Professional Documents
Culture Documents
مذكرات في التربية
مذكرات في التربية
طبع ونرش
دار السلمي
للتأليف والرتمجة والترش والطباعة والتوزيع
درب البلدية ،زنقة اجلزويل رقم 38صندوق الربيد 4010البيضاء
تلفون 804.01املنزل 692.70
كلمة النارش
إذا كان األستاذ املؤلف قد دفعه التواضع إىل أن يسمي هذا الكتاب «مذكرات يف
الرتبية» فإن من حقنا أن ننوه بقيمة هذا الكتاب ونتنبأ بام سيكون له من مسامهة فعالة
إجيابية يف توجيه املعلم املغريب ،التوجيه املوضوعي السليم ،لالستغناء عن التبعية
البيداغوجية التي عاشت يف عقولنا وأذهاننا مليا ،بل كادت تطغى فتقتل مواهبنا،
وبالتايل تقيض عىل شخصيتنا.
غري أن تلك السنوات التي أعقبت استقالل بالدنا ،جعلتنا نتفاءل حلد كبري،
بالتحرر من املركب الذي نرجو أن نكون قد سامهنا ،وسنساهم بعون اهلل يف مواراته
وإىل األبد.
وبني يديك اآلن ،قارئي العزيز ،كتاب «مذكرات يف الرتبية» ملرب مغريب أوقف
حياته عىل االهتامم بمشكالت التعليم والرتبية يف بالدنا ،وقد خاض غامر الكتابة فيها
مستوحيا فكره من جتاربه اخلاصة والعامة ،ومستندا عىل مبادئ علم الرتبية العامة،
فجاء كتابه هذا تبسيطا لتلك املبادئ ،حيث جعلها يف متناول طالب مدارس املعلمني
واملرشحني لشهادة الكفاءة يف التعليم العريب يف أحسن تقويم وأسهل سبيل.
الس َلمي للتأليف والرتمجة والطباعة والنرش والتوزيع ،أن تقدم لطالب
ويرس دار ُّ
مدارس املعلمني واملعلامت واملرشحني واملرشحات لشهادة لكفاءة العربية كتاب
«مذكرات يف الرتبية» آملة أن جيدوا يف قراءته لذة ومعرفة وسيجزي اهلل من أحسن
عمال ،وهو ولينا مجيعا ونعم الوكيل.
__ 3
مقدمة
هذه مذكرات مجعت فيها دروسا كنت ألقيتها عىل طلبتي يف مدرسة املعلمني منذ
عدة سنوات .ولست أزعم أنني أضيف هبذه الصفحات بحثا علميا يف املوضوع،
لكنني رأيت أال يضيع ما كنت بذلته من جمهود متواضع يستنري بتجربة غري قصرية
يف ميدان تكوين املعلمني .ورأيت أن أعطي لطالب مدرسة املعلمني مادة تساعده
يف مطالعاته عىل مقارنة وجهات النظر ،وعرض طرق التفكري والكتابة بعضها عىل
بعض .عندما ينظر يف هذه الورقات باإلضافة إىل كتب الرتبية التي بني يديه .ولئن
كان الدرس الشفوي الذي ألقيته عىل طاليب جيد يف املشافهة واألسئلة وردودها
وسيلة للزيادة يف الرشح والبيان ،فإن ما جيده القارئ يف مذكرايت هذه من اإلجياز
واالقتضاب لن يمنع طالب مدرسة املعلمني من اختاذها دليال يف دراسته ،والعثور يف
طيها عىل تفسري كثري مما غمض عليه.
ويكفي توصية هبذه املذكرات ما حاولت أن أضعه فيها من صبغة وطنية ،إذ عاجلت
كل موضوع عىل ضوء واقعنا التعليمي .وحتدثت عن املعلم باعتباره املعلم املغريب يف
وضعه اخلاص وبصفاته التي حيددها تكوينه وعقليته كام حتدثت عن التلميذ باعتباره
التلميذ املغريب املتقلب يف أرسة مغربية ،والناشئ ملستقبل مغريب.
وأميل بعد ،أن يقرأين الطالب يف مدرسة املعلمني ،واملعلم املامرس ليجد فيام كتبته
منبعثا إىل األصالة والتجديد اللذين نحن يف أشد احلاجة إليهام بعد أن جعلنا التقليد
والتبعية األعميان ننظر بأعني غرينا إىل مشالكنا اخلاصة.
مراكش 13أكتوبر 1962
__ 5
الفصل األول
الرتبية
معنى الرتبية
إننا إذ نعرف الرتبية عندما يطلب إلينا ذلك .نعرفها بواحدة من هذه العبارات التي
قرأناها يف كتب الرتبية .فإذا ناقشنا املسائل واضطررنا إىل البحث بأنفسنا عن تعريف
ُمرض للرتبية ،وجدنا أن للرتبية مدلوالت شتى يف االستعامل اللغوي ،فالعامة تفهم
الرتبية عىل أهنا هتذيب الطفل ومحله بالعقاب البدين عىل نوع من السلوك االجتامعي.
أو عىل أهنا تنشئة الطفل والسهر عىل مصاحله .وقد يفهموهنا عىل أهنا التعليم يف
املدرسة.
ونجد أحيانا الذين يتعاطون املهنة يعرفون الرتبية بأهنا عكس التعليم.
كل هذه املدلوالت جزئية متس الرتبية من ناحية واحدة أو ال متسها .فليست الرتبية
هي التأديب عىل السلوك االجتامعي فقط ،وليست الرتبية تعليام فحسب ،وال عكس
التعليم .وإنام التأديب عىل السلوك االجتامعي جزء من الرتبية ،والتعليم جزء منها
أيضا.
قد يكون من الصعب أن نجد عبارة قصرية تعرف الرتبية تعريفا كامال من بني هذه
العبارات التي قاهلا فالن وفالن .ويكون من اخلطأ أن نعتمد اعتامدا كليا عىل مثل هذه
العبارة التي نختارها إال بعد أن نبحثها لنعرف إىل أي مدى تنطبق عىل ما وضعت له
انطباقا دقيقا.
فإذا حددنا موضوع الرتبية كام حدده سبنرس ،وقسامهنا معه إىل تربية عقلية ،وتربية
خلقية ،وتربية جسمية ،فنحن أقرب إىل فهم الرتبية فهام شامال ،وعىل أن حتديد
موضوع الرتبية ليس تعريفا للرتبية نفسها.
يقولون إن الرتبية هي نتيجة كل التأثريات التي توجه حياة اإلنسان .هذا التعريف
املألوف قد يكون أحسن تعريف نجده .فيكون شامال إذا فهمنا أن التأثريات
__ 9
تنصب عىل جسم الفرد وعقله وخلقه ،وتوجه حياته اجلسمية والعقلية واخللقية.
ويكون دقيقا إذا جعلنا من الرتبية كل التأثريات التي يتعرض هلا الفرد يف حياته ،فمن
اخلطأ أن نحرص الرتبية ونعتقدها نتيجة هلذه اآلثار التي نقصد إىل إحداثها يف الطفل،
وهنيئ هلا األسباب يف املدرسة .ومن اخلطأ أن نحرص الرتبية يف عمل البيت واملدرسة.
الرتبية عملنا يف الطفل باألسباب التي نقصد إليها ،والرتبية عملنا يف الطفل من
حيث ال نقصد .ولكل ما يؤثر يف الطفل يف البيت وخارج البيت نصيب يف تربيته،
رفاقه ومشاهداته يف الشارع.
وقد نضع للرتبية نظاما يف األرسة ويف املدرسة ،ونحتال ،ما قدرنا عىل االحتيال ،ألن
يكون هذا النظام صاحلا يف وسائله ،ثم ننتظر أن ينشأ الطفل عىل النحو الذي أردناه.
ونعجب آخر األمر عندما يرتبى الطفل عىل غري الصورة التي كنا ننتظر .ونعجب إذ نراه
شخصا ننكر من أخالقه أو من اجتاهه الفكري.
ذلك أن الرتبية ال تصلح ميدانا هلذه التجارب العلمية التي نعرف نتيجتها فنضع
من املادة ونوع املادة بمقدار نعرفه ،مطمئنني إىل القاعدة العلمية التي ال تتخلف .ال
يمكن أن نريب األطفال لتحصيل مثل نعرفه ونقصد إليه ،ألن األطفال عرضة ملؤثرات
خمتلفة ،قد تكون أقوى دعوة للطفل من علمنا الرتبوي املنظم ،ويكون الطفل أكثر
استجابة هلا منا .بل ال يمكن أن تتم الرتبية يف مبدئها إال إذا وضعت سياسة لتوجيه
هذه املؤثرات أو مكافحتها.
الرتبية إذا هي أثر املريب يف الطفل من حيث يقصد املريب إىل التأثري فيه ،والرتبية هي
األثر اآلخر الذي ال يقصد إليه املريب ،األثر الذي يتعرض له الطفل يف حياته اليومية.
ولكل من هتني الرتبيتني مكانة يف نفس الطفل .فهو أمام مربيه يتلقى توجيها حيرتز
منه ،ويف باقي األوقات حيتك بحياة اآلخرين فيتأثر هبم من حيث ال يشعر تأثرا بطيئا
لكنه مكني.
__ 10
غايات الرتبية
إن الرتبية تتطور يف كل عرص لتحقق الغايات التي تراها اجلامعة مثال أعىل للرجل
أو لتوجد نامذج خمتلفة من الرجال ال تقوم حياة اجلامعة إال هبم .وقد بدأ هذ التطور
من العصور األوىل ،حيث كانت األرسة تقوم برتبية أبنائها وحدها ،واستمر يف
عرصنا هذا الذي تعقدت فيه الرتبية تعقدا شديدا .وما فتئ الناس يغريون من نظرهتم
إىل أهداف الرتبية ويكيفون وسائلهم وأساليبهم لتحقيقها.
وإنام ينشأ هذا التطور يف فهم الرتبية وأهدافها بتطور األمم يف حياهتا االجتامعية،
وتغري أساليب العيش عندها.
فالرجل البدائي األول ،كان نظام حياته مبنيا عىل الشجاعة اجلسمية ،والتكتل
مع أفراد األرسة للتعاون معهم عىل العيش ،وكانت الوظيفة االجتامعية املهمة هي
الصيد .فكانت الرتبية يف هذا الوسط البسيط طبيعية ،وكان هدفه عمليا؛ يقلد الطفل
أبويه وعشريته ،حتى يشتد ساعده عىل العيش وحتى يقدر عىل ما يقدرون عليه.
وملا تقدم اإلنسان ،ونشأت احلضارات األوىل ،تعددت حاجياته ،وتعقدت حياته
االقتصادية والدينية واالجتامعية والسياسية ،فأصبح للرتبية غايات خمتلفة ،وظهر
التخصص يف الوظائف االجتامعية ،فكان الفالح والصانع واحلاكم والكاهن.
عىل أن احلاجة االجتامعية ليست العامل الوحيد يف حتديد أهداف الرتبية ،بل جيددها
أيضا الطابع الفكري اخلاص بكل أمة؛ فتدفع احلاجة االجتامعية إىل إجياد العامل
املتخصص يف ناحية من نشاط األمة ،ثم ال يكون هذا العامل إال حسب الصبغة
الفلسفية ،سواء كانت هذه الصبغة دينية أو حتررية ،واملثل األعىل السائدين يف البالد
وهلذا كان هذا االختالف البني يف فهم الرتبية وأغراضها منذ احلضارات اإلنسانية األوىل
__ 11
فكانت املعابد املرصية ال تعنى إال بتنشئة طبقة من األرشاف ،هتيئهم حلكم البالد
واهليمنة عىل احلياة الروحية فيها .وكانت الرتبية مقترصة عىل هذه الطبقة ذات
السلطتني الدينية والدنيوية ،فال ينال عامة الشعب منها يشء.
بينام كانت الرتبية الصينية القديمة اجتامعية تقليدية ،هتدف إىل إصالح الفرد ومحله
عىل االستقامة واحرتام السلف ليعيش يف جمتمع متزن.
واختلفت نظرة اليونان إىل الرتبية وأغراضها ،فكانت مدينة اسربطة ال ترى للرتبية
غرضا إال تنشئة الرجل القوي .القوي يف جسمه ،القوي بشجاعته ،القوي ببيانه ،أما
مدينة أثينا فإهنا ذهبت مذهبا مثاليا .وفرضت للرتبية غرضا مثاليا .فهي تريد أن ينشأ
الرجل كامال .كامال يف اجلسم واخللق والعقل.
أما يف االسالم ،فإن الرتبية خضعت خضوعا تاما للتعاليم الدينية يف عصوره املختلفة
وتفاوت فهم الناس للمثل األعىل للمسلم .فاختلف فهمهم ألغراض الرتبية ،فمن
النزعة السلفية الشديدة يف مبادئها ،الشديدة يف أغراضها .من هذه النزعة التي ال تريد
للمسلم إال أن يكون كامال يف خلقه ،كامال يف نفسه إىل املذاهب املتشعبة الكثرية التي
كان أسوأها أثرا عىل تربية املسلمني ،تلك التي تقف عند احلرف وال تفهم الروح.
أما يف حضارة العصور الوسطى يف أوربا ،فإن غرض الرتبية األسمى كان روحيا
هيدف إىل خالص املسيحي بإعراضه عن لذات الدنيا وانرصافه إىل العبادة يف الصوامع
حيث يعيش فقريا مدى حياته ،يقهر نفسه ويذللها لينجو من عذاب جهنم .وكان إىل
جانب هذا الغرض الديني يف الرتبية ،غرض آخر حتققه تربية األرشاف الفرسان.
فطبقة األرشاف الفرسان جعلت لنفسها قانونا ال تعدوه ،وجعلت مثلها األعىل يف
الشجاعة ومحاية املظلوم والضعيف ،ومحاية الدين.
وبعد النهضة األروبية ،حني استغنت أوربا بخريات البالد التي سيطرت عليها.
وحني ظهر هذا الغنى يف الطبقة الربجوازية ،أخذت الرتبية يف مجيع الطبقات
االجتامعية هتدف إىل حتقيق النموذج االجتامعي للرجل واملرأة ،أعني الرجل الذي
حيسن آداب السلوك بني الناس ،وحيافظ عىل مرتبته إن مل حيتل ليندس يف صفوف
األرشاف.
__ 12
ويف العصور احلديثة ،نرى أمريكا هتدف إىل تنشئة رجال ذوي أجسام قوية ،وفكرة
نفعية يظهر أثرها يف نشاطهم االقتصادي .وشعور بحرية الفرد حاد.
ونرى اليابانيني يربون رجاال ذوي كفاءات فنية ،ذوي إحساس وطني يدفعهم
اإلخالص لبالدهم ولرشفهم إىل التضحية بالنفوس.
ونرى البالد اخلاضعة للحكم الكيل ،كبالد روسيا وأملانيا وإيطاليا قبل احلرب
العاملية الثانية ،تسخر كل وسائل الدولة لتنشئة جيل من الرجال خيضع ألوامر السلطة
املطلقة وينفذها يف محاس واندفاع.
هذه املراتب يف الرتبية التي ذكرناها نتجت عن العاملني املهمني ،احلاجة االجتامعية،
والصبغة الفلسفية اخلاصة بكل بالد .عىل أنه كان يف توجيهها نصيب آلراء فالسة
وحكامء برز فيهم الفكر القومي وكان منهم من خلق الصبغة الفلسفية التي حتدثنا
عنها.
وسنعرض لذكر أعالم من هؤالء الفالسفة ،وذكر آرائهم يف الرتبية ملا نرى هلا من
أمهية.
__ 13
غايات الرتبية يف رأي بعض املفكرين
__ 16
وأول ما يربز يف آراء لوك ،إمهاله للرتبية العلمية ،فيعارض رأيه رأي كومينوس.
وإمهاله للرتبية األدبية وهو عكس ما كان شائعا يف مدارس وجامعات زمنه .يقول
لوك يف آخر كتابه «آراء يف الرتبية»« :لعل القارئ يتعجب من أين تركت املعرفة فلم
أذكرها مع األشياء الالزمة للطفل الذي نريد أن نحسن تربيته ،ولعل عجبه يزيد إذا
أخربته بأن من رأيي أن املعرفة هي أقل األشياء أمهية يف الرتبية».
وهيتم لوك يف الرتبية بقدر النفع العميل الذي حيصل عليه الطفل مما يتعلمه فهو يويص
بتعليم احلساب ألن احلساب ينفع يف كل شؤون احلياة .ويويص بالرقص ألن الرقص
مترين بدين يكسب اجلسم أناقة وخفة وحركة ،ويويص بتعلم الصناعات اليدوية،
ونذكر هنا أن لوك ال يفكر إال يف تربية «اجلنتلامن» ،ألن معرفة هذه الصناعات تعينه
عىل توجيه بستانيه أو الصناع الذين يستخدمهم .وجييء بعد هذه املواد تعلم القراءة
والكتابة ألنه البد من تعليمها ،أما العلوم املختلفة ،فإن لوك ال يتعرض هلا إال ليبني
الطرق اهلينة يف تعليمها ،ألن العلوم يف نظره ال تستحق أن يضيع املرء فيها وقتا طويال
وال أن يشقى يف سبيل احلصول عليها.
والذي هيتم به لوك أكثر من كل يشء هو تربية الطبع وهتيء الطفل ليصبح رجال
فاضال يف أخالقه ،حكيام يف ترصفاته:
وال سبيل يف نظره إىل هذين إال برتبية اجلسم تربية سليمة .فيويص لوك ،وقد كان
طبيبا أيضا ،بنظام له خاص يف التغذية والنظافة.
ويذكر لوك يف كتابه احلكمة اليونانية القديمة «العقل السليم يف اجلسم السليم».
فإذا ريب جسم الطفل وكان سليام قرب من الفضيلة ،هذه الفضيلة التي هي» أصعب
نقطة وأهم نقطة ينبغي أن جتعل الرتبية هدفا هلا» وفضيلة لوك فضيلة إنسانية يوجهها
الشعور بوجود إله قدير ندين له بالعبودية .وفضائله الشجاعة والرصاحة واإلخالص
وحب العمل.
وغايته يف الرتبية تكوين رجل قوي يقدر أن يثني عواطفه املندفعة وخيضع للعقل
فال يترصف إال وفق حكمه.
__ 17
روسو 1778 - 1712( :م)
عاش روسو عيشة مرشدة أيام طفولته ،فجرب املجتمع وذاق من مرارة الناس.
ولتجربته هذه أثر كبري عىل آرائه يف الرتبية .فقد حكم روسو بفساد املجتمع ،وحكم
بأن األرسة نفسها قد ال تكون قادرة عىل القيام برتبية الطفل .وألف كتاب «إميل»
فضمنه كل آرائه يف الرتبية ،وفيه حيكي تربية طفل اسمه إميل .فأول ما بدأ به روسو
أن جعل الطفل يتيام حتى يبعده عن أرسته .ثم أبعده عن املدينة لينحيه عن املجتمع،
ومبدأ روسو يف الرتبية أنه جيب أن نلزم الطبيعة فهي منبع كل خري ،وأن نبتعد عن
تأثري املجتمع فإن «كل يشء يتدهور بني يدي اإلنسان».
وغايته تكوين رجل ذي رأي سديد ،متفتح الذهن مكتمل املواهب .وقد أمهل
روسو الغايتني األدبية والعلمية كام فعل لوك.
ويرى روسو أن املريب جيب أن يعرف الطفل معرفة كاملة ،فيختار من املواضيع
التي يدرسها ما يناسب سنه .ويريد أن جينب الطفل الكتب فال يتعلم إال من الطبيعة.
يقول روسو« :األشياء ،األشياء! فإنه إن مل يتعلم منها تعلم أن يتحدث عن أمور ال
يعرفها» .ويريد أيضا :أال يفرض عليه حفظ النصوص ،ويف ذلك يقول « :الكلامت،
ثم الكلامت إهنم حيفظون أصواتا وأشكاال ،لكنهم ال حيفظون األفكار وال العالقات
التي بينها» .وإنام يتعلم اإلنسان ،يف رأيه ،ما سعى إليه بنفسه .لذلك أوىص بأن يتبع
املريب اهتامم الطفل وإن كان هذا االهتامم يعارض التسلسل املنطقي يف العلوم ،ويرتك
الطفل يبذل جمهوداته ،ويعمل بنفسه ليمرن عقله وجسمه وحواسه .ويرى روسو أن
دور املريب هو اإلحياء واإلرشاد مع احرتام نشاط الطفل الذايت ،وهو السعي إليقاظ
حب اإلطالع يف نفس الطفل .فإذا عمل الطفل فأخطأ ،اكتفى املعلم بتنبيهه ،وتركه
يصحح أغالطه بنفسه.
وعىل املريب أن يتجنب األوامر التي من شأهنا أن توقع اصطداما بني إرادة املريب
وإرادة الطفل .وأن يرتك الطفل يصطدم بواقع احلياة ،فإن احساسه بعجزه وقلة حوله
عقاب طبيعي كاف ألن يرده للصواب.
__ 18
بستالوزي 1827 - 1476( :م)
عامل سويرسي .مات أبوه وهو صغري فنشأ يف حجر أمه .وكان طبعه يميل إىل
العزلة واخليال .وملا أتم دراسة اإلهليات ودراسة احلقوق انقطع إىل ضيعة له يستثمرها
ويعمل بيديه ليعطي املثال لفالحيه ،لكنه أخفق إخفاقا كبريا .ومن ثم أنشأ مدرسة
لتعليم األطفال الفقراء ،ثم انقطع عنها فرتة إىل التأليف .وأخريا قام عىل رأس معهد
يف مدينة إيفردون ،وهناك أشهر مذهبه يف الرتبية.
ويعتقد بستالوزي أن الرتبية عمل إنساين ،غايته تنشئة رجال صاحلني للقيام
بشؤون أرسهم ،ذوو مهنة تضمن هلم العيش الصالح .عىل أن يكون أساس هذه
الرتبية اإلنسانية وهذا التعليم املهني ثقافة إنسانية تنمي مواهب كل فرد وتوقظ فيه
الضمري الذي يدفع إىل الفضيلة.
فإذا حصلت هذه الثقافة اإلنسانية العامة ختصص كل فرد يف مهنة تناسب
وسطه وتناسب استعداداته .ويبدأ هذا التخصص منذ السنة األوىل ،فالطفل حني
يتعلم احلروف اهلجائية يتعلم معها كيف ينسج أو كيف ينرش اخلشب ،واحلقيقة أن
بستالوزي عىل مذهب روسو يف التعليم باملحسوسات .فهذه التامرين اليدوية وسيلة
وغاية معا.
ويتفق بستالوزي مع روسو يف أن كليهام يعترب املجتمع فاسدا ،وحيلم بمجتمع
صالح طبيعي أساسه األرسة الصاحلة ،فيعتقد أن البناء االجتامعي أساسه شعور
األب بمسؤولية عن أبنائه ،وشعور األخ بمسؤولية عن إخوته.
وقد عمل بستالوزي مدى حياته ،جاهدا لتحقيق حلمه ،خملصا ملبدئه ،يقول
بستالوزي« :إن حلام واحدا يمأل نفيس ،فال أفكر إال يف الرتبية ،يف تربية اإلنسان.
وهييمن عىل أفكاري صورة تربية الشعب ،تربية الفقراء .وهذا عمل ال يمكن حتقيقه
إال يف عامل أقل تصنعا من عاملنا .لكنني أندفع وراء حلمي .فأنا ال زلت أحلم ،أحلم
يف محاس».
__ 19
هربرت 1776 - 1841( :م)
فيلسوف أملاين اشتغل بالرتبية فألف كتابني مها« :البيداغوجية العامة» و «حول
املحارضات البيداغوجية».
وحمور بيداغوجية هربرت هو رأيه يف االهتامم ،فهو يرى أن اإلنسان إنام يريب ليكون
حرا يف اختياره ،حرا يف إرادته .وبام أن اإلنسان ال يتعلم األشياء إال إذا اهتم هبا ،فيجب
أن ننسج من حوله شبكة من الدواعي ليهتم بام نريد أن نعلمه ،وبذلك نضمن أن تكون
له هذه احلرية يف اإلرادة ،ألنه ال يريد إال األشياء التي سهلنا له سبيل معرفتها .وبعبارة
واضحة فإن هربت يريد أن ينشأ اإلنسان ليكون حرا ،ويرى أنه ال حرية بدون معرفة.
ويريد هربرت معرفة جامعة واسعة ،فيدعو إىل تدريس العلوم بصفة منظمة
مبتدئني بأقرهبا إلينا «كالعلوم الطبيعية ،واجلغرافيا» لكن هذه املعرفة وسيلة ال غاية،
وسيلة لرتبية العقل وهتذيبه.
وحيدد هربرت للرتبية هدفا ساميا ،ويعتقد أن العمل الرتبوي عمل حيوي وخطري.
وهدفه تكوين الرجل احلر املتفتح الذهن ،الذي هيتم بكل يشء ويشارك يف كل نشاط،
وليس هذا الرجل «أو املرأة» من «طبقة اجتامعية معروفة ،وال من زمن معروف .تعود
عقله أن حيلق ،وحيس بكل ما حيس به اإلنسان «.
وينهى هربرت يف بيداغوجيته عن العقاب البدين السيام يف الرتبية األخالقية ،إال
عقاب الصغار الذين ملا تستيقظ عقوهلم فيقدرون عىل التعليل.
فروبل 1852 - 1728( :م)
مرب أملاين كان معلام يف أول أمره ،ثم اتصل ببستالوزي فتأثر بآرائه .ثم أسس معهدا
تربويا منه أذاع آراءه ،بل مذهبه الذي كتب له يف أملانيا نجاح كبري .واجلديد يف آراء
فروبل ،أنه أخذ عن بستالوزي رأي روسو يف التعليم باألشياء املحسوسة ،ونظمه حتى
جعل منه طريقة ،فإنه ختيل سلسلة من اللعب( ،كرات ،ومكعبات الخ ) يضعها بني يدي
الطفل تباعا .فيها يتعلم األشكال واحلجوم والعد .وبنى فروبل طريقته هذه عىل فكرة
سيكولوجية ،هي أن للعب دورا مهام يف حياة الطفل .وهذا جتديد مهم جدا.
__ 20
سبنرس 1903 - 1820( :م)
فيلسوف انكليزي ،بنى مذهبه يف الفلسفة عىل فكرة التطور العلمية ،وهي أن هناك
تطورا من املادة اجلامدة إىل الكائن احلي تطورا من اجلسم احلي إىل العقل املفكر.
وبصفة عامة هناك تطور من البسيط إىل املركب.
من هذا املذهب الفلسفي أخذ مذهبه يف الرتبية ،وهو أن نخضع هلذا التطور،
واختذ العلم وسيلة لتطور اإلنسان العقيل واالجتامعي الذين يبلغان به الكامل
فكل يشء عنده يدور حول تدريس العلوم ،ويكون هذا التدريس منظام يرتقى
من السهل إىل الصعب ومن البسيط إىل املركب ،عىل أن يكون العلم املدروس
غاية لتنظيم سلوك الفرد ،وهتذيب أخالقه .وطريقة سبنرس يف التعلم هي
طريقة روسو ،فهو ال حيب أن تكون الكتب يف يدي األطفال ،ويويص بالتعليم
املحسوس ،وينهى عن العقاب معتمدا عىل العقاب الطبيعي (انظر حديثنا عن
روسو) ويفهم سبنرس أمهية العمل الرتبوي ،ويريد أن تتوفر يف املريب أحسن
الصفات.
__ 21
آراء حديثة يف الرتبية
آالن 1951 - 1868( :م)
فيلسوف فرنيس ،اشتهر بآرائه الشخصية يف الفلسفة والرتبية .وقد أحدثت آراؤه
يف التعليم استغرابا شديدا ،ألهنا ختالف املجرى احلديث لطرق التعليم.
يعترب آالن أمر الرتبية مهام خطريا يستحق منا كل عناية .ويعتقد أن الرتبية أمر
جد ال سبيل لتحقيقه إال باجلد .فالطفل يف نظره حمب للعمل ميال له ،فلنعامله بجد
ولنعلمه قاصدين ال نحتال عليه هبذه املشوقات التافهة ،بل ال نسلك يف تعليمه طريقة
املحسوس البتة .وسبيل املدرسة عنده إىل تبصري الطفل بعقله وقدرته عىل التفكري ،أن
نحمله عىل احلفظ والكتابة حتى يتمرن لسانه عىل اللغة التي حتمل األفكار .ويويص
آالن بالقراءة ويراها مع إجادة الفهم ،أحسن مترين يعطى للطفل يف املدرسة ،وأفضل
عدة حيملها الطفل منها.
ويذهب آالن بعيدا ،فيزعم أن أحسن طريق للتعليم هو التدرج من املعقول إىل
املحسوس .وال يتفق آالن مع املربني املحدثني إال يف قبول املنافسة ،واعتبارها دافعا
مهام للطفل نحو التقدم.
مونتسوري 1952 - 1870( :م)
طبيبة إيطالية اشتغلت بالرتبية .وبدأت نشاطها الرتبوي بالقيام عىل تربية أطفال
ذوي عاهات ،فاختذت معهم طريقة ما لبثت أن طبقتها عىل األطفال العاديني.
ومبدأ مونتسوري يف الرتبية هو احرتام حرية الطفل واختياره .فليس عندها نظام
خيضع الطفل له ،وإنام يشتغل كل واحد بام يعجبه.
وقد اختذت مونتسوري جمموعات اللعب التي ختيلها فروبل وأدخلت عليها بعض
التحسني ،ثم جعلتها أداة لتعليم صغارها.
__ 22
وتالميذ مونتسوري ال يذهبون إىل «املدرسة» وإنام هي «دار األطفال» يأوون
إليها فيجدون لعبا ميرسا ،وأنواعا كثرية من النشاط ،كالطبخ وتربية الدواجن ،ثم
ال حماسب هنالك وال معاقب ،وإنام حيصل النظام وطاعة املعلمة يف جو خاص تكون
فيه حرية الطفل واشتغاله ،ضابطا يرصفه عن املشاغبة واالضطراب.
وغاية مونتسوري أن تعلم الطفل كيف حيكم نفسه ،ويسيطر عىل حركاته ،برضوب
الرياضة وأنواع التامرين احلاسية التي يقوم هبا.
ونشري إىل أن األطفال الذين يغشون «دار األطفال» ترتواح سنهم بني الثالثة
والسادسة.
__ 24
دكرويل 1932 - 1871( :م)
طبيب ومرب بلجيكي بدأ نشاطه الرتبوي ،كام بدأ بستالوزي بالعناية باملرىض من
األطفال وتربيتهم ،ثم طبق طرقه الرتبوية عىل األطفال العاديني يف مدرسة شهرية له.
وإنام أخذ دكرويل سلسلة اللعب التي اخرتعها فروبل وسيلة للرتبية ،وحسنها
أكثر مما فعلت مونتسوري .فاستعاض عن األشكال املجردة الصامء ،أشكاال ألشياء
معروفة ،أو هذه األشياء بعينها .ثم اختذ هذه األشياء وسيلة لتعلم منظم ،جيمع مادته
برنامج معروف.
ويتعلم تالميذ دكرويل مبتدئني من مالحظة موضوع الدرس ،ثم يقربون مما
الحظوه كل ما سبق أن تعلموه ،فإذا فهموا املوضوع عربوا عنه تعبريا ذكيا .ويدور
هذا التعليم كله حول هذه الفكرة األساسية ،فكرة التدرج من املحسوس إىل املعقول،
من اليشء إىل معنى اليشء ،ومن الكل إىل أجزاء الكل ،من الكلمة مثال إىل احلروف.
هذه آراء بعض كبار املربني يف عصور خمتلفة ،وقد رأينا تباينها ،وتطور فكرة
الفرد املثقف عرب العصور؛ فرأينا أن هدف الرتبية كان إنسانيا هيدف إىل تربية الرجل
وتأديبه باآلداب القديمة ،ورأينا هذا اهلدف تطور فأصبح تكوين رجل واسع الثقافة
غزير املعرفة ،ثم تطور فأصبح علميا حمضا ،أي اختاذ العلم غاية يف نفسه ووسيلة إىل
هتذيب الروح واخللق .ونالحظ أن الرتبية يف آراء املحدثني أصبحت شاملة لنشاط
الفرد كله ،فهي ترمي إىل تربية اجلسم السليم ،والعقل السليم ،واخللق الفاضل.
وتبتعد الرتبية احلديثة عن األغراض التثقيفية كام كان يفهمها مفكرو القرن السادس
عرش مثال وتفرغ كل مهها يف تنمية الفرد وإبراز مواهبه كلها ،والعمل عىل إنضاجها
وتكميلها .ولئن كان فالسفة القرن الثامن عرش يف أوربا يريدون أن تكمل للفرد كل
قواه ليتحقق كامال كفرد ،فإن الرتبية احلديثة ال تنمي الفرد ،وال تعمل إلبراز كل
مواهبه ،إال لتحقق املواطن عضو املجتمع ،هذا املجتمع الذي تعترب له كيانا خاصا،
وتعترب له حياة خاصة .فلنقل إذن أن غرض الرتبية هو تنظيم كل إمكانيات الفرد
وهتيئه للعيش يف حميطه االجتامعي والطبيعي.
__ 25
إمكان الرتبية
أما وقد حددنا ،نظريا ،هدفا للرتبية ،وحاولنا أن يكون هذا اهلدف صاحلا لتكوين
مواطن قوي يف جسمه ،مكتمل يف عقله ،مستقيم يف سلوكه ،نافع لنفسه وملجتمعه،
فلنضع هذا السؤال :هل يمكن أن نريب الطفل ،وإىل أي حد يكون العمل تربويا
ناجحا؟
ال نجادل يف أنه يمكن أن نعلم الطفل القراءة والكتابة ،أو احلروف املختلفة التي
ال يمكن أن يتعلمها وحده .ولكن ما عمل كل ما نلقنه يف حياته الفكرية املستقبلية؟
وال ننكر أن بوسعنا أن نفرض عليه نظاما سلوكيا خاصا ،ولكن ما قيمة هذا السلوك
املفروض بالنسبة لنزعاته الشخصية ،وإىل أي مدى يقتنع هبذا السلوك االجتامعي
الذي نسميه أخالقا؟
هل يمكن أن نحدد عقل الغبي ونعطيه برتبيتنا بعض الذكاء؟ وهل يمكن حقا
أن نوجه املواهب ونؤثر فيها؟ أم هل يمكن أن نغري االجتاه اخللقي يف الفرد فنكسب
اجلبان شجاعة ،ونحمل الكسول عىل اجلد والعمل؟
يظهر أن هذا أو بعضه ممكن ،وإن كنا نحس دائام بوجود شخصية طبيعية عند الطفل
تستعيص عىل عملنا الرتبوي ،وحتد من نتائجه .والذي ال شك فيه أننا عاجزون عن
التأكد من هذا اإلمكان واستقصاء عمل الرتبية بالتجربة العلمية فإن ذهبنا نقارن بني
طفلني ربينا أحدمها وتركنا اآلخر للطبيعة يكرب بال تربية خفنا أن تضل بنا الفروق
الفردية بني الناس ،ولو بني شقيقني توأمني ،سبيل املعرفة .فال يبقى إال الفرض
والتخمني ،وتقدير أثر الرتبية عىل الناس .والفرض والتخمني ال يثبتان شيئا البته،
وإنام مها عوض للعاجز عن السالح العلمي املفيد.
__ 26
عاش يف فرنسا القرن املايض ،رجل اسمه « أنودي « وكان أنودي آية يف تدبري
العمليات احلسابية ،حري الناس برسعة إنجازه هلا مهام تعقدت مع أنه رجل أمي.
أنودي األمي حيسب اجلدور املربعة وحتى املكعبة لكل األعداد التي تقرتح عليه يف
رسعة العقول امليكانيكية املعروفة اليوم أو تكاد .فامذا كان حيدث لو تلقى أنودي
تربية علمية منظمة؟ ال ندري ماذا كان حيدث لو نشأ موزارت يف أرسة ال تعرف
املوسيقى ،ومل يتيرس له أن يتلقى الرتبية املوسيقية التي جعلت منه ،من بني آالف
من تعلموا املوسيقى عرب العصور ،العبقري الفذ الذي نعرفه .ال يمكننا أن نقارن
بني الفرد وما تكون حياته لو لقي تربية ،أو نوعا من الرتبية ،أو مل يلقها .ولو أمكنت
هذه املقارنة ألجبنا عن كل األسئلة التي أوردناها يف هذا الفصل مطمئنني إىل صحة
ما نقول .وما دمنا عاجزين عنها فإن كل جتربة ملعرفة العمل الرتبوي مآهلا الغلط
والفرض التحكمي.
وقد عنى املفكرون ،القدماء منهم واملحدثون ،هبذه النقطة ،أعني معرفة ما إذا
كانت الرتبية .تأثري الرتبية تأثريا حقيقيا ،عمال ممكنا .فنجد هلم أقواال متضاربة
مصدرها التعقل الفلسفي ال التجربة العلمية التي ال متكن كام قدمنا.
وأقدم هؤالء املفكرين أرسطو .وقد قال أرسطو يف هذا املوضوع كلمة كثريا ما
تبناها املفكرون بعده وذلك حني يقول بأن عقل الطفل أول عهده بالرتبية يشبه
لوحة من الشمع( ،وكان األقدمون يكتبون عىل مثل اللوحة )،مل يكتب فيها يشء،
ويف وسع املريب أن يكتب فيها ما يريد .ويف مقالة أرسطو ،كام نرى ،تشبيه حمسوس
قد يغر اجلاهل فيحسب الرتبية عامال هينا كام هيون اخلط عىل اللوحة ،وحيسبها
عمال هنائيا ثابتا كام يثبت ما نخطه عىل اللوحة ويف هلجة أرسطو إثبات مطمئن،
ال يقبله العلم احلديث إال إذا صححته التجربة .ويف كالم أرسطو ما قد يفهم منه
بأن الطفل مادة ميتة ،فهو قابل لكل ما حيب املريب أن يطبعه يف نفسه ،وبأن موقف
الطفل سلبي ليس لديه إال ما حيمله إليه املريب .وكل هذا ال يتفق وما نعرفه اليوم
عن الطفل.
__ 27
وإلراسم يف هذا املوضوع رأي يشبه رأي أرسطو من بعض الوجوه .فهو ،مثل ِ
الفيلسوف اإلغريقي ،يشبه عقل الطفل تشبيها حمسوسا .وهذا التشبيه وحده كاف
للداللة عىل احتاد نظرهتام إىل الطفل واعتباره «موضوعا» للعمل الرتبوي ،ال « عامال»
يساعده عىل هذه الرتبية كام يرى علامء النفس يف الوقت احلارض.
يزعم إراسم أن الطفل يشبه احلقل الصالح للزراعة ،وأن املريب يزرع فيه ما يشاء،
فال ينتج احلقل إال غلة موافقة للبذرة التي وضعت فيه .ويزعم إراسم أنه ال يوجد
عمل يشبه عمل الرتبية ،وأنه ال توجد طبيعة ،مهام كانت مستعصية ،إال ويف إمكان
الرتبية أن تردها إىل ضدها ،ويشبه إراسم الطفل بغصن لني يمكن أن نثنيه كام نشاء،
وبالشمع اللني أو الطني يكيفهام الفنان كام يريد ونجد يف التشبيه األول جماال للفرض،
فلعل إراسم أراد أن يلفت نظرنا إىل ما يوجد بني األطفال من فروق ،فشبه عقل
الطفل باحلقل .ونعرف أن احلقول تتفاوت يف اخلصب واجلدب .وهذا ما مل يفعله
أرسطو يف تشبيهه .لكن إراسم هيول من أمر الرتبية أكثر مما فعل احلكيم القدير ،فيؤكد
أن الرتبية قادرة عىل حتويل الطبائع إىل أضدادها.
أما الفيلسوف اإلنجليزي لوك ،فنجده يرتدد بني مذهب القدماء فيشبه الطفل
بورقة بيضاء صاحلة للكتابة ،أو بقطعة شمع صاحلة للتكييف .ونجده يف مكان آخر
يؤكد بأنه «ال يمكن أن نغري طبيعة اإلنسان تغيريا عميقا ألن اهلل طبع كل شخصية
بطابع خاص .وكل ما يمكن هو أن نحدث يف هذه الطبيعة تغيريات من هنا وهناك.
أما أن نمحو الطابع ،أو نضع مكانه طابعا غريه فاألمر صعب جدا» .هنا رأي لني كام
نرى مرتدد ال خيرج بيشء ويقابله رأي الفيلسوف األملاين شوبنهاور ،فعند شوبنهاور
أن الطبع اإلنساين ال يتغري .وأن تطوره يف اجتاه ثابت فرضته اإلرادة ،فمهام كان عمل
الرتبية ،فإن الطبع احلقيقي يتغلب دائام .وهذا رأي واضح فيه نفي بات جلدوى كل
فجوتَه يؤمن بأن مصري اإلنسان حمدد ،فال مناص جلوتَه رأي شبيه بهُ ،
عمل تربوي .و ُ
له من أن يتبع الشوط إىل آخر.
واملفكرون املحدثون يعتقدون أن اإلنسان يرث عن أبويه استعدادات طبيعية قوية،
وأن هذه االستعدادات ترتكب يف كل فرد تركبا ال حيدث مثله يف فرد آخر .فلكل
إنسان شخصية طبيعية خاصة به وحده.
__ 28
لكن ال سبيل إىل إنكار تأثري الوسط عىل اإلنسان ،وتأثري الوسط معناه الرتبية،
فال سبيل إذا إىل إنكار عمل الرتبية .يتأثر الفرد بام أحس به إحساسا قويا ،ويتأثر بام
شاهده من أعامل ،وما مارسه من نشاط .ويتأثر باألفكار التي سمعها ،وباألفكار
التي خلقها يف ذهنه يتأثر بكل هذا كام تتأثر الشجرة بالرتبة التي غرست فيها ،وبنوع
العناية التي حصلت عليها ،واملاء الذي سقيت به .فلو وقع أن هذه الشجرة نفسها
بخصائصها الفردية نقلت إىل تربة جديدة ،وحصلت عىل عناية خمالفة للعناية
األوىل ،لتغريت الشجرة ،ولكان ثمرها أجود أو أقل جودة من الذي تعطيه يف
الرتبة األوىل .ولو وقع أن شجرتني ،أو أشجارا عدة ،من جنس واحد ،غرست يف
تربة واحدة ،وحصلت عىل عناية واحدة ،لو وقع هذا أيضا الحتدت هذه األشجار
يف تأثري الرتبة والوسط عليها رغم اختالفها يف الطبيعة الشخصية .كذلك حيدث
الوسط ،ومن الوسط املدرسة وعملها ،تأثريه يف األفراد ،لكن عمل الرتبية حمدود،
كام هو حمدود عمل الرتبية والعناية الزراعية يف األشجار .وكام أن شجرة اخلوخ ال
تتحول إىل شجرة مشمش مهام غرينا تربتها ونوعنا عنايتها هبا ،فكذلك ال يتغري
اإلنسان يف خصائصه الفردية العميقة.
