You are on page 1of 154

‫مذكرات يف الرتبية‬

‫ملدارس املعلمني واملعلامت‬

‫تأليف عبد السالم ياسني‬


‫مفتش التعليم االبتدائي‬
‫مدير مدرسة املعلمني بمراكش‬

‫الطبعة األوىل ‪1963‬‬

‫طبع ونرش‬
‫دار السلمي‬
‫للتأليف والرتمجة والترش والطباعة والتوزيع‬
‫درب البلدية‪ ،‬زنقة اجلزويل رقم ‪ 38‬صندوق الربيد ‪ 4010‬البيضاء‬
‫تلفون ‪ 804.01‬املنزل ‪692.70‬‬
‫كلمة النارش‬
‫إذا كان األستاذ املؤلف قد دفعه التواضع إىل أن يسمي هذا الكتاب «مذكرات يف‬
‫الرتبية» فإن من حقنا أن ننوه بقيمة هذا الكتاب ونتنبأ بام سيكون له من مسامهة فعالة‬
‫إجيابية يف توجيه املعلم املغريب‪ ،‬التوجيه املوضوعي السليم‪ ،‬لالستغناء عن التبعية‬
‫البيداغوجية التي عاشت يف عقولنا وأذهاننا مليا‪ ،‬بل كادت تطغى فتقتل مواهبنا‪،‬‬
‫وبالتايل تقيض عىل شخصيتنا‪.‬‬
‫غري أن تلك السنوات التي أعقبت استقالل بالدنا‪ ،‬جعلتنا نتفاءل حلد كبري‪،‬‬
‫بالتحرر من املركب الذي نرجو أن نكون قد سامهنا‪ ،‬وسنساهم بعون اهلل يف مواراته‬
‫وإىل األبد‪.‬‬
‫وبني يديك اآلن‪ ،‬قارئي العزيز‪ ،‬كتاب «مذكرات يف الرتبية» ملرب مغريب أوقف‬
‫حياته عىل االهتامم بمشكالت التعليم والرتبية يف بالدنا‪ ،‬وقد خاض غامر الكتابة فيها‬
‫مستوحيا فكره من جتاربه اخلاصة والعامة‪ ،‬ومستندا عىل مبادئ علم الرتبية العامة‪،‬‬
‫فجاء كتابه هذا تبسيطا لتلك املبادئ‪ ،‬حيث جعلها يف متناول طالب مدارس املعلمني‬
‫واملرشحني لشهادة الكفاءة يف التعليم العريب يف أحسن تقويم وأسهل سبيل‪.‬‬
‫الس َلمي للتأليف والرتمجة والطباعة والنرش والتوزيع‪ ،‬أن تقدم لطالب‬
‫ويرس دار ُّ‬
‫مدارس املعلمني واملعلامت واملرشحني واملرشحات لشهادة لكفاءة العربية كتاب‬
‫«مذكرات يف الرتبية» آملة أن جيدوا يف قراءته لذة ومعرفة وسيجزي اهلل من أحسن‬
‫عمال‪ ،‬وهو ولينا مجيعا ونعم الوكيل‪.‬‬

‫_‪_  3  ‬‬
‫مقدمة‬
‫هذه مذكرات مجعت فيها دروسا كنت ألقيتها عىل طلبتي يف مدرسة املعلمني منذ‬
‫عدة سنوات‪ .‬ولست أزعم أنني أضيف هبذه الصفحات بحثا علميا يف املوضوع‪،‬‬
‫لكنني رأيت أال يضيع ما كنت بذلته من جمهود متواضع يستنري بتجربة غري قصرية‬
‫يف ميدان تكوين املعلمني‪ .‬ورأيت أن أعطي لطالب مدرسة املعلمني مادة تساعده‬
‫يف مطالعاته عىل مقارنة وجهات النظر‪ ،‬وعرض طرق التفكري والكتابة بعضها عىل‬
‫بعض‪ .‬عندما ينظر يف هذه الورقات باإلضافة إىل كتب الرتبية التي بني يديه‪ .‬ولئن‬
‫كان الدرس الشفوي الذي ألقيته عىل طاليب جيد يف املشافهة واألسئلة وردودها‬
‫وسيلة للزيادة يف الرشح والبيان‪ ،‬فإن ما جيده القارئ يف مذكرايت هذه من اإلجياز‬
‫واالقتضاب لن يمنع طالب مدرسة املعلمني من اختاذها دليال يف دراسته‪ ،‬والعثور يف‬
‫طيها عىل تفسري كثري مما غمض عليه‪.‬‬
‫ويكفي توصية هبذه املذكرات ما حاولت أن أضعه فيها من صبغة وطنية‪ ،‬إذ عاجلت‬
‫كل موضوع عىل ضوء واقعنا التعليمي‪ .‬وحتدثت عن املعلم باعتباره املعلم املغريب يف‬
‫وضعه اخلاص وبصفاته التي حيددها تكوينه وعقليته كام حتدثت عن التلميذ باعتباره‬
‫التلميذ املغريب املتقلب يف أرسة مغربية‪ ،‬والناشئ ملستقبل مغريب‪.‬‬
‫وأميل بعد‪ ،‬أن يقرأين الطالب يف مدرسة املعلمني‪ ،‬واملعلم املامرس ليجد فيام كتبته‬
‫منبعثا إىل األصالة والتجديد اللذين نحن يف أشد احلاجة إليهام بعد أن جعلنا التقليد‬
‫والتبعية األعميان ننظر بأعني غرينا إىل مشالكنا اخلاصة‪.‬‬
‫مراكش ‪ 13‬أكتوبر ‪1962‬‬ ‫ ‬
‫ ‬
‫ ‬
‫_‪_  5  ‬‬
‫الفصل األول‬

‫الرتبية‬
‫معنى الرتبية‬
‫إننا إذ نعرف الرتبية عندما يطلب إلينا ذلك‪ .‬نعرفها بواحدة من هذه العبارات التي‬
‫قرأناها يف كتب الرتبية‪ .‬فإذا ناقشنا املسائل واضطررنا إىل البحث بأنفسنا عن تعريف‬
‫ُمرض للرتبية‪ ،‬وجدنا أن للرتبية مدلوالت شتى يف االستعامل اللغوي‪ ،‬فالعامة تفهم‬
‫الرتبية عىل أهنا هتذيب الطفل ومحله بالعقاب البدين عىل نوع من السلوك االجتامعي‪.‬‬
‫أو عىل أهنا تنشئة الطفل والسهر عىل مصاحله‪ .‬وقد يفهموهنا عىل أهنا التعليم يف‬
‫املدرسة‪.‬‬
‫ونجد أحيانا الذين يتعاطون املهنة يعرفون الرتبية بأهنا عكس التعليم‪.‬‬
‫كل هذه املدلوالت جزئية متس الرتبية من ناحية واحدة أو ال متسها‪ .‬فليست الرتبية‬
‫هي التأديب عىل السلوك االجتامعي فقط‪ ،‬وليست الرتبية تعليام فحسب‪ ،‬وال عكس‬
‫التعليم‪ .‬وإنام التأديب عىل السلوك االجتامعي جزء من الرتبية‪ ،‬والتعليم جزء منها‬
‫أيضا‪.‬‬
‫قد يكون من الصعب أن نجد عبارة قصرية تعرف الرتبية تعريفا كامال من بني هذه‬
‫العبارات التي قاهلا فالن وفالن‪ .‬ويكون من اخلطأ أن نعتمد اعتامدا كليا عىل مثل هذه‬
‫العبارة التي نختارها إال بعد أن نبحثها لنعرف إىل أي مدى تنطبق عىل ما وضعت له‬
‫انطباقا دقيقا‪.‬‬
‫فإذا حددنا موضوع الرتبية كام حدده سبنرس‪ ،‬وقسامهنا معه إىل تربية عقلية‪ ،‬وتربية‬
‫خلقية‪ ،‬وتربية جسمية‪ ،‬فنحن أقرب إىل فهم الرتبية فهام شامال‪ ،‬وعىل أن حتديد‬
‫موضوع الرتبية ليس تعريفا للرتبية نفسها‪.‬‬
‫يقولون إن الرتبية هي نتيجة كل التأثريات التي توجه حياة اإلنسان‪ .‬هذا التعريف‬
‫املألوف قد يكون أحسن تعريف نجده‪ .‬فيكون شامال إذا فهمنا أن التأثريات‬
‫_‪_  9  ‬‬
‫تنصب عىل جسم الفرد وعقله وخلقه‪ ،‬وتوجه حياته اجلسمية والعقلية واخللقية‪.‬‬
‫ويكون دقيقا إذا جعلنا من الرتبية كل التأثريات التي يتعرض هلا الفرد يف حياته‪ ،‬فمن‬
‫اخلطأ أن نحرص الرتبية ونعتقدها نتيجة هلذه اآلثار التي نقصد إىل إحداثها يف الطفل‪،‬‬
‫وهنيئ هلا األسباب يف املدرسة‪ .‬ومن اخلطأ أن نحرص الرتبية يف عمل البيت واملدرسة‪.‬‬
‫الرتبية عملنا يف الطفل باألسباب التي نقصد إليها‪ ،‬والرتبية عملنا يف الطفل من‬
‫حيث ال نقصد‪ .‬ولكل ما يؤثر يف الطفل يف البيت وخارج البيت نصيب يف تربيته‪،‬‬
‫رفاقه ومشاهداته يف الشارع‪.‬‬
‫وقد نضع للرتبية نظاما يف األرسة ويف املدرسة‪ ،‬ونحتال‪ ،‬ما قدرنا عىل االحتيال‪ ،‬ألن‬
‫يكون هذا النظام صاحلا يف وسائله‪ ،‬ثم ننتظر أن ينشأ الطفل عىل النحو الذي أردناه‪.‬‬
‫ونعجب آخر األمر عندما يرتبى الطفل عىل غري الصورة التي كنا ننتظر‪ .‬ونعجب إذ نراه‬
‫شخصا ننكر من أخالقه أو من اجتاهه الفكري‪.‬‬
‫ذلك أن الرتبية ال تصلح ميدانا هلذه التجارب العلمية التي نعرف نتيجتها فنضع‬
‫من املادة ونوع املادة بمقدار نعرفه‪ ،‬مطمئنني إىل القاعدة العلمية التي ال تتخلف‪ .‬ال‬
‫يمكن أن نريب األطفال لتحصيل مثل نعرفه ونقصد إليه‪ ،‬ألن األطفال عرضة ملؤثرات‬
‫خمتلفة‪ ،‬قد تكون أقوى دعوة للطفل من علمنا الرتبوي املنظم‪ ،‬ويكون الطفل أكثر‬
‫استجابة هلا منا‪ .‬بل ال يمكن أن تتم الرتبية يف مبدئها إال إذا وضعت سياسة لتوجيه‬
‫هذه املؤثرات أو مكافحتها‪.‬‬
‫الرتبية إذا هي أثر املريب يف الطفل من حيث يقصد املريب إىل التأثري فيه‪ ،‬والرتبية هي‬
‫األثر اآلخر الذي ال يقصد إليه املريب‪ ،‬األثر الذي يتعرض له الطفل يف حياته اليومية‪.‬‬
‫ولكل من هتني الرتبيتني مكانة يف نفس الطفل‪ .‬فهو أمام مربيه يتلقى توجيها حيرتز‬
‫منه‪ ،‬ويف باقي األوقات حيتك بحياة اآلخرين فيتأثر هبم من حيث ال يشعر تأثرا بطيئا‬
‫لكنه مكني‪.‬‬

‫_‪_  10  ‬‬
‫غايات الرتبية‬
‫إن الرتبية تتطور يف كل عرص لتحقق الغايات التي تراها اجلامعة مثال أعىل للرجل‬
‫أو لتوجد نامذج خمتلفة من الرجال ال تقوم حياة اجلامعة إال هبم‪ .‬وقد بدأ هذ التطور‬
‫من العصور األوىل‪ ،‬حيث كانت األرسة تقوم برتبية أبنائها وحدها‪ ،‬واستمر يف‬
‫عرصنا هذا الذي تعقدت فيه الرتبية تعقدا شديدا‪ .‬وما فتئ الناس يغريون من نظرهتم‬
‫إىل أهداف الرتبية ويكيفون وسائلهم وأساليبهم لتحقيقها‪.‬‬
‫وإنام ينشأ هذا التطور يف فهم الرتبية وأهدافها بتطور األمم يف حياهتا االجتامعية‪،‬‬
‫وتغري أساليب العيش عندها‪.‬‬
‫فالرجل البدائي األول‪ ،‬كان نظام حياته مبنيا عىل الشجاعة اجلسمية‪ ،‬والتكتل‬
‫مع أفراد األرسة للتعاون معهم عىل العيش‪ ،‬وكانت الوظيفة االجتامعية املهمة هي‬
‫الصيد‪ .‬فكانت الرتبية يف هذا الوسط البسيط طبيعية‪ ،‬وكان هدفه عمليا؛ يقلد الطفل‬
‫أبويه وعشريته‪ ،‬حتى يشتد ساعده عىل العيش وحتى يقدر عىل ما يقدرون عليه‪.‬‬
‫وملا تقدم اإلنسان‪ ،‬ونشأت احلضارات األوىل‪ ،‬تعددت حاجياته‪ ،‬وتعقدت حياته‬
‫االقتصادية والدينية واالجتامعية والسياسية‪ ،‬فأصبح للرتبية غايات خمتلفة‪ ،‬وظهر‬
‫التخصص يف الوظائف االجتامعية‪ ،‬فكان الفالح والصانع واحلاكم والكاهن‪.‬‬
‫عىل أن احلاجة االجتامعية ليست العامل الوحيد يف حتديد أهداف الرتبية‪ ،‬بل جيددها‬
‫أيضا الطابع الفكري اخلاص بكل أمة؛ فتدفع احلاجة االجتامعية إىل إجياد العامل‬
‫املتخصص يف ناحية من نشاط األمة‪ ،‬ثم ال يكون هذا العامل إال حسب الصبغة‬
‫الفلسفية‪ ،‬سواء كانت هذه الصبغة دينية أو حتررية‪ ،‬واملثل األعىل السائدين يف البالد‬
‫وهلذا كان هذا االختالف البني يف فهم الرتبية وأغراضها منذ احلضارات اإلنسانية األوىل‬
‫_‪_  11  ‬‬
‫فكانت املعابد املرصية ال تعنى إال بتنشئة طبقة من األرشاف‪ ،‬هتيئهم حلكم البالد‬
‫واهليمنة عىل احلياة الروحية فيها‪ .‬وكانت الرتبية مقترصة عىل هذه الطبقة ذات‬
‫السلطتني الدينية والدنيوية‪ ،‬فال ينال عامة الشعب منها يشء‪.‬‬
‫بينام كانت الرتبية الصينية القديمة اجتامعية تقليدية‪ ،‬هتدف إىل إصالح الفرد ومحله‬
‫عىل االستقامة واحرتام السلف ليعيش يف جمتمع متزن‪.‬‬
‫واختلفت نظرة اليونان إىل الرتبية وأغراضها‪ ،‬فكانت مدينة اسربطة ال ترى للرتبية‬
‫غرضا إال تنشئة الرجل القوي‪ .‬القوي يف جسمه‪ ،‬القوي بشجاعته‪ ،‬القوي ببيانه‪ ،‬أما‬
‫مدينة أثينا فإهنا ذهبت مذهبا مثاليا‪ .‬وفرضت للرتبية غرضا مثاليا‪ .‬فهي تريد أن ينشأ‬
‫الرجل كامال‪ .‬كامال يف اجلسم واخللق والعقل‪.‬‬
‫أما يف االسالم‪ ،‬فإن الرتبية خضعت خضوعا تاما للتعاليم الدينية يف عصوره املختلفة‬
‫وتفاوت فهم الناس للمثل األعىل للمسلم‪ .‬فاختلف فهمهم ألغراض الرتبية‪ ،‬فمن‬
‫النزعة السلفية الشديدة يف مبادئها‪ ،‬الشديدة يف أغراضها‪ .‬من هذه النزعة التي ال تريد‬
‫للمسلم إال أن يكون كامال يف خلقه‪ ،‬كامال يف نفسه إىل املذاهب املتشعبة الكثرية التي‬
‫كان أسوأها أثرا عىل تربية املسلمني‪ ،‬تلك التي تقف عند احلرف وال تفهم الروح‪.‬‬
‫أما يف حضارة العصور الوسطى يف أوربا‪ ،‬فإن غرض الرتبية األسمى كان روحيا‬
‫هيدف إىل خالص املسيحي بإعراضه عن لذات الدنيا وانرصافه إىل العبادة يف الصوامع‬
‫حيث يعيش فقريا مدى حياته‪ ،‬يقهر نفسه ويذللها لينجو من عذاب جهنم‪ .‬وكان إىل‬
‫جانب هذا الغرض الديني يف الرتبية‪ ،‬غرض آخر حتققه تربية األرشاف الفرسان‪.‬‬
‫فطبقة األرشاف الفرسان جعلت لنفسها قانونا ال تعدوه‪ ،‬وجعلت مثلها األعىل يف‬
‫الشجاعة ومحاية املظلوم والضعيف‪ ،‬ومحاية الدين‪.‬‬
‫وبعد النهضة األروبية‪ ،‬حني استغنت أوربا بخريات البالد التي سيطرت عليها‪.‬‬
‫وحني ظهر هذا الغنى يف الطبقة الربجوازية‪ ،‬أخذت الرتبية يف مجيع الطبقات‬
‫االجتامعية هتدف إىل حتقيق النموذج االجتامعي للرجل واملرأة‪ ،‬أعني الرجل الذي‬
‫حيسن آداب السلوك بني الناس‪ ،‬وحيافظ عىل مرتبته إن مل حيتل ليندس يف صفوف‬
‫األرشاف‪.‬‬

‫_‪_  12  ‬‬
‫ويف العصور احلديثة‪ ،‬نرى أمريكا هتدف إىل تنشئة رجال ذوي أجسام قوية‪ ،‬وفكرة‬
‫نفعية يظهر أثرها يف نشاطهم االقتصادي‪ .‬وشعور بحرية الفرد حاد‪.‬‬
‫ونرى اليابانيني يربون رجاال ذوي كفاءات فنية‪ ،‬ذوي إحساس وطني يدفعهم‬
‫اإلخالص لبالدهم ولرشفهم إىل التضحية بالنفوس‪.‬‬
‫ونرى البالد اخلاضعة للحكم الكيل‪ ،‬كبالد روسيا وأملانيا وإيطاليا قبل احلرب‬
‫العاملية الثانية‪ ،‬تسخر كل وسائل الدولة لتنشئة جيل من الرجال خيضع ألوامر السلطة‬
‫املطلقة وينفذها يف محاس واندفاع‪.‬‬
‫هذه املراتب يف الرتبية التي ذكرناها نتجت عن العاملني املهمني‪ ،‬احلاجة االجتامعية‪،‬‬
‫والصبغة الفلسفية اخلاصة بكل بالد‪ .‬عىل أنه كان يف توجيهها نصيب آلراء فالسة‬
‫وحكامء برز فيهم الفكر القومي وكان منهم من خلق الصبغة الفلسفية التي حتدثنا‬
‫عنها‪.‬‬
‫وسنعرض لذكر أعالم من هؤالء الفالسفة‪ ،‬وذكر آرائهم يف الرتبية ملا نرى هلا من‬
‫أمهية‪.‬‬

‫_‪_  13  ‬‬
‫غايات الرتبية يف رأي بعض املفكرين‬

‫أفالطون‪ 348 - 427( :‬ق‪ .‬م)‬


‫عنى أفالطون بكل مشاكل اإلنسان‪ ،‬ومل يتعرض ملشكلة الرتبية إال أهنا جزء‬
‫من نظامه الذي وضعه للمجتمع الفاضل‪ ،‬كان العقل عنده كفيال بتقدم اإلنسان‬
‫وسعادته‪ .‬وقد قبل مبدأ التفاوت االجتامعي إذا كان مع هذا التفاوت عدل واحرتام‬
‫للحقوق‪ .‬فكان البد من تربية خاصة بكل طبقة من املجتمع‪ ،‬ووسيلته العامة فيها أن‬
‫يؤخذ الفرد بيشء من احلزم والصالبة‪ ،‬وهذا أثر الرتبية االسربطية يف آرائه‪ ،‬ويعتمد‬
‫يف تكوين فكره وخلقه عىل رواية احلكم املوجزة والتأدب باملوسيقى والوزن‪ .‬وقد‬
‫أخذ مذهب أستاذه سقراط يف التعليم‪ ،‬فاختذ احلوار السقراطي يف تعليمه‪ ،‬وبني نفع‬
‫هذا احلوار يف كتبه‪ .‬ونجد عند أفالطون رأيا يف الرتبية هو كأحدث ما وصل إليه‬
‫املربون‪ ،‬ذلك أنه وىص برتبية الطفل عن طريق اللعب‪.‬‬
‫وخالصة رأي أفالطون يف الرتبية‪ ،‬أن اإلنسان جزء من جمتمعه يسعد املجتمع‬
‫بسعادته‪ ،‬فالبد أن يعرف اخلري ويسلك سبيله ليكون فاضال‪.‬‬

‫إراسم‪ 1556 - 1467( :‬م)‬


‫إراسم هوالندي‪ .‬وهو أشهر علامء أوربا يف القرن السادس عرش وأوسعهم علام‪.‬‬
‫وقد كتب كثريا يف الرتبية والتعليم‪.‬‬
‫كانإراسميريدللرتبيةأنحتققمثاالساميايفالثقافةالعقليةوالسلوكاألخالقي‪.‬وكان‬
‫_‪_  14  ‬‬
‫مغرما باآلداب القديمة‪ ،‬حمبا لألناقة يف التعبري‪ .‬فكانت وسيلته للتعليم أن يبدأ املتعلم‬
‫من الكلمة قبل اليشء الذي تدل عليه وهو أول من نفى فائدة العقاب البدين يف‬
‫التعليم‪ .‬ونادى بتشويق الطفل إىل ما يتعلمه‪.‬‬
‫عىل أن إراسم أمهل الرتبية البدنية‪ ،‬وكيف ال وهو ال حيلم إال بمجتمع من املثقفني‬
‫األفاضل يكونون مجهورية مثالية‪.‬‬

‫لوثر‪ 1516 - 1485( :‬م)‬


‫راهب أملاين متصوف‪ .‬وهو أب اإلصالح الديني الربوتستانتي‪.‬‬
‫كان لوثر يريد إصالحا عاما‪ ،‬يشمل األرسة واملجتمع وكان ينادي بالرجوع إىل‬
‫املبادئ األخالقية املسيحية فيتعامل الناس باألمانة واحلسنى‪ ،‬ويتمسكون بالطهارة‬
‫الروحية التي يبلغون إليها عن طريق التدبر والتأمل‪.‬‬
‫وكان مثله األعىل عىل نقيض فكرة إراسم وطبقة املثقفني يف زمنه‪ ،‬فهو يرى أن‬
‫الرتبية حق لكل أفراد األمة‪ ،‬فال يويص بتعلم اللغات القديمة إال ليتمكن الناس من‬
‫قراءة النصوص الدينية‪ ،‬وال حيتفل إال برتبية اخللق والروح‪ .‬أما الثقافة العقلية فإنه‬
‫هيملها بصفة عامة‪ ،‬إال أن تكون وسيلة لصالح احلياة االجتامعية‪.‬‬
‫وكان من رأيه أن يؤخذ الطفل بكثري من احلزم عىل أال يعامل بقسوة ال فائدة منها‪.‬‬

‫مونتني‪ 1592 - 1533( :‬م)‬


‫مفكر فرنيس عاش يف فرتة كثرت فيها الفتن الدينية‪ ،‬فانعزل يف قرصه يراجع آراء‬
‫املفكرين ويزن بعضها إىل بعض حماوال أن يعيش عيشة طبيعية ال تكلف فيها‪.‬‬
‫ويف كتابه (املحاوالت) فصول أبدى فيها آراءه يف الرتبية‪ ،‬وغايته يف الرتبية أن تكون‬
‫الرجل الصالح‪ ،‬ويعنى الرجل الكامل يف خلقه‪ ،‬ألن مونتني حيتقر الثقافة واآلداب‪،‬‬
‫ويرى «أن الرأس التي أحسن تكوينها خري من الرأس التي ملئت باملعلومات»‪.‬‬
‫ويعتقد أن هذه الرأس التي أحسن تكوينها قادرة عىل فهم كل ما يعرض عليها‪ .‬وكان‬
‫حيب أن يريب اجلسم تربية سليمة ليسهل عىل الفكر أن يوجهه توجيها صاحلا‪.‬‬
‫_‪_  15  ‬‬
‫ويرى أن املتعلم جيب أن جينب كل عقاب بدين وأن يسعى املعلم ليحبب إليه‬
‫املادة التي يدرسها وهو حيرتز من الكتب ويريد أن يتعلم الطفل من احلياة لينشأ‬
‫قوي الشخصية متحررا من التبعية اللفظية‪ .‬ويريد أن خيتار املعلم لطفله ما‬
‫يناسب سنه وقدرته ليتأثر بام يتعلمه فينشأ «رجال مستعدا للعمل‪ .‬ال محارا حيمل‬
‫أسفارا»‪.‬‬

‫كومينوس‪ 1592 - 1671( :‬م)‬


‫كاهن تشيكي اشتهر بآرائه يف الرتبية والتعليم‪ .‬وله فيها نظام متامسك‪ .‬غايته تكوين‬
‫الفرد تكوينا دينيا يقربه من اهلل‪ .‬والسبيل إىل هذا التقريب بني العبد وربه أن نعلم‬
‫األطفال كل ما يمكن أن يتعلموه حتى يشمل علمهم اخلليقة كلها‪.‬‬
‫فالتكوين الذي يدعو إليه كومينوس هو تكوين ديني‪ ،‬سبيل حتقيقه الدراسة‬
‫العلمية الواسعة‪ .‬فبهذه الدراسة يمكن لإلنسان أن «يرى اهلل يف كل يشء‪ ،‬ويدرك‬
‫وجوده فيحمده‪ ،‬وهبذا يتحمل هذه احلياة الشاقة برحابة صدر‪ ،‬ويزداد أمله يف احلياة‬
‫األبدية»‪.‬‬
‫ودعا كومينوس‪ ،‬بعد لوثر‪ ،‬إىل تعميم التعليم‪ ،‬فكان شعاره «تعليم كل يشء لكل‬
‫الناس « وأراد أن تعلم املدارس التي يسميها «مصانع اإلنسانية» كل العلوم النافعة‪،‬‬
‫وتعلم اللغات‪ ،‬ال عىل أهنا جزء من العلم كام كان ذلك يف زمانه‪ ،‬ولكن عىل أهنا أداة‬
‫للتوصل إىل العلم‪.‬‬

‫لوك‪ 1704 - 1632( :‬م)‬


‫فيلسوف إنكليزي كتب آراءه يف الرتبية يف كتابيه «حماولة يف العقل اإلنساين» و «آراء‬
‫يف الرتبية»‪.‬‬

‫_‪_  16  ‬‬
‫وأول ما يربز يف آراء لوك‪ ،‬إمهاله للرتبية العلمية‪ ،‬فيعارض رأيه رأي كومينوس‪.‬‬
‫وإمهاله للرتبية األدبية وهو عكس ما كان شائعا يف مدارس وجامعات زمنه‪ .‬يقول‬
‫لوك يف آخر كتابه «آراء يف الرتبية»‪« :‬لعل القارئ يتعجب من أين تركت املعرفة فلم‬
‫أذكرها مع األشياء الالزمة للطفل الذي نريد أن نحسن تربيته‪ ،‬ولعل عجبه يزيد إذا‬
‫أخربته بأن من رأيي أن املعرفة هي أقل األشياء أمهية يف الرتبية»‪.‬‬
‫وهيتم لوك يف الرتبية بقدر النفع العميل الذي حيصل عليه الطفل مما يتعلمه فهو يويص‬
‫بتعليم احلساب ألن احلساب ينفع يف كل شؤون احلياة‪ .‬ويويص بالرقص ألن الرقص‬
‫مترين بدين يكسب اجلسم أناقة وخفة وحركة‪ ،‬ويويص بتعلم الصناعات اليدوية‪،‬‬
‫ونذكر هنا أن لوك ال يفكر إال يف تربية «اجلنتلامن»‪ ،‬ألن معرفة هذه الصناعات تعينه‬
‫عىل توجيه بستانيه أو الصناع الذين يستخدمهم‪ .‬وجييء بعد هذه املواد تعلم القراءة‬
‫والكتابة ألنه البد من تعليمها‪ ،‬أما العلوم املختلفة‪ ،‬فإن لوك ال يتعرض هلا إال ليبني‬
‫الطرق اهلينة يف تعليمها‪ ،‬ألن العلوم يف نظره ال تستحق أن يضيع املرء فيها وقتا طويال‬
‫وال أن يشقى يف سبيل احلصول عليها‪.‬‬
‫والذي هيتم به لوك أكثر من كل يشء هو تربية الطبع وهتيء الطفل ليصبح رجال‬
‫فاضال يف أخالقه‪ ،‬حكيام يف ترصفاته‪:‬‬
‫وال سبيل يف نظره إىل هذين إال برتبية اجلسم تربية سليمة‪ .‬فيويص لوك‪ ،‬وقد كان‬
‫طبيبا أيضا‪ ،‬بنظام له خاص يف التغذية والنظافة‪.‬‬
‫ويذكر لوك يف كتابه احلكمة اليونانية القديمة «العقل السليم يف اجلسم السليم»‪.‬‬
‫فإذا ريب جسم الطفل وكان سليام قرب من الفضيلة‪ ،‬هذه الفضيلة التي هي» أصعب‬
‫نقطة وأهم نقطة ينبغي أن جتعل الرتبية هدفا هلا» وفضيلة لوك فضيلة إنسانية يوجهها‬
‫الشعور بوجود إله قدير ندين له بالعبودية‪ .‬وفضائله الشجاعة والرصاحة واإلخالص‬
‫وحب العمل‪.‬‬
‫وغايته يف الرتبية تكوين رجل قوي يقدر أن يثني عواطفه املندفعة وخيضع للعقل‬
‫فال يترصف إال وفق حكمه‪.‬‬
‫_‪_  17  ‬‬
‫روسو‪ 1778 - 1712( :‬م)‬
‫عاش روسو عيشة مرشدة أيام طفولته‪ ،‬فجرب املجتمع وذاق من مرارة الناس‪.‬‬
‫ولتجربته هذه أثر كبري عىل آرائه يف الرتبية‪ .‬فقد حكم روسو بفساد املجتمع‪ ،‬وحكم‬
‫بأن األرسة نفسها قد ال تكون قادرة عىل القيام برتبية الطفل‪ .‬وألف كتاب «إميل»‬
‫فضمنه كل آرائه يف الرتبية‪ ،‬وفيه حيكي تربية طفل اسمه إميل‪ .‬فأول ما بدأ به روسو‬
‫أن جعل الطفل يتيام حتى يبعده عن أرسته‪ .‬ثم أبعده عن املدينة لينحيه عن املجتمع‪،‬‬
‫ومبدأ روسو يف الرتبية أنه جيب أن نلزم الطبيعة فهي منبع كل خري‪ ،‬وأن نبتعد عن‬
‫تأثري املجتمع فإن «كل يشء يتدهور بني يدي اإلنسان»‪.‬‬
‫وغايته تكوين رجل ذي رأي سديد‪ ،‬متفتح الذهن مكتمل املواهب‪ .‬وقد أمهل‬
‫روسو الغايتني األدبية والعلمية كام فعل لوك‪.‬‬
‫ويرى روسو أن املريب جيب أن يعرف الطفل معرفة كاملة‪ ،‬فيختار من املواضيع‬
‫التي يدرسها ما يناسب سنه‪ .‬ويريد أن جينب الطفل الكتب فال يتعلم إال من الطبيعة‪.‬‬
‫يقول روسو‪« :‬األشياء‪ ،‬األشياء! فإنه إن مل يتعلم منها تعلم أن يتحدث عن أمور ال‬
‫يعرفها»‪ .‬ويريد أيضا‪ :‬أال يفرض عليه حفظ النصوص‪ ،‬ويف ذلك يقول‪ « :‬الكلامت‪،‬‬
‫ثم الكلامت إهنم حيفظون أصواتا وأشكاال‪ ،‬لكنهم ال حيفظون األفكار وال العالقات‬
‫التي بينها»‪ .‬وإنام يتعلم اإلنسان‪ ،‬يف رأيه‪ ،‬ما سعى إليه بنفسه‪ .‬لذلك أوىص بأن يتبع‬
‫املريب اهتامم الطفل وإن كان هذا االهتامم يعارض التسلسل املنطقي يف العلوم‪ ،‬ويرتك‬
‫الطفل يبذل جمهوداته‪ ،‬ويعمل بنفسه ليمرن عقله وجسمه وحواسه‪ .‬ويرى روسو أن‬
‫دور املريب هو اإلحياء واإلرشاد مع احرتام نشاط الطفل الذايت‪ ،‬وهو السعي إليقاظ‬
‫حب اإلطالع يف نفس الطفل‪ .‬فإذا عمل الطفل فأخطأ‪ ،‬اكتفى املعلم بتنبيهه‪ ،‬وتركه‬
‫يصحح أغالطه بنفسه‪.‬‬
‫وعىل املريب أن يتجنب األوامر التي من شأهنا أن توقع اصطداما بني إرادة املريب‬
‫وإرادة الطفل‪ .‬وأن يرتك الطفل يصطدم بواقع احلياة‪ ،‬فإن احساسه بعجزه وقلة حوله‬
‫عقاب طبيعي كاف ألن يرده للصواب‪.‬‬

‫_‪_  18  ‬‬
‫بستالوزي‪ 1827 - 1476( :‬م)‬
‫عامل سويرسي‪ .‬مات أبوه وهو صغري فنشأ يف حجر أمه‪ .‬وكان طبعه يميل إىل‬
‫العزلة واخليال‪ .‬وملا أتم دراسة اإلهليات ودراسة احلقوق انقطع إىل ضيعة له يستثمرها‬
‫ويعمل بيديه ليعطي املثال لفالحيه‪ ،‬لكنه أخفق إخفاقا كبريا‪ .‬ومن ثم أنشأ مدرسة‬
‫لتعليم األطفال الفقراء‪ ،‬ثم انقطع عنها فرتة إىل التأليف‪ .‬وأخريا قام عىل رأس معهد‬
‫يف مدينة إيفردون‪ ،‬وهناك أشهر مذهبه يف الرتبية‪.‬‬
‫ويعتقد بستالوزي أن الرتبية عمل إنساين‪ ،‬غايته تنشئة رجال صاحلني للقيام‬
‫بشؤون أرسهم‪ ،‬ذوو مهنة تضمن هلم العيش الصالح‪ .‬عىل أن يكون أساس هذه‬
‫الرتبية اإلنسانية وهذا التعليم املهني ثقافة إنسانية تنمي مواهب كل فرد وتوقظ فيه‬
‫الضمري الذي يدفع إىل الفضيلة‪.‬‬
‫فإذا حصلت هذه الثقافة اإلنسانية العامة ختصص كل فرد يف مهنة تناسب‬
‫وسطه وتناسب استعداداته‪ .‬ويبدأ هذا التخصص منذ السنة األوىل‪ ،‬فالطفل حني‬
‫يتعلم احلروف اهلجائية يتعلم معها كيف ينسج أو كيف ينرش اخلشب‪ ،‬واحلقيقة أن‬
‫بستالوزي عىل مذهب روسو يف التعليم باملحسوسات‪ .‬فهذه التامرين اليدوية وسيلة‬
‫وغاية معا‪.‬‬
‫ويتفق بستالوزي مع روسو يف أن كليهام يعترب املجتمع فاسدا‪ ،‬وحيلم بمجتمع‬
‫صالح طبيعي أساسه األرسة الصاحلة‪ ،‬فيعتقد أن البناء االجتامعي أساسه شعور‬
‫األب بمسؤولية عن أبنائه‪ ،‬وشعور األخ بمسؤولية عن إخوته‪.‬‬
‫وقد عمل بستالوزي مدى حياته‪ ،‬جاهدا لتحقيق حلمه‪ ،‬خملصا ملبدئه‪ ،‬يقول‬
‫بستالوزي‪« :‬إن حلام واحدا يمأل نفيس‪ ،‬فال أفكر إال يف الرتبية‪ ،‬يف تربية اإلنسان‪.‬‬
‫وهييمن عىل أفكاري صورة تربية الشعب‪ ،‬تربية الفقراء‪ .‬وهذا عمل ال يمكن حتقيقه‬
‫إال يف عامل أقل تصنعا من عاملنا‪ .‬لكنني أندفع وراء حلمي‪ .‬فأنا ال زلت أحلم‪ ،‬أحلم‬
‫يف محاس»‪.‬‬

‫_‪_  19  ‬‬
‫هربرت‪ 1776 - 1841( :‬م)‬
‫فيلسوف أملاين اشتغل بالرتبية فألف كتابني مها‪« :‬البيداغوجية العامة» و «حول‬
‫املحارضات البيداغوجية»‪.‬‬
‫وحمور بيداغوجية هربرت هو رأيه يف االهتامم‪ ،‬فهو يرى أن اإلنسان إنام يريب ليكون‬
‫حرا يف اختياره‪ ،‬حرا يف إرادته‪ .‬وبام أن اإلنسان ال يتعلم األشياء إال إذا اهتم هبا‪ ،‬فيجب‬
‫أن ننسج من حوله شبكة من الدواعي ليهتم بام نريد أن نعلمه‪ ،‬وبذلك نضمن أن تكون‬
‫له هذه احلرية يف اإلرادة‪ ،‬ألنه ال يريد إال األشياء التي سهلنا له سبيل معرفتها‪ .‬وبعبارة‬
‫واضحة فإن هربت يريد أن ينشأ اإلنسان ليكون حرا‪ ،‬ويرى أنه ال حرية بدون معرفة‪.‬‬
‫ويريد هربرت معرفة جامعة واسعة‪ ،‬فيدعو إىل تدريس العلوم بصفة منظمة‬
‫مبتدئني بأقرهبا إلينا «كالعلوم الطبيعية‪ ،‬واجلغرافيا» لكن هذه املعرفة وسيلة ال غاية‪،‬‬
‫وسيلة لرتبية العقل وهتذيبه‪.‬‬
‫وحيدد هربرت للرتبية هدفا ساميا‪ ،‬ويعتقد أن العمل الرتبوي عمل حيوي وخطري‪.‬‬
‫وهدفه تكوين الرجل احلر املتفتح الذهن‪ ،‬الذي هيتم بكل يشء ويشارك يف كل نشاط‪،‬‬
‫وليس هذا الرجل «أو املرأة» من «طبقة اجتامعية معروفة‪ ،‬وال من زمن معروف‪ .‬تعود‬
‫عقله أن حيلق‪ ،‬وحيس بكل ما حيس به اإلنسان «‪.‬‬
‫وينهى هربرت يف بيداغوجيته عن العقاب البدين السيام يف الرتبية األخالقية‪ ،‬إال‬
‫عقاب الصغار الذين ملا تستيقظ عقوهلم فيقدرون عىل التعليل‪.‬‬
‫فروبل‪ 1852 - 1728( :‬م)‬
‫مرب أملاين كان معلام يف أول أمره‪ ،‬ثم اتصل ببستالوزي فتأثر بآرائه‪ .‬ثم أسس معهدا‬
‫تربويا منه أذاع آراءه‪ ،‬بل مذهبه الذي كتب له يف أملانيا نجاح كبري‪ .‬واجلديد يف آراء‬
‫فروبل‪ ،‬أنه أخذ عن بستالوزي رأي روسو يف التعليم باألشياء املحسوسة‪ ،‬ونظمه حتى‬
‫جعل منه طريقة‪ ،‬فإنه ختيل سلسلة من اللعب‪( ،‬كرات‪ ،‬ومكعبات الخ ) يضعها بني يدي‬
‫الطفل تباعا‪ .‬فيها يتعلم األشكال واحلجوم والعد‪ .‬وبنى فروبل طريقته هذه عىل فكرة‬
‫سيكولوجية‪ ،‬هي أن للعب دورا مهام يف حياة الطفل‪ .‬وهذا جتديد مهم جدا‪.‬‬
‫_‪_  20  ‬‬
‫سبنرس‪ 1903 - 1820( :‬م)‬
‫فيلسوف انكليزي‪ ،‬بنى مذهبه يف الفلسفة عىل فكرة التطور العلمية‪ ،‬وهي أن هناك‬
‫تطورا من املادة اجلامدة إىل الكائن احلي تطورا من اجلسم احلي إىل العقل املفكر‪.‬‬
‫وبصفة عامة هناك تطور من البسيط إىل املركب‪.‬‬
‫من هذا املذهب الفلسفي أخذ مذهبه يف الرتبية‪ ،‬وهو أن نخضع هلذا التطور‪،‬‬
‫واختذ العلم وسيلة لتطور اإلنسان العقيل واالجتامعي الذين يبلغان به الكامل‬
‫فكل يشء عنده يدور حول تدريس العلوم‪ ،‬ويكون هذا التدريس منظام يرتقى‬
‫من السهل إىل الصعب ومن البسيط إىل املركب‪ ،‬عىل أن يكون العلم املدروس‬
‫غاية لتنظيم سلوك الفرد‪ ،‬وهتذيب أخالقه‪ .‬وطريقة سبنرس يف التعلم هي‬
‫طريقة روسو‪ ،‬فهو ال حيب أن تكون الكتب يف يدي األطفال‪ ،‬ويويص بالتعليم‬
‫املحسوس‪ ،‬وينهى عن العقاب معتمدا عىل العقاب الطبيعي (انظر حديثنا عن‬
‫روسو) ويفهم سبنرس أمهية العمل الرتبوي‪ ،‬ويريد أن تتوفر يف املريب أحسن‬
‫الصفات‪.‬‬

‫وليم دمجس‪ 1910 - 1840( :‬م)‬


‫فيلسوف أمريكي‪ .‬كتب يف الرتبية أحاديث غري منظمة‪ ،‬لكنها تستحق االعتبار بام‬
‫احتوت عليه من آراء صائبة‪.‬‬
‫ويلح دمجس بصفة خاصة‪ ،‬عىل أمهية االهتامم يف التعليم وهو رأي سبقه إليه‬
‫هربرت‪ .‬ويبني يف أحاديثه أمهية الرتبية ألهنا تتناول الفرد بالتوجيه‪ ،‬فعىل حسنها‬
‫وصالحية املريب تتوقف سعادة األمة‪ .‬ويرى أن الرتبية عمل دقيق‪ ،‬فال يمكن أن‬
‫نامرسها إال كام نامرس الفنون الدقيقة‪.‬‬

‫_‪_  21  ‬‬
‫آراء حديثة يف الرتبية‬
‫آالن‪ 1951 - 1868( :‬م)‬
‫فيلسوف فرنيس‪ ،‬اشتهر بآرائه الشخصية يف الفلسفة والرتبية‪ .‬وقد أحدثت آراؤه‬
‫يف التعليم استغرابا شديدا‪ ،‬ألهنا ختالف املجرى احلديث لطرق التعليم‪.‬‬
‫يعترب آالن أمر الرتبية مهام خطريا يستحق منا كل عناية‪ .‬ويعتقد أن الرتبية أمر‬
‫جد ال سبيل لتحقيقه إال باجلد‪ .‬فالطفل يف نظره حمب للعمل ميال له‪ ،‬فلنعامله بجد‬
‫ولنعلمه قاصدين ال نحتال عليه هبذه املشوقات التافهة‪ ،‬بل ال نسلك يف تعليمه طريقة‬
‫املحسوس البتة‪ .‬وسبيل املدرسة عنده إىل تبصري الطفل بعقله وقدرته عىل التفكري‪ ،‬أن‬
‫نحمله عىل احلفظ والكتابة حتى يتمرن لسانه عىل اللغة التي حتمل األفكار‪ .‬ويويص‬
‫آالن بالقراءة ويراها مع إجادة الفهم‪ ،‬أحسن مترين يعطى للطفل يف املدرسة‪ ،‬وأفضل‬
‫عدة حيملها الطفل منها‪.‬‬
‫ويذهب آالن بعيدا‪ ،‬فيزعم أن أحسن طريق للتعليم هو التدرج من املعقول إىل‬
‫املحسوس‪ .‬وال يتفق آالن مع املربني املحدثني إال يف قبول املنافسة‪ ،‬واعتبارها دافعا‬
‫مهام للطفل نحو التقدم‪.‬‬
‫مونتسوري‪ 1952 - 1870( :‬م)‬
‫طبيبة إيطالية اشتغلت بالرتبية‪ .‬وبدأت نشاطها الرتبوي بالقيام عىل تربية أطفال‬
‫ذوي عاهات‪ ،‬فاختذت معهم طريقة ما لبثت أن طبقتها عىل األطفال العاديني‪.‬‬
‫ومبدأ مونتسوري يف الرتبية هو احرتام حرية الطفل واختياره‪ .‬فليس عندها نظام‬
‫خيضع الطفل له‪ ،‬وإنام يشتغل كل واحد بام يعجبه‪.‬‬
‫وقد اختذت مونتسوري جمموعات اللعب التي ختيلها فروبل وأدخلت عليها بعض‬
‫التحسني‪ ،‬ثم جعلتها أداة لتعليم صغارها‪.‬‬

‫_‪_  22  ‬‬
‫وتالميذ مونتسوري ال يذهبون إىل «املدرسة» وإنام هي «دار األطفال» يأوون‬
‫إليها فيجدون لعبا ميرسا‪ ،‬وأنواعا كثرية من النشاط‪ ،‬كالطبخ وتربية الدواجن‪ ،‬ثم‬
‫ال حماسب هنالك وال معاقب‪ ،‬وإنام حيصل النظام وطاعة املعلمة يف جو خاص تكون‬
‫فيه حرية الطفل واشتغاله‪ ،‬ضابطا يرصفه عن املشاغبة واالضطراب‪.‬‬
‫وغاية مونتسوري أن تعلم الطفل كيف حيكم نفسه‪ ،‬ويسيطر عىل حركاته‪ ،‬برضوب‬
‫الرياضة وأنواع التامرين احلاسية التي يقوم هبا‪.‬‬
‫ونشري إىل أن األطفال الذين يغشون «دار األطفال» ترتواح سنهم بني الثالثة‬
‫والسادسة‪.‬‬

‫ديوي‪ 1952 - 1859( :‬م)‬


‫فيلسوف أمريكي‪ ،‬اشتغل بعلمي النفس واالجتامع ثم استفرغ نشاطه يف البحوث‬
‫الرتبوية وتطبيق ما يصل إليه من حلول نظرية يف مدرسة جتريبية جعلتها اجلامعة التي‬
‫كان يتعلم فيها‪ ،‬وهي جامعة شيكاغو‪ ،‬رهن إشارته‪ .‬وقد درس ديوي‪ ،‬وهو العامل‬
‫النفيس‪ ،‬كيف يتكيف الطفل بوسطه املادي واالجتامعي‪ ،‬وكيف يتفاعل بنشاطه‬
‫الذايت مع هذا «املحيط» الذي يدفعه للعمل‪ .‬حاول ديوي أن جيد الطريق التي تضمن‬
‫تربية الفرد ليقوم بوظيفه االجتامعي ويندمج يف املجتمع‪.‬‬
‫ومن رأيه أن الرتبية ظاهرة اجتامعية ختتلف غايتها من أمة ألخرى باختالف احلياة‬
‫االجتامعية احلارضة‪ ،‬وأهداف األمة التي تصبو إليها‪ .‬ويعترب بصفة خاصة املجتمع‬
‫الديمقراطي‪ ،‬فيسعى لرتبية املواطن الصالح‪.‬‬
‫والعبارة املشهورة «التعلم بالعمل» تتضمن أهم ما يف بيداغوجية ديوي‪ .‬فالعمل‬
‫عنده به حتصل الرتبية األخالقية والتكوين الثقايف‪ .‬وبالعمل وحده يكتسب الطفل كل‬
‫املبادئ النافعة التي حتدث أثرا يف حياته‪ .‬لكن هذا العمل ينبغي أن جييء من الطفل نفسه‬
‫ال بدافع خارجي‪ .‬فال يلزم املعلم تلميذه بيشء وإنام يتبع اهتامم الطفل‪ .‬بل يوجهه‪،‬‬
‫فإذا شعر الطفل بحاجة إىل كسب معرفة أو احلصول عىل مهارة‪ ،‬عمل من نفسه يف‬
‫سبيل احلصول عليها وبذل جمهودا نافعا خصبا‪ .‬ويعترب ديوي الدرس الذي يلقيه‬
‫املعلم فيسمعه الطفل ساكتا عمال فاشال ال نفع فيه‪ .‬ويعترب الدرس الذي احتال فيه‬
‫_‪_  23  ‬‬
‫املعلم ليجعله مشوقا‪ ،‬أكثر منه فشال‪ .‬فليس التشويق توجيها لالهتامم‪ ،‬ولكنه ضغط‬
‫خارجي‪ ،‬وكل ضغط خارجي عىل الطفل ينقص من نتيجة عمله‪ ،‬بل تنعدم هذه‬
‫النتيجة معه متاما‪.‬‬
‫وبام أن الطفل يميل‪ ،‬بصفة عامة‪ ،‬إىل العمل بيديه‪ ،‬فإن ديوي يويص بأن هتيء‬
‫للتلميذ الفرص حتى يعمل دائام بيديه‪ ،‬وليكن هذا العمل مجاعيا يشرتك فيه مع رفاقه‬
‫ويستعني هبم‪ ،‬فيتعلم قوانني املجتمع‪ ،‬ويفهم رضورة التعاون بني أفراده‪.‬‬
‫ويعترب ديوي‪ ،‬بفكره االجيايب‪ ،‬وآرائه العلمية الركينة‪ ،‬من أكرب مريب العرص‪.‬‬

‫كرشنشتاينز‪ 1932 - 1855( :‬م)‬


‫مرب أملاين اشتهر بتجاربه يف ميدان التعليم‪.‬‬
‫وآراء كرشنشتاينز تتفق يف أهم نقطها مع آراء ديوي مع أنه مل يلقه وال تأثر به‪ ،‬فهو‬
‫كديوي هيدف إىل تربية املواطن الصالح مع تشجيع االجتاهات الفردية واستغالهلا ما‬
‫دامت هذه االجتاهات يف صالح املجتمع‪.‬‬
‫ويشري هذا املريب إىل أنه البد من بعض الضغط عىل الطفل يف أول عهده‬
‫باملدرسة‪ .‬وإن كان هذا الضغط ال يفيد شيئا يف تربية الطفل‪ .‬والذي حيدث‬
‫هذه الرتبية عنده هو عمل الطفل اإلرادي‪ ،‬عمله مع اجلامعة يف العمل الدرايس‬
‫أو يف أوجه النشاط املختلفة التي هييئها للطفل يف مدرسته مبارشة‪ .‬ويدفعه‬
‫حبه للعمل إىل أن ينتقد طرق التعليم العتيقة التي يسميها‪« :‬مدارس الكتب»‬
‫انتقادا شديدا ويزعم أن بالتجربة وحدها وبالعمل اليدوي حتصل املعرفة‪.‬‬
‫وهنا تلتقي مدرسة العمل األمريكية بمدرسة العمل األملانية‪ .‬ويف هذا يتفق‬
‫كرشنشتاينز وديوي‪ ،‬ويف توصيتهام بتنظيم هذا العمل املدريس وفقا لرغبات‬
‫الطفل ومراكز اهتاممه‪.‬‬

‫_‪_  24  ‬‬
‫دكرويل‪ 1932 - 1871( :‬م)‬
‫طبيب ومرب بلجيكي بدأ نشاطه الرتبوي‪ ،‬كام بدأ بستالوزي بالعناية باملرىض من‬
‫األطفال وتربيتهم‪ ،‬ثم طبق طرقه الرتبوية عىل األطفال العاديني يف مدرسة شهرية له‪.‬‬
‫وإنام أخذ دكرويل سلسلة اللعب التي اخرتعها فروبل وسيلة للرتبية‪ ،‬وحسنها‬
‫أكثر مما فعلت مونتسوري‪ .‬فاستعاض عن األشكال املجردة الصامء‪ ،‬أشكاال ألشياء‬
‫معروفة‪ ،‬أو هذه األشياء بعينها‪ .‬ثم اختذ هذه األشياء وسيلة لتعلم منظم‪ ،‬جيمع مادته‬
‫برنامج معروف‪.‬‬
‫ويتعلم تالميذ دكرويل مبتدئني من مالحظة موضوع الدرس‪ ،‬ثم يقربون مما‬
‫الحظوه كل ما سبق أن تعلموه‪ ،‬فإذا فهموا املوضوع عربوا عنه تعبريا ذكيا‪ .‬ويدور‬
‫هذا التعليم كله حول هذه الفكرة األساسية‪ ،‬فكرة التدرج من املحسوس إىل املعقول‪،‬‬
‫من اليشء إىل معنى اليشء‪ ،‬ومن الكل إىل أجزاء الكل‪ ،‬من الكلمة مثال إىل احلروف‪.‬‬
‫هذه آراء بعض كبار املربني يف عصور خمتلفة‪ ،‬وقد رأينا تباينها‪ ،‬وتطور فكرة‬
‫الفرد املثقف عرب العصور؛ فرأينا أن هدف الرتبية كان إنسانيا هيدف إىل تربية الرجل‬
‫وتأديبه باآلداب القديمة‪ ،‬ورأينا هذا اهلدف تطور فأصبح تكوين رجل واسع الثقافة‬
‫غزير املعرفة‪ ،‬ثم تطور فأصبح علميا حمضا‪ ،‬أي اختاذ العلم غاية يف نفسه ووسيلة إىل‬
‫هتذيب الروح واخللق‪ .‬ونالحظ أن الرتبية يف آراء املحدثني أصبحت شاملة لنشاط‬
‫الفرد كله‪ ،‬فهي ترمي إىل تربية اجلسم السليم‪ ،‬والعقل السليم‪ ،‬واخللق الفاضل‪.‬‬
‫وتبتعد الرتبية احلديثة عن األغراض التثقيفية كام كان يفهمها مفكرو القرن السادس‬
‫عرش مثال وتفرغ كل مهها يف تنمية الفرد وإبراز مواهبه كلها‪ ،‬والعمل عىل إنضاجها‬
‫وتكميلها‪ .‬ولئن كان فالسفة القرن الثامن عرش يف أوربا يريدون أن تكمل للفرد كل‬
‫قواه ليتحقق كامال كفرد‪ ،‬فإن الرتبية احلديثة ال تنمي الفرد‪ ،‬وال تعمل إلبراز كل‬
‫مواهبه‪ ،‬إال لتحقق املواطن عضو املجتمع‪ ،‬هذا املجتمع الذي تعترب له كيانا خاصا‪،‬‬
‫وتعترب له حياة خاصة‪ .‬فلنقل إذن أن غرض الرتبية هو تنظيم كل إمكانيات الفرد‬
‫وهتيئه للعيش يف حميطه االجتامعي والطبيعي‪.‬‬

