You are on page 1of 111

1

‫كتاب‬
‫ابستمولوجيا علوم اإلعالم‬
‫واالتصال‬

‫املؤلف‬

‫د‪ .‬عبد اهلل ثاني حممد النذير‬

‫منشورات دار األديب‬

‫‪2‬‬
3
4
‫إهداء‬

‫إلى الوالدين حفظهما هللا وأطال هللا في عمريهما‪..‬‬


‫إلى زوجتي‪ ،‬وقرة عيني أنس فراس الدين خليفة‪..‬‬
‫إلى من علموني كيف أبحث ‪..‬‬
‫إلى طلبتي األعزاء‪..‬‬

‫املؤلف‬

‫‪5‬‬
‫‪‬‬
‫إهداء‬
‫مقدمة عامة‬
‫الفصل األول‪ :‬ماهية اإلبستمولوجيا‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم اإلبستمولوجيا‬
‫املطلب األول‪ :‬اإلبستمولوجيا لغة‬
‫املطلب الثاني‪ :‬اإلبستمولوجيا اصطالحا‬
‫املبحث الثاني‪ :‬جذور اإلبستمولوجيا‬
‫املطلب األول‪ :‬نشأة اإلبستمولوجيا‬
‫املبحث الثالث‪ :‬اتجاهات اإلبستمولوجيا‬
‫املطلب األول‪ :‬ابستمولوجيا رينيه ديكارت‪René descart‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬ابستمولوجيا امانويل كانط ‪Emmanuel Kant‬‬
‫املطلب الثالث‪ :‬ابستمولوجيا غاستون باشالر‪Gaston Bachelard‬‬
‫املطلب الرابع‪ :‬ابستمولوجيا ميشيل فوكو‪Michel foucou‬‬
‫املطلب الخامس‪ :‬ابستمولوجيا كارل بوبر ‪Karl Popper‬‬
‫املطلب السادس‪ :‬ابستمولوجيا فايربند‪Feyerabend‬‬
‫الفصل الثاتي‪ :‬ابستمولوجيا علوم اإلعالم واالتصال‬
‫املبحث األول‪ :‬ابستمولوجيا اإلعالم ( املفاهيم والنماذج)‬

‫‪6‬‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم ابستمولوجيا اإلعالم‬
‫‪ -2-1‬مفهوم اإلعالم‬
‫املطلب الثاني‪ :‬تصنيفات ابستمولوجيا اإلعالم‬
‫الفرع األول‪ :‬فلسفة اإلعالم الحر‬
‫ثانيا‪ :‬فلسفة املسؤولية الجتماعية‬
‫الفرع الثاني‪ :‬فلسفة اإلعالم املوجه‬
‫فلسفة اإلعالم الشتراكي‬
‫فلسفة اإلعالم التنموي‬
‫التوجه األول ‪ :‬توجه مدرسة التحديث‬
‫التوجه الثاني ‪ :‬توجه مدرسة التبعية‬
‫‪ -3‬فلسفة اإلعالم اإلسالمية‬
‫املبحث الثاني‪ :‬ابستمولوجيا التصال‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم ابستمولوجيا التصال (املفاهيم والنماذج)‬
‫‪ -1-‬مفهوم التصال‬
‫املطلب الثاني‪ :‬جذور ابستمولوجيا التصال‬
‫املطلب الثالث‪ :‬إشكالية النماذج من إشكالية املفاهيم‪،‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬ابستمولوجيا علوم اإلعالم والتصال‬
‫املطلب األول‪ :‬ماهية علوم اإلعالم والتصال‬
‫املطلب الثاني‪ :‬مسألة بحوث اإلعالم والتصال‬
‫املبحث الرابع‪ :‬الدعامة الفلسفية لنظريات اإلعالم والتصال‬
‫املطلب األول‪ :‬النظرية الليبرالية‬
‫‪7‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬النظرية الشمولية‬
‫املطلب الثالث‪:‬النظرية املختلطة‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫فهرس املحتويات‬

‫‪8‬‬
‫‪‬‬
‫برزت الظاهرة التصالية إلى الوجود مع بداية اإلنسان ممارسته‬
‫التصال‪ ،‬فقد تطور هذا املفهوم عبر التاريخ نتيجة تطور وسائله‪ ،‬فبدأ‬
‫اإلنسان يمارس التصال عن طريق اإلشارات‪ ،‬واإليماءات‪ ،‬والرموز ثم مر بعد‬
‫ذلك إلى أن اخترعت املطبعة التي كانت نقطة انعطاف في تحول تاريخ التصال‪،‬‬
‫من التصال التقليدي الشخص ي إلى التصال الجماهيري‪ .‬فالفضل يعود لهذه‬
‫التقنية التي حولت املجتمع من مجتمع جمعي إلى مجتمع جماهيري‪.‬‬
‫تجدر اإلشارة إلى أن معالجة املسألة الفكرية والفلسفية ل تتم بصفة‬
‫تجريدية عن العوامل األخرى‪ ،‬في هذا اإلطار‪ ،‬نعتقد أن أهم مدخل لطرح اإلشكال‬
‫اإلبستمولوجي في علوم اإلعالم والتصال هو ذلك الذي ينطلق من الثورة‬
‫التصالية التي شهدتها وسائل اإلعالم والتصال ومن هنا فإننا نحاول في هذه‬
‫الدراسة النظرية طرح عالقة اإلبستمولوجيا واتجاهاتها بتكنولوجيا اإلعالم‬
‫والتصال‪ .‬والبداية تكون بمعرفة مكونات الظاهرة اإلعالمية التي تتسم بالتداخل‬
‫والتعقيد‪ .‬ذلك أن املتمعن في املشهد اإلعالمي على مر العصور‪ ،‬وعبر التاريخ‪ ،‬وعلى‬
‫الصعيد الدولي يالحظ أن اإلعالم ارتبط تاريخيا بالثورة الصناعية وبحركة‬
‫الرأسمالية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر‪ ،‬وتطور باتجاه العاملية والحتكار‬
‫ويتحكم فيه منطق السوق‪ ،‬ويقوم على امللكية الفردية والربح والتنافس‪.‬كما أن‬
‫هذا اإلعالم مرتبط بسياق التكنولوجيا الحديثة التي دفعت التصال إلى مرحلة‬
‫عالية من الكثافة والسرعة والنتشار األمر الذي أدى إلى تسريع نقل الرسائل‬

‫‪9‬‬
‫وزيادة التفاعل بين املرسل واملتلقي‪ .‬وهو كذلك مرتبط بالفكر القتصادي لوسائل‬
‫اإلعالم من تجارة وصناعة وتمويل لهذا التصال‪.‬‬
‫على كل حال سنعالج في هذا الكتاب موضوع ابستمولوجيا علوم اإلعالم‬
‫والتصال بحيث قسمناه إلى فصلين‪ ،‬فصل أول‪ :‬تطرقنا فيه إلى ماهية‬
‫اإلبستمولوجيا‪ ،‬جذورها ونشأتها واتجاهاتها وتصنيفاتها‪ ،‬أما الفصل الثاني‪:‬‬
‫فقد عالجنا فيه ابستمولوجيا علوم اإلعالم والتصال تطرقنا فيه إلى ماهية‬
‫ابستمولوجيا اإلعالم واملفاهيم‪ ،‬والنماذج وأهم فلسفات اإلعالم‪،‬‬
‫وابستمولوجيا التصال وأهم مفاهيم التصال ونماذجه‪.‬‬
‫د‪.‬عبد هللا ثاني محمد النذير‬

‫‪10‬‬
‫الفصل األول‪:‬‬

‫ماهية اإلبستمولوجيا‬

‫‪11‬‬
‫املبحث األول‪ :‬مفهوم اإلبستمولوجيا‬
‫املطلب األول‪ :‬اإلبستمولوجيا لغة‬
‫من الناحية اللغوية كلمة "إبستمولوجيا" متكونة من كلمتين يونانيتين‬
‫"ابستمي" ومعناها علم‪ ،‬والثانية‪ :‬لوغوس وهي بمعنى علم أيضا‪ .‬فهي إذن معناها‬
‫اللغوي "علم العلوم" أو "الدراسة النقدية للعلوم"‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬اإلبستمولوجيا اصطالحا‬
‫ول يختلف املعنى الصطالحي كثيرا عن املعنى اللغوي فاإلبستمولوجيا هي‬
‫نظرية في املعرفة كانت فيما سبق تختص بالبحث حول أسئلة تقليدية‪ ،‬ماهي‬
‫حدود املعرفة؟ هل املعرفة ممكنة أم غير ممكنة؟ ماهي وسائل املعرفة؟ هل هي‬
‫الحس أم العقل؟ أم الحس والعقل معا‪......‬وغيرها؟‬
‫وهذه هي األسئلة التقليدية التي كانت تدور حولها مباحث اإلبستمولوجيا في‬
‫مؤلفات الفلسفة التقليدية‪ :‬ولكن املقصود باإلبستمولوجيا هنا معنى خاصا غير‬
‫املعنى التقليدي‪.‬‬
‫نحن نقصد باإلبستمولوجيا هنا "نظرية املعرفة العلمية" تمييزا لها عن‬
‫نظرية املعرفة التقليدية‪ ،‬فاألولى‪ :‬من اختصاص العلماء ومن إنتاج الفالسفة‬
‫املنقطعين للنشاط العلمي‪ .‬أما الثانية‪ :‬فهي من إنتاج الفيلسوف ذاته كل‬
‫(‪)1‬‬
‫حسب مذهبه ونسقه الفلسفي‪.‬‬
‫وبينما تقوم نظرية املعرفة العلمية على الوسائل العلمية الحديثة مثل‬
‫القياس واإلحصاء والتجارب واآللت العلمية املتطورة نجد أن نظرية املعرفة‬
‫بمعناها التقليدي تعتمد على وسائل تقليدية وتقوم على فكر ذاتي"‪ ،‬في حين‬

‫‪ -1‬حسين شعبان "برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم‪ ،‬دراسة نقدية"‪ ،‬دار التنوير‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪ ،993‬ص ‪. 122‬‬
‫‪12‬‬
‫تتصف نظرية املعرفة العلمية واإلبستمولوجيا" بالنزعة املوضوعية‪ ،‬ومن هنا‬
‫جاء تعريف للند في معجمه الفلسفي لالبستمولوجيا‪:‬‬
‫"أن اإلبستمولوجيا هي الدراسة النقدية ملبادىء العلوم وفروضها ونتائجها‬
‫بغرض تحديد أصلها املنطقي وبيان قيمتها وحصيلتها املوضوعية"‪ .‬وإذا كان الفرنسيون‬
‫يميزون بين نظرية املعرفة واإلبستمولوجيا بمعناها الدقيق فإن الملان أيضا يميزون‬
‫بين نظرية املعرفة واإلبستمولوجيا وإن كانوا يقصدون باإلبستمولوجيا فلسفة العلوم‬
‫جميعها‪ ،‬ومهما كان من أقر هذه الختالفات التي تنشأ حول تحديد معنى‬
‫اإلبستمولوجيا فإننا نعني بها في املقام الول بيان شروط املعرفة البشرية وقيمتها‬
‫وحدودها وموضوعيتها من زاوية تطور العلم املعاصر (‪.")1‬‬
‫أن مقولة تحديد معنى اإلبستمولوجيا يرجع إلى ارتباطها بعدة أبحاث‬
‫معرفية تدور حولها‪ ،‬فاإلبستمولوجيا ترتبط بنظرية املعرفة كما ترتبط‬
‫باملثيودلوجيا وفلسفة العلوم واملنطق‪ ،‬فهي ترتبط باملنطق من حيث أنها تدرس‬
‫شروط املعرفة الصحيحة شأنها في ذلك شأن املنطق ولكن إذا كان املنطق يهتم‬
‫بصورة الفكر أو بصورة املعرفة فإن اإلبستمولوجيا تهتم بصورة املعرفة‬
‫ومادتها حقا ‪.‬‬
‫واإلبستمولوجيا مرتبطة أيضا بنظرية املعرفة بمعناها التقليدي من حيث‬
‫أنها تدرس أمكانية املعرفة‪ ،‬وحدودها وطبيعتها ولكن لمن زاوية املوقف الخاص بل‬
‫من زاوية التطور العلمي املستمر‪ ،‬وبكلمة واحدة أن اإلبستمولوجيا هي نظرية‬
‫علمية في املعرفة تتلون بلون املرحلة التي يجتازها العلم في سياق تطوره ونموه على‬
‫مر العصور ‪.‬‬
‫والخالصة أننا إذا أردنا تعريف اإلبستمولوجيا تعريفا دقيقا نقول‪ :‬إنها‬
‫تلك األبحاث املعرفية‪ ،‬فلسفة العلوم‪ ،‬نظرية املعرفة‪ ،‬مناهج العلوم‪ ،‬منظور‬

‫‪ -1‬حسين شعبان‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪124‬‬


‫‪13‬‬
‫إليها من زاوية علمية معاصرة أي من خالل املرحلة الراهنة لتطور الفكر العلمي‬
‫والفلسفي‪ ،‬كما أنها علم املعرفة التي تختص ببحث العالقة بين‬
‫"الذات واملوضوع " (إن اإلنسان يبني معرفته بهذا العالم من خالل نشاطه‬
‫العلمي والذهني‪ ،‬والبناء الذي يعتمده النسان بواسطة هذا النشاط هو (‪)1‬ما‬
‫نسميه العلم واملعرفة‪ ،‬أما لفحص عملية البناء نفسها " تتبع مراحلها‪ ،‬نقد‬
‫أسسها‪ ،‬بيان مدى ترابط أجزائها محاولة البحث عن ثوابت صياغتها صياغة‬
‫تعميمية‪ ،‬محاولة استباق نتائجها"‪ ،‬فذلك مايشكل موضوع اإلبستمولوجيا ‪.2‬‬
‫وحول إشكالية صياغة نظرية املعرفة عند الفالسفة وصعوبة دراستها‬
‫تعلل" املوسوعة الفلسفية املختصرة " تلك الصعوبة بالقول‪:‬‬
‫"إن املشكلة املركزية في نظرية املعرفة الحديثة هي التوفيق بين الطبيعة‬
‫الذاتية للفكر‪ ،‬وبين دعوانا أننا نعرف ما هو خارج أفكارنا‪ ،‬وتلك لم تكن مشكلة‬
‫بالنسبة ألرسطو إذ اعتبر أن العقل إنما يكشف نظاما كان من قبل موجودا في‬
‫الواقع حتى جاء كانت فقلب الوضع األرسطي وزعم أن النظام في معرفتنا يأتي‬
‫من العقل وحده‪ ،‬وتقبل بيرس املشكلة الحديثة وقدم له حله الخاص‪ ،‬بدأ‬
‫بيرس بالقول‪ :‬بأننا على وعي بكوننا نتصل في خبرتنا بالواقع مباشرة ويتكون‬
‫الواقع من األشياء الكائنة سواء فكرنا فيها أو لم نفكر‪ ،‬أضف إلى ذلك أننا إذا‬
‫أردنا اجتناب املفاجآت غير السارة فإنه يجب علينا أن نسعى ألن نكيف سلوكنا‬
‫‪3‬‬
‫مع هذه الشياء‪ ،‬وإلى هنا يتفق بيرس مع أرسطو "‬

‫‪ -1‬محمد عابد الجابري‪" ،‬تطور الفكر الرياض ي والعقالنية املعاصرة"‪ ،‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،1982،‬ص ‪. 42‬‬
‫‪ -2‬فؤاد كامل وآخرون " املوسوعة الفلسفية املختصرة "‪ ،‬دار القلم‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،1980 ،‬ص ‪. 139‬‬
‫‪ -3‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي " موسوعة الفلسفة " ج‪ 1‬ص ‪. 292‬‬
‫‪14‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬جذور اإلبستمولوجيا‬
‫املطلب األول‪ :‬نشأة اإلبستمولوجيا‬
‫ويجري اليوم في دائرة علم املعرفيات‪ ،‬ل في حقل نظرية املعرفة‪ ،‬الحديث‬
‫عن أنواع من املعرفيات‪:‬‬
‫ا‬
‫أوال – اإلبستمولوجيات الفلسفية‪:‬‬
‫وتشمل صورا من املعرفيات التي ضمها تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬والفلسفتان‬
‫اإلسالمية واملسيحية‪ .‬وهي معرفيات عكست بحدود ما‪ ،‬مرحلة التطور العلمي‬
‫يومذاك‪ ،‬كما ضمت في داخل أبنيتها الكثير الكثير من املفاهيم والتصورات العلمية‬
‫واستثمرت درجات يقينية النماذج املنطقية والرياضية ‪ .‬إل أن املعالجة الفلسفية‬
‫لها كانت من زاوية النفس وقواها‪ ،‬أو ملكاتها‪ .‬وشملت معرفيات غنوصية وصوفية‬
‫(‪ .)1‬وقد أنجز الباحث كتابين في هذا املضمار‪:‬‬
‫األول – اإلبستمولوجيا الفلسفية ‪ :‬تجربة الوافد اليوناني‪.‬‬
‫الثاني – اإلبستمولوجيا الفلسفية ‪ :‬تجربة الرافد العربي‪.‬‬
‫ا‬
‫ثانيا – املعرفيات (اإلبستمولوجيات) الحديثة‪:‬‬
‫وهي مرحلة التأسيس الحقيقي ملسألة املعرفة‪ ،‬ومن ثم نشوء مذاهب‬
‫ومدارس معرفية لها‪ ،‬وهي تضم التقسيمات الكالسيكية التي كانت متداولة في‬
‫دوائر املعرفيات‪ ،‬وهي‪:‬‬
‫أ – املعرفيات (اإلبستمولوجيات) الحسية‪:‬‬
‫أو املعرفيات التجريبية وهي نوع من املعرفيات تعتمد ”الحس” أو‬
‫” التجربة” طريقا وحيدا لكتساب املعرفة ‪ .‬وهنا الستناد جاء عن طريق‬

‫‪ -1‬أنظر ‪ :‬محمود زيدان؛ نظرية املعرفة عند مفكري اإلسالم وفالسفة الغرب املعاصريين‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت ‪1989‬‬
‫‪15‬‬
‫املعرفة وليس على نظرية املعرفة‪ .‬وقد جاء التأسيس لهذا النوع من‬
‫اإلبستمولوجيات في كتاب ” فرنسيس بيكون” (‪1626 –1561‬م) الذي عنوانه ”‬
‫األورغانون الجديد” أي املنطق الجديد ‪ .‬والذي طبع في الالتينية أول في العام‬
‫‪1620‬م‪ ،‬ومن ثم ترجم وطبع باإلنكليزية في العام ‪1863‬م‪ .‬وإن السم فيه إشارة‬
‫إلى ”أورغانون أرسطو” ‪ .‬فاألرغانون الجديد عند بيكون هو نظام جديد في‬
‫املنطق يعتمد الستقراء بدل من الستدلل‪ .‬ولهذا كان بيكون يعتقد أن‬
‫أورغانونه له السلطة العليا على األورغانون القديم(‪ )1‬وهكذا اختارت‬
‫اإلبستمولوجيات الحسية الستقراء‪ ،‬الطريق املنطقي الذي يتجاوب مع هذه‬
‫التوجهات الحسية التجريبية‪ .2‬كما ارتبطت هذه املعرفيات بمجموعة من‬
‫الفالسفة اإلنكليز من أمثال‪” :‬توماس هوبز” الذي قادته نزعته اإلبستمولوجية‬
‫الحسية التجريبية إلى املادية‪ ،‬والذي يعد رمزا من رموز مؤسسيها‪ ،3‬و”جون‬
‫لوك )‪ ”(1632–1704‬الذي يعتبر من مؤسس ي اإلبستمولوجيا الحديثة (وإن‬
‫ظل مقيدا في حدود نظرية املعرفة اصطالحا) والذي بحث في أصل املعرفة‬
‫وكونها تأتي من خالل الحواس ‪ .‬إن كل ذلك جاء في كتابه ”مقالة تتعلق بالفهم‬
‫اإلنساني” الذي صدر في العام ‪ ،1690‬و”دافيد هيوم” (‪ )1776-1711‬الذي‬
‫تناول املعرفة الحسية وما ارتبط بها من مشكالت تولدت لالستقراء‪ .‬درس هيوم‬
‫ذلك في كتابه املعنون ”بحث يتعلق بالفهم اإلنساني” الذي نشره في العام ‪. 748‬‬
‫ومن ثم تتوجت بنزعة ”جون ستيوارت ميل” (‪ )1873 -1806‬الحسية املتطرفة‬
‫التي ظهرت في كتابه املعنون ”نظام علم املنطق” الذي نشره في العام ‪1843‬‬
‫(ويتألف من مجلدين)‪ .‬وقد صاغ فيه املبادئ الخمسة لالستدلل الستقرائي‬
‫(والذي عرف بطريقة ستيوارت العلمية)‪ .‬في حين جاءت نزعته الحسية‬

‫‪1‬‬
‫‪-voir :Hesse. M .B ،Francis Bacon’s Philosophy of Science ،In A Critical History of Western Philosophy ،ed. J.‬‬
‫‪O’Conner ،New York 1964 ،pp 141 – 152.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪- Popkin. R ،Philosophy ،made simple ،London 1969 ،p 186.‬‬
‫‪3‬‬
‫‪-voir-:Clarence. H. Bradford ،An examination of Thomas Hobbes’ Theory of Knowledge ،Chicago 1956.‬‬
‫‪16‬‬
‫املتطرفة أكثر وضوحا في املجلد الثاني‪ ،‬وذلك عندما أعلن إن ”بديهيات‬
‫الهندسة هي ليست حقائق فرضية‪ ،‬وإنما هي حقائق تجريبية ”‪.1‬‬
‫ب – املعرفيات (اإلبستمولوجيات) العقلية‪:‬‬
‫إنه اتجاه معرفي حديث يعتمد ”العقل” الطريق الوحيد لكتساب املعرفة‪.‬‬
‫إن هذا التجاه ارتبط بنخبة من الفالسفة العقليين الذين انتجوا لنا نصوصا‬
‫إبستمولوجية في غاية األهمية في تاريخ اإلبستمولوجيا عامة والنزعة العقلية‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬كان في طليعتهم الفيلسوف الفرنس ي ”ديكارت“ (‪-1596‬‬
‫‪ )1650‬الذي ركز مشروعه األبستمولوجي في كتابه املعنون ” تأمالت في الفلسفة‬
‫األولى ” الذي صدر ألول مرة باللغة الالتينية في العام ‪ ،1641‬ومن ثم ظهرت له‬
‫ترجمة فرنسية في العام ‪ ،1647‬وبعد أكثر من قرن ونصف جاءت الترجمة‬
‫اإلنكليزية (التي قام بها جون فيتش في العام ‪.)1901‬‬
‫ومن ثم جاء ”باروخ إسبينوزا” (‪ )1677 -1632‬وهو من أكبر الفالسفة‬
‫العقالنيين‪ ،‬وقد تأثر بكل من ”إقليدس” (عاش بحدود ‪ 300‬ق‪.‬م وهو صاحب كتاب‬
‫األصول في الهندسة) و”ديكارت”‪ .‬وفي أبستمولوجياته كان يتطلع إسبينوزا إلى صياغة‬
‫مكوناتها على صورة موديل هندس ي‪ .‬وفعال نجح إسبينوزا في كتابه ”مبادئ األخالق” في‬
‫بناء األخالق على صورة مصفوفات هندسية تبدأ بتعريفات وبديهيات…‪ .2‬وفي مضمار‬
‫عمله في اإلبستمولوجيات العقلية‪ ،‬اعتقد إسبينوزا ” في امكانيته إمتالك املعرفة‬
‫األولية ” ومن ثم حدد ثالثة أنواع من املعرفة‪. 3‬‬
‫وكان الفيلسوف األملاني ”جوتفريد ليبنز” (‪ )1716 -1646‬وهو فيلسوف‬
‫وعالم رياضيات ومنطق‪ .‬وتوصل إلى اكتشاف ”حساب التفاضل والتكامل” في‬
‫الوقت ذاته الذي أعلن فيه ”إسحاق نيوتن” (‪ )1727 -1643‬عن اكتشافه هذا‬

‫‪1‬‬
‫‪- voir :Anthony Kenny; the Rise of Modern Philosophy ،Oxford ،2006.‬‬
‫‪2‬‬
‫‪-voir :Jonathon Bennett ،A study of Spinoza’s Ethics ،Hackett ،1984‬‬
‫‪3‬‬
‫‪-voir :Hall ،A. R. ،Philosophers at War: The Quarrel between Newton and Leibniz ،Cambridge University Press 1980‬‬
‫‪17‬‬
‫النوع من الحساب‪ .‬وتصاعدت درجات الصراع بين املانيا وإنكلترا حول األحقية‬
‫بالكتشاف وأقتربت من إعالن الحرب ‪.1‬‬
‫وليبنز سعى بكل جهد إلى تأسيس إبستمولوجياته العقلية على قواعد رياضية‬
‫ومنطقية‪ ،‬ومن ثم تطلع إلى صياغة القضايا اإلبستمولوجية بلغة الرياضيات الرمزية‬
‫وامللتزمة بقواعد املنطق الرمزي‪ .2‬وقد أعاد هؤلء الفالسفة وخصوصا ليبنز املكانة‬
‫لالستدلل‪ ،‬وخاصة اإلستدلل الرياض ي‪ ،‬طريقا لتأسيس املعرفة اليقينية ‪.3‬‬
‫ج‪ -‬اإلبستمولوجيات النقدية‪:‬‬
‫إنها اتجاه إبستمولوجي حديث مارس عملية النقد لالتجاهين املعرفيين‬
‫السابقين (أي نقد لألبستمولوجيا الحسية والعقلية على حد سواء)‪ .‬ومثل هذه‬
‫النزعة اإلبستمولوجية في تاريخ الفلسفة الغربية الحديثة‪ ،‬الفيلسوف األملاني‬
‫” إمانوئيل كانط ” (‪ )1804 -1724‬هو فيلسوف أملاني‪ ،‬وهو آخر الفالسفة املحدثين‪،‬‬
‫الذي كان له تأثير واسع في عموم البيئات الفلسفية األوربية عامة واإلبستمولوجية‬
‫خاصة ‪.4‬‬
‫حقيقة إن تأثير كانط في املضمار اإلبستمولوجي على األقل‪ ،‬لم يظل‬
‫محبوسا في إطاره الجغرافي (قارة أوروبا)‪ ،‬أو سجينا في معاقل عصر األنوار‪ ،‬بل‬
‫تجاوز ذلك وأصبح كانط فيلسوفا كونيا‪ ،‬كما وتحول إلى فيلسوف‬
‫اإلبستمولوجيا املتجدد الذي تجاوز انتماؤه الحدود الزمنية‪ ،‬فطوت حركة‬
‫الهتمام في أبستمولوجياته القرنين التاسع عشر والعشرين‪ ،‬وأصبح الهتمام‬
‫بكانط شغل دوائر البحث اإلبستمولوجي في القرن الحادي والعشرين (والباحث‬
‫شاهد على اهتمام أقسام الفلسفة‪ ،‬وكتاب فلسفة العلوم واإلبستمولوجيات‬
‫في أمريكا الشمالية‪ :‬كندا‪ ،‬والوليات املتحدة األمريكية )اشتغل كانط على ثالثة‬
‫‪1‬‬
‫‪- voir :Rutherford ،Donald ،Leibniz and Rational Order of Nature ،Cambridge University Press 1998‬‬
‫‪2‬‬
‫‪- Rutherford ،Donald ،Leibniz and Rational Order of Nature ،Cambridge University Press 1998‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- Popkin. R ،Op. Cit ،p. 190‬‬
‫‪4‬‬
‫‪- Carne Brinton. “Enlightenment” ،Encyclopaedia of Philosophy ،Macmillan 1967 ،Vol. 2 ،P.519‬‬
‫‪18‬‬
‫عشر مشروعا في البحث والكتابة قبل أن ينشر كتابه ” نقد املطلب الثاني‪:‬‬
‫ابستمولوجيا العلوم"‪.‬‬