وقد بحث علامء االجتامع هذا املوضوع ،واجتهدوا ملعرفة حظ املجتمع يف تكوين
شخصية الفرد .وبحثه علامء النفس املتخصصون يف دراسة الطبع اإلنساين .ويقول
عامل االجتامع الفرنيس دوركهايم بأن استعدادات الفرد أيا ما كانت ،ال تعدو أن
تكون جمموعة عامة من اإلمكانيات ،ختتلف قوة وضعفا من فرد إىل فرد ،لكنها ال
تتخذ شكال معينا ،أي ال ختصص ،إال بالرتبية .ويوجد فرق كبري بني استعدادات
الطفل ساعة يولد وبني صفاته حني يصري رجال .وهذه املسافة البعيدة هي امليدان
الذي تعمل فيه الرتبية .هذه الرتبية التي بإمكاهنا وحدها ،سواء كانت تربية طبيعية
يف الوسط الطبيعي االجتامعي أو كانت منظمة كرتبية املدرسة ،أن تربز هذه
االمكانيات ،وجتعلها طاقة تعمل وحتدد الشخصية .ولسبنرس رأي يشبه هذا.
أما علامء النفس فقد أبعدوا يف دراسة الطبع اإلنساين ،حتى كان منهم من جعلوا
خصائص النفس اإلنسانية ،خاضعة لقانون مضبوط وضعوه .وحيسب الدارس
__ 29
ألبحاثهم أنه أمام معادالت جربية عندما يقرأ هذا القانون الذي يكاد يكون «وصفة
« فيها مقادير ما ينتقل إىل االنسان بالوراثة من ذكاء وصفات جسمية وقابلية للتأثر
العاطفي .لكن هؤالء النفسانيني يتفقون يف الرأي مع علامء االجتامع ،فيقررون أن
كل هذه اخلصائص عامة وأن الطبع ليس هو الشخصية .ويقررون أن هذه اخلصائص
العامة يمكن أن تتخذ أشكاال خمتلفة ،حسب العامل الرتبوي ،حتى تستقر آخر األمر
عىل صورة واحدة .فإذا استقرت هذه اخلصائص وكونت شخصية الرجل أصبحت
أقل َمرانة مما كانت عليه ،وأقل قابلية بكثري للتغري.
وخالصة القول أننا مضطرون لالعرتاف بأن الرتبية ممكنة ،وإن مل تثبت ذلك
التجربة العلمية التي ال يمكن إجراؤها يف موضوع كمثل هذا .نعرف أن الرتبية ممكنة
ملا نشاهده من عملها يف كل يوم ومنذ أزمان .ونعرف أن للعمل الرتبوي حدا يقف
عنده .ويكاد يكون الطبع البليد املتحجر حاجزا تقف عنده الرتبية عاجزة ،فيحار
املريب يف اختيار وسائله الرتبوية ،حتى إذا استفرغ كل ما عنده من حيل ،أو ظن أنه
فعل ذلك ،متلكه اليأس ،ونقطع أمله يف أن يبلغ من هذا الطبع البليد شأوا.
لكن عمل املريب .بل واجب املريب ،هو أال ييأس أبدا .ألن اليأس يفقد أكرب سالحه
وعليه أال يعرض عن هذا الطفل الذي يبدو عليه مخول فكري مهام محله ذلك من
الكد .وعليه أن يوجه عمله الرتبوي بذكاء ،فيختار الفرص املساعدة له ،خيتار الوقت
املناسب ،واألفكار املناسبة ،واألسلوب املناسب .فإذا فعل ذلك فربام يصل إىل نتيجة
مل يكن يتوقعها ،فكم من أطفال معتوهني رجعوا إىل رشدهم بفضل الرتبية املناسبة،
وإن مل يفعل وأمهل طفال ،فيخاف أن يتحجر طبع الطفل فعال ،ألن الطبع ينمو دائام
ويتكيف إن وجد العناية الالزمة ،فإن مل جيدها وقف نموه وتصلب عىل شكله فال
حييد عنه.
ثم إن هنالك سببا معقوال يدفع اليأس عن املريب .وذلك أنه ال يمكن مطلقا أن
نحكم ببالدة طفل فنقيض بأنه ال يمكن التأثري فيه .وال تكفي كل االختبارات النفسية
الكثرية إلثبات ذلك .ومن يدري لعل هذه البالدة التي تبدو عىل الطفل ظاهرة
__ 30
مؤقتة ال تلبث أن تزول؟ أال نعرف يف تاريخ كبار الرجال أن بعضهم كان تلميذا
بليدا متأخرا؟ كان بليدا متأخرا ،ثم مىض الزمن فإذا به يصبح فذا من أفذاذ اإلنسانية
الذين تقدموا هبا .ويف تاريخ الرجال أمثلة كثرية للمواهب التي ال تربز إال متأخرة،
سواء يف ذلك املواهب الفكرية العامة أو املواهب الفنية من رسم وموسيقى ونحت
الخ ،وإذن فال ييأس املريب أبدا ،ولينوع وسائله ،ويبذل قصارى جهده ،وليأخذ
الطفل صغريا وليبدأ تربيته صغريا قبل أن يرتكز يف الطفل أثر املجتمع الذي قد
يكون خمالفا ملا تريد املدرسة.
__ 31
الفصل الثاين
وسائل الرتبية
والتعليم
- 1املدرسة :وظيفتها ومبادئها
أرشنا يف الفصل السابق ،إىل أن الرتبية تتحقق يف الوسط الطبيعي االجتامعي ومن
هذا الوسط املدرسة.
واملدرسة جعلت لتقوم بوظيفة الرتبية يف املجتمعات الراقية .أما يف املجتمعات
البدائية .فإن الرتبية تبقى طبيعية حيصل عليها الطفل بمعايشة ذويه ،يف نطاق أرسته
ثم يف نطاق عشريته أو قبيلته .وكانت الرتبية الطبيعية يف املجتمعات األوىل تقليدية
حمضة ،بمعنى أن اجلامعة ال تشعر بحاجة إىل تربية األطفال وال بحصول هذه الرتبية
بواسطة املعايشة والتقليد .كام مل يكن الطفل يشعر هبذه الرتبية ،فيحكي األفعال
واألقوال التي يراها ويستمعها ،ويمتثل األوامر والنواهي التي تصدر عن الكبار،
ويتعلم الصناعة التي كانت ألبيه وهو يساعده عىل ممارستها .ومن خالل هذا يتكون
الطفل وحيصل عىل مميزات قومه عندما يصري راشدا.
وملا تقدمت املجتمعات ،وترقت إىل درجة من احلضارة تشعبت معها احلياة وتعقدت.
وملا احتاجت هذه احلضارات إىل رجال يشغلون وظائف متنوعة كثرية ال يتأتى لألرسة
أن تكوهنم من أجلها خلقت وظيفة جديدة هي وظيفة املدرسة .ونشأت املدرسة يف
البالد املرصية والصينية وهي بالد استعملت فيها الكتابة وكان فيها نظام حضاري ال
بأس بتقدمه وكان الكتاب وسيلة التعليم يف املدرسة من أول نشأهتا.
وكانت هذه املدارس األوىل وسيلة اجتامعية لتكوين طبقة املثقفني احلاكمني الذين
يقومون عىل إحصاء مال الدولة وتسجيل مصاريفها ،وتنظيم احلكم يف البالد .أما
الفالحون والصناع ،فكل ما كانوا حيصلون عليه من معرفة بصناعتهم ،هو ما كانوا
يتعلمونه بالتقليد.
وقد ظل دور املدرسة اجتامعيا خاصا بطبقة احلكام يف مرص والصني وحضارة
الرشق األوسط .فلام كانت حضارة البالد االغريقية ،اختذت املدرسة وسيلة لرتبية
اجلند الشجاع الذي يشعر بكرامة قومه فيضحي بنفسه من أجلها واختذت املدرسة
لرتبية الفرد ،تربية جسمه وذوقه وعقله.
__ 35
ومنذ ذلك ،ما فتئت املدرسة تتوسع يف وظيفتها ومبادئها حتى كان ما نراه اليوم من
تنوع كثري يف املدراس.
املدرسة إذن أسست لتكون أداة لتحقيق غاية تعليمية وتربوية ال يمكن لألرسة
أن حتققها إما ألن أفراد األرسة ال يتوفرون عىل املعرفة أو الوسائل املادية التي
نجدها عند معلمي املدرسة ،وإما ألن األرسة ،إن كانت تتوفر عىل هذه املعرفة
وهذه الوسائل ال يمكن أن حترص كل نشاطها لرتبية طفلها الواحد أو بضعة أطفال.
حرصا مستمرا طويال.
وأيا ما كان فإن املدرسة ختلق جوا يساعد عىل النشاط والعمل ال يتيرس إجياده يف
البيت بني أفراد األرسة .الطفل يف املدرسة يعيش مع رفاق كثريين ،ويعمل حتت
سلطة معلم له يف عينيه مهابة وقدرة .وال يقدر األب أو األم أن يقوم مقام املعلم،
فمام يعرف أن األب خمفق يف عمله أن حاول أن يكون ألبنائه معلام ،ألن حبه لبنيه
جيعل فيه حرصا شديدا عىل أن يتعلموا كل ما يقوله ،وعىل أن يتعلموا برسعة .فإذا
مل حيصل عىل ما كان يتوقعه ،وأجدر به أال حيصل ،غضب وثار واهتم بنيه بالتقصري،
ويف املدرسة جيد الطفل رفاقا يف سنه هيتمون بام هيتم به ،فيشاركهم ألعاهبم ويشعر
أنه قريب منهم ،شبيه هبم .ومن هذا الشعور تنشأ روابط متينة بني الطفل ورفاقه
ليست أقل العوامل أمهية لتحبيب املدرسة إىل نفسه ،وهذا االستيناس بالرفاق
يشعر الطفل بطمأنينة قد ال يشعر هبا حتى بني أفراد أرسته ،ونحن نعلم أن الشعور
بالطمأنينة رضوري لكي ينشأ الطفل نشأة طبيعبية وتنمو كل قدراته نموا طبيعيا.
أال نرى أن الطفل يسكت متاما إن أفردناه عن رفاقه وسألناه ،فإذا كان بينهم انطلق
لسانه فعرب عن كل ما يفكر فيه؟ ذلك من عمل هذا الشعور يف نفسه وألنه حيس
بتجاوب عميق بينه وبني «شعب األطفال» كام يعرب آآلن.
املدرسة إذن تقوم بوظيفة تربوية إنسانية ،واجتامعية ينظر فيها إىل منفعة الفرد
ومصلحة املجتمع ،وسنحاول حرص مبادئها فيام ييل:
- 1املدرسة تفتح عني الطفل عىل حميطه الطبيعي واالجتامعي ،فتدرس له
اجلغرافية والتاريخ الطبيعي وفيهام يتعرف عىل قريته أو مدينته ،ويعرف حدودها
__ 36
ومقدار ما تشغله من فراغ يف األرض ،ويتعرف عىل احليوانات التي يف بلده والطيور
التي يراها يف األشجار ،وبدراسة التاريخ الطبيعي واجلغرافية يمكن للطفل أن حيدد
نفسه وبلده يف املكان ،وتدرس له تاريخ بالده ،فيحدد نفسه وبالده يف الزمان عندما
يدرس تاريخ البالد األخرى.
- 2املدرسة تيرس للطفل فهم احلياة التي حيياها قومه ،وتيرس له أن يقدر عىل
أسباب هذه احلياة ،فهو ينشأ يف وسط ال يفهم وظيفة أفراده ،وال يفهم الوسائل التي
هبا حيصلون عىل عيشهم ،وإنام املدرسة هي التي تبرصه يف ذلك ،تبرصه أن للمجتمع
نظاما به تستقيم احلياة ،وتبرصه أن من واجب كل فرد أن يعني عىل املحافظة عىل
هذا النظام ،وأن حيرتم حقوق الغري ،وأن يكسب عيشه بطريقة رشيفة .كام تبرصه
أن هذه األشياء التي يراها بسيطة ألنه عرفها من أول األمر كام هي .ال حتصل عفوا،
تبرصه من أين تأيت هذه النقود التي يشرتي هبا أبوه ما يشرتي ،وملاذا تشتعل النار،
ومن هذه األوليات تتدرج به إىل كل ما يقدر أن يبلغ عمله مما يعرفه الناس يف بلده.
- 3املدرسة تزود الطفل بـ «أدوات املعرفة» كام يعرب األمريكيون .ويعنون بذلك
القراءة والكتابة واحلساب .وتعرفه كيف يستعمل هذه األدوات ،كيف يتفاهم مع
الناس وكيف يفهم ما كتبه األولون ،وكيف يتعامل مع الناس معاملة صحيحة،
وكيف يسعى لتنمية ما يعرفه.
- 4املدرسة تعمل عىل نرش األخالق الفاضلة ،وبث العادات احلسنة وهي وسيلة
لإلصالح ناجعة ،إلصالح اجلامعة بإصالح األفراد .فهي تشعر الطفل بحاجته إىل
جسم سليم وتعلمه كيف حيافظ عىل جسمه ،وتعلمه رضر األخالق القبيحة عىل
أجسام الناس ومصاحلهم وتدفعه إىل حماربتها إن وجدها.
- 5املدرسة تضع يف يد الطفل الناشئ سالحا به يكسب عيشه .هتيء له الفرص
لتنمية قواه .وتوجهه إىل العمل الذي سينجح فيه .ثم تيرس له اكتساب املهنة التي
وجهتها إليه.
__ 37
- 2املدرسة والبيت:
نرجع إىل وظيفة املدرسة ،ونتذكر أن املدرسة أسست لتقوم مقام األرسة كام قلنا
لكنها تقوم مقام األرسة فيام ال تقدر األرسة عىل القيام به ،ويف ساعات معدودة يف
كل يوم .وإذا تأملنا أن الطفل ال يقيض يف املدرسة إال ربع يومه وأنه يقيض الثالثة
أرباع األخرى يف البيت .وتأملنا أن الطفل يكون بني ذويه منطلقا ال خيشى عقابا وال
مالحظة كام خيشى ذلك يف املدرسة .تبينا ما يمكن أن يكون للبيت يف نفسه من أثر،
ولألعامل التي يزاوهلا يف البيت ،واحلديث الذي يسمعه .وتبينا ضالة عمل املدرسة
املحدود بالزمن ،املحدود بشعور التلميذ إن كانت املدرسة مل تفلح يف األخذ بقلبه.
وظهرت لنا رضورة التعاون بني املدرسة والبيت يف كل شؤون الطفل ،ألنه بدون هذا
التعاون يبطل عمل املدرسة.
ويتعني هذا التعاون من اجلانبني ،عىل أن تكون املدرسة هي التي تفرض االجتاه
الصالح .سيام يف األوساط التي تقل فيها املعرفة.
فاملدرسة هي التي تفهم اآلباء واألمهات فائدة التعليم ،ورضورة استمراره.
وتوجب عىل األرسة أن ترسل باألطفال إىل املدرسة دفاتر الغيبة واحلضور .تستعملها
لتعرف التالميذ الغائبني أو الذين ختلفوا عن املوعد ،فرتسل ألرسهم مستفرسة عن
سبب هذا التخلف.
واملدرسة تفهم األرس ،إن كانت ال تفهم ،أمهية النظافة .وحتملها عىل توفري الغذاء
الكايف لألطفال وهتيئ املسكن الصالح .وتعني يف كل هذا بام لدهيا من الوسائل املادية،
أو اجلاه عند احلكام.
واملدرسة تسعى للتعرف باألرس ،فيزور املعلمون األطفال يف منازهلم .وتدخل
هذه الزيارات يف نطاق املالحظة النفسية التي جيرهيا املعلم حماوال فهم أطفاله ،وفهم
سلوكهم واملدرسة تنظم اجتامعات لآلباء واألمهات ،بمناسبة احلفالت املدرسية
واألعياد ،أو بكيفية رتيبة ،فتنظم يف كل أسبوع ندوات لآلباء أو لألمهات تتحدث
إليهم فيها املدرسة عن وظيفة األرسة وواجباهتا ،وتعرض عليهم نامذج مما أنتجه
أبنائهم وبناهتم من رسوم أو أعامل يدوية.
__ 38
ونلح هنا يف رضورة تشجيع اآلباء واألمهات عىل زيارة املعلمني واالتصال هبم
دائام ،وال نظن أن اآلباء ال هيتمون بأمور أبنائهم وبناهتم ألننا ال نرى منهم أحدا جييء
إىل املدرسة ،بل احلقيقة أهنم ال جيرسون عىل املجيء إليها يف غالب األحيان .فهم هبذا
يف حاجة إىل تربية خاصة ،املراد منها تفهيمهم فائدة زيارة املدرسة واإلدالء إليها بام
يعرض للطفل من مشاكل يف حياته املادية أو العاطفية.
وبصفة عامة ،فإن املدرسة تعمل كل ما يف وسعها لتاليف ما قد حيصل من تناقض
بني تعليم املدرسة وتعاليم البيت .ألن الطفل ،وإن كان يثق بمعلمه ثقة ال حد هلا،
عرضة للمثال اليسء الذي قد جيده يف البيت ،وهو دائام بني قوتني ال تتعادالن أبدا.
فإذا حصل تناقض بني تعاليم هتني القوتني خاصة يف املذهب األخالقي حار الطفل
أوال ،ثم استسلم للقوة الكربى واصطنع للمدرسة سلوكا ترضاه .دون أن يكون
مقتنعا به يف قرارة نفسه.
واملثل األعىل هو أن تبني املدرسة ويبني البيت عىل مثاهلا ،فإن مل حيدث هذا ونكص
البيت عن واجبه ،كان كمن يبني جزءا قليال من الوقت وهيدم يف الباقي.
الواجبات املدرسية التي تنجز يف البيت:
يعطي املعلم لتالميذه يف بعض األحيان متارين كتابية ،أو أعامال مدرسية كيفام
كانت لينجزوها يف بيوهتم .وال نريد هنا أن نتحدث عن فائدة هذه الفروض وقيمتهام
البيداغوجية فسنعرض لذلك يف فصل آخر من هذا الكتاب ،وإنام نتحدث عنها هنا
ألهنا تنجز يف البيت .وألن أفراد األرسة جيب أن يعرفوا ،ويعرف املعلم ،الظروف
التي ينبغي أن تنجز فيها هذه الفروض.
كثريا ما نسمع آباء التالميذ يثنون عىل املعلم الذي يكثر من إعطاء الفروض املنزلية
وينتظرون من الذي يقلل من إعطائها مزيدا من العناية هبا .ويظهر أهنم يرون يف هذه
الفروض التي ينكب عليها الطفل ساعات أمامهم ،عنوانا عىل جد املدرسة ،واجتهاد
التلميذ واملعلم .ويف مثل هؤالء اآلباء استعداد كبري لتوفري وقت أطفاهلم ،ومراقبتهم
أثناء إنجاز الفروض املدرسية .ونرى طائفة أخرى من اآلباء ال هيتمون هبذه الفروض
أي اهتامم ،إما ألهنم جيهلون ،وإما ألن حاجات العيش ال تسمح أن يوفروا وقت
أبنائهم بنفس راضية.
__ 39
واملدرسة ترشد الطائفتني معا ،فتفرت من محاسة اآلباء الذين يستكثرون من الفروض
املنزلية ،وتبرصهم عاقبة اإلرهاق اجلسمي والعقيل الذي حيصل للطفل منها إن كانت
كثرية ،وترشد الطائفة الثانية إىل رضورة التعاون مع املدرسة ،والنظر إىل مصلحة
ابنهم أو ابنتهم قبل مصلحتهم اخلاصة .ومن مصلحة الطفل أن ينجز هذه الفروض،
وأن ينجزها يف جو مالئم .فال بأس إن تيرست حالة األرسة االقتصادية أن ختصص
للطفل مكتبا صغريا جيلس إليه ،وختصص له حجرة يكون فيها بعيدا عن األصوات
العادية التي قد تلهيه أو عن ضجيج إخوته ان كان له إخوة .والذي هو أهم من هذا،
أن يكتب الطفل أو يعمل أو يقرأ حتت ضوء كاف لئال مترض عيناه.
املكاتبات بني املدرسة والبيت:
سبق وأن أرشنا إىل وجوب مراقبة التالميذ والبحث عن أسباب غياهبم .وذكرنا أن
املدرسة تكتب إىل األب أو الويل تستفرسه يف هذا الشأن .وتكون هذه املكاتبة بواسطة
رسائل مطبوعة يكتب يف جانب منها السؤال الذي تضعه املدرسة ،ويرتك منها جانب
ليضع فيه األب أو الويل اجلواب مع إمضائه .وقد يكون التليمذ زائغا فيستغل جهل
أبيه أو قلة مراقبته فيجيب يف هذه الورقة بام يبدو له ،ومن واجب املدرسة أن تتيقظ
ملثل هذا وأال تتيح للطفل ،وهو ضعيف النفس ،مثل هذه الفرصة للتدليس .فبوسعنا
أن نختار رسوال أمينا يضع الرسالة يف يد أب الطفل الغائب ،ويؤكد الرسالة بالكالم
خمافة أن يكون األب أميا ،أو تتصور غري هذا من الوسائل ما يكفل هلا أن تضبط
حركات الطفل يف تفاهم تام مع األرسة .ومن املمكن أن ترسل املدرسة استدعاء
لألب يف أوقات فراغه وتستجوبه يف شأن ابنه أو ابنته ليكون هذا التفاهم.
وقد يعني عىل تاليف لعب األطفال ،وحتصيل هذا التفاهم الذي حتدثنا عنه ،أن
ترسل املدرسة إىل اآلباء براجمها اليومية ليكونوا عىل بينة من أوقات املدرسة فيتخذوا
احتياطهم.
ومن املراسالت بني املدرسة والبيت ما يكون منه اطالع املعلم عىل سلوك تلميذه
يف البيت .ومنها ما يقصد منه اطالع األرسة عىل سلوك الطفل يف املدرسة ،وعىل
نتائجه الدراسية.
__ 40
مجعيات اآلباء:
وتكون مجعيات آلباء التالميذ أو ألمهاهتم ،يمكن للمدرسة أن تساهم يف أعامهلا
أو تعمل عىل خلقها وتوجيهها إن كانت ال توجد .ويمكن هلذه اجلمعيات أن تقدم
للمدرسة معونة مادية ومعنوية عظيمة .فلها عادة صندوق خاص تنفق منه عىل
مشاريعها ،وتعني منه الفقري املحتاج .وهلا جاه لدى احلاكم يسهل هلا أن تقوم بأعامل
قد تشق عىل املدرسة وحدها.
ومن كل هذا يظهر لنا أن املدرسة ال يمكن أن تستغني عن معونة األرسة ،وليس
عىل املدرسة ضري يف أن تطلب هذه املعونة ،ألهنا إذا استعانت بالبيت ،فإنام تبني فهمها
الواسع للرتبية وللحدود التي يمكن أن يكون فيها عملها ناجعا.
وحيتم هذا التعاون أيضا طموح املدرسة لتكون عامال له أثره يف املجتمع .وإذا
اتصلت باألرسة وعرفت سبيل عيشها هان أن تسدي ألفرادها خدمات كبرية.
وإذا تعاونت املدرسة مع البيت يف تربية الطفل تربية مكتملة ،وقامت بعملها
االجتامعي كانت بحق املثل األعىل للمدرسة ،معني اخلري لألفراد واجلامعات.
- 3املدرسة ونظامها املادي:
ال نستطيع أن نعرف كيف كانت مدارس البالد القديمة كمرص والصني وهل كانت
هلا بنايات خاصة .وال كيف كانت هذه البنايات ،وإنام يرجح أن املدرسة كانت تابعة
للهياكل واملعابد ،وأن التعليم كان يعطى يف املعبد كام حدث ذلك يف البالد اإلسالمية
وكام حدث يف كنائس القرون الوسطى.
وأول ما نعرفه بالضبط عن النظام املادي للمدارس يف القديم هو ما وقع لنا من خرب
املدارس اإلغريقية والرومانية ورسومها .وقد كانت هذه املدراس يف بنايات فسيحة،
وكان املعلم جيلس إىل منربه وأمامه أطفاله عىل كريس طويل مشرتك .وكان يف هذه
املدارس لكل طفل لوح خاص مغطى بطبقة من الشمع يكتب عليها باملسامر أو نحوه.
فإذا تقدم األطفال يف الدراسة تناولوا الكتب وهي عبارة عن جمموعة من الرق ،أو
كتبوا يف هذه اجللود .واستعملت يف البالد اإلسالمية ،وال زالت مستعملة ،ألواح ذات
سطوح رطبة ،تطىل بالصلصال ويكتب عليها بمداد من الصوف نسميه « الصمغ».
__ 41
وقد ظلت اللوحات الشمعية الفردية ،واملقاعد مستعملة يف أوربا والبالد التي
تأثرت باحلضارة اإلغريقية والرومانية .ومل تستعمل السبورة وال األلواح السوداء
التي نعرفها اليوم إال يف القرن الثامن عرش عىل ما نعتقد.
ولننظر اآلن إىل املدرسة العرصية وإىل ما يقتضيه عملها من هتيئ مادي يناسب جو
الدراسة.
لقد فطن أصحاب املعامل ،وخاصة يف أمريكا ،إىل أن قدر اإلنتاج وجودته
يتوقفان إىل حد يلفت األنظار ،عىل اجلو الذي يعمل فيه العامل ،وفرة اهلواء والنور
ووجود األصوات املزعجة أو عدمها ،بل حتى اللون الذي تطىل به اجلدران ،فطن
هؤالء إىل أمهية هذا اجلو املادي فعملوا عىل حتقيقه وزادوا بذلك من نشاط العامل
وإنتاجهم .أما املدرسة فإن أمر بنائها وجتهيزها ال زاال موكوال إىل املهندس املعامري
وهو رجل ال يعرف يف الغالب شيئا عن الرتبية .ونعتقد أن نظام املدرسة املادي من
شأن املريب جيب أن يعنى به وأن يرى فيه رأيه .بل هو شأنه وحده ال رأي لغريه فيه.
أفليس التلميذ يعمل؟ أفليس يف حاجة إىل جو مادي يدعو إىل النشاط؟ وما دام
عمله ،ونظام عمله من شأن املريب ،وما دام اجلو البيداغوجي واألديب الذي يعمل
فيه الطفل من شأن املريب ،فإن اجلو املادي يف املدرسة من شأنه أيضا.
وال يوجد يف املغرب إال مدارس قليلة سيئة البناء أو غري صحية ،أما أغلبية
مدارسنا فصاحلة يف جهازها املادي عىل وجه العموم ،بل نجد بنايات كأحدث
طراز ،وأخرى تغاىل فيها بانيها فنمق فيها ما نمق دون أن يراعي كل الرشوط
املساعدة عىل العمل املدريس .والنقص جيب أن يصلح فتبنى املدارس املناسبة
وهتمل التي ال تصلح.
مما جيب أن يكون يف اجلهاز املادي للمدرسة:
- 1أثاث مناسب للطفل أو املراهق .وقد بحث هذا املوضوع اختصاصيون فوجدوا
أن الطفل ينمو من أول السنة الدراسية إىل آخرها ،وتزداد قامته طوال .لذلك أوصوا
باختاذ مقاعد منفصلة ،مقعد لكل طفل ،ومناضد يمكن رفعها وخفضها حسب احلاجة.
وهبذا وحده يمكن تاليف الضيق الذي حيصل لكثري من األطفال إذا هم صفوا عىل
مقاعد شبيه بعضها ببعض وعىل مقدار واحد ،أو أجلسوا اثنني اثنني يف مقاعد مشرتكة
__ 42
ونعلم أن أطفال القسم الواحد قد تتفاوت قامتهم تفاوتا كبريا وقد استعملت هذه
املقاعد التي أوىص هبا االختصاصيون يف مدارس مونتسوري وكثري غريها من
املدارس األمريكية واألوربية.
- 2إنارة مناسبة ،ال مشعة تبهر العني ،وال ضئيلة تعييها .ويستحب االختصاصيون
اإلنارة غري املبارشة حتى ال يصل مصدرها بالعني فيؤذهيا أو يلهي الطفل عن العمل.
كام يوصون باعتبار اللون واختاذ الفاتح لطالء جدران القسم وتلوين أوراق الدفاتر.
ويعتربون هذا اللون مهدئا يساعد عىل االستمرار يف العمل واحتامل الذي قد يكون
منه ثقيال.
- 3هتوية مناسبة ،وإحداث النوافذ الكافية .ونشري هنا إىل وجوب ترك هذه
النوافذ ،نوافذ الواجهة ،مفتوحة طول الدرس ما عدا يف الربودة التي ال حتتمل،
ووجوب هتوية القسم الدرايس عقب كل درس بفتح كل نوافذ القسم من اجلهتني
بضع دقائق وال يشء أدعى لنشاط التالميذ من جتدد اهلواء يف حجرة عملهم ،ويبدو
ذلك عندما نأمرهم باستنشاقه واقفني وبحركات منتظمة عميقة.
- 4حرارة مناسبة ،فإن احلرارة املفرطة تعرقل كل عمل .لذلك كانت العطلة
الصيفية بل كان من مدارس أملانيا مؤسسات تغلق أبواهبا كلام ارتفعت احلرارة إىل حد
يعرفون أنه ال يعني عىل العمل املدريس .وإن الربودة املفرطة تقلص أعضاء الطفل
فتمنعها عن احلركة ومن ثم ال يقدر يف الربد الشديد أن يقوم بأي عمل جمد .ونشري هنا
إىل أن التدفئة باخلشب قد ال تكون نافعة كل النفع ،ألن الدفء الذي ينبعث من املدفئة
يبقى شديدا يف زاوية وال ينال الزوايا األخرى منها إال القليل .فيتخذ بناة املدارس يف
أوربا وأمريكا والبالد الغنية طريقة التدفئة املركزية التي تضمن انتشارا صاحلا للدفء.
ونرجع هنا لذكر التهوية وعملها يف تسوية احلرارة سيام يف الصيف واأليام احلارة.
- 5وللسكون تأثري كبري عىل انتباه األطفال .سيام اذا كان انرصافهم إىل
الدرس انرصافا غري كيل ،وهذا ما حيدث غالبا ،إذ تكون أدنى حركة أو
صوت أجنبي كافيا لتشتيت أفكارهم .وإذا كانت األقسام املنفردة ،وخاصة
يف البادية ،بمعزل عن هذه األصوات واحلركات ،فإن املدارس ذات األقسام
املتعددة حيدث فيها ضجيج جيب أن ينتبه إليه وأن حيبس فال ينبغي أن يقرأ
األطفال أناشيدهم مثال إال بعد أن نغلق النوافذ ثم نغض من أصواتنا
__ 43
كثريا ،عىل أن من الناس من يعتقد أن األصوات يعتادها السمع فال يلتفت إليها من
يسمعها وال تنقص شيئا من حدة انتباهه .بل يرون أن الصوت الوديع ،أو املوسيقى
اللطيفة ،يكونان باعثا عىل العمل ،ويقولون بأن من األطفال من ال ينشط للعمل إال
يف جو صاخب .وهؤالء ال يرون أي رضر من وقوع املدرسة يف الشارع الكبري أو
إزاء حمطة القطار .ونشك يف هذا كثريا سيام وعمل األطفال يف مدارسنا هو يف الغالب
االستامع إىل املعلم يلقي الدرس ،واحلديث عن هذا الدرس ،فالبد إذن من أن يسمع
بعض هؤالء بعضا ،بل البد من أن ال يسمعون إال حديثهم اخلاص بالدرس حتى
يمكن أن يركزوا فيه انتباههم.
- 6تنظيم التالميذ داخل القسم بحيث يبرصون كل ما يريد املعلم أن يبرصوه.
فإذا أجرينا للتالميذ جتربة يف درس األشياء ال يمكن أن يقوم هبا كل فرد منهم .أو
أحرضنا شيئا واحدا نريد أن يبرصوه صورنا تصفيف املقاعد فجعلنا يف شكل نصف
دائرة يكون املعلم وسطها مثال .وإذا دعت احلاجة بدلنا مكان مكتب املعلم .فإن مل
يكن القسم مناسبا للدرس الذي نريده خرجنا بالتالميذ إىل مكان مناسب .ومن هذا
التنظيم صف التالميذ يف القسم حسب طول القامة حتى يكون طول القامة يف مؤخر
القسم .عىل أال يكون هذا التصنيف منافيا ملصلحة التلميذ التي يعرفها املعلم .فال
ينبغي أن نضع تلميذين ضعيفني يف الدراسة جنبا إىل جنب لتساوهيام يف الطول ،وال
نضع الطفل الذي حيتاج إىل تشجيع يف مؤخرة القسم وهو يعترب عملنا هذا نقصا من
حقه .ونحتال لكل هذا حتى ال حيجب بعض التالميذ بعضا أو حيجز عنه السبورة
التي ينظرون إليها.
- 7اعتبار أبصار التالميذ عندما نكتب عىل السبورة ،وهذه قد ال ينتبه إليها املعلم.
فمن التالميذ ضعاف البرص ،فتعترب ذلك عند تصفيفهم ،ونضعهم قريبا من السبورة.
ومنهم الذي يف آخر القسم فال يرى الكتابة التي عىل السبورة ،ال ألنه ضعيف البرص
ولكن ألن الكتابة صغرية .ونعترب أبصار التالميذ عندما نعلق خارطة أو نحرض نموذجا
يد يف هذاحمسوسا .ونختار من هذه الكبري الذي يبرصه كل التالميذ .فإذا مل نجد ،ومل ُ ْ
تقريب املقاعد أو صفها عىل شكل نصف دائرة ،طفنا هبا عىل األطفال حتى يروها.
ومن هذا القبيل العناية بلون السبورة التي انمحى طالءها ،والتي بقي فيها من أثر
__ 44
كتابة قديمة ما يمكن أن يشكل عىل التالميذ .ومنه اختيار الطباشري الرطب األبيض،
واستعامل امللون منه يف قصد مراعني أال يكون لونه داكنا ال يظهر عىل السبورة.
- 8مما يؤخذ عىل املدارس التقليدية ،أهنا تبالغ يف املطالبة باختاذ التلميذ وضعية
خاصة ،وضع يديه ورجليه يف مكان معني من املقعد واملنضدة ،فال يسمح للطفل
بأدنى حركة ،بل تعترب ذلك منه زيغا .ونرى أن محل التلميذ الصغري عىل اختاذ وضع
خاص عمل ال بأس به ما دام موافقا للقواعد الصحية برشط أال يبالغ يف هذا إىل
حد غري معقول .فمن األطفال حركيون ال يتاح هلم التفكري ،أو العمل الذهني
كيفام كان ،إال إذا حتركوا .أما التالميذ الكبار فنرى أن من تضييع الوقت بل ربام
من تضييع الفائدة ،محلهم عىل مثل هذه الوضعية داخل القسم ومنعهم من احلركة
التي يظهر أال نفع منها ،فمنهم من اعتاد أن يضع رأسه بني يديه عند التفكري،
ومنهم من ال يقوم بعمل فكري جمد إال إذا لعب بأصابعه أو حرك رجله عىل أن
تكون هذه احلرية التي نعتربها رضورية النطالق الطفل ،يف حدود معقولة تتناسب
والعمل اجلدي الذي ينجز يف املدرسة .ونتحدث هنا عن تنظيم التالميذ أثناء
الدخول إىل القسم واخلروج منه .فمن املعلمني من حيمل التالميذ عىل الدخول يف
صفوف مستقيمة وبحركات متزنة ،واخلروج يف نظام مماثل ،ونعترب هذا النظام أثناء
الدخول صاحلا ألنه جيمع أفكار التالميذ ويكون بمثابة مقدمة لعمل جد ينتظرهم،
وصاحلا أثناء اخلروج ألن فيه منعا ملا حيصل من ضجيج قد يتناىف وحرمة املعلم
واملدرسة .وقد يكون هذ الرأي غري صالح يف املدارس التي تتخذ نظام التعليم
احلر ويف املدارس احلية ،لكنه بمدارسنا أخلق أن يناسب إن مل يبالغ فيه حتى يصري
كالتدريبات العسكرية اجلافة.
- 9اعتبار سن التالميذ ،وقوة أجسامهم فيام يطلب إليهم من عمل تستعمل فيه
هذه القوة ،سواء كان هذا العمل ملصلحة التالميذ اخلاصة ،أو كان يقصد منه رشح
الدرس إن كان رشحه متوقفا عىل عمل يدوي .ومن هذا أن ختصص لألطفال الصغار
أقسام يف الطابق األول ،إن كانوا ال يقدرون عىل صعود السلم أو خياف أن يتعبوا كثريا
إذا تسلقوا مرات يف كل يوم.
- 10العناية بألعاب األطفال وقت االسرتاحة ،واحلراسة اليقظة عليهم لئال حيدث
ما ال حتمد عقباه .برشط أال يؤول أمر هذه احلراسة إىل مراقبة شديدة قاسية تعرقل
__ 45
نشاط الطفل وحتد من انبعاثه احلي .ألن هذه املراقبة القاسية تبغض للتميذ حارسه
الذي يمنعه من أكثر أنواع النشاط قربا من قلبه ،أال وهو اللعب.
املدرسة واألسباب الصحية:
بام أن العقل السليم يف اجلسم السليم كام تقول احلكمة العتيقة ،فإن عمل املدرسة
ال يمكن إال إذا توفرت املدرسة عىل وسائل للمحافظة عىل صحة أجسام التالميذ .ثم
ال يمكن عملها إال إذا كانت عامال فعاال ينرش يف املجتمع فهم األسباب التي حتافظ
عىل صحة اجلسم.
وعندما نتحدث عن األسباب الصحية فإننا ال نقصد وسائل العالج املعروفة فقط
بل نقصد االحتياط من كل األمراض .وقال العامة « :الوقاية أفضل من العالج».
وليس هذا باألمر السهل خاصة فيام يتعلق باألطفال .إذ أجسامهم ال زالت يف طريق
التكوين ،فهي ضعيفة البنيان ،رسعان ما يصيبها العطب رغم ما يبدو من متانتها.
ويوشك أن يكون للمرض اخلفيف الذي يصيب الطفل نتائج ثقيلة وبعيدة املدى.
النظافة:
وتبدأ هذه الوقاية من التمسك بالنظافة يف املدرسة ،وحث التالميذ ،بل وإرغامهم
عليها وال أسهل من أن يقف املعلم صباحا يف باب قسمه يستعرض أطفاله ،فإن بدا
عىل أحدهم أنه مل يغسل وجهه وأطرافه ،أرسله إىل املاء .فإذا تكرر منه هذا ورأى
األطفال أنه اجلد اعتادوا تنظيف أجسامهم .وأصعب من هذا العمل أن يصل املعلم
إىل إقناع اآلباء ،وخصوصا يف األحياء والقرى الفقرية ،بتنظيف ثياب أبنائهم .لكن
واجب املدرسة هو أال تتساهل يف أمر النظافة .وكيف تتساهل وهناك األمراض املعدية
التي حتملها األوساخ يف الثياب .فإذا وجد أب ال يفهم واجبه فال ترتدد املدرسة يف
هتديده وتعزيره .فإن كان ال يقتنع وخافت املدرسة أن يكون الطفل الوسخ عامال
حيمل العدوى فال ترتدد يف طرده ،ونشري هنا إىل العناية باألظافر والشعر واألسنان
ففي طياهتا تكمن املكروبات التي خيشى منها.
__ 46
واملعلم اللبيب يستطيع أن خيصص وقتا ،ولو قصريا ،أثناء درس األخالق أو
الرتبية الوطنية مثال ،لينظر األظافر والشعر ،ويمكنه أن ينظم مسابقة بني أطفاله
لريى من أنظفهم جسام ومن جاء إىل املدرسة ممشوطا شعره مقصوصة أظافره.
والغرض من العناية وهذه املسابقة أن يتخذ األطفال النظافة عادة .وكل الوسائل
املجدية ال تستهينها للوصول هلذا الغرض :التشجيع ،والعقاب ،واملنافسة ،ومن
السهل أن نفهم أن املحافظة عىل النظافة ليس باألمر اليسري .فإذا عرفنا صعوبة
الغسل باملاء البارد يف الصباحات الباردة مثال ،تبني لنا مقدار ما ينبغي أن نبذله من
جهود للوصول إىل بث عادة النظافة يف األطفال ،ورضورة املثابرة عىل مثل هذه
اجلهود.
ومن عادات النظافة التي ينبغي أن تكون يف التالميذ .تنظيفهم ملنضداهتم يف كل
مرة وإزالة ما يقع عليه من غبار .وتنظيف حمفظاهتم وأدواهتم املدرسية .واملحافظة
عىل أيدهيم أن تتلوث داخل القسم أو خارجه .وإمساك دفاترهم وكتبهم نظيفة،
حتى غالفاهتا .وليحتفظ املعلم من أن تتمكن يف أطفاله الصغار عادة حمو السبورات
الصغرية باليد أو حموها بطرف ثوبه أو بمنديل يبصق فيه.
الوقاية:
وتتكفل دروس األخالق الوطنية بتبصري التالميذ بوجوب املحافظة عىل النظافة
خارج القسم ،وأال يرموا قصاصات الورق أو األوساخ أيا ما كانت أو يبصقوا إال
يف األماكن املعدة لذلك .وتعطيهم املدرسة خري مثال إن هي أحدثت يف األقسام ويف
الساحة أواين ومباصق.
ومن أسباب الوقاية ،تسخني أقسام الدراسة يف األيام الباردة ،ومنع األطفال
من اخلروج فجأة من القسم الساخن إىل الساحة الباردة .ومنها هتوية القسم كام
سبق أن رشحنا ومراعاة أال حيدث يف القسم جمرى اهلواء مدة تزيد عىل دقائق
قليلة.
__ 47
الرتبية البدنية:
وقد وضعت حصص الرتبية البدنية لتكون ساعات يسرتيح فيها الذهن ويعمل
فيها اجلسم .فليستعملها املعلم استعامال حسنا ،دون أن جيهد الطفل أو حيمله فوق
ما يطيق وليعرف من تالميذه الضعيف الذي ال يقوى عىل بعض احلركة ،فال حيمله
عىل ما حيمل عليه اآلخرين .وليعرف املريض الذي ال تنفعه الرياضة فيجنبه إياها.
