أدى إليه مثله ‪.‬‬

‫‪73‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فأنت ترى أنم قدموا أهواءهم على الشرع ‪ ،‬ولذلك سوا ف بعض الحاديث وف إشارة القرآن أهل‬
‫الهواء ‪ ،‬وذلك لغلبة الوى على عقولم واشتهاره فيهم ‪ ،‬لن التسمية بالشتق إنا يطلق إطلق‬
‫اللقب إذا غلب ما اشتقت منه على السمى با ‪ ،‬فإذا تأثيم من هذه صفته ظاهر ‪ ،‬لن مرجعه إل‬
‫اتباع الرأي وهو اتباع الوى الذكور آنفا ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن كل راسخ ل يبتدع أبدا ‪ ،‬وإنا يقع البتداع من ل يتمكن من العلم الذي ابتدع فيه ‪،‬‬
‫حسبما دل عليه الديث ويأت تقريره بول ال ‪ ،‬فإنا يؤتى الناس من قبل جهالم الذين يسبون أنم‬
‫علماء ‪ ،‬وإذا كان كذلك فاجتهاد من اجتهد منهي عنه إذ ل يستكمل شروط الجتهاد ‪ ،‬فهو على‬
‫أصل العمومية ‪ ،‬ولا كان العامي حراما عليه النظر ف الدلة والستنباط ‪ ،‬كان الخضرم الذي بقي‬
‫عليه كثي من الهلت مثله ف تري الستنباط والنظر العمول به ‪ ،‬فإذا أقدم على مرم عليه كان آثا‬
‫بإطلق ‪.‬‬
‫وبذه الوجه الخية ظهر وجه تأثيمه وتبي الفرق بينه وبي الجتهد الخطىء ف اجتهاده ‪ ،‬وسيأت‬
‫له تقرير أبسط من هذا إن شاء ال ‪.‬‬
‫وحاصل ما ذكر هنا أن كل مبتدع آث ولو فرض عاملً بالبدعة الكروهة ـ إن ثبت فيها كراهة‬
‫التنيه ـ لنه إما مستنبط لا فاستنباطه على الترتيب الذكور غي جائز ‪ ،‬وإما نائ‬
‫فصل ل يلو النسوب إلىالبدعة أن يكون متهدا أو مقلدا‬
‫ل يلو النسوب إل البدعة أن يكون متهدا فيها أو مقلدا ‪ ،‬والقلد إما مقلد مع القرار بالدليل الذي‬
‫ل والخذ فيه بالنظر ‪ ،‬وإما مقلد له فيه من غي نظر كالعامي الصرف ‪ ،‬فهذه ثلثة‬ ‫زعمه الجتهد دلي ً‬
‫أقسام ‪:‬‬
‫فالقسم الول ‪ :‬على ضربي ‪ :‬أحدها أن يصح كونه متهدا ‪ ،‬فالبتداع منه ل يقع إل فلته‬
‫وبالعرض ل بالذات ‪ ،‬وإنا تسمىغلطة أو زلة لن صاحبها ل يقصد اتباع التشابه ابتغاء الفتنة تأويل‬
‫الكتاب ‪ ،‬أي ل يتبع هواه ول جعله عمدة ‪ ،‬والدليل عليه أنه إذا ظهر له الق أذعن له وأقر به ‪.‬‬
‫ومثاله ما يذكر عن عون بن عبد ال بن عتبة بن مسعود أنه كان يقول بالرجاء ث رجع عنه ‪ ،‬وقال‬
‫‪ :‬وأول ما أفارق ـ غي شاك ـ أفارق ما يقول الرجئون ‪.‬‬
‫وذكر مسلم عن يزيد بن صهيب الفقي قال ‪ :‬كنت قد شغفن رأي من رأي الوارج ‪ ،‬فخرجنا ف‬
‫عصابة ذوي عدد نريد أن نج ‪ ،‬ث نرج على الناس ‪ .‬قال فمررنا على الدينة ‪ ،‬فإذا جابر بن عبد‬
‫ال يدث القوم جالسا إل سارية عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬وإذا هو قد ذكر‬
‫الهنميي قال ‪ :‬فقلت له ‪ :‬يا صاحب رسول ال ‪ ،‬ما هذا الذي تدثون ؟ ـ وال يقول ‪" :‬إنك‬
‫من تدخل النار فقد أخزيته" و"كلما أرادوا أن يرجوا منها أعيدوا فيها" فما هذا الذي تقولون ؟‬
‫قال ‪ :‬فقال ‪ :‬أفتقرأ القرآن ؟ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬فهل سعت بقام ممد صلى ال عليه وسلم ؟ ـ‬

‫‪74‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يعن الذي بعثه ال فيه ـ قلت ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬فإنه مقام ممد صلى ال عليه وسلم الحمود الذي‬
‫يرج ال به من يرج من النار ‪ .‬قال ‪ :‬ث نعت وضع الصراط ومر الناس عليه ‪ .‬قال ‪ :‬وأخاف‬
‫أل أكون أحفظ ذلك ‪ .‬قال ‪ :‬غي أنه قد زعم أن قوما يرجون من النار بعد أن يونوا فيها ‪ .‬قال‬
‫‪ :‬يعن فيخرجون كأنم القراطيس ‪ ،‬فرجعنا وقلنا ‪ :‬ويكم ! أترون الشيخ يكذب على رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ؟ فرجعنا فل وال ما خرج منا غي رجل واحد ‪ .‬أو كما قال ‪.‬‬
‫ويزيد الفقي من ثقات أهل الديث ‪ ،‬وثقة ابن معي ‪ ،‬وأبو زرعة ‪ .‬وقال أبو حات ‪ :‬صدوق ‪،‬‬
‫وخرج عنه البخاري ‪.‬‬
‫وعبيد ال بن السن العنبي كان من ثقة أهل الديث ‪ ،‬ومن كبار العلماء العارفي بالسنة ‪ ،‬إل أن‬
‫الناس رموه بالبدعة بسبب قول حكى عنه من أنه كان يقول ‪ :‬بأن كل متهد من أهل الديان‬
‫مصيب ‪ ،‬حت كفره القاضي أبو بكر وغيه ‪ .‬وحكى القتيب عنه كان يقول ‪ :‬إن القرآن يدل على‬
‫الختلف فالقول بالقدر صحيح وله أصل ف الكتاب ‪ ،‬والقول بالجبار صحيح وله أصل ف‬
‫الكتاب ‪ ،‬ومن قال بذا فهو مصيب لن الية الواحدة ربا دلت على وجهي متلفي ‪.‬‬
‫وسئل يوما عن أهل القدر وأهل الجبار ‪ ،‬قال ‪ :‬كل مصيب ‪ ،‬هؤلء قوم عظموا ال ‪ ،‬وهؤلء قوم‬
‫نزهوا ال ‪ .‬قال ‪ :‬وكذلك القول ف الساء ‪ ،‬فكل من سى الزان مؤمنا فقد أصاب ‪ ،‬ومن ساه‬
‫كافرا فقد أصاب ‪ ،‬ومن قال هو فاسق وليس بؤمن ول كافر فقد أصاب ‪ ،‬ومن قال هو كافر وليس‬
‫بشرك فقد أصاب لن القرآن يدل على كل هذه العان ‪ .‬قال ‪ :‬وكذلك السنن الختلفة ‪ ،‬كالقول‬
‫بالقرعة وخلفه ‪ ،‬والقول بالسعاية وخلفه ‪ ،‬وقتل الؤمن بالكافر ‪ ،‬ول يقتل مؤمن بكافر ‪ ،‬وبأي‬
‫ذلك أخذ الفقيه فهو مصيب ‪ .‬قال ‪ :‬ولو قال قائل ‪ :‬إن القاتل ف النار ‪ .‬كان مصيبا ‪ ،‬ولو قال ‪ :‬ف‬
‫النة ‪ .‬كان مصيبا ‪ ،‬ولو وقف وأرجأ أمره كان مصيبا إذا كان إنا يريد بقوله إن ال تعبده بذلك‬
‫وليس عليه علم الغيب ‪.‬‬
‫قال ابن أب خثيمة ‪ :‬أخبن سليمان بن أب شيخ قال ‪ :‬كان عبيد ال بن السن بن السي بن أب‬
‫الريقي العنبي البصري اتم بأمر عظيم ‪ ،‬وروى عنه كلم رديء ‪.‬‬
‫قال بعض التأخرين ‪ :‬هذا الذي ذكره ابن أب شيخ عنه قد روي أنه رجع عنه لا تبي له الصواب ‪،‬‬
‫وقال ‪ :‬إذا أرجع وأنا من الصاغر ‪ ،‬ولن أكون ذنبا ف الق ‪ ،‬أحب إل أن أكون رأا ف الباطل‬
‫اهـ ‪.‬‬
‫فإن ثبت عنه ما قيل فيه فهو على جهة الزلة من العال ‪ ،‬وقد رجع عنها رجوع الفاضل إل الق ‪،‬‬
‫لنه بسب ظاهر حالة فيما نقل عنه إنا اتبع ظواهر الدلة الشرعية فيما ذهب إليه ‪ ،‬ول يتبع عقله ‪،‬‬
‫ول صادم الشرع بنظره ‪ ،‬فهو أقرب من مالفة الوى ‪.‬‬
‫ومن ذلك الطريق ـ وال أعلم ـ وفق إل الرجوع إل الق ‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكذلك يزيد الفقي فيما ذكره عنه ‪ ،‬ل كما عارض الوارج عبد ال بن عباس رضي ال عنه ‪ ،‬إذ‬
‫طالبه بالجة ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬ل تاصموه فإنه من قال ال فيه ‪" :‬بل هم قوم خصمون" فرجحوا‬
‫التشابه على الحكم ‪ ،‬وناصبوا باللف السواد العظم ‪.‬‬
‫وأما إن ل يصح بسبار العلم أنه من الجتهدين فهو الري باستنباط ما خالف الشرع كما تقدم ‪ ،‬إذ‬
‫قد اجتمع له مع الهل بقواعد الشرع ‪ ،‬الوى الباعث عليه ف الصل ‪ ،‬وهو التبعية ‪ ،‬إذ قد تصل له‬
‫مرتبة المامة والقتداء ‪ ،‬وللنفس فيها من اللذة ما ل مزيد عليه ‪ ،‬ولذلك يعسر خروج حب الرئاسة‬
‫من القلب إذا انفرد ‪ ،‬حت قال الصوفية ‪ :‬حب الرئاسة آخر ما يرج من قلوب الصديقي ‪ ،‬فكيف‬
‫إذا انضاف إليه الوى من الصل وانضاف إل هذين المرين دليل ـ ف ظنه ـ شرعي على صحة‬
‫ما ذهب إليه ‪ ،‬فيتمكن الوى من قلبه تكنا ل يكن ف العادة النفكاك عنه ‪ ،‬وجرى منه مرى‬
‫الكلب من صاحبه ‪.‬‬
‫كما جاء ف حديث الفرق ‪ .‬فهذا النوع ظاهر أنه آث ف ابتداعه إث من سن سن ًة سيئ ًة ‪.‬‬
‫ومن أمثلته أن المامية من الشيعة تذهب إل وضع خليفة دون النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وتزعم أنه‬
‫مثل النب صلى ال عليه وسلم ف العصمة ‪ ،‬بناءً على أصل متوهم ‪ ،‬فوضعوه على أن الشريعة أبدا‬
‫مفتقرة إل شرح وبيان لميع الكلفي ‪ ،‬إما بالسافهة أو بالنقل من شافه العصوم ‪ ،‬وإنا وضعوا ذلك‬
‫بسب ما ظهر لم بادىء الرأي من غي دليل عقلي ول نقلي ‪ ،‬بل بشبهة زعموا أنا عقلية ‪ ،‬وشبه‬
‫من النقل باطلة ‪ ،‬إما ف أصلها ‪ ،‬وإما ف تقيق مناطها ‪ ،‬وتقيق ما يدعون ولا يرد عليهم به مذكرو‬
‫ف كتب الئمة ‪ ،‬وهو يرجع ـ ف القيقة ـ إل دعاو ‪ ،‬وإذا طولبوا بالدليل عليها سقط ف‬
‫أيديهم ‪ ،‬إذ ل برهان لم من جهة من الهات ‪.‬‬
‫وأقوى شبههم مسألة اختلف المة وأنه ل بد من واحد يرتفع به اللف ‪ ،‬أن ال يقول ‪" :‬ول‬
‫يزالون متلفي * إل من رحم ربك" ول يكون كذلك إل إذا أعطي العصمة كما أعطيها النب صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬لنه وارث ‪ ،‬وإل فكل مق أو مبطل يدعي أنه الرحوم ‪ ،‬وأنه الذي وصل إل الق‬
‫دون من سواه فإن طولبوا بالدليل على العصمة ل يأتوا بشيء غي أن لم مذهبا يفونه ول يظهرونه‬
‫إل لواصهم ‪ ،‬لنه كفر مض ودعوى بغي برهان ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ف كتاب العواصم ‪ :‬خرجت من بلدي على الفطرة ‪ ،‬فلم ألق ف طريقي إل مهتديا ‪،‬‬
‫حيث بلغت هذه الطائفة ـ يعن المامية والباطنية من فرق الشيعة ـ فهي أول بدعة لقيت ‪ ،‬ولو‬
‫فجأتن بدعة مشبهة كالقول بالخلوق أو نفي الصفات أو الرجاء ل آمن الشيطان ‪ .‬فلما رأيت‬
‫حاقاتم أقمت على حذر ‪ ،‬وترددت فيها على أقوام أهل عقائد سليمة ‪ ،‬ولبثت بينهم ثانية أشهر ‪.‬‬
‫ث خرجت إل الشام فوردت بيت القدس فألفيت فيها ثان وعشرين حلقة ومدرستي ـ مدرسة‬
‫الشافعية بباب السباط وأخرى للحنفية ـ وكان فيها من رؤوس العلماء البتدعة ومن أحبار اليهود‬

‫‪76‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والنصارى كثي ‪ ،‬فوعيت العلم وناظرت كل طائفة بضرة شيخنا أب بكر الفهري وغيه من أهل‬
‫السنة ‪.‬‬
‫ث نزلت إل الساحل لغراض وكان ملوءا من هذه النحل الباطنية والمامية ـ فطفت ف مدن‬
‫الساحل لتلك الغراض نوا من خسة أشهر ‪ ،‬ونزلت بعكا ‪ ،‬وكان رأس المامية با حينئذ أبو‬
‫الفتح العكي ‪ ،‬وبا من أهل السنة شيخ يقال له الفقيه الديبقي ‪ ،‬فاجتمعت بأب الفتح ف ملسه وأنا‬
‫ابن العشرين ‪ .‬فلما رآن صغي السن كثي العلم متدربا ولع أب ‪ ،‬فيهم ـ لعمر ال ‪ ،‬وإن كانوا على‬
‫باطل ـ انطباع وإنصاف وإقرار بالفضل إذا ظهر ‪ ،‬فكان ل يفارقن ‪ ،‬ويساومن الدال ول‬
‫يفاترن ‪ ،‬فتكلمت على مذهب المامية والقول بالتعليم من العصوم با يطول ذكره ‪.‬‬
‫ومن جلة ذلك أنم يقولون ‪ :‬إن ال ف عباده أسرارا وأحكاما والعقل ل يستقل بدركها ‪ ،‬فل‬
‫يعرف ذلك إل من قبل إمام معصوم ‪ ،‬فقلت لم ‪ :‬أمات المام البلغ عن ال لول ما أمره بالتبليغ أم‬
‫هو ملد ؟ فقال ل ‪ :‬مات وليس هذا بذهبه ولكنه تستر معي ‪ .‬فقلت ‪ :‬هل خلفه أحد ؟ فقال ‪:‬‬
‫خلفه وصيه علي ‪ ،‬قلت ‪ :‬فهل قضى بالق وأنفذه ؟ قال ‪ :‬ل يتمكن لغلبة العاند ‪ .‬قلت ‪ :‬فهل‬
‫أنفذه حي قدر ؟ قال ‪ :‬منعته التقية ول تفارقه إل الوت إل أنا كانت تقوى تار ًة وتضعف أخرى ‪،‬‬
‫فلم يكن إل الدارة لئل تنفتح عليه أبواب الختلل ‪ ،‬قلت ‪ :‬وهذه الدارة حق أم ل ؟ فقال ‪ :‬باطل‬
‫أباحته الضرورة ‪ .‬قلت ‪ :‬فأين العصمة ؟ قال ‪ :‬إنا نعن العصمة مع القدرة ‪ .‬قلت ‪ :‬فمن بعده إل‬
‫الن وجدوا القدرة أم ل ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قلت ‪ :‬فالدين مهمل ‪ ،‬والق مهول ممل ؟ قال ‪ :‬سيظهر‬
‫‪ .‬قلت ‪ :‬بن ؟ قال ‪ :‬بالمام النتظر ‪ .‬قلت ‪ :‬لعله الدجال ‪ .‬فما بقي أحد إل ضحك ‪ ،‬وقطعنا‬
‫الكلم على غرض من لن خفت أن ألمه فينتقم من ف بلده ‪.‬‬
‫ث قلت ‪ :‬ومن أعجب ما ف هذا الكلم أن الكلم أن المام إذا أوصى إل من ل قدرة له فقد ضيع‬
‫فل عصمة له ‪ .‬وأعجب منه أن الباري تعال ـ على مذهبه ـ إذا علم أنه ل علم إل بعلم وأرسله‬
‫عاجزا مضطربا ل يكنه أن يقول ما علم ‪ ،‬فكأنه ما علمه وما بعثه ‪ .‬وهذا عجز منه وجور ‪ ،‬ل‬
‫سيما على مذهبهم ‪.‬‬
‫فرأوا من الكلم ما ل يكنهم أن يقوموا معه بقائمة ‪ ،‬وشاع الديث ‪ .‬فرأى رئيس الباطنية السمي‬
‫بالساعيلية أن يتمع معي ‪ ،‬فجاءن أبو الفتح إل ملس الفقيه الديبقي وقال ‪ :‬إن رئيس الساعيلية‬
‫رغب ف الكلم معك ‪ .‬فقلت ‪ :‬أنا مشغول ‪ .‬فقال ‪ :‬هنا موضع مرتب قد جاء إليه ‪ ،‬وهو مرس‬
‫الطبانيي ‪ ،‬مسجد ف قصر على البحر ‪ .‬وتامل علي ‪ ،‬فقمت ما بي حشمة وحسبة ‪ ،‬ودخلت‬
‫قصر الحرس ‪ ،‬وطلعنا إليه فوجدتم قد اجتمعوا ف زاوية الحرس الشرقية ‪ ،‬فرأيت النكر ف‬
‫وجوههم ‪ ،‬فسلمت ث قصدت جهة الحراب فركعت عنده ركعتي ل عمل ل فيهما إل تدبي القول‬
‫معهم ‪ ،‬واللص منهم ‪ ،‬فلعمر الذي قضى علي بالقبال إل أن أحدثكم ‪ ،‬إن ما كنت رجوت‬

‫‪77‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الروج عن ذلك الجلس أبدا ‪ .‬ولقد كنت أنظر ف البحر يضرب ف حجارة سود مددة تت‬
‫طاقات الحرس ‪ ،‬فأقول ‪ :‬هذا قبي الذي يدفنون فيه ‪ ،‬وأنشد ف سري ‪:‬‬
‫أل ! هل إل الدنيا معاد؟ وهل لنا سوى البحر قب ؟ أو سوى الاء أكفان‬
‫وهي كانت الشدة الرابعة من شدائد عمري الذي أنقذن ال منها فلما سلمت استقبلتهم وسألتهم‬
‫عن أحوالم عادة ‪ ،‬وقد اجتمعت إل نفسي ‪ ،‬وقلت ‪ :‬أشرف ميتة ف أشرف موطن أناضل فيه عن‬
‫الدين ‪ .‬فقال ل أبو الفتح ـ وأشار إل فت حسن الوجه ـ هذا سيد الطائفة ومقدمها ‪ .‬فدعوت له‬
‫فسكت ‪ ،‬فبادرن وقال ‪ :‬قد بلغتن مالسك وأني إل كلمك ‪ ،‬وأنت تقول ‪ :‬قال ال وفعل ‪ ،‬فأي‬
‫شيء هو ال الذي تدعو إليه ؟ أخبن وأخرج عن هذه الخرقة الت جازت لك على هذه الطائفة‬
‫الضعيفة وقد اختطفن أصحابه قبل الواب ‪ ،‬فعمدت ـ بتوفيق ال إل كنانت واستخرجت منها‬
‫سهما أصاب حبة قلبه فسقط لليدين وللفم ‪.‬‬
‫وشرح ذلك أن المام أبا بكر أحد بن إبراهيم الساعيلي الافظ الرجان قال ‪ :‬كنت أبغض الناس‬
‫فيمن يقرأ علم الكلم ‪ ،‬فدخلت يوما إل الري ‪ ،‬ودخلت جامعها أول دخول واستقبلت سارية‬
‫أركع عندها ‪ ،‬وإذا بواري رجلن يتذكران علم الكلم ‪ ،‬فتطيت بما ‪ ،‬وقلت ‪ :‬أول ما دخلت‬
‫هذا البلد سعت فيه ما أكره وجعلت أخفف الصلة حت أبعد عنهما ‪ ،‬فعلق ب من قولما ‪ :‬إن‬
‫ل ولكن يطالبهم بلم‬ ‫هؤلء الباطنية أسخف خلق ال عقولً ‪ ،‬وينبغي للنحرير أن ل يتكلف لم دلي ً‬
‫فل قبل لم با ‪ .‬وسلمت مسرعا ‪.‬‬
‫وشاء ال بعد ذلك أن كشف رجل من الساعيلية القناع ف اللاد ‪ ،‬وجعل يكاتب وشكي المي‬
‫يدعوه إليه ويقول له ‪ :‬إن ل أقبل دين ممد إل بالعجزة فإن أظهرتوها رجعنا إليكم ‪ ،‬وانرت الال‬
‫إل أن اختاروا منهم رجلً له دهاء ومنة ( أي قوة ) فورد على وشكي رسو ًل ‪ ،‬فقال له ‪ :‬إنك أمي‬
‫ومن شأن المراء واللوك أن تتخصص عن العلوم ول تقلد أحدا ف عقيدة ‪ ،‬وإنا حقهم أن يفصحوا‬
‫عن الباهي ‪ .‬فقال وشكي ‪ :‬أختار رجلً من أهل ملكت ‪،‬ول أنتدب للمناظرة بنفسي ‪ ،‬فيناظرك‬
‫بي يدي ‪ .‬فقال له اللحد ‪ :‬اختر أبا بكر الساعيلي ‪ .‬لعلمه بأنه ليس من أهل علم التوحيد وإنا‬
‫كان إماما ف الديث ‪ .‬ولكن كان وشكي ـ لعاميه فيه ـ يعتقد أنه أعلم أهل الرض بأنواع‬
‫العلوم ‪ .‬فقال وشكي ‪ :‬ذلك مرادي ‪ ،‬فإنه رجل جيد ‪ .‬فأرسل إل أب بكر الساعيلي برجان‬
‫ليحل إليه إل غزنه ‪ .‬فلم يبق من العلماء أحد إل يئس من الدين ‪ ،‬وقال سيبهت الساعيلي الكافر‬
‫مذهبا الساعيلي الافظ مذهبا ‪ .‬ول يكنهم أن يقولوا للملك ‪ :‬إنه ل علم عنده بذلك لئل يتهمهم‬
‫‪ .‬فلجأوا إل ال ف نصر دينه ‪.‬‬
‫قال الساعيلي الافظ ‪ :‬فلما جائن البيد ‪ ،‬وأخذت ف السي وتدانت ل الدار قلت ‪ :‬إنا ل ‪.‬‬
‫وكيف أناظر فيما ل أدري ؟ هل أتبأ عند اللك وأرشده إل من يسن الدل ‪ ،‬ويعلم بجج ال‬

‫‪78‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫على دينه ؟ ندمت على ما سلف من عمري إذا ل أنظر ف شيء من علم الكلم ‪ ،‬ث أذكرن ال ما‬
‫كنت سعته من الرجلي بامع الري فقويت نفسي ‪ ،‬وعولت على أن أجعل ذلك عمدت ‪ ،‬وبلغت‬
‫البلد فتلقان اللك ث جيع اللق ‪ .‬وحضر الساعيلي الذهب مع الساعيلي النسب ‪ .‬وقال اللك‬
‫للباطن ‪ :‬أذكر قولك يسمعه المام ‪ .‬فلما أخذ ف ذكره واستوفاه ‪ .‬قال له الافظ ‪ :‬ل ؟ سعها‬
‫اللحد قال ‪ :‬هذا إمام قد عرف مقالت ‪ .‬ففهمت ‪ .‬قال الساعيلي ‪ :‬فخرجت من ذلك الوقت ‪،‬‬
‫وأمرت بقراءة علم الكلم ‪ ،‬وعملت أنه عمدة من عمد السلم ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ‪ :‬وأنا حي انتهى ب المر إل ذلك قلت ‪ :‬إن كان ف الجل تنفس فهذا شبيه بيوم‬
‫الساعيلي ‪ .‬فوجهت إل أب الفتح الكلم وقلت له ‪ :‬لقد كنت ف ل شيء ولو خرجت من عكا‬
‫قبل أن أجتمع بذا العال ما رحلت إل عريا عن نادرة اليام ‪ ،‬ونظر إل حذقه بالكلم ومعرفته حيق‬
‫قال ل ‪ :‬أي شيء هو ال ؟ ول يسأل بثل هذا إل مثله ‪ .‬ولكن بقيت ها هنا نكتة ‪ ،‬ل بد من أن‬
‫نأخذها اليوم عنه ‪ ،‬وتكون ضيافتنا عنده ‪ .‬ل قلت ‪ :‬أي شيء هو ال فاقتصرت من حروف‬
‫الستفهام على أي وتركت المزة وهل وكيف وأن وكم وما ‪ ،‬هي أيضا من ثوان حروف‬
‫الستفهام وعدلت عن اللم من حروفه ‪ ،‬وهذا سؤال ثان عن حكمة ثانية ‪ ،‬وهو أن لـ أي معنيي‬
‫ف الستفهام ‪ .‬فأي العنيي قصدت با ؟ ول سألت برف متمل ؟ ول تسأل برف مصرح بعن‬
‫واحد ؟ هل وقع ذلك بغي علم ول قصد حكمة ؟ أم بقصد حكمة ؟ فبينها لنا ‪.‬‬

‫فما هو إل أن افتتحت هذا الكلم وانبسطت فيه وهو يتغي حت اصفر آخرا من الوجل ‪ ،‬كما اسود‬
‫أو ًل من القد ‪ .‬ورجع أحد أصحابه الذي كان عن يينه إل آخر كان بانبه ‪ ،‬وقال له ‪ :‬ما هذا‬
‫الصب إل بر زاخر من العلم ‪ ،‬ما رأينا مثله قط ‪ ،‬وهم ما رأوا واحدا به رمق إل أهلكوه ‪ ،‬لن‬
‫الدولة لم ‪ ،‬ولول مكاننا من رفعة دولة ملك الشام ووال عكا كان يظينا ما تلصت منهم ف العادة‬
‫أبدا ‪.‬‬
‫وحي سعت تلك الكلمة من إعظامي قلت ‪ :‬هذا ملس عظيم ‪ ،‬وكلم طويل ‪ ،‬يفتقر إل تفصيل ‪،‬‬
‫ل‪.‬‬ ‫ولكن نتواعد إل يوم آخر ‪ .‬وقمت وخرجت ‪ ،‬فقاموا كلهم معي وقالوا ‪ :‬ل بد أن تبقى قلي ً‬
‫فقلت ‪ :‬ل ‪.‬وأسرعت حافيا وخرجت على الباب أعدو حت أشرفت على قارعة الطريق ‪ ،‬وبقيت‬
‫هناك مبشرا نفسي بالياة ‪ ،‬حت خرجوا بعدي وأخرجوا ل ( ل يكي ) ولبستها ومشيت معهم‬
‫متضاحكا ‪ ،‬ووعدون بجلس آخر فلم اوف لم ‪ ،‬وخفت وفات ف وفائي ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ‪ :‬وقد قال ل أصحابنا النصرية بالسجد القصى ‪ :‬إن شيخنا أبا الفتح نصر بن إبراهيم‬
‫القدسي اجتمع برئيس من الشيعة المامية ‪ ،‬فشكا إليه فساد اللق ‪ ،‬وأن هذا المر ل يصلح إل‬
‫بروج المام النتظر ‪ ،‬فقال نصر ‪ :‬هل لروجه ميقات أم ل ؟ قال الشيعي ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال له أبو الفتح‬

‫‪79‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫‪ :‬ومعلوم هو أو مهول ؟ قال ‪ :‬معلوم ‪ .‬قال نصر ‪ :‬ومت يكون ؟ قال ‪ :‬إذا فسد اللق ‪ .‬قال أبو‬
‫الفتح ‪ :‬فهل تبسونه عن اللق وقد فسد جيعهم إل أنتم فلو فسدت لرج ‪،‬فأسرعوا به وأطلقوه من‬
‫سجنه وعجلوا بالرجوع إل مذهبنا ‪ .‬فبهت ‪ .‬وأظنه سعها عن شيخه أب الفتح سليمان بن أيوب‬
‫الرازي الزاهد ‪.‬‬
‫انتهى ما حكاه ابن العرب وغيه ‪،‬وفيه غنية لن عرج عن تعرف أصولم ‪ ،‬وف أثناء الكتاب منه أمثلة‬
‫كثية ‪.‬‬
‫القسم الثان ‪ :‬يتنوع أيضا ‪،‬وهو الذي ل يستنبط بنفسه وإنا اتبع غيه من الستنبطي ‪ ،‬لكن بيث‬
‫أقر بالشبهة واستصوبا ‪ ،‬وقام بالدعوة با مقام متبوعه ‪ ،‬لنقداحها ف قلبه ‪ ،‬فهو مثل الول ‪،‬وإن ل‬
‫يصر إل تلك الال ولكنه تكن حب الذهب من قلبه حت عادى عليه ووال ‪.‬‬
‫وصاحب هذا القسم ل يلو من استدلل ولو على أعم ما يكون ‪ .‬فقد يلحق بن نظر ف الشبهة وإن‬
‫كان عاميا ‪ ،‬لنه عرض للستدلل ‪ ،‬وهو علم أنه ل يعرف النظر ول ما ينظر فيه ‪ ،‬ومع ذلك فل‬
‫يبلغ من استدل بالدليل الملي مبلغ من استدل على التفصيل ‪ ،‬وفرق بينهما ف التمثيل ‪:‬‬
‫أن الول أخذ شبهات مبتدعة فوقف وراءها ‪ ،‬حت إذا طولب فيها بالريان على مقتضى العلم تبلد‬
‫وانقطع ‪ ،‬أو خرج إل ما ل يعقل ‪ ،‬وأما الثان فحسن الظن بصاحب البدعة فتبعه ‪ ،‬ول يكن له دليل‬
‫على التفصيل يتعلق به ‪ ،‬إل تسي الظن بالبتدع خاصة ‪ .‬وهذا القسم ف العوام كثي ‪.‬‬
‫فمثال الول حال حدان بن قرمط النسوب إليه القرامطة ‪ ،‬إذ كان أحد دعاة الباطنية فاستجاب له‬
‫جاعة نسبوا إليه ‪ ،‬وكان رجلً من أهل الكوفة مائلً إل الزهد فصادفه أحد دعاة الباطنية وهو‬
‫متوجه إل قريته وبي يديه بقر يسوقه ‪ ،‬فقال له حدان ـ وهو ل يعرف حاله ـ ‪ :‬أراك سافرت‬
‫عن موضع بعيد ‪ ،‬فأين مقصدك ؟ فذكر موضعا هو قرية حدان ‪ ،‬فقال له حدان ‪ :‬اركب بقرة من‬
‫هذا البقر لتستريح به عن تعب الشي ‪ ،‬فلما رآه مائلً إل الديانة أتاه من ذلك الباب ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن ل‬
‫أؤمن بل أؤمر بذلك ‪ ،‬فقال له ‪ :‬وكأنك ل تعمل إل بأمر ‪ ،‬فقال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فقال حدان ‪ :‬وبأمر من‬
‫تعمل ؟ قال بأمر مالكي ومالكك ومن له الدنيا والخرة ‪ ،‬قال ‪ :‬ذلك هو رب العالي ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫صدقت ‪ ،‬ولكن ال يهب ملكه من يشاء ‪ .‬قال ‪ :‬وما غرضك ف البقعة الت أنت متوجه إليها ؟ قال‬
‫‪ :‬أمرت أن أدعو أهلها من الهل إل العلم ‪ .‬ومن الضلل إل الدى ‪ ،‬ومن الشقاوة إل السعادة ‪.‬‬
‫وأن أستنقذهم من ورطات الذل والفقر ‪ ،‬وأملكهم ما يستغنون به عن الكد والتعب ‪ .‬فقال له حدان‬
‫‪ :‬أنقذن أنقذك ال ‪ ،‬وافض علي من العمل ما تيين به ‪ ،‬فما أشد احيتاجي لثل ما ذكرت ! فقال ‪:‬‬
‫فما أمرت أن أخرج السر الكنون إل أحد إل بعد الثقة به والعهد إليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬فما عهدك ؟ فاذكره‬
‫فإن ملتزم له ‪ .‬فقال ‪ :‬أن تعل ل وللمام عهد ال على نفسك وميثاقك أل ترج سر المام الذي‬
‫ألقيه إليك ول تفشي سري أيضا ‪ .‬فالتزم حدان عهده ‪ .‬ث اندفع الداعي ف تعليمه فنون جهله ‪،‬‬

‫‪80‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫حت استدرجه واستغواه ‪ ،‬واستجاب له ف جيع ما ادعاه ‪ ،‬ث انتدب للدعوة وصار أصلً من أصول‬
‫هذه البدعة ‪ ،‬فسمي أتباعه القرامطة ‪.‬‬
‫ومثال الثان ما حكاه ال ف قوله تعال ‪" :‬وإذا قيل لم تعالوا إل ما أنزل ال وإل الرسول قالوا‬
‫حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا" وقوله تعال ‪" :‬قال هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو يضرون‬
‫* قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " ‪.‬‬
‫وحكى السعودي أنه كان ف أعلى صعيد مصر رجل من القبط من يظهر دين النصرانية وكان يشار‬
‫إليه بالعلم والفهم ‪ ،‬فبلغ خبه أحد بن طولون ‪ ،‬فاستحضره وسأله عن أشياء كثية ‪ ،‬من جلتها أنه‬
‫أمر ف بعض اليام وقد أحضر ملسه بعض أهل النظر ليسأله عن الدليل على صحة دين النصرانية ‪،‬‬
‫فسألوه عن ذلك ‪ .‬فقال ‪ :‬دليلي على صحتها وجودي إياها متناقضة متنافية ‪ ،‬تدفعها العقول وتنفر‬
‫منها النفوس ‪ ،‬لتباينها وتضادها ‪ ،‬ل نظر يقويها ‪ ،‬ول جدل يصححها ‪ ،‬ول برهان يعضدها من‬
‫العقل والس عند أهل التأمل فيها ‪ ،‬والفحص عنها ‪ .‬ورأيت مع ذلك أما كثية وملوكا عظيمة‬
‫ذوي معرفة ‪ ،‬وحسن سياسة ‪ ،‬وعقول راجحة ‪ ،‬قد انقادوا إليها ‪ ،‬وتدينوا با مع ما ذكرت من‬
‫تناقضها ف العقل فعلمت أنم ل يقبلوها ول تدينوا با إل بدلئل شاهدوها ‪ ،‬وآيات ومعجزات‬
‫عرفوها ‪ ،‬أوجبت انقيادهم إليها ‪ ،‬والتدين با ‪.‬‬
‫فقال له السائل ‪ :‬وما التضاد الذي فيها ؟ وهل يدرك ذلك أم تعلم غايته ؟ منها قولم بأن الثلثة‬
‫واحد وأن الواحد ثلثة ‪ .‬ووصفهم للقانيم والوهر وهو الثالوثي ‪ ،‬وهل القانيم ف أنفسها قادرة‬
‫عالة أم ل ؟ وف اتاد ربم القدي بالنسان الحدث ‪ ،‬وما جرى ف ولدته وصلبه وقتله ‪ .‬وهل ف‬
‫التشنيع أكب وأفحش من إله صلب وبصق ف وجهه ؟ ووضع على رأسه إكليل الشوك وضرب رأسه‬
‫بالقضيب ؟ وسرت قدماه ‪ ،‬ونز بالسنة والشب جنباه ؟ وطلب الاء فسقي الل من بطيخ النظل‬
‫؟ فأمسكوا عن مناظرته ‪ ،‬لا قد أعطاهم من تناقض مذهبه وفساده اهـ ‪.‬‬

‫والشاهد من الكاية العتماد على الشيوخ والباء من غي برهان ول دليل ‪.‬‬


‫القسم الثالث ‪ :‬يتنوع أيضا وهو الذي قلد غيه على الباءة الصلية ‪ ،‬فل يلو أن يكون ث من هو‬
‫أول بالتقليد منه ‪ ،‬بناء على التسامع الاري بي اللق بالنسبة إل الم الغفي إليه ف أمور دينهم من‬
‫عال وغيه ‪ ،‬وتعظيمهم له بلف الغي ‪ .‬أو ل يكون ث من هو أول منه ‪ ،‬لكنه ليس ف إقبال اللق‬
‫عليه وتعظيمهم له ما يبلغ تلك الرتبة ‪ ،‬فإن كان هناك منتصبون فتركهم هذا القلد وقلد غيهم فهو‬
‫آث إذ ل يرجع إل من أمر بالرجوع إليه ‪ ،‬بل تركه ورضي لنفسه بأخسر الصفقتي فهو غي معذور ‪.‬‬
‫إذ قلد ف دينه من ليس بعارف بالدين ف حكم الظاهر ‪ ،‬فعمل بالبدعة وهو يظن أنه على الصراط‬
‫الستقيم ‪.‬‬

‫‪81‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذا حال من بعث فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم فإنم تركوا دينهم الق ورجعوا إل باطل‬
‫آبائهم ‪ .‬ول ينظروا نظر الستبصر ‪ ،‬حت ل يفرقوا بي الطريقي ‪ ،‬وغطى الوى على عقولم دون أن‬
‫يبصروا الطريق ‪ ،‬فكذلك أهل هذا النوع ‪.‬‬
‫وقل ما تد من هذه صفته إل وهو يوال فيما ارتكب ويعادي بجرد التقليد ‪.‬‬
‫خرج البغوي " عن أب الطفيل الكنان أن رجلً ولد له غلم على عهد رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪،‬فأت به النب صلى ال عليه وسلم فدعا له بالبكة وأخذ ببهته فنبتت شعرة ببهته كأنا سلفة‬
‫فرس ‪ .‬قال ‪ :‬فشب الغلم ‪ ،‬فلما كان زمن الوارج أجابم فسقطت الشعرة عن جبهته ‪ ،‬فأخذه‬
‫أبوه فقيده وحبسه مافة أن يلحق بم أحد ‪ ،‬قال ‪ :‬فدخلنا عليه فوعظناه وقلنا له ‪ :‬أل تر بركة النب‬
‫صلى ال عليه وسلم وقعت ؟ قال ‪ :‬فلم نزل به حت رجع عن رأيهم ‪ .‬قال ‪ :‬فرد ال عز وجل‬
‫الشعرة ف جبهته إذ تاب " ‪.‬‬
‫وإن ل يكن هناك منتصبون إل هذا القلد الامل بي الناس ‪ ،‬مع أنه قد نصب نفسه منصب‬
‫الستحقي ‪ ،‬ففي تأثيمه نظر ‪ .‬ويتمل أن يقال فيه ‪ :‬إنه آث ‪.‬‬
‫ونظيه مسألة أهل الفترات العاملي تبعا لبائهم ‪ ،‬واستنامة لا عليه أهل عصرهم ‪ ،‬من عبادة غي ال‬
‫وما أشبه ذلك ‪ .‬لن العلماء يقولون ف حكمهم ‪ :‬إنم على قسمي ‪ :‬قسم غابت عليه الشريعة ول‬
‫يدر ما يتقرب به إل ال تعال ‪ ،‬فوقف عن العمل بكل ما يتوهه العقل أنه يقرب إل ال ‪ ،‬ورأى ما‬
‫أهل عصره عاملون به ما ليس لم فيه مستند إل استحسانم ‪،‬فلم يستفزه ذلك على الوقوف عنه ‪.‬‬
‫وهؤلء هم الداخلون حقيقة تت عموم الية الكرية ‪" :‬وما كنا معذبي حت نبعث رسول " ‪.‬‬
‫وقسم لبس ما عليه أهل عصره من عبادة غي ال ‪ ،‬والتحري والتحليل بالرأي ووافقوهم ف اعتقاد ما‬
‫اعتقدوا من الباطل ‪ ،‬فهؤلء نص العلماء على أنم غي معذورين ‪ ،‬مشاركون لهل عصرهم ف‬
‫الؤاخذة ‪ ،‬لنم وافقوهم ف العمل والوالة والعاداة على تلك الشرعة فصاروا من أهلها ‪ .‬فكذلك‬
‫ما نن ف الكلم عليه ‪ ،‬إذ ل فرق بينهما ‪.‬‬
‫ومن العلماء من يطلق العبارة ويقول ‪ :‬كيفما كان ل يعذب أحد إل بعد الرسل وعدم القبول منهم ‪.‬‬
‫وهذا إن ثبت قولً هكذا ‪ ،‬فنظيه ف مسألتنا أن يأت عال أعلم من ذلك النتصب يبي السنة من‬
‫البدعة ‪ ،‬فإن راجعه هذا القلد ف أحكام دينه ول يقتصر على الول فقد أخذ بالحتياط الذي هو‬
‫شأن العقلء ورجاء السلمة ‪ ،‬وإن اقتصر على الول ظهر عناده ‪ ،‬لنه مع هذا الفرض ل يرض بذا‬
‫الطارىء ‪ ،‬وإذا ل يرضه كان ذلك لوى داخله ‪ ،‬وتعصب جرى ف قلبه مرى الكلب ف صاحبه ‪.‬‬
‫وهو إذا بلغ هذا البلغ ل يبعد أن يقتصر لذهب صاحبه ‪ ،‬ويستدل عليه بأقصى ما يقدر عليه ف‬
‫عموميته ‪ .‬وحكمه قد تقدم ف القسم قبله ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فأنت ترى صاحب الشريعة صلى ال عليه وسلم ـ حي بعث إل أصحاب أهواء وبدع ‪ ،‬وقد‬
‫استندوا إل آبائهم وعظمائهم فبها ‪ ،‬وردوا ما جاء به النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وغطى على قلوبم‬
‫رين الوى حت التبست عليهم العجزات بغيها ـ كيف صارت شريعته صلى ال عليه وسلم حجة‬
‫عليهم على الطلق والعموم ‪ ،‬وصار اليت منهم مسوقا إل النار على العموم ‪ ،‬من غي تفرقة بي‬
‫العاند صراحا وغيه ‪ ،‬وما ذاك إل لقيام الجة عليهم ‪ ،‬بجرد بعثته وإرساله لم ‪ ،‬مبينا للحق الذي‬
‫خالفوه ‪ .‬فمسألتنا شبيهة بذلك ‪ ،‬فمن أخذ بالزم فقد استبأ لدينه‪ ،‬ومن تابع الوى خيف عليه‬
‫اللك ‪ ،‬وحسبنا ال ‪.‬‬

‫فصل ولند هذا الوضع شيئا من البيان‬


‫ولنرد هذا الوضع شيئا من البيان فإنه أكيد ‪ ،‬لنه تقيق مناط الكتاب وما احتوى عليه من السائل ‪.‬‬
‫فنقول وبال التوفيق ‪:‬‬
‫إن لفظ أهل الهواء وعبارة أهل البدع إنا تطلق حقيقةً على الذين ابتدعوها ‪ ،‬وقدموا فيها‬
‫شريعة الوى بالستنباط والنصر لا ‪ ،‬والستدلل على صحتها ف زعمهم ‪ ،‬حت عد خلفهم ‪،‬‬
‫وشبههم منظورا فيها ‪ ،‬ومتاجا إل ردها والواب عنها ‪ .‬كما نقول ف ألقاب الفرق من العتزلة‬
‫والقدرية والرجئة والوارج والباطنية ومن أشبههم ‪ ،‬بأنا ألقاب لن قام بتلك النحل ما بي مستنط‬
‫لا وناصرلا ‪ ،‬وذاب عنها ‪ .‬كلفظ أهل السنة إنا يطلق على ناصريها ‪ ،‬وعلى من استنبط على‬
‫وفقها ‪ ،‬والامي لذمارها ‪.‬‬
‫ويرشح ذلك أن قول ال تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" يشعر بإطلق اللفظ على من‬
‫جعل ذلك الفعل الذي هو التفريق ‪ ،‬وليس إل الخترع أو من قام مقامه ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" وقوله تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ‬
‫فيتبعون ما تشابه منه" فإن اتباع التشابه متص بن انتصب منصب الجتهد ل بغيه ‪.‬‬
‫وكذلك قول النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"حت إذا ل يبق عال اتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم" ‪ ،‬لنم أقاموا أنفسهم مقام‬
‫الستنبط للحكام الشرعية القتدى به فيها ‪ .‬بلف العوام ‪ ،‬فإنم متبعون لا تقرر عند علمائهم لنه‬
‫فرضهم ‪ ،‬فليسوا بتبعي للمتشابه حقيق ًة ‪ ،‬ول هم متبعون للهوى ‪ .‬وإنا يتبعون ما يقال لم كائنا ما‬
‫كان ‪ ،‬فل يطلق على العوام لفظ أهل الهواء حت يوضوا بأنظارهم فيها ويسنوا بنظرهم ويقبحوا‬
‫‪ .‬وعند ذلك يتعي للفظ أهل الهواء وأهل البدع مدلول واحد ‪ ،‬وهو أنه من انتصب للبتداع‬
‫ولترجيحه على غيها وأما أهل الغفلة عن ذلك والسالكون سبل رؤساهم بجرد التقليد من غي نظر‬
‫فل ‪.‬‬

‫‪83‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فحقيقة السألة أنا تتوي على قسمي ‪ :‬مبتدع ومقتد به ‪ .‬فالقتدي به كأنه ل يدخل ف العبارة‬
‫بجرد القتداء لنه ف حكم التبع ‪ ،‬والبتدع هو الخترع ‪ .‬أو الستدل على صحة ذلك الختراع ‪،‬‬
‫وسواء علينا أكان ذلك الستدلل من قبيل الاص بالنظر ف العلم ‪ ،‬أو كان من قبيل الستدلل‬
‫العامي ‪ ،‬فإن ال سبحانه ذم أقواما قالوا ‪" :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"‬
‫فكأنم استدلوا إل دليل جلي ‪ ،‬وهو الباء إذ كانوا عندهم من أهل العقل ‪ ،‬وقد كانوا على هذا‬
‫الدين ‪ ،‬وليس إل لنه صواب ‪ ،‬فنحن عليه ‪ ،‬لنه لو كان خطأ لا ذهبوا إليه ‪.‬‬
‫وهو نظي من يستدل على صحة البدعة بعمل الشيوخ ومن يشار إليه بالصلح ‪ ،‬ول ينظر إل كونه‬
‫من أهل الجتهاد ف الشريعة أو من أهل التقليد ‪ ،‬ول كونه يعمل بعلم أو بهل ‪ .‬ولكن مثل هذا يعد‬
‫استدللً ف الملة من حيث جعل عمدةً ف اتباع الوى واطراح ما سواه ‪ .‬فمن أخذ به فهو آخذ‬
‫بالبدعة بدليل مثله ‪ ،‬ودخل ف مسمى أهل البتداع ‪ ،‬إذ كان من حق من كان هذا سبيله أن ينظر ف‬
‫الق إن جاءه ‪ ،‬ويبحث ويتأن ويسأل حت يتبي له فيتبعه ‪ ،‬أو الباطل فيجتنبه ‪ .‬ولذلك قال تعال‬
‫ردا على الحتجي با تقدم ‪ " :‬قال أو لو جئتكم بأهدى ما وجدت عليه آباءكم " وف الية الخرى‬
‫‪" :‬وإذا قيل لم اتبعوا ما أنزل ال قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" فقال تعال ‪ " :‬أو لو كان آباؤهم‬
‫ل يعقلون شيئا ول يهتدون " وف الية الخرى ‪ " :‬أو لو كان الشيطان يدعوهم إل عذاب السعي "‬
‫وأمثال ذلك كثي ‪.‬‬
‫وعلمة من هذا شأنه أن يرد خلف مذهبه با عليه من شبهة دليل تفصيلي أو إجال ‪ ،‬ويتعصب لا‬
‫هو عليه غي ملتفت إل غيه ‪ ،‬وهو عي اتباع الوى ‪ .‬فهو الذموم حقا ‪ .‬وعليه يصل الث ‪ ،‬فإن‬
‫من كان مسترشدا مال إل الق حيث وجده ول يرده ‪ ،‬وهو العتاد ف طالب الق ‪ .‬ولذلك بادر‬
‫الحققون إل اتباع رسول ال صلى ال عليه وسلم حي تبي لم الق ‪.‬‬
‫فإن ل يد سوى ما تقدم له من البدعة ‪ ،‬ول يدخل مع التعاصيي لكنه عمل با ‪ ،‬فإن قلنا ‪ :‬إن‬
‫أهل الفترة معذبون على الطلق إذا اتبعوا من اخترع منهم ‪ ،‬فالتبعون للمبتدع إذا ل يدوا مقا‬
‫مؤخذون أيضا ‪.‬وإن قلنا ‪ :‬ل يعذبون حت يبعث لم الرسول وإن عملوا بالكفر فهؤلء ل‬
‫يؤخذون ما ل يكن فيه مق ‪ ،‬فإذا ذاك يؤاخذون من حيث إنم معه بي أحد أمرين ‪ :‬إما أن يتبعوه‬
‫على طريق الق فيتركوا ما هم عليه ‪ .‬وإما أن ل يتبعوه فل بد من عناد ما وتعصب فيدخلون إذ ذاك‬
‫تت عبارة ( أهل الهواء ) فيأثون ‪.‬‬
‫وكل من اتبع بيان سعان ف بدعته الت اشتهرت عند العلماء مقلدا فيها على حكم الرضاء با ورد ما‬
‫سواها ‪ ،‬فهو ف الث مع من اتبع ‪ ،‬فقد زعم أن معبوده ف صورة النسان وأنه يهلك كله إل وجهه‬
‫ث زعم أن روح الله حل ف علي ث ف فلن ‪ ،‬ث ف بيان نفسه ‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكذلك من اتبع الغية بن سعيد العجلي الذي ادعى النبوة مدة وزعم أنه يي الوتى بالسم‬
‫العظم ‪ ،‬وأن لعبوده أعضاء على حروف الجاء على كيفية يشمئز منها قلب الؤمن إل إلادات‬
‫أخر ‪.‬‬
‫وكذلك من اتبع الهدي الغرب النسوب إليه كثي من بدع الغرب ‪ ،‬فهو ف الث والتسمية مع من‬
‫اتبع إذا انتصب ناصرا لا ومتجا عليها ‪ .‬وقانا ال شر التعصب على غي بصية من الق بفضله‬
‫ورحته ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت أن البتدع آث‬


‫إذا ثبت أن البتدع آث فليس الواقع عليه على رتبة واحدة ‪ ،‬بل هو على مراتب متلفة ‪ ،‬من جهة‬
‫كون صاحبها مستترا با أو معلنا ‪ ،‬ومن جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ‪ ،‬ومن جهة كونا بينة‬
‫أو مشكلة ‪ ،‬ومن جهة كونا كفرا أو غي كفر ‪ ،‬ومن جهة الصرار عليها أو عدمة ‪ ،‬إل غي ذلك‬
‫من الوجوه الت يقطع معها بالتفاوت ف عظم الث وعدمه أو يغلب على الظن ‪.‬‬
‫وهذا العن وإن ل يف على العال بالصول فل يترك التنبيه على وجه التفاوت بقول جلي ‪ ،‬فهو‬
‫الول ي هذا القام ‪.‬‬
‫فأما الختلف من جهة كون صاحبها مدعيا للجتهاد أو مقلدا فظاهر ‪ ،‬لن الزيغ ف قلب الناظر‬
‫ف التشابات ابتغاء تأويلها ‪ ،‬أمكن منه ف قلب القلد وإن ادعى النظر أيضا ‪ ،‬لن القلد الناظر ل بد‬
‫من استناده إل مقلده ف بعض الصول الت يبن عليها ‪ .‬أو القلد قد انفرد با دونه ‪ .‬فهو آخذ بط‬
‫ما ل يأخذ فيه الخر ‪ ،‬إل أن يكون هذا القلد ناظرا لنفسه ‪ ،‬فحينئذ ل يدعي رتبة التقليد فصار ف‬
‫درجة الول ‪ ،‬وزاد عليه الول بأنه أول من سن تلك السنة السيئة ‪ ،‬فيكون عليه وزرها ووزر من‬
‫عمل با ‪ .‬وهذا الثان من عمل با فيكون على الول من إثه ما عينه الديث الصحيح فوزره أعظم‬
‫على كل تقدير ‪ ،‬والثان دونه لنه إن نظر وعاند الق واحتج لرأيه ‪ ،‬فليس له إدلة جلية ل تفصيلية‬
‫‪ .‬والفرق بينهما ظاهر ‪ ،‬فإن الدلة التفصيلية أبلغ ف الحتجاج على عي السألة من الدلة الملية ‪،‬‬
‫فتكون البالغة ف الوزر بقدار البالغة ف الستدلل ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة وقوعها ف الضروريات أو غيها فالشارة إليه ستأت عند التكلم على‬
‫أحكام البدع ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة السرار والعلن ‪ ،‬فظاهر أن السر با ضرورة مقصور عليه ل يتعداه إل‬
‫غيه ‪ ،‬فعلى أي صورة فرضت البدعة من كونا كبية أو صغية أو مكروهة ‪ ،‬هي باقية على أصل‬
‫حكمها ‪ .‬فإذا أعلن با ـ وإن ل يدع إليها ـ فإعلنه با ذريعة إل القتداء به ‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وسيأت ـ بول ال ـ أن الذريعة قد تري مرى التذرع إليه أو تفارقه ‪ ،‬فانضم إل وزر العمل با‬
‫وزر نصبها لن يقتدي به فيها ‪ ،‬والوزر ف ذلك أعظم بل إشكال ‪.‬‬
‫ومثاله ما حكى الطرطوشي ف أصل القيام ليلة النصف من شعبان عن أب ممد القدسي ‪ ،‬قال ‪ :‬ل‬
‫يكن عندنا ببيت القدس صلة الرغائب هذه الت تصلى ف رجب وشعبان ‪ .‬وأول ما أحدثت عندنا‬
‫ف سنة ثان وأربعي وأربعمائة ‪ :‬قدم علينا رجل ف بيت القدس يعرف بابن أب المراء ‪ ،‬وكان‬
‫حسن التلوة ‪ ،‬فقام فصلى ف السجد القصى ليلة النصف من شعبان فأحرم خلفه رجل ‪ ،‬ث‬
‫انضاف إليهما ثالث ورابع ‪ ،‬فما ختمها إل وهو ف جاعة كبية ‪ ،‬ث جاء ف العال القابل فصلى‬
‫معه خلق كثي ‪ ،‬وشاعت ف السجد وانتشرت الصلة ف السجد القصى وبيوت الناس ومنازلم ‪،‬‬
‫ث استمرت كأنا سنة إل يومنا هذا ‪ .‬فقلت له ‪ :‬فرأيتك تصليها ف جاعة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬نعم ! وأستغفر ال منها ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة الدعوة إليها وعدمها فظاهر أيضا ‪ ،‬لن غي الداعي وإن كان عرضة‬
‫بالقتداء فقد ل يقتدى به ‪ ،‬ويتلف الناس ف توفر دواعيهم على القتداء به ‪ ،‬إذ قد يكون خامل‬
‫الذكر ‪ ،‬وقد يكون مشتهرا ول يقتدي به ‪ ،‬لشهرة من هو أعظم عند الناس منلة منه ‪.‬‬
‫وأما الداعي إذا دعا إليها فمظنة القتداء أقوى وأظهر ‪ ،‬ول سيما البتدع اللسان الفصيح الخذ‬
‫بجامع القلوب ‪ ،‬إذا أخذ ف الترغيب والترهيب ‪ ،‬وأدل بشبهته الت تداخل القلب بزخرفها ‪ ،‬كما‬
‫كان معبد الهن يدعو الناس إل ما هو عليه من القول بالقدر ‪ ،‬ويلوي بلسانه نسبته إل السن‬
‫البصري ‪.‬‬
‫فروي عن سفيان بن عيينة أن عمرو بن عبيد عن مسألة فأجاب فيها وقال ‪ :‬هو من رأي السن‬
‫فقال له رجل ‪ :‬إنم يروون عن السن خلف هذا ‪ .‬فقال ‪ :‬إنا قلت لك هذا من رأيي السن‬
‫يريد نفسه ‪.‬‬
‫وقال ممد بن عبد ال النصاري ‪ :‬كان عمرو بن عبيد إذا سئل عن شيء قال ‪ :‬هذا من قول‬
‫السن فيوهم‬
‫أنه السن بن أب السن وإنا هو قوله ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة كونه خارجا على أهل السنة أو غي خارج ‪ ،‬فلن غي الارج ل يزد على‬
‫الدعوة مفسدة أخرى يترتب عليه إث ‪ ،‬والارج زاد الروج على الئمة ـ وهو موجب للقتل ـ‬
‫والسعي ف الرض بالفساد ‪ ،‬وإثارة الفت والروب ‪ ،‬إل حصول العداوة والبغضاء بي أولئك الفرق‬
‫‪ ،‬فله من الث العظيم أوفر حظ ‪.‬‬
‫ومثاله قصة الوارج الذين قال فيهم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪86‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"يقتلون أهل السلم ‪ ،‬ويدعون أهل الوثان ‪ ،‬يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ‪،‬‬
‫وأخبارهم شهية ‪.‬‬
‫وقد ل يرجون هذا الروج بل يقتصرون على الدعوة لكن على وجه أدعى إل الجابة ‪ ،‬لن فيه‬
‫نوعا من الكراه والخافة ‪ ،‬فل هو مرد دعوة ‪ ،‬ول هو شق العصا من كل وجه ‪ .‬وذلك أن‬
‫يستعي على دعوة بأول المر من الولة والسلطي ‪ ،‬فإن القتداء هنا أقوى بسبب خوف الولة ف‬
‫ل ‪ ،‬كما اتفق لبشر الريسي ف زمن الأمون ‪ ،‬ولحد بن أب داؤد‬ ‫اليقاع بالب سجنا أو ضربا أو قت ً‬
‫ف خلفة الواثق ‪ ،‬وكما اتفق لعلماء الالكية بالندلس إذ صارت وليتها للمهديي ‪ ،‬فمزقوا كتب‬
‫الالكية وسوها كتب الرأي ‪ ،‬ونكلوا بملة من الفضلء بسبب أخذهم ف الشريعة بذهب مالك ‪.‬‬
‫وكانوا هم مرتكبي للظاهرية الحضة ‪ ،‬الت هي عند العلماء بدع ًة ظهرت بعد الائتي من الجرة ‪.‬‬
‫ويا ليتهم وافقوا مذهب داود وأصحابه ! لكنهم تعدوا ذلك إل أن قالوا برأيهم ووضعوا للناس‬
‫مذاهب ل عهد لم با ف الشريعة ‪ ،‬وحلوهم عليها طوعا أو كرها ‪ ،‬حت عم داؤها ف الناس ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬ث ذهب منها جلة وبقيت أخرى إل اليوم ‪ .‬ولعل الزمان يتسع إل ذكر جلة‬ ‫وثبتت زمانا طوي ً‬
‫منها ف أثناء الكتاب بول ال ‪.‬‬
‫فهذا الوجه ‪ ،‬الوزر فيه أعظم من مرد الدعوة من وجهي ‪ :‬الول الخافة والكراه بالسلم‬
‫والقتل ‪ ،‬والخر كثرة الداخلي ف الدعوة ‪ ،‬لن العذار والنذر الخريي قد ل يقوم له كثي من‬
‫النفوس ‪ ،‬بلف الدنيوي ‪ .‬ولجل ذلك شرعت الدود والزواجر ف الشرع ‪ ،‬و إن ال ليزع‬
‫بالسلطان ‪ ،‬ما ل يزعه بالقرآن بالبتدع إذا ل ينتصر بإجابة دعوته بجرد العذار والنذار الذي يعظ‬
‫به ‪ ،‬حاول النتهاض بأول المر ‪ ،‬ليكون ذلك أحرى بالجابة ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة كون البدعة حقيقية أو إضافية ‪ ،‬فإن القيقية أعظم وزرا ‪ ،‬لنا الت باشرها‬
‫النتهي بغي واسطة ‪ ،‬ولنا مالفة مضة وخروج عن السنة ظاهر ‪ .‬كالقول بالقدر ‪ ،‬والتحسي‬
‫والتقبيح ‪ ،‬والقول بإنكار خب لواحد ‪ ،‬وإنكار الجاع ‪ ،‬وإنكار تري المر ‪ ،‬والقول بالمام‬
‫العصوم ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫فإذا فرضت غضافية ‪ :‬فمعن الضافية أنا مشروعة من وجه ‪ ،‬ورأي مرد من وجه ‪.‬‬
‫إذ يدخلها من جهة الخترع رأي ف بعض أحوالا فلم تناف الدلة من كل وجه ‪ .‬هذا وإن كانت‬
‫تري مرى القيقة ‪ ،‬ولكن الفرق بينهما ظاهر كما سيأت إن شاء ال ‪.‬‬
‫وبسب ذلك الختلف يتلف الوزر ‪ .‬ومثاله جعل الصاحف ف الساجد للقراءة آخر صلة الصبح‬
‫بدعة ‪.‬‬
‫قال مالك ‪ :‬أول من جعل مصحفا الجاج بن يوسف ‪ .‬يريد أنه أول من رتب القراءة ف الصحف‬
‫إثر صلة الصبح ف السجد ‪ .‬قال ابن رشد ‪ :‬مثل ما يصنع عندنا إل اليوم ‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فهذه مدثة ـ أعن وضعه ف السجد ـ لن القراءة ف السجد مشروع ف الملة معمول به ‪ ،‬إل‬
‫أن تصيص السجد بالقراءة على ذلك الوجه هو الحدث ‪.‬‬
‫ومثله وضع الصاحف ف زماننا للقراءة يوم المعة وتبيسها على ذلك القصد ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة كونا ظاهرة الأخذ أو مشكلة ‪ .‬فلن الظاهر عند القدام عليها مض مالفة‬
‫‪ ،‬فإن كانت مشكلة فليست بحض مالفة ‪ ،‬لمكان أن ل تكون بدعة والقدام على الحتمل ‪،‬‬
‫أخفظ رتبة من القدام على الظاهر ‪ ،‬ولذلك عذ العلماء ترك التشابه من قبيل الندوب إليه ف الملة‬
‫‪ .‬ونبه الديث على أن ترك التشابه لئل يقع ف الرام ‪ ،‬فهو حى له ‪ ،‬وإن الواقع ف التشابه واقع ف‬
‫الرام ‪ ،‬وليس ترك الرام ف الملة من قبيل الندوب بل من قبيل الواجب ‪ ،‬فكذلك حكم الفعل‬
‫الشتبه ف البدعة ‪ ،‬فالتقارب بينهما بي ‪.‬‬
‫وإن قلنا ‪ :‬إن ترك التشابه من باب الندوب ‪ ،‬وإن مواقعته من باب الكروه فالختلف أيضا واقع‬
‫من هذه الهة ‪ ،‬فإن الث ف الحرمة هو الظاهر ‪ .‬وأما الكروهة فل إث فيها ف الملة ‪ ،‬ما ل يقترن‬
‫با ما يوجبها ‪ ،‬كالصرار عليها ‪ ،‬إذ الصرار على الصغية يصيها كبية ‪ ،‬فكذلك الصرار على‬
‫الكروه فقد يصيه صغية ‪ ،‬ول فرق بي الصغية والكبية ف مطلق التأثيم ‪ ،‬وإن حصل الفرق من‬
‫جهة أخرى ‪ .‬بلف الكروه مع الصغية ‪ .‬والشأن ف البدع ـ وإن كانت مكروهة ـ ف الدوام‬
‫عليها وإظهارها من القتدى بم ف مامع الناس وف الساجد ‪ .‬فقلما تقدم بل تقع منهم على أصلها‬
‫من الكراهية إل ويقترن با ما يدخلها ف مطلق التأثيم من إصرار أو تعليم أو إشاعة أو تعصب لا أو‬
‫ما أشبه ذلك ‪ .‬فل يكاد يوجد ف البدع ـ بسب الوقوع ـ مكروه ل زائد فيه على الكراهية ‪.‬‬
‫وال أعلم ‪.‬‬
‫وأما الختلف بسب الصرار عليها أو عدمه فلن الذنب قد يكون صغيا فيعظم بالصرار عليه ‪.‬‬
‫كذلك البدعة تكون صغية فتعظم بالصرار عليها ‪ .‬فإذا كانت فلته فهي أهون منها إذا داوم عليها‬
‫‪ .‬ويلحق بذا العن إذا تاون با البتدع وسهل أمرها ‪ ،‬نظي الذنب إذا تاون به ‪ .‬فالتهاون أعظم‬
‫وزرا من غيه ‪.‬‬
‫وأما الختلف من جهة كونا كفرا وعدمه فظاهر أيضا ‪ .‬لن ما هو كفر جزاؤه التخليد ف العذاب‬
‫ـ عافانا ال ـ وليس كذلك ما ل يبلغ حكم سائر الكبائر مع الكفر ف العاصي ‪ ،‬فل بدعة أعظم‬
‫وزرا من بدعة ترج عن السلم ‪ ،‬كما أنه ل ذنب أعظم من ذنب يرج عن السلم ‪ .‬فبدعة‬
‫الباطنية والزنادقة ‪ ،‬ليس كبدعة العتزلة والرجئة وأشباههم ‪ ،‬ووجوه التفاوت كثية ‪ ،‬ولظهورها عند‬
‫العلماء ل نبسط الكلم عليها ‪ .‬وال الستعان بفضله ‪.‬‬

‫فصل‬

‫‪88‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ويتعلق بذا الفصل أمر آخر وهو الكم ف القيام على أهل البدع من الاصة أو العامة وهذا باب‬
‫كبي ف الفقه تعلق بم من جهة جنايتهم على الدين ‪ ،‬وفسادهم ف الرض ‪ .‬وخروجهم عن جادة‬
‫السلم ‪ ،‬إل بنيات الطريق الت نبه عليها قول ال تعال ‪" :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول‬
‫تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله " وهو فصل من تام الكلم على التأثيم ‪ .‬لكنه مفتقر إل النظر ف‬
‫شعب كثية ‪ ،‬منها ما تكلم عليها العلماء ‪ ،‬ومنها ما ل يتكلموا عليها ‪ ،‬لن ذلك حدث بعد موت‬
‫الجتهدين ‪ ،‬وأهل الماية للدين ‪ ،‬فهو باب يكثر التفريغ فيه بيث يستدعي تأليفا مستقلً ‪ ،‬فرأينا أن‬
‫بسط ذلك يطول ‪ ،‬مع أن العناء فيه قليل الدوى ف هذه الزمنة التأخرة لتكاسل الاصة ‪ ،‬عن‬
‫النظر فيما يصلح العامة ‪ ،‬وغلبة الهل على العامة ‪ ،‬حت إنم ل يفرقون بي السنة والبدعة ‪.‬‬
‫بل قد انقلب الال إل أن عادت السنة بدعة ‪ ،‬فقاموا ف غي موضع القيام ‪ ،‬واستقاموا إل غي‬
‫مستقام ‪ ،‬فعم الداء ‪ ،‬وعدم الطباء ‪ ،‬حسبما جاءت به الخبار ‪ .‬فرأينا أن ل نفرد هذا العن بباب‬
‫يصه ‪ ،‬وأن ل نبسط القول فيه ‪ ،‬وأن نقتصر من ذلك على لحة تكون خاتة لذا الباب ‪ ،‬ف‬
‫الشارة إل أنواع الحكام الت يقام عليهم با ف الملة ل ف النفصيل ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬
‫فنقول ‪ :‬إن القيام عليهم بالتثريب أو التنكيل أو الطرد أو البعاد أو النكائر هو بسب حال البدعة‬
‫ف نفسها من كونا عظيمة الفسدة ف الدين ‪ ،‬أم ل ‪ ،‬وكون صاحبها مشتهرا با أو ل ‪ ،‬وداعيا‬
‫إليها أو ل ‪ ،‬ومستطيا بالتباع وخارجا عن الناس أو ل ‪ ،‬وكونه عاملً با على جهة الهل أو ل ‪.‬‬
‫وكل من هذه القسام له حكم اجتهادي يصه ‪ ،‬إذ ل يأت ف الشرع ف البدعة حد ل يزاد عليه ول‬
‫ينقص منه ‪ ،‬كما جاء ف كثي من العاصي ‪ ،‬كالسرقة والرابة والقتل والقذف والراح والمر وغي‬
‫ذلك ‪ .‬ل جرم أن الجتهدين من المة نظروا فيها بسب النوازل ‪ ،‬وحكموا باجتهاد الرأي ‪ ،‬تفريعا‬
‫على ما تقدم لم ف بعضها من النص ‪ ،‬كما جاء ف الوارج من الثر بقتلهم ‪ ،‬وما جاء عن عمر بن‬
‫الطاب رضي ال عنه ف صبيغ العراقي ‪.‬‬
‫فخرج من مموع ما تكلم فيه العلماء أنواع ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬الرشاد والتعليم وإقامة الجة كمسألة ابن عباس رضي ال عنه حي ذهب إل الوارج‬
‫فكلمهم حت رجع منهم ألفان أو ثلثة آلف ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬الجران وترك الكلم والسلم حسبما تقدم عن جلة من السلف ف هجرانم لن تلبس‬
‫ببدعة ‪ ،‬وما جاء عن عمر رضي ال عنه من قصة صبيغ العراقي ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬كما غرب عمر صبيغا ‪ .‬ويري مراه السجن وهو ‪:‬‬
‫الرابع ‪ :‬كما سجنوا اللج قبل قتله سني عديدة ‪.‬‬
‫والامس ‪ :‬ذكرهم با هم عليه وإشاعة بدعتهم كي يذروا ‪ ،‬ولئل يغتر بكلمهم ‪ ،‬كما جاء عن‬
‫كثي من السلف ف ذلك ‪.‬‬

‫‪89‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫السادس ‪ :‬القتل إذا ناصبوا السلمي وخرجوا عليهم كما قاتل علي رضي ال عنه الوارج ‪ ،‬وغيه‬
‫من خلفاء السنة ‪.‬‬
‫والسابع ‪ :‬القتل إن ل يرجعوا من الستتابة ‪ ،‬وهو قد أظهر بدعته وأما من أسرها وكانت كفرا أو‬
‫ما يرجع إليه فالقتل بل استتابة وهو ‪:‬‬
‫الثامن ‪ :‬لنه من باب النفاق كالزنادقة ‪.‬‬
‫والتاسع ‪ :‬تكفي من دل الدليل على كفره ‪،‬كما إذا كانت البدعة صرية ف الكفر كالباحية‬
‫والقائلي باللول كالباطنية ‪ ،‬أو كانت السألة ف باب التكفي بالآل ‪ ،‬فذهب الجتهد إل كابن‬
‫الطيب ف تكفيه جلةً من الفرق ‪ .‬وينبن على ذلك ‪:‬‬
‫والعاشر ‪ :‬وذلك أنه ل يرثهم ورثتهم من السلمي ول يرثون أحدا منهم ‪ ،‬ول يغسلون إذا ماتوا ‪،‬‬
‫ول يصلون عليهم ول يدفنون ف مقابر السلمي ‪ ،‬ما ل يكن الستتر ‪ ،‬فإن الستتر يكم له بكم‬
‫الظاهر ‪ ،‬وورثته أعرف بالنسبة إل الياث ‪.‬‬
‫والادي عشر ‪ :‬المر بأن ل يناكحوا ‪ ،‬وهو من ناحية الجران ‪ ،‬وعدم الواصلة ‪.‬‬
‫والثان عشر ‪ :‬تريهم على الملة ‪ ،‬فل تقبل شهادتم ول روايتهم ‪ ،‬ول يكونون ولةً ول قضا ًة ‪،‬‬
‫ول ينصبون ف مناصب العدالة من إمامة أو خطابة ‪ .‬إل أنه قد ثبت عن جلة من السلف رواية‬
‫جاعة منهم ‪ ،‬واختلفوا ف الصلة خلفهم من باب الدب ليجعوا عما هم عليه ‪.‬‬
‫والثالث عشر ‪ :‬ترك عيادة مرضاهم ‪ ،‬وهو من باب الزجر والعقوبة ‪.‬‬
‫والرابع عشر ‪ :‬ترك شهود جنائزهم كذلك ‪.‬‬
‫والامس عشر ‪ :‬الضرب كما ضرب عمر رضي ال عنه صبيغا ‪.‬‬
‫وروي عن مالك رضي ال عنه ف القائل بالخلوق ‪ :‬أنه يوجع ضربا ويسجن حت يوت ‪.‬‬
‫ورأيت ف بعض تواريخ بغداد عن الشافعي أنه قال ‪ :‬حكم ف أصحاب الكلم أن يضربوا بالرائد ‪،‬‬
‫ويملوا على البل ‪ ،‬ويطاف بم ف العشائر والقبائل ويقال ‪ :‬هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ‪،‬‬
‫وأخذ ف الكلم ‪ ،‬يعن أهل البدع ‪.‬‬

‫فصل فإن قيل ‪ :‬كيف هذا وقد ثبت ف الشريعة‬


‫فإن قيل ‪ :‬كيف هذا وقد ثبت ف الشريعة ما يدل على تصيص تلك العمومات وتقييد تلك‬
‫الطلقات وفرع العلماء منها كثيا من السائل وأصلوا منها أصولً يتذى حذوها ‪ ،‬على وفق ما ثبت‬
‫نقله ؟ إذ الظواهر ترج على مقتضى ظهورها بالجتهاد ‪ ،‬وبالري إن كان ما يستنبط بالجتهاد‬
‫مقيسا على مل التخصيص ‪ .‬فلذلك قسم الناس البدع ول يقولوا بذمها على الطلق ‪.‬‬
‫وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إل أوجه ‪:‬‬

‫‪90‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أحدها ‪ :‬ما ف الصحيح من قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬


‫"من سن سنةً حسنةً كان له أجرها وأجر من عمل با ل ينقص ذلك من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن سن‬
‫سنةً سيئةً كان عليه وزرها ووزر من عمل با ل ينقص ذلك من أوزارهم شيئا" ‪.‬‬
‫وخرج الترمذي وصححه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"من دل على خي فله أجر فاعله" ‪.‬‬
‫وخرج أيضا عن جرير بن عبد ال قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من سنة سن ًة خي فاتبع عليها فله أجره ومثل أجور من اتبعه غي منقوص من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن‬
‫سن سنةً شر فاتبع عليها كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غي منقوص من أوزارهم شيئا" حسن‬
‫صحيح ‪.‬‬
‫فهذه الحاديث صرية ف أن من سن سنةً خي فذلك خي ‪ ،‬ودل على أنه فيمن ابتدع من سن‬
‫فنسب الستنان إل الكلف دون الشارع ولو كان الراد ‪ :‬من عمل سنةً ثابتة ف الشرع لا قال ‪:‬‬
‫من سن ويدل على ذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ما من نفس تقتل ظلما إل كان على ابن آدم كفل من دمها لنه أول من سن القتل" فسن ـ ها هنا‬
‫ـ على حقيقته لنه اخترع ما ل يكن قبل معمولً به ف الرض بعد وجود آدم عليه السلم ‪.‬‬
‫فكذلك قوله ‪" :‬من سن سنةً حسنةً" أي من اخترعها من نفسه لكن بشرط أن تكون حسنة فله من‬
‫الجر ما ذكر ‪ ،‬فليس الراد ‪ :‬من عمل سنةً ثابتة ‪.‬‬
‫وإنا العبارة عن هذا العن أن يقال ‪ :‬من عمل بسنت أو سنة من سنت ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ .‬كما خرج‬
‫الترمذي "أن النب صلى ال عليه وسلم قال لبلل بن الارث ‪:‬‬
‫أعلم قال ‪ :‬أعلم يا رسول ال ( ؟ ) ‪ ،‬قال ‪ :‬اعلم يا بلل قال ‪ :‬أعلم يا رسول ال ‪ ،‬قال ‪ :‬إنه من‬
‫أحيا سنةً من سنت قد أميتت بعدي فإن له من الجر مثل من عمل با من غي أن ينقص ذلك من‬
‫أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن ابتدع بدع ًة ضللة ل ترضي ال ورسوله كان عليه مثل إث من عمل با ل‬
‫ينقص ذلك من آثام الناس شيئا" حديث حسن ‪.‬‬
‫"وعن أنس رضي ال عنه قال ‪ :‬قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫يا بن ‪ ،‬إن قدرت أن تصبح وتسي ليس ف قلبك غش لحد فافعل ‪ ،‬ـ ث قال ل ‪ :‬يا بن وذلك‬
‫من سنت ‪ ،‬ومن أحيا سنت فقد أحبن ‪ ،‬ومن أحبن كان معي ف النة" حديث حسن ‪.‬‬
‫فقوله ‪" :‬من أحيا سنةً من سنت قد أمييت بعدي" واضح ف العمل با ثبت أنه سنة ‪ ،‬وكذلك قوله ‪:‬‬
‫"من أحيا سنت فقد أحبن" ‪ ،‬ظاهر ف السنن الثايتة ‪ ،‬بلف قوله ‪ :‬من سن كذا ‪ ،‬فإنه ف الختراع‬
‫أو ًل من غي أن يكون ثابتا ف السنة ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما قوله لبلن بن الارث ‪" ،‬ومن ابتدع بدعة ضللة" فظاهر أن البدعة ل تذم بإطلق بل بشرط‬
‫أن تكون ضللة ‪ ،‬وأن تكون ل يرضاها ال ورسوله ‪ ،‬فاقتضى هذا كله أن البدعة إذا ل تكن ل‬
‫يلحقها ذم ‪ ،‬ول تبع صاحبها وزر ‪ ،‬فعادت إل أنا سنةً حسن ًة ‪ ،‬ودخلت تت الوعد بالجر ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن السلف الصال رضي ال عنهم ـ وأعلهم الصحابة ـ قد عملوا با ل يأت به كتاب‬
‫ول سنة ما رأوه حسنا وأجعوا عليه ‪ ،‬ول تمتع أمة ممد صلى ال عليه وسلم على ضللة ‪ ،‬وإنا‬
‫يتمعون على هدى وما هو حسن ‪.‬‬
‫فقد أجعوا على جع القرآن وكتبه ف الصاحف ‪ ،‬وعلى جع الناس على الصاحف العثمانية ‪،‬‬
‫واطراح ما سوى ذلك من القراءات الت كانت مستعملة ف زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫ول يكن ف ذلك نص ول حظر ‪ ،‬ث اقتفى الناس أثرهم ف ذلك الرأي السن ‪ ،‬فجمعوا العلم‬
‫ودونوه وكتبوه ‪ ،‬ومن سباقهم ف ذلك مالك بن أنس رضي ال عنه ‪ ،‬وقد كان من أشدهم اتباعا‬
‫وأبعدهم من البتداع ‪.‬‬
‫هذا وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الديث وغيه ‪ ،‬فإنا هو ممول إما على الوف‬
‫من التكال على الكتب استغناء به عن الفظ والتحصيل ‪ ،‬وما على ما كان رأيا دون ما كان نقلً‬
‫من كتاب أو سنة ‪.‬‬
‫ث اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الميع لا ضعف المر ‪ ،‬وقل الجتهدون ف التحصيل ‪ ،‬فخافوا‬
‫على الدين جل ًة ‪.‬‬
‫قال اللخمي لا ذكر كلمالك وغيه ف كراهية بيع كتب العلم والجارة على تعليمه ‪ ،‬وخرج عليه‬
‫الجارة على كتبه ‪ ،‬وحكى اللف وقال ‪ :‬ل أرى اليوم أن يتلف ف ذلك أنه جائز ‪ ،‬لن حفظ‬
‫الناس وأفهامهم قد نقصت ‪ ،‬وقد كان كثي من تقدم ليست لم كتب ‪.‬‬
‫قال مالك ‪ :‬ول يكن للقاسم ول لسعيد كتب ‪ ،‬وما كنت أقرأ على أحد يكتب ف هذه اللواح ‪،‬‬
‫ولقد قلت لبن شهاب ‪ :‬أكنت تكتب العلم ؟ فقال ‪ :‬ل ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أكنت تب أن يقيدوا عليك‬
‫الديث ؟ فقال ‪ :‬ل ‪ .‬فهذا كان شأن الناس فلو سار الناس سيتم لضاع العلم ول يكن بيننا منه‬
‫ولو رسه أو اسه ‪ ،‬وهكذا الناس اليوم يقرؤون كتبهم ‪ ،‬ث هم ف التقصي على ما هم عليه ‪.‬‬
‫وأيضا فإنه خلف عندنا ف مسائل الفروع أن القول فيها بالجتهاد والقياس واجب ‪ ،‬وإذا كان‬
‫كذلك كان إهال كتبها وبيعها يؤدي إل التقصي ف الجتهاد وأن ل يوضع مواضعه ‪ ،‬لن ف معرفة‬
‫أقوال التقدمي والترجيح بي أقاويلهم قوى وزيادة ف وضع الجتهاد مواضعه ‪.‬‬
‫انتهى ما قاله اللخمي ‪ ،‬وفيه إجازة العمل با ل يكن عليه من تقدم لن له وجها صحيحا ‪ ،‬فكذلك‬
‫نقول ‪ :‬كل ما كان من الحدثات له وجه صحيح فليس بذموم ‪ ،‬بل هو ممود ‪ ،‬وصاحبه الذي سنه‬
‫مدوح ‪ ،‬فأين ذمها بإطلق أو على العموم ؟‬

‫‪92‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد قال عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ‪ :‬تدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور ‪.‬‬
‫فأجاز ـ كما ترى ـ إحداث القضية واحترعها على قدر اختراع الفجار للفجور ‪ ،‬وإن ل يكن‬
‫لتلك الحدثات أصل ‪ ،‬وقتل الماعة بالواحد وهو مكي عن عمر وعلي وابن عباس والغية بن‬
‫شعبة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫وأخذ مالك وأصحابه بقول اليت ‪ :‬دمي عند فلن ‪ ،‬ول يأت له ف الوطأ بأصل ساعي ‪ ،‬وإنا علل‬
‫بأمر مصطلحي ‪ ،‬وف مذهبه من ذلك مسائل كثية ‪ ،‬فإن كان ذلك جائزا مع أنه مترع ‪ ،‬فلم ل‬
‫يوز مثله ـ وقد اجتمعا ف العلة ـ لن الميع مصال معتبة ف الملة ‪ ،‬وإن ل يكن شيء من‬
‫ذلك جائزا فلم اجتمعوا على جلة وفرع غيهم على بعضها ؟ ول يبقى إل أن يقال ‪ :‬إنم يتابعون‬
‫على ما عمل هؤلء دون غيهم وإن اجتمعا ف العلة السوغة للقياس ‪ ،‬وعند ذلك يصي القتصار‬
‫تكما ‪ ،‬وهو باطل فما أدى إليه مثله ‪ ،‬فثبت أن البدع تنقسم ‪.‬‬
‫فالواب وبال التوفيق أن يقول ‪:‬‬
‫أما الوجه الول ‪ :‬وهو قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من سن سنةً حسنةً" الديث ‪ .‬فليس الراد به الختراع البتة ‪ ،‬وإل لزم من ذلك التعارض بي الدلة‬
‫القطعية ـ إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به ‪ ،‬فإن زعم أنه مظنون فما تقدم‬
‫من الدليل على ذم البدع مقطوع به ‪ ،‬فيلزم التعارض بي القطعي والظن ‪ ،‬والتفاق من الحققي ‪،‬‬
‫ولكن فيه بثا ـ أو نظرا ـ من وجهي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنه يقال ‪ :‬إنه من قبيل التعارضي ‪ ،‬إذ تقدم اولً أن أدلة الذم تكرر عمومها ف أحاديث‬
‫كثية من غي تصيص ‪ ،‬وإذا تعارضت أدلة العموم والتخصيص ‪ ،‬ل يقبل بعد ذلك التخصيص ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬على التنل لفقد التعارض ‪ ،‬فليس الراد بالديث الستنان بعن الختراع ‪،‬وإنا الراد به‬
‫العمل با ثبت من السنة النبوية ‪ ،‬وذلك لوجهي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن السبب الذي جاء لجله الديث هو الصدقة الشروعة ‪ ،‬بدليل ما ف الصحيح من‬
‫حديث جرير بن عبد ال رضي ال عنهما قال ‪:‬‬
‫"كنا عند رسول ال صلى ال عليه وسلم ف صدر النهار فجاءه قوم حفاة عراة متاب النمار ـ أو‬
‫العباء ـ متقلدي السيوف ‪ ،‬عامتهم مضر ‪ ،‬بل كلهم من مضر ‪ ،‬فتعمر وجه رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لا رآهم من الفاقة ‪ ،‬فدخل ث خرج فأمر بللً فأذن وأقام ‪ ،‬فصلى ث خطب فقال ‪:‬‬
‫"يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة" والية الت ف سورة الشر ‪" :‬اتقوا ال‬
‫ولتنظر نفس ما قدمت لغد" تصدق رجل من ديناره ‪ ،‬من درهه ‪ ،‬من ثوبه ‪ ،‬من صاع بره ‪ ،‬من‬
‫صاع تره ‪ ،‬حت قال ‪ :‬ولو بشق ترة ‪،‬قال ‪ :‬فجاءه رجل من النصار بصرة كادت كفه تعجز عنها‬
‫‪ ،‬بل قد عجزت ‪ .‬قال ‪ :‬ث تتابع الناس حت رأيت كومي من طعام وثياب ‪ ،‬حت رأيت وجه رسول‬

‫‪93‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ال صلى ال عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬من سن ف‬
‫السلم سنةً حسنةً فله أجرها وأجر من عمل با بعده من غي أن ينقص من أجورهم شيء ‪ ،‬ومن‬
‫سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل با من غي أن ينقص من أوزارهم شيء" ‪.‬‬
‫فتأملوا أين قال رسول ال صلى ال عليه وسلم من سن سن ًة سيئة ؟ تدوا ذلك فيمن عمل بقتضى‬
‫الذكور على أبلغ ما يقدر عليه حت بتلك الصرة ‪ ،‬فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه البلغ ‪،‬‬
‫فسر بذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم حت قال ‪" :‬من سنة ف السلم سن ًة حسنةً" الديث ‪،‬‬
‫فدل على أن السنة ها هنا مثل ما فعل ذلك الصحاب وهو العمل ‪ ،‬با ثبت كونه سنة ‪ ،‬وأن الديث‬
‫مطابق لقوله ف الديث الخر ‪" :‬من أحيا سنةً من سنت قد أميتت بعدي ـ الديث إل قوله ـ‬
‫ومن ابتدع بدعة ضللة" فجعل مقابل تلك السنة البتداع ‪ ،‬فظهر أن السنة السنة ليست ببتدعة ‪،‬‬
‫وكذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ومن أحيا سنت فقد أحبن" ‪.‬‬
‫ووجه ذلك ف الديث الول ظاهر لنه صلى ال عليه وسلم لا مضى على الصدقة أولً ث جاء ذلك‬
‫النصاري با جاء به فانثال بعده العطاء إل الكفاية ‪ ،‬فكأنا كانت سنة أيقظها رضي ال تعال عنه‬
‫بفعله ‪ .‬فليس معناه من اخترع سن ًة وابتدعها ول تكن ثابتة ‪.‬‬
‫ونو هذا الديث ف رقائق ابن البارك ما يوضع معناه عن حذيفة رضي ال عنه قال ‪ ":‬قام سائل‬
‫على عهد رسول ال صلى ال عليه وسلم فسأل ‪ ،‬فسكت القوم ‪ .‬ث إن رجلً أعطاء فأعطاه القوم ‪،‬‬
‫فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫من است خيا فاست به فله أجره ومثل أجور من تبعه غي منتقص من أجورهم شيئا ‪ ،‬ومن است‬
‫شرا فاست به فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غي منتقص من أوزارهم" فإذا قوله ‪" :‬من سنة سنةً"‬
‫معناه من عمل بسنة ‪ ،‬ل من اخترع سنة ‪.‬‬
‫والوجه الثان من وجهي الواب ‪ :‬أن قوله ‪" :‬من سن سنةً حسنةً ومن سن سن ًة سيئةً" ل يكن حله‬
‫على الختراع من أصل ‪ ،‬لن كونا حسنة أو سيئة ل يعرف إل من جهة الشرع ‪ ،‬لن التحسي‬
‫والتقبيح متص بالشرع ‪ ،‬ل مدخل للعقل فيه وهو مذهب جاعة أهل السنة ‪ .‬وإنا يقول به البتدعة ‪.‬‬
‫أعن التحسي والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة ف الديث إما حسنة ف الشرع وإنا قبيحة‬
‫بالشرع ‪ ،‬فل يصدق إل على مثل الصدقة الذكورة ‪ ،‬وما أشبهها من السنن الشروعة ‪ .‬وتبقى السنة‬
‫السيئة منلة على العاصي الت ثبت بالشرع كونا معاصي ‪ ،‬كالقتل النبه عليه ف حديث ابن آدم‬
‫حيث قال عليه السلم ‪" :‬لنه أول من سن القتل" وعلى البدع لنه قد ثبت ذمها والنهي عنها‬
‫بالشرع كما تقدم ‪.‬‬
‫وأما قوله ‪" :‬من ابتدع بدعة ضللة" فهو على ظاهره ‪ ،‬لن سبب الديث ل يقيده بشيء فل بد من‬
‫حله على ظاهر اللفظ كالعمومات البتدأة الت ل تثبت لا أسباب ‪ .‬ويصح أن يمل على نو ذلك‬

‫‪94‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قوله ‪" :‬ومن سن سنةً سيئةً" أي من اخترعها ‪ .‬وشل ما كان منها مترعا ابتداءً من العاصي كالقتل‬
‫من أحد ابن آدم ‪ ،‬وما كان مترعا بكم الال ‪ ،‬إذ كانت قبل مهملة متناساة ‪ ،‬فاثارها عمل هذا‬
‫العامل ‪.‬‬
‫فقد عاد الديث ـ والمد ل ـ حج ًة على أهل البدع من جهة لفظه ‪ ،‬وشرح الحاديث الخر له‬
‫‪.‬‬
‫وإنا يبقى النظر ف قوله ‪" :‬ومن ابتدع بدعة ضللة" وإن تقييد البدعة بالضللة يفيد مفهوما ‪ ،‬والمر‬
‫فيه قريب لن الضافة فيه ل تفد مفهوما ‪ .‬وإن قلنا بالفهوم على رأي طائفة من أهل الصول ‪ ،‬فإن‬
‫الدليل دل على تعطليه ف هذا الوضع كما دل دليل تري الربا قليله وكثية على تعطيل الفهوم ف‬
‫قوله ال تعال ‪ " :‬ل تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة" ولن الضللة لزمة للبدعة بإطلق ‪ ،‬بالدلة‬
‫التقدمة ‪ ،‬فل مفهوم أيضا ‪.‬‬
‫والواب عن الشكال الثان ‪ :‬أن جيع ما ذكر فيه من قبيل الصال الرسلة ‪ ،‬ل من قبيل البدعة‬
‫الحدثة ‪ .‬والصال الرسلة قد عمل بقتضاها السلف الصال من الصحابة ومن بعدهم ‪ .‬فهي من‬
‫الصول الفقهية الثابتة عند أهل الصول ‪ ،‬وإن كان فيها خلف بينهم ‪ .‬ولكن ل يعد ذلك قدحا‬
‫على ما نن فيه ‪.‬‬
‫أما جع لصحف وقصر الناس عليه فهو على القيقة من هذا الباب ‪ ،‬إذ أنزل القرآن على سبعة‬
‫أحرف كلها شاف كاف تسهيلً على العرب الختلفات اللغات ‪ ،‬فكانت الصلحة ف ذلك ظاهرة ‪،‬‬
‫إل أنه عرض ف إباحة ذلك بعد زمان رسول ال صلى ال عليه وسلم فتح لباب الختلف ف القرآن‬
‫‪ ،‬حيث اختلفوا ف القراءة حسبما يأت بول ال تعال ‪ ،‬فخاف الصحابة ـ رضوان ال تعال عليهم‬
‫ـ اختلف المة ف ينبوع اللة ‪ ،‬فقصروا الناس على ما ثبت منها ف مصاحف عثمان رضي ال‬
‫عنه ‪ ،‬واطرحوا ما سوى ذلك ‪ ،‬علما بأن ما اطرحوه ‪ ،‬مضمن فيما أثبتوه لنه من قبيل القراءات الت‬
‫يؤدي با القرآن ‪.‬‬
‫ث ضبطوا ذلك بالرواية حي فسدت اللسنة ‪ ،‬ودخل ف السلم أهل العجمة خوفا من فتح باب‬
‫آخر من الفساد ‪ ،‬وهو أن يدخل أهل اللاد ف القرآن أو ف القراءات ما ليس منها فيستعينوا بذلك‬
‫ف بث إلادهم ‪ .‬أل ترى أنه لا ل بكنهم الدخول من هذا الباب دخلوا من جهة التأويل والدعوى‬
‫ف معان القرآن ‪ ،‬حسبما يأت ذكره إن شاء ال تعال ‪.‬‬
‫فحق ما فعل أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لن له أصلً يشهد له ف الملة ‪ .‬وهو المر‬
‫بتبليغ الشريعة ‪ ،‬وذلك ل خلف فيه ‪ ،‬لقوله تعال ‪" :‬يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك"‬
‫وأمته مثله ‪ .‬وف الديث ‪:‬‬

‫‪95‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"ليبلغ الشاهد منكم الغائب" وأشباهه ‪ .‬والتبليغ كما ل يتقيد بكيفية معلومة لنه من قبيل العقول‬
‫العن ‪ ،‬فيصح بأي شيء أمكن من الفظ والتلقي والكتابة وغيها ‪ ،‬وكذلك ل يتقيد حفظه عن‬
‫التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ‪ ،‬إذا ل يعد على الصل بإبطال كمسألة الصحف ولذلك أجع‬
‫عليه السلف الصال ‪.‬‬
‫وأما ما سوى الصحف فالمر فيه أسهل ‪ ،‬فقد ثبت ف السنة كتابة العلم ‪ .‬ففي الصحيح قوله صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"اكتبوا لب شاه" وعن أب هريرة رضي ال عنه أنه قال ‪ :‬ليس أحد من أصحاب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أكثر حديثا من عن رسول ال صلى ال عليه وسلم إل عبد ال بن عمرو ‪ ،‬فإنه كان‬
‫يكتب وكنت ل أكتب ‪.‬‬
‫وذكر أهل السي أنه كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيه ‪ ،‬منهم‬
‫عثمان وعلي معاوية والغية بن شعبة وأب كعب وزيد بن ثابت وغيهم ‪ ،‬وأيضا فإن الكتابة من‬
‫قبيل ما ل يتم الواجب إل به إذا تعي لضعف الفظ ‪ ،‬وخوف اندراس العلم ‪ ،‬كما خيف دروسه‬
‫حينئذ ‪ .‬وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم ‪.‬‬
‫وإن تعلق با ورد من اللف ف الصال الرسلة ‪ ،‬وأن البناء عليها غي صحيح عند جاعة من‬
‫الصوليي ‪ ،‬فالجة عليهم إجاع الصحابة على الصحف والرجوع إليه ‪ .‬وإذا ثبت اعتبارها ف‬
‫صورة ثبت اعتبارها مطلقا ‪ .‬ول يبقى بي الختلفي نزاع إل ف الفروع ‪.‬‬
‫وف الصحيح قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين الهديي ‪ ،‬تسكوا با ‪ ،‬وعضوا عليها بالنواجذ ‪ ،‬وإياكم‬
‫ومدثات المور" فأعطى الديث ـ كما ترى ـ أن ما سنه اللفاء الراشدون لحق بسنة رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬لن ما سنوه ل يعدو أحد أمرين ‪ :‬إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي ‪،‬‬
‫فذلك سنةً ل بدعة ‪ .‬وإما بغي دليل ـ ومعاذ ال من ذلك ـ ولكن هذا الديث دليل على إثباته‬
‫سنة ‪ ،‬إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة صلى ال عليه وسلم ‪ .‬ودليله من الشرع ثابت فليس ببدعة‬
‫‪ .‬ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلق ‪ .‬ولو كان عملهم ذلك بدعةً لوقع ف الديث‬
‫التدافع ‪.‬‬
‫وبذلك ياب عن مسألة قتل الماعة بالواحد لنه منقول عن عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ ،‬وهو‬
‫أحد اللفاء الراشدين ‪ ،‬وتضمي الصناع وهو منقول عن اللفاء الربعة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز فلم أره ثابتا من طريق صحيح ‪ .‬وإن سلم فراجع إما لصل‬
‫الصال الرسلة ـ إن ل نقل ‪ :‬إن أصله قصة البقرة ‪ .‬وإن ثبت أن الصال الرسلة مقول با عند‬

‫‪96‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫السلف ‪ ،‬مع أن القائلي با يذمون البدع وأهلها ويتبؤن منهم ـ دل على أن البدع مباينة لا‬
‫وليست منها ف شيء ولذه السألة باب تذكر فيه ‪.‬‬

‫فصل وما يورد ف هذا الوضع‬


‫وما يورد ف هذا الوضع أن العلماء قسموا البدع بأقسام أحكام الشريعة المسة ول يعدوها قسما‬
‫واحدا مذموما ‪ ،‬فجعلوا منها ما هو واجب ومندوب ومباح ومكروه ومرم ‪ ،‬وبسط ذلك القراف‬
‫بسطا شافيا ـ وأصل ما أتى به من ذلك شيخه عز الدين بن عبد السلم ‪ ،‬وها أنا آت به على نصه‬
‫ـ فقال ‪:‬‬
‫اعلم أن الصحاب ـ فيما رأيت ‪ ،‬متفقون على إنكار البدع ‪ ،‬نص على ذلك ابن أب زيد وغيه ‪،‬‬
‫والق النفصيل وأنا خسة أقسام ‪:‬‬
‫قسم واجب ‪ .‬وهو ما تناولته قواعد الوجوب وأدلته من الشرع ‪ ،‬كتدوين القرآن والشرائع إذا خيف‬
‫عليها الضياع ‪ ،‬وأن التبليغ لن بعدنا من القرون واجب إجاعا ‪ ،‬وإهال ذلك حرام إجاعا فمثل‬
‫هذا النوع ل ينبغي أن يتلف ف وجوبه ‪.‬‬
‫القسم الثان الحرم ‪ :‬وهو كل بدعة تناولتها قواعد التحري وأدلته من الشريعة ‪ ،‬كالكوس‬
‫والحدثات من الظال ‪ ،‬والحدثات النافية لقواعد الشريعة ‪ ،‬كتقدي الهال على العلماء ‪ ،‬وتولية‬
‫الناصب الشرعية من ل يصلح بطريق التوريث ‪ ،‬وجعل الستند ف ذلك كون النصب كان لبيه ‪،‬‬
‫وهو ف نفسه ليس بأهل ‪.‬‬
‫القسم الثالث ‪ :‬أن من البدع ما هو مندوب إليه ‪ ،‬وهو ما تنالولته قواعد الندب وأدلته ‪ ،‬كصلة‬
‫التراويح ‪ ،‬ولقامة صور الئمة والقضاة وولة المور على خلف ما كان عليه الصحابة رضوان ال‬
‫عليهم ‪ ،‬بسبب أن الصال والقاصد الشرعية ل تصل إل بعظمة الولة ف نفوس الناس ‪ .‬وكان‬
‫الناس ف زمن الصحابة رضي ال عنهم معظم تعظيمهم إنا هو بالدين وسبق الجرة ‪.‬‬
‫ث اختل النظام وذهب ذلك القرن ‪ ،‬وحدت قرن آخر ل يعظمون إل بالصور فتعي تفخيم الصور‬
‫حت تصل الصال ‪.‬‬
‫وقد كان عمر بن الطاب رضي ال عنه يأكل خبز الشعي واللح ‪ ،‬ويفرض لعامله نصف شاة كل‬
‫يوم ‪ ،‬لعلمه بأن الالة الت هو عليها غيه لان ف نفوس الناس ول يترموه ‪ ،‬وتاسروا عليه‬
‫بالخالفة ‪ ،‬فاحتاج إل أن يضع غيه ف صورة أخرى تفظ النظام ‪ .‬ولذلك لا قدم الشام وجد‬
‫معاوية بن أب سفيان قد اتذ الجاب واتذ الراكب النفسية والثياب الائلة العلية ‪ ،‬وسلك ما سلكه‬
‫اللوك ‪ ،‬فسأله عن ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنا بأرض نن فيها متاجون لذا ‪ .‬فقال له ‪ :‬ل آمرك ول أناك ‪.‬‬
‫ومعناه أنت أعلم بالك هل أنت متاج إليه ‪ .‬فدل ذلك من عمر وغيه على أن أحوال الئمة وولة‬

‫‪97‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫المور تتلف باختلف المصار والقرون وأحوال ‪ .‬فكذلك يتاج إل تديد زخارف وسيايات ل‬
‫تكن قدية ‪ ،‬وربا وجبت ف بعض الحوال ‪.‬‬
‫القسم الرابع ‪ :‬بدعة مكروهة وهي ماتناولته أدلة الكراهة من الشريعة وقواعدها كتخصيص اليام‬
‫الفاضلة أو غيها بنوع من العبادة ‪ .‬ولذلك ورد ف الصحيح ـ خرجه مسلم وغيه ‪:‬‬
‫أن رسول ال صلى ال عليه وسلم نى عن تصيص يوم المعة بصيام ‪ ،‬أو ليلة بقيام ‪.‬‬
‫ومن هذا الباب الزيادة ف الندوبات الحدودات ‪.‬‬
‫كما ورد ف التسبيح عقب الفريضة ثلثا وثلثي ‪ ،‬فتفعل مائة ‪.‬‬
‫وورد صاع ف زكاة الفطر فيجعل عشرة أصواع ‪ ،‬بسبب أن الزيادة فيها إظهار الستظهار على‬
‫الشارع وقلة أدب معه ‪ .‬بل شأن العظماء إذا حددوا شيئا وقف عنده وعد الروج عنه قلة أدب ‪.‬‬
‫ولزيادة ف الواجب أو عليه أشد ف النع ‪ ،‬لنه يؤدي إل أن يعتقد أن الواجب هو الصل والزيد‬
‫عليه ‪ ،‬ولذلك نى مالك رضي ال عنه عن إيصال ستة أيام من شوال ‪ ،‬لئل يعتقد أنا من رمضان‬
‫ل دخل إل مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم فصلى الفرض‬ ‫وخرج أبو داود ف سننه "أن رج ً‬
‫وقام ليصلي ركعتي ‪ ،‬فقال له عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ :‬اجلس حت تفصل بي فرضك‬
‫ونفلك ‪ ،‬فهكذا من قبلنا ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اصاب ال بك يا ابن الطاب"‬
‫يريد عمر أن من قبلنا وصلوا النوافل بالفرائض واعتقدوا الميع واجبا ‪ ،‬وذلك تغيي للشرائع ‪ ،‬وهو‬
‫حرام إجاعا ‪.‬‬
‫القسم الامس ‪ :‬البدع الباحة ‪ ،‬وهي ما تناولته أدلة الباحة وقواعدها من الشريعة ‪ ،‬كاتاذ الناخل‬
‫للدقيق ‪ ،‬ففي الثار ‪ :‬أول شيء أحدثه الناس بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم اتاذ الناخل ‪ .‬لن‬
‫تليي العيش وإصلحه من الباحات فوسائله مباحة ‪.‬‬
‫فالبدعة إذا عرضت تعرض على قواعد الشرع وأدلته ‪ ،‬فأي شيء تناولا من الدلة والقواعد ألقت‬
‫به من إياب أو تري أو غيها ‪ .‬وإن نظر إليها من حيث الملة بالنظر إل كونا بدع ًة مع قطع النظر‬
‫فيما يتقاضاها كرهت ‪ ،‬فإن الي كله ف التباع ‪،‬والشر كله ف البتداع ‪.‬‬
‫وذكر شيخه ف قواعده ف فصل البدع منها ـ بعد ما قسم أحكامها إل المسة ـ أن الطريق ف‬
‫معرفة ذلك أن تعرض البدعة على قواعد الشريعة ‪ ،‬فإن دخلت ف قواعد الياب فهي واجبة إل أن‬
‫قال ‪ :‬وللبدع الواجبة أمثلة ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬الشتغال بالذي يفهم به كلم ال تعال وكلك رسوله صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وذلك‬
‫واجب لن حفظ الشريعة واجب ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬حفظ غريب الكتاب والسنة من اللغة ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬تدوين أصول الفقه ‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والرابع ‪ :‬الكلم ف الرح والتعديل لتمييز الصحيح من السقيم ‪.‬‬


‫ث قال ‪ :‬والبدع الحرمة أمثلة ( منها ) مذهب القدرية ومذهب البية والرجئة والجسمة ‪ .‬والرد‬
‫على هؤلء من البدع الواجبة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وللمندوب أمثلة ‪ ( .‬منها ) إحداث الربط والدارس وبناء القناطر ‪ ( .‬ومنها ) كل إحسان ل‬
‫يعهد ف الصدر الول ‪ ( .‬ومنها ) الكلم ف دقائق التصوف والكلم ف الدل ‪ ( .‬ومنها ) جع‬
‫الحافل ‪ ،‬للستدلل ف السائل ‪ ،‬إن قصد بذلك وجهه تعال ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وللكراهة أمثلة ‪ ( .‬ومنها ) زخرفة الساجد وتزويق الصاحف ‪ .‬وأما تلحي القرآن بيث تتغي‬
‫ألفاظه عن الوضع العرب فالصح أنه من البدع الحرمة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وللبدع الباحة أمثلة ‪ ( .‬ومنها ) الصافحة عقب صلة الصبح والعصر ‪ ( ،‬ومنها ) التوسع ف‬
‫اللذيذ من الأكل والشرب واللبس والساكن ‪ ،‬ولبس الطيالسة وتوسيع الكمام ‪ .‬وقد اختلف ف‬
‫بعض ذلك ‪ ،‬فجعله بعض العلماء من البدع الكروهة ‪ ،‬وجعله آخرون من السنن الفعولة على عهد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم فما بعده كالستعاذة والبسملة ف الصلة ‪ .‬انتهى مصول ما قال ‪.‬‬
‫وهو يصرح مع ما قبله بأن البدع تنقسم بأقسام الشريعة ‪ ،‬فل يصح أن تمل أدلة ذم البدع على‬
‫العموم بل لا مصصات ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن هذا التقسيم أمر مترع ل يدل عليه دليل شرعي بل هو نفسه متدافع ‪ ،‬لن من حقيقة‬
‫البدعة أن ل يدل عليها دليل شرعي ل من نصوص الشرع ول من قواعده ‪ ،‬إذ لو كان هنالك ما‬
‫ل ف عموم‬ ‫يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة لا كان ث بدعة ‪ ،‬ولكان العمل داخ ً‬
‫العمال الأمورة با أو الخي فيها ‪ .‬فالميع بي عد تلك الشياء بدعا ‪ ،‬وبي كون الدلة تدل على‬
‫وجوبا أو ندبا أو إباحتها جع بي متنافيي ‪.‬‬
‫أما الكروه منها والحرم فمسلم من جهة كونا بدعا ل من جهة أخرى ‪ ،‬إذ لو دل دليل على منع‬
‫أمر أو كراهته ل يثبت ذلك كونه بدعة ‪ ،‬لمكان أن يكون معصية ‪ ،‬كالقتل والسرقة وشرب المر‬
‫ونوها ‪ .‬فل بدعة يتصور فيها ذلك التقسيم البتة ‪ ،‬إل الكراهية والتحري حسبما يذكر ف بابه ‪.‬‬
‫فما ذكر القراف عن الصحاب من التفاق على إنكار البدع صحيح ‪ ،‬وما قسمه فيها غي صحيح ‪.‬‬
‫ومن العجب حكاية التفاق مع الصادمة باللف ومع معرفته با يلزمه ف خرق الجاع ‪ .‬وكأنه إنا‬
‫اتبع ف هذا التقسيم شيخه من غي تأمل ‪ .‬فإن ابن عبد السلم ظاهر منه أنه سى الصال الرسلة بدعا‬
‫‪ ،‬بنا ًء ـ وال أعلم ـ على أنا ل تدخل أعيانا تت النصوص العينة ‪ .‬وإن كانت تلئم قواعد‬
‫الشرع ‪ .‬فمن هنالك جعل القواعد هي الدالة على استحسانا بتسمية لا بلفظ البدع وهو من حيث‬
‫فقدان الدليل العي على السألة ‪ ،‬واستحسانا من حيث دخولا تت القواعد ‪ .‬ولا بن على اعتماد‬
‫تلك القواعد استوت عنده مع العمال الداخلة تت النصوص العينة ‪ .‬وصار من القائلي بالصال‬

‫‪99‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الرسلة ‪ ،‬وساها بدعا ف اللفظ ‪ ،‬كما سى عمر رضي ال عنه المع ف قيام رمضان ف السجد‬
‫بدعة ‪ ،‬كما سيأت إن شاء ال تعال ‪.‬‬
‫أما القراف فل عذر له ف نقل تلك القسام على غي مراد شيخه ‪ ،‬ول على مراد الناس ‪ ،‬لنه خالف‬
‫الكل ف ذلك التقسيم فصار مالفا للجاع ‪.‬‬
‫ث نقول ‪ :‬أما قسم الواجب فقد تقدم ما فيه آنفا فل نعيده ‪ ،‬وأما قسم التحري فليس فيه ما هو بدعة‬
‫هكذا بإطلق ‪ ،‬بل ذلك كله مالفة للمر الشروع ‪ .‬فل يزيد على تري أكل الال بالباطل إل من‬
‫جهة كونه موضوعا على وزان الحكام الشرعية اللزمة‪ ،‬كالزكوات الفروضة ‪ ،‬والنفقات القدرة ‪،‬‬
‫وسيأت بيان ذلك ف موضعه إن شاء ال تعال ‪ ،‬وقد تقدم ف الباب الول منه طرف ‪.‬‬
‫فإذا ل يصح أن يطلق القول ف هذا القسم بأنه بدعة أن يقسم المر ذلك ‪.‬‬
‫وأما قسم الندوب فليس من البدع بال وتبيي ذلك بالنظر ف المثلة الت مثل لا بصلة التراويح ف‬
‫رمضان جاعة ف السجد ‪ .‬فقد قام با النب صلى ال عليه وسلم ف السجد واجتمع الناس خلفه ‪.‬‬
‫فخرج أبو داود عن أب ذر قال ‪:‬‬
‫"صمنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم رمضان ‪ ،‬فلم يقم بنا شيئا من الشهر حت بقي سبع ‪،‬‬
‫فقام بنا حت ذهب ثلث الليل ‪ ،‬فلما كانت السادسة ل يقم بنا ؟ فلما كانت الامسة قام بنا حت‬
‫ذهب شطر الليل فقلنا ‪ :‬يا رسول ال لو نفلتنا قيام هذه الليلة ؟ ـ قال ـ فقال ‪ :‬إن الرجل إذا‬
‫صلى مع المام حت ينصرف حسب له قيام الليلة ‪ ،‬قال ‪ :‬فلما كانت الرابعة ل يقم ‪ ،‬فلما كانت‬
‫الثالثة جع أهله ونساءه والناس ‪ ،‬فقام بنا حت خشينا أن يفوتنا الفلح ـ قال ـ قلت ‪ :‬وما‬
‫الفلح ؟ قال ‪ :‬السحور "‪ .‬ث ل يقم بنا بقية الشهر ‪ ،‬ونوه ف الترمذي ‪ ،‬وقال فيه حس ًن صحيح ‪.‬‬
‫لكنه صلى ال عليه وسلم لا خاف افتراضه على المة أمسك عن ذلك ‪ ،‬ففي الصحيح عن عائشة‬
‫رضي ال عنها ‪" :‬أن النب صلى ال عليه وسلم صلى ف السجد ذات ليلة فصلى بصلته ناس ‪ ،‬ث‬
‫صلى القابلة فكثر الناس ث اجتمعوا الليلة الثالثة أو الرابعة فلم يرج إليهم النب صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫فلما أصبح قال ‪:‬‬
‫قد رأيت الذي صنعتم ‪ ،‬فلم ينعن من الروج إل أن خشيت أن يفرض عليكم " ‪ ،‬وذلك ف‬
‫رمضان ‪ ،‬وخرجه مالك ف الوطأ ‪.‬‬
‫فتأملوا ففي هذا الديث ما يدل على كونا سنة ‪ ،‬فإن قيامه أو ًل بم دليل على صحة القيام ف‬
‫السجد جاعة ف رمضان وامتناعه بعد ذلك من الروج خشية الفتراض ل يدل على امتناعه‬
‫مطلقا ‪ ،‬لن زمانه كان زمان زحي وتشريع ‪ ،‬فيمكن أن يوحى إليه إذا عمل به الناس باللزام ‪ ،‬فلما‬
‫زالت علة التشريع بوت رسول ال صلى ال عليه وسلم رجع المر إل أصله ‪ ،‬وقد ثبت الواز فل‬
‫ناسخ له ‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإنا ل يقم ذلك أبو بكر رضي ال عنه لحد أمرين ‪ :‬إما لنه رأى أن قيام الناس آخر الليل وما هم‬
‫به عليه كان أفضل عنده من جعهم على إمام أول الليل ذكره الطرطوشي ‪ ،‬وإما لضيق زمانه رضي‬
‫ال عنه عن النظر ف هذه الفروع ‪ ،‬مع شغله بأهل الردة وغي ذلك ما هو أوكد من صلة التراويح ‪.‬‬
‫فلما تهد السلم ف زمن عمر رضي ال عنه ورأى الناس ف السجد أوزاعا ـ كما جاء ف الب ـ‬
‫قال ‪ :‬لو جعت الناس على قارىء واحد لكان أمثل ‪ ،‬فلما ت له ذلك نبه على أن قيامهم آخر الليل‬
‫أفضل ‪ ،‬ث اتفق السلف على صحة ذلك وإقراره ‪ ،‬والمة ل تتمع على ضللة ‪.‬‬
‫وقد نص الصوليون أن الجاع ل يكون إل عن دليل شرعي ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فقد ساها عمر رضي ال عنه بدعة وحسنها بقوله ‪ :‬نعمت البدعة هذه وإذا ثبتت بدعة‬
‫مستحسنة ف الشرع ثبت مطلق الستحسان ف البدع ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬إنا ساها بدعة باعتبار ظاهر الال من حيث تركها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫واتفق أن ل تقع ف زمان أب بكر رضي ال عنه ‪ ،‬ل أنا بدعة ف العن ‪ ،‬فمن ساها بدعة بذا‬
‫العتبار فل مشاحة ف الساسي ‪ ،‬وعند ذلك فل يوز أن يستدل با على جواز البتداع بالعن‬
‫التكلم فيه ‪ ،‬لنه نوع من تريف الكلم عن مواضعه ‪ ،‬فقد قالت عائشة رضي ال تعال عنها ‪:‬‬
‫إن كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ليدع العمل وهو يب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس‬
‫فيفرض عليهم ‪.‬‬
‫وقد نى النب صلى ا ل عليه وسلم عن الوصال رحةً بالمة وقال ‪:‬‬
‫"إن لست كهيئتكم ‪ ،‬إن أبيت عند رب يطعمن ويسقين" وواصل الناس بعده لعلمهم بوجه علة‬
‫النهي حسبما يأت إن شاء ال تعال ‪.‬‬
‫وذكر القراف من جلة المثلة إقامة صور الئمة والقضاة إل ما قال ‪ ،‬وليس ذلك من قبيل البدع‬
‫بسبيل ‪ ،‬أما أولً فإن التجمل بالنسبة إل ذوي اليئات والناصب الرفيعة مطلوب ‪ ،‬وقد كان للنب‬
‫صلى ال عليه وسلم حلة يتجمل با للوفود ‪ ،‬ومن العلة ف ذلك ما قاله القراف من أن ذلك أهيب‬
‫وأوقع ف النفوس ‪ ،‬من تعظيم العظماء ‪ ،‬ومثله التجمل للقاء العظماء كما جاء ف حديث أشج عبد‬
‫القيس ‪ ،‬وأما ثانيا ‪ :‬فإن سلمنا أن ل دليل عليه بصوصه فهو من قبيل الصال الرسلة ‪ ،‬وقد مر أنا‬
‫ثابتة ف الشرع ‪ .‬وما قاله من أن عمر كان يأكل خبز الشعي ويفرض لعامله نصف شاة ‪ ،‬فليس فيه‬
‫تفخيم صورة المام ول عدمه ‪ ،‬بل فرض له ما يتاج إليه خاصة ‪ ،‬وإل فنصف شاة لبعض العمال قد‬
‫ل يكفيه لكثرة عيال وطروق ضيف وسائر ما يتاج إليه من لباس وركوب وغيها ‪ ،‬فذلك قريب‬
‫من أكل الشعي ف العن ‪ ،‬وأيضا فإن ما يرجع إل الأكول والشروب ل تمل فيه بالنسبة إل‬
‫الظهور للناس ‪.‬‬

‫‪101‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقوله ‪ :‬فكذلك يتاجون إل تديد زخارف وسياسات ل تكن قدية ‪ ،‬وربا وجبت ف بعض‬
‫الحوال ‪ ،‬مفتقر إل التأمل ‪ ،‬ففيه ـ على الملة ـ أنه مناقض لقوله ف آخر الفصل ‪ :‬الي كله ف‬
‫التباع ‪ ،‬والشر كله ف البتداع مع ما ذكره قبله ‪.‬‬
‫فهذا كلم يقتضي أن البتداع شر كله ‪ ،‬فل يكن أن يتمع مع فرض الوجوب ‪ .‬وهو قد ذكر أن‬
‫البدعة قد تب ‪ ،‬وإذا وجبت لزم العمل با ‪ ،‬وهي لا فاتت ضمن الشر كله فقد اجتمع فيها المر‬
‫با والمر بتركها ‪ ،‬ول يكن فيهما النفكاك ـ وإن كانا من جهتي ـ لن الوقوع يستلزم‬
‫الجتماع ‪ ،‬وليسا كالصلة ف الدار الغصوبة ‪ .‬لن النفكاك ف الوقوع مكن ‪ ،‬وها هنا إذا وجبت‬
‫فإنا تب على الصوص ‪ ،‬وقد فرض أن الشر فيها على الصوص فلزم التناقض ‪ ،‬وأما على التفصيل‬
‫فإن تديد الزخارف فيه من الطأ ما ل يفى ‪.‬‬
‫وأما السياسات ‪ ،‬فإن كانت جارية على مقتضى الدليل الشرعي فليست ببدع ‪ ،‬وإن خرجت عن‬
‫ذلك فكيف يندب إليها ؟ وهي مسألة الناع ‪.‬‬
‫وذكر ف قسم الكروه أشياء هي من قبيل البدع ف الملة ول كلم فيها ‪ ،‬أو من قبيل الحتياط على‬
‫العبادات الحضة أن ل يزداد فيها ول ينقص منها ‪ ،‬وذلك صحيح ‪ ،‬لن الزيادة فيها والنقصان منها‬
‫بدع منكرة ‪ .‬فحالتها وذرائعها يتاط با ف جانب النهي ‪.‬‬
‫وذكر ف قسم الباح مسألة الناخل ‪ ،‬وليست ـ ف القيقة ـ من البدع بل هي من باب التنعم ‪،‬‬
‫ول يقال فيمن تنعم بباح ‪ :‬إنه قد ابتدع ‪ ،‬وإنا يرجع ذلك ـ إذا اعتب ـ إل جهة السراف ف‬
‫الأكل ‪ ،‬لن السراف كما يكون ف جهة الكمية يكون ف جهة الكيفية ‪ ،‬فالناخل ل تعدو القسمي‬
‫‪ ،‬فإن كان السراف من ماله ‪ ،‬فإن كره ‪ ،‬وإل اغتفر مع أن الصل الواز ‪.‬‬
‫وما يكيه أهل التذكي من الثار أو أول ما أحدث الناس أربعة أشياء ‪ :‬الناخل ‪ ،‬والشبع ‪ ،‬وغسل‬
‫ل ـ ليس ببدعة ‪ ،‬وإنا‬ ‫اليدين بالشنان بعد الطعام ‪ ،‬والكل على الوائد ‪ ،‬وهذا كله ـ إن ثبت نق ً‬
‫يرجع إل أمر آخر ‪ ،‬وإن سلم أنه بدعة فل نسلم أنا مباحة ‪ ،‬بل هي ضللة ومنهي عنها ‪ ،‬ولكنا‬
‫نقول بذلك ‪.‬‬

‫فصل وأما ما قاله عز الدين‬


‫وأما ما قاله عز الدين ‪ ،‬فالكلم فيه على ما تقدم ‪ ،‬فأمثلة الواجب منها من قبل ما ل يتم الواجب إل‬
‫به ـ كما قال ـ فل يشترط أن يكون معمولً به ف السلف ول أن يكون له أصل ف الشريعة على‬
‫الصوص ‪ ،‬لنه من باب الصال الرسلة ل البدع ‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أما هذا الثان فقد تقدم ‪ ،‬وأما الول لو كان ث من يسي إل فريضة الج طيانا ف الواء أو مشيا‬
‫على الاء ل يعد مبتدعا بشيه كذلك ‪ ،‬لن القصود إنا هو التوصل إل مكة لداء الفرض وقد حصل‬
‫على الكمال ‪ .‬فكذلك هذا ‪.‬‬
‫على أن هذه أشياء قد ذمها بعض من تقدم من الصنفي ف طريقة التصوف وعدها من جلة ما ابتدع‬
‫الناس ‪ ،‬وذلك غي صحيح ‪ ،‬ويكفي ف رده إجاع الناس قبله على خلف ما قال ‪.‬‬
‫على أنه نقل عن القاسم بن ميمرة ‪ :‬أنه ذكرت عنده العربية فقال ‪ :‬أولا كب ‪ ،‬وآخرها بغي ‪،‬‬
‫وحكي أن بعض السلف قال ‪ :‬النحو يذهب الشوع من القلب ‪ ،‬ومن أراد أن يزدري الناس كلهم‬
‫فلينظر ف النحو ‪ ،‬ونقل نو من هذه ‪ ،‬وهذه كلها ل دليل فيها على الذم لنه ل يذم النحو من حيث‬
‫هو بدعة بل من حيث ما يكتسب به أمر زائد ‪ ،‬كما يذم سائر علماء السوء ل لجل علومهم بل‬
‫لجل ما يدث لم بالعرض من الكب به والعجب وغيها ‪ ،‬ول يلزم من ذلك كون العلم بدعة ‪،‬‬
‫فتسمية العلوم الت يكتسب با أمر مذموم بدعا إما على الجاز الحض من حيث ل يتج إليها أولً ث‬
‫احيتج بعد ‪ ،‬أو من عدم العرفة بوضوع البدعة ‪ ،‬إذ من العلوم الشرعية ما يداخل صاحبها الكب‬
‫والزهو وغيها ‪ ،‬ول يعود ذلك عليها بذم ‪.‬‬
‫وما حكى بعض هذه التصوفة عن بعض علماء اللف قال ‪ :‬العلوم تسعة ‪ .‬أربعة منها سنة معروفة‬
‫من الصحابة والتابعي ‪ ،‬وخسة مدثة ل تكن تعرف فيما سلف ‪ ،‬فأما الربعة العروفة ‪ .‬فعلم اليان‬
‫‪ ،‬وعلم القرآن ‪ ،‬وعلم الثار ‪ ،‬والفتاوى ‪ ،‬وأما المسة الحدثة ‪ :‬فالنحو ‪ ،‬والعروض ‪ ،‬وعلم‬
‫القاييس ‪ ،‬والدل ف الفقه ‪ ،‬وعلم العقول بالنظر ‪.‬‬
‫وهذا ـ إن صح نقله ـ فليس أولً كما قال ‪ ،‬فإن أهل العربية يكون عن أب السود الدؤل أن‬
‫علي بن أب طالب رضي ال عنه هو الذي أشار عليه بوضع شيء ف النحو حي سع أعرابيا قارئا ‪.‬‬
‫"أن ال بريء من الشركي ورسوله" ـ بالر ـ وقد روي عن ابن مليكة أن عمر بن الطاب‬
‫رضي ال عنه أمر أن ل يقرأ القرآن إل عال باللغة ‪ ،‬وأمر أبا السود فوضع النحو ‪ ،‬والعروض من‬
‫جنس النحو ‪ ،‬وإذا كانت الشارة من واحد من اللفاء الراشدين صار النحو والنظر ف الكلم العرب‬
‫من سنة اللفاء الراشدين ‪ ،‬وإن سلم أنه ليس كذلك ‪ ،‬فقاعدة الصال تعم علوم العربية ‪ ،‬أي تكون‬
‫من قبيل الشروع ‪ ،‬فهي من جنس كتب الصحف وتدوين الشرائع ‪ ،‬وما ذكر عن القاسم بن ميمرة‬
‫قد رجع عنه ‪.‬‬
‫قال أحد بن يي ثعلبا ( ؟ ) قال ‪ :‬كان أحد الئمة ف الدين يعيب النحو ويقول ‪ :‬أول تعلمه‬
‫شغل ‪ ،‬وآخره يزدري العال به الناس ‪ ،‬فقرأ يوما ‪" :‬إنا يشى ال من عباده العلماء" برفع ال‬
‫ونصب العلماء فقيل له ‪ :‬كفرت من حيث ل تعلم ‪ :‬تعل ال يشى العلماء ؟ فقال ‪ :‬ل طعنت‬
‫( ؟ ) قال عن علم يدل إل معرفة هذا أبدا ‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قال عثمان بن سعيد الدان ‪ :‬المام الذي ذكره أحد بن يي هم القاسم بن بن ميمرة ‪ .‬قال ‪ :‬وقد‬
‫جرى لعبد ال بن أب إسحاق مع ممد بن سيين كلم ‪ ،‬وكان ابن سيين ينتقص النحويي ‪،‬‬
‫فاجتمعا ف جنازة فقرأ ابن سيين "إنا يشى ال من عباده العلماء" برفع اسم ال ‪ ،‬فقال له ابن أب‬
‫إسحاق ‪ :‬كفرت يا أبا بكر ‪.‬تعيب على هؤلء الذين يقيمون كتاب ال ؟ فقال ابن سيين ‪ :‬إن‬
‫كنت أخطأت فأستغفر ال ‪.‬‬
‫وأما علم القاييس فأصله ف السنة ‪ ،‬ث ف علم السلف بالقياس ‪ .‬ث قد جاء ف ذم القياس أشياء‬
‫حلوها عل‬
‫فصل وما يتعلق به بعض التكلفي‬
‫وما يتعلق به بعض التكلفي أن الصوفية هم الشهورون باتباع السنة ‪ ،‬القتدون أفعال السلف‬
‫الصال ‪ ،‬الثابرون ف أقوالم وأفعالم على القتداء التام والفرار عما يالف ذلك ‪ ،‬ولذلك جعلوا‬
‫طريقتهم مبنية على أكل اللل ‪ ،‬واتباع السنة والخلص وهذا هو الق ‪ .‬ولكنهم ف كثي من‬
‫المور يستحسنون أشياء ل تأت ف كتاب ول سنة ‪ ،‬ول عمل بأمثالا السلف الصال ‪ .‬فيعملون‬
‫بقتضاها ‪ ،‬ويثابرون عليها ‪ ،‬ويكمونا طريقا لم مهيعا وسنة ل تلف ‪ ،‬بل ربا أوجبوها ف بعض‬
‫الحوال فلول أن ف ذلك رخصة ل يصح لم ما بنوا عليه ‪.‬‬
‫فمن ذلك أنم يعتمدون ف كثي من الحكام على الكشف والعاينة ‪ ،‬وخرق العادة ‪ ،‬فيحكمون‬
‫بالل والرمة ‪ ،‬ويثبتون على ذلك القدام والحجام ‪،‬كما يكى عن الحاسب أنه كان إذا تناول‬
‫طعاما ف شبهة ينبض له عرق ف أصبعه فيمتنع منه ‪.‬‬
‫وقال الشبلي ‪ :‬اعتقدت وقتا أن ل آكل إل من حلل ‪ ،‬فكنت أدور ف الباري ‪ ،‬فرأيت شجرة تي‬
‫فمددت يدي إليها لكل فنادتن الشجرة ‪ :‬احفظ عليك عهدك ‪ ،‬ل تأكل من فإن ليهودي ‪.‬‬
‫وقال إبراهيم الواص رحه ال ‪ :‬دخلت خربة ف بعض السفار ف طريق مكة بالليل فإذا فيها سبع‬
‫عظيم فخفت ‪ ،‬فهتف ب هاتف ‪ :‬اثبت فإن حولك سبعي ألف ملك يفظونك ‪.‬‬
‫فمثل هذه الشياء إذا عرضت على قواعد الشريعة ظهر عدم البناء عليها ‪ ،‬إذ الكاشفة ‪ ،‬أو الاتف‬
‫الجهول ‪ ،‬أو ترك بعض العروق ‪ ،‬ل يدل على التحليل ول التحري لمكانه ف نفسه ‪ ،‬وإل لو‬
‫حضر ذلك حاكم أو غيه لكان يب عليه أو يندب البحث عنه حت يستخرج من يد واضعة بي‬
‫أيديهم إل مستحقه ‪ .‬ولو هتف هاتف بأن فلنا قتل القتول الفلن ‪ ،‬أمر أخذ مال فلن ‪ ،‬أو زن ‪،‬‬
‫أو سرق ‪ .‬أكان يب عليه العمل بقوله ؟ و يكون شاهدا ف بعض الحكام ؟ شرعي ؟ هذا ما ل‬
‫يعهد ف الشرع مثله ‪.‬‬
‫ولذلك قال العلماء ‪ :‬لو أن نبيا من النبياء ادعى الرسالة ‪ .‬وقال ‪ :‬إنن إن أدع هذه الشجرة‬
‫ل على‬‫تكلمن ‪ ،‬ث دعاها فأتت وكلمته وقالت ‪ :‬إنك كاذب ‪ .‬لكان ذلك دليلً على صدقة ل دلي ً‬

‫‪104‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كذبه ‪ ،‬لنه تدى بأمر جاءه على وفق ما ادعاه ‪ .‬وكون الكلم تصديقا أو تكذيبا أمر خارج عن‬
‫مقتضى الدعوى ل حكم له ‪.‬‬
‫فكذلك نقول ف هذه السألة ‪ :‬إذا فرضنا أن انقباض العرق لزم لكون الطعام حراما ‪ ،‬ل يدل ذلك‬
‫على أن الكم بالمساك عنه إذا ل يدل عليه دليل معتب ف الشرع معلوم ‪.‬‬
‫فكذلك مسألة الواص ‪ .‬فإن التوقي من مظان الهلكات مشروع ‪ ،‬فخلفه يظهر أنه خلف‬
‫الشروع ‪ ،‬وهو معتاد ف أهل هاته الطريقة ‪.‬‬
‫وكذلك كلم الشجرة للشبلي من جلة الوارق وبناء الكم عليه غي معهود ‪.‬‬
‫ومن ذلك أنم يبنون طريقهم على اجتناب الرخص جلة ‪ ،‬حت إن شيخهم الذي مهد لم الطريقة أبا‬
‫القاسم القشيي قال ف باب وصية الريدين من رسالته ‪ :‬إن اختلف على الريد فتاوى الفقهاء يأخذ‬
‫بالحوط ‪ ،‬ويقصد أبدا الروج عن اللف ‪ ،‬فإن الرخص ف الشريعة للمستضعفي وأصحاب‬
‫الوائج والشغال ‪ ،‬وهؤلء الطائفة ـ يعن الصوفية ـ ليس لم شغل سوى القيام بقه سبحانه ‪.‬‬
‫ولذا قيل ‪ :‬إذا انط الفقي عن درجة القيقة إل رخصة الشريعة ‪ ،‬فقد فسخ عقده ‪ ،‬ونقص عهده‬
‫فيما بينه وبي ال ‪.‬‬
‫فهذا الكلم ظاهر ف أنه ليس من شأنم الترخص ف مواطن الترخص الشروع ‪ ،‬وهو ما كان عليه‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬والسلف الصال من الصحابة والتابعي ‪ .‬فالتزام العزائم مع وجود‬
‫مضار الرخص التيي قال فيها رسول ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إن ال يب أن تؤتى رخصه كما يب أن تؤتى عزائمه" فيه ما فيه ‪ .‬وظاهره أنه بدعة استحسنوها‬
‫قمعا للنفس عن السترسال ف اليل إل الراحة وإيثارا إل ما يبن عليه من الجاهدة ‪.‬‬
‫ومن ذلك‬
‫الباب الرابع ف مأخذ أهل البدع بالستدلل‬
‫كل خارج عن السنة من يدعي الدخول فيها والكون من أهلها ل بد له من تكلف ف الستدلل‬
‫بأدلتها على خصوصات مسائلهم ‪ ،‬وإل كذب اطراحها دعواهم ‪ ،‬بل كل مبتدع من هذه المة إما‬
‫أن تدعي أنه هو صاحب السنة دون من خالفه من الفرق فل يكنه الرجوع إل التعلق بشبهها ‪ ،‬وإذا‬
‫رجع إليها كان الواجب عليه أن يأخذ الستدلل مأخذ أهله العارفي بكلم العرب وكليات الشريعة‬
‫ومقاصدها ‪ ،‬كما كان السلف الول يأخذونا ‪ ،‬إل أن هؤلء ـ كما يتبي بعد ـ ل يبلغوا مبلغ‬
‫الناظرين فيها بإطلق ‪ .‬إما لعدم الرسوخ ف معرفة كلم العرب والعلم بقاصدها ‪ .‬وإما لعدم‬
‫الرسوخ ف العلم بقواعد الصول الت من جهتها تستنبط الحكام الشرعية ‪ ،‬وإما لعدم المرين جيعا‬
‫‪ .‬فبالري أن تصي مآخذهم للدلة مالفة لأخذ من تقدمهم من الحققي للمرين ‪.‬‬
‫وإذا تقرر هذا فل بد من التنبيه على تلك الآخذ لكي تذر وتتقى فنقول ‪:‬‬

‫‪105‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قال ال سبحانه وتعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله"‬
‫وذلك أن هذه الية شلت قسمي ها أصل الشي على طريق الصواب أو على طريق الطأ ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬الراسخون ف العلم وهم الثابتو القدام ف علم الشريعة ‪ .‬ولا كان ذلك متعذرا إل على من‬
‫حصل المرين التقدمي ل يكن بد من العرفة بما معا على حسب ما تعطيه النة النسانية ‪ ،‬وإذ ذاك‬
‫يطلق عليه ( أنه راسخ ف العلم ) ومقتضى الية مدحه ‪ ،‬فهو إذا أهل للهداية والستنباط ‪.‬‬
‫وحي خص أهل الزيغ باتباع التشابه دل التخصيص على أن الراسخي ل يتبعونه ‪ ،‬فإذا ل يتبعون إل‬
‫الحكم وهو أم الكتاب ومعظمه ‪.‬‬
‫فكل دليل خاص أو عام شهد له معظم الشريعة فهو الدليل الصحيح ‪ ،‬وما سواه فاسد ‪ .‬إذ ليس بي‬
‫الصحيح والفاسد واسطة ف الدلة يستند إليها ‪ .‬وإذ لو كان ث ثالث لنصت عليه الية ‪.‬‬
‫ث لا خص الزائغون بكونم يتبعون التشابه أيضا علم أن الراسخي ل يتبعونه ‪ ،‬فإن تأولوه فبالرد إل‬
‫الحكم بأن أمكن حله على الحكم ‪ ،‬بقتضى القواعد ‪ ،‬فهذا التشابه الضاف ل القيقي ‪ .‬وليس ف‬
‫الية نص على حكمه بالنسبة إل الراسخي ‪ ،‬فليجع عندهم إل الحكم الذي هو أم الكتاب ‪ ،‬وإن‬
‫ل يتأولوه بناءً على أنه متشابه حقيقي ‪ ،‬فيقاتلون بالتسليم وقولم ‪" :‬آمنا به كل من عند ربنا"‬
‫وهؤلء هم أولو اللباب ‪.‬‬
‫وكذلك ذكر ف أهل الزيغ أنم يتبعون التشابه ابتغاء الفتنة ‪ .‬فهم يطلبون به أهواءهم لصول الفتنة ‪.‬‬
‫فليس ف نظرهم إذا ف الدليل نظر الستبصر حت يكون هواه تت حكمه ‪ ،‬بل نظر من حكم بالوى‬
‫‪ ،‬ث أتى بالدليل كالشاهد له ‪ ،‬ول يذكر مثل ذلك ف الراسخي ‪ ،‬فهم إذن بضد هؤلء حيث وقفوا‬
‫ف التشابه فلم يكموا فيه ول عليه سوى التسليم ‪ ،‬وهذا العن خاص بن طلب الق من الدلة ‪ ،‬ل‬
‫يدخل فيه من طلب ف الدلة ما يصحح هواه السابق ‪.‬‬
‫ولقسم الثان ‪ :‬من ليس براسخ ف العلم وهو الزائغ فحصل له من الدلة وصفان ‪:‬‬
‫أحدها بالنص وهو الزيغ لقوله تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ " والزيغ هو اليل عن الصراط‬
‫الستقيم وهو ذم لم ‪.‬‬
‫والوصف الثان بالعن الذي أعطاه التقسيم وهو عدم الرسوخ ف العلم ‪ ،‬وكل منفي عنه الرسوخ‬
‫فإل الهل ما هو مائل ‪ ،‬ومن جهة الهل حصل له الزيغ ‪ ،‬لن من نفي عنه طريق الستنباط ‪،‬‬
‫واتباع الدلة لبعض الهالت ‪ ،‬ل يل له أن يتبع الدلة الحكمة ول التشابة ‪ ،‬ولو فرضنا أنه يتبع‬
‫الحكم ل يكن اتباعه مفيدا لكمه لمكان أن يتبعه على وجه واضح البطلن أو متشابه ‪ .‬فما ظنك‬
‫به إذا اتبع التشابه ‪.‬‬
‫ث اتباعه للمتشابه ـ ولو كان من جهة السترشاد به ل للفتنة به ـ ل يصل به مقصودا على حال‬
‫‪ .‬فما ظنك به إذا اتبع ابتغاء الفتنة ؟ وهكذا الحكم إذا اتبعه ابتغاء الفتنة به ‪ .‬فكثيا ما ترى الهال‬

‫‪106‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يتجون لنفسهم بأدلة فاسدة وبأدلة صحيح اقتصارا بالنظر على دليل ما ‪ ،‬واطراحا للنظر ف غيه‬
‫من الدلة الصولية والفروعية العاضدة لنظره أو العارضة له ‪.‬‬
‫وكثي من يدعي العلم يتخذ هذا الطريق مسلكا ‪ ،‬وربا أفت بقتضاه وعمل على وفقه إذا كان له فيه‬
‫غرض ‪ ،‬أو أعرض عن غرض له عرض ف الفتيا ‪ ،‬كجواز تنفيل المام اليش جيع ما غنموا على‬
‫طريقة من عز بز ل طريقة الشرع ‪ ،‬بناءً على نقل بعض العلماء أنه يوز تنفيل السرية جيع ما‬
‫غنمت ث عزا ذلك ـ وهو مالكي الذهب ـ إل مالك حيث قال ف كلم روي عنه ‪ :‬ما نفل‬
‫المام فهو جائز فأخذ هذه العبارة نصا على جواز تنفيل المام اليش جيع ما غنم ‪ ،‬ول يلتفت ف‬
‫النفل إل أن السرية هي القطعة من اليش بعينه ‪ .‬ول التفت أيضا إل أن النفل عند مالك ل يكون‬
‫إل من المس ‪ ،‬ل اختلف عنه ف ذلك أعلمه ‪ ،‬ول عن أحد من أصحابه ‪ ،‬فما نفل المام منه فهو‬
‫جائز ‪ ،‬لنه ممول على الجتهاد ‪.‬‬
‫وكذلك المر ف كل مسألة فيها الوى أو ًل ‪ ،‬ث يطلب لا الخرج من كلم العلماء أو من أدلة‬
‫الشرع وكلم العرب أبدا ‪ ،‬لتساعه وتصرفه ‪ ،‬واحتمالتا كثية لكن يعلم الراسخون الراد منه من‬
‫أوله إل آخره وفحواه ‪ ،‬أو بساط حاله أو قرائنه ‪ .‬فمن ل يعتبه من أوله إل آخره ويعتب ما ابتن‬
‫عليه زل ف فهمه ‪ .‬وهو شأن من يأخذ الدلة من أطراف العبارة الشرعية ول ينظر بعضها ببعض ‪،‬‬
‫فيوشك أن يزل ‪ .‬وليس هذا من شأن الراسخي ‪ ،‬وإنا هو من شأن من استعجل طلبا للمخرج ف‬
‫دعواه ‪.‬‬
‫فقد حصل من الية الذكورة أن الزيغ ل يري على طريق الراسخ بغي حكم التفاق ‪ ،‬وأن الراسخ‬
‫ل زيغ معه بالقصد البتة ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت هذا رجعنا منه إل معن آخر‬


‫إذا ثبت هذا رجعنا منه إل معن آخر فنقول ‪:‬‬
‫إن للراسخي طريقا يسلكونا ف اتباع الق ‪ .‬وأن الزائغي على طريق غي طريقهم فاحتجنا إل بيان‬
‫الطريق الت سلكها هؤلء لنتجنبها ‪ ،‬كما نبي الطريق الت سلكها الراسخون لنسلكها ‪ ،‬وقد بي‬
‫ذلك أهل أصول الفقه وبسطوا القول فيه ‪ ،‬ول يبسطوا القول ف طريق الزائغي ‪ .‬فهل يكن حصر‬
‫مآخذها أو ل ؟ فنظرنا ف آية أخرى تتعلق بم كما تتعلق بالراسخي ‪ ،‬وهي قوله تعال ‪" :‬وأن هذا‬
‫صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فأفادت الية أن طريق الق واحدة‬
‫‪ ،‬وأن للباطل طرقا متعددة ل واحدة ‪ ،‬وتعددها ل يص بعدد مصوص وهكذا الديث الفسر للية‬
‫وهو قول ابن مسعود رضي ال عنه ‪.‬‬

‫‪107‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"خط لنا رسول ال صلى ال عليه وسلم خطا فقال ‪ :‬هذا سبيل ال مستقيما ‪ .‬ث خط خطوطا عن‬
‫يي ذلك الط وعن شاله ث قال ‪ :‬هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه" ث تل هذه الية‬
‫‪.‬‬
‫ففي الديث أنا خطوط متعددة غي مصورة بعدد ‪ ،‬فلم يكن لنا سبيل إل حصر عددها من جهة‬
‫النقل ‪ ،‬ول لنا أيضا سبيل إل حصرها من جهة العقل أو الستقراء ‪.‬‬
‫أما العقل فإنه ل يقضي بعدد دون آخر ‪ ،‬لنه غي راجع إل أمر مصور ‪ ،‬أل ترى أن الزيغ راجع إل‬
‫الهالت ؟ ووجوه الهل ل تنحصر ‪ ،‬فصار طلب حصرها عناء من غي فائدة ‪.‬‬
‫وأما الستقراء فغي نافع أيضا ف هذا الطلب ‪ ،‬لنا لا نظرنا ف طرق البدع من حي نبتت وجدناها‬
‫تزداد على اليام ‪ ،‬ول يأت زمان إل وغريبة من غرائب الستنباط تدث ‪ ،‬إل زماننا هذا ‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك فيمكن أن يدث بعد زماننا استدللت أخر ل عهد لنا يها فيما تقدم ‪ .‬ل سيما‬
‫عند كثرة الهل ‪ ،‬وقلة العلم ‪ ،‬وبعد الناظرين فيه عن درجة الجتهاد فل يكن إذا حصرها من هذا‬
‫الوجه ‪ .‬ول يقال ‪ :‬إنا ترجع إل مالفة طريق الق ‪ .‬فإن أوجه الخالفة ل تنحصر أيضا ‪.‬‬
‫فثبت أن تتبع هذا الوجه عناء ‪ .‬لكنا نذكر من ذلك أوجها كلية يقاس عليها ما سواها ‪.‬‬
‫فمنها ‪ :‬اعتمادهم على الحاديث الواهية الضعيفة ‪ ،‬والكذوب فيها على رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬والت ل يقبلها أهل صناعة الديث ف البناء عليها ‪.‬‬
‫وإنا أخذ بعض العلماء بالديث السن للاقه عند الحدثي بالصحيح ‪ ،‬لن سنده ليس فيه من‬
‫يعاب برحه متفق عليها ‪ ،‬وكذلك أخذ من أخذ منهم بالرسل ليس إل من حيث ألق بالصحيح ف‬
‫أن التروك ذكره كالذكور والعدل ‪ ،‬فأما ما دون ذلك فل يؤخذ به بال عند علماء الديث ‪.‬‬
‫ولو كان من شأن أهل السلم إذا يبي ( ؟ ) عنه الخذ من الحاديث بكل ما جاء عن كل من‬
‫جاء ل يكن لنتصابم للتعديل والتجريح معن ‪ ،‬مع أنم قد أجعوا على ذلك ‪ ،‬ول كان لطلب‬
‫السناد معن يتحصل ‪ ،‬فلذلك جعلوا السناد من الدين ول يعنون حدثن فلن عن فلن مردا ‪،‬‬
‫بل يريدون ذلك لا تضمنه من معرفة الرجال الذين براويته عنهم ‪ ،‬حت ل يسند عن مهول ول‬
‫مروح ول منهم ‪ ،‬إل عمن تصل الثقة بروايته ‪ ،‬لن روح السألة أن يغلب على الظن من غي ريبة‬
‫أن ذلك الديث قد قاله النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬لنعتمد عليه ف الشريعة ‪ ،‬ونسند إليه الحكام ‪.‬‬
‫والحاديث الضعيفة السناد ل يغلب على الظن أن النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قالا فل يكن أن‬
‫يسند إليها حكم ‪ ،‬فما ظنك بالحاديث العروفة الكذب ؟‬
‫نعم الامل على اعتمادها ف الغالب إنا هو ما تقدم من الوى التبع ‪ ،‬وهذا كله على فرض أن ل‬
‫يعارض الديث أصل من أصول الشريعة ‪ ،‬وأما إذا كان له معارض فأجرى أن ل يؤخذ به ‪ ،‬فهو‬
‫هدم لصل من أصول الشريعة ‪ ،‬والجاع على منعه إذا كان صحيحا ف الظاهر ‪ ،‬وذلك دليل على‬

‫‪108‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الوهم من بعض الرواة أو الغلط من بعض الرواة أو النسيان ‪ .‬فما الظن به إذا ل يصح ؟ على أنه قد‬
‫روي عن أحد بن حنبل أنه قال ‪ :‬الديث الضعيف خي من القياس ‪ .‬وظاهره يقتضي العمل‬
‫بالديث غي الصحيح ‪ ،‬لنه قدمه على القياس العمول به عند جهور السلمي ‪ ،‬بل هو إجاع‬
‫السلف رضي ال عنهم ‪ .‬فدل على أنه عنده أعلى رتبة ف العمل من القياس ‪.‬‬
‫والواب عن هذا ‪ :‬أنه كلم متهد يتمل اجتهاده الطأ والصواب ‪ ،‬إذ ليس له على ذلك دليل‬
‫يقطع العذر ‪ ،‬وإن سلم فيمكن حله على خلف ظاهره ‪ ،‬لجاعهم على طرح الضعيف السناد‬
‫فيجب تأويله على أن يكون أراد به السن السند وما دار به على القول بإعماله ‪ ،‬أو أراد خي من‬
‫القياس لو كان مأخوذا به فكأنه يرد القياس بذلك الكلم مبالغة ف معارضة من اعتمده أصلً حت‬
‫رد به الحاديث وقد كان رحه ال تعال ييل إل نفي القياس ‪ ،‬ولذلك قال ‪ :‬ما زلنا نلعن أهل‬
‫الرأي ويلعنونا حت جاء الشافعي فخرج بيننا ‪ .‬أو أراد بالقياس القياس الفاسد الذي ل أصل له من‬
‫كتاب ول سنة ول إجاع ‪ ،‬ففضل عليه الديث الضعيف وإن ل يعمل به ‪ .‬وأيضا فإذا أمكن أن‬
‫يمل كلم أحد على ما يسوغ ل يصح العتماد عليه ف معارضة كلم الئمة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬هذا كله رد على الئمة الذين اعتمدوا على الحاديث الت ل تبلغ درجة الصحيح ‪ ،‬فإنم‬
‫كما نصوا على اشتراط صحة السناد ‪ ،‬كذلك نصوا أيضاعلى أن أحاديث الترغيب والترهيب ل‬
‫يشترط ف نقلها للعتماد صحة ‪ ،‬السناد ‪ ،‬بل إن كان ذلك فبها ونعمت ‪ ،‬وإل فل حرج على من‬
‫نقلها واستند إليها ‪ ،‬فقد فعله الئمة كـ مالك ف الوطأ ‪ ،‬وابن البارك ف رقائقه ‪ ،‬وأحد بن حنبل‬
‫ف رقائقه ‪ ،‬وسفيان ف جع الي ‪ ،‬وغيهم ‪.‬‬
‫فكل ما ف هذا النوع من النقولت راجع إل الترغيب والترهيب ‪ ،‬وإذا جاز اعتماد مثله ‪ ،‬جاز فيما‬
‫كان نوه ما يرجع إليه كصلة الرغائب والعراج ‪ ،‬وليلة النصف من شعبان ‪ ،‬وليلة أول جعة من‬
‫رجب ‪ ،‬وصلة اليان والسبوع ‪ ،‬وصلة بر الوالدين ويوم عاشوراء وصيام رجب ‪ ،‬والسابع‬
‫والعشرين منه ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬فإن جيعها راجع إل الترغيب ف العمل الصال ‪ ،‬فالصلة على‬
‫الملة ثابت أصلها ‪ ،‬وكذلك الصيام وقيام الليل ‪ ،‬كل ذلك راجع إل خي نقلت فضيلته على‬
‫الصوص ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا فكل ما نقلت فضيلته ف الحاديث فهو من باب الترغيب ‪ ،‬فل يلزم فيه شهادة أهل‬
‫الديث بصحة السناد بلف الحكام ‪.‬‬
‫فإذا هذا الوجه من الستدلل من طريق الراسخي ل من طريق الذين ف قلوبم زيغ ‪ ،‬حيث فرقوا‬
‫بي أحاديث الحكام فاشترطوا فيها الصحة ‪ ،‬وبي أحاديث الترغيب والترهيب فلم يشترطوا فيها‬
‫ذلك ‪.‬‬

‫‪109‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فالواب ‪ :‬أن ما ذكره علماء الديث من التساهل ف أحاديث الترغيب والترهيب ل ينتظم مع‬
‫ل‪،‬‬ ‫مسألتنا الفروضة ‪ ،‬وبيانه ‪ :‬أن العمل التكلم فيه إما أن يكون منصوصا على أصله جلة وتفصي ً‬
‫ل‪.‬‬‫ل ‪ ،‬أو يكون منصوصا عليه جلةً ل تفصي ً‬ ‫أو ل يكون منصوصا عليه ل جلةً ول تفصي ً‬
‫فالول ‪ :‬ل إشكال ف صحته ‪ ،‬كالصلوات الفروضات والنوافل الرتبة لسباب وغيها ‪ ،‬وكالصيام‬
‫الفروض ‪ ،‬أو الندوب على الوجه العروف ‪ ،‬إذا فعلت على الوجه الذي نص عليه من غي زيادة ول‬
‫نقصان ‪ ،‬كصيام عاشوراء أو يوم عرفة والوتر بعد نوافل الليل ‪ ،‬وصلة الكسوف ‪ .‬فالنص جاء ف‬
‫هذه الشياء صحيحا على ما شرطوا ‪ ،‬فثبتت أحكامها من الفرض والسنة والستحباب ‪ ،‬فإذا ورد‬
‫ف مثلها أحاديث ترغيب فيها ‪ ،‬أو تذير من ترك الفرض منها ‪ ،‬وليست بالغة مبلغ الصحة ‪ ،‬ول هي‬
‫أيضا من الضعف بيث ل يقبلها أحد ‪ ،‬أو كانت موضوعة ل يصح الستشهاد با ‪ ،‬فل بأس‬
‫بذكرها والتحذير با والترغيب ‪ ،‬بعد ثبوت أصلها من طريق صحيح ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬ظاهر أنه غي صحيح ‪ ،‬وهو عي البدعة ‪ .‬لنه ل يرجع إل لجرد الرأي البن على الوى ‪،‬‬
‫وهو أبدع البدع وأفحشها ‪ ،‬كالرهبانية النفية عن السلم ‪ ،‬والصاء لن خشي العنت ‪ ،‬والتعبد‬
‫بالقيام ف الشمس ‪ ،‬أو بالصمت من غي كلم أحد ‪ .‬فالترغيب ف مثل هذا ل يصح ‪ ،‬إذ ل يوجد‬
‫ف الشرع ‪ ،‬ول أصل له يرغب ف مثله ‪ ،‬أو يذر من مالفته ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬ربا يتوهم أنه كالول من جهة أنه إذا ثبت أصل عبادة ف الملة ‪ ،‬فيسهل ف التفصيل‬
‫نقله من طريق غي مشترط الصحة ‪ ،‬فمطلق التنفل بالصلة مشروع ‪ ،‬فإذا جاء ترغيب ف صلة ليلة‬
‫النصف من شعبان فقد عضده أصل الترغيب ف صلة النافلة ‪ .‬وكذلك إذا ثبت أصل صيام ‪ ،‬ثبت‬
‫صيام السابع والعشرين من رجب ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ .‬وليس كما توهوا ‪ ،‬لن الصل إذا ثبت ف‬
‫الملة ل يلزم غثباته ف التفصيل ‪ ،‬فإذا ثبت مطلق الصلة ل يلزم منه إثبات الظهر والعصر أو الوتر‬
‫أو غيها حت ينص عليها على الصوص ‪ .‬وكذلك إذا ثبت مطلق الصيام ل يلزم منه إثبات صوم‬
‫رمضان أو عاشوراء أو شعبان أو غي ذلك ‪ ،‬حت يثبت بالفصيل بدليل صحيح ‪ .‬ث ينظر بعد ذلك‬
‫ف أحاديث الترغيب والترهيب بالنسبة إل ذلك العمل الاص الثايت بالدليل الصحيح ‪.‬‬
‫وليس فيما ذكر ف السؤال شيء من ذلك ‪ ،‬إذ ل ملزمة بي ثبوت التنفل الليلي والنهاري ف‬
‫الملة ‪ ،‬وبي قيام ليلة النصف من شعبان بكذا وكذا ركعة ‪ .‬يقرأ ف كل لكعة منها بسورة كذا‬
‫على الصوص كذا وكذا مرة ‪ .‬ومثله صيام اليوم الفلن من الشهر الفلن ‪ ،‬حت تصي تلك العبادة‬
‫مقصودة على الصوص ‪ ،‬ليس ف شيء من ذلك ما يقتضيه مطلق شرعية التنفل بالصلة أو الصيام ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أن تفضيل يوم من اليام أو زمان من الزمنة بعبادة ما يتضمن حكما شرعيا فيه‬
‫ل ‪ ،‬أو لعرفة ‪ ،‬أو لشعبان مزية على مطلق التنفل بالصيام ‪،‬‬
‫على الصوص ‪ ،‬كما ثبت لعاشوراء مث ً‬
‫فإنه ثبت له مزية على الصيام ف مطلق اليام ‪ .‬فتلك الزية اقتضت مرتبة ف الحكام أعلى من غيها‬

‫‪110‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بيث ل تفهم من مطلق مشروعية الصلة النافلة ‪ ،‬لن مطلق الشروعية يقتضي أن السنة بعشر‬
‫أمثالا إل سبعمائة ضعف ف الملة ‪ .‬وصيام يوم عاشوراء يقتضي أنه يكفر السنة الت قبله ‪ ،‬فهو أمر‬
‫زائد على مطلق الشروعية ‪ ،‬ومساقه يفيد له مزية ف الرتبة ‪ ،‬وذلك راجع إل الكم ‪.‬‬
‫فإذا هذا الترغيب الاص يقتضي مرتبة ف نوع من الندوب خاصة ‪ ،‬فل بد من رجوع إثبات الكم‬
‫إل الحاديث الصحيحة بنا ًء على قولم ‪ :‬إن الحكام ل تثبت إل من طريق صحيح والبدع‬
‫الستدل عليها بغي الصحيح ل بد فيها من الزيادة على الشروعات كالتقييد بزمان أو عدد أو كيفية‬
‫ما ‪ .‬فليزم أن تكون أحكام تلك الزيادات ثابتة بغي الصحيح ‪ ،‬وهو ناقض لا أسسه العلماء ‪.‬‬
‫ول يقال ‪ :‬إنم يريدون أحكام الوجوب والتحري فقط ‪ .‬لنا نقول ‪ :‬هذا تكم من غي دليل ‪ ،‬بل‬
‫الحكام خسة ‪ .‬فكما ل يثبت الوجوب إل بالصحيح فإذا ثبت الكم فاستسهل أن يثبت ف‬
‫أحاديث الترغيب والترهيب ‪ ،‬ول عليك ‪ .‬فعلى كل تقدير ‪ :‬كل ما رغب فيه إن ثبت حكمه‬
‫ومرتبته ف الشروعات من طريق صحيح فالترغيب فيه بغي الصحيح مغتفر ‪ .‬وإن ل يثبت إل من‬
‫فصل ومنها ضد هذا وهو ردهم للحاديث الت جرت غي موافقة لغراضهم‬
‫ومنها ضد هذا ‪ .‬وهو ردهم للحاديث الت جرت غي موافقة لغراضهم ومذاهبهم ‪ ،‬ويدعون أنا‬
‫مالفة للمعقول ‪ ،‬وغيجارية على مقتضى الدليل ‪ ،‬فيجب ردها ‪ .‬كلمنكرين لعذاب القب ‪،‬‬
‫والصراط ‪ ،‬واليزان ‪ ،‬ورؤية ال عز وجل ف الخرة ‪ .‬وكذلك ‪.‬‬
‫حديث الذباب وقتله ‪ .‬وأن ف أحد جناحيه داء وف الخر دواء ‪ ،‬وأنه يقدم الذي فيه الداء !‬
‫وحديث ‪:‬‬
‫الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النب صلى ال عليه وسلم بسقيه العسل ‪ ،‬وما أشبه ذلك من الحاديث‬
‫الصحيحة النقولة نقل العدول ‪.‬‬
‫ربا قدحوا ف الرواة من الصحابة والتابعي رضي ال تعال عنهم ـ وحاشاهم ـ وفيمن اتفق الئمة‬
‫من الحدثي على عدالتهم وإمامتهم ‪ .‬كل ذلك ليدوا به على من خالفهم ف الذهب ‪ ،‬وربا ردوا‬
‫فتاويهم وقبحوها ف أساع العامة ‪ ،‬لينفروا المة عن اتباع السنة وأهلها ‪ .‬كما روي عن أب بكر بن‬
‫ممد أنه قال ‪ :‬قال عمرو بن عبيد ‪ :‬أل يعفى عن اللص دون السلطان ‪ .‬قال فحدثته بديث‬
‫صفوان بن أمية عن النب صلى ال عليه وسلم حيث قال ‪:‬‬
‫"فهل قبل أن تأتين به" قال ‪ :‬أتلف بال أن النب صلى ال عليه وسلم قاله ؟ قلت ‪ :‬أفتحلف بال أن‬
‫النب صلى ال عليه وسلم ل يقله ؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت اللقة قال ‪ :‬يا ابا‬
‫بكر حديث ‪.‬‬

‫‪111‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد جعلوا القول بإثبات الصراط واليزان والوض قولً با ل يعقل ‪ .‬وقد سئل بعضهم ‪ :‬هل يكفر‬
‫من قال برؤية الباري ف الخرة ؟ فقال ‪ :‬ل يكفر لنه قال ما ل يعقل ‪ ،‬ومن قال ما ل يعقل فليس‬
‫بكافر ‪.‬‬
‫وذهبت طائفة إل نفي أخبار الحاد جلةً ‪ ،‬والقتصار على ما استحسنته عقولم ف فهم القرآن ‪،‬‬
‫حت أباحوا المر بقوله ‪" :‬ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالات جناح فيما طعموا " الية ‪ .‬ففي‬
‫هؤلء وأمثالم قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ل ألفي أحدكم متكئا على أريكته يأتيه المر من أمري ما أمرت به أو نيت عنه ‪ ،‬فيقول ‪ :‬ل‬
‫أدري ما وجدنا ف كتاب ال اتبعناه" وهذا وعيد شديد تضمنه النهي ‪ ،‬لحق بن ارتكب رد السنة ‪.‬‬
‫ولا ردوها بتحكم العقول كان الكلم معهم راجعا إل أصل التسحي والتقبيح وهو مذكور ف‬
‫الصول ‪ ،‬وسيأت له بيان إن شاء ال ‪.‬‬
‫وقال عمر بن النضر ‪ :‬سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه ‪ .‬فقلت له ‪:‬‬
‫ليس هكذا يقول أصحابنا ‪ ،‬قال ‪ :‬ومن أصحابك ل أبا لك ؟ قلت ‪ :‬أيوب ‪ ،‬ويونس ‪ ،‬وابن عون ‪،‬‬
‫والتميمي ‪ .‬قال ‪ :‬أولئك أناس أرجال أموات غي أحياء ‪.‬‬
‫وقال ابن علية ‪ :‬حدثن اليسع ‪ ،‬قال ‪ :‬تكلم واصل ( يعن ابن عطاء ) يوما ـ قال ـ فقال عمرو‬
‫بن عبيد ‪ :‬أل تسمعون ؟ ما كلم السن وابن سيين عندما تسمعون إل خرقة حيضة ملقاة ‪ .‬كان‬
‫واصل بن عطاء أول من تكلم ف العتزال فدخل معه ف ذلك عمرو بن عبيد فأعجب به ‪ ،‬فزوجه‬
‫أخته ‪ .‬وقال لا ‪ :‬وزجتك برجل ما يصلح إل أن يكون خليفة ‪ .‬ث تاوزوا الد حت ردوا القرآن‬
‫بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء ‪ .‬فحكى عمرو بن علي أنه سع من يثق به أنه قال ‪ :‬كنت عند‬
‫عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل فقال ‪ :‬يا أبا عثمان ! ما‬
‫سعت من السن يقول ف قول ال عز وجل ‪" :‬قل لو كنتم ف بيوتكم لبز الذين كتب عليهم القتل‬
‫إل مضاجعهم" قال ‪ :‬تريد أخبك برأي حسن ‪ .‬قال ‪ :‬ل أريد إل ما سعت من السن ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫ل ‪ ،‬وكتب على قوم الدم فل يوتون‬ ‫سعت السن يقول ‪ :‬كتب ال على قوم القتل فل يوتون إل قت ً‬
‫إل هدما ‪ ،‬وكتب على قوم الغرق فل يوتون إل غرقا ‪ ،‬وكتب على قوم الريق فل يوتون إل حرقا‬
‫‪ .‬فقال له عثمان الطويل ‪ :‬يا أبا عثمان ‪ ،‬ليس هذا قولنا ‪ .‬قال عمرو ‪ :‬قد قلت أريد أن أخبك برأي‬
‫السن ‪ ،‬فأنا أكذب على السن ‪.‬‬
‫وعن الثرم عن أحد بن حنبل قال ‪ :‬حدثنا معاذ ‪ .‬قال ‪ :‬كنت عند عمرو بن عبيد فجاءه عثمان بن‬
‫فلن ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا عثمان ! سعت ـ وال ـ بالكفر ‪ .‬قال ما هو ؟ ل تعجل بالكفر ‪ .‬قال ‪:‬‬
‫هاشم الوقص زعم أن "تبت يدا أب لب " وقوله تعال ‪" :‬ذرن ومن خلقت وحيدا" ل يكن هذا ف‬
‫أم الكتاب ‪ ،‬وال تعال يقول ‪" :‬حم * والكتاب البي * إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون * وإنه‬

