Professional Documents
Culture Documents
CLS Volume 3 Issue 12 Pages 22-40
CLS Volume 3 Issue 12 Pages 22-40
بالء السديم
ُ
سوريالي) ات من أعمال ٍ
كاتب (مختار ٌ
ّ
ترجمة
بشير السباعي
وآخرين
1
جان جاك لوتي
بشير السباعي
ٍ
كابالت تعرفون كل تلك األكشاك الرمادية الباهتة الملساء التي تحتوي تارة على محو ٍ
الت كهربائية قوية وتارة أخرى على
عالية التردد والتي تجدون على جوانبها عبارة قصيرة تحذركم " :ال تفتحوا :خطر الموت" .حسناً! ،إن السوريالية هي شيء كتبت
عليه يد ال حصر ألصابعها رداً على الصيغة السابقة " :نرجوكم أن تفتحوا :خطر الحياة".
جورج حنين
بلد ذو تقاليد شعرية ترجع إلى زمن بعيد ،إنما تطرح نفسها دفعة واحدة بوصفها وريثة
إن الحركة السوريالية في مصر ،وهي ٌ
رامبو ولوتريامون وجاري .وهي حركة تحث على صدم األساليب المألوفة الستجابات الحواس ،وتنشر مزاج السخرية السوداء،
وتحرض على التمرد على كل ما من شأنه اإلخالل بالحرية المطلقة .وبهذا فإنها تمس جميع مجاالت المعرفة وال تتركها على
حالها .وما الخيارات السياسية للحركة السوريالية غير نتائج طبيعية مصاحبة لهذه المواقف كلها .ويترتب على ذلك ،خاصة في
المجال األدبي ،أن السورياليين يرفضون التقنيات التقليدية (والتي من العجب أن لوي آراجون قد رد إليها االعتبار) .وهم يدعون
أنصارهم إلى مواصلة البحث عن الجدة واالبتكار وعن الخارج عن المألوف ملتمسين في ذلك جميع الوسائل الممكنة ومؤكدين لهذا
البحث على شتى المستويات الممكنة .كما أنهم ،أخي اًر ،يثيرون الشبهات والريب حول اللغة التي تنطوي على الكثير من العادات
والمألوفات والكوابح والقيود ،وتسدل ستا اًر وحجاباً على الحياة.
والحال أن الناطقين بالعربية كانوا ال يعرفون آنذاك من الناحية الفعلية أي شيء يتصل بهذه الحركة كما كانوا ال يعرفون أياً
من الكتاب الذين تعتبرهم السوريالية أسالفاً لها أو منتمين إليها .أما الناطقون بالفرنسية (في مصر) ،والذين تلقوا تعليمهم في
مدارس تتميز بقدر بالغ من محدودية اآلفاق ،علمانيةً كانت هذه المدارس أم دينية ،فناد اًر ما أتيحت لهم الفرصة ،خالل دراستهم
المدرسية ،للتعامل مع إبداع الكتاب الذين كان من شأن تحررهم في الموقف من األخالق واللغة أن يصدم المجتمع الذي يعلي من
شأن الرزانة والتعقل .وهكذا فإن الحركة السوريالية ،بمواقفها المضادة لالتباعية ،قد هزت ما يستحسن تسميته بالمؤسسة المحلية.
وكان الناطقون بالفرنسية ،خاصة األكثر شباباً بينهم ،هم أول من يصغون لألصوات الجديدة وأول من ين َكبُّون على مناقشتها .أما
الصحافة األدبية المصرية ،وهي عزبة للمتقدمين في العمر ،فقد للت من جهتها جد متحفلة وان كانت لم تحرم نفسها أحياناً من
التهكم على محاوالت المجددين.
2
وفي عام ،1937في إطار جماعة المحاولين ،وهي منتدى ثقافي بالقاهرة ،شجب جورج حنين بعنف – خالل جلسة نلمت
تكريماً للشاعر المستقبلي مارينيتي – تواطؤ الشعر مع اإلمبريالية اإليطالية في األعمال األدبية للفاشية .وقد أدى الصدام إلى
انشقاق في صفوف الجماعة الصغيرة وابتعد جورج حنين عنها .وعندئذ ،أسس جماعة الفن والحرية ،وهي جماعة تجاوبت فو اًر مع
نداء أندريه بريتون في البيان الذي يحمل عنوان:من أجل فن ثوري حر .وقد وقعه جورج حنين مع الباقين ،في عام ،1938في
مكسيكو ،جنباً إلى جنب دييجو ريبيرا)1( .
وقد نشرت الجماعة الجديدة آنذاك بياناً تحت عنوان :يحيا الفن المنحط! )2( ،وهو عبارة عن احتجاج على الحلر الذي
فرضه هتلر على فن التصوير الحديث ،كما دعا البيان الفنانين الشبان إلى التعبير عن مزاجهم الشخصي والى التمرد على المبادئ
الموروثة الجاهزة .واليكم الفقرة األغنى بالمعاني في تلك الوثيقة:
"من المعلوم لنا بأي قدر كبير من العداوة ينلر المجتمع القائم إلى كل إبداع أدبي وفني يهدد على نحو مباشر إلى هذا
الحد أوذاك األنساق الفكرية والقيم المعنوية التي يتوقف على صونها إلى حد كبير استم ارره هو – بقاؤه.
"وتبرز هذه العداوة اليوم بشكل واضح في البلدان الشمولية ،خاصة في ألمانيا الهتلرية ،عبر العدوان األكثر خسة ودناءة
على فن يصفه الهمج المزينون بشرائط ضباط والذين جرت ترقيتهم إلى رتبة المحكمين العليمين بكل شيء ،بأنه فن منحط...
"أيها المثقفون والكتاب والفنانون! فلنواجه التحدي يداً واحدة .إننا نتضامن تضامناً مطلقاً مع هذا الفن المنحط .ففيه تكمن
كل وعود المستقبل .فلنعمل على انتصاره على العصور الوسطى الجديدة التي ترفع رأسها في قلب الغرب" (ديسمبر .)1938
وبعيد ذلك أسس جورج حنين معرض الفن الحر .وقد رعى مجلة أسبوعية اسمها:دون كيشوت ( 12عدداً) .ومن بين من
كتبوا لها نتذكر :ريمون أجيون وكورييل ورمسيس يونان وسانتيني ومنير حافل وماري كافاديا .وقد نجح جورج حنين أخي اًر في تهيئة
األذهان للتعامل مع ما تدخره لها الحرب العالمية الثانية من مستجدات .ولنذكر بسرعة أسماء عدد من الفنانين األجانب الذين
أبقتهم الحرب العالمية الثانية في مصر :إيريك دو نيميش ،وهو رسام روماني متنوع المواهب ،وديفيد دو بيتيل ،وهو رسام انجليزي
يتميز بأعمال غير مألوفة .وكتاب مثل جون فليمينج وويليام ويلز وجون ميلر .وكانوا كلهم أعضاء في جماعةالسمندر التي أسسها
في القاهرة ج .بوليت .وكانت مكتبة َّ
ركاح في القاهرة إلى جانب مرسمي إيريك دو نيميش وديفيد دو بيتيل هي أماكن اللقاء .وهناك
كان يلهر جورج حنين وأصدقاؤه عندما ال يلتقون في بيته .وبهذا الشكل ،فإن عدداً كبي اًر من الفنانين المحليين ،مثل كامل
التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان وسمير رافع ...يكتشفون مالم يكن بوسعهم أن يجدوه في أي مكان آخر .لكننا سوف نرجع
إلى الحديث عن ذلك فيما بعد.
في عام ،1947سوف يصدر جورج حنين وادمون جابس مجلة البار دو سابل ،وسوف تصدر منها ستة أعداد حتى عام
، 1953وسوف تلهر على صفحاتها نصوص مؤسسيها ونصوص أصدقائهم :إيف بونفوا و م .بالنشار و سي .لوسيه وهنري
باستورو وكثيرين غيرهم .وسرعان ما تصبح البار دو سابل العنوان العام لمجموعة كتابات يصدر منها على التعاقب في مائة
نسخة فقط للعمل الواحد األعمال التالية:
3
-5إ .بونفوا :المسرح الدائري 1949 ،
وليس من غير المفيد التذكير بأن جورج حنين واقبال العاليلي ،زوجته ،قد أسسا أيضاً دار نشر ماس نحو أواخر الحرب .وهكذا
فقد نشرا ،ليس دون نجاح ،األعمال التالية:
-1ألبير قصيري :منزل الموت المحقق (رواية) .1944 ،كما صدرت في الوقت نفسه ترجمة إنجليزية لها.
كما كتب جورج حنين في المجالت العربية لذلك الزمن ،خاصة مجلة التطور ،حيث تلهر ترجمة لـ فصل في الجحيم آلرتور
رامبو ،كما كتب في المجلة الجديدة .وكتب في مجالت فرنسية مثل لي ليتر نوفيل و ال فليش و ليزامبل و لي كاييه دو
سود .وال يجب أن ننسى أنه كان واحداً من محركي مجلة ايتود ميديتيرانيين وفيو (نيو يورك) وفي -في -في(نيويورك) و لوسي
بلو (بروكسل) و بلو (بروكسل) و إدَّا (بروكسل) و لي دوسور(بروكسل) و بوا (بوينوس آيريس) ...وفي مصر ،لهرت
ايجيبسين و جورنال ديجيبت و نيل و بروجريه اجيبسيا ،كما لهرت في المجالت التالية
ّ نصوصه في البورص
يجيبسين و ال ريفي دو كير و كارفور و فالير و لوازير .ويصعب اليوم الوصول إلى الصحف المصرية
ّ :أنيفور و السومين ا
التي صدرت بالفرنسية ،وهو أمر نأسف له.
*
بعد أن عرضنا النشاط الثقافي الذي قام به جورج حنين وجماعته ،من المناسب أن ننلر في إسهاماته األدبية األساسية.
كان عنوان واحد من أعمال جورج حنين الشعرية :ال مبررات الوجود ( ،)1938وهو عنوان يشكل في حد ذاته تحدياً بالفعل.
والحال أن القصائد ،مثلما هي الحال إلى حد ما عند بريتون أو بريفير ،إنما تتدافع كشالل من الصور غير المألوفة التي تتالطم،
ثم تنفجر كأسهم نارية .لكن هذا كله بعيد عن أن يكون مجانياً أو اعتباطياً .فخلف السطور ،يتضح المراد :إن صورة خطية تتراكب
على صورة أخرى ودون أن تطمس مع ذلك الصورة األولى ،بينما تلهر بالفعل صورة ثالثة وهلمج اًر .ووراء المجازات الخاطفة،
بالرغم من أنها جد مشوهة وجد شاذة ،تبقى تيمة متصلة ،هي تيمة الزمن .ذلكم هو الساحر العليم – بحسب بودلير – والذي
يحول كل شيء ،األشخاص واألشياء .ويمكننا عندئذ أن نتساءل ما إذا لم تكن مجازات جورج حنين إعادات خلق ال نهائية للزمن.
والبد لنا من أن نسجل أنه في حين أن هذه األخيرة بعيدة عن أن تدور في الزمن إالَّ أنها في األغلب متزامنة .إن القصيدة تتقدم
4
وهي تنشر صورها مع اقتحامها المتواصل لألعماق .وهي تنتج ،عبر التتابع ،أبعادها الخاصة .إالَّ أن من األحرى بنا أن ندع
جورج حنين يوضح بنفسه معنى واتجاه الصورة في شعره:
"حتى يتسنى لنا ،كما يشدد على ذلك رامبو ،أن نكون في المقدمة ،حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آن واحد ما له صورة
وما ليس له صورة ،يجب بشكل واضح وفي المقام األول أن نتخلى عن كل ما يتعارض ،في األطر القديمة للشعر وللتعبير
الشعري ،بل وألسلوب عمل الذهن ،مع السير نحو المجهول ،مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة .واذا
كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها ،أفال يرجع ذلك ببساطة إلى أن الصور التي استخدمها الشعراء كانت قد
وصلت إلى درجة تشبع ال تنتج غير صور مقفلة؟ أال يرجع ذلك إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم
ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها ،بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء ،قد فرضت تداعيات جديدة
لصور توسع إحداها األخرى على مدى البصر ،لصور مفتوحة ،لصور نوافذ؟
"هنا ،من حقكم أن تتساءلوا :وما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و "الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من األمثلة السريعة أن
تسهم في إيقافنا على هذا األمر.
"فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة" :مركبة الليل التي تتقدم"؟ الشيء سوى ما هو مجاز ومعترف به بالفعل .زحف الللمات المهيب
على األرض - ،حيث المركبة في الشفرة الشعرية ،هي األداة التي ترتبط بشكل عادي تماماً مع فكرة المهابة .لكن ذلك ال ينشئ
أية عالقة جديدة بيننا وبين الليل ،والحق أننا لسنا بإزاء تذكير .وهو تذكير ملون بالكاد بإشارة جد عمومية ال يتوجب بعد أن يوجد
مجال للعودة إليها .وهذه الصورة تنقفل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريرة منذ زمن بعيد .وهو مقرر إلى حد بعيد
بحيث أننا ال نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه مع الشاعر ،حيث ال يمكننا أن ننتلر – ال نحن وال الليل – شيئاً من وراء
ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبررات عتيقة للنلر ،ال شك أن مراعاتها ال طائل من ورائها.
"وفي هذه الحالة المحددة ،تتقدم مركبة الليل ماشاء لها أن تتقدم ،بال طائل ،أما الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء ،يتراجع بشكل ال
عالج له.
"لننلر اآلن في "فالح باريس" ،حيث تنتشر في باقات من الكريستال العبقرية الشعرية آلراجون الذي نحبه ،والذي لم تكن قد
أفسدته بعد تقلبات حياته وزوجته وحزبه .فما الذي نقرأه هناك؟
"على مدار ٍ
عام كامل شددت بنواجذي على شعور من السرخس .عرفت شعو اًر من الراتنج وشعو اًر من الزبرجد وشعو اًر من
الهستيريا .شقراء كالهستيريا ،شقراء كالسماء ،شقراء كالتعب ،شقراء كالقبلة ....كم هو أشقر صخب المطر ،كم هو أشقر غناء
المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة ،من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط ،من اللدغة إلى األغنية .ما
أكثر ال ُشقرات ،ما أكثر الجنون)....
"هاكم إذاً ،أليس األمر كذلك؟ موجة من الصور المفتوحة ،مفتوحة على ما ال نهاية له من العالقات الجديدة والمثرية بين الكائن
وأكثر ما يهمه في المرأة ،في الطبيعة ،في الحب .إن كل صورة من هذه الصور تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها .وخبرة
5
المرء الشخصية ،بقدر ما ال يكون المرء جثة بالفعل ،سرعان ما تتخذ مله اًر جديداً من جراء ذلك ،ثم إنها ،بدورها ،تحوز فرصاً
إلنماء ،أي إلثراء الرؤية األولى التي تدين لها بزخمها .والحال أن آراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا ،في صفحة أخرى من
"فالح باريس" هذا نفسه ،عن فضيلة الصورة المفتوحة التي ،إذ تصل إلى أقصى انفتاح لها ،تصبح الصورة السوريالية:
"(إن الرذيلة المسماه بالسوريالية هي عبارة عن االستخدام الخارج عن األعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة ،أو باألحرى
لالستفزاز المنفلت للصورة ألجله في حد ذاته وألجل ما يستتبعه في مجال تمثيل االنقالبات التي يصعب التنبؤ بها والتحوالت
الغريبة :إن كل صورة ،في كل لحلة ،إنما ترغمكم على مراجعة الكون برمته)".
(مقتطف من إشعاع الروح الشعرية الحديثة المنبثق من باريس .القاهرة" ،ريفي دي كونفرانس فرانسيز أن أوريون" العدد ،5
مايو ،1945ص ص .)296 – 295
*
بعد هذا الطرح يمكننا أن نفهم على نحو أفضل موقف جورج حنين وطرائقه األدبية .وفي عمل آخر عنوانه :من أجل وعي منتهك
للمحرمات ( ،)1944يزعم النقد أن الكاتب يتحدث فيه عن السياسة وأن الكراس قد كتب ضد نلام معين .ربما .إالَّ أننا نرى بشكل
خاص أنه قد كتب بهدف إعطاء الكلمات جسامتها وبهدف إعطاء الوعي قدرته على التساؤل.
في عام ،1948يقطع جورج حنين صلته بالحركة السوريالية التي كان قد انضم إليها منذ عام .1936وهو يواصل ،منذ ذلك
الحين ،طريقه بمفرده ،متجنباً كل تضخيم للمخيلة الشعرية .فهو يعمل عن طريق الحذف ويتقدم عبر اإللغاء .وقد بدا له أن هذا
النهج في التصرف إنما يسمح له بإضفاء قوة وحياة على صور أساسية ،على مواقف وحاالت تفك عقد الوجود .والحال أن عدداً
من القصائد في مجموعة "المتنافر" ( )1949وصفحات معينة في "العتبة المحرمة" إنما تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد.
لم يحاول جورج حنين فرض تيمات جديدة ،بل حاول إنعاش بيئة شعرية واطالق حرية شكل من أشكال التعبير ومن الرؤية ينبثق
من التداعيات التلقائية والمحفوفة باالحتماالت غير المتوقعة .وهو ينكب بعد ذلك على المادة التي تكونت لينلر فيها نلرة تتميز
بقدر كبير جداً من الصرامة والقسوة ،ليس البتة بهدف رفض الفوضى المقدسة التي احتفى بها رامبو ،وانما بهدف إعادة هذه
الفوضى إلى خطوطها األساسية ،إلى لحلاتها الحاسمة.
*
من بين الشركاء األوائل ،أشرنا إلى جانب جورج حنين إلى اسم إدمون جابس .وقد اكتشف بمفرده ،في صدر شبابه ،مرشده إلى
السوريالية :ماكس جاكوب ،الذي كان هو نفسه قد تخلى عنه السورياليون .وقد نصح ماكس جاكوب جابس باالتصال ببول ايلوار
في ، 1937/1936وهو ما فعله بالفعل .وقد سارع جابس ،لدى عودته إلى القاهرة ،إلى التعريف بماكس جاكوب ،بل إنه قد نشر
الرسائل الذي كان هذا األخير قد أرسلها إليه .وقد طلب جورج حنين إلى إدمون جابس أن يرتبط بشكل رسمي أكثر إلى الحركة
التي أسسها .وكما ذكرنا أعاله ،فقد اشتركا في تأسيس البار دو سابل .كما لعب إدمون جابس دو اًر ثقافياً ال ينكر .وعلى أثر
خالف مع صديقه ،أسس جابس وأشرف على مجموعته الخاصة :لو شيما دي سورس ونشر األعمال التالية في مائتي نسخة فقط
للعمل الواحد:
6
أما فيما بتعلق بعمله الشعري ،فقد نشر جابس بين عامي 1930و 1947ست مجموعات شعرية ،في القاهرة .وقد حاول أن
يوضح لقرائه الحائرين ،وقوف الحلم األبدي في وجه األرق ،بما فيه من مسرات وخيبات أمل .كما نرصد في قصائده ميالً واضحاً
إلى الشعوذة اللفلية وشكالً من الخبث الطفولي إلى جانب رغبة صادقة في التحرر من القيود العروضية .والحال أن هذه الروح
المتمردة قد استخلصت لحسابها شيئاً من خيال ماكس جاكوب .وبعد أن أدت األحداث إلى نضج الشاعر ،أحداث حربي أسبانيا
والحبشة ثم أحداث الحرب العالمية الثانية ،فإنه يتوقف عن اللعب بالتورية ،إالَّ أنه بما أنه كان شبه جاد شبه مازح دائماً ،فقد نشر
سلسلة من "األغنيات" التي تلخص كل م اررة الحياة والمجتمع وفيما بعد ،حتى بعد لهور أعمال رئيسية مثل أشيد داري ()1959
أو كتاب األسئلة أوحتى ايل أو الكتاب األخير ( ،)1973فإننا نلحل أن رؤية جابس للكائنات ولألشياء هي رؤية فريدة .وال مراء
في أنها رؤية أكثر اتصاالً بالواقع مما باالستشباح ،تجتمع ،عالوة على ذلك ،مع سذاجة موقف بكر تماماً من العالم .وال يفتقر
إدمون جابس إلى االستغالل الصارم ألبسط زوايا الحياة الباطنية.
*
في الحركة السوريالية في مصر ،احتلت ماري كافاديا ( )1970-1901مكانة خاصة إلى حد ما .لقد كانت من أوائل من دعموا
نشاط حنين وجابس األدبي ،حيث فتحت له أوسع أبواب صالونها بل وعرضت نفسها للخطر من جراء ذلك .ومازال إنتاجها
الشعري مبعث اًر في المجالت المحلية بحيث يصعب الوصول إليه .أما فيما يتعلق بمجموعاتها ،فهي تقتصر على إعادة إصدار
لكتاب الربيع ( )1943وعلى سلسلة من الحكايات لهرت تحت عنوانبشرة المالك ( .)1944وهذا العمل األخير وحده هو الذي
يمكن اعتباره سوريالياً بحكم موضوعه أوالً ،ثم بحكم استخدامه لعدد من المكمالت المالزمة للسوريالية :اللقاءات غير المتوقعة،
االختفاءات ،الممسوخات ،وخاصة بحكم استخدام ألفال جديدة يتكفل السياق بتوضيحها :بليز ،ريشي ،موردور ...كما نرصد
إحساساً مثي اًر أبدياً باأللم الروحي وبالرعب وبالمستحيل إدراكه وبالقسوة وبالشبق الحزين وباإليمان بأباطيل التطير والذي يفضي إلى
اإلشارات األكثر مدعاة لالستغراب.
*
واذا كان حنين وجابس قد لال ضمن اإلطار الدقيق للسوريالية ،إالَّ أن الكتاب الذين جاءوا بعدهما قد أعطوا األولوية لعدد من
الجوانب جد المحددة لهذا النهج في اإلبداع .وهكذا فإن حورس شنودة ( ولد عام )1917قد حافل في
عمليه :استيهامات ( )1942و الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم ( )1946على غرابة الصورة .وتحت فوضى لاهرية بأكثر
مما هي واقعية ،فإن عمق الفكر يتحالف عنده مع المنطق الباطني .وهذا هو ما يختلف فيه اختالفاً أساسياً مع السورياليين الذين
يحتقرون وينبذون كل منطق ،وكل سيطرة للعقل .فخالفاً للحال عندهم ،نجد أن الرؤى والصور التي تنسرب في شعره إنما ترغم
القارئ على التوقف والتأمل .عندئذ تلهر بشكل واضح فلسفة كاملة عبر الرموز الحلمية العزيزة على المدرسة السوريالية.
إن بعض القصائد هي عبارة عن رؤى مهلوسة عن الرذيلة ،في حين أن بعضها األخر ،في المقابل ،إنما يدفع القارئ إلى عتبة
ٍ
منتش .والحال الروحانيات .ونادرون هم الشعراء الذين ألقوا نلرة أكثر حدة من نلرته هو على األحالم التي تجوس بذهن مخمور
أن الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم هو عمل تال لالستيهامات بأربع سنوات .وفي هذا العمل ،ال نعرف ما إذا كان يجب علينا
أن نعجب بالترف جد الشرقي للصور أكثر أم بقوتها اإليحائية الملحولة .وفي هذا الثراء البالغ ،ال يوجد مع ذلك ال فوضى وال
عدم تماسك .والمجازات ،بالرغم من تعددها الوفير وبالرغم من تنوعها الشديد ،ليست محل مراكمة وتكديس عاديين ،بل يجري
جمعها بصرامة وفق متطلبات الفكر وتجليات كل مجاز منها تتوافق دائماً بالكامل .والشاعر ،بدالً من أن يدع خياله يستولي
عليه،إنما يوجهه هو ويسيطر عليه بال توقف .وهو إذ يراقب نفسه بأعلم انتباه ،فإنه إنما يستبعد ويختار ويعيد تركيب الصور ،أي
أنه ،باختصار ،يحاول إنتاج عمل فني.
*
7
ي فنسندون ( ،) 1910نبتعد أكثر إلى حد ما عن السوريالية .فالخروج على مألوف عمل الحواس عندها يفتقد مكانه لكن
ومع مير ّ
الشاعرة تحتفل بعنف المجاز الذي يلهر في مجموعةحوار األشباح ( .)1953ونحن نرى أننا بإزاء شعر متحرر من القيود الكامنة
في هذا النوع األدبي بأكثر مما أننا بإزاء التزام بالسوريالية ...ثم إننا نجد في قصائد م .فنسندون خط التوجيه الذي يسمح بالمغامرة،
دون مكابدة أليمة ،في ولوج الشبكة المعقدة للوحدة المتشامخة ولالنطواء الذي ال يرحم وللكبرياء التي ال عالج لها ،وهي تيمات
موجِّهة تكشف عن األسرار األكثر احتجاباً عبر توضيحها من داخلها.
*
أما فيما يتعلق بأندريه شديد ،فلم تعد هناك حاجة للتعريف بها في فرنسا ،فأعمالها قد حليت هناك بالشهرة إن لم يكن بالمجد الذي
تستحقه .ومنذ عام ،1949نشرت أندريه شديد عشر مجموعات شعرية يقبل عليها المعجبون بها إعجاباً قوياً .ولن نشير هنا إالَّ
إلى المجموعات التالية :بلد بديل ( ،)1965المدينة الخصبة ( )1972وأُخوة الكلمات( .)1978والحال أن أصالة العمل األول
والذي هو ،في الواقع ،جمع لغالبية القصائد السابقة أو الكتيبات التي كانت قد نشرت من قبل بالفعل ،إنما تكمن في أن شيئاً لم
يتغير في هذه األشعار منذ خمس عشرة سنة ،أي منذ أقدم اإلصدارات .وفي القصائد األقدم ،تعتبر غنائية أندريه شديد رائقة
وموجزة ،كما لو كانت أشبه ما تكون ببرهان أخاذ ال ينطوي على أي لغز :إذ يبدو أن كل شيء إنما يقال بوضوح وتحديد ،لكننا
نشعر خلف كل قصيدة بمنفذ عاصف إلى األسطورة ...وفيما بعد ،خاصة مع العملين األخيرين اللذين أسلفنا اإلشارة إليهما،
تتباعد أندريه شديد عن شار وبول ايلوار وتتقارب أكثر مع جورج شحادة .لكن من واجبنا ،مع الشعراء ،أن نشك دائماً في التسميات
التي نسارع إلى إلصاقها بهم .إن أندريه شديد إنما تتحول في اتجاه شعر يعتبر فيه جانب الخرافي أكثر وضوحاً ،لكنها ،في الوفت
نفسه ،في قصائد الحب ،تجد حيوية جديدة وأحياناً تحليقات جميلة .وعندئذ تلهر إيماءات استشراق خفيف في قصائدها تدين بها
لصور وأللحان التقت بها في طفولتها .وفي المجموعة األخيرة التي أشرنا إليها ،يصبح شعر أندريه شديد أكثر نقاء وشفافية ويبتعد
عن الصورة البراقة المتوهجة .لقد تخلت عن حناناتها الرقيقة القريبة من إيلوار .فتنسرب حكمة معينة بين الكلمات .والذروة
الصارخة لهذا التحول هي مجموعة أخوة الكلمات التي نالت جائزة أكاديمية ماالرميه .وهناك من يعتبرون الغنائية مجرد حيلة أو
وعاء لصوغ التجربة .أما أندريه شديد فإنها تعتبرها تأكيداً لحقيقة شفافة ال يمكن فيها للنثر وللشعر أن يفترقا.
*
وقد يتصور المرء بعد ذلك أن ه مع أندريه شديد فإن الشعر السوريالي قد اختتم مسيرته بين الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية على
ضفاف النيل .لكن هذا يعني نسيان جويس منصور ( .)1928فالواقع أنها تمثل الجيل الجديد من الشعراء السورياليين المصريين.
ٍ
بشكل ويبدو أنها تعرف جيداً علوم السحر والتنجيم والقبالة وطقوس السحر ،فالتعبيرات الغامضة لهذه الحقول تعاود اللهور
متواصل في أعمالها .وعنفها االستفزازي ،حيث يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمتي الحب والموت ،جد القريبتين إحداهما من
األخرى ،ليس من شأنه إالَّ أن يذهل القارئ .إذ يبدو له عندئذ أنه يق أر استحضارات مأساوية إللهة أسطورية عطشى إلى الدماء.
فمن مجموعة "صرخات" ( )1953ومجموعة "تمزقات" ...وحتى "حكايات وبيلة" ( ،)1973نجد انفجا اًر كانفجار الحمم لصور
مهلوسة حيث يتمدد في كل قصيدة هاجس مسبق عن االشمئزاز والرعب .والحال أن جويس منصور ،بمشاركتها في جميع
المطبوعات السوريالية ،قد قدمت إلى الحركة عنص اًر فريداً وال بديل عنه .إن شعراء مثل بيير-جان جوف وأندريه بريتون ،ونقاد
مثل ماكس -بول فوشيه وجان روزلو ،قد صدمتهم النبرة الحزينة ،بل والغاضبة والعميقة عمقاً قاسياً لدى الشاعرة الشابة التي تعبر،
دون احتيال أدبي ،عن ردود فعلها تجاه الحياة والحب والموت.
*
وقد قدم كتاب آخرون كثيرون أمثلة للحركة السوريالية في مصر ،وليس بوسعنا اإلشارة إليهم كلهم .على أننا اليمكننا نسيان روالن
فوجل ،وهو معماري من أصل سويسري قضى عدة سنوات في القاهرة قبل أن يرحل عنها ليستقر في تايالند .ونحن ال نعرف له
8
مجموعة شعرية وقصائده موزعة دائماً في المجالت المحلية .أما منير حافل ،فقد برز أكثر من مرة في التجمع السوريالي .وقد
لهرت كتاباته في القاهرة وفي باريس؛ وقصائده وأبحاثه ال تفتقر ال إلى العمق وال إلى الموهبة.
