You are on page 1of 114

‫جورج حنين‬

‫بالء السديم‬
‫ُ‬
‫سوريالي)‬ ‫ات من أعمال ٍ‬
‫كاتب‬ ‫(مختار ٌ‬
‫ّ‬

‫ترجمة‬
‫بشير السباعي‬
‫وآخرين‬

‫‪1‬‬
‫جان جاك لوتي‬

‫الحركة السوريالية في مصر‬


‫ترجمة‬

‫بشير السباعي‬

‫ٍ‬
‫كابالت‬ ‫تعرفون كل تلك األكشاك الرمادية الباهتة الملساء التي تحتوي تارة على محو ٍ‬
‫الت كهربائية قوية وتارة أخرى على‬
‫عالية التردد والتي تجدون على جوانبها عبارة قصيرة تحذركم ‪" :‬ال تفتحوا ‪ :‬خطر الموت" ‪ .‬حسناً!‪ ،‬إن السوريالية هي شيء كتبت‬
‫عليه يد ال حصر ألصابعها رداً على الصيغة السابقة ‪" :‬نرجوكم أن تفتحوا‪ :‬خطر الحياة"‪.‬‬

‫جورج حنين‬

‫بلد ذو تقاليد شعرية ترجع إلى زمن بعيد‪ ،‬إنما تطرح نفسها دفعة واحدة بوصفها وريثة‬
‫إن الحركة السوريالية في مصر‪ ،‬وهي ٌ‬
‫رامبو ولوتريامون وجاري‪ .‬وهي حركة تحث على صدم األساليب المألوفة الستجابات الحواس‪ ،‬وتنشر مزاج السخرية السوداء‪،‬‬
‫وتحرض على التمرد على كل ما من شأنه اإلخالل بالحرية المطلقة‪ .‬وبهذا فإنها تمس جميع مجاالت المعرفة وال تتركها على‬
‫حالها‪ .‬وما الخيارات السياسية للحركة السوريالية غير نتائج طبيعية مصاحبة لهذه المواقف كلها‪ .‬ويترتب على ذلك‪ ،‬خاصة في‬
‫المجال األدبي‪ ،‬أن السورياليين يرفضون التقنيات التقليدية (والتي من العجب أن لوي آراجون قد رد إليها االعتبار)‪ .‬وهم يدعون‬
‫أنصارهم إلى مواصلة البحث عن الجدة واالبتكار وعن الخارج عن المألوف ملتمسين في ذلك جميع الوسائل الممكنة ومؤكدين لهذا‬
‫البحث على شتى المستويات الممكنة‪ .‬كما أنهم‪ ،‬أخي اًر‪ ،‬يثيرون الشبهات والريب حول اللغة التي تنطوي على الكثير من العادات‬
‫والمألوفات والكوابح والقيود‪ ،‬وتسدل ستا اًر وحجاباً على الحياة‪.‬‬

‫والحال أن الناطقين بالعربية كانوا ال يعرفون آنذاك من الناحية الفعلية أي شيء يتصل بهذه الحركة كما كانوا ال يعرفون أياً‬
‫من الكتاب الذين تعتبرهم السوريالية أسالفاً لها أو منتمين إليها‪ .‬أما الناطقون بالفرنسية (في مصر)‪ ،‬والذين تلقوا تعليمهم في‬
‫مدارس تتميز بقدر بالغ من محدودية اآلفاق‪ ،‬علمانيةً كانت هذه المدارس أم دينية‪ ،‬فناد اًر ما أتيحت لهم الفرصة‪ ،‬خالل دراستهم‬
‫المدرسية‪ ،‬للتعامل مع إبداع الكتاب الذين كان من شأن تحررهم في الموقف من األخالق واللغة أن يصدم المجتمع الذي يعلي من‬
‫شأن الرزانة والتعقل‪ .‬وهكذا فإن الحركة السوريالية‪ ،‬بمواقفها المضادة لالتباعية‪ ،‬قد هزت ما يستحسن تسميته بالمؤسسة المحلية‪.‬‬
‫وكان الناطقون بالفرنسية‪ ،‬خاصة األكثر شباباً بينهم‪ ،‬هم أول من يصغون لألصوات الجديدة وأول من ين َكبُّون على مناقشتها‪ .‬أما‬
‫الصحافة األدبية المصرية‪ ،‬وهي عزبة للمتقدمين في العمر‪ ،‬فقد للت من جهتها جد متحفلة وان كانت لم تحرم نفسها أحياناً من‬
‫التهكم على محاوالت المجددين‪.‬‬

‫بحث تنكر له‪،‬‬


‫والحال أن جورج حنين إنما يدخل السوريالية إلى مصر في عام ‪ 1934‬عندما ينشر كراسين‪ ،‬أولهما ٌ‬
‫عنوانه‪ :‬تتمة ونهاية‪ ،‬وثانيهما كراس لم يكن مؤهالً بعد ألن يتنكر له ولم تكن فرصة التنكر له كبيرة‪ .‬وعنوانه‪ :‬التذكير بالقذارة‪.‬‬
‫فالواقع أننا ال نتنكر‪ ،‬مخلصين‪ ،‬لعنفنا الخاص إال لكي نتبنى عنفاً أشمل‪ .‬وقد واصل نشاطه بإلقاء عدد من المحاضرات‪ ،‬ومن‬
‫بينها محاضرة عن موسيقى الجاز‪ ،‬وأخرى عن لوتريامون‪ ،‬وثالثة اختار لها عنواناً‪ :‬من بارنابو إلى كريبور‪ .‬وبعد ذلك ببضع‬
‫سنوات‪ ،‬حاول تقديم رؤية شاملة‪ ،‬فعرض أفكاره في محاضرة‪ ،‬نشرت بسرعة‪ ،‬وكان عنوانها‪ :‬حصاد الحركة السوريالية(‪.)1937‬‬

‫‪2‬‬
‫وفي عام ‪ ،1937‬في إطار جماعة المحاولين‪ ،‬وهي منتدى ثقافي بالقاهرة‪ ،‬شجب جورج حنين بعنف – خالل جلسة نلمت‬
‫تكريماً للشاعر المستقبلي مارينيتي – تواطؤ الشعر مع اإلمبريالية اإليطالية في األعمال األدبية للفاشية‪ .‬وقد أدى الصدام إلى‬
‫انشقاق في صفوف الجماعة الصغيرة وابتعد جورج حنين عنها‪ .‬وعندئذ‪ ،‬أسس جماعة الفن والحرية‪ ،‬وهي جماعة تجاوبت فو اًر مع‬
‫نداء أندريه بريتون في البيان الذي يحمل عنوان‪:‬من أجل فن ثوري حر‪ .‬وقد وقعه جورج حنين مع الباقين‪ ،‬في عام ‪ ،1938‬في‬
‫مكسيكو‪ ،‬جنباً إلى جنب دييجو ريبيرا‪)1( .‬‬

‫وقد نشرت الجماعة الجديدة آنذاك بياناً تحت عنوان‪ :‬يحيا الفن المنحط!‪ )2( ،‬وهو عبارة عن احتجاج على الحلر الذي‬
‫فرضه هتلر على فن التصوير الحديث‪ ،‬كما دعا البيان الفنانين الشبان إلى التعبير عن مزاجهم الشخصي والى التمرد على المبادئ‬
‫الموروثة الجاهزة‪ .‬واليكم الفقرة األغنى بالمعاني في تلك الوثيقة‪:‬‬

‫"من المعلوم لنا بأي قدر كبير من العداوة ينلر المجتمع القائم إلى كل إبداع أدبي وفني يهدد على نحو مباشر إلى هذا‬
‫الحد أوذاك األنساق الفكرية والقيم المعنوية التي يتوقف على صونها إلى حد كبير استم ارره هو – بقاؤه‪.‬‬

‫"وتبرز هذه العداوة اليوم بشكل واضح في البلدان الشمولية‪ ،‬خاصة في ألمانيا الهتلرية‪ ،‬عبر العدوان األكثر خسة ودناءة‬
‫على فن يصفه الهمج المزينون بشرائط ضباط والذين جرت ترقيتهم إلى رتبة المحكمين العليمين بكل شيء‪ ،‬بأنه فن منحط‪...‬‬

‫"أيها المثقفون والكتاب والفنانون! فلنواجه التحدي يداً واحدة‪ .‬إننا نتضامن تضامناً مطلقاً مع هذا الفن المنحط‪ .‬ففيه تكمن‬
‫كل وعود المستقبل‪ .‬فلنعمل على انتصاره على العصور الوسطى الجديدة التي ترفع رأسها في قلب الغرب" (ديسمبر ‪.)1938‬‬

‫وبعيد ذلك أسس جورج حنين معرض الفن الحر‪ .‬وقد رعى مجلة أسبوعية اسمها‪:‬دون كيشوت (‪ 12‬عدداً)‪ .‬ومن بين من‬
‫كتبوا لها نتذكر‪ :‬ريمون أجيون وكورييل ورمسيس يونان وسانتيني ومنير حافل وماري كافاديا‪ .‬وقد نجح جورج حنين أخي اًر في تهيئة‬
‫األذهان للتعامل مع ما تدخره لها الحرب العالمية الثانية من مستجدات‪ .‬ولنذكر بسرعة أسماء عدد من الفنانين األجانب الذين‬
‫أبقتهم الحرب العالمية الثانية في مصر‪ :‬إيريك دو نيميش‪ ،‬وهو رسام روماني متنوع المواهب‪ ،‬وديفيد دو بيتيل‪ ،‬وهو رسام انجليزي‬
‫يتميز بأعمال غير مألوفة‪ .‬وكتاب مثل جون فليمينج وويليام ويلز وجون ميلر‪ .‬وكانوا كلهم أعضاء في جماعةالسمندر التي أسسها‬
‫في القاهرة ج‪ .‬بوليت‪ .‬وكانت مكتبة َّ‬
‫ركاح في القاهرة إلى جانب مرسمي إيريك دو نيميش وديفيد دو بيتيل هي أماكن اللقاء‪ .‬وهناك‬
‫كان يلهر جورج حنين وأصدقاؤه عندما ال يلتقون في بيته‪ .‬وبهذا الشكل‪ ،‬فإن عدداً كبي اًر من الفنانين المحليين‪ ،‬مثل كامل‬
‫التلمساني وفؤاد كامل ورمسيس يونان وسمير رافع‪ ...‬يكتشفون مالم يكن بوسعهم أن يجدوه في أي مكان آخر‪ .‬لكننا سوف نرجع‬
‫إلى الحديث عن ذلك فيما بعد‪.‬‬

‫في عام ‪ ،1947‬سوف يصدر جورج حنين وادمون جابس مجلة البار دو سابل‪ ،‬وسوف تصدر منها ستة أعداد حتى عام‬
‫‪ ، 1953‬وسوف تلهر على صفحاتها نصوص مؤسسيها ونصوص أصدقائهم‪ :‬إيف بونفوا و م‪ .‬بالنشار و سي‪ .‬لوسيه وهنري‬
‫باستورو وكثيرين غيرهم‪ .‬وسرعان ما تصبح البار دو سابل العنوان العام لمجموعة كتابات يصدر منها على التعاقب في مائة‬
‫نسخة فقط للعمل الواحد األعمال التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬ج‪ .‬جرينييه ‪ :‬مفردات ‪1949 ،‬‬

‫‪ -2‬ف‪ .‬سوبو ‪ :‬أغنيات ‪1949 ،‬‬

‫‪ -3‬ا‪ .‬جابس ‪ :‬صوت الحبر ‪1949 ،‬‬

‫‪ -4‬ج‪ .‬حنين ‪ :‬المتنافر ‪1949 ،‬‬

‫‪3‬‬
‫‪ -5‬إ‪ .‬بونفوا ‪ :‬المسرح الدائري ‪1949 ،‬‬

‫‪ -6‬م‪ .‬بالنشار ‪ :‬العالم المحيط بنا ‪1951 ،‬‬

‫‪ -7‬ا‪ .‬جابس ‪ :‬بول ايلوار ‪1952 ،‬‬

‫‪ -8‬ج‪ .‬حنين ‪ :‬الصورتان ‪1953 ،‬‬

‫كما تلهر دراستان فلسفيتان لجورج حنين‪:‬‬

‫إلماعة عن كافكا (‪ ،)1954‬مع نصوص فرنسية وانجليزية وعربية‪.‬‬

‫آراء حول كيركجارد (‪ ،)1955‬باالشتراك مع مجدي وهبة‪.‬‬

‫وليس من غير المفيد التذكير بأن جورج حنين واقبال العاليلي‪ ،‬زوجته‪ ،‬قد أسسا أيضاً دار نشر ماس نحو أواخر الحرب‪ .‬وهكذا‬
‫فقد نشرا‪ ،‬ليس دون نجاح‪ ،‬األعمال التالية‪:‬‬

‫‪ -1‬ألبير قصيري ‪ :‬منزل الموت المحقق (رواية) ‪ .1944 ،‬كما صدرت في الوقت نفسه ترجمة إنجليزية لها‪.‬‬

‫‪ -2‬ج‪ .‬حنين ‪ :‬من أجل وعي منتهك للمحرمات‪.1944 ،‬‬

‫‪ -3‬ج‪ .‬دميان ‪ :‬من هو السيد أراجون؟ ‪.1945 .‬‬

‫‪ -4‬إ‪ .‬العاليلي ‪ :‬مأثرة ألمانيا ‪.1945 ،‬‬

‫‪ -5‬ن‪ .‬راضي ‪ :‬مؤامرة العاجزين‪.1945 ،‬‬

‫‪ :‬العرض مستمر (لفناني وكتاب جماعة "الفن والحرية")‪.‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-6‬‬

‫كما كتب جورج حنين في المجالت العربية لذلك الزمن‪ ،‬خاصة مجلة التطور‪ ،‬حيث تلهر ترجمة لـ فصل في الجحيم آلرتور‬
‫رامبو‪ ،‬كما كتب في المجلة الجديدة‪ .‬وكتب في مجالت فرنسية مثل لي ليتر نوفيل و ال فليش و ليزامبل و لي كاييه دو‬
‫سود‪ .‬وال يجب أن ننسى أنه كان واحداً من محركي مجلة ايتود ميديتيرانيين وفيو (نيو يورك) وفي‪ -‬في‪ -‬في(نيويورك) و لوسي‬
‫بلو (بروكسل) و بلو (بروكسل) و إدَّا (بروكسل) و لي دوسور(بروكسل) و بوا (بوينوس آيريس) ‪ ...‬وفي مصر‪ ،‬لهرت‬
‫ايجيبسين و جورنال ديجيبت و نيل و بروجريه اجيبسيا‪ ،‬كما لهرت في المجالت التالية‬
‫ّ‬ ‫نصوصه في البورص‬
‫يجيبسين و ال ريفي دو كير و كارفور و فالير و لوازير ‪ .‬ويصعب اليوم الوصول إلى الصحف المصرية‬
‫ّ‬ ‫‪:‬أنيفور و السومين ا‬
‫التي صدرت بالفرنسية‪ ،‬وهو أمر نأسف له‪.‬‬

‫*‬

‫بعد أن عرضنا النشاط الثقافي الذي قام به جورج حنين وجماعته‪ ،‬من المناسب أن ننلر في إسهاماته األدبية األساسية‪.‬‬

‫كان عنوان واحد من أعمال جورج حنين الشعرية‪ :‬ال مبررات الوجود (‪ ،)1938‬وهو عنوان يشكل في حد ذاته تحدياً بالفعل‪.‬‬
‫والحال أن القصائد‪ ،‬مثلما هي الحال إلى حد ما عند بريتون أو بريفير‪ ،‬إنما تتدافع كشالل من الصور غير المألوفة التي تتالطم‪،‬‬
‫ثم تنفجر كأسهم نارية‪ .‬لكن هذا كله بعيد عن أن يكون مجانياً أو اعتباطياً‪ .‬فخلف السطور‪ ،‬يتضح المراد‪ :‬إن صورة خطية تتراكب‬
‫على صورة أخرى ودون أن تطمس مع ذلك الصورة األولى‪ ،‬بينما تلهر بالفعل صورة ثالثة وهلمج اًر‪ .‬ووراء المجازات الخاطفة‪،‬‬
‫بالرغم من أنها جد مشوهة وجد شاذة‪ ،‬تبقى تيمة متصلة‪ ،‬هي تيمة الزمن‪ .‬ذلكم هو الساحر العليم – بحسب بودلير – والذي‬
‫يحول كل شيء‪ ،‬األشخاص واألشياء‪ .‬ويمكننا عندئذ أن نتساءل ما إذا لم تكن مجازات جورج حنين إعادات خلق ال نهائية للزمن‪.‬‬
‫والبد لنا من أن نسجل أنه في حين أن هذه األخيرة بعيدة عن أن تدور في الزمن إالَّ أنها في األغلب متزامنة‪ .‬إن القصيدة تتقدم‬
‫‪4‬‬
‫وهي تنشر صورها مع اقتحامها المتواصل لألعماق‪ .‬وهي تنتج‪ ،‬عبر التتابع‪ ،‬أبعادها الخاصة‪ .‬إالَّ أن من األحرى بنا أن ندع‬
‫جورج حنين يوضح بنفسه معنى واتجاه الصورة في شعره‪:‬‬

‫"حتى يتسنى لنا‪ ،‬كما يشدد على ذلك رامبو‪ ،‬أن نكون في المقدمة‪ ،‬حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في آن واحد ما له صورة‬
‫وما ليس له صورة‪ ،‬يجب بشكل واضح وفي المقام األول أن نتخلى عن كل ما يتعارض‪ ،‬في األطر القديمة للشعر وللتعبير‬
‫الشعري‪ ،‬بل وألسلوب عمل الذهن‪ ،‬مع السير نحو المجهول‪ ،‬مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة‪ .‬واذا‬
‫كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها‪ ،‬أفال يرجع ذلك ببساطة إلى أن الصور التي استخدمها الشعراء كانت قد‬
‫وصلت إلى درجة تشبع ال تنتج غير صور مقفلة؟ أال يرجع ذلك إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي يتطلبها الحلم‬
‫ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها‪ ،‬بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء‪ ،‬قد فرضت تداعيات جديدة‬
‫لصور توسع إحداها األخرى على مدى البصر‪ ،‬لصور مفتوحة‪ ،‬لصور نوافذ؟‬

‫"هنا‪ ،‬من حقكم أن تتساءلوا‪ :‬وما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و "الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من األمثلة السريعة أن‬
‫تسهم في إيقافنا على هذا األمر‪.‬‬

‫"كنموذج للصورة المقفلة‪ ،‬أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من المرتين‪:‬‬

‫المساء يعيد الصمت‪.‬‬

‫جالساً على هذه الصخور المهجورة‪،‬‬

‫أجد نفسي قي موجة الفضاء‬

‫مركبة الليل التي تتقدم‪.‬‬

‫"فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة‪" :‬مركبة الليل التي تتقدم"؟ الشيء سوى ما هو مجاز ومعترف به بالفعل‪ .‬زحف الللمات المهيب‬
‫على األرض‪ - ،‬حيث المركبة في الشفرة الشعرية‪ ،‬هي األداة التي ترتبط بشكل عادي تماماً مع فكرة المهابة‪ .‬لكن ذلك ال ينشئ‬
‫أية عالقة جديدة بيننا وبين الليل‪ ،‬والحق أننا لسنا بإزاء تذكير‪ .‬وهو تذكير ملون بالكاد بإشارة جد عمومية ال يتوجب بعد أن يوجد‬
‫مجال للعودة إليها‪ .‬وهذه الصورة تنقفل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريرة منذ زمن بعيد‪ .‬وهو مقرر إلى حد بعيد‬
‫بحيث أننا ال نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه مع الشاعر‪ ،‬حيث ال يمكننا أن ننتلر – ال نحن وال الليل – شيئاً من وراء‬
‫ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبررات عتيقة للنلر‪ ،‬ال شك أن مراعاتها ال طائل من ورائها‪.‬‬

‫"وفي هذه الحالة المحددة‪ ،‬تتقدم مركبة الليل ماشاء لها أن تتقدم‪ ،‬بال طائل‪ ،‬أما الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء‪ ،‬يتراجع بشكل ال‬
‫عالج له‪.‬‬

‫"لننلر اآلن في "فالح باريس"‪ ،‬حيث تنتشر في باقات من الكريستال العبقرية الشعرية آلراجون الذي نحبه‪ ،‬والذي لم تكن قد‬
‫أفسدته بعد تقلبات حياته وزوجته وحزبه‪ .‬فما الذي نقرأه هناك؟‬
‫"على مدار ٍ‬
‫عام كامل شددت بنواجذي على شعور من السرخس‪ .‬عرفت شعو اًر من الراتنج وشعو اًر من الزبرجد وشعو اًر من‬
‫الهستيريا‪ .‬شقراء كالهستيريا‪ ،‬شقراء كالسماء‪ ،‬شقراء كالتعب‪ ،‬شقراء كالقبلة‪ ....‬كم هو أشقر صخب المطر‪ ،‬كم هو أشقر غناء‬
‫المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة‪ ،‬من دقة قلب القاتل إلى لهب – زهرة شجرات السنط‪ ،‬من اللدغة إلى األغنية‪ .‬ما‬
‫أكثر ال ُشقرات‪ ،‬ما أكثر الجنون‪)....‬‬

‫"هاكم إذاً‪ ،‬أليس األمر كذلك؟ موجة من الصور المفتوحة‪ ،‬مفتوحة على ما ال نهاية له من العالقات الجديدة والمثرية بين الكائن‬
‫وأكثر ما يهمه في المرأة‪ ،‬في الطبيعة‪ ،‬في الحب‪ .‬إن كل صورة من هذه الصور تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها فيها‪ .‬وخبرة‬

‫‪5‬‬
‫المرء الشخصية‪ ،‬بقدر ما ال يكون المرء جثة بالفعل‪ ،‬سرعان ما تتخذ مله اًر جديداً من جراء ذلك‪ ،‬ثم إنها‪ ،‬بدورها‪ ،‬تحوز فرصاً‬
‫إلنماء‪ ،‬أي إلثراء الرؤية األولى التي تدين لها بزخمها‪ .‬والحال أن آراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا‪ ،‬في صفحة أخرى من‬
‫"فالح باريس" هذا نفسه‪ ،‬عن فضيلة الصورة المفتوحة التي‪ ،‬إذ تصل إلى أقصى انفتاح لها‪ ،‬تصبح الصورة السوريالية‪:‬‬

‫"(إن الرذيلة المسماه بالسوريالية هي عبارة عن االستخدام الخارج عن األعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة‪ ،‬أو باألحرى‬
‫لالستفزاز المنفلت للصورة ألجله في حد ذاته وألجل ما يستتبعه في مجال تمثيل االنقالبات التي يصعب التنبؤ بها والتحوالت‬
‫الغريبة‪ :‬إن كل صورة‪ ،‬في كل لحلة‪ ،‬إنما ترغمكم على مراجعة الكون برمته)"‪.‬‬

‫(مقتطف من إشعاع الروح الشعرية الحديثة المنبثق من باريس‪ .‬القاهرة‪" ،‬ريفي دي كونفرانس فرانسيز أن أوريون" العدد ‪،5‬‬
‫مايو ‪ ،1945‬ص ص ‪.)296 – 295‬‬

‫*‬

‫بعد هذا الطرح يمكننا أن نفهم على نحو أفضل موقف جورج حنين وطرائقه األدبية‪ .‬وفي عمل آخر عنوانه‪ :‬من أجل وعي منتهك‬
‫للمحرمات (‪ ،)1944‬يزعم النقد أن الكاتب يتحدث فيه عن السياسة وأن الكراس قد كتب ضد نلام معين‪ .‬ربما‪ .‬إالَّ أننا نرى بشكل‬
‫خاص أنه قد كتب بهدف إعطاء الكلمات جسامتها وبهدف إعطاء الوعي قدرته على التساؤل‪.‬‬

‫في عام ‪ ،1948‬يقطع جورج حنين صلته بالحركة السوريالية التي كان قد انضم إليها منذ عام ‪ .1936‬وهو يواصل‪ ،‬منذ ذلك‬
‫الحين‪ ،‬طريقه بمفرده‪ ،‬متجنباً كل تضخيم للمخيلة الشعرية‪ .‬فهو يعمل عن طريق الحذف ويتقدم عبر اإللغاء‪ .‬وقد بدا له أن هذا‬
‫النهج في التصرف إنما يسمح له بإضفاء قوة وحياة على صور أساسية‪ ،‬على مواقف وحاالت تفك عقد الوجود‪ .‬والحال أن عدداً‬
‫من القصائد في مجموعة "المتنافر" (‪ )1949‬وصفحات معينة في "العتبة المحرمة" إنما تقدم أمثلة جيدة في هذا الصدد‪.‬‬

‫لم يحاول جورج حنين فرض تيمات جديدة‪ ،‬بل حاول إنعاش بيئة شعرية واطالق حرية شكل من أشكال التعبير ومن الرؤية ينبثق‬
‫من التداعيات التلقائية والمحفوفة باالحتماالت غير المتوقعة‪ .‬وهو ينكب بعد ذلك على المادة التي تكونت لينلر فيها نلرة تتميز‬
‫بقدر كبير جداً من الصرامة والقسوة‪ ،‬ليس البتة بهدف رفض الفوضى المقدسة التي احتفى بها رامبو‪ ،‬وانما بهدف إعادة هذه‬
‫الفوضى إلى خطوطها األساسية‪ ،‬إلى لحلاتها الحاسمة‪.‬‬

‫*‬

‫من بين الشركاء األوائل‪ ،‬أشرنا إلى جانب جورج حنين إلى اسم إدمون جابس‪ .‬وقد اكتشف بمفرده‪ ،‬في صدر شبابه‪ ،‬مرشده إلى‬
‫السوريالية‪ :‬ماكس جاكوب‪ ،‬الذي كان هو نفسه قد تخلى عنه السورياليون‪ .‬وقد نصح ماكس جاكوب جابس باالتصال ببول ايلوار‬
‫في ‪ ، 1937/1936‬وهو ما فعله بالفعل‪ .‬وقد سارع جابس‪ ،‬لدى عودته إلى القاهرة‪ ،‬إلى التعريف بماكس جاكوب‪ ،‬بل إنه قد نشر‬
‫الرسائل الذي كان هذا األخير قد أرسلها إليه‪ .‬وقد طلب جورج حنين إلى إدمون جابس أن يرتبط بشكل رسمي أكثر إلى الحركة‬
‫التي أسسها‪ .‬وكما ذكرنا أعاله‪ ،‬فقد اشتركا في تأسيس البار دو سابل‪ .‬كما لعب إدمون جابس دو اًر ثقافياً ال ينكر‪ .‬وعلى أثر‬
‫خالف مع صديقه‪ ،‬أسس جابس وأشرف على مجموعته الخاصة‪ :‬لو شيما دي سورس ونشر األعمال التالية في مائتي نسخة فقط‬
‫للعمل الواحد‪:‬‬

‫‪ -1‬ج‪ .‬جرينييه‪ :‬اإلضرابات‪.1955 ،‬‬

‫‪ -2‬ج‪ .‬بونور‪ :‬صمت رامبو‪.1955 ،‬‬

‫‪ -3‬ر‪ .‬شار‪ :‬إنسان الثلوج الكريه‪.1956 ،‬‬

‫‪6‬‬
‫أما فيما بتعلق بعمله الشعري‪ ،‬فقد نشر جابس بين عامي ‪ 1930‬و ‪ 1947‬ست مجموعات شعرية‪ ،‬في القاهرة‪ .‬وقد حاول أن‬
‫يوضح لقرائه الحائرين‪ ،‬وقوف الحلم األبدي في وجه األرق‪ ،‬بما فيه من مسرات وخيبات أمل‪ .‬كما نرصد في قصائده ميالً واضحاً‬
‫إلى الشعوذة اللفلية وشكالً من الخبث الطفولي إلى جانب رغبة صادقة في التحرر من القيود العروضية‪ .‬والحال أن هذه الروح‬
‫المتمردة قد استخلصت لحسابها شيئاً من خيال ماكس جاكوب‪ .‬وبعد أن أدت األحداث إلى نضج الشاعر‪ ،‬أحداث حربي أسبانيا‬
‫والحبشة ثم أحداث الحرب العالمية الثانية‪ ،‬فإنه يتوقف عن اللعب بالتورية‪ ،‬إالَّ أنه بما أنه كان شبه جاد شبه مازح دائماً‪ ،‬فقد نشر‬
‫سلسلة من "األغنيات" التي تلخص كل م اررة الحياة والمجتمع وفيما بعد‪ ،‬حتى بعد لهور أعمال رئيسية مثل أشيد داري (‪)1959‬‬
‫أو كتاب األسئلة أوحتى ايل أو الكتاب األخير (‪ ،)1973‬فإننا نلحل أن رؤية جابس للكائنات ولألشياء هي رؤية فريدة‪ .‬وال مراء‬
‫في أنها رؤية أكثر اتصاالً بالواقع مما باالستشباح‪ ،‬تجتمع‪ ،‬عالوة على ذلك‪ ،‬مع سذاجة موقف بكر تماماً من العالم‪ .‬وال يفتقر‬
‫إدمون جابس إلى االستغالل الصارم ألبسط زوايا الحياة الباطنية‪.‬‬

‫*‬

‫في الحركة السوريالية في مصر‪ ،‬احتلت ماري كافاديا (‪ )1970-1901‬مكانة خاصة إلى حد ما‪ .‬لقد كانت من أوائل من دعموا‬
‫نشاط حنين وجابس األدبي‪ ،‬حيث فتحت له أوسع أبواب صالونها بل وعرضت نفسها للخطر من جراء ذلك‪ .‬ومازال إنتاجها‬
‫الشعري مبعث اًر في المجالت المحلية بحيث يصعب الوصول إليه‪ .‬أما فيما يتعلق بمجموعاتها‪ ،‬فهي تقتصر على إعادة إصدار‬
‫لكتاب الربيع (‪ )1943‬وعلى سلسلة من الحكايات لهرت تحت عنوانبشرة المالك (‪ .)1944‬وهذا العمل األخير وحده هو الذي‬
‫يمكن اعتباره سوريالياً بحكم موضوعه أوالً‪ ،‬ثم بحكم استخدامه لعدد من المكمالت المالزمة للسوريالية‪ :‬اللقاءات غير المتوقعة‪،‬‬
‫االختفاءات‪ ،‬الممسوخات‪ ،‬وخاصة بحكم استخدام ألفال جديدة يتكفل السياق بتوضيحها‪ :‬بليز‪ ،‬ريشي‪ ،‬موردور‪ ...‬كما نرصد‬
‫إحساساً مثي اًر أبدياً باأللم الروحي وبالرعب وبالمستحيل إدراكه وبالقسوة وبالشبق الحزين وباإليمان بأباطيل التطير والذي يفضي إلى‬
‫اإلشارات األكثر مدعاة لالستغراب‪.‬‬

‫*‬

‫واذا كان حنين وجابس قد لال ضمن اإلطار الدقيق للسوريالية‪ ،‬إالَّ أن الكتاب الذين جاءوا بعدهما قد أعطوا األولوية لعدد من‬
‫الجوانب جد المحددة لهذا النهج في اإلبداع‪ .‬وهكذا فإن حورس شنودة ( ولد عام ‪ )1917‬قد حافل في‬
‫عمليه‪ :‬استيهامات (‪ )1942‬و الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم (‪ )1946‬على غرابة الصورة‪ .‬وتحت فوضى لاهرية بأكثر‬
‫مما هي واقعية‪ ،‬فإن عمق الفكر يتحالف عنده مع المنطق الباطني‪ .‬وهذا هو ما يختلف فيه اختالفاً أساسياً مع السورياليين الذين‬
‫يحتقرون وينبذون كل منطق‪ ،‬وكل سيطرة للعقل‪ .‬فخالفاً للحال عندهم‪ ،‬نجد أن الرؤى والصور التي تنسرب في شعره إنما ترغم‬
‫القارئ على التوقف والتأمل‪ .‬عندئذ تلهر بشكل واضح فلسفة كاملة عبر الرموز الحلمية العزيزة على المدرسة السوريالية‪.‬‬

‫إن بعض القصائد هي عبارة عن رؤى مهلوسة عن الرذيلة‪ ،‬في حين أن بعضها األخر‪ ،‬في المقابل‪ ،‬إنما يدفع القارئ إلى عتبة‬
‫ٍ‬
‫منتش‪ .‬والحال‬ ‫الروحانيات‪ .‬ونادرون هم الشعراء الذين ألقوا نلرة أكثر حدة من نلرته هو على األحالم التي تجوس بذهن مخمور‬
‫أن الزخارف الزجاجية للسماء وللجحيم هو عمل تال لالستيهامات بأربع سنوات‪ .‬وفي هذا العمل‪ ،‬ال نعرف ما إذا كان يجب علينا‬
‫أن نعجب بالترف جد الشرقي للصور أكثر أم بقوتها اإليحائية الملحولة‪ .‬وفي هذا الثراء البالغ‪ ،‬ال يوجد مع ذلك ال فوضى وال‬
‫عدم تماسك‪ .‬والمجازات‪ ،‬بالرغم من تعددها الوفير وبالرغم من تنوعها الشديد‪ ،‬ليست محل مراكمة وتكديس عاديين‪ ،‬بل يجري‬
‫جمعها بصرامة وفق متطلبات الفكر وتجليات كل مجاز منها تتوافق دائماً بالكامل‪ .‬والشاعر‪ ،‬بدالً من أن يدع خياله يستولي‬
‫عليه‪،‬إنما يوجهه هو ويسيطر عليه بال توقف‪ .‬وهو إذ يراقب نفسه بأعلم انتباه‪ ،‬فإنه إنما يستبعد ويختار ويعيد تركيب الصور‪ ،‬أي‬
‫أنه‪ ،‬باختصار‪ ،‬يحاول إنتاج عمل فني‪.‬‬

‫*‬

‫‪7‬‬
‫ي فنسندون (‪ ،) 1910‬نبتعد أكثر إلى حد ما عن السوريالية‪ .‬فالخروج على مألوف عمل الحواس عندها يفتقد مكانه لكن‬
‫ومع مير ّ‬
‫الشاعرة تحتفل بعنف المجاز الذي يلهر في مجموعةحوار األشباح (‪ .)1953‬ونحن نرى أننا بإزاء شعر متحرر من القيود الكامنة‬
‫في هذا النوع األدبي بأكثر مما أننا بإزاء التزام بالسوريالية‪ ...‬ثم إننا نجد في قصائد م‪ .‬فنسندون خط التوجيه الذي يسمح بالمغامرة‪،‬‬
‫دون مكابدة أليمة‪ ،‬في ولوج الشبكة المعقدة للوحدة المتشامخة ولالنطواء الذي ال يرحم وللكبرياء التي ال عالج لها‪ ،‬وهي تيمات‬
‫موجِّهة تكشف عن األسرار األكثر احتجاباً عبر توضيحها من داخلها‪.‬‬

‫*‬

‫أما فيما يتعلق بأندريه شديد‪ ،‬فلم تعد هناك حاجة للتعريف بها في فرنسا‪ ،‬فأعمالها قد حليت هناك بالشهرة إن لم يكن بالمجد الذي‬
‫تستحقه‪ .‬ومنذ عام ‪ ،1949‬نشرت أندريه شديد عشر مجموعات شعرية يقبل عليها المعجبون بها إعجاباً قوياً‪ .‬ولن نشير هنا إالَّ‬
‫إلى المجموعات التالية‪ :‬بلد بديل (‪ ،)1965‬المدينة الخصبة (‪ )1972‬وأُخوة الكلمات(‪ .)1978‬والحال أن أصالة العمل األول‬
‫والذي هو‪ ،‬في الواقع‪ ،‬جمع لغالبية القصائد السابقة أو الكتيبات التي كانت قد نشرت من قبل بالفعل‪ ،‬إنما تكمن في أن شيئاً لم‬
‫يتغير في هذه األشعار منذ خمس عشرة سنة‪ ،‬أي منذ أقدم اإلصدارات‪ .‬وفي القصائد األقدم‪ ،‬تعتبر غنائية أندريه شديد رائقة‬
‫وموجزة‪ ،‬كما لو كانت أشبه ما تكون ببرهان أخاذ ال ينطوي على أي لغز‪ :‬إذ يبدو أن كل شيء إنما يقال بوضوح وتحديد‪ ،‬لكننا‬
‫نشعر خلف كل قصيدة بمنفذ عاصف إلى األسطورة ‪ ...‬وفيما بعد‪ ،‬خاصة مع العملين األخيرين اللذين أسلفنا اإلشارة إليهما‪،‬‬
‫تتباعد أندريه شديد عن شار وبول ايلوار وتتقارب أكثر مع جورج شحادة‪ .‬لكن من واجبنا‪ ،‬مع الشعراء‪ ،‬أن نشك دائماً في التسميات‬
‫التي نسارع إلى إلصاقها بهم‪ .‬إن أندريه شديد إنما تتحول في اتجاه شعر يعتبر فيه جانب الخرافي أكثر وضوحاً‪ ،‬لكنها‪ ،‬في الوفت‬
‫نفسه‪ ،‬في قصائد الحب‪ ،‬تجد حيوية جديدة وأحياناً تحليقات جميلة‪ .‬وعندئذ تلهر إيماءات استشراق خفيف في قصائدها تدين بها‬
‫لصور وأللحان التقت بها في طفولتها‪ .‬وفي المجموعة األخيرة التي أشرنا إليها‪ ،‬يصبح شعر أندريه شديد أكثر نقاء وشفافية ويبتعد‬
‫عن الصورة البراقة المتوهجة‪ .‬لقد تخلت عن حناناتها الرقيقة القريبة من إيلوار‪ .‬فتنسرب حكمة معينة بين الكلمات‪ .‬والذروة‬
‫الصارخة لهذا التحول هي مجموعة أخوة الكلمات التي نالت جائزة أكاديمية ماالرميه‪ .‬وهناك من يعتبرون الغنائية مجرد حيلة أو‬
‫وعاء لصوغ التجربة‪ .‬أما أندريه شديد فإنها تعتبرها تأكيداً لحقيقة شفافة ال يمكن فيها للنثر وللشعر أن يفترقا‪.‬‬

‫*‬

‫وقد يتصور المرء بعد ذلك أن ه مع أندريه شديد فإن الشعر السوريالي قد اختتم مسيرته بين الكتاب الذين يكتبون بالفرنسية على‬
‫ضفاف النيل‪ .‬لكن هذا يعني نسيان جويس منصور (‪ .)1928‬فالواقع أنها تمثل الجيل الجديد من الشعراء السورياليين المصريين‪.‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫ويبدو أنها تعرف جيداً علوم السحر والتنجيم والقبالة وطقوس السحر‪ ،‬فالتعبيرات الغامضة لهذه الحقول تعاود اللهور‬
‫متواصل في أعمالها‪ .‬وعنفها االستفزازي‪ ،‬حيث يجتمع الدم والعرق والدموع مع تيمتي الحب والموت‪ ،‬جد القريبتين إحداهما من‬
‫األخرى‪ ،‬ليس من شأنه إالَّ أن يذهل القارئ‪ .‬إذ يبدو له عندئذ أنه يق أر استحضارات مأساوية إللهة أسطورية عطشى إلى الدماء‪.‬‬
‫فمن مجموعة "صرخات" (‪ )1953‬ومجموعة "تمزقات" ‪ ...‬وحتى "حكايات وبيلة" (‪ ،)1973‬نجد انفجا اًر كانفجار الحمم لصور‬
‫مهلوسة حيث يتمدد في كل قصيدة هاجس مسبق عن االشمئزاز والرعب‪ .‬والحال أن جويس منصور‪ ،‬بمشاركتها في جميع‬
‫المطبوعات السوريالية‪ ،‬قد قدمت إلى الحركة عنص اًر فريداً وال بديل عنه‪ .‬إن شعراء مثل بيير‪-‬جان جوف وأندريه بريتون‪ ،‬ونقاد‬
‫مثل ماكس‪ -‬بول فوشيه وجان روزلو‪ ،‬قد صدمتهم النبرة الحزينة‪ ،‬بل والغاضبة والعميقة عمقاً قاسياً لدى الشاعرة الشابة التي تعبر‪،‬‬
‫دون احتيال أدبي‪ ،‬عن ردود فعلها تجاه الحياة والحب والموت‪.‬‬

‫*‬

‫وقد قدم كتاب آخرون كثيرون أمثلة للحركة السوريالية في مصر‪ ،‬وليس بوسعنا اإلشارة إليهم كلهم‪ .‬على أننا اليمكننا نسيان روالن‬
‫فوجل‪ ،‬وهو معماري من أصل سويسري قضى عدة سنوات في القاهرة قبل أن يرحل عنها ليستقر في تايالند‪ .‬ونحن ال نعرف له‬

‫‪8‬‬
‫مجموعة شعرية وقصائده موزعة دائماً في المجالت المحلية‪ .‬أما منير حافل‪ ،‬فقد برز أكثر من مرة في التجمع السوريالي‪ .‬وقد‬
‫لهرت كتاباته في القاهرة وفي باريس؛ وقصائده وأبحاثه ال تفتقر ال إلى العمق وال إلى الموهبة‪.‬‬

‫*‬

‫لم تقتصر الحركة السوريالية على التوجه إلى األدباء وحدهم‪ ،‬فقد جرت دعوة الفنانين أيضاً إلى المشاركة فيها‪ .‬ثم إننا قد أشرنا إلى‬
‫ذلك بالفعل‪ .‬وقد لعبت الحركة التي دشنها جورج حنين في مصر دور المحرك‪ .‬ففي إطار حركة "الفن والحرية"‪ ،‬نلمت معارض‬
‫الفنانين المستقلين في عامي ‪ 1940‬و ‪ 1941‬في عمارة اإليموبيليا وفي عام ‪ 1942‬في فندق كونتينينتال‪ ،‬وأخي اًر في عامي‬
‫‪ 1944‬و ‪ 1945‬في قاعة الفنون بالليسيه الفرنسي في القاهرة‪ .‬كما كانت هناك ثالثة معارض للفنانين المستقلين نلمت في القاهرة‬
‫تحت رعاية جورج حنين‪ :‬نحو المجهول في عام ‪ 1958‬والمجهول اليزال في عام ‪ 1959‬وأخي اًر الفن الحر في عام ‪.1960‬‬
‫وعلى مدار سنوات‪ ،‬وخاصة خالل الحرب العالمية الثانية‪ ،‬كانت "الفن والحرية" بؤرة لقاء الفنانين المحليين واألجانب الذين‬
‫اعتصموا بالبقاء في مصر خالل أعوام الحرب‪ .‬وقد عرفت الجماعة الجمهور بالرسم الحديث وأتاحت للفنانين المصريين فرصاً‬
‫لطموحات فنية جديدة‪ .‬وفي تلك اللحلة وحدها‪ ،‬أصبح بابلو بيكاسو وبول ديلفو وايف تانجي وسلفادور دالي وماكس إرنست أساتذة‬
‫معترفاً بهم من مصر‪.‬‬

‫والحال أن جماعة "البار دو سابل"‪ ،‬التي تأسست في عام ‪ ،1947‬لم تكن غير محاولة عابرة إلحياء جماعة سوريالية‪ ،‬حيث كان‬
‫فؤاد كامل‪ ،‬مع آخرين‪ ،‬رساماً يعتمد على النزعة التلقائية وصاحب رسوم تتميز بالحدة وبالرسوخ قام بها ألجل مجموعة‬
‫"استيهامات" (‪ )1942‬لحورس شنودة‪ .‬وبعد ذلك‪ ،‬انخرطت "ال بار دو سابل" في طريق أدبي أكثر يتماشى على األرجح تماشياً‬
‫أفضل مع ميول أتباعها‪ .‬على أننا ال يمكننا أن نتجاهل أن عدداً من الفنانين المشاهير‪ ،‬إلى جانب فؤاد كامل‪ ،‬مثل كامل‬
‫التلمساني ورمسيس يونان وباروخ‪ ،‬بين آخرين‪ ،‬قد وجدوا في السوريالية مصدر إلهام لهم‪.‬‬