‫‪112‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ف أم الكتاب لدينا لعلي حكيم " فما الكفر إل هذا فسكت ساعة ث تكلم فقال ‪ :‬وال لو كان المر‬
‫كما تقول ما كان علي أب لب من لوم ‪ ،‬ول كان على الوحيد من لوم ‪ .‬قال عثمان ـ ف ملسه‬
‫ـ ‪ :‬هذا وال الدين ـ قال معاذ ـ ث قال ف آخره ‪ :‬فذكرته لوكيع‪ ،‬فقال ‪ :‬يستتاب قائلها فإن‬
‫تاب ‪ .....‬وإل ضربت عنقه ‪.‬‬
‫ومثل هذا مكي ‪ ،‬لكن عن بعض الرموقي من أئمة الديث ‪ ،‬فروي عن علي بن الدين ‪ ،‬عن‬
‫الؤمل ‪ ،‬عن السن بن وهب المحي ‪ ،‬قال ‪ :‬الذي كان بين وبي فلن خاص فانطلق بأهله إل بئر‬
‫ميمون ‪ ،‬فأرسل إل ‪ :‬أن ائتن ‪ ،‬فأتيته عشية فبت عنده ‪ .‬قال ‪ :‬فهو ف فسطاط وأنا ف فسطاط آخر‬
‫‪ ،‬فجعلت أسع صوته الليل كله كأنه دوي النحل ‪ .‬قال ‪ :‬فلما أصبحنا جاء بغذائه فتغذينا قال ‪:‬‬
‫وذكر ما بين وبينه من الخاء والق ‪ .‬قال ‪ :‬فقال ل ‪ :‬أدعوك إل رأي السن ‪ .‬قال ‪ :‬وفتح ل‬
‫شيئا من القدر ‪ .‬قال ‪ :‬فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حت لقي ال ‪ .‬قال ‪ :‬فأنا يوما خارج من‬
‫الطريق ف الطواف وهو داخل ‪ ،‬أو أنا داخل وهو خارج ‪ ،‬فأخذ بيدي فقال ‪ :‬يا أبا عمر ‪ ،‬حت مت‬
‫؟ حت مت ؟ قال ‪ :‬فلم أكلمه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما ل ؟ أرأيت لو أن رجلً قال ‪ :‬تبت يدا أب لب ليست‬
‫من القرآن ؟ ما كنت تقول له ؟ قال ‪ :‬فنعت يدي من يده ‪ .‬قال علي ‪ :‬قال مؤمل ‪ :‬فحدثت به‬
‫سفيان بن عيينة ‪ .‬فقال ل ‪ :‬ما كنت أرى أنه أبلغ هذا كله ‪.‬‬
‫قال علي ‪ :‬وسعته أنا وأحد بن حنبل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما أحوج صاحب هذا‬
‫الرأي إل أن يقتل ؟‬
‫فانظروا إل تاسرهم على كتاب ال تعال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم ! كل ذلك ترجيح‬
‫لذاهبهم على مض الق ‪ ،‬وأقربم إل هيبة الشريعة من يتطلب با الخرج فيتأول لا الواضحات ‪،‬‬
‫ويتبع التشابات ‪ ،‬وسياـي ‪ .‬والميع داخلون تت ذمها ‪.‬‬
‫وربا احتج طائفة من نابته البتدعة على رد الحاديث بأنا إنا تفيد الظن‪ ،‬وقد ذم الظن ف القرآن ‪،‬‬
‫كقوله تعال ‪" :‬إن يتبعون إل الظن وما توى النفس " وقال ‪" :‬إن يتبعون إل الظن وإن الظن ل‬
‫يغن من الق شيئا " وما جاء ف معناه ‪ ،‬حت أحلوا أشياء ما حرمها ال تعال على لسان نبيه صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وليس تريها ف القرآن نصا ‪ ،‬وإنا قصدوا من ذلك أن يثبت لم من أنظار عقولم‬
‫ما استحسنوا ‪.‬‬
‫والظن الراد ف الية وف الديث أيضا غي ما زعموا ‪ ،‬وقد وجدنا له مال ثلثة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬الظن ف أصول الدين ‪ ،‬فإنه ل يغن عند العلماء لحتماله النقيض عند الظان ‪ ،‬بلف الظن‬
‫ف الفروع فإنه معمول به عند أهل الشريعة للدليل الدال على إعماله ‪ ،‬فكان الظن مذموما إل ما‬
‫تعلق منه بالفروع ‪ ،‬وهذا صحيح ذكره العلماء ف هذا الوضع ‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والثان ‪ :‬أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضي على الخر من غي دليل مرجح ‪ ،‬ول شك أنه‬
‫مذموم هنا لنه من التحكم ‪ ،‬ولذلك أتبع ف الية بوى النفس ف قوله ‪" :‬إن يتبعون إل الظن وما‬
‫توى النفس " فكأنم مالوا إل أمر بجرد الغرض والوى ولذلك أثبت ذمه ‪ ،‬بلف الظن الذي‬
‫أثاره دليل ‪ ،‬فإنه غي مذموم ف الملة ‪ ،‬لنه خارج عن اتباع الوى ‪ ،‬ولذلك أثبت وعمل بقتضاه‬
‫حيث يليق العمل بثله كالفروع ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن الظن على ضربي ‪ :‬ظن يستند إل أصل قطعي ‪ ،‬وهذه هي الظنون العمول با ف‬
‫الشريعة أينما وقعت لنا استندت إل أصل معلوم ‪ ،‬فهي من قبيل العلوم جنسه ‪ ،‬وظن ل يستند إل‬
‫ل وهو مذموم ـ كما تقدم ـ وإما مستند إل ظن مثله ‪،‬‬ ‫قطعي ‪ ،‬بل إما مستند إل غي شيء أص ً‬
‫فلذلك الظن إن استند أيضا إل قطعي ‪ ،‬فكالول ‪ ،‬أو إل ظن ‪ ،‬رجعنا إليه ‪ ،‬فل بد أن يستند إل‬
‫قطعي ‪ ،‬وهو ممود ‪ ،‬أو إل غي شيء ‪ ،‬وهو مذموم ‪ ،‬فعلى كل تقدير ‪ :‬خب واحد صح سنده ‪،‬‬
‫فل بد من استناده إل أصل ف الشريعة قطعي فيجب قبوله ‪ ،‬ومن هنا قبلناه مطلقا ‪ ،‬كما أن ظنون‬
‫الكفار غي مستندة إل شيء ‪ ،‬فل بد من ردها وعدم اعتبارها ‪ ،‬وهذا الواب الخي مستمد من‬
‫أصل وقع بسطه ف كتابالوافقات والمد ل ‪.‬‬
‫ولقد بالغ بعض الضالي ف رد الحاديث ‪ ،‬ورد قول من اعتمد على ما فيها ‪ ،‬حت عدوا القول به‬
‫مالفا للعقل ‪ ،‬والقائل به معدود ف الجاني ‪.‬‬
‫فحكى أبو بكر العرب عن بعض من لقي بالشرق من النكرين للرؤية ‪ ،‬أنه قيل له ‪ :‬هل يكفر من‬
‫يقول بإثبات رؤية الباري أم ل ؟ فقال ‪ :‬ل ! لنه قال با ل يعقل ‪ ،‬ومن قال با ل يعقل ل يكفر ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ‪ :‬فهذه منلتنا عندهم ‪ ،‬فليعتب الوفق با يؤدي إليه اتباع الوى ‪ ،‬أعاذنا ال من ذلك‬
‫بفضله ‪.‬‬
‫وزل بعض الرموقي ف زماننا ف هذه السألة ‪ ،‬فزعم أن خب الواحد كله زعم وهو ما حكى ف الثر‬
‫‪:‬‬
‫" بئس مطية الرجل زعموا " والثر الخر ‪:‬‬
‫" إياكم والظن فإن الظن أكذب الديث " ‪ ،‬وهذه من كلم هذا التأخر زلة عفا ال عنه ‪.‬‬

‫فصل ترصهم على الكلم ف القرآن والسنة‬


‫ومنها ‪ :‬ترصهم على الكلم ف القرآن والسنة العربيي مع العرو عن علم العربية الذي يفهم به عن‬
‫ال ورسوله ‪ ،‬فيفتانون على الشريعة با فهموا ‪ ،‬ويدينون به ‪ ،‬ويالفون الراسخون ف العلم ‪ ،‬وإنا‬
‫دخلوا ذلك من جهة تسي الظن بأنفسهم ‪ ،‬واعتقادهم أنم من أهل الجتهاد والستنباط ‪ ،‬وليسوا‬
‫كذلك ‪ ،‬كما حكي عن بعضهم أنه سئل عن قول ال تعال ‪" :‬ريح فيها صر" فقال ‪ :‬هو هذا‬

‫‪114‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الصرصر ‪ ،‬يعن صرار الليل ‪ .‬وعن النظام أنه كان يقول ‪ :‬إذا آل الرء بغي اسم ال ل يكن موليا ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬لن اليلء مشتق من اسم ال ‪ ،‬وقال بعضهم ف قول ال تعال ‪" :‬وعصى آدم ربه فغوى" ‪،‬‬
‫لكثرة أكله من السجرة ‪ ،‬يذهبون إل قول العرب غوى الفصيل إذا أكثر من اللب حت بشم ‪ ،‬ول‬
‫يقال فيه غوى ‪ ،‬وإنا غوى من الغي ‪ ،‬وف قوله سبحانه ‪" :‬ولقد ذرأنا لهنم" أي ‪ :‬ألقينا فيها ‪،‬‬
‫كأنه عندهم من قول العرب ذرته الريح وذلك ل يوز لن ذرأنا مهموز وذرته غي مهموز ‪،‬‬
‫وكذلك إذا كان من أذرته الدابة عن ظهرها لعدم المزة ‪ .‬ولكنه رباعي وذرأنا ثلثي ‪.‬‬
‫وحكى ابن قتيبة عن بشر الريسي أنه كان يقول للسائه ‪ :‬قضى ال لكم الوائج على أحسن‬
‫الوجوه وأهيئتها ‪ ،‬فسمع قاسم التمار قوما يضحكون ‪ ،‬فقال ‪ :‬هذا كما قال الشاعر ‪:‬‬
‫ضنت بشيء ما كلن يرزؤها‬ ‫إن سليمى وال يكلؤها‬
‫وبشر الريسي رأس ف الرأي ‪ ،‬وقاسم التمار رأس ف على الكلم ‪.‬‬
‫قال ابن قتيبة ‪ :‬واحتجاجه ببشر أعجب من لن بشر ‪ .‬واستدل بعضهم تليل شحم النير بقول ال‬
‫تعال‬
‫‪" :‬ولم النير" فاقتصر على تري اللحم دون غيه ‪ ،‬فدل على أنه حلل ‪ .‬وربا سلم بعض العلماء‬
‫ما قالوا ‪ ،‬وزعم أن الشحم إنا حرم بالجاع ‪ .‬والمر أيسر من ذلك ‪ ،‬فإن اللحم يطلق على الشحم‬
‫وغيه حقيقة ‪ ،‬حت إذا خص بالذكر قيل ‪ :‬شحم كما يقال ‪ :‬عرق ‪ ،‬وعصب ‪ ،‬وجلد ‪ .‬ولو كان‬
‫على ما قالوا لزم أن ل يكون العرق والعصب ول اللد ول الخ ول النخاع ول غي ذلك ما خص‬
‫بالسم مرما ‪ .‬وهو خروج عن القول بتحري النير ‪.‬‬
‫ويكن أن يكون من خفي هذا الباب مذهب الوارج ف زعمهم ‪ :‬أن ل تكيم ‪.‬‬
‫استدللً بقوله تعال ‪" :‬إن الكم إل ل" فإنه مبن على أن اللفظ ورد بصيغة العموم ‪ ،‬فل يلحقه‬
‫تصيص ‪ ،‬فلذلك أعرضوا عن قول ال تعال ‪" :‬فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها" وقوله ‪:‬‬
‫"يكم به ذوا عدل منكم" وإل فلو علموا تقيقا قاعدة العرب ف أن من العموم ل يرد به الصوص‬
‫ل يسرعوا إل النكار ولقالوا ف أنفسهم هل هذا العام مصوص ؟ فيتأولون ‪ ،‬وف الوضع وجه آخر‬
‫مذكور ف موضع غي هذا ‪ ،‬وكثيا ما يوقع الهل بكلم العرب ف ماز ل يرضى با عاقل ‪ ،‬اعاذنا‬
‫ال من الهل والعمل به بفضله ‪.‬‬
‫فمثل هذه الستدللت ل يعبأ با ‪ ،‬وتسقط مكالة أهلها ‪ ،‬ول يعد خلف أمثالم ‪ ،‬وما استدلوا‬
‫عليه من الحكام الفروعية أو الصولية فهو عي البدعة إذ هو خروج عن طريقة كلم العرب إل‬
‫اتباع الوى ‪ .‬فحق ما حكي عن عمر بن الطاب رضي ال عنه حيث قال ‪ :‬إنا هذا القرآن كلم‬
‫فضعوه مواضعه ول تتبعوا به أهواءكم ‪ .‬أي فضعوه على مواضع الكلم ول ترجوه عن ذلك ‪ ،‬فإنه‬
‫خروج عن طريقة الستقيم إل اتباع الوى ‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعنه أيضا ‪ :‬إنا أخاف عليكم رجلي ‪ .‬رجل تأول القرآن على غي تأويله ‪ ،‬ورجل ينفس الال على‬
‫أخيه ‪ .‬وعن السن رضي ال تعال عنه أنه قيل له ‪ :‬أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم با لسانه ويقيم‬
‫با منطقه ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬فليتعلمها ‪ ،‬فإن الرجل يقرأ بالية فيعياه توجيهيها فيهلك ‪ .‬وعنه أيضا قال ‪:‬‬
‫أهلكتكم العجمة ‪ ،‬تتأولون القرآن على غي تأويله ‪.‬‬

‫فصل ومنها ‪ :‬انرافهم عن الصول الواضحة‬


‫ومنها ‪ :‬انرافهم عن الصول الواضحة إل اتباع التشابات الت للعقول فيها مواقف ‪ ،‬وطلب الخذ‬
‫با تأويلً ـ كما أخب ال تعال ف كتابه ـ إشارة إل النصارى ف قولم بالثالوثي بقوله ‪" :‬فأما‬
‫الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" وقد علم العلماء أن كل دليل‬
‫فيه اشتباه وإشكال ليس بدليل ف القيقة ‪ ،‬حت يتبي معناه ويظهر الراد منه ‪ .‬ويشترط ف ذلك أن‬
‫ل يعارضه أصل قطعي ‪ .‬فإذا ل يظهر معناه لجال أو اشتراك أو عارضه قطعي كظهور تشبيه ‪،‬‬
‫فليس بدليل ‪ ،‬لن حقيقة الدليل أن يكون ظاهرا ف نفسه ‪ ،‬ودالً على غيه ‪ ،‬وإل احتيج إل دليل ‪،‬‬
‫ل‪.‬‬‫فإن دل الدليل على عدم صحته فأحرى أن ل يكون دلي ً‬
‫ل فهي ف‬ ‫ول يكن أن تعارض الفروع الزئية الصول الكلية ‪ ،‬لن الفروع الزئية إن ل تقتض عم ً‬
‫مل التوقف ‪ ،‬وإن اقتضت عملً فالرجوع إل الصول هو الصراط الستقيم ‪ .‬ويتناول الزئيات حت‬
‫إل الكليات ‪ .‬فمن عكس المر حاول شططا ودخل ف حكم الذم ‪ ،‬لن متبع الشبهات مذموم ‪.‬‬
‫فكيف يعتد بالتشابات دليلً ؟ أو يبن عليها حكم من الحكام ؟ وإذا ل تكن دليلً ف نفس المر‬
‫فجعلها بدعة مدثة هو الق ‪.‬‬
‫ومن المثلة أيضا أن جاعة زعموا أن القرآن ملوق تعلقا بالتشابه ‪ ،‬والتشابه الذي تعلقوا به على‬
‫وجهي ‪ :‬عقلي ـ ف زعمهم ـ وسعي ‪.‬‬
‫فالعقلي أن صفة الكلم من جلة الصفات ‪ ،‬وذات ال عندهم برئية من التركيب جلة ‪ ،‬وإثبات‬
‫صفات الذات قول بتركيب الذات ‪ ،‬وهو مال ‪ .‬لنه واحد على الطلق ‪ ،‬فل يكن أن يكون‬
‫متكلما بكلم قائم به ‪ ،‬كما ل يكون قادرا بقدرة قائمة به ‪ ،‬أو عالا بعلم قائم به ‪ ،‬إل سائر‬
‫الصفات ‪.‬‬
‫وأيضا فالكلم ل يعقل إل بأصوات وحروف ‪ ،‬وكل ذلك من صفات الحدثات ‪ ،‬والباري تنه عنها‬
‫‪ .‬وبعد هذا الصل يرجعون إل تأويل قوله سبحانه ‪" :‬وكلم ال موسى تكليما" وأشباهه ‪.‬‬
‫وأما السمعي فنحو قوله تعال ‪" :‬ال خالق كل شيء " والقرآن إما أن يكون شيئا ‪ ،‬أو ل شيء ‪،‬‬
‫ول شيء عدم ‪ ،‬والقرآن ثابت ‪ ،‬هذا خلف ‪ .‬وإن كان شيئا فقد شلته الية فهو إذا ملوق ‪ .‬وبذا‬
‫استدل الريسي على عبد العزيز الكي رحه ال تعال ‪.‬‬

‫‪116‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أما تركهم للقاعدة فلم ينظروا ف قوله تعال ‪" :‬ليس كمثله شيء " وهذه الية نقلية عقلية ‪ ،‬لن‬
‫الشابه للمخلوق ف وجه ما ‪ ،‬ملوق مثله ‪ .‬إذ ما وجب للشيء وجب لثله ‪ .‬فكما تكون الية دليلً‬
‫ل لؤلء ‪ ،‬لنم عاملوه ف التنيه معاملة الخلوق ‪ ،‬حيث توهوا أن اتصاف‬ ‫على نفي الشبه تكون دلي ً‬
‫ذاته بالصفات يقتضي التركيب ‪.‬‬
‫وأما تركهم لعان الطاب ‪ ،‬فإن العرب ل تفهم من قوله ‪" :‬السميع البصي" و "السميع العليم" أو‬
‫"القدير" ‪ ،‬وما اشبه ذلك إل من له سع وبصر وعلم وقدرة اتصف با ‪ ،‬فإخراجها عن حقائق‬
‫معانيها الت نزل القرآن با خروج عن أم الكتاب إل اتباع ما تشابه منه من غي حاجة ‪.‬‬
‫وحيث ردوا هذه الصفات إل الحوال الت هي العالية والقادرية ‪ ،‬فما ألزموه ف العلم والقدرة لزم‬
‫لم ف العالية والقادرية ‪ ،‬لنا إما موجودة فيلزم التركيب ‪ ،‬أو معدومة ‪ ،‬والعدم نفي مض ‪.‬‬
‫وأما كون الكلم هو الصوات والروف ‪ .‬فبناء على عدم النظر ف الكلم النفسي ‪ ،‬وهو مذكور ف‬
‫الًول ‪.‬‬
‫وأما الشبهة السمعية فكأنا عندهم بالتبع ‪ ،‬لن العقول عندهم هي العمدة العتمدة ‪ .‬ولكنهم يلزمهم‬
‫بذلك الدليل مثل ما مر وال لن قوله تعال ‪" :‬ال خالق كل شيء " إما أن يكون على عمومه ل‬
‫يتخلف عنه شيء ‪ ،‬أو ل ‪ .‬فإن كان على عمومه ‪ ،‬فتخصيصه إما بغي دليل ـ وهو التحكم ـ وإما‬
‫بدليل ‪ ،‬فأبرزوا حت ننظر فيه ‪ .‬ويلزم مثله ف الرادة إن ردوا الكلم إليها ‪ ،‬وكذلك غيها من‬
‫الصفات إن قرأوا با ‪ ،‬أو الحوال إن أنكروها ‪ ،‬وهذا الكلم معهم بسب الوقت ‪.‬‬
‫والذي يليق بالسألة أنواع أخر من الدلة الت تقتضي كون هذا الذهب بدعة ل يلئم قواعد الشريعة‬
‫‪.‬‬
‫ومن أغرب ما يوضع ههنا ما حكاه السعودي وذكره الجري ـ ف كتاب الشريعة ـ بأبسط ما‬
‫ذكره السعودي ‪ .‬واللفظ هنا للمسعودي مع إصلح بعض اللفاظ ‪،‬قال ‪ :‬ذكر صال بن علي‬
‫الاشي قال ‪ :‬حضرت يوما من اليام جلوس الهتدي للمظال ‪ ،‬فرأيت من سهولة الوصول ونفوذ‬
‫الكتب عنه إل النواحي فيما يتظلم به إليه ما استحسنته ‪ ،‬فأقبلت أرمقه ببصري إذا نظر ف القصص ‪،‬‬
‫فإذا رفع طرفه إل أطرقت ‪ ،‬فكأنه علم ما ف نفسي ‪.‬‬
‫فقال ل ‪ :‬يا صال أحسب أن ف نفسك شيئا تب أن تذكره ـ قال ـ فقلت ‪ :‬نعم يا أمي الؤمني‬
‫ل ‪ ،‬فقمت إليه‬‫‪ .‬فأمسك ‪ .‬فلما فرغ من جلوسه أمر أن ل أبرح ‪ ،‬ونض ‪ ،‬فجلست جلوسا طوي ً‬
‫وهو على حصي الصلة فقال ل ‪ :‬يا صال أتدثن با ف نفسك ؟ أم أحدثك ؟ فقلت ‪ :‬بل هو أمي‬
‫الؤمني أحسن ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬كأنن بك وقد استحسنت من ملسنا ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أي خليفة خليفتنا ‍ إن ل يكن يقول بقول‬
‫أبيه من القول بلق القرآن ‪ .‬فقال ‪ :‬قد كنت على ذلك برهة من الدهر ‪ ،‬حت أقدم علي الواثق‬

‫‪117‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫شيخا من أهل الفقه والديث من أذنة من الثغر الشامي ‪ ،‬مقيدا طوا ًل ‪ ،‬حسن الشبيه ‪ ،‬فسلم غي‬
‫هائب ‪ ،‬ودعا فأوجز ‪ ،‬فرأيت الياء منه ف حاليق عين الواثق والرحة عليه ‪.‬‬
‫فقال ‪ :‬يا شيخ أجب أبا عبد ال أحد بن أب داؤد عما يسألك عنه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يا أمي الؤمني أحد‬
‫يصغر ويضعف ويقل عند الناظرة ‪ ،‬فرأيت الواثق وقد صار مكان الرحة غضبا عليه ‪ .‬فقال ‪ :‬أبو‬
‫عبد ال يصغر ويضعف ويقل عند مناظرتك ؟ فقال ‪ :‬هون عليك يا أمي الؤمني ‪ ،‬أتأذن ل ف‬
‫كلمه ؟ فقال له الواثق ‪ :‬قد أذنت ذلك ‪.‬‬
‫فأقبل الشيخ على أحد فقال ‪ :‬يا أحد إلم دعوت الناس ؟ فقال أحد ‪ :‬إل القول بلق القرآن ‪،‬‬
‫فقال له الشيخ ‪ :‬مقالتك هذه الت دعوت الناس إليها من القول بلق القرآن أداخله ف الدين فل‬
‫يكون الدين تاما إل بالقول با ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال الشيخ ‪ :‬فرسول ال صلى ال عليه وسلم دعا‬
‫الناس إليها أم تركهم ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قال له ‪ :‬يعلمها أم ل يعلمها ؟ قال ‪ :‬علمها ‪ .‬قال ‪ :‬فلم دعوت‬
‫الناس إل ما ل يدعهم رسول ال صلى ال عليه وسلم إليه وتركهم منه ؟ فأمسك ‪ ،‬فقال الشيخ ‪ :‬يا‬
‫أمي الؤمني هذه واحدة ‪.‬‬
‫ث قال له ‪ :‬أخبن يا أحد ‪ ،‬قال ال تعال ف كتابه العزيز ‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم" ‪ ،‬فقلت أنت‬
‫‪ :‬الدين ل يكون تاما إل بقالتك بلق القرآن ‪ ،‬فال تعال عز وجل صدق ف تام وكماله أم أنت ف‬
‫نقصانك ؟ فأمسك ‪ ،‬فقال الشيخ ‪ :‬يا أمي الؤمني ‪ ،‬وهذه ثانية ‍‍‪.‬‬
‫ث قال بعد ساعة ‪ :‬أخبن يا أحد ‪ ،‬قال ال عز وجل ‪" :‬يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك‬
‫وإن ل تفعل فما بلغت رسالته" فمقالتك هذه الت دعوت الناس إليها فيما بلغه رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم إل المة أم ل ؟ فأمسك ‪ ،‬فقال الشيخ ‪ :‬يا أمي الؤمني ‪ ،‬وهذه ثالثة ‍‪ .‬ث قال بعد ساعة‬
‫‪ :‬أخبن يا أحد‍ ‍‍‪.‬‬
‫لا علم رسول ال صلى ال عليه وسلم مقالتك هذه الت دعوت الناس إليها ‪ :‬اتسع له عن أن أمسك‬
‫عنهم أم ل ؟ قال أحد ‪ :‬بل اتسع له ذلك ‪ .‬فقال الشيخ ‪ :‬وكذلك لب بكر ؟ وكذلك لعمر ؟‬
‫وكذلك لعثمان ؟ وكذلك لعلي ؟ رحة ال عليهم قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬فصرف وجهه إل الواثق وقال ‪ :‬يا‬
‫أمي الؤمني ‍‍‪ :‬إذا ل يتسع لنا ما اتسع لنا ما اتسع لرسول ال صلى ال عليه ولصحابه فل وسع ال‬
‫علينا ‪ .‬ث قال الواثق ‪ :‬اقطعوا قيوده ‪ .‬فلما فكت جاذب عليها ‪ .‬فقال الواثق ‪ :‬دعوه ‪ .‬ث قال ‪ :‬يا‬
‫شيخ ل جاذبت عليها ؟ قال لن عقدت ف نيت أن أجاذب عليها ‪ ،‬فإذا أخذتا أوصيت أن تعل‬
‫بي يدي وكفي ‪ .‬ث أقول ‪ :‬يا رب ‍‪ ،‬سل عبدك ‪ :‬ل قيدن ظلما وارتاع ب أهلي ؟ فبكى الواثق‬
‫والشيخ وكل من حضر ‪ .‬ث قال له الواثق ‪ :‬يا شيخ ‪ :‬اجعلن ف حل ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أمي الؤمني ‪ :‬ما‬
‫خرجت من منل حت جعلتك ف حل إعظاما لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولقرابتك منه ‪.‬‬
‫فتهلل وجه الواثق وسر ‪ ،‬ث قال له ‪ :‬أقم عندي آنس بك ‪ .‬فقال له ‪ :‬مكان ف ذلك الثغر أنفع ‪،‬‬

‫‪118‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأنا شيخ كبي ‪ ،‬ول حاجة ‪ .‬قال ‪ :‬سل ما بدا لك ‪ .‬قال ‪ :‬يأذن أمي الؤمني ف رجوعي إل الوضع‬
‫الذي أخرجن منه هذا الظال ‪ .‬قال ‪ :‬قد أذنت لك ‪ .‬وأمر له بائزة فلم يقبلها ‪ .‬فرجعت من ذلك‬
‫الوقت عن تلك القالة ‪ ،‬وأحسب أيضا أن الواثق رجع عنها ‪.‬‬
‫فتأملوا هذه الا\كاية ففيها عبة لول اللباب ز وأنظروا كيف مأخذ الصوم ف لفحامهم‬
‫لصومهم بالرد عليهم بكتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ومدار الغلط ف هذا الفصل إنا هو على حرف واحد ‪ .‬وهو الهل بقاصد الشرع ‪ ،‬وعدم ضم‬
‫أطرافه بعضها لبعض ‪ .‬فإن مأخذ الدلة عند الئمة الراسخي إنا هو على أن تؤخذ الشريعة‬
‫كالصورة الواحدة بسب ما ثبت من كلياتا وجزئياتا الرتبة عليها ‪ ،‬وعامها الرتب على خاصها ‪،‬‬
‫ومطلقها الحمول على مقيدها ‪ ،‬ومملها الفسر بينهما ‪ ،‬إل ما سوى ذلك من مناحيها ‪ ،‬فإذا حصل‬
‫للناظر من جلتها حكم من الحكام فلذلك الذي نظمت به حي استنبطت ‪.‬‬
‫وما مثلها إل مثل النسان الصحيح السوي ‪ ،‬فكما أن النسان ل يكون إنسانا حت يستنطق فل‬
‫ينطق باليد وحدها ول بالرجل وحدها ول بالرأس وحده زل باللسان وحده ‪ ،‬بل بملته الت سي‬
‫با إنسانا ‪ .‬كذلك الشريعة ل يطلب منها الكم على حقيقة الستنباط إل بملتها ‪ ،‬ل من دليل‬
‫منها أي كان نطق ذلك الدليل ‪ .‬فإنا هو توهي ل حقيقي ‪ ،‬كاليد إذا استنقطت فإنا تنطق توها ل‬
‫حقيقة ‪ ،‬من حيث علمت أنا يد إنسان ل من حيث هي إنسان لنه مال ‪.‬‬
‫فشأن الراسخي تصور الشريعة صورة واحدة يدم بعضها كأعضاء افنسان إذا صورت صورة مثمرة‬
‫‪.‬‬
‫وشأن متبعي التشابات أخذ دليل ما أي كان عفوا وأخذا أوليا ‪ ،‬وإن كان ث ما يعارضه من كلي‬
‫أو جزئي ‪ .‬فكأن العضو الواحد ل يعطى ف مفهوم أحكام الشريعة حكما حقيقيا ‪ .‬فمتبعه متبع‬
‫متشابه ‪ ،‬ول يتبعه إل من ف قلبه زيغ كما شهد ال به ‪ " :‬ومن أصدق من ال قيل " ‪.‬‬

‫فصل وعند ذلك نقول‬


‫وعند ذلك نقول ‪:‬‬
‫من اتباع التشابات الخذ بالطلقات قبل النظر ف مقيداتا ‪ ،‬وبالعمومات من غي تأمل هل لا‬
‫مصصات أم ل ؟ وكذلك العكس ‪ ،‬بأن يكون النص مقيدا فيطلق ‪ ،‬أو خاصا فيعم بالرأي من غي‬
‫دليل سواه ‪ .‬فإن هذا السلك رمي ف عماية ‪ ،‬واتباع للهوى ف الدليل ‪ ،‬وذلك أن الطلق النصوص‬
‫على تقييده مشتيه إذا ل يقيد ‪ ،‬فإذا قيد صار واضحا ‪ ،‬كما أن إطلق القيد رأي ف ذلك القيد‬
‫معارض للنص من غي دليل ‪.‬‬

‫‪119‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فمثال الول ‪ :‬أن الشريعة قد ورد طلبها على الكلفي على الطلق والعموم ‪ ،‬ول يرفعها عذر إل‬
‫العذر الرافع للخطاب رأسا ‪ ،‬وهو زوال العقل ‪ ،‬فلو بلغ الكلف ف مراتب الفضائل الدينية إل أي‬
‫رتبة بلغ ‪ ،‬بقي التكليف عليه كذلك إل الوت ول رتبة لحد يبلغها ف الدين كرتبة رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬ث رتبة أصحابه البرة ‪ ،‬ول يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة ‪ ،‬إل ما كان من‬
‫تكليف ما ل يطاق بالنسبة إل الحاد ‪ ،‬كالزمن ل يطالب بالهاد ‪ ،‬والقعد ل يطالب بالصلة قائما‬
‫‪ ،‬والائض ل تطالب بالصلة الخاطب با ف حال حيضها ‪ ،‬ول ما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إل مرتبة ما من مراتب الدين ـ كما يقوله أهل الباحة ـ‬
‫كان قوله بدعة مرجة عن الدين ‪.‬‬
‫ومنه دعاوى أهل البدع على الحاديث الصحيحة مناقضتها للقرآن ‪ ،‬أو مناقضة بعضها بعضا ‪،‬‬
‫وفساد معانيها ‪ ،‬أو مالفتها للعقول ـ كما حكموا بذلك ف قوله صلى ال عليه وسلم للمتحاكمي‬
‫إليه ‪:‬‬
‫"والذي نفسي بيده لقضي بينكما بكتاب ال ‪ :‬مائة الشاة والادم رد عليك ‪ ،‬وعلى ابنك جلد مائة‬
‫وتغريب عام ‪ ،‬وعلى الرأة هذه الرجم واغد يا أنيس على امرأة هذا فإن اعترفت فارجها" فغدا عليها‬
‫فاعترفت ‪ ،‬فرجها ‪ .‬قالوا ‪ :‬هذا مالف لكتاب ال ‪ .‬لنه قضى بالرجم والتغريب ‪ ،‬وليس للرجم ول‬
‫ل فهو ما أردنا ‪ ،‬وإن كان حقا فقد ناقض كتاب‬ ‫للتغريب ف كتاب ال ذكر ‪ ،‬فإن كان الديث باط ً‬
‫ال بزيادة الرجم والتغريب ‪.‬‬
‫فهذا اتباع للمتشابه ‪ ،‬لن الكتاب ف كلم العرب وف الشرع على وجوه ‪ :‬منها الكم والفرض‬
‫كقوله تعال ‪" :‬كتاب ال عليكم" ‪ ،‬وقال تعال ‪" :‬كتب عليكم الصيام" "وقالوا ربنا ل كتبت علينا‬
‫القتال" فكان العن ‪ :‬لقضي بينكما بكتاب ال ‪ ،‬أي بكم ال الذي شرع لنا ‪ .‬كما أن الكتاب‬
‫يطلق على القرآن ‪ ،‬فتخصيصهم الكتاب بأحد الحامل من غي دليل اتباع لا تشابه من الدلة ‪.‬‬
‫وف الديث ‪:‬‬
‫"مثل أمت كمطر ل يدري أوله خي أم آخره؟" قالوا ‪ :‬فهذا يقتضي أنه ل يثبت لول هذه المة فضل‬
‫على الصوص دون آخرها ول العكس ث نقل ‪:‬‬
‫"إن السلم بدىء غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوب للغرباء" ‪ ،‬فهذا يقتضي تفضيل الولي‬
‫والخرين على الوسط ‪ .‬ث نقل ‪:‬‬
‫"خي القرون قرن ث الذين يلونم ث الذين يلونم" ‪ ،‬فاقتضي أن الولي أفضل على الطلق ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فهذا تناقض ‪ .‬وكذبوا ‪ ،‬ليس ث تناقض ول اختلف ‪.‬‬
‫ل‪،‬‬ ‫وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي ف القولت الشرعية ‪ .‬فإما أن ل يكن المع بينهما أص ً‬
‫وإما أن يكن فإن ل يكن فهذا الفرض بي قطعي وظن ‪ ،‬أو بي ظني ‪ ،‬فأما بي قطعيي فل يقع ف‬

‫‪120‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الشريعة ‪ ،‬ول يكن وقوعه ‪ ،‬لن تعارض القطعيي مال ‪ .‬فإن وقع بي قطعي وظن بطل الظن ‪ ،‬وإن‬
‫وقع بي ظنيي فههنا للعلماء فيه الترجيح ‪ ،‬والعمل بالرجح متعي ‪ ،‬وإن أمكن المع ـ فقد اتفق‬
‫النظار على إعمال وجه المع ‪ ،‬وإن كان وجه المع ضعيفا ‪ ،‬فإن المع أول عندهم ‪ ،‬وإعمال‬
‫الدلة أول من إهال بعضها ‪ ،‬فهؤلء البتدعة ل يرفعوا بذا الصل رأسا ‪ ،‬إما جهلً به أو عنادا ‪.‬‬
‫فإذا ثبت هذا فقوله ‪ " :‬خي القرون قرن" هو الصل ف الباب فل يبلغ أحد منا مبلغ الصحابة رضي‬
‫ال عنهم ‪ .‬وما سواه يتمل التأويل على حال أو زمان أو ف بعض الوجوه ‪.‬‬
‫وأما قوله ‪" :‬فطوب للغرباء" ل نص فيه على التفضيل الشار إليه ‪ ،‬بل هو دليل على جزاء حسن ‪،‬‬
‫ويبقى النظر ف كونم مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه متمل ‪ ،‬فليس ف الديث عليه دليل ‪ ،‬فل‬
‫بد من حله الصل ول إشكال ‪.‬‬
‫ومن ذلك قولم بالتناقض ف قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ل تفضلون على يونس بن مت ول تيوا بي النبياء وبين" وقوله ‪:‬‬
‫"أنا سيد ولد آدم ول فخر" ووجه المع بينمها ظاهر ‪.‬‬
‫ومنه أنم قالوا ف قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إذا استيقظ أحدكم من نومه فل يغمس يده ف الناء حت يغسلها ثلثا ‪ ،‬فإن أحدكم ل يدري أين‬
‫باتت يده" ‪ :‬إن هذا الديث يفسد آخره أوله ‪ ،‬فإن أوله صحيح لول قوله ‪ :‬فإن أحدكم ل يدري‬
‫كذا ‪ .‬فما منا أحد إل درى أين باتت يده ‪ .‬وأشد المور أن يكون مس با فرجه ‪ ،‬ولو أن رجلً‬
‫فعل ذلك ف اليقظة لا طلب بغسل يده ‪ .‬فكيف يطلب بالغسل ول يدري هل مس فرجه أم ل ؟‬
‫وهذا العتراض من النمط الذي قبله ‪ :‬إذ النائم قد يس فرجه فيصيبه شيء من ناسة ف الحل لعدم‬
‫استنجاء تقدم النوم ‪ ،‬أو يكون استجمر فوق موضع الستجمار ‪ ،‬وهو لو كان يقظان فمس لعلم‬
‫بالنجاسة إذا علقت بيده فيغسلها ف الناء لئل يفسد الاء ‪ .‬وإذا أمكن هذا ل يتوجه العتراض ‪.‬‬
‫فجميع ما ذكر ف هذا الفصل راجع إل إسقاط الحاديث بالرأي الذموم الذي تقدم الستشهاد عليه‬
‫أنه من البدع الحدثات ‪.‬‬

‫فصل ومنها ‪ :‬تريف الدلة عن مواضعها‬


‫ومنها ‪ :‬تريف الدلة عن مواضعها ‪ .‬بأن يرد الدليل على مناط فيصرف عن ذلك الناط إل أمر آخر‬
‫موها أن الناطي واحد ‪ ،‬وهو من خفيات تريف الكلم عن مواضعه والعياذ بال ‪ .‬ويغلب على‬
‫الظن أن من أقر بالسلم ‪ ،‬ويذم تريف الكلم عن مواضعه ‪ ،‬ل يلجأ إليه صراحا إل مع اشتباه‬
‫يعرض له ‪ ،‬أو جهل يصده عن الق ‪ ،‬مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه ‪ ،‬فيكون بذلك السبب‬
‫مبتدعا ‪.‬‬

‫‪121‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا ف الملة ما يتعلق بالعبادات ـ مثلً فأتى به الكلف‬
‫ف الملة أيضا ‪ ،‬كذكر ال والدعاء والنوافل الستحبات وما أشبهها ما يعلم من الشارع فيها‬
‫التوسعة ‪ .‬كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتي ‪ :‬من جهة معناه ‪ ،‬ومن جهة عمل السلف الصال‬
‫به ‪ ،‬فإن أتى الكلف ف ذلك المر بكيفية مصوصة ‪ ،‬أو زمان مصوص ‪ ،‬أو مكان مصوص ‪ ،‬أو‬
‫مقارنا لعباده مصوصة ‪ ،‬والتزم ذلك بيث صار متخيلً أن الكيفية ‪ ،‬أو الزمان ‪ ،‬أو الكان ‪ ،‬مقصود‬
‫شرعا من غي أن يدل الدليل عليه ‪ .‬كان الدليل بعزل عن ذلك العن الستدل عليه ‪.‬‬
‫فإذا ندب الشرع مثلً إل ذكر ال فالتزم قوم الجتماع عليه على لسان واحد وبصوت أو ف وقت‬
‫معلوم مصوص عن سائر الوقات ـ ل يكن ف ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص اللتزم ‪،‬‬
‫بل فيه ما يدل على خلفه ‪ ،‬لن التزام المور غي اللزمة شرعا شأنا أن تفهم التشريع ‪ ،‬وخصوصا‬
‫مع من يقتدى به ف مامع الناس كالساجد ‪ .‬فإنا إذا ظهرت هذا الظهار ‪ ،‬ووضعت ف الساجد‬
‫كسائر الشعائر الت وضعها رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الساجد وما أشبهها كالذان وصلة‬
‫العيدين والستسقاء والكسوف ـ فهم منها بل شك أنا سنن إذا ل تفهم منها الفرضية ‪ ،‬فأحرى‬
‫أن ل يتناولا الدليل الستدل به فصارت من هذه الهة بدعا مدثة بذلك ‪.‬‬
‫وعلى ذلك ترك التزام السلف لتلك الشياء أو عدم العمل با ‪ ،‬وهم كانوا أحق با وأهلها لو كانت‬
‫مشروعة على مقتضى القواعد ‪ ،‬لن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا ف مواضع كثية ‪ ،‬حت إنه ل‬
‫يطلب ف تكثي عبادة من العبادات ما طلب من التكثي من الذكر ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا اذكروا ال ذكرا كثيا " الية وقوله ‪" :‬وابتغوا من فضل ال واذكروا ال كثيا لعلكم تفلحون‬
‫" بلف سائر العبادات ‪.‬‬
‫ومثل هذا الدعاء فإنه ذكر ال ‪ .‬ومع ذلك فلم يلتزموا فيه كيفيات ‪ ،‬ول قيدوه بأوقات مصوصة‬
‫بيث تشعر بيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الوقات ‪ ،‬إل ما عينه الدليل كالغداة والعشي ‪ .‬ول‬
‫أظهروا منه إل ما نص الشارع على إظهاره كالذكر ف العيدين وشبهه ‪ ،‬وما سوى فكانوا مثابرين‬
‫على إخفائه وسره ‪ .‬ولذلك قال لم حي رفعوا أصواتم ‪:‬‬
‫"أربعوا على أنفسكم إنكم ل تدعون أصم ول غائبا" واشباهه ‪ ،‬ول يظهرون ف الماعات ‪.‬‬
‫فكل من خالف هذا الصل فقد خالف إطلق الدليل أو ًل ‪ ،‬لنه قيد فيه بالرأي ‪ .‬وخالف من كان‬
‫أعرف منه بالشريعة وهم السلف الصال رضي ال عنهم ‪ ،‬بل ‪:‬‬
‫كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يترك العمل وهو يب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس‬
‫فيفرض عليهم ‪.‬‬
‫وف فصل من الوافقات جلة من هذا ‪ ،‬وهو مزلة قدم ‪ .‬فقد يتوهم أن إطلق اللفظ يشعر بواز كل‬
‫ما يكن ف مدلوله وقوعا وليس خصوصا ف العبادات ‪ ،‬فإنا ممولة على التعبد على حسب ما تلقي‬

‫‪122‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫عن النب صلى ال عليه وسلم والسلف الصال ‪ ،‬كالصلوات حي وضعت بعيدة عن مدارك العقول‬
‫ف أركانا وترتيبها وأزمانا وكيفياتا ومقاديرها ‪ ،‬وسائر ما كان مثلها ـ حسبما يذكر ف باب‬
‫الصال الرسلة من هذا الكتاب إن شاء ال تعال ـ فل يدخل العبادات الرأي والستحسان هكذا‬
‫مطلقا لنه كالناف لوضعها ‪ ،‬ولن العقول ل تدرك معانيها على التفصيل ‪.‬‬
‫وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها ‪ ،‬كمالك بن أنس رضي ال عنه ‪ ،‬فإنه حافظ‬
‫على طرح الرأي جدا ‪ ،‬ول يعمل فيها من أنواع القياس إل قياس نفي الفارق حيث اضطر إليه ‪،‬‬
‫وكذلك غيه من العلماء ‪ ،‬وإن تفاوتوا فهم مافظون جيعا ف العبادات على التباع لنصوصها‬
‫لـ‬ ‫ومنقولتا ‪ ،‬بلف غيها فبحسبها ل مطلقا ‪ ،‬فإن النسان قد أمر بذلك ف الملة ـ مث ً‬
‫فالخصص كالخالف لفهوم التوسعة ‪ ،‬وإن ل يفهم من ذلك توسعه فل بد من الرجوع إل أصل‬
‫الوقف من النقول ‪ ،‬لنا إن خرجنا عنه شككنا ف كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة على‬
‫الطريقتي النبه عليهما ف كتاب الوافقات ‪ ،‬فيتعي الرجوع إل النقول وقوفا من غي زيادة ول‬
‫نقصان ‪.‬‬
‫ث إذا فهمنا التوسعة ‪ :‬فل بد من اعتبار أمر آخر ‪ ،‬وهو أن يكون العمل بيث ل يوهم التخصيص‬
‫زمانا دون غيه ‪ ،‬أو مكانا دون غيه ‪ ،‬أو كيفية دون غيها أو يوهم انتقال الكم من الستحباب‬
‫ـ مثلً ـ إل السنة أو الفرض ‪ .‬لنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما ‪ ،‬ف مامع الناس أو‬
‫مساجد الماعات أو نو ذلك موها لكونه سنة أو فرضا ‪ .. .‬بل هو كذلك ‪.‬‬
‫أل ترى أن كل ما أظهره رسول ال صلى ال عليه وسلم وواظب عليه جاعة إذا ل يكن فرضا فهو‬
‫سنة عند العلماء ‪ ،‬كصلة العيدين والستسقاء والكسوف ونو ذلك ؟ بلف قيام الليل وسائر‬
‫النوافل ‪ ،‬فإنا مستحبات ‪ ،‬وندب صلى ال عليه وسلم إل إخفائها ‪ :‬وإنا يضر إذا كانت تشاع‬
‫ويعلن با ‪.‬‬
‫ومن أمثلة هذا الصل التزام الدعاء بعد الصلوات باليئة الجتماعية معلنا با ف الماعات ‪ .‬وسيأت‬
‫بسط ذلك ف بابه إن شاء ال تعال ‪.‬‬

‫فصل ومنها ‪ :‬بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلت ل تعقل‬
‫ومنها ‪ :‬بناء طائفة منهم الظواهر الشرعية على تأويلت ل تعقل ـ يدعون فيها أنا هي القصود‬
‫والراد ‪ ،‬ل ما يفهم العرب ـ مسندة عندهم إل أصل ل يعقل وذلك أنم فيما ذكره العلماء ‪ :‬قوم‬
‫ل ‪ ،‬وإلقاء ذلك فيما بي الناس لينحل الدين ف أيديهم ‪ ،‬فلم‬
‫أرادوا إبطال الشريعة جلةً وتفصي ً‬
‫يكنهم إلقاء ذلك صراحا ‪ ،‬فيد ذلك ف وجوههم ‪ ،‬وتتد إليهم أيدي الكام ‪ ،‬فصرفوا إعناقهم إل‬
‫التحيل على ما قصدوا بأنواع من اليل من جلهتا صرف الم من الظواهر إحالة على أن لا بواطن‬

‫‪123‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫هي القصودة ‪ ،‬وأن الظواهر غي مرادة ‪ .‬فقالوا ‪ :‬كل ما ورد ف الشرع من الظواهر ف التكاليف‬
‫والشر والنشر ‪ ،‬والمور اللية فهي أمثلة ورموز إل بواطن ‪.‬‬
‫فمما زعموا ف الشرعية ‪ :‬أن النابة مبادرة الداعي للمستجيب بإفشاء سر إليه قبل أن ينال رتبة‬
‫الستحقاق ‪ .‬ومعن الغسل تديد العهد على من فعل ذلك ‪ .‬ومعن مامعة البهيمة مقابة من ل عهد‬
‫له ول يؤد شيئا من صدقة النجوى ـ وهو مائة وتسعة عشر درها ـ قالوا ‪ :‬فلذلك أوجب الشرع‬
‫القتل على الفاعل والفعول به ‪ ،‬وإل فالبهيمة مت يب القتل عليها ؟‬
‫والحتلم أن يسبق لسانه إل إفشاء السر ف غي مله ‪ ،‬فعليه الغسل ‪ ،‬أي تديد العاهدة والطهر هو‬
‫التبؤ من اعتقاد كل مذهب سوى متابعة المام ‪ .‬والتيمم الخذ من الأذون إل أن يسعد بشاهدة‬
‫الداعي والمام ‪ .‬والصيام هو المساك عن كشف السر ‪.‬‬
‫ولم من هذا الفك كثي ف المور اللية ن وأمور التكليف ‪ ،‬وأمور الخرة ‪ .‬وكله حوم على‬
‫إبطال الشريعة جلةً وتفصيلً ‪ ،‬إذ هم ثنوية ودهرية وإباحية ‪ ،‬منكرون للنبوة والشرائع والشر‬
‫والنشر والنة والنار واللئكة ‪ ،‬بل هم منكرون للربوبية ‪ .‬وهم السمون بالباطنية ‪.‬‬
‫وربا تسكوا بالروف والعداد بأن الثقب ف رأس الدمي سبع ‪ ،‬والكواكب السيارة سبع ‪ ،‬وأيام‬
‫السبوع سبع ‪ ،‬فهذا يدل على أن دور الئمة سبعة ‪ ،‬وبه يتم ‪ .‬وأن الطبائع أربع ‪ ،‬وفصول السنة‬
‫أربع ‪ ،‬فدل على أن أصول الربعة هي السابق والتال اللان ـ عندهم ‪ ،‬والناطق والساس ـ وها‬
‫المامان ـ والبوج اثنا عشر يدل على أن الجج اثنا عشر ‪ ،‬وهم الدعاة ‪ ،‬إل أنواع من هذا القبيل‬
‫‪ .‬وجيعها ليس فيه ما يقابل بالرد ‪ ،‬لن كل طائفة من البتدعة سوى هؤلء ربا يتمسكون بشبهة‬
‫تتاج إل النظر فيها معهم ‪ .‬أما هؤلء فقد خلعوا ف الذيان ( الربقة ) ‪ ،‬وصاروا عرضة للمز ‪،‬‬
‫وضحك ًة للعالي ‪ .‬وإنا ينسبون هذه الباطيل إل المام العصوم الذي زعموه ‪ ،‬وإبطال الئمة معلوم‬
‫ف كتب التكلمي ‪ .‬ولكن ل بد من نكتة متصرة ف الرد عليهم ‪.‬‬
‫فل يلو أن يكون ذلك عندهم إما من جهة دعوى الضرورة وهو مال ‪ .‬لن الضروري هو ما‬
‫يشترك فيه العقلء علما وإداركا ‪ ،‬وهذا ليس كذلك ‍‍‪.‬‬
‫وإما من جهة المام العصوم بسماعهم منه لتلك التأويلت ‪ .‬فنقول لن زعم ذلك ‪ :‬ما الذي دعاك‬
‫إل تصديق ممد صلى ال عليه وسلم سوى العجزة ؟ وليس لمامك معجزة ‪ ،‬فالقرآن يدل على أن‬
‫الراد ظاهره ‪ ،‬ل ما زعمت ‪ .‬فإن قال ‪ :‬ظاهر القرآن رموز إل بواطن فهمها المام العصوم ول‬
‫يفهمها فتعلمناها منه ‪ .‬قيل لم ‪ :‬من أي جهة تعلمتموها منه ؟ أبشاهد قلبه بالعي ؟ أو بسماع‬
‫منه ؟ ول بد من الستناد إل السماع بالذن ‪ .‬فيقال ‪ :‬فلعل لفظه ظاهر له باطن ل تفهمه ‪ ،‬ول‬
‫يطلعك عليه ‪ ،‬فل يوثق با فهمت من ظاهر لفظه ‪ ،‬فإن قال ‪ :‬صرح بالعن ‪ .‬وقال ‪ :‬ما ذكرته ظاهر‬
‫ل رمز فيه ‪ ،‬أو والراد ظاهره ‪ .‬قيل له ‪ :‬وباذا عرفت قوله أنه ظاهر ل رمز فيه ‪ ،‬بل أنه كما قال ؟‬

‫‪124‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إذ يكن أن يكون له باطن ل تفهمه أيضا ‪ ،‬حت لو حلف بالطلق الظاهر أنه ل يقصد إل الظاهر ‪،‬‬
‫لحتمل أن يكون ف طلقه رمز وهو باطنه وليس مقتضى الظاهر ‪ .‬فإن قال ‪ :‬ذلك يؤدي إل حسم‬
‫باب التفهيم ‪.‬‬
‫قيل له ‪ :‬فأنتم حسمتموه بالنسبة إل النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإن القرآن دائر على تقرير‬
‫الوحدانية ‪ ،‬والنة ‪ ،‬والنار ‪ ،‬والشر ‪ ،‬والنشر ‪ ،‬والنبياء ‪ ،‬والوحي ‪ ،‬واللئكة ‪ ،‬مؤكدا ذلك كله‬
‫بالقسم ‪ .‬وأنتم تقولون ‪ :‬إن ظاهره غي مراد وإن تته رمزا ‪ .‬فإن جاز ذلك عندكم بالنسبة إل النب‬
‫صلى ال عليه وسلم لصلحة وسر له ف الرمز ‪ ،‬جاز بالنسبة إل معصومكم أن يظهر لكم خلف ما‬
‫يضمره لصلحة وسر له فيه ‪ ،‬وهذا ل ميص لم عنه ‪.‬‬
‫قال أبو حامد الغزال رحه ال ‪ :‬ينبغي أن يعرف النسان أن رتبة هذه الفرقة هي أخس من رتبة كل‬
‫فرقة من فرق الضلل ‪ ،‬إذ ل تد فرقة تنقض مذهبها بنفس الذهب سوى هذه الت هي الباطنية ‪ .‬إذ‬
‫مذهبها إبطال النظر ‪ ،‬وتغيي اللفاظ عن موضوعها بدعوى الرمز ‪ ،‬وكل ما يتصور أن تنطق به‬
‫ألسنتهم فإما نظر أو نقل ‪ ،‬أما النظر فقد أبطلوه ‪ ،‬وأما النقل فقد جوزوا أن يراد باللفظ غي‬
‫موضوعة ‪ ،‬فل يبقى لم معتصم ‪ ،‬والتوفيق بيد ال ‪.‬‬
‫وذكر ابن العرب ف العواصم مأخذا آخر ف الرد عليهم أسهل من هذا ـ وقال إنم ل قبل لم به‬
‫ـ وهو أن يسلط عليهم ف كل ما يدعونه السؤال بـ ل ؟ خاصة ‪ ،‬فكل من وجهت عليه منهم‬
‫سقط ف يده ‪ ،‬وحكى ف ذلك حكاية ظريفة يسن موقعها ها هنا ‪ ،‬وتصور الذهب كاف ف ظهور‬
‫بطلنه إل أنه مع ظهور فساده وبعده عن الشرع قد اعتمده طوائف وبنوا عليه بدعا فاحشة ‪ ( .‬منها‬
‫) مذهب الهدي الغرب ‪ ،‬فإنه عد نفسه المام النتظر وأنه معصوم ‪ ،‬حت أن من شك ف عصمته ‪،‬‬
‫أو ف أنه الهدي النتظر كافر ‪.‬‬
‫وقد زعم ذووه أنه ألف ف المامة كتابا ذكر فيه أن ال استخلف آدم ونوحا وإبراهيم وموسى‬
‫وعيسى وممدا عليهم السلم ‪ ،‬وأن مدة اللفة ثلثون سنة ‪ ،‬وبعد ذلك فرق وأهواء ‪ ،‬وشح مطاع‬
‫‪ ،‬وهوى متبع ‪ ،‬وإعجاب كل ذي رأي برأيه ‪ ،‬فلم يزل المر على ذلك ‪ ،‬والباطل ظاهر والق‬
‫كامن ‪ ،‬والعلم مرفوع ـ كما أخب عليه الصلة والسلم ‪ :‬الهل ظاهر ‪ ،‬ول يبق من الدين اسه ‪،‬‬
‫ول من القرآن إل رسه حت جاء ال بالمام فأعاد به الدين ـ كما قال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"بدىء السلم غريبا وسيعود غريبا كما بدىء فطوب للغرباء" وقال ‪ :‬إن طائفته هم الغرباء ‪ ،‬زعما‬
‫من غي برهان زائد على الدعوى ‪ ،‬وقال ف ذلك الكتاب ‪ :‬جاء ال بالهدي ‪ ،‬وطاعته نقية ‪ ،‬ل ير‬
‫مثلها قبل ول بعد ‪ ،‬وأن به قامت السموات ‪ ،‬والرض به تقوم ‪ ،‬ول ضد له ‪ ،‬ول مثل ‪ ،‬ول ند ‪،‬‬
‫ول كذب ‪ ،‬تعال ال عن قوله ‪ ،‬وهذا كما نزل أحاديث الترمذي و أب داود ف الفاطمي على نفسه‬
‫وأنه هو بل شك ‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأول إظهاره لذلك أنه قام ف أصحابه خطيبا فقال ‪ :‬المد ل الفعال لا يريد ‪ ،‬القاضي لا يشاء ‪ ،‬ل‬
‫راد لمره ‪ ،‬ول معقب لكمه ‪ ،‬وصلى ال على النب البشر بالهدي يل الرض قسطا وعد ًل ‪ ،‬كما‬
‫ملئت ظلما وجورا يبعثه ال إذا نسخ الو بالباطل ‪ ،‬وأزيل العدل بالور ‪ ،‬مكانه بالغرب القصى ‪،‬‬
‫وزمانه آخر الزمان ‪ ،‬واسه اسم النب عليه الصلة والسلم ‪ ،‬ونسبه نسب النب صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وقد ظهر جور المراء ‪ ،‬وامتلت الرض بالفساد ‪ ،‬وهذا آخر الزمان ‪ ،‬والسم السم‬
‫والنسب النسب والفعل الفعل ‪ .‬يشي إل ما جاء ف أحاديث الفاطمي ‪.‬‬
‫فلما فرغ بادر إليه من أصحابه عشرة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هذه الصفة ل توجد إل فيك ‪ ،‬فأنت الهدي ‪،‬‬
‫فبايعوه على ذلك ‪ .‬وأحدث ف دين ال أحداثا كثية زيادة إل القرار بأنه الهدي العلوم ‪،‬‬
‫والتخصيص بالعصمة ‪ ،‬ث وضع ذلك ف الطب ‪ ،‬وضرب ف السكك ‪ ،‬بل كانت تلك الكلمة‬
‫عندهم ثالثة الشهادة ‪ ،‬فمن ل يؤمن با ‪ ،‬أو شك فيها ‪ ،‬فهو كافر كسائر الكفار ‪ ،‬وشرع القتل ف‬
‫مواضع ل يضعه الشرع فيها ‪ ،‬وهي نو من ثانية عشر موضعا ‪ ،‬كترك امتثال أمر من يستمع أمره ‪،‬‬
‫وترك حضور مواعظة ثلث مرات ‪ ،‬والداهنة إذا ظهرت ف أحد قتل ‪ ،‬وأشياء كثية ‪.‬‬
‫وكان مذهبه البدعة الظاهرية ‪ ،‬ومع ذلك فابتدع أشياء ‪ ،‬كوجوه من التثويب ‪ ،‬إذ كانوا ينادون عند‬
‫الصلة بتاصاليت السلم و بقيام تاصاليت ‪ ,‬سوردين و باردي و وأصبح ول المد وغيه‬
‫‪ ،‬فجرى العمل بميعها ف زمان الوحدين ‪ ،‬وبقي أكثرها بعدما انقرضت دولتهم حت إن أدركت‬
‫بنفسي ف جامع غرناطة العظم الرضا عن المام العصوم ‪ ،‬الهدي العلوم ‪ ،‬إل أن أزيلت وبقيت‬
‫أشياء مثية غفل عنها أو‬
‫غفلت ‪.‬‬
‫وقد كان السلطان أبو العلء إدريس بن يعقوب بن يوسف بن عبد الؤمن بن علي منهم ‪ ،‬ظهر له‬
‫قبح ما هم عليه من هذه البتداعات ‪ ،‬فأمر ـ حي استقر براكش ـ خليفته بإزالة جيع ما ابتدع‬
‫من قبله ‪ ،‬وكتب بذلك رسالة إل القطار يأمر فيها بتغيي تلك السنة ‪ ،‬ويوصي بتقوى ال والستعانة‬
‫به ‪ ،‬والتوكل عليه ‪ ،‬وأنه قد نبذ الباطل وأظهر الق ‪ ،‬وأن ل مهدي إل عيسى ‪ ،‬وأن ما ادعوه أنه‬
‫الهدي بدعة أزالا ‪ ،‬وأسقط اسم من ل تثبت عصمته ‪.‬‬
‫وذكر أن أباه النصور هم بأن يصدع با به صدع ‪ ،‬وأن يرفع الرف الذي رفع ‪ ،‬فلم يساعده الجل‬
‫لذلك ‪ ،‬ث لا مات واستخلف ابنه أبو ممد عبد الواحد اللقب بالرشيد ‪ ،‬وفد إليه جاعة من أهل‬
‫الذهب التسمي بالوحدين ‪ ،‬فقتلوا منه ف الذروة والغارب ‪ ،‬وضمنوا على أنفسهم الدخول تت‬
‫طاعته ‪ ،‬والوقوف على قدم الدمة بي يديه ‪ ،‬والدافعة عنه با استطاعوا ‪ ،‬لكن على شرط ذكر‬
‫الهدي وتصيصه بالعصمة ف الطبة والخاطبات ‪ ،‬ونقش اسه الاص ف السكك ‪ ،‬وإعادة الدعاء‬

‫‪126‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بعد الصلة ‪ ،‬والنداء عليها بتاصاليت السلم عند كمال الذان ‪ ،‬و بتقام تاصاليت وهي إقامة‬
‫الصلة ‪ ،‬وما أشبه دلك من سودرين ‪ ،‬و قادري و أصبح ول المد وغي ذلك ‪.‬‬
‫وقد كان الرشيد استمر على العمل با رسم أبوه من ترك ذلك كله ‪ ،‬فلما انتدب الوحدون إل‬
‫الطاعة اشترطوا إعادته ما ترك ‪ ،‬فأسعفوا فيه ‪ ،‬فلما احتلوا منازلم أياما ول يعد شيء من تلك‬
‫العوائد ‪ ،‬ساءت ظنونم ‪ ،‬وتوقعوا انقطاع ما هو عمدتم ف دينهم ‪ ،‬وبلغ ذلك الرشيد ‪ ،‬فجدد‬
‫تأنيسهم بإعادتا ‪.‬‬
‫قال الؤرخ ‪ :‬فيا ل ! ماذا بلغ من سرورهم وما كانوا فيه من الرتياح لسماع تلك المور ‪،‬‬
‫واطلقت ألسنتهم بالدعاء لليفتهم بالنصر والتأييد ‪ ،‬وشلت الفراح فيهم الكبي والصغي ‪ ،‬وهذا‬
‫شأن صاحب البدعة ‪ ،‬فلن يسر بأعظم من انتشار بدعته وإظهارها "ومن يرد ال فتنته فلن تلك له‬
‫من ال شيئا" وهذا كله دائر على القول بالمامة والعصمة الذي هو رأي الشيعة ‪.‬‬

‫فصل ومنها ‪ :‬رأى قوم التغال ف تعظيم شيوخهم‬


‫ومنها ‪ :‬رأى قوم التغال ف تعظيم شيوخهم ‪ ،‬حت ألقوهم با ل يستحقونه ‪ .‬فالقتصد منهم يزعم‬
‫أنه ل ول ل أعظم من فلن ‪ ،‬وربا أغلقوا باب الولية دون سائر المة إل هذا الذكور ‪ ،‬وهو باطل‬
‫مض ‪ ،‬وبدعة فاحشة ‪ ،‬لنه ل يكن أن يبلغ التأخرون أبدا مبالغ التقدمي ‪ ،‬فخي القرون الذين‬
‫رأوا رسول ال صلى ال عليه وسلم وآمنوا به ‪ ،‬ث الذين يلونم ‪ ،‬وهذا يكون المر أبدا إل قيام‬
‫الساعة ‪ ،‬فأقوى ما كان أهل السلم ف دينهم وأعمالم ويقينهم وأحوالم ف أول السلم ‪ ،‬ث ل‬
‫زال ينقص شيئا فشيئا إل آخر الدنيا ‪ ،‬لكن ل يذهب الق جلة ‪ ،‬بل ل بد من طائفة تقوم به‬
‫وتعتقده ‪ ،‬وتعمل بقتضاه على حسبهم ف إيانم ‪ ،‬ل ما كان عليه الولون من كل وجه ‪ ،‬لنه ‪:‬‬
‫لو أنفق أحد من التأخرين وزن أحد ذهبا ‪ ،‬ما بلغ مد أحد من أصحاب رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ول نصيفه ‪ ،‬وإذا كان ذلك ف الال فكذلك ف سائر شعب اليان بشهادة التجربة العادية ‪.‬‬
‫ولا تقدم أول الكتاب أنه ل يزال الدين ف نقص فهو أصلي ل شك فيه ‪ ،‬وهو عند أهل السنة‬
‫والماعة ‪ ،‬فكيف يعتقد بعد ذلك ف أنه ول أهل الرض ؟ وليس ف المة ول غيه ؟ لكن الهل‬
‫الغالب ‪ ،‬والغلو ف التعظيم ‪ ،‬والتعصب للنحل ‪ ،‬يؤدي إل مثله أو أعظم منه ‪.‬‬
‫والتوسط يزعم أنه مساو للنب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إل أنه ل يأتيه الوحي ‪ ،‬بلغن هذا عن طائفة‬
‫من الغالي ف شيخهم ‪ ،‬الاملي لطريقتهم ف زعمهم ‪ ،‬نظي ما ادعاه بعض تلمذه اللج ف‬
‫شيخهم على القتصاد منهم فيه ‪ ،‬والغال يزعم فيه أشنع من هذا ‪ ،‬كما ادعى أصحاب اللج ف‬
‫اللج ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد حدثن بعض الشيوخ أهل العدالة والصدق ف النقل أنه قال ‪ :‬أقمت زمانا ف بعض القرى البادية‬
‫‪ ،‬وفيها من هذه الطائفة الشار إليها كثي قال ‪ :‬فخرجت يوما من منل لبعض شأن ‪ ،‬فرأيت‬
‫رجلي منهم قاعدين ‪ ،‬فتوهت أنما يتحدثان ف بعض فروع طريقتهم ‪ ،‬فقربت منهما على استخفاء‬
‫لسع من كلمهم ـ إذ من شأنم الستخفاء بأسرارهم ـ فتحدثا ف شيخهم وعظم منلته ‪ ،‬وأنه‬
‫ل أحد ف الدنيا مثله ‪ ،‬وطربا لذه القابلة طربا عظيما ‪ ،‬ث قال أحدها للخر ‪ :‬أتب الق ؟ هو‬
‫النب ‪ ،‬قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬هذا هو الق ‪ .‬قال الخب ‪ :‬فقمت من ذلك الكان فارا أن يصيبن معهم قارعة ‪.‬‬
‫وهذا نط الشيعة المامية ‪ ،‬ولول الغلو ف الدين والتكالب على نصر الذهب والتهالك ف مبة‬
‫البتدع ‪ ،‬لا وسع ذلك عقل أحد ‪ ،‬ولكن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبا بشب وذراعا بذراع" الديث ‪ ،‬فهؤلء غلوا كما غلت النصارى‬
‫ف عيسى عليه السلم ‪ ،‬حيث قالوا ‪ :‬إن ال هو السيح ابن مري ‪،‬فقال ال تعال ‪" :‬قل يا أهل‬
‫الكتاب ل تغلوا ف دينكم غي الق ول تتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيا وضلوا عن‬
‫سواء السبيل" وف الديث ‪:‬‬
‫"ول تطرون كما أطرت النصارى عيسى ابن مري ‪ ،‬ولكن قولوا ‪ :‬عبد ال ورسوله" ‪.‬‬
‫ومن تأمل هذه الصناف وجد لا من البدع ف فروع الشريعة كثيا ‪ ،‬لن البدعة إذا دخلت ف‬
‫الصل سهلت مداخلتها الفروع ‪.‬‬

‫فصل وأضعف هؤلء احتجاجا قوم استندوا ف أخذ العمال إل القامات‬


‫وأضعف هؤلء احتجاجا قوم استندوا ف أخذ العمال إل القامات ‪ ،‬وأقبلوا وأعرضوا بسببها ‪،‬‬
‫فيقولون ‪ :‬رأينا فلنا الرجل الصال ‪ ،‬فقال لنا ‪ :‬اتركوا كذا ‪ ،‬واعملوا كذا ‪ .‬ويتفق هذا كثيا‬
‫للمتمرسي برسم التصوف ‪ ،‬وربا قال بعضهم ‪ :‬رأيت النب صلى ال عليه وسلم ف النوم ‪ ،‬فقال ل‬
‫كذا وأمرن بكذا ‪ ،‬فيعمل با ويترك با معرضا عن الدود الوضوعة ف الشريعة ‪ ،‬وهو خطأ ‪ ،‬لن‬
‫الرؤيا من غي النبياء ل يكم با شرعا على حال إل أن تعرض على ما ف أيدينا من الحكام‬
‫الشرعية ‪ ،‬فإن سوغتها عمل بقتضاها ‪ ،‬وإل وجب تركها والعراض عنها ‪ ،‬وإنا فائدتا البشارة ‪،‬‬
‫أو النذرة خاصة ‪ ،‬وأما استفادة الحكام فل ‪ ،‬كما يكى عن الكتان رحه ال قال ‪ :‬رأيت النب‬
‫صلى ال عليه وسلم ف النام ‪ ،‬فقلت ‪ :‬ادع ال أن ل ييت قلب ‪ ،‬فقال ‪ :‬قل كل يوم أربعي مرة يا‬
‫حي يا قيوم ل إله إل أنت فهذا كلم حسن ل إشكال ف صحته ‪ ،‬وكون الذكر يي القلب صحيح‬
‫شرعا ‪ ،‬وفائدة الرؤيا التنبيه على الي ‪ ،‬وهو من ناحية البشارة ‪ ،‬وإنا يبقى الكلم ف التحديد‬
‫بالربعي ‪ ،‬وإذا ل يوجد على اللزوم استقام ‪.‬‬

‫‪128‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن أب يزيد البسطامي رحه ال ‪ ،‬قال ‪ :‬رأيت رب ف النام ‪ ،‬فقلت ‪ :‬كيف الطريق إليك ؟ فقال ‪:‬‬
‫أترك نفسك وتعال ؟ وشأن هذا الكلم من الشرع موجود فالعمل بقتضاه صحيح ‪ ،‬لنه كالتنبيه‬
‫لوضع الدليل ‪ ،‬لن ترك النفس معناه ترك هواها بإطلق ‪ ،‬والوقوف على قدم العبودية ‪ ،‬واليات‬
‫تدل على هذا العن ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬وأما من خاف مقام ربه ونى النفس عن الوى*فإن النة هي‬
‫الأوى" وما أشبه ذلك ‪ ،‬فلو رأى ف النوم قائلً يقول ‪ :‬إن فلنا سرق فاقطعه ‪ ،‬أو عال فاسأله ‪ ،‬أو‬
‫اعمل با يقول لك ‪ ،‬أو فلن زن فحده ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬ل يصح له العمل حت يقوم له الشاهد ف‬
‫اليقظة ‪ ،‬وإل كان عاملً بغي شريعة ‪ ،‬إذ ليس بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم وحي ‪.‬‬
‫ول يقال ‪ :‬إن الرؤيا من أجزاء النبوة ‪ ،‬فل ينبغي أن تمل ‪ ،‬وأيضا إن الخب ف النام قد يكون النب‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو قد قال ‪:‬‬
‫"من رآن ف النوم فقد رآن حقا ‪ ،‬فإن الشيطان ل يتمثل ب" وإذا كان ‪ ...‬فإخباره ف النوم‬
‫كإخباره ف اليقظة ‪.‬‬
‫لنا نقول ‪ :‬إن كانت الرؤيا من أجزاء النبوة فليست إلينا من كمال الوحي ‪ ،‬بل جز من أجزائه ‪،‬‬
‫والزء ل يقوم مقام الكل ف جيع الوجوه ‪ ،‬بل إنا يقوم مقامه ف بعض الوجوه ‪ ،‬وقد صرفت إل‬
‫جهة البشارة والنذارة ‪ ،‬وفيها كاف ‪.‬‬
‫وأيضا فإن الرؤيا الت هي جزء من أجزاء النبوة من شرطها أن تكون صالة من الرجل الصال ‪،‬‬
‫وحصول الشروط ما ينظر فيه ‪ ،‬فقد تتوفر ‪ ،‬وقد ل تتوفر ‪.‬‬
‫وأيضا فهي منقسمة إل اللم ‪ ،‬وهو من الشيطان ‪ ،‬وإل حديث النفس ‪ ،‬وقد تكون سبب هيجان‬
‫بعض أخلط ‪ ،‬فمت تتعي الصالة حت يكم با وترك غي الصالة ؟‬
‫ويلزم أيضا على ذلك أن يكون تديد وحي بكم بعد الن ضلى ال عليه وسلم ‪،‬وهو منهي عنه‬
‫بالجاع ‪.‬‬
‫يكى أن شريك بن عبد ال القاضي دخل على الهدي ‪ ،‬فلما رآه قال ‪ :‬علي بالسيف والنطع ‪ ،‬قال‬
‫‪ :‬ول يا أمي اليؤمني ؟ قال ‪ :‬رأيت ف منامي كأنك تطأ بساطي وأنت معرض عن ‪ ،‬فقصصت‬
‫رؤياي على من عبها ‪ ،‬فقال ل ‪ :‬يظهر لك طاعة ويضمر معصية ‪ .‬فقال له شريك ‪ :‬وال ما رؤياك‬
‫برؤيا إبراهيم الليل عليه السلم ‪ ،‬ول أن معبك بيوسف الصديق عليه السلم ‪ ،‬فبالحلم الكاذبة‬
‫تضرب أعناق الؤمني ؟ فاستحي الهدي ‪ ،‬وقال ‪ :‬اخرج عن ‪ .‬ث صرفه وأبعده ‪.‬‬
‫وحكى الغزال إن بعض الئمة أنه أفت بوجوب قتل رجل يقول بلق القرآن ‪ ،‬فروجع فيه فاستدل‬
‫بأن رجلً رأى ف منامه إبليس قد اجتاز بباب الدينة ول يدخلها ؟ فقيل ‪ :‬هل دخلتها ؟ فقال ‪:‬‬
‫أغنان عن دخولا رجل يقول بلق القرآن ‪ ،‬فقام ذلك الرجل فقال ‪ :‬لو أفت إبليس بوجوب قتلي ف‬
‫اليقظة هل تقلدونه ف فتواه ؟ فقالوا ‪ :‬ل ! فقال ‪ :‬قوله ف النام ل يزيد على قوله ف اليقظة ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما الرؤيا الت يب فيها رسول ال صلى ال عليه وسلم الرائي بالكم فل بد من النظر فيها أيضا ‪،‬‬
‫لنه إذا أخب بكم موافق لشريعته ‪ ،‬فالكم با استقر ‪ ،‬وإن أخب بخالف ‪ ،‬فمحال ‪ ،‬لنه صلى ال‬
‫عليه وسلم ل ينسخ بعد موته شريعته الستقرة ف حياته ‪ ،‬لن الدين ل يتوقف استقراره بعد موته‬
‫على حصول الرائي النومية ‪ ،‬لن ذلك باطل بالجاع ‪ .‬فمن رأى شيئا من ذلك فل عمل عليه ‪،‬‬
‫وعند ذلك نقول ‪ :‬إن رؤياه غي صحيحة ‪ .‬إذ لو رآه حقا ل يبه با يالف الشرع ‪.‬‬
‫لكن يبقى النظر ف معن قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من رآن ف النوم فقد رآن" وفيه تأويلن ‪:‬‬
‫احدها ‪ :‬ما ذكره ابن رشيد إذ سئل عن حاكم شهد عنده عدلن مشهوران بالعدالة ف قضية ‪ ،‬فلما‬
‫نام الاكم ذكر أنه رأى النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ما تكم بذه الشهادة ؟ فإنا باطلة ‪.‬‬
‫فأجاب بأنه ل يل له أن يترك العمل بتلك الشهادة ‪ ،‬لن ذلك إبطال لحكام الشريعة بالرؤيا ‪،‬‬
‫وذلك باطل ل يصح أن يعتقد ‪ ،‬إذ ل يعلم الغيب من ناحيتها إل النبياء الذين رؤياهم وحي ‪ ،‬ومن‬
‫سواهم إنا رؤياهم ‪:‬‬
‫جزء من ستة وأربعي جزءا من النبوة ‪.‬‬
‫ث قال ‪ :‬وليس معن قوله ‪:‬‬
‫"من رآن فقد رآن حقا" أن كل من رأى ف منامه أنه رآه فقد رآه حقيقة ‪ .‬بدليل أن الرئي قد يراه‬
‫مرات على صور متلفة ‪ ،‬ويراه الرائي على صفة ‪ ،‬وغيه على صفة أخرى ‪ .‬ول يوز أن تتلف‬
‫صور النب صلى ال عليه وسلم ول صفاته ‪ .‬وإنا معن الديث ‪" :‬من رآن على صورت الت خلقت‬
‫عليها ‪ .‬فقد رآن ‪ ،‬إذ ل يتمثل الشيطان ب" إذ ل يقل ‪ :‬من رآن أنه رآن ‪ .‬وإنا قال ‪ :‬من رآن فقد‬
‫رآن ‪ .‬وأن لذا الرائي الذي رأى أنه رآه على صورة أنه رآه عليها ؟ وإن ظن أنه رآه ‪ ،‬ما ل يعلم‬
‫أن تلك الصورة صورته بعينها ‪ ،‬وهذا ما طريق لحد إل معرفته ‪.‬‬
‫فهذا ما نقل عن ابن رشيد ‪ .‬وحاصله يرجع إل أن الرئي قد يكون غي النب صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وإن اعتقد الرائي أنه هو ‪.‬‬
‫والتأويل الثان يقوله علماء التعبي ‪ :‬إن الشيطان قد يأت النائم ف صورة ما من معارف الرائي وغيهم‬
‫فيشي له إل رجل آخر ‪ :‬هذا فلن النب ‪ ،‬وهذا اللك الفلن ‪ ،‬أو من أشبه هؤلء من ل يتمثل‬
‫الشيطان به ‪ .‬فيوقف اللبس على الرائي بذلك وله علمة عندهم ‪ .‬وإذا كان كذلك أمكن أن يكلمه‬
‫الشار إليه بالمر والنهي غي الوافقي للشرع ‪ ،‬فيظن الرائي أنه من قبل النب صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫ول يكون كذلك ‪ ،‬فل يوثق با يقول له أو يأمر أو ينهى ‪.‬‬
‫وما أحرى هذا الضرب أن يكون المر أو النهي فيه مالفا لكمال الول ‪ ،‬حقيق بأن يكون فيه‬
‫موافقا ‪ ،‬وعند ذلك ل يبقى ف السألة إشكال ‪ .‬نعم ل يكم بجرد الرؤيا حت يعرضها على العلم ‪،‬‬

‫‪130‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫لمكان اختلط أحد القسمي بالخر وعلى الملة فل يستدل بالرؤيا ف الحكام إل ضعيف النة ‪.‬‬
‫نعم يأت الرئي تأنيسا وبشارة ونذارة خاصة ‪ ،‬بيث ل يقطعون بقتضاها حكما ‪ ،‬ول يبنون عليها‬
‫أصلً ‪ ،‬وهو العتدال ف أخذها ‪ ،‬حسبما فهم من الشرع فيها ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل وقد رأينا أن تتم الكلم ف الباب بفصل جع جلة من الستدللت التقدمة‬
‫وقد رأينا أن تتم الكلم ف الباب بفصل جع جلة من الستدللت التقدمة ‪ ،‬وغيها ف معناها ‪،‬‬
‫وفيه من نكت هذا الكتاب جلة أخرى ‪ ،‬فهو ما يتاج إليه بسب الوقت والال ‪ ،‬وإن كان فيه‬
‫طول ولكنه يدم ما نن فيه إن شاء ال تعال ‪.‬‬
‫وذلك أنه وقع السؤال عن قوم يتسمون بالفقراء يزعمون أنم سلكوا طريق الصوفية ‪ ،‬فيجتمعون ف‬
‫بعض الليال ويأخذون ف الذكر الهوري على صوت واحد ‪ ،‬ث ف الغناء والرقص ‪ ،‬إل آخر الليل ‪،‬‬
‫ويضر معهم بعض التسمي بالفقهاء ـ يترسون برسم الشيوخ الداة إل سلوك ذلك الطريق ‪ :‬هل‬
‫هذا العمل صحيح ف الشرع أم ل ؟‬
‫فوقع الواب بأن ذلك كله من البدع الحدثات ‪ ،‬الخالفة طريقة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وطريقة أصحابه والتابعي لم بإحسان ‪ ،‬فنفع بذلك ن شاء من خلقه ‪.‬‬
‫ث إن الواب وصل إل بعض البلطان ‪ ،‬فقامت على العاملي بتلك البدع ‪ ،‬وخافوا اندراس‬
‫طريقتهم ‪ ،‬وانقطاع اكلهم با ‪ ،‬فأرادوا النتصار لنفسهم ‪ ،‬بعد أن راموا ذلك بالنتساب بالسنة‬
‫إل شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم واشتهرت ف النقطاع إل ال ‪ ،‬والعمل بالسنة طريقتهم ‪،‬‬
‫فلم يستقر لم الستدلل لكونم على ضد ما كان عليه القوم ‪ ،‬فإنم كانوا بنوا نلتهم على ثلثة‬
‫أصول ‪ :‬القتداء بالنب صلى ال عليه وسلم ف الخلق والفعال ‪ ،‬وأكل اللل ‪ ،‬وإخلص النية ف‬
‫جيع العمال ‪ ،‬وهؤلء قد خالفوهم ف هذه الصول ‪ ،‬فل يكنهم الدخول تت ترجتهم ‪.‬‬
‫وكان من قدر ال أن بعض الناس سأل بعض شيوخ الوقت ف مسألة تشبه هذه ‪ ،‬لكن حسن‬
‫ظاهرها بيث يكاد باطنها يفى على غي التأمل ‪ .‬فأجاب عفا ال عنه على مقتضى ظاهرها من غي‬
‫تعرض إل ما هم عليه من البدع والضللت ‪ ،‬ولا سع بعضهم بذا الواب أرسل به إل بلدة أخرى‬
‫‪ ،‬فأتى به فرحل إل غي بلده ‪ ،‬وشهر ف شيعته أن بيده حجة لطريقتهم تقهر كل حجة ‪ ،‬وأنه طالب‬
‫للمناظرة فيها ‪ ،‬فدعي لذلك فلم يقم فيه ول قعد ‪ ،‬غي أنه قال ‪ :‬إن هذه حجت ‪ ،‬وألقى بالبطاقة‬
‫الت بط الجيب ‪ ،‬وكان هو ومبه وأشياعه يطيون با رحا ‪ ،‬فوصلت السألة إل غرناطة ‪ ،‬وطلب‬
‫من الميع النظر فيها ‪ .‬فلم يسع أحد له قوة على النظر فيها إل أن يظهر وجه الصواب فيها الذي‬
‫يدان ال به لنه من النصيحة الت هي الدين القوي ‪ ،‬والصراط الستقيم ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ونص خلصة السؤال ‪ :‬ما يقول الشيخ فلن ف جاعة من السلمي يتمعون ف رباط على ضفة‬
‫البحر ف الليال الفاضلة ‪ ،‬يقرؤون جزءا من القرآن ‪ ،‬ويستمعون من كتب الوعظ والرقائق ما أمكن‬
‫ف الوقت ‪ ،‬ويذكرون ال بأنواع التهليل والتسبيح والتقديس ‪ ،‬ث يقوم من بينهم قوال يذكر شيئا ف‬
‫مدح النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ويلقي من السماع ما تتوق النفس إليه وتشتاق ساعه من صفات‬
‫الصالي ‪ ،‬وذكر آلء ال ونعمائه ‪ ،‬ويشوقهم بذكر النازل الجازية ‪ ،‬والعاهد النبوية ‪ ،‬فيتواجدون‬
‫اشتياقا لذلك ‪ ،‬ث يأكلون ما حضر من الطعام ‪ ،‬ويمدون ال تعال ‪ ،‬ويرددون الصلة على النب‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ويبتهلون بالدعية إل اللله ف صلح أمورهم ‪ ،‬ويدعون للمسلمي ولمامهم‬
‫ويفترقون ‪.‬‬
‫فهل يوز اجتماعهم هلى ماذكر ؟ أم ينعون وينكر عليهم ؟ ومن دعاهم من الحبي إل منله بقصد‬
‫التبك ‪ ،‬هل ييبون دعوته ويتمعون على الوجه الذكور أم ل ؟‬
‫فأجاب با مصوله ‪ :‬مالس تلوة القرآن وذكر ال هي رياض النة ث أتى بالشواهد على طلب ذكر‬
‫ال ‪ .‬وأما النشادات الشعرية ‪ .‬فإنا الشعر كلم حسنه حسن وقبيحه قبيح ‪ ،‬وف القرآن ف شعراء‬
‫السلم ‪" :‬إل الذين آمنوا وعملوا الصالات وذكروا ال كثيا " وذلك أن حسان بن ثابت ‪ ،‬وعبد‬
‫ال بن رواحة ‪ ،‬وكعبا لا سعوا قوله تعال ‪" :‬والشعراء يتبعهم الغاوون" ‪ .‬بكوا عند ساعها فنل‬
‫الستثناء وقد أنشد الشعر بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ورقت نفسه الكرية وذرفت‬
‫عيناه لبيات أخت النضر لا طبع عليه من الرأفة والرحة ‪.‬‬
‫وأما التواجد عند السماع ‪ ،‬فهو ف الصل رقد النفس ‪ ،‬واضطراب القلب فيتأثر الظاهر بتأثر الباطن‬
‫‪ .‬قال ال تعال ‪" :‬الذين إذا ذكر ال وجلت قلوبم" أي اضطربت رغبا أو رهبا ‪ .‬وعن اضطراب‬
‫القلب يصل اضطراب السم ‪ ،‬قال ال تعال ‪" :‬لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا " الية ‪ .‬وقال‬
‫‪" :‬ففروا إل ال" فإنا التواجد رقة نفسية ‪ ،‬وهزة قلبية ‪ ،‬ونضة روحانية ‪ .‬وهذا هو التواجد عن‬
‫وجد ‪ .‬ول يسمع فيه نكي من الشرع ‪ .‬وذكر السلمي أنه كان يستدل بذه الية على حركة الوجد‬
‫ف وقت السماع ‪ .‬وهي ‪" :‬وربطنا على قلوبم إذ قاموا فقالوا ربنا" الية ‪ .‬وكان يقول ‪ :‬إن القلوب‬
‫مربوطة باللكوت ‪ ،‬حركتها أنوار الذكار ‪ ،‬وما يرد عليها من فنون السماع ‪.‬‬
‫ووراء هذا تواجد ل عن وجد ‪ ،‬فهو مناط الذم لخالفة ما ظهر لا بطن ‪ ،‬وقد يعزب فيه المر عند‬
‫القصد إل استنهاض العزائم ‪ ،‬وأعمال الركة ف يقظة القلب النائم ‪:‬‬
‫"يا أيها الناس ابكوا فإن ل تبكوا فتباكوا" ولكن شتان ما بينهما ‪.‬‬
‫وأما من دعا طائفة إل منله فتجاب دعوته ‪ ،‬وله ف ذلك قصده ونيته ‪ .‬فهذا ما ظهر تقييده على‬
‫مقتضى الظاهر ‪ ،‬وال يتول السرائر ‪ ،‬وإنا العمال بالنيات انتهى ما قيده ‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فكان ما ظهر ل ف هذا الواب ‪ :‬أن ما ذكره ف مالس الذكر الصحيح إذا كان على حسب ما‬
‫اجتمع عليه السلف الصال ‪ ،‬فإنم كانوا يتمعون لتدارس القرآن فيما بينهم ‪ ،‬حت يتعلم بعضهم من‬
‫بعض ‪ ،‬ويأخذ بعضهم من بعض ‪ ،‬فهو ملس من مالس الذكر الت جاء ف مثلها من حديث أب‬
‫هريرة رضي ال عنه عن النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ما اجتمع قوم ف بيت من بيوت ال يتلون كتاب ال ويتدارسونه بينهم ‪ ،‬إل نزلت عليهم السكينة‬
‫وغشيتهم الرحة ‪ ،‬وحفت بم اللئكة وذكرهم ال فيمن عنده" وهو الذي فهمه الصحابه رضي ال‬
‫تعال عنهم من الجتماع على تلوة كلم ال ‪.‬‬
‫وكذلك الجتماع على الذكر فإنه اجتماع على ذكر ال ففي رواية أخرى أنه قال ‪:‬‬
‫"ل يقعد قوم يذكرون ال إل حفتهم اللئكة" الديث الذكور ‪ .‬ل الجتماع للذكر على صوت‬
‫واحد ‪ ،‬وإذا اجتمع القوم على التذكي لنعم ال ‪ ،‬أو التذاكر ف العلم إن كانوا علماء ‪ ،‬أو كان فيهم‬
‫عال فجلس إليه متعلمون ‪ ،‬أو اجتمعوا يذكر بعضهم بعضا بالعمل بطاعة ال والبعد عن معصيته ـ‬
‫وما أشبه ذلك ما كان يعمل به رسول ال صلى ال عليه وسلم ف أصحابه ‪ ،‬وعمل به الصحابة‬
‫والتابعون ـ فهذه الجالس كلها مال ذكر وهي الت جاء فيها من الجر ما جاء ‪.‬‬
‫كما يكى عن أب ليلى أنه سئل عن القصص ‪ .‬فقال ‪ :‬أدركت أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم‬
‫ويدث هذا با سع وهذا با سع ـ فأما أن يلسوا خطيبا فل ـ وكان كالذي نراه معمولً به ف‬
‫الساجد من اجتماع الطلبة على معلم يقرئهم القرآن أو علما من العلوم الشرعية ‪ .‬أو تتمع إليه‬
‫العامة فيعلمهم أمر دينهم ويذكرهم بال ويبي لم سنة نبيهم ليعملوا با ‪ ،‬ويبي لم الحدثات الت‬
‫هي ضللة ليحذروا منها‪ ،‬ويتجنبوا مواطنها والعمل با ‪.‬‬
‫فهذه مالس الذكر على القيقة وهي الت حرمها ال أهل البدع من هؤلء الفقراء الذين زعموا أنم‬
‫سلكوا طريق التصوف ‪ ،‬وقل ما تد منهم من يسن قراءة الفاتة ف الصلة إل على اللحن ‪ ،‬فضلً‬
‫عن غيها ‪ ،‬ول يعرف كيف يتعبد ول كيف يستنجي أو يتوضأ أو يغتسل من النابة ‪ .‬وكيف‬
‫يعلمون ذلك وهم قد حرموا مالس الذكر الت تغشاها الرحة ‪ ،‬وتنل فيها السكينة ‪ ،‬وتف با‬
‫اللئكة فبانطماس هذا النور عنهم ضلوا ‪ ،‬فاقتدوا بهال أمثالم ‪ ،‬وأخذوا يقرؤون الحاديث النبوية‬
‫واليات القرآنية فينلونا على آرائهم ‪ ،‬ل على ما قال أهل العلم فيها ‪ .‬فخرجوا عن الصراط‬
‫الستقيم ‪ ،‬إل أن يتمعوا ويقرأ أحدهم شيئا من القرآن يكون حسن الصوت طيب النغمة جيد‬
‫التلحي تشبه قراءته الغناء الذموم ‪ ،‬ث يقولون ‪ :‬تعالوا نذكر ال فيفعون أصواتم يشون ذلك‬
‫الذكر مداولة ‪ ،‬طائفة ف جهة ‪ ،‬وطائفة ف جهة أخرى ‪ ،‬على صوت واحد يشبه الغناء ‪ ،‬ويزعمون‬
‫أن هذا من مالس الذكر الندوب إليها ‪ ،‬وكذبوا ‪ :‬فإنه لو كان حقا لكان السلف الصال أول‬

‫‪133‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بإدراكه وفهمه والعمل به ؟ وقد قال تعال ‪" :‬ادعوا ربكم تضرعا وخفية إنه ل يب العتدين"‬
‫والعتدون ف التفسي هم الرافعون أصواتم بالدعاء ‪.‬‬

‫"وعن أب موسى قال ‪ :‬كنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ف سفر فجعل الناس يهرون بالتكبي‬
‫‪ ،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أربعوا على أنفسكم ‪ ،‬إنكم ل تدعون أصم ول غائبا تدعون‬
‫سيعا قريبا ‪ ،‬وهو معكم" ‪ .‬وهذا الديث من تام تفسي الية ‪ ،‬ول يكونوا رضي ال عنهم يكبون‬
‫على صوت واحد ‪ ،‬ولكنه ناهم عن رفع الصوت ليكونوا متثلي للية ‪ .‬وقد جاء عن السلف أيضا‬
‫النهي عن الجتماع على الذكر ‪ ،‬والدعاء باليئة الت يتمع عليها هؤلء البتدعون وجاء عنهم النهي‬
‫عن الساجد التخذة لذلك ‪ ،‬وهي الربط الت يسمونا بالصفة ‪ .‬وذكر من ذلك ابن وهب وابن‬
‫وضاح وغيها ما فيه كفاية لن وفقه ال ‪.‬‬
‫فالاصل من هؤلء أنم حسنوا الظن بأنم فيما هم عليه مصيبون ‪ ،‬وأساؤوا الظن بالسلف الصال‬
‫أهل العمل الراجح الصريح ‪ ،‬وأهل الدين الصحيح ‪ .‬ث لا طالبهم لسان الال بالجة أخذوا كلم‬
‫الجيب وهم ل يعملون ‪ ،‬وقولوه ما ل يرضى به العلماء ‪ ،‬وقد بي ذلك ف كلم آخر إذ سئل عن‬
‫ذكر فقراء زماننا ‪ ،‬فأجاب بأن مالس الذكر الذكورة بي الحاديث أنا هي الت يتلى فيها القرآن ‪،‬‬
‫والت يتعلم فيها العلم والدين ‪ ،‬والت تعمر بالعلم والتذكي بالخرة والنة والنار ‪ .‬وكمجالس سفيان‬
‫الثوري ‪ ،‬والسن ‪ ،‬وابن سيين ‪ ،‬وأضرابم ‪.‬‬
‫أما مالس الذكر اللسان فقد صرح با ف حديث اللئكة السياحي ‪ ،‬لكن ل يذكر فيه جهرا‬
‫بالكلمات ‪ ،‬ول رفع أصوات ‪ ،‬وكذلك غيه ‪ .‬لكن الصل الشروع إعلن الفرائض وإخفاء‬
‫النوافل ‪ ،‬وأتى بالية وبقوله تعال ‪" :‬إذ نادى ربه نداء خفيا " وبديث ‪:‬‬
‫"أربعوا على أنفسكم" ‪ .‬قال ‪ :‬وفقراء الوقت قد تيوا بآيات ‪ ،‬وتيزوا بأصوات ‪ ،‬هي إل العتداء ‪،‬‬
‫أقربق منها إل القتداء وطريقتهم إل اتاذها مأكلة وصناعة ‪ ،‬أقرب منها إل اعتدادها قربةً وطاع ًة ‪.‬‬
‫انتهى معناه على اختصار أكثر الشواهد ‪ .‬وهي دليل على أن فتواه الحتج با ليس معناها ما رام‬
‫هؤلء البتدعة ‪ .‬فإنه سئل ف هذه عن فقراء الوقت ‪ ،‬فأجاب بذمهم ‪ ،‬وأن حديث النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ل يتناول عملهم ‪ .‬وف الول إنا سئل عن قوم يتمعون لقراءة القرآن ‪ ،‬أو لذكر ال ‪.‬‬
‫وهذا السؤال يصدق على قوم يتمعون مثلً ف السجد فيذكرون ال كل واحد منهم ف نفسه أو‬
‫يتلو القرآن نفسه كما يصدق على مالس العلمي والتعلمي ‪ ،‬وما أشبه ذلك ما تقدم التنبيه عليه فل‬
‫يسعه وغيه من العلماء إل أن يذكر ماسن ذلك والثواب عليه ‪ .‬فلما سئل عن أهل البدع ف الذكر‬
‫والتلوة بي ما ينبغي أن يعتمد عليه الوفق ‪ ،‬ول توفيق إل بال العلي العظيم ‪.‬‬

‫‪134‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما ما ذكره ف النشادات الشعرية ‪ ،‬فجائز للنسان أن ينشد الشعر الذي ل رفث فيه ‪ ،‬ول يذكر‬
‫بعصية ‪ ،‬وأن يسمعه من غيه إذا أنشد ‪ ،‬على الد الذي ينشد بي يدي رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬أو عمل به الصحابة والتابعون ومن يقتدى به من العلماء ‪ ،‬وذلك أنه كان ينشد ويسمع‬
‫لفوائد ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬النافخة عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وعن السلم وأهله ‪ ،‬ولذلك " كان حسان بن‬
‫ثابت رضي ال عنه قد نصب له منب ف السجد ينشد عليه إذا وفدت الوفود ‪ ،‬حت يقولوا ‪ :‬خطيبه‬
‫أخطب من خطيبنا ‪ ،‬وشاعره أشعر من شاعرنا ‪ ،‬ويقول له صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اهجهم وجبيل‬
‫معك" وهذا من باب الهاد ف سبيل ال ‪ ،‬ليس للفقراء من فضله ف غنائهم بالشعر قليل ول كثي ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنم كانوا يتعرضون لاجاتم ويستشفعون بتقدي البيات بي يدي طلباتم ‪ .‬كما فعل ابن‬
‫زهي رضي ال عنه ‪ ،‬وأخت النضر بن الارث ‪ ،‬ومثل ما يفعل الشعراء مع الكباء ‪ .‬هذا ل حرج‬
‫فيه ما ل يكن ف الشعر ذكر ما ل يوز ‪ .‬ونظيه ف سائر الزمنة تقدي الشعر للخلفاء واللوك ومن‬
‫أشبههم قطعا من أشعارهم بي يدي حاجاتم ‪ ،‬كما يفعله أهل الوقت الجردون للسعاية على‬
‫الناس ‪ ،‬مع القدرة على الكتساب ‪ .‬وف الديث ‪:‬‬
‫"ل تصح الصدقة لغن ‪ ،‬ول لذي مرة سوي" فإنم ينشدون الشعار الت فيها ذكر ال وذكر‬
‫رسوله ‪ ،‬وكثيا ما يكون فيها ما ل يوز شرعا ‪ ،‬ويتمندلون بذكر ال ورسوله ف السواق والواضع‬
‫القذرة ‪ ،‬ويعلون ذلك آلة الخذ ما ف أيدي الناس ‪ ،‬لكن بأصوات مطربة ياف بسببها على النساء‬
‫ومن ل عقل له من الرجال ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أنم ربا أنشدوا الشعر ف السفار الهادية تنشيطا لكلل النفوس ‪ ،‬وتنبيها للرواحل أن‬
‫تنهض ف اثقالا ‪ ،‬وهذا حسن ‪ ،‬لكن العرب ل يكن لا من تسي النغمات ما يري مرى ما الناس‬
‫عليه اليوم ‪ ،‬بل كانوا ينشدون الشعر مطلقا من غي أن يتعلموا هذه الترجيعات الت حدثت بعدهم ‪،‬‬
‫بل كانوا يرققون الصوت ويططونه على وجه ل يليق بأمية العرب الذين ل يعرفوا صنائع الوسيقى ‪،‬‬
‫فلم يكن فيه إلذاذ ول إطراب يلهي ‪ ،‬وإنا كان لم شيء من النشاط كما كان البشة وعبد ال بن‬
‫رواحة يدوان بي يدي رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكما كان النصار يقولون عند حفر‬
‫الندق ‪:‬‬
‫على الهاد ما حيينا أبدا‬ ‫نن الذين بايعوا ممدا‬
‫فيجيبهم صلى ال عليه وسلم بقوله ‪:‬‬
‫"اللهم ل خي إل خي الخرة ‪ .‬فاغفر للنصار والهاجرة" ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬أن يتمثل الرجل بالبيت أو البيات من الكمة ف نفسه ليعظ نفسه أو ينشطها أو يركها‬
‫لقتضى معن الشعر ‪ ،‬أو يذكرها ذكرا مطلقا ‪ ،‬كما حكى أبو السن القراف الصوف عن السن أن‬

‫‪135‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قوما أتوا عمر بن الطاب رضي ال عنه فقالوا ‪ :‬يا أمي الؤمني ! إن لنا إماما إذا فرغ من صلته‬
‫تغن ‪ .‬فقال عمر ‪ :‬من هو ؟ فذكر الرجل ‪ .‬فقال ‪ :‬قوموا بنا إليه فإنا إن وجهنا إليه يظن أنا تسسنا‬
‫عليه أمره ‪ .‬قال ‪ :‬فقام عمر مع جاعة من أصحاب النب صلى ال عليه وسلم حت أتوا الرجل وهو‬
‫ف السجد ‪ ،‬فلما أن نظر إل عمر قام فاستقبله فقال ‪ :‬يا أمي الؤمني ما حاجتك ؟ وما جاء بك ؟‬
‫إن كانت الاجة لنا كنا أحق بذلك منك أن نأتيك ‪ ،‬وإن‬

‫وقد رأينا أن تتم الكلم ف الباب بفصل جع جلة من الستدللت التقدمة‬


‫كانت الاجة لك فأحق من عظمناه خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬قال له عمر ‪ :‬ويك !‬
‫بلغن عنك أمر ساءن ‪ .‬قال ‪ :‬وما هو يا أمي الؤمني ؟ قال ‪ :‬أتتمجن ف عبادتك ؟ قال ‪ :‬ل يا أمي‬
‫الؤمني ‪ ،‬لكنها عظة أعظ با نفسي ‪ .‬قال عمر ‪:‬قلها ‪ ،‬فإن كان كلما حسنا قلته معك وإن كان‬
‫قبيحا نيتك عنه ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫ف مدى الجران يبغي تعب‬ ‫وفؤاد كلما عاتبته‬
‫ل أراه الدهر إل لهيا ف تاديه فقد برح ب‬
‫فن العمر كذا ف اللعب‬ ‫يا قرين السوء ما هذا الصبا‬
‫وشباب بان عن فمضى قبل أن أقضي منه أرب‬
‫ما أرجي بعده إل الفنا ضيق الشيب على مطلب‬
‫ويح نفسي ل أراها أبدا ف جيل ل ول ف أدب‬
‫نفس ل كنت ول كان الوى راقب الول وخاف وارهب‬
‫قال ‪ :‬فقال عمر رصي ال عنه ‪:‬‬
‫نفس ل كنت ول كان الوى راقب الول وخاف وارهب‬
‫ث قال عمر ‪ :‬على هذا فليغن من غن ‪.‬‬
‫فتأملوا قوله ‪ :‬بلغن أمر ساءن ‪ .‬مع قوله ‪ :‬أتتمجن ف عبادتك ‪ .‬فهو من أشد ما يكون ف النكار ‪،‬‬
‫حت أعلمه أنه يردد لسانه أبيات حكمة فيها موعظة ‪ ،‬فحينئذ أقره وسلم له ‪.‬‬
‫هذا وما أسبهه كان فعل القوم ‪ ،‬وهم مع ذلك ل يقتصروا ف التنشيط للنفوس ول الوعظ على مرد‬
‫الشعر ‪ ،‬بل وعظوا أنفسهم بكل موعظة ‪ ،‬ول كانوا يستحضرون لذكر الشعار الغني ‪ ،‬إذ ل يكن‬
‫ذلك من طلباتم ‪ ،‬ول كان عندهم من الغناء الستعمل ف أزماننا شيء ‪ ،‬وإنا دخل ف السلم‬
‫بعدهم حي خالط العجم السلمي ‪.‬‬
‫وقد بي ذلك أبو السن القراف فقال ‪ :‬أي الاضي من الصدر الول حجة على من بعدهم ‪ ،‬ول‬
‫يكونوا يلحنون الشعار ول ينغمونا بأحسن ما يكون من النغم إل من وجه إرسال الشعر واتصال‬

‫‪136‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫القواف ‪ .‬فإن كان صوت أحدهم أشجن من صاحبه كان ذلك مردودا إل أصل اللقة ل يتصنعون‬
‫ول يتكلفون ‪.‬‬
‫هذا ما قال ‪ .‬فلذلك نص العلماء على كراهية ذلك الحدث ‪ .‬وحت سئل مالك بن أنس رضي ال‬
‫عنه عن الغناء الذي يستعمله أهل الدينة ‪ .‬فقال ‪ :‬إنا يفعله الفساق ولكن التقدمون أيضا يعدون‬
‫الغناء جزءا من أجزاء طريقة التعبد ‪ ،‬وطلب رقة النفوس ‪ ،‬وخشوع القلوب ‪ ،‬حت يقصدونه‬
‫قصدا ‪ ،‬ويتعمدون الليال الفاضلة ‪ ،‬فيجتمعون لجل الذكر الهري ‪ ،‬والشطح ‪ ،‬والرقص ‪،‬‬
‫والتغاشي ‪ ،‬والصياح ‪ ،‬وضرب القدام على وزن إيقاع الكف أو اللت ‪ ،‬وموافقة النغمات ‪.‬‬
‫هل ف كلم النب صلى ال عنه وعمله النقول ف الصحاح أو عمل السلف الصال أو أحد من العلماء‬
‫اثر؟ أو ف كلم الجيب ما يصرح بكلم مثل هذا ؟‬
‫بل سئل عن إنشاد الشعار بالصوامع كما يفعله الؤذنون اليوم ف الدعاء بالسحار ؟ فأجاب بأن‬
‫ذلك بدعة مضافة إل بدعة ‪ ،‬لن الدعاء بالصوامع بدعة ‪ .‬وإنشاد الشعر والقصائد بدعة أخرى ‪ ،‬إذ‬
‫ل يكن ذلك ف زمن السلف القتدى بم ‪.‬‬
‫وأما ما ذكره الجيب ف التواجد عند السماع من أنه أثر رقة النفس واضطراب القلب ‪ ،‬فإنه ل يبي‬
‫ذلك الثر ما هو ‪ ،‬كما أنه ل يبي معن الرقة ‪ ،‬ول عرج عليها بتفسي يرشد إل فهم التواجد عند‬
‫الصوفية ‪ ،‬وإنا ف كلمه أن ث أثرا ظاهرا يظهر على جسم التواجد ‪ ،‬وذلك الثر يتاج إل تفسي ‪،‬‬
‫ث التواجد يتاج إل شرح بسب ما يظهر من كلمه ‪.‬‬
‫والذي يظهر ف التواجد ما كان يبدو على جلة من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو‬
‫البكاء واقشعرار اللد التابع للخوف الخذ بامع القلوب ‪ ،‬وبذلك وصف ال عباده ف كلمه حي‬
‫قال ‪" :‬ال نزل أحسن الديث كتابا متشابا مثان تقشعر منه جلود الذين يشون ربم ث تلي‬
‫جلودهم وقلوبم إل ذكر ال" وقال تعال ‪" :‬وإذا سعوا ما أنزل إل الرسول ترى أعينهم تفيض من‬
‫الدمع ما عرفوا من الق" وقال ‪" :‬إنا الؤمنون الذين إذا ذكر ال وجلت قلوبم وإذا تليت عليهم‬
‫آياته زادتم إيانا" إل قوله ‪" :‬أولئك هم الؤمنون حقا" ‪.‬‬
‫وعن عبد ال بن الي رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫انتهيت إل رسول ال صلى ال عليه وسلم وهو يصلي ‪ ،‬ولوفه أزير كأزير الرجل ( يعن من البكاء‬
‫) والزير صوت يشبه صوت غليان القدر ‪ .‬وعن السن قال ‪ :‬قرأ عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪:‬‬
‫"إن عذاب ربك لواقع * ما له من دافع" فرب لا ربوة ‪ ،‬عيد منها عشرين يوما ‪ .‬وعن عبيد ال بن‬
‫عمر ‪ ،‬قال ‪ :‬صلى بنا عمر بن الطاب رضي ال عنه صلة الفجر ‪ ،‬فافتتح سورة يوسف فقرأها‬
‫حت إذا بلغ ‪" :‬وابيضت عيناه من الزن فهو كظيم" بكى حت انقطع ‪ .‬وف رواية لا انتهى إل قوله‬
‫‪" :‬إنا أشكو بثي وحزن إل ال" بكى حت سع نشيجه من وراء الصفوف ‪ .‬وعن أب صال قال ‪ :‬لا‬

‫‪137‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قدم أهل اليمن ف زمان أب بكر رضي ال عنه سعوا القرآن فجعلوا يبكون ‪ ،‬فقال أبو بكر ‪ :‬هكذا‬
‫كنا حت قست قلوبنا ‪ .‬وعن ابن أب ليلى أنه قرأ سورة مري حت انتهى إل السجدة ‪" :‬خروا سجدا‬
‫وبكيا" فسجد با ‪ ،‬فلما رفع رأسه قال ‪ :‬هذه السجدة قد سجدناها فأين البكاء؟ إل غي ذلك من‬
‫الثار الدالة على أن أثر الوعظة الذي يكون بغي تصنع إنا هو على هذه الوجوه وما أشبهها ‪.‬‬
‫ومثله ما استدل به بعض الناس من قوله تعال ‪" :‬وربطنا على قلوبم إذ قاموا فقالوا ربنا رب‬
‫السماوات والرض" ذكره بعض الفسرين ‪ .‬وذلك أنه لا ألقى ال اليان ف قلوبم حضروا عند‬
‫ملكهم دقيانوس الكافر ‪ ،‬فتحركت فأرة أو هرة خاف لجلها اللك ‪ ،‬فنظر الفتية إل بعض ‪ ،‬ول‬
‫يتمالكوا أن قاموا مصرحي بالتوحيد ‪ ،‬معلني بالدليل والبهان ‪ ،‬منكرين على اللك نلة الكفر ‪،‬‬
‫باذلي أنفسهم ف ذات ال ‪ .‬فأوعدهم ث أخلفهم ‪ ،‬فتواعدوا الروج إل الغار ‪ ،‬إل أن كان منهم‬
‫ما حكى ال تعال ف كتابه ‪ ،‬فليس ف ذلك صعق ول صياح ‪ ،‬ول شطح ‪ ،‬ول تغاش مستعمل ‪ ،‬ول‬
‫شيء من ذلك ‪ ،‬وهو شأن فقرائنا اليوم ‪.‬‬
‫وخرج سعيد بن منصور ف تفسيه عن عبد ال بن عروة بن الزبي ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت لدت أساء ‪ :‬كيف‬
‫كان أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا قرؤوا القرآن ؟ قالت ‪ :‬كانوا كما نعتهم ال ‪،‬‬
‫تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم ‪ .‬قلت ‪ :‬إن ناسا ها هنا إذا سعوا ذلك تأخذهم عليه غشية ‪ .‬فقالت‬
‫‪ :‬أعوذ بال من الشيطان الرجيم ‪.‬‬
‫وخرج أبو عبيد من أحاديث أب حازم ‪ .‬قال ‪ :‬مر ابن عمر برجل من أهل العراق ساقط والناس‬
‫حوله ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما هذا ؟ فقالوا ‪ :‬إذا قرئ عليه القرآن ‪ ،‬أو سع ال يذكر خر من خشية ال ‪ .‬قال‬
‫ابن عمر ‪ :‬وال إنا لنخشى ال ول نسقط ‪ .‬وهذا إنكار ‪.‬‬
‫وقيل لعائشة رضي ال عنها ‪ :‬إن قوما إذا سعوا القرآن يغشى عليهم ‪ .‬فقالت ‪ :‬إن القرآن أكرم من‬
‫أن تنف عنه عقول الرجال ‪ ،‬ولكنه كما قال ال تعال ‪ " :‬تقشعر منه جلود الذين يشون ربم ث‬
‫تلي جلودهم وقلوبم إل ذكر ال" وعن أنس بن مالك رضي ال عنه أنه سئل عن القوم يقرأ عليهم‬
‫القرآن فيصعقون فقال ‪ :‬ذلك فعل الوارج ‪.‬‬
‫وخرج أبو نعيم عن جابر بن عبد ال أن ابن الزبي رضي ال تعال عنه قال ‪ :‬جئت أب ‪ ،‬فقال ‪ :‬اين‬
‫كنت ؟ فقلت ‪ :‬وجدت أقواما يذكرون ال فيعد أحدهم حت يغشى عليه من خشية ال فقعدت‬
‫معهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل تقعد بعدها ‪ .‬فرآن كأنه ل يأخذ ذلك ف فقال ‪ :‬رأيت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم يتلو القرآن ‪ .‬ورأيت أبا بكر وعمر يتلوان القرآن ‪ ،‬فل يصيبهم هذا ‪ ،‬أفتراهم أخشع ل من‬
‫أب بكر وعمر ؟ فرأيت ذلك كذلك فتركتهم ‪ ،‬وهذا بأن ذلك كله تعمل وتكلف ل يرضى به أهل‬
‫الدين ‪.‬‬

‫‪138‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وسئل ممد بن سيين ‪ ،‬عن الرجل يقرأ عنده فيصعق ‪ ،‬فقال ‪ :‬ميعاد ما بيننا وبينه أن يلس على‬
‫حائط ث يقرأ عليه القرآن من أوله إى آخره ‪ ،‬فإن وقع فهو كما قال ‪.‬‬
‫وهذا الكلم حسن ف الحق والبطل ‪ ،‬لنه إنا كان عند الوارج نوعا من القحة ف النفوس الائلة‬
‫عن الصواب ‪ ،‬وقد تغالط النفس فيه فتظنه انفعالً صحيحا وليس كذلك ‪ .‬والدليل عليه أنه ل يظهر‬
‫على أحد من الصحابة ل هو ول ما يشبهه ‪ ،‬فإن مبناهم كان على الق ‪ ،‬فلم يكونوا يستعملون ف‬
‫دين ال هذه اللعب القبيحة السقطة للدب والروءة ‪.‬‬
‫نعم قد ل ينكر اتفاق الغشي ونوه أو الوت لن سع الوعظة بق فضعف عن مصابرة الرقة الاصلة‬
‫بسببها ‪ .‬فجعل اابن سيين ذلك الضابط ميزانا للمحق والبطل وهو ظاهر‪ ،‬فإن القحة ل تبقى مع‬
‫خوف السقوط من الائط ‪ .‬فقد اتفق من ذلك بعض النوادر وظهر فيها عذر التواجد ‪.‬‬

‫فحكي عن أب وائل ‪ ،‬قال ‪ :‬خرجنا مع عبد ال بن مسعود رضي ال عنه ومعناالربيع بن خثيمة‬
‫فممرنا على حداد ‪ ،‬فقام عبد ال ينظر إل حديده ف النار ‪ ،‬فنظر الربيع إليها فتمايل ليسقط ‪ ،‬ث إن‬
‫عبد ال مضى كما هو حت أتينا على شاطىء الفرات على أتون فلما رآه عبد ال والنار تلتهب ف‬
‫جوفه قرأ هذه الية ‪" :‬إذا رأتم من مكان بعيد سعوا لا تغيظا وزفيا" إل قوله ‪" :‬دعوا هنالك ثبورا‬
‫"فصعق الربيع‪ ،‬يعن غشي عليه ‪ .‬فاحتملناه فأتينا به أهله ـ قال ـ ورابطة عبد ال إل الظهر فلم‬
‫يفق‪ ،‬فرابطه إل الغرب‬
‫فأفاق‪ ،‬ورجع عبد ال إل أهله ‪.‬‬
‫فهذه حالت طرأت لواحد من أفاضل التابعي بحضر صحاب ‪ ،‬ول ينكر عليه لعلمه أن ذلك خارج‬
‫عن طاقته ‪ ،‬فصار بتلك الوعظة السنة كالغمى عليه ‪ ،‬فل حرج إذا ‪.‬‬
‫وحكي أن شابا كان يصحب النيد رضي ال عنه ـ وهو إمام الصوفية إذ ذاك ـ فكان الشاب إذا‬
‫سع شيئا من الذكر يزعق ‪ ،‬فقال له النيد يوما ‪ :‬إن فعلت ذلك مرةً أخرى ل تصحبن ‪ .‬فكان إذا‬
‫سع شيئا يتغي ‪ ،‬ويضبط نفسه حت كان يقطر العرق منه بكل شعرة من بدنه قطرة ‪ ،‬فيوما من اليام‬
‫صاح صيحه تلفت نفسه ‪ ،‬فهذا الشاب قد ظهر فيه مصداق ما قاله السلف ‪ ،‬لنه لو كانت صيحته‬
‫الول غلبته ل يقدر على ضبط نفسه ‪ ،‬وإن كان بشدة ‪ ،‬كما ل يقدر على ضبط نفسه الربيع بن‬
‫خثيمة ‪ ،‬وعليه أدبه الشيخ حي أنكر عليه ووعده بالفرقة ‪ ،‬إذ فهم منه أن تلك الزعقة من بقايا‬
‫رعونة النفس ‪ ،‬فلما خرج المر عن كسبه ـ بدليل موته ـ كانت صيحته عفوا ل حرج عليه فيها‬
‫إن شاء ال ‪.‬‬
‫بلف هؤلء القوم الذين ل يشموا من أوصاف الفضلء فأخذوا بالتشبه بم ‪ ،‬فابرز لم هواهم‬
‫التشبه بالوارج ‪ ،‬ويا ليتهم وقفوا عند هذا الد الذموم ‪ ،‬ولكن زادوا على ذلك الرقص والزمر‬

‫‪139‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والدوران والضرب على الصدور ‪ ،‬وبعضهم يضرب على رأسه ‪ .‬وما أشبه ذلك من العمل الضحك‬
‫للحمقى ‪ ،‬لكونه من أعمال الصبيان والجاني ‪ ،‬البكي للعقلء ‪ ،‬رح ًة لم ‪ ،‬إذ ل يتخذ مثل هذا‬
‫طريقا إل ال وتشبها بالصالي ‪.‬‬
‫وقد صح من حديث العرياض بن سارية رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫"وعظنا رسول ال صلى ال عليه وسلم موعظ ًة بليغة ذرفت منها العيون ‪ ،‬ووجلت منها القلوب "‪،‬‬
‫الديث ‪ ،‬فقال المام الجري العال السن أبو بكر رضي ال عنه ‪ :‬ميزوا هذا الكلم ‪ ،‬فإنه ل يقل ‪:‬‬
‫صرخنا من موعظة ‪ ،‬ول طرقنا على رؤوسنا ‪ ،‬ول ضربنا على صدورنا ‪ ،‬ول زفنا ول رقصنا ‪ ،‬كما‬
‫يفعل كثي من الهال يصرخون عند الواعظ ويزعقون ‪ ،‬وينتاشون ـ قال ـ ‪ :‬وهذا كله من‬
‫الشيطان يلعب بم ‪ ،‬وهذا كله بدعة وضللة ‪ ،‬ويقال لن فعل هذا ‪:‬‬
‫اعلم أن النب صلى ال عليه وسلم أصدق الناس موعظ ًة ‪ ،‬وأنصح الناس لمته ‪ ،‬وأرق الناس قلبًأ ‪،‬‬
‫وخي الناس من جاء بعده ـ ل يشك ف ذلك عاقل ـ ما صرخوا عند موعظته ول زعقوا ول‬
‫رقصوا ول زفنوا ‪ ،‬ولو كان هذا صحيحا لكانوا أحق الناس به أن يفعلوه بي يدي رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬ولكنه بدعة وباطل ومنكر فاعلم ذلك ‪ .‬انتهى كلمه ‪ .‬وهو واضح فيما نن فيه ‪.‬‬
‫ول بد من النظر ف المر كله الوجب للتأثر الظاهر ف السلف الولي مع هؤلء الدعي ‪ ،‬فوجدنا‬
‫الولي يظهر عليهم ذلك الثر بسبب ذكر ال ‪ ،‬أو بسماع آية من كتاب ال ‪ ،‬وبسبب رؤية‬
‫اعتبارية ـ كما ف قصة الربيع عند رؤيته للحداد والتون وهو موقد النار ـ ولسبب قراءة ف صلة‬
‫أو غيها ‪ ،‬ول ند أحدا منهم ـ فيما نقل العلماء ـ يستعملون الترن بالشعار لترق نفوسهم ‪،‬‬
‫فتتأثر ظواهرهم وطائفة الفقراء على الضد منهم ‪ ،‬فإنم يستعملون القرآن والديث والوعظ والتذكي‬
‫فل تتأثر ظواهرهم ‪ ،‬فإذا قام الزمر تسابقوا إل حركاتم العروفة لم ‪ ،‬فبالري أل يتأثروا على تلك‬
‫الوجوه الركوهة البتدعة ‪ .‬لن الق ل ينتج إل حقا كما أن الباطل‬
‫ل‪.‬‬‫ل ينتج إل باط ً‬
‫وعلى هذا التقرير ينبن النظر ف حقيقة الرقة الذكورة ‪ ،‬وهي الحركة للظاهر ‪ .‬وذلك أن الرقة ضد‬
‫الغلط ‪ ،‬فنقول ‪ :‬هذا رقيق ليس بغليط ‪ ،‬ومكان رقيق إذا كان لي التراب ‪ ،‬ومثله الغليط ‪ ،‬فإذا‬
‫وصف بذلك فهو راجع إل لينه وتأثره ضد القسوة ‪ ،‬ويشعر بذلك قوله تعال ‪" :‬ث تلي جلودهم‬
‫وقلوبم إل ذكر ال" لن القلب الرقيق إذا أوردت عليه الوعظة خضع لا ولن وانقاد ‪ ،‬ولذلك قال‬
‫تعال ‪" :‬إنا الؤمنون الذين إذا ذكر ال وجلت قلوبم" فإن الوجل تأثر ولي يصل ف القلب بسبب‬
‫الوعظة ‪ ،‬فترى اللد من أجل ذلك يقسعر ‪ ،‬والعي تدمع ‪ ،‬واللي إذا حل بالقلب ـ وهو باطن‬
‫النسان ـ حل باللد بشهادة ال ـ وهو ظاهر النسان ـ فقد حل النفعال بجموع النسان‬

‫‪140‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الولي ـ كما تقدم ـ فإذا رأيت أحدا سع موعظ ًة أي موعظة كانت ‪ ،‬فيظهر عليه من الثر ما‬
‫ظهر على السلف الصال ‪ ،‬علمت أنا رقة هي أول الوجد ‪ ،‬وأنا صحيحة ل اعتراض فيها ‪.‬‬
‫وإذا رأيت أحدا سع موعظة قرآنيةً أو سنيةً أو حكميةً ول يظهر عليه من تلك الثار شيء ‪ ،‬حت‬
‫يسمع شعرا مرقما أو غناء مطربا فتأثر ‪ ،‬فإنه ل يظهر عليه ف الغالب من تلك الثار شيء ‪ ،‬وإنا‬
‫يظهر عليه انزعاج بقيام ‪ ،‬أو دوران ‪ ،‬أو شطح ‪ ،‬أو صياح ‪ ،‬أو ما يناسب الغناء ‪ ،‬لن الرقة ضد‬
‫القسوة ـ كما تقدم ـ والطرب ضد الشوع ـ كما يقوله الصوفية ـ والطرب مناسب‬
‫للحركة ‪ ،‬لنه ثوران الطباع ‪ ،‬ولذلك اشترك فيه مع النسان اليوان ‪ ،‬كالبل والنحل ‪ ،‬ومن ل‬
‫عقل له من الطفال ‪ ،‬وغي ذلك ‪ .‬والشوع ضده ‪ ،‬لنه راجع إل السكون ‪ ،‬وقد فسر به لغة ‪،‬‬
‫كما فسر الطرب بأنه خفة تصحب النسان من حزن أو سرور ‪.‬‬
‫قال الشاعر ‪:‬‬
‫طرب الواله أو كالختبل‬
‫والتطريب مد الصوت وتسينه ‪.‬‬
‫وبيانه أن الشعر الغن به قد اشتمل على أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬ما فيه من الكمة والوعظة ‪ ،‬وهذا متص بالقلوب ‪ .‬ففيها تعمل وبا تنفعل ‪ ،‬ومن هذه‬
‫الهة ينسب السماع إل الرواح ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬ما فيه من النغمات الرتبة على النسب التلحيينة ‪ ،‬وهو الؤثر ف الطبائع ‪ ،‬فيهيجها إل ما‬
‫يناسبها ‪ ،‬وهي الركات على اختلفها ‪ ،‬فكل تأثر ف القلب من جهة السماع تصل عنه آثار‬
‫الكون والضوع فهو رقة ‪ ،‬وهو التواجد الذي أشار إليه كلم الجيب ‪ -‬ول شك أنه ممود ‪-‬‬
‫وكل تأثر يصل عنه ضد السكون ‪،‬‬
‫فهو طرب ل رقة فيه ول تواجد ‪ ،‬ول هو عند شيوخ الصوفية ممود ‪ ،‬لكن هؤلء الفقراء ليس لم‬
‫من التواجد ‪ -‬ف الغالب ‪ -‬إل الثان الذموم ‪ ،‬فهم إذا متواجدون بالنغم واللحون ‪ ،‬ل يدركون من‬
‫معان الكمة شيئا ‪ .‬فقد باؤوا إذا بأخسر الصفقتي ‪ .‬نعوذ بال ‪.‬‬
‫وإنا جاءهم الغلط من جهة اختلط الناطي عليهم ‪ ،‬ومن جهة أنم استدلوا بغيه فقوله تعال ‪:‬‬
‫"ففروا إل ال" وقوله ‪ " :‬لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا" ل دليل فيه على العن ‪ .‬وكذلك قوله‬
‫تعال ‪" :‬إذ قاموا فقالوا ربنا" أين فيه أنم قاموا يرقصون ‪ ،‬أو يزفنون ‪ ،‬أو يدورون على أقدامهم ؟‬
‫ونو ذلك ‪ ،‬فهو من الستدلل الداخل تت هذا الواب ‪.‬‬
‫ووقع ف كلم الجيب لفظ السماع غي مفسر ‪ ،‬ففهم منه الجتمع أنه الغناء الذي تستعمله شيعته ‪،‬‬
‫وهو فهم عموم الناس ‪ ،‬ل فهم الصوفية ‪ ،‬فإنه عندهم يطلق على كل صوت أفاد حكمة يضع لا‬
‫القلب ‪ ،‬ويلي لا اللد ‪ .‬وهو الذي يتواجدون عنده التواجد الحمود ‪ ،‬فسماع القرآن عنهم ساع ‪،‬‬

‫‪141‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكذلك ساع السنة وكلم الكماء والفضلء حت أصوات الطي وخرير الاء ‪ ،‬وصرير الباب ‪ .‬ومنه‬
‫ساع النظور أيضا إذا أعطى حكمة ‪ ،‬ول يستمعون هذا الخي إل ف الفرط ‪ ،‬وعلى غي استعداد‬
‫وعلى غي وجه اللتذاذ والطراب ‪ ،‬ول هم من يدوام عليه أو يتخذه عادة ‪ ،‬لن ذلك كله قادح ف‬
‫مقاصدهم الت بنوا عليها ‪.‬‬
‫قال النيد ‪ :‬إذا رأيت الريد يب السماع فاعلم أن فيه بقية من البطالة ‪ .‬وإنا لم من ساعة إذا اتفق‬
‫وجه الكمة إن كان فيه حكمة ‪ ،‬فاستوى عندهم النظم والنثر ‪ .‬وإن أطلق أحد منهم السماع ‪،‬‬
‫فمن حيث فهم الكمة ل من حيث يلئم الطباع لن من سعه من حيث يستحسنه فهو متعرض‬
‫للفتنة فيصي إل ما صار إليه السماع اللذ الطرب ‪.‬‬
‫ومن الدليل على أن السماع عندهم ما تقدم ‪ ،‬ما ذكر عن أب عثمان الغرب أنه قال ‪ :‬من ادعى‬
‫السماع ول يسمع صوت الطي وصرير الباب وتصفيق الرياح فهو مفتر مبتدع ‪ .‬وقال الصري ‪:‬‬
‫أيش أعمل بسماع ينقطع من يسمع منه ؟ وينبغي أن يكون ساعك ساعا متصلً غي منقطع ‪ .‬وعن‬
‫أحد بن سال قال ‪ :‬خدمت سهل بن عبد ال التستري سني ‪ ،‬فما رأيته تغي عند ساع شيء يسمعه‬
‫من الذكر أو القرآن أو غيه ‪ ،‬فلما كان ف آخر عمره قرىء بي يديه ‪" :‬فاليوم ل يؤخذ منكم فدية"‬
‫تغي وارتعد وكاد يسقط ‪ ،‬فلما رجع إل حال صحوه سألته عن ذلك فقال ‪ :‬يا حبيب ضعفنا ‪ .‬وقال‬
‫السلمي دخلت على أب عثمان الغرب وواحد يستقي الاء من البئر على بكرة ‪ ،‬فقال ل ‪ :‬يا أبا عبد‬
‫الرحن ! تدري إيش تقول هذه البكرة ؟ فقلت ‪ :‬ل ‪ .‬فقال ‪ :‬تقول ال ‪.‬‬
‫فهذه الكايات وأشباهها تدل على أن السماع عندهم كما تقدم ‪ ،‬وأنم ل يؤثرون ساع الشعار‬
‫ل على أن يتصنعوا فيها بالغان الطربة ‪ .‬ولا طال الزمان وبعدوا عن أحوال السلف‬ ‫على غيها فض ً‬
‫الصال ‪ ،‬أخذ الوى ف التفريع ف السماع حت صار يستعمل منع الصنوع على قانون اللان ‪،‬‬
‫فتعشقت به الطباع ‪ ،‬وكثر العمل به ودام ـ وإن كان قصدهم به الراحة فقط ـ فصار قذى ف‬
‫طريق سلوكهم فرجعوا به القهقرى ‪،‬ث طال المد حت اعتقده الهال ف هذا الزمان وما قاربه أنه‬
‫قربة ‪ ،‬وجزء أجزاء طريقة التصوف ‪ ،‬وهو الدهى ‪.‬‬
‫وقول الجيب ‪ :‬وأما من دعا طائفة إل منله فتجاب دعوته وله ف دعوته قصده مطابق حسب ما‬
‫ذكر أولً ‪ ،‬بأن من دعا قوما إل منله لتعلم آية أو سورة من كتاب ال ‪ ،‬أو سنة من سنن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬أو مذاكرة ف علم أو ف نعم ال ‪ ،‬أو مؤانسة ف شعر فيه حكمة ليس فيه غناء‬
‫مكروه ول صحبه شطح ول زفن ول صياح ‪ ،‬وغي ذلك من النكرات ‪ ،‬ث ألقى إليهم من الطعام‬
‫على غي وجه التكلف والباهاة ‪ ،‬ول يقصد بذلك بدعة ‪ ،‬ول امتيازا لفرقة ترج بأفعالا وأقوالا عن‬
‫السنة فل شك ف استحسان ذلك ‪ ،‬لنه داخل ف حكم الأدبة القصود با حسن العشرة بي اليان‬

‫‪142‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والخوان ‪ ،‬والتودد بي الصحاب ‪ ،‬وهي ف حكم الستحباب ‪ ،‬فإن كان فيها تذاكر ف علم أو‬
‫نوه ‪،‬فهي من باب التعاون على الي ‪.‬‬
‫ومثال ما يكى عن ممد بن حنيف ‪ ،‬قال ‪ :‬دخلت يوما على القاضي علي بن أحد ‪ ،‬فقال ل ‪ :‬يا‬
‫أبا عبد ال ! قلت ‪ :‬لبيك أيها القاضي ‪ ،‬قال ‪ :‬ها هنا أحكي لكم حكاية تتاج أن تكتبها باء‬
‫الذهب ‪ ،‬فقلت ‪ :‬أيها القاضي ! ما الذهب فل أجده ‪ ،‬ولكن أكتبها بالب اليد ‪ ،‬فقال ‪ :‬بلغن أنه‬
‫قيل أب عبد ال أحد بن حنبل ‪ :‬أن الارث الحاسب يتكلم ف علوم الصوفية ويتج عليه بالي ‪،‬‬
‫فقال أحد ‪ :‬أحب أن أسع كلمه من حيث ل يعلم ‪ ،‬فقال أنا أجعك معه ‪ ،‬فاتذ دعوة ودعا‬
‫الارث وأصحابه ودعا أحد ‪ ،‬فجلس بيث يرى الارث ‪ ،‬فحضرت الصلة ‪ ،‬فتقدم وصلى بم‬
‫الغرب ‪ ،‬وأحضر الطعام ‪ ،‬فجعل يأكل ويتحدث معهم ‪ ،‬فقال أحد ‪ :‬هذا منالسنة ‪.‬‬
‫فلما فرغوا من الطعام وغسلوا أيديهم جلس الارث وجلس أصحابه ‪ ،‬فقال ‪ :‬من أراد منكم أن‬
‫يسأل شيئا فليسأل ‪ ،‬فسئل عن الخلص ‪ ،‬وعن الرياء ‪ ،‬ومسائل كثية ‪ ،‬فاستشهد بالي والديث‬
‫‪ ،‬أحد يسمع ل ينكر شيئا من ذلك فلما مضى هدي من الليل أمر الارث قارئا يقرأ شيئا من‬
‫القرآن على الدو فقرأ ‪ ،‬فبكى بعضهم وانتخب آخرون ‪ ،‬ث سكت القارىء ‪ ،‬فدعا الارث‬
‫بدعوات خفاف ‪ ،‬ث قام إل الصلة ‪ ،‬فلما أصبحوا قال أحد ‪ :‬قد كان بلغن أن ها هنا مالس‬
‫للذكر يتمعون عليها ‪ ،‬فإن كان هذا من تلك الجالس فل أنكر منها شيئا ‪.‬‬
‫ففي هذه الكاية أن أحوال الصوفية توزن بيزان الشرع ‪ ،‬وأن مالس الذكر ليست ما زعم هؤلء‬
‫بل ما تقدم لنا ذكره ‪ ،‬وأما ما سوى ذلك ما اعتادوه فهو ما ينكر ‪.‬‬
‫والارث الحاسب من كبار الصوفية القتدى بم فإذا ليس ف كلم الجيب ما يتعلق به هؤلء‬
‫التأخرون إذ باينوا التقدمي من كل وجه ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬
‫والمثلة ف الباب كثية لو تتبعت لرجنا عن القصود ‪ ،‬وإنا ذكرنا أمثلة تبي من استللتم الواهية‬
‫ما يضاهيها ‪ ،‬وحاصلها الروج ف الستدلل عن الطريق الذي أوضحه العلماء ‪ ،‬وبينه الئمة ‪،‬‬
‫وحصر أنواعه الراسخون ف العلم ‪.‬‬
‫ومن نظر إل طريق أهل البدع ف الستدللت عرف أنا ل تنضبط ‪ ،‬لنا سيالة ل تقف عند حد ‪.‬‬
‫وعلى كل وجه يصح لكل زائغ وكافر أن يستدل على زيغه وكفره حت ينسب النحلة الت التزمها‬
‫إل الشريعة ‪.‬‬
‫فقد رأينا وسعنا عن بعض الكفار أنه استدل على كفره بآيات القرآن ‪ .‬كما استدل بعض النصارى‬
‫على تشريك عيسى بقوله تعال ‪" :‬وكلمته ألقاها إل مري وروح منه" ‪ ،‬واستدل على أن الكفار من‬
‫أهل النة بإطلق قوله تعال ‪" :‬إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئي من آمن بال‬
‫واليوم الخر" واستدل بعض اليهود على تفضيلهم علينا بقوله سبحانه ‪" :‬اذكروا نعمت الت أنعمت‬

‫‪143‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫عليكم وأن فضلتكم على العالي" ‪ .‬وبعض اللولية استدل على قوله تعال ‪" :‬ونفخت فيه من‬
‫روحي" والتناسخي استدل بقوله ‪" :‬ف أي صورة ما شاء ركبك" ‪.‬‬
‫وكذلك كل من اتبع التشابات ‪ ،‬أو حرف الناطات ‪ ،‬أو حل اليات ‪ ،‬ما ل تمله عند السلف‬
‫الصال ‪ ،‬أو تسك بالحاديث الواهية ‪ ،‬أو اخذ الدلة ببادي الرأي ‪ ،‬له أن يستدل على كل فعل أو‬
‫قول أو اعتقاد وافق غرضه بآية أو حديث ل يفوز بذلك أصلً ‪ ،‬والدليل عليه استدلل كل فرقة‬
‫شهرت بالبدعة على بدعتها يآية أو حديث من غي توقف ـ حسبما تقدم ذكره ـ وسيأت له نظائر‬
‫أيضا إن شاء ال ‪.‬‬
‫فمن طلب خلص نفسه تثبت حت يتضح له الطريق ‪ ،‬ومن تساهل رمته أيدي الوى ف معاطب ل‬
‫ملص له منها إل ما شاء ال ‪.‬‬

‫الباب الامس ‪ :‬ف أحكام البدع القيقية والضافية والفرق بينهما‬


‫ول بد قبل النظر ف ذلك من تفسي البدعة القيقية والضافية فنقول وبال التوفيق ‪.‬‬
‫إن البدعة القيقية ‪ :‬هي الت ل يدل عليها دليل شرعي ل من كتاب ول سنة ول إجاع ول استدلل‬
‫معتب عند أهل العلم ل ف الملة ول ف التفصيل ‪ ،‬ولذلك سيت بدعة ‪ -‬كما تقدم ذكره ‪ -‬لنا‬
‫شئ مترع على غي مثال سابق ‪ ،‬وإن كان البتدع يأب أن ينسب إليه الروج عن الشرع ‪ ،‬إذ هو‬
‫مدع أنه داخل با استنبط تت مقتضى الدلة ‪ ،‬لكن تلك الدعوى غي صحيحة ل ف نفس المر ول‬
‫بسب الظاهر ‪ .‬أما بسب نفس المر فبالعرض ‪ ،‬وأما بسب الظاهر فإن أدلته شبه ليست بأدلة إن‬
‫ثبت أنه استدل ‪ ،‬وإل فالمر واضح ‪.‬‬
‫وأما البدعة الضافية فهي الت لا شائبتان ‪ :‬إحداها لا من الدلة متعلق ‪ ،‬فل تكون من تلك الهة‬
‫بدعة ‪ .‬والخرى ليس لا متعلق إل مثل ما للبدعة القيقية ‪ .‬فلما كان العمل الذي له شائبتان ل‬
‫يتخلص لحد الطرفي وضعنا له هذه التسمية وهي البدعة الضافية أي أنا بالنسبة إل إحدى‬
‫الهتي سنة لنا مستندة إل دليل ‪ ،‬وبالنسبة إل الهة الخرى بدعة لنا مستندة إل شبهة ل إل‬
‫دليل ‪ ،‬أو غي مستندة إل شيء ‪.‬‬
‫والفرق بينهما من جهة العن ‪ ،‬أن الدليل عليها من جهة الصل قائم ‪ ،‬ومن دهة الكيفيات أو‬
‫الحوال أو التفاصيل ل يقم عليها ‪ ،‬مع أنا متاجة إليه لن الغالب وقوعها ف التعبديات ل ف‬
‫العاديات الحضة ‪ .‬كما سنذكره إن شاء ال ‪.‬‬
‫ث نقول بعد هذا ‪ :‬إن القيقية لا كانت أكثر وأعم وأشهر ف الناس ذكرا ‪ ،‬وافترقت الفرق وكان‬
‫الناس شيعا ‪ ،‬وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية وهي أسبق ف فهم العلماء ـ تركنا الكلم فيما يتعلق‬
‫با من الحكام ‪ ،‬ومع ذلك فقلما تتص بكم دون الضافية ‪ ،‬بل ها معا يشتركان ف أكثر‬

‫‪144‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الحكام الت هي مقصودا هذا الكتاب أن تشرح فيه ‪ ،‬بلف الضافية ‪ ،‬فإن لا أحكاما خاصة‬
‫وشرحا خاصا ـ وهو القصود ف هذا الباب إل أن الضافية أولً على ضربي ‪ :‬أحدها يقرب من‬
‫القيقية حت تكاد البدعة تعد حقيقية ‪ ،‬والخر يبعد منها حت يكاد سنة مضة ‪.‬‬
‫ولا انقسمت هذا النقسام صار من الكيد على كل قسم على حدته ‪ ،‬فلنعقد ف كل واحد منهما‬
‫فصولً بسب ما يقتضيه الوقت ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫فصل من فصول البدع الضافية قال ال سبحانه ف شأن عيسى عليه السلم ومن اتبعه ‪ :‬وجعلنا‬
‫ف قلوب الذين اتبعوه رأفة إل آخر الية‬
‫قال ال سبحانه ف شأن عيسى عليه السلم ومن اتبعه ‪" :‬وجعلنا ف قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحة‬
‫ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء رضوان ال فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا‬
‫منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون " ‪.‬‬
‫فخرج عبد بن حيد وإساعيل بن إسحاق القاضي وغيها " عن عبد ال بن مسعود رضي ال عنه‬
‫قال ‪ :‬قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت ‪ :‬ال ورسوله أعلم‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬أعلم الناس أبصرهم بالق إذا اختلف الناس ‪ ،‬وإن كان مقصرا ف العمل ‪ ،‬وإن كان يزحف‬
‫على أليتيه ‪ ،‬واختلف من كان قبلنا على اثنتي وسبعي فرقة ‪ ،‬نا منها ثلث وهلك سائرها ‪ ،‬فرقة‬
‫آذت اللوك وقاتلتهم على دين ال ـ ودين عيسى ابن مري عليهما السلم ـ فساحوا ف البال‬
‫وترهبوا فيها ‪ ،‬هم الذين قال ال عز وجل فيهم ‪" :‬ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء‬
‫رضوان ال فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون" فالؤمني‬
‫الذين آمنوا ب وصدقوا ب والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا" ‪ ،‬وهذا الديث من أحاديث الكوفيي‬
‫‪ .‬والرهبانية فيه بعن اعتزال اللق ف السياحة واطراح الدنيا ولذاتا من النساء وغي لك ‪ ،‬ومنه لزوم‬
‫الصوامع والديارة ـ على ما كان عليه أمر النصارى قبل السلم ـ مع التزام العبادة ‪ .‬وعلى هذا‬
‫التفسي جاعة من الفسرين ‪.‬‬
‫ويتمل أن يكون الستثناء ف قوله تعال ‪" :‬إل ابتغاء رضوان ال" متصلً ومنفصلً فإذا بنينا على‬
‫التصال فكأنه يقول ‪ :‬ما كتبناها عليهم إل على هذا الوجه الذي هو العمل با ابتغاء رضوان ال ‪.‬‬
‫فالعن أنا ما كتبت عليهم ـ أي ما شرعت لم ـ لكن بشرط قصد الرضوان ‪ ،‬فما رعوها حق‬
‫رعايتها ‪ ،‬بدليل أنم تركوا رعايتها حي ل يؤمنوا برسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وهو قول طائفة‬
‫من الفسرين لن قصد الرضوان إذا كان شرطا ف العمل با شرع لم ‪ ،‬فمن حقهم أن يتبعوا ذلك‬
‫القصد فإل أين سار بم ساروا ‪ ،‬وإنا شرع لم على شرط أنه إذا نسخ بغيه رجعوا إل ما أحكم‬
‫وتركوا ما نسخ ‪ ،‬وهو معن ابتغاء الرضوان على القيقة ‪ ،‬فإذا ل يفعلوا وأصروا على الول كان‬

‫‪145‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ذلك ابتاعا للهوى ل اتباعا للمشروع ‪ ،‬واتباع الشروع هو الذي يصل له الرضوان ‪ ،‬وقصد‬
‫الرضوان بذلك ‪.‬‬
‫قال تعال ‪ " :‬فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون " فالذين أمنوا هم الذين اتبعوا‬
‫الرهبانية ابتغاء رضوان ال ‪ ،‬والفاسقون هم الارجون عن الدخول فيها بشرطها إذ ل يؤمنوا برسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫إل أن هذا التقرير يقتضي أن الشروع لم يسمى ابتداعا ‪ ،‬وهو خلف ما دل عليه حد البدعة ‪.‬‬
‫والواب أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط الشروع ‪ ،‬إذ شرط عليهم فلم يقوموا به ‪ .‬وإذا‬
‫كانت العبادة مشروطة بشرط فيعمل با دون شرطها ل تكن عبادة على وجهها وصارت بدعة ‪،‬‬
‫كالخل قصدا بشرط من شروط الصلة ‪ ،‬مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيها ‪ ،‬فحيث عرف‬
‫بذلك وعلمه فلم يلتزمه ودأب على الصلة دون شرطها فذلك العمل من قبيل البدع ‪ .‬فيكون ترهب‬
‫النصارى صحيحا قبل بعث ممد رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلما بعث وجب الرجوع عن‬
‫ذلك كله إل ملته ‪ ،‬فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ‪ ،‬وهو عي البدعة ‪.‬‬
‫وإذا بنينا على أن الستثناء منقطع ـ وهو قول فريق من الفسرين ـ فالعن ‪ :‬ما كتبناها عليهم‬
‫أصلً ‪ ،‬ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان ال ‪ ،‬فلم يعملوا با بشرطها ‪ ،‬وهو اليان برسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬إذ بعث إل الناس كافة ‪ .‬وإنا سيت بدعة على هذا الوجه لمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬يرجع إل أنا بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لنا داخلة تت حد البدعة ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬يرجع إل أنا بدعة إضافية ‪ ،‬لن ظاهر القرآن دل على أنا ل تكن مذمومة ف حقهم‬
‫بإطلق ‪ ،‬بل لنم أخلوا بشرطها ‪ ،‬فمن ل يل منهم بشرطها وعمل با قبل بعث النب صلى ال‬
‫عليه وسلم حصل له فيها أجر ‪ ،‬حسبما دل عليه قوله ‪" :‬فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" أي أن من‬
‫عمل با ف وقتها ث آمن بالنب صلى ال عليه وسلم بعد بعثه وفيناه أجره ‪.‬‬
‫وإنا قلنا ‪ :‬إنا ف هذا الوجه إضافية ‪ ،‬لنا لو كانت حقيقية لالفوا با شرعهم الذي كانوا عليه ‪،‬‬
‫لن هذا حقيقة البدعة ‪ ،‬فلم يكن لم با أجر ‪ ،‬بل كانوا يستحقون العقاب لخالفتهم لوامر ال‬
‫ونواهيه ‪ ،‬فدل على أنم فعلوا ما كانوا جائزا لم فعله ‪ ،‬فل تكون بدعتهم حقيقية ‪ ،‬لكنه ينظر على‬
‫أي معن أطلق عليها لفظ البدعة وسيأت بعد بول ال ‪.‬‬
‫وعلى كل تقدير فهذا القول ل يتعلق بذه المة منه حكم ‪ ،‬لنه نسخ ف شريعتنا فل رهبانية ف‬
‫السلم ‪ .‬وقال النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من رغب عن سنت فليس من" ‪.‬‬

‫‪146‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫على أن ابن العرب نقل ف الية أربعة أقوال ‪ :‬الول ما تقدم ‪ .‬والثان أن الرهبانية رفض النساء ‪،‬‬
‫وهو النسوخ ف شرعنا ‪ .‬والثالث اتاذ الصوامع للعزلة ‪ .‬والرابع السياحة ‪ .‬قال ‪ :‬وهو مندوب إليه‬
‫ف ديننا عند فساد الزمان ‪.‬‬
‫وطاهره يقتضي أنا بدعة ‪ ،‬لالذين ترهبوا قبل السلم إنا فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم ‪ .‬وسيت‬
‫بدعة ‪ .‬والندب إليها يقتضي أن ل ابتداع فيها ‪ ،‬فكيف يتمعان ؟ ولكن للمسألة بيان فقد يذكر‬
‫بول ال ‪.‬‬
‫وقيل ‪ :‬إن معن قوله تعال ‪" :‬ورهبانية ابتدعوها" إنم تركوا الق ‪ ،‬وأكلوا لوم النازير ‪ ،‬وشربوا‬
‫المر ‪ ،‬ول يغتسلوا من جنابة ‪ ،‬وتركوا التان ‪" ،‬فما رعوها" يعن الطاعة واللة "حق رعايتها" فالاء‬
‫راجعة إل غي مذكور ‪ ،‬وهو اللة الفهوم معناها من قوله ‪" :‬وجعلنا ف قلوب الذين اتبعوه رأفة‬
‫ورحة " لنه يفهم منه أن ث ملة متبعة ‪ ،‬كما دل قوله ‪" :‬إذ عرض عليه بالعشي" على الشمس حت‬
‫عاد عليها الضمي ف قوله ‪" :‬توارت بالجاب" ‪ ،‬وكان العن على هذا القول ‪ :‬ما كتبناها عليهم‬
‫على هذا الوجه الذي فعلوه ‪ ،‬وإنا أمرناهم بالق ‪ .‬فالبدعة فيه إذا حقيقية ل إضافية ‪ ،‬وعلى كل‬
‫تقدير ‪ ،‬فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ‪ ،‬فل نظر فيه بالنسبة إل هذه المة ‪.‬‬
‫وخرج سعيد بن منصور وإساعيل القاضي عن أب أمامة الباهلي رضي ال عنه أنه قال ‪ :‬أحدثتم قيام‬
‫شهر رمضان ول يكتب عليكم ‪ ،‬إنا كتب عليكم الصيام ‪ ،‬فدموا على القيام إذ فعلتموه ول‬
‫تتركوه ‪ ،‬فإن أناسا من ين إسرائيل ابتدعوها بدعا ل يكتبها ال عليهم ابتغوا با رضوان ال فما‬
‫رعوها حق رعايتها فعاتبهم ال بتركها فقال ‪" :‬ورهبانية ابتدعوها" الية ‪.‬‬
‫وف رواية ‪ :‬فإن أناسا من بن إسرائيل ابتدعوها بدعة ابتغاء رضوان ال ‪ ،‬فلم يرعوها حق رعايتها ‪،‬‬
‫فعاتبهم ال بتركها ‪ ،‬وتل هذه الية ‪" :‬ورهبانية ابتدعوها" الية ‪.‬‬
‫وهذا القول يقرب من قول بعض الفسرين ف قوله ك "فما رعوها حق رعايتها" يريد أنم قصروا فيها‬
‫ول يدوموا عليها ‪.‬‬
‫قال بعض نقلة التفسي ‪ :‬وف هذا التأويل لزوم التام لكل من بدأ بتطوع ونقل ‪ ،‬وأن يرعوه حق‬
‫رعايته ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ـ وقد زاغ عن منهج الصواب ـ من يظن أنا رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬وليس يرج هذا عن مضمون الكلم ‪ ،‬ول يعطيه أسلوبه ول معناه ‪ ،‬ول يكتب على أحد‬
‫شيء إل بشرع أو نذر ‪ .‬قال ‪ :‬وليس ف هذا اختلف بي أهل اللل ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬
‫وهذا القول متاج إل النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وقفه ‪ ،‬إذ أكثر العلماء على القول الول ‪،‬‬
‫فإن هذ اللة ل بدعة فيها ول تتمل القول بواز البتداع بال للقطع بالدليل ‪ ،‬غذ كل بدعة ضللة‬
‫ـ حسبما تقدم ـ فالصل أن يتبع الدليل ول عمل على خلفه ‪.‬‬

‫‪147‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومع ذلك فل نلي ـ بول ال ـ قول أب أمامة رضي ال عنه من نظر صحيح على وفق الدليل‬
‫الشرعي ‪ ،‬وإن كان فيه بعد بالنسبة إل ظاهر المر ‪ ،‬وذلك أنه عد عمل عمر رضي ال عنه ف جع‬
‫الناس ف السجد على قارىء واحد ف رمضان بدعة لقوله حي دخل السجد وهم يصلون ‪ :‬نعمت‬
‫البدعة هذه ‪ ،‬والت ينامون عنها أفضل ‪.‬‬
‫وقد مر أنه إنا ساها باعتبار ما ‪ ،‬وأن قيام المام بالناس ف السجد ف رمضان سنة ‪ ،‬عمل با‬
‫صاحب السنة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإنا تركها خوفا من الفتراض ‪ ،‬فلما انقضى زمن‬
‫الوحي زالت العلة فعاد العمل با إل نصابه إل أن ذلك ل يتأت لب بكر رضي ال عنه زمان خلفته‬
‫‪ ،‬لعارضة ما هو أول بالنظر فيه ‪ ،‬وكذلك صدر خلفة عمر رضي ال عنه ‪ ،‬حت تأتى النظر فوقع‬
‫منه ‪ ،‬لكنه صار ف ظاهر المر كأنه أمر ل ير به عمل من تقدمه دائما ‪ ،‬فسماه بذلك السم ‪ ،‬ل‬
‫أنه أمر على خلف ما ثبت من السنة ‪.‬‬
‫فكأن أبا أمامة رضي ال عنه ‪ ،‬اعتب فيه نظر ذلك العمل به فسماه إحداثا ‪ ،‬موافقة لتسمية عمر‬
‫رضي ال عنه ‪ ،‬ث أمر بالداومة عليه بناءً على ما فهم من هذه الية من أن ترك الرعاية هو ترك‬
‫دوامهم على التزام عمل ليس بكتوب بل هو مندوب ‪ ،‬فلم يوفوا بقتضى ما التزموه ‪ ،‬لن الخذ ف‬
‫التطوعات غي اللزمة ‪ ،‬ول السنن الراتبة يقع على وجهي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع النسان ‪ ،‬فتارة بنشط لا وتارة ل ينشط ‪ ،‬أو يكنه‬
‫تارة بسب العادة ول يكنه أخرى لزاحة أشغال ونوها ‪ .‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬كالرجل يكون له اليوم‬
‫ما يتصدق به قيتصدق ول يكون له ذلك غدا ‪ ،‬أو يكون له إل أنه ل ينشط للعطاء ‪ ،‬أو يرى‬
‫إمساكه أصلح ف عادته الارية له ‪ ،‬أو غي ذلك من المور الطارئة للنسان ‪ .‬فهذا الوجه ل حرج‬
‫على أحد ترك التطوعات كلها فيه ول لوم عليه ‪ ،‬إذ لو كان ث لوم أو عتب ل يكن تطوعا ‪ ،‬وهو‬
‫خلف الفرض ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن تأخذ مأخذ اللتزمات ‪ ،‬كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبه من عمل صال ف وقت من‬
‫الوقات ‪ ،‬كالتزام قيام حظ من الليل مثلً ‪ ،‬وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الصوص ‪،‬‬
‫كعاشوراء وعرفة ‪ ،‬أو يتخذ وظيفة من ذكر ال بالغداوة والعشي ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ .‬فهذا الوجه‬
‫أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ‪ ،‬أنه لا نوى الدؤوب عليها ف الستطاعة ‪ ،‬اشبهت‬
‫الواجبات والسنن الراتبة ‪ ،‬كما أنه لو كان ذلك الياب غي لزم بالشرع ل يصر واجبا إذ تركه‬
‫أصلً ل حرج فيه ف الملة ‪ ،‬أعن ترك اللتزام ‪ ،‬ونظيه عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات فإنا‬
‫مستحبة ف الصل ‪ ،‬ومن حيث صارت رواتب أشبهت السنن والواجبات ‪.‬‬
‫وهذا العن هو الفهوم من قوله صلى ال عليه وسلم ف الركعتي بعد العصر حي صلها فسئل‬
‫عنهما فقال ‪:‬‬

‫‪148‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫" يا ابنة أب أمية ‍ سألت عن الركعتي بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالسلم من قومهم‬
‫فشغلون عن الركعتي اللتي بعد الظهر فهما هاتان" لنه سئل عن صلته لما بعد ما نى عنهما ‪،‬‬
‫فإنه صلى ال عليه وسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ‪ ،‬فإما فاتتاه صلها بعد وقتهما‬
‫كالقضاء لما حسبما يقضى الواجب ‪.‬‬
‫فصار حينئذ لذا النوع حالة من التطوع بي حالتي ‪ ،‬إل أنه راجع إل خية الكلف ‪ .‬بسب ما‬
‫فهمنا من الشرع ‪ .‬وإذا كان كذلك فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الخذ بالرفق والتيسي ‪ ،‬وأن‬
‫ل يلزم الكلف ما لعله يعجز عنه ‪ ،‬أو يرج بالتزامه ‪ ،‬فإن ترك اللتزام إن ل يبلغ مبلغ القدر الذي‬
‫يكره ابتداء ‪ ،‬فهو يقرب من العهد الذي يعله النسان بينه وبي ربه ‪ ،‬والوفاء بالعهد مطلوب ف‬
‫الملة ‪ ،‬فصار الخلل به مكروها ‪.‬‬

‫والدليل على صحة الخذ بالرفق‬


‫والدليل على صحة الخذ بالرفق ‪ ،‬وأنه الول والحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا‬
‫عيتدا ـ ف الكتاب والسنة "واعلموا أن فيكم رسول ال لو يطيعكم ف كثي من المر لعنتم" على‬
‫قول طائفة من الفسرين ‪ :‬أن الكثي من المر واقع ف التكاليف السلمية ‪ .‬ومعن لعنتم لرجتم ‪،‬‬
‫ولدخلت عليكم الشقة ‪ ،‬ودين ال ل حرج فيه "ولكن ال حبب إليكم اليان" بالتسهيل والتيسي‬
‫"وزينه ف قلوبكم" الية ‪.‬‬
‫وإنا بعث النب صلى ال عليه وسلم بالنيفية السمحة ‪ ،‬ووضع الصر والغلل الت كانت على‬
‫غيهم ‪ .‬وقال ال تعال ف صفة نبيه صلى ال عليه وسلم ‪":‬عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم‬
‫بالؤمني رؤوف رحيم "وقال تعال ‪" :‬يريد ال بكم اليسر ول يريد بكم العسر" وقال ‪" :‬يريد ال أن‬
‫يفف عنكم وخلق النسان ضعيفا" وسى ال تعال الخذ بالتشديد على النفس اعتداءً فقال تعال ‪:‬‬
‫"يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا" ومن الحاديث كثي ‪ ،‬كمسألة‬
‫الوصال ‪ ،‬ففي الديث "عن عائشة رضي ال عنها أنا قالت ‪:‬‬

‫ناهم النب صلى ال عليه وسلم عن الوصال رح ًة لم قالوا ‪ :‬إنك تواصل ‪ .‬قال ‪ :‬إن لست كهيئتكم‬
‫‪ ،‬إن أبيت عند رب ـ يطعمن ويسقين" ‪.‬‬
‫وعن أنس رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫" واصل رسول ال صلى ال عليه وسلم ف آخر شهر رمضان ‪ ،‬فواصل ناس من السلمي فبلغه ذلك‬
‫فقال ‪ :‬لو مد لنا شهر لواصلنا وصلً حت يدع التعمقون تعمقهم" وهذا إنكار ‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن أب هريرة رضي ال عنه قال ‪ ":‬نى رسول ال صلى ال عليه وسلم عن الوصال ‪ ،‬فقال رجل‬
‫من السلمي فإنك يا رسول ال تواصل ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬وأيكم مثلي ؟ إن‬
‫أبيت عند رب يطعمن ويسقين" فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال بم يوما ‪ ،‬ث يوما ‪ .‬ث رأوا اللل ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬لو تأخر الشهر لزدتكم كالنكل ‪ ،‬حي أبوا أن ينتهوا‪.‬‬
‫ومن ذلك مسألة قيام النب صلى ال عليه وسلم بم ف رمضان ‪ .‬فإنه تركه مافة أن يفرض عليهم‬
‫فيعجزوا عنه فيقعوا ف الث والرج ‪ ،‬فكان ذلك رفقا منه بم ‪.‬‬
‫قال القاضي أبو الطيب ‪ :‬يتمل أن يكون ال تعال أوحى إليه أنه إن واصل وفقا هذه الصلة معهم‬
‫فرضت عليهم ‪.‬‬
‫و"قالت عائشة رضي ال تعال عنها ‪:‬‬
‫إن كان رسول ال صلى ال عليه وسلم ليدع العمل وهو يب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس‬
‫فيفرض عليهم" ‪.‬‬
‫وقد قيل هذا العن ف قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ل تصوا يوم المعة بصيام" ‪.‬‬
‫قال الهلب ‪ :‬وجهه خشيت أن يستمر عليه فيفرض ‪.‬‬
‫وبذا العن يتمع النهي مع قول مالك رضي ال عنه ف الوطأ ‪ ،‬ول يكون به إشكال ‪.‬‬
‫ومن ذلك حديث الولء بنت تويت ‪".‬قالت عائشة رضي ال عنها ‪ :‬دخل علي رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم وعندي امرأة فقال ‪ :‬من هذه ؟ فقلت ؟ امرأة ل تنام تصلي ‪ .‬فقال صلى ال عليه‬
‫وسلم ل تنام الليل خذوا من العمل ما تطيقون ‪ ،‬فوال ل يسأم ال حت تسأموا" ‪.‬‬
‫فأعاد لفظ ل تنام منكرا عليها ـ وال أعلم ـ غي راض فعلها ‪ ،‬لا خافه عليها من الكلل والسآمة‬
‫أو تعطيل حق أوكد ‪ .‬ونوه حديث أنس رضي ال عنه قال ‪ ":‬دخل رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫السجد ـ وحبل مدود بي سارتي ـ فقال ‪ :‬ما هذا ؟ قالوا ‪ :‬حبل لزينب تصلي فإذا كسلت أو‬
‫فترت أمسكت به ‪ ،‬فقال ‪ :‬حلوه ‪ ،‬ليصل أحدكم نشاطه فإذا كسل أو فتر قعد" وف رواية ‪ " :‬ل ‪،‬‬
‫حلوه" ‪.‬‬
‫و"عن عبد ال بن عمرو رضي ال عنها قال ‪ :‬بلغ النب صلى ال عليه وسلم أن أصوم أسرد وأصلي‬
‫الليل ‪ ،‬فإما أرسل إل وإما لقيته ‪ :‬فقال ‪ :‬أل أخب أنك تصوم ل تفطر وتصلي الليل ؟ فل تفعل ‪.‬‬
‫فإن لعينك حظا ‪ ،‬ولنفسك حظا ‪ ،‬ولهلك حظا ‪ ،‬فصم وأفطر وصل ون" الديث ‪.‬‬
‫وف رواية عن ابن سلمة قال ‪ ":‬حدثن عبد ال بن عمرو العاص رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت‬
‫أصوم الدهر ‪ ،‬وأقرأ القرآن كل ليلة ‪ ،‬فإما ذكرت للنب صلى ال عليه وسلم وإما أرسل إل فأتيته‬
‫فقال ‪ :‬أل أخب أنك تصوم الدهر ‪ ،‬وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ فقلت ‪ :‬بلى يا رسول ال ‪ ،‬ول أر ف‬

‫‪150‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ذلك إل الي ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن كان كذلك ـ أو قال كذلك ـ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلثة أيام‬
‫فقلت ‪ :‬يا نب ال إن أطيق أفضل من ذلك ‪ .‬قال ‪ :‬فإن لزوجك عليك حقا ولزوارك عليك حقا ‪،‬‬
‫ولسدك عليك حقا ‪ ،‬قال ‪ :‬فصم صوم داود نب ال ‪ ،‬فإنه كان أعبد الناس ‪ ،‬قال ‪ :‬فقلت يا نب ال‬
‫ـ وما صوم داود؟ قال ‪ :‬كان يصوم يوما ويفطر يوما ـ قال واقرأ القرآن ف كل شهر ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فقلت يا نب ال إن أطيق أفضل من ذلك ‪ .‬قال ‪ :‬فاقرأه ف كل سبع ‪ ،‬ول تزد على ذلك ‪ .‬فإن‬
‫لزوجك عليك حقا ‪ ،‬ولزوارك عليك حقا ولسدك عليك حقا قال ‪ :‬فشددت فشدد ال علي ‪ .‬قال‬
‫‪ :‬وقال ل النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنك ل تدري لعلك يطول بك عمر قال ‪ :‬فصرت إل الذي‬
‫قال ل النب صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فلما كبت وددت أن كنت قبلت رخصة نب ال صلى ال عليه‬
‫وسلم "‪ .‬وف رواية قال ‪ ":‬صم يوما وأفطر يوما ‪ ،‬وذاك صيام داود وهو أعدل الصيام ‪ ،‬قال ‪،‬‬
‫فقلت ‪ :‬إن أطيق أفضل من ذلك ‪ .‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ل أفضل من ذلك ‪ ،‬قال‬
‫عبد ال بن عمرو ‪ :‬لن أكون قبلت الثلثة اليام الت قال رسول ال صلى ال عليه وسلم أحب إل‬
‫من أهلي ومال"‬
‫وف الترمذي عن جابر رضي ال عنه قال ‪ :‬ذكر رجل عند رسول ال صلى ال عليه وسلم بعبادة‬
‫واجتهاد ‪ ،‬وذكر عنده آخر بدعة ‪ .‬فقال النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"ل يعدل بالدعة" والدعة الراد با هنا الرفق والتيسي ‪ .‬قال فيه الترمذي ‪ :‬حسن غريب‪.‬‬
‫وعن أنس رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫"جاء ثلثة رهط إل بيوت أزواج النب صلى ال عليه وسلم يسألون عن عبادة النب صلى ال عليه‬
‫وسلم فلما أخبوا كأنم تقالوها ‪ .‬فقالوا ‪ :‬وأين نن من النب صلى ال عليه وسلم ؟ وقد غفر ال له‬
‫ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ فقال أحدهم ‪ :‬أما أنا فإن أصلي الليل أبدا ‪ .‬وقال الخر ‪ :‬إن أصوم‬
‫الدهر ول أفطر ‪ .‬وقال الخر‪ :‬إن أعتزل النساء فل أتزوج أبدا ‪ .‬فجاء رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم فقال ‪ :‬أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما وال إن لخشاكم ل وأتقاكم له لكن أصوم وأفطر ‪،‬‬
‫وأصلي وارقد ‪ ،‬وأتزوج النساء ‪ ،‬فمن رغب عن سنت فليس من" ‪.‬‬
‫والحاديث ف هذا العن كثية ‪ ،‬وهي بملتها تدل على الخذ ف التسهيل والتيسي وإنا يتصور‬
‫ذلك على الوجه الول من عدم اللتزام ‪ ،‬وإن تصور مع اللتزام فعلى جهة ما ل يشق الدوام فيه‬
‫حسبما نفسره الن ‪.‬‬