‫_‪_  25  ‬‬
‫إمكان الرتبية‬
‫أما وقد حددنا‪ ،‬نظريا‪ ،‬هدفا للرتبية‪ ،‬وحاولنا أن يكون هذا اهلدف صاحلا لتكوين‬
‫مواطن قوي يف جسمه‪ ،‬مكتمل يف عقله‪ ،‬مستقيم يف سلوكه‪ ،‬نافع لنفسه وملجتمعه‪،‬‬
‫فلنضع هذا السؤال‪ :‬هل يمكن أن نريب الطفل‪ ،‬وإىل أي حد يكون العمل تربويا‬
‫ناجحا؟‬
‫ال نجادل يف أنه يمكن أن نعلم الطفل القراءة والكتابة‪ ،‬أو احلروف املختلفة التي‬
‫ال يمكن أن يتعلمها وحده‪ .‬ولكن ما عمل كل ما نلقنه يف حياته الفكرية املستقبلية؟‬
‫وال ننكر أن بوسعنا أن نفرض عليه نظاما سلوكيا خاصا‪ ،‬ولكن ما قيمة هذا السلوك‬
‫املفروض بالنسبة لنزعاته الشخصية‪ ،‬وإىل أي مدى يقتنع هبذا السلوك االجتامعي‬
‫الذي نسميه أخالقا؟‬
‫هل يمكن أن نحدد عقل الغبي ونعطيه برتبيتنا بعض الذكاء؟ وهل يمكن حقا‬
‫أن نوجه املواهب ونؤثر فيها؟ أم هل يمكن أن نغري االجتاه اخللقي يف الفرد فنكسب‬
‫اجلبان شجاعة‪ ،‬ونحمل الكسول عىل اجلد والعمل؟‬
‫يظهر أن هذا أو بعضه ممكن‪ ،‬وإن كنا نحس دائام بوجود شخصية طبيعية عند الطفل‬
‫تستعيص عىل عملنا الرتبوي‪ ،‬وحتد من نتائجه‪ .‬والذي ال شك فيه أننا عاجزون عن‬
‫التأكد من هذا اإلمكان واستقصاء عمل الرتبية بالتجربة العلمية فإن ذهبنا نقارن بني‬
‫طفلني ربينا أحدمها وتركنا اآلخر للطبيعة يكرب بال تربية خفنا أن تضل بنا الفروق‬
‫الفردية بني الناس‪ ،‬ولو بني شقيقني توأمني‪ ،‬سبيل املعرفة‪ .‬فال يبقى إال الفرض‬
‫والتخمني‪ ،‬وتقدير أثر الرتبية عىل الناس‪ .‬والفرض والتخمني ال يثبتان شيئا البته‪،‬‬
‫وإنام مها عوض للعاجز عن السالح العلمي املفيد‪.‬‬

‫_‪_  26  ‬‬
‫عاش يف فرنسا القرن املايض‪ ،‬رجل اسمه « أنودي « وكان أنودي آية يف تدبري‬
‫العمليات احلسابية‪ ،‬حري الناس برسعة إنجازه هلا مهام تعقدت مع أنه رجل أمي‪.‬‬
‫أنودي األمي حيسب اجلدور املربعة وحتى املكعبة لكل األعداد التي تقرتح عليه يف‬
‫رسعة العقول امليكانيكية املعروفة اليوم أو تكاد‪ .‬فامذا كان حيدث لو تلقى أنودي‬
‫تربية علمية منظمة؟ ال ندري ماذا كان حيدث لو نشأ موزارت يف أرسة ال تعرف‬
‫املوسيقى‪ ،‬ومل يتيرس له أن يتلقى الرتبية املوسيقية التي جعلت منه‪ ،‬من بني آالف‬
‫من تعلموا املوسيقى عرب العصور‪ ،‬العبقري الفذ الذي نعرفه‪ .‬ال يمكننا أن نقارن‬
‫بني الفرد وما تكون حياته لو لقي تربية‪ ،‬أو نوعا من الرتبية‪ ،‬أو مل يلقها‪ .‬ولو أمكنت‬
‫هذه املقارنة ألجبنا عن كل األسئلة التي أوردناها يف هذا الفصل مطمئنني إىل صحة‬
‫ما نقول‪ .‬وما دمنا عاجزين عنها فإن كل جتربة ملعرفة العمل الرتبوي مآهلا الغلط‬
‫والفرض التحكمي‪.‬‬
‫وقد عنى املفكرون‪ ،‬القدماء منهم واملحدثون‪ ،‬هبذه النقطة‪ ،‬أعني معرفة ما إذا‬
‫كانت الرتبية‪ .‬تأثري الرتبية تأثريا حقيقيا‪ ،‬عمال ممكنا‪ .‬فنجد هلم أقواال متضاربة‬
‫مصدرها التعقل الفلسفي ال التجربة العلمية التي ال متكن كام قدمنا‪.‬‬
‫وأقدم هؤالء املفكرين أرسطو‪ .‬وقد قال أرسطو يف هذا املوضوع كلمة كثريا ما‬
‫تبناها املفكرون بعده وذلك حني يقول بأن عقل الطفل أول عهده بالرتبية يشبه‬
‫لوحة من الشمع‪( ،‬وكان األقدمون يكتبون عىل مثل اللوحة‪ )،‬مل يكتب فيها يشء‪،‬‬
‫ويف وسع املريب أن يكتب فيها ما يريد‪ .‬ويف مقالة أرسطو‪ ،‬كام نرى‪ ،‬تشبيه حمسوس‬
‫قد يغر اجلاهل فيحسب الرتبية عامال هينا كام هيون اخلط عىل اللوحة‪ ،‬وحيسبها‬
‫عمال هنائيا ثابتا كام يثبت ما نخطه عىل اللوحة ويف هلجة أرسطو إثبات مطمئن‪،‬‬
‫ال يقبله العلم احلديث إال إذا صححته التجربة‪ .‬ويف كالم أرسطو ما قد يفهم منه‬
‫بأن الطفل مادة ميتة‪ ،‬فهو قابل لكل ما حيب املريب أن يطبعه يف نفسه‪ ،‬وبأن موقف‬
‫الطفل سلبي ليس لديه إال ما حيمله إليه املريب‪ .‬وكل هذا ال يتفق وما نعرفه اليوم‬
‫عن الطفل‪.‬‬

‫_‪_  27  ‬‬
‫وإلراسم يف هذا املوضوع رأي يشبه رأي أرسطو من بعض الوجوه‪ .‬فهو‪ ،‬مثل‬ ‫ِ‬
‫الفيلسوف اإلغريقي‪ ،‬يشبه عقل الطفل تشبيها حمسوسا‪ .‬وهذا التشبيه وحده كاف‬
‫للداللة عىل احتاد نظرهتام إىل الطفل واعتباره «موضوعا» للعمل الرتبوي‪ ،‬ال « عامال»‬
‫يساعده عىل هذه الرتبية كام يرى علامء النفس يف الوقت احلارض‪.‬‬
‫يزعم إراسم أن الطفل يشبه احلقل الصالح للزراعة‪ ،‬وأن املريب يزرع فيه ما يشاء‪،‬‬
‫فال ينتج احلقل إال غلة موافقة للبذرة التي وضعت فيه‪ .‬ويزعم إراسم أنه ال يوجد‬
‫عمل يشبه عمل الرتبية‪ ،‬وأنه ال توجد طبيعة‪ ،‬مهام كانت مستعصية‪ ،‬إال ويف إمكان‬
‫الرتبية أن تردها إىل ضدها‪ ،‬ويشبه إراسم الطفل بغصن لني يمكن أن نثنيه كام نشاء‪،‬‬
‫وبالشمع اللني أو الطني يكيفهام الفنان كام يريد ونجد يف التشبيه األول جماال للفرض‪،‬‬
‫فلعل إراسم أراد أن يلفت نظرنا إىل ما يوجد بني األطفال من فروق‪ ،‬فشبه عقل‬
‫الطفل باحلقل‪ .‬ونعرف أن احلقول تتفاوت يف اخلصب واجلدب‪ .‬وهذا ما مل يفعله‬
‫أرسطو يف تشبيهه‪ .‬لكن إراسم هيول من أمر الرتبية أكثر مما فعل احلكيم القدير‪ ،‬فيؤكد‬
‫أن الرتبية قادرة عىل حتويل الطبائع إىل أضدادها‪.‬‬
‫أما الفيلسوف اإلنجليزي لوك‪ ،‬فنجده يرتدد بني مذهب القدماء فيشبه الطفل‬
‫بورقة بيضاء صاحلة للكتابة‪ ،‬أو بقطعة شمع صاحلة للتكييف‪ .‬ونجده يف مكان آخر‬
‫يؤكد بأنه «ال يمكن أن نغري طبيعة اإلنسان تغيريا عميقا ألن اهلل طبع كل شخصية‬
‫بطابع خاص‪ .‬وكل ما يمكن هو أن نحدث يف هذه الطبيعة تغيريات من هنا وهناك‪.‬‬
‫أما أن نمحو الطابع‪ ،‬أو نضع مكانه طابعا غريه فاألمر صعب جدا»‪ .‬هنا رأي لني كام‬
‫نرى مرتدد ال خيرج بيشء ويقابله رأي الفيلسوف األملاين شوبنهاور‪ ،‬فعند شوبنهاور‬
‫أن الطبع اإلنساين ال يتغري‪ .‬وأن تطوره يف اجتاه ثابت فرضته اإلرادة‪ ،‬فمهام كان عمل‬
‫الرتبية‪ ،‬فإن الطبع احلقيقي يتغلب دائام‪ .‬وهذا رأي واضح فيه نفي بات جلدوى كل‬
‫فجوتَه يؤمن بأن مصري اإلنسان حمدد‪ ،‬فال مناص‬ ‫جلوتَه رأي شبيه به‪ُ ،‬‬
‫عمل تربوي‪ .‬و ُ‬
‫له من أن يتبع الشوط إىل آخر‪.‬‬
‫واملفكرون املحدثون يعتقدون أن اإلنسان يرث عن أبويه استعدادات طبيعية قوية‪،‬‬
‫وأن هذه االستعدادات ترتكب يف كل فرد تركبا ال حيدث مثله يف فرد آخر‪ .‬فلكل‬
‫إنسان شخصية طبيعية خاصة به وحده‪.‬‬

‫_‪_  28  ‬‬
‫لكن ال سبيل إىل إنكار تأثري الوسط عىل اإلنسان‪ ،‬وتأثري الوسط معناه الرتبية‪،‬‬
‫فال سبيل إذا إىل إنكار عمل الرتبية‪ .‬يتأثر الفرد بام أحس به إحساسا قويا‪ ،‬ويتأثر بام‬
‫شاهده من أعامل‪ ،‬وما مارسه من نشاط‪ .‬ويتأثر باألفكار التي سمعها‪ ،‬وباألفكار‬
‫التي خلقها يف ذهنه يتأثر بكل هذا كام تتأثر الشجرة بالرتبة التي غرست فيها‪ ،‬وبنوع‬
‫العناية التي حصلت عليها‪ ،‬واملاء الذي سقيت به‪ .‬فلو وقع أن هذه الشجرة نفسها‬
‫بخصائصها الفردية نقلت إىل تربة جديدة‪ ،‬وحصلت عىل عناية خمالفة للعناية‬
‫األوىل‪ ،‬لتغريت الشجرة‪ ،‬ولكان ثمرها أجود أو أقل جودة من الذي تعطيه يف‬
‫الرتبة األوىل‪ .‬ولو وقع أن شجرتني‪ ،‬أو أشجارا عدة‪ ،‬من جنس واحد‪ ،‬غرست يف‬
‫تربة واحدة‪ ،‬وحصلت عىل عناية واحدة‪ ،‬لو وقع هذا أيضا الحتدت هذه األشجار‬
‫يف تأثري الرتبة والوسط عليها رغم اختالفها يف الطبيعة الشخصية‪ .‬كذلك حيدث‬
‫الوسط‪ ،‬ومن الوسط املدرسة وعملها‪ ،‬تأثريه يف األفراد‪ ،‬لكن عمل الرتبية حمدود‪،‬‬
‫كام هو حمدود عمل الرتبية والعناية الزراعية يف األشجار‪ .‬وكام أن شجرة اخلوخ ال‬
‫تتحول إىل شجرة مشمش مهام غرينا تربتها ونوعنا عنايتها هبا‪ ،‬فكذلك ال يتغري‬
‫اإلنسان يف خصائصه الفردية العميقة‪.‬‬
‫وقد بحث علامء االجتامع هذا املوضوع‪ ،‬واجتهدوا ملعرفة حظ املجتمع يف تكوين‬
‫شخصية الفرد‪ .‬وبحثه علامء النفس املتخصصون يف دراسة الطبع اإلنساين‪ .‬ويقول‬
‫عامل االجتامع الفرنيس دوركهايم بأن استعدادات الفرد أيا ما كانت‪ ،‬ال تعدو أن‬
‫تكون جمموعة عامة من اإلمكانيات‪ ،‬ختتلف قوة وضعفا من فرد إىل فرد‪ ،‬لكنها ال‬
‫تتخذ شكال معينا‪ ،‬أي ال ختصص‪ ،‬إال بالرتبية‪ .‬ويوجد فرق كبري بني استعدادات‬
‫الطفل ساعة يولد وبني صفاته حني يصري رجال‪ .‬وهذه املسافة البعيدة هي امليدان‬
‫الذي تعمل فيه الرتبية‪ .‬هذه الرتبية التي بإمكاهنا وحدها‪ ،‬سواء كانت تربية طبيعية‬
‫يف الوسط الطبيعي االجتامعي أو كانت منظمة كرتبية املدرسة‪ ،‬أن تربز هذه‬
‫االمكانيات‪ ،‬وجتعلها طاقة تعمل وحتدد الشخصية‪ .‬ولسبنرس رأي يشبه هذا‪.‬‬
‫أما علامء النفس فقد أبعدوا يف دراسة الطبع اإلنساين‪ ،‬حتى كان منهم من جعلوا‬
‫خصائص النفس اإلنسانية‪ ،‬خاضعة لقانون مضبوط وضعوه‪ .‬وحيسب الدارس‬
‫_‪_  29  ‬‬
‫ألبحاثهم أنه أمام معادالت جربية عندما يقرأ هذا القانون الذي يكاد يكون «وصفة‬
‫« فيها مقادير ما ينتقل إىل االنسان بالوراثة من ذكاء وصفات جسمية وقابلية للتأثر‬
‫العاطفي‪ .‬لكن هؤالء النفسانيني يتفقون يف الرأي مع علامء االجتامع‪ ،‬فيقررون أن‬
‫كل هذه اخلصائص عامة وأن الطبع ليس هو الشخصية‪ .‬ويقررون أن هذه اخلصائص‬
‫العامة يمكن أن تتخذ أشكاال خمتلفة‪ ،‬حسب العامل الرتبوي‪ ،‬حتى تستقر آخر األمر‬
‫عىل صورة واحدة‪ .‬فإذا استقرت هذه اخلصائص وكونت شخصية الرجل أصبحت‬
‫أقل َمرانة مما كانت عليه‪ ،‬وأقل قابلية بكثري للتغري‪.‬‬
‫وخالصة القول أننا مضطرون لالعرتاف بأن الرتبية ممكنة‪ ،‬وإن مل تثبت ذلك‬
‫التجربة العلمية التي ال يمكن إجراؤها يف موضوع كمثل هذا‪ .‬نعرف أن الرتبية ممكنة‬
‫ملا نشاهده من عملها يف كل يوم ومنذ أزمان‪ .‬ونعرف أن للعمل الرتبوي حدا يقف‬
‫عنده‪ .‬ويكاد يكون الطبع البليد املتحجر حاجزا تقف عنده الرتبية عاجزة‪ ،‬فيحار‬
‫املريب يف اختيار وسائله الرتبوية‪ ،‬حتى إذا استفرغ كل ما عنده من حيل‪ ،‬أو ظن أنه‬
‫فعل ذلك‪ ،‬متلكه اليأس‪ ،‬ونقطع أمله يف أن يبلغ من هذا الطبع البليد شأوا‪.‬‬
‫لكن عمل املريب‪ .‬بل واجب املريب‪ ،‬هو أال ييأس أبدا‪ .‬ألن اليأس يفقد أكرب سالحه‬
‫وعليه أال يعرض عن هذا الطفل الذي يبدو عليه مخول فكري مهام محله ذلك من‬
‫الكد‪ .‬وعليه أن يوجه عمله الرتبوي بذكاء‪ ،‬فيختار الفرص املساعدة له‪ ،‬خيتار الوقت‬
‫املناسب‪ ،‬واألفكار املناسبة‪ ،‬واألسلوب املناسب‪ .‬فإذا فعل ذلك فربام يصل إىل نتيجة‬
‫مل يكن يتوقعها‪ ،‬فكم من أطفال معتوهني رجعوا إىل رشدهم بفضل الرتبية املناسبة‪،‬‬
‫وإن مل يفعل وأمهل طفال‪ ،‬فيخاف أن يتحجر طبع الطفل فعال‪ ،‬ألن الطبع ينمو دائام‬
‫ويتكيف إن وجد العناية الالزمة‪ ،‬فإن مل جيدها وقف نموه وتصلب عىل شكله فال‬
‫حييد عنه‪.‬‬
‫ثم إن هنالك سببا معقوال يدفع اليأس عن املريب‪ .‬وذلك أنه ال يمكن مطلقا أن‬
‫نحكم ببالدة طفل فنقيض بأنه ال يمكن التأثري فيه‪ .‬وال تكفي كل االختبارات النفسية‬
‫الكثرية إلثبات ذلك‪ .‬ومن يدري لعل هذه البالدة التي تبدو عىل الطفل ظاهرة‬
‫_‪_  30  ‬‬
‫مؤقتة ال تلبث أن تزول؟ أال نعرف يف تاريخ كبار الرجال أن بعضهم كان تلميذا‬
‫بليدا متأخرا؟ كان بليدا متأخرا‪ ،‬ثم مىض الزمن فإذا به يصبح فذا من أفذاذ اإلنسانية‬
‫الذين تقدموا هبا‪ .‬ويف تاريخ الرجال أمثلة كثرية للمواهب التي ال تربز إال متأخرة‪،‬‬
‫سواء يف ذلك املواهب الفكرية العامة أو املواهب الفنية من رسم وموسيقى ونحت‬
‫الخ ‪ ،‬وإذن فال ييأس املريب أبدا‪ ،‬ولينوع وسائله‪ ،‬ويبذل قصارى جهده‪ ،‬وليأخذ‬
‫الطفل صغريا وليبدأ تربيته صغريا قبل أن يرتكز يف الطفل أثر املجتمع الذي قد‬
‫يكون خمالفا ملا تريد املدرسة‪.‬‬

‫_‪_  31  ‬‬
‫الفصل الثاين‬

‫وسائل الرتبية‬
‫والتعليم‬
‫‪ - 1‬املدرسة‪ :‬وظيفتها ومبادئها‬
‫أرشنا يف الفصل السابق‪ ،‬إىل أن الرتبية تتحقق يف الوسط الطبيعي االجتامعي ومن‬
‫هذا الوسط املدرسة‪.‬‬
‫واملدرسة جعلت لتقوم بوظيفة الرتبية يف املجتمعات الراقية‪ .‬أما يف املجتمعات‬
‫البدائية‪ .‬فإن الرتبية تبقى طبيعية حيصل عليها الطفل بمعايشة ذويه‪ ،‬يف نطاق أرسته‬
‫ثم يف نطاق عشريته أو قبيلته‪ .‬وكانت الرتبية الطبيعية يف املجتمعات األوىل تقليدية‬
‫حمضة‪ ،‬بمعنى أن اجلامعة ال تشعر بحاجة إىل تربية األطفال وال بحصول هذه الرتبية‬
‫بواسطة املعايشة والتقليد‪ .‬كام مل يكن الطفل يشعر هبذه الرتبية‪ ،‬فيحكي األفعال‬
‫واألقوال التي يراها ويستمعها‪ ،‬ويمتثل األوامر والنواهي التي تصدر عن الكبار‪،‬‬
‫ويتعلم الصناعة التي كانت ألبيه وهو يساعده عىل ممارستها‪ .‬ومن خالل هذا يتكون‬
‫الطفل وحيصل عىل مميزات قومه عندما يصري راشدا‪.‬‬
‫وملا تقدمت املجتمعات‪ ،‬وترقت إىل درجة من احلضارة تشعبت معها احلياة وتعقدت‪.‬‬
‫وملا احتاجت هذه احلضارات إىل رجال يشغلون وظائف متنوعة كثرية ال يتأتى لألرسة‬
‫أن تكوهنم من أجلها خلقت وظيفة جديدة هي وظيفة املدرسة‪ .‬ونشأت املدرسة يف‬
‫البالد املرصية والصينية وهي بالد استعملت فيها الكتابة وكان فيها نظام حضاري ال‬
‫بأس بتقدمه وكان الكتاب وسيلة التعليم يف املدرسة من أول نشأهتا‪.‬‬
‫وكانت هذه املدارس األوىل وسيلة اجتامعية لتكوين طبقة املثقفني احلاكمني الذين‬
‫يقومون عىل إحصاء مال الدولة وتسجيل مصاريفها‪ ،‬وتنظيم احلكم يف البالد‪ .‬أما‬
‫الفالحون والصناع‪ ،‬فكل ما كانوا حيصلون عليه من معرفة بصناعتهم‪ ،‬هو ما كانوا‬
‫يتعلمونه بالتقليد‪.‬‬
‫وقد ظل دور املدرسة اجتامعيا خاصا بطبقة احلكام يف مرص والصني وحضارة‬
‫الرشق األوسط‪ .‬فلام كانت حضارة البالد االغريقية‪ ،‬اختذت املدرسة وسيلة لرتبية‬
‫اجلند الشجاع الذي يشعر بكرامة قومه فيضحي بنفسه من أجلها واختذت املدرسة‬
‫لرتبية الفرد‪ ،‬تربية جسمه وذوقه وعقله‪.‬‬

‫_‪_  35  ‬‬
‫ومنذ ذلك‪ ،‬ما فتئت املدرسة تتوسع يف وظيفتها ومبادئها حتى كان ما نراه اليوم من‬
‫تنوع كثري يف املدراس‪.‬‬
‫املدرسة إذن أسست لتكون أداة لتحقيق غاية تعليمية وتربوية ال يمكن لألرسة‬
‫أن حتققها إما ألن أفراد األرسة ال يتوفرون عىل املعرفة أو الوسائل املادية التي‬
‫نجدها عند معلمي املدرسة‪ ،‬وإما ألن األرسة‪ ،‬إن كانت تتوفر عىل هذه املعرفة‬
‫وهذه الوسائل ال يمكن أن حترص كل نشاطها لرتبية طفلها الواحد أو بضعة أطفال‪.‬‬
‫حرصا مستمرا طويال‪.‬‬
‫وأيا ما كان فإن املدرسة ختلق جوا يساعد عىل النشاط والعمل ال يتيرس إجياده يف‬
‫البيت بني أفراد األرسة‪ .‬الطفل يف املدرسة يعيش مع رفاق كثريين‪ ،‬ويعمل حتت‬
‫سلطة معلم له يف عينيه مهابة وقدرة‪ .‬وال يقدر األب أو األم أن يقوم مقام املعلم‪،‬‬
‫فمام يعرف أن األب خمفق يف عمله أن حاول أن يكون ألبنائه معلام‪ ،‬ألن حبه لبنيه‬
‫جيعل فيه حرصا شديدا عىل أن يتعلموا كل ما يقوله‪ ،‬وعىل أن يتعلموا برسعة‪ .‬فإذا‬
‫مل حيصل عىل ما كان يتوقعه‪ ،‬وأجدر به أال حيصل‪ ،‬غضب وثار واهتم بنيه بالتقصري‪،‬‬
‫ويف املدرسة جيد الطفل رفاقا يف سنه هيتمون بام هيتم به‪ ،‬فيشاركهم ألعاهبم ويشعر‬
‫أنه قريب منهم‪ ،‬شبيه هبم‪ .‬ومن هذا الشعور تنشأ روابط متينة بني الطفل ورفاقه‬
‫ليست أقل العوامل أمهية لتحبيب املدرسة إىل نفسه‪ ،‬وهذا االستيناس بالرفاق‬
‫يشعر الطفل بطمأنينة قد ال يشعر هبا حتى بني أفراد أرسته‪ ،‬ونحن نعلم أن الشعور‬
‫بالطمأنينة رضوري لكي ينشأ الطفل نشأة طبيعبية وتنمو كل قدراته نموا طبيعيا‪.‬‬
‫أال نرى أن الطفل يسكت متاما إن أفردناه عن رفاقه وسألناه‪ ،‬فإذا كان بينهم انطلق‬
‫لسانه فعرب عن كل ما يفكر فيه؟ ذلك من عمل هذا الشعور يف نفسه وألنه حيس‬
‫بتجاوب عميق بينه وبني «شعب األطفال» كام يعرب آآلن‪.‬‬
‫املدرسة إذن تقوم بوظيفة تربوية إنسانية‪ ،‬واجتامعية ينظر فيها إىل منفعة الفرد‬
‫ومصلحة املجتمع‪ ،‬وسنحاول حرص مبادئها فيام ييل‪:‬‬
‫‪ - 1‬املدرسة تفتح عني الطفل عىل حميطه الطبيعي واالجتامعي‪ ،‬فتدرس له‬
‫اجلغرافية والتاريخ الطبيعي وفيهام يتعرف عىل قريته أو مدينته‪ ،‬ويعرف حدودها‬
‫_‪_  36  ‬‬
‫ومقدار ما تشغله من فراغ يف األرض‪ ،‬ويتعرف عىل احليوانات التي يف بلده والطيور‬
‫التي يراها يف األشجار‪ ،‬وبدراسة التاريخ الطبيعي واجلغرافية يمكن للطفل أن حيدد‬
‫نفسه وبلده يف املكان‪ ،‬وتدرس له تاريخ بالده‪ ،‬فيحدد نفسه وبالده يف الزمان عندما‬
‫يدرس تاريخ البالد األخرى‪.‬‬
‫‪ - 2‬املدرسة تيرس للطفل فهم احلياة التي حيياها قومه‪ ،‬وتيرس له أن يقدر عىل‬
‫أسباب هذه احلياة‪ ،‬فهو ينشأ يف وسط ال يفهم وظيفة أفراده‪ ،‬وال يفهم الوسائل التي‬
‫هبا حيصلون عىل عيشهم‪ ،‬وإنام املدرسة هي التي تبرصه يف ذلك‪ ،‬تبرصه أن للمجتمع‬
‫نظاما به تستقيم احلياة‪ ،‬وتبرصه أن من واجب كل فرد أن يعني عىل املحافظة عىل‬
‫هذا النظام‪ ،‬وأن حيرتم حقوق الغري‪ ،‬وأن يكسب عيشه بطريقة رشيفة‪ .‬كام تبرصه‬
‫أن هذه األشياء التي يراها بسيطة ألنه عرفها من أول األمر كام هي‪ .‬ال حتصل عفوا‪،‬‬
‫تبرصه من أين تأيت هذه النقود التي يشرتي هبا أبوه ما يشرتي‪ ،‬وملاذا تشتعل النار‪،‬‬
‫ومن هذه األوليات تتدرج به إىل كل ما يقدر أن يبلغ عمله مما يعرفه الناس يف بلده‪.‬‬
‫‪ - 3‬املدرسة تزود الطفل بـ «أدوات املعرفة» كام يعرب األمريكيون‪ .‬ويعنون بذلك‬
‫القراءة والكتابة واحلساب‪ .‬وتعرفه كيف يستعمل هذه األدوات‪ ،‬كيف يتفاهم مع‬
‫الناس وكيف يفهم ما كتبه األولون‪ ،‬وكيف يتعامل مع الناس معاملة صحيحة‪،‬‬
‫وكيف يسعى لتنمية ما يعرفه‪.‬‬
‫‪ - 4‬املدرسة تعمل عىل نرش األخالق الفاضلة‪ ،‬وبث العادات احلسنة وهي وسيلة‬
‫لإلصالح ناجعة‪ ،‬إلصالح اجلامعة بإصالح األفراد‪ .‬فهي تشعر الطفل بحاجته إىل‬
‫جسم سليم وتعلمه كيف حيافظ عىل جسمه‪ ،‬وتعلمه رضر األخالق القبيحة عىل‬
‫أجسام الناس ومصاحلهم وتدفعه إىل حماربتها إن وجدها‪.‬‬
‫‪ - 5‬املدرسة تضع يف يد الطفل الناشئ سالحا به يكسب عيشه‪ .‬هتيء له الفرص‬
‫لتنمية قواه‪ .‬وتوجهه إىل العمل الذي سينجح فيه‪ .‬ثم تيرس له اكتساب املهنة التي‬
‫وجهتها إليه‪.‬‬

‫_‪_  37  ‬‬
‫‪ - 2‬املدرسة والبيت‪:‬‬
‫نرجع إىل وظيفة املدرسة‪ ،‬ونتذكر أن املدرسة أسست لتقوم مقام األرسة كام قلنا‬
‫لكنها تقوم مقام األرسة فيام ال تقدر األرسة عىل القيام به‪ ،‬ويف ساعات معدودة يف‬
‫كل يوم‪ .‬وإذا تأملنا أن الطفل ال يقيض يف املدرسة إال ربع يومه وأنه يقيض الثالثة‬
‫أرباع األخرى يف البيت‪ .‬وتأملنا أن الطفل يكون بني ذويه منطلقا ال خيشى عقابا وال‬
‫مالحظة كام خيشى ذلك يف املدرسة‪ .‬تبينا ما يمكن أن يكون للبيت يف نفسه من أثر‪،‬‬
‫ولألعامل التي يزاوهلا يف البيت‪ ،‬واحلديث الذي يسمعه‪ .‬وتبينا ضالة عمل املدرسة‬
‫املحدود بالزمن‪ ،‬املحدود بشعور التلميذ إن كانت املدرسة مل تفلح يف األخذ بقلبه‪.‬‬
‫وظهرت لنا رضورة التعاون بني املدرسة والبيت يف كل شؤون الطفل‪ ،‬ألنه بدون هذا‬
‫التعاون يبطل عمل املدرسة‪.‬‬
‫ويتعني هذا التعاون من اجلانبني‪ ،‬عىل أن تكون املدرسة هي التي تفرض االجتاه‬
‫الصالح‪ .‬سيام يف األوساط التي تقل فيها املعرفة‪.‬‬
‫فاملدرسة هي التي تفهم اآلباء واألمهات فائدة التعليم‪ ،‬ورضورة استمراره‪.‬‬
‫وتوجب عىل األرسة أن ترسل باألطفال إىل املدرسة دفاتر الغيبة واحلضور‪ .‬تستعملها‬
‫لتعرف التالميذ الغائبني أو الذين ختلفوا عن املوعد‪ ،‬فرتسل ألرسهم مستفرسة عن‬
‫سبب هذا التخلف‪.‬‬
‫واملدرسة تفهم األرس‪ ،‬إن كانت ال تفهم‪ ،‬أمهية النظافة‪ .‬وحتملها عىل توفري الغذاء‬
‫الكايف لألطفال وهتيئ املسكن الصالح‪ .‬وتعني يف كل هذا بام لدهيا من الوسائل املادية‪،‬‬
‫أو اجلاه عند احلكام‪.‬‬
‫واملدرسة تسعى للتعرف باألرس‪ ،‬فيزور املعلمون األطفال يف منازهلم‪ .‬وتدخل‬
‫هذه الزيارات يف نطاق املالحظة النفسية التي جيرهيا املعلم حماوال فهم أطفاله‪ ،‬وفهم‬
‫سلوكهم واملدرسة تنظم اجتامعات لآلباء واألمهات‪ ،‬بمناسبة احلفالت املدرسية‬
‫واألعياد‪ ،‬أو بكيفية رتيبة‪ ،‬فتنظم يف كل أسبوع ندوات لآلباء أو لألمهات تتحدث‬
‫إليهم فيها املدرسة عن وظيفة األرسة وواجباهتا‪ ،‬وتعرض عليهم نامذج مما أنتجه‬
‫أبنائهم وبناهتم من رسوم أو أعامل يدوية‪.‬‬
‫_‪_  38  ‬‬
‫ونلح هنا يف رضورة تشجيع اآلباء واألمهات عىل زيارة املعلمني واالتصال هبم‬
‫دائام‪ ،‬وال نظن أن اآلباء ال هيتمون بأمور أبنائهم وبناهتم ألننا ال نرى منهم أحدا جييء‬
‫إىل املدرسة‪ ،‬بل احلقيقة أهنم ال جيرسون عىل املجيء إليها يف غالب األحيان‪ .‬فهم هبذا‬
‫يف حاجة إىل تربية خاصة‪ ،‬املراد منها تفهيمهم فائدة زيارة املدرسة واإلدالء إليها بام‬
‫يعرض للطفل من مشاكل يف حياته املادية أو العاطفية‪.‬‬
‫وبصفة عامة‪ ،‬فإن املدرسة تعمل كل ما يف وسعها لتاليف ما قد حيصل من تناقض‬
‫بني تعليم املدرسة وتعاليم البيت‪ .‬ألن الطفل‪ ،‬وإن كان يثق بمعلمه ثقة ال حد هلا‪،‬‬
‫عرضة للمثال اليسء الذي قد جيده يف البيت‪ ،‬وهو دائام بني قوتني ال تتعادالن أبدا‪.‬‬
‫فإذا حصل تناقض بني تعاليم هتني القوتني خاصة يف املذهب األخالقي حار الطفل‬
‫أوال‪ ،‬ثم استسلم للقوة الكربى واصطنع للمدرسة سلوكا ترضاه‪ .‬دون أن يكون‬
‫مقتنعا به يف قرارة نفسه‪.‬‬
‫واملثل األعىل هو أن تبني املدرسة ويبني البيت عىل مثاهلا‪ ،‬فإن مل حيدث هذا ونكص‬
‫البيت عن واجبه‪ ،‬كان كمن يبني جزءا قليال من الوقت وهيدم يف الباقي‪.‬‬
‫الواجبات املدرسية التي تنجز يف البيت‪:‬‬
‫يعطي املعلم لتالميذه يف بعض األحيان متارين كتابية‪ ،‬أو أعامال مدرسية كيفام‬
‫كانت لينجزوها يف بيوهتم‪ .‬وال نريد هنا أن نتحدث عن فائدة هذه الفروض وقيمتهام‬
‫البيداغوجية فسنعرض لذلك يف فصل آخر من هذا الكتاب‪ ،‬وإنام نتحدث عنها هنا‬
‫ألهنا تنجز يف البيت‪ .‬وألن أفراد األرسة جيب أن يعرفوا‪ ،‬ويعرف املعلم‪ ،‬الظروف‬
‫التي ينبغي أن تنجز فيها هذه الفروض‪.‬‬
‫كثريا ما نسمع آباء التالميذ يثنون عىل املعلم الذي يكثر من إعطاء الفروض املنزلية‬
‫وينتظرون من الذي يقلل من إعطائها مزيدا من العناية هبا‪ .‬ويظهر أهنم يرون يف هذه‬
‫الفروض التي ينكب عليها الطفل ساعات أمامهم‪ ،‬عنوانا عىل جد املدرسة‪ ،‬واجتهاد‬
‫التلميذ واملعلم‪ .‬ويف مثل هؤالء اآلباء استعداد كبري لتوفري وقت أطفاهلم‪ ،‬ومراقبتهم‬
‫أثناء إنجاز الفروض املدرسية‪ .‬ونرى طائفة أخرى من اآلباء ال هيتمون هبذه الفروض‬
‫أي اهتامم‪ ،‬إما ألهنم جيهلون‪ ،‬وإما ألن حاجات العيش ال تسمح أن يوفروا وقت‬
‫أبنائهم بنفس راضية‪.‬‬
‫_‪_  39  ‬‬
‫واملدرسة ترشد الطائفتني معا‪ ،‬فتفرت من محاسة اآلباء الذين يستكثرون من الفروض‬
‫املنزلية‪ ،‬وتبرصهم عاقبة اإلرهاق اجلسمي والعقيل الذي حيصل للطفل منها إن كانت‬
‫كثرية‪ ،‬وترشد الطائفة الثانية إىل رضورة التعاون مع املدرسة‪ ،‬والنظر إىل مصلحة‬
‫ابنهم أو ابنتهم قبل مصلحتهم اخلاصة‪ .‬ومن مصلحة الطفل أن ينجز هذه الفروض‪،‬‬
‫وأن ينجزها يف جو مالئم‪ .‬فال بأس إن تيرست حالة األرسة االقتصادية أن ختصص‬
‫للطفل مكتبا صغريا جيلس إليه‪ ،‬وختصص له حجرة يكون فيها بعيدا عن األصوات‬
‫العادية التي قد تلهيه أو عن ضجيج إخوته ان كان له إخوة‪ .‬والذي هو أهم من هذا‪،‬‬
‫أن يكتب الطفل أو يعمل أو يقرأ حتت ضوء كاف لئال مترض عيناه‪.‬‬
‫املكاتبات بني املدرسة والبيت‪:‬‬
‫سبق وأن أرشنا إىل وجوب مراقبة التالميذ والبحث عن أسباب غياهبم‪ .‬وذكرنا أن‬
‫املدرسة تكتب إىل األب أو الويل تستفرسه يف هذا الشأن‪ .‬وتكون هذه املكاتبة بواسطة‬
‫رسائل مطبوعة يكتب يف جانب منها السؤال الذي تضعه املدرسة‪ ،‬ويرتك منها جانب‬
‫ليضع فيه األب أو الويل اجلواب مع إمضائه‪ .‬وقد يكون التليمذ زائغا فيستغل جهل‬
‫أبيه أو قلة مراقبته فيجيب يف هذه الورقة بام يبدو له‪ ،‬ومن واجب املدرسة أن تتيقظ‬
‫ملثل هذا وأال تتيح للطفل‪ ،‬وهو ضعيف النفس‪ ،‬مثل هذه الفرصة للتدليس‪ .‬فبوسعنا‬
‫أن نختار رسوال أمينا يضع الرسالة يف يد أب الطفل الغائب‪ ،‬ويؤكد الرسالة بالكالم‬
‫خمافة أن يكون األب أميا‪ ،‬أو تتصور غري هذا من الوسائل ما يكفل هلا أن تضبط‬
‫حركات الطفل يف تفاهم تام مع األرسة‪ .‬ومن املمكن أن ترسل املدرسة استدعاء‬
‫لألب يف أوقات فراغه وتستجوبه يف شأن ابنه أو ابنته ليكون هذا التفاهم‪.‬‬
‫وقد يعني عىل تاليف لعب األطفال‪ ،‬وحتصيل هذا التفاهم الذي حتدثنا عنه‪ ،‬أن‬
‫ترسل املدرسة إىل اآلباء براجمها اليومية ليكونوا عىل بينة من أوقات املدرسة فيتخذوا‬
‫احتياطهم‪.‬‬
‫ومن املراسالت بني املدرسة والبيت ما يكون منه اطالع املعلم عىل سلوك تلميذه‬
‫يف البيت‪ .‬ومنها ما يقصد منه اطالع األرسة عىل سلوك الطفل يف املدرسة‪ ،‬وعىل‬
‫نتائجه الدراسية‪.‬‬

‫_‪_  40  ‬‬
‫مجعيات اآلباء‪:‬‬
‫وتكون مجعيات آلباء التالميذ أو ألمهاهتم‪ ،‬يمكن للمدرسة أن تساهم يف أعامهلا‬
‫أو تعمل عىل خلقها وتوجيهها إن كانت ال توجد‪ .‬ويمكن هلذه اجلمعيات أن تقدم‬
‫للمدرسة معونة مادية ومعنوية عظيمة‪ .‬فلها عادة صندوق خاص تنفق منه عىل‬
‫مشاريعها‪ ،‬وتعني منه الفقري املحتاج‪ .‬وهلا جاه لدى احلاكم يسهل هلا أن تقوم بأعامل‬
‫قد تشق عىل املدرسة وحدها‪.‬‬
‫ومن كل هذا يظهر لنا أن املدرسة ال يمكن أن تستغني عن معونة األرسة‪ ،‬وليس‬
‫عىل املدرسة ضري يف أن تطلب هذه املعونة‪ ،‬ألهنا إذا استعانت بالبيت‪ ،‬فإنام تبني فهمها‬
‫الواسع للرتبية وللحدود التي يمكن أن يكون فيها عملها ناجعا‪.‬‬
‫وحيتم هذا التعاون أيضا طموح املدرسة لتكون عامال له أثره يف املجتمع‪ .‬وإذا‬
‫اتصلت باألرسة وعرفت سبيل عيشها هان أن تسدي ألفرادها خدمات كبرية‪.‬‬
‫وإذا تعاونت املدرسة مع البيت يف تربية الطفل تربية مكتملة‪ ،‬وقامت بعملها‬
‫االجتامعي كانت بحق املثل األعىل للمدرسة‪ ،‬معني اخلري لألفراد واجلامعات‪.‬‬
‫‪ - 3‬املدرسة ونظامها املادي‪:‬‬
‫ال نستطيع أن نعرف كيف كانت مدارس البالد القديمة كمرص والصني وهل كانت‬
‫هلا بنايات خاصة‪ .‬وال كيف كانت هذه البنايات‪ ،‬وإنام يرجح أن املدرسة كانت تابعة‬
‫للهياكل واملعابد‪ ،‬وأن التعليم كان يعطى يف املعبد كام حدث ذلك يف البالد اإلسالمية‬
‫وكام حدث يف كنائس القرون الوسطى‪.‬‬
‫وأول ما نعرفه بالضبط عن النظام املادي للمدارس يف القديم هو ما وقع لنا من خرب‬
‫املدارس اإلغريقية والرومانية ورسومها‪ .‬وقد كانت هذه املدراس يف بنايات فسيحة‪،‬‬
‫وكان املعلم جيلس إىل منربه وأمامه أطفاله عىل كريس طويل مشرتك‪ .‬وكان يف هذه‬
‫املدارس لكل طفل لوح خاص مغطى بطبقة من الشمع يكتب عليها باملسامر أو نحوه‪.‬‬
‫فإذا تقدم األطفال يف الدراسة تناولوا الكتب وهي عبارة عن جمموعة من الرق‪ ،‬أو‬
‫كتبوا يف هذه اجللود‪ .‬واستعملت يف البالد اإلسالمية‪ ،‬وال زالت مستعملة‪ ،‬ألواح ذات‬
‫سطوح رطبة‪ ،‬تطىل بالصلصال ويكتب عليها بمداد من الصوف نسميه « الصمغ»‪.‬‬
‫_‪_  41  ‬‬
‫وقد ظلت اللوحات الشمعية الفردية‪ ،‬واملقاعد مستعملة يف أوربا والبالد التي‬
‫تأثرت باحلضارة اإلغريقية والرومانية‪ .‬ومل تستعمل السبورة وال األلواح السوداء‬
‫التي نعرفها اليوم إال يف القرن الثامن عرش عىل ما نعتقد‪.‬‬
‫ولننظر اآلن إىل املدرسة العرصية وإىل ما يقتضيه عملها من هتيئ مادي يناسب جو‬
‫الدراسة‪.‬‬
‫لقد فطن أصحاب املعامل‪ ،‬وخاصة يف أمريكا‪ ،‬إىل أن قدر اإلنتاج وجودته‬
‫يتوقفان إىل حد يلفت األنظار‪ ،‬عىل اجلو الذي يعمل فيه العامل‪ ،‬وفرة اهلواء والنور‬
‫ووجود األصوات املزعجة أو عدمها‪ ،‬بل حتى اللون الذي تطىل به اجلدران‪ ،‬فطن‬
‫هؤالء إىل أمهية هذا اجلو املادي فعملوا عىل حتقيقه وزادوا بذلك من نشاط العامل‬
‫وإنتاجهم‪ .‬أما املدرسة فإن أمر بنائها وجتهيزها ال زاال موكوال إىل املهندس املعامري‬
‫وهو رجل ال يعرف يف الغالب شيئا عن الرتبية‪ .‬ونعتقد أن نظام املدرسة املادي من‬
‫شأن املريب جيب أن يعنى به وأن يرى فيه رأيه‪ .‬بل هو شأنه وحده ال رأي لغريه فيه‪.‬‬
‫أفليس التلميذ يعمل؟ أفليس يف حاجة إىل جو مادي يدعو إىل النشاط؟ وما دام‬
‫عمله‪ ،‬ونظام عمله من شأن املريب‪ ،‬وما دام اجلو البيداغوجي واألديب الذي يعمل‬
‫فيه الطفل من شأن املريب‪ ،‬فإن اجلو املادي يف املدرسة من شأنه أيضا‪.‬‬
‫وال يوجد يف املغرب إال مدارس قليلة سيئة البناء أو غري صحية‪ ،‬أما أغلبية‬
‫مدارسنا فصاحلة يف جهازها املادي عىل وجه العموم‪ ،‬بل نجد بنايات كأحدث‬
‫طراز‪ ،‬وأخرى تغاىل فيها بانيها فنمق فيها ما نمق دون أن يراعي كل الرشوط‬
‫املساعدة عىل العمل املدريس‪ .‬والنقص جيب أن يصلح فتبنى املدارس املناسبة‬
‫وهتمل التي ال تصلح‪.‬‬
‫مما جيب أن يكون يف اجلهاز املادي للمدرسة‪:‬‬
‫‪ - 1‬أثاث مناسب للطفل أو املراهق‪ .‬وقد بحث هذا املوضوع اختصاصيون فوجدوا‬
‫أن الطفل ينمو من أول السنة الدراسية إىل آخرها‪ ،‬وتزداد قامته طوال‪ .‬لذلك أوصوا‬
‫باختاذ مقاعد منفصلة‪ ،‬مقعد لكل طفل‪ ،‬ومناضد يمكن رفعها وخفضها حسب احلاجة‪.‬‬
‫وهبذا وحده يمكن تاليف الضيق الذي حيصل لكثري من األطفال إذا هم صفوا عىل‬
‫مقاعد شبيه بعضها ببعض وعىل مقدار واحد‪ ،‬أو أجلسوا اثنني اثنني يف مقاعد مشرتكة‬
‫_‪_  42  ‬‬
‫ونعلم أن أطفال القسم الواحد قد تتفاوت قامتهم تفاوتا كبريا وقد استعملت هذه‬
‫املقاعد التي أوىص هبا االختصاصيون يف مدارس مونتسوري وكثري غريها من‬
‫املدارس األمريكية واألوربية‪.‬‬
‫‪ - 2‬إنارة مناسبة‪ ،‬ال مشعة تبهر العني‪ ،‬وال ضئيلة تعييها‪ .‬ويستحب االختصاصيون‬
‫اإلنارة غري املبارشة حتى ال يصل مصدرها بالعني فيؤذهيا أو يلهي الطفل عن العمل‪.‬‬
‫كام يوصون باعتبار اللون واختاذ الفاتح لطالء جدران القسم وتلوين أوراق الدفاتر‪.‬‬
‫ويعتربون هذا اللون مهدئا يساعد عىل االستمرار يف العمل واحتامل الذي قد يكون‬
‫منه ثقيال‪.‬‬
‫‪ - 3‬هتوية مناسبة‪ ،‬وإحداث النوافذ الكافية‪ .‬ونشري هنا إىل وجوب ترك هذه‬
‫النوافذ‪ ،‬نوافذ الواجهة‪ ،‬مفتوحة طول الدرس ما عدا يف الربودة التي ال حتتمل‪،‬‬
‫ووجوب هتوية القسم الدرايس عقب كل درس بفتح كل نوافذ القسم من اجلهتني‬
‫بضع دقائق وال يشء أدعى لنشاط التالميذ من جتدد اهلواء يف حجرة عملهم‪ ،‬ويبدو‬
‫ذلك عندما نأمرهم باستنشاقه واقفني وبحركات منتظمة عميقة‪.‬‬
‫‪ - 4‬حرارة مناسبة‪ ،‬فإن احلرارة املفرطة تعرقل كل عمل‪ .‬لذلك كانت العطلة‬
‫الصيفية بل كان من مدارس أملانيا مؤسسات تغلق أبواهبا كلام ارتفعت احلرارة إىل حد‬
‫يعرفون أنه ال يعني عىل العمل املدريس‪ .‬وإن الربودة املفرطة تقلص أعضاء الطفل‬
‫فتمنعها عن احلركة ومن ثم ال يقدر يف الربد الشديد أن يقوم بأي عمل جمد‪ .‬ونشري هنا‬
‫إىل أن التدفئة باخلشب قد ال تكون نافعة كل النفع‪ ،‬ألن الدفء الذي ينبعث من املدفئة‬
‫يبقى شديدا يف زاوية وال ينال الزوايا األخرى منها إال القليل‪ .‬فيتخذ بناة املدارس يف‬
‫أوربا وأمريكا والبالد الغنية طريقة التدفئة املركزية التي تضمن انتشارا صاحلا للدفء‪.‬‬
‫ونرجع هنا لذكر التهوية وعملها يف تسوية احلرارة سيام يف الصيف واأليام احلارة‪.‬‬
‫‪ - 5‬وللسكون تأثري كبري عىل انتباه األطفال‪ .‬سيام اذا كان انرصافهم إىل‬
‫الدرس انرصافا غري كيل‪ ،‬وهذا ما حيدث غالبا‪ ،‬إذ تكون أدنى حركة أو‬
‫صوت أجنبي كافيا لتشتيت أفكارهم‪ .‬وإذا كانت األقسام املنفردة‪ ،‬وخاصة‬
‫يف البادية‪ ،‬بمعزل عن هذه األصوات واحلركات‪ ،‬فإن املدارس ذات األقسام‬
‫املتعددة حيدث فيها ضجيج جيب أن ينتبه إليه وأن حيبس فال ينبغي أن يقرأ‬
‫األطفال أناشيدهم مثال إال بعد أن نغلق النوافذ ثم نغض من أصواتنا‬
‫_‪_  43  ‬‬
‫كثريا‪ ،‬عىل أن من الناس من يعتقد أن األصوات يعتادها السمع فال يلتفت إليها من‬
‫يسمعها وال تنقص شيئا من حدة انتباهه‪ .‬بل يرون أن الصوت الوديع‪ ،‬أو املوسيقى‬
‫اللطيفة‪ ،‬يكونان باعثا عىل العمل‪ ،‬ويقولون بأن من األطفال من ال ينشط للعمل إال‬
‫يف جو صاخب‪ .‬وهؤالء ال يرون أي رضر من وقوع املدرسة يف الشارع الكبري أو‬
‫إزاء حمطة القطار‪ .‬ونشك يف هذا كثريا سيام وعمل األطفال يف مدارسنا هو يف الغالب‬
‫االستامع إىل املعلم يلقي الدرس‪ ،‬واحلديث عن هذا الدرس‪ ،‬فالبد إذن من أن يسمع‬
‫بعض هؤالء بعضا‪ ،‬بل البد من أن ال يسمعون إال حديثهم اخلاص بالدرس حتى‬
‫يمكن أن يركزوا فيه انتباههم‪.‬‬
‫‪ - 6‬تنظيم التالميذ داخل القسم بحيث يبرصون كل ما يريد املعلم أن يبرصوه‪.‬‬
‫فإذا أجرينا للتالميذ جتربة يف درس األشياء ال يمكن أن يقوم هبا كل فرد منهم‪ .‬أو‬
‫أحرضنا شيئا واحدا نريد أن يبرصوه صورنا تصفيف املقاعد فجعلنا يف شكل نصف‬
‫دائرة يكون املعلم وسطها مثال‪ .‬وإذا دعت احلاجة بدلنا مكان مكتب املعلم‪ .‬فإن مل‬
‫يكن القسم مناسبا للدرس الذي نريده خرجنا بالتالميذ إىل مكان مناسب‪ .‬ومن هذا‬
‫التنظيم صف التالميذ يف القسم حسب طول القامة حتى يكون طول القامة يف مؤخر‬
‫القسم‪ .‬عىل أال يكون هذا التصنيف منافيا ملصلحة التلميذ التي يعرفها املعلم‪ .‬فال‬
‫ينبغي أن نضع تلميذين ضعيفني يف الدراسة جنبا إىل جنب لتساوهيام يف الطول‪ ،‬وال‬
‫نضع الطفل الذي حيتاج إىل تشجيع يف مؤخرة القسم وهو يعترب عملنا هذا نقصا من‬
‫حقه‪ .‬ونحتال لكل هذا حتى ال حيجب بعض التالميذ بعضا أو حيجز عنه السبورة‬
‫التي ينظرون إليها‪.‬‬
‫‪ - 7‬اعتبار أبصار التالميذ عندما نكتب عىل السبورة‪ ،‬وهذه قد ال ينتبه إليها املعلم‪.‬‬
‫فمن التالميذ ضعاف البرص‪ ،‬فتعترب ذلك عند تصفيفهم‪ ،‬ونضعهم قريبا من السبورة‪.‬‬
‫ومنهم الذي يف آخر القسم فال يرى الكتابة التي عىل السبورة‪ ،‬ال ألنه ضعيف البرص‬
‫ولكن ألن الكتابة صغرية‪ .‬ونعترب أبصار التالميذ عندما نعلق خارطة أو نحرض نموذجا‬
‫يد يف هذا‬‫حمسوسا‪ .‬ونختار من هذه الكبري الذي يبرصه كل التالميذ‪ .‬فإذا مل نجد‪ ،‬ومل ُ ْ‬
‫تقريب املقاعد أو صفها عىل شكل نصف دائرة‪ ،‬طفنا هبا عىل األطفال حتى يروها‪.‬‬
‫ومن هذا القبيل العناية بلون السبورة التي انمحى طالءها‪ ،‬والتي بقي فيها من أثر‬
‫_‪_  44  ‬‬
‫كتابة قديمة ما يمكن أن يشكل عىل التالميذ‪ .‬ومنه اختيار الطباشري الرطب األبيض‪،‬‬
‫واستعامل امللون منه يف قصد مراعني أال يكون لونه داكنا ال يظهر عىل السبورة‪.‬‬
‫‪ - 8‬مما يؤخذ عىل املدارس التقليدية‪ ،‬أهنا تبالغ يف املطالبة باختاذ التلميذ وضعية‬
‫خاصة‪ ،‬وضع يديه ورجليه يف مكان معني من املقعد واملنضدة‪ ،‬فال يسمح للطفل‬
‫بأدنى حركة‪ ،‬بل تعترب ذلك منه زيغا‪ .‬ونرى أن محل التلميذ الصغري عىل اختاذ وضع‬
‫خاص عمل ال بأس به ما دام موافقا للقواعد الصحية برشط أال يبالغ يف هذا إىل‬
‫حد غري معقول‪ .‬فمن األطفال حركيون ال يتاح هلم التفكري‪ ،‬أو العمل الذهني‬
‫كيفام كان‪ ،‬إال إذا حتركوا‪ .‬أما التالميذ الكبار فنرى أن من تضييع الوقت بل ربام‬
‫من تضييع الفائدة‪ ،‬محلهم عىل مثل هذه الوضعية داخل القسم ومنعهم من احلركة‬
‫التي يظهر أال نفع منها‪ ،‬فمنهم من اعتاد أن يضع رأسه بني يديه عند التفكري‪،‬‬
‫ومنهم من ال يقوم بعمل فكري جمد إال إذا لعب بأصابعه أو حرك رجله عىل أن‬
‫تكون هذه احلرية التي نعتربها رضورية النطالق الطفل‪ ،‬يف حدود معقولة تتناسب‬
‫والعمل اجلدي الذي ينجز يف املدرسة‪ .‬ونتحدث هنا عن تنظيم التالميذ أثناء‬
‫الدخول إىل القسم واخلروج منه‪ .‬فمن املعلمني من حيمل التالميذ عىل الدخول يف‬
‫صفوف مستقيمة وبحركات متزنة‪ ،‬واخلروج يف نظام مماثل‪ ،‬ونعترب هذا النظام أثناء‬
‫الدخول صاحلا ألنه جيمع أفكار التالميذ ويكون بمثابة مقدمة لعمل جد ينتظرهم‪،‬‬
‫وصاحلا أثناء اخلروج ألن فيه منعا ملا حيصل من ضجيج قد يتناىف وحرمة املعلم‬
‫واملدرسة‪ .‬وقد يكون هذ الرأي غري صالح يف املدارس التي تتخذ نظام التعليم‬
‫احلر ويف املدارس احلية‪ ،‬لكنه بمدارسنا أخلق أن يناسب إن مل يبالغ فيه حتى يصري‬
‫كالتدريبات العسكرية اجلافة‪.‬‬
‫‪ - 9‬اعتبار سن التالميذ‪ ،‬وقوة أجسامهم فيام يطلب إليهم من عمل تستعمل فيه‬
‫هذه القوة‪ ،‬سواء كان هذا العمل ملصلحة التالميذ اخلاصة‪ ،‬أو كان يقصد منه رشح‬
‫الدرس إن كان رشحه متوقفا عىل عمل يدوي‪ .‬ومن هذا أن ختصص لألطفال الصغار‬
‫أقسام يف الطابق األول‪ ،‬إن كانوا ال يقدرون عىل صعود السلم أو خياف أن يتعبوا كثريا‬
‫إذا تسلقوا مرات يف كل يوم‪.‬‬
‫‪ - 10‬العناية بألعاب األطفال وقت االسرتاحة‪ ،‬واحلراسة اليقظة عليهم لئال حيدث‬
‫ما ال حتمد عقباه‪ .‬برشط أال يؤول أمر هذه احلراسة إىل مراقبة شديدة قاسية تعرقل‬
‫_‪_  45  ‬‬
‫نشاط الطفل وحتد من انبعاثه احلي‪ .‬ألن هذه املراقبة القاسية تبغض للتميذ حارسه‬
‫الذي يمنعه من أكثر أنواع النشاط قربا من قلبه‪ ،‬أال وهو اللعب‪.‬‬
‫املدرسة واألسباب الصحية‪:‬‬
‫بام أن العقل السليم يف اجلسم السليم كام تقول احلكمة العتيقة‪ ،‬فإن عمل املدرسة‬
‫ال يمكن إال إذا توفرت املدرسة عىل وسائل للمحافظة عىل صحة أجسام التالميذ‪ .‬ثم‬
‫ال يمكن عملها إال إذا كانت عامال فعاال ينرش يف املجتمع فهم األسباب التي حتافظ‬
‫عىل صحة اجلسم‪.‬‬
‫وعندما نتحدث عن األسباب الصحية فإننا ال نقصد وسائل العالج املعروفة فقط‬
‫بل نقصد االحتياط من كل األمراض‪ .‬وقال العامة‪ « :‬الوقاية أفضل من العالج»‪.‬‬
‫وليس هذا باألمر السهل خاصة فيام يتعلق باألطفال‪ .‬إذ أجسامهم ال زالت يف طريق‬
‫التكوين‪ ،‬فهي ضعيفة البنيان‪ ،‬رسعان ما يصيبها العطب رغم ما يبدو من متانتها‪.‬‬
‫ويوشك أن يكون للمرض اخلفيف الذي يصيب الطفل نتائج ثقيلة وبعيدة املدى‪.‬‬
‫النظافة‪:‬‬
‫وتبدأ هذه الوقاية من التمسك بالنظافة يف املدرسة‪ ،‬وحث التالميذ‪ ،‬بل وإرغامهم‬
‫عليها وال أسهل من أن يقف املعلم صباحا يف باب قسمه يستعرض أطفاله‪ ،‬فإن بدا‬
‫عىل أحدهم أنه مل يغسل وجهه وأطرافه‪ ،‬أرسله إىل املاء‪ .‬فإذا تكرر منه هذا ورأى‬
‫األطفال أنه اجلد اعتادوا تنظيف أجسامهم‪ .‬وأصعب من هذا العمل أن يصل املعلم‬
‫إىل إقناع اآلباء‪ ،‬وخصوصا يف األحياء والقرى الفقرية‪ ،‬بتنظيف ثياب أبنائهم‪ .‬لكن‬
‫واجب املدرسة هو أال تتساهل يف أمر النظافة‪ .‬وكيف تتساهل وهناك األمراض املعدية‬
‫التي حتملها األوساخ يف الثياب‪ .‬فإذا وجد أب ال يفهم واجبه فال ترتدد املدرسة يف‬
‫هتديده وتعزيره‪ .‬فإن كان ال يقتنع وخافت املدرسة أن يكون الطفل الوسخ عامال‬
‫حيمل العدوى فال ترتدد يف طرده‪ ،‬ونشري هنا إىل العناية باألظافر والشعر واألسنان‬
‫ففي طياهتا تكمن املكروبات التي خيشى منها‪.‬‬