*
لم تقتصر الحركة السوريالية على التوجه إلى األدباء وحدهم ،فقد جرت دعوة الفنانين أيضاً إلى المشاركة فيها .ثم إننا قد أشرنا إلى
ذلك بالفعل .وقد لعبت الحركة التي دشنها جورج حنين في مصر دور المحرك .ففي إطار حركة "الفن والحرية" ،نلمت معارض
الفنانين المستقلين في عامي 1940و 1941في عمارة اإليموبيليا وفي عام 1942في فندق كونتينينتال ،وأخي اًر في عامي
1944و 1945في قاعة الفنون بالليسيه الفرنسي في القاهرة .كما كانت هناك ثالثة معارض للفنانين المستقلين نلمت في القاهرة
تحت رعاية جورج حنين :نحو المجهول في عام 1958والمجهول اليزال في عام 1959وأخي اًر الفن الحر في عام .1960
وعلى مدار سنوات ،وخاصة خالل الحرب العالمية الثانية ،كانت "الفن والحرية" بؤرة لقاء الفنانين المحليين واألجانب الذين
اعتصموا بالبقاء في مصر خالل أعوام الحرب .وقد عرفت الجماعة الجمهور بالرسم الحديث وأتاحت للفنانين المصريين فرصاً
لطموحات فنية جديدة .وفي تلك اللحلة وحدها ،أصبح بابلو بيكاسو وبول ديلفو وايف تانجي وسلفادور دالي وماكس إرنست أساتذة
معترفاً بهم من مصر.
والحال أن جماعة "البار دو سابل" ،التي تأسست في عام ،1947لم تكن غير محاولة عابرة إلحياء جماعة سوريالية ،حيث كان
فؤاد كامل ،مع آخرين ،رساماً يعتمد على النزعة التلقائية وصاحب رسوم تتميز بالحدة وبالرسوخ قام بها ألجل مجموعة
"استيهامات" ( )1942لحورس شنودة .وبعد ذلك ،انخرطت "ال بار دو سابل" في طريق أدبي أكثر يتماشى على األرجح تماشياً
أفضل مع ميول أتباعها .على أننا ال يمكننا أن نتجاهل أن عدداً من الفنانين المشاهير ،إلى جانب فؤاد كامل ،مثل كامل
التلمساني ورمسيس يونان وباروخ ،بين آخرين ،قد وجدوا في السوريالية مصدر إلهام لهم.
وقد انخرط كامل التلمساني في عالم فن التصوير خالل زمن الحرب ( .)1945-1939وقد احتفل منه بالتمرد والجيشان .والحال
أن التوترات وخيبات األمل واالحتدام ،باختصار ،إنما ترمز عنده إلى تلك األزمنة غير العادية .وغالباً ما تطغى لوحة ألوانه الحادة
على اإلحساس الذي تود نقله .وفيما بعد ،ومع احتفاله بالطابع العنيف لعمله ،فإنه يميل إلى االستسالم لقواعد الرسم الزيتي .على
أن الفعل التصويري إنما يبدو له مدعاة للسخرية إزاء بشرية عطشى للدم دائماً وعمياء تجاه الملالم االجتماعية .وعندئذ ،إذ يتخلى
عن الرسم في عام ،1944فإنه ينشد في السينما الوسيلة الالزمة إلعادة بناء عالم جديد أكثر تناغماً وانسجاماً من العالم القديم.
وقد اشترك كامل التلمساني بشكل مباشر في الحركة السوريالية برسمه لوحات لمجموعة قصص الناس إللي ربنا
نسيهم ()1941أللبير قصيري ولمجموعة قصائد ال مبررات الوجود ( )1938لجورج حنين .كما أعد رسوم مجلة التطور العربية.
والحال أن واحدة من أروع تالمذة كامل التلمساني ،أعني إنجي أفالطون ،قد شاركت إلى جانبه في معرضي الفن والحرية في
عامي 1942و .1943
أما رمسيس يونان ،فقد استقر في القاهرة في عام .1940وقد شارك في مختلف معارض الفن الحر و البار دو سابل ،بل إنه قد
شارك في معرض السورياليين الدولي الذي نلم في باريس في عام .1947وبعد ذلك بعام ،نجح في إقامة معرض خاص ألعماله
في المدينة نفسها.
ويحكم فن رمسيس يونان استيعاب التمرد الذي يدعمه ،وسورياليته لها وجه إنساني واضح .فهي تقبل التحليل وتلل شخصياتها
المرسومة خاضعة لعقالنية األشياء.
والحال أن هذا الرسام الذي ترجم كاليجوال إلى العربية ( ،)1947قد كابد محنة كبرى من جراء موت كامي .فلم يبق للرسام غير
ترامي أطراف الصحراء وعناد النبات وصمت المعدن .فهل يمكن لإلنسان المتمرد الذي كانه أن يلل أسير التمرد الصامت
9
والشكوى من الجدوى الفعل؟ كال ،ألن رمسيس يونان هو قبل كل شيء فنان يستخدم الوسائل التي خلفها له التراث .واذا كان قد
أخذ الثورة على عاتقه ،فإنه يجهد على األقل في تحمل أعباء هذا التناقض.
والفنان الثالث الذي يمكننا ضمه إلى هذه الجماعة هو باروخ .وقد بدأ هو أيضاً مسيرته في الوقت الذي كانت السوريالية تصوغ فيه
في مصر وعياً فنياًّ جديداً .على أن باروخ ،خالفاً للتلمساني وليونان ،لم يستسلم إلغراء الحلم .فقد طالب بحقوق العقل .بيد أن
موقفه لم يمنعه من المشاركة في معارض الفن الحر .وسرعان ما يتطور في اتجاه شكل فني خاص جداً .وقد أتاحت له رحلة قام
بها في عام 1946إلى فرنسا فرصة االتصال بكل من أ .جليزيس و ج .فيون و م .جرومير و ف .ليجير و ج .براك .والحال أن
هؤالء األساتذة قد زودوه بالعناصر األساسية لتحوله .والموضوع الذي شغله حتى ذلك الحين يختفي في عام 1949لحساب ٍ
تعبير
ٍ
صاف وايقاعي ألشكال وأللوان متحررة من العبودية للموضوع .ومنذ عام ،1954يستقر باروخ في فرنسا.
أما فيما يتعلق بفؤاد كامل ( ،)1919والذي أشرنا إ ليه بالفعل ،والذي اندرج في الحركة السوريالية في مصر منذ بداياتها ،فقد أصبح
واحداً من دعاتهاالمتحمسين .وهذا الفنان النشيط ولكن الرزين ،ينتقل من السوريالية إلى التعبيرية في بداياته الفنية إلى الفن غير
التصويري خالل الستينيات .وهذا تطور يستحق التنبيه إليه.
ومن المناسب أيضاً اإلشارة إلى فنانين مثل حسن التلمساني وعبد الهادي الجزار وحسن حسن وخديجة رياض وسمير رافع وكذلك
إلى آخرين كثيرين أجانب مثل إيريك دو نيميش ( .)1910فهذا الفنان الذي استقر في القاهرة في عام ،1940قد شارك في
المنون الفتية لبول
معارض الفن الحر وفي بينالي اإلسكندرية في عام .1955وقد اشتهر برسومه التصويرية ألعمال مثل َ
فاليري والجحيم لدانتي وبحث حول التراجيديا لسيريل دي بو ،وهو كاتب مصري يكتب بالفرنسية .ويجب أن نذكر أيضاً أنجيلو دي
ريز ( )1910الذي شارك في الحركة السوريالية وعرض أعماله في معارض الفن الحر .وال يمكننا أن ننسى أندريه نوميكوس
وميشيل كنعان وريمون أبنر الذين تجب اإلشارة إلى أهميتهم في الحركة السوريالية في مصر .ومما الشك فيه أن فترة الحرب
اء من الناحية الفنية ألن الفنانين المحليين واألجانب الموجودين في مصر في ذلك الوقت قد سعوا،
العالمية الثانية كانت األكثر إثر ً
بسبب انقطاع االتصاالت والعالقات الخارجية ،إلى االستفادة من وضعهم عبر تبادالت كانت مثمرة ،وذلك بالرغم من اللرف غير
المستقر السائد آنذاك.
*
وفي ختام هذه الدراسة ،يمكننا أن نتساءل عما إذا كان للسوريالية من أثر على األدب المكتوب بالعربية أوالً .والحال أنه بالرغم من
الجهود التي قام بها جورج حنين في مجلةالتطور لكي ينشر رسالة السوريالية بين الجمهور المثقف الذي يق أر ويكتب بالعربية ،إالَّ
أننا نجد أنفسنا مضطرين إلى االعتراف بأن النتائج كانت جد طفيفة وقليلة التشجيع .ويبدو لنا أن السبب في ذلك إنما يكمن في
تنافر معين مع القواعد الشعرية المقررة في مصر آنذاك .فخالل الثالثينيات واألربعينيات كان األدب العربي ال يزال وثيق االرتباط
بالتراث وبالتقاليد وكان يبحث دائماً عن نماذجه بين الشعراء السابقين على اإلسالم وعند أساتذة راسخين مثل المتنبي أو الجاحل.
والحال أ نه ليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن مؤسسي الحركة السوريالية .ولم يكن بوسع الشعر العربي الحديث أن يلج دروب
مغامرة األدب الطليعي دون أن يجازف بفقدان هويته هو ،أو على األقل ،كان ذلك هو اعتقاده .ثم إن إحياء الفن الشعري العربي
في الثلث األخير من القرن التاسع عشر كان ال يزال حدثاً قريباً جداً بحيث يتعذر نبذه فجأة .وكان أمثال البارودي والمنفلوطي
وحافل إبراهيم ال يزالون جد حاضرين في األذهان بحيث يصعب أن يحل محلهم أحد .كما ال يجب أن ننسى التحيزات ،المنتشرة
غالباً ،والناشئة عن الوضع السياسي (خاصة االحتالل البريطاني) ،والتي كان األدباء الذين يكتبون بالعربية يزكونها تجاه الكتاب
األجانب ،األمر الذي حال دون ترويج أفكار جديدة في األدب .على أن أصواتاً لها مكانتها قد نجحت في التعبير عن نفسها.
ونحن نجد في مجلةالتطور بين كثيرين من المسهمين رمسيس يونان ،الرسام واألديب ،وحفني ناصف ،الشاعر المهم )3(،وعبد
الحميد الحديدي وحسين محمود وآخرين كثيرين .ونحن نرى أن الوحيد الذي أخذ على عاتقه مهمة مواصلة الرسالة السوريالية هو
10
كاتب موهوب وان كان محل سوء فهم دائماً ،أعني عبد القادر الجنابي .فهل كانت الرسالة السوريالية سابقة لألوان إلى حد بعيد
بح يث تعذر الترحيب بها من جانب الجمهور الناطق بالعربية؟ إن مثل هذا االفتراض يستوجب التدقيق والحذر.
أما المسألة الثانية فهي مسألة الحكم على األثر الذي كان للحركة السوريالية على األدب المكتوب بالفرنسية في مصر .ولنقل
بوضو ٍح تام أن السوريالية هي أول حركة أدبية تولد في هذا البلد في الوقت عينه تقريباً الذي ولدت فيه في فرنسا .فجميع الحركات
ٍ
بشكل ملحول ،وأحياناً كانت تجيء بعد جيل .أما فيما يتعلق بالسوريالية ،فقد كانت القاهرة التي سبقتها كانت تجيء متأخرة زمانياً
مواكبة لباريس.
ويمثل الشعر السوريالي في األدب المكتوب بالفرنسية في مصر محاولة واعية للتحرر من الشعر التقليدي أو الرومانسي أو
الرمزي ،والذي كان الشعراء المحليون يمارسونه آنذاك .كما أن السوريالية تمثل محاولة لتجاوز قواعد العروض .وعندئذ يلهر عدد
كبير من الشعراء .ولما كانوا قد تحرروا من جميع القواعد ،فإنهم يكفون عن االلتزام بالقواعد التي كانت قد بددت طاقات جميع
أولئك المتحرقين إلى اإلمساك بالقلم .وقد هيمن االعتقاد بأنه يكفي رصف الكلمات (الكتابة اآللية) ،والجمل ونثارات األحالم
والصور األكثر غرابة وليدة الروح الفاقدة لالتزان ،حتى يتسنى إنتاج عمل فني ،في الشعر كما في الرسم .ولم تتأخر مثل هذه
المفاهيم عن اإلساءة إلى الحركة برمتها .أما أولئك الذين كانت لديهم الملكات والمواهب الكافية والمناسبة فإنهم وحدهم هم الذين
واصلوا السير في هذا الطريق وعرفوا النجاح ...في باريس.
ولعل أفضل لهور للحركة السوريالية هو لهورها في فن التصوير .فاألدب ،إجماالً ،لم يكن يهم غير جماعات محدودة من
المصريين أو األجانب ،في حين أن فن التصوير ،وهو اللغة الدولية للون ولإلشارة ،كانت لديه فرصة أكبر ألن يثير األذهان وألن
يجتذب الجمهور .وقد رأينا كيف أن لقاء الرسامين األجانب والمصريين خالل سنوات حرب 1945-1939كان مفيداً للجميع .لقد
حدث ازدهار للمواهب المتباينة وحدثت تبادالت ولقاءات لم نحلل غير بعض جوانبها .وكان فعل السوريالية هو أصل تجديد
تصويري عميق مازلنا نشعر إلى اليوم بآثاره البعيدة .كما أنها أول حركة فكرية انتمى إليها فنانو مصر بشكل عفوي وقدموا إليها
إسهاماً أصيالً .وهي ،عالوة على ذلك ،الحركة الوحيدة التي تمكنت من تعبئة اإلنتلجنسيا المحلية ومن حفز اتخاذ موقف سياسي.
فأال يعد ذلك نجاحاً كبي اًر للحركة السوريالية؟
11
تعليقات من المترجم
-1لم يوقع جورج حنين ( )1973-1914البيان المذكور في مكسيكو ،إذ كان في باريس آنذاك.
-3لم تنشر التطور أية نصوص لحفني ناصف ،بل نشرت مقاالت البنه عصام الدين.
12
شعر
13
عدم التدخل
العاصمتين المشدوفتين
ترجمة
15
معنى الحياة
"ال معنى لوجه يشبه جميع الوجوه"
في اللحلة التي يوشك المرء فيها أن يباغت شيئاً ما – أن يقترب من اإلجابات الشفافة العليمة – أن يتمكن من إبطال
األصوات المتعادلة في نفسه – أن ينتصر على قانون ثقل الروح – أن يمعن في االغتراب – أن يكبر من جميع الوجوه – أن يراوغ
القدر – في اللحلة التي يوشك فيها أن يكون ذلك كله قريب الحدوث – يصطدم المرء بعتامة حائط – هذا الغريب نحييه مع ذلك
– تتهيأ للشرح نحو أية ثروات مجردة تدفعك سرعة داخلية غامضة – دون جدوى – كل كالم عند خروجه من فمك تقطع رقبته
مقصلة حائط جديد – يأتي من بعيد جداً – يسقط من عال جداً – بيننا وبين االكتشافات الشاغرة التي لن يعرف أحد عنها شيئاً –
امبراطورية الحوائط ال تنتهي – الويل لمن يساومها على وجبة الطوب والجبس المستحقة لها – إنها بعد نعاس طويل تنشر في
وضح النهار أشباحاً ال تطاق – تنفث االضطرابات في اضطراب الجماعات – من قال حائط فقد قال ُسمك – وفي نهاية الحساب
لسمك معين – في البداية يكون المرء واحداً – بال ُسمك تماماً – مهمالً تماماً – َخرِي ََة ضئيلة
يدرك المرء أن كل شيئ يجري وفقاً ُ
وحيدة – ثم يصبح َخرَيتَين – أمام القانون أو من ورائه – وهكذا فو اًر يصير أكبر ُسمكاً – الناس اآلن تريد أن تنلر إليك باهتمام
واحترام – إنهم يراقبونك لكي يروا ما إذا كنت لن تنمو أكثر – ما إذا كنت لن تكون أشد إزحاماً – فما تقضي به قوانين الطبيعة –
السمك الجمعي – األسرة تمثل ُسمكاً مهماً بما فيه الكفاية –
ووصايا األخالق – هو أن تمأل مكانك تحت الشمس – أن تسهم في ُ
يستحق التشجيع – من الصعب تخطيه – واثقاً من حقه في الوضع النلامي – تبقى بعد ذلك طوابق أعلى للتخطي – على القمة
تتربع الدولة – الدولة تكتب التاريخ – مسألة خطوط بسيطة – ومن حين إلى حين تعبئ الدولة مجموع خدمها – لكي تتحقق من
السمك – يبدأون من جديد في بناء ِ َّ
السمك المنافس لألمم المجاورة – وعندما ُيستهلك كثير من ُ
درجة ُسمك األمة – لكي تُذل ُ
الحوائط – وفي الحياة كحوائط – بالضجر نفسه – بالجمود نفسه – مع وجود الحوائط المعادية – مع مصير سميك عقيم مليء
بالحوائط.
16
قصة غارة
الممر المرشوق بالمسامير يفضي إلى قلب الصحراء .أحاذي إذاً طريقاً خالياً من الدم موشحاً بإعالنات صغيرة .ال شيء غير
سيدات بين أعمار ال بأس بها يتقن إلى المحبة البريئة .بعيداً يتنزه ببراءة دخان متموج .أستوقف حاجباً ينبئني .هناك يجلس الراعي
الذي يعقد زيجات المصلحة .يشتغل على فحم الكوك .يبدو من جهة أخرى أنهم سوف يعينون راعياً جديداً تماماً .راعياً جديداً لن
يعقد قراناً بعد اآلن إالَّ على المازوت.
بعد بضع ساعات من السير وحيداً ألمح فجأة سيقان نساء يخرجن من ميدان شفاه رحيب ويلوحن مودعات بالوشاحات ،أو
بالنوارس أو بالثلوج .موسيقاهن تشبه الخرق الذي تحدثه في الطبل المحموم صرخة قطار سريع يغيب في نفق يعرف تماماً أنه لن
يخرج منه.
أسأل حيواناً أليفاً – أخطبوطاً في الغالب – يتشمم المشهد بمسحة مرتابة .يقول لي هذا الحيوان" :ما تلنه نساء ليس في
الواقع غير خطوط زوال طولية واإلنسان الذي يحيينه بهذه الطريقة ليس سوى الحريق .الحريق يزور في هذه اللحلة كل المنطقة
على متن ُمطفئه الخاص .السكان األصليون يحسبون أن شرفاً عليماً أسدي إليهم ألن الحريق يسافر في الغالب متنك اًر".
الحيوان األليف الذي أوحيت إليه بشيء من التعاطف يستطرد" :الحل أن بين خطوط الزوال والشفاه سوء تفاهم كبير .كل
قرن تحدث بينهما منازعات ال تنتهي .الجيران يفقدون فيها الحياة والحلم .تلك فضيحة يا سيدي ،فضيحة خالصة ،ومن المستحيل،
مع ذلك ،فهم دوافع هذه المنازعات .إنهم يصرحون فقط – وأنا أبلغك الرواية الرسمية لألحداث ...إنك في نهاية األمر لست سوى
ِ
أخدعك أجنبي – بأن خطوط الزوال تترصد بشكل خاص أسرة من الشفاه تكرر لها دون توقف قسماً ال يتبدل" :أقسم ِ
لك بأنني لم
ِ
أخدعك قط" وهكذا دواليك .إذا كانت خطوط الزوال تهلل للحريق بهذه الطريقة فذلك ألنه يحرق كل قط ...أقسم ِ
لك بأنني لم
التللمات التي تقدمها له الشفاه .أنا أعتقد أنه قد آن األوان لطرد خطوط الزوال هذه بإرسالها ،مثالً ،لمغازلة أدوات الجراحة التي
يحزنها أن تموت وحيدة في علبتها".
قبل أن تنام خطوط الزوال تؤدي صالتها وترسم في رماد الفضاء إشارات سيمافور مديدة في عشق األفق .اإلشارات تمكث
طويالً بعد مولدها بال حركة ثم تحلق بأجنحة من رصاص صيد الطيور وال تلبث أن تحط على جنبات الكثبان حيث تزدهر
بنور ٍ
ثابت محطةً محفورةً في قلب الماس. صفوف من الكوى المتآلفة تضيء ٍ
األخطبوط يشرح لي ،وقد اتضح بشكل قاطع أنه أخطبوط " :هذه المحطة ال تفيد في شيء على اإلطالق .ال في القيام وال
في الوصول .وال في أي شيء .بل إنها ال تؤكل .لهذا يحترمها الجميع " .
نالر المحطة قط سيامي يحمله على األكت اف مقعد من الزمرد .نالر المحطة ال يتعجل .إنه ال يبالي .ربما ألنه على موعد
مع المستقبل .العلم في بلُّورة عينيه.
17
انتحار مؤقت
ٌ
إلى "المنتحر" أنجيلو دي ريز
شفاه مرة
تهبط كالحصى
منحدر الصوت
بعد الحب
18
على مائدة ما
إنه وجه
وجه يؤرجحه
19
آفاق
لم ال نصادف على قنطرة تنتصب فجأة بين كارثتين امرأة ذات عينين خفاقتين تخبرانك باسمها فيبدو أجمل من شفا هاوية
مكسوة بغالالت سوداء؟
لم ال نجسم على مسرح األفق المقفر دائماً غروبات مهيبة لشعور متعددة األلوان؟
لم ال ُنهَيِّئ منحدرات الجبال بمخلوقات فروجها راديوميةٌ تتحد بالمنالر الطبيعية وتشعلها عند كل عناق وتبقى وحدها في أل ٍ
ق
ُم َد ِّوخ؟
لم ال ننقذ بضربة واحدة حشد المرايا المرشوقة على فراش األرض؟
لم ال ُنبعد الجفون عن الطرق الملعونة ونختفي في الليل األكثر غموضاً حاملين بأقصى سرعة جثة لمجهولة مزق أوصالها
يحتدم دون ٍ
خطر من يقلة؟ ُ حلم
ٌ
20
تطيل دموعها الشمعية
واحدة فواحدة
21
بورتريه كامل التلمساني
ها أنت ذا أيها السحاب األسود على استعداد أبداً ألن تنصهر على المواكب األخالقية المتجهة صوب الحساب األخير أو ما
ال أدري أي خبز عبثي يومي...
أسمع كالمك المنقض على صالبة المدن مع تأوه شجرة تستمتع باستئصال نفسها بنفسها.
أنت ذاتك الشهاب المجعد ينتزع كل أصحاب عائد المغامرة من بطء هضمهم ويقلب بحركة طائشة المنالر الطبيعية التي
يتمدد فيها البشر الراضون بالوجود.
تعرف كإنسان كيف تهتك أسرار العاهرات غير المباحة وكيف تعيد إلى وجه النهار عيونهن الفاحشة المدفونة منذ زمن بعيد.
تعرف كيف تجعل من هذه الغنائم المنتزعة من باطن اليأس بصائر طريق عليم مسددة ضد أرواح الناس المهذبين.
تحب الفرش الذابلة مرة والى األبد – أسرة نقض الحب والشرفات الليلية التي تنطلق منها تجديفاتك النقية لتطارد السماء.
مأثرتك السامية ستكون تلك الغارة الكبرى بين أحضانها يتآخى قطاع الطرق والعسكر في العالم كله متحدين أخي اًر ضد العالم
كله.
أيها السحاب األسود الجميل أرى فيك لقاء غير مأمول بين نهاية العالم واألحداث التافهة.
22
سان لوي بلوز
الشمس تتأهب للسقوط مثل حجر جسيم بالغ النضوج .الحجر الذي أضناه سفر طويل يسأل النهر أن يستضيفه فيجيب " :
أدخل – أنت هنا بدارك " .
يتوقف الفالحون لمشاهدة المنلر .أحدهم يتمتم :أود لو اجتزت هذا الشيء ألن من المؤكد أن على الجانب اآلخر امرأة من
المدينة سوف أحبها.
يحدق اآلخرون في وجبة النهر اليومية .ينفتح النهر نهرين كما لو كان ليسمح بمرور غرق كبير.
يلن أنه عندما يكبر بما يكفي سوف يتوصل إلى جرد السماء.
لكنه يخشى أن تنقص النجوم في تلك األثناء .أن ترحل واحدة فواحدة.
صوت امرأة المدينة يتسرب اآلن من األفق كله .يطوق السهل كله.
إنها تنوي أن تحكي له كماً من األسرار الخرافية التي ال يعرفها ال الراعي وال الصيدلي.
والسهاد المحتدم الذي يفرغ عينيها ولن يبرحها إالَّ بالرغبة في قتل بعض العشاق العاجزين عن اإلحاطة بشيء غير جسدها.
والحنين المر إلى شموس طفولتها .والحتجة إلى الرحيل زمناً أطول ،ومسافة أبعد – وشراب الجن في الروح – صوب
العواصم المتوحشة للوحدة.
23
كل منهم يحلم باالستيالء على كلمة سوف يكتم سرها مرغماً َّ
مدة طويلة.
إنه يعود إلى المدينة حيث تغني هذه المرأة أغنية رحيل ال ينتهي.
24
مختارات من مجموعات شعرية أخرى
25
سونيا آراكيستين
احفروا
ابتسامة قبرية
احفروا
والحب الهامد
احفروا
احفروا
احفروا
26
وعلى إسفلت الشارع البارد
ككوة
امرأة غريبة دون سابق إنذار َّ
احفروا ألجلنا.
27
فوترالبا
فوترالبا تتساءل أحياناً على مدار سنين عن مدى إمكانية السماح ضمن أسوارها بدخول هذا الزائر أو ذاك القادم من بعيد جداً
عبر آالف من األهوال
تعري البنات
مدينة التزال تجهل شيخوختها ،التزال مجسمة في ثياب حلم قديم حيث تستغرق بيوتها وقتاً حتى تتهيأ ،حيث ّ
صدورهن لصباح الواجهات ،حيث ال يشنق المرء بعد الخيماويين إالّ صورياًّ ،حيث يدندن الوجهاء في العشب كما لو كان ذلك هو
رسالتهم األولى.
في فوترالبا التي تتآكل من فرط تخصيص غرفة في كل بيت للمدعو وغرفة لقاتل المدعو
بص ُر هناك إالَّ في ساعات معينة ،ليست واحدة أبداً .كل ما هو غير متوقع
تحكم فوترالبا ملكة فلفل وألباجا خنثى وهي ال تُ ِ
هناك.
دون كلل ،يدافع تنين ُمعفٌَّر عن مداخلها .لكن المداخل معتادة على التحايل عليها .كلمات السر لها لغة رثة .هناك اعتقاد
بأن المرء يرى هناك كما في أماكن أخرى ثرثرات بائسة .وال يوجد غير المتوقع إالّ في عمى الملكة المتقطع.
وفي المساء ،في حديقة مهجورة ما ،يوجد دائماً فونوغراف بلدية يتمتم بين اللالل" :ماذا تكون هيكوبا بالنسبة له أو هو
بالنسبة لهيكوبا"...
والصمت يتأوه في فوترالبا وعندما يكف عن التأوه يغدو ثوباً من النسيج الخشن مقو اًر بشكل فاضح
وغداً تنفتح الدواليب المقدسة ،ويولد العري من جديد من ذهبها وترفع المسرات الرهيفة غير المفهومة رأسها
لبالء السديم
الذي يجمل
يتواصل منتصباً
مثل ٍ
وفاء نادر اإليماءة
29
المرأة البيتية
جميلة
مجهولة
بطارية إضاءة
تمسك في حدقتها
بزمام الليل
هشة
كمصافحة
عسرة
كاستهالل العالم
30
رسالة إلى فتاة صغيرة
بأي لمأ
للتو
العصافير المقدسة حسمت رأيها ِّ
في موقعه.
31
إعدام خاص
عند الفجر
الحق
فالمرء يعتقد أنه ُم ٌ
هناك إذاً أناس يالحقون اآلخرين
32
الكلمة األولى في النهار
إلى أي جرح؟
33
مبدأ الهوية 1-
تَ َكتَّ َم اسمه
كماء راكد
لسيف طليطلي
الحرمان من المغفرة
يعيد العالم
إلى ٍ
أيد ال تتحرك.
34
مبدأ الهوية – 2
عرفت إنساناً
ب وحدتنا ِ
يتصور أنه ُمحاس ُ
35
ضريبة الحياة
36
االنشقاق العظيم
الجزر.
إن لم نكن هناك لكي نكلمه عن َ
تعب الطيور
ادعاء االفتراق.
37
الغافلة
نعرف كنوزنا
ُ
38
الحقيقة األكيدة
إلى إقبال
ملكية ضائعة
األرجوحة الخائبة
40
ِ
بفار ِ
ق وجه
المتوسل.
41
في البعيد
في البعيد
في المكان
األعشاب وال
ُ وال
األشياء المجهولةُ
ُ
-طفت بالعالم ،قال كافر كانت تتدحرج
تحته األحجار-
أية غاية.
42
كان ذلك زم ًنا آخر
وراءنا قرية
ونحلم باالختفاء
ككنيسة باروكية
43
44
عودة اآللهة
ٍ
لفصول معيشة كالبريق الزائل
لبعدها الخاص
لكن ما من إفاقة
مس فيها
واللحلة التي ُن ُّ
وندرك أن ما هو جوهري
46
الرجفة
ما على المرء وماله
للحلة فقط
البرَكة
زيادة في َ
على فراش الغابة العليمة
47
اإلنسان األخير
بعيد عن أن يفارقنا
ٌ
تسام الضجر الخالد من الحياة
ار ُ
الواقع تحت مالحقة ال تتوقف
يبث الفرقة
خفي ُ
َنفَ ٌس ٌ
في حركاتنا المنفصلة عن األرض
48
بعيدا
ً
بعيداً
ض َّمةَ الشفاه
صوت َ
ٌ يحل
سهواً
بعيداً
العقد الجورديةُ
تشكل ُ
بعيداً
بيت َّ
مؤجل
بعيداً
بعيداً
بعيدًا
49
بينما تهبط من جديد
50
ما من دعابات فارغة
أحدا على
حيث تكف الخمر عن أن تضع ً
طريق االعترافات
لعبيد ولمتوحشين
سمسار أمريكي
51
تحت حجاب اليفاعة
بالنلرة المجردة.