‫فصل فأما إن التزم ذلك أحد التزاما‬


‫فأما إن التزم أحد ذلك التزاما فعلى وجهي ‪ :‬إما على جهة النذر ‪ ،‬وذلك مكروه ابتداء ‪ .‬أل ترى‬
‫إل حديث ابن عمر رضي ال عنهما قال ‪" :‬أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما ينهانا عن‬

‫‪151‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫النذر ‪ ،‬يقول ‪ :‬إنه ل يرد شيئا ‪ ،‬وإنا يستخرج به من الشحيح ـ وف رواية ـ النذر ل يقدم شيئا‬
‫ول يؤخره ‪ ،‬وإنا يستخرج به من البخيل" ‪.‬‬
‫وعن أب هريرة رضي ال عنه أن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"ل تنذروا فإن النذر ل يغن من القدر شيئا ‪ ،‬وإنا يستخرج به من البخيل" ‪.‬‬
‫وإنا ورد هذا الديث ـ وال أعلم ـ تنبيها على عادة العرب ف أنا كانت تنذر ‪ ،‬إن شفى ال‬
‫مريضي فعلي صوم كذا ‪ ،‬وإن قدم غائب ‪ .‬أو أن أغنان ال فعلي صدقة كذا ‪ .‬فيقول ‪ :‬ل يغن من‬
‫قدر ال شيئا ‪ ،‬بل من قدر ال له الصحة ‪ ،‬أو الرض ‪ ،‬أو الغن أو الفقر ‪ ،‬أو غي ذلك ‪ ،‬فالنذر ل‬
‫ل على الوجه الذي ذكره‬ ‫يوضع سببا لذلك ‪ ،‬كما وضعت صلة الرحم سببا ف الزيادة ف العمر مث ً‬
‫العلماء ‪ ،‬بل النذر وعدمه ف ذلك سواء ‪ ،‬ولكن ال يستخرج به من البخيل بشرعية الوفاء به لقوله‬
‫تعال ‪" :‬وأوفوا بعهد ال إذا عاهدت" وقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من نذر أن يطيع ال فليطعه" وبه قال جاعة من العلماء ‪ ،‬كمالك و الشافعي ‪.‬‬
‫ووجه النهي أنه من باب التشديد على النفس ‪ ،‬وهو الذي تقدم الستشهاد على كراهته ‪ .‬وأما على‬
‫جهة اللتزام غي النذري ‪ ،‬فكأنه نوع من الوعد ‪ ،‬والوفاء بالعهد مطلوب ‪ ،‬فكأنه أوجب على نفسه‬
‫ما ل يوجبه عليه الشرع ‪ ،‬فهو تشديد أيضا ‪ ،‬وعليه يأت ما تقدم من ‪.‬‬
‫حديث الثلثة الذين أتوا يسألون عن عبادة النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬وقولم أين نن من النب صلى‬
‫ال عليه وسلم ؟ أل ‪ .‬وقال أحدهم ‪ :‬أما أنا فأفعل كذا أل ‪.‬‬
‫ونوه وقع ف بعض الروايات ‪:‬‬
‫"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم أخب أن عبد ال بن عمرو رضي ال عنهما يقول ‪ :‬لقومن الليل‬
‫ولصومن النهار ما عشت "‪ .‬وليس بعن النذر إذ لو كان كذلك ل يقل له ‪" :‬صم من الشهر ثلثة‬
‫أيام "‪ ،‬صم كذا ولقال له ‪ :‬أوف بنذرك ‪ .‬لنه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"من نذر أن يطيع ال فليطعه" ‪.‬‬
‫فأما اللتزام بالعن النذري فل بد من الوفاء به وجوبا ل ندبا ـ على ما قاله العلماء ـ وجاء ف‬
‫الكتاب والسنة ما يدل عليه ‪ ،‬وهو مذكور ف كتب الفقه ‪ ،‬فل نطيل به ‪.‬‬
‫وأما العن الثان فالدلة تقتضي الوفاء به ف الملة ‪ ،‬ولكن ل تبلغ مبلغ العتاب على الترك ‪ ،‬حسبما‬
‫دلت عليه الدلة ف مأخذ أب أمامة رضي ال عنه للقيام ف السجد جاعة كان ذلك بصورة النوافل‬
‫الراتبة القتضية للدوام ف القصد الول ‪ ،‬فأمرهم بالدوام حت ل يكونوا كمن عاهد ث ل يوف بعهده‬
‫فيصي معاتبا ‪ ،‬لكن هذا القسم على وجهي ‪:‬‬
‫الوجه الول ‪ :‬أن يكون ف نفسه ما ل يطاق ‪ ،‬أو ما فيه حرج أو مشقة فادحة أو يؤدي إل تضييع‬
‫ما هو أول ‪ .‬فهذه هي الرهبانية الت قال فيها النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪152‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"من رغب عن سنت فليس من" وسيأت الكلم ف ذلك إن شاء ال ‪.‬‬
‫والوجه الثان ‪ :‬أن ل يكون ف الدخول فيه مشقة ول حرج ‪ ،‬ولكنه عند الدوام عليه تلحق بسببه‬
‫الشقة والرج ‪ ،‬أو تضييع ما هو أوكد‪ .‬فها هنا أيضا يقع النهي ابتداءً ‪ ،‬وعليه دلت الدلة التقدمة ‪،‬‬
‫وجاء ف بعض روايات مسلم تفسي ذلك حيث قال ‪ :‬فشددت فشدد علي ‪ ،‬وقال ل النب صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إنك ل تدري لعلك يطول بك عمر" ‪.‬‬
‫فتأملوا كيف اعتب ف التزام ما ل يلزم ابتداء ‪ ،‬أن يكون بيث ل يشق الدوام عليه إل الوت ‍ قال ‪:‬‬
‫فصرت إل الذي قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فلما كبت وددت أنن قبلت رخصة نب ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وعلى ذلك العن ينغب أن يمل قوله صلى ال عليه وسلم ف حديث أب قتادة رضي ال عنه كيف‬
‫بن يصوم يومي ويفطر يوما؟ قال ‪:‬‬
‫ويطيق أحد ذلك ؟ ث قال ف صوم يوم وإفطار يوم ‪ :‬وددت أن طوقت ذلك فمعناه ـ وال أعلم ـ‬
‫وددت أن طوقت الدوام عليه وإل فقد كان يواصل الصيام ويقول ‪:‬‬
‫"إن لست كهيئتكم ‪ ،‬إن أبيت عند رب ـ يطعمن ويسقين" ‪.‬‬
‫وف الصحيح ‪:‬‬
‫"كان يصوم حت نقول ‪ :‬ل يفطر ‪ ،‬ويفطر حت نقول ‪ :‬ل يصوم" ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت هذا ‪ ،‬فالدخول ف عمل على نية اللتزام له‬
‫إذا ثبت هذا ‪ ،‬فالدخول ف عمل على نية اللتزام له إن كان ف العتاد بيث إذا داوم عليه أورث مللً‬
‫‪ ،‬ينبغي أن يعتقد أن هذا اللتزام مكروه ابتداء ‪ ،‬إذ هو مؤد إل أمور جيعها منهي عنه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ال ورسوله أهدى ف هذا الدين التسهيل والتيسي ‪ ،‬وهذا اللتزم يشبه من ل يقبل‬
‫هديته ‪ ،‬وذلك يضاهي ردها على مهديها ‪ ،‬وهو غي لئق بالملوك مع سيده ‪ ،‬فكيف يليق بالعبد مع‬
‫ربه ؟‬
‫والثان ‪ :‬خوف التقصي أو العجز عن القيام با هو أول وآكد ف الشرع ‪ ،‬وقال صلى ال عليه وسلم‬
‫إخبارا عن داود عليه السلم ‪:‬‬
‫"إنه كان يصوم يوما ويفطر يوما ‪ ،‬ول يفر إذا لقى" تنبيها على أنه ل يضعفه الصيام عن لقاء لعدو‬
‫فيفر ويترك الهاد ف مواطن نكيده بسبب ضعفه ‪.‬‬
‫وقيل لعبد ال بن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬إنك لتقل الصوم ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنه يشغلن عن قراءة القرآن ‪،‬‬
‫وقراءة أحب إل منه ‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولذلك كره مالك إحياء الليل كله ‪ ،‬وقال ‪ :‬لعله يصبح مغلوبا ‪ ،‬وف رسوله ال صلى ال عليه وسلم‬
‫أسوة ‪ ،‬ث قال ‪ :‬ل بأس به ما ل يضر بصلة الصبح ‪.‬‬
‫وقد جاء ف ‪ :‬صيام يوم عرفة أنه يكفر سنتي ‪ ،‬ث إن الفطار فيه للحاج أفضل ‪ ،‬لنه قوة على‬
‫الوقوف والدعاء ‪ ،‬ولبن وهب ف ذلك حكاية ‪ ،‬وقد جاء ف الديث ‪:‬‬
‫"إن لهلك عليك حقا ‪ ،‬ولزوارك عليك حقا ‪ ،‬ولنفسك عليك حقا" فإذا انقطع إل عباده ل تلزمه‬
‫الصل فربا أخل بشيء من هذه القوق ‪.‬‬
‫وعن أب جحيفة رضي ال تعال عنه ‪،‬قال ‪:‬‬
‫"آخر ما آخى رسول ال صلى ال عليه وسلم بي سلمان وأب الدرداء ‪ ،‬فزارسلمان أبا الدرداء ‪،‬‬
‫فرأى أم الدرداء متبذلة ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما شأنك مبتذلة ؟ قالت ‪ :‬إن أخاك أبا الدرداء ليست له حاجة ف‬
‫الدنيا ‪ .‬قال ‪ :‬فلما جاء ابو الدرداء قرب إليه طعاما ‪ .‬فقال ‪ :‬كل فإن صائم ‪ ،‬قال ‪ :‬ما أنا بآكل‬
‫حت تأكل ‪ .‬قال ‪ :‬فأكل ‪ ،‬فلما كان الليل ذهب ابو الدرداء ليقوم ‪ ،‬فقال له سلمان ‪ :‬ن ‪ ،‬فنام ‪،‬‬
‫ث ذهب يقوم ‪ ،‬فقال له ‪ :‬ن فنام ‪ ،‬فلما كان عند الصبح قال له سلمان ‪ :‬قم الن ‪ ،‬فقاما فصليا ‪،‬‬
‫فقال سلمان ‪ :‬إن لنفسك عليك حقا ‪ ،‬ولربك عليك حقا ‪ ،‬ولضيفك عليك حقا ‪ ،‬ولهلك عليك‬
‫حقا ‪ ،‬فأعط لكل ذي حق حقه ‪ .‬فأتيا النب صلى ال عليه وسلم فذكرا ذلك له ‪ ،‬فقال ‪ :‬صدق‬
‫سلمان " قال الترمذي ‪ :‬صحيح ‪ .‬وهذا الديث قد جع التنبيه على حق الهل بالوطء والستمتاع ‪،‬‬
‫وما يرجع إليه ‪ ،‬والضيف بالدمة والتأنيس والؤاكلة وغيها ‪ ،‬والولد يالقيام عليهم بالكتساب‬
‫والدمة ‪ .‬والنفس بترك إدخال الشتقات عليها ‪ ،‬وحق الرب سبحانه بميع ما تقدم ‪ ،‬وبوظائف‬
‫أخر ‪ ،‬فرائض ونوافل آكد ما هو فيه ‪.‬‬
‫والواجب أن يعطى لكل ذي حق حقه ‪ ،‬وإذا التزم النسان أمرا من المور الندوبة ‪ ،‬أو أمرين أو‬
‫ثلثة ‪ ،‬فقد يصده ذلك عن القيام بغيها ‪ ،‬أو عن كماله على وجهة ‪ ،‬فيكون ملوما ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬خوف كراهية النفس لذلك العمل اللتزم ‪ ،‬لنه قد فرض من جنس ما يشق الدوام عليه ‪،‬‬
‫فتدخل الشقة بيث ل يقرب من وقت العمل إل والنفس تشمئز منه ‪ ،‬وتود لو ل تعمل ‪ ،‬أو تتمن‬
‫لو ل تلتزم ‪ ،‬وإل هذا العن يشي حديث عائشة رضي ال عنها عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال‬
‫‪:‬‬
‫"إن هذا الدين متي فأوغلوا فيه برفق ‪ ،‬ول تبغضوا لنفسكم عبادة ال ‪ ،‬فإن النبت ل أرضا قطع‬
‫ول ظهرا أبقى" يشبه الوغل بالعنف بالنبت ‪ ،‬وهو النقطع ف بعض الطريق تعنيفا على الظهر ـ‬
‫وهو الركوب ـ حت وقف فلم يقدر على السي ‪ ،‬ولو رفق بدايته لوصل إل رأس السافة ‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فكذلك النسان عمره مسافة ‪ ،‬والغاية الوت ‪ ،‬ودابته نفسه ‪ ،‬فكما هو الطلوب الرفق بنفسه ‪ .‬حت‬
‫يسهل عليها قطع مسافة العمر بمل التكليف فنهى ف الديث عن التسبب ف تبغيض العبادة‬
‫للنفس ‪ ،‬وما نى الشرع عنه ل يكون حسنا ‪.‬‬
‫وخرج الطبان من حديث ابن عباس رضي ال عنهما قال ‪:‬‬
‫"لا نزلت ‪" :‬يا أيها النب إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إل ال بإذنه وسراجا منيا" دعا‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم عليا ومعاذا فقال ‪ :‬انطلقا فبشرا ‪ ،‬ويسرا ول تعسرا ‪ ،‬فإن أنزلت‬
‫علي ‪" :‬يا أيها النب إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا * وداعيا إل ال بإذنه وسراجا منيا " " ‪.‬‬
‫وخرج مسلم " عن سعيد بن أب بردة عن أبيه عن جده ‪ :‬أن النب صلى ال عليه وسلم بعثه ومعاذا‬
‫إل اليمن ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫بشرا ول تنفرا ‪ ،‬ويسرا ول تعسرا ‪ ،‬وتطاوعا ول تتلفا" ‪.‬‬
‫وعنه "أن النب صلى ال عليه وسلم كان إذا بعث أحدا من أصحابه ف بعض أمره قال ‪ :‬بشروا ول‬
‫تنفروا ‪ ،‬ويسروا ول تعسروا" وهذا ني عن التعسي الذي التزام الرج ف التعبد نوع منه ‪.‬‬
‫وف الطبي عن جابر بن عبد ال قال ‪ " :‬مر النب صلى ال عليه وسلم على رجل يصلي على صخرة‬
‫بكة فأتى ناحية مكة فمكث مليا ‪ ،‬ث انصرف فوجد الرجل يصلي على حاله ‪ ،‬فقال ‪ :‬أيها الناس‬
‫عليكم بالقصد والقسط ـ ثلثاـ فإن ال لن يل حت تلوا" ‪.‬‬
‫وعن بريدة السلمي ‪:‬‬
‫"أن النب صلى ال عليه وسلم رأى رجلً يصلي ‪ ،‬فقال ‪ :‬من هذا ؟ فقلت ‪ :‬هذا فلن ‪ .‬فذكرت من‬
‫عبادته وصلته ‪ .‬فقال ‪ :‬إن خي دينكم يسره" ‪.‬‬
‫وهذا يشعر بعدم الرضا بتلك الالة ‪ ،‬وإنا ذلك مافة الكراهية للعمل ‪ ،‬وكراهية العمل مظنة للترك‬
‫الذي هو مكروه لن ألزم نفسه لجل نقض العهد ‪.‬‬
‫وهو الوجه الرابع ‪ :‬وقد مر ف الوجه الثالث ما يدل عليه ‪ ،‬فإن قوله صلى ال عليه وسلم ‪" :‬فإن‬
‫النبت ل أرضا قط ًع ‪ ،‬ول ظهرا أبقى ‪ ،‬ومع قوله ‪ :‬ول تبغضوا إل أنفسكم العبادة" يدل على أن‬
‫بعض العمل وكراهيته مظنة النقطاع ‪ ،‬ولذلك مثل صلى ال عليه وسلم بالنبت ـ وهو النقطع عن‬
‫استيفاء السافة ـ وهو الذي دل عليه قول ال تعال ‪" :‬فما رعوها حق رعايتها" على التفسي‬
‫الذكور ‪.‬‬
‫والامس ‪ :‬الوف من الدخول تت الغلو ف الدين ‪ ،‬فإن الغلو هو البالغة ف المر ‪ ،‬وماوزة الد‬
‫فيه إل حيز السراف ‪ ،‬وقد دل عليه ما تقدم أشياء ‪ ،‬حيث قال النب صلى ال عليه وسلم ‪" :‬يا ايها‬
‫الناس عليكم أنفسكم بالقصد" الديث ‪ .‬وقال ال عز وجل ‪" :‬يا أهل الكتاب ل تغلوا ف دينكم" ‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"وعن ابن عباس رضي ال عنهما ‪ ،‬قال ‪ :‬قال ل رسول ال صلى ال عليه وسلم غداة العقبة ‪ :‬اجع‬
‫ل حصيات من حصى الذف فلما وضعتهن ف يده قال ‪ :‬بأمثال هؤلء ؟ بأمثال هؤلء ؟ إياكم‬
‫والغلو ف الدين ‪ ،‬فإنا هلك من كان قبلكم بالغلو ف الدين" ‪.‬‬
‫فأشار إل أن الية ف النهي عن الغلو يشتمل معناها على كل ما هو غلو وإفراط ‪ ،‬واكثر هذه‬
‫الحاديث القيدة آنفا ‪ ،‬اخرجها الطبي ‪.‬‬
‫وخرج أيضا عن يي بن جعدة ‪ ،‬قال ‪ :‬كان يقال اعمل وأنت مشفق ‪ ،‬ودع العمل وأنت تبه ‪:‬‬
‫عمل دائم وإن قل ‪ ،‬خي من عمل كثي منقطع ‪ .‬وأتى معاذا رجل فقال ‪ :‬أوصن ‪ .‬قال ‪ :‬أمطيعي‬
‫أنت ؟ قال ‪ :‬نعم ‪ ،‬قال ‪ :‬صل ون ‪ ،‬وأفطر وصم ‪ ،‬واكتسب ول تأت ال إل وأنت مسلم ‪ ،‬وإياك‬
‫ودعوة الظلوم ‪.‬‬
‫وعن إسحاق بن سويد "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال لعبد بن مطرف ‪ :‬يا عبد الل‍ه ‍‪ ‍،‬العلم‬
‫أفضل من العمل ‪ ،‬والسنة بي السيئتي ‪ ،‬وخي المور أوسطها ‪ ،‬وشر السي القحقة " ‪.‬‬
‫‍‍ومعن قوله ‪" :‬إن السنة بي السيئتي" ‪ ،‬أن السنة هي القصد والعدل ‪ ،‬والسيئتي ماوزة الد‬
‫والتقصي ‪ ،‬وهو الذي دل على معناه قول ال تعال ‪" :‬ول تعل يدك مغلولة إل عنقك ول تبسطها‬
‫كل البسط " الية ‪ ،‬وقوله ‪" :‬والذين إذا أنفقوا ل يسرفوا ول يقتروا " الية ‪ .‬ومعن القحقة ارفع‬
‫السي ‪ ،‬وإتعاب الظهر ‪ ،‬وهو راجع إل الغلو والفراط ‪.‬‬
‫ونوه عن يزيد بن مرة العفيقال ‪ :‬العلم خي من العمل ‪ ،‬والسنة بي السيئتي ‪.‬‬
‫وعن كعب الحبار ‪ :‬إن هذا الدين متي فل تبغض إليك دين ال وأوغل برفق ‪ ،‬فإن النبت ل يقطع‬
‫بعدا ول يسبق ظهرا ‪ ،‬واعمل عمل الرء الذي يرى أنه ل يوت اليوم ‪ ،‬واحذر حذر الرء الذي يرى‬
‫أنه يوت غدا ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب نوه عن عبد ال بن عمرو بن العاص ‪.‬‬
‫وهذه إشارة إل الخذ بالعمل الذي يقتضي الداومة عليه من غي حرج ‪.‬‬
‫وعن عمر بن إسحاق ‪ ،‬قال أدركت من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم أكثر من سبقن‬
‫منهم ؟ فمارأيت قوما أيسر سية ول أقل تشديدا منهم ‪.‬‬
‫وقال السن ‪ :‬دين ال وضع فوق التقصي ودون الغلو ‪.‬‬
‫والدلة ف هذا العن جيعها راجع إل أنه ل حرج ف الدين ‪ ،‬والرج كما ينطبق على الرج الال‬
‫ـ كالشروع ف عبادة شاقة ف نفسها ـ كذلك ينطلق على الرج الآل إذ كان الرج لزما مع‬
‫الدوام ‪ .‬كقصة عبد ال بن عمرو رضي ال عنهما وغيها ـ ما تقدم ـ مع أن الدوام مطلوب‬
‫حسبما اقتضاه قول اب أمامة رضي ال عنه ف قوله تعال ‪" :‬فما رعوها حق رعايتها" وقوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪:‬‬

‫‪156‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"أحب العمل إل ال ما داوم عليه صاحبه وإن قل" فلذلك كان صلى ال عليه وسلم إذا عمل عملً‬
‫أثبته ‪ ،‬حت قضى ركعتي ما بي الظهر والعصر بعد العصر ‪.‬‬
‫هذا إن كان العامل ل ينوي الدوام فيه ‪ ،‬فكيف إذ عقد ف نيته أن ل يتركه ؟ فهو أحرى بطلب‬
‫الدوام ‪ ،‬فلذلك "قال رسول ال صلى ال عليه وسلم لعبد ال بن عمرو ‪ :‬يا عبد ال ‍‪ ،‬ل تكن مثل‬
‫فلن ‪ ،‬كان يقوم الليل فترك قيام الليل" وهو حديث صحيح ‪ .‬فنهاه صلى ال عليه وسلم أن يكون‬
‫مثل فلن ‪ ،‬وهو ظاهر ف كراهته الترك من ذلك الفلن وغيه ‪.‬‬
‫فالاصل أن هذا القسم الذي هو مظنة للمشقة عند الدوام ـ مطلوب الترك لعلة كثرته ففهم عند‬
‫تقريره أنه إذا فقدت زال طلب الترك وإذا ارتفع طلب الترك رجع إل أصل العمل ـ وهو طلب‬
‫الفعل ـ‬
‫فالداخل فيه على التزام شرطه داخل ف مكروه ابتداء من وجه ‪ ،‬لمكان عدم الوفاء بالشرط ‪ ،‬وف‬
‫الندوب إليه حلً على ظاهر العزية على الوفاء ‪.‬‬
‫فمن حيث الندب أمره الشارع بالوفاء ‪ ،‬ومن حيث الكراهية كره له أن يدخل فيه ‪.‬‬
‫وحي صارت الكراهة هي القدمة كان دخوله ف العمل لقصد القربة يشبه الدخول فيه بغي أمر ‪،‬‬
‫فأشبه البتدع الداخل ف عبادة غي مأمور با ‪ .‬فقد يستسهل بذا العتبار إطلق البدعة عليها كما‬
‫استسهله أبو أمامة رضي ال عنه ‪.‬‬
‫ومن حيث كان العمل مأمورا به ابتداء قبل النظر ف الآل ‪ ،‬أو مع قطع النظر عن الشقة ‪ ،‬أو مع‬
‫اعتقاد الوفاء بالشرط ‪ ،‬أشبه صاحبه من دخل ف نافلة قصدا للتعبد با ‪ ،‬وذلك صحيح جار على‬
‫مقتضى أدلة الندب ‪ ،‬ولذلك أمر بعد الدخول فيه بالوفاء ‪ ،‬كان نذرا أو التزاما بالقلب غي نذر ‪.‬‬
‫ولو كان بدعة ‪ .‬داخلة ف حد البدعة ل يؤمر بالوفاء ‪ ،‬ولكان عمله باطلً ‪.‬‬
‫ل قائما ف الشمس ‪ ،‬فقال ‪:‬‬ ‫ولذلك جاء ف الديث "أن رسول ال صلى ال عليه وسلم رأى رج ً‬
‫مابال هذا ؟ فقالوا ‪ :‬نذر أن ل يستظل ول يتكلم ول يلس ويصوم ‪ ،‬فقال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫مروه فليجلس وليتكلم وليستظل ‪ ،‬وليتم صيامه " ‪.‬‬
‫فأنت ترى كيف أبطل عليه التبدع با ليس بشروع ‪ ،‬وأمره بالوفاء با هو مشروع ف الصل ‪ ،‬فلول‬
‫الفرق بينهما معن ل يكن للتفرقة بينهما معن مفهوم ‪ .‬وأيضا فإذا كان الداخل مأمورا بالدوام لزم‬
‫من ذلك أن يكون الدخول طاعة بل ل بد ‪ ،‬لن الباح فضلً عن الكروه والحرم ل يؤمر بالدوام‬
‫عليه ‪ ،‬ول نظي لذلك ف الشريعة ‪ .‬عليه أيد قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من نذر أن يطيع ال فليطعه" ولن ال مدح من أوف بنذره ف قوله سبحانه ‪" :‬يوفون بالنذر" ف‬
‫معرج الدح وترتب الزاء السن ‪ ،‬وف آية الديد‪" :‬فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم" ‪ ،‬ول يكون‬
‫الجر إى على مطلوب شرعا ‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فتأملوا هذا العن فهو الذي يري عليه عمل السلف الصال رضي ال عنهم بقتضى الدلة ‪ ،‬وبه‬
‫يرتفع إشكال التعارض الظاهر لبادي الرأي ‪ ،‬حت تنتظم اليات والحاديث وسي من تقدم ‪ ،‬والمد‬
‫ل ‪ .‬غي أنه يبقى بعدها إشكالن قويان ‪ ،‬وبالنظر ف الواب عنهما ينتظم معن السألة على تامه ‪،‬‬
‫ل‪.‬‬
‫فنعقد ف كل إشكال فص ً‬

‫فصل الشكال الول ‪ :‬أن ما تقدم ف الية‬


‫الشكال الول ‪ :‬إن ما تقدم من الدلة على كراهية اللتزامات الت يشق دوامها معارض با دل على‬
‫خلفه ‪ ،‬فقد" كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقوم حت تورمت قدماه ‪ ،‬فيقال له ‪ :‬أو ليس قد‬
‫غفر ال لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ؟ فيقول ‪ :‬أفل أكون عبدا شكورا" ويظل اليوم الطويل ف‬
‫الر الشديد صائما ‪ ،‬وكان صلى ال عليه وسلم يواصل الصيام ويبيت عند ربه يطعمه ويسقيه ونو‬
‫ذلك من اجتهاده ف عبادة ربه ‪ .‬وف رسول ال صلى ال عليه وسلم أسوة حسنة ‪ ،‬ونن مأمورون‬
‫بالتأسي به ‪.‬‬
‫فإن أبيتم هذا الدليل بسبب أنه صلى ال عليه وسلم كان مصوصا بذه القضية ‪ ،‬ولذلك كان ربه‬
‫يطعمه ويسقيه ‪ ،‬وكان يطيق من العمل ما ل تطيقه أمته ‪ .‬فما قولكم فيما ثبت من ذلك عن‬
‫الصحابة والتابعي ‪ ،‬وأئمة السلمي العارفي بتلك الدلة الت استدللتم با على الكراهية ؟ حت أن‬
‫بعضهم قعد من رجليه من كثرة التبتل ‪ ،‬وصارت جبهة بعضهم كركبة البعي من كثرة السجود ‪.‬‬
‫وجاء عثمان بن عفان رضي ال عنه أنه كان إذا صلى العشاء أوتر بركعة يقرأ فيها القرآن كله ‪،‬‬
‫وكم من رجل صلى الصبح بوضوء العشاء ‪ ،‬كذا كذا سنة ؟ ! وسرد الصيام كذا وكذا سنة ؟ !‬
‫وكانوا هم العارفي بالسنة ل ييلون عنها لظة ‪.‬‬
‫وروي عن ابن عمر وابن الزبي رضي ال عنهم أنما كانا يواصلن الصيام ‪ .‬وأجاز مالك ـ وهو‬
‫إمام ف القتداء ـ صيام الدهر ‪ ،‬يعن إذإ أفطر أيام العيد ‪.‬‬
‫وما يكى عن أويس القرن رضي ال عنه أنه كان يقوم ليلة حت يصبح ‪ ،‬ويقول ‪ :‬بلغن أن ل عبادا‬
‫سجودا أبدا أنه ينتفل بالصلة ‪ ،‬فتارة يطول فيها القيام ‪ ،‬وتارة الركوع ‪ ،‬وتارة السجود ‪.‬‬
‫وعن السود بن يزيد أنه كان يهد نفسه ف الصوم والعبادة حت يضر جسده ويصفر ‪ ،‬فكأن علقمة‬
‫يقول له ‪ :‬ويك ل تعذب هذا السد ؟ فيقول ‪ :‬إن المر جد ‪ ،‬إن المر جد ‪.‬‬
‫وعن انس بن مالك رضي ال عنه أم امرأة مسروق قالت ‪ :‬كانت يصلي حت تورمت قدماه ‪ ،‬فربا‬
‫جلست خلفه أبكي ما أراه يصنع بنفسه ‪.‬‬
‫وعن الشعبين قال ‪ :‬غشي على مسروق ف يوم كان مقداره خسي ألف سنة ‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن الربيع بن خيثم أنه قال ‪ :‬أتيت أويسا القرن فوجدته قد صلى الصبح وقعد فقلت ‪ :‬ل أشغله‬
‫عن التسبيح ‪ ،‬فلما كان وقت الصلة قام فصلى إل الظهر ‪ ،‬فلما صلى الظهر صلى إل العصر ‪ ،‬فلما‬
‫صلى العصر قعد يذكر ال إل الغرب ‪ ،‬فلما صلى الغرب صلى العشاء ‪ ،‬فلما العشاء صلى إل‬
‫الصبح جلس فأخذته عينه ‪ ،‬ث انتبه فسمعته يقول ‪ :‬اللهم إن أعوذ بك من عي نوامه ‪ ،‬وبطن ل‬
‫تشبع ‪.‬‬
‫والثار ف هذا العن كثية عن الولي ‪ ،‬وهي تدل على الخذ با هو شاق ف الدوام ول يعدهم‬
‫بذلك مالفي للسنة ‪ ،‬بل عدوهم من السابقي ‪ ،‬جعلنا ال منهم ‪.‬‬
‫وأيضا فإن النهي ليس عن العبادة الطلوبة ‪ ،‬بل هو عن الغلو فيها ‪ ،‬غلوا يدخل الشقة على العامل ‪،‬‬
‫فإذا فرضنا من فقدت ف حقه تلك العلة ‪ ،‬فل ينتهض النهي ف حقه ‪ ،‬كما إذا قال الشارع ‪:‬‬
‫ل يقضي القاضي وهو غضبان ـ وكانت علة النهي تشويش الفكر عن استيفاء الجج ـ اطرد‬
‫النهي مع كل مشويش ‪ ،‬وانتفى عند انتفائه ‪ ،‬حت إنه منتف مع وجود الغضب اليسي الذي ل ينع‬
‫من استيفاء الجج ‪ ،‬وهذا صحيح جار على الصول ‪.‬‬
‫وحال من فقدت ف حقه العلة حال من يعمل بكم غلبة الوف أو الرجاء أو الحبة فإن الوف‬
‫سوط سائق ‪ ،‬والرجاء حاد قائد ‪ ،‬والحبة سيل حامل ‪ ،‬فالائف إن وجد الشقة ‪ ،‬فالوف ما هو‬
‫أشق ‪ ،‬يمله على الصب ما هو أهون ‪ ،‬وإن كان العمل شاقا ‪ ،‬والراجي يعمل وإن وجد الشقة ‪،‬‬
‫لن رجاء الراحة التامة يمله على الصب على بعض التعب ‪ ،‬والحب يعمل ببذل الجهود شوقا إل‬
‫الحبوب ‪ ،‬فيسهل عليه الصعب ‪ ،‬ويقرب عليه البعيد ‪ ،‬وهو القوي ‪ ( ،‬كذا ) ول يرى أنه أوف‬
‫بعهد الحبة ‪ ،‬ول قام بشكر النعمة ‪ ،‬ويعمر النفاس ول يرى أنه أقصى نمته ‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك صح المع بي الدلة ‪ ،‬وجاز الدخول ف العمل التزاما مع اليغال فيه ‪ ،‬إما‬
‫مطلقا ‪ ،‬وإما مع ظن انتفاء العلة ‪ ،‬وإن دخلت الشقة فيما بعد ‪ ،‬إذا صح مع العامل الدوام على‬
‫العمل ‪ ،‬ويكون ذلك جاريا على مقتضى الدلة وعمل السلف الصال ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن ما تقدم من أدلة النهي صحيح صريح ‪ ،‬وما نقل عن الولي يتمل ثلثة أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يمل أنم إنا عملوا على التوسط الذي هو مظنة الدوام ‪ ،‬فلم يلزموا أنفسهم با لعله‬
‫يدخل عليهم الشقة حت يتركوا بسببه ما هو أول ‪ ،‬أو يتركوا العمل ‪ ،‬أو يبغضوه لثقله على‬
‫ل ف حقهم ‪ ،‬فإنا طلبوا اليسر ل العسر ‪ ،‬وهو الذي كان‬ ‫أنفسهم ‪ ،‬بل التزموا ما كان النفوس سه ً‬
‫حال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وحال من تقدم النقل عنه من التقدمي ‪ ،‬بناء على أنم إنا‬
‫عملوا بحض السنة والطريقة العامة لميع الكلفي ‪ .‬وهذه طريقة الطبي ف الواب ‪ .‬وما تقدم ف‬
‫السؤال ما يظهر منه خلف ذلك فقضايا أحوال يكن حلها على وجه صحيح ‪ ،‬إذا ثبت أن العامل‬
‫من يقتدى به ‪.‬‬

‫‪159‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والثان ‪ :‬يتمل أن يكونوا عملوا على البالغة فيما استطاعوا ‪ ،‬لكن ل على جهة اللتزام ‪ ،‬ل بنذر‬
‫ول غيه وقد يدخل النسان ف أعمال يشق الدوام عليها ول يشق ف الال ‪ .‬فيغتنم نشاطه ف حالة‬
‫خاصة ‪ ،‬غي ناظر فيها فيما يأت ‪ ،‬ويكون جاريا فيه على أصل رفع الرج ‪ ،‬حت إذا ل يستطعه‬
‫تركه ول حرج عليه لن الندوب ل حرج ف تركه ف الملة ‪.‬‬
‫ويشعر بذا العن ما ف هذا الديث عن عائشة رضي ال عنها ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫"كان رسول ال يصوم حت نقول ‪ :‬ل يفطر‪ .‬ويفطر حت نقول ‪ :‬ل يصوم ‪ .‬وما رأيته استكمل‬
‫صيام شهر قط إل رمضان "‪ .‬الديث ‪.‬‬
‫فتأملوا وجه اعتبار النشاط والفراغ من القوق التعلقة ‪ .‬أو القوة ف العمال وكذلك قول عبد ال‬
‫بن عمرو ف صيام يوم وإفطار يومي ليتن طوقت ذلك ‪ .‬إنا يريد الداومة ‪ ،‬لنه قد كان يوال‬
‫الصيام حت يقولوا ل يفطر ‪ .‬ول يعترض هذا الأخذ بقوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"أحب العمل إل ال ما دام عليه صاحبه وإن قل" وإن كان عمله دائما ‪ ،‬لنه ممول على العمل‬
‫الذي يشق فيه الدوام ‪.‬‬
‫وأما ما نقل عنهم أدلة صلة الصبح بوضوء العشاء وقيام جيع الليل ‪ ،‬وصيام الدهر ونوه ‪ ،‬فيحتمل‬
‫أن يكون على الشرط الذكور ‪ ،‬وهو أن ل يلتزم ذلك ‪ .‬وإنا يدخل ف العمل ما ل يغتنم نشاطه ‪،‬‬
‫فإذا أتى زمان آخر وجد فيه النشاط أيضا ‪ ،‬وإذا ل يل با هو أول عمل كذلك ‪ ،‬فيتفق أن يدوم له‬
‫هذا النشاط زمانا طويلً ‪ .‬وف كل حالة هو ف فسحه الترك ‪ ،‬لكنه ينتهز الفرصة مع الوقات ‪ .‬فل‬
‫بعد ف أن يصحبه النشاط إل آخر العمر ‪ ،‬فيظنه الظان التزاما وليس بالتزام ‪ .‬وهذا صحيح ‪ ،‬ول‬
‫سيما مع سائق الوف أو حادي الرجاء أو حامل الحبة ‪ ،‬وهو معن قول صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"وجعلت قرة عين ف الصلة" فلذلك قام صلى ال عليه وسلم حت تورمت قدماه ‪ ،‬وامتثل أمر ربه‬
‫ف قوله تعال ‪" :‬قم الليل إل قليلً" الية ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن دخول الشقة وعدمه على الكلف ف الدوام أو غيه ليس أمرا منضبطا بل هو إضاف‬
‫متلف بسب اختلف الناس ف قوة أجسامهم ‪ .‬أو ف قوة عزائمهم ‪ ،‬أو ف قوة يقينهم ‪ ،‬أو نو‬
‫ذلك من أوصاف أجسامهم أو أنفسهم فقد يتلف العمل الواحد بالنسبة إل رجلي ‪ ،‬لن أحدها‬
‫أقوى جسما ‪ ،‬أو أقوى عزية أو يقينا بالوعود ‪ .‬والشقة قد تضعف بالنسبة إل قوة هذه المور‬
‫وأشباهها ‪ ،‬وتقوى مع ضعفها ‪.‬‬
‫فنحن نقول ‪ :‬كل عمل يشق الدوام على مثله بالنسبة إل زيد فهو منهي عنه ‪ ،‬ول يشق على عمرو‬
‫فل ينهى عنه ‪ .‬فنحن نمل ما داوم عليه الولون من العمال على أنه ل يكن شاقا عليهم ‪ ،‬وإن‬
‫كان ما هو أقل منه شاقا علينا ‪ ،‬فليس عمل مثلهم با عملوا به حج ًة لنا أن ندخل فيما دخلوا فيه ‪،‬‬

‫‪160‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إل بشرط أن يتد مناط السألة فيما بيننا وبينهم ‪ .‬وهو أن يكون ذلك العمل ل يشق الدوام على مثله‬
‫‪.‬‬
‫وليس كلمنا ف هذا لشاهدة الميع ‪ ،‬فإن التوسط والخذ بالرفق هو الول والحرى بالميع ‪،‬‬
‫وهو الذي دلت عليه الدلة ‪ .‬دون اليغال الذي ل يسهل مثله على جيع اللق ول أكثرهم ‪ .‬إل‬
‫على القليل النادر منهم ‪.‬‬
‫والشاهد لصحة هذا العن قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إن لست كهيئتكم ‪ ،‬إن أبيت عند رب ـ يطعمن ويسقين" يريد صلى ال عليه وسلم أنه ل يشق‬
‫عليه الوصال ‪ ،‬ول ينعه عن قضاء حق ال وحقوق اللق ‪ .‬فعلى هذا ‪ :‬من رزق أنوذجا ما أعطيه‬
‫صلى ال عليه وسلم فصار يوغل ف العمل مع قوته ونشاطه وخفة العمل عليه فل حرج ‪.‬‬
‫وأما رده صلى ال عليه وسلم على عبد ال بن عمرو فيمكن أن يكون شهد بأنه ل يطيق الدوام ‪،‬‬
‫ولذلك وقع له ما كان متوقعا ‪ ،‬حت قال ‪ :‬ليتن قبلت رخصة نب ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ويكون‬
‫عمل ابن الزبي وابن عمر وغيها ف الوصال جاريا على انم أعطوا حظا ما أعطيه رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وهذا بناء على أصل مذكور ف كتاب الوافقات والمد ل ‪ ،‬وإذا كان كذلك ل‬
‫يكن ف العمل النقول عن السلف مالفة لا سبق ‪.‬‬

‫فصل لكن يبقى النظر ف تعليل النهي‬


‫لكن يبقى النظر ف تعليل النهي ‪ ،‬وأنه يقتضي انتفاءه عند العلة ‪ ،‬وما ذكروه فيه صحيح ف الملة ‪،‬‬
‫وفيه ف التفصيل نظر ‪ ،‬وذلك أن العلة راجعة إل أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬الوف من النقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام ‪ ،‬والخر ‪ :‬الوف من التقصي‬
‫فيما هو الكد من حق ال وحقوق اللق ‪.‬‬
‫ل راجعا قاعدة معلومة ل مظنونة ‪،‬‬
‫أما الول ‪ :‬فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أصل فيه أص ً‬
‫وهي بيان أن العمل الورث للحرج عند الدوام منفي عن الشريعة ‪ ،‬كما أن أصل الرج منفي عنها ‪،‬‬
‫لنه ‪:‬‬
‫صلى ال عليه وسلم بعث بالنيفية السمحة ‪ ،‬ول ساح مع دخول الرج ‪ .‬فكل من ألزم نفسه ما‬
‫يلقى فيه الرج فقد يرج عن العتدال ف حق نفسه ‪ ،‬وصار إدخاله للحرج على نفسه من تلقاء‬
‫نفسه ‪ ،‬ل من الشارع ‪ ،‬فإن دخل ف العمل على شرط الوفاء ‪ ،‬فإن وف فحسن بعد الوقوع ‪ ،‬إذ قد‬
‫ظهر أن ذلك العمل إما غي شاق لنه قد أتى به بشرطه ‪ ،‬وإما شاق صب عليه فلم يوف النفس‬
‫حقها من الرفق ‪ ،‬وسيأت ‪ ،‬وإن ل يف ‪ .‬فكأنه نقض عهد ال وهو شديد ‪ ،‬فلو بقي على أصل براءة‬
‫الذمة من اللتزام ل يدخل عليه ما يتقي منه ‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫لكن لقائل أم يقول ‪ :‬إن النهي ها هنا معلق بالرفق الراجع إل العامل ‪ ،‬كما قالت عائشة رضي ال‬
‫عنها ‪:‬‬
‫"نى النب صلى ال عليه وسلم عن الوصال رحة لم" ‪ ،‬فكأنه قد اعتب حظ النفس ف التعبد ‪ .‬فقيل‬
‫له ‪ :‬افعل واترك ‪ .‬أي ل تتكلف ما يشق عليك ‪ ،‬كما ل تتكلف ف الفرائض ما يشق عليك لن ال‬
‫إنا وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسي يشترك فيه القوي والضعيف ‪ ،‬والصغي والكبي ‪،‬‬
‫والر والعبد ‪ ،‬والرجل والرأة ‪ ،‬حت إذا كان بعض الفرائض يدخل الرج على الكلف يسقط عنه‬
‫جلة أو يعوض عنه ما ل حرج فيه كذلك النوافل التكلم فيها ‪.‬‬
‫وإذا روعي حظ النفس ‪ ،‬فقد صار المر ف اليغال إل العامل ‪ .‬فله أن ل يكنها من حظها ‪ ،‬وأن‬
‫يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ـ بنا ًء على القاعدة الؤصلة ف أصول الوافقات ف إسقاط‬
‫الظوظ ‪ .‬فل يكون إذا منهيا ـ على ذلك التقدير ـ فكما يب على النسان حق لغيه ما دام‬
‫طالبا له ‪ ،‬وله الية ف ترك الطلب به فيتفع الوجوب ‪ .‬كذلك جاء النهي حفظا على حظوظ‬
‫النفس ‪ .‬فإذا أسقطها صاحبها زال النهي ورجع العمل إل أصل الندب ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن حظوظ النفوس بالنسبة إل الطلب با قد يقال ‪ :‬إنه من حقوق ال على العباد ‪ ،‬وقد‬
‫يقال ‪ :‬إنه من حقوق العباد ‪ ،‬فل ينهض ما قلتم ‪ ،‬إذ ليس للمكلف خية فيه ‪ .‬فكما أنه متعبد‬
‫بالرفق بغيه كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه ودل على ذلك قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬

‫"إن لنفسك عليك حقا" إل آخر الديث ‪ .‬فقرن حق النفس بق الغي ف الطلب ف قوله ‪" :‬فأعط‬
‫كل ذي حق حقه" ث جعل ذلك حقا من القوق ‪.‬‬
‫ول يطلق هذا اللفظ إل على ما كان لزما ‪ .‬ويدل عليه أنه ل يل للنسان أن يبيح لنفسه ول لغيه‬
‫دمه ‪ .‬ول قطع طرف من أطرافه ‪ ،‬ول إيلمه بشيء من اللم ‪ ،‬ومن فعل ذلك إث واستحق العقاب‬
‫‪ .‬وهو ظاهر ‪.‬‬
‫وإن قلنا ‪ :‬إنه من حق العبد ‪ ،‬وراجع إل خيته ‪ .‬فليس ذلك على الطلق ‪ ،‬إذ قد تبي ف الصول‬
‫أن حقوق العباد ليست مردة من حق ال ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك ـ فيما نن فيه ـ أنه لو كان إل خيتنا بإطلق ل يقع النهي فيه علينا ‪ .‬بل كنا‬
‫ني فيه ابتداء ‪ ،‬وإل ذلك ( ؟ ) فإنه لو كان بية الكلف مضا لاز للناذر العبادة أن يتركها مت‬
‫شاء ويفعلها مت شاء ‪.‬‬
‫وقد اتفق الئمة على وجوب الوفاء بالنذر ‪ ،‬فيجري ما يشبه مراه ‪ .‬وايضا فقد فهمنا من الشرع أنه‬
‫حبب إلينا اليان وزينه ف قلوبنا ‪ ،‬ومن جلة التزيي تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ‪ ،‬ول‬
‫يكون هذا مع شرعية الشقات ‪ .‬وإذا كان اليغال ف العمال من شأنه ف العادة أن يورث الكلل‬

‫‪162‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والكراهية والنقطاع ـ الذي كالضد لتحبيب اليان وتزيينه ف القلوب ـ كان مكروها لنه على‬
‫خلف وضع الشريعة ‪ ،‬فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه ‪.‬‬
‫وأما الثان ‪ :‬فإن القوق التعلقة بالكلف على أصناف كثية ‪ ،‬وأحكامها تتلف حسبما تعطيه‬
‫أصول الدلة ‪ ،‬ومن العلوم أنه إذا تعارض على الكلف حقان ول يكن المع بينهما ‪ ،‬فل بد من‬
‫تقدي ما هو آكد ف مقتضى الدليل ‪ ،‬فلو تعارض على الكلف واجب ومندوب لقدم الواجب على‬
‫الندوب ‪ ،‬وصار الندوب ف ذلك الوقت غي مندوب بل صار واجب الترك عقلً أوشرعا ‪ ،‬من باب‬
‫ما ل يتم الواجب إل به ‪.‬‬
‫وبقي النظر ف الندوب ‪ :‬هل وقع موقعه ف الندب أم ل ؟ فإن قلت ‪ :‬إن ترك الندوب هنا واجب‬
‫عقلً ‪ ،‬فقد ينهض الندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب ‪ .‬وإن قلت ‪ :‬إنه‬
‫واجب شرعا ‪ ،‬بعد من انتهاضه سببا للثواب إل على وجه ما ‪ ،‬وفيه أيضا ما فيه ‪.‬‬
‫فأنت ترى ما ف التزام النوافل على كل تقدير فرضا إذا كان مؤديا للحرج وهذا كله إذا كان‬
‫اللتزام صادا عن الوفاء بالواجبات مباشرة ‪ ،‬قصدا أو غي قصد ‪ ،‬ويدخل فيه ما ف حديث سلمان‬
‫مع أب الدرداء رضي ال عنهما إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة ‪ ،‬من‬
‫الستمتاع الواجب عليه ف الملة وكذلك التزام صيام النهار ‪.‬‬
‫ومثله لو كان التزام صلة الضحى أو غيها من النوافل ملً بقيامه على مريضه ‪ ،‬الشرف والقيام‬
‫على إعانة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك ويري مراه ـ وإن ل يكن ف رتبته ـ أن لو كان ذلك‬
‫اللتزام يفضي به إل ضعف بدنه ‪ ،‬أو نك قواه ‪ ،‬حت ل يقدر على الكتساب لهله ‪ ،‬أو أداء‬
‫فرائضه على وجهها ‪ ،‬أو الهاد ‪ ،‬أو طلب العلم ‪ .‬كما نبه عليه حديث داود عليه السلم ‪ ،‬أنه كان‬
‫يصوم يوما ويفطر ول يفر إذا ل قى ‪.‬‬
‫وقد جاء ف مفروض الصيام ف السفر من التخيي ما جاء ‪ ،‬ث "إن رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫قال عام الفتح ‪ :‬إنكم قد دنوت من عدوكم ‪ ،‬والفطر أقوى لكم ‪ .‬قال أبو سعيد الدري رضي ال‬
‫عنه ‪ :‬فأصبحنا منا الصائم ومنا الفطر ‪ .‬قال ‪ :‬ث سرنا فنلنا منلً فقال ‪ :‬إنكم تصبحون عدوكم‬
‫والفطر أقوى لكم فأفطروا قال ‪ :‬فكانت عزيةً من رسول ال صلى ال عليه وسلم " ‪.‬‬
‫وهذه إشارة إل أن الصيام ربا أضعف عن ملقاة العدو وعمل الهاد ‪ ،‬فصيام النفل أول بذا الكم‬
‫‪.‬‬
‫وعن جابر رضي ال عنه "أن النب صلى ال عليه وسلم رأى رجلً يظلل عليه ‪ ،‬والزحام عليه ‪ ،‬فقال‬
‫‪ :‬ليس من الب الصيام ف السفر" يعن أن الصيام [ف السفر] وإن كان واجبا ‪ ،‬ليس برا ف السفر ‪،‬‬
‫إذا بلغ به النسان ذلك الد ‪ .‬مع وجود الرخصة ‪ ،‬فالرخصة إذا مطلوبة ف مثله بيث تصي به آكد‬
‫من أداء الواجب ‪ ،‬فما ليس بواجب ف أصله أول ‪.‬‬

‫‪163‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فالاصل أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه فلم يأت طريق الب على حده ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت ما تقدم ورد الشكال الثان‬


‫إذا ثبت ما تقدم ورد الشكال الثان ‪ ،‬وهو أن التزام النوافل الت يشق التزامها مالف ًة للدليل ‪ ،‬وإذا‬
‫خالفت فالتعبد با على ذاك التقدير متعبد با ل يشرع وهو عي البدعة ‪ .‬فإما أن تنتظمها أدلة ذم‬
‫البدعة أو ل ‪ ،‬فإن انتظمتها أدلة الذم فهو غي صحيح لمرين ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم لا كره لعبد ال بن عمرو ما كره وقال له ‪ :‬إن أطيق‬
‫أفضل من ذلك ‪ .‬فقال له صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل أفضل من ذلك" تركه بعد على التزامه ‪ ،‬ولول‬
‫أن عبد ال فهم منه بعد نيه القرار عليه لا التزمه ودوام عليه ‪ ،‬حت قال ‪ :‬ليتن قبلت رخصة رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ! فلو قلنا ‪ :‬إنا بدعة ـ وقد ذم كل بدعة ـ وقد ذم كل بدعة على العموم‬
‫ـ لكان مقرا له على خطا ‪ .‬وذلك ل يوز ‪ ،‬كما أنه ل ينبغي أن يعتقد ف الصحاب أنه خالف أمر‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قصدا للتعبد با ناه عنه ‪ .‬فالصحابة رضي ال تعال عنهم أتقى ل‬
‫من ذلك ‪ .‬وكذلك ما ثبت عن غيه من وصال الصيام وأشباهه ‪ .‬وإذا كان كذلك ل يكن أن‬
‫يقال ‪ :‬إنا بدعة ‪.‬‬
‫الثان ‪ :‬أن العامل با دائما بشرط الوفاء ‪ ،‬إن التزم الشرط فأداها على وجهها فلقد حصل مقصود‬
‫الشارع ‪ ،‬فارتفع النهي إذا ‪ .‬فل مالفة للدليل ‪ .‬فل ابتداع وإن ل يلتزم أداءها ‪ .‬فإن كان باختيار‬
‫فل إشكال ف الخالفة الذكورة ‪ ،‬كالناذر يترك الندوب بغي عذر ‪ ،‬ومع ذلك فل يسمى تركه بدعة‬
‫‪ .‬ول عمله ف وقت العمل بدعة ‪ ،‬ول يسمى بالجموع مبتدعا ‪ .‬وإن كان لعارض مرض أو غيه‬
‫من العذار ‪ .‬فل نسلم أنه مالف ‪ ،‬كما ل يكون مالفا ف الواجب إذا عارضه فيه عارض ‪،‬‬
‫كالصيام للمريض والج لغي الستطيع ‪ ،‬فل ابتداع إذا ‪.‬‬
‫وأما إن ل تنتظمها أدلة الذم ‪ ،‬فقد ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بنهي ‪ ،‬بل هو ما يتعبد به ‪،‬‬
‫وليس من قبيل الصال الرسلة ‪ ،‬ول غيها ما له أصل على الملة ‪ .‬وحيئنذ يشمل هذا الصل كل‬
‫ملتزم تعبدي كان له أصل أم ل ؟ لكن فحيث يكون له أصل على الملة على التفصيل ‪ ،‬كتخصيص‬
‫ليلة مولد النب صلى ال عليه وسلم بالقيام فيها ‪ ،‬ويومه بالصيام ‪ ،‬أو بركعات مصوصة ‪ ،‬وقيام ليلة‬
‫أول جعة من رجب ‪ ،‬وليلة النصف من شعبان ‪ .‬والتزام الدعاء جهرا بآثار الصلوات مع انتصاب‬
‫المام ‪ ،‬وما أشبه ذلك ما له أصل جلي ‪ ،‬وعند ذلك ينخرم كل ما تقدم تأصيله ‪.‬‬
‫والواب عن الول ـ أن القرار ـ صحيح ‪ ،‬ول يتنع أن يتمع مع النهي الرشاد لمر خارجي ‪،‬‬
‫فإن النهي ل يكن لجل خلل ف نفس العبادة ‪ ،‬ول ف ركن من أركانا ‪ ،‬وإنا كان لجل الوف‬

‫‪164‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫من أمر متوقع ‪ ،‬كما قالت عائشة رضي ال تعال عنها ‪ :‬إن النهي عن الوصال كالتنكيل بم ‪ ،‬ولو‬
‫كان منهيا عنه بالنسبة إليهم لا فعل ‪.‬‬
‫فانظر كيف اجتمع ف الشيء الواحد كونه عبادةً ومنهيا عنه ‪ ،‬لكن باعتبارين ‪ ،‬ونظيه ف‬
‫الفقهيات ‪ ،‬ما يقوله جاعة من الحققي ف البيه بعد نداء المعة ‪ ،‬فإنه نى عنه ل من جهة كونه بيعأً‬
‫‪ ،‬بل من جهة كونه مانعا من حضور المعة ‪ ،‬فيجيزون البيع بعد الوقوع ‪ ،‬ويعلونه فاسدا ‪ ،‬وإن‬
‫وجد التصريح بالنهي فيه ‪ ،‬للعلم بأن النهي ليس براجع إل نفس البيع ‪ ،‬بل إل أمر ياوره ‪ ،‬ولذلك‬
‫يعلل جاعة من يقول بفسخ البيع لنه زجر للمتبايعي ل لجل النهي عنه ‪ ،‬فليس عند هؤلء ببيع‬
‫فاسد أيضا ‪ ،‬ول النهي راجع إل نفس البيع ‪.‬‬
‫فالمر بالعبادة شيء وكون الكلف يوف با أو ل ‪ ،‬شيء آخر ‪ ،‬فإقرار النب صلى ال عليه وسلم‬
‫لبن عمرو رضي ال عنهما على ما التزم ونيه إياه ابتداء ‪ ،‬ل يدل على الفساد ‪ ،‬وإل لزم التدافع ‪،‬‬
‫وهو مال ‪ ،‬إل أن ها هنا نظرا آخر ‪ :‬وهو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم صار ف هذه السائل‬
‫كالرشد للمكلف وكالبتدىء ( ؟ ) بالنصيحة عند وجود مظنة الستنصاح ‪ ،‬فلما تكلف الكلف‬
‫على اجتهاده دون نصيحة الناصح العرف بعوارض النفوس ‪ ،‬صار كالتبع لرأيه مع وجود النص وإن‬
‫كان بتأويل ‪ ،‬فإن سي ف اللفظ فبهذا العتبار ‪ ،‬وإل فهو متبع للدليل النصوص من صاحب‬
‫النصيحة ‪ ،‬وهو الدال على النقطاع إل ال تعال بالعبادة ‪.‬‬
‫ومن هنا قيل فيها إنا بدعة إضافية ل حقيقية ‪ ،‬ومعن كونا إضافية أن الدليل فيها مرجوع بالنسبة‬
‫لن يشق عليه الدوام عليها ‪ ،‬وراجح بالنسبة إل من وف بشرطها ولذلك وف با عبد ال بن عمرو‬
‫رضي ال عنهما بعد ما ضعف ‪ ،‬وإن دخل عليه فيها بعض الرج حت تن قبول الرخصة ‪ ،‬بلف‬
‫البدعة القيقية ‪ ،‬فإن الدليل عليها مفقود حقيقة ‪ ،‬فضلً عن أن يكون مرجوحا ‪ ،‬فهذه السألة تشبه‬
‫مسألة خطأ الجتهد ‪ ،‬فالقول فيهما متقارب ‪ ،‬وسيأت الكلم فيهما إن شاء ال تعال ‪.‬‬
‫وأما قول السائل ف الشكال ‪ :‬إن التزم الشرط فأدى العبادة على وجهها ـ إل آخره ـ فصحيح ‪،‬‬
‫إل قوله ‪ :‬فإن تركها لعارض فل حرج كالريض ‪ ،‬فإن ما نن فيه ليس كذلك ‪ ،‬بل ث قسم آخر ‪،‬‬
‫لـ‬ ‫وهو أن يتركها بسبب تسبب هو فيه ‪ .‬وإن ظهر أن ليس من سببه ‪ ،‬فإن ترك الهاد ـ مث ً‬
‫باختياره مالفة ظاهرة وتركه لرض أو نوه ل مالفة فيه ‪ ،‬فإن عمل ف سبب يلحقه عادة بالريض‬
‫حت ل يقدر على الهاد فهذه واسطة بي الطرفي ‪ ،‬فمن حيث تسببه ف الانع ل يكون ممودا عليه‬
‫‪ ،‬وهو نظي اليغال ف العمل الذي هو سبب ف كراهية العمل أو التقصي على الواجب ‪ ،‬وهذا‬
‫الكلف قد خالف النهي ‪ .‬ومن حيث وقع له الرج الانع ف العبادة من أدائها على وجهها قد‬
‫معذورا ‪ ،‬فصار هنا نظر بي نظرين ل يتخلص مع العمل إل واحد منهما ‪.‬‬

‫‪165‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما قوله ‪ :‬ثبت أن من أقسام البدع ما ليس بنمهي عنه ‪ ،‬فليس كما قال ‪ ،‬وذاك أن الندوب هو من‬
‫حيث هو مندوب يشبه الواجب من جهة مطلق المر ‪ ،‬ويشبه الياح من جهة رفع الرج على التارك‬
‫‪ ،‬فهو واسطة بي الطرفي ل يتخلى إل واحد منهما ‪ ،‬إل أن قواعد الشرع شرطت ف ناحية العمل‬
‫شرطا ‪ ،‬كما شرطت ف ناحية تركه شرطا ‪ ،‬فشرط العمل به أن ل يدخل فيه مدخلً يؤديه إل‬
‫الرج الؤدي إل انرام الندب فهي رأسا ‪ ،‬أو انرام ما هو أول منه ‪ ،‬وما وراء هذا موكول إل‬
‫خية الكلف ‪ ،‬فإذا دخل فيه فل يلو أن يدخل فيه على قصد انرام الشرط أو ل ‪ ،‬فإن كان‬
‫كذلك ‪ ،‬فهو القسم الذي يأت إن شاء ال ‪ ،‬وحاصله أن الشارع طالبه برفع الرج ‪ ،‬وهو يطالب‬
‫نفسه بوضعه وإدخاله على نفسه وتكليفها ما ل يستطاع ‪ ،‬مع زيادة الخلل بكثي من الواجبات‬
‫والسنن الت هي أول ما دخل فيه ‪ ،‬ومعلوم أن هذه بدعة مذمومة ‪.‬‬
‫وإن دخل على غي ذلك القصد ‪ ،‬فل يلو أن يري الندوب على مراه أو ل ‪ ،‬فإن أجراه كذلك‬
‫بأن يفعل منه ما استطاع إذا وجد نشاطا ول يعارضه ما هو أول ما دخل فيه ‪ ،‬فهو مض السنة الت‬
‫ل مقال فيها ‪ ،‬لجتماع الدلة على صحة ذلك العمل ‪ ،‬إذ قد أمر فهو غي تارك ‪ ،‬ونى عن اليغال‬
‫وإدخال الرج فهو متحرز ‪ ،‬فل إشكال ف صحته ‪ ،‬وهو كان شأن السلف الول ومن بعدهم ‪،‬‬
‫وإن ل يره على مراه ولكنه أدخل فيه رأي اللتزام والدوام ‪ ،‬فذلك الرأي مكروه ابتدا ًء ‪.‬‬
‫لكن فهم من الشرع أن الوفاء ـ إن حصل ـ فهو ـ إن شاء ال ـ كفارة النهي ‪ ،‬فل يصدق‬
‫عليه ف هذا القسم معن البدعة ‪ ،‬لن ال تعال مدح الوفي بالنذر والوفي بعهدهم إذا عاهدوا ‪،‬‬
‫وإن ل يصل الوفاء تحض وجه النهي ‪ ،‬وربا أث ف اللتزام غي النذري ‪ ،‬ولجل احتمال عدم‬
‫الوفاء أطلق عليه لفظ البدعة ‪ ،‬ل لجل أنه عمل ل دليل عليه ‪ ،‬بل الدليل عليه قائم ‪.‬‬
‫ولذلك إذا التزم النسان بعض الندوبات الت يعلم أو يظن أن الدوام فيها ل يوقع ف حرج أصلً ـ‬
‫وهو الوجه الثالث من الوجه الثلثة البنه عليها ـ ل يقع ف ني ‪ ،‬بل ف مض الندوبات ‪،‬كالنوافل‬
‫الرواتب مع الصلوات ‪ ،‬والتسبيح والتحميد والتكبي ف آثارها ‪ ،‬والذكر اللسان اللتزم بالعشي‬
‫والبكار ‪ ،‬وما أشبه ذلك ما ل يل با هو أول ‪ ،‬ول يدخل حرجا بنفس العمل به ول بالدوام عليه‬
‫‪.‬‬
‫وف هذا القسم جاء التحريض على الدوام صريا ‪ ،‬ومنه كان جع عمر رضي ال عنه الناس ف‬
‫رمضان ف السجد ‪ ،‬ومضى عليه الناس ‪ ،‬لنه كان أولً سنة ثابتة من رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ ،‬ث إنه أقام للناس با كانوا قادرين عليه ومبي فيه ‪ ،‬وف شهر واحد من السنة ل دائما ‪ ،‬وموكولً‬
‫إل اختيارهم ‪ ،‬لنه قال ‪ :‬والت ينامون عنها أفضل ‪.‬‬
‫وقد فهم السلف الصال أن القيام ف البيوت أفضل ‪ ،‬فكان كثي منهم ينصرفون فيقومون ف‬
‫منازلم ‪ ،‬ومع ذلك فقد قال ‪ :‬نعمت البدعة هذه ‪ .‬فأطلق عليها لفظ البدعة ـ كما ترى ـ نظرا‬

‫‪166‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ـ وال أعلم ـ إلىاعتبار الدوام ‪ ،‬وإن كان شهرا ف السنة ‪ ،‬وأنه ل يقع فيمن قبله عملً دائما ‪،‬‬
‫أو أنه أظهره ف السجد الامع مالفا لسائر النوافل ‪ ،‬وإن كان ذلك واقعا ف أصله كذلك ‪ ،‬فلما‬
‫كان الدليل على ذلك القيام على الصوص واضحا قال ‪ :‬نعمت البدعة هذه ‪ .‬فحسنها بصيغة نعم‬
‫الت تقتضي من الدح ما تقتضيه صيغة التعجب ‪ ،‬لو قال ‪ :‬ما أحسنها من بدعة ! وذلك يرجها‬
‫قطعا عن كونا بدعة ‪.‬‬
‫وعلى هذا العن جرى كلم أب أمامة رضي ال عنه مستشهدا بالية حيث قال ‪ :‬أحدثتم قيام‬
‫رمضان ول يكتب عليكم ‪ .‬إنا معناه ما ذكرناه ‪ .‬ولجله قال ‪ :‬فدوموا عليه ‪ .‬ولو كان بدعة على‬
‫القيقة لنهى عنه ‪ ،‬ومن هذه الهة أجرينا الكلم على ما نى صلى ال عليه وسلم عنه من التعبد‬
‫الخوف الرج ف الآل ‪ ،‬واستسهلنا وضع ذلك ف قسم البدع الضافية ‪ ،‬تنبيها على وجهها‬
‫ووضعها ف الشرع مواضعها ‪ ،‬حت ل يغتر با مغتر فيأخذها على غي وجهها ‪ ،‬ويتج با على العمل‬
‫بالبدعة القيقية قياسا عليها ول يدري ما عليه ف ذلك ‪ ،‬وإنا تشمنا إطلق اللفظ هنا ‪ ،‬وكان‬
‫ينبغي أن ل يفعل لول الضرورة ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫فصل قال ال تعال ‪ :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم إل آخر اليتي‬
‫قال ال تعال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يب‬
‫العتدين" "وكلوا ما رزقكم ال حلل طيبا واتقوا ال الذي أنتم به مؤمنون" روي ف سبب نزول‬
‫هذه الية أخبار جلتها تدور على معن واحد ‪ ،‬وهو يتحري ما أحل ال من الطيبات تدينا أو شبه‬
‫التدين وال نى عن ذلك وجعله اعتداء ‪ ،‬وال ل يب العتدين ‪ .‬ث قرر الباحة تقريرا زائدة على ما‬
‫تقرر بقوله ‪" :‬وكلوا ما رزقكم ال حلل طيبا " ث أمرهم بالتقوى ‪ ،‬وذلك مشعر بأن تري ما أحل‬
‫ال خارج عن درجة التقوى ‪.‬‬
‫فخرج إساعيل القاضي من حديث أب قلبة رضي ال عنه قال ‪" :‬أراد ناس من أصحاب رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم أن يرفضوا الدنيا وتركوا النساء وترهبوا ‪ .‬فقام رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫فغلظ فيهم القالة ‪ ،‬فقال ‪ :‬إنا هلك من كان قبلكم بالتشديد ‪ ،‬شددوا على أنفسهم فشدد ال عليهم‬
‫‪ ،‬فأولئك بقاياهم ف الديار والصوامع اعبدوا ال ول تشركوا به شيئا ‪ ،‬وحجوا واعتمروا ‪،‬‬
‫واستقيموا يستقم بكم" قال ‪ :‬نزلت فيهم ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم "‬
‫‪.‬‬
‫وف الترمذي عن ابن عباس رضي ال عنهما قال ‪:‬‬
‫"إن رجلً أتى النب صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال ! إن إذا أصبت اللحم انتشرت للنساء‬
‫وأخذتن شهوت فحرمت علي اللحم ‪ .‬فأنزل ال الية " ‪ .‬حديث حسن ‪.‬‬

‫‪167‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وف رواية عن ابن عباس رضي ال عنهما قال ‪:‬‬


‫"نزلت هذه الية ف رهط من أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬منهم أبو بكر وعمر وعلي‬
‫وابن مسعود وعثمان بن مظعون والقداد بن السودالكندي وسال مول أب حذيفة رضي ال عنهم‬
‫اجتمعوا ف دار عثمان بن مظعون المحي فتوافقوا أن يبوا أنفسهم ‪ ،‬بأن يعتزلوا النساء ول يأكلوا‬
‫لما ول دسا ‪ ،‬وأن يلبسوا السوح ول يأكلوا من الطعام إل قوتا ‪ ،‬وأن يسيحوا ف الرض كهيئة‬
‫الرهبان ‪ ،‬فبلغ ذلك رسول ال صلى ال عليه وسلم من أمرهم ‪ ،‬فأتى عثمان بن مظعون ف منله فلم‬
‫يده فيه ‪ ،‬ول إياهم ‪ ،‬فقال لمرأة عثمان أم حكيم ابنة أب أمية بن حارثة السلمي ‪ :‬أحق ما بلغن‬
‫عن زوجك وأصحابه ؟ قالت ‪ :‬ما هو يا رسول ال ؟ فأخبها ‪ ،‬فكرهت أن ل تدث رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وكرهت أن تبدي على زوجها ‪ ،‬فقالت إن كان أخبك عثمان فقد صدق ‪.‬‬
‫فقال لا رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬قول لزوجك وأصحابه إذا رجعوا ‪ :‬إن رسول ال يقول‬
‫لكم ‪ :‬إن آكل وأشرب وآكل اللحم والدسم وأنام وآت النساء ‪ ،‬فمن رغب عن سنت فليس من ‪،‬‬
‫فلما رجع عثمان وأصحابه أخبتم امرأته با أمر به رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬لقد‬
‫بلغ رسول ال صلى ال عليه وسلم أمرنا فما أعجبه ‪ ،‬فذروا ما كره رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ونزل فيها ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" " قال ‪ :‬من الطعام‬
‫والشراب والماع "ول تعتدوا" قال ‪ :‬ف قطع الذاكي ‪" .‬إن ال ل يب العتدين" قال ‪ :‬اللل إل‬
‫الرام ‪.‬‬
‫وف الصحيح "عن عبد ال قال ‪:‬‬
‫كنا نغزو مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ليس معنا نساء ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬أل نتصي ؟ فنهانا عن ذلك ‪،‬‬
‫فرخص لنا بعد ذلك أن نتزوج الرأة بالثوب إل أجل "‪ ،‬يعن ـ وال أعلم ـ نكاح التعة النسوخ ‪،‬‬
‫" ث قرأ ابن مسعود ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" "‪.‬‬
‫ث ذكر إساعيل عن يي بن يعمر ‪" :‬أن عثمان بن مظعون هم بالسياحة وهو يصوم النهار ويقوم‬
‫الليل ‪ ،‬وكانت امرأته عطرة فتركت الكحل والضاب ‪ ،‬فقالت لا امرأة من أزواج النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أشهيد أنت أم مغيب ؟ فقالت ‪ :‬بل شهيد ‪ ،‬غي أن عثمان ل يريد النساء ‪ ،‬فذكرت‬
‫ذلك للنب صلى ال عليه وسلم فلقيه رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال له ‪ :‬أتؤمن با نؤمن به ؟‬
‫قال ‪ :‬نعم ‪ .‬قال ‪ :‬فاصنع مثل ما نصنع‪" ،‬ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" " الية ‪.‬‬
‫وخرج سعيد بن منصور عن خضي عن أب مالك ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت ف عثمان بن مظعون وأصحابه ‪،‬‬
‫كانوا حرموا عليهم كثيا من الطعام والنساء ‪ ،‬وهم بعضهم أن يقطع ذكره ‪ ،‬فأنزل ال تعال ‪" :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا ل ترموا" الية ‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن قتادة ‪ ،‬قال ‪ :‬نزلت ف ناس م نأصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم أرادوا أن يتخلوا عن‬
‫الدنيا ‪ ،‬وتركوا النساء وترهبوا ‪ ،‬منهم علي بن أب طالب ‪ ،‬وعثمان بن مظعون ‪.‬‬
‫وخرج ابن البارك "أن عثمان بن مظعون أتى النب صلى ال عليه وسلم ‪،‬فقال ‪ :‬أئذن ل ف‬
‫الختصاء ‪،‬فقال النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ليس منا من خصى أو اختصى إن اختصاء أمت الصيام ‪،‬‬
‫قال يا رسول ال ! ائذن ل ف السياحة ‪ .‬قال ‪ :‬إن سياحة أمت الهاد ف سبيل ال ‪ ،‬قال ‪ :‬يا رسول‬
‫ال ! ائذن ل ف الترهب ‪ .‬قال ‪ :‬إن ترهب أمت اللوس ف الساجد لنتظار الصلة " ‪.‬‬
‫وف الصحيح ‪:‬‬
‫رد رسول ال صلى ال عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ‪ ،‬ولو أذن له لختصى ‪.‬‬
‫وهذا كله واضح ف أن جيع هذه الشياء تري لا هو حلل ف الشرع ‪ ،‬وإهال لا قصد الشارع‬
‫إعماله ـ وإن كان يقصد سلوك طريق الخرة ـ لنه نوع من الرهبانية ف السلم ‪.‬‬
‫وإل منع تري اللل ذهب الصحابة والتابعون ومن بعدهم ‪ ،‬إل أنه إذا كان التحري غي ملوف‬
‫عليه فل كفارة ‪ ،‬وإن كان ملوفا عليه ‪ ،‬ففيه الكفارة ‪ ،‬ويعمل الالف با أحل ال له ‪.‬‬
‫ومن ذلك ما ذكر إساعيل القاضي عن معقل أنه سأل ابن مسعود رضي ال عنه فقال ‪ :‬إن حلفت‬
‫أن ل أنام على فراشي سنة ‪ .‬فتل عبد ال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا" الية ‪ ،‬ادن فكل وكفر‬
‫عن يينك ‪ ،‬ون على فراشك ‪.‬‬
‫وف رواية ‪ :‬كان معقل يكثر الصوم والصلة ‪ ،‬فحلف أن ل ينام على فراشه ‪ ،‬فأتى ابن مسعود‬
‫رضي ال عنه فسأله عن ذلك فقرأ عليه الية ‪.‬‬
‫وعن الغية قال ‪ :‬قلت لبراهيم ف هذه الية ‪" :‬ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" أهو الرجل يرم‬
‫الشيء ‪،‬ما أحل ال له ؟ قال ‪ :‬نعم ‪.‬‬
‫وعن مسروق قال ‪ :‬أتى عبد ال بضرع فقال للقوم ‪ :‬ادنوا ‪ ،‬فأخذوا يطعمون ‪ .‬فقال رجل ‪ :‬إن‬
‫حرمت الضرع ‪ .‬فقال عبد ال ‪ :‬هذا من خطوات الشيطان "يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما‬
‫أحل ال لكم" ادن فكل ‪ ،‬وكفر عن يينك ‪.‬‬
‫وعلى ذلك جرت الفتيا ف السلم ‪ :‬إن كل من حرم على نفسه شيئا ما أحل ال له فليس ذلك‬
‫التحري بشيء ‪ ،‬فليأكل إن كان مأكو ًل ‪ ،‬وليشرب إن كان مشروبا ‪ ،‬وليلبس إن كان ملبوسًأ ‪،‬‬
‫وليملك إن كان ملوكا ‪ .‬وكأنه إجاع منهم منقول عن مالك و أب حنيفة و الشافعي وغيهم ‪،‬‬
‫واختلفوا ف الزوجة ‪ .‬ومذهب مالك أن التحري طلق كالطلق الثلث ‪ ،‬وما سوى ذلك فهو باطل‬
‫‪ ،‬لن القرآن شهد بكونه اعتداء ‪ ،‬حت إنه إن حرم على نفسه وطء أمة غيه قاصدا به العتق فوطؤها‬
‫حلل ‪ .‬وكذلك سائر الشياء من اللباس والسكن والصمت والستظلل والستضحاء ‪ .‬وقد تقدم‬
‫الديث ف الناذر للصوم قائما ف الشمس ساكتا ‪ ،‬فإنه تري للجلوس والكلم والستظلل ‪ ،‬والنب‬

‫‪169‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫صلى ال عليه وسلم أمره باللوس والتكلم والستظلل ‪ .‬قال مالك ‪ :‬أمره ليتم ما كان له فيه طاعة‬
‫ويترك ما كان عليه فيه معصية ‪.‬‬
‫فتأملوا كيف جعل مالك ترك اللل معصية ! وهو مقتضى الية ف قوله تعال ‪" :‬ول تعتدوا" الية ‪.‬‬
‫ومقتضى قول ابن مسعود رضي ال عنه لصاحب الضرع ‪ :‬هذا من خطوات الشيطان ‪.‬‬
‫وقد ضعف ابن رشد الفيد الستدلل من الالكية بالديث ‪ ،‬وتفسي مالك له ‪ ،‬وذكر أن قوله ف‬
‫الديث ‪ :‬ويترك ما كان عليه فيه معصية ليس بالظاهر أن ترك الكلم معصية ‪ ،‬وقد أخب ال تعال‬
‫أنه نذر مري ـ قال ـ وكذلك يشبه أن يكون القيام للشمس ليس معصية إل ما يتعلق من جهة‬
‫تعب السم والنفس ‪ ،‬وقد يستحب للحاج أن ل يستظل ‪ .‬فإن قيل ‪ :‬فيه معصية ‪ .‬فالقياس على ما‬
‫ني عنه من التعب ل بالنص ‪ ،‬والصل فيه أنه من الباحات ‪.‬‬
‫وما قاله ابن رشد غي ظاهر ‪ ،‬ول يقل مالك ف الديث ما قال استنباطا منه ‪ ،‬بل الظاهر أنه استدل‬
‫بالية التكلم فيها ‪ ،‬وحل الديث عليها بترك الكلم ‪ ،‬وإن كان ف الشرائع الول مشروعا فهو‬
‫منسوخ بذه الشريعة ‪ ،‬فهو عمل ف مشروع بغي مشروع ‪ .‬وكذلك القيام ف الشمس زيادة من‬
‫باب تري اللل ‪ ،‬وإن استحب ف موضع ‪ ،‬فل يلزم استحبابه ف آخر ‪.‬‬

‫فصل ويتعلق بذا الوضع مسائل إحداها أن تري اللل‬


‫ويتعلق بذا الوضع مسائل ‪.‬‬
‫إحداها ‪ :‬أن تري اللل وما أشبه ذلك يتصور ف أوجه ‪.‬‬
‫الول ‪ :‬التحري القيقي ‪ ،‬وهو الواقع من الكفار ‪ ،‬كالبحية والسائبة والوصيلة والامي ‪ ،‬وجيمع ما‬
‫ذكر ال تعال تريه عن الكفار بالرأي الحض ‪ .‬ومنه قوله تعال ‪" :‬ول تقولوا لا تصف ألسنتكم‬
‫الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على ال الكذب" وما أشبهه من التحري الواقع ف السلم رأيا‬
‫مردا ‪.‬‬
‫الثان ‪ :‬أن يكون مرد ترك ل لغرض ‪ ،‬بل لن النفس تكرهه بطبعها ‪ ،‬أو ل تكرهه حت تستعمله ‪،‬‬
‫أو ل تد ثنه أو تشتغل با هو آكد ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ .‬ومنه ترك النب صلى ال عليه وسلم لكل‬
‫الضب لقوله فيه ‪:‬‬
‫"إنه ل يكن بأرض قومي فأجدن أعافه" ‪ ،‬ول يسمى مثل هذا تريا ‪ ،‬لن التحري يستلزم القصد‬
‫إليه ‪ ،‬وهذا ليس كذلك ‪.‬‬
‫الثالث ‪ :‬أن يتنع لنذره التحري ‪ ،‬أو ما يري مرى النذر من العزية القاطعة للعذر ‪ ،‬كتحري النوم‬
‫على الفراش سنة ‪ ،‬وتري الضرع وتري الدخار لغد ‪ ،‬وتري اللي من الطعام واللباس ‪ ،‬وتري‬
‫الوطء والستلذاذ بالنساء ف الملة ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬

‫‪170‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الرابع ‪ :‬أن يلف على بعض اللل أن ل يفعله ‪ ،‬ومثله قد يسمى تريا ‪.‬‬
‫قال إساعيل القاضي ‪ :‬إذا قال الرجل لمته ‪ :‬وال ل أقربا ‪ .‬فقد حرمها على نفسه باليمي ‪ ،‬فإذا‬
‫غشيها وجبت عليه كفارة اليمي ‪ .‬وأتى بسألة ابن مقرن ف سؤاله ابن مسعود رضي ال عنه إذ قال‬
‫‪ :‬إن حلفت أن ل أنام على فراشي سنة ـ قال ـ فتل عبد ال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا‬
‫طيبات ما أحل ال لكم" الية ‪ ،‬وقال له ‪ :‬كفر عن يينك ‪ ،‬ون على فراشك ‪.‬‬
‫فأمره أن ل يم ما أحل ال له ‪ ،‬وأن يكفر من أجل اليمي ‪.‬‬
‫فهذا الطلق يقتضي أنه نوع من التحري ‪ ،‬وله وجه ظاهر ‪ ،‬فقد أشار إساعيل إل أن الرجل كان‬
‫إذا حلف أن ل يفعل شيئا من اللل ل يز له أن يفعله حت نزلت كفارة اليمي ‪ ،‬لجل ما كان‬
‫قبل من التحري ‪ ،‬ولا وردت الكفارة سي تريا ‪ ،‬ومن ث ـ وال أعلم ـ سيت كفارة ‪.‬‬

‫فصل السألة الثانية ‪ :‬أن الية الت نن بصددها‬


‫السألة الثانية ‪ :‬أن الية الت نن بصددها ينظر فيها على أي معن يطلق التحري ‪ .‬أما الول فل‬
‫مدخل له ها هنا ‪ ،‬لن التحري تشريع كالتحليل ‪ ،‬والتشريع ليس إل لصاحب الشرع ‪ ،‬اللهم إل أن‬
‫يدخل مبتدع رأيا كان من أهل الاهلية أو من أهل السلم ‪ ،‬فهذا أمر آخر يل السلف الصال عن‬
‫مثله فضلً عن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على الصوص ‪.‬‬
‫وقد وقع للمهلب ف شرح البخاري ما قد يشعر بأن الراد ف الية التحري بالعن الول ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫التحري إنا هو ل ولرسوله ‪ ،‬فل يل لحد أن يرم شيئا ‪ ،‬وقد وبخ ال من فعل ذلك ‪ ،‬فقال ‪" :‬ل‬
‫ترموا طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا" فجعل ذلك من العتداء ‪ ،‬وقال ‪" :‬ول تقولوا لا تصف‬
‫ألسنتكم الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على ال الكذب" قال ‪ :‬فهذا كله حجة ف أن تري‬
‫الناس ليس بشيء ‪.‬‬
‫وما قاله الهلب يرده السبب ف نزول الية ‪ ،‬وليس كما تقرر ‪ ،‬ولذلك ل يعد الحرم الكم لغيه‬
‫كما هو شأن التحري بالعن الول ‪ ،‬فصار مقصورا على الحرم دون غيه ‪.‬‬
‫وأما التحري بالعن الثان فل حرج فيه ف الملة ‪ ،‬لن بواعث النفوس على الشيء أو صوارفها عنه‬
‫ل تنضبط بقانون معلوم ‪ ،‬فقد يتنع النسان من اللل لمر يده ف استعماله ‪ ،‬ككثي من يتنع من‬
‫شرب العسل لوجع يعتريه به ‪ ،‬حت يرمه على نفسه ‪ ،‬ل بعن التحري الول ‪ ،‬ول الثالث ‪ ،‬بل‬
‫بعن التوقي منه كما تتوقى سائر الؤلات ‪.‬‬
‫ويدخل ها هنا بالعن ‪:‬‬
‫امتناع النب صلى ال عليه وسلم من أكل الثوم ‪ ،‬لنه كان يناجي اللئكة ‪ ،‬وهي تتأذى من رائحته ‪،‬‬
‫وكذلك كل ما تكره رائحته ‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولعل هذا الحل أول من قول من قال ‪ :‬إن الثوم ونوه كانت مرمة عليه بالعن الختص بالشارع ‪.‬‬
‫والعنيان متقاربان ‪ ،‬وكلها غي داخل ف معن المر ‪.‬‬
‫وأما التحري بالعن الرابع فيحتمل أن يدخل ف عبارة التحري ‪ ،‬فيكون قوله تعال ‪" :‬ل ترموا طيبات‬
‫ما أحل ال لكم" قد شل التحري بالنذر ‪ ،‬والتحري باليمي ‪ ،‬والدليل على ذلك ذكر الكفارة بعدها‬
‫بقوله تعال ‪" :‬فكفارته إطعام عشرة مساكي" إل ‪.‬‬
‫وما تقدم من أنه كان تريا مردا قبل نزول الكفارة ‪ ،‬وأن جاعة من الفسرين قالوا ف قوله تعال ‪:‬‬
‫"يا أيها النب ل ترم ما أحل ال لك" ‪ :‬إن التحري كان باليمي حي حلف النب صلى ال عليه وسلم‬
‫أن ل يشرب العسل ‪ ،‬وسيأت ذكر ذلك بول ال ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬هل يكون "قول الرجل لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إن إذا أصبت اللحم انتشرت‬
‫للنساء" ـ الديث ـ من قبيل التحري الثان ل من الثالث ـ لن الرجل قد يرم الشيء للضرر‬
‫الاصل به ‪ ،‬وقد تقدم آنفا أنه ليس بتحري حقيقة ‪ ،‬فكذلك ها هنا ل يريد بالتحري النذر ‪ ،‬بل يريد‬
‫به التوقي ‪ ،‬أي إن أخاف على نفسي العنت ‪ ،‬وكان هذا العن ـ وال أعلم ـ هو مقصود‬
‫الصحاب رضي ال عنه ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬أن من يلحقه الضرر وقت ما يتناول شيئا يكنه أن يسك عنه من غي تري ‪ ،‬والتارك‬
‫لمر ل يلزمه أن يكون مرما له ‪ ،‬فكم من رجل ترك الطعام الفلن أو النكاح لنه ف ذلك الوقت‬
‫ل يشتهيه ‪ ،‬أو لغي ذلك من العذار ! حت إذا زال عذره تناول منه ‪.‬‬
‫وقد ‪ :‬ترك صلى ال عليه وسلم أكل الضب ‪ ،‬ول يكن تركه موجبا لتحريه ‪.‬‬
‫والدليل على أن الراد بالتحري الظاهر ‪ ،‬وأنه ل يصح ‪ ،‬وإن كان تقدم أن النب صلى ال عليه وسلم‬
‫رد عليه بالية ‪ ،‬فلو كان وجود مثل تلك العذار مبيحا للتحري بالعن الثالث لوقع التفصيل ف الية‬
‫بالنسبة إل من حرم لعذر أو غي عذر ‪.‬‬
‫وأيضا فإن النتشار للنساء ليس بذموم ‪ ،‬فإن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"من استطاع منكم الباءة فليتزوج" الديث ‪ ،‬فإذا أحب النسان قضاء الشهوة تزوج فحصل له ما ف‬
‫الديث زيادة إل النسل الطلوب ف اللة ‪ ،‬فكأن مرم ما يصل به النتشار ساع ف التشبه بالرهبانية‬
‫‪ ،‬وكان ذلك منتفيا عن السلم كسائر ما ذكر ف الية ‪.‬‬

‫فصل والسألة الثالثة ‪ :‬أن هذه الية يشكل معناها‬


‫والسألة الثالثة ‪ :‬أن هذه الية يشكل معناها مع قوله تعال ‪" :‬كل الطعام كان حلً لبن إسرائيل إل‬
‫ما حرم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنل التوراة" الية ‪،‬فإن ال أخب عن نب من أنبيائه عليهم‬
‫الصلة والسلم أنه حرم على نفسه حل ًل ‪ ،‬ففيه دليل لواز مثله ‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والواب ‪ :‬أنه ل دليل ف الية ‪ ،‬لن ما تقدم يقرر أن ل تري ف السلم ‪ ،‬فيبقى ما كان شرعا‬
‫لغينا منفيا عن شرعنا كما تقرر ف الصول ‪.‬‬
‫خرج القاضي إساعيل وغيه عن ابن عباس رضي ال عنهما ‪:‬‬
‫أن إسرائيل النب يعقوب عليه السلم أخذه عرق النسا ‪ ،‬فكان يبيت عليه زقاء ‪ ،‬فجعل عليه إن شفاه‬
‫ال ليحرمن عليه العروق ‪ .‬وذلك قبل نزول التوراة ‪ .‬قالوا ‪ :‬فلذلك نسل اليهود ل يأكلونا ‪ .‬وف‬
‫رواية ‪ :‬جعل على نفسه أن ل يأكل لوم البل ـ قال ـ فحرمته اليهود ‪.‬‬
‫وعن الكلب أن يعقوب عليه السلم قال ‪:‬‬
‫إن ال شفان لحرمن أطيب الطعام والشراب ـ أو قال ‪ :‬ـ أحب الطعام أو الشراب إل ‪ .‬فحرم‬
‫لوم البل وألبانا ‪.‬‬
‫قال القاضي ‪ :‬الذي نسب ـ وال أعلم ـ أن إسرائيل حي حرم على نفسه من اللل ما حرم ل‬
‫يكن ف ذلك الوقت منهيا عن ذلك ‪ ،‬وأنم كانوا إذا حرموا على أنفسهم شيئا من اللل ل يز لم‬
‫أن يفعلوه حت نزلت كفارة اليمي ‪ .‬قال ال تعال ‪" :‬قد فرض ال لكم تلة أيانكم"‬
‫والالف إذا حلف على شيء ول يقل ‪ :‬إن شاء ال كان باليار ‪ ،‬إن شاء فعل وكفر ‪ ،‬وإن شاء ل‬
‫يفعل ‪ .‬قال ‪ :‬وهذه الشياء وما أشبهها من الشرائع يكون فيها الناسخ والنسوخ ‪ ،‬فكان الناسخ ف‬
‫هذا قوله تعال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" قال ‪ :‬فلما وقع النهي ل يز‬
‫للنسان أن يقول ‪ :‬الطعام علي حرام ‪ ،‬وما أشبه ذلك من اللل ‪ .‬فإن قال إنسان شيئا من ذلك‬
‫كان قوله باطلً ‪ ،‬وإن حلف على ذلك بال كان له أن يأت الذي هو خي ‪ ،‬ويكفر عن يينه ‪.‬‬

‫فصل والسألة الرابعة أن نقول ‪ :‬ما يسأل عنه‬


‫والسألة الرابعة ‪ :‬أن نقول ‪ :‬ما يسأل عنه قوله تعال ‪ " :‬يا أيها النب ل ترم ما أحل ال لك " الية ‪.‬‬
‫فإن فيها إخبارا بأنه عليه الصلة والسلم حرم على نفسه ما أحله ال ‪ ،‬وقد يدل عليه ‪" :‬ل ترموا‬
‫طيبات ما أحل ال لكم ول تعتدوا" ‪ .‬ومثل هذا يل مقام النب صلى ال عليه وسلم عم مقتضى‬
‫الظاهر فيه ‪ ،‬وأن يكون منهيا عنه ابتداء ث يأتيه ‪ ،‬حت يقال له فيه ‪ :‬ل تفعل ؟ فل بد من النظر ف‬
‫هذه الصارف ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن آية التحري إن كانت هي السابقة على آية العقود ‪ ،‬فظاهر أنا متصة بالنب صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬إذ أريد المة ـ على قول من قال من الصوليي ـ لقال ‪( :‬ل ترمون ما أحل ال‬
‫لكم ) ؟ كما قال ‪" :‬يا أيها النب إذا طلقتم النساء" ‪ .‬وهو بي لن سورة التحري قبل آية الحزاب ‪،‬‬
‫لذلك لا آل إل النب صلى ال عليه وسلم من نسائه شهرا بسبب هذه القصة نزل عليه ف سورة‬
‫الحزاب ‪" :‬يا أيها النب قل لزواجك إن كنت" ‪ .‬إل ‪ .‬وأيضا فيحتمل التحري يعن اللف على أن‬

‫‪173‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ل يفعل ‪،‬واللف إذا وقع فصاحبه مي بي أن يترك الحلوف عليه وبي أن يفعله ويكفر ‪ .‬وقد جاء‬
‫ف آية التحري ‪" :‬قد فرض ال لكم تلة أيانكم" فدل على أنه كان يينا حلف صلى ال عليه وسلم‬
‫با ‪ .‬وذلك أن الناس اختلفوا ف هذا التحري فقال جاعة ‪ :‬إن كان تريا لم ولده مارية القبطية ‪.‬‬
‫بناءً على أن الية نزلت ف شأنا ‪ ،‬ومن قال به السن و وقتادة و الشعب و نافع مول ابن عمر ‪ ،‬أو‬
‫كان ترميا لعسل زينب ‪ ،‬وهو قول عطاء وعبد ال بن عتبة ‪ ،‬وقال جاعة ‪ :‬إنا كان تريا بيمي ‪.‬‬
‫قال إساعيل بن إسحاق ‪ :‬يكن أن يكون النب صلى ال عليه وسلم حرمها ـ يعن جاريته ـ بيمي‬
‫ال ‪ ،‬لن الرجل إذا قال لمته ‪ :‬وال ل أقربك ‪ .‬فقد حرمها على نفسه باليمي ‪ ،‬فإذا غشيها وجبت‬
‫عليه كفارة اليمي ‪ .‬ث أتى بسألة ابن مقرن ‪.‬‬
‫ويكن أن يكون السبب شرب العسل ‪ ،‬وهو الذي وقع ف البخاري من طريق هشام عن ابن جريج‬
‫قال فيه ‪:‬‬
‫شربت عسلً عند زينب بنت جحش ‪ ،‬فلن أعود له ‪ ،‬وقد حلفت فل تبي بذلك أحدا ‪ ،‬وإذا‬
‫كان كذلك فلم يبق ف السألة إشكال ‪ .‬ول فرق بي الارية والعسل ف الكم ‪ ،‬لن تري الارية‬
‫كيف ما كان بنلة تري ما يؤكل ويشرب ‪.‬‬
‫وأما إن فرضنا أن آية العقود هي السابقة على آية التحري فيحتمل وجهي كالول ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يكون التحري ف سورة التحري بعن اللف ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن تكون آية العقود غي متناولة للنب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وأن قوله تعال ‪" :‬يا أيها الذين‬
‫آمنوا ل ترموا" ل تدخل فيه بناء على قول من قال بذلك من الصوليي ‪ ،‬وعند ذلك ل يبقى ف‬
‫القضية فيه ‪ ،‬ول يكون للمجتمع بالية متعلق ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت هذا ‪ ،‬فكل من عمل على هذا ‪......‬‬


‫إذا ثبت هذا ‪ ،‬فكل من عمل على هذا القصد فعمله غي صحيح ‪ ،‬لنه عامل أما بغي شريعة لنه ل‬
‫يتبع أدلتها ‪ ،‬وإما عامل بشرع منسوخ ‪ ،‬والعمل بالنسوخ مع العلم بالناسخ باطل بل خلف ‪ ،‬لن‬
‫الترهب والمتناع من النساء وغي ذلك إن كان مشروعا ففيما قبل هذه الشريعة من الشرائع ‪ ،‬وقد‬
‫تقدم قول النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"لكن أصوم وأفطر ‪ ،‬وأصلي وأنام ‪ ،‬وأتزوج النساء ‪ ،‬فمن رغب عن سنت فليس من" وهو معن‬
‫البدعة ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فقد تقدم من نقل ابن العرب ف الرهبانية أنا السياحة واتاذ الصوامع للعزلة ـ قال ـ‬
‫وذلك مندوب إليه ف ديننا عند فساد الزمان ‪ .‬وقد بسط الغزال هذا الفصل ف الحياء عند ذكر‬
‫العزلة ‪ .‬وذكر ف كتاب آداب النكاح من ذلك ما فيه كفاية ‪ .‬وحاصله أن ذلك مشروع ‪ ،‬بل هو‬

‫‪174‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الول عند عروض العوارض ‪ ،‬وعندما يصي النكاح ومالطة الناس وبالً على النسان ‪ ،‬ومؤدبا إل‬
‫اكتساب الرام والدخول فيما ل يوز ‪ ،‬كما جاء ف الصحيح من قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"يوشك أن يكون خي مال السلم غنم يتبع با شعف البال ومواقع القطر يفر بدينه من الفت" وسائر‬
‫ما جاء ف هذا العن ‪ .‬وأيضا فإن ال تعال قال لنبيه صلى ال عليه وسلم ‪" :‬واذكر اسم ربك وتبتل‬
‫إليه تبتيل" والتبتل ـ على ما قاله زيد بن أسلم ـ رفض الدنيا من قولم ‪ :‬بتلت البل بتلً إذا قطعته‬
‫‪ ،‬ومعناه القطع من كل شيء إل منه ‪.‬‬
‫وقال السن وغيه ‪ :‬بتل إليه نفسك واجتهد ‪ .‬وقال ابن زيد ‪ :‬تفرغ لعبادته هذا إل ما جاء عن‬
‫السلف الصال من النقطاع إل عبادة ال ورفض أسباب الدنيا ‪ .‬والتخلي عن الواضر إل البوادي ‪،‬‬
‫واتاذ اللوات ف البال والباري حت إن بعض البال الشامية قد خصها ال بالولياء والنقطعي إل‬
‫لبنان ونوه ‪ ،‬فما وجه ذلك ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬أن الرهبانية إن كانت بالعن القرر ف شرائع الول فل نسلم أنا ف شرعنا ‪ ،‬لا تقدم من‬
‫الدلة على نسخها ‪ ،‬كانت لعارض أو لغي عارض ‪ ،‬إذ ل رهبانية ف السلم ‪ ،‬وقد رد صلى ال‬
‫عليه وسلم التبتل حسبما تقدم ‪.‬‬
‫وإن كانت بعن النقطاع إل ال حسبما شرع وعلى حد ما انقطع إليه رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم وهو التخاطب بقوله ‪" :‬وتبتل إليه تبتيلً" فهذا هو الذي نن ف تقريره وأنه السنة التبعة‬
‫والدي الصال والصراط الستقيم ‪ ،‬وليس ف كلم زيد بن أسلم وغيه ف معن التبتل ما يناقض هذا‬
‫العن ‪ ،‬لن رفض الدنيا ليس بعن طرح اتاذها جلة وترك الستمتاع با ‪ ،‬بل بعن ترك الشغل با‬
‫عما كلف النسان به من الوظائف الشرعية ‪.‬‬
‫واجعل سي السلف الصال مرآة لك تنظر فيها معن التبتل على وجه القتداء برسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬فلقد كانوا رضي ال تعال عنهم مكتسبي للمال به فيما أبيح لم منفقي له حيث ندبوا‬
‫ل يتعلق بقلوبم منه شيء ‪ ،‬إذا عن لم أمر أو ني ‪ ،‬بل قدموا أمر ال ونيه على حظوظ أنفسهم‬
‫الباطلة على وجه ل يل بظوظهم فيه ‪ ،‬وهو التوسط الذي تقدم ذكره ‪.‬‬
‫ث ندبم الشارع إل اتاذ الهل والولد فبادروا إل المتثال ‪ ،‬ول يقولوا ‪ :‬هو شاغل لنا عما أمرنا به‬
‫‪ .‬لن هذا القول مشعر بالغفلة عن معن التكليف به ‪ ،‬فإن الصل الشرعي أن كل مطلوب هو من‬
‫جلة ما يتعبد به إل ال تعال ويتقرب به إليه ‪ ،‬فالعبادات الحضة ظاهر فيها ذلك ‪ ،‬والعادات كلها‬
‫إذا قصدت با امتثال أمر ال عبادات ‪ ،‬إل أنه إذا ل يقصد با ذلك القصد ‪ ،‬وييء با نو الظ‬
‫مردا ‪ ،‬فإذا ذاك ل تقع متعبدا با ‪ ،‬ول مثابا عليها ‪ ،‬وإن صح وقوعها شرعا ‪.‬‬
‫فالصحابة رضي ال تعال عنهم قد فهموا هذا العن ول يكن مع فهمهم أن تتعارض الوامر ف‬
‫حقهم ول ف حق من فهم منها ما فهموا منها ‪ ،‬فالتبتل على هذا الوجه صحيح أصيل ف الريان‬

‫‪175‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫على السنة ‪ ،‬وكذلك كلم السن وغيه ف تفسي الية‪ .‬صحيح إذا أخذ هذا الأخذ ‪ ،‬أي اتبع‬
‫الدى واتبع أمر ربك فإنه العليم با يصلح لك والقائم على تدبيك ‪ ،‬ولذلك قال على أثرها ‪" :‬رب‬
‫الشرق والغرب ل إله إل هو فاتذه وكيلً" أي بك ‪ ،‬وإنه وكيل لك بالنسبة إل ما ليس من كسبك‬
‫‪ ،‬فكذلك هو وكيل على ما هو داخل تت كسبك ‪ ،‬ما هو تكليف ف حقك ‪ ،‬ومن جلة ما توكل‬
‫لك فيه أن ل تدخل نفسك ف عمل ترج بسببه حالً ومالً ‪.‬‬
‫وقد فسر التبتل بأنه الخلص ‪ ،‬وهو قول ماهد والضحاك ‪ ،‬وقال قتادة ‪ :‬أخلص له العبادة والدعوة‬
‫‪ ،‬فعلى هذا التفسي ل تعلق فيها لورد السؤال ‪.‬‬
‫وإذا تقرر هذا فالسياحة واتاذ الصوامع وسكن البال والكهوف إن كان على شرط أن ل يرموا ما‬
‫أحل ال من المور الت حرمها الرهبان ‪ ،‬بل على حد ما كانوا عليه ف الواضر ومامع الناس ‪ :‬ل‬
‫يشددون على أنفسهم بقدار ما يشق عليهم ‪ ،‬فل إشكال ف صحة هذه الرهبانية ‪ ،‬غي أنا ل تسمى‬
‫رهبانية إل بنوع من الجاز ‪ ،‬أو النقل العرف الذي ل يز عليه معتاد اللغة ‪ ،‬فل تدخل ف مقتضى قو‬
‫له تعال ‪" :‬ورهباني ًة ابتدعوها" ل ف السم ول ف العن ‪.‬‬
‫وإن كان على التزام ما التزمه الرهبان ‪ ،‬فل نسلم أنه ف هذه الشريعة مندوب إليه ول مباح ‪ ،‬بل هو‬
‫ما ل يوز ‪ ،‬لنه كالشرع بغي شريعة ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فل ينتظمه معن قوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من رغب عن سنت فليس من" ‪.‬‬
‫وأما ما ذكره الغزال وغيه من تفصيله على الخالطة ‪ ،‬وترجيح الغربة على اتاذ أهل عند اعتوار‬
‫العوارض ‪ ،‬فذلك يستمد من أصل آخر ل من هنا ‪.‬‬
‫وبيانه أن الطلوبات الشرعية ل تلو أن يكون الكلف قادرا على المتثال فيها مع سلمته عند العمل‬
‫لا من وقوعه ف منهي عنه أو ل ‪ ،‬فإن كان قادرا ف ماري العادات بيث ل يعارضه مكروه أو‬
‫مرم ‪ ،‬فل إشكال ف كون الطلب متوجها عليه بقدر استطاعته على حد ما كان السلف الصال عليه‬
‫قبل وقوع الفت ‪ ،‬وإن ل يقدر على ذلك إل بوقوعه ف مكروه أو مرم ‪ ،‬ففي بقاء الطلب هنا‬
‫تفصيل ـ بسب ما يظهر من كلم أب حامد رحه ال تعال ـ إذ يكون الطلوب مندوبا ‪ ،‬لكنه ل‬
‫يعمل به إل بوقوعه ف منوع ‪ ،‬فالندوب ساقط عنه بل إشكال ‪ ،‬كالندوب للصدقة على الحتاج ل‬
‫مال بيده إل مال الغي ‪ ،‬فل يوز له العمل بالندب ‪ ،‬لنه يقع بسببه ف التصرف ف مال الغي بغي‬
‫إذنه ‪ ،‬وذلك ل يوز فهو كالفاقد لا يتصدق به ‪ ،‬وكالقادم على مريضه الشرف ‪ ،‬أو دفن ميت‬
‫ياف تغييه بتركه ‪ ،‬ث يقوم يصلي نافلة ‪ ،‬والتزوج ل يد إل مالً حراما ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪.‬‬
‫وقد يكون الطلوب واجبا إل أن وقوعه فيه يدخله ف مكروه ‪ ،‬وهذا غي معتد به ‪ ،‬لن القيام‬
‫بالواجب آكد ‪ ،‬أو يوقعه ف منوع ‪ ،‬فهذا هو الذي يتعارض على القيقة ‪ ،‬إل أن الواجبات ليست‬

‫‪176‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫على وزان واحد كما أن الحرمات كذلك ‪ ،‬فل بد من الوازنة ‪ ،‬فإن ترجح جانب الواجب صار‬
‫الحرم ف حكم العفو ‪ ،‬أو حكم التلف إن كان ما تتلف مفسدته ‪ ،‬وإن ترجح جانب الحرم سقط‬
‫حكم الواجب ‪ ،‬أو طلب بالتلف ‪ ،‬وإن تعادل ف نظر الجتهد فهو مال نظر الجتهدين ‪ ،‬والول ـ‬
‫عند جاعة ـ رعاية جانب الحرم لن درء الفاسد آكد من جلب الصال ‪ ،‬فإذا كانت العزلة مؤدية‬
‫إل السلمة فهي الول ف أزمنة الفت ‪ ،‬والفت ل تتص بفت الروب فقط فهي جارية ف الاه‬
‫والال وغيها من مكتسبات الدنيا ‪ ،‬وضابطها ما صد عن طاعة ال ‪ ،‬ومثل هذا يري بي الندوب‬
‫والكروه ‪ ،‬وبي الكروهي ‪.‬‬
‫وإن كانت العزلة مؤدية إل ترك المعيات والماعات ‪ ،‬والتعاون على الطاعات وأشباه ذلك فإنا‬
‫أيضا سلمة من جهة أخرى ‪ ،‬ويقع التوازن بي الأمورات والنهبات ‪ ،‬وكذلك النكاح ‪ ،‬إذا أدى إل‬
‫العمل بالعاصي ول يكن ف تركه معصية كان تركه أول ‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك ـ غي أنه مشكل ـ ما ذكره الوليد بن مسلم بسنده إل حبيب بن مسلمة أنه قال‬
‫لـمعن بن ثور ‪ :‬هل تدري ل اتذت النصارى الديارات ؟ قال معن ‪ :‬ول ؟ قال ‪ :‬إنه لا أحدث‬
‫اللوك البدع ‪ ،‬وضيعوا أمر النبيي ‪ ،‬وأكلوا النازير ‪ ،‬اعتزلوهم ف الديارات وتركوهم وما ابتدعوا ‪،‬‬
‫فتخلوا للعبادة ‪ ،‬قال حبيب لـ معن ‪ :‬فهل لك ؟ ‪ .....‬قال ‪:‬‬
‫ليس بيوم ذلك ‪.‬‬
‫فاقتضى أن مثل ما فعلته النصارى مشروع ف ديننا كذلك ‪ ،‬ومراده أن اعتزال الناس عند اشتهارهم‬
‫بالبدع وغلبه الهواء على حد ما شرع ف ديننا ‪ ،‬ل أن نفس ما فعلت النصارى ف رهبانيتها متيسر‬
‫لنا ‪ ،‬لا ثبت من نسخه ‪ ،‬فعلى هذه الحرف جرى كلم المام أب حامد وغيه من نقل هو عنهم‬
‫واحتج بم ‪ ،‬ويدل على ذلك أن جاعة من نقل عنهم الترغيب ف العزلة كانوا متزوجي ول يكن‬
‫ذلك مانعا من البقاء على ما هم عليه ‪ ،‬بناءً منهم على التحري ف الوازنة بي ما يلحقهم بسبب‬
‫التزوج ‪ ،‬فل إشكال إذا على هذا التقرير ف كلم الغزال ول غيه من سلك مسلكه ‪ ،‬لنم بنوا‬
‫على أصل قطعي ف الشرع ‪،‬مكم ل ينسخه شيء وليس من مسألتنا بسبيل ‪ ،‬ولكن ث تقيق زائد‬
‫ل يسع إيراده ها هنا ‪ ،‬وأصله مأخوذ من كتاب الوافقات من ترن فيه حقق هذا العن على التمام ‪،‬‬
‫وبال تعال التوفيق ‪.‬‬
‫والاصل ‪ ،‬أن مضمون هذا الفصل يقتضي أن العمل على الرهبانية النفية ف الية بدعة من البدع‬
‫القيقية ل الضافية ‪ ،‬لرد رسول ال صلى ال عليه وسلم لا أصلً وفرعا ‪.‬‬

‫فصل ثبت بضمون هذه الفصول التقدمة آنفا أن الرج منفي عن الدين جلة وتفصيلً‬

‫‪177‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ثبت بضمون هذه الفصول التقدمة آنفا أن الرج منفي عن الدين جلة وتفصيلً ـ وإن كان قد‬
‫ثبت أيضا ف الصول الفقهية على وجه من البهان أبلغ ـ فلنب عليه فنقول ‪:‬‬
‫قد فهم قوم من السلف الصال وأهل النقطاع إل ال من ثبت وليتهم أنم كانوا يشددون على‬
‫أنفسهم ‪ ،‬ويلزمون غيهم الشدة أيضا والتزام الرج ديدنا ف سلوك طريق الخرة ‪ ،‬وعدوا من ل‬
‫يدخل تت هذا اللتزام مقصرا مطرودا ومروما ‪ ،‬وربا فهموا ذلك من بعض الطلقات الشرعية ‪،‬‬
‫فرشحوا بذلك ما التزموه ‪ ،‬فأفضى المر بم إل الروج عن السنة إل البدعة القيقية أو الضافية ‪.‬‬
‫فمن ذلك أن يكون للمكلف طريقان ف سلوكه للخرة ‪ ،‬أحدها سهل والخر صعب ‪ ،‬وكلها ف‬
‫التوصل إل الطلوب على حد واحد ‪ ،‬فيأخذ بعض التشددين بالطريق الصعب الذي يشق على‬
‫الكلف مثله ‪ ،‬ويترك الطريق السهل بناء على التشديد على النفس ‪ ،‬كالذي يد للطهارة ماءين ‪:‬‬
‫سخنا وباردا فيتحرى البارد الشاق استعماله ‪ ،‬ويترك الخر ‪ ،‬فهذا ل يعط النفس حقها الذي طلبه‬
‫الشارع منه ‪ ،‬وخالف دليل رفع الرج من غي معن زائد ‪ ،‬فالشارع ل يرض بشرعية مثله ‪ ،‬وقد قال‬
‫ال تعال ‪" :‬ول تقتلوا أنفسكم إن ال كان بكم رحيما " فصار متبعا لواه ‪ ،‬ول حجة له ف قوله‬
‫عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"أل أدلكم على ما يحو ال به الطايا ويرفع به الدرجات ؟ إسباغ الوضوء عند الكريهات "‬
‫الديث ‪.‬‬
‫من حيث كان السباغ مع كراهية النفس سببا لحو الطايا ورفع الدرجات ‪ ،‬ففيه دليل على أن‬
‫للنسان أن يسعى ف تصيل هذا الجر بإكراه النفس ‪ ،‬ول يكون إل بتحري إدخال الكراهية‬
‫عليها ‪ ،‬لنا نقول ‪ :‬ل دليل ف الديث على ما قلتم ‪ ،‬وإنا فيه أن السباغ مع وجود الكراهية ‪ ،‬ففيه‬
‫أمر زائد ‪ ،‬كالرجل يد ماء باردا ف زمان الشتاء ول يده سخنا فل ينعه شدة برده عن كمال‬
‫السباغ ‪.‬‬
‫وأما القصد إل الكراهية فليس ف الديث ما يقتضيه ‪ ،‬بل ف الدلة التقدمة ما يدل على أنه مرفوع‬
‫عن العباد ‪ ،‬ولو سلم أن الديث يقتضيه لكانت أدلة رفع الرج تعارضه وهي قطعية وخب الواحد‬
‫ظن ‪ ،‬فل تعارض بينهما للتفاق على تقدي القطعي ‪ ،‬ومثل الديث قول ال تعال ‪" :‬ذلك بأنم ل‬
‫يصيبهم ظمأ ول نصب ول ممصة " الية ‪.‬‬
‫ومن ذلك القتصار من الأكول على أخشنه وأفظعه لجرد التشديد ل لغرض سواه ‪ ،‬فهو من النمط‬
‫الذكور فوقه ‪ ،‬لن الشرع ل يقصد إل تعذيب النفس ف التكليف ‪ ،‬وهو أيضا مالف لقوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"إن لنفسك عليك حقا" ‪.‬‬
‫وقد كان النب صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يأكل الطيب إذا وجده ‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكان يب اللواء والعسل ‪.‬‬


‫ويعجبه لم الذراع ‪ ،‬ويستعذب له الاء ‪ ،‬فأين التشديد من هذا؟ ‪.‬‬
‫ول يدخل الستعمال الباح ف قوله تعال ‪" :‬أذهبتم طيباتكم ف حياتكم الدنيا" لن الراد به‬
‫السراف الارج عن حد الباح ‪ ،‬بدليل ما تقدم ‪ ،‬فإذا القتصار على البشيع ف الأكل من غي عذر‬
‫تنطع ‪ ،‬وقد مر ما فيه قوله تعال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل ال لكم" الية ‪.‬‬
‫ومن ذلك القتصار ف اللبس على الشن من غي ضرورة ‪ ،‬فإنه من قبيل التشديد والتنطع الذموم ‪،‬‬
‫وفيه أيضا من قصد الشهرة ما فيه ‪.‬‬
‫وقد روي عن الربيع بن زياد الارثي أنه قال لعلي بن أب طالب رضي ال عنه ‪ :‬أغد ب على أخي‬
‫عاصم ‪ .‬قال ‪ :‬ما باله ؟ قال ‪ :‬لبس العباء يريد النسك ‪ .‬فقال علي رضي ال عنه ‪ :‬علي به ‪ .‬فأت به‬
‫مؤتزرا بعباءة ‪ ،‬مرتديا بالخرى ‪ ،‬شعث الرأس واللحية ‪ ،‬فعبس ف وجهه وقال ‪ :‬ويك ! أما‬
‫استحييت من أهلك ؟ أما رحت ولدك ؟ أترى ال أباح لك الطيبات وهو يكره أن تنال منها شيئا ؟‬
‫بل أنت أهون على ال من ذلك ‪ ،‬أما سعت ال يقول ف كتابه ‪" :‬والرض وضعها للنام" إل قوله ‪:‬‬
‫"يرج منهما اللؤلؤ والرجان" ؟ أفترى ال أباح هذه لعبادة إل ليبتذلوه ويمدوا ال عليه فيثبتهم عليه‬
‫؟ وإن ابتذالك نعم ال بالفعل خي منه بالقول ‪ .‬قال عاصم ‪ :‬فما بالك ف خشونة مأكلك وخشونة‬
‫ملبسك ‪ ،‬قال ‪ :‬ويك ! إن ال فرض على أئمة الق أن يقدروا أنفسهم بضعفة الناس ‪.‬‬
‫فتأملوا كيف ل يطالب ال ا لعباد بترك اللذوذات ! وإنا طالبهم بالشكر عليها إذا تناولوها ‪،‬‬
‫فالتحري للمتناع من تناول ما أباحه ال من غي موجب شرعي مفتات على الشارع وكل ما جاء‬
‫عن التقدمي من المتناع عن بعض التناولت من هذه الهة ‪ .‬وإنا امتنعوا منه لعارض شرعي يشهد‬
‫الدليل باعتباره ‪ ،‬كالمتناع من التوسع لضيق الال ف يده ‪ ،‬أو لن التناول ذريعة إل ما يكره أو‬
‫ينع ‪ ،‬أو لن ف التناول وجه شبهة تفطن إليه التارك ول يتفطن إليه غيه من علم بامتناعه ‪ .‬وقضايا‬
‫الحوال ل تعارض الدلة بجردها ‪ ،‬لحتمالا ف أنفسها ‪ .‬وهذه السألة مذكورة على وجهها ف‬
‫كتاب الوافقات ‪.‬‬
‫ومن ذلك القتصار ف الفعال والحوال على ما يالف مبة النفوس وحلها على ذلك ف كل شيء‬
‫من غي استثناء ‪ ،‬فهو من قبيل التشديد ‪ .‬أل ترى أن الشارع أباح أشياء ما فيه قضاء نمة النفس‬
‫وتتعها واستلذاذها ؟ فلو كانت مالفتها برا لشرع ‪ ،‬ولندب الناس إل تركه ‪ ،‬فلم يكن مباحا ‪ ،‬بل‬
‫مندوب الترك أو مكروه الفعل ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن ال تعال وضع ف المور التناولة إيابا أو ندبا أشياء من الستلذات الاملة على تناول‬
‫تلك المور لتكون تلك اللذات كالادي إل القيام بتلك المور ‪ ،‬كما جعل ف الوامر إذا امتثلت‬
‫وف النواهي إذا اجتنبت أجورا منتظرة ولو شاء ل يفعل ‪ ،‬وجعل ف الوامر إذا تركت والنواهي إذا‬

‫‪179‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ارتكبت جزاء على خلف الول ‪ ،‬ليكون جيع ذلك منهضا لعزائم الكلفي ف المتثال ‪ ،‬حت إنه‬
‫وضع لهل المتثال الثائرين على البايعة ف أنفس التكاليف أنواعا من اللذات العاجلة ‪ ،‬والنوار‬
‫الشارحة للصدور ‪ ،‬ما ل يعدله من لذات الدنيا شيء ‪ ،‬حت يكون سببا لستلذاذ الطاعة والفرار‬
‫إليها وتفضيلها على غيها ‪ ،‬فيخف على العامل العمل حت يتحمل منه ما ل يكن قادرا قبل على‬
‫تمله إل بالشقة النهي عنها ‪ ،‬فإذا سقطت سقط النهي ‪.‬‬
‫بل تأملوا كيف وضع للطعمة على اختلفها لذات متلفات اللوان ‪ ،‬وللشربة كذلك ‪ ،‬وللوقوع‬
‫الوضوع سببا لكتساب العيال ـ وهو أشد تعبا عن النفس ـ لذة أعلى من لذة الطعم والشرب ‪،‬‬
‫إل غي ذلك من المور الارجية عن نفس التناول ‪ ،‬كوضع القبول ف الرض وترفيع النازل ‪،‬‬
‫والتقدم على سائر الناس ف المور العظائم وهي أيضا تقتضي لذات تستصغر جنبها لذات الدنيا ‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك ‪ ،‬فأين هذا الوضوع الكري من الرب اللطيف البي ؟ فمن يأت متعبدا بزعمه‬
‫بلف ما وضع الشارع له من الرفق والتيسي والسباب الوصلة إل مبته ‪ ،‬فيأخذ بالشق والصعب‬
‫‪ ،‬ويعله هو السلم الوصل والطريق الخص هل ذها كله إلغاية ف الهاله ‪ ،‬وتلف ف تيه الضللة ؟‬
‫عافانا ال من ذلك بفضله فإذا سعتم بكاية تقتضي تشديدا على هذا السبيل ‪ ،‬أو يظهر منها تنطع أو‬
‫تكلف فإما أن يكون صاحبها من يعتب كالسلف الصال ‪ ،‬أو من غيهم من ل يعرف ول ثبت‬
‫إعتباره عند أهل الل والعقد من العلماء ‪ ،‬فإن كان الول فل بد أن يكون على خلف ما ظهر‬
‫لبادي الرأي ـ كما تقدم ـ إن كان الثان فل حجة فيه ‪ ،‬وإنا الجة ف القتدين برسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ .‬فهذه خسة ف التشديد ف سلوك طريق الخرة يقاس عليها ما سواها ‪.‬‬

‫فصل قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصي جاريا مرى البدعة من باب الذرائع‬
‫قد يكون أصل العمل مشروعا ولكنه يصي جاريا مرى البدعة من باب الذرائع ‪ ،‬ولكن على غي‬
‫ل ـ فيعمل به العامل ف‬
‫الوجه الذي فرغنا من ذكره ‪ .‬وبيانه أن العمل يكون مندوبا إليه ـ مث ً‬
‫خاصة نفسه على وضعه الول من الندبية فلو اقتصر العامل على هذا القدار ل يكن بأس ‪ ،‬ويري‬
‫مراه إذا دام عليه ف خاصيته غي مظهر له دائما ‪ ،‬بل إذا أظهره ل يظهره على حكم اللتزمات من‬
‫السنن الرواتب والفرائض اللوازم ‪ ،‬فهذا صحيح ل إشكال فيه ‪ .‬وأصله ندب رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم لخفاء النوافل والعمل با ف البيوت ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫"أفضل الصلة صلتكم ف بيوتكم إل الكتوبة" فاقتصر ف الظهار على الكتوبات ـ كما ترى ـ‬
‫وإن كان ذلك ف مسجده عليع السلم أو ف السجد الرام أو ف مسجد بيت القدس ‪ ،‬حيث قالوا‬
‫‪ :‬إن النافلة ف البيت أفضل منها ف أحد هذه الساجد الثلثة با اقتضاه ظاهر الديث ‪ .‬وجرى‬
‫الفرائض ف الظهار السنن كالعيدين والسوف والستسقاء وشبه ذلك ‪ ،‬فبقي ما سوى ذلك حكمة‬

‫‪180‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الخفاء ‪ ،‬ومن هنا ثابر السلف الصال رضي ال عنهم على إخفاء العمال فيما استطاعوا أو خف‬
‫عليهم القتداء بالديث وبفعله عليه الصلة والسلم ‪ ،‬لنه القدوة والسوة ‪.‬‬

‫ومع ذلك فلم يثبت فيها إذا عمل با ف البيوت دائما أن يقام جاعة ف الساجد البتة ‪ ،‬ما عدا‬
‫رمضان ـ حسبما تقدم ـ ول ف البيوت دائما ‪ ،‬وإن وقع ذلك ف الزمان الول ف الفرط كقيام‬
‫ابن عباس رضي ال عنهما مع رسول ال صلى ال عليه وسلم عندما بات عند خالته ميمونة ‪ ،‬وما‬
‫ثبت من قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"قوموا فلصل لكم" ‪.‬‬
‫وما ف الوطأ من صلة يرفأ ـ هو خادم عمر ـ مع عمر بن الطاب رضي ال عنه وقت الضحى ‪،‬‬
‫فمن فعله ف بيته وقتا ما فل حرج ‪ ،‬ونص العلماء على جواز ذلك بذا القيد الذكور ‪ ،‬وإن كان‬
‫الواز قد وقع ف الدونة مطلقا ‪ ،‬فما ذكره تقييد له ‪ ،‬وأظن ابن حبيب نقله عن مالك مقيدا ‪ ،‬فإذا‬
‫اجتمع ف النافلة أن يلتزم السنن الرواتب إما دائما وإما ف أوقات مدودة ‪ ،‬وأقيمت ف الماعة ف‬
‫الساجد الت تقام فيها الفرائض ‪ ،‬أو الواضع الت تقام فيها السنن الرواتب فذلك ابتداع ‪ .‬والدليل‬
‫عليه أنه ل يأت عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ول عن أصحابه ول عن التابعي لم بإحسان‬
‫فعل هذا الجموع هكذا مموعا ‪ ،‬وإن أتى مطلقا من غي تلك التقييدات ‪ .‬فالتقييد ف الطلقات الت‬
‫ل يثبت بدليل الشرع تقييدها رأي ف التشريع ‪ ،‬فكيف إذا عارضه الدليل ‪ ،‬وهو المر بإخفاء النوافل‬
‫مثلً؟ ‪.‬‬
‫ووجه دخول البتداع هنا أن كل ما واظب عليه رسول ال صلى ال عليه وسلم من النوافل وأظهره‬
‫ف لماعات فهو سنة ‪ ،‬فالعمل بالنافلة الت ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ‪ ،‬إخراج للنافلة عن‬
‫مكانا الخصوص با شرعا ‪ .‬ث يلزم من ذلك اعتقاد العوام فيها ومن ل علم عنده أنا سنة ‪ .‬وهذا‬
‫فساد عظيم ‪ ،‬لن اعتقاد ما ليس بسنة والعمل با على حد العمل بالسنة نو من تبدليل الشريعة ‪،‬‬
‫كما لو اعتقد ف الفرض أنه ليس بفرض ‪ ،‬أو فيما ليس بفرض أنه فرض ‪ ،‬ث عمل وفق اعتقاده فإنه‬
‫فاسد ‪ ،‬فهب العمل ف الصل صحيحا فإخراجه عن بابه اعتقادا وعملً من باب إفساد الحكام‬
‫الشرعية ‪ ،‬ومن هنا ظهر عذر السلف الصال ف تركهم سننا قصدا لئل يعتقد الاهل أنا من‬
‫الفرائض كالضحية وغيها ـ كما تقدم ذلك ـ ‪.‬‬
‫ولجله أيضا نى أكثرهم عن اتباع الثار ‪ ،‬كما خرج الطحاوي و ابن وضاح وغيها عن معرور‬
‫بن سويد السدي قال ‪ :‬وافيت الوسم مع أمي الؤمني عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ ،‬فلما‬
‫انصرفنا إل الدينة انصرفت معه فلما صلى لنا صلة الغداة فقرأ فيها ‪" :‬أل تر كيف فعل ربك" و‬
‫"ليلف قريش" ث رأى ناسا يذهبون مذهبا ‪ ،‬فقال ‪ :‬أين يذهب هؤلء ؟ قالوا ‪ :‬يأتون مسجدا ها‬

‫‪181‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫هنا صلى فيه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬فقال ‪ :‬إنا هلك من كان قبلكم بذا ‪ ،‬يتبعون آثار‬
‫أنبيائهم فاتذوها كنائس وبيعا ‪ ،‬من أدركته الصلة ف شيء من هذه الساجد الت صلى فيها رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم فليصل فيها وإل فل يتعمدها ‪.‬‬
‫وقال ابن وضاح ‪ :‬سعت عيسى بن يونس مفت أهل طرسوس يقول ‪ :‬أمر عمر بن الطاب رضي ال‬
‫عنه بقطع الشجرة الت بويع تتها النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقطعها لن الناس كانوا يذهبون‬
‫فيصلون تتها فخاف عليهم الفتنة ‪.‬‬
‫قال ابن وضاح ‪ :‬وكان مالك بن أنس وغيه من علماء الدينة يكرهون إتيان تلك الساجد وتلك‬
‫الثار للنب صلى ال عليه وسلم ما عدا قباء وحده ‪ .‬وقال ‪ :‬وسعتهم يذكرون أن سفياندخل‬
‫مسجد بيت القدس فصلى فيه ول يتبع تلك الثار ول الصلة فيها ‪ ،‬وكذلك فعل غيه أيضا من‬
‫يقتدى به ‪ ،‬وقدم وكيع أيضا مسجد بيت القدس فلم يعد فعل سفيان ‪.‬‬
‫قال ابن وضاح ‪ :‬فعليكم بالتباع لئمة الدى العروفي ‪ ،‬فقد قال بعض من مضى ‪ :‬كم من أمر هو‬
‫اليوم معروف عند كثي من الناس كان منكرا عند من مضى ‪.‬‬
‫وقد كان مالك يكره كل بدعة وإن كانت ف خي ‪.‬‬
‫وجيع هذا ذريعة لئل يتخذ سنة ماليس بسنة ‪ ،‬أو يعد مشروعا ماليس معروفا ‪.‬‬
‫وقد كان مالك يكره الجيء إل بيت القدس خيفة أن يتخذ ذلك سنة ‪ ،‬وكان يكره ميء قبور‬
‫الشهداء ‪ ،‬ويكره ميء قباء خوفا من ذلك ‪ ،‬مع ما جاء ف الثار من الترغيب فيه ‪.‬‬
‫ولكن لا خاف العلماء عاقبه ذلك تركوه ‪.‬‬
‫وقال ابن كتانة وأشهب ‪ :‬سعنا مالكا لا أتاه سعد بن أب وقاص قال ‪ :‬وددت أن رجلي تكسرت‬
‫وأن ل أفعل ‪.‬‬
‫وسئل ابن كتانة عن الثار الت تركوا بالدينة فقال ‪ :‬أثبت ما ف ذلك عندنا قباء ‪ .‬إل أن مالكا كان‬
‫يكره ميئها خوفا من أن يتخذ سنة ‪.‬‬
‫وقال سعيد بن حسان ‪ :‬كنت أقرأ على ابن نافع ‪ ،‬فلما مررت بديث التوسعة ليلة عاشوراء قال ل‬
‫‪ :‬حوق عليه قلت ‪ :‬ول ذلك يا أبا ممد ؟ قال ‪ :‬خوفا من أن يتخذ سنة ‪.‬‬
‫فهذه امور جائزة أو مندوب إليها ‪ ،‬ولكنهم كرهوا فعلها خوفا من البدعة لن اتاذها سنة إنا هو‬
‫بأن يواظب الناس عليها مظهرين لا ‪ ،‬وهذا شأن السنة ‪ ،‬وإذا جرت مرى السنن صارت من البدع‬
‫بل شك ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬كيف صارت هذه الشياء من البدع الضافية ؟ والظاهر منها أنا بدع حقيقية ! لن تلك‬
‫الشياء إذا عمل با على اعتقاد أنا سنة فهي حقيقية إذ ل يضعها صاحب السنة رسول ال صلى ال‬

‫‪182‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫عليه وسلم على هذا الوجه ‪ ،‬فصارت مثل ما إذا صلى الظهر على أنا غي واجبة واعتقدها عبادة‬
‫فإنا بدعة من غي إشكال‪،‬‬
‫ل‪.‬‬‫هذا إذا نظرنا إليها بآلا ‪ ،‬وإذا نظرنا إليها أولً فهي مشروعة من غي نسبة إل بدعة أًص ً‬
‫فالواب ‪ :‬أن السؤال صحيح ‪ ،‬إل أن لوضعها أولً نظرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬من حيث هي مشروعة فل كلم فيها ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬من حيث صارت كالسبب الوضوع العتقاد البدعة أو للعمل با على غي السنة ‪ ،‬فهي من‬
‫هذا القبيل غي مشروعة ‪ ،‬لن وضع السباب للشارع ل للمكلف والشارع ل يضع الصلة ف‬
‫مسجد قباء أو بيت القدس ـ مثلًـ سببا لن تتخذ سنة فوضع الكلف لا كذلك رأي غي مستند‬
‫إل الشرع ‪ ،‬فكان ابتداعا ‪.‬‬
‫وهذا معن كونا بدعة إضافية ‪ .‬أما إذا استقر السبب وظهر عنه مسببه الذي هو اعتقاد العمل سنة ‪،‬‬
‫والعمل على وفقه ‪ ،‬فذلك بدعة حقيقية ل إضافية ‪ ،‬ولذا الصل أمثلة كثية وقعت الشارة إليها ف‬
‫أثناء الكلم ‪ ،‬فل معن للتكرار ‪.‬‬
‫وإذا ثبت ف المور الشروعة أنا قد تعد بدعا بالضافة ‪ ،‬فما ظنك بالبدع القيقية ‪ ،‬فإنا قد تتمع‬
‫فيها أن تكون حقيقية وإضافية معا ‪ ،‬لكن من جهتي ‪ ،‬فإذا بدعة أصبح ول المد ف نداء الصبح‬
‫ظاهرة ‪ .‬ث لا عمل با ف الساجد والماعات مواظبا عليها ل تترك كما ل تترك الواجبات وما‬
‫أشبهها ‪ ،‬كان تشريعا أولً يلزمه أن يعتقد فيه الوجوب أو السنة ‪ ،‬وهذا ابتداع ثان إضاف ‪ .‬ث إذا‬
‫اعتقد فيها ثانيا السنية أو الفرضية صارت بدعة من ثلثة أوجه ‪ ،‬ومثله يلزم ف كل بدعة أظهرت‬
‫والتزمت ‪ .‬وأما إذا خفيت واختص با صاحبها فالمر عليه أخف ‪ ،‬فيا ل ويا للمسلمي ! ماذا ين‬
‫البتدع على نفسه ما ل يكون ف حسابه ؟ وقانا ال شرور أنفسنا بفضله ‪.‬‬

‫فصل من تام ما قبله ‪ ،‬وذلك أنه وقعت نازلة‬


‫من تام ما قبله ‪:‬‬
‫وذلك أنه وقعت نازلة ‪ :‬إمام مسجد ترك ما عليه الناس بالندلس من الدعاء للناس بآثار الصلوات‬
‫باليئة الجتماعية على الدوام ‪ ،‬وهو أيضا معهود ف أكثر البلد ‪ ،‬فإن المام إذا سلم من الصلة‬
‫يدعو للناس ويؤمن الاضرون ‪ .‬وزعم التارك أن تركه بناء منه على أنه ل يكن من فعل رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ول فعل الئمة حسبما نقله العلماء ف دواوينهم عن السلف والفقهاء ‪ .‬أما أنه‬
‫ل يكن من فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم فظاهر ‪ ،‬لن حاله عليه السلم ف أدبار الصلوات‬
‫مكتوبات أو نوافل ‪،‬كانت بي أمرين ‪ :‬إما أن يذكر ال تعال ذكرا هو العرف غي دعاء فليس‬

‫‪183‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫للجماعة منه حظ ‪ ،‬إل أن يقولوا مثل قوله ‪ ،‬أو نوا من قوله كما ف غي أدبار الصلوات ‪ ،‬كما جاء‬
‫أنه كان يقول ف دبر كل صلة ‪:‬‬
‫" ل إله إل ال وحده ل شريك له ‪ ،‬له اللك وله المد ‪ ،‬وهو على كل شيء قدير ‪ ،‬اللهم ل مانع‬
‫لا أعطيت ‪ ،‬ول معطي لا منعت ‪ ،‬ول ينفع ذا الد منك الد" ‪ ،‬وقوله ‪:‬‬
‫"اللهم أنت السلم ومنك السلم ‪ ،‬تباركت وتعاليت يا ذا اللل والكرام" ‪ ،‬وقوله ‪" :‬سبحان ربك‬
‫رب العزة عما يصفون" ونو ذلك ‪ ،‬فإنا كان يقول ف خاصة نفسه كسائر الذكار ‪ ،‬فمن قال مثل‬
‫قوله ‪ ،‬فحسن ول يكن ف هذا كله هيئة اجتماع ‪.‬‬
‫وإن كان دعاء فعامة ما جاء عن دعائه عليه السلم بعد الصلة ما سع منه إنا كان يص به نفسه‬
‫دون الاضرين ‪ ،‬كما ف الترمذي عن علي بن أب طالب رضي ال عنه ‪ " ،‬عن رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أنه كان إذا قام إل الصلة الكتوبة رفع يديه "‪ ..‬الديث ‪ .‬إل قوله ‪ ":‬ويقول عند‬
‫انصرافه من الصلة ‪ :‬اللهم اغفر ل ما قدمت وما أخرت ‪ ،‬وما أسررت وما أعلنت ‪ ،‬أنت إلي ل‬
‫إله إل أنت" حسن صحيح ‪ .‬وف رواية أب داود ‪ ":‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا سلم من‬
‫الصلة قال ‪:‬‬
‫اللهم اغفر ل ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أعلم به من ‪ ،‬أنت‬
‫القدم وأنت الؤخر ل إله إل أنت " ‪.‬‬
‫وخرج أبو داود ‪ ":‬كان رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول دبر كل صلة ‪:‬‬
‫اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد أن ممدا عبدك ورسولك ‪ ،‬اللهم ربنا ورب كل شيء أنا شهيد‬
‫أن العباد كلهم إخوة ‪ ،‬اللهم ربنا ورب كل شيء اجعلن ملصا لك وأهلي ف كل ساعة ف الدنيا‬
‫والخرة ‪ ،‬يا ذا اللل والكرام اسع واستجب ‪ ،‬ال أكب ‪ ،‬ال أكب ‪ ،‬ال نور السموات والرض ‪،‬‬
‫ال أكب ‪ ،‬ال أكب ‪ ،‬حسب ال ونعم الوكيل" ‪.‬‬
‫ولـأب داود ف رواية ‪:‬‬
‫"رب أعن ول تعن علي ‪ ،‬وانصرن ولتنصر علي ‪ ،‬وأمكن ل ول تكن علي ‪ ،‬واهدن ويسر هداي‬
‫إل وانصرن على من بغى علي" إل آخر الديث ‪.‬‬
‫وف النسائي "أنه عليه الصلة والسلم كان يقول ف دبر الفجر إذا صلى ‪:‬اللهم اغفر إن أسألك علما‬
‫ل ‪ ،‬ورزقا طيبا" ‪ .‬وعن بعض النصار قال ‪ ":‬سعت رسول ال صلى ال عليه‬ ‫نافعا ‪ ،‬وعملً متقب ً‬
‫وسلم يقول ف دبر الصلة ‪ :‬اللهم اغفر ل وتب علي إنك أنت التواب الغفور" ‪ ،‬حت يبلغ مائة‬
‫مرة ‪ ،‬وف رواية ‪ ،‬أن هذه الصلة كانت صلة الضحى ‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فتأملوا سياق هذه الدعية كلها مساق تصيص نفسه با دون الناس! فيكون مثل هذا حجة لفعل‬
‫الناس اليوم إل أن يقال ‪ :‬قد جاء الدعاء للناس ف مواطن ‪ ،‬كما ف الطبة الت استسقى فيها ‪ ،‬ونو‬
‫ذلك ‪ .‬فيقال ‪ :‬نعم ‪ :‬فأين التزام ذلك جهرا للحاضرين ف دبر كل صلة ‪.‬‬
‫ث نقول ‪ :‬إن العلماء يقولون ف مثل الدعاء والذكر الوارد على أثر الصلة ‪ ،‬إنه مستحب ل سنة ول‬
‫واجب ‪ .‬وهو دليل على أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن هذه الدعية ل تكن منه عليه والسلم على الدوام ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أنه ل يكن يهر با دائما ول يظهرها للناس ف غي مواطن التعليم ‪ ،‬إذ لو كانت على‬
‫الدوام وعلى الظهار لكانت سنة ول يسع العلماء أن يقولوا فيها بغي السنة ‪ ،‬إذ خاصيته ـ حسبما‬
‫ذكروه ـ الدوام والظهار ف مامع الناس ‪ .‬ول يقال ‪ :‬لو كان دعاؤه عليه السلم سرا ل يؤخذ‬
‫عنه ‪ .‬لنا نقول ‪ :‬من كانت عادته السرار فل بد أن يظهر منه إما بكم العادة وإما بقصد التنبيه‬
‫على التشريع ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ظواهر الحاديث تدل على الدوام بقول الرواة ‪ :‬كان يفعل فإنه يدل على الدوام كقولم‬
‫‪ :‬كان حات يكرم الضيفان ‪ .‬قلنا ‪ .‬ليس كذلك ‪ ،‬بل يطلق على الدوام وعلى الكثي والتكرار على‬
‫الملة ‪ ،‬كما جاء ف حديث عائشة رضي ال عنها "أنه عليه الصلة والسلم كان إذا أراد أن ينام‬
‫وهو جنب توضأ وضوءه للصلة" ‪ .‬وروت أيضا أنه ‪:‬‬
‫"كان عليه الصلة والسلم ينام وهو جنب من غي أن يس ماء" ‪ .‬بل قد يأت ف بعض الحاديث ‪:‬‬
‫"كان يفعل فيما ل يفعله إل مرة واحدة" نص عليه أهل الديث ‪.‬‬
‫ولو كان يدوام الداومة التامة للحق بالسنن كالوتر وغيه ‪ ،‬ولو سلم ‪ :‬فأين هيئة الجتماع ؟ ‪.‬‬
‫فقد حصل أن الدعاء بيئة الجتماع دائما ل يكن من فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬كما ل‬
‫يكن قوله ول إقراره ‪.‬‬
‫وروى البخاري من حديث أم سلمة أنه صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫" كان يكث إذا سلم يسيا "‪ .‬قال ابن شهاب ‪ :‬حت ينصرف الناس فيما نرى ‪ .‬وف مسلم عن‬
‫عائشة رضي ال عنها ‪:‬‬
‫"كان إذا سلم ل يقعد إل مقدار ما يقول ‪ :‬اللهم أنت السلم ومنك السلم تباركت يا ذا اللل‬
‫والكرام" ‪.‬‬
‫وأما فعل الئمة بعده نقل الفقهاء من حديث أنس ف غي كتب الصحيح ‪:‬‬
‫صليت خلف النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكان إذا سلم يقوم ‪ ،‬وصليت خلف أب بكر رضي ال عنه‬
‫فكان إذا سلم وثب كأنه على رفضه ( يعن الجر الحمى ) ‪ ،‬ونقل ابن يونس الصقلي عن ابن‬
‫وهب عن خارجة أنه كان يعيب على الئمة قعودهم بعد السلم وقال ‪ :‬إنا كانت الئمة ساعة‬

‫‪185‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫تسلم تقوم ‪ ،‬وقال ابن عمر ‪ :‬جلوسه بدعة ‪ .‬وعن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ :‬لن يلس على‬
‫الرضف خي له من ذلك ‪ .‬وقال مالك ف الدونة ‪ :‬إذا سلم فليقم ول يقعد إل أن يكون ف سفر أو‬
‫ف فنائه ‪.‬‬
‫وعد الفقهاء إسراع القيام ساعة يسلم من فضائل الصلة ‪ ،‬ووجهوا ذلك بأن جلوسه هنالك يدخل‬
‫عليه فيه كب وترفع على الماعة ‪ ،‬وانفراده بوضوع عنهم يرى به الداخل أنه إمامهم ‪ ،‬وأما انفراده‬
‫به حال الصلة فضروري ‪ .‬قال بعض شيوخنا الذين استفدنا منهم ‪ ،‬وإذا كان هذا ف انفراده ف‬
‫الوضع ‪ ،‬فكيف بنا انضاف إليه من تقدمه أمامهم ف التوسل به بالدعاء والرغبة وتأمينهم على دعائه‬
‫جهرا ؟ قال ‪ :‬ولو كان هذا حسنا لفعله النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه رضي ال عنهم ول‬
‫ينقل ذلك أحد من العلماء مع تواطئهم على نقل جيع أموره حت ‪ :‬هل كان ينصرف من الصلة عن‬
‫اليمي أو عن الشمال ؟‬
‫وقد نقل ابن بطال عن علماء السلف إنكار ذلك والتشديد فيه على من فعله با فيه كفاية ‪.‬‬
‫هذا ما نقله الشيخ بعد أن جعل الدعاء بإثر الصلة بيئة الجتماع دائما بدعة قبيحة ‪ ،‬واستدل على‬
‫عدم ذلك ف الزمان الول بسرعة القيام والنصراف ‪ ،‬لنه مناف للدعاء لم وتأمينهم على دعائه ‪،‬‬
‫بلف الذكر ‪ ،‬ودعاء النسان لنفسه ‪ ،‬فإن النصراف وذهاب النسان لاجته غي مناف لما ‪.‬‬
‫فبلغت الكائنة بعض شيوخ العصر ‪ ،‬فرد على ذلك المام ردا أمرع فيه على خلف ما عليه‬
‫الراسخون ‪ ،‬وبلغ من الرد ـ على زعمه ـ إل أقصى غاية ما قدر عليه ‪ .‬واستدل بأمور إذا تأملها‬
‫الفطن عرف ما فيها ‪ ،‬كالمر بالدعاء إثر الصلة قرآنا وسنة ‪ ،‬وهو ـ كما تقدم ـ ل دليل فيه ‪،‬‬
‫ث ضم ذلك جواز الدعاء بيئة الجتماع ف الملة إل ف أدبار الصلوات ول دليل فيه أيضا ـ كما‬
‫تقدم ـ لختلف التأصلي ‪.‬‬
‫وأما ف التفصيل فزعم أنه ما زال معمولً به ف جيع أقطار الرض أوف جلها من الئمة ف مساجد‬
‫الماعات من غي نكي إل نكي أب عبد ال ‪ ،‬ث أخذ ف ذمه وهذا النقل تور بل شك ‪ ،‬لنه نقل‬
‫إجاع يب على الناظر فيه والحتج به قبل التزام عهدته أن يبحث عنه بث أصل عن الجاع ‪ ،‬لنه‬
‫ل بد من النقل عن جيع الجتهدين من هذه المة من أول زمان الصحابة رضي ال عنهم إل الن ‪،‬‬
‫هذا أمر مقطوع به ‪ .‬ول خلف أنه ل اعتبار بإجاع العوام وإن ادعوا المامة ‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬من غي نكي توز ‪ ،‬بل ما زال النكار عليهم من الئمة فقد نقل الطرطوشي عن مالك ف‬
‫ذلك أشياء تدم السألة فحصل إنكار مالك لا ف زمانه ‪ ،‬وإنكار المام الطرطوشي ف زمانه ‪ ،‬واتبع‬
‫هذا أصحابه وهذا أصحابه ‪ ،‬ث القراف قد عد ذلك من البدع الكروهة على مذهب مالك ‪ ،‬وسلمه‬
‫ول ينكره عليه أهل زمانه ـ فيما نعلمه ـ مع وعمه أن من البدع ما هو حسن ‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث الشيوخ الذين كانوا بالندلس حي جخلتها هذه البدعة ـ حسبما يذكر بول ال ـ وقد‬
‫أنكروها ‪ ،‬وكان من معتقدهم ف ذلك أنه مذهب مالك ‪ .‬وكان الزاهد أبو عبد ال بن ماهد‬
‫وتلميذه أبوعمران اليتلي رحهما ال ملتزمي لتركها ‪ ،‬حت اتفق للشيخ أب عبد ال ف ذلك ما‬
‫سنذكره إن شاء ال ‪.‬‬
‫قال بعض شيوخنا رادا على بعض من نصر هذا العمل ‪ :‬فإنا قد شاهدنا العمل من الئمة الفقهاء‬
‫الصلحاء التبعي للسنة التحفظي بأمور دينهم يفعلون ذلك أئمة ومأمورين ‪ ،‬ول نر من ترك ذلك إل‬
‫من شذ ف احواله ـ فقال ـ وأما احتجاج منكر ذلك بأن هذا ل يزل الناس يفعلونه فلم يأت‬
‫بشيء ‪ ،‬لن الناس الذين يقتدى بم ثبت أنم ل يكونوا يفعلونه ‪ .‬قال ولا كانت البدع والخالفات‬
‫وتواطؤ الناس عليها صار الاهل يقول ‪ :‬لو كان هذا منكرا لا فعله الناس ‪ .‬ث حكى أثر الوطأ ‪ :‬ما‬
‫أعرف شيئا ما أدركت عليه الناس إل النداء بالصلة ـ قال ‪ :‬فإذا كان هذا ف عهد التابعي يقول‬
‫‪ :‬كثرت الحداثات فكيف بزماننا ؟ ث هذا الجاع لو ثبت لزم منه مظور ‪ ،‬لنه مالف لا نقل عن‬
‫الولي من تركه ‪ ،‬فصار نسخ إجاع بإجاع ‪ ،‬وهذا مال ف الصول ‪.‬‬
‫وأيضا فل تكون مالفة التأخرين لجاع التقدمي على سنة حجة على تلك السنة أبدا ‪ ،‬فما أشبه‬
‫هذه السألة با حكى عن أب علي بشاذان بسند يرفعه إل أب عبد ال بن إسحاق العفري ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫كان عبد ال بن السن ـ يعن ابن السن بن علي بن أب طالب رضي ال عنهم ـ يكثر اللوس‬
‫إل ربيعة ‪ ،‬فتذكروا يوما فقال رجل كان ف الجلس ‪ :‬ليس العمل على هذا فقالعبد ال أرأيت إن‬
‫كثر الهال حت يكونوا هم الكام أفهم الجة على السنة ؟ فقال ربيعة ‪ :‬أشهد أن هذا كلم أبناء‬
‫النبياء انتهى ‪ .‬إل أن أقول ‪ :‬أرأيت إن كثر القلدون ث أحدثوا بآرائهم فحكموا با ‪ ،‬أفهم الجة‬
‫على السنة ول كرامة ؟ ‪.‬‬
‫ث عضد ما ادعاه بأشياء من جلتها قوله ‪ .‬ومن أمثال الناس ‪ :‬أخطىء مع الناس ول تصب وحدك‬
‫أي أن خطأهم هم الصواب ‪ ،‬وصوابك هو الطأ ‪ .‬قال ‪ ،‬ومعن ما جاء ف حديث ‪:‬‬
‫"عليك بالماعة فإنا يأكل الذئب من الغنم القاصية" ‪ .‬فجعل تارك الدعاء على الكيفية الذكورة‬
‫مالفا للجاع ـ كما ـ ترى ـ وحض على اتباع الناس وترك الخالفة لقوله عليه الصلة والسلم‬
‫‪:‬‬
‫"ل تتلفوا فتختلف قلوبكم" ‪ ،‬وكل ذلك مبن على الجاع الذي ذكروا ‪ ،‬وأن الماعة هم جاعة‬
‫الناس كيف كانوا ‪ .‬وسيأت معن الماعة الذكورة ف حديث الفرق ‪ ،‬وأنا التبعة للسنة وإن كانت‬
‫ل واحدا ف العال ‪.‬‬
‫رج ً‬
‫قال بعض النابلة ‪ :‬ل تعبأ با يعرض من السائل ويدعي فيها الصحة بجرد التهويل أو بدعوي أن‬
‫ل خلف ف ذلك ‪ :‬وقال ذلك ل يعلم أحدا قال فيها بالصحة فضلً عن نفي اللف فيها ‪ ،‬ليس‬

‫‪187‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الكم فيها من الليات الت ل يقدر الخالف ‪ ،‬قال ‪ :‬وف مثل هذه السائل قال المام أحد بن حنبل‬
‫‪ :‬من ادعى الجاع فهو كاذب وإنا هذه دعوى كثي ‪ ،‬وابن عليه يريدون أن يبطلوا السنن بذلك ‪.‬‬
‫يعن أحد أن التكلمي ف الفقه على أهل البدع إذا ناظرتم بالسنن والثار قالوا ‪ :‬هذا خلف‬
‫الجاع ‪ .‬وذلك القول الذي يالف ذلك الديث ل يفظونه إل عن بعض فقهاء الدينة أو فقهاء‬
‫الكوفة ـ مثلً ـ فيدعون الجاع من قلة معرفتهم بأقاويل العلماء واجترائهم على رد السنن بالراء‬
‫‪ ،‬حت كان بعضهم يسرد عليه الحاديث الصحيحة ف خيار الجلس ونوه من الحكام فل يد لا‬
‫معتصما إل أن يقول ‪ :‬هذا ل يقل به أحد من العلماء ‪ ،‬وهو ل يعرف إل أبا حنيفة أو مالكا ‪ ،‬ل‬
‫يقولوا بذلك ‪ ،‬ولو له علم لرأي من الصحابة والتابعي وتابعيهم من قال بذلك خلقا كثيا ‪.‬‬
‫ففي هذا الكلم إرشاد لعن ما نن فيه ‪ ،‬وأنه ل ينبغي أن ينقل حكم شرعي عن أحد من أهل العلم‬
‫إل بعد تققه والتثبت ‪ ،‬لنه مب عن حكم ال ‪ ،‬فإياكم والتساهل فإنه مظنة الروج عن الطريق‬
‫الواضح إل السيئات ‪.‬‬
‫ث عد من الفاسد ف مالفة المهور أنه يرميهم بالتجهيل والتضليل ‪ ،‬وهذا دعوى من خالفه فيما قال‬
‫‪ ،‬وعلى تسليمها ‪ ،‬فليست بفسدة على فرض اتباع السنة ‪ ،‬وقد جاء عن السلف الض على العمل‬
‫بالق ‪ ،‬وعدم الستيحاش من قلة أهله ‪.‬‬
‫وأيضا فمن شنع على البتدع بلفظ البتداع فاطلق العبارة بالنسبة إل الجتمعي يوم عرفة بعد العصر‬
‫للدعاء ف غي عرفة ـ إل نظائرها ـ فتشنيعه حق كما يقول بالنسبة إل بشر الريسي ومعبد الهن‬
‫وفلن ‪ ،‬ول يدخل بذلك ـ إن شاء ال ـ ف حديث ‪:‬‬
‫"من قال ‪ :‬هلك الناس ‪ .‬فهو أهلكهم" لن الراد أن يقول ذلك ترفعا على الناس واستحقارا ‪ ،‬وأما‬
‫إن قاله تزنا وتسرا فل بأس ‪ .‬قال بعضهم ‪ :‬ونن نرجو أن نعرج على ذلك ـ إن شاء ال ـ‬
‫فالستدلل به ليس على وجهه ‪.‬‬
‫وعد من الفاسد الوف من فساد نيته با يدخل عليه من العجب والشهرة النهي عنها ‪ ،‬فكأنه يقول‬
‫‪ :‬اترك اتباع السنة ف زمان الغربة خوف الشهرة ودخول العجب ‪ .‬وهذا شديد من القول وهو‬
‫معارض بثله ‪ ،‬فإن انتصابه لن يكون داعيا للناس بأثر صلواتم دائما مظنة لفساد نيته با يدخل عليه‬
‫من العجب والشهرة ‪ ،‬وهو تعليل القراف ‪ ،‬وهو أول ف طريق التباع ‪ ،‬فصار تركه للدعاء لم‬
‫مقرونا بالقتداء بلف الداعي فإنه ف غي طريق من تقدم فهو أقرب إل فساد النية ‪.‬‬
‫وعد منها ما يظن به من القول برأي أهل البدع القائلي بأن الدعاء غي نافع ‪ ،‬وهذا كالذي قبله ‪،‬‬
‫لنه يقول للناس ‪ :‬اتركوا اتباع النب صلى ال عليه وسلم ف ترك الدعاء بيئة الجتماع بعد‬
‫الصلوات لئل يظن بكم البتداع ‪.‬وهذا كما ترى ‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قال ابن العرب ‪ :‬ولقد كان شيخنا أبو بكر الفهري يرفع يديه عند الركوع وعند رفع الرأس منه ‪،‬‬
‫وهو مذهب مالك و الشافعي ‪ ،‬وتفعله الشيعة ـ قال ـ فحضر عندي يوما ف مرس أب الشعراء‬
‫بالثغر موضع تدريس عند صلة الظهر ‪ .‬ودخل السجد من الحرس الذكور ‪ ،‬فتقدم إل الصف‬
‫الول وأنا ف مؤخرة قاعدا على طاقات البحر ‪ ،‬أتنسم الريح من شدة الر ‪ ،‬ومعي ف صف واحد‬
‫أو ثنة رئيس البحر وقائده ف نفر من أصحابه ينتظر الصلة ‪ .‬ويتطلع على مراكب النار ‪ ،‬فلما رفع‬
‫الشيخ الفهري يديه ف الركوع وف رفع الرأس منه ‪ .‬قال ‪ .‬قال أبو ثنة وأصحابه ‪ :‬أل ترى إل هذا‬
‫الشرقي كيف دخل مسجدنا ؟ قوموا إليه فاقتلوه وارموا به ف البحر فل يراكم أحد ‪ ،‬فطار قلب من‬
‫بي جواني ؟ وقلت ‪ :‬سبحان ال ! هذا الطرطوشي فقيه الوقت ‪ ،‬فقالوا ل ‪ :‬ول يرفع يديه ؟ فقلت‬
‫‪ :‬كذلك كان النب صلى ال عليه وسلم يفعل ‪ ،‬وهو مذهب مالك ف رواية أهل الدينة عنه ‪،‬‬
‫وجعلت أسكنهم وأسكنهم حت فرغ من صلته ‪ ،‬وقمت معه إل السكن من الحرس ‪ ،‬ورأى تغي‬
‫وجهي فأنكر ‪ ،‬وسألن فأعلمته فضحك ‪ ،‬وقال ‪ :‬من أين ل أن أقتل على سنة ؟ فقلت له ‪ :‬ويل‬
‫لك هذا ‪ ،‬فإنك بي قوم إن قمت با قاموا عليك ‪ ،‬وربا ذهب دمك ‪ .‬فقال ‪ :‬دع هذا الكلم وخذ‬
‫ف غيه ‪.‬‬
‫فتأملوا ف هذه القصة ففيها الشفاء ‪ .‬إذ ل مفسدة ف الدنيا توازي مفسدة إماتة السنة ‪ ،‬وقد حصلت‬
‫النسبة إل البدعة ‪ ،‬ولكن الطرطوسي رحه ال ل ير ذلك شيئا فكلمه للتباع أول من كلم هذا‬
‫الراد ‪ ،‬إذ بينهما ف العلم ما بينهما ‪.‬‬
‫وأيضا فلو اعتب ما قال لزم اعتباره بثله ف كل من أنكر الدعاء بيئة الجتماع يوم عرفة ف غي عرفة‬
‫‪ ،‬ومنهم نافع مول ابن عمر و مالك و الليث وغيهم من السلف ‪ ،‬ولا كان ذلك غي لزم‬
‫فمسألتنا كذلك ‪.‬‬
‫ث ختم هذا الستدلل الجاعي بقوله ‪ :‬وقد اجتمع أئمة السلم ف مساجد الماعات ف هذه‬
‫العصار ف جيع القطار على الدعاء أدبار الصلة ‪ :‬فيشبه أن يدخل ذلك مدخل حجة إجاعية‬
‫عصرية ‪.‬‬
‫فإن أراد الدعاء على هيئة الجتماع دائما ل يترك كما يفعل بالسنن ـ وهي مسألتنا الفروضة ـ‬
‫فقد تقدم ما فيه ‪.‬‬

‫فصل ث أتى بأخذ آخر من الستدلل‬


‫ث أتى بأخذ آخر من الستدلل على صحة ما زعم ‪ ،‬وهو أن الدعاء على ذلك الوجه ل يرد ف‬
‫الشرع ني عنه مع وجود الترغيب فيه على الملة ‪ ،‬ووجود العمل به ‪ .‬فإن صح أن السلف ل‬

‫‪189‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يعملوا به ‪ ،‬فالترك ليس بوجب لكم ف التروك إل جواز الترك وانتفاء الرج خاصة ‪ ،‬ل تري ول‬
‫كراهية ‪.‬‬
‫وجيع ما قاله مشكل على قواعد العلم وخصوصا ف العبادات ـ الت هي مسألتنا ـ إذ ليس لحد‬
‫من خلق ال أن يترع ف الشريعة من رأيه أمرا ليوجد عليه منها دليل ‪ ،‬لنه عي البدعة ‪ ،‬وهذا‬
‫كذلك ‪ ،‬إذ ل دليل فيها على اتاذ الدعاء جهرا للحاضرين ف آثار الصلوات دائما ‪ ،‬على حد ما‬
‫تقام ‪ ،‬بيث يعد الارج عنه خارجا عن جاعة أهل السلم متحيزا ومتميزا إل سائر ما ذكر ‪،‬‬
‫وكل ما ل يد ل عليه دليل فهو البدعة ‪.‬‬
‫وعلى هذا فإن ذلك الكلم يوهم أن اتباع التأخرين القلدين خي من اتباع الصالي من السلف ‪،‬‬
‫ولو كان ف أحد جائزين ‪ ،‬فكيف إذا كان أمرين أحدها متيقن أنه صحيح والخر مشكوك فيه ؟‬
‫فيتبع الشكوك ف صحته ‪ ،‬ويترك ما ل مرية ف صحته ‪ ،‬ولو لعا من يتبعه ‪.‬‬
‫ث إطلقه بأن الترك ل يوجب حكما ف التروك إل جواز الترك ‪ ،‬غي جار على أًول الشرع الثابتة ‪.‬‬
‫فنقول إن هنا أصلً لذه السألة لعل ال ينفع به من أنصف ف نفسه ‪ ،‬وذلك أن سكوت الشارع عن‬
‫الكم ف مسألة أو تركه لمر ما على ضربي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يسكت عنه أو يتركه لنه ل داعية له تقتضيه ‪ ،‬ول موجب يقرر لجله ‪ ،‬ول وقع‬
‫سبب تقريره ‪ .‬كالنوازل الادثة بعد وفاة النب صلى ال عليه وسلم فإنا ل تكن موجودة ث سكت‬
‫عنها مع وجودها ‪ ،‬وإنا حدثت بعد ذلك ‪ ،‬فاحتاج أهل الشريعة إل النظر فيها وإجرائها على ما‬
‫تبي ف الكليات الت كمل با الدين ‪ ،‬وإل هذا الضرب يرجع جيع ما نظر فيه السلف الصال ما ل‬
‫يسنه رسول ال صلى ال عليه وسلم على الصوص ما هو معقول العن ‪ ،‬كتضمي الصناع ‪،‬‬
‫ومسألة الرام والد مع الخوة ‪ ،‬وعول الفرائض ‪ .‬ومنه الصحف ث تدوين الشرائع ‪ ،‬وما أشبه‬
‫ذلك ما ل يتج ف زمانه عليه السلم إل تقريره للتقدي كلياته الت تستنبط با منها ‪ ،‬وإذا ل تقع‬
‫أسباب الكم فيها ول الفتوى با منه عليه الصلة والسلم ‪ ،‬فلم يذكر لا حكم مصوص ‪.‬‬
‫فهذا الضرب إذا حدثت أسبابه فل بد من النظر فيه وإجرائه على أصوله إن كان من العاديات ‪ ،‬أو‬
‫من العبادات الت ل يكن القتصار فيها على ما سع ‪ ،‬كمسائل السهو والنسيان ف إجراء العبادات ‪.‬‬
‫ول إشكال ف هذا الضرب ‪ ،‬لن أصول الشرع عتيدة وأسباب تلك الحكام ل تكن ف زمان‬
‫الوحي ‪ ،‬فالسكوت عنها على الصوص ليس بكم يقتضي جواز الترك أو غي ذلك ‪ ،‬بل إذا‬
‫عرضت النوازل روجع با أصولا فوجدت فيها ول يدها من ليس بجتهد ‪ ،‬وإنا يدها الجتهدون‬
‫الوصوفون ف علم أصول الفقه ‪.‬‬
‫والضرب الثان ‪ :‬أن يسكت الشارع عن الكم الاص أو يترك أمرا ما من المور ‪ ،‬وموجبه‬
‫القتضى له قائم ‪ ،‬وسببه ف زمان الوحي وفيما بعده موجود ثابت إل أنه ل يدد فيه أمر زائد على‬