‫_‪_  46  ‬‬
‫واملعلم اللبيب يستطيع أن خيصص وقتا‪ ،‬ولو قصريا‪ ،‬أثناء درس األخالق أو‬
‫الرتبية الوطنية مثال‪ ،‬لينظر األظافر والشعر‪ ،‬ويمكنه أن ينظم مسابقة بني أطفاله‬
‫لريى من أنظفهم جسام ومن جاء إىل املدرسة ممشوطا شعره مقصوصة أظافره‪.‬‬
‫والغرض من العناية وهذه املسابقة أن يتخذ األطفال النظافة عادة‪ .‬وكل الوسائل‬
‫املجدية ال تستهينها للوصول هلذا الغرض‪ :‬التشجيع‪ ،‬والعقاب‪ ،‬واملنافسة‪ ،‬ومن‬
‫السهل أن نفهم أن املحافظة عىل النظافة ليس باألمر اليسري‪ .‬فإذا عرفنا صعوبة‬
‫الغسل باملاء البارد يف الصباحات الباردة مثال‪ ،‬تبني لنا مقدار ما ينبغي أن نبذله من‬
‫جهود للوصول إىل بث عادة النظافة يف األطفال‪ ،‬ورضورة املثابرة عىل مثل هذه‬
‫اجلهود‪.‬‬
‫ومن عادات النظافة التي ينبغي أن تكون يف التالميذ‪ .‬تنظيفهم ملنضداهتم يف كل‬
‫مرة وإزالة ما يقع عليه من غبار‪ .‬وتنظيف حمفظاهتم وأدواهتم املدرسية‪ .‬واملحافظة‬
‫عىل أيدهيم أن تتلوث داخل القسم أو خارجه‪ .‬وإمساك دفاترهم وكتبهم نظيفة‪،‬‬
‫حتى غالفاهتا‪ .‬وليحتفظ املعلم من أن تتمكن يف أطفاله الصغار عادة حمو السبورات‬
‫الصغرية باليد أو حموها بطرف ثوبه أو بمنديل يبصق فيه‪.‬‬
‫الوقاية‪:‬‬
‫وتتكفل دروس األخالق الوطنية بتبصري التالميذ بوجوب املحافظة عىل النظافة‬
‫خارج القسم‪ ،‬وأال يرموا قصاصات الورق أو األوساخ أيا ما كانت أو يبصقوا إال‬
‫يف األماكن املعدة لذلك‪ .‬وتعطيهم املدرسة خري مثال إن هي أحدثت يف األقسام ويف‬
‫الساحة أواين ومباصق‪.‬‬
‫ومن أسباب الوقاية‪ ،‬تسخني أقسام الدراسة يف األيام الباردة‪ ،‬ومنع األطفال‬
‫من اخلروج فجأة من القسم الساخن إىل الساحة الباردة‪ .‬ومنها هتوية القسم كام‬
‫سبق أن رشحنا ومراعاة أال حيدث يف القسم جمرى اهلواء مدة تزيد عىل دقائق‬
‫قليلة‪.‬‬

‫_‪_  47  ‬‬
‫الرتبية البدنية‪:‬‬
‫وقد وضعت حصص الرتبية البدنية لتكون ساعات يسرتيح فيها الذهن ويعمل‬
‫فيها اجلسم‪ .‬فليستعملها املعلم استعامال حسنا‪ ،‬دون أن جيهد الطفل أو حيمله فوق‬
‫ما يطيق وليعرف من تالميذه الضعيف الذي ال يقوى عىل بعض احلركة‪ ،‬فال حيمله‬
‫عىل ما حيمل عليه اآلخرين‪ .‬وليعرف املريض الذي ال تنفعه الرياضة فيجنبه إياها‪.‬‬
‫وليعرف املعلم أن األطفال بحاجة إىل الشمس كام هم بحاجة إىل احلركة‪ ،‬فليعرضهم‬
‫ألشعتها‪ ،‬يف قصد‪ ،‬أثناء األلعاب الرياضية‪ .‬وليجر دروسه مع صغار التالميذ يف‬
‫الساحة كلام سمحت بذلك احلالة اجلوية ومل يكن مزعجا لنظام املدرسة‪.‬‬
‫املطعم املدريس‪:‬‬
‫ويف أكثر املدارس مطاعم يتغذى فيها األطفال ويفطرون‪ ،‬فمن واجب املدرسة أال‬
‫هتتم بكمية الغداء الذي تقدمه للطفل فقط‪ ،‬بل من واجبها أن هتتم بقيمته الغذائية‬
‫والصحية‪ ،‬فتختار لألطفال املواد الصاحلة وتنوعها من يوم ليوم‪ .‬وتسهر عىل طهيها يف‬
‫أواين نظيفة صحية‪ .‬وتقدم لألطفال غذاءهم وتعلمهم نظام األكل وكيف يمضغون‬
‫مضغا جيدا‪.‬‬
‫الفحص الطبي‪:‬‬
‫يزور املدرسة من آن آلخر الطبيب املدريس الذي يفحص التالميذ‪ ،‬فيلقحهم‬
‫ليقيهم األمراض‪ ،‬أو يعاجلهم بالعالج املناسب إذا مرضوا‪ .‬ويستطيع املعلم أن يساعد‬
‫كثريا الطبيب يف عمله‪ .‬وذلك ألنه يعرف تالميذه أكثر مما يعرفهم الطبيب‪ ،‬فيستطيع‬
‫أن يذكر ما يالحظه من أعراض غري عادية‪ ،‬أو يبدي مالحظاته حول سلوك أطفاله‪.‬‬
‫بل من واجبه أن يعلم طبيب املدارس كلام ختوف عىل تلميذ من تالميذه‪ .‬ويف بعض‬
‫األحيان‪ ،‬ال يكون املعلم مشريا فحسب‪ ،‬بل يطلب إليه أن يقوم مقام املمرض‪ .‬وذلك‬
‫يف القرى النائية‪ ،‬أو حتى يف املدن عندما يكون العالج مرة أو مرات يف اليوم الواحد‬
‫كعالج أمراض العني مثال‪.‬‬

‫_‪_  48  ‬‬
‫اشرتاك األطفال يف األعامل الصحية‪:‬‬
‫ومن أنجع الوسائل التي تعمل عىل تعويد األطفال النظافة‪ ،‬إنشاء مجعيات‬
‫داخل كل قسم‪ ،‬خصوصا بني األطفال الكبار‪ ،‬أو مجعيات تشمل تالميذ املدرسة‬
‫كلهم‪ ،‬ووظيفة أعضاء هذه اجلمعية مراقبة قواعد النظافة واألسباب الصحية‬
‫العامة‪ ،‬ويكون يف كل قسم عريف ينتخبه التالميذ ملدة معينة‪ ،‬ويكون يف املدرسة‬
‫عرفاء منتخبون‪ ،‬ولكل هؤالء وظيفة‪ ،‬فواحد يراجع مقاعد القسم والسبورة‬
‫واملحابر ليتأكد من نظافتها مجيعا‪ .‬واآلخرون يقومون عىل تنظيف الساحة ومجع‬
‫أوراق األشجار التي تسقط‪ ،‬وغري هذا كثري من األعامل التي يستطيع األطفال أن‬
‫يقوموا هبا ويستفيدوا من هذا القيام‪ ،‬وهم خري معني للمعلم يف شؤون النظافة‬
‫والصحة ما كان املكلفون منهم هبذه الشؤون مثاال صاحلا للتلميذ النظيف‬
‫املتيقظ‪.‬‬
‫‪ - 4‬املعلم‪:‬‬
‫كنا نتحدث يف الصفحات السابقة عن املدرسة‪ ،‬وعمل املدرسة‪ ،‬وأثر املدرسة‬
‫وليست املدرسة معمال أو جمموعة من آالت تقوم بوظيفة ما معينة‪ .‬وإنام حيدد املدرسة‬
‫ويعطيها معناها الذي به استحقت ما توصف به من مدح أو ذم شخص املعلم‪ .‬بل‬
‫ليست املدرسة يف احلقيقة إال املعلم‪.‬‬
‫وصفة معلم صفة رشيفة سموا هبا أرشف فالسفة اإلغريق‪ ،‬وتغنى بمجد املعلم‬
‫من نعرفهم من الشعراء‪ .‬فبم يصبح اإلنسان معلام وكيف؟ كيف يستقيم الفرد العادي‬
‫معلام له قدسية وبيده مفاتيح اخلري يف األمة؟‬
‫صفات املعلم‪:‬‬
‫والعمل اجلليل الذي ينتظر املعلم‪ ،‬يتطلب صفات خاصة البد منها للسيطرة عىل‬
‫التالميذ وتوجيههم‪.‬‬

‫_‪_  49  ‬‬
‫االستعداد الفطري‪:‬‬
‫وأول هذه الصفات االستعداد الفطري ملهنة التعليم‪ ،‬فإن كان للصفات األخرى‬
‫أمهية فإن هذا االستعداد يعطي للمرشح للمهنة طاقة ال تقف أمامها العراقيل‪ ،‬وإقباال‬
‫عىل عمله ال يعادله يشء‪ .‬وهذا اإلقبال عىل املهنة يف ضمنه حمبة األطفال‪ ،‬وهاتان‬
‫اخلصلتان تساعدانه عىل حتمل كل املشاق يف سبيل مصلحة أطفاله‪ .‬واملعلم يقيض‬
‫ست ساعات يف اليوم أمام مجهور من التالميذ مخسني أو ستني أو دون ذلك أو أكثر‬
‫منه‪ ،‬ومن بني هذا اجلمهور الطفل الذي ال ينتبه‪ ،‬والطفل املريض‪ ،‬والكثري احلركة‪.‬‬
‫واملعلم البد أن يراعي كل هؤالء والبد أن يصرب ويتعلم كيف يوقظ اهتاممهم‪ ،‬فمهنته‬
‫تطلب إليه أن خيلق يف كل حلظة‪ ،‬وأن جيدد وسائله وأساليبه‪ ،‬ويصطنع لكل مناسبة‬
‫موقفا جديدا مناسبا‪ .‬وحتقيق كل هذا ال تضمنه‪ ،‬الطرق العامة وال العلم الواسع وال‬
‫حتى اإلرادة واإلخالص‪ ،‬فالبد من االستعداد الفطري‪ .‬وهذا االستعداد الفطري‬
‫ال يمكن أن يفيد شيئا إال إذا كان معه غري قليل من الذكاء‪ ،‬ألن املعلم حمتاج إىل‬
‫إعادة النظر يف علومه ليسوهيا عىل قياس فهم أطفاله‪ ،‬حمتاج إىل تكييف تفكريه‬
‫ومنطقه ليفهموا عنه‪ .‬وبام أنه مسؤول عن نمو هؤالء األطفال‪ ،‬وعن تربيتهم الروحية‬
‫واألخالقية فهو حمتاج إىل اخرتاع الكلامت التي تؤثر‪ ،‬واستغالل الفرص «ليطرق‬
‫احلديد ساخنا» وهو حمتاج أيضا إىل فهم املناهج واخلروج منها بالصالح الرضوري‪.‬‬
‫وال يقدر عىل هذا إال إذا كان له حظ كبري من الذكاء‪.‬‬
‫واملعلم املستعد ملهنته استعدادا فطريا‪ ،‬الذكي الذي حيب األطفال‪ ،‬هو الذي خيلق‬
‫احلياة يف قسمه‪ ،‬وجيد الطريق إىل قلوب أطفاله‪ ،‬وهو الذي جيد احلل رسيعا عندما‬
‫يقع أو يوقعه التالميذ يف مأزق‪ ،‬ال يتلعثم وال يرتدد‪ ،‬ويعرف إذا فهمه التالميذ‪ ،‬فإذا‬
‫مل يفهموا حور من طريقته بحيث يفهمون‪ .‬وهو الذي يعرف أطفاله ويفهم معنى كل‬
‫حركة تصدر منهم‪.‬‬
‫وبصفة عامة فاملعلم املوهوب وحده هو الذي يقوم برسالته قياما كامال‪ ،‬ويرتك‬
‫طابعه يف عقول أطفاله حتى يروا فيه املثل األعىل طيلة حياهتم‪.‬‬
‫لكن هذا االستعداد الفطري قليل‪ ،‬ال يتوفر يف كل املرشحني ملهنة التعليم‪ .‬فهل‬
‫يعترب هؤالء أنفسهم يف طريق اإلخفاق التام؟‬

‫_‪_  50  ‬‬
‫إذا كانت الصفة األوىل يف املعلم املوهوب حبه ملهنته وحبه لألطفال فإن يف استطاعة‬
‫كل ذي عاطفة أن حيب األطفال وأن يتعلم كيف يتفانى يف خدمتهم‪ .‬فإذا أحب‬
‫األطفال وعرف كيف جيعل عمله يف املدرسة منتجا‪ ،‬كان خليقا أن حيب مهنته‪ .‬وكلنا‬
‫يعرف مقدار الطمأنينة التي يشعر هبا املرء بعد أن يؤدي واجباته كاملة‪ .‬ومتى أحب‬
‫أحد مهنته سهل عليه ما كان يستصعبه‪ ،‬وأحس يف نفسه انبساطا لعمله وارتياحا‬
‫وشوقا‪ .‬ومتى أحب أحد مهنته سعى يف تكميلها والبلوغ هبا مبلغا حسنا‪.‬‬
‫عىل أن اهلبة الرتبوية ال تكفي وحدها يف مهنة التعليم‪ .‬وإذا كان املوهوب ذكيا وكان‬
‫رقيق القلب‪ ،‬حارض البدهية‪ ،‬ذا شخصية جذابة ومل تتوفر لديه املعرفة الكافية فإنه ال‬
‫يصلح ملهنة التعليم‪ .‬كام ال تغني هذه اهلبة عن االطالع عىل طرق التعليم ومعاجلة‬
‫مشاكل الطفولة‪ ،‬وال تقوم مقام االستعداد اجلسمي والقيمة اخللقية‪.‬‬
‫الصفات اجلسمية‪:‬‬
‫إن املعلم يقف أمام التالميذ‪ ،‬ويتحدث إليهم‪ ،‬ويقوم بحركات وأعامل رضورية يف‬
‫مهنته فهذه األعامل ال ينجزها كاملة إال إذا كان يف جسمه سليام‪ .‬واملعلم يريد أن ينتبه‬
‫تالميذه إىل ما يقال أو يفعل يف القسم‪ ،‬فإذا كان يف جسمه عيب دعا ذلك األطفال‪،‬‬
‫وهم يف هذه السن ال يعرفون الشفقة إىل الوقوف عىل هذه العيوب وتشهريها أو‬
‫التهكم هبا‪ .‬وهذا بالطبع يضيع عىل املعلم كل إمكانيات العمل معهم‪.‬‬
‫املعلم يراقب تالميذه يف القسم‪ ،‬ويالحظ أعامهلم‪ ،‬وينظر يف الدفاتر ليصححها وإىل‬
‫السبورة ليكتب عليها‪ .‬وال يستطيع هذا إذا كان ضعيف البرص‪ .‬واملعلم األصم عاجز‬
‫عن العمل مع األطفال‪ ،‬بل هو عاجز عن فهمهم أو تفهيمهم متاما‪ ،‬ومن الدروس‪،‬‬
‫بل جلها‪ ،‬ما يكون عىل شكل حماورة بني املعلم والتلميذ‪ ،‬فإذا مل يسمع املعلم‪ ،‬بطل‬
‫الدرس كله‪ ،‬وال جتدي كل املحاوالت للتفاهم‪ ،‬بالكتابة مثال‪ ،‬أي يشء‪ ،‬بل تشجع‬
‫هذه املحاوالت األطفال عىل التمرد والتهكم‪ .‬ومثل هذا ما إذا كان املعلم متتاما‪،‬‬
‫فإن كلامت التمتام كثريا ما تضحك الكبار‪ ،‬فكيف باألطفال الذين يتأثرون رسيعا‬
‫ورسيعا يضحكون؟!‬

‫_‪_  51  ‬‬
‫إذن فالبد من سالمة احلواس اخلمس عند املعلم‪ ،‬إذ هي أداة حيتاج إليها يف كل‬
‫حلظة‪ .‬عىل أن النقص اخلفيف يف بعض هذه احلواس قد تغطيه الصفات األخرى‬
‫البارزة يف املعلم‪ .‬وكم نعرف من معلم نحيف اجلسم ضاويا‪ ،‬أو به بعض الصمم أو‬
‫لثغة كاملة وهو ناجح يسيطر عىل أطفاله وينفعهم‪ .‬وآخرين يتمتعون بصحة جيدة‪،‬‬
‫وبكل حواسهم كاملة وهو فاشلون‪ .‬وهذا يبني لنا أن شخصية املعلم ليست الشخصية‬
‫اجلسمية فقط‪ ،‬بل تكوهنا جمموعة من الصفات‪ .‬أو بعبارة أخرى ليس اجلسم القوي‬
‫السليم كفيال بنجاح املعلم‪.‬‬
‫والصفة اجلسمية الرضورية التي ال غنى عنها هي اتزان األعصاب‪ ،‬وحتمل التعب‪.‬‬
‫ألن عمل املعلم متعب جدا ومرهق سيام إذا كان مبتدئا ملا يتعلم كيف يقتصد يف‬
‫حركاته وكيف يقتصد يف كالمه‪ .‬واملعلم الذي يستحق هذا االسم ال يقيض يومه‬
‫جالسا عىل كرسيه‪ ،‬ألن يف جلوسه عىل الكريس استهانة بالعمل الذي ينتظر منه‪،‬‬
‫بل يراقب أطفاله من قريب‪ ،‬ويتحرك يف القسم بني الصفوف ليشعر التالميذ أنه‬
‫حارض قريب‪ .‬أو ينتقل إىل مؤخرة القسم لينظر كام ينظر التالميذ إىل اخلارطة التي‬
‫علقها أمامهم أو إىل السبورة التي عرض عليها مشكلة من املشاكل‪ ،‬كأنه قائد جيش‬
‫يدفع جنوده للهجوم‪ .‬واملعلم يف القسم يتحدث حتى َل ُي َب َّح‪ .‬ويف كل هذا تعب شديد‬
‫ال يتحمله الضعيف‪ .‬وأشد هوال من هذا التعب اجلسمي التعب الفكري‪ ،‬ألن كل‬
‫أعامل املعلم تتعب الفكر وتوتر األعصاب‪ ،‬فتوشك األعصاب املتوترة أن تنهار إذا‬
‫كان اجلهاز العصبي ضعيفا‪ .‬أيمكن أن نتصور عمال أشد عىل األعصاب من إلقاء‬
‫درس أمام الصغار؟ إذا الحظنا املعلم أثناء قيامه بعمله وجدنا أنه منتبه دائام شديد‬
‫االنتباه‪ ،‬منتبه إىل أطفاله كل منهم عىل حدة‪ ،‬منتبه إىل عمله وتسلسله‪ ،‬وأنه يف حماولة‬
‫دائمة لتذكر مادته واستحضارها وليس تغني ورقة التحضري عن هذا التذكر شيئا‪،‬‬
‫وأنه يفكر يف أحسن إجابة يعطيها لتالميذه إذا سألوا‪ ،‬ويفكر يف أحسن سلوك يتخذه‬
‫مع تلميذ يريد أن يشجعه أو يعاقبه‪ ،‬ويفكر يف «اخرتاع» جديد يرجع به أذهان أطفاله‬
‫الطائشة‪ ،‬أو يوقظ من محاسهم‪ .‬ووجدنا املعلم عرضة للعب أطفاله أو عبثهم فيام‬
‫بينهم‪ ،‬عرضة لبالدة بعضهم‪ ،‬أو سوء فهمهم‪ .‬كل هذا وهو صابر يكتم عنته ويكظم‬
‫غيظه‪ ،‬ألن واجبه أن يكتم ويكون رزينا‪.‬‬

‫_‪_  52  ‬‬
‫كل هذا جمموعا يقنعنا بحاجة املعلم إىل جهاز عصبي متني‪ ،‬فبدون األعصاب‬
‫املتينة يغلب عىل أمره‪ ،‬أو ينفجر غيظا‪ ،‬يف كل مرة وينفر منه التالميذ ويشعرون‬
‫بضعفه‪ .‬ومتى شعروا بضعفه خرج زمامهم من بني يديه‪ ،‬وأفضل ملثل هذا أن‬
‫يبتعد عن التعليم‪ .‬وكل هذا يقنعنا بحاجة املعلم إىل جسم قوي سليم‪ ،‬وحاجته إىل‬
‫املحافظة عىل جسمه بمعاجلة أنواع الرياضة‪ ،‬والفزع إىل الطبيب كلام كانت ظاهرة‬
‫يرتاب منها‪.‬‬
‫مظهر املعلم‪:‬‬
‫وإذا كانت الصحة اجلسمية رضورية للمعلم ألنه بدوهنا ال يقدر عىل القيام‬
‫بعمله‪ ،‬فإن مظهره رشط أسايس لينال احرتام أطفاله ويفرض نفسه عليهم‪ .‬من‬
‫واجبه العناية بثيابه‪ ،‬ينظفها‪ ،‬وخيتار منها ما يناسب مقامه‪ .‬ومن حسن االختيار أن‬
‫يقتصد يف اإلنفاق عليها فال يلبس اللباس الثمني الذي قد يفسده يف يوم واحد‪.‬‬
‫ومن حسن االختيار أيضا أال يلبس الثياب الكثرية األلوان ألهنا جتلب األنظار‪ ،‬وال‬
‫األلبسة املتجددة ألهنا قد تتناىف مع الوقار الذي جيب أن يتحىل به‪ .‬وبصفة عامة‪،‬‬
‫يكون لباسه حسنا ذا شكل معروف‪ ،‬ال يلفت إليه من رثاثة وال من غرابة‪ .‬فإن مل‬
‫يفعل املعلم فإن تالميذه يتخذونه أضحوكة ولو خلف ظهره‪ ،‬وهذا ال يساعده يف‬
‫يشء عىل عمله‪.‬‬
‫وهيمنا هنا أن نشري إىل أمهية املعلم يف القسم وخارجه وإىل وجوب االنتباه إليها‪.‬‬
‫ألن التالميذ ينتبهون إىل هذه احلركات وحيلو هلم أن يقلدوه فيام بينهم‪ .‬وما ذاك‬
‫إال ألهنم يعيبوهنا عليه‪ .‬ومن املعلمني من ال يملك أن يأيت حركة خاصة ويكررها‬
‫كثريا‪ ،‬ومنهم من يكرر الكلمة أو العبارة حتى تعرف عنه‪ ،‬وال يغفل األطفال عن‬
‫هذا‪ ،‬بل يصوغون منه لقبا يطلقونه عىل معلمهم‪ .‬ولتاليف ما حيدث من مثل هذا‪،‬‬
‫ندعو املعلم إىل أن يراقب حركاته وأقواله‪ ،‬وأن يتوخى األناقة يف كل منها‪ ،‬عىل أال‬
‫يغايل ويتصنع‪ .‬وإذا حدث أن لقب التالميذ معلمهم‪ ،‬وقد حيدث هذا حتى للمعلم‬
‫املتيقظ‪ ،‬فليعرف املعلم هذا اللقب‪ ،‬وليخرب أطفاله بأنه يعرفه‪ ،‬ثم ليجعله فرصة‬
‫لدرس أخالقي جدي‪ .‬فإن كان هذا اللقب خفيفا ال يتأذى منه فليعرف املعلم‬
‫كيف يضحك منه مع تالميذه‪.‬‬
‫وقديكونمناملعلامتمنتنكرمظهرها لكثرةماهتملهوهذاعيب‪،‬خصوصايفمدراس‬
‫_‪_  53  ‬‬
‫البنات‪ .‬ألن التلميذات حيببن أن يقتدين بمعلمتهن ويسوءهن أن هتمل مظهرها‪ ،‬أو‬
‫من تتخذ زينتها قبل أن حترض إىل املدرسة وتكثر من ذلك‪ ،‬وهذا عيب أيضا‪ ،‬وربام‬
‫يكون منافيا للمبادئ األخالقية واإلسالمية‪.‬‬
‫صفاته العقلية‪:‬‬
‫حتدثنا‪ ،‬عرضا‪ ،‬فيام سبق عن ذكاء املعلم‪ ،‬ونعود إليه هنا لنقول بأنه من آكد صفات‬
‫املعلم وأمهها‪ .‬إذ بدونه ال يقدر عىل اختاذ العلم وتكييفه لتالميذه‪ .‬وإذا مل يستطع‬
‫حتضري هذا العلم وتبليغه فليس له أي عمل آخر يف املدرسة‪ .‬وقد يصل املعلم إىل‬
‫إنساء عيبه اجلسمي والتغطية عىل نقص استعداده الفطري بعمل إرادته‪ ،‬لكنه لن‬
‫يعوض الذكاء بيشء‪ ،‬ألن الذكاء‪ ،‬آخر األمر‪ ،‬هو الشخصية‪.‬‬
‫ومن صفات املعلم العقلية االطالع الواسع الذكي‪ .‬وال نقصد أن يكون املعلم‬
‫خبريا بكل يشء‪ ،‬عاملا ال حيد عمله‪ .‬ولكن نريد أن يعرف كل ما يتعلق بمهنته‪ ،‬أن‬
‫يتقن مادته ويكلها باألفكار اجلديدة‪ .‬نريد أال يتلعثم أمام تالميذه‪ ،‬أو يقف حائرا‬
‫كلام ألقوا عليه سؤاال من اليسري أن يفهموا صحة اجلواب عنه‪ .‬نعم حيدث أحيانا أن‬
‫يكون السؤال عميقا‪ ،‬أو ينسى املعلم اجلواب الصحيح‪ ،‬وإذ ذاك حتتم األمانة العلمية‬
‫أن يرجع املعلم إىل الكتاب‪ ،‬ولعل يف هذا درسا يفيد التالميذ ولعل يف هذا تربية هلم‬
‫إذا عرفوا أن علم األستاذ حمدود‪ ،‬وأن من وراء علمه علام واسعا يوجد يف الكتب‪.‬‬
‫وذكاء املعلم واطالعه جينبانه هذه املواقف احلرجة التي يفقد فيها مقامه إن مل حيسن‬
‫اخلروج منها‪ .‬كام جينبانه احتقار التالميذ متى أدركوا أنه فارغ اليشء معه‪ .‬ويشعرون‬
‫بذلك إذا رأوا املعلم يرجع إىل ورقة حتضريه بدون انقطاع‪ ،‬أو حيملها يف يده طول‬
‫الدرس‪ ،‬والتالميذ ال يفرسون تعلق املعلم املستمر بورقة التحضري إال تفسريا واحدا‪،‬‬
‫وهو أن معلمهم عاجز ال يقدر عىل يشء إن أخطأته الورقة‪ .‬أما إذا حرض املعلم درسه‬
‫حتضريا حقيقيا‪ ،‬ومل يبق إال املرات القليلة التي ينسى فيها فريجع إىل الورقة‪ ،‬وأما إذا‬
‫عرف كيف يرجع إىل هذه الورقة دون أن يظهر قلقا أو اضطرابا‪ ،‬فإن التالميذ ال يتهمونه‬
‫هبذا العجز‪.‬‬
‫والنقص يف املادة أو القصور العام غالبا ما يكون سببا للمشاجرات بني املعلم‬
‫وتالميذه‪ .‬فالتالميذ يشعرون بقصور املعلم وتذهب من نفوسهم سطوته فيشاغبون‬
‫طويال وال ينتهون‪.‬‬
‫_‪_  54  ‬‬
‫وويل للمعلم إن حاول أن يضغط عليهم‪ ،‬فذلك هو الفشل النهائي‪.‬‬
‫طبع املعلم وعاطفته‪:‬‬
‫إن من صفات قلب املعلم الرمحة اإلنسانية والعطف عىل األطفال‪ ،‬إذا كانت هذه‬
‫الرمحة وكان هذا العطف‪ ،‬ال حيوالن دون قيام التالميذ بالواجب‪ .‬فبعطفه هذا ورمحته‬
‫جيد جتاوبا يف قلوب أطفاله فيخلصون له وحيبونه‪ .‬وبعطفه عليهم وفهمه ملشاكلهم‬
‫هييئ الطريق ليثقوا به ثقة كاملة ويفضوا إليه بكامئن نفوسهم‪ .‬وبعطفه ورمحته هييئ‬
‫اجلو العاطفي الذي يدفع التالميذ إىل التعاطف فيام بينهم‪ ،‬ويدفعهم لتجنب كل ما‬
‫من شأنه أن يستاء منه املعلم‪ ،‬وهو هبام يمأل جوع األطفال للحنان والفهم‪ .‬ويعلم‬
‫علامء النفس ونعلم أن سلوك الطفل يف صغره وحني يكرب رهني باملعاملة التي وجدها‬
‫يف البيت واملدرسة‪.‬‬
‫وكام نرغب يف أن يكون للمعلم حتمل وصرب‪ ،‬ومعرفة واسعة متينة‪ ،‬فكذلك نرغب‬
‫يف أن يكون له طبع متني‪ .‬طبع ال هيني كلام اشتد املوقف‪ .‬طبع ال يرتك الغضب يستويل‬
‫عىل املعلم فيصيح أو يلعن‪ ،‬وحيتنق وجهه وتكثر حركاته‪ .‬أو هيدد هتديدا مستمرا‪ .‬ألن‬
‫املعلم إذا غضب ورأى ذلك التالميذ منه هان عليهم أمره‪ ،‬وأيقنوا أن احلَكَم العتيد‬
‫الذي يرجعون إليه يف شؤوهنم أصبح خصام‪ ،‬وأن معلمهم إنام هو إنسان ضعيف ال‬
‫يصمد للحوادث‪ .‬وهذا الشعور يوئسهم من املعلم‪ ،‬ويذهب عن املعلم كل املجد‬
‫الذي كانوا يعتقدونه عنده‪ .‬هذا وإن التمسك بالرزانة صعب يف مهنة التعليم‪ ،‬فكثرة‬
‫أعامل املعلم وتنوعها‪ ،‬وحرصه عىل أن تنجز هذه األعامل كام جيب أن تنجز‪ ،‬تشجعه‬
‫عىل التسلط املطلق عىل التالميذ‪ .‬فرييد أن يفعلوا إذا أمر‪ ،‬وينتهوا إذا أمر‪ .‬وإذا اعتاد‬
‫ذلك‪ ،‬وترك احليطة من هذا االجتاه‪ ،‬أوشك أن يغضب للتافه البسيط من األمور‪.‬‬
‫وكثريا ما يكون الغضب عالمة عىل نقص يف املعلم خياف أن يفضح فهو يظن كل‬
‫حركة يقومون هبا غمزا فيه‪ ،‬وما يف الغضب عالج ملثل هذا‪ ،‬بل به يزيد نقصا عىل‬
‫نقص‪.‬‬
‫أما إذا كان املعلم يملك نفسه‪ ،‬ويعرف االحتفاظ باهلدوء أمام األطفال‪ ،‬ال تزعزعه‬
‫حركاهتم العصبية‪ ،‬وال ينفعل بسهولة‪ ،‬فإن التالميذ يقدرونه جدا‪ .‬ويكون هدوءه‬
‫عامال معديا ال يلبث أن يعمهم‪.‬‬
‫_‪_  55  ‬‬
‫والرزانة والثبات ليس منهام التسامح والتخاذل‪ .‬ألن هذين عنوان للطبع‬
‫الضعيف‪ .‬وال يظن هذا املعلم الذي يتساهل مع تالميذه‪ ،‬ويسمح للواحد منهم إذا‬
‫هفا‪ ،‬ال يظن هذا املعلم أنه بعمله يتحبب إىل األطفال وينال عطفهم‪ ،‬بل هم يعتربون‬
‫تساهله حقا هلم ينالونه من طبعه الضعيف‪ .‬فإذا أراد املعلم أن يربهن للتالميذ عن‬
‫مضاء عزيمته‪ ،‬وأنه جمد يف أفكاره ونواياه‪ ،‬ال يرتد عن غاية يريدها‪ ،‬فليكن مثاال‬
‫للوفاء بالوعد‪ ،‬وتنفيد العقوبات‪ .‬والتالميذ بطبعهم يثقون جدا باملعلم الذي يضع‬
‫قانونا يف فصله ثم ال حييد عنه أبدا‪ ،‬ألهنم يعتربون هذا االستمرار ويطمئنون إىل‬
‫وجود نتيجة حمتومة ألعامهلم يعرفوهنا‪ .‬وهم يتقبلون بصدر رحب ما جيب عليهم‬
‫من العقوبات إذا كانت معقولة وطبقها املعلم يف هدوء كامل‪ .‬يتقبلوهنا إذا عرفوا‬
‫أهنا النتيجة ملعلمهم وال يثورون‪.‬‬
‫العدل بني التالميذ‪:‬‬
‫ومن كامل طبع املعلم‪ ،‬بل من أهم صفاته‪ ،‬أن يكون عادال ويمكن أن يكون عادال‬
‫بوسيلة واحدة‪ ،‬هي أن يملك نفسه ملكا تاما‪ .‬أن يملك نفسه عند الغضب‪ ،‬ويملكها‬
‫أن تتحيز لطفل بعينه‪ .‬وال يشء أكره لألطفال من التحيز‪ .‬فهم يرون فيه بخسا‬
‫حلقوقهم‪ .‬ويدفعهم إىل إبغاض التلميذ أو التالميذ الذين يمتازون بمعاملة خاصة‪،‬‬
‫وواضح ما يف هذا البغض من رش خياف منه‪ .‬وقد يتحمل التالميذ عسف املعلم اجلبار‬
‫الذي يشتد يف العقوبة ويظلم كل التالميذ‪ ،‬لكنهم ال يتحملون املعلم الذي خيتار من‬
‫بينهم أفرادا خيصهم باإلحسان ويعفو عن سيئاهتم‪ .‬وليخش املعلم من أن يندفع مع‬
‫العاطفة فيخص بصداقته طفال ذكيا‪ ،‬وليفكر دائام يف أنه إن أقدم عىل مثل هذا العمل‪،‬‬
‫فإنام يسيئ إىل الطفل ويعرضه حلسد رفاقه وعداوهتم‪ ،‬ويسيئ إىل التالميذ مجيعا ألهنم‬
‫ينزعون من املعلم ثقتهم ويندفعون مع العواطف السيئة‪.‬‬
‫واملعلم العادل يطبق قانونه عىل كل التالميذ‪ ،‬بحيث يستطيعون أن يطمئنوا إىل أن‬
‫قيم اليوم ستبقى صاحلة غدا‪ ،‬وأن العقوبات تنال كل من أحدث الذنب الذي يناسبه‪.‬‬
‫وليس العدل عدال يف األعامل الظاهرة كالعقاب والثواب فقط‪ ،‬لكن العدل يشمل‬
‫_‪_  56  ‬‬
‫املساواة حتى يف العاطفة اخلفية‪ .‬والتالميذ ببصريهتم‪ ،‬أقدر خلق اهلل عىل معرفة ما‬
‫جيري يف قلب املعلم من حمبة أو بغض‪ ،‬من تفاؤل أو يأس‪ .‬ويوشك التلميذ املتأخر‬
‫الذي يعرف من معلمه هذا اليأس يف جانبه أن يقف عن العمل هنائيا يائسا من نفسه‪.‬‬
‫ومن حق هذا عىل املعلم أال يظهر له وال يضمر إحساسا تكون عاقبته كام قلنا‪ .‬سيام‬
‫وليس املعلم خبريا بصريا إىل حد معرفة احلدود التي تقف عندها إمكانيات تالميذه‬
‫بالضبط‪.‬‬
‫هذا وننزه املعلم عن التحيز لبعض تالميذه نظرا ملكانة ذوهيم االجتامعية‪ ،‬أو نظرا‬
‫لقرابتهم يف النسب واملذهب‪ ،‬أو نظرا ملا يناله من منفعة مادية‪ .‬وننزهه عن أن يمتهن‬
‫من التالميذ من ال يتمسك بواحد من هذه األسباب وجيور عليه‪.‬‬
‫نفاذ بصرية املعلم ودقة حسه‪:‬‬
‫وإن معارشة املعلم لتالميذه وواجباته نحوهم‪ ،‬حتتم عليه أن يكون نافذ الرأي يف‬
‫نفسية أطفاله‪ .‬يعرف كيف خياطب كال منهم بام يفهم‪ .‬ويعرف كيف يأخذهم من‬
‫حيث يكون أخذه متينا مستمرا‪ .‬والتالميذ يف حاجة إىل احلركة والنشاط‪ .‬وواجب‬
‫املعلم أن يكون من املهارة بحيث يستغل هذه احلركة وجيعل التالميذ يرصفون‬
‫نشاطهم عن طواعية وفقا ملصلحة الدراسة‪ .‬وإذا كان املعلم نافذ الرأي يف نفسية‬
‫أطفاله أمكنه أن يعرف ما حيبه كل منهم وما يكرهه‪ .‬وأن يعرف الذي يؤثر فيهم‪.‬‬
‫وأمكنه أن يتنبأ بانفعاالهتم ويستعجلها‪ ،‬ويوجه جمهوداهتم التي تتفاوت إىل غاية‬
‫واحدة‪ .‬وأصعب من ذلك عىل املعلم الغر أن خيلق اجلو النفساين والعاطفي الذي‬
‫ينطلق فيه لسان الطفل اخلجول‪ ،‬وهيدأ فيه العصبي‪ ،‬ويتعود فيه املخنث سبل التعلم‬
‫اجلدية‪ .‬ومن املهم يف القسم أن يعرف املعلم جهد كل واحد من تالميذه فال يكلفه‬
‫فوق جهده‪ ،‬وأن يدرك الوقت الذي يطول فيه الدرس‪ ،‬أو يصعب‪ ،‬ويتدارك التالميذ‬
‫قبل أن يلحقهم امللل‪.‬‬
‫واحلذق يف مالحظة النفس والطبائع رضوري للمعلم‪ ،‬ألنه يعمل‬
‫وسط مجاعة من األطفال دقيقي احلس جدا‪ ،‬يتأملون من الكلمة النابية أو‬
‫التي يعتربوهنا نابية‪ ،‬ويتأملون من النظرة وهلجة اخلطاب‪ .‬وقد خيتلف وزن‬
‫_‪_  57  ‬‬
‫العقوبات يف نظرهم‪ ،‬وإن كانت متشاهبة متاما‪ .‬وتزيد حساسيتهم يف هتويلها حتى‬
‫يتيقنوا أن املعلم ظلمهم‪ .‬وقد سبق أن ذكرنا ما يف ذلك من رضر عىل التالميذ‬
‫واملعلم والعالقة فيام بينهم‪ .‬ومن هذا يظهر أن العدل املجرد ال يكفي ليعترب‬
‫التالميذ املعلم عادال‪ .‬بل البد يف تطبيقه من حس دقيق وفهم لنفوس األطفال‪.‬‬
‫وهذا احلس الدقيق عند املعلم به يدرك اللحظة التي جيب أن تقف فيها سلطته‪،‬‬
‫واحلد الذي يمكن أن تبلغه‪ .‬فإن مل يكن دقيق احلس تعرض الصطدامات قد تؤدي‬
‫بكثري من مكانته‪ .‬وأثناء عمل املعلم يف القسم‪ ،‬حيدث أن حيتاج إىل القيام بعمل‬
‫قد ال يبقى معه النظام‪ ،‬فإن كان ماهرا اختار القيام بالعمل أو اختار تركه حسب‬
‫النتيجة التي ينتظرها‪ .‬وذلك كأن يكتب عىل السبورة ويويل ظهره للتالميذ‪ ،‬أو‬
‫يوزع صورا صغرية يتداولوهنا فيام بينهم‪.‬‬
‫والبد من دقة احلس يف معرفة الوسائل التي تضمن بقاء االحرتام يف القسم‪ ،‬ومن‬
‫التالميذ من حيلو هلم أن يعاكسوا املعلم‪ ،‬وإذا عرف هؤالء وأمسك بزمامهم‪ .‬ونعني‬
‫بطرق نفسية ال بطرق العنف‪ ،‬هان عليه أن يستحوذ عىل اآلخرين‪ .‬ومن التالميذ‬
‫من يعترب باملثال أكثر مما يعترب بالعقاب املبارش‪ ،‬ومع هؤالء يتخذ املعلم سبيال وسطا‬
‫ِ‬
‫«إياك أعني واسمعي يا جارة»‪.‬‬ ‫ويقول كام قال الشاعر‬
‫واملعلم الدقيق احلس ال يثقل عىل تالميذه أبدا‪ ،‬ويعرف أن يوافق بني جد الدرس‬
‫واملرح الذي يرسي عن النفس‪ .‬ويعرف كيف يضحك مع تالميذه وكيف يداعبهم‬
‫دعابة بريئة‪ .‬وهذا ينتظر منه نفاذا بالغا‪ ،‬ألنه يقتيض اجلمع بني اجلد الذي هو الغاية‬
‫من الدرس‪ ،‬ويقتيض تسخري الدعابة لتربز هذا اجلد‪ .‬فكم من مسألة من مسائل العلم‬
‫ال ترسخ إال ألهنا اقرتنت يف ذهن التلميذ بدعابة لطيفة‪ .‬ولعمري إنه ملوقف حرج‪،‬‬
‫موقف املعلم الذي ال يعرف كيف يضحك‪ ،‬إذا رأى التالميذ يضحكون‪ ،‬من حكاية‬
‫قرأها مثال‪ .‬فإن ذهب بجده الثقيل يزجر وهيدد‪ ،‬كدر عىل تالميذه وأضاع عليهم‬
‫الفرصة‪ .‬وإن جاء يضحك خيف عليه أن يتعدى احلدود فإذا الدرس هلو كله وعبث‪.‬‬
‫وإذا حدث مرة أن نطق املعلم غلطا‪ ،‬وليس املعلم معصوما من الغلط‪،‬‬
‫فإن دقة حسه وحدها تفيده يف اخلروج من املأزق‪ .‬ويف هذه احلالة يرسع‬
‫_‪_  58  ‬‬
‫فيعرض رأيا جديدا بعيدا عن األول‪ ،‬حتى إذا نيس التالميذ‪ ،‬واهتاممهم رسعان‬
‫ما ينتقل‪ ،‬رجع إىل غلطه يصححه‪ .‬ألنه إن ذهب يصلح غلطه يف احلال فربام يرى‬
‫التالميذ ذلك منه ترددا‪ ،‬وإذا ترك الغلط دون تصحيح فليس يف يشء من األمانة‬
‫املهنية‪ .‬وقد حيسن مع كبار التالميذ أن يصحح املعلم غلطه حاال‪ ،‬وال بأس خيشى‬
‫عليه من ذلك‪ ،‬ألن التالميذ الكبار يعرفون أن الغلط مالزم لإلنسان‪ ،‬فإذا رأوا فعل‬
‫معلمهم‪ ،‬فإهنم يكربون انطالقه وأمانته العلمية‪.‬‬
‫وأخريا فإن املعلم صاحب احلس الدقيق‪ ،‬الذي ينفذ بعقله يف نفس أطفاله‪ ،‬ذلك‬
‫املعلم الذي ال يغره أنه يمثل النظام ويمثل السلطة‪ ،‬وال يدفعه العمل املرهق إىل‬
‫التأفف يف أية حالة‪ ،‬هذا املعلم هو الذي يقنع تالميذه بأنه أقوى وأنه إنسان واسع‬
‫القلب‪ ،‬فيعتربونه يف آن واحد‪ ،‬أبا يأوون إىل قوته وعمله‪ ،‬وصديقا خيلصون له املودة‪.‬‬
‫سلطة املعلم‪:‬‬
‫بكل هذه الصفات التي ذكرناها تتحقق سلطة املعلم‪ .‬ويفهم الناظر رضورهتا لقيادة‬
‫قسم فيه تالميذ عدة‪ .‬ونرى أن اجلامعات التي يكون فيها الكبار تتخذ سلوكا ال يكون‬
‫سلوك كل فرد من هذه اجلامعة لو كان وحده‪ .‬وإنام ينشأ من اجتامع اإلرادات إرادة‬
‫مجاعية‪ ،‬وينشأ من القوات الفردية قوة مجاعية قد تكون جارفة‪ .‬وهذا بالضبط ما يقع‬
‫يف مجعية يكوهنا األطفال‪ ،‬ويزاد عىل ذلك حيوية كل طفل وقلة نضجه العاطفي‪ .‬وإن‬
‫املعلم الذي يدخل إىل القسم فيه مجاعة األطفال كالغريب الذي يلج مدينة جديدة‪،‬‬
‫فهو فيها بحاجة إىل كل عدته‪ .‬وعدة املعلم صفاته التي ذكرناها‪ .‬وأول سالحه اهلدوء‬
‫والسكينة‪ .‬فكام يزعمون أن األسد هيجم عىل الشخص الذي يعرف منه اخلوف‪،‬‬
‫فكذلك األطفال ال خيضعون إال للمعلم الذي ال يبدو عليه أثر من اضطراب‪.‬‬
‫وإن من أهم العوامل التي تساعد عىل تكوين سلطة املعلم‪ ،‬هي شعور التالميذ عند‬
‫أول اتصال يكون بينه وبينهم‪ .‬ومن هنا جيب أن يكون حريصا عىل أن يظهر بمظهر‬
‫الكامل من أول مرة‪.‬‬
‫واحلكمة تقيض بأال حياول املعلم التقرب من التالميذ بأي وسيلة‪ ،‬السيام يف‬
‫األيام األوىل‪ ،‬بل حيتفظ برزانة كاملة‪ ،‬وقريب جدا من اخلرسان املعلم الذي يبدأ‬
‫_‪_  59  ‬‬
‫بحكاية ترمجته‪ ،‬وما قام به من أعامل‪ ،‬وال يصعب عىل اخلبري أن يتصور خيبة أمل‬
‫التالميذ الذين كانوا ينتظرون املعلم ويلحظون قدومه بإقبال شديد عندما يسمعون‬
‫ما حيكيه من ترهاته‪ .‬أو يتصور سخرية هؤالء التالميذ ومصري سلطة هذا املعلم‪.‬‬
‫ودراسة نفسية األطفال ترينا أهنم ال يعبأون بالكلمة التي ال يدعمها العمل‪ ،‬وكأهنم‬
‫يدركون أن الثرثار إنام يغطي بثرثرته عجزه‪ .‬والتجربة تدل عىل أن املعلم الذي يقف‬
‫أمام تالميذه يف أول السنة ليرشح هلم طويال برنامج عمله معهم‪ ،‬ويبني هلم ما أعده‬
‫من نقمة للعاصني‪ ،‬قلام ينال احرتام التالميذ‪.‬‬
‫إذن فال التهديد يفيد‪ ،‬وال تفيد الثرثرة العاطلة‪ .‬كام ال يفيد التزلف إىل التالميذ‬
‫بالعفو عنهم‪ « .‬اهلل يسامح هذه املرة «‪ .‬منطق ال يفهمه الطفل‪ ،‬بل يظن بقائله الضعف‬
‫والوهن واملعلم عند أول عهده بالتالميذ جيب أن حيرض درسه حتضريا طويال كامال‪،‬‬
‫فإذا حرض أمامهم انرصف إىل درسه توا‪ ،‬ودون أن يظهر قلة خربته أو أن يرتقب حكم‬
‫األطفال‪ .‬فإنه إن تركهم يظنون أنه يعلق عىل حكمهم أمهية كان كمن يدعو البالء‪.‬‬
‫فرسعان ما ينطقون وحيكمون‪ ،‬ولن تكون أحكامهم بالطبع موافقة للحقيقة‪ ،‬وإنام‬
‫تكون موافقة هلواهم‪ ،‬وهواهم يف مثل هذه احلالة يف السخرية من املعلم‪ .‬أما إن قال‬
‫هلم قوال معقوال يف منطق الكبار‪ ،‬وأهاب هبم لالجتهاد حتى ينفعوا أنفسهم‪ ،‬أو قال‬
‫ما يشبه هذا فإهنم ال يفعلون أبدا‪ ،‬ألهنم عاجزون متاما عن تصور املستقبل‪ ،‬عاجزون‬
‫عن فهم مصلحتهم‪ .‬وربام كان يف هلجة املعلم الذي يقول مثل هذا‪ .‬نربة املستضعف‬
‫الذي مل املغالبة‪ .‬ولئن كان هلي لنهاية سلطته يف قسمه‪.‬‬
‫ومجلة القول أن التالميذ ال خيضعون إال للمعلم الذي يضع نفسه مكانة السيد‬
‫املطمئن إىل سيادته‪ .‬الذي يستمد سلطته من قوته املعنوية‪ ،‬ال من تفوقه اجلسمي‪.‬‬
‫وخيلصون هلذا املعلم طاعتهم ألن القوة املعنوية‪ ،‬أو الشخصية كام نقول‪ ،‬تفرض‬
‫سلطاهنا الذي ال يغلب عىل الناس مجيعا‪ .‬وإذا كانت احلكمة رائدة املعلم فإنه ال يلبث‬
‫أن حيصل أيضا عىل عطف تالميذه‪ .‬وهذه مكافأة له كبرية‪.‬‬