‫وقد انخرط كامل التلمساني في عالم فن التصوير خالل زمن الحرب (‪ .)1945-1939‬وقد احتفل منه بالتمرد والجيشان‪ .‬والحال‬
‫أن التوترات وخيبات األمل واالحتدام‪ ،‬باختصار‪ ،‬إنما ترمز عنده إلى تلك األزمنة غير العادية‪ .‬وغالباً ما تطغى لوحة ألوانه الحادة‬
‫على اإلحساس الذي تود نقله‪ .‬وفيما بعد‪ ،‬ومع احتفاله بالطابع العنيف لعمله‪ ،‬فإنه يميل إلى االستسالم لقواعد الرسم الزيتي‪ .‬على‬
‫أن الفعل التصويري إنما يبدو له مدعاة للسخرية إزاء بشرية عطشى للدم دائماً وعمياء تجاه الملالم االجتماعية‪ .‬وعندئذ‪ ،‬إذ يتخلى‬
‫عن الرسم في عام ‪ ،1944‬فإنه ينشد في السينما الوسيلة الالزمة إلعادة بناء عالم جديد أكثر تناغماً وانسجاماً من العالم القديم‪.‬‬

‫وقد اشترك كامل التلمساني بشكل مباشر في الحركة السوريالية برسمه لوحات لمجموعة قصص الناس إللي ربنا‬
‫نسيهم (‪)1941‬أللبير قصيري ولمجموعة قصائد ال مبررات الوجود (‪ )1938‬لجورج حنين‪ .‬كما أعد رسوم مجلة التطور العربية‪.‬‬

‫والحال أن واحدة من أروع تالمذة كامل التلمساني‪ ،‬أعني إنجي أفالطون‪ ،‬قد شاركت إلى جانبه في معرضي الفن والحرية في‬
‫عامي ‪ 1942‬و ‪.1943‬‬

‫أما رمسيس يونان‪ ،‬فقد استقر في القاهرة في عام ‪ .1940‬وقد شارك في مختلف معارض الفن الحر و البار دو سابل‪ ،‬بل إنه قد‬
‫شارك في معرض السورياليين الدولي الذي نلم في باريس في عام ‪ .1947‬وبعد ذلك بعام‪ ،‬نجح في إقامة معرض خاص ألعماله‬
‫في المدينة نفسها‪.‬‬

‫ويحكم فن رمسيس يونان استيعاب التمرد الذي يدعمه‪ ،‬وسورياليته لها وجه إنساني واضح‪ .‬فهي تقبل التحليل وتلل شخصياتها‬
‫المرسومة خاضعة لعقالنية األشياء‪.‬‬

‫والحال أن هذا الرسام الذي ترجم كاليجوال إلى العربية (‪ ،)1947‬قد كابد محنة كبرى من جراء موت كامي‪ .‬فلم يبق للرسام غير‬
‫ترامي أطراف الصحراء وعناد النبات وصمت المعدن‪ .‬فهل يمكن لإلنسان المتمرد الذي كانه أن يلل أسير التمرد الصامت‬

‫‪9‬‬
‫والشكوى من الجدوى الفعل؟ كال‪ ،‬ألن رمسيس يونان هو قبل كل شيء فنان يستخدم الوسائل التي خلفها له التراث‪ .‬واذا كان قد‬
‫أخذ الثورة على عاتقه‪ ،‬فإنه يجهد على األقل في تحمل أعباء هذا التناقض‪.‬‬

‫والفنان الثالث الذي يمكننا ضمه إلى هذه الجماعة هو باروخ‪ .‬وقد بدأ هو أيضاً مسيرته في الوقت الذي كانت السوريالية تصوغ فيه‬
‫في مصر وعياً فنياًّ جديداً‪ .‬على أن باروخ‪ ،‬خالفاً للتلمساني وليونان‪ ،‬لم يستسلم إلغراء الحلم‪ .‬فقد طالب بحقوق العقل‪ .‬بيد أن‬
‫موقفه لم يمنعه من المشاركة في معارض الفن الحر‪ .‬وسرعان ما يتطور في اتجاه شكل فني خاص جداً‪ .‬وقد أتاحت له رحلة قام‬
‫بها في عام ‪ 1946‬إلى فرنسا فرصة االتصال بكل من أ‪ .‬جليزيس و ج‪ .‬فيون و م‪ .‬جرومير و ف‪ .‬ليجير و ج‪ .‬براك‪ .‬والحال أن‬
‫هؤالء األساتذة قد زودوه بالعناصر األساسية لتحوله‪ .‬والموضوع الذي شغله حتى ذلك الحين يختفي في عام ‪ 1949‬لحساب ٍ‬
‫تعبير‬
‫ٍ‬
‫صاف وايقاعي ألشكال وأللوان متحررة من العبودية للموضوع‪ .‬ومنذ عام ‪ ،1954‬يستقر باروخ في فرنسا‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق بفؤاد كامل (‪ ،)1919‬والذي أشرنا إ ليه بالفعل‪ ،‬والذي اندرج في الحركة السوريالية في مصر منذ بداياتها‪ ،‬فقد أصبح‬
‫واحداً من دعاتهاالمتحمسين‪ .‬وهذا الفنان النشيط ولكن الرزين‪ ،‬ينتقل من السوريالية إلى التعبيرية في بداياته الفنية إلى الفن غير‬
‫التصويري خالل الستينيات‪ .‬وهذا تطور يستحق التنبيه إليه‪.‬‬

‫ومن المناسب أيضاً اإلشارة إلى فنانين مثل حسن التلمساني وعبد الهادي الجزار وحسن حسن وخديجة رياض وسمير رافع وكذلك‬
‫إلى آخرين كثيرين أجانب مثل إيريك دو نيميش (‪ .)1910‬فهذا الفنان الذي استقر في القاهرة في عام ‪ ،1940‬قد شارك في‬
‫المنون الفتية لبول‬
‫معارض الفن الحر وفي بينالي اإلسكندرية في عام ‪ .1955‬وقد اشتهر برسومه التصويرية ألعمال مثل َ‬
‫فاليري والجحيم لدانتي وبحث حول التراجيديا لسيريل دي بو‪ ،‬وهو كاتب مصري يكتب بالفرنسية‪ .‬ويجب أن نذكر أيضاً أنجيلو دي‬
‫ريز (‪ )1910‬الذي شارك في الحركة السوريالية وعرض أعماله في معارض الفن الحر‪ .‬وال يمكننا أن ننسى أندريه نوميكوس‬
‫وميشيل كنعان وريمون أبنر الذين تجب اإلشارة إلى أهميتهم في الحركة السوريالية في مصر‪ .‬ومما الشك فيه أن فترة الحرب‬
‫اء من الناحية الفنية ألن الفنانين المحليين واألجانب الموجودين في مصر في ذلك الوقت قد سعوا‪،‬‬
‫العالمية الثانية كانت األكثر إثر ً‬
‫بسبب انقطاع االتصاالت والعالقات الخارجية‪ ،‬إلى االستفادة من وضعهم عبر تبادالت كانت مثمرة‪ ،‬وذلك بالرغم من اللرف غير‬
‫المستقر السائد آنذاك‪.‬‬

‫*‬

‫وفي ختام هذه الدراسة‪ ،‬يمكننا أن نتساءل عما إذا كان للسوريالية من أثر على األدب المكتوب بالعربية أوالً‪ .‬والحال أنه بالرغم من‬
‫الجهود التي قام بها جورج حنين في مجلةالتطور لكي ينشر رسالة السوريالية بين الجمهور المثقف الذي يق أر ويكتب بالعربية‪ ،‬إالَّ‬
‫أننا نجد أنفسنا مضطرين إلى االعتراف بأن النتائج كانت جد طفيفة وقليلة التشجيع‪ .‬ويبدو لنا أن السبب في ذلك إنما يكمن في‬
‫تنافر معين مع القواعد الشعرية المقررة في مصر آنذاك‪ .‬فخالل الثالثينيات واألربعينيات كان األدب العربي ال يزال وثيق االرتباط‬
‫بالتراث وبالتقاليد وكان يبحث دائماً عن نماذجه بين الشعراء السابقين على اإلسالم وعند أساتذة راسخين مثل المتنبي أو الجاحل‪.‬‬
‫والحال أ نه ليس هناك ما هو أبعد من ذلك عن مؤسسي الحركة السوريالية‪ .‬ولم يكن بوسع الشعر العربي الحديث أن يلج دروب‬
‫مغامرة األدب الطليعي دون أن يجازف بفقدان هويته هو‪ ،‬أو على األقل‪ ،‬كان ذلك هو اعتقاده‪ .‬ثم إن إحياء الفن الشعري العربي‬
‫في الثلث األخير من القرن التاسع عشر كان ال يزال حدثاً قريباً جداً بحيث يتعذر نبذه فجأة‪ .‬وكان أمثال البارودي والمنفلوطي‬
‫وحافل إبراهيم ال يزالون جد حاضرين في األذهان بحيث يصعب أن يحل محلهم أحد‪ .‬كما ال يجب أن ننسى التحيزات‪ ،‬المنتشرة‬
‫غالباً‪ ،‬والناشئة عن الوضع السياسي (خاصة االحتالل البريطاني)‪ ،‬والتي كان األدباء الذين يكتبون بالعربية يزكونها تجاه الكتاب‬
‫األجانب‪ ،‬األمر الذي حال دون ترويج أفكار جديدة في األدب‪ .‬على أن أصواتاً لها مكانتها قد نجحت في التعبير عن نفسها‪.‬‬
‫ونحن نجد في مجلةالتطور بين كثيرين من المسهمين رمسيس يونان‪ ،‬الرسام واألديب‪ ،‬وحفني ناصف‪ ،‬الشاعر المهم‪ )3(،‬وعبد‬
‫الحميد الحديدي وحسين محمود وآخرين كثيرين‪ .‬ونحن نرى أن الوحيد الذي أخذ على عاتقه مهمة مواصلة الرسالة السوريالية هو‬

‫‪10‬‬
‫كاتب موهوب وان كان محل سوء فهم دائماً‪ ،‬أعني عبد القادر الجنابي‪ .‬فهل كانت الرسالة السوريالية سابقة لألوان إلى حد بعيد‬
‫بح يث تعذر الترحيب بها من جانب الجمهور الناطق بالعربية؟ إن مثل هذا االفتراض يستوجب التدقيق والحذر‪.‬‬

‫أما المسألة الثانية فهي مسألة الحكم على األثر الذي كان للحركة السوريالية على األدب المكتوب بالفرنسية في مصر‪ .‬ولنقل‬
‫بوضو ٍح تام أن السوريالية هي أول حركة أدبية تولد في هذا البلد في الوقت عينه تقريباً الذي ولدت فيه في فرنسا‪ .‬فجميع الحركات‬
‫ٍ‬
‫بشكل ملحول‪ ،‬وأحياناً كانت تجيء بعد جيل‪ .‬أما فيما يتعلق بالسوريالية‪ ،‬فقد كانت القاهرة‬ ‫التي سبقتها كانت تجيء متأخرة زمانياً‬
‫مواكبة لباريس‪.‬‬

‫ويمثل الشعر السوريالي في األدب المكتوب بالفرنسية في مصر محاولة واعية للتحرر من الشعر التقليدي أو الرومانسي أو‬
‫الرمزي‪ ،‬والذي كان الشعراء المحليون يمارسونه آنذاك‪ .‬كما أن السوريالية تمثل محاولة لتجاوز قواعد العروض‪ .‬وعندئذ يلهر عدد‬
‫كبير من الشعراء‪ .‬ولما كانوا قد تحرروا من جميع القواعد‪ ،‬فإنهم يكفون عن االلتزام بالقواعد التي كانت قد بددت طاقات جميع‬
‫أولئك المتحرقين إلى اإلمساك بالقلم‪ .‬وقد هيمن االعتقاد بأنه يكفي رصف الكلمات (الكتابة اآللية)‪ ،‬والجمل ونثارات األحالم‬
‫والصور األكثر غرابة وليدة الروح الفاقدة لالتزان‪ ،‬حتى يتسنى إنتاج عمل فني‪ ،‬في الشعر كما في الرسم‪ .‬ولم تتأخر مثل هذه‬
‫المفاهيم عن اإلساءة إلى الحركة برمتها‪ .‬أما أولئك الذين كانت لديهم الملكات والمواهب الكافية والمناسبة فإنهم وحدهم هم الذين‬
‫واصلوا السير في هذا الطريق وعرفوا النجاح‪ ...‬في باريس‪.‬‬

‫ولعل أفضل لهور للحركة السوريالية هو لهورها في فن التصوير‪ .‬فاألدب‪ ،‬إجماالً‪ ،‬لم يكن يهم غير جماعات محدودة من‬
‫المصريين أو األجانب‪ ،‬في حين أن فن التصوير‪ ،‬وهو اللغة الدولية للون ولإلشارة‪ ،‬كانت لديه فرصة أكبر ألن يثير األذهان وألن‬
‫يجتذب الجمهور‪ .‬وقد رأينا كيف أن لقاء الرسامين األجانب والمصريين خالل سنوات حرب ‪ 1945-1939‬كان مفيداً للجميع‪ .‬لقد‬
‫حدث ازدهار للمواهب المتباينة وحدثت تبادالت ولقاءات لم نحلل غير بعض جوانبها‪ .‬وكان فعل السوريالية هو أصل تجديد‬
‫تصويري عميق مازلنا نشعر إلى اليوم بآثاره البعيدة‪ .‬كما أنها أول حركة فكرية انتمى إليها فنانو مصر بشكل عفوي وقدموا إليها‬
‫إسهاماً أصيالً‪ .‬وهي‪ ،‬عالوة على ذلك‪ ،‬الحركة الوحيدة التي تمكنت من تعبئة اإلنتلجنسيا المحلية ومن حفز اتخاذ موقف سياسي‪.‬‬
‫فأال يعد ذلك نجاحاً كبي اًر للحركة السوريالية؟‬

‫باريس‪ ،‬نوفمبر ‪1980‬‬

‫‪11‬‬
‫تعليقات من المترجم‬

‫‪ -1‬لم يوقع جورج حنين (‪ )1973-1914‬البيان المذكور في مكسيكو‪ ،‬إذ كان في باريس آنذاك‪.‬‬

‫‪ -2‬صدر البيان المذكور في ديسمبر ‪ ،1938‬بينما تأسست الجماعة في يناير ‪.1939‬‬

‫‪ -3‬لم تنشر التطور أية نصوص لحفني ناصف‪ ،‬بل نشرت مقاالت البنه عصام الدين‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫شعر‬

‫ال مبررات الوجود‬

‫‪13‬‬
‫عدم التدخل‬

‫المستشاريات تفيض بجثث رائعة‬

‫تنبجس من أعلم تمزقات إسبانيا‬

‫كم يتشابه كل هؤالء الموتى الجدد‬

‫كم حوى موتهم كل ماهو جدير بالحياة‬

‫لم يتوافر قط‬

‫مثل هذاالقدر من اللحم‬

‫للخطب والملفات والتقارير‬

‫دمعة من هنا وأخرى من هناك‬

‫لم يحدث قط أن سقط مثل هذا القدر من الضحايا‬

‫والضمير معدوم إلى هذا الحد‬

‫انلروا المدن فقدت شرايينها شرياناً بعد شريان‬

‫والقرى فتكت بها قَُرٌح شرهة‬

‫والطرق ما عادت تُسلم‬

‫إالَّ لسواد رعب مماثل‬

‫حيث ال يستطيع أحد أن يميز سماء من أرض‬

‫ألنه لم يبق في المكان غير بعد واحد‬

‫هو بعد القتل‬

‫انلروا الضربات القاصمة‬

‫تستقر في جوف الشعب‬

‫والمالك الجدد للشاطئ األزرق‬

‫يخلقون في اللحم – الهبة العليمة لألحياء –‬

‫مساحات من العذاب كل يوم‬


‫‪14‬‬
‫الديبلوماسيون لحسن الحل هناك‬

‫جدلهم ما عاد يزدهر إالَّ فوق الحطام‬

‫فوق حداد مدريد وبرشلونة‬

‫العاصمتين المشدوفتين‬

‫أيتها األحياء التي خرجت من ليل الحديد نا اًر‬

‫فلتواصل صفاراتك الحادة صراخها‬

‫حتى تصاب بالصمم آذان الزمن‬

‫أيها الحطام الذي ال يغتفر‬

‫يتحدثون عنك في و ازرات الخارجية‬

‫عن نقاالت الجرحى والتوابيت والمقابر‬

‫أيها الناس أيتها الحجارة عزاء‬

‫يا خرائب إسبانيا لن تكوني األخيرة‬

‫هكذا تقرر أن يكون المصير‬

‫ثم ال تيأسوا من اآلخرة‬

‫فها هي ذي تتقدم نحوكم‬

‫خيانات غيبية مبجلة‬

‫ساحة لمن استولوا على باداخوث‬

‫ساحة لمن ابتدعوا عذاب الجلجثة‬

‫إنهم سوف يقدمونكم قرباناً لخلودهم‬

‫سيرتبون لكم طقوس رحيلكم‬

‫على هيئة طوربيدات‬

‫حتى تكون في النار راحتكم األبدية!‬

‫ترجمة‬

‫أنور كامل وبشير السباعي‬

‫‪15‬‬
‫معنى الحياة‬
‫"ال معنى لوجه يشبه جميع الوجوه"‬

‫ج‪ .‬جويس "عوليس"‬

‫في اللحلة التي يوشك المرء فيها أن يباغت شيئاً ما – أن يقترب من اإلجابات الشفافة العليمة – أن يتمكن من إبطال‬
‫األصوات المتعادلة في نفسه – أن ينتصر على قانون ثقل الروح – أن يمعن في االغتراب – أن يكبر من جميع الوجوه – أن يراوغ‬
‫القدر – في اللحلة التي يوشك فيها أن يكون ذلك كله قريب الحدوث – يصطدم المرء بعتامة حائط – هذا الغريب نحييه مع ذلك‬
‫– تتهيأ للشرح نحو أية ثروات مجردة تدفعك سرعة داخلية غامضة – دون جدوى – كل كالم عند خروجه من فمك تقطع رقبته‬
‫مقصلة حائط جديد – يأتي من بعيد جداً – يسقط من عال جداً – بيننا وبين االكتشافات الشاغرة التي لن يعرف أحد عنها شيئاً –‬
‫امبراطورية الحوائط ال تنتهي – الويل لمن يساومها على وجبة الطوب والجبس المستحقة لها – إنها بعد نعاس طويل تنشر في‬
‫وضح النهار أشباحاً ال تطاق – تنفث االضطرابات في اضطراب الجماعات – من قال حائط فقد قال ُسمك – وفي نهاية الحساب‬
‫لسمك معين – في البداية يكون المرء واحداً – بال ُسمك تماماً – مهمالً تماماً – َخرِي ََة ضئيلة‬
‫يدرك المرء أن كل شيئ يجري وفقاً ُ‬
‫وحيدة – ثم يصبح َخرَيتَين – أمام القانون أو من ورائه – وهكذا فو اًر يصير أكبر ُسمكاً – الناس اآلن تريد أن تنلر إليك باهتمام‬
‫واحترام – إنهم يراقبونك لكي يروا ما إذا كنت لن تنمو أكثر – ما إذا كنت لن تكون أشد إزحاماً – فما تقضي به قوانين الطبيعة –‬
‫السمك الجمعي – األسرة تمثل ُسمكاً مهماً بما فيه الكفاية –‬
‫ووصايا األخالق – هو أن تمأل مكانك تحت الشمس – أن تسهم في ُ‬
‫يستحق التشجيع – من الصعب تخطيه – واثقاً من حقه في الوضع النلامي – تبقى بعد ذلك طوابق أعلى للتخطي – على القمة‬
‫تتربع الدولة – الدولة تكتب التاريخ – مسألة خطوط بسيطة – ومن حين إلى حين تعبئ الدولة مجموع خدمها – لكي تتحقق من‬
‫السمك – يبدأون من جديد في بناء‬ ‫ِ َّ‬
‫السمك المنافس لألمم المجاورة – وعندما ُيستهلك كثير من ُ‬
‫درجة ُسمك األمة – لكي تُذل ُ‬
‫الحوائط – وفي الحياة كحوائط – بالضجر نفسه – بالجمود نفسه – مع وجود الحوائط المعادية – مع مصير سميك عقيم مليء‬
‫بالحوائط‪.‬‬

‫ترجمة أنور كامل وبشير السباعي‬

‫‪16‬‬
‫قصة غارة‬

‫الممر المرشوق بالمسامير يفضي إلى قلب الصحراء‪ .‬أحاذي إذاً طريقاً خالياً من الدم موشحاً بإعالنات صغيرة‪ .‬ال شيء غير‬
‫سيدات بين أعمار ال بأس بها يتقن إلى المحبة البريئة‪ .‬بعيداً يتنزه ببراءة دخان متموج‪ .‬أستوقف حاجباً ينبئني‪ .‬هناك يجلس الراعي‬
‫الذي يعقد زيجات المصلحة‪ .‬يشتغل على فحم الكوك‪ .‬يبدو من جهة أخرى أنهم سوف يعينون راعياً جديداً تماماً‪ .‬راعياً جديداً لن‬
‫يعقد قراناً بعد اآلن إالَّ على المازوت‪.‬‬

‫بعد بضع ساعات من السير وحيداً ألمح فجأة سيقان نساء يخرجن من ميدان شفاه رحيب ويلوحن مودعات بالوشاحات‪ ،‬أو‬
‫بالنوارس أو بالثلوج‪ .‬موسيقاهن تشبه الخرق الذي تحدثه في الطبل المحموم صرخة قطار سريع يغيب في نفق يعرف تماماً أنه لن‬
‫يخرج منه‪.‬‬

‫أسأل حيواناً أليفاً – أخطبوطاً في الغالب – يتشمم المشهد بمسحة مرتابة‪ .‬يقول لي هذا الحيوان‪" :‬ما تلنه نساء ليس في‬
‫الواقع غير خطوط زوال طولية واإلنسان الذي يحيينه بهذه الطريقة ليس سوى الحريق‪ .‬الحريق يزور في هذه اللحلة كل المنطقة‬
‫على متن ُمطفئه الخاص‪ .‬السكان األصليون يحسبون أن شرفاً عليماً أسدي إليهم ألن الحريق يسافر في الغالب متنك اًر"‪.‬‬

‫الحيوان األليف الذي أوحيت إليه بشيء من التعاطف يستطرد‪" :‬الحل أن بين خطوط الزوال والشفاه سوء تفاهم كبير‪ .‬كل‬
‫قرن تحدث بينهما منازعات ال تنتهي‪ .‬الجيران يفقدون فيها الحياة والحلم‪ .‬تلك فضيحة يا سيدي‪ ،‬فضيحة خالصة‪ ،‬ومن المستحيل‪،‬‬
‫مع ذلك‪ ،‬فهم دوافع هذه المنازعات‪ .‬إنهم يصرحون فقط – وأنا أبلغك الرواية الرسمية لألحداث‪ ...‬إنك في نهاية األمر لست سوى‬
‫ِ‬
‫أخدعك‬ ‫أجنبي – بأن خطوط الزوال تترصد بشكل خاص أسرة من الشفاه تكرر لها دون توقف قسماً ال يتبدل‪" :‬أقسم ِ‬
‫لك بأنني لم‬
‫ِ‬
‫أخدعك قط" وهكذا دواليك‪ .‬إذا كانت خطوط الزوال تهلل للحريق بهذه الطريقة فذلك ألنه يحرق كل‬ ‫قط‪ ...‬أقسم ِ‬
‫لك بأنني لم‬
‫التللمات التي تقدمها له الشفاه‪ .‬أنا أعتقد أنه قد آن األوان لطرد خطوط الزوال هذه بإرسالها‪ ،‬مثالً‪ ،‬لمغازلة أدوات الجراحة التي‬
‫يحزنها أن تموت وحيدة في علبتها"‪.‬‬

‫قبل أن تنام خطوط الزوال تؤدي صالتها وترسم في رماد الفضاء إشارات سيمافور مديدة في عشق األفق‪ .‬اإلشارات تمكث‬
‫طويالً بعد مولدها بال حركة ثم تحلق بأجنحة من رصاص صيد الطيور وال تلبث أن تحط على جنبات الكثبان حيث تزدهر‬
‫بنور ٍ‬
‫ثابت محطةً محفورةً في قلب الماس‪.‬‬ ‫صفوف من الكوى المتآلفة تضيء ٍ‬

‫األخطبوط يشرح لي‪ ،‬وقد اتضح بشكل قاطع أنه أخطبوط‪ " :‬هذه المحطة ال تفيد في شيء على اإلطالق‪ .‬ال في القيام وال‬
‫في الوصول‪ .‬وال في أي شيء‪ .‬بل إنها ال تؤكل‪ .‬لهذا يحترمها الجميع " ‪.‬‬

‫متعبين مسهدين ال يجرؤ أي قطار‬


‫القضبان سواعد عذارى‪ ،‬من اللحم المشغول‪ ،‬تُهَد َه ُد على رصة السكة‪ ،‬شبيهة بأطفال َ‬
‫على سحقهم‪.‬‬

‫نالر المحطة قط سيامي يحمله على األكت اف مقعد من الزمرد‪ .‬نالر المحطة ال يتعجل‪ .‬إنه ال يبالي‪ .‬ربما ألنه على موعد‬
‫مع المستقبل‪ .‬العلم في بلُّورة عينيه‪.‬‬

‫ترجمة أنور كامل وبشير السباعي‬

‫‪17‬‬
‫انتحار مؤقت‬
‫ٌ‬
‫إلى "المنتحر" أنجيلو دي ريز‬

‫في أعماق األدراج الزرقاء‬

‫التي رحلت مفاتيحها صوب األقفال المتوحشة‬

‫وتاهت خطاباتها في سوق االعترافات‬

‫في أعماق األدراج الملونة بلون التلميذة‬

‫بين سيجارة ذابلة وصفعتين‬

‫يرجع تاريخهما إلى الفضيحة األخيرة‬

‫يحدث أحياناً أن تلتقط‬

‫شفاه مرة‬

‫تتلو كلمات قريبة‬

‫تهبط كالحصى‬

‫منحدر الصوت‬

‫شفاه نادرة مختصرة‬

‫تنفتح لتدع جاسوساً يمر‬

‫متخفياً في فرقة عازفة‬

‫ال أعرف بعد أية سمفونية‬

‫تتشبث بطوق من اللهيب‬

‫واآلن تقف النافذة‬

‫بال عمر وال نور‬

‫شقيقة الشفاه المهيبة‬

‫منها تدخل األعصاب الهائجة‬


‫متلبسة ٍ‬
‫بأيد بشرية‬

‫تقطع رؤوس النساء‬

‫بعد الحب‬

‫‪18‬‬
‫على مائدة ما‬

‫شيء يبتسم خالل كل نعاس العالم‬

‫إنه وجه‬

‫ال ُيلمح أبداً‬

‫ال ُينسى أبداً‬

‫وجه يؤرجحه‬

‫ثلج الذكرى الذي ال ينتهي‬


‫ُ‬
‫ترجمة مجلة "التطور" (فبراير ‪)1940‬‬

‫‪19‬‬
‫آفاق‬

‫إلى أندريه بروتون‬

‫لم ال نصادف على قنطرة تنتصب فجأة بين كارثتين امرأة ذات عينين خفاقتين تخبرانك باسمها فيبدو أجمل من شفا هاوية‬
‫مكسوة بغالالت سوداء؟‬

‫لم ال نجسم على مسرح األفق المقفر دائماً غروبات مهيبة لشعور متعددة األلوان؟‬

‫لم ال ُنهَيِّئ منحدرات الجبال بمخلوقات فروجها راديوميةٌ تتحد بالمنالر الطبيعية وتشعلها عند كل عناق وتبقى وحدها في أل ٍ‬
‫ق‬
‫ُم َد ِّوخ؟‬

‫لم ال ننقذ بضربة واحدة حشد المرايا المرشوقة على فراش األرض؟‬

‫لم ال نجعل الحياة أهالً للسكنى؟‬

‫لم ال نهرب من المقاعد المألوفة والمصائر المعيشة بما يكفي؟‬

‫لم ال ُنبعد الجفون عن الطرق الملعونة ونختفي في الليل األكثر غموضاً حاملين بأقصى سرعة جثة لمجهولة مزق أوصالها‬
‫يحتدم دون ٍ‬
‫خطر من يقلة؟‬ ‫ُ‬ ‫حلم‬
‫ٌ‬

‫ترجمة بشير السباعي وأنور كامل‬

‫في مستوى الغياب‬

‫أكداس من منتصفات الليالي ذابلة في عينيك‬

‫وبرك من خمر مروعة‬

‫يردها أشقياء منكسرون‬

‫ينكشفون متلبسين باقتراف البراءة‬

‫والذاكرة نفسها بين كابوسين‬

‫في منتصفات لياليك أرغنات حامية‬

‫‪20‬‬
‫تطيل دموعها الشمعية‬

‫األصابع المحمومة ألغنية‬

‫تخنق االستصراخات المبحوحة للحيوانات الضالة‬

‫واحدة فواحدة‬

‫على جبين حياتك‬

‫كل الغضون المهيبة للشباب‬

‫والتوقيع الذي تطبعه شفتاك‬

‫أسفل صفحة من الخمر‬

‫يحوي كل ضروب الحكايات الحقيقية‬

‫الجالسة على فراش طريق يكاد يكون مقف اًر‬

‫ما تزال تطوف به جلجالت ضحك صاخبة‬

‫وغربان ضخمة تبرأت منها سماؤها‬

‫في صوتك أكداس وداع‬

‫وحين تنكسين رأسك‬

‫لكي تسعلي ما شئت‬

‫يبدو كما لو كنت تحفلين الموت عن لهر قلب‬

‫وحين ترحلين للحاق بصمتك األثير‬

‫يخلو المكان كله مما ليس أنت‬

‫ويتركنا وحدنا مع غيابك الخصب أبداً‬

‫الخصب كإعالن انتحار‬

‫أو كالوجه اآلخر لمحيط‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي وأنور كامل‬

‫‪21‬‬
‫بورتريه كامل التلمساني‬

‫ها أنت ذا أيها السحاب األسود على استعداد أبداً ألن تنصهر على المواكب األخالقية المتجهة صوب الحساب األخير أو ما‬
‫ال أدري أي خبز عبثي يومي‪...‬‬

‫أسمع كالمك المنقض على صالبة المدن مع تأوه شجرة تستمتع باستئصال نفسها بنفسها‪.‬‬

‫أنت ذاتك الشهاب المجعد ينتزع كل أصحاب عائد المغامرة من بطء هضمهم ويقلب بحركة طائشة المنالر الطبيعية التي‬
‫يتمدد فيها البشر الراضون بالوجود‪.‬‬

‫تعرف كإنسان كيف تهتك أسرار العاهرات غير المباحة وكيف تعيد إلى وجه النهار عيونهن الفاحشة المدفونة منذ زمن بعيد‪.‬‬

‫تعرف كيف تجعل من هذه الغنائم المنتزعة من باطن اليأس بصائر طريق عليم مسددة ضد أرواح الناس المهذبين‪.‬‬

‫تحب الفرش الذابلة مرة والى األبد – أسرة نقض الحب والشرفات الليلية التي تنطلق منها تجديفاتك النقية لتطارد السماء‪.‬‬

‫مأثرتك السامية ستكون تلك الغارة الكبرى بين أحضانها يتآخى قطاع الطرق والعسكر في العالم كله متحدين أخي اًر ضد العالم‬
‫كله‪.‬‬

‫أيها السحاب األسود الجميل أرى فيك لقاء غير مأمول بين نهاية العالم واألحداث التافهة‪.‬‬

‫فال تنطفئن أيها السحاب األكثر صفاء من حريق!‬

‫ترجمة بشير السباعي وأنور كامل‬

‫‪22‬‬
‫سان لوي بلوز‬

‫الشمس تتأهب للسقوط مثل حجر جسيم بالغ النضوج‪ .‬الحجر الذي أضناه سفر طويل يسأل النهر أن يستضيفه فيجيب ‪" :‬‬
‫أدخل – أنت هنا بدارك " ‪.‬‬

‫يتوقف الفالحون لمشاهدة المنلر‪ .‬أحدهم يتمتم‪ :‬أود لو اجتزت هذا الشيء ألن من المؤكد أن على الجانب اآلخر امرأة من‬
‫المدينة سوف أحبها‪.‬‬

‫ويضيف الفالح الذي لم ير حلياً قط‪:‬‬

‫امرأة من المدينة سوف أحبها بسبب الحلي التي سوف تلبسها‪.‬‬

‫يحدق اآلخرون في وجبة النهر اليومية‪ .‬ينفتح النهر نهرين كما لو كان ليسمح بمرور غرق كبير‪.‬‬

‫أما الطرق فتستنشق النسيم الوفير لصديقها الليل‪.‬‬

‫فالح جديد يحاول عد النجوم‪.‬‬

‫عبثاً يحاول ألنه ال يعرف العد فوق العشرة‬

‫يلن أنه عندما يكبر بما يكفي سوف يتوصل إلى جرد السماء‪.‬‬

‫لكنه يخشى أن تنقص النجوم في تلك األثناء‪ .‬أن ترحل واحدة فواحدة‪.‬‬

‫أن تتركه وحيداً مع الليل الحقيقي‪.‬‬

‫صوت امرأة المدينة يتسرب اآلن من األفق كله‪ .‬يطوق السهل كله‪.‬‬

‫إنهم جميعاً يسمعونه‪ ،‬ومعهم‪ ،‬قرون وقرون من الترقب الصامت‪.‬‬

‫إنها تقول إن بها رغبة جامحة في لقاء جديد مع نهرها‪.‬‬

‫إنها تنوي أن تحكي له كماً من األسرار الخرافية التي ال يعرفها ال الراعي وال الصيدلي‪.‬‬

‫إنها تود أن تشرح له حكاية السوارات التي تحرق ساعديها‪.‬‬

‫والسهاد المحتدم الذي يفرغ عينيها ولن يبرحها إالَّ بالرغبة في قتل بعض العشاق العاجزين عن اإلحاطة بشيء غير جسدها‪.‬‬

‫والحنين المر إلى شموس طفولتها‪ .‬والحتجة إلى الرحيل زمناً أطول‪ ،‬ومسافة أبعد – وشراب الجن في الروح – صوب‬
‫العواصم المتوحشة للوحدة‪.‬‬

‫يمد الفالحون أكفهم صوب هذا الكالم‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫كل منهم يحلم باالستيالء على كلمة سوف يكتم سرها مرغماً َّ‬
‫مدة طويلة‪.‬‬

‫لكن الكالم يهرب كالخفافيش‪.‬‬

‫إنه يعود إلى المدينة حيث تغني هذه المرأة أغنية رحيل ال ينتهي‪.‬‬

‫ترجمة أنور كامل وبشير السباعي‬

‫‪24‬‬
‫مختارات من مجموعات شعرية أخرى‬

‫‪25‬‬
‫سونيا آراكيستين‬

‫احفروا‬

‫فسوف تجدون هناك ابتسامة‬

‫ابتسامة قبرية‬

‫ألولئك الذين يصدقون وعود الحياة‬

‫احفروا‬

‫فسوف يغمر التراب قلوبكم‬

‫وسوف تمضون وقلوبكم في التراب‬

‫والحب الهامد‬

‫بال حراك على ملتقى طرق الرفض‬

‫احفروا‬

‫فسوف تجدون السماء‬

‫ربما تكون السماء هناك‬

‫ربما يكون هناك تناثر أنواع الكائنات‬

‫أو مذاق المطر األسيف‬

‫احفروا‬

‫حتى تنشر هذه المرأة مروحة سقوطها‬

‫حتى تصفع إلى األبد بالدة الفضاء‬

‫حتى تزف نفسها إلى اليابسة‬

‫بوجهها البلوري المكسور الجميل‬

‫احفروا‬

‫فسوف تجدون العينين األكثر وحدة في العالم‬

‫‪26‬‬
‫وعلى إسفلت الشارع البارد‬

‫ككوة‬
‫امرأة غريبة دون سابق إنذار َّ‬

‫احفروا لهاتين العينين نلرة مستحيلة‬

‫احفروا اسمنا في ليلنا‬

‫احفروا ألجلنا‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪27‬‬
‫فوترالبا‬

‫فوترالبا مدينة عالية معلقة في هرمية البناء‬

‫فولترالبا ال تستقبل أحداً إالّ على هضاب عالية‬

‫فوترالبا تتساءل أحياناً على مدار سنين عن مدى إمكانية السماح ضمن أسوارها بدخول هذا الزائر أو ذاك القادم من بعيد جداً‬
‫عبر آالف من األهوال‬

‫ثم إن أسوارها ضعيفة ورجراجة‬

‫فوترالبا مدينة طيش خالص‪.‬‬

‫تعري البنات‬
‫مدينة التزال تجهل شيخوختها‪ ،‬التزال مجسمة في ثياب حلم قديم حيث تستغرق بيوتها وقتاً حتى تتهيأ‪ ،‬حيث ّ‬
‫صدورهن لصباح الواجهات‪ ،‬حيث ال يشنق المرء بعد الخيماويين إالّ صورياًّ‪ ،‬حيث يدندن الوجهاء في العشب كما لو كان ذلك هو‬
‫رسالتهم األولى‪.‬‬

‫التشنج هو أبسط وسيلة لتمتين التعارف‬


‫ُ‬ ‫في فوترالبا ذات األهداب المحترقة‬

‫العطش هو التسلية األولى للرجال الصالحين‬


‫ُ‬ ‫في فوترالبا ذات الواحات المسورة‬

‫في فوترالبا التي تتآكل من فرط تخصيص غرفة في كل بيت للمدعو وغرفة لقاتل المدعو‬

‫الفلفل واأللباجا رمزان للسيادة‬

‫بص ُر هناك إالَّ في ساعات معينة‪ ،‬ليست واحدة أبداً‪ .‬كل ما هو غير متوقع‬
‫تحكم فوترالبا ملكة فلفل وألباجا خنثى وهي ال تُ ِ‬
‫هناك‪.‬‬

‫دون كلل‪ ،‬يدافع تنين ُمعفٌَّر عن مداخلها‪ .‬لكن المداخل معتادة على التحايل عليها‪ .‬كلمات السر لها لغة رثة‪ .‬هناك اعتقاد‬
‫بأن المرء يرى هناك كما في أماكن أخرى ثرثرات بائسة‪ .‬وال يوجد غير المتوقع إالّ في عمى الملكة المتقطع‪.‬‬

‫على طول األرصفة تتخذ مراكب شقراء أوضاعاً لرسامين نشوانين‬

‫وفي المساء‪ ،‬في حديقة مهجورة ما‪ ،‬يوجد دائماً فونوغراف بلدية يتمتم بين اللالل‪" :‬ماذا تكون هيكوبا بالنسبة له أو هو‬
‫بالنسبة لهيكوبا‪"...‬‬

‫عدة مرات متتالية‬

‫عدة مرات متتالية‬

‫والصمت يتأوه في فوترالبا وعندما يكف عن التأوه يغدو ثوباً من النسيج الخشن مقو اًر بشكل فاضح‬

‫وغداً تنفتح الدواليب المقدسة‪ ،‬ويولد العري من جديد من ذهبها وترفع المسرات الرهيفة غير المفهومة رأسها‬

‫ويتهيأ الجميع ويتزينون لشعيرة سوء التفاهم العليم‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬


‫‪28‬‬
‫سو‬
‫حديقة ُ‬
‫إلى جان ماكيه‬

‫أيها الفرسان الخاضعون عبثاً‬

‫لبالء السديم‬

‫أيتها الحجارة التي تبلى سلفاً‬

‫يا وجوه صدر المدى‬

‫الذي يجمل‬

‫إيقاف اإلنسان عنده‬


‫ُ‬

‫هنا ال يفوت أوان شيء‬

‫الحلم من قطعة واحدة‬

‫يتواصل منتصباً‬
‫مثل ٍ‬
‫وفاء نادر اإليماءة‬

‫مداعبة قوية ما عادت اليد‬

‫بحاجة إلى االلتئام عليها من جديد‬

‫هنا ال يفوت أوان شيء‬


‫ٍ‬
‫تحد طويل ميال إلى الخذالن‬

‫يجمد الهامات المرتفعة األخيرة‬

‫لم تعد هناك عناقات مفاجئة‬

‫لم نعد نستأنف كالمنا‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪29‬‬
‫المرأة البيتية‬
‫جميلة‬

‫كالصاعقة التي تتوقف في منتصف السماء‬

‫كي تختار شجرتها‬

‫مجهولة‬

‫قريبة إلى حد إثارة الفزع‬

‫ومع ذلك فهي مثار اطمئنان‬

‫كاستراحة قصيرة في بلد معتدل المناخ‬

‫بطارية إضاءة‬

‫تمسك في حدقتها‬

‫بزمام الليل‬

‫هشة‬

‫كمصافحة‬

‫بين كائنين بال مستقبل‬

‫عسرة‬

‫كاستهالل العالم‬

‫وجه محاط باألسوار‬

‫ال ُيرى غير مرة واحدة في العمر‬

‫عند الضغط على الزناد‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪30‬‬
‫رسالة إلى فتاة صغيرة‬

‫ألجل بداياتها في العالم‬

‫يا بحيرة صغيرة على شاطئ البحر‬

‫ترتسم على صفحتها النجوم‬

‫يا بحيرة راحة اليد التي ال دخل لها‬

‫بأي لمأ‬

‫إن جميع الوجوه مثبتة‬

‫بمسمار الشحوب ذاته‬

‫يتلاهر المرء بأنه ال يدري عن ذلك شيئاً‬

‫لكن ضغط الدم آخذ في االنخفاض اليوم‬

‫ما عاد المرء يتحدث إالَّ عن نفسه‬

‫البيوت على مستوى البشر‬


‫متخلفة عن خراب مؤ ٍ‬
‫ات للخالص‪.‬‬

‫لكن تيار األشياء الكامن المرصود‬

‫الذي ال يكاد ُيلحل في طيشه الوليد‬

‫هو ما يزدهر فيك‬

‫يثبت المرء النافذة قبل النلر‬

‫التردد قبل الحياة‬

‫يجب بناء الوجه باألسلوب الذي تُبنى به مدينة‬

‫للتو‬
‫العصافير المقدسة حسمت رأيها ِّ‬

‫في موقعه‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪31‬‬
‫إعدام خاص‬

‫تلك لحلة مؤثرة أبداً‬

‫كتلك التي يتساءل فيها المرء‬

‫في صباحات معينة‬

‫عما إذا كان سوف يتسنى له التعرف على الحياة‬

‫ما إذا كانت األشياء قد لزمت المكان نفسه‬

‫ما إذا كانت األماكن قد احتفلت باالسم نفسه‬

‫ما إذا كانت ال تزال هناك مرآة للخالص‬

‫يكف المرء أخي اًر عن النلر فيها إلى نفسه‬

‫ويرى فيها ما هو أبعد من نفسه‪.‬‬

‫عندئذ سيكون ذلك كما لو أن المرء يتجه من تلقاء نفسه‬

‫إلى ساحة آراجو‬

‫عند الفجر‬

‫من أجل إعدام خاص‬

‫ولن يستشعر أي عزاء‬

‫في خاطر أن الجالد ليس هناك‬

‫ومع ذلك فإن المرء يتلفت فجأة إلى الوراء‪.‬‬

‫وهذه عالمة طيبة‬

‫الحق‬
‫فالمرء يعتقد أنه ُم ٌ‬
‫هناك إذاً أناس يالحقون اآلخرين‬

‫هناك إذاً مالحقة وهذا هو كل ما كان المرء يود معرفته‬

‫في أحراش اللغة‬

‫صوت يبحث عن قول‬

‫‪32‬‬
‫الكلمة األولى في النهار‬

‫مثلما يبحث المرء عن مفتاحه‬

‫على بسطة الدرج في الليل المعتم‬

‫يكف المرء عن التردد‬

‫يراهن المرء على هذا الشيء الضائع‬

‫على هذا الصوت القريب من المشارف‬

‫على المجهول المستند إلى أمنيات الحياة الممزقة‬

‫ولكن إلى أي شيء سوف ال يستند المرء هذا الصباح؟‬

‫إلى أي جرح؟‬

‫إلى أية إهانة؟‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪33‬‬
‫مبدأ الهوية ‪1-‬‬
‫تَ َكتَّ َم اسمه‬