52
من الرأس إلى السماء
لمؤامرة الصمت
عدداً من المخلوقات
عدداً من المخلوقات
53
عدداً من المخلوقات
54
مظهر هروب
هذا المساء سوف يلقون القبض على رجل في بيته
ساعة العشاء
يتساءل:
دعوتهم
وهذا الحساب الورع ال يدع لهم غير وقت لألسف على عدد من
55
تبصقه الحيتان على مستوى المنلار
56
ِ
فيك
ِ
فيك
يسكن كسلي
مثل ثعبان
ِ
فيك
بنلرة محايدة
الزَبدية
والفنارات ترفع تنورتها َ
كي تنطفئ في أحضان البحر
بال رقباء
ِ
فيك
ب
الح ُج َ
األخرق ُ
ُ يستنطق
ِ
فيك
ِ
فيك
أكون في النهاية
57
عن تيمة أساسية لدى رمسيس يونان
حين ينغرز الخنجر غائ اًر في الجسد كما ينغرز في غمده الطبيعي المعتاد ،فمن األفضل تركه حيث هو ال نزعه .تركه حيث
هو يعني ترقب الموت .أما نزعه فيعني الموت.
الرسم ضرب من ضروب الرمي بالقوس ،حيث ينطلق السهم مغمض العينين.
هل البد حقاً أن ندوم حتى نكون؟ إن التقاط صورة خاطفة ألحد الفراعنة معناه إعداده لسأم الغداة.
القوة وحدها يعيل صبرها .أما الوعي فيستنزف .إنه فأر مكتنز.
االفتراق البائن يكمن في الالعودة ،أياً كانت الذريعة ،إلى الوضع األول.
امرأة محنية اللهر تفقد حتى فكرة الصراخ .نافخ زجاج استل منها أكسجينها ليصوغها حية في نشوتها .إنها تريد اإلبقاء على
ما يخترقها وما تبقي عليه هو الحرب.
ال أحد يستطيع اختزال صورة تكبر ألن الدماغ ُك َّوة .هنا ،ال مجال لإلختفاء .لن يكون لذلك معنى .يرتد المرء على وجه الليل
ارتداد كرة على مضرب.
كوكبة من النجوم تتثاءب .إنها القيلولة العنيفة للمادة التي تحكم علينا بالسهاد.
58
تحية لرسم رمسيس يونان
بعد
وهذا بالكاد إن انتلره المرُء ُ
هذه الباقة من أزهار النرجس
البرادور ٍ
قاس لغراميات غير باقية.
59
نثر
60
بالء السديم
(شذرات)
61
بالء السديم
()1945-1939
الريب أن اإلنسان الذي يصمت هو وحده الذي ال يحتقر الكلمات البتة .إن ليل الحارس تكليفات صارمة لكنه أيضاً تيقل
طويل لعنفوان الكائن .ومن الممكن أن يلل صمته عالماً مقفالً إلى األبد .ومن الممكن أيضاً أن يصبح بوتقة الحقيقة وأن تعيد هذه
األخيرة – مثلما يحدث ذلك في تراجيديات شكسبير – اكتشاف الصوت الالزم لتحية المصير بإسمه.
*
ألجل أي حصاد ندخر الماء؟ إننا نشيد سدوداً للصمت ،آملين أنها سوف تتصدع يوماً ما وتجرفنا بعيداً ،وأن الكالم المتجدد،
سوف يكون منذ تلك اللحلة ممتزجاً بالطحالب وبالطمي ،وانه ليبدو لي ،بالفعل ،أننا نحس نوعاً من الشهوة الماكيافيلية إلى هذا
الكالم المتدافع بأكثر من الالزم والذي ،دون مراعاة تجليات جديدة (سوف نضعها من ثم تحت رحمة مبدأ اإلغواء) ،قد يرمز،
بعد إال من إفراط في التآكل.
بالنسبة لنا ،إلى نهاية التالشي .وهذا ألن الصوت يرق وال يتحين فرصته الثانية ُ
*
لوزان
4سبتمبر 1939
كل شيء يرتد إلى الفوضى والى الليل األكثر تلويثاً .إنه تشتت البعض ،وتعبئة البعض اآلخر والتشوش التام للجميع .وتولد
الكلمات العليمة من جديد بقدر ما يموت الناس من جديد .لكن الكلمات العليمة الحقيقية تلل في الداخل ،في حصون الذاكرة
المنيعة.
لقد ُحفرت أنفاق في كل مكان تقريباً دون أن يكون الناس واثقين تماماً من الخروج من العتامة التي اختاروا ولوجها .ففي
البداية ،تكتفي األكذوبة بالتطاول على الحقيقة .وما هو نسبي يمسي ملتبساً .وتكون تلك مرحلة تشوش تكون فيها أكذوبتان عكازين
62
لحقيقة .ومنذ تلك اللحلة ،ال يبقى لألذكياء غير أن يكونوا واضحين ،أي أن يصفوا كل األشياء بحيث ال يكون بوسعهم أن يتذوقوا
منها غير ثمالتها.
*
عندما نقف على نقاط االرتكاز األخيرة ،فإننا نتلهى بالفرجة .وهذه لعبة ختامها التثبت من مبدأ الشلل.
*
إن أرغنات البربرية تصحب في شوارعنا أيضاً موسيقى عبثية شبيهة بتبكيت الضمير.
*
يرى المرء من هؤالء الناس من ،إذ يدخلون إلى مكان عام ،يلبثون شاردي الفكر أمام أمثالهم ثم يسألون ماذا يكتبون ،لكنهم ال
يجرؤون أبداً ،حتى لحلة اإلغالق ،على التوقيع على ذلك اإلعالن الطويل ،ذلك اإلعالن عن عدم الصالحية للحياة.
*
إن ذاكرة إنسان البحر المتوسط تكشف شبابها ،بالتحديد ،في إلغاء هادئ للزمن.
ذلك هو ما يجعل من إنسان البحر المتوسط إنساناً يعرف العاطفة بشكل أسهل من معرفته للدهشة.
إنه صندوق بريد التاريخ الدائم الذي تجد الرسائل فيه دائماً ُمرسالً إليه وال تفقد شيئاً من معناها حتى لو ُسلِّمت بعد قرون من
التأخير.
لقد دخل البحر المتوسط ،مرة والى األبد ،في مدار اإلنسان وال مجال للخروج منه.
*
بجانب األبطال الذين يجهلون أنفسهم ،يوجد األبطال الذين يجهلهم المرء ،وعلى رأس هؤالء األخيرين ،الصعلوك .الصعلوك
المطلق والمتشدد المصر على أالَّ يستجيب لشيء من اإلغراءات النفعية التي تقف له بالمرصاد .إن حس الواقع يختلط عنده بحس
المغامرة ،حس مغامرة شخصية في كل لحلة ،منسوجة من ابتسامات خفية لدى االنكسار المفاجئ لزجاج نافذة ،من مشاريع
غرامية تتشكل بالصدفة شغفاً بوجوه أنثوية مبلولة بلالً رقيقاً بقطرات المطر ...بقطرات المطر الذي ال يستطيع أحد القول في أية
لحلة بدأ يسقط.
*
أعتقد أننا نتجه نحو شعر رقيق وقوي ،تدعمه تلك "الكآبة المبهمة الجسورة" التي يتحدث عنها إيف بونفوا كثي اًر والتي ليست
مفتاحاً لتفسير حاالت الندم بل نسقاً لما ال يمكن حله ،أي للوسط المحدد المنيع والذي يغرق فيه الشاعر.
شعر دون تنازالت يجب أن نتوقع منه أن يدفع من يمسه إلى ممارسة أفضل للوحدة والى تأمل مشحون بالعواطف ليس في
ض لنا أن نكونه ،شعر يتوجب عليه أخي اًر ،وهذا هو الشيء الجوهري ،أن يجعل إنسان الغد
ما نحن عليه ،وانما أيضاً في ما ُيرفَ ُ
ُمتَطَلِّباً حيال اللغة.
*
63
إن كلمات تخدم كل القضايا ،تكف بذلك عن خدمة أية قضية.
*
إن اليقلة ،وهي نوع من الميالد المحتدم ،هي هلع منلم تماماً يبدأ من تلقاء نفسه.
*
ربما توافر حل لعذاباتنا :أن نكتسب كطبيعة ثانية آلية ُدمى ،إلى جانب ،عالوة على ذلك ،ما ال أدري من األشياء التي
تترنح .هكذا يمكن للمرء أن يتجاوز ،وهو ما يكاد ينوء بحمل هذا الدرع الصدفي الطفولي ،مرحلة اليقلة ،وأن يتحرك في الثابت،
وأن يتقدم في الحسرة.
*
من فرط كتابة" :العالمات المميزة :العدم" ،يتولى البيروقراطي إفهام من يسقط ضحية له ليس فقط أنه ليس هناك ما يميزه،
وانما ،بادئ ذي بدء ،أنه ليس من حقه أن يميز نفسه.
*
إن كانت هناك في صميم األشياء كلها ،عاطفة غير مسماة تكسر وجوهاً قُ ِّدر كل ما فيها لر ٍ
احة َملَكية وتُحولها إلى شلايا َ
من البلّور ،فالبد لتلك العاطفة عاجالً أم آجالً من أن تنال إسماً ،والسوريالية جديرة بأن تضم اسمها إليها.
*
أحب أن أتخيل في البيوت األكثر انكشافاً على الشاطئ طاوالت كبيرة فاتحة اللون ممدودة للرحالة المتأخرين الذين يعرف
المرء أنهم سوف يصلون ،برغم كل شيء ،على جناح العاصقة.
*
...من جهة أخرى ،أقول لنفسي إنه لكي يكون هناك لقاء مع اآلخر ،فإنه يجب أن يكون هناك ،بداية ،لقاء مع النفس ...إن
كل لق اء هو من نوع ذلك التوسل ،من نوع ذلك الرجاء الخفي الذي منحه لنا ذلك الجزء من كينونتنا والذي لم يفعل غير أن يقدم لنا
وعوداً ،إلى هذا الحد من الغموض ،والى هذا الحد من الرعونة .واذا كان الموت يراوغنا ،في هذه اللحلة ،فإن الجهد الكبير بال
يشرف شرفاً عليماً بإيقافنا.
طائل هو الذي ُ
*
ُسلِّي نفسي بالتفكير بأن المرء يجد الراحة على الخشبة األثقل .فالسعادة ليست تزحلقاً على العشب األملس .والزاوية غير
أَ
المتوقعة هي التي تجعل الصخرة األخيرة تالمس الخالء األول.
*
64
يروق للناس وصف زماننا بأنه زمن كوارث .وهذه الكلمة لها مأثرة مغازلة غرورنا .فنحن نكتسب ،من خاللها ،ملهر شهود
أولي ينطبق على معلم التأمالت الثقافية المألوفة
ومحركين لكوارث عليمة في آن واحد .وينبثق من هذا االشتهاء للكوارث درس ٌّ
لدينا .إن قصر النلر العقلي بحاجة إلى منلورات علمى .وهناك في الحياة ،لعبة تعويضات خادعة بحيث إن فك اًر ضام اًر غالباً
ما ينتهي إلى التعلق بشكل ما من أشكال الضخامة اإليديولوجية.
وما أن يفقد ذكاؤنا جسارته ،ما أن تبدو له الحقيقة عصية المنال ،فإنه يصبح من المغري بالنسبة له أن ينصهر في ي ٍ
قين
جماعي وقوده ذروة دائمة من نوع ما .والحال أنه فيما يتعلق باإلنسان ،ليس من المبالغة القول بأن الصفر هو حاصل جمع ذاتين،
ٍّ
ويوم تكف البشرية عن أن تكون أكثر من ضمير واحد سيكون المرء محقاً في االعتقاد بأنها في سكرة الموت.
*
ليس االختالف هو الشكل األخير للترف وحسب ،بل هو أيضاً الفرصة األخيرة لكي نحافل في أنفسنا على جانب الحكمة
بجانب الحماقة.
*
إنني أحفل تلك العبارة الصغيرة غير المهمة ،وان كان بوسعها في الوقت نفسه أن تقود إلى إبادات مراوغة" :ليس ضرورياً أن
يواصل الحياة أولئك الذين ال يسعهم أو ال يريدون العيش هانئين".
*
*
ما يعتبره المرء اإلبداعات األأكثر تمثيالً لإلنسان ،من كوليزيه إلى رامبو ،هي بالقدر نفسه أنشوطات بالقياس إلى خنق مؤجل
إلى أجل غير مسمى ،هي بالقدر نفسه إسهامات في تكثيف اللغز .وحيثما ال يتكشف اللغز ،يبدو لي أن من الواجب زيادة
ِ
أشكال سوء الفهم ممكن ًة معه. ٍ
صبح جميعُ
بتفسير تُ ُ غموضه ،مضاعفته
واذا كانت فكرة الرهان ليست غريبة عن تاريخ اإلنسان ،فمن المناسب ببساطة إقرار أنه قد راهن لحساب سوء الفهم وضد
الوحدة.
*
ال ريب أن الشيء المهم هو الذود عن النفس ضد مختلف صيغ مجاوزة الذات ،ضد الحلول الوقتية لذلك الذي ال ينشأ إالَّ
مما ال يمكن حله.
*
الكلمة ليس لها ثمن إال بمقدار الدالالت المتحداة التي تحملها في ذاتها ،المتحداة دون واحدة هي األخيرة ،والتي تسجل حرقها
الصغير على الجلد مثلما تُ َّ
سج ُل بصمةُ تحالف.
*
من كرومويل ،هذه الفكرة المدهشة التي تشبه لياً معيناً للفكر الباطني" :ال أحد يصعد أعلى غير ذلك الذي ال يعرف إلى أين
يمضي".
*
65
اص َل ،على أن تُستعاد ،على أن تكون موافقة لكل غاد ،من خالل كل ما هو حي. يجب للقصيدة أن تكون قادرة على أن تُو َ
أما نحن فعلينا إطالة عمرها ،وربما القضاء عليها ،ليس فو اًر وال بصوت عال .وانما يوماً ما ،في الحلم أو في األعمال ،هذا الجانب
أو ذاك وبطريقة ما ،في اللحلة التي يتجنب فيها الشعر المكتبات التي لدينا أو التي َن ُكونها نحن.
*
ما أندر حاالت إمحاء الفن الصارخة إلى هذا الحد ...إن الصورة تأخذ مكاناً في الحياة .وأسلوب بناء اإليماءات يتكفل
بالباقي ...وال يسلِّم البنيان أبداً بأنه ناجز .فهو في كل يوم يحمل نافذة جديدة .إن كل شيء يترنح بشكل مؤثر تحت رحمة ض ٍ
عف َ ُ ُ ُ
في النلر .وانه ليجب المضي إلى نهاية هشاشة األشياء.
*
في حضور الفن فإن الوجود بأكمله هو الذي يتمايل تمايالً معيناً ،شبيهاً بشراع في مهب الريح.
*
يذوب الحلم مثل قبضة من الثلج في راحة اليد ،ويهتدي المرء إلى طريقه ،مجرداً تماماً ،على الدرب الذي يرد إلى الذات.
*
الكتابة أسلوب للحفال على الذات وللحفال وحسب ،للحفال على أحالم بادية ،وربما كانت فرصة لكي يبقى المرء نقياً .أو أقل
تلوثاً.
*
بلى ،إنني أحلم بتأبين مهيب لإلنسان ولتلاهره العاجز بالحياة ،بتأبين تولد فيه من جديد وتعلو فيه أيضاً كلمة بوسويه
المهيبة ،الكلمة المقفلة ،المنفصلة عن أي ارتباط بالمعيش أو بما يعيش.
إنني أحلم بمتاحف عصية على أن تولج ،يتوجب على كل من يقترب منها أن يقدم برهان رغبة طويلة ومتواصلة في الجمال.
*
...على معرفة مستكينة نفتح أعيننا وعلى عرينا يستند إدراك عالم صار في نهاية األمر بال طائل .الصياد يرتقي فروع
الشجر ،والشاعر يتنازل عن عرقه لشجرة األوركيد .شارب النمر مبلل بالندى ،كشوارب سكارى ال مأوى لهم.
إن الشيء المهم هو تعلم كيفية خلط العالمات ،كيفية نزع إمكانية التنبؤ بالمستقبل.
*
*
يتميز الحجر على اإلنسان بأنه يسقط عمودياً ،وربما كان من المناسب االعتراف بأن تعاساتنا قد بدأت بهذا الرفض األول
ٍ
تخليات ال تنتهي. والذي ال يوجد فيه من الشجاعة غير الملهر ،ألن قول "ال" في تلك اللحلة ،هو في الوقت نفسه انقطاعٌ إلى
*
66
اإلنسان يجادل ،والجدل مساومة ،وهكذا يولد التاريخ ،ذلك الماء الذي ال ينشد غير الركود ،وهكذا تتأسس ،حتى النفس
األخير ،مساومة طويلة وغادرة ال يستطيع فيها اإلنسان ،المحاصر بين بروميثيوس وسيزيف – السجانين المتطرفين لحماساته -أن
يمارس أو أن ُيذكي رغبته إالَّ لكي يتمكن فور ذلك على أحسن نحو من نفيها أو خنقها بيديه هو .الشك أنه ُي َمِّني نفسه أحياناً
بابتكار عالجات جميلة ،لكن الرياء هنا يكون صارخاً ،ألن ما يتوخاه ليس عالجات .فبعدة ألواح خشبية للنجاة ينتهي المرء دائماً
بصنع تابوت.
67
مقتطف من مقال حول انتحار رونيه كريفيل
تحاشي التناقضات ،مواجهة التناقضات دون التغلب عليها ،التغلب على التناقضات دون إزالتها ،تلك هي المواقف الثالثة
الكبرى ا لتي يصطف حيالها جميع مثقفي عصرنا متمايزين فيما بينهم :أخذ أجازة من العالم ،إدراك العالم ،امتالك العالم .وأية
مرحلة ال تستبعد المرحلتين األخريين ،فاالنتقال مسموح به ،وضروري ،ولكن في اتجاه واحد فقط .ذهاب دون إياب ...ما أكثر
الكتاب الذين يؤثرون الرحيل على إفساد الروح وعلى تعفين الروح للروح .لقد كان كريفيل واحداً من هؤالء الكتاب.
1935
العمل األدبي ليس أفيشاً انتخابياً .هذا ال يعني أن األدب [ ]...يجب أن يكون غير سياسي .ليس هناك ما هو أقل صدقاً .إن
ما ي جب إب ارزه هو أن األدب يحتفل بحق عقد صلة مع جميع عناصر الحياة ،ومن ثم مع السياسة من حيث هي أحد هذه
العناصر ،شأنها شأن الرياضة ،أو العلم أو الصناعة .لكن األحوال تسوء حين ال يلتفت الكاتب إلى السياسة وال يرصد الحياة
االجتماعية إالَّ لحساب حزب أو برنامج .إن ما يقوم به عندئذ هو الدعاية .ومن الممكن أن يقوم بذلك على نحو رائع أو بصورة
ِّم منها المجتمع والسياسة واإلنسان تقييماً ح اًر.
بائسة .وليس لذلك أهمية تذكر .فمن المفروض أن الكاتب يربض على قمة ُيقَي ُ
والحال أن الداعية ال يحكم من أعلى إلى أسفل ،وانما من أسفل إلى أعلى؛ فهو في السياسة ال يرى سوى الحزب ،وفي اإلنسان ال
يرى سوى المتحزب .وهو يلل في جميع األحوال أسفل اإلنسان .هذا هو ما يحدث مع أراجون وال نملك سوى األسف لذلك.
ربما جاز االعتراف بأن الشعر يمثل تجربة المصالحة الوحيدة المحاولة عبر القرون .ففيه تكف الكلمة عن أن ترتد ضد
اإلنسان .وانما ،على العكس من ذلك ،تزيده رحابة ،تنتشله من هزيمته اليومية .الكلمة ،شأنها في ذلك شأن األشياء المحسوسة
68
والحقائق الواقعية الحسية تقريباً ،تساعد اإلنسان على أن يعي اتساع رغباته ،وكثمن شيطاني يتعين عليه سداده لقاء هذا االنتصار
األخير – تساعده بأن تعرض عليه بال توقف أكثر هذه الرغبات غواية.
وبفضل هذه المصالحة يمكن للشاعر أن ينلر إلى ما وراء المرئي ،أن يهدد بشكل ال يكل أبعاد حياته هو ،أن يعرض صورة
قصره على الشاشة الرديئة لخآخرين ،جا اًر إياهم صوب ما يحسن الرغبة فيه ،مايحسن الحلم به ،ما يحسن امتالكه أو نسفه
بالديناميت ،ما يحسن سداده للحياة – فالشاعر ،شأنه في ذلك شأن الساحر الذي تساعد تعاويذه على استثارة التجليات المنشودة،
يسمي الكائنات واألشياء التي ينادي في آن واحد حضورها ونفورها على األرض .وهو يسميها بشكل خاص ،بانفجار يمضي من
الرقة إلى العنف ،وهو ما يشكل التأكيد الشعري.
1944
69
ِ
بوصفه أسلوب حياة ] [ الفن
الفن في نلرنا ال يتألف من صور أو من أشكال منحوتة – فهو يمثل ما هو أكثر من ذلك بكثير ،يمثل شيئاً آخر تماماً.
فوراء جميع الترجمات الممكنة للحياة ،جميع األشكال المؤقتة أو األبدية للشعور ،جميع الحاالت واإلدراكات ،يمثل أسلوب حياة،
موقفاً هو في ٍ
آن واحد حيوي وشعوري وواع .فالشيء المهم بالدرجة األولى عند اإلنسان هو نوع من األناقة األخالقية المعنوية
يصبح الفن بالنسبة له انطالقاً منها متاحاً بقدر ما يكون هو نفسه قد اجتاز عتبته .والحال أن هذه األناقة األخالقية المعنوية التي
يؤكد الفرد بها نفسه في وجه قوى الفساد واإلذالل ،هي التي تجد نفسها في اللحلة الحاضرة معرضةً للشجب من جانب بعض نلم
الحكم العازمة على اختزال الروح إلى أكثر األوضاع بؤساً .وهذا البؤس الروحي الذي ال سابق له ال يتماشى إالَّ بشكل بالغ مع
البؤس المادي الذي ينزل بشعوب برمتها محرومة من اللبن والزبد لكنها متخمةٌ بالمدافع .فما الذي يجري اآلن هو تجريد الذكاء من
جميع حقوقه؛ وحرمان اإلنسان من امتالك زمام مصيره .وأولئك الذين يهاجمون بحماقة لوحات رينوار أو كوكوشكا ال يمارسون
ٍ
بصوت مرتفع ٍ
أسلوب في فهم الحياة وفي إفهام الناس لها .لم يعد من حق أحد أن يحلم ٍ
أسلوب في الرسم بل ضد ضراوتهم ضد
ايد غربة ،إرادة تغيير الوطن إلى األبد .وفي ٍ
بشكل عام ) إرادة التحرر من واق ٍع يتز ُ ألن الحلم قد يعني لدى الفنان ( وهو يعني
ات كبرى تتصل باالنضباط االجتماعي. مرحلة العزلة الثقافية التي أصبحنا فيها في العالم ،يجري النهي عن استيراد الحلم العتبار ٍ
محكوم عليه بالموت ...ونحن نعتقد أن هناك مجاالً
ٌ ومن شاجال البعيد إلى سلفادور دالي ،فإن كل نصيب الحلم في الرسم الحديث
للرد على هذا التدجين القذر للفن .نحن نعتقد أن هناك مجاالً لكي نحقق بأسرع ما يمكن اتحاد ال ُكتاب والفنانين حول رجال وأعمال
ٍ
بشكل واسع بحيث إنه تبدو غير قابلة للتوظيف لحساب مجتمعات بالية .وهذه األعمال وهؤالء الرجال موجودون .وهم موجودون
ات بأكملها من وليفة سوى أن تحاصرهم وتحشد ضدهم ،بالتناوب ،الصمت واالفتراء واإلرهاب .إنهم بلدان عديدة ليس إلدار ٍ
في ٍ
ٍ
مسكون باألشباح الدموية ،الكائنات الوحيدة الحية حياةً كاملة. ليسوا موجودين وحسب ،بل إنهم يللون في ٍ
عالم
ٍ
بشيء يوجد إجماعٌ على وانها لواحدةٌ من أقوى مفارقات الزمن الحاضر أن يتعين علينا المطالبة بالحرية الفنية ،أي
اعتباره طبيعياً إن لم يكن مقدساً .وهي مفارقةٌ يمكن توضيحها بسهولة مع ذلك ألنه بهذه الحرية نفسها يملك الفن إمكانية أن يكون
مصدر خطر على مجتمع محدد .ألنه يستخدم هذه الحرية نفسها بالضرورة استخداماً ناقداً أكثر بقدر ما أن النلم االجتماعية أقل
استعداداً للتسامح معه.
1939
70
المثقف في المعركة
األصدقاء األعزاء،
على الرغم من أسفي لعدم تمكني من التواجد بينكم هذا المساء ،فإنني حريص على أن أوضح بإيجاز بالغ تصوري عن
المسألة المهمة بين جميع المسائل ،والتي تشكل موضوع نقاشكم .يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين األكثر تقدماً في
زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية .على أن تحليالً نزيهاً وصارماً للعالقات القائمة بين المحتوى األدبي للقرن التاسع
عشر والمحتوى األدبي لعصرنا من شأنه أن يجبرنا على االعتراف بوجود قطيعة في االستم اررية بين االثنين .فاألدب الرومانسي
ينطوي على التأ مل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها .فكل واحد يستغرق في أحزانه وتمزقاته العميقة .إن أبسط
ارتباك أخالقي وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول ال يحل شيء وال يتم إنقاذ شيء في
ختامها .إن الرومانسية عاطفية وذاتية .فهي عاطفي ة بمعنى أن العاطفة تتطور عندها في حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة
نفسها بأشكالها التي ال حصر لها ،ودون أن تتطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء فيها النلر إلى نفسه ،أو ال يرى غير نفسه .وهي
ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود – بمعنى أن الذات ال تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم ال يهتم بها .وهكذا
يصبح اإلنسان وحيداً على األرض .واألسوأ من ذلك ،أنه يصبح وحيداً دون أرض.
ويبدو اليوم ،ومنذ عشر سنوات ،وذلك بفضل الدراسات النقدية التي قام بها رجال مثل أندريه بريتون وجاستون باشالر
وهربرت ريد ،أن األدب والفن المعاصرين قد نبذا العاطفة لحساب االشتهاء – الذات لحساب الموضوع .إنهما أدب وفن اشتهائيان
وموضوعيان .ويتطلب االشتهاء إشباعاً فورياً وفائ اًر .وهذا اإلشباع ال يمكن العثور عليه إال في الموضوع وعن طريق الموضوع.
واسمحوا لي بأن أستشهد مرة أخرى بما قاله نيكوالس كاالس" :إن الصوت العاطفي هو من الزاوية االجتماعية صوت محافل ،ألنه
يكيف اإلنسان مع الوضع القائم ،أما الصوت االشتهائي فهو وحده الصوت الثوري .إن العاطفة بالقياس إلى االشتهاء هي انحراف
للرغبة لكن هدفنا ال يتمثل في حرف الرغبة بل في تحويل المجتمع من أجل تكييفه لرغبتنا ...إن الفن ليس عاطفياً البتة ،ليس
أخالقياً البتة ،إنه ضد النلام القائم ،ضد الطبقة السائدة ،ضد كل اتباعية ،ضد الكهنة من كل نوع ومن كل حدب وصوب،
والبارثينون (هيكل الربة أثينا في مدينة أثينا) يثبت ذلك :إن الفن معمل بارود".
ويجري عموماً اتهام الكتاب والفنانين المعاصرين بالكلبية وبانعدام األخالق وذلك لمجرد أن الغالبية من بينهم يمارسون
ويوصون بالبحث المنهجي عن اللذة وأنه تنبثق من أعمالهم بوقاحة أخالق ال عالقة لها البتة باألعراف المجازة تحت هذا اإلسم –
هي أخالق الرغبة .إن اإلنسان ،والفنانين بشكل أدق ،يخلقون ألنفسهم في كل لحلة موضوعات جديدة لإلشباع .وحتى من الزاوية
األكثر محدودية ،الزاوية التجارية ،يمكننا رصد تكاثر مريع لعدد األشياء المطروحة لالستخدام اليومي من جانب اإلنسان .وفي
باريس ،وفي نيويورك ،وفي لندن ،نلمت معارض ال تضم غير أشياء مصنفة فنياً تحت ما ال حصر له من العناوين .وبطبيعة
الحال ،فإن هذا االندفاع الفني نحو الموضوع ،الغني باالشتهاءات وباالكتشافات ،إنما يتم في اتجاه غير نفعي .إال أنه يدل كذلك
على اتجاه مشترك لدى جميع ممثلي الفكر الحديث تقريباً .وهو اتجاه عودة إلى الواقع ليس بوصفه شيئاً ناج اًز وجامداً بل بوصفه،
على العكس من ذلك ،شيئاً دينامياً قابالً للتغيير وقابالً للتحسين .ودون إدراك بالغ ،فإن المثقف والفنان يجدان نفسيهما بذلك وسط
71
معركة اجتماعية سافرة .فالمسألة التي تطرحها الحياة عليهما هي تحويل جميع مصادر البؤس إلى مصادر للمباهج .ولم يعد
بوسعهما صرف النلر عن ذلك .فمن اآلن فصاعداً ،عن طريق الراديو والسينما والصحف – وهي وسائل لالتصال البشري رائعة
وغير متوقعة – تصل إليهما فو اًر أبعد عالمات الشقاء ويصبح عليهما الرد عليها .وفي كتابه "األمل" ،فإن أندريه مالرو ،وهو
يتحدث عن ملحمة مدريد ،يوضح ألحد شخصياته" :لقد عاش هؤالء الناس على األقل يوماً وفقاً لقلبهم" .إن التعارض الشائخ
والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من الالزم .وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر دائماً حق الحياة
وفقاً لقلبهم.