‫_‪_  60  ‬‬
‫‪ - 5‬النظام يف املدرسة‪:‬‬
‫إن عمل املدرسة ال يتحقق يف الفوىض‪ .‬وال يصلح إلنجازه احلرية املطلقة تعطى‬
‫لألطفال‪ .‬واألطفال أقل الناس كفاية باالجتاه اجتاها صاحلا‪ ،‬وتنظيم حياهتم بحيث‬
‫يناسب نظامهم التقدم املرجو‪ .‬فهم يف حاجة إىل يد قوية تأخذ بيدهم وتوصلهم‬
‫إىل الغاية املثىل‪ .‬هلذا كان البد أن تتمتع املدرسة بسلطة تفرض هبا النظام‪ .‬وسلطتها‬
‫ليست كالقانون الصارم يراد منه محاية اجلامعة‪ .‬لكنها كسلطة األرسة وسيلة لتحسني‬
‫سلوك الطفل وجتنيبه مواقع اخلطر‪ .‬وليست تستعمل سلطتها لفرز الصالح وطرد‬
‫الناقص‪ ،‬بل تستعملها لتحمي الطفل من رش نفسه‪ ،‬ولتكمل الناقص‪ .‬وليست‬
‫سلطة املدرسة كسلطان القانون‪ ،‬ضيقة ماضية‪ ،‬تطبق عىل الناس لغاية معروفة‬
‫حمدودة‪ .‬لكنها واسعة تسعى لتنمية كل طفل يف إطار تناسبه‪ ،‬وترتك لكل مواهبه‬
‫جماال لتظهر ويستفاد منها‪ .‬ولئن اضطرت املدرسة الستعامل سلطتها يف إبعاد تلميذ‬
‫وطرده‪ ،‬فإهنا ال تفعل ذلك إال بعد أن تعييها احليلة يف سبيل إصالحه‪.‬‬
‫وغاية هذه السلطة‪ ،‬التي يمثلها املعلم ومتثلها املدرسة‪ ،‬هو هتيء الطفل ليستغني‬
‫عنها‪ ،‬وذلك بإيقاظ ضمريه‪ ،‬وتقوية سلطان هذا الضمري‪ ،‬وبتفهيمه واجبه‪ ،‬وتبصريه‬
‫باملصري‪ .‬وظاهر ما يف بلوغ هذه الغاية من كامل‪ .‬ألهنا عنوان عن النضج األخالقي‬
‫واالجتامعي‪ .‬وتعمل املدرسة لتحقيق هذه الغاية ألهنا تدرك أن الطفل سيكون‬
‫مواطنا‪ ،‬وأنه يتوقف عىل املدرسة أن يكون هذا املواطن قوة تبني أو قوة هدم‪ .‬فإذا‬
‫هيأته للحياة وجعلت له من نفسه وازعا قلبيا‪ ،‬كان املواطن الصالح‪ .‬وإذا أنشأته يف‬
‫إطار ضيق من حجرها‪ ،‬واعتمدت عىل سلطان هذا احلجر لتزجره‪ ،‬خرج إىل املجتمع‬
‫طليقا ال يعرف أين يقف احلق ويبدأ الواجب‪.‬‬
‫وسلطة املدرسة‪ ،‬أثناء تطبيقها‪ ،‬ال تسعى إلخضاع الطفل ومحله عىل االمتثال‪ ،‬ولكنها‬
‫تسعىليفهمالطفلرضورةالنظام‪،‬وليقتنعبأنهعاجزعنإجيادهوحده‪.‬والتسعىاملدرسة‬
‫لتكرس إرادة الطفل وجتعله أداة‪ ،‬لذلك ال تتبع سبيل القوم األولني يف فرض سلطاهنا‬

‫_‪_  61  ‬‬
‫بالعصا‪ .‬ألن العقوبة البدنية ال ختلق رجاال‪ ،‬وإنام ختلق عبيدا خمتالني ال يعرفون إال‬
‫سلطان القوة املادية‪ .‬وإنام سالحه التوجيه الرشيد واالقناع‪ ،‬وسالحها التفاؤل مع‬
‫احليطة‪ .‬إذا مل يفد هذا السالح فالنصح واإلنذار‪ .‬ثم ال تكون العقوبة اإلنسانية إال‬
‫وسيلة أخرية حني ال جتد عنها مناصا‪.‬‬
‫‪ - 6‬الثواب يف املدرسة‪:‬‬
‫ليس الثواب إال وسيلة لتحسني سلوك الطفل‪ .‬وهو حيدد سلطة املدرسة‪ ،‬ويقنع‬
‫الطفل بأن هذه السلطة صديق له ال عدو‪ .‬والثواب يدخل عىل الطفل رسورا كبريا‪.‬‬
‫ومهام صغر شأن هذا الثواب‪ ،‬فإن له وقعا عميقا يف نفس الطفل ألن يف ضمن هذا‬
‫الثواب اعرتافا بأن للطفل حماسن‪ .‬وهو رمز لتقدير املدرسة هذه املحاسن‪ .‬ويف‬
‫الثواب رفع لقيمة الطفل‪ ،‬ومتييز له كبري‪ .‬وإذا مل يثب الطفل إال عندما يستحق‪ ،‬تعلم‬
‫قيمة أعامله‪ ،‬وعرف أنه لن يناله حتى جيد كام تريد املدرسة أن جيد‪ .‬أما إذا كان الثواب‬
‫بغري استحقاق‪ ،‬فإن الطفل يرفضه يف قرارة نفسه‪ ،‬ويشك يف املدرسة ونواياها‪ .‬ويف‬
‫الثواب تشجيع عىل العمل‪ ،‬وحث عليه‪.‬‬
‫ووسائل الثواب كثرية ومتنوعة‪ ،‬إال أن قيمتها املعنوية‪ ،‬ال تقدر بقيمتها املادية‪.‬‬
‫وإنام يزيد من فعله الظروف التي أعطي فيه‪ .‬ويزيد من قيمته رسور املعلم بإعطائه‪.‬‬
‫وتفقد كل وسائل الثواب قيمتها إذا كانت بغري استحقاق كام قلنا‪ ،‬أو جاءت متأخرة‬
‫عن وقتها‪.‬‬
‫ومن هذه الوسائل ما هو مادي ومنها ما هو معنوي‪ .‬فصغار األطفال يتعني‬
‫الثواب بيشء حمسوس‪ .‬كأوراق االستحسان املطبوعة‪ ،‬أو الرسوم امللونة‪ .‬ألن‬
‫األطفال الصغار ال يقدرون عىل تقدير الكلمة الطيبة والتشجيع‪ .‬باللفظ‪ ،‬بل‬
‫يرغبون يف شهادة مادية تدل عىل هذا التشجيع‪ .‬واملتبع يف املدارس‪ ،‬هو أن يعطى‬
‫للتلميذ أو التلميذة ورقة استحسان كلام استحق ذلك‪ .‬فإذا كمل عنده عدد من‬
‫هذه الورقات‪ ،‬أمكنه أن يأخذ بدهلا صورة ملونة‪ .‬ويف هذا ما ال خيفى من تشجيع‬
‫_‪_  62  ‬‬
‫عىل املثابرة يف العمل‪ .‬إذ تكون الصورة امللونة بمثابة جائزة ال يلبث التلميذ أن يطمع‬
‫يف نيلها منذ أن يأخذ ورقة االستحقاق األوىل‪.‬‬
‫أما الكبار فيدركون قيمة الثواب املعنوي‪ ،‬ويتسابقون لنيله‪ .‬وهذا الثواب متدرج‬
‫يناسب كل عمل ويناسب كل األطفال‪ .‬فكلمة االستحسان التي يقوهلا املعلم بلهجة‬
‫خملصة كفيلة بأن تشعل محاس الطفل وتدفعه إىل املثابرة وبذل اجلهد‪ .‬وكلمة الثناء‬
‫كافية لسد حاجة الطفل الذي بذل جمهودا حقيقيا‪ .‬كأن أجاب عن سؤال عويص‪،‬‬
‫أو أنجز فروضه بشكل يرضاه املعلم‪ ،‬أو قام بعمل إنساين يرضاه اخللق‪ .‬ومن هنا‬
‫نشري إىل ميل املعلمني ملنع كلامت االستحسان بكثرة‪ ،‬حتى ليصبح ذلك عادة فيهم‪،‬‬
‫فيقولون « حسن « بعد كل مجلة ينطق هبا أي تلميذ‪ ،‬بل تطغى العادة عىل اللسان حتى‬
‫ينطق هبذه الكلمة ولو أخطأ التالميذ يف اإلجابة‪ .‬والثواب إذا تكرر كثريا فقد قيمته‪.‬‬
‫ويف الطبع اإلنساين أن يميل إىل اقتناء كل يشء نادر‪ .‬لذلك يقلل املعلم من الكلامت‬
‫الطيبة فال يبذهلا إىل يف مكاهنا‪ .‬وذلك أضمن ألن حتتفظ بكل أثرها يف نفس الطفل‪.‬‬
‫ونشري إىل وجوب بذل الثواب لتشجيع السلوك األخالقي‪ .‬ألن هم املعلم ليس‬
‫مقترصا عىل تربية العقول وحدها‪ .‬وألن الطفل ال يستطيع أن حيس باللذة املعنوية إذا‬
‫قام بعمل أخالقي‪ ،‬كأن ساعد رضيرا يف الطريق‪ ،‬أو وىف باألمانة ومل يكذب‪ .‬والثناء‬
‫من معلمه يعوضه عن هذه اللذة التي ليست يف متناوله‪ ،‬بلذة يعرفها ويرجى إذا أن‬
‫حيب اخلري ويعتاده‪.‬‬
‫ومن وسائل الثواب للكبار‪ ،‬إنشاء لوحة الرشف‪ ،‬وتسجيل مالحظة حسنة يف دفرت‬
‫الواجبات الشهرية‪ .‬والتالميذ حيبون جدا أن يروا اسمهم يف لوحة الرشف‪ ،‬وحيبون‬
‫جدا أن يطلع آباؤهم عىل استحسان املعلم الذي يسجل يف دفرت الواجبات الشهرية‪.‬‬
‫ومن الثواب اجلوائز التي توزع يف آخر السنة الدراسية‪ .‬هذه اجلوائز عبارة عن كتب‬
‫حسنة الطبع مذهبة أغلفتها ومزينة بالصور‪ .‬وفيها حكايات يف مستوى التالميذ‪.‬‬
‫وهي مكافأة لعمل السنة كله‪ .‬ويزيد من قيمتها أهنا توزع أمام آباء التالميذ وأمهاهتم‪،‬‬
‫وأمام رجال البلد أحيانا‪ ،‬فيفخر الطفل إن نال منها ولو كتابا صغريا‪ .‬ويعتز بجائزته‬
‫اعتزازا‪ ،‬فيكب عليه يقرأه ويقرأه ال يمل‪ .‬وهذا ما يدل عىل أنه يعلق عليه أمهية‬
‫كربى‪ ،‬فال ينبغي إذا أن حيرم من هذه اجلائزة تلميذ يستحقها‪ .‬ألن كل الكتب مهام‬
‫كانت مجيلة ومرتفعة الثمن ال تعوضها‪ .‬وال ينبغي أيضا أن تكون موضوع مساومة‬
‫_‪_  63  ‬‬
‫أثناء السنة الدراسية؟ إلهنا إذ ذاك تكون كاألجرة التي يتواضع عليها شخصان‪ ،‬ال‬
‫رمزا للتقدير الصادق‪.‬‬
‫‪ - 1‬ويشرتط يف اجلائزة أن تكون عىل قدر العمل‪ .‬فال أسجل عىل لوحة الرشف‬
‫اسم تلميذ يستحق االستحسان‪ ،‬فالتلميذ الذي قام بمجهود أكرب من جمهود األول‬
‫ربام يعترب نفسه حمروما إن تساوى معه يف املكافأة‪ .‬وإذ ذاك يعترب التلميذ الذي مل‬
‫يعمل شيئا أن من حقه عىل املعلم أن يكافئه ولو مكافأة صغرية‪ .‬وربام يطمع كل‬
‫التالميذ يف أن يكتب اسمهم عىل لوحة الرشف‪ ،‬وإذ ذاك يبطل امليز الذي يرمز إليه‪،‬‬
‫امليز بني الذي جيتهد والذي ال جيتهد‪.‬‬
‫‪ - 2‬ويشرتط االقتصاد يف الثواب‪ ،‬وخصوصا يف كلامت الثناء‪ ،‬حتى ال يمتيلء‬
‫التلميذ غرورا ويظن نفسه أحسن مما هو يف احلقيقة‪ .‬وحتى ال يتعاىل عىل رفاقه‬
‫ويفخر بحظوته‪ .‬وهذا الشعور وحده كفيل بأن يدفعه إىل الكسل‪ .‬وهذه عكس‬
‫النتيجة التي تريدها املدرسة‪ ،‬وعكس النتيجة التي تنتظر من الثواب‪.‬‬
‫‪ - 7‬العقاب يف املدرسة‪:‬‬
‫عندما تضطر املدرسة لتعاقب‪ ،‬حتاول أن تعاقب عقابا إنسانيا نافعا‪ .‬والعقاب‬
‫البدين فيه قسوة ال تناسب الشعور اإلنساين‪ ،‬وال حتصل من ورائها أية فائدة‪ .‬وكل‬
‫العقاب املمكن إذا هو العقاب الذي يعتمد عىل االنفعال العاطفي‪ .‬وكام يؤثر‬
‫الثواب يف نفس الطفل فيسعى للعمل ويثابر عليه‪ ،‬نظرا ملا يشعر به من رىض عند‬
‫نيله‪ ،‬فكذلك يؤثر العقاب يف نفس الطفل ويزجره عن العمل القبيح‪ ،‬نظرا ملا يشعر‬
‫به من حرمان‪ .‬والعقاب املدريس يعرب عن نكران املعلم لعمل تلميذه‪ ،‬وإعراضه عن‬
‫هذا العمل‪ .‬ومن أجل ما ذكرنا من أن التلميذ يعرف سداد رأي معلمه‪ ،‬ويتعطش‬
‫دائام لنيل موافقته‪ ،‬فإن العقاب الذي يلحقه منه كالدعوة الرصحية للرجوع إىل‬
‫الصواب‪ ،‬لكنها دعوة جادة حازمة‪ .‬وكأن العقاب وعد رصيح باملكافأة التي تنتظر‬
‫التلميذ إذا أحسن‪ ،‬لكنه وعد بعيد‪ ،‬من دونه االنتصاح الصادق‪ .‬وعندما يعاقب‬
‫الطفل العقاب الناجع‪ ،‬يعقد يف نفسه العزم عىل أال يرجع إىل العمل الذي نال من‬
‫أجله العقاب‪.‬‬

‫_‪_  64  ‬‬
‫والعقاب وتطبيقه يقتيض من املعلم مثلام يقتضيه الثواب من حكمة وخربة إذ أنه ال‬
‫يكون ناجعا يصل الغاية التي أرشنا إليها إال إذا روعي فيه ما ييل‪:‬‬
‫املعاقب ساكنا حال إنزال العقوبة‪ .‬ألنه ان كان غاضبا يوشك أن‬ ‫ِ‬ ‫‪ - 1‬أن يكون‬
‫يتعدى القدر الالزم يف العقاب‪ .‬ويتعرض ألن يظن به التلميذ السوء‪ .‬فإن الطفل إن‬
‫رأى مربيه غضبان‪ ،‬ظن أنه ينتقم منه‪ ،‬وال خيفى ما يف هذا الشعور من تشجيع عىل‬
‫العداء‪ ،‬وقضاء عىل املوقف الذي ينبغي أن يقفه التلميذ من أستاذه‪ .‬وواجب املعلم أن‬
‫ال يغضب عندما يعاقب حتى ال يرتك جماال للشك يف نيته اإلصالحية‪ .‬فإذا وقع أن آمله‬
‫عمل الطفل إيالما شديدا‪ ،‬وخاف عىل نفسه الغضب إن عاقب‪ ،‬كان خريا له أن خيرب‬
‫الطفل بأنه سريجئ العقاب وكان واجبا عليه إذ ذاك أن يعاقب كام أوعد وإال عرف‬
‫األطفال أن هتديداته كاذبة‪ .‬وربام كان يف عمل الطفل ما يمس باملعلم‪ ،‬وينال من‬
‫االحرتام الذي ينبغي أن حيرتمه التالميذ‪ .‬فإذا كان ذلك‪ ،‬فليحرص املعلم كل احلرص‬
‫عىل أال يكون عقابه انتقاما لنفسه جمردا‪ .‬ليفهم الطفل أنه أخطأ الصواب‪ ،‬وأنه ال‬
‫يعاقب ليقود نفسه‪ ،‬ولكن لريىض األخالق والواجب‪ .‬وجتنب الغضب يضمن أن‬
‫تكون العقوبة عىل قدر املخالفة‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن تكون املعاقبة من نوع اجلريمة‪ ،‬فإذا أمهل الطفل واجبه ومل ينجزه‪ ،‬كان‬
‫عقابه أن ينجزه‪ ،‬وإذا مل حيفظ درسه‪ ،‬فعاقبه أن حيفظه‪ ،‬وهكذا يتعلم الطفل أن العقاب‬
‫نتيجة حتمية لعمله‪ ،‬فيتحاشى ما عوقب عليه‪ .‬ويرى سبنرس أن العقاب ال يؤثر شيئا‬
‫إال إذا كان من جنس العمل‪ .‬والعقاب دواء فيجب أن يكون منصبا عىل العمل الذي‬
‫وقع فيه النقص بحيث يكمله‪ .‬ويسمي سبنرس نظريته هذه بقانون اجلزاء الطبيعي‪،‬‬
‫ويرى ان أحسن العقاب يف الرتبية هو الذي حياكي عقاب الطبيعة ملن خيالف قوانينها‪:‬‬
‫الذي يتعب جسمه كثريا يمرض‪ ،‬والذي ال ينظف جرحه يتعفن جرحه ويؤذيه‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن تكون العقوبات قليلة‪ .‬وليس املقصود من العقاب غري تقويم الطفل‪،‬‬
‫وهناك وسيلة لتقويمه أجدى من العقاب‪ .‬وهي منعه من الوقوع يف اخلطأ‪ ،‬حتى‬
‫ال نضطر إىل عقابه‪ .‬وأكثر خمالفات األطفال ناجتة عن أهنم عاطلون‪ .‬واألطفال‬
‫_‪_  65  ‬‬
‫حيبون احلركة كام نعلم‪ ،‬فمتى وجدوا من وقتهم جزءا ال يرصفونه يف العمل الدرايس‪،‬‬
‫حاولوا أن يرصفوه يف العبث‪ .‬ويرى املعلم ذلك فيسخط ويعاقب‪ ،‬وإنام الذنب ذنبه‬
‫ألنه مل يشغلهم فإذا احتاط املعلم‪ ،‬ومل يرتك مغريا عىل املخالفة إال أبعده‪ ،‬كان طبيعيا‬
‫أن تقل املخالفات‪ ،‬ويقل العقاب‪ .‬وإال تكررت العقوبات واعتادها األطفال‪ .‬فال‬
‫تبقى هلا أية قيمة‪ .‬ويف هذا من اخلطر عىل النظام ما فيه‪.‬‬
‫‪ - 4‬أن تكون املعاقبة إنسانية‪ .‬فليس جيدي الشتم والرضب‪ .‬وربام نرض الطفل من‬
‫حيث نريد نفعه إذا أرهقناه بالعمل‪ ،‬وطلبنا إليه القيام باملستحيل‪ .‬فمن احلامقة مثال‬
‫أن نطلب إىل الطفل كتابة مجلة ما ألف مرة يف ليلة واحدة‪ .‬هذا املسكني‪ ،‬مدفوع إما‬
‫املخالفة ثانية ألنه ال يقدر عىل إنجاز ما طلب إليه‪ ،‬أو إىل التدليس بحيث يطلب إىل‬
‫زمالئه أن يعينوه عىل الكتابة‪ .‬وإذا بنا يف هذه احلالة نسيئ أخالق تالميذنا مجيعا‪.‬‬
‫ومن التالميذ املرهف احلس الذي تكفي لزجره النظرة الواحدة‪ ،‬وليس من احلكمة‬
‫يف يشء أن نعاقب هذا الطفل بمثل ما نعاقب به آخر غليظ الطبع‪ .‬ألن العقاب الذي‬
‫يتجاوز حده‪ ،‬قد يدعو إىل الثورة أو جيرح اجلرح البليغ‪ .‬وليعرف املعلم تالميذه‪،‬‬
‫وليدرس طباعهم‪ ،‬كام يدرس الطبيب مرضاه حتى يعد لكل الدواء الذي يناسبه‪.‬‬
‫وإن هذا يقتيض أال يكون للمعلم رأي يف كل طفل يعترب فيه أعامله املاضية فقط‪.‬‬
‫ولكن لينظر إىل املستقبل ولريج إصالح كل أطفاله إذا أنزل العقاب‪ .‬وهذا اإلصالح‬
‫قريب إن عرف أن يثري شعور الطفل باحلرمان‪ ،‬ويعمل عىل أن يقارن الطفل املعاقب‬
‫بني حاله وحال زمالئه الذين يمرحون‪.‬‬
‫أنواع العقاب‪:‬‬
‫والعقوبات التي تعمل هبا املدرسة متنوعة كثرية‪ ،‬فمنها العقاب النفيس‪ ،‬ومنها‬
‫العقاب املادي‪ .‬ويراعي يف كل من هذين ما روعي يف توزيع اجلوائز‪ .‬فيناسب أن‬
‫يكون عقاب الصغار الذين ال يدركون‪ ،‬عقابا ماديا‪ ،‬ويكون عقاب الكبار نفسيا قبل‬
‫كل يشء‪.‬‬
‫والعقوبات املادية هي الكتابة واحلفظ يف حدود معقولة‪ ،‬أو حجز التلميذ أثناء‬
‫االسرتاحة‪ ،‬أو بعد الدرس‪ ،‬مع حراسته طول الوقت‪ ،‬وإخبار األرسة هبذا العقاب‬
‫إن تسبب يف تأخر الطفل عن ميعاد رجوعه إىل البيت‪ .‬ومنها حرمان الطفل‬
‫_‪_  66  ‬‬
‫من املشاركة يف النشيد أو يف نشاط آخر ال يلحقه رضر إن مل يعمله مرة‪ .‬وال تقبل‬
‫املدرسة العقاب املادي الذي فيه قسوة أو إهانة للتلميذ‪ .‬كالرضب والشتم وتعريض‬
‫الطفل بأي وسيلة لتهكم زمالئه‪ ،‬كأن يشار إليه وينعت نعتا قبيحا‪ ،‬أو يوقف يف زاوية‬
‫من القسم‪.‬‬
‫والعقاب النفيس أوسع وأنسب‪ .‬فالعتاب ثم التوبيخ يؤثران عىل الطفل تأثريا بليغا‬
‫إذا عرف املعلم كيف خيتار لكل طفل ما يناسبه‪ .‬وسواء كان التوبيخ أمام كل التالميذ‪،‬‬
‫أو كان يف خلوة‪ ،‬فإن وقعه يكون كبريا‪ .‬وهناك اإلنذار أو التهديد‪ ،‬إذا كان اإلنذار‬
‫والتهديد بلهجة هادئة‪ ،‬وكان التلميذ يعرف صدق املعلم يف مقاله‪ ،‬وأنه سوف ينزل‬
‫العقوبة التي هدد هبا ال حمالة إذا وقعت املخالفة‪.‬‬
‫وأقىص العقاب طرد التلميذ وقتا ما من املدرسة‪ .‬وال يتخذ هذا العقاب يف شأن‬
‫التلميذ إال إذا أعيت يف إصالحه احليلة‪ .‬وإذ ذاك جتتمع جلنة املعلمني يف املدرسة‬
‫بمشاركة مديرها‪ ،‬وتتفق عىل طرد التلميذ بعد بحث خمالفته‪ .‬ثم خترب أرسته بطرده‬
‫وبعدد األيام التي جيب أن حتجزه فيها عن املدرسة‪ .‬وخترب اإلدارة املركزية هبذا الطرد‬
‫أيضا‪.‬‬
‫ومن األطفال شاذون أو مرىض ال يفيد فيهم كل عقاب املدرسة شيئا‪ .‬فإذا رأى‬
‫املعلم أن بقاء واحد منهم يسبب اضطرابا يف النظام‪ ،‬أو خاف أن يعدي سلوكه‬
‫األطفال اآلخرين‪ ،‬لزمه أن يطلب طرده النهائي من املدرسة‪ .‬ومن حق املدير يف هذه‬
‫احلالة أن جيمع جلنة املعلمني ويتفقوا عىل توقيف مثل هذا الطفل‪ ،‬ريثام تبث يف شأنه‬
‫وزارة التهذيب الوطني‪.‬‬
‫‪ - 8‬املنافسة‪:‬‬
‫هذا وإن ما حيصل عليه التالميذ من مكافآت‪ ،‬وما ينزل هبم من عقاب‪ ،‬حيدث‬
‫فيهم شعورا باألفضلية عميقا‪ .‬فيحاول كل منهم أن حيصل عىل نقط تفوق نقط‬
‫صاحبه‪ ،‬ويتزاحم لينال رىض معلمه واستحسانه أكثر مما يناله اآلخرون‪ .‬ويبدأ‬
‫هذا الشعور باألفضلية عندما يفكر الطفل املحروم يف حرمانه ويقارن بني حالته‬
‫_‪_  67  ‬‬
‫وحالة الذين نالوا املكافأة أو مل يعاقبوا‪ .‬ومن ثم يدفعه هذا الشعور إىل سبق اآلخرين‪،‬‬
‫ويزيده نشاطا إىل هذا السبق طمعه يف املكافأة‪ ،‬فإذا بمجهوده يتضاعف وإذا هو ينظر‬
‫إىل الغاية التي رسمها لنفسه‪ ،‬ويعمل لبلوغها جادا ال حييد‪ ،‬كأن هذا الشعور وهذا‬
‫الطمع زادا من قوته‪.‬‬
‫وإذا تسابق التالميذ حيدوهم هذا الشعور فتلك هي املنافسة‪ .‬واجلدال يف املنافسة‬
‫وصالحيتها يف املدرسة كثري‪ ،‬فمن املربني من يعتربها وسيلة حتث عىل العمل‪ ،‬وتدرب‬
‫عىل النظال‪ ،‬وتعرف املرء بالغاية التي يستطيع أن يصل إليها‪ .‬ويعتربها عمال يشحذ‬
‫اإلرادات‪ ،‬ويزيد من قوة اإلنسان عىل العمل‪.‬‬
‫ومن املربني من يرى أن املنافسة تدعو إىل الفخر واإلعجاب بالنفس‪ ،‬ألن الطفل‬
‫الذي يتسابق مع أقرانه إنام يريد أن يتفوق عليهم ليلفت إليه األنظار‪ ،‬وينال إعجاب‬
‫الناس‪ .‬وهؤالء املربون وإن كانوا يعرتفون بأن املنافسة تساعد عىل مواصلة العمل‬
‫والصرب عليه‪ ،‬ال ينصحون باستعامهلا ملا جتره من تدهور أخالقي‪ .‬إذ تنرش احلسد‬
‫والبغضاء بني األقران‪ ،‬وختلق حب الفخر الذي ينتهي إىل الرتفع واالنعزال‪ ،‬وال يشفع‬
‫للمنافسة عند هؤالء أهنا ربام تكون مطية للعمل‪ ،‬ألهنم ينظرون إىل أن املدرسة جيب‬
‫أن تكون الطفل تكوينا اجتامعيا‪ ،‬وعوض أن تعلمه املنافسة فضيلة التعاون التي البد‬
‫منها يف املجتمع‪ ،‬تعلمه رذيلة األنانية والعجب‪ .‬وقد انتقد ديوي املنافسة واعتربها‬
‫حمركا خارجيا يدفع الطفل إىل العمل‪ .‬وليس هلذا أية قيمة تربوية‪ ،‬ألن الطفل جيب أن‬
‫يعمل حبا يف العمل‪ ،‬ال مدفوعا بدافع خارجي‪ .‬ويعترب ديوي أن املنافسة ليس هلا قيمة‬
‫أخالقية‪ ،‬بل هي منافية لألخالق‪.‬‬
‫وبعد فام نفعل باملنافسة؟ أننفيها من املدرسة خوفا من وبائها‪ ،‬أم يمكن أن ننتفع هبا‬
‫بعد أن هنذهبا؟‬
‫يعتقد كثري من املربني أن املنافسة طاقة هائلة‪ ،‬جيب أن نستخدمها بحيطة حتى ال‬
‫تنسف الكيان اخللقي الذي تسعى املدرسة لبنائه‪ .‬واملنافسة مسابقة بني مجاعة من‬
‫األطفال ال تتكافأ قواهم‪ ،‬فمنهم الذكي الذي برسعة حيفظ‪ ،‬وبرسعة يفهم‪ ،‬وبرسعة‬
‫يتفوق‪ .‬ومنهم املتوسط والضعيف الذي ال تساعده وسائله عىل السبق‪ .‬ويوشك املتفوق‬
‫أن حيمله تفوقه عىل الظن بأنه من طينة متفوقة‪ ،‬فيفخر ويتكرب‪ .‬ويوشك الضعيف‬
‫_‪_  68  ‬‬
‫واملتوسط أن يعتقدا يف نفسيهام النقص‪ ،‬وحيسدا املتفوق‪ .‬فيقول املربون إن واجب املعلم‬
‫أن يكون منبها دائام‪ ،‬فال يلح يف الثناء حيث جيب أال يلح‪ .‬وال يلوم الطفل إال إذا عرف‬
‫أن قصوره ناشئ عن كسله‪ .‬وواجب املعلم أن يرجع املغرت عن غروره ويشعره حينام‬
‫ينقصه ليميل إىل التواضع‪ .‬وواجبه أن يشجع الضعيف‪ ،‬ويظهر له جوانبه الكاملة لئال‬
‫ييأس ويربد‪.‬‬
‫فإذا عرف املعلم كيف يستعمل املنافسة حصل عىل تقدم يف قسمه كبري‪ ،‬وضمن‬
‫لدروسه النشاط املسمرت‪.‬‬
‫املنافسة الفردية‪:‬‬
‫ولروسو يف املنافسة رأي هو أهنا فاسدة‪ .‬ال يستثني إال املنافسة الفردية‪ .‬يعني املنافسة‬
‫التي تكون بني املرء ونفسه‪ ،‬يريد أن يكون اليوم أحسن مما كان البارحة‪ ،‬ويريد أن يعمل‬
‫غدا أحسن مما عمل اليوم‪ .‬ويمكن للمعلم أن يستعمل املنافسة الفردية‪ ،‬وخيلق هبا يف‬
‫نفس أطفاله الرغبة املخلصة يف أن يتقدموا‪ .‬فإذا صحح املعلم فرضا لطفله‪ ،‬ووضع له‬
‫نقطة تقديرية‪ ،‬دعاه ليقارن بني نقطته اليوم‪ ،‬ونقطته أمس‪ ،‬وشجعه إن تقدم‪ .‬ويكون‬
‫هذا يف جو مفعم بالتفاؤل دون أن يظهر من املعلم أنه يعلق أمهية كربى عىل هذه النقط‪،‬‬
‫ودون أن يظهر اشمئزازه إن مل يظهر فيها تقدم مستمر‪ .‬فإن املعلم أو األب إن حتمس‬
‫كثريا لعمل ابنه واطراد تقدمه ربام خيلق يف الطفل خوفا من الفشل‪ .‬وهذا اخلوف ال‬
‫يعني يف يشء‪ .‬بل ربام يكون عائقا عن التقدم‪ .‬ألنه حيدث اضطرابا تتالشى معه اجلهود‪.‬‬
‫وكلنا جرب هذا الشعور عندما أمسك يف يده آنية ثمينة أو حتفة نادرة خيشى عليها أن‬
‫تنكرس‪ .‬وكذلك خيشى الطفل أال ينال الدرجة التي يرى أباه أو معلمه ينتظراهنا بدون‬
‫صرب‪ .‬والصواب أن نرتك الطفل عندما نشعر أنه أخذ يتأمل نفسه‪ ،‬وحيسب تقدمه‪ .‬ففي‬
‫هذا التأمل ما يبلغ إىل النجاح‪.‬‬
‫الشعور بالواجب‪:‬‬
‫العقاب والثواب وما ينتج عنهام من منافسة وسائل حلمل الطفل عىل العمل‪ .‬وجيب‬
‫أن نعتربها كام هي وسائل ال غايات‪ .‬وأال نقف عندها إال لنعرف هل هي كفيلة بتبليغنا‬
‫إىل الغاية احلق‪ ،‬وهي أن نستغني عنها مجيعا‪ .‬وذلك ال يمكن إال إذا جعلنا يف الطفل‬
‫دافعا من نفسه‪ .‬هذا الدافع هو الشعور بالواجب‪ .‬ومتى شعر الطفل بالواجب مل يبق‬
‫موضوع لعقابه‪ .‬وأصبحت املكافأة رمزا ملوافقتنا عىل عمله‪ ،‬ال يدخل يف حسابه‪.‬‬
‫_‪_  69  ‬‬
‫الشعور بالرشف‪:‬‬
‫عندما يعمل التلميذ عمال ال يرضاه املعلم‪ ،‬يوبخه املعلم قائال‪ « :‬ليس هذا من‬
‫عمل األوالد املهذبني» أو ما يشبه هذه العبارة‪ ،‬ويف قول املعلم هذا نيل من رشف هذا‬
‫التلميذ‪ .‬وربام يدرك التلميذ‪ ،‬إن كان كبريا‪ ،‬أنه أخل برشط من رشوط الرشف الذي‬
‫يؤهله ليسمى «تلميذا مهذبا» وأن من واجبه أن حيافظ عىل صفة «تلميذ مهذب»‪ .‬هذا‬
‫هو الشعور بالرشف‪.‬‬
‫ويرى لوك أن الشعور بالرشف واخلوف من الفضيحة يدفع إىل الفضيلة‪ .‬ويعترب‬
‫أن هذا الشعور يدفع إىل املحافظة عىل السمعة‪ .‬وليست السمعة إال تقدير الرأي العام‬
‫للفضائل التي نتحىل هبا‪ .‬وهذا الشعور عنده «هو أحسن مرشد وأشد حافز نستطيع‬
‫أن نستعمله لنوصل األطفال إىل الفضيلة‪ .‬وحتى يستطيعوا أن يدركوا بأنفسهم ما هو‬
‫حق»‪.‬‬
‫ويعرتض بستالوزي عىل هذه الفكرة وينتقدها كام انتقد ديوي املنافسة ويعتقد‬
‫بستالوزي أن الشعور بالرشف‪ ،‬ككل احلوافز اخلارجية‪ ،‬ال يساعد عىل تنمية القوى‬
‫األخالقية وتطهريها‪.‬‬
‫ولعل يف رأي بستالوزي شيئا من املثالية‪ ،‬هلذا فلن يمنعنا رأيه من أن نرجع إىل هذا‬
‫الشعور إذا كان الطفل يفهم قولنا‪ .‬وكيف ال وهذا الشعور هو من أكرب العوامل عىل‬
‫حفظ النظام االجتامعي‪ .‬وكلنا يعرف قوة الرأي العام‪ ،‬وشدة متسك الناس باألوضاع‬
‫االجتامعية‪ ،‬السيام التي تعود صفات للرشف‪ .‬ونعود هنا لنلح عىل وجوب توفري‬
‫كرامة األطفال‪ ،‬وجتنيبهم الفضيحة بني أقراهنم بكل وسيلة‪ .‬ومهام كانت ذنوهبم‪.‬‬
‫ملا يرتتب عن ذلك من إهانة قد تودي بحياة الطفل وجتعله يف املستقبل ذا شخصية‬
‫خاملة‪ .‬وقد يرتتب عن فضيحة الطفل أن يتحامل عليه أقرانه‪ ،‬أو ينبزوه بلقب ال‬
‫يزال له يف نفسه أثر يسء‪ .‬وإذا حدث أن أطلقوا عليه لقبا‪ ،‬وكثريا ما يفعل األطفال‬
‫ذلك‪ ،‬فواجب املعلم خصوصا إذا كان اللقب قبيحا أن يلقي درسا أخالقيا يقبح فيه‬
‫التنابز باأللقاب‪ .‬ثم حيارب هذه األلقاب أبدا‪.‬‬

‫_‪_  70  ‬‬
‫اإلحياء‪:‬‬
‫حتدثنا فيام سبق عن السمعة‪ ،‬وقوة األوضاع االجتامعية‪ ،‬ومتسك الناس هبذه‬
‫األوضاع‪ ،‬وقلنا إن اإلنسان حيافظ عىل سمعته لئال يمسها سوء‪ .‬ويمكنه بالطبع أال‬
‫حيافظ عىل هذه السمعة إذا كان ال يعلق عىل سالمتها أمال؛ فالفرد يملك ترصفه‪.‬‬
‫وقد قلنا إن من املمكن أن نستعمل الشعور بالرشف حافزا للطفل عىل عمل اخلري‪،‬‬
‫فإذا كان الطفل ال يفهم معنى الرشف‪ ،‬وهو ال يفهمه إال بعد أن يصل إىل درجة من‬
‫النضج‪ ،‬فربام يبطل هذا احلافز الذي قصدنا استعامله‪ .‬وهناك حافز حيمل الفرد عىل‬
‫القيام بعمل يف اجتاه ما دون أن يشعر‪ .‬هذا العامل هو اإلحياء‪.‬‬
‫ويعترب علامء االجتامع أن املجموعات البرشية ال تتكثل وال تتحد يف ترصفاهتا إال‬
‫بوجود عامل مهم هو اإلحياء فام نراه من محاسة دينية يف املعابد واملساجد‪ ،‬واحتفال‬
‫باملواسم واملباريات الرياضية‪ ،‬وما نراه من متسك الناس بـ «املوضة» من عمل اإلحياء‪.‬‬
‫ويفرسون ذلك بأن الناس يقلد بعضهم بعضا‪ ،‬وتكون احلركة واألصوات املتكررة‪،‬‬
‫مثاال يقر يف النفوس‪ ،‬فإذا هي تعمل بدون شعور‪ .‬أو تستويل احلركات واألصوات‪،‬‬
‫كحركة اخلطيب املقتنع وصوته‪ ،‬أو كاملوسيقى‪ ،‬عىل الناس ويصبحون حتت سلطاهنا؛‬
‫توجه انفعاالهتم من حيث ال يشعرون‪.‬‬
‫وقد عرف القدماء قوة االحياء وسلطانه عىل النفوس‪ ،‬فكان الرهبان والكهان‬
‫يستعملون املوسيقى يف معابدهم‪ .‬وال يزال اإلحياء عامال مهام يف تسخري اجليوش‬
‫باملوسيقى احلامسية واألناشيد أو بمجرد اخلطى الرتيبة التي ال خيرم نظامها‪ .‬واستعمل‬
‫اإلحياء وال يزال يف توجيه اجلامعات وتسخريها‪ ،‬ومن أمثلة استعامله الدعايات‬
‫التجارية املتكررة التي رسعان ما تصبح حقيقة بل أقوى من احلقيقة‪.‬‬
‫واألطفال رسيعا ما يستويل عليهم اجلو املوحي‪ .‬ويقول علامء االجتامع بأن سبب‬
‫ذلك هو أن اإلحياء ورضوبه‪ ،‬أوجه للتقليد‪ ،‬وأن الطفل أشد الناس ميال إىل التقليد‪.‬‬
‫وما أحرى املدرسة إذا أن تستعمل هذا احلافز القوي وتستعني به عىل حتريض‬
‫التالميذ عىل العمل املدريس‪ .‬والواقع أن اإلغريقيني عرفوا قيمة اإلحياء‬
‫_‪_  71  ‬‬
‫واستعملوه يف تربية أبنائهم‪ .‬فكانت املوسيقى من أهم وسائلهم الرتبوية‪ .‬وكانوا‬
‫يعنون عناية خاصة بالرقص وبالقصص الرائع‪ .‬وهذه كلها ختلق اجلو الذي حيمس‬
‫ويقنع‪.‬‬
‫وتناول بعض املفكرين هذا املوضوع‪ ،‬فلوك يويص بتعليم الرقص يف املدرسة‬
‫ألنه حيمل األطفال بعد ذلك عىل نوع من امليش أنيق‪ .‬وأشار كويت إىل مثال العرض‬
‫احلسن ليكون نموذجا يقتدى به‪ .‬ويقول بستالوزي بأن اجلو الديني يف البيت هو‬
‫الذي هييء الطفل العتناق الديانة عندما يكرب‪ .‬أما آالن فيعلق أمهية كبرية عىل‬
‫موقف املعلم وحركاته‪ ،‬ويعتربها عامال مهام يف أخذ الطفل والتأثري عليه‪ ،‬كام يعترب‬
‫تأثري الشعر بموسيقاه وقافيته‪ .‬إال أن آالن حيرتز من هذا التأثري‪ ،‬ولعله يرى فيه ما‬
‫حيد حرية الفرد‪.‬‬
‫وعىل أي فإن اإلحياء قوة كبرية‪ ،‬تغري املريب بأن يتخذه مطية لعمل اخلري‪ .‬وال‬
‫نعتقد أن استعامل اإلحياء يف املدرسة حيد من حرية األطفال أو يضيق من أفقهم‪.‬‬
‫وإن املثال القوي الذي نعرضه عىل الطفل ليقتدي به كفيل بأن يرسم له الطريق‬
‫التي قد تبلغه إىل املجد‪.‬‬
‫وإن اإلحياء يوجد فعال يف مدارسنا‪ ،‬فالدروس األخالقية تدور حول قصة فيها‬
‫مثال للفضيلة الرائعة‪ ،‬وينتظر من الطفل أن يعترب هذا املثال‪ .‬فإذا اعتربه وتأثر به‪،‬‬
‫وجد يف نفسه ميال إىل حب الفضيلة التي سمع عنها‪ .‬ويف دروس التالوة قصص‬
‫أخالقي كثري‪ .‬ويف دروس التاريخ أيضا جو يساعد عىل اإلحياء إذ هي تعتمد عىل‬
‫العاطفة الوطنية‪ ،‬فترسد للطفل حياة أجداد يعتز هبم ألهنم أنقذوا الوطن‪ .‬ونلمس‬
‫تأثري اإلحياء يف نفوس األطفال‪ ،‬من خالل دروس التالوة والتاريخ‪ ،‬ومن كل درس‬
‫وصل إىل عاطفتهم أو استقر بروعته يف خياهلم‪ ،‬نلمس تأثري اإلحياء عندما نرى‬
‫األطفال يقلدون عمال إنسانيا قرأوا عنه‪ ،‬أو يمثلون معركة تارخيية‪ .‬ومن التقليد‬
‫يتكون السلوك النهائي للفرد‪ ،‬إذا اعتربنا أن السلوك اإلنساين جمموعة عادات‪،‬‬
‫واعتربنا أن األعامل التي يقلدها الصغري يف محاسة رسعان ما تصبح عادة له‪.‬‬
‫وهلذا يعلق املربون أمال كبريا عىل املثال احلسن الذي يمكن أن يكونه‬
‫املعلم بالنسبة لتالميذه‪ ،‬ويرجون أن يقتدي به التلميذ‪ .‬ويبدأ التلميذ بتقليد‬
‫_‪_  72  ‬‬
‫فضائل معلمه‪ ،‬يدفعه إىل ذلك تقدير معلمه الذي تزينه يف نظره هالة من العظمة‪.‬‬
‫وإذا كان املعلم يقدر الواجب وحيب العمل والنظام‪ ،‬ويفي بالوعد‪ ،‬وال خيلف‬
‫امليعاد‪ ،‬وإذا كان نظيفا أمينا‪ ،‬رست فضائله ال حمالة إىل أطفاله‪.‬‬
‫ومن أهم عوامل اإلحياء‪ ،‬بل أهم ما يساعد عىل خلق اجلو املوحي يف املدرسة‪.‬‬
‫حركات املعلم وصوته‪ .‬قال آالن‪ « :‬إن الرجل جاثيا عىل ركبتيه ليس هو نفس‬
‫الرجل واقفا وإن اليد مبسوطة ليست هي اليد مقبوضة‪ ،‬وليس احلديث اهلادئ‬
‫الرزين كاحلديث الصاخب وهلذا فكثريا ما تكون حركات املتحدث وصوته أبلغ‬
‫من منطقه»‪ .‬وهلذا أيضا يويص املربون اآلخرون بأن يعنى املعلم بصوته وبحركات‬
‫يده‪ .‬فيقتصد يف حركاته ويلزم فيها الوقار الذي يناسب مقامه‪ ،‬ويغض من صوته‪.‬‬
‫وجيرب الناس يف كل يوم قوة الصوت اهلادئ‪ .‬فإذا حتدثت إىل الناس بصوت هادئ‬
‫استمعوا إليك‪ ،‬ثم محلهم هدوء صوتك عىل الغض من أصواهتم‪ ،‬من حيث ال‬
‫يشعرون‪ .‬وما ذلك إال من اإلحياء‪.‬‬
‫ومن املعلمني من يبالغ يف حركاته وإشارته‪ .‬ولئن كان مستحسنا أن يمثل املعلم‬
‫يف بعض األحيان حركة ليفهم التالميذ معنى كلمة‪ .‬ليثبت يف خياهلم مشهدا من‬
‫املشاهد‪ ،‬فمن العيب وبام ينايف الوقار‪ ،‬أن يصبح املعلم ممثال‪.‬‬
‫ومن املعلمني من يرفع صوته حتى ليسمع من بعيد‪ .‬ويف قسم هذا املعلم تسمع‬
‫التالميذ يرفعون أصواهتم أيضا‪ ،‬وال جيدي زجر املعلم شيئا وال أمره بخفض‬
‫األصوات‪ .‬وما ذلك إال من عمل اإلحياء‪ ،‬فمتى بدأ املعلم بالكالم بصوت مرتفع‬
‫أجاب التالميذ بصوت مرتفع‪.‬‬
‫وللموسيقى والغناء فعل إحيائي نعرف أثره يف احلفالت الدينية‪ ،‬ورقصات‬
‫«الطوائف» وللموسيقى اللفظية سحر أيضا‪ ،‬يمكن أن نالحظه عند تالميذ‬
‫املدرسة‪ .‬حيب األطفال كثريا عندما يقرأون‪ ،‬أن يقرأوا بنغمة خاصة مهدهدة‬
‫متقطعة‪ ،‬وال يلبث املالحظ أن يرى عليهم حينذاك أثر التحمس واالندفاع‪ ،‬وقد‬
‫تعلو هلجتهم يف بعض األحيان‪ .‬ويكثر هذا عندما يقرأون القرآن الكريم أو قائمة‬
‫الرضب أو اجلمع‪ .‬وهذه النغمة حتدث جوا من اإلحياء يزيد من صعوبة مقاومتنا‬
‫للقراءة املنغمة‪.‬‬

‫_‪_  73  ‬‬
‫مساوئ اإلحياء‪:‬‬
‫لكن ملاذا نحارب القراءة املنغمة؟ نحارهبا ألن الطفل عندما هتدأ هذه النغمة‬
‫يذهب معها وال يفكر‪ ،‬بل وال يستطيع التفكري‪ ،‬يف معنى النص الذي يقرأه‪.‬‬
‫أما بعد‪ ،‬فإىل أي حد يمكن أن نستعمل اإلحياء‪ ،‬وهل نخشى رضرا من استعامله‬
‫غري ما حيدثه أثناء القراءة املنغمة من سهو وعجز عن التفكري؟‬
‫قلنا إن لإلحياء قوة كبرية‪ ،‬فمن املنطق أن نستعمل اإلحياء بحذر كبري كام نفعل كلام‬
‫استخدمنا يف مساحلنا سالحا خيشى بأسه‪ .‬ولئن كانت احلوافز األخرى‪ ،‬كالعقاب‬
‫والثواب‪ ،‬خارجية تدفع الطفل للعمل وهو يعرف أنه يعمل‪ ،‬فإن اإلحياء حافز‬
‫باطني يرصف الفرد وخيرجه عن حكم إرادته‪ .‬ومتى ترصف الفرد بإرادة خارجية‬
‫خيف عليه من الضالل‪ ،‬ونعرف أن جيوش هتلر كانت تترصف بإرادته‪ ،‬ألنه ربى‬
‫جيوشه يف جو من اإلحياء آمنوا فيه إيامنا أعمى بعظمة قائدهم وبصحة املبادئ‬
‫التي كان يدعو إليها‪ .‬وكان من وسائل تربيته السياسية جليشه اخلطب احلامسية‪،‬‬
‫واالحتفاالت الكبرية‪ ،‬واالستعراضات‪ .‬ثم إن اجلو املوحي ال يساعد عىل التفكري‬
‫املنطقي‪ ،‬بل حيجب العقل حجبا‪ ،‬فإذا الكلمة اخلرقاء حكمة عالية‪ ،‬وإذا ما يقوله‬
‫اخلطيب حق ال مراء فيه‪ .‬ولعلك وقفت أمام قصاص ماهر بليغ يذكر سرية عنرت‬
‫أو امللك سيف‪ .‬ولعلك الحظت كيف ينصت إليه الناس ذاهلني‪ .‬والحظت كيف‬
‫خيفضون رؤوسهم كلام رضب عنرتة بسيفه‪ .‬خيفضون رؤوسهم ألهنم يعيشون‬
‫املعركة‪ ،‬وألن العقل واملنطق يف نوم‪.‬‬
‫واملدرسة تريب النشء ليكون حرا‪ ،‬وتريب العقول وتعود عىل التفكري املنطقي‪،‬‬
‫هلذا ال تستعمل اإلحياء إال يف حيطة كبرية‪ ،‬وال تستعمل اإلحياء إال يف األغراض‬
‫األخالقية االجتامعية لتكون يف الطفل العاطفة التي تساعد عىل التعلق بالفضائل‪.‬‬
‫وحتتاط املدرسة من اإلحياء كلام خافت من أن خيدر اإلحياء عقل الطفل‪ ،‬ألن املدرسة‬
‫تريب الرجل الذي يفكر يف أعامله ويقدرها حق قدرها‪ ،‬ال كالذي نومه املغناطيس‪،‬‬
‫فهو يتحرك كاآللة‪.‬‬