‫كماء راكد‬

‫حيث األحجار عند سقوطها‬

‫ال تترك أية دوائر‬

‫هبط نحو اآللهة‬

‫غير مصدق وان كان صبو اًر‬

‫تقدم في ليل اآللهة‬

‫مفعماً بالتضحية بصورته هو‬

‫مفعماً بتماثله مع الشقاء‬

‫وعندما دخل مدينة السماء‬

‫تحدث أحدهم عن البيات الشتوى المطلق‬

‫أوصدت أبواب البيوت‬

‫وصد أبواب الفخاخ‬


‫كما تُ ُ‬
‫بين الرجل والمرأة‬

‫لم يعد هناك غير الحد الرهيف‬

‫لسيف طليطلي‬

‫الحرمان من المغفرة‬

‫يعيد العالم‬
‫إلى ٍ‬
‫أيد ال تتحرك‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪34‬‬
‫مبدأ الهوية – ‪2‬‬

‫يضحي المرء بصورته هو‬

‫مثلما كانوا يقدمون القرابين البشرية في الزمن الغابر‬

‫عرفت إنساناً‬

‫لم يكن يتعيش إالَّ على توجسات اآلخرين‬

‫كان يتحرك أحياناً كمتنزه ضرير‬

‫صريعاً للشحوب له إيماءات عباد الشمس‬

‫كان يجلس أحياناً في وسط المدينة‬

‫واذ يحدث رنين قطع عملة محلورة‬

‫ب وحدتنا‬ ‫ِ‬
‫يتصور أنه ُمحاس ُ‬

‫كان يتصور أنه يحمل اسماً عكس ٍ‬


‫اسم‬

‫وينكر أن الشقاء يماثله‬

‫يهلك من باب السهو أو من باب النزق‬

‫وفي السديم الصباحي‬

‫الالهث بأعذار الجالد‪.‬‬


‫ُ‬ ‫امتزج َنفَ ُسهُ‬
‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪35‬‬
‫ضريبة الحياة‬

‫أنا اإلنسان الجالس على جانب الطريق‬

‫ذلك هو الوقت المناسب للكتابة إلى األصدقاء‬

‫الكتابة مع صون الكلمات‬

‫مع سلخ األصوات‬

‫مع رمي أولئك الذين يكتفون بالنلر‬

‫على رأس أولئك الذين يكتفون بالفهم‬

‫وهذا يحدث دائرة زرقاء واسعة حول العينين‬

‫ال يب أر منها المرء‪.‬‬

‫أنا الذي يجلس على جانب الطريق والذي ُيبقي أعداءه‬

‫تحت رحمة ضجره‪.‬‬

‫والذي يتوجب في نلره التدقيق في كل شيء‪.‬‬

‫طال أمد العمر أم قصر‬

‫ليس لذلك شأن كبير‬

‫ليس لذلك شأن كبير بالنسبة لإلنسان الذي يثأر‬

‫من هوان شأن اإلنسان‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪36‬‬
‫االنشقاق العظيم‬

‫انتبهوا إلى الكنوز التي ال يطالب بها أحد‬

‫إلى التلميذ الصبور والصموت‬

‫المنسي منذ زمن بعيد في ركن معتم‬

‫إلى التلميذ الذي يباغت األحالم‬

‫الذي يخفف م اررة الحياة‬

‫الذي يبتدع امرأة مثلما نجهز سفينة‬

‫الذي يرى ما وراء حائط اإلغالق‬

‫ما وراء الجبال‬

‫ما وراء البحار‬

‫الذي كان ليكون بالفعل في أقصى العالم‬

‫الجزر‪.‬‬
‫إن لم نكن هناك لكي نكلمه عن َ‬

‫انتبهوا إلى ذلك الهدب للجنون الخالص‬

‫على جبين سيدة قصر‬

‫والى برودة أعمدة على هامش صدغيها‬

‫والى صرختها التي يلم الليل فيها‬

‫تعب الطيور‬

‫انتبهوا إلى تلك النباتات الوقحة‬

‫التي تنحشر بين الكائنات‬

‫والتي تعطيها في نهاية المطاف حق‬

‫ادعاء االفتراق‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪37‬‬
‫الغافلة‬

‫الصدقةُ المتلقاةُ في قلب األجمة‬

‫اإلهانةُ المتلقاةُ في حميمية القبر‬

‫الفرحة المتلقاةُ على الوسادة‬

‫الصرخة المتلقاةُ في قلب الفم‬

‫نعرف كنوزنا‬
‫ُ‬

‫تتعرف على نفسها بيننا‬


‫ُ‬ ‫لكن هذه القروية التي ال‬

‫تدق لها إالَّ س اًر‬


‫والتي ماعادت األجراس ُ‬
‫حيث نتلقى الجراح التي تتوسل إلينا حملها‬

‫لم يبق لها غير خمسين برجاً من الفرو‬

‫خمسين شرفة طليقة األجنحة‬

‫خمسين خادماً أشقر كخمسين نم اًر‬

‫خمسين بئ أر بال قاع لخمسين نجماً بال سماء‬

‫الم ِرح أيها الهش‬


‫أوه أيها َ‬
‫ربما لم يبق لها سوانا‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪38‬‬
‫الحقيقة األكيدة‬

‫إلى إقبال‬

‫أكلمك ألن الليل‬

‫ال يهبط البتة من تلقاء نفسه‬

‫أكلمك ألن الليل‬

‫ملكية ضائعة‬

‫نقود يجيء بها الحل‬

‫األرجوحة الخائبة‬

‫للبهلوان المزخرف الثوب‬

‫شيء طائش عند قدميك العاقلتين‬

‫زينة تلك العابرة التي تقتادها الشرطة‬

‫فم يتوجب إطعامه‬

‫فم يتوجب حفره بصرخة‬

‫البوتقة السوداء التي تتمرد فيها ألوان الرسام‬

‫أكلمك ألن الليل‬

‫يلمع من ألف شرفة مجهولة‬

‫بعضها على مدخل‬

‫جميع الممتلكات الممكنة‬

‫وبعضها اآلخر وراءها‬

‫أكلمك ألن الليل‬

‫قد خلق من فرط األحالم‬

‫وليس فقط لكي نحلم‬

‫أكلمك من كابينة صماء تجاه كل الرسائل‬

‫الشائخ بين عريشة النبات المتسلق والندى‬


‫ُ‬ ‫المستَقبِ ُل‬

‫يجرجر وجوداً أكثر روعة في غموضه من الكالم‬


‫‪39‬‬
‫أكلمك ألن الليل هو في آن واحد‬

‫بوتقة التعزيمات السوداء‬

‫وزينة تلك المرأة التي يقتادونها دون طائل‬

‫وتلك الكابينة – الشبح الجانحة في الغابة‬

‫وشيء ما أكثر من الوقت المباح التحايل عليه‬

‫ومن الصمت المتاح للبيع‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪40‬‬
‫ِ‬
‫بفار ِ‬
‫ق وجه‬

‫أيتها المرأة التي بال حكمة‬

‫أيتها المرأة المستندة إلى الريح‬

‫المستندة إلى شقاء أكثر مما يمكن أن تحتمله‬

‫الموسيقى الثابتة التي يصعد فيها تنفس األحالم‬

‫المتوسل‪.‬‬

‫أيتها المرأة التي بال شائبة‬

‫إن النداءات التلغرافية‬

‫سوف تبحث عنك في صميم أروقة الدم‬

‫حيث تذوب البراءة في يديك‬

‫منذ نهاية المشهد األول‬

‫أيتها المرأة ذات الصمت الذي بال طائل‬

‫ذات االرتجاج الداخلي المديد‬

‫حيث يزول دنس القلوب الغجري‬

‫أيتها المرأة ذات األثر النيلي‬

‫األصعب على التعرف عليها مما على تحيتها‬

‫إن المرايا تسخر سخرية محزنة هذا الصباح‬

‫لكن الكالم يدور عنك في لغة من ال يملكون شيئاً‬

‫الكالم يدور عنك في لغة الصبا الصباحية‬

‫الكالم يدور عنك في لغة الدغل األخوية‬

‫الكالم يدور عنك في لغة العواصم المتحجرة‬

‫حيث االبتسامات باهلة الثمن‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪41‬‬
‫في البعيد‬

‫في البعيد‬

‫في المكان‬

‫في المكان المسمى مكان الرهان‬

‫هناك حيث نحتقر النلام‬

‫هناك حيث نحتقر األسرار الميتافيزيقية‬

‫هناك حيث ال يتكيف أحد مع شيء‪.‬‬

‫في مكان الطفل المتأرجح‬

‫الذي ال تحسن النباتات المتسلقة رعايته‬

‫األعشاب وال‬
‫ُ‬ ‫وال‬

‫األشياء المجهولةُ‬
‫ُ‬
‫‪ -‬طفت بالعالم‪ ،‬قال كافر كانت تتدحرج‬

‫تحته األحجار‪-‬‬

‫رأيت مدناً بال أسنان وراق لي‬

‫أن أجد نفسي بينكم‪ ،‬بعد كل هذه األهوال‪،‬‬

‫أوه‪ ،‬أيها البشر الذين ليست لهم‬

‫أية غاية‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪42‬‬
‫كان ذلك زم ًنا آخر‬

‫كنا جالسين تحت ساعة دون غيوم‬

‫كما لو كنا عند نبع الزمن القصير‬

‫كانت الفتاة الصغيرة األقرب تتحدث بالسنسكريتية‬

‫وسألها أحدهم عن طريق ال وجود له‪.‬‬

‫وراءنا قرية‬

‫ذات عيون يوسع حدقاتها وقت الفراغ‪.‬‬

‫كنا نشاغب مداعبات‬

‫بقيت طويالً على نوافذ المطر الزجاجية‬

‫وكان الصدأ يبلغ أطراف أصابعنا‪.‬‬

‫أطفاالً يجيئون بعد فوات األوان وعاطلين‬

‫ال تصلح وجوههم ألحد‬

‫نترك العشب ينمو حولنا‬

‫كما لو كان حاجة آثمة‬

‫ونحلم باالختفاء‬

‫مستترين أخي اًر بهذه النزوة طويلة األهداب‬

‫مستثنين من كل حضور ومن كل مكان‪.‬‬

‫كان ذلك يوماً موشى بالنسيان‬

‫ككنيسة باروكية‬

‫يوماً ال يملك القدرة على االستيقال‬

‫وعلى أن يرانا ونحن في الشحوب‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪43‬‬
44
‫عودة اآللهة‬

‫نهود بازغة من عيد شفوي‬

‫ومختومة بشمع الذكرى‬

‫فتاة تبتسم لبشرتها‬

‫في الريح العارية لألرياف‬

‫ثم تهبط يداها بامتداد جسمها‬

‫مثلما تهبط مرساة سفينة‬

‫تعاد إلى اليابسة‪.‬‬

‫ٍ‬
‫لفصول معيشة‬ ‫كالبريق الزائل‬

‫تنكفئ على ألم‬

‫أكثر سرية من أي موت‬

‫على جذع وحدتها الصدفي‬

‫على رائحة الحب المباغتة‬

‫في درج للرذاذ‬

‫وبينما أصابعها تحت اختبار الدف‬

‫وقوامها على منحدر الطوق‬

‫تنوء باإلرهاق في الماء الضحل‬

‫لبعدها الخاص‬

‫كأذى سحر أسيء استجالبه‬

‫لكن ما من إفاقة‬

‫ما من إفاقة ممكنة‬

‫دون عودة اآللهة‬

‫التي ال تستحق أي إيمان‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬


‫‪45‬‬
‫الفخ‬

‫القَ َد ُر فهدةٌ ساخنة‬

‫مس فيها‬
‫واللحلة التي ُن ُّ‬

‫تكتسب – في السخرية الليلية العليمة –‬

‫مذاق عربدة ساراسينية‬

‫ثم ينبثق النور‬

‫وندرك أن ما هو جوهري‬

‫هو أن نحرص كل الحرص‬

‫على األشياء التي ما عدنا نشتهيها‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪46‬‬
‫الرجفة‬
‫ما على المرء وماله‬

‫ما عاد باإلمكان قراءتهما‬

‫في البلّورة المجنونة للمعابد‬

‫للحلة فقط‬

‫بعد جمود سنوات غير مجدية‬

‫تعلو قوة جديدة‬

‫في أعين من يقيمون القداس‬

‫لحلة ذعر ومخلب‬

‫البرَكة‬
‫زيادة في َ‬
‫على فراش الغابة العليمة‬

‫حيث يضيع ثمن كل إيماءة‬

‫إن رعب الغداة‬

‫يكفي لمواصلة الحلم‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪47‬‬
‫اإلنسان األخير‬

‫ولدنا لبرودة الدروع‬

‫ولدنا لكي نغالب مسار الميالد‬

‫ولكي نتعقب في باطن الكائنات‬

‫عالمات سوء النية‪.‬‬

‫قال لنا موالنا "دعوا الدم ُيغامر"‬

‫ولم نعرف قط‬

‫هل المغامرة أم الزلل هو الذي كان دربنا‪.‬‬

‫بعيد عن أن يفارقنا‬
‫ٌ‬
‫تسام الضجر الخالد من الحياة‬
‫ار ُ‬
‫الواقع تحت مالحقة ال تتوقف‬

‫يبث الفرقة‬
‫خفي ُ‬
‫َنفَ ٌس ٌ‬
‫في حركاتنا المنفصلة عن األرض‬

‫فيفرقنا كما تفرق العصافير‪.‬‬

‫يهتف أحدنا "إنها إرادة الغائبين"‬

‫وتحت كتفياتنا الصخرية‬

‫نستشف أننا عراة‬

‫نبقى‪ ،‬هذه المرة أيضاً‪ ،‬محاربين غير مرجحين‪...‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪48‬‬
‫بعيدا‬
‫ً‬
‫بعيداً‬

‫ض َّمةَ الشفاه‬
‫صوت َ‬
‫ٌ‬ ‫يحل‬

‫سهواً‬

‫مثلما يسقط المرُء في مطب‬

‫بعيداً‬

‫تمتد حبال الصقيع‬

‫يتم إلقاء اسم امرأة في عرض الحياة‬

‫العقد الجورديةُ‬
‫تشكل ُ‬

‫في اليد أطفاالً‬

‫بعيداً‬

‫اسم امرأة ال يتوافق معه أحد‬

‫شرفة بال أهمية‬

‫بيت َّ‬
‫مؤجل‬

‫ينسحب منه الكالم‬

‫بعيداً‬

‫يوجه المرء ضربة‬

‫بعيداً‬

‫يتردد المرء في توجيه ضربة ثانية‬

‫يتنكر المرء للرأس التي يحملها‬

‫بعيدًا‬

‫يتحرك اسم امرأة عبر الحقول‬

‫يستطيل اسم امرأة بين أشجار الخيزران‬

‫‪49‬‬
‫بينما تهبط من جديد‬

‫ُشَّراعةُ اختالس النلر‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪50‬‬
‫ما من دعابات فارغة‬

‫يحيا المرء على كره منه‬

‫في مخزن غالل يرتج كل ما فيه‬

‫حيث ال يعود باإلمكان قراءة المستقبل في الكفين‬

‫أحدا على‬
‫حيث تكف الخمر عن أن تضع ً‬
‫طريق االعترافات‬

‫حيث النافل والضروري‬

‫ال يعودان يتواجهان إالَّ تحت الشكلين‬

‫الباسمين بدرجة واحدة‬

‫لسيدة عذراء ولعاهرة‪.‬‬

‫يحيا المرء على كره منه‬

‫في سيناريو استوائي‬

‫لعبيد ولمتوحشين‬

‫يحفزهم ضد تشابك الغابة‬

‫سمسار أمريكي‬

‫ال يرتحل إالَّ وكوب اللبن‬

‫موضوع على حافة نافذته‪.‬‬

‫يحيا المرء على كره منه‬

‫في حدود الخلود‬

‫على بعد متساو من الصداقة والخيانة‬

‫في دائرة من الربات اإلغريقيات‬

‫الالتي تحمل عيونهن اآلن‬

‫نلرات حجرية قاسية‪.‬‬

‫يحيا المرء على كره منه‬

‫‪51‬‬
‫تحت حجاب اليفاعة‬

‫صاغ اًر عند قدمي تمثال‬

‫أمام وجه من الصلصال‬

‫أمام مؤامرات مرعبة تحاك مرة كل يومين‬

‫باسم الحريات األصعب على اإلمساك بناصيتها‪.‬‬

‫يحيا المرء على كره منه‬

‫في الضوء الذابل لنجوم الصباح‬

‫ألن الساعة تقترب‬

‫هشة على مينائها المبلول بالندى‬

‫في اللحلة التي سيكون كل منا فيها مرئي ًا‬

‫بالنلرة المجردة‪.‬‬

‫يحيا المرء على كره منه‬

‫في عالم ال جدوى البتة من تسميته‬

‫حيث بيرق الحياة‬

‫أقل قدرة من ذي قبل على حجب المتاجرة باإلنسان‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪52‬‬
‫من الرأس إلى السماء‬

‫مجرى الماء المستيقل أول الصباح‪،‬‬

‫وجد المشهد الطبيعي ممدداً إلى جواره‬

‫وحسب موتاً طبيعياً‬

‫مالم يكن غير شكل جديد‬

‫لمؤامرة الصمت‬

‫كانت أشجار الحديقة مغطاة‬

‫بمفارش بيضاء عليمة‬

‫ومن منحدر إلى آخر من منحدرات الجبال‬

‫كانت العناكب ترمي شباكها‬

‫الشبيهة بآالت موسيقية متنافرة‬

‫مجرى الماء المستيقل أول الصباح‬

‫رأى في هذه الصحراء التي ال مرآة لها‬

‫عدداً من المخلوقات الزاحفة‬

‫المنتصبة على ساللم تدعمها الريح‬

‫عدداً من المخلوقات‬

‫تختصر بأقصى جهدها‬

‫المسافات الضرورية إلى الحب‬

‫عدداً من المخلوقات‬

‫العارية عرياً ال مثيل له‬

‫من الرأس إلى السماء‬

‫‪53‬‬
‫عدداً من المخلوقات‬

‫التي سوف نسميها رصاصاتنا األخيرة‬

‫لكي يكون لنا الحق في إطالقها‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪54‬‬
‫مظهر هروب‬
‫هذا المساء سوف يلقون القبض على رجل في بيته‬

‫ساعة العشاء‬

‫هذا المساء سوف يقتادون رجالً إلى السجن‬

‫ولن يكون هناك ما يستلزم الدهشة‬

‫إذا ما اعتبره ما ال ندري أي وسط عائلي‬

‫هذا المساء سوف يغرونه بصورة الموت الملكية‬

‫لكن صورة الموت ال تغري‬

‫الرجل الذي ينتلر تجريمه بشيء‬

‫يتساءل‪:‬‬

‫هل يتبرم رعاة البقر؟‬

‫هل يتبرم رعاة البقر قدر تبرمي؟‬

‫ورعاة البقر ذوو الحبل األشيب‬

‫يتمددون على السهل وأعينهم قريبة تماماً من السماء‬

‫ودون أن تواتيهم القدرة على الحلم‬

‫يتساءلون ما إذا كان البحارة مع من معهم من شذاذ اآلفاق‬

‫يحملون صخب التبرم ذاته في قعر رؤوسهم‬

‫وال يجيب البحارة‬

‫ألنهم جد منهمكين في حساب أمواج البحر‬

‫البحارة يحسبون األمواج دون أن يسمحوا ألنفسهم‬

‫بأن تلهيهم الحكايات القذرة التي وشمت على جلودهم يوم‬

‫دعوتهم‬

‫يعطون األمواج درجات بحسب ما إذا كانت قصيرة هزيلة‬

‫منحرفة أم مجرد قاتلة‬

‫وهذا الحساب الورع ال يدع لهم غير وقت لألسف على عدد من‬

‫حاالت الغرق التي لم تقع في عرض الكاب هورن‬

‫لكن ما لم يكن لدى البحارة وقت للتفكير فيه‬

‫‪55‬‬
‫تبصقه الحيتان على مستوى المنلار‬

‫وتتثاءبه الصبايا من وسط أفخاذهن‬

‫ويعلنه الوكالء التجاريون أمام شوارب رجال الجمارك‬

‫ويتعلمه التالميذ على المناضد التي تموت عليها طفولتهم‬

‫وتضعه الشعوب عند أقدام جالديها‬

‫‪" -‬أعبر لكم يا سيدي‬

‫عن عليم تبرمي"‬

‫الرجل في سجنه يقلم ألافره بنعومة‬

‫بينما في الخارج حشد مجنون‬

‫ينتلر مراوغاً ما لن يكون غير ملهر هروب‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪56‬‬
‫ِ‬
‫فيك‬

‫ِ‬
‫فيك‬

‫يسكن كسلي‬

‫يا بالدي الكسولة العليمة‬

‫مثل ثعبان‬

‫في جذع شجرة مجوف‬

‫ِ‬
‫فيك‬

‫تدور عجلة الماضي نافذةُ الصبر‬

‫تحدقين في البعيد والقريب‬

‫بنلرة محايدة‬

‫الزَبدية‬
‫والفنارات ترفع تنورتها َ‬
‫كي تنطفئ في أحضان البحر‬

‫بال رقباء‬

‫ِ‬
‫فيك‬

‫ب‬
‫الح ُج َ‬
‫األخرق ُ‬
‫ُ‬ ‫يستنطق‬
‫ِ‬
‫فيك‬

‫يتجدد النفي الطويل لقُبلة‬

‫ِ‬
‫فيك‬

‫أكون في النهاية‬

‫تحت رحمة نفسي‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪57‬‬
‫عن تيمة أساسية لدى رمسيس يونان‬

‫حين ينغرز الخنجر غائ اًر في الجسد كما ينغرز في غمده الطبيعي المعتاد‪ ،‬فمن األفضل تركه حيث هو ال نزعه‪ .‬تركه حيث‬
‫هو يعني ترقب الموت‪ .‬أما نزعه فيعني الموت‪.‬‬

‫الرسم ضرب من ضروب الرمي بالقوس‪ ،‬حيث ينطلق السهم مغمض العينين‪.‬‬

‫هل البد حقاً أن ندوم حتى نكون؟ إن التقاط صورة خاطفة ألحد الفراعنة معناه إعداده لسأم الغداة‪.‬‬

‫االرتجاج هو صيغة المصدر في اللغة التصويرية‪.‬‬

‫القوة وحدها يعيل صبرها‪ .‬أما الوعي فيستنزف‪ .‬إنه فأر مكتنز‪.‬‬

‫االفتراق البائن يكمن في الالعودة‪ ،‬أياً كانت الذريعة‪ ،‬إلى الوضع األول‪.‬‬

‫امرأة محنية اللهر تفقد حتى فكرة الصراخ‪ .‬نافخ زجاج استل منها أكسجينها ليصوغها حية في نشوتها‪ .‬إنها تريد اإلبقاء على‬
‫ما يخترقها وما تبقي عليه هو الحرب‪.‬‬

‫بوصلة الشهوة تثور‪ .‬إبرتها نار متقدة‪.‬‬

‫ال أحد يستطيع اختزال صورة تكبر ألن الدماغ ُك َّوة‪ .‬هنا‪ ،‬ال مجال لإلختفاء‪ .‬لن يكون لذلك معنى‪ .‬يرتد المرء على وجه الليل‬
‫ارتداد كرة على مضرب‪.‬‬

‫كوكبة من النجوم تتثاءب‪ .‬إنها القيلولة العنيفة للمادة التي تحكم علينا بالسهاد‪.‬‬

‫الذين في الخارج يدركون اآلن أن المعرفة مغلقة‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪58‬‬
‫تحية لرسم رمسيس يونان‬

‫منحنيات خطوط ملحفة‬

‫دعوة الزبة إلى العذاب‬

‫لن يتبدل مشهد الد ارما أبداً‬

‫بعد‬
‫وهذا بالكاد إن انتلره المرُء ُ‬
‫هذه الباقة من أزهار النرجس‬

‫هذه العالمة لألزمنة األكثر قتامة‬

‫والتي لوالها الختُزل ابتزاز الليل المحتوم‬

‫إلى تجارة أفواه مهزومة‬

‫أفواه غير مؤهلة للتنبؤ‬

‫عالمة األزمنة األكثر قتامة‬

‫تسارع إلى شد السجاالت اإلنسانية إلى الوراء‬

‫حتى ال يتمكن أي تلميح من تشويش تيبس النساء االحتفالي‬

‫المنتصب وسط صمم القباب‬

‫البرادور ٍ‬
‫قاس لغراميات غير باقية‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪59‬‬
‫نثر‬

‫‪60‬‬
‫بالء السديم‬
‫(شذرات)‬

‫‪61‬‬
‫بالء السديم‬
‫(‪)1945-1939‬‬

‫الريب أن اإلنسان الذي يصمت هو وحده الذي ال يحتقر الكلمات البتة‪ .‬إن ليل الحارس تكليفات صارمة لكنه أيضاً تيقل‬
‫طويل لعنفوان الكائن‪ .‬ومن الممكن أن يلل صمته عالماً مقفالً إلى األبد‪ .‬ومن الممكن أيضاً أن يصبح بوتقة الحقيقة وأن تعيد هذه‬
‫األخيرة – مثلما يحدث ذلك في تراجيديات شكسبير – اكتشاف الصوت الالزم لتحية المصير بإسمه‪.‬‬

‫*‬

‫ألجل أي حصاد ندخر الماء؟ إننا نشيد سدوداً للصمت‪ ،‬آملين أنها سوف تتصدع يوماً ما وتجرفنا بعيداً‪ ،‬وأن الكالم المتجدد‪،‬‬
‫سوف يكون منذ تلك اللحلة ممتزجاً بالطحالب وبالطمي‪ ،‬وانه ليبدو لي‪ ،‬بالفعل‪ ،‬أننا نحس نوعاً من الشهوة الماكيافيلية إلى هذا‬
‫الكالم المتدافع بأكثر من الالزم والذي‪ ،‬دون مراعاة تجليات جديدة (سوف نضعها من ثم تحت رحمة مبدأ اإلغواء)‪ ،‬قد يرمز‪،‬‬
‫بعد إال من إفراط في التآكل‪.‬‬
‫بالنسبة لنا‪ ،‬إلى نهاية التالشي‪ .‬وهذا ألن الصوت يرق وال يتحين فرصته الثانية ُ‬
‫*‬

‫اإلنسان رغم كل‬


‫َ‬ ‫الفكر‬
‫عرى ُ‬ ‫تنكتب حياتنا بنقوش ال نكاد نلحلها نحن أنفسنا‪ ،‬بعيداً عن اإلشارات التي نعطيها لخآخرين‪ .‬لقد َّ‬
‫شيء‪ ،‬وها هو ذا جاهز للخنق‪ .‬ويبدو أنه ال مخرج هنا إال عبر تحويل الكائن إلى مادة من مواد العالم الفيزيقي‪ ،‬إلى عنصر ما‬
‫ودعُ في اإلبداعات التي نحبها‪ ،‬تركيز معين‪ ،‬يتميز باإلصرار‪ ،‬على البلّور أحياناً‪ ،‬على الكبريت‬
‫غريب عن طبيعته‪ .‬لماذا ال ُي َ‬
‫أحياناً‪ ،‬على الحجر أحياناً‪ ،‬إن كل شيء يحدث كما لو كان المعدن اإلنساني على وشك النفاد‪ ،‬كما لو كان قد تم بلوغ قعر‬
‫امحت‪ ،‬والممرات قد اكتشفت‪ ،‬كما لو كان لم يعد هناك‪ ،‬باختصار‪ ،‬غير النزوح من حالة اإلنسان‬
‫المنجم‪ ،‬كما لو كانت الكلمات قد ّ‬
‫بعد‪.‬‬
‫صوب مناطق لم تمس ُ‬
‫*‬

‫لوزان‬

‫‪ 4‬سبتمبر ‪1939‬‬

‫اليوم الثاني للحرب العالمية‬

‫كل شيء يرتد إلى الفوضى والى الليل األكثر تلويثاً‪ .‬إنه تشتت البعض‪ ،‬وتعبئة البعض اآلخر والتشوش التام للجميع‪ .‬وتولد‬
‫الكلمات العليمة من جديد بقدر ما يموت الناس من جديد‪ .‬لكن الكلمات العليمة الحقيقية تلل في الداخل‪ ،‬في حصون الذاكرة‬
‫المنيعة‪.‬‬

‫المكتَ َسَبةُ وقد أحدقت من كل حدب وصوب‪.‬‬


‫‪ ...‬تلك سرعة الموت ُ‬
‫*‬

‫لقد ُحفرت أنفاق في كل مكان تقريباً دون أن يكون الناس واثقين تماماً من الخروج من العتامة التي اختاروا ولوجها‪ .‬ففي‬
‫البداية‪ ،‬تكتفي األكذوبة بالتطاول على الحقيقة‪ .‬وما هو نسبي يمسي ملتبساً‪ .‬وتكون تلك مرحلة تشوش تكون فيها أكذوبتان عكازين‬

‫‪62‬‬
‫لحقيقة‪ .‬ومنذ تلك اللحلة‪ ،‬ال يبقى لألذكياء غير أن يكونوا واضحين‪ ،‬أي أن يصفوا كل األشياء بحيث ال يكون بوسعهم أن يتذوقوا‬
‫منها غير ثمالتها‪.‬‬

‫*‬

‫عندما نقف على نقاط االرتكاز األخيرة‪ ،‬فإننا نتلهى بالفرجة‪ .‬وهذه لعبة ختامها التثبت من مبدأ الشلل‪.‬‬

‫*‬

‫إن أرغنات البربرية تصحب في شوارعنا أيضاً موسيقى عبثية شبيهة بتبكيت الضمير‪.‬‬

‫*‬

‫يرى المرء من هؤالء الناس من‪ ،‬إذ يدخلون إلى مكان عام‪ ،‬يلبثون شاردي الفكر أمام أمثالهم ثم يسألون ماذا يكتبون‪ ،‬لكنهم ال‬
‫يجرؤون أبداً‪ ،‬حتى لحلة اإلغالق‪ ،‬على التوقيع على ذلك اإلعالن الطويل‪ ،‬ذلك اإلعالن عن عدم الصالحية للحياة‪.‬‬

‫*‬

‫إن ذاكرة إنسان البحر المتوسط تكشف شبابها‪ ،‬بالتحديد‪ ،‬في إلغاء هادئ للزمن‪.‬‬

‫ذلك هو ما يجعل من إنسان البحر المتوسط إنساناً يعرف العاطفة بشكل أسهل من معرفته للدهشة‪.‬‬

‫المسور مقصور على حس القياس‪ ،‬كما لو أنه غير محاط‬


‫َّ‬ ‫هذا البحر الداخلي مجال عقلي‪ .‬ولقد اعتقد الناس أن هذا المجال‬
‫بضفاف اإليمان‪ .‬كما لو أن هذا المجال المسحور لم يشهد سقوط قيصر وميالد بونابرت‪.‬‬

‫إنه صندوق بريد التاريخ الدائم الذي تجد الرسائل فيه دائماً ُمرسالً إليه وال تفقد شيئاً من معناها حتى لو ُسلِّمت بعد قرون من‬
‫التأخير‪.‬‬

‫لقد دخل البحر المتوسط‪ ،‬مرة والى األبد‪ ،‬في مدار اإلنسان وال مجال للخروج منه‪.‬‬

‫*‬

‫بجانب األبطال الذين يجهلون أنفسهم‪ ،‬يوجد األبطال الذين يجهلهم المرء‪ ،‬وعلى رأس هؤالء األخيرين‪ ،‬الصعلوك‪ .‬الصعلوك‬
‫المطلق والمتشدد المصر على أالَّ يستجيب لشيء من اإلغراءات النفعية التي تقف له بالمرصاد‪ .‬إن حس الواقع يختلط عنده بحس‬
‫المغامرة‪ ،‬حس مغامرة شخصية في كل لحلة‪ ،‬منسوجة من ابتسامات خفية لدى االنكسار المفاجئ لزجاج نافذة‪ ،‬من مشاريع‬
‫غرامية تتشكل بالصدفة شغفاً بوجوه أنثوية مبلولة بلالً رقيقاً بقطرات المطر‪ ...‬بقطرات المطر الذي ال يستطيع أحد القول في أية‬
‫لحلة بدأ يسقط‪.‬‬

‫*‬

‫أعتقد أننا نتجه نحو شعر رقيق وقوي‪ ،‬تدعمه تلك "الكآبة المبهمة الجسورة" التي يتحدث عنها إيف بونفوا كثي اًر والتي ليست‬
‫مفتاحاً لتفسير حاالت الندم بل نسقاً لما ال يمكن حله‪ ،‬أي للوسط المحدد المنيع والذي يغرق فيه الشاعر‪.‬‬

‫شعر دون تنازالت يجب أن نتوقع منه أن يدفع من يمسه إلى ممارسة أفضل للوحدة والى تأمل مشحون بالعواطف ليس في‬
‫ض لنا أن نكونه‪ ،‬شعر يتوجب عليه أخي اًر‪ ،‬وهذا هو الشيء الجوهري‪ ،‬أن يجعل إنسان الغد‬
‫ما نحن عليه‪ ،‬وانما أيضاً في ما ُيرفَ ُ‬
‫ُمتَطَلِّباً حيال اللغة‪.‬‬

‫*‬

‫‪63‬‬
‫إن كلمات تخدم كل القضايا‪ ،‬تكف بذلك عن خدمة أية قضية‪.‬‬

‫ويجب التقدم من اآلن فصاعداً‪ ،‬والكلمة عارية‪ ،‬كنصل قاطع‪.‬‬

‫*‬

‫إن اليقلة‪ ،‬وهي نوع من الميالد المحتدم‪ ،‬هي هلع منلم تماماً يبدأ من تلقاء نفسه‪.‬‬

‫*‬

‫ربما توافر حل لعذاباتنا‪ :‬أن نكتسب كطبيعة ثانية آلية ُدمى‪ ،‬إلى جانب‪ ،‬عالوة على ذلك‪ ،‬ما ال أدري من األشياء التي‬
‫تترنح‪ .‬هكذا يمكن للمرء أن يتجاوز‪ ،‬وهو ما يكاد ينوء بحمل هذا الدرع الصدفي الطفولي‪ ،‬مرحلة اليقلة‪ ،‬وأن يتحرك في الثابت‪،‬‬
‫وأن يتقدم في الحسرة‪.‬‬

‫*‬

‫من فرط كتابة‪" :‬العالمات المميزة‪ :‬العدم"‪ ،‬يتولى البيروقراطي إفهام من يسقط ضحية له ليس فقط أنه ليس هناك ما يميزه‪،‬‬
‫وانما‪ ،‬بادئ ذي بدء‪ ،‬أنه ليس من حقه أن يميز نفسه‪.‬‬

‫إن المرء ليتخيل بطاقة هوية يق أر فيها‪:‬‬

‫العالمات المميزة‪ :‬شخص خطر يتصور أن طفولته مستمرة‪.‬‬

‫*‬
‫إن كانت هناك في صميم األشياء كلها‪ ،‬عاطفة غير مسماة تكسر وجوهاً قُ ِّدر كل ما فيها لر ٍ‬
‫احة َملَكية وتُحولها إلى شلايا‬ ‫َ‬
‫من البلّور‪ ،‬فالبد لتلك العاطفة عاجالً أم آجالً من أن تنال إسماً‪ ،‬والسوريالية جديرة بأن تضم اسمها إليها‪.‬‬

‫*‬

‫أحب أن أتخيل في البيوت األكثر انكشافاً على الشاطئ طاوالت كبيرة فاتحة اللون ممدودة للرحالة المتأخرين الذين يعرف‬
‫المرء أنهم سوف يصلون‪ ،‬برغم كل شيء‪ ،‬على جناح العاصقة‪.‬‬

‫*‬

‫‪ ...‬من جهة أخرى‪ ،‬أقول لنفسي إنه لكي يكون هناك لقاء مع اآلخر‪ ،‬فإنه يجب أن يكون هناك‪ ،‬بداية‪ ،‬لقاء مع النفس‪ ...‬إن‬
‫كل لق اء هو من نوع ذلك التوسل‪ ،‬من نوع ذلك الرجاء الخفي الذي منحه لنا ذلك الجزء من كينونتنا والذي لم يفعل غير أن يقدم لنا‬
‫وعوداً‪ ،‬إلى هذا الحد من الغموض‪ ،‬والى هذا الحد من الرعونة‪ .‬واذا كان الموت يراوغنا‪ ،‬في هذه اللحلة‪ ،‬فإن الجهد الكبير بال‬
‫يشرف شرفاً عليماً بإيقافنا‪.‬‬
‫طائل هو الذي ُ‬
‫*‬

‫ُسلِّي نفسي بالتفكير بأن المرء يجد الراحة على الخشبة األثقل‪ .‬فالسعادة ليست تزحلقاً على العشب األملس‪ .‬والزاوية غير‬
‫أَ‬
‫المتوقعة هي التي تجعل الصخرة األخيرة تالمس الخالء األول‪.‬‬

‫طةُ بال توقف‪.‬‬


‫حب َ‬ ‫ِ‬
‫الم َ‬
‫دوي فيها دوياً قوياً فينا حدةُ العالم ُ‬
‫وهناك لحلة نكون فيها تلك الزاوية وتُ ِّ‬

‫*‬

‫‪64‬‬
‫يروق للناس وصف زماننا بأنه زمن كوارث‪ .‬وهذه الكلمة لها مأثرة مغازلة غرورنا‪ .‬فنحن نكتسب‪ ،‬من خاللها‪ ،‬ملهر شهود‬
‫أولي ينطبق على معلم التأمالت الثقافية المألوفة‬
‫ومحركين لكوارث عليمة في آن واحد‪ .‬وينبثق من هذا االشتهاء للكوارث درس ٌّ‬
‫لدينا‪ .‬إن قصر النلر العقلي بحاجة إلى منلورات علمى‪ .‬وهناك في الحياة‪ ،‬لعبة تعويضات خادعة بحيث إن فك اًر ضام اًر غالباً‬
‫ما ينتهي إلى التعلق بشكل ما من أشكال الضخامة اإليديولوجية‪.‬‬

‫وما أن يفقد ذكاؤنا جسارته‪ ،‬ما أن تبدو له الحقيقة عصية المنال‪ ،‬فإنه يصبح من المغري بالنسبة له أن ينصهر في ي ٍ‬
‫قين‬
‫جماعي وقوده ذروة دائمة من نوع ما‪ .‬والحال أنه فيما يتعلق باإلنسان‪ ،‬ليس من المبالغة القول بأن الصفر هو حاصل جمع ذاتين‪،‬‬
‫ٍّ‬
‫ويوم تكف البشرية عن أن تكون أكثر من ضمير واحد سيكون المرء محقاً في االعتقاد بأنها في سكرة الموت‪.‬‬

‫*‬

‫ليس االختالف هو الشكل األخير للترف وحسب‪ ،‬بل هو أيضاً الفرصة األخيرة لكي نحافل في أنفسنا على جانب الحكمة‬
‫بجانب الحماقة‪.‬‬

‫*‬

‫إنني أحفل تلك العبارة الصغيرة غير المهمة‪ ،‬وان كان بوسعها في الوقت نفسه أن تقود إلى إبادات مراوغة‪" :‬ليس ضرورياً أن‬
‫يواصل الحياة أولئك الذين ال يسعهم أو ال يريدون العيش هانئين"‪.‬‬

‫*‬

‫الموج يعلو حول من يمد يده إلى الفوضى‪.‬‬

‫*‬

‫ما يعتبره المرء اإلبداعات األأكثر تمثيالً لإلنسان‪ ،‬من كوليزيه إلى رامبو‪ ،‬هي بالقدر نفسه أنشوطات بالقياس إلى خنق مؤجل‬
‫إلى أجل غير مسمى‪ ،‬هي بالقدر نفسه إسهامات في تكثيف اللغز‪ .‬وحيثما ال يتكشف اللغز‪ ،‬يبدو لي أن من الواجب زيادة‬
‫ِ‬
‫أشكال سوء الفهم ممكن ًة معه‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫صبح جميعُ‬
‫بتفسير تُ ُ‬ ‫غموضه‪ ،‬مضاعفته‬

‫واذا كانت فكرة الرهان ليست غريبة عن تاريخ اإلنسان‪ ،‬فمن المناسب ببساطة إقرار أنه قد راهن لحساب سوء الفهم وضد‬
‫الوحدة‪.‬‬

‫*‬
‫ال ريب أن الشيء المهم هو الذود عن النفس ضد مختلف صيغ مجاوزة الذات‪ ،‬ضد الحلول الوقتية لذلك الذي ال ينشأ إالَّ‬
‫مما ال يمكن حله‪.‬‬

‫*‬

‫الكلمة ليس لها ثمن إال بمقدار الدالالت المتحداة التي تحملها في ذاتها‪ ،‬المتحداة دون واحدة هي األخيرة‪ ،‬والتي تسجل حرقها‬
‫الصغير على الجلد مثلما تُ َّ‬
‫سج ُل بصمةُ تحالف‪.‬‬

‫*‬

‫من كرومويل‪ ،‬هذه الفكرة المدهشة التي تشبه لياً معيناً للفكر الباطني‪" :‬ال أحد يصعد أعلى غير ذلك الذي ال يعرف إلى أين‬
‫يمضي"‪.‬‬

‫*‬
‫‪65‬‬
‫اص َل‪ ،‬على أن تُستعاد‪ ،‬على أن تكون موافقة لكل غاد‪ ،‬من خالل كل ما هو حي‪.‬‬ ‫يجب للقصيدة أن تكون قادرة على أن تُو َ‬
‫أما نحن فعلينا إطالة عمرها‪ ،‬وربما القضاء عليها‪ ،‬ليس فو اًر وال بصوت عال‪ .‬وانما يوماً ما‪ ،‬في الحلم أو في األعمال‪ ،‬هذا الجانب‬
‫أو ذاك وبطريقة ما‪ ،‬في اللحلة التي يتجنب فيها الشعر المكتبات التي لدينا أو التي َن ُكونها نحن‪.‬‬

‫*‬

‫ما أندر حاالت إمحاء الفن الصارخة إلى هذا الحد‪ ...‬إن الصورة تأخذ مكاناً في الحياة‪ .‬وأسلوب بناء اإليماءات يتكفل‬
‫بالباقي‪ ...‬وال يسلِّم البنيان أبداً بأنه ناجز‪ .‬فهو في كل يوم يحمل نافذة جديدة‪ .‬إن كل شيء يترنح بشكل مؤثر تحت رحمة ض ٍ‬
‫عف‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫ُ ُ‬
‫في النلر‪ .‬وانه ليجب المضي إلى نهاية هشاشة األشياء‪.‬‬

‫*‬

‫في حضور الفن فإن الوجود بأكمله هو الذي يتمايل تمايالً معيناً‪ ،‬شبيهاً بشراع في مهب الريح‪.‬‬

‫*‬

‫يذوب الحلم مثل قبضة من الثلج في راحة اليد‪ ،‬ويهتدي المرء إلى طريقه‪ ،‬مجرداً تماماً‪ ،‬على الدرب الذي يرد إلى الذات‪.‬‬

‫*‬

‫الكتابة أسلوب للحفال على الذات وللحفال وحسب‪ ،‬للحفال على أحالم بادية‪ ،‬وربما كانت فرصة لكي يبقى المرء نقياً‪ .‬أو أقل‬
‫تلوثاً‪.‬‬