‫‪190‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ما كان من الكم العام ف أمثاله ول ينقص منه ‪ ،‬لنه لا كان العن الوجب لشرعية الكم العقلي‬
‫الاص موجودا ‪ ،‬ث ل يشرع ول نبه على السبطا كان صرياف أن الزائد على ما ثبت هنالك بدعة‬
‫زائدة ومالفة لقصد الشارع ‪ ،‬إذ فهم من قصده الوقوف عند ما حد هنالك ل الزيادة عليه ول‬
‫النقصان منه ‪.‬‬
‫ولذلك مثال فيما نقل عن مالك بن أنس ف ساع أشهب و ابن نافع هو غاية فيما نن فيه ‪ ،‬وذلك‬
‫أن مذهبه ف سجود الشكر الكراهية وأنه ليس بشروع ‪ ،‬وعليه بن كلمه ‪ .‬قال ف العتبية ‪ :‬وسئل‬
‫مالك عن الرجل يأتيه المر يبه فيسجد ل عز وجل شكرا ؟ فقال ل يفعل هذا ما مضى من أمر‬
‫الناس ‪ .‬قيل له ‪ :‬إن أبا بكر الصديق رضي ال عنه ـ فيما يذكرونه ـ سجد يوم اليمامة شكرا ل ‪.‬‬
‫أفسمعت ذلك قال ‪ :‬ما سعت ذلك وأنا أرى أنم قد كذبوا على أب بكر ‪ .‬وهذا من الضلل أن‬
‫يسمع الرء الشيء فيقول ‪ :‬هذا ل تسمعه من ‪ .‬قد فتح ال على رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وعلى السلمي بعده ‪ .‬أفسمعت أن أحدا منهم فعل مثل هذا ؟ إذ ما قد كان ف الناس وجرى على‬
‫أيديهم سع عنهم فيه شيء ‪ ،‬فعليك بذلك فإنه لو كان لذكر ‪ ،‬لنه من أمر الناس الذي قد كان‬
‫فيهم ‪ ،‬فهل سعت أن أحدا منهم سجد ؟ فهذا إجاع ‪ .‬وإذا جاءك أمر ل تعرفه فدعه ـ تام الرواية‬
‫ـ وقد احتوت على فرض سؤال والواب با تقدم ‪.‬‬
‫ل ـ إنا فعل سكت الشارع عن حكمه ف الفعل والترك ‪،‬‬ ‫وتقرير السؤال أن يقال ف البدعة ـ مث ً‬
‫فلم يكم عليه بكم على الصوص ‪ ،‬فالصل جواز فعله ‪ ،‬كما أن الصل جواز تركه ‪ ،‬إذ هو معن‬
‫الائز ‪ ،‬فإن كان له أصل جلي فأحرى أن يوز فعله حت يقوم الدليل على منعه أو كراهته ‪ ،‬وإذا‬
‫كان كذلك ‪ ،‬فليس هنا مالفة لقصد الشارع ‪ ،‬ول ث دليل خالفه هذا النظر ‪ ،‬بل حقيقة ما نن فيه‬
‫أنه أمر مسكوت عنه عند الشارع ‪ ،‬والسكوت عند الشارع ل يقتضي مالفة ول موافقة ‪ ،‬ول يعي‬
‫الشارع قصدا ما دون ضده وخلفه ‪ ،‬وإذا ثبت هذا فالعمل به ليس بخالف إذ ل يثبت ف الشريعة‬
‫ني عنه ‪.‬‬
‫وتقرير الواب ‪ :‬معن ما ذكره مالك رحه ال ‪ ،‬وهو أن السكوت عن حكم الفعل أو الترك هنا إذا‬
‫وجد العن القتضى له إجاع من كل ساكت على أن ل زائد على ما كان ‪ .‬إذ لو كان ذلك لئقا‬
‫شرعا أو سائغا لفعلوه ‪ ،‬فهم كانوا أحق بإداركه والسبق إل العمل به وذلك إذا نظرنا إل الصلحة‬
‫فإنه ل يلو إما أن يكون ف هذه الحداث مصلحة أو ل ‪ ،‬والثان ل يقول به أحد ‪ .‬والول إما أن‬
‫تكون تلك الصلحة الادثة آكد من الصلحة الوجودة ف زمان التكليف أو ل ‪ .‬ول يكن أن يكون‬
‫مع كون الحدثة زيادة تكليف ‪ ،‬ونقصه عن الكلف أحرى بالزمنة التأخرة لا يعلم من قصور المم‬
‫واستيلء الكسل ‪ ،‬ولنه خلف بعث النب صلى ال عليه وسلم بالنفية السمحة ‪ ،‬ورفع الرج عن‬
‫المة وذلك ف تكليف العبادات ‪ ،‬لن العادات أمر آخر ـ كما سيأت ـ وقد مر شيء منه فلم يبق‬

‫‪191‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إل أن تكون الصلحة الظاهرة الن مساوية للمصلحة الوجودة ف زمان التشريع أو أضعف منها ‪.‬‬
‫وعند ذلك تصي الحداث عيثا أو استدراكا على الشارع ‪ ،‬لن تلك الصلحة الوجودة ف زمان‬
‫التشريع إن حصلت للولي من غي هذا الحداث فهي إذا عبث إذ ل يصح أن يصل للولي دون‬
‫الخرين ‪ ،‬فقد صارت هذه الزيادة تشريعأً بعد الشارع إل بسبب الخرين ما فات الولي فلم يكمل‬
‫الدين إذا دونا ‪ ،‬ومعاذ ال من هذا الأخذ ‪.‬‬
‫وقد ظهر من العادات الارية فيما نن فيه أن ترك الولي لمر ما من غي أن يعينوا فيه وجها مع‬
‫احتماله ف الدلة الملية ووجود الظنة دليل على أن ذلك المر ل يعمل به ‪ ،‬وأنه إجاع منهم على‬
‫تركه ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ف شرح مسألة العتبية ‪ :‬الوجه ف ذلك أنه ل يرد ما شرع ف الدين ـ يعن سجود‬
‫ل ‪ ،‬إذ ل يأمر بذلك النب صلى ال عليه وسلم ول فعله ‪ ،‬ول أجع السلمون‬ ‫الشكر ـ فرضا ول نف ً‬
‫على اختيار فعله ‪ ،‬والشرائع ل تثبت إل من أحج هذه المور ‪ .‬قال ‪ :‬واستدلله على أن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ل يفعل ذلك ول السلمون بعده ‪ ،‬بأن ذلك لو كان لنقل صحيح ‪ ،‬إذ يصح أن‬
‫تتوفر الدواعي على ترك نقل شريعة من شرائع الدين ‪ ،‬وقد أمر بالتبليغ ‪ .‬قال ‪ :‬وهذا أصل من‬
‫الصول وعليه يأت إسقاط الزكاة من الضر والبقول مع وجود الزكاة فيها ‪ ،‬لعموم قول النب صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"فيما سقت السماء والعيون والبعل العشر ‪ ،‬وفيما سقي بالنضح نصف العشر" ‪ ،‬لنا نزلنا ترك نقل‬
‫أخذ النب صلى ال عليه وسلم الزكاة منها كالسنة القائمة ف أن ل زكاة فيها ‪ .‬فكذلك نزل ترك‬
‫نقل السجود عن النب صلى ال عليه وسلم ف الشكر كالسنة القائمة ف أن ل سجود فيها ‪ .‬ث حكي‬
‫خلف الشافعي والكلم عليه ‪ ،‬والقصود من السألة توجيه مالك لا من حيث إنا بدعة ‪ ،‬ول توجيه‬
‫أنا بدعة على الطلق ‪.‬‬
‫وعلى هذا النحو جرى بعضهم ف تري نكاح الحلل ‪ ،‬وأنه بدعة منكرة فمن حيث وجد ف زمانه‬
‫عليه السلم العن القتضي للتخفيف والترخيص للزوجي بإجازة التحليل ليتراجعا كما كان أول مرة‬
‫‪ ،‬وأنه لا ل يشرع ذلك مع حرص امرأة رفاعة على رجوعها إليه دل على أن التحليل ليس بشروع‬
‫لا ول لغيها ‪ .‬وهو أصل صحيح إذا اعتب وضح به ما نن بصدده لن التزام الدعاء بآثار الصلوات‬
‫جهرا للحاضرين ف مساجد الماعات لو كان صحيحا شرعا أو جائزا لكان النب صلى ال عليه‬
‫وسلم أول بذلك أن يفعله ‪.‬‬
‫وقد علل النكر هذا الوضع بعلل تقتضي الشروعية ‪ ،‬وبن على فرض أنه ل يأت ما يالفه وأن‬
‫الصل الواز ف كل مسكوت عنه ‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أما أن الصل الواز فيمتنع ‪ ،‬لن طائفة من العلماء يذهبون إل أن الشياء قبل وجود الشرع على‬
‫النع دون الباحة ‪ ،‬فما الدليل على ما قال من الواز ؟ وإن سلمنا له من قال ‪ :‬فهل هو على‬
‫الطلق أم ل ؟ أما ف العاديات فمسلم ‪ ،‬ول نسلم أن ما نن فيه من العاديات بل من العبادات ‪،‬‬
‫ول يصح أن يقال فيما فيه تعبد ‪ :‬إنه متلف فيه على قولي هل هو على النع ؟ أم هو على الباحة ؟‬
‫لـ‬ ‫بل هو أمر زائد على النع ‪ .‬لن التعبدبات إنا وضعها للشارع فل يقال ف صلة سادسة ـ مث ً‬
‫إنا على الباحة ‪ ،‬فللمكلف وضعها ـ على أحد القولي ليتعبد با ل ‪ .‬لنه باطل بإطلق ‪ ،‬وهو‬
‫اصل كل مبتدع يريد أن يستدرك على الشارع ‪ .‬ولو سلم أنه من قبيل العاديات أو من قبيل ما يعقل‬
‫معناه ‪ ،‬فل يصح العمل به أيضا لن ترك العمل به من النب صلى ال عليه وسلم ف جيع عمره ‪،‬‬
‫وترك السلف الصال له على توال أزمنتهم قد تقدم أنه نص ف الترك وإجاع من كل من ترك ‪ ،‬لن‬
‫عمل الجاع كنصه ‪ ،‬كما أشار مالك ف كلمه ‪.‬‬
‫وأيضا فيما يعلل له ل يصح التعليل به ‪ ،‬وقد أتى الراد بأوجه منه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن الدعاء بتلك اليئة ليظهر وجه التشريع ف الدعاء ‪ .‬وأنه بآثار الصلوات مطلوب ‪ .‬وما‬
‫قاله يقتضي أن يكون سنة بسبب الدوام والظهار ف الماعات والساجد وليس بسنة اتفاقا منا ومنه‬
‫‪ ،‬فانقلب إذا وجه التشريع ‪.‬‬
‫وأيضا فإن إظهار التشريع كان ف زمان النب صلى ال عليه وسلم أول ‪ ،‬فكانت تلك الكيفية التكلم‬
‫فيها أول للظهار ‪ ،‬ولا ل يفعله عليه الصلة والسلم دل على ترك مع وجود العن القتضي ‪ ،‬فل‬
‫يكن بعد زمانه ف تلك الكيفية إل الترك ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن المام يمعهم على الدعاء ليكون باجتماعهم أقرب إل الجابة ‪ .‬وهذه العلة كانت ف‬
‫زمانه عليه الصلة والسلم ‪ ،‬لنه ل يكون أحد أسرع إجابة لدعائه منه ‪ ،‬إذ كان ماب الدعوة بل‬
‫إشكال ‪ ،‬بلف غيه ‪ ،‬وإن عظم قدره ف الدين فل يبلغ رتبته ‪ ،‬فهو كان أحق بأن يزيدهم الدعاء‬
‫لم خس مرات ف اليوم والليلة زيادة إل دعائهم لنفسهم ‪.‬‬
‫وأيضا فإن قصد الجتماع على الدعاء ل يكون بعد زمانه أبلغ ف البكطة من اجتماع يكون فيه سيد‬
‫الرسلي صلى ال عليه وسلم وأصحابه ‪ ،‬فكانوا بالتنبيه لذه النقبة أول ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬قصد التعليم للدعاء ليأخذوا من دعائه ما يدعون به لنفسهم لئل يدعوا با ل يوز عقلً‬
‫أو شرعا ‪ ،‬وهذا التعليل ل ينهض فإن النب صلى ال عليه وسلم كان العلم الول ‪ ،‬ومنه تلقينا ألفاظ‬
‫الدعية ومعانيها ‪ ،‬وقد كان من العرب من يهل قدر الربوبية فيقول ‪:‬‬
‫رب العباد ما لنا وما لك أنزل علينا الغيث ل أبا لك‬
‫وقال الخر ‪:‬‬
‫ول تغيك المور بعدي‬ ‫ل هم إن كنت الذي بعهدي‬

‫‪193‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقال الخر ‪:‬‬


‫وجد الله بكم كما أجد‬ ‫أبن ليتن ل أحبكم‬
‫وهي ألفاظ يفتقر أصحابا إل التعليم ‪ ،‬وكانوا أقرب عهد باهلية تعامل الصنام معاملة الرب الواحد‬
‫سبحانه ‪ ،‬ول تنهه كما يليق بلله ‪ ،‬فلم يشرع لم دعاء بيئة الجتماع ف آثار الصلوات دائما‬
‫ليعلمهم أو يعنيهم على التعلم إذ صلوا معه ‪ ،‬بل علم ف مالس التعليم ‪ ،‬ودعا لنفسه إثر الصلة حي‬
‫بدا له ذلك ‪ .‬ول يلتفت إذ ذاك إل النظر للجماعة ‪ ،‬وهو كان أول اللق بذلك ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن ف الجتماع على الدعاء تعاونا على الب والتقوى ‪ ،‬وهو مأمور به ‪ ،‬وهذا الجتماع‬
‫ضعيف ‪ ،‬فإن النب صلى ال عليه وسلم هو الذي أنزل عليه ‪" :‬وتعاونوا على الب والتقوى" وكذلك‬
‫فعل ‪ ،‬ولو كان الجتماع للدعاء إثر الصلة جهرا للحاضرين من باب الب والتقوى لكان أول سابق‬
‫إليه ‪ ،‬لكنه ل يفعله أصلً ول أحد بعده حت حدث ما حدث ‪ .‬فدل على أنه ليس على ذلك الوجه‬
‫بر ول تقوى ‪.‬‬
‫والامس ‪ :‬أن عامة الناس ل علم لم باللسان العرب ‪ ،‬فربا لن فيكون اللحن سبب عدم الجابة ‪.‬‬
‫وحكي عن الصمعي ف ذلك حكاية شعرية ل فقهية ‪ ،‬وهذا الجتماع إل اللعب أقرب منه إل الد‬
‫‪ ،‬وأقرب ما فيه أن أحدا من العلماء ل يشترط ف الدعاء أن ل يلحن كما يشترط الخلص وصدق‬
‫التوجيه وعزم السألة ‪ ،‬وغي ذلك من الشروط ‪ .‬وتعلم اللسان العرب لصلح اللفاظ ف الدعاء ‪،‬‬
‫وإن كان المام أعرف به هو كسائر ما يتاج إليه النسان من أمر دينه ‪ .‬فإن كان الدعاء مستحبا‬
‫فالقراءة واجبة ‪ ،‬والفقه ف الصلة كذلك ‪ ،‬فإن كان تعليم الدعاء إثر الصلة مطلوبا ‪ ،‬فتعليم فقه‬
‫الصلة آكد ‪ ،‬فكان من حقه أن يعل ذلك من وظائف آثار الصلة ‪.‬‬
‫فإن قيل بوجبه ف الحرف التعارف ‪ .‬فهذه القاعدة تتث أصله ‪ ،‬لن السلف الصال كانوا أحق‬
‫بالسبق إل فضله لميع ما ذكر فيه من الفوائد ‪ ،‬ولذلك قال مالك فيها ‪ :‬أترى الناس اليوم كانوا‬
‫أرغب ف الي من مضى ؟ وهو إشارة إل الصل الذكور ‪ ،‬وهو أن العن القتضى للحداث ـ‬
‫وهو الرغبة ف الي ـ كان أت ف السلف الصال وهم ل يفعلوه ‪ ،‬فدل على أنه ل يفعل ‪.‬‬
‫وأما ما ذكر من آداب الدعاء فكله ل يتعي له إثرالصلة ‪ .‬بدليل أن رسول ال عليه وسلم علم منها‬
‫جلة كافية ول يعلم منها شيئا إثر الصلة ‪ ،‬ول تركهم دون تعليم ليأخذوا ذلك منه ف آخر‬
‫الصلة ‪ ،‬أو ليستغنوا بدعائه عن تعليم ذلك ‪ ،‬ومع أن الاضرين للدعاء ل يصل لم ف المام ف‬
‫ذلك كبي شيء ‪ ،‬وإن حصل فلمن كان قريبا منه دون من بعد ‪.‬‬

‫فصل ث استدل الستنصر بالقياس‬

‫‪194‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث استدل الستنصر بالقياس فقال ‪ :‬وإن صح أن السلف ل يعملوا به فقد عمل السلف با ل يعمل به‬
‫من قبلهم ما هو خي ـ ث قال بعد ـ قد قال عمر بن عبد العزيز رضي ال عنه ‪ :‬تدث للناس‬
‫أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور فكذلك تدث لم مرغبات ف الي بقدر ما أحدثوا من الفتور ‪.‬‬
‫وهذا الستدلل غي جار على الصول ‪:‬‬
‫أما أولً ‪ :‬فإنه ف مقابلة النص ‪ ،‬وهو ما أشار إليه مالك ف مسألة العتبية ‪ ،‬فذلك من باب فساد‬
‫العتبار ‪.‬‬
‫وأما ثانيا ‪ :‬فإنه قياس على نص ل يثبت بعد من طريق مرضي ‪ ،‬وهذا ليس كذلك ‪.‬‬
‫وأما ثالثا ‪ :‬فإن كلم عمر بن عبد العزيز فرع اجتهادي جاء عن رجل متهد يكن أن يطىء فيه‬
‫كما يكن أن يصيب ‪ ،‬وإنا حقيقة الصل أن يأت عن النب صلى ال عليه وسلم أو عن أهل الجاع‬
‫‪ ،‬وهذا ليس عن واحد منهما ‪.‬‬
‫وأما رابعا ‪ :‬فإنه قياس بغي معن جامع أو بعن جامع غي طردي ‪ ،‬ولكن الكلم فيه سيأت ـ إن‬
‫شاء ال ـ ف الفرق بي الصال الرسلة والبدع ‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬إن السلف عملوا با ل يعمل به من قبلهم حاش ل أن يكونوا من يدخل تت هذه الترجة‬
‫‪.‬‬
‫وقوله ‪ :‬ما هو خي أما بالنسبة إل السلف فما عملوا خي ‪ ،‬وأما فرعه القيس فكونه خيا دعوى ‪،‬‬
‫لن كون الشيء خيا أو شرا ل يثبت إل بالشرع ‪ ،‬أو لن الدعاء على تلك اليئة خي شرعا ‪.‬‬
‫وأما قياسه على قوله ‪ :‬تدث للناس أقضية فمما تقدم يعلم بطلنه وفيه أمر آخر ‪ ،‬وهو التصريح‬
‫بأن إحداث العبادات جائز قياسا على قول عمر ‪ ،‬وإنا كلم عمر بعد تسليم القياس عليه ف معن‬
‫عادي يتلف فيه مناط الكم الثابت فيما تقدم ‪ ،‬كتضمي الصناع ‪ ،‬أو الظنة ف توجيه اليان ‪،‬‬
‫دون مرد الدعاوى ‪ ،‬فيقول‬
‫إن الولي توجهت عليهم بعض الحكام لصحة المانة والديانة والفضيلة ‪ ،‬فلما حدثت أضدادها‬
‫اختلف الناط فوجب اختلف الكم ‪ ،‬وهو حكم رادع أهل الباطل عن باطلهم ‪ ،‬فأثر هذا العن‬
‫ظاهر مناسب بلف ما نن فيه ‪ ،‬فإنه على الضد من ذلك ‪ ،‬أل ترى أن الناس إذا وقع فيهم الفتور‬
‫عن الفرائض فضلً عن النوافل ـ وهي ما هي من القلة والسهولة ـ فما ظنك بم إذا زيد عليهم‬
‫أشياء أخرى يرغبون فيها ‪ ،‬ويضون على استعمالا ‪ ،‬فل شك أن الوطائف تتكاثر حت يؤدي إل‬
‫أعظم من الكسل الول ‪ ،‬وإل ترك الميع ‪،‬فإن حدث للعامل بالبدعة هو ف بدعته ‪ ،‬أو لن شايعه‬
‫فيها ‪ .‬فل بد من كسله ما هو أول ‪.‬‬
‫فنحن نعلم أن ساهر ليلة النصف من شعبان لتلك الصلة الحدثة ل يأتيه الصبح إل وهو نائم أو ف‬
‫غاية الكسل فيخل بصلة الصبح ‪ ،‬وكذلك سائر الحدثات فصارت هذه الزيادة عائدة على ما هو‬

‫‪195‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أول منها بالبطال أو الخلل ‪ ،‬وقد مر أن ما من بدعة تدث إل ويوت من السنة ما هو خي منها‬
‫‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن هذا القياس مالف لصل شرعي ‪ ،‬وهو طلب النب صلى ال عليه وسلم السهولة والرفق‬
‫والتيسي وعدم التشديد ‪ ،‬وزيادة وظيفة ل تشرع فتظهر ويعمل با دائما ف مواطن السنن ‪ ،‬فهو‬
‫تشديد بل شك ‪ ،‬وإن سلمنا ما قال ‪ ،‬فقد وجد كل مبتدع من العامة السبيل إل إحداث البدع ‪،‬‬
‫وأخذ هذا الكلم بيده حجة وبرهانا على صحة ما يدثه كائنا ما كان ‪ ،‬وهو مرمى بعيد ‪.‬‬

‫فصل ث استدل على جواز الدعاء أثر الصلوات‬


‫ث استدل على جواز الدعاء إثر الصلة ف الملة ‪ ،‬ونقل ف ذلك عن مالك وغيه أنواعا من‬
‫الكلم ‪ ،‬وليس هذا مل الناع بل جعل الدلة شاملة لتلك الكيفية الذكورة ‪ .‬وعقب ذلك بقوله ‪:‬‬
‫وقد تظاهرت الحاديث والثار وعمل الناس وكلم العلماء على هذا العن ‪ ،‬كما قد ظهر ـ قال‬
‫ـ ومن العلوم أنه عليه السلم كان المام ف الصلوات ‪ ،‬وأنه ل يكن ليخص نفسه بتلك الدعوات ‪،‬‬
‫إذ قد جاء من سنته ‪:‬‬
‫" ل يل لرجل أن يؤم قوما إل بإذنم‪ ،‬ول يص نفسه بدعوة دونم ‪ ،‬فإن فعل فقد خانم" ‪ .‬فتأملوا‬
‫يا أول اللباب ! فإن عامة النصوص فيما سع من أدعيته ف أدبار الصلوات إنا كان دعاء لنفسه ‪،‬‬
‫وهذا الكلم يقول فيه ‪ :‬إنه ل يكن ليخص نفسه بالدعاء دون الماعة ‪ ،‬وهذا تناقض ‪ ،‬ومن ال‬
‫نسأل التوفيق ‪.‬‬
‫وإنا حل الناس الديث على دعاء المام ف نفس الصلة من السجود وغيه ‪ ،‬ل فيما حله عليه هذا‬
‫التأول ‪ ،‬ولا ل يصح العمل بذلك الديث عند مالك أجاز للمام أن يص نفسه بالدعاء دون‬
‫الأمومي ‪ .‬ذكره ف النوادر ‪ ،‬ولا اعترضه كلم العلماء وكلم السلف ما تقدم ذكره ‪ ،‬أخذ يتأول‬
‫ويوجه كلمهم على طريقتة الرتبكة ووقع له ف كلم على غي تأمل ل يسلم ظاهره من التناقض‬
‫والتدافع لوضوح أمره ‪ ،‬وكذلك ف تأويل الحاديث الت نقلها ‪ ،‬لكن تركت هنا استيفاء الكلم‬
‫عليها لطوله ‪ ،‬وقد ذكرته ف غي هذا الوضع ‪ ،‬والمد ل على ذلك ‪.‬‬

‫فصل ويكن أن يدخل ف البدع الضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبي أهو بدعة‬
‫ويكن أن يدخل ف البدع الضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبي أهو بدعة فينهى عنه ؟ أم غي بدعة‬
‫فيعمل به ؟ فإنا إذا اعتبناه بالحكام الشرعية وجدناه من الشتبهات الت قد ندبنا إل تركها حذرا‬
‫من الوقوع ف الحظور ‪ .‬والحظور هنا هو العمل بالبدعة ‪ ،‬فإذا العامل به ل يقطع أنه عمل ببدعة ‪،‬‬

‫‪196‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كما أنه ل يقطع أنه عمل بسنة ‪ ،‬فصار من جهة هذا التردد غي عامل ببدعة حقيقية ‪ ،‬ول يقال أيضا‬
‫‪ :‬إنه خارج عن العمل با جلة ‪.‬‬
‫وبيان ذلك أن النهي الوارد ف الشتبهات إنا هو حاية أن يقع ف ذلك المنوع الواقع فيه الشتباه ‪،‬‬
‫ل للميتة ف الشتباه‬‫فإذا اختلطت اليتة بالذكية نيناه عن القدام ‪ ،‬فإن أقدم أمكن عندنا أن يكون آك ً‬
‫‪ ،‬فالنهي الخف إذا منصرف نو اليتة ف الشتباه ‪ ،‬كما انصرف إليها النهي الشد ف التحقق ‪.‬‬
‫وكذلك اختلط الرضيعة بالجنبية ‪ :‬النهي ف الشتباه منصرف إل الرضيعة كما انصرف إليها ف‬
‫التحقق ‪ ،‬وكذلك سائر الشتبهات إنا ينصرف ني القدام على الشتبه إل خصوص المنوع‬
‫الشتبه ‪ ،‬فإذا الفعل الدائر بي كونه سنة أو بدعة إذا ني عنه ف باب الشتباه ني عن البدعة ف‬
‫الملة ‪ ،‬فمن أقدم على منهي عنه ف باب البدعة لنه متمل أن يكون بدعة ف نفس المر ‪ ،‬فصار‬
‫من هذا الوجه كالعامل بالبدعة النهي عنها ‪ ،‬وقد مر أن البدعة الضافية هي الواقعة ذات وجهي ‪،‬‬
‫فلذلك قيل ‪ :‬إن هذا القسم من قبيل البدع الضافية ‪ ،‬ولذا النوع أمثلة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬إذا تعارضت الدلة على الجتهد ف أن العمل الفلن مشروع يتعبد به ‪ ،‬أو غي مشروع‬
‫فل يتعبد به ‪ ،‬ول يتبي جع بي الدليلي ‪ ،‬أو إسقاط أحدها بنسخ أو ترجيح أو غيها ‪ ،‬فقد ثبت‬
‫ف الصول أن فرضه التوقف ‪ ،‬فلو عمل بقتضى دليل التشريع من غي مرجح لكان عاملً بتشابه ‪،‬‬
‫لمكان صحة الدليل بعدم الشروعية ‪ ،‬فالصواب الوقوف عن الكم رأسا ‪ ،‬وهو الفرض ف حقه ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬إذا تعارضت القوال على القلد ف السألة بعينها ‪ ،‬فقال بعض العلماء ‪ :‬يكون العمل بدعة ‪،‬‬
‫وقال بعضهم ‪ :‬ليس ببدعة ‪ ،‬ول يتبي له الرجح من العالي بأعلمية أو غيها ‪ ،‬فحقه الوقوف‬
‫والسؤال عنهما حت يتبي له الرجح فيميل إل تقليده دون الخر ‪،‬فإن أقدم على تقليد أحدها من‬
‫غي مرجح كان حكمه حكم الجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلي من غي ترجيح ‪ ،‬فالثالن ف‬
‫العن واحد ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أنه ثبت ف الصحاح عن الصحابة رضي ال عنهم كانوا يتبكون بأشياء من رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ففي البخاري عن "أب جحيفة رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫خرج علينا رسول ال صلى ال عليه وسلم بالاجرة فأت بوضوء فتوضأ ‪ ،‬فجعل الناس يأخذون من‬
‫فضل وضوئه فيتمسحون به " الديث ‪ ،‬وفيه ‪ :‬كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه ‪.‬‬
‫وعن السور رضي ال عنه ف حديث الديبية ‪" :‬وما انتخم النب صلى ال عليه وسلم نامة إل‬
‫وقعت ف كف رجل منهم فدلك با وجهه وجلده" ‪ ،‬وخرج غيه من ذلك كثيا ف التبك بشعره‬
‫وثوبه وغيها ‪ ،‬حت أنه مس بإصبعه أحدهم بيده فلم يلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلم حت‬
‫مات ‪.‬‬

‫‪197‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وبالغ بعضهم ف ذلك حت شرب دم حجامته إل أشياء كهذا كثية ‪ ،‬فالظاهر ف مثل هذا النوع أن‬
‫يكون مشروعا ف حق وليته واتباعه لسنة رسول ال صلىال عليه وسلم ‪ ،‬وأن يتبك بفضل وضوئه‬
‫‪ ،‬ويتدلك بنخامته ‪ ،‬ويستشفى بآثاره كلها ‪ ،‬ويرجى نو ما كان ف آثار التبوع الصل صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪.‬‬
‫إل أنه عارضنا ف ذلك أصل مقطوع به ف متنه ‪ ،‬مشكل ف تنيله ‪ ،‬وهو أن الصحابة رضي ال‬
‫عنهم بعد موته عليه السلم ل يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إل من خلفه ‪ ،‬إذ ل يترك‬
‫النب صلى ال عليه وسلم بعده ف المة أفضل من أب بكر الصديق رضي ال عنه ‪ ،‬فهو كان‬
‫خليفته ‪ ،‬ول يفعل به شيء من ذلك ول عمر رضي ال عنهما ‪ ،‬وهو كان ف المة ‪ ،‬ث كذلك‬
‫عثمان ث علي ث سائر الصحابة الذين ل أحد أفضل منهم ف المة ‪ ،‬ث ل يثبت لواحد منهم من‬
‫طريق صحيح معروف أن متبكا تبك به على أحد تلك الوجوه أو نوها ‪ ،‬بل اقتصروا فيهم على‬
‫القتداء بالفعال والقوال والسي الت اتبعوا فيها النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فهو إذا إجاع منهم‬
‫على ترك تلك الشياء ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يعتقدوا فيه الختصاص وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله للقطع بوجود ما التمسوا‬
‫من البكة والي ‪ ،‬لنه عليه السلم كان نورا كله ف ظاهره وباطنه ‪ ،‬فمن التمس منه نورا وجده‬
‫على أي جهة التمسه ‪ ،‬بلف غيه من المة ـ وإن حصل له من نور القتداء به والهتداء بديه ما‬
‫شاء ال ـ ل يبلغ مبلغه على حال توازيه ف مرتبته ‪ ،‬ول تقاربه فصار هذا النوع متصا به‬
‫كاختصاصه بنكاح ما زاد على الربع ‪ ،‬وإحلل بضع الواهبة نفسها له ‪ ،‬وعدم وجوب القسم عليه‬
‫للزوجات وشبه ذلك ‪ ،‬فعلى هذا الأخذ ‪ :‬ل يصح لن بعده القتداء به ف التبك على أحد تلك‬
‫الوجوه ونوها ‪ ،‬ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة ‪ ،‬كما كان القتداء به ف الزيادة على أربع نسوة‬
‫بدعة ‪.‬‬
‫الثان ‪ :‬أن ل يعتقدوا الختصاص ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع خوفا من أن يعل ذلك سنة‬
‫ـ كما تقدم ذكره ف اتباع الثار ـ والنهي عن ذلك ‪ ،‬أو لن العامة ل تقتصر ف ذلك على حد ‪،‬‬
‫بل تتجاوز فيه الدود ‪ ،‬وتبالغ بهلها ف التماس البكة ‪ ،‬حت يداخلها للمتبك به تعظيم يرج به‬
‫عن الد فربا اعتقد فيالتبك به ما ليس فيه ‪ ،‬وهذا التبك هو أصل العبادة ‪ ،‬ولجله قطع عمر رضي‬
‫ال عنه الشجرة الت بويع تتها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬بل هو كان أصل عبادة الوثان ف‬
‫المم الالية ـ حسبما ذكره أهل السي ـ فخاف عمر رضي ال عنه أن يتمادى الال ف الصلة‬
‫إل تلك الشجرة حت تعبد من دون ال ‪ ،‬فكذلك يتفق عند التوغل ف التعظيم ‪.‬‬
‫ولقد حكى الفرغان مذيل تاريخ الطبي عن اللج أن أصحابه بالغوا ف التبك به حت كانوا‬
‫يتمسحون ببوله ويتبخرون بعذرته ‪ ،‬حت ادعوا فيه اللية تعال ال عنا يقولون علوا كبيا ‪.‬‬

‫‪198‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولن الولية وإن ظهر لا ف الظاهر آثار فقد يفى أمرها ‪ ،‬لنا ف القيقة راجعة إل أمر باطن ل‬
‫يعلمه إل ال ‪ ،‬فربا ادعيت الولية لن ليس بول ‪ ،‬أو ادعاها هو لنفسه ‪ ،‬أو أظهر خارقة من خوارق‬
‫العادات هي من باب الشعوذة ل من باب الكرامة ‪ ،‬أو من باب السحر ‪ ،‬أو الواص أوغي ذلك ‪،‬‬
‫والمهور ل يعرف الفرق بي الكرامة والسحر فيعظمون من ليس بعظيم ويقتدون بن ل قدوة فيه‬
‫ـ وهو الضلل البعيد ـ إل غي ذلك من الفاسد ‪ ،‬وتركوا العمل با تقدم ـ وإن كان له أصل ـ‬
‫لا يلزم عليه من الفساد ف الدين ‪.‬‬
‫وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثان أرجح ‪ ،‬لا ثبت ف الًصول العلمية أن كل قربة أعطيها‬
‫الن صلى ال عليه وسلم فإن لمته أنوذجا منها ‪ ،‬ما ل يدل دليل على الختصاص ‪.‬‬
‫إل أن الوجه الول راجح من جهة أخرى ‪ ،‬وهو إطباقهم على الترك إذ لو كان اعتقادهم التشريع‬
‫لعمل بع بعضهم بعده ‪ ،‬أو عملوا به ولو ف بعض الحوال إما وقوفا مع أصل الشروعية ‪ ،‬وإما بناء‬
‫على اعتقاد انتقاء العلة الوجبة للمتناع ‪.‬‬
‫وقد خرج ابن وهب ف جامعه من حديث يونس ين يزيد ‪ ،‬عن ابن شهاب قال ‪:‬‬
‫حدثن رجل من النصار ‪:‬‬
‫"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ابتدر من حوله من السلمي وضوءه‬
‫ونامته فشربوه ومسحوا به جلودهم ‪ ،‬فلما رآهم يصنعون ذلك سألم ‪ :‬ل تفعلون هذا ؟ قالوا ‪:‬‬
‫نلتمس الطهور والبكة بذلك ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬من كان منكم يب ال‬
‫ورسوله فليصدق الديث ‪ ،‬وليؤد المانة ول يؤذ جاره" فإن صح هذا النقل فهو مشعر بأن الول‬
‫تركه وأن يتحرى ما هو آكد والحرى من وظائف التكليف ‪ ،‬ول يلزم النسان ف خاصة نفسه ‪،‬‬
‫ول يثبت من ذلك كله إل ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها أو دعاء الرجل لغيه على وجه سيأت‬
‫بول ال ‪.‬‬
‫فقد صارت السألة من أصلها دائرة بي أمرين ‪ :‬أن تكون مشروعة ‪ ،‬فدخلت تت حكم التشابه أو‬
‫تكون غي مشروعة وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل ومن البدع الضافية الت تقرب من القيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا‬
‫ومن البدع الضافية الت تقرب من القيقية أن يكون أصل العبادة مشروعا إل أنا ترج عن أصل‬
‫شرعيتها بغي دليل توها أنا باقية على أصلها تت مقتضى الدليل ‪ ،‬وذلك بأن يقيد إطلقها بالرأي ‪،‬‬
‫أو يطلق تقييدها ‪ ،‬وبالملة فتخرج عن حدها الذي حد لا ‪.‬‬
‫ومثال ذلك أن يقال ‪ :‬إن الصوم ف الملة مندوب إليه ل يصه الشارع بوقت دون وقت ‪ ،‬ول حد‬
‫فيه زمانا دون زمان ‪ ،‬ما عدا ما ني عن صيامه على الصوص كالعيدين ‪ ،‬وندب إليه على‬

‫‪199‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الصوص كعرفة وعاشوراء بقول ‪ ،‬فإذا خص منه يوما من المعة بعينه ‪ ،‬أو أياما من الشهر بأعيانا‬
‫ـ ل من جهة ما عينه الشارع ـ فإن ذلك ظاهر بأنه من جهة اختيار الكلف ‪ ،‬كيوم الربعاء مثلً‬
‫ف المعة ‪ ،‬والسابع والثامن ف الشهر ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬بيث ل يقصد بذلك وجها بعينه ما ل‬
‫ينثن عنه ‪ .‬فإذا قيل له ‪ :‬ل خصصت تلك اليام دون غيها ؟ ل يكن له بذلك حجة غي التصميم ‪،‬‬
‫أو يقول ‪ :‬إن الشيخ الفلن مات فيه أو ما أشبه ذلك ‪ ،‬فل شك أنه رأي مض بغي دليل ‪ ،‬ضاهى‬
‫به تصيص الشارع أياما بأعيانا دون غيها ‪ ،‬فصار التخصيص من الكلف بدعة ‪ ،‬إذ هي تشريع‬
‫بغي مستند ‪.‬‬
‫ومن ذلك تصيص اليام الفاضلة بأنواع من العبادات الت ل تشرع لا تصيصا ‪ ،‬كتخصيص اليوم‬
‫بكذا وكذا من الركعات ‪ ،‬أو بصدقة كذا وكذا ‪ ،‬أو الليلة الفلنية بقيام كذا وكذا ركعة ‪ ،‬أو بتم‬
‫القرآن فيها أو ما أشبه ذلك فإن ذلك التخصيص والعمل به إذا ل يكن بكم الوفاق أو بقصد يقصد‬
‫مثله أهل العقل والفراغ والنشاط ‪ ،‬كان تشريعا زائدا ‪.‬‬
‫ول حجة له ف أن يقول ‪ :‬إن هذا الزمان ثبت فضله على غيه فيحسن فيه إيقاع العبادات لنا نقول‬
‫‪ :‬هذا السن هل ثبت له أصل أم ل ؟ فإن ثبت فهو مسألتنا كما ثبت الفضل ف قيام ليال رمضان ‪،‬‬
‫وصيام ثلثة أيام من كل شهر ‪ ،‬وصيام الثني والميس ‪ ،‬فإن ل يثبت فما مستندك فيه العقل ل‬
‫يسن ول يقبح ول شرع يستند إليه ؟ فلم يبق إل أنه ابتداع ف التخصيص ‪ ،‬كإحداث الطب‬
‫وتري ختم القرآن ف بعض ليال رمضان ‪.‬‬
‫ومن ذلك التحدث مع العوام با ل تفهمه ول تعقل معناه ‪ ،‬فإنه من باب وضع الكمة غي‬
‫موضعها ‪ ،‬فسامعها إنا أن يفهمها على غي وجهها ـ وهو الغالب ـ وهو فتنة تؤدي إل التكذيب‬
‫بالق ‪ ،‬وإل العمل بالباطل ‪ .‬وإما ل يفهم منها شيئا وهو أسلم ‪ ،‬ولكن الحدث ل يعط الكمة‬
‫حقها من الصون ‪ ،‬بل صار التحدث با كالعابث بنعمة ال ‪.‬‬
‫ث إن ألقاها لن ل يعقلها ف معرض النتفاع بعد تعقلها كان من باب التكليف با ل يطاق ‪ .‬وقد‬
‫جاء النهي عن ذلك ‪ .‬فخرج أبو داود حديثا عن النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"أنه نى عن الغلوطات " ‪ .‬قالوا ‪ :‬وهي صعاب السائل أو شرار السائل ‪ ،‬وف الترمذي ـ أو غيه‬
‫ل أتى النب صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال ! أتيتك لتعلمن من غرائب العلم ‪،‬‬ ‫ـ "أن رج ً‬
‫فقال عليه السلم ‪ :‬ما صنعت ف رأس العلم ؟ قال ‪ :‬وما رأس العلم ؟ قال ‪ :‬هل عرفت الرب ؟ قال‬
‫‪ :‬نعم ‪.‬قال ‪ :‬فما صنعت ف حقه ؟ قال ‪ :‬ما شاء ال ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اذهب‬
‫فأحكم ما هنالك ث تعال أعلمك من غرائب العلم" ‪ ،‬وهذا العن هو مقتضى الكمة ‪ ،‬ل تعلم‬
‫الغرائب إل يعد إحكام الصول ‪ ،‬وإل دخلت الفتنة ‪ ،‬وقد قالوا ف العال الربان ‪ :‬إنه الذي يرب‬
‫بصغار العلم قبل كباره ‪.‬‬

‫‪200‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذه الملة شاهدها ف الديث الصحيح مشهور ‪ .‬وقد ترجم على ذلك البخاري فقال ‪ ( :‬باب‬
‫من رخص بالعلم قوما دون قوم كراهية أن ل يفهموا ) ‪ ،‬ث أسند عن علي بن أب طالب رضي ال‬
‫عنه أنه قال ‪ :‬حدثوا الناس با يعرفون ‪ ،‬اتبون أن يكذب ال ورسوله ؟ ث ذكر حديث معاذ الذي‬
‫أخب به عند موته تأثيما ‪ ،‬وإنا ل يذكره إل عند موته لن النب صلى ال عليه وسلم ل يأذن له ف‬
‫ذلك لا خشي من تنيله غي منلته ‪ ،‬وعلمه معاذا لنه من أهله ‪.‬‬
‫وف مسلم عن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫ما أنت بحدث قوما حديثا ل تبلغه عقولم إل كان لبعضهم فتنة ‪ :‬قال ابن وهب ‪ :‬وذلك أن‬
‫يتأولوه غي تأويله ويملوه على غي وجهه ‪.‬‬
‫وخرج شعبة عن كثي بن مرة الضرمي أنه قال ‪ :‬إن عليك ف عملك حقا كما أن عليك ف مالك‬
‫حقا ‪ ،‬ل تدث بالعلم غي أهله فتجهل ‪ ،‬ول تنع العلم أهله فتأث ‪ ،‬ول تدث بالكمة عند‬
‫السفهاء فيكذبوك ‪ ،‬ول تدث بالباطل عند الكماء فيمقتوك ‪.‬‬
‫وقد ذكر العلماء هذا العن ف كتبهم وبسطوه بسطا شافيا والمد ل ‪ .‬وإنا نبهنا عليه لن كثيا‬
‫من ل يقدر قدر هذا الوضع يزل فيه فيحدث الناس با ل تبلغه عقولم ‪ ،‬وهو على خلف الشرع ‪،‬‬
‫وما كان عليه سلف هذه المة ‪.‬‬
‫ومن ذلك أيضا جيع ما تقدم ف فضل السنة ‪ ،‬الت يكون العمل با ذريعة إل البدعة ‪ ،‬من حيث إنا‬
‫عمل با ول يعمل با سلف هذه المة ‪.‬‬
‫ومنه تكرار السورة الواحدة ف التلوة أو ف الركعة الواحدة ‪ ،‬فإن التلوة ل تشرع على ذلك الوجه‬
‫ول أن يص من القرآن شيئا دون شيء ل ف صلة ول ف غيها ـ فصار الخصص لا عاملً برأيه‬
‫ف التعبد ل ‪.‬‬
‫وخرج ابن وضاح عن مصعب قال ‪ :‬سئل سفيان عن رجل يكثر قراءة ‪" :‬قل هو ال أحد" ل يقرا‬
‫غيها كما يقرؤها ‪ ،‬فكرهه وقال ‪ :‬إنا أنتم متبعون فاتبعوا الولي ‪ ،‬ول يبلغنا عنهم نو هذا ‪ .‬وإنا‬
‫أنزل القرآن ليقرأ ول يص شيء دون شيء ‪.‬‬
‫وخرج أيضا ـ وه ف العتبية من ساع ابن القاسم ـ عن مالك رحه ال أنه سئل على قراءة "قل هو‬
‫ال أحد" مرارا ف الركعة الواحدة فكره ذلك وقال ‪ :‬هذا من مدثات المور الت أحدثوا ‪.‬‬
‫وممل هذا عند ابن رشد من باب الذريعة ‪ ،‬ولجل ذلك ل يأت مثله عن السلف ‪.‬‬
‫وإن كانت تعدل ثلث القرآن ـ كما ف الصحيح ـ وهو صحيح فتأمله ف الشرح ‪.‬‬
‫وف الديث أيضا ما يشعر بأن التكرار كذلك عمل مدث ف مشروع الصل بناء على ما قاله ابن‬
‫رشد فيه ‪.‬‬

‫‪201‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومن ذلك قراءة القرآن بيئة الجتماع عشية عرفة ف السجد للدعاء تشبها بأهل عرفة ‪ ،‬ونقل الذان‬
‫يوم المعة من النار وجعله قدام المام ‪ .‬ففي ساع ابن القاسم وسئل عن القرى الت ل يكون فيها‬
‫إمام إذا صلى بم رجل منهم المعة ‪ :‬أيطب بم ؟ قال ‪ :‬نعم ! ل تكون المعة إل بطبة ‪ ،‬فقيل له‬
‫‪ :‬أفيؤذن قدامه ؟ قال ‪ :‬ل ‪ ،‬واحتج على ذلك بفعل أهل الدينة ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬الذان بي يدي المام ف المعة مكروه لنه مدث ‪ .‬قال وأول من أحدثه هشام بن‬
‫عبد اللك ‪ ،‬وإنا كان رسول ال صلى ال عليه وسلم إذا زالت الشمس وخرج فرقى النب ‪ ،‬فإذا رآه‬
‫الؤذن ـ وكانوا ثلثة ـ قاموا فأذنوا ف الشرفة واحدا بعد واحد كما يؤذن ف غي المعة ‪ ،‬فإذا‬
‫فرغوا أخذ رسول ال صلى ال عليه وسلم ف خطبته ‪ .‬ث تله أبو بكر وعمر رضي ال عنهما ‪،‬‬
‫فزاده عثمان رضي ال عنه لا كثر الناس أذانا بالزوراء عند زوال الشمس ‪ ،‬ويؤذن الناس فيه بذلك‬
‫أن الصلة قد حضرت ‪ ،‬وترك الذان ف الشرفة بعد جلوسه على النب على ما كان عليه ‪ ،‬فاستمر‬
‫المر على ذلك إل زمان هشام ‪ ،‬فنقل الذان الذي كان بالزوراء إل الشرفة ونقل الذان الذي كان‬
‫بالشرفة بي يديه ‪ ،‬وأمرهم أن يؤذنوا صفا ‪ .‬وتله على ذلك من بعده من اللفاء إل زماننا هذا ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬وهو بدعة ‪ .‬قال ‪ :‬والذي فعله رسول ال صلى ال عليه وسلم واللفاء الراشدون‬
‫بعده هو السنة ‪.‬‬
‫وذكر ابن حبيب ما كان فعله عليه السلم وفعل اللفاء بعده كما ذكر ابن رشد وكأنه نقله من‬
‫كتابه ‪ ،‬وذكر قصة هشام ‪ .‬ث قال ‪ :‬والذي كان فعل رسول ال صلى ال عليه وسلم هي السنة ‪.‬‬
‫وثد حدثن أسد بن موسى ‪ ،‬عن يي بن سليم ‪ ،‬عن حعفر بن ممد بن جابر بن عبيد ال "أن‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ف خطبته ‪:‬أفضل الدي هدي ممد ‪ ،‬وشر المور مدثاتا ‪،‬‬
‫وكل بدعة ضللة" ‪.‬‬
‫وما قاله ابن حبيب من أن الذان عند صعود المام على النب كان باقيا ف زمان عثمان رضي ال عنه‬
‫موافق لا نفله أرباب النقل الصحيح ‪ ،‬وأن عثمان ل يزد على ما كان قبله إل الذان على الزوراء ‪،‬‬
‫فصار إذا نقل هشام الذان الشروع ف النار إل ما بي يديه بدعة ف ذلك الشروع ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فكذلك أذان الزوراء مدث أيضا ‪ ،‬بل هو مدث من أصله غي منقول من موضعه ‪،‬‬
‫فالذي يقال هنا يقال مثله ف أذان هشام ‪ ،‬بل هو أخف منه‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬أن أذان الزوراء وضع هنالك على أصله من العلم بوقت الصلة وجعله بذلك الوضع‬
‫لنه ل يكن ليسمع إذا وضع بالسجد كما كان ف زمان من قبله ‪ ،‬فصارت كائنة أخرى ل تكن‬
‫فيما تقدم ‪ ،‬فاجتهد لا كسائر مسائل الجتهاد ‪ ،‬وحي كان مقصودا الذان العلم فهو باق كما‬
‫كان ‪ ،‬فليس وضعه هنالك بناف ‪ ،‬إذ ل تترع فيه أقاويل مدثة ‪ ،‬ول ثبت أن الذان بالنار أ وف‬
‫سطح السجد تعبد غي معقول العن ‪ ،‬فهو اللئم من أقسام الناسب ‪ ،‬بلف نقله من النار إل ما‬

‫‪202‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بي يدي المام ‪،‬فإنه قد أخرج بذلك أولً عن أصله من العلم ‪ ،‬إذ ل يشرع لهل السجد إعلم‬
‫بالصلة إل بالقامة ‪ ،‬وأذان جع الصلتي موقوف على مله ‪ ،‬ث أذانم على صوت واحد زيادة ف‬
‫الكيفية ‪.‬‬
‫ومن ذلك الذان والقامة ف العيدين ‪ ،‬فقد نقل ابن عبد الب اتفاق الفقهاء على أن ل أذان ول إقامة‬
‫فيهما ‪ ،‬ول ف شيء من الصلوات السنونات والنوافل ‪ ،‬وإنا الذان للمكتوبات ‪ ،‬وعلى هذا مضى‬
‫عمل اللفاء ‪ :‬أب بكر وعمر وعثمان وعلي ‪ ،‬وجاعة الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬وعلماء التابعي ‪،‬‬
‫وفقهاء المصار ‪ ،‬وأول من أحدث الذان والقامة ف العيدين ـ فيما ذكر ابن حبيب ـ هشام بن‬
‫عبد اللك أراد أن يؤذن الناس بالذان بجيء المام ‪ ،‬ث بدا بالطبة قبل الصلة كما بدأ با مروان ‪،‬‬
‫ث أمر بالقامة بعد فراغه من الطبة ليؤذن الناس بفراغه من الطبة ودخوله ف الصلة لبعدهم عنه ‪.‬‬
‫( قال ) ‪ :‬ول يرد مروان وهشام إل الجتهاد فيما رأيا ‪ ،‬إل أنه ل يوز اجتهاد ف خلف رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ( قال ) ‪ :‬وقد حدثن ابن الاجشون أنه سع مالكا يقول ‪ :‬من أحدث ف هذه‬
‫المة شيئا ل يكن عليه سلفها ‪ ،‬فقد زعم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ‪ ،‬لن ال‬
‫يقول ‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم نعمت ورضيت لكم السلم دينا" فما ل يكن‬
‫يومئذ دينا فل يكون اليوم دينا ‪.‬‬
‫وقد روي أن الذي أحدث الذان معاوية ‪ ،‬وقيل ‪ :‬زياد ‪ ،‬وأن ابن الزبي فعله آخر إمارته ‪ ،‬والناس‬
‫على خلف هذا النقل ‪.‬‬
‫ولقائل أن يقول ‪ :‬إن الذان هنا نظي أذان الزوراء لعثمان رضي ال عنه ‪ ،‬فما تقدم فيه من التوجيه‬
‫الجتهادي جار هنا ‪ ،‬ول يكون بسبب ذلك مالفا للسنة ‪ ،‬لن قصة هشام نازلة ل عهد با فيما‬
‫تقدم ‪ ،‬لن الذان إعلم بجيء المام لفاء ميئه عن الناس لبعدهم عنه ‪ ،‬ث القامة للعلم‬
‫بالصلة ‪ ،‬إذ لولها ل يعرفوا دخوله ف الصلة فصار ذلك أمرا ل بد منه كأذان الزوراء ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن ميء المام ل يشرع فيه الذان وإن خفي على بعض الناس لبعده بكثرة الناس ‪،‬‬
‫فكذلك ل يشرع فيما بعد ‪ ،‬لن العلة كانت موجودة ث ل تشرع ‪ ،‬إذ ل يصح أن تكون العلة غي‬
‫مؤثرة ف زمان النب صلى ال عليه وسلم واللفاء بعده ث تصي مؤثرة ‪ ،‬وأيضا فإحداث الذان‬
‫والقامة انبن على إحداث تقدي الطبة على الصلة ‪ ،‬وما انبن على الحدث مدث ‪ ،‬ولنه لا ل‬
‫يشرع ف النوافل أذان ول اقامة على حال فهمنا من الشرع التفرقة بي النفل والفرض لئل تكون‬
‫النوافل كالفرائض ف الدعاء إليها ‪ ،‬فكان إحداث الدعاء إل النوافل ل يصادف ملً ‪ ،‬وبذه الوجه‬
‫الثلثة يصل الفرق بي أذان الزوراء وبي ما نن فيه ‪ ،‬فل يصح أن يقاس أحدها على الخر ‪،‬‬
‫والمثلة ف هذا العن كثية ‪.‬‬

‫‪203‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومن نوادرها الت ل ينبغي أن تغفل ما جرى به عمل جلة من ينتمي إل طريقة الصوفية من تربصهم‬
‫ببعض العبادات أوقاتا مصوصة غي ما وقته الشرع فيها ‪ ،‬فيضعون نوعا من العبادات الشروعة ف‬
‫زمن الربيع ‪ ،‬ونوعا آخر ف زمن الصيف ‪ ،‬ونوعا آخر ف زمن الريف ‪ ،‬ونوعا آخر ف زمن الشتاء‬
‫‪.‬‬
‫وربا وضعوا لنواع من العبادات لباسا مصوصا ‪ ،‬وأشباه ذلك من الوضاع الفلسفية يضعونا‬
‫شرعية ‪ ،‬أي متقربا با إل الضرة اللية ف زعمهم ‪ ،‬وربا وضعوها على مقاصد غي شرعية ‪،‬‬
‫كأهل التصريف بالذكار والدعوات ليستجلبوا با الدنيا من الال والاه والظوة ورفعة النلة ‪ ،‬بل‬
‫ليقتلوا با إن شاؤوا أو يرضوا ‪ ،‬أو يتصرفوا وفق أغراضهم ‪ .‬فهذه كلها بدع مدثات بعضها أشد‬
‫من بعض ‪ ،‬لبعد هذه الغراض عن مقاصد الشريعة السلمية الوضوعة مبأة عن مقاصد‬
‫التخرصي ‪ ،‬مطهرة لن تسك با عن أوضار اتباع الوى ‪ ،‬إذ كل متدين با عارف بقاصدها‪.‬‬
‫ينهها عن أمثال هذه القاصد الواهية ‪ ،‬فالستدلل على بطلن دعاويهم فيها من باب شغل الزمان‬
‫بغي ما هو أول ‪ .‬وقد تقرر ـ بول ال ـ ف أصل القاصد من كتاب الوافقات ما يؤخذ منه حكم‬
‫هذا النمط والبهان على بطلنه ‪ ،‬لكن على وجه كلي مفيد وبال التوفيق ‪.‬‬
‫وهذا كله إن فرضنا أصل العبادة مشروعا ‪ ،‬فإن كان أصلها غي مشروع فهي بدعة حقيقية مركبة‬
‫كالذكار والدعية بزعم العلماء أنا مبنية على علم الروف ‪ .‬وهو الذي اعتن به البون وغيه من‬
‫حذا حذوه أو قاربه ‪ .‬فإ ن ذلك العلم فلسفة ألطف من فلسفة معلمهم الول وهو أرسطاطاليس ‪،‬‬
‫فردوها إل أوضاع الروف ‪ ،‬وجعلوها هي الاكمة ف العال ‪ .‬وربا أشاروا عند العمل بقتضى‬
‫تلك الذكار وما قصد با إل تري الوقات والحوال اللئمة لطبائع الكواكب ليحصل التأثي‬
‫عندهم وحيا ‪ ،‬فحكموا العقول والطبائع ـ كما ترى ـ وتوجهوا شطرها ‪ ،‬وأعرضوا عن رب‬
‫العقل والطبائع ‪ ،‬وإن ظنوا أنم يقصدونه اعتقادا ف استدللم لصحة ما انتحلوا على وقوع المر‬
‫وفق ما يقصدون ‪ ،‬فإذا توجهوا بالذكر والدعاء الفروض على الغرض الطلوب حصل ‪ ،‬سواء عليهم‬
‫أنفعا كان أو ضرا ‪ ،‬وخيا كان أم شرا ‪ ،‬ويبنون على ذلك اعتقاد بلوغ النهاية ف إجابة الدعاء ‪ .‬أو‬
‫حصل نوع من كرامات الولياء ‪ ،‬كل ! ليس طريق ذلك التأثي من مرادهم ‪ ،‬ول كرامات الولياء‬
‫أو إجابة الدعاء من نتائج أورادهم ‪ ،‬فل تلقي بي الرض والسماء ‪ ،‬ول مناسبة بي النار والاء ‪.‬‬
‫فإن قلت ‪ :‬فلم يصل التأثي حسبما قصدوا؟ فالواب ‪ :‬إن ذلك ف الصل قبيل الفتنة الت اقتضاها‬
‫ف اللق "ذلك تقدير العزيز العليم" فالنظر إل وضع السباب والسببات أحكام وضعها الباري تعال‬
‫ف النفوس يظهر عندها ما شاء ال من التأثيات ‪ ،‬على نو ما يظهر على العيون عند الصابة ‪،‬‬
‫وعلى السحور عند عمل السحر ‪ ،‬بل هو بالسحر أشبه لستمدادها من أصل واحد ‪ ،‬وشاهده ما‬
‫جاء ف الصحيح خرجه مسلم من حديث أب هريرة رضي ال عنه قال ‪" :‬قال رسول ال صلى ال‬

‫‪204‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫عليه وسلم ‪ :‬إن ال يقول ‪ :‬أنا عند ظن عبدي ب ‪ ،‬وأنا معه إذا دعان " ـ وف بعض الروايات ـ "‬
‫أنا عند ظن عبدي ب فليظن ب ما شاء" وشرح هذه العان ل يليق با نن فيه ‪.‬‬
‫والاصل ‪ :‬أن وضع الذكار والدعوات ‪ ،‬على نو ما تقدم من البدع الحدثات ‪ ،‬لكن تارة تكون‬
‫البدعة فيها إضافية ‪ ،‬بإعتبار أصل الشروعة ‪.‬‬

‫فصل فإن قيل فالبدع الضافية هل يعتد با‬


‫فإن قيل ‪ :‬فالبدع الضافية هل يعتد با عبادات حت تكون من تلك الهة متقربا با إل ال تعال أم‬
‫ل تكون كذلك ؟ فإن كان الول فل تأثي إذا لكونا بدعة ‪ ،‬ول فائدة ف ذكره ‪ ،‬إذ ل يلو من‬
‫أحد المرين ‪ :‬إما أن ل يعتب بهة البتداع ف العبادة الفروضة ‪ .‬فتقع مشروعة يثاب عليها ‪ ،‬فتصي‬
‫جهة البتداع مغتفرة ‪ ،‬فل على البتدع فيها أن يبتدع ‪ .‬وإما أن يعتب البتداع ‪ ،‬فقد صار للبتداع‬
‫أثر ف ترتب الثواب ‪ ،‬فل يصح أن يكون منفيا عنه بإطلق ‪ ،‬وهو خلف ما تقرر من عموم الذم فيه‬
‫‪ .‬وإن كان الثان فقد تدث البدعة الضافية مع القيقية بالتقسيم الذي انبن عليه الباب الذي نن ف‬
‫شرحه ول فائدة فيه ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬أن حاصل البدعة الضافية أنا ل تنحاز إل جانب مصوص ف الملة ‪ ،‬بل ينحاز با‬
‫الصلن ـ أصل السنة وأصل البدعة ـ لكن من وجهي ‪ .‬وإذا كان كذلك اقتضى النظر السابق‬
‫للذهن أن يثاب العامل با من جهة ما هو مشروع ‪ ،‬ويعاتب من جهة ما هو غي مشروع ‪ .‬إل أن‬
‫هذا النظر ل يتحصل لنه ممل ‪.‬‬
‫والذي ينبغي أن يقال ف جهة البدعة ف العمل ‪ :‬ل يلو أن تنفرد أو تلتصق وإن التصقت فل تلو أن‬
‫تصي وصفا للمشروع غي منفك ‪ ،‬إما بالقصد أو بالوضع الشرعي العادي أو ل تصي وصفا ‪ ،‬وإن‬
‫ل تصر وصفا فإما فإن أن يكون وضعها إل أن تصي وصفا أو ًل ‪.‬‬

‫فصل فهذه أربعة أقسام ال ـ فأما القسم الول ‪ :‬وهو أن تنفرد البدعة عن العمل‬
‫فهذه أربعة أقسام ل بد من بيانا ف تصيل هذا الطلوب بول ال ‪.‬‬
‫فأما القسم الول ‪ :‬وهو أن تنفرد البدعة عن العمل الشروع فالكلم فيه ظاهر ما تقدم ‪ ،‬إل إن‬
‫كان وضعه على جهة التعبد فبدعة حقيقية ‪ ،‬وإل فهو فعل من جلة الفعال العادية ل مدخل له فيما‬
‫نن فيه ‪ ،‬فالعبادة سالة والعمل العادي خارج من كل وجه ‪ .‬مثاله الرجل يريد القيام إل الصلة‬
‫فيتنحنح مثلً أو يتمخط أو يشي خطوات أو يفعل شيئا ول يقصد بذا وجها راجعا إل الصلة ‪،‬‬
‫وإنا يفعل ذلك عادة أو تقززا ‪ .‬فمثل هذا ل حرج فيه ف نفسه ول بالنسبة إل الصلة ‪ ،‬وهو من‬

‫‪205‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫جلة العادات الائزة ‪ ،‬إل أنه يشترط فيه أيضا أن ل يكون بيث يفهم منه النضمام إل الصلة‬
‫ل أو قصدا ‪،‬فإنه إذ ذاك يصي بدعة ‪ .‬وسيأت بيانه إن شاء ال ‪.‬‬ ‫عم ً‬
‫ل ‪ ،‬ث قام بعده إل الصلة الشروعة‬ ‫وكذلك أيضا إذا فرضنا أنه فعل قصد التقرب ما ل يشرع أص ً‬
‫ول يقصد فعله لجل الصلة ‪ ،‬ول كان مظنة لن يفهم منه انضمامه إليها ‪ ،‬فل يقدح ف الصلة ‪،‬‬
‫وإنا يرجع الذم فيه إل العمل به على النفراد ‪ .‬ومثله لو أرادالقيام إل العبادة ففعل عبادة مشروعة‬
‫من غي قصد النضمام ‪ ،‬ول جعله عرضة لقصد انضمامه ‪ ،‬فتلك العبادتان على أصالتهما‪ ،‬وكقول‬
‫الرجل عند الذبح أو العتق ‪ :‬اللهم منك وإليك ‪ .‬على غي التزام ول قصد النضمام ‪ ،‬وكقراءة‬
‫القرآن ف الطواف ل بقصد الطواف ول على اللتزام ‪ ،‬فكل عبادة هنا منفردة عن صاحبتها فل‬
‫حرج فيها ‪.‬‬
‫وعلى ذلك نقول ‪ :‬لو فرضنا أن الدعاء بيئة الجتماع وقع من أئمة الساجد ف بعض الوقات للمر‬
‫يدث عن قحط أو خوف من ملم لكان جائزا ‪ ،‬لنه على الشرط الذكور ‪ ،‬إذ ل يقع ذلك على‬
‫وجه ياف منه مشروعية النضمام ‪ ،‬ول كونه سنة تقام ف الماعات ويعلن به ف الساجد ‪ ،‬كما‬
‫دعا رسول ال صلى ال عليه وسلم دعاء الستسقاء بيئة الجتماع وهو يطب ‪ ،‬وكما أنه دعا‬
‫أيضا ف غي أعقاب الصلوات على هيئة الجتماع ‪ ،‬لكن ف الفرط وف بعض الحايي كسائر‬
‫الستحبات الت ل يتربص با وقتا بعينه وكيفية بعينها‪.‬‬
‫وخرج عن أب سعيد مول أسيد ‪ ...‬قال كان عمر رضي ال عنه إذا صلى العشاء أخرج الناس من‬
‫السجد ‪ ،‬فتخلف ليلة مع قوم يذكرون ال فأتى عليهم فعرفهم ‪ ،‬فألقى درته وجلس معهم ‪ ،‬فجعل‬
‫يقول ‪ :‬يا فلن ! ادع ال لنا ‪ ،‬يا فلن ادع ال لنا ‪ ،‬حت صار الدعاء إل غي ( ؟ )فكانوا يقولون ‪:‬‬
‫عمر فظ غليظ ‪،‬فلم أر أحدا من الناس تلك الساعة أرق من عمر رضي ال عنه ل ثكلى ول أحدا ‪.‬‬
‫وعنسلم العلوي قال ‪ :‬قال رجل لنس رضي ال عنه يوما ‪ :‬يا أبا حزة ! لو دعوت لنا بدعوات‬
‫‪...‬فقال ‪ :‬اللهم آتنا ف الدنيا حسنة وف الخرة حسنة ـقال ـ فأعادها مرارا ثلثا ‪ .‬فقال يا أبا‬
‫حزة ! لو دعوت ‪...‬فقال مثل ذلك ل يزيد عليه ‪ .‬فإذا كان المر على هذا فل إنكار فيه ‪ ،‬حت إذا‬
‫دخل فيه أمر زائد صار بتلك الزيادة مالفا للسنة ‪ ،‬فقد جاء ف دعاء النسان لغيه الكراهية عن‬
‫السلف ‪ ،‬ل على حكم الصالة بل بسبب ما ينضم إليه من المور الخرجة عن الصل ‪ .‬ولنذكره‬
‫هنا لجتماع أطراف السألة ف التشبيه على الدعاء بيئة الجتماع بآثار الصلوات ف الماعات دائما‬
‫‪.‬‬
‫فخرج الطبي عن مدرك بن عمران ‪ ،‬قال ‪ :‬كتب رجل إل عمر رضي ال عنه ‪ :‬فادع ال ل ‪.‬‬
‫فكتب إليه عمر ‪ :‬إن لست بنب ‪ ،‬ولكن إذا أقيمت الصلة فاستغفر ال لذنبك ‪ .‬فإباية عمر رضي‬
‫ال عنه ف هذا الوضع ليس من جهة أصل الدعاء ‪ ،‬ولكن من جهة أخرى ‪ ،‬وإل تعارض كلمه مع‬

‫‪206‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ما تقدم فكأنه فهم من السائل أمرا زائدا على الدعاء فلذلك قال ‪ :‬لست بنب ‪ .‬وبذلك على هذا ما‬
‫روي عن سعد بن أب وقاص رضي ال عنه أنه لا قدم الشام أتاه رجل فقال ‪ :‬استغفر ل ‪ .‬فقال ‪:‬‬
‫غفر لك ‪ .‬ث أتاه آخر فقال ‪ :‬استغفر ل ‪ .‬فقال ‪ :‬ل غفر ال لك ول لذاك ‪ ،‬أنب أنا ؟ فهذا أوضح‬
‫ف أنه فهم من السائل أمرا زائدا ‪،‬وهو أن يعتقد فيه أنه مثل النب ‪ ،‬أو أنه وسيلة إل أن يعتقد ذلك ‪،‬‬
‫أو يعتقد أنه سنة تلزم ‪ ،‬أو يري ف الناس مرى السنن اللتزمة ‪.‬‬
‫ل قال لذيفة رضي ال عنه ‪ :‬استغفر ل ‪ .‬فقال ‪ :‬ل غفر ال لك ‪.‬‬ ‫ونوه عن زيد بن وهب أن رج ً‬
‫ث قال ‪ :‬هذا يذهب إل نسائه فيقول استغفر ل حذيفة أترضي أن أدعو ال أن تكن مثل حذيفة ؟‬
‫فدل هذا على أنه وقع ف قلبه أمر زائد يكون الدعاء له ذريعة حت يرج عن أصله ‪ ،‬لقوله بعد ما‬
‫دعا على الرجل ‪ :‬هذا يذهب إل نسائه فيقول كذا ‪ .‬أي فيأت نساؤه لثلها ‪ ،‬ويشتهر المر حت‬
‫يتخذ سنة ‪ ،‬ويعتقد ف حذيفة ما ل يبه هو لنفسه ‪ ،‬وذلك يرج الشروع عن كونه مشروعا ‪،‬‬
‫ويؤدي إل التشيع واعتقاد أكثر ما يتاج إليه ‪.‬‬
‫وقد تبي هذا العن بديث رواه ابن علية عن ابن عون ‪ ،‬قال ‪ :‬جاء رجل إل إبراهيم ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا‬
‫عمران ! دع ال أن يشفين ‪ .‬فكره ذلك إبراهيم وقطب وقال ‪ :‬جاء رجل إل حذيفة فقال ‪ :‬ادع‬
‫ال أن يغفر ل ‪ .‬فقال ‪ :‬ل غفر ال لك ‪ .‬فتنحى الرجل فجلس ‪،‬فلما كان بعد ذلك ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫فأدخلك ال مدخل حذيفة أقد رضيت ؟ الن يأت أحدكم الرجل كأنه قد أحصر شأنه‪ .‬ث ذكر‬
‫إبراهيم السنة فرغب فيها وذكر ما أحدث الناس فكرهه ‪.‬‬
‫وروى منصور عن إبراهيم قال ‪ :‬كانوا يتمعون فيتذاكرون فل يقول بعضهم لبعض ‪ :‬استغفر لنا ‪.‬‬
‫فتأملوا يا أول اللباب ما ذكره من هذه الصنام النضمة إل الدعاء ‪ ،‬حت كرهوا الدعاء إذا انضم‬
‫إليه ما ل يكن عليه سلف المة ‪ ،‬فقس بعقلك ماذا كانوا يقولون ف دعائنا بآثار الصلة ‪ ،‬بل ف‬
‫كثي من الواطن ‪ ،‬وانظروا إل اسبتارة ( ؟ ) إبراهيم ترغيبه ف السنة وكراهيته ما أحدث الناس ‪،‬‬
‫بعد تقرير ما تقدم ‪.‬‬
‫وهذه الثار من تريج الطبي ف تذيب الثار له ‪ ،‬وعلى هذا ينبن ما خرجه ابن وهب عن الارث‬
‫بن نبهان عن أيوب عن أب قلبة عن أب الدرداء رضي ال عنه ‪ :‬أن ناسا من أهل الكوفة يقرأون‬
‫عليك السلم ويأمرونك أن تدعو لم وتوصيهم ‪ ،‬فقال ‪ :‬اقرأوا عليهم السلم ومرورهم أن يعطوا‬
‫القرآن حقه ‪ ،‬فإنه يملهم ‪ ،‬أو يأخذ بم على القصد والسهولة ‪ ،‬وينبهم الور والزونة ‪ ،‬ول يذكر‬
‫أنه دعا لم ‪.‬‬

‫فصل وأما القسم الثان ‪ :‬وهو أن يصي العمل أو غيه كالوصف للعمل الشروع‬

‫‪207‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما القسم الثان ‪ :‬وهو أن يصي العمل العادي أو غيه كالوصف للعمل الشروع إل أن الدليل على‬
‫أن العمل الشروع ل يتصف ف الشرع بذلك الوصف فظاهر المر انقلب العمل الشروع غي‬
‫مشروع ‪ .‬ويبي ذلك من الدلة عموم قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد" وهذا العمل عند اتصافه بالوصف الذكور عمل ليس عليه أمره‬
‫عليه الصلة والسلم ‪ ،‬فهو إذا رد ‪ ،‬كصلة الفرض مثلً إذا صلها القادر الصحيح قاعدا أو سبح‬
‫ف موضع القراءة ‪ ،‬أو قرأ التسبيح ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫وقد نى عليه الصلة والسلم عن الصلة بعد الصبح ‪ ،‬وبعد العصر ‪ ،‬ونى عن الصلة عند طلوع‬
‫الشمس وغروبا ‪ ،‬فبالغ كثي من العلماء ف تعميم النهي ‪ ،‬حت عدوا صلة الفرض ف ذلك الوقت‬
‫داخلً تت النهي ‪ ،‬فباشر النهي الصلة لجل اتصافها بأنا واقعة ف زمان مصوص ‪،‬كما اعتب فيها‬
‫الزمان باتفاق ف الفرض ‪ ،‬فل تصلى الظهر قبل الزوال ‪ ،‬ول الغرب قبل الغروب ‪.‬‬
‫ونى عليه الصلة والسلم عن صيام الفطر والضحى ‪ ،‬والتفاق على بطلن الج ف غي أشهر الج‬
‫‪ .‬فكل من تعبد ل تعال بشيء من هذه العبادات الواقعة ف غي أزمانا تعبد ببدعة حقيقية ل‬
‫إضافية ‪ ،‬فل جهة لا إل الشروع بل غلبت عليها جهة البتداع ‪،‬فل ثواب فيها على ذلك التقدير ‪،‬‬
‫فلو فرضنا قائلً يقول بصحة الصلة الواقعة ف وقت الكراهية ‪ ،‬أو صحة الصوم الواقع يوم العيد ‪،‬‬
‫فعلى فرض أن النهي راجع إل أمر ل يصر للعبادة كالوصف بل المر منفك منفرد ـ حسبما تبي‬
‫بول ال ‪.‬‬
‫ويدخل ف هذا القسم ما جرى به العمل ف بعض الناس كالذي حكى القراف عن العجم ف اعتقاده‬
‫كون صلة الصبح يوم المعة ثلث ركعات ‪ ،‬فإن قراءة سورة السجدة لا التزمت فيها وحوفظ‬
‫عليها اعتقدوا فيها الركنية فعدوها ركعة ثالثة ‪ ،‬فصارت السجدة إذا وصفا لزما وجزءا من صلة‬
‫صبح المعة ‪ ،‬فوجب أن تبطل ‪.‬‬
‫وعلى هذا الترتيب ينبغي أن تري العبادات الشروعة إذا خصت بأزمان مصوصة بالرأي الجرد ‪،‬‬
‫من حيث فهمنا تلبسا بالعمال على الملة ‪ ،‬فصيوا ذلك الزائد وصفا فيه مرج له عن أصله ‪،‬‬
‫وذلك أن الصفة مع الوصوف من حيث هي صفة له ل تفارقه هي من جلته ‪.‬‬
‫وذلك لنا نقول ‪ :‬إن الصفة هي عي الوصوف إذا كانت لزمة له حقيقةً أو اعتبارا ‪ ،‬ولو فرضنا‬
‫ارتفاعها عنه لرتفع الوصوف من حيث هو موصوف با ‪ ،‬كارتفاع النسان بارتفاع الناطق أو‬
‫الضاحك ‪ ،‬فإذا كانت الصفة الزائدة على الشروع على هذه النسبة صار الجموع منهما غي‬
‫مشروع ‪ ،‬فارتفع اعتبار الشروع الصلي ‪.‬‬
‫ومن أمثلة ذلك أيضا قراءة القرآن بالدارة على صوت واحد ‪ ،‬فإن تلك اليئة زائدة على مشروعية‬
‫القراءة ‪ ،‬وكذلك الهر الذي اعتاده أرباب الزوايا وربا لطف اعتبار الصفة فيشك ف بطلن‬

‫‪208‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الشروعية ‪ ،‬كما وقع ف العتبية عن مالك ف مسألة العتماد ف الصلة ل يرك رجليه ‪ ،‬وأن أول من‬
‫أحدثه رجل قد عرف ـ قال ـ وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) فقيل له ‪ :‬أفعيب ؟ قال ‪:‬‬
‫قد عيب عليه ذلك ‪ ،‬وهذا مكروه من الفعل ‪ ،‬ول يذكر فيها أن الصلة باطلة وذلك لضعف وصف‬
‫العتماد أن يؤثر ف الصلة ‪ ،‬ولطفه بالنسبة إل كمال هيئتها ‪ ،‬وهكذا ينبغي أن يكون النظر ف‬
‫السألة بالنسبة إل اتصاف العمل با يؤثر فيه أو ل يؤثر فيه ‪ ،‬فإذا غلب الوصف على العمل كان‬
‫أقرب إل الفساد ‪ ،‬وإذا ل يغلب ل يكن أقرب وبقي ف حكم النظر ‪ ،‬فيدخل ها هنا نظر الحتياط‬
‫للعبادة إذا صار العمل ف العتبار من التشابات ‪.‬‬
‫واعلموا أنه حيث قلنا ‪ :‬إن العمل الزائد على الشروع يصي وصفا لا أو كالوصف ‪ ،‬فإنا يعتب بأحد‬
‫أمور ثلثة ‪ :‬إما القصد ‪ ،‬وإما بالعادة ‪ ،‬وإما بالشرع أو النقصان ‪.‬‬
‫أما بالعادة فكالهر والجتماع ف الذكر الشهور بي متصوفة الزمان ‪ ،‬فإن بينه وبي الذكر الشروع‬
‫بونا بعيدا ‪ ،‬إذ ها كالتضادين عادة ‪ ،‬وكالذي حكى ابن وضاح عن العمش عن بعض أصحابه ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬مر عبد ال برجل يقص ف السجد على أصحابه وهو يقول ‪ :‬سبحوا عشرا وهللوا عشرا ‪:‬‬
‫فقال عبد ال ‪ :‬إنكم لهدى من أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم أو أضل بل هذه ( يعن أضل) ‪،‬‬
‫وف رواية عنه أن رجلً كان يمع الناس فيقول ‪ :‬رحم ال من قال كذا وكذا مرة سبحان ال ـ‬
‫قال ـ فيقول القوم ‪ ،‬ويقول ‪ :‬رحم ال من قال كذا وكذا مرة المد ل ـ قال ـ فيقول القوم ـ‬
‫قال ـ فمر بم عبد ال بن مسعود رضي ال عنه فقال لم ‪ :‬هديتم لا ل يهد نبيكم ! وإنكم‬
‫لتمسكون بذنب ضللة ‪.‬‬
‫وذكر له أن ناسا بالكوفة يسبحون بالصى ف السجد ‪ ،‬فأتاهم وقد كوم كل رجل منهم بي يديه‬
‫كوما من حصى ـ قال ـ فلم يزل يصبهم بالصى حت أخرجهم من السجد ‪ ،‬ويقول ‪ :‬لقد‬
‫أحدثتم بدعة وظلما ‪ ،‬وقد فضلتم أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم علما ؟ فهذه أمور أخرجت‬
‫الذكر الشروع كالذي تقدم من النهي عن الصلة ف الوقات الكروهة ‪ ،‬أوالصلوات الفروضة إذا‬
‫صليت قبل أوقاتا ‪ ،‬فإنا قد فهمنا من الشرع القصد إل النهي عنها ‪ ،‬والنهي عنه ل يكون متعبدا به‬
‫وكذلك صيام يوم العيد ‪.‬‬
‫وخرج ابن وضاح من حديث أبان بن أب عباس ‪ ،‬قال ‪ :‬لقيت طلحة بن عبيد ال الزاعي ‪ ،‬فقلت‬
‫له ‪ :‬قوم من إخوانك من أهل السنة والماعة ل يطعنون على أحد من السلمي ‪ ،‬يتمعون ف بيت‬
‫هذا يوما وف بيت هذا يوما ‪ ،‬ويتمعون يوم النيوز والهرجان ويصومونا ‪ ،‬فقال طلحة ‪ :‬بدعة‬
‫من أشد البدع ‪ ،‬وال لم أشد تعظيما للنيوز والهرجان من عبادتم ‪ .‬ث استيقظ أنس بن مالك‬
‫رضي ال عنه فرقيت إليه وسألته كما سألت طلحة ‪ ،‬فرد علي مثل قول طلحة ‪،‬كأنما كان على‬

‫‪209‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ميعاد ‪ .‬فجعل صوم تلك اليام من تعظيم ما تعظمه الجوس وذاك القصد لو كان أفسد للعبادة‬
‫فكذلك ما كان نوه ‪.‬‬
‫ل قال للـ حسن ‪ :‬يا أبا سعيد ! ما ترى ف ملسنا هذا ؟ قوم من أهل‬ ‫وعن يونس بن عبيد أن رج ً‬
‫السنة والماعة ل يطعنون على أحد نتمع ف بيت هذا يوما ‪ ،‬وف بيت هذا يوما ‪ ،‬فنقرأ كتاب ال‬
‫وندعو لنفسنا ولعامة السلمي ؟ قال ‪ :‬فنهى السن عن ذلك أشد النهي ‪.‬‬
‫والنقل ف هذا العن كثي ‪ ،‬فلو ل يبلغ العمل الزائد ذلك البلغ كان أخف ‪ .‬وانفرد العمل بكمه ‪،‬‬
‫والعمل الشروع بكمه ‪ ،‬كما حكى ابن وضاح عن عبد الرحن أب بكرة ‪ ،‬قال ‪ :‬كنت جالسا عند‬
‫السود بن سريع ‪ ،‬وكان ملسه ف مؤخر السجد الامع ‪ ،‬فافتتح سورة بن إسرائيل حت بلغ ‪:‬‬
‫(وكبه تكبيا) فرفع أصواتم الذين كانوا حوله جلوسا ‪ ،‬فجاء مالد بن مسعود متوكئا على‬
‫عصاه ‪ ،‬فلما رآه القوم قالوا ‪ :‬مرحبا اجلس ‪ ،‬قال ‪ :‬ما كنت لجلس إليكم ‪ ،‬وإن كان ملسكم‬
‫حسنا ‪ ،‬ولكنكم صنعتم قبلي شيئا أنكره السلمون ‪ ،‬فإياكم وما أنكر السلمون ‪ ،‬فتحسينه الجلس‬
‫كان لقراءة القرآن ‪ ،‬وأما رفع الصوت فكان خارجا عن ذلك ‪ ،‬فلم ينضم إل العمل السن ‪ ،‬حت‬
‫إذا انضم إليه صار الجموع غي مشروع ‪.‬‬
‫ويشبه هذا ما ف ساع ابن القاسم عن مالك ف القوم يتمعون جيعا فيقرؤون ف السورة الواحدة‬
‫مثل ما يفعل أهل السكندرية فكره ذلك ‪ ،‬وأنكر أن يكون من عمل الناس ‪.‬‬
‫وسئل ابن القاسم أيضا عن نو ذلك فحكى الكراهية عن مالك ‪ ،‬ونى عنها ورآها بدعة ‪.‬‬
‫وقال ف رواية أخرى عن مالك ‪ :‬وسئل عن القراءة بالسجد ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل يكن بالمر القدي ‪ ،‬وإنا‬
‫هو شيء أحدث ‪ ،‬ول يأت آخر هذه المة بأهدى ما كان عليه أولا ‪ ،‬والقرآن حسن ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬يريد التزام القراءة ف السجد بإثر صلة من الصلوات على وجه ما مصوص حت‬
‫يصي ذلك كله ما يامع قرطبة إثر صلة الصبح ‪ ( .‬قال ) ‪ :‬فرأى ذلك بدعة ‪.‬‬
‫فقوله ف الرواية ‪ :‬والقرآن حسن يتمل أن يقال ‪ :‬إنه يعن أن تلك الزيادة من الجتماع وجعله ف‬
‫السجد منفصل ل يقدح ف حسن قراءة القرآن ‪ ،‬ويتمل ـ وهو الظاهر ـ أنه يقول ‪ :‬قراءة حسن‬
‫على غي ذلك الوجه بدليل قوله ف موضع آخر ‪ :‬ما يعجبن أن يقرأ القرآن إل ف الصلة والساجد ‪،‬‬
‫ل ف السواق والطرق ‪ ،‬فييد أنه ل يقرأ إل على النحو الذي يقرؤه السلف ‪ ،‬وذلك يدل على أن‬
‫ل وترز بقوله ‪ :‬والقرآن حسن من توهم أنه يكره قراءة‬ ‫قراءة الدارة مكروهة عنده فل تفعل أص ً‬
‫القرآن مطلقا ‪ ،‬فل يكون ف كلم مالك دليل على انفكاك الجتماع من القراءة وال أعلم ‪.‬‬

‫فصل وأما القسم الثالث ‪ :‬وهو أن يصي الوصف عرضة‬

‫‪210‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما القسم الثالث ‪ :‬وهو أن يصي الوصف عرضة لن ينضم إل العبادة حت يعتقد فيه أنه من‬
‫أوصافها أوجزء منها ‪ ،‬فهذا القسم ينظر فيه من جهة النهي عن الذرائع ‪ ،‬وهو إن كان ف الملة‬
‫متفقا عليه ‪ ،‬ففيه ف التفصيل نزاع بي العلماء ‪ ،‬إذ ليس كل ما هو ذريعة إل منوع ينع ‪ ،‬بدليل‬
‫اللف الواقع ف بيوع الجال ‪ ،‬وما كان نوها ‪ ،‬غي أن أبا بكر الطرطوشي يكي التفاق ف هذا‬
‫النوع استقراء من مسائل وقعت للعلماء منعوها سدا للذريعة ‪ ،‬وإذا ثبت اللف ف بعض التفاصيل‬
‫ل ينكر أن يقول به قائل ف بعض ما نن فيه ‪ ،‬ولنمثله أولً ث نتكلم حكمه بول ال ‪.‬‬
‫فمن ذلك ‪.‬‬
‫ما جاء ف حديث من ‪ :‬ني رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يتقدم شهر رمضان بصيام يوم أو‬
‫يومي ‪ .‬ووجه ذلك عند العلماء مافة أن يعد ذلك من جلة رمضان ‪.‬‬
‫ومنه ما ثبت عن عثمان رضي ال عنه أنه كان ل يقصر ف السفر ‪ ،‬فيقال له ‪ :‬ألست قصرت مع‬
‫النب صلى ال عليه وسلم ؟ فيقول ‪ :‬بلى ! ولكن إمام الناس فينظر إل العراب وأهل البادية أصلي‬
‫ركعتي ‪ ،‬فيقول ‪ :‬هكذا فرضت ‪ ،‬فالقصر ف السفر سنة أو واجب ‪ ،‬ومع ذلك تركه خوف أن‬
‫يتذرع به لمر حادث ف الدين غي مشروع ‪.‬‬
‫ومنه قصة عمر رضي ال عنه ف غسله من الحتلم حت أسفر ‪ ،‬وقوله لن راجعه ف ذلك ‪ ،‬وأن‬
‫يأخذ من أثوابم ما يصلي به ‪ ،‬ث يغسل ثوبه على السعة ‪ :‬لو فعلته لكانت سنة ‪ ،‬بل أغسل ما رأيت‬
‫‪ ،‬وأنصح ما ل أر ‪.‬‬
‫وقال حذيفة بن أسيد ‪ :‬شهدت أبا بكر وعمر رضي ال عنهما وكانا ل يضحيان مافة أن يرى أنا‬
‫واجبة ‪.‬‬
‫ونو ذلك عن ابن مسعود رضي ال عنه قال ‪ :‬إن لترك أضحيت ـ وإن لن أيسركم ـ مافة أن‬
‫يظن اليان أنا واجبة ‪.‬‬
‫وكثي من هذا عن السلف الصال ‪.‬‬
‫وقد كره مالك إتباع رمضان بست من شوال ‪ ،‬وواقفه أبو حنيفة فقال ‪ :‬ل أستحبها ‪ ،‬مع ما جاء‬
‫ف ذلك من الديث الصحيح ‪ ،‬وأخب مالك عن غيه من يقتدى به أنم كانوا ل يصومونا ويافون‬
‫بدعتها ‪.‬‬
‫ومنه ما تقدم ف اتباع الثار كمجيء قبا ونو ذلك ‪.‬‬
‫وبالملة ‪ ،‬فكل عمل أصله ثابت شرعا إل أن ف إظهار العمل به والداومة عليه ما ياف أن يعتقد‬
‫أنه سنة ‪ ،‬فتركه مطلوب ف الملة أيضا ‪ ،‬من باب سد الذرائع ولذلك كره مالك دعاء التوجه بعد‬
‫الحرام وقبل القراءة ‪ ،‬وكره غسل اليد قبل الطعام ‪ ،‬وأنكر على من جعل ثوبه ف السجد أمامه ف‬
‫الصف ‪.‬‬

‫‪211‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولنرجع إل ما كنا فيه ‪ ،‬فاعلموا أنه إن ذهب متهد إل عدم سد الذريعة ف غي مل النص ما‬
‫يتضمنه هذا الباب ‪ ،‬فل شك أن العمل الواقع عنده مشروع ويكون لصاحبه أجره ‪ ،‬ومن ذهب إل‬
‫سدها ـ ويظهر ذلك من كثي من السلف من الصحابة والتابعي وغيهم ـ فل شك أن ذلك‬
‫العمل منوع ‪ ،‬ومنعه يقتضي بظاهره أنه ملوم عليه ‪ ،‬وموجب للذم إل أن يذهب إل أن النهي فيه‬
‫راجع إل أمر ماور ‪ ،‬فهو مل نظر واشتباه ربا يتوهم فيه انفكاك المرين ‪ ،‬بيث يصح أن يكون‬
‫العمل مأمورا به من جهة نفسه ‪ ،‬ومنهيا عنه من جهة مآله ‪ .‬ولنا فيه مسلكان ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬التمسك بجرد النهي ف أصل السألة كقوله تعال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل تقولوا راعنا"‬
‫وقوله تعال ‪" :‬ول تسبوا الذين يدعون من دون ال فيسبوا ال عدوا بغي علم" وف الديث أنه عليه‬
‫الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"نى عن أن يمع بي التفرق ‪ ،‬ويفرق الجتمع ‪ ،‬خشية الصدقة "‪.‬‬
‫و" نى عن بيع السلف " وعلله العلماء بالربا التذرع إليه ف ضمن السلف ‪ .‬ونى عن اللوة‬
‫بالجنبيات ‪ ،‬وعن سفر الرأة مع غي ذي مرم ‪ ،‬وأمر النساء بالحتجاب عن أبصار الرجال ‪،‬‬
‫والرجال بغض البصار ‪ ،‬إل أشباه ذلك ما عللوا المر فيه والنهي بالتذرع ل بغيه‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬وصرفه إل أمر ماور خلف أصل الدليل ‪،‬‬ ‫والنهي أصله أن يقع على النهي عنه وإن كان معل ً‬
‫فل يعدل عن الصل إل بدليل ‪ ،‬فكل عبادة نى عنها فليست بعبادة ‪ ،‬إذ لو كانت عبادة ل ينه عنها‬
‫‪ ،‬فالعامل با عامل بغي مشروع ‪ ،‬فإذا اعتقد فيها التعبد مع هذا النهي كان مبتدعا با ‪.‬‬
‫ل يقال ‪ :‬إن نفس التعليل يشعر بالجاورة ‪ ،‬وإن الذي ني عنه غي الذي أمربه ‪ ،‬وانفكاكهما‬
‫متصور ‪ .‬لنا نقول ‪ :‬قد تقرر أن الجاور إذا صار كالوصف اللزم انتهض النهي عن الملة ل عن‬
‫نفس الوصف بانفراده ‪ ،‬وهو مبي ف القسم الثان ‪.‬‬
‫السلك الثان ‪ :‬ما دل ف بعض مسائل الذرائع على أن الذرائع ف الكم بنلة التذرع إليه ‪ ،‬ومنه ما‬
‫ثبت ف الصحيح من قول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"من أكب الكبائر أن يسب الرجل والديه ‪ ،‬قالوا ‪ :‬يا رسول ال ! وهل يسب الرجل والديه ؟ قال ‪:‬‬
‫نعم يسب أبا الرجل فيسب أباه وأمه " ‪ ،‬فجعل سب الرجل لوالدي غيه بنلة سبه لوالديه نفسه ‪،‬‬
‫حت ترجه عنها بقوله ‪" :‬أن يسب الرجل والديه" ول يقل ‪ :‬أن يسب الرجل والديه ‪ ،‬أو نو ذلك ‪.‬‬
‫وهو غاية معن ما نن فيه ‪.‬‬
‫ومثله حديث عائشة رضي ال عنها مع أم ولد زيد بن أرقم رضي ال عنه ‪ ،‬وقولا ‪ :‬أبلغي زيد بن‬
‫أرقم أنه قد أبطل جهاده مع رسول ال صلى ال عليه وسلم أن ل يبت ‪ ،‬وإنا يكون هذا الوعيد‬
‫فيمن فعل ما ل يل له ‪ ،‬ل ما فعله كبية حت ترغب آخرا بالية ‪" :‬فمن جاءه موعظة من ربه‬
‫فانتهى فله ما سلف " ‪.‬‬

‫‪212‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهي نازلة ف غي العمل بالربا ‪ ،‬فعدت العمل با يتذرع به إل الربا بنلة العمل بالربا ‪ ،‬مع أنا نقطع‬
‫أن زيد بن أرقم وأم ولده ل يقصدوا قصد الربا ‪ ،‬كما ل يكن ذا عقل أن يقصد والديه بالسب ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا العن ف بعض الذرائع ثبت ف الميع ‪ ،‬إذ ل فرق فيما ل يدع ما ل ينص عليه ‪ ،‬إل‬
‫ألزم الصم مثله ف النصوص عليه ‪ .‬فل عبادة أو مباحا يتصور فيه أن يكون ذريعة إل غي جائز إل‬
‫وهو غي عبادة ول مباح ‪.‬‬
‫لكن هذا القسم إنا يكون النهي بسب ما يصي وسيلة إليه ف مراتب النهي ‪ ،‬إن كانت البدعة من‬
‫قبيل الكبائر ‪ ،‬فالوسيلة كذلك ‪ ،‬أو من قبيل الصغائر فهي كذلك ‪ ،‬والكلم ف هذه السألة يتسع ‪،‬‬
‫ولكن هذه الشارة كافية فيها ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫الباب السادس ‪ .‬ف أحكام البدع وأنا ليست على رتبة واحدة‬
‫اعلم أنا إذا بنينا على أن البدع منقسمة إل الحكام المسة فل إشكال ف اختلف رتبتها ‪ ،‬لن‬
‫النهي من جهة انقسامه إل ني الكراهية وني التحري يستلزم أن أحدها أشد ف النهي من الخر ‪،‬‬
‫فإذا انضم إليهما قسم الباحة ظهر الختلف ف القسام ‪ ،‬فإذا اجتمع إليها قسم الندب وقسم‬
‫الوجوب كان الختلف فيها أوضح ـ وقد مر من أمثلتها أشياء كثية ـ لكنا ل نبسط القول ف‬
‫هذا التقسيم ول بيان بالشد والضعف ‪ ،‬لنه إما أن يكون حقيقيا فالكلم فيه عناء ‪ ،‬وإن كان غي‬
‫حقيقي فقد تقدم أنه غي صحيح ‪ ،‬فل فائدة ف التفريع على ما ل يصح ‪ ،‬وإن عرض ف ذلك نظر أو‬
‫تفريع فإنا يذكر بكم التبع بول ال ‪.‬‬
‫فإذا خرج عن هذا التقسيم ثلثة أقسام ‪ :‬قسم الوجوب ‪ ،‬وقسم الندب ‪ ،‬وقسم الباحة ‪ ،‬انصر‬
‫النظر فيما بقي وهو الذي ثبت من التقسيم ‪ ،‬غي أنه ورد النهي عنها على وجه واحد ‪ ،‬ونسبته إل‬
‫الضللة واحدة ‪ ،‬ف قوله ‪:‬‬
‫"إياكم ومدثات المور ‪ ،‬فإن كل بدعة ضللة ‪ ،‬وكل ضللة ف النار" وهذا عام ف كل بدعة ‪،‬‬
‫فيقع السؤال ‪ :‬هل لا حكم واحد أم ل ؟ فنقول ‪ :‬ثبت ف الصول أن الحكام الشرعية خسة ‪،‬‬
‫ترج عنها الثلثة ‪ ،‬فيبقى حكم الكراهية وحكم التحري ‪ ،‬فاقتضى النظر انقسام البدع إل‬
‫القسمي ‪ ،‬فمنها بدعة مرمة ‪ ،‬ومنها بدعة مكروهة ‪ ،‬وذلك أنا داخلة تت جنس النهيات وهي ل‬
‫تعدو الكراهة والتحري ‪ ،‬فالبدع كذلك ‪ .‬هذا وجه ‪.‬‬
‫ووجه ثان ‪ :‬أن البدع إذا تؤمل معقولا وجدت رتبتها متفاوتة ‪ ،‬فمنها ما هو كفر صراح ‪ ،‬كبدعة‬
‫الاهلية الت نبه عليها القرآن ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬وجعلوا ل ما ذرأ من الرث والنعام نصيبا فقالوا‬
‫هذا ل بزعمهم وهذا لشركائنا " ‪ ،‬وقوله تعال ‪" :‬وقالوا ما ف بطون هذه النعام خالصة لذكورنا‬
‫ومرم على أزواجنا وإن يكن ميتة فهم فيه شركاء" وقوله تعال ‪" :‬ما جعل ال من بية ول سائبة‬

‫‪213‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ول وصيلة ول حام " ‪ ،‬وكذلك بدعة النافقي حيث اتذوا الذين ذريعة لفظ النفس والال ‪ ،‬وما‬
‫أشبه ذلك ما يشك أنه كفر صراح ‪.‬‬
‫ومنها ‪ ،‬ما هو من العاصي الت ليست بكفر أو يتلف هل هي كفر أم ل ! كبدعة الوارج والقدرية‬
‫والرجئة ومن أشبههم من الفرق الضالة ‪.‬‬
‫ومنها ‪ ،‬ما هو مكروه كما يقول مالك ف اتباع رمضان بست من شوال ‪ ،‬وقراءة القرآن بالدارة ‪،‬‬
‫والجتماع للدعاء عشية عرفة ‪ ،‬وذكر السلطي ف خطبة المعة ـ على ما قاله ابن عبد السلم‬
‫الشافعي ـ وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫فمعلوم أن هذه البدع ليست ف رتبة واحدة فل يصح مع هذا أن يقال ‪ :‬إنا على حكم واحد ‪ ،‬هو‬
‫الكراهة فقط ‪ ،‬أو التحري فقط ‪.‬‬
‫ووجه ثالث ‪ :‬إن العاصي منها صغائر ومنها كبائر ‪ ،‬ويعرف ذلك بكونا واقعة ف الضروريات أو‬
‫الاجيات أو التكميليات ‪ ،‬فإن كانت ف الضروريات فهي أعظم الكبائر ‪ ،‬وإن وقعت ف التحسينات‬
‫فهي أدن رتبة بل إشكال ‪ ،‬وإن وقعت ف الاجيات فمتوسطة بي الرتبتي ‪.‬‬
‫ث إن كل رتبة من هذه الرتب لا مكمل ‪ ،‬ول يكن ف الكمل أن يكون ف رتبة الكمل ‪ ،‬فإن‬
‫الكمل مع الكمل ف نسبة الوسيلة مع القصد ‪ ،‬ول تبلغ الوسيلة رتبة القصد ‪ ،‬فقد ظهر تفاوت‬
‫رتب العاصي والخالفات ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن من الضروريات إذا تؤملت وجدت على مراتب ف التأكيد وعدمه ‪ ،‬فليست مرتبة‬
‫النفس كمرتبة الدين ‪ ،‬وليس تستصغر حرمة النفس ف جنب حرمة الدين ‪ ،‬فيبيح الكفر الدم ‪،‬‬
‫والحافظة على الدين مبيح لتعريض النفس للقتل والتلف ‪ ،‬ف المر بجاهدة الكفار والارقي عن‬
‫الدين ‪.‬‬
‫ومرتبة العقل والال ليست كمرتبة النفس ‪ ،‬أل ترى أن قتل النفس مبيح للقصاص ؟ فالقتل بلف‬
‫العقل والال ‪ ،‬وكذلك سائر ما بقي ‪ ،‬وإذا نظرت ف مرتبة النفس تباينت الراتب ‪ ،‬فليس قطع العضو‬
‫كالذبح ‪ ،‬ول الدش كقطع العضو وهذا كله مل بيانه الصول ‪.‬‬

‫فصل وإذا كان كذلك ‪ :‬فالبدع من جلة العاصي‬


‫وإذا كان كذلك ‪ :‬فالبدع من جلة العاصي ‪ ،‬وقد ثبت التفاوت ف العاصي فكذلك يتصور مثله ف‬
‫البدع ‪ .‬فمنها ما يقع ف الضروريات ( أي أنه إخلل با ) ‪ ،‬ومنها ما يقع ف رتبة الاجيات ‪ ،‬ومنها‬
‫ما يقع ف رتبة التحسينيات ‪ ،‬وما يقع ف رتبة الضروريات ‪ ،‬منه ما يقع ف الدين أو النفس أو النسل‬
‫أو العقل أو الال ‪.‬‬

‫‪214‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فمثال وقوعه ف الدين ما تقدم من اختراع الكفار وتغييهم ملة إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬من نو قوله‬
‫تعال ‪" :‬ما جعل ال من بية ول سائبة ول وصيلة ول حام" فروي عن الفسرين فيها أقوال كثية ‪،‬‬
‫وفيها عن ابن السيب أن البحية من البل هي الت ينح درها للطواغيت ‪ ،‬والسائبة هي الت يسيبونا‬
‫لطواغيتهم ‪ ،‬والوصيلة هي الناقة تبكر بالنثى ث تثن بالنثى ‪ ،‬يقولون ‪ :‬وصلت انثيي ليس بينهما‬
‫ذكر ‪ ،‬فيجدعونا لطواغيتهم ‪ ،‬والامي هو الفحل من البل كان يضرب الضراب العدودة ‪ ،‬فإذا بلغ‬
‫ذلك قالوا ‪ :‬حي ظهره ‪ ،‬فيترك فيسمونه الامي ‪.‬‬
‫وروى إساعيل القاضي عن زيد بن أسلم ‪ ،‬قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إن لعرف أول من سيب السوائب ‪ ،‬وأول من غي عهد إبراهيم عليه السلم قال قالوا ‪ :‬من هو يا‬
‫رسول ال ؟ قال ‪ :‬عمرو بن لي أبو بن كعب ‪ ،‬لقد رأيته ير قصبه ف النار ‪ ،‬يؤذي ريه أهل النار‬
‫‪ ،‬وإن لعرف أول من بر البحائر ‪ ،‬قالوا ‪ :‬من هو يا رسول ال ؟ قال رجل من بن مدل ‪ ،‬وكانت‬
‫له ناقتان فجدع أذنيهما وحرم ألبانما ‪ ،‬ث شرب ألبانما بعد ذلك ‪ ،‬فلقد رأيته ف النار هو وها‬
‫يعضانه بأفواههما ويبطانه بأخفافهما" ‪.‬‬
‫وحاصل ما ف هذه الية تري ما أحل ال على نية التقرب به إليه ‪ ،‬مع كونه حللً بكم الشريعة‬
‫التقدمة ‪ .‬ولقد هم بعض أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم أن يرموا على أنفسهم ما أحل‬
‫ال ‪ ،‬وإنا كان قصدهم بذلك النقطاع إل ال عن الدنيا وأسبابا وشواغلها ‪ ،‬فرد ذلك عليهم‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فأنزل ال عز وجل ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل ترموا طيبات ما أحل‬
‫ال لكم ول تعتدوا إن ال ل يب العتدين" ‪.‬‬

‫فصل ومثال ما يقع ف النفس ما ذكر ف نل الند ف تعذيبها أنفسها‬


‫ومثال ما يقع ف النفس ما ذكر من نل الند ف تعذيبها أنفسها بأنواع العذاب الشنيع ‪ ،‬والتمثيل ‪،‬‬
‫والقتل بالصناف الت تفزع منها القلوب وتقشعر منها اللود ‪ ،‬كل ذلك على جهة استعجال الوت‬
‫لنيل الدرجات العلى ـ ف زعمهم ـ والفوز بالنعيم الكمل ‪ ،‬بعد الروج عن هذه الدار العاجلة ‪،‬‬
‫ومبن على أصول لم فاسدة اعتقدوها وبنوا عليها أعمالم ‪.‬‬
‫حكى السعودي وغيه من ذلك أشياء فطالعها من هنالك ‪ ،‬وقد وقع القتل ف العرب الاهلية ولكن‬
‫على غي هذه الهة ‪ ،‬وهو قتل الولد لشيئي ‪ :‬أحدها خوف الملق ‪ ،‬والخر دفع العار الذي‬
‫كان لحقا لم بولدة الناث ‪ ،‬حت أنزل ال ف ذلك قوله تعال ‪" :‬ول تقتلوا أولدكم خشية إملق‬
‫نن نرزقهم وإياكم" ‪ ،‬وقوله تعال ‪" :‬وإذا الوؤدة سئلت * بأي ذنب قتلت" ‪ .‬وقوله ‪" :‬وإذا بشر‬
‫أحدهم بالنثى ظل وجهه مسودا" الية ‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذا القتل متمل أن يكون دينا وشرعة ابتدعوها ‪ ،‬ويتمل أن يكون عادة تعودوها ‪ ،‬بيث ل‬
‫يتخذوها شرعة ‪ ،‬إل أن ال تعال ذمهم عليها فل يكم عليها بالبدعة بل لجرد العصية ‪ ،‬فنظرنا هل‬
‫ند لحد الحتملي عاضدا يكون هو الول ف حل اليات عليه ؟ فوجدنا قوله سبحانه وتعال ‪:‬‬
‫"وكذلك زين لكثي من الشركي قتل أولدهم شركاؤهم ليدوهم وليلبسوا عليهم دينهم" فإن الية‬
‫صرحت أن لذا التزين سببي ‪ :‬أحدها الرداء وهو الهلك ‪ ،‬والخر ليس الدين ‪ ،‬وهو قوله ‪:‬‬
‫"وليلبسوا عليهم دينهم" ول يكون ذلك إل بتغيه وتبديله أو الزيادة فيه أو النقصان منه ‪ ،‬وهو‬
‫البتداع بل إشكال ‪ ،‬وإنا كان دينهم أولً دين أبيهم ( إبراهيم ) فصار ذلك من جلة ما بدلوا فيه ‪،‬‬
‫كالبحية والسائبة ونصب الصنام وغيها ‪ ،‬حت عد من جلة دينهم الذي يدينون به ‪.‬‬
‫ويعضده قوله تعال بعد ‪" :‬فذرهم وما يفترون" فنسبهم إل الفتراء ـ كما ترى ـ والعصيان من‬
‫حيث هو عصيان ل يكون افتراء ‪ ،‬وإنا يقع الفتراء ف نفس التشريع ف أن هذا القتل من جلة ما‬
‫جاء من الدين ‪ .‬ولذلك قال تعال على إثر ذلك ‪" :‬قد خسر الذين قتلوا أولدهم سفها بغي علم‬
‫وحرموا ما رزقهم ال افتراء على ال قد ضلوا" فجعل قتل الولد مع تري ما أحل ال من جلة‬
‫الفتراء ‪ ،‬ث ختم بقوله ‪ ( :‬قد ضلوا ) وهذه خاصية البدعة ـ كما تقدم ـ فإذا ما فعلت الند نو‬
‫ما فعلت الاهلية ‪ ،‬وسيأت مذهب الهدي الغرب ف شرعية القتل ‪.‬‬
‫على أن بعض الفسرين قال ف قوله تعال ‪" :‬وكذلك زين لكثي من الشركي قتل أولدهم‬
‫شركاؤهم" أنه قتل الولد على جهة النذر والتقرب به إل ال ‪ ،‬كما فعل عبد الطلب ف ابنه عبد‬
‫ال أب النب صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وهذا القتل قد يشكل ‪ ،‬إذ يقال لعل ذلك من جلة ما اقتدوا فيه بأبيهم إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬لن ال‬
‫أمره بذبح ابنه ‪ ،‬فل يكون ذلك اختراعا وافتراءً لرجوعها إل أصل صحيح وهو عمل أبيهم عليه‬
‫السلم ‪ ،‬وإن صح هذا القول وتؤول فعل إبراهيم عليه السلم على أنه ل يكن شريعة لن بعده من‬
‫طريته فوجه اختراعه دينا ظاهر ‪ ،‬ل سيما عند عروض شبهة الذبح ‪ ،‬وهو شأن أهل البدع ‪ ،‬إذ ل بد‬
‫لم من شبهة يتعلقون با ـ كما تقدم التنبيه عليه ‪.‬‬
‫وكون ما تفعل أهل الند من هذا القبيل ظاهر جدا ‪.‬‬
‫ويري مرى إتلف النفس إتلف بعضها ‪،‬كقطع عضو من العضاء ‪ ،‬أو تعطيل منفعة من منافعه‬
‫بقصد التقرب إل ال بذلك ‪ ،‬فهو من جلة البدع ‪ ،‬وعليه يدل الديث حيث قال ‪:‬‬
‫رد رسول ال صلى ال عليه وسلم التبتل على عثمان بن مظعون ولو أذن له لختصينا ‪ .‬فالصاء‬
‫بقصد التبتل وترك الشتغال بلبسة النساء واكتساب الهل والولد مردود مذموم ‪ ،‬وصاحبه معتد‬
‫غي مبوب عند ال ‪ ،‬حسبما نبه قوله تعال ‪" :‬ول تعتدوا إن ال ل يب العتدين" وكذلك فقىء‬
‫العي لئل ينظر إل ما ل يل له ‪.‬‬

‫‪216‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فصل ومثال ما يقع ف النسل ما ذكر من أنكحة الاهلية‬


‫ومثال ما يقع ف النسل ما ذكر من أنكحة الاهلية الت كانت معهودة فيها ومعمولً با ‪ ،‬ومتخذة‬
‫فيها كالدين النتسب واللة الارية الت ل عهد با ف شريعة إبراهيم عليه السلم ول غيه ‪ ،‬بل‬
‫كانت من جلة ما اخترعوا وابتدعوا ‪ ،‬وهو على أنواع ‪:‬‬
‫فجاء عن عائشة أم الؤمني رضي ال عنها أن النكاح ف الاهلية كان على أربعة أناء ‪:‬‬
‫الول منها ‪ :‬نكاح الناس اليوم ‪ ،‬يطب الرجل إل الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ث ينكحها ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬نكاح الستبضاع ‪ ،‬كالرجل يقول لمرأته إذا طهرت من طمثها ‪ :‬أرسلي إل فلن‬
‫فاستبضعي منه ‪ .‬ويعتزلا زوجها ول يسها أبدا حت حلها من ذلك الرجل الذي يستبضع منه ‪ ،‬فإذا‬
‫تبي حلها أصابا زوجها إذا أحب وإنا يفعل ذلك رغبةً ف نابة الولد ‪ ،‬فكان هذا النكاح نكاح‬
‫الستبضاع ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن يتمع الرهط ما دون العشرة فيدلون على الرأة كلهم يصيبها ‪ ،‬فإذا حلت ووضعت‬
‫ومرت ليال بعد أن تضع حلها أرسلت إليهم فلم يستطع منهم رجل أن يتنع حت يتمعوا عندها ‪،‬‬
‫تقول ‪ :‬قد عرفتم الذي كان من أمركم ‪ ،‬وقد ولدت فهو ابنك يا فلن ‪ ،‬فتسمي من أحبت بإسه‬
‫فيلحق به ولدها فل يستطيع أن يتنع منه الرجل ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن يتمع الناس الكثيون فيدخلون على الرأة ل تنمع من جاءها وهن البغايا ‪ ،‬كن ينصب‬
‫على أبوابن رايات تكون علما ‪ ،‬فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حلت إحداهن ووضعت حلها‬
‫جعوا لا ودعوا لا القافة ‪ ،‬ث ألقوا ولدها بالذي يرون ‪ ،‬فالتاط به ودعي ابنه ل يتنع من ذلك ‪،‬‬
‫فلما بعث ال نبيه صلى ال عليه وسلم بالق هدم نكاح الاهلية إل نكاح الناس اليوم ‪ .‬وهذا‬
‫الديث ف البخاري مذكور ‪.‬‬
‫وكان لم أيضا سنن أخر ف النكاح خارجة عن الشروع كوارثة النساء كرها ‪ ،‬وكنكاح ما نكح‬
‫الب ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪ ،‬جاهلية جارية مرى الشروعات عندهم ‪ ،‬فمحا السلم ذلك كله والمد ل‬
‫‪.‬‬
‫ث أتى بعض من نسب إل الفرق من حرف التأويل ف كتاب ال ‪ ،‬فأجاز نكاح أكثر من أربع نسوة‬
‫‪ ،‬إما اقتداءً ـ ف زعمه ـ بالنب صلى ال عليه وسلم حيث أحل له أكثر من ذلك أن يمع بينهن ‪،‬‬
‫ول يلتفت إل إجاع السلمي أن ذلك خاص به عليه السلم ‪ ،‬وإما تريفا لقوله تعال ‪" :‬فانكحوا‬
‫ما طاب لكم من النساء مثن وثلث ورباع" ‪.‬‬
‫فأجاز المع بي تسع نسوة ذلك ‪ ،‬ول يفهم الراد من الراوي ول من قوله ‪" :‬مثن وثلث ورباع"‬
‫فأتى ببدعة أجراها ف هذه المة ل دليل عليها ول مستند فيها ‪.‬‬

‫‪217‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ويكى عن الشيعة أنا تزعم أن النب صلى ال عليه وسلم أسقط عن أهل بيته ومن دان ببهم جيع‬
‫العمال ‪ ،‬وأنم غي مكلفي إل با تطوعوا ‪ ،‬وأن الحظورات مباحة لم كالنير والزنا والمر‬
‫وسائر الفواحش ‪ ،‬وعندهم نساء يسمي النوابات يتصدقن بفوجهن على الحتاجي رغبةً ف الجر ‪،‬‬
‫وينكحون ما شاؤوا من الخوات والبنات والمهات ‪ ،‬ل حرج عليهم ف ذلك ول ف تكثي النساء ‪.‬‬
‫وهؤلء العبيدية الذين ملكوا مصر وإفريقية ‪.‬‬
‫وما يكى عنهم ف ذلك أنه يكون للمرأة ثلثة أزواج وأكثر ف بيت واحد يستدلونا وتنسب الولد‬
‫لكل واحد منهم ‪ ،‬ويهنأ به كل واحد منهم ‪ ،‬كما التزمت الباحية خرق هذا الجاب بإطلق ‪،‬‬
‫وزعمت أن الحكام الشرعية إنا هي خاصة بالعوام ‪ ،‬وأما الواص منهم فقد ترقوا عن تلك الرتبة ‪،‬‬
‫فالنساء بإطلق حلل لم ‪ ،‬كما أن جيع ما ف الكون من رطب ويابس حلل لم أيضا ‪ ،‬مستدلي‬
‫على ذلك برافات عجائز ل يرضاها ذو عقل ‪" :‬قاتلهم ال أن يؤفكون" فصاروا أضر على الدين من‬
‫متبوعهم إبليس لعنهم ال ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫ب الفسق حت صار إبليس من جندي !‬ ‫وكنت امرأ من جند إبليس فانتهى‬
‫طرائق فسق ليس يسنها بعدي !‬ ‫فلو مات قبلي كنت أحسن بعده‬

‫فصل ومثال ما يقع ف العقل ‪ ،‬أن حكم ال على العباد ل يكون إل با شرع‬
‫ومثال ما يقع ف العقل ‪ ،‬أن الشريعة بينت أن حكم ال على العباد ل يكون إل با شرع ف دينه على‬
‫ألسنة أنبيائه ورسله ‪ ،‬ولذلك قال تعال ‪" :‬وما كنا معذبي حت نبعث رسول " وقال تعال ‪" :‬فإن‬
‫تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول " وقال ‪" :‬إن الكم إل ل" وأشباه ذلك من اليات‬
‫والحاديث ‪.‬‬
‫فخرجت عن هذا الصل فرقة زعمت أن العقل له مال ف التشريع ‪ ،‬وأنه مسن ومقبح ‪ ،‬فابتدعوا ف‬
‫دين ال ما ليس فيه ‪.‬‬
‫ومن ذلك أن المر لا حرمت ‪ ،‬ونزل من القرآن ف شأن من مات قبل التحري وهو ويشربا ‪ .‬قوله‬
‫تعال ‪" :‬ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالات جناح فيما طعموا" ‪ .‬الية تأولا قوم ـ فيما ذكر‬
‫ـ على أن المر حلل ‪ ،‬وأنا داخلة تت قوله ‪ :‬فيما طعموا ‪.‬‬
‫فذكر إساعيل بن إسحاق عن علي رضي ال عنه ‪ ،‬قال ‪ :‬شرب نفر من أهل الشام المر وعليهم‬
‫يزيد بن أب سفيان ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬هي لنا حلل ‪ .‬وتأولوا هذه الية ‪" :‬ليس على الذين آمنوا" الية ‪ .‬قال‬
‫فكتب فيهم إل عمر ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فكتب عمر إليه ‪ :‬أن ابعث بم إل قبل أن يفسدوا من قبلك ‪ ،‬فلما قدموا إل عمر استشار‬
‫فيهم الناس ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬يا أمي الؤمني! نرى أنم قد كذبوا على ال وشرعوا ف دينه ما ل يأذن به‬

‫‪218‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فاضرب أعناقهم ‪ ،‬وعلي رضي ال عنه ساكت ‪ ،‬قال ‪ :‬فما تقول يا أبا السن ؟ فقال ‪ :‬أرى أن‬
‫تستتيبهم فإن تابوا جلدتم ثاني لشربم المر ‪ ،‬وإن ل يتوبوا ضربت أعناقهم ‪ ،‬فإنم قد كذبوا على‬
‫ال وشرعوا ف دين ال ما ل يأذن به ‪.‬‬
‫فهؤلء استحلوا بالتأويل ما حرم ال بنص الكتاب ‪ ،‬وشهد فيهم علي رضي ال عنه ‪ ،‬وغيه من‬
‫الصحابة ‪ ،‬بأنم شرعوا ف دين ال ‪ ،‬وهذه هي البدعة بعينها ‪ ،‬فهذا وجه ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن بعض الفلسفة السلميي تأول فيها غي هذا ‪ ،‬وأنه إنا يشربا للنفع ل للهو ‪ ،‬وعاهد‬
‫ال على ذلك ‪ ،‬فكأنا عندهم من الدوية أو غذاء صال يصلح لفظ الصحة ‪ .‬ويكى هذا العهد عن‬
‫ابن سيناء ‪.‬‬
‫ورأيت ف بعض كلم الناس من عرف عنه أنه كان يستعي ف سهره للعلم والتصنيف والنظر‬
‫بالمر ‪ ،‬فإذا رأى من نفسه كسلً أو فترةً شرب منها قدر ما ينشطه وينفي عنه الكسل ‪ ،‬بل ذكروا‬
‫فيها أن لا حرارة خاصة تفعل أفعا ًل كثية تطيب النفس ‪ ،‬وتصي النسان مبا للحكمة ‪ ،‬وتعله‬
‫حسن الركة ‪ ،‬والذهن ‪ ،‬والعرفة ‪ ،‬فإذا استعملها على العتدال عرف الشياء ‪ ،‬وفهمها ‪ ،‬وتذكرها‬
‫بعد النسيان ‪.‬‬
‫فلهذا ـ وال أعلم ـ كان ابن سينا ل يترك استعمالا ـ على ما ذكر عنه ـ وهو كله ضلل مبي‬
‫‪ ،‬عياذا بال من ذلك ‪.‬‬
‫ول يقال ‪ :‬إن هذا داخل تت مسألة التداوي با ‪ .‬وفيها خلف شهي ‪ ،‬لنا نقول ‪ :‬إنا ثبت عن‬
‫ابن سينا أنه كان يستعملها استعمال المور النشطة من الكسل والفظ للصحة ‪ ،‬والقوة على القيام‬
‫بوظائف العمال ‪ ،‬أو ما يناسب ذلك ‪ ،‬ل ف المراض الؤثرة ف الجسام ‪ .‬وإنا اللف ف‬
‫استعمالا ف المراض ل ف غي ذلك ‪ ،‬فهو ومن وافقه على ذلك متقولون على شريعة ال مبتدعون‬
‫فيها ‪ ،‬وقد تقدم رأي أهل الباحة ف المر وغيها ‪ ،‬ول توفيق إل بال ‪.‬‬

‫فصل ومثال ما يقع ف الال ‪ ،‬أن الكفار قالوا ‪ :‬إنا البيع مثل الربا‬
‫ومثال ما يقع ف الال ‪ ،‬أن الكفار قالوا ‪" :‬إنا البيع مثل الربا" فإنم لا استحلوا العمل به واحتجوا‬
‫بقياس فاسد ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إذا فسخ العشرة الت اشترى با إل شهر ف خسة عشر إل شهرين ‪ ،‬فهو‬
‫كما لو باع بمسة عشر إل شهرين ‪ ،‬فأكذبم ال تعال ورد عليهم ‪ ،‬فقال ‪" :‬ذلك بأنم قالوا إنا‬
‫البيع مثل الربا وأحل ال البيع وحرم الربا" أي ‪ :‬ليس البيع مثل الربا ‪،‬فهذه مدثة أخذوا با مستندين‬
‫إل رأي فاسد ‪ ،‬فكان من جلة الحدثات ‪ ،‬كسائر ما أحدثوا ف البيوع الارية بينهم البنية على‬
‫الطر والغرر ‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكانت الاهلية قد شرعت أيضا أشياء ف الموال كالظوظ الت كانوا يرجونا للمي من الغنيمة ‪،‬‬
‫حت قال شاعرهم ‪:‬‬
‫وحكمك والنشيطة والفضول‬ ‫لك الرباع فيها والصفايا‬
‫فالرباع ‪ :‬ربع الغنم يأخذه الرئيس ‪.‬والصفايا ‪ :‬جع صفي ‪ .‬وهو ما يصطفيه الرئيس لنفسه من الغنم‬
‫‪ ،‬والنشيطة ‪ :‬ما يغنمه الغزاة ف الطريق ‪ ،‬قبل بلوغهم إل الوضع الذي قصدوه ‪ ،‬فكان يتص به‬
‫الرئيس دون غيه ‪ .‬والفضول ‪ :‬ما يفضل من الغنيمة عند القسمة ‪.‬‬
‫وكانت تتخذ الرضي تميها عن الناس أن ل يدخلوها ول يرعوها ‪ ،‬فلما نزل القرآن بقسمة‬
‫الغنيمة ف قوله تعال ‪" :‬واعلموا أنا غنمتم من شيء" الية ‪ ،‬راتفع حكم هذه البدعة إل بعض من‬
‫جرى ف السلم على حكم الاهلية ‪ ،‬فعمل بأحكام الشيطان ‪ ،‬ول يستقم على العمل بأحكام ال‬
‫تعال ‪.‬‬
‫وكذلك جاء ف الديث ‪:‬‬
‫"ل حى إل حى ال ورسوله" ث جرى بعض الناس من آثر الدنيا على طاعة ال ‪ ،‬على سبيل حكم‬
‫الاهلية "ومن أحسن من ال حكما لقوم يوقنون" ولكن الية والديث وما كان ف معناها أثبت‬
‫أصلً ف الشريعة مطردا ل ينخرم ‪ ،‬وعاما ل يتخصص ‪ ،‬ومطلقا ل يتقيد ‪ .‬وهو أن الصغي من‬
‫الكلفي والكبي ‪ ،‬والشريف والدنء ‪ ،‬والرفيع والوضيع ف احكام الشريعة سواء ‪ ،‬فكل من خرج‬
‫عن مقتضى هذا الصل خرج من السنة إل البدعة ‪ ،‬ومن الستقامة إل العوجاج ‪.‬‬
‫وتت هذا الرمز تفاصيل عظيمة الوقع ‪ ،‬لعلها تذكر فيما بعد إن شاء ال ‪ ،‬وقد أشي إل جلة منها ‪.‬‬

‫فصل إذا تقرر أن البدع ليست ف الذم ول ف النهي على رتبة واحدة‬
‫إذا تقرر أن البدع ليست ف الذم ول ف النهي على رتبة واحدة ‪ ،‬وأن منها ما هو مكروه ‪ ،‬كما أن‬
‫منها ما هو مرم ‪ ،‬فوصف الضللة لزم لا وشامل لنواعها لا ثبت من قوله صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"كل بدعة ضللة" ‪.‬‬
‫لكن يبقى ها هنا إشكال ‪ ،‬وهو أن الضللة ضد الدى لقوله تعال ‪" :‬أولئك الذين اشتروا الضللة‬
‫بالدى" وقوله ‪" :‬ومن يضلل ال فما له من هاد" "ومن يهد ال فما له من مضل" وأشباه ذلك ما‬
‫قوبل فيه بي الدى والضلل ‪ .‬فإنه بقتضي أنما ضدان وليس بينهما واسطة تعتب ف الشرع ‪ ،‬فدل‬
‫على أن البدع الكروهة خروج عن الدى ‪.‬‬
‫ونظيه ف الخالفات الت ليست ببدع ‪ ،‬الكروهة من الفعال ‪ ،‬كاللتفات اليسي ف الصلة من غي‬
‫حاجة ‪،‬‬
‫والصلة وهو يدافعه الخبثان وما أشبه ذلك ‪.‬‬

‫‪220‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ونظيه ف الديث ‪:‬‬


‫" نينا عن اتباع النائز ول يعزم علينا" فالرتكب للمكروه ل يصح أن يقال فيه مالف ول عاص ‪،‬‬
‫مع أن الطاعة ضدها العصية ‪ .‬وفاعل الندوب مطيع لنه فاعل أمر به ‪ .‬فإذا اعتبت الضد لزم أن‬
‫يكون فاعل الكروه عاصيا لنه فاعال ما ني عنه ‪ ،‬لكن ذلك غي صحيح ‪ ،‬إذ ل يطلق عليه عاص ‪،‬‬
‫فكذلك ل يكون فاعل البدعة الكروهة ضا ًل ‪ ،‬وإل فل فرق بي إعتبار الضد ف الطاعة واعتباره ف‬
‫الدى ‪ ،‬فكما يطلق على البدعة الكروهة لفظ الضللة فكذلك يطلق على الفعل الكروه لفظ العصية‬
‫‪ ،‬وإل فل يطلق على البدعة الكروهة لفظ الضللة ‪ ،‬كما ل يطلق على الفعل الكروه لفظ العصية‬
‫‪.‬‬
‫إل أنه قد تقدم عموم لفظ الضللة لكل بدعة ‪ ،‬فليعم لفظ العصية لكل فعل مكروه ‪ ،‬لكن هذا باطل‬
‫‪ ،‬فما لزم عنه كذلك ‪.‬‬

‫والواب ‪ :‬أن عموم لفظ الضللة لكل بدعة‬


‫والواب ‪ :‬أن عموم لفظ الضللة لكل بدعة ثابت ـ كما تقدم بسطه ـ وما التزمتم ف الفعل‬
‫الكروه غي لزم ‪ ،‬فإنه ل يلزم ف الفعال أن تري على الضدية الذكورة إل بعد استقراء الشرع ‪،‬‬
‫ولا استقرينا موارد الحكام الشرعية وجدنا للطاعة والعصية واسطة متفقا عليها أو كالتفق عليها‬
‫وهي الباح ‪ ،‬وحقيقته أنه ليس بطاعة من حيث هو مباح ‪.‬‬
‫فالأر والنهي ضدان بينهما واسطة ل يتعلق با أمر ول ني ‪ ،‬وإنا يتعلق با التخيي ‪.‬‬
‫وإذا تأملنا الكروه ـ حسبما قرره الصوليون ـ وجدناه ذا طرفي ‪:‬‬
‫طرف من حيث هو منهي عنه ‪ ،‬فيستوي مع الحرم ف مطلق النهي ‪ ،‬فربا يتوهم أن مالفة ني‬
‫الكراهية معصية من حيث اشترك مع الحرم ف مطلق الخالفة ‪.‬‬
‫غي أنه يصد عن هذا الطلق الطرف الخر ‪ ،‬وهو أن يعتب من حيث ل يترتب على فاعله ذم‬
‫شرعي ول إث ول عقاب ‪ ،‬فخالف الحرم من هذا الوجه وشارك الباح فيه ‪ ،‬لن الباح ل ذم على‬
‫فاعله ول إث ول عقاب ‪ ،‬فتحاموا أن يطلقوا على ما هذا شأنه عبارة العصية ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا ووجدنا بي الطاعة والعصية واسطة يصح أن ينسب إليها الكروه من البدع ‪ ،‬وقد قال‬
‫ال تعال ‪" :‬فماذا بعد الق إل الضلل" فليس إل حق ‪ ،‬وهو الدى ‪ ،‬وضلل وهو الباطل ‪ ،‬فالبدع‬
‫الكروهة ضلل ‪.‬‬
‫وأما ثانيا ‪ :‬فإن إثبات قسم الكراهة ف البدع على القيقة ما ينظر فيه ‪ ،‬فل يغتر الغتر بإطلق‬
‫التقدمي من الفقهاء لفظ الكروه على بعض البدع ‪ ،‬وإنا حقيقة السألة أن البدع ليست على رتبة‬

‫‪221‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫واحدة ف الذم ـ كما تقدم بيانه ـ وأما تعيي الكراهة الت معناها نفي إث فاعلها وارتفاع الرج‬
‫البتة ‪ ،‬فهذا ما ل يكاد يوجد عليه دليل من الشرع ول من كلم الئمة على الصوص ‪.‬‬
‫أماالشرع ففيه ما يدل على خلف ذلك ‪ ،‬لن رسول ال صلى ال عليه وسلم رد على من قال ‪:‬‬
‫"أما أنا فأقوم الليل ول أنام " ‪ ،‬وقال الخر ‪" :‬أما أنا فل أنكح النساء " إل آخر ما قالوا ‪ ،‬فرد‬
‫عليهم ذلك صلى ال عليه وسلم وقال ‪ ":‬من رغب عن سنت فليس من "‪.‬‬
‫وهذه العبارة أشد شيء ف النكار ‪ ،‬ول يكن ما التزموا إل فعل مندوب أو ترك مندوب إل فعل‬
‫مندوب آخر ‪ ،‬وكذلك ما ف الديث "أنه عليه السلم رأى رجلً قائما ف الشمس فقال ‪ :‬ما بال‬
‫هذا ؟ قالوا ‪ :‬نذر أن ل يستظل ول يتكلم ول يلس ويصوم ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ :‬مره فليجلس وليستظل وليتم صومه " قال مالك‪ :‬أمره أن يتم ما كان ل عليه فيه طاعة ‪ ،‬ويترك ما‬
‫كان عليه فيه معصية ‪.‬‬
‫ويعضد هذا الذي قاله مالك ما ف البخاري عن قيس بن أب حازم ‪ ،‬قال دخل أبو بكر على امرأة من‬
‫أحس يقال لا زينب فرآها ل تتكلم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫ما لا فقال حجت مصمتة قال لا ‪ :‬تكلمي ‪ ،‬فإن هذا ل يل ‪ ،‬هذا من عمل الاهلية فتكلمت‬
‫الديث إل ‪.‬‬
‫وقال مالك أيضا ف قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"من نذر أن يعصي ال فل يعصيه"إن ذلك أن ينذر الرجل أن يشي إل الشام وإل مصر وأشباه ذلك‬
‫ما ليس فيه طاعة ‪ ،‬أو أن ل أكلم فلنا ‪ ،‬فليس عليه ف ذلك شيء إن هو كلمه لنه ليس ل ف هذه‬
‫الشياء طاعة ‪ ،‬وإنا يوف ل بكل نذر فيه طاعة من مشي إل بيت ال أو صيام أو صدقة أو صلة ‪،‬‬
‫فكل ما ل فيه طاعة فهو واجب على من نذره ‪.‬‬
‫فتأمل كيف جعل القيام ف الشمس وترك الكلم ونذر الشي إل الشام أو مصر معاصي ‪ ،‬حت فسر‬
‫فيها الديث الشهور ‪ ،‬مع أنا ف أنفسها أشياء مباحات ‪ ،‬لكنه لا أجراها مرى ما يتشرع به ويدان‬
‫ل به صارت عند مالك معاصي ل ‪ ،‬وكلية قوله ‪ " :‬كل بدعة ضللة " شاهدة لذا العن ‪،‬‬
‫والميع يقتضي التأثيم والتهديد والوعيد ‪ ،‬وهي خاصية الحرم ‪.‬‬
‫وقد مر ما روى الزبي بن بكار وأتاه رجل فقال ‪ :‬يا أبا عبد ال ! من أين أحرم ؟ قال من ذي‬
‫الليفة من حيث أحرم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فقال ‪ :‬إن أريد أن أحرم من السجد ‪:‬‬
‫فقال ‪ :‬ل تفعل ‪ .‬قال ‪ :‬غن أريد أن أحرم من السجد من عند القب ‪ .‬قال ‪ :‬ل تفعل فإن أخشى‬
‫عليك الفتنة ‪ .‬قال ‪ :‬وأي فتنة ف هذا ؟ إنا هي أميال أزيدها ‪ ،‬قال ‪ :‬وأي فتنة أعظم من أن ترى‬
‫أنك سبقت إل فضيلة قصر عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ إن سعت ال تعال يقول ‪:‬‬
‫"فليحذر الذين يالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم" ‪.‬‬

‫‪222‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فأنت ترى أنه خشي عليه الفتنة ف الحرام من موضع فاضل ل بقعة أشرف منه ‪ ،‬وهو مسجد ال‬
‫ورسول ال صلى ال عليه وسلم وموضع قبه ‪ ،‬لكنه أبعد من اليقات فهو زيادة ف التعب قصدا‬
‫لرضا ال ورسوله ‪ ،‬فبي أن ما استسهله من ذلك المر اليسي ف بادىء الرأي ياف على صاحبه‬
‫الفتنة ف الدنيا والعذاب ف الخرة ‪ ،‬واستدل بالية ‪ .‬فكل ما كان مثل ذلك داخل ـ عند مالك ـ‬
‫ف معن الية ‪ ،‬فأين كراهية التنيه ف هذه المور الت يظهر بأول النظر أنا سهلة ويسية؟ ‪.‬‬
‫وقال ابن حبيب ‪ :‬أخبن ابن الاجشون أنه سع مالكا يقول ‪ :‬التثويب ضلل ؟ قال مالك ‪ :‬ومن‬
‫أحدث ف هذه المة شيئا ل يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خان‬
‫الدين ‪ ،‬لن ال تعال يقول ‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم" فما ل يكن يومئذ دينا ‪ ،‬ل يكون اليوم‬
‫دينا ‪.‬‬
‫وإنا التثويت الذي كرهه أن الؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بي الذان والقامة ‪ :‬قد قامت‬
‫الصلة ‪ ،‬حي على الصلة ‪ ،‬حي على الفلح وهو قول إسحاق بن راهوية أنه التثويب الحدث ‪.‬‬
‫قال الترمذي لا نقل هذا عن سحنون ‪ :‬وهذا الذي قال إسحاق هو التثويب الذي قد كرهه أهل‬
‫العلم ‪ ،‬والذي أحدثوه بعد النب صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وإذا اعتب هذا اللفظ ف نفسه فكل أحد‬
‫يستسهله ف بادىء الرأي إذ ليس فيه زيادة على التذكي بالصلة ‪.‬‬
‫وقصة صبيغ العراقي ظاهرة ف هذا العن ‪ ،‬فحكة ابن وهب قال ‪ :‬حدثنا مالك بن أنس قال ‪ :‬جعل‬
‫صبيغ يطوف بكتاب ال معه ‪ ،‬ويقول ‪ :‬من يتفقه يفقهه ال ‪ ،‬من يتعلم يعلمه ال ‪ ،‬فأخذه عمر بن‬
‫الطاب رضي ال عنه فضربه بالريد الرطب ‪ ،‬ث سجنه حت إذا خف الذي به أخرجه فضربه ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬يا أمي الؤمني! إن كنت تريد قتلي فأجهز علي ‪ ،‬وإل فقد شفيتن شفاك ال فخله عمر ‪.‬‬
‫قال ابن وهب ‪ :‬قال مالك ‪ ،‬وقد ضرب عمر بن الطاب رضي ال عنه صبيغا حي بلغه ما يسأل‬
‫عنه من القرآن وغي ذلك اهـ ‪.‬‬
‫وهذا الضرب إنا كان لسؤاله عن أمور من القرآن ل ينبن عليها عمل وربا نقل عنه أنه كان يسأل‬
‫عن السابات سبحا ‪ ،‬والرسلت عرفا وأشباه ذلك ‪ ،‬والضرب إنا يكون لناية أربت على كراهية‬
‫التنيه ‪ ،‬إذ ل يستباح دم امرىء مسلم ‪ ،‬ول عرضه بكروه كراهية تنيه ‪ ،‬ضربه إياه خوف البتداع‬
‫ف الدين أن يشتغل منه با ل ينبن عليه عمل ‪ ،‬وأن يكون ذلك ذريعة ‪ ،‬لئل يبحث عن التشابات‬
‫القرآنية ولذلك لا قرأ عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪" :‬وفاكهة وأبا" قال ‪ :‬هذه الفاكهة ‪ ،‬فما‬
‫الب ! ث قال ‪ :‬ما أمرنا بذا ‪.‬‬
‫وف رواية ‪ :‬نينا عن التكلف ‪.‬‬
‫وجاء ف قصة صبيغ من رواية ابن وهب عن الليث أنه ضربه مرتي ث أراد أن يضربه الثالثة فقال له‬
‫ل ‪ ،‬وإن كنت تريد أن تداوين فقد وال برئت ‪ .‬فأذن له‬ ‫صبيغ ‪ :‬إن كنت تريد قتلي فاقتلن قتلً جي ً‬

‫‪223‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إل أرضه ‪ ،‬وكتب إل أب موسى الشعري رضي ال عنه أن ل يالسه أحد من السلمي ‪ ،‬فاشتد‬
‫ذلك على الرجل ‪ ،‬فكتب أبو موسى إل عمر أن قد حسنت سيئتة ‪ ،‬فكتب إليه عمر أن يأذن للناس‬
‫بجالسته ‪ .‬والشواهد ف هذا العن كثية ‪ ،‬وهي تدل على أن الي عند الناس من البدع شديد وليس‬
‫بي "وتسبونه هينا وهو عند ال عظيم" ‪.‬‬
‫وأما كلم العلماء فإنم وإن أطلقوا الكراهية ف المور النهي عنها ل يعنون با كراهية التنيه فقط ‪،‬‬
‫وإنا هذا اصطلح للمتأخرين حي أرادوا أن يفرقوا بي القبلتي ‪ .‬فيطلقون لفظ الكراهية على‬
‫كراهية التنيه فقط ‪ ،‬ويصون كراهية التحري بلفظ التحري والنع ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪.‬‬
‫وأما التقدمون من السلف فإنم ل يكن من شأنم فيما ل نص فيه صريا أن يقولوا ‪ :‬هذا حلل‬
‫وهذا حرام ‪ .‬ويتحامون هذه العبارة خوفا ما ف الية من قوله ‪" :‬ول تقولوا لا تصف ألسنتكم‬
‫الكذب هذا حلل وهذا حرام لتفتروا على ال الكذب" وحكى مالك عمن تقدمه هذا العن ‪ .‬فإذا‬
‫وجدت ف كلمهم ف البدعة أو غيها ‪ :‬أكره هذا ‪ ،‬ول أحب هذا ‪ ،‬وهذا مكروه ‪ .‬وما أشبه‬
‫ذلك ‪ ،‬فل تقطعن على أنم يريدون التنيه فقط ‪ ،‬فإنه إذا دل الدليل ف جيع البدع على أنا ضللة‬
‫فمن أين يعد فيها ما هو مكروه كراهية التنيه ؟ اللهم إل أن يطلقوا لفظ الكراهية على ما يكون له‬
‫أصل ف الشرع ‪ ،‬ولكن يعارضه أمر آخر معتب ف الشرع فيكره لجله ‪ ،‬ل لنه بدعة مكروهة ‪،‬‬
‫على تفصيل يذكر ف موضعه ‪.‬‬
‫وأما ثالثا ‪ :‬فإنا إذا تأملنا حقيقة البدعة ـ دقت أو جلت ـ وجدناها مالفة للمكروه من النهيات‬
‫الخالفة التامة ‪ .‬وبيان ذلك من أوجه ‪:‬‬
‫ل على العفو اللزم فيه ‪،‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن مرتكب الكروه إنا قصده نيل غرضه وشهوته العاجلة متك ً‬
‫ورفع الرج الثابت ف الشريعة ‪ ،‬فهو إل الطمع ف رحة ال أقرب ‪ .‬وأيضا فليس عقده اليان‬
‫بتزحزح ‪ ،‬لنه يعتقد الكروه مكروها كما يعتقد الرام حراما وإن ارتكبه ‪ ،‬فهو ياف ال‬
‫ويرجوه ‪ ،‬والوف والرجاء شعبتان من شعب اليان ‪.‬‬
‫فكذلك مرتكب الكروه يرى أن الترك أول ف حقه من الفعل ‪ ،‬وأن نفسه المارة زينت له الدخول‬
‫فيه ‪ .‬ويود لو ل يفعل ‪ ،‬وايضا فل يزال ـ إذا تذكر ـ منكسر القلب طامعا ف القلع سواء عليه‬
‫أخذ ف أسباب القلع أم ل ‪.‬‬
‫ومرتكب أدن البدع يكاد يكون على ضد هذه الحوال ‪ ،‬فإنه يعد ما دخل فيه حسنا ‪ ،‬بل يراه أول‬
‫با حد له الشارع ‪ ،‬فأين مع هذه خوفه أو رجاؤه ؟ وهو يزعم أن طريقه أهدى سبيلً ‪ ،‬ونلته أول‬
‫بالتباع ‪ .‬هذا وإن كان زعمه شبهة عرضت فقد شهد الشرع باليات والحاديث أنه متبع للهوى ‪.‬‬
‫وسيأت لذلك تقرير إن شاء ال ‪.‬‬

‫‪224‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد مر ف أول الباب الثان تقرير لملة من العان الت تعظم أمر البدع على الطلق ‪ ،‬وكذلك مر‬
‫ف آخر الباب أيضا أمور ظاهرة ف بعد ما بينهما وبي كراهية التنيه فراجعها هنالك يتبي لك‬
‫مصداق ما أشي إليه ها هنا ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬
‫والاصل أن النسبة بي الكروه من العمال وبي أدن البدع بعيد اللتمس ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت هذا انتقلنا منه إل معن آخر ‪ :‬وهو أن الحرم ينقسم ف الشرع إل ما هو صغية‬
‫وإل ما هو كبية‬
‫إذا ثبت هذا انتقلنا منه إل معن آخر ‪ :‬وهو أن الحرم ينقسم ف الشرع إل ما هو صغية وإل ما هو‬
‫كبية ـ حسبما تبي ف علم الصول الدينية ـ فكذلك يقال ف البدع الحرمة ‪ :‬إنا تنقسم إل‬
‫الصغية والكبية اعتبارا بتفاوت درجاتا ـ كما تقدم ـ وهذا على القول بأن العاصي تنقسم إل‬
‫الصغية والكبية ‪ .‬ولقد اختلفوا ف الفرق بينهما على أوجه وجيع ما قالوه لعله ل يوف بذلك‬
‫القصود على الكمال فلنترك التفريع عليه ‪.‬‬
‫وأقرب وجه يلتمس لذا الطلب ما تقرر ف كتاب الوافقات أن الكبائر منحصرة ف الخلل‬
‫بالضروريات العتبة ف كل ملة ‪ .‬وهي الدين والنفس والنسل والعقل والال ‪ ،‬وكل ما نص عليه‬
‫راجع إليها ‪ ،‬وما ل ينص عليه جرت ف العتبار والنظر مراها ‪ ،‬وهو الذي يمع أشتات ما ذكره‬
‫العلماء وما ل يذكروه ما هو ف معناه ‪.‬‬
‫فكذلك نقول ف كبائر البدع ‪ :‬ما أخل منها بأصل من هذه الضروريات فهو كبية ‪ ،‬وما ل ‪ ،‬فهي‬
‫صغية ‪ .‬وقد تقدمت لذلك أمثلة أول الباب ‪ .‬فكما انصرت كبائر العاصي أحسن انصار ـ‬
‫حسبما أشي إليه ف ذلك الكتاب ـ كذلك تنحصر كبائر البدع أيضا ‪ ،‬وعند ذلك يعترض ف‬
‫السألة إشكال عظيم على أهل البدع يعسر التخلص عنه ف إثبات الصغائر فيها ‪ .‬وذلك أن جيع‬
‫البدع راجعة إل الخلل بالدين إما أصلً وإما فرعا ‪ ،‬لنا إنا أحدثت لتلحق بالشروع زيادة فيه أو‬
‫نقصانا منه أو تغييا لقوافيه ‪ ،‬أو ما يرجع إل ذلك وليس ذلك بختص بالعبادات دون العادات ‪،‬‬
‫وإن قلنا بدخولا ف العادات ‪ ،‬بل تنع ف الميع ‪ .‬وإذا كانت بكليتها إخللً بالدين فهي إذا إخلل‬
‫بأول الضروريات وهو الدين ‪ ،‬وقد أثبت الديث الصحيح أن كل بدعة ضللة ‪ ،‬وقال ف الفرق ‪:‬‬
‫" كلها ف النار إل واحدة" وهذا وعيد أيضا للجميع على التفصيل ‪.‬‬
‫وهذا وإن تفاوتت مراتبها ف الخلل بالدين فليس ذلك بخرج لا عن أن تكون كبائر ‪ ،‬كما أن‬
‫القواعد المس أركان الدين وهي متفاوتة ف الترتيب ‪ ،‬فليس الخلل بالشهادتي كالخلل‬
‫بالصلة ‪ ،‬ول الخلل بالصلة كالخلل بالزكاة ‪ ،‬ول الخلل بالزكاة كالخلل برمضان ‪،‬‬
‫وكذلك سائرها مع الخلل ‪ ،‬فكل منها كبية ‪ .‬فقد آل النظر إل أن كل بدعة كبية ‪.‬‬

‫‪225‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وياب عنه بأن هذا النظر يدل على ما ذكره ‪ ،‬ففي النظر ما يدل من جهة أخرى على إثبات الصغية‬
‫من أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنا نقول ‪ :‬الخلل بضرورة النفس كبية بل إشكال ‪ ،‬ولكنها على مراتب أدناها ل يسمى‬
‫كبية ‪ ،‬فالقتل كبية ‪ ،‬وقطع العضاء من غي إجهاز كبية دونا ‪ ،‬وقطع عضو واحد كبية دونا ‪،‬‬
‫وهلم جرا إل أن تنتهي إل اللطمة ‪ ،‬ث إل أقل خدش يتصور ‪ ،‬فل يصح أن يقال ف مثله كبية ‪،‬‬
‫كما قال العلماء ف السرقة ‪ :‬إنا كبية لنا إخلل بضرورة الال ‪ .‬فإن كانت السرقة ف لقمة أو‬
‫تطفيف ببة فقد عدوه من الصغائر ‪ .‬وهذا ف ضرورة الدين أيضا ‪.‬‬
‫فقد جاء ف بعض الحاديث عن حذيفة رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫أول ما تفقدون من دينكم المانة ‪ ،‬وآخر ما تفقدون الصلة ‪ ،‬ولتنقضن عرى اليان عرو ًة عروة ‪،‬‬
‫وليصلي نساء وهن حيض ـ ث قال ـ حت تبقى فرقتان من فرق كثية تقول إحداها ‪ :‬ما بال‬
‫الصلوات المس ؟ لقد ضل من كان قبلنا ‪ ،‬إنا قال ال ‪" :‬وأقم الصلة طرف النهار وزلفا من الليل"‬
‫ل تصلن إل ثلثا ‪ .‬وتقول أخرى ‪ :‬إنا لنؤمن بال إيان اللئكة ‪ ،‬ما فينا كافر ‪ ،‬حق على ال أن‬
‫يشرها مع الدجال فهذا الثر ـ وإن ل تلتزم عهده صحته ـ مثال من أمثلة السألة ‪.‬‬
‫فقد نبه على أن ف آخر الزمان من يرى أن الصلوات الفروضة ثلث ل خس ‪ ،‬وبي أن من النساء‬
‫من يصلي وهن حيض ‪ .‬كأنه يعن بسبب التعمق وطلب الحتياط بالوساوس الارج عن السنة ‪.‬‬
‫فهذه مرتبة دون الول ‪.‬‬
‫وحكى ابن حزم أن بعض الناس زعم أن الظهر خس ركعات ل أربع ركعات ‪ ،‬ث وقع ف العتبية ‪.‬‬
‫قال ابن القاسم ‪ :‬وسعت مالكا يقول ‪ :‬أول من أحدث العتماد ف الصلة ـ حت ل يرك رجليه‬
‫ـ رجل قد عرف وسي إل أن ل أحب أن أذكره ‪ ،‬وقد كان مساء ( أي يساء الثناء عليه ) قال ‪:‬‬
‫قد عيب ذلك عليه ‪ ،‬وهذا مكروه من الفعل ‪ .‬قالوا ‪ :‬ومساء أي يساء الثناء عليه ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬جائز عند مالك أن يروح الرجل قدميه ف الصلة ‪ ،‬قاله ف الدونة ‪ ،‬وإنا كره أن‬
‫يقرنما حت ل يعتمد على إحداها دون الخرى ‪ ،‬لن ذلك ليس من حدود الصلة إذ ل يأت ذلك‬
‫عن النب صلى ال عليه وسلم ول عن أحد من السلف والصحابة الرضيي ‪ ،‬وهو من مدثات المور‬
‫‪ :‬انتهى ‪.‬‬
‫فمثل هذا ـ إن كان يعده فاعله من ماسن الصلة وإن ل يأت به أثر ـ فيقال ف مثله ‪ :‬إنه من‬
‫كبار البدع ‪ .‬كما يقال ذلك ف الركعة الامسة ف الظهر ونوها ‪ ،‬بل إنا يعد مثله من صغائر البدع‬
‫إن سلمنا أن لفظ الكراهية فيه ما يراد به التنيه ‪ ،‬وإذا ثبت ذلك ف بعض المثلة ف قاعدة الدين ‪،‬‬
‫فمثله يتصور ف سائر البدع الختلفة الراتب ‪ ،‬فالصغائر ف البدع ثابتة كما أنا ف العاصي ثابتة ‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والثان ‪ :‬أن البدع تنقسم إل ما هي كلية ف الشريعة وإل جزئية ‪ ،‬ومعن ذلك أن يكون اللل الواقع‬
‫بسبب البدعة كليا ف الشريعة ‪ ،‬كبدعة التحسي والتقبيح العقليي ‪ ،‬وبدعة إنكار الخبار السنية‬
‫اقتصارا على القرآن ‪ ،‬وبدعة الوارج ف قولم ‪ :‬ل حكم إل ل ‪ .‬وما أشبه ذلك من البدع الت ل‬
‫تتص فرعا من فروع الشريعة دون فرع ‪ ،‬بل ستجدها تنتظم ما ل ينحصر من الفروع الزئية ‪ ،‬أو‬
‫يكون اللل الواقع جزئيا إنا يأت ف بعض الفروع دون بعض كبدعة التثويب بالصلة الذي قال فيه‬
‫مالك ‪ :‬التثوب ضلل وبدعة الذان والقامة ف العيدين ‪ ،‬وبدعة العتماد ف الصلة على إحدى‬
‫الرجلي ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ .‬فهذا القسم ل تتعدى فيه البدعة ملها ‪ ،‬ول تنتظم تتها غيها حت‬
‫ل لا ‪.‬‬
‫تكون أص ً‬
‫فالقسم الول إذا عد من الكبائر اتضح مغزاه وأمكن أن يكون منحصرا داخلً تت عموم الثنتي‬
‫والسبعي فرقة ‪ ،‬ويكون الوعيد الت ف الكتاب والسنة مصوصا به ل عاما فيه وف غيه ‪ ،‬ويكون‬
‫ما عدا ذلك من قبيل اللمم الرجو فيه العفو الذي ل ينحصر إل ذلك العدد ‪ ،‬فل قطع على أن‬
‫جيعها من واحد ‪ ،‬وقد ظهر وجه انقسامها ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن العاصي قد ثبت انقسامها إل الصغائر والكبائر ‪ ،‬ول شك أن البدع من جلة العاصي‬
‫ـ على مقتضى الدلة التقدمة ـ ونوع من أنواعها ‪ ،‬فاقتضى إطلق التقسيم أن البدع تنقسم‬
‫أيضا ‪ ،‬ول يصص وجوها بتعميم الدخول ف الكبائر ‪ ،‬لن ذلك تصيص من غي مصص ‪ ،‬ولو‬
‫كان ذلك معتبا لستثن من تقدم من العلماء القائلي بالتقسيم ‪ ،‬قسم البدع ‪ ،‬فكانوا ينصون على‬
‫أن العاصي ما عدا البدع تنقسم إل الصغائر والكبائر ‪ ،‬إل أنم ل يلتفتوا إل الستثناء وأطلقوا القول‬
‫بالنقسام ‪ ،‬فظهر أنه شامل لميع أنواعها ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬إن ذلك التفاوت ل دليل فيه على إثبات الصغية مطلقا ‪ ،‬وإنا يدل ذلك على أنا تتفاضل‬
‫‪ ،‬فمنها ثقيل وأثقل ومنها خفيف وأخف ‪ ،‬والفة هل تنتهي إل حد تعد البدعة فيه من قبيل اللمم ؟‬
‫هذا فيه نظر ‪ ،‬وقد ظهر معن الكبية والصغية ف العاصي غي البدع ‪.‬‬
‫وأما ف البدع فثبت لا أمران ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنا مضادة للشارع ومراغمة له ‪ ،‬حيث نصب البتدع نفسه نصب الستدرك على‬
‫الشريعة ‪ ،‬ل نصب الكتفي با حد له ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن كل بدعة ـ وإن قلت ـ تشريع زائد أو ناقص ‪ ،‬أو تغي للصل الصحيح ‪ ،‬وكل ذلك‬
‫قد يكون على النفراد ‪ ،‬وقد يكون ملحقا با هو مشروع ‪ ،‬فيكون قادحا ف الشروع ‪ .‬ولو فعل‬
‫أحد مثل هذا ف نفس الشريعة عامدا لكفر ‪ ،‬إذ الزيادة والنقصان فيها أو التغيي ـ قل أو كثر ـ‬
‫كفر ‪ ،‬فل فرق بي ما قل منه وما كثر ‪ .‬فمن فعل مثل ذلك بتأويل فاسد أو برأي غالط رآه ‪ ،‬أو‬

‫‪227‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ألقه بالشروع إذا ل تكفره ل يكن ف حكمه فرق بي ما قل منه وما كثر ‪ ،‬لن الميع جناية ل‬
‫تملها الشريعة بقليل ول بكثي ‪.‬‬
‫ويعضد هذا النظر عموم الدلة ف ذم البدع من غي استثناء ‪ ،‬فالفرق بي بدعة جزئية وبدعة كلية ‪،‬‬
‫وقد حصل الواب عن السؤال الول والثان ‪.‬‬
‫وأما الثالث ‪ :‬فل حجة فيه لن قوله عليه السلم ‪" :‬كل بدعة ضللة" وما تقدم من كلم السلف‬
‫يدل على عموم الذم فيها ‪ .‬وظهر أنا مع العاصي ل تنقسم ذلك النقسام ‪ ،‬بل إنا ينقسم ما سواها‬
‫من العاصي ‪ .‬واعتب با تقدم ذكره ف الباب الثان يتبي لك عدم الفرق فيها ‪ .‬وأقرب منها عبارة‬
‫تناسب هذا التقرير أن يقال ‪ :‬كل بدعة كبية عظيمة بالضافة إل ماوزة حدود ال بالتشريع ‪ ،‬إل‬
‫أنا وإن عظمت لا ذكرناه ‪ ،‬فإذا نسب بعضها إل بعض تفاوتت رتبتها فيكون منها صغار وكبار ‪،‬‬
‫إما بإعتبار أن بعضها أشد عقابا من بعض ‪ ،‬فالشد عقابا أكب ما دونه ‪ ،‬وإما بإعتبار فوت الطلوب‬
‫ف الفسدة ‪ ،‬فكما انقسمت الطاعة بإتباع السنة إل الفاضل والفضل ‪ ،‬لنقسام مصالها إل‬
‫الكامل والكمل ‪ ،‬انقسمت البدع لنقسام مفاسدها إل الرذل والرذل ‪ ،‬والصغر والكب ‪ ،‬من باب‬
‫النسب والضافات ‪ ،‬فقد يكون الشيء كبيا ف نفسه لكنه صغي بالنسبة إل ما هو أكب منه ‪.‬‬
‫وهذه العبارة قد سبق إليها إمام الرمي لكن ف انقاسم العاصي إل الكبائر والصغائر فقال ‪ :‬الرضي‬
‫عندنا أن كل ذنب كبي وعظيم بالضافة إل مالفة ال ‪ ،‬ولذلك يقال ‪ :‬معصية ال أكب من معصية‬
‫العباد ‪ ،‬قولً مطلقا ‪ ،‬إل أنا وإن عظمت لا ذكرناه ‪ ،‬فإذا نسب بعضها إل بعض تفاوتت رتبها ‪ .‬ث‬
‫ذكر معن ما تقدم ‪ ،‬ول يوافقه غيه على ما قال وإن كان له وجه ف النظر وقعت الشارة إليه ف‬
‫كتاب الوافقات ‪ .‬ولكن الظاهر يأب ذلك ـ حسبما ذكره غيه من العلماء ـ والظواهر ف البدع‬
‫ل تأب كلم المام إذا نزل عليها ـ حسبما تقدم ـ فصار اعتقاد الصغائر فيها يكاد يكون من‬
‫التشابات ‪ ،‬كما صار اعتقاد نفي الكراهية التنيه عنها من الواضحات ‪.‬‬
‫فليتأمل هذا الوضع أشد التأمل ويعط من النصاف حقه ‪ ،‬ول ينظر إل خفة المر ف البدعة بالنسبة‬
‫إل صورتا وإن دقت ‪ ،‬بل ينظر إل مصادمتها للشريعة ورميها لا بالنقص والستدراك ‪ ،‬وأنا ل‬
‫تكمل بعد حت يوضع فيها ‪ ،‬بلف سائر العاصي فإنا ل تعود على الشريعة بتنقيص ول غص من‬
‫جانبها ‪ ،‬بل صاحب العصية متنصل منها ‪ ،‬مقر ل بخالفتة لكمها ‪.‬‬
‫وحاصل العصية أنا مالفة ف فعل الكلف لا يعتقد صحته من الشريعة ‪ ،‬والبدعة حاصلها مالفة ف‬
‫اعتقاد كمال الشريعة ‪ ،‬ولذلك قال مالك بن أنس ‪ :‬من أحدث ف هذه المة شيئا ل يكن عليه‬
‫سلفها فقد زعم أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ‪ ،‬لن ال يقول ‪" :‬اليوم أكملت‬
‫لكم دينكم" إل آخر الكاية ‪ .‬وقد تقدمت ‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومثلها جوابه لن أراد أن يرم من الدينة وقال ‪ :‬أي فتنة فيها ؟ إنا هي أميال أزيدها ‪ .‬فقال ‪ :‬وأي‬
‫فتنة أعظم من أن تظن أنك فعلت فعلً قصر عنه رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إل آخر الكاية ‪،‬‬
‫وقد تقدمت أيضا ‪ ،‬فإذا يصح أن يكون ف البدع ما هو صغية ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬ان ذلك يصح بطريقة يظهر إن شاء ال أنا تقيق ف تشقيق هذه السألة ‪.‬‬
‫وذلك أن صاحب البدعة يتصور أن يكون عالا بكونا بدعة وأن يكون غي عال بذلك ‪ .‬وغي العال‬
‫بكونا بدعة على ضربي ‪ ،‬وها الجتهد ف استنباطها وتشريعها والقلد له فيها ‪ .‬وعلى كل تقدير‬
‫فالتأويل يصاحبه فيها ول يفارقه إذا حكمنا له بكم أهل السلم ‪ ،‬لنه مصادم للشارع مراغم‬
‫للشرع بالزيادة فيه أو النقصان منه أو التحريف له ‪ ،‬فل بد له من تأويل كقوله ‪ :‬هي بدعة ولكنها‬
‫مستحسنة أو يقول ‪ :‬إنا بدعة ولكن رأيت فلنا الفاضل يعمل با أو يقر با ولكنه يفعلها لظ‬
‫عاجل ‪ ،‬كفاعل الذنب لقضاء حظه العاجل خوفا على حظه ‪ ،‬أو فرارا من خوف على حظه ‪ ،‬أو‬
‫فرارا من العتراض عليه ف اتباع السنة ‪ ،‬كما هو الشأن اليوم ف كثي من يشار إليه ‪ ،‬وما أشبه‬
‫ذلك ‪.‬‬
‫وأما غي العال وهو الواضع لا ‪ ،‬لنه ل يكن أن يعتقدها بدعة ‪ ،‬بل هي عنده ما يلحق‬
‫الشروعات ‪ ،‬كقول من جعل يوم الثني يصام لنه يوم مولد النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وجعل‬
‫الثان عشر من ربيع الول ملحقا بأيام العياد لنه عليه السلم ولد فيه ‪ ،‬وكمن عد السماع والغناء‬
‫ما يتقرب به إل ال بناء على أنه يلب الحوال السنية ‪ ،‬أو رغب ف الدعاء بئية الجتماع ف أدبار‬
‫الصلوات دائما بناء على ما جاء ف ذلك حالة الواحدة ‪ ،‬أو زاد ف الشريعة أحاديث مكذوبة لينصر‬
‫ف زعمه سنة ممد صلى ال عليه وسلم ‪ .‬فلما قيل له ‪ :‬إنك تكذب عليه وقد قال ‪:‬‬
‫" من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" قال ‪ :‬ل أكذب عليه وإنا كذبت له ‪ .‬أو نقص‬
‫ل عليها لقوله تعال ف ذم الكفار ‪" :‬إن يتبعون إل الظن وإن الظن ل يغن من الق شيئا"‬ ‫منها تأوي ً‬
‫فأسقط اعتبار الحاديث النقوله بالحاد لذلك ولا أشبه ‪ ،‬لن خب الواحد ظن ‪ ،‬فهذه كلها من قبل‬
‫التأويل ‪.‬‬
‫وأما القلد فكذلك أيضا لنه يقول ‪ :‬فلن القتدى به يعمل بذا العمل ويثن عليه ‪ ،‬كاتاذ الغناء‬
‫جزءا من أجزاء طريقة التصوف بنا ًء على أن شيوخ التصوف قد سعوه وتواجدوا عليه ‪ ،‬ومنهم من‬
‫مات بسببه ‪ ،‬وكتمزيق الثياب عند التواجد بالرقص وسواه لنم قد فعلوه ‪ ،‬وأكثر ما يقع مثل هذا‬
‫ف هؤلء النتمي إل التصوف ‪.‬‬
‫وربا احتجوا على بدعتهم بالنيد و البسطامي والشبلي وغيهم فيما صح عندهم أو ل يصح ‪،‬‬
‫ويتركون أن يتجوا بسنة ال ورسوله وهي الت ل شائبة فيها إذا نقلها العدول وفسرها أهلها الكبون‬

‫‪229‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫على فهمها وتعلمها ‪ .‬ولكنهم مع ذلك ل يقرون باللف للسنة بثا ‪ ،‬بل يدخلون تت أذيال‬
‫ل‪.‬‬‫التأويل ‪ ،‬إذ ل يرضى منتم إل السلم بإبداء صفحة اللف للسنة أص ً‬
‫وإذا كان كذلك فقول مالك ‪ :‬من أحدث ف هذه المة شيئا ل يكن عليه سلفها فقد زعم أن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم خان الرسالة ‪ .‬وقوله لن أراد أن يرم من الدينة ‪ :‬أي فتنة أعظم من أن تظن‬
‫أنك سبقت إل فضيلة قصر عنها رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ إل آخر الكاية ‪ ،‬إنا إلزام‬
‫للخصم على عادة أهل النظر ‪ ،‬كأنه يقول ‪ :‬يلزمك ف هذا القول كذا ‪ .‬لنه يقول ‪ :‬قصدت إليه‬
‫قصدا ‪ ،‬لنه ل يقصد إل ذلك مسلم ‪ ،‬ولزم الذهب ‪ :‬هل هو نذهب أم ل ؟ هي مسألة متلف‬
‫فيها بي أهل الصول ‪ ،‬والذي كان يقول به شيوخنا البجائيون والغربيون ويرون أنه رأي الحققي‬
‫أيضا ‪ :‬أن لزم الذهب ليس بذهب ‪ ،‬فلذلك إذا قرر على الصم أنكره غاية النكار ‪،‬فإذا اعتبار‬
‫ذلك العن على التحقيق ل ينهض ‪ ،‬وعند ذلك تستوي البدعة مع العصية صغائر وكبائر ‪ ،‬فكذلك‬
‫البدع ‪.‬‬
‫ث إن البدع على ضربي ‪ :‬كلية وجزئية ‪ ،‬فأما الكلية فهي السارية فيما ل ينحصر من فروع الشريعة‬
‫‪ ،‬ومثالا بدع الفرق الثلث والسبعي ‪ ،‬فإنا متصة بالكليات منها دون الزئيات ‪ ،‬حسبما يتبي بعد‬
‫إن شاء ال ‪.‬‬
‫وأما الزئية فهي الواقعة ف الفروع الزئية ‪ ،‬ول يتحقق دخول هذا الضرب من البدع تت الوعيد‬
‫بالنار ‪ ،‬وإن دخلت تت الوصف بالضلل ‪ ،‬كما ل يتحقق ذلك ف سرقة لقمة أو التطفيف ببه ‪،‬‬
‫ل تت وصف السرقة ‪ ،‬بل التحقق دخول عظائمها وكلياتا كالنصاب ف‬ ‫وإن كان داخ ً‬
‫فصل وإذا قلنا ‪ :‬إن من البدع ما يكون صغية‬
‫وإذا قلنا ‪ :‬إن من البدع ما يكون صغية ‪ ،‬فذلك بشروط ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ل يدوام عليها ‪ ،‬فإن الصغية من العاصي لن داوم عليها تكب بالنسبة إليه ‪ ،‬لن ذلك‬
‫ناشىء عن الصرار عليها ‪ ،‬والصرار على الصغية يصيها كبية ‪ ،‬ولذلك قالوا ‪ " :‬ل صغية مع‬
‫إصرار ‪ ،‬ول كبية مع استغفار " فكذلك البدعة من غي فرق ‪ ،‬إل أن العاصي من شأنا ف الواقع‬
‫أنا قد يصر عليها ‪ ،‬وقد ل يصر عليها ‪ ،‬وقد ل يصر عليها ‪ ،‬وعلى ذلك ينبن طرح الشهادة‬
‫وسخطه الشاهد با أو عدمه ‪ ،‬بلف البدعة فإن شأنا ف الداومة والرص على أن ل تزال من‬
‫موضعها وأن تقوم على تاركها القيامة ‪ ،‬وتنطلق عليه ألسنة اللمة ‪ ،‬ويرمى بالتسفيه والتجهيل ‪،‬‬
‫وينبز بالتبديع والتضليل ‪ ،‬ضد ما كان عليه سلف هذه المة ‪ ،‬والقتدى بم من الئمة ‪ ،‬والدليل على‬
‫ذلك العتبار والنقل ‪ ،‬فإن أهل البدع كان من شأنم القيام بالنكي على أهل السنة إن كان لم‬
‫عصبة ‪ ،‬أو لصقوا بسلطان تري أحكامه ف الناس وتنفذ أوامره ف القطار ‪ ،‬ومن طالع سي‬
‫التقدمي ‪ ،‬وجد من ذلك ما ل يفى ‪.‬‬