‫_‪_  74  ‬‬
‫احلرية والنظام‪:‬‬
‫أرشنا يف حديثنا عن املدرسة‪ ،‬إىل أن النظام ليس غايته مسك التالميذ وإخضاعهم‬
‫للقانون املدريس فقط‪ ،‬بل إن النظام املدريس إطار يرتبى فيه املواطن‪ ،‬وال تقوم املدرسة‬
‫بواجبها كله إذا مل تزود الطفل بعادات احرتام حقوق الغري‪ ،‬وحب العمل وإذا مل تفهم‬
‫الطفل رضورة احرتام القوانني‪.‬‬
‫وإن ضغطت املدرسة عىل الطفل وأخضعته لنظامها‪ ،‬خيف إذا أطلقته فوجد حريته‬
‫كاملة أن يسيئ استعامل هذه احلرية‪ .‬لذلك حتاول املدرسة أن تعطي للطفل نصيبا‬
‫من حريته داخل املدرسة‪ ،‬وتعوض عن حراستها املسؤولية التي تلقيها عىل التالميذ‪.‬‬
‫وهكذا يتعلم أن للحرية حدودا جيب أن يقف عندها‪ .‬وهكذا يستعد للحياة احلرة‪.‬‬
‫احلكم الذايت‪:‬‬
‫وحكم األطفال ألنفسهم حدث مهم يف الرتبية‪ ،‬وقد طبق هذا الرأي‪ ،‬ويسمونه‬
‫«احلكم الذايت» يف مدارس انكلرتا يف أوائل هذا القرن‪ .‬وشاع تطبيقه يف املدارس‬
‫احلديثة فيام بعد ذلك‪.‬‬
‫وكان أول من رأى رضورة إعطاء احلرية لألطفال املفكر الرويس تولستوي‪.‬‬
‫وأخذت برأيه وهذبته املربية السويدية ألن كب‪ .‬ويرى هذان املربيان أن اخلري كله يف‬
‫أن نرتك الطفل حرا كل احلرية‪.‬‬
‫ثم تطور هذا الرأي بعد أن دلت التجربة عىل أن الطفل ال يفلح إذا أعطيناه حريته‬
‫كاملة‪ ،‬ونقص من حرية الطفل وأعطيت بمقدار‪ .‬واملدارس اليوم تتفاوت يف النصيب‬
‫الذي تعطيه من احلرية لألطفال‪.‬‬
‫فهناك املدرسة التي تعتمد عىل سلطة املدرسة كمدارسنا‪ .‬وهذه حتاول أن‬
‫ترشك الطفل يف املحافظة عىل النظام واستعامل حريته استعامال صاحلا بام هتيئه‬
‫له من أنواع النشاط داخل املدرسة أو خارجها‪ .‬وتؤلف املدرسة هلذه الغاية‬
‫مجعيات األطفال التعاونية التي تقوم باملحافظة عىل نظام القسم‪ .‬وتنظيم احلفالت‬
‫الرياضية والقيام عىل اخلزانة املدرسية إىل غري هذا مما يقدر عليه األطفال‪ .‬ويف‬
‫حضن هذه اجلمعيات يتعلم األطفال كثريا من الفضائل كالتعاون واحرتام الغري‪.‬‬
‫ويتعلمون حتمل املسؤولية إذا كلفوا بعمل من األعامل وهم ينتخبون بأنفسهم‬
‫_‪_  75  ‬‬
‫أو بمساعدة املعلم‪ ،‬األعضاء املكلفني بكل ناحية من نواحي النشاط الذي يامرسونه‪،‬‬
‫وهكذا يتعلمون طريقة االنتخاب‪ ،‬ويتعلمون القيم اإلنسانية التي ختول النجاح‪.‬‬
‫وهناك مدارس أخرى تعطي للطفل نصيبا كبريا من احلرية حتى ليصبح له الرأي‬
‫األول يف كل الشؤون املدرسية‪ .‬بل منها ما يبطل سلطة املعلم وقدرته عىل املعاقبة‪،‬‬
‫وتكل حماكمة الطفل ملحكمة األطفال‪.‬‬
‫ويظهر أن اجلو املدريس‪ ،‬ال يساعد عىل إعطاء األطفال نصيبا كبريا من احلرية‪ ،‬ألن‬
‫أعامل املدرسة كثرية ومتنوعة‪ ،‬وألن مسؤولياهتا شديدة ال يقوى عىل محلها األطفال‪.‬‬
‫لذلك فليست ناجعة كل املدارس التي تطبق «احلكم الذايت»‪.‬‬
‫أما خارج املدرسة فإن األطفال قادرون عىل استعامل حرياهتم استعامال حسنا‬
‫متى كانت تربيتهم األخالقية واالجتامعية تدعو إىل االستقامة‪ .‬وأبرز نشاط يظهر‬
‫فيه «احلكم الذايت» هو نشاط الكشافة‪ .‬واحلقيقة أن الكشفية مدينة بنجاحها لقوة‬
‫سيكولوجية عظيمة‪ .‬وقد رأى مؤسسها اإلنكليزي «بادن باول» أن من أكثر غرائز‬
‫الطفل بروزا هي غريزة اللعب‪ .‬وبنى حركته عىل أساس استقالل هذه الغريزة‪.‬‬
‫وغرض هذه احلركة تربية الطفل تربية خلقية‪ ،‬وتنمية قواه الشخصية‪ .‬وتصل إىل‬
‫هذا الغرض عن طريق النشاط املختلف الذي هتيئه لألطفال‪ ،‬والذي يرىض رغبته يف‬
‫احلرية والعيش يف اهلواء الطلق‪ ،‬وحبه للمغامرات مع رفاقه‪.‬‬
‫وشبيه بالكشفية‪ ،‬خميامت الصيف‪ .‬وأعامل هذه املخيامت يمكن لألطفال أن حيكموا‬
‫أثناءها أنفسهم‪ .‬ألن هذه األعامل ال تعدو أنواع الرياضة‪ .‬وكفيل جدا ألطفال اللعب‪،‬‬
‫وانرصافهم إليه‪ ،‬أن يساعد عىل حفظ النظام بينهم‪.‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫الطفل‬
‫الرتبية وعلم النفس‪:‬‬
‫من املسلم أن الرتبية عامد ملستقبل األمة‪ ،‬وأن العمل الرتبوي من أهم وظائف‬
‫املجتمع‪ .‬والرتبية تتناول‪ ،‬قبل كل يشء‪ ،‬األطفال‪ .‬فمن الرضوري أن يعرف املريب‬
‫نفسية الطفل وانفعاالته يف حاالته املختلفة‪ ،‬ليكون عمله الرتبوي جمديا‪ .‬وإن الرتبية‬
‫ليست علام مضبوطا يطبق قواعده املريب‪ .‬بل هو فن يتطلب من هذا املريب مرانة وذكاء‬
‫يمكنانه‪ ،‬مع معرفة نفسية الطفل‪ ،‬من تدبري تربيته‪ ،‬وهتييئها لتناسب كل طفل حسب‬
‫نفسيته‪ ،‬ولتناسب األطفال يف سنهم املختلفة‪.‬‬
‫ويبدأ تطبيق علم النفس يف الرتبية من طرق التعليم‪ .‬وختتلف هذه الطرق حسب‬
‫سني األطفال وقدرهتم عىل الفهم والتفكري‪ .‬كام ختتلف حسب تطبيقها عىل البنني أو‬
‫عىل البنات‪ .‬وعلم النفس يكيف أيضا معاملة املريب لتالميذه أو تلميذاته إذ يقتيض أن‬
‫يراعي يف هذه املعاملة طبع الطفل‪.‬‬
‫وغاية تطبيق علم النفس يف الرتبية هي التوفيق بني رغبات كل طفل وبني رغبة‬
‫املريب‪ ،‬وبدأ هذا التطبيق بشكل منظم عندما فطن املربون إىل أن الطفل ال هيتم بام هيتم‬
‫به الكبري‪ ،‬وأنه ال يقدر أن هيتم بموضوع ما وقتا طويال‪ .‬وال هيمنا هنا أن نبحث يف‬
‫االهتامم‪ ،‬فسيأيت ذلك يف فصل آخر من هذا الكتاب‪.‬‬
‫كانت طرق التعليم فيام مىض من وضع رجال يقصدون إىل بلوغ غايتهم التعليمية‬
‫أقرص طريق‪ .‬فكانت هذه الطرق جافة ألهنم مل هيتموا فيها إال باملادة‪ .‬ومنذ القرن‬
‫السادس عرش قام املربون من أمثال مونتني وكومينوس‪ ،‬ينادون بتحرير الطفل من‬
‫ضغط املعلم‪ ،‬واعتبار قوته العقلية التي ال متكنه من حتمل عنت املدرسة‪ .‬ونادى‬
‫روسو بإطالق رساح الطفل واالعتامد يف تربيته عىل الظواهر الطبيعية‪ ،‬كام نادى‬
‫بتحوير طرق التعليم لتناسب الطفل‪ .‬وكان هربرت‪ ،‬فدعا إىل تطبيق علم النفس يف‬
‫الرتبية‪ .‬وهو أول املربني الذين بحثوا نظرية االهتامم‪.‬‬
‫ومن بعد هربرت بدأت طرق التعليم والرتبية تتحور كلام تقدم علم النفس‪ .‬وعىل‬
‫ضوء علم النفس بنيت أهم اآلراء احلديثة يف الرتبية‪.‬‬
‫واملعلم يف حاجة إىل معرفة سلوك األطفال‪ .‬وغرضنا يف هذا الفصل أن نعرض‬
‫عليه نامذج من هذا السلوك‪ ،‬ليكون عىل بينة كلام صادف مثلها‪ ،‬وأن نبحث يف أهم‬
‫انفعاالت الطفل يف حاالته املختلفة‪.‬‬
‫_‪_  79  ‬‬
‫الطفل واألرسة‪:‬‬
‫إن أهم العالقات التي تربط الطفل بأعضاء أرسته هي والشك عالقته بأمه‪ ،‬فهو يف‬
‫حاجة إىل عنايتها املتواصلة‪ ،‬وهو يف حاجة كبرية إىل عطفها وحناهنا أيضا‪.‬‬
‫وحيدث يف بعض األحيان أن يربى الطفل بعيدا عن أمه‪ ،‬أو حيدث أال تقوم األم‬
‫إال بنصيب قليل من تربيته‪ .‬وذلك فيام إذا كانت األم تشتغل خارج البيت‪ ،‬أو ماتت‪.‬‬
‫ويالحظ عىل الطفل هذه احلالة‪ ،‬وخصوصا إذا مل يقم مقامها شخص يعطف عليه‬
‫عطف األم‪ ،‬أو نشأ يف اليتم‪ .‬يالحظ توقف وبطء شديد يف نمو جسمه كام يالحظ‬
‫اضطراب يف انفعاالته العاطفية‪ .‬بل يكون لفقدان حنان األم أثر كبري عىل نمو قوى‬
‫الطفل العقلية أيضا ومن هنا تظهر رضورة تعويض هذا احلنان لنمو الطفل وتكامل‬
‫شخصيته إذا فقدت األم‪.‬‬
‫والطفل ال يتمسك بأبيه إال يف سن الثالثة من عمره‪ .‬ففي هذه السنة يمنح الطفل‬
‫ألبيه قليال من عطفه‪ .‬وقد يتفاوت هذا النصيب من املحبة حسب جنس الطفل‪.‬‬
‫فالبنات قد يتعلقن بآبائهن أكثر مما يتعلق األوالد‪ .‬وهذا العطف األبوي رضوري‬
‫أيضا‪ ،‬ألنه خيفف من تعلق الطفل بأمه‪ ،‬ويكون عامال يدخل التوازن يف عاطفة‬
‫الطفل‪ ،‬بل ويوجه سلوكه توجيها غري قليل‪ .‬ويكفي أن نالحظ سلوك الطفل اليتيم‬
‫األب لنعرف أمهية هذا العامل‪ .‬فالطفل اليتيم األب يكون متعلقا أشد التعلق بأمه‪،‬‬
‫ال يرشكها يف قلبه مع أحد‪ .‬ولذلك يتخذها مثاال ويقلدها‪ .‬وربام نشأ جبانا كأمه‪ ،‬أو‬
‫مستوحشا ال خيالط الناس‪.‬‬
‫ووجود اإلخوة واألخوات يف األرسة يساعد عىل توسيع األفق الذي تربز‬
‫فيه شخصية الطفل‪ .‬إال أن ذلك قد حيدث صعوبات كثرية يظهر أثرها يف سلوك‬
‫كل من اإلخوة أو األخوات‪ .‬واالبن البكر كثريا ما يشعر بحسد كبري نحو أخيه‬
‫الصغري‪ .‬ألن هذا األخ يشاركه يف حنان أمه بل ويستأثر به أحيانا‪ .‬وبوسع األم‬
‫أن حتتاط لئال يتحاسد اإلخوة‪ ،‬وذلك بأن تعالج االبن الصغري يف وقت يغيب‬
‫فيه اآلخر عن البيت أو ينام‪ .‬وقد حيدث أحيانا أن يفضل األبوان أو أحدمها‬
‫أحد األبناء‪ .‬وبذلك يشعر اإلخوة اآلخرون باحلرمان‪ .‬وحيملهم هذا الشعور‬
‫عىل الكيد ألخيهم‪ ،‬أو عىل الكبت واإلخفاء‪ .‬ويعزو املحللون النفسانيون‬
‫_‪_  80  ‬‬
‫الشعور عىل الكيد ألخيهم‪ ،‬أو عىل الكبت واإلخفاء‪ .‬ويعزو املحللون النفسانيون‬
‫كثريا من الشذوذ الذي يالحظ عند األحداث إىل هذا الشعور‪.‬‬
‫وإذا كان الطفل وحيد أبويه أو كان املفضل عندمها‪ ،‬فإن عنايتهام البالغة به‬
‫جتعله طفال خمنثا‪ ،‬يعترب أن من حقه عىل أبويه أن يضحيا بكل يشء يف سبيله‪.‬‬
‫ويبقى معه هذا الشعور حتى بعد أن خيرج من حضن أرسته إىل املدرسة‪ .‬ففي‬
‫املدرسة يغتصب أمتعة أقرانه‪ ،‬وال يقبل عىل العمل بسهولة‪ ،‬ويبكي كلام وجهت‬
‫إليه أدنى مالحظة‪،‬‬
‫وختتلف األرس يف سياستها ألبنائها‪ ،‬فهناك األرسة التي ترتاخى يف تربية أبنائها‬
‫وال تتخذ خطة هلذه الرتبية‪ .‬ويف مثل هذه األرسة جيد الطفل جماال للسري مع‬
‫هواه‪ .‬وكثريا ما حيدث تناقض بني أوامر األم وأوامر األب‪ .‬فيشتد ميل الطفل إىل‬
‫التحرر من كليهام‪ ،‬ويالحظ عليه فيام بعد ذلك حب للفوىض وعبث بالقوانني‪.‬‬
‫وهناك أرس أخرى تشتد فيها األرسة عىل الطفل‪ ،‬وحتد من حريته كثريا‪ ،‬وحترسه‬
‫حراسة دقيقة‪ .‬وسواء كانت هذه الشدة من عدم خربة اآلباء بطرق الرتبية الرشيدة‪،‬‬
‫أو دفعهم إليها حبهم الشديد ألبنائهم وخوفهم أن ينشأوا غري راشدين‪ ،‬فإن جو‬
‫الدراسة واملراقبة يدفع الطفل إىل حتدي أرسته‪ ،‬والعبث بسلطتها‪ .‬وربام أحب‬
‫التسلط وانتقم ممن هو أضعف منه‪ .‬وربام ثار عىل القوانني املدرسية عندما يلتحق‬
‫باملدرسة‪ .‬وربام تعلم يف حضن أرسته التخفي واالختالس‪.‬‬
‫وإنام جيب عىل األرسة أن تتخذ سياسة حكيمة يف تنئشة أبنائها‪ ،‬فتهيئ لكل‬
‫منهم كل ما حيتاجون إليه‪ ،‬وتريض كل رغباهتم احليوية املرشوعة‪ .‬وجيب عىل‬
‫األرسة أن تنشء األطفال يف جو يشعرون فيه بعطفها ومحايتها‪ .‬ويشعرون‬
‫فيه بانتامئهم إىل األرسة‪ .‬وإن من العوامل التي تساعد عىل نمو شخصية‬
‫األطفال شعورهم باحلرية يف وسط أرسهتم‪ .‬لذلك فال ينبغي أن تكون‬
‫محاية األرسة وعطفها بحيث حتيط الطفل إحاطة ضيقة تفصله عن الواقع‪،‬‬
‫ومتنعه من استعامل وسائله اخلاصة لالتصال بالناس واألشياء‪ ،‬ومحاية نفسه‬
‫كلام قدر عىل ذلك‪ .‬وينبغي أن تتغري نظرة األرسة إىل الطفل ومعاملتها إياه‬
‫_‪_  81  ‬‬
‫حسب سنه‪ .‬ألن الطفل كلام كرب‪ ،‬يتغري جسمه وتتغري نظرته للواقع‪ .‬ونوشك أن‬
‫نخفق‪ ،‬بل نقع يف وسط اإلخفاق إذا عاملنا املراهق كام نعامل الطفل الصغري‪.‬‬
‫ومما ينبغي أن تتجنبه األرسة يف تربية األطفال‪ ،‬اللوم الشديد املتواصل‪.‬‬
‫ويميل أفراد األرسة يف بعض احلاالت إىل لوم األطفال والعتاب عليهم يف كل‬
‫املناسبات‪ ،‬ومهام كانت جريرهتم صغرية‪ .‬وقد تكثر أشغال البيت عىل األم‪،‬‬
‫وترهقها األعامل املتواصلة‪ ،‬فإذا عاقها الطفل يف حركاهتا‪ ،‬نزلت عليه باللوم‪،‬‬
‫وربام جتور عىل الطفل وتنبه بالكالم املؤثر‪ .‬واإلكثار من لوم األطفال يولد فيهم‬
‫اخلجل وقلة االعتداد بالنفس‪ .‬ويولد فيهم الشعور باخلطأ وإن مل خيطئوا‪ .‬وقد‬
‫يطاردهم هذا الشعور املكبوت طيلة حياهتم‪ .‬ويالحظ أن الطفل‪ ،‬حتت عامل‬
‫اإلحياء‪ ،‬كثريا ما يتصف بالصفات التي نتهمه هبا‪ .‬فإذا متادينا عىل وصفه بالكذب‬
‫اتصف بالكذب‪ ،‬وإذا نعتناه بالبالدة تغابى وأظهر البالدة‪.‬‬
‫كام ال حيسن أن يظهر األبوان رغبتهام الشديدة يف أن يأيت ابنهام عمال ما‪ ،‬أو‬
‫يظهر القلق إذا مل يترصف كام حيبون‪ ،‬ألن الطفل الذي يشعر هبذه الرغبة التي‬
‫ال جتد الصرب يستعظم األمر الذي حيمل عليه فيتولد فيه اخلجل‪ ،‬أو يعترب هذه‬
‫الرغبة نيال من حريته فيتعصب ويصمد هلا‪ ،‬وعىل كل فمثل هذا اجلو ال يساعد‬
‫عىل حتسني سلوك الطفل‪.‬‬
‫وقد يفرتق األبوان ويبقى بينهام الطفل يرتدد‪ .‬والطفل الذي طلقت أمه يعيش‬
‫دائام يف قلق وشعور بعدم االستقرار‪ .‬السيام إذا تزوجت أمه مرة ثانية‪ .‬وتدعو‬
‫الرضورة لعيش هذا الطفل أياما يف بيت أبيه وأياما يف بيت أمه‪ .‬وجيد يف كال‬
‫البيتني عادات خمالفة للتي ألفها‪ ،‬ويزيد من اضطرابه وحريته وما يسمعه يف‬
‫كل بيت‪ .‬فإن كال من األبوين ال يكف دائام لسانه عن قرينه القديم‪ .‬وهكذا‬
‫ينشأ الطفل املوزع بني أمه وأبيه حائرا وال يعتد بنفسه وال يدرك القيم احلقيقة‬
‫لألشياء‪ .‬وقد يكون هذا الطفل قبل افرتاق أبويه ذكيا متفوقا عىل أقرانه‪ ،‬ومتى‬
‫افرتقا أبواه الحظنا عليه نكوصا وتأخرا‪.‬‬

‫_‪_  82  ‬‬
‫ومثل هذا الطفل ذاك الذي ينشأ يف أرسة يكثر فيها اخلالف واملشاجرة بني أبويه‪.‬‬
‫وهذا إما أن ينشأ منكمشا عىل نفسه غري مستقر‪ ،‬وإما أن ينشأ سليطا عنيفا‪.‬‬
‫وقد يكون الطفل اليتيم أحسن حاال من هذين‪ ،‬إال أنه عرضة للضياع إذا‬
‫تزوج أبوه أو أمه‪ .‬ويكون األب اجلديد أو األم اجلديدة يف الغالب خلوا من كل‬
‫عاطفة نحو الصبي بل يقسوان عليه وهيمالنه إذا ولد يف األرسة أبناء جدد‪ .‬وهذا‬
‫الطفل ينشأ متشائام خائفا‪ ،‬أو عىل العكس ينشأ حقودا رشيرا‪ .‬وقد يكون خطرا‬
‫عىل املجتمع إذا مل يرب الرتبية الالزمة‪.‬‬
‫الطفل واملعلم‪:‬‬
‫إن عالقة الطفل باملريب شبيهة بعالقته بأبيه وأمه من بعض الوجوه‪ .‬واملريب‬
‫يمثل سلطة األرسة‪ ،‬ويعمل برضاها‪ .‬ولتشابه عمل األرسة وعمل املريب من‬
‫حيث تسلطهام عىل الطفل وتوجيهه‪ ،‬يظهر يف ترصف املريب ما يشبه ترصف‬
‫األرسة؟ فاملريب أو املربية يعامالن تالميذمها كام يعامالن أبناءمها إن كان هلام‬
‫أبناء‪ ،‬ويميالن إىل مقارنة أبنائهام بالتالميذ‪ .‬فإذا مل يكن هلام ولد عامال التالميذ‬
‫كام لو كانوا أبناءمها‪.‬‬
‫أما موقف األطفال من املريب‪ ،‬فإنه خيتلف باختالف سنهم‪ ،‬فاألطفال‬
‫الصغار الذين يف رياض األطفال قد يعتربون املربية أما ويثقون هبا كام يثقون‬
‫بأمهاهتم‪ ،‬بل ويتنظرون منها مثل ما ينتظرون منهن‪ .‬واألطفال الكبار املدركون‬
‫يتعلقون باملريب تعلقا خملصا‪ ،‬ويعتربونه أبا وقد يتعلقون به ويشغفون بمزاياه‬
‫حتى ليتخذونه مثاال ملا ينبغي أن يكونوه‪ .‬وقد يثق هؤالء باملريب أكثر مما يثقون‬
‫بآبائهم‪ ،‬ويصدقونه أكثر مما يصدقوهنم‪ .‬والسبب يف هذه الثقة الكبرية أن األطفال‬
‫ال يعتربون املعلم رئيسا جيب أن يطاع أمره كام يطاع أمر األب‪ ،‬لكنهم يعتربون‬
‫علمه‪ .‬وهبذا االعتبار يتصورون له جمدا ال يعرتفون بمثله آلبائهم‪ ،‬حتى ولو كان‬
‫آباؤهم أعلم من املريب يف الواقع‪ .‬الحظ الطفل وأنت جتادله‪ ،‬إن أول حجة وآخر‬
‫حجة يديل هبا هي «قاهلا املعلم»‪.‬‬

‫_‪_  83  ‬‬
‫هذا وإن العالقة بني املريب والتلميذ مبنية عىل الطاعة‪ .‬وهذه الطاعة إما أن يكون‬
‫أساسها االحرتام واملحبة‪ ،‬وهذه هي التي تضمن العمل املنتج‪ ،‬وإما أن يكون أساسها‬
‫الضغط واخلوف‪ ،‬هذه طاعة سطحية‪ ،‬هي أشبه بحيلة يتجنب هبا الطفل العقوبة‪.‬‬
‫والطفل ال يلقي بزمامه إال للمريب الذي عرف كيف يريض رغباته وكيف يفرض‬
‫شخصيته بخصاله السامية‪.‬‬
‫وعىل الطاعة ونوعها يتوقف تقدم التالميذ يف الدراسة‪ .‬فإذا كان التالميذ يطيعون‬
‫مقتنعني بالسلطة املعنوية خاضعني هلا‪ ،‬كان اإلنتاج حسنا حتى ولو كانت ثقافة املعلم‬
‫أو طرق تعليمه ناقصة‪ .‬وإذا كانت الطاعة خداعا من األطفال للقوة القاهرة أو حيلة‬
‫للحصول عىل املكافآت‪ .‬مل يفد علم املعلم شيئا وال طرقه يف سبيل حتسني اإلنتاج‬
‫املدريس‪.‬‬
‫وخيتلف موقف املعلم من تالميذه باعتبارهم مجاعة‪ ،‬أو باعتبار كل تلميذ عىل حدة‪،‬‬
‫فهناك املعلم الذي يعتمد عىل سلطته‪ ،‬فيأمر وال يطيق أن تعىص أوامره‪ ،‬ويعزم العزمات‬
‫برسعة‪ ،‬وال خيشى أن يقع يف الغلط للمحافظة عىل مظهر احلزم‪ .‬وهذا النوع من املعلمني‬
‫قد ينجحون يف االستيالء عىل أطفاهلم جزءا من الزمن‪ ،‬وينجحون يف إيقاظ محاسة‬
‫األطفال بام يبدو عليهم من حزم‪ .‬لكنهم إن كانوا متسلطني تسلطا شديدا فرسعان ما‬
‫خيبو نشاط التالميذ ويركنون إىل اجلمود‪ ،‬أو يدفعهم تسلط املعلم إىل الثورة عليه‪.‬‬
‫وهناك املعلم اهلني الذي حياول أن يصل إىل غاياته باحلسنى‪ ،‬ومثل هذا ال خيضع‬
‫له التالميذ وال يقيمون له وزنا‪ ،‬عىل أن بعض املعلمني من هذا النوع قد ينجحون إذا‬
‫توصلوا إىل إيقاظ ضمري التالميذ وأوصلوهم إىل إدراك مسؤولياهتم‪ .‬وال يقع هذا إال‬
‫إذا يرس املعلم لتالميذه طرق العمل ومل يرتك هلم وقتا للتفكري يف العبث‪ .‬وال يقع هذا‬
‫إال إذا عرف التالميذ كيف يستعملون حرياهتم وكيف يرصفون جهودهم يف التعاون‬
‫واالطالع‪.‬‬
‫وهناك املعلم الذي حياول أن يأخذ تالميذه عن طريق العاطفة وحياول أن يعاملهم‬
‫عىل أساس الصداقة والزمالة‪ .‬وهذا جدير باإلخفاق التام الذي خيرج به من جتربته‪.‬‬
‫وهناك املعلم الذي ال ينفك حيض التالميذ ويذكرهم بالواجب‪ .‬ويكون هذا يف‬
‫الغالب معلام ناقصا مغلوبا عىل أمره‪.‬‬
‫_‪_  84  ‬‬
‫وهناك املعلم القصري النظر يف شؤون الرتبية‪ ،‬الذي يعتمد يف كل أعامله وأعامل‬
‫التالميذ عىل اجلزاء‪ .‬فال يزال يعاقب ويثيب‪ ،‬وال يزال هيدد ويغري بكل أنواع التهديد‬
‫واإلغراء‪ .‬وهذا ال حيصل إال عىل جمهودات سطحية مبنية كلها عىل حتصيل املنفعة‪.‬‬
‫وإن عالقة املعلم بتالميذه تتغري حسب التكوين املهني الذي حصل عليه املعلم‪.‬‬
‫وتتحدد هذه العالقات حسب فهم املعلم ملكانه يف املدرسة وفهمه للظروف التي‬
‫تساعده عىل إنجاز عمله الرتبوي والتعليمي‪.‬‬
‫لكن للعامل الشخيص املكان األول يف حتديد العالقة بني املريب وتالميذه‪.‬‬
‫وشخصيته هو ال شخصية التالميذ‪ .‬فبالتجربة اليومية يتعلم املعلم السلوك الذي‬
‫يناسب وخيتاره‪ .‬وكلام وقفت أمامه عقبة يف اتصاله بالتالميذ جرب احللول املمكنة‬
‫والحظ نتائجها‪ ،‬ثم وقف عند أصلحها‪ .‬وهكذا يكون طريقته اخلاصة الشخصية‪.‬‬
‫وقد يكون طبع املعلم ال يساعد عىل حفظ العالقة الصاحلة بينه وبني التالميذ‪ ،‬كأن‬
‫يكون حادا رسيع الغضب‪ .‬أو تكون له عادات عقلية أو خلقية أو حركية تعرقل تقدم‬
‫التالميذ كعادة اإلرساع يف الكالم والتفكري مثال‪ .‬وبالتجربة يالحظ املعلم عيبه وحيد‬
‫منه‪ .‬وإذا كان حمبا ملهنته حريصا عىل نفع تالميذه‪ ،‬فربام ضحى بجهود كبرية يف سبيل‬
‫ذلك‪.‬‬
‫وبالتجربة يتعلم املعلم كيف يغطي عىل نقص يف جسده بالصفات األخرى‪ .‬وهبا‬
‫يكتسب الصفات التي تعطيه سلطة معنوية كبرية ال غنى عنه لكسب احرتام التالميذ‪.‬‬
‫السيام إذا كان التالميذ كبارا‪ .‬ومن الصعب أن جيد املعلم قليل التجربة طريقة مع‬
‫الكبار يفرض هبا سلطته كاملة دون أن يعترب التالميذ خضوعهم هلذه السلطة مسا‬
‫لكرامتهم واعتزازهم بأنفسهم‪ .‬وليس هذا مع صعوبته باليشء املستحيل‪ ،‬فرب قسم‬
‫فيه طائفة من املراهقني املتصلبني‪ ،‬سيتحولون إىل صغار مطيعني أمام معلم قصري‬
‫نحيف‪ ،‬ويأمترون بأمره‪.‬‬
‫ويتعرض املعلمون الشبان إىل مشاكل ال حتدث للمعلم الناضج‪ .‬فالتالميذ يعتربون‬
‫املعلم الشاب قرينا ينبغي أال خيضعوا له‪ ،‬سيام إذا كان هذاالشاب يبدو صغري السن‪.‬‬
‫وقلام ينجح هذا الشاب مع أطفال كبار ولو كان رزينا‪ ،‬ولو كان علمه واسعا‪ .‬عىل‬
‫أن صغر سنه وما يتبعه من مرانة يف التفكري والترصف تساعده عىل فهم األطفال‬
‫وبواعثهم اخلفية وتساعده عىل بذل جمهودات متعبة يف سبيلهم‪.‬‬
‫_‪_  85  ‬‬
‫من بني املعلمني الشبان من يفتقر إىل سعة النظرة‪ ،‬ويفتقر إىل رحابة الصدر‪ .‬وافتقاره‬
‫هذا يبدو يف ترصفه أول عهده بالتالميذ‪ .‬وال يسد هذا االفتقار إال بالتجربة الطويلة‬
‫التي حيدث خالهلا النضج العاطفي واألخالقي‪.‬‬
‫الطفل ورفاقه يف املدرسة‪:‬‬
‫إن عالقة األطفال يف املدرسة‪ ،‬تعني املعلم كام تعنيه عالقته هو هبم‪.‬‬
‫والطفل عندما جييء إىل املدرسة إما أن يكون من أرسة فيها أطفال أو كان يتصل‬
‫بأطفال اجلريان والزائرين‪ ،‬وإما أن تكون املدرسة أول مكان يلتقي فيه أطفاال من سنه‪.‬‬
‫ويكون الطفل األول ألوفا رسيعا ما يتقرب إىل رفقائه ورسعان ما يتحبب إليهم‪ ،‬بينام‬
‫يبقى الطفل الثاين منكمشا خجوال عدة أيام‪ ،‬ال يكلم أحدا من رفقائه‪ .‬وربام يطول‬
‫الزمن قبل أن جيد هذا الطفل أساسا يبني عليه معاملته لألطفال الذين معه يف القسم‪.‬‬
‫واألطفال قريبون إىل بعضهم إذا كانوا يف سن متقاربة‪ ،‬يتكيفون برسعة حسب اجلو‬
‫الذي جيدونه‪ ،‬كام يكيفون ترصفهم حسب الرفاق الذين يعاملوهنم كيفام كان هؤالء‬
‫الرفاق وكيفام كان طبعهم‪ .‬ونالحظ أنه ال جتد كلفة بني التالميذ متاما‪ ،‬فرسعان ما‬
‫يتحدث الطفل إىل جاره ويشاركه أفراحه وألعابه‪.‬‬
‫ويسهل من نشوء الزمالة بني األطفال أهنم بريئون ال ينظرون إىل الناس كام ننظر‬
‫نحن إليهم‪ .‬فهم ال يعرفون ميزا بني الغني والفقري وال بني الوضيع والرفيع‪ .‬أو عىل‬
‫األقل ال يدركون شيئا من هذا امليز إال بعد أن تتقدم هبم السن كثريا‪ .‬وتبقى الزمالة‬
‫بني املراهقني حتى إن كانت أرسهم متفاوتة يف امليزان االجتامعي‪.‬‬
‫لكن هناك قيام أخرى يؤمن هبا األطفال‪ ،‬وحتدث ميزا قيام بينهم من نوع خاص‪.‬‬
‫فمن القسم الصغري يظهر عىل بعض األطفال تفوق عىل أقراهنم وتسلط‪ .‬وال يلبث‬
‫هذا التفوق أن يصبح زعامة خيضعون هلا‪ .‬وذلك إذا بلغوا العارشة ونحوها‪ .‬ففي‬
‫هذه السن عند األطفال ظاهرة اجتامعية هي حب التكتل والعمل اجلامعي‪ .‬ويؤلفون‬
‫مجعيات هلا رئيسها املعروف الذي يقود األلعاب ويسمع لرأيه‪ .‬لكن الغريب هو‬
‫أن هذه القيم التي ختول الزعامة عند األطفال جمهولة لدينا‪ ،‬إذ ال خيوهلا التفوق يف‬
‫الدراسة فكثريا ما يكون الزعيم آخر التالميذ يف قسمه‪ .‬وكل ما نستطيع أن نالحظه‬
‫هو أن الزعيم يكون غالبا قوي اجلسم وافر النشاط‪.‬‬
‫_‪_  86  ‬‬
‫واملدرسة تستغل هذه الظاهرة االجتامعية عند األطفال وتنظم النشاط الطبيعي‬
‫بحيث ينرصف إىل األعامل البنائية‪.‬‬
‫وأثناء الدراسة حتدث بني األطفال ظاهرة أخرى‪ ،‬هي ظاهرة التسابق واملنافسة‪.‬‬
‫ويشجع هذا االجتاه إىل حد كبري معاملة املريب لألطفال‪ ،‬ولكلامته ومقارنته بني أطفاله‬
‫أثر كبري يف بعث املنافسة بينهم‪ .‬وقد تبلغ هذه املنافسة إىل حد البغضاء واحلسد كام‬
‫أرشنا إىل ذلك يف فصل آخر‪.‬‬
‫واألطفال قادرون عىل التضامن والتكتل‪ .‬خصوصا يف املرحلة التي أرشنا إليها‬
‫آنفا ويف مرحلة املراهقة‪ ،‬يبدو هذا التضامن فيام بينهم حتى إذا كانوا صغارا‪ .‬وربام‬
‫أتى أحد منهم جريرة يف غياب املعلم‪ ،‬فإذا سئل التالميذ عن ذلك كتموا والتفت‬
‫بعضهم إىل بعض والواجب يف مثل هذه احلالة أن نشجع فيهم روح اجلامعة ونكف‬
‫عن السؤال والواجب أال نغري بعضهم بفضح املخالف‪ ،‬فإننا بذلك نعلمه اخلذالن‬
‫والغدر‪ ،‬ونعرضه الحتقار أصدقائه وعدائهم‪.‬‬
‫ويف بعض األحيان يضطر املعلم إىل االستعانة ببعض التالميذ يف تعليم تالميذ‬
‫آخرين‪ .‬ويسمى تعليم األطفال لبعضهم التعليم املتبادل‪ .‬انظره يف فصل آخر من هذا‬
‫الكتاب‪ .‬ويف هذه املرحلة تتبدل عالقة التلميذ املعلم باألطفال اآلخرين‪ .‬وفيها جيرب‬
‫هذا التلميذ املسؤولية ويتصنع اجلد مقلدا صفات معلمه‪ .‬وكثريا ما يعمل هذا التلميذ‬
‫حتت مراقبة املعلم املبارشة‪ ،‬فلذلك ال حيدث له من املشاكل ماحيدث للمعلم املبتدئ‪،‬‬
‫إذ أن التالميذ إنام يعملون يف احلقيقة حتت سلطة املعلم‪.‬‬
‫وقد جيتمع يف قسم واحد‪ ،‬كام حيدث يف البادية‪ ،‬بنون وبنات‪ ،‬ويفيد هذا االجتامع‬
‫كثريا يف تربية طبع األطفال‪ .‬فيزداد طبع البنات متانة‪ ،‬ويتهذب سلوك البنني ويكون‬
‫خاليا من كل عنف‪.‬‬
‫واحلاصل أن العالقات بني األطفال يف املدرسة الواحدة متنوعة ومعقدة بحسب‬
‫صفات كل األفراد واستعداداهتم‪ ،‬لكن هذا ال يمنع األطفال من االندماج والتقرب‬
‫إىل بعضهم‪ .‬وإن هلذا االندماج عمل خفي عىل األطفال‪ ،‬فالطفل إذا اعتربته بمفرده‪،‬‬
‫ليس هو نفس الطفل إذا كان مع أقرانه‪ .‬فإنه مع أقرانه منطلق رصيح يف أعامله وأقواله‪،‬‬
‫فإذا انفرد مع الكبار تصنع هلم سلوكا ال يظهر فيه بمظهره احلقيقي‪.‬‬
‫_‪_  87  ‬‬
‫عقلية الطفل‪:‬‬
‫انتباه الطفل‪ :‬إن الرجل الكبري يملك نفسه‪ ،‬فيستطيع أن يضع خطة ثم يطبقها‪،‬‬
‫ويستطيع أن يثابر عىل عمله إذا بدأه‪ .‬أما الطفل فهو عاجز متاما عن املواظبة ومتابعة‬
‫العمل إذا مل يكن هناك دافع خارجي حيمله عىل ذلك‪.‬‬
‫وسبب عجز الطفل عن املواظبة هو لني إرادته‪ ،‬وكثرة الدواعي التي تتجاذب هذه‬
‫اإلرادة‪ ،‬وربام كان فضول الطفل الكبري أهم أسباب هذا العجز‪ .‬ولنالحظ طفال‬
‫يقوم بعمل ما يف جد ظاهر‪ .‬لنالحظه عندما يعرض له عارض جديد‪ .‬فمهام كان‬
‫هذا العارض تافها فإن التلميذ ال يمسك نفسه أن ينرصف عن عمله األول لرييض‬
‫فضوله‪ .‬لنالحظه يف طريقه إىل املدرسة‪ ،‬إنه ال يميش سويا يف الطريق كام نميش نحن‪،‬‬
‫لكنه يقف مرات كثرية‪ ،‬ويعرج عىل هذه الزهرة لينظرها‪ ،‬فإذا مرت الفراشة فإنه من‬
‫ورائها يعدو‪ .‬وهكذا من جهة إىل جهة حتى ربام ينسى املكان الذي يقصده‪.‬‬
‫وعجز الطفل عن تركيز انتباهه‪ ،‬يبدو يف املدرسة أيضا‪ ،‬وهلذا تسمع املعلم يدعو‬
‫التالميذ دائام إىل االنتباه‪.‬‬
‫إدراك الطفل‪:‬‬
‫والطفل قادر عىل إدراك املحسوسات إذا كانت حواسه سليمة‪ .‬فهو يدرك األشكال‬
‫واأللوان واألبعاد‪ .‬بل قد يكون إدراكه هلا كإدراك الكبري تاما‪ .‬لكن هذا اإلدراك‬
‫ضعيف جدا فيام يتعلق بإدراك احلقائق‪ ،‬وفهم العلة‪.‬‬
‫فالطفل ضعيف املالحظة قليل اخلربة‪ ،‬ال حيسن احلكم عىل األشياء وال يفهم‬
‫قيمتها‪ .‬فإذا عرضت عليه صورة أو رسام لتربز شخصا مثال‪ ،‬فربام يتعلق برصه بجزء‬
‫من هذه الصورة‪ ،‬ربام يتعلق برصه بدمية عىل األرض ال تعتربها أنت إال عارضا تافها‪،‬‬
‫وتكون يف نظره حمورا للصورة‪ .‬ويبدو هذا القصور يف قدرة األطفال عىل املالحظة‬
‫إذا أتينا بطفل وحرض مشهدا ما ثم طلبنا إليه أن حيكي ما رآه‪ .‬والغالب أنه سيحكي‬
‫عن مشاهداته املحسوسة التي اسرتعت انتباهه‪ ،‬ويرتك احلادث املهم‪ .‬وما ذاك لقرص‬
‫ذاكرته ولكن لضعفه عن اإلدراك‪.‬‬
‫ويزيد يف هذا الضعف قلة بضاعة التلميذ من الكالم‪ .‬ففي السنوات‬
‫_‪_  88  ‬‬
‫الدراسية األوىل يكون إدراكه حسيا حمضا‪ ،‬ومن ثم ال تتعلق بذهنه إال الكلامت التي‬
‫تدل عىل املحسوس‪ ،‬أو تدل عىل احلركة‪ .‬ويف هذا تفسري إلدراكه الضعيف‪ .‬ألن‬
‫هذا اإلدراك قد يتوقف عىل فهم بعض الكلامت التي يعتربها الكبري واضحة مفهمة‬
‫وتغيب عن الطفل‪.‬‬
‫وقد أجرى عامل النفس الفرنيس بيني بحثا يف الكلامت التي يستعملها األطفال‪.‬‬
‫فوجد أن األطفال يستعملون كثريا من األفعال وكثريا من األسامء وقليال من‬
‫النعوت‪ ،‬ونادرا ما يستعملون أدوات الربط مثل لو و ألن‪ ،‬وعندما الخ‪ .‬ويعلل‬
‫قلة هذه األدوات يف كالم األطفال بأهنا تفيد التعليل والربط بني األفكار‪ ،‬وبأن هذا‬
‫التعليل والربط ليسا يف متناول األطفال‪.‬‬
‫خميلة الطفل‪:‬وخميلة الطفل قارصة أيضا‪ ،‬ال ختلق إال الصور التي تعتمد عىل‬
‫املحسوس أو العاطفة‪ .‬ويظهر هذا القصور بصفة واضحة عندما نطلب إىل الطفل أن‬
‫يصف لنا مكانا يعرفه‪ .‬جييب الطفل بأن هذا املكان يعجبه أو ال يعجبه‪ .‬فإذا طلبنا إليه‬
‫أن حيدد لنا أداة من األدوات ويعرفها‪ ،‬أجابنا بذكر فائدهتا واستعامهلا‪ .‬فيعرف املوسى‬
‫بأهنا للقطع ويقول الكريس‪ :‬أجلس عليه‪ ،‬وهكذا‪ .‬ويظهر هذا القصور أيضا يف فهم‬
‫الرسوم‪ .‬فالطفل يرشح لنا الرسم بذكر األشياء التي يبرصها فيه‪ .‬فإذا عرضت عليه‬
‫صورة حلريق قال هذا منزل وهذه نار وهذا رجل وهذه امرأة وهذا سلم الخ‪.‬‬
‫وإنام تنمو خميلة الطفل بالتدريج كلام نمت ملكاته األخرى‪ .‬فإذا بلغ تسع سنوات‬
‫أو عرش سنوات‪ ،‬اتسعت خميلته وقويت عىل فهم العالقات البسيطة‪ .‬وطفل يف هذه‬
‫السن يستطيع أن يصف لنا مشهد احلريق فيقول‪ :‬هذا حريق والناس جمتمعون حوله‬
‫وهذه امرأة جتري الخ‪.‬‬
‫فإذا بلغ الطفل الثانية عرشة أو الثالثة عرش من عمره‪ ،‬استطاع أن يتخيل ال أعامل‬
‫الناس فقط ولكن عواطفهم وبواعثهم‪ .‬ويف هذه السن يصف الطفل مشهد احلريق‬
‫الذي أسلفنا ذكره فيقول‪ :‬هذا حريق اجتمع حوله الناس ليطفؤوه‪ .‬وهذه امرأة تصيح‬
‫وتستغيث الخ‪.‬‬
‫حكم الطفل‪ :‬الطفل عاجز عن احلكم الصحيح عجزه عن اإلدراك الكيل‪.‬‬
‫وهو ال يفرق بني الواقع وبني رغباته اخلفية‪ .‬وربام خيلط بني ما شاهده‬
‫_‪_  89  ‬‬
‫وما ختيله فال يميز بينهام‪ .‬وقلة خربته وما قلناه عن عدم االتصال يف أفكاره جيعل‬
‫حكمه خمطئا سواء كان هذا احلكم عىل أعامله نفسه أو أعامل غريه‪ .‬وهلذا ال يدرك‬
‫األخطاء التي يقع فيها وال نتائج هذه األخطاء‪ .‬وكثريا ما يكون عذره عنها واهيا‬
‫بعيدا عن املنطق‪.‬‬
‫وأسئلة الطفل كثرية‪ .‬لكنها ال تنبعث إال من فضوله الكثري‪ ،‬وليست عالمة عىل‬
‫تيقظه وقدرته عىل احلكم والنقد‪ .‬ويدل عىل ذلك تصديقه ألجوبتنا كيفام كانت‪ ،‬ألن‬
‫الطفل غرير يؤمن بكل ما يسمعه ولو كان مستحيال‪ .‬وتصديقه للخرافة معروف‬
‫يصحبه إىل سنوات املراهقة‪.‬‬
‫حاجات الطفل‪:‬‬
‫ال نتحدث هنا عن حاجة الطفل اجلسمية‪ ،‬حاجته إىل الغذاء واجلو الصحي الذي‬
‫ينمو فيه‪ .‬وإنام نتحدث عن حاجته النفسية‪.‬‬
‫حرية الطفل‪ :‬الطفل يف حاجة إىل اجلو الذي ينمي فيه مواهبه‪ ،‬ويربز شخصيته‪،‬‬
‫يف حاجة إىل اختبار قوته ومعرفة حدودها‪ .‬وهذا اجلو املناسب لنموه هو جو احلرية‬
‫واالنطالق اجلو الذي يقدر فيه الطفل عىل ممارسة األعامل املرشوعة التي تستفرغ‬
‫نشاطه‪ ،‬بحيث يعرب عن نفسه تعبريا حرا‪ ،‬ويتناول األشياء لريكبها وحيللها كام يشاء‪.‬‬
‫لكن هذه احلرية قد تتعارض مع مصلحة األرسة أو املدرسة عندما متس بحقوق‬
‫الغري‪ ،‬ومن هنا كان البد من سلطة حتد من حرية الطفل‪ .‬وليس رشا من الضغط عىل‬
‫الطفل إال اإلفراط يف تدليله والضعف أمام رغباته‪ .‬والطفل الذي ينشأ يف حجر أرسة‬
‫تطلق له كامل احلرية ينشأ قلقا مضطربا حياول أن يستعيض عن السلطة القوية التي‬
‫هو بحاجة إليها ليشعر باألمن بثوراته املتكررة وموقفه املتحدي‪.‬‬
‫حاجة الطفل إىل العطف‪ :‬مما يسبب تدليل اآلباء واألمهات ألبنائهم‪ ،‬شدة عطفهم‬
‫وحمبتهم‪ .‬والطفل يف حاجة شديدة إىل العطف واملحبة خصوصا يف السنوات األوىل‬
‫من حياته‪ .‬وقد يكون احلرمان من هذا العطف أصال الضطرابات نفسية كثرية‬
‫تتجىل يف انكامش الطفل وخوفه‪ ،‬وتتجىل بعد ذلك يف حب العزلة واالنرصاف إىل‬
‫كنز املجموعات والبخل‪ .‬وتالحظ كل هذه العوارض عند اليتيم الذي حرم عطف‬
‫أمه وأبيه‪.‬‬
‫_‪_  90  ‬‬
‫والطفل يألف هذا العطف‪ ،‬وينتظر أن جيده عند كل الكبار الذين يتصل هبم‬
‫فإذا جاء إىل املدرسة‪ ،‬يصدمه ما جيده فيها من جد ورصامة‪ .‬ويبقى خائفا مرتددا‬
‫أمام املعلم الذي يأمر وال يقول الكلمة الطيبة‪ ،‬وإذا وجد الطفل يف املدرسة اجلو‬
‫العاطفي الذي ألفه أو قريبا منه‪ ،‬فرسعان ما يستأنس ويتعلق باملدرسة‪ .‬واملعلامت‬
‫بطبعهن اللني وحبهن الغريزي لألطفال‪ ،‬جيدن املعاملة الطيبة التي تناسب الصغار‪.‬‬
‫ولذلك نراهن أن ينجحن كثريا يف األقسام الصغرية‪.‬‬
‫عىل أن الطفل بعد أن يبلو املدرسة ويعرف نظامها‪ ،‬يكتفي من معلمه بكلامت‬
‫التشجيع والثناء‪ ،‬وباالبتسامة الصغرية‪ ،‬ويعترب ذلك عالمة حلب معلمه وتقديره‪،‬‬
‫إذا كانت هذه الكلامت وهذه االبتسامة من قلب صادق‪.‬‬
‫الفضول‪ :‬إن فضول الطفل وحبه لالطالع يظهر يف سن مبكرة جدا‪ ،‬فمن الشهور‬
‫األوىل يطلع الطفل الرضيع إىل وجه أمه ويلتفت إذا سمع صوتا لريى مصدره ويبدأ‬
‫يف إرضاء هذه الرغبة عندما يبدأ يف اكتشاف جسمه‪ ،‬فرتاه يمسك بأعضائه املختلفة‬
‫ويعض رجله ثم يستغرب إذا أحس بأمل‪ ،‬لكن فضول الطفل ال يظهر متاما إال حني‬
‫يملك الطفل الكالم ويقدر عىل وضع األسئلة‪ ،‬وأول هذه األسئلة يتعلق بالبحث‬
‫عن األسامء‪ ،‬وال ينتظر الطفل شيئا آخر إذا سأل ما هذا وأجبته باسم اليشء الذي‬
‫سأل عنه‪ ،‬ألن االسم وحده ثروة يف نظره يزيدها عىل ثروته الكالمية‪ .‬ويعقب‬
‫هذه الفرتة فرتة أخرى يتجه فيها الطفل إىل السؤال عن منافع األشياء‪ .‬وبعد هذه‬
‫املرحلة يزداد فضول الطفل فيكثر من قول ملاذا؟‬
‫وقد قلنا إن الطفل يكتفي بأي جواب ولو كان غري منطقي‪ ،‬وهذا ما حيتم عىل‬
‫األرسة‪ ،‬وعىل املدرسة أال جتيب الطفل إال باحلقيقة كام سأل‪ ،‬فإذا مل نشأ أن نخربه‬
‫باحلقيقة لسبب ما فمن املمكن أن نقول له بكل رصاحة‪ ،‬أن هذا أمر ال تفهمه اآلن‪،‬‬
‫وهذا أفضل بكثري من أن نكذب عليه‪ ،‬وبام أن انتباه الطفل رسيع االنتقال من‬
‫موضوع إىل موضوع فمن السهل أن نرصف انتباهه إىل يشء جديد إذا وضع سؤاال‬
‫حمرجا‪ ،‬ويكفي أن جييبه بسؤال آخر أو بمالحظة طفيفة لينسى سؤاله‪.‬‬
‫_‪_  91  ‬‬
‫وربام يكبت الطفل رغبته يف االطالع أمام معلمه‪ ،‬إذا كان يعلم أن معلمه‬
‫ضيق الصدر من أسئلة التالميذ‪ .‬وإذا فكرنا أن سؤال الطفل عنوان عن اهتاممه‬
‫باملوضوع الذي يسأل عنه‪ ،‬تبني لنا وجوب تقبل أسئلة األطفال‪ ،‬وتبني لنا فائدة‬
‫السؤال عنها ولو كانت بليدة يف ظاهرها‪ .‬بل من املفيد جدا أن نعود التالميذ عىل‬
‫سؤالنا ونشجعهم عىل ذلك‪.‬‬
‫التقليد‪ :‬كل يشء يف حياة الطفل جديد بالنسبة إليه‪ ،‬وكل يشء يراه يتعلق به‬
‫اهتاممه‪ .‬وعندما يكتشف الطفل نفسه ويشعر بوجوده املستقل عن اآلخرين يبدأ‬
‫يف اكتشاف قواه وتطبيقها عىل كل هذه األشياء اجلديدة‪ .‬ولفقر خياله وضيق‬
‫خربته‪ ،‬نراه يقوم بحركة بسيطة كحمل آنية ثم وضعها‪ .‬وال يزال يكرر هذه‬
‫احلركة ال يمل منها‪.‬‬
‫لكن غريزته تدفعه إىل التقليد كام تدفعه إىل اللعب‪ .‬إىل تقليد الناس واحليوان‬
‫يف احلركات التي يشاهد ويقدر عىل القيام هبا‪ .‬ومن هذا التقليد تبدأ العادات‬
‫الرضورية للحياة‪ ،‬وتبدأ تربية الطفل اجلسمية احلركية‪ .‬والطفل يقلد كل األعامل‬
‫التي يشاهدها بمناسبة وغري مناسبة‪ ،‬وسواء كان هذا العمل الذي يقلده رضورة‬
‫يستفيد منها مبارشة أو كان عمال تافها أو ال يفهم الطفل معناه‪ .‬وقد يكون‬
‫العمل الذي يقلده الطفل عمال ال هيمه يف يشء‪ ،‬ومع ذلك فهو يقلده ألنه هيتم‬
‫بالشخص الذي يقوم به‪.‬‬
‫وبالتقليد يملك الطفل حركاته‪ ،‬ويترصف فيها حسب إرادته ألن احلركة التي‬
‫تكررت يف العضو تصبح وظيفة يف هذا العضو ترصفها اإلرادة‪ .‬لذلك يطلب إىل‬
‫الطفل أن يقلد نموذجا يف اخلط‪ .‬وليس غرضنا إذ ذاك أن ينجز الطفل عىل مثال‬
‫هذا النوع‪ ،‬وإنام نقصد أن يتكرر العمل يف يد الطفل عىل مثال نقرتحه لتثبت هذه‬
‫احلركة يف اليد‪.‬‬
‫وبالتقليد يفهم الطفل أشياء كثرية ومعرفة األشياء إنام هو معرفة تركيبها‬
‫ووظيفتها وكيفية استعامهلا‪ .‬فإذا أمسك الطفل املوسى‪ ،‬وقطع به كام رأى أمه‬
‫تفعل‪ .‬فقد فهم املعنى فلم يبق إال أن يطلق عليه اسمه‪.‬‬

‫_‪_  92  ‬‬
‫وبالتقليد أيضا يفهم الطفل حتى االنفعاالت العاطفية نفسها‪ .‬ألن هذه االنفعاالت‬
‫تصحبها حركات جسمية أو آثار تبدو عىل الوجه‪ :‬الغضبان يقطب وجهه واملستبرش‬
‫ينطلق وجهه‪ .‬واملتحمس تربق عيناه‪ .‬والغريزة تدفعنا إىل تقليد هذه العالمات كلام‬
‫شاهدناها عند من نخاطبه وسبق أن حتدثنا عن التقليد العاطفي يف حديثنا عن اإلحياء‪.‬‬
‫والطفل يبقى مقلدا أبدا‪ ،‬وربام يقلد حتى بعد أن يكرب كل ما يراه جديدا سواء كان‬
‫شاعرا هبذا التقليد أو غري شاعر‪ .‬ولذا حيث املربون عىل تقديم املثال احلسن لألطفال‪،‬‬
‫وخصوصا يف املدرسة يقلدون معلميهم يف احلركات‪ ،‬ويف صفة الكالم ويف األفعال‪.‬‬
‫ويشري املربون أيضا إىل مكان التقليد يف الرتبية العقلية واخللقية وتربية الذوق‪.‬‬
‫فالدروس التي تلقى عىل التالميذ تتناول موضوعات جديدة ال يعرفوهنا‪ .‬وتقدم‬
‫احلقائق عىل صفة هم مستعدون لقبوهلا أيا ما كانت‪ .‬وكذلك األمثلة األخالقية التي‬
‫تبرش هبا املدرسة‪ .‬هذه األمثلة جتد فراغا عند الطفل فتكون عنده مثال أعىل‪ .‬وكذلك‬
‫النامذج الفنية عىل نوعها وقيمتها يتوفق نضج ذوقهم واجتاهه‪.‬‬
‫وألمهية التقليد يف بناء معارف التالميذ وأخالقهم‪ ،‬حيث املربون عىل أال يكون يف‬
‫املدرسة إال كل مثال حسن‪ ،‬كام حيثون عىل اختيار الكتب وضبط حمتوياهتا‪.‬‬
‫ويويص املربون باالعتامد عىل التقليد اعتامدا حذرا‪ .‬ألن التقليد ينفي التفكري‪،‬‬
‫وينمي العقل الناقد‪ .‬وإن كانت الصفات األخالقية ثابتة ال تقبل اجلدل‪ ،‬فإن العقل‬
‫البرشي ال يستفيد شيئا من التقليد األعمى وال يمكنه أن يتقدم‪.‬‬
‫سلوك الطفل‪:‬‬
‫الطفل والكسل‪ :‬األطفال جمبولون عىل احلركة والنشاط‪ .‬فالطفل السليم اجلسم‪،‬‬
‫املرتاح البال‪ ،‬يعمل ال يكل‪ ،‬ويسعى أكثر مما يقدر الكبري عىل السعي‪ .‬وإن العمل‬
‫املدريس نشاط جديد بالنسبة للطفل الذي يقبل إىل املدرسة‪ .‬وهو يرى هذا العمل‬
‫كشكل جديد من اللعب‪ ،‬فينرصف إليه‪ .‬ويبقى مقبال عىل العمل الدرايس حتى بعد‬
‫أن يشعر أنه ليس لعبا‪ .‬ألن إذ ذاك يكون وسط مجاعة من أقرانه ال يملك نفسه أن‬
‫يتخلف عنهم‪.‬‬