‫املبحث الثالث‪ :‬اتجاهات اإلبستمولوجيا‬


‫املطلب األول‪ :‬ابستمولوجيا رينيه ديكارت‪René descart‬‬
‫إن القرن السابع عشر‪ ،‬قد عرف سيادة ابستمية أساسها (النظام) أفرزت‬
‫فلسفة التمثيل‪ ،‬أو على األصح إشكالية التمثيل التي تعد اإلشكالية األساسية‬
‫للنزعة الختبارية في القرن الثامن عشر‪ ،‬وكذلك للنزعة العقالنية الكالسيكية‬
‫مع ديكارت*‪ ،‬أهم رافد من روافد العقل األنواري‪.‬‬
‫إنه اتجاه معرفي حديث يعتمد ”العقل” الطريق الوحيد لكتساب املعرفة ‪.‬‬
‫إن هذا التجاه ارتبط بنخبة من الفالسفة العقليين الذين أنتجوا لنا نصوصا‬
‫إبستمولوجية في غاية األهمية في تاريخ اإلبستمولوجيا عامة والنزعة العقلية‬
‫على وجه الخصوص‪ ،‬كان في طليعتهم الفيلسوف الفرنس ي ”ديكارت“ (‪-1596‬‬
‫‪ )1650‬الذي ركز مشروعه األبستمولوجي في كتابه املعنون ” تأمالت في الفلسفة‬
‫األولى ” الذي صدر ألول مرة باللغة الالتينية في العام ‪ ،1641‬ومن ثم ظهرت له‬
‫ترجمة فرنسية في العام ‪ ،1647‬وبعد أكثر من قرن ونصف جاءت الترجمة‬
‫اإلنكليزية (التي قام بها جون فيتش في العام ‪.1)1901‬‬

‫* رينيه ديكارت‪ 31 :‬مارس ‪ 11 – 1596‬فبراير ‪ ،1650‬فيلسوف‪ ،‬ورياض ي‪ ،‬وفيزيائي فرنس ي‪ ،‬يلقب بـ"أبو‬
‫الفلسفة الحديثة"‪ ،‬وكثير من األطروحات الفلسفية الغربية التي جاءت بعده‪ ،‬هي انعكاسات ألطروحاته‪،‬‬
‫والتي ما زالت تدرس حتى اليوم‪ ،‬خصوصا كتاب (تأمالت في الفلسفة األولى ‪-1641‬م) الذي ما زال يشكل‬
‫النص القياس ي ملعظم كليات الفلسفة‪ .‬كما أن لديكارت تأثير واضح في علم الرياضيات‪ ،‬فقد اخترع نظاما‬
‫رياضيا سمي باسمه وهو (نظام اإلحداثيات الديكارتية)‪ ،‬الذي شكل النواة األولى لـ(الهندسة التحليلية)‪،‬‬
‫فكان بذلك من الشخصيات الرئيسية في تاريخ الثورة العلمية ‪.‬وديكارت هو الشخصية الرئيسية‬
‫ملذهب العقالنية في القرن‪17‬م‪ ،‬كما كان ضليعا في علم الرياضيات‪ ،‬فضال عن الفلسفة‪ ،‬وأسهم إسهاما‬
‫كبيرا في هذه العلوم‪ ،‬وديكارت هو صاحب املقولة الشهيرة‪:‬‬
‫‪ -1‬الدكتور محمد جلوب الفرحان‪ ،‬مقدمة في األبستمولوجيا‪،‬مجلة أوراق فلسفية‪ ،‬العدد‪،27‬‬
‫نوفمبر‪ ،2010‬ص‪https://drmfarhan.wordpress.com/2010/11/01/.5‬‬
‫‪19‬‬
‫يخصص ديكارت في القسم الخامس من "املقال عن املنهج" صفحات هامة‬
‫ومركزة لعرض نظريته في حركة القلب والشرايين واألوردة‪ ،‬تنم عن اطالعه‬
‫بآخر ما أنجزه علماء التشريح‪ ،‬في ذلك العصر‪ ،‬من أبحاث حول الدورة‬
‫الدموية‪ .‬وهي صفحات مطلعها كما يلي‪ " :‬لكي يستطيع املرء أن يتبين كيف‬
‫بحثت في هذا املوضوع‪ ،‬فإني أريد هنا أورد تفسير حركة القلب والشرايين‪ ،‬التي‬
‫ملا كانت األولى واألكثر عموما بين ما يشاهد املرء في الحيوان‪ .‬فإنه بذلك يحكم‬
‫بسهولة بما ينبغي أن يراه في الحركات األخرى‪ ،‬ولكي تقل الصعوبة في فهم ما‬
‫سأقوله في هذا املوضوع‪ ،‬فإني أريد من الذين لم يتعمقوا في علم التشريح‪ ،‬أن‬
‫يجتهدوا قبل قراءة ذلك‪ ،‬في أن يشرح أمامهم قلب حيوان كبير له رئتان‪ ،‬ألنه‬
‫يشبه من كل الوجوه قلب اإلنسان مشابهة كافية‪.1"...‬‬
‫إن أهم مايميز عصر ديكارت (‪) 650_1596‬العناية بمسألة املنهج أو‬
‫الطريقة الواجب اتباعها لبلوغ املعرفة الحقة‪ ،‬ففي سنة ‪ 1650‬ظهر كتاب‬
‫الورغانون الجديد لفرانسس بيكن (‪ )1662_ 1561‬وبعد عشر سنوات نشر‬
‫ديكارت كتابه "مقالة في املنهج" لتوجيه العقل والباحثين إلى الحقيقة في العلم‪،‬‬
‫وقد أرجع ديكارت سبب تأخر العلم في عصره إلى عدم اتباعه منهجا واضحا‬
‫يقول ديكارت‪" :‬الناس مسوقون برغبة في الستطالع عمياء حتى أنهم يوجهون‬
‫أذهانهم في طرق مجهولة "‪.2‬‬
‫وحين يعرف ديكارت املنهج يقول‪" :‬أنا أعني باملنهج قواعد مؤكدة بسيطة إذا‬
‫‪3‬‬
‫راعاها اإلنسان مراعاة دقيقة استطاع اإلنسان أن يصل بذهنه إلى اليقين" ‪.‬‬
‫إذن النهج هو املوجه الصادق للعقل إذ يعتمد فيه على طريقتين في‬
‫التفكير هما "الحدس والستنباط" ويقصد ديكارت بالحدس الفكرة املتينة التي‬

‫‪ -1‬ديكارت‪ ،‬تر‪ :‬محمود الخضيري‪ ،‬مقال عن املنهج‪ ،،‬القاهرة‪ ،1985 ،‬ص ص ‪.245-244‬‬
‫‪- 2‬عثمان أمين " ديكارت " سلسلة أعالم الفلسفة‪ ،‬مكتبة القاهرة الحديثة‪ ،‬ط‪ ،1965 ،5‬ص ‪83‬‬
‫‪-3‬عثمان أمين " ديكارت "‪ ،‬ص ‪. 91‬‬
‫‪20‬‬
‫تقوم في ذهن خالص منتبه وتصدر عن نور العقل وحده‪ ،‬أما الستنباط فيعبر‬
‫عنه بأنه فعل ذهني بواسطته نستخلص من ش يء لنا به معرفة يقينية نتائج‬
‫‪1‬‬
‫تلزم منها ‪.‬‬
‫هاتان الطريقتان في التفكير يحدد بهما قواعد منهجه والتي أهمها قواعد‬
‫الوضوح والبداهة القائلة‪ " :‬إني ل أتلقى على الطالق شيئا على أنه حق مالم‬
‫أتبين البداهة أنه كذلك وأن ل أدخل في أحكامي الما يتمثل لعقلي في وضوح‬
‫وتميز يزول معها كل ش يء"‪.2‬‬

‫املطلب الثاني‪ :‬ابستمولوجيا امانويل كانط ‪Emmanuel Kant‬‬


‫قامت فلسفة كانط* النقدية على نقد املذهب العقلي (ديكارت) ودحضه‪،‬‬
‫واملذهب التجريبي‪ -‬الحس ي (لوك وهيوم) ‪ .‬باعتبار أن املعرفة املنبثقة عن‬

‫‪ - 1‬عثمان أمين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪. 92‬‬


‫‪ - 2‬ديكارت "مقالة في املنهج" ترجمة‪ :‬جميل صليبا‪ ،‬اللجنة اللبنانية‪ ،‬بيروت‪ ،‬ط‪ ،1997 ،2‬ص ‪. 45‬‬
‫* إيمانويل كانت( باألملانية )‪ :( Immanuel Kant‬هو فيلسوف أملاني من القرن الثامن عشر (‪- 1724‬‬
‫‪ .)1804‬عاش كل حياته في مدينة كونيغسبرغ في مملكة بروسيا ‪.‬كان آخر الفالسفة املؤثرين في الثقافة‬
‫‪21‬‬
‫التجاه العقلي ل تقوم على محتويات تجريبية ‪ -‬حسية‪ ،‬بل تنتج عن تفكير‬
‫منطقي استنباطي‪ .‬ذلك أن العقليين في عصر التنوير اعتبروا أن العالم منظم‬
‫حسب قوانين‪ ،‬ويمكن معرفة هذا العالم عبر العقل والستدلل املنطقي‬
‫انطالقا من مقدمات‪ ،‬صحيحة ودون اللجوء إلى املعطيات الحسية (ديكارت)‪،‬‬
‫وهذا ما يرفضه كانط‪.‬‬
‫فيما يتعلق بنقد كانط للمذهب التجريبي‪ -‬الحس ي‪ ،‬فرغم أنه شارك (لوك)‬
‫و(هيوم) في موقفهما النقدي من محاولة استنباط عالم الوقائع من مبادئ أولى‬
‫ندركها بالحدس‪ ،‬ووافقهما في العتقاد بأن املعرفة الوحيدة التي نستطيع الحصول‬
‫عليها عن العالم وعن أنفسنا هي املعرفة القائمة على الخبرة الحسية‪ .‬غير أنه ل‬
‫يوافق هيوم خاصة في مسألة شكه حول يقينية هذه املعرفة‪ ،‬حيث اعتبر هيوم أن‬
‫انطباعاتنا الحسية يمكن أن تنخدع وتتناقض‪ .‬هكذا حاول كانط بطريقة ما أن‬
‫يؤسس نظرية معرفية انطالقا من خلق تركيب من املذهب التجريبي‪ -‬الحس ي‬
‫واملذهب العقلي‪ ،‬وذلك على أساس تجنب الشك التجريبي‪ -‬الحس ي من جهة‪،‬‬
‫وتجنب العقيدة العقلية الجامدة من جهة أخرى‪.‬‬
‫أكد هيوم على دور الحدث الواقعي والخبرة في تحقيق املعرفة‪ ،‬غير أنه لم‬
‫يتحدث عن أي ش يء منظم وعقلي في الطبيعة‪ .‬في حين أن العقليين‪ ،‬قد رأوا أن‬
‫في الطبيعة نظاما ومنطقا‪ ،‬مما جعلهم يعتقدون أنه من املمكن اكتشاف‬

‫األوروبية الحديثة‪ .‬وأحد أهم الفالسفة الذين كتبوا في نظرية املعرفة الكالسيكية‪ .‬كان إيمانويل كانت آخر‬
‫فالسفة عصر التنوير الذي بدأ باملفكرين البريطانيين جون لوك‪ ،‬وجورج بيركلي‪ ،‬وديفيد هيوم‪.‬‬
‫طرح إيمانويل كانت منظورا جديدا في الفلسفة أثر ول زال يؤثر في الفلسفة األوربية حتى اآلن أي أن تاثيره‬
‫امتد منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الواحد والعشرين‪ .‬نشر أعمال هامة وأساسية عن نظرية‬
‫املعرفة‪ ،‬وأعمال أخرى متعلقة بالدين‪ ،‬وأخرى عن القانون والتاريخ‪.‬‬
‫أما أكثر أعماله شهرة فهو كتابه‪ :‬نقد العقل املجرد الذي نشره سنة ‪ 1781‬وهو على مشارف الستين من‬
‫عمره‪ .‬يبحث كانت في هذا الكتاب ويستقص ي محدوديات وبنية العقل البشري ذاته‪ .‬قام في كتابه هذا‬
‫بالهجوم على امليتافيزياء التقليدية ونظرية املعرفة الكالسيكية‪ .‬وأجمل وأبدع مساهماته كانت في هذا‬
‫املجال بالتحديد‪ .‬ثم نشر أعمال رئيسية أخرى في شيخوخته‪ ،‬منها كتابه‪ :‬نقد العقل العملي الذي بحث‬
‫فيه جانب األخالق والضمير اإلنساني‪ ،‬وكتابه نقد الحكم الذي استقص ى فيه فلسفة الجمال والغائية‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫النظام الطبيعي واستخالصه من مبادئ أولى بدون اللتجاء إلى الوقائع‪.‬‬
‫وملواجهة هذه املفارقة‪ ،‬بدا لكانط أن هناك حاجة إلى مزيج من الوقائع والعقل‪،‬‬
‫عبر رؤية تسعى إلى تنظيم ومفهمة معطيات التجربة من جهة‪ ،‬وملء بنيات‬
‫العقل الفارغة بالوقائع من جهة أخرى‪.‬‬
‫وعليه انتهى كانط إلى القول‪ :‬إن كل ما ينظم ويضفي بنية على خبرتنا ل يمكن أن‬
‫ينشأ من الخبرة‪ ،‬بل ل بد من أن تكون هذه القدرة على التنظيم والبناء واملفهمة من‬
‫داخلنا‪ .‬وبتعبير آخر‪ ،‬افترض كانط وجود ثنائية مؤلفة من ذات ومن ش يء‪ .‬وبما أن‬
‫القوة املنظمة ل يمكن أن تكون في الش يء‪ ،‬فيجب أن تكون في الذات‪ .‬تلك كانت الثورة‬
‫الكوبرنيكية في نظرية املعرفة عند كانط‪ .‬أي إن كل ما ينظم ويبني خبرتنا ل يصدر عن‬
‫األشياء التي هي موضوع معرفتنا‪ ،‬وإنما من أنفسنا‪.‬‬
‫فكما قلب كوبرنيك وكبلر نظرة اإلنسان إلى العالم حينما رفضوا العقيدة‬
‫التقليدية التي قالت‪ :‬إن األرض واإلنسان هما في املركز الذي ل يتحرك في‬
‫العالم‪ ،‬ودافعوا‪ ،‬في مقابل ذلك‪ ،‬عن الفرضية التي تقول‪ :‬إن اإلنسان واألرض‬
‫يدوران حول الشمس‪ .‬وبالطريقة نفسها‪ .‬عكس كانط الرأي األساس ي الذي قال‪:‬‬
‫إن املعرفة تحدث عندما تتأثر الذات بالش يء‪ ،‬إلى القول بأن الش يء هو الذي‬
‫يتأثر بالذات‪ ،‬أي أن الش يء كما نعرفه هو الذي يتشكل ويتألف ويتكون بطريقة‬
‫الذات‪ .‬هذه النقلة بالفتراضات اإلبستمولوجية سماها كانط نفسه‪ :‬الثورة‬
‫الكوبرنيكية في الفلسفة‪ .‬وذلك كان جوهر نظرية املعرفة عند كانط‪.1‬‬
‫هكذا بين كانط أن العقل ل يعكس العالم الخارجي كما هو‪ ،‬بل إنه في‬
‫الواقع يخلق هذا العالم من حيث تركيبه املنطقي‪ .‬فالتجربة بدون نشاط العقل‬
‫ل تستطيع أن تقدم إلينا إل سلسلة من األحوال العقلية املتتابعة مثل الصور‬
‫الفوتغرافية‪ .‬غير أن كانط شرح لنا أن ‹‹السبب الذي يجعلنا نفكر في العالم‬
‫تفكيرا منظما وعلميا ل يكمن في كون العالم املادي عاملا رياضيا‪ ،‬بقدر ما يكمن‬

‫‪ -1‬غنار سكيربك ونلز غيلجي‪ .‬تاريخ الفكر الغربي‪ .‬ترجمة د‪ .‬حيدر حاج اسماعيل‪ .2012 .‬املنظمة العربية‬
‫للترجمة‪ .‬بيروت‪( .‬ص ‪)573‬‬
‫‪23‬‬
‫في كون العقل الذي يقوم بعملية التفكير يفكر بطريقة رياضية‪ .‬فالعقل آلة‬
‫منطقية‪ ،‬تطبع األفكار العقلية تماما كما تطبع آلة الطبع الكلمات‪ ،‬أو كما تطبع‬
‫اآللة الكاتبة الحروف‪ .‬فأيا كان ذلك الذي يدركه العقل‪ ،‬وأيا كان ذلك الذي‬
‫يقدمه العقل في نهاية األمر إلى نفسه‪ ،‬فهو دائما منطقي وعلمي‪ ،‬نظرا لكون‬
‫الصور أو البنيات العقلية التي تؤلف املعرفة مبنية على مبادئ علمية››‪.1‬‬
‫سلم كانط بوجود ش يء ضروري وصحيح كليا في معرفتنا‪ ،‬أي وجود بنى فكرية‬
‫أو ‹‹صور›› أو ‹‹مقولت›› ترانسندنتالية قبلية في العقل‪ ،‬أي سابقة للخبرة ومستقلة‬
‫عنها‪ .‬كما افترض أن جميع البشر لهم هذه ‹‹الصور›› أو البنيات الرئيسية ذاتها‪ ،‬وهي‬
‫فطرية في البشر وثابتة وصحيحة صحة كلية‪ .‬فهي إذن موجودة عند جميع الذوات‬
‫كشرط إبستيمولوجي إلمكانية املعرفة املوضوعية أي املعرفة الحقة‪ .‬وهكذا فال‬
‫يمكن ملحتويات الخبرة أن تصبح معرفة إل بهذه الشروط اإلبستيمولوجية‪ .‬وعليه‬
‫فإن معرفة جميع البشر يجب أن تأخذ شكل هذه الصور وتخضع لتلك الشروط‬
‫العقلية الترانسندنتالية‪.‬‬
‫وبصيغة أخرى‪ ،‬إن كل معرفة تبدأ بالخبرة‪ ،‬أي أن محتوى املعرفة يحدده‬
‫الخارجي املوجود في ذاته‪ ،‬لكننا نطبع هذا املحتوى بصورتنا‪ ،‬بحيث ل تصبح‬
‫النطباعات الحسية معرفة إل عندما تبنى وتنظم وتمفهم بواسطة عقلنا‪ .‬لذا‬
‫فإن املعرفة كلها تشكلها الذات‪ .‬ولذلك افترض كانط وجود أحكام تركيبية‬
‫قبلية عند جميع الذوات العارفة‪ ،‬تشكل شروط الخبرة املنظمة‪ ،‬أي املعرفة‬
‫كما ندركها‪.‬‬
‫وملواجهة شك هيوم حول النطباعات التي تمدنا بها الحواس‪ ،‬سعى كانط من‬
‫خالل نظريته في املعرفة هاته‪ ،‬أن يجنب الفلسفة هذا الشك ويجعلها تقوم على‬
‫أساس آمن كما العلوم الطبيعية (مكيانيك نيوتن خاصة)‪ .‬لذا اعتبر أن املبادئ‬

‫‪ -1‬جون لويس‪ ،‬تر‪ :‬أنور عبدامللك‪ ،‬مدخل إلى الفلسفة‪ . 197 .،‬دار الحقيقة ‪ .‬بيروت‪،‬ص ‪.130‬‬

‫‪24‬‬
‫األساسية التي يقوم عليها العلم الطبيعي هي املبادئ ذاتها التي يجب أن تؤطر املقولت‬
‫والتصورات والبنيات (األفكار الترنسندنتالية املتعالية على الخبرة) التي تنظم‬
‫النطباعات القادمة من الخارج‪ .‬وقد اعتبر هذه املبادئ قبلية‪ ،‬متعالية‪ ،‬سابقة على‬
‫الخبرة‪ ،‬ومستقلة عنها‪ .‬أي ل تتأثر باألخطاء أو الشكوك املرتبطة باإلحساسات‪ ،‬لذا‬
‫فإن هذه املبادئ أو املقولت العقلية هي حقيقية ويقينية وثابتة‪ .‬ومهما يكن تأويل‬
‫هذه املبادئ‪ ،‬فالنقطة الحاسمة‪ ،‬هي أنها‪ ،‬باملعنى اإلبستيمولوجي‪ ،‬سابقة للمعرفة‬
‫التجريبية ‪ -‬الحسية‪.‬‬
‫ونشير هنا ‪-‬على سبيل املثال‪ -‬إلى بعض هذه املبادئ التي أشار إليها كانط التي‬
‫تتمثل في صور املكان والزمان والسببية ومبدأ عدم التناقض‪ ،‬إلخ‪ .‬إن مبدأ السببية‬
‫مثال الذي يقول ‹‹لكل حادث سبب››‪ ،‬يجعلنا ل نحتاج إلى العودة إلى الخبرة لكي‬
‫نعرف أن لكل حادث سببا ما‪ ،‬ألن معرفة السببية موجودة في صور تفكيرنا‪ .‬وإذا‬
‫سمعنا عن‹‹وقوع حدث›› دون ذكر املكان والزمان الذي حدث فيه‪ ،‬ودون اإلشارة‬
‫إلى سبب وقوعه‪ ،‬فال يمكن أن يكون لذلك الحدث معنى‪ ،‬ألن أفكار املكان والزمان‬
‫والسببية ضرورية لحصول املعرفة‪ ،‬ألن معرفتنا يجب أن تحمل عالمة هذه املبادئ‬
‫لتكون مفهومة أي لتكون معرفة‪ .‬فاملكان والزمان والسببية من شروط إمكان‬
‫معرفتنا‪ .‬وإذا قيل لنا‪ :‬إن ‹‹هذا الش يء هو‪ ،‬في الوقت نفسه‪ ،‬أحمر وأخضر››‪ ،‬فال‬
‫نحتاج للعودة إلى الخبرة للتأكد من ذلك‪ ،‬ألن هناك خرقا ملبدأ عدم التناقض‬
‫املوجود في تفكيرنا‪ ،‬وبالتالي فإن هذه املعرفة غير ممكنة‪ .‬وهكذا‪ ،‬فإن هذه املقولت‬
‫واملبادئ الترنسندنتالية املوجودة في تفكيرنا هي التي تضفي املعنى املعرفي للحدث‪،‬‬
‫وتشكل شروطا لتكون معرفتنا ممكنة‪.‬‬
‫إن العالم كما يعرفه العقل‪ ،‬حسب كانط‪ ،‬هو بالضرورة عالم يتكون من‬
‫العلة واملعلول بشكل مطلق‪ ،‬عالم ل محل فيه للسحر ول للمعجزات‪‹‹ ،‬فلكل‬
‫حدث سبب››‪ .‬وعليه فإن العقل العلمي يعمل بواسطة طرق خاصة في التفكير ل‬
‫تصلح إل لتناول الوقائع العلمية وحدها‪ ،‬وهي طرق يجب أل تستعمل ألغراض‬

‫‪25‬‬
‫دينية أو ميتافيزيقية‪ .‬فالفكر العلمي ليس بمقدوره أن يتوقع حياة أخرى بعد‬
‫املوت‪ ،‬أو أي ش يء ينتمي إلى عالم امليتافيزيقا من خوارق وأساطير‪.‬‬
‫يرى كانط إذن إننا عاجزون عن البرهان على املسائل الدينية األساسية أو‬
‫دحضها‪ .‬نحن ل نستطيع‪ ،‬مثال‪ ،‬أن نثبت بطرق علمية وجود عالم آخر بعد‬
‫املمات‪ ،‬ول أن نثبت عدم وجوده‪ ،‬لكننا نستطيع أن نؤمن بهذا املوقف أو ذاك‪.‬‬
‫هكذا اعتبر أن اإلجابة عن املسائل الدينية يجب أن تقوم على اإليمان‪ ،‬وبذلك‬
‫قد ترك فسحة للدين‪.‬‬
‫هكذا ميز كانط بين املعرفة واإليمان ليظل وفيا ومنسجما مع نظريته‬
‫املعرفية التي ترى أن ل معرفة دون خبرة قادمة من الواقع امللموس‪ .‬ففي الوقت‬
‫ذاته الذي حافظ فيه كانط على ‹‹العقل›› في العلوم الطبيعية وفي الرياضيات‪،‬‬
‫قد ترك أيضا فسحة للمعرفة الدينية عبر اإليمان‪.‬‬
‫خلقت نظرية املعرفة عند كانط بعض املفارقات‪ .‬فالصور واملقولت التي‬
‫بواسطتها ننظم الطبيعة هي ملك للعقل ول يمكن تغييرها‪ .‬إنها‪ ،‬في حد ذاتها‪ ،‬ل‬
‫تصف أي ش يء خارج العقل‪ .‬إنها تقوم بوظيفتها عندما تنظم ذلك الذي يشاهد‬
‫بالفعل فقط ليس إل‪ .‬هكذا تغدو مهمة العقل هو إدخال النظام املنهجي على‬
‫التجربة‪ ،‬على الظواهر‪ ،‬ل أكثر ول أقل‪ .‬ولكن‪ ،‬هل نستطيع أن نعرف الحقيقة‬
‫التي تبدو لنا في اإلدراك‪ ،‬أي أن ندرك الش يء في ذاته؟ كانط يجيب بالنفي‪ .‬هكذا‬
‫أحدث ثغرة بين الظاهر والحقيقة‪ ،‬بين العقلي والحقيقي‪ .‬فالعقل ليس في‬
‫مقدوره أن ينفذ إلى الحقيقة‪ ،‬ومن ثم فنحن ل نعرف العالم كما هو في‬
‫حقيقته أبدا‪ ،‬بل إننا ل نعرفه إل كما يبدو لنا بعد مروره من خالل معصرة‬
‫تفكيرنا‪.‬‬
‫وقد ترتب عن رؤية كانط هاته كثير من الشكوك‪ :‬فربما ليس هناك ش يء‬
‫وراء املظاهر‪...‬ربما ل وجود للش يء في ذاته‪ ...‬نحن في هذه الحالة ربما ل نستطيع‬
‫أن نخرج من عقولنا‪ .‬هذه الفتراضات تجعل األمور تتجه نحو املذهب املثالي‬

‫‪26‬‬
‫الذاتي(بركلي)‪ .‬بل هناك عدد من الفالسفة من ادعى أن كافة املفاهيم العلمية‬
‫(مثل الجزيء والذرة) والنظريات العلمية ليست إل أشياء من صنع العقل‪،‬‬
‫وخرافات نافعة‪ ،‬تصلح لتنظيم معطيات الحس‪ ،‬لكنها ل تقدم صورة حقيقية‬
‫أبدا‪ .‬بل ذهب أحدهم إلى حد القول ‪‹‹ :‬إن ذلك البنيان الذي يقيمه العلم ل‬
‫يعدو أن يكون نوعا من أنواع القصور في الهواء‪ .‬إن ذلك الذي نفهمه عن الكون‬
‫هو بالضبط ذلك الذي نضعه في الكون لنجعله مفهوما››‪ .1‬هكذا فتح كانط‬
‫الباب لكثير من الشكوك التي حاول تجنبها في نظريته‪ .‬كما وجد نفسه‪ ،‬من‬
‫خالل نظريته في املعرفة الترانسدنتالية‪ ،‬في قلب امليتافيزيقا التي سعى إلى نقدها‪.‬‬
‫إن املهمة األولى للفلسفة بعد كانط‪ ،‬أضحت إذن إزالة تلك الثنائية التي أثقل‬
‫بها كانط كاهل الفكر‪ ،‬وهي الثنائية التي أقامها بين الظاهر الذي ليس حقيقة‪،‬‬
‫والحقائق التي ل تظهر‪ ،‬وكذا دحض ‹‹مقولته›› الثابتة امليتافيزيقة‪ .‬ذلك ما حاول‬
‫بالفعل هيغل القيام به‪ ،‬حيث حاول التغلب على الثنائية الكانطية بين ظواهر‬
‫التجربة والش يء في ذاته‪،‬وذلك برفضه فكرة الش يء في ذاته‪ .‬كما أحدث هيغل ثورة‬
‫في املقولت‪ ،‬إذ جعلها تشمل طيفا أوسع‪ ،‬حيث جعلها تشمل الثقافة‬
‫واإلديولوجيات السائدة‪ ،‬أي إنها أضحت كل ذلك الذي منه نتكلم‪ .‬هكذا عدل‬
‫هيغل شروط كانط الترانسدنتالية وحولها إلى شروط اجتماعية وإيديولوجية‬
‫وثقافية‪ .‬كما اعتبر هيغل أن هذه املقولت املكونة (كسر الواو) للمعرفة (الذات‬
‫العارفة في نظر كانط ) هي ذاتها مكونة (نصب الواو)‪ ،‬وتكوين هذا املكون (بكسر‬
‫الواو) هو التاريخ‪ .‬فهي إذن ذات نشوء تاريخي وبالتالي ليست ثابتة ويقينية بل هي‬
‫متغيرة وقابلة للتطور‪.‬‬
‫هناك من يتساءل ما الفائدة من العودة إلى كانط وأفكاره التي وردت في القرن‬
‫الثامن عشر؟ أعتقد أن الفائدة تتمثل في التذكير بأن الفكر الغربي الذي بني حضارة‬