‫‪230‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما النقل ‪ ،‬فما ذكره السلف من أن البدعة إذا أحدثت ل تزيد إل مضيا ‪ ،‬وليست كذلك‬
‫العاصي ‪ ،‬فقد يتوب صاحبها وينيب إل ال ‪ ،‬بل قد جاء ما يشد ذلك ف حديث الفرق ‪ ،‬حيث‬
‫جاء ف بعض الروايات ‪:‬‬
‫تتجارى بم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ومن هنا جزم السلف بأن البتدع ل توبة له‬
‫منها حسبما تقدم ‪.‬‬
‫والشرط الثان ‪ :‬أن ل يدعو إليها ‪ ،‬فإن البدعة قد تكون صغية بالضافة ‪ ،‬ث يدعو مبتدعها إل‬
‫القول با والعمل على مقتضاها فيكون إث ذلك كله عليه ‪ ،‬فإنه الذي أثارها ‪ ،‬وسبب كثرة وقوعها‬
‫والعمل با ‪ ،‬فإن الديث الصحيح قد أثبت ‪:‬‬
‫" أن كل من سن سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل با ل ينقص ذلك من أوزارهم شيئا "‬
‫والصغية مع الكبية إنا تفاوتا بسب كثرة الث وقلته ‪ ،‬فربا تساوي الصغية ـ من هذا الوجه ـ‬
‫الكبية أو ترب عليها ‪.‬‬
‫وف هذا الوجه قد يتعذر الروج ‪ ،‬فإن العصية فيما بي العبد وربه يرجو فيها من التوبة والغفران ما‬
‫يتعذر عليه مع الدعاء إليها ‪ ،‬وقد مر ف باب ذم البدع وباقي الكلم ف السألة سيأت إن شاء ال ‪.‬‬
‫والشرط الثالث ‪ :‬أن ل تفعل ف الواضع الت هي متمعات الناس ‪ ،‬أو الواضع الت تقام فيها السنن ‪،‬‬
‫وتظهر فيها أعلم الشريعة ‪ ،‬فأما إظهارها ف الجتمعات من يقتدى به أو بن يسن به الظن فذلك‬
‫من أضر الشياء على سنة السلم ‪ ،‬فإنا ل تعدو أمرين ‪ :‬إما أن يقتدى بصاحبها فيها ‪ ،‬فإن العوام‬
‫أبتاع كل ناعق‪ ،‬ل سيما البدع الت وكل الشيطان بتحسينها للناس ‪ ،‬والت للنفوس ف تسينها‬
‫هوى ‪ ،‬وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغية كبت بالنسبة إليه ‪ ،‬لن كل من دعا إل ضللة كان‬
‫عليه وزرها ووزر من عمل با ‪ ،‬فعلى حسب كثرة التباع يعظم عليه الوزر ‪.‬‬
‫وهذا بعينه موجود ف صغائر العاصي ‪ ،‬فإن العال مثلً إذا أظهر العصية ـ وإن صغرت ـ سهل‬
‫على الناس ارتكابا ‪ ،‬فإن الاهل يقول ‪ :‬لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب ‪ ،‬ل يرتكبه ‪ ،‬وإنا‬
‫ارتكبه لمر علمه دوننا ‪ .‬فكذلك البدعة إذا أظهرها العال القتدى فيها ‪ ،‬ل مالة ‪ ،‬فإنا ف مظنة‬
‫التقرب ف ظن الاهل ‪ ،‬لن العال يفعلها على ذلك الوجه ‪ ،‬بل البدعة أشد ف هذا العن ‪ ،‬إذ الذنب‬
‫قد ل يتبع عليه ‪ ،‬بلف البدعة فل يتحاشى أحد عن اتباعه إل من كان عالا بأنا بدعة مذمومة ‪،‬‬
‫فحينئذ يصي ف درجة الذنب ‪ ،‬فإذا كانت كذلك صارت كبية بل شك ‪ ،‬فإن كان داعيا إليها فهو‬
‫أشد ‪ ،‬وإن كان الظهار باعثا على التباع ‪ ،‬فبالدعاء يصي أدعى إليه ‪.‬‬
‫وقد روي عن السن أن رجلً من بن إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع ‪ ،‬وأنه لا عرف‬
‫ذنبه عمد إل ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ث جعل فيها سلسلة ث أوثقها ف شجرة فيجعل يبكي‬

‫‪231‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ويعج إل ربه ‪ ،‬فأوحى ال إل نب تلك المة أن ل توبة له قد غفر له الذي أصاب ‪ .‬فكيف بن ضل‬
‫فصار من أهل النار ؟‬
‫وأما اتاذها ف الواضع الت تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ‪ ،‬لن عمل إظهار الشرائع‬
‫السلمية توهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر ‪ ،‬فكأن الظهر لا يقول ‪ :‬هذه سنة فاتبعوها ‪.‬‬
‫قال أبو مصعب ‪ :‬قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بي يدي الصف ‪ ،‬فلما سلم المام رمقه‬
‫الناس بأبصارهم ورمقوامالكا ـ وكان قد صلى خلف المام ـ فلما سلم قال ‪ :‬من ها هنا من‬
‫الرس ؟ فجاءه نفسان فقال ‪ :‬خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه ‪ :‬فحبس ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬إنه ابن مهدي‬
‫فوجه إليه وقال له ‪ :‬ما خفت ال واتقيته أن وضعت ثوبك بي يديك ف لصف ‪ ،‬وشغلت الصلي‬
‫بالنظر إليه ‪ ،‬وأحدثت ف مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النب صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫" من أحدث ف مسجدنا حدثا فعليه لعنة ال واللئكة والناس أجعي" فبكى ابن مهدي وآل على‬
‫نفسه أن ل يفعل ذلك أبدا ف مسجد رسول ال صلى ال عليه وسلم ول ف غيه ‪.‬‬
‫وف رواية عن ابن مهدي قال ‪ :‬فقال ‪ :‬يا عبد الرحن ! تصلي مستلبا ؟ فقلت ‪ :‬يا أبا عبد ال ‪ ،‬إنه‬
‫كان يوما حارا ـ كما رأيت ‪ ،‬فثقل ردائي علي ‪ .‬فقال ‪ :‬آل ما أردت بذلك الطعن على من مضى‬
‫واللف عليه ؟ قلت ‪ :‬آل ‪ ،‬قال ‪ :‬خلياه ‪.‬‬
‫وحكى ابن وضاح قال ‪ :‬ثوب الؤذن بالدينة ف زمان مالك ‪ ،‬فأرسل إليه مالك فجاءه ‪ ،‬فقال له‬
‫مالك ‪ :‬ما هذا الذي تفعل ؟ فقال ‪ :‬أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون ‪ .‬فقال له مالك ‪:‬‬
‫ل تفعل ‪ ،‬ل تدث ف بلدنا شيئا ل يكن فيه ‪ ،‬قد كان رسول ال صلى ال عليه وسلم بذا البلد‬
‫عشر سني وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ‪ ،‬فل تدث ف بلدنا ما ل يكن فيه ‪ ،‬فكف‬
‫الؤذن عن ذلك وأقام زمانا ‪ ،‬ث إنه تنحنح ف النارة عند طلوع الفجر ‪ ،‬فأرسل إليه مالك فقال له ‪:‬‬
‫ما الذي تفعل ؟ قال ‪ :‬أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ‪ .‬فقال له ‪ :‬أل أنك أن ل تدث عندنا‬
‫ما ل يكن ؟ فقال ‪ :‬إنا نيتن عن التثويب ‪ .‬فقال له ‪ :‬ل تفعل ‪ .‬فكف زمانا ‪ .‬ث جعل يضرب‬
‫البواب ‪ ،‬فأرسل إليه مالك فقال ‪ :‬ما هذا الذي تفعل ‪ :‬أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر ‪ .‬فقال‬
‫له مالك ‪ :‬ل تفعل ‪ ،‬ل تدث ف بلدنا ما ل يكن فيه ‪.‬‬
‫قال ابن وضاح ‪ :‬وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنا أحدث هذا بالعراق ‪ .‬قيل لـابن‬
‫وضاح ‪ :‬فهل كان يعمل به بكة أو الدينة أو مصر أو غيها من المصار ؟ فقال ‪ :‬ما سعته إل عند‬
‫بعض الكوفيي والباضيي ‪.‬‬
‫فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يف شأنه عند الناظر فيه ببادىء الرأي وجعله أمرا مدثا ‪،‬‬
‫وقد قال ف التثويب ‪ :‬إنه ضلل ‪ ،‬وهو بي ‪ ،‬لن ‪:‬‬

‫‪232‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫" كل مدثة بدعة وكل بدعة ضللة" ول يسامح للمؤذن ف التنحنح ول ف ضرب البواب ‪ ،‬لن‬
‫ذلك جدير بأن يتخذ سنة ‪ ،‬كما منع من وضع رداء عبد الرحن بن مهدي خوف أن يكون حدثا‬
‫أحدثه ‪.‬‬
‫وقد أحدث بالغرب التسمى بالهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولم أصبح ول المد إشعارا‬
‫بأن الفجر قد طلع ‪ ،‬للزام الطاعة ‪ ،‬ولضور الماعة ‪ ،‬وللغد ولكل ما يؤمرون به ‪ .‬فيخصه هؤلء‬
‫التأخرون تثويبا بالصلة كالذان ‪ .‬ونقل أيضا إل أهل الغرب الزب الحدث بالسكندرية ‪ ،‬وهو‬
‫العتاد ف جوامع الندلس وغيها ‪ ،‬فصار ذلك كله سنة ف الساجد إل الن ‪ ،‬فإنا ل وإنا إليه‬
‫راجعون ‪.‬‬
‫وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن الؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بي الذان والقامة ‪:‬‬
‫قد قامت الصلة ‪ ،‬حي على الصلة ‪ ،‬حي على الفلح ‪ .‬وهذا نظي قولم عندنا ‪ :‬الصلة ـ‬
‫رحكم ال ‪.‬‬
‫وروي عن ابن عمر رضي ال عنهما أنه دخل مسجدا أراد أن يصلي فيه ‪ ،‬فثوب الؤذن ‪ ،‬فخرج‬
‫عبد ال بن عمر من السجد ‪ ،‬وقال ‪ :‬اخرج بنا من عند هذا البتدع ول يصل فيه ‪ .‬قال ابن رشد ‪:‬‬
‫وهذا نو ما كان يفعل عندنا بامع قرطبة من أن يفرد الؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر‬
‫بقوله ‪ :‬حي على الصلة ‪ :‬ث ـ قال ـ وقيل ‪ :‬إنا عن بذلك قول الؤذن ف أذانه ‪ :‬حي على خي‬
‫العمل ‪ .‬لنا كلمة زادها ف الذان من خالف السنة من الشيعة ‪ .‬ووقع ف الجموعة ‪ :‬أن من سع‬
‫التثويب وهو ف السجد خرج عنه ‪ ،‬كفعل ابن عمر رضي ال عنهما ‪.‬‬

‫وف السألة كلم ‪ ،‬القصود منه التثويب الكروه الذي قال فيه مالك ‪ :‬إنه ضلل ‪ ،‬والكلم يدل على‬
‫التشديد ف المور الحدثة أن تكون ف مواضع الماعة ‪ ،‬أو ف الواطن الت تقام فيها السنن ‪،‬‬
‫والحافظة على الشروعات أشد الحافظة ‪ ،‬لنا إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا با ‪ ،‬فكان‬
‫وزر ذلك عائدا على الفاعل أو ًل ‪ ،‬فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته ‪.‬‬
‫والشرط الرابع ‪ :‬أن ل يستصغرها ول يستحقرها ـ وإن فرضناها صغية ـ فإن ذلك استهانة با ‪،‬‬
‫والستهانة بالذنب أعظم من الذنب ‪ ،‬فكان ذلك سببا لعظم ما هو صغي ‪ ،‬وذلك أن الذنب له‬
‫نظران ‪ :‬نظر من جهة رتبته ف الشرط ‪ ،‬ونظر من جهة مالفة الرب العظيم به ‪ ،‬فأما النظر الول‬
‫فمن ذلك الوجه يعد صغيا إذا فهمنا من الشرع أنه صغي ‪ ،‬لنا نضعه حيث وضعه الشرع ‪ ،‬وأما‬
‫الخر فهو راجع إل اعتقادنا ف العمل به حيث نستحرم جهة الرب سبحانه بالخالفة ‪ ،‬والذي كان‬
‫يب ف حقنا أن نستعظم ذلك جدا ‪ ،‬إذ ل فرق ف التحقيق بي الواجهتي ـ الواجهة بالكبية ‪،‬‬
‫والواجهة بالصغية ‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ل ‪ ،‬لن تصورها موقوف عليهما ‪،‬‬ ‫والعصية من حيث هي معصية ل يفارقها النظران ف الواقع أص ً‬
‫فالستعظام لوقوعها مع كونا يعتقد فيها أنا صغية ل يتنافيان ‪ ،‬لنما اعتباران من جهتي ‪:‬‬
‫فالعاصي وإن كان يعمل العصية ل يقصد بتعمده الستهانة بالانب العلي الربان ‪ ،‬وإنا قصد اتباع‬
‫شهوته مثلً فيما جعله الشارع صغيا أو كبيا ‪ ،‬فيقع الث على حسبه ‪ ،‬كما أن البدعة ل يقصد با‬
‫صاحبها منازعة الشارع ول التهاون بالشرع ‪ ،‬وإنا قصد الري على مقتضاه ‪ ،‬لكن بتأويل زاده‬
‫ورجحه على غيه ‪ ،‬بلف ما إذا تاون بصغرها ف الشرع فإنه إنا تاون بخالفة اللك الق ‪ ،‬لن‬
‫النهي حاصل ومالفته حاصلة ‪ ،‬والتهاون با عظيم ‪ ،‬ولذلك يقال ‪ :‬ل تنظر إل صغر الطيئة وانظر‬
‫إل عظيمة من واجهته با ‪.‬‬
‫وف الصحيح " أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ف حجة الوداع ‪ :‬أي يوم هذا ؟ قالوا ‪ :‬يوم‬
‫الج الكب ‪ ،‬قال ‪ :‬فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم بينكم حرام كحرمة يومكم هذا ف بلدكم‬
‫هذا‪ ،‬ل ين جان إل على نفسه ‪ ،‬أل ل ين جان على ولده ول مولود على والده ‪ ،‬أل وإن‬
‫الشيطان قد يئس أن يعبد ف بلدكم هذا أبدا ‪ ،‬ول تكون له طاعة فيما تتقرون من أعمالكم‬
‫فسيضى به " ‪ ،‬فقوله عليه الصلة والسلم ‪ ":‬فسيضى به " دليل على عظم الطب فيما يستحقر ‪.‬‬
‫وهذا الشرط ما اعتبه الغزال ف هذا القام ‪ ،‬فإنه ذكر ف الحياء أن ما تعظم به الصغية أن‬
‫يستصغرها ‪ ( .‬قال ) ‪ :‬فإن الذنب كلما استعظمه العبد من نفسه صغر عند ال ‪ ،‬وكلما استصغره‬
‫كب عند ال ‪ .‬بي ذلك وبسطه ‪.‬‬
‫فإذا تصلت هذه الشروط فإذ ذاك يرجى أن تكون صغيتا صغية ‪ ،‬فإن تلف شرط منها أو أكثر‬
‫صارت كبية ‪ ،‬أو خيف أن تصي كبية ‪ ،‬كما أن العاصي كذلك ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬

‫الباب السابع ‪ :‬ف البتداع ‪ .‬هل يدخل ف المور العادية أم يتص بالمور العبادية؟‬
‫قد تقدم ف حد البدعة ما يقتضي اللف فيه ‪ :‬هل يدخل ف المور العادية أم ل ؟ أما العبادية فل‬
‫إشكال ف دخوله فيها ‪ ،‬وهي عامة الباب ‪ ،‬إذ المور العبادية إما أعمال قلبية وأمور اعتقادية ‪ ،‬وإما‬
‫أعمال جوارح من قول أو فعل ‪ ،‬وكل القسمي قد دخل فيه البتداع كمذهب القدرية والرجئة ‪،‬‬
‫والوارج والعتزلة ‪ ،‬وكذلك مذهب الباحة واختراع العبادات على غي مثال سابق ول أصل‬
‫مرجوع إليه ‪.‬‬
‫وأما العادية فاقتضى النظر وقوع اللف فيها وأمثلتها ظاهرة ما تقدم ف تقسيم البدع ‪ ،‬كالكوس‬
‫والحدثة من الظال ‪ ،‬وتقدي الهال على العلماء ف الوليات العلمية وتولية الناصب الشريفة من‬
‫ليس لا بأهل بطريق الوراثة ‪ ،‬وإقامة صور الئمة وولة المور والقضاة ‪ ،‬واتاذ الناخل وغسل اليد‬
‫بالشنان ولبس الطيالس وتوسيع الكمام ‪ ،‬وأشباه ذلك من المور الت ل تكن ف الزمن الفاضل‬

‫‪234‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والسلف الصال ‪ ،‬فإنا أمور جرت ف الناس وكثر العمل با ‪ ،‬وشاعت وذاعت فلحقت بالبدع ‪،‬‬
‫وصارت كالعبادات الخترعة الارية ف المة ‪ ،‬وهذا من الدلة الدالة على ما قلنا ‪ ،‬وإليه مال القراف‬
‫وشيخه ابن عبد السلم ‪ ،‬وذهب إليه بعض السلف ‪.‬‬
‫فروى أبو نعيم الافظ ‪ ،‬عن ممد بن أسلم أنه ولد له ولد ـ قال ممد بن القاسم الطوسي ـ فقال‬
‫‪ :‬اشتر ل كبشي عظيمي ودفع إل دراهم ‪ ،‬فاشتريت له وأعطان عشرة أخرى ‪ ،‬وقال ل ‪ :‬اشتر‬
‫با دقيقا ول تنخله واخبزه ‪ ،‬قال ‪ :‬فنخلت الدقيق وخبزته ث جئت به ‪ ،‬فقال ‪ :‬نلت هذا ؟‬
‫وأعطان عشرة أخرى وقال ‪ :‬اشتر به دقيقا ول تنخله واخبزه وحلته إليه ‪ ،‬فقال ل ‪ :‬يا أبا عبد ال‬
‫العقيقة سنة ‪ ،‬ونل الدقيق بدعة ‪ ،‬ول ينبغي أن يكون ف السنة بدعة ‪ ،‬ول أحب أن يكون ذلك‬
‫البز ف بيت بعد أن كان بدعة ‪ .‬وممد بن أسلم هذا هو الذي فسر به الديث إسحاق بن راهوية‬
‫حيث سئل عن السواد العظم ف قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"عليكم بالسواد العظم" فقال ‪ :‬ممد واصحابه ‪ ،‬حسبما يأت ـ إن شاء ال ـ ف موضعه من هذا‬
‫الكتاب ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن تصور ف العبادات وقوع البتداع وقع ف العادات لنه ل فرق بينهما فالمور الشروعة‬
‫تارة تكون عبادية وتارة عادية ‪ ،‬فكلها مشروع من قبل الشارع ‪ ،‬فكما تقع الخالفة بالبتداع ف‬
‫أحدها تقع ف الخر ‪.‬‬
‫ووجه ثالث ‪ ،‬وهو أن الشرع جاء بالوعد بأشياء تكون ف آخر الزمان هي خارجة عن سنته ‪.‬‬
‫فتدخل فيما تقدم تثيله ‪ ،‬لنا من جنس واحد ‪.‬‬
‫ففي الصحيح عن عبد ال رضي ال عنه قال ‪" :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬إنكم سترون‬
‫بعدي أثرة وأمورا تنكرونا ‪ ،‬قالوا ‪ :‬فما تأمرنا يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬أدوا إليهم حقهم وسلوا ال‬
‫حقكم " ‪ ،‬وعن ابن عباس رضي ال عنهما ‪ "،‬عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪:‬‬
‫من كره من أميه شيئا فليصب" ‪ ،‬وف رواية " من رأى من أميه شيئا يكرهه فليصب عليه ‪ ،‬فإنه من‬
‫فارق الماعة شبا فمات ‪ ،‬مات ميتة جاهلية " ‪.‬‬
‫وف الصحيح أيضا ‪:‬‬
‫"إذا أسند المر إل غي أهله فانتظروا الساعة " ‪ .‬و" عن أب هريرة رضي ال عنه ‪ ،‬عن النب صلى‬
‫ال عليه وسلم قال ‪ :‬يتقارب الزمان ‪ ،‬ويقبض العلم ‪ ،‬ويلقى الشح ‪ ،‬وتظهر الفت ‪ ،‬ويكثر الرج ‪،‬‬
‫قال ‪ :‬يا رسول ال أيا هو ؟ قال ‪ :‬القتل القتل" ‪ .‬وعن أب موسى رضي ال عنه قال ‪ :‬قال النب‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إن بي يدي الساعة لياما ينل فيها الهل ويرفع فيها العلم ‪ ،‬ويكثر فيها الرج والرج القتل" ‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫و"عن حذيفة رضي ال عنه ‪ .‬قال ‪ :‬حدثنا رسول ال صلى ال عليه وسلم حديثي ‪ ،‬رأيت أحدها‬
‫وأنا أنتظر الخر ‪ .‬حدثنا ‪ :‬أن المانة نزلت ف جذر قلوب الرجال ‪ ،‬ث علموا من القرآن ‪ ،‬ث علموا‬
‫من السنة" وحدثنا عن رفعها ث قال ‪" :‬ينام النومة فتقبض المانة من قلبه فيظل أثرها مثل الوكت ‪،‬‬
‫ث ينام النومة فتقبض ‪ ،‬فيبقى أثرها مثل أثر الجل ‪ ،‬كجمر دحرجته على رجلك فنفط فتراه ينتثر‬
‫وليس فيه شيء ‪ ،‬ويصبح الناس يتبايعون ول يكاد أحد يؤدي المانة ‪ .‬فيقال ‪ :‬إن ف بن فلن رجلً‬
‫أمينا ‪ .‬ويقال للرجل ‪ :‬ما أعقله ! وما أظرفه ! وما أجلده ! وما ف قلبه مثقال حبة خردل من إيان"‬
‫الديث ‪.‬‬
‫وعن أب هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫" ل تقوم الساعة حت تقتتل فئتان عظيمتان ‪ ،‬يكون بينهما مقتلة عظيمة ‪ ،‬دعواها واحدة ‪ ،‬حت‬
‫يبعث دجالون كذابون قريب من ثلثي ‪ ،‬كلهم يزعم أنه رسول وحت يقبض العلم ‪ ،‬ث قال ‪ :‬وحت‬
‫يتطاول الناس ف البنيان" إل آخر الديث ‪.‬‬
‫وعن عبد ال رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫" يرج ف آخر الزمان أحداث السنان ‪ ،‬سفهاء الحلم ‪ ،‬يقرؤون القرآن ‪ ،‬ل ياوز تراقيهم ‪،‬‬
‫يقولون من قول خي البية ‪ ،‬يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ‪.‬‬
‫ومن حديث أب هريرة رضي ال عنه أنه عليه الصلة والسلم قال ‪ " :‬بادروا بالعمال فتنا كقطع‬
‫الليل الظلم ‪ ،‬يصبح الرجل مؤمنا ويسي كافرا يبيع دينه بعرض الدنيا" ‪ ،‬وف ذلك السن قال ‪:‬‬
‫يصبح مرما لدم أخيه وعرضه وماله ‪ ،‬ويسي مستحلً له ‪ ،‬كأنه تأوله على الديث الخر ‪.‬‬
‫"ل ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض" ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬
‫وعن أنس بن مالك رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن من أشراط الساعة‬
‫أن يرفع العلم ‪ ،‬ويظهر الهل ‪ ،‬ويفشو الزنا ‪ ،‬ويشرب المر ‪ ،‬وتكثر النساء ‪ ،‬ويقل الرجال ‪ ،‬حت‬
‫يكون للخمسي امرأة قيم واحد" ‪.‬‬
‫ومن غريب حديث علي بن أب طالب رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"إذا فعلت أمت خس عشرة خصلة حل با البلء ‪ .‬قيل ‪ :‬وما هي يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬إذا صار‬
‫الغنم دو ًل ‪ ،‬والمانة مغنما ‪ ،‬والزكاة مغرما ‪ ،‬وأطاع الرجل زوجته وعق أمه ‪ ،‬وبر صديقه ‪ ،‬وجفا‬
‫أباه ‪ ،‬وارتفعت الصوات ف الساجد ‪ ،‬وكان زعيم القوم أرذلم ‪ ،‬وأكرم الرجل مافة شره ‪،‬‬
‫وشربت المور ‪ ،‬ولبس الرير ‪ ،‬واتذت القيان والعازف ‪ ،‬ولعن آخر هذه المة أولا ‪ .‬فليتقبوا‬
‫عند ذلك ريا حراء ‪ ،‬وزلزلة وخسفا ‪ ،‬أو مسخا وقذفا" ‪.‬‬
‫وف الباب عن أب هريرة رضي ال عنه قريب من هذا ‪.‬‬

‫‪236‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وفيه ‪ " :‬ساد القبيلة فاسقهم ‪ ،‬وكان زعيم القوم أرذلم " وفيه ‪ " :‬ظهرت القيان والعازف " ‪ ،‬وف‬
‫آخره ‪ " :‬فليتقبوا عند ذلك ريا حراء ‪ ،‬وزلزلة ‪ ،‬وخسفا ‪ ،‬ومسخا ‪ ،‬وقذفا ‪ ،‬وآيات تتابع ‪،‬‬
‫كنظام بال قطع سلكه فتتابع" ‪.‬‬
‫فهذه الحاديث وأمثالا ما أخب به النب صلى ال عليه وسلم أنه يكون ف هذه المة بعده إنا هو ـ‬
‫ف القيقة ـ تبديل العمال الت كانوا أحق بالعمل با ‪ ،‬فلما عوضوا منها غيها ‪ ،‬وفشا فيها كأنه‬
‫من العمول به تشريعا ‪ ،‬كان من جلة الوادث الطارئة على نو ما بي ف العبادات ‪.‬‬
‫والذين ذهبوا إل أنه متص بالعبادات ل يسلمون جيع ما قاله الولون ‪.‬‬
‫أما ما تقدم عن القراف وشيخه فقد مر الواب عنه ‪ ،‬فإنا معاص ف الملة ‪ ،‬ومالفات للمشروع ‪،‬‬
‫كلمكوس والظال وتقدي الهال على العلماء وغي ذلك ‪.‬‬
‫والباح منها كالناخل ‪ ،‬إن فرض مباحا ـ كما قالوا ـ فإنا إباحته بدليل شرعي فل ابتداع فيه ‪.‬‬
‫وإن فرض مكروها ـ كما أشار إليه ممد بن أسلم ـ فوجه الكراهية عنده كونا عدت من‬
‫الحدثات ‪ ،‬إذ ف المر ‪ :‬أول ما أحدث بعد رسول ال صلى ال عليه وسلم الناخل ـ أو كما قال‬
‫ـ فأخذه بظاهر اللفظ من أخذ به ‪ ،‬كمحمد بن أسلم ‪.‬‬
‫وظاهره أن ذلك من ناحية السرف والتنعم الذي أشار إل كراهيته قوله تعال ‪" :‬أذهبتم طيباتكم ف‬
‫حياتكم الدنيا" الية ‪ ،‬ل من جهة أنه بدعة ‪.‬‬
‫وقولم ‪ :‬كما يتصور ذلك ف العبادات يتصور ف العادات مسلم ‪ ،‬وليس كلمنا ف الواز العقلي ‪،‬‬
‫وإنا الكلم ف الوقوع ‪ ،‬وفيه الناع ‪.‬‬
‫وأما ما احتجوا به من الحاديث فليس فيها على السألة دليل واحد ‪ ،‬إذ ل ينص على أنا بدع أو‬
‫مدثات ‪ ،‬أو ما يشي إل ذلك العن ‪ ،‬وأيضا إن عدوا كل مدث العادات بدعة ‪ ،‬فليعدوا جيع ما ل‬
‫يكن فيهم من الآكل والشارب واللبس والكلم والسائل النازلة الت ل عهد با ف الزمان الول‬
‫بدعا ‪ ،‬وهذا شنيع ‪ ،‬فإن من العوائد ما تتلف بسب الزمان والمكنة والسم ‪ ،‬فيكون كل من‬
‫خالف العرب الذين أدركوا الصحابة واعتادوا مثل عوائدهم غي متبعي لم ‪ ،‬هذا من الستنكر جدا‬
‫‪.‬‬
‫نعم ل بد من الحافظة ف العوائد الختلفة على الدود الشرعية والقواني الارية على مقتضى الكلم‬
‫والسنة ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فقد يكون التزام الزي الواحد والالة الواحدة أو العادة الواحدة تعبا ومشقة لختلف‬
‫الخلق والزمنة والحوال ‪ ،‬والشريعة تأب التضييق والرج فيما دل الشرع على جوازه ول يكن ث‬
‫معارض ‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإنا جعل الشارع ما تقدم ف الحاديث الذكورة من فساد الزمان وأشراط الساعة لظهورها‬
‫وفحشها بالنسبة إل متقدم الزمان ‪ ،‬فإن الي كان أظهر ‪ ،‬والشر كان أخفى وأقل ‪ ،‬بلف آخر‬
‫الزمان فإن المر فيه على العكس ‪ ،‬والشر فيه أظهر والي أخفى ‪.‬‬
‫وأما كون تلك الشياء بدعا فغي مفهوم على الطريقتي ف حد البدعة فراجع النظر فيها تده كذلك‬
‫‪.‬‬
‫والصواب ف السألة طريقة أخرى وهي تمع شتات النظرين ‪ ،‬وتقق القصود ف الطريقتي ‪ ،‬وهو‬
‫الذي بن عليه ترجة هذا الباب ‪ ،‬فلنفرده ف فصل على حدته وال الوفق للصواب ‪.‬‬

‫فصل أفعال الكلفي بسب النظر الشرعي فيها على ضربي‬


‫أفعال الكلفي ـ بسب النظر الشرعي فيها ـ على ضربي ‪ :‬أحدها ‪ :‬أن يكون من قبيل التعبدات‬
‫‪.‬والثان ‪ :‬أن يكون من قبيل العادات ‪.‬‬
‫فأما الول ‪ :‬فل نظر فيه ها هنا ‪.‬‬
‫وأما الثان ‪ :‬وهو العادي فظاهر النقل عن السلف الولي أن السألة تتلف فيها ‪ ،‬فمنهم من يرشدأل‬
‫كلمه إل أن العاديات كالعباديات ‪ ،‬فكما أنا مأمورون ف العبادات بأن ل ندث فيها ‪ ،‬فكذلك‬
‫العاديات ‪ ،‬وهو كلم ممد بن اسلم ‪ ،‬حيث كره ف سنة العقيقة مالة من قبله ف أمر عادي ‪ ،‬وهو‬
‫استعمال الناخل ‪ ،‬مع العلم بأنه معقول العن نظرا منه ـ وال أعلم ـ إل أن المر باتباع الولي‬
‫على العموم غلب عليه جهة التعبد ‪ ،‬ويظهر أيضا من كلم من قال ‪ :‬أول ما أحدث الناس بعد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم الناخل ‪.‬‬
‫ويكى عن الربيع بن أب راشد أنه قال ‪ :‬لول أن أخاف من كان قبلي لكانت البانة مسكن إل أن‬
‫أموت ‪ .‬والسكن أمر عادي بل إشكال ‪.‬‬
‫وعلى هذا الترتيب يكون قسم العاديات داخلً ف قسم العباديات ‪ ،‬فدخول البتداع فيه ظاهر ‪،‬‬
‫والكثرون على خلف هذا ‪ ،‬وعليه نبن الكلم فنقول ‪:‬‬
‫ثبت ف الصول الشرعية أنه ل بد ف كل عادي من شائبة التعبد ‪ ،‬لن ما ل يعقل معناه على‬
‫التفصيل من الأمور به أو النهي عنه فهو الراد بالتعبدي ‪ ،‬وما عقل معناه وعرفت مصلحته أو‬
‫مفسدته فهو الراد بالعادي ‪ ،‬فالطهارات والصلوات والصيام والج كلها تعبدي ‪ ،‬والبيع والنكاح‬
‫والشراء والطلق والجارات والنايات كلها عادي ‪ ،‬لن أحكامها معقولة العن ‪ ،‬ول بد فيها من‬
‫التعبد ‪ ،‬إذ هي مقيدة بأمور شرعية ل خية للمكلف فيها ‪ ،‬كانت اقتضاء أو تييا ‪ ،‬فإن التخيي ف‬
‫التعبدات إلزام ‪ ،‬كما أن القتضاء إلزام ـ حسبما تقرر برهانه ف كتاب الوافقات ـ وإذا كان‬

‫‪238‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كذلك فقد ظهر اشتراك القسمي ف معن التعبد ‪ ،‬فإن جاء البتداع ف المور العادية من ذلك‬
‫الوجه ‪ ،‬صح دخوله ف العاديات كالعباديات ‪ ،‬وإل فل ‪.‬‬
‫وهذه هي النكتة الت يدور عليها حكم الباب ‪ ،‬ويتبي ذلك بالمثلة فمما أتى به القراف من جواز‬
‫وضع الكوس ف معاملت الناس ‪ ،‬فل يلو هذا الوضع الحرم أن يكون على قصد حجر التصرفات‬
‫وقتا ما ‪ ،‬أو ف حالة ما ‪ ،‬لنيل حطام الدنيا ‪ ،‬على هئية غصب الغاصب ‪ ،‬وسرقة السارق ‪ ،‬وقطع‬
‫القاطع للطريق ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬أو يكون على قصد وضعه على الناس كالدين الوضوع والمر‬
‫الحتوم عليهم دائما ‪ ،‬أو ف أوقات مدودة ‪ ،‬على كيفيات مضروبة ‪ ،‬بيث تضاهي الشروع الدائم‬
‫الذي يمل عليه العامة ويؤخذون به وتوجه على المتنع منه العقوبة ‪ ،‬كما ف أخذ زكاة الواشي‬
‫والرث وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫فأما الثان فظاهر أنه بدعة ‪ ،‬إذ هو تشريع زائدة ‪ ،‬وإلزام للمكلفي يضاهي إلزامهم الزكاة الفروضة ‪،‬‬
‫والديات الضروبة ‪ ،‬والغرامات الحكوم با ف أموال الغصاب والتعبدين ‪ ،‬بل صار ف حقهم‬
‫كالعبادات الفروضة ‪،‬واللوازم الحتومة ‪ ،‬أو ما أشبه ذلك ‪ ،‬فمن هذه الهة يصي بدعة بل شك ‪،‬‬
‫لنه شرع مستدرك وسن ف التكليف مهيع ‪ ،‬فتصي الكوس على هذا الفرض لا ‪ ،‬نظران ‪ :‬نظر من‬
‫جهة كونا مرمة على الفاعل أن يفعلها كسائر أنواع الظلم ‪ ،‬ونظر من جهة كونا اختراعا لتشريع‬
‫يؤخذ به الناس إل الوت كما يؤخذون بسائر التكاليف ‪ ،‬فاجتمع فيها نيان ‪ :‬ني عن العصية ‪،‬‬
‫وني عن البدعة ‪ ،‬وليس ذلك موجودا ف البدع ف القسم الول ‪ ،‬وإنا يوجد به النهي من جهة‬
‫كونا تشريعا موضوعا على الناس أمر وجوب أو ندب ‪ ،‬إذ ليس فيه جهة أخرى يكون با معصية ‪،‬‬
‫بل نفس التشريع هو نفس المنوع ‪.‬‬
‫وكذلك تقدي الهال على العلماء ‪ ،‬وتولية الناصب الشريفة من ل يصلح بطريق التوريث ‪ ،‬هو من‬
‫قبيل ما تقدم ‪ ،‬فإن جعل الاهل ف موضع العال حت يصي مفتيا ف الدين ‪ ،‬ومعمولً بقوله ف‬
‫الموال والدماء والبضاع وغيها ‪ ،‬مرم ف الدين ‪ ،‬وكون ذلك يتخذ ديدنا حت يصي البن‬
‫مستحقا لرتبة الب ـ وإن ل يبلغ رتبة الب ف ذلك النصب ـ بطريق الوراثة أو غي ذلك ‪ ،‬بيث‬
‫يشيع هذا العمل ويطرد ويرده الناس كالشرع الذي ل يالف بدعة بل إشكال ‪ ،‬زيادة إل القول‬
‫بالرأي غي الاري على العلم ‪ ،‬وهو بدعة أو سبب البدعة كما سيأت تفسيه إن شاء ال ‪ ،‬وهو‬
‫الذي بينه النب صلى ال عليه وسلم بقوله ‪:‬‬
‫"حت إذا ل يبق عال اتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم فضلوا وأضلوا" وإنا ضلوا لنم‬
‫أفتوا بالرأي إذ ليس عندهم علم ‪.‬‬
‫وأما إقامة الئمة والقضاء وولة المر على خلف ما كان عليه السلف فقد تقدم أن البدعة ل‬
‫تتصور هنا ‪ ،‬وذلك صحيح ‪ ،‬فإن تكلف أحد فيها ذلك فيبعد جدا ‪ ،‬وذلك بفرض أن يعتقد ف‬

‫‪239‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ذلك العمل أنه ما يطلب به الئمة على الصوص تشريعا خارجا عن قبيل الصال الرسلة ‪ ،‬بيث‬
‫يعد من الدين الذي يدين به هؤلء الطلوبون به ‪ ،‬أو يكون ذلك ما يعد خاصا بالئمة دون غيهم ‪،‬‬
‫كما يزعم بعضهم ‪ :‬أن خات الذهب جائز لذوي السلطان ‪ ،‬أو يقول ‪ :‬إن الرير جائز لم لبسه دون‬
‫غيهم ‪ ،‬وهذا أقرب من الول ف تصور البدعة ف حق هذا القسم ‪.‬‬
‫ويشبهه على قرب زخرفة الساجد ‪ ،‬إذ كثي من الناس يعتقد أنا من قبيل ترفيع بيوت ال ‪ ،‬وكذلك‬
‫تعليق الثريات الطية الثان ‪ ،‬حت يعد النفاق ف ذلك إنفاقا ف سبيل ال ‪ ،‬وكذلك إذا اعتقد ف‬
‫زخارف اللوك وإقامة صورهم أنا من جلة ترفيع السلم وإظهار معاله وشعائره ‪ ،‬أو قصد ذلك ف‬
‫فعله أولً بأنه ترفيع للسلم لا ل يأذن ال به ‪ ،‬وليس ما حكاه القراف عن معاوية من قبيل هذه‬
‫الزخارف ‪ ،‬بل من قبيل العتاد ف اللباس والحتياط ف الجاب مافة من انراق خرق يتسع فل يرفع‬
‫ـ هذا إن صح ما قال ‪ ،‬وإل فل يعول على نقل الؤرخي ومن ل يعتب من الؤلفي ‪ ،‬وأحرى أل‬
‫ينبن عليه حكم ‪.‬‬
‫وأما مسألة الناخل فقد مر ما فيها ‪ ،‬والعتاد فيها أنه ل يلحقها أحد بالدين ول بتدبي الدنيا بيث ل‬
‫ينفك عنه كالتشريع فل نطول به ‪ ،‬وعلى ذلك الترتيب ينظر فيما قاله ابن عبد السلم من غي فرق ‪،‬‬
‫فتبي مال البدعة ف العاديات من مال غيها ‪ ،‬وقد تقدم أيضا فيها كلم فراجعه إن احتجت إليه ‪.‬‬
‫وأما وجه النظر ف أمثلة الوجه الثالث من أوجه دخول البتداع ف العاديات على ما أريد تقيقه ‪،‬‬
‫فنقول ‪ :‬إن مدارك تلك الحاديث على بضع عشرة خصلة ‪ ،‬يكن ردها إل أصول هي كلها أو‬
‫غالبها بدع ‪ ،‬وهي قلة العلم وظهور الهل ‪ ،‬والشح وقبض المانة ‪ ،‬وتليل الدماء والزنا والرير‬
‫والغناء والربا والمر ‪ ،‬وكون الغنم دولً ‪ ،‬والزكاة مغرما ‪ ،‬وارتفاع الصوات ف الساجد ‪ ،‬وتقدي‬
‫الحداث ولعن آخر المة أولا ‪ ،‬وخروج الدجالي ‪ ،‬ومفارقة الماعة ‪.‬‬
‫أما قلة العلم وظهور الهل فبسبب التفرغ للدنيا ‪ ،‬وهذا إخبار بقدمة أنتجتها الفتيا بغي علم ـ‬
‫حسبما جاء ف الديث الصحيح ‪:‬‬
‫"إن ال ل يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من الناس "إل آخره ـ وذلك أن الناس ل بد لم من قائد‬
‫يقودهم ف الدين برائمهم ‪ ،‬وإل وقع الرج وفسد النظام ‪ ،‬فيضطرون إل الروج إل من انتصب‬
‫لم منصب الداية ‪ ،‬وهو الذي يسمونه عالا ‪ ،‬فل بد أن يملهم على رأيه ف الدين ‪ ،‬لن الفرض أنه‬
‫جاهل ‪ ،‬فيضلهم عن الصراط الستقيم ‪ :‬كما إنه ضال عنه ‪ .‬وهذا عي البتداع ‪ ،‬لنه التشريع بغي‬
‫أصل من كتاب ول سنة ‪ .‬ودل هذا الديث على أنه ل يؤتى الناس قط من قبل العلماء ‪ ،‬وإنا يؤتون‬
‫من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفت من ليس بعال فتؤتى الناس من قبله ‪ ،‬وسيأت لذا العن بسط‬
‫أوسع من هذا إن شاء ال ‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما الشح ‪ ،‬فإنه مقدمة لبدعة الحتيال على تليل الرام ‪ .‬وذلك أن الناس يشحون بأموالم فل‬
‫يسمحون بتصريفها ف مكارم الخلق وماسن الشيم ‪ .‬كالحسان بالصدقات والبات والواساة‬
‫واليثار على النفس ‪ .‬ويليه أنواع القرض الائز ‪ .‬ويليه التجاوز ف العاملت بإنظار العسر ‪.‬‬
‫وبالسقاط كما قال ‪" :‬وأن تصدقوا خي لكم إن كنتم تعلمون " ‪ ،‬وهذا كان شأن من تقدم من‬
‫السلف الصال ‪ .‬ث نقص الحسان بالوجوه الول ‪ .‬فتسامح الناس بالقرض ‪ .‬ث نقض ذلك حت‬
‫صار الوسر ل يسمح با ف يديه فيضطر العسر إل أن يدخل ف العاملت الت ظاهرها الواز‬
‫وباطنها النع ‪ .‬كالربا والسلف الذي ير النفع فيجعل بيعا ف الظاهر ‪ ،‬ويري ف الناس شرعا‬
‫شائعا ‪ ،‬ويدين له العامة ‪ ،‬وينصبون هذه العاملت متاجر ‪ ،‬وأصلها الشح بالموال وحب الزخارف‬
‫الدنيوية والشهوات العاجلة ‪ ،‬فإذا كان كذلك فالري أن يصي ذلك ابتداعا ف الدين ‪ ،‬وأن يعل‬
‫من أشراط الساعة ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬هذا انتجاع من مكان بعيد ‪ ،‬وتكلف ل دليل عليه ‪ .‬فالواب ‪ :‬أنه لول أن ذلك مفهوم‬
‫من الشرع لا قبل به ‪ ،‬فقد روى أحد ف مسنده من حديث ابن عمر رضي ال عنهما قال ‪ :‬سعت‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫"إذا ضن الناس بالدينار والدرهم ‪ ،‬وتبايعوا بالعينة ‪ ،‬واتبعوا أذناب البقر ‪ ،‬وتركوا الهاد ف سبيل ال‬
‫‪ ،‬أنزل ال بم بلءً فل يرفعه حت يراجعوا دينهم" ‪.‬‬
‫ورواه أبو داود أيضا وقال فيه ‪:‬‬
‫"إذا تبايعتم بالعينة وأخذت أذناب البقر ورضيتم بالزرع ‪ ،‬وتركتم الهاد‪ ،‬سلط ال عليكم ذلً ل‬
‫ينتزعه حت ترجعوا إل دينكم" ‪.‬‬
‫فتأملوا كيف قرن التبايع بالعينة بضنة الناس ‪ ،‬فأشعر بأن التبايع بالعينة يكون عن الشح بالموال ‪.‬‬
‫وهو معقول ف نفسه ‪ ،‬فإن الرجل ل يتبايع أبدا هذا التبايع وهو يد من يسلفه أو من يعينه ف‬
‫حاجته ‪ ،‬إل أن يكون سفيها ل عقل له ‪.‬‬
‫ويشهد لذا العن ما خرجه أبو داود أيضا عن علي رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫سيأت على الناس زمان عضوض يعض الوسر على ما ف يده ‪ ،‬ول يؤمر بذلك ‪ .‬قال ال تعال ‪:‬‬
‫"وما أنفقتم من شيء فهو يلفه وهو خي الرازقي" ‪ ،‬وينشد شرار خلق ال يبايعون كل مضطر ‪ .‬أل‬
‫أن بيع الضطر حرام ‪ :‬الكسلك أخو السلم ل يظلمه ول يونه ‪ ،‬إن كان عندك خي فعد به على‬
‫أخيك ول تزده هلكا إل هلكه ‪.‬‬
‫وهذه الحاديث الثلثة ـ وإن كانت أسانيدها ليست هناك ـ ما يعضد بعضه بعضا ‪ ،‬وهو خب‬
‫حق ف نفسه يشهد له الواقع ‪ .‬قال بعضهم ‪ :‬عامة العينة إنا تقع من رجل يضطر إل نفقة يضن عليه‬
‫الوسر بالقرض إل أن يربه ف الائة ما أحب ‪ ،‬فيبيعها ثن الائة بضعفها أو نو ذلك ‪ ،‬ففسر بيع‬

‫‪241‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الضطر ببيع العينة ‪ ،‬وبيع العينة إنا هو العي بأكثر منها إل أجل ـ حسبما هو مبسوط ف الفقهيات‬
‫ـ فقد صار الشح إذا سببا ف دخول هذه الفاسد ف البيوع ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬كلمنا ف البدعة ف فساد العصية ‪ ،‬لن هذه الشياء بيوع فاسدة فصارت من باب آخر‬
‫ل كلم لنا فيه ‪.‬‬
‫فالواب ‪ :‬أن مدخل البدعة ها هنا من باب الحتيال الذي أجازه بعض الناس ‪ ،‬فقد عده العلماء من‬
‫البدع الحدثات ‪ ،‬حت قال ابن البارك ف كتابوضع ف اليل ‪ :‬من وضع هذا فهو كافر ‪ ،‬ومن سع‬
‫به فرضي به فهو كافر ‪ ،‬ومن حله من كورة فهو كافر ‪ ،‬ومن كان عنده فرضي به فهو كافر ‪،‬‬
‫وذلك أنه وقع فيه الحتيالت بأشياء منكرة ‪ ،‬حت احتال على فراق الزوجة زوجها بأن ترتد ‪.‬‬
‫وقال إسحاق بن راهوية ‪ ،‬عن سفيان بن عبد اللك ‪ :‬أن ابن البارك قال ف قصة بنت أب روح‬
‫حيث أمرت بالرتداد‪ ،‬وذلك ف أيام أب غشان ‪ :‬فذكر شيئا ‪ .‬ث قال ابن البارك وهو مغضب ‪:‬‬
‫أحدثوا ف السلم ‪ ،‬ومن كان أمر بذا فهو كافر ‪ .‬ومن كان هذا الكتاب عنده أو ف بيته ليأمر أو‬
‫صوبه ول يأمر به فهو كافر ‪ ،‬ث قال ابن مبارك ‪ :‬ما أرى الشيطان يسن مثل هذا ‪ ،‬حت جاء هؤلء‬
‫فأفادها منهم فأشاعها حينئذ ‪ ،‬ولو كان يسنها ل يد من يضيها فيهم ‪ ،‬حت جاء هؤلء ‪.‬‬
‫وإنا وضع هذا الكتاب وأمثاله ليكون حجة على زعمهم ف أن يتالوا للحرام حت يصي حل ًل ‪،‬‬
‫وللواجب حت يكون غي واجب ‪ .‬وما أشبه ذلك من المور الارجة عن نظام الدين ‪ ،‬كما أجازوا‬
‫نكاح الحلل ‪ ،‬وهو احتيال على رد الطلقة ثلثا لن طلقها ‪ ،‬وأجازوا إسقاط فرض الزكاة بالبة‬
‫الستعارة ‪ ،‬وأشباه ذلك فقد ظهر وجه الشارة ف الحاديث التقدمة الذكور فيها الشح ‪ ،‬وأنا‬
‫تتضمن ابتداعا كما تتضمن معاصي جة ‪.‬‬
‫وأما قبض المانة فعبارة عن شياع اليانة ‪ ،‬وهي من ساة أهل النفاق ‪ ،‬ولكن يوجد ف الناس بعض‬
‫أنواعها تشريعا ‪ ،‬وحكيت عن قوم من ينتمي إل العلم كما حكيت عن كثي من المراء ‪ ،‬فإن أهل‬
‫اليل الشار إليهم إنا بنوا ف بيع العينة على إخفاء ما لو أظهروه لكان البيع فاسدا ‪ ،‬فأخفوه لتظهر‬
‫صحته ‪ ،‬فإن بيعه الثوب بائة وخسي إل أجل ‪ ،‬لكنهما أظهرا وساطة الثوب ‪ ،‬وأنه هو البيع‬
‫والشتري ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬بدليل الواقع ‪.‬‬
‫وكذلك يهب ماله عند رأس الول قائلً بلسان حاله ومقاله ‪ :‬انا غي متاج إل هذا الال وأنت‬
‫أحوج إليه من ‪ .‬ث يهبه ‪ ،‬فإذا جاء الول الخر قال الوهوب له للواهب مثل القالة الول ‪،‬‬
‫والميع ف الالي ‪ ،‬بل ف الولي ف تصريف الال سواء ‪ ،‬أليس هذا خلف المانة ؟ والتكليف من‬
‫أصله أمانة فيما بي العبد وربه ‪ ،‬فالعمل بلف خيانة ‪.‬‬
‫ومن ذلك أن بعض الناس كان [يفر الزينة ويرد من الكذب] ‪ ،‬ومعن الزينة التدليس بالعيوب ‪،‬‬
‫وهذا خلف المانة والنصح لكل مسلم ‪ .‬وايضا فإن كثيا من المراء يتاجون أموال الناس اعتقادا‬

‫‪242‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫منهم أنا لم دون السلمي ‪ .‬ومنهم من يعتقد نوعا من ذلك ف الغنائم الأخوذة عنوة من الكفار ‪،‬‬
‫فيجعلونا ف بيت الال ‪ ،‬ويرمون الغاني من حظوظهم منها تأويلً على الشريعة بالعقول ‪ .‬فوجه‬
‫البدعة ها هنا ظاهر ‪.‬‬
‫وقد تقدم التنبيه على ذلك ف تثيل البدع الداخلة ف الضروريات ف الباب قبل هذا ‪ ،‬ويدخل تت‬
‫هذا النمط كون الغنائم تصي دولً وقوله ‪:‬‬
‫"سترون بعدي أثرة وأمراء تنكرونا ‪ ،‬ث قال ‪ :‬أدوا إليهم حقهم وسلوا ال حقكم" ‪.‬‬
‫وأما تليل الدماء والربا والرير والغناء والمر ‪ ،‬فخرج أبو داود و أحد وغيها عن أب مالك‬
‫الشعري رضي ال عنه أنه سع رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬
‫"لبشرين ناس من أمت المر يسمونا بغي اسها" ـ زاد ابن ماجه ـ " يعزف على رؤوسهم‬
‫بالعازف والقينات ‪ ،‬يسف ال بم الرض ‪ ،‬ويعل منهم القردة والنازير " وخرجه البخاري ‪ ،‬عن‬
‫أب عامر وأب مالك الشعري قال فيه ‪:‬‬
‫" ليكونن من أمت أقوام يستحلون الز والرير والمر والعازف ‪ ،‬ولينلن أقوام إل جنب علم ‪،‬‬
‫تروح عليهم سارحة لم يأتيهم رجل لاجة فيقولون ‪ :‬ارجع إلينا غدا ‪ ،‬فيبيتهم ال ويضع العلم ‪،‬‬
‫ويسخ آخرين قردة وخنازير إل يوم القيامة" ‪ .‬وف سنن أب داود ‪" :‬ليكونن من أمت أقوام يستحلون‬
‫الز والرير" ـ وقال ف آخره ـ " يسخ منهم آخرين قردة وخنازير إل يوم القيامة" ‪.‬‬
‫والز هنا نوع من الرير ليس الز الأذون فيها النسوج من حرير وغيه ‪ .‬وقوله ف الديث ‪" :‬‬
‫ولينلن أقوام " يعن ـ وال أعلم ـ من هؤلء الستحلي ‪ ،‬والعن إن هؤلء الستحلي ينل منهم‬
‫لـ‬ ‫أقوام إل جنب علم ‪ ،‬وهو البل ‪ ،‬فيواعدهم إل الغد ‪ ،‬فيبيتهم ال ـ وهو أخذ العذاب لي ً‬
‫ويسخ منهم آخرين كما ف حديث أب داود كما ف الديث قبل ‪ :‬يسف ال بم الرض ويسخ‬
‫منهم قردة وخنازير ‪ .‬وكأن السف ها هنا التبييت الذكور ف الخر ‪.‬‬
‫وهذا نص ف أن هؤلء الذين استحلوا هذه الحارم كانوا متأولي فيها حيث زعموا أن الشراب الذي‬
‫شربوه ليس هو المر ‪ ،‬وإنا له اسم آخر إما النبيذ أو غيه ‪ ،‬وإنا المر عصي العنب النء ‪ ،‬وهذا‬
‫رأي طائفة من الكوفيي وقد ثبت أن كل مسكر خر ‪.‬‬
‫قال بعضهم ‪ :‬وإنا أتى على هؤلء حيث استحلوا الحرمات با ظنوه من انتفاء السم ‪ ،‬ول يلتفتوا‬
‫إل وجود العن الحرم وثبوته ‪ .‬قال ‪ :‬وهذه بعينها شبهة اليهود ف استحللم أخذ اليتان يوم الحد‬
‫با أوقعوها به يوم السبت ف الشباك والفائر من فعلهم يوم المعة حيث قالوا ‪ :‬ليس هذا بصيد ول‬
‫عمل يوم السبت ‪ ،‬وليس هذا باستباحة السبت ‪.‬‬
‫بل الذي يستحل المر زاعما أنه ليس خرا مع علمه بأن معناه المر ومقصوده مقصود المر ‪،‬‬
‫أفسد تأويلً من جهة أن أهل الكوفة من أكثر الناس قياسا ‪ ،‬فلئن كان من القياس ما هو حق ‪ ،‬فإن‬

‫‪243‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قياس المر النبوذة على المر العصية من القياس ف معن الصل ‪ .‬وهو من القياس اللي ‪ .‬إذ ليس‬
‫بينهما من الفرق ما يتوهم أنه مؤثر ف التحري ‪.‬‬
‫فإذا كان هؤلء الذكورون ف الديث إنا شربوا المر استحللً لا لا ظنوا أن الحرم مرد ما وقع‬
‫عليه اللفظ ‪ ،‬وظنوا أن لفظ المر ل يقع على غي عصي العنب النء فشبهتهم ف استحلل الرير‬
‫والعازف أظهر بأنه أبيح الرير للنساء مطلقا ‪ ،‬وللرجال ف بعض الحوال ‪ ،‬فكذلك الغناء والدف‬
‫قد أبيح ف العرس ونو ‪ ،‬وابيح منه الداء وغيه ‪ ،‬وليس ف هذا النوع من دلئل التحري ما ف المر‬
‫‪ ،‬فظهر ذم الذين يسف بم ويسخون ‪ ،‬إنا فعل ذلك بم من جهة التأويل الفاسد الذي استحلوا به‬
‫الحارم بطريق اليلة وأعرضوا عن مقصود الشارع وحكمته ف تري هذه الشياء ‪.‬‬
‫وقد خرج ابن بطة عن الوزاعي أن النب صلى ال عليه وسلم قال "يأت على الناس زمان يستحلون‬
‫فيه الربا بالبيع" قال بعضهم ‪ :‬يعن العينة ‪ .‬وروي ف استحلل الربا حديث رواه إبراهيم الرب عن‬
‫أب ثعلبة عن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"أول دينكم نبوة ورحة ‪ ،‬ث ملك وجبية ‪ ،‬ث ملك عضوض يستحل فيه الر والز" يريد استحلل‬
‫الفروج الرام ‪ ،‬والر بكسر الاء الهملة والراء الخففة الفرج ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ويشبه ـ وال أعلم ـ أن‬
‫يراد بذلك ظهور استحلل نكاح الحلل ونو ذلك ما يوجب استحلل الفروج الحرمة ‪ ،‬فإن المة‬
‫ل يستحل أحد منها الزنا الصريح ‪ ،‬ول يرد بالستحلل مرد الفعل ‪ ،‬فإن هذا ل يزل معمولً ف‬
‫الناس ث لفظ الستحلل إنا يستعمل ف الصل فيمن اعتقد الشيء حللً‪ ،‬والواقع كذلك ‪ ،‬فإن هذا‬
‫اللك العضوض الذي كان بعد اللك والبية قد كان ف أواخر عصر التابعي ف تلك الزمان صار‬
‫ل‪.‬‬ ‫ف أول المر من يفت بنكاح الحلل ونوه ‪ ،‬ول يكن قبل ذلك من يفت به أص ً‬
‫ويؤيد ذلك أنه ف حديث ابن مسعود رضي ال عنه الشهور أن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"لعن آكل الربا وشاهديه وكاتبه والحلل والحلل له" ‪.‬‬
‫وروى أحد ‪ ،‬عن ابن مسعود رضي ال عنه ‪ ،‬عن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ما ظهر ف قوم‬
‫الربا والزنا إل أحلوا بأنفسهم عقاب ال" فهذا يشعر بأن التحليل من الزنا ‪ ،‬كما يشعر أن العينة من‬
‫الربا ‪.‬وقد جاء عن ابن عباس رضي ال عنهما موقوفا قال ‪" :‬يأت على الناس زمان يستحل فيه خسة‬
‫أشياء ‪ :‬يستحلون المر بأساء يسمونا با ‪ ،‬والسحت بالدية ‪ ،‬والقتل بالريبة ‪ ،‬والزنا بالنكاح ‪،‬‬
‫والربا بالبيع " ‪ ،‬فإن الثلثة الذكورة أولً قد سنت ‪ ،‬وأما السحت الذي هو العطية للوال والاكم‬
‫ونوها بإسم الدية فهو ظاهر ‪ ،‬واستحلل القتل بإسم الرهاب الذي يسميه ولة الظلم سياسية‬
‫وأبة اللك ونو ذلك ‪ ،‬فظاهر أيضا ‪ ،‬وهو نوع من أنواع شريعة القتل الخترعة ‪.‬‬
‫وقد وصف النب صلى ال عليه وسلم الوارج بذا النوع من الصال فقال ‪" :‬إن من ضئضىء هذا‬
‫قوما يقرؤون القرآن ل يتجاوز حناجرهم ‪ ،‬يقتلون أهل السلم ‪ ،‬ويدعون أهل الوثان ‪ ،‬يرقون من‬

‫‪244‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الدين كما يرق السهم من الرمية " ‪ ،‬ولعل هؤلء الرادون بقوله عليه الصلة والسلم ف حديث أب‬
‫هريرة رضي ال عته ‪:‬‬
‫" يصبح الرجل مؤمنا ويسي كافرا " الديث ‪ .‬يدل عليه تفسي السن قال ك يصبح مرما لدم أحيه‬
‫وعرضه ويسي مستحلً ‪ ،‬إل آخره ‪.‬‬
‫وقد وضع القتل شرعا معمولً به على غي سنة ال وسنة رسوله التسمي بالهدي الغرب الذي زعم‬
‫أنه البشر به ف الحاديث ‪ ،‬فجعل القتل عقابا ف ثانية عشر صنفا ‪ ،‬ذكروا منها ‪ :‬الكذب ‪،‬‬
‫والداهنة ‪ ،‬وأخذهم أيضا بالقتل ف ترك امتثال أمر من يستمع أمره وبايعوه على ذلك ‪ ،‬وكان‬
‫يعظهم ف كل وقت ويذكرهم ‪ ،‬ومن ل يضر أدب ‪ ،‬فإن تادى قتل ‪ ،‬وكل من ل يتأدب با أدب‬
‫به ضرب بالسوط الرة والرتي ‪ ،‬فإن ظهر منه عناد ف ترك امتثال الوامر قتل ‪ ،‬ومن داهن على أخيه‬
‫أو أبيه أو من يكرم أو القدم عليه قتل ‪ .‬وكل من شك ف عصمته قتل أو شك ف أنه الهدي البشر‬
‫به ‪ ،‬وكل من خالف أمره ‪ ،‬أمر اصحابه فعروه ‪ ،‬فكان أكثر تأديبه القتل ـ كما ترى ـ كما أنه‬
‫كان من رأيه أن ل يصلي خلف إمام أو خطيب يأخذ أجرا على المامة أو الطابة ‪ ،‬وكذلك لبس‬
‫الثياب الرفيعة ـ وإن كانت حل ًل ـ فقد حكوا عنه قبل أن يستفحل أمره أنه ترك الصلة خلف‬
‫خطيب أغمات بذلك السبب ‪ ،‬فقدم خطيب آخر ف ثياب حفيلة تباين التواضع ـ بزعمهم ـ فترك‬
‫الصلة خلفه ‪.‬‬
‫وكان من رأيه ترك الرأي واتباع مذاهب الظاهرية ‪ ،‬قال العلماء ‪ :‬وهو بدعة ظهرت ف الشريعة بعد‬
‫الائتي ‪ ،‬ومن رأيه أن التمادي على ذرة من الباطل كالتمادي على الباطل كله ‪.‬‬
‫وذكر ف كتاب المامة أنه هو المام ‪ ،‬وأصحابه هم الغرباء الذين قيل فيهم ‪:‬‬
‫"بدىء السلم غريبا وسيعود كما بديء ‪ ،‬فطوب للغرباء" ‪ ،‬وقال ف الكتاب الذكور ‪ :‬جاء ال‬
‫بالهدي وطاعته صافية نقية ل ير مثلها قبل ول بعد ‪ ،‬وأن به قامت السموات والرض ‪ ،‬وبه تقوم ‪،‬‬
‫ول ضد له ول مثل ول ند انتهى ‪ .‬وكذب ‪ ،‬فالهدي عيس عليه السلم ‪.‬‬
‫وكان يأمرهم بلزوم الزب بعد صلة الصبح ‪ ،‬وبعد الغرب ‪ ،‬فأمر الؤذني إذا طلع الفجر أن ينادوا‬
‫‪ :‬أصبح ول المد إشعارا ـ زعموا ـ بأن الفجر قد طلع للزام الطاعة ‪ ،‬ولضور الماعة ‪،‬‬
‫وللغدو لكل ما يؤمرون به ‪.‬‬
‫وله اختراعات وابتداعات غي ما ذكرنا ‪ ،‬وجيع ذلك إل أنه قائل برأيه ف العبادات والعادات ‪ ،‬مع‬
‫زعمه أنه قائل بالرأي ‪ .‬وهو التناقض بعينه ‪ .‬فقد ظهر إذن جريان تلك الشياء على البتداع ‪.‬‬
‫وأما كون الزكاة مغرما ‪ ،‬فالغرم ما يلزم أداؤه من الديون والغرامات ‪ ،‬كان الولة يلزمونا الناس‬
‫بشيء معلوم من غي نظر إل قلة مال الزكاة أو كثرته أو قصوره عن النصاب أو عدم قصوره ‪ ،‬بل‬
‫يأخذونم با على كل حال إل الوت ‪ ،‬وكون هذا بدعة ‪ ،‬ظاهر ‪.‬‬

‫‪245‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما ارتفاع الصوات ف الساجد فناشىء عن بدعة الدال ف الدين ‪ ،‬فإن من عادة قراءة العلم‬
‫وإقرائه وساعه أن يكون ف الساجد ‪ ،‬ومن آدابه أن ل ترفع فيه الصوات ف غي الساجد ‪ ،‬فما‬
‫ظنك به ف الساجد ؟ فالدال فيه زيادة الوى ‪ ،‬فإنه غي مشروع ف الصل ‪ .‬فقد جعل العلماء من‬
‫عقائد السلم ترك الراء والدال ف الدين ‪ .‬وهو الكلم فيما ل يؤذن ف الكلم فيه ‪ .‬كالكلم ف‬
‫التشابات من الصفات والفعال وغيها ‪ .‬وكمتشابات القرآن ‪ .‬ولجل ذلك جاء ف الديث عن‬
‫عائشة رضي ال عنها أنا قلت ‪ " :‬تل رسول ال صلى ال عليه وسلم هذه الية ‪" :‬هو الذي أنزل‬
‫عليك الكتاب منه آيات مكمات " قال ‪ :‬فإذا رأيتم الذين يادلون فيه فهم الذين عن ال‬
‫فأحذروهم" وف الديث ‪:‬‬
‫"ما ضل قوم بعد هدى إل أوتوا الدل" ‪ ،‬وجاء عنه عليه السلم أنه قال ‪" :‬ل تاروا ف القرآن فإن‬
‫الراء فيه كفر" وعنه عليه السلم أنه قال ‪" :‬إن القرآن يصدق بعضه بعضا ‪ ،‬فل تكذبوا بعضه ببعض‬
‫ما علمتم منه فاقبلوه وما ل تعلموه فكلوه إل عاله" ‪ ،‬وقال عليه السلم ‪" :‬اقرؤوا القرآن ما ائتلفت‬
‫عليه قلوبكم ‪ .‬فإذا اختلفتم فيه فقوموا عنه" ‪ ،‬وخرج ابن وهب ‪ ،‬عن معاوية بن قرة قال ‪ :‬إياكم‬
‫والصومات ف الدين فإنا تبط العمال ‪.‬‬
‫وقال النخعي ف قوله تعال ‪" :‬وألقينا بينهم العداوة والبغضاء " قال ‪ :‬الدال والصومات ف الدين ‪.‬‬
‫وقال معن بن عيسى ‪ :‬انصرف مالك يوما إل السجد وهو متكىء على يدي ‪ .‬فلحقه رجل يقال له‬
‫أبو الديرة يتهم بالرجاء ‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا عبد ال ! اسع من شيئا أكلمك به وأحاجك برأيي ‪ .‬فقال‬
‫له ‪ :‬احذر أن اشهد عليك ‪ .‬قال ‪ :‬وال ما اريد إل الق ‪ .‬اسع من فإن كان صوابا فقل به أو فتكلم‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬فإن غلبتن ؟ قال ‪ :‬اتبعن ‪ .‬قال ‪ :‬فإن غلبتك ؟ قال ‪ :‬اتبعتك ‪ .‬قال ‪ :‬فإن جاء رجل فكلمناه‬
‫فغلبناه ؟ قال ‪ :‬اتبعنا ‪ .‬فقال له مالك ‪ :‬يا عبد ال ! بعث ال ممدا بدين واحد وأراك تنتقل ‪.‬‬
‫وقال عمر بن عبد العزيز ‪ :‬من جعل دينه عرضا للخصومات أكثر التنقل ‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬ليس الدال ف الدين بشيء ‪.‬‬
‫والكلم ف ذم الدال كثي ‪ .‬فإذا كان مذموما فمن جعله ممودا وعده من العلوم النافعة بإطلق‬
‫فقد ابتدع ف الدين ‪ .‬ولا كان اتباع الوى أصل البتداع ل يعدم صاحب الدال أن ياري ويطلب‬
‫الغلبة ‪ ،‬وذلك مظنة رفع الصوات ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬عددت رفع الصوات من فروع الدال وخواصه وليس كذلك ‪ ،‬فرفع الصوات قد يكون‬
‫ف العلم ‪ ،‬ولذلك كره رفع الصوات ف السجد ‪ ،‬وإن كان ف العلم أو ف غي العلم ‪.‬‬
‫قال ابن القاسم ف البسوط ‪ :‬رأيت مالكا يعيب على أصحابه رفع أصواتم ف السجد ‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعلل ذلك ممد بن مسلمة بعلتي ‪ :‬إحداها ‪ :‬أنه يب أن ينه السجد عن مثل هذا لنه أمر‬
‫بتعظيمه وتوقيه ‪ .‬والثانية ‪ :‬انه مبن للصلة ‪ ،‬وقد أمرنا أن نأتيها وعلينا السكينة والوقار ‪ ،‬فأن يلزم‬
‫ذلك ف موضعها التخذ لا أول ‪.‬‬
‫وروى مالك أن عمر بن الطاب رضي ال عنه بن رحبه بي ناحية السجد تسمى البطيحاء وقال ‪:‬‬
‫من كان يريد أن يلغط أو ينشد شعرا أو يرفع صوته فليخرج إل هذه الرحبة ‪ .‬فإذا كان كذلك ‪،‬‬
‫فمن أين يدل ذم رفع الصوت ف السجد على الدل النهي عنه ؟‬
‫فالواب من وجهي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن رفع الصوت من خواص الدل الذموم ‪ ،‬أعن ف أكثر المر دون الفلتات ‪ ،‬لن رفع‬
‫الصوت والروج عن العتدال فيه ناشىء عن الوى ف الشيء التكلم فيه ‪ ،‬واقرب الكلم الاص‬
‫بالسجد إل رفع الصوت ‪ ،‬الكلم فيما ل ياذن فيه ‪ ،‬وهو الدال الذي نبه عليه الديث التقدم ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬ل يكثر الكلم جدا ف نوع من أنواع العلم ف الزمان التقدم إل ف علم الكلم ‪ ،‬وإل‬
‫غرضه تصويب سهام النقد والذم ‪ ،‬فهو إذا هو ‪ .‬وقد روي عن عمية بن أب ناجية الصري أنه رأى‬
‫قوما يتعارون ف السجد وقد علت أصواتم فقال ‪ :‬هؤلء قوم قد ملوا العبادة ‪ ،‬وأقبلوا على الكلم ‪،‬‬
‫ل يقول ‪ :‬مات ف هذه‬ ‫اللهم أمت عمية ‪ ،‬فمات من عامة ذلك ف الج ‪ ،‬فرأى رجل ف النوم قائ ً‬
‫الليلة نصف الناس فعرفت تلك الليلة ‪ ،‬فجاء موت عمية هذا ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أنا لو سلمنا أن مرد رفع الصوات يدل على ما قلنا لكان أيضا من البدع إذا عد كأنه من‬
‫الائز ف جيع أنواع العلم فصار معمولً به ل نفي ول يكف عنه فجرى مرى البدع الحدثات ‪.‬‬
‫وأما تقدي الحداث على غيهم ‪ ،‬فمن قبيل ما تقدم ف كثرة الهال وقلة العلم ‪ ،‬كان ذلك التقدي‬
‫ف ريب العلم أو غيه ‪ ،‬لن الدث أبدا أو ف غالب المر غر ل يتحنك ‪ ،‬ول يرتض ف صناعة‬
‫رياضة تبلغه مبالغ الراسخي القدام ف تلك الصناعة ‪ ،‬ولذلك قالوا ف الثل ‪:‬‬

‫ل يستطع صولة البزل القناعيس‬ ‫وابن اللبون إذا ما لز ف قرن‬


‫هذا إن حلنا على حداثة السن ‪ ،‬وهو نص ف ابن مسعود رضي ال عنه ‪ ،‬فإن حلناه على حدثان‬
‫العهد بالصناعة ‪ ،‬ويتمله قوله ‪ " :‬وكان زعيم القوم أرذلم " وقوله ‪ " :‬وساد القبيلة فاسقهم "‬
‫وقوله ‪ " :‬إذا أسند المر إل غي أهله " فالعن فيها واحد ‪ ،‬فإن الديث العهد بالشيء ل يبلغ مبالغ‬
‫القدي العهد فيه ‪.‬‬
‫ولذلك يكى عن الشيخ أب مدين أنه سئل عن الحداث الذين نى شيوخ الصوفية عنهم ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫الدث الذي ل يستكمل المر بعد ‪ ،‬وإن كان ابن ثاني سنة ‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فإذا تقدي الحداث على غيهم ‪ ،‬من باب تقدي الهال على غيهم ‪ ،‬ولذلك قال فيهم ‪ " :‬سفهاء‬
‫الحلم " وقال ‪ " :‬يقرؤون القرآن ل ياوز تراقيهم " إل آخره ‪ ،‬وهو منل على الديث الخر ف‬
‫الوارج ‪:‬‬
‫" إن من ضئضيء هذا قوما يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم " إل آخر الديث ‪ ،‬يعن أنم ل‬
‫يتفقهوا فيه ‪ ،‬فهو ف ألسنتهم ل ف قلوبم ‪.‬‬
‫وأما لعن آخر هذه المة أولا ‪ ،‬فظاهر ما ذكر العلماء عن بعض الفرق الضالة ‪ ،‬فإن الكاملية من‬
‫الشيعة كفرت الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬حي ل يصرفوا اللفة إل علي رضي ال عنه بعد رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكفرت عليا رضي ال عنه حي ل يأخذ بقه فيها ‪.‬‬
‫قا ل مصعب الزبيي و ابن نافع ‪ :‬دخل هارون ( يعن الرشيد ) السجد فركع ‪ ،‬ث أتى قب النب‬
‫صلى ال عليه وسلم فسلم عليه ‪ ،‬ث أتى ملس مالك فقال ‪ :‬السلم عليك ورحة ال وبركاته ‪ ،‬ث‬
‫قال لـ مالك ‪ :‬هل لن سب أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ف الفيء حق ؟ قال ‪ :‬ل !‬
‫ول كرامة ول مسرة ‪ ،‬قال ‪ :‬من أين قلت ذلك ؟ قال ‪ :‬قال ال عز وجل ‪" :‬ليغيظ بم الكفار" فمن‬
‫عابم فهو كافر ‪ ،‬ول حق لكافر ف الفيء ‪.‬‬
‫واحتج مرة أخرى ف ذلك بقوله تعال ‪" :‬للفقراء الهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالم" إل‬
‫آخر اليات الثلث قال ‪ :‬فيهم أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم الذين هاجروا معه ‪،‬‬
‫وأنصاره "والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولخواننا الذين سبقونا باليان" فمن عدا‬
‫هؤلء فل حق لم فيه ‪ ،‬وف فعل خواص الفرق من هذا العن كثي ‪.‬‬
‫وأما بعث الدجالي ‪ ،‬فقد كان ذلك جلة ‪ ،‬منهم من تقدم ف زمان بن العباس وغيهم ‪ .‬ومنهم معد‬
‫من العبيدية الذين ملكوا إفريقية ‪ ،‬فقد حكى عنه أنه جعل الؤذن يقول ‪ :‬أشهد أن معدا رسول ال ‪،‬‬
‫عوضا من كلمة الق أشهد أن ممدا رسول ال فهم السلمون بقتله ث رفعوه إل معد ليوا هل‬
‫هذا عن أمره ؟ فلما انتهى كلمهم إليه ‪ ،‬قال ‪ :‬أردد عليهم أذانم لعنهم ال ‪.‬‬
‫ومن يدعي لنفسه العصمة ‪ ،‬فهو شبه من يدعي النبوة ‪ ،‬ومن يزعم أنه به قامت السموات والرض ‪،‬‬
‫فقد جاوز دعوى النبوة ‪ ،‬وهو الغرب التسمي بالهدي ‪.‬‬
‫وقد كان ف الزمان القريب رجل يقال له الفازازي ادعى النبوة ‪ ،‬واستظهر عليها بأمور موهة‬
‫للكرامات ‪ ،‬والخبار بالغيبات ‪ ،‬وميلة لوارق العادات ‪ ،‬تبعه على ذلك من العوام جلة ‪ ،‬ولقد‬
‫سعت بعض طلبة ذلك البلد الذي اختله هذا البأس ـ وهو مالقة ـ آخذا ينظر ف قوله تعال ‪:‬‬
‫"وخات النبيي" وهل يكن تأويله ؟ وجعل يطرق إليه الحتمالت ‪ ،‬ليسوغ إمكان بعث نب بعد‬
‫ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وكان مقتل هذا الفتري على يد شيخ شيوخنا أب جعفر بن الزبي رحه‬
‫ال ‪.‬‬

‫‪248‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولقد حكى بعض مؤلفي الوقت قال ‪ :‬حدثن شيخنا أبو السن بن الياب قال ‪ :‬لا أمر بالتأهب يوم‬
‫قتله وهو ف السجن الذي أخرج منه إل مصرعه جهر بتلوة سورة يس ‪ ،‬فقال أحد الذعرة من جع‬
‫السجن بينهما ‪ :‬اقرأ قرآنك ‪ ،‬ل شيء تنفصل على قرآننا اليوم ؟ أو ف معن هذا ‪ ،‬فتركها مثلً‬
‫بلوذعيته ‪.‬‬
‫وأما مفارقة الماعة ‪ ،‬فبدعتها ظاهرة ‪ ،‬ولذلك يازي مفارقتها باليتة الاهلية ‪.‬‬
‫وقد ظهر ف الوارج وغيهم من سلك مسلكهم كالعبيدية وأشباههم ‪.‬‬
‫فهذه ايضا من جلة ما اشتملت عليه تلك الحاديث ‪ .‬وباقي الصال الذكورة عائد إل نو آخر ‪،‬‬
‫ككثرة النساء وقلة الرجال ‪ ،‬وتطاول الناس ف البنيان ‪ ،‬وتقارب الزمان ‪.‬‬
‫فالاصل أن أكثر الوادث الت أخب با النب صلى ال عليه وسلم من أنا تقع وتظهر وتنتشر أمور‬
‫مبتدعة على مضاهاة التشريع ‪ ،‬لكن من جهة التعبد ‪ ،‬ل من جهة كونا عادية ‪ ،‬وهو الفرق بي‬
‫العصية الت هي بدعة ‪ ،‬والعصية الت هي ليست ببدعة ‪.‬‬
‫وأن العاديات من حيث هي عادية ل بدعة فيها ‪ ،‬ومن حيث يتعبد با أو توضع وضع التعبد تدخلها‬
‫البدعة ‪ ،‬وحصل بذلك اتفاق القولي ‪ ،‬وصار الذهبان مذهبا واحدا ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫فصل فإن قيل ‪ :‬أما البتداع ‪ ،‬بعن أنه نوع من التشريع‬


‫فإن قيل ‪ :‬أما البتداع ‪ ،‬بعن أنه نوع من التشريع على وجه التعبد ف العاديات من حيث هو توقيت‬
‫معلوم معقول ‪ ،‬فإيابه أو إجازته بالرأي ـ كما تقدم من أمثلة بدع الوارج ومن داناهم من الفرق‬
‫الارجية عن الادة ـ فظاهر ‪.‬‬
‫ومن ذلك ‪ ،‬القول بالتحسي والتقبيح العقلي ‪ ،‬والقول بترك العمل بب الواحد ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫فالقول بأنه بدعة قد تبي وجهه واتضح مغزاه ‪ ،‬وإنا يبقى وجه آخر يشبهه وليس به ‪ ،‬وهو أن‬
‫العاصي والنكرات والكروهات قد تظهر وتفشو ‪ ،‬ويري العمل با بي الناس على وجه ل يقع لا‬
‫إنكار من خاص ول عام ‪ ،‬فما كان منها هذا شأنه ‪ :‬هل يعد مثله بدعة أم ل ؟‬
‫فالواب ‪ :‬أن مثل هذه السألة لا نظران ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬نظر من حيث وقوعها واعتقادا ف الصل ‪ ،‬فل شك أنا مالفة ل بدعة ‪ ،‬إذ ليس من‬
‫شرط كون المنوع والكروه غي بدعة أن ل ينشرها ول يظهرها أنه ليس من شرط أن تنشر ‪ ،‬بل ل‬
‫تزول الخالفة ظهرت أو ل ‪ ،‬واشتهرت أم ل ‪ ،‬وكذلك دوام العمل أو عدم دوامه ل يؤثر ف واحدة‬
‫منهما ‪ ،‬والبتدع قد يقام عن بدعة ‪ ،‬والخالف قد يدوم على مالفته إل الوت ‪ ،‬عياذا بال ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬نظر من جهة ما يقترن با من خارج ‪ ،‬فالقرائن قد تقترن ‪ ،‬فتكون سببا ف مفسدة حالية ‪،‬‬
‫وف مفسدة مالية ‪ ،‬كلها راجع إل اعتقاد البدعة ‪.‬‬

‫‪249‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أما الالية فبأمرين ‪:‬‬


‫الول ‪ :‬أن يعمل با الواص من الناس عموما ‪ ،‬وخاصة العلماء خصوصا ‪ ،‬وتظهر من جهتهم ‪.‬‬
‫وهذه مفسدة ف السلم ينشأ عنها عادة من جهة العوام استسهالا واستجازتا ‪ ،‬لن العال النتصب‬
‫مفتيا للناس بعمله كما هو مفت بقوله ‪ .‬فإذا نظر إليه الناس يعمل ما يأمر هو بخالفته حصل ف‬
‫اعتقادهم جوازه ‪ ،‬ويقولون ‪ :‬لو كان منوعا أو مكروها لمتنع منه العال ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وإن نص على منعه أو كراهته ‪ ،‬فإن عمله معارض لقوله ‪ ،‬فإما أن يقول العامي ‪ :‬إن العال‬
‫خالف بذلك ‪ ،‬ويوز عليه مثل ذلك ‪ ،‬وهم عقلء الناس ‪ ،‬وهم القلون ‪.‬‬
‫وإما أن يقول ‪ :‬إنه وجد فيه رخصة ‪ ،‬فإنه لو كان كما قال ل يأت به فيجح بي قوله وفعله ‪.‬‬
‫والفعل أغلب من القول ف جهة التأسي ـ كما تبي ف كتاب الوافقات ـ فيعمل العامي بعمل‬
‫العال ‪ ،‬تسينا للظن به ‪ ،‬فيعتقده جائزا ‪ ،‬وهؤلء هم الكثرون ‪.‬‬
‫فقد صار عمل العال عند العامي حجة ‪ ،‬كما كان قوله حجة على الطلق والعموم ف الفتيا ‪،‬‬
‫فاجتمع على العامي العمل مع اعتقاد الواز بشبهة دليل ‪ ،‬وهذا عي البدعة ‪.‬‬
‫بل لقد وقع مثل ف طائفة من تيز عن العامة بانتصاب ف رتبة العلماء ‪ ،‬فجعلوا العمل ببدعة الدعاء‬
‫بيئة الجتماع ف آثار الصلوات ‪ ،‬وقراءة الزب حجة ف جواز العمل بالبدع ف الملة ‪ ،‬وأن منها‬
‫ما هو حسن ‪ ،‬وكان منهم من ارتسم ف طريقة التصوف فأجاز التعبد ل بالعبادات البتدعة ‪ ،‬واحتج‬
‫بالزب والدعاء بعد الصلة ‪ ،‬كما تقدم ‪.‬‬
‫ومنهم من اعتقد أنه ما عمل به إل لستند ‪ ،‬فوضعه ف كتاب وجعله فقها كبعض أماريد الرس من‬
‫قيد على المة ابن زيد ‪.‬‬
‫وأصل جيع ذلك سكوت الواص عن البيان ‪ ،‬والعمل به على الغفلة ‪ ،‬ومن هنا تسشنع زلة العال ‪،‬‬
‫فقد قالوا ‪ :‬ثلث تدم الدين ‪ :‬زلة العال ‪ ،‬وجدال منافق بالقرآن ‪ ،‬وأئمة ضالون ‪.‬‬
‫وكل ذلك عائد وباله على العال ‪ ،‬وزل الذكور عند العلماء يتمل وجهي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬زل ف النظر حت يفت با خالف الكتاب والسنة فيتابع عليه وذلك الفتيا بالقول ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬من قسمي الفسدة الالية أن يعمل با العوام وتشيع فيهم وتظهر فل ينكرها الواص ول‬
‫يرفعون لا رؤوسهم وهم قادرون على النكار فلم يفعلوا ‪ ،‬فالعامي من شأنه إذا رأى أمرا يهل‬
‫حكمه يعمل العامل به فل ينكرها عليه ‪ ،‬اعتقد أنه جائز وأنه حسن ‪ ،‬أو أنه مشروع بلف ما إذا‬
‫أنكر عليه فإنه يعتقد أنه عيب ‪ ،‬أو أنه غي مشروع ‪ ،‬أو أنه ليس من فعل السلمي ‪ .‬هذا أمر يلزم‬
‫من ليس بعال بالشريعة ‪ ،‬لن مستنده الواص واعلماء ف الائز مع غي الائز ‪.‬‬

‫‪250‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فإذا عدم النكار من شأنه النكار ‪ ،‬مع ظهور العمل وانتشاره وعدم خوف النكر ووجوده القدرة‬
‫عليه ‪ ،‬فلم يفعل ‪ ،‬دل عند العوام على أنه فعل جائز ل حرج فيه ‪ ،‬فنشأ فيه هذا العتقاد الفاسد‬
‫بتأويل يقنع بثله من كان من العوام فصارت الخالفة بدعة ‪ ،‬كما ف القسم الول ‪.‬‬
‫وقد ثبت ف الصول أن العال ف الناس قائم مقام النب عليه الصلة والسلم ‪ ،‬والعلماء ورثة‬
‫النبياء ‪ ،‬فكما أن النب صلى ال عليه وسلم يدل على الحكام بقوله وفعله وإقراره ‪ ،‬كذلك وارثة‬
‫يدل على الحكام بقوله وفعله وإقراره ‪ .‬واعتب ذلك ببعض ما أحدث ف الساجد من المور النهي‬
‫عنها فلم ينكرها العلماء ‪ ،‬أو عملوا با فصارت بعد سننا ومشروعات ‪ ،‬كزيادتم مع الذان ‪:‬‬
‫اصبح ول المد و الوضوء للصلة و تأهبوا ودعاء الؤذني بالليل ف الصوامع ‪ ،‬وربا احتجوا‬
‫على ذلك با يفعله بعض الناس وبا وضع ف نوازل ابن سهل غفلة عما أخذ عليه فيه ‪ ،‬وقد قيدنا ف‬
‫ذلك جزءا مفردا فمن أراد الشفاء ف السألة فعليه به ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬
‫وخرج أبو داود عن[ أب عمي بن أنس عن عمومة له من النصار ‪ ،‬قال ] ‪:‬‬
‫"إهتم النب صلى ال عليه وسلم للصلة كيف يمع الناس لا ‪ ،‬فقيل ‪ :‬انصب راية عند حضور‬
‫الصلة فإذا رأوها أذن بعضهم بعضا ‪ .‬فلم يعجبه ذلك ـ قال ـ فذكر له القنع ‪ ،‬يعن الشبور ‪،‬‬
‫وف رواية شبور اليهود فلم يعجبه ‪ ،‬وقال ‪ :‬هو من أمر اليهود ‪ ،‬قال ‪ :‬فذكر له الناقوس ‪ ،‬فقال ‪ :‬هو‬
‫من أمر النصارى ‪ ،‬فانصرف عبد ال بن زيد بن عبد ربه وهو مهتم لم رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فأري الذان ف منامه" إل آخر الديث ‪.‬‬
‫وف مسلم عن أنس بن مالك أنه قال ‪:‬‬
‫ذكروا أن يعلموا وقت الصلة بشيء يعرفونه ‪ ،‬فذكروا أن ينوروا نارا ‪ ،‬أو يضربوا ناقوسا فأمر بلل‬
‫أن يشفع الذان ويوتر القامة ‪ .‬والقنع والشبور ـ هو البوق ـ وهو القرن الذي وقع ف حديث ابن‬
‫عمر رضي ال عنهما ‪.‬‬
‫فأنت ترى كيف كره النب صلى ال عليه وسلم شأن الكفار فلم يعمل على موافقته ‪ .‬فكان ينبغي‬
‫لن اتسم بسمة العلم أن ينكر ما أحدث من ذلك ف الساجد إعلما بالوقات أو غي إعلم با ‪ ،‬أما‬
‫الراية فقد وضعت إعلما بالوقات ‪ ،‬وذلك شائع ف بلد الغرب ‪ ،‬حت إن الذان معها قد صار ف‬
‫حكم التبع ‪.‬‬
‫وأما البوق ‪ ،‬فهو العلم ف رمضان على غروب الشمس ودخول وقت الفطار ‪ ،‬ث هو علم أيضا‬
‫بالغرب والندلس على وقت السحور ابتداءً وانتهاءً والديث قد جعل علما لنتهاء نداء ابن أم‬
‫مكتوم ‪ .‬قال ابن شهاب ‪ :‬وكان ابن أم مكتوم رجلً أعمى ل ينادي حت يقال له ‪ :‬أصبحت‬
‫أصبحت ‪.‬‬
‫وف مسلم و أب داود ‪:‬‬

‫‪251‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫" ل ينعن أحدكم نداء بلل من سحوره فإنه يؤذن ليجع قائمكم ويوقظ نائمكم " الديث ‪ .‬فقد‬
‫جعل أذان بلل لن ينتبه النائم لا يتاج إليه من سحوره وغيه ‪ ،‬فالبوق ما شأنه ؟ وقد كرهه عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ ،‬ومثله النار الت ترفع دائما ف أوقات الليل وبالعشاء والصبح ف رمضان أيضا ‪،‬‬
‫إعلما بدخوله ‪ ،‬فتوقد ف داخل السجد ث ف وقت السحور ‪ ،‬ث ترفع ف النار إعلما بالوقت ‪،‬‬
‫والنار شعار الجوس ف الصل ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ‪ :‬أول من اتذ البخور ف السجد بنو برمك يي بن خالد وممد بن خالد ـ ملكهما‬
‫الوال أمر الدين فكان ممد بن خالد حاجبا ويي وزيرا ث ابنه جعفر بن يي ـ قال ـ وكانوا‬
‫باطنية يعتقدون آراء الفلسفة ‪ ،‬فأحيوا الجوسية ‪ ،‬واتذوا البخور ف الساجد ـ وإنا تطيب‬
‫باللوق ـ فزادوا التجمي ويعمرونا بالنار منقولة حت يعلونا عند الندلس ببخورها ثابتة ‪ .‬انتهى‬
‫‪.‬‬
‫وحاصلة ‪ ،‬أن النار ليس إيقادها ف الساجد من شأن السلف الصال ‪ ،‬ول كانت ما تزين با‬
‫الساجد البتة ‪ ،‬ث أحدث التزيي با حت صارت من جلة ما يعظم به رمضان ‪ ،‬واعتقد العامة هذا‬
‫كما اعتقدوا طلب البوق ف رمضان ف الساجد ‪ ،‬حت لقد سأل بعض عنه ‪ :‬أهو سنة أم ل ؟ ول‬
‫يشك أحد أن غالب العوام يعتقدون أن مثل هذه المور مشروعة على الملة ف الساجد ‪ ،‬وذلك‬
‫بسبب ترك الواص النكار عليهم ‪.‬‬
‫وكذلك أيضا لا ل يتخذ الناقوس للعلم ‪ ،‬حاول الشيطان فيه بكيدة أخرى فعلق بالساجد واعتد‬
‫به ف جلة اللت الت توقد عليها النيان وتزخرف با الساجد ‪ ،‬زيادة إل زخرفتها بغي ذلك ‪ ،‬كما‬
‫تزخرف الكنائس والبيع ‪.‬‬
‫ومثله إيقاد الشمع بعرفة ليلة الثامن ‪ ،‬ذكر النووي أنا من البدع القبيحة ‪ ،‬وأنا ضللة فاحشة جع‬
‫فيها أنواع من القبائح ‪ .‬منها إضاعة الال ف غي وجهه ‪ ،‬ومنها إظهار شعائر الجوس ‪ ،‬ومنها‬
‫اختلط الرجال والنساء والشمع بينهم ووجوههم بارزة ‪ ،‬ومنها تقدي دخول عرفة قبل وقتها‬
‫الشروع ‪ .‬ا هـ ‪.‬‬
‫وقد ذكر الطرطوشي ف إيقاد الساجد ف رمضان بعض هذه المور وذكر أيضا قبائح سواها ‪ .‬فأين‬
‫هذا كله من إنكار مالك لتنحنح الؤذن أو ضربه الباب ليعلم بالفجر ‪ ،‬أو وضع الرداء ؟ وهو أقرب‬
‫مراما وأيسر خطبا من أن تنشأ بدع مدثات ‪ ،‬يعتقدها العوام سننا بسبب سكوت العلماء والواص‬
‫عن النكار وسبب عملهم با ‪.‬‬
‫وأما الفسدة الالية فهي على فرض أن يكون الناس عاملي بكم الخالفة ‪ ،‬وأنا قد ينشأ الصغي على‬
‫رؤيتها وظهورها ‪ ،‬ويدخل ف السلم أحد من يراها شائعة ذائعة فيعتقدونا جائزة أو مشروعة ‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫لن الخالفة إذا فشا ف الناس فعلها من غي إنكار ‪ .‬ل يكن عند الاهل با فرق بينها وبي سائر‬
‫الباحات أو الطاعات ‪.‬‬
‫وعندنا كراهية العلماء أن يكون الكفار صيارفة ف أسواق السلمي لعملهم بالربا فكل من يراهم من‬
‫العامة صيارف وتارا ف أسواقنا من غي إنكار يعتقد أن ذلك جائز كذلك‪ ،‬وأنت ترى مذهب‬
‫مالك العروف ف بلدنا أن اللي الصنوع من الذهب والفضة ل يوز بيعه بنسه إل وزنا بوزن ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬والصاغة عندنا كلهم أو غالبهم يتبايعون على ذلك أن يستفضلوا‬ ‫ول اعتبار بقيمة الصياغة أص ً‬
‫قيمة الصياغة أو إجارتا ‪ ،‬ويعتقدون أن ذلك جائز لم ‪ ،‬ول يزل العلماء من السلف الصال ومن‬
‫بعدهم يتحفظون من أمثال هذه الشياء ‪ ،‬حت كانوا يتركون السنن خوفا من اعتقاد العوام أمرا هو‬
‫أشد من ترك السنن ‪ ،‬وأول أن يتركوا الباحات أن ل يعتقد فيها أمر ليس بشروع ‪ ،‬وقد مر بيان‬
‫هذا ف باب البيان من كتاب الوافقات فقد ذكروا أن عثمان رضي ال عنه كان ل يقصر ف السفر‬
‫فيقال له ‪ :‬أليس قد قصرت مع رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فيقول ‪ :‬بلى ولكن إمام الناس‬
‫فينظر إل العراب وأهل البادية أصلي ركعتي فيقولون ‪ :‬هكذا فرضت ‪.‬‬
‫قال الطرطوشي ‪ :‬تأملوا رحكم ال ! فإن ف القصر قولي لهل السلم ‪:‬‬
‫منهم من يقول ‪ :‬فريضة ‪ ،‬ومن أت فإنا يتم ويعيد أبدا ‪.‬‬
‫ومنهم من يقول ‪ :‬سنة ‪ ،‬يعيد من أت ف الوقت ‪ ،‬ث اقتحم عثمان ترك الفرض أو السنة لا خاف من‬
‫سوء العاقبة أن يعتقد الناس أن الفرض ركعتان ‪.‬‬
‫وكان الصحابة رضي ال عنهم ل يضحون ( يعن أنم ل يلتزمون الضحية ) ‪.‬‬
‫قال حذيفة بن أسد ‪ :‬شهدت أبا بكر وعمر رضي ال عنهما ل يضحيان مافة أن يرى أنا واجبة ‪.‬‬
‫وقال بلل ‪ :‬ل أبال أن أضحي بكبشي أو بديك ‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي ال عنهما أنه كان يشتري لما بدرهم يوم الضحى ‪ ،‬ويقول لعكرمة ‪ :‬من‬
‫سألك فقل هذه أضحية ابن عباس ‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود ‪ :‬إن لترك أضحيت ـ وإن لن أيسركم ـ مافة أن يظن أنا واجبة ‪.‬‬
‫وقال طاوس ‪ :‬ما رأيت بيتا أكثر لما وخبزا وعلما من بيت ابن عباس ‪ ،‬يذبح وينحر كل يوم ‪ ،‬ث‬
‫ل يذبح يوم العيد ‪ .‬وإنا يفعل ذلك لئل يظن الناس أنا واجبة ‪ .‬وكان إماما يقتدى به ‪.‬‬
‫قال الطرطوشي ‪ :‬والقول ف هذا كالذي قبله ‪ ،‬وإن لهل السلم قولي ف الضحية ‪ .‬أحدها‬
‫سنة ‪ ،‬والثان واجبة ‪ ،‬ث اقتحمت الصحابة ترك السنة حذرا من أن يضع الناس المر على غي وجهة‬
‫فيعتقدونا فريضة ‪.‬‬
‫قال مالك ف الوطأ ف صيام ستة بعد الفطر من رمضان ‪ :‬إنه ل ير أحدا من أهل العلم والفقه‬
‫يصومها ـ قال ـ ول يبلغن ذلك عن أحد من السلف ‪ ،‬وأن أهل العلم يكرهون ذلك ويافون‬

‫‪253‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بدعته ‪ ،‬وأن يلحق أهل الهالة والفاء برمضان ما ليس منه لو رأوا ف ذلك رخصة من أهل العلم ‪،‬‬
‫ورأوهم يقولون ذلك ‪.‬‬
‫فكلم مالك هنا ليس فيه دليل على أنه ل يفظ الديث كما توهم بعضهم ‪ ،‬بل لعل كلمه مشعر‬
‫بأنه يعلمه ‪ ،‬لكنه ل ير العمل عليه وإن كان مستحبا ف الصل ‪ ،‬لئل يكون ذريعة لا قال ‪ ،‬كما فعل‬
‫الصحابة رضي ال عنهم ف الضحية ‪ ،‬وعثمان ف التام ف السفر ‪.‬‬
‫وحكى الاوردي ما هو أغرب من هذا وإن كان الصل ‪ ،‬فذكر أن الناس كانوا إذا صلوا ف الصحن‬
‫من جامع البصرة أو الطرقة ورفعوا من السجود مسحوا جباههم من التراب ‪ ،‬لنه كان مفروشا ‪،‬‬
‫فأمر زياد بإلقاء الصا ف صحن السجد ‪ ،‬وقال ‪ :‬لست آمن من أن يطول الزمان فيظن الصغي إذا‬
‫نشأ أن مسح البهة من أثر السجود سنة ف الصلة ‪ ،‬وهذا ف مباح ‪ ،‬فكيف به ف الكروه أو‬
‫المنوع ؟‬
‫ولقد بلغن ف هذا الزمان عن بعض من هو حديث عهد بالسلم أنه قال ف المر ‪ :‬ليست برام ول‬
‫عيب فيها ‪ ،‬وإنا العيب أن يفعل با ما ل يصلح كالقتل وشبهه ‪.‬‬
‫وهذا العتقاد لو كان من نشأ ف السلم كان كفرا ‪ ،‬لنه إنكار لا علم من دين المة ضرورة ‪،‬‬
‫وبسبب ذلك ترك النكار من الولة على شاربا ‪ ،‬والتخلية بينهم وبي اقتنائها ‪ ،‬وشهرته بارة أهل‬
‫الذمة فيها وأشباه ذلك ‪.‬‬
‫ول معن للبدعة إل أن يكون الفعل ف اعتقاد البتدع مشروعا وليس بشروع ‪ .‬وهذا الال متوقع أو‬
‫واقع ‪ ،‬فقد حكى القراف عن العجم ما يقتضي أن الستة اليام من شوال ملحقة عندهم برمضان ‪،‬‬
‫لبقائهم حالة رمضان الاصة به كما هي إل تام الستة اليام ‪ ،‬وكذلك وقع عندنا مثله ‪ ،‬وقد مر ف‬
‫الباب الول ‪.‬‬
‫وجيع هذا منوط إثه بن يترك النكار من العلماء أو غيهم ‪ ،‬أو من يعمل ببعضها برآى من الناس‬
‫أو ف مواقعهم ‪ ،‬فإنم الصل ف انتشار هذه العتقادات ف العاصي أو غيها ‪.‬‬

‫وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه‬


‫وإذا تقرر هذا فالبدعة تنشأ عن أربعة أوجه ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬وهو أظهر القسام ـ أن يترعها البتدع ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يعمل با العال على وجه الخالفة ‪ ،‬فيفهمها الاهل مشروعة ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن يعمل با الاهل مع سكوت العال عن النكار ‪ ،‬وهو قادر عليه ‪ ،‬فيفهم الاهل أنا‬
‫ليست بخالفة ‪.‬‬

‫‪254‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والرابع ‪ :‬من باب الذرائع ‪ ،‬وهي أن يكون العمل ف أصله معروفا ‪ ،‬إل أنه يبتدل العتقاد فيه مع‬
‫طول العهد بالذكرى ‪.‬‬
‫إل أن هذه القسام ليست على وزان واحد ‪ ،‬ول يقع اسم البدعة عليها بالتواطؤ ‪ ،‬بل هي ف القرب‬
‫والبعد على تفاوت ‪ ،‬فالول هو القيق باسم البدعة ‪ ،‬فإنا تؤخذ علة بالنص عليها ‪ ،‬ويليه القسم‬
‫الثان ‪ ،‬فإن العمل يشبهه التنصيص بالقول ‪ ،‬بل قد يكون أبلغ منه ف مواضع ـ كما تبي ف‬
‫الصول ـ غي أنه ل ينل ها هنا من كل وجه منلة الدليل أن العال قد يعمل وينص على قبح عمله‬
‫‪ ،‬ولذلك قالوا ‪ :‬ل تنظر إل عمل العال ‪ ،‬ولكن سله بصدقك ‪ .‬وقال الليل بن أحد أو غيه ‪:‬‬
‫ينفعك علمي ول يضررك تقصيي‬ ‫اعمل بعلمي ول تنظر إل عملي‬
‫ويليه القسم الثالث‪ ،‬فإن ترك النكار ـ مع أن رتبة النكر رتبة من بعد ذلك منه إقرارا ـ يقتضي‬
‫أن الفعل غي منكر ‪ ،‬ولكن يتنل منلة ما قبله ‪ ،‬لن الصوارف للقدرة‬
‫كثية ‪ ،‬قد يكون الترك لعذر بلف الفعل ‪ ،‬فإنه ل عذر ف فعل النسان بالخالفة ‪ ،‬مع علمه‬
‫بكونه مالفة ‪.‬‬
‫ويليه القسم الرابع ‪ ،‬لن الحظور الال فيما تقدم غي واقع فيه بالعرض ‪ ،‬فل تبلغ الفسدة التوقعة‬
‫أن تساوي رتبة الواقعة أصلً ‪ ،‬فلذلك كانت من باب الذرائع ‪ ،‬فهي إذا ل تبلغ أن تكون ف الال‬
‫بدعة ‪ ،‬فل تدخل بذا النظر تت حقيقة البدعة ‪.‬‬
‫وأما القسم الثان والثالث فالخالفة فيه بالذات ‪ ،‬والبدعة من خارج ‪ ،‬إل أنا لزمة لزوما عاديا ‪،‬‬
‫ولزوم الثان أقوى من لزوم الثالث ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬

‫الباب الثامن ‪ :‬ف الفرق بي البدع والصال الرسلة والستحسان‬


‫هذا الباب يضطر إل الكلم فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيا من الناس عدوا‬
‫أكثر الصال الرسلة بدعا ‪ ،‬ونسبوها إل الصحابة والتابعي ‪ ،‬وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من‬
‫اختراع العبادات ‪ .‬وقم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬إن منها ما هو واجب‬
‫ومندوب ‪ ،‬وعدوا من الواجب كتب الصحف وغيه ‪ ،‬ومن الندوب الجتماع ف قيام رمضام على‬
‫قارىء واحد ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن الصال الرسلة يرجع معناها إل اعتبار الناسب الذي ل يشهد له أصل معي ‪ ،‬فليس له‬
‫على هذا شاهد شرعي على الصوص ‪ ،‬ول كونه قياسا بيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول ‪.‬‬
‫وهذا بعينه موجود ف البدع الستحسنة ‪ ،‬فإنا راجعة إل أمور ف الدين مصلحية ـ ف زعم واضعيها‬
‫ـ ف الشرع على الصوص‬

‫‪255‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإذا ثبت هذا ‪ ،‬فإن كان اعتبار الصال الرسلة حقا ‪ ،‬فاعتبار البدع الستحسنة حق ‪ ،‬لنما يريان‬
‫من واد واحد ‪ .‬وإن ل يكن اعتبار البدع حقا ‪ ،‬ل يصح اعتبار الصال الرسلة ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن القول بالصال الرسلة ليس متفقا عليه ‪ ،‬بل قد اختلف فيه أهل الصول على أربعة‬
‫أقوال ‪ .‬فذهب القاضي وطائفة من الصوليي إل رده ‪ ،‬وأن العن ل يعتب ما ل يستند إل أصل ‪.‬‬
‫وذهب مالك إل اعتبار ذلك ‪ ،‬وبن الحكام عليه على الطلق ‪ ،‬وذهب الشافعي ومعظم النفية‬
‫إل التمسك بالعن الذي ل يستند إل أصل صحيح ‪ ،‬لكن يشرط قربه من معان الصول الثابتة هذا‬
‫ما حكى المام الوين ‪.‬‬
‫وذهب الغزال إل أن الناسب إن وقع ف رتبة التحسي والتزيي ل يعتب حت يشهد له أصل معي ‪،‬‬
‫وإن وقع ف رتبة الضروري فميله إل قبوله ‪ ،‬لكن بشرط ‪ ،‬قال ‪ :‬ول يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد‬
‫متهد ‪ .‬واختلف قوله ف الرتبة التوسطة ‪ ،‬وهي رتبة الاجي ‪ ،‬فرده ف الستصفى وهو آخر قوليه ‪،‬‬
‫وقبله ف شفاء العليل كما قل ما قبله ‪ .‬وإذا اعتب من الغزال اختلف قوله ‪ ،‬فالقوال خسة ‪ ،‬فإذا‬
‫الراد لعتبارها ل يبقى له ف الوقائع الصحابية مستند إل أنا بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن‬
‫الطاب رضي ال عنه ف الجتماع لقيام رمضان ‪ :‬نعمت البدعة هذه ـ إذ ل يكنهم ردها ‪،‬‬
‫لجتماعهم عليها ‪.‬‬
‫وكذلك القول ف الستحسان ‪ ،‬فإنه على ما ذهب إليه التقدمون راجع إل الكم بغي دليل ‪ ،‬والناف‬
‫له ل يعد الستحسان سببا فل يعتب ف الحكام البتة ‪ ،‬فصار كالصال الرسلة إذا قيل بردها ‪.‬‬
‫فلما كان هذا الوضع مزلة قدم ‪ ،‬لهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته كان الق التعي‬
‫النظر ف مناط الغلط الواقع لؤلء ‪ ،‬حت يتبي أن الصال الرسلة ليست من البدع ف ورد ول‬
‫صدر ‪ ،‬بول ال ‪ ،‬وال الوفق فنقول ‪:‬‬
‫العن الناسب الذي يربط به الكم ل يلو من ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يشهد الشرع بقبوله ‪ ،‬فل إشكال ف صحته ‪ ،‬ول خلف ف أعماله ‪ ،‬وإل كان مناقضة‬
‫للشريعة ‪ ،‬كشريعة القصاص حفظا للنفوس والطراف وغيها ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬ما شهد الشرع برده فل سبيل إل قبوله ‪ ،‬إذ الناسبة ل تقتضي الكم لنفسها ‪ ،‬وإنا ذلك‬
‫مذهب أهل التسحي العقلي ‪ ،‬بل إذا ظهر العن وفهمنا من الشرع اعتباره ف اقتضاء الحكام ‪،‬‬
‫فحينئذ نقبله ‪ ،‬فإن الراد بالصلحة عندنا ما فهم رعايته ف حق اللق من جلب الصال ودرء الفاسد‬
‫على وجه ل يستقل العقل بدركه على حال ‪ ،‬فإذا ل يشهد الشرع باعتبار ذلك العن ‪ ،‬بل يرده ‪،‬‬
‫كان مردودا باتفاق السلمي ‪.‬‬
‫ومثال ما حكى الغزال عن بعض أكابر العلماء أنه دخل على بعض السلطي فسأله عن الوقاع ف‬
‫نار رمضان ‪ ،‬فقال ‪ :‬عليك صيام شهرين متتابعي ‪ .‬فلما خرج راجعه بعض الفقهاء وقالوا له ‪:‬‬

‫‪256‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫القادر على اعتاق الرقبة كيف يعدل له إل الصوم والصوم وظيفة العسرين ‪ ،‬وهذا اللك يلك عبيدا‬
‫غي مصورين ؟ فقال لم ‪ :‬لو قلت له عليك إعتاق رقبة ل ستحقر ذلك وأعتق عبيدا مرارا ‪ ،‬فل‬
‫يزجره إعتاق الرقبة ويزجره صوم شهرين متتابعي ‪.‬‬
‫فهذا العن مناسب ‪ ،‬لن الكفارة ‪ ،‬مقصود الشرع منها الزجر ‪ ،‬واللك ل يزجره العتاق ويزجره‬
‫الصيام ‪ .‬وهذه الفتيا باطلة لن العلماء بي قائلي ‪ :‬قائل بالتخيي ‪ ،‬وقائل بالترتيب ‪ ،‬فيقدم العتق على‬
‫الصيام ‪ ،‬فتقدي الصيام بالنسبة إل الغن ل قائل به ‪ ،‬على أنه قد جاء عن مالك شيء يشبه هذا ‪،‬‬
‫لكنه على صريح الفقه ‪.‬‬
‫قال يي بن بكي ‪ :‬حنث الرشيد ف يي فجمع العلماء فأجعوا أن عليه عتق رقبة ‪ .‬فسأل مالكا‬
‫‪.‬فقال ‪ :‬صيام ثلثة أيام ‪ .‬واتبعه على ذلك إسحاق بن إبراهيم من فقهاء قرطبة ‪.‬‬
‫حكى ابن بشكوال أن الكم أمي الؤمني أرسل ف الفقهاء وشاورهم ف مسألة نزلت به ‪ ،‬فذكر لم‬
‫عن نفسه أنه عمد إل إحدى كرائمه ووطئها ف رمضان ‪ ،‬فأفتوا بالطعام ‪ ،‬و إسحاق بن إبرهيم‬
‫ساكت ‪ .‬فقال له أمي الؤمني ‪ :‬ما يقول الشيخ ف فتوى أصحابه ؟ فقال له ‪ :‬ل أقول بقولم ‪،‬‬
‫وأقول بالصيام ‪ .‬فقيل له ‪ :‬أليس مذهبمالك الطعام ؟ فقال لم ‪ :‬تفظون مذهب مالك ‪ ،‬إل أنكم‬
‫تريدون مصانعة أمي الؤمني إنا أمر بالطعام لن له مال ‪ ،‬وأمي الؤمني ل مال له ‪ ،‬إنا هو مال‬
‫بيت السلمي ‪ ،‬فأخذ بقوله أمي الؤمني وشكر له عليه ‪.‬ا هـ ‪ .‬وهذا صحيح ‪.‬‬
‫نعم حكى ابن بشكوال أنه اتفق لعبد الرحن بن الكم مثل هذا ف رمضان ‪ ،‬فسأل الفقهاء عن توبته‬
‫من ذلك وكفارته ‪ .‬فقال يي بن يي ‪ :‬يكفر ذلك صيام شهرين متتابعي ‪ .‬فلما برز ذلك من يي‬
‫سكت سائر الفقهاء حت خرجوا من عنده ‪ ،‬فقالوا ليحي ‪ :‬ما لك ل تفته بذهبنا عن مالك من أنه‬
‫مي بي العتق والطعام والصيام ؟ فقال لم ‪ :‬لو فتحنا له هذا الباب سهل عليه أن يطأ كل يوم ويعتق‬
‫رقبة ‪ ،‬ولكن حلته على أصعب المور لئل يعود ‪.‬‬
‫فإن صح هذا عن يي بن يي رحه ال ‪ ،‬وكان كلمه على ظاهره ‪ ،‬كان مالفا للجاع ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬ما سكتت عنه الشواهد الاصة ‪ ،‬فلم تشهد باعتباره ول بإلغائه ‪ .‬فهذا على وجهي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يرد نص على وفق ذلك العن ‪ ،‬كتعليل منع القتل للمياث ‪ ،‬فالعاملة بنقيض القصود‬
‫تقدير إن ل يرد نص على وفقه ‪ ،‬فإن هذه العلة ل عهد با ف تصرفات الشرع بالفرض ول بلئمها‬
‫بيث يوجد لا جنس معتب ‪ ،‬فل يصح التعليل با ‪ ،‬ول بناء الكم عليها باتفاق ‪ ،‬ومثل هذا تشريع‬
‫من القائل به فل يكن قبوله ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يلئم تصرفات الشرع ‪ ،‬وهو أن يوجد لذلك العن جنس اعتبه الشارع ف الملة بغي‬
‫دليل معي ‪ ،‬وهو الستدلل الرسل ‪ ،‬السمى بالصال الرسلة ول بد من بسطه بالمثلة حت يتبي‬
‫وجهه بول ال ‪.‬‬

‫‪257‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولنقتصر على عشرة أمثلة ‪:‬‬


‫ولنقتصر على عشر أمثلة للمصال الرسلة أحدها ‪:‬أن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم اتفقوا‬
‫على جع الصحف‬
‫أن أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم اتفقوا على جع الصحف ‪ ،‬وليس ث نص على جعه‬
‫وكتبه أيضا ‪ ،‬بل قد قال بعضهم ‪ :‬كيف نفعل شيئا ل يفعله رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فروي‬
‫عن زيد بن ثابت رضي ال عنه قال ‪ :‬ارسل إل أبو بكر رضي ال عنه [ بعد ] مقتل ( أهل ) اليمامة‬
‫‪ ،‬وإذا عنده عمر رضي ال عنه قال أبو بكر ‪ ( :‬إن عمر أتان فقال )‪ :‬إن القتل قد استحر بقراء‬
‫القرآن يوم اليمامة ‪ ،‬وإن أخشى أن يستحر القتل بالقراء ف الواطن كلها فيذهب قرآن كثي ‪ ،‬وإن‬
‫أرى أن تأمر بمع القرآن ‪ .‬قال ‪ :‬فقلت له ‪ :‬كيف أفعل شيئا ل يفعله رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ؟ فقال ل ‪ :‬هو ـ وال ـ خي ‪.‬‬
‫فلم يزل عمر يراجعن ف لذك حت شرح ال صدري له ‪ ،‬ورأيت فيه الذي رأى عمر ‪.‬‬
‫قال زيد فقال أبو بكر ‪ :‬إنك رجل شاب عاقل ل نتهمك ‪ ،‬قد كنت تكتب الوحي لرسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فتتبع القرآن فاجعه ‪ .‬قال زيد ‪ :‬فوال لو كلفون نقل جبل من البال ما‬
‫كان أثقل علي من ذلك ‪ .‬فقلت ‪ :‬كيف تفعلون شيئا ل يفعله رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟‬
‫فقال أبو بكر ‪ :‬هو وال خي ‪ ،‬فلم يزل يراجعن ف ذلك حت شرح ال صدري للذي شرح‬
‫صدريهما فتتبعت القرآن أجعه من الرقاق والعسب واللخاف ‪ ،‬ومن صدور الرجال ‪ ،‬فهذا عمل ل‬
‫ينقل فيه خلف عن أحد من الصحابة ‪.‬‬
‫ث روي عن أنس بن مالك أن حذيفة بن اليمان كان يغازي أهل الشام وأهل العراق ف فتح أرمينية‬
‫وأذربيجان ‪ ،‬فأفزعه اختلفهم ف القرآن ‪ ،‬فقال لعثمان ‪ :‬يا أمي الؤمني ! أدرك هذه المة قبل أن‬
‫يتلفوا ف الكتاب كما اختلفت اليهود والنصارى ‪ ،‬فأرسل عثمان إل حفصة ‪ :‬أرسلي إل بالصحف‬
‫ننسخها ف الصاحف ث نردها عليك ‪ ،‬فأرسلت حفصة با إل عثمان ‪ ،‬فأرسل عثمان إل زيد بن‬
‫ثابت ‪ ،‬وغلى عبد ال بن الزبي ‪ ،‬وسعيد بن العاص ‪ ،‬وعبد الرحن بن الارث بن هشام ‪ ،‬فأمرهم‬
‫أن ينسخوا الصحف ف الصاحف ‪ ،‬ث قال للرهط القرشيي الثلثة ‪ :‬ما اختلفتم فيه أنتم وزيد بن‬
‫ثابت فاكتبوه بلسان قريش ‪ ،‬فإنه نزل بلسانم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ففعلوا ‪ ،‬حت إذا نسخوا الصحف ف الصاحف ‪ ،‬بعث عثمان ف كل أفق بصحف من تلك‬
‫الصاحف الت نسخوها ‪ ،‬ث أمر با سوى ذلك من القراءة ف كل صحيفة أو مصحف أن يرق ‪.‬‬
‫فهذا أيضا إجاع آخر ف كتبه وجع الناس على قراءة ل يصل منها ف الغالب اختلف ‪ .‬لنم ل‬
‫يتلفوا إل ف القراءات ـ حسبما نقله العلماء العتنون بذا الشأن ـ فلم يالف ف السألة إل عبد‬
‫ال بن مسعود فإنه امتنع من طرح ما عنده من القراءة الخالفة لصاحف عثمان ‪ ،‬وقال ‪ :‬يا أهل‬

‫‪258‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫العراق ! ويا أهل الكوفة ‪ :‬اكتموا الصاحف الت عندكم وغلوها ‪ ،‬فإن ال يقول ‪" :‬ومن يغلل يأت‬
‫با غل يوم القيامة" وألقوا إليه بالصاحف ‪ ،‬فتأمل كلمه فإنه ل يالف ف جعه ‪ ،‬وإنا خالف أمرا‬
‫آخر ‪ .‬ومع ذلك فقد قال ابن هشام ‪ :‬بلغن أنه كره ذلك من قول ابن مسعود رجال من أفاضل‬
‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫ول يرد نص عن النب صلى ال عليه وسلم با صنعوا من ذلك ‪ ،‬ولكنهم رأوه مصلحة تناسب‬
‫تصرفات الشرع قطعا ‪ ،‬فإن ذلك راجع إل حفظ الشريعة ‪ ،‬والمر بفظها معلوم ‪ ،‬وإل منع‬
‫الذريعة للختلف ف أصلها الذي هو القرآن ‪ ،‬وقد علم النهي عن الختلف ف ذلك با ل مزيد‬
‫عليه ‪.‬‬
‫وإذا استقام هذا الصل فاحل عليه كتب العلم من السنن وغيها ‪ ،‬إذا خيف عليها الندراس ‪ ،‬زيادة‬
‫على ما جاء ف الحاديث من المر بكتب العلم ‪.‬‬
‫وأنا أرجو أن يكون كتب هذا الكتاب الذي وضعت يدي فيه من هذا القبيل ‪ ،‬لن رأيت باب‬
‫البدع ف كلم العلماء مغفلً جدا إل من النقل اللي كما نقل ابن وضاح ‪ ،‬أو يؤتى بأطراف من‬
‫الكلم ل يشفي الغليل بالتفقه فيه كما ينبغي ‪ ،‬ول أجد على شدة بثي عنه إل ما وضع فيه أبو بكر‬
‫الطرطوشي ‪ ،‬وهو يسي ف جنب ما يتاج إليه فيه ‪ ،‬وإل ما وضع الناس ف الفرق الثنتي والسبعي ‪،‬‬
‫وهو فصل من فصول الباب وجزء من أجزائه ‪ ،‬فأخذت نفسي بالعناء فيه ‪ ،‬عسى أن ينتفع به واضعه‬
‫‪ ،‬وقارئه ‪ ،‬وناشره ‪ ،‬وكاتبه ‪ ،‬والنتفع به ‪ ،‬وجيع السلمي ‪ ،‬إنه ول ذلك ومسديه بسعة رحته ‪.‬‬

‫الثال الثان ‪:‬اتفاق أًصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على حد شارب المر‬
‫اتفاق أًصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم على حد شارب المر ثاني ‪ ،‬وإنا مستندهم فيه‬
‫الرجوع إل الصال والتمسك بالستدلل الرسل ‪ ،‬قال العلماء ‪ :‬ل يكن فيه ف زمان رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم حد مقدر ‪ ،‬وإنا جرى الزجر فيه مرى التعزير ‪ ،‬ولا انتهى المر إل أب بكر‬
‫رضي ال عنه قرره على طريق النظر بأربعي ‪ ،‬ث انتهى المر إل عثمان رضي ال عنه فتتابع الناس‬
‫فجمع الصحابة رضي ال عنهم فاستشارهم ‪ ،‬فقال علي رضي ال عنه ‪:‬من سكر هذى ومن هذى‬
‫افترى ‪ ،‬فأرى عليه حد الفتري ‪.‬‬
‫ووجه إجراء السألة على الستدلل الرسل أن الصحابة أو الشرع يقيم السباب ف بعض الواضع‬
‫مقام السببات ‪ ،‬والظنة مقام الكمة ‪ ،‬فقد جعل اليلج ف أحكام كثية يري مرى النزال ‪،‬‬
‫وجعل الافر للبئر ‪ ،‬ف مل العدوان وإن ل يكن ث مرد كالردي نفسه ‪ ،‬وحرم اللوة بالجنبية‬
‫حذرا من الذريعة إل الفساد ‪ ،‬إل غي ذلك من الفساد ‪ ،‬فرأوا الشرب ذريعة إل الفتراء الذي‬
‫تقتضيه كثرة الذيان ‪ ،‬فإنه أول سابق إل السكران ـ قالوا ـ فهذا من أوضح الدلة على إسناد‬

‫‪259‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الحكام إل العان الت ل أصول لا ( يعن على الصوص به ) وهو مقطوع من الصحابة رضي ال‬
‫عنهم ‪.‬‬

‫الثال الثالث ‪ :‬إن اللفاء الراشدين قضوا بتضمي الصناع‬


‫إن اللفاء الراشدين قضوا بتضمي الصناع ‪ .‬قال علي رضي ال عنه ‪ :‬ل يصلح الناس إل ذاك‬
‫ووجه الصلحة فيه أن الناس لم حاجة إل الصناع ‪ ،‬وهم يغيبون عن المتعة ف غالب الحوال ‪،‬‬
‫والغلب عليهم التفريط وترك الفظ ‪ ،‬فلو ل يثبت تضمينهم مع مسيس الاجة إل استعمالم‬
‫لفضى ذلك إل أحد أمرين ‪ :‬إما ترك الستصناع بالكلية ‪ ،‬وذلك شاق على اللق ‪ ،‬وإما أن يعملوا‬
‫ول يضمنوا ضلك بدعواهم اللك والضياع ‪ ،‬فتضيع الموال ‪ ،‬ويقل الحتراز ‪ ،‬وتتطرق اليانة ‪،‬‬
‫فكانت الصلحة التضمي ‪.‬‬
‫هذا معن قوله ‪ :‬ل يصلح الناس إل ذاك ‪.‬‬
‫ول يقال ‪ :‬إن هذا نوع من الفساد وهو تضمي البيء ‪ .‬إذ لعله ما أفسده ‪ ،‬ول فرط ‪ ،‬فالتضمي‬
‫مع ذلك كان نوعا من الفساد ‪ .‬لنا نقول ‪ :‬إذا تقابلت الصلحة والضرة فشأن العقلء النظر إل‬
‫التفاوت ووقع التلف من الصناع من غي تسبب ول تفريط بعيد ‪ ،‬والغالب الفوت فوت الموال ‪،‬‬
‫وأنا ل تستند إل التلف السماوي ‪ ،‬بل ترجع إل صنع العباد على الباشرة أو التفريط ‪.‬‬
‫وف الديث ‪:‬‬
‫"ل ضرر ول ضرار" تشهد له الصول من حيث الملة ‪ ،‬فإن النب صلى ال عليه وسلم نى عن أن‬
‫يبيع حاضر لباد ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫"دع الناس يرزف ال بعضهم من بعض" وقال ‪" :‬ل تلقوا الركبان بالبيع حت يهبط بالسلع إل‬
‫السواق" وهو من باب ترجيح الصلحة العامة على الصلحة الاصة ‪ ،‬فتضمي الصناع من ذلك‬
‫القبيل ‪.‬‬

‫الثال الرابع ‪:‬أن العلماء اختلفوا ف الضرب بآلتهم‬


‫إن العلماء اختلفوا ف الضرب بآلتهم ‪ .‬وذهب مالك إل جواز السجن ف التهم ‪ ،‬وإن كان السجن‬
‫نوعا من العذاب ‪ ،‬ونص أصحابه على جواز الضرب ‪ ،‬وهو عند الشيوخ من قبيل تضمي الصناع ‪،‬‬
‫فإنه لو ل يكن الضرب والسجن بالتهم لتعذر استخلص الموال من أيدي السراق والغصاب ‪ ،‬إذ‬
‫قد يتعذر إقامة البينة ‪ ،‬فكانت الصلحة ف التعذيب وسيلة إل التحصيل بالتعيي والقرار ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬هذا فتح باب التعذيب البيء قيل ‪ :‬ففي العراض عنه إبطال استرجاع الموال ‪ .‬بل‬
‫الضراب عن التعذيب أشد ضررا ‪ ،‬إذ ل يعذب أحد لجرد الدعوى ‪ ،‬بل مع اقتران قرينة تيك ف‬

‫‪260‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫النفس ‪ ،‬وتؤثر ف القلب نوعا من الظن ‪ .‬فالتعذيب ف الغالب ل يصادف البيء ‪ ،‬وإن أمكن‬
‫مصادفته فتغتفر ‪ ،‬كما اغتفرت ف تضمي الصناع ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬ل فائدة ف الضرب ‪ ،‬وهو لو أقر ل يقبل إقراره ف تلك الال فالواب ‪:‬‬
‫إحداها ‪ :‬أن يعي التاع فتشهد عليه البينة لربه ‪ ،‬وهي فائدة ظاهرة ‪.‬‬
‫والثانية ‪ :‬أن غيه قد يزدجر حت ل يكثر القدام ‪ .‬فتقل أنواع هذا الفساد ‪.‬‬
‫وقد عد له سحنون فائدة ثالثة وهو القرار حالة التعذيب بأنه يؤخذ عنده با أقر ف تلك الال ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬وهو ضعيف ‪ .‬فقد قال ال تعال ‪" :‬ل إكراه ف الدين " ولكن نزله سحنون على من أكره‬
‫بطريق غي مشروع كما إذا أكره على طلق زوجته ‪ ،‬أما إذا أكره بطريق صحيح فإنه يؤخذ به ‪.‬‬
‫فالكافر يسلم تت ظلل السيوف فإنه مأخؤذ به ‪ ،‬وقد تتفق له بذه الفائدة على مذهب غي‬
‫سحنون إذا أقر حالة التعذيب ث تادى على القرار بعد أمنه فيؤخذ به ‪.‬‬
‫قال الغزال بعد ما حكى عن الشافعي ‪ :‬أنه ل يقول بذلك ‪ ،‬وعلى الملة فالسألة ف مل الجتهاد‬
‫ـ قال ـ ولسنا نكم بذهب مالك على القطع ‪ .‬فإذا وقع النظر ف تعارض الصال ‪ ،‬كان ذلك‬
‫قريبا من النظر ف تعارض القيسة الؤثرة ‪.‬‬

‫الثال الامس ‪ :‬إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إل تكثي النود‬
‫إنا إذا قررنا إماما مطاعا مفتقرا إل تكثي النود لسد الثغور وحاية اللك التسع القطار ‪ ،‬وخل‬
‫بيت الال وارتفعت حاجات الند إل ما ل يكفيهم ‪ ،‬فللمام إذا كان عدلً أن يوظف على الغنياء‬
‫ما يراه كافيا لم ف الال ‪ ،‬إل أن يظهر مال بيت الال ‪ ،‬ث إليه النظر ف توظيف وذلك على الغلت‬
‫والثمار وغي ذلك ‪ ،‬كيل يؤدي تصيص الناس به إل إياش القلوب ‪ ،‬وذلك يقع قليلً من كثي‬
‫بيث ل يجف بأحد ول يصل القصود ‪.‬‬
‫وإنا ل ينقل مثل هذا عن الولي لتساع مال بيت الال ف زمانم بلف زماننا ‪ ،‬فإن القضية فيه‬
‫أحرى ‪ ،‬ووجه الصلحة هنا ظاهر ‪ ،‬فإنه لو ل يفعل المام ذلك النظام بطلب شوكة المام ‪،‬‬
‫وصارت ديارنا عرضة لستيلء الكفار ‪.‬‬
‫وإنا النظام ذلك كله شوكة المام بعدله ‪.‬فالذين يذرون من الدواهي لو تنقطع عنهم الشوكة ‪،‬‬
‫يستحقرون بالضافة إليها أموالم كلها ‪ ،‬فضلً عن اليسي منها ‪ ،‬فإذا عورض هذا الضرر العظيم‬
‫بالضرر اللحق لم يأخذ البعض من أموالم ‪ ،‬فل يتمارى ف ترجيح الثان عن الول ‪ .‬وهو ما يعلم‬
‫من مقصود الشرع قبل النظر ف الشواهد ‪.‬‬
‫واللئمة الخرى ‪ ،‬أن الب ف طفله ‪ ،‬أن الوصي ف يتيمه ‪ ،‬أو الكافل فيمن يكفله ‪ ،‬مأمور برعاية‬
‫الصلح له ‪ ،‬وهو يصرف ماله إل وجوه من النفقات أو الؤن الحتاج إليها ‪ .‬وكل ما يراه سببا‬

‫‪261‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫لزيادة ماله أو حراسته من التلف جاز له بذل الال ف تصيله ‪ .‬ومصلحة السلم عامة ل تتقاصر عن‬
‫مصلحة طفل ‪ ،‬ول نظر إمام السلمي يتقاعد عن نظر واحد من الحاد ف حق مجوره ‪.‬‬
‫ولو وطىء الكفار أرض السلم لوجب القيام بالنصرة ‪ ،‬وإذا دعاهم المام وجبت الجابة ‪ ،‬وفيه‬
‫إتعاب النفوس وتعريضها إل اللكة ‪ ،‬زيادة إل إنفاق الال ‪ .‬وليس ذلك إل لماية الدين ‪ ،‬ومصلحة‬
‫السلمي ‪.‬‬
‫فإذا قدرنا هجومهم واستشعر الكفار الذين ياف من جهتهم ‪ ،‬فل يؤمن من انفتاح باب الفت بي‬
‫السلمي فالسألة على حالا كما كانت ‪ ،‬وتوقع الفساد عتيد ‪ ،‬فل بد من الراس ‪.‬‬
‫فإذا قدرنا انعدام الكفار الذين ياف من جهتهم ‪ ،‬فل يؤمن من انفتاج باب الفت بي السلمي‬
‫فالسألة على حالا كما كانت ‪ ،‬وتوقع الفساد عتيد ‪ ،‬فل بد من الراس ‪.‬‬
‫فهذه ملئمة صحيحة ‪ ،‬إل أنا ف مل ضرورة ‪ ،‬فتقدر بقدرها ‪ ،‬فل يصح هذا الكم إل مع‬
‫وجودها ‪ .‬والستقراض ف الزمات إنا يكون حيث يرجى لبيت الال دخل ينتظر أو يرتي ‪ ،‬وأما‬
‫إذا ل ينتظر شيء وضعفت وجوه الدخل بديث ل يغن كبي شيء ‪ ،‬فل بد من جريان حكم‬
‫التوظيف ‪.‬‬
‫وهذه السألة نص عليها الغزال ف مواضع من كتبه ‪ ،‬وتله ف صحيحها ابن العرب ف أحكام القرآن‬
‫له ‪ ،‬وشرط جواز ذلك كله عندهم عدالة المام ‪ ،‬وإيقاع التصرف ف أخذ الال وإعطائه على الوجه‬
‫الشروع ‪.‬‬

‫الثال السادس ‪:‬أن المام لو أراد أن يعاقب بأخذ الال‬


‫إن المام لو أراد أن يعاقب بأخذ الال على بعض النايات فاختلف العلماء ف ذلك حسبما ذكره‬
‫الغزال ‪ .‬على أن الطحاوي حكى ‪،‬أن ذلك كان ف أول السلم ث نسخ فأجع العلماء على منعه ‪.‬‬
‫فأما الغزال فزعم أن ذلك من قبيل الغريب الذي ل عهد به ف السلم ‪ ،‬ول يلئم تصرفات‬
‫الشرع ‪ ،‬مع هذه العقوبة الاصة ل تتعي ‪ ،‬لشرعية العقوبات البدنية بالسجن والضرب وغيها ـ‬
‫قال ـ فإن قيل ‪ :‬فقد روي أن عمر بن الطاب رضي ال عنه شاطر خالد ين الوليد ف ماله ‪ ،‬حت‬
‫أخذ رسوله فرد نعله وشطر عمامته ‪ .‬قلنا ‪ :‬الظنون من عمر أنه ل يبتدع العقاب بأخذ الال على‬
‫خلف الألوف من الشرع ‪ ،‬وإنا ذلك لعلم عمر باختلط ماله بالال الستفاد من الولية وإحاطته‬
‫بتوسعته ‪ ،‬فلعله ضمن الال فرآى شطر ماله من فوائد الولية فيكون استرجاعا للحق ل عقوبة ف‬
‫الال ‪ ،‬لن هذا من الغريب الذي ل يلئم قواعد الشرع ‪ .‬هذا ما قال ‪ .‬ولا فعل عمر وجه آخر غي‬
‫هذا ‪ ،‬ولكنه ل دليل فيه على العقوبة بالال كما قال الغزال ‪.‬‬
‫وأما مذهب مالك فإن العقوبة ف الال عنده ضربان ‪:‬‬

‫‪262‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أحدها ‪ :‬كما صوره الغزال ‪ ،‬فل مرية ف أنه غي صحيح ‪ ،‬على أن ابن العطار ف رقائقه صغى إل‬
‫إجازة ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬ف إجازة أعوان القاضي إذا ل يكن بيت مال ‪ .‬أنا على الطالب ‪ ،‬فإن أدى‬
‫الطلوب كانت الجازة عليه ‪ .‬ومال إليه ابن رشد ‪ .‬ورده عليه ابن النجار القرطب ‪ ،‬وقال ‪ :‬إن ذلك‬
‫من باب العقوبة ف الال ‪ ،‬وذلك ل يوز على حال ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن تكون جناية ف نفس ذلك الال أو ف عوضه ‪ ،‬فالعقوبة فيه عنده ثابتة ‪ .‬فإنه قال ف‬
‫الزعفران الغشوش إذا وجد بيد الذي غشه ‪ :‬إنه يتصدق به على الساكي ‪ ،‬قل أو كثر ‪.‬‬
‫وذهب ابن القاسم و مطرف وابن الاجشون إل أنه يتصدق با قل منه دون ما كثر ‪ ،‬وذلك مكي‬
‫عن عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ ،‬وأنه أراق اللب الغشوش بالاء ‪ ،‬ووجه ذلك التأديب للغاش ‪.‬‬
‫وهذا التأديب ل نص يشهد له لكن من باب الكم على الاصة لجل العامة ‪ .‬وقد تقدم نظيه ف‬
‫مسألة تضمي الصناع ‪.‬‬
‫على أن أبا السن اللخمي قد وضع له أصلً شرعيا ‪ ،‬وذلك ‪:‬‬
‫أنه عليه الصلة والسلم أمر بإكفاء القدور الت أغليت بلحوم المر قبل أن تقسم ‪.‬‬
‫وحديث العتق بالثلة أيضا من ذلك ‪.‬‬
‫ومن مسائل مالك ف السألة ‪ :‬إذا اشترى مسلم من نصران خرا فإنه يكسر على السلم ‪ ،‬ويتصدق‬
‫بالثمن أدبا للنصران إن كان النصران ل يقبضه ‪ .‬وعلى هذا العن فرع أصحابه ف مذهبه ‪ ،‬وهو‬
‫كله من العقوبة ف الال ‪ ،‬إل أن وجهة ما تقدم ‪.‬‬

‫الثال السابع ‪ :‬أنه إذا طبق الرام الرض‬


‫أنه لو طبق الرام الرض ‪ ،‬أو ناحية من الرض يعسر النتقال منها وانسدت طرق الكاسب الطيبة ‪،‬‬
‫ومست الاجة إل الزيادة على سد الرمق فإن ذلك سائغ أن يزيد على قدر الضرورة ‪ ،‬ويرتقي إل‬
‫قدر الاجة ف القوت واللبس والسكن ‪ ،‬إذ لو اقتصر على سد الرمق لتعطلت الكاسب والشغال ‪،‬‬
‫ول يزال الناس ف مقاسات ذلك إل أن يهلكوا ‪ ،‬وف ذلك خراب الدين ‪ .‬ولكنه ل ينتهي إل الترفه‬
‫والتنعم ‪ ،‬كما ل يقتصر على مقدار الضرورة ‪.‬‬
‫وهذا ملئم لتصرفات الشرع وإن ل ينص على عينه ‪ ،‬فإنه قد أجاز أكل اليتة للمضطر ‪ ،‬والدم ولم‬
‫النير ‪ ،‬وغي ذلك من البائث الحرمات ‪.‬‬
‫وحكى ابن العرب التفاق على جواز الشبع عند توال الخمصة ‪ ،‬وإنا اختلفوا إذا ل تتوال ‪ .‬هل‬
‫يوز له الشبع أم ل ؟ وايضا فقد أجاوزا أخذ مال الغي عند الضرورة أيضا ‪ .‬فما نن فيه ل يقصر‬
‫عن ذلك ‪.‬‬

‫‪263‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد بسط الغزال هذه السألة ف الحياء بسطا شافيا جدا ‪ ،‬وذكرها ف كتبه الصولية كـ النخول‬
‫و شفاء العليل‪.‬‬

‫الثال الثامن ‪ :‬أنه يوز قتل الماعة بالواحد‬


‫أنه يوز قتل الماعة بالواحد ‪ .‬والستند فيه الصلحة الرسلة ‪ ،‬إذ ل نص على عي السألة ولكنه‬
‫منقول عن عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ ،‬وهو مذهب مالك و الشافعي ‪ .‬ووجه الصلحة أن‬
‫القتيل معصوم ‪ ،‬وقد قتل عمدا ‪ ،‬فإهداره داع أنه إل خرم أصل القصاص ‪ ،‬واتاذ الستعانة‬
‫والشتراك ذريعة إل السعي بالقتل إذا علم أنه ل قصاص فيه ‪ ،‬وليس أصله قتل النفرد فإنه قاتل‬
‫تقيقا ‪ ،‬والشترك ليس بقاتل تقيقا ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬هذا أمر بديع ف الشرع وهو قتل غي القاتل ‪ :‬قلنا ‪ :‬ليس كذلك ‪ ،‬بل ل يقتل إل‬
‫القاتل ‪ ،‬وهم الماعة من حيث الجتماع عند مالك و الشافعي ‪ ،‬فهو مضاف إليهم تقيقا إضافته‬
‫إل الشخص الواحد ‪ ،‬وإنا التعيي ف تنيل الشخاص منلة الشخص الواحد ‪ ،‬وقد دعت إليه‬
‫الصلحة فلم يكن مبتدعا مع ما فيه من حفظ مقاصد الشرع ف حقن الدماء ‪ ،‬وعليه يري عند‬
‫مالك قطع اليدي باليد الواحدة ‪ ،‬وقطع اليدي ف النصاب الواجب ‪.‬‬

‫الثال التاسع ‪ :‬أن العلماء نقلوا التفاق على أن المامة الكبى ل تنعقدإل لن نال رتبة الجتهاد‬
‫إن العلماء نقلوا التفاق على أن المامة الكبى ل تنعقد إل لن نال رتبة الجتهاد والفتوى ف علوم‬
‫الشرع ‪ ،‬كما أنم اتفقوا أيضا ـ أو كادوا أن يتفقوا ـ على أن القضاة بي الناس ل يصل إل لن‬
‫رقي ف رتبة الجتهاد ‪ .‬وهذا صحيح على الملة ‪ ،‬ولكن إذا فرض خلو الزمان عن متهد يظهر بي‬
‫الناس ‪ ،‬وافتقروا إل إمام يقدمونه لريان الحكام وتسكي ثورة الثائرين ‪ ،‬والياطة على دماء‬
‫السلمي وأموالم ‪ ،‬فل بد من إقامة المثل من ليس بجتهد ‪ ،‬لنا بي أمرين ‪ ،‬إما أن يترك الناس‬
‫فوضى ‪ ،‬وهو عي الفساد والرج ‪ .‬وإما أن يقدموه فيزول الفساد بتة ‪ ،‬ول يبقى إل فوت‬
‫الجتهاد ‪ ،‬والتقليد كاف بسبه وإذا ثبت هذا فهو نظر مصلحي يشهد له وضع أصل المامة ‪ ،‬وهو‬
‫مقطوع به بيث ل يفتقر ف صحته وملئمته إل شاهد ‪.‬‬
‫هذا ‪ ،‬وإن كان ظاهره مالفا ‪ ،‬لا نقلوا من الجاع ف القيقة ‪ ،‬إنا انعقد على فرض أن ل يلو‬
‫الزمان من متهد ‪ ،‬فصار مثل هذه السألة ما ل ينص عليه ‪ ،‬فصح العتماد فيه على الصلحة ‪.‬‬

‫الثال العاشر ‪ :‬أن الغزال قال ببيعة الفضول مع وجود الفضل‬

‫‪264‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إن الغزال قال ف بيعة الفضول مع وجود الفضل ‪ :‬إن رددنا ف مبدأ التولية بي متهد ف علوم‬
‫الشرائع وبي متقاصر عنها ‪ ،‬فيتعي تقدي الجتهد ‪ .‬لن اتباع الناظر علم نفسه ‪ .‬له مزية على اتباع‬
‫علم غيه ‪ .‬فالتقليد والزايا ل سبيل إل إهالا مع القدرة على مراعاتا ‪.‬‬
‫أما إذا انعقدت المامة بالبيعة أو تولية العهد النفك عن رتبة الجتهاد ‪ ،‬وقامت له الشوكة ‪،‬‬
‫وأذعنت له الرقاب ‪ ،‬بأن خل الزمان عن قرشي متهد مستجمع جيع الشرائط ‪ ،‬وجب الستمرار ‪.‬‬
‫وإن قدر حضور قرشي متهد مستجمع للفروع والكفاية ‪ ،‬وجيع شرائط المامة واحتاج السلمون‬
‫ف خلع الول إل تعرضه لثارة فت واضطراب أمور ‪ ،‬ل يز لم خلعه والستبدال به ‪ ،‬بل تب‬
‫عليهم الطاعة له ‪ ،‬والكم بنفوذ وليته ‪ ،‬وصحة إمامته ‪ ،‬لنا نعلم أن العلم مزية روعيت المامة‬
‫تصيلً لزيد الصلحة ف الستقلل بالنظر والستغناء عن التقليد ‪ ،‬وأن الثمرة الطلوبة من المام‬
‫تطفئه الفت الثائرة من تفرق الراء التنافرة ‪ ،‬فكيف يستجيز العاقل تريك الفتنة ‪ ،‬وتشويش النظام ‪،‬‬
‫وتفويت أصل الصلحة ف الال ؟ تشوفا إل مزيد دقيقة ف الفرق بي النظر والتقليد ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وعند هذا ينبغي أن يقيس النسان ما ينال اللق من الضرر بسبب عدول المام عن النظر إل‬
‫التقليد ‪ ،‬با ينالم لو تعرضوا للعه والستبدال به ‪ ،‬أو حكموا بأن إمامته غي منعقدة ‪.‬‬
‫هذا ما قال ‪ ،‬وهو متجه بسب النظر الصلحي ‪ ،‬وهو ملئم لتصرفات الشرع ‪ ،‬وإن ل يعضده نص‬
‫على التعيي ‪.‬‬
‫وما قرره هو أصل مذهب مالك ‪ :‬قيل ليحي بن يي ‪ :‬البيعة مكروهة ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬قيل له ‪ :‬فإن‬
‫كانوا أئمة جور؟ فقال ‪ :‬قد بايع ابن عمر لعبد اللك بن مروان ‪ ،‬وبالسيف أخذ اللك ‪ .‬أخبن‬
‫بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب ال وسنة نبيه ‪.‬‬
‫قال يي ‪ :‬والبيعة خي من الفرقة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ولقد أتى مالكا العمري فقال له ‪ :‬يا أبا عبد ال ‪ ،‬بايعن أهل الرمي ‪ ،‬وأنت ترى سية أب‬
‫جعفر ‪ ،‬فما ترى ؟ فقال له مالك ‪ :‬أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يول رجلً صالا ؟‬
‫فقال العمري ‪ :‬ل أدري ‪ ،‬قال مالك لكن أنا أدري ‪ ،‬إنا كانت البيعة ليزيد بعده ‪ ،‬فخاف عمر إن‬
‫ول رجلً صالا أن يكون ليزيد بد من القيام ‪ ،‬فتقوم هجمة فيفسد ما ل يصلح ‪ ،‬فصدر رأي هذا‬
‫العمري على رأي مالك ‪.‬‬
‫فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غي الستحق وإقامة الستحق أن تقع فتنة وما ل يصلح ‪،‬‬
‫فالصلحة ف الترك ‪.‬‬
‫وروى البخاري عن نافع قال ‪ :‬لا خلع أهل الدينة يزيد بن معاوية جع ابن عمر حشمه وولده ‪،‬‬
‫فقال ‪ :‬إن سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪:‬‬

‫‪265‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫" ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة " وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة ال ورسوله ‪ ،‬وإن ل أعلم‬
‫أحدا منكم خلعه ول تابع ف هذا المر إل كانت الفيصل بين وبينه ‪.‬‬
‫قال ابن العرب ‪ :‬وقد قال ابن الياط ‪ :‬إن بيعة عبد ال ليزيد كانت كرها ‪ ،‬وأين يزيد من من ابن‬
‫عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لمر ال والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الموال‬
‫والنفس ما ل يفى ‪ .‬فخلع يزيد لو تقق أن المر يعود ف نصابه تعرض للفتنة ‪ ،‬فكيف ول يعلم‬
‫ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفقهوه والزموه ترشدوا إن شاء ال ‪.‬‬

‫فصل فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي ف الصال الرسلة‬


‫فهذه أمثلة عشرة توضح لك الوجه العملي ف الصال الرسلة ‪ ،‬وتبي لك اعتبار أمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬اللئمة لقاصد الشرع بيث ل تناف أصلً من أصوله ول دليلً من دلئله ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن عامة النظر فيها إنا هو فيما غفل منها وجرى على دون الناسبات العقولة الت إذا‬
‫عرضت على العقول تلقتها بالقبول ‪ ،‬فل مدخل لا ف التعبدات ‪ ،‬ول ما جرى مراها من المور‬
‫الشرعية ‪ ،‬لن عامة التعبدات ل يعقل لا معن على التفصيل ‪ ،‬كالوضوء والصلة ف زمان مصوص‬
‫دون غيه ‪ ،‬والج ‪ ،‬ونو ذلك ‪.‬‬
‫فيتأمل الناظر الوفق كيف وضعت على التحكم الخص الناف للمناسبات التفصيلية ‪.‬‬
‫أل ترى أن الطهارات ـ على اختلف أنواعها ـ قد اختص كل نوع منها بتعبد مالف جدا لا‬
‫يظهر لبادي الرأي ؟ فإن البول والغائط خارجان نسان يب بما تطهي أعضاء الوضوء دون‬
‫الخرجي فقط ‪ ،‬ودون جيع السد ‪ ،‬فإذا خرج الن أو دم اليض وجب غسل جيع السد دون‬
‫الخرج فقط ‪،‬ودون أعضاء الوضوء ‪.‬‬
‫ث إن التطهي واجب مع نظافة العضاء ‪ ،‬وغي واجب مع قذارتا بالوساخ والدران ‪ ،‬إذا فرض أنه‬
‫ل يدث ‪.‬‬
‫ث التراب ـ ومن شأنه التلويث ـ يقوم مقام الاء الذي من شأنه التنظيف ‪.‬‬
‫ث نظرنا ف أوقات الصلوات فلم ند فيها مناسبة لقامة الصلوات فيها ‪ ،‬لستواء الوقات ف ذلك ‪.‬‬
‫وشرع للعلم با أذكار مصوصة ل يزاد فيها ول ينقص منها ‪ ،‬فإذا أقيمت ابتدأت إقامتها بأذكار‬
‫أيضا ‪ ،‬ث شرعت ركعاتا متلفة باختلف الوقات ‪ ،‬وكل ركعة لا ركوع واحد وسجودان دون‬
‫العكس ‪ ،‬إل صلة خسوف الشمس فإنا على غي ذلك ‪ ،‬ث كانت خس صلوات دون أربع أو‬
‫ست وغي ذلك من العداد ‪ ،‬فإذا دخل التطهر السجد أمر بتحيته بركعتي دون واحدة كالوتر ‪ ،‬أو‬
‫أربع كالظهر ‪ ،‬فإذا سها ف صلة سجد سجدتي دون سجدة واحدة ‪ ،‬وإذا قرأ آية سجدة سجد‬
‫واحدة دون اثنتي ‪.‬‬

‫‪266‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث أمر بصلة النوافل ونى عن الصلة ف أوقات مصوصة ‪ ،‬وعلل النهي بأمر غي معقول العن ‪.‬‬
‫ث شرعت الماعة ف بعض النوافل كالعيدين والسوف والستسقاء ‪ ،‬دون صلة الليل ورواتب‬
‫النوافل ‪.‬‬
‫فإذا صرنا إل غسل اليت وجدناه ل معن له معقو ًل ‪ ،‬فإنه غي مكلف ‪ ،‬ث أمرنا بالصلة عليه‬
‫بالتكبي دون ركوع أو سجود أو تشهد ‪ ،‬والتكبي أربع تكبيات دون اثنتي أو ست أو سبع أو‬
‫غيها من العداد ‪.‬‬
‫فإذا صرنا إل الصيام وجدنا فيه من التعبدات غي العقولة كثيا كإمساك النهار دون الليل ‪،‬‬
‫والمساك عن الأكولت والشروبات ‪ ،‬دون اللبوسات والركوبات ‪ ،‬والنظر والشي والكلم ‪،‬‬
‫وأشباه ذلك ‪ ،‬وكان الماع ـ وهو راجع إل الخراج ـ كالأكول ـ وهو راجع إل الضد ‪،‬‬
‫وكان شهر رمضان ـ وإن كان قد أنزل فيه القرآن ـ ول يكن أيام المع ‪ ،‬وإن كانت خي أيام‬
‫طلعت عليها الشمس ‪ ،‬أو كان الصيام أكثر من شهر أو أقل ‪ .‬ث الج أكثر تعبدا من الميع ‪.‬‬
‫وهكذا تد عامة التعبدات ف كل باب من أبواب الفقه ما عملوا ( ؟ ) إن ف هذا الستقراء معن‬
‫يعلم من مقاصد الشرع أنه قصد قصده ونى نوه واعتبت جهته ‪ ،‬وهو أن ما كان من التكاليف‬
‫من هذا القبيل فإن قصد الشارع أن يوقف عنده ويعزل عنه النظر الجتهادي جلة ‪ ،‬وأن يوكل إل‬
‫واضعه ويسلم له فيه ‪ ،‬وسواء علينا أقلنا ‪ :‬إن التكاليف معللة بصال العباد ‪ ،‬أم ل نقله ‪ :‬اللهم إل‬
‫قليلً من مسائلها ظهر فيها معن فهمناه من الشرع فاعتبنا به أو شهدنا ف بعضها بعدم الفرق بي‬
‫النصوص عليه ‪ ،‬والسكوت عنه ‪ ،‬فل حرج حينئذ فإن أشكل المر ‪ ،‬فل بد من الرجوع إل ذلك‬
‫الصل ‪ ،‬فهو العروة الوثقى للمتفقه ف لشريعة والوزر الحى ‪.‬‬
‫ومن أجل ذلك قال حذيفة رضي ال عنه ‪ :‬كل عبادة ل يتعبدها أصحاب رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فل تعبدوها فإن الول ل يدع للخر مقالً ‪ ،‬فاتقوا ال يا معشر القراء ‪ ،‬وخذوا بطريق من‬
‫كان قبلكم ونوه لبن مسعود أيضا ‪ ،‬وقد تقدم من ذلك كثي ‪.‬‬
‫ولذلك التزم مالك ف العبادات عدم اللتفات إل العان وإن ظهرت لبادي الرأي ‪ ،‬وقوفا مع ما فهم‬
‫من مقصود الشارع فيها من التسليم على ما هي عليه ‪ ،‬فلم يلتفت ف إزالة الخباث ‪ ،‬ورفع‬
‫الحداث ‪ ،‬إل مطلق النظافة الت اعتبها غيه ‪ ،‬حت اشترط ف رفع الحداث النية ‪ ،‬ول يقم غي‬
‫الاء مقامه عنده ـ وإن حصلت النظافة ـ حت يكون بالاء الطلق ‪ ،‬وامتنع من إقامة التكبي والقراءة‬
‫بالعربية مقامها ف التحري والتحليل والجزاء ‪ ،‬ومنع من إخراج القيم ف الزكاة ‪ ،‬واختصر ف‬
‫الكفارات على مراعاة العدد ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫ودورانه ف ذلك كله على الوقوف مع ما حده الشارع دون ما يقتضيه معن مناسب ـ إن تصور ـ‬
‫لقلة ذلك ف التعبدات وندوره ‪ ،‬بلف قسم العادات الذي هو جار على العن الناسب الظاهر‬

‫‪267‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫للعقول ‪ ،‬فإنه استرسل فيه استرسال الدل العريق ف فهم العان الصلحية ‪ ،‬نعم مع مراعاة مقصود‬
‫الشارع أن ل يرج عنه ول يناقض أصلً من أصوله ‪ ،‬حت لقد استشنع العلماء كثيا من وجوه‬
‫استرساله زاعمي أنه خلع الربقة ‪ ،‬وفتح باب التشريع ‪ ،‬وهيهات ما أبعده من ذلك ! رحه ال ‪ ،‬بل‬
‫هو الذي رضي لنفسه ف فقهه بالتباع ‪ ،‬بيث ييل لبعض أنه مقلد لن قبله ‪ ،‬بل هو صاحب‬
‫البصية ف دين ال ـ حسبما بي أصحابه ف كتاب سيه ـ ‪.‬‬
‫بل حكي عن أحد بن حنبل أنه قال ‪ :‬إذا رأيت الرجل يبغض مالكا فاعلم أنه مبتدع ‪ ،‬وهذه غاية‬
‫ف الشهادة بالتباع ‪.‬‬
‫وقال أبو داود ‪ :‬أخشى عليه البدعة ( يعن البغض لـ مالك ) ‪.‬‬
‫وقال ابن الهدي ‪ :‬إذا رأيت الجازي يب مالك بن أنس فاعلم أنه صاحب سنة ‪ ،‬وإذا رأيت أحدا‬
‫يتناوله فاعلم أنه على خلف السنة ‪.‬‬
‫وقال إبراهيم بن يي بن هشام ‪ :‬ما سعت ابا داود لعن أحدا قط إل رجلي ‪ :‬أحدها ‪ :‬رجل ذكر‬
‫له أنه لعن مالكا ‪ ،‬والخر ‪ :‬بشر الريسي ‪.‬‬
‫وعلى الملة فغي مالك أيضا موافق له ف أن أصل العبادات عدم معقولية العن ‪ ،‬وإن اختلفوا ف‬
‫بعض التفاصيل ‪ ،‬فالصل متفق عليه عند المة ‪ ،‬ما عدا الظاهرية ‪ ،‬فإنم ل يفرقون بي العبادات‬
‫والعادات ‪ ،‬بل الكل غي معقول العن ‪ ،‬فهم أحرى بأن ل يقولوا بأصل الصال فضلً عن أن يعتقدوا‬
‫الصال الرسلة ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن حاصل الصال الرسلة يرجع إل حفظ أمر ضروري ‪ ،‬ورفع حرج لزم ف الدين ‪،‬‬
‫وأيضا مرجعها إل حفظ الضروري من باب ما ل يتم الواجب إل به ‪ ...‬فهي إذا من الوسائل ل‬
‫من القاصد ‪ ،‬ورجوعها إل رفع الرج راجع إل باب التخفيف ل إل التشديد ‪.‬‬
‫أما رجوعها إل ضروري فقد ظهر من المثلة الذكورة ‪.‬‬
‫وكذلك رجوعها إل رفع حرج لزم ‪ ،‬وهو إما لحق بالضروري ‪ ،‬وإما من الاجي ‪ ،‬وعلى كل‬
‫تقدير فليس فيها ما يرجع إل التقبيح والتزيي البتة ‪ ،‬فإن جاء من ذلك شيء ‪ :‬فإما من باب آخر‬
‫منها ‪ ،‬كقيام رمضان ف الساجد جاعة ـ حسبما تقدم ـ وإما معدود من قبيل البدع الت أنكرها‬
‫السلف الصال ـ كزخرفة الساجد والتثويب بالصلة ـ وهو من قبيل ما يلئم ‪.‬‬
‫وأما كونا ف الضروري من قبيل الوسائل و ما ل يتم الواجب إل به إن نص على اشتراطه ‪ ،‬فهو‬
‫شرط شرعي فل مدخل له ف هذا الباب ‪ ،‬لن نص الشارع فيه قد كفانا مؤنة النظر فيه ‪.‬‬
‫وإن ل ينص على اشتراطه فهو إما عقلي أو عادي ‪ ،‬فل يلزم أن يكون شرعيا ‪ ،‬كما أنه ل يلزم أن‬
‫يكون على كيفية معلومة ‪ ،‬فإنا لو فرضنا حفظ القرآن والعلم بغي كتب مطردا لصح ذلك ‪،‬‬
‫وكذلك سائر الصال الضرورية يصح لنا حفظها ‪ ،‬كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة المامة‬

‫‪268‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الكبى بغي إمام على تقدير عدم النص با لصح ذلك ‪ ،‬وكذلك سائر الصال الضرورية يصح لنا‬
‫حفظها ‪ ،‬كما أنا لو فرضنا حصول مصلحة المامة الكبى بغي إمام على تقدير عدم النص با لصح‬
‫ذلك ‪ ،‬وكذلك سائر الصال الضرورية ـ إذا ثبت هذا ـ ل يصح أن يستنبط من بابا شيء من‬
‫القاصد الدينية الت ليست بوسائل ‪.‬‬
‫وأما كونا ف الاجي من باب التخفيف فظاهر أيضا ‪ ،‬وهو أقوى ف الدليل الرافع للحرج ‪ ،‬فليس‬
‫فيه ما يدل على تشديد ول زيادة تكليف ‪ ،‬والمثلة مبينة لذا الصل أيضا ‪.‬‬
‫إذا تقررت هذه الشروط علم أن البدع كالضادة للمصال الرسلة لن موضوع الصال الرسلة ما‬
‫عقل معناه على التفصيل ‪ ،‬والتعبدات من حقيقتها أن ل يعقل معناها على التفصيل ‪ .‬وقد مر أن‬
‫العادات إذا دخل فيها البتداع فإنا يدخلها من جهة ما فيها من التعبد ل بإطلق ‪.‬‬

‫وأيضا ‪ ،‬فإن البدع ف عامة أمرها ل تلئم مقاصد الشرع ‪ .‬بل إنا تتصور على أحد وجهي ‪ :‬إما‬
‫منقاضة لقصوده ـ كما تقدم ف مسألة الفت بصيام شهرين متتابعي ـ وإما مسكوتا عنه فيه‬
‫كحرمان القاتل ومعاملته بنقيض مقصوده على تقدير عدم النص به ‪.‬‬
‫وقد تقدم نقل الجاع على اطراح القسمي وعدم اعتبارها ‪ .‬ول يقال ‪ :‬إن السكوت عنه يلحق‬
‫بالأذون فيه ‪ .‬إذ يلزم من ذلك خرق الجاع لعدم اللءمة ‪ .‬ولن العبادات ليس حكمها حكم‬
‫العادات ف أن السكوت عنه كالأذون فيه ‪ ،‬إن قيل بذلك ‪ ،‬فهي تفارقها ‪ .‬إذ ل يقدم على استنباط‬
‫عبادة ل أصل لا ‪ ،‬لنا مصوصة بكم الذن الصرح به بلف العادات ‪ ،‬والفرق بينهما ما تقدم‬
‫من اهتداء العقول للعاديات ف الملة ‪ .‬وعدم اهتدائها لوجوه التقربات إل ال تعال ‪ .‬وقد أشي إل‬
‫هذا العن ف كتابالوافقات وإل هذا ‪.‬‬
‫فإذا ثبت أن الصال الرسلة ترجع إل حفظ ضروري من باب الوسائل أو إل التخفيف ‪ ،‬فل يكن‬
‫إحداث البدع من جهتها ول الزيادة ف الندوبات ‪ ،‬لن البدع من باب الوسائل ‪ .‬لنا متعبد با‬
‫بالفرض ‪ .‬ولنا زيادة ف التكليف وهو مضادة للتخفيف ‪.‬‬
‫فحصل من هذا كله أن ل تعلق للمبتدع بباب الصال الرسلة إل القسم اللغى باتفاق العلماء ‪.‬‬
‫وحسبك به متعلقا ‪ .‬وال الوفق ‪.‬‬
‫وبذلك كله يعلم من قصد الشارع أنه ل يكل شيئا من التعبدات إل آراء العباد فلم يبق إل الوقوف‬
‫عند ما حده ‪ .‬والزيادة عليه بدعة ‪ ،‬كما أن النقصان منه بدعة ‪ .‬وقد مر لما أمثلة كثية وسيأت‬
‫أخيا ف إثناء الكتاب بول ال ‪.‬‬