‫*‬

‫بلى‪ ،‬إنني أحلم بتأبين مهيب لإلنسان ولتلاهره العاجز بالحياة‪ ،‬بتأبين تولد فيه من جديد وتعلو فيه أيضاً كلمة بوسويه‬
‫المهيبة‪ ،‬الكلمة المقفلة‪ ،‬المنفصلة عن أي ارتباط بالمعيش أو بما يعيش‪.‬‬

‫إنني أحلم بمتاحف عصية على أن تولج‪ ،‬يتوجب على كل من يقترب منها أن يقدم برهان رغبة طويلة ومتواصلة في الجمال‪.‬‬

‫*‬

‫ط ِارداً‪ ...‬غير حاسم بقدر ما نبدو نحن‬


‫خاصية لنور ممسوس أو ملموس عن بعد‪ .‬يسارع إلى التراجع لو تقدم المرء نحوه ُم َ‬
‫أنفسنا جد حاسمين‪ ،‬والحال أنه النور الوحيد الممكن من أجل بداية‪ ،‬والبداية الوحيدة الممكنة من أجل نهوض اإلنسان من كبواتنا‪.‬‬

‫‪...‬على معرفة مستكينة نفتح أعيننا وعلى عرينا يستند إدراك عالم صار في نهاية األمر بال طائل‪ .‬الصياد يرتقي فروع‬
‫الشجر‪ ،‬والشاعر يتنازل عن عرقه لشجرة األوركيد‪ .‬شارب النمر مبلل بالندى‪ ،‬كشوارب سكارى ال مأوى لهم‪.‬‬

‫إن الشيء المهم هو تعلم كيفية خلط العالمات‪ ،‬كيفية نزع إمكانية التنبؤ بالمستقبل‪.‬‬

‫*‬

‫تنبسط راحة اليد حتى يتسنى مرور شعاع من الكسل‪.‬‬

‫*‬

‫يتميز الحجر على اإلنسان بأنه يسقط عمودياً‪ ،‬وربما كان من المناسب االعتراف بأن تعاساتنا قد بدأت بهذا الرفض األول‬
‫ٍ‬
‫تخليات ال تنتهي‪.‬‬ ‫والذي ال يوجد فيه من الشجاعة غير الملهر‪ ،‬ألن قول "ال" في تلك اللحلة‪ ،‬هو في الوقت نفسه انقطاعٌ إلى‬

‫*‬
‫‪66‬‬
‫اإلنسان يجادل‪ ،‬والجدل مساومة‪ ،‬وهكذا يولد التاريخ‪ ،‬ذلك الماء الذي ال ينشد غير الركود‪ ،‬وهكذا تتأسس‪ ،‬حتى النفس‬
‫األخير‪ ،‬مساومة طويلة وغادرة ال يستطيع فيها اإلنسان‪ ،‬المحاصر بين بروميثيوس وسيزيف – السجانين المتطرفين لحماساته‪ -‬أن‬
‫يمارس أو أن ُيذكي رغبته إالَّ لكي يتمكن فور ذلك على أحسن نحو من نفيها أو خنقها بيديه هو‪ .‬الشك أنه ُي َمِّني نفسه أحياناً‬
‫بابتكار عالجات جميلة‪ ،‬لكن الرياء هنا يكون صارخاً‪ ،‬ألن ما يتوخاه ليس عالجات‪ .‬فبعدة ألواح خشبية للنجاة ينتهي المرء دائماً‬
‫بصنع تابوت‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪67‬‬
‫مقتطف من مقال حول انتحار رونيه كريفيل‬

‫تحاشي التناقضات‪ ،‬مواجهة التناقضات دون التغلب عليها‪ ،‬التغلب على التناقضات دون إزالتها‪ ،‬تلك هي المواقف الثالثة‬
‫الكبرى ا لتي يصطف حيالها جميع مثقفي عصرنا متمايزين فيما بينهم‪ :‬أخذ أجازة من العالم‪ ،‬إدراك العالم‪ ،‬امتالك العالم‪ .‬وأية‬
‫مرحلة ال تستبعد المرحلتين األخريين‪ ،‬فاالنتقال مسموح به‪ ،‬وضروري‪ ،‬ولكن في اتجاه واحد فقط‪ .‬ذهاب دون إياب ‪ ...‬ما أكثر‬
‫الكتاب الذين يؤثرون الرحيل على إفساد الروح وعلى تعفين الروح للروح‪ .‬لقد كان كريفيل واحداً من هؤالء الكتاب‪.‬‬

‫‪1935‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫شذرتان حول ماهية اإلبداع األدبي‬

‫العمل األدبي ليس أفيشاً انتخابياً‪ .‬هذا ال يعني أن األدب [‪ ]...‬يجب أن يكون غير سياسي‪ .‬ليس هناك ما هو أقل صدقاً‪ .‬إن‬
‫ما ي جب إب ارزه هو أن األدب يحتفل بحق عقد صلة مع جميع عناصر الحياة‪ ،‬ومن ثم مع السياسة من حيث هي أحد هذه‬
‫العناصر‪ ،‬شأنها شأن الرياضة‪ ،‬أو العلم أو الصناعة‪ .‬لكن األحوال تسوء حين ال يلتفت الكاتب إلى السياسة وال يرصد الحياة‬
‫االجتماعية إالَّ لحساب حزب أو برنامج‪ .‬إن ما يقوم به عندئذ هو الدعاية‪ .‬ومن الممكن أن يقوم بذلك على نحو رائع أو بصورة‬
‫ِّم منها المجتمع والسياسة واإلنسان تقييماً ح اًر‪.‬‬
‫بائسة‪ .‬وليس لذلك أهمية تذكر‪ .‬فمن المفروض أن الكاتب يربض على قمة ُيقَي ُ‬
‫والحال أن الداعية ال يحكم من أعلى إلى أسفل‪ ،‬وانما من أسفل إلى أعلى؛ فهو في السياسة ال يرى سوى الحزب‪ ،‬وفي اإلنسان ال‬
‫يرى سوى المتحزب‪ .‬وهو يلل في جميع األحوال أسفل اإلنسان‪ .‬هذا هو ما يحدث مع أراجون وال نملك سوى األسف لذلك‪.‬‬

‫من مقال "أجراس بال ألراجون"‬

‫مجلة "أنيفور"‪ ،‬عدد فبراير ‪1935‬‬

‫ربما جاز االعتراف بأن الشعر يمثل تجربة المصالحة الوحيدة المحاولة عبر القرون‪ .‬ففيه تكف الكلمة عن أن ترتد ضد‬
‫اإلنسان‪ .‬وانما‪ ،‬على العكس من ذلك‪ ،‬تزيده رحابة‪ ،‬تنتشله من هزيمته اليومية‪ .‬الكلمة‪ ،‬شأنها في ذلك شأن األشياء المحسوسة‬

‫‪68‬‬
‫والحقائق الواقعية الحسية تقريباً‪ ،‬تساعد اإلنسان على أن يعي اتساع رغباته‪ ،‬وكثمن شيطاني يتعين عليه سداده لقاء هذا االنتصار‬
‫األخير – تساعده بأن تعرض عليه بال توقف أكثر هذه الرغبات غواية‪.‬‬

‫وبفضل هذه المصالحة يمكن للشاعر أن ينلر إلى ما وراء المرئي‪ ،‬أن يهدد بشكل ال يكل أبعاد حياته هو‪ ،‬أن يعرض صورة‬
‫قصره على الشاشة الرديئة لخآخرين‪ ،‬جا اًر إياهم صوب ما يحسن الرغبة فيه‪ ،‬مايحسن الحلم به‪ ،‬ما يحسن امتالكه أو نسفه‬
‫بالديناميت‪ ،‬ما يحسن سداده للحياة – فالشاعر‪ ،‬شأنه في ذلك شأن الساحر الذي تساعد تعاويذه على استثارة التجليات المنشودة‪،‬‬
‫يسمي الكائنات واألشياء التي ينادي في آن واحد حضورها ونفورها على األرض‪ .‬وهو يسميها بشكل خاص‪ ،‬بانفجار يمضي من‬
‫الرقة إلى العنف‪ ،‬وهو ما يشكل التأكيد الشعري‪.‬‬

‫‪1944‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪69‬‬
‫ِ‬
‫بوصفه أسلوب حياة ]‬ ‫[ الفن‬

‫الفن في نلرنا ال يتألف من صور أو من أشكال منحوتة – فهو يمثل ما هو أكثر من ذلك بكثير‪ ،‬يمثل شيئاً آخر تماماً‪.‬‬
‫فوراء جميع الترجمات الممكنة للحياة‪ ،‬جميع األشكال المؤقتة أو األبدية للشعور‪ ،‬جميع الحاالت واإلدراكات‪ ،‬يمثل أسلوب حياة‪،‬‬
‫موقفاً هو في ٍ‬
‫آن واحد حيوي وشعوري وواع‪ .‬فالشيء المهم بالدرجة األولى عند اإلنسان هو نوع من األناقة األخالقية المعنوية‬
‫يصبح الفن بالنسبة له انطالقاً منها متاحاً بقدر ما يكون هو نفسه قد اجتاز عتبته‪ .‬والحال أن هذه األناقة األخالقية المعنوية التي‬
‫يؤكد الفرد بها نفسه في وجه قوى الفساد واإلذالل‪ ،‬هي التي تجد نفسها في اللحلة الحاضرة معرضةً للشجب من جانب بعض نلم‬
‫الحكم العازمة على اختزال الروح إلى أكثر األوضاع بؤساً‪ .‬وهذا البؤس الروحي الذي ال سابق له ال يتماشى إالَّ بشكل بالغ مع‬
‫البؤس المادي الذي ينزل بشعوب برمتها محرومة من اللبن والزبد لكنها متخمةٌ بالمدافع‪ .‬فما الذي يجري اآلن هو تجريد الذكاء من‬
‫جميع حقوقه؛ وحرمان اإلنسان من امتالك زمام مصيره‪ .‬وأولئك الذين يهاجمون بحماقة لوحات رينوار أو كوكوشكا ال يمارسون‬
‫ٍ‬
‫بصوت مرتفع‬ ‫ٍ‬
‫أسلوب في فهم الحياة وفي إفهام الناس لها‪ .‬لم يعد من حق أحد أن يحلم‬ ‫ٍ‬
‫أسلوب في الرسم بل ضد‬ ‫ضراوتهم ضد‬
‫ايد غربة‪ ،‬إرادة تغيير الوطن إلى األبد‪ .‬وفي‬ ‫ٍ‬
‫بشكل عام ) إرادة التحرر من واق ٍع يتز ُ‬ ‫ألن الحلم قد يعني لدى الفنان ( وهو يعني‬
‫ات كبرى تتصل باالنضباط االجتماعي‪.‬‬ ‫مرحلة العزلة الثقافية التي أصبحنا فيها في العالم‪ ،‬يجري النهي عن استيراد الحلم العتبار ٍ‬
‫محكوم عليه بالموت‪ ...‬ونحن نعتقد أن هناك مجاالً‬
‫ٌ‬ ‫ومن شاجال البعيد إلى سلفادور دالي‪ ،‬فإن كل نصيب الحلم في الرسم الحديث‬
‫للرد على هذا التدجين القذر للفن‪ .‬نحن نعتقد أن هناك مجاالً لكي نحقق بأسرع ما يمكن اتحاد ال ُكتاب والفنانين حول رجال وأعمال‬
‫ٍ‬
‫بشكل واسع بحيث إنه‬ ‫تبدو غير قابلة للتوظيف لحساب مجتمعات بالية‪ .‬وهذه األعمال وهؤالء الرجال موجودون‪ .‬وهم موجودون‬
‫ات بأكملها من وليفة سوى أن تحاصرهم وتحشد ضدهم‪ ،‬بالتناوب‪ ،‬الصمت واالفتراء واإلرهاب‪ .‬إنهم‬ ‫بلدان عديدة ليس إلدار ٍ‬
‫في ٍ‬
‫ٍ‬
‫مسكون باألشباح الدموية‪ ،‬الكائنات الوحيدة الحية حياةً كاملة‪.‬‬ ‫ليسوا موجودين وحسب‪ ،‬بل إنهم يللون في ٍ‬
‫عالم‬
‫ٍ‬
‫بشيء يوجد إجماعٌ على‬ ‫وانها لواحدةٌ من أقوى مفارقات الزمن الحاضر أن يتعين علينا المطالبة بالحرية الفنية‪ ،‬أي‬
‫اعتباره طبيعياً إن لم يكن مقدساً‪ .‬وهي مفارقةٌ يمكن توضيحها بسهولة مع ذلك ألنه بهذه الحرية نفسها يملك الفن إمكانية أن يكون‬
‫مصدر خطر على مجتمع محدد‪ .‬ألنه يستخدم هذه الحرية نفسها بالضرورة استخداماً ناقداً أكثر بقدر ما أن النلم االجتماعية أقل‬
‫استعداداً للتسامح معه‪.‬‬

‫‪1939‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪70‬‬
‫المثقف في المعركة‬

‫(مداخلة في الندوة التي أقامتها‬

‫"جماعة المحاولين" يوم ‪ 6‬أبريل ‪)1939‬‬

‫األصدقاء األعزاء‪،‬‬

‫على الرغم من أسفي لعدم تمكني من التواجد بينكم هذا المساء‪ ،‬فإنني حريص على أن أوضح بإيجاز بالغ تصوري عن‬
‫المسألة المهمة بين جميع المسائل‪ ،‬والتي تشكل موضوع نقاشكم‪ .‬يروق للمرء تصوير الشعراء والكتاب والفنانين األكثر تقدماً في‬
‫زماننا على أنهم مواصلون للحركة الرومانسية‪ .‬على أن تحليالً نزيهاً وصارماً للعالقات القائمة بين المحتوى األدبي للقرن التاسع‬
‫عشر والمحتوى األدبي لعصرنا من شأنه أن يجبرنا على االعتراف بوجود قطيعة في االستم اررية بين االثنين‪ .‬فاألدب الرومانسي‬
‫ينطوي على التأ مل الدائم من جانب ذات معينة للدراما الخاصة بها‪ .‬فكل واحد يستغرق في أحزانه وتمزقاته العميقة‪ .‬إن أبسط‬
‫ارتباك أخالقي وأبسط مأزق مؤثر يصبحان قصيدة مثيرة للتوجع أو دراما من خمسة فصول ال يحل شيء وال يتم إنقاذ شيء في‬
‫ختامها‪ .‬إن الرومانسية عاطفية وذاتية‪ .‬فهي عاطفي ة بمعنى أن العاطفة تتطور عندها في حرية تامة دون أن تكف البتة عن هدهدة‬
‫نفسها بأشكالها التي ال حصر لها‪ ،‬ودون أن تتطلب شيئاً غير مرآة يطيل المرء فيها النلر إلى نفسه‪ ،‬أو ال يرى غير نفسه‪ .‬وهي‬
‫ذاتية بمعنى أن الذات تعتبر الواقع الوحيد الجدير بالوجود – بمعنى أن الذات ال تهتم بالعالم بقدر ما أن العالم ال يهتم بها‪ .‬وهكذا‬
‫يصبح اإلنسان وحيداً على األرض‪ .‬واألسوأ من ذلك‪ ،‬أنه يصبح وحيداً دون أرض‪.‬‬

‫ويبدو اليوم‪ ،‬ومنذ عشر سنوات‪ ،‬وذلك بفضل الدراسات النقدية التي قام بها رجال مثل أندريه بريتون وجاستون باشالر‬
‫وهربرت ريد‪ ،‬أن األدب والفن المعاصرين قد نبذا العاطفة لحساب االشتهاء – الذات لحساب الموضوع‪ .‬إنهما أدب وفن اشتهائيان‬
‫وموضوعيان‪ .‬ويتطلب االشتهاء إشباعاً فورياً وفائ اًر‪ .‬وهذا اإلشباع ال يمكن العثور عليه إال في الموضوع وعن طريق الموضوع‪.‬‬
‫واسمحوا لي بأن أستشهد مرة أخرى بما قاله نيكوالس كاالس‪" :‬إن الصوت العاطفي هو من الزاوية االجتماعية صوت محافل‪ ،‬ألنه‬
‫يكيف اإلنسان مع الوضع القائم‪ ،‬أما الصوت االشتهائي فهو وحده الصوت الثوري‪ .‬إن العاطفة بالقياس إلى االشتهاء هي انحراف‬
‫للرغبة لكن هدفنا ال يتمثل في حرف الرغبة بل في تحويل المجتمع من أجل تكييفه لرغبتنا ‪ ...‬إن الفن ليس عاطفياً البتة‪ ،‬ليس‬
‫أخالقياً البتة‪ ،‬إنه ضد النلام القائم‪ ،‬ضد الطبقة السائدة‪ ،‬ضد كل اتباعية‪ ،‬ضد الكهنة من كل نوع ومن كل حدب وصوب‪،‬‬
‫والبارثينون (هيكل الربة أثينا في مدينة أثينا) يثبت ذلك‪ :‬إن الفن معمل بارود"‪.‬‬

‫ويجري عموماً اتهام الكتاب والفنانين المعاصرين بالكلبية وبانعدام األخالق وذلك لمجرد أن الغالبية من بينهم يمارسون‬
‫ويوصون بالبحث المنهجي عن اللذة وأنه تنبثق من أعمالهم بوقاحة أخالق ال عالقة لها البتة باألعراف المجازة تحت هذا اإلسم –‬
‫هي أخالق الرغبة‪ .‬إن اإلنسان‪ ،‬والفنانين بشكل أدق‪ ،‬يخلقون ألنفسهم في كل لحلة موضوعات جديدة لإلشباع‪ .‬وحتى من الزاوية‬
‫األكثر محدودية‪ ،‬الزاوية التجارية‪ ،‬يمكننا رصد تكاثر مريع لعدد األشياء المطروحة لالستخدام اليومي من جانب اإلنسان‪ .‬وفي‬
‫باريس‪ ،‬وفي نيويورك‪ ،‬وفي لندن‪ ،‬نلمت معارض ال تضم غير أشياء مصنفة فنياً تحت ما ال حصر له من العناوين‪ .‬وبطبيعة‬
‫الحال‪ ،‬فإن هذا االندفاع الفني نحو الموضوع‪ ،‬الغني باالشتهاءات وباالكتشافات‪ ،‬إنما يتم في اتجاه غير نفعي‪ .‬إال أنه يدل كذلك‬
‫على اتجاه مشترك لدى جميع ممثلي الفكر الحديث تقريباً‪ .‬وهو اتجاه عودة إلى الواقع ليس بوصفه شيئاً ناج اًز وجامداً بل بوصفه‪،‬‬
‫على العكس من ذلك‪ ،‬شيئاً دينامياً قابالً للتغيير وقابالً للتحسين‪ .‬ودون إدراك بالغ‪ ،‬فإن المثقف والفنان يجدان نفسيهما بذلك وسط‬

‫‪71‬‬
‫معركة اجتماعية سافرة‪ .‬فالمسألة التي تطرحها الحياة عليهما هي تحويل جميع مصادر البؤس إلى مصادر للمباهج‪ .‬ولم يعد‬
‫بوسعهما صرف النلر عن ذلك‪ .‬فمن اآلن فصاعداً‪ ،‬عن طريق الراديو والسينما والصحف – وهي وسائل لالتصال البشري رائعة‬
‫وغير متوقعة – تصل إليهما فو اًر أبعد عالمات الشقاء ويصبح عليهما الرد عليها‪ .‬وفي كتابه "األمل"‪ ،‬فإن أندريه مالرو‪ ،‬وهو‬
‫يتحدث عن ملحمة مدريد‪ ،‬يوضح ألحد شخصياته‪" :‬لقد عاش هؤالء الناس على األقل يوماً وفقاً لقلبهم"‪ .‬إن التعارض الشائخ‬
‫والكاذب بين الحلم والفعل قد طال أكثر من الالزم‪ .‬وعلى الفنانين والكتاب أن يناضلوا من أجل أن يكسب البشر دائماً حق الحياة‬
‫وفقاً لقلبهم‪.‬‬
‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪72‬‬
‫وعي ُم ْنتَ ِه ٍك لل ُم َح َّرمات‬
‫من أجل ٍ‬
‫هل أنت واقعي؟ هل أنت مستعد ألن تصبح واقعياً؟ في حالة اإلجابة باإليجاب‪ ،‬سوف يعتنون بأمرك‪ .‬وسوف يتكرم المستقبل‬
‫باالبتسام لك‪ .‬وأياً كان ما تفعل وفي أية روح تفعله‪ ،‬سوف يبقى لك دائماً وجه احتياطي‪ ،‬بوابة يمكن اجتيازها ال تزال‪ ،‬كلمات‬
‫بارعة أو بطولية للنجاة في حالة التعرض للغرق‪ ،‬إمكانيات جدية – إن كان غشك على مستوى طموحك! – ألن تضع يدك يوماً ما‬
‫على واحدة من خزائن المصير الثالث‪ :‬المجد والملكية والسلطة‪ .‬أو على الخزائن الثالث مجتمعة إن كنت من الدهاء بما يكفي‬
‫لكي تبدو وكأنك ال تولي أهمية ألية من أدوات السيطرة الرهيبة هذه‪ .‬وهذا هو ما يفعله في الواقع بعض كبار الزهاد في زماننا‬
‫والذين ال يصمدون‪ ،‬عندما يكونون متأكدين من أنهم قد أقنعوا الجميع بنزاهتهم األخالقية السامية‪ ،‬لشهوة إضافة زخرفة بسيطة هنا‬
‫اقعي الزهد‪ ،‬حتى عندما ُيضبط متلبساً بارتكاب جريمة زخرفة صارخة‪ ،‬سوف يعطي لفعله‬
‫أو زركشة ضخمة هناك‪ .‬الحلوا أن و َّ‬
‫مستوى من أكثر المستويات خصوصية‪ ،‬مستوى المنفعة‬
‫ً‬ ‫توج ُد تحديداً على‬
‫ألفاً من المبررات المعقولة‪ ،‬المعقولة بقدر ما أنها َ‬
‫المباشرة‪ ،‬مستوى المصلحة التاكتيكية‪ .‬والقوة‪ ،‬القوة الضخمة للواقعيين‪ ،‬إنما تتصل بكونهم ال يعرفون الجريمة الصارخة‪ .‬وما هو‬
‫التأثير الذي يمكن أن يكون للمرء على أناس جد غارقين في ما يسمونه بالواقعي‪ ،‬بحيث إن أي برهان ال يمكن أن يكون كافياً‬
‫إلفحامهم‪...‬؟‬

‫واذا كنت‪ ،‬في الحالة المقابلة‪ ،‬ال تنوي االستسالم لإلغراء الثالثي‪ ،‬الذي يمارسه المجد والملكية والسلطة لحساب الواقعية‬
‫السياسية‪ ،‬فالبد من إعدادك ألن ينلر إليك على أنك رّجاج ال يكل للتجريدات (كالعامل المكلف برج زجاجات الشمبانيا كل يوم‪– .‬‬
‫المترجم)‪ .‬إنك‪ ،‬في رأي الجميع‪ ،‬منبت الصلة بالحياة‪ ،‬ال تعرف مسرات وعذابات البشر‪ ،‬منقطع لملكوت االيديولوجية العقيم‪ .‬وفي‬
‫بحمية و ٍ‬
‫احدة في القيم الروحية والمنتجات المصنعة‪ ،‬فإن لل احتقار متزايد يالزم‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫عالم دارٍج من اآلن فصاعداً على االتجار‬
‫مصطلح اإليديولوجية نفسه‪ .‬وعلى الفور‪ ،‬تجد نفسك في موقف الدفاع‪ .‬ويتعين عليك البدء بالبرهنة على أنك لست عديم القلب وال‬
‫عديم المشاعر‪ ،‬أمام أناس حرفتهم تنليم مشاعر اآلخرين‪ .‬وبعد تقديم البرهان‪ ،‬فإنك تلل مشبوهاً كما كنت من قبل‪ ،‬ألنك ال‬
‫تستجيب آلالت جلبتهم الموسيقية النحاسية‪ .‬وما أن تكتمل حضارة االبتزاز والتزييف‪ ،‬فإن أية إيديولوجية جديرة بهذا االسم‪ ،‬تبدو‬
‫كما لو كانت تحدياً ال ُيحتمل للتساهل الروحي عند البعض‪ ،‬وللطاقة البهلوانية عند البعض اآلخر‪ .‬وانه لمن موجبات العبرة في هذا‬
‫الصدد أن نجد الناجين من إحدى األرثوذكسيات الذين كانوا‪ ،‬في بداياتها‪ُ ،‬يبدون استعراضاً لصرامة بوليسية أكثر مما هي فكرية‪،‬‬
‫يتآخون اليوم مع هواة الذرائع والتحايالت ومحترفي االرتجال السياسي‪ ،‬في كره مشتَِرٍك لكل نشاط نقدي ذهني‪ ،‬ناهيك حتى عن كل‬
‫إخالص لشيء جد عبثي كالمبادئ‪.‬‬

‫ومن األرثوذكسية األكثر شراسة إلى التالعبات السياسية األقل احتراماً‪ ،‬يبدو الطريق السريع سهل االنفتاح‪ .‬ولكن إذا كانت‬
‫تسنى لها أن تؤدي‪ ،‬في الصراع اليومي‪ ،‬إلى ممارسات جد زائفة‪ ،‬أال يعني ذلك أن بعض الضمائر المتحزبة لها‪،‬‬ ‫األرثوذكسية قد َّ‬
‫ٍ‬
‫بطقس يستحي ُل إلى هذا الحد أو ذاك على‬ ‫في استعاضتها عن ثقافة األفكار بعبادتها ال أكثر وال أقل‪ ،‬أي في استعاضتها عنها‬
‫مناهج العقل السوية إدراك كنهه‪ ،‬قد تعلمت التملص بسعر زهيد‪ ،‬أوالً من كل نزاع يتعلق بالتفسير‪ ،‬ثم من كل تساؤل ضار فيما‬
‫يتعلق بخيار العمل الذي يجب االضطالع به‪ ،‬والموقف الذي يجب اتخاذه؟ إن أحد المدافعين عن هذا النوع من األرثوذكسيات‪ ،‬جد‬
‫السريعة في الهبوط إلى الوحل‪ ،‬قد لخص لي بلغة آسرة‪ ،‬أجد نفسي مدفوعاً إلى نقلها هنا‪ ،‬القاعدة الذهبية لسلوكه‪ .‬لقد قال لي‪:‬‬
‫"إننا‪ ،‬تحديداً ألن لدينا مبادئ جد راسخة‪ ،‬يمكننا أن نسمح ألنفسنا بكل شيء!"‪ .‬فلنأخذ حذرنا من ذلك‪ .‬هذا ليس مزحة يمكننا‬
‫المحرَكة إلى قيم رمزية‪،‬‬ ‫التخلص منها بهزة ٍ‬
‫كتف‪ .‬إنه التعبير األمين والرائق عن حالة ذهنية جد عامة قوامها تحويل القيم الحية و ِّ‬
‫ث بالملوثات "الواقعية" اآلنية‪ ،‬فهي تحلق فوقها على مسافة جد‬
‫إلى تكريس إخالص طقسي لها والى اعتبارها غير قابلة ألن تُ َّلو َ‬
‫عالية‪.‬‬
‫‪73‬‬
‫فيا له من مشروٍع فر ٍيد يستبسل في إنقاذ مثل أعلى بمنحه أجنحة من الوحل! إن أي إنسان مدفوع إلى التمسك بهذا المفهوم‬
‫عن الحياة السياسية يجب عليه أن يرتب لنفسه ضميرين متمايزين وغير متصلين‪ ،‬األول مهمته أن يحافل على المبادئ الدائمة‬
‫وصورة الهدف النهائي في نقائها المزعوم‪ ،‬والثاني يشمل برعايته المتسامحة الشرمطات اليومية الهينة‪ .‬أما أن هذا الفصل المستمر‪،‬‬
‫هذا الطالق األبدي بين النشاطات المباشرة وعالم المبادئ السامية‪ ،‬يمكن عالوة على ذلك أن يعد التعبير األخير عن الذهنية‬
‫التركيبية‪ ،‬فذلك هو ما يسمح بقياس احتماالت التضليل التي يعتبر الذكاء متواطئاً فيها وضحية لها في آن واحد‪.‬‬

‫االحتقار – الذي يوحي به عن علم في البداية‪ ،‬ثم العفوي وشبه اإلجماعي – تجاه كل ايديولوجية مهتمة بالبحث عن شيء‬
‫آخر غير فرص إلغاء الذات أو فرص االغتراب‪ ،‬إخضاع كل فكر ألول واقع قادم‪ ،‬االختزال التعسفي إلى مضمون واحد لمفاهيم‬
‫يصعب تركيبها الواحدة مع األخرى كالدوجماتية وااليديولوجية‪ ،‬األرثوذكسية والديماجوجية‪ :‬تلك هي عالمات التشوش المريع الذي‬
‫ال يتوقف عن التفاقم والتعقد مفقداً البشر رشدهم حتى يتسنى له على نحو أفضل إقناعهم بأن ُي َسلِّ ُموا أنفسهم بأنفسهم‪ ،‬عن طيب‬
‫خاطر‪ ،‬بابتسامة‪ ،‬بوصفهم مواطنين حقيقيين‪ ،‬لو ٍ‬
‫احد ما من أشكال االستبداد الرائجة‪.‬‬

‫ومن فرط االعتداء على الكلمات‪ ،‬من فرط التالعب بمرونة اللغة‪ ،‬أمكن الوصول إلى حالة االنحطاط الحالي حيث يصل‬
‫الشخص أو الفكرة إلى أن تكون في آن واحد أو بالتتابع نفسها ونقيضها‪ .‬لقد ُكِّرَرت م ار اًر كلمة هذا المساعد لهتلر الذي كان يلوح‬
‫بمسدسه عندما يسمع حديثاً عن الثقافة أوالذكاء‪ .‬فيا للحسرة! لماذا يجب للكلمات األخرى التي تهم معجم البشر السياسي‬
‫واالجتماعي أالَّ تتمتع البتة بدالالت لها مثل هذه الحدة؟ فما من كلمة وال حتى كلمة "السلم"‪ ،‬لكونها كفت منذ زمن طويل عن أن‬
‫تكون ُمطَمئَِنة‪ ،‬إال وتستتبع خلفها ما ال ندري أية أهوال سرية‪ ،‬ما ال ندري أي عفن من عفن الكوارث‪ .‬والى أن تتشكل‪ ،‬وفقاً‬
‫لنصيحة دوني دو روجمون‪" ،‬و ازرة لمعنى الكلمات"‪ ،‬فمن المهم أن نعطي من جديد جوه اًر واضحاً ومحدداً للمصطلحات األكثر‬
‫تعرضاً لإلفساد‪ ،‬األكثر تعرضاً لالمتهان من جانب استخدام أعمى‪.‬‬

‫االيديولوجية ليست عقيدة‪ .‬إنها نواة أفكار موجِّهَة‪ ،‬حافزة‪ ،‬تَُو ِّجهُ الذهن لكنها بشكل خاص تحفزه إلى التفكير‪ ،‬إلى أن يعي‬
‫حريتهُ – عبر التطوير المثمر لعناصر االنطالق هذه ‪.‬‬

‫االيديولوجية تبلغ الفكر برسالة معينة‪ ،‬لكنها بعيداً عن أن تلجم حركته الطبيعية‪ ،‬ال تفسد للحلة واحدة استقالله الثمين‪ .‬وكل‬
‫رسالة متممة هي مؤاتية‪ .‬وكل مساهمة أصيلة للفكر المكتسب‪ ،‬تكفل التوثب الضروري والمتواصل للرسالة االيديولوجية‪ .‬إن الفكرة‬
‫يجب أن تكون محل تفكير من الجميع‪ ،‬وليس من فرد واحد‪ .‬وهنا يجب للنضال ضد األفكار الجاهزة – ضد التبني الخانع من‬
‫ٍ‬
‫موضوعة سلفاً – أن يرتفع إلى ذروته‪ .‬هنا يجب على المشاركة الواعية لكل فرد في تطوير‬ ‫جانب ماليين الرعايا المدجنين لصي ٍغ‬
‫القيم االيديولوجية أن تقف في وجه سلب حرية االختيار الفردية عن طريق حيل اإليحاء العديدة أو تهديدات عنف الدولة العديدة‪.‬‬
‫واذا كنا نأسف لنوع الهجر والتلف الذي سقطت فيه ايديولوجيات العصر‪ ،‬فذلك بالتحديد ألننا نرى في ذلك تراجعاً جسيماً للحرية‬
‫في شكلها األسمى‪ ،‬األكثر إبداعاً‪ .‬إن مجتمعاً ال يوجد فيه غير موردين لألفكار – بعدد محدود وبخدمة محكومة – ومستهلكين‬
‫لألفكار‪ -‬في حالة سلبية شبه تنويمية‪ - ،‬مجتمعاً تؤول فيه التبادالت الثقافية إلى تحضيرات معملية‪ ،‬من جانب‪ ،‬والى تبديات‬
‫طقسية للوالء وللحماس االستفتائي‪ ،‬من الجانب اآلخر‪ ،‬إن مجتمعاً كهذا المجتمع لن يكون‪ ،‬تحت ملاهر ربما تكون أكثر رحمة‪،‬‬
‫ال أكثر وال أقل بشاعة من التنليم الهتلري للعبودية‪.‬‬

‫وخالفاً للمذاهب‪ ،‬والتي يتمثل هدفها في بلورة – ومن ثم تثبيت – رأي عام حول تعاليمها‪ ،‬وهي نفسها جامدة وعلام فاقدة‬
‫للحياة‪ ،‬فإن كل ايديولوجية إتما تتسع بدعوة ضمنية إلى تجاوزها هي نفسها‪ .‬وليس هناك في هذا الصدد من تدريب أفضل للذهن‬
‫غير ذلك الذي يتألف من الهجوم العنيف على القناعات – الحدود‪ ،‬من التوسع الذي ال يكل لمجالها البصري‪ .‬وعلى مدار مئات‬
‫َّنة والتي َش َّك َل كل خط‬
‫ومئات السنين‪ ،‬جرب الذهن الحاجة المشؤومة إلى االحتماء خلف سالسل ال نهاية لها من الخطوط المحصَ‬
‫منها‪ ،‬في زمانه‪ ،‬خط الجهل األعلم‪ .‬لقد عاشت البشرية حتى اآلن بشكل وحيد تقريباً في لل امبراطورية المعتقدات الالعقالنية‬

‫‪74‬‬
‫أي ممتثلة‪ .‬وفي كل مرة كان يحدث فيها فتح من فتوح العقل الرامية إلى إكساب اإلنسان حصة متزايدة من الحرية‪ ،‬فإن قوى‬
‫التقهقر‪ ،‬المرتبكة للحلة‪ ،‬لم تكن تتأخر عن استعادة الساحة الضائعة أو عن تسريح الحماسات التحريرية‪ ،‬أو عن إقامة هياكل‬
‫عبادة جديدة أو عن تحديث األوثان القديمة‪ ،‬بكلمة واحدة‪ ،‬عن حبس منجزات العبقرية اإلنسانية في منلومة انضباط شعائري حيث‬
‫ال تفعل غير أن تكرس يهيبتها العودة المتصلة إلى القهر‪ ،‬وهكذا ينشأ بين اإلنسان والحرية عذاب لقاء قريب تارة بعيد تارة أخرى‪.‬‬
‫وهو عذاب حقيقي تتوارى فيه الحرية في اللحلة عينها التي يتبارى فيها كل شيء على تحقيق انتصارها فتُخلي المكان لبنيان‬
‫استبدادي ما يلمعُ اسمها على مدخله مع ذلك كماركة مزيفة على سلعة مهربة‪.‬‬

‫إن النضال المعادي لاليديولوجية ال ينزع إالَّ إلى نزع سالح الذكاء‪ ،‬إلى تجريده من وليفته التساؤلية‪ ،‬إلى تعويده على احترام‬
‫حقائق مرتبة بشكل هرمي وصالحة حتى للنلام الجديد‪ .‬وبدعوى التخلص من التأمالت المجردة‪ ،‬نتحرك صوب عقائد جامدة‬
‫بدائية‪ ،‬صوب تعاليم اجتماعية مرعبة حيث تأفل الكلمات األكثر إثارة للحماسة تحت ضربات المطرقة‪.‬‬

‫سوف يكون المثل األعلى للواقعيين هو تحويل الذكاء إلى نوع من "صحيفة رسمية"‪ .‬فهل يناقش المرء "الصحيفة الرسمية"؟‬
‫إن المرء يعرف عن طريقها مراسيم اليوم‪ .‬بينما في الشوارع وفي الساحات العامة‪ ،‬سوف تتكفل أُلهيات مختارة بالحفال على شعور‬
‫االستثارة المؤاتي لدى الجماهير‪ .‬ومن الذي يمكنه أن يجادل في أن االستعراضات في الساحة الحمراء مسؤولة عن جانب كبير من‬
‫رسوخ النلام الستاليني؟ هكذا يخدم الواقعيون القلب والذهن بتقديم أعالف متكافئة لهما‪ .‬ويوم يهجر البشر االستعراضات‬
‫واألضرحة‪ ،‬سوف يتهمهم الواقعيون دون ريب بأنهم فقدوا قلبهم‪ ،‬في حين أنهم لن يكونوا قد فعلوا شيئاً غير الحفال على نبضاته‬
‫الستخدامها استخداماً أفضل‪.‬‬

‫إن الواقعية السياسية إنما تتأسس على صيغتين ال يوجد تكامل بينهما إالَّ من الناحية اللاهرية‪ .‬يقول لنا الواقعيون‪" :‬كل‬
‫الوسائل حسنة"‪ .‬ويضيفون فور ذلك‪" :‬يجب تعلم التكيف مع اللروف"‪ .‬إن التنافر الذي يجعل هاتين الحكمتين غير قابلتين‬
‫لالرتباط فيما بينهما‪ ،‬لن ينجح في شد انتباه الواقعيين طويالً‪ .‬فالواقع أنه ال توجد بالنسبة لهؤالء تنافرات نهائية‪ ،‬مثلما ال توجد‬
‫بالنسبة لهم تناحرات عصية على التوافق فيما بينها‪ .‬والشيء الوحيد المهم بالنسبة لهم هو القيام انطالقاً من جوامع الكلم باستحداث‬
‫صة لتوفير أنسب حرية مناورة لهم‪ .‬وعند اللزوم سوف يتخيل المرء أنهم يقولون‪" :‬كل الوسائل حسنة لتكييف‬
‫مخص َ‬
‫َّ‬ ‫فلسفة تمويه‬
‫اللروف"‪ .‬لكن تكييف اللروف‪ ،‬بدالً من مجرد التكيف معها‪ ،‬إنما ينطوي على رغبة في تغيير الواقع والضغط على العقبة ال‬
‫االنجرار إلى التشكل وفق نموذجها‪.‬‬

‫إن الواقعيين يخافون المجهول‪ .‬ودورهم ليس هو تغيير الواقع‪ ،‬بل مراعاة جانبه‪ .‬واالَّ فأين سوف يكونون أكثر ارتياحاً إن لم‬
‫يكن في واقع ودي ومألوف يكافئهم بنجاحات من كل نوع‪ ،‬عن االستقرار الذي يدين به لهم؟ وفي النهاية قد ال يكون من األسهل‬
‫يصبح من‬ ‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫ي ما نفسهُ‪ ،‬فإن كل‬
‫تغير جذر ٌّ‬ ‫َّ‬
‫ُ‬ ‫أن نميز من‪ ،‬الواقع أم الواقعي‪ ،‬هو الذي قام بتطويع اآلخر‪ .‬إال أنه إذا ما فرض ٌ‬
‫ِ‬
‫الوسائل حسنةً" من أجل إرجاء هذا التغير‪ ،‬من أجل إثبات عدم جدواه‪ ،‬وفي التحليل األخير‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫فعندئذ تكون "كل‬ ‫جديد واضحاً تماماً‪.‬‬
‫من أجل سحق أنصاره‪ .‬إن تفويض األمر إلى الواقعي لالهتمام بتغيير األوضاع‪ ،‬هو كتكليف صبي يخدم في سيرك بشق طريق‬
‫في الغابة‪.‬‬

‫كال‪ ،‬ليست الوسائل حسنة جميعها! فهناك بعض الوسائل‪ ،‬خاصة تلك التي يلتمسها الواقعيون أكثر مما عداها‪ ،‬التي ال تعتبر‬
‫حسنة إالَّ لحرف مسار التداعي الطبيعي لألحداث وإلدخال انحراف على خطط العمل المرسومة بشكل يكفي معه هذا االنحراف‬
‫عموماً لشل حركة قوى ا لنهوض التي تندفع دون طائل إلى مفترق الطرق‪ .‬وشأنها في ذلك شأن تلك الجراح العصية على االلتئام‪،‬‬
‫فإن الزوايا التي تفتحها "االنحرافات الواقعية" تصبح‪ ،‬عند محيد معين‪ ،‬عصية على االلتقاء من جديد‪ .‬وذلك بقدر ما أن الواقعية‬
‫تتألف من اإلقامة في االنحراف واعتباره ال حالة وسيطة بل حالة نهائية‪ ،‬وضعاً في ذاته‪ ،‬وهو وضع سوف يتعين على الالواقعيين‬
‫العزم على بتره‪ ،‬باألسلوب الوحشي إلى حد ما الذي كان يعاقبة عام ‪ )17( 93‬يبترون به الرؤوس‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫وعندما يتحدث السياسيون‪ ،‬الذين ال يحيون إالَّ بالتحايل عن السماح باالنطالق الحر لإلرادة الشعبية‪ ،‬فلنكن واثقين من أن‬
‫هذا اللجوء إلى الشعب ال يشكل غير تحايل إضافي في لعبتهم‪ ،‬والقاعدة الدائمة من جهة أخرى هي أن هؤالء السياسيين ال يلجأون‬
‫إلى الشعب إالَّ عندما يتعرضون لخطر إزاحتهم على أيدي عصابة منافسة‪ ،‬أكثر براعة وأكثر ثراء في التحايالت‪ .‬وغالباً ما طرحت‬
‫مسألة ما إذا كانت للجماهير مصلحة في التجاوب مع نداءات لرفية ونفعية من هذا النوع‪ .‬ففي صفوف الكادحين‪ ،‬يوجد عدد من‬
‫أساتذة الواقعية يكاد يكون قريباً من عدد أقرانهم في المعسكر المناوئ‪ .‬ومن الغريب أن نرى هؤالء الماكيافيلالت ذوي الكاسكيتات‬
‫وهم يتولون بخفة عقد التحالفات األكثر خطورة‪ ،‬والتصالحات األكثر مدعاة للحزن واألواصر السياسية األقل استحقاقاً‪ .‬ومن عام‬
‫‪ 1935‬إلى عام ‪ ،1939‬فإن هذه التقاربات المضادة لطبائع األمور بين الشعب والصالونات‪ ،‬بين المصنع والكنيسة‪ ،‬قد أسهمت‬
‫إسهاماً بالغاً في تفسيخ العناصر التي كانت ما تزال سليمة وصدامية في قارة أوروبية لم تكن محتلة بعد وان كانت ناضجة بالفعل‬
‫لالحتالل‪ .‬وفي هذا السباق على الزنا السياسي‪ ،‬يبدأ المرء بخيانة مثله األعلى مع الجار المقابل له‪ ،‬ثم ينتهي إلى اقتسام أي سرير‬
‫مع أي شريك‪.‬‬

‫إن الشعب يملك في نفسه موارده الخاصة‪ ،‬بشره الخاصين‪ ،‬أدوات نضاله الخاصة‪ ،‬مفهومه الخاص عن السلطة‪ .‬وهو ليس‬
‫بحاجة إلى أن يستأجر من الباطن محترفين مستهلكين بالفعل في خدمة اآلخر‪ ،‬لكي ينجزوا له مهمته الخاصة‪ .‬كما أنه ليس‬
‫بحاجة إلى أن يسلم طاقاته وراياته لمشاريع إنقاذ السياسيين واألحزاب الذين والتي طالهم وطالها الفساد على حد سواء‪ ،‬األوائل من‬
‫جراء الممارسة غير المحدودة للدسائس واألخيرة من جراء الممارسة غير المحدودة للمساومات‪.‬‬