‫‪ -1‬توما األكويني وكانط‪ :‬ترجمة أنور عبدامللك‪ ،‬أسس العلم الحديث ‪.‬وردت في جون لويس‪ :‬مدخل إلى‬
‫الفلسفة‪ . 1978 .‬دار الحقيقة ‪ .‬بيروت ص ‪.130‬‬

‫‪27‬‬
‫العصر الحديث قد مر من هنا‪ .‬لقد تطور عبر مواجهة مقولته الترانسدنتالية‬
‫الجامدة وتبنى فلسفة تنويرية منذ ذلك العهد‪‹‹ .‬وذلك برفع شعار محاربة امليتافيزيقا‬
‫والالهوت والخرافات التي تكبل تفكير اإلنسان األوروبي وتبلد عقله‪ ،‬كما نادت هذه‬
‫الفلسفة بمنح الحرية للعقل‪ ،‬والقيام بنقد شامل لكل األشياء والظواهر‬
‫واملؤسسات واملفاهيم‪ ،‬وإخضاع هذه املواضيع جميعها ملحك العقل‪ ،‬والخروج‬
‫بأوروبا من ظالم الجمود والظلم واألساطير إلى أنوار العقل والحرية والتقدم››‪.1‬‬
‫والسؤال الذي ينبغي أن نواجهه نحن أيضا‪ :‬هل يمكن أن نلحق بهذه الحضارة‬
‫(خاصة على املستوى الثقافي) دون املرور عبر نقد ‹‹مقولتنا›› الترانسدنتالية‬
‫املتكلسة؟‬
‫املطلب الثالث‪ :‬ابستمولوجيا غاستون باشالر‪Gaston Bachelard‬‬
‫تتميز نظرية املعرفة العلمية عند باشالر *بمجموعة من السمات‬
‫الساسية التي تميزها عن باقي اإلبستمولوجيات أو " نظريات املعرفة " عند‬
‫الفالسفة املحدثين واملعاصرين من هذه السمات‪:‬‬
‫‪ -1‬أنها ترفض العقل قبل العلمي وتقول ل لعلم األمس وللطرق املضادة في‬
‫التفكير وليس معنى ذلك أنها فلسفة سلبية وإنما هي فلسفة بناءة ترى في الفكر‬
‫عامل تطور عندما ينقد الواقع فهي فلسفة ل تعترف ببناء أو نسق نهائي للفكر‬
‫العلمي بل ترى فيه فقط بناء يتجدد باستمرار على ضوء التطورات العلمية‬
‫املستمرة‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد نورالدين أفاية ‪ :‬في النقد الفلسفي املعاصر‪ :‬مصادره الغربية وتجلياته العربية‪ . 2014 ،‬مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ .‬بيروت ص ‪.19‬‬
‫* يعد غاستون باشالر )‪ (1884 – 1962‬واحدا من أهم الفالسفة الفرنسيين‪ ،‬وهناك من يقـول إنـه أعظـم‬
‫فيلســوف ظــاهري‪ ،‬وربمــا أكثــرهم عصــرية أيضــا ‪ .‬فقــد كــرس جــزءا كبيـرا مــن حياتــه وعملــه لفلســفة العلــوم‪،‬‬
‫وقــدم أفكــارا متميــزة فــي مجــال البســتمولوجيا حيــث تمثــل مفاهيمــه فــي العقبــة املعرفيــة والقطيعــة املعرفيــة‬
‫والجدلي ــة املعرفي ــة والت ــاريخ التراجع ــي‪ ،‬مس ــاهمات ل يمك ــن تجاوزه ــا ب ــل ترك ــت آثاره ــا واض ــحة ف ــي فلس ــفة‬
‫معاص ــريه وم ــن جـ ــاء بع ــده ‪ .‬ولعـ ــل أه ــم مؤلفات ــه ف ــي مج ــال فلسـ ــفة العل ــوم ه ــي‪ :‬العقـ ــل العلم ــي الجديـ ــد‬
‫‪،1934‬تكوين العقل العلمي ‪ ،1938‬العقالنية والتطبيقية ‪ ،1948‬املادية العقالنية ‪.1953‬‬
‫‪28‬‬
‫في مقابل هذه النظرة التي طرحها د‪ .‬شعبان حسن‪ ،‬يطرح الدكتور عبد‬
‫الرحمن بدوي رأيا مناقضا للرأي السابق فيرى في فلسفة باشالر أنها تدعو إلى‬
‫ديالكتيك سلبي‪ ،‬والسلب هو في أنبنائه حركة تدمير‪ ،‬وأعادة بناء للمعرفة‪ .‬يري‬
‫غإلى بيان أن التقابالت زائفة‪ ،‬بيد أن التقابل الوهمي للتصورات يميل إلى‬
‫منازعات حقيقية في املمارسات املنتجة للعالم‪ ،‬أن العلم يضع قضايا تخضع‬
‫للتعديل املستمر‪ ،‬وإن كان الحالم يستأنف أحالمه العزيزة فإن العالم هو‬
‫اآلخر يستأنف أبحاثه العقيمة في الظاهر ‪.‬‬
‫ومصير العقل هو ناتج غير إنساني للعمل النظري لبنى النسان‪ ،‬والفكر‬
‫ينتج مقولته خالل ممارسته ملا هو تجريبي‪ ،‬والعلم هو حالة خاصة من ذلك‬
‫‪1‬‬
‫اإلنتاج فيها املقولة العليا هي الحق‪.‬‬
‫‪-2‬أن اإلبستمولوجيا الباشالرية تستلزم النظر إلى املعرفة من زاوية‬
‫تطورها في الزمان أي بوصفها عملية تطور ونمو متصلة وبعبارة أخرى فأنه لبد‬
‫من النظر إلى املعرفة‪ ،‬أية معرفة بوصفها نتيجة ملعرفة سابقة بالنسبة إلى‬
‫معرفة أكثر تقدما وتطورا‪.‬‬
‫‪ -3‬تتميز نظرية املعرفة العلمية عند باشالر باملقارنات املتعددة على مستويات‬
‫متعددة وهذه املقارنات تأخذ شكال تأريخيا نقديا وتركز بالذات على ثقافة القرن‬
‫الثامن غير العلمية‪ ،‬وهذا الشكل التأريخي النقدي هو الشكل املنهجي الذي يجري‬
‫تطبيقه على تأريخ العلوم‪ ،‬وعلى األفكار الساسية التي نستخدمها وبينها العلماء‬
‫خالل تطورهم العلمي‪.‬‬
‫‪ -4‬أن السمة األساسية في اإلبستمولوجيا الباشالرية هي اهتمامها املتزايد‬
‫بجوانب النقص والخطأ والفشل في حقول العلم أكثر من اهتمامها باليجابيات‬
‫وبهذه الطريقة تصبح املوضوعات العلمية عبارة عن مجموعة من النتقادات التي‬

‫‪ - 1‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي " موسوعة الفلسفة " ج‪ 1‬ص ‪. 292‬‬
‫‪29‬‬
‫وجهت إلى صورتها قبل العلمية أو صورتها الحسية القديمة‪ ،‬فليست الذرة مثال هي‬
‫هذه الصورة التي أعطاها لها هذا العالم أو ذاك بل مجموع النتقادات التي وجهت‬
‫إليها‪ ،‬أي إلى تلك الصورة من طرف العلماء والباحثين الالحقين‪ ،‬إن املهم في العلم‬
‫ليس الصورة الحسية املتخيلة التي يقدمها هذا العالم أو ذاك على أشياء الطبيعة‬
‫إن املهم هو النتقادات وأنواع الرفض التي تالقيها هذه الصورة من طرف العلماء‬
‫‪1‬‬
‫اآلخرين ‪.‬‬
‫‪ -5‬أن اإلبستمولوجيا الباشالرية هي نظرية علمية في املعرفة ألنها تستقي‬
‫موضوعاتها ومسائلها ومناهجها من العلم ذاته من املشاكل التي يطرحها تقدم‬
‫العلم على العلماء املختصين‪ ،‬فهي إذن تعني باملعرفة العلمية أساسا وتحاول أن‬
‫تقدم حلول علمية لقضايا املعرفة عامة‪ ،‬بقدر ماتنتمي هذه القضايا إلى ميادين‬
‫البحث العلمي‪.‬‬
‫‪ -6‬كما أن أبستمولوجيا باشالر نظرية في املعرفة غير مغلقة وغير مكتملة‬
‫فهي ل تنشد املعرفة املغلقة على ذاتها‪ ،‬وهي ل تذهب مع دعاوى الفالسفة‬
‫الذين يتوهمون أنهم فرغوا من بناء نسق معرفي تام ومكتمل ونهائي‪ ،‬إنها ل تريد‬
‫أن تتقيد بنسق فلسفي مؤكد إنما هي تتمسك بأساسين‪ "1" :‬نسبية املعرفة "‪"2‬‬
‫مبدأ القابلية للمراجعة‪ ،‬واإلبستمولوجيا بهذا املعنى يعتبرها صاحبها باشالر هي‬
‫الفلسفة العلمية الوحيدة التي تواكب أي تطور يطرأ في حقل العلم‪.‬‬
‫‪ -7‬لقد أوضح باشالر في كتابه فلسفة ل‪ ،‬أو "فلسفة النفي" اآلفاق العلمية‬
‫الجديدة التي من املمكن الوصول إليها عن طريق الجدل أو النفي‪ .‬يقول باشالر ‪:‬‬
‫"إنه إلى جانب املعرفة التي تزيد وتؤدي إلى تغيرات تدريجية في الفكر العلمي سنجد‬
‫سببا يدعو إلى تجدد يكاد لينضب في الفكر العلمي‪ ،‬والواقع أن الفكر العلمي‬

‫‪ -1‬محمد عابد الجابري " تطور الفكرالرياض ي والعقالنية املعاصرة " ج‪ 1‬ص ‪ ،33-31‬دار الطليعة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،1982 ،‬ص ‪.42‬‬

‫‪30‬‬
‫يتطور بين حدين متعارضين ينتقل مثال من الهندسة القليدية إلى الهندسات‬
‫الالأقليدية ومن امليكانيكا النيوتونية إلى امليكانيكا الالنيوتونية لدى انشتاين‪ ،‬ومن‬
‫فيزياء مكسويل إلى الفيزياء الالمكسويلية لدى بور‪ ،‬ومن اإلبستمولوجيا الديكارتية‬
‫إلى إبستمولوجيا الالديكارتية"‪.1‬‬
‫هنالك مالحظة تزيل نوعا من اللبس الذي قد يحدث في الفهم حول فلسفة‬
‫النفي الباشالرية‪ :‬مؤادها أنه ليس في هذا السلب "النفي" "’آلي" وينبغي أل نعتقد أن‬
‫ثمة نوعا من السلب البسيط الذي يكتفي بأرجاع املذاهب الجديدة وأعادتها‬
‫منطقيا إلى الطر القديمة فليست الهندسة الالأقليدية مجرد نفي أو سلب بسيط‬
‫للهندسة القليدية بل إن في المر توسعا حقيقيا‪ ،‬فالهندسة الالأقليدية لم تصنع‬
‫لتناقض الهندسة القليدية وإنما هي بالحرى كالعامل املساعد الذي يتيح للفكر‬
‫الهندس ي التأليف الكلي والكتمال‪ ،‬وييسر له الذوبان في هندسة شاملة كلية‪،‬‬
‫والمر كذلك في كل أشكال تطور الفكر العلمي الجديد‪ ،‬فسمة الفكار العلمية‬
‫عند باشالر يتضح في التوسع والستدلل والستقراء والتعميم والتكامل‬
‫والتركيب والتجميع‪ .‬فكل صفة من هذه الصفات تنم عن بديل لفكرة الجدة‬
‫التي تتميز بها الفكار العلمية املعاصرة‪ ،‬كما أن أي صفة من تلك الصفات تأتي‬
‫بعد فترة من الزمان فتضفي نورا خلفيا على ظلمات املعرفة الناقصة‪ ،‬لقد‬
‫أوضح باشالر في كتابه "القيمة الستقرائية للنسبية" صفة الجدة األساسية‬
‫التي تتصف بها النظرية النسبية عالوة على توضيحه وتميزه للعالقات العامة‬
‫‪2‬‬
‫للفكر العلمي " النيوتوني " والفكر العلمي " الينشتايني" ‪.‬‬
‫لقد كانت أعادة النظر التي قام بها أنشتاين إعادة كلية من زاوية علم‬
‫الفلك وأن علم الفلك املستند إلى النظرية النسبية لم يتنبأ عن علم الفلك‬
‫النيوتوني‪ ،‬لقد كانت نظرية نيوتن تؤلف نظاما مكتمال وهو بتصحيحه قانون‬

‫‪ -1‬نقال عن السيد شعبان حسن " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم"‪ ،‬ص ‪. 140‬‬
‫‪ -2‬السيد شعبان حسن‪ ،‬مرجع السابق‪ ،‬ص ‪.142‬‬
‫‪31‬‬
‫الجاذبية جزئيا كان يستطيع أن يلغي وسائل عدة لشرح البعد الطفيف الشاذ‬
‫في مدار عطارد حول الشمس‪ ،‬فمن هذه الناحية لم تكن ثمة حاجة لقلب‬
‫الفكر النظري رأسا على عقب‪ ،‬حتى تجعله يوائم معطيات التجربة‪ ،‬وكان الفكر‬
‫النيوتوني بالدرجة الولى نمطا جليا جالء رائعا من أنماط الفكر املغلق‪ ،‬ولم‬
‫يكن الخروج منه ممكنا أو يسيرا ‪.‬‬
‫اإلبستمولوجيا الباشالرية‪:‬‬
‫أسهم التطور العلمي في العصر الحاضر في تغيير كبير في مفهوم‬
‫"اإلبستمولوجيا" فأصبح الفالسفة يبحثون اإلبستمولوجيا في إطار املعرفة‬
‫العلمية وحدها بعد أن كانت اإلبستمولوجيا التقليدية تختص بالبحث في‬
‫أسئلة تقليدية حول أمكانية قيام املعرفة وإذا كانت ممكنة أو غير ممكنة‬
‫ووسائلها وحدودها‪.‬‬
‫لقد أوضح للند في معجمه الفلسفي أن مفهوم اإلبستمولوجيا ينصب‬
‫أساسا على الدراسة النقدية ملبادىء مختلف العلوم‪ ،‬وهذا إن دل على ش يء‬
‫فإنه يدل على الصلة الوثيقة بين العلم واإلبستمولوجيا‪ ،‬عالوة على الصلة‬
‫املتينة بينهما وبين الفلسفة‪ ،‬وكان من نتيجة التطور العلمي املعاصر أن كثيرا‬
‫من الدارسين املعاصرين أصبحوا يميزون بين اإلبستمولوجيا التي تهتم باملعرفة‬
‫العلمية فحسب‪ ،‬ونظرية املعرفة بشكلها ومباحهها التقليدية‪ ،‬وفيما ترتكز‬
‫املعرفة العلمية على أدوات القياس والتجريب‪ ،‬فأن املعرفة الحسية ترتكز على‬
‫الحس فقط واملعرفة تؤكد دائما على الناحية الثانية‪ ،‬ذلك ألن حواسنا هي‬
‫وسيلتنا األولى واألخيرة لكتساب هذين النوعين من املعرفة‪ ،‬ووسيلتنا األولى‬
‫ملعرفة العالم الخارجي والدخول معه في عالقات‪ ،‬ووسيلتنا األخيرة لتحصيل‬
‫‪1‬‬
‫املعرفة العلمية ذاتها ‪.‬‬

‫‪ -1‬محمد عابد الجابري " تطور الفكر الرياض ي والعقالنية املعاصرة " ص ‪. 16‬‬
‫‪32‬‬
‫هذا من ناحية ومن ناحية أخرى‪ ،‬فأن نفس املشاكل التقليدية التي شغلت‬
‫الفالسفة بصدد نظرية املعرفة يمكن أن تثار اآلن لكن في أطار العلم املعاصر‬
‫وتطوره‪ ،‬فيمكن أن نبحث عن عالقة "الذات باملوضوع "أو" موضوعية العالم‬
‫الخارجي "أو" قيمة مايمدنا به العقل " إلى غير ذلك من املسائل التي شغلت‬
‫الفالسفة‪.‬‬
‫إن املشكلة البستمولوجية الحاضرة تجاوز الطار املعرفي السابق على‬
‫تطور العلم كانت الظواهر قبل التطور العلمي تعالج في سكونها وبالستناد إلى‬
‫نواة واقعية ساذجة‪ ،‬ولكن الثابت اآلن أن الظواهر يتالزم فيها السكون والحركة‬
‫" فمن العبث _كما يقول باشالر _ أن نفترض أن املادة ساكنة في امليكروفيزياء‬
‫مادامت هذه املادة لتوجد في نظرنا إل كطاقة‪ ،‬وأنها ل ترسل إلينا أية رسالة إل‬
‫باإلشعاع عالوة على أن الظواهر أصبحت تستند اآلن إلى واقعية نقدية علمية‬
‫وعليه فإن باشالر عمل على إيجاد وسيلة ما للتوفيق بين املذهب العقلي‬
‫‪1‬‬
‫واملذهب الواقعي في إطار املعرفة العلمية " ‪.‬‬
‫لقد ميز باشالر بين ثالث مراحل في تكوين العقل العلمي‪:‬‬
‫‪ -1‬املرحلة األولى‪ :‬تمثل الحالة ماقبل العلمية وتشتمل على األزمنة الكالسيكية‬
‫القديمة وعصر النهضة والجهود املستمرة في القرن السادس عشر ‪،‬‬
‫والسابع عشر ‪ ،‬وحتى في القرن الثامن عشر‪.‬‬
‫‪ -2‬املرحلة الثانية‪ :‬التي تمثل الحالة العلمية‪ ،‬والتي بدأت في أواخر القرن‬
‫الثالث عشر وتشمل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين‪.‬‬
‫‪ -3‬أما املرحلة الثالثة واألخيرة‪ :‬فهي مرحلة العقل العلمي الجديد ابتداء من عام‬
‫‪ 1905‬حتى بدأت نظرية أنشتاين في النسبية تغير كثيرا من املفاهيم الخاطئة‬
‫التي كانت سائدة قبل ذلك‪ .‬وقد شهد النصف األول من القرن العشرين تطورا‬

‫‪ - 1‬السيد شعبان حسين " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " دراسة نقدية مقارنة‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪33‬‬
‫مذهال في مجال العلوم‪ ،‬مثال ذلك امليكانيكا الكوانتية وامليكانيكا التموجية عند‬
‫لويس دي بروي‪ ،‬وميكانيكا ديراك وفيزياء هيزنبرغ‪.‬‬
‫لقد أراد باشالر أن يربط اإلبستمولوجيا بتطور العلوم فأستلهم وقائع العلم‬
‫وفروض الرياضيات وبدأ بالعلوم الفيزيائية حتى تأتى له أن يضع املادة موضعا‬
‫جديدا وهذا هو الطريق الذي ضمن لباشالر النتهاء إلى مذهبه في‬
‫"املادية العقالنية" أو " العقالنية العلمية"‪.‬‬
‫وإذا كنا قد قسمنا مراحل اإلبستمولوجيا إلى ثالث مراحل فإن باشالر يحدد‬
‫سمات كل مرحلة ويميزها عن األخرى‪ ،‬حسب مفهومه لتطور العقل العلمي‪:‬‬
‫‪ -1‬املرحلة األولى‪ ،‬هي الحالة امللموسة ‪ :‬إذ ينشغل العقل بالصور األولى للظاهرة‬
‫ويعتمد على صيغ فلسفية تمجد الطبيعة وتؤمن بوحدة العلم‪.‬‬
‫‪ -2‬املرحلة الثانية‪ ،‬هي الحالة امللموسة املجردة ‪ :‬إذ يضيف العقل إلى التجربة‬
‫الفيزيائية األشكال الهندسية‪ ،‬ويستند إلى فلسفة البساطة‪ ،‬هنا ما يزال العقل‬
‫في وضع متناقض فهو واثق من تجريده بقدر ما يكون هذا التجريد ماثال‬
‫بوضوح في حدس "ملموس" أو "محسوس"‪.‬‬
‫‪ -3‬املرحلة الثالثة‪ ،‬هي الحالة املجردة‪ :‬حيث يتدخل العقل بمعالجة املعلومات‬
‫املأخوذة من الواقع لكنها منفصلة عن التجربة املباشرة‪ ،‬أو بمعنى آخر يكون‬
‫العقل والتجربة في هذه املرحلة متالزمين كل منهما متمم لآلخر‪ ،‬وبما أنه‬
‫يفترض بكل معرفة علمية أن يتحدد بناؤها في كل لحظة حسب تطور العلم‬
‫والعلوم فإن براهيننا العلمية واملعرفية سيكون أمامها املجال الكافي لكي تتطور‬
‫على مستوى املسائل الخاصة‪ ،‬دونما أي اهتمام باملحافظة على هذا التطور‬
‫التأريخي " لنظرية املعرفة"‪.‬‬
‫من هنا قول باشالر ذو مغزى‪ :‬إنه ربما نرتكب خطأ بليغا إذا اعتقدنا أن املعرفة‬
‫التجريبية يمكنها أن تبقى في ميدان املعرفة اليقينية التقريرية من خالل انحصارها في‬
‫نطاق التوكيد املحض للوقائع ومعنى ذلك أن املعرفة التجريبية عند باشالر تعجز‬
‫‪34‬‬
‫عن الوقوف أمام املعرفة اليقينية املتكونة أصال في نفس العالم ويؤكد هذا قول‬
‫باشالر‪" :‬إنه لمناص للعقل العلمي من أن يتكون بمواجهة الطبيعة‪ ،‬بمواجهة‬
‫مايكون فينا وخارجنا‪ ،‬بمثابة الحافز واملوجه للطبيعة "‪.1‬‬
‫إن اإلبستمولوجيا املعاصرة كما نجدها عند باشالر تستند إلى معطيات‬
‫الثورة العلمية املعاصرة في مجال العلوم الرياضية والعلوم الفيزيائية بصفة‬
‫خاصة‪ ،‬لكي نؤكد أن آثار هذه الثورة لم تمس بمبادىء تلك العلوم فحسب‪ ،‬بل‬
‫لحقت أيضا بنية الفكر اإلنساني ذاته‪ ،‬إن ماتنبهنا أليه الثورة العلمية املعاصرة‬
‫في نظر باشالر هو أن الفكر اإلنساني ليحيا عالقة وحيدة الجانب مع التطور‬
‫العلمي‪ ،‬فهو ليس منتجا لهذا التطور العلمي فحسب‪ ،‬بل إنه متأثر بنتائج هذا‬
‫التطور أيضا‪ ،‬وهذا ما لم تنتبه إليه الفلسفة الكالسيكية التي استخلصت‬
‫مبادئ الفكر اإلنساني في مرحلة معينة من تأريخ العلوم فأضفت على هذه‬
‫املبادئ صفة اإلطالق‪ ،‬واعتقدت نتيجة لذلك أن هذه املبادئ هي بنية الفكر‬
‫اإلنساني ذاته‪.‬‬
‫إن هذه النتيجة الفلسفية التي تصل إليها اإلبستمولوجيا املعاصرة ممثلة‬
‫في باشالر ل تهدف إلى التأكيد على سلبية الفكر اإلنساني أمام التطور العلمي‬
‫فنقول مثال‪ :‬تؤكد ذلك النظرة التجريبية أو الواقعية أو الوضعية التي تهيمن‬
‫على العلماء‪ ،‬بأن الفكر اإلنساني يواجه الواقع بدون بينة ول معارف وأنه مجرد‬
‫متلق للتأثير‪ ،‬فهذا موقف ينتج عند العلماء عند انغمارهم في العمل العلمي‬
‫التجريبي‪ ،‬فهم عندئذ يخضعون للواقع‪ ،‬يرون أن فلسفة العلوم تحكمها‬
‫الوقائع ل املبادىء ثابتة للعقل توجد في أستقالل عن أية تجربة‪ ،‬ولكن هدف‬
‫تلك النتيجة الفلسفية املشار إليها‪ ،‬يكون أيضا عدم الخضوع لرأي الفلسفات‬

‫‪ -1‬غاستون باشالر‪" :‬تكوين العقل العلمي"‪ :‬خليل أحمد خليل‪ ،‬املؤسسة الجامعية للدراست والنشر‪،‬‬
‫بيروت لبنان‪ ،981،‬ص ‪. 21‬‬

‫‪35‬‬
‫العقالنية املثالية التي تؤكد أن للفكر اإلنساني بنية ثابتة‪ ،‬وأنه يواجه الواقع‪،‬‬
‫وهو حائز بصورة فطرية أو قبلية للمقولت التي تؤهله للتفكير في هذا الواقع‪،‬‬
‫أن الهدف هنا هو القول بوجود عالقة جدلية بين الفكر اإلنساني وبين تطور‬
‫املعرفة العلمية التي ينتجها‪ ،‬أن املعرفة العلمية من نتاج الفكر اإلنساني لشك‬
‫في ذلك‪ ،‬ولكن الفكر اإلنساني بدوره من نتاج هذه املعرفة‪ ،‬وأن النتيجة‬
‫األساسية الالزمة عن هذه الوجهة من النظر هي القول ببنية متغيرة للفكر‬
‫اإلنساني بفعل من تطور املعرفة العلمية‪ ،‬وهذا هو املعنى الذي يقصده باشالر‬
‫عندما يقول‪ :‬بأن القيم الجديدة التي حملتها معها الثورة العلمية املعاصرة هي‬
‫‪1‬‬
‫قيم نفسية إلى جانب كونها قيما معرفية‪.‬‬
‫وفي هذا يقول باشالر ‪" :‬إذا وضعنا مشكلة الجدة العلمية على الصعيد‬
‫النفس ي الخالص‪ ،‬لن يفوتنا أن نرى هذا السير الثوري للعلم املعاصر لبد وأن‬
‫يؤثر على بنية الفكر‪ ،‬فالفكر بنية قابلة للتغير‪ ،‬منذ اللحظة التي يكون فيها‬
‫‪2‬‬
‫للمعرفة تأريخ" ‪.‬‬
‫وبهذه الكيفية فإن تأريخ املعرفة العلمية يمكن أن يكون في الوقت ذاته‬
‫تأريخ املتغيرات التي لحقت الفكر اإلنساني منذ أن بدأ هذا الفكر في إنتاج‬
‫معرفة علمية‪ ،‬وأن القول بعقل إنساني ثابت في بنيته‪ ،‬معناه إدراك تأريخ‬
‫العلوم‪ ،‬وتأريخ الفكر اإلنساني كما لو كانا واقعين منفصلين‪ ،‬ومعناه عدم‬
‫القدرة على أستخالص القيم البستمولوجية التي تبرز مع كل فترة من تأريخ‬
‫العلوم‪ ،‬وهي قيم ليست جديدة بالنسبة للمعرفة العلمية في ذاتها فحسب‪ ،‬بل‬
‫هي قيم نفسية لنها تتعلق بالفكر اإلنساني من حيث بنيته‪ ،‬فالعقل اإلنساني‬
‫في نظر باشالر بنية لها تأريخ‪ ،‬وتأريخها في تطور معارفها‪ ،‬إن بنيتنا العقلية تنتج‬