وليعرف املعلم أن األطفال بحاجة إىل الشمس كام هم بحاجة إىل احلركة ،فليعرضهم
ألشعتها ،يف قصد ،أثناء األلعاب الرياضية .وليجر دروسه مع صغار التالميذ يف
الساحة كلام سمحت بذلك احلالة اجلوية ومل يكن مزعجا لنظام املدرسة.
املطعم املدريس:
ويف أكثر املدارس مطاعم يتغذى فيها األطفال ويفطرون ،فمن واجب املدرسة أال
هتتم بكمية الغداء الذي تقدمه للطفل فقط ،بل من واجبها أن هتتم بقيمته الغذائية
والصحية ،فتختار لألطفال املواد الصاحلة وتنوعها من يوم ليوم .وتسهر عىل طهيها يف
أواين نظيفة صحية .وتقدم لألطفال غذاءهم وتعلمهم نظام األكل وكيف يمضغون
مضغا جيدا.
الفحص الطبي:
يزور املدرسة من آن آلخر الطبيب املدريس الذي يفحص التالميذ ،فيلقحهم
ليقيهم األمراض ،أو يعاجلهم بالعالج املناسب إذا مرضوا .ويستطيع املعلم أن يساعد
كثريا الطبيب يف عمله .وذلك ألنه يعرف تالميذه أكثر مما يعرفهم الطبيب ،فيستطيع
أن يذكر ما يالحظه من أعراض غري عادية ،أو يبدي مالحظاته حول سلوك أطفاله.
بل من واجبه أن يعلم طبيب املدارس كلام ختوف عىل تلميذ من تالميذه .ويف بعض
األحيان ،ال يكون املعلم مشريا فحسب ،بل يطلب إليه أن يقوم مقام املمرض .وذلك
يف القرى النائية ،أو حتى يف املدن عندما يكون العالج مرة أو مرات يف اليوم الواحد
كعالج أمراض العني مثال.
__ 48
اشرتاك األطفال يف األعامل الصحية:
ومن أنجع الوسائل التي تعمل عىل تعويد األطفال النظافة ،إنشاء مجعيات
داخل كل قسم ،خصوصا بني األطفال الكبار ،أو مجعيات تشمل تالميذ املدرسة
كلهم ،ووظيفة أعضاء هذه اجلمعية مراقبة قواعد النظافة واألسباب الصحية
العامة ،ويكون يف كل قسم عريف ينتخبه التالميذ ملدة معينة ،ويكون يف املدرسة
عرفاء منتخبون ،ولكل هؤالء وظيفة ،فواحد يراجع مقاعد القسم والسبورة
واملحابر ليتأكد من نظافتها مجيعا .واآلخرون يقومون عىل تنظيف الساحة ومجع
أوراق األشجار التي تسقط ،وغري هذا كثري من األعامل التي يستطيع األطفال أن
يقوموا هبا ويستفيدوا من هذا القيام ،وهم خري معني للمعلم يف شؤون النظافة
والصحة ما كان املكلفون منهم هبذه الشؤون مثاال صاحلا للتلميذ النظيف
املتيقظ.
- 4املعلم:
كنا نتحدث يف الصفحات السابقة عن املدرسة ،وعمل املدرسة ،وأثر املدرسة
وليست املدرسة معمال أو جمموعة من آالت تقوم بوظيفة ما معينة .وإنام حيدد املدرسة
ويعطيها معناها الذي به استحقت ما توصف به من مدح أو ذم شخص املعلم .بل
ليست املدرسة يف احلقيقة إال املعلم.
وصفة معلم صفة رشيفة سموا هبا أرشف فالسفة اإلغريق ،وتغنى بمجد املعلم
من نعرفهم من الشعراء .فبم يصبح اإلنسان معلام وكيف؟ كيف يستقيم الفرد العادي
معلام له قدسية وبيده مفاتيح اخلري يف األمة؟
صفات املعلم:
والعمل اجلليل الذي ينتظر املعلم ،يتطلب صفات خاصة البد منها للسيطرة عىل
التالميذ وتوجيههم.
__ 49
االستعداد الفطري:
وأول هذه الصفات االستعداد الفطري ملهنة التعليم ،فإن كان للصفات األخرى
أمهية فإن هذا االستعداد يعطي للمرشح للمهنة طاقة ال تقف أمامها العراقيل ،وإقباال
عىل عمله ال يعادله يشء .وهذا اإلقبال عىل املهنة يف ضمنه حمبة األطفال ،وهاتان
اخلصلتان تساعدانه عىل حتمل كل املشاق يف سبيل مصلحة أطفاله .واملعلم يقيض
ست ساعات يف اليوم أمام مجهور من التالميذ مخسني أو ستني أو دون ذلك أو أكثر
منه ،ومن بني هذا اجلمهور الطفل الذي ال ينتبه ،والطفل املريض ،والكثري احلركة.
واملعلم البد أن يراعي كل هؤالء والبد أن يصرب ويتعلم كيف يوقظ اهتاممهم ،فمهنته
تطلب إليه أن خيلق يف كل حلظة ،وأن جيدد وسائله وأساليبه ،ويصطنع لكل مناسبة
موقفا جديدا مناسبا .وحتقيق كل هذا ال تضمنه ،الطرق العامة وال العلم الواسع وال
حتى اإلرادة واإلخالص ،فالبد من االستعداد الفطري .وهذا االستعداد الفطري
ال يمكن أن يفيد شيئا إال إذا كان معه غري قليل من الذكاء ،ألن املعلم حمتاج إىل
إعادة النظر يف علومه ليسوهيا عىل قياس فهم أطفاله ،حمتاج إىل تكييف تفكريه
ومنطقه ليفهموا عنه .وبام أنه مسؤول عن نمو هؤالء األطفال ،وعن تربيتهم الروحية
واألخالقية فهو حمتاج إىل اخرتاع الكلامت التي تؤثر ،واستغالل الفرص «ليطرق
احلديد ساخنا» وهو حمتاج أيضا إىل فهم املناهج واخلروج منها بالصالح الرضوري.
وال يقدر عىل هذا إال إذا كان له حظ كبري من الذكاء.
واملعلم املستعد ملهنته استعدادا فطريا ،الذكي الذي حيب األطفال ،هو الذي خيلق
احلياة يف قسمه ،وجيد الطريق إىل قلوب أطفاله ،وهو الذي جيد احلل رسيعا عندما
يقع أو يوقعه التالميذ يف مأزق ،ال يتلعثم وال يرتدد ،ويعرف إذا فهمه التالميذ ،فإذا
مل يفهموا حور من طريقته بحيث يفهمون .وهو الذي يعرف أطفاله ويفهم معنى كل
حركة تصدر منهم.
وبصفة عامة فاملعلم املوهوب وحده هو الذي يقوم برسالته قياما كامال ،ويرتك
طابعه يف عقول أطفاله حتى يروا فيه املثل األعىل طيلة حياهتم.
لكن هذا االستعداد الفطري قليل ،ال يتوفر يف كل املرشحني ملهنة التعليم .فهل
يعترب هؤالء أنفسهم يف طريق اإلخفاق التام؟
__ 50
إذا كانت الصفة األوىل يف املعلم املوهوب حبه ملهنته وحبه لألطفال فإن يف استطاعة
كل ذي عاطفة أن حيب األطفال وأن يتعلم كيف يتفانى يف خدمتهم .فإذا أحب
األطفال وعرف كيف جيعل عمله يف املدرسة منتجا ،كان خليقا أن حيب مهنته .وكلنا
يعرف مقدار الطمأنينة التي يشعر هبا املرء بعد أن يؤدي واجباته كاملة .ومتى أحب
أحد مهنته سهل عليه ما كان يستصعبه ،وأحس يف نفسه انبساطا لعمله وارتياحا
وشوقا .ومتى أحب أحد مهنته سعى يف تكميلها والبلوغ هبا مبلغا حسنا.
عىل أن اهلبة الرتبوية ال تكفي وحدها يف مهنة التعليم .وإذا كان املوهوب ذكيا وكان
رقيق القلب ،حارض البدهية ،ذا شخصية جذابة ومل تتوفر لديه املعرفة الكافية فإنه ال
يصلح ملهنة التعليم .كام ال تغني هذه اهلبة عن االطالع عىل طرق التعليم ومعاجلة
مشاكل الطفولة ،وال تقوم مقام االستعداد اجلسمي والقيمة اخللقية.
الصفات اجلسمية:
إن املعلم يقف أمام التالميذ ،ويتحدث إليهم ،ويقوم بحركات وأعامل رضورية يف
مهنته فهذه األعامل ال ينجزها كاملة إال إذا كان يف جسمه سليام .واملعلم يريد أن ينتبه
تالميذه إىل ما يقال أو يفعل يف القسم ،فإذا كان يف جسمه عيب دعا ذلك األطفال،
وهم يف هذه السن ال يعرفون الشفقة إىل الوقوف عىل هذه العيوب وتشهريها أو
التهكم هبا .وهذا بالطبع يضيع عىل املعلم كل إمكانيات العمل معهم.
املعلم يراقب تالميذه يف القسم ،ويالحظ أعامهلم ،وينظر يف الدفاتر ليصححها وإىل
السبورة ليكتب عليها .وال يستطيع هذا إذا كان ضعيف البرص .واملعلم األصم عاجز
عن العمل مع األطفال ،بل هو عاجز عن فهمهم أو تفهيمهم متاما ،ومن الدروس،
بل جلها ،ما يكون عىل شكل حماورة بني املعلم والتلميذ ،فإذا مل يسمع املعلم ،بطل
الدرس كله ،وال جتدي كل املحاوالت للتفاهم ،بالكتابة مثال ،أي يشء ،بل تشجع
هذه املحاوالت األطفال عىل التمرد والتهكم .ومثل هذا ما إذا كان املعلم متتاما،
فإن كلامت التمتام كثريا ما تضحك الكبار ،فكيف باألطفال الذين يتأثرون رسيعا
ورسيعا يضحكون؟!
__ 51
إذن فالبد من سالمة احلواس اخلمس عند املعلم ،إذ هي أداة حيتاج إليها يف كل
حلظة .عىل أن النقص اخلفيف يف بعض هذه احلواس قد تغطيه الصفات األخرى
البارزة يف املعلم .وكم نعرف من معلم نحيف اجلسم ضاويا ،أو به بعض الصمم أو
لثغة كاملة وهو ناجح يسيطر عىل أطفاله وينفعهم .وآخرين يتمتعون بصحة جيدة،
وبكل حواسهم كاملة وهو فاشلون .وهذا يبني لنا أن شخصية املعلم ليست الشخصية
اجلسمية فقط ،بل تكوهنا جمموعة من الصفات .أو بعبارة أخرى ليس اجلسم القوي
السليم كفيال بنجاح املعلم.
والصفة اجلسمية الرضورية التي ال غنى عنها هي اتزان األعصاب ،وحتمل التعب.
ألن عمل املعلم متعب جدا ومرهق سيام إذا كان مبتدئا ملا يتعلم كيف يقتصد يف
حركاته وكيف يقتصد يف كالمه .واملعلم الذي يستحق هذا االسم ال يقيض يومه
جالسا عىل كرسيه ،ألن يف جلوسه عىل الكريس استهانة بالعمل الذي ينتظر منه،
بل يراقب أطفاله من قريب ،ويتحرك يف القسم بني الصفوف ليشعر التالميذ أنه
حارض قريب .أو ينتقل إىل مؤخرة القسم لينظر كام ينظر التالميذ إىل اخلارطة التي
علقها أمامهم أو إىل السبورة التي عرض عليها مشكلة من املشاكل ،كأنه قائد جيش
يدفع جنوده للهجوم .واملعلم يف القسم يتحدث حتى َل ُي َب َّح .ويف كل هذا تعب شديد
ال يتحمله الضعيف .وأشد هوال من هذا التعب اجلسمي التعب الفكري ،ألن كل
أعامل املعلم تتعب الفكر وتوتر األعصاب ،فتوشك األعصاب املتوترة أن تنهار إذا
كان اجلهاز العصبي ضعيفا .أيمكن أن نتصور عمال أشد عىل األعصاب من إلقاء
درس أمام الصغار؟ إذا الحظنا املعلم أثناء قيامه بعمله وجدنا أنه منتبه دائام شديد
االنتباه ،منتبه إىل أطفاله كل منهم عىل حدة ،منتبه إىل عمله وتسلسله ،وأنه يف حماولة
دائمة لتذكر مادته واستحضارها وليس تغني ورقة التحضري عن هذا التذكر شيئا،
وأنه يفكر يف أحسن إجابة يعطيها لتالميذه إذا سألوا ،ويفكر يف أحسن سلوك يتخذه
مع تلميذ يريد أن يشجعه أو يعاقبه ،ويفكر يف «اخرتاع» جديد يرجع به أذهان أطفاله
الطائشة ،أو يوقظ من محاسهم .ووجدنا املعلم عرضة للعب أطفاله أو عبثهم فيام
بينهم ،عرضة لبالدة بعضهم ،أو سوء فهمهم .كل هذا وهو صابر يكتم عنته ويكظم
غيظه ،ألن واجبه أن يكتم ويكون رزينا.
__ 52
كل هذا جمموعا يقنعنا بحاجة املعلم إىل جهاز عصبي متني ،فبدون األعصاب
املتينة يغلب عىل أمره ،أو ينفجر غيظا ،يف كل مرة وينفر منه التالميذ ويشعرون
بضعفه .ومتى شعروا بضعفه خرج زمامهم من بني يديه ،وأفضل ملثل هذا أن
يبتعد عن التعليم .وكل هذا يقنعنا بحاجة املعلم إىل جسم قوي سليم ،وحاجته إىل
املحافظة عىل جسمه بمعاجلة أنواع الرياضة ،والفزع إىل الطبيب كلام كانت ظاهرة
يرتاب منها.
مظهر املعلم:
وإذا كانت الصحة اجلسمية رضورية للمعلم ألنه بدوهنا ال يقدر عىل القيام
بعمله ،فإن مظهره رشط أسايس لينال احرتام أطفاله ويفرض نفسه عليهم .من
واجبه العناية بثيابه ،ينظفها ،وخيتار منها ما يناسب مقامه .ومن حسن االختيار أن
يقتصد يف اإلنفاق عليها فال يلبس اللباس الثمني الذي قد يفسده يف يوم واحد.
ومن حسن االختيار أيضا أال يلبس الثياب الكثرية األلوان ألهنا جتلب األنظار ،وال
األلبسة املتجددة ألهنا قد تتناىف مع الوقار الذي جيب أن يتحىل به .وبصفة عامة،
يكون لباسه حسنا ذا شكل معروف ،ال يلفت إليه من رثاثة وال من غرابة .فإن مل
يفعل املعلم فإن تالميذه يتخذونه أضحوكة ولو خلف ظهره ،وهذا ال يساعده يف
يشء عىل عمله.
وهيمنا هنا أن نشري إىل أمهية املعلم يف القسم وخارجه وإىل وجوب االنتباه إليها.
ألن التالميذ ينتبهون إىل هذه احلركات وحيلو هلم أن يقلدوه فيام بينهم .وما ذاك
إال ألهنم يعيبوهنا عليه .ومن املعلمني من ال يملك أن يأيت حركة خاصة ويكررها
كثريا ،ومنهم من يكرر الكلمة أو العبارة حتى تعرف عنه ،وال يغفل األطفال عن
هذا ،بل يصوغون منه لقبا يطلقونه عىل معلمهم .ولتاليف ما حيدث من مثل هذا،
ندعو املعلم إىل أن يراقب حركاته وأقواله ،وأن يتوخى األناقة يف كل منها ،عىل أال
يغايل ويتصنع .وإذا حدث أن لقب التالميذ معلمهم ،وقد حيدث هذا حتى للمعلم
املتيقظ ،فليعرف املعلم هذا اللقب ،وليخرب أطفاله بأنه يعرفه ،ثم ليجعله فرصة
لدرس أخالقي جدي .فإن كان هذا اللقب خفيفا ال يتأذى منه فليعرف املعلم
كيف يضحك منه مع تالميذه.
وقديكونمناملعلامتمنتنكرمظهرها لكثرةماهتملهوهذاعيب،خصوصايفمدراس
__ 53
البنات .ألن التلميذات حيببن أن يقتدين بمعلمتهن ويسوءهن أن هتمل مظهرها ،أو
من تتخذ زينتها قبل أن حترض إىل املدرسة وتكثر من ذلك ،وهذا عيب أيضا ،وربام
يكون منافيا للمبادئ األخالقية واإلسالمية.
صفاته العقلية:
حتدثنا ،عرضا ،فيام سبق عن ذكاء املعلم ،ونعود إليه هنا لنقول بأنه من آكد صفات
املعلم وأمهها .إذ بدونه ال يقدر عىل اختاذ العلم وتكييفه لتالميذه .وإذا مل يستطع
حتضري هذا العلم وتبليغه فليس له أي عمل آخر يف املدرسة .وقد يصل املعلم إىل
إنساء عيبه اجلسمي والتغطية عىل نقص استعداده الفطري بعمل إرادته ،لكنه لن
يعوض الذكاء بيشء ،ألن الذكاء ،آخر األمر ،هو الشخصية.
ومن صفات املعلم العقلية االطالع الواسع الذكي .وال نقصد أن يكون املعلم
خبريا بكل يشء ،عاملا ال حيد عمله .ولكن نريد أن يعرف كل ما يتعلق بمهنته ،أن
يتقن مادته ويكلها باألفكار اجلديدة .نريد أال يتلعثم أمام تالميذه ،أو يقف حائرا
كلام ألقوا عليه سؤاال من اليسري أن يفهموا صحة اجلواب عنه .نعم حيدث أحيانا أن
يكون السؤال عميقا ،أو ينسى املعلم اجلواب الصحيح ،وإذ ذاك حتتم األمانة العلمية
أن يرجع املعلم إىل الكتاب ،ولعل يف هذا درسا يفيد التالميذ ولعل يف هذا تربية هلم
إذا عرفوا أن علم األستاذ حمدود ،وأن من وراء علمه علام واسعا يوجد يف الكتب.
وذكاء املعلم واطالعه جينبانه هذه املواقف احلرجة التي يفقد فيها مقامه إن مل حيسن
اخلروج منها .كام جينبانه احتقار التالميذ متى أدركوا أنه فارغ اليشء معه .ويشعرون
بذلك إذا رأوا املعلم يرجع إىل ورقة حتضريه بدون انقطاع ،أو حيملها يف يده طول
الدرس ،والتالميذ ال يفرسون تعلق املعلم املستمر بورقة التحضري إال تفسريا واحدا،
وهو أن معلمهم عاجز ال يقدر عىل يشء إن أخطأته الورقة .أما إذا حرض املعلم درسه
حتضريا حقيقيا ،ومل يبق إال املرات القليلة التي ينسى فيها فريجع إىل الورقة ،وأما إذا
عرف كيف يرجع إىل هذه الورقة دون أن يظهر قلقا أو اضطرابا ،فإن التالميذ ال يتهمونه
هبذا العجز.
والنقص يف املادة أو القصور العام غالبا ما يكون سببا للمشاجرات بني املعلم
وتالميذه .فالتالميذ يشعرون بقصور املعلم وتذهب من نفوسهم سطوته فيشاغبون
طويال وال ينتهون.
__ 54
وويل للمعلم إن حاول أن يضغط عليهم ،فذلك هو الفشل النهائي.
طبع املعلم وعاطفته:
إن من صفات قلب املعلم الرمحة اإلنسانية والعطف عىل األطفال ،إذا كانت هذه
الرمحة وكان هذا العطف ،ال حيوالن دون قيام التالميذ بالواجب .فبعطفه هذا ورمحته
جيد جتاوبا يف قلوب أطفاله فيخلصون له وحيبونه .وبعطفه عليهم وفهمه ملشاكلهم
هييئ الطريق ليثقوا به ثقة كاملة ويفضوا إليه بكامئن نفوسهم .وبعطفه ورمحته هييئ
اجلو العاطفي الذي يدفع التالميذ إىل التعاطف فيام بينهم ،ويدفعهم لتجنب كل ما
من شأنه أن يستاء منه املعلم ،وهو هبام يمأل جوع األطفال للحنان والفهم .ويعلم
علامء النفس ونعلم أن سلوك الطفل يف صغره وحني يكرب رهني باملعاملة التي وجدها
يف البيت واملدرسة.
وكام نرغب يف أن يكون للمعلم حتمل وصرب ،ومعرفة واسعة متينة ،فكذلك نرغب
يف أن يكون له طبع متني .طبع ال هيني كلام اشتد املوقف .طبع ال يرتك الغضب يستويل
عىل املعلم فيصيح أو يلعن ،وحيتنق وجهه وتكثر حركاته .أو هيدد هتديدا مستمرا .ألن
املعلم إذا غضب ورأى ذلك التالميذ منه هان عليهم أمره ،وأيقنوا أن احلَكَم العتيد
الذي يرجعون إليه يف شؤوهنم أصبح خصام ،وأن معلمهم إنام هو إنسان ضعيف ال
يصمد للحوادث .وهذا الشعور يوئسهم من املعلم ،ويذهب عن املعلم كل املجد
الذي كانوا يعتقدونه عنده .هذا وإن التمسك بالرزانة صعب يف مهنة التعليم ،فكثرة
أعامل املعلم وتنوعها ،وحرصه عىل أن تنجز هذه األعامل كام جيب أن تنجز ،تشجعه
عىل التسلط املطلق عىل التالميذ .فرييد أن يفعلوا إذا أمر ،وينتهوا إذا أمر .وإذا اعتاد
ذلك ،وترك احليطة من هذا االجتاه ،أوشك أن يغضب للتافه البسيط من األمور.
وكثريا ما يكون الغضب عالمة عىل نقص يف املعلم خياف أن يفضح فهو يظن كل
حركة يقومون هبا غمزا فيه ،وما يف الغضب عالج ملثل هذا ،بل به يزيد نقصا عىل
نقص.
أما إذا كان املعلم يملك نفسه ،ويعرف االحتفاظ باهلدوء أمام األطفال ،ال تزعزعه
حركاهتم العصبية ،وال ينفعل بسهولة ،فإن التالميذ يقدرونه جدا .ويكون هدوءه
عامال معديا ال يلبث أن يعمهم.
__ 55
والرزانة والثبات ليس منهام التسامح والتخاذل .ألن هذين عنوان للطبع
الضعيف .وال يظن هذا املعلم الذي يتساهل مع تالميذه ،ويسمح للواحد منهم إذا
هفا ،ال يظن هذا املعلم أنه بعمله يتحبب إىل األطفال وينال عطفهم ،بل هم يعتربون
تساهله حقا هلم ينالونه من طبعه الضعيف .فإذا أراد املعلم أن يربهن للتالميذ عن
مضاء عزيمته ،وأنه جمد يف أفكاره ونواياه ،ال يرتد عن غاية يريدها ،فليكن مثاال
للوفاء بالوعد ،وتنفيد العقوبات .والتالميذ بطبعهم يثقون جدا باملعلم الذي يضع
قانونا يف فصله ثم ال حييد عنه أبدا ،ألهنم يعتربون هذا االستمرار ويطمئنون إىل
وجود نتيجة حمتومة ألعامهلم يعرفوهنا .وهم يتقبلون بصدر رحب ما جيب عليهم
من العقوبات إذا كانت معقولة وطبقها املعلم يف هدوء كامل .يتقبلوهنا إذا عرفوا
أهنا النتيجة ملعلمهم وال يثورون.
العدل بني التالميذ:
ومن كامل طبع املعلم ،بل من أهم صفاته ،أن يكون عادال ويمكن أن يكون عادال
بوسيلة واحدة ،هي أن يملك نفسه ملكا تاما .أن يملك نفسه عند الغضب ،ويملكها
أن تتحيز لطفل بعينه .وال يشء أكره لألطفال من التحيز .فهم يرون فيه بخسا
حلقوقهم .ويدفعهم إىل إبغاض التلميذ أو التالميذ الذين يمتازون بمعاملة خاصة،
وواضح ما يف هذا البغض من رش خياف منه .وقد يتحمل التالميذ عسف املعلم اجلبار
الذي يشتد يف العقوبة ويظلم كل التالميذ ،لكنهم ال يتحملون املعلم الذي خيتار من
بينهم أفرادا خيصهم باإلحسان ويعفو عن سيئاهتم .وليخش املعلم من أن يندفع مع
العاطفة فيخص بصداقته طفال ذكيا ،وليفكر دائام يف أنه إن أقدم عىل مثل هذا العمل،
فإنام يسيئ إىل الطفل ويعرضه حلسد رفاقه وعداوهتم ،ويسيئ إىل التالميذ مجيعا ألهنم
ينزعون من املعلم ثقتهم ويندفعون مع العواطف السيئة.
واملعلم العادل يطبق قانونه عىل كل التالميذ ،بحيث يستطيعون أن يطمئنوا إىل أن
قيم اليوم ستبقى صاحلة غدا ،وأن العقوبات تنال كل من أحدث الذنب الذي يناسبه.
وليس العدل عدال يف األعامل الظاهرة كالعقاب والثواب فقط ،لكن العدل يشمل
__ 56
املساواة حتى يف العاطفة اخلفية .والتالميذ ببصريهتم ،أقدر خلق اهلل عىل معرفة ما
جيري يف قلب املعلم من حمبة أو بغض ،من تفاؤل أو يأس .ويوشك التلميذ املتأخر
الذي يعرف من معلمه هذا اليأس يف جانبه أن يقف عن العمل هنائيا يائسا من نفسه.
ومن حق هذا عىل املعلم أال يظهر له وال يضمر إحساسا تكون عاقبته كام قلنا .سيام
وليس املعلم خبريا بصريا إىل حد معرفة احلدود التي تقف عندها إمكانيات تالميذه
بالضبط.
هذا وننزه املعلم عن التحيز لبعض تالميذه نظرا ملكانة ذوهيم االجتامعية ،أو نظرا
لقرابتهم يف النسب واملذهب ،أو نظرا ملا يناله من منفعة مادية .وننزهه عن أن يمتهن
من التالميذ من ال يتمسك بواحد من هذه األسباب وجيور عليه.
نفاذ بصرية املعلم ودقة حسه:
وإن معارشة املعلم لتالميذه وواجباته نحوهم ،حتتم عليه أن يكون نافذ الرأي يف
نفسية أطفاله .يعرف كيف خياطب كال منهم بام يفهم .ويعرف كيف يأخذهم من
حيث يكون أخذه متينا مستمرا .والتالميذ يف حاجة إىل احلركة والنشاط .وواجب
املعلم أن يكون من املهارة بحيث يستغل هذه احلركة وجيعل التالميذ يرصفون
نشاطهم عن طواعية وفقا ملصلحة الدراسة .وإذا كان املعلم نافذ الرأي يف نفسية
أطفاله أمكنه أن يعرف ما حيبه كل منهم وما يكرهه .وأن يعرف الذي يؤثر فيهم.
وأمكنه أن يتنبأ بانفعاالهتم ويستعجلها ،ويوجه جمهوداهتم التي تتفاوت إىل غاية
واحدة .وأصعب من ذلك عىل املعلم الغر أن خيلق اجلو النفساين والعاطفي الذي
ينطلق فيه لسان الطفل اخلجول ،وهيدأ فيه العصبي ،ويتعود فيه املخنث سبل التعلم
اجلدية .ومن املهم يف القسم أن يعرف املعلم جهد كل واحد من تالميذه فال يكلفه
فوق جهده ،وأن يدرك الوقت الذي يطول فيه الدرس ،أو يصعب ،ويتدارك التالميذ
قبل أن يلحقهم امللل.
واحلذق يف مالحظة النفس والطبائع رضوري للمعلم ،ألنه يعمل
وسط مجاعة من األطفال دقيقي احلس جدا ،يتأملون من الكلمة النابية أو
التي يعتربوهنا نابية ،ويتأملون من النظرة وهلجة اخلطاب .وقد خيتلف وزن
__ 57
العقوبات يف نظرهم ،وإن كانت متشاهبة متاما .وتزيد حساسيتهم يف هتويلها حتى
يتيقنوا أن املعلم ظلمهم .وقد سبق أن ذكرنا ما يف ذلك من رضر عىل التالميذ
واملعلم والعالقة فيام بينهم .ومن هذا يظهر أن العدل املجرد ال يكفي ليعترب
التالميذ املعلم عادال .بل البد يف تطبيقه من حس دقيق وفهم لنفوس األطفال.
وهذا احلس الدقيق عند املعلم به يدرك اللحظة التي جيب أن تقف فيها سلطته،
واحلد الذي يمكن أن تبلغه .فإن مل يكن دقيق احلس تعرض الصطدامات قد تؤدي
بكثري من مكانته .وأثناء عمل املعلم يف القسم ،حيدث أن حيتاج إىل القيام بعمل
قد ال يبقى معه النظام ،فإن كان ماهرا اختار القيام بالعمل أو اختار تركه حسب
النتيجة التي ينتظرها .وذلك كأن يكتب عىل السبورة ويويل ظهره للتالميذ ،أو
يوزع صورا صغرية يتداولوهنا فيام بينهم.
والبد من دقة احلس يف معرفة الوسائل التي تضمن بقاء االحرتام يف القسم ،ومن
التالميذ من حيلو هلم أن يعاكسوا املعلم ،وإذا عرف هؤالء وأمسك بزمامهم .ونعني
بطرق نفسية ال بطرق العنف ،هان عليه أن يستحوذ عىل اآلخرين .ومن التالميذ
من يعترب باملثال أكثر مما يعترب بالعقاب املبارش ،ومع هؤالء يتخذ املعلم سبيال وسطا
ِ
«إياك أعني واسمعي يا جارة». ويقول كام قال الشاعر
واملعلم الدقيق احلس ال يثقل عىل تالميذه أبدا ،ويعرف أن يوافق بني جد الدرس
واملرح الذي يرسي عن النفس .ويعرف كيف يضحك مع تالميذه وكيف يداعبهم
دعابة بريئة .وهذا ينتظر منه نفاذا بالغا ،ألنه يقتيض اجلمع بني اجلد الذي هو الغاية
من الدرس ،ويقتيض تسخري الدعابة لتربز هذا اجلد .فكم من مسألة من مسائل العلم
ال ترسخ إال ألهنا اقرتنت يف ذهن التلميذ بدعابة لطيفة .ولعمري إنه ملوقف حرج،
موقف املعلم الذي ال يعرف كيف يضحك ،إذا رأى التالميذ يضحكون ،من حكاية
قرأها مثال .فإن ذهب بجده الثقيل يزجر وهيدد ،كدر عىل تالميذه وأضاع عليهم
الفرصة .وإن جاء يضحك خيف عليه أن يتعدى احلدود فإذا الدرس هلو كله وعبث.
وإذا حدث مرة أن نطق املعلم غلطا ،وليس املعلم معصوما من الغلط،
فإن دقة حسه وحدها تفيده يف اخلروج من املأزق .ويف هذه احلالة يرسع
__ 58
فيعرض رأيا جديدا بعيدا عن األول ،حتى إذا نيس التالميذ ،واهتاممهم رسعان
ما ينتقل ،رجع إىل غلطه يصححه .ألنه إن ذهب يصلح غلطه يف احلال فربام يرى
التالميذ ذلك منه ترددا ،وإذا ترك الغلط دون تصحيح فليس يف يشء من األمانة
املهنية .وقد حيسن مع كبار التالميذ أن يصحح املعلم غلطه حاال ،وال بأس خيشى
عليه من ذلك ،ألن التالميذ الكبار يعرفون أن الغلط مالزم لإلنسان ،فإذا رأوا فعل
معلمهم ،فإهنم يكربون انطالقه وأمانته العلمية.
وأخريا فإن املعلم صاحب احلس الدقيق ،الذي ينفذ بعقله يف نفس أطفاله ،ذلك
املعلم الذي ال يغره أنه يمثل النظام ويمثل السلطة ،وال يدفعه العمل املرهق إىل
التأفف يف أية حالة ،هذا املعلم هو الذي يقنع تالميذه بأنه أقوى وأنه إنسان واسع
القلب ،فيعتربونه يف آن واحد ،أبا يأوون إىل قوته وعمله ،وصديقا خيلصون له املودة.
سلطة املعلم:
بكل هذه الصفات التي ذكرناها تتحقق سلطة املعلم .ويفهم الناظر رضورهتا لقيادة
قسم فيه تالميذ عدة .ونرى أن اجلامعات التي يكون فيها الكبار تتخذ سلوكا ال يكون
سلوك كل فرد من هذه اجلامعة لو كان وحده .وإنام ينشأ من اجتامع اإلرادات إرادة
مجاعية ،وينشأ من القوات الفردية قوة مجاعية قد تكون جارفة .وهذا بالضبط ما يقع
يف مجعية يكوهنا األطفال ،ويزاد عىل ذلك حيوية كل طفل وقلة نضجه العاطفي .وإن
املعلم الذي يدخل إىل القسم فيه مجاعة األطفال كالغريب الذي يلج مدينة جديدة،
فهو فيها بحاجة إىل كل عدته .وعدة املعلم صفاته التي ذكرناها .وأول سالحه اهلدوء
والسكينة .فكام يزعمون أن األسد هيجم عىل الشخص الذي يعرف منه اخلوف،
فكذلك األطفال ال خيضعون إال للمعلم الذي ال يبدو عليه أثر من اضطراب.
وإن من أهم العوامل التي تساعد عىل تكوين سلطة املعلم ،هي شعور التالميذ عند
أول اتصال يكون بينه وبينهم .ومن هنا جيب أن يكون حريصا عىل أن يظهر بمظهر
الكامل من أول مرة.
واحلكمة تقيض بأال حياول املعلم التقرب من التالميذ بأي وسيلة ،السيام يف
األيام األوىل ،بل حيتفظ برزانة كاملة ،وقريب جدا من اخلرسان املعلم الذي يبدأ
__ 59
بحكاية ترمجته ،وما قام به من أعامل ،وال يصعب عىل اخلبري أن يتصور خيبة أمل
التالميذ الذين كانوا ينتظرون املعلم ويلحظون قدومه بإقبال شديد عندما يسمعون
ما حيكيه من ترهاته .أو يتصور سخرية هؤالء التالميذ ومصري سلطة هذا املعلم.
ودراسة نفسية األطفال ترينا أهنم ال يعبأون بالكلمة التي ال يدعمها العمل ،وكأهنم
يدركون أن الثرثار إنام يغطي بثرثرته عجزه .والتجربة تدل عىل أن املعلم الذي يقف
أمام تالميذه يف أول السنة ليرشح هلم طويال برنامج عمله معهم ،ويبني هلم ما أعده
من نقمة للعاصني ،قلام ينال احرتام التالميذ.
إذن فال التهديد يفيد ،وال تفيد الثرثرة العاطلة .كام ال يفيد التزلف إىل التالميذ
بالعفو عنهم « .اهلل يسامح هذه املرة « .منطق ال يفهمه الطفل ،بل يظن بقائله الضعف
والوهن واملعلم عند أول عهده بالتالميذ جيب أن حيرض درسه حتضريا طويال كامال،
فإذا حرض أمامهم انرصف إىل درسه توا ،ودون أن يظهر قلة خربته أو أن يرتقب حكم
األطفال .فإنه إن تركهم يظنون أنه يعلق عىل حكمهم أمهية كان كمن يدعو البالء.
فرسعان ما ينطقون وحيكمون ،ولن تكون أحكامهم بالطبع موافقة للحقيقة ،وإنام
تكون موافقة هلواهم ،وهواهم يف مثل هذه احلالة يف السخرية من املعلم .أما إن قال
هلم قوال معقوال يف منطق الكبار ،وأهاب هبم لالجتهاد حتى ينفعوا أنفسهم ،أو قال
ما يشبه هذا فإهنم ال يفعلون أبدا ،ألهنم عاجزون متاما عن تصور املستقبل ،عاجزون
عن فهم مصلحتهم .وربام كان يف هلجة املعلم الذي يقول مثل هذا .نربة املستضعف
الذي مل املغالبة .ولئن كان هلي لنهاية سلطته يف قسمه.
ومجلة القول أن التالميذ ال خيضعون إال للمعلم الذي يضع نفسه مكانة السيد
املطمئن إىل سيادته .الذي يستمد سلطته من قوته املعنوية ،ال من تفوقه اجلسمي.
وخيلصون هلذا املعلم طاعتهم ألن القوة املعنوية ،أو الشخصية كام نقول ،تفرض
سلطاهنا الذي ال يغلب عىل الناس مجيعا .وإذا كانت احلكمة رائدة املعلم فإنه ال يلبث
أن حيصل أيضا عىل عطف تالميذه .وهذه مكافأة له كبرية.
__ 60
- 5النظام يف املدرسة:
إن عمل املدرسة ال يتحقق يف الفوىض .وال يصلح إلنجازه احلرية املطلقة تعطى
لألطفال .واألطفال أقل الناس كفاية باالجتاه اجتاها صاحلا ،وتنظيم حياهتم بحيث
يناسب نظامهم التقدم املرجو .فهم يف حاجة إىل يد قوية تأخذ بيدهم وتوصلهم
إىل الغاية املثىل .هلذا كان البد أن تتمتع املدرسة بسلطة تفرض هبا النظام .وسلطتها
ليست كالقانون الصارم يراد منه محاية اجلامعة .لكنها كسلطة األرسة وسيلة لتحسني
سلوك الطفل وجتنيبه مواقع اخلطر .وليست تستعمل سلطتها لفرز الصالح وطرد
الناقص ،بل تستعملها لتحمي الطفل من رش نفسه ،ولتكمل الناقص .وليست
سلطة املدرسة كسلطان القانون ،ضيقة ماضية ،تطبق عىل الناس لغاية معروفة
حمدودة .لكنها واسعة تسعى لتنمية كل طفل يف إطار تناسبه ،وترتك لكل مواهبه
جماال لتظهر ويستفاد منها .ولئن اضطرت املدرسة الستعامل سلطتها يف إبعاد تلميذ
وطرده ،فإهنا ال تفعل ذلك إال بعد أن تعييها احليلة يف سبيل إصالحه.
وغاية هذه السلطة ،التي يمثلها املعلم ومتثلها املدرسة ،هو هتيء الطفل ليستغني
عنها ،وذلك بإيقاظ ضمريه ،وتقوية سلطان هذا الضمري ،وبتفهيمه واجبه ،وتبصريه
باملصري .وظاهر ما يف بلوغ هذه الغاية من كامل .ألهنا عنوان عن النضج األخالقي
واالجتامعي .وتعمل املدرسة لتحقيق هذه الغاية ألهنا تدرك أن الطفل سيكون
مواطنا ،وأنه يتوقف عىل املدرسة أن يكون هذا املواطن قوة تبني أو قوة هدم .فإذا
هيأته للحياة وجعلت له من نفسه وازعا قلبيا ،كان املواطن الصالح .وإذا أنشأته يف
إطار ضيق من حجرها ،واعتمدت عىل سلطان هذا احلجر لتزجره ،خرج إىل املجتمع
طليقا ال يعرف أين يقف احلق ويبدأ الواجب.
وسلطة املدرسة ،أثناء تطبيقها ،ال تسعى إلخضاع الطفل ومحله عىل االمتثال ،ولكنها
تسعىليفهمالطفلرضورةالنظام،وليقتنعبأنهعاجزعنإجيادهوحده.والتسعىاملدرسة
لتكرس إرادة الطفل وجتعله أداة ،لذلك ال تتبع سبيل القوم األولني يف فرض سلطاهنا
__ 61
بالعصا .ألن العقوبة البدنية ال ختلق رجاال ،وإنام ختلق عبيدا خمتالني ال يعرفون إال
سلطان القوة املادية .وإنام سالحه التوجيه الرشيد واالقناع ،وسالحها التفاؤل مع
احليطة .إذا مل يفد هذا السالح فالنصح واإلنذار .ثم ال تكون العقوبة اإلنسانية إال
وسيلة أخرية حني ال جتد عنها مناصا.
- 6الثواب يف املدرسة:
ليس الثواب إال وسيلة لتحسني سلوك الطفل .وهو حيدد سلطة املدرسة ،ويقنع
الطفل بأن هذه السلطة صديق له ال عدو .والثواب يدخل عىل الطفل رسورا كبريا.
ومهام صغر شأن هذا الثواب ،فإن له وقعا عميقا يف نفس الطفل ألن يف ضمن هذا
الثواب اعرتافا بأن للطفل حماسن .وهو رمز لتقدير املدرسة هذه املحاسن .ويف
الثواب رفع لقيمة الطفل ،ومتييز له كبري .وإذا مل يثب الطفل إال عندما يستحق ،تعلم
قيمة أعامله ،وعرف أنه لن يناله حتى جيد كام تريد املدرسة أن جيد .أما إذا كان الثواب
بغري استحقاق ،فإن الطفل يرفضه يف قرارة نفسه ،ويشك يف املدرسة ونواياها .ويف
الثواب تشجيع عىل العمل ،وحث عليه.
ووسائل الثواب كثرية ومتنوعة ،إال أن قيمتها املعنوية ،ال تقدر بقيمتها املادية.
وإنام يزيد من فعله الظروف التي أعطي فيه .ويزيد من قيمته رسور املعلم بإعطائه.
وتفقد كل وسائل الثواب قيمتها إذا كانت بغري استحقاق كام قلنا ،أو جاءت متأخرة
عن وقتها.
ومن هذه الوسائل ما هو مادي ومنها ما هو معنوي .فصغار األطفال يتعني
الثواب بيشء حمسوس .كأوراق االستحسان املطبوعة ،أو الرسوم امللونة .ألن
األطفال الصغار ال يقدرون عىل تقدير الكلمة الطيبة والتشجيع .باللفظ ،بل
يرغبون يف شهادة مادية تدل عىل هذا التشجيع .واملتبع يف املدارس ،هو أن يعطى
للتلميذ أو التلميذة ورقة استحسان كلام استحق ذلك .فإذا كمل عنده عدد من
هذه الورقات ،أمكنه أن يأخذ بدهلا صورة ملونة .ويف هذا ما ال خيفى من تشجيع
__ 62
عىل املثابرة يف العمل .إذ تكون الصورة امللونة بمثابة جائزة ال يلبث التلميذ أن يطمع
يف نيلها منذ أن يأخذ ورقة االستحقاق األوىل.