ترجمة بشير السباعي
72
وعي ُم ْنتَ ِه ٍك لل ُم َح َّرمات
من أجل ٍ
هل أنت واقعي؟ هل أنت مستعد ألن تصبح واقعياً؟ في حالة اإلجابة باإليجاب ،سوف يعتنون بأمرك .وسوف يتكرم المستقبل
باالبتسام لك .وأياً كان ما تفعل وفي أية روح تفعله ،سوف يبقى لك دائماً وجه احتياطي ،بوابة يمكن اجتيازها ال تزال ،كلمات
بارعة أو بطولية للنجاة في حالة التعرض للغرق ،إمكانيات جدية – إن كان غشك على مستوى طموحك! – ألن تضع يدك يوماً ما
على واحدة من خزائن المصير الثالث :المجد والملكية والسلطة .أو على الخزائن الثالث مجتمعة إن كنت من الدهاء بما يكفي
لكي تبدو وكأنك ال تولي أهمية ألية من أدوات السيطرة الرهيبة هذه .وهذا هو ما يفعله في الواقع بعض كبار الزهاد في زماننا
والذين ال يصمدون ،عندما يكونون متأكدين من أنهم قد أقنعوا الجميع بنزاهتهم األخالقية السامية ،لشهوة إضافة زخرفة بسيطة هنا
اقعي الزهد ،حتى عندما ُيضبط متلبساً بارتكاب جريمة زخرفة صارخة ،سوف يعطي لفعله
أو زركشة ضخمة هناك .الحلوا أن و َّ
مستوى من أكثر المستويات خصوصية ،مستوى المنفعة
ً توج ُد تحديداً على
ألفاً من المبررات المعقولة ،المعقولة بقدر ما أنها َ
المباشرة ،مستوى المصلحة التاكتيكية .والقوة ،القوة الضخمة للواقعيين ،إنما تتصل بكونهم ال يعرفون الجريمة الصارخة .وما هو
التأثير الذي يمكن أن يكون للمرء على أناس جد غارقين في ما يسمونه بالواقعي ،بحيث إن أي برهان ال يمكن أن يكون كافياً
إلفحامهم...؟
واذا كنت ،في الحالة المقابلة ،ال تنوي االستسالم لإلغراء الثالثي ،الذي يمارسه المجد والملكية والسلطة لحساب الواقعية
السياسية ،فالبد من إعدادك ألن ينلر إليك على أنك رّجاج ال يكل للتجريدات (كالعامل المكلف برج زجاجات الشمبانيا كل يوم– .
المترجم) .إنك ،في رأي الجميع ،منبت الصلة بالحياة ،ال تعرف مسرات وعذابات البشر ،منقطع لملكوت االيديولوجية العقيم .وفي
بحمية و ٍ
احدة في القيم الروحية والمنتجات المصنعة ،فإن لل احتقار متزايد يالزم ٍ ٍ
عالم دارٍج من اآلن فصاعداً على االتجار
مصطلح اإليديولوجية نفسه .وعلى الفور ،تجد نفسك في موقف الدفاع .ويتعين عليك البدء بالبرهنة على أنك لست عديم القلب وال
عديم المشاعر ،أمام أناس حرفتهم تنليم مشاعر اآلخرين .وبعد تقديم البرهان ،فإنك تلل مشبوهاً كما كنت من قبل ،ألنك ال
تستجيب آلالت جلبتهم الموسيقية النحاسية .وما أن تكتمل حضارة االبتزاز والتزييف ،فإن أية إيديولوجية جديرة بهذا االسم ،تبدو
كما لو كانت تحدياً ال ُيحتمل للتساهل الروحي عند البعض ،وللطاقة البهلوانية عند البعض اآلخر .وانه لمن موجبات العبرة في هذا
الصدد أن نجد الناجين من إحدى األرثوذكسيات الذين كانوا ،في بداياتهاُ ،يبدون استعراضاً لصرامة بوليسية أكثر مما هي فكرية،
يتآخون اليوم مع هواة الذرائع والتحايالت ومحترفي االرتجال السياسي ،في كره مشتَِرٍك لكل نشاط نقدي ذهني ،ناهيك حتى عن كل
إخالص لشيء جد عبثي كالمبادئ.
ومن األرثوذكسية األكثر شراسة إلى التالعبات السياسية األقل احتراماً ،يبدو الطريق السريع سهل االنفتاح .ولكن إذا كانت
تسنى لها أن تؤدي ،في الصراع اليومي ،إلى ممارسات جد زائفة ،أال يعني ذلك أن بعض الضمائر المتحزبة لها، األرثوذكسية قد َّ
ٍ
بطقس يستحي ُل إلى هذا الحد أو ذاك على في استعاضتها عن ثقافة األفكار بعبادتها ال أكثر وال أقل ،أي في استعاضتها عنها
مناهج العقل السوية إدراك كنهه ،قد تعلمت التملص بسعر زهيد ،أوالً من كل نزاع يتعلق بالتفسير ،ثم من كل تساؤل ضار فيما
يتعلق بخيار العمل الذي يجب االضطالع به ،والموقف الذي يجب اتخاذه؟ إن أحد المدافعين عن هذا النوع من األرثوذكسيات ،جد
السريعة في الهبوط إلى الوحل ،قد لخص لي بلغة آسرة ،أجد نفسي مدفوعاً إلى نقلها هنا ،القاعدة الذهبية لسلوكه .لقد قال لي:
"إننا ،تحديداً ألن لدينا مبادئ جد راسخة ،يمكننا أن نسمح ألنفسنا بكل شيء!" .فلنأخذ حذرنا من ذلك .هذا ليس مزحة يمكننا
المحرَكة إلى قيم رمزية، التخلص منها بهزة ٍ
كتف .إنه التعبير األمين والرائق عن حالة ذهنية جد عامة قوامها تحويل القيم الحية و ِّ
ث بالملوثات "الواقعية" اآلنية ،فهي تحلق فوقها على مسافة جد
إلى تكريس إخالص طقسي لها والى اعتبارها غير قابلة ألن تُ َّلو َ
عالية.
73
فيا له من مشروٍع فر ٍيد يستبسل في إنقاذ مثل أعلى بمنحه أجنحة من الوحل! إن أي إنسان مدفوع إلى التمسك بهذا المفهوم
عن الحياة السياسية يجب عليه أن يرتب لنفسه ضميرين متمايزين وغير متصلين ،األول مهمته أن يحافل على المبادئ الدائمة
وصورة الهدف النهائي في نقائها المزعوم ،والثاني يشمل برعايته المتسامحة الشرمطات اليومية الهينة .أما أن هذا الفصل المستمر،
هذا الطالق األبدي بين النشاطات المباشرة وعالم المبادئ السامية ،يمكن عالوة على ذلك أن يعد التعبير األخير عن الذهنية
التركيبية ،فذلك هو ما يسمح بقياس احتماالت التضليل التي يعتبر الذكاء متواطئاً فيها وضحية لها في آن واحد.
االحتقار – الذي يوحي به عن علم في البداية ،ثم العفوي وشبه اإلجماعي – تجاه كل ايديولوجية مهتمة بالبحث عن شيء
آخر غير فرص إلغاء الذات أو فرص االغتراب ،إخضاع كل فكر ألول واقع قادم ،االختزال التعسفي إلى مضمون واحد لمفاهيم
يصعب تركيبها الواحدة مع األخرى كالدوجماتية وااليديولوجية ،األرثوذكسية والديماجوجية :تلك هي عالمات التشوش المريع الذي
ال يتوقف عن التفاقم والتعقد مفقداً البشر رشدهم حتى يتسنى له على نحو أفضل إقناعهم بأن ُي َسلِّ ُموا أنفسهم بأنفسهم ،عن طيب
خاطر ،بابتسامة ،بوصفهم مواطنين حقيقيين ،لو ٍ
احد ما من أشكال االستبداد الرائجة.
ومن فرط االعتداء على الكلمات ،من فرط التالعب بمرونة اللغة ،أمكن الوصول إلى حالة االنحطاط الحالي حيث يصل
الشخص أو الفكرة إلى أن تكون في آن واحد أو بالتتابع نفسها ونقيضها .لقد ُكِّرَرت م ار اًر كلمة هذا المساعد لهتلر الذي كان يلوح
بمسدسه عندما يسمع حديثاً عن الثقافة أوالذكاء .فيا للحسرة! لماذا يجب للكلمات األخرى التي تهم معجم البشر السياسي
واالجتماعي أالَّ تتمتع البتة بدالالت لها مثل هذه الحدة؟ فما من كلمة وال حتى كلمة "السلم" ،لكونها كفت منذ زمن طويل عن أن
تكون ُمطَمئَِنة ،إال وتستتبع خلفها ما ال ندري أية أهوال سرية ،ما ال ندري أي عفن من عفن الكوارث .والى أن تتشكل ،وفقاً
لنصيحة دوني دو روجمون" ،و ازرة لمعنى الكلمات" ،فمن المهم أن نعطي من جديد جوه اًر واضحاً ومحدداً للمصطلحات األكثر
تعرضاً لإلفساد ،األكثر تعرضاً لالمتهان من جانب استخدام أعمى.
االيديولوجية ليست عقيدة .إنها نواة أفكار موجِّهَة ،حافزة ،تَُو ِّجهُ الذهن لكنها بشكل خاص تحفزه إلى التفكير ،إلى أن يعي
حريتهُ – عبر التطوير المثمر لعناصر االنطالق هذه .
االيديولوجية تبلغ الفكر برسالة معينة ،لكنها بعيداً عن أن تلجم حركته الطبيعية ،ال تفسد للحلة واحدة استقالله الثمين .وكل
رسالة متممة هي مؤاتية .وكل مساهمة أصيلة للفكر المكتسب ،تكفل التوثب الضروري والمتواصل للرسالة االيديولوجية .إن الفكرة
يجب أن تكون محل تفكير من الجميع ،وليس من فرد واحد .وهنا يجب للنضال ضد األفكار الجاهزة – ضد التبني الخانع من
ٍ
موضوعة سلفاً – أن يرتفع إلى ذروته .هنا يجب على المشاركة الواعية لكل فرد في تطوير جانب ماليين الرعايا المدجنين لصي ٍغ
القيم االيديولوجية أن تقف في وجه سلب حرية االختيار الفردية عن طريق حيل اإليحاء العديدة أو تهديدات عنف الدولة العديدة.
واذا كنا نأسف لنوع الهجر والتلف الذي سقطت فيه ايديولوجيات العصر ،فذلك بالتحديد ألننا نرى في ذلك تراجعاً جسيماً للحرية
في شكلها األسمى ،األكثر إبداعاً .إن مجتمعاً ال يوجد فيه غير موردين لألفكار – بعدد محدود وبخدمة محكومة – ومستهلكين
لألفكار -في حالة سلبية شبه تنويمية - ،مجتمعاً تؤول فيه التبادالت الثقافية إلى تحضيرات معملية ،من جانب ،والى تبديات
طقسية للوالء وللحماس االستفتائي ،من الجانب اآلخر ،إن مجتمعاً كهذا المجتمع لن يكون ،تحت ملاهر ربما تكون أكثر رحمة،
ال أكثر وال أقل بشاعة من التنليم الهتلري للعبودية.
وخالفاً للمذاهب ،والتي يتمثل هدفها في بلورة – ومن ثم تثبيت – رأي عام حول تعاليمها ،وهي نفسها جامدة وعلام فاقدة
للحياة ،فإن كل ايديولوجية إتما تتسع بدعوة ضمنية إلى تجاوزها هي نفسها .وليس هناك في هذا الصدد من تدريب أفضل للذهن
غير ذلك الذي يتألف من الهجوم العنيف على القناعات – الحدود ،من التوسع الذي ال يكل لمجالها البصري .وعلى مدار مئات
َّنة والتي َش َّك َل كل خط
ومئات السنين ،جرب الذهن الحاجة المشؤومة إلى االحتماء خلف سالسل ال نهاية لها من الخطوط المحصَ
منها ،في زمانه ،خط الجهل األعلم .لقد عاشت البشرية حتى اآلن بشكل وحيد تقريباً في لل امبراطورية المعتقدات الالعقالنية
74
أي ممتثلة .وفي كل مرة كان يحدث فيها فتح من فتوح العقل الرامية إلى إكساب اإلنسان حصة متزايدة من الحرية ،فإن قوى
التقهقر ،المرتبكة للحلة ،لم تكن تتأخر عن استعادة الساحة الضائعة أو عن تسريح الحماسات التحريرية ،أو عن إقامة هياكل
عبادة جديدة أو عن تحديث األوثان القديمة ،بكلمة واحدة ،عن حبس منجزات العبقرية اإلنسانية في منلومة انضباط شعائري حيث
ال تفعل غير أن تكرس يهيبتها العودة المتصلة إلى القهر ،وهكذا ينشأ بين اإلنسان والحرية عذاب لقاء قريب تارة بعيد تارة أخرى.
وهو عذاب حقيقي تتوارى فيه الحرية في اللحلة عينها التي يتبارى فيها كل شيء على تحقيق انتصارها فتُخلي المكان لبنيان
استبدادي ما يلمعُ اسمها على مدخله مع ذلك كماركة مزيفة على سلعة مهربة.
إن النضال المعادي لاليديولوجية ال ينزع إالَّ إلى نزع سالح الذكاء ،إلى تجريده من وليفته التساؤلية ،إلى تعويده على احترام
حقائق مرتبة بشكل هرمي وصالحة حتى للنلام الجديد .وبدعوى التخلص من التأمالت المجردة ،نتحرك صوب عقائد جامدة
بدائية ،صوب تعاليم اجتماعية مرعبة حيث تأفل الكلمات األكثر إثارة للحماسة تحت ضربات المطرقة.
سوف يكون المثل األعلى للواقعيين هو تحويل الذكاء إلى نوع من "صحيفة رسمية" .فهل يناقش المرء "الصحيفة الرسمية"؟
إن المرء يعرف عن طريقها مراسيم اليوم .بينما في الشوارع وفي الساحات العامة ،سوف تتكفل أُلهيات مختارة بالحفال على شعور
االستثارة المؤاتي لدى الجماهير .ومن الذي يمكنه أن يجادل في أن االستعراضات في الساحة الحمراء مسؤولة عن جانب كبير من
رسوخ النلام الستاليني؟ هكذا يخدم الواقعيون القلب والذهن بتقديم أعالف متكافئة لهما .ويوم يهجر البشر االستعراضات
واألضرحة ،سوف يتهمهم الواقعيون دون ريب بأنهم فقدوا قلبهم ،في حين أنهم لن يكونوا قد فعلوا شيئاً غير الحفال على نبضاته
الستخدامها استخداماً أفضل.
إن الواقعية السياسية إنما تتأسس على صيغتين ال يوجد تكامل بينهما إالَّ من الناحية اللاهرية .يقول لنا الواقعيون" :كل
الوسائل حسنة" .ويضيفون فور ذلك" :يجب تعلم التكيف مع اللروف" .إن التنافر الذي يجعل هاتين الحكمتين غير قابلتين
لالرتباط فيما بينهما ،لن ينجح في شد انتباه الواقعيين طويالً .فالواقع أنه ال توجد بالنسبة لهؤالء تنافرات نهائية ،مثلما ال توجد
بالنسبة لهم تناحرات عصية على التوافق فيما بينها .والشيء الوحيد المهم بالنسبة لهم هو القيام انطالقاً من جوامع الكلم باستحداث
صة لتوفير أنسب حرية مناورة لهم .وعند اللزوم سوف يتخيل المرء أنهم يقولون" :كل الوسائل حسنة لتكييف
مخص َ
َّ فلسفة تمويه
اللروف" .لكن تكييف اللروف ،بدالً من مجرد التكيف معها ،إنما ينطوي على رغبة في تغيير الواقع والضغط على العقبة ال
االنجرار إلى التشكل وفق نموذجها.
إن الواقعيين يخافون المجهول .ودورهم ليس هو تغيير الواقع ،بل مراعاة جانبه .واالَّ فأين سوف يكونون أكثر ارتياحاً إن لم
يكن في واقع ودي ومألوف يكافئهم بنجاحات من كل نوع ،عن االستقرار الذي يدين به لهم؟ وفي النهاية قد ال يكون من األسهل
يصبح من ٍ
شيء ي ما نفسهُ ،فإن كل
تغير جذر ٌّ َّ
ُ أن نميز من ،الواقع أم الواقعي ،هو الذي قام بتطويع اآلخر .إال أنه إذا ما فرض ٌ
ِ
الوسائل حسنةً" من أجل إرجاء هذا التغير ،من أجل إثبات عدم جدواه ،وفي التحليل األخير، ٍ
فعندئذ تكون "كل جديد واضحاً تماماً.
من أجل سحق أنصاره .إن تفويض األمر إلى الواقعي لالهتمام بتغيير األوضاع ،هو كتكليف صبي يخدم في سيرك بشق طريق
في الغابة.
كال ،ليست الوسائل حسنة جميعها! فهناك بعض الوسائل ،خاصة تلك التي يلتمسها الواقعيون أكثر مما عداها ،التي ال تعتبر
حسنة إالَّ لحرف مسار التداعي الطبيعي لألحداث وإلدخال انحراف على خطط العمل المرسومة بشكل يكفي معه هذا االنحراف
عموماً لشل حركة قوى ا لنهوض التي تندفع دون طائل إلى مفترق الطرق .وشأنها في ذلك شأن تلك الجراح العصية على االلتئام،
فإن الزوايا التي تفتحها "االنحرافات الواقعية" تصبح ،عند محيد معين ،عصية على االلتقاء من جديد .وذلك بقدر ما أن الواقعية
تتألف من اإلقامة في االنحراف واعتباره ال حالة وسيطة بل حالة نهائية ،وضعاً في ذاته ،وهو وضع سوف يتعين على الالواقعيين
العزم على بتره ،باألسلوب الوحشي إلى حد ما الذي كان يعاقبة عام )17( 93يبترون به الرؤوس.
75
وعندما يتحدث السياسيون ،الذين ال يحيون إالَّ بالتحايل عن السماح باالنطالق الحر لإلرادة الشعبية ،فلنكن واثقين من أن
هذا اللجوء إلى الشعب ال يشكل غير تحايل إضافي في لعبتهم ،والقاعدة الدائمة من جهة أخرى هي أن هؤالء السياسيين ال يلجأون
إلى الشعب إالَّ عندما يتعرضون لخطر إزاحتهم على أيدي عصابة منافسة ،أكثر براعة وأكثر ثراء في التحايالت .وغالباً ما طرحت
مسألة ما إذا كانت للجماهير مصلحة في التجاوب مع نداءات لرفية ونفعية من هذا النوع .ففي صفوف الكادحين ،يوجد عدد من
أساتذة الواقعية يكاد يكون قريباً من عدد أقرانهم في المعسكر المناوئ .ومن الغريب أن نرى هؤالء الماكيافيلالت ذوي الكاسكيتات
وهم يتولون بخفة عقد التحالفات األكثر خطورة ،والتصالحات األكثر مدعاة للحزن واألواصر السياسية األقل استحقاقاً .ومن عام
1935إلى عام ،1939فإن هذه التقاربات المضادة لطبائع األمور بين الشعب والصالونات ،بين المصنع والكنيسة ،قد أسهمت
إسهاماً بالغاً في تفسيخ العناصر التي كانت ما تزال سليمة وصدامية في قارة أوروبية لم تكن محتلة بعد وان كانت ناضجة بالفعل
لالحتالل .وفي هذا السباق على الزنا السياسي ،يبدأ المرء بخيانة مثله األعلى مع الجار المقابل له ،ثم ينتهي إلى اقتسام أي سرير
مع أي شريك.
إن الشعب يملك في نفسه موارده الخاصة ،بشره الخاصين ،أدوات نضاله الخاصة ،مفهومه الخاص عن السلطة .وهو ليس
بحاجة إلى أن يستأجر من الباطن محترفين مستهلكين بالفعل في خدمة اآلخر ،لكي ينجزوا له مهمته الخاصة .كما أنه ليس
بحاجة إلى أن يسلم طاقاته وراياته لمشاريع إنقاذ السياسيين واألحزاب الذين والتي طالهم وطالها الفساد على حد سواء ،األوائل من
جراء الممارسة غير المحدودة للدسائس واألخيرة من جراء الممارسة غير المحدودة للمساومات.
وعندما تجد الجماهير نفسها مدعوة إلى الفعل من جانب شخصيات أو جماعات ال تدين ببقائها إالَّ النعدام فعل الجماهير،
فإن من حق هذه األخيرة تماماً أن تنزعج .فالمسألة كما هو واضح ال يمكن أن تكون غير مسألة فعل معين موجه إلى اتجاه معين.
وقد نجح السياسيون حتى اآلن مرات كثيرة في تأطير فعل الجماهير ،ولم تنجح الجماهير قط في تأطير فعل السياسيين .وأولئك
الذين يحثون الجماهير على االنقياد لذلك الرجل العليم أو ذاك – "القائد الممكن الوحيد" – أو لهذا الحزب أو ذاك الحزب المسارع
الحَّرين ،األول واآلخر ،في التصرف على هواهما في الرغبات الشعبية ،أولئك الذين يزعمون أنه
إلى االنحطاط إلى حزب وحيد ،و ُ
سوف يسمح للشعب ،من فرط اإلخالص بالرغم من كل شيء ،بالتأثير على ق اررات القائد أو الحزب ،أولئك هم في الحقيقة
ناصحون غرباء ،يمكن للمرء تماماً أن يتعلم من أفواههم فن تزوير التاريخ.
إالَّ أنه من غير الوارد ،بسبب الخوف من استمالة الحماسات الشعبية واستثمارها من جانب عمالء الرجعية ،االرتداد إلى
مأزق االستنكاف .فالجماهير لها دور كبير ،دور فائق ،عليها لعبه .لكنه دور مستقل .وفي كل مرة يلزم فيها مغازلتها من فوق
منبر ،يجري الحديث عن ثقلها في ميدان القوى السياسية .وهذا الثقل حقيقي .والمسألة الجوهرية هي معرفة ما الذي يحركه.
إن فعل الجماهير المستقل مع ما يلزمه من الرومانسية من أجل استعادة الوحدة األخالقية بين الغاية والوسائل ،تلك الوحدة
الركام المريع من التحايالت
َ التي فصم عراها السياسيون الواقعيون - ،هذا الفعل المستقل يجب أن يتمكن من أن يسوي باألرض
والحيل الذي نجازف ،على المدى الطويل ،بأن ُندفَ َن تحته دفن البلهاء.
يقال إن السلطة مفسدة .هذا صحيح إلى حد معين .لكن الخوف من السلطة مفسدة أكبر .إن هذا الخوف من السلطة ،من
سلطة ال يدينون بها تحديداً إالَّ إلى فعل الجماهير المستقل ،قد اجتاح على مدار سنوات أبرز ممثلي اليسار األوروبي وألقى بهم
شيئاً فشيئاً في معسكر الواقعيين والمحتالين .فما أكثر الفرص التي ال تعوض والتي أهدرت لمجرد أن هؤالء التعساء الذين استولى
عليهم الذعر قد لوحوا للجماهير بتشخيصهم المفضل" :إن الوضع لم ينضج بعد!" .وهو ما يعني في كل تسع من عشر مرات أنه
يجب تركه ينضج لحساب العدو!
76
إن المرء ال يشفى بسهولة من الخوف .لكنه قابل للشفاء ممن يروجونه .والبد من إخراج الدياليكتيكيين البواسل من حالة
الهلع .وهو ما يعني أن التكليفات الصادرة إليهم يجب ،مع كل أشكال المراعاة الممكنة وقبل أن تنضج أوضاع ،أن تعفيهم من
مسؤولياتهم.
بين زعماء األحزاب الشعبية وزعماء األحزاب الرجعية ال يوجد غير فاصل طفيف مصدره أن خوف كل طرف منهما ال
يستهدف هدفاً واحداً عاماً .فعلى اليمين ،هناك الخوف من المبادئ لذاتها .وعلى اليسار ،هناك الخوف من تطبيقها.
الخوف من السلطة ،الخوف من األوضاع جد الناضجة ومن الوسائل جد المستقيمة ،الخوف من اإلفصاح عن الذات،
الخوف من الرفض - ،إن كوارث السنوات العشرين األخيرة هذه قد ترتبت على تراكم جميع هذه الحقارات .واآلن يجب الخروج من
الليل ،وذلك هو الشيء األصعب .فمثلما تعتاد العيون على الللمة ،يعتاد الذهن على الجهل ،يعتاد العقل على تقدم عبادة األوثان،
يعتاد اإلنسان الحر على الكوابح التي يصوغها سادته تحت االسم اللطيف" :االنضباط المقبول دون إكراه".
يجب الخروج من الليل ،والحال أنه ال بالغة الخطباء وال بطولة الشهداء بوسعهما مساعدتنا في ذلك .ففي الرد على ادعاء
األحزاب الكبرى امتالك مرجعية دوجماتية مطلقة ،في رد هذه األجهزة المتضخمة ،المسلَّمة بال ضابط إلى حفنة من أمناء السر
"الواقعيين" إلى حجم اإلنسان ،في تحويل الممارسة الفردية للقدرات النقدية ال إلى عنصر اتهام في محاكمات عبثية للتخريب
والخيانة ،بل إلى شرط ضروري لوضوح اجتماعي كامل لم يسبق نيله قط ،في هذا االتجاه وبهذا الثمن سوف يكون باإلمكان ارتسام
ٍ
خالص أول.
ال بالغة الخطباء ،وال بطولة الشهداء ،بل امتالك زمام وعي حر ومنتهك للمحرمات من جانب بشر ليسوا بحاجة بعد إلى
شفعاء أمام القدر.
77
الملحق 1-
إن تشوش اللغات هو ،في السياسة ،واقع معلوم تماماً .ومنذ سنوات عديدة ،قامت السياسة بإخضاع اللغة لنلام مجنون
ٍ
معروف في تاريخ الفلسفة ٍ
بفيروس ومخبول .وبرج بابل هذا اليرجع تاريخه إلى اليوم .لقد تركت السياسة نفسها عرضة لإلصابة
بمسمى االسمية .وقد تم اكتشاف االسمية من جانب الرواقيين الذين برهنوا على أن غالبية األفكار والتعميمات التي غذت النقاش
الفلسفي في زمانهم ليست غير كلمات .والحال أن فترة االسمية السياسية لزماننا فيما بعد الحرب (العالمية األولى) قد نجحت في
إغراق البشرية في دوامة من المشكالت الزائفة التي يجري التعبير عنها بمصطلحات ملتبسة ومنحطة .إن جميع األحزاب المتنازعة
على السلطة مسؤولة – كل فيما يخصه – عن هذا الوضع ،ولكن أوالً وأساساً الحزاب الفاشية المنبثقة من الحرب .وهكذا فإن
الناس قد وجدوا أنفسهم محولين عن حاجاتهم الفعلية ومجرورين إلى تيه من المرايا المشوهة .وعلى سبيل المثال ،فإنه إذا ما تشكل
حزب لمحاربة االشتراكية ولحماية مصالح المالك ،فمن الواضح أنه سوف يرتدي قناع حزب "اجتماعي" ،ديمقراطي" ،أو حتى
"اشتراكي" .واذا ما وصف حزب ما نفسه بأنه "راديكالي" (جذري) ،فمما ال جدال فيه أن المراد هو حزب بالغ االعتدال .واذا ما نشأ
حزب جديد عن انقسام وقع في حزب قائم ،فإنه سوف يسمي نفسه "حزب الوحدة" .واذا ما حصل حزب على تعليمات ودعم من
الخارج ،فبوسعك أن تكون واثقاً من أنه سوف يتلاهر في جميع المناسبات بأنه المدافع عن االستقالل الوطني.
إن هذه االسمية السياسية غالباً ما تعرض سخرية كئيبة على المسرح المعاصر .فعندما يجري إرسال قوات إلى بلد صديق
لمجرد المساعدة على استمرار الحرب األهلية فيه ،فإن هذه العملية الصغيرة تسمى ،وأنتم ال تجهلون ذلك" ،عدم تدخل" .وعندما
خصوم سياسيين ،مصيرهم "الضرب بالنار عند محاولة الفرار" ،في السجن ،فإن ذلك دائماً هم من أجل تأمين حمايتهم. ٍ يجري إلقاء
والمحاكم السياسية التي ال هدف لها إالَّ إرهاب الرأي العام ،تسمى "محاكم شعبية" ،وبرامج التسلح تَُبَّرُر في كل مكان بذريعة أن
واجبها هو العمل على صون السلم .واذا ما خنت تعهداتك ،فال تكاد توجد حاجة إلى توضيح أن ذلك إنما يحدث "إلنقاذ شرفك".
إجنازيو سيلوني
الملحق – 2
أال تعجبون لجميع هذه التماثيل التي تقام في كل مكان .لكل هذه االحتفاالت والمناسبات التي يجري االحتفال بها في كل
لحلة ،ألسماء الشوارع هذه التي يجري تغييرها دون أن يتمكن المرء تماماً من معرفة السبب ،لعدد المعبودين من كل نوع والذين
يجري تقديمهم لتأمين عبادة الشعب لهم؟
إن في كل هذه الحاجة إلى التبجيل والتي يجري إشباعها بال توقف ،تفاهة ما ،وضاعة ما...