‫‪ -1‬محمد وقيدي " ماهي البستمولوجيا"‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪ ،1980 ،‬ط‪ ،1‬ص‪. 113_111‬‬
‫‪ -2‬غاستون باشالر " فلسفة الرفض" ترجمة‪ :‬خليل أحمد خليل‪ ،‬املؤسسة الجامعية للدراسات والنشر‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،1985 ،‬ص ‪144‬‬
‫‪36‬‬
‫املعارف ولكنها تخضع التأريخ لتأثير تطور هذه املعرفة فتعرف هي ذاتها تطورا‪،‬‬
‫أن العقل لينتج العلم فحسب‪ ،‬ولكنه فضال عن ذلك يتعلم من العلم " فالعلم‬
‫بصفة عامة بعلم العقل‪ ،‬وعلى العقل أن يخضع للعلم الكثر تطورا‪ ،‬العلم‬
‫‪1‬‬
‫الذي يتطور"‪.‬‬
‫وعلى أساس هذا العتقاد بوجود فكر إنساني ذي بنية متطورة يقترح‬
‫باشالر أن تكون أحدى مهام اإلبستمولوجيا املعاصرة البحث في أثر املعارف‬
‫العلمية في تطور بنية الفكر ‪.‬‬
‫أن الفكر املعاصر في نظر باشالر يرفض من الناحية العلمية فكرة "الش يء‬
‫في ذاته " كما جاءت عند كانط‪ ،‬ألن معنى الش يء في ذاته في العلم مظهر لتقدم‬
‫العلم للحدود املعرفة العلمية‪ ،‬فكلما تقدم العلم بلغ معرفة بما كان يعتبر‬
‫مثل ذلك شيئا في ذاته‪ ،‬وفي هذا التأكيد يستفيد باشالر من التقدم السريع‬
‫الذي حققته العلوم املعاصرة والذي استطاعت بفضله أن تصل إلى معرفة‬
‫بعض الظواهر الكونية التي لم يكن العلم في القرون السابقة قادرا بفضل‬
‫ولكان متوفرا لديه من وسائل على مالحظتها مالحظة دقيقة فباألولى اكتشاف‬
‫قوانينها كموضوع علمي‪ ،‬فنواة الذرة مثال كانت شيئا في ذاته بالنسبة لعلم‬
‫القرون السابقة‪.‬‬
‫فلكي نثبت أن للمعرفة العلمية حدودا ينبغي لنا في نظر باشالر أل نقف‬
‫عند بيان عجز عن حل مشكلة ما‪ ،‬بل إن نرسم الحدود النهائية التي لتستطيع‬
‫املعرفة العلمية أن تتجاوزها‪ ،‬غير أن هذا المر ليجد له مبررا في تأريخ تقدم‬
‫املعرفة العلمية‪ ،‬لذلك يصح لنا الستفادة من هذا التأريخ أن نقول‪ :‬بأن‬
‫املشاكل التي تبدو غير قابلة للحل عندما يتم‪ ،‬بفضل تقدم العلم‪ ،‬بلوغ وضع‬
‫جدير لها‪ ،‬بمعرفة املعطيات املوضوعية املتعلقة بها‪ .‬إن املسألة إذن ليست في‬

‫‪ -1‬غاستون باشالر ‪":‬الفكر العلمي الجديد " ترجمة ‪ :‬خليل أحمد خليل املؤسسة الجامعية للدراسات‬
‫والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ . 1985 ،‬ط‪ ،1‬ص ‪. 14‬‬
‫‪37‬‬
‫قدرة أو عدم قدرة العلم على حل بعض املشاكل‪ ،‬وأن وضع حدود ملعرفة العلم‬
‫ل يمكن أن يأتي من خارج العلم بل من العلم ذاته‪.‬‬
‫فالعلم هو الذي يضع حدوده الخاصة وعندما يكون قد حدد بوضوح هذه‬
‫الحدود فإنه يكون قد تجاوزها‪ ،‬نستخلص مما سبق أن مفهوم الحدود‬
‫البستمولوجية بالنسبة للمعرفة العلمية ليست ال توقفا لحظيا لهذه املعرفة‪،‬‬
‫وأنه ليمكن أن نرسم بصورة موضوعية هذه الحدود‪ ،‬ولذلك فإن الصيغة‬
‫األكثر مالءمة للتعبير عن هذا هي القول‪ :‬بأن الحدود بالنسبة للعلم تعني برنامج‬
‫عمل أكثر مما تعني عوائق مطلقة‪.1‬‬
‫إن العقل العلمي يمنعنا من تكوين رأي حول قضايا لنفهمها‪ ،‬حول قضايا‬
‫لنحسن صياغتها بوضوح‪ ،‬قبل كل ش يء لبد من معرفة كيفية وضع وفهم في‬
‫الحياة العملية فإن املشاكل لتنطرح ذاتيا ومن الواضح أن هذا املعنى للمشكلة هو‬
‫الذي يعطي للعقل العلمي الحقيقي طابعه‪ ،‬فبالنسبة إلى العقل تعتبر كل معرفة‬
‫جوابا على مشكلة‪ ،‬فإذا لم يكن ثمة "مشكلة" ل يمكن أن تكون ثمة معرفة علمية ‪.‬‬
‫وأذا عدنا أخيرا بصدد كل معرفة موضوعية إلى اعتماد معيار صحيح‬
‫للتجربة من جهة‪ ،‬والعقالنية من جهة ثانية‪ ،‬فإننا قد نندهش من تجمد املعرفة‬
‫الناجمة عن الشتراك املباشر في مشاهدات خاصة‪ ،‬ولسوف نرى بخصوص‬
‫املعرفة الشائعة أن الوقائع متضمنة بشكل مبكر جدا في املبررات والتعليالت‪.‬‬
‫إذن بدون تشكيل عقالني للتجربة التي يحددها طرح املسألة وبدون هذه‬
‫الستعانة الدائمة ببناء عقالني صريح تماما‪ ،‬سيترك املجال أمام تكوين نوع من‬
‫لوعي العقل العلمي يطرح املوضوع على الشكل التالي‪ :‬علينا أول‪ ،‬طرح املوضوع‬
‫كمادة مشكلة‪ ،‬وطرح ذات الكوجيتو كوعي للمشكلة‪ ،‬وهكذا يفكر الكائن‬
‫املفكر في منتهى معرفته‪ ،‬بعدما يكون قد أحص ى معارفه الصالحة لحل املشكلة‬

‫‪-1‬د‪ .‬السيد شعبان حسن "برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " ص ‪130‬‬
‫‪38‬‬
‫املقترحة‪ ،‬فهذا اإلحصاء الذي هو وعي لنظام حركي من األفكار هو إذا‬
‫مستقطب في ظل املشكلة املطلوب حلها‪ ،‬في العقالنية املعلمة يأتي اإلحصاء‬
‫معقلنا وضيقا على خط واضح التحديد‪ ،‬بين الستناد إلى أسسه‪ ،‬لكن في‬
‫العقالنية املسألة توضع السس نفسها في موضع أختبار‪ ،‬بل تطرح على بساط‬
‫البحث من قبل املشكلة‪ ،‬أن املشكلة هي الذروة الفاعلة للبحث‪ ،‬فالتباس‬
‫الترابط والجدلية واملشكلة هي كل عناصر اإلحصاء العقلي هي كل أوقات هذه‬
‫التبعة للعقل‪.‬‬
‫لقد اعتبر غاستون باشالر المتداد الطبيعي لفكر برونشفيك وفلسفته‬
‫فباشالر ظل دائما منشغال بفلسفة العلم‪ ،‬وهو في هذا املجال يواصل عمل‬
‫برونشفيك مع الحرص على تحديده‪ ،‬فهو يواصله لن مايريد أن يلقي عليه‬
‫ضوءا هو الفكر العلمي الجديد‪ ،‬في حين أنه يستدل بالعالم املعطى لنا عاملا من‬
‫العالقات‪ ،‬وهو يعارض في هذه النقطة الفكر العلمي عند "مايرسون" مثلما كان‬
‫يعارضه برونشفيك‪ .‬فالعلم عند كل من برونشفيك وباشالر ل يبحث عن‬
‫الشياء النمطية أو الثابتة وإنما يضعنا وجها لوجه أمام مجموعة من‬
‫العالقات‪ ،‬وإذا كان باشالر يواصل فكر برونشفيك من هذه الناحية‪ ،‬فهو من‬
‫ناحية أخرى يجدد هذا الفكر ذلك ألن العلم في تحوله الدائم واستحداثه‪ ،‬إنما‬
‫يضعنا اليوم أزاء حالت منفصلة لتماثلية وغير نمطية وأزاء حشد من‬
‫التعقيدات في مجال الالمتناهي من الصغر‪ ،‬وهذا مالنجده أبدا في فكر‬
‫برونشفيك على الرغم مما يتصف به فكر هذا الخير من عمق ومرونة‪ ،‬وعلى‬
‫الرغم من أن باشالر كسب من الفلسفة والعلم ال أنه وصل إلى الفلسفة عن‬
‫طريق تأمل العلوم ونشاطه موجه إلى اتجاهين (*)‪ ،‬يبدو أنهما متضادان ألول‬
‫وهلة فنحن نستطيع أن نعده في املقام األول مواصال لفلسفة برونشفيك مع‬

‫*‪ -‬أن العقالنية العلمية عند باشالر تعترف بأزدواج عنصري الخيال والعقل في املوقف العلمي‪ ،‬ولكنها بأعتبارها‬
‫مذهبا علميا خالصا تنتحي بالخيال جانبا وتنتقي العقل‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫تحديدها عدة نقاط‪ ،‬فهو يعارض كل تصور من شأنه أن يبسط منهج العلوم‪،‬‬
‫فالعلم في جوهره وضع في عالقة وهذه العالقات متعددة ودقيقة بل هي في تطور‬
‫مطرد‪ ،‬وباشالر يعرض أفكاره على منهج العلم أول األمر‪ ،‬في كتابه "الفكر‬
‫العلمي الجديد" ثم تطويرها على التعاقب في مؤلفاته "العقالنية التطبيقية"‬
‫و"فلسفة النفي" أو "فلسفة ال" و"تجربة املكان في الفلسفة املعاصرة"‬
‫و"ديالكتيك الديمومة أو الزمان" و"الفعالية العقالنية للفيزياء املعاصرة"‬
‫و"بحث في املعرفة التقريبية" و"املادية العقلية" وهو ينطلق في فهمه "النزعة‬
‫التكنلوجية"‬ ‫"التجريبية‬ ‫أو‬ ‫التطبيقية"‬ ‫العقلية‬
‫أو "املادية العقلية" مبينا كيف تتطابق النزعة العقلية مع النزعة التجريبية في‬
‫محاولة لتجاوز النطولوجيا‪.‬‬
‫وحول املهام األساسية لالبستمولوجيا الباشالرية يحدد د‪ .‬علي حسين‬
‫كركي هذه املهام لتحديد أن املهمة األولى واألساسية هي إبراز القيم‬
‫البستمولوجية التي تفرزها املمارسة العملية وذلك بقطع الطريق على كل‬
‫ماتحاول الفلسفة إدخاله في العلم من قيم أخالقية ودينية وجمالية‪ .‬ولكن‬
‫ماهي هذه القيم البستمولوجية وما مصدرها كيف تفرض نفسها؟ إن مصدر‬
‫هذه القيم النظريات العلمية ليس كل النظريات العلمية‪ ،‬بل الجديدة والثورية‬
‫منها‪ ،‬فالقيمة البستمولوجية للهندسات الالأقليدية مثال ترتبط بما تقدمه‬
‫هذه الهندسات من تصور جديد‪ ،‬للمكان وهذا التحديد ملهمة فلسفة العلوم‬
‫تحديد إيجابي‪ ،‬فبموجبه ل تكون فلسفة العلوم تدخال فلسفيا في العلم لتبرير‬
‫أهداف خارجة عنه‪ ،‬بل تكون استيعابا للقيم العلمية الجديدة‪ ،‬التي يفرزها‬
‫التطور العلمي‪ ،‬وبمعنى أخر " أن باشالر ل يريد أن يقيم نظرية في املعرفة‬
‫تحتوي النتائج العلمية لتحديد أهداف أيديولوجية‪ ،‬ولكن ثمة شروط لبد منها‬

‫‪40‬‬
‫لتتمكن فلسفة العلوم من إبراز القيم البستمولوجية التي انتجها التطور‬
‫‪1‬‬
‫العلمي‪.‬‬
‫لبد أن يكون البستمولوجي لفظ إزاء العلم املعاصر عليه قبل كل ش يء‬
‫أن يتجاوز البدء القائل‪ :‬إن األولى كان دائما األساس بالعكس عليه أن يتجرد‬
‫عن تأريخ التجربة وتأريخية ماهو عقالني فهو لن يكون قادرا على إبراز القيم‬
‫البستمولوجية إل إذا قطع مع األحوال والبدايات املطلقة‪ ،‬وأدرك أن النظريات‬
‫العلمية املعاصرة ل مثيل لها في التأريخ السابق وهي جديدة تماما‪ ،‬لذا ل يمكن‬
‫أن نبحث عن أصول في هذا التأريخ‪ ،‬ومن خصائص مرحلتنا أن الواقع فيها مبين‬
‫ل معطى حيث تلعب اآللة دورا كبيرا في عملية إدراكنا للواقع‪ ،‬وعليه أول وأخيرا‬
‫إذا أراد أن يكون مجددا‪ ،‬أن يختار أولوية النتائج العلمية على السيستام‬
‫الفلسفي فواكب بذلك سير التأريخ العلم وتقدمه معارضا أسلوب الفلسفات‬
‫التقليدية‪ ،‬وبموجب هذا الختيار يخضع الفيلسوف العلم السيستام الفلسفي‬
‫للقيم البستمولوجية ويجبره على التحرر وفق القيم الجديدة التي يفرضها‬
‫تأريخ العلم هذه املهمة الولى‪.‬‬
‫أما الثانية‪ ،‬فهي البحث في أثر تطور املعارف على بنية الفكر‪ ،‬سيؤدي هذا‬
‫البحث إلى فوض ى في العقل مخالف للموقف الفلسفي التقليدي‪ ،‬إنه موقف‬
‫مربك للفكر‪ ،‬فالعقل بفعل تطور املعارف العلمية‪ ،‬وتأثيرها في بيئته سيغدو‬
‫ديناميا فعال‪ ،‬إن فلسفة العلوم مع هذا الفهم الدينامي لبيئة العقل التي‬
‫تتعارض وتطور العلم‪ ،‬بل تستقبل القيم الجديدة حتى وإن كانت مناقضة‬
‫ومخالفة لتصورات فلسفية سابقة‪.‬‬
‫أما املهمة الثالثة فهي التحليل النفس ي للفلسفة املوضوعية فقد نقل‬
‫باشالر هذه النظرية إلى اإلبستمولوجيا فافترض أن ثمة مكبوتات عقلية لدى‬

‫‪ -1‬السيد شعبان حسن " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " دراسة نقدية ص ‪. 121‬‬
‫‪41‬‬
‫الباحث العلمي على البستمولوجي أن يبحث عنها ليظهر أثرها في البحث‬
‫العلمي‪ ،‬على فيلسوف العلم أن يكون املحلل النفس ي لعمل الباحث‪ ،‬بمعنى أن‬
‫عليه افتراض جانب باطني ديناميكي في العمل العلمي يؤثر على هذا العمل‪ ،‬لذا‬
‫وكما أن أدراك املكبوتات والعقد النفسية من شأنه مساعدتنا على فهم‬
‫السلوك اإلنساني والحياة النفسية فإن التحليل النفس ي للمعرفة املوضوعية‬
‫سيمكننا من فهم هذه املعرفة في تطورها أو نكوصها أو توقفها وما يسميه‬
‫فرويد عقدا نفسية‪ ،‬يسميه باشالر عوائق أبستمولوجية وهو يكرس دراسة‬
‫مهمة كـ" تكوين العقل العلمي " و" التحليل النفس ي للنار " لكشف هذه العوائق‬
‫‪1‬‬
‫وتحديد امليكانيزم الذي على أساسه تتوقف املعرفة املوضوعية وتتقهقر‪.‬‬

‫املطلب الرابع‪ :‬ابستمولوجيا ميشيل فوكو‪Michel foucou‬‬


‫إن مقاربة املشروع الفلسفي الخالق مليشيل فوكو* (‪ )1984-1926‬تقودنا‬
‫إلى رصد تغييرات جوهرية في النشاط الفلسفي لهذا الفيلسوف‪ ،‬الذي اهتم على‬
‫نحو غير معهود باألدب الشبقي الجديد في كتابه األثير «تاريخ الجنسانية» (إرادة‬
‫املعرفة‪ ،‬استعمال املتعة‪ ،‬النهمام بالذات)‪ ،‬وتاريخ الجنون‪ ،‬والكلمات واألشياء‬
‫واملراقبة‪ ،‬ونظام الخطاب‪ ،‬مادامت الفلسفة تفكيرا أصيال في الراهن وفي‬
‫الالمفكر فيه‪.‬‬
‫ميشيل فوكو في هذه الكتب وغيرها ينطلق من تصور ل يكاد يغلق دوائر‬
‫إبستيمية حتى يفتحها في عنوان آخر لكتاب جديد‪ ،‬ارتباطا بالتفكير العميق في‬
‫اإلنسان والفن والجسد‪ ،‬والسجن ومؤسسة الطب والحرية الفردية والجينالوجيا‪،‬‬

‫‪ -1‬السيد شعبان حسن " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " دراسة نقدية‪ ،‬ص ‪. 121‬‬
‫*‪ -‬ميشال فوكو )‪ (1926 - 1984‬فيلسوف فرنس ي‪ ،‬يعتبر من أهم فالسفة النصف األخير من القرن العشرين‪،‬‬
‫تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في كتابه "تاريخ الجنون"‪ ،‬وعالج مواضيع مثل اإلجرام والعقوبات‬
‫واملمارسات الجتماعية في السجون‪ .‬ابتكر مصطلح "أركيولوجية املعرفة"‪ .‬أرخ للجنس أيضا من "حب الغلمان عند‬
‫اليونان" وصول إلى معالجاته الجدلية املعاصرة كما في "تاريخ الجنسانية‪".‬‬
‫‪42‬‬
‫والنشاط الجنس ي والزواج والعالقات العاطفية والحب واألخالق‪ .‬حتى وصفه‬
‫إدوارد سعيد بفيلسوف املعرفة‪ .‬ولم يكن وارث فلسفة الوجود بنيويا صرفا‪ ،‬ول‬
‫أنثروبولوجيا على شاكلة ليفي ستراوس‪ ،‬أو نفسيا على شاكلة جاك لكان‪ ،‬فقد كان‬
‫هذا الرجل املفتون بهيجل وهيدغر‪ ،‬فضال عن سقراط وبارمنيدس وبلوتارك‪،‬‬
‫يؤسس لفكر يحمل مطرقة فريدريك نيتشه لهدم األسوار الجديدة التي تحد من‬
‫حرية اإلنسان‪ ،‬سواء تعلق األمر بالسجن‪ ،‬أو غيره من مؤسسات الترويض التي‬
‫تتخذ من العلوم املسماة إنسانية وسيلة لتحقيق أهدافها في الحراسة والعقاب ‪.‬‬
‫وبغية القتراب من مشروعه الفكري فإننا نقترح ‪-‬كإجراء منهجي‪ -‬النطالق‬
‫من ثنائية الحقيقة والسلطة‪ ،‬التي سبق وقدمها في محاضراته الشهيرة بكوليج‬
‫دو فرانس‪ .‬فلقد شكلت إشكالية الحقيقة محورا رئيسا داخل كل الفلسفات إذ‬
‫عدت حجر الزاوية داخل نظرية املعرفة‪ ،‬يتضح ذلك من خالل تاريخ الفلسفة‬
‫الذي يشير إلى مجموعة من الفالسفة‪ ،‬بدءا من بارميندس الذي تكلم عن‬
‫دروب الحقيقة وطريق الظن مرورا بسقراط‪ ،‬أفالطون‪ ،‬أرسطو وصول إلى‬
‫ديكارت مؤسس الفلسفة الحديثة ورائد النظرية العقالنية في املعرفة‪ .‬ينشأ عن‬
‫هذا الكالم القول إن الحقيقة ظلت ومازالت هدف الفالسفة‪ ،‬مادامت‬
‫الفلسفة نفسها هي السعي الدائم وراءها‪ ،‬وإذا كانت الحقيقة تعرف بأنها ما‬
‫يجب وما يمكن للعقل أن يتفق عليه‪ ،‬فإننا نجد جميع األنساق الفلسفية تدعي‬
‫الوصول إلى الحقيقة‪ ،‬لكنها تختلف من نسق إلى آخر‪ ،‬وبالتالي نصل إلى إشكال‬
‫مطروح‪ :‬هل هناك حقيقة واحدة أم هناك حقائق متعددة؟‪ )...( . 1‬الفكر‬
‫الخالق‪ .‬إنه فكر الختالف ل بما هو حضور أو درجة أتتنا متأخرة نسبيا‪ ،‬ولكن‬
‫بما هو وعينا الحاد بالراهن واملحقب وبالجدة والستراتيجية‪ ،‬وبما يتحمله‬
‫األفراد وتنوء به املجتمعات‪ ،‬وقد اخترنا أن نتعامل مع أهم كتبه وبالضبط مع‬

‫‪-1‬عبد السالم دخان‪ ،‬ميشيل فوكو وإرادة املعرفة‪ ،2014 12 14 ،‬مقال في جريدة القدس‬
‫العربي‪http://www.alquds.co.uk/?p=265592‬‬
‫‪43‬‬
‫مفهومي الحقيقة والسلطة‪ .‬ويؤكد الوثائقي الجديد أن الحقيقة ليست حرة‬
‫بالطبيعة وأن الخطأ ليس عبدا بالطبيعة أيضا‪ ،‬فإنتاج الحقيقة تخترقه‬
‫عالقات السلطة‪ .‬إن قول الحقيقة يتطلب أن نكون في ذات اآلن ذاتا عارفة‬
‫وموضوع معرفة‪ ،‬ولم يصبح اإلنسان موضوع معرفة إل في اإلبستيمية‬
‫الحديثة‪ ،‬حيث سيوجه اهتمام اإلنسان إلى معرفة ذاته على أن ما يعرف به‬
‫ذاته لن يكون علوما على اإلطالق‪ ،‬فما سيتشكل تحت اسم اإلنسان سيكون‬
‫مجال للمعرفة ل موضوعا للعلم‪ ،‬وهو موقف صادر عن إدراك ميشيل فوكو‬
‫لصعوبات وعوائق ما يسمى علوما إنسانية‪ .‬اإلبستيمية حفل يمكننا من‬
‫مساءلة املعرفة في مختلف أوجهها املعاصرة بالرتكاز على الخطاب ‪.‬‬
‫واهتمام فوكو بهذا املفهوم ينحصر في إبراز ما يتمفصل عنه من عالقات‬
‫وممارسات تسمح بإنشاء أو بناء مسارات أخرى‪ ،‬ذلك أن الخطاب لدى فوكو‬
‫يظل أسير «إرادة املعرفة» التي تضفي على بعض الصيغ الخطابية قيمة‬
‫الحقيقة‪ ،‬أو قول الحقيقة‪ .‬وعلى صيغ أخرى مثل الحمق والجنون‪ ،‬ما دام أنها‬
‫ل تستجيب ملكان جدي في شبكة الحقيقة املتفق عليها‪ .‬إن إرادة الحقيقة هي‬
‫وحدها القادرة على تحديد ما هو حقيقي وما هو ضمن الحقيقي‪ ،‬وانطالقا من‬
‫ذلك يحدد ميشيل فوكو أربعة أنماط لقول الحقيقة‪.‬‬
‫قول الحقيقة النبوية‪ :‬أن شخصية الذات النبوية لكي تتأسس ينبغي أن‬
‫تحقق نوعا من القطيعة مع العالم املحسوس‪ ،‬عالم الخطأ‪ ،‬عالم املصلحة‬
‫والرغبة‪ ،‬مع كل العالم الذي يكون بالنسبة للحقيقة «الخالصة» و«الخالدة»‬
‫عالم الظلمات والنتقال من عالم الظلمات إلى عالم النور‪ ،‬من عالم الخطأ إلى‬
‫عالم الصواب‪ ،‬من عالم العبور والفناء إلى عالم الدوام والخلود‪ ،‬هذا النتقال‬
‫هو الذي يؤسس الذات النبوية كذات قادرة على قول الحقيقة‪ ،‬وعلى رؤيتها‪ .‬إن‬
‫النبي هو إنسان يقول الحقيقة وما يميز الحقيقة النبوية عن باقي أنماط‬
‫الحقيقة أن النبي إنسان ل يمكن تصوره خارج وضعية الوسيط‪ ،‬فالنبي تعريفا‬
‫‪44‬‬
‫ل يتكلم باسمه الخاص‪ ،‬بل إنه صوت آخر للكالم الذي يعبر عنه‪ ،‬هو كالم هللا‬
‫يخاطب الناس بخطاب إلهي‪ ،‬النبي إذن وسيط بين هللا والناس‪ ،‬النبي أيضا‬
‫وسيط باملعنى التالي‪ :‬إنه وسيط بين الحاضر واملستقبل‪ ،‬فهو يكشف ما خبأه‬
‫الزمان عن الناس‪ ،‬وسيط كذلك باعتباره يكشف ويعري ويوضح ما خفي عن‬
‫الناس‪ ،‬لكنه ل يقول الحقيقة في تمام وضوحها ألن ضرورة التساؤل تبقى دائما‬
‫حول ما قاله‪ .‬هل فهمنا كالمه فعال؟ يكون النبي هنا وسيطا بين الوضوح‬
‫والكشف‪ ،‬الغموض والسر‪.‬‬
‫قول الحقيقة الفلسفية‪ :‬الفيلسوف يختلف جوهريا عن النبي‪ .‬الفيلسوف‬
‫ل يتكلم باسم غيره‪ ،‬بل يتكلم باسمه هو‪ ،‬ليعلن ما ينبغي أن يكون‪ ،‬ولكنه‬
‫يفسر ماهو كائن بالفعل‪ .‬إن الفلسفة منذ أفالطون تهتم بتفسير وفهم ما هو‬
‫موجود‪ ،‬وإشكالياتها تتعلق بطريقة فهم ما هو موجود‪ ،‬كما يجب أن يفهم‪.‬‬
‫قول الحقيقة السياسية‪ :‬السياس ي ل يتكلم باسمه‪ ،‬بل باسم املدينة وهو‬
‫يختلف عن الفيلسوف ألنه ل يكتفي بتفسير ما هو كائن‪ ،‬ليقول ما ينبغي أن‬
‫يكون‪.‬‬
‫قول الحقيقة التعليمية‪ :‬يظهر األستاذ كشخص يقول الحقيقة‪ ،‬هذا‬
‫الشخص قد يكون فيلسوفا محترفا أو حرفيا أو صانعا أو موسيقيا أو رياضيا‬
‫يملك معارف وأفكارا مرتبطة بممارسات وتمارين أعطته القدرة على أن يعلمها‬
‫لآلخرين‪ .‬الحقيقة وفق هذا املعنى تجد دوما قائلها‪ ،‬لكن كيف تتشكل الذات‬
‫وتصبح قادرة على قول الحقيقة؟ لم يكن ينبغي انتظار الكنيسة كمؤسسة لكي‬
‫تظهر الذات بوصفها ذاتا تعترف بالحقيقة للقس‪ ،‬أو انتظار مؤسسة التحليل‬
‫النفس ي كي تظهر الذات كذات قائلة الحقيقة عن املعاناة واملشاكل النفسية‪،‬‬
‫أو انتظار املؤسسة الطبيعية لقول الحقيقة عن الجسد والصحة واملرض‪.‬‬
‫السلطة شبكة عالقات‪ :‬إذا كانت السلطة هي عالقات شبكية توجد‬
‫وتتزامن بين قوة ل حصر لها‪ ،‬وأمكنة ل حد لعددها‪ ،‬فإن ممارساتها تظل غير‬
‫‪45‬‬
‫قابلة ألن تختزل في أي ممارسة معرفية‪ .‬من هنا قال فوكو بميكروفيزيائية‬
‫السلطة شريطة أن ل يفهم لفظ ميكرو كونه مجرد تصغير ألشكال كبرى‪،‬‬
‫ولكنه نمط مختلف من العالقات‪ ،‬إنه بعد تفكير يتعذر اختزاله في املعرفة‪،‬‬
‫والحالة هاته إننا نتجه نحو ضرب جديد من الكتابة‪ ،‬املعرفة الفلسفية‪ .‬ضرب‬
‫يعطي أهمية للذات لإلرادة الحقيقية والسلطة‪ ،‬ليكون خطابا يتحرك وينتج‬
‫ليحكي لنا عن معمار فسيفسائي ل يسعى إلى ترويض الجسد وإخضاعه‪ ،‬وإنما‬
‫إلى إعطائه لذة اإلحساس بالذات‪.‬‬
‫إننا إذن بصدد دعوة فوكاوية تقوم على ضرورة النتقال من الحالة‬
‫البستمولوجية إلى الحالة اإلستراتيجية‪ ،‬أي بتأسيس خطاب جديد يقوم على‬
‫أنقاض خطاب الحداثة‪ .‬هذا الخطاب الجديد استقبلته مقولتان‪ -‬التشاؤم من‬
‫العلوم اإلنسانية‪ ،‬وإعالن موت اإلنسان‪ ،‬فالتشاؤم من العلوم اإلنسانية نابع من‬
‫كون املعرفة املتشكلة في خطاب العلوم اإلنسانية كان هدفها هو إخضاع األفراد‬
‫لعالقات السلطة البرجوازية أي استثمارهم سياسيا واجتماعيا ونفسيا باعتبارهم‬
‫قوة لإلنتاج املادي تساعد على تنمية الطبقة البرجوازية الصاعدة وخدمتها‪ ،‬أما‬
‫األجساد التي ل تنتج ول تخضع لعالقات السلطة كاملجانين واملجرمين‪ ،‬مثال‪،‬‬
‫فيجب إقصاؤهم ونبذهم من املجتمع‪ ،‬وكما قال ميشيل فوكو»الجسد ل يصبح‬
‫قوة مفيدة إل إذا كان في الوقت نفسه جسدا منتجا وجسدا مستعبدا «أي يجب‬
‫إخضاعه لهذه القوانين وترويضه عليها وتكييفه مع األوضاع‪ ،‬بحيث يتقبلها بدون‬
‫أي رد فعل‪ ،‬وكأنها حتمية تاريخية أو قدر إلهي»‪ .‬ولكي تروض البرجوازية املجتمع‬
‫وتخضعه لعالقاتها وجب عليها أن تقيم معرفة باإلنسان في جميع أبعاده‬
‫ومستوياته‪ .‬هذه املعرفة هي ما اصطلح عليها فوكو «التكنولوجيا السياسية‬
‫للجسد» لقد مات اإلنسان ألنه لم يستطع أن يحفظ قوة الحياة وقوة الكالم وقوة‬
‫الشغل‪ ،‬وألنه كذلك فال داعي للحسرة والبكاء عليه‪ .‬علينا أن ننتظر اإلنسان‬