‫فصل ‪:‬وأما الستحسان فلن لهل البدع أيضا تعلقا به‬

‫‪269‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما الستحسان ‪ ،‬فلن لهل البدع أيضا تعلقا به ‪ ،‬فإن الستحسان ل يكون إل بستحسن ‪ ،‬وهو‬
‫إما العقل أو الشرع ‪.‬‬
‫أما الشرع فاستحسانه واستقباحه قد فرغ منهما ‪ ،‬لن الدلة اقتضت ذلك فل فائدة لتسميته‬
‫استحسانا ‪ ،‬ول لوضع ترجة له زائدة على الكتاب والسنة والجاع ‪ ،‬وما ينشأ عنها من القياس‬
‫والستدلل ‪ ،‬فلم يبق إل العقل هو الستحسن ‪ ،‬فإن كان بدليل فل فائدة لذه التسمية ‪ ،‬لرجوعه إل‬
‫الدلة ل إل غيها ‪ ،‬وإن كان بغي دليل فذلك هو البدعة الت تستحسن ‪.‬‬
‫ويشهد لذلك قول من قال ف الستحسان ‪ :‬إنه ما يستحسنه الجتهد بعقله ‪ ،‬وييل إليه برأيه قالوا ‪:‬‬
‫وهو عند هؤلء من جنس ما يستحسن ف العوائد ‪ ،‬وتيل إليه الطباع فيجوز الكم بقتضاه إذا ل‬
‫يوجد ف الشرع ما يناف هذا الكلم ما بي أن ث من التعبدات ما ل يكون عليه دليل ‪ ،‬وهو الذي‬
‫سى بالبدعة ‪ ،‬فل بد أن ينقسم إل حسن وقبيح ‪ ،‬إذ ليس كل استحسان حقا ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فقد يري على التأويل الثان للصوليي ف الستحسان ‪ .‬وهو أن الراد به دليل ينقدح ف‬
‫نفس الجتهد ل تساعده العبارة عنه ول يقدر على إظهاره ‪ .‬وهذا التأويل ‪ ،‬فالستحسان لبعده ف‬
‫ماري العادات أن يبتدع أحد بدعة من غي شبهة دليل ينقدح له ‪ .‬بل عامة البدع ل بد لصاحبها من‬
‫متعلق دليل شرعي ‪ .‬لكن قد يكنه إظهاره وقد ل يكنه ـ وهو الغلب ـ فهذا ما يتجون به ‪.‬‬
‫وربا ينقدح لذا العن وجه بالدلة الت استدل با أهل التأويل الولون ‪ ،‬وقد أتو بثلثة أدلة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬قول ال سبحانه ‪" :‬واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم" وقوله تعال ‪" :‬ال نزل أحسن‬
‫الديث" وقوله تعال ‪" :‬فبشر عباد*الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" هو ما تستحسنه عقولم ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"ما رآه السلمون حسنا فهو عند ال حسن" وإنا يعن بذلك ما رأوه بعقولم ‪ ،‬وإل لو كان حسنة‬
‫بالدليل الشرعي ل يكن من حسن ما يرون ‪ ،‬إذ ل مال للعقول ف التشريع على ما زعمتم ‪ ،‬فلم‬
‫يكن للحديث فائدة ‪ ،‬فدل على أن الراد ما رأوه برأيهم ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن المة قد استحسنت دخول المام من غي تقدير أجرة ول تقدير مدة اللبث ول تقدير‬
‫الاء الستعمل ‪ ،‬ول سبب لذلك إل ان الشاحة ف مثله قبيحة ف العادة ‪ ،‬فاستحسن الناس تركه ‪،‬‬
‫مع أنا نقطع أن الجارة الجهولة ‪ ،‬أو مدة الستئجار أو مقدار الشترى إذا جهل فإنه منوع ‪ ،‬وقد‬
‫ل‪.‬‬‫استحسنت إجارته مع مالفة الدليل ‪ ،‬فأول أن يوز إذا ل يالف دلي ً‬
‫فأنت ترى أن هذا الوضع مزلة قدم أيضا لن أراد أن يبتدع ‪ ،‬فله أن يقول ‪ :‬إن استحسنت كذا‬
‫وكذا فغيي من العلماء استحسن ‪ .‬وإذا كان كذلك فل بد من فضل اعتناء بذا الفصل ‪ ،‬حت ل‬
‫يغتر به جاهل أو زاعم أنه عال ‪ ،‬وبال التوفيق ‪ ،‬فنقول ‪:‬‬

‫‪270‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إن الستحسان يراه معتبا ف الحكام مالك و أبو حنيفة ‪ ،‬بلف الشافعي فإنه منكر له جدا حت‬
‫قال ‪ :‬من استحسن فقد شرع والذي يستقرىء من مذهبها أنه يرجع إل العمل بأقوى الدليلي ‪.‬‬
‫هكذا قال ابن العرب ـ قال ـ فالعموم إذا استمر ‪ ،‬والقياس إذا اطرد ‪ ،‬فإن مالكا و أبا حنيفة يريان‬
‫تصيص العموم بأي دليل كان من ظاهر أو معن ـ قال ـ ويستحسن مالك أن يص بالصلحة ‪،‬‬
‫ويستحسن أبو حنيفة أن يص بقول الواحد من الصحابة الوارد بلف القياس ـ قال ـ ويريان‬
‫معا تصيص القياس ونقص العلة ‪ ،‬ول يرى الشافعي لعلة الشرع ـ إذا ثبت ـ تصيصا ‪.‬‬
‫هذا ما قال ابن العرب ‪ .‬ويشعر بذلك تفسي الكرخي أنه العدول عن الكم ف السألة بكم نظائرها‬
‫إل خلفه لوجه أقوى ‪.‬‬
‫وقال بعض النفية ‪ :‬إنه القياس الذي يب العمل به ‪ ،‬لن العلة كانت علة بأثرها ‪ :‬سوا الضعيف‬
‫الثر قياسا والقوي الثر استحسانا ‪ ،‬أي قياسا مستحسنا ‪ ،‬وكأنه نوع من العمل بأقوى القياسي ‪،‬‬
‫وهو يظهر من استقراء مسائلهم ف الستحسان بسب النوازل الفقهية ‪.‬‬
‫بل قد جاء عن مالك أن الستحسان تسعة أعشار العلم ‪ .‬رواه أصبغ عن ابن القاسم عن مالك ‪،‬‬
‫قال أصبغ ف الستحسان ‪ :‬قد يكون أغلب من القياس ‪ .‬وجاء عن مالك ‪ :‬إن الفرق ف القياس‬
‫يكاد يفارقه السنة ‪.‬‬
‫وهذا الكلم ل يكن أن يكون بالعن الذي تقدم قبل ‪ ،‬وأنه ما يستحسنه الجتهد بعقله ‪ ،‬أو أنه دليل‬
‫ينقدح ف نفس الجتهد تعسر عبارته عنه ‪ ،‬فإن مثل هذا ل يكون تسعة أعشار العلم ‪ ،‬ول أغلب من‬
‫القياس الذي هو أحد الدلة ‪.‬‬
‫وقال ابن العرب ف موضع آخر ‪ :‬الستحسان إيثار ترك مقتضى الدليل على طريق الستثناء‬
‫والترخص ‪ ،‬لعارضة ما يعارض به ف بعض مقتضياته ‪ .‬وقسمه أقساما عد منها أربعة اقسام ‪ ،‬وهي‬
‫ترك الدليل للعرف ‪ ،‬وتركه للمصلحة ‪ ،‬وتركه لليسي ‪ ،‬وتركه لرفع الشقة ‪ ،‬وإيثار التوسعة ‪.‬‬
‫وحده غي ابن العرب من أهل الذهب بأنه عند مالك ‪ :‬استعمال مصلحة جزئية ف مقابلة قياس كلي‬
‫ـ قال ـ فهو تقدي الستدلل الرسل على القياس ‪.‬‬
‫وعرفه ابن رشد فقال ‪ :‬الستحسان الذي يكثر استعماله حت يكون أعم من القياس ـ هو أن يكون‬
‫طرحا لقياس يؤدي إل غلو ف الكم ومبالغة فيه فيعدل عنه ف بعض الواضع لعن يؤثر ف الكم‬
‫يتص به ذلك الوضع ‪.‬‬
‫وهذه تعريفات ‪ ،‬قريب بعضها من بعض ‪.‬‬
‫وإذا كان هذا معناه عن مالك و أب حنيفة فليس بارج عن الدلة البتة ‪ ،‬لن الدلة يقيد بعضها‬
‫ل ‪ .‬فل‬‫ويصص بعضها بعضا ‪ ،‬كما ف الدلة السنية مع القرآنية ‪ .‬ول يرد الشافعي مثل هذا أص ً‬
‫حجة ف تسميته استحسانا لبتدع على حال ‪.‬‬

‫‪271‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ول بد من التيان بأمثلة تب القصود بول ال ‪ ،‬ويقتصر على عشرة أمثلة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يعدل بالسألة عن نظائرنا بدليل الكتاب ‪ .‬كقوله تعال ‪" :‬خذ من أموالم صدقةً‬
‫تطهرهم وتزكيهم با" فظاهر اللفظ العموم ف جيع ما يتمول به ‪ ،‬وهو مصوص ف الشرع بالموال‬
‫الزكوية خاصة ‪ ،‬فلو قال قائل ‪ :‬مال صدقة ‪ .‬فظاهر لفظه يعم كل مال ‪ ،‬ولكنا نمله على مال‬
‫الزكاة ‪ ،‬لكونه ثبت المل عليه ف الكتاب ‪ .‬قال العلماء ‪ :‬وكأن هذا يرجع إل تصيص العموم‬
‫بعادة فهم خطاب القرآن ‪ .‬وهذا الثال أورده الكرخي تثيلً لا قاله ف الستحسان ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يقول النفي ‪ :‬سؤر سباع الطي نس ‪ ،‬قياسا على سباع البهائم ‪ .‬وهذا ظاهر الثر ‪،‬‬
‫ولكنه ظاهر استحسانا ‪ ،‬لن السبع ليس بنجس العي ‪ ،‬ولكن لضرورة تري لمه ‪ ،‬فثبتت ناسته‬
‫بجاورة رطوبات لعابه وإذا كان كذلك فارقه الطي ‪ ،‬لنه يشرب بنقاره وهو طاهر بنفسه ‪ ،‬فوجب‬
‫الكم بطهارة سؤره ‪ ،‬لن هذا أثر قوي وإن خفي ‪ ،‬فترجع على الول ‪ ،‬وإن كان أمره جليا ‪،‬‬
‫والخذ بأقوى القياسي متفق عليه ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن أبا حنيفة قال ‪ :‬إذا شهد أربعة على رجل بالزنا ولكن عي كل واحد غي الهة الت‬
‫عينها ( الخر ) ‪ ،‬فالقياس أن ل يد ‪ ،‬ولكن استحسن حده ‪ .‬ووجه ذلك أنه ل يد إل من شهد‬
‫عليه أربعة ‪ ،‬فإذا عي كل واحد دارا ‪ ،‬فلم يأت على كل مرتبة بأربعة ‪ .‬لمتناع اجتماعهم على‬
‫رتبة واحدة ‪ .‬فإذا عي كل واحد زاوية فالظاهر تعدد الفعل ‪ ،‬ويكن التزاحف ‪.‬‬
‫فإذا قال ‪ :‬القياس أن ل يد ‪ ،‬فمعناه أن الظاهر أنه ل يتمع الربعة على زنا واحد ‪ ،‬ولكنه يؤول ف‬
‫الصي إل المر الظاهر تفسيق العدول ‪ ،‬فإنه إن ل يكن مدودا صار الشهود فسقه ‪ ،‬ول سبيل إل‬
‫التفسيق ما وجدنا إل العدول عنه سبيلً فيكون حل الشهود على مقتضى العدالة عند المكان ير‬
‫ذلك المكان البعيد ‪ ،‬فليس هذا حكما بالقياس ‪ ،‬وإنا هو تسك باحتمال تلقي الكم من القرآن ‪،‬‬
‫وهذا يرجع ـ ف القيقة ـ إل تيقي مناطه ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن مالك بن أنس من مذهبه أن يترك الدليل للعرف ‪ ،‬فإنه رد اليان إل العرف ‪ ،‬مع أن‬
‫اللغة تقتضي ف ألفاظها غي ما يقتضيه العرف ‪ ،‬كقوله ‪ :‬وال ل دخلت مع فلن بيتأً ‪ :‬فهو ينث‬
‫بدخول كل موضع يسمى بيتا ف اللغة ‪ ،‬والسجد يسمى بيتا فيحنث على ذلك ‪ ،‬إل أن عرف‬
‫الناس أن ل يطلقوا هذا اللفظ عليه ‪ ،‬فخرج بالعرف عن مقتضى اللفظ فل ينث ‪.‬‬
‫والامس ‪ :‬ترك الدليل لصلحة ‪ ،‬كما ف تضمي الجي الشترك وإن ل يكن صانعا ‪ ،‬فإن مذهب‬
‫مالك ف هذه السألة على قولي ‪ ،‬كتضمي صاحب المام الثياب ‪ ،‬وتضمي صاحب السفينة ‪،‬‬
‫وتضمي السماسرة الشتركي ‪ ،‬وكذلك حال الطعام ـ على رأي مالك ـ فإنه ضامن ‪ ،‬ولحق‬
‫عنده بالصناع ‪ .‬والسبب ف ذلك بعد السبب ف تضمي الصناع ‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فإن قيل ‪ :‬فهذا من باب الصال الرسلة ل من باب الستحسان ‪ ،‬قلنا ‪ :‬نعم ! إل أنم صوروا‬
‫الستحسان بصورة الستثناء من القواعد ‪ .‬بلف الصال الرسلة ‪ .‬ومثل ذلك يتصور ف مسألة‬
‫التضمي ‪ .‬فإن الجراء مؤتنون بالدليل ل بالباءة الصلية ‪ .‬فصار تضمينهم ف حيز الستثن من ذلك‬
‫الدليل ‪ .‬فدخلت تت معن الستحسان بذلك النظر ‪.‬‬
‫والسادس ‪ :‬أنم يكون الجاع على إياب الغرم على من قطع ذنب بغلة القاضي ‪ .‬يريدون غرم‬
‫قيمة الدابة ل قيمة النقص الاصل فيها ‪ .‬ووجه ذلك ظاهر ‪ .‬فإن بغلة القاضي ل يتاج إليها إل‬
‫للركوب ‪ .‬وقد امتنع ركوبه لا بسبب فحش ذلك العيب ‪ .‬حت صارت بالنسبة إل ركوب مثله ف‬
‫حكم العدم ‪ .‬فألزموا الفاعل غرم قيمة الميع ‪.‬‬
‫وهو متجه بسب الغرض الاص ‪ .‬وكان الصل أن ل يغرم إل قيمة ما نقصها القطع خاصة ‪ .‬لكن‬
‫استحسنوا ما تقدم ‪.‬‬
‫وهذا الجاع ما ينظر فيه ‪ .‬فإن السألة ذات قولي ف الذهب وغيه ‪ ،‬ولكن الشهر ف الذهب‬
‫الالكي ما تقدم حسبما نص عليه القاضي عبد الوهاب ‪.‬‬
‫والسابع ‪ :‬ترك مقتضى الدليل ف اليسي لتفاهته ونزارته لرفع الشقة ‪ .‬وإيثار التوسعة على اللق ‪ .‬فقد‬
‫أجازوا التفاصيل اليسي ف الراطلة الكثية ‪ .‬وأجازوا البيع بالصرف إذا كان أحدها تابعا للخر ‪.‬‬
‫وأجازوا بدل الدرهم الناقص بالوازن لنارة ما بينهما ‪ .‬بينهما ‪ .‬والصل النع ف الميع ‪ ،‬لا ف‬
‫الديث من أن الفضة بالفضة والذهب بالذهب مثلً بثل سواءً بسواء ‪ ،‬ولن من زاد أو ازداد فقد‬
‫أرب ‪ .‬ووجه ذلك أن التافه ف حكم العدم ‪ ،‬ولذلك ل تنصرف إليه الغراض ف الغالب ‪ ،‬وأن‬
‫الشاحة ف اليسي قد تؤدي إل الرج والشقة ‪ ،‬وها مرفوعان عن الكلف ‪.‬‬
‫والثامن ‪ :‬أن ف العتبية من ساع أصبغ ف الشريكي يطآن المة ف طهر واحد فتأت فتأت بولد فينكر‬
‫أحدها الولد دون الخر ‪ ،‬أنه يكشف منكر الولد عن وطئه الذي أقر به ‪ ،‬فإن كان ف صفته ما‬
‫يكن معه النزال ل يلتفت إل إنكاره ‪ ،‬وكان كما لو اشتركا فيه ‪ ،‬وإن كان يدعي العزل من الوطء‬
‫الذي أقر به ‪ ،‬فقال أصبغ ‪ :‬إن أستحسن ها هنا أن ألقه بالخر ‪ ،‬والقياس أن يكونا سواء ‪ ،‬فلعله‬
‫غلب ول يدري ‪.‬‬
‫وقد قال عمرو بن العاص ف نو هذا ‪ :‬إن الوكاء قد ينقلب ـ قال ـ والستحسان ها هنا أن ألقه‬
‫بالخر ‪ ،‬والقياس أن يكونا ف العلم ‪ ،‬قد يكون أغلب من القياس (؟) ـ ث حكى عن مالك ما تقدم‬
‫‪ .‬ووجه ذلك ابن رشد بأن الصل ‪ :‬من وطئ أمته فعزل عنها وأتت بولد لق به وإن كان له منكرا‬
‫‪ ،‬وجب على قياس ذلك إذا كانت بي رجلي فوطئاها جيعا ف طهر واحد وعزل أحدها عنها‬
‫فأنكر الولد وادعاه الخر الذي ل يعزل عنها أن يكون الكم ف ذلك بنلة ما إذا كانا جيعا يعزلن‬
‫أو ينلن ‪ .‬والستحسان ـ كما قال ـ أن يلحق الولد بالذي ادعاه وأقر أنه كان ينل ‪ ،‬وتبأ منه‬

‫‪273‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الذي أنكره وادعى أنه كان يعزل ‪ ،‬لن الولد يكون مع النزال غالبا ول يكون مع العزل إل نادرا ‪،‬‬
‫فيغلب على الظن أن الولد إنا هو للذي ادعاه وكان ينل ‪ ،‬ل الذي أنكره وهو يعزل ‪ ،‬والكم بغلبة‬
‫الظن أصل ف الحكام ‪ ،‬وله ف هذا الكم تأثي ‪ ،‬فوجب أن يصار إليه استحسانا ـ كما قال أصبغ‬
‫ـ وهو ظاهر فيما نن فيه ‪.‬‬
‫والتاسع ‪ :‬ما تقدم أولً من أن المة استسحنت دخول المام من غي تقدير أجرة ول تقدير مدة‬
‫اللبث ول تقدير الاء الستعمل ‪ .‬والصل ف هذا النع إل أنم أجازوا ‪ ،‬ل كما قال الحتجون على‬
‫البدع ‪ ،‬بل لمر آخر هو من هذا القبيل الذي ليس بارج عن الدلة ‪ ،‬فأما تقدير العوض فالعرف هو‬
‫الذي قدره فل حاجة إل التقدير ‪ ،‬وأما مدة اللبث وقدر الاء الستعمل فإن ل يكن ذلك مقدرا‬
‫بالعرف أيضا فإنه يسقط للضرورة إليه ‪.‬‬
‫وذلك لقاعدة فقهية ‪ ،‬وهي أن نفي جيع الغرر ف العقود ل يقدر عليه ‪ ،‬وهو يضيق أبواب العاملت‬
‫‪ ،‬وهو تسيم ابواب الفاوضات ( ؟ ) ‪ ،‬ونفي الضرر إنا يطلب تكميلً ورفعا لا عسى أن يقع من‬
‫نزاع ‪ ،‬فهو من المور الكملة والتكميلت إذا أفضى اعتبارها إل إبطال الكملت سقطت جلة ‪،‬‬
‫تصيلً للمهم ـ حسبما تبي ف الصول ـ فوجب أن يسامح ف بعض أنواع الغرر الت ل ينفك‬
‫عنها ‪ ،‬إذ يشق طلب النفكاك عنها ‪ ،‬فسومح الكلف بيسي الغرر ‪ ،‬لضيق الحتراز مع تفاهة ما‬
‫يصل من الغرر ‪ ،‬ول يسامح ف كثية إذ ليس ف مل الضرورة ‪ ،‬ولعظيم ما يترتب عليه من الطر ‪،‬‬
‫لكن الفرق بي القليل والكثي ‪ ،‬غي منصوص عليه ف جيع المور ‪ ،‬وإنا نى عن بعض أنواعه ما‬
‫يعظم فيه الغرر ‪ ،‬فجعلت أصولً يقاس عليها غي القليل أصلً ف عدم العتبار وف الواز ‪ ،‬وصار‬
‫الكثي ف حكم النع ودار ف الصلي فروع تتجاذب العلماء النظر فيها ‪ ،‬فإذا قل الغرر وسهل المر‬
‫وقل الناع ومست الاجة إل السامة فل بد من القول با ‪ ،‬ومن هذا القبيل مسألة التقدير ف ماء‬
‫المام ومدة اللبث ‪.‬‬
‫قال العلماء ‪ :‬ولقد بالغ مالك ف هذا الباب وأمعن فيه ‪ ،‬فيجوز أن يستأجر الجي بطعامه وإن كان‬
‫ل ينضبط مقدار أكله ليسار أمره وخفة خطبه وعدم الشاحة ‪ ،‬وفرق بي تطرق يسي الغرر إل‬
‫الجل فأجازه ‪ ،‬وبي تطرقه للثمن فمنعه ‪ ،‬فقال ‪ :‬يوز للنسان أن يشتري سلعة إل الصاد أو إل‬
‫الذاذ ‪ ،‬وإن كان اليوم بعينه ل ينضبط ‪ ،‬ولو باع سلعة بدرهم أو ما يقاربه ل يز ‪ ،‬والسبب ف‬
‫التفرقة ‪ ،‬الضايقة ف تعيي الثان وتقديرها ليست ف العرف ‪ ،‬ول مضايقة ف الجل ‪ .‬إذ قد يسامح‬
‫البائع ف التقاضي اليام ‪ .‬ول يسامح ف مقدار الثمن على حال ‪.‬‬
‫ويعضده ما روى عمرو بن العاص رضي ال عنه أن النب عليه الصلة والسلم أمر بشراء البل إل‬
‫خروج الصدق ‪ .‬وذلك ل يضبط يومه ول يعي ساعته ‪ .‬ولكنه على التقريب والتسهيل ‪.‬‬
‫فتأملوا كيف وجه الستثناء من الصول الثابتة بالرج والشقة ‪.‬‬

‫‪274‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأين هذا من زعم الزاعم أنه استحسان العقل بسب العوائد فقط ؟ فتبي لك بون ما بي النلتي ‪.‬‬
‫العاشر ‪ :‬أنم قالوا ‪ :‬إن من جلة أنواع الستحسان مراعاة خلف العلماء ‪ .‬وهو أصل ف مذهب‬
‫مالك ينبن عليه مسائل كثية ‪.‬‬
‫منها ‪ :‬أن الاء اليسي إذا حلت فيه النجاسة اليسية ول تغي أحد أوصافه أنه ل يتوضأ به بل يتيمم‬
‫ويتركه ‪ .‬فإن توضأ به وصلى أعاد ما دام ف الوقت ‪ .‬ول يعد بعد الوقت ‪ .‬وإنا قال ‪ :‬يعيد ف‬
‫الوقت مراعاة لقول من يقول ‪ :‬إنه طاهر مطهر ويروى جواز الوضوء به ابتداء ‪ .‬وكان قياس هذا‬
‫القول أن يعيد أبدا ‪ .‬إذ ل يتوضأ إل باء يصح له تركه والنتقال عنه إل التيمم ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬قولم ف النكاح الفاسد الذي يب فسخه ‪ :‬إن ل يتفق على فساده فيفسخ بطلق ‪ .‬ويكون‬
‫فيه الياث ‪ .‬ويلزم فيه الطلق على حده ف النكاح الصحيح ‪ .‬فإن اتفق العلماء على فساده فسخ‬
‫بغي طلق ‪ .‬ول يكون فيه مياث ول يلزم فيه طلق ‪.‬‬
‫ومنها ‪ :‬مسألة من نسي تكبية الحرام وكب للركوع وكان مع المام وجب أن يتمادى ‪ .‬لقول من‬
‫قال ‪ :‬إن ذلك يزئه ‪ .‬فإذا سلم المام أعاد هذا الأموم ‪.‬‬
‫وهذا العن كثي جدا ف الذهب ووجهه أنه راعى دليل الخالف ف بعض الحوال ‪ ،‬لنه ترجح‬
‫عنده ‪ ،‬ول يترجح عنده ف بعضها فلم يراعه ‪.‬‬
‫ولقد كتبت ف مسألة مراعاة اللف إل بلد الغرب وإل بلد أفريقية لشكال عرض فيها من‬
‫وجهي ‪ :‬أحدها ما يص هذا الوضع على فرض صحتها ‪ ،‬وهو ما أصلها من الشريعة وعلم تبن‬
‫من قواعد أصول الفقه ؟ فإن الذي يظهر الن أن الدليل هو التبع فحيثما صار صي إليه ‪ ،‬ومت رجح‬
‫للمجتهد أحد الدليلي على الخر ـ ولو بأدن وجوه الترجيح ـ وجب التعويل عليه وإلغاء ما سواه‬
‫على ما هو مقرر ف الصول ‪ ،‬فإذا رجوعه ـ أعن الجتهد ـ إل قول الغي إعمال لدليله الرجوح‬
‫عنده ‪ ،‬وإهال للدليل الراجح عنده الواجب عليه اتباعه وذلك على خلف القواعد ‪.‬‬
‫فأجابن بعضهم بأجوبة منها القرب والبعد ‪ ،‬إل أن راجعت بعضهم بالبحث ‪ ،‬وهو أخي ومفيدي‬
‫أبو العباس بن القباب رحه ال عليه ‪ ،‬فكتب إل با نصه ‪:‬‬
‫وتضمن الكتاب الذكور عودة السؤال ف مسألة مراعاة اللف ‪ ،‬وقلتم إن رجحان إحدى‬
‫المارتي على الخرى أن تقديها على الخرى اقتضى ذلك عدم الرجوحة مطلقا ‪ ،‬واستشنعتم أن‬
‫يقول الفت هذا ل يوز ابتداءً ‪ ،‬وبعد الوقوع يقول بوازه ‪ ،‬لنه يصي المنوع إذا فعل جائزا ‪.‬‬
‫وقلتم ‪ :‬إنه إنا يتصور المع ف هذا النحو ف منع التنيه ل منع التحري ‪ ،‬إل غي ذلك ما أوردت ف‬
‫السألة ‪.‬‬
‫وكلها إيرادات شديدة صادرة عن قرية قياسية منكرة لطريقة الستحسان ‪ ،‬وإل هذه الطريقة ميل‬
‫فحول من الئمة والنظار ‪ ،‬حت قال المام أبو عبد ال الشافعي ‪ :‬من استحسن فقد شرع ‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولقد ضاقت العبارة عن معن أصل الستحسان ـ كما ف علمكم ـ حت قالوا ‪ :‬أصح عبارة فيه‬
‫أنه معن ينقدح ف نفس الجتهد تعسر العبارة عنه ‪ ،‬فإذا كان هذا أصله الذي ترجع فروعه إليه ‪،‬‬
‫فكيف ما يبن عليه ؟ فل بد أن تكون العبارة عنها أضيق ‪.‬‬
‫ولقد كنت أقول بثل ما قال هؤلء العلم ف طرح الستحسان وما بن عليه ‪ ،‬ولول أنه أعتضد‬
‫وتقوى لوجدانه كثيا ف فتاوى اللفاء وأعلم الصحابة وجهورهم مع عدم النكي ‪ ،‬فتقوى ذلك‬
‫عندي غاية ‪ .‬وسكنت إليه النفس ‪ ،‬وانشرح إليه الصدر ‪ ،‬ووثق به القلب ‪،‬فلمر باتباعهم والقتداء‬
‫بم ‪ ،‬رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫فمن ذلك الرأة يتزوجها رجلن ول يعلم الخر بتقدم نكاح غيه إل بعد البناء ‪ ،‬فأبانا عليه بذلك‬
‫عمر ومعاوية والسن رضي ال عنهم ‪ .‬وكل ما أوردت ف قضية السؤال وأرد عليه ‪ ،‬فإنه إذا تقق‬
‫أن الذي ل يب هو الول ‪ ،‬فدخول الثان با دخول بزوج غيه ‪ ،‬وكيف يكون غلطة على زوج‬
‫غيه مبيحا على الدوام ‪ ،‬ومصححا لعقده الذي ل يصادف ملً ‪ ،‬ومبطلً لعقد نكاح ممع على‬
‫صحته ‪ ،‬لوقوعه على وفق الكتاب والسنة ظاهرا وباطنا ؟ وإنا الناسب أن الغلط يرفع عن الغالط‬
‫الث والعقوبة ‪ .‬ل إباحة زوج غيه دائما ‪ .‬ومنع زوجها منها ‪.‬‬
‫ومثل ذلك ما قاله العلماء ف مسألة امرأة الفقود ‪ :‬أنه إن قدم الفقود قبل نكاحها فهو أحق با ‪ ،‬وإن‬
‫كان بعد نكاحها والدخول با بانت ‪ ،‬وإن كانت بعد العقد وقبل البناء فقولن ‪ ،‬فإنه يقال ‪ :‬الكم‬
‫لا بالعدة من الول إن كان قطعا لعصمته فل حق له فيها ولو قدم قبل تزوجها ‪ ،‬أو ليس بقاطع‬
‫للعصمة ‪ ،‬فكيف تباح لغيه ف عصمة الفقود ؟‬
‫وما روي عن عمر وعثمان ف ذلك أغرب وهو أنما قال ‪ :‬إذا قدم الفقود يي بي امرأته أو صداقها‬
‫‪ ،‬فإن اختار صداقها بقيت للثان ‪ ،‬فأين هذا من القياس ؟ وقد صحح ابن عبد الب هذا النقل عن‬
‫الليفتي عمر وعثمان رضي ال عنهما ‪ ،‬ونقل عن علي رضي اله عنه أنه قال بثل ذلك ‪ ،‬أو أمضى‬
‫الكم به ‪ ،‬وإن كان الشهر عنه خلفه ‪ ،‬ومثله ف قضايا الصحابة كثي من ذلك ‪.‬‬
‫قال ابن العدل لو أن رجلي حضرها وقت الصلة ‪ ،‬فقام أحدها فأوقع الصلة بثوب نس مانا (؟)‬
‫وقعد الخر حت خرج الوقت ول يقاربه (؟) مع نقل غي واحد من الشياخ الجاع على وجوب‬
‫النجاسة (؟) عامدا جع الناس أنه ل يساوي مؤخرها على وجوب النجاسة حال الصلة ‪ ،‬ومن نقله‬
‫اللخمي ‪ ،‬والازري ‪ ،‬وصححه الباجي ‪ ،‬وعليه مضى عبد الوهاب ف تلقينه ‪.‬‬
‫وعلى الطريقة الت أوردت ‪ ،‬أن النهي عنه ابتداء غي معتب ـ أحرى بكون أمر هذين الرجلي‬
‫بعكس ما قال ابن العدل ‪ ،‬لن الذي صلى بعد الوقت قضى ما فرط فيه ‪ ،‬والخر ل يعمل كما‬
‫أمر ‪ ،‬ول قضى شيئا ‪ .‬وليس كل منهي عنه ابتداء غي معتب بعد وقوعه ‪.‬‬

‫‪276‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد صحح الدارقطن حديث أب هريرة رضي ال عنه ‪ ،‬عن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬ل‬
‫تزوج الرأة الرأة ول تزوج الرأة نفسها ‪ ،‬فإن الزانية هي الت تزوج نفسها" وأخرج أيضا من حديث‬
‫عائشة رضي ال عنها ‪" :‬أيا امرأة نكحت بغيإذن مواليها فنكاحها باطل ـ ثلث مرات ـ فإن‬
‫دخل با فالهر لا با أصاب منها" ‪.‬فحكم أولً ببطلن العقد ‪ ،‬وأكده بالتكرار ثلثا ‪ ،‬وساه زنا ‪.‬‬
‫وأقل مقتضياته عدم اعتبار هذا العقد جلة ‪ .‬لكنه صلى ال عليه وسلم عقبة با اقتضى اعتباره بعد‬
‫الوقوع بقوله ‪" :‬ولا مهرها با أصاب منها ومهر البغي حرام" ‪.‬‬
‫وقد قال تعال ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل تلوا شعائر ال" ‪ .‬فعلل النهي عن استحلله بابتغائهم فضل‬
‫ال ورضوانه مع كفرهم بال تعال ‪ ،‬الذي ل يصح معه عبادة ‪ ،‬ول يقبل عمل ‪ ،‬وإن كان هذا‬
‫الكم الن منسوخا ‪ ،‬فذلك ل ينع الستدلل به ف هذا العن ‪.‬‬
‫ومن ذلك قول الصديق رضي ال عنه ‪ :‬وستجد أقواما زعموا أنم حبسوا أنفسهم ل ‪ ،‬فذرهم وما‬
‫زعموا أنم حبسوا أنفسهم له ‪ .‬ولذا ل يسب الراهب وترك له ماله أو ما قل منه ‪ ،‬على اللف ف‬
‫ذلك ‪ ،‬وغيه من ل يقاتل يسب ويلك ‪ ،‬وإنا ذلك لا زعم أنه حبس نفسه له ‪ ،‬وهي عبادة ال تعال‬
‫‪ ،‬وإن كانت عبادته أبطل الباطل ‪ ،‬فكيف يستبعد اعتبار عبادة مسلم على وفق دليل شرعي ل يقطع‬
‫بطأ فيه ‪ ،‬وإن كان يظن ذلك ظنا ‪ .‬وتتبع مثل هذا يطول ‪.‬‬
‫وقد اختلف فيما تقق فيه ني من الشارع ‪ :‬هل يقتضي فساد النهي عنه ؟ وفيه بي الفقهاء‬
‫والصوليي ما ل يفى عليكم ‪ ،‬فكيف بذا ؟ ‪.‬‬
‫وإذا خرجت السألة الخلف فيها إل أصل متلف فيه ‪ ،‬فقد خرجت عن حيز الشكال ‪ .‬ول يبق‬
‫إل الترجيح لبعض تلك السائل ‪ .‬ويرجح كل أحد ما ظهر له بسب ما وفق له ‪ .‬ولنكتف بذا القدر‬
‫ف هذه السألة ‪.‬‬
‫انتهى ما كتب ل به وهو بسط أدلة شاهدة لصل الستحسان ‪ ،‬فل يكن مع هذا التقرير كله أن‬
‫يتمسك به من أراد أن يستحسن بغي دليل أصلً ‪.‬‬

‫فصل ‪ :‬فإذا تقرر هذا فلنرجع إل ما احتجوا به‬


‫فإذا تقرر هذا فلنرجع إل ما احتجوا به أولً ‪ :‬فأما من حد الستحسان بأنه ‪ :‬ما يستحسنه الجتهد‬
‫بعقله وييل إليه برأيه ‪ ،‬فكان هؤلء يرون هذا النوع من جلة أدلة الحكام ‪ ،‬ول شك أن العقل‬
‫ل ـ فهو حكم ال‬ ‫يوز أن يرد الشرع بذلك ‪ ،‬بل يوز أن يرد بأن ما سبق إل أوهام العوام ـ مث ً‬
‫عليهم ‪ ،‬فيلزمهم العمل بقتضاه ‪ ،‬ولكن ل يقع مثل هذا ول يعرف التعبد به ل بضرورة ول بنظر ول‬
‫بدليل من الشرع قاطع ول مظنون ‪ ،‬فل يوز إسناده لكم ال لنه ابتداء تشريع من جهة العقل ‪.‬‬

‫‪277‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأيضا ‪ ،‬فإنا نعلم أن الصحابة رضي ال عنهم حصروا نظرهم ف الوقائع الت ل نصوص فيها ف‬
‫الستنباط والرد إل ما فهموا من الصول الثابتة ‪ .‬ول يقل أحد منهم ‪ :‬إن حكمت ف هذا بكذا لن‬
‫طبعي مال إليه ‪ ،‬أو لنه يوافق مبت ورضائي ‪ .‬ولو قال ذلك لشتد عليه التكبي ‪ ،‬وقيل له ‪ :‬من أين‬
‫لك أن تكم على عبادة ال بحض ميل النفس وهوى القلب ؟ هذا مقطوع ببطلنه ‪.‬‬
‫بل كانوا يتناظرون ويعترض بعضهم بعضا على مأخذ بعض ‪ ،‬ويصرون ضوابط الشرع ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فلو رجع الكم إل مرد الستحسان ل يكن للمناظرة فائدة ‪ ،‬لن الناس تتلف أهواؤهم‬
‫وأغراضهم ف الطعمة والشربة واللباس وغي ذلك ول يتاجون إل مناظرة بعضهم بعضا ‪ :‬ل كان‬
‫هذا الاء أشهى عندك من الخر ؟ والشريعة ليست كذلك ‪.‬‬
‫على أن أرباب البدع العملية أكثرهم ل يبون أن يناظروا أحدا ‪ .‬ول يفاتون عالا ول غيه فيما‬
‫يبتغون ‪ ،‬خوفا من الفضيحة أن ل يدوا مستندا شرعيا ‪ ،‬وإنا شأنم إذا وجدوا عالا أو لقوة أن‬
‫يصانعوا ‪ ،‬وإذا وجدوا جاهلً عاميا ألقوا عليه ف الشريعة الطاهرة إشكالت ‪ ،‬حت يزلزلوهم‬
‫ويلطوا عليهم ‪ ،‬ويلبسوا دينهم ‪ ،‬فإذا عرفوا منهم الية واللتباس ‪ .‬ألقوا إليهم من بدعهم على‬
‫التدريج شيئا فشيئا ‪ ،‬وذموا أهل العلم بأنم أهل الدنيا الكبون عليها ‪ ،‬وأن هذه الطائفة هم أهل ال‬
‫وخاصيته ‪ .‬وربا أوردوا عليهم من كلم غلة الصوفية شواهد على ما يلقون إليهم ‪ ،‬حت يهووا بم‬
‫ف نار جهنم ‪ ،‬وأما أن يأتوا المر من بابه ويناظروا عليه العلماء الراسخي فل ‪.‬‬
‫وتأمل ما نقله الغزال ف استدراج الباطنية غيهم إل مذهبهم ‪ ،‬تدهم ل يعتمدون إل على خديعة‬
‫الناس من غي تقرير علم ‪ ،‬والتحيل عليهم بأنواع اليل ‪ ،‬حت يرجونم من السنة ‪ ،‬أو عن الدين‬
‫جلة ‪.‬ولول الطالة لتيت بكلمه ‪ ،‬فطالعه ف كتابه فضائح الباطنية ‪.‬‬
‫وأما الد الثان فقد رد بأنه لو فتح هذا الباب لبطلت الجج وادعى كل من شاء ما شاء ‪ ،‬واكتفى‬
‫بجرد القول ‪ ،‬فألأ الصم إل البطال ‪ .‬وهذا ير فسادا ل خفاء له ‪ .‬وإن سلم فذلك الدليل إن‬
‫كان فاسدا فل عبة به ‪ ،‬وإن كان صحيحا فهو راجع إل الدلة الشرعية فل ضرر فيه ‪.‬‬
‫وأما الدليل الول فل متعلق به ‪ ،‬فإن أحسن التباع إلينا ‪ ،‬اتباع الدلة الشرعية ‪ ،‬وخصوصا القرآن ‪،‬‬
‫فإن ال تعال يقول ك "ال نزل أحسن الديث كتابا متشابا" ‪ .‬وجاء ف صحيح الديث ـ خرجه‬
‫مسلم ـ "أن النب صلى ال عليه وسلم قال ف خطبته ‪ :‬أما بعد فأحسن الديث كتاب ال" فيفتقر‬
‫أصحاب الدليل أن يبينوا أن ميل الطباع أو أهواء النفوس ما أنزل إلينا ‪ ،‬فضلً عن أن يقول من‬
‫أحسنه ‪.‬‬
‫وقوله تعال ‪" :‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" الية ‪ .‬يتاج إل بيان أن ميل النفوس يسمى‬
‫قو ًل ‪ .‬وحينئذ ينظر إل كونه أحسن القول كما تقدم وهذا كله فاسد ‪.‬‬

‫‪278‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث إنا نعارض هذا الستحسان بأن عقولنا تيل إل إبطاله ‪ ،‬وأنه ليس بجة ‪ ،‬وإنا الجة الدلة‬
‫الشرعية التلقاة من الشرع ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فيلزم عليه استحسان العوام ومن ليس من أهل النظر ‪ ،‬إذا فرض أن الكم يتبع مرد ميل‬
‫النفوس وهوى الطباع ‪ ،‬وذلك مال ‪ ،‬للعمل بأن ذلك مضاد للشريعة ‪ ،‬فضلً عن أن يكون من‬
‫أدلتها ‪.‬‬
‫وأما الدليل الثان فل حجة فيه من أوجه ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ظاهره يدل على أن ما رآه السلمون حسنا فهو حسن ‪ ،‬والمة ل تتمع على باطل ‪.‬‬
‫فاجتماعهم على حسن شيء يدل على حسنه شرعا ‪ ،‬لن الجتماع يتضمن دليلً شرعيا ‪،‬‬
‫فالديث دليل عليكم ل لكم ‪.‬‬
‫والثان ‪:‬أنه خب واحد ف مسألة قطعية فل يسمع ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أنه إذا ل يرد به أهل الجاع وأريد بعضهم فيلزم عليه استحسان العوام ‪ ،‬وهو باطل‬
‫بإجاع ‪ .‬ل يقال ‪ :‬إن الراد استحسان أهل الجتهاد ‪ ،‬لنا نقول ‪ :‬هذا ترك للظاهر ‪ ،‬فيبطل‬
‫الستدلل ‪ .‬ث إنه ل فائدة ف اشتراط الجتهاد ‪ ،‬لن الستحسن بالفرض ل ينحصر ف الدلة ‪ ،‬فأي‬
‫حاجة إل اشتراط الجتهاد ؟‬
‫فإن قيل ‪ :‬إنا يشترط حذرا من مالفة الدلة فإن العامي ل يعرفها ‪ .‬قيل ‪ :‬بل الراد استحسان ينشأ‬
‫عن الدلة ‪ ،‬بدليل أن الصحابة رضي ال عنهم قصروا أحكامهم على اتباع الدلة وفهم مقاصد‬
‫الشرع ‪.‬‬
‫فالاصل ‪ ،‬إن تعلق البتدعة بثل هذه المور تعلق با ل يغنيهم ول ينفعهم البتة ‪ ،‬لكن ربا يتعلقون‬
‫ف آحاد بدعتهم بآحاد شبه ستذكر ف مواضعها إن شاء ال ‪ ،‬ومنها ما قد مضى ‪.‬‬

‫فصل ‪ :‬فإن قيل ‪ :‬أفليس ف الحاديث‬


‫فإن قيل ‪ :‬أفليس ف الحاديث ما يدل على الرجوع إل ما يقع ف القلب ويري ف النفس ‪ ،‬وإن ل‬
‫يكن ث دليل صريح على حكم من أحكام الشرع ‪ ،‬ول غي صريح ؟ فقد جاء ف الصحيح عن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم أنه كان يقول ‪" :‬دع ما يريبك ‪ ،‬إل ما ل يريبك فإن الصدق طمأنينة والكذب‬
‫ريبة" ‪.‬‬
‫وخرج مسلم "عن النواس بن سعان رضي ال عنه قال ‪ :‬سألت رسول ال صلى ال عليه وسلم عن‬
‫الب والث فقال ‪ :‬الب حسن اللق ‪ ،‬والث ما حاك ف صدرك وكرهت أن يطلع الناس عليه" ‪ ،‬وعن‬
‫أب أمامة رضي ال عنه قال ‪ " :‬قال رجل يا رسول ال ما اليان ؟ قال ‪ :‬إذا سرتك حسناتك‬

‫‪279‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وساءتك سيئاتك فأنت مؤمن ‪ .‬قال ‪ :‬يا رسول ال ! فما الث ؟ قال ‪ :‬إذا حاك شيء ف صدرك‬
‫فدعه" ‪ .‬وعن أنس بن مالك رضي ال عنه قال ‪ :‬سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪" :‬دع‬
‫ما يريبك إل ما ل يريبك" ‪ ،‬و"عن وابصة رضي ال عنه قال ‪ :‬سألت رسول ال صلى ال عليه‬
‫وسلم عن الب والث فقال ‪ :‬يا وابصة ! استفت قلبك ‪ ،‬واستفت نفسك ‪ ،‬الب ما اطمأنت إليه النفس‬
‫واطمأن إليه القلب ‪ ،‬والث ما حاك ف النفس وتردد ف الصدر ‪ ،‬وإن أفتاك الناس وأفتوك" وخرج‬
‫البغوي ف معجمه عن عبد الرحن بن معاوية ‪:‬‬
‫"أن رجلً سأل رسول ال صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬يا رسول ال ! ما يل ل ما يرم علي ؟‬
‫فسكت رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فرد عليه ثلث مرات ‪ ،‬كل ذلك يسكت رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬ث قال ‪ :‬أين السائل ؟ فقال ‪ :‬أنا ذا يا رسول ال ‪ .‬فقال ‪ :‬ـ ونقر بأصبعه ـ ‪ :‬ما‬
‫أنكر قلبك فدعه" ‪.‬‬
‫وعن عبد ال قال ‪ :‬الث حواز القلوب ‪ ،‬فما حاك من شيء ف قلبك فدعه ‪ ،‬وكل شيء فيه نظرة‬
‫فإن للشيطان فيه مطمعا ‪ ،‬وقال أيضا ‪ :‬اللل بي والرام بي وبينهما أمور مشتبهات ‪ ،‬فدع ما‬
‫يريبك إل ما ل يريبك ‪ ،‬وعن أب الدرداء رضي ال عنه ‪ :‬أن الي طمأنينة ‪ ،‬وأن الشر ريبة ‪ ،‬فدع‬
‫ما يريبك إل ما ل يريبك ‪ ،‬وقال شريح ‪ :‬دع ما يريبك إل ما يريبك ‪ ،‬فوال ما وجدت فقد شيء‬
‫تركته ابتغاء وجه ال ‪.‬‬
‫فهذه ظهر من معناها الرجوع ف جلة من الحكام الشرعية إل ما يقع بالقلب ويهجس بالنفس‬
‫ويعرض بالاطر ‪ ،‬وأنه إذا اطمأنت النفس إليه فالقدم عليه صحيح ‪ ،‬وإذا توقفت أو ارتابت فالقدام‬
‫عليه مظور ‪ ،‬وهو عي ما وقع إنكاره من الرجوع إل الستحسان الذي يقع بالقلب وييل إليه‬
‫الاطر ‪ ،‬وإن ل يكن ث دليل شرعي فإنه لو كان هنالك دليل شرعي أو كان هذا التقرير مقيدا‬
‫بالدلة الشرعية ل يل به على ما ف النفوس ول على ما يقع بالقلوب ‪ ،‬مع أنه عندكم عبث وغي‬
‫مفيد ‪ ،‬كمن ييل بالحكام الشرعية على المور الوفاقية ‪ ،‬أو الفعال الت ل ارتباط بينها وبي‬
‫شرعية الحكام ‪ .‬فدل ذلك على أن لستحسان العقول وميل النفوس أثرا ف شرعية الحكام ‪ ،‬وهو‬
‫الطلوب ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن هذه الحاديث وما كان ف معناها قد زعم الطبي ف تذيب الثار أن جاعة من‬
‫السلف قالوا بتصحيحها ‪ ،‬والعمل با دل عليه ظاهرها ‪ .‬وأتى بالثار التقدمة عن عمر وابن مسعود‬
‫وغيها ‪ ،‬ث ذكر عن آخرين القول بتوهينها وتضعيفها وإحالة معانيها ‪.‬‬
‫وكلمه وترتيبه بالنسبة إل ما نن فيه لئق أن يؤتى به على وجهه ‪ ،‬فأتيت به على تري معناه دون‬
‫لفظه لطوله ‪ ،‬فحكى عن جاعة أنم قالوا ‪ :‬ل شيء من أمر الدين إل وقد بينه ال تعال بنص عليه‬

‫‪280‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بعناه ‪ ،‬فإن كان حللً فعلى العامل به إذا كان عالا تليله ‪ ،‬أو حراما فعليه تريه ‪ ،‬أو مكروها غي‬
‫حرام فعليه اعتقاد التحليل أو الترك تنيها ‪.‬‬
‫فأما العامل بديث النفس والعارض ف القلب فل ‪ ،‬فإن ال حظر ذلك على نبيه فقال ‪" :‬إنا أنزلنا‬
‫إليك الكتاب بالق لتحكم بي الناس با أراك ال " فأمره بالكم با أراه ال ل با رآه وحدثته به‬
‫نفسه ‪ ،‬فغيه من الشرك أول أن يكون ذلك مظورا عليه ‪ .‬وأما إن كان جاهلً فعليه مسألة العلماء‬
‫دون ما حدثته نفسه ‪.‬‬
‫ونقل عن عمر رضي ال عنه أنه خطب فقال ‪ :‬إيها الناس ! قد سنت لكم السنن ‪ ،‬وفرضت لكم‬
‫الفرائض ‪ ،‬وتركتم على الواضحة ‪ ،‬ان تضلوا بالناس يينا وشالً‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي ال عنهما ‪ :‬ما كان ف القرآن من خلل أو حرام فهو كذلك ‪ ،‬وما سكت‬
‫عنه فهو ما عفي عنه ‪.‬‬
‫وقال مالك ‪ :‬قبض رسول ال صلى ال عليه وسلم وقد ت هذا المر واستكمل ‪ ،‬فينبغي أن تتبع آثار‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم وأصحابه ول ينبع الرأي ‪ ،‬فإنه من اتبع الرأي جاءه رجل آخر أقوى‬
‫ف الرأي منه فاتبعه ‪ ،‬فكلما غلبه رجل اتبعه ‪ ،‬أرى أن هذا بعد ل يتم ‪.‬‬
‫واعملوا من الثار با روي عن جابر رضي ال عنه ‪ .‬أن النب صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬قد تركت‬
‫فيكم ما لن تضلوا بعدي إذا اعتصمتم به ‪ :‬كتاب ال وسنت ولن يتفرقا حت يردا على الوض" ‪.‬‬
‫وروي عن عمرو بن [ شعيب عن أبيه عن جده ] ـ " خرج رسول ال صلى ال عليه وسلم يوما‬
‫وهم يادلون ف القرآن ‪ ،‬فخرج و وجهه أحر كالدم فقال ‪ :‬يا قوم ! على هذا هلك من كان قبلكم‬
‫جادلوا ف القرآن وضربوا بعضه ببعض ‪ ،‬فما كان من حلل فاعملوا به ‪ ،‬وما كان من حرام فانتهوا‬
‫عنه ‪ ،‬وما كان من متشابه فآمنوا به" ‪.‬‬
‫و"عن أب الدرداء رضي ال عنه يرفعه قال ‪ :‬ما أحل ال ف كتابه فهو حلل ‪ ،‬وما حرم فيه فهو‬
‫حرام ‪ ،‬وما سكت عنه فهو عافية ‪ ،‬فاقبلوا من ال عافيته ‪ ،‬فإن ال ل يكن لينسى شيئا ‪" :‬وما كان‬
‫ربك نسيا" " ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فهذه الخبار وردت بالعمل با ف كتاب ال ‪ ،‬والعلم بأن العامل به لن يضل ‪ ،‬ول يأذن‬
‫لحد ف العمل بعن ثالث غي ما ف الكتاب والسنة ‪ ،‬ولو كان ث ثالث ل يدع بيانه ‪ ،‬فعدل على‬
‫أن ل ثالث ‪ ،‬ومن ادعاه فهو مبطل ‪.‬‬
‫قالوا ‪ :‬فإن قيل ‪ :‬فإنه عليه السلم قد سن لمته وجها ثالثا وهو قوله ‪" :‬استفت قلبك" وقوله ‪:‬‬
‫"الث حواز القلوب" إل غي ذلك ‪ ،‬قلنا ‪ :‬لو صحت هذه الخبار لكان ذلك إبطالً لمره بالعمل‬
‫بالكتاب والسنة إذ صحا معا ‪ ،‬لن أحكام ال ورسوله ل ترد با استحسنته النفوس واستقبحته ‪،‬‬

‫‪281‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإنا كان يكون وجها ثالثا لو خرج شيء من الدين عنهما ‪ ،‬وليس بارج ‪ ،‬فل ثالث يب العمل به‬
‫‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬قد يكون قوله ‪" :‬استفت قلبك" ونوه أمرا لن ف مسألته نص من كتاب ول سنة ‪،‬‬
‫واختلفت فيه المة ‪ ،‬فيعد وجها ثالثا ‪ .‬قلنا ‪ :‬ل يوز ذلك لمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن كل ما ل نص فيه بعينه قد نصبت على حكمه دللة ‪ ،‬فلو كان فتوى القلب ونوه دليلً‬
‫ل يكن لنصت الدللة الشرعية عليه معن ‪ ،‬فيكون عبثا ‪ ،‬وهو باطل ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن ال تعال قال ‪" :‬فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" ‪ .‬فأمر التنازعي بالرجوع‬
‫إل ال والرسول دون حديث النفوس وفتيا القلوب ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أن ال تعال قال ‪" :‬فاسألوا أهل الذكر إن كنتم ل تعلمون" ‪ .‬فأمرهم بسألة أهل الذكر‬
‫ليخبوهم بالق فيما اختلفوا فيه من أمر ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ول يأمرهم أن يستفتوا ف‬
‫ذلك أنفسهم ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن ال تعال قال لنبيه احتجاجا على من أنكر وحدانيته ‪" :‬أفل ينظرون إل البل كيف‬
‫خلقت" ‪ .‬إل آخرها ‪ .‬فأمرهم بالعتبار بعبته ‪ ،‬والستدلل بأدلته على صحة ما جاءهم به ‪ ،‬ول‬
‫يأمرهم أن يستفتوا فيه نفوسهم ‪ ،‬ويصدوا عما اطمأنت إليه قلوبم ‪ ،‬وقد وضع العلم والدلة ‪،‬‬
‫فالواجب ف كل ما وضع ال عليه الدللة أن يستدل بأدلته على ما دلت ‪ ،‬دون فتوى النفوس‬
‫وسكون القلوب من أهل الهل بأحكام ال ‪.‬‬
‫وهذا ما حكاه الطبي عمن تقدم ‪ ،‬ث اختار إعمال تلك الحاديث ‪ ،‬إما لنا صحت عنده أو صح‬
‫منها عنده ما تدل عليه معانيها ‪ ،‬كحديث ‪:‬‬
‫"اللل بي والرام بي" إل آخر الديث ‪ ،‬فإنه صحيح خرجه المامان ‪ .‬ولكنه ل يعملها ف كل‬
‫من أبواب الفقه ‪ ،‬إذ ل يكن ذلك ف تشريع العمال وإحداث التعبدات ‪ ،‬فل يقال بالنسبة إل‬
‫إحداث العمال ‪ :‬إذا اطمأنت نفسك إل هذا العمل فهو بر ‪ ،‬أو ‪ :‬استفت قلبك ف إحداث هذا‬
‫العمل ‪ ،‬فإن اطمأنت إليه نفسك فاعمل به وإل فل ‪.‬‬
‫وكذلك ف النسبة إل التشريع التركي ‪ ،‬ل يتأتى تنيل معان الحاديث عليه بأن يقال ‪ :‬إن اطمأنت‬
‫نفسك إل ترك العمل الفلن فاتركه ‪ ،‬وإل فدعه ‪ .‬أي فدع الترك واعمل به ‪ .‬وإنا يستقيم إعمال‬
‫الحاديث الذكورة فيما أعمل فيه قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬اللل بي والرام بي" الديث ‪.‬‬
‫وما كان من قبيل العادات من استعمال الاء والطعام والشراب والنكاح واللباس ‪ ،‬وغي ذلك ما ف‬
‫هذا العن ‪ ،‬فمنه ما هو بي اللية وما هو بي التحري ‪ ،‬وما فيه إشكال ‪ ،‬وهو المر الشتبه الذي ل‬
‫يدرى أحلل هو أم حرام ؟ فإن ترك القدام أول من القدام مع جهلة باله ‪ ،‬نظي قوله عليه السلم‬
‫‪":‬إن لجد التمرة ساقطة على فراشي ‪ ،‬فلول أن أخشى أن تكون من الصدقة لكلتها" ‪ ،‬فهذه‬

‫‪282‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫التمرة ل شك أنا ل ترج من إحدى الالي ‪ :‬إما من الصدقة وهي حرام عليه ‪ ،‬وإما من غيها‬
‫وهي حلل له ‪ ،‬فترك أكلها حذرا من أن تكون من الصدقة ف نفس المر ‪.‬‬
‫قال الطبي ‪ :‬فكذلك حق ال على العبد فيما اشتبه عليه ما هو سعة من تركه والعمل به ‪ ،‬أو ما هو‬
‫غي واجب ـ أن يدع ما يريبه إل ما ل يريبه ‪ ،‬إذ يزول بذلك عن نفسه الشك ‪ ،‬كمن يريد خطبة‬
‫امرأة فتخبه امرأة أنا قد أرضعته وإياها ول يعلم صدقها من كذبا ‪ ،‬فإن تركها أزال عن نفسه‬
‫الريبة اللحقة له بسبب إخبار الرأة ‪ ،‬وليس تزوجه إياها بواجب ‪ ،‬بلف ما لو أقدم ‪ ،‬فإن النفس ل‬
‫تطمئن إل حلية تلك الزوجة ‪.‬‬
‫وكذلك قول عمر إنا هو فيما أشكل أمره ف البيوع فلم يدر حلل هو أم حرام ؟ ففي تركه سكون‬
‫النفس وطمأنينة القلب ‪ ،‬كما ف القدام شك ‪ :‬هل هو آث أم ل ؟ وهو معن قوله عليه السلم‬
‫للنواس ووابصة رضي ال عنهما ‪ .‬ودل على ذلك حديث الشتبهات ‪ ،‬ل ما ظن أولئك من أنه أمر‬
‫للجهال أن يعلموا با رأته أنفسهم ‪ ،‬ويتركوا ما استقبحوه دون أن يسألوا علماءهم ‪.‬‬
‫قال الطبي ‪ ،‬فإن قيل ‪ :‬إذا قال الرجل لمرأته ‪ :‬أنت علي حرام ‪ .‬فسأل العلماء فاختلفوا عليه ‪.‬‬
‫فقال بعضهم ‪ :‬قد بانت منك بالثلث ‪ :‬وقال بعضهم ‪ :‬إنا حلل غي أن عليك كفارة يي ‪ .‬وقال‬
‫بعضهم ‪ :‬ذلك إل نيته إن أراد الطلق فهو طلق ‪ .‬أو الظهار فهو ظهار ‪ .‬أو يينا فهو يي ‪ .‬وإن ل‬
‫ينو شيئا فليس بشيء ‪ :‬أيكون هذا اختلفا ف الكم كإخبار الرأة بالرضاع فيؤمر هنا بالفراق ‪،‬‬
‫كما يؤمر هناك أن ل يتزوجها خوفا من الوقوع ف الحظور أو ل ؟ قيل ‪ :‬حكمه ف مسألة العلماء‬
‫أن يبحث عن أحوالم وأمانتهم ونصيحتهم ث يقلد الرجح ‪ .‬فهذا مكن ‪ ،‬والزازة مرتفعة بذا‬
‫البحث ‪ .‬بلف ما إذا بث مثلً عن أحوال الرأة فإن الزازة ل تزول ‪ .‬وإن أظهر البحث أن‬
‫أحوالا غي حيدة ‪ ،‬فهما على هذا متلفان ‪ .‬وقد يتفقان ف الكم إذا بث عن العلماء فاستوت‬
‫أحوالم عنده ‪ ،‬ل يثبت له ترجيح لحدهم ‪ ،‬فيكون العمل الأمور به من الجتناب كالعمول به ف‬
‫مسألة الخبة بالرضاع سواء ‪ ،‬إذ ل فرق بينهما على هذا التقدير ‪ .‬انتهى معن كلم الطبي ‪.‬‬
‫وقد أثبت ف مسألة اختلف العلماء على الستفت أنه غي مي ‪ ،‬بل حكمه حكم من التبس عليه‬
‫المر فلم يدر أحلل هو أم حرام ؟ فل خلص له من الشبهة إل باتباع أفضلهم والعمل با أفت به ‪.‬‬
‫وإل فالترك ‪ .‬إذ ل تطمئن النفس إل بذلك حسبما اقتضته الدلة التقدمة ‪.‬‬

‫فصل ث يبقى ف هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال‬


‫ث يبقى ف هذا الفصل الذي فرغنا منه إشكال على كل من اختار استفتاء القلب مطلقا أو بقيد ‪،‬‬
‫وهو الذي رآه الطبي ‪ .‬وذك أن حاصل المر يقتضي أن فتاوى القلوب وما اطمأنت إليه النفوس‬
‫معتب ف الحكام الشرعية ‪ ،‬وهو التشريع بعينه ‪،‬فإن طمأنينة النفس القلب مردا عن الدليل ‪ ،‬إما أن‬

‫‪283‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫تكون معتبة أو غي معتبة شرعا ‪،‬فإن ل تكن معتبة فهو خلف ما دلت عليه تلك الخبار ‪ ،‬وقد‬
‫تقدم أنا معتبة بتلك الدلة وإن كانت معتبة فقد صار ث قسم ثالث غي الكتاب والسنة ‪ ،‬وهو غي‬
‫ما نفاه الطبي وغيه ‪.‬‬
‫وإن قيل ‪ :‬إنا تعتب ف الحجام دون القدام ‪ .‬ل ترج تلك عن الشكال الول ‪ ،‬لن كل واحد‬
‫من القدام والحجام فعل ل بد أن يتعلق به حكم شرعي ‪ ،‬وهو الواز وعدمه ‪ ،‬وقد علق ذلك‬
‫بطمأنينة النفس أو عدم طمأنينتها ‪ .‬فإن كان ذلك عن دليل ‪ ،‬فهو ذلك الول بعينه ‪ ،‬باق على كل‬
‫تقدير ‪.‬‬
‫والواب ‪ :‬أن الكلم الول صحيح ‪ .‬وإنا النظر ف تقيقه ‪.‬‬
‫فاعلم أن كل مسألة تفتقر إل نظرين ‪ :‬تظر ف دليل الكم ‪ ،‬ونظر ف مناطه ‪ ،‬فأما النظر ف دليل‬
‫الكم ل يكن أن يكون إل من الكتاب والسنة ‪ ،‬أو ما يرجع إليهما عن إجاع أو قياس أو غيها ‪،‬‬
‫ول يعتب فيه طمأنينة النفس ‪ ،‬ول نفي ريب القلب ‪ ،‬إل من جهة اعتقاد كون الدليل دليلً أو غي‬
‫دليل ‪ .‬ول يقول أحد ( ؟ ) إل أهل البدع الذين يستحسنون المر بأشياء ل دليل عليها ‪ ،‬أو‬
‫يستقبحون كذلك من غي دليل إل طمأنينة النفس ( ؟ ) أن المر كما زعموا ‪ ،‬وهو مالف لجاع‬
‫السلمي ‪ .‬أ‬
‫وأما النظر ف مناط الكم ‪ ،‬فإن الناط ل يلزم منه أن يكون ثابتا بدليل شرعي فقط ‪ ،‬بل يثبت بدليل‬
‫ل ‪ :‬عن‬ ‫غي شرعي أو بغي دليل ‪ ،‬فل يشترط فيه بلوغ درجة الجتهاد ‪ ،‬بل ل يشترط فيه العلم فض ً‬
‫درجة الجتهاد ‪ :‬أل ترى أن العامي إذا سئل عن الفعل الذي ليس من جنس الصلة إذا فعله الصلي‬
‫‪ :‬هل تبطل به الصلة أم ل ؟ فقال العامي ‪ :‬إن كان يسيا فمغتفر ‪ ،‬وإن كان كثيا فمبطل ‪ ،‬ل‬
‫يغتفر ف ا لسي إل أن يققه له العال ‪ .‬بل العاقل يفرق بي الفعل اليسي والكثي ‪ .‬فقد انبن ها هنا‬
‫الكم ـ وهو البطلن أو عدمه ـ على ما يقع بنفس‬
‫العامي ‪ ،‬وليس واحدا من الكتاب أو السنة ‪ ،‬لنه ليس ما وقع بقلبه دليلً على الكم ‪ ،‬وإنا هو‬
‫مناط الكم ‪ ،‬فإذا تقق له الناط بأي وجه تقق ‪ ،‬فهو اللطوب فيقع عليه الكم بدليله الشرعي ‪.‬‬
‫وكذلك إذا قلنا بوجوب الفور ف الطهارة ‪ ،‬وفرقنا بي اليسي والكثي ف التفريق الاصل أثناء‬
‫الطهارة ‪ ،‬فقد يكتفي العامي بذلك حسبما يشهد قلبه ف اليسي أو الكثي ‪ ،‬فتبطل طهارته أو تصح‬
‫بناء على ذلك الواقع ف القلب ‪ ،‬لنه نظر ف مناط الكم ‪.‬‬
‫فإذا ثبت هذا فمن ملك لم شاة ذكية حل له أكله ‪ ،‬لن حليته ظاهرة عنده إذا حصل له شرط‬
‫اللية لتحقيق مناطها بالنسبة إليه ‪ :‬أو ملك لم شاة ميتة ل يل له أكله ‪ ،‬لن تريه ظاهر من جهة‬
‫فقده شرط اللية ‪ ،‬فتحقق مناطها بالنسبة إليه ‪ .‬وكل واحد من الناطي راجع إل ما وقع بقلبه ‪،‬‬
‫واطمأنت إليه نفسه ‪ ،‬ل بسب المر ف نفسه ‪ .‬ال ترى أن اللحم قد يكون واحدا بعينه فيعتقد‬

‫‪284‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫واحد حليته بناء على ما تقق له من مناطه بسبه ‪ ،‬ويعتقد آخر تريه بناء على ما تقق له من مناطه‬
‫بسبه ‪ ،‬فيأكل أحدها حللً ويب على الخر الجتناب ‪ ،‬لنه حرام ؟ ولو كان ما يقع بالقلب‬
‫يشترط فيه أن يدل عليه دليل شرعي ل يصح هذا الثال وكان ما ًل ‪ ،‬لن أدلة الشرع ل تناقض أبدا‬
‫‪ .‬فإذا فرضنا لما أشكل على الالك تقيق مناطه ل ينصرف إل إحدى الهتي ‪ ،‬كاختلط اليتة‬
‫بالذكية ‪ ،‬واختلط الزوجة بالجنبية ‪.‬‬
‫فها هنا قد وقع الريب والشك والشكال والشبهة ‪.‬‬
‫وهذا الناط متاج إل دليل شرعي يبي حكمه ‪ ،‬وهي تلك الحاديث التقدمة ‪ ،‬كقوله ‪" :‬دع ما‬
‫يريبك إل ما ل يريبك" وقوله ‪" :‬الب ما اطمأنت إليه النفس ‪ ،‬والث ما حاك ف صدرك" كأنه يقول‬
‫‪ :‬إذا اعتبنا باصطلحنا ما تققت مناطه ف اللية أو الرمة ‪ ،‬فالكم فيه من الشرع بي ‪.‬‬
‫وما أشكل عليك تقيقه فاتركه وإياك والتلبس به ‪ .‬وهو معن قوله ـ إن صح ـ ‪" :‬استفت قلبك "‬
‫وإن أفتوك فإن تقيك لناط مسألتك أخص بك من تقيق غيك له إذا كان مثلك ‪.‬‬
‫ويظهر ذلك فيما إذا أشكل عليك الناط ول يشكل على غيك ‪ ،‬لنه ل يعرض له ما عرض لك ‪.‬‬
‫وليس الراد بقوله ‪" :‬وإن أفتوك" أي إن نقلوا إليك الكم الشرعي فاتركه وانظر ما يفتيك به قلبك ‪،‬‬
‫فإن هذا باطل ‪ ،‬وتقول على التشريع الق ‪ .‬وإنا الراد ما يرجع إل تقيق الناط ‪.‬‬
‫نعم قد ل يكون ذلك درية أو أنسا بتحقيقه لك غيك ‪ ،‬وتقلده فيه ‪ ،‬وهذه الصورة خارجة عن‬
‫الديث ‪ ،‬كما أنه قد يكون تقيق الناط أيضا موقوفا على تعريف الشارع ‪ ،‬كحد الغن الوجب‬
‫للزكاة ‪ ،‬فإنه يتلف باختلف الحوال ‪ ،‬فحققه الشارع بعشرين دينارا ومائت درهم وأشباه ذلك ‪،‬‬
‫وإنا النظر هنا فيما وكل تقيقه إل الكلف ‪.‬‬
‫فقد ظهر معن السألة وأن الحاديث ل تتعرض لقتناص الحكام الشرعية من طمأنينة النفس أو ميل‬
‫القلب كما أورده السائل الستشكل ‪ ،‬وهو تقيق بالغ ‪ .‬والمد ل الذي بنعته تتم الصالات ‪.‬‬

‫الباب التاسع ‪ .‬ف السبب الذي لجله افترقت فرق البتدعة عن جاعة السلمي‬
‫فاعلموا رحكم ال أن اليات الدالة على ذم البدعة وكثيا من الحاديث أشعرت بوصف لهل‬
‫البدعة ‪ ،‬وهو الفرقة الاصلة ‪ ،‬حت يكونوا بسببها شيعا متفرقة ‪ ،‬ل ينتظم شلهم بالسلم ‪ ،‬وإن‬
‫كانوا من أهله ‪ ،‬وحكم لم بكمه ‪.‬‬
‫أل ترى أن قوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " وقوله تعال ‪:‬‬
‫"ول تكونوا من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا " الية ‪ ،‬وقوله ‪" :‬وأن هذا صراطي‬
‫مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" إل غي ذلك من اليات الدالة على وصف‬
‫التفرق ؟‬

‫‪285‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وف الديث ‪:‬‬


‫"ستفترق أمت على ثلث وسبعي فرقة" والتفرق ناشىء عن الختلف ف الذاهب والراء إن جعلنا‬
‫التفرق معناه بالبدان ـ وهو القيقة ـ وإن جعلنا معن التفرق ف الذاهب ‪ ،‬فهو الختلف كقوله‬
‫‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا" ‪.‬‬

‫للختلف سببان ‪ :‬كسب ‪ ،‬وغي كسب‬


‫فل بد من النظر ف هذا الختلف ما سببه ؟ وله سببان ‪ ( .‬أحدها ) ‪ :‬ل كسب للعبادة فيه ‪ ،‬وهو‬
‫الراجع إل سابق القدر ‪ ،‬والخر هو الكسب وهو القصود بالكلم عليه ف هذا الباب ‪ ،‬إل أن نعل‬
‫السبب الول مقدمة ‪ ،‬فإن فيها معن أصيلً يب التثبت له على من أراد التفقه ف البدع ‪ .‬فنقول‬
‫وال الوفق للصواب ‪:‬‬

‫آية ولو شاء ربك لعل الناس أمة واحدة وتفسيها‬


‫قال ال تعال ‪" :‬ولو شاء ربك لعل الناس أم ًة واحدةً ول يزالون متلفي* إل من رحم ربك ولذلك‬
‫خلقهم" فأخب سبحانه أنم ل يزالون متلفي أبدا ‪ ،‬مع أنه إنا خلقهم للختلف ‪ ،‬وهو قول جاعة‬
‫من الفسرين ف الية ‪ ،‬وأن قوله ‪" :‬ولذلك خلقهم" معناه ‪ :‬وللختلف خلقهم ‪ .‬وهو مروي عن‬
‫مالك بن أنس قال ‪ :‬خلقهم ليكونوا فريقا ف النة وفريقا ف السعي ‪ .‬ونوه عن السن فالضمي ف‬
‫خلقهم عائد على الناس ‪ ،‬فل يكن أن يقع منهم إل ما سبق ف العلم ‪ ،‬وليس الراد ها هنا‬
‫الختلف ف الصور كالسن والقبيح والطويل والقصي ‪ ،‬ول ف اللوان كالحر والسود ‪ ،‬ول ف‬
‫أصل اللقة كالتام اللق والعمى والبصي ‪ ،‬والصم والسميع ‪ ،‬ول ف اللق كالشجاع والبان ‪،‬‬
‫والواد والبخيل ‪ ،‬ول فيما أشبه ذلك من الوصاف الت هم متلفون فيها ‪.‬‬
‫وإنا الراد اختلف آخر وهو الختلف الذي بعث ال النبيي ليحكموا فيه بي الختلفي ‪،‬كما قال‬
‫تعال ‪" :‬كان الناس أمةً واحد ًة فبعث ال النبيي مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالق ليحكم‬
‫بي الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه" الية ‪ ،‬وذلك الختلف ف الراء والنحل والديان‬
‫والعتقدات التعلقة با يسعد النسان به أو يشقى ف الخرة والدنيا ‪.‬‬
‫هذا هو الراد من اليات الت كرر فيها الختلف الاصل بي اللق ‪ ،‬أن هذا الختلف الواقع بينهم‬
‫على أوجه ‪:‬‬

‫فصل أحدها ‪ :‬الختلف ف أصل النحلة‬

‫‪286‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهو قول جاعة من الفسرين ‪ ،‬منهم عطاء قال ‪" :‬ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك ولذلك‬
‫خلقهم " قال قال ‪ :‬اليهود والنصارى والجوس ‪ ،‬والنيفية ـ وهم الذين رحم ربك ـ النيفية ‪،‬‬
‫خرجه ابن وهب وهو الذي يظهر لبادي الرأي ف الية الذكورة ‪.‬‬
‫وأصل هذا الختلف هو ف التوحيد والتوجه للواحد الق سبحانه ‪ ،‬فإن الناس ف عامة المر ل‬
‫يتلفوا ف أن لم مدبرا يدبرهم وخالقا أوجدهم ‪ ،‬إل أنم اختلفوا ف تعيينه على آراء متلفة ‪ .‬من‬
‫قائل بالثني وبالمسة ‪ ،‬وبالطبيعة أو الدهر ‪ ،‬أو بالكواكب ‪ ،‬إل أن قالوا بالدميي وبالشجر‬
‫وبالجارة وما ينحتون بأيديهم ‪.‬‬
‫ومنهم من أقر بواجب الوجود الق لكن على آراء متلفة أيضا ‪ ،‬إل أن بعث ال النبياء مبيني‬
‫لمهم حق ما اختلفوا فيه من باطله ‪ ،‬فعرفوا بالق على ما ينبغي ‪ ،‬ونزهوا رب الرباب عما ل يليق‬
‫بلله من نسبة الشركاء والنداد ‪ ،‬وإضافة الصاحبة والولد ‪ ،‬فأقر بذلك من أقر به ‪ ،‬وهم‬
‫الداخلون تت مقتضى قوله ‪" :‬إل من رحم ربك" وأنكر من أنكر ‪ ،‬فصار إل مقتضى قوله ‪:‬‬
‫"لملن جهنم من النة والناس أجعي " وإنا دخل الولون تت وصف الرحة لنم خرجوا عن‬
‫وصف الختلف إل وصف الوفاق واللفة ‪ ،‬وهو قوله ‪" :‬واعتصموا ببل ال جيعا ول تفرقوا"‬
‫وهو منقول عن جاعة من الفسرين ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز أنه قال ف قوله ‪" :‬ولذلك خلقهم" خلق أهل الرحة أن ل‬
‫يتلفوا ‪ .‬وهو معن ما نقل عن مالك و طاوس ف جامعه ‪ ،‬وبقي الخرون على وصف الختلف ‪،‬‬
‫إذ خالفوا الق الصريح ‪ ،‬ونبذوا الدين الصحيح ‪.‬‬
‫وعن مالك أيضا قال ‪ :‬الذين رحهم ل يتلفوا ‪ .‬وقول ال تعال ‪" :‬كان الناس أمة واحدة فبعث ال‬
‫النبيي مبشرين ومنذرين" إل قوله ‪" :‬فهدى ال الذين آمنوا لا اختلفوا فيه من الق بإذنه" ومعن ‪:‬‬
‫"كان الناس أمة واحدة " فاختلفوا "فبعث ال النبيي " فأخب ف الية أنم اختلفوا ول يتفقوا ‪ ،‬فبعث‬
‫النبيي ليحكموا بينهم فيما اختلفوا فيه من الق ‪ ،‬وأن الذين آمنوا هداهم للحق من ذلك الختلف‬
‫‪.‬‬
‫وف الديث الصحيح ‪:‬‬
‫"نن الخرون السابقون يوم القيامة ‪ ،‬بيد أنم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ‪ ،‬هذا‬
‫يومهم الذي فرض ال عليهم ‪ ،‬فاختلفوا فيه فهدانا ال له ‪ ،‬فالناس لنا فيه تبع ‪ ،‬فاليهود غدا‬
‫والنصارى بعد غد" ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن زيد بن أسلم ف قوله تعال ‪" :‬كان الناس أمة واحدة " فهذا يوم أخذ ميثاقهم‬
‫ل يكونوا أم ًة واحدةً غي ذلك اليوم ‪ " .‬فبعث ال النبيي مبشرين ومنذرين" إل قوله ‪" :‬فهدى ال‬
‫الذين آمنوا لا اختلفوا فيه من الق بإذنه " ‪.‬‬

‫‪287‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وختلفوا ف يوم المعة فاتذ اليهود يوم السبت واتذ النصارى يوم الحد فهدى ال أمة ممد صلى‬
‫ال عليه وسلم ليوم المعة ‪.‬‬
‫واختلفوا ف القبلة فاستقبلت النصارى الشرق ‪ ،‬واستقبلت اليهود بيت القدس ‪ ،‬وهدى ال أمة ممد‬
‫صلى ال عليه وسلم للقبلة ‪.‬‬
‫واختلفوا ف الصلة فمنهم من يركع ول يسجد ‪ ،‬ومنهم من يسجد ول يركع ومنهم من يصلي ول‬
‫يتكلم ‪ ،‬ومنهم من يصلي وهو يشي ‪ ،‬وهدى ال أمة ممد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك ‪.‬‬
‫واختلفوا ف إبراهيم عليه السلم ‪ ،‬فقالت اليهود كان يهوديا ‪ ،‬وقالت النصارى نصرانيا ‪ ،‬وجعله ال‬
‫حنيفا مسلما ‪ ،‬فهدى ال أمة ممد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك ‪.‬‬
‫واختلفوا ف عيسى عليه السلم فكفرت به اليهود وقالوا لمه بتانا عظيما وجعلته النصارى إلا‬
‫وولدا ‪ ،‬وجعله اللخ روحه وكلمته ‪ ،‬فهدى ال أمة ممد صلى ال عليه وسلم للحق من ذلك ‪.‬‬
‫ث إن هؤلء التفقي قد يعرض لم الختلف بسب القصد الثان ل القصد الول ‪ ،‬فإن ال حكم‬
‫بكمته أن تكون فروع هذه اللة قابلة للنظار ومالً للظنون ‪ ،‬وقد ثبت عند النظار أن النظريات ل‬
‫يكن التفاق فيها عادة ‪ ،‬فالظنيات عريقة ف إمكان الختلف ‪ ،‬لكن ف الفروع دون الصول‬
‫وفب الزئيات دون الكليات ‪ ،‬فلذلك ل يضر هذا الختلف ‪.‬‬
‫وقد نقل الفسرون عن السن ف هذه الية أنه قال ‪ :‬أما أهل رحة ال فإنم ل يتلفون اختلفا‬
‫يضرهم ‪ .‬يعن لنه ف مسائل الجتهاد الت ل نص فيها بقطع العذر ‪ ،‬بل لم فيه أعظم العذر ‪ ،‬ومع‬
‫أن الشارع لا علم أن هذا النوع من الختلف واقع ‪ ،‬أتى فيه بأصل يرجع إليه ‪ ،‬وهو قول ال تعال‬
‫‪" :‬فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" الية ‪ ،‬فكل اختلف من هذا القبيل حكم ال فيه‬
‫أن يرد إل ال ‪ ،‬وذلك رده إل كتابه ‪ ،‬وإل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ .‬وذلك رده إليه إذا‬
‫كان حيا وإل سنته بعد موته ‪ ،‬وكذلك فعل العلماء رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫إل أن لقائل أن يقول ‪ :‬هل هم داخلون تت قوله تعال ‪" :‬ول يزالون متلفي" أم ل ؟ والواب ‪:‬‬
‫أنه ل يصح أن يدخل تت مقتضاها أهل هذا الختلف من أوجه ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن الية اقتضت أن أهل الختلف الذكورين مباينون لهل الرحة لقوله ‪" :‬ول يزالون‬
‫متلفي * إل من رحم ربك " فإنا اقتضت قسمي ‪ :‬أهل الختلف ‪ ،‬والرحومي ‪ ،‬فظاهر التقسيم‬
‫أن أهل الرحة ليسوا من أهل الختلف وإل كان قسم الشيء قسيما له ‪ ،‬ول يستقم معن الستثناء‬
‫‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أنه قال فيها ‪" :‬ول يزالون متلفي" فظاهر هذا أن وصف الختلف لزم لم حت أطلق‬
‫عليهم لفظ اسم الفاعل الشعر بالثبوت ‪ ،‬وأهل الرحة مبؤون من ذلك ‪ ،‬لن وصف الرحة يناف‬
‫الثبوت على الخالفة ‪ ،‬بل إن خالف أحدهم ف مسألة فإنا يالف فيها تريا لقصد الشارع فيها ‪،‬‬

‫‪288‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫حت إذا تبي له الطأ فيها راجع نفسه وتلف أمره ‪ ،‬فخلفه ف السألة بالعرض ل بالقصد الول ‪،‬‬
‫فلم يكن وصف الختلف لزما ول ثابتا ‪ ،‬فكان التعبي عنه بالفعل الذي يقتضي العلج والتقطاع‬
‫أليق ف الوضع ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬أنا نقطع بأن اللف ف مسائل الجتهاد واقع من حصل له مض الرحة ‪ ،‬وهم الصحابة‬
‫ومن اتبعهم بإحسان رضي ال عنهم ‪ ،‬بيث ل يصح إدخالم ف قسم الختلفي بوجه ‪ ،‬فلو كان‬
‫الخالف منهم ف بعض السائل معدودا من أهل الختلف ـ ولو بوجه ما ـ ل يصح إطلق القول‬
‫ف حقه ‪ :‬انه من أهل الرحة ‪ .‬وذلك باطل بإجاع أهل السنة ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬أن جاعة من السلف الصال جعلوا اختلف المة ف الفروع ضربا من ضروب الرحة ‪،‬‬
‫وإذا كان من جلة الرحة ‪ ،‬فل يكن أن يكون صاحبه خارجا من قسم أهل الرحة ‪.‬‬
‫وبيان كون الختلف الذكور رحة ما روي عن القاسم بن ممد قال ‪ :‬لقد نفع ال باختلف‬
‫أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم ف العمل ‪ ،‬ل يعمل العامل بعمل رجل منهم إل رأى أنه ف‬
‫سعة ‪ .‬وعن ضمرة بن رجاء قال ‪ :‬اجتمع عمر بن عبد العزيز والقاسم بن ممد فجعل يتذاكرن‬
‫الديث ـ قال ـ فجعل عمر ييء بالشيء يالف فيه القاسم ـ قال ـ وجعل القاسم يشق ذلك‬
‫عليه حت يتبي ذلك فيه فقال له عمر ‪ :‬ل تفعل ! فما يسرن باختلفهم حر النعم ‪ .‬وروى ابن‬
‫وهب عن القاسم أيضا قال ‪ :‬لقد أعجبن قول عمر بن عبد العزيز ‪ :‬ما أحب أن أصحاب ممد‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم ل يتلفون ‪ ،‬لنه لو كان قولً واحدا لكان الناس ف ضيق ‪ ،‬وإنم‬
‫أئمة يقتدى بم ‪ ،‬فلو أخذ رجل بقول أحدهم كان سنة ‪.‬‬
‫ومعن هذا أنم فتحوا للناس باب الجتهاد وجواز الختلف فيه ‪ ،‬لنم لو ل يفتحوه لكان‬
‫الجتهدون ف ضيق ‪ ،‬لن مال الجتهاد ومالت الظنون ل تتفق عادة ـ كما تقدم ـ فيضي أهل‬
‫الجتهاد مع تكليفهم باتباع ما غلب على ظنونم مكلفي باتباع خلفهم ‪ ،‬وهو نوع من تكليف ما‬
‫ل يطاق ‪ ،‬وذلك من أعظم الضيق ‪ .‬فوسع ال على المة بوجود اللف الفروعي فيهم ‪ ،‬فكان فتح‬
‫باب المة ‪ ،‬للدخول ف هذه الرحة ‪ ،‬فكيف ل يدخلون ف قسم من رحم ربك ؟ ! فاختلفهم‬
‫ف الفروع كاتفاقهم فيها ‪ ،‬والمد ل ‪.‬‬
‫وبي هذين الطريقي واسطة أدن من الرتبة الول وأعلى من الرتبة الثانية ‪ ،‬وهي أن يقع التفاق ف‬
‫أصل الدين ‪ ،‬ويقع الختلف ف بعض قواعده الكلية ‪ ،‬وهو الؤدي إل التفرق شيعا ‪.‬‬
‫فيمكن أن تكون الية تنتظم هذا القسم من الختلف ‪ ،‬ولذلك صح عنه صلى ال عليه وسلم ‪" :‬أن‬
‫أمته تفترق على بضع و سبعي فرقة "‪ ،‬وأخب ‪:‬‬
‫"أن هذه المة تتبع سنن من كان قبلها شبا بشب وذراعا بذراع "‪ ،‬وشل ذلك الختلف الواقع ف‬
‫المم قبلنا ‪ ،‬ويرشحه وصف أهل البدع بالضللة وإيعادهم بالنار ‪ ،‬وذلك بعيد من تام الرحة ‪.‬‬

‫‪289‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ولقد كان عليه الصلة والسلم حريصا على ألفتنا وهدايتنا ‪ ،‬حت ثبت من حديث ابن عباس رضي‬
‫ال عنهما أنه قال ‪ " :‬لا حضر النب صلى ال عليه وسلم ـ قال وف البيت رجال فيهم عمر بن‬
‫الطاب رضي ال عنهم ـ فقال ‪ :‬هلم أكتب لكم كتابا لن تضلوا بعده‪ ،‬فقال عمر ‪ :‬إن النب‬
‫صلى ال عليه وسلم غلبه الوجع ‪ ،‬وعندكم القرآن فحسبنا كتاب ال ‪ ،‬واختلف أهل البيت‬
‫واختصموا فمنهم من يقول ‪ :‬قربوا يكتب لكم رسول ال صلى ال عليه وسلم كتابا لن تضلوا بعده‬
‫ومنهم من يقول كما قال عمر‪ ،‬فلما كثر اللغط والختلف عند النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫قوموا عن فكان ابن عباس يقول ‪ :‬إن الرزية كل الرزية ما حال بي رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫وبي أن يكتب لم ذلك الكتاب من اختلفهم ولغطهم"‪.‬‬
‫فكان ذلك ـ وال أعلم ـ وحيا أوحى ال إليه أنه إن كتب لم ذلك الكتاب ل يضلوا بعده البتة ‪،‬‬
‫فتخرج المة عن مقتضى قوله ‪" :‬ول يزالون متلفي" بدخولا تت قوله ‪" :‬إل من رحم ربك" فأب‬
‫ال إل ما سبق به علمه من اختلفهم كما اختلف غيهم ‪ .‬رضينا بقضاء ال وقدره ‪ ،‬ونسأله أن‬
‫يثبتنا على الكتاب والسنة ‪ ،‬وييتنا على ذلك بفضله ‪.‬‬
‫وقد ذهب جاعة من الفسرين إل أن الراد بالختلفي ف الية أهل البدع ‪ ،‬وأن من رحم ربك أهل‬
‫السنة ‪ ،‬ولكن لذا الكتاب أصل يرجع إل سابق القدر ل مطلقا ‪ ،‬بل مع إنزال القرآن متمل العبارة‬
‫للتأويل ‪ ،‬وهذا ل بد من بسطه ‪.‬‬
‫فاعلموا أن الختلف ف بعض القواعد الكلية ل يقع ف العاديات الارية بي التبحرين ف علم‬
‫الشريعة الائضي ف لتها العظمى ‪ ،‬العالي بواردها ومصادرها ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك اتفاق العصر الول وعامة العصر الثان على ذلك ‪ ،‬وإنا وقع اختلفهم ف القسم‬
‫الفروغ منه آنفا ‪ ،‬بل كل على الوصف الذكور وقع بعد ذلك فله أسباب ثلثة قد تتمع وقد تفترق‬
‫‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يعتقد النسان ف نفسه أو يعتقد فيه أنه من أهل العلم والجتهاد ف الدين ـ ول يبلغ‬
‫تلك الدرجة ـ فيعمل على ذلك ‪ ،‬ويعد رأيه رأيا وخلفه خلفا ‪ ،‬ولكن تارة يكون ذلك ف جزئي‬
‫وفرع من الفروع ‪ ،‬وتارة يكون ف كل أصل من أصول الدين ـ كان من الصول العتقادية أو من‬
‫الصول العملية ـ فتارة آخذا ببعض جزئيات الشريعة ف هدم كلياتا ‪ ،‬حت يصي منها ما ظهر له‬
‫بادىء رأيه من غي إحاطة بعانيها ول رسوخ ف فهم مقاصدها ‪ ،‬وهذا هو البتدع ‪ ،‬وعليه نبه‬
‫الديث الصحيح أنه صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"ل يقبض ال العلم انتزاعا ينتزعه من الناس ‪ ،‬ولكن يقبض العلم بقبض العلماء ‪ ،‬حت إذا ل يبق عال‬
‫إتذ الناس رؤساء جهالً فسئلوا فأفتوا بغي علم فضلوا وأضلوا" ‪.‬‬

‫‪290‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قال بعض أهل العلم ‪ :‬تقدير هذا الديث يدل على أنه ل يؤتى الناس قط من قبل علمائهم ‪ ،‬وإنا‬
‫يؤتون من قبل أنه إذا مات علماؤهم أفت من ليس بعال ‪ .‬فيؤتى الناس من قبله ‪ ،‬وقد صرف هذا‬
‫العن تصريفا ‪ ،‬فقيل ‪ :‬ما خان أمي قط ولكنه ائتمن غي أمي فخان ‪ .‬قال ونن نقول ‪ :‬ما ابتدع‬
‫عال قط ‪ ،‬ولكنه استفت من ليس بعال ‪.‬‬
‫قال مالك بن أنس ‪ :‬بكى ربيعة يوما بكاءً شديدا ‪ ،‬فقيل له ‪ :‬مصيبة نزلت بك ؟ فقال ل! ولكن‬
‫استفت من ل علم عنده ‪.‬‬
‫وف البخاري عن أب هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬قبل الساعة‬
‫سنون خداعا ‪ ،‬يصدق فيهن الكاذب ‪ ،‬ويكذب فيهن الصادق ‪ ،‬ويون فيهن المي ‪ ،‬ويؤتن‬
‫الائن ‪ ،‬وينطق فيهن الرويبضة" قالوا ‪ :‬هو الرجل التافة القي ينطق ف أمور العامة ‪ ،‬كأنه ليس بأهل‬
‫أن يتكلم ف أمور العامة فيتكلم ‪.‬‬
‫وعن عمر بن الطاب رضي ال عنه قال ‪ :‬قد علمت مت يهلك الناس ! إذا جاء الفقه من قبل‬
‫الصغي عليه الكبي ‪ ،‬وإذا جاء الفقه من قبل الكبي تابعه الصغي فاهتديا ‪.‬‬
‫وقال ابن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬ل يزال الناس بي ما أخذوا العلم من أكابرهم ‪ ،‬فإذا أخذوه عن‬
‫أصاغرهم وشرارهم هلكوا ‪.‬‬
‫واختلف العلماء فيما أراد عمر بالصغار ‪ ،‬فقال ابن البارك ‪ :‬هم أهل البدع ‪ ،‬وهو موافق ‪ ،‬لن أن‬
‫أهل البدع أصاغر ف العلم ‪ ،‬ولجل ذلك صاروا أهل بدع ‪.‬‬
‫وقال الباجي ‪ :‬يتمل أن يكون الصاغر من ل علم عنده ‪ .‬قال ‪ :‬وقد كان عمر يستشي الصغار ‪،‬‬
‫وكان القراء أهل مشاورته كهولً وشبانا ‪ .‬قال ‪ :‬ويتمل أن يريد بالصاغر من ل قدر له ول حال‬
‫‪ ،‬ول يكون ذلك إل بنبذ الدين والروءة ‪ .‬فأما من التزمهما فل بد أن سو أمره ‪ ،‬ويعظم قدره ‪.‬‬
‫وما يوضح هذا التأويل ما خرجه ابن وهب بسند مقطوع عن السن قال ‪ :‬العامل على غي علم‬
‫كالسائر على غي طريق ‪ ،‬والعامل على غي علم ما يفسد أكثر ما يصلح ‪ ،‬فاطلبوا العلم طلبا ل يضر‬
‫بترك العبادة ‪ ،‬واطلبوا العبادة طلبا ل يضر بترك العلم ‪ ،‬فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حت‬
‫خرجوا بأسيافهم على أمة ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ولو طلبوا العلم ل يدلم على ما فعلوا ـ يعن‬
‫الوارج ـ وال أعلم ‪ ،‬لنم قرؤوا القرآن ول يتفقهوا فيه حسبما أشار إليه الديث ‪.‬‬
‫"يقرؤون القرآن ل ياوز تراقيهم" ‪.‬‬
‫وروي عن مكحول أنه قال ‪ :‬تفقه الرعاع فساد الدين والدنيا ‪ ،‬وتفقه السفلة فساد الدين ‪.‬‬
‫وقال الفرياب ‪ :‬كان سفيان الثوري إذا رأى هؤلء النبط يكتبون العلم تغي وجهه ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا أبا‬
‫عبد ال ! أراك إذا رأيت هؤلء يكتبون العلم يشتد عليك ‪ .‬قال ‪ :‬كان العلم ف العرب وف سادات‬
‫الناس ‪ ،‬وإذا خرج عنهم وصار إل هؤلء النبط والسفلة غي الدين ‪.‬‬

‫‪291‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذه الثار أيضا إذا حلت على تأويل التقدم استدت واستقامت ‪ ،‬لن ظواهرها مشكلة ‪ ،‬ولعلك‬
‫إذا استقريت أهل البدع من التكلمي ‪ ،‬أو أكثرهم وجدتم من أبناء سبايا المم ‪ ،‬ومن ليس له‬
‫أصالة ف اللسان العرب ‪ ،‬فعما قريب يفهم كتاب ال على غي وجهه ‪ ،‬كما أن من ل يتفقه ف‬
‫مقاصد الشريعة فهمها على غي وجهها ‪.‬‬

‫والثان من أسباب اللف إتباع الوى‬


‫ولذلك سي أهل البدع أهل الهواء لنم اتبعوا أهواءهم فلم يأخذوا الدلة الشرعية مأخذ الفتقار‬
‫إليها ‪ ،‬والتعويل عليها ‪ ،‬حت يصدروا عنها ‪ ،‬بل قدموا أهوءاهم ‪ ،‬واعتمدوا على آرائهم ‪ ،‬ث جعلوا‬
‫الدلة الشرعية منظورا فيها من وراء ذلك ‪ ،‬وأكثر هؤلء هم أهل التحسي والتقبيح ‪ ،‬ومن مال إل‬
‫الفلسفة وغيهم ‪ ،‬ويدخل ف غمارهم من كان منهم يشى السلطي لنيل ما عندهم ‪ ،‬أو طلبا‬
‫للرياسة ‪ ،‬فل بد أن ييل مع الناس بواهم ‪ ،‬ويتأول عليهم فيما أرادوا ‪ ،‬حسبما ذكره العلماء ونقله‬
‫من مصاحب السلطي ‪.‬‬
‫فالولون ردوا كثيا من الحاديث الصحيحة بعقلوهم ‪ ،‬وأساؤوا الظن با صح عن النب صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬وحسنوا ظنهم بآرائهم الفاسدة ‪ ،‬حت ردوا كثيا من أمور الخرة وأحوالا من الصراط‬
‫واليزان ‪ ،‬وحشر الجساد ‪ ،‬والنعيم والعذاب السمي ‪ ،‬وأنكروا رؤية الباري ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪ ،‬بل‬
‫صيوا العقل شارعا جاء الشرع أو ل ‪ ،‬بل إن جاء فهو كاشف لقتضى ما حكم به العقل ‪ ،‬إل غي‬
‫ذلك من الشناعات ‪.‬‬
‫والخرون خرجوا عن الادة إل البينات ‪ ،‬وإن كانت مالفة لطلب الشريعة ‪ ،‬حرصا على أن يغلب‬
‫عدوه ‪ ،‬أو يفيد وليه ‪ ،‬أو ير إل نفسه نفعا ‪ ،‬كما ذكروا عن ممد بن يي بن لبابة أخي الشيخ ابن‬
‫لبابة الشهور ‪ ،‬فإنه عزل عن قضاء ألبية ث عزل عن الشورى لشياء نقمت عليه ‪ ،‬وسجل بسخطته‬
‫القاضي حبيب بن زيادة ‪ ،‬وأمر بإسقاط عدالته وإلزامه بيته ‪ ،‬وأن ل يفت أحدا ‪.‬‬
‫ث إن الناصر احتاج إل شراء مشر من أحباس الرضى بقرطبة بعدوة النهر ‪ ،‬فشكا إل القاضي ابن‬
‫بقي ضرورته إليه لقابلته منهة ‪ ،‬وتأذية برؤيتهم ‪ .‬أو أن تطلعه من عللية ‪ .‬فقال له ابن بقي ‪ :‬ل‬
‫حيلة عندي فيه ‪ ،‬وهو أول أن ياط برمة البس فقال له ‪ :‬تكلم مع الفقهاء فيه وعرفهم رغبت ‪،‬‬
‫وما أجزله من أضعاف القيمة فيه ‪ .‬فلعلهم أن يدوا ل ف ذلك رخصة ‪ .‬فتكلم ابن بقي معهم فلم‬
‫ل ‪ ،‬فغضب الناصر عليهم وأمر الوزراء بالتوجيه فيهم إل القصر ‪ ،‬وتوبيخهم ‪ ،‬فجرت‬ ‫يدوا إليه سبي ً‬
‫بينهم وبي بعض الوزراء مكالة ‪ ،‬ول يصل الناصر معهم إل مقصوده ‪.‬‬
‫وبلغ ابن لبابة هذا الب فدفع إل الناصر بعضا من أصحابه الفقهاء ويقول ‪ :‬إنم حجروا عليه واسعا‬
‫‪ .‬ولو كان حاضرا لفتاه بواز العارضة ‪ ،‬وتقلد حقا وناظر أصحابه فيها ‪ .‬فوقع المر بنفس الناصر‬

‫‪292‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫‪ ،‬وأمر بإعادة ممد بن لبابة إل الشورى على حالته الول ‪ ،‬ث أمر القاضي بإعادة الشورة ف السألة‬
‫‪ .‬فاجتمع القاضي والفقهاء وجاء ابن لبابة آخرهم ‪ .‬وعرفهم القاضي ابن بقي بالسألة الت جعهم من‬
‫أجلها وغبطة العارضة ‪.‬‬
‫فقال جيعهم بقولم الول من النع من تغيي البس عن وجهه ـ وابن لبابة ساكت ـ فقال له‬
‫القاضي ‪ :‬ما تقول أنت يا أبا عبد ال ؟ قال ‪ :‬أما قول إمامنا مالك بن أنس فالذي قاله أصحابنا‬
‫ل ‪ ،‬وهم علماء أعلم يقتدى بم أكثر المة ‪،‬‬ ‫الفقهاء ‪ .‬وأما أهل العراق فإنم ل ييزون البس أص ً‬
‫وإذا بأمي الؤمني من الاجة إل هذا الجشر ما به ‪ ،‬فما ينبغي أن يرد عنه ‪ ،‬وله ف السنة فسحة ‪،‬‬
‫وأنا أقول بقول أهل العراق ‪ ،‬وأتقلد ذلك رأيا ‪.‬‬
‫فقال له الفقهاء ‪ :‬سبحان ال ! تترك قول مالك الذي أفت به أسلفنا ومضوا عليه واعتقدناه بعدهم‬
‫وأفتينا به ل نيد عنهم بوجه ‪ ،‬وهو رأي أمي الؤمني ورأي الئمة آبائه ؟ فقال لم ممد بن يي ‪:‬‬
‫ناشدتكم ال العظيم ! أل تنل بأحد منكم ملمة بلغت بكم أن أخذت فيها بغي قول مالك ف خاصة‬
‫أنفسكم ‪ .‬وأرخصتم لنفسكم ف ذلك ؟ قالوا ‪ :‬بلى ! قال ‪ :‬فأمي الؤمني أول بذلك ‪ ،‬فخذوا به‬
‫مأخذكم ‪ ،‬وتعلقوا بقول من يوافقه من العلماء فكلهم قدوة ‪ .‬فسكتوا ‪ .‬فقال للقاضي ‪ :‬أنه إل أمي‬
‫الؤمني فتياي ‪.‬‬
‫فكتب القاضي إل أمي الؤمني بصورة الجلس ‪ ،‬وبقي مع أصحابه بكانم إل أن أتى الواب بأن‬
‫يؤخذ له بفتيا ممد بن لبابة ‪ ،‬وينفذ ذلك ويعوض الرضى من هذا الجشر بأملك ثينة عجيبة ‪،‬‬
‫وكانت عظيمة القدر جدا ‪ ،‬تزيد أضعافا على الجشر ‪ .‬ث جيء بكتاب من عند أمي الؤمني منه إل‬
‫ابن لبابة بولية خطة الوثائق ليكون هو التول لعقد هذه العارضة ‪ ،‬فهنء بالولية ‪ ،‬وأمضى القاضي‬
‫الكم بفتواه وأشهد عليه وانصرفوا ‪ ،‬فلم يزل ابن لبابة يتقلد خطة الوثائق والشورى إل أن مات‬
‫سنة ‪ 336‬ست وثلثي وثلثائة ‪.‬‬
‫قال القاضي عياض ‪ :‬ذاكرت بعض مشاينا مرة بذا الب ‪ ،‬فقال ‪ :‬ينبغي أن يضاف هذا الب الذي‬
‫حل سجل السخطة إل سجل السخطة ‪ ،‬فهو أول وأشد ف السخطة ما تضمنه ـ أو كما قال ‪.‬‬
‫ل من وجهي ‪:‬‬ ‫فتأملوا كيف اتباع الوى ‪ ،‬وأول أن ينتهي بصاحبه فشأن مثل هذا ل يل أص ً‬
‫احدها ‪ :‬أنه ل يتحقق الذهب الذي حكم به ‪ ،‬لن أهل العراق ل يبطلون الحباس هكذا على‬
‫الطلق ‪ ،‬ومن حكى عنهم ذلك ‪ ،‬فإما على غي تثبيت ‪ ،‬وإما أنه كان قولً لم رجعوا عنه ‪ ،‬بل‬
‫مذهبهم يقرب من مذهب مالك حسبما هو مذكور ف كتب النفية ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أنه إن سلمنا فل يصح للحاكم أن يرجع ف حكمه ف أحد القولي بالحبة والمارة أو قضاء‬
‫الاجة ‪ ،‬إنا الترجيح بالوجوه العتبة شرعا ‪ ،‬وهذا متفق عليه بي العلماء ‪ ،‬فكل من اعتمد على‬

‫‪293‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫تقليد قول غي مقق ‪ ،‬أو رجح بغي معن فقد خلع الربقة واستند إل غي شرع ‪ ،‬عافانا ال من ذلك‬
‫بفضله ‪.‬‬
‫فهذه الطريقة ف الفتيا من جلة البدع الحدثات ف دين ال تعال ‪ ،‬كما أن تكيم العقل على الدين‬
‫مطلقا مدث ‪ ،‬وسيأت بيان ذلك بعد إن شاء ال ‪.‬‬
‫وقد ثبت بذا وجه اتباع الوى ‪ ،‬وهو أصل الزيغ عن الصراط الستقيم ‪ .‬قال ال تعال ‪" :‬هو الذي‬
‫أنزل عليك الكتاب منه آيات مكمات هن أم الكتاب وأخر متشابات فأما الذين ف قلوبم زيغ " ـ‬
‫أي ميل عن الق ـ "فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله" وقد تقدم معن الية ‪ ،‬فمن‬
‫شأنم أن يتركوا الواضح ويتبعوا التشابه ‪ ،‬عكس ما عليه الق ف نفسه ‪.‬‬
‫وقد روي عن ابن عباس رضي ال عنهما ـ وذكرت الوارج وما يلقون ف القرآن فقال ‪ :‬يؤمنون‬
‫بحكمه ‪ ،‬ويهلكون عند متشابه ‪ ،‬وقرأ ابن عباس الية ‪ .‬خرجه ابن وهب ‪.‬‬
‫وقد دل على ذمة القرآن ف قوله ‪" :‬أفرأيت من اتذ إله هواه" الية ‪ ،‬ول يأت ف القرآن ذكر الوى‬
‫إل ف معرض الذم ‪ .‬حكى ابن وهب عن طاوس أنه قال ‪ :‬ما ذكر ال هوى ف القرآن إل ذمه ‪،‬‬
‫وقال ‪" :‬ومن أضل من اتبع هواه بغي هدى من ال" إل غي ذلك من اليات ‪ .‬وحكى أيضا عن عبد‬
‫الرحن بن مهدي أن رجلً سأل إبراهيم النخعي عن الهواء ‪ :‬أيها خي ؟ فقال ‪ :‬ما جعل ال ف‬
‫شيء منها مثقال ذرة من خي وما هي إل زينة الشيطان وما المر إل المر الول ‪ .‬يعن ما كان عليه‬
‫السلف الصال ‪.‬‬
‫ل أتى ابن عباس رضي ال عنهما ‪ ،‬فقال ‪ :‬أنا على هواك ‪ .‬فقال له ابن‬ ‫وخرج عن الثوري أن رج ً‬
‫عباس ‪ :‬الوى كله ضللة ‪ :‬أي شيء انا على هواك ؟ ‪.‬‬

‫والثالث من أسباب اللف التصميم على إتباع العوائد وإن فسدت أو كانت مالفة للحق‬
‫وهو إتباع ما كان عليه الباء والشياخ ‪ ،‬وأشباه ذلك ‪ ،‬وهو التقليد الذموم ‪ ،‬فإن ال ذم بذلك ف‬
‫كتابه بقوله ‪" :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة " الية ‪ .‬ث قال ‪ " :‬قال أو لو جئتكم بأهدى ما وجدت عليه‬
‫آباءكم قالوا إنا با أرسلتم به كافرون " وقوله ‪" :‬هل يسمعونكم إذ تدعون * أو ينفعونكم أو‬
‫يضرون" فنبههم على وجه الدليل الواضح فاستمسكوا بجرد تقليد الباء ‪ ،‬فقالوا ‪" :‬بل وجدنا آباءنا‬
‫كذلك يفعلون" وهو مقتضى الديث التقدم أيضا ف قوله ‪:‬‬
‫"اتذ الناس رؤساء جهالً" إل آخره ‪ ،‬فإنه يشي إل الستنان بالرجال كيف كان ‪.‬‬
‫وفيما يروى عن علي بن أب طالب رضي ال عنه ‪ :‬إياكم والستنان بالرجال ‪ ،‬فإن الرجل يعمل‬
‫بعمل أهل النة ث ينقلب لعلم ال فيه فيعمل أهل النار فيموت وهو من أهل النار ‪ ،‬وإن الرجل ليعمل‬
‫بعمل أهل النار ‪ ،‬فينقلب لعلم ال فيعمل بعمل أهل النة فيموت وهو من أهل النة ‪ ،‬فإن كنتم ل‬

‫‪294‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بد فاعلي ‪ ،‬فبالموات ل بالحياء ‪ .‬فهو إشارة إل الخذ بالحتياط ف الدين ‪ ،‬وأن النسان ل‬
‫ينبغي له أن يعتمد على عمل أحد البتة ‪ ،‬حت يتثبت فيه ويسأل عن حكمه ‪ ،‬إذ لعل العتمد على‬
‫عمله يعمل على خلف السنة ‪ .‬ولذلك قيل ‪ :‬ل تنظر إل عمل العال ‪ .‬ولكن سله يصدقك ‪ .‬وقالوا‬
‫‪ :‬ضعف الروية أن يكون رأى فلنا يعمل مثله ‪ .‬ولعله فعله ساهيا ‪ .‬وليس من هذا القبيل عمل أهل‬
‫الدينة ‪ .‬وما أشبه ذلك ‪ .‬لنه دليل ثابت عند جاعة من العلماء على وجه ليس ما نن فيه ‪.‬‬
‫وقول علي رضي ال عنه ‪ :‬فإن كنتم ل بد فاعلي فبالموات نكتة ف الوضع ‪.‬‬
‫يعن الصحابة ‪ ،‬ومن جرى مراهم من يؤخذ بقوله ويعتمد على فتواه ‪ .‬وأما غيهم من ل يل ذلك‬
‫الحل فل ‪ .‬كأن يرى النسان رجلً يسن اعتقاده فيه فيفعل فعلً متملً أن يكون مشروعا أو غي‬
‫مشروع فيقتدى به على الطلق ويعتمد عليه ف التعبد ‪ .‬ويعله حجة ف دين ال ‪ ،‬فهذا هو الضلل‬
‫بعينه ‪ .‬وما ل يتثبت بالسؤال والبحث عن حكم الفعل من هو أهل الفتوى ‪.‬‬
‫وهذا الوجه هو الذي مال بأكثر التأخرين من عوام البتدعة ‪ ،‬إذا اتفق أن ينضاف إل شيخ جاهل أو‬
‫ل يبلغ مبلغ العلماء ‪ ،‬فياه يعمل عملً فيظنه عبادة فيقتدى به ‪ .‬كائنا ما كان ذلك العمل ‪ .‬موافقا‬
‫للشرع أو مالفا ‪ .‬ويتج به على من يرشده ويقول ‪ :‬كان الشيخ فلن من الولياء وكان يفعله وهو‬
‫أول أن يقتدى به علماء الظاهر ‪ .‬فهو ف القيقة راجع إل تقليد من حسن ظنه فيه أخطأ أو أصاب‬
‫‪ .‬كالذين قلدوا آباءهم سواء ‪ .‬وإنا قصارى هؤلء أن يقولوا ‪ :‬إن آباءنا أو شيوخنا ل يكونوا‬
‫ينتحلون مثل هذه المور سدى ‪.‬‬
‫وما هي إل مقصودة بالدلئل والباهي مع أنم يرون أن ل دليل عليها ‪ .‬ول برهان يقود إل القول‬
‫با ‪.‬‬

‫فصل هذه السباب الثلثة راجعة ف التحصيل إل وجه واحد‬


‫هذه السباب الثلثة راجعة ف التحصيل إل وجه واحد ‪:‬وهو الهل بقاصد الشريعة والتخرص على‬
‫معانيها بالظن من غي تثبت ‪ ،‬أو الخذ فيها بالنظر الول ‪ ،‬ول يكون ذلك من راسخ ف العلم ‪ .‬أل‬
‫ترى إل أن الوارج كيف خرجوا عن الدين كما يرج السهم من الصيد الرمي ؟ لن رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وصفهم ‪:‬‬
‫بأنم يقرؤن القرآن ل ياوز تراقيهم ‪ ،‬يعن ـ وال أعلم ـ أنم ل يتفقهون به حت يصل إل قولبهم‬
‫لن الفهم راجع إل القلب ‪ ،‬فإذا ل يصل إل القلب ل يصل فيه فهم على حال ‪ ،‬وإنا يقف عند‬
‫مل الصوات والروف فقط ‪ ،‬وهو الذي يشترك فيه من يفهم ومن ل يفهم ‪ ،‬وما تقدم أيضا من‬
‫قوله عليه الصلة والسلم ‪":‬إن ال ل يقبض العلم انتزاعا" إل آخره ‪.‬‬

‫‪295‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقد وقع لبن عباس تفسي ذلك على معن ما نن فيه ‪ ،‬فخرج أبو عبيد ف فضائل القرآن ‪ ،‬و سعيد‬
‫بن منصور ف تفسيه عن إبراهيم التميمي قال ‪ :‬خل عمر رضي ال عنه ذات يوم ‪ ،‬فجعل يدث‬
‫نفسه ‪ :‬كيف تتلف هذه المة ونبيها واحد ؟ فأرسل إل ابن عباس رضي ال عنهما فقال ‪ :‬كيف‬
‫تتلف هذه المة ونبيها واحد وقبلتها واحدة ـ زاد سعيد وكتابا واحد ـ قال ‪ ،‬فقال ابن عباس ‪:‬‬
‫يا أمي الؤمني ‪ :‬إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ‪ ،‬وعلمنا فيما أنزل ‪ ،‬وأنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون‬
‫القرآن ول يدرون فيما نزل ‪ ،‬فيكون لكل قوم فيه رأي فإذا كان كذلك اختلفوا ‪ ،‬وقال سعيد ‪:‬‬
‫فيكون لكل قوم رأي ‪ ،‬فإذا كان لكل قوم فيه رأي اختلفوا ‪ ،‬فإذا اختلفوا اقتتلوا ‪ .‬قال ‪ :‬فزجره عمر‬
‫وانتهره علي فانصرف ابن عباس ‪ ،‬ونظر عمر فيما قال فعرفه ‪ ،‬فأرسل إليه وقال ‪ :‬أعد علي ما قلته ‪.‬‬
‫فأعاد عليه ‪ ،‬فعرف عمر قوله وأعجبه ‪.‬‬
‫وما قاله ابن عباس رضي ال عنهما هو الق ‪ ،‬فإنه إذا عرف الرجل فيما نزلت الية أو السورة عرف‬
‫مرجها وتأويلها وما قصد با ‪ ،‬فلم يتعد ذلك فيها ‪ ،‬وإذا جهل فيما أنزلت احتمل النظر فيها أوجها‬
‫‪ .‬فذهب كل إنسان مذهبا ل يذهب إليه الخر ‪ ،‬وليس عندهم من الرسوخ ف العلم ما يهديهم إل‬
‫الصواب ‪ ،‬أو يقف بم دون اقتحام حى الشكلت ‪ ،‬فلم يكن بد من الخذ ببادىء الرأي ‪ ،‬أو‬
‫التأويل بالتخرص الذي ل يغن من الق شيئا ‪ ،‬إذ ل دليل عليه من الشريعة ‪ ،‬فضلوا وأضلوا ‪.‬‬
‫وما يوضح ذلك ما خرجه ابن وهب عن بكي أنه سأل نافعا ‪ :‬كيف رأي ابن عمر ف الرورية ؟‬
‫قال ‪ :‬يراهم شرار خلق ال إنم انطلقوا إل آيات أنزلت ف الكفار فجعلوها على الؤمني ‪ .‬فسر‬
‫سعيد بن جبي من ذلك ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما يتبع الرورية من التشابه قول ال تعال ‪" :‬ومن ل يكم با‬
‫أنزل ال فأولئك هم الكافرون" ويقرنون معها ‪" :‬ث الذين كفروا بربم يعدلون" فإذا رأوا المام‬
‫يكم بغي الق قالوا ‪ :‬قد كفر ‪ ،‬ومن كفر عدل بربه ومن عدل بربه فقد أشرك ‪ ،‬فهؤلء مشركون‬
‫خرجوا على المة يقتلون ما يرونه مالفا لم لنم يتأولون هذه الية ‪ .‬فهذا معن الرأي الذي نبه‬
‫عليه ابن عباس ‪ ،‬وهو الناشىء عن الهل بالعن الذي نزل فيه القرآن ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فرضت الختلف التكلم عنه ف واسطة بي طرفي ‪ .‬فكان من الواجب أن تردد النظر فيه‬
‫عليهما ‪ .‬فلم تفعل ‪ .‬بل رددته إل الطرف الول ف الذم والضلل ‪ .‬ول تعتبه بانب الختلف‬
‫الذي ل يضي ‪ ،‬وهو الختلف ف الفروع ‪.‬‬
‫فالواب عن ذلك ‪ :‬أن كون ذلك القسم واسطة بي الطرفي ل يتاج إل بيانه إل من الهة الت‬
‫ذكرنا ‪ .‬أما الهة الخرى ‪ ،‬فإن عدم ذكرهم ف هذه المة وإدخالم فيها أوضح أن هذا الختلف‬
‫ل يلحقهم بالقسم الول ‪ ،‬وإل فلو كان ملحقا لم به ل يقع ف المة اختلف ول فرقة ‪ .‬ول أخب‬
‫الشارع به ‪ .‬ول نبه السلف الصال عليه فكما أنه لو فرضنا اتفاق اللق على اللة بعد [ما ] كانوا‬
‫مفارقي لا ل نقل ‪ :‬اتفقت المة بعد اختلفها ‪ .‬كذلك ل نقول ‪ :‬اختلفت المة ‪ .‬وافترقت المة‬

‫‪296‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بعد اتفاقها ‪ .‬أو خرج بعضهم إل الكفر بعد السلم ‪ .‬وإنا يقال ‪ :‬افترقت وتفترق المة ‪ .‬إذا كان‬
‫الفتراق واقعا فيها مع بقاء اسم المة هذا هو القيقة ‪ .‬ولذلك " قال رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫ف الوارج ‪ :‬يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ث قال ‪" :‬وتتمارى ف الفوق " وف رواية‬
‫‪:‬‬
‫"فينظر الرامي إل سهمه إل نصله إل رصافه فيتمارى ف الفوقة ‪ :‬هل علق با من الدم شيء"‬
‫و"التمارى ف الفوق "فيه هل فيه فرث ودم أم ل ؟ شك بسب التمثيل ‪ :‬هل خرجوا من السلم‬
‫ل‪.‬‬‫حقيقة؟ وهذه العبارة ل يعب با عمن خرج من السلم بالرتداد مث ً‬
‫وقد اختلفت المة ف تكفي هؤلء الفرق أصحاب البدع العظمى ‪ .‬ولكن الذي يقوى ف النظر‬
‫وبسب الثر عدم القطع بتكفيهم ‪ .‬والدليل عليه عمل السلف الصال فيهم ‪ ،‬أل ترى إل صنع علي‬
‫رضي ال عنه ف الوارج ؟ وكونه عاملهم ف قتالم معاملة أهل السلم على مقتضى قول ال تعال‬
‫‪" :‬وإن طائفتان من الؤمني اقتتلوا فأصلحوا بينهما" ‪ ،‬فإنه لا اجتمعت الرورية وفارقت الماعة ل‬
‫يهيجهم علي ول قاتلهم ‪ ،‬ولو كانوا بروجهم مرتدين ل يتركهم ‪ ،‬لقوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"من بدل دينه فاقتلوه" ولن أبا بكر رضي ال عنه خرج لقتال أهل الردة ول يتركهم ‪ ،‬فدل ذلك‬
‫على اختلف ما بي السألتي ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فحي ظهر معبد الهن وغيه من أهل القدر ل يكن من السلف الصال لم إل الطرد‬
‫والبعاد والعداوة والجران ‪ ،‬ولو كانوا خرجوا إل كفر مض لقاموا عليهم الد القام على الرتدين‬
‫‪ ،‬وعمر بن عبد العزيز أيضا لا خرج ف زمانه الرورية بالوصل أمر بالكف عنهم على ما أمر به‬
‫علي رضي ال عنه ‪ ،‬ول يعاملهم معاملة الرتدين ‪.‬‬
‫ومن جهة العن ! إنا وإن قلنا ‪ :‬إنم متبعون الوى ‪ ،‬ولا تشابه من الكتاب ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله‬
‫‪ ،‬فإنم ليسوا بتبعي للهوى بإطلق ‪ ،‬ول متبعي لا تشابه من الكتاب من كل وجه ‪ ،‬ولو فرضنا‬
‫أنم كذلك لكانوا كفارا ‪ ،‬إذ ل يتأتى ذلك من أحد ف الشريعة إل مع رد مكماتا عنادا ‪ ،‬وهو‬
‫كفر ‪ .‬وأما من صدق الشريعة ومن جاء با ‪ ،‬وبلغ فيها مبلغا يظن به أنه مبتع للدليل يثله ‪ ،‬ل يقال‬
‫‪ :‬إنه صاحب هوى بإطلق ‪ .‬بل هو متبع للشرع ف نظره لكن بيث يازجه الوى ف مطالبه من‬
‫جهة إدخال الشبه ف الحكمات بسبب اعتبار التشابات ‪ ،‬فشارك أهل الوى ف دخول الوى ف‬
‫نلته ‪ ،‬وشارك أهل الق ف أنه ل يقبل إل ما دل عليه الدليل على الملة ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فقد ظهر منهم اتاد القصد مع أهل السنة على الماعة من مطلب واحد ‪ ،‬وهو النتساب‬
‫ل ـ مسألة إثبات الصفات حيث نفاها من نفاها ‪،‬‬ ‫إل الشريعة ‪ .‬ومن أشد مسائل اللف ـ مث ً‬
‫فإنا إذا نظرنا إل مقاصد الفريقي وجدنا كل واحد منهما حائما حول حى التنيه ونفي النقائص‬

‫‪297‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وسات الدوث ‪ ،‬وهو مطلوب الدلة ‪ .‬وإنا وقع اختلفهم ف الطريق ‪ ،‬وذلك ل يل بذا القصد‬
‫ف الطرفي معا ‪ ،‬فحصل ف هذا اللف أشبه الواقع بينه وبي اللف الواقع ف الفروع ؟‬
‫وأيضا ‪ ،‬فقد يعرض الدليل على الخالف منهم فيجع إل الوفاق لظهوره عنده ‪ ،‬كما رجع من‬
‫الرورية الارجي على علي رضي ال عنه ألفان ‪ ،‬وإن كان الغالب عدم الرجوع ‪ ،‬كما تقدم ف أن‬
‫البتدع ليس له توبة ‪.‬‬
‫حكى ابن عبد الب بسند يرفعه إل ابن عباس رضي ال عنهما قال ‪ :‬لا اجتمعت الرورية يرجون‬
‫على علي ‪ ،‬جعل يأتيه الرجل فيقول ‪ :‬يا أمي الؤمني ! إن القوم خارجون عليك ‪ ،‬قال ‪ :‬دعهم حت‬
‫يرجوا ‪ .‬فلما كان ذات يوم قلت ‪ :‬يا أمي الؤمني ! أبرد بالصلة فل تفتن حت آت القوم ـ قال‬
‫ـ فدخلت عليهم وهو قائلون ‪ ،‬فإذا هم مسهمة وجوههم من السهر ‪ ،‬قد أثر السجود ف جباههم ‪،‬‬
‫كأن أيديهم ثفن البل عليهم قمص مرخصة فقالوا ‪ :‬ما جاء بك با بن عباس ؟ وما هذه اللة‬
‫عليك ؟ ـ قال ـ قلت ‪ :‬ما تعيبون من ذلك ؟ فلقد رأيت رسول ال صلى ال عليه وسلم وعليه‬
‫أحسن ما يكون من الثياب اليمنية ـ قال ـ ث قرأت هذه الية ‪" :‬قل من حرم زينة ال الت أخرج‬
‫لعباده والطيبات من الرزق " فقالوا ‪:‬ما جاء بك ؟ قال ‪ :‬جئتكم من عند أصحاب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬وليس فيكم منهم أحد ‪ ،‬ومن عند ابن عم رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وعليهم‬
‫نزل القرآن وهم أعلم بتأويله ‪ ،‬جئت لبلغكم عنهم وأبلغكم عنكم ‪ ،‬فقال بعضهم ‪ :‬ل تاصموا‬
‫قريشا فإن ال يقول ‪" :‬بل هم قوم خصمون " فقال بعضهم ‪ :‬بلى ! فلنكلمه ـ قال ـ فكلمن‬
‫منهم رجلن ‪ ،‬أو ثلثة ـ قال ـ قلت ماذا نقمتم عليه ؟ قالوا ‪ :‬ثلثا ‪ .‬فقلت ‪ :‬ما هن ؟ قالوا ‪:‬‬
‫حكم الرجال ف أمر ال وقال ال تعال ‪" :‬إن الكم إل ل" ـ قال ـ هذه واحدة ‪ ،‬ماذا أيضا ؟‬
‫قالوا ‪ :‬فإنه قاتل فلم سب ول يغنم ‪ ،‬فلئن كانوا مؤمني ما حل قتالم ‪ ،‬ولئن كانوا كافرين لقد حل‬
‫قتالم وسبيهم ـ قال ـ قلت ‪ :‬وماذا أيضا ؟ قالوا ‪ :‬وما نفسه من إمرة الؤمني ‪ ،‬فإن ل يكن امي‬
‫الؤمني فهو أمي الكافرين ـ قال ـ قلت أرأيتم إن أتيتكم من كتاب ال وسنة رسوله با ينقض‬
‫قولكم هذا ‪ ،‬أترجعون ؟ قالوا ‪:‬وما لنا ل نرجع ؟‬
‫قال ـ قلت ـ أما قولكم حكم الرجال ف أمر ال فإن ال قال ف كتابه ‪" :‬يا أيها الذين آمنوا ل‬
‫تقتلوا الصيد وأنتم حرم ومن قتله منكم متعمدا فجزاء مثل ما قتل من النعم يكم به ذوا عدل منكم‬
‫" وقال ف الرأة وزوجها ‪" :‬وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكما من أهله وحكما من أهلها "‬
‫فصي ال ذلك إل حكم الرجال ‪ ،‬فناشدتكم ال ! أتعلمون حكم الرجال ف دماء السلمي وف‬
‫إصلح ذات بينهم أفضل أو ف دم أرنب ثنه ربع درهم ؟ وف بضع امرأة ؟ قالوا ‪ :‬بلى ! هذا أفضل‬
‫‪ :‬قال ‪ :‬أخرجتم من هذه ؟ قالوا ‪ :‬نعم !‬

‫‪298‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قال وأما قولكم ‪ :‬قاتل ول سب ول يغنم أتسبون أمكم عائشة ؟ فإن قلتم ‪ ،‬نسبيها فنستحل منها‬
‫ما نستحل من غيها ‪ .‬فقد كفرت ‪ ،‬وإن قلتم ليست بأمنا فقد كفرت ‪ ،‬فأنتم ترددون بي ضللتي ‪،‬‬
‫اخرجتم من هذه ؟ قالوا ‪ :‬بلى !‬
‫قال ‪ :‬وأما قولكم ‪ :‬ما نفسه من إمرة الؤمني فأنا آتيكم بن ترضون "إن نب ال يوم الديبية حي‬
‫صال أبا سفيان وسهيل بن عمرو ‪ ،‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬اكتب يا علي ‪ :‬هذا ما‬
‫صال عليه ممد رسول ال فقال أبو سفيان وسهيل بن عمرو ‪ :‬ما نعلم أنك رسول ال ‪ ،‬ولو نعلم‬
‫أنك رسول ال ما قاتلناك ‪ .‬قال رسول ال ‪ :‬اللهم إنك تعلم أن رسولك ‪ ،‬يا علي اكتب ‪ :‬هذا ما‬
‫اصطلح عليه ممد بن عبد ال وأبو سفيان وسهيل بن عمرو قال ‪ :‬فرجع منهم ألفان وبقي بقيتهم‬
‫فخرجوا فقتلوا أجعون" ‪.‬‬

‫فصل حديث تفرق المة‬


‫صح من حديث أب هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬تفرقت اليهود‬
‫على إحدى وسبعي فرقة ‪ ،‬والنصارى مثل ذلك ‪ ،‬وتتفرق أمت على ثلث وسبعي فرقة " وخرجه‬
‫الترمذي هكذا ‪.‬‬
‫وف رواية أب داود قال ‪:‬‬
‫"افترق اليهود على إحدى أو اثنتي وسبعي فرقة ‪ ،‬وتفرقت النصارى على إحدى أو اثنتي وسبعي‬
‫فرقة ‪ ،‬وتفترق أمت على ثلث وسبعي فرقة" ‪.‬‬
‫وف الترمذي تفسي هذا ‪ ،‬ولكن بإسناد غريب عن غي أب هريرة رضي ال عنه ‪ ،‬فقال ف حديث ‪:‬‬
‫"وإن بن إسرائيل افترقت على اثنتي وسبعي فرقة وتفترق أمت على ثلث وسبعي ملة ‪ ،‬كلهم ف‬
‫النار إل ملة واحدة قالوا ‪ :‬ومن هي يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬ما أنا عليه وأصحاب" ‪.‬‬
‫وف سنن أب داود ‪:‬‬
‫"وأن هذه اللة ستفترق على ثلث وسبعي ‪ ،‬اثنتان وسبعي ف النار وواحدة ف النة وهي الماعة "‬
‫وهي بعن الرواية الت قبلها ‪ ،‬إل أن هنا زيادة ف بعض الروايات ‪" :‬وأنه سيخرج من أمت أقوام‬
‫تارى بم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ‪ ،‬ل يبقى منه عرق ول مفصل إل دخله" ‪.‬‬
‫وف رواية عن ابن أب غالب موقوفا عليه ‪:‬‬
‫"إن بن إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعي فرقة ‪ ،‬وإن هذه المة تزيد عليهم فرقة ‪ ،‬كلها ف النار‬
‫إل السواد العظم" وف رواية مرفوعا ‪:‬‬
‫"ستفترق أمت على بضع وسبعي فرقة ‪ ،‬أعظمها فتنة الذين يقيسون المور برأيهم فيحلون الرام‬
‫ويرمون اللل " ‪.‬‬

‫‪299‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذا الديث بذه الرواية الخية قدح فيه ابن عبد الب لن ابن معي قال ‪ :‬إنه حديث باطل ل أصل‬
‫له ‪ .‬شبه فيه على نعيم حاد ‪ ،‬قال بعض التأخرين ‪ :‬إن الديث قد روي عن جاعة من الثقات ‪ ،‬ث‬
‫تكلم ف إسناده با يقتضي أنه ليس كما قال ابن عبد الب ‪ ،‬ث قال ‪ :‬وف الملة فإسناده ف الظاهر‬
‫جيد إل أن يكون ـ يعن ابن معي ـ قد اطلع منه على علة خفية ‪.‬‬
‫وأغرب من هذا كله رواية رأيتها ف جامع ابن وهب ‪.‬‬
‫"إن بن إسرائيل تفرقت إحدى وثاني ملة وستفترق أمت على اثنتي وثاني ملة ‪ ،‬كلها ف النار إل‬
‫واحدة قالوا ‪ :‬وما هي يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬ـ الماعة" ‪.‬‬
‫فإذا تقرر هذا تصدى النظر ف الديث ف مسائل ‪:‬‬

‫السالة الول ف حقيقة هذا الفتراق‬


‫وهو يتمل أن يكون افتراقا على ما يعطيه مقتضى اللفظ ‪ ،‬ويتمل أم يكون مع زيادة قيد ل يقتضيه‬
‫اللفظ بإطلقه ولكن يتمله ‪ ،‬كما كان لفظ الرقبة بطلقها ل يشعر بكونا مؤمنة أو غي مؤمنة ‪،‬لكن‬
‫اللفظ يقبله فل يصح أن يراد مطلق الفتراق ‪ ،‬بيث يطلق صور لفظ الختلف على معن واحد ‪،‬‬
‫لنه يلزم أن يكون الختلفون ف مسائل الفروع داخلي تت إطلق اللفظ ‪ ،‬وذلك باطل بالجاع ‪،‬‬
‫فإن اللف من زمان الصحابة إل الن واقع ف السائل الجتهادية ‪ ،‬وأول ما وقع اللف ف زمان‬
‫اللفاء الراشدين الهديي ‪ ،‬ث ف سائر الصحابة ‪ ،‬ث التابعي ول يعب أحد ذلك منهم ‪ ،‬وبالصحابة‬
‫اقتدى من بعدهم ف توسيع اللف ‪ .‬فكيف أن يكون الفتراق ف الذاهب ما يقتضيه الديث ؟‬
‫وإنا يراد افتراق مقيد ‪ ،‬وإن ل يكن ف الديث نص عليه ‪ ،‬ففي اليات ما يدل عليه قوله تعال ‪:‬‬
‫"ول تكونوا من الشركي * من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب با لديهم فرحون" وقوله‬
‫تعال ‪":‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " وما أشبه ذلك اليات الدالة على‬
‫التفرق الذي صاروا به شيعا ‪ ،‬ومعن صاروا شيعا أي جاعات بعضهم قد فارق البعض ‪ ،‬ليسوا‬
‫على تآلف ول تعاضد ول تناصر ‪ ،‬بل على ضد ذلك ‪ ،‬فإن السلم واحد وأمره واحد ‪ ،‬فاقتضى أن‬
‫يكون حكمه على الئتلف التام ل على الختلف ‪.‬‬
‫وهذه الفرقة مشعرة بتفرق القلوب الشعر بالعداوة والبغضاء ‪ ،‬ولذلك قال ‪:‬‬
‫"واعتصموا ببل ال جيعا ول تفرقوا" فبي أن التأليف إنا يصل عند التئلف على التعلق بعن‬
‫واحد ‪ ،‬وأما إذا تعلقت كل شيعة ببل غي ما تعلقت به الخرى فل بد من التفرق ‪ ،‬وهو معن قوله‬
‫تعال ‪" :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا نزل عليه لفظ الديث واستقام معناه وال أعلم ‪.‬‬

‫‪300‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫السألة الثانية إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع ف العدواة والبغضاء ‪ ،‬فإما أن يكون‬
‫راجعا إل أمر هو معصية غي بدعة‬
‫إن هذه الفرق إن كانت افترقت بسبب موقع ف العدواة والبغضاء ‪ ،‬فإما أن يكون راجعا إل أمر هو‬
‫معصية غي بدعة ‪ ،‬ومثاله أن يقع بي أهل السلم افتراق بسبب دنيوي ‪ ،‬كما يتلف مثلً أهل قرية‬
‫مع قرية أخرى بسبب تعد ف مال أو دم ‪ ،‬حت تقع بينهم العدواة فيصيوا حزبي ‪ ،‬أو يتلفون ف‬
‫تقدي وال أو غي ذلك فيفترقون ‪ ،‬ومثل هذا متمل ‪ ،‬وقد يشعر به ‪.‬‬
‫"من فارق الماعة قيد شب فميتته جاهلية " وف مثل هذا جاء ف الديث ‪:‬‬
‫"إذا بويع الليفتان فاقتلوا الخر منهما" وجاء ف القرآن الكري ‪" :‬وإن طائفتان من الؤمني اقتتلوا‬
‫فأصلحوا بينهما" إل آخر القصة ‪.‬‬
‫وأما أن يرجع إل أمر هو بدعة ‪ ،‬كما افترق الوارج من المة ببدعهم الت ينوا عليها ف الفرقة ‪،‬‬
‫وكالهدي الغرب الارج عن المة نصرا للحق ف زعمه ‪،‬فابتدع أمورا سياسية وغيها خرج با‬
‫عن السنة ـ كما تقدمت الشارة إليه قبل ـ وهذا هو الذي تشي إليه اليات التقدمة والحاديث ‪،‬‬
‫لطابقتها لعن الديث ‪ .‬وأما أن يراد العنيان معا ‪.‬‬
‫فأما الول ‪ ،‬فل أعلم قائلً به ‪ ،‬وإن كان مكنا ف نفسه ‪ ،‬إذ ل أر أحدا خص هذه با إذا افترقت‬
‫المة بسبب أمر دنيوي ل بسبب بدعة ‪ ،‬وليس ث دليل يدل على التخصيص ‪ ،‬لن قوله عليه الصلة‬
‫والسلم ‪" :‬من فارق الماعة قيد شب"الديث ‪ ،‬ل يدل على الصر ‪ .‬وكذلك ‪" :‬إذ بويع الليفتان‬
‫فاقتلوا الخر منهما" ‪ ،‬وقد اختلف الفرقة ف الراد بالماعة الذكورة ف الديث حسبما يأت ‪ ،‬فلم‬
‫يكن منهم قائل بأن الفرقة الضادة للجماعة هي فرقة العاصي غي البدع على الصوص ‪.‬‬
‫وأما الثان ‪ :‬وهو أن يراد العنيان معا ‪ ،‬فلذلك أيضا مكن ‪ ،‬إذ الفرقة النبه عليها قد تصل بسبب‬
‫أمر دنيوي ل مدخل فيها للبدع وإنا هي معاص ومالفات كسائر العاضي ‪ ،‬وإل هذا العن يرشد‬
‫قول الطبي ف تفسي الماعة ـ حسبما يأت بول ال ـ ويعضده حديث الترمذي ‪:‬‬
‫"ليأتي على أمت من يصنع ذلك" ( ؟ ) فجعل الغاية ف اتباعهم ما هو معصية كما ترى ‪.‬‬
‫وكذلك ف الديث الخر ‪:‬‬
‫"لتتبعن سنن من كان قبلكم ـ إل قوله ـ حت لو دخلوا جحر ضب خرب لتبعتموهم" فجعل‬
‫الغاية ما ليس ببدعة ‪.‬‬
‫وف معجم البغوي عن جابر رضي ال عنه "أن النب صلى ال عليه وسلم قال لكعب بن عجرة‬
‫رضي ال عنه ‪ :‬أعاذك ال يا كعب بن عجرة من إمارة السفهاء ـ قال ‪ :‬وما إمارة السفهاء ؟ ـ‬
‫قال أمراء يكونون بعدي ل يهتدون بديي ‪ ،‬ول يستنون بسنت ‪ ،‬فمن صدقهم بكذبم ‪ ،‬وأعانم‬

‫‪301‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫على ظلمهم ‪ ،‬فأولئك ليسوا من ‪ ،‬ولست منهم ‪ ،‬ول يردون علي الوض ‪ ،‬ومن ل يصدقهم على‬
‫كذبم ول يعنهم على ظلمهم فأولئك من وأنا منهم ‪ ،‬ويردون علي الوض" الديث ‪.‬‬
‫وكل من ل يهتد بيده ول يست بسنته فإما إل بدعة أو معصية ‪ .‬فل اختصاص بأحدها ‪ ،‬غي أن‬
‫الكثر ف نقل أرباب الكلم ‪ ،‬وغيهم أن الفرقة الذكورة إنا هي بسبب البتداع ف الشرع على‬
‫الصوص ‪ ،‬وعلى ذلك حل الديث من تكلم عليه من العلماء ‪ ،‬ول يعدوا منها الفترقي بسبب‬
‫العاصي الت ليست بدع ‪ ،‬وعلى ذلك يقع التفريع إن شاء ال ‪.‬‬

‫السألة الثالثة ‪ :‬إن هذه الفرق يتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجي عن اللة‬
‫إن هذه الفرقة تتمل من جهة النظر أن يكونوا خارجي عن اللة بسبب ما أحدثوا ‪.‬‬
‫فهم قد فارقوا أهل السلم بإطلق ‪ ،‬وليس ذلك إل لكفر ‪ ،‬إذ ليس بي النلتي منلة ثالثة تتصور ‪.‬‬
‫ويدل على هذا الحتمال ظواهر من القرآن والسنة ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا‬
‫شيعا لست منهم ف شيء" وهي آية نزلت ـ عند الفسرين ـ ف أهل البدع ‪ ،‬ويوضحه من قرأ ‪:‬‬
‫"إن الذين فرقوا دينهم" والفارقة للدين بسب الظاهر إنا هي الروج عنه ‪ ،‬وقوله ‪" :‬فأما الذين‬
‫اسودت وجوههم أكفرت بعد إيانكم" الية وهي عند العلماء منلة ف أهل القبلة وهم أهل البدع ‪،‬‬
‫وهذا كالنص ‪ ،‬إل غي ذلك من اليات ‪.‬‬
‫وأما الديث فقوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬ل ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "‬
‫وهذا نص ف كفر من قبل ذلك فيه ‪ ،‬وفسره السن با تقدم ف قوله‬
‫" ويصبح مؤمنا ويسي كافرا ويسي مؤمنا ويصبح كافرا" الديث ‪ ،‬وقوله عليه الصلة والسلم ف‬
‫الوارج ‪:‬‬
‫" دعه فإن له أًصحابا يقر أحدكم صلته مع صلتم وصيامه مع صيامهم ‪ ،‬يقرؤون القرآن ل ياوز‬
‫تراقيهم ‪ ،‬يرقون من السلم كما يرق السهم من الرمية ‪ ،‬ينظر إل نصله فل يوجد فيه شيء ‪ ،‬ث‬
‫ينظر إل رصافه فل يوجد فيه شيء ‪ ،‬ث ينظر إل نضيه فل يوجد فيه شيء ـ وهو القدح ـ ث ينظر‬
‫إل قذذه فل يوجد فيه شيء من الفرث والدم" فانظر إل قوله ‪" :‬من الفرث والدم" فهو الشاهد على‬
‫أنم دخلوا ف السلم فل يتعلق بم منه شيء ‪.‬‬
‫وف رواية أب ذر رضي ال عنه ‪:‬‬
‫"سيكون بعدي من أمت قوم يقرؤون القرآن ل ياوز حلقيمهم يرجون من الدين كما يرج السهم‬
‫من الرمية ث ل يعودون فيه ‪ ،‬هم شر اللق والليقة" إل غي ذلك من الحاديث ـإنا هي قوم‬
‫بأعيانم ‪ ،‬فل حجة فيها على غيهم ‪ ،‬لن العلماء استدلوا با على جيع أهل الهواء ‪ ،‬كما استدلوا‬
‫باليات ‪.‬‬

‫‪302‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأيضا ‪ ،‬فاليات إن دلت بصيغ عمومها فالحاديث تدل بعانيها لجتماع الميع ف العلة ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬الكم بالكفر واليان راجع إل حكم الخرة ‪ ،‬والقياس ل يري فيها ‪ .‬فالواب ‪ :‬إن‬
‫كلً منا ف الحكام الدنيوية ‪ ،‬وهل يكم لم بكم الرتدين أم ل ؟ وإنا أمر الخرة ل ‪ ،‬لقوله تعال‬
‫‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء إنا أمرهم إل ال ث ينبئهم با كانوا‬
‫يفعلون" ‪.‬‬
‫ويتمل أن ل يكونوا خارجي عن السلم جلة ‪ ،‬وإن كانوا قد خرجوا عن جلة من شرائعه وأصوله‬
‫‪.‬‬
‫ويدل على ذلك جيع ما تقدم فيما قبل هذا الفصل ‪ ،‬فل فائدة ف العادة ‪.‬‬
‫ويتمل وجها ثالثا ‪ ،‬وهو أن يكون منهم من فارق السلم لكن مقالته كفر وتؤدي معن الكفر‬
‫الصريح ‪ ،‬ومنهم من ل يفارقه ‪ ،‬بل انسحب عليه حكم السلم وإن عظم مقالة وشنع مذهبه ‪ ،‬لكنه‬
‫ل يبلغ به مبلغ الروج إل الكفر الحض والتبديل الصريح ‪.‬‬
‫ويدل على ذلك الدليل بسب كل نازلة ‪ ،‬وبسب كل بدعة ‪ ،‬إذ ل شك ف أن البدع يصح أن‬
‫يكون منها ما هو كفر كاتاذ الصنام لتقربم إل ال زلفى ‪ ،‬ومنها ما ليس بكفر كالقول بالهة‬
‫عند جاعة وإنكار الجاع وإنكار القياس وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫ولقد فصل بعض التأخرين ف التكفي تفصيلً ف هذه الفرق ‪ ،‬فقال ‪ :‬ما كان من البدع راجعا إل‬
‫اعتقاد وجود إله مع ال ‪ ،‬كقوله السبئية ف علي رضي ال عنه إنه إله أو خلق الله ف بعض أشخاص‬
‫الناس كقول الناحية ‪ :‬إن ال تعال له روح يل ف بعض بن آدم ‪ ،‬ويتوارث أو إنكار رسالة ممد‬
‫صلى ال عليه وسلم كقول الغرابية ‪ :‬إن جبيل غلط ف الرسالة فأذاها إل ممد صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ ،‬وعلي كان صاحبها أو استباحة الحرمات وإسقاط الواجبات ‪ ،‬وإنكار ما جاء به الرسول كأكثر‬
‫الغل ة من الشيعة ‪ ،‬ما ل يتلف السلمون ف التكفي به ‪ ،‬وما سوى ذلك من القالت فل يبعد أن‬
‫يكونوا معتقدها غي كافر ‪.‬‬
‫واستدل على ذلك بأمور كثية ل حاجة إل إيرادها ولكن الذي كنا نسمعه من الشيوخ أن مذهب‬
‫الحققي من أهل الصول إن الكفر بالآل ‪ ،‬ليس بكفر ف الال كيف والكافر ينكر ذلك الآل‬
‫أشد النكار ويرمي مالفة به تبن له وجه لزوم الكفر من مقالته ل يقل با على حال ‪.‬‬

‫وإذا تقرر نقل اللف فلنرجع إل ما يقتضيه الديث الذي نن بصدده من هذه القالت ‪.‬‬
‫أما ما صح منه فل دليل على شيء ‪ ،‬لنه ليس فيه إل تعديد الفرق خاصة ‪ .‬وأما على رواية من قال‬
‫ف حديثه ‪:‬‬

‫‪303‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"كلها ف النار إل واحدة" فإنا يقتضي إنفاذ الوعيد ظاهرا ‪ ،‬ويبقى اللود وعدمه مسكوتا عنه ‪ ،‬فل‬
‫دليل فيه على شيء ما أردنا ‪ ،‬إذ الوعيد بالنار قد يتعلق بعصاة الؤمني كما يتعلق بالكفار على‬
‫الملة ‪ ،‬وإن تباينا ف التخليد وعدمه ‪.‬‬

‫السألة الرابعة إن هذه القوال الذكورة آنفا مبنية على أن الفرق الذكورة ف الديث هي‬
‫البتدعة‬
‫إن هذه القوال الذكورة آنفا مبنية على أن الفرق الذكورة ف الديث هي البتدعة ف قواعد العقائد‬
‫على الصوص ‪ ،‬كالبية والقدرية والرجئة وغيها وهو ما ينظر فيه ‪ .‬فإن إشارة القرآن والديث‬
‫تدل على عدم الصوص ‪ ،‬وهو رأي الطرطوشي ‪ ،‬إفل ترى إل قوله تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم‬
‫زيغ " و ما ف قوله تعال ‪" :‬ما تشابه" ل تعطى خصوصا ف اتباع التشابه ل ف قواعد العقائد ول‬
‫ف غيها ‪ ،‬بل الصيغة تشمل ذلك كله ‪ ،‬فالتخصيص تكم ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم ف شيء " فجعل ذلك التفريق‬
‫ف الدين ‪ ،‬ولفظ الدين ‪ ،‬ويشمل العقائد وغيها ‪ ،‬وقوله ‪" :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول‬
‫تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" فالصراط الستقيم هو الشريعة على العموم ‪ ،‬وشبه ما تقدم ف‬
‫السورة من تري ما ذبح لغي ال لغي ال وتري اليتة والدم ولم النير وغيه ‪ ،‬وإياب الزكاة ‪،‬‬
‫كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق ‪.‬‬
‫ث قال تعال ‪ " :‬قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن ل تشركوا به شيئا " فذكر أشياء من القواعد‬
‫وغيها ‪ ،‬فابتدأ بالنهي عن الشتراك ‪ ،‬ث المر بب الوالدين ‪ ،‬ث النهي عن قتل الولد ‪ ،‬ث عن‬
‫الفواحش ما ظهر منها وما بطن ‪ ،‬ث عن قتل النفس بإطلق ‪ ،‬ث عن أكل مال اليتيم ‪ ،‬ث المر بتوفية‬
‫الكيل والوزن ‪ ،‬ث العدل ف القول ‪ ،‬ث الوفاء بالعهد ‪.‬‬
‫ث ختم ذلك بقوله ‪" :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله" ‪.‬‬
‫فأشار إل ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية ‪ ،‬ول يص ذلك بالعقائد ‪ ،‬فدل‬
‫على أن إشارة الديث ل تتص با دون غيها ‪.‬‬
‫وف حديث الوارج ما يدل عليه أيضا فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالم ‪ ،‬وقال ف جلة ما ذمهم به ‪:‬‬
‫"يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم" فذمهم بترك التدبر والخذ بظواهر التشابات ‪ ،‬كما قالوا ‪:‬‬
‫حكم الرجال ف دين ال ‪ ،‬وال بقول ‪" :‬إن الكم إل ل" ‪.‬‬
‫وقال أيضا ‪:‬‬
‫"ويقتلون أهل السلم ويدعون أهل الوثان" فذمهم بعكس ما عليه الشرع ‪ ،‬لن الشريعة جاءت‬
‫بقتل الكفار والكف عن السلمي ‪ ،‬وكل المرين غي مصوص بالعقائد ‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فدل على أن المر على العموم ل على الصوص فيما رواه نعيم بن حاد ف هذا الديث ‪:‬‬
‫" أعظمها فتنة الذين يقيسون المور برأيهم فيحلون الرام ويرمون اللل" وهذا نص ف أن ذلك‬
‫العدد ل يتص با قالوا من العقائد ‪.‬‬
‫واستدل الطرطوشي على أن البدع ل تتص بالعقائد با جاء عن الصحابة والتابعي وسار العلماء من‬
‫تسيتهم القوال والفعال بدعا إذا خالفت الشريعة ‪ ،‬ث أتى بآثار كثية كالذي رواه مالك عن عمه‬
‫أب سهيل عن أبيه أنه قال ‪ :‬ما أعرف شيئا ما أدركت عليه الناس إل لنداء بالصلة ‪ .‬يعن بالناس‬
‫الصحابة ‪ ،‬وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ‪ ،‬ورآها مالفة لفعال الصحابة ‪.‬‬
‫وكذلك أبو الدراداء سأله رجل فقال ‪ :‬رحك ال لو أن رسول ال صلى ال عليه وسلم بي أظهرنا‬
‫هلة ينكر شيئا ما نن عليه ؟ فغضب واشتد غضبه ‪ ،‬ث قال ‪ :‬وهل يعرف شيئا ما أنتم عليه ؟‬
‫وف البخاري عن أم الدرداء قالت ‪ :‬دخل أبو الدرداء مغضبا فقلت له ‪ :‬ما لك ؟ فقال ‪ :‬وال ما‬
‫اعرف منهم من أمر ممد أنم يصلون جيعا ‪ .‬وذكر جلة من أقاويلهم ف هذا العن ما يدل على أن‬
‫مالفة السنة ف الفعال قد ظهرت ‪.‬‬
‫وف مسلم قال ماهد ‪ :‬دخلت أنا وعروة بن الزبي السجد فإذا عبد ال بن عمر مستند إل حجرة‬
‫عائشة ‪ ،‬وإذا ناس ف السجد يصلون الضحى ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬ما هذه الصلة ؟ فقال ‪ :‬بدعة ‪.‬‬
‫قال الطرطوشي ‪ :‬فحمله عندنا على أحد وجهي ‪ :‬إنا أنم يصلونا جاعة ‪ ،‬وإما أفذاذا على هيئة‬
‫النوافل ف أعقاب الفرائض ‪ .‬وذكر أشياء من البدع القولية ما نص العلماء على أنا بدع ‪ .‬فصح أن‬
‫البدع ل تتص بالعقائد ‪ .‬وقد تقررت هذه السألة ف كتاب الوافقات بنوع آخر من التقرير ‪.‬‬
‫نعم ث معن آخر ينبغي أن يذكر هنا ‪ .‬وهي ‪:‬‬
‫السألة الامسة أن هذه الفرق إنا تصي فرقا للفها للفرقة الناجية‬
‫وذلك أن هذه الفرق إنا تصي فرقا بلفها للفرقة الناجية ف معن كلي ف الدين وقاعدة من قواعد‬
‫الشريعة ‪ ،‬ل ف جزئي من الزئيات ‪ ،‬إذ الزئي والفرع الشاذ ل ينشأ عنه مالفة يقع بسببها التفرق‬
‫شيعا ‪ ،‬وإنا ينشأ التفرق عند وقوع الخالفة ف المور الكلية ‪ ،‬لن الكليات تقتضي عددا من‬
‫الزئيات غي قليل ‪ ،‬وشاذها ف الغالب أن ل يتص بحل دون مل ول بباب دون باب ‪.‬‬
‫واعتب ذلك بسألة التحسي العقلي ‪ ،‬فإن الخالفة فيها أنشأت بي الخالفي خلفا ف فروع ل‬
‫تنحصر ‪ ،‬ما بي فروع عقائد وفروع أعمال ‪.‬‬
‫ويري مرى القاعدة الكلية كثرة الزئيات ‪ ،‬فإن البتدع إذا أكثر من إنشاء الفروع الخترعة عاد‬
‫ذلك على كثي من الشريعة بالعارضة ‪ ،‬كما تصي القاعدة الكلية معارضة أيضا ‪ ،‬وأما الزئي‬
‫فبخلف ذلك ‪ ،‬بل بعد وقوع ذلك من البتدع له كالزلة والفلتة ‪ ،‬وإن كانت زلة العال ما يهدم‬
‫الدين ‪ ،‬حيث قال عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ :‬ثلث يهدمن الدين ‪ :‬زلة العال ‪ ،‬وجدال منافق‬

‫‪305‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بالقرآن ‪ ،‬وأئمة مضلون ‪ .‬ولكن إذا قرب موقع الزلة ل يصل بسببها تفرق ف الغالب ول هدم‬
‫للدين ‪ .‬بلف الكليات ‪.‬‬
‫فأنت ترى موقع اتباع التشابات كيف هو ف الدين إذا كان اتباعا ملً بالواضحات ‪ .‬وهي أم‬
‫الكتاب ‪ .‬وكذلك عدم تفهم القرآن موقع ف الخلل بكلياته وجزئياته ‪.‬‬
‫وقد ثبت أيضا للكفار بدع فرعية ‪ .‬ولكنها ف الضروريات وما قاربا ‪ .‬كجعلهم ل ما ذرأ من‬
‫الرث والنعام نصيبا ‪ ،‬ولشركائهم نصيبا ث فرعوا عليه أن ما كان لشركائهم فل يصل إل اله ‪،‬‬
‫وما كان ل وصل إل شركائهم ‪ .‬وتريهم البحية والسائبة والوصيلة والامي ‪ ،‬وقتلهم أولدهم‬
‫سفها بغي علم ‪ ،‬وترك العدل ف القصاص والياث ‪ ،‬واليف ف النكاح والطلق ‪ ،‬وأكل مال‬
‫اليتيم على نوع من اليل ‪ ،‬إل أشباه ذلك ما نبه عليه الشرع وذكره العلماء ‪ ،‬حت صار التشريع‬
‫ل مضافا إليهم وقاعدة‬
‫ل عليهم ‪ ،‬فأنشأ ذلك أص ً‬‫ديدنا لم ‪ ،‬وتغيي ملة إبراهيم عليه السلم سه ً‬
‫رضوا با ‪ ،‬وهي التشريع الطلع ل الوى ‪ ،‬ولذلك لا نبههم ال تعال على إقامة الجة عليهم بقوله‬
‫تعال ‪" :‬قل آلذكرين حرم أم النثيي" قال فيها ‪" :‬نبئون بعلم إن كنتم صادقي" فطالبهم بالعلم‬
‫الذي شأنه أن ل يشرع إل حقا وهو علم الشريعة ل غيه ‪ ،‬ث قال تعال ‪" :‬أم كنتم شهداء إذ‬
‫وصاكم ال بذا" تنبيها لم على أن هذا ليس ما شرعه ف ملة إبراهيم ‪ :‬ث قال ‪" :‬فمن أظلم من‬
‫افترى على ال كذبا ليضل الناس بغي علم" فثبت أن هذه الفرق إنا افترقت بسب أمور كلية‬
‫اختلفوا فيها وال أعلم ‪.‬‬

‫السألة السادسة إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار‬


‫إنا إذا قلنا بأن هذه الفرق كفار ـ على قول من قال به ـ أو ينقسمون إل كافر وغيه فكيف‬
‫يعدون من المة ؟ وظاهر الديث يقتضي أن ذلك الفتراق إنا هو مع كونم من المة ‪ ،‬وإل فلو‬
‫خرجوا من المة إل الكفر ل يعدوا منها البتة ـ كما تبي ‪ :‬ـ‬
‫وكذلك الظاهر ف فرق اليهود والنصارى ‪ ،‬إن التفرق فيهم حاصل مع كونم هودا ونصارى ؟‬
‫فيقال ف الواب عن هذا السؤال ‪ :‬إنه يتمل أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أنا نأخذ الديث على ظاهره ف كون هذه الفرق من المة ‪ ،‬ومن أهل القبلة ‪ ،‬ومن قيل‬
‫بكفره منهم ‪ ،‬فإما أن يسلم فيهم هذا القول فل يعلهم من المة أصلً ول أنم ما يعدون ف‬
‫الفرق ‪ ،‬وإنا نعد منهم من ل ترجه بدعته إل كفر ‪ ،‬فإن قال بتكفيهم جيعا ‪ ،‬فل يسلم أنم‬
‫الرادون بالديث على ذلك التقدير ‪ ،‬وليس ف حديث الوارج نص على أنم من الفرق الداخلة ف‬
‫الديث ‪ ،‬بل نقول ‪ :‬الراد بالديث فرق ل ترجهم بدعهم عن السلم ‪ ،‬فليبحث عنهم ‪.‬‬

‫‪306‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإما أن ل نتبع الكفر ف إطلق القول بالتكفي ‪ ،‬ونفصل المر إل نو ما فصله صاحب القول‬
‫الثالث ‪ ،‬ويرج من العدد من حكمنا بكفره ‪ ،‬ول يدخل تت عمومه إل ما سواه مع غيه من ل‬
‫يذكر ف تلك العدة ‪.‬‬
‫والحتمال الثان ‪ :‬أن نعدهم من المة على طريقة لعلها تتمشى ف الواضع ‪ ،‬وذلك أن كل فرقة‬
‫تدعي الشريعة ‪ ،‬وأنا على صوبا ‪ ،‬وأنا التبعة للمتبعة لا ‪ ،‬وتتمسك بأدلتها ‪ ،‬وتعمل على ما ظهر‬
‫لا من طريقها ! وهي تناصب العداوة من نسبتها إل الروج عنها ‪ ،‬وترمي بالهل وعدم العلم من‬
‫ناقضها ‪ .‬لنا تدعي أن ما ذهبت إليه هو الصراط الستقيم دون غيه ‪ .‬وبذلك يالفون من خرج‬
‫عن السلم ‪ ،‬لن الرتد إذا نسبته إل الرتداد أقر به ورضيه ول يسخطه ‪ ،‬ول يعادل لتلك النسبة ‪،‬‬
‫كسائر اليهود والنصارى ‪ ،‬وأرباب النحل الخالفة للسلم ‪.‬‬

‫بلف هؤلء الفرق فإنم مدعون الوالفة للشارع والرسوخ ف اتباع شريعة ممد رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ ،‬فإنا وقعت العداوة بينهم وبي أهل السنة بسبب ادعاء بعضهم على بعض الروج‬
‫عن السنة ‪ ،‬ولذلك تدهم مبالغي ف العمل والعبادة ‪ ،‬حت بعض أشد الناس عبادة مفتون ‪.‬‬
‫والشاهد لذا كله ـ مع اعتبار الواقع ـ حديث الوارج ‪ ،‬فإنه قال عليه الصلة والسلم ‪" :‬تقرون‬
‫صلتكم مع صلتم ‪ ،‬وصيامكم مع صيامهم ‪ ،‬وأعمالكم مع أعمالم" ‪ ،‬وف رواية ‪:‬‬
‫"يرج من أمت قوم يقرؤون القرآن ‪ ،‬ليست قراءتكم من قراءتم بشيء ول صلتكم من صلتم‬
‫بشيء" وهذه شدة الثابرة على العمل به ‪ ،‬ومن ذلك قولم كيف يكم الرجال وال يقول ‪" :‬إن‬
‫الكم إل ل" ؟ ففي ظنهم أن الرجال ل يكمون بذا الدليل ‪ ،‬ث قال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"يقرؤون القرآن يسبون أنه لم وهو عليهم ل تاوز صلتم تراقيهم" ‪.‬‬
‫فقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬يسبون أنه لم " واضح فيما قلنا ‪ ،‬ث إنم يطلبون اتباعه بتلك‬
‫العمال ليكونوا من أهله ‪ ،‬وليكون حجة لم ‪ ،‬فحي ابتغوا تأويله وخرجوا عن الادة كان عليهم ل‬
‫لم ‪.‬‬
‫وف معن ذلك من قول "ابن مسعود قال ‪ :‬وستجدون أقواما يزعمون أنم يدعون إل كتاب ال وقد‬
‫نبذوه وراء ظهورهم ‪ ،‬عليكم بالعلم وإياكم والبدع والتعمق ‪ ،‬عليكم بالعتيق" فقوله ‪ ":‬يزعمون "‬
‫كذا ‪ .‬دليل على أنم على الشرع فيما يزعمون ‪.‬‬
‫ومن الشواهد أيضا حديث أب هريرة رضي ال عنه ‪" :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خرج إل‬
‫القبة فقال ‪ :‬السلم عليكم دار قوم مؤمني ! وإنا إن شاء ال بكم لحقون ‪ ،‬وددت أن قد رأيت‬
‫إخواننا ـ قالوا ‪ :‬يا رسول ال ألسنا إخوانك ؟ ـ قال ‪ :‬بل أنتم أصحاب وإخواننا الذين ل يأتوا‬
‫بعد ‪ ،‬وأنا فرطكم على الوض قالوا ‪ :‬يا رسول ال كيف تعرف من يأت بعدك من أمتك ؟ قال ‪:‬‬

‫‪307‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أرأيت لو كان لحدكم خيل غر مجلة ف خيل دهم بم ‪ ،‬أل يعرف خيله ؟ قالوا ‪ :‬بلى يا رسول‬
‫ال ‪ .‬قال ‪ :‬فإنم يأتون يوم القيامة غرا مجلي من الوضوء ‪ ،‬وأنا فرطهم على الوض ‪ ،‬فيذادن‬
‫رجال عن حوضي كما يذاد البعي الضال ‪ ،‬أناديهم ‪ :‬أل هلم أل هلم ! فيقال ‪ ،‬قد بدلوا بعدك ‪.‬‬
‫فأقول ‪ :‬فسحقا فسحقا فسحقا" ‪.‬‬
‫فوجه الدليل من الديث أن قوله ‪" :‬فيلذادن رجال عن حوضي" إل قوله ‪" :‬أناديهم أل هلم" مشعر‬
‫بأنم من أمته ‪ .‬وأنه عرفهم ‪ ،‬وقد بي أنم يعرفون بالغرر والتحجيل ‪ ،‬فدل على أن هؤلء الذين‬
‫دعاهم وقد كانوا بدلوا ذوو غرر وتجيل ‪ ،‬وذلك من خاصية هذه المة ‪ .‬فبأن أنم معدودن من‬
‫المة ولو حكم لم بالروج من المة ل يعرفهم رسول ال صلى ال عليه وسلم بغرة أو تجيل‬
‫لعدمه عندهم ‪.‬‬
‫ول علينا أقلنا ‪ :‬إنم خرجوا ببدعتهم عن المة أو ل ‪ ،‬إذ أثبتنا لم وصف النياش إليها ‪.‬‬
‫وف الديث الخر ‪:‬‬
‫"فيؤخذ بقوم منكم ذات الشمال ‪،‬فأقول ‪ :‬يا رب أصحاب ! قال ‪ :‬فيقال ‪ :‬ل تدري ما أحدثوا‬
‫بعدك ‪ .‬فأقول كما قال العبد الصال ‪" :‬وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم" إل قوله ‪" :‬العزيز‬
‫الكيم" ـ قال ـ فيقال ‪ :‬إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك ‪ ،‬إنم ل يزالوا مرتدين على أعقابم منذ‬
‫فارقتهم" ‪.‬‬
‫فإن كان الراد بالصحابة المة ‪ ،‬فالديث موافق لا قبله ‪:‬‬
‫"بل أنتم أصحاب وإخواننا الذين ل يأتوا بعد" فل بد من تأويله على أن الصحاب يعن بم من آمن‬
‫ب ف حياته وإن ل يره ‪ ،‬ويصدق لفظ الرتدين على أعقابم بعد موته ‪ ،‬أو مانعي الزكاة تأويلً على‬
‫أن أخذها إنا كان لرسول ال صلى ال عليه وسلم وحده ‪ ،‬فإن عامة أصحابه رأوه وأخذوا عنه‬
‫براءة من ذلك ‪.‬‬

‫السألة السابعة ف تعيي هذه الفرق‬


‫وهي مسألة ـ كما قال الطرطوشي ـ طاشت فيها أحلم اللق ‪ ،‬فكثي من تقدم وتأخر من‬
‫العلماء عينوها لكن ف الطرائف الت خالفت ف مسائل العقائد فمنهم من عد أصولا ثانية ‪ ،‬فقال ‪:‬‬
‫كبار الفرق السلمية ثانية ‪) 1 ( :‬العتزلة و ( ‪ ) 2‬الشيعة ‪ ،‬و ( ‪ ) 3‬الوارج ‪ ،‬و ( ‪ ) 4‬الرجئة ‪،‬‬
‫و ( ‪ ) 5‬النجارية ‪ ،‬و ( ‪ ) 6‬البية و ( ‪ )7‬الشبهة ‪ ،‬و( ‪ ) 8‬الناجية ‪.‬‬
‫فأما العتزلة فافترقوا إل عشرين فرقة وهم ‪ :‬الواصلية ‪ ،‬والعمرية ‪ ،‬والذيلية ‪ ،‬والنظامية ‪ .‬والسوارية‬
‫‪ .‬والسكافية ‪ .‬والعفرية ‪ .‬والبشرية ‪ .‬والزدارية ‪ .‬والشامية ‪ .‬والصالية ‪ .‬والطابية ‪ .‬والدبية ‪.‬‬
‫والعمرية ‪ .‬والثمامية ‪ .‬والياطية ‪ .‬والاحظية ‪ .‬والكعبية ‪ .‬والبائية ‪ .‬والبهشمية ‪.‬‬

‫‪308‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما الشيعة فانقمسوا أو ًل ثلث فرق ‪ :‬غلة ‪ .‬وزيدية ‪ .‬وإمامية ‪.‬‬