‫وعندما تجد الجماهير نفسها مدعوة إلى الفعل من جانب شخصيات أو جماعات ال تدين ببقائها إالَّ النعدام فعل الجماهير‪،‬‬
‫فإن من حق هذه األخيرة تماماً أن تنزعج‪ .‬فالمسألة كما هو واضح ال يمكن أن تكون غير مسألة فعل معين موجه إلى اتجاه معين‪.‬‬
‫وقد نجح السياسيون حتى اآلن مرات كثيرة في تأطير فعل الجماهير‪ ،‬ولم تنجح الجماهير قط في تأطير فعل السياسيين‪ .‬وأولئك‬
‫الذين يحثون الجماهير على االنقياد لذلك الرجل العليم أو ذاك – "القائد الممكن الوحيد" – أو لهذا الحزب أو ذاك الحزب المسارع‬
‫الحَّرين ‪ ،‬األول واآلخر‪ ،‬في التصرف على هواهما في الرغبات الشعبية‪ ،‬أولئك الذين يزعمون أنه‬
‫إلى االنحطاط إلى حزب وحيد‪ ،‬و ُ‬
‫سوف يسمح للشعب‪ ،‬من فرط اإلخالص بالرغم من كل شيء‪ ،‬بالتأثير على ق اررات القائد أو الحزب‪ ،‬أولئك هم في الحقيقة‬
‫ناصحون غرباء‪ ،‬يمكن للمرء تماماً أن يتعلم من أفواههم فن تزوير التاريخ‪.‬‬

‫إالَّ أنه من غير الوارد‪ ،‬بسبب الخوف من استمالة الحماسات الشعبية واستثمارها من جانب عمالء الرجعية‪ ،‬االرتداد إلى‬
‫مأزق االستنكاف‪ .‬فالجماهير لها دور كبير‪ ،‬دور فائق‪ ،‬عليها لعبه‪ .‬لكنه دور مستقل‪ .‬وفي كل مرة يلزم فيها مغازلتها من فوق‬
‫منبر‪ ،‬يجري الحديث عن ثقلها في ميدان القوى السياسية‪ .‬وهذا الثقل حقيقي‪ .‬والمسألة الجوهرية هي معرفة ما الذي يحركه‪.‬‬

‫إن فعل الجماهير المستقل مع ما يلزمه من الرومانسية من أجل استعادة الوحدة األخالقية بين الغاية والوسائل‪ ،‬تلك الوحدة‬
‫الركام المريع من التحايالت‬
‫َ‬ ‫التي فصم عراها السياسيون الواقعيون‪ - ،‬هذا الفعل المستقل يجب أن يتمكن من أن يسوي باألرض‬
‫والحيل الذي نجازف‪ ،‬على المدى الطويل‪ ،‬بأن ُندفَ َن تحته دفن البلهاء‪.‬‬

‫يقال إن السلطة مفسدة‪ .‬هذا صحيح إلى حد معين‪ .‬لكن الخوف من السلطة مفسدة أكبر‪ .‬إن هذا الخوف من السلطة‪ ،‬من‬
‫سلطة ال يدينون بها تحديداً إالَّ إلى فعل الجماهير المستقل‪ ،‬قد اجتاح على مدار سنوات أبرز ممثلي اليسار األوروبي وألقى بهم‬
‫شيئاً فشيئاً في معسكر الواقعيين والمحتالين‪ .‬فما أكثر الفرص التي ال تعوض والتي أهدرت لمجرد أن هؤالء التعساء الذين استولى‬
‫عليهم الذعر قد لوحوا للجماهير بتشخيصهم المفضل‪" :‬إن الوضع لم ينضج بعد!"‪ .‬وهو ما يعني في كل تسع من عشر مرات أنه‬
‫يجب تركه ينضج لحساب العدو!‬

‫‪76‬‬
‫إن المرء ال يشفى بسهولة من الخوف‪ .‬لكنه قابل للشفاء ممن يروجونه‪ .‬والبد من إخراج الدياليكتيكيين البواسل من حالة‬
‫الهلع‪ .‬وهو ما يعني أن التكليفات الصادرة إليهم يجب‪ ،‬مع كل أشكال المراعاة الممكنة وقبل أن تنضج أوضاع‪ ،‬أن تعفيهم من‬
‫مسؤولياتهم‪.‬‬

‫بين زعماء األحزاب الشعبية وزعماء األحزاب الرجعية ال يوجد غير فاصل طفيف مصدره أن خوف كل طرف منهما ال‬
‫يستهدف هدفاً واحداً عاماً‪ .‬فعلى اليمين‪ ،‬هناك الخوف من المبادئ لذاتها‪ .‬وعلى اليسار‪ ،‬هناك الخوف من تطبيقها‪.‬‬

‫الخوف من السلطة‪ ،‬الخوف من األوضاع جد الناضجة ومن الوسائل جد المستقيمة‪ ،‬الخوف من اإلفصاح عن الذات‪،‬‬
‫الخوف من الرفض‪ - ،‬إن كوارث السنوات العشرين األخيرة هذه قد ترتبت على تراكم جميع هذه الحقارات‪ .‬واآلن يجب الخروج من‬
‫الليل‪ ،‬وذلك هو الشيء األصعب‪ .‬فمثلما تعتاد العيون على الللمة‪ ،‬يعتاد الذهن على الجهل‪ ،‬يعتاد العقل على تقدم عبادة األوثان‪،‬‬
‫يعتاد اإلنسان الحر على الكوابح التي يصوغها سادته تحت االسم اللطيف‪" :‬االنضباط المقبول دون إكراه"‪.‬‬

‫يجب الخروج من الليل‪ ،‬والحال أنه ال بالغة الخطباء وال بطولة الشهداء بوسعهما مساعدتنا في ذلك‪ .‬ففي الرد على ادعاء‬
‫األحزاب الكبرى امتالك مرجعية دوجماتية مطلقة‪ ،‬في رد هذه األجهزة المتضخمة‪ ،‬المسلَّمة بال ضابط إلى حفنة من أمناء السر‬
‫"الواقعيين" إلى حجم اإلنسان‪ ،‬في تحويل الممارسة الفردية للقدرات النقدية ال إلى عنصر اتهام في محاكمات عبثية للتخريب‬
‫والخيانة‪ ،‬بل إلى شرط ضروري لوضوح اجتماعي كامل لم يسبق نيله قط‪ ،‬في هذا االتجاه وبهذا الثمن سوف يكون باإلمكان ارتسام‬
‫ٍ‬
‫خالص أول‪.‬‬

‫ال بالغة الخطباء‪ ،‬وال بطولة الشهداء‪ ،‬بل امتالك زمام وعي حر ومنتهك للمحرمات من جانب بشر ليسوا بحاجة بعد إلى‬
‫شفعاء أمام القدر‪.‬‬

‫القاهرة‪ ،‬أواخر يوليو ‪1944‬‬

‫‪77‬‬
‫الملحق ‪1-‬‬

‫إن تشوش اللغات هو‪ ،‬في السياسة‪ ،‬واقع معلوم تماماً‪ .‬ومنذ سنوات عديدة‪ ،‬قامت السياسة بإخضاع اللغة لنلام مجنون‬
‫ٍ‬
‫معروف في تاريخ الفلسفة‬ ‫ٍ‬
‫بفيروس‬ ‫ومخبول‪ .‬وبرج بابل هذا اليرجع تاريخه إلى اليوم‪ .‬لقد تركت السياسة نفسها عرضة لإلصابة‬
‫بمسمى االسمية‪ .‬وقد تم اكتشاف االسمية من جانب الرواقيين الذين برهنوا على أن غالبية األفكار والتعميمات التي غذت النقاش‬
‫الفلسفي في زمانهم ليست غير كلمات‪ .‬والحال أن فترة االسمية السياسية لزماننا فيما بعد الحرب (العالمية األولى) قد نجحت في‬
‫إغراق البشرية في دوامة من المشكالت الزائفة التي يجري التعبير عنها بمصطلحات ملتبسة ومنحطة‪ .‬إن جميع األحزاب المتنازعة‬
‫على السلطة مسؤولة – كل فيما يخصه – عن هذا الوضع‪ ،‬ولكن أوالً وأساساً الحزاب الفاشية المنبثقة من الحرب‪ .‬وهكذا فإن‬
‫الناس قد وجدوا أنفسهم محولين عن حاجاتهم الفعلية ومجرورين إلى تيه من المرايا المشوهة‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فإنه إذا ما تشكل‬
‫حزب لمحاربة االشتراكية ولحماية مصالح المالك‪ ،‬فمن الواضح أنه سوف يرتدي قناع حزب "اجتماعي"‪ ،‬ديمقراطي"‪ ،‬أو حتى‬
‫"اشتراكي"‪ .‬واذا ما وصف حزب ما نفسه بأنه "راديكالي" (جذري)‪ ،‬فمما ال جدال فيه أن المراد هو حزب بالغ االعتدال‪ .‬واذا ما نشأ‬
‫حزب جديد عن انقسام وقع في حزب قائم‪ ،‬فإنه سوف يسمي نفسه "حزب الوحدة"‪ .‬واذا ما حصل حزب على تعليمات ودعم من‬
‫الخارج‪ ،‬فبوسعك أن تكون واثقاً من أنه سوف يتلاهر في جميع المناسبات بأنه المدافع عن االستقالل الوطني‪.‬‬

‫إن هذه االسمية السياسية غالباً ما تعرض سخرية كئيبة على المسرح المعاصر‪ .‬فعندما يجري إرسال قوات إلى بلد صديق‬
‫لمجرد المساعدة على استمرار الحرب األهلية فيه‪ ،‬فإن هذه العملية الصغيرة تسمى‪ ،‬وأنتم ال تجهلون ذلك‪" ،‬عدم تدخل"‪ .‬وعندما‬
‫خصوم سياسيين‪ ،‬مصيرهم "الضرب بالنار عند محاولة الفرار"‪ ،‬في السجن‪ ،‬فإن ذلك دائماً هم من أجل تأمين حمايتهم‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫يجري إلقاء‬
‫والمحاكم السياسية التي ال هدف لها إالَّ إرهاب الرأي العام‪ ،‬تسمى "محاكم شعبية"‪ ،‬وبرامج التسلح تَُبَّرُر في كل مكان بذريعة أن‬
‫واجبها هو العمل على صون السلم‪ .‬واذا ما خنت تعهداتك‪ ،‬فال تكاد توجد حاجة إلى توضيح أن ذلك إنما يحدث "إلنقاذ شرفك"‪.‬‬

‫إجنازيو سيلوني‬

‫("مدرسة الديكتاتوريين"‪ ،1939 ،‬لندن‪ ،‬ص ‪)165 – 164‬‬

‫الملحق – ‪2‬‬

‫أال تعجبون لجميع هذه التماثيل التي تقام في كل مكان‪ .‬لكل هذه االحتفاالت والمناسبات التي يجري االحتفال بها في كل‬
‫لحلة‪ ،‬ألسماء الشوارع هذه التي يجري تغييرها دون أن يتمكن المرء تماماً من معرفة السبب‪ ،‬لعدد المعبودين من كل نوع والذين‬
‫يجري تقديمهم لتأمين عبادة الشعب لهم؟‬

‫إن في كل هذه الحاجة إلى التبجيل والتي يجري إشباعها بال توقف‪ ،‬تفاهة ما‪ ،‬وضاعة ما‪...‬‬

‫بول لوتو‬

‫(نوفيل ريفي فرانسيز‪ ،‬أول ديسمبر ‪)1928‬‬

‫‪78‬‬
‫الملحق – ‪3‬‬

‫بعد أن الحرية ال يمكن أن توهب ألحد‪ ،‬بل يتوجب فقط على الجميع انتزاعها‪ ،‬وال أنها "تتعارض مع‬ ‫أولئك الذين لم يدركوا ُ‬
‫الضعف"‪ ،‬كما قال فوفنارج‪ ،‬أي تتعارض مع األنانية والتفاهة وذهنية التحايل‪ ،‬والوصولية واالنتهازية والهرب من المسؤوليات‪،‬‬
‫والبالهة المزهوة وكسل الفكر‪ ،‬واحترام المال‪ ،‬والنبرة المتشدقة‪ ،‬والخداع وتكلف العواطف التي تصنع كل ديماجوجية‪ ،‬وعبادة النجاح‬
‫السهل والذي تجيء به الصدف‪ ،‬والخوف من الضربات‪ ،‬والخوف من الكلمات الواضحة‪ - ،‬باختصار‪ ،‬كل ما يميز األخالق‬
‫السياسية لديموقراطياتنا المزعومة وأمزجة "جمهورها العليم" التي ترعاها وتستغلها السينما والكتب الرديئة التي تطبع منها آالف‬
‫بعد أن الحرية تتعارض مع هذا كله‪ ،‬أولئك الذين ال يعرفون البرهنة على أنهم قد‬
‫وآالف من النسخ‪ ،‬والدعاية‪ ،‬أولئك الذين لم يدركوا ُ‬
‫فهموا ذلك – أولئك ال يستحقون شيئاً أفضل من هتلر‪.‬‬

‫دوني دو روجمون‬

‫("حصة الشيطان"‪ ،‬مونتلاير‪ ،1942 ،‬ص ‪)174‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪79‬‬
‫[ الصورة المقفلة والصورة المفتوحة ]‬

‫حتى يتسنى لنا‪ ،‬كما يشدد على ذلك رامبو‪ ،‬أن نكون في المقدمة‪ ،‬حتى يتسنى لنا أن نستعيد من هناك في ٍ‬
‫آن واحد ما له‬
‫ٍ‬
‫بشكل واض ٍح وفي المقام األول أن نتخلى عن كل ما يتعارض‪ ،‬في األطر القديمة للشعر وللتعبير‬ ‫صورة وما ليست له صورة‪ ،‬يجب‬
‫الشعري‪ ،‬بل وألسلوب عمل الذهن‪ ،‬مع هذا السير نحو المجهول‪ ،‬مع هذا التجاوز لعالم تم تبويبه وتدجينه بحسب قواعد مقررة‪ .‬واذا‬
‫كانت أشياء كثيرة قد بدت من قبل غير قابلة للتعبير عنها‪ ،‬أفال يرجع ذلك ببساطة إلى أن الحاجات التي جرى اكتشافها فجأة والتي‬
‫يتطلبها الحلم ومخيلة أصبحت منذ ذلك الحين فصاعداً حية بالنسبة لنفسها‪ ،‬بحيث أصبح العنان مطلقاً لكل شيء‪ ،‬قد فرضت‬
‫ٍ‬
‫لصور نوافذ؟‬ ‫تداعيات جديدة لصور توسَّع إحداها األخرى على مدى البصر‪ ،‬لصور مفتوحة‪،‬‬

‫هنا‪ ،‬من حقكم أن تتساءلوا‪ :‬ما هو المقصود بـ "الصور المفتوحة" و"الصور المقفلة"؟ إن من شأن عدد من األمثلة السريعة‬
‫أن يسهم في إيقافنا على هذا األمر‪.‬‬

‫كنموذج للصور المقفلة‪ ،‬أقدم خاتمة هذا المقطع الشعري من المارتين‪:‬‬

‫المساء يعيد الصمت‬


‫ُ‬
‫جالساً على هذه الصخور المهجورة‪،‬‬

‫أجد نفسي في موجة الفضاء‬

‫مركبة الليل التي تتقدم‬

‫ومعترف به بالفعل‪ .‬زحف الللمات‬


‫ٌ‬ ‫جاز‬
‫فما الذي تقدمه لنا هذه الصورة‪" :‬مركبة الليل التي تتقدم"؟ ال شيء سوى ما هو ُم ٌ‬
‫عادي تماماً مع فكرة المهابة‪ .‬لكن ذلك ال‬
‫ٍّ‬ ‫ٍ‬
‫بشكل‬ ‫الرهيب على األرض‪ ،‬حيث المركبة‪ ،‬في الشفرة الشعرية‪ ،‬هي األداة التي ترتبط‬
‫ينشئ أية عالقة جديدة بيننا وبين الليل‪ .‬والحق أننا لسنا بإزاء صورة بقدر ما أننا بإزاء تذكير‪ .‬وهو تذكير ملون بإشارة جد عمومية‬
‫بعد أن يوجد مجال للعودة إليها‪ .‬وهذه الصورة تنتقل على جانب من جوانب الليل تم اكتسابه وتقريره منذ زمن بعيد‪ .‬وهو‬
‫ال يتوجب ُ‬
‫مقرر إلى حد بعيد بحيث إننا ال نجد مجرد إغراء في إعادة التفكير فيه‪ ،‬مع الشاعر‪ ،‬حيث ال يمكننا أن ننتلر – ال نحن وال الليل‬
‫– شيئاً من وراء ممارسة طقسية تجري تأديتها تحت ضغط مبرر ٍ‬
‫ات عتيقة للنلر‪ ،‬ال شك أن مراعاتها ال طائل من ورائها‪.‬‬

‫أما الشعر فإنه يتراجع إلى الوراء‪ ،‬يتراجع‬


‫وفي هذه الحالة المحددة‪ ،‬تتقدم مركبة الليل ما شاءت أن تتقدم‪ ،‬بال طائل‪َّ ،‬‬
‫ٍ‬
‫بشكل ال عالج له‪.‬‬
‫ٍ‬
‫باقات من الكريستال العبقرية الشعرية ألراجون الذي نحبه‪ ،‬والذي لم تكن‬ ‫لننلر اآلن في فالح باريس‪ ،‬حيث تنتشر في‬
‫شددت بنواجذي على شعور من‬
‫ُ‬ ‫بعد تقلبات حياته وزوجته وحزبه‪ .‬فما الذي نقرأه هناك؟ "على مدار ٍ‬
‫عام كامل‪،‬‬ ‫قد أفسدته ُ‬
‫السرخس‪ .‬عرفت شعو اًر من الراتنج وشعو اًر من الزبرجد‪ ،‬وشعو اًر من الهستريا‪ .‬شقراء كالهستريا‪ ،‬شقراء كالسماء‪ ،‬شقراء كالتعب‪،‬‬
‫شقراء كالقبلة‪ ...‬كم هو أشقر صخب المطر‪ ،‬كم هو أشقر غناء المرايا! من عطر القفازات إلى صرخة البومة‪ ،‬من دقة قلب القاتل‬
‫إلى لهب – زهرة شجرات السنط‪ ،‬من اللدغة إلى األغنية‪ ،‬ما أكثر الشقرات‪ ،‬ما أكثر الجنون‪". ...‬‬

‫‪80‬‬
‫هاكم إذاً‪ ،‬أليس األمر كذلك؟ ‪ ،‬موجة من الصور المفتوحة‪ ،‬المفتوحة على ما ال نهاية له من العالقات الجديدة – بين‬
‫الكائن وأكثر ما يهمه في المرأة‪ ،‬في الطبيعة‪ ،‬في الحب‪ .‬إن كل صورة من هذه الصور إنما تستقر في وجداناتكم وتمارس فعلها‬
‫فيها‪ .‬وخبرة المرء الشخصية‪ ،‬بقدر ما ال يكون المرء جثةً بالفعل‪ ،‬سرعان ما تتخذ مله اًر جديداً من جراء ذلك‪ .‬ثم إنها بدورها‪،‬‬
‫ٍ‬
‫صفحة‬ ‫تحوز فرصاً إلنماء‪ ،‬أي إلثراء الرؤية األولى التي تدين لها بزخمها‪ .‬والحال أن أراجون هذا نفسه هو الذي يفصح لنا‪ ،‬في‬
‫أخرى من فالح باريس هذا نفسه‪ ،‬عن فضيلة الصورة المفتوحة التي‪ ،‬إذ تصل إلى أقصى انفتا ٍح لها‪ ،‬تصبح الصورة السريالية‪" :‬إن‬
‫الرذيلة المسماة بالسريالية هي عبارة عن االستخدام الخارج عن األعراف والمتقد العاطفة للصورة المدهشة‪ ،‬أو باألحرى لالستفزاز‬
‫المنفلت للصورة ألجله في حد ذاته وألجل ما يستتبعه في مجال تمثيل االنقالبات التي يصعب التنبؤ بها والتحوالت الغريبة‪ :‬ألن‬
‫كل صورة‪ ،‬في كل لحلة‪ ،‬إنما ترغمكم على مواجهة الكون برمته‪".‬‬

‫‪1945‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪81‬‬
‫من هو السيد أراجون؟‬
‫نحيا أزمنةً غريبة‪ .‬أزمنة يتسنى فيها لتموجات كبرى على السطح أن تلهر بملهر تحوالت حقيقية في األعماق‪ .‬حيث يتلهى‬
‫البعض دون طائل بالفكرة التي تتحدث عن حدوث تحو ٍ‬
‫الت هامة في الرأي في حين أن الشيء الوحيد الذي يتحول‪ ،‬وفي اتجاه‬
‫االنحطاط والخذالن هذه المرة‪ ،‬هو الصرامة القديمة للمبادئ واليقلة القديمة للمدافعين عنها‪ .‬ويهنئ المرء نفسه على أن جمهو اًر‬
‫مبال به أو معادياً له‪ .‬إالَّ أنه إذا كان األمر‬
‫جديداً يتبنى بهذه الدرجة أو تلك من اإلجماع مثالً أعلى كان حتى ذلك الحين غير ٍ‬
‫ٍ‬
‫بجمهور هو هو‪ ،‬فهل نحن على ثقة من أن األمر يتعلق بالمثل األعلى نفسه‪...‬؟‬ ‫يتعلق‬

‫سوف يقال إن الناس يتغيرون‪ .‬بالتأكيد‪ ،‬بل إنهم يفعلون ذلك عن طيب خاطر ما أن تتاح لهم إمكانية الظهور بمظهر من‬
‫يتغيرون‪ .‬فالواقع أن وهم التغير يجنب كثيرين من بينهم التمزقات الكورنيوية بين مصالحهم وقناعاتهم‪ .‬وشأنها في ذلك تماماً شأن‬
‫تلك السياحات التي يقوم بها المرء دون أن يبرح مقعده‪ ،‬باالقتصار على ترك صور الديوراما المتحركة تتعاقب أمام بصره‪ ،‬فإن‬
‫بعض تبنيات المواقف التي ال نشهد منها اليوم سوى الكثير‪ ،‬إنما تحدث أمام صحيفة حيث يصبح "إشعاع الشرق العليم" السابق‬
‫ات ور ٍ‬
‫عة مملة‪ .‬فيا له من مشروع "عشاء" سياسي "أخير" جميل يمكن‬ ‫سعر في البورصة أو إلى صلو ٍ‬
‫قابالً ألن يترجم أخي اًر إلى ٍ‬
‫اقتراحه على ٍ‬
‫رسام مو ٍ‬
‫اكب لعصره!‬
‫ٍ‬
‫بسخاء تحت كل‬ ‫إن عدداً من إيماءات "التضامن" التي كان من شأنها‪ ،‬قبل ٍ‬
‫وقت غير بعيد‪ ،‬أن تستثير العجب‪ ،‬تنتشر اآلن‬
‫عالم لم يكن سخاؤه بهذه الدرجة من العفوية قط‪ .‬ويعلن أولئك الذين يتعارفون خالل ذلك‪ ،‬األشخاص‬
‫التسميات الخيرية حيث يتدافع ٌ‬
‫ولم ال؟ ولماذا ال تؤتي مثل هذه التأمينات‪ ،‬هي‬ ‫ٍ‬
‫العليمون جداً بالفعل‪ ،‬العليمون بشكل يفوق المألوف‪" :‬إنها مجرد أقساط تأمين" ‪َ .‬‬
‫أيضاً‪ ،‬ثمارها وترضي آمال وتوقعات طالبي التأمين األسخياء؟ ومن الذي قال أن مندوب التأمينات لن يكون‪ ،‬في نهاية األمر‪،‬‬
‫"قياسي"‪ ،‬لن تتأخر‬
‫ٍّ‬ ‫سياسي‬
‫ٍّ‬ ‫"قياسية" والى ٍ‬
‫خط‬ ‫ٍ‬ ‫ٍ‬
‫سالمة‬ ‫"قياسي" والى‬
‫ٍّ‬ ‫معنوي‬
‫ٍّ‬ ‫الشخصية األكثر تمثيالً للعصر؟ إن الحاجة إلى ٍ‬
‫أمان‬
‫في أن تجعل منه البطل المتواضع ولكن الحقيقي لألزمنة الجديدة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شيء يمكن لهذا الكالم أن يخص السيد أراجون؟‬ ‫ففي أي‬

‫في ِّ‬
‫كل شيء‬

‫فقراءةُ السيد أراجون‪ ،‬والدفاع عن قضيته سريعة الفوز‪ ،‬وتوزيع كتبه سريعة الرواج‪ُّ ،‬‬
‫كل ذلك هو أيضاً شك ٌل من أشكال‬
‫التأمين‪.‬‬

‫تأمين ضد الجهل بالشعر‪.‬‬


‫ٌ‬
‫تأمين ضد انعدام القلب‪.‬‬
‫ٌ‬
‫تأمين ضد إفراط المرء في الوالء لـ "حماقات شبابه" الخاصة‪.‬‬
‫ٌ‬

‫‪82‬‬
‫الشعر؟‬

‫ٍ‬
‫وصوب تقريباً – يسود االتفاق على تأكيد أن السيد أراجون يقدم لنا الكلمة األخيرة‬ ‫كل ٍ‬
‫حدب‬ ‫حدب وصوب – أو من ِّ‬ ‫كل ٍ‬ ‫من ِّ‬
‫ائد عن الحد‪ ،‬وكما لو‬ ‫بشكل ز ٍ‬
‫ٍ‬ ‫كل شيء‪ ،‬قد َّ‬
‫تحدث عن السوريالية‬ ‫في الشعر – أو الكلمة األخيرة تقريباً‪ .‬والحال أنه‪ ،‬بالرغم من ِّ‬
‫احد مشقةَ ورجفةَ التصدي للشعر الحديث في شخص ذلك الذي عرف‬ ‫آن و ٍ‬
‫كان من أساتذتها! حتى ال يكلف المرء نفسه في ٍ‬
‫السوريالية‪ ،‬ومارسها ثم تجاوزها بالطريقة التي يروق بها اليوم للمرء تجاوز األشياء‪ ،‬أي بخيانتها‪ .‬ومن بين المتحمسين الحاليين‬
‫للسيد أراجون‪ ،‬نادرون جداً أولئك الذين يملكون نزاهةً روحية تسمح لهم بالعودة إلى ٍ‬
‫عمل ما من أعماله األولى‪ ،‬ولو لمجرد التمكن‬
‫على ٍ‬
‫نحو أفضل من قياس المسافة التي تبعده عن " الحسرات" و "األلزات" األخرى الرائجة‪ .‬نادرون هم أولئك الذين يعرفون وجود‬
‫"فالح باريس" و " ٍ‬
‫بحث حول األسلوب"‪ ،‬اللذين يعتبران عملين متفجرين وناجزين تتأكد فيهما ال تزال‪ ،‬بعد عشرين عاماً من التقهقر‪،‬‬
‫خارجي على زخمها الخاص‪ ،‬على تحققها الطبيعي‪ .‬ومن هذا الماضي‬‫ٍّ‬ ‫وبكل ٍ‬
‫قيد‬ ‫ِّ‬ ‫بكل وصاية‬ ‫عبقريةٌ شعريةٌ هازئةٌ إلى أبعد ٍ‬
‫حد ِّ‬
‫حد بعيد من خالل حسن السلوك‬ ‫ات غائمة ونائية‪ ،‬كما لو كانت ذنب ًا يجري التكفير عنه إلى ٍ‬
‫المتقد‪ ،‬لم تعد هناك غير عبار ٍ‬
‫و"آفات"* التائب العديدة‪ .‬إن عودته إلى القافية‪ ،‬واذعانه للقواعد المقررة‪ ،‬ودفاعه عن أكثر الحيل الشعرية ذبوالً وأقلها مؤاتاة‬
‫للوثوب الحر لإللهام هي أيضاً "جواز مرور"‪ ،‬هي أيضاً ذرائع للعب دور "الولد الشقي" ولتأمين فوزه باالستحسان وبالتدليل بهذه‬
‫الصفة وحدها‪.‬‬

‫ٍ‬
‫بتعبير أدق أراجون‬ ‫إن الذين يجعلون من "حسرة" كتابهم المفضل ال يجهلون وحسب أعمال شباب أراجون هذا نفسه‪ ،‬أو‬
‫اآلخر‪ ،‬بل إنهم يجهلون أيضاً في أغلب األحيان عمل جيوم أبوللينير الرئيسي الذي‪ ،‬بما يتميز به من غ ازرة ونضارة‪ ،‬كان بوسعه‬
‫أن يعفيهم من التشقلب افتتاناً بثرثرات معبودهم الجديد المجهدة والعديمة البهجة‪.‬‬

‫وبالنسبة ألولئك الذين راعوا دائماً االستهانة بالحفاظ على االتصال بالشعر‪ ،‬فإن أراجون الرائج يتخذ شكل مدرب – سريع‪.‬‬
‫فال أهمية تذكر لمن سبقوه‪ ،‬وال أهمية تذكر لذلك الجزء من نفسه الذي يجحده وينفر منه اليوم‪ ،‬فقد أصبحت كلمته قرص الشفاء‬
‫موعود بجميع أمارات الود‪ ،‬بجميع أمارات العطف‪ .‬إنه يحيطُ المرَء علماً بما‬
‫ٌ‬ ‫الشعري بامتياز‪ .‬إن أراجون‪" ،‬على حد القبالت‪،"...‬‬
‫يجري‪ ،‬ويريحه‪ ،‬وهو يملك كلمة غزل للنساء ومداعبة للصغار‪ .‬فلتسيروا في أثر الدليل!‬

‫القلب؟‬
‫ٍ‬
‫بشكل محدد أن أراجون قد أنسن الشعر الحديث‪.‬‬ ‫المراد‪ ،‬أكثر من ذي قبل‪ ،‬هو أالّ يكون المرء عديم القلب‪ .‬والحال إنه يبدو‬
‫والبد بالفعل للشعر الحديث أن يكون الشعر المقروء أقل من سواه عموماً حتى يتسنى ألسطورٍة على هذه الدرجة من البالهة أن‬
‫كل (عمل) أبوللينير‪ ،‬وأفضل ما عند إيلوار وكل (عمل) أندريه بريتون ُّ‬
‫وكل (عمل) جوليان جراك‪،‬‬ ‫يمر ُّ‬
‫تكون جديرة باالعتبار‪ .‬أال ُّ‬
‫نقاء وخصوبةً من قلب أراجون؟‬ ‫ٍ‬
‫وبقلب أكثر ً‬ ‫يمر قطُّ بالقلب‪،‬‬
‫أال ُّ‬
‫ٍ‬
‫بلمسات حذرة‪ ،‬فإن أراجون ال‬ ‫إن ما ينتصر عند أراجون ليس هو القلب‪ ،‬بل الزغردة‪ .‬وحتى حيثما يلن أن عليه التحرك‬
‫إيحائي وعن التذكير‬ ‫ٍ‬
‫ضباب‬ ‫يستطيع اإلمساك عن أن يكون مبالغاً وعن اإلشارة إشارةً واضحةً إلى ما كان يجب االكتفاء بتركه في‬
‫ّ‬
‫في كل لحلة بوضعه كمحدث نعمة‪ .‬محدث نعمة في االندفاعات العاطفية الكبيرة‪ ،‬مجدث نعمة في زفرات النحيب المتكلفة وجد‬
‫المؤثرة‪ ،‬محدث نعمة في ارتعاشات الشفاه وخفقات الرموش‪ :‬إن أراجون قياساً إلى شعراء القلب الصادقين هو كالندابات قياساً إلى‬
‫التعبير الصادق عن ضياع األمل‪ .‬ونجاحه‪ ،‬وهو في المقام األول نجاح استسهال ومجاملة للذات‪ ،‬إنما يرجع إلى الخمول الذهني‬
‫ألولئك الذين‪ ،‬بالنسبة لهم‪ ،‬يصبح فيون منسياً ونيرفال مجهوالً تماماً وأبوللينير غير جدير بقراءة ولو سريعة‪ .‬والحق أنه ال "أنشودة‬
‫هولميير الجميلة" وال "ال ديسديكادو"‪ ،‬وال "أغنية المحبوب الذي أشقاه الحب"‪ ،‬قد تمتعت قط بالتعبئة الدعائية الموضوعة في‬
‫خدمة أراجون‪ .‬وال مراء في أن ذلك إنما يرجع إلى أن "النبرة اإلنسانية العميقة التي تنبثق من عمل أراجون" هي‪ ،‬قبل ِّ‬
‫كل شيء‪،‬‬

‫‪83‬‬
‫نبرة متكلفة‪ ،‬نبرة يتحمل هو مهمة رعايتها ويتحمل وكالء دعايته مشقة كبيرة في إثبات صدقها‪ ...‬نبرة متكلفة؟ إن قصيدة جديدة‬
‫تماماً عنوانها "الوردة والخزامى" نشرتها صحيفة "المارسييز" في عددها الصادر في ‪ 2‬سبتمبر ‪ ،1944‬طبعة القاهرة‪ ،‬إنما تقدم في‬
‫هذا االصدد برهاناً غير متوقع‪ .‬إن القصيدة التي تبدأ بهذه األبيات‪:‬‬

‫ذلك الذي آمن بالسماء‬

‫وذلك الذي ما آمن بها‬

‫كالهما هاما بالجميلة‬

‫أسيرة الجنود‪...‬‬

‫غنائي إلى هذا الحد أو ذاك‪ ،‬للخط السياسي للحزب الذي يرتبط به‬
‫ٍّ‬ ‫ال جدال في أنها ال تدعي غير تصوير‪ ،‬ذي ٍ‬
‫شكل‬
‫الكاتب‪ ،‬أي الحزب الشيوعي الفرنسي‪ .‬وكل ٍ‬
‫نقد للقيمة الخاصة بهذا النص تصبح عديمة الجدوى‪ ،‬ما أن يقارنه المرء ببعض‬
‫األبيات التي كتبها أراجون في عام ‪ ،1931‬والتي كتبت‪ ،‬هي أيضاً‪ ،‬لكي تكون مسايرةً للخط‪ .‬ويبدو أن هذه المقارنة البسيطة البد‬
‫لها من أن تكون كافيةً لحسم مسألة الصدق‪.‬‬

‫إالَّ أنه ليس باإلمكان إنهاء هذا الفصل الخاص بالقلب دون أن نعيد إلى األذهان هنا أن أراجون لم يتردد قط في استخدام‬
‫قلبه ضد أصدقائه األعز‪ ،‬كلما سمح له ذلك بارتقاء درجة في هي ارريكية الوصولية‪.‬‬

‫فعندما سافر في نوفمبر ‪ 1930‬لتمثيل الحركة السوريالية في مؤتمر خاركوف‪ ،‬كتب من هناك إلى صديقه أندريه بريتون‪: :‬‬
‫إننا نعتمد على ثقتك في كل شيء‪ ،‬على ثقتك أنت بالتحديد‪ ،‬للتحدث باسمنا في خاركوف"‪ .‬وبعد ذلك ٍ‬
‫بأيام قالئل‪ ،‬أعلنت برقيةٌ‬
‫مشرقة‪" :‬هنا‪ ،‬النجاح تام‪ ،‬أراجون"‪ .‬وبعد ذلك ٍ‬
‫بأيام قالئل أيضاً وقَّع أراجون‪ ،‬مع جورج سادول‪ ،‬وثيقةً علنية أعلنا فيها تنصلهما من‬
‫ِّ‬
‫كل األعمال "السوريالية" وباألخص من "البيان الثاني للسوريالية" الذي كتبه أندريه بريتون‪ .‬وهكذا فإن أراجون‪ ،‬ممارساً بخفة‬
‫متساوية خيانةَ الثقة الممنوحة له والشهادة الزور‪ ،‬قد وصل إلى انتزاع مكانة مختارة في إدارة حزبه‪ .‬ومن عام ‪ 1937‬إلى عام‬
‫‪ ،1939‬عمل رئيساً لتحرير الصحيفة اليومية الكبرى "سوسوار"‪ .‬وأقل ما يمكن للمرء قوله عن هذا الرجل المتعدد القلوب هو أنه قد‬
‫تميز دائماً بالجحود المؤدي إلى المغانم‪.‬‬

‫حماقات الشباب؟‬
‫إن أراجون‪ ،‬بالنسبة لكثيرين ممن يملكون فكرةً عمومية عن مساره األخالقي والسياسي‪ ،‬دون أن يكونوا على ٍ‬
‫علم بتفاصيل‬
‫انفالتاته المتعاقبة‪ ،‬إنما يصور أفضل من أي أحد آخر ما هو أبدي ومؤسف "من الخير أن ينقضي الشباب"! ففي مجتمع‪ ،‬ثم في‬
‫حزب‪ ،‬مك رسين بكاملهما لتدجين ولضبط سلوك أعضائهما‪ ،‬تعتبر وليفة المثقف المستأنس واحدة من الولائف التي تتميز مكانتها‬
‫ٍ‬
‫مؤتمر‬ ‫وعائدها المادي باستقرارهما الرائع‪ .‬خاصةً عندما يجعل المثقف‪ ،‬على غرار أراجون‪ ،‬من استئناسه هو قيمة خطابية في‬
‫للكتاب‪ .‬ألم يصرخ أراجون في الواقع باعتزاز في المؤتمر الدولي الثاني لل ُكتَّاب للدفاع عن الثقافة‪ ،‬في باريس في ‪ 16‬يوليو‬
‫ٍ‬
‫بمصطلحات تجارية‪ .‬نعم أيها‬ ‫‪" : 1937‬لقد بخست صداقات شبابي!"‪ .‬لقد كان من الجميل قول ذلك‪ ،‬على لسان المرتد نفسه‪،‬‬
‫السيد أراجون‪ ،‬إن لك الحق مائة مرة في التعبير عن نفسك بهذه الطريقة‪ ،‬إنك‪ ،‬شأنك في ذلك شأن من هم على شاكلتك‪ ،‬قد قمت‬
‫مستوى‬
‫ً‬ ‫بتجارة مربحة‪ .‬لكنك خالفاً لذلك‪ ،‬كنت سافالً سفالةً ال تغتفر‪ ،‬عندما اجترأت‪ ،‬فور هذا االعتراف‪ ،‬على وضع نفسك على‬
‫واحد مع رامبو‪ ،‬لقد اجترأت على الهتاف‪" :‬لك يا رامبو أقول ‪ :‬إنني أعرف اليوم‪ ،‬كما كنت تقول‪ ،‬كيف أحيي الجمال"‪.‬‬
‫ٍ‬
‫شيء‬ ‫إن أراجون‪ ،‬شأنه في ذلك شأن من هم على شاكلته في الفن‪ ،‬في الشعر‪ ،‬في السياسة‪ ،‬يستشعر الحاجة إلى تدنيس‬
‫عليم ما في سقوطه‪ .‬وفي هذا الوقت الذي نشهد فيه جميع الحيل الرائجة‪ ،‬فإن المغامرة الرامبوية تنحط بالنسبة للمثقفين‬
‫‪84‬‬
‫البورجوازيين الصغار إلى تمرين مريح في صاالت تحرير صحافة اليسار‪ .‬ومنذ تلك اللحلة‪ ،‬وفاقداً لكل حس قياس ولكل وعي‪،‬‬
‫فإن أحقر هؤالء المولفين‪ ،‬في أثر رئيسه‪ ،‬سوف يسمح لنفسه برفع الكلفة مع رامبو‪.‬‬

‫إن أراجون‪ ،‬في اللحلة الراهنة‪ ،‬ال يشد اهتمامنا ال كشاعر وال كمناضل بل أساساً كلاهرة اجتماعية‪ .‬فأ ارجون يرمز إلى أوج‬
‫الخديعة المعاصرة‪ ،‬االحتيال العاطفي الكبير الذي يكسب كل يوم أرضاً ثمينة على حساب صدق القلب واستقالل الحكم النقدي في‬
‫آن واحد‪ .‬إنه مستعرض للحب‪:‬‬

‫ِ‬
‫أحبك يا إلزا‪ ،‬آه يا مصدر شجني‪،‬‬

‫آه يا مصدر عذابي‬

‫ومستعرض للحمية الوطنية‪:‬‬

‫أحييك يا فرنساي ألجل راسين وألجل ديدرو‪،‬‬

‫بعد إلى األحراج و موريس شوفالييه‪...‬‬


‫لن نذهب ُ‬

‫ٍ‬
‫بطالء من المؤثرات‬ ‫اجد دائماً لكي يستر األضاليل واإلفالسات والخيانات‬
‫ومستعرض لألمل أو للكراهية‪ ،‬ال فرق‪ ،‬لكنه متو ٌ‬
‫بشكل خاص أن خطب ونصوص أراجون قد لعبت‪ ،‬منذ أربعة عشر عاماً‪ ،‬دور ٍ‬
‫تأكيد‬ ‫ٍ‬ ‫العاطفية‪ .‬ألنه ال يجب أن ننسى‬
‫االستياء‬ ‫عم‬ ‫ٍ‬
‫دولية رياضية‪ُ ،‬هزم الفريق الفرنسي هزيمة محزنة‪ .‬وقد َّ‬ ‫ٍ‬
‫منافسة‬ ‫ٍ‬
‫لبيانات كالبيان التالي‪ " :‬قبل عدة أسابيع‪ ،‬في‬ ‫غنائي‬
‫ُ‬
‫كثيرين من الفرنسيين‪ .‬إن الشيوعيين الفرنسيين يشاطرونهم شعورهم " (كلمة موريس توريز في قاعة واجرام‪ ،‬نقلتها‬
‫تأكيد غنائي لجميع تحركات وانقالبات مبادئ حزب‬‫صحيفة لومانيتيه في عددها الصادر في ‪ 13‬أكتوبر ‪ ،)1935‬أي دور ٍ‬
‫حريص‪ ،‬هو أيضاً‪ ،‬على أن يدفن إلى األبد "حماقات شبابه"!‬

‫إن عدوى "الحسرات" و"عيون إل از" – إن لم نتحدث عن مصنوعات األدب البطولية أو الغرامية المصنفة في لل الكريملين‬
‫الروسي" الجسيم الذي‬ ‫يكبح أخي اًر هذا "التراجع‬
‫ي ُ‬ ‫ٍ‬
‫النتفاض فكر ٍّ‬ ‫نقدي‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫لنهوض ّ‬ ‫الملحة‪ ،‬الضرورة الفورية‪،‬‬
‫– إنما تؤكد لنا الضرورة ُ‬
‫ّ‬
‫تضيع فيه أفضل طموحات زماننا‪.‬‬

‫وفي هذه النهاية لعام ‪ ،1944‬في هذا الفجر لالنتصار الديموقراطي‪ ،‬هل سيكون كثي اًر على البشر أن ندعوهم إلى التفكير‬
‫بأنفسهم‪ ،‬إلى التمرد على البشاعات الدعائية التي تخطب ودهم‪ ،‬إلى احترام قناعاتهم بعيداً عن الصورة التي يعرضها عليهم‬
‫المزورون‪ ،‬شعراء كانوا أم غير شعراء‪ ،‬والى أن يجعلوا من استقالل رأيهم السالح الفعال لصعودهم التحريري‪! ...‬‬

‫فليغفر لنا القارئ رفعنا المناقشة فوق شخص أراجون وكل ما يزعم أنه يمثله‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وصاف ال يعود نفياً لكل تفكي ٍر‬ ‫إننا نعتقد أن الساعة قد حانت لرفع كل نقاش إلى منتهاه‪ ،‬إلى تجاوزه في ٍ‬
‫فعل ٍ‬
‫قاس‬
‫تمهيدي بل باألحرى تتويجاً له في عالم الواقع‪.‬‬