أما الكبار فيدركون قيمة الثواب املعنوي ،ويتسابقون لنيله .وهذا الثواب متدرج
يناسب كل عمل ويناسب كل األطفال .فكلمة االستحسان التي يقوهلا املعلم بلهجة
خملصة كفيلة بأن تشعل محاس الطفل وتدفعه إىل املثابرة وبذل اجلهد .وكلمة الثناء
كافية لسد حاجة الطفل الذي بذل جمهودا حقيقيا .كأن أجاب عن سؤال عويص،
أو أنجز فروضه بشكل يرضاه املعلم ،أو قام بعمل إنساين يرضاه اخللق .ومن هنا
نشري إىل ميل املعلمني ملنع كلامت االستحسان بكثرة ،حتى ليصبح ذلك عادة فيهم،
فيقولون « حسن « بعد كل مجلة ينطق هبا أي تلميذ ،بل تطغى العادة عىل اللسان حتى
ينطق هبذه الكلمة ولو أخطأ التالميذ يف اإلجابة .والثواب إذا تكرر كثريا فقد قيمته.
ويف الطبع اإلنساين أن يميل إىل اقتناء كل يشء نادر .لذلك يقلل املعلم من الكلامت
الطيبة فال يبذهلا إىل يف مكاهنا .وذلك أضمن ألن حتتفظ بكل أثرها يف نفس الطفل.
ونشري إىل وجوب بذل الثواب لتشجيع السلوك األخالقي .ألن هم املعلم ليس
مقترصا عىل تربية العقول وحدها .وألن الطفل ال يستطيع أن حيس باللذة املعنوية إذا
قام بعمل أخالقي ،كأن ساعد رضيرا يف الطريق ،أو وىف باألمانة ومل يكذب .والثناء
من معلمه يعوضه عن هذه اللذة التي ليست يف متناوله ،بلذة يعرفها ويرجى إذا أن
حيب اخلري ويعتاده.
ومن وسائل الثواب للكبار ،إنشاء لوحة الرشف ،وتسجيل مالحظة حسنة يف دفرت
الواجبات الشهرية .والتالميذ حيبون جدا أن يروا اسمهم يف لوحة الرشف ،وحيبون
جدا أن يطلع آباؤهم عىل استحسان املعلم الذي يسجل يف دفرت الواجبات الشهرية.
ومن الثواب اجلوائز التي توزع يف آخر السنة الدراسية .هذه اجلوائز عبارة عن كتب
حسنة الطبع مذهبة أغلفتها ومزينة بالصور .وفيها حكايات يف مستوى التالميذ.
وهي مكافأة لعمل السنة كله .ويزيد من قيمتها أهنا توزع أمام آباء التالميذ وأمهاهتم،
وأمام رجال البلد أحيانا ،فيفخر الطفل إن نال منها ولو كتابا صغريا .ويعتز بجائزته
اعتزازا ،فيكب عليه يقرأه ويقرأه ال يمل .وهذا ما يدل عىل أنه يعلق عليه أمهية
كربى ،فال ينبغي إذا أن حيرم من هذه اجلائزة تلميذ يستحقها .ألن كل الكتب مهام
كانت مجيلة ومرتفعة الثمن ال تعوضها .وال ينبغي أيضا أن تكون موضوع مساومة
__ 63
أثناء السنة الدراسية؟ إلهنا إذ ذاك تكون كاألجرة التي يتواضع عليها شخصان ،ال
رمزا للتقدير الصادق.
- 1ويشرتط يف اجلائزة أن تكون عىل قدر العمل .فال أسجل عىل لوحة الرشف
اسم تلميذ يستحق االستحسان ،فالتلميذ الذي قام بمجهود أكرب من جمهود األول
ربام يعترب نفسه حمروما إن تساوى معه يف املكافأة .وإذ ذاك يعترب التلميذ الذي مل
يعمل شيئا أن من حقه عىل املعلم أن يكافئه ولو مكافأة صغرية .وربام يطمع كل
التالميذ يف أن يكتب اسمهم عىل لوحة الرشف ،وإذ ذاك يبطل امليز الذي يرمز إليه،
امليز بني الذي جيتهد والذي ال جيتهد.
- 2ويشرتط االقتصاد يف الثواب ،وخصوصا يف كلامت الثناء ،حتى ال يمتيلء
التلميذ غرورا ويظن نفسه أحسن مما هو يف احلقيقة .وحتى ال يتعاىل عىل رفاقه
ويفخر بحظوته .وهذا الشعور وحده كفيل بأن يدفعه إىل الكسل .وهذه عكس
النتيجة التي تريدها املدرسة ،وعكس النتيجة التي تنتظر من الثواب.
- 7العقاب يف املدرسة:
عندما تضطر املدرسة لتعاقب ،حتاول أن تعاقب عقابا إنسانيا نافعا .والعقاب
البدين فيه قسوة ال تناسب الشعور اإلنساين ،وال حتصل من ورائها أية فائدة .وكل
العقاب املمكن إذا هو العقاب الذي يعتمد عىل االنفعال العاطفي .وكام يؤثر
الثواب يف نفس الطفل فيسعى للعمل ويثابر عليه ،نظرا ملا يشعر به من رىض عند
نيله ،فكذلك يؤثر العقاب يف نفس الطفل ويزجره عن العمل القبيح ،نظرا ملا يشعر
به من حرمان .والعقاب املدريس يعرب عن نكران املعلم لعمل تلميذه ،وإعراضه عن
هذا العمل .ومن أجل ما ذكرنا من أن التلميذ يعرف سداد رأي معلمه ،ويتعطش
دائام لنيل موافقته ،فإن العقاب الذي يلحقه منه كالدعوة الرصحية للرجوع إىل
الصواب ،لكنها دعوة جادة حازمة .وكأن العقاب وعد رصيح باملكافأة التي تنتظر
التلميذ إذا أحسن ،لكنه وعد بعيد ،من دونه االنتصاح الصادق .وعندما يعاقب
الطفل العقاب الناجع ،يعقد يف نفسه العزم عىل أال يرجع إىل العمل الذي نال من
أجله العقاب.
__ 64
والعقاب وتطبيقه يقتيض من املعلم مثلام يقتضيه الثواب من حكمة وخربة إذ أنه ال
يكون ناجعا يصل الغاية التي أرشنا إليها إال إذا روعي فيه ما ييل:
املعاقب ساكنا حال إنزال العقوبة .ألنه ان كان غاضبا يوشك أن ِ - 1أن يكون
يتعدى القدر الالزم يف العقاب .ويتعرض ألن يظن به التلميذ السوء .فإن الطفل إن
رأى مربيه غضبان ،ظن أنه ينتقم منه ،وال خيفى ما يف هذا الشعور من تشجيع عىل
العداء ،وقضاء عىل املوقف الذي ينبغي أن يقفه التلميذ من أستاذه .وواجب املعلم أن
ال يغضب عندما يعاقب حتى ال يرتك جماال للشك يف نيته اإلصالحية .فإذا وقع أن آمله
عمل الطفل إيالما شديدا ،وخاف عىل نفسه الغضب إن عاقب ،كان خريا له أن خيرب
الطفل بأنه سريجئ العقاب وكان واجبا عليه إذ ذاك أن يعاقب كام أوعد وإال عرف
األطفال أن هتديداته كاذبة .وربام كان يف عمل الطفل ما يمس باملعلم ،وينال من
االحرتام الذي ينبغي أن حيرتمه التالميذ .فإذا كان ذلك ،فليحرص املعلم كل احلرص
عىل أال يكون عقابه انتقاما لنفسه جمردا .ليفهم الطفل أنه أخطأ الصواب ،وأنه ال
يعاقب ليقود نفسه ،ولكن لريىض األخالق والواجب .وجتنب الغضب يضمن أن
تكون العقوبة عىل قدر املخالفة.
- 2أن تكون املعاقبة من نوع اجلريمة ،فإذا أمهل الطفل واجبه ومل ينجزه ،كان
عقابه أن ينجزه ،وإذا مل حيفظ درسه ،فعاقبه أن حيفظه ،وهكذا يتعلم الطفل أن العقاب
نتيجة حتمية لعمله ،فيتحاشى ما عوقب عليه .ويرى سبنرس أن العقاب ال يؤثر شيئا
إال إذا كان من جنس العمل .والعقاب دواء فيجب أن يكون منصبا عىل العمل الذي
وقع فيه النقص بحيث يكمله .ويسمي سبنرس نظريته هذه بقانون اجلزاء الطبيعي،
ويرى ان أحسن العقاب يف الرتبية هو الذي حياكي عقاب الطبيعة ملن خيالف قوانينها:
الذي يتعب جسمه كثريا يمرض ،والذي ال ينظف جرحه يتعفن جرحه ويؤذيه.
- 3أن تكون العقوبات قليلة .وليس املقصود من العقاب غري تقويم الطفل،
وهناك وسيلة لتقويمه أجدى من العقاب .وهي منعه من الوقوع يف اخلطأ ،حتى
ال نضطر إىل عقابه .وأكثر خمالفات األطفال ناجتة عن أهنم عاطلون .واألطفال
__ 65
حيبون احلركة كام نعلم ،فمتى وجدوا من وقتهم جزءا ال يرصفونه يف العمل الدرايس،
حاولوا أن يرصفوه يف العبث .ويرى املعلم ذلك فيسخط ويعاقب ،وإنام الذنب ذنبه
ألنه مل يشغلهم فإذا احتاط املعلم ،ومل يرتك مغريا عىل املخالفة إال أبعده ،كان طبيعيا
أن تقل املخالفات ،ويقل العقاب .وإال تكررت العقوبات واعتادها األطفال .فال
تبقى هلا أية قيمة .ويف هذا من اخلطر عىل النظام ما فيه.
- 4أن تكون املعاقبة إنسانية .فليس جيدي الشتم والرضب .وربام نرض الطفل من
حيث نريد نفعه إذا أرهقناه بالعمل ،وطلبنا إليه القيام باملستحيل .فمن احلامقة مثال
أن نطلب إىل الطفل كتابة مجلة ما ألف مرة يف ليلة واحدة .هذا املسكني ،مدفوع إما
املخالفة ثانية ألنه ال يقدر عىل إنجاز ما طلب إليه ،أو إىل التدليس بحيث يطلب إىل
زمالئه أن يعينوه عىل الكتابة .وإذا بنا يف هذه احلالة نسيئ أخالق تالميذنا مجيعا.
ومن التالميذ املرهف احلس الذي تكفي لزجره النظرة الواحدة ،وليس من احلكمة
يف يشء أن نعاقب هذا الطفل بمثل ما نعاقب به آخر غليظ الطبع .ألن العقاب الذي
يتجاوز حده ،قد يدعو إىل الثورة أو جيرح اجلرح البليغ .وليعرف املعلم تالميذه،
وليدرس طباعهم ،كام يدرس الطبيب مرضاه حتى يعد لكل الدواء الذي يناسبه.
وإن هذا يقتيض أال يكون للمعلم رأي يف كل طفل يعترب فيه أعامله املاضية فقط.
ولكن لينظر إىل املستقبل ولريج إصالح كل أطفاله إذا أنزل العقاب .وهذا اإلصالح
قريب إن عرف أن يثري شعور الطفل باحلرمان ،ويعمل عىل أن يقارن الطفل املعاقب
بني حاله وحال زمالئه الذين يمرحون.
أنواع العقاب:
والعقوبات التي تعمل هبا املدرسة متنوعة كثرية ،فمنها العقاب النفيس ،ومنها
العقاب املادي .ويراعي يف كل من هذين ما روعي يف توزيع اجلوائز .فيناسب أن
يكون عقاب الصغار الذين ال يدركون ،عقابا ماديا ،ويكون عقاب الكبار نفسيا قبل
كل يشء.
والعقوبات املادية هي الكتابة واحلفظ يف حدود معقولة ،أو حجز التلميذ أثناء
االسرتاحة ،أو بعد الدرس ،مع حراسته طول الوقت ،وإخبار األرسة هبذا العقاب
إن تسبب يف تأخر الطفل عن ميعاد رجوعه إىل البيت .ومنها حرمان الطفل
__ 66
من املشاركة يف النشيد أو يف نشاط آخر ال يلحقه رضر إن مل يعمله مرة .وال تقبل
املدرسة العقاب املادي الذي فيه قسوة أو إهانة للتلميذ .كالرضب والشتم وتعريض
الطفل بأي وسيلة لتهكم زمالئه ،كأن يشار إليه وينعت نعتا قبيحا ،أو يوقف يف زاوية
من القسم.
والعقاب النفيس أوسع وأنسب .فالعتاب ثم التوبيخ يؤثران عىل الطفل تأثريا بليغا
إذا عرف املعلم كيف خيتار لكل طفل ما يناسبه .وسواء كان التوبيخ أمام كل التالميذ،
أو كان يف خلوة ،فإن وقعه يكون كبريا .وهناك اإلنذار أو التهديد ،إذا كان اإلنذار
والتهديد بلهجة هادئة ،وكان التلميذ يعرف صدق املعلم يف مقاله ،وأنه سوف ينزل
العقوبة التي هدد هبا ال حمالة إذا وقعت املخالفة.
وأقىص العقاب طرد التلميذ وقتا ما من املدرسة .وال يتخذ هذا العقاب يف شأن
التلميذ إال إذا أعيت يف إصالحه احليلة .وإذ ذاك جتتمع جلنة املعلمني يف املدرسة
بمشاركة مديرها ،وتتفق عىل طرد التلميذ بعد بحث خمالفته .ثم خترب أرسته بطرده
وبعدد األيام التي جيب أن حتجزه فيها عن املدرسة .وخترب اإلدارة املركزية هبذا الطرد
أيضا.
ومن األطفال شاذون أو مرىض ال يفيد فيهم كل عقاب املدرسة شيئا .فإذا رأى
املعلم أن بقاء واحد منهم يسبب اضطرابا يف النظام ،أو خاف أن يعدي سلوكه
األطفال اآلخرين ،لزمه أن يطلب طرده النهائي من املدرسة .ومن حق املدير يف هذه
احلالة أن جيمع جلنة املعلمني ويتفقوا عىل توقيف مثل هذا الطفل ،ريثام تبث يف شأنه
وزارة التهذيب الوطني.
- 8املنافسة:
هذا وإن ما حيصل عليه التالميذ من مكافآت ،وما ينزل هبم من عقاب ،حيدث
فيهم شعورا باألفضلية عميقا .فيحاول كل منهم أن حيصل عىل نقط تفوق نقط
صاحبه ،ويتزاحم لينال رىض معلمه واستحسانه أكثر مما يناله اآلخرون .ويبدأ
هذا الشعور باألفضلية عندما يفكر الطفل املحروم يف حرمانه ويقارن بني حالته
__ 67
وحالة الذين نالوا املكافأة أو مل يعاقبوا .ومن ثم يدفعه هذا الشعور إىل سبق اآلخرين،
ويزيده نشاطا إىل هذا السبق طمعه يف املكافأة ،فإذا بمجهوده يتضاعف وإذا هو ينظر
إىل الغاية التي رسمها لنفسه ،ويعمل لبلوغها جادا ال حييد ،كأن هذا الشعور وهذا
الطمع زادا من قوته.
وإذا تسابق التالميذ حيدوهم هذا الشعور فتلك هي املنافسة .واجلدال يف املنافسة
وصالحيتها يف املدرسة كثري ،فمن املربني من يعتربها وسيلة حتث عىل العمل ،وتدرب
عىل النظال ،وتعرف املرء بالغاية التي يستطيع أن يصل إليها .ويعتربها عمال يشحذ
اإلرادات ،ويزيد من قوة اإلنسان عىل العمل.
ومن املربني من يرى أن املنافسة تدعو إىل الفخر واإلعجاب بالنفس ،ألن الطفل
الذي يتسابق مع أقرانه إنام يريد أن يتفوق عليهم ليلفت إليه األنظار ،وينال إعجاب
الناس .وهؤالء املربون وإن كانوا يعرتفون بأن املنافسة تساعد عىل مواصلة العمل
والصرب عليه ،ال ينصحون باستعامهلا ملا جتره من تدهور أخالقي .إذ تنرش احلسد
والبغضاء بني األقران ،وختلق حب الفخر الذي ينتهي إىل الرتفع واالنعزال ،وال يشفع
للمنافسة عند هؤالء أهنا ربام تكون مطية للعمل ،ألهنم ينظرون إىل أن املدرسة جيب
أن تكون الطفل تكوينا اجتامعيا ،وعوض أن تعلمه املنافسة فضيلة التعاون التي البد
منها يف املجتمع ،تعلمه رذيلة األنانية والعجب .وقد انتقد ديوي املنافسة واعتربها
حمركا خارجيا يدفع الطفل إىل العمل .وليس هلذا أية قيمة تربوية ،ألن الطفل جيب أن
يعمل حبا يف العمل ،ال مدفوعا بدافع خارجي .ويعترب ديوي أن املنافسة ليس هلا قيمة
أخالقية ،بل هي منافية لألخالق.
وبعد فام نفعل باملنافسة؟ أننفيها من املدرسة خوفا من وبائها ،أم يمكن أن ننتفع هبا
بعد أن هنذهبا؟
يعتقد كثري من املربني أن املنافسة طاقة هائلة ،جيب أن نستخدمها بحيطة حتى ال
تنسف الكيان اخللقي الذي تسعى املدرسة لبنائه .واملنافسة مسابقة بني مجاعة من
األطفال ال تتكافأ قواهم ،فمنهم الذكي الذي برسعة حيفظ ،وبرسعة يفهم ،وبرسعة
يتفوق .ومنهم املتوسط والضعيف الذي ال تساعده وسائله عىل السبق .ويوشك املتفوق
أن حيمله تفوقه عىل الظن بأنه من طينة متفوقة ،فيفخر ويتكرب .ويوشك الضعيف
__ 68
واملتوسط أن يعتقدا يف نفسيهام النقص ،وحيسدا املتفوق .فيقول املربون إن واجب املعلم
أن يكون منبها دائام ،فال يلح يف الثناء حيث جيب أال يلح .وال يلوم الطفل إال إذا عرف
أن قصوره ناشئ عن كسله .وواجب املعلم أن يرجع املغرت عن غروره ويشعره حينام
ينقصه ليميل إىل التواضع .وواجبه أن يشجع الضعيف ،ويظهر له جوانبه الكاملة لئال
ييأس ويربد.
فإذا عرف املعلم كيف يستعمل املنافسة حصل عىل تقدم يف قسمه كبري ،وضمن
لدروسه النشاط املسمرت.
املنافسة الفردية:
ولروسو يف املنافسة رأي هو أهنا فاسدة .ال يستثني إال املنافسة الفردية .يعني املنافسة
التي تكون بني املرء ونفسه ،يريد أن يكون اليوم أحسن مما كان البارحة ،ويريد أن يعمل
غدا أحسن مما عمل اليوم .ويمكن للمعلم أن يستعمل املنافسة الفردية ،وخيلق هبا يف
نفس أطفاله الرغبة املخلصة يف أن يتقدموا .فإذا صحح املعلم فرضا لطفله ،ووضع له
نقطة تقديرية ،دعاه ليقارن بني نقطته اليوم ،ونقطته أمس ،وشجعه إن تقدم .ويكون
هذا يف جو مفعم بالتفاؤل دون أن يظهر من املعلم أنه يعلق أمهية كربى عىل هذه النقط،
ودون أن يظهر اشمئزازه إن مل يظهر فيها تقدم مستمر .فإن املعلم أو األب إن حتمس
كثريا لعمل ابنه واطراد تقدمه ربام خيلق يف الطفل خوفا من الفشل .وهذا اخلوف ال
يعني يف يشء .بل ربام يكون عائقا عن التقدم .ألنه حيدث اضطرابا تتالشى معه اجلهود.
وكلنا جرب هذا الشعور عندما أمسك يف يده آنية ثمينة أو حتفة نادرة خيشى عليها أن
تنكرس .وكذلك خيشى الطفل أال ينال الدرجة التي يرى أباه أو معلمه ينتظراهنا بدون
صرب .والصواب أن نرتك الطفل عندما نشعر أنه أخذ يتأمل نفسه ،وحيسب تقدمه .ففي
هذا التأمل ما يبلغ إىل النجاح.
الشعور بالواجب:
العقاب والثواب وما ينتج عنهام من منافسة وسائل حلمل الطفل عىل العمل .وجيب
أن نعتربها كام هي وسائل ال غايات .وأال نقف عندها إال لنعرف هل هي كفيلة بتبليغنا
إىل الغاية احلق ،وهي أن نستغني عنها مجيعا .وذلك ال يمكن إال إذا جعلنا يف الطفل
دافعا من نفسه .هذا الدافع هو الشعور بالواجب .ومتى شعر الطفل بالواجب مل يبق
موضوع لعقابه .وأصبحت املكافأة رمزا ملوافقتنا عىل عمله ،ال يدخل يف حسابه.
__ 69
الشعور بالرشف:
عندما يعمل التلميذ عمال ال يرضاه املعلم ،يوبخه املعلم قائال « :ليس هذا من
عمل األوالد املهذبني» أو ما يشبه هذه العبارة ،ويف قول املعلم هذا نيل من رشف هذا
التلميذ .وربام يدرك التلميذ ،إن كان كبريا ،أنه أخل برشط من رشوط الرشف الذي
يؤهله ليسمى «تلميذا مهذبا» وأن من واجبه أن حيافظ عىل صفة «تلميذ مهذب» .هذا
هو الشعور بالرشف.
ويرى لوك أن الشعور بالرشف واخلوف من الفضيحة يدفع إىل الفضيلة .ويعترب
أن هذا الشعور يدفع إىل املحافظة عىل السمعة .وليست السمعة إال تقدير الرأي العام
للفضائل التي نتحىل هبا .وهذا الشعور عنده «هو أحسن مرشد وأشد حافز نستطيع
أن نستعمله لنوصل األطفال إىل الفضيلة .وحتى يستطيعوا أن يدركوا بأنفسهم ما هو
حق».
ويعرتض بستالوزي عىل هذه الفكرة وينتقدها كام انتقد ديوي املنافسة ويعتقد
بستالوزي أن الشعور بالرشف ،ككل احلوافز اخلارجية ،ال يساعد عىل تنمية القوى
األخالقية وتطهريها.
ولعل يف رأي بستالوزي شيئا من املثالية ،هلذا فلن يمنعنا رأيه من أن نرجع إىل هذا
الشعور إذا كان الطفل يفهم قولنا .وكيف ال وهذا الشعور هو من أكرب العوامل عىل
حفظ النظام االجتامعي .وكلنا يعرف قوة الرأي العام ،وشدة متسك الناس باألوضاع
االجتامعية ،السيام التي تعود صفات للرشف .ونعود هنا لنلح عىل وجوب توفري
كرامة األطفال ،وجتنيبهم الفضيحة بني أقراهنم بكل وسيلة .ومهام كانت ذنوهبم.
ملا يرتتب عن ذلك من إهانة قد تودي بحياة الطفل وجتعله يف املستقبل ذا شخصية
خاملة .وقد يرتتب عن فضيحة الطفل أن يتحامل عليه أقرانه ،أو ينبزوه بلقب ال
يزال له يف نفسه أثر يسء .وإذا حدث أن أطلقوا عليه لقبا ،وكثريا ما يفعل األطفال
ذلك ،فواجب املعلم خصوصا إذا كان اللقب قبيحا أن يلقي درسا أخالقيا يقبح فيه
التنابز باأللقاب .ثم حيارب هذه األلقاب أبدا.
__ 70
اإلحياء:
حتدثنا فيام سبق عن السمعة ،وقوة األوضاع االجتامعية ،ومتسك الناس هبذه
األوضاع ،وقلنا إن اإلنسان حيافظ عىل سمعته لئال يمسها سوء .ويمكنه بالطبع أال
حيافظ عىل هذه السمعة إذا كان ال يعلق عىل سالمتها أمال؛ فالفرد يملك ترصفه.
وقد قلنا إن من املمكن أن نستعمل الشعور بالرشف حافزا للطفل عىل عمل اخلري،
فإذا كان الطفل ال يفهم معنى الرشف ،وهو ال يفهمه إال بعد أن يصل إىل درجة من
النضج ،فربام يبطل هذا احلافز الذي قصدنا استعامله .وهناك حافز حيمل الفرد عىل
القيام بعمل يف اجتاه ما دون أن يشعر .هذا العامل هو اإلحياء.
ويعترب علامء االجتامع أن املجموعات البرشية ال تتكثل وال تتحد يف ترصفاهتا إال
بوجود عامل مهم هو اإلحياء فام نراه من محاسة دينية يف املعابد واملساجد ،واحتفال
باملواسم واملباريات الرياضية ،وما نراه من متسك الناس بـ «املوضة» من عمل اإلحياء.
ويفرسون ذلك بأن الناس يقلد بعضهم بعضا ،وتكون احلركة واألصوات املتكررة،
مثاال يقر يف النفوس ،فإذا هي تعمل بدون شعور .أو تستويل احلركات واألصوات،
كحركة اخلطيب املقتنع وصوته ،أو كاملوسيقى ،عىل الناس ويصبحون حتت سلطاهنا؛
توجه انفعاالهتم من حيث ال يشعرون.
وقد عرف القدماء قوة االحياء وسلطانه عىل النفوس ،فكان الرهبان والكهان
يستعملون املوسيقى يف معابدهم .وال يزال اإلحياء عامال مهام يف تسخري اجليوش
باملوسيقى احلامسية واألناشيد أو بمجرد اخلطى الرتيبة التي ال خيرم نظامها .واستعمل
اإلحياء وال يزال يف توجيه اجلامعات وتسخريها ،ومن أمثلة استعامله الدعايات
التجارية املتكررة التي رسعان ما تصبح حقيقة بل أقوى من احلقيقة.
واألطفال رسيعا ما يستويل عليهم اجلو املوحي .ويقول علامء االجتامع بأن سبب
ذلك هو أن اإلحياء ورضوبه ،أوجه للتقليد ،وأن الطفل أشد الناس ميال إىل التقليد.
وما أحرى املدرسة إذا أن تستعمل هذا احلافز القوي وتستعني به عىل حتريض
التالميذ عىل العمل املدريس .والواقع أن اإلغريقيني عرفوا قيمة اإلحياء
__ 71
واستعملوه يف تربية أبنائهم .فكانت املوسيقى من أهم وسائلهم الرتبوية .وكانوا
يعنون عناية خاصة بالرقص وبالقصص الرائع .وهذه كلها ختلق اجلو الذي حيمس
ويقنع.
وتناول بعض املفكرين هذا املوضوع ،فلوك يويص بتعليم الرقص يف املدرسة
ألنه حيمل األطفال بعد ذلك عىل نوع من امليش أنيق .وأشار كويت إىل مثال العرض
احلسن ليكون نموذجا يقتدى به .ويقول بستالوزي بأن اجلو الديني يف البيت هو
الذي هييء الطفل العتناق الديانة عندما يكرب .أما آالن فيعلق أمهية كبرية عىل
موقف املعلم وحركاته ،ويعتربها عامال مهام يف أخذ الطفل والتأثري عليه ،كام يعترب
تأثري الشعر بموسيقاه وقافيته .إال أن آالن حيرتز من هذا التأثري ،ولعله يرى فيه ما
حيد حرية الفرد.
وعىل أي فإن اإلحياء قوة كبرية ،تغري املريب بأن يتخذه مطية لعمل اخلري .وال
نعتقد أن استعامل اإلحياء يف املدرسة حيد من حرية األطفال أو يضيق من أفقهم.
وإن املثال القوي الذي نعرضه عىل الطفل ليقتدي به كفيل بأن يرسم له الطريق
التي قد تبلغه إىل املجد.
وإن اإلحياء يوجد فعال يف مدارسنا ،فالدروس األخالقية تدور حول قصة فيها
مثال للفضيلة الرائعة ،وينتظر من الطفل أن يعترب هذا املثال .فإذا اعتربه وتأثر به،
وجد يف نفسه ميال إىل حب الفضيلة التي سمع عنها .ويف دروس التالوة قصص
أخالقي كثري .ويف دروس التاريخ أيضا جو يساعد عىل اإلحياء إذ هي تعتمد عىل
العاطفة الوطنية ،فترسد للطفل حياة أجداد يعتز هبم ألهنم أنقذوا الوطن .ونلمس
تأثري اإلحياء يف نفوس األطفال ،من خالل دروس التالوة والتاريخ ،ومن كل درس
وصل إىل عاطفتهم أو استقر بروعته يف خياهلم ،نلمس تأثري اإلحياء عندما نرى
األطفال يقلدون عمال إنسانيا قرأوا عنه ،أو يمثلون معركة تارخيية .ومن التقليد
يتكون السلوك النهائي للفرد ،إذا اعتربنا أن السلوك اإلنساين جمموعة عادات،
واعتربنا أن األعامل التي يقلدها الصغري يف محاسة رسعان ما تصبح عادة له.
وهلذا يعلق املربون أمال كبريا عىل املثال احلسن الذي يمكن أن يكونه
املعلم بالنسبة لتالميذه ،ويرجون أن يقتدي به التلميذ .ويبدأ التلميذ بتقليد
__ 72
فضائل معلمه ،يدفعه إىل ذلك تقدير معلمه الذي تزينه يف نظره هالة من العظمة.
وإذا كان املعلم يقدر الواجب وحيب العمل والنظام ،ويفي بالوعد ،وال خيلف
امليعاد ،وإذا كان نظيفا أمينا ،رست فضائله ال حمالة إىل أطفاله.
ومن أهم عوامل اإلحياء ،بل أهم ما يساعد عىل خلق اجلو املوحي يف املدرسة.
حركات املعلم وصوته .قال آالن « :إن الرجل جاثيا عىل ركبتيه ليس هو نفس
الرجل واقفا وإن اليد مبسوطة ليست هي اليد مقبوضة ،وليس احلديث اهلادئ
الرزين كاحلديث الصاخب وهلذا فكثريا ما تكون حركات املتحدث وصوته أبلغ
من منطقه» .وهلذا أيضا يويص املربون اآلخرون بأن يعنى املعلم بصوته وبحركات
يده .فيقتصد يف حركاته ويلزم فيها الوقار الذي يناسب مقامه ،ويغض من صوته.
وجيرب الناس يف كل يوم قوة الصوت اهلادئ .فإذا حتدثت إىل الناس بصوت هادئ
استمعوا إليك ،ثم محلهم هدوء صوتك عىل الغض من أصواهتم ،من حيث ال
يشعرون .وما ذلك إال من اإلحياء.
ومن املعلمني من يبالغ يف حركاته وإشارته .ولئن كان مستحسنا أن يمثل املعلم
يف بعض األحيان حركة ليفهم التالميذ معنى كلمة .ليثبت يف خياهلم مشهدا من
املشاهد ،فمن العيب وبام ينايف الوقار ،أن يصبح املعلم ممثال.
ومن املعلمني من يرفع صوته حتى ليسمع من بعيد .ويف قسم هذا املعلم تسمع
التالميذ يرفعون أصواهتم أيضا ،وال جيدي زجر املعلم شيئا وال أمره بخفض
األصوات .وما ذلك إال من عمل اإلحياء ،فمتى بدأ املعلم بالكالم بصوت مرتفع
أجاب التالميذ بصوت مرتفع.
وللموسيقى والغناء فعل إحيائي نعرف أثره يف احلفالت الدينية ،ورقصات
«الطوائف» وللموسيقى اللفظية سحر أيضا ،يمكن أن نالحظه عند تالميذ
املدرسة .حيب األطفال كثريا عندما يقرأون ،أن يقرأوا بنغمة خاصة مهدهدة
متقطعة ،وال يلبث املالحظ أن يرى عليهم حينذاك أثر التحمس واالندفاع ،وقد
تعلو هلجتهم يف بعض األحيان .ويكثر هذا عندما يقرأون القرآن الكريم أو قائمة
الرضب أو اجلمع .وهذه النغمة حتدث جوا من اإلحياء يزيد من صعوبة مقاومتنا
للقراءة املنغمة.
__ 73
مساوئ اإلحياء:
لكن ملاذا نحارب القراءة املنغمة؟ نحارهبا ألن الطفل عندما هتدأ هذه النغمة
يذهب معها وال يفكر ،بل وال يستطيع التفكري ،يف معنى النص الذي يقرأه.
أما بعد ،فإىل أي حد يمكن أن نستعمل اإلحياء ،وهل نخشى رضرا من استعامله
غري ما حيدثه أثناء القراءة املنغمة من سهو وعجز عن التفكري؟
قلنا إن لإلحياء قوة كبرية ،فمن املنطق أن نستعمل اإلحياء بحذر كبري كام نفعل كلام
استخدمنا يف مساحلنا سالحا خيشى بأسه .ولئن كانت احلوافز األخرى ،كالعقاب
والثواب ،خارجية تدفع الطفل للعمل وهو يعرف أنه يعمل ،فإن اإلحياء حافز
باطني يرصف الفرد وخيرجه عن حكم إرادته .ومتى ترصف الفرد بإرادة خارجية
خيف عليه من الضالل ،ونعرف أن جيوش هتلر كانت تترصف بإرادته ،ألنه ربى
جيوشه يف جو من اإلحياء آمنوا فيه إيامنا أعمى بعظمة قائدهم وبصحة املبادئ
التي كان يدعو إليها .وكان من وسائل تربيته السياسية جليشه اخلطب احلامسية،
واالحتفاالت الكبرية ،واالستعراضات .ثم إن اجلو املوحي ال يساعد عىل التفكري
املنطقي ،بل حيجب العقل حجبا ،فإذا الكلمة اخلرقاء حكمة عالية ،وإذا ما يقوله
اخلطيب حق ال مراء فيه .ولعلك وقفت أمام قصاص ماهر بليغ يذكر سرية عنرت
أو امللك سيف .ولعلك الحظت كيف ينصت إليه الناس ذاهلني .والحظت كيف
خيفضون رؤوسهم كلام رضب عنرتة بسيفه .خيفضون رؤوسهم ألهنم يعيشون
املعركة ،وألن العقل واملنطق يف نوم.
واملدرسة تريب النشء ليكون حرا ،وتريب العقول وتعود عىل التفكري املنطقي،
هلذا ال تستعمل اإلحياء إال يف حيطة كبرية ،وال تستعمل اإلحياء إال يف األغراض
األخالقية االجتامعية لتكون يف الطفل العاطفة التي تساعد عىل التعلق بالفضائل.
وحتتاط املدرسة من اإلحياء كلام خافت من أن خيدر اإلحياء عقل الطفل ،ألن املدرسة
تريب الرجل الذي يفكر يف أعامله ويقدرها حق قدرها ،ال كالذي نومه املغناطيس،
فهو يتحرك كاآللة.
__ 74
احلرية والنظام:
أرشنا يف حديثنا عن املدرسة ،إىل أن النظام ليس غايته مسك التالميذ وإخضاعهم
للقانون املدريس فقط ،بل إن النظام املدريس إطار يرتبى فيه املواطن ،وال تقوم املدرسة
بواجبها كله إذا مل تزود الطفل بعادات احرتام حقوق الغري ،وحب العمل وإذا مل تفهم
الطفل رضورة احرتام القوانني.
وإن ضغطت املدرسة عىل الطفل وأخضعته لنظامها ،خيف إذا أطلقته فوجد حريته
كاملة أن يسيئ استعامل هذه احلرية .لذلك حتاول املدرسة أن تعطي للطفل نصيبا
من حريته داخل املدرسة ،وتعوض عن حراستها املسؤولية التي تلقيها عىل التالميذ.
وهكذا يتعلم أن للحرية حدودا جيب أن يقف عندها .وهكذا يستعد للحياة احلرة.
احلكم الذايت:
وحكم األطفال ألنفسهم حدث مهم يف الرتبية ،وقد طبق هذا الرأي ،ويسمونه
«احلكم الذايت» يف مدارس انكلرتا يف أوائل هذا القرن .وشاع تطبيقه يف املدارس
احلديثة فيام بعد ذلك.
وكان أول من رأى رضورة إعطاء احلرية لألطفال املفكر الرويس تولستوي.
وأخذت برأيه وهذبته املربية السويدية ألن كب .ويرى هذان املربيان أن اخلري كله يف
أن نرتك الطفل حرا كل احلرية.
ثم تطور هذا الرأي بعد أن دلت التجربة عىل أن الطفل ال يفلح إذا أعطيناه حريته
كاملة ،ونقص من حرية الطفل وأعطيت بمقدار .واملدارس اليوم تتفاوت يف النصيب
الذي تعطيه من احلرية لألطفال.
فهناك املدرسة التي تعتمد عىل سلطة املدرسة كمدارسنا .وهذه حتاول أن
ترشك الطفل يف املحافظة عىل النظام واستعامل حريته استعامال صاحلا بام هتيئه
له من أنواع النشاط داخل املدرسة أو خارجها .وتؤلف املدرسة هلذه الغاية
مجعيات األطفال التعاونية التي تقوم باملحافظة عىل نظام القسم .وتنظيم احلفالت
الرياضية والقيام عىل اخلزانة املدرسية إىل غري هذا مما يقدر عليه األطفال .ويف
حضن هذه اجلمعيات يتعلم األطفال كثريا من الفضائل كالتعاون واحرتام الغري.
ويتعلمون حتمل املسؤولية إذا كلفوا بعمل من األعامل وهم ينتخبون بأنفسهم
__ 75
أو بمساعدة املعلم ،األعضاء املكلفني بكل ناحية من نواحي النشاط الذي يامرسونه،
وهكذا يتعلمون طريقة االنتخاب ،ويتعلمون القيم اإلنسانية التي ختول النجاح.
وهناك مدارس أخرى تعطي للطفل نصيبا كبريا من احلرية حتى ليصبح له الرأي
األول يف كل الشؤون املدرسية .بل منها ما يبطل سلطة املعلم وقدرته عىل املعاقبة،
وتكل حماكمة الطفل ملحكمة األطفال.
ويظهر أن اجلو املدريس ،ال يساعد عىل إعطاء األطفال نصيبا كبريا من احلرية ،ألن
أعامل املدرسة كثرية ومتنوعة ،وألن مسؤولياهتا شديدة ال يقوى عىل محلها األطفال.
لذلك فليست ناجعة كل املدارس التي تطبق «احلكم الذايت».
أما خارج املدرسة فإن األطفال قادرون عىل استعامل حرياهتم استعامال حسنا
متى كانت تربيتهم األخالقية واالجتامعية تدعو إىل االستقامة .وأبرز نشاط يظهر
فيه «احلكم الذايت» هو نشاط الكشافة .واحلقيقة أن الكشفية مدينة بنجاحها لقوة
سيكولوجية عظيمة .وقد رأى مؤسسها اإلنكليزي «بادن باول» أن من أكثر غرائز
الطفل بروزا هي غريزة اللعب .وبنى حركته عىل أساس استقالل هذه الغريزة.
وغرض هذه احلركة تربية الطفل تربية خلقية ،وتنمية قواه الشخصية .وتصل إىل
هذا الغرض عن طريق النشاط املختلف الذي هتيئه لألطفال ،والذي يرىض رغبته يف
احلرية والعيش يف اهلواء الطلق ،وحبه للمغامرات مع رفاقه.
وشبيه بالكشفية ،خميامت الصيف .وأعامل هذه املخيامت يمكن لألطفال أن حيكموا
أثناءها أنفسهم .ألن هذه األعامل ال تعدو أنواع الرياضة .وكفيل جدا ألطفال اللعب،
وانرصافهم إليه ،أن يساعد عىل حفظ النظام بينهم.
الفصل الثالث
الطفل
الرتبية وعلم النفس:
من املسلم أن الرتبية عامد ملستقبل األمة ،وأن العمل الرتبوي من أهم وظائف
املجتمع .والرتبية تتناول ،قبل كل يشء ،األطفال .فمن الرضوري أن يعرف املريب
نفسية الطفل وانفعاالته يف حاالته املختلفة ،ليكون عمله الرتبوي جمديا .وإن الرتبية
ليست علام مضبوطا يطبق قواعده املريب .بل هو فن يتطلب من هذا املريب مرانة وذكاء
يمكنانه ،مع معرفة نفسية الطفل ،من تدبري تربيته ،وهتييئها لتناسب كل طفل حسب
نفسيته ،ولتناسب األطفال يف سنهم املختلفة.
ويبدأ تطبيق علم النفس يف الرتبية من طرق التعليم .وختتلف هذه الطرق حسب
سني األطفال وقدرهتم عىل الفهم والتفكري .كام ختتلف حسب تطبيقها عىل البنني أو
عىل البنات .وعلم النفس يكيف أيضا معاملة املريب لتالميذه أو تلميذاته إذ يقتيض أن
يراعي يف هذه املعاملة طبع الطفل.
وغاية تطبيق علم النفس يف الرتبية هي التوفيق بني رغبات كل طفل وبني رغبة
املريب ،وبدأ هذا التطبيق بشكل منظم عندما فطن املربون إىل أن الطفل ال هيتم بام هيتم
به الكبري ،وأنه ال يقدر أن هيتم بموضوع ما وقتا طويال .وال هيمنا هنا أن نبحث يف
االهتامم ،فسيأيت ذلك يف فصل آخر من هذا الكتاب.
كانت طرق التعليم فيام مىض من وضع رجال يقصدون إىل بلوغ غايتهم التعليمية
أقرص طريق .فكانت هذه الطرق جافة ألهنم مل هيتموا فيها إال باملادة .ومنذ القرن
السادس عرش قام املربون من أمثال مونتني وكومينوس ،ينادون بتحرير الطفل من
ضغط املعلم ،واعتبار قوته العقلية التي ال متكنه من حتمل عنت املدرسة .ونادى
روسو بإطالق رساح الطفل واالعتامد يف تربيته عىل الظواهر الطبيعية ،كام نادى
بتحوير طرق التعليم لتناسب الطفل .وكان هربرت ،فدعا إىل تطبيق علم النفس يف
الرتبية .وهو أول املربني الذين بحثوا نظرية االهتامم.
ومن بعد هربرت بدأت طرق التعليم والرتبية تتحور كلام تقدم علم النفس .وعىل
ضوء علم النفس بنيت أهم اآلراء احلديثة يف الرتبية.
واملعلم يف حاجة إىل معرفة سلوك األطفال .وغرضنا يف هذا الفصل أن نعرض
عليه نامذج من هذا السلوك ،ليكون عىل بينة كلام صادف مثلها ،وأن نبحث يف أهم
انفعاالت الطفل يف حاالته املختلفة.
__ 79
الطفل واألرسة:
إن أهم العالقات التي تربط الطفل بأعضاء أرسته هي والشك عالقته بأمه ،فهو يف
حاجة إىل عنايتها املتواصلة ،وهو يف حاجة كبرية إىل عطفها وحناهنا أيضا.