‫فالغلة ثان عشرة فرقة وهم ‪ :‬السبئية ‪ .‬والكاملية ‪ .‬والبيانية ‪ .‬والغيية ‪ .‬والناحية ‪ .‬والنصورية ‪.‬‬
‫والطابية ‪ .‬والغرابية ‪ .‬والذمية ‪ .‬والشامية ‪ .‬والزرارية ‪ .‬واليونسية ‪ .‬والشيطانية ‪ .‬والرزامية ‪.‬‬
‫والفوضة ‪ .‬والبدائية ‪ .‬والنصيية ‪ .‬والساعيلية وهم ‪ :‬الباطنية ‪ .‬والقرمطية ‪ .‬والرمية ‪ .‬والسبعية ‪.‬‬
‫والبابكية ‪ .‬والمدية ‪.‬‬
‫وأما الزيدية فهم ثلث فرق ‪ :‬الارودية ‪ ،‬والسليمانية ‪ ،‬والبتيية ‪.‬‬
‫وأما المامية ففرقة واحدة ‪ ،‬فالميع اثنتان وأربعون فرقة ‪.‬‬
‫وأما الوارج فسبع فرق ‪ ،‬وهم ‪ :‬الحكمة ‪ ،‬والبيهسية ‪ ،‬والزارقة ‪ ،‬والنجدات ‪ .‬والعبدية ‪.‬‬
‫والباضية وهم أربع فرق ‪ :‬الفصية ‪ ،‬واليزيدية ‪ ،‬والارثية ‪ ،‬والطيعية ‪.‬‬
‫وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم ‪ :‬اليمونة ‪ ،‬والشعيبية ‪ ،‬والازمية ‪ ،‬والمزية ‪ ،‬والعلومية ‪،‬‬
‫والجهولية ‪ ،‬والصلتية ‪ ،‬والثعلبية أربع فرق وهم ‪ :‬الخنسية ‪ ،‬والعبدية ‪ ،‬والشيبانية ‪ ،‬والكرمية ‪،‬‬
‫فالميع اثنتان وستون ‪.‬‬
‫وأما الرجئة فخمس وهم ‪ :‬العبيدية ‪ ،‬واليونسية ‪ ،‬والغسانية ‪ ،‬والثوبانية ‪ ،‬والثومنية ‪.‬‬
‫وأما النجارية فثلث فرق وهم ‪ :‬البغوثية ‪ ،‬والزعفرانية ‪ ،‬والستدركة ‪.‬‬
‫وأما البية ففرقة واحدة ‪ ،‬وكذلك الشبهة ‪.‬‬
‫فالميع اثنتان وسبعون فرقة ‪ ،‬فإذا أصبغت الفرقة الناجية إل عدد الفرق صار الميع ثلثا وسبعي‬
‫فرقة ‪.‬‬
‫وهذا التعديد بسب ما اعطته النة ف تكلف الطابقة للحديث الصحيح ‪ ،‬ل على القطع بأنه الراد ‪،‬‬
‫إذ ليس على ذلك دليل شرعي ‪ ،‬ول دل العقل أيضا على إنصار ما ذكر ف تلك العدة من غي‬
‫زيادة ول نقصان ‪ ،‬كما أنه ل دليل على اختصاص تلك البدع وقال جاعة من العلماء ‪ :‬أصول‬
‫البدع أربعة ‪ ،‬وسائر الثنتي والسبعي فرقة عن هؤلء تفرقوا ‪ ،‬وهم ‪ :‬الوارج ‪ ،‬والرواقض ‪،‬‬
‫والقدرية ‪ ،‬والرجئة ‪.‬‬
‫قال يوسف بن أسباط ‪ :‬ث تشعبت كل فرقة ثان عشرة فرقة ‪ :‬فتلك اثنتان وسبعون فرقة ‪ ،‬والثالثة‬
‫والسبعون هي الناجية ‪.‬‬
‫وهذا التقدير نو الول ‪ ،‬ويرد عليه من الشكال ما ورد على الول ‪.‬‬
‫فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحه ال شرحا يقرب المر ‪ ،‬فقال ‪ :‬ل يرد علماؤنا بذا‬
‫التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الربع تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حت تملت‬
‫تلك العدة ‪ ،‬لن ذلك لعله ل يدخل ف الوجود إل الن ‪ .‬قال ‪ :‬وإنا أرادوا أن كل بدعة ضللة ل‬

‫‪309‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫تكاد توجد إل ف هذه الفرق الربع ‪ ،‬وإن ل تكن البدعة الثانية فرعا للول ول شعبة من شعبها ‪،‬‬
‫بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الول بسبيل ‪.‬‬
‫ث بي ذلك بالثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ‪ ،‬ث اختلف أهله ف مسائل من شعب القدر ‪،‬‬
‫وف مسائل ل تعلق لا بالقدر ‪ ،‬فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد ملوقة لم من دون ال تعال ‪.‬‬
‫ث اختلفوا ف فرع من فروع القدر ‪ .‬فقال أكثرهم ‪ :‬ل يكون فعل بي فعلي ملوقي على التولد ‪.‬‬
‫أحال مثله بي القدي والحدث ‪.‬‬
‫ث اختلفوا فيما ل يعود إل القدر ف مسائل كثية ‪ .‬كاختلفهم ف الصلح والصلح ‪ :‬فقال‬
‫البغداديون منهم ‪ :‬يب على ال تعال فعل الصلح لعباده ف دينهم ‪.‬‬
‫ويب عليه ابتداء اللق الذين علم أنه يكلفهم ‪ .‬ويب عليه إكمال عقولم وإقدارهم وإزاحة عللهم‬
‫‪.‬‬
‫وقال البصريون منهم ‪ :‬ل يب على ال إكمال عقولم ول أن يؤتيهم أسباب التكليف ‪.‬‬
‫وقال البغداديون منهم ‪ :‬يب على ال ـ تعال عن قولم ـ عقاب العصاة إذا ل يتوبوا ‪ .‬والغفرة‬
‫من غي توبة سفه من الغافر ‪.‬‬
‫وأما الضربون منهم ذلك ‪.‬‬

‫أحد الوطني اللذين يوز فيهما ذكر الفرق بأسائها‬


‫وابتدع جعفر بن مبشر من استصر ( ؟ ) امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بل ول ول شهود ول‬
‫رضى ول عقد حل له ذلك ‪ .‬وخالفه ف ذلك سلفه ‪.‬‬
‫وقال ثامة بن أشرس ‪ :‬إن ال يصي الكفار واللحدين وأطفال الشركي والؤمني والجاني ترابا يوم‬
‫القيامة ل يعذبم ول يعرضهم ‪.‬‬
‫وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها الت هي معروفة با ‪ .‬وبدعا ل‬
‫تعلق لا با ‪.‬‬
‫فإن كان رسول ال صلى ال عليه وسلم أراد بتفرق أمته أصول البدع الت تري مرى الجناس‬
‫للنواع ‪ .‬والعاقد للفروع لعلهم ـ والعلم عند ال ـ ما بلغن هذا العدد إل الن ‪ .‬غي أن الزمان‬
‫باق والتكليف قائم والطرات متوقعة ‪ .‬وهل قرن أو عصر يلو إل وتدث فيه البدع ؟‬
‫وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت ف دين السلم ما ل يلئم أصول السلم ول تقبلها‬
‫قواعده من غي التفات إل التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لجناس ‪ ،‬أو كانت متغايرة‬
‫الصول والبان ‪.‬‬

‫‪310‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فهذا هو الذي أراده عليه الصلة والسلم ـ والعلم عند ال ـ فقد وجد من ذلك عدد أكثر من‬
‫اثنتي وسبعي ‪.‬‬
‫ووجه تصحيح الديث على هذا ‪ ،‬أن ترج من الساب غلة أهل البدع ‪ ،‬ول يعدون من المة ول‬
‫ف أهل القبلة ‪ ،‬كنفاة العراض من القدرية لنه ل طريق إل معرفة حدوث العال وإثبات الصانع إل‬
‫بثبوت العراض ‪ ،‬وكاللولية والنصيية وأشباههم من الغلة ‪.‬‬
‫هذا ما قال الطرطوشي رحه ال تعال ‪ ،‬وهو حسن من التقرير ‪ ،‬غي أنه يبقى للنظر ف كلمه ملن‬
‫‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ما اختار ‪ .‬من ليس الراد الجناس فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع‬
‫القولية والعملية فمشكل ‪ ،‬لنا إذا اعتبنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدع كيف كانت‬
‫لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة ‪ ،‬فل تقف ف مائة ول مائتي ‪ ،‬فضلً عن وقوعها ف اثنتي‬
‫وسبعي ‪ ،‬وأن البدع ـ كما قال ـ ل تزال تدث مع مرور الزمنة إل قيام الساعة ‪.‬‬
‫وقد مر من النقل ما يشعر بذا العن ‪ ،‬وهو قول ابن عباس ‪ :‬ما من عام إل والناس ييون فيه بدعة‬
‫وييتون فيه سنة ‪ ،‬حت تيا البدع وتوت السنن ‪ .‬وهذا موجود ف الواقع ‪ ،‬فإن البدع قد نشأت إل‬
‫الن ول تزال تكثر ‪ ،‬وإن فرضنا إزالة بدع الزائغي ف العقائد كلها ‪ ،‬لكان الذي يبقى أكثر من‬
‫اثنتي وسبعي فما قاله ـ وال أعلم ـ غي ملص ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن حاصل كلمه أن هذه الفرق ل تتعي بعد ‪ ،‬بلف القول التقدم ‪،‬وهو أصح ف النظر ‪،‬‬
‫لن ذلك التعيي ليس عليه دليل ‪ ،‬والعقل ل يقتضيه ‪ .‬وأيضا فالنازع له أن يتكلف من مسائل‬
‫اللف الت بي الشعرية ف قواعد العقائد فرقا يسميها ويبىء نفسه وفرقته عن ذلك الحظور ‪.‬‬
‫فالول ما قاله من عدم التعيي ‪ .‬وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فل ينبغي التعيي ‪.‬‬
‫أما أولً ‪ :‬فإن الشريعة قد فهمنا منها أنا تشي إل أوصافهم من غي تصريح ليحذر منها ‪ ،‬ويبقى‬
‫المر ف تعيي الداخلي ف مقتضى الديث مرجى ‪ ،‬وإنا ورد التعيي ف النادر كما قال عليه الصلة‬
‫والسلم ف الوارج ‪:‬‬
‫"إن من ضئضىء هذا قوما يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم" الديث ‪ ،‬مع أنه عليه الصلة‬
‫والسلم ل يعرف أنم من شلهم حديث الفرق ‪ .‬وهذا الفصل مبسوط ف كتاب الوافقات والمد‬
‫ل‪.‬‬
‫وأما ثانيا ‪ :‬فلن عدم التعيي هو الذين ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على المة كما سترت عليهم‬
‫قبائحهم فلم يفضحوا ف الدنيا ف الغالب ‪ ،‬وأمرنا بالستر على الؤمني ما ل تبد لنا صفحة اللف ‪،‬‬
‫ليس كما ذكر عن بن إسرائيل أنم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلً أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة ‪،‬‬
‫وكذلك ف شأن قربانم ‪ :‬فإنم كانوا إذا قربوا ل قربانا فإن كان مقبولً عند ال نزلت نار من‬

‫‪311‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫السماء فأكلته ‪ ،‬وإن ل يكن مقبولً ل تأكله النار ‪ ،‬وف ذلك افتضاح الذنب ‪ .‬ومثل ذلك ف الغنائم‬
‫أيضا ‪ ،‬فكثي من هذه الشياء خصت هذه المة بالستر فيها ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فللستر حكمة أخرى ‪ ،‬وهي أنا لو أظهرت مع أن أصحابا من المة لكان ف ذلك داع إل‬
‫الفرقة وعدم اللفة الت أمر ال ورسوله با ‪ ،‬حيث قال تعال ‪" :‬واعتصموا ببل ال جيعا ول‬
‫تفرقوا" وقال تعال ‪" :‬فاتقوا ال وأصلحوا ذات بينكم" وقال تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا‬
‫واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات" وف الديث ‪:‬‬
‫"ل تاسدوا ول تدابروا ول تباغضوا وكونوا عباد ال إخوانا" ‪ ،‬وأمر عليه الصلة والسلم بإصلح‬
‫ذات البي ‪ ،‬وأخب أن فساد ذات البي هي الالقة الت تلق الدين ‪.‬‬
‫فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بم على التعيي يورث العداوة بينهم والفرقة ‪ ،‬لزم من ذلك‬
‫أن يكون منهيا عنه ‪ ،‬إل أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الوارج ‪ ،‬وذكرهم بعلمتهم حت‬
‫يعرفوا ‪ ،‬ويلحق بذلك ما هو مثله ف الشناعة أو قريب منه بسب نظر الجتهد ‪ ،‬وما عدا ذلك‬
‫فالسكوت عنه أول ‪.‬‬
‫وخرج أبو داود عن عمرو بن أب قرة قال ‪:‬‬
‫"كان حذيفة بالدائن فكان يذكر أشياء قالا رسول ال لناس من أصحابه ف الغضب ‪ ،‬فينطلق ناس‬
‫من سع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان ‪ :‬حذيفة أعلم با‬
‫يقول فيجعون إل حذيفة فيقولون ‪ :‬قد ذكرنا قولك إل سلمان فما صدقك ول كذبك ‪ .‬فأتى‬
‫حذيفة سلمان وهو ف مبقلة فقال ‪ :‬يا سلمان! ما ينعك أن تصدقن با سعت من رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم ؟ فقال ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه‬
‫ويرضى فيقول ف الرضى ‪ :‬أما تنتهي حت تورث رجا ًل حب رجال ورجالً بغض رجال ‪ .‬وحت‬
‫توقع اختلفا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول ال صلى ال عليه وسلم خطب فقال ‪ :‬أيا رجل سببته‬
‫سبة أو لعنته لعنة ف غضب فإنا أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون وإنا بعثن ال رحة للعالي‬
‫إجعلها عليهم صلة يوم القيامة ‪ .‬فوال لتنتهي أو أكتب إل عمر" ‪.‬‬
‫فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان رضي ال عنه ! وهو جار ف مسألتنا ‪ ،‬فمن هنا ل ينبغي‬
‫للراسخ ف العلم أن يقول ‪ :‬هؤلء الفرق هم بنو فلن وبنو فلن ! وإن كان يعرفهم بعلمتهم بسب‬
‫اجتهاده ‪ ،‬اللهم إل ف موطني ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬حيث نبه الشرع على تعيينهم كالوارج ‪ ،‬فإنه ظهر من استقرائه أنم متمكنون تت‬
‫حديث الفرق ‪ ،‬ويري مراهم من سلك سبيلهم ‪ ،‬فإن أقرب الناس إليهم شيعة الهدي الغرب ‪ ،‬فإنه‬
‫ظهر فيهم المران اللذان عرف النب صلى ال عليه وسلم بما ف الوارج من أنم يقرؤون القرآن ل‬
‫ياوز حناجرهم ‪ ،‬وأنم يقتلون أهل السلم ويدعون أهل الوثان ‪ ،‬فإنم أخذوا أنفسهم بقراءة‬

‫‪312‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫القرآن وإقرائه حت ابتدعوا فيه ث ل يتفقهوا فيه ‪ ،‬ول عرفوا مقاصده ‪ .‬ولذلك طرحوا كتب العلماء‬
‫وسوها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها ‪ ،‬مع أن الفقهاء هم الذين بينوا ف كتبهم معان الكتاب‬
‫والسنة على الوجه الذي ينبغي ‪ ،‬وأخذوا ف قتال أهل السلم بتأويل فاسد ‪ ،‬زعموا عليهم أنم‬
‫مسمون وأنم غي موحدين ‪ ،‬وتركوا النفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والجاورين لم وغيهم‬
‫‪.‬‬
‫فقد اشتهر ف الخبار والثار ما كان من خروجهم على علي بن أب طالب رضي ال عنه وعلى من‬
‫بعده كعمر بن عبد العزيز رحه ال وغيهم ‪ ،‬حت لقد روي ف حديث خرجه البغوي ف معجمه‬
‫عن حيد بن هلل أن عبادة بن قرط غزا فمكث ف غزاته تلك ما شاء ال ‪ ،‬ث رجع مع السلمي‬
‫منذ زمان فقصد نو الذان يريد الصلة فإذا هو بالزارقة ـ صنف من الوارج ـ فلما رأوه قالوا ‪:‬‬
‫ما جاء بك يا عدو ال ؟ قال ‪ :‬ما أنتم يا إخوت ؟ قالوا ‪ :‬أنت أخو الشيطان ‪ ،‬لنقتلنك ‪ .‬قال ‪ .‬ما‬
‫ترضون من با رضي به رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ قالوا ‪ :‬وأي شيء رضي به منك ؟ قال ‪:‬‬
‫أتيته وأنا كافر فشهدت أن ل إله إل ال وأنه رسول ال فخلى عن ـ قال ـ فأخذوه فقتلوه ‪.‬‬
‫وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه ‪ ،‬وقد جاء ف القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو‬
‫رضي ال عنهما ‪ ،‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬القدرية موس هذه المة ‪ ،‬إن مرضوا‬
‫فل تعودوهم ‪ ،‬وإن ماتوا فل تشهدوهم" ‪.‬‬
‫وعن حذيفة رضي ال عنه أنه عليه الصلة والسلم قال ‪:‬‬

‫ثان الوطني اللذين يوز فيهما ذكر الفرق بأسائها‬


‫"لكل أمة موس وموس هذه المة الذين يقولون ‪ :‬ل قدر ‪ ،‬من مات منهم فل تشهدوا جنازتم ومن‬
‫مرض منهم فل تعودوه ‪ ،‬وهم شيعة الدجال ‪ ،‬وحق على ال أن يلحقهم بالدجال" وهذا الديث‬
‫غي صحيح عند أهل النقل ‪ .‬قال صاحب الغن ‪ :‬ل يصح ف ذلك شيء ‪ .‬نعم قول ابن عمر ليحي‬
‫بن يعمر حي أخبه أ ن القول بالقدر قد ظهر ‪ :‬إذا لقيت أولئك فأخبهم أن بريء منهم وهم برآء‬
‫من ‪ ،‬ث استدل ‪:‬‬
‫بديث جبيل ـ صحيح ل إشكال ف صحته ‪.‬‬
‫خرج أبو داود أيضا من حديث عمر رضي ال عنه ‪ ،‬عن النب صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬ل تالسوا‬
‫أهل القدر ول تفاتوهم" ول يصح أيضا ‪.‬‬
‫وخرج ابن وهب عن زيد بن علي قال ‪:‬‬

‫‪313‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬صنفان من أمت ل سهم لم ف السلم يوم القيامة ‪ :‬الرجئة‬
‫والقدرية" ‪ ،‬و" عن معاذ بن جبل وغيه يرفعه قال ‪ :‬لعنت القدرية والرجئة على لسان سبعي نبيا‬
‫آخرهم ممد صلى ال عليه وسلم "‪ .‬وعن ماهد بن جب ‪:‬‬
‫"أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪ :‬سيكون من أمت قدرية وزنديقية أولئك موس " ‪.‬‬
‫وعن نافع قال ‪ :‬بينما نن عند عبد ال بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال ‪ :‬إن فلنا يقرأ عليك‬
‫السلم ـ لرجل من أهل الشام ـ فقال عبد ال ‪ :‬بلغن أنه قد أحدث حدثا ‪ ،‬فإن كان كذلك فل‬
‫تقرأن عليه السلم ‪ .‬سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬سيكون ف أمت مسخ وخسف‬
‫وهو ف الزنديقية" ‪.‬‬
‫وعن ابن الديلمي قال ‪ :‬اتينا أب كعب فقلت له ‪ :‬وقع ف نفسي شيء من القدر فحدثن لعل ال‬
‫يذهبه من قلب فقال ‪ :‬لو أن ال عذب أهل ساواته وأهل أرضه عذبم وهو غي ظال لم ‪ ،‬ولو‬
‫رحهم كانت رحته خيا لم من أعمالم ‪ ،‬ولو أنفقت مثل أحد ذهبا ف سبيل ال ما قبله منك حت‬
‫تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك ل يكن ليخطئك وما أخطأك ل يكن ليصيبك ‪ ،‬ولو مت على غي‬
‫هذا لدخلت النار ‪ .‬قال ‪ :‬ث أتيت عبد ال بن مسعود فقال ل مثل ذلك ‪ .‬قال ‪ :‬ث أتيت حذيفة بن‬
‫اليمان فقال مثل ذلك ‪ .‬وف بعض الديث ‪:‬‬
‫" ل تكلموا ف القدر فإنه سر ال " وهذا كله أيضا غي صحيح ‪.‬‬
‫وجاء ف الرجئة والهمية شيء ل يصح عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فل تعديل عليه ‪.‬‬
‫نعم نقل الفسرون أن قوله تعال ‪" :‬يوم يسحبون ف النار على وجوههم ذوقوا مس سقر*إنا كل‬
‫شيء خلقناه بقدر" نزل ف أهل القدر ‪ .‬فروى عبد بن حيد عن أب هريرة رضي ال عنه قال ‪:‬‬
‫أتى مشركوا قريش إل النب صلى ال عليه وسلم ياصمونه ف القدر فنلت الية ‪ .‬وروى ماهد‬
‫وغيه أنا نزلت ف الكذبي بالقدر ‪ ،‬ولكن إن صح ففيه دليل ‪ ،‬وإل فليس ف الية ما يعي أنم من‬
‫الفرق ‪ ،‬وكلمنا فيه ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬حيث تكون الفرقة تدعو إل ضللتها وتزيينها ف قلوب العوام ومن ل علم عنده ‪ ،‬فإن ضرر‬
‫هؤلء على السلمي كضرر إبليس ‪ ،‬وهم من شياطي النس ‪ ،‬فل بد من التصريح بأنم من أهل‬
‫البدعة والضللة ‪ ،‬ونسبتهم إل الفرق إذا قامت له الشهود على أنم منهم ‪ .‬كما اشتهر عن عمرو بن‬
‫عبيد وغيه ‪ .‬فروى عاصم الحوال ‪ .‬قال ‪ :‬جلست إل قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال‬
‫منه ‪ .‬فقلت ‪ :‬أبا الطاب ‪ :‬أل أرى العلماء يقع بعضهم ف بعض ؟ فقال ‪ :‬يا أحول أو ل تدري أن‬
‫الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لا أن تذكر حت تذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم با سعت من‬
‫قتادة ف عمرو بن عبيد ‪ ،‬وما رأيت من نسكه وهديه ‪ ،‬فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن‬

‫‪314‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫عبيد والصحف ف حجره وهو يك آية من كتاب ال ‪ .‬فقلت ‪ :‬سبحان ال ! تك آية من كتاب‬
‫ال ؟ قال إن سأعيدها ‪ .‬قال ‪ :‬فتركته حت حكها ‪ .‬فقلت له ‪ :‬أعدها ‪ .‬فقال ‪ :‬ل أستطيع ‪.‬‬
‫فمثل هؤلء ل بد من ذكرهم والتشريد بم ‪ ،‬لن ما يعود على السلمي من ضررهم إذا تركوا ‪،‬‬
‫أعظم من الضرر الاصل بذكرهم والتنفي عنهم إذا كان سبب ترك التعيي الوف من التفرق‬
‫والعدواة ‪ .‬ول شك أن التفرق بي السلمي وبي الداعي للبدعة وحدهم ـ إذا أقيم ـ عليهم‬
‫أسهل من التفرق بي السلمي وبي الداعي ومن شايعهم واتبعهم ‪ ،‬وإذا تعارض الضرران يركتب‬
‫أخفهما وأسهلهما ‪ ،‬وبعض الشر أهون من جيعه ‪ ،‬كقطع اليد التآكلة ‪ ،‬إتلفها أسهل من إتلف‬
‫النفس ‪ .‬وهذا شأن الشرع أبدا ‪ :‬يطرح حكم الخف وقاية من الثقل ‪.‬‬
‫فإذا فقد المران فل ينبغي أن يذكروا لن يعنيوا وإن وجدوا ‪ ،‬لن ذلك أول مثي للشر وإلقاء‬
‫العداوة والبغضاء ‪ ،‬ومت حصل باليد منهم أحد ذاكره برفق ‪ ،‬ول يره أنه خارج من السنة ‪ ،‬بل يريه‬
‫أنه مالف للدليل الشرعي ‪ ،‬وأن الصواب الوافق للسنة كذا وكذا ‪ .‬فإن فعل ذلك من غي تعصب‬
‫ول إظهار غلبة فهو الج ‪ ،‬وبذه الطريقة دعي اللق أولً إل ال تعال ‪ ،‬حت إذا عاندوا وأشاعوا‬
‫اللف وأظهروا الفرقة قوبلوا بسب ذلك ‪.‬‬
‫قال الغزال ف بعض كتبه ‪ :‬أكثر الهالت إنا رسخت ف قلوب العوام بتعصب جاعة من جهل أهل‬
‫الق ‪ ،‬أظهروا الق ف معرض التحدي والدلل ونظروا إل ضعفاء الصوم بعي التحقي والزدراء ‪،‬‬
‫فثارت من بواطنهم دواعي العاندة والخالفة ‪ ،‬ورسخت ف قلوبم العتقادات الباطلة ‪ ،‬وتعذر على‬
‫العلماء التلطفي موها مع ظهور فسادها ‪،‬حت انتهى التعصب بطائفة إل أن اعتقدوا أن الروف الت‬
‫نطقوا با ف الال بعد السكوت عنها طول العمر قدية ‪ .‬ولول استيلء الشيطان بواسطة العناد‬
‫والتعصب للهواء ‪ ،‬لا وجد مثل هذا العتقاد مستفزا ف قلب منون فضلً عن قلب عاقل ‪.‬‬
‫هذا ما قال ‪ .‬وهو الق الذي تشهد له العوائد الارية فالواجب تسكي الثائرة ما قدر على ذلك ‪.‬‬
‫وال أعلم ‪.‬‬

‫السألة الثامنة أنه لا تبي أنم ل يتعينون فلهم خواص وعلمات يعرفون با ‪ ،‬وهي على قسمي ‪:‬‬
‫علمات إجالية ‪ ،‬وعلمات تفصيلية ‪.‬‬
‫فأما الجالية فثلث ‪.‬إحداها ‪ :‬الفرقة الت نبه عليها قوله تعال ‪ :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا‬
‫أنه لا تبي أنم ل يتعينون فلهم خواص وعلمات يعرفون با ‪ ،‬وهي على قسمي ‪:‬‬
‫علمات إجالية ‪ ،‬وعلمات تفصيلية ‪.‬‬
‫فأما العلمات الجالية فثلث ‪.‬‬

‫‪315‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إحداها ‪ :‬الفرقة الت نبه عليها قوله تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم‬
‫البينات" وقوله تعال ‪" :‬وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إل يوم القيامة" روى ابن وهب عن إبراهيم‬
‫النخعي أنه قال ‪ :‬هي الدال والصومات ف الدين ‪ ،‬وقوله تعال ‪" :‬واعتصموا ببل ال جيعا ول‬
‫تفرقوا" وف الصحيح عن أب هريرة رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن‬
‫ال يرضى لكم ثلثا ويكره لكم ثلثا ‪ ،‬فيضى لكم أن تعبدوه ول تشركوا به شيئا ‪ ،‬وأن تعتصموا‬
‫ببل ال جيعا ول تفرقوا ‪ ،‬وصدق الديث" ‪.‬‬
‫وهذا التفريق ـ كما تقدم ـ إنا هو الذي يصي الفرقة الواحدة فرقا والشيعة الواحدة شيعا ‪.‬‬
‫قال بعض العلماء ‪ :‬صاروا فرقا لتباع أهوائهم ‪ .‬وبفارقة الدين تشتت أهواؤهم فافترقوا ‪ ،‬وهو قوله‬
‫تعال ‪" :‬إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" ث برأه ال منهم بقوله ‪:‬‬
‫"لست منهم ف شيء" وهم أصحاب البدع وأصحاب الضللت ‪ ،‬والكلم فيما ل يأذن ال فيه ول‬
‫رسوله ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ووجدنا أصحاب رسول ال صلى ال عليه وسلم من بعده قد اختلفوا ف أحكام الدين ول‬
‫يتفرقوا ‪ ،‬ول صاروا شيعا لنم ل يفارقوا الدين ‪ ،‬وإنا اختلفوا فيما أذن لم من اجتهاد إل الرأي ‪،‬‬
‫والستنباط من الكتاب والسنة فيما ل يدوا فيه نصا ‪ ،‬واختلف ف ذلك أقوالم فصاروا ممودين ‪،‬‬
‫لنم اجتهدوا فيما أمروا به كاختلف أب بكر وعمر وعلي وزيد ف الد مع الم ‪ ،‬وقول عمر‬
‫وعلي ف أمهات الولد ‪ ،‬وخلفهم ف الفريضة الشتركة ‪ ،‬وخلفهم ف الطلق قبل النكاح ‪ ،‬وف‬
‫البيوع وغي ذلك فقد اختلفوا فيه وكانوا مع هذا أهل مودة وتناصح ‪ ،‬وأخوة السلم فيما بينهم‬
‫قائمة ‪ ،‬فلما حدثت الهواء الردية ‪ ،‬الت حذر منها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وظهرت‬
‫العداوات وتزب أهلها فصاروا شيعا ‪ ،‬دل على أنه إنا حدث ذلك من السائل الحدثة الت ألقاها‬
‫الشيطان على أفواه أوليائه ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬كل مسألة حدثت ف السلم واختلف الناس فيها ول يورث ذلك الختلف بينهم عداوة ول‬
‫بغضاء ول فرقة ‪ ،‬علمنا أنا من مسائل السلم ‪ .‬وكل مسألة حدثت وطرأت فأوجبت العداوة‬
‫والبغضاء والتدابر والقطيعة ‪ ،‬علمنا أنا ليست من أمر الدين ف شيء ‪ ،‬وأنا الت عن رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم بتفسي الية ‪.‬‬
‫وذلك ما روي عن عائشة رضي ال عنها قالت ‪":‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا عائشة‬
‫"إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا" من هم ؟ ـ قلت ‪ :‬ال ورسوله أعلم ‪ .‬قال ‪ :‬هم أصحاب‬
‫الهواء وأصحاب البدع وأصحاب الضللة من هذه المة" الديث الذي تقدم ذكره ‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قال ‪ :‬فيجب على كل ذي عقل ودين أن يتنبها ‪ ،‬ودليل ذلك قوله تعال ‪" :‬واذكروا نعمة ال‬
‫عليكم إذ كنتم أعداء فألف بي قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا" فإذا اختلفوا وتعاطوا ذلك ‪ ،‬كان‬
‫لدث أحدثوه من اتباع الوى ‪.‬‬
‫هذا ما قاله ‪ .‬وهو ظاهر ف أن السلم يدعو إل اللفة والتحاب والتراحم والتعاطف ‪ ،‬فكل رأي‬
‫أدى إل خلف ذلك فخارج عن الدين ‪ .‬وهذه الاصية قد دل عليها الديث التكلم عليه ‪ ،‬وهي‬
‫موجودة ف كل فرقة من الفرق التضمنة ف الديث ‪.‬‬
‫أل ترى كيف كانت ظاهرة ف الوارج الذين أخب بم النب صلى ال عليه وسلم ف قوله ‪ " :‬يقتلون‬
‫أهل السلم ويدعون أهل الوثان" ‪ :‬وأي فرقة توازي هذه الفرقة الت بي أهل السلم وأهل‬
‫الكفر ؟ وهي موجودة ف سائر من عرف من الفرق أو ادعي ذلك فيهم ‪ ،‬إل أن الفرقة ل تعتب على‬
‫أي وجه كانت ‪ ،‬لنا تتلف بالقوة والضعيف ‪.‬‬
‫وحيث ثبت أن مالفة هذه الفرق من الفروع الزئية باب الفرقة ‪ ،‬فل بد يب النظر ف هذا كله ‪.‬‬

‫الاصية الثانية هي الت نبه عليها قوله تعال ‪ :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ الية‬
‫هي الت نبه عليها قوله تعالة ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه" الية ‪ .‬فبينت الية أن‬
‫أهل الزيغ يتبعون متشابات القرآن ‪ ،‬وجعلوا من شأنه أن يتبع التشابه ل الحكم ‪ .‬ومعن التشابه ‪:‬‬
‫ما أشكل معناه ‪ ،‬ول يبي مغزاه ‪ ،‬سواء كان من التشابه القيقي ـ كالجمل من اللفاظ وما يظهر‬
‫من التشبيه ـ أو من التشابه الضاف ‪ ،‬وهو ما يتاج ف بيان معناه القيقي إل دليل خارجي ‪ ،‬وإن‬
‫كان ف نفسه ظاهر العن لبادي الرأي ‪،‬كاستشهاد الوارج على إبطال التحكيم بقوله ‪" :‬إن الكم‬
‫إل ل" فإنظاهر الية صحيح على الملة ‪ ،‬وأما على التفصيل فمحتاج إل البيان ‪ ،‬وهو ما تقدم‬
‫ذكره لبن عباس رضي ال عنهما ‪ ،‬لنه بي أن الكم ل تارة بغي تكيم لنه إذا أمرنا بالتحكيم‬
‫فالكم به حكم ال ‪.‬‬
‫وكذلك قولم ‪ :‬قاتل ول يسب فإنم حصروا التحكيم ف القسمي وتركوا قسما ثالثا وهو الذي‬
‫نبه قوله تعال ‪ " :‬وإن طائفتان من الؤمني اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداها على الخرى‬
‫فقاتلوا الت تبغي" الية ‪ .‬فهذا قتال من غي سب ‪ ،‬لكن ابن عباس نبههم على وجه أظهر وهو أن‬
‫السباء إذا حصل فل بد من وقوع بعض القاتلي على أم الؤمني ‪ ،‬وعند ذلك يكون حكمها حكم‬
‫السبايا ف النتفاع با كالسبايا ‪ ،‬فيخالفون القرآن الذي ادعوا التمسك به ‪.‬‬
‫وكذلك ف مو السم من إمارة الؤمني ‪ ،‬اقتضى عندهم أنه إثبات لمارة الكافرين ‪ ،‬وذلك غي‬
‫صحيح لن نفي السم منها ل يقتضي نفي السمى ‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأيضا ‪ :‬فإن فرضنا أنه يقتضي نفي السمى ل يقتض إثبات إمارة أخرى ‪ .‬فعارضهم ابن عباس بحو‬
‫النب صلى ال عليه وسلم إسم الرسالة من الصحيفة ‪ ،‬معارضة ل قبل لم با ‪ .‬ولذلك رجع منهم‬
‫ألفان ـ أو من رجع منهم ـ ‪.‬‬
‫فتأملوا وجه اتباع التشابات ‪ ،‬وكيف أدى إل الضلل والروج عن الماعة ‪ ،‬ولذلك قال رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم ‪:‬‬
‫"فإذا رأيتم الذي يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سى ال ‪ ،‬فاحذروهم" ‪.‬‬

‫الاصية الثالثة إتباع الوى‬


‫إتباع الوى ‪ ،‬الذي نبه عليه قوله تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ" والزيغ هو اليل عن الق اتباعا‬
‫للهوى ‪ ،‬وكذلك قوله تعال ‪" :‬ومن أضل من اتبع هواه بغي هدى من ال" وقوله ‪" :‬أفرأيت من اتذ‬
‫إله هواه وأضله ال على علم" ‪.‬‬
‫وليس ف حديث الفرق ما يدل على هذه الاصية ول على الت قبلها ‪ .‬إل ان هذه الاصية راجعة ف‬
‫العرفة با إل كل أحد ف خاصة نفسه ‪ ،‬لن اتباع الوى أمر باطن فل يعرفه غي صاحبه إذا ل‬
‫يغالط نفسه ‪ ،‬إل أن يكون عليها دليل خارجي ‪.‬‬
‫وقد مر أن أصل حدوث الفرق إنا هو الهل بواقع السنة ‪ ،‬وهو الذي نبه عليه الديث بقوله ‪:‬‬
‫"اتذ الناس رؤساء جهالً" ‪ .‬فكل أحد عال بنفسه هل بلغ ف العلم مبلغ الفتي أم ل ؟ وعال إذا‬
‫راجع النظر فيما سئل عنه ‪ :‬هل هو قائل بعلم واضح من غي إشكال أم بغي علم ؟ أم هو على شك‬
‫فيه ؟ والعال إذا ل يشهد له العلماء فهو ف الكم باق على الصل من عدم العلم حت يشهد فيه غيه‬
‫ويعلم هو من نفسه ما شهد له به ‪ ،‬وإل فهو على يقي من عدم العلم أو على شك ‪ ،‬فاختيار القدام‬
‫ف هاتي الالتي على الحجام ل يكون إل باتباع الوى ‪ .‬إذ كان ينبغي له أن يستفت ف نفسه غيه‬
‫ول يفعل ‪ ،‬وكل من حقه أن ل يقدم إل أن يقدمه غيه ‪ ،‬ول يفعل هذا ‪.‬‬
‫قال العقلء ‪ :‬رأي الستشار أنفع لنه بريء من الوى ‪ ،‬بلف من ل يستشر فإنه غي بريء ‪ ،‬ول‬
‫سيما ف الدخول ف الناصب العلية والرتب الشرعية كرتب العلم ‪.‬‬
‫فهذا أنوذج ينبه صاحب الوى ف هواه ويضبطه إل أصل يعرف به ‪ .‬هل هو ف تصدره إل فتوى‬
‫الناس متبع للهوى ‪ ،‬أم هو متبع للشرع ؟‬

‫الاصية الثانية فراجعة إل العلماء الراسخي ف العلم‬

‫‪318‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما الاصية الثانية ‪ ،‬فراجعة إل العلماء الراسخي ف العلم ‪ ،‬لن معرفة الحكم والتشابه راجع إليهم‬
‫يعرفونا ويعرفون أهلها ‪ ،‬فهم الرجوع إليهم ف بيان من هم متبع للمحكم فيقلد ف الدين ‪ ،‬ومن هو‬
‫ل‪.‬‬‫التبع للمتشابه فل يقلد أص ً‬
‫ولكن له علمة ظاهرة أيضا نبه عليها الديث الذي فسرت الية به ‪ ،‬قال فيه ‪:‬‬
‫فإذا رأيتم الذين يادلون فيه ‪ ،‬فهم الذين عن ال فاحذروهم ‪ ،‬خرجه القاضي إساعيل بن إسحاق ‪،‬‬
‫وقد تقدم أول الكتاب ‪ .‬فجعل من شأن التبع للمتشابه أنه يادل فيه ويقيم الناع على اليان ‪،‬‬
‫وسبب ذلك أن الزائغ التبع لا تشابه من الدليل ل يزال ف ريب وشك ‪ ،‬إذ التشابه ل يعطى بيانا‬
‫شافيا ‪ ،‬ول يقف منه متبعه على حقيقة ‪ ،‬فاتباع الوى يلجئه إل التمسك به ‪ ،‬والنظر فيه ل يتخلص‬
‫له ‪ ،‬فهو على شك أبدا ‪ ،‬وبذلك يفارق الراسخ ف العلم ‪ ،‬لن جداله إن افتقر إليه فهو ف مواقع‬
‫الشكال العارض طلبا لزالته ‪ ،‬فسرعان ما يزول إذا بي له موضع النظر ‪.‬‬
‫وأما ذو الزيغ فإن هواه ل يليه إل طرح التشابه ‪ .‬فل يزال ف جدال عليه وطلب لتأويله ‪.‬‬
‫ويدل على ذلك أن الية نزلت ف شأن نصارى نران ‪ ،‬وقصدهم أن يناظروا رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ف عيسى ابن مري عليهما السلم ‪ ،‬وأنه ال ‪ ،‬أو أنه ثالث ثلثة ‪ ،‬مستدلي بأمور‬
‫متشابات من قوله ‪ :‬فعلنا وخلقنا وهذا كلم جاعة ‪ .‬ومن أنه يبىء الكمة والبرص وييي الوتى‬
‫وهو كلم طائفة أخرى ‪ ،‬ول ينظروا إل أصله ونشأته بعد أن ل يكن ‪ ،‬وكونه كسائر بن آدم يأكل‬
‫ويشرب وتلحقه الفات والمراض ‪ .‬والب مذكور ف السي ‪.‬‬
‫والاصل ‪ :‬انم إنا أتوا لناظرة رسول ال صلى ال عليه وسلم ومادلته ل يقصدون اتباع الق ‪.‬‬
‫والدال على هذا الوجه ل ينقطع ‪ ،‬ولذلك لا بي لم الق ول يرجعوا عنه دعوا إل أمر آخر خافوا‬
‫منه اللكة فكفوا عنه ‪ ،‬وهو الباهلة ‪ .‬وهو قوله تعال ‪" :‬فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم‬
‫فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم" ‪ .‬الية ‪ ،‬وشأن هذا الدال أنه‬
‫شاغل عن ذكر ال وعن الصلة ‪ ،‬كالنرد ‪ ،‬والشطرنج وغيها ‪.‬‬
‫وقد نقل عن حاد بن زيد أنه قال ‪ :‬جلس عمرو بن عبيد وشبيب بن شيبة ليلة يتخاصمون إل طلوع‬
‫الفجر ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فلما صلوا جعل عمرو يقول ‪ :‬هيه أبا معمر ! هيه أبا معمر! فإذا رأيتم أحدا شأنه أبدا الدال‬
‫ف السائل مع كل أحد من أهل العلم ‪ ،‬ث ل يرجع ول يرعوي ‪ ،‬فاعلموا أنه زيغ القلب متبع‬
‫للمتشابه فاحذروه ‪.‬‬

‫وأما ما يرجع للول فعامة لميع العقلء من السلم‬

‫‪319‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما ما يرجع للول فعامة لميع العقلء من السلم ‪ ،‬لن التواصل والتقاطع معروف عند الناس‬
‫كلهم ‪ ،‬وبعرفته يعرف أهله ‪ .‬وهو الذي نبه عليه حديث الفرق إذ أشار إل الفتراق شيعا بقوله ‪:‬‬
‫"وستفترق هذه المة على كذا" ولكن هذا الفتراق إنا يعرف بعد اللبسة والداخلة ‪ ،‬وأما قبل ذلك‬
‫فل يعرفه كل أحد ‪ ،‬فله علمات تتضمن الدللة على التفرق ‪ .‬أولا ‪ :‬مفاتة الكلم ‪ ،‬وذلك إلقاء‬
‫الخالف لن لقيه ذم التقدمي من اشتهر علمهم وصلحهم واقتداء اللف بم ‪ ،‬ويتص بالدح من‬
‫ل يثبت له ذلك من شاذ مالف لم ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪.‬‬
‫وأصل هذه العلمة ف العتبار تكفي الوارج ـ لعنهم ال ـ الصحابة الكرام رضي ال عنهم ‪،‬‬
‫فإنم ذموا من مدحه ال ورسوله واتفق السلف الصال على مدحهم والثناء عليهم ‪ ،‬ومدحوا من‬
‫اتفق السلف الصال على ذمه كعبد الرحن بن ملجم قاتل علي رضي ال عنه ‪ ،‬وصوبوا قتله إياه ‪،‬‬
‫وقالوا ‪ :‬إن ف شأنه نزل قوله تعال ‪" :‬ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة ال" وأما الت قبلها‬
‫وهي قوله ‪" :‬ومن الناس من يعجبك قوله ف الياة الدنيا" ‪ ،‬فإنا نزلت ف شأن علي رضي ال عنه ‪،‬‬
‫وكذبوا ـ قاتلهم ال ـ وقال عمران بن حطان ف مدحه لبن ملجم ‪.‬‬
‫إل ليبلغ من ذي العرش رضوانا‬ ‫يا ضربةً من تقي ما أراد با‬
‫أوف البية عند ال ميزانا‬ ‫إن لذكره يوما فأحسبه‬
‫وكذب ـ لعنه ال ـ فإذا رأيت من يري على هذا الطريق ‪،‬فهو من الفرق الخالفة ‪ ،‬وبال التوفيق‬
‫‪.‬‬
‫وروي عن إساعيل بن علية ‪ ،‬قال ‪ :‬حدثن اليسع ‪ ،‬قال ‪ :‬تكلم واصل بن عطاء يوما ـ يعن العتزل‬
‫ـ فقال عمرو بن عبيد ‪ :‬أل تسمعون ؟ ما كلم السن و ابن سيين ـ عندما تسمعون ـ إل‬
‫خرقة حيض ملقاة ‪.‬‬
‫روي أن زعيما من زعماء أهل البدعة كان يريد تفضيل الكلم على الفقه ‪ ،‬فكان يقول ‪ :‬إن علم‬
‫الشافعي و أب حنيفة ‪،‬جلته ل يرج من سراويل امرأة ‪.‬‬
‫هذا كلم هؤلء الزائغي ‪ ،‬قاتلهم ال ‪.‬‬

‫والعلمة التفصيلية‬
‫وأما العلمة التفصيلية ف كل فرقة فقد نبه عليها و أشي إل جلة منها ف الكتاب والسنة ‪ ،‬وف ظن‬
‫أن من تأملها ف كتاب ال وجدها منبها عليها ومشارا إليها ‪ ،‬ولول أنا فهمنا من الشرع الستر عليها‬
‫لكان ف الكلم ف تعيينها مال متسع مدلول عليه بالدليل الشرعي ‪ ،‬وقد كنا همنا بذلك ف ماضي‬
‫الزمان ‪ .‬فغلبنا عليه ما دلنا على أن الول خلف ذلك ‪.‬‬

‫‪320‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فأنت ترى أن الديث الذي تعرضنا لشرحه ل يعي ف الرواية الصحيحة واحدة منها ‪ ،‬لذا العن‬
‫الذكور ‪ ،‬وال أعلم ـ وإنا نبه عليه ف الملة لتحذر مظانا ‪ ،‬وعي ف الديث الحتاج إليه منها‬
‫وهي الفرقة الناجية ليتحراها الكلف ‪ ،‬وسكت عن ذلك ف الرواية الصحيحة ‪ ،‬لن ذكرها ف الملة‬
‫يفيد المة الوف من الوقوع فيها ‪ ،‬وذكر ف الرواية الخرى فرقة من الفرق الالكة لنا ـ كما‬
‫قال ـ أشد الفرق على المة ‪ .‬وبيان كونا أشد فتنة من غيها سيأت آخرا إن شاء ال ‪.‬‬

‫السألة التاسعة التوفيق بي روايات حديث الفرق‬


‫إن الرواية الصحيحة ف الديث أن افتراق اليهود كافتراق النصارى على إحدى وسبعي ‪ ،‬وهي‬
‫رواية اب داود على الشك ! إحدى وسبعي ؟ أو ثنتي وسبعي ؟ وأثبت ف الترمذي ‪.‬‬
‫ف الرواية الغريبة لبن إسرائيل الثنتي والسبعي لنه ل يذكر ف الديث افتراق النصارى ‪ ،‬وذلك ـ‬
‫وال أعلم ـ لجل أنه إنا أجرى ف الديث ذكر بن إسرائيل فقط ‪ ،‬لنه ذكر فيه عن عبد ال بن‬
‫عمر رضي ال عنهما قال ‪" :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬ليأتي على أمت ما أتى على بن‬
‫إسرائيل حذو النعل بالنعل ‪ ،‬حت إن كان منهم من أتى أمة علنية لكان ف أمت من يصنع ذلك ‪.‬‬
‫وإن بن إسرائيل تفرقت على اثنتي وسبعي ملة ‪ ،‬وتفترق أمت" الديث ‪ .‬وف أب داود ‪ ،‬اليهود‬
‫والنصارى معا إثبات الثنتي والسبعي من غي شك ‪.‬‬
‫وخرج الطبي وغيه الديث على أن بن إسرائيل افترقت على إحدى وسبعي ملة ‪ ،‬وافترقت هذه‬
‫المة على ثنتي وسبعي فرقة كلها ف النار إل واحدة ‪.‬‬
‫فإن بنينا على إثبات إحدى الروايتي فل إشكال ‪ ،‬لكن ف رواية الحدى والسبعي تزيد هذه المة‬
‫فرقتي ‪ ،‬وعلى رواية الثنتي والسبعي تزيد فرقة واحدة ‪ ،‬وثبت ف بعض كتب الكلم ف نقل‬
‫الديث أن اليهود افترقت على إحدى وسبعي ‪ ،‬وأن النصارى افترقت على اثنتي وسبعي فرقة ‪،‬‬
‫ووافقت سائر الروايات ف افتراق هذه المة على ثلث وسبعي فرقة ‪ .‬ول أر هذه الرواية هكذا فيما‬
‫رأيته من كتب الديث ‪ ،‬إل ما قوع ف جامع ابن وهب من حديث علي رضي ال عنه ـ وسيأت ‪.‬‬
‫وإن ينينا على إعمال الروايات ‪ .‬فيمكن أن تكون رواية الحدى والسبعي وقت أعلم بذلك ث أعلم‬
‫بزيادة فرقة ‪ ،‬أما أنا كانت فيهم ول يعلم با النب صلى ال عليه وسلم ف وقت آخر ‪ ،‬وإما أن‬
‫تكون جلة الفرق ف اللتي ذلك القدار فأخب به ‪ ،‬ث حدثت الثانية والسبعون فيهما فأخب ذلك عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ .‬وعلى الملة فيمكن أن يكون الختلف بسب التعريف با أو الدوث ‪ ،‬وال‬
‫أعلم بقيقة المر ‪.‬‬

‫السألة العاشرة الفرقة الناجية ف هذه المة وف غيها‬

‫‪321‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫هذه المة ظهر أن فيها فرقة زائدة على الفرق الخرى اليهود والنصارى ‪ ،‬فالثنتان والسبعون من‬
‫الالكي التوعدين بالنار ‪ ،‬والواحدة ف النة ‪ .‬فإذا انقسمت هذه المة بسب هذا الفتراق قسمي‬
‫‪ :‬قسم ف النار ‪ ،‬وقسم ف النة ‪ ،‬ول يبي ذلك ف فرق اليهود ول ف فرق النصارى ‪ ،‬إذ ل يبي‬
‫الديث أن ل تقسيم لذه المة ‪ ،‬فيبقى النظر ‪ :‬هل ف اليهود والنصارى فرقة ناجية أم ل ؟ وينبن‬
‫على ذلك نظران ‪ :‬هل زادت هذه المة فرقة هالكة ‪ :‬أم ل ؟ وهذا النظر وإن كان ل ينبن عليه ‪...‬‬
‫لكنه من تام الكلم ف الديث ‪.‬‬
‫فظاهر النقل ف مواضع من الشريعة أن كل طائفة من اليهود والنصارى ل بد أن يوجد فيها من آمن‬
‫بكتابه وعمل بسنته ‪ ،‬كقوله تعال ‪" :‬ول يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم المد‬
‫فقست قلوبم وكثي منهم فاسقون" ففيه إشارة إل أن منهم من ل يفسق ‪ ،‬وقال تعال ‪" :‬فآتينا‬
‫الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون" وقال تعال ‪" :‬ومن قوم موسى أمة يهدون بالق وبه‬
‫يعدلون " وقال تعال ‪ " :‬منهم أمة مقتصدة " وهذا كالنص ‪.‬‬
‫وف الديث الصحيح عن أب موسى أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫"أيا رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن ب فله أجران" فهذا يدل بإشارته على العمل با جاء به‬
‫نبيه ‪ .‬وخرج عبد ال بن عمر ‪" ،‬عن ابن مسعود قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬يا عبد‬
‫ال بن مسعود ‪ :‬ـ قلت ‪ :‬لبيك رسول ال قال ـ أتدري أي عرى اليان أوثق ؟ ـ قال ـ قلت‬
‫‪ :‬ال ورسوله أعلم ‪ .‬قال ‪ :‬الولية ف ال والب ف ال ‪ ،‬والبغض فيه ـ ث قال ‪ :‬يا عبد ال بن‬
‫مسعود ! ـ قلت ‪ :‬لبيك رسول ال ! ثلث مرات ‪ ،‬قال ـ أتدري أي الناس أفضل ؟ قلت ‪ :‬ال‬
‫ورسوله أعلم ‪ .‬قال ـ فإن أفضل الناس أفضلهم عملً إذا فقهوا ف دينهم ـ ث قال ـ يا عبد ال‬
‫بن مسعود ! ـ قلت لبيك يا رسول ال ! ثلث مرات ‪ .‬قال ـ هل تدري أي الناس أعلم ؟ قلت ‪:‬‬
‫ال ورسوله أعلم ‪ .‬قال ‪ :‬أعلم الناس أبصرهم للحق إذا اختلف الناس ‪ ،‬وإن كان مقصرا ف العمل ‪،‬‬
‫وإن كان يزحف على استه ‪ ،‬واختلف من قبلنا على ثنتي وسبعي فرقة نا منهم ثلث وهلك‬
‫سائرها ‪ ،‬فرقة آذت اللوك وقاتلتهم على دين عيسى ابن مري حت قتلوا ‪ ،‬وفرقة ل يكن لم طاقة‬
‫بؤاذاة اللوك ‪ ،‬فأقاموا بي ظهران قومهم فدعوهم إل دين ال ودين عيسى ابن مري ‪ ،‬فأخذتم‬
‫اللوك وقطعتهم بالناشي ‪ ،‬وفرقة ل يكن لم طاقة بؤاذاة اللوك ول بأن يقيموا بي ظهران قومهم‬
‫فيدعوهم إل دين ال ودين عيسى ابن مري ‪ ،‬فساحوا ف البال وهربوا فيها ‪ ،‬فهم الذين قال ال عز‬
‫وجل فيهم ‪" :‬ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إل ابتغاء رضوان ال فما رعوها حق رعايتها فآتينا‬
‫الذين آمنوا منهم أجرهم وكثي منهم فاسقون" "‪ .‬فالؤمنون ‪ ،‬الذين آمنوا ب وصدقوا ب ‪،‬‬
‫والفاسقون الذين كذبوا ب وجحدوا ب ‪ ،‬فأخب أن فرقا ثلثا نت من تلك الفرق العدودة والباقية‬
‫هلكت‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وخرج ابن وهب من حديث علي رضي ال عنه أنه دعا رأس الالوت وأسقف النصارى فقال ‪ :‬إن‬
‫سائلكما عن أمر وأنا أعلم به منكما فل تكتما‪ ،‬يا رأس جالوت ! أنشدك ال الذي أنزل التوراة على‬
‫موسى ‪ ،‬وأطعمكم الن والسلوى ‪ ،‬وضرب لكم ف البحر طريقا يبسا ‪ ،‬وجعل لكم الجر الطوري‬
‫يرج لكم منه اثنت عشرة عينا لكل سبط من بن إسرائيل عي ! إل ما أخبتن على كم افترقت‬
‫اليهود من فرقة بعد موسى ؟ فقال له ‪ :‬ول فرقة واحدة ‪ .‬فقال له علي ‪ :‬كذبت والذي ل إله إل هو‬
‫‪ ،‬لقد افترقت على إحدى وسبعي فرقة كلها ف النار إل فرقة واحدة ‪.‬‬
‫ث دعا السقف ‪ ،‬فقال ‪ :‬انشدك ال الذي أنزل النيل على عيسى ‪ ،‬وجعل على رجله البكة ‪،‬‬
‫واراكم العبة ‪ ،‬فأبرأ الكمة والبرص وأحيا الوتى ‪ ،‬وصنع لكم من الطي طيورا وأنبأكم با‬
‫تأكلون وما تدخرون ف بيوتكم ‪ .‬فقال ‪ :‬دون هذا الصدق يا أمي الؤمني ‪ .‬فقال له علي رضي ال‬
‫عنه ‪ .‬كم افترقت النصارى بعد عيسى ابن مري من فرقة ؟ قال ‪ :‬ل ‪ .‬وال ول فرقة ‪ .‬فقال ثلث‬
‫مرات ‪ :‬كذبت وال الذي ل إله إل ال ‪ .‬لقد افترقت على اثنتي وسبعي فرقة كلها ف النار إل‬
‫واحدة ‪ ،‬فقال ‪ :‬أما أنت يا يهودي ! فإن ال يقول ‪" :‬ومن قوم موسى أمة يهدون بالق وبه‬
‫يعدلون" فهي الت تنجو ‪ ،‬وأما نن فيقول ال فينا ‪" :‬ومن خلقنا أمة يهدون بالق وبه يعدلون" فهذه‬
‫الت تنجو من هذه المة ‪ .‬ففي هذا أيضا دليل ‪.‬‬
‫وخرجهالجري أيضا من طريق أنس بعن حديث علي رضي ال عنه ‪ :‬إن واحدة من فرق اليهود‬
‫ومن فرق النصارى ف النة ‪.‬‬
‫وخرج سعيد بن منصور ف تفسيه من حديث عبد ال ‪ :‬أن بن إسرائيل لا طال عليهم المد‬
‫فقست قلوبم اخترعوا كتابا من عند أنفسهم استهوته قلوبم واستحلته ألسنتهم ‪ ،‬وكان الق يول‬
‫بي كثي من شهواتم ‪ ،‬حت نبذوا كتاب ال وراء ظهورهم كأنم ل يعلمون ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬اعرضوا هذا‬
‫الكتاب على بن إسرائيل فإن تابعوكم فاتركوهم ‪ ،‬وإن خالفوكم فاقتلوهم ‪ ،‬قالوا ‪ :‬ل ! بل أرسلوا‬
‫إل فلن ـ رجل من علمائهم ـ فاعرضوا عليه هذا الكتاب فإن تابعكم فلن يالفكم أحد بعده ‪،‬‬
‫وإن خالفكم فاقتلوه فلن يتلف علقها ف عنقه ‪ ،‬ث لبس عليها الثياب ‪ ،‬ث أتاهم فعرضوا عليه‬
‫الكتاب ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أتؤمن بذا ؟ فأومأ إل صدره فقال ‪ :‬آمنت بذا ‪ ،‬وما ل ل أؤمن بذا ؟ ( يعن‬
‫الكتاب الذي ف القرن ) فخلوا سبيله ‪ ،‬وكان له أصحاب يغشونه ‪ ،‬فلما مات نبشوه فوجدوا القرن‬
‫ووجدوا الكتاب ‪ ،‬فقالوا ‪ :‬أل ترون قوله ‪ :‬آمنت بذا ‪ ،‬وما ل ل أؤمن بذا ؟ وإنا عن هذا الكتاب‬
‫‪ .‬فاختلف بنو إسرائيل على بضع وسبعي ملة ‪ ،‬وخي مللهم أصحاب ذلك القرن ـ قال عبد ال ـ‬
‫‪ :‬وإن من بقي منكم سيى منكرا بسب أمره ‪ ،‬يرى منكرا ل يستطيع أن يغيه ‪ ،‬إن يعلم ال من‬
‫قلبه خيا كاره ‪.‬‬

‫‪323‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فهذا الب يدل على أن ف بن إسرائيل فرقة كانت على الق الصريح ف زمانم ‪ ،‬لكن ل أضمن‬
‫عهدة صحته ول صحة ما قبله ‪.‬‬
‫وإذا ثبت أن ف اليهود والنصارى فرقة ناجية لزم من ذلك أن يكون ف هذه المة فرقة ناجية زائدة‬
‫على رواية الثنتي والسبعي ‪ ،‬أو فرقتي بناء على رواية الحدى والسبعي ‪ ،‬فيكون لا نوع من‬
‫التفرق ل يكن لن تقدم من أهل الكتاب ‪ ،‬لن الديث التقدم أثبت أن هذه المة تبعث من قبلها‬
‫من أهل الكتابي ف أعيان مالفتها ‪ ،‬فثبت أنا تبعتها ف أمثال بدعتها ‪ ،‬وهذه هي ‪:‬‬

‫السألة الادية عشرة اتباع المة سنن من قبلها‬


‫فإن الديث الصحيح قال ‪:‬‬
‫"لتتبعن سنن من كان قبلكم شبا بشب وذراعا بذارع ‪ ،‬حت لو دخلوا ف جحر ضب لتبعتموهم ـ‬
‫قلنا ‪ :‬يا رسول ال ! اليهود والنصارى ؟ ـ قال فمن ؟" زيادة إل حديث الترمذي الغريب ‪ ،‬فدل‬
‫ضرب الثال ف التعيي على أن التباع ف أعيان أفعالم ‪.‬‬
‫وف الصحيح " عن أب واقد الليثي رضي ال عنه ‪ :‬خرجنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم قبل‬
‫خيب ونن حديثو عهد بكفر ‪ ،‬وللمشركي سدرة يعكفون حولا وينوطون با أسلحتهم ‪ ،‬يقال لا‬
‫ذات أنواط فقلنا ‪ :‬يا رسول ال ! اجعل لنا ذات أنواط كما لم ذات أنواط ‪ .‬فقال لم النب صلى‬
‫ال عليه وسلم ‪ :‬ال أكب كما قالت بنو إسرائيل "إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون" لتركب‬
‫سنن من كان قبلكم" وصار حديث الفرق بذا التفسي صادقا على أمثال البدع الت تقدمت لليهود‬
‫والنصارى ‪ ،‬وأن هذه المة تبتدع ف دين ال مثل تلك البدع وتزيد عليها ببدعة ل تتقدمها واحدة‬
‫من الطائفتي ‪ ،‬ولكن هذه البدعة الزائدة إنا تعرف بعد معرفة البدع الخر ‪ ،‬وقد مر أن ذلك ل‬
‫يعرف ‪ ،‬أو ل يسوغ التعريف به وإن عرف ‪ ،‬فكذلك ل تتعي البدعة الزائدة ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬
‫وف الديث أيضا عن أي هريرة رضي ال عنه أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬ل تقوم‬
‫الساعة حت تأخذ أمت با أخذ القرون من قبلها شبا بشب وذراعا بذراع ‪ ،‬فقال رجل ‪ :‬يا رسول‬
‫ال ! كما فعلت فارس والروم ؟ قال ‪ :‬وهل الناس إل أولئك" وهو بعن الول ‪ ،‬إل أنه ليس فيه‬
‫ضرب مثل ‪ ،‬فقوله ‪" :‬حت تأخذ أمت أخذ القرون من قبلها" يدل على أنا تأخذ بثل ما أخذوا به ‪،‬‬
‫إل أنه ل يتعي ف التباع لم أعيان بدعهم ‪ ،‬بل قد تتبعها ف أعيانا وتتبعها ف أشباهها ‪ ،‬فالذي يدل‬
‫على الول قوله ‪" :‬لتتبعن سنن من كان قبلكم" الديث فإنه قال فيه ‪" :‬حت لو دخلوا ف جحر‬
‫ضب خرب لتبعتموهم" ‪.‬‬
‫والذي يدل على الثان قوله ‪" :‬فقلنا يا رسول ال ‪ :‬اجعل لنا ذات أنواط ‪ ،‬فقال عليه السلم ‪ :‬هذا‬
‫كما قالت بنو إسرائيل ‪" :‬إسرائيل البحر فأتوا"" الديث ‪ .‬فإن اتاذ ذات أنواط يشبه اتاذ اللة من‬

‫‪324‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫دون ال ‪ ،‬ل أنه هو بنفسه فلذلك ل يلزم العتبار بالنصوص عليه ما ل ينص عليه مثله من كل‬
‫وجه ‪ ،‬وال أعلم ‪.‬‬

‫السألة الثانية عشرة كفر الفرق وفسقها ونفوذ الوعيد أو جعله ف الشيئة‬
‫أنه عليه الصلة والسلم أخب أنا كلها ف النار ‪ ،‬وهذا وعيد يدل على أن تلك الفرق قد ارتكبت‬
‫كل واحدة منها معصية كبية أو ذنبا عظيما ‪ ،‬إذ قدر تقرر ف الصول أن ما يتوعد الشر عليه‬
‫فخصوصيته كبة ‪ .‬إذ ل يقل ‪ ":‬كلها ف النار" ‪ .‬إل من جهة الوصف الذي افترقت بسببه عن‬
‫السواد العظم وعن جاعته ‪ ،‬وليس ذلك إل لبدعة مفرقة ‪ ،‬إل أنه ينظر ف هذا الوعيد ‪ .‬هل هو‬
‫أبدي أم ل ؟ وإذا قلنا ‪ :‬إنه غي أبدي ‪ :‬هل هو نافذ أم ف الشيئة ‪.‬‬
‫أما الطلب الول ‪ :‬فينبن على أن بعض البدع مرجة من السلم ‪ ،‬أو ليست مرجة ‪ ،‬واللف ف‬
‫الوارج وغيهم من الخالفي ف العقائد موجود ـ وقد تقدم ذكره قبل هذه ـ فحيث نقول‬
‫بالتكفي لزم منه تأبيد التحري على القاعدة إن الكفر والشرك ل يغفره ال سبحانه ‪.‬‬

‫يتمل عدم التكفي أمران أحدها نفوذ الوعيد‬


‫وإذا قلنا بعدم التكفي فيحتمل ـ على مذهب أهل السنة ـ أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬نفوذ الوعيد من غي غفران ‪ ،‬ويدل على ذلك ظواهر الحاديث ‪.‬‬
‫وقوله هنا ‪" :‬كلها ف النار" أي مستقرة ثابتة فيها ‪.‬‬

‫والمر الثان من احتمال التكفي أن يكون مقيدا بالشيئة‬


‫فإن قيل ‪ :‬ليس إنفاذ الوعيد بذهب أهل السنة ‪ .‬قيل ‪ :‬بلى قد قال به طائفة منهم ف بعض الكبائر ف‬
‫مشيئة ال تعال ‪ ،‬لكن دلم الدليل ف خصوص كبائر على أنا خارجة عن ذلك الكم ‪ ،‬ول بد من‬
‫ذلك ‪ ،‬فإن التبع هو الدليل ‪ ،‬فكما دلم على أن أهل الكبائر على الملة ف الشيئة كذلك دلم على‬
‫تصيص ذلك العموم الذي ف قوله تعال ‪" :‬ويغفر ما دون ذلك لن يشاء" فإن ال تعال قال ‪" :‬ومن‬
‫يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم " ‪ .‬فأخب أولً أن جزاءه جهنم ‪ ،‬وبالغ ف ذلك بقوله تعال ‪:‬‬
‫"خالدا فيها "عبارة عن طول الكث فيها ‪ ،‬ث عطف بالغضب ‪ ،‬ث بلعنته ‪ ،‬ث ختم ذلك بقوله تعال‬
‫‪" :‬وأعد له عذابا عظيما " والعداد قبل البلوغ إل العد ما يدل على حصوله للمعد له ‪ ،‬ولن القتل‬
‫اجتمع فيه حق ل وحق الخلوق وهو القتول ‪.‬‬
‫قال ابن رشد ‪ :‬ومن شرط صحة التوبة من مظال العباد تللهم أو رد التباعات إليهم وهذا ما ل‬
‫سبيل إل القاتل إليه إل بأن يدرك القتول حيا فيعفو عنه نفسه ‪.‬‬

‫‪325‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأول من هذه العبارة أن نقول ‪ :‬ومن شرط خروجه من تباعة القتل مع التوبة استدراك ما فات على‬
‫الجن عليه ‪ :‬إما ببذل القيمة له ‪ ،‬وهو أمر ل يكن بعد فوت القتول ‪ .‬فكذلك ل يكن ف صاحب‬
‫البدعة من جهة الدلة ‪ ،‬فراجع ما تقدم ف الباب الثان تد فيه كثيا من التهديد والوعيد الخوف‬
‫جدا ‪.‬‬
‫وانظر ف قوله تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وأولئك لم‬
‫عذاب عظيم " فهذا وعيد ‪ ،‬ث قال تعال ‪" :‬يوم تبيض وجوه وتسود وجوه " وتسويد الوجوه علمة‬
‫الزي ودخول النار ‪ ،‬ث قال تعال ‪" :‬أكفرت بعد إيانكم" وهو تقريع وتوبيخ ‪ ،‬ث قال تعال ‪:‬‬
‫"فذوقوا العذاب" وهو تأكيد آخر ‪.‬‬
‫وكل هذا التقرير بناء على أن الراد باليات أهل القبلة من أهل البدع ‪.‬‬
‫لن البتدع إذا اتبع ف بدعته ل يكنه التلف ـ غالباـ فيها ‪ ،‬ول يزل أثرها ف الرض يستطيل إل‬
‫قيام الساعة ‪ ،‬وذلك كله بسببه ‪ ،‬فهي أدهى من قتل النفس ‪.‬‬
‫قال مالك رحة ال عليه ‪ :‬إن العبد لو ارتكب جيع الكبائر بعد أن ل يشرك بال شيئا وجبت له‬
‫ارفع النازل ‪ ،‬لن كل ذنب بي العبد وربه هو منه على رجاء ‪ ،‬وصاحب البدعة ليس هو منها على‬
‫رجاء ‪ ،‬إنا يهوى به ف نار جهنم فهذا منه نص ف إنفاذ الوعيد ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يكون مقيدا بأن يشاء ال تعال إصلءهم ف النار ‪ ،‬وإنا حل قوله ‪" :‬كلها ف النار" أي‬
‫هي من يستحق النار ‪ ،‬كما قالت الطائفة الخرى ف قوله تعال ‪" :‬فجزاؤه جهنم خالدا فيها" أي‬
‫ذلك جزاؤه إن ل يعف ال عنه ‪ ،‬فإن عفا عنه فله العفو إن شاء ال ‪ ،‬لقوله تعال ‪":‬إن ال ل يغفر‬
‫أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لن يشاء" فكما ذهبت طائفة من الصحابة ومن بعدهم إل أن القاتل‬
‫ف الشيئة ‪ ،‬وإن ل يكن الستدراك ‪ ،‬كذلك يصح أن يقال هنا بثله ‪.‬‬

‫السألة الثالثة عشرة إن قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬


‫إل واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه الصلة والسلم ‪ :‬إل واحدة قد أعطى بنصه إن قوله عليه‬
‫الصلة والسلم ‪ :‬إل واحدة قد أعطى بنصه قوله أن الق واحد ل يتلف‬
‫إن قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬إل واحدة" قد أعطى بنصه أن الق واحد ل يتلف ‪ ،‬إذ لو كان‬
‫للحق فرق أيضا ل يقل "إل واحدة" ولن الختلف منفي عن الشريعة بإطلق ‪ ،‬لنا الاكمة بي‬
‫الختلفي ‪ ،‬لقوله تعال ‪" :‬فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" إذ رد التنازع إل الشريعة ‪،‬‬
‫فلو كانت الشريعة تقتضي اللف ل يكن ف الرد إليها فائدة ‪ .‬وقوله ‪" :‬ف شيء" نكرة ف سياق‬
‫الشرط ‪ ،‬فهي صيغة من صيغ العموم ‪ .‬فتنتظم كل تنازع على العموم ‪ ،‬فالرد فيها ل يكون إل لمر‬

‫‪326‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫واحد فل يسع أن يكون أهل الق فرقا ‪ .‬وقال تعال ‪" :‬وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ول تتبعوا‬
‫السبل" وهو نص فيما نن فيه ‪ ،‬فإن السبيل الواحد ل يقتضي الفتراق ‪ ،‬بلف السبل الختلفة ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فقد تقدم ف السألة العاشرة ف حديث ابن مسعود ‪:‬‬
‫"واختلف من كان قبلنا على ثنتي وسبعي فرقة ‪ ،‬نا منها ثلث وهلك سائرها" إل آخر الديث ‪،‬‬
‫فلو لزم ما قلت ل يعل أولئك الفرق ثلثا ‪ ،‬وكانوا فرقة واحدة ‪ ،‬وحي بينوا ظهر كلهم على الق‬
‫والصواب ‪ .‬فكذلك يوز أن تكون الفرق ف هذه المة ‪ ،‬لول أن الديث أخب أن الناجية واحدة ‪.‬‬
‫فالواب أولً ‪ :‬أن ذلك الديث ل نشترط الصحة ف نقله ‪ ،‬إذ ل نده ف الكتب الت لدينا الشترط‬
‫فيها الصحة ‪.‬‬
‫وثانيا ‪ :‬أن تلك الفرق إن عدت هنا ثلثا فإنا عدت هناك واحدة لعدم الختلف بينهم ف أصل‬
‫التباع ‪ ،‬وإنا الختلف ف القدرة على المر بالعروف والنهي عن النكر أو عدمها ‪ ،‬وف كيفية‬
‫المر والنهي خاصة ‪.‬‬
‫فهذه الفرق ل تناف صحة المع بينهما ‪ ،‬فنحن نعلم أن الخاطبي ف ملتنا بالمر بالعروف والنهي‬
‫عن النكر على مراتب ‪ :‬فمنهم من يقدر على ذلك باليد وهم اللوك والكام ومن أشبههم ‪ ،‬ومنهم‬
‫من يقدر باللسان كالعلماء ومن قام مقامهم ‪ ،‬ومنهم من ل يقدر إل بالقلب ـ إما مع البقاء بي‬
‫ظهرانيهم إذ ل يقدر على الجرة أو مع الجرة إن قدر عليها ـ وجيع ذلك خطة واحدة من خصال‬
‫اليان ‪ ،‬ولذلك جاء ف الديث قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬ليس بعد ذلك من اليان حبة خردل"‬
‫‪.‬‬
‫فإذا كان كذلك فل يضرنا عد الناجية ف بعض الحاديث ثلثا باعتبار ‪ ،‬وعدها واحدة باعتبار آخر‬
‫‪ ،‬وإنا يبقى النظر ف عدها اثنتي وسبعي فتصي بذا العتبار سبعي ‪ ،‬وهو معارض لا تقدم من‬
‫جهة المع بي فرق هذه المة وفرق غيها ‪ ،‬مع قوله ‪" :‬لتركب سنن من كان قبلكم شبا بشب‬
‫وذراعا بذراع" ‪.‬‬
‫ويكن أن يكون ف الواب أحد أمرين ‪ :‬إما أن يترك الكلم ف هذا رأسا إذا خالف الديث‬
‫الصحيح ‪ ،‬لنه ثبت فيه " إحدى وسبعي " ‪ ،‬وف حديث ابن مسعود ‪" :‬ثنتي وسبعي" ‪.‬‬
‫وإما أن يتأول أن الثلثة الت نت ليست فرقا ثلثا ‪ ،‬وإنا هي فرقة واحدة انقمست إل الراتب‬
‫الثلث ‪ ،‬لن الرواية الواقعة ف تفسي عبد بن حيد هي قوله " نا منها ثلث " ول يفسرها بثلث‬
‫فرق وإن كان هو ظاهر الساق ‪ .‬ولكن قصد المع بي الروايات ومعان الديث ألأ إل ذلك وال‬
‫أعلم با أراد رسوله من ذلك ‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬كلها ف النار إل واحدة" ظاهر ف العموم ‪ ،‬لن كلً من صيغ‬
‫العموم ‪ ،‬وفسره الديث الخر ‪" :‬ثنتان وسبعون ف النار وواحدة ف النة" وهذا نص ل يتمل‬
‫التأويل ‪.‬‬

‫السألة الرابعة عشرة أن النب صلى ال عليه وسلم ل يعي من الفرق إل فرقة واحدة‬
‫أن النب صلى ال عليه وسلم ل يعي من الفرق إل فرقة واحدة ‪ ،‬وإنا تعرض لعدها خاصة ‪،‬وأشار‬
‫إل الفرق الناجية حي سئل عنها ‪ ،‬وإنا وقع ذلك كذلك ول يكن المر بالعكس لمور ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن تعيي الفرقة الناجية هو الكد ف البيان بالنسبة إل تعبد الكلف والحق بالذكر ‪ ،‬إذ ل‬
‫يلزم تعيي الفرق الباقية إذا عينت الواحدة ‪ .‬وأيضا لو عينت الفرق كلها إل هذه المة ل يكن بد من‬
‫بيانا ‪ ،‬لن الكلم فيها يقتضي ترك أمور وهي البدع ‪ .‬والترك للشيء ل يقتضي فعل شيء آخر ل‬
‫ضدا ول خلفا ‪ ،‬فذكر الواحدة هو الفيد على الطلق ‪.‬‬

‫أسباب تعيي النب صلى ال عليه وسلم الفرقة الناجية فقط وهي ثلثة أحدها أن تعيي الفرقة‬
‫الناجية هو الكد ف البيان والثان أن ذلك أوجز‬
‫والثان ‪ :‬أن ذلك أوجز لنه إذا ذكرت نلة الفرقة الناجية علم على البديهة أن ما سواها ما يالفها‬
‫ليس بناج ‪ ،‬وحصل التعيي بالجتهاد ‪ ،‬بلف ما إذا ذكرت الفرق إل الناجية فإنه يقتضي شرحا‬
‫كثيا ‪ ،‬ول يقتضي ف الفرقة الناجية اجتهاد ‪ ،‬لن إثبات العبادات الت تكون مالفتها بدعا ل حظ‬
‫للعقل ف الجتهاد فيها ‪.‬‬

‫السبب الثان أنه أحرى بالستر كما تقدم بيانه‬


‫والثالث ‪ :‬أن ذلك أحرى بالستر ‪ ،‬كما تقدم بيانه ف مسألة الفرق ‪ ،‬ولو فسرت لناقض ذلك قصد‬
‫الستر ‪ ،‬ففسر ما يتاج إليه وترك ما ل يتاج إليه إل من جهة الخالفة ‪ ،‬فللعقل وراء ذلك مرمى‬
‫تت أذيال الستر ‪ ،‬والمد ل ‪ ،‬فبي النب صلى ال عليه وسلم ذلك بقوله " ما أنا عليه وأصحاب‬
‫" ‪ ،‬ووقع ذلك جوابا للسؤال الذي سألوه إذ " قالوا ‪ :‬من هي يا رسول ال ؟ "فأجاب بأن الفرقة‬
‫الناجية من اتصف بأوصافه عليه الصلة والسلم وأوصاف أصحابه ‪ .‬وكان ذلك معلوما عندهم غي‬
‫خفي فاكتفوا به ‪ .‬وربا يتاج إل تفسي بالنسبة إل من بعد تلك الزمان ‪.‬‬

‫حال الصحابة وكون المام التبع القرآن‬

‫‪328‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وحاصل المر أن أصحابه كانوا مقتدين به مهتدين بديه ‪ ،‬وقد جاء مدحهم ف القرآن الكري وأثن‬
‫على متبوعهم ممد صلى ال عله وسلم ‪ ،‬وإنا خلقه صلى ال عليه وسلم القرآن ‪ ،‬فقال تعال ‪:‬‬
‫"وإنك لعلى خلق عظيم" فالقرآن إنا هو التبوع على القيقة ‪ ،‬وجاءت السنة مبينة له ‪ ،‬فالتبع للسنة‬
‫متبع للقرآن ‪ .‬والصحابة كانوا أول الناس بذلك ‪ ،‬فكل من اقتدى بم فهو من الفرقة الناجية‬
‫الداخلية للجنة بفضل ال ‪ ،‬وهو معن قوله عليه الصلة والسلم ‪ ":‬ما أنا عليه وأصحاب " ‪.‬‬

‫الكتاب والسنة ها الصراط الستقيم وغيها تابع لما‬


‫فالكتاب والسنة هو الطريق الستقيم ‪ ،‬وما سواها من الجاع وغيه فناشىء عنهما ‪ ،‬هذا هو‬
‫الوصف الذي كان عليه النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه ‪ ،‬وهو معن ما جاء ف الرواية الخرى‬
‫من قوله ‪ " :‬وهي الماعة " لن الماعة ف وقت الخبار كانوا على ذلك الوصف ‪ ،‬إل أن ف لفظ‬
‫الماعة معن تراه بعد إن شاء ال ‪.‬‬

‫إدعاء كل من رضي بلقب السلم أنه من الفرقة الناجية‬


‫ث إن ف هذا التعريف نظرا ل بد الكلم عليه فيه ( ؟ ) ‪ ،‬وذلك أن كل داخل تت راية السلم‬
‫من سن أو مبتدع مدع أنه هو الذي نال رتبة النجاة ودخل ف غمار تلك الفرقة ‪ ،‬إذ ل يدعي‬
‫خلف ذلك إل من خلع ربقة السلم ‪ ،‬واناز إل فئة الكفر ‪ ،‬كاليهود والنصارى ‪ ،‬وف معناهم من‬
‫دخل بظاهره وهو معتقد غيه كالنافقي ‪ .‬وأما من ل يرض لنفسه إل بوصف السلم وقاتل سائر‬
‫اللل على هذه اللة ‪ ،‬فل يكن أن يرضى لنفسه بأخس مراتبها ـ وهو مدع أحسنها ـ وهو العلم (‬
‫؟ ) فلو علم البتدع أنه مبتدع ل يبق على تلك الالة ول يصاحب أهلها ‪ ،‬فضلً عن أن يتخذها دينا‬
‫يدين به ل ‪ ،‬وهو أمر مركوز ف الفطرة ل يالف فيه عاقل ‪.‬‬

‫تنازع الفرق وتعبي كل منها عن نفسها‬


‫فإذا كان كذلك فكل فرقة تنازع صاحبتها ف فرقة النجاة ‪ .‬أل ترى أن البتدع آخذ أبدا ف تسي‬
‫حاليته شرعا وتقبيح حالة غيه ؟ فالظاهر يدعي أنه البتع للسنة ‪.‬‬
‫والغاش ( ؟ ) يدعي أنه الذي فهم الشريعة ‪ ،‬وصاحب نفي الصفات يدعي أنه الوحد ‪.‬‬
‫والقائل باستقلل العبد يدعي أنه صاحب العدل ‪ ،‬وكذلك سى العتزلة أنفسهم أهل العدل والتوحيد‬
‫‪.‬‬
‫والشبه يدعي أنه الثبت لذات الباري وصفاته ‪ ،‬لن نفي التشبيه عنده نفي مض ‪ ،‬وهو العدم ‪.‬‬
‫وكذلك كل طائفة من الطوائف الت ثبت لا اتباع الشريعة أو ل يثبت لا ‪.‬‬

‫‪329‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإذا رجعنا إل الستدللت القرآنية أو الشنية على الصوص ‪ ،‬فكل طائفة تتعلق بذلك أيضا ‪.‬‬
‫فالوارج تتج بقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬ل تزال طائفة من أمت ظاهرين على الق حت يأت أمر‬
‫ال" وف رواية ‪:‬‬
‫"ل يضرهم خلف من خالفهم ‪ ،‬ومن قتل منهم دون ماله فهو شهيد" ‪.‬‬
‫والقاعدة يتج بقوله ‪:‬‬
‫"عليكم بالماعة ‪ ،‬فإن يد ال مع الماعة ‪ ،‬ومن فارق الماعة قيد شب فقد خلع ربقة السلم من‬
‫عنقه" وقوله ‪ " :‬كن عبد ال القتول ول تكن عبد ال القاتل" ‪.‬‬
‫والرجئي يتحج بقوله ‪ " :‬من قال ل إله إل ال ملصا من قلبه فهو ف النة وإن زن وإن سرق " ‪.‬‬
‫والخالف له متج بقوله ‪ " :‬ل يزن الزان حي يزن وهو مؤمن " ‪.‬‬
‫والقدري يتج بقوله تعال ‪ " :‬فطرة ال الت فطر الناس عليها" وبديث‪ " :‬كل مولود يولد على‬
‫الفطرة" الديث ‪.‬‬
‫والفوض يتج بقوله تعال ‪" :‬ونفس وما سواها * فألمها فجورها وتقواها" وبديث ‪ " :‬اعملوا فكل‬
‫ميسر لا خلق له" ‪.‬‬
‫والرافضة تتج قوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬ليدن الوض أقوام ث ليتخلفن دون ‪ ،‬فأقول ‪ :‬يا رب‬
‫أصحاب! فيقال ‪ :‬إنك ل تدري ما أحدثوا بعدك ‪ ،‬ث ل يزالوا مرتدين على أعقابم منذ فارقتهم"‬
‫ويتجون ف تقدي علي رضي ال عنه ك بـ ‪" :‬أنت من بنلة هارون من موسى ‪ ،‬غي أنه ل نب‬
‫بعدي " و ‪ " :‬من كنت موله فعلي موله" ومالفوهم يتجون ف تقدي أب بكر وعمر رضي ال‬
‫عنهما بقوله ‪" :‬اقتدوا باللذين من بعدي أب بكر وعمر ويأب ال والسلمون إل أبا بكر" إل أشباه‬
‫ذلك‪ ،‬ما يرجع إل معناه ‪.‬‬
‫والمع مومون ـ ف زعمهم ـ على النتظام ف سلك الفرقة الناجية ‪ ،‬وإذا كان كذلك أشكل‬
‫على البتدع ف النظر ما كان عليه النب صلى ال عليه وسلم وأصحابه ‪ ،‬ول يكن أن يكون مذهبهم‬
‫مقتضى هذه الظواهر ‪ ،‬فإنا متدافعة متناقضة ‪ .‬وإنا يكن المع فيها إذا جعل بعضها أصلً ‪ .‬فيد‬
‫الخر إل ذلك الصل بالتأويل ‪.‬‬
‫وكذلك فعل كل واحدة من تلك الفرق تستمسك ببعض تلك الدلة وترد ما سواها إليها ‪ ،‬أو تمل‬
‫اعتبارها بالترجيح ‪ ،‬إن كان الوضع من الظنيات الت يسوغ فيها الترجيح ‪ ،‬أو تدعي أن أصلها الذي‬
‫ترجع إليه قطعي والعارض له ظن فل يتعارضان ‪.‬‬
‫وإنا كانت طريقة الصحابة ظاهرة ف الزمنة التقدمة ‪ ،‬أما وقد استقرت مآخذ اللف فمحال ‪،‬‬
‫وهذا الوضع ما يتضمنه قول ال تعال ‪" :‬ول يزالون متلفي * إل من رحم ربك ولذلك خلقهم" ‪.‬‬
‫فتأملوا ـ رحكم ال ـ كيف صار التفاق ما ًل ف العادة ليصدق العقل بصحة ما أخب ال به ‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والاصل ‪ ،‬أن تعيي هذه الفرقة الناجية ف مثل زماننا صعب ‪ ،‬ومع ذلك فل بد من النظر فيه ‪ ،‬وهو‬
‫نكتة هذا الكتاب ‪ ،‬فليقع به فضل اعتناء ما هيأه ال ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬
‫ولا كان ذلك يقتضي كلما كثيا أرجأنا القول فيه إل باب آخر ‪ ،‬وذكره فيه على حدته إذ ليس‬
‫هذا موضع ذكره ‪ ،‬وال الستعان ‪.‬‬

‫السألة الامسة عشرة أنه قال عليه الصلة والسلم ‪ :‬كلها ف النار إل واحدة فهل يدخل ف‬
‫الالكة البتدع ف الزيئات كالبتدع ف الكليات ؟‬
‫أنه قال عليه الصلة والسلم ‪ ":‬كلها ف النار إل واحدة" وحتم ذلك ‪ .‬وقد تقدم أنه ل يعد من‬
‫الفرق إل الخالف ف أمر كلي وقاعدة عامة ‪ ،‬ول ينتظم الديث ـ على الصوص ـ إل أهل‬
‫البدع الخالفي للقواعد ‪ ،‬وأما من ابتدع ف الدين لكنه ل يبتدع ما ينقض أمرا كليا ‪ ،‬أو يرم أصلً‬
‫من الشرع عاما ‪ ،‬فل دخول له ف النص الذكور ‪ ،‬فينظر ف حكمه ‪ :‬هل يلحق بن ذكر أو ل ؟ ‪.‬‬
‫والذي يظهر ف السألة أحد أمرين ‪ :‬إما أن نقول ‪ :‬إن الديث ل يتعرض لتلك الواسطة بلفظ ول‬
‫معن ‪ ،‬إل أن ذلك يؤخذ من عموم الدلة التقدمة ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫"كل بدعة ضللة" وما أشبه ذلك ‪ .‬وإما أن نقول ‪ :‬إن الديث وإن ل يكن ف لفظه دللة ففي معناه‬
‫ما يدل على قصده ف الملة ‪،‬وبيانه تعرض لذكر الطرفي الواضحي ‪.‬‬
‫أحدها ‪ :‬طرف السلمة والنجدة من غي داخلة شبهة ول إلام بدعة ‪ ،‬وهو قوله ‪:‬‬
‫"ما أنا عليه وأصحاب" ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬طرف الغراق ف البدعة ‪ ،‬وهو الذي تكون فيه البدعة كلية أو ترم أصلً كليا ‪ ،‬جريا‬
‫على عادة ال ف كتابه العزيز ‪ ،‬لنه تعال لا ذكر أهل الي وأهل الشر ذكر كل فريق منهم بأهلي ما‬
‫يمل من خي أو شر ‪ ،‬ليبقى الؤمن فيها بي الطرفي خائفا راجيا ‪ ،‬إذ جعل التنبيه بالطرفي‬
‫الواضحي ‪ ،‬فإن الي على مراتب بعضها أعلى من بعض ‪ ،‬والشر على مراتب بعضها أشد من بعض‬
‫‪ ،‬فإذا ذكر أهل الي الذين ف أعلى الدرجات خاف أهل الي الذين دونم أن ل يلحقوا بم ‪ ،‬أو‬
‫رجوا أن يلحقوا بم ‪ ،‬وإذا ذكر أهل الشر الذين ف أسفل الراتب خاف أهل الشر الذين دونم أن‬
‫يلحقوا بم ‪ ،‬أو رجوا أن ل يلحقوا بم ‪.‬‬
‫وهذا العن معلوم بالستقراء ‪ ،‬وذلك الستقراء ـ إذ ت ـ يدل على قصد الشارع إل ذلك العن ‪،‬‬
‫ويقويه ما روى سعيد بن منصور ف تفسيه عن عبد الرحن بن ساباط قال ‪ :‬لا بلغ الناس أن أبا بكر‬
‫يريد أن يستخلف عمرا قالوا ‪ :‬ماذا يقول لربه إذا لقيه ؟ استخلف علينا فظا غليظا ـ ةهة ل يقدر‬
‫على شيء ـ فكيف لو قدر ‪ .‬فبلغ ذلك أبا بكر فقال ‪ :‬أبرب توفون ؟ أقول ‪ :‬استخلفت خي‬
‫ل بالنهار ل يقبله‬
‫خلقك ‪ .‬ث أرسل إل عمر فقال ‪ .‬إن ل عملً بالليل ل يقبله بالنهار ‪ ،‬وعم ً‬

‫‪331‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫بالليل ‪ ،‬واعلم أنه ل يقبل نافلة حت تؤدى الفريضة ‪ ،‬أل تر أن ال ذكر أهل النة بأحسن اعمالم !‬
‫وذلك أنه رد عليهم حسنة فلم يقبل منهم حت يقول القائل ‪ :‬عملي خي من هذا ‪ ،‬أل تر أن ال أنزل‬
‫الرغبة والرهبة لكي يرغب الؤمن فيعمل ويرهب ‪ ،‬فل يلقي بيده إل التهلكة ؟ أل تر أنا ثقلت‬
‫موازين من ثقلت موازينه باتباعهم الق وتركهم الباطل فثقل عملهم ؟ وحق ليزان ل يوضع فيه إل‬
‫الق أن يثقل ‪ ،‬أل تر إنا خفت موزاين من خفت موازينه بابتاعهم الباطل وتركهم الق ؟ وحق‬
‫ليزان ل يوضع فيه إل الباطل أن يف ـ ث قال ـ ‪ :‬أما إن حفظت وصيت ل يكن غائب أحب‬
‫إليك من الوت ‪ ،‬وأنت ل بد لقيه ‪ ،‬وإن ضيعت وصيت ل يكن غائب أبغض غليك من الوت ول‬
‫تعجزه ‪.‬‬
‫وهذا الديث وإن ل يكن هنالك ‪ ،‬ولكن معناه صحيح يشهد له الستقراء لن تتبع آيات القرآن‬
‫الكري ‪ ،‬ويشهد لا تقدم من أن هذا العن مقصود استشهاد عمر بن الطاب رضي ال عنه بثله ‪ ،‬إذ‬
‫رأى بعض أصحابه وقد اشترى لما بدرهم ‪ :‬أين تذهب بكم هذه الية ‪":‬أذهبتم طيباتكم ف‬
‫حياتكم الدنيا واستمتعتم با" ‪.‬والية إنا نزلت ف الكفار ‪ ،‬لقوله تعال ‪" :‬ويوم يعرض الذين كفروا‬
‫على النار أذهبتم" الية إل أن قال تعال ‪" :‬فاليوم تزون عذاب الون با كنتم تستكبون ف الرض‬
‫بغي الق وبا كنتم تفسقون" ول ينعه رضي ال عنه إنزالا ف الكفار من الستشهاد با ف مواضع‬
‫اعتبارا با تقدم ‪ ،‬وهو أصل شرعي تبي ف كتاب الوافقات ‪.‬‬
‫فالاصل ‪ ،‬أن من عد الفرق من البتدعة البتداع الزئي ل يبلغ مبلغ أهل البدع ف الكليات ‪ ،‬ف‬
‫الذم والتصريح بالوعيد بالنار ‪ ،‬ولكنهم اشتركوا ف العن القتضي للذم والوعيد ‪ ،‬كما اشترك ف‬
‫اللفظ صاحب اللحم ـ حي تناول بعض الطيبات على وجه فيه كراهية ما ف اجتهاد عمر ـ مع‬
‫من أذهب طيباته ف حياته الدنيا من الكفار ‪ ،‬وإن كان ما بينهما من البون البعيد ‪ ،‬والقرب والبعد‬
‫من العارف الذموم بسب ما يظهر من الدلة للمجتهد ‪ .‬وقد تقدم بسط ذلك ف بابه ‪ ،‬والمد ل ‪.‬‬

‫السألة السادسة عشرة أن رواية من روى ف تفسي الفرق الناجية هي الماعة متاجة إل‬
‫التفسي‬
‫أن رواية من روى ف تفسي الفرق الناجية وهي الماعة متاجة إل التفسي لنه إن كان معناه بينا‬
‫من جهة تفسي الرواية الخرى ـ وهي قوله ‪" :‬ما أنا عليه وأصحاب" ـ فمعن لفظ ‪ :‬الماعة‬
‫من حيث الراد به ف إطلق الشرع متاج إل التفسي ‪.‬‬
‫فقد جاء ف أحاديث كثية منها الديث الذي نن ف تفسيه ‪ ،‬ومنها ما صح عن ابن عباس عن‬
‫النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬

‫‪332‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"من رأى من أميه شيئا يكرهه فليصب عليه ‪ ،‬فإنه من فارق الماعة شيئا فمات مات ميتة جاهليلة"‬
‫‪.‬‬
‫وصح من حديث "حذيفة ‪ ،‬قال ‪ :‬قلت يا رسول ال ! إنا كنا ف جاهلية وشر فجاءنا ال بذا الي ‪،‬‬
‫فهل بعد هذا الي من شر ؟ قال ‪ :‬نعم ـ قلت ‪ :‬وهل بعد ذلك الشر من خي ؟ ـ قال ‪ :‬نعم ‪،‬‬
‫وفيه دخن ـ قلت ‪ :‬وما دخنه ؟ قال ـ قوم يستنون بغي سنت ويهدون بغي هديي تعرف منهم‬
‫وتنكر ـ قلت ‪ :‬فهل بعد ذلك الي من شر ؟ قال ـ نعم ‪ :‬دعاة على أبواب جهنم من أجابم إليها‬
‫قذفوه فيها ـ قلت ‪ :‬يا رسول ال ! صفهم لنا ‪ .‬قال ‪ :‬هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا ـ قلت ‪:‬‬
‫فما تأمرن إن أدركن ذلك ؟ قال ‪ :‬تلزم جاعة السلمي وإمامهم ـ قلت ‪ :‬فإن ل يكن لم جاعة‬
‫ول إمام ؟ قال ‪ :‬فاعتزل تلك الفرق كلها ‪ ،‬ولو أن تعض بأصل شجرة حت يدركك الوت وأنت‬
‫على ذلك" ‪.‬‬
‫وخرج الترمذي و الطبي "عن ابن عمر قال ‪ :‬خطبنا عمر بن الطاب رضي ال عنه بالابية فقال ‪:‬‬
‫إن قمت فيكم كمقام رسول ال صلى ال عليه وسلم فينا ‪ .‬فقال ‪ :‬أوصيكم بأصحاب ‪ ،‬ث الذين‬
‫يلونم ‪ ،‬ث الذين يلونم ‪ ،‬ث يفشو الكذب حت يلف الرجل ول يستحلف ‪ ،‬ويشهد ول يستشهد ‪،‬‬
‫عليكم بالماعة ‪ ،‬وإياكم والفرقة ‪ ،‬ل يلون رجل بامرأة ‪ ،‬فإنه ل يلون رجل بامرأة إل كان‬
‫ثالثهما الشيطان ‪ ،‬الشيطان مع الواحد وهو من الثني أبعد ‪ ،‬ومن أراد ببوحة النة فليلزم‬
‫الماعة ‪ ،‬ومن سرته حسنته وساءته سيئته فذلك هو الؤمن" ‪.‬‬
‫وف الترمذي عن ابن عباس رضي ال عنه قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬إن ال ل‬
‫يمع أمت على ضللة ‪ ،‬ويد ال مع الماعة ‪ ،‬ومن شذ شذ إل النار" ‪ ،‬وخرج أبو داود عن أب ذر‬
‫قال ‪ :‬قال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من فارق الماعة قيد شب فقد خلع ربقة السلم من‬
‫عنقه" ‪.‬‬
‫وعن عرفجة قال ‪ :‬سعت رسول ال صلى ال عليه وسلم يقول ‪ " :‬سيكون ف أمت هنيات‬
‫وهنيات ‪ ،‬فمن أراد أن يفرق أمر السلمي وهم جيع فاضربوه بالسيف كائنا من كان" ‪.‬‬
‫فاختلف الناس ف معن الماعة الرادة ف هذه الحاديث على خسة أقوال ‪:‬‬
‫إختلف الناس ف معن الماعة الرادة ف هذه الحاديث على خسة أقوال أحدها ‪ :‬أنا السواد‬
‫العظم‬
‫أحدها ‪ :‬إنا السواد العظم من أهل السلم وهو الذي يدل عليه كلم أب غالب ‪ :‬إن السواد‬
‫العظم هم الناجون من الفرق ‪ ،‬فما كانوا عليه من أمر دينهم فهو الق ‪ ،‬ومن خالفهم مات ميتة‬
‫جاهلية ‪ ،‬سواء خالفهم ف شيء من الشريعة أو ف إمامهم وسلطانم ‪ ،‬فهو مالف للحق ‪.‬‬

‫‪333‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومن قال بذا أبو مسعود النصاري وابن مسعود ‪ ،‬فروى أنه لا قتل عثمان سئل أبو مسعود‬
‫النصاري عن الفتنة ‪ ،‬فقال ‪ :‬عليك بالماعة فإن ال ل يكن ليجمع أمة ممد صلى ال عليه وسلم‬
‫على ضللة ‪ ،‬واصب حت تستريح أو يستراح من فاجر ‪ .‬وقال ‪ :‬إياك والفرقة فإن الفرقة هي الضللة‬
‫‪ .‬وقال ابن مسعود بالسمع والطاعة فإنا حبل ال الذي أمر به ‪ .‬ث قبض يده وقال ‪ :‬إن الذي‬
‫تكرهون ف الماعة خي من الذين تبون ف الفرقة ‪.‬‬
‫وعن السي قيل له ‪ :‬أبو بكر خليفة رسول ال صلى ال عليه وسلم ؟ فقال ‪ :‬أي والذي ل إله إل‬
‫هو ‪ ،‬ما كان ال ليجمع أمة ممد على ضللة ‪.‬‬
‫فعلى هذا القول يدخل ف الماعة متهدو المة وعلماؤها وأهل الشريعة العاملون با ‪ ،‬ومن سواهم‬
‫داخلون ف حكمهم ‪ ،‬لنم تابعون لم ومقتدون بم ‪ ،‬فكل من خرج عن جاعتهم فهم الذين شذوا‬
‫وهم نبة الشيطان ويدخل ف هؤلء جيع أهل البدع لنم مالفون لن تقدم من المة ‪ ،‬ل يدخلوا ف‬
‫سوادهم بال ‪.‬‬

‫الثان أنا جاعة أئمة العلماء الجتهدين‬


‫والثان ‪ :‬إنا جاعة أئمة العلماء الجتهدين ‪ ،‬فمن خرج ما عليه علماء المة مات ميته جاهلية ‪ ،‬لن‬
‫جاعة ال العلماء ‪ ،‬جعلهم ال حجة على العالي ‪ ،‬وهم العنيون بقوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬إن‬
‫ال لن يمع أمت على ضللة" وذلك أن العامة عنها تأخذ دينها ‪ ،‬وإليها تفزع من النوازل ‪ ،‬وهي تبع‬
‫لا ‪ .‬فمعن قوله ‪" :‬لن تتمع أمت" لن يتمع علماء أمت على ضللة ‪.‬‬
‫ومن قال بذا عبد ال بن البارك ‪ ،‬وإسحاق بن راهوية ‪ ،‬وجاعة من السلف وهو رأي الصوليي ‪،‬‬
‫فقيل لـ عبد ال بن البارك ‪ :‬من الماعة الذين ينبغي أن يقتدي بم ؟ قال ‪ :‬أبو بكر وعمر ـ فلم‬
‫يزل يسب حت انتهى إل ممد بن ثابت والسي بن واقد ـ فقيل ‪ :‬هؤلء ماتوا ‪ :‬فمن الحياء ؟‬
‫قال ابو حزة السكري ‪.‬‬
‫وعن السيب بن رافع قال ‪ :‬كانوا إذ جاءهم شيء من القضاء ليس ف كتاب ال ول سنة رسول ال‬
‫سوه صواف المراء فجمعوا له أهل العلم ‪ ،‬فما أجع رأيهم عليه فهو الق ‪ ،‬وعن إسحاق بن‬
‫راهوية نو ما قال ابن البارك ‪.‬‬
‫فعلى هذا القول ل مدخل ف السؤال لن ليس بعال متهد ‪ ،‬لنه داخل ف أهل التقليد ‪ ،‬فمن عمل‬
‫منهم با يالفهم فهو صاحب اليتة الاهلية ‪ ،‬ول يدخل أيضا أحد من البتدعي ‪ ،‬لن العال أولً ل‬
‫يبتدع ‪ ،‬وإنا يبتدع من ادعى لنفسه العلم وليس كذلك ‪ ،‬ولن البدعة قد أخرجته عن نط من يعتد‬
‫بأقواله ‪ ،‬وهذا بناء على القول بأن البتدع ل يعتد به ف الجاع ‪ ،‬وإن قيل بالعتداد به فيه ففي غي‬

‫‪334‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫مسألة الت ابتدع فيها ‪ ،‬لنم ف نفس البدعة مالفون للجاع ‪:‬فعلى كل تقدير ل يدخلون ف‬
‫السواد العظم رأسا ‪.‬‬

‫الثالث أن الماعة هي الصحابة رضي ال عنهم على الصوص‬


‫والثالث ‪ :‬إن الماعة هي الصحابة على الصوص ‪ ،‬فإنم الذين أقاموا عماد الدين وأرسوا أوتاده ‪،‬‬
‫وهم الذين ل يتمعون على ضللة أصلً ‪ ،‬وقد يكن فيمن سواهم ذلك ‪ ،‬أل ترى قوله عليه لصلة‬
‫والسلم ‪":‬ول تقوم الساعة على أحد يقول ‪ :‬ال ال" وقوله ‪" :‬ل تقوم الساعة إل على شرار‬
‫الناس" ‪ ،‬فقد أخب عليه الصلة والسلم أن من الزمان أزمانا يتمعون فيها على ضللة وكفر ‪ .‬قالوا‬
‫‪ ،‬ومن قال بذا القول عمر بن عبد العزيز ‪ ،‬فروى ابن وهب عن مالك قال ‪ :‬كان عمر بن عبد‬
‫العزيز يقول ‪ :‬سن رسول ال صلى ال عليه وسلم ووله المر من بعده سننا ‪ ،‬الخذ با تصديق‬
‫لكتاب ال ‪ ،‬واستكمال لطاعة ال ‪ ،‬وقوة على دين ال ‪ ،‬ليس لحد تبديلها ول تغييها ‪ ،‬ول النظر‬
‫فيها ! من اهتدى با مهتد ‪ ،‬ومن استنصر با منصور ‪ ،‬ومن خافها اتبع غي سبيل الؤمني ‪ ،‬ووله‬
‫ال ما تول ‪ ،‬وأصله جهنم وساءت مصيا ‪ .‬فقال مالك ‪ :‬فأعجبن عزم عمر على ذلك ‪.‬‬
‫فعلى هذا القول فلفظ الماعة مطابق للرواية الخرى ف قوله عليه الصلة والسلم ‪ " :‬ما أنا عليه‬
‫وأصحاب" فكأنه راجع إل ما قالوه وما سنوه ‪ ،‬وما اجتهدوا فيه حجة على الطلق ‪ ،‬وبشهادة‬
‫رسول ال صلى ال عليه وسلم لم بذلك خصوصا ف قوله ‪" :‬فعليكم بسنت وسنة اللفاء الراشدين"‬
‫واشباهه ‪ ،‬أو لنم التقلدون لكلم النبوة ‪ ،‬الهتدون للشريعة ‪ ،‬الذين فهموا أمر دين ال بالتلقي من‬
‫نبيه مشافهةً ‪ ،‬على علم وبصية بواطن التشريع وقرائن الحوال ‪ ،‬بلف غيهم ‪ :‬فإذا كل ما سنوه‬
‫فهو سنة من غي نظي فيه ‪ ،‬بلف غيهم ‪ ،‬فإن فيه لهل الجتهاد مالً للنظر ردا وقبولً ‪ ،‬فأهل‬
‫البدع إذا غي داخلي ف الماعة قطعا على هذا القول ‪.‬‬

‫الرابع أن الماعة هي جاعة أهل السلم‬


‫والرابع ‪ :‬إن الماعة هي جاعة أهل السلم ‪ ،‬إذا أجعوا على أمر فواجب على غيهم من أهل اللل‬
‫اتباعهم ‪ ،‬وهم الذين ضمن لنبيه عليه الصلة والسلم أن ل يمعهم على ضللة ‪ ،‬فإن وقع بينهم‬
‫اختلف فواجب تعرف الصواب فيما اختلفوا فيه ‪.‬‬
‫قال الشافعي ‪ :‬الماعة ل تكون فيها غفلة عن معن كتاب ال ‪ ،‬ول سنة ول قياس ‪ ،‬وإنا تكون‬
‫الغفلة ف الفرقة ‪.‬‬

‫‪335‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكأن هذا القول يرجع إل الثان وهو يقتضي أيضا ما يقتضيه ‪ ،‬أو يرجع إل القول الول وهو‬
‫الظهر ‪ ،‬وفيه من العن ما ف الول من أنه ل بد من كون الجتهدين فيهم ‪ ،‬وعند ذلك ل يكون مع‬
‫ل ‪ ،‬فهم ـ إذا ـ الفرقة الناجية ‪.‬‬
‫اجتماعهم على هذا القول بدعة أص ً‬

‫الامس ما اختاره الطبي المام من أن الماعة جاعة السلمي إذا اجتمعوا على أمي‬
‫والامس ‪ :‬ما اختاره الطبي المام من أن الماعة جاعة السلمي إذا اجتمعوا على أمي ‪،‬فأمر عليه‬
‫الصلة والسلم بلزومه ونى عن فراق المة فيما اجتمعوا عليه من تقديه عليهم ‪ ،‬لن فراقهم ل‬
‫يعدو إحدى حالتي ‪ ،‬إما للنكي عليهم ف طاعة أميهم والطعن عليه ف سيته الرضية لغي موجب ‪،‬‬
‫بل بالتأويل ف إحداث بدعة ف‬
‫الدين ‪ ،‬كالرورية الت أمرت المة بقتالا وساها النب صلى ال عليه وسلم مارقة من الدين ‪ ،‬وإما‬
‫لطلب إمارة من انعقاد البيعة لمي الماعة ‪ ،‬فإنه نكث عهد ونقض عهد بعد وجوبه ‪.‬‬
‫وقد قال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬من جاء إل أمت ليفرق جاعتهم فاضربوا عنقه كائنا من كان" ‪.‬‬
‫قال الطبي ‪ :‬فهذا معن المر بلزوم الماعة ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وأما الماعة الت إذا اجتمعت على الرضى بتقدي أمي كان الفارق لا ميتا ميتة جاهلية ‪ ،‬فهي‬
‫الماعة الت وصفها أبو مسعود النصاري ‪ ،‬وهم معظم الناس وكافتهم من أهل العلم والدين‬
‫وغيهم ‪ ،‬وهم السواد العظم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وقد بي ذلك عمر بن الطاب رضي ال عنه ‪ ،‬فروي عن عمر بن ميمون الودي قال ‪ :‬قال‬
‫عمر حي طعن لصهيب ‪ :‬صل بالناس ثلثا وليدخل علي عثمان وعلي وطلحة والزبي وسعد وعبد‬
‫الرحن ‪ ،‬وليدخل ابن عمر ف جانب البيت وليس له من المر شيء ‪،‬فقم يا صهيب على رؤوسهم‬
‫بالسيف فإن بايع خسة ونكص واحد فاجلد راسه بالسيف ‪ ،‬وإن بايع أربعة ونكص رجلن فاجلد‬
‫رأسيهما حت يستوثقوا على رجل ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فالماعة الت أمر رسول ال صلى ال عليه وسلم بلزومها وسى النفرد عنها مفارقا لا نظي‬
‫الماعة ال أوجب عمر اللفة لن اجتمعت عليه ‪ ،‬وأمر صهيبا بضرب رأس النفرد عنهم بالسيف ‪.‬‬
‫فهم ف معن كثرة العدد الجتمع على بيعته وقلة العدد النفرد عنهم ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬وأما الب الذي ذكر فيه أن ل تتمع المة على ضللة فمعناه أن ل يمعهم على إضلل الق‬
‫فيما نابم من أمر دينهم حت يضل جيعهم عن العلم ويطئوه ‪ ،‬وذلك ل يكون ف المة ‪.‬‬
‫هذا تام كلمه وهو منقول بالعن و تر ف أكثر اللفظ ‪.‬‬

‫‪336‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وحاصله ‪ :‬أن الماعة راجعة إل الجتماع على المام الوافق للكتاب والسنة وذلك ظاهر ف أن‬
‫الجتماع على غي سنة خارج عن معن الماعة الذكور ف الحاديث الذكورة ‪ ،‬كالوارج ومن‬
‫جرى مراهم ‪.‬‬
‫فهذه خسة أقوال دائرة على اعتبار أهل السنة والتباع ‪ ،‬وأنم الرادون بالحاديث ‪ ،‬فلنأخذ ذلك‬
‫أصلً ويبن عليه معن آخر ‪ ،‬وهي ‪:‬‬

‫السألة السابعة عشرة أن الميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والجتهاد سواء ضموا إليهم‬
‫العوام أم ل‬
‫وذلك أن الميع اتفقوا على اعتبار أهل العلم والجتهاد سواء ضموا إليهم العوام أم ل ‪ ،‬فإن ل‬
‫يضموا إليهم فل إشكال أن العتبار إنا هو بالسواد العظم من العلماء العتب اجتهادهم ‪ ،‬فمن شذ‬
‫عنهم فمات فميتته جاهلية ‪ ،‬وإن ضموا إليهم العوام فبحكم التبع لنم غي عارفي بالشريعة ‪ ،‬فل بد‬
‫من رجوعهم ف دينهم إل العلماء ‪ ،‬فإنم لو تالوا على مالفة العلماء فيما حدوا لم لكانوا هو‬
‫الغالب والسواد العظم ف ظاهر المر ‪ ،‬لقلة العلماء وكثرة الهال ‪ ،‬فل يقول أحد ‪ :‬إن اتباع‬
‫جاعة العوام هو الطلوب ‪ ،‬وإن العلماء هم الفارقون للجماعة والذمومون ف الديث ‪ .‬بل المر‬
‫بالعكس ‪ ،‬وأن العلماء هم السواد العظم وإن قلوا ‪ ،‬والعوام هو الفارقون للجماعة إن خالفوا ‪ ،‬فإن‬
‫وافقوا فهو الواجب عليهم ‪.‬‬
‫ومن هنا لا سئل ابن البارك عن الماعة الذين يقتدى بم أجاب بأن قال ‪ :‬ابو بكر وعمر ـ قال ـ‬
‫فلم يزل يسب حت انتهى إل ممد بن ثابت والسي بن واقد ‪ ،‬قيل ‪ :‬فهؤلء ماتوا ! فمن الحياء‬
‫؟ قال ‪ :‬أبو حزة السكري وهو ممد بن ميمون الروزي ‪ ،‬فل يكن أن يعتب العوام ف هذه العان‬
‫بإطلق ‪ ،‬وعلى هذا لو فرضنا خلو الزمان عن متهد ل يكن اتباع العوام لمثالم ‪ ،‬ول عد سوادهم‬
‫أنه السواد العظم النبه عليه ف الديث الذي من خالفه فميتته جاهلية ‪ ،‬بل يتنل النقل عن‬
‫الجتهدين منلة وجود الجتهدين ‪ ،‬فالذي يلزم العوام مع وجود الجتهدين هو الذي يلزم أهل الزمان‬
‫الفروض الال عن الجتهد ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فاتباع نظر من ل نظر له واجتهاد من ل اجتهاد له مض ضللة ‪ ،‬ورمي ف عماية ‪ ،‬وهو‬
‫مقتضى الديث الصحيح ‪:‬‬
‫"إن ال ل يقبض العلم انتزاعا" الديث‬
‫روى أبو نعيم عن ممد بن القاسم الطوسي قال ‪ :‬سعت إسحاق بن راهوية وذكر ف حديث رفعه‬
‫إل النب صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬

‫‪337‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"إن ال ل يكن ليجمع أمة ممد على ضللة ‪ ،‬فإذا رأيتم الختلف فعليكم بالسواد العظم" ‪ ،‬فقال‬
‫رجل يا ابا يعقوب ! من السواد العظم ؟ فقال ممد بن أسلم وأصحابه ومن تبعهم ‪ ،‬ث قال ‪ :‬سأل‬
‫رجل ابن البارك ‪ :‬من السواد العظم ؟ قال ‪ :‬أبو حزة السكري ‪ ،‬ث قال إسحاق ‪ :‬ف ذلك الزمان‬
‫( يعن أبا حزة ) وف زماننا ممد بن أسلم ‪ ،‬ومن تبعه ‪ ،‬ث قال إسحاق ‪ :‬لو سألت الهال عن‬
‫السواد العظم لقالوا ‪ :‬جاعة الناس ‪ .‬ول يعلمون أن الماعة عال متمسك بأثر النب صلى ال عليه‬
‫وسلم وطريقه ‪ ،‬فمن كان معه وتبعه فهو الماعة ‪ ،‬ث قال إسحاق ‪ :‬ل أسع عالا منذ خسي سنة‬
‫كان أشد تسكا بأثر النب صلى ال عليه وسلم من ممد بن أسلم ‪.‬‬
‫فانظر ف حكايته تتبي غلط من ظن أن الماعة هي جاعة الناس وإن ل يكن فيهم عال ‪ ،‬وهو وهم‬
‫العوام ‪ ،‬ل فهم العلماء ‪ .‬فليثبت الوفق ف هذه الزلة قدمه لئل يضل عن سواء السبيل ‪ ،‬ول توفيق إل‬
‫بال ‪.‬‬

‫السألة الثامنة عشرة ف بيان معن قوله صلى ال عليه وسلم ‪ :‬وإنه سيخرج ف أمت أقوام تارى‬
‫بم تلك الهواء ما يتجارى الكلب بصاحبه‬
‫ف بيان معن رواية أب داود وهي قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬وإنه سيخرج ف أمت أقوام تارى بم‬
‫تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه ‪ ،‬ل يبقى منه عرق ول مفصل إل دخله" ‪.‬‬
‫وذلك أن معن هذه الرواية أنه عليه الصلة والسلم أخب با سيكون ف أمته من هذه الهواء الت‬
‫افترقوا فيها إل تلك الفرق ‪ ،‬وأنه يكون فيهم أقوام تداخل تلك الهواء قلوبم حت ل يكن ف العادة‬
‫انفصالا عنها وتوبتهم منها ‪ ،‬على حد ما يداخل داء الكلب جسم صاحبه فل يبقى من ذلك السم‬
‫جزء من أجزائه ول مفصل ول غيها إل دخله ذلك الداء ‪ ،‬وهو جريان ل يقبل العلج ول ينفع فيه‬
‫الدواء ‪ ،‬فكذلك صاحب الوى إذا دخل قلبه ‪ ،‬وأشرب حبه ‪ ،‬ل تعمل فيه الوعظة ول يقبل البهان‬
‫‪ ،‬ول يكترث بن خالفه ‪ .‬واعتب ذلك بالتقدمي من أهل الهواء كمعبد الهن وعمرو بن عبيد‬
‫وسواها ‪ ،‬فإنم كانوا حيث لقوا مطرودين من كل جهة ‪ ،‬مجوبي عن كل لسان ‪ ،‬مبعدين عند‬
‫كل مسلم ‪ ،‬ث مع ذلك ل يزدادوا إل تاديا على ضللم ‪ ،‬ومداومة على ما هم عليه "ومن يرد ال‬
‫فتنته فلن تلك له من ال شيئا" ‪.‬‬
‫وحاصل ما عولوا عليه تكيم العقول مردة ‪ ،‬فشركوها مع الشرع ف التحسي والتقبيح ‪ .‬ث قصروا‬
‫أفعال ال على ما ظهر لم ووجهوا عليها أحكام العقل فقالوا ‪ :‬يب على ال كذا ول يوز أن يفعل‬
‫كذا ‪ .‬فجعلوه مكوما عليه كسائر الكلفي ‪ .‬ومنهم من ل يبلغ هذا القدار ‪ ،‬بل استحسن شيئا‬
‫يفعله واستقبح آخر وألقها بالشروعات ‪ ،‬ولكن الميع بقوا على تكيم العقول ‪ ،‬ولو وقفوا هنالك‬
‫لكانت الداهية على عظمتها أيسر ‪ ،‬ولكنهم تاوزوا هذه الدود كلها إل أن نصبوا الحاربة ل‬

‫‪338‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ورسوله ‪ ،‬باعتراضهم على كتاب ال وسنة نبيه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وادعائهم عليهما من التناقض‬
‫والختلف ومنافاة العقول وفساد النظم ما هم له أهل ‪.‬‬
‫قال العتب ‪ :‬وقد اعترض على كتاب ال تعال بالطعن ملحدون ‪ ،‬ولغوا وهجروا ‪ ،‬واتبعوا ما‬
‫تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ‪ ،‬بأفهام كليلة ‪ ،‬وأبصار عليلة ‪ ،‬ونظر مدخول ‪ ،‬فحرفوا الكلم‬
‫عن مواضعه ‪ ،‬وعدلوا به عن سبيله ‪ ،‬ث قضوا عليه بالتناقض والستحالة واللحن ‪ ،‬وفساد النظم‬
‫والختلف ‪ ،‬وادلوا بذلك بعلل ربا أمالت الضعيف الغمر ‪ ،‬والديث الغر ‪ ،‬واعترضت بالشبهة ف‬
‫القلوب ‪ ،‬وقدحت بالشكوك ف الصدور ‪ ،‬قال ‪ :‬ولو كان ما لنوا إليه ‪ ،‬على تقريرهم وتأويلهم‬
‫لسبق إل الطعن فيه من ل يزل رسول ال صلى ال عليه وسلم يتج بالقرآن عليهم ‪ ،‬ويعله علم‬
‫نبوته ‪ ،‬والدليل على صدقه ‪ ،‬ويتحداهم ف مواطن على أن يأتوا بسورة من مثله ‪ ،‬وهم الفصحاء‬
‫والبلغاء ‪ ،‬والطباء والشعراء ‪ ،‬والخصوصون من بي جيع النام ‪ ،‬وباللسنة الداد واللدد ف‬
‫الصام ‪ ،‬مع اللب والنهى وأصالة الرأي ‪ .‬فقد وصفهم ال بذلك ف غي موضع من الكتاب ‪ .‬وكانوا‬
‫يقولون مرة ‪ :‬هو سحر ‪ .‬ومرة ‪ :‬هو شعر ‪ .‬ومرة ‪ :‬هو قول الكهنة ‪ .‬ومرة ‪ :‬اساطي الولي ‪ .‬ول‬
‫يك ال عنهم العتراض على الحاديث ودعوى التناقض والختلف فيها ‪ ،‬وحكى عنهم ‪ ،‬لجل‬
‫ذلك القدح ف خي أمة أخرجت للناس وهم الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬واتبعوهم بالدس قالوا ما‬
‫شان ‪ ،‬أو جروا ف الطعن على الديث جري من ل يرى عليه متسبا ف الدنيا ول ماسبا ف الخرة‬
‫‪.‬‬
‫وقد بسط الكلم ف الرد عليهم والواب عما اعترضوا فيه أبو ممد بن قتيبة ف كتابي صنفهما لذا‬
‫العن ‪ ،‬وها من ماسن كتبه رحه ال ‪ .‬ول أرو قط تلك العتراضات تعزيزا للمعترض فيه ‪ ،‬ل أعن‬
‫بردها لن غيي ـ والمد ل ـ قد ترد له ‪ ،‬ولكن أردت بالكاية عنهم على الملة بيان معن‬
‫قوله ‪" :‬تارى بم تلك الهواء كما يتجارى الكلب بصاحبه" وقبل وبعد فأهل الهواء إذا‬
‫استحكمت فيهم أهواؤهم ل يبالوا بشيء ‪ ،‬ول يعدوا خلف أنظارهم شيئا ‪ ،‬ول راجعوا عقولم‬
‫مراجعة من يتهم نفسه ويتوقف ف موارد الشكال ( وهو شأن العتبين من أهل العقول ) وهؤلء‬
‫صنف من أصناف من اتبع هواه ‪ ،‬ول يعبأ بعذل العاذل فيه ‪ ،‬ث أصناف أخر تمعهم مع هؤلء‬
‫إشراب الوى ف قلوبم ‪،‬حت ل يبالوا بغي ما هو عليه ‪.‬‬
‫فإذا تقرر معن الرواية بالتمثيل ‪ ،‬صرنا منه إل معن آخر ‪ ،‬وهي ‪:‬‬

‫السألة التاسعة عشرة أن قوله ‪ :‬تتجارى بم تلك الهواء فيه الشارة بـ تلك فل تكون‬
‫إشارة إل غي مذكور ‪ ،‬ول مال با‬

‫‪339‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إن قوله ‪" :‬تتجارى بم تلك الهواء" فيه الشارة بـ تلك فل تكون إشارة إل غي مذكور ‪ ،‬ول‬
‫مالً با على غي معلوم ‪ ،‬بل ل بد لا من متقدم ترجع إليه ‪ ،‬وليس إل الحوال الت كانت السبب‬
‫ف الفتراق ‪ ،‬فجاءت الزيادة ف الديث مبينة أنا الهواء ‪ ،‬وذلك قوله ‪" :‬تتجارى بم تلك الهواء"‬
‫فدل على أن كل خارج عما هو عليه واصحابه إنا خرج باتباع الوى عن الشرع وقد مر بيان هذا‬
‫قبل فل نعيده ‪.‬‬

‫السألة العشرون أن قوله عليه الصلة والسلم ‪ :‬أنه سيخرج من أمت أقوام على وصف كذا ‪،‬‬
‫يتمل أمرين أحدها ‪ :‬من يري فيه هواه مرى الكلب بصاحبه فل يرجع عنه ‪ .‬والثان ‪ :‬من يكون‬
‫عند دخوله ف البدعة مشرب القلب با‬
‫إن قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬وأنه سيخرج ف أمت أقوام على وصف كذا" ‪ ،‬يتمل أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يريد أن كل من دخل من أمته ف هوى من تلك الهواء ورآها وذهب إليها ‪ ،‬فإن هواه‬
‫يري فيه مرى الكلب بصاحبه فل يرجع أبدا عن هواه ول يتوب من بدعته ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬أن يريد أن أمته من يكون عند دخوله ف البدعة مشرب القلب با فل يكنه التوبة ومنهم‬
‫من ل يكون كذلك ‪ ،‬فيمكنه التوبة منها والرجوع عنها ‪.‬‬
‫والذي يدل على صحة الول هو النقل القتضى الجر للتوبة عن صاحب البدعة على العموم ‪،‬كقوله‬
‫عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"يرقون من الدين ث ل يعودون حت يعود السهم على فوقه" وقوله ‪" :‬إن ال حجر التوبة عن‬
‫صاحب البدعة" ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬ويشهد له الواقع ‪ ،‬فإنه قلما تد صاحب بدعة ارتضاها لنفسه‬
‫يرج عنها أو يتوب منها ‪ ،‬بل هو يزداد بضللتها بصية ‪.‬‬
‫روي عن الشافعي أنه قال ‪ :‬مثل الذي ينظر ف الرأي ث يتوب منه مثل الجنون الذي عول حت‬
‫برىء ‪ ،‬فأعقل ما يكون قد هاج ‪.‬‬
‫ويدل على صحة الثان أن ما تقدم من النقل ل يدل على أن ل توبة له أصلً ‪ ،‬لن العقل يوز ذلك‬
‫والشرع إن يشاء على ما ظاهره العموم فعمومه إنا يعتب عاديا ‪ ،‬والعادة إنا تقتضي ف العموم‬
‫الكثرية ‪ ،‬ل نتاج الشمول الذي يزم به العقل إل بكم التفاق ‪ ،‬وهذا مبي ف الصول ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أنا وجدنا من كان عاملً ببدع ث تاب منها وراجع نفسه بالرجوع عنها ‪ ،‬كما‬
‫رجع من الوارج من رجع حي ناظرهم ابن عباس رضي ال عنهما ‪ ،‬وكما رجع الهتدي والواثق‬
‫وغيهم من كان قد خرج عن السنة ث رجع إليها ‪ ،‬وإذا جعل تصيص بفرد ل يبق الفظ عاما‬
‫وحصل النقسام ‪.‬‬

‫‪340‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهذا الثان هو الظاهر ‪ ،‬لن الديث أعطى أوله أن المة تفترق ذلك الفتراق من غي إشعار‬
‫بإشراف أو عدمه ‪ ،‬ث بي أن ف أمته الفترقي عن الماعة من يشرب تلك الهواء ‪ ،‬فدل أن فيهم‬
‫من ل يشربا ‪ ،‬وإن كان من أهلها ‪ ،‬ويبعد أن يريد أن ف مطلق المة من يشرب تلك الهواء ‪ ،‬إذ‬
‫كان يكون ف الكلم نوع من التداخل الذي ل فائدة فيه ‪ ،‬فإذا بي أن العن أنه يرج ف المة‬
‫الفترقة بسبب الوى من يتجارى به ذلك الوى استقام الكلم واتسق ‪ ،‬وعند ذلك يتصور النقسام‬
‫‪ .‬وذلك بأن يكون ف الفرقة من يتجارى به الوى كتجارى الكلب ‪ ،‬ومن ل يتجارى به ذلك‬
‫القدار ‪ ،‬لنه يصح أن يتلف التجاري ‪ ،‬فمنه ما يكون ف الغاية حت يرج إل الكفر أو يكاد ‪ ،‬ومنه‬
‫ما ل يكون كذلك ‪.‬‬

‫فمن القسم الول من ل ترجى توبته الوارج ‪ ،‬ومن القسم الثان من ترجى توبته أهل التقبيح‬
‫والتحسي على الملة ومن عد مذهب الظاهرية من البدع‬
‫فمن القسم الول الوارج بشهادة الصادق الصدوق رسول ال صلى ال عليه وسلم حيث قال ‪:‬‬
‫"يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية" ‪ ،‬ومنه هؤلء الذين أعرقوا ف البدعة حت اعترضوا‬
‫على كتاب ال وسنة نبيه ‪ ،‬وهم بالتكفي أحق من غيهم من ل يبلغ مبلغهم ‪.‬‬
‫ومن القسم الثان أهل التحسي والتقبيح على الملة ‪ ،‬إذا ل يؤدهم عقلهم إل ما تقدم ‪.‬‬
‫ومنه ما ذهب إليه الظاهرية ـ على رأي من عدها من البدع ـ وما أشبه ذلك ‪ .‬وذلك أنه يقول ‪:‬‬
‫من خرج عن الفرق ببدعته وإن كانت جزئية فل يلو صاحبها من تاريها ف قلبه وإشرابا له ‪ ،‬لكن‬
‫على قدرها ‪ ،‬وبذلك أيضا تدخل تت ما تقدم من الدلة على أن ل توبة له ‪ ،‬لكن التجاري الشبه‬
‫بالكلب ل يبلغه كل صاحب بدعة ‪ ،‬إل أنه يبقى وجه التفرقة بي من أشرب قلبه بدعة من البدع‬
‫ذلك الشراب ‪ ،‬وبي من ل يبلغ من هو معدود ف الفرق ‪ ،‬فإن الميع متصفون بوصف الفرقة الت‬
‫هي نتيجة العداوة والبغضاء ‪.‬‬
‫وسبب التفريق بينهما ـ وال أعلم ـ أمران ‪ :‬إما أن يقال ‪ :‬إن الذي أشربا من شأنه أن يدعو إل‬
‫بدعته فيظهر بسببها العاداة ‪ ،‬والذي ل يشربا ل يدعو إليها ول ينتصب للدعاء إليها ووجه ذلك أن‬
‫الول ل يدع إليها إل وهي وقد بلغت من قلبه مبلغا عظيما بيث يطرح ما سواها ف جنبها ‪ ،‬حت‬
‫صار ذا بصية فيها ل ينثن عنها ‪ ،‬وقد أعمت بصره وأصمت سعه واستولت على كليته وهي غاية‬
‫الحبة ‪ .‬ومن أحب شيئا من هذا النوع من الحبة وإل بسببه وعادى ‪ ،‬ول يبال با لقي ف طريقه ‪،‬‬
‫بلف من ل يبلغ ذلك البلغ ‪ ،‬فإنا هي عنده بنلة مسألة علمية حصلها ‪ ،‬ونكته اهتدى إليها فهي‬
‫مدخرة ف خزانة حفظه يكم با على من وافق وخالف ‪ ،‬لكن بيث يقدر على إمساك نفسه عن‬
‫الظهار مافة النكال ‪ ،‬والقيام عليه بأنواع الضرار ‪ ،‬ومعلوم أن كل من داهن على نفسه ف شيء‬

‫‪341‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وهو قادر على إظهاره ل يبلغ منه ذلك الشيء مبلغ الستيلء ‪ ،‬فكذلك البدعة إذا استخفى با‬
‫صاحبها ‪.‬‬
‫وإما أن يقال ‪ :‬إن من أشربا ناصب عليها بالدعوة القترنة بالروج عن الماعة والسواد العظم ‪،‬‬
‫وهي الاصية الت ظهرت ف الوارج وسائر من كان على رأيهم ‪.‬‬
‫ومثل ما حكى ابن العرب ف العواصم قال ‪ :‬أخبن جاعة من أهل السنة بدينة السلم ‪ :‬أنه ورد‬
‫با الستاذ ابو القاسم عبد الكري بن هوران القشيي الصوف من نيسابور فعقد ملسا للذكر ‪،‬‬
‫وحضر فيه كافة اللق ‪ ،‬وقرأ القارىء ‪" :‬الرحن على العرش استوى" قال ل أخصهم ‪ :‬من أنت ـ‬
‫يعن النابلة ـ يقومون ف أثناء الجلس ويقولون قاعد! بأرفع صوت وأبعده مدى ‪ ،‬وثار إليهم أهل‬
‫السنة من أصحاب القشيي ومن أهل الضرة ‪ ،‬وتثاور الفئتان وغلبت العامة ‪ ،‬فاحجروهم إل‬
‫مدرسة النظامية وحصروهم فيها ورموهم بالنشاب ‪ ،‬فمات منهم قوم ‪ ،‬وركب زعيم الكفاة وبعض‬
‫الدادية فسكنوا ثورانم ‪.‬‬
‫فهذا أيضا من أشرب قلبه حب البدعة حت أداه ذلك إل القتل ‪ ،‬فكل من بلغ هذا البلغ حقيق أن‬
‫يوصف بالوصف الذي وصف به رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإن بلغ من ذلك الرب ‪.‬‬
‫وكذلك هؤلء الذين داخلوا اللوك فأدلوا إليهم بالجة الواهية ‪ ،‬وصغروا ف أنفسهم حلة السنة‬
‫وحاة اللة ‪ ،‬حت وقفوهم مواقف البلوى ‪ ،‬وأذاقوهم مرارة البأساة والضراء ‪ ،‬وانتهى بأقوام إل القتل‬
‫‪ ،‬حسبما وقعت الحنة به زمان بشر الريسي ف حضرة الأمون وابن أب داؤد وغيها ‪.‬‬
‫فإن ل تبلغ البدعة بصاحبها هذه الناصبة فهو غي مشرب حبها ف قلبه كالثال ف الديث ‪ ،‬وكم من‬
‫أهل بدعة ل يقوموا ببدعتهم قيام الوارج وغيهم ‪ ،‬بل استتروا با جدا ‪ ،‬ول يتعرضوا للدعاء إلبها‬
‫جهارا ‪ ،‬كما فعل غيهم ‪ ،‬ومنهم من يعد ف العلماء والرواة وأهل العدالة بسبب عدم سهرتم با‬
‫انتحلوه ‪.‬‬
‫فهذا الوجه يظهر أنه أول الوجوه بالصواب ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫السألة الادية والعشرون إن هذا الشراب الشار إليه هل يتص ببعض البدع دون بعض أم ل‬
‫يتص ؟‬
‫إن هذا الشراب الشار إليه هل يتص ببعض البدع دون بعض أم ل يتص ؟ وذلك أنه يكن أن‬
‫بعض البدع من شأنا أن تشرب قلب صاحبها جدا ‪ ،‬ومنها ما ل يكون كذلك ‪ ،‬فالبدعة الفلنية‬
‫مثلً من شأنا أن تتجارى بصاحبها كما يتجارى الكلب بصاحبه والبدعة الفلنية ليست كذلك ‪،‬‬
‫فبدعة الوارج مثلً ف طرف الشراب كبدعة النكرين للقياس ف الفروع اللتزمي الظاهر ف الطرف‬
‫الخر ‪ ،‬ويكن أن يتجارى ذلك ف كل بدعة على العموم فيكون من أهلها من تارت به كما‬

‫‪342‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يتجارى الكلب بصاحبه ‪ ،‬كعمرو بن عبيد ‪ ،‬حسبما تقدم النقل عنه أنه أنكر بسبب القول به سورة‬
‫"تبت يدا أب لب " وقوله تعال ‪ " :‬ذرن ومن خلقت وحيدا" ومنهم من ل يبلغ به الال إل هذا‬
‫النحو كجملة من علماء السلمي ‪ ،‬كالفارسي النحوي وابن جن ‪.‬‬
‫والثان ‪ :‬بدعة الظاهرية فإنا تارت بقوم حت قالوا عند ذكر قوله تعال ‪" :‬على العرش استوى" قاعد‬
‫! قاعد! وأعلنوا بذلك وتقاتلوا عليه ‪ ،‬ول يبلغ بقوم آخرين ذلك القدار ‪ ،‬كداود بن علي ف الفروع‬
‫وأشباهه ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬بدعة التزام الدعاء بإثر الصلوات دائما على اليئة الجتماعية ‪ ،‬فإنا بلغت بأصحابا إل أن‬
‫كان الترك لا موجبا للقتل عنده ‪ ،‬فحكى القاضي أبو الطاب بن خليل حكاية عن أب عبد ال بن‬
‫ل من عظماء الدولة وأهل الوجاهة فيها ـ وكان موصوفا بشدة السطو وبسط‬ ‫ماهد العابد ‪ :‬أن رج ً‬
‫اليد ـ نزل ف جوار ابن ماهد وصلى ف مسجده الذي كان يؤم فيه ‪ ،‬وكان ل يدعو ف أخريات‬
‫الصلوات تصميما ف ذلك على الذهب ( يعن مذهب مالك ) لنه مكروه ف مذهبه ‪ .‬وكان ابن‬
‫ماهد مافظا عليه ‪ .‬فكره ذلك الرجل منه ترك الدعاء‪ .‬وأمره أن يدعو فأب ‪ ،‬وبقي على عادته ف‬
‫تركه ف أعقاب الصلوات ‪ ،‬فلما كان ف بعض الليال صلى ذلك الرجل العتمة ف السجد ‪ ،‬فلما‬
‫انقضت وخرج ذلك الرجل إل داره قال لن حضره من أهل السجد ‪ :‬قد قلنا لذا الرجل يدعو إثر‬
‫الصلوات فأب ‪ ،‬فإذا كان ف غدوة غد أضرب رقبته بذا السيف وأشار ف يده فخافوا على ابن‬
‫ماهد من قوله لا علموا منه ‪ ،‬فرجعت الماعة بملتها إل دار ابن ماهد ‪ ،‬فخرج إليهم وقال ‪ :‬ما‬
‫شأنكم ؟ فقال لم ‪ :‬وال لقد خفنا من هذا الرجل ‪ ،‬وقد اشتد الن غضبه عليك ف تركك الدعاء ‪.‬‬
‫فقال لم ‪ :‬ل أخرج عن عادت ‪ ،‬فأخبوه بالقصة ‪ .‬فقال لم ـ وهو مبتسم ـ ‪ :‬انصرفوا ول تافوا‬
‫فهو الذي تضرب رقبته ف غدوة غد بذلك السيف بول ال ‪ ،‬ودخل داره ‪ ،‬وانصرفت الماعة على‬
‫ذعر من قول ذلك الرجل ‪ .‬فلما كان مع الصبح وصل إل دار الرجل قوم من أهل السجد ومن علم‬
‫حال البارحة حت وصلوا إليه إل دار المامة بباب جوهر من أشبيلية ‪ ،‬وهناك أمر بضرب رقبته‬
‫بسيفه ‪ ،‬فكان ذلك تقيقا للجابة وإثباتا للكرامة ‪.‬‬
‫وقد روى بعض الشبيليي الكاية بعن هذه لكن على نو آخر ‪.‬‬
‫ولا رد ولد ابن الصقر على الطيب ف خطبته وذلك حي فاه باسم الهدي وعصمته ‪ ،‬اراد الرتضى‬
‫من ذرية عبد الؤمن ـ وهو إذ ذاك خليفة ـ أن يسجنه على قوله ‪ ،‬فاب الشياخ والوزراء من فرقة‬
‫الوحدين إل قتله ‪ ،‬فغلبوا على أمره فقتلوه خوفا أن يقول ذلك غيه ‪ .‬فتختل عليهم القاعدة الت بنوا‬
‫دينهم عليها ‪.‬‬
‫وقد ل تبلغ البدعة ف الشراب ذلك القدار فل يتفق اللف فيها با يؤدي إل مثل ذلك ‪.‬‬

‫‪343‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فهذه المثلة بينت بالواقع مراد الديث ـ على فرض صحته ـ فإن أخبار النب صلى ال عليه وسلم‬
‫إنا تكون ابتناء على وفق مبه من غي تلف البتة ‪.‬‬
‫ويشهد لذا التفسي استقراء أحوال اللق من انقسامها إل العلى والدن والوسط ‪ ،‬كالعلم والهل‬
‫‪ ،‬والشجاعة والب ‪ ،‬والعدل والور ‪ ،‬والود والبخل ‪ ،‬والغن والفقر ‪ ،‬والعز والذل ‪ ،‬غي ذلك من‬
‫الحوال والوصاف فإنا تتردد ما بي الطرفي ‪ :‬فعال ف أعلى درجات العلم ‪ ،‬وآخر ف أدن‬
‫درجاته وجاهل كذلك ‪ ،‬وشجاع كذلك ‪ ،‬إل سائرها ‪.‬‬
‫فكذلك سقوط البدع بالنفوس ‪ ،‬إل أن ف ذكر النب صلى ال عليه وسلم لا فائدة أخرى ‪ ،‬وهي‬
‫التحذير من مقاربتها ومقاربة أصحابا وهي ‪:‬‬

‫السألة الثانية والعشرون أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى وكذلك البدع‬
‫وبيان ذلك أن داء الكلب فيه ما يشبه العدوى ‪ ،‬فإن أصل الكلب واقع بالكلب ‪ .‬ث إذا عض ذلك‬
‫الكلب أحدا صار مثله ول يقدر على النفصال منه ف الغالب إل باللكة ‪ ،‬فكذلك البتدع إذا أورد‬
‫على أحد رأيه وإشكاله فقلما يسلم من غائلته ‪ ،‬بل إما أن يقع معه ف مذهبه ويصي من شيعته ‪ ،‬وإما‬
‫أن يثبت ف قلبه شكا يطمع ف النفصال عنه فل يقدر ‪.‬‬
‫هذا بلف سائر العاصي فإن صاحبها ل يضاره ول يدخله فيها غالبا إل مع طول الصحبة والنس‬
‫به ‪ ،‬والعتياد لضور معصيته ‪ .‬وقد أتى ف الثار ما يدل على هذا العن ‪ .‬فإن السلف الصال نوا‬
‫عن مالستهم ومكالتهم وكلم مكالهم ‪ ،‬وأغلظوا ف ذلك ‪ ،‬وقد تقدم منه ف الباب الثان آثار جة‬
‫‪.‬‬
‫ومن ذلك ما روي عن ابن مسعود قال ‪ :‬من أحب أن يكرم دينه فليعتزل مالطة الشيطان ومالسة‬
‫أصحاب الهواء فإن مالستهم ألصق من الرب ‪.‬‬
‫وعن حيد العرج قال ‪ :‬قدم غيلن مكة ياور با ‪ ،‬فأتى غيلن ماهدا فقال ‪ :‬يا أبا الجاج ‪،‬‬
‫بلغن أنك تنهى الناس عن وتذكرن ‪ ،‬وأنه بلغك عن شيء ل أقوله ؟ إنا أقول كذا ‪ ،‬فجاء بشيء ل‬
‫ينكر ‪ ،‬فلما قام قال ماهد ‪ :‬ل تالسوه فإنه قدري ‪ .‬قال حيد ‪ :‬فإن لا كنت ذات يوم ف الطواف‬
‫لقن غيلن من خلفي يذب ردائي ‪ ،‬فالتفت فقال ‪ :‬كيف يقول ماهد خرفا كذا وكذا‬
‫فأخبته ‪ ،‬فمشى معي ‪ ،‬فبصر ب ماهد معه ‪ ،‬فأتيته فجعلت أكلمه فل يرد علي ‪ ،‬وأسأله فل ييبن‬
‫ـ فقال ـ فغدوت إليه فوجدته على تلك الال ‪ ،‬فقلت ‪ :‬يا أبا الجاج ! أبلغك عن شيء ؟ ما‬
‫أحدثت حدثا ‪ ،‬ما ل ! قال ‪ :‬أل أرك مع غيلن وقد نيتكم أن تكلموه أو تالسوه ؟ قال ‪ ،‬قلت ‪:‬‬
‫يا با الجاج ما أنكرت قولك ‪ ،‬وما بدأته ‪ ،‬وهو بدأن ‪ .‬قال ‪ :‬وال يا حيد لول أنك عندي مصدق‬
‫ما نظرت ل ف وجه منبسط ما عشت ‪ ،‬ولئن عدت ل تنظر ل ف وجه منبسط ما عشت ‪.‬‬

‫‪344‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن أيوب قال ‪ :‬كنت يوما عند ممد بن سيين إذ جاء عمرو بن عبيد فدخل فلما جلس وضع‬
‫ممد يده ف بطنه وقام ‪ ،‬فقلت لعمرو ‪ :‬انطلق بنا ـ قال ـ فخرجنا فلما مضى عمرو رجعت‬
‫فقلت ‪ :‬يا أبا بكر ؟ قد فطنت إل ما صنعت ‪ .‬قال ‪ :‬أقد فطنت ؟ قلت ‪ :‬نعم ! قال ‪ :‬أما إنه ل‬
‫يكن ليضمن معه سقف بيت ‪.‬‬
‫وعن بعضهم قال ‪ :‬كنت أمشي مع عمرو بن عبيد فرآن ابن عون فأعرض عن ‪ .‬وقيل ‪:‬دخل ابن‬
‫عبيد دار ابن عون فسكت ابن عون لا رآه ‪ ،‬وسكت عمرو عنه فلم يسأله عن شيء ـ فمكثت‬
‫هنيهة ث قال ابن عون ‪ :‬ب استحل أن دخل داري بغي إذن ؟ ـ مرارا يرددها ـ أما إنه لو تكلم‬
‫‪...‬‬

‫وعن مؤمل بن إساعيل ‪ ،‬أنه قال ‪ :‬قال بعض أصحابنا لـحماد بن زيد ‪ :‬ما لك ل ترو عن عبد‬
‫الكري إل حديثا واحدا ؟ قال ‪ :‬ما أتيته إل مرة واحدة لساقة ف هذا الديث ‪ ،‬وما أحب أن أيوب‬
‫علم بإتيان إليه وأن ل كذا وكذا ‪ ،‬وإن لظنه لو علم لكانت الفصيلة بين وبينه ‪.‬‬
‫وعن إبراهيم ‪ ،‬أنه قال لـ ممد بن السائب ‪ :‬ل تقربنا ما دمت على رأيك هذا ‪ .‬وكان مرجئا ‪.‬‬
‫وعن حاد بن زيد قال ‪ :‬لقين سعيد بن جبي فقال ‪ :‬أل أرك مع طلق ؟ قلت ‪ :‬بلى ! فما له ؟‬
‫قال ‪ :‬ل تالسه فإنه مرجىء ‪.‬‬
‫وعن ممد بن واسع قال ‪ :‬رأيت صفوان بن مرز وقريب منه شيبة ‪ ،‬فرآها يتجادلن ‪ ،‬فرأيته‬
‫قائما ينفض ثيابه ويقول ‪ :‬إنا أنتم جرب ‪.‬‬
‫وعن أيوب قال ‪ :‬دخل رجل على ابن سيين فقال ‪ :‬يا أبا بكر ! اقرأ عليك آية من كتاب ال ل‬
‫أزيد أن أقرأها ث أخرج ؟ فوضع إصبعيه ف أذنيه ث قال ‪ :‬أعزم عليك إن كنت مسلما إل خرجت‬
‫من بيت ـ قال ـ فقال ـ يا أبا بكر ! ل أزيد على أن أقرأ ( آية ) ث أخرج ‪ .‬فقام لزاره يشده‬
‫وتيأ للقيام فأقبلنا على الرجل ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬قد عزم عليك إل خرجت ‪ ،‬أفيحل لك أن ترج رجلً من‬
‫بيته ؟ قال ‪ :‬فخرج ‪ ،‬فقلنا ‪ :‬يا أبا بكر ! ما عليك لو قرأ آية ث خرج ؟ قال ‪ :‬إن وال لو ظننت أن‬
‫قلب يثبت على ما هو عليه ما باليت أن يقرأ ‪ ،‬ولكن خفت أن يلقى ف قلب شيئا أجهد ف إخراجه‬
‫من قلب فل أستطيع ‪.‬‬
‫وعن الوزاعي قال ‪ :‬ل تكلموا صاحب بدعة من جدل فيورث قلوبكم من فتنته ‪.‬‬
‫فهذه آثار تنبهك على ما تقدمت إشارة الديث إليه إن كان مقصودا وال أعلم ‪ .‬تأثي كلم‬
‫صاحب البدعة ف القلوب معلوم ‪ .‬وث معن آخر قد يكون من فوائد تنبيه الديث بثال داء الكلب‬
‫وهي ‪:‬‬

‫‪345‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫السألة الثالثة والعشرون التنبيه على السبب ف بعد صاحب البدعة عن التوبة‬
‫وهو التنبيه على السبب ف بعد صاحب البدعة عن التوبة ‪ ،‬إذ كان مثل العاصي الواقعة بأعمال العباد‬
‫قولً أو فعلً أو اعتقادا ‪ ،‬كمثل المراض النازلة بسمه أو روحه ‪ ،‬فأدوية المراض البدنية معلومة ‪،‬‬
‫وأدوية المراض العملية التوبة والعمال الصالة ‪ ،‬وكما أن من المراض البدنية ما يكن فيه التداوي‬
‫‪ ،‬ومنه ما ل يكن فيه التداوي أو يعسر ‪ ،‬كذلك الكلب الذي ف أمراض العمال ‪ ،‬فمنها ما يكن‬
‫فيه التوبة عادة ‪ ،‬ومنها ما ل يكن ‪.‬‬
‫فالعاصي كلها ـ غي البدع ـ يكن فيه التوبة من أعلها ‪ ،‬وهي الكبائر ـ إل أدناها ـ وهي‬
‫اللمم ـ والبدع أخبنا فيها إخبارين كلها يفيد أن ل توبة منها ‪.‬‬
‫الخبار الول ‪ :‬ما تقدم ف ذم البدع من أن البتدع ل توبة له ‪ ،‬من غي تصيص ‪.‬‬
‫والخر ‪ :‬ما نن ف تفسيه ‪ ،‬وهو تشبيه البدع با ل نح فيه من المراض كالكلب ‪ ،‬فأفاد أن ل‬
‫نح من ذنب البدع ف الملة من غي اقتضاء عموم ‪ ،‬بل اقتضى أن عدم التوبة مصوص بن تارى‬
‫به الوى كما يتجارى الكلب بصاحبه ‪ ،‬وقد مر أن من أولئك من يتجارى به الوى على ذلك‬
‫الوجه وتبي الشاهد عليه ‪ ،‬ونشأ من ذلك معن زائد هو من فوائد الديث ‪ ،‬وهي ‪:‬‬

‫السألة الرابعة والعشرون أن من تلك الفرق من ل يشرب هوى البدعة ذلك الشراب‬
‫وهو أن من تلك الفرق من ل يشرب هوى البدعة ذلك الشراب ‪ ،‬فإذا يكن فيه التوبة ‪ ،‬وإذا أمكن‬
‫ف أهل الفرق أمكن فيمن خرج عنهم ‪ ،‬وهم أهل البدع الزئية ‪.‬‬
‫فإما أن يرجح ما تقدم من الخبار على هذا الديث ‪ ،‬لن هذه الرواية ف إسنادها شيء ‪ ،‬وأعلى ما‬
‫يرى ف السان ‪ ،‬وف الحاديث الخر ما هو صحيح ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫"يرقون من الدين كما يرق السهم من الرمية ث ل يعودون كما يعود السهم على فوقه" وما أشبه ‪.‬‬
‫وأما أن يمع بينهما ‪ ،‬فتجعل النقل الول عمدة ف عموم قبول التوبة ‪ ،‬ويكون هذا الخبار أمرا‬
‫زائدا على ذلك ‪ ،‬إذ ل يتنافيان بسبب أن من شأن البدع مصاحبة الوى ‪ ،‬وغلبة الوى للنسان ف‬
‫الشيء الفعول أو التروك له أبدا أثر فيه ‪ ،‬والبدع كلها تصاحب الوى ‪ ،‬ولذلك سي أصحابا أهل‬
‫الهواء ‪ ،‬فوقعت التسمية با ‪ ،‬وهو الغالب عليهم ‪ ،‬إذ يصاحبه دليل شرعي إنا نشأ عن الوى مع‬
‫شبهة دليل ‪ ،‬ل عن الدليل بالعرض فصار هوى يصاحبه دليل شرعي ف الظاهر ‪ ،‬فكان أجرى ف‬
‫البدع من القلب موقع السويداء فأشرب حبه ‪ ،‬ث إنه يتفاوت ‪ ،‬إذ ليس ف رتبة واحدة ولكنه تشريع‬
‫كله ‪ ،‬واستحق صاحبه أن ل توبة له ‪ ،‬عافانا ال من النار بفضله ومنه ‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإما أن يعمل هذا الديث مع الحاديث الول ـ على فرض العمل به ـ ونقول ‪ :‬إن ما تقدم من‬
‫الخبار عامة ‪ ،‬وهذا يفيد الصوص كما تفيده ‪ ،‬أو يفيد معن يفهم منه الصوص ‪ ،‬وهو الشراب‬
‫ف أعلى الراتب مسوقا مساق التبغيض ‪ ،‬لقوله ‪:‬‬
‫"وإنه سيخرج ف أمت أقوام" إل آخره ‪ ،‬فدل أن ث أقواما أخر ل تتجارى بم تلك الهواء على ما‬
‫قال ‪ ،‬بل هي أدن من ذلك ‪ ،‬وقد ل تتجارى بم ذلك ‪.‬‬
‫وهذا التفسي بسب ما أعطاه الوضع ‪ ،‬وتام السألة قد مر ف الباب الثان والمد ل ‪ .‬لكن على‬
‫وجه ل يكون ف الحاديث كلها تصيص ‪ ،‬وبال التوفيق ‪.‬‬

‫السألة الامسة والعشرون أنه جاء ف بعض روايات الديث ‪:‬أعظمها فتنة الذين يقيسون المور‬
‫برأيهم‬
‫أنه جاء ف بعض روايات الديث ‪:‬‬
‫"أعظمها فتنة الذين يقيسون المور برأيهم ‪ ،‬فيحلون الرام ويرمون اللل" فجعل أعظم تلك‬
‫الفرق فتنة على المة أهل القياس ‪ ،‬ول كل قياس ‪ ،‬بل القياس على غي أصل ‪ ،‬فإن أهل القياس‬
‫متفقون على أنه على غي أصل يصح ‪ ،‬وإنا يكون على أصل من كتاب أو سنة صحيحة أو إجاع‬
‫معتب ‪ ،‬فإذا ل يكن للقياس أصل ـ وهو القياس الفاسد ـ فهو الذي ل يصح أن يوضع ف الدين ـ‬
‫فإنه يؤدي إل مالفة الشرع وأن يصي اللل بالشرع حراما بذلك القياس ‪ ،‬والرام حللً ‪ ،‬فإن‬
‫الرأي من حيث هو رأي ل ينضبط إل قانون شرعي إذا ل يكن له أصل شرعي فإن العقول‬
‫تستحسن ما ل يستحسن شرعا ‪ ،‬وتستقبح ما ل يستقبح شرعا ‪ .‬وإذا كان كذلك صار القياس على‬
‫غي أصل فتن ًة على الناس ‪.‬‬
‫ث أخب ف الديث أن العلمي لذا القياس أضر على الناس من سائر أهل الفرق ‪ ،‬واشد فتنة ‪ .‬وبيانه‬
‫أن مذاهب أهل الهواء قد اشتهرت الحاديث الت تردها واستفاضت ‪ ،‬وأهل الهواء مقموعون ف‬
‫المر الغالب عند الاصة والعامة ‪ ،‬بلف الفتيا ‪ ،‬فإن أدلتها من الكتاب والسنة ل يعرفها إل‬
‫الفراد ‪ ،‬ول ييز ضعيفها من قويها إل الاصة ‪ ،‬وقد ينتصب للفتيا والقضاء من يالفها كثي ‪.‬‬

‫حديث ليس عام إل والذي بعد شر منه وما معناه‬


‫وقد جاء مثل معناه مفوظا من حديث ابن مسعود أنه قال ‪ " :‬ليس عام إل والذي بعده شر منه " ل‬
‫أقول ‪ :‬عام أمطر من عام ‪ ،‬ولعام أخصب من عام ‪ ،‬ول أمي خي من أمي ‪ .‬ولكن ‪ :‬ذهاب‬
‫خياركم وعلمائكم ث يدث قوم يقيسون المور برأيهم ‪ ،‬فيهدم السلم ويثلم ‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ذهاب العلماء وقيام الهال مقامهم ف الفتاء‬


‫وهذا الذي ف حديث ابن مسعود موجود ف الديث الصحيح ‪ ،‬حيث قال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"ولكن ينعه منهم مع قبض العلماء بعلمهم فيبقى ناس جهال يستفتون برأيهم ‪ ،‬فيضلون ويضلون" ‪.‬‬
‫وقد تقدم ف ذم الرأي آثار مشهورة عن الصحابة رضي ال عنهم والتابعي تبي فيها أن الخذ بالرأي‬
‫يل الرام ويرم الرام ‪.‬‬

‫القياس الادم للسلم ما عارض الكتاب والسنة وبيان ما عليه سلف المة‬
‫ومعلوم أن هذه الثار الذامة للرأي ل يكن أن يكون القصود با ذم الجتهاد على الصول ف نازلة‬
‫ل توجد ف كتاب ول سنة ول إجاع ‪ ،‬من يعرف الشباه والنظائر ‪ ،‬ويفهم معان الحكام فيقيس‬
‫قياس تشبيه وتعليل ‪ ،‬قياسا ل يعارضه ما هو أول منه ‪ ،‬فإن هذا ليس فيه تليل وتري ول العكس ‪،‬‬
‫وإنا القياس الادم ما عارض الكتاب والسنة ‪ ،‬أو ما عليه سلف المة ‪ ،‬أو معانيها العتبة ‪.‬‬

‫مالفة الصول ف الفتاء قسمان أحدها مالفة أصل من غي استمساك بأصل آخر‬
‫ث إن مالفة هذه الصول على قسمي ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يالف أصلً مالفة ظاهرة من غي استمساك بأصل آخر ‪ ،‬فهذا ل يقع من مفت مشهور‬
‫إل إذا كان الصل ل يبلغه ‪ ،‬كما وقع لكثي من الئمة حيث ل يبلغهم بعض السنن فخالفوها‬
‫خطأ ‪ ،‬وأما الصول الشهورة فل يالفها مسلم خلفا ظاهرا من غي معارضة بأصل آخر ‪ ،‬فضلً‬
‫عن أن يالفها بعض الشهورين بالفتيا ‪.‬‬

‫الثان أن يالف الصل بنوع من التأويل‬


‫والثان ‪ :‬أن يالف الصل بنوع من التأويل هو فيه مطىء ‪ ،‬بأن يضع السم على غي موضعه أو‬
‫على بعض مواضعه ‪،‬أو يراعي فيه مرد اللفظ دون اعتبار القصودة ‪ ،‬أو غي ذلك من أنواع التأويل ‪.‬‬
‫والدليل على أن هذا هو الراد بالديث وما ف معناه أن تليل الشيء إذا كان مشهورا فحرمه بغي‬
‫تأويل ‪ ،‬أو التحري مشهورا فحلله بغي تأويل كان كفرا وعنادا ‪ ،‬ومثل هذا ل تتخذه المة رأسا قط‬
‫‪ ،‬إل أن تكون المة قد كفرت ‪ ،‬والمة ل تكفر أبدا ‪.‬‬
‫وإذا بعث ال ريا تقبض أرواح الؤمني ل يبق حينئذ من يسأل عن حرام أو حلل ‪ .‬وإذا كان‬
‫التحليل أو التحري غي مشهور فخالفه مالف ل يبلغه دليله ‪ ،‬فمثل هذا ل يزل موجودا من لدن‬
‫زمان أصحاب رسول ال صلى ا ل عليه وسلم ‪ ،‬هذا إنا يكون ف آحاد السائل ‪ ،‬فل تضل المة‬
‫ول ينهدم السلم ول يقال لذا ‪ :‬إنه مدث عند قبض العلماء ‪.‬‬

‫‪348‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فظهر أن الراد إنا هو استحلل الحرمات الظاهرة أو العلومة عنده بنوع تأويل ‪ ،‬وهذا بي ف‬
‫البتدعة الذين تركوا معظم الكتاب والذي تضافرت عليه أدلته ‪ ،‬وتواطأت على معناه شواهده ‪،‬‬
‫وأخذوا ف اتباع بعض التشابات وترك أم الكتاب ‪.‬‬
‫فإذا هذا ـ كما قا ل ال تعال ـ زيغ وميل عن الصراط الستقيم ‪ ،‬فإن تقدموا أئمة يفتون ويقتدى‬
‫بم بأقوالم وأعمالم سكنت إليهم الدهاء ظنا أنم بالغوا لم ف الحتياط على الدين ‪ ،‬وهم يضلون‬
‫بغي علم ‪ ،‬ول شيء أعظم على النسان من داهية تقع به من حيث ل يتسب ‪ ،‬فإنه لو علم طريقها‬
‫لتوقاها ما استطاع ‪ ،‬فإذا جاءته على غرة فهي أدهى وأعظم على من وقعت به ‪ ،‬وهو ظاهر ‪،‬‬
‫فكذلك البدعة إذا جاءت العامي من طريق الفتيا ‪ ،‬لنه يستند ف دينه إل من ظهر ف رتبة أهل‬
‫العلم ‪ ،‬فيضل من حيث يطلب الداية ‪ :‬اللهم "اهدنا الصراط الستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم‬
‫"‪.‬‬

‫السألة السادسة والعشرون أن ههنا نظرا لفظيا ف الديث هو من تام الكلم فيه الخبار بالعن‬
‫عن الثة وبالصفة عن الوصوف‬
‫إن ها هنا نظرا لفظيا ف الديث هو من تام الكلم فيه ‪ ،‬وذلك أنه لا أخب عليه الصلة والسلم أن‬
‫جيع الفرق ف النار إل فرقة واحدة ‪ ،‬وهي الماعة الفسرة ف الديث الخر ‪ ،‬فجاء ف الرواية‬
‫الخرى السؤال عنها ـ سؤال التعيي ـ فقالوا ‪ :‬من هي يا رسول ال ؟ فأصل الواب أن يقال ‪:‬‬
‫أنا وأصحاب ‪ ،‬ومن عمل مثل عملنا ‪ .‬أو ما اشبه ذلك ما يعطي تعيي الفرقة ‪ ،‬إما بالشارة أو‬
‫بوصف من أوصافها ‪ .‬إل أن ذلك ل يقع ‪ ،‬وإنا وقع ف الواب تعيي الوصف ل تعيي الوصوف ‪،‬‬
‫فلذلك أتى با أتى ‪ ،‬فظاهرها الوقوع على غي العاقل من الوصاف وغيها ‪ ،‬والراد هنا الوصاف‬
‫الت هو عليها صلى ال عليه وسلم وأصحابه رضي ال عنهم ‪ ،‬فلم يطابق السؤال الواب ف اللفظ ‪.‬‬
‫والعذر عن هذا أن العرب ل تلتزم ذلك النوع إذا فهم العن ‪ ،‬لنم لا سألوا عن تعيي الفرقة الناجية‬
‫بي لم الوصف الذي به صارت ناجية ‪ ،‬فقال ‪" :‬ما أنا عليه واصحاب" ‪.‬‬
‫وما جاء غي مطابق ف الظاهر وهو ف العن مطابق قول ال تعال ‪" :‬قل أؤنبئكم بي من ذلكم" ؟‬
‫فإن هذا الكلم معناه ‪ :‬هل أخبكم با هو أفضل من متاع الدنيا ؟ فكأنه قيل ‪ :‬نعم ! أخبنا ‪ ،‬فقال‬
‫ال تعال ‪" :‬للذين اتقوا عند ربم جنات تري من تتها النار" الية ‪ .‬أي للذين اتقوا استقر لم‬
‫"عند ربم جنات تري من تتها النار" ‪.‬الية ‪ .‬فأعطى مضمون الكلم معن الواب على غي لفظه‬
‫‪ .‬وهذا التقرير على قول جاعة من الفسرين ‪.‬‬

‫‪349‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقال تعال ‪" :‬مثل النة الت وعد التقون فيها أنار " الية ‪ .‬فقوله ‪ :‬مثل النة يقتضي الثل ل‬
‫المثل ‪ ،‬كما قال تعال ‪" :‬مثلهم كمثل الذي استوقد نارا" ولنه كلما كان القصود المثل جاء به‬
‫بعينه ‪.‬‬
‫ويكن أن يقال ‪ :‬أن النب صلى ال عليه وسلم لا ذكر الفرق وذكر أن فيها فرقة ناجية ‪ ،‬كان الول‬
‫السؤال عن أعمال الفرقة الناجية ‪ ،‬ل عن نفس الفرقة ‪ .‬لن التعريف فيها من حيث هي ل فائدة فيه‬
‫إل من جهة أعمالا الت نت با ‪ .‬فالتقدم ف العتبار هو العمل ل العامل ‪ ،‬فلو سألوا ‪ :‬ما وصفها ؟‬
‫أو ما عملها ؟ أو ما أشبه ذلك لكان أشد مطابقة ف اللفظ والعن ‪ ،‬فلما فهم عليه الصلة والسلم‬
‫منهم ما قصدوا أجابم على ذلك ‪.‬‬
‫ونقول ‪ :‬لا تركوا السؤال عما كان الول ف حقهم ‪ ،‬أتى به جوابا عن سؤالم ‪ ،‬حرصا منه عليه‬
‫الصلة والسلم على تعليمهم ما ينبغي لم تعلمه والسؤال عنه ‪.‬‬
‫ويكن أن يقال ‪ :‬إن ما سألوا عنه ل يتعي ‪ ،‬إذ ل تتص النجاة بن تقدم دون من تأخر ‪ ،‬إذ كانوا‬
‫قد اتصفوا بوصف التأخي ‪.‬‬
‫ومن شأن هذا السؤال التعيي وعدم انصارهم بزمان أو مكان ل يقتضي التعيي ‪ ،‬وانصرف القصد‬
‫إل تعيي الوصف الضابط للجميع ‪ ،‬وهو ما كان عليه هو وأصحابه ‪.‬‬
‫وهذا الواب بالنسبة إلينا كالبهم ‪ ،‬وهو بالنسبة إل السائل معي ‪ ،‬لن أعمالم كانت للحاضرين‬
‫معهم رأي عي ‪ ،‬فلم يتج إل أكثر من ذلك ‪ ،‬لنه غاية التعيي اللئق بن حضر ‪ ،‬فأما غيهم من‬
‫ل يشاهد أحوالم ول ينظر أعمالم فليس مثلهم ‪،‬ول يرج الواب بذلك عن التعيي القصود ‪ .‬وال‬
‫أعلم ‪ .‬انتهى ‪.‬‬