‫سالم مالئكي وعنوان قصيدة ألراجون في الوقت نفسه‪ – .‬م‪.‬‬


‫لعب على الكلمات‪ ،‬فاآلف ٌ‬
‫* ٌ‬

‫‪85‬‬
86
‫مالحق‬

‫"أي آراجون يجب أن نصدق؟ ذلك الذي أوصانا‪ ،‬في "اإلباحية" بالهرب من صفوف الجيش فو اًر؛ ذلك الذي‪ ،‬في " ٍ‬
‫بحث حول‬ ‫ُّ‬
‫ُ‬
‫للوذعي الذي‬
‫ُّ‬ ‫ستاليني "النار على ليون بلوم" و"مرحى لألورال"؛ البورنوجرافي ا‬
‫ُّ‬ ‫نسي بأسره"؛ أم‬
‫األسلوب"‪" ،‬تغوط على الجيش الفر ّ‬
‫كتب " ُك ‪ ...‬إيرين"‪ ،‬أم الديروليدي الجديد ألعوام ‪ ،1938 – 1936‬ذلك الذي تباكى على جان دارك وعلى قبعة موريس‬
‫شوفالييه القش؛ ذلك الذي قرر أن "الواقعية االشتراكية" يجب أن تكون أوالً "واقعية فرنسية"‪ ،‬ألن تلك كانت آنذاك سياسة ستالين في‬
‫فرنسا ‪...‬؟ الفوضوي أم اليسوعي‪ ،‬السوريالي أم الكادرالحزبي المنضبط‪ ،‬أيهما األصدق؟"‬

‫إيتيامبل (لتر فرانسيز‪ ،‬أول أبريل ‪)1944‬‬

‫أراجون ضد أراجون‬

‫الوردة وال ُخزامى‬

‫ذلك الذي آمن بالسماء‬

‫وذلك الذي ما آمن بها‬

‫كالهما هاما بالجميلة‬

‫أسيرة الجنود‬

‫الذي صعد إلى المعراج‬

‫والذي ارقب من تحت‬

‫ذلك الذي آمن بالسماء‬

‫وذلك الذي ما آمن بها‬

‫ما أهمية اسم‬

‫هذا النور الذي يضيء‬

‫الخطوات‬

‫ما أهمية أن األول كان‬

‫من الكنيسة‬

‫بينما تجنبها اآلخر‬

‫ذلك الذي آمن بالسماء‬

‫‪87‬‬
‫وذلك الذي ما آمن بها‬

‫كالهما كانا مخلصين‬

‫شفاهاً وقلباً وسواعد‬

‫وكالهما قاال إنها‬

‫حية ومن سيحيا سيرى‬

‫ذلك الذي آمن بالسماء‬

‫وذلك الذي ما آمن بها‬

‫الب َرد‬
‫عندما تكون السنابل تحت َ‬
‫أحمق من يتشدد‬
‫ٌ‬
‫أحمق من يفكر في منازعاته‬
‫ٌ‬
‫في قلب المعركة المشتركة‪...‬‬

‫(إلخ‪ ،‬إلخ‪)...‬‬

‫لوي أراجون‬

‫المارسييز ‪1944-9-2‬‬

‫ي يمكن إقامته في ساحة‪ ،‬والتمثال األكثر إدهاشاً بين جميع التماثيل‪ ،‬والعمود األكثر جسارةً واألكثر رشاقة‪،‬‬ ‫ٍ‬
‫نصب تذكار ًّ‬ ‫إن أجمل‬
‫ٍ‬
‫سهولة‬‫طيف المطر اللوني ذاتَه‪ ،‬ال تُساوي الركام الرائع والعشوائي – حاولوا لتروا – الذي يحققه المرء ب‬
‫َ‬ ‫والقوس الذي يضاهي‬
‫بالجمع بين كنيسة والديناميت‪.‬‬

‫لوي أراجون‬

‫(الجبهة الحمراء‪)1931 ،‬‬

‫ك‪ ...‬دوالفيلرابيل‪ ،‬كبير أساقفة روان‪ ،‬مونسنيور دو مي دو دو الفيلرابيل‪ ،‬أسقف آنسي‪ ،‬مونسنيور باريت من‬ ‫مونسنيور ُ‬
‫(الم َخابر) العمدة والسيد ديمار‪ ،‬مسئول الوضاعات الحقيرة‪ ،‬والجنرال شاربي (المهترئ) يستقبلون الكاردينال‬
‫باليموث‪ ،‬السيد ميتاييه ُ‬
‫بورن‪ ،‬كبير أساقفة وستمنستر‪ ،‬سفير البابا‪ ،‬الذي بعد تَ َعب ٍُّد قصير في دورة المياه‪ ،‬يلهر من جديد في قاعة تناول الطعام حيث‬
‫يجري انتلار الكهنة من األبرشية‪.‬‬

‫لوي أراجون‬
‫‪88‬‬
‫مضطهد‪)1929 ،‬‬
‫َ‬ ‫(مضط ِهد‬

‫أراجون ضد أراجون‬
‫ما أقرب الموسيقى البعيدة‬

‫إلى قلبي‬

‫ف‬
‫اع ُ‬
‫ض َ‬‫الم َ‬
‫إنها الصدى ُ‬
‫ضَّرج األمس‬
‫لم َ‬
‫ُ‬
‫حيث يختلج قلب جان دارك‬
‫لدى سماع أصو ٍ‬
‫ات جديدة‬

‫وفي أعين الشعب‬

‫أرى اليوم من جديد‬

‫زانتراي الذي غسل وجهه‬

‫بماء النبع‬

‫الكلمات الم ِ‬
‫ثملةُ غريبة‬ ‫أصبحت‬
‫ُ ُ‬
‫ليس اللسان الالتيني الذي يعلمونه في المدرسة‬

‫إنه الطنبورة التي مازالت تهدر على جسر آركول‬

‫إنه بارا‪ ،‬إنه كليبير وهذه الصيحة الهادرة‬

‫هذه الصيحة المقَ َّدسة‪ :‬الوطن في خطر‪.‬‬

‫لوي أراجون‬

‫(اسمعي يا فرنسا‪ ،‬فونتين‪ ،‬العدد‪)29‬‬

‫ما هذه الكلمة التي تُ َذ ِّك ُرنا‬

‫إسكات ٍ‬
‫شعب‬ ‫ُ‬ ‫بأنه ال يجب‬

‫بأنه ال يجب إخراسه‬

‫بسيف الجالَّد َّ‬


‫المقوس‬

‫ين – باي‬
‫‪89‬‬
‫الصفر هذا القَ َسم‬
‫إليكم أيها األخوة ُ‬
‫اني‬
‫دم فار ٍّ‬
‫لقاء كل قطرة سالت من حياتكم سوف يسيل ُ‬

‫اسمعوا صرخة السوريين المقتولين‬

‫بضربات قذائف‬

‫طياري الجمهورية الثالثة‬

‫اسمعوا صيحات المغاربة الذين قُتلوا‬

‫من دون ذكر عمرهم أو جنسهم‪.‬‬

‫لوي أراجون‬

‫(الجبهة الحمراء‪)1931 ،‬‬

‫أراجون ضد أراجون‬
‫ِ‬
‫أحييك ألجل هاتين العينين القادمتين من قلب‬ ‫ِ‬
‫عينيك اللتين رأتا سقوط الباستيل‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أحييك يا فرنساي‪ ،‬ألجل هذا الضوء في‬
‫العصور وألجل األغنيات الرقيقة التي تحرك صدرك الذي من الحنطة واللبن‪ ،‬ألجل أغنية إنها تمطر أيتها الراعية [جان دارك]‬
‫ِ‬
‫أحييك يا فرنساي ألجل‬ ‫بعد إلى األحراج وموريس شوفالييه‪.‬‬
‫وألجل الكارمانيول‪ ،‬ألجل راسين وألجل ديدرو‪ ،‬ألجل أغنية لن نذهب ُ‬
‫جان [دارك] واللورين الجميلة وبابيف الذي مات هو اآلخر ألن قلبه كان عليماً جداً‪.‬‬

‫لوي أراجون‬

‫"كلمة في المؤتمر الدولي الثاني لل ُكتَّاب من أجل الدفاع عن الثقافة‪،‬‬


‫باريس‪ 16 ،‬يولو ‪( 1937‬في كومين‪ ،‬العدد ‪")48‬‬

‫إنني أعتبر ُك َّل ُمع َج ٍب بأناتول فرانس كائناً منحطاً‪ .‬وانه ليطيب لي أن المشتغل باألدب الذي يحييه اليوم في ٍ‬
‫آن واحد التلمي ُذ‬
‫ٍ‬ ‫ملة غريرٍة ٍ‬
‫سك ع ِ‬
‫لحكاية لصاد‪ ،‬الذي قضى‬ ‫دنيئة تماماً‪ ،‬مقدمةً من أكثر المقدمات خزياً‬ ‫مور وموسكو البلهاء قد كتب‪ ،‬من أجل ِّ ُ‬ ‫َّا‬
‫عمره في السجن‪ ،‬لكي ينال في النهاية ركلة من هذا الحمار الرسمي‪ ...‬البد لبهلوان الروح الحقير هذا أن يدفع ثمن العار الفرنسي‪،‬‬
‫ألن هذا الشعب الوضيع كان سعيداً إلى هذا الحد بمنح اسمه له‪.‬‬

‫لوي أراجون‬

‫(هل صفعتم بالفعل ميتاً‪ ،‬من كراس جثة‪ ،‬الصادر عند موت أناتول فرانس)‬

‫‪90‬‬
‫أراجون دائماً وأبداً‬
‫بيت في داخلي هذا الشيطان‪ :‬الحاجة إلى الخيانة‪.‬‬ ‫ذات ٍ‬
‫يوم جميل‪ ،‬أُدرك أنني ر ُ‬

‫لوي أراجون‬

‫(اإلباحية ‪)1924 ،‬‬

‫ِ‬
‫صداقات شبابي‪.‬‬ ‫ت‬
‫لقد َب َخس ُ‬
‫لوي أراجون‬

‫(كلمة في المؤتمر الدولي الثاني لل ُكتَّاب‪ ،‬باريس‪ 17 ،‬يوليو ‪.)1937‬‬

‫ترجمة بشير السباعي وهدى حسين‬

‫‪91‬‬
‫إشارات‬
‫لوي أراجون‪ :‬شاعر وروائي فرنسي (‪ ،)1982-1897‬ولد في باريس‪ .‬كان أحد مؤسسي السوريالية ثم تخلى عنها‪.‬‬

‫جيوم أبوللينير‪ :‬شاعر فرنسي (‪ ،)1918-1880‬ولد في روما‪ .‬وجه الشعر الرمزي في طرق جديدة استشرفت السوريالية‪.‬‬

‫ني‪ :‬شاعر وكاتب مسرحي فرنسي (‪ .)1684-1606‬ولد في روان‬


‫بيير كور ّ‬
‫جيرار دونيرفال‪ :‬كاتب فرنسي (‪ ،)1855-1808‬ولد في باريس‪ .‬شاعر متأثر يالرومانسية األلمانية‪.‬‬

‫أرتور رامبو‪ :‬شاعر فرنسي شهير (‪ ،)1891-1854‬توقف مبك اًر عن كتابة الشعر وتحول إلى مغامر‪.‬‬

‫فرانسوا فيون‪ :‬شاعر فرنسي (‪ – 1431‬نحو ‪ ،)1463‬ولد في باريس‪ .‬عاش حياةً مغامرة وتعرض لحبل المشنقة أكثر من مرة‪ .‬أول شاعر‬
‫غنائي فرنسي كبير في العصر الحديث‪.‬‬

‫جان راسين‪ :‬شاعر تراجيدي وكاتب مسرحي فرنسي (‪.)1699-1639‬‬

‫أندريه بريتون‪ :‬شاعر وكاتب فرنسي (‪ ،)1966-1896‬مؤسس السوريالية‪.‬‬

‫بول ديروليد‪ :‬شاعر وسياسي فرنسي (‪ ،)1914-1846‬ولد في باريس‪ ،‬رئيس عصبة الوطنيين‪ ،‬مؤلف "أغنيات الجنود"‪.‬‬

‫موريس شوفالييه‪ :‬مطرب منوعات وفنان سينيمائي فرنسي (‪ ،)1972-1888‬ولد في باريس‪.‬‬

‫دوني ديدرو‪ :‬فيلسوف تنويري فرنسي (‪.)1784-1713‬‬

‫أناتول فرانس‪ :‬أديب فرنسي (‪.)1924-1844‬‬

‫ستاليني فرنسي (‪.)1964-1900‬‬


‫ٌّ‬ ‫موريس توريز‪ :‬زعيم‬

‫جان دارك‪ :‬رمز من رموز الوطنية الفرنسية (‪.)1431-1412‬‬

‫زانتري‪ :‬رفيق جان دارك (؟‪.)1461-‬‬

‫جوزيف بارا‪ :‬رمز من رموز البسالة خالل حروب الثورة الفرنسية (‪.)1793-1779‬‬

‫جان – باتيست كليبير‪ :‬جنرال فرنسي (‪ .)1800-1753‬اغتيل في القاهرة على يد سليمان الحلبي‪.‬‬

‫جراشوس بابيف‪ :‬ثوري فرنسي (‪ ،)1797-1760‬شيوعي طوباوي‪.‬‬

‫إيتيامبل‪ :‬ناقد فرنسي‪.‬‬

‫المركيز دو صاد‪ :‬روائي فرنسي (‪.)1814-1740‬‬

‫سياسي اشتراكي – ديموقراطي فرنسي (‪)1950-1872‬‬


‫ٌّ‬ ‫ليون بلوم‪:‬‬

‫‪92‬‬
‫هيبة الرعب‬
‫أن ينتهي واألغالل في قدميه‪ ،‬ذلك كان غاية حياة‪ .‬لكن هذا قفص ذو قضبان‪ .‬دون مباالة‪ ،‬بشكل متسلط‪ ،‬دون حياء‪ ،‬تسللت ضجة الناس وعاودت‬
‫حتج ُز ُح اًّر؛ كان بوسعه المشاركة في كل شيء‪ ،‬لم يغب عنه شيء في الخارج؛ بل كان بوسعه الهرب من القفص؛‬
‫الم َ‬
‫التسلل عبر الشبيكة؛ في الحقيقة‪ ،‬كان ُ‬
‫كانت القضبان متباعدة على اتساع متر؛ بل إنه لم يكن مقبوضاً عليه‪.‬‬

‫فرانتس كافكا‬

‫الثامن من أغسطس ‪1945‬‬

‫ليس هذا بحثاً‪ .‬فالبحث ال يكتب عن سبق عمد واصرار وبكافة االحتياطات األدبية المتعارف عليها وحسب‪ ،‬بل هو يستلزم‬
‫باإلضافة إلى ذلك حشداً للمراجع وللمعطيات‪ ،‬ذات الطابع اإلحصائي إلى هذا الحد أو ذاك‪ ،‬وهو ما ال يسعني أن أضحي في‬
‫ملي‪ ،‬إنما‬
‫علي هذا النص‪ .‬ناهيك عن أن جمهور األبحاث القديم‪ ،‬وقد خان كل تفكير ّ‬ ‫سبيله بجيشان السخط والغضب الذي أملى َّ‬
‫يجد لذته اليوم في قراءة العديد من "المختصرات" الرائجة وفي أخبار الدسائس المثيرة للمشاعر المبتذلة‪ ،‬سواء كانت دسائس‬
‫ديبلوماسية أم بوليسية‪ ،‬والتي تقدمها له كل صباح‪ ،‬مع وجبة اإلفطار‪ ،‬صحافة مرتبطة بجميع الحقارات‪.‬‬

‫شيء يهدف إلى استفزاز الناس الغارقين في‬‫ٌ‬ ‫شيء طموح‪.‬‬


‫ٌ‬ ‫ليس هذا بحثاً‪ .‬وهو ال يقنع بأن يكون أقل من احتجاج‪ .‬إنه‬
‫األكذوبة‪ ،‬إلى إضفاء معنى وغاية وأهمية متواصلة على تقزز عابر‪ ،‬على شعور وقتي بالغثيان‪ .‬فالقيم التي تحكم مفهومنا للحياة‬
‫والتي تحفل لنا‪ ،‬هنا وهناك‪ ،‬جز اًر من األمل وفسحات من الكرامة‪ ،‬يجري تخريبها بشكل منهجي عن طريق أحداث يدعوننا‪ ،‬عالوة‬
‫على ذلك‪ ،‬إلى أن نرى فيها انتصارنا‪ ،‬والى أن نرحب فيها بالتدمير األبدي الذي يمارسه تنين ال يكف البتة عن النهوض من موته‪.‬‬
‫إالَّ أنه بقدر ما يتكرر المشهد‪ ،‬أال يذهلنكم التحول الذي يحدث في السمات المميزة للبطل؟‬

‫غير أن من اليسير عليكم أن تالحلوا أن مارجرجس‪ ،‬عند كل جولة صراع جديدة‪ ،‬يتحول دون توقف أكثر فأكثر إلى‬
‫اكتساب خصائص التنين‪ .‬وسرعان ما يكف مار جرجس عن أن يكون شيئاً آخر غير نسخة بشعة من التنين‪ .‬وسرعان أيضاً ما‬
‫يحاول التنين المقََّنعُ إقناعنا‪ ،‬بضربة حربة‪ ،‬بأن إمبراطورية الشر قد سويت بالتراب!‬

‫إن الثامن من أغسطس سوف يلل في نلر البعض تاريخاً ال يغتفر‪ .‬أحد مواعيد العار الكبرى التي ضربها التاريخ‪ .‬إن‬
‫الصحف تتحدث بتلذذ عن آثار القنبلة الذرية‪ ،‬أداة السجال في المستقبل بين شعب وشعب‪ .‬وتعلن نشرات األخبار اإلذاعية‬
‫المسائية دخول االتحاد السوفييتي الحرب ضد أشالء وخرائب اليابان‪ .‬هذان حدثان‪ ،‬يتفاوت ثقلهما دون ريب‪ ،‬لكنهما يشتركان في‬
‫الفلاعة ذاتها‪.‬‬

‫قبل عشر سنوات‪ ،‬وقف الرأي العام العالمي وقد انتابه الهلع كي يعبر عن احتجاجه على استخدام غاز الخردل من جانب‬
‫الطيارين الفاشيين الذين أُطلِقوا على أثيوبيا‪ .‬وكان قصف قرية جرنيكا‪ ،‬التي سوتها األسراب األلمانية بالتراب في إسبانيا‪ ،‬كافياً ألن‬
‫ُيعبِّئ ‪ -‬في عالم كان ال يزال فخو اًر بحريته – ماليين الضمائر الحية‪ .‬وعندما مزقت القنابل الفاشية لندن‪ ،‬بدورها‪ ،‬كان واضحاً‬
‫على أي جانب من الحريق تقع القيم التي يتوجب الدفاع عنها‪ .‬ثم رووا لنا كيف اكتوت هامبورج بالنار نفسها التي اكتوت بها لندن‪،‬‬
‫وشرحوا لنا مآثر تقنية جديدة للقصف تدعى بـ "القصف اإلشباعي" والتي ُو ِع َدت بفضله مناطق حضرية ضخمة بأن تسوى تسوية‬
‫مؤكدة بالتراب‪ .‬وليس في هذه األساليب المتقنة‪ ،‬هذه التحديثات الفائقة في مجال القتل‪ ،‬ما يمكنه اإلعالء من شأن قضية الحرية‪،‬‬
‫انعتاق اإلنسان‪ .‬ولقد كنا أكثر ميالً من غيرنا‪ ،‬هنا‪ ،‬وفي بريطانيا العلمى‪ ،‬وفي أمريكا‪ ،‬إلى اعتبارها بشعة بشاعة مختلف أشكال‬
‫الويل التي ا بتدعها النازيون‪ .‬ففي يوم من األيام‪ ،‬يكون "التنليف" عن طريق غارة من غارات الرعب من نصيب مدينة بأكملها‪.‬‬
‫وفي اليوم التالي‪ ،‬يكون شلل الموت من نصيب محطة سكك حديدية يتكدس فيها آالف الالجئين‪ ،‬وذلك بفضل جهاز تصويب‬
‫علمي متفوق‪ .‬وهذه األلعاب الال إنسانية تبدو فجأة مثيرة للسخرية‪ ،‬مع دخول القنبلة الذرية ميدان الخدمة ومع قيام القاذفات‬
‫الديموقراطية بإذاقة الشعب الياباني فضائلها جرعة واحدة! إذ ما األهمية التي يتميز بها في الواقع اغتيال عدة عشرات من اآلالف‪،‬‬
‫‪93‬‬
‫صفر وبمزيد من‬‫أو عدة مئات من اآلالف من المدنيين اليابانيين‪ ،‬عن سبق عمد واصرار‪ .‬إن الجميع يعرفون أن اليابانيين ُ‬
‫صف اًر "أخيا اًر"‪ .‬ألم تعلن شخصية ليست من "مجرمي الحرب"‪ ،‬بل هو األميرال ويليام‬
‫الوقاحة‪ ،‬صفر أشرار – حيث ُيعتبر الصينيون ُ‬
‫هالساي‪" :‬إننا بسبيلنا إلى حرق وتمشيط هذه القردة اليابانية البهيمية عبر كل منطقة المحيط الهادئ‪ ،‬واننا لنشعر بفرحة لدى حرقهم‬
‫تفوق تماماً لذة إغراقهم"‪ .‬إن هذه الكلمات الحماسية والتأكيدية فيما يتعلق بالفكرة التي يود القادة العسكريون تكوينها عن الكرامة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬هذه الكلمات قد قيلت أمام أحد معدي أحداث الساعة‪...‬‬

‫إن مارجرجس يتطاول تطاوالً زائداً عن الحد‪ .‬وهو يبدأ في اللهور أمامنا بملهر أدعى للتقزز من ملهر التنين‪.‬‬

‫*‬

‫وعند المرحلة التي ساقتنا إليها التطورات السياسية والحربية األخيرة‪ ،‬فمما ال غنى عنه التأكيد على أن مشروعية أية قضية‬
‫يجب أن تتحدد بشكل أساسي‪ ،‬وبالدرجة األولى‪ ،‬من زاوية الوسائل التي تستخدمها‪ .‬مما ال غنى عنه‪ ،‬حرصاً على القضايا التي ال‬
‫تزال تغامر بالتذرع بخير اإلنسان‪ ،‬تحديد جدول بالوسائل التي ليس من شأنها طمس الغاية المنشودة‪ .‬إن اللجوء إلى النميمة في‬
‫مواجهة ضرورة عابرة‪ ،‬إنما يترجم نفسه‪ ،‬في وقت قصير‪ ،‬إلى إدارة للنميمة‪ .‬وسرعان ما يتكون لدى فريق من المواطنين‪ ،‬طبع‬
‫نميمي‪ - ،‬ولدى الفريق اآلخر‪ ،‬وسواس نميمي‪ .‬ولو أردتم تحويل المناقشة صوب الغايات النهائية التي يزعم كل واحد أنه يسعى‬
‫إليها فإن المرء سوف يستيقل‪ ،‬وسوف يفتش البسطة وملهر السُّلَّم‪ .‬وسوف يغلق الباب بعد ذلك مرتين ولن يعبر عن نفسه إالَّ‬
‫بعبارات محسوبة ووفقاً لحالة روحية أصبحت أكاديمية بصورة مفاجئة‪ .‬إن الوسيلة تنتقل إلى حالة المؤسسة‪ .‬إنها تشطر حياة أمة‪،‬‬
‫وحياة كل إنسان إلى شطرين‪ .‬والشيء نفسه يحدث فيما يتعلق بالوسائل األخرى المخصصة للعدو بهدف التغلب عليه وتدميره إلى‬
‫أقصى حد ولكن التي يتبين ‪ -‬عند االنتصار – أنها قد ُرفعت إلى مصاف تشوهات قومية‪ ،‬عاهات ثقافية تجري حمايتها بعناية‬
‫ضد تمردات العقل المحتملة‪ .‬وهكذا فإن عبادة صوابية الزعيم‪ ،‬والتعزز الجنوني للمراتبيات الزائفة‪ ،‬والتسلط على جميع مصادر‬
‫المعلومات وجميع وسائل النشر والتنليم المسعور ألكاذيب الدولة طوال ساعات النهار والليل‪ ،‬واإلرهاب البوليسي المنفلت ضد‬
‫المواطنين المحتفلين بيقلة وعيهم النسبية – كل ذلك يصبح أشكاالً معترفاً بها اعترافاً هاماً للتقدم السياسي واالجتماعي!‪ .‬وانه‬
‫لعلى وجه التحديد ضد إجماع قوي كهذا على استم اررية الضالالت يجب أن نكرر على أنفسنا‪ ،‬بال هوادة‪ ،‬الحقيقة الواضحة التالية‪:‬‬

‫إن البروليتاريا ال يمكنها أن تحلم بالصعود باللجوء إلى الوسائل التي ينحدر أعداؤها باللجوء إليها‪ .‬إن نوعاً من االشتراكية‬
‫يدين بقيامه لمعجزات الدس‪ ،‬والنميمة‪ ،‬واالبتزاز السياسي واالحتيال االيديولوجي‪ ،‬سوف ينخر السوس في أساسه بسبب وسائل‬
‫انتصاره ذاتها‪ ،‬وسوف يكون اإلنسان والشعوب مفرطة في حسن النية لو انتلرت منه شيئاً غير تغيير للدياجير‪.‬‬

‫في الثامن من أغسطس ‪ ،1945‬بينما كان ال يزال ينزف الجرح المفتوح في هيروشيما‪ ،‬المدينة – الشهيدة التي وقع عليها‬
‫االختيار لتفجير القنبلة الذرية األولى‪ ،‬وجهت روسيا ستالين إلى اليابان طعنة الخنجر الشهيرة في اللهر والتي تعود براءة اختراعها‬
‫إلى موسوليني‪ .‬وال بد أن هذا األخير قد عذبه التقلب في قبره وهو يرى في رقاده مصير حقوق المؤلف‪ .‬ذلك أنهم لم يكتفوا بانتحال‬
‫مفاخره المأثورة‪ ،‬بل أرادوا إضافة مساهمتهم التاريخية الخاصة‪ .‬إن نص إعالن الحرب السوفييتي يحيطنا علماً في الواقع بأن هذا‬
‫الدخول في الحرب من جانب االتحاد السوفييتي ال يهدف إالَّ إلى "إنهاء الحرب في أقرب وقت" و"المحافلة على األرواح البشرية"!‬
‫دعوا جانباً الوسائل الحقيرة‪ - ،‬هاكم إذاً غاية في حد ذاتها‪ ،‬غاية ال يمكن ألحد أن يجادل في أن من الصعب أن نجد لنبلها مثيالً‪.‬‬
‫وعلى مدى قرون قادمة‪ ،‬سوف يجد الشعراء الغنائيون الستالينيون في منغوليا الخارجية متسعاً لإلسهاب في الحديث عن الطابع‬
‫السلمي واإلنساني لقرار المعلم‪.‬‬

‫إن الثامن من أغسطس ‪ 1945‬هو أحد أحط التواريخ في المسيرة اإلنسانية‪.‬‬

‫‪94‬‬
‫عن الحروب العادلة وخطر كسبها‬

‫قبل أن ُيدفع العالم إلى النضال ضد الفاشية بعدة سنوات‪ ،‬استعر أوار مناقشات حادة في صفوف الحركات اليسارية بين أتباع‬
‫المسالمة المبدئية والمناضلين الداعين إلى نضال حتى الموت ضد الطغيان‪ .‬وكان من بين الموضوعات التي تعاود اللهور دائماً‬
‫في هذا التبادل الطويل لألفكار والحجج‪ ،‬موضوع "الحروب العادلة"‪ .‬وقد اجتهد المسالمون المبدئيون‪ ،‬بمهارة لم تكن شريفة دائماً‪،‬‬
‫في إثبات أنه ال توجد حروب عادلة‪ .‬وقد ذهبوا إلى االدعاء بأن مكافحة الطغيان عن طريق الحرب إنما تعني االستسالم بملء‬
‫اإلرادة لطغيان جهاز عسكري يستحيل كبح جماحه‪ ،‬ولقوانين استثنائية ال تعرف الرحمة‪ ،‬ولسياسيين حائزين ألكثر السلطات تعسفاً‬
‫ومعفيين بهذه الدرجة أو تلك من تقديم حساب عنها‪ .‬ويقول لنا منلرو المسالمة المبدئية‪ ،‬دون أن ينجحوا في إقناعنا‪ ،‬إن الحروب‬
‫بصفتها هذه وفي حد ذاتها إنما تشكل طغياناً ال يقل عسفاً عما تعرضون تقويضه باللجوء إليها‪.‬‬

‫إنهم مخطئون‪ ،‬فهناك حروب عادلة‪ .‬لكن ما يميز الحروب العادلة أنها ال تلل عادلة لوقت طويل‪.‬‬

‫ال ننسين أن الحروب "العادلة"‪ ،‬إن كانت تنتج أشخاصاً من طراز هوش ومن طراز مارسو‪ ،‬فإنها تنتج أيضاً أشخاصاً من‬
‫طراز بونابرت‪ ،‬وهو ما يعد‪ ،‬بالنسبة لها‪ ،‬طريقة شيطانية بوجه خاص للكف عن أن تكون عادلة‪ .‬لكن الحرب "العادلة"‪ ،‬من جهة‬
‫أخرى – وفي غياب كل بونابرت عن األفق – إنما تتميز بحمالت قطع طريق عادية‪ ،‬من حيث أنها تفرض على من يتحملون‬
‫مسؤوليتها إيقاعاً ومقتضيات يصعب عليهم احتمالها‪ .‬ولإلبقاء على يقلة مشروع قائم على الحماسة الشعبية‪ ،‬ال بد أن تكون لدى‬
‫حركة التي تعتمد عليها طابعها المميز لجماهير‬
‫الم ِّ‬
‫القيادات المسؤولة عن مسار الحرب الجرأة الواضحة على أن تترك للقوى ُ‬
‫متحرقة‪ - ،‬لجماهير في صيرورة سافرة وواعية بمعنى زخمها‪ .‬لكن القاعدة الملحة عند قادة الشعوب – بل غالباً عند أولئك الذين‬
‫حركة التي‬
‫الم ِّ‬
‫يبدو أنهم قد جاءوا مباشرة من خط النار أو من اجتماع في مصنع – هي استخدام ثقلهم المراتبي في إعادة القوى ُ‬
‫تفوض أمرها إليهم إلى األطر التقليدية لبلد في حالة حرب‪ .‬وعندما أقول "األطر التقليدية"‪ ،‬فإنني أعني تجزئة الحقيقة‪ ،‬تجزئة‬
‫حركة لألمة‪ ،‬بناء على أمر من أولئك الذين يخافون في‬
‫الم ِّ‬
‫الحماسة‪ ،‬تجزئة المثل األعلى‪ .‬إنني أعني الضبط المتعسف للقوى ُ‬
‫"حركة" اليوم من "انقالب" الغد‪ .‬وهذه األطر التقليدية – األقنعة البسيطة التي توضع على وجه هذه الحرب أو تلك إلخفاء ملهرها‬
‫األصيل ولجعلها مماثلة لجميع الحروب األخرى – يمكن استعارتها من أرشيفات المتحف الحربي تارة‪ ،‬ومن ممارسات العدو تارة‬
‫أخرى‪ .‬وهذا يسمى‪ :‬في الحالة األولى "استلهام عبر الماضي"‪ ،‬وفي الحالة األخيرة "االستفادة مما يعلمك إياه خصمك"‪.‬‬

‫والحال أن هذا التشويه الجاري للقيم الحية‪ ،‬والذي يتوافر االستعداد دائماً لتغليفه في صيغ طقسية عتيقة كما في كفن‪ ،‬هذا‬
‫ِ‬
‫الحرب ضد الفاشية غير المزيد من األمثلة له‪ .‬وانني‬ ‫سياق‬
‫ُ‬ ‫النقل ألساليب العدو وعاداته الذهنية إلى معسكر العدالة‪ ،‬ال يقدم لنا‬
‫ألتذكر بوضوح أن البالغ العسكري السوفييتي األول قد اختتم باإلشارة إلى جندي ألماني‪ ،‬أشير إليه باسمه‪ ،‬لجأ إلى موقع روسي‬
‫معلناً أنه ال يريد حمل السالح ضد دولة بروليتارية‪ .‬والحال أن هذه العبارة وحدها في البالغ قد دوت‪ ،‬أمام التاريخ‪ ،‬دوياً أقوى من‬
‫دوي مآثر العتاد الحربي التي سبقتها أو التي تلتها‪ .‬فقد دلت‪ ،‬فوق قصف المعارك‪ ،‬على أن إخاء الكادحين يعلو ويجب أن يعلو‬
‫على انقسام الناس إلى جماعات عرقية وقومية‪ .‬وفي ذلك يكمن الخير الذي يجب صونه بين الجميع‪ - ،‬الفضيلة القادرة على كسر‬
‫األطر المسوسة للحرب بين األمم‪ .‬إالَّ أنه أعيد جر وغواية الكادحين‪ ،‬مرة أخرى‪ ،‬صوب األطر التقليدية‪ .‬فبدالً من اإلشادة بالبطال‬
‫الشعبيين الروس واأللمان الذين تالقوا عبر التاريخ في نضاالت تحريرية واحدة‪ ،‬نجد أن أجهزة الدعاية السوفييتية سرعان ما تجد‬
‫لذة في هوس شنيع ال تنبثق منه غير رموز من أسوأ الرموز في تاريخ روسيا‪ .‬فقد عرف األمير ألكسندر نيفسكي من جديد كل‬
‫هاالت المجد ألنه كان من حسن حله أن يتمكن في عام ‪ 1242‬من إلحاق الهزيمة بفرسان األخوية التيوتونية‪ .‬وفي مقابل ذلك‪،‬‬
‫جرى التقليل من شأن ذكرى بوجاتشيف وستينكا ارزين – المدافعين األسطوريين عن القضية الفالحية – ألنه قد رؤي أن هاتين‬
‫الشخصيتين قد أذاقا سلطات زمانهما الكثير من الهوان‪ .‬وهكذا‪ ،‬فعندما تحدث ستالين في السابع من نوفمبر ‪ 1941‬إلى جنود‬
‫الجيش األحمر‪ ،‬نجد أنه قد ضرب لهم أمثلة سابقة غريبة الستثارة حميتهم‪ .‬لقد قال لهم‪ " :‬فلتستلهموا مثل البواسل من أجدادكم‪:‬‬
‫ألكسندر نيفسكي‪ ،‬ديمتري دونسكوي‪ ،‬كوزما مينين‪ ،‬ديمتري بوجارسكي‪ ،‬ألكسندر سوفوروف‪ ،‬ميخائيل كوتوزوف"‪)1(.‬‬
‫‪95‬‬
‫والحال أن بطولة األسالف لم يكن لها‪ ،‬في أي جيش‪ ،‬تأثير كبير على معنويات الجنود‪ .‬إالَّ أنه فيما يتعلق باألسالف الذين‬
‫حولهم ستالين إلى أيقونات والذين قُ ِّدموا إلى الجماهير لكي تحتضنهم في ورع‪ ،‬فإنه لم يوجد بينهم سلف واحد لم يلعب دو اًر رجعياً‬
‫َما أن يوجد حرص على حرف المخيلة البطولية‬ ‫ومقيتاً بالقياس إلى نضاالت الشعب الروسي من أجل التخلص من تعاسته‪ .‬أ َّ‬
‫للمدافعين عن االتحاد السوفييتي صوب أسماء كهذه‪ ،‬فذلك هو ما يصيب بمرض الشيخوخة حرباً ينتلر البعض منها تحسين‬
‫أحوال العالم‪.‬‬

‫وكان ال بد للتتمة من أن تكون على مستوى هذه البداية‪ .‬فقد جر بعث ألكسندر نيفسكي إلى تعديل تاريخ ثمانية قرون من‬
‫التاريخ األوروبي‪ .‬وعندما لجأ ستالين إلى االستعارة من العدو بعد أن استعار من الماضي‪ ،‬فإنه قد طرح في مواجهة النلرية‬
‫الهتلرية الخاصة بتعبئة أوروبا ضد الزحف اآلسيوي عودة خالصة وبسيطة إلى أسخف صور الجامعة السالفية‪ .‬والحال أن‬
‫مناقشات مختلف مؤتمرات الجامعة السالفية التي نلمت خالل هذه الحرب‪ ،‬بمبادرة من موسكو‪ ،‬لم تثر غير نفور الذكاء شأنها في‬
‫ذلك شأن إذاعات راديو برلين‪.‬‬

‫إن تطور أوروبا الطويل ما عاد يبدو غير ستار النقسامات عنصرية‪ - ،‬موضوعاً لنزاع متجدد أبداً بين السالف والجيرمان‪.‬‬
‫وقد كرس مؤتمر الجامعة السالفية األخير (صوفيا‪ ،‬فبراير ‪ )1945‬وجود كتلة سالفية وارثة التحاد تأكد عبر قرون من المعارك‬
‫ويرجع انتصار جرونفالد (‪ )1410‬الذي أحرزته الجيوش السالفية الموحدة ضد الجيرمان‪ .‬وهكذا انتهينا إلى انقضاض كتلة ضد‬
‫كتلة‪ ،‬جنس ضد جنس‪ ،‬جنون ضد جنون! وهكذا فإن الحروب "العادلة" ال تصمد طويالً أمام العدوى الشائنة لألفكار التي كان‬
‫يرجى منها أن تستأصل شأفتها‪)2(.‬‬

‫إنني أقول إننا نشهد اآلن تغلغالً للسلوك السياسي الهتلري في صفوف الديموقراطية‪ .‬وهذا التغلغل ال يثير استنكار أحد تقريباً‪.‬‬
‫إن كثيرين من الناس يجدون فيه منفعتهم المادية وراحتهم األدبية‪ .‬وهذا التغلغل ينتشر في جميع الصحف‪ ،‬وفي جميع األخبار التي‬
‫تصلنا عن المصير الذي يستعدون لرسمه للعالم‪ .‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬فإن ضم األراضي دون موافقة السكان المسبقة كان ُيعتبر‬
‫بشكل عام عدواناً على القانون‪ ،‬ينبع من الجنون اإلمبريالي المسيطر على أمثال هتلر‪ .‬والحال أننا نرى اليوم أن الموضوع يثار‬
‫بشكل مختلف تماماً ومن زاوية المنفعة القومية وحدها‪ ،‬إذ تعلن قوة من القوى‪ :‬إن هذا الميناء نافع لي تماماً و ُّ‬
‫أود أن يكون من‬
‫نصيبي‪ - ،‬واذا ما اعتُِرض عليها بأن هذا الميناء كان على الدوام جزءاً من وحدة قومية أخرى‪ ،‬فإنها سوف ترد بأن ذلك محتمل‪،‬‬
‫لكنها تحتاج إليه احتياجاً شديداً وأن انتصارها يمنحها الحق في هذا االختالس الصغير‪ .‬والحال أن األمر ال يخص من اآلن‬
‫فصاعداً ميناء أو مدينة معزولة‪ ،‬بل مجموعات شاسعة من األراضي التي أصبحت متحركة وجاهزة تماماً لتغيير المالك بين عشية‬
‫وضحاها‪.‬‬

‫أما نقل السكان فقد كان هو اآلخر عملية وحشية ال تسمح لنفسها باللجوء إليها سوى أنلمة العنف‪ .‬والحال أنه يجري النلر‬
‫اليوم في هذه التحويالت على نطاق ليس أدنى من نطاق حمالت النازية السوداء‪ ،‬وهنا‪ ،‬أدع الكالم للويس كلير‪ ،‬أحد المراسلين‬
‫الرئيسيين لمجلة "بوليتيكس" األمريكية والذي تساعدنا قوة غضبه على الشعور بأننا ال نزال أحياء‪:‬‬

‫"يجري اآلن نقل الشعوب كالماشية‪ .‬إذا ما أعطيتموني ‪ 500,000‬من األلمان – السوديت‪ ،‬فسوف أكون مستعداً ألن أعيد‬
‫لكم عدداً مساوياً من سكان التيرول‪ ،‬ربما أمكن لنا مبادلة عدد من األلمان بآالت ومعدات‪ .‬لقد أطلق هتلر‪ ،‬هنا أيضاً‪ ،‬آلية بسبيلها‬
‫إلى أن تكتسب أبعاداً مقلقة‪ ...‬إن التهور الذي تتنازع به القوى المنتصرة على السلعة الوحيدة التي ال تزال‪ ،‬رغم تحسينات التقنية‪،‬‬
‫السلعة المطلوبة أكثر مما في أي وقت مضى – عمل العبد – هو شيء فاجر حقاً"(‪)3‬‬

‫لقد تم كسب حرب‪ .‬ولكن هل من المؤكد بالمثل أن هتلر قد خسر حربه؟‬

‫‪96‬‬
‫"عدم وجود األفضل‪"...‬‬

‫عندما يتساءل المرء عن األسباب التي تميل إلى تحويل حرب "عادلة" إلى حرب عادية‪ ،‬إلى مجرد حرب‪ ،‬وبشكل أعم‪ ،‬عندما‬
‫يتساءل عن األسباب التي تحرم الجماهير من اإلمساك بزمام القضايا السامية التي يكرس نفسها لها‪ ،‬فإنه سرعان ما يجد نفسه‬
‫حبيساً في حلقة جنونية‪ .‬فالواقع‪ ،‬من ناحية‪ ،‬أن اتساع وتركز الحياة االقتصادية الحديثة قد جعل من كل حزب‪ ،‬ومن كل نقابة‪،‬‬
‫ومن كل إدارة‪ ،‬أج هزة شبه شمولية تمشي في طريقها متخلية عن ثقلها النوعي وال ترجع البتة إلى الخاليا الفردية التي تتشكل منها‪.‬‬
‫وهذه األحزاب‪ ،‬وهذه النقابات‪ ،‬وهذه اإلدارات الدوالنية الحديثة يحميها من مناهج العقل النقدي (وكذلك من الخفقات الشعورية‬
‫والتمردات القلبية) خمولها الوحيد وذو السيادة‪ .‬فهذه األبنية المخيبة تعمل بفضل إنسانية من نوع خاص تماماً‪ ،‬إنسانية مؤلفة من‬
‫الملقنين‪ .‬وحتى يسمح للمرء بتقديم اقتراح في ختام مؤتمر حزبي لحزب من أحزاب اليسار يسمح بدرجة ما من درجات تبادل اآلراء‪،‬‬
‫البد من سنة من المناورات الحرجة للغاية عبر متاهة من األمانات ومن اللجان التي تُ َذ ِّك ُر على نحو يثير االلتباس بألغاز المحكمة‬
‫التي يصعب الوصول إليها حيث يسمح كافكا – في "القضية" – بارتجاف صورة عذابنا المنعكسة أبداً‪ .‬واذا ما أمكن التغلب بشكل‬
‫طمس‬
‫مؤات على هذه المحن التجريبية‪ ،‬إذا لم تتوصل أية خطوة زائفة إلى معارضة طرح االقتراح‪ ،‬فمما الشك فيه أن هدفه سوف ُي َ‬
‫طمساً كافياً بحيث يكف عن استثارة ما هو أكثر من اهتمام استرجاعي وما يشبه الرثاء ألولئك الذين غامروا بتأييده‪.‬‬

‫ومن ناحية أخرى‪ ،‬فإن المواطنين األذكياء والنشطاء‪ ،‬وبدرجة أفضل‪ ،‬األفراد الذين يتمتعون بمكانة ثقافية معينة‪ ،‬والذين سوف‬
‫يحاولون التدخل بهدف تصحيح تََو ُّجه حزب‪ ،‬أو نقابة أوحكومة‪ ،‬يدركون جيداً أن هذه األجهزة المختلفة لديها الوسائل لكي تنسج‬
‫حولهم شركاً قاتالً – شركاً من الصمت الذي لن يتأخر عن عزلهم عن الحياة العامة برمتها‪ .‬وشرك الصمت هذا مضروب دوماً‬
‫على عدد من أروع عقول المجتمع السوفييتي‪ - ،‬من الكتاب‪ ،‬والعلماء والصحافيين والمناضلين‪ ،‬وهو يحاصر بشكل متزايد‪ ،‬في‬
‫أوروبا وأمريكا‪ ،‬عقوالً أخرى‪ ،‬مقاومة ونقية‪ ،‬عاشقة دونما حد للحرية‪...‬‬