وحيدث يف بعض األحيان أن يربى الطفل بعيدا عن أمه ،أو حيدث أال تقوم األم
إال بنصيب قليل من تربيته .وذلك فيام إذا كانت األم تشتغل خارج البيت ،أو ماتت.
ويالحظ عىل الطفل هذه احلالة ،وخصوصا إذا مل يقم مقامها شخص يعطف عليه
عطف األم ،أو نشأ يف اليتم .يالحظ توقف وبطء شديد يف نمو جسمه كام يالحظ
اضطراب يف انفعاالته العاطفية .بل يكون لفقدان حنان األم أثر كبري عىل نمو قوى
الطفل العقلية أيضا ومن هنا تظهر رضورة تعويض هذا احلنان لنمو الطفل وتكامل
شخصيته إذا فقدت األم.
والطفل ال يتمسك بأبيه إال يف سن الثالثة من عمره .ففي هذه السنة يمنح الطفل
ألبيه قليال من عطفه .وقد يتفاوت هذا النصيب من املحبة حسب جنس الطفل.
فالبنات قد يتعلقن بآبائهن أكثر مما يتعلق األوالد .وهذا العطف األبوي رضوري
أيضا ،ألنه خيفف من تعلق الطفل بأمه ،ويكون عامال يدخل التوازن يف عاطفة
الطفل ،بل ويوجه سلوكه توجيها غري قليل .ويكفي أن نالحظ سلوك الطفل اليتيم
األب لنعرف أمهية هذا العامل .فالطفل اليتيم األب يكون متعلقا أشد التعلق بأمه،
ال يرشكها يف قلبه مع أحد .ولذلك يتخذها مثاال ويقلدها .وربام نشأ جبانا كأمه ،أو
مستوحشا ال خيالط الناس.
ووجود اإلخوة واألخوات يف األرسة يساعد عىل توسيع األفق الذي تربز
فيه شخصية الطفل .إال أن ذلك قد حيدث صعوبات كثرية يظهر أثرها يف سلوك
كل من اإلخوة أو األخوات .واالبن البكر كثريا ما يشعر بحسد كبري نحو أخيه
الصغري .ألن هذا األخ يشاركه يف حنان أمه بل ويستأثر به أحيانا .وبوسع األم
أن حتتاط لئال يتحاسد اإلخوة ،وذلك بأن تعالج االبن الصغري يف وقت يغيب
فيه اآلخر عن البيت أو ينام .وقد حيدث أحيانا أن يفضل األبوان أو أحدمها
أحد األبناء .وبذلك يشعر اإلخوة اآلخرون باحلرمان .وحيملهم هذا الشعور
عىل الكيد ألخيهم ،أو عىل الكبت واإلخفاء .ويعزو املحللون النفسانيون
__ 80
الشعور عىل الكيد ألخيهم ،أو عىل الكبت واإلخفاء .ويعزو املحللون النفسانيون
كثريا من الشذوذ الذي يالحظ عند األحداث إىل هذا الشعور.
وإذا كان الطفل وحيد أبويه أو كان املفضل عندمها ،فإن عنايتهام البالغة به
جتعله طفال خمنثا ،يعترب أن من حقه عىل أبويه أن يضحيا بكل يشء يف سبيله.
ويبقى معه هذا الشعور حتى بعد أن خيرج من حضن أرسته إىل املدرسة .ففي
املدرسة يغتصب أمتعة أقرانه ،وال يقبل عىل العمل بسهولة ،ويبكي كلام وجهت
إليه أدنى مالحظة،
وختتلف األرس يف سياستها ألبنائها ،فهناك األرسة التي ترتاخى يف تربية أبنائها
وال تتخذ خطة هلذه الرتبية .ويف مثل هذه األرسة جيد الطفل جماال للسري مع
هواه .وكثريا ما حيدث تناقض بني أوامر األم وأوامر األب .فيشتد ميل الطفل إىل
التحرر من كليهام ،ويالحظ عليه فيام بعد ذلك حب للفوىض وعبث بالقوانني.
وهناك أرس أخرى تشتد فيها األرسة عىل الطفل ،وحتد من حريته كثريا ،وحترسه
حراسة دقيقة .وسواء كانت هذه الشدة من عدم خربة اآلباء بطرق الرتبية الرشيدة،
أو دفعهم إليها حبهم الشديد ألبنائهم وخوفهم أن ينشأوا غري راشدين ،فإن جو
الدراسة واملراقبة يدفع الطفل إىل حتدي أرسته ،والعبث بسلطتها .وربام أحب
التسلط وانتقم ممن هو أضعف منه .وربام ثار عىل القوانني املدرسية عندما يلتحق
باملدرسة .وربام تعلم يف حضن أرسته التخفي واالختالس.
وإنام جيب عىل األرسة أن تتخذ سياسة حكيمة يف تنئشة أبنائها ،فتهيئ لكل
منهم كل ما حيتاجون إليه ،وتريض كل رغباهتم احليوية املرشوعة .وجيب عىل
األرسة أن تنشء األطفال يف جو يشعرون فيه بعطفها ومحايتها .ويشعرون
فيه بانتامئهم إىل األرسة .وإن من العوامل التي تساعد عىل نمو شخصية
األطفال شعورهم باحلرية يف وسط أرسهتم .لذلك فال ينبغي أن تكون
محاية األرسة وعطفها بحيث حتيط الطفل إحاطة ضيقة تفصله عن الواقع،
ومتنعه من استعامل وسائله اخلاصة لالتصال بالناس واألشياء ،ومحاية نفسه
كلام قدر عىل ذلك .وينبغي أن تتغري نظرة األرسة إىل الطفل ومعاملتها إياه
__ 81
حسب سنه .ألن الطفل كلام كرب ،يتغري جسمه وتتغري نظرته للواقع .ونوشك أن
نخفق ،بل نقع يف وسط اإلخفاق إذا عاملنا املراهق كام نعامل الطفل الصغري.
ومما ينبغي أن تتجنبه األرسة يف تربية األطفال ،اللوم الشديد املتواصل.
ويميل أفراد األرسة يف بعض احلاالت إىل لوم األطفال والعتاب عليهم يف كل
املناسبات ،ومهام كانت جريرهتم صغرية .وقد تكثر أشغال البيت عىل األم،
وترهقها األعامل املتواصلة ،فإذا عاقها الطفل يف حركاهتا ،نزلت عليه باللوم،
وربام جتور عىل الطفل وتنبه بالكالم املؤثر .واإلكثار من لوم األطفال يولد فيهم
اخلجل وقلة االعتداد بالنفس .ويولد فيهم الشعور باخلطأ وإن مل خيطئوا .وقد
يطاردهم هذا الشعور املكبوت طيلة حياهتم .ويالحظ أن الطفل ،حتت عامل
اإلحياء ،كثريا ما يتصف بالصفات التي نتهمه هبا .فإذا متادينا عىل وصفه بالكذب
اتصف بالكذب ،وإذا نعتناه بالبالدة تغابى وأظهر البالدة.
كام ال حيسن أن يظهر األبوان رغبتهام الشديدة يف أن يأيت ابنهام عمال ما ،أو
يظهر القلق إذا مل يترصف كام حيبون ،ألن الطفل الذي يشعر هبذه الرغبة التي
ال جتد الصرب يستعظم األمر الذي حيمل عليه فيتولد فيه اخلجل ،أو يعترب هذه
الرغبة نيال من حريته فيتعصب ويصمد هلا ،وعىل كل فمثل هذا اجلو ال يساعد
عىل حتسني سلوك الطفل.
وقد يفرتق األبوان ويبقى بينهام الطفل يرتدد .والطفل الذي طلقت أمه يعيش
دائام يف قلق وشعور بعدم االستقرار .السيام إذا تزوجت أمه مرة ثانية .وتدعو
الرضورة لعيش هذا الطفل أياما يف بيت أبيه وأياما يف بيت أمه .وجيد يف كال
البيتني عادات خمالفة للتي ألفها ،ويزيد من اضطرابه وحريته وما يسمعه يف
كل بيت .فإن كال من األبوين ال يكف دائام لسانه عن قرينه القديم .وهكذا
ينشأ الطفل املوزع بني أمه وأبيه حائرا وال يعتد بنفسه وال يدرك القيم احلقيقة
لألشياء .وقد يكون هذا الطفل قبل افرتاق أبويه ذكيا متفوقا عىل أقرانه ،ومتى
افرتقا أبواه الحظنا عليه نكوصا وتأخرا.
__ 82
ومثل هذا الطفل ذاك الذي ينشأ يف أرسة يكثر فيها اخلالف واملشاجرة بني أبويه.
وهذا إما أن ينشأ منكمشا عىل نفسه غري مستقر ،وإما أن ينشأ سليطا عنيفا.
وقد يكون الطفل اليتيم أحسن حاال من هذين ،إال أنه عرضة للضياع إذا
تزوج أبوه أو أمه .ويكون األب اجلديد أو األم اجلديدة يف الغالب خلوا من كل
عاطفة نحو الصبي بل يقسوان عليه وهيمالنه إذا ولد يف األرسة أبناء جدد .وهذا
الطفل ينشأ متشائام خائفا ،أو عىل العكس ينشأ حقودا رشيرا .وقد يكون خطرا
عىل املجتمع إذا مل يرب الرتبية الالزمة.
الطفل واملعلم:
إن عالقة الطفل باملريب شبيهة بعالقته بأبيه وأمه من بعض الوجوه .واملريب
يمثل سلطة األرسة ،ويعمل برضاها .ولتشابه عمل األرسة وعمل املريب من
حيث تسلطهام عىل الطفل وتوجيهه ،يظهر يف ترصف املريب ما يشبه ترصف
األرسة؟ فاملريب أو املربية يعامالن تالميذمها كام يعامالن أبناءمها إن كان هلام
أبناء ،ويميالن إىل مقارنة أبنائهام بالتالميذ .فإذا مل يكن هلام ولد عامال التالميذ
كام لو كانوا أبناءمها.
أما موقف األطفال من املريب ،فإنه خيتلف باختالف سنهم ،فاألطفال
الصغار الذين يف رياض األطفال قد يعتربون املربية أما ويثقون هبا كام يثقون
بأمهاهتم ،بل ويتنظرون منها مثل ما ينتظرون منهن .واألطفال الكبار املدركون
يتعلقون باملريب تعلقا خملصا ،ويعتربونه أبا وقد يتعلقون به ويشغفون بمزاياه
حتى ليتخذونه مثاال ملا ينبغي أن يكونوه .وقد يثق هؤالء باملريب أكثر مما يثقون
بآبائهم ،ويصدقونه أكثر مما يصدقوهنم .والسبب يف هذه الثقة الكبرية أن األطفال
ال يعتربون املعلم رئيسا جيب أن يطاع أمره كام يطاع أمر األب ،لكنهم يعتربون
علمه .وهبذا االعتبار يتصورون له جمدا ال يعرتفون بمثله آلبائهم ،حتى ولو كان
آباؤهم أعلم من املريب يف الواقع .الحظ الطفل وأنت جتادله ،إن أول حجة وآخر
حجة يديل هبا هي «قاهلا املعلم».
__ 83
هذا وإن العالقة بني املريب والتلميذ مبنية عىل الطاعة .وهذه الطاعة إما أن يكون
أساسها االحرتام واملحبة ،وهذه هي التي تضمن العمل املنتج ،وإما أن يكون أساسها
الضغط واخلوف ،هذه طاعة سطحية ،هي أشبه بحيلة يتجنب هبا الطفل العقوبة.
والطفل ال يلقي بزمامه إال للمريب الذي عرف كيف يريض رغباته وكيف يفرض
شخصيته بخصاله السامية.
وعىل الطاعة ونوعها يتوقف تقدم التالميذ يف الدراسة .فإذا كان التالميذ يطيعون
مقتنعني بالسلطة املعنوية خاضعني هلا ،كان اإلنتاج حسنا حتى ولو كانت ثقافة املعلم
أو طرق تعليمه ناقصة .وإذا كانت الطاعة خداعا من األطفال للقوة القاهرة أو حيلة
للحصول عىل املكافآت .مل يفد علم املعلم شيئا وال طرقه يف سبيل حتسني اإلنتاج
املدريس.
وخيتلف موقف املعلم من تالميذه باعتبارهم مجاعة ،أو باعتبار كل تلميذ عىل حدة،
فهناك املعلم الذي يعتمد عىل سلطته ،فيأمر وال يطيق أن تعىص أوامره ،ويعزم العزمات
برسعة ،وال خيشى أن يقع يف الغلط للمحافظة عىل مظهر احلزم .وهذا النوع من املعلمني
قد ينجحون يف االستيالء عىل أطفاهلم جزءا من الزمن ،وينجحون يف إيقاظ محاسة
األطفال بام يبدو عليهم من حزم .لكنهم إن كانوا متسلطني تسلطا شديدا فرسعان ما
خيبو نشاط التالميذ ويركنون إىل اجلمود ،أو يدفعهم تسلط املعلم إىل الثورة عليه.
وهناك املعلم اهلني الذي حياول أن يصل إىل غاياته باحلسنى ،ومثل هذا ال خيضع
له التالميذ وال يقيمون له وزنا ،عىل أن بعض املعلمني من هذا النوع قد ينجحون إذا
توصلوا إىل إيقاظ ضمري التالميذ وأوصلوهم إىل إدراك مسؤولياهتم .وال يقع هذا إال
إذا يرس املعلم لتالميذه طرق العمل ومل يرتك هلم وقتا للتفكري يف العبث .وال يقع هذا
إال إذا عرف التالميذ كيف يستعملون حرياهتم وكيف يرصفون جهودهم يف التعاون
واالطالع.
وهناك املعلم الذي حياول أن يأخذ تالميذه عن طريق العاطفة وحياول أن يعاملهم
عىل أساس الصداقة والزمالة .وهذا جدير باإلخفاق التام الذي خيرج به من جتربته.
وهناك املعلم الذي ال ينفك حيض التالميذ ويذكرهم بالواجب .ويكون هذا يف
الغالب معلام ناقصا مغلوبا عىل أمره.
__ 84
وهناك املعلم القصري النظر يف شؤون الرتبية ،الذي يعتمد يف كل أعامله وأعامل
التالميذ عىل اجلزاء .فال يزال يعاقب ويثيب ،وال يزال هيدد ويغري بكل أنواع التهديد
واإلغراء .وهذا ال حيصل إال عىل جمهودات سطحية مبنية كلها عىل حتصيل املنفعة.
وإن عالقة املعلم بتالميذه تتغري حسب التكوين املهني الذي حصل عليه املعلم.
وتتحدد هذه العالقات حسب فهم املعلم ملكانه يف املدرسة وفهمه للظروف التي
تساعده عىل إنجاز عمله الرتبوي والتعليمي.
لكن للعامل الشخيص املكان األول يف حتديد العالقة بني املريب وتالميذه.
وشخصيته هو ال شخصية التالميذ .فبالتجربة اليومية يتعلم املعلم السلوك الذي
يناسب وخيتاره .وكلام وقفت أمامه عقبة يف اتصاله بالتالميذ جرب احللول املمكنة
والحظ نتائجها ،ثم وقف عند أصلحها .وهكذا يكون طريقته اخلاصة الشخصية.
وقد يكون طبع املعلم ال يساعد عىل حفظ العالقة الصاحلة بينه وبني التالميذ ،كأن
يكون حادا رسيع الغضب .أو تكون له عادات عقلية أو خلقية أو حركية تعرقل تقدم
التالميذ كعادة اإلرساع يف الكالم والتفكري مثال .وبالتجربة يالحظ املعلم عيبه وحيد
منه .وإذا كان حمبا ملهنته حريصا عىل نفع تالميذه ،فربام ضحى بجهود كبرية يف سبيل
ذلك.
وبالتجربة يتعلم املعلم كيف يغطي عىل نقص يف جسده بالصفات األخرى .وهبا
يكتسب الصفات التي تعطيه سلطة معنوية كبرية ال غنى عنه لكسب احرتام التالميذ.
السيام إذا كان التالميذ كبارا .ومن الصعب أن جيد املعلم قليل التجربة طريقة مع
الكبار يفرض هبا سلطته كاملة دون أن يعترب التالميذ خضوعهم هلذه السلطة مسا
لكرامتهم واعتزازهم بأنفسهم .وليس هذا مع صعوبته باليشء املستحيل ،فرب قسم
فيه طائفة من املراهقني املتصلبني ،سيتحولون إىل صغار مطيعني أمام معلم قصري
نحيف ،ويأمترون بأمره.
ويتعرض املعلمون الشبان إىل مشاكل ال حتدث للمعلم الناضج .فالتالميذ يعتربون
املعلم الشاب قرينا ينبغي أال خيضعوا له ،سيام إذا كان هذاالشاب يبدو صغري السن.
وقلام ينجح هذا الشاب مع أطفال كبار ولو كان رزينا ،ولو كان علمه واسعا .عىل
أن صغر سنه وما يتبعه من مرانة يف التفكري والترصف تساعده عىل فهم األطفال
وبواعثهم اخلفية وتساعده عىل بذل جمهودات متعبة يف سبيلهم.
__ 85
من بني املعلمني الشبان من يفتقر إىل سعة النظرة ،ويفتقر إىل رحابة الصدر .وافتقاره
هذا يبدو يف ترصفه أول عهده بالتالميذ .وال يسد هذا االفتقار إال بالتجربة الطويلة
التي حيدث خالهلا النضج العاطفي واألخالقي.
الطفل ورفاقه يف املدرسة:
إن عالقة األطفال يف املدرسة ،تعني املعلم كام تعنيه عالقته هو هبم.
والطفل عندما جييء إىل املدرسة إما أن يكون من أرسة فيها أطفال أو كان يتصل
بأطفال اجلريان والزائرين ،وإما أن تكون املدرسة أول مكان يلتقي فيه أطفاال من سنه.
ويكون الطفل األول ألوفا رسيعا ما يتقرب إىل رفقائه ورسعان ما يتحبب إليهم ،بينام
يبقى الطفل الثاين منكمشا خجوال عدة أيام ،ال يكلم أحدا من رفقائه .وربام يطول
الزمن قبل أن جيد هذا الطفل أساسا يبني عليه معاملته لألطفال الذين معه يف القسم.
واألطفال قريبون إىل بعضهم إذا كانوا يف سن متقاربة ،يتكيفون برسعة حسب اجلو
الذي جيدونه ،كام يكيفون ترصفهم حسب الرفاق الذين يعاملوهنم كيفام كان هؤالء
الرفاق وكيفام كان طبعهم .ونالحظ أنه ال جتد كلفة بني التالميذ متاما ،فرسعان ما
يتحدث الطفل إىل جاره ويشاركه أفراحه وألعابه.
ويسهل من نشوء الزمالة بني األطفال أهنم بريئون ال ينظرون إىل الناس كام ننظر
نحن إليهم .فهم ال يعرفون ميزا بني الغني والفقري وال بني الوضيع والرفيع .أو عىل
األقل ال يدركون شيئا من هذا امليز إال بعد أن تتقدم هبم السن كثريا .وتبقى الزمالة
بني املراهقني حتى إن كانت أرسهم متفاوتة يف امليزان االجتامعي.
لكن هناك قيام أخرى يؤمن هبا األطفال ،وحتدث ميزا قيام بينهم من نوع خاص.
فمن القسم الصغري يظهر عىل بعض األطفال تفوق عىل أقراهنم وتسلط .وال يلبث
هذا التفوق أن يصبح زعامة خيضعون هلا .وذلك إذا بلغوا العارشة ونحوها .ففي
هذه السن عند األطفال ظاهرة اجتامعية هي حب التكتل والعمل اجلامعي .ويؤلفون
مجعيات هلا رئيسها املعروف الذي يقود األلعاب ويسمع لرأيه .لكن الغريب هو
أن هذه القيم التي ختول الزعامة عند األطفال جمهولة لدينا ،إذ ال خيوهلا التفوق يف
الدراسة فكثريا ما يكون الزعيم آخر التالميذ يف قسمه .وكل ما نستطيع أن نالحظه
هو أن الزعيم يكون غالبا قوي اجلسم وافر النشاط.
__ 86
واملدرسة تستغل هذه الظاهرة االجتامعية عند األطفال وتنظم النشاط الطبيعي
بحيث ينرصف إىل األعامل البنائية.
وأثناء الدراسة حتدث بني األطفال ظاهرة أخرى ،هي ظاهرة التسابق واملنافسة.
ويشجع هذا االجتاه إىل حد كبري معاملة املريب لألطفال ،ولكلامته ومقارنته بني أطفاله
أثر كبري يف بعث املنافسة بينهم .وقد تبلغ هذه املنافسة إىل حد البغضاء واحلسد كام
أرشنا إىل ذلك يف فصل آخر.
واألطفال قادرون عىل التضامن والتكتل .خصوصا يف املرحلة التي أرشنا إليها
آنفا ويف مرحلة املراهقة ،يبدو هذا التضامن فيام بينهم حتى إذا كانوا صغارا .وربام
أتى أحد منهم جريرة يف غياب املعلم ،فإذا سئل التالميذ عن ذلك كتموا والتفت
بعضهم إىل بعض والواجب يف مثل هذه احلالة أن نشجع فيهم روح اجلامعة ونكف
عن السؤال والواجب أال نغري بعضهم بفضح املخالف ،فإننا بذلك نعلمه اخلذالن
والغدر ،ونعرضه الحتقار أصدقائه وعدائهم.
ويف بعض األحيان يضطر املعلم إىل االستعانة ببعض التالميذ يف تعليم تالميذ
آخرين .ويسمى تعليم األطفال لبعضهم التعليم املتبادل .انظره يف فصل آخر من هذا
الكتاب .ويف هذه املرحلة تتبدل عالقة التلميذ املعلم باألطفال اآلخرين .وفيها جيرب
هذا التلميذ املسؤولية ويتصنع اجلد مقلدا صفات معلمه .وكثريا ما يعمل هذا التلميذ
حتت مراقبة املعلم املبارشة ،فلذلك ال حيدث له من املشاكل ماحيدث للمعلم املبتدئ،
إذ أن التالميذ إنام يعملون يف احلقيقة حتت سلطة املعلم.
وقد جيتمع يف قسم واحد ،كام حيدث يف البادية ،بنون وبنات ،ويفيد هذا االجتامع
كثريا يف تربية طبع األطفال .فيزداد طبع البنات متانة ،ويتهذب سلوك البنني ويكون
خاليا من كل عنف.
واحلاصل أن العالقات بني األطفال يف املدرسة الواحدة متنوعة ومعقدة بحسب
صفات كل األفراد واستعداداهتم ،لكن هذا ال يمنع األطفال من االندماج والتقرب
إىل بعضهم .وإن هلذا االندماج عمل خفي عىل األطفال ،فالطفل إذا اعتربته بمفرده،
ليس هو نفس الطفل إذا كان مع أقرانه .فإنه مع أقرانه منطلق رصيح يف أعامله وأقواله،
فإذا انفرد مع الكبار تصنع هلم سلوكا ال يظهر فيه بمظهره احلقيقي.
__ 87
عقلية الطفل:
انتباه الطفل :إن الرجل الكبري يملك نفسه ،فيستطيع أن يضع خطة ثم يطبقها،
ويستطيع أن يثابر عىل عمله إذا بدأه .أما الطفل فهو عاجز متاما عن املواظبة ومتابعة
العمل إذا مل يكن هناك دافع خارجي حيمله عىل ذلك.
وسبب عجز الطفل عن املواظبة هو لني إرادته ،وكثرة الدواعي التي تتجاذب هذه
اإلرادة ،وربام كان فضول الطفل الكبري أهم أسباب هذا العجز .ولنالحظ طفال
يقوم بعمل ما يف جد ظاهر .لنالحظه عندما يعرض له عارض جديد .فمهام كان
هذا العارض تافها فإن التلميذ ال يمسك نفسه أن ينرصف عن عمله األول لرييض
فضوله .لنالحظه يف طريقه إىل املدرسة ،إنه ال يميش سويا يف الطريق كام نميش نحن،
لكنه يقف مرات كثرية ،ويعرج عىل هذه الزهرة لينظرها ،فإذا مرت الفراشة فإنه من
ورائها يعدو .وهكذا من جهة إىل جهة حتى ربام ينسى املكان الذي يقصده.
وعجز الطفل عن تركيز انتباهه ،يبدو يف املدرسة أيضا ،وهلذا تسمع املعلم يدعو
التالميذ دائام إىل االنتباه.
إدراك الطفل:
والطفل قادر عىل إدراك املحسوسات إذا كانت حواسه سليمة .فهو يدرك األشكال
واأللوان واألبعاد .بل قد يكون إدراكه هلا كإدراك الكبري تاما .لكن هذا اإلدراك
ضعيف جدا فيام يتعلق بإدراك احلقائق ،وفهم العلة.
فالطفل ضعيف املالحظة قليل اخلربة ،ال حيسن احلكم عىل األشياء وال يفهم
قيمتها .فإذا عرضت عليه صورة أو رسام لتربز شخصا مثال ،فربام يتعلق برصه بجزء
من هذه الصورة ،ربام يتعلق برصه بدمية عىل األرض ال تعتربها أنت إال عارضا تافها،
وتكون يف نظره حمورا للصورة .ويبدو هذا القصور يف قدرة األطفال عىل املالحظة
إذا أتينا بطفل وحرض مشهدا ما ثم طلبنا إليه أن حيكي ما رآه .والغالب أنه سيحكي
عن مشاهداته املحسوسة التي اسرتعت انتباهه ،ويرتك احلادث املهم .وما ذاك لقرص
ذاكرته ولكن لضعفه عن اإلدراك.
ويزيد يف هذا الضعف قلة بضاعة التلميذ من الكالم .ففي السنوات
__ 88
الدراسية األوىل يكون إدراكه حسيا حمضا ،ومن ثم ال تتعلق بذهنه إال الكلامت التي
تدل عىل املحسوس ،أو تدل عىل احلركة .ويف هذا تفسري إلدراكه الضعيف .ألن
هذا اإلدراك قد يتوقف عىل فهم بعض الكلامت التي يعتربها الكبري واضحة مفهمة
وتغيب عن الطفل.
وقد أجرى عامل النفس الفرنيس بيني بحثا يف الكلامت التي يستعملها األطفال.
فوجد أن األطفال يستعملون كثريا من األفعال وكثريا من األسامء وقليال من
النعوت ،ونادرا ما يستعملون أدوات الربط مثل لو و ألن ،وعندما الخ .ويعلل
قلة هذه األدوات يف كالم األطفال بأهنا تفيد التعليل والربط بني األفكار ،وبأن هذا
التعليل والربط ليسا يف متناول األطفال.
خميلة الطفل:وخميلة الطفل قارصة أيضا ،ال ختلق إال الصور التي تعتمد عىل
املحسوس أو العاطفة .ويظهر هذا القصور بصفة واضحة عندما نطلب إىل الطفل أن
يصف لنا مكانا يعرفه .جييب الطفل بأن هذا املكان يعجبه أو ال يعجبه .فإذا طلبنا إليه
أن حيدد لنا أداة من األدوات ويعرفها ،أجابنا بذكر فائدهتا واستعامهلا .فيعرف املوسى
بأهنا للقطع ويقول الكريس :أجلس عليه ،وهكذا .ويظهر هذا القصور أيضا يف فهم
الرسوم .فالطفل يرشح لنا الرسم بذكر األشياء التي يبرصها فيه .فإذا عرضت عليه
صورة حلريق قال هذا منزل وهذه نار وهذا رجل وهذه امرأة وهذا سلم الخ.
وإنام تنمو خميلة الطفل بالتدريج كلام نمت ملكاته األخرى .فإذا بلغ تسع سنوات
أو عرش سنوات ،اتسعت خميلته وقويت عىل فهم العالقات البسيطة .وطفل يف هذه
السن يستطيع أن يصف لنا مشهد احلريق فيقول :هذا حريق والناس جمتمعون حوله
وهذه امرأة جتري الخ.
فإذا بلغ الطفل الثانية عرشة أو الثالثة عرش من عمره ،استطاع أن يتخيل ال أعامل
الناس فقط ولكن عواطفهم وبواعثهم .ويف هذه السن يصف الطفل مشهد احلريق
الذي أسلفنا ذكره فيقول :هذا حريق اجتمع حوله الناس ليطفؤوه .وهذه امرأة تصيح
وتستغيث الخ.
حكم الطفل :الطفل عاجز عن احلكم الصحيح عجزه عن اإلدراك الكيل.
وهو ال يفرق بني الواقع وبني رغباته اخلفية .وربام خيلط بني ما شاهده
__ 89
وما ختيله فال يميز بينهام .وقلة خربته وما قلناه عن عدم االتصال يف أفكاره جيعل
حكمه خمطئا سواء كان هذا احلكم عىل أعامله نفسه أو أعامل غريه .وهلذا ال يدرك
األخطاء التي يقع فيها وال نتائج هذه األخطاء .وكثريا ما يكون عذره عنها واهيا
بعيدا عن املنطق.
وأسئلة الطفل كثرية .لكنها ال تنبعث إال من فضوله الكثري ،وليست عالمة عىل
تيقظه وقدرته عىل احلكم والنقد .ويدل عىل ذلك تصديقه ألجوبتنا كيفام كانت ،ألن
الطفل غرير يؤمن بكل ما يسمعه ولو كان مستحيال .وتصديقه للخرافة معروف
يصحبه إىل سنوات املراهقة.
حاجات الطفل:
ال نتحدث هنا عن حاجة الطفل اجلسمية ،حاجته إىل الغذاء واجلو الصحي الذي
ينمو فيه .وإنام نتحدث عن حاجته النفسية.
حرية الطفل :الطفل يف حاجة إىل اجلو الذي ينمي فيه مواهبه ،ويربز شخصيته،
يف حاجة إىل اختبار قوته ومعرفة حدودها .وهذا اجلو املناسب لنموه هو جو احلرية
واالنطالق اجلو الذي يقدر فيه الطفل عىل ممارسة األعامل املرشوعة التي تستفرغ
نشاطه ،بحيث يعرب عن نفسه تعبريا حرا ،ويتناول األشياء لريكبها وحيللها كام يشاء.
لكن هذه احلرية قد تتعارض مع مصلحة األرسة أو املدرسة عندما متس بحقوق
الغري ،ومن هنا كان البد من سلطة حتد من حرية الطفل .وليس رشا من الضغط عىل
الطفل إال اإلفراط يف تدليله والضعف أمام رغباته .والطفل الذي ينشأ يف حجر أرسة
تطلق له كامل احلرية ينشأ قلقا مضطربا حياول أن يستعيض عن السلطة القوية التي
هو بحاجة إليها ليشعر باألمن بثوراته املتكررة وموقفه املتحدي.
حاجة الطفل إىل العطف :مما يسبب تدليل اآلباء واألمهات ألبنائهم ،شدة عطفهم
وحمبتهم .والطفل يف حاجة شديدة إىل العطف واملحبة خصوصا يف السنوات األوىل
من حياته .وقد يكون احلرمان من هذا العطف أصال الضطرابات نفسية كثرية
تتجىل يف انكامش الطفل وخوفه ،وتتجىل بعد ذلك يف حب العزلة واالنرصاف إىل
كنز املجموعات والبخل .وتالحظ كل هذه العوارض عند اليتيم الذي حرم عطف
أمه وأبيه.
__ 90
والطفل يألف هذا العطف ،وينتظر أن جيده عند كل الكبار الذين يتصل هبم
فإذا جاء إىل املدرسة ،يصدمه ما جيده فيها من جد ورصامة .ويبقى خائفا مرتددا
أمام املعلم الذي يأمر وال يقول الكلمة الطيبة ،وإذا وجد الطفل يف املدرسة اجلو
العاطفي الذي ألفه أو قريبا منه ،فرسعان ما يستأنس ويتعلق باملدرسة .واملعلامت
بطبعهن اللني وحبهن الغريزي لألطفال ،جيدن املعاملة الطيبة التي تناسب الصغار.
ولذلك نراهن أن ينجحن كثريا يف األقسام الصغرية.
عىل أن الطفل بعد أن يبلو املدرسة ويعرف نظامها ،يكتفي من معلمه بكلامت
التشجيع والثناء ،وباالبتسامة الصغرية ،ويعترب ذلك عالمة حلب معلمه وتقديره،
إذا كانت هذه الكلامت وهذه االبتسامة من قلب صادق.
الفضول :إن فضول الطفل وحبه لالطالع يظهر يف سن مبكرة جدا ،فمن الشهور
األوىل يطلع الطفل الرضيع إىل وجه أمه ويلتفت إذا سمع صوتا لريى مصدره ويبدأ
يف إرضاء هذه الرغبة عندما يبدأ يف اكتشاف جسمه ،فرتاه يمسك بأعضائه املختلفة
ويعض رجله ثم يستغرب إذا أحس بأمل ،لكن فضول الطفل ال يظهر متاما إال حني
يملك الطفل الكالم ويقدر عىل وضع األسئلة ،وأول هذه األسئلة يتعلق بالبحث
عن األسامء ،وال ينتظر الطفل شيئا آخر إذا سأل ما هذا وأجبته باسم اليشء الذي
سأل عنه ،ألن االسم وحده ثروة يف نظره يزيدها عىل ثروته الكالمية .ويعقب
هذه الفرتة فرتة أخرى يتجه فيها الطفل إىل السؤال عن منافع األشياء .وبعد هذه
املرحلة يزداد فضول الطفل فيكثر من قول ملاذا؟
وقد قلنا إن الطفل يكتفي بأي جواب ولو كان غري منطقي ،وهذا ما حيتم عىل
األرسة ،وعىل املدرسة أال جتيب الطفل إال باحلقيقة كام سأل ،فإذا مل نشأ أن نخربه
باحلقيقة لسبب ما فمن املمكن أن نقول له بكل رصاحة ،أن هذا أمر ال تفهمه اآلن،
وهذا أفضل بكثري من أن نكذب عليه ،وبام أن انتباه الطفل رسيع االنتقال من
موضوع إىل موضوع فمن السهل أن نرصف انتباهه إىل يشء جديد إذا وضع سؤاال
حمرجا ،ويكفي أن جييبه بسؤال آخر أو بمالحظة طفيفة لينسى سؤاله.
__ 91
وربام يكبت الطفل رغبته يف االطالع أمام معلمه ،إذا كان يعلم أن معلمه
ضيق الصدر من أسئلة التالميذ .وإذا فكرنا أن سؤال الطفل عنوان عن اهتاممه
باملوضوع الذي يسأل عنه ،تبني لنا وجوب تقبل أسئلة األطفال ،وتبني لنا فائدة
السؤال عنها ولو كانت بليدة يف ظاهرها .بل من املفيد جدا أن نعود التالميذ عىل
سؤالنا ونشجعهم عىل ذلك.
التقليد :كل يشء يف حياة الطفل جديد بالنسبة إليه ،وكل يشء يراه يتعلق به
اهتاممه .وعندما يكتشف الطفل نفسه ويشعر بوجوده املستقل عن اآلخرين يبدأ
يف اكتشاف قواه وتطبيقها عىل كل هذه األشياء اجلديدة .ولفقر خياله وضيق
خربته ،نراه يقوم بحركة بسيطة كحمل آنية ثم وضعها .وال يزال يكرر هذه
احلركة ال يمل منها.
لكن غريزته تدفعه إىل التقليد كام تدفعه إىل اللعب .إىل تقليد الناس واحليوان
يف احلركات التي يشاهد ويقدر عىل القيام هبا .ومن هذا التقليد تبدأ العادات
الرضورية للحياة ،وتبدأ تربية الطفل اجلسمية احلركية .والطفل يقلد كل األعامل
التي يشاهدها بمناسبة وغري مناسبة ،وسواء كان هذا العمل الذي يقلده رضورة
يستفيد منها مبارشة أو كان عمال تافها أو ال يفهم الطفل معناه .وقد يكون
العمل الذي يقلده الطفل عمال ال هيمه يف يشء ،ومع ذلك فهو يقلده ألنه هيتم
بالشخص الذي يقوم به.
وبالتقليد يملك الطفل حركاته ،ويترصف فيها حسب إرادته ألن احلركة التي
تكررت يف العضو تصبح وظيفة يف هذا العضو ترصفها اإلرادة .لذلك يطلب إىل
الطفل أن يقلد نموذجا يف اخلط .وليس غرضنا إذ ذاك أن ينجز الطفل عىل مثال
هذا النوع ،وإنام نقصد أن يتكرر العمل يف يد الطفل عىل مثال نقرتحه لتثبت هذه
احلركة يف اليد.
وبالتقليد يفهم الطفل أشياء كثرية ومعرفة األشياء إنام هو معرفة تركيبها
ووظيفتها وكيفية استعامهلا .فإذا أمسك الطفل املوسى ،وقطع به كام رأى أمه
تفعل .فقد فهم املعنى فلم يبق إال أن يطلق عليه اسمه.
__ 92
وبالتقليد أيضا يفهم الطفل حتى االنفعاالت العاطفية نفسها .ألن هذه االنفعاالت
تصحبها حركات جسمية أو آثار تبدو عىل الوجه :الغضبان يقطب وجهه واملستبرش
ينطلق وجهه .واملتحمس تربق عيناه .والغريزة تدفعنا إىل تقليد هذه العالمات كلام
شاهدناها عند من نخاطبه وسبق أن حتدثنا عن التقليد العاطفي يف حديثنا عن اإلحياء.
والطفل يبقى مقلدا أبدا ،وربام يقلد حتى بعد أن يكرب كل ما يراه جديدا سواء كان
شاعرا هبذا التقليد أو غري شاعر .ولذا حيث املربون عىل تقديم املثال احلسن لألطفال،
وخصوصا يف املدرسة يقلدون معلميهم يف احلركات ،ويف صفة الكالم ويف األفعال.
ويشري املربون أيضا إىل مكان التقليد يف الرتبية العقلية واخللقية وتربية الذوق.
فالدروس التي تلقى عىل التالميذ تتناول موضوعات جديدة ال يعرفوهنا .وتقدم
احلقائق عىل صفة هم مستعدون لقبوهلا أيا ما كانت .وكذلك األمثلة األخالقية التي
تبرش هبا املدرسة .هذه األمثلة جتد فراغا عند الطفل فتكون عنده مثال أعىل .وكذلك
النامذج الفنية عىل نوعها وقيمتها يتوفق نضج ذوقهم واجتاهه.
وألمهية التقليد يف بناء معارف التالميذ وأخالقهم ،حيث املربون عىل أال يكون يف
املدرسة إال كل مثال حسن ،كام حيثون عىل اختيار الكتب وضبط حمتوياهتا.
ويويص املربون باالعتامد عىل التقليد اعتامدا حذرا .ألن التقليد ينفي التفكري،
وينمي العقل الناقد .وإن كانت الصفات األخالقية ثابتة ال تقبل اجلدل ،فإن العقل
البرشي ال يستفيد شيئا من التقليد األعمى وال يمكنه أن يتقدم.
سلوك الطفل:
الطفل والكسل :األطفال جمبولون عىل احلركة والنشاط .فالطفل السليم اجلسم،
املرتاح البال ،يعمل ال يكل ،ويسعى أكثر مما يقدر الكبري عىل السعي .وإن العمل
املدريس نشاط جديد بالنسبة للطفل الذي يقبل إىل املدرسة .وهو يرى هذا العمل
كشكل جديد من اللعب ،فينرصف إليه .ويبقى مقبال عىل العمل الدرايس حتى بعد
أن يشعر أنه ليس لعبا .ألن إذ ذاك يكون وسط مجاعة من أقرانه ال يملك نفسه أن
يتخلف عنهم.
__ 93
ويف بعض األحيان يصطدم التلميذ اجلديد بالعنف الذي جيده يف املدرسة ،أو
يصطدم هبذا العنف يف مرحلة ما من مراحل دراسته .وحيس أن املريب يضيق عىل
حريته ،فينفر من املريب وينفر من العمل املدريس ونقول إذ ذاك إن الطفل كسول.
أو ال يصطدم الطفل بالعنف واإلكراه ،وإنام ينفر من العمل املدريس حني تكون
الدروس مستغلقة عليه ،أو تكون بعيدة عن مواضع اهتاممه.
وهذا النوع من الكسل يمكن معاجلته بالبحث عن موطن النقص يف املدرسة وطرق
تعليمها .وهناك كسل آخر ينشأ عن مرض جسمي ،أو نقص يف الطاقة احليوية.
وكل األطفال معرضون هلذا النقص الذي حيدث يف فرتات النمو اجلسمي .إذ يكون
الطفل نشيطا عامال ،ويف بعض الصباحات يظهر عليه كلل وإعياء ،وال يشعر بإقبال
عىل العمل .هذا الطفل ينمو جسمه ،ونمو جسمه استحوذ عىل كل القوة الكامنة فيه.
ومن األطفال من يمرض ومهام كان هذا املرض طفيفا وخفيا فإنه يؤثر عىل اجتهاد
الطفل.
وقد درس املربون نظام تغذية التالميذ وراقبوا أطفاال يف املدرسة لريوا تأثري التغذية
عىل عملهم .والحظوا أن كسل األطفال كثريا ما ينتج عن سوء التغذية.
ويكسل األطفال ويرتاخون عادة بعد الغداء .فإذا دخلوا إىل املدرسة يف الثانية بعد
الزوال يالحظ عليهم قلة النشاط ،وال يزال نشاطهم قليال طول الساعات التي يتم
فيها اهلضم واملعلمون يعرفون هذا من تالميذهم ،وخيتارون هلذه األوقات الدروس
السهلة التي ال تطلب جمهودا كبريا.
والطفل يكون عرضة ألمراض كثرية أثناء أزمة املراهقة .ويبدو عليه أثناء هذه
األزمة انكسار وفتور ،ويبدو عليه ميل إىل التفكري الشارد ،واالشتغال عن الدرس
بكل الوسائل .وعالج هذا النوع من الكسل ال يتوقف عىل املعلم وحده ،بل هو شأن
األرسة قبل كل يشء .إال أن املعلم جيب أال يقسو عىل الطفل الكسول دون أن يعرف
سبب كسله .فإذا كان الطفل مريضا أو كان يف أزمة نمو خفف عليه العمل الدرايس
وانتظر وقتا يصح فيه جسم الطفل ويتجدد نشاطه ،ليدفعه دفعة جديدة إىل األمام.
__ 94
ومن األطفال من يامرسون ألعابا عنيفة ،أو يسهرون الليل يف السينام ،فإذا جاؤوا
إىل املدرسة ،راجع اجلسم حقوقه وطلب الراحة ،فينام الطفل.