‫_‪_  93  ‬‬
‫ويف بعض األحيان يصطدم التلميذ اجلديد بالعنف الذي جيده يف املدرسة‪ ،‬أو‬
‫يصطدم هبذا العنف يف مرحلة ما من مراحل دراسته‪ .‬وحيس أن املريب يضيق عىل‬
‫حريته‪ ،‬فينفر من املريب وينفر من العمل املدريس ونقول إذ ذاك إن الطفل كسول‪.‬‬
‫أو ال يصطدم الطفل بالعنف واإلكراه‪ ،‬وإنام ينفر من العمل املدريس حني تكون‬
‫الدروس مستغلقة عليه‪ ،‬أو تكون بعيدة عن مواضع اهتاممه‪.‬‬
‫وهذا النوع من الكسل يمكن معاجلته بالبحث عن موطن النقص يف املدرسة وطرق‬
‫تعليمها‪ .‬وهناك كسل آخر ينشأ عن مرض جسمي‪ ،‬أو نقص يف الطاقة احليوية‪.‬‬
‫وكل األطفال معرضون هلذا النقص الذي حيدث يف فرتات النمو اجلسمي‪ .‬إذ يكون‬
‫الطفل نشيطا عامال‪ ،‬ويف بعض الصباحات يظهر عليه كلل وإعياء‪ ،‬وال يشعر بإقبال‬
‫عىل العمل‪ .‬هذا الطفل ينمو جسمه‪ ،‬ونمو جسمه استحوذ عىل كل القوة الكامنة فيه‪.‬‬
‫ومن األطفال من يمرض ومهام كان هذا املرض طفيفا وخفيا فإنه يؤثر عىل اجتهاد‬
‫الطفل‪.‬‬
‫وقد درس املربون نظام تغذية التالميذ وراقبوا أطفاال يف املدرسة لريوا تأثري التغذية‬
‫عىل عملهم‪ .‬والحظوا أن كسل األطفال كثريا ما ينتج عن سوء التغذية‪.‬‬
‫ويكسل األطفال ويرتاخون عادة بعد الغداء‪ .‬فإذا دخلوا إىل املدرسة يف الثانية بعد‬
‫الزوال يالحظ عليهم قلة النشاط‪ ،‬وال يزال نشاطهم قليال طول الساعات التي يتم‬
‫فيها اهلضم واملعلمون يعرفون هذا من تالميذهم‪ ،‬وخيتارون هلذه األوقات الدروس‬
‫السهلة التي ال تطلب جمهودا كبريا‪.‬‬
‫والطفل يكون عرضة ألمراض كثرية أثناء أزمة املراهقة‪ .‬ويبدو عليه أثناء هذه‬
‫األزمة انكسار وفتور‪ ،‬ويبدو عليه ميل إىل التفكري الشارد‪ ،‬واالشتغال عن الدرس‬
‫بكل الوسائل‪ .‬وعالج هذا النوع من الكسل ال يتوقف عىل املعلم وحده‪ ،‬بل هو شأن‬
‫األرسة قبل كل يشء‪ .‬إال أن املعلم جيب أال يقسو عىل الطفل الكسول دون أن يعرف‬
‫سبب كسله‪ .‬فإذا كان الطفل مريضا أو كان يف أزمة نمو خفف عليه العمل الدرايس‬
‫وانتظر وقتا يصح فيه جسم الطفل ويتجدد نشاطه‪ ،‬ليدفعه دفعة جديدة إىل األمام‪.‬‬

‫_‪_  94  ‬‬
‫ومن األطفال من يامرسون ألعابا عنيفة‪ ،‬أو يسهرون الليل يف السينام‪ ،‬فإذا جاؤوا‬
‫إىل املدرسة‪ ،‬راجع اجلسم حقوقه وطلب الراحة‪ ،‬فينام الطفل‪.‬‬
‫ومن األطفال من يعيش يف ظروف سيئة‪ ،‬املسكن الضيق الذي ال تتوفر فيه الرشوط‬
‫الصحية‪ ،‬واملطعم القليل الذي ال يكفي حلاجات اجلسم النامي‪ .‬وهؤالء أحق بالعناية‬
‫من اآلخرين‪ .‬جيب عىل املعلم أن يسعى عند األرسة لتحسن حاهلم عوض أن يعاقبهم‬
‫عىل الكسل الذي ال ينرصفون إليه عن شيطنة وكراهية للعمل‪.‬‬
‫واملعلم اللبيب يالحظ أطفاله ويعرف الباعث هلم عىل أنواع سلوكهم يف املدرسة‪.‬‬
‫وهذا املعلم ال خياف عليه أن ييسء احلكم عندما يظهر تغري مفاجئ يف اجتهاد التلميذ‪.‬‬
‫واملعلم اللبيب هو الذي ال يعاقب الطفل عىل الكسل‪ ،‬وإنام يسعى إلبطال دواعي‬
‫الكسل‪ ،‬سواء كانت نقصا يف طرقه أو عارضا يف جسم التلميذ أو أعصابه‪.‬‬
‫الطفل والعصيان‪ :‬حتدثنا يف الصفحات السابقة عن الطاعة وكيف حيصل عليها‬
‫املعلم أمام تالميذه‪ .‬وسنذكر هنا األسباب التي تدعو إىل العصيان‪.‬‬
‫يدرك الطفل يف السنة الثالثة من عمره أن له شخصية‪ .‬ويثور الطفل يف هذه الفرتة‬
‫من حياته‪ ،‬ويعيص كل األوامر التي تصدر إليه ألنه يريد أن يثبت شخصيته ويثبت‬
‫إرادته‪ .‬ولعل الكلمة التي يرددها الطفل أكثر من أي كلمة أخرى هي كلمة «ال»‪.‬‬
‫وبعد السنة الثالثة‪ ،‬يرجع الطفل عن عصيانه املستمر‪ .‬لكنه ال خيضع لألوامر التي‬
‫تعطاه متاما‪ .‬بل يتوقف عصيانه أو طاعته عىل الشخص الذي يأمر‪ .‬وحيلو له يف بعض‬
‫األحيان أن يرفض كل ما يطلبه منه شخص بعينه‪.‬‬
‫وبصفة عامة فإن إرادة الطفل تصطدم بإرادة الكبار‪ ،‬ألن طبعه مرح‪ ،‬وله رغبات‬
‫كثرية جيب أن يرضيها‪ ،‬فيحب كرس األواين وتشتيتها ويتناول بيديه كل يشء ولو كان‬
‫قذرا‪ ،‬والكبار ينهونه ويمنعونه‪ .‬وقد يبلغ عصيان الطفل إىل الثورة البينة والعنف‪.‬‬
‫فال يتورع إذا كان صحيح اجلسم نشيطا‪ ،‬أن يرضب خادمه وهيرب من وجه أمه‪ ،‬أو‬
‫يرصف هذا العنف إىل األشياء ويرضب برجليه األرض‪.‬‬
‫والعصيان عند صغار األطفال أمر طبيعي‪ ،‬بل هو عالمة عىل سالمة األطفال‪.‬‬
‫واملربون يعتقدون أن الطفل الذي ال يطيع األمر دون أن يناقشه طفل مريض‪.‬‬
‫والطريقة بسيطة لئال يعيص الطفل‪ ،‬وذلك بحذف األوامر والنواهي‪ ،‬وعوض أن‬
‫_‪_  95  ‬‬
‫تنهى الطفل عن كرس اآلنية خذها من يديه والسالم ألنك إن أمرته فربام قال‪ « :‬ال‬
‫« فإن جئت تناقشه طال ذلك‪ ،‬ثم ال جتد آخر األمر إال احلل الوحيد الذي يعرضه‬
‫عليك التفاوت بني قوتك وقوته‪.‬‬
‫وعندما يدخل الطفل املدرسة يكون قد تكيف إىل حد ما باحلياة االجتامعية‪ ،‬وأصبح‬
‫يدرك إدراكا غامضا‪ ،‬لكنه إدراك حقيقي‪ ،‬أن عليه واجبات البد من أن خيضع ألدائها‪.‬‬
‫ويف املدرسة جيد الطفل جوا ال يعرفه‪ ،‬وجيلس أمام شخص ال ينفك يأمر وينهى‬
‫وأوامر املعلم هذه تعارض رغبات الطفل‪ .‬ويالحظ يف األيام األوىل لدخول الطفل‬
‫إىل املدرسة أنه ال يأمتر لألمر األول‪ ،‬بل حيتاج املعلم إىل تكراره عليه مرارا‪ ،‬لكنه مع‬
‫األيام‪ ،‬وبدافع تقليد أقرانه ال يلبث أن يطيع كام يطيعون‪.‬‬
‫وأثناء املرحلة الدراسية االبتدائية‪ ،‬يتلقى الطفل أوامر من معلمه أو من مدير‬
‫املدرسة أو من املعلمني اآلخرين‪ .‬ويطيع الطفل هذه األوامر ممن حيرتمهم ويثق هبم‪.‬‬
‫أما إذا أمره شخص أجنبي آخر عن املدرسة فإنه يقف له ويسأل‪ .‬والسبب يف طاعة‬
‫الطفل ملعلمه ليس فقط اخلوف من عقوباهتم‪ ،‬لكنه يطيع ألنه يقدر السلطة وحيبها‬
‫حتى ولو كانت هذه السلطة متنعه من إرضاء بعض رغباته‪ .‬والطفل حيب السلطة‬
‫ألهنا عنوان للقوة‪ .‬والقوة هي التي تضمن له األمن والطمأنينة اللذان حيتاج إليهام‪.‬‬
‫وقد يظهر عىل الطفل يف بعض األحيان تردد أو عصيان عندما يأمره أبوه أو معلمه‪،‬‬
‫وهو ال يقصد هبذا العصيان إال أن يبلو سلطة الذي يأمره ويتأكد منها حتى إذا رأى‬
‫اجلد وعرف أن األمر ماض ال رجعة فيه امتثل وهو أسعد الناس بوجوده يف محاية‬
‫أمينة‪.‬‬
‫لذلك يرى املربون أن أوامر املعلم جيب أن تكون بلهجة حازمة‪ .‬ويوصون بأن يقف‬
‫املعلم عند أمره وال ينساه‪ .‬وبام أن األطفال الصغار عاجزون عن اإلدراك واحلكم‪،‬‬
‫عاجزون عن فهم غايات املعلم‪ ،‬فإن هذه األوامر يف األقسام الصغرية تكون جمردة‬
‫واضحة‪ ،‬ال يعللها املعلم وال حياول تفسري أسباهبا‪ ،‬وإذا أراد املعلم أن تغلب إرادته‬
‫فليأمر ساكنا‪ ،‬وال يبد منه اضطراب إذا عىص األطفال أمره‪ .‬فإذا كان البد من تكرار‬
‫األمر‪ ،‬فليكرره املعلم ساكنا أيضا‪ .‬وينبغي أال يلجأ املعلم إىل التهديد من املرة األوىل‪.‬‬
‫وحتى يف املرة الثانية يكفي أن نقول كلمة فيها حزم وتوكيد كأن يقول «ستفعل ما آمر‬
‫به» أو «البد أن تفعله» أو «أنا أريد أن تفعله»‪.‬‬
‫_‪_  96  ‬‬
‫ومع األطفال املدركني فاألحسن أن يأمر املعلم ويعلل أمره بام يفهمه األطفال‪ .‬ألن‬
‫هذا التعليل يدخل يف نطاق تربيتهم وتعليمهم‪.‬‬
‫أما مع املراهقني فإن املوقف خيتلف متاما‪ .‬فعند املراهقني تربز شخصية جديدة هلا‬
‫رغبات عنيفة‪ .‬ويزيدها عنفا عدم تأكد املراهق من طريقه وقوة إرادته‪ .‬وهلذا يكون‬
‫رسيعا إىل العصيان والثورة إذا شعر أن يف األمر الذي يتلقاه ما يمس هبذه الشخصية‬
‫اجلديدة الضعيفة‪ .‬ومن هنا يتأكد تعليل األوامر وجعلها معقولة ال تتناىف وشعور‬
‫املراهق بكيانه وإرادته املستقلة‪ .‬ثم إننا هبذا التعليل ال نتحاشى عصيان املراهق فقط‪.‬‬
‫بل نوجهه اجتاها اجتامعيا به جيد لنفسه سلوكا مقبوال‪ .‬وإن املراهق قادر عىل التفكري‬
‫يف األعامل ونتائجها‪ .‬فإذا برصناه هبذه النتائج وخوفناه من عواقبها رجع بسهولة إىل‬
‫الصواب‪.‬‬
‫وثم طريقة أخرى ملعاجلة العصيان وتفاديه‪ .‬وهي الوعظ اخللقي‪ ،‬واالعتامد عىل‬
‫العاطفة‪ .‬واملراهق شديد احلساسية بالرشف‪ ،‬شديد التعلق بشخصيته رغم شعوره‬
‫بنقص ملقوماهتا‪ ،‬ويكفي أن تعرض باملراهق تعريضا خفيفا أو تعاتبه عتابا ال جيرحه‪،‬‬
‫بأن تقول له‪« :‬مثلك ال يفعل هذا»‪.‬‬
‫عىل أن تعليل املعلم ألوامره التي يلقيها لألطفال واملراهقني‪ ،‬جيب أال تكون بلهجة‬
‫االعتذار‪ .‬ألن األطفال إذ ذاك ربام يشكون يف قيمة رشح املعلم ويظنون ذلك الرشح‬
‫حيلة عليهم ليمتثلوا‪ .‬وألن هذه اللهجة تدل عىل قلة اقتناع املعلم بصحة ما يقوله‬
‫وقلة اقتناعه بسلطة‪.‬‬
‫واحلاصل أن األطفال ال يعصون يف املدرسة إال إذا كانت أوامر املدرسة جائرة‬
‫متس بالنصيب احليوي من حريتهم‪ .‬وإذا كانت هذه األوامر معقولة وكان الذي يأمر‬
‫متصفا بالصفات الكاملة للمعلم‪ ،‬وإذا ألقيت هذه األوامر بلهجة ثابتة ال تنم عن‬
‫عدم ثقة بأهنا ستنفذ فإهنا ال تعىص‪.‬‬
‫الطفل والكذب‪ :‬عندما تصطدم إرادة الطفل بإرادة أخرى أقوى منها‪ ،‬حياول‬
‫الطفل أن يبلغ إىل غايته بطرق أخرى وهذه الطريقة هي اختالق العذر‪ .‬فإذا هنته أمه‬
‫عن تناول آنية مثال أجاب‪« :‬إين ال أقدر عىل الوقوف»‪ .‬وهكذا يرتاوغ الطفل الصغري‪.‬‬
‫_‪_  97  ‬‬
‫ثم إن الطفل حيكي ما رآه أو سمعه ويزيد يف حكايته زيادة كبرية ال يقبلها املنطق‪.‬‬
‫ويقول الناس إن الطفل كذاب كبري‪ ،‬وغشاش من الطراز األول‪.‬‬
‫فهل الطفل كذاب يف احلقيقة‪ ،‬وكيف نفرس خداعه املتواصل أمام السلطة اآلمرة؟‬
‫يقول بعض علامء النفس إن اخلداع ظاهرة منترشة عند األطفال منذ سن مبكرة‪ .‬وقد‬
‫يبدأ هذا اخلداع قبل أن يتعلم الطفل الكالم يأخذ الطفل لعبة أو شيئا آخر وخيبئه يف‬
‫زاوية‪ ،‬فإذا سألناه عنه بسط كفيه إجابة بأنه ليس عنده‪ .‬ويفرسون هذا اخلداع بميل‬
‫الطفل للتكتم وحبه لالنفراد بأرساره‪.‬‬
‫أما زيادة الطفل يف الكرم عندما خيرب‪ ،‬فإهنم يفرسوهنا بضعف إدراك الطفل‪ ،‬وكون‬
‫ذاكرته حتت سلطان خياله‪ .‬فعندما يبدأ يف حكاية ما شاهده أو سمعه خيلط عليه ويظن‬
‫أن أشياء يرغب فيها قد وقعت فعال أو يمزج خربه بتفاصيل أخرى من خرافة سمعها‬
‫أو ربام تدفعه رغباته الكمينة وتفكك خياله إىل الزيادة بشكل تظهر لنا منه أنه قصد‬
‫الكذب‪ .‬خصوصا إذا كان يف موقف السائل ما يوحي إىل الطفل ببعض ما جييب به‪.‬‬
‫ولو سألت طفلة صغرية من غسل األواين أو من رتب املنزل فمن املحتمل أن جتيبك‬
‫بأهنا فعلت‪ .‬وال يدفعها إىل هذه اإلجابة إال ألهنا حتب أمها التي تقوم هبذه األعامل‬
‫وترغب أن تكون مثلها‪ .‬ولو سألت طفال صغريا أين أخ له ال حيبه؟ فمن املحتمل أن‬
‫جييبك بأن الغول خطفه‪ .‬ال يقصد الكذب علينا‪ ،‬ولكن كراهيته ألخيه وخياله املمتلئ‬
‫بالغول يمليان عليه اجلواب‪.‬‬
‫والغريب أن الطفل يصدق هو نفسه ما خيرب به ويسمون هذا التصديق باإلحياء‬
‫الذايت‪ .‬وتسمع الطفل خيربنا بأنه رأى األسد أو الغول‪ ،‬ثم ال يلبث أن يدخل الرعب‬
‫وحيتمي بنا خائفا‪ .‬ففي أول األمر ختيل األسد أو الغول‪ ،‬ربام حتدثنا عن أحدمها أو ال‬
‫يشء إال ألن ذلك خطر بباله أو خيرتع هذه الكلمة لنلتفت إليه‪ ،‬فإذا نطق باخلرب ورآنا‬
‫نستمع إليه تأكد من وجود األسد فعال وخاف‪.‬‬
‫كل هذه التحريفات بريئة ال يقصد هبا الطفل سوءا‪ ،‬حتى لو بدا لنا أنه يعرف‬
‫بطالن ما خيرب به‪ ،‬وحتى لو ضحك الطفل بعد إخباره‪ .‬ولذلك ينبغي أن نأخذ الطفل‬
‫الصغري برفق ونرده إىل الصواب إذا كان خربه مبالغا فيه حقا‪.‬‬

‫_‪_  98  ‬‬
‫لنعترب قبل كل يشء أن الطفل مدفوع بحكم خياله املتفكك وضعف إدراكه‪،‬‬
‫وذاكرته إىل التحريف‪ ،‬ولنعترب أنه عندما يأخذ القصبة ويقول هذا فريس ال يقصد أن‬
‫يضحك علينا ولكن رغبته وخياله يقنعانه بأن القصبة فرس يلعب هبا ويركبها‪.‬‬
‫وإذا نظرنا إىل أن الكبار أنفسهم ربام بالغوا يف بعض ماخيربون به‪ ،‬وقد يدفع جو‬
‫احلديث أكثر الناس رزانة وحرصا عىل احلقيقة إىل بعض املبالغة‪ ،‬إذا نظرنا إىل هذا‬
‫تبني لنا مقدار براءة الطفل‪.‬‬
‫هذا وإن رش الكذب عند األطفال هو الذي يقصد به الطفل أن يأخذ بنظرنا‪.‬‬
‫والطفل الصغري يف السنوات األوىل يف حاجة إىل أن هيتم الناس به ويكلمونه‪ .‬وتدفعه‬
‫هذه احلاجة إىل البكاء والرصاخ واللغو بصوته‪ .‬فإذا تعلم الكالم صاح بنا وتوسل‬
‫إلينا بكلامت اإلطراء‪ ،‬ثم اخرتع كلامت وأخبارا‪.‬‬
‫وهذا النوع من الكذب بريء أيضا‪ ،‬وليس خيشى منه رضر عىل سلوك الطفل يف‬
‫احلال لكنه إذا أصبح عادة عند الطفل فقد يكون شديد اخلطر عىل سلوكه يف املستقبل‪.‬‬
‫وقد نجد األطفال الكبار يبالغون مبالغة مقصودة‪ ،‬ويزعمون لذوهيم املزاعم ليلتفت‬
‫إليهم الناس‪ .‬فهذا يزعم أن منزله فيه كيت وكيت من األثاث وهو يعرف أنه خيرتع‪،‬‬
‫وذلك خيرب بأن أباه يملك أشياء ال يملكها يف احلقيقة‪ .‬وقد جيد الطفل نفسه بني أقرانه‬
‫مهمال ليس له بينهم مكان كبري‪ ،‬فيخرب هبذه األكاذيب‪ .‬ويكثر منها حتى ينال الدرجة‬
‫التي تصبو إليها نفسه بني الصغار‪ .‬وقد يلتقي الطفل بشخص يسأله عن عمله يف‬
‫املدرسة‪ ،‬وربام كان الطفل متأخرا‪ ،‬فيحكي الطفل غري احلقيقة لئال حيتقره السائل‪.‬‬
‫وتتمكن هذه العادة من الطفل‪ ،‬ويتخذها وسيلة سهلة‪ ،‬فهو يقول للناس عن أهله‬
‫وعن نفسه ويعطي حلياته ترمجة خمتلفة‪ ،‬أو ترمجات خيتارها حسب الشخص الذي‬
‫خيربه‪ .‬ويبالغ يف التمسك هبذه العادة حتى ليعيش يف تزوير مستمر‪.‬‬
‫وإنه جلريمة أن ياملئ األب أو األم الطفل عىل اخرتاعاته‪ ،‬إذا كانت هذه اخرتاعات‬
‫تريض رغبات األرسة‪ ،‬أو تكون أحاديثهم نامذج حيذو حذوها‪ .‬والواجب أن يقاوم‬
‫ميل الطفل إىل التزوير ما دام الطفل صغريا ملا يتمكن فيه هذا امليل‪ .‬ومن الناس من‬
‫يرتكون يكذبون‪ ،‬أو وجدوا أمثلة يف أرسهتم فنشأوا ال يرعوون عن الغش والكذب‪.‬‬
‫_‪_  99  ‬‬
‫وطريقة مقاومة الكذب الذي من هذا النوع‪ ،‬أن نريب الطفل وندعوه إىل التفكري فيام‬
‫أخرب به ال أن نتعجب من خربه أو براعته يف التزوير أو نستزيده منه‪ .‬وأهم من هذا أن‬
‫نتوخى الصدق فيام نخرب به اآلخرين وهو يسمع‪ .‬وهكذا نعلمه أن حيرتم احلقيقة وأال‬
‫يغريها يف أي حال‪.‬‬
‫واملدرسة كام قلنا حقل يشجع األطفال عىل الكذب لينالوا احرتام أصدقائهم‪.‬‬
‫فمن واجب املعلم أن يرتقب األطفال ويتحقق من أخبارهم يف خفية‪ ،‬ودون أن يظهر‬
‫الشك يف صدقهم‪ .‬إذ ربام حياول األطفال أن يكذبوا حتى عىل املعلم لنيل إعجابه‪.‬‬
‫وقد يكون الداعي إىل كذب التالميذ هو خوف العقاب‪ .‬وهم خيتلقون األعذار‬
‫يف اليوم الذي حيرضون فيه إىل املدرسة متأخرين عن الوقت‪ ،‬أو عندما ينسون إنجاز‬
‫فروضهم املدرسية‪ .‬وواجب املعلم هنا أن حيذف سبب اخلوف ويعوضه بحب‬
‫الواجب والشعور باملسؤولية‪.‬‬
‫وواجب املعلم دائام أن يشجع الصدق ويثيب عليه‪ .‬وأن جيمل للتالميذ قول‬
‫الصدق بالعفو عنهم إذا كان الصدق اعرتافا بذنب اقرتفوه‪.‬‬
‫الفروق الفردية‪:‬‬
‫الفروق اجلسمية‪ :‬خيتلف األطفال يف تكوين أجسامهم وصحتها‪ .‬فمنهم القوي‬
‫املتني‪ ،‬ومنهم النحيل الذي ال يكاد املرض يكف عنه‪ .‬وقد يكون هناك طفالن ليس‬
‫االختالف بينهام ناشئا عن مرض أحدمها وصحة اآلخر‪ ،‬ولكن عن تفاوت يف خصوبة‬
‫اجلسم وضخامته‪ .‬وقد يكون االختالف أيضا من عيب بدين ظاهر‪.‬‬
‫واالختالفات اجلسمية التي تنشأ عن املرض تبني التفاوت الذي نالحظه عند‬
‫األطفال‪ ،‬يف القدرة عىل العمل والكسل الفزيولوجي وحتى االختالفات اجلسمية‬
‫الطبيعية كالنحافة والضخامة‪ ،‬تفرس جانبا من سلوك األطفال‪ ،‬فقد يكون النحيف‬
‫أنشط للعمل وأقدر عليه‪ ،‬بينام يتعب الضخم اجلسم ويعيى‪ .‬والبد للمعلم أن يراعي‬
‫هذه االختالفات عند أطفاله ويعاملهم حسب ما يقدرون عليه‪ .‬سيام إذا كان هنالك‬
‫الطفل املريض أو النحيف الذي ال حيصل عىل قدر كاف من الغذاء أو الراحة كام‬
‫ذكرنا ذلك يف حديثنا عن الكسل‪.‬‬
‫_‪_  100  ‬‬
‫أما االختالفات التي تنشأ عن عيب جسمي‪ ،‬فقد تكون مثارا ملشاغبات األطفال‬
‫وشيطنتهم‪ .‬واألطفال ال يعرفون الشفقة مطلقا‪ ،‬ورسعان ما يتخذون الطفل ذا‬
‫العاهة غرضا لسخريتهم‪ .‬وأدهى من ذلك أهنم ال يرتددون عن إيذائه‪ .‬ولذلك ينبغي‬
‫للمعلم أن يراقب سلوك أطفاله إذا كان من بينهم طفل ناقص اجلسم‪ ،‬ويعمل جهده‬
‫ليحمي هذا الطفل حماوال أن يقرب التالميذ من فهم فائدة التعاون واحرتام الغري‪.‬‬
‫وقد يكون الذي يغري األطفال برفيق من بينهم‪ ،‬هو الضعف يف بنيته‪ ،‬أو صغر‬
‫ملحوظ يف سنه كام حيدث ذلك يف األقسام ذات الطبقتني أو الطبقات املتعددة‪ .‬ومثل‬
‫هذا الطفل كثريا ما يعذب ويسخر ملشيئة أقرانه‪ .‬وكثريا ما يصري لعبة يف أيدهيم‪ .‬وهنا‬
‫ينبغي أن حيرس املعلم أطفاله‪ ،‬وجينب التلميذ من رش رفقائه‪ ،‬وينبغي أن يصلح هؤالء‬
‫الرفقاء بكل ما لديه من وسائل نفسية‪ .‬فإن عجزت هذه الوسائل فليعاقب‪ ،‬ألن األمر‬
‫جد ينبغي أال يتهاون فيه‪.‬‬
‫وهناك الفروق اجلسمية التي بني الطفلة والطفل‪ .‬وينشأ عن تفوق األطفال‬
‫اجلسمي يف املدارس التي جيتمع فيها اجلنسان‪ ،‬أن تضطهد البنات أو تساء معاملتهن‪.‬‬
‫وخصوصا إذا كان األطفال من أرس ليس فيها بنات‪ ،‬أو كانت البنات قليالت يف‬
‫املدرسة‪ .‬والواجب أن يعرف املعلم الطريقة التي يقرب هبا بني اجلنسني‪ ،‬ويرفع هبا‬
‫من شأن الفتيات ليمنع هذا االضطهاد‪ ،‬وذلك أن يرشك تالميذه يف العمل كله‪،‬‬
‫ويشكر التفوق كيفام كان دون إشارة إىل الفارق اجلنيس‪ .‬وهكذا يتعلم األطفال كيف‬
‫يقدرون العمل بنظرة جمردة عن أي اعتبار‪ .‬وإذا كانت املساواة التامة سائدة يف القسم‪،‬‬
‫فإن األطفال سينرصفون إىل االجتهاد تاركني األحقاد‪ ،‬عىل أن هذه املعاملة ينبغي‬
‫أن تكون متيقظة‪ ،‬بحيث جتنب البنات كل عمل بدين مرهق‪ ،‬أو من شأنه أن يظهر‬
‫عجزهن اجلسمي أمام أقراهنن‪ ،‬وبحيث تكون املنافسة فردية‪ ،‬نعني التي ينظر فيها‬
‫املنافس إىل نفسه ويريد السبق هلا‪ ،‬ال مجاعية يتبارى فيها اجلنسان‪ ،‬ألن ذلك مما يغري‬
‫األطفال باستعامل القوة كلام غلبوا‪.‬‬
‫الفروق يف الطبع‪ :‬إن االختالفات يف الطبع كثرية‪ .‬وربام تكون أكثر من االختالفات‬
‫اجلسمية فهناك العامل الوراثي الذي خيتلف من فرد إىل فرد‪ ،‬وهنالك العامل الرتبوي‬
‫يف الوسط‪ ،‬وهو الذي يكيف الطبع املوروث‪ ،‬ويعطيه صورته النهائية عندما يكرب‬
‫الفرد ويبلغ أشده‪.‬‬
‫_‪_  101  ‬‬
‫وطبع الطفل ال زال يف التكوين‪ ،‬فهو مرن يمكن أن يتغري يف صورته وإن كان جوهره‬
‫الوراثي ثابتا‪ .‬غري أن هذه املرانة ال متكن الطفل من حتمل كل ما حيصل عليه‪ .‬فهو أمام‬
‫معلمه وأمام رفقائه يمكن أن يصدم بمعاملة ال يصرب عليها‪ ،‬أو بطبع آخر شديد عليه‪،‬‬
‫وتكون الصدمة إذ ذاك ذات أثر دائم‪ .‬لذلك ينبغي أن نراعي الفروق الصحية بني‬
‫األطفال‪ ،‬ونعمل عىل هتذيبها حتى ال يقع هذا االصطدام الذي حتدثنا عنه‪.‬‬
‫وليس يف اإلمكان بالطبع أن نصنع لكل طفل جوا خاصا مناسبا لطبعه‪ ،‬أو نميزه‬
‫بني رفقائه متييزا ظاهرا‪ .‬وإنام نراعي هذا الطبع يف الشكل الذي نعلم به عندما نسأل أو‬
‫نرشح‪ ،‬ويف الشكل الذي نجري به العدالة بني أطفالنا‪ ،‬ويف الشكل الذي نوجه به نمو‬
‫كل طفل‪ .‬ولن تكون مراعاة كل ما قلنا إال عامال ثانويا يف خلق اجلو العام يف املدرسة‪.‬‬
‫ألن طباع األطفال مرنة‪ ،‬وبمرانتها تتقارب تقاربا يمكن معه أن خيضعوا لنظام واحد‬
‫داخل القسم الدرايس‪.‬‬
‫ثم إن الطبع نفسه قد يكون يف حاجة إىل هتذيب‪ ،‬وعمل املدرسة يف هتذيب الطباع‬
‫كبري‪ .‬ال نعني الطباع الفطرية الوراثية يف جوهرها‪ ،‬ولكن الصور التي يتخذها هذا‬
‫الطبع الفطري خالل السنوات األوىل من حياة الطفل‪ .‬فهناك الطفل املنقبض الذي‬
‫ال خيالط الناس‪ ،‬وهذا جيد يف املدرسة جمتمعا منطلقا يرصفه عن عزلته‪ .‬وهناك الطفل‬
‫الذي جييء انقباضه من خوف أو خجل‪ .‬وهناك املتسلط الذي ال يعرف حقه ويتعدى‬
‫عىل حقوق اآلخرين‪ .‬هؤالء وكل أنواع األطفال املختلفة جيدون يف نظام املدرسة‬
‫وسلطتها وازعا يعودهم سلوكا إنسانيا اجتامعيا‪ ،‬وهيذب طباعهم‪.‬‬
‫ويبقى بعد هذا الطبع الثابت الذي سيصحبنا من الطفولة إىل املشيب ال يتغري مهام‬
‫كانت الرتبية ومهام كانت الظروف‪ .‬هذا الطبع الذي يعرف به املرء ويصري دليال‬
‫عليه‪ .‬وهذا الطبع الثابت هو الذي ينحدر إلينا عن طريق الوراثة‪ ،‬فهو إذا خمتلف كام‬
‫ختتلف الوراثة نفسها‪ .‬لكن العلامء األقدمني حاولوا أن يرجعوا الطباع كلها إىل أربعة‪،‬‬
‫فكان عندهم الدموي املرح الرسيع احلركة‪ ،‬والصفراوي الشديد العنيد‪ ،‬والسوداوي‬
‫املنقبض اليائس‪ ،‬واللمفاوي اهلادئ البطيء‪ .‬وحاول العلامء املحدثون أن يردوا‬
‫الطباع إىل قسمني‪ .‬واعتربوا الطبع أساسه إما منقبضا أو منبسطا‪ .‬فالطبع هو طبع‬
‫اإلنسان املنفتح للخارج‪ ،‬اإلنسان االجتامعي املرح‪ ،‬الذي يكثر الكالم بني الناس‪،‬‬
‫ويظهر عواطفه يف محاس كثري‪ .‬والطبع املنقبض هو طبع اإلنسان الكتوم املنكمش عىل‬
‫_‪_  102  ‬‬
‫نفسه‪ ،‬اإلنسان الذي يفضل السكوت ويميل إىل اليأس من الناس‪.‬‬
‫ومن العلامء من يستدل عىل الطبع بشكل اجلسم ونوع احلركات‪ .‬فيعتقد أن‬
‫صاحب اجلسم النحيف منقبض غالبا‪ ،‬وأن صاحب اجلسم الضخم منبسط‪ .‬وهناك‬
‫من استدل عىل الطبع بصفات الوجه ومعامله‪.‬‬
‫وأيا ما كان فإن يف طبع الناس ما يغري كثريا من هذين الصنفني النموذجيني‪ ،‬وما‬
‫يمكن أن يرجع إليها مع يشء من التسامح‪ ،‬فقد نجد يف الفرد الواحد أعراضا من‬
‫الصنفني‪ ،‬وقد يتغري الطبع يف املواقف احلرجة والصدمات‪ ،‬وكم من فخور منبسط‬
‫بأن جبنه عند اخلطر‪ .‬وآخر خجول يثبت لألمر اهلائل‪.‬‬
‫ويف املدرسة نالحظ فروق الطبع بني األطفال‪ ،‬نالحظ أشكاال متباينة متعددة‪.‬‬
‫ومن واجبنا أن هنتم هبذه األشكال ال أن نعتربها خارجة عن ميدان اهتاممنا‪ .‬ألن‬
‫الطباع يمكن أن نتخذها أسبابا إلحكام عملنا الرتبوي والدرايس‪.‬‬
‫فمن األطفال الصبور الذي يثبت للعمل ويقدر عليه‪ ،‬ومنهم اليؤوس الذي ال‬
‫يثبت ليشء‪ .‬فإذا عرفنا هذا النقص يف طفل من أطفالنا‪ ،‬أمكن أن نتالفاه بتحريض‬
‫العاطفة وبعثها لتقوم مقام الطبع الضعيف‪ .‬ألن الطفل امللول قد يكون يف نفس‬
‫الوقت غيورا عىل سمعته حمبا لنفسه وإذا تناولنا سمعته خياف عىل ضياعها‪ ،‬فإنه يقبل‬
‫عىل العمل ويصرب عليه‪.‬‬
‫ومن األطفال اخلجول املنقبض الذي ال يشارك يف عمل إال إذا دعي إليه‪ ،‬وال جيرس عىل‬
‫سؤال معلمه أبدا‪ .‬وإذا عرفنا خجله أمكن أن ننتبه إىل رغباته الكمينة ونحثه عىل إبدائها‪.‬‬
‫وإنا بعد هذا ال نطمع يف إزالة الطبع‪ ،‬ألن إزالته غري ممكنة‪ .‬وإنام نطمع يف أن نعرض‬
‫عن نقص الطفل الطبيعي كلام أحسسنا هبذا النقص‪ .‬ومتى تكرر هذا العمل وتكونت‬
‫العادة فإننا سنطمئن إىل وجود عامل قوي يؤيد الطفل إذا خذله الطبع‪ .‬وقديام قالوا‬
‫إن العادة طبع ثان‪.‬‬
‫أما إذا كان طبع الطفل شاذا ال يلني‪ ،‬أو الحظنا يف سلوكه أعامال ال يفرسها نقص‬
‫يف جهازه الرتبوي بالبيت أو املدرسة‪ ،‬فإن الطفل مريض يف حاجة إىل عالج‪ .‬أما‬
‫املراهق فإن سلوكه الغريب قد يدعو إىل الشك يف سالمة طبعه‪ ،‬لشدة ثوراته ومواقفه‬
‫العصبية‪ .‬لكن هذه الثورات ال تلبث أن تزول‪ ،‬فعىل املريب أن يعتربها كأعراض‬
‫مرضية البد منها‪ .‬وأن يتجنبها كام تتجنب األمراض‪.‬‬
‫_‪_  103  ‬‬
‫هذا ومن املالحظ أن طبع الطفل يتكيف إىل حد كبري بحسب الظروف التي يعيش‬
‫فيها الطفل‪ .‬ونخص بالذكر ما يطرأ عىل طبع الطفل عندما حيدث نقص يف جسمه‪،‬‬
‫هذا النقص حيرم عليه أنواعا من النشاط كان يامرسها‪ ،‬أو حيدث عنده إحساس جديد‬
‫بالضعف أمام أقرانه‪ .‬ويتبع هذا اإلحساس خجل مفرط وانرصاف إىل الدرس‬
‫ومثابرة عليه‪ ،‬أو انحراف يف السلوك وميل إىل التسلط والتعدي عىل الصغار وعالج‬
‫الطفل الذي من هذا النوع فيه ختفيف شعوره بالنقص وتشجيعه عىل العمل الذي‬
‫يقدر عليه‪.‬‬
‫ومثل هذا الشعور الذي نتحدث عنه حيدث عند البنت التي تنشأ وحيدة بني مجاعة‬
‫األطفال ألهنا تقارن بني جسمها الرطب الضعيف وأجسام أقراهنا القوية‪ .‬ومن ثم‬
‫تتخذ موقفا دفاعيا لتحمي ضعفها‪ ،‬وتنقبض‪.‬‬
‫الفروق العقلية‪ :‬إذا كانت الطباع ال تقبل التغري مطلقا‪ ،‬إال يف صورهتا العارضة‪.‬‬
‫فإن الصفات العقلية أيضا ال تقبل التغيري‪ ،‬وإنام ينحرص عمل املريب يف استخدامها‬
‫استخداما كامال واألطفال خيتلفون يف الصفات العقلية‪ ،‬فمنهم احلاد الذكاء‪ ،‬ومنهم‬
‫البليد‪ .‬ومنهم ذو الذاكرة احلافظة والذي ال يذكر شيئا‪ .‬ورغم هذا االختالف فإن‬
‫علامء النفس حياولون قياس الذكاء كام سنتحدث عن ذلك‪.‬‬
‫والفروق العقلية التي تالحظ بني األطفال قد ترجع إىل تفاوت يف السن‪ ،‬ألن‬
‫العقل ينمو كام ينمو اجلسم‪ ،‬ويتسع أفقه بالتجربة‪ .‬وقد ترجع إىل نوع الذكاء أو قوة‬
‫ملكة من امللكات العقلية‪ ،‬فمن األطفال من ينجح كثريا يف اللغة‪ ،‬لكنه يف احلساب‬
‫يبقى عاجزا يسبقه اآلخرون‪ .‬وكل هذه الفروق جتعل يف القسم الواحد طبقات من‬
‫التالميذ خمتلفة نتائجها‪.‬‬
‫وواجب املعلم عندما يلقي درسه أن يراعي فروق األطفال العقلية‪ ،‬وحيرض درسه‬
‫بحيث يفهمونه مجيعا‪ .‬وواجبه أال ييأس من فهم طفل مهام كان يظهر بليدا‪ .‬وواجبه‬
‫أيضا أن يستغل ذكاء كل طفل بحيث يوصله إىل أقىص ما يمكن أن يوصله إليه‪.‬‬
‫وهذا ال يتعارض مطلقا مع وجود مجاعة كبرية من األطفال يف قسم واحد‪ .‬ألن املعلم‬
‫مهام حاول أن يتساوى أطفاله يف املعرفة والنضج العقيل‪ ،‬فلن يقدر‪ .‬وسيبقى دائام‬
‫الضعيف الذي ال يستطيع حتضري املعلم وحرصه أن يلحقاه بالركب‪ .‬وسيبقى الطفل‬
‫الذكي الذي يتقدم برسعة يفوق أقرانه‪.‬‬
‫_‪_  104  ‬‬
‫الفروق العقلية وقياس الذكاء‪ :‬كل املعلمني يلقون أسئلة عىل تالميذهم‪ ،‬ويتلقون‬
‫أجوبة خمتلفة‪ ،‬أو جيرون امتحانا يكون النصيب من النجاح فيه قليال أو كثريا‪ ،‬وهذه‬
‫االختبارات التي جيرهيا املعلم يف قسمه ال تدل عىل مقدار ذكاء كل طفل بصفة حمددة‪،‬‬
‫وإنام تدل قبل كل يشء عىل مقدار فهمه للامدة التي يقع فيها االختبار‪ .‬ويستعمل هذه‬
‫االختبارات ليعرف النصيب الذي حصله أطفاله من املعرفة‪ ،‬وينظم دروسه بحسبها‪.‬‬
‫أما علامء النفس فإهنم جربوا االختبارات يريدون أن يستدلوا هبا عىل قدر الذكاء عند‬
‫األفراد‪ .‬لذلك جعلوا هذه االختبارات ال تعتمد كثريا عىل املعرفة‪ ،‬إال إذا كانت املعرفة‬
‫رضورية حتصل من التجربة اليومية ومن هنا يتبني لنا هذه االختبارات قد تأيت بنتائج‬
‫خمتلفة يف بيئتني خمتلفتني‪ .‬لكن علامء النفس الذين يشتغلون بأقيسة الذكاء حياولون أن‬
‫جيعلوا أسئلتهم عامة ال تؤثر يف اإلجابة عنها الفروق التي توجد بني البيئة والبيئة وهم‬
‫يضعون سلسلة من االختبارات ألطفال كل سن‪ ،‬ويتوخون يف وضعها أن تكون صاحلة‬
‫ملستوى هذه السن‪ ،‬وذلك بأن جيربوها عىل عدد كثري من األطفال قبل أن يعلنوا عنها‪.‬‬
‫ونتائج اختبارات الذكاء تبني مواهب كل طفل أو تنقص هذه املواهب‪ .‬واملختربون‬
‫يقيسون النتائج باألرقام بكيفية ليس هنا جمال البحث فيها‪ .‬ويكفي أن نقول إن الطفل‬
‫الذي جييب عن كل األسئلة التي تناسب سنه ذكي مائة باملائة‪ ،‬وإن األطفال يرتاوحون‬
‫يف هذا التقدير املائوي بني ‪ 140‬فوق املائة وأربعني أو مخسني فوق املائة‪.‬‬
‫وإنام هيمنا أن ننظر يف منافع هذه االختبارات وما يمكن أن جتنيه املدرسة من تطبيقها‪.‬‬
‫يعلم أن التوجيه املهني إنام يرتكز عىل اختبارات الذكاء‪ .‬فبها يوجه الطفل إىل امليدان‬
‫الذي يمكن أن ينجح فيه‪ ،‬واملدرسة التي تنمي عقله وتصلح له‪ .‬وهبذا التوجيه جتنب‬
‫املدرسة كل األطفال الذين ليس هلم استعداد للدراسات النظرية‪.‬‬
‫وإن هذه االختبارات إذا طبقت داخل املدرسة‪ ،‬توفر وقتا طويال عىل الطفل‪ ،‬ألهنا‬
‫تربز مواطن النقص فيه‪ .‬وتبني الناحية التي ينبغي للمعلم أن يلح عليها يف دروسه‪.‬‬
‫ثم إهنا بمثابة فحص وقائي يضمن لنا أن ال نقع يف التجربة الفاشلة‪ ،‬خاصة عندما‬
‫يتخصص الطفل‪ .‬فإذا قيس ذكاؤه رصف إىل االختصاص الذي ينجح فيه‪.‬‬
‫وإن اختبارات الذكاء تبني قدرة كل فرد‪ ،‬وحتدد للمعلم مقدار اجلهود التي يستطيع‬
‫أن يطلبها منه‪ .‬وهي يف هذا أكثر ضبطا من االمتحانات واالختبارات املدرسية‪.‬‬
‫_‪_  105  ‬‬
‫ألن االختبارات املدرسية تشتمل عىل فنون كثرية ينقص التلميذ يف واحد منها ويتفوق‬
‫يف اآلخر‪ .‬أما أقيسة الذكاء فإهنا عامة ال حتكم عىل االجتهاد والنشاط وإنام حتكم عىل‬
‫القدرة العقلية وحدها‪.‬‬
‫كيف يالحظ املعلم تالميذه‪:‬‬
‫إن املعلم الناجح هو الذي يعرف أطفاله‪ ،‬يعرف قدراهتم وطبعهم ويكيف طرقه‬
‫الرتبوية والتعليمية حسب هذه القدرات والطباع‪ .‬وحتصل هذه املعرفة باملالحظة‬
‫اليومية الدقيقة‪ .‬عندما يتلقى األطفال الدروس‪ ،‬وعندما يفرغون للعب‪ ،‬وعندما‬
‫يكونون خارج املدرسة‪ .‬واملعلم يف كل هذه احلاالت ينظر ويسمع‪ ،‬وحياول أن يعلل‬
‫الظواهر التي ينظرها‪ .‬وقد خيطئ يف مالحظاته ويرى أن طريقته اجلديدة غري صاحلة‪.‬‬
‫وهلذا نرى املعلم الناجح يف جتربة دائمة‪ ،‬ألنه حياول أن حيسن طرقه كلام ازدادت خربته‬
‫بالطفل‪ ،‬وبأطفاله الذين أمامه كل منهم عىل حدة‪.‬‬
‫ومالحظة األطفال رضورية للمعلم ال تغني عنها اخلربة السطحية التي تؤخذ من‬
‫الكتاب‪ .‬ثم إن أعامل التالميذ متنوعة وسلوكهم خيتلف بحسب املزاج املتغري‪ .‬وال يكفي‬
‫عمل واحد يقوم به الطفل لنحكم عىل الباعث الذي صدر منه العمل‪ .‬بل نحتاج إىل‬
‫مقارنة بني ترصفات الطفل يف حاالته املختلفة ليمكن أن نعلل تعليال مستقيام‪ ،‬ونخرج‬
‫بحكم صائب‪ .‬وقد يقتيض مجع هذه املالحظات التي نبني عليها احلكم زمنا طويال‪.‬‬
‫السجل النفساين‪ :‬ولذلك حيتاج املعلم إىل مجع مالحظاته يف دفرت خاص‪ ،‬يفرد كل‬
‫جزء منه لتلميذ من تالميذه‪ .‬لكن ماذا يالحظ املعلم وكيف جيمع مالحظاته؟ ثم كيف‬
‫يستخرج حكمه النهائي عىل قدرة الطفل ونواحي النشاط؟‬
‫يمكن للمعلم أن جيمع مالحظاته حسب النظام الذي يفضله‪ .‬فيخصص مثال جزءا‬
‫من سجله لتقييد املالحظات التي تتعلق بجسم الطفل ونموه‪ .‬وجزءا آخر بام يتعلق‬
‫بذكائه‪ ،‬وجزءا ثالثا بام يتعلق بطبعه‪.‬‬
‫وأول ما يالحظ عىل الطفل قدرته اجلسمية والعقلية عىل العمل املدريس‪ .‬ولعل‬
‫أساس السجل النفساين هو هذه املالحظات‪ .‬وحتصل هذه القدرة إذا برص الطفل قويا‪،‬‬
‫وكان سميعا وكامال ويتوقف نجاحه يف املدرسة إىل حد كبري عىل قدرته عىل تركيز‬
‫فكره واالستمرار يف هذا الرتكيز‪ .‬ويف وسع املعلم أن جيرب تالميذه يف وسط الدروس‬
‫_‪_  106  ‬‬
‫وينظر أهيم أقدر عىل االنتباه‪ ،‬ويسجل مالحظاته حول األطفال الذين رسيعا ما‬
‫ينتقل اهتاممهم من موضوع إىل موضوع‪ .‬ثم يسجل مالحظاته فيام يتعلق بذاكرة‬
‫التالميذ ونوع هذه الذاكرة‪ .‬وهل يرسخ يف ذهن التلميذ ما أبرصه أو ما سمعه‪.‬‬
‫أو ما فعله بحواسه‪ .‬ثم يسجل برسعة فهم الطفل لدروسه وبطئه يف الفهم‪.‬‬
‫ومما يساعد عىل معرفة ذكاء األطفال وطريقة تفكريهم‪ ،‬األسئلة التي يلقوهنا يف‬
‫الدرس‪ ،‬واملالحظات التي يبدوهنا حول نقطة‪ .‬فمن األطفال من يستعني عىل فهم‬
‫درسه باملقارنة بني املعلومات اجلديدة ومعلومات أخرى يعرفها‪ .‬ومنهم من يقف‬
‫عند األلفاظ وال ينفذ للمعنى وكل هذا يظهر يف أسئلة التالميذ وإجاباهتم‪ .‬ثم إن‬
‫الفروض املكتوبة تنم أيضا عن ذكاء التلميذ وطريقة إنجازها تنم أيضا عن مهارته‬
‫فمن األطفال من يعنى باملظهر اخلارجي لفروضه‪ ،‬ومنهم من جيد بسهولة الكلمة‬
‫الالزمة أو اجلواب املنتظر‪.‬‬
‫ويسجل املعلم مالحظاته حول طبع الطفل وحساسيته‪ .‬ويبدو طبع األطفال‬
‫يف ترصفهم مع بعضهم ويف سلوكهم جتاه املعلم والنظام املدريس‪ .‬فمن األطفال‬
‫الشديد القايس الذي ال حيس بالشفقة وال يعرفها‪ ،‬ومنهم الذي يتأمل عندما يقرأ قصة‬
‫مؤملة‪ .‬ومن األطفال من يؤثر فيه العقاب مهام كان طفيفا‪ ،‬ويعترب الثواب اعتبارا‬
‫كبريا‪ .‬وآخر ال خياف العقاب وال يفرح إذا نال مكافأة‪ .‬ومن املفيد أن يسجل املعلم‬
‫األعامل التي حيبها الطفل ويفضلها‪ .‬والدروس التي يبدو فيها نشيطا‪ .‬ومن املفيد‬
‫أيضا أن يالحظ ألعاب الطفل ورفاقه ومن خالل هذه املالحظات يمكن للمعلم‬
‫أن جيدد االجتاهات الكربى يف طبع الطفل‪.‬‬
‫ويمكن للمعلم أن يكمل مالحظاته بام جيمعه من معلومات يطلبها إىل أفراد‬
‫األرسة‪ ،‬أو باملعلومات التي يأخذها من الطفل فيام يتعلق بحياته املنزلية‪ .‬فمن‬
‫املهم أن يعرف املعلم ترصف الطفل خارج املدرسة أيضا‪ ،‬وربام يكون ترصف‬
‫الطفل يف منزله أقرب إىل حقيقة طبعه من ترصفه يف املدرسة‪ .‬ومن املهم أيضا أن‬
‫يعرف املعلم الكثري عن األرسة وأفرادها‪ ،‬وما يقع يف األرسة من أفراح وأحزان‪،‬‬
‫فإن هلذه احلوادث يف غالب األحيان أثرا عىل سلوك الطفل‪ ،‬وإن كثريا من نزواته‬
‫_‪_  107  ‬‬
‫تفرسه حياته املنزلية وحوادثها‪ .‬ومن املهم أيضا أن يكون املعلم عىل بينة من‬
‫ترصف األبوين‪ ،‬وحالتهام اجلسمية والعقلية‪ .‬وذلك ليعرف الصفات التي ورثها‬
‫الطفل أو حيرزها عىل األقل‪.‬‬
‫هذا وإن القيام بالسجل النفيس لكل تلميذ عمل صعب جدا‪ ،‬يتطلب جمهودا‬
‫متواصال‪ ،‬لكنه بمثابة الفحص الطبي الدقيق‪ .‬يساعد جدا عىل وصف العالج‬
‫النافع‪ .‬فإذا صرب له املعلم فليتقن عمله ولينظمه حتى يمكن خللفه أن يستعمله‬
‫وينتفع بام فيه من مالحظات وال ينس أن هذه املالحظات ال قيمة هلا إذا مل تكن‬
‫مضبوطة ضبطا تاما‪ .‬وإن املالحظ رسيع إىل الغلط يف تفسري ما يشاهده وهو فارغ‬
‫النفس‪ ،‬فكيف إذا كان يالحظ ويفرس يف جو بعيد من اهلدوء‪ .‬واألحسن أن يكتفي‬
‫املعلم بتسجيل الواقع كام رآه‪ ،‬ثم ينتظر وقتا آخر لينظم مالحظاته ويستخرج منها‬
‫النتيجة‪ ،‬وأال ينتظر طويال قبل أن يدون مالحظاته‪ ،‬فربام يرسع إليه النسيان‪ ،‬أو‬
‫يشتبه عليه األمر‪.‬‬

‫_‪_  108  ‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫الرتبية اجلسمية‬
‫مكان الرتبية اجلسمية‬
‫يف النظام الرتبوي‬