بول لوتو
78
الملحق – 3
بعد أن الحرية ال يمكن أن توهب ألحد ،بل يتوجب فقط على الجميع انتزاعها ،وال أنها "تتعارض مع أولئك الذين لم يدركوا ُ
الضعف" ،كما قال فوفنارج ،أي تتعارض مع األنانية والتفاهة وذهنية التحايل ،والوصولية واالنتهازية والهرب من المسؤوليات،
والبالهة المزهوة وكسل الفكر ،واحترام المال ،والنبرة المتشدقة ،والخداع وتكلف العواطف التي تصنع كل ديماجوجية ،وعبادة النجاح
السهل والذي تجيء به الصدف ،والخوف من الضربات ،والخوف من الكلمات الواضحة - ،باختصار ،كل ما يميز األخالق
السياسية لديموقراطياتنا المزعومة وأمزجة "جمهورها العليم" التي ترعاها وتستغلها السينما والكتب الرديئة التي تطبع منها آالف
بعد أن الحرية تتعارض مع هذا كله ،أولئك الذين ال يعرفون البرهنة على أنهم قد
وآالف من النسخ ،والدعاية ،أولئك الذين لم يدركوا ُ
فهموا ذلك – أولئك ال يستحقون شيئاً أفضل من هتلر.
دوني دو روجمون
79
[ الصورة المقفلة والصورة المفتوحة ]
حتى يتسنى لنا ،كما يشدد على ذلك رامبو ،أن نكون في المقدمة ،حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في ٍ
آن واحد ما له
ٍ
بشكل واض ٍح وفي المقام األول أن نتخلى عن كل ما يتعارض ،في األطر القديمة للشعر وللتعبير صورة وما ليست له صورة ،يجب
الشعري ،بل وألسلوب عمل الذهن ،مع هذا السير نحو المجهول ،مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة .واذا
كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها ،أفال يرجع ذلك ببساطة إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي
يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها ،بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء ،قد فرضت
ٍ
لصور نوافذ؟ تداعيات جديدة لصور توسَّع إحداها األخرى على مدى البصر ،لصور مفتوحة،
هنا ،من حقكم أن تتساءلوا :ما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و"الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من األمثلة السريعة
أن يسهم في إيقافنا على هذا األمر.
80
هاكم إذاً ،أليس األمر كذلك؟ ،موجة من الصور المفتوحة ،المفتوحة على ما ال نهاية له من العالقات الجديدة – بين
الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة ،في الطبيعة ،في الحب .إن كل صورة من هذه الصور إنما تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها
فيها .وخبرة المرء الشخصية ،بقدر ما ال يكون المرء جثةً بالفعل ،سرعان ما تتخذ مله اًر جديداً من جراء ذلك .ثم إنها بدورها،
ٍ
صفحة تحوز فرصاً إلنماء ،أي إلثراء الرؤية األولى التي تدين لها بزخمها .والحال أن أراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا ،في
أخرى من فالح باريس هذا نفسه ،عن فضيلة الصورة المفتوحة التي ،إذ تصل إلى أقصى انفتا ٍح لها ،تصبح الصورة السريالية" :إن
الرذيلة المسماة بالسريالية هي عبارة عن االستخدام الخارج عن األعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة ،أو باألحرى لالستفزاز
المنفلت للصورة ألجله في حد ذاته وألجل ما يستتبعه في مجال تمثيل االنقالبات التي يصعب التنبؤ بها والتحوالت الغريبة :ألن
كل صورة ،في كل لحلة ،إنما ترغمكم على مواجهة الكون برمته".
1945
81
من هو السيد أراجون؟
نحيا أزمنةً غريبة .أزمنة يتسنى فيها لتموجات كبرى على السطح أن تلهر بملهر تحوالت حقيقية في األعماق .حيث يتلهى
البعض دون طائل بالفكرة التي تتحدث عن حدوث تحو ٍ
الت هامة في الرأي في حين أن الشيء الوحيد الذي يتحول ،وفي اتجاه
االنحطاط والخذالن هذه المرة ،هو الصرامة القديمة للمبادئ واليقلة القديمة للمدافعين عنها .ويهنئ المرء نفسه على أن جمهو اًر
مبال به أو معادياً له .إالَّ أنه إذا كان األمر
جديداً يتبنى بهذه الدرجة أو تلك من اإلجماع مثالً أعلى كان حتى ذلك الحين غير ٍ
ٍ
بجمهور هو هو ،فهل نحن على ثقة من أن األمر يتعلق بالمثل األعلى نفسه...؟ يتعلق
سوف يقال إن الناس يتغيرون .بالتأكيد ،بل إنهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ما أن تتاح لهم إمكانية الظهور بمظهر من
يتغيرون .فالواقع أن وهم التغير يجنب كثيرين من بينهم التمزقات الكورنيوية بين مصالحهم وقناعاتهم .وشأنها في ذلك تماماً شأن
تلك السياحات التي يقوم بها المرء دون أن يبرح مقعده ،باالقتصار على ترك صور الديوراما المتحركة تتعاقب أمام بصره ،فإن
بعض تبنيات المواقف التي ال نشهد منها اليوم سوى الكثير ،إنما تحدث أمام صحيفة حيث يصبح "إشعاع الشرق العليم" السابق
ات ور ٍ
عة مملة .فيا له من مشروع "عشاء" سياسي "أخير" جميل يمكن سعر في البورصة أو إلى صلو ٍ
قابالً ألن يترجم أخي اًر إلى ٍ
اقتراحه على ٍ
رسام مو ٍ
اكب لعصره!
ٍ
بسخاء تحت كل إن عدداً من إيماءات "التضامن" التي كان من شأنها ،قبل ٍ
وقت غير بعيد ،أن تستثير العجب ،تنتشر اآلن
عالم لم يكن سخاؤه بهذه الدرجة من العفوية قط .ويعلن أولئك الذين يتعارفون خالل ذلك ،األشخاص
التسميات الخيرية حيث يتدافع ٌ
ولم ال؟ ولماذا ال تؤتي مثل هذه التأمينات ،هي ٍ
العليمون جداً بالفعل ،العليمون بشكل يفوق المألوف" :إنها مجرد أقساط تأمين" َ .
أيضاً ،ثمارها وترضي آمال وتوقعات طالبي التأمين األسخياء؟ ومن الذي قال أن مندوب التأمينات لن يكون ،في نهاية األمر،
"قياسي" ،لن تتأخر
ٍّ سياسي
ٍّ "قياسية" والى ٍ
خط ٍ ٍ
سالمة "قياسي" والى
ٍّ معنوي
ٍّ الشخصية األكثر تمثيالً للعصر؟ إن الحاجة إلى ٍ
أمان
في أن تجعل منه البطل المتواضع ولكن الحقيقي لألزمنة الجديدة.
ٍ
شيء يمكن لهذا الكالم أن يخص السيد أراجون؟ ففي أي
في ِّ
كل شيء
فقراءةُ السيد أراجون ،والدفاع عن قضيته سريعة الفوز ،وتوزيع كتبه سريعة الرواجُّ ،
كل ذلك هو أيضاً شك ٌل من أشكال
التأمين.
82
الشعر؟
ٍ
وصوب تقريباً – يسود االتفاق على تأكيد أن السيد أراجون يقدم لنا الكلمة األخيرة كل ٍ
حدب حدب وصوب – أو من ِّ كل ٍ من ِّ
ائد عن الحد ،وكما لو بشكل ز ٍ
ٍ كل شيء ،قد َّ
تحدث عن السوريالية في الشعر – أو الكلمة األخيرة تقريباً .والحال أنه ،بالرغم من ِّ
احد مشقةَ ورجفةَ التصدي للشعر الحديث في شخص ذلك الذي عرف آن و ٍ
كان من أساتذتها! حتى ال يكلف المرء نفسه في ٍ
السوريالية ،ومارسها ثم تجاوزها بالطريقة التي يروق بها اليوم للمرء تجاوز األشياء ،أي بخيانتها .ومن بين المتحمسين الحاليين
للسيد أراجون ،نادرون جداً أولئك الذين يملكون نزاهةً روحية تسمح لهم بالعودة إلى ٍ
عمل ما من أعماله األولى ،ولو لمجرد التمكن
على ٍ
نحو أفضل من قياس المسافة التي تبعده عن " الحسرات" و "األلزات" األخرى الرائجة .نادرون هم أولئك الذين يعرفون وجود
"فالح باريس" و " ٍ
بحث حول األسلوب" ،اللذين يعتبران عملين متفجرين وناجزين تتأكد فيهما ال تزال ،بعد عشرين عاماً من التقهقر،
خارجي على زخمها الخاص ،على تحققها الطبيعي .ومن هذا الماضيٍّ وبكل ٍ
قيد ِّ بكل وصاية عبقريةٌ شعريةٌ هازئةٌ إلى أبعد ٍ
حد ِّ
حد بعيد من خالل حسن السلوك ات غائمة ونائية ،كما لو كانت ذنب ًا يجري التكفير عنه إلى ٍ
المتقد ،لم تعد هناك غير عبار ٍ
و"آفات"* التائب العديدة .إن عودته إلى القافية ،واذعانه للقواعد المقررة ،ودفاعه عن أكثر الحيل الشعرية ذبوالً وأقلها مؤاتاة
للوثوب الحر لإللهام هي أيضاً "جواز مرور" ،هي أيضاً ذرائع للعب دور "الولد الشقي" ولتأمين فوزه باالستحسان وبالتدليل بهذه
الصفة وحدها.
ٍ
بتعبير أدق أراجون إن الذين يجعلون من "حسرة" كتابهم المفضل ال يجهلون وحسب أعمال شباب أراجون هذا نفسه ،أو
اآلخر ،بل إنهم يجهلون أيضاً في أغلب األحيان عمل جيوم أبوللينير الرئيسي الذي ،بما يتميز به من غ ازرة ونضارة ،كان بوسعه
أن يعفيهم من التشقلب افتتاناً بثرثرات معبودهم الجديد المجهدة والعديمة البهجة.
وبالنسبة ألولئك الذين راعوا دائماً االستهانة بالحفاظ على االتصال بالشعر ،فإن أراجون الرائج يتخذ شكل مدرب – سريع.
فال أهمية تذكر لمن سبقوه ،وال أهمية تذكر لذلك الجزء من نفسه الذي يجحده وينفر منه اليوم ،فقد أصبحت كلمته قرص الشفاء
موعود بجميع أمارات الود ،بجميع أمارات العطف .إنه يحيطُ المرَء علماً بما
ٌ الشعري بامتياز .إن أراجون" ،على حد القبالت،"...
يجري ،ويريحه ،وهو يملك كلمة غزل للنساء ومداعبة للصغار .فلتسيروا في أثر الدليل!
القلب؟
ٍ
بشكل محدد أن أراجون قد أنسن الشعر الحديث. المراد ،أكثر من ذي قبل ،هو أالّ يكون المرء عديم القلب .والحال إنه يبدو
والبد بالفعل للشعر الحديث أن يكون الشعر المقروء أقل من سواه عموماً حتى يتسنى ألسطورٍة على هذه الدرجة من البالهة أن
كل (عمل) أبوللينير ،وأفضل ما عند إيلوار وكل (عمل) أندريه بريتون ُّ
وكل (عمل) جوليان جراك، يمر ُّ
تكون جديرة باالعتبار .أال ُّ
نقاء وخصوبةً من قلب أراجون؟ ٍ
وبقلب أكثر ً يمر قطُّ بالقلب،
أال ُّ
ٍ
بلمسات حذرة ،فإن أراجون ال إن ما ينتصر عند أراجون ليس هو القلب ،بل الزغردة .وحتى حيثما يلن أن عليه التحرك
إيحائي وعن التذكير ٍ
ضباب يستطيع اإلمساك عن أن يكون مبالغاً وعن اإلشارة إشارةً واضحةً إلى ما كان يجب االكتفاء بتركه في
ّ
في كل لحلة بوضعه كمحدث نعمة .محدث نعمة في االندفاعات العاطفية الكبيرة ،مجدث نعمة في زفرات النحيب المتكلفة وجد
المؤثرة ،محدث نعمة في ارتعاشات الشفاه وخفقات الرموش :إن أراجون قياساً إلى شعراء القلب الصادقين هو كالندابات قياساً إلى
التعبير الصادق عن ضياع األمل .ونجاحه ،وهو في المقام األول نجاح استسهال ومجاملة للذات ،إنما يرجع إلى الخمول الذهني
ألولئك الذين ،بالنسبة لهم ،يصبح فيون منسياً ونيرفال مجهوالً تماماً وأبوللينير غير جدير بقراءة ولو سريعة .والحق أنه ال "أنشودة
هولميير الجميلة" وال "ال ديسديكادو" ،وال "أغنية المحبوب الذي أشقاه الحب" ،قد تمتعت قط بالتعبئة الدعائية الموضوعة في
خدمة أراجون .وال مراء في أن ذلك إنما يرجع إلى أن "النبرة اإلنسانية العميقة التي تنبثق من عمل أراجون" هي ،قبل ِّ
كل شيء،
83
نبرة متكلفة ،نبرة يتحمل هو مهمة رعايتها ويتحمل وكالء دعايته مشقة كبيرة في إثبات صدقها ...نبرة متكلفة؟ إن قصيدة جديدة
تماماً عنوانها "الوردة والخزامى" نشرتها صحيفة "المارسييز" في عددها الصادر في 2سبتمبر ،1944طبعة القاهرة ،إنما تقدم في
هذا االصدد برهاناً غير متوقع .إن القصيدة التي تبدأ بهذه األبيات:
أسيرة الجنود...
غنائي إلى هذا الحد أو ذاك ،للخط السياسي للحزب الذي يرتبط به
ٍّ ال جدال في أنها ال تدعي غير تصوير ،ذي ٍ
شكل
الكاتب ،أي الحزب الشيوعي الفرنسي .وكل ٍ
نقد للقيمة الخاصة بهذا النص تصبح عديمة الجدوى ،ما أن يقارنه المرء ببعض
األبيات التي كتبها أراجون في عام ،1931والتي كتبت ،هي أيضاً ،لكي تكون مسايرةً للخط .ويبدو أن هذه المقارنة البسيطة البد
لها من أن تكون كافيةً لحسم مسألة الصدق.
إالَّ أنه ليس باإلمكان إنهاء هذا الفصل الخاص بالقلب دون أن نعيد إلى األذهان هنا أن أراجون لم يتردد قط في استخدام
قلبه ضد أصدقائه األعز ،كلما سمح له ذلك بارتقاء درجة في هي ارريكية الوصولية.
فعندما سافر في نوفمبر 1930لتمثيل الحركة السوريالية في مؤتمر خاركوف ،كتب من هناك إلى صديقه أندريه بريتون: :
إننا نعتمد على ثقتك في كل شيء ،على ثقتك أنت بالتحديد ،للتحدث باسمنا في خاركوف" .وبعد ذلك ٍ
بأيام قالئل ،أعلنت برقيةٌ
مشرقة" :هنا ،النجاح تام ،أراجون" .وبعد ذلك ٍ
بأيام قالئل أيضاً وقَّع أراجون ،مع جورج سادول ،وثيقةً علنية أعلنا فيها تنصلهما من
ِّ
كل األعمال "السوريالية" وباألخص من "البيان الثاني للسوريالية" الذي كتبه أندريه بريتون .وهكذا فإن أراجون ،ممارساً بخفة
متساوية خيانةَ الثقة الممنوحة له والشهادة الزور ،قد وصل إلى انتزاع مكانة مختارة في إدارة حزبه .ومن عام 1937إلى عام
،1939عمل رئيساً لتحرير الصحيفة اليومية الكبرى "سوسوار" .وأقل ما يمكن للمرء قوله عن هذا الرجل المتعدد القلوب هو أنه قد
تميز دائماً بالجحود المؤدي إلى المغانم.
حماقات الشباب؟
إن أراجون ،بالنسبة لكثيرين ممن يملكون فكرةً عمومية عن مساره األخالقي والسياسي ،دون أن يكونوا على ٍ
علم بتفاصيل
انفالتاته المتعاقبة ،إنما يصور أفضل من أي أحد آخر ما هو أبدي ومؤسف "من الخير أن ينقضي الشباب"! ففي مجتمع ،ثم في
حزب ،مك رسين بكاملهما لتدجين ولضبط سلوك أعضائهما ،تعتبر وليفة المثقف المستأنس واحدة من الولائف التي تتميز مكانتها
ٍ
مؤتمر وعائدها المادي باستقرارهما الرائع .خاصةً عندما يجعل المثقف ،على غرار أراجون ،من استئناسه هو قيمة خطابية في
للكتاب .ألم يصرخ أراجون في الواقع باعتزاز في المؤتمر الدولي الثاني لل ُكتَّاب للدفاع عن الثقافة ،في باريس في 16يوليو
ٍ
بمصطلحات تجارية .نعم أيها " : 1937لقد بخست صداقات شبابي!" .لقد كان من الجميل قول ذلك ،على لسان المرتد نفسه،
السيد أراجون ،إن لك الحق مائة مرة في التعبير عن نفسك بهذه الطريقة ،إنك ،شأنك في ذلك شأن من هم على شاكلتك ،قد قمت
مستوى
ً بتجارة مربحة .لكنك خالفاً لذلك ،كنت سافالً سفالةً ال تغتفر ،عندما اجترأت ،فور هذا االعتراف ،على وضع نفسك على
واحد مع رامبو ،لقد اجترأت على الهتاف" :لك يا رامبو أقول :إنني أعرف اليوم ،كما كنت تقول ،كيف أحيي الجمال".
ٍ
شيء إن أراجون ،شأنه في ذلك شأن من هم على شاكلته في الفن ،في الشعر ،في السياسة ،يستشعر الحاجة إلى تدنيس
عليم ما في سقوطه .وفي هذا الوقت الذي نشهد فيه جميع الحيل الرائجة ،فإن المغامرة الرامبوية تنحط بالنسبة للمثقفين
84
البورجوازيين الصغار إلى تمرين مريح في صاالت تحرير صحافة اليسار .ومنذ تلك اللحلة ،وفاقداً لكل حس قياس ولكل وعي،
فإن أحقر هؤالء المولفين ،في أثر رئيسه ،سوف يسمح لنفسه برفع الكلفة مع رامبو.
إن أراجون ،في اللحلة الراهنة ،ال يشد اهتمامنا ال كشاعر وال كمناضل بل أساساً كلاهرة اجتماعية .فأ ارجون يرمز إلى أوج
الخديعة المعاصرة ،االحتيال العاطفي الكبير الذي يكسب كل يوم أرضاً ثمينة على حساب صدق القلب واستقالل الحكم النقدي في
آن واحد .إنه مستعرض للحب:
ِ
أحبك يا إلزا ،آه يا مصدر شجني،
ٍ
بطالء من المؤثرات اجد دائماً لكي يستر األضاليل واإلفالسات والخيانات
ومستعرض لألمل أو للكراهية ،ال فرق ،لكنه متو ٌ
بشكل خاص أن خطب ونصوص أراجون قد لعبت ،منذ أربعة عشر عاماً ،دور ٍ
تأكيد ٍ العاطفية .ألنه ال يجب أن ننسى
االستياء عم ٍ
دولية رياضيةُ ،هزم الفريق الفرنسي هزيمة محزنة .وقد َّ ٍ
منافسة ٍ
لبيانات كالبيان التالي " :قبل عدة أسابيع ،في غنائي
ُ
كثيرين من الفرنسيين .إن الشيوعيين الفرنسيين يشاطرونهم شعورهم " (كلمة موريس توريز في قاعة واجرام ،نقلتها
تأكيد غنائي لجميع تحركات وانقالبات مبادئ حزبصحيفة لومانيتيه في عددها الصادر في 13أكتوبر ،)1935أي دور ٍ
حريص ،هو أيضاً ،على أن يدفن إلى األبد "حماقات شبابه"!
إن عدوى "الحسرات" و"عيون إل از" – إن لم نتحدث عن مصنوعات األدب البطولية أو الغرامية المصنفة في لل الكريملين
الروسي" الجسيم الذي يكبح أخي اًر هذا "التراجع
ي ُ ٍ
النتفاض فكر ٍّ نقدي، ٍ
لنهوض ّ الملحة ،الضرورة الفورية،
– إنما تؤكد لنا الضرورة ُ
ّ
تضيع فيه أفضل طموحات زماننا.
وفي هذه النهاية لعام ،1944في هذا الفجر لالنتصار الديموقراطي ،هل سيكون كثي اًر على البشر أن ندعوهم إلى التفكير
بأنفسهم ،إلى التمرد على البشاعات الدعائية التي تخطب ودهم ،إلى احترام قناعاتهم بعيداً عن الصورة التي يعرضها عليهم
المزورون ،شعراء كانوا أم غير شعراء ،والى أن يجعلوا من استقالل رأيهم السالح الفعال لصعودهم التحريري! ...
فليغفر لنا القارئ رفعنا المناقشة فوق شخص أراجون وكل ما يزعم أنه يمثله.
ٍ
وصاف ال يعود نفياً لكل تفكي ٍر إننا نعتقد أن الساعة قد حانت لرفع كل نقاش إلى منتهاه ،إلى تجاوزه في ٍ
فعل ٍ
قاس
تمهيدي بل باألحرى تتويجاً له في عالم الواقع.
85
86
مالحق
"أي آراجون يجب أن نصدق؟ ذلك الذي أوصانا ،في "اإلباحية" بالهرب من صفوف الجيش فو اًر؛ ذلك الذي ،في " ٍ
بحث حول ُّ
ُ
للوذعي الذي
ُّ ستاليني "النار على ليون بلوم" و"مرحى لألورال"؛ البورنوجرافي ا
ُّ نسي بأسره"؛ أم
األسلوب"" ،تغوط على الجيش الفر ّ
كتب " ُك ...إيرين" ،أم الديروليدي الجديد ألعوام ،1938 – 1936ذلك الذي تباكى على جان دارك وعلى قبعة موريس
شوفالييه القش؛ ذلك الذي قرر أن "الواقعية االشتراكية" يجب أن تكون أوالً "واقعية فرنسية" ،ألن تلك كانت آنذاك سياسة ستالين في
فرنسا ...؟ الفوضوي أم اليسوعي ،السوريالي أم الكادرالحزبي المنضبط ،أيهما األصدق؟"
أراجون ضد أراجون
أسيرة الجنود
الخطوات
من الكنيسة
87
وذلك الذي ما آمن بها
الب َرد
عندما تكون السنابل تحت َ
أحمق من يتشدد
ٌ
أحمق من يفكر في منازعاته
ٌ
في قلب المعركة المشتركة...
(إلخ ،إلخ)...
لوي أراجون
المارسييز 1944-9-2
ي يمكن إقامته في ساحة ،والتمثال األكثر إدهاشاً بين جميع التماثيل ،والعمود األكثر جسارةً واألكثر رشاقة، ٍ
نصب تذكار ًّ إن أجمل
ٍ
سهولةطيف المطر اللوني ذاتَه ،ال تُساوي الركام الرائع والعشوائي – حاولوا لتروا – الذي يحققه المرء ب
َ والقوس الذي يضاهي
بالجمع بين كنيسة والديناميت.
لوي أراجون
ك ...دوالفيلرابيل ،كبير أساقفة روان ،مونسنيور دو مي دو دو الفيلرابيل ،أسقف آنسي ،مونسنيور باريت من مونسنيور ُ
(الم َخابر) العمدة والسيد ديمار ،مسئول الوضاعات الحقيرة ،والجنرال شاربي (المهترئ) يستقبلون الكاردينال
باليموث ،السيد ميتاييه ُ
بورن ،كبير أساقفة وستمنستر ،سفير البابا ،الذي بعد تَ َعب ٍُّد قصير في دورة المياه ،يلهر من جديد في قاعة تناول الطعام حيث
يجري انتلار الكهنة من األبرشية.
لوي أراجون
88
مضطهد)1929 ،
َ (مضط ِهد
أراجون ضد أراجون
ما أقرب الموسيقى البعيدة
إلى قلبي
ف
اع ُ
ض َالم َ
إنها الصدى ُ
ضَّرج األمس
لم َ
ُ
حيث يختلج قلب جان دارك
لدى سماع أصو ٍ
ات جديدة
بماء النبع
الكلمات الم ِ
ثملةُ غريبة أصبحت
ُ ُ
ليس اللسان الالتيني الذي يعلمونه في المدرسة
لوي أراجون
إسكات ٍ
شعب ُ بأنه ال يجب
ين – باي
89
الصفر هذا القَ َسم
إليكم أيها األخوة ُ
اني
دم فار ٍّ
لقاء كل قطرة سالت من حياتكم سوف يسيل ُ
بضربات قذائف
لوي أراجون
أراجون ضد أراجون
ِ
أحييك ألجل هاتين العينين القادمتين من قلب ِ
عينيك اللتين رأتا سقوط الباستيل، ِ
أحييك يا فرنساي ،ألجل هذا الضوء في
العصور وألجل األغنيات الرقيقة التي تحرك صدرك الذي من الحنطة واللبن ،ألجل أغنية إنها تمطر أيتها الراعية [جان دارك]
ِ
أحييك يا فرنساي ألجل بعد إلى األحراج وموريس شوفالييه.
وألجل الكارمانيول ،ألجل راسين وألجل ديدرو ،ألجل أغنية لن نذهب ُ
جان [دارك] واللورين الجميلة وبابيف الذي مات هو اآلخر ألن قلبه كان عليماً جداً.
لوي أراجون
إنني أعتبر ُك َّل ُمع َج ٍب بأناتول فرانس كائناً منحطاً .وانه ليطيب لي أن المشتغل باألدب الذي يحييه اليوم في ٍ
آن واحد التلمي ُذ
ٍ ملة غريرٍة ٍ
سك ع ِ
لحكاية لصاد ،الذي قضى دنيئة تماماً ،مقدمةً من أكثر المقدمات خزياً مور وموسكو البلهاء قد كتب ،من أجل ِّ ُ َّا
عمره في السجن ،لكي ينال في النهاية ركلة من هذا الحمار الرسمي ...البد لبهلوان الروح الحقير هذا أن يدفع ثمن العار الفرنسي،
ألن هذا الشعب الوضيع كان سعيداً إلى هذا الحد بمنح اسمه له.
لوي أراجون
(هل صفعتم بالفعل ميتاً ،من كراس جثة ،الصادر عند موت أناتول فرانس)
90
أراجون دائماً وأبداً
بيت في داخلي هذا الشيطان :الحاجة إلى الخيانة. ذات ٍ
يوم جميل ،أُدرك أنني ر ُ
لوي أراجون
ِ
صداقات شبابي. ت
لقد َب َخس ُ
لوي أراجون
91
إشارات
لوي أراجون :شاعر وروائي فرنسي ( ،)1982-1897ولد في باريس .كان أحد مؤسسي السوريالية ثم تخلى عنها.
جيوم أبوللينير :شاعر فرنسي ( ،)1918-1880ولد في روما .وجه الشعر الرمزي في طرق جديدة استشرفت السوريالية.
أرتور رامبو :شاعر فرنسي شهير ( ،)1891-1854توقف مبك اًر عن كتابة الشعر وتحول إلى مغامر.
فرانسوا فيون :شاعر فرنسي ( – 1431نحو ،)1463ولد في باريس .عاش حياةً مغامرة وتعرض لحبل المشنقة أكثر من مرة .أول شاعر
غنائي فرنسي كبير في العصر الحديث.
بول ديروليد :شاعر وسياسي فرنسي ( ،)1914-1846ولد في باريس ،رئيس عصبة الوطنيين ،مؤلف "أغنيات الجنود".
جوزيف بارا :رمز من رموز البسالة خالل حروب الثورة الفرنسية (.)1793-1779
جان – باتيست كليبير :جنرال فرنسي ( .)1800-1753اغتيل في القاهرة على يد سليمان الحلبي.
92
هيبة الرعب
أن ينتهي واألغالل في قدميه ،ذلك كان غاية حياة .لكن هذا قفص ذو قضبان .دون مباالة ،بشكل متسلط ،دون حياء ،تسللت ضجة الناس وعاودت
حتج ُز ُح اًّر؛ كان بوسعه المشاركة في كل شيء ،لم يغب عنه شيء في الخارج؛ بل كان بوسعه الهرب من القفص؛
الم َ
التسلل عبر الشبيكة؛ في الحقيقة ،كان ُ
كانت القضبان متباعدة على اتساع متر؛ بل إنه لم يكن مقبوضاً عليه.
فرانتس كافكا
ليس هذا بحثاً .فالبحث ال يكتب عن سبق عمد واصرار وبكافة االحتياطات األدبية المتعارف عليها وحسب ،بل هو يستلزم
باإلضافة إلى ذلك حشداً للمراجع وللمعطيات ،ذات الطابع اإلحصائي إلى هذا الحد أو ذاك ،وهو ما ال يسعني أن أضحي في
ملي ،إنما
علي هذا النص .ناهيك عن أن جمهور األبحاث القديم ،وقد خان كل تفكير ّ سبيله بجيشان السخط والغضب الذي أملى َّ
يجد لذته اليوم في قراءة العديد من "المختصرات" الرائجة وفي أخبار الدسائس المثيرة للمشاعر المبتذلة ،سواء كانت دسائس
ديبلوماسية أم بوليسية ،والتي تقدمها له كل صباح ،مع وجبة اإلفطار ،صحافة مرتبطة بجميع الحقارات.
غير أن من اليسير عليكم أن تالحلوا أن مارجرجس ،عند كل جولة صراع جديدة ،يتحول دون توقف أكثر فأكثر إلى
اكتساب خصائص التنين .وسرعان ما يكف مار جرجس عن أن يكون شيئاً آخر غير نسخة بشعة من التنين .وسرعان أيضاً ما
يحاول التنين المقََّنعُ إقناعنا ،بضربة حربة ،بأن إمبراطورية الشر قد سويت بالتراب!