‫‪46‬‬
‫الجديد‪ ،‬أو اإلنسان األعلى حسب التعبير النتشوي الفوكاوي‪ ،‬إنه بزوغ شكل‬
‫جديد يقودنا حتما إلى نظام الستراتيجيات ‪.1‬‬
‫يلمح ميشال فوكو ‪ Michel Foucault‬في مسألة نظام الخطاب بأنه‪" :‬يجوز‬
‫أل تكون هذه املؤسسة ول تلك الرغبة سوى اجابتين متعارضتين على قلق‬
‫واحد‪ :‬قلق حول ماهية الخطاب في واقعه املادي وباعتباره مكونا من أشياء‬
‫منطوقة ومكتوبة‪ ،‬قلق حول هذا الوجود اإلنتقالي املقدر عليه الزوال بموجب‬
‫ديمومة ل حول لنا فيها ول قوة‪ ،‬قلق يكمن في احساسنا‪ ،‬تحت وطأة هذه‬
‫الفعالية‪ ،‬بسلطات ومخاطر نتخيلها تخيال سيئا‪ ،‬قلق يتأتى من توهمنا أللوان‬
‫من املعارك والنتصارات وضروب من الجروح والهيمنة والستبعاد منبعثة من‬
‫‪.2‬‬
‫خالل كثير من الكلمات قلم الستعمال الطويل أظفارها"‬
‫كما يشير في قضية خطر الخطاب إلى أنه‪" :‬الضروب التي تضربه تكشف‬
‫لنا في الحين آصرته بالرغبة وبالسلطة‪ .‬ول غرابة في ذلك فالخطاب (كما يبين لنا‬
‫التحليل النفس ي) ليس هو ذلك الخطاب الذي يعلن رغبة أو يخفيها‪ ،‬إنه‬
‫موضوع الرغبة‪ ،‬والخطاب (كما يعلمنا التاريخ) ليس هو الذي يفصح عن‬
‫معارك أو أنظمة من السيطرة‪ ،‬بل هو األداة التي بها ومن أجلها يقع الصراع‪،‬‬
‫إنه السلطة التي تسعى لالستحواذ عليها‪.3‬‬
‫كما يحذرنا ميشال فوكو في حفريات املعرفة من أن املمارسة الخطابية ل‬
‫تحيل إلى نشاط الذات بوصفها عقال يفكر وفق قواعد منطقية صورية‪ ،‬ول‬
‫بوصفها قدرات شخصية على التعبير وفق قواعد لغوية نحوية‪ ،‬ذلك ألن‬
‫املمارسة الخطابية عنده‪ ":‬مجموعة من القواعد املوضوعية والتاريخية املعينة‬
‫واملحددة دوما في الزمان واملكان التي حددت في فترة زمانية بعينها‪ ،‬وفق نطاق‬

‫‪ -1‬عبد السالم دخان‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬


‫‪ -2‬ميشيل فوكو‪ ،‬تر‪ :‬أحمد السطاني وعبد السالم بن عبد العالي‪ ،‬جينيالوجيا املعرفة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار توبقال‬
‫للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،1994 ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪ -3‬ميشيل فوكو‪ ،‬تر‪ :‬أحمد السطاني وعبد السالم بن عبد العالي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪47‬‬
‫اجتماعي واقتصادي وجغرافي أو لسان معطى‪ ،‬شروط ممارسة الوظيفة‬
‫املنطوقية أو الخطابية"‪ .1‬لكن حرص فوكو على تبيان خصوصية الخطاب في‬
‫البيولوجية والقتصاد واللغة حيث " أن تحليل الخطاب بهذا املعنى‪ ،‬ليكشف‬
‫عن شمولية املعنى‪ ،‬بل يبرز لعبة ندرة اإلثبات وليست السخاء املستمر للمعنى‪،‬‬
‫وليست أبدا مملكة الدال"‪ .2‬إن الخطاب أيضا في نظر ميشال فوكو ينقل‬
‫السلطة وينتجها يوقويها‪ ،‬ولكنه أيضا يلغمها‪ ،‬يفجرها‪ ،‬يجعلها هزيلة‪ ،‬يسمح‬
‫بإلغائها‪.3‬‬
‫املطلب الخامس‪ :‬ابستمولوجيا كارل بوبر‪Karl Popper‬‬
‫لقد لجأ بوبر* إلى مبدأ التكذيب والبحث عن الحالة التي تظهر الجانب‬
‫السلبي من الفتراض املطروح‪ ،‬فحيث ان الفرض ل يجد ما يدفع إلى تكذيبه‬
‫فإنه يصمد بقاء‪ ،‬والعكس بالعكس ‪.‬فالفارق بين مذهبه ومذهب الوضعية‬
‫املنطقية‪ ،‬كما يؤكد‪ ،‬هو ان الصورة املنطقية للقضايا الكلية في مذهبه ليست‬

‫‪ -1‬عبد السالم حيمر‪ ،‬في سوسيولوجيا الخطاب‪-‬من سوسيولوجيا التمثالت إلى سوسيولوجيا الفعل‪،-‬‬
‫ط‪ ،1‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬لبنان‪ ،2008 ،‬ص ‪.183‬‬
‫‪2‬بلخير بومحراث‪ ،‬الخطاب والتاريخ في فلسفة ميشال فوكو‪ ،‬مجلة التدوين‪ ،‬جامعة وهران‪ ،‬العدد‪،04‬‬
‫ديسمبر‪ ،2012‬ص‪.68‬‬
‫‪ -3‬ميشيل فوكو‪ ،‬تر‪ :‬مطاع صفدي‪ ،‬جورج أبي صالح‪ ،‬إرادة املعرفة‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،‬مركز اإلنماء‬
‫القومي‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص ص ‪.109-108‬‬
‫*‪ -‬كارل ريموند كارل پوپر ‪ 28‬يوليو ‪ 1902‬في فينا ‪ - 17‬سبتمبر ‪ 1994‬في لندن )فيلسوف نمساوي‪-‬‬
‫إنكليزي متخصص في فلسفة العلوم ‪.‬عمل مدرسا في كلية لندن لالقتصاد ‪.‬يعتبر كارل پوپرأحد أهم واغزر‬
‫املؤلفين في فلسفة العلم في القرن العشرين كما كتب بشكل موسع عن الفلسفة الجتماعية والسياسية‪.‬‬
‫والداه يه وديان باألصل لكنهما تحول للديانة املسيحية‪ ،‬إل أن بوبر يصف نفسه بالأدري ‪.‬‬
‫درس الرياضيات‪ ،‬التاريخ‪ ،‬علم النفس‪ ،‬الفيزياء‪ ،‬املوسيقى‪ ،‬الفلسفة وعلوم التربية‪ .‬عام‪ 1928‬حصل على‬
‫ُ‬
‫درجة الدكتوراة في مجال مناهج علم النفس اإلدراكي ‪. 1930‬تزوج‪ ،‬وبدأ كتابة أول أعماله‪ ،‬الذي نشر في‬
‫صورة مختصرة بعنوان "منطق البحث‪" 1934‬وفي طبعة كاملة عام ‪ 1979‬بعنوان "املشكلتان الرئيستان‬
‫في النظرية املعرفية ‪". 1937‬هاجر إلى نيوزيلندا حيث قام بالتدريس في عدة جامعات هناك‪ ،‬وألف كتاب‬
‫"املجتمع املفتوح وأعداؤه" ‪ ، 1945‬الذي اكتسب من خالله شهرة عاملية ككاتب سياس ي‪ .‬أهم سمة تميز‬
‫أعماله الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقالنية العلمية‪ .‬ما بين عامي‪ 1949‬ـ ‪ 1969‬عمل أستاذا‬
‫للمنطق واملناهج العلمية بجامعة لندن ‪.‬حصل في عام ‪ 1965‬على لقب "سير‪".‬‬
‫‪48‬‬
‫مستمدة من القضايا الشخصية في الواقع املوضوعي‪ ،‬مع هذا فإنه يمكن‬
‫مناقضة القضايا األولى بالخيرة (الشخصية)‪ ،‬أي ان من املمكن البرهنة من‬
‫صدق القضايا الشخصية على كذب القضايا الكلية‪ ،‬بفعل عملية الختبار من‬
‫التكذيب ‪.‬في حين أن مذهب الوضعية يعتمد على تكوين القضايا الكلية من‬
‫القضايا الشخصية‪ ،‬وان التحقيق لديه عبارة عن التبرير واألخذ بمسلك‬
‫التأييد‪.1‬وعليه اعتبر بوبر ان النظريات العلمية ل تقبل التبرير أو التحقيق‪،‬‬
‫وإنما تقبل الختبار‪ ،‬فحيث أنها تصمد أمام الختبارات الشاقة والتفصيلية‬
‫فإنه تثبت جدارتها بالتعزيز عن طريق الخبرة‪ ،2‬وهو ما يفسر النمو العلمي‬
‫وقلب النظريات‪.‬فمثال ان نظرية ديكارت للجاذبية استبدلت بنظرية نيوتن عند‬
‫معرفة ان الكواكب تتحرك اهليلجيا وليس دائريا ‪.‬كما ان نظرية نيوتن‬
‫‪. 3‬‬
‫استبدلت بنظرية أينشتاين للشذوذ املالحظ في مدار كوكب عطارد ‪.‬‬
‫اهتم “بوبر” كثيرا بالسؤال التالي؛ وهو‪ :‬متى تكون النظرية صحيحة؟‬‫لقد َّ‬
‫واملناخ الذي قاد بوبر إلى الهتمام بهذا السؤال هو عدد من النظريات التي‬
‫عاصرها؛ وهي‪ :‬نظرية آينشتاين في الجاذبية‪ ،‬ونظرية ماركس في الجدلية‬
‫ُ‬
‫كل من فرويد وألفريد آدلر في التحليل النفس ي‪ .‬يذكر “بوبر”‬‫التاريخية‪ ،‬ونظرية ٍّ‬
‫أنه في العام ‪ 1919‬بدا غير راض عن هذه النظريات الثالث األخيرة في التاريخ‬
‫والتحليل النفس ي‪ ،‬وبدأ يطرح التساؤل التالي‪ :‬ملاذا هذه النظريات الثالث‬
‫تختلف عن نظرية آينشتاين ونظرية نيوتن؟ في الظاهر َّأن لهذه النظريات قوة‬
‫تفسيرية عالية‪ .‬وقد لحظ بوبر َّأن املشترك بين هذه النظريات الثالث أنها قادرة‬
‫على جمع عدد كبير من املؤيدات في التاريخ وفي الحقل النفس ي‪ .‬لقد لحظ بوبر‬
‫أن نظريتا فرويد وألفريد آدلر‪ ،‬وهما نظريتي مختلفتان في التحليل النفس ي‪،‬‬

‫‪ -1‬كارل بوبر ‪ :‬منطق الكشف العلمي‪ ،‬ترجمة ماهر عبد القادر‪ ،‬دار النهضة العربية‪ ،‬ص‪.78‬‬
‫‪ -2‬كارل بوبر ‪ :‬منطق الكشف العلمي‪ ،‬مرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.81-80‬‬
‫‪3‬‬
‫‪- Imre Lakatos ،‘Falsification and the Methodology of Scientific Research programmes’ ،1969 ،in: The‬‬
‫‪Methodology of Scientific Research Programmes. Philosophical Papers ،volume 1. edited by Worrall and‬‬
‫‪14‬ـ‪Currie ،Cambridge University Press ،reprinted 1984 ،p.13‬‬
‫‪49‬‬
‫ولكن هناك حالت إكلينيكية تنطبق عليها نظرية فرويد‪ ،‬وتنطبق عليها في‬
‫شككا في القيمة العلمية‬ ‫ُ‬
‫الوقت ذاته نظرية آدلر‪ .‬األمر الذي توقف عنده بوبر م ِّ‬
‫لهما‪ .‬إن ما يميز نظرية ماركس عن هاتين النظريتين هو أنها نظرية قابلة‬
‫لالختبار؛ وبالتالي ُيمكن تكذيبها‪ .‬فنظرية ماركس في الجدلية التاريخية َّ‬
‫تنبأت‬
‫بثورة اجتماعية على النظام الرأسمالي ولكن ذلك لم يحصل‪ .‬وبدل من القبول‬
‫بفشل النظرية‪ ،‬قام أتباع املاركسية بتعديل النظرية إلنقاذها من الفشل‪ .‬وهذا‬
‫يعني َّأن مثل هذه النظريات ل ُيمكن أن تكون صحيحة من خالل الشواهد التي‬
‫يحصلون عليها في عيادات التحليل النفس ي أو الحقل التاريخي‪ .‬لكن املسألة‬
‫تصححها املؤيدات على النحو الذي‬ ‫مختلفة مع نظرية آينشتاين؛ فنظريته ل ِّ‬
‫ْ‬
‫خرجت بعدد من التنبؤات؛ منها على‬ ‫نراه في تلك النظريات‪َّ .‬إن نظرية آينشتاين‬
‫تحقق ًّ‬
‫علميا من هذه‬ ‫سبيل املثال‪َّ :‬أن الضوء ينحي عندما يمر بجسم ثقيل‪ .‬وقد َّ‬
‫الظاهرة‪ .‬فما هي النظرية العلمية برأي بوبر؟ هي ببساطة نظرية تقبل التكذيب‬
‫ألنه يمكن اختبارها‪ .‬ول يوجد عند بوبر نظريات صحيحة باملطلق‪ ،‬بل يوجد‬
‫اتجاه ترجيحي للنظرية بناء على اجتيازها عددا من الختبارات‪ .‬وتظل النظرية‬
‫تكذبها بعض الختبارات‪ ،‬حينئذ يتم‬ ‫ُ َّ‬
‫مرجحة ضمن عدد من النظريات ما لم ِّ‬
‫استبدالها بنظرية أخرى تتجاوز كل الختبارات السابقة‪.1‬‬
‫َّأما كيف تنمو املعرفة العلمية؟ وهل من حد نهائي تتوقف عنده؟ فيرى‬
‫َّ‬
‫بوبر َّأن العلوم بحاجة للتقدم والنمو؛ ألنها إذا توقفت عن النمو فقدت‬
‫طبيعتها العقلية والتجريبية‪ .‬ما يقصده بوبر من نمو املعرفة العلمية ليس‬
‫تراكم املشاهدات‪ ،‬بل الفعل املتكرر في إسقاط النظريات العلمية وإحاللها‬
‫بنظريات أخرى أكثر مالءمة‪َّ .‬إن قيامنا بالفحص النقدي هو الذي يقودنا إلى‬
‫اختبار النظريات‪ ،‬ومن ثم إسقاطها‪ ،‬وهذا بدوره يقودنا إلى تجارب ومالحظات‬
‫جديدة لم نكن نتصورها‪ .‬وهذه العملية تستمر إلى ما ل نهاية‪ .‬وهنا ل يرى بوبر‬
‫حدا ًّ‬
‫نهائيا للمعرفة ألنه لدينا جهل ل نهائي‪ .‬فما الذي يعيق نمو املعرفة إذن؟‬ ‫ًّ‬

‫‪1‬‬
‫‪– Karl Popper ،Conjectures and Refutations ،Routledge ،2002 ،p.43-51.‬‬
‫‪50‬‬
‫ويجيب بوبر بأنه الفقر إلى الخيال املبدع‪ .‬ويعتقد بوبر َّأن العلوم هي النشاط‬
‫اإلنساني الوحيد الذي يقدم نقده املنظم لألخطاء‪ ،‬ثم مع الوقت يتم‬
‫تصحيحها‪ُ .‬يؤمن بوبر بنظام يحكم العلوم حتى قبل اختبارها وهو ما يسميه‬
‫بالرضا النسبي املحتمل‪ .‬واملعنى هو أنه يمكن أن نختار من بين عدد من‬
‫النظريات التي بها محتوى معرفي كبير‪ ،‬والتي تمتلك قوة تفسيرية أكبر‪ ،‬وهي‬
‫لكن هناك تناسب‬ ‫بالتالي قابليتها تكون أعلى بالقياس إلى النظريات األخرى‪ْ .‬‬
‫عكس ي بين املحتوى املعرفي للنظرية واحتمال صحتها؛ فكلما زاد املحتوى املعرفي‬
‫للنظرية قل احتمالها‪ .‬ويفضل بوبر املحتوى املعرفي للنظرية على ضعف‬
‫احتمالها؛ َّ‬
‫ألن لديها قابلية أكبر لالختبار ثم التكذيب‪.‬‬
‫والخالصة َّأن بوبر يرى َّأن العلوم ُيمكن تصورها كمنظومة تتطور من‬
‫مسائل إلى مسائل أعمق إلى ما ل نهاية‪. 1‬‬
‫هناك أيضا ُمعضلة مركزية في نظرية املعرفة‪ ،‬تتعلق بالحد الفاصل بين‬
‫العلوم وامليتافيزياء‪ .‬ولنتذكر َّأن مشروع “كانط” النقدي قام على إمكانية أن تكون‬
‫حد يفصل بين العلوم‬ ‫امليتافيزياء علما‪ .‬ينظر بوبر في محاولت الوضعيين لوضع ٍّ‬
‫وامليتافيزياء على أساس املحسوس وغير املحسوس على أنها غير صحيحة‪ .‬إذن؛ أين‬
‫ُيمكن أن نرسم الخط الذي يفصل بين العلوم وامليتافيزياء؟ ويجيب بوبر َّ‬
‫بأن الحد‬
‫الفاصل بين العلوم وامليتافيزياء هو مبدأ التكذيب‪ .‬فكل ما يقبل التكذيب يدخل في‬
‫إطار العلوم‪ ،‬وكل ما ل يقبل التكذيب يدخل ضمن امليتافيزياء ‪.2‬‬

‫املطلب السادس‪ :‬ابستمولوجيا فاير ابند‪Feyerabend‬‬


‫تحفل ابستمولوجيا فيرابند العلمية بعديد من املصطلحات الغريبة على‬
‫فلسفة العلم مثل النظرية البراجمتية للمالحظة‪ ،‬التعددية‪ ،‬التكاثر‪ ،‬الفوضوية‪،‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- Karl Popper ،Conjectures and Refutations ،Routledge ،2002 ،p.290-29‬‬
‫‪2‬‬
‫‪-Karl Popper ،ibid ،p.341-345.‬‬
‫‪51‬‬
‫التحول املفاهيمي الجذري‪ ،‬الستقراء املعاكس‪ ،‬املدخل األنتروبولوجي‪ ،‬عدم‬
‫التساق‪ ،‬الالمقايسة‪ .‬وتأتي النسبية على رأس هذه املصطلحات‪ ،‬وهي ليست‬
‫مسلمة أساسية يبدأ منها‪ ،‬بل على العكس‪ ،‬نتيجة تنتهي إليها شتى عناصر فلسفته‬
‫العلمية ‪ .‬ويجب مالحظة أن فلسفته العلمية تلك جزء ل يتجزأ من رؤيته‬
‫الفلسفية العامة حيث ينتقل دوما في تحليالته من هذه لتلك بكل سهولة‪.‬‬
‫حيث يمثل مذهبه النقدي دعوة بأل نقبل ببساطة الظواهر والقوانين‬
‫املحيطة بنا دون فحصها ونقضها ومناقشتها جيدا ومحاولة تغييرها‪ ،1‬لذا يحتل‬
‫النقد مكانة مركزية في فكره إلى الدرجة التي تتيح لنا القول إنه ينتقد كافة‬
‫املشروعات املتوفرة في فلسفة العلم عامة‪ ،‬وامليتودولوجيا على وجه‬
‫الخصوص‪.‬‬
‫ولنبدأ في تلمس معالم فلسفة فيرابند العامة‪ ،‬التي كما أسلفنا ل تنفصم‬
‫عن فلسفته العلمية*‪ ،‬حيث يبرز قيمة التنوع والتغيير الثقافيي محاول تبيان‬
‫الفائدة الجليلة التي يسديها التنوع ومايؤدي إليه التماثل من تقليص لسعادتنا‬
‫واستنضاب ملواردنا العقلية والعاطفية واملادية‪.‬‬
‫ويرى فيرابند أن ثمة فكرتين شاع املناداة بهما بجعل املد الغربي يلقى الحترام‬
‫والترحيب الفكريين‪ ،‬وهما‪ :‬فكرة املوضوعية‪ ،‬وفكرة العقل‪.‬‬
‫فكرة املوضوعية‪ :‬فالقول عن فكرة بأنها موضوعية صادقة اتجاه يتجاهل‬
‫ويدعو إلى تجاهل‪ ،‬التوقعات واألفكار والتوجهات والرغبات اإلنسانية‪ ،‬واملوضوعية‬
‫أحد الدعاءات الرئيسة التي ينسبها علماء اليوم إلى أعمالهم‪ .‬وفكرة املوضوعية عند‬
‫فيرابند سابقة على العلم ومستقلة عنه وتنشأ متى شرعت أمة أوقبيلة أوحضارة في‬
‫تحديد أسلوبها في الحياة بقوانين( فيزيائية وأخالقية) كلية‪ ،‬وتبزغ هذه الفكرة متى‬

‫‪1‬‬
‫‪-Feyerabend ،p.k ;. « Realism ،rationalism ans scientific method « ،philosophical papers ،vol 11 ،Cambridge‬‬
‫‪University press ،London ،1981 ،p1‬‬
‫* تحمل انتاجات فيرابند دللة مباشرة عن جملة فكرة‪ ،‬فمنها مثال " ضد املنهج" ‪ ،Against method‬وداعا‬
‫للعقل‪ ،fareewell to reason ،‬العلم في مجتمع حر" ‪ ،" science in free society‬قتل الوقت ‪killing time‬‬
‫‪52‬‬
‫حدثت املواجهة بين ثقافات متباينة ذات موضوعية مختلفة‪ ،‬ومع تقدم العلم‬
‫وإنتاجه لهذا الكم الهائل من املعلومات استحدثت التصورات الصورية للموضوعية‬
‫ليس فقط في ابتكار املعرفة‪ ،‬ولكن اضفاء الصبغة الشرعية على جسد املعلومات‬
‫القائم فعال‪.‬‬
‫أما فكرة العقل‪ :‬حسب مايرى فيرابند فقد مثلت دورا بارزا في الدفاع عن‬
‫الحضارة الغربية‪ ،‬ويذهب في بيان نسبية دللة هذا اللفظ حيث تختلف‬
‫دللته‪ ،‬وربما تتعارض فيما بين التجريبيين واملثاليين‪..‬إلخ‪ ،‬ومن ذلك تتضح‬
‫مالمح األطروحة الفيرابندية التي تحتل فيها الذاتية والنسبية وبذور الفوض ى‬
‫مكانة‪ ،‬بما يمهد السبيل أمام الالمقايسة ومبدأه الشهير "كل ش يء جائز" ‪. 1any‬‬
‫‪thing goes.‬‬
‫رؤية فيرابند عن العلوم اإلنسانية‬
‫ينتقد فيرابند الستغالل الغربي للعلم‪ ،‬واتخاذه ذريعة ألسطورة الغرب‬
‫املتفوق‪ ،‬والقهر الذي يمارسه الغرب على مختلف الحضارات باسم العلم‪،‬‬
‫بدعاوى العقالنية واملوضوعية‪ ،‬ومن هذا املنطق يصل فيرابند إلى نتيجتين‬
‫غايتين في األهمية هما‪)...(:‬‬
‫‪ -‬ضرورة إتاحة الحرية حتى داخل أسوار العلم الحصينة‪ ،‬فالبحث الناجح‬
‫ل يسير على شريط قطار ول يتبع عامة‪.‬‬
‫‪ -‬ليس هناك مايميز العلم الغربي عن سائر ضروب املعرفة األخرى‪،‬حتى لو‬
‫كان السحر والتنجيم من بينها‪ ،‬فالعلم إذا صح فهمه ليقيم الحجة ضد‬
‫هذه األنماط‪ ،‬يقول فيرابند‪ ":‬إنني لست ضد العلم‪ ،‬لكنني ضد‬
‫اليديولوجيات التي تستغل مسمى العلم لرتكاب جريمة ثقافية بشعة‪.2‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- Feyerabend ،p.k ،against method ،op.cit.p 1‬‬
‫‪-2‬عادل عوض‪ ،‬اإلبستمولوجيا بين نسبية فيرابند وموضوعية شاملرز‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الوفاء لدنيا للطباعة‬
‫والنشر‪ ،2002 ،‬ص‪.17‬‬
‫‪53‬‬
54
‫الفصل الثاتي‪:‬‬

‫ابستمولوجيا علوم اإلعالم واالتصال‬

‫‪55‬‬
‫املبحث األول‪ :‬ابستمولوجيا اإلعالم ( املفاهيم والنماذج)‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم ابستمولوجيا اإلعالم‬
‫‪ -1-1‬مفهوم اإلعالم‬
‫اصطالحا‪:‬‬
‫يتصل معنى اإلعالم باألخبار واألنباء والحوادث العرضة‪ ،‬ول يتضمن في‬
‫املعنى اللغوي أكثر من اإلنباء واإلظهار واإلبراز فيكون من هذه الجهة أكثر‬
‫اتصال باألحداث وأشد تعلقا بالصفة اآلنية العابرة‪.‬‬
‫ملعرفة املعالم التي تميز مواضيع ذات ثقافة ونظام مشترك تصوري‪ ،‬وخبرة‬
‫تخص هوية املوضوع إل أن كما أدلى به في هذا املقام فيما يخص اإلعالم برنارد‬
‫لميزات ‪ Bernard LAMIZET‬بأن‪" :‬اإلعالم ينشر بين مواضيع التركيبة الجتماعية‬
‫لبناء الروابط اإلجتماعية ومعرفة اآلثار"‪.‬‬
‫وليس هناك تعريف محدد ملفهوم اإلعالم "اإلعالم" أو "العمل اإلعالمي"‬
‫بسبب اتساع مفهومه وتداخله في الكثير من مجالت النشاط اإلنساني‬
‫والعالقات اإلنسانية بمختلف أنواعها‪ ،‬ولهذا يصعب تحديد لفظة " اإلعالم"‬
‫بسبب اختالف منهاجه وتعدد أدواره‪ ،‬وتباين مذاهب الباحثين‪.‬‬
‫ويستخدم اإلعالم للدللة على عمليتين في وقت واحد تكمل إحداهما‬
‫األخرى فهو يشير من جهة إلى عملية استقاء واستخراج املعلومات والحصول‬
‫عليها من خالل التواجد السريع والفوري في مكان الحدث‪ ،‬أو الغوص في أعماق‬
‫صاحب املعلومة طول وعرضا لستخالص املعلومات‪.‬‬
‫إن اإلبستمولوجيا من وجهة نظر ريجيس دوبري‪" :‬هي تفكير حول العلوم‪،‬‬
‫تدرس تكوين املعارف الصالحة‪ ،‬فخطابها معياري حول أنظمة من البيانات‬