‫رأينا يف موضوع آخر من هذا الكتاب نصيب الرتبية اجلسمية يف األنظمة الرتبوية‬
‫املختلفة؛ فمربون ال يعلقون عليها أية أمهية‪ .‬كمريب القرون الوسطى األروبية‪،‬‬
‫أو مؤدبينا التقليديني إىل قوم تكون عندهم العناية باجلسم جانبا من أهم جوانب‬
‫الرتبية‪ ،‬كام كان األمر يف بالد اليونان قديام‪.‬‬
‫والذي يسأل مل اختلفت نظرة القوم إىل الرتبية اجلسمية‪ ،‬ويتأمل يف األسباب التي‬
‫دعت إىل هذا االختالف جيد أن احلاجة وحدها هي التي أملت للناس خطة السري‪،‬‬
‫نظرا لظروف معيشتهم‪ ،‬ونظرا للغاية التي هيدفون إليها عندما يضعون أنظمتهم‬
‫الرتبوية فإذا كانت األجسام قوية ألن األطفال يعيشون يف البادية ويامرسون أعامال‬
‫شديدة بطبيعة معيشتهم‪ ،‬فال حاجة إىل أن يفكر املريب يف تقوية أجسام تالمذته‪.‬‬
‫كام أن الرتبية التي ال تفكر إال يف هتيء كتاب حساس بأرسع الوسائل‪ ،‬قمينة أال‬
‫تضيع الوقت يف يشء ربام تراه زائدا وعديم الفائدة وسيجد املتأمل أسبابا أخرى‬
‫ترجع إىل عقائد الناس ونظرهتم إىل اجلسم‪ .‬جيد أن البيئات املغرقة يف التمسك‬
‫والتدين قد حترتز من اجلسم‪ ،‬وتعتربه مقرا لنزعات الرش‪ ،‬وعندئذ تعمل جاهدة‬
‫لتقهره فتقل نزواته‪ .‬وسيجد أن املربني يف كل زمان ومكان ال هيتمون باجلسم إال‬
‫عىل قدر اعتقادهم أن هذا االهتامم سيكون له أثر ما عىل تالمذهتم‪ .‬فإذا مل يعتقدوا‬
‫ذلك أمهلوا عندئذ هذا اجلانب وبخلوا عليه بالوقت الذي يعتربونه ثمينا وجديرا‬
‫بأن ينفق يف وجه آخر‪.‬‬

‫_‪_  111  ‬‬
‫واحلقيقة أن النظم الرتبوية‪ ،‬وأقصد النظم التي وضعتها السلطة‪ ،‬أو التي هييمن‬
‫عليها فرد أو مجاعة من املربني املحرتفني‪ ،‬ال تعطينا صورة صادقة ملا كانت وال زالت‬
‫عليه الرتبية اجلسمية فإن الناس يف كل عرص فهموا أمهية اجلسم فاعتنوا برتبيته‪ ،‬إما‬
‫يعهدون بذلك إىل املريب الواحد‪ ،‬أو يتخذون مربيا خاصا بالتمرين البدين‪ .‬ثم ال هيمنا‬
‫االسم الذي يطلق عىل هذا التمرين وال الشعار الذي يتخذ إلنجازه سواء كان االسم‬
‫مترينا عىل ركوب اخليل‪ ،‬أو تدريبا عىل احلرب‪ ،‬أو سباقا رياضيا ويظهر أن عناية الناس‬
‫باجلسم وتربيته‪ ،‬ليست ناجتة فقط عن اعتقادهم أن العقل السليم يف اجلسم السليم‬
‫كام هو احلال عند اإلغريق‪ ،‬بل أصوهلا أبعد من ذلك‪ ،‬فإن الرجل قوي البنية يكتيس‬
‫قيمة من هذه الصفة‪ .‬فإذا فقدها فلن يشفع له أنه تعلم كثريا من العلوم النظرية‪ .‬وال‬
‫أدل عىل هذا تعليق الناس عىل الرجل املتعلم ضعيف البنية بكالم يظهر من حتته بعض‬
‫العطف وبعض االزدراء‪ ،‬الغربيون يتحدثون عن «فأر الكتب» ومثلنا الدارج يقول‬
‫«هيا إىل أهيا الطلبة ريثام يصل الرجال»‪.‬‬
‫أما نظامنا احلايل‪ ،‬فقد استقرت فيه الرتبية اجلسمية‪ ،‬فخصصت هلا مناهجنا نصيبا‬
‫كام خصصت لسائر املواد الدراسية‪ .‬لكننا إن قارنا مكان الرتبية البدنية عندنا ومكاهنا‬
‫يف أنظمة حديثة مثل أنظمة البالد األنكلوساكسونية‪ ،‬نجد أننا ال نزال نعترب الوقت‬
‫املخصص هلذه الرتبية وقتا ضائعا أو يكاد واحلقيقة أن جهاز مدارسنا ال يفي باحلاجة‬
‫يف هذا امليدان‪ ،‬وقليل هي املدارس التي يف ساحتها أدوات تساعد عىل ترويض‬
‫األجسام وتقويتها‪ .‬وأقبح من هذا ما يف نفوسنا من ازدراء للرياضة يف املدرسة‪ .‬وقد‬
‫جتد املعلم الذي حيتفل بدروسه ويتهيأ هلا‪ ،‬لكنه ال هيتم باألمر إن كان درس الرياضة‬
‫البدنية‪ .‬حتى إذا جاء الوقت أمىض درسه كام يتفق‪ ،‬أو حاول تعويضه أو االستغناء‬
‫عه بتاتا‪.‬‬
‫والذي يتأمل األعامل الكثرية التي نحمل عليها أطفالنا يف املدرسة‪ ،‬وكلها أعامل‬
‫فكرية متتابعة‪ ،‬ويدخل يف حسابه سن األطفال وهي سن النمو‪ ،‬ويعترب حاجات‬
‫اجلسم النامي إىل أن يتحرك ويتمدد‪ ،‬يوشك أن يقتنع هذا املتأمل بأن الرياضة‬
‫_‪_  112  ‬‬
‫البدنية رضورية للطفل‪ ،‬ويوشك أن يبحث عن وسيلة ما ليزيد يف حصة هذه‬
‫الرياضة بدل أن ينقص من أطرافها‪ .‬فإذا اقتنع هبذا فسيرصف جمهوده ليهيء‬
‫لساعتها‪ ،‬ويبحث عن أحسن الوسائل وأنجعها ليجعل درسه مفيدا‪.‬‬
‫ويف املدارس احلديثة حركة قوية‪ ،‬ترى املناهج ال ختصص الوقت الكايف للتدريب‬
‫البدين‪ ،‬وتسعى لتكون له يف املدرسة مكانة أوسع‪ ،‬فيزاد يف ساعاته‪ ،‬وجتهز من‬
‫أجله املالعب واألدوات‪ .‬بل توجد مدارس ختصص للرياضة البدنية نصف حصة‬
‫الدراسة اليومية‪ ،‬فتنزهلا مقام كل املواد الدراسية جمموعة سواء بسواء‪ .‬ويقول‬
‫أصحاب هذه املدارس إن الطفل الذي يميض نصف اليوم يف مرح وحركة يقبل‬
‫عىل الدروس بانتباه ورغبة متضاعفني‪ ،‬فليست الزيادة يف حصة التمرين اجلسمي‬
‫يف نظرهم إال وسيلة للحصول عىل نتيجة دراسية أحسن‪ ،‬ثم هي يف نفس الوقت‬
‫جتهز الطفل بجسم قوي يقدر عىل مقاومة األمراض‪ ،‬وينمو يف انسجام فيضفي عىل‬
‫الشخص حلة من الرشاقة واالعتداد‪ ،‬مها الصفتان الظاهرتان يف الشخصية القوية‪.‬‬
‫والواقع أن هذه احلركة تعود بفلسفتنا إىل اعتبار الطفل ككل ال يتجزأ كام كان‬
‫الشأن يف عهد اإلغريق‪ .‬فالشخص‪ ،‬طبعا هلذه النظرية‪ ،‬ال يستطيع أن يكون شيئا‬
‫آخر غري ما يسمح به جسمه والذي يريد أن ينشأ رجال له من الصفات كيت وكيت‪،‬‬
‫ثم يقطع النظر عن جسم هذا الرجل‪ ،‬إنام حياول املحال‪ .‬وإن من رشوط اخللق‬
‫السامي السمح سالمة اجلسم أيضا‪ .‬ومن املمكن أن نزيد عىل هذه االعتبارات أن‬
‫اجلسم الريايض أقرب إىل أن يكون جسام ينضبط لصاحبه ويأمتر‪ ،‬فيقدر عىل القيام‬
‫بأعامل تتطلب الدقة واملهارة ولعل هذه الدقة يف احلركة تفتح للمرء باب املعرفة‪،‬‬
‫ما دامت اليد مفتاح العقل كام يقول روسو‪.‬‬
‫نرى أن مكانة الرتبية اجلسمية يف مدارسنا يف حاجة إىل التعزيز‪ ،‬كام أهنا ملا تستقر‬
‫بعد يف النظام الرتبوي احلديث بصفة عامة‪ .‬واالندفاع إىل األمام‪ ،‬والناس يسعون‬
‫يف أن ينال جسم الطفل من العناية مثل ما يعطى لعقله‪.‬‬

‫_‪_  113  ‬‬
‫الصحة والرتبية اجلسمية‬
‫املدرسة العادية تتقبل فقط الساملني‪ ،‬وتوجه املعتلني إىل املؤسسات املختصة‪،‬‬
‫مثل مستشفيات األطفال التي تشتمل مدارس الحقة هبا‪ ،‬ذلك أن تالميذ املدرسة‬
‫يتعايشون طول اليوم ويستعملون نفس األدوات الدراسية‪ ،‬وكل هذا يسهل انتقال‬
‫العدوى بينهم إن وجد هناك مصاب‪ .‬واحتياط املدرسة هلذا رضوري‪ ،‬ألن املدرسة‬
‫تشعر بمسؤوليتها عندما تؤدى مجاعة األطفال يف حجراهتا‪ .‬ولذلك تبقى ساهرة عىل‬
‫صحة األطفال فيفحصون يف فرتات كل سنة ملا خياف أن يوجد بينهم معد‪.‬‬
‫الوقاية‪ :‬واملدرسة تستبق العدوى وتتقيها بكل الوسائل؛ فإذا كان يف البلد وباء‬
‫حجز التالميذ يف بيوهتم مهام كان هذا املرض‪ .‬حتى إن بعض املدارس تويص بإرسال‬
‫التالميذ إن ظهر يف قسم ما عدة إصابة بالزكام‪.‬‬
‫ومن قبيل الوقاية ما تشرتطه املدرسة لقبول األطفال من الرشوط الصحية مثل‬
‫التلقيح ضد اجلذري‪ .‬وتقوم إىل جانب هذا بالتلقيح ضد األمراض يف اإلطار املدريس‬
‫أو بمساعدة املؤسسات الطبية‪ ،‬ويف املغرب أمراض منترشة تساعد املدرسة عىل‬
‫مكافحتها كأمراض العني املعدية «الرتاخوم» ويساهم املعلم يف هذه املكافحة مسامهة‬
‫إجيابية‪ ،‬ألن العالج يتكرر مرات يف اليوم ويعم كل األطفال عىل سبيل االحتياط‪.‬‬
‫نضيف إىل هذا حرص املدرسة عىل النظافة‪ ،‬والرشوط الصحية يف بناياهتا وأعامهلا‪،‬‬
‫ومحلها األطفال عىل نظافة األجسام والثياب واألدوات‪ .‬هذا احلرص مؤكد نظرا‬
‫ألن أي إخالل بالنظافة هييء الطريق النتشار املكروب‪ ،‬وألن عادة النظافة ال تتخذ‬
‫بسهولة‪.‬‬

‫_‪_  114  ‬‬
‫ورعاية األطفال الصحية تريد أن يفتح املعلم عينيه ليبرص التغريات التي تطرأ‬
‫عىل أطفاله‪ .‬فيلتمس هلا األسباب‪ .‬وبعض هذه األسباب املرض الذي يعرتي‬
‫الطفل ويبقى خفيا‪ .‬فإذا وجد املعلم شيئا من هذا أعلنه للسلطة املدرسية إن كان‬
‫احلال يقتيض أن تتخذ التدابري اإلدارية‪ ،‬فإن كان األمر يتعلق بمرض طفيف ال‬
‫خيشى انتشاره أم بنقص جسامين هيأ للطفل الت َِّعب كل الوسائل لئال يقوم بمجهود‬
‫جسمي ال يطيقه‪ ،‬ولئال يزيد مرضه‪ .‬وقد أرشنا يف مكان غري هذا إىل النقص يف‬
‫حواس األطفال وكيف يعاجله املعلم عندما يرتب التالميذ يف حجرة الدرس‪ ،‬أو‬
‫هييء متارينه‪.‬‬
‫وإن أثر الوقاية الصحية يف املدرسة يمتد إىل األرس‪ ،‬وينترش فيها عن طريق‬
‫األطفال‪ ،‬فيكون التلميذ داعية ومرشدا يف منزله‪ ،‬وحيصل بعمله اخلري الكثري من‬
‫حواليه‪.‬‬
‫وهناك مرض خاص بالتالميذ وهو اعوجاج العظام الفقرية‪ .‬وسببه جلسة‬
‫الطفل غري املستوية‪ ،‬وينشأ عن هذا املرض مخور عام يف اجلسم وضعف قد يتسبب‬
‫يف أمراض خطرية‪ .‬وواجب املعلم أن حيتاط هلذا ويسهر عىل جلسة تالميذه سهرا‬
‫مستمرا لكنه ال يكفي أن يأمر التلميذ بني الفينة واألخرى باالعتدال يف اجللوس‪،‬‬
‫وإنام حيتاج إىل تفادي كل ملل يعرتي الطفل ويدفعه إىل اخلمول اجلسمي‪ .‬ألن‬
‫الطفل إذا مل جيد يف الدرس مرغبا وىل عنه وأعرض‪ .‬وإذا غاب انتباه املرء فرسعان‬
‫ما يسرتخي جسمه‪ .‬األحسن وقاية هنا أن خيلق املعلم نشاطه يف درسه مستمرا‪،‬‬
‫ويتوخى أن يشاركه التالميذ بالعمل الذهني واجلسمي‪ .‬عىل أن اجلسم الريايض‬
‫أقرب إىل أن يتحمل تعب املكوث يف حجرة الدرس ساعات متتاليات يف جلسة‬
‫صحية ال تلتوي‪ .‬فال بد أن يعنى املعلم بالرياضة البدنية إذ ًا كوقاية العوجاج‬
‫الفقار‪.‬‬
‫وإن حواس الطفل أثمن ما يف جسمه‪ ،‬ألن هبا يتصل بام حوله ومن‬
‫حوله‪ .‬وبواسطتها يكتسب املعرفة ويكون إنسانا فإذا كانت الرتبية‬
‫اجلسمية فإنام جيب أن تبدأ باحلواس‪ .‬واحلواس بحكم تركيبها ووظيفتها‬
‫_‪_  115  ‬‬
‫الدقيقة التي تؤدهيا رسيعة العطب إن مل جتد العناية الكافية‪ .‬وأول العناية النظافة‪.‬‬
‫ونشري إىل العني وأمهيتها‪ .‬وهي أداة العمل األوىل يف املدرسة فإذا ضاعت فقد ضاع‬
‫الشخص كله أو كاد‪ .‬وإذا اعتربنا أن يف بالدنا تتفشى أمراض العني‪ ،‬واعتربنا أننا نخرس‬
‫يف كل سنة آالفا من املواطنني‪ ،‬يعمون فيصبحون عالة عىل األمة‪ ،‬ويلقون بفقدان‬
‫برصهم رشا ليس كمثله رش‪ ،‬تبينا مقدار ما جيب أن نبذله من اجلهود للمحافظة عىل‬
‫أعني تالمذتنا‪ ،‬واستشعرنا مسؤوليتنا يف هذا االجتاه‪ .‬وقد حتدثنا عن التلقيح الوقائي‬
‫ضد مرض الرتاخوم‪ ،‬وبقيت أنواع أخرى من وقاية العيون‪.‬‬
‫منها اكتشاف نقص قوة اإلبصار عند بعض األطفال‪ ،‬فإذا الحظ املعلم طفال‬
‫يرتكب أغالطا عندما ينقل نصا من عىل السبورة‪ ،‬أو جيد صعوبة يف دروس القراءة‪،‬‬
‫فليبحث لعل السبب يف ضعف برص الطفل‪ ،‬فإذا وجد ذلك فال يكتف بتغيري مكان‬
‫جلوس التلميذ ليقربه من السبورة‪ ،‬بل يسعى لريسله إىل الطبيب‪ ،‬ويدفع األبوين‬
‫ليشرتيا النظارتني وجيدا يف عالج ابنهام‪ .‬وربام يقنع اآلباء برضورة هذا العمل إذا بني‬
‫أن البرص الضعيف ال ينفك يزداد ضعفا حتى ينتهي إىل ما ال حتمد عقباه إن مل يؤخذ‬
‫باكرا ويعالج بحزم‪.‬‬
‫ومنها اإلنارة الكافية يف حجرة الدرس‪ ،‬وجتنب األعامل املجردة للبرص‪ .‬ويويص‬
‫األطباء بأن تفتح النوافذ عن شامل احلجرة الدراسية‪ ،‬ألن ذلك أريح للعني‪.‬‬
‫ونلخص الوقاية الصحية يف املدرسة هكذا‪:‬‬
‫‪ - 1‬النظافة الكاملة‪ .‬نظافة الطفل‪ ،‬ونظافة جهاز املدرسة‪.‬‬
‫‪ - 2‬التعاون مع الطبيب‪ ،‬وترقب ما يظهر من اإلصابات ملكافحتها‪ ،‬والتلقيح‬
‫ضد األمراض املعدية‪ ،‬وإبعاد املصابني عن املدرسة‪.‬‬
‫‪ - 3‬اجللسة الصحية‪ ،‬والتهوية الكاملة واإلنارة‪.‬‬
‫‪ - 4‬رعاية حواس الطفل بصفة خاصة‪ ،‬واستشارة الطبيب كلام دعت احلال‪.‬‬

‫_‪_  116  ‬‬
‫الرتبية اجلسمية والعمل املدريس‬
‫رأينا يف حديثنا أن الرتبية اجلسمية متصلة كل االتصال بأعاملنا املدرسية‪ .‬ألن سالمة‬
‫اجلسم رضورية للقيام بأي جمهود جسميا كان أو عقليا‪ .‬واملريب ال ينبغي أن ينسى هذا‬
‫ويعد النشاط اجلسمي بمعزل عن النشاط العقيل فإن لكل ما يعرتي اجلسم من صحة‬
‫أو سقم‪ ،‬صدى أكيدا عىل األعامل املدرسية‪ .‬وإذا ما الحظ املريب عىل أحد تالميذه‬
‫تأخرا يف الدرس‪ ،‬أو كسال معرتيا أو مزمنا‪ ،‬فلينظر أول ما ينظر إىل احلالة الصحية‪،‬‬
‫وسيجد يف كثري من احلاالت أن السبب يرجع إىل صعوبة جسمية‪ ،‬باد أو خاف‪ ،‬أو‬
‫عياء عاما كثريا ما يصيب اجلسم الصغري الذي ينفق طاقة كبرية ليحقق نموه الطبيعي‪.‬‬
‫واحلالة الصحية تفرس هذه احلاالت التي نالحظها يف بعض األحيان؛ التلميذ النبيه‬
‫الذي يصبح بني عشية وضحاها تلميذا كسوال خامال‪.‬‬
‫وإن للمريب احلق يف أن يراقب خارج املدرسة‪ ،‬فيطلع عىل أحوال معيشته يف أرسته‪،‬‬
‫ويتدخل يف األمر إن رأى أن األرسة ال تيرس البنها كل الظروف املواتية للعيش عىل‬
‫أسس قويمة‪ ،‬تغذية كافية من حيث الكمية والنوع‪ ،‬النظافة‪ ،‬اهلواء الصحي‪ ،‬الراحة‬
‫الرضورية بحيث ينام بانتظام يف حجرة مهواة‪ ،‬وبحيث ال يطلب إليه القيام بعمل‬
‫مرهق‪ .‬هذه املراقبة من حق املريب ومن واجبه‪ ،‬إذ يطلب إليه أن ينشئ أفرادا أقوياء‬
‫أسوياء‪ ،‬فإذا مل يتعهدهم يف كل يوم بكل وسائله يف املدرسة وخارجها‪ ،‬فلن يكون‬
‫العمل املدريس كله إال نفخا يف الرماد‪.‬‬
‫هذا وإن النشاط املدريس نفسه فرصة لرتبية األجسام‪ ،‬سواء يف دروس الرياضة‬
‫البدنية التي سنتحدث عنها بعد حني‪ ،‬أو يف الدروس األخرى‪.‬‬

‫_‪_  117  ‬‬
‫إن من الدروس ما يمكنه أن يلقى خارج حجرة الدرس‪ ،‬وكلام أمكن هذا فال‬
‫يرتدد املعلم يف فعله‪ ،‬ألن فائدة دروس اهلواء الطلق مزدوجة‪ ،‬اجلسم يسرتيح ويزداد‬
‫حيوية بنسبة اهلواء اجلديد الذي يستنشق‪ ،‬والتلميذ يزداد انتباها ملدرسه حتت تأثري‬
‫جدة املكان‪ ،‬واخلفة التي يشعر هبا يف جسمه‪ ،‬وأكثر نفعا من هذه احلاالت املدرسية‬
‫املنظمة‪ ،‬طويلة كانت أم قصرية‪ ،‬والتي يقصد منها رشح درس من الدروس وتكملته‬
‫باملشاهدات املناسبة ال أعني الفائدة العلمية هلذه النزهات الدراسية فهي كثرية‪ .‬وإنام‬
‫أقصد ما يستفيده جسم الطفل أثناء الرحلة‪ ،‬وخاصة إذا كانت يف اهلواء الطلق وسريا‬
‫عىل األقدام‪ ،‬إذ ليست رياضة أكمل من امليش‪.‬‬
‫ثم إن من الدروس ما يتطلب القيام بحركات توقيعية أو متثيلية كدرس األناشيد‬
‫واملوسيقى‪ .‬وناهيك إذا اجتعمت احلركة والتوقيع‪ ،‬أقول إن النشيد املدريس مناسبة ال‬
‫جيمل أن نستهني هبا ونعتربها فرتة اسرتاحة سلبية‪ ،‬بل هنتبلها ونزيدها فعالية باحلركات‬
‫املنتظمة حتى يتأدب جسم الطفل فينساق إىل الوزن ويتعلم إنجاز احلركات اخلفيفة‬
‫األنيقة‪ .‬وهذا بدء تربية سامية‪ ،‬تربية احلس اجلاميل الذي هو مظهر اجلسم الكامل‪.‬‬
‫والرتبية البدنية تستفيد أيضا من حركات اجلسم املنظمة التي تتخلل الدرس‬
‫كوسيلة لتجديد النشاط‪ .‬فكلام كان من التالميذ ما يدل عىل إعياء‪ ،‬يبادر املعلم فيقطع‬
‫الدرس هنيهة بحركات رياضية يفعلها األطفال وهم يف أماكنهم ال يربحون‪ ،‬وإنام‬
‫يقفون فيحركون أعضاءهم العليا يف نظام وهم يتنفسون تنفسا عميقا وكل نوافذ‬
‫احلجرة مفتوحة بالطبع‪.‬‬

‫_‪_  118  ‬‬
‫درس الرتبية البدنية‬
‫دروس الرتبية البدنية متارين يقصد منها تسهيل جريان الدم‪ ،‬وتغذية اجلهاز النامي‬
‫بام حيتاج إليه من هواء نقي‪ ،‬ثم تعهد املفاصل وإكساهبا مرونة تعضد النمو وتيرسه‪.‬‬
‫جريان الدم‪ :‬وإن كل األعضاء تستمد زادها من الدم اجلاري يف العروق‪ .‬فيجب‬
‫أن ختصص حركات لكل عضو تناسبه حتى يقتسم اجلسم ما حيمله إليه الدم بانتظام‪.‬‬
‫ومن املمكن عندما هييء املعلم درس الرياضة البدنية‪ ،‬أن يقسم وقته فيعطي كل‬
‫جزء من أجزاء البدن حقه‪ ،‬وأن حيرتم هذا التوزيع عند اإلنجاز‪ .‬ذلك ألن العضو‬
‫الذي يتمرن ينمو‪ ،‬والعضو الذي ال يتمرن ال ينمو‪ .‬أما نرى املالكم وقد تضخمت‬
‫عضالت يديه وأعضائه العليا واملسابق وقد تصلبت عضالت رجليه؟ فتفاديا ألن‬
‫يكون جسم الطفل متفاوتا قوة عضوا عن عضو‪ ،‬نضع نصب أعيننا هذه القاعدة‪،‬‬
‫ونتأمل أننا إن أعطينا الطفل جهازا بدنيا متكامال متناسبا‪ ،‬فقد حصلنا عىل نتيجة‬
‫مجيلة‪.‬‬
‫وحلركة واحدة يقوم هبا العضو‪ ،‬قد ال متس كل عضالت العضو وهي كثرية‪ ،‬فلم‬
‫ال ننوع احلركات ونعدها‪ ،‬ليكون لكل عضلة من نشاطنا نصيب‪.‬‬
‫التنفس‪ :‬والتنفس مركز الدروس الرياضية‪ ،‬ألن فيه رسا من أرسار الصحة وأمهية‬
‫التنفس كبرية ال تقل عن أمهية التغذية نفسها‪ .‬فال يمل املعلم من التوصية عىل التنفس‬
‫الصحي‪ ،‬واحلرص عىل توفري اهلواء اجلاري يف حجرة الدرس‪ ،‬والسعي إىل توفريه يف‬
‫املساكن التي يأوي إليها أطفاله‪.‬‬
‫ونظرا هلذه األمهية‪ ،‬فإن درس الرياضة البدنية ال يفهم له‬
‫معنى إن مل جير يف ميدان فسيح ويف اهلواء الطلق‪ ،‬ما عدا إذا منعنا‬
‫_‪_  119  ‬‬
‫من ذلك حالة اجلو من برودة فوق العادة‪ ،‬أو مطر‪ .‬ويف هذه احلالة ينبغي أن يكون‬
‫الدرس يف بناء مفتوحة كل منافذه‪.‬‬
‫الرياضة والنمو‪ :‬قلنا إن الرياضة إن أحسن فهمها‪ ،‬توزع األغذية التي حيملها الدم‬
‫فتعطي العظام فرصة لتنمو وتطول‪ ،‬كام أهنا تعطي املفاصل ومنها تطول العظام‪،‬‬
‫املرونة الالزمة هلذا النمو‪.‬‬
‫فإذا كانت احلركات الرياضية عنيفة ومتعبة‪ ،‬فإن اجلهد الذي تطلبه إىل اجلسم‬
‫يذهب بكثري من رصيد القوة الذي يدخره‪ ،‬ويصل إىل عكس النتيجة املقصودة‪ .‬كام‬
‫أن احلركات العنيفة تصلب املفاصل فتعوق نمو العظام‪ ،‬وإذا فالبد من تدبري حركات‬
‫متوسطة‪ ،‬ليس منها محل أثقال وال جري رسيع وال أي من املنافسات العنيفة‪ .‬وواضح‬
‫جدا أن صعوبة القيام باحلركات وعنفها نسبيان بحسب سن األطفال وحالتهم‬
‫الصحية‪.‬‬
‫والفقار الظهري يطلب منا عناية خاصة ألنه أهم عظام اجلسم‪ ،‬بل هو قوامه‪.‬‬
‫وكلام كان الطفل صغريا‪ ،‬كانت احلركات التي هتدف إىل تعهد الفقار هينة‪ ،‬ألن ظهر‬
‫الصغري رسعان ما متسه الصدمات‪ .‬وثم وسيلة حسنة لتعهد الفقار ومحل الطفل عىل‬
‫االعتدال يف مشيته‪ :‬وهي أن حيمل ثقال صغريا عىل رأسه ويميش به مستقيام‪ ،‬وهذا‬
‫أيضا وسيلة لعالج ما أرشنا إليها آنفا من إصابة ظهر التالميذ هبذا االعوجاج الذي‬
‫يسمونه مدرسيا‪.‬‬
‫وليتم درس الرياضة‪ ،‬ينبغي أن ننهيه بحامم يفرك اجللد ويكمل الدروة الدموية‪،‬‬
‫فإن مل يكن احلامم فال أقل من أن يعوض بمناديل شخصية‪ ،‬واحد لكل تلميذ‪ ،‬يفركون‬
‫هبا أجسامهم‪.‬‬
‫وأخريا فإن درس الرياضة البدنية ليس وال ينبغي أن يكون محال ثقيال كام نعهد‬
‫ذلك‪ .‬ألن هذا الدرس الثقيل املحتوي عىل متارين متعبة مرض كل الرضر كام قلنا‪ ،‬وألن‬
‫من التالميذ الضعيف الذي ال ينهض ملثله‪ .‬ونحن نرغب يف بناء األجسام السليمة‪،‬‬
‫وأحق األطفال هبذه العناية ضعاف األجسام فإذا بدأنا بتهيء درس عىل قواعد‬
‫_‪_  120  ‬‬
‫صحية‪ ،‬فبوسعنا أن نحمل كل األطفال‪ ،‬بل واجبنا أن نحمل كل األطفال عىل‬
‫ممارسته‪ ،‬حتى الضعيف منهم‪ ،‬وخاصة الضعاف منهم‪ ،‬ألن الضعف الذي يظهر عىل‬
‫بعضهم قد يكون ناجتا عن قلة احلركة‪ .‬وعىل أي فسيتأكد املعلم من أن ليس هناك أي‬
‫مرض عضوي‪.‬‬
‫ثم إننا إن أحسنا هتيئ درس الرياضة‪ ،‬وهيأنا له اجلو العاطفي املناسب فسنجعله‬
‫حمبوبا يتسابق إليه األطفال‪ ،‬سيام وهم شديدو الرغبة بدافع طبيعي إىل السعي واحلركة‪.‬‬

‫_‪_  121  ‬‬
‫الفصل اخلامس‬

‫الرتبية اخللقية‬
‫لن نقف طويال باحثني عن التعريف األحسن لألخالق ولن نتناقش طويال لنعرف‬
‫هل اخللق موطنه الطبع أو العاطفة وهل يتحكم فيه العقل املفكر‪ .‬لكننا سنقبل أن‬
‫لكل هؤالء أثرا يف التكوين اخللقي‪ ،‬ثم سننظر عمل األخالق يف حياة اإلنسان وأثرها‬
‫يف رقيه االجتامعي‪ .‬وسنبحث يف األخالق يف املدرسة‪.‬‬
‫العقل واخللق‪:‬‬
‫إن الرتبية العقلية تنرصف إىل هتييء اإلنسان ملواجهة الواقع‪ ،‬فموضوعها قبل كل‬
‫يشء األشياء واألحداث‪ .‬وإمداد اإلنسان باملعرفة النظرية التي تنري وجه هذه األشياء‬
‫واألحداث بصفة موضوعية‪ .‬أما الرتبية اخللقية فتتناول الشخص نفسه‪ ،‬تتناوله لتنري‬
‫طريق إرادته وتؤيد هذه اإلرادة بعد أن توجهها للخري‪ .‬الرتبية اخللقية تتناول الشخص‬
‫لتوقظه إىل رس وجوده‪ ،‬وتفطنه إىل القيم املجردة حتى يكسب مكانه من هذه القيم‪.‬‬
‫ولئن كانت الرتبية العقلية تعتمد عىل التبيني والتفصيل فإن الرتبية اخللقية تعمد‬
‫قبل كل يشء عىل العاطفة تثريها‪ ،‬وكلام كان إحساس الشخص عميقا عندما تعمل‬
‫عىل تربية خلقه‪ ،‬كان تأثره أثبت وأرسخ‪ .‬ألن الرتبية العقلية تريد أن يلمس العقل‬
‫حقائق قد تكون متشعبة وجمهولة بينام هم الرتبية اخللقية أن هتذب اإلرادة وتوجهها‪.‬‬
‫فيظهر ألول نظرة أن ال عالقة بني املعرفة واخللق لتباين موضوعيهام‪ ،‬ونتأمل فيتبني‬
‫لنا أن تربية اخللق‪ ،‬وفيها توجيه للسلوك‪ ،‬وفيها معرفة الشخص نفسه وتقديرها‪ ،‬ال‬
‫متكن إال بمعرفة الواقع الذي نتصور فيه السلوك وال متكن إال بمعرفة القيم التي‬
‫يتميز هبا الشخص‪ ،‬ومعرفة األفراد الذين يتميز عنهم‪ .‬ونتأمل فنجد أن الشخص ال‬
‫يريد شيئا ال يعرفه‪ ،‬فالبد من أن تسبق املعرفة كل سلوك خلقي‪ ،‬والبد من أن يقدر‬
‫العقل الضوابط اخللقية التي يترصف بمقتضاها ويستبق نتائجها املنطقية‪.‬‬
‫والواقع أن القوانني اخللقية نفسها يضعها العقل املفكر انتظارا للمصلحة التي‬
‫يتوقعها‪ ،‬أو عىل األقل يقبلها هذا العقل املفكر اقتناعا بأن هذه املصلحة رهن بتطبيق‬
‫القانون اخللقي‪.‬‬
‫غايات الرتبية اخللقية‪:‬‬
‫هتدف الرتبية اخللقية إىل غاية كربى هي‪ :‬إصالح املجتمع بإصالح الفرد‪.‬‬
‫_‪_  125  ‬‬
‫فالقانون اخللقي هيدف إىل ضامن احلياة االجتامعية وتأمينها قبل كل يشء‪ .‬إذ يتضمن‬
‫التزامات يتحملها الفرد ويكيف سلوكه عىل منواهلا‪ ،‬لكن الفرد بعمله اخللقي يرقى‬
‫ويتقدم يف سلم القيمة املطلقة فبوسعنا إذا أن نضيف إىل الرتبية اخللقية غاية ثانية هي‬
‫التقدم بالفرد‪.‬‬
‫وإذا سمونا بفكرة اخللق واعتربناها عند األفراد الذين يتشبعون بالفكرة حتى‬
‫تصبح رائدهم إىل عامل مثايل فقد بلغنا إىل أرفع غاية هتدف إليها الرتبية اخللقية‪.‬‬
‫العمل اخللقي‪:‬‬
‫ليس العمل اخللقي ككل األعامل التي نأتيها يف حياتنا اليومية واملهنية‪ ،‬نعني أن‬
‫السلوك اخللقي ليس فقط احلركات التي نأتيها كحركات العامل يف معمله ال يقصد‬
‫إال إنجازا آليا‪ ،‬بل السلوك اخللقي شعور بأن ما تفعله واجب مقدس ال ينبغي أن‬
‫نروغ عنه‪ .‬وهو أسلوب يف الترصف فرضه الضمري أو فرضه االقتناع العميق‪.‬‬
‫نشعر يف صميمنا أن أعاملنا ينبغي أن تتفق والفضيلة‪ ،‬ونشعر عندما تكون أعاملنا‬
‫موافقة هلذه الفضيلة برىض عميق‪ ،‬كام نشعر كلام خالفناها أو كانت أعاملنا الفاضلة‬
‫استجابة لضغط القوة املفروضة علينا ببؤس وقلق شديدين‪ ،‬هذا الشعور هو الضمري‪،‬‬
‫وكل سلوك خلقي ينبثق عنه‪.‬‬
‫وعىل هذا فعمل اإلنسان ال يستحق أن يوصف بأنه خلقي ما دام ال يصحبه الشعور‬
‫بالواجب‪ ،‬ال يصحبه إخالص الضمري‪ ،‬كام ال يستحق أن يسمى خلقيا أي عمل يكره‬
‫عليه املرء ويأتيه بدون إرادته‪ .‬إنام يكونه العمل الذي تصدره إرادة واعية حيركها‬
‫الضمري املقتنع سواء كان القانون اخللقي الذي يتمسك به الضمري فضيلة عرفية أو‬
‫دينية‪ ،‬وقريب من هذا يقوله بعض علامء الدين الذين ينكرون صحة إسالم الذي يعبد‬
‫اهلل خوفا من عقابه أو طمعا يف جزائه ال اقتناعا منه بمبادئ الدين‪.‬‬
‫عىل أن األعامل اليومية التي يقوم هبا املرء خاضعة لقوانني خلقية وضعتها اجلامعة‪،‬‬
‫وهو حني يعيش مع أرسته أو خارجها‪ ،‬حيث يتعامل مع التاجر‪ ،‬أو مع احلكومة‪،‬‬
‫يأيت أعامال خلقية صارت عادة لديه حتى إنه ال يفكر يف أنه يقوم بواجب مفروض‪،‬‬
‫نعني أن ضمريه ال يستحرض دائام هذا الواجب لكن متى وقف يتأمل واحدا من هذه‬
‫األعامل العادية ليغريها يف اجتاه الواجب اخللقي استيقظ الضمري ليعيده إىل الفضيلة‪.‬‬
‫والناس ال يستوون يف التمسك بالفضيلة وفهمها‪ ،‬معناه أهنم خيتلفون درجة يف‬
‫حياة الضمري‪.‬‬
‫_‪_  126  ‬‬
‫نجد يف أسفل الدركات ذاك الذي يلزم الصواب مرتقبا‪ ،‬ال يلزمه إال خوفا من رش‬
‫يناله إن خالف‪ ،‬وفعل مثل هذا ال يوصف بأنه خلقي حتى وإن كان يف الظاهر مطابقا‬
‫لقانون األخالق‪.‬‬
‫ونجد أيضا الطفل الذي ملا يدرك الواجب‪ ،‬ملا يتكون فيه بعد شعور بالواجب‪،‬‬
‫لكن ينتظر منه أن خيضع للنظام األخالقي السائد يف جمتمعه‪ .‬وخيضع الطفل هلذا‬
‫النظام فيحرتم ملك الغري‪ ،‬ويمسك عام هنى عنه‪ ،‬يفعل هذا ال عن اقتناع لكن للضغط‬
‫العاطفي أو املادي الذي نفرضه عليه‪ .‬ويف قياس تعريفنا للعمل اخللقي‪ ،‬فسلوك‬
‫الطفل املجرد عن شعور الضمري ال يوصف بأنه خلقي وال مناف لألخالق‪.‬‬
‫لكن املجتمع عندما يفرض قانونا خلقيا يضعه‪ ،‬أو عندما يطبق قانونا دينيا‪ ،‬ال ينتظر‬
‫من األفراد إنجازا يسبقه الوعي واالقتناع‪ ،‬إنام ينظر املجتمع إىل التطبيق الظاهري‬
‫للقانون ال يعنيه أتاه املرء بوحي من ضمريه أو ال‪.‬‬
‫فالعمل اخللقي بالنسة للمجتمع هو إنجاز القانون اخللقي فقط‪ ،‬وكل من طبق‬
‫هذا القانون يف عني الناس رجل ذو خلق مهام كانت نيته‪ ،‬ومهام كانت درجة اقتناعه‪،‬‬
‫املجتمع يعترب ذا خلق الرجل املرتقي الفاضل بالرغم عنه والطفل الذي نأخذه‬
‫بالعاطفة أو بأي وسيلة أخرى ما داما ال حييدان عن سنة سنها‪.‬‬
‫اخللق يف املدرسة‪:‬‬
‫واملدرسة تريب الطفل لكي يتكيف بمجتمعه وينضبط بضوابطه‪ ،‬وتربيه أيضا‬
‫وهتذب نفسه ليشعر بالواجب وليكون سلوكه أخالقيا باملعنى اخللقي الكامل‪.‬‬
‫يلتحق الطفل باملدرسة حيث يكتشف ناسا ال تربطه هبم عاطفة القرابة واألرسة‪،‬‬
‫أطفال يف مثل سنه‪ ،‬ومعلمني أجانب عنه وتطلب إليه املدرسة أن يكون كام تريد‬
‫ويترصف كام تريد‪ .‬ويفقد الطفل الدالة العاطفية التي كان يف البيت يقدمها شفيعا‬
‫كلام خالف وجيد مكان هذه الدالة التي تقبلها األرسة دائام رصامة ال عهد له هبا‪.‬‬
‫وهنا خيضع الطفل أيضا للقانون اجلديد ويترصف حسب اإلرادة املفروضة عليه‪.‬‬
‫لكن رغباته الطبيعية تتنازعه مع هذا اخلضوع‪ ،‬فإذا مل تتخذ املدرسة وسيلة لتحفظ‬
‫عليه استسالمه للقانون األخالقي‪ ،‬بل لتجعل خضوعه استسالما راضيا‪ ،‬يوشك أال‬
‫يكون كام تريد املدرسة إال بالقدر الذي يكون عقاهبا الحقا به‪.‬‬
‫_‪_  127  ‬‬
‫تبدأ تربية الطفل اخللقية يف املدرسة عندما تربز أمامه أوامر حتدد صلته االجتامعية‬
‫برفاقه ومعلميه‪ ،‬ويطبع الطفل هذه األوامر فال يلبث أن يعتادها‪ .‬واملدرسة‪ ،‬قلنا‪،‬‬
‫تريد أن تكسبه إىل جانب هذه األوامر التي أطاعها خوفا أو طمعا لذلك هتيء له‬
‫جماال يتعلم فيه بنفسه السبب الذي من أجله ألقيت إليه األوامر اخللقية؛ متكنه من‬
‫التعاون مع رفاقه يف إنجاز األعامل املدرسية فيتعلم فضيلة التعاون ويتعلم فائدة قيام‬
‫كل فرد بواجبه‪ .‬متكنه من مشاركة رفاقه يف تبني زميل له فقري ومساعدته بام يدخره‬
‫من نقود‪ ،‬فريى نتائج إحسانه ويقتنع بفضيلة التضامن االجتامعي‪ .‬متكنه بصفة عامة‬
‫من التجربة االجتامعية املوجهة أثناء العمل اليومي يف املدرسة أو حول املدرسة فيقف‬
‫عىل احلقيقة التي كنا نسوقه إليها سوقا فال يلبث أن يقتنع ثم ال يلبث أن يعي فيكون‬
‫ذا ضمري كام تقصد املدرسة يف أبعد أهدافها‪.‬‬
‫احلرية واخللق‪:‬‬
‫وإن هذه الفرص التي هتيئها املدرسة تقتيض إعطاء قسط كبري من احلرية للطفل‪ ،‬مثال‬
‫نعطيه حرية االختيار عندما نطلب إىل األطفال إنجاز عمل ما مجاعة مجاعة‪ ،‬فإذا اختار‬
‫رفاقه يف العمل حرا وبدون أن نفرضهم عليه كان أقرب إىل أن يشعر إىل أن اختياره‬
‫يلزم أن يتمم عمله ويتعاون مع مجاعته‪ ،‬معناه أنه سيشعر بالواجب وباملسؤولية‪.‬‬
‫مثال نعطيه حرية املشاركة يف مرشوع مدريس ألنه إذا شارك خمتارا سيشعر بأنه تكفل‬
‫بفرض هو عن إنجازه مسؤول‪.‬‬
‫وهذه احلرية التي نتحدث عنها ال تكون بالطبع حرية مطلقة‪ ،‬فال نسمح للطفل أن‬
‫يسري عىل غري هدى‪ ،‬ال نسمح له مثال أن يدلس يف واجب مدريس بدعوى أنه حر يف‬
‫نقل دفرت صاحبه بل ننكر عمله بجد ورصامة ليشعر التلميذ بالواجب واملسؤولية‪،‬‬
‫ولنفهم التوجيه عىل أنه ليس الشك املبدئي يف إخالص الطفل وحسن نيته‪ ،‬ألن هذا‬
‫الشك الذي نتبع به الطفل كلام حترك ضغط أقبح الضغط‪ .‬ويشعر به الطفل فيدلس‬
‫علينا وإذا به ال يترصف كام نحب إال مداهنة ال إرضاء لشعوره بواجبه‪ .‬نكون إذا‬
‫خملصني عندما نعطي الطفل حرية وننتظر منه خملصني أن يقوم بواجبه‪ ،‬فإما فعلنا‬
‫فسنجد الطفل عند حسن ظننا ال حمالة وإال نفعل فإنام نحجز عاطفة الطفل وننال من‬
‫شخصه ثم ال نجد إال النتائج التي ال نحبها‪.‬‬

‫_‪_  128  ‬‬
‫ال ننس أن الشدة تفرض عىل اجلسوم ال عىل اإلرادات وإن كل منطقنا ال يفيد إذا‬
‫جئنا نرغب الطفل يف فضيلة نظرا لنتائجها‪ .‬إنام يفيد التأثري العاطفي‪ ،‬نرتك الطفل‬
‫يكتشف بنفسه مجال العمل الذي أتاه وسيقوم انفعاله العاطفي إرادته وسيوجهها‬
‫الوجهة التي نريدها‪.‬‬
‫لنر ما حيدث يف مدرسة تتجه إىل التالميذ باألمر بالوعظ النظري ثم ال توجد للطفل‬
‫فرصة حتى يرى كيف تطبق هذه الفضائل التي يتحدث إليه هبا‪ ،‬وحتى يقر أثر العمل‬
‫يف عاطفته‪ .‬ومثل هذه املدرسة تعتمد عىل اإلكراه والزجر‪ ،‬وتريب ناشئة من املنافقني‪.‬‬
‫العادة واخللق‪:‬‬
‫قلنا يف هذا الفصل إن أعاملنا العادية اليومية نأتيها دون أن يكون للضمري حركة‪،‬‬
‫ودون أن نفكر يف قيمتها اخللقية‪ .‬وقلنا إن مثل هذا العمل إن كان يريض املجتمع ألنه‬
‫مناسب لألخالق فإننا ال نسميه عمال خلقيا ألن الشعور بالواجب ال يصحبه‪.‬‬
‫واملدرسة ال تريد فقط أن تكون يف األطفال عادات خلقية بل تريد أن تبلغ هبم‬
‫إىل درجة الوعي اخللقي‪ .‬والعمل اخللقي ترصف إرادي كام قلنا‪ ،‬يأتيه املرء شاعرا‪.‬‬
‫والطفل قليل اإلدراك ضعيف اإلرادة‪ ،‬لذا نعتمد يف ترويض هذه اإلرادة وتقويتها‬
‫عىل االنفعال العاطفي‪.‬‬
‫فإذا مل تكن الفرصة خللق هذا االنفعال العاطفي أو كان العمل الذي نطلبه إىل‬
‫الطفل ال يتأتى معه حتريك العاطفة‪ ،‬فإننا ندعم إرادته بالعادة‪.‬‬
‫النظافة مثال عمل يصعب أن نجد عند الطفل استجابة عاطفية له‪ ،‬فنصريه عادة‬
‫عند الطفل حتى إذا ارتكزت فيه كان نظيفا دائام دون أن نجد نحن يف سبيل هذه‬
‫النتيجة عناء املناقشة أو االقناع‪ ،‬وال عناء التأثري العاطفي الذي ال يسهل يف مثل هذا‪.‬‬
‫ويعتمد عىل العادة يف الرتبية اخللقية‪ ،‬خاصة يف األخالق الشخصية‪ ،‬نعني التي‬
‫تتعلق بالفرد وحده كالنظافة والنظام واالقتصاد الخ‪.‬‬
‫املثال واخللق‪:‬‬
‫نعرف أن غريزة التقليد قوية يف الطفل‪ ،‬تسهل عليه إنجاز حركات وإخراج‬
‫أصوات وتعلم حقائق تكمل استعداده للتكيف االجتامعي‪ .‬ويقلد الطفل أيضا‬
‫السلوك السائد يف بيئته يف امليدان اخللقي‪ .‬يرى يف بيئته ناسا يتأدبون فيتأدب مثلهم أو‬
‫يرى ناسا يكذبون فيكذب مثلهم؛ ال خيرتع سلوكا من عنده أبدا‪.‬‬
‫_‪_  129  ‬‬
‫وجييء إىل املدرسة فيعطيه أمثلة يقتدي هبا رفقاؤه ومعلموه‪.‬‬
‫وكيفام تكن شخصية الطفل فلن يكون بمنحى من تأثري املثال الذي جيده يف البيت‬
‫أو املدرسة وكيفام تكن األوامر التي تعطاه‪ ،‬فإن داعي التقليد سيكون أقوى من هذه‬
‫األوامر‪ .‬لذا فمهم جدا إذا أردنا أن نعطي الطفل خلقا صاحلا أن هنيء له وسطا‬
‫صاحلا‪ .‬لنجنبه يف البيت كل عارض يطلع فيه عىل رش األعامل‪ ،‬لنقتصد يف أقوالنا‬
‫ولنبد االحرتام حلقوق الغري إن أردنا أن يكرب الطفل غري ثرثار وال مستخف بالناس‪.‬‬
‫وليكن جو املدرسة خاليا من أمثلة السوء‪ .‬وإن كان يف املدرسة فرد فاسد‪ ،‬فلنحرتس‬
‫منه ولنخف أن يعدي سلوكه األطفال‪ ،‬وإن من واجب املدرسة يف مثل هذه احلالة أن‬
‫تعالج األمر من أقرب الطرق‪ ،‬وذلك بإبعاد هذا عن املدرسة إبعادا هنائيا‪.‬‬
‫وإن املعلم هو املحور الرئييس الذي يدور حوله طموح كل طفل؛ األطفال‬
‫يرسعون إىل تقليده يف كل يشء‪ ،‬فينبغي أن يكون حيث تكون األمثلة الصاحلة علو‬
‫نفس وفضل‪ .‬هذا الرشط واجب‪ ،‬فام تعني تعليامت األستاذ إذا مل يكن نفسه أول من‬
‫يدين هبا‪ .‬وال ينفع أن يتظاهر أمام األطفال غري خملص ألهنم دقيقو اإلحساس ال‬
‫خيدعون بسهولة‪.‬‬
‫األطفال هيتمون بأحوال معلمهم ويستقصوهنا‪ ،‬فيطلعون عىل حالته خارج‬
‫املدرسة‪ ،‬ويرقبونه يف القسم عندما يكافئ أو يعاقب‪ ،‬ال يفوهتم حركة واحدة من‬
‫حركاته‪ ،‬يشعرون بعدله إن كان عادال‪ ،‬ويشعرون به إن مل يعدل‪ ،‬بل يشعرون أيضا‬
‫إن كان يفضل بعضهم عىل بعض ولو تفضيال خفيا‪.‬‬
‫الرتبية بالسلب‪:‬‬
‫عىل أن املثال السوء يف املدرسة وخارجها يكمن يف الطريقة التي نتحدث هبا إىل‬
‫الطفل عن الرذائل التي ينبغي أن يتجنبها‪ ،‬ألن الطفل يكون بعيدا عن ختيل رذيلة ما‬
‫حتى نجيء هبا نحن ظانني أننا ننفعه‪ .‬عندما أطلب إىل الطفل أال يكذب‪ ،‬أعلمه يف‬
‫نفس الوقت أن هناك شيئا اسمه الكذب وأن بوسع املرء أن يكذب‪ .‬وعندما أخربه‬
‫عن قصة شخص رسق أو اعتدى أضع أمامه مثال سيئا ال يؤمن أن يقتدي به مهام‬
‫استقبحته له ومهام وعظت‪ .‬ويظهر أن الرش أشد إغراء للناس من اخلري‪.‬‬

‫_‪_  130  ‬‬
‫ومن احلكمة عىل أي حال أن نتجنب ما نسميه الرتبية بالسلب‪ ،‬فال نقدم للطفل‬
‫إال أمثلة تعطيه نموذجا لبناء خلق مستقيم أو نتجنب هذا السلب يف كل حديثنا ويف‬
‫كل أعامل املدرسة‪ .‬فدرس القراءة يكون مفيدا من الناحية اخللقية إذا كان حول فتى‬
‫صالح نجح يف عمله ونال إعجابنا‪ ،‬ويكون مرضا إذا كان حول الفتى املجرم‪ .‬ال‬
‫خيفف من رضره أن هذا املجرم نال عقابا‪ ،‬وال خيفف من رضره حتى إن شعر الطفل‬
‫باشمئزاز منه واحتقار له‪.‬‬
‫خري «أن نبني للطفل نموذجا حسنا ونثري محاسه لفعل الفضيلة من أن نحذره من‬
‫الرذيلة وعواقبها»‪.‬‬
‫لكن كيف نعالج هفوات األطفال حني هيفون؟ من واجبنا أن ال نسكت عندئذ وأن‬
‫نستعمل كل سلطتنا لنسرتجع برهة حرية الطفل التي مل يستحسن استعامهلا‪ .‬ومن واجبنا‬
‫أن نعزره عىل عمله‪ .‬لكن واجبنا أيضا أال نشهر به ونبسط فعلته أمام زمالئه ليشاهدوا‬
‫قبحها‪ .‬ال نفرض عليه عقابا فاضحا ظانني أن هذا العقاب سيكون موعظة اآلخرين‪.‬‬
‫ال نفعل هذا أوال ألن لألطفال شخصية نحن مسؤولون عن رعايتها وينال منها الفضح‬
‫والتشهري‪ .‬ثم ال نفعله خاصة ألننا نخاف أن يعدي هذا املثال فيأيت بالنتيجة التي ال‬
‫ينتظرها عادة ذلك الذي يريد أن يؤدب املجموع بتقريع فرد مذنب وعقابه‪.‬‬
‫حقيقة ثابتة مغناطيس املثال احلسن الذي يأخذنا بسموه ومجاله فال نزال به عالقني‪.‬‬
‫وأن نتأمل كبار الرجال نجد أهنم تقدموا يف طريق الفضيلة ألهنم نزعوا إىل مثالية‬
‫متسامية‪ .‬وأن نفتقد فاضال واحدا سام به إىل الفضيلة خوف اهلاوية ال نجد شيئا‪.‬‬
‫دروس األخالق‪:‬‬
‫يف برامج التعليم حصص خصصت لدروس األخالق‪ .‬هذه الدروس مقسمة‬
‫أبوابا بحيث يطلب الربنامج أن تدرس كل حصة منها يف يوم معني‪.‬‬
‫وإن كان أمر وضع الربامج مفروغا منه وال سبيل إىل حماولة تعويض درس‬
‫األخالق‪ ،‬فإن الذي ينبغي هو أن نتأمل أوال أن األخالق ال تعلم كام تعلم اللغة وال‬
‫تقسم كام تنقسم مادة احلساب‪ .‬نتأمل أن رشح ما ال يكفي أن يتعلق به األطفال ألن‬
‫العقل‪ ،‬قلنا‪ ،‬ليس احلافز للسلوك اخللقي‪ .‬نتأمل أن غايتنا الرتبوية أن نكسب الطفل‬
‫خلقا فاضال ال أن نحدثه فيحفظ ما قيل يف فضل الصدقة والتعاون واإلخالص‪.‬‬
‫_‪_  131  ‬‬
‫وإن كان البد أن (نعلم) دروس األخالق‪ ،‬فلنجعل فرصة لنعطي الطفل مثاال‬
‫صاحلا‪ ،‬نحدثه مثال ونقرأ له قصة قوية عن شخص‪ ،‬وليكن هذا الشخص طفال‪،‬‬
‫أحسن يف عمله‪ ،‬نقرأ القصة دون تعليق يقصد منه البسط النظري‪ ،‬إذ يكفي املثال‬
‫ليجيء الطفل بعزيمة جديدة‪.‬‬
‫ثم يأيت بعد ذلك درس األخالق احلقيقي حني هنيء للطفل فرصة لإلحسان يف‬
‫عمله سواء يف القسم معامال رفاقه‪ ،‬أو خارج القسم معامال الناس‪ .‬درس األخالق‬
‫احلقيقي يتلقاه الطفل يف احلياة اليومية‪ ،‬يف أنواع النشاط اخللقي الذي نجعله ممكنا‪.‬‬
‫الدرس احلقيقي يف العمل اليومي الذي يتكرر حتى يصبح عادة راسخة‪ .‬نقرأ للطفل‬
‫قصة طفل ثابر وصرب ونجح‪ .‬وبعدها نشجع الطفل عىل املثابرة ونجعلها ممكنة بالنسبة‬
‫إليه‪ ،‬فال نرهقه ونحمله ما ال يطيق‪ ،‬وال نفضحه إن ضعف عن واجبه مرة‪.‬‬
‫يف كل يوم درس أخالق ألن يف كل يوم يمكن أن حيسن الطفل عمال‪ .‬فال نعتمد‬
‫عىل درس األخالق إال بقدر ما نعتربه فرصة إليقاظ محاس الطفل وبعثه ليعمل‪ .‬وال‬
‫نعترب درس األخالق إال فرصة لتسمية الفضيلة التي نمثل هلا حتى يتسنى لنا إلقاء‬
‫الضوء عىل كل مواطن التطبيق التي سيكتشفها الطفل بعد ذلك كل يوم‪.‬‬
‫وليكن أخوف ما نخافه أن نرتك الطفل عاطال فيذهب به هواه ظانني أن وعظ‬
‫«درس األخالق» العميق كفيل أن يقومه‪.‬‬
‫الدين واألخالق‪:‬‬
‫إن مبادئ األخالق ‪،‬قلنا‪ ،‬إما أن تكون من وضع اجلامعة من اخلارج‪ .‬وهذا شأن‬
‫الدين الذي نقتنع به ونجعله قانونا لسلوكنا‪.‬‬
‫الدين دافع قوي للمثل األخالقية‪ ،‬نعني الفكرة الدينية التي يتشبه هبا املرء حتى‬
‫تصدر عنها كل أفعاله‪ ،‬ال الدين كام يفهم عادة من أنه نسك ننجزه بحكم العادة ودون‬
‫أن يكون هلا أثر يف نفوسنا‪.‬‬
‫الربامج تطلب إلينا أن نعلم الطفل مناسك دينه‪ ،‬وينبغي أال يكون تعليمنا‬
‫قارصا عىل احلركات‪ ،‬بل فرصة لتوجيه سلوك الطفل عىل ضوئها ال تفيد‬
‫الصالة إن مل تكن خاشعة ومل يعدها املرء أوقاتا حياسب فيها ضمريه أمام اهلل‪.‬‬
‫وال تفيد الصدقة من يعطيها شيئا إن مل يعتربها واجبا إنسانيا نحو الفقري‪ .‬لنعلم‬
‫_‪_  132  ‬‬
‫الطفل إذا أن الدين قانون يضبط النفس وهيذهبا‪ .‬وإن أقرب ما نتقرب به إىل اهلل طهارة‬
‫قلوبنا وإخالص نياتنا كلام قمنا بعمل ديني‪.‬‬
‫واحلق أن الدين ال يتعلمه الطفل كام يتعلم اللغة مثال‪ ،‬بل يتعلمه قبل كل يشء من‬
‫املثال الذي أمام عينيه يف كل يوم‪ .‬وهلذا ينبغي أن يكون درس الدين نقطة منها تبدأ‬
‫مالحظاتنا بعدئذ للمواطن التي نطبق فيها ما قرأناه‪ .‬إذا تعلمنا كيف نتوضأ فلنتوضأ‬
‫بعدها كل يوم مستشعرين أمهية الطهارة البدنية وهي رشط لطهارة الروح‪.‬‬
‫وهكذا يكون الدين واألخالق يف طريق واحد يف املدرسة يتساندان ليكونا يف الطفل‬
‫عادة تضبط كل حياته عندما يعي ويستيقظ إىل مسؤوليته عن نفسه وعن أفعاله‪.‬‬