إن الثامن من أغسطس سوف يلل في نلر البعض تاريخاً ال يغتفر .أحد مواعيد العار الكبرى التي ضربها التاريخ .إن
الصحف تتحدث بتلذذ عن آثار القنبلة الذرية ،أداة السجال في المستقبل بين شعب وشعب .وتعلن نشرات األخبار اإلذاعية
المسائية دخول االتحاد السوفييتي الحرب ضد أشالء وخرائب اليابان .هذان حدثان ،يتفاوت ثقلهما دون ريب ،لكنهما يشتركان في
الفلاعة ذاتها.
قبل عشر سنوات ،وقف الرأي العام العالمي وقد انتابه الهلع كي يعبر عن احتجاجه على استخدام غاز الخردل من جانب
الطيارين الفاشيين الذين أُطلِقوا على أثيوبيا .وكان قصف قرية جرنيكا ،التي سوتها األسراب األلمانية بالتراب في إسبانيا ،كافياً ألن
ُيعبِّئ -في عالم كان ال يزال فخو اًر بحريته – ماليين الضمائر الحية .وعندما مزقت القنابل الفاشية لندن ،بدورها ،كان واضحاً
على أي جانب من الحريق تقع القيم التي يتوجب الدفاع عنها .ثم رووا لنا كيف اكتوت هامبورج بالنار نفسها التي اكتوت بها لندن،
وشرحوا لنا مآثر تقنية جديدة للقصف تدعى بـ "القصف اإلشباعي" والتي ُو ِع َدت بفضله مناطق حضرية ضخمة بأن تسوى تسوية
مؤكدة بالتراب .وليس في هذه األساليب المتقنة ،هذه التحديثات الفائقة في مجال القتل ،ما يمكنه اإلعالء من شأن قضية الحرية،
انعتاق اإلنسان .ولقد كنا أكثر ميالً من غيرنا ،هنا ،وفي بريطانيا العلمى ،وفي أمريكا ،إلى اعتبارها بشعة بشاعة مختلف أشكال
الويل التي ا بتدعها النازيون .ففي يوم من األيام ،يكون "التنليف" عن طريق غارة من غارات الرعب من نصيب مدينة بأكملها.
وفي اليوم التالي ،يكون شلل الموت من نصيب محطة سكك حديدية يتكدس فيها آالف الالجئين ،وذلك بفضل جهاز تصويب
علمي متفوق .وهذه األلعاب الال إنسانية تبدو فجأة مثيرة للسخرية ،مع دخول القنبلة الذرية ميدان الخدمة ومع قيام القاذفات
الديموقراطية بإذاقة الشعب الياباني فضائلها جرعة واحدة! إذ ما األهمية التي يتميز بها في الواقع اغتيال عدة عشرات من اآلالف،
93
صفر وبمزيد منأو عدة مئات من اآلالف من المدنيين اليابانيين ،عن سبق عمد واصرار .إن الجميع يعرفون أن اليابانيين ُ
صف اًر "أخيا اًر" .ألم تعلن شخصية ليست من "مجرمي الحرب" ،بل هو األميرال ويليام
الوقاحة ،صفر أشرار – حيث ُيعتبر الصينيون ُ
هالساي" :إننا بسبيلنا إلى حرق وتمشيط هذه القردة اليابانية البهيمية عبر كل منطقة المحيط الهادئ ،واننا لنشعر بفرحة لدى حرقهم
تفوق تماماً لذة إغراقهم" .إن هذه الكلمات الحماسية والتأكيدية فيما يتعلق بالفكرة التي يود القادة العسكريون تكوينها عن الكرامة
اإلنسانية ،هذه الكلمات قد قيلت أمام أحد معدي أحداث الساعة...
إن مارجرجس يتطاول تطاوالً زائداً عن الحد .وهو يبدأ في اللهور أمامنا بملهر أدعى للتقزز من ملهر التنين.
*
وعند المرحلة التي ساقتنا إليها التطورات السياسية والحربية األخيرة ،فمما ال غنى عنه التأكيد على أن مشروعية أية قضية
يجب أن تتحدد بشكل أساسي ،وبالدرجة األولى ،من زاوية الوسائل التي تستخدمها .مما ال غنى عنه ،حرصاً على القضايا التي ال
تزال تغامر بالتذرع بخير اإلنسان ،تحديد جدول بالوسائل التي ليس من شأنها طمس الغاية المنشودة .إن اللجوء إلى النميمة في
مواجهة ضرورة عابرة ،إنما يترجم نفسه ،في وقت قصير ،إلى إدارة للنميمة .وسرعان ما يتكون لدى فريق من المواطنين ،طبع
نميمي - ،ولدى الفريق اآلخر ،وسواس نميمي .ولو أردتم تحويل المناقشة صوب الغايات النهائية التي يزعم كل واحد أنه يسعى
إليها فإن المرء سوف يستيقل ،وسوف يفتش البسطة وملهر السُّلَّم .وسوف يغلق الباب بعد ذلك مرتين ولن يعبر عن نفسه إالَّ
بعبارات محسوبة ووفقاً لحالة روحية أصبحت أكاديمية بصورة مفاجئة .إن الوسيلة تنتقل إلى حالة المؤسسة .إنها تشطر حياة أمة،
وحياة كل إنسان إلى شطرين .والشيء نفسه يحدث فيما يتعلق بالوسائل األخرى المخصصة للعدو بهدف التغلب عليه وتدميره إلى
أقصى حد ولكن التي يتبين -عند االنتصار – أنها قد ُرفعت إلى مصاف تشوهات قومية ،عاهات ثقافية تجري حمايتها بعناية
ضد تمردات العقل المحتملة .وهكذا فإن عبادة صوابية الزعيم ،والتعزز الجنوني للمراتبيات الزائفة ،والتسلط على جميع مصادر
المعلومات وجميع وسائل النشر والتنليم المسعور ألكاذيب الدولة طوال ساعات النهار والليل ،واإلرهاب البوليسي المنفلت ضد
المواطنين المحتفلين بيقلة وعيهم النسبية – كل ذلك يصبح أشكاالً معترفاً بها اعترافاً هاماً للتقدم السياسي واالجتماعي! .وانه
لعلى وجه التحديد ضد إجماع قوي كهذا على استم اررية الضالالت يجب أن نكرر على أنفسنا ،بال هوادة ،الحقيقة الواضحة التالية:
إن البروليتاريا ال يمكنها أن تحلم بالصعود باللجوء إلى الوسائل التي ينحدر أعداؤها باللجوء إليها .إن نوعاً من االشتراكية
يدين بقيامه لمعجزات الدس ،والنميمة ،واالبتزاز السياسي واالحتيال االيديولوجي ،سوف ينخر السوس في أساسه بسبب وسائل
انتصاره ذاتها ،وسوف يكون اإلنسان والشعوب مفرطة في حسن النية لو انتلرت منه شيئاً غير تغيير للدياجير.
في الثامن من أغسطس ،1945بينما كان ال يزال ينزف الجرح المفتوح في هيروشيما ،المدينة – الشهيدة التي وقع عليها
االختيار لتفجير القنبلة الذرية األولى ،وجهت روسيا ستالين إلى اليابان طعنة الخنجر الشهيرة في اللهر والتي تعود براءة اختراعها
إلى موسوليني .وال بد أن هذا األخير قد عذبه التقلب في قبره وهو يرى في رقاده مصير حقوق المؤلف .ذلك أنهم لم يكتفوا بانتحال
مفاخره المأثورة ،بل أرادوا إضافة مساهمتهم التاريخية الخاصة .إن نص إعالن الحرب السوفييتي يحيطنا علماً في الواقع بأن هذا
الدخول في الحرب من جانب االتحاد السوفييتي ال يهدف إالَّ إلى "إنهاء الحرب في أقرب وقت" و"المحافلة على األرواح البشرية"!
دعوا جانباً الوسائل الحقيرة - ،هاكم إذاً غاية في حد ذاتها ،غاية ال يمكن ألحد أن يجادل في أن من الصعب أن نجد لنبلها مثيالً.
وعلى مدى قرون قادمة ،سوف يجد الشعراء الغنائيون الستالينيون في منغوليا الخارجية متسعاً لإلسهاب في الحديث عن الطابع
السلمي واإلنساني لقرار المعلم.
94
عن الحروب العادلة وخطر كسبها
قبل أن ُيدفع العالم إلى النضال ضد الفاشية بعدة سنوات ،استعر أوار مناقشات حادة في صفوف الحركات اليسارية بين أتباع
المسالمة المبدئية والمناضلين الداعين إلى نضال حتى الموت ضد الطغيان .وكان من بين الموضوعات التي تعاود اللهور دائماً
في هذا التبادل الطويل لألفكار والحجج ،موضوع "الحروب العادلة" .وقد اجتهد المسالمون المبدئيون ،بمهارة لم تكن شريفة دائماً،
في إثبات أنه ال توجد حروب عادلة .وقد ذهبوا إلى االدعاء بأن مكافحة الطغيان عن طريق الحرب إنما تعني االستسالم بملء
اإلرادة لطغيان جهاز عسكري يستحيل كبح جماحه ،ولقوانين استثنائية ال تعرف الرحمة ،ولسياسيين حائزين ألكثر السلطات تعسفاً
ومعفيين بهذه الدرجة أو تلك من تقديم حساب عنها .ويقول لنا منلرو المسالمة المبدئية ،دون أن ينجحوا في إقناعنا ،إن الحروب
بصفتها هذه وفي حد ذاتها إنما تشكل طغياناً ال يقل عسفاً عما تعرضون تقويضه باللجوء إليها.
إنهم مخطئون ،فهناك حروب عادلة .لكن ما يميز الحروب العادلة أنها ال تلل عادلة لوقت طويل.
ال ننسين أن الحروب "العادلة" ،إن كانت تنتج أشخاصاً من طراز هوش ومن طراز مارسو ،فإنها تنتج أيضاً أشخاصاً من
طراز بونابرت ،وهو ما يعد ،بالنسبة لها ،طريقة شيطانية بوجه خاص للكف عن أن تكون عادلة .لكن الحرب "العادلة" ،من جهة
أخرى – وفي غياب كل بونابرت عن األفق – إنما تتميز بحمالت قطع طريق عادية ،من حيث أنها تفرض على من يتحملون
مسؤوليتها إيقاعاً ومقتضيات يصعب عليهم احتمالها .ولإلبقاء على يقلة مشروع قائم على الحماسة الشعبية ،ال بد أن تكون لدى
حركة التي تعتمد عليها طابعها المميز لجماهير
الم ِّ
القيادات المسؤولة عن مسار الحرب الجرأة الواضحة على أن تترك للقوى ُ
متحرقة - ،لجماهير في صيرورة سافرة وواعية بمعنى زخمها .لكن القاعدة الملحة عند قادة الشعوب – بل غالباً عند أولئك الذين
حركة التي
الم ِّ
يبدو أنهم قد جاءوا مباشرة من خط النار أو من اجتماع في مصنع – هي استخدام ثقلهم المراتبي في إعادة القوى ُ
تفوض أمرها إليهم إلى األطر التقليدية لبلد في حالة حرب .وعندما أقول "األطر التقليدية" ،فإنني أعني تجزئة الحقيقة ،تجزئة
حركة لألمة ،بناء على أمر من أولئك الذين يخافون في
الم ِّ
الحماسة ،تجزئة المثل األعلى .إنني أعني الضبط المتعسف للقوى ُ
"حركة" اليوم من "انقالب" الغد .وهذه األطر التقليدية – األقنعة البسيطة التي توضع على وجه هذه الحرب أو تلك إلخفاء ملهرها
األصيل ولجعلها مماثلة لجميع الحروب األخرى – يمكن استعارتها من أرشيفات المتحف الحربي تارة ،ومن ممارسات العدو تارة
أخرى .وهذا يسمى :في الحالة األولى "استلهام عبر الماضي" ،وفي الحالة األخيرة "االستفادة مما يعلمك إياه خصمك".
والحال أن هذا التشويه الجاري للقيم الحية ،والذي يتوافر االستعداد دائماً لتغليفه في صيغ طقسية عتيقة كما في كفن ،هذا
ِ
الحرب ضد الفاشية غير المزيد من األمثلة له .وانني سياق
ُ النقل ألساليب العدو وعاداته الذهنية إلى معسكر العدالة ،ال يقدم لنا
ألتذكر بوضوح أن البالغ العسكري السوفييتي األول قد اختتم باإلشارة إلى جندي ألماني ،أشير إليه باسمه ،لجأ إلى موقع روسي
معلناً أنه ال يريد حمل السالح ضد دولة بروليتارية .والحال أن هذه العبارة وحدها في البالغ قد دوت ،أمام التاريخ ،دوياً أقوى من
دوي مآثر العتاد الحربي التي سبقتها أو التي تلتها .فقد دلت ،فوق قصف المعارك ،على أن إخاء الكادحين يعلو ويجب أن يعلو
على انقسام الناس إلى جماعات عرقية وقومية .وفي ذلك يكمن الخير الذي يجب صونه بين الجميع - ،الفضيلة القادرة على كسر
األطر المسوسة للحرب بين األمم .إالَّ أنه أعيد جر وغواية الكادحين ،مرة أخرى ،صوب األطر التقليدية .فبدالً من اإلشادة بالبطال
الشعبيين الروس واأللمان الذين تالقوا عبر التاريخ في نضاالت تحريرية واحدة ،نجد أن أجهزة الدعاية السوفييتية سرعان ما تجد
لذة في هوس شنيع ال تنبثق منه غير رموز من أسوأ الرموز في تاريخ روسيا .فقد عرف األمير ألكسندر نيفسكي من جديد كل
هاالت المجد ألنه كان من حسن حله أن يتمكن في عام 1242من إلحاق الهزيمة بفرسان األخوية التيوتونية .وفي مقابل ذلك،
جرى التقليل من شأن ذكرى بوجاتشيف وستينكا ارزين – المدافعين األسطوريين عن القضية الفالحية – ألنه قد رؤي أن هاتين
الشخصيتين قد أذاقا سلطات زمانهما الكثير من الهوان .وهكذا ،فعندما تحدث ستالين في السابع من نوفمبر 1941إلى جنود
الجيش األحمر ،نجد أنه قد ضرب لهم أمثلة سابقة غريبة الستثارة حميتهم .لقد قال لهم " :فلتستلهموا مثل البواسل من أجدادكم:
ألكسندر نيفسكي ،ديمتري دونسكوي ،كوزما مينين ،ديمتري بوجارسكي ،ألكسندر سوفوروف ،ميخائيل كوتوزوف")1(.
95
والحال أن بطولة األسالف لم يكن لها ،في أي جيش ،تأثير كبير على معنويات الجنود .إالَّ أنه فيما يتعلق باألسالف الذين
حولهم ستالين إلى أيقونات والذين قُ ِّدموا إلى الجماهير لكي تحتضنهم في ورع ،فإنه لم يوجد بينهم سلف واحد لم يلعب دو اًر رجعياً
َما أن يوجد حرص على حرف المخيلة البطولية ومقيتاً بالقياس إلى نضاالت الشعب الروسي من أجل التخلص من تعاسته .أ َّ
للمدافعين عن االتحاد السوفييتي صوب أسماء كهذه ،فذلك هو ما يصيب بمرض الشيخوخة حرباً ينتلر البعض منها تحسين
أحوال العالم.
وكان ال بد للتتمة من أن تكون على مستوى هذه البداية .فقد جر بعث ألكسندر نيفسكي إلى تعديل تاريخ ثمانية قرون من
التاريخ األوروبي .وعندما لجأ ستالين إلى االستعارة من العدو بعد أن استعار من الماضي ،فإنه قد طرح في مواجهة النلرية
الهتلرية الخاصة بتعبئة أوروبا ضد الزحف اآلسيوي عودة خالصة وبسيطة إلى أسخف صور الجامعة السالفية .والحال أن
مناقشات مختلف مؤتمرات الجامعة السالفية التي نلمت خالل هذه الحرب ،بمبادرة من موسكو ،لم تثر غير نفور الذكاء شأنها في
ذلك شأن إذاعات راديو برلين.
إن تطور أوروبا الطويل ما عاد يبدو غير ستار النقسامات عنصرية - ،موضوعاً لنزاع متجدد أبداً بين السالف والجيرمان.
وقد كرس مؤتمر الجامعة السالفية األخير (صوفيا ،فبراير )1945وجود كتلة سالفية وارثة التحاد تأكد عبر قرون من المعارك
ويرجع انتصار جرونفالد ( )1410الذي أحرزته الجيوش السالفية الموحدة ضد الجيرمان .وهكذا انتهينا إلى انقضاض كتلة ضد
كتلة ،جنس ضد جنس ،جنون ضد جنون! وهكذا فإن الحروب "العادلة" ال تصمد طويالً أمام العدوى الشائنة لألفكار التي كان
يرجى منها أن تستأصل شأفتها)2(.
إنني أقول إننا نشهد اآلن تغلغالً للسلوك السياسي الهتلري في صفوف الديموقراطية .وهذا التغلغل ال يثير استنكار أحد تقريباً.
إن كثيرين من الناس يجدون فيه منفعتهم المادية وراحتهم األدبية .وهذا التغلغل ينتشر في جميع الصحف ،وفي جميع األخبار التي
تصلنا عن المصير الذي يستعدون لرسمه للعالم .وعلى سبيل المثال ،فإن ضم األراضي دون موافقة السكان المسبقة كان ُيعتبر
بشكل عام عدواناً على القانون ،ينبع من الجنون اإلمبريالي المسيطر على أمثال هتلر .والحال أننا نرى اليوم أن الموضوع يثار
بشكل مختلف تماماً ومن زاوية المنفعة القومية وحدها ،إذ تعلن قوة من القوى :إن هذا الميناء نافع لي تماماً و ُّ
أود أن يكون من
نصيبي - ،واذا ما اعتُِرض عليها بأن هذا الميناء كان على الدوام جزءاً من وحدة قومية أخرى ،فإنها سوف ترد بأن ذلك محتمل،
لكنها تحتاج إليه احتياجاً شديداً وأن انتصارها يمنحها الحق في هذا االختالس الصغير .والحال أن األمر ال يخص من اآلن
فصاعداً ميناء أو مدينة معزولة ،بل مجموعات شاسعة من األراضي التي أصبحت متحركة وجاهزة تماماً لتغيير المالك بين عشية
وضحاها.
أما نقل السكان فقد كان هو اآلخر عملية وحشية ال تسمح لنفسها باللجوء إليها سوى أنلمة العنف .والحال أنه يجري النلر
اليوم في هذه التحويالت على نطاق ليس أدنى من نطاق حمالت النازية السوداء ،وهنا ،أدع الكالم للويس كلير ،أحد المراسلين
الرئيسيين لمجلة "بوليتيكس" األمريكية والذي تساعدنا قوة غضبه على الشعور بأننا ال نزال أحياء:
"يجري اآلن نقل الشعوب كالماشية .إذا ما أعطيتموني 500,000من األلمان – السوديت ،فسوف أكون مستعداً ألن أعيد
لكم عدداً مساوياً من سكان التيرول ،ربما أمكن لنا مبادلة عدد من األلمان بآالت ومعدات .لقد أطلق هتلر ،هنا أيضاً ،آلية بسبيلها
إلى أن تكتسب أبعاداً مقلقة ...إن التهور الذي تتنازع به القوى المنتصرة على السلعة الوحيدة التي ال تزال ،رغم تحسينات التقنية،
السلعة المطلوبة أكثر مما في أي وقت مضى – عمل العبد – هو شيء فاجر حقاً"()3
96
"عدم وجود األفضل"...
عندما يتساءل المرء عن األسباب التي تميل إلى تحويل حرب "عادلة" إلى حرب عادية ،إلى مجرد حرب ،وبشكل أعم ،عندما
يتساءل عن األسباب التي تحرم الجماهير من اإلمساك بزمام القضايا السامية التي يكرس نفسها لها ،فإنه سرعان ما يجد نفسه
حبيساً في حلقة جنونية .فالواقع ،من ناحية ،أن اتساع وتركز الحياة االقتصادية الحديثة قد جعل من كل حزب ،ومن كل نقابة،
ومن كل إدارة ،أج هزة شبه شمولية تمشي في طريقها متخلية عن ثقلها النوعي وال ترجع البتة إلى الخاليا الفردية التي تتشكل منها.
وهذه األحزاب ،وهذه النقابات ،وهذه اإلدارات الدوالنية الحديثة يحميها من مناهج العقل النقدي (وكذلك من الخفقات الشعورية
والتمردات القلبية) خمولها الوحيد وذو السيادة .فهذه األبنية المخيبة تعمل بفضل إنسانية من نوع خاص تماماً ،إنسانية مؤلفة من
الملقنين .وحتى يسمح للمرء بتقديم اقتراح في ختام مؤتمر حزبي لحزب من أحزاب اليسار يسمح بدرجة ما من درجات تبادل اآلراء،
البد من سنة من المناورات الحرجة للغاية عبر متاهة من األمانات ومن اللجان التي تُ َذ ِّك ُر على نحو يثير االلتباس بألغاز المحكمة
التي يصعب الوصول إليها حيث يسمح كافكا – في "القضية" – بارتجاف صورة عذابنا المنعكسة أبداً .واذا ما أمكن التغلب بشكل
طمس
مؤات على هذه المحن التجريبية ،إذا لم تتوصل أية خطوة زائفة إلى معارضة طرح االقتراح ،فمما الشك فيه أن هدفه سوف ُي َ
طمساً كافياً بحيث يكف عن استثارة ما هو أكثر من اهتمام استرجاعي وما يشبه الرثاء ألولئك الذين غامروا بتأييده.
ومن ناحية أخرى ،فإن المواطنين األذكياء والنشطاء ،وبدرجة أفضل ،األفراد الذين يتمتعون بمكانة ثقافية معينة ،والذين سوف
يحاولون التدخل بهدف تصحيح تََو ُّجه حزب ،أو نقابة أوحكومة ،يدركون جيداً أن هذه األجهزة المختلفة لديها الوسائل لكي تنسج
حولهم شركاً قاتالً – شركاً من الصمت الذي لن يتأخر عن عزلهم عن الحياة العامة برمتها .وشرك الصمت هذا مضروب دوماً
على عدد من أروع عقول المجتمع السوفييتي - ،من الكتاب ،والعلماء والصحافيين والمناضلين ،وهو يحاصر بشكل متزايد ،في
أوروبا وأمريكا ،عقوالً أخرى ،مقاومة ونقية ،عاشقة دونما حد للحرية...
وهناك ما هو أسوأ بالنسبة لإلنسان المتحضر من أن يفقد سيطرته على األجهزة التي تمثله وتتصرف باسمه .ذلك هو
االستسالم لهذا الفقد .وهو استسالم تبينه لنا عالمات ال حصر لها وصارخة .استسالم نميزه -في الحرب كما في السلم – في
الموقف السائد ألشخاص موهوبين ،مثقفين ومدفوعين إلى الفعل - ،ومن ثم مستغرقين في هزيمتهم الخاصة .هذا االستسالم يعبر
عن نفسه بثالث كلمات" :عدم وجود األفضل"...
فإذا ما انضم المرء إلى الحزب الشيوعي (أو أي حزب آخر )...دون أن يكون متأكداً تماماً من سياسته الحالية وسياسته في
المستقبل ،فإن ذلك بسبب "عدم وجود األفضل" ...واذا ما انتهى المرء بالتكيف مع إعادة اقتسام المناطق ،والتي يعترف بأنها لن
تجلب المسرة وال الرخاء للشعوب ،فمرجع ذلك هو "عدم وجود األفضل" ...واذا ما صوت المرء لصالح مرشح يثير جانبه األخالقي
التقزز وتبدو صالبته السياسية مشكوكاً فيها ،فمرجع ذلك هو "عدم وجود لألفضل" .واذا ما اشترك المرء في صحيفة تضحي
بحرصها على الحقيقة من أجل اعتبارات إعالنية أو تجارية ،فمرجع ذلك هو "عدم وجود لألفضل"...
وتلك المرأة التي يقبلها المرء منقبضاً وهو يغمغم بإيماءات أبدية" :عدم وجود لألفضل" .وتلك السينما التي يغرق المرء فيها
مطأطأ الرأس ،لخصم ساعة من الوجود على لهر األرض" :عدم وجود لألفضل" .وذلك الكتاب الذي يركز عليه المرء ألنه نال
جائزة ،بينما يدعوك كل داع إلى استفراغ محتواه" :عدم وجود لألفضل" .وذلك الرئيس الجليل الذي يهرع المرء إلى عبادته متأوهاً
وقد تشبع ببرنامج جالله الفني "عدم وجود لألفضل"...
إن "عدم وجود األفضل" يصبح استثما اًر ،فلسفة ،حالة أهلية ،سيداً ،نزوة ،دليل براءة مسبقاً من ارتكاب جريمة ،صالة،
سالحاً ،مومساً ،شهقة أو زفرة ،قاعة انتلار ،فريرة ،فن تصدق على الذات ،بوصلة للمراوحة في المكان ،شاهد قبر 8 ،أغسطس
.1945
97
إن شخصين ،متجاورين فكرياً ،يسعهما من ثم أن يتهادما ،فبما أن لديهما مفهوماً واضحاً عن "األفضل" ،وهذا "األفضل"
ينقصهما ،فإنهما يرتدان إلى طريقتين متالقيتين في الوجود التعويضي ،إلى نسقين من المعتقدات واإليماءات المتالقية عن
"األفضل" المشترك ،وان لم تكن متالقية من الجهة نفسها.
وهكذا ،فمن مقاربات إلى مقاربات ،ومن استعاضات إلى استعاضات ،يجد المرء نفسه مدفوعاً ،دون أن يشعر ،وبأدب ،نحو
ما ال يدري المرء أي ركن حقير تنمو فيه البراغيث ...إن المرء يفزع ،ولكن من بابا السهو .ليس ذلك سجناً ،إنه منزل ...والدنيا
أكثر من ليلة واحدة ...وعلى البعد ،تصفر قطارات مؤذنة بالرحيل ...ويجب على المرء أن يصيح وأن يستنفر حراساً وهميين...
وغداً صباحاً ،أين سيكون المرء بالنسبة إلى نفسه؟ هل ستسمحون له بمجرد المرور؟ نعم ،بال شك ،سوف يسمحون لكم بالهرب،
بأن تبنوا لكم في الكونغو حياة ثانية ...حياة مبنية على أوتاد فوق المستنقعات بينما يوجد ،في اللل ،السرطان اللافر نفسه حيث
تتصالح قوى الملل والهلع المريع من الحرية...
حق الرعب
إن كل شيء يجري ،منذ قرنين ،وكأن كل تذرع بالحرية ،كل انتفاضة مميزة باسمها ،تؤول إلى أن تترجم نفسها – عبر
األجهزة السياسية والدوالنية المنبثقة أكثر قوة من هذه االنتقاضات – إلى تزايد في القواعد الكابحة التي يدين لها اإلنسان باكماش
تدريجي للحياة .إن جيالً جديداً من الموسوعيين منطلقاً من الجرأة الهازئة نفسها التي انطلق منها الجيل السابق ،سوف ُيعتبر،
اليوم ،خارجاً على القانون أو أنه ،على األقل ،سوف يجبر بسرعة على التسول.
كل شيء يجري وكأن اإلنسان لم يبحث ،في هذه السلسلة الطويلة من الطموحات سيئة الحل ،إالَّ عن شكل معين لألمن في
الرعب .ويبين لنا عمل إيريك فروم الالذع والقاسي – "الخوف من الحرية" – إلى أية درجة يخشى اإلنسان مواجهة الحرية ،إلى أية
درجة يترقب بفارغ الصبر التهرب من المسؤوليات التي تفرضها عليه ،إلى أية درجة – في اللروف الحالية للفوضى – تعد
الرمادية ،والعتامية وعدم تسمية األشياء بأسمائها مالذات مشتهاة ضد إغراء الحرية.
والى هذا االستعداد الفردي للكائن الذي حيره تعقيد العالم الذي يراوده ،تقدم األجهزة الجماعية الضخمة مساهمة حاسمة .لقد
حددت ،بالصرامة المطلوبة ،هذا الحد األدنى البائس من المواقف اإلنسانية التي ال يسمح بتخطيها إال بمخاطرات وأعباء االنتهاك.
وبوسع المواطن الصالح أن يشتري نوماً عميقاً مادامت القنبلة الذرية تحميه...
إن عالمات الرعب المتصاعدة واضحة .وأولها حدة هو المحو التدريجي لحق اللجوء السياسي .إنها لفكرة سيئة أن يكون
المرء الجئاً سياسياً ،من جراء هذه األزمنة التي تقتل! ومنذ عام ،1930طورد ليون تروتسكي ،كما لو كان خنزي اًر برياً ،عبر كل
القارة األوروبية ،من تركيا إلى النرويج عبر باريس .ثم جاءت "فيشي" التي قامت دون أسف بتسليم بيترو نينني إلى إيطاليا،
وبرايتشايل د إلى ألمانيا وكامبانيس إلى إسبانيا .لقد اختفت "فيشي" ولكن دون أن يختفي هذا الكره المتأصل لدى السلطات –
ديموقراطية أو غير ديموقراطية – لالَّجئ السياسي ،األثر األخير والجميل للتمرد اإلنساني.
ومن عالمات الرعب أيضاً ،الترحيل المنلم للكادحين والذي الشك في أنه يبلغ النهاية مع هزيمة النازية .ويتكفل
االقتصاديون بحساب المردود المتزايد للقطيع المقدم لهم كمادة تجريبية .والمؤشرات الدولية بحاجة إلى رسوم بيانية تتصاعد
خطوطها! ومن عالمات الرعب ابتالع آالف البشر في ليلة ال ينكشف فيها شيء .لقد رحلوا دون أن يتركوا عنواناً .ألن هناك غابة
يتعين قطع أشجارها على ضفاف البحر األبيض .ليحذر الهواة!