ومن األطفال من يعيش يف ظروف سيئة ،املسكن الضيق الذي ال تتوفر فيه الرشوط
الصحية ،واملطعم القليل الذي ال يكفي حلاجات اجلسم النامي .وهؤالء أحق بالعناية
من اآلخرين .جيب عىل املعلم أن يسعى عند األرسة لتحسن حاهلم عوض أن يعاقبهم
عىل الكسل الذي ال ينرصفون إليه عن شيطنة وكراهية للعمل.
واملعلم اللبيب يالحظ أطفاله ويعرف الباعث هلم عىل أنواع سلوكهم يف املدرسة.
وهذا املعلم ال خياف عليه أن ييسء احلكم عندما يظهر تغري مفاجئ يف اجتهاد التلميذ.
واملعلم اللبيب هو الذي ال يعاقب الطفل عىل الكسل ،وإنام يسعى إلبطال دواعي
الكسل ،سواء كانت نقصا يف طرقه أو عارضا يف جسم التلميذ أو أعصابه.
الطفل والعصيان :حتدثنا يف الصفحات السابقة عن الطاعة وكيف حيصل عليها
املعلم أمام تالميذه .وسنذكر هنا األسباب التي تدعو إىل العصيان.
يدرك الطفل يف السنة الثالثة من عمره أن له شخصية .ويثور الطفل يف هذه الفرتة
من حياته ،ويعيص كل األوامر التي تصدر إليه ألنه يريد أن يثبت شخصيته ويثبت
إرادته .ولعل الكلمة التي يرددها الطفل أكثر من أي كلمة أخرى هي كلمة «ال».
وبعد السنة الثالثة ،يرجع الطفل عن عصيانه املستمر .لكنه ال خيضع لألوامر التي
تعطاه متاما .بل يتوقف عصيانه أو طاعته عىل الشخص الذي يأمر .وحيلو له يف بعض
األحيان أن يرفض كل ما يطلبه منه شخص بعينه.
وبصفة عامة فإن إرادة الطفل تصطدم بإرادة الكبار ،ألن طبعه مرح ،وله رغبات
كثرية جيب أن يرضيها ،فيحب كرس األواين وتشتيتها ويتناول بيديه كل يشء ولو كان
قذرا ،والكبار ينهونه ويمنعونه .وقد يبلغ عصيان الطفل إىل الثورة البينة والعنف.
فال يتورع إذا كان صحيح اجلسم نشيطا ،أن يرضب خادمه وهيرب من وجه أمه ،أو
يرصف هذا العنف إىل األشياء ويرضب برجليه األرض.
والعصيان عند صغار األطفال أمر طبيعي ،بل هو عالمة عىل سالمة األطفال.
واملربون يعتقدون أن الطفل الذي ال يطيع األمر دون أن يناقشه طفل مريض.
والطريقة بسيطة لئال يعيص الطفل ،وذلك بحذف األوامر والنواهي ،وعوض أن
__ 95
تنهى الطفل عن كرس اآلنية خذها من يديه والسالم ألنك إن أمرته فربام قال « :ال
« فإن جئت تناقشه طال ذلك ،ثم ال جتد آخر األمر إال احلل الوحيد الذي يعرضه
عليك التفاوت بني قوتك وقوته.
وعندما يدخل الطفل املدرسة يكون قد تكيف إىل حد ما باحلياة االجتامعية ،وأصبح
يدرك إدراكا غامضا ،لكنه إدراك حقيقي ،أن عليه واجبات البد من أن خيضع ألدائها.
ويف املدرسة جيد الطفل جوا ال يعرفه ،وجيلس أمام شخص ال ينفك يأمر وينهى
وأوامر املعلم هذه تعارض رغبات الطفل .ويالحظ يف األيام األوىل لدخول الطفل
إىل املدرسة أنه ال يأمتر لألمر األول ،بل حيتاج املعلم إىل تكراره عليه مرارا ،لكنه مع
األيام ،وبدافع تقليد أقرانه ال يلبث أن يطيع كام يطيعون.
وأثناء املرحلة الدراسية االبتدائية ،يتلقى الطفل أوامر من معلمه أو من مدير
املدرسة أو من املعلمني اآلخرين .ويطيع الطفل هذه األوامر ممن حيرتمهم ويثق هبم.
أما إذا أمره شخص أجنبي آخر عن املدرسة فإنه يقف له ويسأل .والسبب يف طاعة
الطفل ملعلمه ليس فقط اخلوف من عقوباهتم ،لكنه يطيع ألنه يقدر السلطة وحيبها
حتى ولو كانت هذه السلطة متنعه من إرضاء بعض رغباته .والطفل حيب السلطة
ألهنا عنوان للقوة .والقوة هي التي تضمن له األمن والطمأنينة اللذان حيتاج إليهام.
وقد يظهر عىل الطفل يف بعض األحيان تردد أو عصيان عندما يأمره أبوه أو معلمه،
وهو ال يقصد هبذا العصيان إال أن يبلو سلطة الذي يأمره ويتأكد منها حتى إذا رأى
اجلد وعرف أن األمر ماض ال رجعة فيه امتثل وهو أسعد الناس بوجوده يف محاية
أمينة.
لذلك يرى املربون أن أوامر املعلم جيب أن تكون بلهجة حازمة .ويوصون بأن يقف
املعلم عند أمره وال ينساه .وبام أن األطفال الصغار عاجزون عن اإلدراك واحلكم،
عاجزون عن فهم غايات املعلم ،فإن هذه األوامر يف األقسام الصغرية تكون جمردة
واضحة ،ال يعللها املعلم وال حياول تفسري أسباهبا ،وإذا أراد املعلم أن تغلب إرادته
فليأمر ساكنا ،وال يبد منه اضطراب إذا عىص األطفال أمره .فإذا كان البد من تكرار
األمر ،فليكرره املعلم ساكنا أيضا .وينبغي أال يلجأ املعلم إىل التهديد من املرة األوىل.
وحتى يف املرة الثانية يكفي أن نقول كلمة فيها حزم وتوكيد كأن يقول «ستفعل ما آمر
به» أو «البد أن تفعله» أو «أنا أريد أن تفعله».
__ 96
ومع األطفال املدركني فاألحسن أن يأمر املعلم ويعلل أمره بام يفهمه األطفال .ألن
هذا التعليل يدخل يف نطاق تربيتهم وتعليمهم.
أما مع املراهقني فإن املوقف خيتلف متاما .فعند املراهقني تربز شخصية جديدة هلا
رغبات عنيفة .ويزيدها عنفا عدم تأكد املراهق من طريقه وقوة إرادته .وهلذا يكون
رسيعا إىل العصيان والثورة إذا شعر أن يف األمر الذي يتلقاه ما يمس هبذه الشخصية
اجلديدة الضعيفة .ومن هنا يتأكد تعليل األوامر وجعلها معقولة ال تتناىف وشعور
املراهق بكيانه وإرادته املستقلة .ثم إننا هبذا التعليل ال نتحاشى عصيان املراهق فقط.
بل نوجهه اجتاها اجتامعيا به جيد لنفسه سلوكا مقبوال .وإن املراهق قادر عىل التفكري
يف األعامل ونتائجها .فإذا برصناه هبذه النتائج وخوفناه من عواقبها رجع بسهولة إىل
الصواب.
وثم طريقة أخرى ملعاجلة العصيان وتفاديه .وهي الوعظ اخللقي ،واالعتامد عىل
العاطفة .واملراهق شديد احلساسية بالرشف ،شديد التعلق بشخصيته رغم شعوره
بنقص ملقوماهتا ،ويكفي أن تعرض باملراهق تعريضا خفيفا أو تعاتبه عتابا ال جيرحه،
بأن تقول له« :مثلك ال يفعل هذا».
عىل أن تعليل املعلم ألوامره التي يلقيها لألطفال واملراهقني ،جيب أال تكون بلهجة
االعتذار .ألن األطفال إذ ذاك ربام يشكون يف قيمة رشح املعلم ويظنون ذلك الرشح
حيلة عليهم ليمتثلوا .وألن هذه اللهجة تدل عىل قلة اقتناع املعلم بصحة ما يقوله
وقلة اقتناعه بسلطة.
واحلاصل أن األطفال ال يعصون يف املدرسة إال إذا كانت أوامر املدرسة جائرة
متس بالنصيب احليوي من حريتهم .وإذا كانت هذه األوامر معقولة وكان الذي يأمر
متصفا بالصفات الكاملة للمعلم ،وإذا ألقيت هذه األوامر بلهجة ثابتة ال تنم عن
عدم ثقة بأهنا ستنفذ فإهنا ال تعىص.
الطفل والكذب :عندما تصطدم إرادة الطفل بإرادة أخرى أقوى منها ،حياول
الطفل أن يبلغ إىل غايته بطرق أخرى وهذه الطريقة هي اختالق العذر .فإذا هنته أمه
عن تناول آنية مثال أجاب« :إين ال أقدر عىل الوقوف» .وهكذا يرتاوغ الطفل الصغري.
__ 97
ثم إن الطفل حيكي ما رآه أو سمعه ويزيد يف حكايته زيادة كبرية ال يقبلها املنطق.
ويقول الناس إن الطفل كذاب كبري ،وغشاش من الطراز األول.
فهل الطفل كذاب يف احلقيقة ،وكيف نفرس خداعه املتواصل أمام السلطة اآلمرة؟
يقول بعض علامء النفس إن اخلداع ظاهرة منترشة عند األطفال منذ سن مبكرة .وقد
يبدأ هذا اخلداع قبل أن يتعلم الطفل الكالم يأخذ الطفل لعبة أو شيئا آخر وخيبئه يف
زاوية ،فإذا سألناه عنه بسط كفيه إجابة بأنه ليس عنده .ويفرسون هذا اخلداع بميل
الطفل للتكتم وحبه لالنفراد بأرساره.
أما زيادة الطفل يف الكرم عندما خيرب ،فإهنم يفرسوهنا بضعف إدراك الطفل ،وكون
ذاكرته حتت سلطان خياله .فعندما يبدأ يف حكاية ما شاهده أو سمعه خيلط عليه ويظن
أن أشياء يرغب فيها قد وقعت فعال أو يمزج خربه بتفاصيل أخرى من خرافة سمعها
أو ربام تدفعه رغباته الكمينة وتفكك خياله إىل الزيادة بشكل تظهر لنا منه أنه قصد
الكذب .خصوصا إذا كان يف موقف السائل ما يوحي إىل الطفل ببعض ما جييب به.
ولو سألت طفلة صغرية من غسل األواين أو من رتب املنزل فمن املحتمل أن جتيبك
بأهنا فعلت .وال يدفعها إىل هذه اإلجابة إال ألهنا حتب أمها التي تقوم هبذه األعامل
وترغب أن تكون مثلها .ولو سألت طفال صغريا أين أخ له ال حيبه؟ فمن املحتمل أن
جييبك بأن الغول خطفه .ال يقصد الكذب علينا ،ولكن كراهيته ألخيه وخياله املمتلئ
بالغول يمليان عليه اجلواب.
والغريب أن الطفل يصدق هو نفسه ما خيرب به ويسمون هذا التصديق باإلحياء
الذايت .وتسمع الطفل خيربنا بأنه رأى األسد أو الغول ،ثم ال يلبث أن يدخل الرعب
وحيتمي بنا خائفا .ففي أول األمر ختيل األسد أو الغول ،ربام حتدثنا عن أحدمها أو ال
يشء إال ألن ذلك خطر بباله أو خيرتع هذه الكلمة لنلتفت إليه ،فإذا نطق باخلرب ورآنا
نستمع إليه تأكد من وجود األسد فعال وخاف.
كل هذه التحريفات بريئة ال يقصد هبا الطفل سوءا ،حتى لو بدا لنا أنه يعرف
بطالن ما خيرب به ،وحتى لو ضحك الطفل بعد إخباره .ولذلك ينبغي أن نأخذ الطفل
الصغري برفق ونرده إىل الصواب إذا كان خربه مبالغا فيه حقا.
__ 98
لنعترب قبل كل يشء أن الطفل مدفوع بحكم خياله املتفكك وضعف إدراكه،
وذاكرته إىل التحريف ،ولنعترب أنه عندما يأخذ القصبة ويقول هذا فريس ال يقصد أن
يضحك علينا ولكن رغبته وخياله يقنعانه بأن القصبة فرس يلعب هبا ويركبها.
وإذا نظرنا إىل أن الكبار أنفسهم ربام بالغوا يف بعض ماخيربون به ،وقد يدفع جو
احلديث أكثر الناس رزانة وحرصا عىل احلقيقة إىل بعض املبالغة ،إذا نظرنا إىل هذا
تبني لنا مقدار براءة الطفل.
هذا وإن رش الكذب عند األطفال هو الذي يقصد به الطفل أن يأخذ بنظرنا.
والطفل الصغري يف السنوات األوىل يف حاجة إىل أن هيتم الناس به ويكلمونه .وتدفعه
هذه احلاجة إىل البكاء والرصاخ واللغو بصوته .فإذا تعلم الكالم صاح بنا وتوسل
إلينا بكلامت اإلطراء ،ثم اخرتع كلامت وأخبارا.
وهذا النوع من الكذب بريء أيضا ،وليس خيشى منه رضر عىل سلوك الطفل يف
احلال لكنه إذا أصبح عادة عند الطفل فقد يكون شديد اخلطر عىل سلوكه يف املستقبل.
وقد نجد األطفال الكبار يبالغون مبالغة مقصودة ،ويزعمون لذوهيم املزاعم ليلتفت
إليهم الناس .فهذا يزعم أن منزله فيه كيت وكيت من األثاث وهو يعرف أنه خيرتع،
وذلك خيرب بأن أباه يملك أشياء ال يملكها يف احلقيقة .وقد جيد الطفل نفسه بني أقرانه
مهمال ليس له بينهم مكان كبري ،فيخرب هبذه األكاذيب .ويكثر منها حتى ينال الدرجة
التي تصبو إليها نفسه بني الصغار .وقد يلتقي الطفل بشخص يسأله عن عمله يف
املدرسة ،وربام كان الطفل متأخرا ،فيحكي الطفل غري احلقيقة لئال حيتقره السائل.
وتتمكن هذه العادة من الطفل ،ويتخذها وسيلة سهلة ،فهو يقول للناس عن أهله
وعن نفسه ويعطي حلياته ترمجة خمتلفة ،أو ترمجات خيتارها حسب الشخص الذي
خيربه .ويبالغ يف التمسك هبذه العادة حتى ليعيش يف تزوير مستمر.
وإنه جلريمة أن ياملئ األب أو األم الطفل عىل اخرتاعاته ،إذا كانت هذه اخرتاعات
تريض رغبات األرسة ،أو تكون أحاديثهم نامذج حيذو حذوها .والواجب أن يقاوم
ميل الطفل إىل التزوير ما دام الطفل صغريا ملا يتمكن فيه هذا امليل .ومن الناس من
يرتكون يكذبون ،أو وجدوا أمثلة يف أرسهتم فنشأوا ال يرعوون عن الغش والكذب.
__ 99
وطريقة مقاومة الكذب الذي من هذا النوع ،أن نريب الطفل وندعوه إىل التفكري فيام
أخرب به ال أن نتعجب من خربه أو براعته يف التزوير أو نستزيده منه .وأهم من هذا أن
نتوخى الصدق فيام نخرب به اآلخرين وهو يسمع .وهكذا نعلمه أن حيرتم احلقيقة وأال
يغريها يف أي حال.
واملدرسة كام قلنا حقل يشجع األطفال عىل الكذب لينالوا احرتام أصدقائهم.
فمن واجب املعلم أن يرتقب األطفال ويتحقق من أخبارهم يف خفية ،ودون أن يظهر
الشك يف صدقهم .إذ ربام حياول األطفال أن يكذبوا حتى عىل املعلم لنيل إعجابه.
وقد يكون الداعي إىل كذب التالميذ هو خوف العقاب .وهم خيتلقون األعذار
يف اليوم الذي حيرضون فيه إىل املدرسة متأخرين عن الوقت ،أو عندما ينسون إنجاز
فروضهم املدرسية .وواجب املعلم هنا أن حيذف سبب اخلوف ويعوضه بحب
الواجب والشعور باملسؤولية.
وواجب املعلم دائام أن يشجع الصدق ويثيب عليه .وأن جيمل للتالميذ قول
الصدق بالعفو عنهم إذا كان الصدق اعرتافا بذنب اقرتفوه.
الفروق الفردية:
الفروق اجلسمية :خيتلف األطفال يف تكوين أجسامهم وصحتها .فمنهم القوي
املتني ،ومنهم النحيل الذي ال يكاد املرض يكف عنه .وقد يكون هناك طفالن ليس
االختالف بينهام ناشئا عن مرض أحدمها وصحة اآلخر ،ولكن عن تفاوت يف خصوبة
اجلسم وضخامته .وقد يكون االختالف أيضا من عيب بدين ظاهر.
واالختالفات اجلسمية التي تنشأ عن املرض تبني التفاوت الذي نالحظه عند
األطفال ،يف القدرة عىل العمل والكسل الفزيولوجي وحتى االختالفات اجلسمية
الطبيعية كالنحافة والضخامة ،تفرس جانبا من سلوك األطفال ،فقد يكون النحيف
أنشط للعمل وأقدر عليه ،بينام يتعب الضخم اجلسم ويعيى .والبد للمعلم أن يراعي
هذه االختالفات عند أطفاله ويعاملهم حسب ما يقدرون عليه .سيام إذا كان هنالك
الطفل املريض أو النحيف الذي ال حيصل عىل قدر كاف من الغذاء أو الراحة كام
ذكرنا ذلك يف حديثنا عن الكسل.
__ 100
أما االختالفات التي تنشأ عن عيب جسمي ،فقد تكون مثارا ملشاغبات األطفال
وشيطنتهم .واألطفال ال يعرفون الشفقة مطلقا ،ورسعان ما يتخذون الطفل ذا
العاهة غرضا لسخريتهم .وأدهى من ذلك أهنم ال يرتددون عن إيذائه .ولذلك ينبغي
للمعلم أن يراقب سلوك أطفاله إذا كان من بينهم طفل ناقص اجلسم ،ويعمل جهده
ليحمي هذا الطفل حماوال أن يقرب التالميذ من فهم فائدة التعاون واحرتام الغري.
وقد يكون الذي يغري األطفال برفيق من بينهم ،هو الضعف يف بنيته ،أو صغر
ملحوظ يف سنه كام حيدث ذلك يف األقسام ذات الطبقتني أو الطبقات املتعددة .ومثل
هذا الطفل كثريا ما يعذب ويسخر ملشيئة أقرانه .وكثريا ما يصري لعبة يف أيدهيم .وهنا
ينبغي أن حيرس املعلم أطفاله ،وجينب التلميذ من رش رفقائه ،وينبغي أن يصلح هؤالء
الرفقاء بكل ما لديه من وسائل نفسية .فإن عجزت هذه الوسائل فليعاقب ،ألن األمر
جد ينبغي أال يتهاون فيه.
وهناك الفروق اجلسمية التي بني الطفلة والطفل .وينشأ عن تفوق األطفال
اجلسمي يف املدارس التي جيتمع فيها اجلنسان ،أن تضطهد البنات أو تساء معاملتهن.
وخصوصا إذا كان األطفال من أرس ليس فيها بنات ،أو كانت البنات قليالت يف
املدرسة .والواجب أن يعرف املعلم الطريقة التي يقرب هبا بني اجلنسني ،ويرفع هبا
من شأن الفتيات ليمنع هذا االضطهاد ،وذلك أن يرشك تالميذه يف العمل كله،
ويشكر التفوق كيفام كان دون إشارة إىل الفارق اجلنيس .وهكذا يتعلم األطفال كيف
يقدرون العمل بنظرة جمردة عن أي اعتبار .وإذا كانت املساواة التامة سائدة يف القسم،
فإن األطفال سينرصفون إىل االجتهاد تاركني األحقاد ،عىل أن هذه املعاملة ينبغي
أن تكون متيقظة ،بحيث جتنب البنات كل عمل بدين مرهق ،أو من شأنه أن يظهر
عجزهن اجلسمي أمام أقراهنن ،وبحيث تكون املنافسة فردية ،نعني التي ينظر فيها
املنافس إىل نفسه ويريد السبق هلا ،ال مجاعية يتبارى فيها اجلنسان ،ألن ذلك مما يغري
األطفال باستعامل القوة كلام غلبوا.
الفروق يف الطبع :إن االختالفات يف الطبع كثرية .وربام تكون أكثر من االختالفات
اجلسمية فهناك العامل الوراثي الذي خيتلف من فرد إىل فرد ،وهنالك العامل الرتبوي
يف الوسط ،وهو الذي يكيف الطبع املوروث ،ويعطيه صورته النهائية عندما يكرب
الفرد ويبلغ أشده.
__ 101
وطبع الطفل ال زال يف التكوين ،فهو مرن يمكن أن يتغري يف صورته وإن كان جوهره
الوراثي ثابتا .غري أن هذه املرانة ال متكن الطفل من حتمل كل ما حيصل عليه .فهو أمام
معلمه وأمام رفقائه يمكن أن يصدم بمعاملة ال يصرب عليها ،أو بطبع آخر شديد عليه،
وتكون الصدمة إذ ذاك ذات أثر دائم .لذلك ينبغي أن نراعي الفروق الصحية بني
األطفال ،ونعمل عىل هتذيبها حتى ال يقع هذا االصطدام الذي حتدثنا عنه.
وليس يف اإلمكان بالطبع أن نصنع لكل طفل جوا خاصا مناسبا لطبعه ،أو نميزه
بني رفقائه متييزا ظاهرا .وإنام نراعي هذا الطبع يف الشكل الذي نعلم به عندما نسأل أو
نرشح ،ويف الشكل الذي نجري به العدالة بني أطفالنا ،ويف الشكل الذي نوجه به نمو
كل طفل .ولن تكون مراعاة كل ما قلنا إال عامال ثانويا يف خلق اجلو العام يف املدرسة.
ألن طباع األطفال مرنة ،وبمرانتها تتقارب تقاربا يمكن معه أن خيضعوا لنظام واحد
داخل القسم الدرايس.
ثم إن الطبع نفسه قد يكون يف حاجة إىل هتذيب ،وعمل املدرسة يف هتذيب الطباع
كبري .ال نعني الطباع الفطرية الوراثية يف جوهرها ،ولكن الصور التي يتخذها هذا
الطبع الفطري خالل السنوات األوىل من حياة الطفل .فهناك الطفل املنقبض الذي
ال خيالط الناس ،وهذا جيد يف املدرسة جمتمعا منطلقا يرصفه عن عزلته .وهناك الطفل
الذي جييء انقباضه من خوف أو خجل .وهناك املتسلط الذي ال يعرف حقه ويتعدى
عىل حقوق اآلخرين .هؤالء وكل أنواع األطفال املختلفة جيدون يف نظام املدرسة
وسلطتها وازعا يعودهم سلوكا إنسانيا اجتامعيا ،وهيذب طباعهم.
ويبقى بعد هذا الطبع الثابت الذي سيصحبنا من الطفولة إىل املشيب ال يتغري مهام
كانت الرتبية ومهام كانت الظروف .هذا الطبع الذي يعرف به املرء ويصري دليال
عليه .وهذا الطبع الثابت هو الذي ينحدر إلينا عن طريق الوراثة ،فهو إذا خمتلف كام
ختتلف الوراثة نفسها .لكن العلامء األقدمني حاولوا أن يرجعوا الطباع كلها إىل أربعة،
فكان عندهم الدموي املرح الرسيع احلركة ،والصفراوي الشديد العنيد ،والسوداوي
املنقبض اليائس ،واللمفاوي اهلادئ البطيء .وحاول العلامء املحدثون أن يردوا
الطباع إىل قسمني .واعتربوا الطبع أساسه إما منقبضا أو منبسطا .فالطبع هو طبع
اإلنسان املنفتح للخارج ،اإلنسان االجتامعي املرح ،الذي يكثر الكالم بني الناس،
ويظهر عواطفه يف محاس كثري .والطبع املنقبض هو طبع اإلنسان الكتوم املنكمش عىل
__ 102
نفسه ،اإلنسان الذي يفضل السكوت ويميل إىل اليأس من الناس.
ومن العلامء من يستدل عىل الطبع بشكل اجلسم ونوع احلركات .فيعتقد أن
صاحب اجلسم النحيف منقبض غالبا ،وأن صاحب اجلسم الضخم منبسط .وهناك
من استدل عىل الطبع بصفات الوجه ومعامله.
وأيا ما كان فإن يف طبع الناس ما يغري كثريا من هذين الصنفني النموذجيني ،وما
يمكن أن يرجع إليها مع يشء من التسامح ،فقد نجد يف الفرد الواحد أعراضا من
الصنفني ،وقد يتغري الطبع يف املواقف احلرجة والصدمات ،وكم من فخور منبسط
بأن جبنه عند اخلطر .وآخر خجول يثبت لألمر اهلائل.
ويف املدرسة نالحظ فروق الطبع بني األطفال ،نالحظ أشكاال متباينة متعددة.
ومن واجبنا أن هنتم هبذه األشكال ال أن نعتربها خارجة عن ميدان اهتاممنا .ألن
الطباع يمكن أن نتخذها أسبابا إلحكام عملنا الرتبوي والدرايس.
فمن األطفال الصبور الذي يثبت للعمل ويقدر عليه ،ومنهم اليؤوس الذي ال
يثبت ليشء .فإذا عرفنا هذا النقص يف طفل من أطفالنا ،أمكن أن نتالفاه بتحريض
العاطفة وبعثها لتقوم مقام الطبع الضعيف .ألن الطفل امللول قد يكون يف نفس
الوقت غيورا عىل سمعته حمبا لنفسه وإذا تناولنا سمعته خياف عىل ضياعها ،فإنه يقبل
عىل العمل ويصرب عليه.
ومن األطفال اخلجول املنقبض الذي ال يشارك يف عمل إال إذا دعي إليه ،وال جيرس عىل
سؤال معلمه أبدا .وإذا عرفنا خجله أمكن أن ننتبه إىل رغباته الكمينة ونحثه عىل إبدائها.
وإنا بعد هذا ال نطمع يف إزالة الطبع ،ألن إزالته غري ممكنة .وإنام نطمع يف أن نعرض
عن نقص الطفل الطبيعي كلام أحسسنا هبذا النقص .ومتى تكرر هذا العمل وتكونت
العادة فإننا سنطمئن إىل وجود عامل قوي يؤيد الطفل إذا خذله الطبع .وقديام قالوا
إن العادة طبع ثان.
أما إذا كان طبع الطفل شاذا ال يلني ،أو الحظنا يف سلوكه أعامال ال يفرسها نقص
يف جهازه الرتبوي بالبيت أو املدرسة ،فإن الطفل مريض يف حاجة إىل عالج .أما
املراهق فإن سلوكه الغريب قد يدعو إىل الشك يف سالمة طبعه ،لشدة ثوراته ومواقفه
العصبية .لكن هذه الثورات ال تلبث أن تزول ،فعىل املريب أن يعتربها كأعراض
مرضية البد منها .وأن يتجنبها كام تتجنب األمراض.
__ 103
هذا ومن املالحظ أن طبع الطفل يتكيف إىل حد كبري بحسب الظروف التي يعيش
فيها الطفل .ونخص بالذكر ما يطرأ عىل طبع الطفل عندما حيدث نقص يف جسمه،
هذا النقص حيرم عليه أنواعا من النشاط كان يامرسها ،أو حيدث عنده إحساس جديد
بالضعف أمام أقرانه .ويتبع هذا اإلحساس خجل مفرط وانرصاف إىل الدرس
ومثابرة عليه ،أو انحراف يف السلوك وميل إىل التسلط والتعدي عىل الصغار وعالج
الطفل الذي من هذا النوع فيه ختفيف شعوره بالنقص وتشجيعه عىل العمل الذي
يقدر عليه.
ومثل هذا الشعور الذي نتحدث عنه حيدث عند البنت التي تنشأ وحيدة بني مجاعة
األطفال ألهنا تقارن بني جسمها الرطب الضعيف وأجسام أقراهنا القوية .ومن ثم
تتخذ موقفا دفاعيا لتحمي ضعفها ،وتنقبض.
الفروق العقلية :إذا كانت الطباع ال تقبل التغري مطلقا ،إال يف صورهتا العارضة.
فإن الصفات العقلية أيضا ال تقبل التغيري ،وإنام ينحرص عمل املريب يف استخدامها
استخداما كامال واألطفال خيتلفون يف الصفات العقلية ،فمنهم احلاد الذكاء ،ومنهم
البليد .ومنهم ذو الذاكرة احلافظة والذي ال يذكر شيئا .ورغم هذا االختالف فإن
علامء النفس حياولون قياس الذكاء كام سنتحدث عن ذلك.
والفروق العقلية التي تالحظ بني األطفال قد ترجع إىل تفاوت يف السن ،ألن
العقل ينمو كام ينمو اجلسم ،ويتسع أفقه بالتجربة .وقد ترجع إىل نوع الذكاء أو قوة
ملكة من امللكات العقلية ،فمن األطفال من ينجح كثريا يف اللغة ،لكنه يف احلساب
يبقى عاجزا يسبقه اآلخرون .وكل هذه الفروق جتعل يف القسم الواحد طبقات من
التالميذ خمتلفة نتائجها.
وواجب املعلم عندما يلقي درسه أن يراعي فروق األطفال العقلية ،وحيرض درسه
بحيث يفهمونه مجيعا .وواجبه أال ييأس من فهم طفل مهام كان يظهر بليدا .وواجبه
أيضا أن يستغل ذكاء كل طفل بحيث يوصله إىل أقىص ما يمكن أن يوصله إليه.
وهذا ال يتعارض مطلقا مع وجود مجاعة كبرية من األطفال يف قسم واحد .ألن املعلم
مهام حاول أن يتساوى أطفاله يف املعرفة والنضج العقيل ،فلن يقدر .وسيبقى دائام
الضعيف الذي ال يستطيع حتضري املعلم وحرصه أن يلحقاه بالركب .وسيبقى الطفل
الذكي الذي يتقدم برسعة يفوق أقرانه.
__ 104
الفروق العقلية وقياس الذكاء :كل املعلمني يلقون أسئلة عىل تالميذهم ،ويتلقون
أجوبة خمتلفة ،أو جيرون امتحانا يكون النصيب من النجاح فيه قليال أو كثريا ،وهذه
االختبارات التي جيرهيا املعلم يف قسمه ال تدل عىل مقدار ذكاء كل طفل بصفة حمددة،
وإنام تدل قبل كل يشء عىل مقدار فهمه للامدة التي يقع فيها االختبار .ويستعمل هذه
االختبارات ليعرف النصيب الذي حصله أطفاله من املعرفة ،وينظم دروسه بحسبها.
أما علامء النفس فإهنم جربوا االختبارات يريدون أن يستدلوا هبا عىل قدر الذكاء عند
األفراد .لذلك جعلوا هذه االختبارات ال تعتمد كثريا عىل املعرفة ،إال إذا كانت املعرفة
رضورية حتصل من التجربة اليومية ومن هنا يتبني لنا هذه االختبارات قد تأيت بنتائج
خمتلفة يف بيئتني خمتلفتني .لكن علامء النفس الذين يشتغلون بأقيسة الذكاء حياولون أن
جيعلوا أسئلتهم عامة ال تؤثر يف اإلجابة عنها الفروق التي توجد بني البيئة والبيئة وهم
يضعون سلسلة من االختبارات ألطفال كل سن ،ويتوخون يف وضعها أن تكون صاحلة
ملستوى هذه السن ،وذلك بأن جيربوها عىل عدد كثري من األطفال قبل أن يعلنوا عنها.
ونتائج اختبارات الذكاء تبني مواهب كل طفل أو تنقص هذه املواهب .واملختربون
يقيسون النتائج باألرقام بكيفية ليس هنا جمال البحث فيها .ويكفي أن نقول إن الطفل
الذي جييب عن كل األسئلة التي تناسب سنه ذكي مائة باملائة ،وإن األطفال يرتاوحون
يف هذا التقدير املائوي بني 140فوق املائة وأربعني أو مخسني فوق املائة.
وإنام هيمنا أن ننظر يف منافع هذه االختبارات وما يمكن أن جتنيه املدرسة من تطبيقها.
يعلم أن التوجيه املهني إنام يرتكز عىل اختبارات الذكاء .فبها يوجه الطفل إىل امليدان
الذي يمكن أن ينجح فيه ،واملدرسة التي تنمي عقله وتصلح له .وهبذا التوجيه جتنب
املدرسة كل األطفال الذين ليس هلم استعداد للدراسات النظرية.
وإن هذه االختبارات إذا طبقت داخل املدرسة ،توفر وقتا طويال عىل الطفل ،ألهنا
تربز مواطن النقص فيه .وتبني الناحية التي ينبغي للمعلم أن يلح عليها يف دروسه.
ثم إهنا بمثابة فحص وقائي يضمن لنا أن ال نقع يف التجربة الفاشلة ،خاصة عندما
يتخصص الطفل .فإذا قيس ذكاؤه رصف إىل االختصاص الذي ينجح فيه.
وإن اختبارات الذكاء تبني قدرة كل فرد ،وحتدد للمعلم مقدار اجلهود التي يستطيع
أن يطلبها منه .وهي يف هذا أكثر ضبطا من االمتحانات واالختبارات املدرسية.
__ 105
ألن االختبارات املدرسية تشتمل عىل فنون كثرية ينقص التلميذ يف واحد منها ويتفوق
يف اآلخر .أما أقيسة الذكاء فإهنا عامة ال حتكم عىل االجتهاد والنشاط وإنام حتكم عىل
القدرة العقلية وحدها.
كيف يالحظ املعلم تالميذه:
إن املعلم الناجح هو الذي يعرف أطفاله ،يعرف قدراهتم وطبعهم ويكيف طرقه
الرتبوية والتعليمية حسب هذه القدرات والطباع .وحتصل هذه املعرفة باملالحظة
اليومية الدقيقة .عندما يتلقى األطفال الدروس ،وعندما يفرغون للعب ،وعندما
يكونون خارج املدرسة .واملعلم يف كل هذه احلاالت ينظر ويسمع ،وحياول أن يعلل
الظواهر التي ينظرها .وقد خيطئ يف مالحظاته ويرى أن طريقته اجلديدة غري صاحلة.
وهلذا نرى املعلم الناجح يف جتربة دائمة ،ألنه حياول أن حيسن طرقه كلام ازدادت خربته
بالطفل ،وبأطفاله الذين أمامه كل منهم عىل حدة.
ومالحظة األطفال رضورية للمعلم ال تغني عنها اخلربة السطحية التي تؤخذ من
الكتاب .ثم إن أعامل التالميذ متنوعة وسلوكهم خيتلف بحسب املزاج املتغري .وال يكفي
عمل واحد يقوم به الطفل لنحكم عىل الباعث الذي صدر منه العمل .بل نحتاج إىل
مقارنة بني ترصفات الطفل يف حاالته املختلفة ليمكن أن نعلل تعليال مستقيام ،ونخرج
بحكم صائب .وقد يقتيض مجع هذه املالحظات التي نبني عليها احلكم زمنا طويال.
السجل النفساين :ولذلك حيتاج املعلم إىل مجع مالحظاته يف دفرت خاص ،يفرد كل
جزء منه لتلميذ من تالميذه .لكن ماذا يالحظ املعلم وكيف جيمع مالحظاته؟ ثم كيف
يستخرج حكمه النهائي عىل قدرة الطفل ونواحي النشاط؟
يمكن للمعلم أن جيمع مالحظاته حسب النظام الذي يفضله .فيخصص مثال جزءا
من سجله لتقييد املالحظات التي تتعلق بجسم الطفل ونموه .وجزءا آخر بام يتعلق
بذكائه ،وجزءا ثالثا بام يتعلق بطبعه.
وأول ما يالحظ عىل الطفل قدرته اجلسمية والعقلية عىل العمل املدريس .ولعل
أساس السجل النفساين هو هذه املالحظات .وحتصل هذه القدرة إذا برص الطفل قويا،
وكان سميعا وكامال ويتوقف نجاحه يف املدرسة إىل حد كبري عىل قدرته عىل تركيز
فكره واالستمرار يف هذا الرتكيز .ويف وسع املعلم أن جيرب تالميذه يف وسط الدروس
__ 106
وينظر أهيم أقدر عىل االنتباه ،ويسجل مالحظاته حول األطفال الذين رسيعا ما
ينتقل اهتاممهم من موضوع إىل موضوع .ثم يسجل مالحظاته فيام يتعلق بذاكرة
التالميذ ونوع هذه الذاكرة .وهل يرسخ يف ذهن التلميذ ما أبرصه أو ما سمعه.
أو ما فعله بحواسه .ثم يسجل برسعة فهم الطفل لدروسه وبطئه يف الفهم.
ومما يساعد عىل معرفة ذكاء األطفال وطريقة تفكريهم ،األسئلة التي يلقوهنا يف
الدرس ،واملالحظات التي يبدوهنا حول نقطة .فمن األطفال من يستعني عىل فهم
درسه باملقارنة بني املعلومات اجلديدة ومعلومات أخرى يعرفها .ومنهم من يقف
عند األلفاظ وال ينفذ للمعنى وكل هذا يظهر يف أسئلة التالميذ وإجاباهتم .ثم إن
الفروض املكتوبة تنم أيضا عن ذكاء التلميذ وطريقة إنجازها تنم أيضا عن مهارته
فمن األطفال من يعنى باملظهر اخلارجي لفروضه ،ومنهم من جيد بسهولة الكلمة
الالزمة أو اجلواب املنتظر.
ويسجل املعلم مالحظاته حول طبع الطفل وحساسيته .ويبدو طبع األطفال
يف ترصفهم مع بعضهم ويف سلوكهم جتاه املعلم والنظام املدريس .فمن األطفال
الشديد القايس الذي ال حيس بالشفقة وال يعرفها ،ومنهم الذي يتأمل عندما يقرأ قصة
مؤملة .ومن األطفال من يؤثر فيه العقاب مهام كان طفيفا ،ويعترب الثواب اعتبارا
كبريا .وآخر ال خياف العقاب وال يفرح إذا نال مكافأة .ومن املفيد أن يسجل املعلم
األعامل التي حيبها الطفل ويفضلها .والدروس التي يبدو فيها نشيطا .ومن املفيد
أيضا أن يالحظ ألعاب الطفل ورفاقه ومن خالل هذه املالحظات يمكن للمعلم
أن جيدد االجتاهات الكربى يف طبع الطفل.
ويمكن للمعلم أن يكمل مالحظاته بام جيمعه من معلومات يطلبها إىل أفراد
األرسة ،أو باملعلومات التي يأخذها من الطفل فيام يتعلق بحياته املنزلية .فمن
املهم أن يعرف املعلم ترصف الطفل خارج املدرسة أيضا ،وربام يكون ترصف
الطفل يف منزله أقرب إىل حقيقة طبعه من ترصفه يف املدرسة .ومن املهم أيضا أن
يعرف املعلم الكثري عن األرسة وأفرادها ،وما يقع يف األرسة من أفراح وأحزان،
فإن هلذه احلوادث يف غالب األحيان أثرا عىل سلوك الطفل ،وإن كثريا من نزواته
__ 107
تفرسه حياته املنزلية وحوادثها .ومن املهم أيضا أن يكون املعلم عىل بينة من
ترصف األبوين ،وحالتهام اجلسمية والعقلية .وذلك ليعرف الصفات التي ورثها
الطفل أو حيرزها عىل األقل.
هذا وإن القيام بالسجل النفيس لكل تلميذ عمل صعب جدا ،يتطلب جمهودا
متواصال ،لكنه بمثابة الفحص الطبي الدقيق .يساعد جدا عىل وصف العالج
النافع .فإذا صرب له املعلم فليتقن عمله ولينظمه حتى يمكن خللفه أن يستعمله
وينتفع بام فيه من مالحظات وال ينس أن هذه املالحظات ال قيمة هلا إذا مل تكن
مضبوطة ضبطا تاما .وإن املالحظ رسيع إىل الغلط يف تفسري ما يشاهده وهو فارغ
النفس ،فكيف إذا كان يالحظ ويفرس يف جو بعيد من اهلدوء .واألحسن أن يكتفي
املعلم بتسجيل الواقع كام رآه ،ثم ينتظر وقتا آخر لينظم مالحظاته ويستخرج منها
النتيجة ،وأال ينتظر طويال قبل أن يدون مالحظاته ،فربام يرسع إليه النسيان ،أو
يشتبه عليه األمر.
__ 108
الفصل الرابع
الرتبية اجلسمية
مكان الرتبية اجلسمية
يف النظام الرتبوي
رأينا يف موضوع آخر من هذا الكتاب نصيب الرتبية اجلسمية يف األنظمة الرتبوية
املختلفة؛ فمربون ال يعلقون عليها أية أمهية .كمريب القرون الوسطى األروبية،
أو مؤدبينا التقليديني إىل قوم تكون عندهم العناية باجلسم جانبا من أهم جوانب
الرتبية ،كام كان األمر يف بالد اليونان قديام.
والذي يسأل مل اختلفت نظرة القوم إىل الرتبية اجلسمية ،ويتأمل يف األسباب التي
دعت إىل هذا االختالف جيد أن احلاجة وحدها هي التي أملت للناس خطة السري،
نظرا لظروف معيشتهم ،ونظرا للغاية التي هيدفون إليها عندما يضعون أنظمتهم
الرتبوية فإذا كانت األجسام قوية ألن األطفال يعيشون يف البادية ويامرسون أعامال
شديدة بطبيعة معيشتهم ،فال حاجة إىل أن يفكر املريب يف تقوية أجسام تالمذته.
كام أن الرتبية التي ال تفكر إال يف هتيء كتاب حساس بأرسع الوسائل ،قمينة أال
تضيع الوقت يف يشء ربام تراه زائدا وعديم الفائدة وسيجد املتأمل أسبابا أخرى
ترجع إىل عقائد الناس ونظرهتم إىل اجلسم .جيد أن البيئات املغرقة يف التمسك
والتدين قد حترتز من اجلسم ،وتعتربه مقرا لنزعات الرش ،وعندئذ تعمل جاهدة
لتقهره فتقل نزواته .وسيجد أن املربني يف كل زمان ومكان ال هيتمون باجلسم إال
عىل قدر اعتقادهم أن هذا االهتامم سيكون له أثر ما عىل تالمذهتم .فإذا مل يعتقدوا
ذلك أمهلوا عندئذ هذا اجلانب وبخلوا عليه بالوقت الذي يعتربونه ثمينا وجديرا
بأن ينفق يف وجه آخر.