‫‪56‬‬
‫الوصفية‪ .‬فهي تبرز معايير صالحية‪ ،‬وتعين"العوائق" أمام تطور الحق‪ ،‬إنها‬
‫متطلبة ومشككة وتتحرك في األفق الكالسيكي للفلسفة وكأنها محكمة‬
‫للمعرفة‪ ،‬تبحث عن مرتكزات‪ ،‬وتقوم بعمل التحقق"‪.‬‬
‫علم اإلعالم يقوم بعكس ذلك تماما‪ :‬فهو يهدف إلى وصف البيانات‬
‫املعيارية‪ .‬إن "الحقيقة" ل تهم علماء اإلعالم‪ ،‬ليس بأكثر مما تهم ميول القلب‬
‫أطباء القلب‪ .‬إننا لنطرح هنا أسئلة حول الجوهر واملرتكزات‪.1‬‬
‫إن علم اإلعالم العام ل يستطيع أن يجد وجهه النظري إل من خالل‬
‫تجلياته اإلقليمية‪ .‬فاملقاربة أو الروح اإلعالمي الذي يقوم بإسناد كل مجال‬
‫للنشاط إلى نظام من النقل يدعمه‪ ،‬ستكون له تطبيقات أوفروع بقدر ما لعلم‬
‫الجتماع والتاريخ‪ ،‬وهي‪ :‬الدين‪ ،‬العلوم‪ ،‬املؤسسات‪ ،‬الثقافات‪ ،‬الحقوق‪ ،‬الفن‪،‬‬
‫إلخ‪...‬يعني‪ :‬كيف يحدث النقل والنتشار والدوران والتمدد والتعدد‪،‬إلخ؟ وعلى‬
‫أي مرتكز‪.‬؟ وماذا يغير هذا ويركب في الجسم أجهزة اإلرسال واللتقاط؟ وبأي‬
‫توجهات‪ ،‬أي مسارات وشبكات وتحالفات وتالقيات ومنافذ‪ ،‬إلخ؟‪ .2‬وهذا‬
‫مصطلح عليه ريجيس دوبري في خصوصية علم اإلعالم بتقاطع علوم عديدة‬
‫لجتباز الحقول‪.‬‬
‫إنه من الطبيعي أن تقوم نظرية اعالمية تعطي للدولة –باعتبارها املمثل‬
‫للمجتمع‪ -‬حق التحكم في اآللة اإلعالمية وتوجيهها الوجهة التي تخدم املجتمع‬
‫وتساهم في تحقيق غايته‪ .‬ويمكن أن نسمي هذه النظرية أو الفلسفة ( فلسفة‬
‫اإلعالم املوجه)‪.‬‬

‫‪ -1‬ريجيس دوبري‪ ،‬تر‪ :‬فؤاد شاهين وجورجيت الحداد‪ ،‬محاضرات في علم اإلعالم العام –امليديولوجيا‪،-‬‬
‫ط‪ ،1‬دار الطليعة –بيروت‪،1996،-‬ص‪.33‬‬
‫‪ -2‬ريجيس دوبري‪ ،‬تر‪ :‬فؤاد شاهين وجورجيت الحداد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪57‬‬
‫وبالطبع لم تخرج التصنيفات التي قدمها الباحثون لفلسفات اإلعالم عن‬
‫هذين الصنفين الكبيرين (فلسفة اإلعالم الحر وفلسفة اإلعالم املوجه)‪.1‬‬
‫ولكن اختلف الباحثون في مسميات الفلسفات التي تتفرع من هاتين‬
‫الفلسفتين الكبيرتين‪ ،‬وذلك تبعا ألشكال السيطرة ودرجاتها ومبرراتها في فلسفة‬
‫اإلعالم املوجه‪ ،‬وتبعا لتدخل الدولة أو املجتمع في الحد من الحريات الواسعة‬
‫في فلسفة اإلعالم الحر‪ ،‬ظهر أكثر من مسمى لهذه الفلسفات ولكن هذه‬
‫املسميات رغم تعددها فهي في النهاية لم تخرج عن كونها إما "فلسفات اعالم‬
‫موجه" وإما " فلسفات اعالم حر"‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬تصنيفات ابستمولوجيا اإلعالم‬
‫بعد أن قسمنا أهم الفلسفات اإلعالمية الجديرة بالدراسة النقدية من‬
‫املنظور اإلسالمي وهي (الفلسفة الليبرالية–املسؤولية الجتماعية– الشتراكية‬
‫‪-‬التنموية)‪ ،‬كما نود تقسيم هذا املطلب إلى فرعين‪ ،‬فلسفة اإلعالم الحر‪،‬‬
‫وفلسفة اإلعالم املوجه‪.‬‬
‫الفرع األول‪ :‬فلسفة اإلعالم الحر‬
‫‪ -1‬الفلسفة الليبرالية‪:‬‬
‫تشكلت املالمح العامة لفلسفة اإلعالم الليبرالي‪-‬مثلها في ذلك مثل باقي‬
‫الفلسفات اإلعالمية –تبعا ملسلمات الكوزمولوجيا‪ 1‬العلمانية وغاياتها‪ ،‬أما مالمحها‬

‫‪ -1‬قدم الكثير من الباحثين تصنيفا عاما قريبا من هذا التصنيف‪ ،‬فمثال يرى سيبرت وزمياله أن األصل في‬
‫النظريات اإلعالمية هما نظريتا السلطة والحرية‪ ،‬وأن النظرية السوفياتية تطوير لألولى واملسؤولية‬
‫الجتماعية تطوير للثانية‪.‬‬
‫‪Voir :F.S. Siebert ،T.Peterson and w.shramm. four of the press (Urbana : university of illinois press ،1956) ،p81‬‬
‫كذلك يقسم كل من جون ميرل‪ ،‬ورالف لوينشتاين‪ ،‬النظم اإلعالمية في العالم إلى نظامين "نظام مرتبط‬
‫بالدولة‪ ،‬نظام حر" أو نظم ذات ميول سلطوية‪ ،‬ونظم ذات ميول ليبرالية‪.‬‬
‫‪Voir :j.Merril and R.Lowenstein ،Media ،message and men ،(New york :longman ،1979)p154:‬‬
‫كذلك يرى سامي زبيان أن هناك صنفين من اإلعالم في العالم‪ ،‬اعالم مرتبط بالدولة‪ ،‬واعالم مستقل عن‬
‫الدولة ‪ :‬انظر زبيان سامي ‪ .‬الصحافة اليومية واإلعالم‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت‪ ،‬دار املسيرة‪ ،1987 ،‬ص‪.94-93‬‬
‫‪58‬‬
‫الدقيقة فقد تشكلت تبعا لالفتراضات األساسية التي قالت بها الفلسفة الليبرالية‪،‬‬
‫وذلك فيما يتعلق بطبيعة اإلنسان‪ ،‬ومدى أهلية هذه الطبيعة للتمتع بالحرية‪،‬‬
‫وطبيعة الدولة –باعتبارها الكيان العام الذي يعيش اإلنسان ويمارس حرياته في‬
‫اطاره‪ -‬وطبيعة العالقة بين اإلنسان والدولة‪ ،‬ومدى انعكاس ذلك على حريات الفرد‪،‬‬
‫والحدود التي يسمح للدولة التدخل في حريات الفرد في اطارها‪ ،‬وطبيعة الحقيقة‬
‫وكونها متاحة للجميع وليست حكرا على أحد دون غيره‪ ،‬بشرط استخدام الفرد‬
‫عقله استخداما سليما‪.‬‬
‫وقد مر األساس الذي تستند إليه حرية التعبير‪ -‬وهي الركيزة األساسية‬
‫التي قامت عليها فلسفة اإلعالم الليبرالي –بعدة مراحل‪ .‬فقد استندت في املرحلة‬
‫األولى إلى أساس ديني‪ ،‬وفي مرحلة ثانية إلى أساس طبيعي‪ ،‬واخيرا استندت إلى‬
‫األساس النفعي‪.‬‬
‫‪ -1‬األساس الديني‪:‬‬
‫كان أساس حرية التعبير عند ملتون ومعاصريه‪ -‬الذي كتب كتابا كامال‬
‫يدافع فيه عن حرية الصحافة وأسماه (أربوجيتكيا) في ‪ – 1644‬هو أساس‬
‫ديني‪ ،‬فالرب – وهو رب طهري‪ -‬يريد أن تكون للناس صحافة حرة حتى‬
‫يستطيعوا كشف الحقيقة‪.‬‬
‫‪ -2‬األساس الطبيعي‪:‬‬
‫وهو األساس الذي نجم عن التخلي عن الفكر الديني الذي أفسح مكانه‬
‫لنظرة الكوزمولوجيا العلمانية‪ ،‬وبناء على هذا األساس اعتبرت حرية التعبير‬
‫حقا من الحقوق الطبيعية لإلنسان مثلها مثل باقي الحقوق الطبيعية اللصيقة‬
‫بالطبيعة اإلنسانية‪ ،‬وقد وسع الليبيراليون من نطاق مفهوم الحرية‪ ،‬فبينما‬

‫‪ -1‬الكوزمولوجيا ‪ Cosmology‬علم يبحث في أصل الكون وبنيته العامة وعناصره وقوانينه التي تسيره‪ ،‬أما‬
‫الكوزمولوجيا العلمانية وهي تبحث في البيئة التي تتحكم في طبيعة اإلنسان وأهم القوانين الوضعية‬
‫وغاياتها‪.‬‬
‫‪59‬‬
‫نظر إليها ميلتون على أنها مجرد التحرر من الترخيص الحكومي‪ ،‬فقد نظر‬
‫الليبراليون إليها على أنها منع للتدخل الحكومي بأشكال كافة‪ ،‬وبينما أنكر ملتون‬
‫حرية التعبير على أولئك الذين يختلفون حول املسائل األساسية‪ ،‬كان‬
‫الليبراليون على النقيض –فقد كانت الحرية بالنسبة لهم تعني الحث في‬
‫املعارضة حتى حول املسائل األساسية‪ ،‬وحتى شكل الحكم نفسه ينبغي أن ل‬
‫يسلم من املعارضة‪ ،‬ول ينبغي للدولة أن تتدخل ولو كان ذلك إنقاذا لنفسها‪.‬‬
‫بينما كان ملتون يؤيد فرض القيود على بعض أنواع املوضوعات مثل‬
‫اإللحاد والتجديف‪ ،‬فقد سمح الليبراليون بنشر كل ش يء تقريبا بالرغم من‬
‫إقرارهم لبعض قوانين الفتن والعنف والبذاءة(‪.1)...‬‬
‫‪ -3‬األساس النفعي‪:‬‬
‫كان التطور الثالث في ركيزة حرية التعبير على أيدي النفعيين وعلى رأسهم "‬
‫جون ستيوات ميل" الذي أيد في كتابه ( عن الحرية) حرية التعبير ل على‬
‫‪2‬‬
‫أساس طبيعي وإنما على أساس املنفعة‬
‫وترتكز دعواه لحرية التعبير على أساس نفعي‪ ،‬على أربع حجج كبرى‬
‫نوجزها فيما يلي‪ ،‬أولها‪ :‬أننا إذا أسكتنا رأيا فقد نخفي حقيقة‪ .‬وثانيها‪ :‬أن الرأي‬
‫الخاطئ قد يحتوي بداخله على جزء ولو صغير من الحقيقة‪ ،‬ول بد من‬
‫معرفته للوصول للحقيقة كاملة‪ .‬وثالهها‪ :‬أنه حتى لوكان الرأي املتقبل عموما هو‬
‫كل الحقيقة‪ ،‬فإن الناس لن يعتنقوه‪ ،‬على أسس عقلية‪ ،‬إنما كتحيزن مالم‬

‫‪ -1‬أنظر‪ :‬ريفرز‪ ،‬وليام ل‪ .‬وأخرون‪ .‬وسائل اإلعالم واملجتمع الحديث‪ ،‬تر‪ :‬ابراهيم إمام‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار‬
‫املعرفة‪ ،1975 ،‬ص ‪.97-94‬‬
‫‪ -2‬كان هذا نتيجة الهجوم على القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية القائمة عليه‪ ،‬من قبل بعض‬
‫الفالسفة‪ ،‬ل سيما (ديفيد هيوم)‪ ،‬وملا كان (بنتام) أستاذ(مل) قد قال باملنفعة كأساس لكل الحقوق‬
‫اإلنسانية‪ ،‬فقد استخدم مل هذا األساس كركيزة لحرية الرأي‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫يضطروا إلى الدفاع عنه‪ .‬ورابعها‪ :‬انه لم تتعرض اآلراء الشائعة للمناقشة من‬
‫آن آلخر فإنها تفقد حيويتها‪ ،‬وتأثيرها في السلوك واألخالق ‪.1‬‬
‫ثانيا‪ :‬فلسفة املسؤولية االجتماعية‬
‫قد يبدو للوهلة األولى أن النتقادات التي تعرضت لها وسائل اإلعالم في‬
‫ظل الفلسفة الليبرالية‪ ،‬هي التي دفعت إلى ظهور فلسفة املسؤولية الجتماعية‪،‬‬
‫والواقع أن هذا صحيح إلى حد ما ‪ .‬ذلك ألن هذا النقد ما كان له أن يثمر فلسفة‬
‫متكاملة‪ ،‬لول تضافر عدة عوامل أخرى معه أدت لظهور النظرية الجديدة‪.‬‬
‫ويمكن أن نزعم أن املحرك الفاعل نحو هدم بعض مقولت الفلسفة‬
‫اإلعالمية الليبرالية‪ -‬الذي جعل املناداة بايجاد فلسفة جديدة أمرا ملحا– هو‬
‫التغير الذي أصاب الفلسفة الجتماعية الليبرالية والذي كان ل بد أن يمتد إلى‬
‫الفلسفة اإلعالمية باعتبارها جزءا منها‪.‬‬
‫وقد كان العامل الفاعل وراء حدوث هذا التحول في الفلسفة الجتماعية‬
‫الليبرالية هو ظهور نظريات علمية جديدة زعزعت األسس التي كانت تقوم عليها‬
‫هذه الفلسفة‪ .‬فقد تحدت أفكار التطور‪ ،‬والفيزياء الجديدة‪ ،‬تصور نيوتن‬
‫للكون كنظام أبدي ليتغير‪ ،‬كما فرض علم النفس الحديث بنظرية فرويد‬
‫واملدرسة السلوكية‪ ،‬حصارا حول العقالنية (وهي من أهم املبادئ التي ارتكزت‬
‫عليها الليبرالية)‪ ،‬كما أثار علماء القتصاد والجتماع‪ -‬في مراجعتهم للفردية في‬
‫الفكر الليبرالي‪ -‬الشكوك حول وجود سوق حرة مفتوحة سواء ( للسلع أو‬
‫األفكار)‪.2‬‬
‫وقد رافق هذه التغيرات الفكرية في الفرضيات األساسية للفلسفة‬
‫الليبرالية – التي كان انتقالها للفلسفة اإلعالمية الليرالية أمرا حتميا‪ -‬عدة‬

‫‪ -1‬مل‪ ،‬جون ستيوارت تر‪ :‬طه السباعي‪ ،‬في الحرية‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ :‬مطبعة األدب‪ ،1922 ،‬ص ص‪-134‬‬
‫‪.135‬‬
‫‪ -2‬ريفرز‪ ،‬وليام ل‪ .‬وأخرون‪ .‬وسائل اإلعالم واملجتمع الحديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.111-110‬‬
‫‪61‬‬
‫عوامل أخرى جعلت من إدخال تعديالت على الفلسفة اإلعالمية الليبرالية حتما‬
‫–عدة عوامل أخرى جعلت من إدخال تعديالت على الفلسفة اإلعالمية أمرا‬
‫ضروريا‪ -‬ومن هذه العوامل‪:‬‬

‫‪ ‬ازدياد قوة تأثير الصحافة كنتيجة لتطورها تكنولوجيا‪.‬‬


‫‪ ‬ظهور وسائل اعالم اعالمية جديدة‪ ،‬كالراديو‪ ،‬والتلفزيون‪ ،‬والسينما‪ ،‬ذات‬
‫فاعلية وتأثير كبير ما جعل الحاجة إلى وضع ضوابط ومسؤوليات لهذه‬
‫الوسائل أمرا ضروريا‪.‬‬
‫ورغم أن كل هذه الخطوات التي نبعت من داخل وسائل اإلعالم كانت خطوات‬
‫فعالة في سبيل الوصول إلى فكر إعالمي جديد‪ ،‬إل أن هذا الفكر لم ينتظم في شكل‬
‫فلسفة جديدة ومتكاملة للصحافة إل في عام ‪ 1947‬م الذي صدر فيه تقرير"لجنة‬
‫حرية الصحافة" التي تألفت من ثالثة عشر عضوا معظمهم أكاديميون برئاسة‬
‫"روبرت هتشنز" مستشار جامعة شيكاغو‪ ،‬وبتمويل لدراستها من مجلة تايم‪ ،‬ودائرة‬
‫املعارف البريطانية‪ ،‬وقد صيغت نظرية املسؤولية الجتماعية في كتاب أعدته اللجنة‬
‫كاملة بعنوان"صحافة حرة ومسؤولة" وفي دراسة أخرى لوليام هوكنغ أحد أعضاء‬
‫اللجنة البارزين بعنوان "حرية الصحافة إطار املبدأ" وقد تم شجب تقرير اللجنة‬
‫على الفور من قبل جميع الصحف‪ ،‬إل قلة منها وباستنناءات نادرة‪ ،‬ووصف‬
‫املحررون والناشرون التقرير على أنه كتاب رسمي لقيود الحكومة على الصحافة‪.1‬‬
‫وقد ساهم اإلنجليز أيضا في تدشين الفلسفة الجديدة‪ ،‬وذلك من خالل‬
‫التقارير التي أعدتها "اللجنة امللكية البريطانية لشؤون الصحافة" وهي اللجنة‬
‫التي دعيت في شؤون الصحافة فاجتمعت لهذه الغاية مرات عديدة‪ ،‬على فترات‬

‫‪ -1‬بيل‪ ،‬أيلي تر‪:‬ألفرد عصفور‪ ،‬العودة إلى هتشستر‪ :‬خمسة وثالثون عاما على نظرية املسؤولية‬
‫الجتماعية‪ ،‬في‪ :‬شمول‪ ،‬روبرت‪".‬محرر"مسؤوليات الصحافة‪ ،،‬عمان‪ :‬مركز الكتب األردني‪ ،1990،‬ص‬
‫‪.50-49‬‬
‫‪62‬‬
‫تاريخية متقطعة‪ ،‬وكان من الطبيعي أن يطلق على نظرية املسؤولية الجتماعية‬
‫التي أسهم األمريكيون واإلنجليز في تشكيل مقولتها "نظرية أنجلو أميركية"‪.1‬‬
‫وقد حظيت هذه الفلسفة بالرفض من قبل أغلب املمارسين‬
‫اإلعالميين‪ ،‬وحظيت على الجانب األكاديمي بقبول واسع‪ ،‬ليس فقط من قبل‬
‫باحثي اإلعالم الغربيين‪ ،‬بل وأيضا من قبل الباحثين العرب‪.‬‬
‫الفرع الثاني‪ :‬فلسفة اإلعالم املوجه‬
‫‪-1‬فلسفة اإلعالم االشتراكي‪:‬‬
‫هناك الكثير من تيارات الفكر الشتراكي‪ ،‬وتتمثل أهم التيارات املعاصرة‬
‫لهذا الفكر في تيارين أساسين هما الشتراكية العلمية والشتراكية الديمقراطية‪.‬‬
‫‪ -1‬التيار األول‪ :‬وهو الشتراكية العلمية‪ ،‬وهي اشتراكية ماركس وانجلز‪ ،‬وهي‬
‫التعبير الذي يستخدمه املاركسيون للدللة على أن ما عداها من‬
‫اشتراكيات تفتقد لسمة العلمية‪.‬‬
‫‪ -2‬التيار الثاني‪ :‬وهو الشتراكية الديمقراطية‪ ،‬وتسمى أيضا يالشتراكية‬
‫اإلصالحية‪ ،‬ألنها تدعو إلى إصالح املجتمع القائم‪ ،‬ومواكبة تطوره ونموه‬
‫بالوسائل السلمية‪ ،‬كما تسمى أيضا بالشتراكية اإلنسانية‪ ،‬لنها ل تغفل‬
‫قيمة اإلنسان ومتطلباته وقد سميت أوائل القرن العشرين بالشتراكية‬
‫الديمقراطية ألنها تجمع في كيان عضوي واحد بين العدالة الجتماعية‬
‫والحرية السياسية‪.‬‬
‫تستمد فلسفة اإلعالم الشتراكي أساسها النظري من التراث املاركس ي‬
‫اللينيني‪ 2‬ورغم ضآلة ما تتضمنه كتابات ماركس من إشارات مباشرة إلى اإلعالم‬
‫والصحافة إل أن اإلضافات التي قدمها لينين من خالل التجرية السوفياتية‬

‫‪ -1‬حمزة عبد اللطيف‪ ،‬اإلعالم له تاريخ ومذاهب‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،1965 ،‬ص ‪.135‬‬
‫‪ -2‬حسن حمدي‪ ،‬الوظيفة اإلخبارية لوسائل اإلعالم‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪ ،1989 ،‬ص‪.155‬‬
‫‪63‬‬
‫ساعدت على تشكيل اإلطار النظري العام للصحافة اإلشتراكية‪ 1‬وعموما يمكن‬
‫القول أن ما وضعه لينين من أسس للنظام اإلعالمي الشتراكي يعد النموذج‬
‫الذي قامت عليه جميع نظم اإلعالم الشتراكية‪.‬‬
‫كما يمكننا النطالق من فكر ماركس ورفيقه انجلز في فهم األساس‬
‫الفكري لفلسفة اإلعالم الشتراكي‪ ،‬ومن أفكار لينين فيما يتعلق بمقولت هذه‬
‫الفلسفة بخصوص الحريات اإلعالمية‪ ،‬وملكية وسائل اإلعالم‪ ،‬والوظائف‬
‫امللقاة على عاتق وسائل اإلعالم في تحقيق الغايات العليا لالشتراكية‪.‬‬
‫‪ -2‬فلسفة اإلعالم التنموي‪:‬‬
‫أسلفنا فيما سبق إلى أن النظريات الجتماعية الوضعية التي تتبناها‬
‫بلدان العالم الثالث بما فيها الغالبية العظمى من البلدان اإلسالمية –سواء‬
‫كانت نظريات تميل إلى الليبرالية أم إلى الشتراكية أم تمزج بينهما‪ ،‬بالشكل الذي‬
‫يالئم الظروف املجتمعية والتاريخية لكل بلد منها‪ 2-‬هي نظريات تدور في فلك‬
‫الكوزمولوجيا العلمانية تنطلق من مسلماتها‪ ،‬وتسعى لتحقيق غاياتها‪.‬‬
‫وملا كانت الظروف املجتمعية والتاريخية التي تمر بها هذه البلدان ل تسمح‬
‫لها بالتطلع إلى بلوغ الغايات العليا التي تبشر بها الكوزمولوجيا العلمانية في‬
‫‪3‬‬
‫الوقت الراهن‬
‫كما تعد وسائل اإلعالم من األدوات التي تلعب دورا مهما في تحقيق‬
‫األهداف التنموية‪ ،‬فقد عملت الدول النامية على استغاللها في تحقيق هذه‬

‫‪ -1‬عبد الرحمن عواطف‪ ،‬املدرسة الشتراكية في الصحافة‪ :‬الحقبة اللينينية‪ ،1923-1896 :‬ط‪ ،2‬القاهرة‪:‬‬
‫مركز البحوث العربية‪ ،1988 ،‬ص‪.10-7‬‬
‫‪ -2‬تأثير اإليديولوجيا السياسية التي تتبناها الدول النامية بالظروف التاريخية واملجتمعية والثقافات‬
‫املحلية‪ ،‬أنظر‪ :‬أبو زيد أحمد‪ .‬الدولة في العالم الثالث‪ :‬الرؤية السوسيولوجية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،1985 ،‬ص ‪.190-183‬‬
‫‪ -3‬يرى في هذا املعنى محمد صابر " أن الدول النامية ل يمكنها في ظل الظروف القائمة إحراق املراحل‬
‫للحاق بركب الحضارة"‪ ،‬فرنسيس بال‪ ،‬وسائل اإلعالم والدول النامية‪ ،‬تر‪ :‬حسين العويدات‪ ،‬تونس‪:‬‬
‫املنظمة العربية للتربية والعلوم الثقافية‪ ،1982 ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪64‬‬
‫األهداف التنموية‪ ،‬وقد مثل هذا الدور –الذي ألقته الدول النامية على عاتق‬
‫هذه الوسائل في إحداث عملية التنمية ‪.‬‬
‫وهكذا يمكن القول إنه‪" :‬إذا كانت منطلقات التنظير اإلعالمي عند الغرب‬
‫هي هاجس تأثيرات وسائل اإلعالم على األفراد وحرياتهم وهموم "الديمقراطية"‬
‫عموما‪ ،‬فإن منطلقات التنظير اإلعالمي املعياري عند دول العالم النامي هي‬
‫الدور الذي يمكن أن تلعبه وسائل اإلعالم في تحسين املستوى املعيش ي‬
‫الجتماعي والسياس ي ملجموع املواطنين‪ ".‬أي دور وسائل اإلعالم في التنمية‬
‫الشاملة وقد صبغ هذا الدور فلسفة اإلعالم في الدول النامية بصبغة خاصة‪،‬‬
‫جعلتها تتميز عن باقي الفلسفات اإلعالمية‪ .‬مما حدى بباحثي اإلعالم تسميتها‬
‫ب"فلسفة اإلعالم التنموي" أو "نظرية اإلعالم التنموي"‪.1‬‬
‫وفيما يلي نعرض ألهم التوجيهات التنظيرية املتعلقة بالدور الذي ينبغي أن‬
‫تلعبه وسائل اإلعالم في عملية التنمية‪.‬‬
‫التوجه األول‪ :‬توجه مدرسة التحديث‬
‫تدور كتابات هذا التوجه في فلك نظرية التحديث التي ترى أن التنمية‬
‫يمكن أن تحدث في العالم الثالث عن طريق نقل األفكار والقيم الغربية‪ ،‬وإزاحة‬
‫العقبات الثقافية التقليدية في هذه البلدان‪ ،‬ما يجعل من العالم النامي عاملا‬
‫حديثا‪ ،‬ما يعني أيضا غريبا في طبيعته‪ ،‬فمن خالل الفيض الكبير من الكتابات‬
‫الذي يدور في فلك نظرية التحديث‪ ،‬حاول التركيز على الدور املؤثر الذي يمكن‬
‫أن تقوم به وسائل اإلعالم في تثقيف الشعوب النامية‪ ،‬وحهها نحو انتهاج‬
‫الطريق نفسه الذي سلكته الدول املتقدمة‪ ،‬وبذلك تصبح هذه الدول مثال أعلى‬
‫تتعلق به أفكار وطموحات الدول الفقيرة‪ ،‬ويصبح دور اإلعالم هو نقل هذه‬
‫الشعوب من النمط التقليدي إلى "التحديث" أي الحياة وفقا للنمط الغربي من‬