ومن دواعي األسف األخيرة أن المرء يشهد ،في المجال الذي تَ َم َّك َن دائماً من اإلفالت من ضغوط النلام المتعسفة في
الماضي ،في مجال الفكر الصدامي ،مجال الفكر السياسي ،الذي كان ال يزال حتى البارحة رسوالً لألمل ،تكيفاً غريباً مع االنضباط
المحرج لمجلة مثل "البنسيه" والتي كانت تعبر ،قبل الحرب،
َ الوحشي والباطل الذي يرتسم تحت بصرنا .ويشهد على ذلك الجبن
98
متسائل مشكالت جوهرية كانت قد طرحتهاٍ سعن حب مثير للمعرفة بكافة أشكال الصيرورة العلمية واالجتماعية ،وكانت تثير بَِنفَ ٍ
بالفعل الشيخوخةُ العامةُ لمجتم ٍع ال يتسامح بالمرة مع ممانعة الناس في الوصول إلى الشيخوخة معه .إن األسماء الكبيرة التي
ترعى "البنسيه" لم تعد ترعى ،في عام ،1945غير توافق صيغ استاتيكية ومحاكمات عقلية محبطة .إن المرء يجد نفسه في
حضرة مجلة يبدو أن مهمتها هي أن تقول لنا إن الفكر الماركسي قد وصل إلى الركود ،فهو يتحول اليوم إلى قوة ،بدالً من أن
تتغلب على الكابوس المعاصر ،وبدالً من أن ترسم دروبها المضيئة الهادية ،تدع هذا الكابوس يترسب في قارورة أمان
معملية ،حيث ال يجب الخوف في الوقت الحاضر من أي انفصال متفجر بين القابل للحياة وغير القابل للحياة ،بين ما هو
مدو ،على سحب ك وماهو مثبط ،بين ما يتميز بالحالية وما فقد األهلية .ومن ناحية أخرى ،أال نرى أن أراجون يلح ،في ٍ
مقال ٍ ُم َحِّر ٌ
كتب السيد شارل مو ار من مكتبات فرنسا؟ يبدو أن صاحب دعوة كهذه ال يأخذ بعين االعتبار أنه يرتكب بذلك عمالً من أعمال
االنهزامية قياساً إلى ما يجب أن تكون عليه قوة جاذبية رسالته السياسية هو .ويجب علينا أن نؤمن أن مو ار وهو نفسه يحتالن
موقعين ينالر أحدهما اآلخر ،ولما كانا قد تخليا عن االنفصال أحدهما عن اآلخر باالحتكام إلى العقل ،فإنهما قد وضعا نفسيهما،
الواحد بعد اآلخر ،رهن تحكيم رجال الشرطة الذي ال يليق .وهكذا فإن الرعب عندما ال يعمل جها اًر ،فإنه يلل على الدوام كامناً،
على سطح الجدل ،مستعداً لتلبية الدعاء األول ،النداء األول ألحد رعاياه المخلصين.
أما فيما يتعلق باألفراد الفريدين – خاصة بعض فئات المثقفين والكتاب – الذين ال يزالون غير مستعدين لقبول العيش وفق
المسار السائد – فإنهم ،هم أيضاً ،تتخطفهم رياح الرعب .إن أملهم الوحيد هو قلب مسار هذه الرياح ،أي أن يمارسوا ،هم ،الرعب.
إن من يستولي على مخيلتهم ليس جيد أو بريتون ،بل لورانس الجزيرة العربية ومالرو الفترة الصينية .وبالنسبة لمعلمهم ،فإنهم قد
أحبوا هذه الحرب ألنها قد سمحت لهم بالتصرف حسب األصول مع أنفسهم عن طريق قلب قطار ،أو نسف جسر قبل العودة إلى
بيوتهم ،إلى عشيقاتهم المنهكات والى روتينهم اليومي األمين والذي يتمثل في ترديد حكايات مؤثرة .إن المثقف المعاصر ال يطلب،
من حيث الجوهر ،بقشيشاً آخر ،من عالم لم يعد لديه شرف لرفضه ،غير أن يمثل ،ولو في فصل واحد ،دور مغامر على هامش
الكل ،غير أن يستعيد بهذه الخدعة المتجاوبة مع نداء باطني جانباً من الزخم الذي حرمته منه الحياة االجتماعية.
القيد
في هذا اال نزالق الجماعي صوب حالة أمن في الرعب ،من الذي سوف يكسر القيد؟ من الذي سوف يحكم بالعدل على ذلك
الذي اعتاد الناس اعتباره حقاً لهم في الرعب وشيئاً يكاد يكون تتويجاً طبيعياً لطموحاتهم القديمة في الحرية؟
من المؤكد أنه ليس حزباً سياسياً ،وال أية منلمة من المنلمات الشمولية المكلفة بحراسة اإلنسان ،ليس حزباً ،ولكن ربما
فصيلة جديدة من األنصار المقاومين الذين سوف يهجرون طرق التحريض الكالسيكية ويلجأون إلى اجتراح مآثر اضطراب مثالية
إلى أعلى درجة .لقد تمنى الكثيرون أن تتمكن حركة المقاومة في أوروبا من أن تحدث أخي اًر ثغرة في المأزق السياسي واالجتماعي
لعصرنا .وكانت األحزاب الجماهيرية الكبيرة هي أول من تحسس هذا الخطر .ماذا ،هل يستعدون لالستغناء عن خدماتها؟ هل
تتج أر اإلرادة الشعبية اآلن على االستغناء عن الوسيط؟ كان اإلنذار قصير األجل .ومثلما جرى على وجه السرعة دمج القوى
العسكرية للمقاومة في األطر الدائمة للجيش - ،فإن قواها السياسية لن تتأخر ،مع امتزاج الغزل بالدس ،عن العودة إلى فخ
األحزاب الكبيرة .إن الحدث – كدت أقول الحادثة – قد اكتمل .لكن شيئاً آخر يصبح ممكناً ،بل يصبح الشيء الممكن الوحيد ،إن
عصر حرب المقاومة السياسية يبدأ ونحوها يجب أن تتجه أرصدتنا من الثقة والحماسة.
ومما الشك فيه أنه ليس من السهل إعالن الشكل الذي سوف تتخذه حرب المقاومة هذه والمآثر التي ال مفر من أن تميزها.
على أن بوسع المرء أن يعتبر الموقف المستقل استقالالً شجاعاً والذي يتخذه كامي – وعلى أصعدة أخرى ،بريتون ،كاالس،
روجمون – مؤش اًر بالنسبة للمستقبل .إن جهاز الرعب ال يزال بعيداً عن أن يكون خالياً من الترددات ومن االنشطارات .ولذا فعندما
يكون هذا الجهاز أكثر تهديداً – وبقدر تهديداته المتجددة – يجب أن تهب كل روح الرفض لدينا ،كل ما في العالم ،في لحلة
99
معينة ،من َب َش ٍر في حالة رفض ،وأن يحدث ذلك بشكل مدو! وأن يرتسم ذلك على شكل أمثلة مثيرة للقلق في وجدان الجماهير!
وأن ينتقل ذلك وينتشر عبر السهب البشري الواسع ،من خالل آثار علمة معدية!
عند هذه النقطة ،أسمع انفجار االستهزاءات القاتلة" :ما خطبك! إنك تسعى إلى اإلساءة إلى األحزاب السياسية ،إلى تقويض
هيبتها ،إلى التشهير بعملها - ،ومن ثم فإنك تواصل العمل الخبيث لفاشيي ما قبل وما بعد الفاشية هؤالء ،الذين يثيرون الشبهات
حول كل أدوات الخالص والتقدم!" .والواقع أنني ال أواصل شيئاً ،وال أرغب في مواصلة شيء غير منطق معين للحرية .إن اللاهرة
الفاشية ،منلو اًر إليها من زاوية تطور األحزاب ،لم تساعد إالَّ على أن تعجل بشكل حاسم تطور الجذام المعنوي والمادي الذي
يصيب المؤسسات "اليسارية" القوية التي يضيع فيها صوت الجماهير بالسهولة نفسها تقريباً التي يضيع فيها صوت األفراد .إن
الهدف األخير لحرب المقاومة الدائرة اآلن ليس هو القضاء على األحزاب لحساب نسق جديد ما لممارسة الحياة السياسية ،بل هو
تجريد األحزاب من احتكار الفكر االجتماعي الذي يهمد في لجانها الدراسية ،إنه تجريدها في المجال االيديولوجي ،من حق المبادرة
الذي تتمسك به خاصة وأنها عازمة تماماً على أالَّ تستفيد به إالَّ االستفادة األكثر خسة ،األكثر خبثاً .إن المسألة هي ،لتدارك
المشكلة قدر اإلمكان ،اختزال األحزاب إلى حالة متفتحة خالصة فيما يتعلق ببلورة األفكار وبحركتها العامة ،وحالة إدارية خالصة
فيما يتعلق بتنفيذ هذه األفكار .وباختصار ،المسألة هي دفع األحزاب إلى االعتراف بالبؤر االيديولوجية التي تنشأ خارجها والى أن
توجه نحو الفعل العملي كل شيء صالح ينبثق من الجيشان الذي يحاط بالرعاية على هذا النحو .على أنه البد من الحذر :فالحالة
الموضوعية لألحزاب قد تغيرت تغي اًر ملحولاً منذ عشرين سنة .إنها تميل كلها إلى أن تصبح أجهزة شبه دوالنية ،ملحقات للدولة.
وعين فكرة -ووليفة – الحزب المعارض تتأثر تأث اًر قاتالً بهذا التغير .ففي انجلترا ،وفي الواليات المتحدة ،وفي فرنسا ،وفي
بلجيكا ،غالباً ما تكون المعارضة متضامنة مع السلطات ،بحيث أنها ال تشكل عدواً لها .والبد أن تتطابق مع هذه القاعدة الجديدة
لألحزاب التزامات أكثر وضوحاً على الدوام بالنسبة إلى فدائيي الفكر .وأول هذه االلتزامات هو تحويل األنشطة االيديولوجية إلى
بؤر غريبة عن تقلبات األحزاب وعن إدراجها التدريجي في أطر الدولة .لكن الشيء األهم هو أن حرب المقاومة هذه لن يكون لها
تأثير متواصل إالَّ بقدر ما تتمكن من أن تشجع ،في نضالها ضد البراجماتية والبيروقراطية لألحزاب ،سباحة في تيارات اليوتوبيا
الزكية ،وتجديداً للتأمل الطوباوي بكل ما يستوجبه مما هو مثالي ومفرح.
لقد كان بوسعنا ،قبل عشر سنوات من ذلك ،أن نأخذ كشعار لحشد القوى كلم ٍ
ات ككلمات نيكوالي بوخارين ،المفكر قبل
األخير بين مفكري االشتراكية الكبار:
"إن تحليالً لمجريات األمور الواقعية يدفعنا إلى أن نستشف ،ليس موت المجتمع .بل موت شكله التاريخي الملموس وانتقاالً
حتمياً إلى المجتمع االشتراكي ،انتقاالً بدأ بالفعل ،انتقاالً نحو هيكل اجتماعي أرقى ،وال يتعلق األمر بمجرد انتقال إلى أسلوب أرقى
للحياة ،وانما أرقى على وجه التحديد من األسلوب الذي هو اليوم أسلوبها .فهل يمكن الكالم عن هذا الشكل االجتماعي األرقى
بوجه عام؟ ألن يجرنا ذلك صوب الذاتية؟ وهل يمكن الحديث عن معايير موضوعية من أي نوع في هذا المجال؟ إننا نعتقد ذلك.
ففي المجال المادي يتمثل معيار كهذا في قوة مردود العمل االجتماعي وفي تطور هذا المردود ،ألن ذلك يحدد مقدار العمل
الفائض الذي يعتمد عليه مجمل الثقافة الروحية .وفي مجال العالقات اإلنسانية المباشرة ،يتمثل معيار كهذا في اتساع مجال انتقاء
المواهب اإلبداعية .وعلى وجه التحديد ،فعندما يكون مردود االنتقاء واسعاً جداً ،سوف يتحدد الحد األقصى من إثراء الحياة الداخلي
لدى أكثر عدد من الناس ،ليس بوصفهم مجموعاً حسابياً ،وانما بوصفهم كالً حياً ،جماعة اجتماعية)4(".
واليوم ال يسعنا إالَّ أن نتساءل أين ذلك "اإلثراء الداخلي للحياة لدى أكثر عدد من الناس"؟ مما يؤسف له أنه الشك في أن
يؤد إالَّ إلى إبعادنا عن هذه المنلورات
الطريق الذي اجتيز منذ أبريل ،1936أي منذ أن ألهمتنا هذه الكلمات األمل ،لم ِّ
يؤد إالَّ إلى التمكين ،خطوة خطوة ،النبثاق اتباعية صارمة تختزل "الحياة الداخلية" إلى تعبيرها األكثر وضاعة
البوخارينية ،لم ِّ
واألكثر جبناً.
100
والشك أنه قد جرت االستعاضة عن هذا المعيار الخاص بـ "اإلثراء الداخلي" بالمعيار المعاكس ،ولن نكون بحاجة لذلك إالَّ
إلى دليل واحد بين آالف األدلة ،ليس أبلغها سوى "تصفية" بوخارين نفسه والتهوين من شأن هذه "التصفية" في معسكر االشتراكية
وفي معسكر الفكر.
وفي مواجهة هذه االتباعية التي تعيث فساداً في جميع المجاالت ،باستثناء مجاالت التفننات اإلرهابية حيث يجد هؤالء السادة
لذة دائماً في التجديد ،ال يمكن أن توضع ،تحديداً ،غير القوى األكثر عرضة للتحقير من جانبها :أحالم إيكاروس ،روح التوقع
المحمومة لدى ليوناردو ،استبصارات االشتراكيين الطوباويين ،رؤى بول الفارج السخية والتي تتخللها الدعابة! إن "االشتراكية
أداء طنان لتسميع المحفولات .وهناك حاجة ماسة إلى العلمية" تتردى بحيث تكف عن أن تكون بالنسبة إلى اتباعها شيئاً أكثر من ٍ
إشباع البيئة والفكرة االجتماعيتين بالهواء ،إذا كان يراد توفير مستقبل لإلنسان ال يكون جافاً مقدماً وال يدمر لحساب ضوابط غير
مبررة حقه في المجادلة المستمرة.
وضد اجتماع االتباعية والرعب المقيت ،ضد ديكتاتورية "الوسائل" التي ال تتذكر الغايات التي تتذرع بها ،تستطيع جوكندة
اليوتوبيا ،ال أن تفوز ،بل أن ترسل من جديد ابتسامتها وتهب الناس الش اررة البروميثيوسية التي يتعرفون فيها على حريتهم
المستعادة.
إن الزمن ليس غير زمن اإلعالء مرة أخرى من شأن األحالم المستحيلة...
( )1والتر كوالرز :ستالين وروسيا الخالدة ،ص ( 87لندساي أند دروموند ،لندن).
( )2يتساءل أندريه بريتون" :عندما تجبرنا الضرورة ،ضد مرادنا ،على القيام كل يوم بسلسلة من األعمال المشابهة من جميع
النواحي ألعمال العدو ،كيف يمكننا أن نتجنب الوصول معه إلى حد مشترك؟ إننا يجب أن نحذر من ذلك :فبحكم أننا مضطرون
إلى انتهاج أساليبه ،نجد أننا نغامر بأن تصيبنا عدوى ذلك الذي نعتقد أننا ننتصر باالعتماد عليه" ...
( )3موجز األخبار األوروبية بقلم لويس كلير ،أنلر "بوليتكس" ،يونيو .1945
( )4نيكوالي بوخارين :المشكالت األساسية للثقافة المعاصرة ("وثائق روسيا الجديدة" ،باريس.)1936 ،
101
يوليانوس المرتد أو التبجح الميتافيزيقي
"يولد الناس ولهم ميول متباينة ،وميلي ،منذ طفولتي ،هو اقتناء الكتب".
مع يوليانوس ،يلهر في التاريخ للمرة األولى على شكل إرادة وقوة سياسية مالم يكن حتى ذلك الحين غير لل (ولكن ربما
أيضاً بؤرة ) للروح :الحنين إلى الماضي.
ال ننسين أنه بالنسبة للمسيحيين األوائل ،كانت إسرائيل هي مناط الحنين الممكن الوحيد ،وكان هذا الحنين ألماً مشدوداً على
لروماني ،فإن مناط الحنين هو
ٍّ نفسه حتى الضنى ،يستبعد أيضاً كل توسط :سماء مرصصة ال تتحالف إالّ مع الصاعقة .وبالنسبة
اليونان ،التي يصعب اختزالها إلى فكرة واحدة ،ولكن التي يمكن مع ذلك اعتبارها مرتبطة بالصيغ األكثر إنارة للعقل وبممارسة
معينة للحياة ال يمكن استالبها إالّ عبر العبودية وليس عبر الخطيئة .والحال أن شيئاً من هذا الحنين إلى الماضي يتسرب بالفعل
إلى الصالة االستهاللية لقصيدة لوكريتيوس:
"يا أم الرومان
أيتها الربة!"
في هذه الصالة نجد عالمات الوفرة وعالمات الشهوة المتكاملة فيما بينها" :يا من تفيضين باللذات على البشر واآللهة" .وفي
األسطورة المسيحية ،يهبط ابن الرب على األرض ليحمل عن البشر آالمهم .وهي ،بشكل ما ،تربط الرب بهذه اآلالم ومن ثم تجعل
عبء اإلنسان محتمالً .أما العملية المقابلة فهي ما يمكننا رصده في الوثنية الهللينية حيث يتعلق األمر بدالً من ذلك بربط اإلنسان
بوسط اآللهة .إن أي طريق للصليب ال يقود إلى األوليمب! واإلنسان الهلليني ال يستحي من الحياة التي لم ينخ عليها بعد كلكل
الفداء.
102
والحال أن المسيحيين يجسدون كلمة رامبو المملة ،قبل أوانها" :يجب أن نكون حديثين بصورة مطلقة! ".فهم ليسوا على حافة
العصر الحديث وحسب ،بل إنهم يمنحون الحداثة أعصابها المفرطة الهستيرية والتي تسبح في النزاع مثلما تسبح في الوسط الديني
األكثر إشباعاً .إنهم يدخلون نبض الزمن القاتل في قلب حياة مسطحة ،كانت تعاش حتى ذلك الحين من زاوية االنسجام ال من
زاوية المحنة.
ويتشكل على خطى المسيح ضمير جديد ال يعود ضمير حاضر متجانس يتتابع صعوداً بال توقف إلى مستوى اإلنسان ،بل
يفسح على العكس من ذلك مجاالً للمستقبل ،لذلك "التجاوز" بالغ الشهرة الذي سوف يصبح إيلدورادو مغامرات الروح والذي سوف
تخور قوى نيتشة إزاءه ويتشبث بتالبيبه .إن "الصخرة العالية األزلية الخرساء ،القدر" ما عادت تخيف البشر الزاحفين صوب قوة
باطنية غ ارراة ال يملكون سوى لن وجودها ،وال يجدون أحياناً غير غوايتها ،وان كانوا ال يملكون البتة مفتاحها .وعندئذ يطالب
التاريخ بأن ينلر إليه وفقاً لمنلور اشتهائي .أما الجنس الذي يلل دائماً في العشرين من عمره فهو يتالشى كجزيرة يطويها سديم
شمسي وينبثق بشر يشددون على إركاع الزمن أمام نير مفاجئ :استم اررية درامية ذات معنى .وفي مقابل اإلنسان الحديث ،في
مقابل التجديد المسيحي ،يضع يوليانوس اإلنسان غير المستسلم لحاضره ،والذي يتمثل اإلحساس بالحضور على األرض بالنسبة
له في وحدة عيار الحياة.
لقد آمن يوليانوس بشفافية العقل غير المحدودة .وبالنسبة له ،ال ينفصل النلام الديني عن فكرة القانون والذي تحدده بدوره
عمارة معينة منسجمة للعالم .وهو يجل في اليونان القانون الذي ال يحتاج إلى أن يحمل اسماً ألنه ،بادئ ذي بدء ،انسجام وتناغم.
وهو يحترم في روما القانون الذي إذ يسمي نفسه إنما يساعد على صد فوضى األقوام األجنبية والخطر األبدي المحدق بكل جمال.
لكنه ،في المقابل ،ال يرضى بالعدوى المسيحية التي تعمل في الواقع ليس وفقاً للفهم وانما وفقاً للتشنج .ويبدو أنه قد رصد تحوالً
غامضاً ومزعجاً .والواقع أنه عندما اختفى يوليانوس ،وقد هزمه سوء حل الغرب ،فإن صدمة الصليب تبدأ بالكاد في اختراق لحم
البشر .وقد استشعر يوليانوس أن شيئاً عبثياً بشكل عجيب آخذ في الحدوث ،إن نداء عبث باطنياً حقيقياً يعلن عن نفسه بين البشر
وانه سوف يجرهم إلى هذا الشكل األرقى للجور والذي يتمثل في مكابدتهم في الرب مرة أخرى ما كابدوه بالفعل مرة أولى في
اإلنسان.
أثر آخر لالنتصار المسيحي :إن الوشائج تنقطع بين األخالق والسعي الجمالي .ذلك أن مفهوم الحياة الخالب ،والذي كان
مفهوم اإلغريق ويلل مفهوم يوليانوس ،إنما يجتاحه ذلك التدفق العضوي المندفع مع رياح القطيع .وكيف يمكن ألولئك الذين
يهدرون أن "األزمة قد جاءت" أن يهتموا بتجميل الحياة؟ لقد تطلب األمر قروناً إلعادة اكتشاف الغندرة – تلك الردهة المفضية إلى
السعي الجمالي - ،تطلب قروناً البتعاث رخام التماثيل التي كانت الوقاحة قد بلغت بها حد تصوير بشر صحتهم جيدة (بين زمن
قسطنطين وزمن الرينيسانس ،يبدو نحت تماثيل ذات خدود بشرية هزيلة أشبه ما يكون بثأر الشاكين من سوء التغذية) .لكن أية
عودة إلى الوراء – وال حتى عودة غنادير القرن التاسع عشر والذين بذلوا مع ذلك كل ما في وسعهم لكي يكونوا "وكأن شيئاً لم
يكن" – ماكان بوسعها أن ترد إلى السعي الجمالي الهيمنة على سلوك الفرد.
لم ُيذكر بما يكفي أن االنتقال من الوثنية إلى المسيحية قد ترافق مع تطور مفاجئ في جوانب الجمال الجسماني – وثبة
ضالل مفاجئة - ،مثلما ترافق ،من جهة أخرى ،مع مفهوم مفاجئ عن تجارة البشر .إن انقباض المالمح (الذي ال يمت بصلة إلى
التكشير الجامد والمدروس ألقنعة التراجيديا اإلغريقية) إنما ينبثق كما لو أن المراد من ورائه هو تشويش جماليات الوجوه دون
صخب .حتى يحمل اإلنسان نفسه شهادته هو على العذاب .حتى يحمل وجهُهُ الشهادة .وهذا الهتك لسر المحنة المترتب على
أشكال عدوى خرقاء -إنما يجعل من اليأس شأناً عاماًّ .وفي أعقاب صور السلطة والنبالة ،تجيء صورة الكائن المغلوب ،صريع
التعاسات الدنيوية ،الحريص على أن يهين في نفسه رشوة الحياة المتمثلة في الجمال.
103
وبالنسبة ليوليانوس ،فليس هناك ما هو أكثر فلاعة من مشهد رب ملطخ بالوحل وبروث البهائم ،ومصلوب بين لصين
مصلوبين )1( .فهو رى أن من المستبعد أن يقبل رب حقيقي أن يلهر في مثل هذه الصحبة .لقد قدمنا ،منذ عشرين قرناً ،اإلتاوة
جد السخية إلى المألوفات الشعبية (أعني في مجال الروح) بحيث ال يسعنا – عن حق – الترفق بهذا التبجح الميتافيزيقي الحقيقي.
إننا نستشعر أن األلوهية ،في نلر يوليانوس ،هي مسألة سلوك راق .وكيف يمكن له االرتياح إلى اغتصاب المعرفة من جانب
بعض أهل الحرف العاطلين -صيادي السمك أو اإلسكافيين الذين يتبجحون بنبذ تعاليم الفالسفة؟ إن شعار يوليانوس ،إن كان قد
اهتم بأن يكون له شعار ،إنما يتسامح مع تلخيصه في هذه الكلمات" :إن االلهة تأخذ وال تُلزم نفسها" .إن هناك شيئاً مؤث اًر في
إصرار يوليانوس – إذا ما نلرنا إليه نلرة فاحصة – على بعث "تنوير" في عصر وعالم مشرقيين ومرضيين ،تهيمن عليه تحرقات
خبيثة.
*
إن جويتز ،الفارس األلماني المرتزق عند سارتر ،يجرح راحتي يديه ليرى الجمهور ندوباً زائفة .وهذه الحركة ،إذا ما راعينا كل
األمور ،ليست غير نصف خديعة .فسواء كانت الندوب حقيقية أم زائفة ،فإنها تلل منتمية إلى مجال المبالغة .إنها تشهد على عدم
اندمال الكائن ،بل إنها تشهد في الحقيقة على عبادة الجرح األول ،الذي ال يمكننا قبوله إالَّ إذا أدى بالتئامه إلى تحرير اإلنسان من
أسطورته الشرهة .ولذا فإن يوليانوس ال يخطئ عندما يفهم المسيحية على أنها انشقاق مغروز في الحياة رأساً ،على أنها تعويض
عما ال يمكن تعويضه .إن المسيحية ،من حيث كونها انشقاقاً وشقاقاً ،مبالغة والتباساً ،إنما تخترع الحشمة لكي تتحول بعد ذلك في
تقلبات قديسيها االنتشائية إلى فريسة لـ "الزوج الجدير بالعبادة" .إنها تخترع النعمة ،لكنها تسارع إلى اطالق اختها التوءم على
العالم :المحنة .وليس محلو اًر أن نتساءل عما إذا كان البوح الكبير باإلحسان والذي تبالغ المسيحية في إبراز نفسها من خالله ال
هابي للروح ،كيركجارد مثالً ،لتبني موقف مماثل باعتباره الشيء األكثر إراحة في
يتجاوب مع الحق في إنهاء العالم .البد من إر ٍّ
العالم.
وأخي اًر ،وهذا في حد ذاته موضوع كاف للذعر ،فإن المسيحية تتب أر من الجريمة لكنها تلثم جبين القاتل .والمسألة ال تعود
مسألة افتداء بعيد وال نعمة افتراضية ،بل هي مسألة خلط الحابل بالنابل .وعندئذ فإننا ندخل دون صعوبة إلى ما أسميه بدوامة
الم َم َّجدة .وأنا أعتقد أنه في ذلك ومن خالل هذا الجانب المحدد تلهر المسيحية ليوليانوس بوصفها عصبة من األشرار. المهانة ُ
فمهما كانت الجريمة التي يرتكبها الكائن اإلنساني ،فإن الجريمة ستجد من االن فصاعداً ،دائماً وأبداً ،من يفتديها.
والواقع أنه يبدو أن ما يطلبه البشر هو أالَّ يعودوا بحاجة إلى الرد وحدهم على أقدارهم .ولكن ،هل فعلت المسيحية ،في
التحليل األخير ،شيئاً آخر غير أن تزيد على مدى البصر وحدتهم األولى ،أليست قاصرة على اإلنعام على البشر بوحدة كتلك التي
يصورها كيريكو حيث ال نلحل غير لل البراءة بينما يتردد ،في المقابل ،في كل مكان ،صدى جريمة هي منذ ذلك الحين فصاعداً
ال مرتكب لها؟
104
الزاني – التائب – الراكع – تحت – قدمي – المسيح .فهل يتوجب التأكد من أن إنساناً حلت به السكينة ألن عيوبه قد جرى حمل
المسؤولية عنها هو شيء أكثر من شبح إنسان حر .أو كذلك -جنباً للحديث عن الحرية – يحتفل بحقوقه في المزاح سليمة .والى
أي حد يلل من ربح الخالص سيداً لضحكته؟
*
لقد قلت إن يوليانوس ،بعد ثالث سنوات من الحكم ،قد هزمه سوء حل الغرب .ويبدو لي أن من خصائص المسيحية
االستفادة من هذه المحن المبتورة حيث يختفي الخصم في الوقت المناسب .إالّ أنه تبقى اإلشارة إلى َمعلم آخر ،هو األكثر أهمية،
المعلم الذي يضع كالً من المسيحية ويوليانوس في مواجهة أحدهما اآلخر كخصمين لدودين .إن موعد المسيحية الكبير يقع بعد
الشر (البد من حدوث الفضيحة) .أما موعد يوليانوس فهو يقع قبل ذلك (ليست هناك فضيحة).
إن هدف يوليانوس المثير للشجن والمتمثل في استعادة ،استرداد والء – وفاء ضائع إنما يجعل منه عين نموذج مصحح
التاريخ .إن يوليانوس هو ذلك الذي ال يقب ُل حكماً يصدره العائثون فساداً بانسجام اآلفاق - ،إنه ذلك الذي يرفع والءات – وفاءات
الروح إلى مرتبة فوران نبيل .ويبدو لي أنه ينطبق عليه بشكل مباشر كالم جان جرينييه المؤثر" :ربما كان من المناسب أن يتغير
اإلنسان لكي يتكيف ،ولكن دون إفراط مع ذلك ،وأما شرفه فإنه يتمثل غالباً في والء ،حتى وان كان بال أمل".
( )1
" ....سوف نوضح أن إلهه الجليلي الجديد ،الذي تمنحه حكاياته الخلودُ ،ي َع ُّد في الواقع ،بحكم عار موته ورمسه ،مستبعداً من
األلوهية التي يخترعها ديودور له".