‫_‪_  133  ‬‬
‫الفصل السادس‬

‫الرتبية العقلية‬
‫ينشأ الطفل ليعيش كبريا يف انسجام مع واقعه‪ ،‬يبدأ جاهال كل يشء‪ ،‬عاجزا عن فهم‬
‫ما حييط به ثم ينمو جسام وعقال‪ ،‬وتنمو فيه استعدادات كثرية‪ .‬لكن هذه االستعدادات‬
‫وحدها ال تعطيه املعرفة التي حيتاجها حول نفسه وحول العامل الذي يعيش فيه‪.‬‬
‫وإن عقل الطفل هو األداة الكربى التي هبا يكتسب كل معرفة تقربه من االنسجام‬
‫املطلوب له يف حياته‪ .‬وهذه األداة حتتاج إىل توجيه وهتذيب أثناء نموها حتى تكمل‬
‫مستقيمة‪.‬‬
‫تربية احلكم‪:‬‬
‫احلياة يف عني الطفل مليئة بالعجائب‪ ،‬يف كل يوم تعرض له جتربة متلك نفسه‪ .‬ذلك‬
‫ألن الطفل مقبل عىل عامل جديد بالنسبة إليه‪ .‬فاألشياء ملا تفقد يف نظره روعتها‪ .‬نزيد‬
‫هذا عىل رغباته النفسية امللحة فيظهر لنا أن ترصفه االندفاعي وراءه قوة ال يملك أن‬
‫حيبسها‪ ،‬إذ يعتقد أن العامل وجد لرييض طلباته‪ ،‬وأنه حر بوسعه أن يفعل ما شاء‪.‬‬
‫هذا حكم الطفل قبل أن ينمو وقبل أن هتذب عقله التجارب اليومية وإرشاد املريب‪.‬‬
‫يعترب نفسه حرا ال حيد من حريته حتى خوف عقاب يرتتب عىل أعامله‪ .‬وحتى عجزه‬
‫الذي نراه نحن وال يراه هو عن تنفيذ ما يرغب فيه‪.‬‬
‫وأول عملنا هو أن نشعره بأن العامل يسري عىل نظام ال خيضع لسلطان رغباته‪ ،‬نعلمه‬
‫بكيفية عملية أن هذا النظام بناه العقل حسب قواعد منطقية حتتم حدوث النتائج كلام‬
‫كملت األسباب‪.‬‬
‫هذا الطفل الذي ال يعرف قيمة النقود مثال حيسبها مادة يعطيها أبوه كلام طلب‪.‬‬
‫نعلمه يف القسم يف درس املطالعة مثال كيف يكسب الصانع درامهه عندما يبيع ما‬
‫أنتجه‪ .‬فإذا مل ينتج شيئا مل جيد دراهم‪.‬‬
‫وبالتجربة املستمرة التي نصححها يكتسب هذا الطفل الفكرة األساسية للنظم‬
‫االجتامعية واملادية‪.‬‬
‫وإن عمل املدرسة أبعد مدى من توجيه جتربة الطفل وتصحيحها‪ ،‬هذه التجربة‬
‫التي تنتهي إىل إدراك للواقع موضوعي‪ .‬عمل املدرسة أن تريب يف عقل الطفل قدرة‬
‫عىل احلكم السليم القوي‪ ،‬احلكم الذي يصدره الطفل دون أن يتأثر بالعاطفة‪ ،‬ودون‬
‫أن خيدعه عن احلقيقة خادع‪.‬‬

‫_‪_  137  ‬‬
‫جيب أن يتعلم الطفل كيف يصدر حكام مستقال عن اآلخرين‪ .‬فيتعلم أال يصدق‬
‫كل ما خيرب به دون أن يتأكد من صحته ويعرضه عىل معيار عقله‪ ،‬فإن من أهم األمور‬
‫أن يستقل املرء يف حكمه ويتحرر من التقليد والتبعية‪.‬‬
‫أثناء العمل املدريس اليومي نعلم الطفل كيف يستعمل حواسه استعامال ثابتا‪ ،‬يبرص‬
‫حقيقة األشياء التي يبرصها وكيف يميزها بتدقيق‪ ،‬كيف يسمع األصوات ويتعرف‬
‫عليها متاما‪ .‬نعلمه كيف يتأكد من اخلرب إذا سمعه وكيف يشك يف إمكانه ما دام مل‬
‫يثبت لديه هذا اإلمكان‪ .‬نعلمه بصفة عامة دقة املالحظة ونعوده إياها‪ .‬ألن املالحظة‬
‫الدقيقة رشط يف إصدار حكم صادق‪.‬‬
‫ولذا فليس املهم يف املدرسة أن نزود الطفل بمعرفة غزيرة‪ ،‬املهم أن نعلمه كيف‬
‫يفكر وكيف حيكم‪ .‬ويقتيض أن نرعى دائام يف دروسنا جانب التعليل والتطبيق‬
‫العلمي‪ ،‬فال نعترب درسا ناجحا إال الدرس الذي أوجدنا فيه مادة ملالحظة الطفل‬
‫وتعليله وحكمه‪ .‬ويقتيض أيضا أن نقصد يف مادة الدرس‪ ،‬فال نأخذ منها إال ما تتلقاه‬
‫العقول الصغرية وهتضمه‪.‬‬
‫لكن الذي ال ننساه‪ ،‬هو أن الطفل يف حاجة إىل معرفة لكي يكون قادرا عىل إصدار‬
‫حكم حقيقي‪ .‬هذه املعرفة جيب أن تكون حقيقة‪ ،‬ال نطرحها ظانني أن الطفل إنام‬
‫يستفيد عندما يفكر‪ .‬لنفهم أن التفكري احلقيقي عمل ال يمكن إال مع املعرفة‪ .‬ولنفهم‬
‫أن عقل الطفل يقوى إذا بارش عقوال أخرى قوية‪ .‬البد أن يطلع عىل أفكار اآلخرين‬
‫قبل أن يقدر عىل التفكري بنفسه‪.‬‬
‫حتدثنا عن إعطاء نموذج لعقل الطفل‪ ،‬وهذا النموذج ينبغي أال يصبح بأية حالة‬
‫سلطة يعتمد عليها الطفل ويصدقها يف عامء تام‪ .‬بل ينبغي أن تكون األفكار التي‬
‫نقدمها إليه مادة لعقل الناقد‪ ،‬يتناوهلا ويقلبها باحثا حتى يقتنع هو بصحتها‪.‬‬
‫تربية الذاكرة‪:‬‬
‫إن السنوات التي يقضيها الطفل يف املدرسة أهم فرتة يف حياته‪ .‬أثناءها يكسب نمو‬
‫عقليا وجسميا ترعاه املدرسة وتوجهه‪ .‬وأثناءها يكسب هذه املعرفة التي البد منها‬
‫النسجام الطفل بمجتمعه‪.‬‬
‫ومن أهم امللكات التي يتوقف عليها الطفل يف هذه الفرتة الذاكرة‪ ،‬إذ بدوهنا ال‬
‫يمكن أي حتصيل‪.‬‬
‫_‪_  138  ‬‬
‫يف ذاكرة الطفل تثبت صور األشياء واألحداث التي مرت به‪ ،‬وبواسطة هذه الصور‬
‫يمكنه أن يتعرف عىل املدركات اجلديدة‪ .‬فإذا تصورنا طفال فقد ذاكرته نتصوره‬
‫شخصا جيهل عن عامله كل يشء‪ ،‬فهو بمثابة األجنبي العاجز عن فهمنا‪ ،‬بل العاجز‬
‫حتى عن املحافظة عىل حياته‪.‬‬
‫إذا كان العقل املفكر الفاعل يف تطور شعور الطفل فإن املادة التي تعمل فيها ملكة‬
‫التفكري جتدها يف الذاكرة‪ ،‬وقديام قالوا‪« :‬احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره» يعنون‬
‫أننا ال نصدر أحكاما إال بعد أن نتعرف عىل موضوعه‪ ،‬أو بعبارة أخرى ال نصدر‬
‫حكام إال إذا كانت األشياء والصالت معروفة عندنا مستقرة يف ذاكرتنا‪.‬‬
‫والكيفية التي هبا تستقر املعرفة يف الذاكرة‪ ،‬تتوقف عىل قوة هذه الذاكرة وسلطان‬
‫العقل املفكر عليها‪ .‬وذاكرة الطفل ضعيفة رغم ما تقوله األمثال‪ .‬وعقله عاجز عن أن‬
‫يرتب هذه الذاكرة حتى جيعلها خزانة مبوبة معنونة‪ .‬فذاكرته تأخذ املعرفة بمهل فال‬
‫حتصلها إال مع التكرار أو مع التأثري العاطفي الذي يرسخها‪ ،‬فمالحظ أن الصغري ال‬
‫يقدر أن حيتفظ بشعر يقرأه إال إذا سمعه أو قرأه مرات متعددة‪ .‬كام أنه يتذكر احلادثة‬
‫التي أثارت خوفه أو إعجابه بأسهل ما يتذكر غريها‪.‬‬
‫وبقدر ما يتقدم سن الطفل وتكثر جتاربه‪ ،‬تزداد ذاكرته قوة ويفعل فيها التفكري‬
‫النامي‪ ،‬فتزداد وضوحا شيئا فشيئا‪.‬‬
‫والذي هيم املعلم قبل كل يشء هو أن حيصل تالمذته‪ .‬وبمعرفة ما قلناه عن ذاكرة‬
‫الطفل وكيف تتطور يمكنه أن يأخذ الطفل باللني عندما ينسى أو ختتلط عليه ذاكرته‪،‬‬
‫ويكرر له ما مل يسمعه وما مل يأخذه من أول مرة‪.‬‬
‫وليساعد الطفل عىل تنظيم ذاكرته يستعني بالروابط املختلفة التي جيدها بني دروسه‬
‫كيفام كانت هذه الروابط‪ .‬فهذه حادثة يف التاريخ فيها مثال للمبادئ التي قرأها يف‬
‫درس الرتبية الوطنية‪ ،‬وهذه لفظة شبيهة بلفظة أخرى سبقتها‪ .‬ومراجعة الدروس‬
‫عقب درايتها يف بدء كل حصة يساعد كثريا عىل هذا الربط‪ .‬ولكي نزيد من فائدة‬
‫املراجعات نجعلها متعددة وباألخص عندما تعرض لنا فكرة يمكن أن تربطها بفكرة‬
‫سابقة‪.‬‬
‫_‪_  139  ‬‬
‫أنواع الذاكرة‪:‬‬
‫ثم إن ذاكرات األطفال ختتلف منافذها‪ ،‬فهناك أطفال برصيون ال حيصلون بسهولة‬
‫إال ما رأوه بأعينهم وآخرون سمعيون وآخرون حسيون‪ .‬وهذا االختالف يفرس الفروق‬
‫التي نشاهدها بني الطفل الذي ال يغلط يف اإلمالء وآخر حيفظ األناشيد برسعة‪ .‬ومن‬
‫أجل هذا يراقب املعلم تالمذته حتى يقف عىل هذا االختالف‪ ،‬فيمكنه من استغالله‬
‫واالعتامد عليه‪ .‬واألثبت أن يعتمد عىل احلواس مجيعها يف تعليمه بحيث يرى الطفل‬
‫ويسمع ويلمس‪ .‬ففي درس القراءة يتعلم الطفل احلروف رسيعا إذا أبرصها‪ ،‬وسمع‬
‫األصوات التي تدل عليها‪ ،‬ثم استطاع أن يكتبها ويقطعها من الورق‪ .‬وتفيد هلذه الغاية‬
‫وسائل اإليضاح‪ ،‬هذه األشياء والرسوم الرضورية يف كل درس‪.‬‬
‫أرشنا يف معرض احلديث عن تربية احلكم إىل وجوب القصد يف املعرفة التي نقدمها‬
‫لألطفال‪ ،‬فال نأخذ منها إال بقدر ما تستسيغه عقوهلم‪ ،‬ويوجب هذا القصد أيضا أن ذاكرة‬
‫الطفل ال تقدر أن تتحمل أكثر من طاقتها‪ .‬فإذا ما أكثرنا عىل الطفل فرسعان ما نصل‬
‫إىل حدود هذه الطاقة‪ ،‬ثم نتعداها فيعجز الطفل عن مسايرتنا‪ .‬وقد يكون هذا الطفل ذا‬
‫ذاكرة استثنائية‪ ،‬لكن قدرته هذه ال تسمح لنا أن نحمل عليه الكثري ونعترب ذاكرته خزانة‬
‫نملؤها‪ ،‬ألن النتيجة يف هذه احلالة أن ينشأ الطفل حافظا ممتازا لكن عاجزا عن أي تعليل‬
‫أو تفكري مستقل‪ .‬وما ينتظر من املدرسة احلديثة أن خترج مثل هذا النموذج‪.‬‬
‫تربية املخيلة‪:‬‬
‫تتكامل ملكات العقل الثالث ويعضد بعضها بعضا‪ .‬فذكرنا أن العقل ال يستطيع‬
‫احلكم إال ألن الذاكرة تعطيه رفدها‪ .‬وسنرى هنا أن املخيلة أيضا تعضد ملكة التفكري‬
‫بل تكون القدرة عىل التخيل رشطا يف القدرة عىل التفكري‪ .‬أال نرى أن احليوان العاجز‬
‫عن التخيل عاجز أيضا عن التفكري؟‬
‫عندما يقف اإلنسان أمام جتربة جديدة‪ ،‬أمام مشكلة حسابية مثال‪ ،‬وحياول حلها‪،‬‬
‫يعمد إىل ذكرياته ليأخذ منها املعلومات التي يظن أهنا تساعده يف هذا احلل‪ ،‬ثم‬
‫جيمع هذه املعلومات بكيفية جديدة ليجعلها مناسبة للسؤال املطروح عليه‪ .‬هنا‬
‫عملت املخيلة‪ .‬حتى إذا وجد حال من احللول يتحققه ثم حيكم بصحته أوعدمها‪.‬‬
‫فرتى كيف يسبق اخليال احلكم وجيعله ممكنا‪ .‬ويف مثل هذا املوقف يقف احليوان‬
‫_‪_  140  ‬‬
‫عاجزا‪ ،‬فكلام عرضت له مشكلة جديدة حاول أن خيرج منها بأية وسيلة‪ ،‬حياول‬
‫فيخطئ إىل أن يصل إىل احلل الصحيح أو يمل فيكف عن املحاولة‪.‬‬
‫وإذا تدبرنا األحكام التي يصدرها العقل والتخيالت التي تسبق هذا احلكم نجد أهنا‬
‫مجيعا ال متكن لوال اخليال‪ .‬نحكم بأن الرسم الذي نشاهده يمثل فالنا ممن نعرفهم ألن‬
‫صورة عقلية هلذا الفالن ثبتت يف ذاكرتنا‪ ،‬ثم يأخذها اخليال يقارهنا بالرسم اجلديد‪.‬‬
‫وخيال الطفل حر فسيح لقلة جتربته ومعرفته‪ ،‬فال جيد لتخيالته حدودا يفرضها‬
‫املنطق كام حيدث للبالغ‪ .‬وختيالت الطفل هذه املنطلقة قد تكون‪ ،‬أن تركت متاما‪،‬‬
‫خطرا عىل نضج فكره بصفة عامة‪ .‬ألهنا تبعده عن الواقع الذي يعيش فيه‪ ،‬لكنها دائام‬
‫أداة مهمة تبني هذا الفكر وهتيئه‪ .‬وحيرص املريب دائام أن يستعمل خيال األطفال غري‬
‫مكتف باملالحظة اجلافة‪ .‬وليقدر أن املالحظة أساس للتفكري العلمي الصحيح‪ ،‬لكن‬
‫هذه املالحظة ال تفيد إن مل يتناوهلا اخليال‪ .‬ليفكر املريب أن تطور اإلنسان واخرتاعاته‬
‫كلها ال تكون ممكنة لوال اخليال‪ .‬ولو مل يتخيل مكتشف املحرك البخاري أن قوة‬
‫البخار يمكن أن تدلل وتسخر لتحريك قاطرة أو سيارة لبقي اإلنسان يسافر عىل‬
‫ظهر الدواب‪.‬‬
‫وليكن بني املالحظة الصحيحة واخليال توازن بحيث يعطي اخليال حياة وحركة‬
‫للمالحظة‪ ،‬وتكون هذه ضابطا حيد من غلواء اخليال‪.‬‬
‫احلدس‪:‬‬
‫احلدس قدرة العقل عىل إدراك احلقائق بدون واسطة التعليل أو املقارنة‪.‬‬
‫احلدس احليس‪:‬‬
‫وأبسط مظاهره إدراك املحسوسات‪ ،‬هذا اإلدراك الكامل الذي يمكن العقل من‬
‫معرفة األشياء بوضوح دون حاجة إىل كالم أو رشح‪.‬‬
‫يف الدرس الذي يعتمد عليه كلام كانت احلاجة إىل تقديم معلومات مل متر بتجربة‬
‫التلميذ‪ ،‬وكانت هذه املعلومات تتعلق بام يمكن جتسيمه‪ .‬نريد أن نقرر يف الدرس أن‬
‫ورق الشجر أخرض‪ ،‬فنكتفي بإحضار أوراق الشجر اخلرضاء ويبرصها الطفل فيدرك‬
‫مبارشة ما نريد أن يدركه‪ .‬وهكذا مع احلواس األخرى‪.‬‬
‫_‪_  141  ‬‬
‫وأعامل احلدس احليس رضورية يف املدرسة مع كل التالميذ‪ ،‬ألن التلميذ يتعلم يف‬
‫يرس مستعمال منافذ العقل الطبيعية التي هي احلواس‪ ،‬وألن احلقائق األولية األساسية‬
‫ال يمكن تفهيمها بدون االعتامد عىل احلدس احليس‪ .‬ويكفي مثاال لذلك أن تتصور‬
‫إنسانا مل ير البحر قط فجئت تعرفه ما البحر مقترصا عىل الوصف‪.‬‬
‫عىل أن أعامل احلدس احليس يتأكد مع صغار األطفال الضعيفي التجربة‪ .‬فهؤالء‬
‫مل يروا أشياء كثرية ومل يعرفوا عنها شيئا‪ .‬ولذا نكثر يف التدريس هلم استعامل أدوات‬
‫التعليم‪ ،‬سيام يف دروس األشياء‪.‬‬
‫ولنفكر آخر األمر أن املعرفة احلاصلة بواسطة احلدس احليس معرفة أولية سطحية‪،‬‬
‫ال تغني إال يف الذوات والنعوت التي يتعلق هبا احلس‪ ،‬فال بد من تكميل هذه املعرفة‬
‫بالوسائل املنطقية املعروفة‪ ،‬احلم والتعليل‪.‬‬
‫احلدس العقيل‪:‬‬
‫عندما هيتدي العقل إىل الصواب بنظرة باطنية كمثل إدراك البدهييات‪ :‬السامء فوق‪،‬‬
‫وعرشة أكثر من واحد‪ ،‬ذاك هو احلدس العقيل‪.‬‬
‫نقول بنظرة باطنية ونقصد أن العقل يف هذه العملية ال يتكئ عىل التعليل املنطقي‬
‫عندما يصدر حكمه‪.‬‬
‫واحلدس العقيل أو نسميه البدهية أو البصرية‪ ،‬قوة أودعها اهلل يف العقل اإلنساين‬
‫بواسطتها يدرك املرء كل احلقائق األولية التي ال تتضح بالربهان جلالئها‪ .‬فلذا جيد‬
‫احلدس العقيل مكانه يف املدرسة‪ ،‬فنستعمله عندما نقرر نحن للتلميذ أو نستجوب‬
‫التلميذ يف موضوعات خمتلفة تبتدئ من حياته اليومية وتنتهي بالدروس العلمية‬
‫املعقدة‪.‬‬
‫نقرأ للتلميذ أن السفر من مدينته إىل العاصمة يستغرق ساعة بالسيارة ونعتمد عىل‬
‫صواب عقله ليدرك هذه احلقيقة‪ .‬نفعل هذا للرضورة‪ ،‬إذ ال يغنينا شيئا أن نرشح له‬
‫ونطيل له الرشح‪ ،‬وال أن نعلل جمتهدين‪ ،‬ما دام يدرك ببصريته أن التنقل من مكان إىل‬
‫مكان يستغرق الوقت حتام‪.‬‬
‫ونسأل الطفل ثم ندفعه إىل التأمل باحثا عن احلقيقة بنفسه‪ ،‬فيستخدم قوته البدهيية‬
‫حتى يثبت له اجلواب عن سؤالنا‪.‬‬

‫_‪_  142  ‬‬
‫واحلدس العقيل هو القوة الكبرية التي مكنت العامل يف كثري من األحيان من الوصول‬
‫إىل حقيقة أمىض زمنا طويال يبحث عنها‪ ،‬لكن العقل جيتهد فيصيب‪ ،‬وجيتهد فيخطئ‪.‬‬
‫خيطئ العقل كثريا باألخص إذا كانت جتربة صاحبه قليلة وكان نصيبه من املعرفة‬
‫ضئيال‪ .‬ولذا نعود الطفل أال يثق دائام بالوميض األول ويظنه نور احلقيقة‪ ،‬نعوده أن‬
‫يرجع يف كل مرة يصل فيها إىل حقيقة‪ ،‬أو يتوهم أنه وصل‪ ،‬إىل حمك العقل النافذ‬
‫الذي يبني عىل أساس املالحظة الثابتة‪.‬‬
‫ولنقل إن احلدس العقيل طريق ربام تكون الوحيدة لفهم احلقائق البسيطة اجللية‬
‫التي ال حتتاج إىل برهان لكنها عىل أي حال ليست الطريق اآلمنة من الغلط‪.‬‬
‫احلدس اخللقي‪:‬‬
‫جرب التلميذ يف بيته نوعا من السلوك االجتامعي‪ ،‬فثبت لديه من وراء هذه التجربة‪،‬‬
‫وبام تأصل يف طبعه من ميل‪ ،‬أن هذا العمل وذاك خري وإن ذاك العمل اآلخر‪ ،‬رش‬
‫يثبت هذا القانون اخللقي ببصرية خلقية أسميناها احلدس اخللقي‪.‬‬
‫ومكان احلدس اخللقي يف املدرسة واضح‪ ،‬إذ هو النقطة التي منها يبدأ الدافع‬
‫األخالقي‪ ،‬وعليها نعتمد يف بث األخالق يف املدرسة‪ .‬فعندما نعطي الطفل أمثلة‬
‫األشخاص ذوي خلق حسن ال نكلفه أن يقلد عملهم ما دام مل يدرك ببصريته اخللقية‬
‫أن ما حكيناه عمل مجيل‪ .‬فإذا أدرك هذه احلقيقة واقتنع هبا كنا بلغنا غايتنا التي هتدف‬
‫إىل الرتبية اخللقية‪.‬‬
‫عىل هذه البصرية اخللقية أو الفطرة اخللقية نعتمد إذا لكن يف حدود وبحذر‪ .‬ألن‬
‫سلوك األفراد ال يقوم فقط بمقدار مطابقته لفطرهتم‪ ،‬بل يقوم بام يعقبه من نفع أو رض‬
‫يف الوسط االجتامعي‪ .‬لذلك نفتح عني الطفل عىل احلقائق االجتامعية وندعوه إىل‬
‫تدبر مصلحة اآلخرين حتى يوجه سلوكه وجهة تتناسب ونظم بالده‪ ،‬دون أن يبعد‬
‫عام يمليه ضمريه‪ .‬وال نرتكه يتبع ميله دون أن يعرف رقيبا وال حسيبا‪.‬‬
‫االهتامم‪:‬‬
‫تواجه املعلم املريب صعوبة يف بدء الطريق‪ ،‬عندما يستعد بعلمه وطرقه ليزاول عمله‬
‫يف تربية األطفال‪ .‬هذه الصعوبة هي أنه غري واثق من أن الطرف اآلخر سيقبل عليه‬
‫وسيهتم بعمله‪.‬‬
‫_‪_  143  ‬‬
‫ال حيل هذه الصعوبة أن بوسع املريب ويف يده مبدئيا سلطة واسعة‪ .‬أن يفرض نوع‬
‫السلوك الذي حيبه التالميذ‪ .‬فمام ال يشك فيه أن كل عمل خارجي يفرض عىل الطفل‬
‫يبقى عديم اجلدوى إال أن جيد يف نفسه جتاوبا‪.‬‬
‫كام ال حيل هذه الصعوبة أن بوسع املريب أن خيرتع من املغريات أشياء كثرية‪،‬‬
‫فيستعمل كتبا رائعة املظهر‪ ،‬حسنة التنسيق‪ ،‬واضحة الغاية‪ ،‬أو يعتمد عىل طريقة يف‬
‫اإللقاء شيقة مؤنسة أو يلجأ إىل غري هذه من احلبائل اجلميلة التي ال تصطاد إال فضوال‬
‫عابرا من جانب الطفل‪ .‬نقول إن هذه املغريات مجيعا ال تضمن أن يقبل الطفل عىل‬
‫الدرس وال تضمن أن يقف الطفل املوقف اإلجيايب الذي يقف عندما هيتم بأمر ما‪.‬‬
‫البد أن هيتم الطفل بعمل املريب حتى يشاركه فيه كام يقتيض ذلك ناموس النمو‪،‬‬
‫هذا الناموس الذي يدفع الناشئ القارص يف اجتاه املعرفة حتى يبحث عنها غري منقطع‪.‬‬
‫وال ترده الصعوبات مهام كانت‪.‬‬
‫وقد بدأ البحث يف سيكولوجية االهتامم بنظريات هربرت‪ ،‬ثم تطورت هذه‬
‫السيكولوجية بآراء ديوي وكرشنشتاينر‪.‬‬
‫وتدور نظرية هربرت حول تداعي املعاين‪ ،‬ألنه يرى أن حقائق العامل كلها متصل‬
‫بعضها ببعض‪ ،‬واملهم أن جيد املريب نقطة الوصول بني هذه األجزاء‪ ،‬ويسخرها‬
‫جللب انتباه الطفل‪ .‬ويزيد هربرت عىل هذا أن االنطباعات القوية كاأللوان الرباقة‬
‫واحلركات املفاجئة أو الصوت املرتفع جتلب االنتباه أكثر مما جتلبه األلوان الباهتة‬
‫واألصوات اخلافتة‪.‬‬
‫أما ديوي وكرشنشتاينر فقد نقدا نظرية هربرت ووصفاها بأهنا سطحية تبني كل‬
‫يشء عىل األفكار والتفاعل الذي حيدث بينهام‪ ،‬مهمة الشخص احلي وميله احلقيقي‪.‬‬
‫وبينا أن االهتامم إنام ينتج عن حاجة الشخص األصيلة وأننا ال هنتم إال بام جييب‬
‫رغباتنا اخلفية‪ ،‬ثم بينا أن الرتبية هتدف إىل تعويض االهتاممات الطبيعية باهتاممات‬
‫أخرى أنبل منها غاية ألن مهمة الرتبية ليست مسايرة امليول الغريزية بل هتذيب هذه‬
‫امليول والسمو هبا‪.‬‬
‫_‪_  144  ‬‬
‫أما بعد فإن االهتامم هو تعلقنا باليشء وانرصافنا إليه وهو رشط لالنتباه‪ ،‬حيث‬
‫ال ننتبه إال ملا هنتم به‪ .‬واهتاممنا باليشء نتيجة عن حاجتنا اجلسمية أو اخللقية أو‬
‫العقلية‪ .‬فنهتم بالطعام عندما نجوع‪ ،‬وهنتم باأللغاز التي تستغلق علينا بحكم‬
‫فضولنا الطبيعي‪ .‬وهذا خمالف متاما لالهتامم الظاهر الذي ال ينبثق عن احلاجة‪،‬‬
‫وإنام يفرض بداع خارجي مثلام حيدث عندما نشاهد متثيلية أو فيلام أو عندما نسمع‬
‫حمارضة‪ .‬ألن هذا االهتامم اخلارجي ال ينتج عنه انتباه حقيقي‪ ،‬وإنام هو توجه موقت‬
‫القصد منه إرضاء رغبة يف االطالع ال تلبث أن تزول‪.‬‬
‫االهتامم احلقيقي هو الذي يدفع للعمل اإلجيايب‪ ،‬ويستحوذ عىل كل امللكات ال‬
‫يتوقف عىل حمرض صناعي وال يقنعه االنتباه السطحي‪ .‬فهو إذا مستقل عن اإلرادة‬
‫عفوي‪ ،‬بمعنى أن املرء ال يستطيع أن ينرصف انرصافا كليا بمحض إرادته ليشء‬
‫ال جييب رغبة داخلية عنده أو هذا عىل األقل ما يقوله أصحاب نظرية االهتامم‪.‬‬
‫فالبد من معرفة اهتاممات الطفل حتى نسوي عملنا التعليمي والرتبوي ونجعله‬
‫جيري يف طريق حاجاته الطبيعية‪ ،‬فمتى عرفنا هذه احلاجة‪ ،‬وبدأنا منها‪ ،‬استطعنا‬
‫أن نستعملها وسيلة جللب انتباه الطفل ودفعه إىل العمل‪ .‬أقول نبدأ من حاجات‬
‫الطفل‪ ،‬ألن العمل املدريس ال يمكن أن يطابق اهتاممات الطفل يف كل جزئياته‪،‬‬
‫وإنام يمكن أن نربط جزءا من هذا العمل باهتامم الطفل ثم نميض به إىل اجلزئيات‬
‫األخرى متسلسلني عىل نحو مما يراه هربرت فيكون عندئذ اهتامم رئييس تتفرع‬
‫عنه كثري من أوجه النشاط‪ ،‬وكلام اعرتض مشكل جديد ازداد االهتامم رسوخا‬
‫واتساعا‪.‬‬
‫ومثل هذا ما طبقه ديوي نفسه بكيفية نموذجية يف مدرسة املرشوع‪ .‬يف هذه‬
‫املدرسة يقرتح األطفال مرشوعا ينجزونه‪ ،‬كبناء حجرة مثال‪ ،‬فاهتاممهم الرئييس‬
‫هو احلجرة‪ ،‬لكنهم حيتاجون لكي يقدروا عىل اإلنجاز إىل تعلم صناعات البناء‬
‫والنجارة واحلدادة إىل غريها من العلوم الرضورية كاحلساب واهلندسة‪ .‬وكلام‬
‫تقدموا يف بناء احلجرة كان اهتاممهم هبا أزيد ألن حاجاهتم تتجدد يف كل يوم‪ ،‬ويف‬
‫كل يوم تعرتضهم صعوبة يساعدهم املريب عىل التغلب عليها‪.‬‬
‫_‪_  145  ‬‬
‫وإن تنشيط األطفال بواسطة االعتامد عىل االهتامم يتطلب من املريب يقظة وفطنة‪.‬‬
‫وينبغي أن يعرف أن اهتامم الطفل ال يمكن أن يستمر بموضوع واحد زمنا طويال‪،‬‬
‫فإذا مارس الطفل عمال ما عىل وترية واحدة مدة طويلة‪ ،‬فإنه يوشك أن يسأمه‬
‫ويعرض عنه حتى وإن كان يف بدء األمر مهتام به حدبا‪ .‬ولذا جيتهد املريب باحثا عن‬
‫طريق هبا يقلب املسألة الواحدة عىل عدة وجوه‪ ،‬ويعرضها يف حلل متنوعة يبعث‬
‫اهتامم الطفل باستمرار وحيفز فضوله‪.‬‬
‫ال أعني أن يعتمد املعلم هذه الوسائل اخلالبة من استعامل األلوان الرباقة‪،‬‬
‫والقصص الضاحك‪ ،‬أو شيئا غريها مما نسميه بأدوات التشويق‪ ،‬ألن هذه إنام‬
‫تعطي هذا االنتباه السلبي املوقت الذي ال يكتيس أية قيمة تربوية‪ .‬وإنام ينبغي أن‬
‫يتفهم املعلم منرصف انتباه أطفاله ثم يتتبع عملهم بدراية كبرية‪ ،‬ويرشدهم إىل ما‬
‫عسى أن يكونوا أغفلوه‪ ،‬موقظا حبهم الطبيعي لالطالع‪.‬‬
‫وكام حتد الرتابة من اهتامم الطفل حيد منها أيضا أن جيد الطفل نفسه أمام عقبة ال‬
‫يستطيع اجتيازها‪ .‬إذ ليس أدعى إىل امللل من أن جيد املرء نفسه أمام باب مغلق ال‬
‫جيد له مفتاحا‪ ،‬وال يقدر عىل اقتحامه‪ .‬فإذا بلغ الطفل هذه النقطة من بحثه‪ ،‬فإن من‬
‫واجب املريب أال يرتكه يف عنائه طويال‪ ،‬بل هيديه إىل الوسيلة التي حيل هبا مشكله‪،‬‬
‫حريصا عىل أال يربد محاسه بموضوع البحث‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ال ننس أن للمجهود الذي يبذله الطفل قيمة يف حد ذاته‪ ،‬وإن الناس إنام‬
‫يتعلمون بكيفية ناجعة بقدر اجلهد الذي يبذلونه يف سبيل التعلم‪ ،‬وهلذا فمسامهة‬
‫املعلم ينبغي أال تأخذ كل األمهية وتتحمل كل املشقة‪ .‬وإنام ترحب بالطفل وترشكه‬
‫يف األعامل‪ ،‬ومرة أخرى نكرر أن االهتامم احلقيقي هو الذي يدفع إىل العمل‪،‬‬
‫وأن االهتامم العابر املفروض بعامل خارجي إنام هو خدعة ال تلبث أن يبني عدم‬
‫جدواها‪.‬‬
‫هذا وإن حكمة أساسية ينبغي أن تكون رائدنا يف هذا امليدان‪ ،‬أال وهي أن نعطي‬
‫الطفل فرصا لكي ينجح يف حماولته‪ ،‬ونتفادى به كل إخفاق ينال من عاطفته ويثبطه‪.‬‬
‫_‪_  146  ‬‬
‫نوع اهتامم الطفل‪:‬‬
‫ويتغري موضوع اهتامم الطفل بحسب سنه‪ ،‬ولكل سن حاجاته ومن ثم اهتامماته‪.‬‬
‫والذي هيمنا هو أن نعرف اهتامم الطفل يف املدرسة االبتدائية‪ .‬وبالتايل يف سن ترتاوح‬
‫بني ‪ 6‬سنوات و ‪ 12‬سنة‪ .‬ويف هذه املرحلة يكون الطفل حديث عهد بام حييط‬
‫به من أشياء وأحداث‪ ،‬فهو منرصف إىل األشياء يفحصها ويريد أن يتعرف عليها‪.‬‬
‫فهو كثري األسئلة عن تركيب األجسام وخصائصها‪ ،‬حيب أن يفصل األجزاء عن‬
‫بعضها ثم يركبها ليطلع عىل أرسارها‪ .‬ويساعده عىل هذا أن أفقه الذي يعيش فيه‬
‫قد اتسع فعم‪ ،‬زيادة عىل البيت‪ ،‬الشارع واملدرسة بام فيهام من رفاق ومعلمني‬
‫وأجانب‪ .‬ثم إن فضول الطفل هذا جيد جماال حرا لتطبيق التامرين املختلفة‪ ،‬سيام‬
‫وقد كسب نوعا من االستقالل حني أصبح جييء إىل املدرسة ويروح منها وحده‪.‬‬
‫وكلام تقدمت به السن ازداد نطاق اهتاممه اتساعا‪ ،‬وتعلق أيضا بالناس‪ ،‬فاكتسب‬
‫أصدقاء وتعلم أنواع السلوك االجتامعي‪.‬‬
‫فمن هذا الفيض االهتاممي يبدأ املريب عمله حني يستقبل الطفل أول عهده‬
‫باملدرسة ليعطيه األشياء وليقبل رغبته يف إمكاهنا وتقليبها‪ ،‬وليجعل من هذه الرغبة‬
‫ذريعة إلعطاء الطفل نظرة حقيقية عن الواقع‪ ،‬ومن تناول األشياء واستعراضها‬
‫هيكال يبنى حول املعرفة النظرية التي ال هتم الطفل إال أن تساعده عىل فهم واقع‬
‫ملموس‪ .‬وبعد هذا يأخذ املعلم يف التوسع شيئا فشيئا مراقبا نزعات الطفل‬
‫وحركات انتباهه مراعيا ما يصدر منه من حتمس أو نفور‪.‬‬
‫ويستغل أيضا ميل الطفل للتعرف عىل الناس‪ ،‬وحبه لالندماج يف املجموعة‪،‬‬
‫فيهديه سبيل اخللق السوي‪ ،‬ويوجهه للتعاون والعمل اجلامعي‪.‬‬
‫عىل أنه ليس من الصواب أن نتبع الطفل يف رغباته ونتيه عن املنهاج الذي‬
‫وضعناه‪ ،‬بل نسخر رغبة الطفل ونتخذها خلدمة هدفنا األسمى‪ .‬ولئن كانت بعض‬
‫املدارس احلديثة تتبع رغبة الطفل يف الشوط كله وترتك له حرية االختيار‪ ،‬فإن‬
‫وضع مدرستنا ال يسمح بمجاراة هذه احلركة‪.‬‬

‫_‪_  147  ‬‬
‫ويف هذا الباب كام يف غريه‪ ،‬يتعني أن تراعى الفروق التي تكون بني األفراد‪ .‬فام كل‬
‫األطفال يف سن معينة‪ ،‬هيتمون بنفس األشياء‪ ،‬كام أن درجة اهتاممهم وحدة انتباههم‬
‫تتفاوت أيضا‪ .‬ومرد هذا إىل أن بينهم الذكي املتوثب‪ ،‬والعاطفي املتوقد‪ ،‬والبطيء‬
‫الذي يفضل أن يتأكد من عمله ويعتمد عىل جتربة ثابتة‪.‬‬
‫مرد هذا إىل أن امللكات تتنوع وتتغلب إحداها عىل األخريات حتى تظهر يف طبع‬
‫الفرد وتعطيه صبغتها‪ .‬وطبيعي أال يطابق اهتامم الشخص اخليايل اهتامم آخر تغلب‬
‫عليه الذاكرة فيحب أن يتلقى دون أن خيلق‪ .‬وهكذا نجد اهتاممات مجاعة األطفال‬
‫خمتلفة‪ ،‬لكن اختالفها ال يمس اجلوهر الذي هو يف السن الدراسية التي تعنينا هنا‪،‬‬
‫التوجه إىل األشياء املحسوسة والتعرف عىل العامل‪.‬‬

‫_‪_  148  ‬‬
‫الفهرس‬
‫‪3‬‬ ‫ ‬
‫كلمة النارش‬
‫‪5‬‬ ‫املقدمة ‬
‫الفصل األول ‪ :‬الرتبية‬
‫‪9‬‬ ‫ ‬ ‫معنى الرتبية‬
‫‪11‬‬ ‫ ‬ ‫غايات الرتبية‬
‫‪14‬‬ ‫ ‬
‫غايات الرتبية يف رأي بعض املفكرين‬
‫‪22‬‬ ‫ ‬ ‫آراء حديثة يف الرتبية‬
‫‪22‬‬ ‫ ‬ ‫إمكان الرتبية‬
‫الفصل الثاين ‪ :‬وسائل الرتبية والتعليم‬
‫‪35‬‬ ‫‪ - 1‬املدرسة ووظيفتها ومبادئها ‬
‫‪38‬‬ ‫ ‬ ‫‪ - 2‬املدرسة والبيت‪:‬‬
‫‪41‬‬ ‫ ‬ ‫‪ - 3‬املدرسة ونظامها املادي‬
‫‪49‬‬ ‫ ‬ ‫‪ - 4‬املعلم‪:‬‬
‫‪61‬‬ ‫ ‬ ‫‪ - 5‬النظام يف املدرسة‬
‫‪60‬‬ ‫ ‬ ‫‪ - 6‬الثواب يف املدرسة‬
‫‪64‬‬ ‫‪ - 7‬العقاب يف املدرسة ‬
‫الفصل الثالث‪ :‬الطفل‬
‫‪79‬‬ ‫ ‬ ‫الرتبية وعلم النفس‬
‫‪80‬‬ ‫الطفل واألرسة ‬
‫‪83‬‬ ‫ ‬ ‫الطفل واملعلم‬
‫‪86‬‬ ‫ ‬ ‫الطفل ورفاقه يف املدرسة‬
‫‪88‬‬ ‫ ‬ ‫عقلية الطفل‬
‫‪88‬‬ ‫ ‬ ‫إدراك الطفل‬
‫‪90‬‬ ‫حاجات الطفل ‬
‫‪93‬‬ ‫ ‬ ‫سلوك الطفل‬
‫‪100‬‬ ‫الفروق الفردية ‬
‫‪106‬‬ ‫ ‬
‫كيف يالحظ املعلم تالميذه‬
‫الفصل الرابع‪ :‬الرتبية اجلسمية‬
‫‪111‬‬ ‫مكان الرتبية اجلسمية يف النظام الرتبوي ‬
‫‪114‬‬ ‫ ‬ ‫الصحة والرتبية اجلسمية‬
‫‪117‬‬ ‫ ‬ ‫الرتبية اجلسمية والعمل املدريس‬
‫‪119‬‬ ‫ ‬ ‫درس الرتبية البدنية‬
‫الفصل اخلامس ‪ :‬الرتبية اخللقية‬
‫‪125‬‬ ‫ ‬ ‫العقل واخللق‬
‫‪125‬‬ ‫ ‬
‫غايات الرتبية اخللقية‬
‫‪126‬‬ ‫ ‬ ‫العمل واخللق‬
‫‪127‬‬ ‫ ‬ ‫اخللق يف املدرسة‬
‫‪128‬‬ ‫ ‬ ‫احلرية واخللق‬
‫‪129‬‬ ‫ ‬ ‫العادة واخللق‬
‫‪129‬‬ ‫ ‬ ‫املثال واخللق‬
‫‪130‬‬ ‫ ‬ ‫الرتبية بالسلب‬
‫‪131‬‬ ‫ ‬ ‫دروس األخالق‬
‫‪132‬‬ ‫ ‬ ‫الدين واألخالق‬
‫الفصل السادس ‪ :‬الرتبية العقلية‬
‫‪137‬‬ ‫ ‬ ‫تربية احلكم‬
‫‪138‬‬ ‫ ‬ ‫تربية الذاكرة‬
‫‪140‬‬ ‫ ‬ ‫أنواع الذاكرة‬
‫‪140‬‬ ‫ ‬ ‫تربية املخيلة‬
‫‪141‬‬ ‫احلدس ‬
‫‪141‬‬ ‫ ‬ ‫احلدس احليس‬
‫‪143‬‬ ‫ ‬ ‫احلدس العقيل‬
‫‪143‬‬ ‫احلدس اخللقي ‬
‫‪143‬‬ ‫االهتامم ‬
‫‪148‬‬ ‫ ‬‫نوع اهتامم الطفل‬
‫دليل‬
‫دليل األمثال‪ ،‬كتاب مذكرات يف الرتبية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،1963 ،‬دار السلمي‪،‬‬
‫البيضاء‪ ،‬املغرب‬
‫‪« -‬ليطرق احلديد ساخنا»‪« - 50،‬احلكم عىل اليشء فرع عن تصوره»‪،‬‬
‫ص‪« - 139‬العقل السليم يف اجلسم السليم»‪ ،‬ص‪.17‬‬
‫دليل األبيات الشعرية‪ ،‬كتاب مذكرات يف الرتبية‪ ،‬الطبعة األوىل‪،1963 ،‬‬
‫دار السلمي‪ ،‬البيضاء‪ ،‬املغرب‬
‫‪ِ -‬‬
‫إياك أعني واسمعي يا جارة‪ ،‬ص ‪.58‬‬
‫دليل القبائل واجلامعات‪ ،‬كتاب مذكرات يف الرتبية‪ ،‬الطبعة األوىل‪،‬‬
‫‪ ،1963‬دار السلمي‪ ،‬البيضاء‪ ،‬املغرب‬
‫‪ -‬اليبانيون‪ ،‬ص‪ - 13‬الفالسفة‪ ،‬ص‪ - 13‬الربتستانت‪ ،‬ص‪ - 15‬علامء‬
‫النفس‪ ،‬ص‪ - 28،29،55،102،104،105‬املفكرون املحدثون‪ ،‬ص‪- 28‬‬
‫علامء االجتامع‪ ،‬ص‪ - 29،30،71‬األمريكيون‪ ،‬ص‪ - 37‬الرومان‪ :‬ص‪42‬‬
‫‪ -‬فالسفة اإلغريق‪ ،‬ص‪ - 49‬الشعراء‪ ،‬ص‪ - 49‬العلامء األقدمني‪ ،‬ص ‪98‬‬
‫‪ -‬العلامء املحدثون‪ ،‬ص‪ - 98‬اإلغريق‪ ،‬ص‪- 113 ،112 ،42،49،71‬‬
‫الغربيون‪ ،‬ص‪ - 112‬اليونان‪ ،‬ص‪.12‬‬
‫دليل املواضع والبلدان‪ ،‬كتاب مذكرات يف الرتبية‪ ،‬الطبعة األوىل‪،1963 ،‬‬
‫دار السلمي‪ ،‬البيضاء‪ ،‬املغرب‬
‫‪ -‬املعابد املرصية‪ ،‬ص‪ - 12‬الصني القديمة‪ ،‬ص‪ - 12‬اليونان‪ ،‬ص‪ ،12‬ص‪111‬‬
‫‪ -‬مدينة اسربطة‪ ،‬ص‪ - 12‬مدينة أثينا‪ - 12 ،‬أوربا‪ ،‬ص‪- 12،14،25،42،43‬‬
‫أمريكا‪ ،‬ص‪ - 13،23،42،43‬روسيا ص‪ - 13‬أملانيا ص‪ -،13،20،43‬إيطاليا‬
‫ص‪ - 13‬شيكاغو‪ ،‬ص‪ - 23‬فرنسا‪ ،‬ص ‪ - 27‬مرص‪ ،‬ص‪ - 35،41‬الصني‪،‬‬
‫ص‪ - 35،41‬الرشق األوسط‪ ،‬ص‪ - 35‬البالد اإلغريقية‪ ،‬ص‪ - 35‬البالد‬
‫اإلسالمية‪ ،‬ص‪ - 41‬كنائس القرون الوسطى‪ ،‬ص‪ - 41‬املدارس اإلغريقية‪،‬‬
‫ص‪ - 41‬املدارس الرومانية‪ ،‬ص‪ - 41‬املغرب‪ ،‬ص‪ - 42،114‬املدارس‬
‫األملانية‪ ،‬ص‪ - 24‬املدارس األمريكية‪ ،‬ص‪ - 24،43‬املدارس األوربية‪،‬‬
‫ص‪ - 43‬البالد الغنية‪ ،‬ص‪ - 43‬مدارس انكلرتا‪ ،‬ص‪ - 75‬املدارس احلديثة‪،‬‬
‫ص‪ - 75،113،140،147‬بالد اليونان‪ ،‬ص‪ - 111‬البالد األنكلوساكسونية‪،‬‬
‫ص‪.112‬‬
‫دليل األعالم‪ ،‬كتاب مذكرات يف الرتبية‪ ،‬الطبعة األوىل‪ ،1963 ،‬دار‬
‫السلمي‪ ،‬البيضاء‪ ،‬املغرب‬
‫‪ -‬سبنرس (‪ 1903 - 1820‬م)‪ ،‬ص‪ - 9،21،65‬أفالطون‪- 427( :‬‬
‫‪ 348‬ق‪ .‬م)‪ ،‬ص‪ - 14‬سقراط‪ ،‬ص‪ - 14‬إراسم‪ 1556 - 1467( :‬م)‪،‬‬
‫ص‪ - 14،15،28‬لوثر‪ 1516 - 1485( :‬م)‪ ،‬ص‪ - 15،16‬مونتني‪:‬‬
‫(‪ 1592 - 1533‬م)‪ ،‬ص‪ - 15،79‬كومينوس‪ 1592 - 1671( :‬م)‬
‫ص‪ - 16،17‬لوك‪ 1704 - 1632( :‬م)‪ ،‬ص‪- 16،17،18،28،70‬‬
‫روسو‪ 1778 - 1712( :‬م)‪ ،‬ص‪ - 18،19،20،21،79،113‬بستالوزي‪:‬‬
‫(‪ 1827 - 1476‬م)‪ ،‬ص ‪ - 19،20،25،70،72‬هربرت‪- 1841( :‬‬
‫‪ 1776‬م)‪ ،‬ص‪ - 20،21،79،144،145‬فروبل‪ 1852 - 1728( :‬م)‪،‬‬
‫ص‪ - 20،22،25‬وليم دمجس‪ 1910 - 1840( :‬م)‪ ،‬ص‪ - 21‬آالن‪:‬‬
‫(‪ 1951 - 1868‬م)‪ ،‬ص‪ - 22،36،42،72،73،95‬مونتسوري‪:‬‬
‫(‪ 1952 - 1870‬م)‪ ،‬ص‪ - 22،23،25،43‬ديوي‪1952 - 1859( :‬‬
‫م)‪ ،‬ص‪ - 23،24،68،70،144،145‬كرشنشتاينز‪ 1932 - 1855( :‬م)‪،‬‬
‫ص‪ - 24‬دكرويل‪ 1932 - 1871( :‬م)‪ ،‬ص‪ - 25‬أنودي‪ ،‬ص ‪ - 27‬أرسطو‪،‬‬
‫ص‪ - 27،28‬شوبنهاور‪ ،‬ص‪ُ - 28‬جوتَه‪ ،‬ص‪ - 28‬دور كهايم‪ ،‬ص‪- 29‬‬
‫كويت‪ ،‬ص‪ - 72‬تولستوي‪ ،‬ص‪ - 75‬ألن كب‪ ،‬ص‪ - 75‬بادن باول‪ ،‬ص‪76‬‬
‫‪ -‬بيني‪ ،‬ص ‪.89‬‬
‫دليل املصادر واملراجع الواردة يف املؤلفات‪ ،‬كتاب مذكرات يف الرتبية‪،‬‬
‫الطبعة األوىل‪ ،1963 ،‬دار السلمي‪ ،‬البيضاء‪ ،‬املغرب‬
‫«حماولة يف العقل اإلنساين» و «آراء يف الرتبية»‪ ،‬لوك‪ ،‬ص‪ - 16‬كتاب «إميل»‪،‬‬
‫روسو‪ ،‬ص‪ « - 18‬البيداغوجية العامة « و «حول املحارضات البيداغوجية»‪،‬‬
‫هربرت‪ ،‬ص‪.20‬‬

You might also like