__ 111
واحلقيقة أن النظم الرتبوية ،وأقصد النظم التي وضعتها السلطة ،أو التي هييمن
عليها فرد أو مجاعة من املربني املحرتفني ،ال تعطينا صورة صادقة ملا كانت وال زالت
عليه الرتبية اجلسمية فإن الناس يف كل عرص فهموا أمهية اجلسم فاعتنوا برتبيته ،إما
يعهدون بذلك إىل املريب الواحد ،أو يتخذون مربيا خاصا بالتمرين البدين .ثم ال هيمنا
االسم الذي يطلق عىل هذا التمرين وال الشعار الذي يتخذ إلنجازه سواء كان االسم
مترينا عىل ركوب اخليل ،أو تدريبا عىل احلرب ،أو سباقا رياضيا ويظهر أن عناية الناس
باجلسم وتربيته ،ليست ناجتة فقط عن اعتقادهم أن العقل السليم يف اجلسم السليم
كام هو احلال عند اإلغريق ،بل أصوهلا أبعد من ذلك ،فإن الرجل قوي البنية يكتيس
قيمة من هذه الصفة .فإذا فقدها فلن يشفع له أنه تعلم كثريا من العلوم النظرية .وال
أدل عىل هذا تعليق الناس عىل الرجل املتعلم ضعيف البنية بكالم يظهر من حتته بعض
العطف وبعض االزدراء ،الغربيون يتحدثون عن «فأر الكتب» ومثلنا الدارج يقول
«هيا إىل أهيا الطلبة ريثام يصل الرجال».
أما نظامنا احلايل ،فقد استقرت فيه الرتبية اجلسمية ،فخصصت هلا مناهجنا نصيبا
كام خصصت لسائر املواد الدراسية .لكننا إن قارنا مكان الرتبية البدنية عندنا ومكاهنا
يف أنظمة حديثة مثل أنظمة البالد األنكلوساكسونية ،نجد أننا ال نزال نعترب الوقت
املخصص هلذه الرتبية وقتا ضائعا أو يكاد واحلقيقة أن جهاز مدارسنا ال يفي باحلاجة
يف هذا امليدان ،وقليل هي املدارس التي يف ساحتها أدوات تساعد عىل ترويض
األجسام وتقويتها .وأقبح من هذا ما يف نفوسنا من ازدراء للرياضة يف املدرسة .وقد
جتد املعلم الذي حيتفل بدروسه ويتهيأ هلا ،لكنه ال هيتم باألمر إن كان درس الرياضة
البدنية .حتى إذا جاء الوقت أمىض درسه كام يتفق ،أو حاول تعويضه أو االستغناء
عه بتاتا.
والذي يتأمل األعامل الكثرية التي نحمل عليها أطفالنا يف املدرسة ،وكلها أعامل
فكرية متتابعة ،ويدخل يف حسابه سن األطفال وهي سن النمو ،ويعترب حاجات
اجلسم النامي إىل أن يتحرك ويتمدد ،يوشك أن يقتنع هذا املتأمل بأن الرياضة
__ 112
البدنية رضورية للطفل ،ويوشك أن يبحث عن وسيلة ما ليزيد يف حصة هذه
الرياضة بدل أن ينقص من أطرافها .فإذا اقتنع هبذا فسيرصف جمهوده ليهيء
لساعتها ،ويبحث عن أحسن الوسائل وأنجعها ليجعل درسه مفيدا.
ويف املدارس احلديثة حركة قوية ،ترى املناهج ال ختصص الوقت الكايف للتدريب
البدين ،وتسعى لتكون له يف املدرسة مكانة أوسع ،فيزاد يف ساعاته ،وجتهز من
أجله املالعب واألدوات .بل توجد مدارس ختصص للرياضة البدنية نصف حصة
الدراسة اليومية ،فتنزهلا مقام كل املواد الدراسية جمموعة سواء بسواء .ويقول
أصحاب هذه املدارس إن الطفل الذي يميض نصف اليوم يف مرح وحركة يقبل
عىل الدروس بانتباه ورغبة متضاعفني ،فليست الزيادة يف حصة التمرين اجلسمي
يف نظرهم إال وسيلة للحصول عىل نتيجة دراسية أحسن ،ثم هي يف نفس الوقت
جتهز الطفل بجسم قوي يقدر عىل مقاومة األمراض ،وينمو يف انسجام فيضفي عىل
الشخص حلة من الرشاقة واالعتداد ،مها الصفتان الظاهرتان يف الشخصية القوية.
والواقع أن هذه احلركة تعود بفلسفتنا إىل اعتبار الطفل ككل ال يتجزأ كام كان
الشأن يف عهد اإلغريق .فالشخص ،طبعا هلذه النظرية ،ال يستطيع أن يكون شيئا
آخر غري ما يسمح به جسمه والذي يريد أن ينشأ رجال له من الصفات كيت وكيت،
ثم يقطع النظر عن جسم هذا الرجل ،إنام حياول املحال .وإن من رشوط اخللق
السامي السمح سالمة اجلسم أيضا .ومن املمكن أن نزيد عىل هذه االعتبارات أن
اجلسم الريايض أقرب إىل أن يكون جسام ينضبط لصاحبه ويأمتر ،فيقدر عىل القيام
بأعامل تتطلب الدقة واملهارة ولعل هذه الدقة يف احلركة تفتح للمرء باب املعرفة،
ما دامت اليد مفتاح العقل كام يقول روسو.
نرى أن مكانة الرتبية اجلسمية يف مدارسنا يف حاجة إىل التعزيز ،كام أهنا ملا تستقر
بعد يف النظام الرتبوي احلديث بصفة عامة .واالندفاع إىل األمام ،والناس يسعون
يف أن ينال جسم الطفل من العناية مثل ما يعطى لعقله.
__ 113
الصحة والرتبية اجلسمية
املدرسة العادية تتقبل فقط الساملني ،وتوجه املعتلني إىل املؤسسات املختصة،
مثل مستشفيات األطفال التي تشتمل مدارس الحقة هبا ،ذلك أن تالميذ املدرسة
يتعايشون طول اليوم ويستعملون نفس األدوات الدراسية ،وكل هذا يسهل انتقال
العدوى بينهم إن وجد هناك مصاب .واحتياط املدرسة هلذا رضوري ،ألن املدرسة
تشعر بمسؤوليتها عندما تؤدى مجاعة األطفال يف حجراهتا .ولذلك تبقى ساهرة عىل
صحة األطفال فيفحصون يف فرتات كل سنة ملا خياف أن يوجد بينهم معد.
الوقاية :واملدرسة تستبق العدوى وتتقيها بكل الوسائل؛ فإذا كان يف البلد وباء
حجز التالميذ يف بيوهتم مهام كان هذا املرض .حتى إن بعض املدارس تويص بإرسال
التالميذ إن ظهر يف قسم ما عدة إصابة بالزكام.
ومن قبيل الوقاية ما تشرتطه املدرسة لقبول األطفال من الرشوط الصحية مثل
التلقيح ضد اجلذري .وتقوم إىل جانب هذا بالتلقيح ضد األمراض يف اإلطار املدريس
أو بمساعدة املؤسسات الطبية ،ويف املغرب أمراض منترشة تساعد املدرسة عىل
مكافحتها كأمراض العني املعدية «الرتاخوم» ويساهم املعلم يف هذه املكافحة مسامهة
إجيابية ،ألن العالج يتكرر مرات يف اليوم ويعم كل األطفال عىل سبيل االحتياط.
نضيف إىل هذا حرص املدرسة عىل النظافة ،والرشوط الصحية يف بناياهتا وأعامهلا،
ومحلها األطفال عىل نظافة األجسام والثياب واألدوات .هذا احلرص مؤكد نظرا
ألن أي إخالل بالنظافة هييء الطريق النتشار املكروب ،وألن عادة النظافة ال تتخذ
بسهولة.
__ 114
ورعاية األطفال الصحية تريد أن يفتح املعلم عينيه ليبرص التغريات التي تطرأ
عىل أطفاله .فيلتمس هلا األسباب .وبعض هذه األسباب املرض الذي يعرتي
الطفل ويبقى خفيا .فإذا وجد املعلم شيئا من هذا أعلنه للسلطة املدرسية إن كان
احلال يقتيض أن تتخذ التدابري اإلدارية ،فإن كان األمر يتعلق بمرض طفيف ال
خيشى انتشاره أم بنقص جسامين هيأ للطفل الت َِّعب كل الوسائل لئال يقوم بمجهود
جسمي ال يطيقه ،ولئال يزيد مرضه .وقد أرشنا يف مكان غري هذا إىل النقص يف
حواس األطفال وكيف يعاجله املعلم عندما يرتب التالميذ يف حجرة الدرس ،أو
هييء متارينه.
وإن أثر الوقاية الصحية يف املدرسة يمتد إىل األرس ،وينترش فيها عن طريق
األطفال ،فيكون التلميذ داعية ومرشدا يف منزله ،وحيصل بعمله اخلري الكثري من
حواليه.
وهناك مرض خاص بالتالميذ وهو اعوجاج العظام الفقرية .وسببه جلسة
الطفل غري املستوية ،وينشأ عن هذا املرض مخور عام يف اجلسم وضعف قد يتسبب
يف أمراض خطرية .وواجب املعلم أن حيتاط هلذا ويسهر عىل جلسة تالميذه سهرا
مستمرا لكنه ال يكفي أن يأمر التلميذ بني الفينة واألخرى باالعتدال يف اجللوس،
وإنام حيتاج إىل تفادي كل ملل يعرتي الطفل ويدفعه إىل اخلمول اجلسمي .ألن
الطفل إذا مل جيد يف الدرس مرغبا وىل عنه وأعرض .وإذا غاب انتباه املرء فرسعان
ما يسرتخي جسمه .األحسن وقاية هنا أن خيلق املعلم نشاطه يف درسه مستمرا،
ويتوخى أن يشاركه التالميذ بالعمل الذهني واجلسمي .عىل أن اجلسم الريايض
أقرب إىل أن يتحمل تعب املكوث يف حجرة الدرس ساعات متتاليات يف جلسة
صحية ال تلتوي .فال بد أن يعنى املعلم بالرياضة البدنية إذ ًا كوقاية العوجاج
الفقار.
وإن حواس الطفل أثمن ما يف جسمه ،ألن هبا يتصل بام حوله ومن
حوله .وبواسطتها يكتسب املعرفة ويكون إنسانا فإذا كانت الرتبية
اجلسمية فإنام جيب أن تبدأ باحلواس .واحلواس بحكم تركيبها ووظيفتها
__ 115
الدقيقة التي تؤدهيا رسيعة العطب إن مل جتد العناية الكافية .وأول العناية النظافة.
ونشري إىل العني وأمهيتها .وهي أداة العمل األوىل يف املدرسة فإذا ضاعت فقد ضاع
الشخص كله أو كاد .وإذا اعتربنا أن يف بالدنا تتفشى أمراض العني ،واعتربنا أننا نخرس
يف كل سنة آالفا من املواطنني ،يعمون فيصبحون عالة عىل األمة ،ويلقون بفقدان
برصهم رشا ليس كمثله رش ،تبينا مقدار ما جيب أن نبذله من اجلهود للمحافظة عىل
أعني تالمذتنا ،واستشعرنا مسؤوليتنا يف هذا االجتاه .وقد حتدثنا عن التلقيح الوقائي
ضد مرض الرتاخوم ،وبقيت أنواع أخرى من وقاية العيون.
منها اكتشاف نقص قوة اإلبصار عند بعض األطفال ،فإذا الحظ املعلم طفال
يرتكب أغالطا عندما ينقل نصا من عىل السبورة ،أو جيد صعوبة يف دروس القراءة،
فليبحث لعل السبب يف ضعف برص الطفل ،فإذا وجد ذلك فال يكتف بتغيري مكان
جلوس التلميذ ليقربه من السبورة ،بل يسعى لريسله إىل الطبيب ،ويدفع األبوين
ليشرتيا النظارتني وجيدا يف عالج ابنهام .وربام يقنع اآلباء برضورة هذا العمل إذا بني
أن البرص الضعيف ال ينفك يزداد ضعفا حتى ينتهي إىل ما ال حتمد عقباه إن مل يؤخذ
باكرا ويعالج بحزم.
ومنها اإلنارة الكافية يف حجرة الدرس ،وجتنب األعامل املجردة للبرص .ويويص
األطباء بأن تفتح النوافذ عن شامل احلجرة الدراسية ،ألن ذلك أريح للعني.
ونلخص الوقاية الصحية يف املدرسة هكذا:
- 1النظافة الكاملة .نظافة الطفل ،ونظافة جهاز املدرسة.
- 2التعاون مع الطبيب ،وترقب ما يظهر من اإلصابات ملكافحتها ،والتلقيح
ضد األمراض املعدية ،وإبعاد املصابني عن املدرسة.
- 3اجللسة الصحية ،والتهوية الكاملة واإلنارة.
- 4رعاية حواس الطفل بصفة خاصة ،واستشارة الطبيب كلام دعت احلال.
__ 116
الرتبية اجلسمية والعمل املدريس
رأينا يف حديثنا أن الرتبية اجلسمية متصلة كل االتصال بأعاملنا املدرسية .ألن سالمة
اجلسم رضورية للقيام بأي جمهود جسميا كان أو عقليا .واملريب ال ينبغي أن ينسى هذا
ويعد النشاط اجلسمي بمعزل عن النشاط العقيل فإن لكل ما يعرتي اجلسم من صحة
أو سقم ،صدى أكيدا عىل األعامل املدرسية .وإذا ما الحظ املريب عىل أحد تالميذه
تأخرا يف الدرس ،أو كسال معرتيا أو مزمنا ،فلينظر أول ما ينظر إىل احلالة الصحية،
وسيجد يف كثري من احلاالت أن السبب يرجع إىل صعوبة جسمية ،باد أو خاف ،أو
عياء عاما كثريا ما يصيب اجلسم الصغري الذي ينفق طاقة كبرية ليحقق نموه الطبيعي.
واحلالة الصحية تفرس هذه احلاالت التي نالحظها يف بعض األحيان؛ التلميذ النبيه
الذي يصبح بني عشية وضحاها تلميذا كسوال خامال.
وإن للمريب احلق يف أن يراقب خارج املدرسة ،فيطلع عىل أحوال معيشته يف أرسته،
ويتدخل يف األمر إن رأى أن األرسة ال تيرس البنها كل الظروف املواتية للعيش عىل
أسس قويمة ،تغذية كافية من حيث الكمية والنوع ،النظافة ،اهلواء الصحي ،الراحة
الرضورية بحيث ينام بانتظام يف حجرة مهواة ،وبحيث ال يطلب إليه القيام بعمل
مرهق .هذه املراقبة من حق املريب ومن واجبه ،إذ يطلب إليه أن ينشئ أفرادا أقوياء
أسوياء ،فإذا مل يتعهدهم يف كل يوم بكل وسائله يف املدرسة وخارجها ،فلن يكون
العمل املدريس كله إال نفخا يف الرماد.
هذا وإن النشاط املدريس نفسه فرصة لرتبية األجسام ،سواء يف دروس الرياضة
البدنية التي سنتحدث عنها بعد حني ،أو يف الدروس األخرى.
__ 117
إن من الدروس ما يمكنه أن يلقى خارج حجرة الدرس ،وكلام أمكن هذا فال
يرتدد املعلم يف فعله ،ألن فائدة دروس اهلواء الطلق مزدوجة ،اجلسم يسرتيح ويزداد
حيوية بنسبة اهلواء اجلديد الذي يستنشق ،والتلميذ يزداد انتباها ملدرسه حتت تأثري
جدة املكان ،واخلفة التي يشعر هبا يف جسمه ،وأكثر نفعا من هذه احلاالت املدرسية
املنظمة ،طويلة كانت أم قصرية ،والتي يقصد منها رشح درس من الدروس وتكملته
باملشاهدات املناسبة ال أعني الفائدة العلمية هلذه النزهات الدراسية فهي كثرية .وإنام
أقصد ما يستفيده جسم الطفل أثناء الرحلة ،وخاصة إذا كانت يف اهلواء الطلق وسريا
عىل األقدام ،إذ ليست رياضة أكمل من امليش.
ثم إن من الدروس ما يتطلب القيام بحركات توقيعية أو متثيلية كدرس األناشيد
واملوسيقى .وناهيك إذا اجتعمت احلركة والتوقيع ،أقول إن النشيد املدريس مناسبة ال
جيمل أن نستهني هبا ونعتربها فرتة اسرتاحة سلبية ،بل هنتبلها ونزيدها فعالية باحلركات
املنتظمة حتى يتأدب جسم الطفل فينساق إىل الوزن ويتعلم إنجاز احلركات اخلفيفة
األنيقة .وهذا بدء تربية سامية ،تربية احلس اجلاميل الذي هو مظهر اجلسم الكامل.
والرتبية البدنية تستفيد أيضا من حركات اجلسم املنظمة التي تتخلل الدرس
كوسيلة لتجديد النشاط .فكلام كان من التالميذ ما يدل عىل إعياء ،يبادر املعلم فيقطع
الدرس هنيهة بحركات رياضية يفعلها األطفال وهم يف أماكنهم ال يربحون ،وإنام
يقفون فيحركون أعضاءهم العليا يف نظام وهم يتنفسون تنفسا عميقا وكل نوافذ
احلجرة مفتوحة بالطبع.
__ 118
درس الرتبية البدنية
دروس الرتبية البدنية متارين يقصد منها تسهيل جريان الدم ،وتغذية اجلهاز النامي
بام حيتاج إليه من هواء نقي ،ثم تعهد املفاصل وإكساهبا مرونة تعضد النمو وتيرسه.
جريان الدم :وإن كل األعضاء تستمد زادها من الدم اجلاري يف العروق .فيجب
أن ختصص حركات لكل عضو تناسبه حتى يقتسم اجلسم ما حيمله إليه الدم بانتظام.
ومن املمكن عندما هييء املعلم درس الرياضة البدنية ،أن يقسم وقته فيعطي كل
جزء من أجزاء البدن حقه ،وأن حيرتم هذا التوزيع عند اإلنجاز .ذلك ألن العضو
الذي يتمرن ينمو ،والعضو الذي ال يتمرن ال ينمو .أما نرى املالكم وقد تضخمت
عضالت يديه وأعضائه العليا واملسابق وقد تصلبت عضالت رجليه؟ فتفاديا ألن
يكون جسم الطفل متفاوتا قوة عضوا عن عضو ،نضع نصب أعيننا هذه القاعدة،
ونتأمل أننا إن أعطينا الطفل جهازا بدنيا متكامال متناسبا ،فقد حصلنا عىل نتيجة
مجيلة.
وحلركة واحدة يقوم هبا العضو ،قد ال متس كل عضالت العضو وهي كثرية ،فلم
ال ننوع احلركات ونعدها ،ليكون لكل عضلة من نشاطنا نصيب.
التنفس :والتنفس مركز الدروس الرياضية ،ألن فيه رسا من أرسار الصحة وأمهية
التنفس كبرية ال تقل عن أمهية التغذية نفسها .فال يمل املعلم من التوصية عىل التنفس
الصحي ،واحلرص عىل توفري اهلواء اجلاري يف حجرة الدرس ،والسعي إىل توفريه يف
املساكن التي يأوي إليها أطفاله.
ونظرا هلذه األمهية ،فإن درس الرياضة البدنية ال يفهم له
معنى إن مل جير يف ميدان فسيح ويف اهلواء الطلق ،ما عدا إذا منعنا
__ 119
من ذلك حالة اجلو من برودة فوق العادة ،أو مطر .ويف هذه احلالة ينبغي أن يكون
الدرس يف بناء مفتوحة كل منافذه.
الرياضة والنمو :قلنا إن الرياضة إن أحسن فهمها ،توزع األغذية التي حيملها الدم
فتعطي العظام فرصة لتنمو وتطول ،كام أهنا تعطي املفاصل ومنها تطول العظام،
املرونة الالزمة هلذا النمو.
فإذا كانت احلركات الرياضية عنيفة ومتعبة ،فإن اجلهد الذي تطلبه إىل اجلسم
يذهب بكثري من رصيد القوة الذي يدخره ،ويصل إىل عكس النتيجة املقصودة .كام
أن احلركات العنيفة تصلب املفاصل فتعوق نمو العظام ،وإذا فالبد من تدبري حركات
متوسطة ،ليس منها محل أثقال وال جري رسيع وال أي من املنافسات العنيفة .وواضح
جدا أن صعوبة القيام باحلركات وعنفها نسبيان بحسب سن األطفال وحالتهم
الصحية.
والفقار الظهري يطلب منا عناية خاصة ألنه أهم عظام اجلسم ،بل هو قوامه.
وكلام كان الطفل صغريا ،كانت احلركات التي هتدف إىل تعهد الفقار هينة ،ألن ظهر
الصغري رسعان ما متسه الصدمات .وثم وسيلة حسنة لتعهد الفقار ومحل الطفل عىل
االعتدال يف مشيته :وهي أن حيمل ثقال صغريا عىل رأسه ويميش به مستقيام ،وهذا
أيضا وسيلة لعالج ما أرشنا إليها آنفا من إصابة ظهر التالميذ هبذا االعوجاج الذي
يسمونه مدرسيا.
وليتم درس الرياضة ،ينبغي أن ننهيه بحامم يفرك اجللد ويكمل الدروة الدموية،
فإن مل يكن احلامم فال أقل من أن يعوض بمناديل شخصية ،واحد لكل تلميذ ،يفركون
هبا أجسامهم.
وأخريا فإن درس الرياضة البدنية ليس وال ينبغي أن يكون محال ثقيال كام نعهد
ذلك .ألن هذا الدرس الثقيل املحتوي عىل متارين متعبة مرض كل الرضر كام قلنا ،وألن
من التالميذ الضعيف الذي ال ينهض ملثله .ونحن نرغب يف بناء األجسام السليمة،
وأحق األطفال هبذه العناية ضعاف األجسام فإذا بدأنا بتهيء درس عىل قواعد
__ 120
صحية ،فبوسعنا أن نحمل كل األطفال ،بل واجبنا أن نحمل كل األطفال عىل
ممارسته ،حتى الضعيف منهم ،وخاصة الضعاف منهم ،ألن الضعف الذي يظهر عىل
بعضهم قد يكون ناجتا عن قلة احلركة .وعىل أي فسيتأكد املعلم من أن ليس هناك أي
مرض عضوي.
ثم إننا إن أحسنا هتيئ درس الرياضة ،وهيأنا له اجلو العاطفي املناسب فسنجعله
حمبوبا يتسابق إليه األطفال ،سيام وهم شديدو الرغبة بدافع طبيعي إىل السعي واحلركة.
__ 121
الفصل اخلامس
الرتبية اخللقية
لن نقف طويال باحثني عن التعريف األحسن لألخالق ولن نتناقش طويال لنعرف
هل اخللق موطنه الطبع أو العاطفة وهل يتحكم فيه العقل املفكر .لكننا سنقبل أن
لكل هؤالء أثرا يف التكوين اخللقي ،ثم سننظر عمل األخالق يف حياة اإلنسان وأثرها
يف رقيه االجتامعي .وسنبحث يف األخالق يف املدرسة.
العقل واخللق:
إن الرتبية العقلية تنرصف إىل هتييء اإلنسان ملواجهة الواقع ،فموضوعها قبل كل
يشء األشياء واألحداث .وإمداد اإلنسان باملعرفة النظرية التي تنري وجه هذه األشياء
واألحداث بصفة موضوعية .أما الرتبية اخللقية فتتناول الشخص نفسه ،تتناوله لتنري
طريق إرادته وتؤيد هذه اإلرادة بعد أن توجهها للخري .الرتبية اخللقية تتناول الشخص
لتوقظه إىل رس وجوده ،وتفطنه إىل القيم املجردة حتى يكسب مكانه من هذه القيم.
ولئن كانت الرتبية العقلية تعتمد عىل التبيني والتفصيل فإن الرتبية اخللقية تعمد
قبل كل يشء عىل العاطفة تثريها ،وكلام كان إحساس الشخص عميقا عندما تعمل
عىل تربية خلقه ،كان تأثره أثبت وأرسخ .ألن الرتبية العقلية تريد أن يلمس العقل
حقائق قد تكون متشعبة وجمهولة بينام هم الرتبية اخللقية أن هتذب اإلرادة وتوجهها.
فيظهر ألول نظرة أن ال عالقة بني املعرفة واخللق لتباين موضوعيهام ،ونتأمل فيتبني
لنا أن تربية اخللق ،وفيها توجيه للسلوك ،وفيها معرفة الشخص نفسه وتقديرها ،ال
متكن إال بمعرفة الواقع الذي نتصور فيه السلوك وال متكن إال بمعرفة القيم التي
يتميز هبا الشخص ،ومعرفة األفراد الذين يتميز عنهم .ونتأمل فنجد أن الشخص ال
يريد شيئا ال يعرفه ،فالبد من أن تسبق املعرفة كل سلوك خلقي ،والبد من أن يقدر
العقل الضوابط اخللقية التي يترصف بمقتضاها ويستبق نتائجها املنطقية.
والواقع أن القوانني اخللقية نفسها يضعها العقل املفكر انتظارا للمصلحة التي
يتوقعها ،أو عىل األقل يقبلها هذا العقل املفكر اقتناعا بأن هذه املصلحة رهن بتطبيق
القانون اخللقي.
غايات الرتبية اخللقية:
هتدف الرتبية اخللقية إىل غاية كربى هي :إصالح املجتمع بإصالح الفرد.
__ 125
فالقانون اخللقي هيدف إىل ضامن احلياة االجتامعية وتأمينها قبل كل يشء .إذ يتضمن
التزامات يتحملها الفرد ويكيف سلوكه عىل منواهلا ،لكن الفرد بعمله اخللقي يرقى
ويتقدم يف سلم القيمة املطلقة فبوسعنا إذا أن نضيف إىل الرتبية اخللقية غاية ثانية هي
التقدم بالفرد.
وإذا سمونا بفكرة اخللق واعتربناها عند األفراد الذين يتشبعون بالفكرة حتى
تصبح رائدهم إىل عامل مثايل فقد بلغنا إىل أرفع غاية هتدف إليها الرتبية اخللقية.
العمل اخللقي:
ليس العمل اخللقي ككل األعامل التي نأتيها يف حياتنا اليومية واملهنية ،نعني أن
السلوك اخللقي ليس فقط احلركات التي نأتيها كحركات العامل يف معمله ال يقصد
إال إنجازا آليا ،بل السلوك اخللقي شعور بأن ما تفعله واجب مقدس ال ينبغي أن
نروغ عنه .وهو أسلوب يف الترصف فرضه الضمري أو فرضه االقتناع العميق.
نشعر يف صميمنا أن أعاملنا ينبغي أن تتفق والفضيلة ،ونشعر عندما تكون أعاملنا
موافقة هلذه الفضيلة برىض عميق ،كام نشعر كلام خالفناها أو كانت أعاملنا الفاضلة
استجابة لضغط القوة املفروضة علينا ببؤس وقلق شديدين ،هذا الشعور هو الضمري،
وكل سلوك خلقي ينبثق عنه.
وعىل هذا فعمل اإلنسان ال يستحق أن يوصف بأنه خلقي ما دام ال يصحبه الشعور
بالواجب ،ال يصحبه إخالص الضمري ،كام ال يستحق أن يسمى خلقيا أي عمل يكره
عليه املرء ويأتيه بدون إرادته .إنام يكونه العمل الذي تصدره إرادة واعية حيركها
الضمري املقتنع سواء كان القانون اخللقي الذي يتمسك به الضمري فضيلة عرفية أو
دينية ،وقريب من هذا يقوله بعض علامء الدين الذين ينكرون صحة إسالم الذي يعبد
اهلل خوفا من عقابه أو طمعا يف جزائه ال اقتناعا منه بمبادئ الدين.
عىل أن األعامل اليومية التي يقوم هبا املرء خاضعة لقوانني خلقية وضعتها اجلامعة،
وهو حني يعيش مع أرسته أو خارجها ،حيث يتعامل مع التاجر ،أو مع احلكومة،
يأيت أعامال خلقية صارت عادة لديه حتى إنه ال يفكر يف أنه يقوم بواجب مفروض،
نعني أن ضمريه ال يستحرض دائام هذا الواجب لكن متى وقف يتأمل واحدا من هذه
األعامل العادية ليغريها يف اجتاه الواجب اخللقي استيقظ الضمري ليعيده إىل الفضيلة.
والناس ال يستوون يف التمسك بالفضيلة وفهمها ،معناه أهنم خيتلفون درجة يف
حياة الضمري.
__ 126
نجد يف أسفل الدركات ذاك الذي يلزم الصواب مرتقبا ،ال يلزمه إال خوفا من رش
يناله إن خالف ،وفعل مثل هذا ال يوصف بأنه خلقي حتى وإن كان يف الظاهر مطابقا
لقانون األخالق.
ونجد أيضا الطفل الذي ملا يدرك الواجب ،ملا يتكون فيه بعد شعور بالواجب،
لكن ينتظر منه أن خيضع للنظام األخالقي السائد يف جمتمعه .وخيضع الطفل هلذا
النظام فيحرتم ملك الغري ،ويمسك عام هنى عنه ،يفعل هذا ال عن اقتناع لكن للضغط
العاطفي أو املادي الذي نفرضه عليه .ويف قياس تعريفنا للعمل اخللقي ،فسلوك
الطفل املجرد عن شعور الضمري ال يوصف بأنه خلقي وال مناف لألخالق.
لكن املجتمع عندما يفرض قانونا خلقيا يضعه ،أو عندما يطبق قانونا دينيا ،ال ينتظر
من األفراد إنجازا يسبقه الوعي واالقتناع ،إنام ينظر املجتمع إىل التطبيق الظاهري
للقانون ال يعنيه أتاه املرء بوحي من ضمريه أو ال.
فالعمل اخللقي بالنسة للمجتمع هو إنجاز القانون اخللقي فقط ،وكل من طبق
هذا القانون يف عني الناس رجل ذو خلق مهام كانت نيته ،ومهام كانت درجة اقتناعه،
املجتمع يعترب ذا خلق الرجل املرتقي الفاضل بالرغم عنه والطفل الذي نأخذه
بالعاطفة أو بأي وسيلة أخرى ما داما ال حييدان عن سنة سنها.
اخللق يف املدرسة:
واملدرسة تريب الطفل لكي يتكيف بمجتمعه وينضبط بضوابطه ،وتربيه أيضا
وهتذب نفسه ليشعر بالواجب وليكون سلوكه أخالقيا باملعنى اخللقي الكامل.
يلتحق الطفل باملدرسة حيث يكتشف ناسا ال تربطه هبم عاطفة القرابة واألرسة،
أطفال يف مثل سنه ،ومعلمني أجانب عنه وتطلب إليه املدرسة أن يكون كام تريد
ويترصف كام تريد .ويفقد الطفل الدالة العاطفية التي كان يف البيت يقدمها شفيعا
كلام خالف وجيد مكان هذه الدالة التي تقبلها األرسة دائام رصامة ال عهد له هبا.
وهنا خيضع الطفل أيضا للقانون اجلديد ويترصف حسب اإلرادة املفروضة عليه.
لكن رغباته الطبيعية تتنازعه مع هذا اخلضوع ،فإذا مل تتخذ املدرسة وسيلة لتحفظ
عليه استسالمه للقانون األخالقي ،بل لتجعل خضوعه استسالما راضيا ،يوشك أال
يكون كام تريد املدرسة إال بالقدر الذي يكون عقاهبا الحقا به.
__ 127
تبدأ تربية الطفل اخللقية يف املدرسة عندما تربز أمامه أوامر حتدد صلته االجتامعية
برفاقه ومعلميه ،ويطبع الطفل هذه األوامر فال يلبث أن يعتادها .واملدرسة ،قلنا،
تريد أن تكسبه إىل جانب هذه األوامر التي أطاعها خوفا أو طمعا لذلك هتيء له
جماال يتعلم فيه بنفسه السبب الذي من أجله ألقيت إليه األوامر اخللقية؛ متكنه من
التعاون مع رفاقه يف إنجاز األعامل املدرسية فيتعلم فضيلة التعاون ويتعلم فائدة قيام
كل فرد بواجبه .متكنه من مشاركة رفاقه يف تبني زميل له فقري ومساعدته بام يدخره
من نقود ،فريى نتائج إحسانه ويقتنع بفضيلة التضامن االجتامعي .متكنه بصفة عامة
من التجربة االجتامعية املوجهة أثناء العمل اليومي يف املدرسة أو حول املدرسة فيقف
عىل احلقيقة التي كنا نسوقه إليها سوقا فال يلبث أن يقتنع ثم ال يلبث أن يعي فيكون
ذا ضمري كام تقصد املدرسة يف أبعد أهدافها.
احلرية واخللق:
وإن هذه الفرص التي هتيئها املدرسة تقتيض إعطاء قسط كبري من احلرية للطفل ،مثال
نعطيه حرية االختيار عندما نطلب إىل األطفال إنجاز عمل ما مجاعة مجاعة ،فإذا اختار
رفاقه يف العمل حرا وبدون أن نفرضهم عليه كان أقرب إىل أن يشعر إىل أن اختياره
يلزم أن يتمم عمله ويتعاون مع مجاعته ،معناه أنه سيشعر بالواجب وباملسؤولية.
مثال نعطيه حرية املشاركة يف مرشوع مدريس ألنه إذا شارك خمتارا سيشعر بأنه تكفل
بفرض هو عن إنجازه مسؤول.
وهذه احلرية التي نتحدث عنها ال تكون بالطبع حرية مطلقة ،فال نسمح للطفل أن
يسري عىل غري هدى ،ال نسمح له مثال أن يدلس يف واجب مدريس بدعوى أنه حر يف
نقل دفرت صاحبه بل ننكر عمله بجد ورصامة ليشعر التلميذ بالواجب واملسؤولية،
ولنفهم التوجيه عىل أنه ليس الشك املبدئي يف إخالص الطفل وحسن نيته ،ألن هذا
الشك الذي نتبع به الطفل كلام حترك ضغط أقبح الضغط .ويشعر به الطفل فيدلس
علينا وإذا به ال يترصف كام نحب إال مداهنة ال إرضاء لشعوره بواجبه .نكون إذا
خملصني عندما نعطي الطفل حرية وننتظر منه خملصني أن يقوم بواجبه ،فإما فعلنا
فسنجد الطفل عند حسن ظننا ال حمالة وإال نفعل فإنام نحجز عاطفة الطفل وننال من
شخصه ثم ال نجد إال النتائج التي ال نحبها.
__ 128
ال ننس أن الشدة تفرض عىل اجلسوم ال عىل اإلرادات وإن كل منطقنا ال يفيد إذا
جئنا نرغب الطفل يف فضيلة نظرا لنتائجها .إنام يفيد التأثري العاطفي ،نرتك الطفل
يكتشف بنفسه مجال العمل الذي أتاه وسيقوم انفعاله العاطفي إرادته وسيوجهها
الوجهة التي نريدها.
لنر ما حيدث يف مدرسة تتجه إىل التالميذ باألمر بالوعظ النظري ثم ال توجد للطفل
فرصة حتى يرى كيف تطبق هذه الفضائل التي يتحدث إليه هبا ،وحتى يقر أثر العمل
يف عاطفته .ومثل هذه املدرسة تعتمد عىل اإلكراه والزجر ،وتريب ناشئة من املنافقني.
العادة واخللق:
قلنا يف هذا الفصل إن أعاملنا العادية اليومية نأتيها دون أن يكون للضمري حركة،
ودون أن نفكر يف قيمتها اخللقية .وقلنا إن مثل هذا العمل إن كان يريض املجتمع ألنه
مناسب لألخالق فإننا ال نسميه عمال خلقيا ألن الشعور بالواجب ال يصحبه.
واملدرسة ال تريد فقط أن تكون يف األطفال عادات خلقية بل تريد أن تبلغ هبم
إىل درجة الوعي اخللقي .والعمل اخللقي ترصف إرادي كام قلنا ،يأتيه املرء شاعرا.
والطفل قليل اإلدراك ضعيف اإلرادة ،لذا نعتمد يف ترويض هذه اإلرادة وتقويتها
عىل االنفعال العاطفي.
فإذا مل تكن الفرصة خللق هذا االنفعال العاطفي أو كان العمل الذي نطلبه إىل
الطفل ال يتأتى معه حتريك العاطفة ،فإننا ندعم إرادته بالعادة.
النظافة مثال عمل يصعب أن نجد عند الطفل استجابة عاطفية له ،فنصريه عادة
عند الطفل حتى إذا ارتكزت فيه كان نظيفا دائام دون أن نجد نحن يف سبيل هذه
النتيجة عناء املناقشة أو االقناع ،وال عناء التأثري العاطفي الذي ال يسهل يف مثل هذا.
ويعتمد عىل العادة يف الرتبية اخللقية ،خاصة يف األخالق الشخصية ،نعني التي
تتعلق بالفرد وحده كالنظافة والنظام واالقتصاد الخ.
املثال واخللق:
نعرف أن غريزة التقليد قوية يف الطفل ،تسهل عليه إنجاز حركات وإخراج
أصوات وتعلم حقائق تكمل استعداده للتكيف االجتامعي .ويقلد الطفل أيضا
السلوك السائد يف بيئته يف امليدان اخللقي .يرى يف بيئته ناسا يتأدبون فيتأدب مثلهم أو
يرى ناسا يكذبون فيكذب مثلهم؛ ال خيرتع سلوكا من عنده أبدا.
__ 129
وجييء إىل املدرسة فيعطيه أمثلة يقتدي هبا رفقاؤه ومعلموه.
وكيفام تكن شخصية الطفل فلن يكون بمنحى من تأثري املثال الذي جيده يف البيت
أو املدرسة وكيفام تكن األوامر التي تعطاه ،فإن داعي التقليد سيكون أقوى من هذه
األوامر .لذا فمهم جدا إذا أردنا أن نعطي الطفل خلقا صاحلا أن هنيء له وسطا
صاحلا .لنجنبه يف البيت كل عارض يطلع فيه عىل رش األعامل ،لنقتصد يف أقوالنا
ولنبد االحرتام حلقوق الغري إن أردنا أن يكرب الطفل غري ثرثار وال مستخف بالناس.
وليكن جو املدرسة خاليا من أمثلة السوء .وإن كان يف املدرسة فرد فاسد ،فلنحرتس
منه ولنخف أن يعدي سلوكه األطفال ،وإن من واجب املدرسة يف مثل هذه احلالة أن
تعالج األمر من أقرب الطرق ،وذلك بإبعاد هذا عن املدرسة إبعادا هنائيا.
وإن املعلم هو املحور الرئييس الذي يدور حوله طموح كل طفل؛ األطفال
يرسعون إىل تقليده يف كل يشء ،فينبغي أن يكون حيث تكون األمثلة الصاحلة علو
نفس وفضل .هذا الرشط واجب ،فام تعني تعليامت األستاذ إذا مل يكن نفسه أول من
يدين هبا .وال ينفع أن يتظاهر أمام األطفال غري خملص ألهنم دقيقو اإلحساس ال
خيدعون بسهولة.
األطفال هيتمون بأحوال معلمهم ويستقصوهنا ،فيطلعون عىل حالته خارج
املدرسة ،ويرقبونه يف القسم عندما يكافئ أو يعاقب ،ال يفوهتم حركة واحدة من
حركاته ،يشعرون بعدله إن كان عادال ،ويشعرون به إن مل يعدل ،بل يشعرون أيضا
إن كان يفضل بعضهم عىل بعض ولو تفضيال خفيا.
الرتبية بالسلب:
عىل أن املثال السوء يف املدرسة وخارجها يكمن يف الطريقة التي نتحدث هبا إىل
الطفل عن الرذائل التي ينبغي أن يتجنبها ،ألن الطفل يكون بعيدا عن ختيل رذيلة ما
حتى نجيء هبا نحن ظانني أننا ننفعه .عندما أطلب إىل الطفل أال يكذب ،أعلمه يف
نفس الوقت أن هناك شيئا اسمه الكذب وأن بوسع املرء أن يكذب .وعندما أخربه
عن قصة شخص رسق أو اعتدى أضع أمامه مثال سيئا ال يؤمن أن يقتدي به مهام
استقبحته له ومهام وعظت .ويظهر أن الرش أشد إغراء للناس من اخلري.
__ 130
ومن احلكمة عىل أي حال أن نتجنب ما نسميه الرتبية بالسلب ،فال نقدم للطفل
إال أمثلة تعطيه نموذجا لبناء خلق مستقيم أو نتجنب هذا السلب يف كل حديثنا ويف
كل أعامل املدرسة .فدرس القراءة يكون مفيدا من الناحية اخللقية إذا كان حول فتى
صالح نجح يف عمله ونال إعجابنا ،ويكون مرضا إذا كان حول الفتى املجرم .ال
خيفف من رضره أن هذا املجرم نال عقابا ،وال خيفف من رضره حتى إن شعر الطفل
باشمئزاز منه واحتقار له.
خري «أن نبني للطفل نموذجا حسنا ونثري محاسه لفعل الفضيلة من أن نحذره من
الرذيلة وعواقبها».
لكن كيف نعالج هفوات األطفال حني هيفون؟ من واجبنا أن ال نسكت عندئذ وأن
نستعمل كل سلطتنا لنسرتجع برهة حرية الطفل التي مل يستحسن استعامهلا .ومن واجبنا
أن نعزره عىل عمله .لكن واجبنا أيضا أال نشهر به ونبسط فعلته أمام زمالئه ليشاهدوا
قبحها .ال نفرض عليه عقابا فاضحا ظانني أن هذا العقاب سيكون موعظة اآلخرين.
ال نفعل هذا أوال ألن لألطفال شخصية نحن مسؤولون عن رعايتها وينال منها الفضح
والتشهري .ثم ال نفعله خاصة ألننا نخاف أن يعدي هذا املثال فيأيت بالنتيجة التي ال
ينتظرها عادة ذلك الذي يريد أن يؤدب املجموع بتقريع فرد مذنب وعقابه.
حقيقة ثابتة مغناطيس املثال احلسن الذي يأخذنا بسموه ومجاله فال نزال به عالقني.
وأن نتأمل كبار الرجال نجد أهنم تقدموا يف طريق الفضيلة ألهنم نزعوا إىل مثالية
متسامية .وأن نفتقد فاضال واحدا سام به إىل الفضيلة خوف اهلاوية ال نجد شيئا.
دروس األخالق:
يف برامج التعليم حصص خصصت لدروس األخالق .هذه الدروس مقسمة
أبوابا بحيث يطلب الربنامج أن تدرس كل حصة منها يف يوم معني.