‫الباب العاشر‪ :‬ف بيان معن الصراط الستقيم الذي انرفت عنه سبل أهل البتداع فضلت عن‬
‫الدى بعد البيان هذا وجه أول‬
‫قد تقدم قبل هذا أن كل فرقة وكل طائفة تدعي أنا على الصراط الستقيم وأن ما سواها منحرف‬
‫عن الادة وراكب بنيات الطريق ‪ .‬فوقع بينهم الختلف إذا ف تعيينه وبيانه ‪ ،‬حت أشكلت السألة‬
‫على كل من نظر فيها ‪ ،‬حت قال من قال ‪ :‬كل متهد ف العقليات أو النقليات مصيب ‪ .‬فعدد‬
‫القوال ف تعيي هذا الطلب على عدد الفرق ‪ ،‬وذلك من أعظم الختلف ‪ ،‬إذ ل تكاد تد ف‬
‫الشريعة مسألة يتلف العلماء فيها على بضع وسبعي قولً إل هذه السألة فتحرير النظر حت تتضح‬
‫الفرقة الناجية الت كان عليه النب صلى ال عليه وسلم واصحابه من أغمض السائل ‪.‬‬

‫ووجه ثان ‪ :‬أن الصراط الستقيم لو تعي لن بعد الصحابة ل يقع خلف‬

‫‪350‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ل ‪ ،‬لن‬
‫ووجه ثان ‪ :‬أن الصراط الستقيم لو تعي بالنسبة إل من بعد الصحابة ل يقع اختلف أص ً‬
‫الختلف مع تعيي مله مال ‪ ،‬والفرض أن اللف ليس بقصد العناد ‪ ،‬لنه على ذلك الوجه مرج‬
‫عن السلم ‪ ،‬وكلمنا ف الفرق ‪.‬‬

‫ووجه ثالث أن البدع ل تقع من راسخ ف العلم‬


‫ووجه ثالث ‪ :‬أنه قد تقدم أن البدع ل تقع من راسخ ف العلم ‪ ،‬وإنا تقع من ل يبلغ مبلغ أهل‬
‫الشريعة التصرفي ف أدلتها ‪ .‬والشهادة بأن فلنا راسخ ف العلم وفلنا غي راسخ ‪ ،‬ف غاية الصعوبة‬
‫‪ ،‬فإن كل من خالف واناز إل فرقة يزعم أنه الراسخ ‪ ،‬وغي قاصر النظر ‪ ،‬فإن فرض على ذلك‬
‫الطلب علمة وقع الناع إما ف العلمة ‪ ،‬وإما ف مناطها ‪.‬‬
‫ومثال ذلك أن علمة الروج من الماعة الفرقة النبه عليها بقوله تعال ‪" :‬ول تكونوا كالذين تفرقوا‬
‫واختلفوا" والفرقة ـ بشهادة الميع ـ إضافية فكل طائفة تزعم أنا هي الماعة ومن سواها مفارق‬
‫للجماعة ‪.‬‬
‫ومن العلمات اتباع ما تشابه من الدلة ‪ ،‬وكل طائفة ترمي صاحبتها بذلك وأنا هي الت اتبعت أم‬
‫الكتاب دون الخرى فتجعل دليلها عمدة وترد إليه سائر الواضع بالتأويل على عكس الخرى ‪.‬‬
‫ومنها اتباع الوى الذي ترمي به كل فرقة صاحبتها وتبىء نفسها منه‪ ،‬فل يكن ف الظاهر مع هذا‬
‫أن يتفقوا على مناط هذه العلمات ‪ ،‬وإذا ل يتفقوا عليها ل يكن ضبطهم با بيث يشي إليهم بتلك‬
‫العلمات ‪ ،‬وأنم ف التحصيل متفقون عليها ‪ ،‬وبذلك صارت علمات ‪ :‬فكيف يكن مع اختلفهم‬
‫ف الناط الضبط بالعلمات ‪.‬‬

‫ووجه رابع فهمنا من مقاصد الشرع الستر على هذه المة وكون تعيي الصراط الستقيم‬
‫بالجتهاد ل يقتضي التفاق‬
‫ووجه رابع ‪ :‬وهو ما تقدم من فهمنا من مقاصد الشرع ف الستر على هذه المة وإن حصل التعيي‬
‫بالجتهاد ‪ ،‬فالجتهاد ل يقتضي التفاق على مله ‪.‬‬
‫أل ترى أن العلماء جزموا القول بأن النظرين ل يكن التفاق عليهما عادة ؟ فلو تعينوا بالنص ل يبق‬
‫إشكال ‪ .‬بل أمر الوارج على ما كانوا عليه ‪ ،‬وإن كان النب صلى ال عليه وسلم قد عينهم وعي‬
‫علمتهم ف الخدج حيث قال ‪ " :‬آيتهم رجل أسود إحدى عضديه مثل ثدي الرأة ‪ ،‬ومثل البضعة‬
‫تدردر" الديث ‪ .‬وهم الذين قاتلهم علي بن أب طالب رضي ال عنه ‪ ،‬إذ ل يرجعوا عما كانوا عليه‬
‫ول ينتهوا ‪ ،‬فما الظن بن ليس له ف القتل تعيي ؟‬
‫ووجه خامس ف قول ال تعال ولو شاء ربك لعل الناس أمة واحدة‬

‫‪351‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ووجه خامس ‪ :‬وهو ما تقدم تقريره ف قوله سبحانه وتعال ‪" :‬ولو شاء ربك لعل الناس أم ًة واحدة‬
‫ول يزالون متلفي*إل من رحم ربك ولذلك خلقهم" الية ـ يشعر ف هذا الطلوب أن اللف ل‬
‫يرتفع ‪ ،‬مع ما يعضده من الديث الذي فرغنا من بيانه ‪ ،‬وهو حديث الفرق إذ الية ل تشعر‬
‫بصوص مواضع اللف ‪ ،‬لمكان أن يبقى اللف ف الديان دون دين السلم ‪ ،‬لكن الديث بي‬
‫أنه واقع ف المة أيضا ‪ ،‬فانتظمته الية بل إشكال‬
‫فإذا تقرر هذا ظهر به أن التعيي للفرقة الناجية بالنسبة إليها اجتهادي ل ينقطع اللف فيه ‪ ،‬وإن‬
‫ادعي فيه القطع دون الظن فهو نظري ل ضروري ولكنا مع ذلك نسلك ف السألة ـ بول ال ـ‬
‫مسلكا وسطا يذعن إل قبوله عقل الوفق ويقر بصحنه العال بكليات الشريعة وجزئياتا ‪ ،‬وال الوفق‬
‫للصواب ‪ .‬فنقول ‪:‬‬
‫ل بد من تقدي مقدمة قبل الشروع ف الطلوب ‪ ،‬وذلك أن الحداث ف الشريعة إنا يقع من جهة‬
‫الهل ‪ ،‬وإما من جهة تسي الظن بالعقل ‪ ،‬وإما من جهة اتباع الوى ف طلب الق ‪ ،‬وهذا الصر‬
‫بسب الستقراء من الكتاب والسنة ‪ ،‬وقد مر ف ذلك ما يؤخذ منه شواهد السألة ‪ ،‬إل أن الهات‬
‫الثلث قد تنفرد وقد تتمع ‪ ،‬فإذا اجتمعت فتارة تتمع منها اثنتان وتارة تتمع الثلث ‪ ،‬فأما جهة‬
‫الهل فتارة تتعلق بالدوات الت با تفهم القاصد ‪ ،‬وتارة تتعلق بالقاصد ‪ ،‬وأما جهة تسي الظن‬
‫فتارة يشرك ف التشريع مع الشرع ‪ ،‬وتارة يقدم عليه ‪ ،‬وهذان النوعان يرجعان إل نوع واحد ‪ ،‬وأما‬
‫جهة اتباع الوى ‪ ،‬فمن شأنه أن يغلب الفهم حت يغلب صاحبه الدلة أو يستند إل غي دليل ‪،‬‬
‫وهذان النوعان يرجعان إل نوع واحد ‪ ،‬فالميع أربعة أنواع ‪ :‬وهي الهل بأدوات الفهم والهل‬
‫بالقاصد ‪ ،‬وتسيم الظن بالعقل ‪ ،‬واتباع الوى ‪ .‬فلنتكلم على كل واحد منها وبال التوفيق ‪.‬‬
‫النوع الول الهل بأدوات القاصد ن ال عز وجل أنزل القرآن عربيا ل يفهم إل من ألفاظ لغة‬
‫العرب وأساليبها‬
‫إن ال عز وجل أنزل القرآن عربيا ل عجمة فيه ‪ ،‬بعن أنه جاء ف ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان‬
‫العرب ‪ ،‬قال ال تعال ‪" :‬إنا جعلناه قرآنا عربيا" وقال تعال ‪" :‬قرآنا عربيا غي ذي عوج" وقال تعال‬
‫‪" :‬نزل به الروح المي * على قلبك لتكون من النذرين * بلسان عرب مبي" وكان النل عليه‬
‫القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو ممد بن عبد ال صلىال عليه وسلم ‪ ،‬وكان الذين بعث‬
‫فيهم عربا أيضا ‪ ،‬فجرى الطاب به على معتادهم ف لسانم ‪ ،‬فليس فيه شيء من اللفاظ والعان‬
‫إل وهو جار على ما اعتادوه ‪ ،‬ول يداخله شيء بل نفي عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعال‬
‫‪" :‬ولقد نعلم أنم يقولون إنا يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عرب مبي" ‪.‬‬
‫وقال تعال ف موضع آخر ‪" :‬ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لول فصلت آياته" ‪.‬‬

‫‪352‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن ال جعل جيع المم وعامة اللسنة ف هذا المر تبعا للسان‬
‫العرب ‪ ،‬وإذا كان كذلك فل يفهم كتاب ال تعال إل من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار‬
‫ألفاظها ومعانيها وأساليبها ‪.‬‬

‫أساليب العربية ف العام والاص وما يراد ظاهرا وما ل يراد‬


‫أما ألفاظها فظاهرة للعيان ‪ ،‬وأما معانيها وأساليبها فكان ما يعرف من معانيها اتساع لسانا ‪ ،‬وأن‬
‫تاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به الظاهر ‪ ،‬ويستغن بأوله عن آخره ‪ ،‬وعاما ظاهرا يراد به‬
‫العام ويدخله الاص ‪ ،‬ويستدل إل هذا ببعض الكلم ‪ ،‬وعاما ظاهرا يراد به الاص ‪ ،‬وظاهرا‬
‫يعرف ف سياقه أن الراد به غي ذلك الظاهر ‪ ،‬والعلم بذا كله موجود ف أول الكلم أو وسطه أو‬
‫آخره ‪.‬‬
‫وتبتدىء الشيء من كلمها بي أول اللفظ فيه عن آخره ‪ ،‬أو بي آخره عن أوله ‪ ،‬ويتكلم بالشيء‬
‫تعرفه بالعن دون اللفظ كما تعرف بالشارة ‪ ،‬وهذا عندها من أفصح كلمها ‪ ،‬لنفرادها بعلمه‬
‫دون غيها من يهله ‪ ،‬وتسمى الشيء الواحد بالساء الكثية ‪،‬وتوقع اللفظ الواحد للمعان الكثية ‪.‬‬
‫فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيها ‪ ،‬إل غي ذلك من التصرفات الت يعرفها من زوال‬
‫كلمهم وكانت له به معرفة وثبت رسوخه ف علم ذلك ‪.‬‬
‫فمثال ذلك أن ال تعال خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ‪ ،‬وقال تعال ‪" :‬وما من دابة ف‬
‫الرض إل على ال رزقها" فهذا من العام الظاهر الذي ل خصوص فيه فإن كل شيء من ساء وأرض‬
‫وذي روح وشجر وغي ذلك فال خالقه ‪ ،‬وكل دابة على ال رزقها ‪" ،‬ويعلم مستقرها ومستودعها"‬
‫‪.‬‬
‫وقال ال تعال ‪" :‬ما كان لهل الدينة ومن حولم من العراب أن يتخلفوا عن رسول ال ول يرغبوا‬
‫بأنفسهم عن نفسه" فقوله ‪ " :‬ما كان لهل الدينة ومن حولم من العراب أن يتخلفوا عن رسول‬
‫ال " إنا أريد به من أطاق ومن ل يطق فهو عام العن ‪ ،‬وقوله ‪ " :‬ول يرغبوا بأنفسهم عن نفسه "‬
‫عام فيمن أطاق ومن ل يطق ‪ ،‬فهو عام العن ‪.‬‬
‫وقوله تعال ‪" :‬حت إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوها" فهذا من العام الراد به‬
‫الاص ‪ ،‬لنما ل ستطعما جيع أهل القرية ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا" فهذا عام‬
‫ل يرج عنه أحد من الناس ‪ .‬وقال إثر هذا ‪" :‬إن أكرمكم عند ال أتقاكم" فهذا خاص ‪ ،‬لن‬
‫التقوى إنا تكون على من عقلها من البالغي ‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقال تعال ‪" :‬الذين قال لم الناس إن الناس قد جعوا لكم فاخشوهم" فالراد بالناس الثان الصوص‬
‫ل العموم ‪ .‬وإل فالجموع لم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا ‪ .‬لكن لفظ الناس يقع على ثلثة‬
‫منهم ‪ .‬وعلى جيع الناس ‪ ،‬وعلى ما بي ذلك ‪ .‬فيصح أن يقال ‪ :‬إن الناس قد جعوا لكم ‪ .‬والناس‬
‫الول القائلون كانوا أربعة نفر ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له" فالراد بالناس هنا الذين اتذوا من دون ال‬
‫إلا ‪ ،‬دون الطفال والجاني والؤمني ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬واسألم عن القرية الت كانت حاضرة البحر" فظاهرا السؤال عن القرية نفسها ‪،‬‬
‫وسياق قوله تعال ‪" :‬إذ يعدون ف السبت" إل آخر الية يدل على أن الراد أهلها لن القرية ل تعدو‬
‫ول تفسق ‪.‬‬
‫وكذلك قوله تعلى ‪" :‬وكم قصمنا من قرية كانت ظالة" الية ‪ ،‬فإنه لا قال كانت ظالة دل على‬
‫أن الراد أهلها ‪.‬‬
‫وقال تعال ‪" :‬واسأل القرية الت كنا فيها" الية ‪ ،‬فالعن بي أن الراد أهل القرية ‪ ،‬ول يتلف أهل‬
‫العلم باللسان ف ذلك ‪ ،‬لن القرية والعي ل يبان بصدقهم ‪.‬‬
‫هذا كله معن تقرير الشافعي رحه ال ف هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالملة مبي أن القرآن‬
‫ل يفهم إل عليه ‪ ،‬وإنا أتى الشافعي بالنوع الغمض من طرائق العرب ‪ ،‬لن سائر أنواع التصرفات‬
‫العربية قد بسطها أهلها ‪ ،‬وهم أهل النحو والتصريف ‪ ،‬وأهل العان والبيان ‪ ،‬وأهل الشتقاق وشرح‬
‫مفردات اللغة ‪ ،‬وأهل الخبار النقولة عن العرب لقتضيات الحوال ‪ ،‬فجميعه نزل به القرآن ‪.‬‬
‫ولذلك أطلق عليه عبارة العرب ‪.‬‬

‫أحدها أن يكون عربيا أو كالعرب ف لسانه‬


‫فإذا ثبت هذا فعلى الناظر ف الشريعة والتكلم فيها أصولً وفروعا أمران‬
‫أحدها ‪ :‬أن ل يتكلم ف شيء من ذلك حت يكون عربيا ‪ .‬أو كالعرب ف كونه عارفا بلسان العرب‬
‫‪ .‬بالغا فيه مبالغ العرب ‪ .‬أو مبالغ الئمة التقدمي كالليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم‬
‫وداناهم ‪ .‬وليس الراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم ‪ ،‬وإنا الراد أن تصي فهمه‬
‫عربيا ف الملة ‪ .‬وبذلك امتاز التقدمون من علماء العربية على التأخرين ‪ .‬إذ بذا العن أخذوا‬
‫أنفسهم حت صاروا أئمة ‪ ،‬فإن ل يبلغ ذلك فحسبه ف فهم معان القرآن التقليد ‪ ،‬ول يسن ظنه‬
‫بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به ‪.‬‬
‫قال الشافعي لا قرر معن ما تقدم ‪ :‬فمن جهل هذا من لسانا يعن لسان العرب ـ وبلسانا نزل‬
‫القرآن وجاءت السنة به ـ فتكلف القول ف علمها تكلف ما يهل لفظه ‪ ،‬ومن تكلف ما جهل وما‬

‫‪354‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ل يثبته معرفة كانت موافقته للصواب ـ إن وافقه ـ من حيث ل يعرفه غي ممودة ‪ ،‬وكان ف‬
‫تطئته غي معذور ‪ ،‬إذ نظر فيما ل ييط علمه بالفرق بي الصواب والطأ فيه ‪.‬‬
‫وما قاله حق ‪ ،‬فإن القول ف القرآن والسنة بغي علم تكلف ـ وقد نينا عن التكلف ـ ودخول‬
‫تت معن الديث ‪ ،‬حيث قال عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"حت إذا ل يبق عال اتذ الناس رؤساء جهالً" الديث ‪ ،‬لنم إذا ل يكن لم لسان عرب يرجعون‬
‫إليه ف كتاب ال وسنة نبيه رجع العجمي إل فهمه وعقله الجرد عن التمسك بدليل يضل عن‬
‫الادة ‪.‬‬
‫وقد خرج ابن وهب عن السن أنه قيل له ‪ :‬أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم با لسانه ‪ ،‬ويصلح با‬
‫منطقه ؟ قال ‪ :‬نعم ! فليتعلمها ‪ ،‬فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك ‪.‬‬
‫وعن السن قا ل‪ :‬أهلكتهم العجمة ‪ ،‬يتأولون على غي تأويله ‪.‬‬

‫المر الثان أنه إذا أشكل عليه ف الكتاب أو ف السنة لفظ فل يقدم على القول فيه دون أن‬
‫يستظهر بغيه من علماء العربية‬
‫والمر الثان ‪ :‬أنه إذا أشكل عليه ف الكتاب أو ف السنة لفظ أو معن فل يقدم على القول فيه دون أ‬
‫ن يستظهر بغيه من له علم بالعربية ‪ ،‬فقد يكون إماما فيها ‪ ،‬ولكنه يفى عليه المر ف بعض‬
‫الوقات ‪ .‬فالول ف حقه الحتياط ‪ ،‬إذ قد يذهب على العرب الحض بعض العان الاصة حت‬
‫يسأل عنها ‪ ...‬وقد نقل شيء من هذا ‪ ...‬عن الصحابة ـ وهم العرب ـ فكيف بغيهم ‪.‬‬
‫نقل عن ابن عباس رضي ال عنهما أنه قال ‪ :‬كنت ل أدري ما فاطر السموات وألرض حت أتان‬
‫أعرابيان يتصمان ف بئر ‪ .‬فقال أحدها ‪ :‬أنا فطرتا ‪ .‬أي أنا ابتدأتا ‪.‬‬
‫وفيما يروى عن عمر رضي ال عنه أنه سأل وهو على النب عن معن قوله تعال ‪" :‬أو يأخذهم على‬
‫توف" فأخبه رجل من هذيل أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثية ‪.‬‬

‫كلم الشافعي ف فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب‬
‫قا ل الشافعي ‪ :‬لسان العرب أوسع اللسنة مذهبا ‪،‬وأكثرها ألفاظا ‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ول نعلمه ييط بميع علمه إنسان غي نب ‪ .‬ولكنه ل يذهب منه شيء على عامته حت ل‬
‫يكون موجودا فيها من يعرفه ـ قال ـ والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم ل نعلم‬
‫ل جع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ‪ ،‬فإذا جع علم عامة أهل العلم با أتى على السنن ‪،‬‬ ‫رج ً‬
‫وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ‪ ،‬ث كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيه من‬
‫كان ف طبقته وأهل علمه قال ‪:‬وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها ل يذهب منه شيء عليها‬

‫‪355‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ول يطلب عند غيها ‪،‬ول يعلمه إل من نقله عنها ‪،‬ول يشركها فيه إل من اتبعها ف تعلمه منها‪،‬‬
‫ومن قبله منها فهو من أهل لسانا‪،‬وإنا صار غيهم من غي أهله لتركه فإذا صار إليه صار من أهله ‪.‬‬
‫هذا ما قال ول يالف فيه أحد ‪ ،‬فإذا كان المر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر ف الكتاب‬
‫والسنة أن يتعلم الكلم الذي به أديت ‪ ،‬وأن ل يسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية‬
‫بأنه يستحق النظر ‪ ،‬وأن ل يستقل بنفسه ف السائل الشكلة الت ل يط با علمه دون أن يسأل عنها‬
‫من هو من أهلها ‪ ،‬فإن ثبت على هذه الوصاة كان ـ إن شاء ل ـ موافقا لا كان عليه رسول ال‬
‫صلى ال عليه وسلم وأصحابه الكرام ‪.‬‬
‫روي "عن عبد ال بن عمر رضي ال عنهما أنه قال ‪ :‬قلنا يا رسول ال ‪ .‬من خي الناس ؟ قال ‪ :‬ذو‬
‫القلب الخموم واللسان الصادق قلنا ‪ :‬قد عرفنا اللسان الصادق ‪ ،‬فما ذو القلب الخموم ؟ قال ‪ :‬هو‬
‫التقي النقي الذي ل إث فيه ول حسد ‪ ،‬قلنا فمن على أثره ؟ قال ‪ :‬الذي ينسى الدنيا ويب الخرة ‪.‬‬
‫قلنا ‪ :‬ما نعرف هذا فينا إل رافعا مول رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬قلنا ‪ :‬فمن على أثره ؟ قال‬
‫‪ :‬مؤمن ف خلق حسن ‪ ،‬قلنا ‪ :‬أما هذا فإنه فينا" ‪.‬‬
‫ويروي ‪" :‬أن رسول ال صلى ال عليه وسلم جاءه رجل فقال ‪ :‬يا رسول ال ! أيدالك الرجل امرأته‬
‫؟ قال ‪ :‬نعم إذا كان مفلجا فقال له أبو بكر رضي ال عنه ‪ :‬ما قلت وما قال لك يا رسول ال صلى‬
‫ال عليك وسلم ؟ فقال ‪ :‬قال ‪ :‬أياطل الرجل امرأته ؟ قلت ‪ :‬نعم إذا كان فقيا ‪ ،‬فقال أبو بكر ‪:‬‬
‫ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول ال فقال ‪ :‬كيف ل وأنا من قريش ‪ ،‬وأرضعت ف بن‬
‫سعد؟" ‪.‬‬

‫أمثلة لوقوع الطأ ف العربية ف كلم ال وسنة نبيه أحدها ‪ :‬قول جابر العفي ف قوله تعال ‪:‬‬
‫فلن أبرح الرض حت يأذن ل أب‬
‫فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ‪ ،‬فالواجب السؤال كما سألوا‬
‫فيكون على ما كانوا عليه ‪،‬وإل زل فقال ف الشريعة برأيه ل بلسانا ‪.‬‬
‫ولنذكر لذلك ستة أمثلة ‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬قول جابر العفي ف قوله تعال ‪" :‬فلن أبرح الرض حت يأذن ل أب" أن تأويل هذه الية ل‬
‫يىء بعد ـوكذب ـ فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ‪ ،‬فإنا تقول إن عليا ف السحاب فل يرج‬
‫مع من خرج من ولده حت ينادي علي من السماء ‪ :‬اخرجوا مع فلن فهذا معن قوله تعال‪" :‬فلن‬
‫أبرح الرض حت يأذن ل أب" الية عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله ‪ :‬ل يىء بعد ‪.‬‬
‫بل هذه الية كانت ف إخوة يوسف ‪ ،‬وقع ذلك ف مقدمة كتاب مسلم ‪ ،‬ومن كان ذا عقل فل‬
‫يرتاب ف أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان ‪ ،‬وأن ما قاله جابر ل ينساق ‪.‬‬

‫‪356‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الثان قول من زعم أنه يوز للرجل نكاح تسع‬


‫والثان ‪ :‬قول من زعم أنه يوز للرجل نكاح تسع من اللئل مستلً بقوله تعال ‪" :‬فانكحوا ما‬
‫طاب لكم من النساء مثن وثلث ورباع" لن أربعا إل ثلث إل اثنتي تسع ‪ ،‬ول يشعر بعن فعال‬
‫ومفعل ف كلم العرب وأن معن الية ‪ ،‬فانكحوا إن شئتم اثنتي اثنتي أو ثلثا ثلثا أو أربعا على‬
‫التفصيل ل على ما قالوا ‪.‬‬

‫الثالث قول من زعم أن الحرم من النير إنا هو اللحم‬


‫والثالث ‪ :‬قول من زعم أن الحرم من النير إنا هو اللحم ‪ ،‬وأما الشحم فحلل لن القرآن إنا‬
‫حرم اللحم دون الشحم ‪ ،‬ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بلف الشحم فإنه ل يطلق‬
‫على اللحم ل يقل ما قال ‪.‬‬

‫الرابع قول من قال ‪ :‬أن كل شيء فان حت ذات الباري ما عدا الوجه‬
‫والرابع ‪ :‬قول من قال ‪ :‬إن كل فان حت ذات ال ـ تعال عما يقولون علوا كبيا ـ ما عدا الوجه‬
‫بدليل "كل شيء هالك إل وجهه" وإنا الراد بالوجه هنا غي ما قال ‪ ،‬فإن للمفسرين فيه تأويلت‬
‫وقصد هذا القائل ما ل يتجه لغة ول معن ‪ .‬وأقرب قول لقصد هذا السكي أن يراد به ذو الوجه‬
‫كما تقول ‪ :‬فعلت هذا لوجه فلن ‪ :‬أي لفلن ‪ ،‬فكان معن الية ‪ :‬كل شيء هالك إل هو ‪ .‬وقوله‬
‫تعال ‪" :‬إنا نطعمكم لوجه ال" ومثله قوله تعال ‪" :‬كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو اللل‬
‫والكرام" ‪.‬‬
‫الامس قول من زعم أن ل جنبا‬
‫والامس ‪ :‬قول من زعم أن ل سبحانه وتعال جنبا ‪ ،‬مستدلً بقوله ‪" :‬أن تقول نفس يا حسرتى‬
‫على ما فرطت ف جنب ال" وهذا ل معن للجنب فيه ل حقيقة ول مازا ‪ ،‬لن العرب تقول ‪ :‬هذا‬
‫المر يصغر ف جنب هذا ‪ ،‬أي يصغر بالضافة إل آخر ‪ ،‬فكذلك الية معناها ‪ :‬يا حسرتا على‬
‫مافرطت ف جنب ال أي فيما بين وبي ال ‪ ،‬إذ أضفت تفريطي إل أمره ونيه إياي ‪.‬‬
‫السادس قول من قال ف قوله صلى ال عليه وسلم ل تسبوا الدهر ‪.‬أن فيه مذهب الدهرية‬
‫والسادس ‪ :‬قول من قال ف قول النب صلى ال عليه وسلم ‪" :‬ل تسبوا الدهر فإن ال هو الدهر" إن‬
‫هذا الذي ف الديث هو مذهب الدهرية ‪ ،‬ول يعرف أن العن ‪ :‬ل تسبوا الدهر إذا أصابتكم‬
‫الصائب ‪ ،‬ول تنسبوها إليه ‪ ،‬فإن ال هو الذي أصابكم بذلك ل الدهر ‪ ،‬فإنكم إذا سببتم الدهر وقع‬
‫السب على الفاعل ل على الدهر ‪ ،‬لن العرب كان من عادتا ف الاهلية أن تنسب الفعال إل‬

‫‪357‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الدهر فتقول ‪ :‬أصابه الدهر ف ماله ‪ ،‬ونابته قوارع الدهر ومصائبه ‪ .‬فينسبون إل كل شيء تري به‬
‫أقدار ال تعال عليهم إل الدهر ‪ ،‬فيقولون ‪ :‬لعن ال الدهر ‪ ،‬وما ال الدهر ‪ .‬واشباه ذلك وإنا‬
‫يسبونه لجل الفعال النسوبة إليه ‪ ،‬فكأنم إنا سبوا الفاعل ‪ ،‬والفاعل هو ال وحده ‪ ،‬فكأنم يسبونه‬
‫سبحانه وتعال ‪.‬‬
‫فقد ظهر بذه المثلة كيف يقع الطأ ف العربية ف كلم ال سبحانه وتعال وسنة نبيه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬وأن ذلك يؤدي إل تريف الكلم عن مواضعه ‪ ،‬والصحابة رضوان ال عليهم برآء من ذلك‬
‫‪ .‬لنم عرب ل يتاجوا ف فهم كلم ال تعال إل أدوات ول تعلم ‪ ،‬ث من جاء بعدهم من ليس‬
‫بعرب اللسان تكلف ذلك حت علمه ‪ ،‬وحينئذ داخل القوم ف فهم الشريعة وتنيلها على ما ينبغي‬
‫فيها كسلمان الفارسي وغيه ‪ ،‬فكل من اقتدى بم ف تنيل الكتاب والسنة على العربية ـ إن أراد‬
‫أن يكون من أهل الجتهاد فهو ـ إن شاء ال ـ داخل ف سوادهم العظم ‪ ،‬كائن على ما كانوا‬
‫عليه ‪ ،‬فانتظم ف سلك الناجية ‪.‬‬

‫النوع الثان الهل بالقاصدأن ال تعال أنزل الشريعة فيها تبيان كل شيء‬
‫أن ال تعال أنزل الشريعة على رسوله صلى ال عليه وسلم فيها تبيان كل شيء يتاج إليه اللق ف‬
‫تكاليفهم الت أمروا با ‪ ،‬وتعبداتم الت طوقوها ف أعناقهم ‪ ،‬ول يت رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫حت كمل الدين بشهادة ال تعال بذلك حيث قال تعال ‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم وأتمت عليكم‬
‫نعمت ورضيت لكم السلم دينا " فكل من زعم أنه بقي ف الدين شيء ل يكمل فقد كذب بقوله ‪:‬‬
‫اليوم أكملت لكم دينكم ‪.‬‬
‫فل يقال ‪ :‬قد وجدنا من النوازل والوقائع التجددة ما ل يكن ف الكتاب ول ف السنة نص عليه ‪،‬‬
‫ول عموم ينتظمه ‪ ،‬وأن مسائل الد ف الفرائض ‪ ،‬والرام ف الطلق ‪ ،‬ومسألة الساقط على جريح‬
‫مفوف برحى ‪ ،‬وسائر السائل الجتهادية الت ل نص فيها من كتاب ول سنة فأين الكلم فيها ؟‬
‫فيقال ف الواب ‪ :‬أولً أن قوله تعال ‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم" إن اعتبت فيها الزئيات من‬
‫السائل والنوازل فهو كما أوردت ‪ ،‬ولكن الراد كلياتا ‪ ،‬فلم يبق للدين قاعدة يتاج إليها ف‬
‫الضروريات والاجيات أو التكميليات إل وقد بينت غاية البيان ‪ ،‬نعم يبقى تنيل الزئيات على تلك‬
‫الكليات موكولً إل نظر الجتهد ‪ ،‬فإن قاعدة الجتهاد أيضا ثابتة ف الكتاب والسنة ‪ ،‬فل بد من‬
‫إعمالا ‪ .‬ول يسع الناس تركها ‪ ،‬وإذا ثبت ف الشريعة أشعرت بأن ث مالً للجتهاد ‪ ،‬وليوجد‬
‫ذلك إل فيما ل نص فيه ‪ .‬ولو كان الراد بالية الكمال بسب تصيل الزئيات بالفعل ‪ ،‬فالزئيات‬
‫ل ناية لا ‪ ،‬فل تنحصر برسوم ‪ ،‬وقد نص العلماء على هذا العن ‪ ،‬فإنا الراد الكمال بسب ما‬
‫يتاج إليه من القواعد الت يري عليها ما ل ناية له من النوازل ‪.‬‬

‫‪358‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ث نقول ثانيا ‪ :‬إن النظر ف كمالا بسب خصوص الزئيات يؤدي إل الشكال واللتباس ‪ ،‬وإل‬
‫فهو الذي أدى إل إيراد هذا السؤال ‪ ،‬إذ لو نظر السائل إل الالة الت وضعت عليها الشريعة ‪،‬وهي‬
‫حالة الكلية ل يورد سؤاله ‪ ،‬لنا موضوعة على البدية ‪ ،‬وإن وضعت الدنيا على الزوال والنهاية ‪.‬‬
‫وأما الزئية فموضوعة على النهاية الؤدية إل الصر ف التفصيل ‪ ،‬وإذ ذاك قد يتوهم أنا ل تكمل‬
‫فيكون خلفا لقوله تعال ‪" :‬اليوم أكملت لكم دينكم" وقوله تعال ‪" :‬ونزلنا عليك الكتاب تبيانا‬
‫لكل" الية ‪ ،‬ول شك أن كلم ال هو الصادق ‪ ،‬وما خالفه فهو الخالف ‪ .‬فظاهر إذ ذاك أن الية‬
‫على عمومها وإطلقها ‪ ،‬وأن النوازل الت ل عهد با ل تؤثر ف صحة هذا الكمال لنا إما متاج‬
‫إليها وإما غي متاج إليها ‪ ،‬فإن كانت متاجا إليها فهي مسائل الجتهاد الارية على الصول‬
‫الشرعية فأحكامها قد تقدمت ‪ ،‬ول يبق إل منظر الجتهد إل أي دليل يستند خاصة وإن كانت غي‬
‫متاج إليها ‪ ،‬فهي البدع الحدثات ‪ ،‬إذ لو كانت متاجا إليها لا سكت عنها ف الشرع ‪ ،‬لكنها‬
‫مسكوت عنها بالفرض ول دليل عليها فيه كما تقدم ‪ ،‬فليست بحتاج إليها ‪ .‬فعلى كل تقدير قد‬
‫كمل الدين والمد ل ‪.‬‬
‫ومن الدليل على أن هذا العن هو الذي فهمه الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬أنم ل يسمع عنهم قط‬
‫إيراد ذلك السؤال ‪ ،‬ول قال أحد منهم ‪ :‬ل ل ينص على حكم الد مع الخوة ؟ وعلى حكم من‬
‫قال لزوجته ‪ :‬أنت علي حرام ؟ واشباه ذلك ما ل يدوا فيه عن الشارع نصا ‪ ،‬بل قالوا فيها‬
‫وحكموا بالجتهاد ‪ ،‬واعتبوا بعان شرعية ترجع ف التحصيل إل الكتاب والسنة ‪ ،‬وإن ل يكن‬
‫بالنص فإنه بالعن ‪ .‬فقد ظهر إذا وجه كمال الدين على أت الوجوه ‪.‬‬
‫وننتقل منه إل معن آخر ‪ ،‬وهو أن ال سبحانه وتعال أنزل القرآن مبأ عن الختلف والتضاد ‪،‬‬
‫ليحصل فيه كمال التدبر والعتبار ‪ ،‬فقال سبحانه وتعال ‪" :‬أفل يتدبرون القرآن ولو كان من عند‬
‫غي ال لوجدوا فيه اختلفا كثيا " فدل معن الية على أنه بريء من الختلف ‪ ،‬فهو يصدق بعضه‬
‫بعضا ‪ ،‬ويعضد بعضه بعضا ‪ ،‬من جهة اللفظ ومن جهة العن ‪.‬‬
‫فأما جهة اللفظ فإن الفصاحة فيه متواترة مطردة بلف كلم الخلوق ‪.‬‬
‫فإنك تراه إل الختلف ما هو فيأت بالفصل من الكلم الزل الفصيح فل يكاد يتمه إل وقد عرض‬
‫له ف أثنائه ما نقص من منصب فصاحته ‪ ،‬وهكذا تد القصيدة الواحدة ‪ ،‬منها ما يكون على نسق‬
‫الفصاحة اللئقة ‪ ،‬ومنها ما ل يكون كذلك ‪.‬‬
‫وأما جهة العن ‪ ،‬فإن معان القرآن على كثرتا أو على تكرارها بسب مقتضيات الحوال على‬
‫حفظ وبلوغ غاية ف إيصالا إل غايتها من غي إخلل بشيء منها ‪ ،‬ول تضاد ول تعارض ‪ ،‬على‬
‫وجه ل سبيل إل البشر أن يدانوه ‪ ،‬ولذلك لا سعته أهل البلغة الول والفصاحة الصلية ـ وهم‬
‫العرب ـ ل يعارضوه ‪ ،‬ول يغيوا ف وجه إعجازه بشيء ما نفي ال تعال عنه ‪ ،‬وهم أحرص ما‬

‫‪359‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كانوا على العتراض فيه والغض من جانبه ‪ ،‬ث لا أسلموا وعاينوا معانيه وتفكروا ف غرائبه ‪ ،‬ل‬
‫يزدهم البحث إل بصية ف أنه ل اختلف فيه ول تعارض ‪ ،‬والذي نقل من ذلك يسي توقفوا فيه‬
‫توقف السترشد حت يرشدوا إل وجه الصواب ‪ ،‬أو توقف التثبت ف الطريق ‪.‬‬
‫وقد صح أن سهل بن حنيف قال يوم صفي وحكم الكمي ‪ :‬يا أيها الناس اتموا رأيكم ‪ ،‬فلقد‬
‫رأيتنا مع رسول ال صلى ال عليه وسلم يوم أب جندل ولو نستطيع أن نرد على رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم أمره لرددناه ‪ ،‬وإي ال ما وضعنا سيوفنا من على عواتقنا منذ أسلمنا لمر يفظعنا إل‬
‫أسهلن بنا أمر نعرفه الديث ‪.‬‬
‫فوجد الشاهد منه أمران ‪ :‬قوله اتموا الرأي فإن معارضة الظواهر ف غالب المر رأي غي مبن‬
‫على أصل يرجع إليه ‪ ،‬وقوله ف الديث ـ وهو النكتة ف الباب ـ ‪ :‬وال ما وضعنا سيوفنا إل‬
‫آخره ‪ ،‬فإن معناه ‪ :‬أن كل ما ورد عليهم ف شرع ال ما يصادم الرأي فإنه حق يتبي على التدريج‬
‫حت يظهر فساد ذلك الرأي ‪ ،‬وأنه كان شبه ًة عرضت وإشكالً ينبغي أن ل يلتفت إليه ‪ ،‬بل يتهم‬
‫أولً ويعتمد على ما جاء ف الشرع ‪ ،‬فإنه إن ل يتبي اليوم تبي غدا ‪ ،‬ولو فرض أنه ل يتبي أبدا فل‬
‫حرج ‪ ،‬فإنه متمسك بالعروة الوثقى ‪.‬‬
‫وف الصحيح "عن عمر رضي ال عنه قال ‪ :‬سعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان ف‬
‫حياة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فاستمعت لقراءته ‪ ،‬فإذا هو يقرأ على حروف كثية ل‬
‫يقرئنيها رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فكدت أساوره ف الصلة ‪ ،‬فصبت حت سلم ‪ ،‬فلببته‬
‫بردائه ‪ ،‬فقلت ‪ :‬من أقرأك هذه السورة الت سعتك تقرأ ؟ ‪ ...‬فقال ‪ :‬أقرأنيها رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ .‬فقلت ‪ :‬كذبت ‪ ،‬فإن رسول ال صلى ال عليه وسلم قد أقرأنيها على غي ما قرأت‬
‫فانطلقت به أقوده إل رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فقلت ‪ :‬إن سعت هذا يقرأ سورة الفرقان‬
‫على حروف ل تقرئنيها ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬أرسله ‪ .‬اقرأ يا هشام ‪ ،‬فقرأ عليه‬
‫القراءة الت سعته يقرأ ‪ ،‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ :‬كذلك أنزلت ـ ث قال ـ اقرأ يا‬
‫عمر ! القراءة الت أقرأن فقال ـ كذلك أنزلت ‪ ،‬إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ‪ ،‬فاقرؤوا ما‬
‫تيسر منه" ‪.‬‬
‫وهذه السألة إنا هي إشكال وقع لبعض الصحابة ف نقل الشرع بي لم جوابه النب صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬ول يكن ذلك دليلً على أن فيه اختلفا ‪ ،‬فإن الختلف بي الكلفي ف بعض معانيه أو‬
‫مسائله ل يستلزم أن يكون فيه نفسه اختلف ‪ ،‬فقد اختلفت المم ف النبوات ول يكن ذلك دليلً‬
‫على وقوع الختلف ف نفس النبوات ‪ .‬واختلفت ف مسائل كثية من علوم التوحيد ول يكن‬
‫اختلفهم دليلً على وقوع الختلف فيما اختلفوا فيه ‪ ،‬فكذلك ما نن فيه ‪.‬‬

‫‪360‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإذا ثبت هذا صح منه أن القرآن ف نفسه ل اختلف فيه ‪ ،‬ث نبن على هذا معن آخر ‪ ،‬وهو أنه لا‬
‫تبي تنهه عن الختلف ‪ ،‬صح أن يكون حكما بي جيع الختلفي ‪ ،‬لنه إنا يقرر معن هو الق ‪،‬‬
‫والق ل يتلف ف نفسه ‪ ،‬فكل اختلف صدر من مكلف فالقرآن هو الهيمن عليه ‪ ،‬قال ال تعال ‪:‬‬
‫"فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول إن كنتم تؤمنون بال واليوم الخر ذلك خي وأحسن‬
‫تأويل " فهذه الية وما أشبهها صرية ف الرد إل كتاب ال تعال وإل سنة نبيه ‪ ،‬لن السنة بيان‬
‫الكتاب ‪،‬وهو دليل على أن الق فيه واضح ‪ ،‬وأن البيان فيه شاف ‪ ،‬ل شيء بعده يقوم مقامه ‪،‬‬
‫وهكذا فعل الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬لنم كانوا إذا اختلفوا ف مسألة ردوها إل الكتاب والسنة ‪،‬‬
‫وقضاياهم شاهدة بذا العن ‪ ،‬ل يهلها من زوال الفقه ‪ ،‬فل فائدة ف جلبها إل هذا الوضع لشهرتا‬
‫‪ ،‬فهو إذا ما كان عليه الصحابة ‪.‬‬

‫فإذا تقرر هذا فعلى الناظر ف الشريعة بسب هذه القدمة أمران أحدها ‪ :‬أن ينظر إليها بعي‬
‫الكمال‬
‫فإذا تقرر هذا فعلى الناظر ف الشريعة بسب هذه القدمة أمران ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ينظر إليها بعي الكمال ل بعي النقصان ‪ ،‬ويعتبها اعتبارا كليا ف العبادات والعادات ‪،‬‬
‫ول يرج عنها البتة ‪ ،‬لن الروج عنها تيه وضلل ورمي ف عماية ‪،‬كيف وقد ثبت كمالا‬
‫وتامها ؟ فالزائد والنقص ف جهتها هو البتدع بإطلق والنحرف عن الادة إل بنيات الطرق ‪.‬‬

‫و الثان أن يوقن أنه ل تضاد بي آيات القرآن‬


‫والثان ‪ :‬أن يوقن أنه ل تضاد بي آيات القرآن ول بي الخبار النبوية ول بي أحدها مع الخر ‪ ،‬بل‬
‫الميع جار على مهيع واحد ‪ ،‬ومنتظم إل معن واحد ‪ ،‬فإذا أداه بادىء الرأي إل ظاهر اختلف‬
‫فواجب عليه أن يعتقد انتفاء الختلف ‪ ،‬لن ال قد شهد له أن ل إختلف فيه ‪ .‬فليقف وقوف‬
‫الضطر السائل عن وجه المع ‪ ،‬أو السلم من غي اعتراق ‪ ،‬فإن كان الوضع ما يتعلق به حكم‬
‫عملي فليلتمس الخرج حت يقف على الق اليقي ‪ ،‬أو ليبق باحثا إل الوت ول عليه من ذلك ‪،‬‬
‫فإذا اتضح له الغزى وتبينت له الواضحة ‪ .‬فل بد له من أن يعلها حاكمة ف كل ما يعرض له من‬
‫النظر فيها ‪ .‬ويضعها نصب عينيه ف كل مطلب دين ‪ ،‬كما فعل من تقدمنا من أثن ال عليهم ‪.‬‬
‫فأما المر الول ‪ :‬فهو الذي أغفله البتدعون فدخل عليهم بسبب ذلك الستدراك على الشرع ‪،‬‬
‫وإليه مال كل من كان يكذب على النب صلى ال عليه وسلم فيقال له ذلك ويذر ما ف الكذب‬
‫عليه من الوعيد ‪ .‬فيقول ‪ :‬ل أكذب عليه وإنا كذبت له ‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وحكي عن ممد بن سعيد العروف بالردن أنه قال ‪ :‬إذا كان الكلم حسنا ل أر بأسا أن أجعل له‬
‫إسنادا ‪ .‬فلذلك كان يدث بالوضوعات ‪ ،‬وقد قتل ف الزندقة وصلب ‪.‬‬
‫وقد تقدم لذا القسم أمثلة كثية ‪.‬‬
‫وأما المر الثان ‪ :‬فإن قوما أغفلوه أيضا ول يعنوا النظر حت اختلف عليهم الفهم ف القرآن‬
‫والسنة ‪ ،‬فأحالوا بالختلف عليها تسينا للظن بالنظر الول ‪ ،‬وهذا هو الذي عاب رسول ال صلى‬
‫ال عليه وسلم من حال الوارج حيث قال ‪ " :‬يقرؤون القرآن ل ياوز حناجرهم" فوصفهم بعدم‬
‫الفهم للقرآن ‪ ،‬وعند ذلك خرجوا على أهل السلم ‪ ،‬إذ قالوا ‪ :‬ل حكم إل ل ‪ ،‬وقد حكم الرجال‬
‫ف دين ال ‪ ،‬حت بي لم حب القرآن عبد ال بن عباس رضي ال عنهما معن قوله تعال ‪" :‬إن الكم‬
‫إل ل" على وجه أذعن بسببه منهم ألفان ‪ ،‬أو من رجع منهم إل الق ‪ ،‬وتادى الباقون على ما‬
‫كانوا عليه ‪ ،‬اعتقادا ـ وال أعلم ـ على قول من قال منهم ‪ :‬ل تناظروه ول تاصموه فإنه من‬
‫الذين قال ال فيهم ‪" :‬بل هم قوم خصمون" ‪.‬‬
‫فتأملوا رحكم ال كيف كان فهمهم ف القرآن ‪ .‬ث ل يزل هذا الشكال يعتري أقواما حت اختلفت‬
‫عليهم اليات والحاديث ‪ ،‬وتدافعت على أفهامهم فجعجعوا به قبل إمعان النظر ‪.‬‬

‫عشرة أمثلة امن اختلفت عليهم اليات والحاديث فظنوا أن ف الشريعة تناقضا أحدها تناقض‬
‫آية فأقبل بعضهم على بعض مع آية فإذا نفخ ف الصور‬
‫ولنذكر من ذلك عشرة أمثلة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬قول من قال ‪ :‬إن قوله تعال ‪" :‬وأقبل بعضهم على بعض يتساءلون" يتناقض مع قوله تعال‬
‫‪" :‬فإذا نفخ ف الصور فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون" ‪.‬‬

‫والثان تناقض آية فيومئذ ل يسأل عن ذنبه إنس ول جان مع آية وليسئلن يومئذ عما كانوا‬
‫والثان ‪ :‬قول من قال ف قوله تعال ‪" :‬فيومئذ ل يسأل عن ذنبه إنس ول جان " مضاد لقوله ‪:‬‬
‫"وليسألن يوم القيامة عما كانوا يفترون" وقوله تعال ‪" :‬ولتسألن عما كنتم تعملون" ‪.‬‬

‫والثالث تناقض اليات ف مدة خلق السموات والرض‬


‫والثالث ‪ :‬قول من قال ف قوله تعال ‪ " :‬قل أإنكم لتكفرون بالذي خلق الرض ف يومي وتعلون‬
‫له أندادا ذلك رب العالي " إل قوله تعال ‪" :‬ث استوى إل السماء وهي دخان فقال لا وللرض‬
‫ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعي * فقضاهن سبع ساوات ف يومي " إن هذا صريح ف أن‬
‫الرض ملوقة قبل السماء ‪ ،‬وف الية الخرى ‪" :‬أأنتم أشد خلقا أم السماء بناها * رفع سكها‬

‫‪362‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فسواها * وأغطش ليلها وأخرج ضحاها * والرض بعد ذلك دحاها " فصرح بأن الرض ملوقة بعد‬
‫السماء ‪.‬‬
‫ومن هذه السئلة ما أورده نافع بن الزرق ـ أوغيه على ابن عباس رضي ال عنهما ‪ ،‬فخرج‬
‫البخاري ف العلقات عن سعيد بن جبي قال ‪ :‬قال رجل لبن عباس ‪ :‬إن أجد ف القرآن أشياء‬
‫تتلف علي وهي قوله تعال ‪" :‬فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون" ‪" ،‬وأقبل بعضهم على بعض‬
‫يتساءلون" ‪" ،‬ول يكتمون ال حديثا " ‪" ،‬وال ربنا ما كنا مشركي" فقد كتموا ف هذه الية ‪":‬أم‬
‫السماء بناها * رفع سكها فسواها" إل قوله تعال ‪":‬والرض بعد ذلك دحاها" فذكر خلق السماء‬
‫قبل الرض ث قال ‪ " :‬أإنكم لتكفرون بالذي خلق الرض ف يومي " إل قوله ‪" :‬ث استوى إل‬
‫السماء وهي دخان " إل قوله "طائعي" فذكر ف هذه خلق الرض قبل خلق السماء ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫"وكان ال غفورا رحيما " " عزيزا حكيما " "سيعا بصيا" فكأنه كان ث مضى فقال ـ يعن ابن‬
‫عباس ‪" :‬فل أنساب بينهم يومئذ ول يتساءلون " ف النفخة الول" ونفخ ف الصور فصعق من ف‬
‫السماوات ومن ف الرض إل من شاء ال" فل أنساب بينهم عند ذلك ول يتساءلون ‪ ،‬ث ف النفخة‬
‫الخرى أقبل بعضهم على بعض يتساءلون ‪.‬‬
‫وأما قوله ‪" :‬ما كنا مشركي" "ول يكتمون ال حديثا " فإن ال عز وجل يغفر لهل الخلص‬
‫ذنوبم ‪ ،‬وقال الشركون تعالوا نقول ‪ :‬ل نكن مشركي ‪ .‬فختم على أفواههم فتنطق أيديهم فعند‬
‫ذلك عرفوا أن ال ل يكتم حديثا ‪ ،‬وعنده ‪" ،‬يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بم الرض‬
‫"‪.‬‬
‫وقوله عز وجل ‪" :‬خلق الرض ف يومي" "ث استوى إل السماء فسواهن سبع ساوات" ف يومي‬
‫آخرين ث دحا الرض ‪ ،‬ودحوها أن أخرج منها الاء والرعى ‪ .‬وخلق البال والكام وما بينهما ف‬
‫يومي آخرين فذلك قوله ‪ :‬دحاها وقوله تعال ‪" :‬خلق الرض ف يومي" فخلقت الرض وما فيها‬
‫من شيء ف أربعة أيام ‪ ،‬وخلقت السموات ف يومي ‪" .‬وكان ال غفورا رحيما " سى نفسه‬
‫بذلك ‪ ،‬وذلك ( قوله ) أي ل يزل كذلك ‪ ،‬فإن ال عز وجل ل يرد شيئا إل أصاب به الذي أراد ‪،‬‬
‫فل يتلف عليك القرآن ‪،‬فإن كل من عند ال ‪.‬‬

‫و الرابع مالفة آية وإذ أخذ ربك من بن آدم الديث أن ال خلق آدم‬
‫والرابع ‪ :‬قول من قال ‪ :‬إن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪" :‬إن ال لا خلق آدم مسح ظهره‬
‫بيمينه فأخرج منه ذريته إل يوم القيامة "وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى"" الديث‬
‫كما وقع مالف لقول ال تعال ‪" :‬وإذ أخذ ربك من بن آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على‬
‫أنفسهم ألست بربكم قالوا بلى" ! فالديث أنه أخذهم من ظهر آدم ‪ ،‬والكتاب يب أنه أخذ من‬

‫‪363‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ظهور آدم ‪ ،‬وهذا إذا تؤمل ل خلف فيع لن هيمكن المع بينهما ‪ ،‬بأن يرجوا من صلب آدم‬
‫عليه الصلة والسلم دفعة واحدة على وجه لو خرجوا على الترتيب كما أخرجوا إل الدنيا ‪ ،‬ول‬
‫مال ف هذا بأن يتفطر ف تلك الخذة البناء عن البناء من غي ترتيب زمان ‪ ،‬وتكون النسبتان معا‬
‫صحيحتي ف القيقة ل على الجاز ‪.‬‬

‫مالفة القضاء لكم القرآن باللد‬


‫والامس ‪ :‬قول من قال فيما جاء ف الديث ‪" :‬أن رج ً‬
‫ل قال ‪ :‬يا رسول ال نشدتك ال ! إل ما‬
‫قضيت بيننا بكتاب ال ‪ ،‬فقال خصمه ـ وكان أفقه منه ـ ‪ :‬صدق اقض بيننا بكتاب ال ‪ ،‬وائذن‬
‫ل ف أن أتكلم "‪ ،‬ث أتى بالديث ‪ .‬فقال رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪" :‬والذي نفسي بيده‬
‫لقضي بينكما بكتاب ال ‪ ،‬أما الوليدة والغنم فرد عليك ‪ ،‬وعلى ابنك هذا جلد مائة وتغريب عام ‪،‬‬
‫وعلى امرأة هذا الرجم" إل آخر الديث ‪ .‬هو مالف لكتاب ال ‪ ،‬لنه قد قال ‪" :‬لقضي بينكما‬
‫بكتاب ال" حسبما سأله السائل ‪ ،‬ث قضى بالرجم والتغريب ‪ ،‬وليس لما ذكر ف كتاب ال ‪.‬‬
‫الواب ‪ :‬إن الذي أوجب الشكال ف السألة اللفظ الشترك ف كتاب ال فكما يطلق على القرآن‬
‫يطلق على ما كتب ال تعال عنده ما هو حكمه وفرضه على العباد ‪ ،‬كان مسطورا ف القرآن أو‬
‫ل ‪ ،‬كما قال تعال ‪" :‬كتاب ال عليكم" أي حكم ال فرضه ‪ ،‬وكل ما جاء ف القرآن من قوله ‪:‬‬
‫"كتاب ال عليكم" فمعناه فرضه وحكم به ‪ ،‬ول يلزم أن يوجد هذا الكم ف القرآن ‪.‬‬

‫و السادس لزوم تزئة حد الرجم بق الماء‬


‫والسادس ‪ :‬قول من زعم أن قوله تعال ف الماء "أحصن فإن أتي بفاحشة فعليهن نصف ما على‬
‫الحصنات من" ل يعقل مع ما جاء ف الديث أن النب صلى ال عليه وسلم رجم ورجت الئمة‬
‫بعده ‪ ،‬لنه يقتضي أن الرجم ينتصف وهذا غي معقول ‪ ،‬فكيف يكون نصفه على الماء ؟ ذهابا‬
‫منهم إل أن الحصنات هن ذوات الزواج ‪ ،‬وليس كذلك ‪ ،‬بل الحصنات هنا الراد بن الرائر ‪،‬‬
‫بدليل قوله أول الية ‪ " :‬ومن ل يستطع منكم طول أن ينكح الحصنات الؤمنات فمن ما ملكت‬
‫أيانكم من فتياتكم الؤمنات " وليس الراد هنا إل الرائر ‪ ،‬لن ذوات الزواج ل تنكح ‪.‬‬

‫منع نكاح الرأة على عمتها وخالتها وكون ما يرم بالرضاع يرم بالنسب مع عدم ذكره ف القرآن‬
‫ف مرمات النكاح‬
‫والسابع ‪ :‬قولم ‪ :‬إن الديث ‪:‬‬

‫‪364‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫"جاء بأن الرأة ل تنكح على عمتها ‪ ،‬ول على خالتها ‪ ،‬وأنه يرم من الرضاع ما يرم من النسب"‬
‫وال تعال لا ذكر الحرمات ل يذكر من الرضاع إل الم والخت ‪ ،‬ومن المع إل المع بي‬
‫الختي ‪ ،‬وقال بعد ذلك ‪" :‬وأحل لكم ما وراء ذلكم" فاقتضى أن الرأة تنكح على عمتها وعلى‬
‫خالتها ‪ ،‬وإن كان رضاع سوى الم والخت حللً ‪.‬‬
‫وهذه الشياء من باب تصيص العموم ل تعارض فيه على حال ‪.‬‬

‫و الثامن تناقض حديث صلة الرحم تزيد من العمر مع آية فإذا جاء أجلهم ل يستأخرون ساعة‬
‫ول يستقدمون‬
‫والثامن ‪ :‬قول من قال ‪ :‬إن قوله عليه الصلة والسلم ‪:‬‬
‫"غسل المعة واجب على كل متلم" مالف ‪.‬‬
‫لقوله ‪" :‬من توضأ يوم المعة فبها نعمت ومن اغتسل فالغسل أفضل " ‪.‬‬
‫والراد بالوجوب هنا التأكيد خاصة ‪ ،‬بيث ل يكون تركا للفرض ‪ ،‬وبه يتفق معن الديثي فل‬
‫اختلف ‪.‬‬
‫والتاسع ‪ :‬قولم جاء ف الديث ‪:‬‬
‫"صلة الرحم تزيد العمر" وال تعال يقول ‪" :‬إذا جاء أجلهم فل يستأخرون ساعةً ول يستقدمون"‬
‫فكيف تزيد صلة الرحم ف أجل ل يؤخر ول يقدم البتة ‪.‬‬
‫وأجيب عنه بأجوبة ‪ ( .‬منها ) ‪ :‬أن يكون ف علم ال أن هذا الرجل إن وصل رحه عاش مائة سنة ‪،‬‬
‫ل‪.‬‬ ‫وإل عاش ثاني سنة ‪ ،‬مع أن ف علمه أنه يفعل بل بد ‪ ،‬أو أنه ل يفعل أص ً‬
‫وعلى كل الوجهي إذا جاء أجله ل يستأخر ساعة ول يستقدم ‪ .‬قاله ابن قتيبة وتبعه عليه القراف ‪.‬‬

‫و العاشر تدافع حديث توضئته صلى ال عليه وسلم وهو جنب لجل النوم وحديث نومه وهو‬
‫جنب‬
‫والعاشر ‪ :‬قال ف الديث ‪:‬‬
‫"إنه عليه الصلة والسلم كان إذا أراد أن ينام وهو جنب توضأ وضوءه للصلة "‪ ،‬ث فيه ‪:‬‬
‫"كان عليه الصلة والسلم ينام وهو جنب من غي أن يس ماءً" ‪ ،‬وهذا تدافع ‪ .‬والديثان معا‬
‫لعائشة رضي ال عنها ‪.‬‬
‫والواب سهل ‪ .‬فالديثان يدلن على أن المرين موسع فيهما ‪ ،‬لنه إذا فعل أحد المرين وأكثر‬
‫منه ‪ ،‬وفعل الخر أيضا وأكثر منه على ما تقتضيه كان يفعل حصل منهما أنه كان يفعل ويترك ‪،‬‬
‫وهذا شأن الستحب فل تعارض بينهما ‪.‬‬

‫‪365‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫فهذه عشرة أمثلة تبي لك مواقع الشكال ‪ ،‬وإن رتبتها مع ثلج اليقي ‪ ،‬فإن الذي عليه كل موقن‬
‫بالشريعة أنه ل تناقض فيها ول اختلف ‪ .‬فمن توهم ذلك فيها فهو ل ينعم النظر ول أعطى وحي‬
‫ال حقه ‪ .‬ولذلك قال ال تعال ‪" :‬أفل يتدبرون القرآن" ؟ فحضهم على التدبر أولً ‪ ،‬ث أعقبه ‪:‬‬
‫"ولو كان من عند غي ال لوجدوا فيه اختلفا كثيا" فبي أنه ل اختلف فيه وأن التدبر يعي على‬
‫تصديق ما أخب به ‪.‬‬

‫فصل النوع الثالث أي من مناشئ البتداع وهو تسي الظن بالعقل أن ال جعل للعقول ف‬
‫إدراكها حدا‬
‫النوع الثالث ‪:‬‬
‫ل إل الدراك ف كل‬ ‫أن ال جعل للعقول ف إداركها حدا تنتهي إليه ل تتعداه ‪ ،‬ول يعل لا سبي ً‬
‫مطلوب ‪ .‬ولو كانت كذلك لستوت مع الباري تعال ف إدراك جيع ما كان وما يكون وما ل‬
‫يكون ‪،‬إذ لو كان كيف كان يكون ؟ فمعلومات ال ل تتناهى ‪ .‬ومعلومات العبد متناهية ‪ .‬والتناهي‬
‫ل يساوي ما ل يتناهى ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬وصفاتا وأحوالا وأفعالا وأحكامها جلةً‬ ‫وقد دخل ف هذه الكلية ذوات الشياء جل ًة وتفصي ً‬
‫ل ‪ ،‬فالشيء الواحد من جلة الشياء يعلمه الباري تعال على التمام والكمال ‪ ،‬بيث ل يعزب‬ ‫وتفصي ً‬
‫عن علمه مثقال ذرة ل ف ذاته ول ف صفاته ول ف أحواله ول ف أحكامه ‪ ،‬بلف العبد فإن علمه‬
‫بذلك الشيء قاصر ناقص ‪ ،‬سواء كان ف تعقل ذاته أو صفاته أو أحواله أو أحكامه ‪ ،‬وهو ف‬
‫النسان أمر مشاهد مسوس ل يرتاب فيه عاقل ترجه التجربة إذا اعتبها النسان ف نفسه ‪.‬‬

‫انقسام العلومات إل ضروري ونظري وواسطة بينهما ومكان الشرع منها ووجه توقفه على‬
‫الخبار‬
‫وأيضا ‪ :‬فأنت ترى العلومات عند العلماء تنقسم إل ثلثة أقسام ‪:‬‬
‫قسم ضروري ل يكن التشكيك فيه ‪ ،‬كعلم النسان بوجوده ‪ ،‬وعلمه بأن الثني أكثر من الواحد ‪،‬‬
‫وأن الضدين ل يتمعان ‪.‬‬
‫وقسم ل يعلمه البتة إل أن يعلم به أو يعل له طريق إل العلم به ‪ ،‬وذلك كعلم الغيبات عنه ‪ ،‬كانت‬
‫من قبيل ما يعتاد علم العبد به أو ل ‪ ،‬كعلمه با تت رجليه ‪ ،‬إل أن مغيبه عنه تت الرض بقدار‬
‫شب ‪ .‬وعلمه بالبلد القاصي عنه الذي ل يتقدم له به عهد ‪ .‬فضلً عم علمه با ف السموات وما ف‬
‫البحار وما ف النة أو النار على التفصيل ‪ .‬فعلمه لا ل يعل له عليه دليل غي مكن ‪.‬‬

‫‪366‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقسم نظري يكن العلم به ويكن أن ل يعلم به ـ وهي النظريات ـ وذلك القسم النظري هو‬
‫المكنات الت تعلم بواسطة ل بأنفسها ‪ .‬إل أن يعلم با إخبارا ‪.‬‬
‫وقد زعم أهل العقول أن النظريات ل يكن التفاق فيها عادة لختلف القرائح والنظار ‪ .‬فإذا وقع‬
‫الختلف فيها ل يكن بد من مب بقيقتها ف أنفسها إن احتيج إليها ‪ ،‬لته لو ل تفتقر إل الخبار‬
‫ل يصح العلم با لن العلومات ل تتلف باختلف النظار لتا حقائق ف أنفسها ‪ .‬فل يكن أن‬
‫يكون كل متهد فيها مصيبا ـ كما هو معلوم ف الصول ـ وإنا الصيب فيها واحد ‪ .‬وهو ل‬
‫يتعي إل بالدليل ‪.‬‬
‫وقد تعارضت الدلة ف نظر الناظر ‪ .‬فنحن نقطع بأن أحد الدليلي دليل حقيقة ‪ .‬والخر شبهة ول‬
‫يعي ‪ .‬فل بد من إخبار بالتعيي ‪.‬‬
‫ول يقال ‪ :‬إن هذا قول المامية ‪ :‬لنا نقول ‪ :‬بل هو يلزم الميع ‪ ،‬فإن القول بالعصوم غي النب‬
‫صلى ال عليه وسلم يفتقر إل دليل ‪ ،‬لنه ل ينص عليه الشارع نصا يقطع العذر ‪.‬‬
‫فالقول بإثباته نظري ‪ ،‬فهو ما وقع اللف فيه ‪ .‬فكيف يرج عن اللف بأمر فيه خلف ؟ هذا ل‬
‫يكن ‪.‬‬
‫فإذا ثبت هذا رجعنا إل مسألتنا فنقول ‪ :‬الحكام الشرعية من حيث تقع على أفعال الكلفي من‬
‫قبيل الضروريات ف الملة ‪ .‬وإن اختلفوا ف بعض التفاصيل فلتماسها ( ؟ ) ‪.‬‬
‫ونرجع إل ما بقي من القسام فإنم قد أقروا ف الملة ـ أعن القائلي بالتشريع العقلي ـ أن منه‬
‫نظريا ‪ ،‬ومنه ما ل يعلم بضرورة ول نظر ‪ ،‬وها القسمان الباقيان ما ل يعلم له أصل إل من جهة‬
‫الخبار ‪ ،‬فل بد فيه من الخبار لن العقل غي مستقل فيه ‪ ،‬وهذا إذا راعينا قولم وساعدناهم عليه ‪،‬‬
‫ل ‪ ،‬فضلً عن أن يكون له‬ ‫فإنا إن ل نلتزم ذلك على مذاهب أهل السنة فعندنا أن ل نكم العقل أص ً‬
‫قسم ل حكم له ‪ ،‬وعندهم أنه ل بد من حكم ‪ ،‬فلجل ذلك نقول ‪ :‬ل بد من الفتقار إل الب ‪،‬‬
‫وحينئذ يكون العقل غي مستقل بالتفريع ‪ .‬فإن قالوا ‪ :‬بل هو مستقل ‪ ،‬لن ما ل يقض فيه فإما أن‬
‫يقولوا فيه بالوقف ـ كما هو مذهب بعضهم ـ أو بأنه على الظر أو الباحة ـ كما ذهب إليه‬
‫آخرون ‪.‬‬
‫فإن قالوا ‪ :‬بالثان فهو مستقل ‪ ،‬وإن قالوا بالول فكذلك أيضا ‪ ،‬لنه قد ثبت استقلله بالبعض‬
‫فافتقاره ف بعض الشياء ل يدل على افتقاره مطلقا ‪ .‬قلنا ‪ :‬بل هو مفتقر على الطلق ‪ ،‬لن‬
‫القائلي بالوقف اعترفوا بعدم استقلله ف البعض ‪ ،‬وإذا ثبت الفتقار ف صورة ثبت مطلقا إذ وقف‬
‫فيه العقل قد ثبت فيه ذلك ‪ ،‬وما ل يقف فيه فإنه نظري ‪ :‬فيجع إل ما تقدم ف النظر ‪ ،‬وقد مر أنه‬
‫ل بد من حكم ول يكن إل من جهة الخبار ‪.‬‬

‫‪367‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وأما القائلون بعدم الوقف فراجعة أقوالم أيضا إلية أن السألة نظرية فل بد من الخبار ‪ ،‬وذلك معن‬
‫كون العقل ل يستقل بإدراك الحكام حت يأت الصدق للعقل أو الكذب له ‪.‬‬
‫فإن قالوا ‪ :‬فقد ثبت قسم ضروري فيثبت الستقلل ‪.‬قلنا ‪ :‬إن ساعدناكم على ذلك فل يضرنا ف‬
‫دعوى الفتقار ‪ ،‬لن الخبار قد تأت با يدركه النسان بعقله تنبيها لغافل أو إرشادا لقاصر ‪ ،‬أو‬
‫إيقاظا لغمور بالعوائد يغفل عن كونه ضروريا ‪ ،‬فهو إذا متاج إليه ‪ ،‬ول بد للعقل من التنبيه من‬
‫خارج ‪ .‬وهي فائدة بعث الرسل ‪ ،‬فإنكم تقولون ‪ :‬إن حسن الصدق النافع واليان ‪ ،‬وقبح الكذب‬
‫أيضا والكفران ‪ ،‬معلوم ضرورة ‪ ،‬وقد جاء الشرع بدح هذا وذم ذلك ‪ .‬وأمر بذا ونى عن ذلك ‪.‬‬
‫فلو كان العقل غي مفتقر إل التنبيه لزم الحال وهو الخبار با ل فا ئدة فيه ‪ ،‬لكنه أتى بذلك فدلنا‬
‫على أنه نبه على أمر يفتقر العقل إل التنبيه عليه ‪ .‬هذا وجه ‪.‬‬

‫ووجه آخر ‪:‬هو أن العقل لا ثبت أنه قاصر‬


‫ووجه آخر ‪ :‬وهو أن العقل لا ثبت أنه قاصر الدراك ف علمه ‪ ،‬فما ادعى علمه ل يرج عن تلك‬
‫الحكام الشرعية الت زعم أنه أدركها ‪ ،‬لمكان أن يدركها من وجه دون وجه ‪ ،‬وعلى حال دون‬
‫حال ‪ ،‬والبهان على ذلك أحوال أهل الفترات ‪ ،‬فإنم وضعوا أحكاما على العباد يقتضى‬
‫ل منتظما وقاعدة مطردة على الشرع بعد ما جاء ‪ ،‬بل استحسنوا أمورا‬ ‫السياسات ل تد فيها أص ً‬
‫تد العقول بعد تنويرهابالشعر تنكرها ‪ ،‬وترميها بالهل والضلل والبهتان والمق ‪ ،‬مع العتراف‬
‫بأنم أدركوا بعقولم أشياء قد وافقت وجاء الشرع بإقرارها وتصحيحها ‪ ،‬ومع أنم كانوا أهل‬
‫عقول باهرة وأنظار صافية وتدبيات لدنياهم غامضة ‪ ،‬لكنها بالنسبة إل ما يصيبوا فيه قليلة فلجل‬
‫هذا كله وقع العذار والنذار ‪ ،‬وبعث ال النبيي مبشرين ومنذرين ‪ ،‬لئل يكون للناس على ال حجة‬
‫بعد الرسل ‪ ،‬ول الجة البالغة ‪ ،‬والنعمة السابغة ‪.‬‬
‫فالنسان وإن زعم ف المر أنه أدركه وقتله علما ـ ل يأت عليه الزمان إل وقد عقل فيه ما ل يكن‬
‫عقل ‪ ،‬وأدرك من علمه ما ل يكن أدرك قبل ذلك ‪ ،‬كل أحد يشاهد ذلك من نفسه عيانا ‪ ،‬ول‬
‫يتص ذلك عنده بعلوم دون معلوم ‪ ،‬ول بذات دون ذات ول بصفة دون صفة ‪ ،‬ول فعل دون‬
‫حكم فكيف يصح دعوى الستقلل ف الحكام الشرعية ‪ ،‬وهي نوع من أنواع ما يتعلق به علم‬
‫العبد ؟ ل سبيل له إل دعوى الستقلل البتة حت يستظهر ف مسألته بالشرع ـ إن كانت شرعية‬
‫ـ لن أوصاف الشارع ل تتلف فيها البتة ‪ ،‬ول قصور ول نقص ‪ ،‬بل مبادئها موضوعة على وفق‬
‫الغايات ‪ ،‬وهي من الكمة ‪.‬‬

‫ووجه ثالث إنقسام العلم إل البديهي والضروري وغيه‬

‫‪368‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ووجه ثالث ‪ :‬وهو أن ما ندعي علمه ف الياة ينقسم ـ كما تقدم ـ إل البديهي الضروري وغيه‬
‫إل من طريق ضروري إما بواسطة أو بغي واسطة ‪ ،‬إذ قد اعترف الميع أن العلوم الكتسبة ل بد ف‬
‫تصيلها من توسيط مقدمتي معترف بما ‪ ،‬فإن كانتا ضروريتي فذاك ‪ ،‬وإن كانت مكتسبتي فل‬
‫بد ف اكتساب كل واحدة منهما من مقدمتي ‪ ،‬وينظر فيهما كما تقدم ‪ ،‬وكذلك إن كانت واحدة‬
‫ضرورية وأخرى مكتسبة فل بد للمكتسبة من مقدمتي ‪ ،‬فإن انتهينا إل ضروريتي فهو الطلوب ‪،‬‬
‫وإل لزم التسلسل أو الدور ‪ ،‬وكلها مال ‪ ،‬فإذا ل يكن أن نعرف غي الضروري إل بالضروري ‪.‬‬
‫وحاصل المر أنه ل بد من معرفتها بقدمتي حصلت لنا كل واحدة منهما ما عقلناه وعلمناه من‬
‫مشاهد باطنة ‪ ،‬كالل واللذة أو بدعي للعقل كعلمنا بوجودنا وبأن الثني أكثر من الواحد ‪ ،‬وبأن‬
‫الضدين ل يكن اجتماعهما وما أشبه ذلك ما هو لنا معتاد ف هذه الدار ‪ ،‬فإنا ل يتقدم لنا علم إل‬
‫با هو معتاد ف هذا الدار ‪ ،‬وأما ما ليس بعتاد فقبل النبوات ل يتقدم لنا به معرفة ‪ ،‬فلو بقينا على‬
‫ذلك ل نل ما ل نعرف إل على ما عرفنا ‪ ،‬وأنكرنا من ادعى جواز قلب الشجر حيوانا واليوان‬
‫حجرا ‪ ،‬وما أشبه ذلك ‪ ،‬لن الذي نعرفه من العتادات التقدمة خلف هذه الدعوى ‪.‬‬

‫بث خوارق العادات وإنكار الصرين على العادات لا‬


‫فلما جاءت النبوات بوارق العادات أنكرها من أصر على المور العادية واعتقادها سحرا أو غي‬
‫ذلك ‪ ،‬كقلب العصا ثعبانا ‪ ،‬وفرق البحر ‪ ،‬وإحياء الوتى ‪ ،‬وإبراء الكمة والبرص ‪ ،‬ونبع الاء من‬
‫بي أصابع اليد ‪ ،‬وتكليم الجر والشجر ‪ ،‬وانشقاق القمر ‪ ،‬إل غي ذلك ما تبي به أن تلك العوائد‬
‫اللزمة ف العادات ليست بعقلية بيث ل يكن تلفها ‪ ،‬بل يكن أن تتخلف ‪ ،‬كما يوز على كل‬
‫ملوق أن يصي من الوجود إل العدم ‪ ،‬كما خرج من العدم إل الوجود ‪.‬‬
‫فمبادىء العادات إذا يكن عقلً تلفها ‪ .‬إذ لو كان عدم التخلف لا عقليا ل يكن أن تتخلف ل‬
‫لنب ول لغيه ‪ ،‬ولذلك ل يدع أحد من النبياء عليهم الصلة والسلم المع بي النقيضي ‪ ،‬ول‬
‫تدى أحد بكون الثني أكثر من الواحد ‪ ،‬مع أن الميع فعل ال تعال ‪ .‬وهو متفق عليه بي أهل‬
‫السلم ‪ .‬وإذا أمكن ف العصا والبحر والكمة والبرص والصابع والشجر وغي ذلك ‪ ،‬أمكن ف‬
‫جيع المكنات ‪ ،‬لن ما وجب للشيء وجب لثله ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فقد جاءنا الشرع بأوصاف من أهل النة وأهل النار خارجة عن العتاد الذي عندنا ‪ ،‬فإن‬
‫كون النسان ف النة يأكل ويشرب ث ل يغوط ول يبول غي معتاد ‪ ،‬وكون عرقه كرائحة السك‬
‫غي معتاد ‪ ،‬وكون الزواج مطهرة من اليض مع كونن ف حالة الصبا وسن من ييض غي معتاد ‪،‬‬
‫وكون النسان فيها ل ينام ول يصيبه جوع ول عطش وإن فرض ل يأكل وليشرب أبد الدهر غي‬
‫معتاد ‪ ،‬وكون الثمر فيها إذا قطف أخلف ف الال ويتدان إل يد القاطف إذا اشتهاه غي معتاد ‪،‬‬

‫‪369‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وكون اللب والمر والعسل فيها أنارا من غي حلب ول عصر ول نل ‪ ،‬وكون المر ل تسكر‬
‫غي معتاد ‪ ،‬وكون ذلك كله بيث لو استعمله النسان دائما ل يتلىء ول يصيبه كظة ول تمة ول‬
‫يرج من جسده ل من أذنه ول أنفه ول ارفاغه ول سائر جسده أوساخ ول أقذار غي معتاد ‪،‬‬
‫وكون أحد من أهل النة ل يهرم ول يشيخ ول يوت ول يرض غي معتاد ‪.‬‬
‫وكذلك إذا نظرت أهل النار ـ عياذا بال ـ وجدت من ذلك كثيا ‪ ،‬ككون النار ل تأت عليه‬
‫حت يوت ‪ ،‬كما قال تعال ‪ " :‬ل يوت فيها ول ييا " وسائر أنواع الحوال الت هم عليها ‪ ،‬كلها‬
‫خارق للعادة ‪.‬‬
‫فهذان نوعان شاهدان لتلك العوائد وأشباهها بأنا ليست بعقلية ‪ ،‬وإنا هي وضعية يكن تلفها ‪.‬‬
‫وإنا ل نتج بالكرامات لن أكثر العتزلة ينكرونا رأسا وقد أقر با بعضهم ‪ .‬وإن ملنا إل التعريف‬
‫فلو اعتب الناظر ف هذا العال لوجد لذلك نظائر جارية على غي معتاد ‪.‬‬

‫مناظرة شعيب بن أب سعيد لراهب ف الشام‬


‫واسع ف ذلك أثرا غريبا حكاه ابن وهب من طريق إبراهيم بن نشيط ‪:‬‬
‫قال ‪ :‬سعت شعيب بن أب سعيد يدث ‪ :‬أن راهبا كان بالشام من علمائهم وكان ينل مرة ف‬
‫السنة فتجتمع إليه الرهبان ليعلمهم ما أشكل عليهم من دينهم فأتاه خالد بن يزيد بن معاوية فيمن‬
‫جاءه ‪ .‬فقال له الراهب ‪ :‬أمن علمائهم أنت ؟ قال خالد ‪ :‬إن فيهم لن هو أعلم من ‪ .‬قال الراهب ‪:‬‬
‫أليس تقولون ‪ :‬إنكم تأكلون ف النة وتشربون ث ل يرج منكم أذى ؟ قال خالد ‪ :‬بلى ! قال‬
‫الراهب ‪ :‬افلهذا مثل تعرفونه ف الدنيا ؟ قال ‪ :‬نعم ! الصب يأكل ف بطن أمه من طعامها ‪ .‬ويشرب‬
‫من شرابا ث ل يرج منه أذى ‪ .‬قال الراهب لالد ‪ :‬أليس تقول إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد‬
‫‪ :‬إن فيهم لن هو أعلم من ‪ :‬قال ‪ :‬افليس تقولون ‪ :‬إن ف النة فواكه تأكلون منها ل ينقص منها‬
‫شيء ؟ قال خالد ‪ :‬بلى ! أفلهذا مثل ف الدنيا تعرفونه ؟ قال خالد ‪ :‬نعم ! الكتاب يكتب منه كل‬
‫شيء أحد ث ل ينقص منه شيء ‪ ،‬قال الراهب ‪ :‬أليس تقول ‪ :‬إنك لست من علمائهم ؟ قال خالد ‪:‬‬
‫إن فيهم لن هو أعلم من ‪ .‬قال خالد ‪ :‬فتمعر وجهه ث قال ‪ :‬إن هذا من أمة بسط لا ف السنات‬
‫ما ل يبسط لحد ‪ .‬انتهى القصود من الب ‪.‬‬
‫وهو ينبه على أن ذلك الصل الذي يظهر من أول المر أنه غي معتاد له أصل ف العتاد ‪،‬و هو تنل‬
‫للمنكر غي لزم ‪ ،‬ولكنه مقرب لفهم من قصر فهمه عن إدراك القائق الواضحات ‪.‬‬
‫فعلى هذا يصح قضاء العقل ف عادي بانرافه مع أن كون العادي عاديا مطردا غي صحيح أيضا ‪،‬‬
‫فكل عادي يفرض العقل فيه خرق العادة فليس للعقل فيه إنكار ‪ ،‬إذ قد ثبت ف بعض النواع الت‬
‫اختص الباري باختراعها والعقل ل يفرق بي خلق وخلق ‪ ،‬فل يكن إل الكم بذلك المكان على‬

‫‪370‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كل ملوق ‪ ،‬ولذلك قال بعض الحققي من أهل العتبار ‪ :‬سبحان من ربط السباب بسبباتا‬
‫وخرق العوائد ليتفطن العارفون تنبيها على هذا العن القرر ‪.‬‬

‫حكمة ربط السباب بالسببات وحكمة خرق العوائد‬


‫فهو أصل اقتضى للعاقل أمرين ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ل يعل العقل حاكما بإطلق ‪ ،‬وقد ثبت عليه حاكم بإطلق وهو الشرع ‪ ،‬بل‬
‫الواجب عليه أن يقدم ما حقه التقدي ـ وهو الشرع ـ ويؤخر ما حقه التأخي ـ وهو نظر العقل‬
‫ـ لنه ل يصح تقدي الناقص حاكما على الكامل ‪ ،‬لنه خلف العقول والنقول ‪ ،‬بل ضد القضية‬
‫هو الوافق للدلة فل معدل عنه ‪ ،‬ولذلك قال ‪ :‬اجعل الشرع ف يينك والعقل ف يسارك ‪ ،‬تنبيها‬
‫على تقدم الشرع على العقل ‪.‬‬

‫العقل غي حاكم بإطلق ‪ .‬والشرع حاكم عليه بإطلق ‪ ،‬خرق العوائد ل ينبغي للعقل إنكاره‬
‫بإطلق‬
‫والثان ‪ :‬أنه إذا وجد ف الشرع أخبارا تقتضي ظاهرا خرق لعادة الارية العتادة ‪ ،‬فل ينبغي له أن‬
‫يقدم بي يديه النكار يإطلق ‪ ،‬بل له سعة ف أحد أمرين ‪ :‬إما أن يصدق به على حسب ما جاء‬
‫ويكل علمه إل عاله ‪ .‬وهو ظاهر قوله تعال ‪" :‬والراسخون ف العلم يقولون آمنا به كل من عند‬
‫ربنا" يعن الواضح الحكم ‪ ،‬والتشابه الجمل ‪ ،‬إذ ل يلزمه العلم به ‪ ،‬ولو لزم العلم به لعل له طريق‬
‫إل معرفته ‪ ،‬وإل كان تكليفا با ل يطاق ‪ .‬وإما أن يتأوله على ما يكن حله عليه مع القرار بقتضى‬
‫الظاهر ‪ ،‬لن إنكاره إنكار لرق العادة فيه ‪.‬‬
‫وعلى هذا السبيل يري حكم الصفات الت وصفت الباري با نفسه ‪ ،‬لن من نفاها نفى شبه‬
‫صفات الخلوقي ‪ ،‬وهذا منفي عند المهور ‪ ،‬فبقي اللف ف نفي عي الصفة أو إثباتا ‪ ،‬فالثبت‬
‫أثبتها على شرط نفي التشبيه ‪ ،‬والنكر لن يكون ث صفة غي شبيهة بصفات الخلوقي منكر لن‬
‫يثبت أمر إل على وفق العتاد ‪.‬‬
‫فإن قالوا ‪ :‬هذا لزم فيما تنكره العقول بديهة ‪ ،‬كقوله ‪:‬‬
‫"رفع عن أمت الطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" ‪ ،‬فإن الميع أنكروا ظاهره ‪ ،‬إذ العقل والس‬
‫يشهدان بأنا غي مرفوعة ‪ ،‬وأنت تقول ‪:‬اعتقدوا أنا مرفوعة ‪ ،‬وتأولوا الكلم ‪.‬‬

‫إيضاح مطلب تكيم العقل ف الشرع بعشرة أمثلة‬

‫‪371‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫قيل ‪ :‬ل نعن ما هو منكر ببداهة العقول ‪ ،‬وإنا عنينا ما للنظر فيه شك وارتياب ‪ ،‬كما نقول ‪ :‬إن‬
‫الصراط ثابت ‪ ،‬والواز عليه قد أخب الشارع به ‪ ،‬فنحن نصدق به لنه إن كان كحد السيف‬
‫وشبهه ل يكن استقرار النسان فوقه عادة فكيف يشي عليه ؟ فالعادة قد ترق حت يكن الشي‬
‫والستقرار ‪ ،‬والذين ينكرونه يقفون مع العوائد وينكرون أصل الصراط ول يلتفتون إل إمكان انراق‬
‫العوائد ‪ ،‬فإن فرقوا صار ذلك تكما ‪ .‬لنه ترجيح ف أحد الثلي دون الخر من غي مرجح عقلي ‪،‬‬
‫وقد صادفهم النقل ‪ ،‬فالق القرار دون النكار ‪.‬‬
‫ولنشرح هذا الطلب بأمثلة عشرة ‪:‬‬

‫الول والثان مسألتا الصراط واليزان‬


‫أحدها ‪ :‬مسألة الصراط وقد تقدمت ‪:‬‬
‫والثان ‪ :‬مسألة اليزان ‪ ،‬إذ يكن إثباته ميزانا صحيحا على ما يليق بالدار الخرة ‪ ،‬وتوزن فيه‬
‫العمال على وجه غيعادي ‪ ،‬نعم يقر العقل بأن أنفس العراض ـ وهي العمال ـ ل توزن‬
‫الوزونات عندنا ف العادات ـ وهي الجسام ‪ ،‬ول يأت ف النقل ما يعي أنه كميزاننا من كل‬
‫وجه ‪ ،‬أو أنه عبارة عن الثقل أو أنفس العمال توزن بعينها ‪ .‬فالخلق المل إما على التسليم ‪،‬‬
‫وهذه طريقة الصحابة رضي ال عنهم ‪ ،‬إذ ل يثبت عنهم إل مرد التصديق من غي بث عن نفس‬
‫اليزان أو كيفية الوزن ‪ .‬كما أنه ل يثبت عنهم ف الصراط إل ما ثبت عنهم ف اليزان ‪ .‬فعليك به‬
‫فهو مذهب الصحابة رضي ال عنهم ‪.‬‬
‫فإن قيل ‪ :‬فالتأويل إذا خارج عن طريقتهم ‪ ،‬فأصحاب التأويل على هذا من الفرق الارجة ‪.‬‬
‫قيل ‪ :‬ل لن الصل ف ذلك التصديق با جاء التسليم مضا أو مع التأويل نظر ( ؟ ) ل يبعد ‪ :‬إذ قد‬
‫يتاج إليه ف بعض الواضع ‪ ،‬بلف من جعل أصله ف تلك المور التكذيب با ‪ .‬فإنه مالف لم ‪.‬‬
‫للسلك ف الحاديث مسلك التأويل أو عدمه ل أثر له لنه تابع على كلتا الطريقتي لكن التسليم‬
‫أسلم ‪.‬‬

‫والثالث مسألة عذاب القب‬


‫والثالث ‪ :‬مسألة عذاب القب ‪ ،‬وهي أسهل ‪ .‬ول بعد ول نكي ف كون اليت يعذب برد الروح إليه‬
‫عارية ‪ .‬ث تعذيبه على وجه ل يقدر البشر على رؤيته لذلك ول ساعه ‪ ،‬فنحن نرى اليت يعال‬
‫سكرات الوت ويب بآلم ل مزيد عليها ‪ .‬ول نرى عليه من ذلك أثرا ‪ .‬وكذلك أهل المراض‬
‫الؤلفة ‪ .‬وأشباه ذلك ما نن فيه مثلها ‪ .‬فلماذا يعل استبعاد العقل صادا ف وجه التصديق بأقوال‬
‫الرسول ال صلى ال عليه وسلم ؟‬

‫‪372‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والرابع مسألة سؤال اللكي للميت‬


‫والرابع ‪ :‬مسألة سؤال اللكي للميت وإقعاده ف قبه ‪ ،‬فإنه إنا يشكل إذا حكمنا العتاد ف الدنيا ‪.‬‬
‫وقد تقدم أن تكيمه بإطلق غي صحيح لقصوره ‪ ،‬وإمكان خرق العوائد ‪ ،‬إما بفتح القب حت يكن‬
‫إقعاده ‪ ،‬أو بغي ذلك من المور الت ل تيط بعرفتها العقول ‪.‬‬

‫والامس مسألة تطاير الصحف والسادس إنطاق الوارح و السابع رؤية ال ف الخرة‬
‫والامس ‪ :‬مسألة تطاير الصحف وقراءة من ل يقرأ قط ‪ ،‬وقراءته إياه وهو خلف ظهره كل ذلك‬
‫يكن فيه خرق العوائد فيتصوره العقل على وجه منها ‪.‬‬
‫والسادس ‪ :‬مسألة إنطاق الوارح شاهدة على صاحبها ل فرق بينها وبي الحجار والشجار الت‬
‫شهدت لرسول ال صلى ال عليه وسلم بالرسالة ‪.‬‬
‫والسابع ‪ :‬رؤية ال ف الخرة جائزة ‪ ،‬إذ ل دليل ف العقل يدل على أنه ل رؤية إل على الوجه العتاد‬
‫عندنا ‪ ،‬إذ يكن أن تصح الرؤية على أوجه صحيحة ليس فيها اتصال أشعة ول مقابلة ول تصور‬
‫جهة ول فضل جسم شفاف ول غي ذلك ‪ ،‬والعقل ل يزم بامتناع ذلك بديهة ‪ ،‬وهو إل القصور‬
‫ف النظر أميل ‪ ،‬والشرع قد جاء بإثباتا فل معدل عن التصديق ‪.‬‬

‫والثامن كلم الباري والتاسع إثبات الصفات‬


‫والثامن ‪ :‬كلم الباري تعال إنا نفاه من نفاه وقوفا مع الكلم اللزم للصوت والرف ‪ ،‬وهو ف‬
‫حق الباري مال ‪ ،‬ول يقف مع إمكان أن يكون كلمه تعال خارجا عن مشابة العتاد على وجه‬
‫صحيح لئق بالرب ‪ ،‬إذ ل ينحصر الكلم فيه عقلً ‪ ،‬ول يزم العقل بأن الكلم إذا كان على غي‬
‫الوجه العتاد مال ‪ ،‬فكان من حقه الوقوف مع ظاهر الخبار مردا ‪.‬‬
‫والتاسع ‪ :‬إثبات الصفات كالكلم ‪ ،‬إنا نفاه من نفاه للزوم التركيب عنده ف ذات الباري تعال ـ‬
‫على القول بإثباتا ـ فل يكن أن يكون واحدا مع إثباتا ‪ .‬وهذا قطع من العقل الذي ثبت قصور‬
‫إدراكه ف الخلوقات ‪ ،‬فكيف ل يثبت قصوره ف إدراكه إذا دعي التركيب بالنسبة إل صفات‬
‫الباري ؟ فكان من الصواب ف حقه أن يثبت من الصفات ما أثبته ال لنفسه ‪ ،‬ويقر مع ذلك‬
‫بالوحدانية له على الطلق والعموم ‪.‬‬

‫والعاشر تكيم العقل على ال تعال وبيان فساد ذلك وكون ال تعال له الجة البالغة والشيئة‬
‫الطلقة‬

‫‪373‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والعاشر ‪ :‬تكيم العقل على ال تعال ‪ ،‬بيث يقول ‪ :‬يب عليه بعثة الرسل ‪ ،‬ويب عليه الصلح‬
‫والصلح ‪ ،‬ويب عليه اللطف ‪ ،‬ويب عليه كذا ـ إل آخر ما ينطق به ف تلك الشياء ـ وهذا‬
‫إنا نشأ من ذلك الصل التقدم ‪ ،‬وهو العتياد ف الياب على العباد ‪ .‬ومن أجل الباري وعظمه ل‬
‫يترىء على إطلق هذه العبارة ‪ ،‬ول أل بعناها ف حقه ‪ ،‬لن ذلك العتاد إنا حسن ف الخلوق من‬
‫حيث هو عبد مصور منوع ‪ ،‬وال تعال ما ينعه شيء ‪ ،‬ول يعارض أحكامه حكم ‪ ،‬فالواجب‬
‫الوقوف مع قوله ‪" :‬قل فلله الجة البالغة فلو شاء لداكم أجعي" وقوله تعال ‪" :‬يفعل ما يشاء"‬
‫وقوله تعال ‪" :‬إن ال يكم ما يريد" "وال يكم ل معقب لكمه" "ذو العرش الجيد * فعال لا‬
‫يريد" ‪.‬‬

‫السلف ـ آثارهم ف عدم تكيم عقولم ف صفات ال وعقائد دينه‬


‫فالاصل من هذه القصة أنه ل ينبغي للعقل أن يتقدم بي يدي الشرع ‪ ،‬فإنه من التقدم بي يدي ال‬
‫ورسوله ‪ ،‬بل يكون ملبيا من وراء وراء ‪.‬‬
‫ث نقول ‪ :‬إن هذا هو الذهب للصحابة رضي ال عنهم وعليه دأبوا ‪ ،‬وإياه اتذوا طريقا إل النة‬
‫فوصلوا ‪ .‬ودل على ذلك من سيهم أشياء ‪:‬‬
‫منها ‪ :‬أنه ل ينكر أحد مهنم ما جاء من ذلك ‪ ،‬بل أقروا وأذعنوا لكلم ال وكلم رسوله صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪ ،‬ول يصادموه ول عارضوه بإشكال ‪ .‬ولو كان شيء من ذلك لنقل إلينا كما نقل إلينا‬
‫سائر سيهم وما جرى بينهم من القضايا والناظرات ف الحكام الشرعية ‪ ،‬فلما ل ينقل إلينا شيء‬
‫من ذلك ‪ ،‬دل على أنم آمنوا به وأقروه ‪ ،‬كما جاء من غي بث ول نظر ‪.‬‬
‫كان مالك بن أنس يقول ‪ :‬الكلم ف الدين أكرهه ‪ ،‬ول يزل أهل بلدنا يكرهونه وينهون عنه ‪ ،‬نو‬
‫الكلم ف رأي جهم والقدر ‪ ،‬وكل ما أشبه ذلك ‪ .‬ول أحب الكلم إل فيما تته عمل ‪ .‬فأما‬
‫الكلم ف الدين وف ال عز وجل فالسكوت أحب إل ‪ ،‬لن رأيت أهل بلدنا ينهون عن الكلم ف‬
‫الدين إل فيما تته عمل ‪.‬‬
‫قال ابن عبد الب ‪ :‬قد بي مالك رحه ال أن الكلم فيما تته عمل هو مباح عنده وعند أهل بلده ـ‬
‫يعن العلماء منهم ‪ ،‬وأخب أن الكلم ف الدين نو القول ف صفات ال وأسائه ‪ ،‬وضرب مثلً نو‬
‫رأي جهم والقدر ـ قال ـ والذي قاله مالك عليه جاعة الفقهاء قديا وحديثا من أهل الديث‬
‫والفتوى ‪ ،‬وإنا خالف ف ذلك أهل البدع ـ وأما الماعة فعلى ما قال مالك رحه ال ‪ .‬إل أن‬
‫يضطر أحد إل الكلم ‪ ،‬فل يسعه السكوت إذا طمع ف درء الباطل وصرف صاحبه عن مذهبه ‪،‬‬
‫وخشي ضللة عامة ‪ ،‬أو نو هذا ‪.‬‬

‫‪374‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وقال يونس بن عبد العلى ‪ :‬سعت الشافعي يوم ناظره حفص الفرد قال ل ‪ :‬يا أبا موسى ! لن‬
‫يلقى ال العبد بكل ذنب ما خل الشرك خي من أن يلقاه بشيء من الكلم ‪ ،‬لقد سعت من حفص‬
‫كلما ل أقدر أن أحكيه ‪.‬‬
‫وقال أحد بن حنبل ‪ :‬ل يفلح صاحب الكلم أبدا ول تكاد ترى أحدا نظر ف السائل إل وف قلبه‬
‫دغل ‪.‬‬
‫( وقال ) عن السن بن زياد الؤلؤي ـ وقال له رجل ف زفر بن الذيل ـ أكان ينظر ف الكلم ؟‬
‫فقال ‪ :‬سبحان ال ما أحقك ! ما أدركت مشيختنا زفر وأبا يوسف وابا حنيفة ومن جالسنا وأخذنا‬
‫عنهم ـ ههم غي الفقه والقتداء بن تقدمهم ‪.‬‬
‫وقال ابن عبد الب ‪ :‬أجع أهل الفقه والثار ف جيع المصار أن أهل الكلم أهل بدع وزيغ ‪ ،‬ول‬
‫يعدون عند الميع ف المصار ف جيع طبقات العلماء ‪ ،‬وإنا العلماء أهل الثر والتفقه فيه‬
‫ويتفاضلون فيه بالتفاق واليز والفهم ‪.‬‬
‫وعن أب الزناد أنه قال ‪ :‬واي ال إن كنا لنلتقط السنن من أهل الفقه والثقة ‪ ،‬ونتعلمها شبيها‬
‫بتعلمنا آي القرآن ‪ ،‬وما برح من أدركنا من أهل الفقه والفضل من خيار أولية الناس ‪ ،‬يعيبون أهل‬
‫الدل والتنقيب والخذ بالرأي وينهون عن لقائهم ومالستهم ‪ ،‬ويذروننا مقاربتهم أشد التحذير ‪،‬‬
‫ويبون أنم أهل ضلل وتريف لتأويل كتاب ال وسنن رسوله ‪ ،‬وما توف رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم حت كره السائل وناحية التنقيب والبحث وزجر عن ذلك ‪ ،‬وحذره السلمي ف غي‬
‫موطن ‪ .‬حت كان من قوله كراهية لذلك ‪.‬‬
‫"ذرون ما تركتكم فإنا هلك الذين من قبلكم بسؤالم واختلفهم على أنبيائهم فإذا نيتكم عن شيء‬
‫فاجتنبوه ‪ .‬وإذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم" ‪.‬‬
‫وعن عمر بن الطاب رضي ال عنه قال ‪ :‬اتقوا ال ف دينكم ‪ .‬قال سحنون ‪ :‬يعن النتهاء عن‬
‫الدل فيه ‪ ،‬وخرج ابن وهب عن عمر أيضا ‪ :‬إن أصحاب الرأي أعداء السنن ‪ ،‬أعيتهم أن‬
‫يفظوها ‪ ،‬وتفلتت منهم أن يعوها ‪ ،‬واستحيوا حي سئلوا أن يقولوا ل نعلم فعارضوا السنن‬
‫برأيهم ‪ ،‬فإياكم وإياهم ‪ .‬قال أبو بكر بن أب داود ‪ :‬أهل الرأي هم أهل البدع ‪ .‬وهو القائل ف‬
‫قصيدته ف السنة ‪:‬‬
‫ودع عنك آراء الرجال وقولم فقول رسول ال أزكى وأشرح‬
‫وعن السن قال ‪ :‬إنا هلك من كان قبلكم حي تشعبت بم السبل ‪ ،‬وحادوا عن الطريق ‪ ،‬فتركوا‬
‫الثار وقالوا ف الدين برأيهم فضلوا وأضلوا ‪.‬‬

‫‪375‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن مسروق قال ‪ :‬من رغب برأيه عن أمر ال يضل ‪ .‬وعن هشام بن عروة عن أبيه أنه كان يقول‬
‫‪ :‬السنن السنن ‪ ،‬إن السنن قوام الدين ‪ ،‬وعن هشام بن عروة قال ‪ :‬إن بن إسرائيل ل يزل أمرهم‬
‫معتدلً حت نشأ فيهم مولدون سبايا المم ‪ ،‬فأخذوا فيهم بالرأي فضلوا وأضلوا ‪.‬‬
‫فهذه الثار وأشباهها تشي إل ذم إيثار نظر العقل على آثار النب صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وذهب جاعة من العلماء إل أن الراد بالرأي الذموم ف هذه الخبار البدع الحدثة ف العتقاد ‪.‬‬
‫كرأي جهم وغيه من أهل الكلم ‪ .‬لنم قوم استعملوا قياسهم وآراءهم ف رد الحاديث ‪ .‬فقالوا ‪:‬‬
‫ل يوز أن يرى ال ف الخرة أنه تعال يقول ‪":‬ل تدركه البصار وهو يدرك البصار وهو اللطيف"‬
‫الية ‪.‬‬
‫فردوا قوله عليه الصلة والسلم ‪" :‬إنكم ترون ربكم يوم القيامة" وتأولوا قول اله تعال ‪ " :‬وجوه‬
‫يومئذ ناضرة * إل ربا ناظرة " وقالوا ‪ :‬ل يوز أن يسأل اليت ف قبه ‪ .‬لقول ال تعال ‪" :‬أمتنا‬
‫اثنتي وأحييتنا اثنتي" فردوا الحاديث التواترة ف عذاب القب وفتنته ‪ ،‬وردوا الحاديث ف الشفاعة‬
‫على تواترها ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬لن يرج من النار من دخل فيها ‪ :‬وقالوا ‪ :‬ل نعرف حوضا ول ميزانا ‪ ،‬ول‬
‫نعقل ما هذا ‪ .‬وردوا السنن ف ذلك كله ـ برأيهم وقياسهم ـ إل أشياء يطول ذكرها من كلمهم‬
‫ف صفة الباري ‪ ،‬وقالوا ‪ :‬العلم مدث ف حال حدوث العلوم لنه ل يقع علم إل على معلوم ‪ ،‬فرارا‬
‫من قدم العال ـ ف زعمهم ـ ‪.‬‬
‫وقال جاعة ‪ :‬الرأي الذموم الراد به الرأي البتدع وشبهه من ضروب البدع ‪ .‬وهذا القول أعم من‬
‫الول ‪ ،‬لن الول خاص بالعتقاد ‪ ،‬وهذا عام ف العمليات وغيها ‪.‬‬
‫وقال آخرون ـ قال ابن عبد الب ‪ :‬وهم المهور ـ إن الراد به القول ف الشرع بالستحسان‬
‫والظنون ‪ ،‬والشتغال بفظ العضلت ‪ ،‬ورد الفروع بعضها إل بعض دون ردها إل أصولا ‪،‬‬
‫فاستعمل فيها الرأي قبل أن تنل ‪ ،‬قالوا ‪ :‬وف الشتغال بذا تعطيل السنن والتذرع إل جهلها ‪.‬‬
‫وهذا القول غي خارج عما تقدم ‪ .‬وإنا الفرق بينهما أن هذا منهي عنه للذريعة إل الرأي الذموم ‪.‬‬
‫وهو معارضة النصوص ‪ .‬لنه إذا ل يبحث عن السنن جهلها فاحتاج إل الرأي ‪ .‬فلحق بالولي‬
‫الذين عارضوا السنن حقيقة ‪ .‬فجميع ذلك راجع إل معن واحد ‪ .‬وهو إعمال النظر العقلي مع طرح‬
‫ل ‪ ،‬والرأي إذا عارض السنة فهو بدعة وضللة ‪.‬‬ ‫السنن ‪ .‬إما قصدا أو غلطا وجه ً‬
‫فالاصل من مموع ما تقدم أن الصحابة ومن بعدهم ل يعارضوا ما جاء ف السنن بآرائهم ‪ ،‬علموا‬
‫معناه أو جهلوه ‪ ،‬جرى لم على معهودهم أو ل ‪ ،‬وهو الطلوب من نقله ‪ ،‬وليعتب فيه من قدم‬
‫الناقص ـ وهو العقل ـ على الكامل ـ وهو الشرع ـ ورحم ال الربيع بن خثيم حيث يقول ‪ :‬يا‬
‫عبد ال ! ما علمك ال ف كتابه من علم فاحد ال ‪ ،‬وما استأثر عليك به من علم فكله إل عاله ‪،‬‬
‫ل تتكلف ‪ ،‬فإن ال يقول لنبيه ‪" :‬قل ما أسألكم عليه من أجر وما أنا من التكلفي" ‪.‬‬

‫‪376‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وعن معمر بن سليمان ‪ ،‬عن جعفر ‪ ،‬عن رجل من علماء أهل الدينة ‪ ،‬قال ‪ :‬إن ال علم علما‬
‫علمه العباد ‪ ،‬وعلم علما ل يعلمه العباد ‪ ،‬فمن تكلف العلم الذي ل يعلمه العباد ل يزدد منه إل بعدا‬
‫‪ .‬قال ‪:‬والقدر منه ‪.‬‬
‫وقال الوزاعي ‪ :‬كان مكحول و الزهري يقولن ‪ :‬أمروا هذه الحاديث كما جاءت ول تتناظروا‬
‫فيها ‪ :‬ومثله عن مالك ‪ ،‬و الوزاعي ‪ ،‬وسفيان بن سعيد ‪ ،‬و سفيان بن عيينة ‪ ،‬ومعمر بن راشد ‪،‬‬
‫ف الحاديث ف الصفات أنم أمرواها كما جاءت ‪ ....‬نو الديث ‪:‬‬
‫"التنل" ‪.‬‬
‫"وخلق آدم على صورته ‪ ،‬وشبههما" وحديث مالك ف السؤال عن الستواء مشهور ‪.‬‬
‫وجيع ما قالوه مستمد من معن قول ال تعال ‪" :‬فأما الذين ف قلوبم زيغ فيتبعون ما تشابه منه‬
‫ابتغاء الفتنة" الية ‪ .‬ث قال ‪" :‬والراسخون ف العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا" فإنا صرية ف‬
‫هذا الذي قررناه ‪ ،‬فإن كل ما ل ير على العتاد ف الفهم متشابه ‪ ،‬فالوقف عنه هو الحرى با كان‬
‫عليه الصحابة التبعون لرسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬إذ لو كان من شأنم اتباع الرأي ل يذموه‬
‫ول ينهوا عنه ‪ ،‬لن أحدا ل يرتضي طريقا ث ينهى عن سلوكه ‪ .‬كيف وهم قدوة المة باتفاق‬
‫السلمي ! ‪.‬‬
‫وروي عن السن كان ف ملس فذكر فيه أصحاب ممد صلى ال عليه وسلم فقال ‪ :‬إنم كانوا أبر‬
‫هذه المة قلوبا ‪ ،‬وأعمقها علما ‪ ،‬وأقلها تكلفا ‪ ،‬قوم اختارهم ال لصحبة تبيه صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ ،‬فتشبهوا بأخلقهم وطرائقهم ‪ ،‬فإنم ـ ورب الكعبة ـ على الدي الستقيم ‪.‬‬
‫وعن حذيفة أنه كان يقول ‪ :‬اتقوا ال يا معشر القراء وخذوا طريق من كان قبلكم ‪ ،‬فلعمري لئن‬
‫اتبعتموه لقد سبقتم سبقا بعيدا ‪ ،‬ولئن تركتموه يينا أو شا ًل لقد ضللتم ضللً بعيدا ‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود ‪ :‬من كان منكم متأسيا فليتأس بأصحاب ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فإنم كانوا‬
‫أبر هذه المة قلوبا ‪ ،‬وأعمقها علما ‪ ،‬وأقلها تكلفا ‪ ،‬وأقومها هديا ‪ ،‬وأحسنها خل ًل ‪ ،‬قوم‬
‫اختارهم ال لصحبة نبيه صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وإقامة دينه ‪ ،‬فاعرفوا لم فضلهم ‪ ،‬واتبعوهم ف‬
‫آثارهم ‪ ،‬فإنم كانوا على الدي الستقيم ‪.‬‬
‫والثار ف هذا العن كثية جيعها يدل على القتداء بم والتباع لطريقهم على كل حال ‪ ،‬وهو‬
‫طريق النجاة حسبما نبه عليه حديث الفرق ف قوله ‪" :‬ما أنا عليه وأصحاب" ‪.‬‬

‫فصل النوع الرابع أي من مناشئ البتداع وهو إتباع الوى‬


‫النوع الرابع ‪:‬‬

‫‪377‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أن الشريعة موضوعة لخراج الكلف عن داعية هواه ‪ ،‬حت يكون عبدا ل ‪ .‬وهذا أصل قد تقرر ف‬
‫قسم القاصد من كتاب الوافقات ‪ .‬لكن على وجه كلي يليق بالصول ‪ .‬فمن أراد الطلع عليه‬
‫فليطالعه من هنالك ‪.‬‬
‫ولا كانت طرق الق متشعبة ل يكن أن يؤتى عليها بالستيفاء ‪ .‬فلنذكر منها شعبة واحدة تكون‬
‫كالطريق لعرفة ما سواها ‪.‬‬

‫تشعب طرق الق وبيان كون الشريعة حجة على اللق‬


‫فاعلموا أن ال تعال وضع هذه الشريعة حجة على اللق كبيهم وصغيهم مطيعهم وعاصيهم ‪.‬‬
‫برهم وفاجرهم ‪ .‬ل يتص با أحدا دون أحد وكذلك سائر الشرائع إنا وضعت لتكون حجة على‬
‫جيع المم الت تنل فيهم تلك الشريعة ‪ .‬حت إن الرسلي با صلوات ال عليهم داخلون تت‬
‫أحكامها ‪.‬‬
‫فأنت ترى أن نبينا ممدا صلى ال عليه وسلم ماطب با ف جيع أحواله وتقلباته ‪ .‬ما اختص بد‬
‫دون أمته ‪ .‬أو كان عاما له ولمته كقوله تعال ‪" :‬يا أيها النب إنا أحللنا لك أزواجك اللت آتيت‬
‫أجورهن وما ملكت يينك" إل قوله تعال ‪" :‬خالصةً لك من دون الؤمني" إل قوله تعال ‪" :‬ل يل‬
‫لك النساء من بعد ول أن تبدل بن من أزواج" وقوله تعال ‪" :‬يا أيها النب ل ترم ما أحل ال لك‬
‫تبتغي مرضاة أزواجك وال غفور رحيم " وقوله تعال ‪" :‬يا أيها النب إذا طلقتم النساء فطلقوهن‬
‫لعدتن" إل سائر التكاليف الت وردت على كل مكلف والنب فيهم ‪ .‬فالسريعة هي الاكمة على‬
‫الطلق والعموم عليه وعلى جيع الكلفي ‪ .‬وهي الطرق الوصل والادي العظم ‪.‬‬
‫أل ترى إل قوله تعال ‪" :‬وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ول اليان‬
‫ولكن جعلناه نورا ندي به من نشاء من عبادنا" فهو عليه الصلة والسلم أول من هداه ال بالكتاب‬
‫واليان ‪ .‬ث من اتبعه فيه ‪ .‬والكتاب هو الادي ‪ .‬والوحي النل عليه مرشد ومبي لذلك الدي‬
‫واللق مهتدون بالميع ‪ .‬ولا استنار قلبه وجوارحه ـ عليه الصلة والسلم ـ وباطنه وظاهره بنور‬
‫ل ‪ ،‬صار هو الادي الول لذه المة والرشد العظم ‪ ،‬حيث خصه ال دون اللق‬ ‫الق علما وعم ً‬
‫بإنزال ذلك النور عليه ‪ ،‬واصطفاه من جلة من كان مثله ف اللقة البشرية اصطفاءً أوليا ‪ ،‬ل من‬
‫ل ـ مثلً ـ لشتراكه مع غيه ف هذه الوصاف ‪ ،‬ول لكونه من قريش ـ‬ ‫جهة كونه بشرا عاق ً‬
‫ل ـ دون غيهم ‪ ،‬وإل لزم ذلك ف كل قرشي ‪ ،‬ول لكونه من بن عبد الطلب ‪ ،‬ول لكونه‬ ‫مث ً‬
‫عربيا ‪ ،‬ول لغي ذلك ‪ ،‬بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه‬
‫القرآن ‪ ،‬حت نزل فيه ‪" :‬وإنك لعلى خلق عظيم" وإنا كان خلقه القرآن لنه حكم الوحي على‬
‫نفسه ‪ .‬حت صار ف علمه وعمله على وفقه ‪ .‬فكان الوحي حاكما وافقا قائلً وكان هو عليه‬

‫‪378‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الصلة والسلم مذعنا ملبيا نداءه ‪ .‬واقفا عند حكمه ‪ .‬وهذه الاصية كانت من أعظم الدلة على‬
‫صدقه فيما جاء به ‪ .‬إذ قد جاء بالمر وهو مؤتر ‪ .‬وبالنهي وهو منته ‪ .‬وبالوعظ وهو متعظ‬
‫وبالتخوف وهو أول الائفي ‪ .‬وبالترجية وهو سائق دابة الراجي ‪.‬‬
‫وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة النلة عليه حجة حاكمة عليه ‪ .‬ودللة له على الصراط الستقيم‬
‫الذي سار عليه السلم ‪ .‬ولذلك صار عبد ال حقا ‪ .‬وهو أشرف اسم تسمى به العباد ‪ .‬فقال ال‬
‫تعال ‪" :‬سبحان الذي أسرى بعبده ليلً" "تبارك الذي نزل الفرقان على عبده" "وإن كنتم ف ريب‬
‫ما نزلنا على عبدنا" وما أشبه ذلك من اليات الت وقع مدحه بصحة العبودية ‪.‬‬
‫وإذا كان كذلك فسائر اللق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون با إل‬
‫الق ‪ ،‬وشرفهم إنا يثبت بسب ما اتصفوا به من الدخول تت أحكامها والعمل با قو ًل واعتقادا‬
‫ل ‪ ،‬ل بسب عقولم فقط ‪ ،‬ول بسب شرفهم ف قومهم فقط ‪ ،‬لن ال تعال إنا اثبت‬ ‫وعم ً‬
‫الشرف ل غيها لقوله تعال ‪" :‬إن أكرمكم عند ال أتقاكم" فمن كان أشد مافظة على اتباع‬
‫الشريعة فهو أول بالشرف والكرم ‪ ،‬ومن كان دون ذلك ل يكن أن يبلغ ف الشرف مبلغ العلى ف‬
‫اتباعها ‪ ،‬فالشرف إذا إنا هو بسب البالغة ف تكيم الشريعة ‪.‬‬

‫تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم‬


‫ث نقول بعد هذا ‪ :‬إن ال سبحانه شرف أهل العلم ورفع أقدارهم ‪ ،‬وعظم مقدارهم ‪ ،‬ودل على‬
‫ذلك الكتاب والسنة والجاع ‪ ،‬بل قد اتفق العقلء على فضيلة العلم وأهله ‪ ،‬وأنم الستحقون‬
‫شرف النازل ‪ ،‬وهو ما ل ينازع فيه عاقل ‪.‬‬
‫واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة افضل العلوم وأعظمها أجرا عند ال يوم القيامة ‪ ،‬ول علينا‬
‫أسامنا بعض الفرق ف تعيي العلوم ـ أعن العلوم الت نبه الشارع على مزيتها وفضليتها ـ أم ل‬
‫نسامهم ‪ ،‬بعد التفاق على الفضلية ‪ ،‬وإثبات الرية ‪.‬‬
‫وأيضا ‪ ،‬فإن علوم الشريعة منها ما يري مرى الوسائل بالنسبة إل السعادة الخروية ‪ ،‬ومنها ما‬
‫يري مرى القاصد ‪ ،‬والذي يري القاصد أعلى ما ليس كذلك ـ بل نزاع بي العقلء أيضا ـ‬
‫كعلم العربية بالنسبة إل علم الفقه ‪ ،‬فإنه كالوسيلة ‪ ،‬فعلم الفقه أعلى ‪.‬‬
‫وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منلة بل إشكال ول نزاع وإنا وقع الثناء ف الشريعة‬
‫على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم ل من جهة أخرى ‪ ،‬ودل على ذلك وقوع الثناء عيهم‬
‫مقيدا بالتصاف به ‪ ،‬فهو إذا العلة ف الثناء ‪ ،‬ولول ذلك التصاف ل يكن لم مزية على غيهم ‪،‬‬
‫ومن ذلك صار العلماء حكاما على اللئق أجعي قضاء أو فتيا أو إرشادا ‪ ،‬لنم اتصفوا بالعلم‬
‫الشرعي الذي هو حاكم بإطلق ‪ ،‬فليسوا بكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع‬

‫‪379‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫غيهم كالقدرة والرادة والعقل وغي ذلك ‪ ،‬إذ ل مزية ف ذلك من حيث القدر الشترك ‪ ،‬لشتراك‬
‫الميع فيها ‪ ،‬وإنا صاروا حكاما على اللق مرجوعا إليهم بسبب جلهم للعلم الاكم ‪ ،‬فلزم من‬
‫ذلك أنم ل يكونون حكاما على اللق إل من ذلك ‪ ،‬كما أنم مدحون من ذلك الوجه أيضا ‪ ،‬فل‬
‫يكن أن يتصفوا بوصف الكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الاكم ‪ ،‬إذ ليسوا حجة إل من‬
‫جهته ‪ ،‬فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا أحكاما ؟ هذا مال ‪.‬‬
‫وكما أنه ل يقال ف العال بالعربية مهندس ‪ ،‬ول ف العال بالندسة عرب ‪ ،‬فكذلك ل يقال ف الزائغ‬
‫عن الكم الشرعي حاكم بالشرع ‪ ،‬بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نو ذلك ‪ ،‬فل يصح‬
‫أن يعل حجة ف العلم الاكم ‪ ،‬لن العلم الاكم يكذبه ويرد عليه ‪ ،‬وهذا العن أيضا ف الملة‬
‫متفق عليه ل يالف فيه أحد من العقلء ‪.‬‬
‫ث نصي من هذا إل معن آخر مرتب عليه ‪ ،‬وهو أن العال بالشريعة إذ اتبع ف قوله ‪ ،‬وانقاد إليه‬
‫الناس ف حكمه ‪ ،‬فإنا اتبع من حيث هو عال وحاكم با وحاكم بقتضاها ‪ ،‬ل من جهة أخرى ‪،‬‬
‫فهو ف القيقة مبلغ عن رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬البلغ عن ال عز وجل ‪ ،‬فيتلقى منه ما بلغ‬
‫على العلم بأنه بلغ ‪ ،‬أو على غلبة الظن بأنه بلغ ل من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا ‪ ،‬إذ ل‬
‫يثبت ذلك لحد على القيقة ‪ .‬وإنا هو ثابت للشريعة النلة على رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪.‬‬
‫وثبت ذلك له عليه الصلة والسلم وحده دون اللق من جهة دليل العصمة ‪ .‬والبهان أن جيع ما‬
‫يقوله أو يفعله حق ‪ .‬فإن الرسالة القترنة بالعجزة على ذلك دلت ‪ .‬فغيه ل يثبت له عصمة بالعجزة‬
‫بيث بقتضاها حت يساوي النب صلى ال عليه وسلم ف النتصاب للحكم بإطلق ‪ ،‬بل إنا يكون‬
‫منتصبا على شرط الكم بقتضى الشريعة ‪ .‬بيث إذا وجد الكم ف الشرع بلف ما حكم ل يكن‬
‫حاكما ‪ .‬إذا كان ـ بالفرقـ خارجا عن مقتضى الشريعة الاكمة ‪ ،‬وهو أمر متفق عليه بي العلماء‬
‫‪ ،‬ولذلك إذا وقع الناع ف مسألة شرعية وجب ردها إل الشريعة حيث يثبت الق فيها لقوله تعال ‪:‬‬
‫"فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول" ‪.‬‬

‫الكلف بأمور الشريعة ل يلو من أحد أمور ثلثة أحدها أن يكون متهدا فيها حكمه ما أداه إليه‬
‫إجتهاده‬
‫فإذا الكلف بأحكامها ل يلو من أحد أمور ثلثة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن يكون متهدا فيها ‪ ،‬فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها ‪ ،‬لن اجتهاده ف المور الت‬
‫ليست دللتها واضحة إنا يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو القرب إل قصد الشارع‬
‫والول بأدلة الشريعة ‪ .‬دون ما ظهر لغيه من الجتهدين ‪ .‬فيجب عليه اتباع ما هو القرب ‪ .‬بدليل‬

‫‪380‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫أنه ل يسعه فيما اتضح فيه الدليل إل اتباع الدليل ‪ ،‬دون ما أداه إليه اجتهاده ‪ .‬ويعد ما ظهر له لغوا‬
‫كالعدم ‪ .‬لنه على غي صوب الشريعة الاكمة ‪ .‬فإذا ليس قوله بشيء يعتد به ف الكم ‪.‬‬

‫الثان أن يكون مقلدا صرفا‬


‫والثان ‪ :‬أن يكون مقلدا صرفا ‪.‬خليا من العلم الاكم جلة ‪ .‬فل بد له من قائد يقوده ‪ .‬وحاكم‬
‫يكم عليه ‪ .‬وعال يقتدي به ‪ .‬ومعلوم أنه ل يقتدى به إل من حيث هو عال بالعلم الاكم ‪.‬‬
‫والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم ل يل له اتباعه ول‬
‫النقياد لكمه ‪ .‬بل ل يصح أن يطر باطر العامي ول غيه تقليد الغي ف أمر مع علمه بأنه ليس من‬
‫أهل ذلك المر ‪ .‬كما أنه ل يكن أن يسلم الريض نفسه إل أحد يعلم أنه ليس بطبيب إل ان يكون‬
‫فاقد العقل ‪ .‬وإذا كان كذلك فإنا ينقاد إل الفت من جهة ما هو عال بالعلم الذي يب النقياد إليه‬
‫‪ .‬ل من جهة كونه فلنا أيضا ‪ .‬وهذه الملة أيضا ل يسع اللف فيها عقلً ول شرعا ‪.‬‬

‫الثالث أن يكون غي بالغ مبلغ الجتهدين‬


‫والثالث ‪ :‬أن يكون غي بالغ مبلغ الجتهدين ‪ .‬لكنه يفهم الدليل وموقعه ‪ .‬ويصلح فهمه للترجيح‬
‫بالرجحات العتبة فيه تقيق الناط ونوه ‪ .‬فل يلو إما أن يعتب ترجيحه أو نظره ‪ ،‬أو ل فإن‬
‫اعتبناه صار مثل الجتهد ف ذلك الوجه ‪ .‬والجتهد إنا هو تابع للعلم الاكم ناظر نوه ‪ .‬متوجه‬
‫شطره ‪ :‬فالذي يشبهه كذلك وإن ل نعتبه فل بد من رجوعه إل درجة العامي ‪ .‬والعامي إنا اتبع‬
‫الجتهد من جهة توجهه إل صوب العلم الاكم ‪ .‬فكذلك من نزل منلته ‪.‬‬
‫ث نقول ‪ :‬إن هذا مذهب الصحابة ‪ :‬أما النب صلى ال عليه وسلم فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر‬
‫‪ .‬وأما أصحابه فاتباعهم له ف ذلك من غي اعتبار بؤالف أو مالف شهي عنهم فل نطيل الستدلل‬
‫عليه ‪.‬‬
‫فعلى كل تقدير ل يتبع أحد من العلماء إل من حيث هو متوجه نو الشريعة قائم بجتها ‪ ،‬حاكم‬
‫ل ‪ ،‬وأنه من وجد متوجها غي تلك الوجهة ف جزئية من الزئيات أو فرع‬ ‫بأحكامها جلةً وتفصي ً‬
‫من الفروع ل يكن حاكما ول استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة البتة ‪.‬‬
‫فيجب إذا على الناظر ف هذا الوضع أمران إذا كان عي متهد ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬أن ل يتبع العال إل من جهة ما هو عال بالعلم الحتاج إليه ‪ ،‬ومن حيث هو طريق إل‬
‫استفادة ذلك العلم ‪ ،‬إذ ليس لصاحبه منه إل كونه مودعا له ‪ ،‬ومأخوذا بأداء تلك المانة ‪ ،‬حت إذا‬
‫علم أو غلب على الظن أنه مطىء فيما يلقى ‪ ،‬أو تارك للقاء تلك الوديعة على ما هي عليه ‪ ،‬أو‬
‫منحرف عن صوبا بوجه من وجوه النراف ‪ ،‬توقف ول يصر على التباع إل بعد التبيي ‪ ،‬إذ ليس‬

‫‪381‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫كل ما يلقيه العال يكون حقا على الطلق ‪ ،‬لمكان الزلل والطأ وغلبة الظن ف بعض المور ‪،‬‬
‫وما اشبه ذلك ‪.‬‬
‫أما إذا كان هذا التبع ناظرا ف العلم ومتبصرا فيما يلقى إليه كأهل العلم ف زماننا ‪ ،‬فإن توصله إل‬
‫الق سهل ‪ ،‬لن النقولت ف الكتب إما تت حفظه ‪ ،‬وإما معدة لن يققها بالطالعة أو الذاكرة ‪.‬‬

‫اجتهاد العامي ف اختيار من يقلد‬


‫وأما إن كان عاميا صرفا فيظهر له الشكال عند ما يرى الختلف بي الناقلي للشريعة ‪ ،‬فل بد له‬
‫ها هنا من الرجوع آخرا إل تقليد بعضهم ‪ ،‬إذ ل يكن ف السألة الواحدة تقليد متلفي ف زمان‬
‫واحد ‪ ،‬لنه مال وخرق للجاع ‪ ،‬فل يلو أن يكنه المع بينهما ف العمل أو ل يكته ‪ ،‬فإن ل‬
‫يكنه بما كان عمله بما معا ما ًل ‪ ،‬وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما ‪ .‬بل هو‬
‫قول ثالث ل قائل به ‪ .‬ويعضد ذلك أنه ل ند صورة ذلك العمل معمولً با ف التقدمي من السلف‬
‫الصال فهو مالف للجاع ‪.‬‬
‫وإذا ثبت أنه ل يقلد إل واحدا ‪ ،‬فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إل الق من صاحبه ‪ ،‬ولذلك‬
‫خالفه ‪ ،‬وإل ل يالفه ‪ ،‬والعامي جاهل بواقع الجتهاد ‪ ،‬فل بد له من يرشده إل من هو أقرب‬
‫منهما ‪ .‬وذلك إنا يثبت للعامي بطريق جلي ‪ ،‬وهو ترجيح أحدها على الخر بالعلمية والفضلية ‪.‬‬
‫ويظهر ذلك من جهور العلماء والطالبي ل يفى عليهم مثل ذلك ‪ ،‬لن العلمية تغلب على ظن‬
‫العامي أن صاحبها أقرب إل صوب العلم الاكم ل من جهة أخرى ‪ ،‬فإذا ل يقلد إل باعتبار كونه‬
‫حاكما بالعلم الاكم ‪.‬‬
‫والمر الثان ‪ :‬أن ل يصمم على تقليد من تبي له ف تقليده الطأ شرعا وذلك أن العامي ومن جرى‬
‫مراه قد يكون متبعا لبعض العلماء ‪ ،‬إما لكونه أرجح من غيه ‪ ،‬أو عند أهل قطره ‪ ،‬وإما لنه هو‬
‫الذي اعتمده أهل قطره ف التفقه ف مذهبه دون مذهب غيه ‪.‬‬
‫وعلى كل تقدير فإذا تبي له ف بعض مسائل متنوعة الطأ والروج عن صوب العلم الاكم فل‬
‫يتعصب لتبوعه بالتمادي على اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه ‪ ،‬لن تعصبه يؤدي إل مالفة الشرع أو ًل ‪،‬‬
‫ث إل مالفة متبوعة ‪ ،‬أما خلفه للشرع فبالعرض ‪ ،‬وأما خلفه لتبوعه فلخروجه عن شرط التباع ‪،‬‬
‫لن كل عال يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنا يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة ل بغيها ‪ ،‬فإذا‬
‫ظهر أنه حاكم بلف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده ‪.‬‬

‫أمر مالك و الشافعي بالتباع دون تقليدها‬

‫‪382‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫ومن معن كلم مالك رحه ال ‪ :‬ما كان من كلمي موافقا للكتاب والسنة فخذوا به ‪ ،‬وما ل يوافق‬
‫فاتركوه ‪ .‬هذا معن كلمه دون لفظه ‪.‬‬
‫ومن كلم الشافعي رحه ال ‪ :‬الديث مذهب فما خالفه فاضربوا به الائط أو كما قال ‪ ،‬قال‬
‫العلماء ‪ :‬وهذا لسان حال الميع ‪ .‬ومعناه أنكل ما تتكلمون به على تري أنه طابق الشريعة‬
‫الاكمة‪ ،‬فإن كان كذلك فبها ونعمت ‪ ،‬وما ل فليس بنسوب إل الشريعة ول هم أيضا من يرضى‬
‫أن تنسب إليهم مالفتها ‪.‬‬
‫لكن يتصور ف هذا القام وجهان ‪ :‬أن يكون التبوع متهدا ‪ ،‬فالرجوع ف التخطئة والتصويب إل ما‬
‫اجتهد فيه ‪ ،‬وهو الشريعة ‪ ،‬وأن يكون مقلدا لبعض العلماء ‪ ،‬كالتأخرين الذين من شأنم تقليد‬
‫التقدمي بالنقل من كتبهم والتفقه ف مذاهبهم ‪ ،‬فالرجوع ف التخطئة والتصويب إل صحة النقل‬
‫عمن نقلوا عنه وموافقتهم لن قلدوا ‪ ،‬أو خلف ذلك ‪ ،‬لن هذا القسم مقلدون بالعرض ‪ ،‬فل‬
‫يسعهم الجتهاد ف استنباط الحكام ‪ ،‬إذ ل يبلغوا درجته ‪ ،‬فل يصح تعرضهم للجتهاد ف الشريعة‬
‫مع قصورهم عن درجته ‪ .‬فإن فرض انتصابه للجتهاد فهو مطىء آث أصاب أم ل يصب ‪ ،‬لنه أتى‬
‫المر من غيه ‪ ،‬وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم فإصابته ـ إن أصاب ـ من حيث ل‬
‫يدري ‪ ،‬وخطؤه هو العتاد ‪ ،‬فل يصح ابتاعه كسائر العوام إذا راموا الجتهاد ف أحكام ال ‪،‬‬
‫ولخلف أن مثل هذا الجتهاد غي معتب ‪ ،‬وأن مالفة العامي كالعدم ‪ ،‬وأنه ف مالفته لهل العلم‬
‫آث مطىء ‪ ،‬فكيف يصح ـ مع هذا التقرير ـ تقليد غي متهد ف مسألة أتى فيها باجتهاده ؟‬
‫ولقد زل ـ بسبب العراض عن الدليل والعتماد على الرجال ـ اقوام خرجوا بسبب ذلك عن‬
‫جادة الصحابة والتابعي واتبعوا أهواءهم بغي علم فضلوا عن سواء السبيل ‪.‬‬

‫عشرة أمثلة لتباع الوى والتقليد أحدها ‪ :‬قول من جعل إتباع الباء ف أصل الدين هو الرجوع‬
‫إليه‬
‫ولنذكر عشرة أمثلة ‪:‬‬
‫أحدها ‪ :‬وهو أشدها ‪ ،‬قول من جعل اتباع الباء ف أصل الدين هو الرجوع إليه دون غيه ‪ ،‬حت‬
‫ردوا بذلك براهي الرسالة ‪ ،‬وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا ‪" :‬إنا وجدنا آباءنا على أمة " ‪ .‬فحي‬
‫نبهوا على وجه الجة بقوله تعال ‪ " :‬قال أو لو جئتكم بأهدى ما وجدت عليه آباءكم " ل يكن لم‬
‫جواب إل النكار ‪ ،‬اعتمادا على اتباع الباء واطراحا لا سواه ‪ ،‬ول يزل مثل هذا مذموما ف‬
‫الشرائع ‪ ،‬كما حكى ال عن قوم نوح عليه السلم بقوله ‪" :‬ولو شاء ال لنزل ملئكة ما سعنا بذا‬
‫ف آبائنا الولي" وعن قوم إبراهيم عليه الصلة والسلم بقوله تعال ‪" :‬قال هل يسمعونكم إذ تدعون‬

‫‪383‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫* أو ينفعونكم أو يضرون * قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون " إل آخر ذلك ما ف معناه ‪،‬‬
‫فكان الميع مذمومي حي اعتبوا واعتقدوا أن الق تابع لم ول يلتفتوا إل أن الق هو القدم ‪.‬‬

‫والثان رأي المامية و الثالث مذهب الفرقة الهدوية و الرابع رأي بعض القلدة لذهب إمام‬
‫والثان ‪ :‬رأي المامية ف اتباع المام العصوم ـ ف زعمهم ـ وإن خالف ما جاء يه النب العصوم‬
‫حقا ‪ ،‬وهو ممد صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬فحكموا الرجال على الشريعة ول يكموا الشريعة على‬
‫الرجال‪ ،‬وإنا أنزل الكتاب ليكون حكما على اللق على الطلق والعموم ‪.‬‬
‫والثالث ‪ :‬لحق بالثان ‪ ،‬وهو مذهب الفرقة الهدوية الت جعلت أفعال مهديهم حجة ‪ ،‬وافقت‬
‫حكم الشريعة أو خالفت ‪ ،‬بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة ( ؟ ) ف عقد إيانم من خالفها كفروه‬
‫وجعلوا حكمه حكم الكافر الصلي ‪ ،‬وقد تقدم من ذلك أمثلة ‪.‬‬
‫والرابع ‪ :‬رأي القلدة لذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو الشريعة ‪ ،‬بيث يأنفون أن تنسب إل أحد‬
‫من العلماء فضيلة دون إمامهم ‪ ،‬حت إذا جاءهم من بلغ درجة الجتهاد وتكلم ف السائل ول يرتبط‬
‫إل إمامهم رموه بالنكي ‪ ،‬وفوقوا إليه سهام النقد ‪ ،‬وعدوه من الارجي عن الادة ‪ ،‬والفارقي‬
‫للجماعة من غي استدلل منهم بدليل ‪ ،‬بل بجرد العتياد العامي ‪.‬‬
‫ولقد لقي المام بقي بن ملد حي دخل الندلس آتيا من الشرق من هذا الصنف المرين ‪ ،‬حت‬
‫أصاروه مهجور الفناء ‪ ،‬مهتضم الانب ‪ ،‬لنه من العلم با ل يدي لم به ‪ ،‬إذ لقي بالشرق المام‬
‫أحد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ‪ ،‬ولقي أيضا غيه ‪ ،‬حت صنف السند الصنف الذي ل‬
‫يصنف ف السلم مثله ‪ ،‬وكان هؤلء القلدة قد صمموا على مذهب مالك ‪ ،‬بيث أنكروا ما‬
‫عداه ‪ ،‬وهذا تكيم الرجال على الق ‪ ،‬والغلو ف مبة الذهب ‪ ،‬وعي النصاف ترى أن الميع أئمة‬
‫فضلء ‪ ،‬فمن كان متبعا لذهب متهد لكونه ل يبلغ درجة الجتهاد فل يضره مالفة غي إمامه‬
‫لمامه ‪ ،‬لن الميع سالك على الطريق الكلف به ‪ ،‬فقد يؤدي التغال ف التقليد إل إنكار لا أجع‬
‫الناس على ترك إنكاره ‪.‬‬

‫والامس ‪ :‬رأي نابتة متأخرة الزمان من التصوفة‬


‫والامس ‪ :‬رأي نابتة متأخرة الزمان من يدعي التخلق بلق أهل التصوف التقدمي ‪ ،‬أو يروم‬
‫الدخول فيهم ‪ ،‬يعمدون إل ما نقل عنهم ف الكتب من الحوال الارية عليهم أو القوال الصادرة‬
‫عنهم ‪ ،‬فيتخذونا دينا وشريعة لهل الطريقة ‪ ،‬وإن كانت مالفة للنصوص الشرعية من الكتاب‬
‫والسنة ‪ ،‬أو مالفة لا جاء عن السلف الصال ‪ ،‬ل يلتفتون إل فتيا مفت ول نظر عال ‪ ،‬بل يقولون ‪:‬‬

‫‪384‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫إن صاحب هذا الكلم ثبتت وليته ‪ ،‬فكل ما يفعله أو يقلوه حق ‪ ،‬وإن كان مالفا فهو أيضا من‬
‫يقتدى به ‪ ،‬والفقه للعموم ‪ ،‬وهذه طريقة الصوص !‬
‫فتراهم يسنون الظن بتلك القوال والفعال ول يسنون الظن بشريعة ممد صلى ال عليه وسلم ‪،‬‬
‫وهو عي اتباع الرجال وترك الق ‪ ،‬مع أن أولئك التصوفة الذين ينقل عنهم ل يثبت أن ما نقل‬
‫عنهم كان ف النهاية دون البداية ‪ ،‬ول علم أنم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم ل ‪ ،‬وأيضا‬
‫فقد يكون من أئمة التصوف وغيهم من زل زلة يب سترها عليه ‪ ،‬فينقلها عنه من ل يعلم حاله من‬
‫ل يتأدب بطريق كل التأدب ‪.‬‬
‫وقد حذر السلف الصال من زلة العال ‪ ،‬وجعلوها من المور الت تدم الدين ‪ ،‬فإنه ربا ظهرت‬
‫فتطي ف الناس كل مطار ‪ ،‬فيعدونا دينا ‪ ،‬وهي ضد الدين ‪ ،‬فتكون الزلة حجة ف الدين ‪.‬‬
‫فكذلك أهل التصوف ل بد ف القتداء بالصوف من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يكم عليها ‪:‬‬
‫هل هي من جلة ما يتخذ دينا أم ل ؟ والاكم هو الشرع وأقوال العال تعرض على الشرع أيضا ‪،‬‬
‫وأقل ذلك ف الصوف أن نسأله عن تلك العمال إن كان عالا بالفقه ‪ ،‬كالنيد وغيه رحهم ال ‪.‬‬
‫ولكن هؤلء الرجال النابتة ل يفعلون ذلك ‪ ،‬فصاروا متبعي الرجال من حيث هم رجال ل من‬
‫حيث هم راجحون بالاكم الق ‪ ،‬وهو خلف ما عليه السلف الصال وما عليه التصوفة أيضا ‪ ،‬إذ‬
‫قال إمامهم سهل بن عبد ال التستري ‪ :‬مذهبنا مبن على ثلثة أصول ‪ :‬القتداء بالنب صلى ال عليه‬
‫وسلم ف الخلق والفعال ‪ ،‬والكل من اللل ‪ ،‬وإخلص النية ف جيع العمال ‪ .‬ول يثبت ف‬
‫طريقهم اتباع الرجال على انراف ‪ ،‬وحاشاهم من ذلك ‪ ،‬بل اتباع الرجال ‪ ،‬شأن أهل ا لضلل ‪.‬‬

‫والسادس ‪ :‬رأي نابتة ف هذه الزمنة أعرضوا عن النظر‬


‫والسادس ‪ :‬رأي نابتة ف هذه الزمنة أعرضوا عن النظر ف العلم الذي هم أرادوا الكلم فيه والعمل‬
‫بسبه ‪ .‬ث رجعوا إل تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم ف زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم‬
‫التثبت من الخذ ‪ .‬أو التغافل من الأخوذ عنه ‪ .‬ث جعلوا أولئك الشيوخ ف أعلى درجات الكمال ‪.‬‬
‫ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطأ ‪ ،‬أو فهموا عنهم على غي تثبت ول سؤال عن تقيق السألة‬
‫الروية ‪ ،‬وردوا جيع ما نقل عن الولي ما هو الق والصواب ‪ ،‬كمسألة الباء الواقعة ف هذه الزمنة‬
‫‪ ،‬فإن طائفة من تظاهر بالنتصاب للقراء زعم أنا الرخوة الت اتفق القراء ـ وهم أهل صناعة الداء‬
‫‪ ،‬والنحويون ايضا ـ وهم الناقلون عن العرب ـ على أنا ل تأت إل ف لغة مرذولة ل يؤخذ با‬
‫ول يقرأ با القرآن ‪ ،‬ول نقلت القراءة با عن أحد من العلماء بذلك الشأن ‪ ،‬وإنا الباء الت يقرأ با‬
‫ـ وهي الوجودة ف كل لغة فصيحة ـ الباء الشديدة ‪ ،‬فأب هؤلء من القراءة والقراء با ‪ ،‬بناء‬
‫على أن الت قرؤوا با على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك ل هذه ‪ ،‬متجي بأنم كانوا علماء‬

‫‪385‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وفضلء ‪ ،‬فلو كانت خطأ لردوها علينا ‪ .‬وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال التقدمي فيها رأسا‬
‫تسي ظن الرجال ‪ ،‬وتمة للعلم ‪ ،‬فصارت بدعة جارية ـ أعن القراءة بالباء الرخوة ـ مصرحا‬
‫بأنا الق الصريح ‪ ،‬فتعوذ بال من الخالفة ‪.‬‬
‫ولقد ل بعضهم حي وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا ‪ ،‬فكان القرشي القرىء أقرب مراما منهم ‪.‬‬
‫حكي عن يوسف بن عبد ال بن مغيث أنه قال ‪ :‬أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي ‪ ،‬وكان ل‬
‫يسن النحو فقرأ عليه قارىء يوما ‪" :‬وجاءت سكرة الوت بالق ذلك ما كنت منه تيد" فرد عليه‬
‫القرشي تيد بالتنوين ‪ ،‬فراجعه القارىء ـ وكان يسن النحو ـ فلج عليه القرىء وثبت على‬
‫التنوين ‪ .‬فانتشر الي إل أن بلغ يي بن ماهد اللبيي الزاهد ـ وكان صديقا لذا القرىء ـ‬
‫فنهض إليه ‪ ،‬فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن ماهد ‪ :‬إنه بعد عهدي بقراءة القرآن على‬
‫مقرىء فأردت تديد ذلك عليك فأجابه إليه ‪ ،‬فقال ‪ :‬أريد أن أبتدىء بالفصل فهو الذي يتردد ف‬
‫الصلوات ‪ ،‬فقال القرىء ‪ :‬ما شئت ‪ .‬فقرأ عليه من أول الفصل فلما بلغ الية الذكورة ردها عليه‬
‫القرىء بالتنوين‪ ،‬فقال له ابن ماهد ‪ :‬ل تفعل ‪ ،‬ما هي إل غي منونة بل شك ‪ .‬فلج القرىء ‪ ،‬فلما‬
‫رأى ابن ماهد تصميمه قال له ‪ :‬يا أخي إن ل يملن على القراءة عليك إل لتراجع الق ف لطف ‪،‬‬
‫وهذه عظيمة أوقعك يها قلة علمك بالنحو ‪ ،‬فإن الفعال ل يدخلها التنوين ‪ ،‬فتحي القرىء ‪ ،‬إل أنه‬
‫ل يقنع بذا ‪ ،‬فقال له ابن ماهد ‪ :‬بي وبينك الصاحف ‪ .‬فأحصر منه جلة فوجدوها مشكولة بغي‬
‫تنوين ‪ ،‬فرجع القرىء إل الق ‪ .‬انتهت الكاية ‪ .‬ويا ليت مسألتنا مثل هذه ‪ .‬ولكنهم عفا ال عنهم‬
‫أبوا النقياد إل الصواب ‪.‬‬

‫والسابع رأي نابتة أن ما عليه المهور اليوم صحيح بإطلق كإلزام الدعاء بالجتماع عقب‬
‫الصلوات‬
‫والسابع ‪ :‬رأي نابتة أيضا يرون أن عمل المهور اليوم ـ من التزام الدعاء بيئة الجتماع بإثر‬
‫الصلوات ‪ ،‬والتزام الؤذني التثويب بعد الذان ـ صحيح بإطلق ‪ ،‬من غي اعتبار بخالفة الشريعة‬
‫أو موافقتها ‪ ،‬وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة السلمي ‪ ،‬بناءً‬
‫منهم على أمور تبطوا فيها من غي دليل معتب ‪ .‬فنهم من ييل إل أن هذا العمل العمول به ف‬
‫المهور ثابت عن فضلء وصالي علماء ‪.‬‬
‫فلو كان خطأ ل يعملوا به ‪.‬‬
‫وهذا ما نن فيه اليوم ‪ .‬تتم الدلة وأقوال العلماء التقدمي ‪ ،‬ويسن الظن بن تأخر ‪ ،‬وربا نوزع‬
‫بأقوال من تقدم ‪ ،‬فيميها الرامي بالظنون واحتمال الطأ ‪ ،‬ول يرمي بذلك التأخرين ‪ ،‬الذين هم‬
‫أول به بإجاع السلمي ‪ .‬وإذا سئل عن أصل هذا العمل التأخر ‪ :‬هل عليه دليل من الشريعة ؟ ل‬

‫‪386‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫يأت بشيء أو يأت بأدلة متملة ل علم له بتفصيلها ‪ ،‬كقوله هذا خي أو حسن ‪ ،‬وقد قال تعال ‪:‬‬
‫"الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" أو يقول ‪ :‬هذا بر ‪ ،‬وقال تعال ‪" :‬وتعاونوا على الب‬
‫والتقوى" فإذا سئل عن أصل كونه خيا أو برا وقف ‪ ،‬وميله إل أنه ظهر له بعقله أنه خي وبر ‪،‬‬
‫فجعل التحسي عقليا ‪ ،‬وهو مذهب أهل الزيغ ‪ ،‬وثابت عند أهل السنة أنه من البدع الحدثات ‪.‬‬
‫ومنهم من طالع كلم القراف و ابن عبد السلم ف أن البدع خسة أقسام ‪ .‬فنقول ‪ :‬هذا من الحدث‬
‫الستحسن ‪ .‬وربا رشح ذلك با جاء ف الديث ‪:‬‬
‫"ما رآه السلمون حسنا فهو عند ال حسن" وقد مر ما فيه ‪ .‬وأما الديث فإنا معناه عند العلماء أن‬
‫علماء السلم إذا نظروا ف مسألة متهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند ال حسن ‪ ،‬لنه جار‬
‫على أصول الشريعة ‪ .‬والدليل على ذلك التفاق ‪ .‬على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إل‬
‫استحسان حكم شرعي ل يكن عند ال حسنا حت يوافق الشريعة ‪ .‬والذين نتكلم معهم ف هذه‬
‫السألة ليسوا من الجتهدين بإتفاق منا ومنهم ‪ ،‬فل اعتبار بالحتجاج بالديث على استحسان شيء‬
‫واستقباحه بغي دليل شرعي ‪.‬‬
‫ومنهم من ترقى ف الدعوى حت يدعي فيها الجاع من أهل القطار ‪ ،‬وهو ل يبح من قطره ‪ ،‬ول‬
‫بث عن علماء أهل القطار ‪ ،‬ول عن تبيانم فيما عليه المهور ‪ ،‬ول عرف من أخبار القطار خبا‬
‫‪ ،‬فهو من يسأل عن ذلك يوم القيامة ‪.‬‬
‫وهذا الضطراب كله منشؤه تسي الظن بأعمال التأخرين ـ وإن جاءت الشريعة بلف ذلك ـ‬
‫والوقوف مع الرجال دون التحري للحق ‪.‬‬

‫والثامن رأي قوم من تقدم زمان الصنف ومن أهله اتذوا الرجال ذريعة لهوائهم‬
‫والثامن ‪ :‬رأي قوم من تقدم زماننا هذا ـ فضلً عن زماننا ـ اتذوا الرجال ذريعة لهوائهم وأهواء‬
‫من داناهم ‪ ،‬ومن رغب إليهم ف ذلك ‪ ،‬فإذا عرفوا غرض بعض هؤلء ف حكم حاكم أو فتيا تعبدا‬
‫وغي ذلك ‪ ،‬بثوا عن أقوال العلماء ف السألة السؤول عنها حت يدوا القول الوافق للسائل فأفتوا به‬
‫‪ ،‬زاعمي أن الجة ف ذلك لم قول من قال ‪ :‬اختلف العلماء رحة ‪ .‬ث ما زال هذا الشر يستطي‬
‫ف التباع وأتباعهم ‪ ،‬حت لقد حكى الطاب عن بعضهم أنه يقول ‪ :‬كل مسألة ثبت لحد من‬
‫العلماء فيها القول بالواز ـ شذ عن الماعة أو ل ـ فالسألة جائزة ‪ ،‬وقد تقررت هذه السألة‬
‫على وجهها ف كتاب الوافقات ‪ ،‬والمد ل ‪.‬‬

‫والتاسع ما حكى ال عن الحبار والرهبان ف قوله اتذوا أحبارهم ورهبانم أربابا أي العمل‬
‫بأقوالم ف اللل والرام‬

‫‪387‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫والتاسع ‪ :‬ما حكى ال عن الحبار والرهبان قوله ‪" :‬اتذوا أحبارهم ورهبانم أربابا من دون ال"‬
‫فخرج الترمذي عن" عدي بن حات قال ‪ :‬أتيت النب صلى ال عليه وسلم ـ وف عنقي صليب من‬
‫ذهب ـ فقال ‪ :‬يا عدي ‪ ،‬اطرح عنك هذا الوثن ‪ ،‬وسعته يقرأ ف سورة براءة ‪" :‬ومن خفت‬
‫موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم" قال ‪ :‬أما إنم ل يكونوا يعبدونم ‪ ،‬ولكن إذا أحلوا لم شيئا‬
‫استحلوه ‪ ،‬وإذا حرموا عليهم شيئا حرموه" حديث غريب ‪.‬‬
‫وف تفسي سعيد ين منصور قيل لذيفة ‪ ،‬أرأيت قول ال تعال ‪" :‬اتذوا أحبارهم ورهبانم أربابا‬
‫من دون ال" ؟ قال حذيفة ‪ :‬أما أنم ل يصلوا لم ‪ ،‬ولكنهم كانوا ما أحلوا لم من حرام‬
‫استحلوه ‪ ،‬وما حرموا عليهم من حلل حرموه ‪ ،‬فتلك ربوبيتهم ‪.‬‬
‫وحكى الطبي عن عدي مرفوعا إل النب صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وهو قول ابن عباس أيضا وأب‬
‫العالية ‪.‬‬
‫فتأملوا يا أول اللباب ! كيف حال العتقاد ف الفتوى على الرجال من غي تر للدليل الشرعي ‪،‬‬
‫بل لجرد العرض العاجل ‪ ،‬عافانا ال من ذلك بفضله ‪.‬‬

‫العاشر رأي أهل التحسي والتقبيح العقليي‬


‫والعاشر ‪ :‬رأي أهل التحسي والتقبيح العقليي ‪ ،‬فإن مصول مذهبهم تكيم عقول الرجال دون‬
‫الشرع ‪ ،‬وهو أصل من الصول الت بن عليها أهل البتداع ف الدين ‪ ،‬بيث إن الشرع إن وافق‬
‫آراءهم قبلوه ‪ ،‬وإل ردوه ‪.‬‬

‫فالاصل ما تقدم أن تيكم الرجال من غي التفات إل كونم وسائل للحكم الشرعي الطلوب‬
‫شرعا ضلل‬
‫فالاصل ما تقدم أن تكيم الرجال من غي التفات إل كونم وسائل للحكم الشرعي الطلوب شرعا‬
‫ضلل ‪ ،‬وما توفيقي إل بال ‪ ،‬وإن الجة القاطعة والاكم العلى هو الشرع ل غي ‪.‬‬

‫مذهب الصحابة ف التباع وتكيمه ف الناع وشواهد ذلك‬


‫ث نقول ‪:‬إن هذا مذهب الصحابة رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬ومن رأى سيهم والنقل عنهم‬
‫وطالع أحوالم علم ذلك علما يقينا ‪ .‬أل ترى أصحاب السقيفة لا تنازعوا ف المارة ‪ ،‬حت قال‬
‫بعض النصار منا أمي ومنكم أمي فأتى الب عن رسول ال صلى ال عليه وسلم بأن ‪:‬‬
‫" الئمة من قريش " أذعنوا لطاعة ال ورسوله ول يعبؤوا برأي من رأى غي ذلك ‪ ،‬لعلمهم بأن الق‬
‫هو التقدم على آارء الرجال ‪.‬‬

‫‪388‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫التنازع على المارة وقتال مانعي الزكاة‬


‫ولا أراد أبو بكر رضي ال عنه قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالديث الشهور ‪ ،‬فرد عليهم ما‬
‫استدلوا به بغي ما استدلوا به وذلك قوله ‪" :‬إل بقها" فقال ‪ :‬الزكاة حق الال ‪ ،‬ث قال ‪ :‬وال‬
‫منعون عقالً أو عناقا كانوا يؤدونه إل رسول ال صلى ال عليه وسلم لقاتلتهم عليه‬
‫فتأملوا هذا العن فإن فيه نكتتي ما نن فيه ‪:‬‬
‫أحداها ‪ :‬أنه ل يعل لحد سبيلً إل جريان المر ف زمانه على غي ما كان يري ف زمان رسول‬
‫ل ‪ ،‬وف القسم‬‫ال صلى ال عليه وسلم وإن كان بتأويل ‪ ،‬لن من ل يرتد من الانعي إنا منع تأوي ً‬
‫وقع الناع بي الصحابة ل فيمن ارتد رأسا ‪ .‬ولكن أبا بكر ل يعذر بالتأويل والهل ‪ ،‬ونظر إل‬
‫حقيقة ما كان المر عليه فطلبه إل أقصاه حت قال ‪ :‬وال لو منعون عقا ًل ‪ ...‬إل آخره ‪ .‬مع أن‬
‫الذين أشاروا عليه بترك قتالم إنا أشاروا عليه بأمر مصلحت ظاهر تعضده مسائل شرعية ‪ ،‬وقواعد‬
‫أصولية ‪ ،‬لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا ‪ ،‬فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض‬
‫الدليل الظاهر ‪ ،‬فالتزمه ‪ ،‬ث رجع الشيون عليه بالترك إل صحة دليله تقديا للحاكم الق ‪ ،‬وهو‬
‫الشرع ‪.‬‬

‫بعث أسامة‬
‫والثانية ‪ :‬أن ابا بكر رضي ال عنه ل يلتفت إل ما يلقى هو والسلمون ف طريق طلب الزكاة من‬
‫مانعيها من الشقة إذ لا امتنعوا صار مظنة للقتال وهلك من شاء من الفرقتي ‪ ،‬ودخول الشقة على‬
‫السلمي ف النفس والموال والولد ولكنه رضي ال عنه ل يعتب إل إقامة اللة على حسب ما‬
‫كانت قبل ‪ ،‬فكان ذلك أصلً ف أنه ل يعتب العوارض الطارئة ف إقامة الدين وشعائر السلم ‪ ،‬نظي‬
‫ما قال ال تعال ‪" :‬إنا الشركون نس فل يقربوا السجد الرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة‬
‫فسوف يغنيكم ال من فضله" فإن ال ل يعذرهم ف ترك منع الشركي خوف العيلة ‪ ،‬فكذلك ل‬
‫يعد أبو بكر ما يلقى السلمون من الشقة عذرا يترك به الطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت ف‬
‫زمان النب صلى ال عليه وسلم وجاء ف القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول‬
‫ال صلى ال عليه وسلم مع أسامة بن زيد ـ ول يكونوا بعد مضوا لوجهتهم ـ ليكونوا معه عونا‬
‫على قتال أهل الردة فأب من ذلك ‪ ،‬وقال ‪ :‬ما كنت لرد بعثا أنفذه رسول ال صلى ال عليه وسلم‬
‫‪ .‬فوقف مع شرع ال ول يكم غيه ‪.‬‬
‫وعن النب صلى ال عليه وسلم أنه قال ‪" :‬إن أخاف على أمت من بعدي من أعمال ثلثة ‪ .‬قالوا ‪:‬‬
‫وما هي يا رسول ال ؟ قال ‪ :‬أخاف عليكم من زلة العال ‪ ،‬ومن حكم جائر ‪ ،‬ومن هوى متبع" ‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫وإنا زلة العال بأن يرج عن طريق الشرع ‪ ،‬فإذا كان من يرج عنه فكيف يعل حجة على‬
‫الشرع ؟ هذا مضاد لذلك ‪.‬‬

‫قول عمر ف الثلث الادمات الدين‬


‫ولقد كان كافيا من ذلك خطاب ال لنبيه وأصحابه ‪" :‬فإن تنازعتم ف شيء فردوه إل ال والرسول"‬
‫الية ‪ ،‬مع أنه قال تعال ‪" :‬أطيعوا ال وأطيعوا الرسول وأول المر منكم " وقوله تعال ‪ " :‬وما كان‬
‫لؤمن ول مؤمنة إذا قضى ال ورسوله أمرا أن يكون لم الية من أمرهم " ‪ ،‬ولذلك قال عمر بن‬
‫الطاب رضي ال عنه ‪ :‬ثلث يهدمن الدين ‪ :‬زلة العال ‪ ،‬وجدال منافق بالقرآن ‪ ،‬وأئمة مضلون ‪.‬‬
‫وعن ابن مسعود رضي ال عنه أنه كان يقول ‪ :‬اغد عالا أو متعلما ‪ ،‬ول تغد إمع ًة فيما بي ذلك ‪.‬‬
‫قال ابن وهب ‪ :‬فسألت سفيان عن المعة فقال ‪ :‬المعة ف الاهلية الذي يدعى إل الطعام فيذهب‬
‫معه بغيه وهو فيكم اليوم الحقب دينه الرجال ‪.‬‬

‫نصيحة علي لكميل بن زياد‬


‫وعن كميل بن زياد أن عليا رضي ال عنه قال ‪ :‬يا كميل ‪ :‬إن هذه القلوب أوعية فخيها أوعاها‬
‫للخي ‪ ،‬والناس ثلثة ‪ :‬فعال ربان ‪ ،‬ومتعلم على سبيل ناة ‪ ،‬وهج رعاع ‪ ،‬أتباع كل ناعق ‪ ،‬ل‬
‫يستضيئوا بنور العلم ‪ ،‬ول يلجؤوا إل ركن وثيق ‪ ،‬الديث إل أن قال فيه ‪ :‬أف لامل حق ل‬
‫بصية له ‪ ،‬ينقدح الشك ف قلبه بأول عارض من شبهة ل يدري أين الق ‪ ،‬إن قال أخطأ ‪ ،‬وإن‬
‫أخطأ ل يدر ‪ ،‬مشغوف با ل يدري حقيقته ‪ ،‬فهو فتنة لن فت به ‪ ،‬وإن من الي كله ‪ ،‬فاعرف ال‬
‫دينه ‪ ...‬وكفى أن ل يعرف دينه ‪.‬‬
‫ل ‪ ،‬إن آمن آمن ‪ ،‬وإن كفر كفر ‪،‬‬ ‫وعن ابن مسعود رضي ال عنه ‪ :‬أل ل يقلدون أحدكم دينه رج ً‬
‫فإنه ل أسوة ف الشر ‪ .‬وهذا الكلم من ابن مسعود بي مراد ما تقدم ذكره من كلم السلف ‪ ،‬وهو‬
‫النهي عن اتباع السلف من غي التفات إل غي ذلك ‪.‬‬
‫وف الصحيح عن أب وائل قال ‪ :‬جلست إل شيبة ف هذا السجد قال ‪ :‬جلس إل عمر ف ملسك‬
‫هذا قال ‪ :‬همت أن ل أدع فيها صفراء ول بيضاء إل قسمتها بي السلمي ‪ ،‬قلت ‪ :‬ما أنت بفاعل‬
‫‪ .‬قال ‪ :‬ل ؟ قلت ‪ :‬ل يفعله صاحباك ‪ .‬قال ‪ :‬ها الرءان أهتدي بما ‪ .‬يعن النب صلى ال عليه‬
‫وسلم وأبا بكر رضي ال عنه ‪.‬‬
‫وعن ابن عباس رضي ال عنهما ف حديث عيينة بن حصن حي استؤذن له على عمر ‪ ،‬قال فيه ‪:‬‬
‫فلما دخل قال ‪ :‬يابن الطاب ! وال ما تعطينا الزل ‪ ،‬وما تكم بيننا بالعدل ‪ .‬فغضب عمر حت‬
‫هم بأن يقع فيه ‪ ،‬فقال الر بن قيس ‪ :‬يا أمي الؤمني ‪ :‬إن ال قال لنبيه عليه الصلة والسلم ‪" :‬خذ‬

‫‪390‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الاهلي" فوال ما جاوز عمر حي تلها عليه ‪ ،‬وكان وقافا عند‬
‫كتاب ال ‪.‬‬
‫وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلة والسلم ‪" :‬فأما الؤمن ـ أو السلم ـ فيقول ‪:‬ممد‬
‫جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا ‪ ،‬فيقال ‪ :‬ن صالا قد علمنا أنك موقن ‪ .‬وأما النافق أو الرتاب فيقول‬
‫‪ :‬ل أدري ‪ ،‬سعت الناس يقولون شيئا فقلته" ‪.‬‬
‫وحديث ماصمة علي والعباس عمر ف مياث رسول ال صلى ال عليه وسلم ‪ ،‬وقوله لرهط‬
‫الاضرين ‪ :‬هل تعلمون أن رسول ال صلى ال عليه وسلم قال ‪:‬‬
‫" ل نورث ما تركناه صدقة " فأقروا بذلك ـ إل أن قال لعلي والعباس ‪ " :‬أفتلتمسان من قضاء غي‬
‫ذلك ؟ فوال الذي بإذنه تقوم السماء والرض ل أقضي فيها قضاءً غي ذلك حت تقوم الساعة "ـ‬
‫إل آخر الديث‬

‫ترجة البخاري لباب العمل بالشورى‬


‫وترجم البخاري ف هذا العن ترجة تقتضي أن حكم الشارع إذا وقع وظهر فل خية للرجال ول‬
‫اعتبار بم ‪ ،‬وأن الشاورة إنا تكون قبل التبيي ‪ .‬فقال ‪ :‬باب قول ال تعال ‪ " :‬وأمرهم شورى‬
‫بينهم " "وشاورهم ف المر" وأن الشاورة قبل العزم والتبيي لقوله تعال ‪" :‬فإذا عزمت فتوكل على‬
‫ال" فإذا عزم الرسول ل يكن لبشر التقدم على ال ورسوله ‪ .‬وشاور النب صلى ال عليه وسلم‬
‫أصحابه يوم أحد ف القام والروج ‪ ،‬فرأوا له الروج ‪ ،‬فلما لبس لمته قالوا أقم ‪ ،‬فلم يل إليهم‬
‫بعد العزم ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫" ل ينبغي لنب يلبس لمته فيضعها حت يكم ال" ‪ .‬وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الفك‬
‫عائشة رضي ال عنها ‪ ( ،‬فسمع منهما ) حت نزل القرآن فجلد الرامي ول يلتفت إل تنازعهم ‪،‬‬
‫ولكن حكم با أمره ال ‪.‬‬
‫وكانت الئمة بعد النب صلى ال عليه وسلم يستشيون المناء من أهل العلم ف المور الباحة‬
‫ليأخذوا بأسهلها ‪ ،‬فإذا وقع ف الكتاب والسنة ‪ ،‬ل يتعدوه إل غيه ‪ ،‬اقتداءً بالنب صلى ال عليه‬
‫وسلم ‪ .‬ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر ‪ :‬كيف تقاتل وقد قال رسول ال صلى ال‬
‫عليه وسلم ‪:‬‬
‫"أمرت أن أقاتل الناس حت يقولوا ل إله إل ال ‪ ،‬فإذا قالوا ‪ ( :‬ل إله إل ال ) عصموا من دماءهم‬
‫وأموالم إل بقها وحسابم على ال" ؟ ث تابعه بعد عمر ‪ .‬فلم يلتفت أبو بكر إل مشورة ‪ ،‬إذ كان‬
‫عنده حكم رسول ال صلى ال عليه وسلم ثابتا ف الذين فرقوا بي الصلة والزكاة وأرادوا تبديل‬

‫‪391‬‬
‫الشاطبي‬ ‫كتاب العتصام‬

‫الدين وأحكامه وقال النب صلى ال عليه وسلم ‪ " :‬من بدل دينه فاقتلوه " وكان القراء أصحاب‬
‫مشورة عمر كهولً كانوا أو شبانا ‪ ،‬وكت وقافا عند كتاب ال ‪.‬‬
‫هذا جلة ما قال ف جلة تلك الترجة ما يليق بذا الوضع ‪ ،‬ما يدل على أن الصحابة ل يأخذوا‬
‫أقوال الرجال ف طريق الق إل من حيث هم وسائل للتوصل إل شرع ال ‪ ،‬ل من حيث هم‬
‫أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم ‪.‬‬
‫وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ‪ ،‬عن ابن القاسم ‪ ،‬عن مالك أنه قال ‪ :‬ليس كل ما قال رجل‬
‫قولً وإن كان له فضل يتبع عليه لقول ال عز وجل ‪" :‬الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه" ‪.‬‬

‫فصل إذا ثبت أن الق هو العتب دون الرجال‬


‫إذا ثبت أن الق هو العتب دون الرجال فالق أيضا ل يعرف دون وسائطهم بل بم يتوصل إليه وهم‬
‫الدلء على طريقه ‪.‬‬
‫انتهى القدر الذي وجد من هذا التأليف ول يكمله الؤلف رحه ال تعال ‪.‬‬

‫‪392‬‬

You might also like