وأيضاً:
"أيها الجليليون ،إن يسوع هذا الذي تدعون إليه كان أحد رعايا قيصر".
105
حول مستقبل الشعر
اقترح منلمو بينالي الشعر الذي انعقد في كنوك – لو – زوت ،من 3إلى 6سبتمبر ،1959اقترحوا ،كموضوع لتأمالت
ال ُكتاب الملتقين لهذه المن اسبة ،تيمة يبدو أنها ،شأنها شأن تلك المدينة الصغيرة الجميلة ،إنما تنفتح هي نفسها على المحيط:
"الشعر وانسان الغد" .وبالنسبة لكثيرين ،كان هذا الموضوع االستشرافي ذريعة لجلد الذات واماتتها .فالواقع أن طرح المسألة بهذا
الشكل الفضفاض إنما يؤول إلى التساؤل عما إذا كان الشعر سوف يستمر موجوداً في الغد أيضاً .وهذا يدفع إلى النلر في مآل
الضمير الشقي في حضارة سعادة .وأياً كانت المقدمات والمبادئ األيديولوجية لمجتمع الغد ،فإننا نعرف أن السعادة اإلجبارية سوف
تكون شرعته ودستوره .لقد قال سان – جوست إن السعادة فكرة جديدة .وما هو جديد هو نشدان السعادة في أعمال الدولة .وهكذا،
عبر وسائل ميكانيكية ،يجري نصب فخ الهناء الموضوعي لإلنسان .فالعلم يحقق إحالم البشر والشعر يحلم بأن يحلم .إن الهيمنة
على الملكوت الشاسع ،ربما كانت تعني أن اكتشاف الالنهائي ليس أكثر من مصيدة.
بالرؤيا وبالصورة ،يعتبر الشعر انتجاعاً (ارتياداً للزاد حيث يكون) أما بالكلمة ،فهو يعتبر ركيزة وأساساً .ويتعين عليه بحكم
هذه الحركة المزدوجة أن يضع نفسه بالضرورة في أماكن أخرى غير تلك التي ينصب اإلنسان نفسه فيها حاسباً لما هو واقعي.
وبانكبابه على البحث المهموم عن "المكان اآلخر" ،فإنه ال يمكث كلياً البتة في االلتقاء القسري للـ"هنا" و"اآلن".
واذا ما قبل إنسان الغد أن يتالشى في مصير جماعي ،فسوف يكون الشعر عندئذ بالنسبة للبعض فرصة للوحدة .والحال أن
الشعر إنما يتميز عن المذاهب الكبرى بميزة عدم الوعد بالخالص .إنه صوت في الليل ،واالنتقال الذي يوحي به يتقاطع مع كل
الدروب لكنه ال يختلط بأي منها .إنه خروج الروح – الدياسبو ار الخالقة التي ال نتحسسها بعد كتَ َشتُّت ،بل كسطوة .إن المرء ال
يتحد مع الشاعر؛ إنه يصبح بمفرده عند االتصال به.
هناك أيضاً هذا األمر ،وهو أن الشعر ينقي اللغة ويسمح لها ،على نحو ما ،بأن تحفل سر الكائن .والمحكوم عليه باإلعدام
يعرف ،غريزياً ،أنه لو أمكن أن يحكي حكاية للجالد ،أي لو نجح في شد اهتمامه إلى سره ،فلربما أمكن له إثارة قلقه أو إرخاء
قبضة يده .ومن عالم "ألف ليلة وليلة" الغزير إلى قضية كارل تشيسمان ،نعرف أن الكالم يملك أحياناً قوة إحباط الفعل ونزع سالح
الجالدين.
ال يجب أن نطري أنفسنا كثي اًر على تقدماتنا التي ال تعدو أن تكون تقدمات سيمياء تعوزها النزعة اإلنسانية .ما الذي يقرأه
الميكانيكيون من تبديات دوارانا؟ عن طيب خاطر يقرأون "كوميديات" بأكثر من قرائتهم "أزهار الشر" .وعند اللزوم ،لن يستنكفوا عن
تحويل "أزهار الشر" إلى "كوميديا" .وقياساً إلى مثقفي الرينيسانس ،فإننا لسنا إالَّ منحرفين ريفيين صغا اًر .لقد كانت هناك رغبة في
اقتسام المعرفة .وفي ختام االقتسام ،نكتشف أن ما ترتب عليه هو شراكة في الجهل ،هو حلف كالم فارغ .وضد هذه السعادة التي
تنحصر في تنازل متواصل لألسوأ ،ما الذي يمكن للشعر عمله؟ ال شيء على ما يبدو؛ أو باألحرى مع ذلك – إذالل الملاهر
لحساب وحدة مستعادة.
سوف يكون المستقبل بحاجة إلى ميناء حر للذكاء .إن أناساً قادمين من كل حدب وصوب سوف يتولون هناك ،على راحتهم،
إدانة الفكر المكتسب اكتساباً مشبوهاً .وسوف تنبثق كلمات جديدة ،في نفي شجاع للمنفعة .سوف يكون الشعر قوة أولئك الذين ال
يتقاسمون شيئاً البتة من الحقائق الرائجة.
مارس 1960
106
الرجل الضخم والسيدة الضئيلة
ال يتراجع الراديو تليفزيون الفرنسي أمام أية تضحية لكي يحول الوجبات العائلية إلى جلسات جياشة للتلقين الثقافي .إن برامج
مصاغة بأكبر حرص على التفاصيل البيوجرافية سوف يتعين عليها السماح لكتاب أحياء بأن يقدموا للجمهور بعض أعالم األدب
الراحلين .فرانسواز ساجان سوف تقدم ستاندال ،فرانسوا مورياك سوف يتكفل بشاتوبريان ،وسوف يتكفل روجيه فايان بفلوبير،
وسيمينون ببلزاك ،وسيسيل سان -لوران بألكسندر دوما األب .هكذا سوف يكون هناك ما يمكنه زيادة علم أناس ال يشغلهم إالَّ
التبقيق في حسائهم.
إن فرانسواز ساجان ،التي اعتادت النلر إلى األشياء من قمة قصرها في السويد ،ال تخفي قلة إعجابها بعمل ستاندال .فهذا
الرجل الضخم ،عديم اللياقة في المجتمع ،المنكب على ولائف قنصلية متواضعة ،ليس مؤهالً إلثارة حماسها بشكل زائد عن الحد.
وهي تود بالفعل أن تهدي له ضربة التليفزيون ،لكن ذلك سوف يكون ستربتي اًز رخواً .واذ نسمعها تعبر عن نفسها ،فإننا نتصور أنها
تقاوم بصعوبة إغراء تصويره في صورة الكاتب الفاشل .فهي تعلن أنها تعتبر فابريس ديل دونجو كاوبوياً .وفي المنلور الحديث
الذي هو منلورها ،فإن هذه الكلمة تنطوي على كل ما تنطوي عليه المجاملة .أليس الكاوبوي هو الشكل األسطوري لمدمري
األساطير؟ إنه أوديسا المتخلفين عقلياً الذين يصوغون عالماً دون ماض .وهو الفولكلور الذي يلوح بمسدسه لسلب السيدات
الجميالت .ومن حيث الجوهر ،فإن ما تفتقر إليه فرانسواز ساجان أكثر من سواه هو أن يتم اختطافها من قلب الجبل وأن يتم
حملها ،وهي ساخنة تماماً ،إلى مغارة قطاع الطرق .وبالشكل نفسه الذي قد يحتاج به سارتر إلى عيد أنيق أو إلى حماقة ما من
حماقات فينيسيا ،فإن ساجان تكتب لكي تنسى ما لم يصلها قط.
تقول لنا ساجان أن ستاندال يضع شخصياته في كل اليسر الذي افتقر إليه .ويبدو أن هذا التعليق يشكل نقداً ،ال نعرف تماماً
استناداً إلى أي موجب .وف ي حالة ساجان ،بالمقابل ،فإن الشخصيات يبدو أنها تتصرف كأشباه العمالء المزدوجين ،إذ ال تخوض
حياتها الخاصة إالَّ لكي تستشير فجأة ساعتها وتنهي سردها ألن لديها موعداً مع الكاتب .إنها كائنات مستسلمة ألزمة الرغبة ،مثلما
هي مستسلمة ألزمة الحرية .وكان يجب أن تكون مصدر تبرمه .إذ ليست بسالتها الزائفة غير االستسالم لحياة تنفشها تحديات
صغيرة جد شبيهة بعالمات تعجب ماري – شانتال .والكاتب ال يملك ألواناً للخدود .إن األدب المعاصر لم يعد له تقريباً من
موضوع منذ تخلى عن الحلم .وعند ستاندال ،هناك شيء واضح :ليست هناك أزمة في الرغبة .وهذا هو كل الفرق بين الرجل
الضخم والسيدة الضئيلة .إن أحداً لن يقوى على تثبيط همة فابريس بأن يصرخ في وجهه :أو .كي .دونجو.
وبمعنى معين ،لم يكن سيئاً اختيار فرانسواز ساجان الستحضار ستاندال على شاشة التليفزيون المحمومة .إنها تجسد محنة
حديثة بشكل خاص .فهي تنتمي إلى ذلك الصنف الذي لم يندحر ألنه ال يحارب ،الذي يفهم لكنه ال يستوعب ،الذي يستوعب
أحياناً لكنه ال يتذكر ،الذي يتكلم ،أخي اًر ،خوفاً من اللغز .لقد كان بوسع ستاندال أن يتخذها خادمة غير وفية.
مارس 1960
107
ابن عربي
هناك طريقة لفهم كاتب من الكتاب تتلخص في ترسم مسيرته الروحية .هكذا يتصور المرء أنه يخطو بكلمات "اآلخر" ،لكن
اء أكان يلمس األرض أم تزل به القدم ،إنما يحتفل مع ذلك الذي يترسم خطاه بعالقة "عهد نزيه" سوف تبدو من الخارج
المرء ،سو ٌ
حميمية وجد وثيقة في حين أنها تحمل في طياتها صدعاً غير مرئي ،ومآلها ،هو أيضاً ،إنما هو مأساة الشريكين ،هو التعاسة
الختامية التي ال يعود معناها واحداً بالفعل بالنسبة لطرفيها .ففي الوقت الذي يتعين فيه توافر كابح في الوقت األنسب – أي في
لحلة االرتباط المختارة المثلى – تتواصل حركة الكائنات ،أي يتواصل انزالق الحقيقة األبدي .إن نقطة ضوء على حافة األفق قد
اء بسواء .والبد من القدرة على سلب زمن اآلخر ،البد من اشتمال هذا الحرمان الفَ ِرح .لكن ذلك
تعني الفجر كما قد تعني الشفق سو ً
غير ممكن بالمرة .وال مفر للمرء من االكتفاء – عبر ذكاء أمثل أو عبر النشوة – بتقويم انحرافه هو ،كما يفعل الطيارون في
سمائهم النفعية .إن حج الضمير ليس اندراجاً في طريق يجري النلر إليه بوصفه نداء؛ إنه ،في واقع األمر ،تجربة مختلفة اختالفاً
يدعو إلى األسى عن التجربة التي تؤدي إلى انفتاح هذا الطريق .ومازال يجري البحث ،كما لو عن سر ضائع ،عن ذلك الشيء
الذي يفصل الشرق عن الغرب ،وعندما نحسب كل ما يخص طابع كل منهما ،سوف يبقى ذلك الفاصل الطبيعي الذي ال يكون
أكثر إزعاجاً إالَّ في لقاءات الحب والذي يحركنا كلنا في منلور غير إقليدي ،يجد البعض عند أطرافه اليأس ويبتدع البعض اآلخر
المسرة.
من بين جميع الفالسفة العرب ،فإن محيي الدين ابن عربي ،هو الذي يؤرق ،اآلن ،الضمير الغربي ،أعمق األرق .فمنذ بضع
ونشر تحت عنوان "حلية األبدال" (دار نشر شاكورناك ،باريس) إلى إثارة األذهان بما يفيض منهقصير تُرجم ُ
ٌ مقتطف
ٌ سنوات ،أدى
من نور غير عادي .ومنذ ذلك الحين ،شهدنا لهور عملين يتميزان بأهمية نادرة" :حكمة األنبياء" (دار نشر آلبان ميشيل) البن
عربي ،وفي ربيع ،1958دراسة األستاذ هنري كوربان الرائعة" ،الخيال اإلبداعي في تصوف ابن عربي" (دار نشر فالماريون).
وحول هذا الكتاب األخير ،لدينا أخي اًر ،العمل رفيع المستوى لشارل دويت (الذي لهر في عدد يناير 1960من مجلة "كريتيك")
والذي دون أن يهتم بالتأويل ،يتجه مباشرة إلى المعرفة .إن ابن عربي ،الذي عاش بين عامي 1165و ،1240لم يهتم بتعاليم
ابن رشد إالَّ لكي يطور ،بسرعة بالغة ،ما يسميه كوربان بـ "استقالل"ـه "الروحي" هو .وال مجال هنا لإلحاطة بعمل ابن عربي ،وال
بشخصيته .فاالثنان يتميزان على حد سواء بالتعقيد وبالشفافية ،وبالعذوبة وبالحسم .وأقصى ما يمكننا هو السعي إلى بيان إلى أي
مدى يعتبر ابن عربي حديثا ،وأنه حديث ،تحديدا ،ألنه يمكث في االنفصال دون أن يفك ،مع ذلك ،االرتباط .وحول تيمة االتحاد
الصوفي هذه ،يزيدنا ابن عربي علماً بهذه الكلمات المدهشة" :ال تبحث عني فيك ،فسوف تكابد بال طائل .لكن ال تبحث عني مع
ذلك خارجك ،فلن تصل إلى مرادك .ال تجهر بالبحث عني ،فسوف تكون شقياً" .والحال أن شارل دويت محق تماماً في تشديده
على هذا الطابع المميز لميتافيزيقا ابن عربي وفي استنتاجه" :إن التمييز هو من ثم ضروري ،وابن عربي ،بعيداً عن أن يلغي
الملهر ،إنما يحتفل به" .إن االنفصال ال "يتعالى" ،كما تزعم ذلك أخالق التبجح الخالص؛ إنه ليس ذلك االختزال للذات الذي
يجب ،من ثم ،إيجاد عزاء له عبر إرهاب جماعي ما .إنه يطرح نفسه على الذكاء الذي يجعل منه مبدأه الخاص بإعادة البناء
الممكنة في اتجاه الواحد ،نوره ال حجابه.
إن تأمالت ابن عربي الفلسفية ليست نلرية يحاكمها المرء باستسهال .إننا معتادون على حركية األفكار وليس ذلك هو ما
سوف يربكنا .لكن األمر ،عند ابن عربي ،إنما يتعلق بشكل من أشكال األسطورة المجسدة ،هو شكل أسطورة إنسانية تنزاح،
وبانزياحها المتواصل ،تستولي على الروح وتجرها إلى اكتشاف ذلك الذي قد ال ُيعطى لها أبداً .إن ابن عربي ال يتجاوز الفكرة .إنه
يدفعها إلى االرتداد باتجاه الحياة التي هي عبارة عن تناقض ،وحيث يملك اإلنسان أيضاً حق اختيار الخطأ - ،حق االمتناع عن
إغاثة الروح المرشدة .إننا نؤيد شارل دويت إذ يسجل ،على رأس بحثه ،تلك الجملة لمفكر عربي آخر:
108
"أيتها الحقيقة ،إننا لم نجدك،
أبريل 1960
109
العدالة اإلشعاعية
على مدار اثني عشر عاماً ،ترقب كاريل تشيسمان موتاً كان لوقت طويل تصورياً قبل أن يصبح عضوياً ،وهو نوع من الموت
حد له من متطلبات الموت العادي ،وقد مر ،خالل فترة الحضانة الغريبة هذه ،بجميع حاالت
له فوائد مركبة ومتطلباته أكثر بما ال ّ
التمرد الممكنة ،دون أن يكف لحلة واحدة عن أن يكون وشيكاً ويقلاً .لقد سهر حارس العبث على حراسة هذا الرجل الذي حصنه
سم بطيء ضد سم األمل .والبد من دفنه إلى جوار ضحية من ضحايا هيروشيما هؤالء ،الذين يواصلون الموت سهواً تقريباً ،بإمهال
لم يكن مسموحاً للحياة أن تقوم مقامه.
يتمن أحد موت كاريل تشيسمان .إالَّ أن أحداً ،بالمقابل ،لم يؤازره في الصعود على َمد َرج نيل العفو .وعند تقاطع هذين
لم ّ
الرفضين ،يحدث إعدام إنسان .وهذا يعني أن المواطن الحديث يختفي خلف تنليم المدينة ،مثلما يختفي المخترع خلف اآلالت
الذكية التي اخترعها والتي يمكنها سحق من تريد عن طريق مرورها .إن الشيء الذي يحلى باالحترام والمراعاة اليوم ليس هو الفكر
وال الكائن اإلنساني ،بل ذلك الذي يشتغل ،إنه كفالة دوران عجلة األشياء.
وبين مدرجة الكريات والضمير ،سوف تختار غالبية علمى مدرجة الكريات .إننا نشهد انتقاالً عاماً للنفوذ يدفع المرء إلى أن
يطيع بشكل طبيعي تماماً جها اًز يتعطل فجأة لكنه ال يطيع حكمة ذلك الفرد ،الذي ال يملك ،له ،ضمانة ما يتصور أنه التقدم .ومن
جهة أخرى ،فليس هناك ما هو أسهل من اكتساب خبرته .إن السائق سوف يقبل التوقف أمام إشارة ضوء حمراء عاطلة وقتاً أطول
بكثير من توقفه أمام شرطي يعطي أولوية المرور للسيارات القادمة من اتجاه آخر .وهذا الضوء األحمر الذي نجده م ار اًر وتك ار اًر عند
كل منعطفات الحياة الحديثة ،وحتى في غرفة عذاب موت كاريل تشيسمان المحرقة ،ال نعرف بعد جيداً بالفعل ،ال سبب إضاءته
وال باسم أي شيء آخر ينطفئ .كما ال نعرف باألخص "ما سوف يحدث" عندما يتوتر جهاز العدالة أو عندما تمارس تروس عجلة
االقتصاد فعل التقطيع في لحومنا ،وال عندما يؤدي ارتخاء المؤسسات المفاجئ إلى نشوء أزمات تنذر فيها الصواريخ بأن تنطلق من
تلقاء نفسها .إن النلم التي نصوغها ،إذ تنتج النشاط ،إنما توقف فعل اإلنسان وتؤول به إلى حياد مؤذ أمام األشياء واألوامر
والقوانين .هكذا يتساقط اإلشعاع النووي والشلل الموقوت .وكما في ليلة هجر ،فإن المرء ينكب على البحث عن أحد في الللمة،
على سؤال الفراغ ،على الصراخ أمالً في العثور على رد.
من المفهوم أن الرد فينا .والعالم هو الذي يعاند في التجاوب معه .إن األخالق تجد نفسها في أجازة ،بالرغم من أن أحداً ال
يتولى تسريحها ورفتها .وحول هذه المسألة ،يجب لكل منا أن يكون بالغ الوضوح .إن األخالق ليست ضرباً من ضروب الحنان
والرقة ،وهي ال تنطوي على التخلي عن العنف بأكثر مما على محبة الجار .فهذه العاطفية المبتذلة النادبة على غ ارر عاطفية النثا
ديل باستو إنما تعد جد رائجة بحيث إنه ال موجب الشتهاء توسع جديد لها ،إنها التنتشل اإلنسان من وضعه كمحايد ،بل تجعل
تقاء بل اخت ازالً.
منه نادباً محايداً ،وهو ما ال يعد ار ً
كثي اًر ما يتحدثون عن الحد األدنى المعيشي .لكنهم ال يتحدثون البتة عن الحد األدنى األخالقي .والحال أن من الواضح أن
بوسع المرء أن يشبع مع مكوثه ،مع ذلك ،في الخزي والعار .ها هو ذا ،أخي اًر ،العصب حياً .إن القرن العشرين إنما يتميز بنفور،
ال يمكن كبته ،من كل فكرة عن الشرف .ولسنا محتاجين إلى فهم أن الشيء المهم ليس هو اإلبقاء على عقوبة الموت أو نسخها،
بل هو االتجاه صوب الموت في لروف ال تكون مهينة لإلنسان .إن اإلنسان الذي ال يذعن لألشياء إنما يخرج من حياده ويشرع
110
باالختيار .وعند الحاجة ،فإنه يختار خصمه ،مثلما يختار القواعد التي يريد التمسك بها ومثلما يختار نوعية موته هو .إننا نبكي
على ساعي البريد الذي عاقبته اإلدارة للماً .لكننا ،والحمد هلل ،ال نذرف دمعة واحدة على الطيارين االنتحاريين اليابانيين وال على
الفوضويين اإلسبان الذين ألقوا بأنفسهم على فوهات المدافع وهم يهتفون" :عاش الموت"! .أولئك هم شرف عصرنا االقتصادي.
مايو 1960
111
آنياس ،إنهم ينظرون ِ
إليك
عالم برمته في حال تمثيل ،كلنا رس ٌل ومبعوثون مطلقو الصالحيات .عندما أرسل ملك الملوك فيالً إلى لويس الرابع عشر ،لم
ٌ
يكن هذا اإلرسال ينطوي على أي داللة أيديولوجية .لكن الحال مختلفة تماماً في أيامنا .إن مشاهير الخياطين وصانعي التحف
الترفية ،والفرق الرياضية ،ومعارض أدوات المائدة ،تنتقل من عاصمة إلى أخرى ،ليس لمجرد بيان ما يمكن للمرء إنجازه في هذه
المجاالت المختلفة ،وانما أيضاً لكي تكون ضروباً من إعالنات المبادئ المتجولة .إن ط ار اًز جديداً من الثالجات إنما يصبح أداةً
لإلقناع .سوق يق ال إننا يجب أن نهنيء أنفسنا على هذا المثال من أمثلة التنافس السلمي .نعم ،ولكن ما الذي يمكن أن يحدث
حين ُّ
تكف األداة عن اإلقناع؟ ال بد ،مرةً أخرى ،من تحويل مصانع الثالجات إلى مصانع لألسلحة.
نحن ،بطريقتنا ،أشبه ما نكون بهذه البائسة .إنهم يراقبون فينا شيئاً ليس هو نحن ،وهذا الشيء نرتضي تمثيله .وعملية
ٍ
بشكل تلقائي .وعند الضرورة – االندراج هذه عن طريق التمثل غير المباشر ذي المقوالت الضرورية ،إنما تنتهي إلى ممارسة فعلها
ٍ
تمردات فادحة الثمن – فإننا نتصنع ما يزعمون رصده فينا .ربما كانت تقنيات تصريف الطاقة المكبوتة ولكي نتجنب التورط في
ُّ
تستمد مبر اًر من الوعينا .لكن ضرورات أخرى قد حتمت تكوين زنازين بشرية حقيقية .ونحن نملك ،أحياناً ،أن نختار بين االختفاء
فيها من تلقاء أنفسنا بالكامل ،أو أن ال نترك فيها غير شخصيتنا .وهذا هو السبب في أننا مجبولون على االبتسام عندما يدور
وودي ،المشكالت التي تمزق
ّ حديث عن السعادة من جراء اجتماع أناس بسطاء من جميع البلدان لكي يسووا ،في حو ٍار صر ٍ
يح
العالم .ومن المفهوم أن الناس البسطاء سوف يبذلون أقصى مالديهم من جهد لكي يتخيلوا الموقف الذي يمكن لسادتهم اتخاذه في
ٍ
حال كهذه ،وأنهم سوف يسايرونه بحذافيره .فما دام اإلنسان البسيط ليس غير نتاج فرعي لإلنسان المركب ،فمن واجبه الرجوع دوماً
إلى هذا األخير .واذا وضعنا أربعة كتاب أو أربعة باعة في المحال التجارية أو أربعة من سائقي القطارات في موضع أربعة من
السادة في مؤتمر للقمة ،فإن مشكالت العالم لن تحل مع ذلك .فك ّل واحد من هؤالء الجلساء المتفاوضين ،ذوي الجدارة بهذه الدرجة
أو تلك ،سوف ينلر إلى الثالثة اآلخرين نلرة أفراد عائلة محترمة إلى آنياس.
مايو 1960
112
حالية العام ألف [ نهاية العالم ]
مآل كلمات معينة هو مفتاح لفهم عدد من اللواهر المزعجة .ففي جزء بأكمله من العالم ،أصبحت كلمة النقد الذاتي ذات
استخدام شائع .وهذه الكلمة تزعم أن تتمتها هي كلمة أخرى ،لكنها ،في الواقع ،إنما تأخذ مكانها .فالنقد الذاتي يحل محل النقد.
وضمور هذا األخير هو شرط نجاح البديل الذي يحل محله .والحال أن الشكل الغريب لذلك النشاط الذي يعرف نفسه بهذا اللفل
إنما يهم ،بدرجات مختلفة ،األدب وسيكولوجية السلوك .إنه يحقق مزيجاً جذاباً :هو مزيج الروح المسيحية للعام ألف مع التعبئة
الحديثة للضمائر.
إن العام ألف هو فترة إرهابات علمى مجهولة االسم .فاإلنسان يدع نفسه أسي اًر لهاجس تهديد غير مرئي وهو يقنع نفسه بأن
مرسوماً مبهماً بالدمار الشامل هو على وشك الصدور ،ووضعه محزن بحيث إنه يعتبر نفسه بشكل عفوي مذنباً باقتراف نوع من
الجرم العمومي وغير المحدد ،يتوجب السعي إلى اإلجابة عنه قبل أن تنهار داره .والمسألة ليست مسألة حكم على جاره .فهذا
األخير جد منش غل بالفعل بصوغ تفاصيل ذنبه الخاص .بل هي مسألة االنتماء إلى الذنب ،والذي يطرح نفسه فجأة وبشكل مفارق،
في عالم مغلق ،بوصفه إمكانية الخالص ،فالمرء إذ يضفي على الذنب طابعاً شخصياً ،إنما يمنحه محيطاً وبيتاً وسقفاً .وال يعود
الشر هو ذلك الجساس الذي تحول خطواته دون مجيء النعاس .فالمرء يبدأ بأن يكون انعكاساً له .وفي لحلة معينة ،يتعرف عليه
المرء بوصفه قريباً له .إنه ال يعود غريباً .وهكذا يمكن للمرء أخي اًر أن ينام قليالً.
والعام ألف له سائطوه وزاعقوه .ال صحافة وال إذاعة .بشر يقرأون نهاية العالم في ندوبهم هم؛ يتجولون في األرياف طالبين
من كل واحد أن يتهيأ للمحنة العلمى .وزماننا يعرف أيضاً المتاعب والمحنة والخطوات الجساسة في الليل .وقد لهرت أنلمة تريد
تحويل اتجاه المتاعب والتغلب على المحنة .وفي سعيها إلى خلق تضامن ،فإنها تستخدم سهاد الضمير ،األكثر إيغاالً في القدم،
وتدشن من جديد شوط الذنب .ليست تلك هي نهاية العالم ،والجميع يعرف ذلك .إنها مجرد الحساب قبل األخير ،لكن هذا المنلور
أمام الضمائر التي فقدت قدسيتها إنما يكفي لدفع الفرد إلى االنقالب على نفسه .والحال أن ذلك إنما يتم ،من جهة أخرى ،بقدر
كبير من اليسر ،وذلك بقدر ما أن قرناً من السيكولوجية الربوية شايلوكية الطراز قد سمح للكائن اإلنساني بأن يقطع نفسه شرائح
رقيقة ،وبأن يغربل ذاته ،وبأن يحلل ما لم يقترفه بقدر من الصرامة أكبر بكثير من صرامة تحليله ألفعاله الفعلية ،وبكلمة واحدة،
بأن يتدرب تحسباً لجلسة تعرية سوف يفصح فيها هو نفسه عما هو أهل له ،مستبقاً بذلك التحليل الذي سوف يجري له من الخارج.
والحق أن عين مبدأ إمعان النلر في الذات إنما يعد هنا فاسداً فساداً جليالً .ألن النقد الذاتي ،منذ البداية ،ال يمكن االضطالع به
إال بشرط اعتبار المرء نفسه مذنباً ،مادام المرء ال يتعرف على ب ارءته الخاصة .وهذه البراءة ،ال تسمح لنفسها بتأكيد نفسها ،ألن
المرء إذا كان بريئاً ،فما ذلك إالَّ ألن أحداً آخر مذنب ،وهو مالم يجر إعداد المرء إلثباته وللتدليل عليه .ولكي نتوقف عن
ممارسة النقد الذاتي ،يجب أن نمارس النقد ،ال أكثر.
حول هذا الموضوع الذي ال ينفد ،من المهم أن نق أر – أو أن نعيد قراءة – " القضية" لكافكا ،و"الصفر والالنهائي" لكيستلر
و"االستبيان" إلرنست فون سالومون .فبالرغم من الكآبة التي ترسمها هذه الكتب لصورة عصرنا ،إالَّ أنها تسمح ،مع ذلك ،بأمل
طائش .إذ يوجد دائماً شخص ما مهمته توضيح تقنيات اإليحاء المرضية – تمزيق سحرها القاتل .والبد أيضاً من الزعم بأن أسطورة
النقد الذاتي الضالة إنما تمثل تحية غير مباشرة ومنحرفة ُمقَ َّدمة إلى هيبة النقد الحقيقي .وألن المرء ال يمكنه وقف فعل الذكاء ،فإنه
يجتهد في تحويل اتجاه مساره ويحرضه على إغراق نفسه .والحال أن مشروع العام ألف هذا الموحى به ال يملك فرصاً كثيرة
للنجاح .إن الغرق لن يحدث.
مايو 1960
113
ترجمة بشير السباعي
114