وإن كان أمر وضع الربامج مفروغا منه وال سبيل إىل حماولة تعويض درس
األخالق ،فإن الذي ينبغي هو أن نتأمل أوال أن األخالق ال تعلم كام تعلم اللغة وال
تقسم كام تنقسم مادة احلساب .نتأمل أن رشح ما ال يكفي أن يتعلق به األطفال ألن
العقل ،قلنا ،ليس احلافز للسلوك اخللقي .نتأمل أن غايتنا الرتبوية أن نكسب الطفل
خلقا فاضال ال أن نحدثه فيحفظ ما قيل يف فضل الصدقة والتعاون واإلخالص.
__ 131
وإن كان البد أن (نعلم) دروس األخالق ،فلنجعل فرصة لنعطي الطفل مثاال
صاحلا ،نحدثه مثال ونقرأ له قصة قوية عن شخص ،وليكن هذا الشخص طفال،
أحسن يف عمله ،نقرأ القصة دون تعليق يقصد منه البسط النظري ،إذ يكفي املثال
ليجيء الطفل بعزيمة جديدة.
ثم يأيت بعد ذلك درس األخالق احلقيقي حني هنيء للطفل فرصة لإلحسان يف
عمله سواء يف القسم معامال رفاقه ،أو خارج القسم معامال الناس .درس األخالق
احلقيقي يتلقاه الطفل يف احلياة اليومية ،يف أنواع النشاط اخللقي الذي نجعله ممكنا.
الدرس احلقيقي يف العمل اليومي الذي يتكرر حتى يصبح عادة راسخة .نقرأ للطفل
قصة طفل ثابر وصرب ونجح .وبعدها نشجع الطفل عىل املثابرة ونجعلها ممكنة بالنسبة
إليه ،فال نرهقه ونحمله ما ال يطيق ،وال نفضحه إن ضعف عن واجبه مرة.
يف كل يوم درس أخالق ألن يف كل يوم يمكن أن حيسن الطفل عمال .فال نعتمد
عىل درس األخالق إال بقدر ما نعتربه فرصة إليقاظ محاس الطفل وبعثه ليعمل .وال
نعترب درس األخالق إال فرصة لتسمية الفضيلة التي نمثل هلا حتى يتسنى لنا إلقاء
الضوء عىل كل مواطن التطبيق التي سيكتشفها الطفل بعد ذلك كل يوم.
وليكن أخوف ما نخافه أن نرتك الطفل عاطال فيذهب به هواه ظانني أن وعظ
«درس األخالق» العميق كفيل أن يقومه.
الدين واألخالق:
إن مبادئ األخالق ،قلنا ،إما أن تكون من وضع اجلامعة من اخلارج .وهذا شأن
الدين الذي نقتنع به ونجعله قانونا لسلوكنا.
الدين دافع قوي للمثل األخالقية ،نعني الفكرة الدينية التي يتشبه هبا املرء حتى
تصدر عنها كل أفعاله ،ال الدين كام يفهم عادة من أنه نسك ننجزه بحكم العادة ودون
أن يكون هلا أثر يف نفوسنا.
الربامج تطلب إلينا أن نعلم الطفل مناسك دينه ،وينبغي أال يكون تعليمنا
قارصا عىل احلركات ،بل فرصة لتوجيه سلوك الطفل عىل ضوئها ال تفيد
الصالة إن مل تكن خاشعة ومل يعدها املرء أوقاتا حياسب فيها ضمريه أمام اهلل.
وال تفيد الصدقة من يعطيها شيئا إن مل يعتربها واجبا إنسانيا نحو الفقري .لنعلم
__ 132
الطفل إذا أن الدين قانون يضبط النفس وهيذهبا .وإن أقرب ما نتقرب به إىل اهلل طهارة
قلوبنا وإخالص نياتنا كلام قمنا بعمل ديني.
واحلق أن الدين ال يتعلمه الطفل كام يتعلم اللغة مثال ،بل يتعلمه قبل كل يشء من
املثال الذي أمام عينيه يف كل يوم .وهلذا ينبغي أن يكون درس الدين نقطة منها تبدأ
مالحظاتنا بعدئذ للمواطن التي نطبق فيها ما قرأناه .إذا تعلمنا كيف نتوضأ فلنتوضأ
بعدها كل يوم مستشعرين أمهية الطهارة البدنية وهي رشط لطهارة الروح.
وهكذا يكون الدين واألخالق يف طريق واحد يف املدرسة يتساندان ليكونا يف الطفل
عادة تضبط كل حياته عندما يعي ويستيقظ إىل مسؤوليته عن نفسه وعن أفعاله.
__ 133
الفصل السادس
الرتبية العقلية
ينشأ الطفل ليعيش كبريا يف انسجام مع واقعه ،يبدأ جاهال كل يشء ،عاجزا عن فهم
ما حييط به ثم ينمو جسام وعقال ،وتنمو فيه استعدادات كثرية .لكن هذه االستعدادات
وحدها ال تعطيه املعرفة التي حيتاجها حول نفسه وحول العامل الذي يعيش فيه.
وإن عقل الطفل هو األداة الكربى التي هبا يكتسب كل معرفة تقربه من االنسجام
املطلوب له يف حياته .وهذه األداة حتتاج إىل توجيه وهتذيب أثناء نموها حتى تكمل
مستقيمة.
تربية احلكم:
احلياة يف عني الطفل مليئة بالعجائب ،يف كل يوم تعرض له جتربة متلك نفسه .ذلك
ألن الطفل مقبل عىل عامل جديد بالنسبة إليه .فاألشياء ملا تفقد يف نظره روعتها .نزيد
هذا عىل رغباته النفسية امللحة فيظهر لنا أن ترصفه االندفاعي وراءه قوة ال يملك أن
حيبسها ،إذ يعتقد أن العامل وجد لرييض طلباته ،وأنه حر بوسعه أن يفعل ما شاء.
هذا حكم الطفل قبل أن ينمو وقبل أن هتذب عقله التجارب اليومية وإرشاد املريب.
يعترب نفسه حرا ال حيد من حريته حتى خوف عقاب يرتتب عىل أعامله .وحتى عجزه
الذي نراه نحن وال يراه هو عن تنفيذ ما يرغب فيه.
وأول عملنا هو أن نشعره بأن العامل يسري عىل نظام ال خيضع لسلطان رغباته ،نعلمه
بكيفية عملية أن هذا النظام بناه العقل حسب قواعد منطقية حتتم حدوث النتائج كلام
كملت األسباب.
هذا الطفل الذي ال يعرف قيمة النقود مثال حيسبها مادة يعطيها أبوه كلام طلب.
نعلمه يف القسم يف درس املطالعة مثال كيف يكسب الصانع درامهه عندما يبيع ما
أنتجه .فإذا مل ينتج شيئا مل جيد دراهم.
وبالتجربة املستمرة التي نصححها يكتسب هذا الطفل الفكرة األساسية للنظم
االجتامعية واملادية.
وإن عمل املدرسة أبعد مدى من توجيه جتربة الطفل وتصحيحها ،هذه التجربة
التي تنتهي إىل إدراك للواقع موضوعي .عمل املدرسة أن تريب يف عقل الطفل قدرة
عىل احلكم السليم القوي ،احلكم الذي يصدره الطفل دون أن يتأثر بالعاطفة ،ودون
أن خيدعه عن احلقيقة خادع.
__ 137
جيب أن يتعلم الطفل كيف يصدر حكام مستقال عن اآلخرين .فيتعلم أال يصدق
كل ما خيرب به دون أن يتأكد من صحته ويعرضه عىل معيار عقله ،فإن من أهم األمور
أن يستقل املرء يف حكمه ويتحرر من التقليد والتبعية.
أثناء العمل املدريس اليومي نعلم الطفل كيف يستعمل حواسه استعامال ثابتا ،يبرص
حقيقة األشياء التي يبرصها وكيف يميزها بتدقيق ،كيف يسمع األصوات ويتعرف
عليها متاما .نعلمه كيف يتأكد من اخلرب إذا سمعه وكيف يشك يف إمكانه ما دام مل
يثبت لديه هذا اإلمكان .نعلمه بصفة عامة دقة املالحظة ونعوده إياها .ألن املالحظة
الدقيقة رشط يف إصدار حكم صادق.
ولذا فليس املهم يف املدرسة أن نزود الطفل بمعرفة غزيرة ،املهم أن نعلمه كيف
يفكر وكيف حيكم .ويقتيض أن نرعى دائام يف دروسنا جانب التعليل والتطبيق
العلمي ،فال نعترب درسا ناجحا إال الدرس الذي أوجدنا فيه مادة ملالحظة الطفل
وتعليله وحكمه .ويقتيض أيضا أن نقصد يف مادة الدرس ،فال نأخذ منها إال ما تتلقاه
العقول الصغرية وهتضمه.
لكن الذي ال ننساه ،هو أن الطفل يف حاجة إىل معرفة لكي يكون قادرا عىل إصدار
حكم حقيقي .هذه املعرفة جيب أن تكون حقيقة ،ال نطرحها ظانني أن الطفل إنام
يستفيد عندما يفكر .لنفهم أن التفكري احلقيقي عمل ال يمكن إال مع املعرفة .ولنفهم
أن عقل الطفل يقوى إذا بارش عقوال أخرى قوية .البد أن يطلع عىل أفكار اآلخرين
قبل أن يقدر عىل التفكري بنفسه.
حتدثنا عن إعطاء نموذج لعقل الطفل ،وهذا النموذج ينبغي أال يصبح بأية حالة
سلطة يعتمد عليها الطفل ويصدقها يف عامء تام .بل ينبغي أن تكون األفكار التي
نقدمها إليه مادة لعقل الناقد ،يتناوهلا ويقلبها باحثا حتى يقتنع هو بصحتها.
تربية الذاكرة:
إن السنوات التي يقضيها الطفل يف املدرسة أهم فرتة يف حياته .أثناءها يكسب نمو
عقليا وجسميا ترعاه املدرسة وتوجهه .وأثناءها يكسب هذه املعرفة التي البد منها
النسجام الطفل بمجتمعه.
ومن أهم امللكات التي يتوقف عليها الطفل يف هذه الفرتة الذاكرة ،إذ بدوهنا ال
يمكن أي حتصيل.
__ 138
يف ذاكرة الطفل تثبت صور األشياء واألحداث التي مرت به ،وبواسطة هذه الصور
يمكنه أن يتعرف عىل املدركات اجلديدة .فإذا تصورنا طفال فقد ذاكرته نتصوره
شخصا جيهل عن عامله كل يشء ،فهو بمثابة األجنبي العاجز عن فهمنا ،بل العاجز
حتى عن املحافظة عىل حياته.
إذا كان العقل املفكر الفاعل يف تطور شعور الطفل فإن املادة التي تعمل فيها ملكة
التفكري جتدها يف الذاكرة ،وقديام قالوا« :احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره» يعنون
أننا ال نصدر أحكاما إال بعد أن نتعرف عىل موضوعه ،أو بعبارة أخرى ال نصدر
حكام إال إذا كانت األشياء والصالت معروفة عندنا مستقرة يف ذاكرتنا.
والكيفية التي هبا تستقر املعرفة يف الذاكرة ،تتوقف عىل قوة هذه الذاكرة وسلطان
العقل املفكر عليها .وذاكرة الطفل ضعيفة رغم ما تقوله األمثال .وعقله عاجز عن أن
يرتب هذه الذاكرة حتى جيعلها خزانة مبوبة معنونة .فذاكرته تأخذ املعرفة بمهل فال
حتصلها إال مع التكرار أو مع التأثري العاطفي الذي يرسخها ،فمالحظ أن الصغري ال
يقدر أن حيتفظ بشعر يقرأه إال إذا سمعه أو قرأه مرات متعددة .كام أنه يتذكر احلادثة
التي أثارت خوفه أو إعجابه بأسهل ما يتذكر غريها.
وبقدر ما يتقدم سن الطفل وتكثر جتاربه ،تزداد ذاكرته قوة ويفعل فيها التفكري
النامي ،فتزداد وضوحا شيئا فشيئا.
والذي هيم املعلم قبل كل يشء هو أن حيصل تالمذته .وبمعرفة ما قلناه عن ذاكرة
الطفل وكيف تتطور يمكنه أن يأخذ الطفل باللني عندما ينسى أو ختتلط عليه ذاكرته،
ويكرر له ما مل يسمعه وما مل يأخذه من أول مرة.
وليساعد الطفل عىل تنظيم ذاكرته يستعني بالروابط املختلفة التي جيدها بني دروسه
كيفام كانت هذه الروابط .فهذه حادثة يف التاريخ فيها مثال للمبادئ التي قرأها يف
درس الرتبية الوطنية ،وهذه لفظة شبيهة بلفظة أخرى سبقتها .ومراجعة الدروس
عقب درايتها يف بدء كل حصة يساعد كثريا عىل هذا الربط .ولكي نزيد من فائدة
املراجعات نجعلها متعددة وباألخص عندما تعرض لنا فكرة يمكن أن تربطها بفكرة
سابقة.
__ 139
أنواع الذاكرة:
ثم إن ذاكرات األطفال ختتلف منافذها ،فهناك أطفال برصيون ال حيصلون بسهولة
إال ما رأوه بأعينهم وآخرون سمعيون وآخرون حسيون .وهذا االختالف يفرس الفروق
التي نشاهدها بني الطفل الذي ال يغلط يف اإلمالء وآخر حيفظ األناشيد برسعة .ومن
أجل هذا يراقب املعلم تالمذته حتى يقف عىل هذا االختالف ،فيمكنه من استغالله
واالعتامد عليه .واألثبت أن يعتمد عىل احلواس مجيعها يف تعليمه بحيث يرى الطفل
ويسمع ويلمس .ففي درس القراءة يتعلم الطفل احلروف رسيعا إذا أبرصها ،وسمع
األصوات التي تدل عليها ،ثم استطاع أن يكتبها ويقطعها من الورق .وتفيد هلذه الغاية
وسائل اإليضاح ،هذه األشياء والرسوم الرضورية يف كل درس.
أرشنا يف معرض احلديث عن تربية احلكم إىل وجوب القصد يف املعرفة التي نقدمها
لألطفال ،فال نأخذ منها إال بقدر ما تستسيغه عقوهلم ،ويوجب هذا القصد أيضا أن ذاكرة
الطفل ال تقدر أن تتحمل أكثر من طاقتها .فإذا ما أكثرنا عىل الطفل فرسعان ما نصل
إىل حدود هذه الطاقة ،ثم نتعداها فيعجز الطفل عن مسايرتنا .وقد يكون هذا الطفل ذا
ذاكرة استثنائية ،لكن قدرته هذه ال تسمح لنا أن نحمل عليه الكثري ونعترب ذاكرته خزانة
نملؤها ،ألن النتيجة يف هذه احلالة أن ينشأ الطفل حافظا ممتازا لكن عاجزا عن أي تعليل
أو تفكري مستقل .وما ينتظر من املدرسة احلديثة أن خترج مثل هذا النموذج.
تربية املخيلة:
تتكامل ملكات العقل الثالث ويعضد بعضها بعضا .فذكرنا أن العقل ال يستطيع
احلكم إال ألن الذاكرة تعطيه رفدها .وسنرى هنا أن املخيلة أيضا تعضد ملكة التفكري
بل تكون القدرة عىل التخيل رشطا يف القدرة عىل التفكري .أال نرى أن احليوان العاجز
عن التخيل عاجز أيضا عن التفكري؟
عندما يقف اإلنسان أمام جتربة جديدة ،أمام مشكلة حسابية مثال ،وحياول حلها،
يعمد إىل ذكرياته ليأخذ منها املعلومات التي يظن أهنا تساعده يف هذا احلل ،ثم
جيمع هذه املعلومات بكيفية جديدة ليجعلها مناسبة للسؤال املطروح عليه .هنا
عملت املخيلة .حتى إذا وجد حال من احللول يتحققه ثم حيكم بصحته أوعدمها.
فرتى كيف يسبق اخليال احلكم وجيعله ممكنا .ويف مثل هذا املوقف يقف احليوان
__ 140
عاجزا ،فكلام عرضت له مشكلة جديدة حاول أن خيرج منها بأية وسيلة ،حياول
فيخطئ إىل أن يصل إىل احلل الصحيح أو يمل فيكف عن املحاولة.
وإذا تدبرنا األحكام التي يصدرها العقل والتخيالت التي تسبق هذا احلكم نجد أهنا
مجيعا ال متكن لوال اخليال .نحكم بأن الرسم الذي نشاهده يمثل فالنا ممن نعرفهم ألن
صورة عقلية هلذا الفالن ثبتت يف ذاكرتنا ،ثم يأخذها اخليال يقارهنا بالرسم اجلديد.
وخيال الطفل حر فسيح لقلة جتربته ومعرفته ،فال جيد لتخيالته حدودا يفرضها
املنطق كام حيدث للبالغ .وختيالت الطفل هذه املنطلقة قد تكون ،أن تركت متاما،
خطرا عىل نضج فكره بصفة عامة .ألهنا تبعده عن الواقع الذي يعيش فيه ،لكنها دائام
أداة مهمة تبني هذا الفكر وهتيئه .وحيرص املريب دائام أن يستعمل خيال األطفال غري
مكتف باملالحظة اجلافة .وليقدر أن املالحظة أساس للتفكري العلمي الصحيح ،لكن
هذه املالحظة ال تفيد إن مل يتناوهلا اخليال .ليفكر املريب أن تطور اإلنسان واخرتاعاته
كلها ال تكون ممكنة لوال اخليال .ولو مل يتخيل مكتشف املحرك البخاري أن قوة
البخار يمكن أن تدلل وتسخر لتحريك قاطرة أو سيارة لبقي اإلنسان يسافر عىل
ظهر الدواب.
وليكن بني املالحظة الصحيحة واخليال توازن بحيث يعطي اخليال حياة وحركة
للمالحظة ،وتكون هذه ضابطا حيد من غلواء اخليال.
احلدس:
احلدس قدرة العقل عىل إدراك احلقائق بدون واسطة التعليل أو املقارنة.
احلدس احليس:
وأبسط مظاهره إدراك املحسوسات ،هذا اإلدراك الكامل الذي يمكن العقل من
معرفة األشياء بوضوح دون حاجة إىل كالم أو رشح.
يف الدرس الذي يعتمد عليه كلام كانت احلاجة إىل تقديم معلومات مل متر بتجربة
التلميذ ،وكانت هذه املعلومات تتعلق بام يمكن جتسيمه .نريد أن نقرر يف الدرس أن
ورق الشجر أخرض ،فنكتفي بإحضار أوراق الشجر اخلرضاء ويبرصها الطفل فيدرك
مبارشة ما نريد أن يدركه .وهكذا مع احلواس األخرى.
__ 141
وأعامل احلدس احليس رضورية يف املدرسة مع كل التالميذ ،ألن التلميذ يتعلم يف
يرس مستعمال منافذ العقل الطبيعية التي هي احلواس ،وألن احلقائق األولية األساسية
ال يمكن تفهيمها بدون االعتامد عىل احلدس احليس .ويكفي مثاال لذلك أن تتصور
إنسانا مل ير البحر قط فجئت تعرفه ما البحر مقترصا عىل الوصف.
عىل أن أعامل احلدس احليس يتأكد مع صغار األطفال الضعيفي التجربة .فهؤالء
مل يروا أشياء كثرية ومل يعرفوا عنها شيئا .ولذا نكثر يف التدريس هلم استعامل أدوات
التعليم ،سيام يف دروس األشياء.
ولنفكر آخر األمر أن املعرفة احلاصلة بواسطة احلدس احليس معرفة أولية سطحية،
ال تغني إال يف الذوات والنعوت التي يتعلق هبا احلس ،فال بد من تكميل هذه املعرفة
بالوسائل املنطقية املعروفة ،احلم والتعليل.
احلدس العقيل:
عندما هيتدي العقل إىل الصواب بنظرة باطنية كمثل إدراك البدهييات :السامء فوق،
وعرشة أكثر من واحد ،ذاك هو احلدس العقيل.
نقول بنظرة باطنية ونقصد أن العقل يف هذه العملية ال يتكئ عىل التعليل املنطقي
عندما يصدر حكمه.
واحلدس العقيل أو نسميه البدهية أو البصرية ،قوة أودعها اهلل يف العقل اإلنساين
بواسطتها يدرك املرء كل احلقائق األولية التي ال تتضح بالربهان جلالئها .فلذا جيد
احلدس العقيل مكانه يف املدرسة ،فنستعمله عندما نقرر نحن للتلميذ أو نستجوب
التلميذ يف موضوعات خمتلفة تبتدئ من حياته اليومية وتنتهي بالدروس العلمية
املعقدة.
نقرأ للتلميذ أن السفر من مدينته إىل العاصمة يستغرق ساعة بالسيارة ونعتمد عىل
صواب عقله ليدرك هذه احلقيقة .نفعل هذا للرضورة ،إذ ال يغنينا شيئا أن نرشح له
ونطيل له الرشح ،وال أن نعلل جمتهدين ،ما دام يدرك ببصريته أن التنقل من مكان إىل
مكان يستغرق الوقت حتام.
ونسأل الطفل ثم ندفعه إىل التأمل باحثا عن احلقيقة بنفسه ،فيستخدم قوته البدهيية
حتى يثبت له اجلواب عن سؤالنا.
__ 142
واحلدس العقيل هو القوة الكبرية التي مكنت العامل يف كثري من األحيان من الوصول
إىل حقيقة أمىض زمنا طويال يبحث عنها ،لكن العقل جيتهد فيصيب ،وجيتهد فيخطئ.
خيطئ العقل كثريا باألخص إذا كانت جتربة صاحبه قليلة وكان نصيبه من املعرفة
ضئيال .ولذا نعود الطفل أال يثق دائام بالوميض األول ويظنه نور احلقيقة ،نعوده أن
يرجع يف كل مرة يصل فيها إىل حقيقة ،أو يتوهم أنه وصل ،إىل حمك العقل النافذ
الذي يبني عىل أساس املالحظة الثابتة.
ولنقل إن احلدس العقيل طريق ربام تكون الوحيدة لفهم احلقائق البسيطة اجللية
التي ال حتتاج إىل برهان لكنها عىل أي حال ليست الطريق اآلمنة من الغلط.
احلدس اخللقي:
جرب التلميذ يف بيته نوعا من السلوك االجتامعي ،فثبت لديه من وراء هذه التجربة،
وبام تأصل يف طبعه من ميل ،أن هذا العمل وذاك خري وإن ذاك العمل اآلخر ،رش
يثبت هذا القانون اخللقي ببصرية خلقية أسميناها احلدس اخللقي.
ومكان احلدس اخللقي يف املدرسة واضح ،إذ هو النقطة التي منها يبدأ الدافع
األخالقي ،وعليها نعتمد يف بث األخالق يف املدرسة .فعندما نعطي الطفل أمثلة
األشخاص ذوي خلق حسن ال نكلفه أن يقلد عملهم ما دام مل يدرك ببصريته اخللقية
أن ما حكيناه عمل مجيل .فإذا أدرك هذه احلقيقة واقتنع هبا كنا بلغنا غايتنا التي هتدف
إىل الرتبية اخللقية.
عىل هذه البصرية اخللقية أو الفطرة اخللقية نعتمد إذا لكن يف حدود وبحذر .ألن
سلوك األفراد ال يقوم فقط بمقدار مطابقته لفطرهتم ،بل يقوم بام يعقبه من نفع أو رض
يف الوسط االجتامعي .لذلك نفتح عني الطفل عىل احلقائق االجتامعية وندعوه إىل
تدبر مصلحة اآلخرين حتى يوجه سلوكه وجهة تتناسب ونظم بالده ،دون أن يبعد
عام يمليه ضمريه .وال نرتكه يتبع ميله دون أن يعرف رقيبا وال حسيبا.
االهتامم:
تواجه املعلم املريب صعوبة يف بدء الطريق ،عندما يستعد بعلمه وطرقه ليزاول عمله
يف تربية األطفال .هذه الصعوبة هي أنه غري واثق من أن الطرف اآلخر سيقبل عليه
وسيهتم بعمله.
__ 143
ال حيل هذه الصعوبة أن بوسع املريب ويف يده مبدئيا سلطة واسعة .أن يفرض نوع
السلوك الذي حيبه التالميذ .فمام ال يشك فيه أن كل عمل خارجي يفرض عىل الطفل
يبقى عديم اجلدوى إال أن جيد يف نفسه جتاوبا.
كام ال حيل هذه الصعوبة أن بوسع املريب أن خيرتع من املغريات أشياء كثرية،
فيستعمل كتبا رائعة املظهر ،حسنة التنسيق ،واضحة الغاية ،أو يعتمد عىل طريقة يف
اإللقاء شيقة مؤنسة أو يلجأ إىل غري هذه من احلبائل اجلميلة التي ال تصطاد إال فضوال
عابرا من جانب الطفل .نقول إن هذه املغريات مجيعا ال تضمن أن يقبل الطفل عىل
الدرس وال تضمن أن يقف الطفل املوقف اإلجيايب الذي يقف عندما هيتم بأمر ما.
البد أن هيتم الطفل بعمل املريب حتى يشاركه فيه كام يقتيض ذلك ناموس النمو،
هذا الناموس الذي يدفع الناشئ القارص يف اجتاه املعرفة حتى يبحث عنها غري منقطع.
وال ترده الصعوبات مهام كانت.
وقد بدأ البحث يف سيكولوجية االهتامم بنظريات هربرت ،ثم تطورت هذه
السيكولوجية بآراء ديوي وكرشنشتاينر.
وتدور نظرية هربرت حول تداعي املعاين ،ألنه يرى أن حقائق العامل كلها متصل
بعضها ببعض ،واملهم أن جيد املريب نقطة الوصول بني هذه األجزاء ،ويسخرها
جللب انتباه الطفل .ويزيد هربرت عىل هذا أن االنطباعات القوية كاأللوان الرباقة
واحلركات املفاجئة أو الصوت املرتفع جتلب االنتباه أكثر مما جتلبه األلوان الباهتة
واألصوات اخلافتة.
أما ديوي وكرشنشتاينر فقد نقدا نظرية هربرت ووصفاها بأهنا سطحية تبني كل
يشء عىل األفكار والتفاعل الذي حيدث بينهام ،مهمة الشخص احلي وميله احلقيقي.
وبينا أن االهتامم إنام ينتج عن حاجة الشخص األصيلة وأننا ال هنتم إال بام جييب
رغباتنا اخلفية ،ثم بينا أن الرتبية هتدف إىل تعويض االهتاممات الطبيعية باهتاممات
أخرى أنبل منها غاية ألن مهمة الرتبية ليست مسايرة امليول الغريزية بل هتذيب هذه
امليول والسمو هبا.
__ 144
أما بعد فإن االهتامم هو تعلقنا باليشء وانرصافنا إليه وهو رشط لالنتباه ،حيث
ال ننتبه إال ملا هنتم به .واهتاممنا باليشء نتيجة عن حاجتنا اجلسمية أو اخللقية أو
العقلية .فنهتم بالطعام عندما نجوع ،وهنتم باأللغاز التي تستغلق علينا بحكم
فضولنا الطبيعي .وهذا خمالف متاما لالهتامم الظاهر الذي ال ينبثق عن احلاجة،
وإنام يفرض بداع خارجي مثلام حيدث عندما نشاهد متثيلية أو فيلام أو عندما نسمع
حمارضة .ألن هذا االهتامم اخلارجي ال ينتج عنه انتباه حقيقي ،وإنام هو توجه موقت
القصد منه إرضاء رغبة يف االطالع ال تلبث أن تزول.
االهتامم احلقيقي هو الذي يدفع للعمل اإلجيايب ،ويستحوذ عىل كل امللكات ال
يتوقف عىل حمرض صناعي وال يقنعه االنتباه السطحي .فهو إذا مستقل عن اإلرادة
عفوي ،بمعنى أن املرء ال يستطيع أن ينرصف انرصافا كليا بمحض إرادته ليشء
ال جييب رغبة داخلية عنده أو هذا عىل األقل ما يقوله أصحاب نظرية االهتامم.
فالبد من معرفة اهتاممات الطفل حتى نسوي عملنا التعليمي والرتبوي ونجعله
جيري يف طريق حاجاته الطبيعية ،فمتى عرفنا هذه احلاجة ،وبدأنا منها ،استطعنا
أن نستعملها وسيلة جللب انتباه الطفل ودفعه إىل العمل .أقول نبدأ من حاجات
الطفل ،ألن العمل املدريس ال يمكن أن يطابق اهتاممات الطفل يف كل جزئياته،
وإنام يمكن أن نربط جزءا من هذا العمل باهتامم الطفل ثم نميض به إىل اجلزئيات
األخرى متسلسلني عىل نحو مما يراه هربرت فيكون عندئذ اهتامم رئييس تتفرع
عنه كثري من أوجه النشاط ،وكلام اعرتض مشكل جديد ازداد االهتامم رسوخا
واتساعا.
ومثل هذا ما طبقه ديوي نفسه بكيفية نموذجية يف مدرسة املرشوع .يف هذه
املدرسة يقرتح األطفال مرشوعا ينجزونه ،كبناء حجرة مثال ،فاهتاممهم الرئييس
هو احلجرة ،لكنهم حيتاجون لكي يقدروا عىل اإلنجاز إىل تعلم صناعات البناء
والنجارة واحلدادة إىل غريها من العلوم الرضورية كاحلساب واهلندسة .وكلام
تقدموا يف بناء احلجرة كان اهتاممهم هبا أزيد ألن حاجاهتم تتجدد يف كل يوم ،ويف
كل يوم تعرتضهم صعوبة يساعدهم املريب عىل التغلب عليها.
__ 145
وإن تنشيط األطفال بواسطة االعتامد عىل االهتامم يتطلب من املريب يقظة وفطنة.
وينبغي أن يعرف أن اهتامم الطفل ال يمكن أن يستمر بموضوع واحد زمنا طويال،
فإذا مارس الطفل عمال ما عىل وترية واحدة مدة طويلة ،فإنه يوشك أن يسأمه
ويعرض عنه حتى وإن كان يف بدء األمر مهتام به حدبا .ولذا جيتهد املريب باحثا عن
طريق هبا يقلب املسألة الواحدة عىل عدة وجوه ،ويعرضها يف حلل متنوعة يبعث
اهتامم الطفل باستمرار وحيفز فضوله.
ال أعني أن يعتمد املعلم هذه الوسائل اخلالبة من استعامل األلوان الرباقة،
والقصص الضاحك ،أو شيئا غريها مما نسميه بأدوات التشويق ،ألن هذه إنام
تعطي هذا االنتباه السلبي املوقت الذي ال يكتيس أية قيمة تربوية .وإنام ينبغي أن
يتفهم املعلم منرصف انتباه أطفاله ثم يتتبع عملهم بدراية كبرية ،ويرشدهم إىل ما
عسى أن يكونوا أغفلوه ،موقظا حبهم الطبيعي لالطالع.
وكام حتد الرتابة من اهتامم الطفل حيد منها أيضا أن جيد الطفل نفسه أمام عقبة ال
يستطيع اجتيازها .إذ ليس أدعى إىل امللل من أن جيد املرء نفسه أمام باب مغلق ال
جيد له مفتاحا ،وال يقدر عىل اقتحامه .فإذا بلغ الطفل هذه النقطة من بحثه ،فإن من
واجب املريب أال يرتكه يف عنائه طويال ،بل هيديه إىل الوسيلة التي حيل هبا مشكله،
حريصا عىل أال يربد محاسه بموضوع البحث.
نعم ،ال ننس أن للمجهود الذي يبذله الطفل قيمة يف حد ذاته ،وإن الناس إنام
يتعلمون بكيفية ناجعة بقدر اجلهد الذي يبذلونه يف سبيل التعلم ،وهلذا فمسامهة
املعلم ينبغي أال تأخذ كل األمهية وتتحمل كل املشقة .وإنام ترحب بالطفل وترشكه
يف األعامل ،ومرة أخرى نكرر أن االهتامم احلقيقي هو الذي يدفع إىل العمل،
وأن االهتامم العابر املفروض بعامل خارجي إنام هو خدعة ال تلبث أن يبني عدم
جدواها.
هذا وإن حكمة أساسية ينبغي أن تكون رائدنا يف هذا امليدان ،أال وهي أن نعطي
الطفل فرصا لكي ينجح يف حماولته ،ونتفادى به كل إخفاق ينال من عاطفته ويثبطه.
__ 146
نوع اهتامم الطفل:
ويتغري موضوع اهتامم الطفل بحسب سنه ،ولكل سن حاجاته ومن ثم اهتامماته.
والذي هيمنا هو أن نعرف اهتامم الطفل يف املدرسة االبتدائية .وبالتايل يف سن ترتاوح
بني 6سنوات و 12سنة .ويف هذه املرحلة يكون الطفل حديث عهد بام حييط
به من أشياء وأحداث ،فهو منرصف إىل األشياء يفحصها ويريد أن يتعرف عليها.
فهو كثري األسئلة عن تركيب األجسام وخصائصها ،حيب أن يفصل األجزاء عن
بعضها ثم يركبها ليطلع عىل أرسارها .ويساعده عىل هذا أن أفقه الذي يعيش فيه
قد اتسع فعم ،زيادة عىل البيت ،الشارع واملدرسة بام فيهام من رفاق ومعلمني
وأجانب .ثم إن فضول الطفل هذا جيد جماال حرا لتطبيق التامرين املختلفة ،سيام
وقد كسب نوعا من االستقالل حني أصبح جييء إىل املدرسة ويروح منها وحده.
وكلام تقدمت به السن ازداد نطاق اهتاممه اتساعا ،وتعلق أيضا بالناس ،فاكتسب
أصدقاء وتعلم أنواع السلوك االجتامعي.
فمن هذا الفيض االهتاممي يبدأ املريب عمله حني يستقبل الطفل أول عهده
باملدرسة ليعطيه األشياء وليقبل رغبته يف إمكاهنا وتقليبها ،وليجعل من هذه الرغبة
ذريعة إلعطاء الطفل نظرة حقيقية عن الواقع ،ومن تناول األشياء واستعراضها
هيكال يبنى حول املعرفة النظرية التي ال هتم الطفل إال أن تساعده عىل فهم واقع
ملموس .وبعد هذا يأخذ املعلم يف التوسع شيئا فشيئا مراقبا نزعات الطفل
وحركات انتباهه مراعيا ما يصدر منه من حتمس أو نفور.
ويستغل أيضا ميل الطفل للتعرف عىل الناس ،وحبه لالندماج يف املجموعة،
فيهديه سبيل اخللق السوي ،ويوجهه للتعاون والعمل اجلامعي.
عىل أنه ليس من الصواب أن نتبع الطفل يف رغباته ونتيه عن املنهاج الذي
وضعناه ،بل نسخر رغبة الطفل ونتخذها خلدمة هدفنا األسمى .ولئن كانت بعض
املدارس احلديثة تتبع رغبة الطفل يف الشوط كله وترتك له حرية االختيار ،فإن
وضع مدرستنا ال يسمح بمجاراة هذه احلركة.
__ 147
ويف هذا الباب كام يف غريه ،يتعني أن تراعى الفروق التي تكون بني األفراد .فام كل
األطفال يف سن معينة ،هيتمون بنفس األشياء ،كام أن درجة اهتاممهم وحدة انتباههم
تتفاوت أيضا .ومرد هذا إىل أن بينهم الذكي املتوثب ،والعاطفي املتوقد ،والبطيء
الذي يفضل أن يتأكد من عمله ويعتمد عىل جتربة ثابتة.
مرد هذا إىل أن امللكات تتنوع وتتغلب إحداها عىل األخريات حتى تظهر يف طبع
الفرد وتعطيه صبغتها .وطبيعي أال يطابق اهتامم الشخص اخليايل اهتامم آخر تغلب
عليه الذاكرة فيحب أن يتلقى دون أن خيلق .وهكذا نجد اهتاممات مجاعة األطفال
خمتلفة ،لكن اختالفها ال يمس اجلوهر الذي هو يف السن الدراسية التي تعنينا هنا،
التوجه إىل األشياء املحسوسة والتعرف عىل العامل.
__ 148
الفهرس
3
كلمة النارش
5 املقدمة
الفصل األول :الرتبية
9 معنى الرتبية
11 غايات الرتبية
14
غايات الرتبية يف رأي بعض املفكرين
22 آراء حديثة يف الرتبية
22 إمكان الرتبية
الفصل الثاين :وسائل الرتبية والتعليم
35 - 1املدرسة ووظيفتها ومبادئها
38 - 2املدرسة والبيت:
41 - 3املدرسة ونظامها املادي
49 - 4املعلم:
61 - 5النظام يف املدرسة
60 - 6الثواب يف املدرسة
64 - 7العقاب يف املدرسة
الفصل الثالث :الطفل
79 الرتبية وعلم النفس
80 الطفل واألرسة
83 الطفل واملعلم
86 الطفل ورفاقه يف املدرسة
88 عقلية الطفل
88 إدراك الطفل
90 حاجات الطفل
93 سلوك الطفل
100 الفروق الفردية
106
كيف يالحظ املعلم تالميذه
الفصل الرابع :الرتبية اجلسمية
111 مكان الرتبية اجلسمية يف النظام الرتبوي
114 الصحة والرتبية اجلسمية
117 الرتبية اجلسمية والعمل املدريس
119 درس الرتبية البدنية
الفصل اخلامس :الرتبية اخللقية
125 العقل واخللق
125
غايات الرتبية اخللقية
126 العمل واخللق
127 اخللق يف املدرسة
128 احلرية واخللق
129 العادة واخللق
129 املثال واخللق
130 الرتبية بالسلب
131 دروس األخالق
132 الدين واألخالق
الفصل السادس :الرتبية العقلية
137 تربية احلكم
138 تربية الذاكرة
140 أنواع الذاكرة
140 تربية املخيلة
141 احلدس
141 احلدس احليس
143 احلدس العقيل
143 احلدس اخللقي
143 االهتامم
148 نوع اهتامم الطفل
دليل
دليل األمثال ،كتاب مذكرات يف الرتبية ،الطبعة األوىل ،1963 ،دار السلمي،
البيضاء ،املغرب
« -ليطرق احلديد ساخنا»« - 50،احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره»،
ص« - 139العقل السليم يف اجلسم السليم» ،ص.17
دليل األبيات الشعرية ،كتاب مذكرات يف الرتبية ،الطبعة األوىل،1963 ،
دار السلمي ،البيضاء ،املغرب
ِ -
إياك أعني واسمعي يا جارة ،ص .58
دليل القبائل واجلامعات ،كتاب مذكرات يف الرتبية ،الطبعة األوىل،
،1963دار السلمي ،البيضاء ،املغرب
-اليبانيون ،ص - 13الفالسفة ،ص - 13الربتستانت ،ص - 15علامء
النفس ،ص - 28،29،55،102،104،105املفكرون املحدثون ،ص- 28
علامء االجتامع ،ص - 29،30،71األمريكيون ،ص - 37الرومان :ص42
-فالسفة اإلغريق ،ص - 49الشعراء ،ص - 49العلامء األقدمني ،ص 98
-العلامء املحدثون ،ص - 98اإلغريق ،ص- 113 ،112 ،42،49،71
الغربيون ،ص - 112اليونان ،ص.12
دليل املواضع والبلدان ،كتاب مذكرات يف الرتبية ،الطبعة األوىل،1963 ،
دار السلمي ،البيضاء ،املغرب
-املعابد املرصية ،ص - 12الصني القديمة ،ص - 12اليونان ،ص ،12ص111
-مدينة اسربطة ،ص - 12مدينة أثينا - 12 ،أوربا ،ص- 12،14،25،42،43
أمريكا ،ص - 13،23،42،43روسيا ص - 13أملانيا ص -،13،20،43إيطاليا
ص - 13شيكاغو ،ص - 23فرنسا ،ص - 27مرص ،ص - 35،41الصني،
ص - 35،41الرشق األوسط ،ص - 35البالد اإلغريقية ،ص - 35البالد
اإلسالمية ،ص - 41كنائس القرون الوسطى ،ص - 41املدارس اإلغريقية،
ص - 41املدارس الرومانية ،ص - 41املغرب ،ص - 42،114املدارس
األملانية ،ص - 24املدارس األمريكية ،ص - 24،43املدارس األوربية،
ص - 43البالد الغنية ،ص - 43مدارس انكلرتا ،ص - 75املدارس احلديثة،
ص - 75،113،140،147بالد اليونان ،ص - 111البالد األنكلوساكسونية،
ص.112
دليل األعالم ،كتاب مذكرات يف الرتبية ،الطبعة األوىل ،1963 ،دار
السلمي ،البيضاء ،املغرب
-سبنرس ( 1903 - 1820م) ،ص - 9،21،65أفالطون- 427( :
348ق .م) ،ص - 14سقراط ،ص - 14إراسم 1556 - 1467( :م)،
ص - 14،15،28لوثر 1516 - 1485( :م) ،ص - 15،16مونتني:
( 1592 - 1533م) ،ص - 15،79كومينوس 1592 - 1671( :م)
ص - 16،17لوك 1704 - 1632( :م) ،ص- 16،17،18،28،70
روسو 1778 - 1712( :م) ،ص - 18،19،20،21،79،113بستالوزي:
( 1827 - 1476م) ،ص - 19،20،25،70،72هربرت- 1841( :
1776م) ،ص - 20،21،79،144،145فروبل 1852 - 1728( :م)،
ص - 20،22،25وليم دمجس 1910 - 1840( :م) ،ص - 21آالن:
( 1951 - 1868م) ،ص - 22،36،42،72،73،95مونتسوري:
( 1952 - 1870م) ،ص - 22،23،25،43ديوي1952 - 1859( :
م) ،ص - 23،24،68،70،144،145كرشنشتاينز 1932 - 1855( :م)،
ص - 24دكرويل 1932 - 1871( :م) ،ص - 25أنودي ،ص - 27أرسطو،
ص - 27،28شوبنهاور ،صُ - 28جوتَه ،ص - 28دور كهايم ،ص- 29
كويت ،ص - 72تولستوي ،ص - 75ألن كب ،ص - 75بادن باول ،ص76
-بيني ،ص .89
دليل املصادر واملراجع الواردة يف املؤلفات ،كتاب مذكرات يف الرتبية،
الطبعة األوىل ،1963 ،دار السلمي ،البيضاء ،املغرب
«حماولة يف العقل اإلنساين» و «آراء يف الرتبية» ،لوك ،ص - 16كتاب «إميل»،
روسو ،ص « - 18البيداغوجية العامة « و «حول املحارضات البيداغوجية»،
هربرت ،ص.20