‫وهناك ما هو أسوأ بالنسبة لإلنسان المتحضر من أن يفقد سيطرته على األجهزة التي تمثله وتتصرف باسمه‪ .‬ذلك هو‬
‫االستسالم لهذا الفقد‪ .‬وهو استسالم تبينه لنا عالمات ال حصر لها وصارخة‪ .‬استسالم نميزه ‪ -‬في الحرب كما في السلم – في‬
‫الموقف السائد ألشخاص موهوبين‪ ،‬مثقفين ومدفوعين إلى الفعل‪ - ،‬ومن ثم مستغرقين في هزيمتهم الخاصة‪ .‬هذا االستسالم يعبر‬
‫عن نفسه بثالث كلمات‪" :‬عدم وجود األفضل‪"...‬‬

‫فإذا ما انضم المرء إلى الحزب الشيوعي (أو أي حزب آخر‪ )...‬دون أن يكون متأكداً تماماً من سياسته الحالية وسياسته في‬
‫المستقبل‪ ،‬فإن ذلك بسبب "عدم وجود األفضل"‪ ...‬واذا ما انتهى المرء بالتكيف مع إعادة اقتسام المناطق‪ ،‬والتي يعترف بأنها لن‬
‫تجلب المسرة وال الرخاء للشعوب‪ ،‬فمرجع ذلك هو "عدم وجود األفضل"‪ ...‬واذا ما صوت المرء لصالح مرشح يثير جانبه األخالقي‬
‫التقزز وتبدو صالبته السياسية مشكوكاً فيها‪ ،‬فمرجع ذلك هو "عدم وجود لألفضل"‪ .‬واذا ما اشترك المرء في صحيفة تضحي‬
‫بحرصها على الحقيقة من أجل اعتبارات إعالنية أو تجارية‪ ،‬فمرجع ذلك هو "عدم وجود لألفضل"‪...‬‬

‫وتلك المرأة التي يقبلها المرء منقبضاً وهو يغمغم بإيماءات أبدية‪" :‬عدم وجود لألفضل"‪ .‬وتلك السينما التي يغرق المرء فيها‬
‫مطأطأ الرأس‪ ،‬لخصم ساعة من الوجود على لهر األرض‪" :‬عدم وجود لألفضل"‪ .‬وذلك الكتاب الذي يركز عليه المرء ألنه نال‬
‫جائزة‪ ،‬بينما يدعوك كل داع إلى استفراغ محتواه‪" :‬عدم وجود لألفضل"‪ .‬وذلك الرئيس الجليل الذي يهرع المرء إلى عبادته متأوهاً‬
‫وقد تشبع ببرنامج جالله الفني "عدم وجود لألفضل"‪...‬‬

‫إن "عدم وجود األفضل" يصبح استثما اًر‪ ،‬فلسفة‪ ،‬حالة أهلية‪ ،‬سيداً‪ ،‬نزوة‪ ،‬دليل براءة مسبقاً من ارتكاب جريمة‪ ،‬صالة‪،‬‬
‫سالحاً‪ ،‬مومساً‪ ،‬شهقة أو زفرة‪ ،‬قاعة انتلار‪ ،‬فريرة‪ ،‬فن تصدق على الذات‪ ،‬بوصلة للمراوحة في المكان‪ ،‬شاهد قبر‪ 8 ،‬أغسطس‬
‫‪.1945‬‬

‫‪97‬‬
‫إن شخصين‪ ،‬متجاورين فكرياً‪ ،‬يسعهما من ثم أن يتهادما‪ ،‬فبما أن لديهما مفهوماً واضحاً عن "األفضل"‪ ،‬وهذا "األفضل"‬
‫ينقصهما‪ ،‬فإنهما يرتدان إلى طريقتين متالقيتين في الوجود التعويضي‪ ،‬إلى نسقين من المعتقدات واإليماءات المتالقية عن‬
‫"األفضل" المشترك‪ ،‬وان لم تكن متالقية من الجهة نفسها‪.‬‬

‫وهكذا‪ ،‬فمن مقاربات إلى مقاربات‪ ،‬ومن استعاضات إلى استعاضات‪ ،‬يجد المرء نفسه مدفوعاً‪ ،‬دون أن يشعر‪ ،‬وبأدب‪ ،‬نحو‬
‫ما ال يدري المرء أي ركن حقير تنمو فيه البراغيث‪ ...‬إن المرء يفزع‪ ،‬ولكن من بابا السهو‪ .‬ليس ذلك سجناً‪ ،‬إنه منزل‪ ...‬والدنيا‬
‫أكثر من ليلة واحدة‪ ...‬وعلى البعد‪ ،‬تصفر قطارات مؤذنة بالرحيل‪ ...‬ويجب على المرء أن يصيح وأن يستنفر حراساً وهميين‪...‬‬
‫وغداً صباحاً‪ ،‬أين سيكون المرء بالنسبة إلى نفسه؟ هل ستسمحون له بمجرد المرور؟ نعم‪ ،‬بال شك‪ ،‬سوف يسمحون لكم بالهرب‪،‬‬
‫بأن تبنوا لكم في الكونغو حياة ثانية‪ ...‬حياة مبنية على أوتاد فوق المستنقعات بينما يوجد‪ ،‬في اللل‪ ،‬السرطان اللافر نفسه حيث‬
‫تتصالح قوى الملل والهلع المريع من الحرية‪...‬‬

‫حق الرعب‬

‫إن كل شيء يجري‪ ،‬منذ قرنين‪ ،‬وكأن كل تذرع بالحرية‪ ،‬كل انتفاضة مميزة باسمها‪ ،‬تؤول إلى أن تترجم نفسها – عبر‬
‫األجهزة السياسية والدوالنية المنبثقة أكثر قوة من هذه االنتقاضات – إلى تزايد في القواعد الكابحة التي يدين لها اإلنسان باكماش‬
‫تدريجي للحياة‪ .‬إن جيالً جديداً من الموسوعيين منطلقاً من الجرأة الهازئة نفسها التي انطلق منها الجيل السابق‪ ،‬سوف ُيعتبر‪،‬‬
‫اليوم‪ ،‬خارجاً على القانون أو أنه‪ ،‬على األقل‪ ،‬سوف يجبر بسرعة على التسول‪.‬‬

‫كل شيء يجري وكأن اإلنسان لم يبحث‪ ،‬في هذه السلسلة الطويلة من الطموحات سيئة الحل‪ ،‬إالَّ عن شكل معين لألمن في‬
‫الرعب‪ .‬ويبين لنا عمل إيريك فروم الالذع والقاسي – "الخوف من الحرية" – إلى أية درجة يخشى اإلنسان مواجهة الحرية‪ ،‬إلى أية‬
‫درجة يترقب بفارغ الصبر التهرب من المسؤوليات التي تفرضها عليه‪ ،‬إلى أية درجة – في اللروف الحالية للفوضى – تعد‬
‫الرمادية‪ ،‬والعتامية وعدم تسمية األشياء بأسمائها مالذات مشتهاة ضد إغراء الحرية‪.‬‬

‫والى هذا االستعداد الفردي للكائن الذي حيره تعقيد العالم الذي يراوده‪ ،‬تقدم األجهزة الجماعية الضخمة مساهمة حاسمة‪ .‬لقد‬
‫حددت‪ ،‬بالصرامة المطلوبة‪ ،‬هذا الحد األدنى البائس من المواقف اإلنسانية التي ال يسمح بتخطيها إال بمخاطرات وأعباء االنتهاك‪.‬‬

‫وبوسع المواطن الصالح أن يشتري نوماً عميقاً مادامت القنبلة الذرية تحميه‪...‬‬

‫إن عالمات الرعب المتصاعدة واضحة‪ .‬وأولها حدة هو المحو التدريجي لحق اللجوء السياسي‪ .‬إنها لفكرة سيئة أن يكون‬
‫المرء الجئاً سياسياً‪ ،‬من جراء هذه األزمنة التي تقتل! ومنذ عام ‪ ،1930‬طورد ليون تروتسكي‪ ،‬كما لو كان خنزي اًر برياً‪ ،‬عبر كل‬
‫القارة األوروبية‪ ،‬من تركيا إلى النرويج عبر باريس‪ .‬ثم جاءت "فيشي" التي قامت دون أسف بتسليم بيترو نينني إلى إيطاليا‪،‬‬
‫وبرايتشايل د إلى ألمانيا وكامبانيس إلى إسبانيا‪ .‬لقد اختفت "فيشي" ولكن دون أن يختفي هذا الكره المتأصل لدى السلطات –‬
‫ديموقراطية أو غير ديموقراطية – لالَّجئ السياسي‪ ،‬األثر األخير والجميل للتمرد اإلنساني‪.‬‬

‫ومن عالمات الرعب أيضاً‪ ،‬الترحيل المنلم للكادحين والذي الشك في أنه يبلغ النهاية مع هزيمة النازية‪ .‬ويتكفل‬
‫االقتصاديون بحساب المردود المتزايد للقطيع المقدم لهم كمادة تجريبية‪ .‬والمؤشرات الدولية بحاجة إلى رسوم بيانية تتصاعد‬
‫خطوطها! ومن عالمات الرعب ابتالع آالف البشر في ليلة ال ينكشف فيها شيء‪ .‬لقد رحلوا دون أن يتركوا عنواناً‪ .‬ألن هناك غابة‬
‫يتعين قطع أشجارها على ضفاف البحر األبيض‪ .‬ليحذر الهواة!‬

‫ومن دواعي األسف األخيرة أن المرء يشهد‪ ،‬في المجال الذي تَ َم َّك َن دائماً من اإلفالت من ضغوط النلام المتعسفة في‬
‫الماضي‪ ،‬في مجال الفكر الصدامي‪ ،‬مجال الفكر السياسي‪ ،‬الذي كان ال يزال حتى البارحة رسوالً لألمل‪ ،‬تكيفاً غريباً مع االنضباط‬
‫المحرج لمجلة مثل "البنسيه" والتي كانت تعبر‪ ،‬قبل الحرب‪،‬‬
‫َ‬ ‫الوحشي والباطل الذي يرتسم تحت بصرنا‪ .‬ويشهد على ذلك الجبن‬

‫‪98‬‬
‫متسائل مشكالت جوهرية كانت قد طرحتها‬‫ٍ‬ ‫س‬‫عن حب مثير للمعرفة بكافة أشكال الصيرورة العلمية واالجتماعية‪ ،‬وكانت تثير بَِنفَ ٍ‬
‫بالفعل الشيخوخةُ العامةُ لمجتم ٍع ال يتسامح بالمرة مع ممانعة الناس في الوصول إلى الشيخوخة معه‪ .‬إن األسماء الكبيرة التي‬
‫ترعى "البنسيه" لم تعد ترعى‪ ،‬في عام ‪ ،1945‬غير توافق صيغ استاتيكية ومحاكمات عقلية محبطة‪ .‬إن المرء يجد نفسه في‬
‫حضرة مجلة يبدو أن مهمتها هي أن تقول لنا إن الفكر الماركسي قد وصل إلى الركود‪ ،‬فهو يتحول اليوم إلى قوة‪ ،‬بدالً من أن‬
‫تتغلب على الكابوس المعاصر‪ ،‬وبدالً من أن ترسم دروبها المضيئة الهادية‪ ،‬تدع هذا الكابوس يترسب في قارورة أمان‬
‫معملية‪ ،‬حيث ال يجب الخوف في الوقت الحاضر من أي انفصال متفجر بين القابل للحياة وغير القابل للحياة‪ ،‬بين ما هو‬
‫مدو‪ ،‬على سحب‬ ‫ك وماهو مثبط‪ ،‬بين ما يتميز بالحالية وما فقد األهلية‪ .‬ومن ناحية أخرى‪ ،‬أال نرى أن أراجون يلح‪ ،‬في ٍ‬
‫مقال ٍ‬ ‫ُم َحِّر ٌ‬
‫كتب السيد شارل مو ار من مكتبات فرنسا؟ يبدو أن صاحب دعوة كهذه ال يأخذ بعين االعتبار أنه يرتكب بذلك عمالً من أعمال‬
‫االنهزامية قياساً إلى ما يجب أن تكون عليه قوة جاذبية رسالته السياسية هو‪ .‬ويجب علينا أن نؤمن أن مو ار وهو نفسه يحتالن‬
‫موقعين ينالر أحدهما اآلخر‪ ،‬ولما كانا قد تخليا عن االنفصال أحدهما عن اآلخر باالحتكام إلى العقل‪ ،‬فإنهما قد وضعا نفسيهما‪،‬‬
‫الواحد بعد اآلخر‪ ،‬رهن تحكيم رجال الشرطة الذي ال يليق‪ .‬وهكذا فإن الرعب عندما ال يعمل جها اًر‪ ،‬فإنه يلل على الدوام كامناً‪،‬‬
‫على سطح الجدل‪ ،‬مستعداً لتلبية الدعاء األول‪ ،‬النداء األول ألحد رعاياه المخلصين‪.‬‬

‫أما فيما يتعلق باألفراد الفريدين – خاصة بعض فئات المثقفين والكتاب – الذين ال يزالون غير مستعدين لقبول العيش وفق‬
‫المسار السائد – فإنهم‪ ،‬هم أيضاً‪ ،‬تتخطفهم رياح الرعب‪ .‬إن أملهم الوحيد هو قلب مسار هذه الرياح‪ ،‬أي أن يمارسوا‪ ،‬هم‪ ،‬الرعب‪.‬‬
‫إن من يستولي على مخيلتهم ليس جيد أو بريتون‪ ،‬بل لورانس الجزيرة العربية ومالرو الفترة الصينية‪ .‬وبالنسبة لمعلمهم‪ ،‬فإنهم قد‬
‫أحبوا هذه الحرب ألنها قد سمحت لهم بالتصرف حسب األصول مع أنفسهم عن طريق قلب قطار‪ ،‬أو نسف جسر قبل العودة إلى‬
‫بيوتهم‪ ،‬إلى عشيقاتهم المنهكات والى روتينهم اليومي األمين والذي يتمثل في ترديد حكايات مؤثرة‪ .‬إن المثقف المعاصر ال يطلب‪،‬‬
‫من حيث الجوهر‪ ،‬بقشيشاً آخر‪ ،‬من عالم لم يعد لديه شرف لرفضه‪ ،‬غير أن يمثل‪ ،‬ولو في فصل واحد‪ ،‬دور مغامر على هامش‬
‫الكل‪ ،‬غير أن يستعيد بهذه الخدعة المتجاوبة مع نداء باطني جانباً من الزخم الذي حرمته منه الحياة االجتماعية‪.‬‬

‫القيد‬

‫في هذا اال نزالق الجماعي صوب حالة أمن في الرعب‪ ،‬من الذي سوف يكسر القيد؟ من الذي سوف يحكم بالعدل على ذلك‬
‫الذي اعتاد الناس اعتباره حقاً لهم في الرعب وشيئاً يكاد يكون تتويجاً طبيعياً لطموحاتهم القديمة في الحرية؟‬

‫من المؤكد أنه ليس حزباً سياسياً‪ ،‬وال أية منلمة من المنلمات الشمولية المكلفة بحراسة اإلنسان‪ ،‬ليس حزباً‪ ،‬ولكن ربما‬
‫فصيلة جديدة من األنصار المقاومين الذين سوف يهجرون طرق التحريض الكالسيكية ويلجأون إلى اجتراح مآثر اضطراب مثالية‬
‫إلى أعلى درجة‪ .‬لقد تمنى الكثيرون أن تتمكن حركة المقاومة في أوروبا من أن تحدث أخي اًر ثغرة في المأزق السياسي واالجتماعي‬
‫لعصرنا‪ .‬وكانت األحزاب الجماهيرية الكبيرة هي أول من تحسس هذا الخطر‪ .‬ماذا‪ ،‬هل يستعدون لالستغناء عن خدماتها؟ هل‬
‫تتج أر اإلرادة الشعبية اآلن على االستغناء عن الوسيط؟ كان اإلنذار قصير األجل‪ .‬ومثلما جرى على وجه السرعة دمج القوى‬
‫العسكرية للمقاومة في األطر الدائمة للجيش‪ - ،‬فإن قواها السياسية لن تتأخر‪ ،‬مع امتزاج الغزل بالدس‪ ،‬عن العودة إلى فخ‬
‫األحزاب الكبيرة‪ .‬إن الحدث – كدت أقول الحادثة – قد اكتمل‪ .‬لكن شيئاً آخر يصبح ممكناً‪ ،‬بل يصبح الشيء الممكن الوحيد‪ ،‬إن‬
‫عصر حرب المقاومة السياسية يبدأ ونحوها يجب أن تتجه أرصدتنا من الثقة والحماسة‪.‬‬

‫ومما الشك فيه أنه ليس من السهل إعالن الشكل الذي سوف تتخذه حرب المقاومة هذه والمآثر التي ال مفر من أن تميزها‪.‬‬
‫على أن بوسع المرء أن يعتبر الموقف المستقل استقالالً شجاعاً والذي يتخذه كامي – وعلى أصعدة أخرى‪ ،‬بريتون‪ ،‬كاالس‪،‬‬
‫روجمون – مؤش اًر بالنسبة للمستقبل‪ .‬إن جهاز الرعب ال يزال بعيداً عن أن يكون خالياً من الترددات ومن االنشطارات‪ .‬ولذا فعندما‬
‫يكون هذا الجهاز أكثر تهديداً – وبقدر تهديداته المتجددة – يجب أن تهب كل روح الرفض لدينا‪ ،‬كل ما في العالم‪ ،‬في لحلة‬

‫‪99‬‬
‫معينة‪ ،‬من َب َش ٍر في حالة رفض‪ ،‬وأن يحدث ذلك بشكل مدو! وأن يرتسم ذلك على شكل أمثلة مثيرة للقلق في وجدان الجماهير!‬
‫وأن ينتقل ذلك وينتشر عبر السهب البشري الواسع‪ ،‬من خالل آثار علمة معدية!‬

‫عند هذه النقطة‪ ،‬أسمع انفجار االستهزاءات القاتلة‪" :‬ما خطبك! إنك تسعى إلى اإلساءة إلى األحزاب السياسية‪ ،‬إلى تقويض‬
‫هيبتها‪ ،‬إلى التشهير بعملها‪ - ،‬ومن ثم فإنك تواصل العمل الخبيث لفاشيي ما قبل وما بعد الفاشية هؤالء‪ ،‬الذين يثيرون الشبهات‬
‫حول كل أدوات الخالص والتقدم!"‪ .‬والواقع أنني ال أواصل شيئاً‪ ،‬وال أرغب في مواصلة شيء غير منطق معين للحرية‪ .‬إن اللاهرة‬
‫الفاشية‪ ،‬منلو اًر إليها من زاوية تطور األحزاب‪ ،‬لم تساعد إالَّ على أن تعجل بشكل حاسم تطور الجذام المعنوي والمادي الذي‬
‫يصيب المؤسسات "اليسارية" القوية التي يضيع فيها صوت الجماهير بالسهولة نفسها تقريباً التي يضيع فيها صوت األفراد‪ .‬إن‬
‫الهدف األخير لحرب المقاومة الدائرة اآلن ليس هو القضاء على األحزاب لحساب نسق جديد ما لممارسة الحياة السياسية‪ ،‬بل هو‬
‫تجريد األحزاب من احتكار الفكر االجتماعي الذي يهمد في لجانها الدراسية‪ ،‬إنه تجريدها في المجال االيديولوجي‪ ،‬من حق المبادرة‬
‫الذي تتمسك به خاصة وأنها عازمة تماماً على أالَّ تستفيد به إالَّ االستفادة األكثر خسة‪ ،‬األكثر خبثاً‪ .‬إن المسألة هي‪ ،‬لتدارك‬
‫المشكلة قدر اإلمكان‪ ،‬اختزال األحزاب إلى حالة متفتحة خالصة فيما يتعلق ببلورة األفكار وبحركتها العامة‪ ،‬وحالة إدارية خالصة‬
‫فيما يتعلق بتنفيذ هذه األفكار‪ .‬وباختصار‪ ،‬المسألة هي دفع األحزاب إلى االعتراف بالبؤر االيديولوجية التي تنشأ خارجها والى أن‬
‫توجه نحو الفعل العملي كل شيء صالح ينبثق من الجيشان الذي يحاط بالرعاية على هذا النحو‪ .‬على أنه البد من الحذر‪ :‬فالحالة‬
‫الموضوعية لألحزاب قد تغيرت تغي اًر ملحولاً منذ عشرين سنة‪ .‬إنها تميل كلها إلى أن تصبح أجهزة شبه دوالنية‪ ،‬ملحقات للدولة‪.‬‬
‫وعين فكرة ‪ -‬ووليفة – الحزب المعارض تتأثر تأث اًر قاتالً بهذا التغير‪ .‬ففي انجلترا‪ ،‬وفي الواليات المتحدة‪ ،‬وفي فرنسا‪ ،‬وفي‬
‫بلجيكا‪ ،‬غالباً ما تكون المعارضة متضامنة مع السلطات‪ ،‬بحيث أنها ال تشكل عدواً لها‪ .‬والبد أن تتطابق مع هذه القاعدة الجديدة‬
‫لألحزاب التزامات أكثر وضوحاً على الدوام بالنسبة إلى فدائيي الفكر‪ .‬وأول هذه االلتزامات هو تحويل األنشطة االيديولوجية إلى‬
‫بؤر غريبة عن تقلبات األحزاب وعن إدراجها التدريجي في أطر الدولة‪ .‬لكن الشيء األهم هو أن حرب المقاومة هذه لن يكون لها‬
‫تأثير متواصل إالَّ بقدر ما تتمكن من أن تشجع‪ ،‬في نضالها ضد البراجماتية والبيروقراطية لألحزاب‪ ،‬سباحة في تيارات اليوتوبيا‬
‫الزكية‪ ،‬وتجديداً للتأمل الطوباوي بكل ما يستوجبه مما هو مثالي ومفرح‪.‬‬
‫لقد كان بوسعنا‪ ،‬قبل عشر سنوات من ذلك‪ ،‬أن نأخذ كشعار لحشد القوى كلم ٍ‬
‫ات ككلمات نيكوالي بوخارين‪ ،‬المفكر قبل‬
‫األخير بين مفكري االشتراكية الكبار‪:‬‬

‫"إن تحليالً لمجريات األمور الواقعية يدفعنا إلى أن نستشف‪ ،‬ليس موت المجتمع‪ .‬بل موت شكله التاريخي الملموس وانتقاالً‬
‫حتمياً إلى المجتمع االشتراكي‪ ،‬انتقاالً بدأ بالفعل‪ ،‬انتقاالً نحو هيكل اجتماعي أرقى‪ ،‬وال يتعلق األمر بمجرد انتقال إلى أسلوب أرقى‬
‫للحياة‪ ،‬وانما أرقى على وجه التحديد من األسلوب الذي هو اليوم أسلوبها‪ .‬فهل يمكن الكالم عن هذا الشكل االجتماعي األرقى‬
‫بوجه عام؟ ألن يجرنا ذلك صوب الذاتية؟ وهل يمكن الحديث عن معايير موضوعية من أي نوع في هذا المجال؟ إننا نعتقد ذلك‪.‬‬
‫ففي المجال المادي يتمثل معيار كهذا في قوة مردود العمل االجتماعي وفي تطور هذا المردود‪ ،‬ألن ذلك يحدد مقدار العمل‬
‫الفائض الذي يعتمد عليه مجمل الثقافة الروحية‪ .‬وفي مجال العالقات اإلنسانية المباشرة‪ ،‬يتمثل معيار كهذا في اتساع مجال انتقاء‬
‫المواهب اإلبداعية‪ .‬وعلى وجه التحديد‪ ،‬فعندما يكون مردود االنتقاء واسعاً جداً‪ ،‬سوف يتحدد الحد األقصى من إثراء الحياة الداخلي‬
‫لدى أكثر عدد من الناس‪ ،‬ليس بوصفهم مجموعاً حسابياً‪ ،‬وانما بوصفهم كالً حياً‪ ،‬جماعة اجتماعية‪)4(".‬‬

‫واليوم ال يسعنا إالَّ أن نتساءل أين ذلك "اإلثراء الداخلي للحياة لدى أكثر عدد من الناس"؟ مما يؤسف له أنه الشك في أن‬
‫يؤد إالَّ إلى إبعادنا عن هذه المنلورات‬
‫الطريق الذي اجتيز منذ أبريل ‪ ،1936‬أي منذ أن ألهمتنا هذه الكلمات األمل‪ ،‬لم ِّ‬
‫يؤد إالَّ إلى التمكين‪ ،‬خطوة خطوة‪ ،‬النبثاق اتباعية صارمة تختزل "الحياة الداخلية" إلى تعبيرها األكثر وضاعة‬
‫البوخارينية‪ ،‬لم ِّ‬
‫واألكثر جبناً‪.‬‬

‫‪100‬‬
‫والشك أنه قد جرت االستعاضة عن هذا المعيار الخاص بـ "اإلثراء الداخلي" بالمعيار المعاكس‪ ،‬ولن نكون بحاجة لذلك إالَّ‬
‫إلى دليل واحد بين آالف األدلة‪ ،‬ليس أبلغها سوى "تصفية" بوخارين نفسه والتهوين من شأن هذه "التصفية" في معسكر االشتراكية‬
‫وفي معسكر الفكر‪.‬‬

‫وفي مواجهة هذه االتباعية التي تعيث فساداً في جميع المجاالت‪ ،‬باستثناء مجاالت التفننات اإلرهابية حيث يجد هؤالء السادة‬
‫لذة دائماً في التجديد‪ ،‬ال يمكن أن توضع‪ ،‬تحديداً‪ ،‬غير القوى األكثر عرضة للتحقير من جانبها‪ :‬أحالم إيكاروس‪ ،‬روح التوقع‬
‫المحمومة لدى ليوناردو‪ ،‬استبصارات االشتراكيين الطوباويين‪ ،‬رؤى بول الفارج السخية والتي تتخللها الدعابة! إن "االشتراكية‬
‫أداء طنان لتسميع المحفولات‪ .‬وهناك حاجة ماسة إلى‬ ‫العلمية" تتردى بحيث تكف عن أن تكون بالنسبة إلى اتباعها شيئاً أكثر من ٍ‬
‫إشباع البيئة والفكرة االجتماعيتين بالهواء‪ ،‬إذا كان يراد توفير مستقبل لإلنسان ال يكون جافاً مقدماً وال يدمر لحساب ضوابط غير‬
‫مبررة حقه في المجادلة المستمرة‪.‬‬

‫وضد اجتماع االتباعية والرعب المقيت‪ ،‬ضد ديكتاتورية "الوسائل" التي ال تتذكر الغايات التي تتذرع بها‪ ،‬تستطيع جوكندة‬
‫اليوتوبيا‪ ،‬ال أن تفوز‪ ،‬بل أن ترسل من جديد ابتسامتها وتهب الناس الش اررة البروميثيوسية التي يتعرفون فيها على حريتهم‬
‫المستعادة‪.‬‬

‫إن الزمن ليس غير زمن اإلعالء مرة أخرى من شأن األحالم المستحيلة‪...‬‬

‫القاهرة‪ ،‬السابع عشر من أغسطس ‪1945‬‬

‫(‪ )1‬والتر كوالرز‪ :‬ستالين وروسيا الخالدة‪ ،‬ص ‪( 87‬لندساي أند دروموند‪ ،‬لندن)‪.‬‬

‫(‪ )2‬يتساءل أندريه بريتون‪" :‬عندما تجبرنا الضرورة‪ ،‬ضد مرادنا‪ ،‬على القيام كل يوم بسلسلة من األعمال المشابهة من جميع‬
‫النواحي ألعمال العدو‪ ،‬كيف يمكننا أن نتجنب الوصول معه إلى حد مشترك؟ إننا يجب أن نحذر من ذلك‪ :‬فبحكم أننا مضطرون‬
‫إلى انتهاج أساليبه‪ ،‬نجد أننا نغامر بأن تصيبنا عدوى ذلك الذي نعتقد أننا ننتصر باالعتماد عليه‪" ...‬‬

‫(النور األسود‪ ،‬بقلم أندريه بريتون‪ ،‬أنلر "الرش" العدد السابع‪).‬‬

‫(‪ )3‬موجز األخبار األوروبية بقلم لويس كلير‪ ،‬أنلر "بوليتكس"‪ ،‬يونيو ‪.1945‬‬

‫(‪ )4‬نيكوالي بوخارين‪ :‬المشكالت األساسية للثقافة المعاصرة ("وثائق روسيا الجديدة"‪ ،‬باريس‪.)1936 ،‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪101‬‬
‫يوليانوس المرتد أو التبجح الميتافيزيقي‬

‫"يولد الناس ولهم ميول متباينة‪ ،‬وميلي‪ ،‬منذ طفولتي‪ ،‬هو اقتناء الكتب"‪.‬‬

‫(يوليانوس‪ :‬رسالة إلى إكديكيوس‪ ،‬والي مصر)‬

‫مع يوليانوس‪ ،‬يلهر في التاريخ للمرة األولى على شكل إرادة وقوة سياسية مالم يكن حتى ذلك الحين غير لل (ولكن ربما‬
‫أيضاً بؤرة ) للروح‪ :‬الحنين إلى الماضي‪.‬‬

‫ال ننسين أنه بالنسبة للمسيحيين األوائل‪ ،‬كانت إسرائيل هي مناط الحنين الممكن الوحيد‪ ،‬وكان هذا الحنين ألماً مشدوداً على‬
‫لروماني‪ ،‬فإن مناط الحنين هو‬
‫ٍّ‬ ‫نفسه حتى الضنى‪ ،‬يستبعد أيضاً كل توسط‪ :‬سماء مرصصة ال تتحالف إالّ مع الصاعقة‪ .‬وبالنسبة‬
‫اليونان‪ ،‬التي يصعب اختزالها إلى فكرة واحدة‪ ،‬ولكن التي يمكن مع ذلك اعتبارها مرتبطة بالصيغ األكثر إنارة للعقل وبممارسة‬
‫معينة للحياة ال يمكن استالبها إالّ عبر العبودية وليس عبر الخطيئة‪ .‬والحال أن شيئاً من هذا الحنين إلى الماضي يتسرب بالفعل‬
‫إلى الصالة االستهاللية لقصيدة لوكريتيوس‪:‬‬

‫"يا أم الرومان‬

‫يا فينوس الجميلة‬

‫يا من تفيضين باللذات على البشر واآللهة‬

‫يا من تنشرين الحياة تحت السماء‬

‫حيث تسبح النجوم‬

‫وفي البحر الذي يحمل السفائن‬

‫وعلى األرض الفياضة بالزرع‪،‬‬

‫فمنك يولد كل كائن حي‬

‫ويدعى إلى رؤية نور الشمس‪،‬‬


‫ُ‬
‫لك أصلي‬

‫أيتها الربة!"‬

‫في هذه الصالة نجد عالمات الوفرة وعالمات الشهوة المتكاملة فيما بينها‪" :‬يا من تفيضين باللذات على البشر واآللهة"‪ .‬وفي‬
‫األسطورة المسيحية‪ ،‬يهبط ابن الرب على األرض ليحمل عن البشر آالمهم‪ .‬وهي‪ ،‬بشكل ما‪ ،‬تربط الرب بهذه اآلالم ومن ثم تجعل‬
‫عبء اإلنسان محتمالً‪ .‬أما العملية المقابلة فهي ما يمكننا رصده في الوثنية الهللينية حيث يتعلق األمر بدالً من ذلك بربط اإلنسان‬
‫بوسط اآللهة‪ .‬إن أي طريق للصليب ال يقود إلى األوليمب! واإلنسان الهلليني ال يستحي من الحياة التي لم ينخ عليها بعد كلكل‬
‫الفداء‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫والحال أن المسيحيين يجسدون كلمة رامبو المملة‪ ،‬قبل أوانها‪" :‬يجب أن نكون حديثين بصورة مطلقة!‪ ".‬فهم ليسوا على حافة‬
‫العصر الحديث وحسب‪ ،‬بل إنهم يمنحون الحداثة أعصابها المفرطة الهستيرية والتي تسبح في النزاع مثلما تسبح في الوسط الديني‬
‫األكثر إشباعاً‪ .‬إنهم يدخلون نبض الزمن القاتل في قلب حياة مسطحة‪ ،‬كانت تعاش حتى ذلك الحين من زاوية االنسجام ال من‬
‫زاوية المحنة‪.‬‬

‫ويتشكل على خطى المسيح ضمير جديد ال يعود ضمير حاضر متجانس يتتابع صعوداً بال توقف إلى مستوى اإلنسان‪ ،‬بل‬
‫يفسح على العكس من ذلك مجاالً للمستقبل‪ ،‬لذلك "التجاوز" بالغ الشهرة الذي سوف يصبح إيلدورادو مغامرات الروح والذي سوف‬
‫تخور قوى نيتشة إزاءه ويتشبث بتالبيبه‪ .‬إن "الصخرة العالية األزلية الخرساء‪ ،‬القدر" ما عادت تخيف البشر الزاحفين صوب قوة‬
‫باطنية غ ارراة ال يملكون سوى لن وجودها‪ ،‬وال يجدون أحياناً غير غوايتها‪ ،‬وان كانوا ال يملكون البتة مفتاحها‪ .‬وعندئذ يطالب‬
‫التاريخ بأن ينلر إليه وفقاً لمنلور اشتهائي‪ .‬أما الجنس الذي يلل دائماً في العشرين من عمره فهو يتالشى كجزيرة يطويها سديم‬
‫شمسي وينبثق بشر يشددون على إركاع الزمن أمام نير مفاجئ‪ :‬استم اررية درامية ذات معنى‪ .‬وفي مقابل اإلنسان الحديث‪ ،‬في‬
‫مقابل التجديد المسيحي‪ ،‬يضع يوليانوس اإلنسان غير المستسلم لحاضره‪ ،‬والذي يتمثل اإلحساس بالحضور على األرض بالنسبة‬
‫له في وحدة عيار الحياة‪.‬‬

‫لقد آمن يوليانوس بشفافية العقل غير المحدودة‪ .‬وبالنسبة له‪ ،‬ال ينفصل النلام الديني عن فكرة القانون والذي تحدده بدوره‬
‫عمارة معينة منسجمة للعالم‪ .‬وهو يجل في اليونان القانون الذي ال يحتاج إلى أن يحمل اسماً ألنه‪ ،‬بادئ ذي بدء‪ ،‬انسجام وتناغم‪.‬‬
‫وهو يحترم في روما القانون الذي إذ يسمي نفسه إنما يساعد على صد فوضى األقوام األجنبية والخطر األبدي المحدق بكل جمال‪.‬‬
‫لكنه‪ ،‬في المقابل‪ ،‬ال يرضى بالعدوى المسيحية التي تعمل في الواقع ليس وفقاً للفهم وانما وفقاً للتشنج‪ .‬ويبدو أنه قد رصد تحوالً‬
‫غامضاً ومزعجاً‪ .‬والواقع أنه عندما اختفى يوليانوس‪ ،‬وقد هزمه سوء حل الغرب‪ ،‬فإن صدمة الصليب تبدأ بالكاد في اختراق لحم‬
‫البشر‪ .‬وقد استشعر يوليانوس أن شيئاً عبثياً بشكل عجيب آخذ في الحدوث‪ ،‬إن نداء عبث باطنياً حقيقياً يعلن عن نفسه بين البشر‬
‫وانه سوف يجرهم إلى هذا الشكل األرقى للجور والذي يتمثل في مكابدتهم في الرب مرة أخرى ما كابدوه بالفعل مرة أولى في‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫أثر آخر لالنتصار المسيحي‪ :‬إن الوشائج تنقطع بين األخالق والسعي الجمالي‪ .‬ذلك أن مفهوم الحياة الخالب‪ ،‬والذي كان‬
‫مفهوم اإلغريق ويلل مفهوم يوليانوس‪ ،‬إنما يجتاحه ذلك التدفق العضوي المندفع مع رياح القطيع‪ .‬وكيف يمكن ألولئك الذين‬
‫يهدرون أن "األزمة قد جاءت" أن يهتموا بتجميل الحياة؟ لقد تطلب األمر قروناً إلعادة اكتشاف الغندرة – تلك الردهة المفضية إلى‬
‫السعي الجمالي‪ - ،‬تطلب قروناً البتعاث رخام التماثيل التي كانت الوقاحة قد بلغت بها حد تصوير بشر صحتهم جيدة (بين زمن‬
‫قسطنطين وزمن الرينيسانس‪ ،‬يبدو نحت تماثيل ذات خدود بشرية هزيلة أشبه ما يكون بثأر الشاكين من سوء التغذية)‪ .‬لكن أية‬
‫عودة إلى الوراء – وال حتى عودة غنادير القرن التاسع عشر والذين بذلوا مع ذلك كل ما في وسعهم لكي يكونوا "وكأن شيئاً لم‬
‫يكن" – ماكان بوسعها أن ترد إلى السعي الجمالي الهيمنة على سلوك الفرد‪.‬‬

‫لم ُيذكر بما يكفي أن االنتقال من الوثنية إلى المسيحية قد ترافق مع تطور مفاجئ في جوانب الجمال الجسماني – وثبة‬
‫ضالل مفاجئة‪ - ،‬مثلما ترافق‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬مع مفهوم مفاجئ عن تجارة البشر‪ .‬إن انقباض المالمح (الذي ال يمت بصلة إلى‬
‫التكشير الجامد والمدروس ألقنعة التراجيديا اإلغريقية) إنما ينبثق كما لو أن المراد من ورائه هو تشويش جماليات الوجوه دون‬
‫صخب‪ .‬حتى يحمل اإلنسان نفسه شهادته هو على العذاب‪ .‬حتى يحمل وجهُهُ الشهادة‪ .‬وهذا الهتك لسر المحنة المترتب على‬
‫أشكال عدوى خرقاء ‪ -‬إنما يجعل من اليأس شأناً عاماًّ‪ .‬وفي أعقاب صور السلطة والنبالة‪ ،‬تجيء صورة الكائن المغلوب‪ ،‬صريع‬
‫التعاسات الدنيوية‪ ،‬الحريص على أن يهين في نفسه رشوة الحياة المتمثلة في الجمال‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫وبالنسبة ليوليانوس‪ ،‬فليس هناك ما هو أكثر فلاعة من مشهد رب ملطخ بالوحل وبروث البهائم‪ ،‬ومصلوب بين لصين‬
‫مصلوبين‪ )1( .‬فهو رى أن من المستبعد أن يقبل رب حقيقي أن يلهر في مثل هذه الصحبة‪ .‬لقد قدمنا‪ ،‬منذ عشرين قرناً‪ ،‬اإلتاوة‬
‫جد السخية إلى المألوفات الشعبية (أعني في مجال الروح) بحيث ال يسعنا – عن حق – الترفق بهذا التبجح الميتافيزيقي الحقيقي‪.‬‬
‫إننا نستشعر أن األلوهية‪ ،‬في نلر يوليانوس‪ ،‬هي مسألة سلوك راق‪ .‬وكيف يمكن له االرتياح إلى اغتصاب المعرفة من جانب‬
‫بعض أهل الحرف العاطلين ‪ -‬صيادي السمك أو اإلسكافيين الذين يتبجحون بنبذ تعاليم الفالسفة؟ إن شعار يوليانوس‪ ،‬إن كان قد‬
‫اهتم بأن يكون له شعار‪ ،‬إنما يتسامح مع تلخيصه في هذه الكلمات‪" :‬إن االلهة تأخذ وال تُلزم نفسها"‪ .‬إن هناك شيئاً مؤث اًر في‬
‫إصرار يوليانوس – إذا ما نلرنا إليه نلرة فاحصة – على بعث "تنوير" في عصر وعالم مشرقيين ومرضيين‪ ،‬تهيمن عليه تحرقات‬
‫خبيثة‪.‬‬

‫*‬

‫إن جويتز‪ ،‬الفارس األلماني المرتزق عند سارتر‪ ،‬يجرح راحتي يديه ليرى الجمهور ندوباً زائفة‪ .‬وهذه الحركة‪ ،‬إذا ما راعينا كل‬
‫األمور‪ ،‬ليست غير نصف خديعة‪ .‬فسواء كانت الندوب حقيقية أم زائفة‪ ،‬فإنها تلل منتمية إلى مجال المبالغة‪ .‬إنها تشهد على عدم‬
‫اندمال الكائن‪ ،‬بل إنها تشهد في الحقيقة على عبادة الجرح األول‪ ،‬الذي ال يمكننا قبوله إالَّ إذا أدى بالتئامه إلى تحرير اإلنسان من‬
‫أسطورته الشرهة‪ .‬ولذا فإن يوليانوس ال يخطئ عندما يفهم المسيحية على أنها انشقاق مغروز في الحياة رأساً‪ ،‬على أنها تعويض‬
‫عما ال يمكن تعويضه‪ .‬إن المسيحية‪ ،‬من حيث كونها انشقاقاً وشقاقاً‪ ،‬مبالغة والتباساً‪ ،‬إنما تخترع الحشمة لكي تتحول بعد ذلك في‬
‫تقلبات قديسيها االنتشائية إلى فريسة لـ "الزوج الجدير بالعبادة"‪ .‬إنها تخترع النعمة‪ ،‬لكنها تسارع إلى اطالق اختها التوءم على‬
‫العالم‪ :‬المحنة‪ .‬وليس محلو اًر أن نتساءل عما إذا كان البوح الكبير باإلحسان والذي تبالغ المسيحية في إبراز نفسها من خالله ال‬
‫هابي للروح‪ ،‬كيركجارد مثالً‪ ،‬لتبني موقف مماثل باعتباره الشيء األكثر إراحة في‬
‫يتجاوب مع الحق في إنهاء العالم‪ .‬البد من إر ٍّ‬
‫العالم‪.‬‬

‫وأخي اًر‪ ،‬وهذا في حد ذاته موضوع كاف للذعر‪ ،‬فإن المسيحية تتب أر من الجريمة لكنها تلثم جبين القاتل‪ .‬والمسألة ال تعود‬
‫مسألة افتداء بعيد وال نعمة افتراضية‪ ،‬بل هي مسألة خلط الحابل بالنابل‪ .‬وعندئذ فإننا ندخل دون صعوبة إلى ما أسميه بدوامة‬
‫الم َم َّجدة‪ .‬وأنا أعتقد أنه في ذلك ومن خالل هذا الجانب المحدد تلهر المسيحية ليوليانوس بوصفها عصبة من األشرار‪.‬‬ ‫المهانة ُ‬
‫فمهما كانت الجريمة التي يرتكبها الكائن اإلنساني‪ ،‬فإن الجريمة ستجد من االن فصاعداً‪ ،‬دائماً وأبداً‪ ،‬من يفتديها‪.‬‬

‫والواقع أنه يبدو أن ما يطلبه البشر هو أالَّ يعودوا بحاجة إلى الرد وحدهم على أقدارهم‪ .‬ولكن‪ ،‬هل فعلت المسيحية‪ ،‬في‬
‫التحليل األخير‪ ،‬شيئاً آخر غير أن تزيد على مدى البصر وحدتهم األولى‪ ،‬أليست قاصرة على اإلنعام على البشر بوحدة كتلك التي‬
‫يصورها كيريكو حيث ال نلحل غير لل البراءة بينما يتردد‪ ،‬في المقابل‪ ،‬في كل مكان‪ ،‬صدى جريمة هي منذ ذلك الحين فصاعداً‬
‫ال مرتكب لها؟‬