‫‪ -1‬محمود يوسف السماسيري‪ ،‬فلسفات اإلعالم املعاصرة في ضوء املنظور اإلسالمي‪ ،‬املعهد العالمي‬
‫للفكر اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،2008 ،1‬فرجينيا‪ ،‬ص ص ‪.71-70‬‬
‫‪65‬‬
‫خالل حهها على نبذ األساليب التقليدية وترغيبها في األنماط الستهالكية التي‬
‫‪1‬‬
‫تسود املجتمعات الغربية املتقدمة‪.‬‬
‫التوجه الثاني ‪ :‬توجه مدرسة التبعية‬
‫انصب اهتمام هذا التوجه‪-‬وكنتيجة لعدم وجود نجاح حقيقي لوسائل‬
‫اإلعالم في الضطالع بالدور امللقى على عاتقها في عملية التنمية والتحديث‪ -‬على‬
‫التنظير للمعوقات الخارجية التي تؤثر على أداء وسائل اإلعالم ملهامها التنموية‪،‬‬
‫ورأي أصحاب هذا التوجه أن" أي فهم لدور وسائل اإلعالم في عملية التنمية‬
‫والتحديث سيتم بالقصور‪ ،‬ويكون مضلال ما لم يأخذ في الحسبان عالقة‬
‫التبعية اإلعالمية بين الدول‪ ،‬في إطارالنظام القتصادي والسياس ي الدولي" ‪. 2‬‬
‫وإذا كانت مدرسة التبعية بصفة عامة تعد نتاجا ملفكري العالم الثالث‪،‬‬
‫لسيما مفكري أمريكا الالتينية فإن مدرسة التبعية الثقافية واإلعالمية قد‬
‫خرجت الكتابات األولى لها من قلب املجتمع األمريكي‪ ،‬وذلك في نهاية ستينيات‬
‫تمثل ذلك في كتاب شيلر"اإلعالم واإلمبراطورية األميريكية" الذي أوضح فيه‬
‫الهيمنة اإلتصالية واإللكترونية للوليات املتحدة األمريكية وماينجم عنها من‬
‫هيمنة ثقافية‪ ،‬وبعد ذلك أكمل الباحثان نورد نسترنج‪ ،‬وفارس في عام ‪1974‬‬
‫دراسة بتكليف من منظمة "اليونسكو" حول تدفق برامج التلفزيون الدولية‪،‬‬
‫جذبت اهتمام الباحثين ملعالجة ظاهرة التبعية اإلعالمية وقد توالت بعد ذلك‬
‫الدراسات التي ركزت على أبعاد مختلفة ملشكلة التبعية اإلعالمية‪ ،‬مثل دراسات‬
‫بويدباريت‪ ،‬وماتلالرت‪ ،‬وكتابات أخرى لشلر‪.3‬‬
‫فلسفة اإلعالم اإلسالمي‪:‬‬

‫‪ -1‬عواطف عبد الرحمن‪ ،‬قضايا التبعية اإلعالمية والثقافية في العالم الثالث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.50‬‬
‫‪ -2‬رشتي جيهان أحمد‪ ،‬اإلعالم الدولي‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪.326-325 ،1986 ،‬‬
‫‪ -3‬محمود يوسف السماسيري‪ ،‬مرجع سايق‪ ،‬ص‪.75‬‬
‫‪66‬‬
‫يرى الباحث املصري محمد سيد محمد* أن فلسفة اإلعالم اإلسالمي‬
‫تقوم على خمس ركائز‪.‬أولها‪ :‬هوية هذا اإلعالم‪ .‬وهي أنه إعالم عقائدي‪ .‬وثانيها‪:‬‬
‫أنه حق من حقوق األفراد‪ ،‬ليس حقا باملعنى أو باملفهوم السلبي أي أنه حق ملن‬
‫أراد‪ ،‬وإنما هو حق باملعنى اإليجابي للحق‪ ،‬أي أن كل فرد في الجماعة اإلسالمية‬
‫أو في املجتمع اإلسالمي فإن املجتمع مكلف باعالمه إسالميا (باملفهوم الواسع‬
‫والشامل لإلعالم)‪ .‬الركيزة الثالثة‪ :‬أن العمل اإلعالمي فرض كفاية لبد أن يقوم‬
‫املجتمع بإنشائه‪ .‬الركيزة الرابعة‪ :‬أنه عام لكل من فوق الكرة األرضية وليس‬
‫سريا أو لفئة أو طبقة وإنما هو عالنية للبشر جميعا‪ .‬الركيزة الخامسة‪ :‬أنه‬
‫معروض بغير إكراه ويجادل بالتي هي أحسن‪.1‬‬
‫يعرف الباحث محمد سيد محمد اإلعالم اإلسالمي على أنه‪:‬‬
‫" اإلعالم العام غير املتخصص ملجتمع مسلم أو دولة مسلمة أو حكومة إسالمية ‪..‬‬
‫ولكن الواقع املعاصر ملجتمعاتنا اإلسالمية ونحن في القرن الخامس عشر الهجري‬
‫يحتم علينا القول بأن اإلعالم اإلسالمي في ظروفنا املعاصرة هو صورة من صور‬
‫اإلعالم املتخصص وهو (اإلعالم الديني)"‪.2‬‬
‫ولكن في تحديد مفهوم اإلعالم اإلسالمي بدقة وموضوعية ل بد أن نفرق‬
‫أول بين أصل املوضوع في جوهره وحقيقته من جانب‪ ،‬وبين صورته التي هو‬
‫عليها حين نراه وحين نعاصره من جانب آخر‪ ،‬ذلك أن املجتمع اإلسالمي الذي‬

‫* الدكتور محمد سيد محمد أستاذ الصحافة بجامعة القاهرة‪ ،‬ولد في أسيوط (مصر) في ‪08‬‬
‫ديسمبر‪1936‬ـ تخرج في قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام ‪ ،1960‬حصل على دكتوراه دولة بمرتبة‬
‫الشرف األولى من قسم الصحافة بجامعة القاهرة عام ‪ ،1972‬عمل مترجما ومحررا في الصحف العربية‪،‬‬
‫عمل أستاذا مساعدا للصحافة بجامعة الجزائر فيما بين عامي ‪ ،1974-1972‬أعيرت خدماته العلمية‬
‫للعمل بجامعة أم درمان اإلسالمية‪ ،‬وجامعة الرياض فيما بين عامي ‪1980‬و ‪ ،1930‬له عدة مؤلفات أدبية‬
‫وإعالمية‪ ،‬وله نشاط في اإلعالم اإلسالمي على املستوى العربي واملستوى الدولي‪.‬‬
‫‪ -1‬محمد سيد محمد‪ ،‬املسؤولية اإلعالمية في اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،1‬املؤسسة الوطنية للكتاب‪ ،1986 ،‬الجزائر‪،‬‬
‫ص ص ‪.257-256‬‬
‫‪ -2‬محمد سيد محمد‪ ،‬املسؤولية اإلعالمية في اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر العربي‪ ،2008 ،‬القاهرة‪ ،‬ص ص‬
‫‪.44-43‬‬
‫‪67‬‬
‫يطبق الشريعة اإلسالمية مجتمع شمولي من حيث العقيدة‪ ،‬ومتكامل من حيث‬
‫التنظيم‪ ،‬واإلعالم فيه لبد أن يعكس شمول العقيدة وتكامل البناء الجتماعي‪،‬‬
‫ومن ثم فإن كل ش يء فيه اسالمي بدءا من املرح واملزاح وحتى مواجهة املوت‪،‬‬
‫واإلعالم في مثل هذه الحالة إسالمي في صدق إخباره‪ ،‬وإسالمي في الترويج‬
‫والتسلية‪ ،‬وإسالمي في إعالناته‪ ،‬وإسالمي في تعليمه‪ ،‬وإسالمي في شرح األخبار‬
‫‪1‬‬
‫وتفسيرها وهكذا‪....‬‬
‫وهناك مفهوم آخر يعرف فيه اإلعالم اإلسالمي‪" :‬هو تزويد الجماهير‬
‫بحقائق الدين اإلسالمي ونقل األخبار والوقائع واملعلومات بصورة صحيحة‬
‫ومنضبطة داخل األمة اإلسالمية وخارجها"‪. 2‬‬
‫وكما أوضح اإلسالم املنهاج الذي ينبغي أن يسير عليه املؤمن فإنه أوضح‬
‫السبيل الذي ينبغي أن يهتدي به الكيان الجتماعي املسلم في تحقيق مجتمع‬
‫الستخالف والعبودية املطلقة للخالق األعظم‪.‬‬
‫وفيما يلي نعرض املهام التي ينبغي أن يضطلع بها املجتمع املسلم في سبيل‬
‫تحقيق مجتمع الستخالف‪ ،‬ودور وسائل اإلعالم في املساهمة في هذه املهام‪ ،‬ثم‬
‫نعرض لنعكاسات غايات الفرد املسلم على تفاعله في العملية اإلعالمية‪.‬‬
‫إذا كان املجتمع العلماني يسعى لتحقيق التقدم املطرد املفض ي إلى إقامة‬
‫املجتمع الفردوس ي‪ ،‬فإن املجتمع املسلم يتخذ من مجتمع الستخالف املفض ي‬
‫إلى سعادة أفراده في الدارين غاية عليا له‪ .‬وهو في سبيل تحقيق مجتمع‬
‫اإلستخالف يسعى بمؤسساته كافة (السياسية‪-‬القتصادية‪-‬الجتماعية ‪-‬‬
‫اإلعالمية‪...‬إلخ) وفي ضوء املنهج اإللهي إلى تحقيق ثالث مهام كبرى هي‪:‬‬

‫‪ - 1‬محمد سيد محمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.44‬‬


‫‪ -2‬مثنى حارث الضاري‪ ،‬طه أحمد الزيدي‪ ،‬اإلعالم اإلسالمي – الواقع والطموح‪ ،-‬ط‪ ،1‬دار النفائس‬
‫للنشر والتوزيع‪ ،2007 ،‬ص ‪20‬‬
‫‪68‬‬
‫‪ -1‬إعمار الكون‪ :‬وذلك من خالل تسخير الكون والكائنات ملا فيه النفع ‪....‬نفع‬
‫اإلنسان‪ ،‬ونفع الكائنات من حوله‪ 1‬ويأتي هذا من خالل الكشف عن‬
‫الحقائق والقوانين العلمية التي تحكم عمل األشياء الطبيعية‪ ،‬ومن خالل‬
‫الكشف عما تحويه األرض من كنوز وثروات‪ ،‬ما يتيح له التقدم املادي‬
‫وترقية الجانب املادي من حياة أعضائه‪.2‬‬
‫‪ -2‬إعالء كلمة هللا بين أفراده وإقامة شرعه فيهم‪ ،‬وتوفير املناخ الذي يتيح لهم أن‬
‫يعبدوا هللا حق عبادته‪ ،‬وأن يحققوا أعلى ما تسمح به ملكاتهم من السمو املادي‬
‫والسمو الروحي اللذين تكتمل بهما سعادتهم‪.3‬‬
‫‪ -3‬إعالء كلمة هللا في أرضه‪ ،‬بالدعوة إلى دينه‪ ،‬بكل السبل املتاحة‪ ،‬وتحيقيق‬
‫املجتمع الذي يمثل خير أمة أخرجت للناس‪.‬‬
‫هذه هي املهام الثالث الكبرى التي يسعى املجتمع املسلم لالضطالع بها على‬
‫النحو الذي حددته شريعة اإلسالم للفرد لتحقيق مجتمع الستخالف‪ ،‬الذي‬
‫يسعد أفراده في هذه الدنيا‪ ،‬ويجعلهم أهال للسعادة األبدية في اآلخرة‪.‬‬
‫ول شك أن هذه املهام هي التي تحدد وظائف وسائل اإلعالم في املجتمع‬
‫املسلم‪ ،‬والتي يمكن تلخيصها على النحو التالي‪:‬‬
‫‪ -‬املساهمة في الوظيفة العمرانية‪ ،‬بالحض على العمل والعمران وتوضيح‬
‫القيم اإلسالمية التي تحكم املهمة العمرانية‪.‬‬
‫‪ -‬املساهمة في تحقيق مجتمع العبودية الخالصة هلل سبحانه وتعإلى‪ ،‬بترسيخ‬
‫عقيدة اإليمان باهلل الواحد األحد في نفوس الناس وترسيخ السيادة‬
‫لشرعه‪ 1‬وفضح أي انحراف عنها والدعوة لتصحيحه‪.‬‬

‫‪ -1‬أبو سليمان عبد املجيد‪ ،‬أزمة العقل املسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.136-135‬‬
‫‪ -2‬الشيباني عمر التومي‪ ،‬مفهوم اإلنسان في الفكر اإلسالمي‪ ،‬الكتاب اإلسالمي الدار الجماهيرية للنشر‬
‫والتوزيع واإلعالن‪ ،‬يوليو ‪ ،1987‬ص ‪.269-263‬‬
‫‪ -3‬الغنوش ي راشد‪ ،‬الحريات العامة في الدولة اإلسالمية‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬‬
‫‪ ،1993‬ص ‪.327-326‬‬
‫‪69‬‬
‫‪ -‬املساهمة في اعالء كلمة هللا في أرضه بالدعوة لإلسالم في شتى بقاع‬
‫األرض‪ ،‬وبالسبل املتاحة وبذلك يساهم اإلعالم في املهمة الثالثة ملجتمع‬
‫الستخالف‪.‬‬
‫في سياق فلسفة اإلعالم اإلسالمي تطرق املفكر اإلعالمي الجزائري عزي‬
‫عبد الرحمن* في نظرية الحتمية القيمية تطرق إلى إشكالية القيم في اإلعالم‬
‫ي نطلق من فكرة بأن ثقافة املجتمع هي التي تصنع محتويات وسائل اإلعالم‬
‫وليس العكس‪ ،‬والقيمة هي دال على مستوى تحضر املجتمع في مضمون‬

‫‪ -1‬الشنقيطي محمد سيد ساداتي‪ ،‬اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬األهداف والوظائف‪ ،‬سلسلة دراسات في اإلعالم‬
‫والرأي العام‪ ،‬الرياض‪ ،‬دار عالم الكتب‪ ،1991 ،‬ص ‪.7‬‬
‫* عبد الرحمن عزي أكاديمي وباحث إعالمي جزائري‪ ،‬من مواليد ‪ 1954‬بقرية بني ورثيالن هذه املنطقة التي‬
‫تتـ ـ ــميز بمميزات قل أن نجد لها مثيال في تراب الجزائر فعرفت بالثورة وعدم قب ـ ـ ــول النماط والقوال ـ ــب‬
‫الجاهزة وترسيـ ـ ــخ كروموزمات الحرية في أبنائه‪،‬ا لتكون بمثابة البيئة الصغرى التي ترعرع فيها وكان لها‬
‫النبع التصوري الالشعوري املستقبلي في نشأته األولى‪ ،‬فقد ذكر حسب " بشير كردوس ي " أنه فطم في بيئة‬
‫دينية مفعمة بالتعاليم الدينية وحفظ القرآن‪ ،‬وهذا سيكون له الدور املحرك املستقبلي في بصمات فكره‪.‬‬
‫لينتقل من مصدر رأسه إلى ثانوية عمر بن الخطاب بالبليدة ويتحصل بعدها على شهادة الليسانس في‬
‫ال ـ ـ ــصحافة عام ‪ 1977‬من جامعة الجزائر ‪ .‬وتأتي مرحلة سفره إلى أمريكا فيما بين ‪ 1977‬إلى غاية ‪1985‬‬
‫دارسا وأستاذا باحدى جامعاتها بمثابة الحافز الذي سجل حضور نظريته الحتمية القيمية لالعالم أو كما‬
‫يسميها هو م ـ ـ ــجازيا بالح ـ ـ ــتمية النظرية القيمية‪ ،‬حيث أحدث هذا السفر صدمة استفاقة لديه للنهل من‬
‫املنابع الغربية ومن مختلف مدارسها وخاصة الجتماعية منها التي تنبع من منابع الفكر الفلسفي الغربي‪،‬‬
‫هذا النهل سيكون له الواقع البستيمولوجي في تكون نظرية " الحتمية القيمية لإلعالم " لدي ـ ـ ـ ــه حيث بدأت‬
‫رح ـ ــلته إلى هذه النظرية بقراءاته املتأنـ ـ ــية لنظريات التصال السائدة آنذاك‪ ،‬أكاديمي وباحث إعالمي من‬
‫الجزائر ويعرف د‪ .‬عبد الرحمن عزي أنه صاحب نظرية "الحتمية القيمية في اإلعالم" ومن مؤلفاته‪ :‬قراءات‬
‫في نظرية التصال من إصدار مركز دراسات الوحدة العربية اإلعالم وتفكك البنيات القيمية في املنطقة‬
‫العربية واإلسالمية‪ ،‬من إصدار الدار املتوسطية للنشر ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم حفريات في‬
‫الفكر اإلعالمي القيمي‪ :‬مالك بن نبي‪ ،‬الوثيالني‪ ،‬النورس ي‪ ،‬صن تسو‪ ،‬من إصدار الدار املتوسطية للنشر‬
‫منهجية الحتمية القيمية في اإلعالم ومقياس ع‪،‬س‪،‬ن لإلعالم والقيم من إصدار الدار املتوسطية للنشر‬
‫وصدرت ثالثة كتب عن نظرية "الحتمية القيمية في اإلعالم من إسهام عدة أساتذة وطلبة دراسات عليا‪-‬‬
‫كما عقد أربعة مؤتمرات وطنية ودولية بن حول تلك النظرية بجامعة األمير عبد القادر بقسنطينة‪،‬‬
‫وجامعة مستغانم ويمكن زيارة موقع د‪ .‬عبد الرحمن عزي عن نظرية الحتمية القيمية في اإلعالم أسفله‪:‬‬
‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki‬‬ ‫أنظر ‪:‬‬
‫‪ ،https://sites.google.com/site/valuemediadeterminismtheory‬بتصرف‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫الوسيلة‪ ،‬فالترسندنتالية في روح املجتمعات التي تبني ثقافتها على الدين هي‬
‫العامل الحاسم في مسألة ثقافة املجتمعات الدينية وبالتالي فإن القيمة بمفهوم‬
‫الباحث عزي عبد الرحمن "‪...‬هي ما يعلو عن الش يء‪ ،‬ويرتبط باملعاني الكامنة‬
‫في الدين"(‪ ،)1‬على حد هذا القول فإن رسملة القيمة في محتوى الوسيلة يعزز‬
‫ثقافة املجتمع ويجعل التكنولوجيا كحتمية حاملة ومعززة لهذه القيم التي‬
‫تخدم ثقافة املجتمعات الدينية‪ ،‬ومن خالل هذا الطرح نستوحي شبكة‬
‫مفاهيمية لها عالقة جدلية بمفهوم القيم التي تسبح في العالم املعنوي والرمزي‬
‫للمجتمعات‪.2‬‬
‫املبحث الثاني‪ :‬ابستمولوجيا االتصال‬
‫املطلب األول‪ :‬مفهوم ابستمولوجيا االتصال ( املفاهيم والنماذج)‬
‫إن كلمة "التصال" بالرغم من من تداولها الواسع‪ ،‬تحمل معاني مختلفة‬
‫ومتعددة‪ .‬فقد نستعملها لنعني بها مجال الدراسة األكاديمي أو النشاط‬
‫التطبيقي املالزم له‪ ،‬أوبوصفها علما أو فنا أو عالقات إنسانية أو وسائل اتصال‬
‫جماهيرية أو حاسبات آلية شخصية أو إرشادا نفسيا‪ ،‬كما أنها قد تعبر عن‬
‫عملية هادفة مقصودة أو طبيعة تلقائية‪ ،‬إلخ‪.‬‬
‫هذا وقد ساهم اهتمام املختصين من مجالت دراسية متباينة( علم‬
‫النفس‪ ،‬اجتماع‪ ،‬سياسة‪ ،‬أنتروبولوجيا‪ ،‬أدب‪ )..‬في زيادة املعاني املختلفة لكلمة‬
‫التصال‪.‬‬

‫‪ -1‬عزي عبد الرحمن‪ ،‬دراسات في نظرية اإلتصال –نحو فكرإعالمي متميز‪ ،-‬ط‪ ،1‬مركز دراسات‬
‫الوحدة العربية‪،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،2001،‬ص‪.108‬‬
‫‪ -2‬عبد هللا ثاني محمد النذير‪ ،‬الرأسمال القيمي من منظور عزي‪ ،‬مداخلة غير منشورة في امللتقى الوطني‬
‫األول حول النظريات الحديثة في علوم اإلعالم والتصال أيام ‪ 25/24‬أفريل‪ ، 2012‬جامعة عبد الحميد‬
‫بن باديس ‪-‬مستغانم‪-‬‬
‫‪71‬‬
‫ولكن هذا التنوع لم يحل دون جعل كل هذه الطرق واملجالت واملعاني‬
‫تركز أصال على عنصر أساس ي هو " نقل املعلومات" الذي سنعتمد عليه أساسا‬
‫في تعريفنا للمصطلح "اإلتصال"‪ ،‬ولنمر اآلن إلى تعريف كلمة "التصال" لغة‬
‫واصطالحا لنعطي نماذج لتعريفات بعض املهتمين بالتصال كعملية اتصالية‪.1‬‬
‫‪ -1‬مفهوم االتصال‬
‫يعد التصال أحد السمات اإلنسانية البارزة‪ ،‬سواء أكان ذلك في شكل‬
‫كلمات أم صور أم موسيقى‪ ،‬مفيد أم ضار‪ ،‬مقصود أم عشوائي‪ ،‬فعلني أم‬
‫مستتر‪ ،‬إعالمي أم إلقناعي‪ ،‬واضح أم غامض‪ ،‬ذاتي أم مع آخرين‪..2‬‬
‫االتصال لغة‪ :‬التصال في اللغة كما تشير املعاجم يعني الوصول إلى الش يء‬
‫أو بلوغه والنتباه إليه‪ ،،3‬وتستخدم كلمة "اتصال" في سياقات مختلفة‪ ،‬وتتضمن‬
‫تبادل األفكار ‪communication‬مدلولت عديدة‪ ،‬فهي بمعناها املفرد‬
‫‪ Communications‬والرسائل واملعلومات وتشير في صيغة الجمع إلى الرسائل التي‬
‫تحمل مضمون التصال‪.4‬‬
‫وأما كلمة ‪ communication‬باإلنجليزية فمشتقة من األصل الالتيني‬
‫‪ communis‬ومعناها عام أو شائع أو مألوف‪،‬وتعني الكلمة‪" :‬املعلومة املرسلة‪،‬‬
‫الرسالة الشفوية أو الكتابية‪ ،‬شبكة للطرق وشبكة التصالت‪ ،‬كما تعني تبادل‬
‫‪5‬‬
‫األفكار واملعلومات عن طريق الكالم أو الكتابة أو الرموز"‬

‫‪ -1‬فضيل دليو‪ ،‬التصال‪-‬مفاهيمه‪ ،‬نظرياته‪ ،‬وسائله‪،‬ط‪ ،1‬دار الفجر للنشروالتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫‪،2003‬ال ص‪.15‬‬
‫‪ -2‬حسن عمار‪ ،‬ليلى حسن السيد‪ ،‬االتصال ونظرياته املعاصرة‪ ،‬ط‪2‬مصر‪،‬الدار املصرية اللبنانية‪،‬‬
‫ـ‪ ،2002‬ص‪.15‬‬
‫‪ -3‬ريحي مصطفى عليان‪ ،‬محمد عبد الديس‪ ،‬وسائل اإلتصال وتكنولوجيا التعليم‪،‬ط‪ ،1‬عمان دار‬
‫الصفا للنشر التوزيع‪ ،1999،‬ص‪.25‬‬
‫‪ -4‬حسن عماد مكاوي‪ ،‬ليلى حسن السيد‪ ،‬االتصال ونظرياته املعاصرة‪ ،‬ط‪ ،1‬مصر‪ ،‬الدار املصرية‬
‫اللبنانية‪ ،2002 ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ -5‬ريحي مصطفى عليان‪ ،‬محمد عبدالديس‪ ،‬وسائل االتصال وتكنولوجيا التعليم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪72‬‬
‫االتصال اصطالحا‪ :‬لقد ظهرت تعريفات عديدة ل يمكن حصرها ملفهوم‬
‫التصال‪.‬‬
‫من قبل الباحثين واملتخصصين في علوم اإلعالم والتصال عكست في‬
‫معظمها أهميته ودوره في الحياة اإلنسانية واملكونات والعناصر األساسية‬
‫لعملية التصال ومن هذه التعريفات على سبيل املثال ل الحصر‪.‬‬
‫"العملية التي تنقل بها الرسالة من مصدر عين إلى مستقبل واحد أو أكثر‬
‫وسائل أخرى بغرض اإلقناع أو التأثير على السلوك"‪.1‬‬
‫وحسب تشارلز "‪ "CH.R.wright‬فهو يرى أن التصال هو عملية نقل‬
‫املعنى أو املغزى بين األفراد‪.2‬‬
‫وتتبنى "جيهان رشتي" تعريف التصال بأنه‪" :‬العملية التي يتفاعل‬
‫بمقتضاها متلقي ومرسل الرسالة ‪ -‬كائنات حية أو بشر أو آلة ‪ -‬في مضامين‬
‫اجتماعية معينة‪ ،‬وفيها يتم نقل األفكار واملعلومات (منبهات) بين األفراد عن‬
‫قضية أو معنى أو واقع معين‪ ،‬فالتصال يقوم على مشاركة املعلومات والصور‬
‫الذهنية واآلراء "‪.‬‬
‫ويذهب "سمير حسين" إلى أن التصال‪" :‬هو النشاط الذي يستهدف‬
‫تحقيق العمومية‪ ،‬أو الذيوع أو النتشار أو الشيوع لفكرة أو موضوع أو منشأ‬
‫أو قضية‪ ،‬وذلك عن طريق انتقال املعلومات أو األفكار أو اآلراء أو التجاهات‬
‫من شخص أو جماعة إلى أشخاص أو جماعات باستخدام رموز ذات معنى‬
‫واحد ومفهوم بنفس الدرجة لدى الطرفين"‪.‬‬
‫ويرى "محمود عودة"‪" :‬أن مفهوم التصال يشير إلى العملية أو الطريقة‬
‫التي تنتقل بها األفكار أو املعلومات بين الناس داخل نسق اجتماعي معين‪ ،‬يختل‬

‫‪ -1‬ريحي مصطفى عليان‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.25‬‬


‫‪ -2‬دليو فضيل‪ ،‬مقدمة في وسائل االتصال للجماهيرية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ديوان املطبوعات الجامعية‪،‬ط‪،2‬‬
‫‪ ،1998‬ص‪.18‬‬
‫‪73‬‬
‫من حيث الحجم‪ ،‬ومن حيث العالقات املتضمنة فيه‪ ،‬بمعنى أن يكون هذا‬
‫النسق الجتماعي مجرد عالقة ثنائية نمطية بين شخص أو جماعة صغيرة‪ ،‬أو‬
‫مجتمع محلي أو مجتمع قومي أو حتى املجتمع اإلنساني ككل"‪.1‬‬
‫والتصال هو العملية أو الطريقة التي يتم عن طريقها انتقال املعرفة من‬
‫شخص آلخر حتى تصبح مشاعا بينهما‪ ،‬ويؤدي إلى التفاهم بين هذين‬
‫الشخصين أو أكثر وبذلك يصبح لهذه العملية عناصر ومكونات واتجاه تسير‬
‫فيه‪ ،‬وهدف تسعى إلى تحقيقه‪ ،‬ومجال تعمل فيه ويؤثر فيها "‪.2‬‬
‫ويشير في هذا الصدد زهير احدادن* ‪":‬أن املعنى القديم الذي كانت تحمله‬
‫كلمة التصال هو الوصل والبلوغ وأما معناه العصري فهو مأخوذ من اإلنجليزية‬
‫أو الفرنسية وهما لغتان تستعمالن لفظا واحدا للدللة عليه وهي كلمة‬
‫‪ communication‬ويجب أن نشير إلى أن هذه الكلمة باللغات األجنبية تؤدي‬
‫معاني كثيرة نعبر عنها باللغة العربية بكلمات مختلفة نكتفي بذكر ثالث منها وهي‬
‫"املواصالت" و"البلوغ" و" اإلتصال"‪ ،‬وقد استعملها علماء النفس والجتماع‬
‫بكثرة وأثروا معناها ونوعوها تنويعا‪ ،‬فهم يرون بصفة إجمالية أن التصال‬
‫عملية تبادل املعاني فيها طرفان‪ :‬مرسل ومستقبل‪ ،‬والتبادل ل يتم إل إذا وقع‬
‫بين شخصين فإنهم يسمونه بالتصال الفردي الشخص ي وهو اتصال بدائي وان‬
‫وقع بين مرسل وعدد كبير من األشخاص فانهم يسمونه باإلتصال الجماعي أو‬
‫‪3‬‬
‫الجمعي أو الجماهيري ‪ ،communication de masse‬وهو اإلتصال املتطور‪.‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬جذور ابستمولوجيا اإلتصال‬