‫يكون المرء لنفسه عالقات‪ .‬ذلكم في الواقع ُبعد جديد للسلوك‪،‬‬


‫وفي مثل هذه اللروف‪ ،‬فإن ارتكاب الخطيئة يصبح وسيلة ألن ِّ‬
‫سرعان ما تتلوه من جهة أخرى تمزقات يحافل عليها المسيحيون – لعجزهم عن التغلب عليها – حفالهم على زهور في دفيئة‬
‫زجاجية‪ .‬إن لكل فعل طابعاً رمزياً‪ .‬وهو يعبر عن فاعله بأكثر مما يمكن للمغفرة أن تغيره‪ .‬ومنذ ذلك الحين‪ ،‬هل يمكن للمرء أن‬
‫يتخلى دون عقاب عن ملكية فعله (انلروا راسكولنيكوف)؟ هل يمكن للمرء أن يتخلى عن محنته (انلروا كافكا) أو أن يقتسم‬
‫لدغتها؟‬

‫ومَبلِّ اًر في آن واحد‪ ،‬على كل ما يحدث بعد الفعل‪ .‬فهناك َ"ب ٌ‬


‫عد"‬ ‫إن الشيء المؤكد هو أن المسيحية قد أضفت مذاقاً‪ ،‬ملتبساً ُ‬
‫البعد هو َبعد الحب أو َبعد الجريمة‪ ،‬فإن الضمير ينسحب من الفعل‬ ‫ٍ‬
‫بشكل خاص ال يشبه أي َ"بعد" آخر‪ ,‬وسواء أكان هذا َ‬ ‫مسيحي‬
‫ٌّ‬
‫بسهولة غير عادية‪ ،‬لكنه يساعد في الوقت نفسه على استحالة أن يكون المذنب شيئاً آخر غير المجرم ‪ -‬الذي – ربح الخالص أو‬

‫‪104‬‬
‫الزاني – التائب – الراكع – تحت – قدمي – المسيح‪ .‬فهل يتوجب التأكد من أن إنساناً حلت به السكينة ألن عيوبه قد جرى حمل‬
‫المسؤولية عنها هو شيء أكثر من شبح إنسان حر‪ .‬أو كذلك ‪-‬جنباً للحديث عن الحرية – يحتفل بحقوقه في المزاح سليمة‪ .‬والى‬
‫أي حد يلل من ربح الخالص سيداً لضحكته؟‬

‫*‬

‫لقد قلت إن يوليانوس‪ ،‬بعد ثالث سنوات من الحكم‪ ،‬قد هزمه سوء حل الغرب‪ .‬ويبدو لي أن من خصائص المسيحية‬
‫االستفادة من هذه المحن المبتورة حيث يختفي الخصم في الوقت المناسب‪ .‬إالّ أنه تبقى اإلشارة إلى َمعلم آخر‪ ،‬هو األكثر أهمية‪،‬‬
‫المعلم الذي يضع كالً من المسيحية ويوليانوس في مواجهة أحدهما اآلخر كخصمين لدودين‪ .‬إن موعد المسيحية الكبير يقع بعد‬
‫الشر (البد من حدوث الفضيحة)‪ .‬أما موعد يوليانوس فهو يقع قبل ذلك (ليست هناك فضيحة)‪.‬‬

‫إن هدف يوليانوس المثير للشجن والمتمثل في استعادة‪ ،‬استرداد والء – وفاء ضائع إنما يجعل منه عين نموذج مصحح‬
‫التاريخ‪ .‬إن يوليانوس هو ذلك الذي ال يقب ُل حكماً يصدره العائثون فساداً بانسجام اآلفاق‪ - ،‬إنه ذلك الذي يرفع والءات – وفاءات‬
‫الروح إلى مرتبة فوران نبيل‪ .‬ويبدو لي أنه ينطبق عليه بشكل مباشر كالم جان جرينييه المؤثر‪" :‬ربما كان من المناسب أن يتغير‬
‫اإلنسان لكي يتكيف‪ ،‬ولكن دون إفراط مع ذلك‪ ،‬وأما شرفه فإنه يتمثل غالباً في والء‪ ،‬حتى وان كان بال أمل"‪.‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫( ‪)1‬‬
‫"‪ ....‬سوف نوضح أن إلهه الجليلي الجديد‪ ،‬الذي تمنحه حكاياته الخلود‪ُ ،‬ي َع ُّد في الواقع‪ ،‬بحكم عار موته ورمسه‪ ،‬مستبعداً من‬
‫األلوهية التي يخترعها ديودور له"‪.‬‬

‫(يوليانوس‪ :‬رسالة إلى بلوتينوس)‬

‫وأيضاً‪:‬‬

‫"أيها الجليليون‪ ،‬إن يسوع هذا الذي تدعون إليه كان أحد رعايا قيصر"‪.‬‬

‫روماني‪ ،‬ولد في القسطنطينية في عام ‪ 331‬ومات في بالد‬


‫ّ‬ ‫يوليانوس المرتد – فالفيوس كالوديوس يوليانوس‪ ،‬امبراطور‬
‫الرافدين في عام ‪ ،363‬فيلسوف‪ ،‬ترك كتابات عديدة من بينها بحث معاد للمسيحية ‪ – .‬المترجم‪.‬‬

‫‪105‬‬
‫حول مستقبل الشعر‬

‫اقترح منلمو بينالي الشعر الذي انعقد في كنوك – لو – زوت‪ ،‬من ‪ 3‬إلى ‪ 6‬سبتمبر ‪ ،1959‬اقترحوا‪ ،‬كموضوع لتأمالت‬
‫ال ُكتاب الملتقين لهذه المن اسبة‪ ،‬تيمة يبدو أنها‪ ،‬شأنها شأن تلك المدينة الصغيرة الجميلة‪ ،‬إنما تنفتح هي نفسها على المحيط‪:‬‬
‫"الشعر وانسان الغد"‪ .‬وبالنسبة لكثيرين‪ ،‬كان هذا الموضوع االستشرافي ذريعة لجلد الذات واماتتها‪ .‬فالواقع أن طرح المسألة بهذا‬
‫الشكل الفضفاض إنما يؤول إلى التساؤل عما إذا كان الشعر سوف يستمر موجوداً في الغد أيضاً‪ .‬وهذا يدفع إلى النلر في مآل‬
‫الضمير الشقي في حضارة سعادة‪ .‬وأياً كانت المقدمات والمبادئ األيديولوجية لمجتمع الغد‪ ،‬فإننا نعرف أن السعادة اإلجبارية سوف‬
‫تكون شرعته ودستوره‪ .‬لقد قال سان – جوست إن السعادة فكرة جديدة‪ .‬وما هو جديد هو نشدان السعادة في أعمال الدولة‪ .‬وهكذا‪،‬‬
‫عبر وسائل ميكانيكية‪ ،‬يجري نصب فخ الهناء الموضوعي لإلنسان‪ .‬فالعلم يحقق إحالم البشر والشعر يحلم بأن يحلم‪ .‬إن الهيمنة‬
‫على الملكوت الشاسع‪ ،‬ربما كانت تعني أن اكتشاف الالنهائي ليس أكثر من مصيدة‪.‬‬

‫بالرؤيا وبالصورة‪ ،‬يعتبر الشعر انتجاعاً (ارتياداً للزاد حيث يكون) أما بالكلمة‪ ،‬فهو يعتبر ركيزة وأساساً‪ .‬ويتعين عليه بحكم‬
‫هذه الحركة المزدوجة أن يضع نفسه بالضرورة في أماكن أخرى غير تلك التي ينصب اإلنسان نفسه فيها حاسباً لما هو واقعي‪.‬‬
‫وبانكبابه على البحث المهموم عن "المكان اآلخر"‪ ،‬فإنه ال يمكث كلياً البتة في االلتقاء القسري للـ"هنا" و"اآلن"‪.‬‬

‫واذا ما قبل إنسان الغد أن يتالشى في مصير جماعي‪ ،‬فسوف يكون الشعر عندئذ بالنسبة للبعض فرصة للوحدة‪ .‬والحال أن‬
‫الشعر إنما يتميز عن المذاهب الكبرى بميزة عدم الوعد بالخالص‪ .‬إنه صوت في الليل‪ ،‬واالنتقال الذي يوحي به يتقاطع مع كل‬
‫الدروب لكنه ال يختلط بأي منها‪ .‬إنه خروج الروح – الدياسبو ار الخالقة التي ال نتحسسها بعد كتَ َشتُّت‪ ،‬بل كسطوة‪ .‬إن المرء ال‬
‫يتحد مع الشاعر؛ إنه يصبح بمفرده عند االتصال به‪.‬‬

‫هناك أيضاً هذا األمر‪ ،‬وهو أن الشعر ينقي اللغة ويسمح لها‪ ،‬على نحو ما‪ ،‬بأن تحفل سر الكائن‪ .‬والمحكوم عليه باإلعدام‬
‫يعرف‪ ،‬غريزياً‪ ،‬أنه لو أمكن أن يحكي حكاية للجالد‪ ،‬أي لو نجح في شد اهتمامه إلى سره‪ ،‬فلربما أمكن له إثارة قلقه أو إرخاء‬
‫قبضة يده‪ .‬ومن عالم "ألف ليلة وليلة" الغزير إلى قضية كارل تشيسمان‪ ،‬نعرف أن الكالم يملك أحياناً قوة إحباط الفعل ونزع سالح‬
‫الجالدين‪.‬‬

‫ال يجب أن نطري أنفسنا كثي اًر على تقدماتنا التي ال تعدو أن تكون تقدمات سيمياء تعوزها النزعة اإلنسانية‪ .‬ما الذي يقرأه‬
‫الميكانيكيون من تبديات دوارانا؟ عن طيب خاطر يقرأون "كوميديات" بأكثر من قرائتهم "أزهار الشر"‪ .‬وعند اللزوم‪ ،‬لن يستنكفوا عن‬
‫تحويل "أزهار الشر" إلى "كوميديا"‪ .‬وقياساً إلى مثقفي الرينيسانس‪ ،‬فإننا لسنا إالَّ منحرفين ريفيين صغا اًر‪ .‬لقد كانت هناك رغبة في‬
‫اقتسام المعرفة‪ .‬وفي ختام االقتسام‪ ،‬نكتشف أن ما ترتب عليه هو شراكة في الجهل‪ ،‬هو حلف كالم فارغ‪ .‬وضد هذه السعادة التي‬
‫تنحصر في تنازل متواصل لألسوأ‪ ،‬ما الذي يمكن للشعر عمله؟ ال شيء على ما يبدو؛ أو باألحرى مع ذلك – إذالل الملاهر‬
‫لحساب وحدة مستعادة‪.‬‬

‫سوف يكون المستقبل بحاجة إلى ميناء حر للذكاء‪ .‬إن أناساً قادمين من كل حدب وصوب سوف يتولون هناك‪ ،‬على راحتهم‪،‬‬
‫إدانة الفكر المكتسب اكتساباً مشبوهاً‪ .‬وسوف تنبثق كلمات جديدة‪ ،‬في نفي شجاع للمنفعة‪ .‬سوف يكون الشعر قوة أولئك الذين ال‬
‫يتقاسمون شيئاً البتة من الحقائق الرائجة‪.‬‬

‫مارس ‪1960‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪106‬‬
‫الرجل الضخم والسيدة الضئيلة‬

‫ال يتراجع الراديو تليفزيون الفرنسي أمام أية تضحية لكي يحول الوجبات العائلية إلى جلسات جياشة للتلقين الثقافي‪ .‬إن برامج‬
‫مصاغة بأكبر حرص على التفاصيل البيوجرافية سوف يتعين عليها السماح لكتاب أحياء بأن يقدموا للجمهور بعض أعالم األدب‬
‫الراحلين‪ .‬فرانسواز ساجان سوف تقدم ستاندال‪ ،‬فرانسوا مورياك سوف يتكفل بشاتوبريان‪ ،‬وسوف يتكفل روجيه فايان بفلوبير‪،‬‬
‫وسيمينون ببلزاك‪ ،‬وسيسيل سان‪ -‬لوران بألكسندر دوما األب‪ .‬هكذا سوف يكون هناك ما يمكنه زيادة علم أناس ال يشغلهم إالَّ‬
‫التبقيق في حسائهم‪.‬‬

‫إن فرانسواز ساجان‪ ،‬التي اعتادت النلر إلى األشياء من قمة قصرها في السويد‪ ،‬ال تخفي قلة إعجابها بعمل ستاندال‪ .‬فهذا‬
‫الرجل الضخم‪ ،‬عديم اللياقة في المجتمع‪ ،‬المنكب على ولائف قنصلية متواضعة‪ ،‬ليس مؤهالً إلثارة حماسها بشكل زائد عن الحد‪.‬‬
‫وهي تود بالفعل أن تهدي له ضربة التليفزيون‪ ،‬لكن ذلك سوف يكون ستربتي اًز رخواً‪ .‬واذ نسمعها تعبر عن نفسها‪ ،‬فإننا نتصور أنها‬
‫تقاوم بصعوبة إغراء تصويره في صورة الكاتب الفاشل‪ .‬فهي تعلن أنها تعتبر فابريس ديل دونجو كاوبوياً‪ .‬وفي المنلور الحديث‬
‫الذي هو منلورها‪ ،‬فإن هذه الكلمة تنطوي على كل ما تنطوي عليه المجاملة‪ .‬أليس الكاوبوي هو الشكل األسطوري لمدمري‬
‫األساطير؟ إنه أوديسا المتخلفين عقلياً الذين يصوغون عالماً دون ماض‪ .‬وهو الفولكلور الذي يلوح بمسدسه لسلب السيدات‬
‫الجميالت‪ .‬ومن حيث الجوهر‪ ،‬فإن ما تفتقر إليه فرانسواز ساجان أكثر من سواه هو أن يتم اختطافها من قلب الجبل وأن يتم‬
‫حملها‪ ،‬وهي ساخنة تماماً‪ ،‬إلى مغارة قطاع الطرق‪ .‬وبالشكل نفسه الذي قد يحتاج به سارتر إلى عيد أنيق أو إلى حماقة ما من‬
‫حماقات فينيسيا‪ ،‬فإن ساجان تكتب لكي تنسى ما لم يصلها قط‪.‬‬

‫تقول لنا ساجان أن ستاندال يضع شخصياته في كل اليسر الذي افتقر إليه‪ .‬ويبدو أن هذا التعليق يشكل نقداً‪ ،‬ال نعرف تماماً‬
‫استناداً إلى أي موجب‪ .‬وف ي حالة ساجان‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬فإن الشخصيات يبدو أنها تتصرف كأشباه العمالء المزدوجين‪ ،‬إذ ال تخوض‬
‫حياتها الخاصة إالَّ لكي تستشير فجأة ساعتها وتنهي سردها ألن لديها موعداً مع الكاتب‪ .‬إنها كائنات مستسلمة ألزمة الرغبة‪ ،‬مثلما‬
‫هي مستسلمة ألزمة الحرية‪ .‬وكان يجب أن تكون مصدر تبرمه‪ .‬إذ ليست بسالتها الزائفة غير االستسالم لحياة تنفشها تحديات‬
‫صغيرة جد شبيهة بعالمات تعجب ماري – شانتال‪ .‬والكاتب ال يملك ألواناً للخدود‪ .‬إن األدب المعاصر لم يعد له تقريباً من‬
‫موضوع منذ تخلى عن الحلم‪ .‬وعند ستاندال‪ ،‬هناك شيء واضح‪ :‬ليست هناك أزمة في الرغبة‪ .‬وهذا هو كل الفرق بين الرجل‬
‫الضخم والسيدة الضئيلة‪ .‬إن أحداً لن يقوى على تثبيط همة فابريس بأن يصرخ في وجهه‪ :‬أو‪ .‬كي‪ .‬دونجو‪.‬‬

‫وبمعنى معين‪ ،‬لم يكن سيئاً اختيار فرانسواز ساجان الستحضار ستاندال على شاشة التليفزيون المحمومة‪ .‬إنها تجسد محنة‬
‫حديثة بشكل خاص‪ .‬فهي تنتمي إلى ذلك الصنف الذي لم يندحر ألنه ال يحارب‪ ،‬الذي يفهم لكنه ال يستوعب‪ ،‬الذي يستوعب‬
‫أحياناً لكنه ال يتذكر‪ ،‬الذي يتكلم‪ ،‬أخي اًر‪ ،‬خوفاً من اللغز‪ .‬لقد كان بوسع ستاندال أن يتخذها خادمة غير وفية‪.‬‬

‫مارس ‪1960‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪107‬‬
‫ابن عربي‬

‫هناك طريقة لفهم كاتب من الكتاب تتلخص في ترسم مسيرته الروحية‪ .‬هكذا يتصور المرء أنه يخطو بكلمات "اآلخر"‪ ،‬لكن‬
‫اء أكان يلمس األرض أم تزل به القدم‪ ،‬إنما يحتفل مع ذلك الذي يترسم خطاه بعالقة "عهد نزيه" سوف تبدو من الخارج‬
‫المرء‪ ،‬سو ٌ‬
‫حميمية وجد وثيقة في حين أنها تحمل في طياتها صدعاً غير مرئي‪ ،‬ومآلها‪ ،‬هو أيضاً‪ ،‬إنما هو مأساة الشريكين‪ ،‬هو التعاسة‬
‫الختامية التي ال يعود معناها واحداً بالفعل بالنسبة لطرفيها‪ .‬ففي الوقت الذي يتعين فيه توافر كابح في الوقت األنسب – أي في‬
‫لحلة االرتباط المختارة المثلى – تتواصل حركة الكائنات‪ ،‬أي يتواصل انزالق الحقيقة األبدي‪ .‬إن نقطة ضوء على حافة األفق قد‬
‫اء بسواء‪ .‬والبد من القدرة على سلب زمن اآلخر‪ ،‬البد من اشتمال هذا الحرمان الفَ ِرح‪ .‬لكن ذلك‬
‫تعني الفجر كما قد تعني الشفق سو ً‬
‫غير ممكن بالمرة‪ .‬وال مفر للمرء من االكتفاء – عبر ذكاء أمثل أو عبر النشوة – بتقويم انحرافه هو‪ ،‬كما يفعل الطيارون في‬
‫سمائهم النفعية‪ .‬إن حج الضمير ليس اندراجاً في طريق يجري النلر إليه بوصفه نداء؛ إنه‪ ،‬في واقع األمر‪ ،‬تجربة مختلفة اختالفاً‬
‫يدعو إلى األسى عن التجربة التي تؤدي إلى انفتاح هذا الطريق‪ .‬ومازال يجري البحث‪ ،‬كما لو عن سر ضائع‪ ،‬عن ذلك الشيء‬
‫الذي يفصل الشرق عن الغرب‪ ،‬وعندما نحسب كل ما يخص طابع كل منهما‪ ،‬سوف يبقى ذلك الفاصل الطبيعي الذي ال يكون‬
‫أكثر إزعاجاً إالَّ في لقاءات الحب والذي يحركنا كلنا في منلور غير إقليدي‪ ،‬يجد البعض عند أطرافه اليأس ويبتدع البعض اآلخر‬
‫المسرة‪.‬‬

‫من بين جميع الفالسفة العرب‪ ،‬فإن محيي الدين ابن عربي‪ ،‬هو الذي يؤرق‪ ،‬اآلن‪ ،‬الضمير الغربي‪ ،‬أعمق األرق‪ .‬فمنذ بضع‬
‫ونشر تحت عنوان "حلية األبدال" (دار نشر شاكورناك‪ ،‬باريس) إلى إثارة األذهان بما يفيض منه‬‫قصير تُرجم ُ‬
‫ٌ‬ ‫مقتطف‬
‫ٌ‬ ‫سنوات‪ ،‬أدى‬
‫من نور غير عادي‪ .‬ومنذ ذلك الحين‪ ،‬شهدنا لهور عملين يتميزان بأهمية نادرة‪" :‬حكمة األنبياء" (دار نشر آلبان ميشيل) البن‬
‫عربي‪ ،‬وفي ربيع ‪ ،1958‬دراسة األستاذ هنري كوربان الرائعة‪" ،‬الخيال اإلبداعي في تصوف ابن عربي" (دار نشر فالماريون)‪.‬‬
‫وحول هذا الكتاب األخير‪ ،‬لدينا أخي اًر‪ ،‬العمل رفيع المستوى لشارل دويت (الذي لهر في عدد يناير ‪ 1960‬من مجلة "كريتيك")‬
‫والذي دون أن يهتم بالتأويل‪ ،‬يتجه مباشرة إلى المعرفة‪ .‬إن ابن عربي‪ ،‬الذي عاش بين عامي ‪ 1165‬و ‪ ،1240‬لم يهتم بتعاليم‬
‫ابن رشد إالَّ لكي يطور‪ ،‬بسرعة بالغة‪ ،‬ما يسميه كوربان بـ "استقالل"ـه "الروحي" هو‪ .‬وال مجال هنا لإلحاطة بعمل ابن عربي‪ ،‬وال‬
‫بشخصيته‪ .‬فاالثنان يتميزان على حد سواء بالتعقيد وبالشفافية‪ ،‬وبالعذوبة وبالحسم‪ .‬وأقصى ما يمكننا هو السعي إلى بيان إلى أي‬
‫مدى يعتبر ابن عربي حديثا‪ ،‬وأنه حديث‪ ،‬تحديدا‪ ،‬ألنه يمكث في االنفصال دون أن يفك‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬االرتباط‪ .‬وحول تيمة االتحاد‬
‫الصوفي هذه‪ ،‬يزيدنا ابن عربي علماً بهذه الكلمات المدهشة‪" :‬ال تبحث عني فيك‪ ،‬فسوف تكابد بال طائل‪ .‬لكن ال تبحث عني مع‬
‫ذلك خارجك‪ ،‬فلن تصل إلى مرادك‪ .‬ال تجهر بالبحث عني‪ ،‬فسوف تكون شقياً"‪ .‬والحال أن شارل دويت محق تماماً في تشديده‬
‫على هذا الطابع المميز لميتافيزيقا ابن عربي وفي استنتاجه‪" :‬إن التمييز هو من ثم ضروري‪ ،‬وابن عربي‪ ،‬بعيداً عن أن يلغي‬
‫الملهر‪ ،‬إنما يحتفل به"‪ .‬إن االنفصال ال "يتعالى"‪ ،‬كما تزعم ذلك أخالق التبجح الخالص؛ إنه ليس ذلك االختزال للذات الذي‬
‫يجب‪ ،‬من ثم‪ ،‬إيجاد عزاء له عبر إرهاب جماعي ما‪ .‬إنه يطرح نفسه على الذكاء الذي يجعل منه مبدأه الخاص بإعادة البناء‬
‫الممكنة في اتجاه الواحد‪ ،‬نوره ال حجابه‪.‬‬

‫إن تأمالت ابن عربي الفلسفية ليست نلرية يحاكمها المرء باستسهال‪ .‬إننا معتادون على حركية األفكار وليس ذلك هو ما‬
‫سوف يربكنا‪ .‬لكن األمر‪ ،‬عند ابن عربي‪ ،‬إنما يتعلق بشكل من أشكال األسطورة المجسدة‪ ،‬هو شكل أسطورة إنسانية تنزاح‪،‬‬
‫وبانزياحها المتواصل‪ ،‬تستولي على الروح وتجرها إلى اكتشاف ذلك الذي قد ال ُيعطى لها أبداً‪ .‬إن ابن عربي ال يتجاوز الفكرة‪ .‬إنه‬
‫يدفعها إلى االرتداد باتجاه الحياة التي هي عبارة عن تناقض‪ ،‬وحيث يملك اإلنسان أيضاً حق اختيار الخطأ‪ - ،‬حق االمتناع عن‬
‫إغاثة الروح المرشدة‪ .‬إننا نؤيد شارل دويت إذ يسجل‪ ،‬على رأس بحثه‪ ،‬تلك الجملة لمفكر عربي آخر‪:‬‬
‫‪108‬‬
‫"أيتها الحقيقة‪ ،‬إننا لم نجدك‪،‬‬

‫ولهذا‪ ،‬برقصنا‪ ،‬نخبط األرض"‬

‫أبريل ‪1960‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪109‬‬
‫العدالة اإلشعاعية‬

‫على مدار اثني عشر عاماً‪ ،‬ترقب كاريل تشيسمان موتاً كان لوقت طويل تصورياً قبل أن يصبح عضوياً‪ ،‬وهو نوع من الموت‬
‫حد له من متطلبات الموت العادي‪ ،‬وقد مر‪ ،‬خالل فترة الحضانة الغريبة هذه‪ ،‬بجميع حاالت‬
‫له فوائد مركبة ومتطلباته أكثر بما ال ّ‬
‫التمرد الممكنة‪ ،‬دون أن يكف لحلة واحدة عن أن يكون وشيكاً ويقلاً‪ .‬لقد سهر حارس العبث على حراسة هذا الرجل الذي حصنه‬
‫سم بطيء ضد سم األمل‪ .‬والبد من دفنه إلى جوار ضحية من ضحايا هيروشيما هؤالء‪ ،‬الذين يواصلون الموت سهواً تقريباً‪ ،‬بإمهال‬
‫لم يكن مسموحاً للحياة أن تقوم مقامه‪.‬‬

‫يتمن أحد موت كاريل تشيسمان‪ .‬إالَّ أن أحداً‪ ،‬بالمقابل‪ ،‬لم يؤازره في الصعود على َمد َرج نيل العفو‪ .‬وعند تقاطع هذين‬
‫لم ّ‬
‫الرفضين‪ ،‬يحدث إعدام إنسان‪ .‬وهذا يعني أن المواطن الحديث يختفي خلف تنليم المدينة‪ ،‬مثلما يختفي المخترع خلف اآلالت‬
‫الذكية التي اخترعها والتي يمكنها سحق من تريد عن طريق مرورها‪ .‬إن الشيء الذي يحلى باالحترام والمراعاة اليوم ليس هو الفكر‬
‫وال الكائن اإلنساني‪ ،‬بل ذلك الذي يشتغل‪ ،‬إنه كفالة دوران عجلة األشياء‪.‬‬

‫وبين مدرجة الكريات والضمير‪ ،‬سوف تختار غالبية علمى مدرجة الكريات‪ .‬إننا نشهد انتقاالً عاماً للنفوذ يدفع المرء إلى أن‬
‫يطيع بشكل طبيعي تماماً جها اًز يتعطل فجأة لكنه ال يطيع حكمة ذلك الفرد‪ ،‬الذي ال يملك‪ ،‬له‪ ،‬ضمانة ما يتصور أنه التقدم‪ .‬ومن‬
‫جهة أخرى‪ ،‬فليس هناك ما هو أسهل من اكتساب خبرته‪ .‬إن السائق سوف يقبل التوقف أمام إشارة ضوء حمراء عاطلة وقتاً أطول‬
‫بكثير من توقفه أمام شرطي يعطي أولوية المرور للسيارات القادمة من اتجاه آخر‪ .‬وهذا الضوء األحمر الذي نجده م ار اًر وتك ار اًر عند‬
‫كل منعطفات الحياة الحديثة‪ ،‬وحتى في غرفة عذاب موت كاريل تشيسمان المحرقة‪ ،‬ال نعرف بعد جيداً بالفعل‪ ،‬ال سبب إضاءته‬
‫وال باسم أي شيء آخر ينطفئ‪ .‬كما ال نعرف باألخص "ما سوف يحدث" عندما يتوتر جهاز العدالة أو عندما تمارس تروس عجلة‬
‫االقتصاد فعل التقطيع في لحومنا‪ ،‬وال عندما يؤدي ارتخاء المؤسسات المفاجئ إلى نشوء أزمات تنذر فيها الصواريخ بأن تنطلق من‬
‫تلقاء نفسها‪ .‬إن النلم التي نصوغها‪ ،‬إذ تنتج النشاط‪ ،‬إنما توقف فعل اإلنسان وتؤول به إلى حياد مؤذ أمام األشياء واألوامر‬
‫والقوانين‪ .‬هكذا يتساقط اإلشعاع النووي والشلل الموقوت‪ .‬وكما في ليلة هجر‪ ،‬فإن المرء ينكب على البحث عن أحد في الللمة‪،‬‬
‫على سؤال الفراغ‪ ،‬على الصراخ أمالً في العثور على رد‪.‬‬

‫من المفهوم أن الرد فينا‪ .‬والعالم هو الذي يعاند في التجاوب معه‪ .‬إن األخالق تجد نفسها في أجازة‪ ،‬بالرغم من أن أحداً ال‬
‫يتولى تسريحها ورفتها‪ .‬وحول هذه المسألة‪ ،‬يجب لكل منا أن يكون بالغ الوضوح‪ .‬إن األخالق ليست ضرباً من ضروب الحنان‬
‫والرقة‪ ،‬وهي ال تنطوي على التخلي عن العنف بأكثر مما على محبة الجار‪ .‬فهذه العاطفية المبتذلة النادبة على غ ارر عاطفية النثا‬
‫ديل باستو إنما تعد جد رائجة بحيث إنه ال موجب الشتهاء توسع جديد لها‪ ،‬إنها التنتشل اإلنسان من وضعه كمحايد‪ ،‬بل تجعل‬
‫تقاء بل اخت ازالً‪.‬‬
‫منه نادباً محايداً‪ ،‬وهو ما ال يعد ار ً‬

‫كثي اًر ما يتحدثون عن الحد األدنى المعيشي‪ .‬لكنهم ال يتحدثون البتة عن الحد األدنى األخالقي‪ .‬والحال أن من الواضح أن‬
‫بوسع المرء أن يشبع مع مكوثه‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬في الخزي والعار‪ .‬ها هو ذا‪ ،‬أخي اًر‪ ،‬العصب حياً‪ .‬إن القرن العشرين إنما يتميز بنفور‪،‬‬
‫ال يمكن كبته‪ ،‬من كل فكرة عن الشرف‪ .‬ولسنا محتاجين إلى فهم أن الشيء المهم ليس هو اإلبقاء على عقوبة الموت أو نسخها‪،‬‬
‫بل هو االتجاه صوب الموت في لروف ال تكون مهينة لإلنسان‪ .‬إن اإلنسان الذي ال يذعن لألشياء إنما يخرج من حياده ويشرع‬
‫‪110‬‬
‫باالختيار‪ .‬وعند الحاجة‪ ،‬فإنه يختار خصمه‪ ،‬مثلما يختار القواعد التي يريد التمسك بها ومثلما يختار نوعية موته هو‪ .‬إننا نبكي‬
‫على ساعي البريد الذي عاقبته اإلدارة للماً‪ .‬لكننا‪ ،‬والحمد هلل‪ ،‬ال نذرف دمعة واحدة على الطيارين االنتحاريين اليابانيين وال على‬
‫الفوضويين اإلسبان الذين ألقوا بأنفسهم على فوهات المدافع وهم يهتفون‪" :‬عاش الموت"!‪ .‬أولئك هم شرف عصرنا االقتصادي‪.‬‬

‫مايو ‪1960‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪111‬‬
‫آنياس‪ ،‬إنهم ينظرون ِ‬
‫إليك‬

‫عالم برمته في حال تمثيل‪ ،‬كلنا رس ٌل ومبعوثون مطلقو الصالحيات‪ .‬عندما أرسل ملك الملوك فيالً إلى لويس الرابع عشر‪ ،‬لم‬
‫ٌ‬
‫يكن هذا اإلرسال ينطوي على أي داللة أيديولوجية‪ .‬لكن الحال مختلفة تماماً في أيامنا‪ .‬إن مشاهير الخياطين وصانعي التحف‬
‫الترفية‪ ،‬والفرق الرياضية‪ ،‬ومعارض أدوات المائدة‪ ،‬تنتقل من عاصمة إلى أخرى‪ ،‬ليس لمجرد بيان ما يمكن للمرء إنجازه في هذه‬
‫المجاالت المختلفة‪ ،‬وانما أيضاً لكي تكون ضروباً من إعالنات المبادئ المتجولة‪ .‬إن ط ار اًز جديداً من الثالجات إنما يصبح أداةً‬
‫لإلقناع‪ .‬سوق يق ال إننا يجب أن نهنيء أنفسنا على هذا المثال من أمثلة التنافس السلمي‪ .‬نعم‪ ،‬ولكن ما الذي يمكن أن يحدث‬
‫حين ُّ‬
‫تكف األداة عن اإلقناع؟ ال بد‪ ،‬مرةً أخرى‪ ،‬من تحويل مصانع الثالجات إلى مصانع لألسلحة‪.‬‬

‫لتشوه‪ .‬ففي ك ّل مكان‪ ،‬جرى إلغاء المرايا واحالل‬


‫على المستوى الفردي‪ ،‬يشارك البشر أيضاً في هذا الهياج الذي يؤدي إلى ا ّ‬
‫كاميرات التصوير محلها‪ .‬إن مجهولين يصورون مجهولين‪ ،‬على مدى البصر‪ ،‬في الشارع وفي المطعم وعند الخروج من المسرح‬
‫ٍ‬
‫باهتمام خاص‪ .‬إنهم يأخذون مقاساته كما لو كانوا سيرسلونها إلى الخياط‪.‬‬ ‫وفي محطات الطيران‪ .‬وتجري دراسة اإلنسان السوفييتي‬
‫ثم يرصدون أن المذهب الذي أفرز هذا اإلنسان إنما يتبلور في سمات شخصية وفي أنماط الكالم والتعبير‪ .‬واذا كان إنسان غير‬
‫مسجل بعد‪ ،‬فمن المناسب أن توضح كل عينة إنسانية معزولة في المختبر أفضل ما فيها للصانع‪.‬‬
‫أتذكر نصاً قصي اًر‪ ،‬لكنه آسر‪ ،‬ألرسكين كالدويل‪ ،‬عنوانه "آنياس‪ ،‬إنهم ينلرون ِ‬
‫إليك"‪ .‬هناك نجد فتاة اسمها آنياس تركت‬
‫نفسها‪ ،‬دون حرص‪ ،‬لمسرات الجسد‪ ،‬وبعد المغامرات المؤلمة التي تنتلر الفتيات العابثات‪ ،‬ترجع إلى أسرتها‪ .‬وهناك تستفيد من‬
‫ٍ‬
‫حاسمة‬ ‫ٍ‬
‫شهادة‬ ‫تسام ٍح يتميز بالرياء‪ ،‬إالَّ أنه‪ ،‬خالل تناول الوجبات‪ ،‬تتركز كل األعين عليها كما لو أن وجودها ينطوي على‬
‫(ضدها)‪ .‬إنهم‪ ،‬إذ ينلرون إلى آنياس‪ ،‬إنما ينلرون إلى الخطيئة‪ .‬وهكذا يجري اختزال شخصها برمته بحيث ينحصر في هذا‬
‫المعنى الذي تمليه النلرة‪.‬‬

‫نحن‪ ،‬بطريقتنا‪ ،‬أشبه ما نكون بهذه البائسة‪ .‬إنهم يراقبون فينا شيئاً ليس هو نحن‪ ،‬وهذا الشيء نرتضي تمثيله‪ .‬وعملية‬
‫ٍ‬
‫بشكل تلقائي‪ .‬وعند الضرورة –‬ ‫االندراج هذه عن طريق التمثل غير المباشر ذي المقوالت الضرورية‪ ،‬إنما تنتهي إلى ممارسة فعلها‬
‫ٍ‬
‫تمردات فادحة الثمن – فإننا نتصنع ما يزعمون رصده فينا‪ .‬ربما كانت تقنيات تصريف الطاقة المكبوتة‬ ‫ولكي نتجنب التورط في‬
‫ُّ‬
‫تستمد مبر اًر من الوعينا‪ .‬لكن ضرورات أخرى قد حتمت تكوين زنازين بشرية حقيقية‪ .‬ونحن نملك‪ ،‬أحياناً‪ ،‬أن نختار بين االختفاء‬
‫فيها من تلقاء أنفسنا بالكامل‪ ،‬أو أن ال نترك فيها غير شخصيتنا‪ .‬وهذا هو السبب في أننا مجبولون على االبتسام عندما يدور‬
‫وودي‪ ،‬المشكالت التي تمزق‬
‫ّ‬ ‫حديث عن السعادة من جراء اجتماع أناس بسطاء من جميع البلدان لكي يسووا‪ ،‬في حو ٍار صر ٍ‬
‫يح‬
‫العالم‪ .‬ومن المفهوم أن الناس البسطاء سوف يبذلون أقصى مالديهم من جهد لكي يتخيلوا الموقف الذي يمكن لسادتهم اتخاذه في‬
‫ٍ‬
‫حال كهذه‪ ،‬وأنهم سوف يسايرونه بحذافيره‪ .‬فما دام اإلنسان البسيط ليس غير نتاج فرعي لإلنسان المركب‪ ،‬فمن واجبه الرجوع دوماً‬
‫إلى هذا األخير‪ .‬واذا وضعنا أربعة كتاب أو أربعة باعة في المحال التجارية أو أربعة من سائقي القطارات في موضع أربعة من‬
‫السادة في مؤتمر للقمة‪ ،‬فإن مشكالت العالم لن تحل مع ذلك‪ .‬فك ّل واحد من هؤالء الجلساء المتفاوضين‪ ،‬ذوي الجدارة بهذه الدرجة‬
‫أو تلك‪ ،‬سوف ينلر إلى الثالثة اآلخرين نلرة أفراد عائلة محترمة إلى آنياس‪.‬‬

‫مايو ‪1960‬‬

‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪112‬‬
‫حالية العام ألف [ نهاية العالم ]‬
‫مآل كلمات معينة هو مفتاح لفهم عدد من اللواهر المزعجة‪ .‬ففي جزء بأكمله من العالم‪ ،‬أصبحت كلمة النقد الذاتي ذات‬
‫استخدام شائع‪ .‬وهذه الكلمة تزعم أن تتمتها هي كلمة أخرى‪ ،‬لكنها‪ ،‬في الواقع‪ ،‬إنما تأخذ مكانها‪ .‬فالنقد الذاتي يحل محل النقد‪.‬‬
‫وضمور هذا األخير هو شرط نجاح البديل الذي يحل محله‪ .‬والحال أن الشكل الغريب لذلك النشاط الذي يعرف نفسه بهذا اللفل‬
‫إنما يهم‪ ،‬بدرجات مختلفة‪ ،‬األدب وسيكولوجية السلوك‪ .‬إنه يحقق مزيجاً جذاباً‪ :‬هو مزيج الروح المسيحية للعام ألف مع التعبئة‬
‫الحديثة للضمائر‪.‬‬

‫إن العام ألف هو فترة إرهابات علمى مجهولة االسم‪ .‬فاإلنسان يدع نفسه أسي اًر لهاجس تهديد غير مرئي وهو يقنع نفسه بأن‬
‫مرسوماً مبهماً بالدمار الشامل هو على وشك الصدور‪ ،‬ووضعه محزن بحيث إنه يعتبر نفسه بشكل عفوي مذنباً باقتراف نوع من‬
‫الجرم العمومي وغير المحدد‪ ،‬يتوجب السعي إلى اإلجابة عنه قبل أن تنهار داره‪ .‬والمسألة ليست مسألة حكم على جاره‪ .‬فهذا‬
‫األخير جد منش غل بالفعل بصوغ تفاصيل ذنبه الخاص‪ .‬بل هي مسألة االنتماء إلى الذنب‪ ،‬والذي يطرح نفسه فجأة وبشكل مفارق‪،‬‬
‫في عالم مغلق‪ ،‬بوصفه إمكانية الخالص‪ ،‬فالمرء إذ يضفي على الذنب طابعاً شخصياً‪ ،‬إنما يمنحه محيطاً وبيتاً وسقفاً‪ .‬وال يعود‬
‫الشر هو ذلك الجساس الذي تحول خطواته دون مجيء النعاس‪ .‬فالمرء يبدأ بأن يكون انعكاساً له‪ .‬وفي لحلة معينة‪ ،‬يتعرف عليه‬
‫المرء بوصفه قريباً له‪ .‬إنه ال يعود غريباً‪ .‬وهكذا يمكن للمرء أخي اًر أن ينام قليالً‪.‬‬

‫والعام ألف له سائطوه وزاعقوه‪ .‬ال صحافة وال إذاعة‪ .‬بشر يقرأون نهاية العالم في ندوبهم هم؛ يتجولون في األرياف طالبين‬
‫من كل واحد أن يتهيأ للمحنة العلمى‪ .‬وزماننا يعرف أيضاً المتاعب والمحنة والخطوات الجساسة في الليل‪ .‬وقد لهرت أنلمة تريد‬
‫تحويل اتجاه المتاعب والتغلب على المحنة‪ .‬وفي سعيها إلى خلق تضامن‪ ،‬فإنها تستخدم سهاد الضمير‪ ،‬األكثر إيغاالً في القدم‪،‬‬
‫وتدشن من جديد شوط الذنب‪ .‬ليست تلك هي نهاية العالم‪ ،‬والجميع يعرف ذلك‪ .‬إنها مجرد الحساب قبل األخير‪ ،‬لكن هذا المنلور‬
‫أمام الضمائر التي فقدت قدسيتها إنما يكفي لدفع الفرد إلى االنقالب على نفسه‪ .‬والحال أن ذلك إنما يتم‪ ،‬من جهة أخرى‪ ،‬بقدر‬
‫كبير من اليسر‪ ،‬وذلك بقدر ما أن قرناً من السيكولوجية الربوية شايلوكية الطراز قد سمح للكائن اإلنساني بأن يقطع نفسه شرائح‬
‫رقيقة‪ ،‬وبأن يغربل ذاته‪ ،‬وبأن يحلل ما لم يقترفه بقدر من الصرامة أكبر بكثير من صرامة تحليله ألفعاله الفعلية‪ ،‬وبكلمة واحدة‪،‬‬
‫بأن يتدرب تحسباً لجلسة تعرية سوف يفصح فيها هو نفسه عما هو أهل له‪ ،‬مستبقاً بذلك التحليل الذي سوف يجري له من الخارج‪.‬‬
‫والحق أن عين مبدأ إمعان النلر في الذات إنما يعد هنا فاسداً فساداً جليالً‪ .‬ألن النقد الذاتي‪ ،‬منذ البداية‪ ،‬ال يمكن االضطالع به‬
‫إال بشرط اعتبار المرء نفسه مذنباً‪ ،‬مادام المرء ال يتعرف على ب ارءته الخاصة‪ .‬وهذه البراءة‪ ،‬ال تسمح لنفسها بتأكيد نفسها‪ ،‬ألن‬
‫المرء إذا كان بريئاً‪ ،‬فما ذلك إالَّ ألن أحداً آخر مذنب‪ ،‬وهو مالم يجر إعداد المرء إلثباته وللتدليل عليه‪ .‬ولكي نتوقف عن‬
‫ممارسة النقد الذاتي‪ ،‬يجب أن نمارس النقد‪ ،‬ال أكثر‪.‬‬

‫حول هذا الموضوع الذي ال ينفد‪ ،‬من المهم أن نق أر – أو أن نعيد قراءة – " القضية" لكافكا‪ ،‬و"الصفر والالنهائي" لكيستلر‬
‫و"االستبيان" إلرنست فون سالومون‪ .‬فبالرغم من الكآبة التي ترسمها هذه الكتب لصورة عصرنا‪ ،‬إالَّ أنها تسمح‪ ،‬مع ذلك‪ ،‬بأمل‬
‫طائش‪ .‬إذ يوجد دائماً شخص ما مهمته توضيح تقنيات اإليحاء المرضية – تمزيق سحرها القاتل‪ .‬والبد أيضاً من الزعم بأن أسطورة‬
‫النقد الذاتي الضالة إنما تمثل تحية غير مباشرة ومنحرفة ُمقَ َّدمة إلى هيبة النقد الحقيقي‪ .‬وألن المرء ال يمكنه وقف فعل الذكاء‪ ،‬فإنه‬
‫يجتهد في تحويل اتجاه مساره ويحرضه على إغراق نفسه‪ .‬والحال أن مشروع العام ألف هذا الموحى به ال يملك فرصاً كثيرة‬
‫للنجاح‪ .‬إن الغرق لن يحدث‪.‬‬

‫مايو ‪1960‬‬

‫‪113‬‬
‫ترجمة بشير السباعي‬

‫‪114‬‬

You might also like