‫‪ -1‬حسن عمار مكاوي‪ ،‬ليلى حسين السيد‪ ،‬االتصال ونظرياته املعاصرة‪،‬ط‪ ،2‬مصر‪ ،‬الدار املصرية‬
‫اللبنانية‪ ،2002 ،‬ص‪.25-24‬‬
‫‪ -2‬ريحي مصطفى عليان محمد عبد الديس‪ ،‬وسائل االتصال وتكنولوجيا التعليم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫* أستاذ وباحث إعالمي جزائري‪.‬‬
‫‪ -3‬زهير احدادن‪ ،‬مدخل لعلوم اإلعالم والتصال‪ ،‬ط‪ ،1‬ديوان املطبوعات الجامعية‪ ،2002 ،‬الجزائر‪،‬ـ ص ‪9‬‬
‫‪74‬‬
‫يمتد علم التصال بجذوره في التاريخ إلى أرسطو الذي وضع أسسا علمية‬
‫لعملية التصال لم تزل قائمة حتى اآلن‪ ،‬ألن التفاعل بين (الخطيب‪-‬املرسل)‬
‫و(الجمهور‪-‬املستقبل) يقوم على أن يعد املرسل ( رسالته‪-‬خطبته) بصورة شيقة‬
‫وجذابة ومقنعة‪ ،‬حتى يمكن أن تؤثر في الجماهير بالصورة املستهدفة‪ ،‬وذلك ألن ل‬
‫قيمة لالتصال‪ -‬من وجهة نظر أرسطو‪ -‬مالم يكن مقبول ومفهوما من (الجمهور‪-‬‬
‫املستقبلين)‪.‬‬
‫وهنا يتضح محور العالقة التي أوجدها أرسطو بين املرسل والرسالة‬
‫واملستقبل‪ ،‬حيث قسم أرسطو املوقف التصالي إلى ثالث مراحل‪:‬‬

‫الخطيب‬ ‫‪‬‬
‫الخطبة‬ ‫‪‬‬
‫الجمهور‪.1‬‬ ‫‪‬‬

‫املطلب الثالث‪ :‬إشكالية النماذج من إشكالية املفاهيم‪،‬‬


‫لتيسير تصور عملية التصال وضعت في نماذج متنوعة هدفها تنظيم‬
‫وترتيب هذه العناصر مع بعضها البعض‪ ،‬باإلضافة إلى إظهار العالقة فيما‬
‫بينها‪ ،‬وتعتبر هذه النماذج تصويرا للعناصر الرئيسية التي تدخل في عملية‬
‫التصال‪.‬‬
‫غايات استخدام هذه النماذج‪:‬‬
‫‪ .1‬إنها تزودنا بصورة جزئية عن أشياء كلية‪ ،‬هذه األشياء من الصعب إدراكها‬
‫بدون (النماذج) التي هي عبارة عن خرائط تفصيلية للمعالم األساسية‬
‫لعملية التصال‪.‬‬

‫‪ -1‬عبد الرزاق محمد الدليمي‪ ،‬اإلعالم التربوي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار املسيرة للنشر والتوزيع‪ ،2001 ،‬عمان‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪75‬‬
‫‪ .2‬إعداد النماذج في شرح وتحليل العمليات التصالية املعقدة أوالصعبة‬
‫أوالغامضة بطريقة مبسطة فهي ترشد الباحث إلى النقاط الرئيسية لعملية‬
‫التصال‪.‬‬
‫‪ .3‬تساعد في عملية التنبؤ بالنتائج أو بمسار األحداث في عملية التصال وهذا‬
‫األمر يساعد في عملية وضع فرضيات البحث‪.‬‬
‫أول‪ :‬نماذج االتصال ‪Communication Models‬‬
‫حتى يومنا هذا يوجد العديد من النماذج التصالية نوضح أهمها‪:‬‬
‫‪ -1‬نموذج السويل لالتصال (‪)laswels model of communtion‬‬
‫وضعه عالم السياسة األمريكي (هارولد لسويل )عام ‪ 1948‬واستخدم‬
‫بشكل كبير في الدراسات العالمية والتصالية ‪ .‬وقد صاغ لسويل نموذجه من‬
‫خمسة أسئلة (من‪ ،‬ماذا‪ ،‬بأي واسطة‪ ،‬ملن‪ ،‬وبأي تأثير ) ويعتبر هارولد لسويل‬
‫مؤسس (الطريقة الكمية لتحليل املضمون)‪.‬‬
‫يقول لسويل‪ :‬إن الطريقة املناسبة لوصف عملية التصال‪ ،‬وذلك باإلجابة‬
‫عن األسئلة التالية‪:‬‬
‫المرسل‬ ‫ـــــــــــــ◄‬ ‫‪ -1‬من يقول ؟‬
‫الرسالة‬ ‫ـــــــــــــ◄‬ ‫‪ -2‬ماذا يقول ؟‬
‫المستقبل‬ ‫ـــــــــــــ◄‬ ‫‪ -3‬لمن يقول ؟‬
‫الوسيلة‬ ‫‪ -4‬بأي وسيلة أو قناة؟ ـــــــــــــ◄‬
‫التغذية الراجعة‬ ‫ـــــــــــــ◄‬ ‫‪ -5‬ما التأثير؟‬

‫‪76‬‬
‫نموذج السويل لالتصال‬

‫ونالحظ أن لسويل اهتم بتأثير العملية التصالية على املستقبل وذلك ألن‬
‫تركيزه انصب على دراسة وتحليل محتوى الدعاية األساسية والرأي العام في‬
‫أمريكا إل أن هذا النموذج انتقد كثيرا بسبب‪:‬‬
‫‪ -1‬يقول لسويل من البديهي أن للمرسل هدفا للتأثير على املستقبل ‪.‬ما علينا إل‬
‫النظر إلى عملية التصال على أنها عملية اقناعية أو حتى إغرائية‪.‬‬
‫‪ -2‬يفترض أن الرسائل التصالية دائما لها تأثير ‪.‬‬
‫‪ -3‬املبالغة في عملية التأثير على التصال الجماهيري بسبب اهتمامات أساسية‪.‬‬
‫ويمكن استخدام هذا النموذج وتطبيقه في تحليل الدعاية السياسية وأثرها‬
‫على الرأي العام وخاصة في تحليل الحروب النفسية وفي عملية اإلعالن التجاري‬
‫وأخبار الدبلوماسيين والجواسيس واملراسلين الصحفيين ‪..‬‬
‫‪ -4‬حذف عنصر أساس ي وهو عنصر الستجابة أو التغذية الراجعة من نموذجه‬
‫فالتصال لديه يسير في اتجاه واحد من املراسل إلى املستقبل ليحقق تأثيرا ما ‪.‬‬
‫وهذا يعكس تاريخ وضع هذا النموذج الذي يعد من أوائل النماذج ‪.‬‬
‫‪ -2‬نموذج بث اإلشارات لشانون وويفر (‪)hannon and wevermodel‬‬
‫وضعه الرياض ي شانون حين كان يعمل في شركة بل األمريكية للهاتف هو‬
‫ومساعده ويفر عام ‪ ،1949‬وأصبح النموذج األكثر تأثيرا وقد استنبط شانون‬
‫‪77‬‬
‫الصيغة الولى من بث اشارات املنظومة التقنية كتلفون التلغراف‪ ،‬ثم سرعان ما‬
‫تم تعديله لتعديل عملية التصال بين الفراد‪ ،‬فتم تبديل جهاز الرسال باملرسل‬
‫وجهاز الستقبال باملستقبل ‪ .‬وقد اضاف نموذج شانون فكرة جديدة هي فكرة‬
‫التشويش (أي الضطراب في عملية التصال)‪ ،‬ويبني شانون سير املعلومات من‬
‫املصدر إلى املستقبل وقبل أن تصل للمستقبل فان هذه املعلومات تعترضها‬
‫ظروف مختلفة مثل التحريف أو املواد الدخيلة كالبكاء أو الضحك ويطلق عليها‬
‫مصدر التشويش‪ ،‬وهي غير موجودة في أصل الرسالة‪ ،‬وهذا ما يعرقل عملية‬
‫الفهم ‪ .‬فالرسالة تتعرض إلى التشويش أثناء رحلتها من املرسل إلى املستقبل‪ ،‬وهذا‬
‫يؤدي إلى ما نسميه بعدم التيقن‪ .‬ويمكن التغلب على عدم التيقن بالتكرار‪،‬‬
‫وهناك صور لهذا التشويش تمارسها مثل الرسوم الكاركاتورية التي تظهر على‬
‫الصحف‪ ،‬واملجالت فتكون عملية الفهم مشوشة ومختلفة من مستقبل إلى آخر ‪.‬‬
‫في هذا النموذج نجد أن عملية التصال تسير في طريق واحد وقد حدد ثالث‬
‫خطوات لسيرها منوها إلى عنصر التشويش الذي يعيقها على الشكل التالي‪:‬‬

‫نموذج شانون وويفرلالتصال‬

‫الخطوة األولى في التصال هي مصدر املعلومات الذي يقوم بإنتاج رسالة‬


‫أوسلسلة رسائل اتصالية بعدها يتم تحويل الرسالة التصالية بواسطة إشارات‬
‫إلى جهات البث أو الرسال بحيث تتناسب مع طبيعة القناة إلى جهاز الستقبال‬
‫على أن تكون وظيفة الثاني على عكس األولى ألن جهاز اإلرسال يحولها إلى إشارة‬
‫الكترونية بينما الستقبال يحولها إلى رسالة اتصالية‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫لنقل الرسالة بالنهاية إلى وجهتها‪ ،‬باإلضافة إلى املشاكل التي تتعرض لها‬
‫الرسالة التصالية من تشويش‪ ،‬ويحصل ذلك عند مرور عدة إشارات عبر نفس‬
‫القناة وفي الوقت نفسه األمر الذي يؤدي إلى اختالفات بين اإلشارة املبثوثة‬
‫والواصلة إلى املستقبل أو إلى الجهة املرجوة إلى املستقبل‪...‬‬
‫إل أن هذا النموذج تم نقده بسبب عدم احتوائه على عنصر التغذية‬
‫الراجعة أو الستجابة وتسير في طريق واحد ‪ ...‬إل أن األمر اآلن تغير بتغير وسائل‬
‫التصال ‪...‬استخدم النموذج علماء املعلومات واللغة والسلوك ‪...‬‬
‫‪ -3‬نموذج الخبرة املشتركة ألوسجيد وشرام )‪(the osgeed and schramm‬‬
‫وضع النموذج عام ‪ 1959‬ويعتبر مكمال لنموذج شانون حيث قام شرام‬
‫بتعديل نموذج شانون بهدف تطبيقه بصورة أفضل من ناحية التفاهم بين‬
‫البشر وقد أدخل فكرة (التجربة املشتركة ) إلى النموذج التي تعني وحدة‬
‫املواقف واألفكار والرموز املشتركة بين املرسل واملستقبل والتي تحدد فاعلية‬
‫التصال وقد ميز شرام ثالث مراحل لتكوين مادة البث واستالمها وهي‪:‬‬
‫)‪(1‬املرسل وضع الشفرة‪ :‬أي وضع البيان بشكل علني‬
‫(‪( 2‬الرسالة ( التفسير)‪ :‬أي تحديد الشفرة املستخدمة‬
‫(‪ )3‬املستقبل (فك الرموز)‪ :‬أي قراءة الفكار‪.‬‬
‫كما يبين النموذج تماثال أو تساويا بين سلوك املرسل واملستقبل من خالل‬
‫عملية التصال ويعتمد كل من شرام وأوسجيد على دراسة سلوك املرسل‬
‫واملستقبل في تفسير عملية التصال كما يلي‪:‬‬

‫‪79‬‬
‫نموذج شرام لالتصال‬

‫‪ ‬حيث يقوم املرسل بتحويل األفكار إلى رموز ويصوغها في رسالة ويحولها "قد‬
‫تكون الرسالة مكتوبة – ناطقة – إشارة إيمائية (اليد – العين )"‪.‬‬
‫‪ ‬والرسالة لديه عبارة عن رمز واحد أو مجموعة من الرموز وقد تكون كلمة‬
‫إذاعية أو تلفزيونية أو مقالة أو جريدة أو رسالة شخصية ما أو مسألة أو سؤال‬
‫صحفي أو حتى شيفرة عسكرية‪ ،‬إشارة خط شكل كتاب‪ .‬أما املستقبل الذي‬
‫يستقبل الرسالة ويحولها إلى رمز ويفسرها حتى يفهم معناها‪.‬‬
‫‪ ‬أما عملية التصال هنا تتم‪ :‬فكرة ما توجد في ذهن املؤلف (املرسل) يريد أن‬
‫يوصلها إلى املستقبل أو حتى يشاركه فيها فيقوم بتحويلها إلى رمز على شكل‬
‫كلمات منطوقة أو مكتوبة أو إشارات يضعها في رسالة للمستقبل الذي‬
‫يستقبلها فيحولها أيضا إلى رموز أو حتى يقوم بترجمتها ويفسرها ليفهم‬
‫معناها‪.‬‬
‫وبناء على فهم املستقبل للرسالة يرد على املرسل على الشكل التالي‪:‬‬
‫يضع املستقبل فكرته أو مشاعره في رموز فيضع رسالة جديدة يرسلها‬
‫للمرسل األصلي (املستقبل الجديد) الذي بدوره يحولها إلى رموز بعد تفسيرها‬
‫أو ترجمتها ليتمكن أيضا من فهمها‪...‬‬

‫‪80‬‬
‫مما تقدم نرى أن نموذج اوسجيد وشرام يقوم املرسل واملستقبل‪:‬‬
‫الوظائف التصالية بنفسها في بداية العملية التصالية ونهايتها‪ .‬وكل من املرسل‬
‫واملستقبل يتبادلن األدوار ‪.‬‬
‫يمكننا تجسيد عملية التصال باستخدام النماذج التي تصور كيفية‬
‫حدوث هذه العملية‪ .‬والنموذج عبارة عن شكل مبسط لعملية التصال يعرض‬
‫على هيئة رسم يبين عناصر التصال وتسلسلها والعالقة بينها‪ .‬ولعل أهم فائدة‬
‫لنماذج التصال أنها تصور العملية التصالية بطريقة مرتبة ومنتظمة توضح‬
‫أبعاد التصال وتسلسله‪.‬‬
‫وفي هذا اإلطار سنجد أن الباحثين قد طوروا ثالثة نماذج رئيسة هي على‬
‫النحو اآلتي‪:‬‬
‫أ) النموذج الخطي أو أحادي االتجاه ‪: Linear Model‬‬
‫قبل قرابة ستين عاما‪ ،‬نظر الباحثون إلى التصال على أنه فعل يقوم به‬
‫شخص لشخص آخر‪ .‬وبهذا يشبه التصال إعطاء حقنة في الجسد‪ :‬حيث يقوم‬
‫املرسل بوضع أفكاره ومشاعره في رسالة‪ ،‬ثم يحقنها من خالل وسيلة معينة‬
‫(حديث‪ ،‬رسم‪ ،‬كتابة ‪ ...‬إلخ) إلى مستقبل يحاول تفسير رموزها بطريقة تشبه‬
‫ما أراده املرسل‪ .‬وإذا ما قدر للرسالة أن تمض ي من غير (تشويش) في خط واحد‬
‫مستقيم فإنه قد كتب لها النجاح‪.‬‬

‫القناة‬
‫المستقبل‬ ‫المرسل‬
‫الوسيلة‬ ‫الوسيلة‬
‫‪81‬‬
‫الترميز‬

‫التشويش‬ ‫التشويش‬ ‫التشويش‬

‫قد يبدو هذا النموذج يسيرا‪ ،‬ولكنه البداية لفهم عملية التصال‪ .‬ويمكننا‬
‫رؤية هذا النموذج من خالل الشكل التالي‪ :‬الشكل ‪ 2‬نموذج االتصال أحادي‬
‫االتجاه‬
‫‪ ‬املصدر بتصرف يسير ‪Ronald B. and Lawrence B. ،Adler ) :‬‬
‫‪Rosenfeld and Neil Towne. Interplay: the Process of Interpersonal‬‬
‫‪Communication. Sixth Edition. Harcourt Brace (College Publishers.‬‬
‫‪. P. 9. ،1995‬‬
‫حينما يبدأ التصال‪ ،‬يختار املتصل رموزا معينة (لغة كالمية مثل عبارة‬
‫السالم عليكم‪ ،‬أو لغة غير كالمية مثل اإلشارة باليد للتحية‪ ،‬وقد يكون بهما‬
‫جميعا‪ ،‬إضافة إلى ابتسامة من الوجه)‪ .‬هذه الرموز تمثل الرسالة التي ترسل‬
‫للمستقبل الذي عليه أن يفك رموز الرسالة (يحللها ويفهمها) ليتحقق التصال‪.‬‬
‫لحظ أن هناك تشويشا قد يدخل على العملية التصالية‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫نظرية االتصال الشخص ي (انتقال املعلومات على مرحلتين)‪:‬‬
‫لقد ساهمت نتائج انتخابات الرئاسة األمريكية لعام ‪ 1940‬بين "ويندل‬
‫ويكلي" املرشح الجمهوري‪ ،‬والرئيس "فرانكلين د‪.‬روزفلت" املرشح الديمقراطي‪،‬‬
‫التي أسفرت عن نجاح الرئيس "روزفلت" في انتخابات الرئاسة للمرة الثانية رغم‬
‫معارضة الصحافة له‪ .‬ساهمت نتائج هذه النتخابات في استثارة التساؤلت‬
‫حول العتقاد بقوة تأثير وسائل اإلعالم وانفرادها في هذا املجال والبحث عن‬
‫العوامل التي أدت إلى هذه النتائج رغم ما كان يعتقد حينئذ حول أسطورة تأثير‬
‫وسائل اإلعالم‪ .‬ومن جهة أخرى أجري العديد من الدراسات حول التأثير‬
‫النتخابي كان بدايتها دراسة "لزرسفيلد‪ ،‬وبيرلسون‪ ،‬وجوديث" املنشورة عام‬
‫‪ 1944‬بعنوان "اختيار الشعب"‪ .‬وكان الهدف من الدراسة التعرف على الطرق‬
‫التي تؤثر في تكوين الرأي العام وتغيره والتعرف على دور وسائل التصال‬
‫الجماهيري في هذا املجال‪ ،‬وقد أجريت الدراسة في منطقة (ايري كاونتي) بولية‬
‫"أوهايو"‪،‬وكان موضوع الدراسة هو تحليل خطب الحملة الرئيسة‪ ،‬وغيرها من‬
‫الرسائل السياسية التي قدمتها الصحف واملجالت‪ ،‬حيث قام الباحثون بمتابعة‬
‫آراء عينة من السكان على فترات قبيل الحملة النتخابية وأثناء ها وقد خرج‬
‫الباحثون بالنتائج التالية‪:‬‬
‫إن عملية تكوين الرأي النتخابي ليست عملية فردية‪ ،‬ولكنها عملية‬ ‫‪.1‬‬
‫جماعية‪ ،‬وتفسير ذلك أن الناس يعيشون أوضاعا اجتماعية متقاربة‪،‬‬
‫تجمعهم عادة مصالح ومشاعر واحتياجات مشتركة‪ ،‬وينعكس ذلك على‬
‫اتجاهاتهم وآراؤهم‪ ،‬ومنها آرائهم السياسية فيما يتعلق بالشخص أو الحزب‬
‫الذي يؤيدونه في النتخابات‪.‬‬
‫لحظ الباحثون أن أفراد العينة كانوا يشاركون الجماعات التي‬ ‫‪.2‬‬
‫ينتمون إليها في املناقشات والحوار‪ ،‬وأن التصال الشخص ي كان العامل‬
‫املؤثر في تكوين رأي الناخبين وليس وسائل اإلعالم كما كان معتقدا‪.‬‬
‫كشفت الدراسة عن وجود أفراد داخل كل جماعة يتميزون عن‬ ‫‪.3‬‬
‫سواهم بكونهم أكثر اتصال بوسائل التصال الجماهيرية من صحف‬
‫‪83‬‬
‫ومجالت وإذاعة وأنهم احرص من غيرهم على متابعتها ونقل مضمونها إلى‬
‫باقي أفراد الجماعة التي ينتمون إليها‪ ،‬وأطلق على هؤلء األفراد "قادة الرأي"‪.‬‬
‫تبين من الدراسة أن غالبية أفراد العينة ل يحصلون على معلوماتهم‬ ‫‪.4‬‬
‫من وسائل اإلعالم مباشرة‪ ،‬وإنما يحصلون عليها من خالل اتصالهم املباشر‬
‫بقادة الرأي في الجماعات التي ينتمون إليها‪.‬‬
‫وكانت النتيجة النهائية التي خلص إليها الباحثون‪ ،‬هي أن التصال‬
‫الشخص ي يلعب دورا مهما في تكوين الرأي العام وتوجيهه بجانب وسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬وان قادة الرأي يمثلون عنصرا مهما في عملية التصال الشخص ي‪،‬‬
‫ويلعبون دور الوسيط‪ .‬وأطلقوا على عملية سريان املعلومات من وسائل اإلعالم‬
‫إلى الجماهير عبر قادة الرأي اسم (تدفق التصال على مرحلتين)‪.‬‬
‫وفي عام ‪ 1955‬قدم عاملا العلوم السياسية (الياهو كاتز)‪ ،‬و"بول لزار سفيلد"‬
‫مفهوما عن تدفق التصال على مرحلتين في كتابهما "التأثير الشخص ي"‪ ،‬وقد بنيا‬
‫النموذج على بحث سابق وجدا فيه أن املعلومات املقدمة من الوسائل الجماهيرية ل‬
‫تصل كما ينبغي‪ ،‬ول يكون لها اثر على املستقبلين كما تزعم وجهات النظر الساهية‬
‫عن التصال‪.‬‬
‫فقد قام الباحثان في كتابهما "التأثير الشخص ي" بدراسة شملت ‪ 800‬امرأة‬
‫من سكان مدينة "ديكيتور" بولية "باينوى" األمريكية‪ ،‬واستهدفت الدراسة‬
‫التعرف على التأثير النسبي لكل من التصال الشخص ي‪ ،‬والتصال عبر وسائل‬
‫اإلعالم على القرارات التي يتخذها أفراد العينة في موضوعات خاصة شملت‪:‬‬
‫التسويق‪ ،‬واألزياء‪ ،‬والشؤون العامة‪ ،‬واختيار األفالم السينمائية‪ ،‬وشملت‬
‫الدراسة كذلك بحث الفروق الجوهرية التي يتميز بها قادة الرأي في املجالت‬
‫األربعة موضوع البحث من غيرهم‪ .‬وأشارت النتائج إلى تدعيم الدراسات‬
‫السابقة بالنسبة ألهمية دور التصال الشخص ي في تكوين الرأي العام‪ ،‬وكذلك‬
‫بالنسبة لعملية سريان التصال على مرحلتين‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫لقد أفرزت نظرية التأثير على مرحلتين‪ ،‬وما دار حولها من دراسات‪ ،‬تغيرات‬
‫أساسية حيث طرحت تصورا جديدا لعالقة الفرد بوسائل اإلعالم‪ .‬إل أنها انساقت‬
‫بقدر كبير وراء تأثير العالقات الجتماعية في الفرد‪ ،‬مقابل تقويم دور وسائل اإلعالم‬
‫والعوامل الخارجية األخرى التي قد يالحظ وجودها عند التأثير‪ ،‬إلى حد أن هذه‬
‫األبحاث وقعت في إفراط معاكس لذلك الذي سبق نشر تلك األحداث‪ .‬أما محمد عبد‬
‫الحميد فيقول‪" :‬أيا كان النقد املوجه إلى بناء الفرض النظري لها‪ ،‬فإنها بداية قد اثبت‬
‫أن الفرد في جمهور وسائل اإلعالم‪ ،‬ليس فردا منعزل‪ ،‬ولكنه ينتمي بشكل أو بآخر إلى‬
‫شبكة من العالقات الجتماعية التي تؤثر في سلوكه التصالي مع وسائل اإلعالم وقراره‬
‫الذي يعكس تأثيره بمحتوى اإلعالم من عدمه‪ .‬وبالتالي اثبت عدم فاعلية الفرض‬
‫الخاص بالتأثير املباشر لوسائل اإلعالم ونظريات الطلقة السحرية أو الحقنة تحت‬
‫الجلد التي كانت سائدة وقتئذ"‪.‬‬
‫وفيما يلي نموذج يوضح هذه النظرية‪.‬‬
‫نموذج نظرية تدفق املعلومات على مرحلتين‬

‫وسائل اإلعالم‬

‫‪:‬قادة الرأي‪.‬‬
‫‪:‬األفراد في اتصال اجتماعي مع قادة الرأي‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫ثانيا‪ :‬النماذج النسقية لإلتصال‬
‫مفهوم النظرية السيسيومترية ‪ :‬القياس االجتماعي‬
‫القياس الجتماعي لغويا هو ترجمة للفظة النكليزية ‪ sociometry‬التي‬
‫تتألف من شقين؛ األول‪ ، socio‬ويعني اجتماعي‪ ،‬والثاني‪ ، metry‬ويعني قياس‪،‬‬
‫أما اصطالحا فيقصد به تلك الطريقة املنهجية املستخدمة لتقدير العالقات‬
‫الجتماعية كميا‪ ،‬وقياس نوعيتها من حيث مدى الجذب والرفض‪ ،‬أو النفور‬
‫بين األفراد داخل الجماعات الصغيرة والكبيرة‪.‬‬
‫فالقياس الجتماعي نظرية خاصة بالعالقات الجتماعية‪ ،‬أو موضوع من‬
‫موضوعات العلوم الجتماعية الجديدة‪ ،‬أو منهج في البحث الجتماعي‪ ،‬أو هو‬
‫كل ما ذكر في آن معا‪ ،‬أي نظرية وموضوعا ومنهجا وطريقة وأداة من أدوات‬
‫جمع البيانات‪.‬‬
‫ويعود الفضل في التأسيس للقياس الجتماعي أو «السوسيومترية» وتطويره إلى‬
‫عالم النفس املعروف ‪Jacob L.Moreno.‬‬
‫التعريف بصاحب النظرية‪:‬‬
‫‪ ‬ينسب "القياس الجتماعي" إلى املؤلف مورينو (‪( J.LMORENO 1974 -1892‬‬
‫وهو طبيب األمراض العقلية وعالم اجتماع ذو أصل نمساوي‪ ،‬أمريكي الجنسية‬
‫بحيث استقر بالوليات األمريكية منذ ‪.1925‬‬
‫‪ ‬اشتهر هذا العالم بتكريسه مجهودا معتبرا لعالج "املهم شين" من نساء وأطفال‬
‫ولجئين وتقديمه لهم اإلعانة الجتماعية واملادية التي هم بحاجة إليها‪ .‬أحسن‬
‫دليل لذلك الجهد‪ ،‬تجسد في عنوان كتابه الذي نشره في سنة ‪ 1934‬تحت‬
‫عنوان ? ‪ who shall survive‬والذي ترجم بـ"دعائم القياس الجتماعي" كما نشر‬
‫بعده كتابا آخر يعد مكمال ملؤلفه األول بعنوان "العالج النفس ي الجماعي‪."1‬‬

‫‪1‬‬
‫‪- JL MORENO. Les fondements de la Sociométrie. Paris. PUF. 1964 Psychothérapie et Psychodrame. Paris. PUF.‬‬
‫‪1965‬‬
‫‪86‬‬
‫أهم املفاهيم التي جاءت بها هذه النظرية‪:‬‬
‫‪ ‬مفهوم النواة االجتماعية‪Le concept d’atome social :‬‬
‫يعرف مورينو النواة الجتماعية بأنها أصغر وحدة لقياس العالقات‬
‫الجتماعي‪ ..‬فهي تمثل العالقات التي ينسجها كل فرد مع اآلخرين‪ .‬كما يحدد‬
‫املؤلف لكل عالقة اتجاهين‪:‬‬
‫‪ ‬اإلحساسات والشعور بالجذب‪Sentiment d’attraction‬‬
‫‪ ‬البغض أو اإلحساس بالنفور‪sentiment de répulsion‬‬
‫‪ ‬توجه هذه املشاعر سلوك اإلنسان الذي يحولها إلى اختيار فرد أو بعض‬
‫األفراد‪ ،‬ورفضه إقامة عالقات مع آخرين من محيطه القريب‪.‬‬
‫‪ ‬يكون اإلنسان بدوره محل اختيار أو رفض من طرف زمالئه وتشكل هذه‬
‫الوضعية التجاه الثاني للنواة الجتماعية‪.‬‬
‫من خالل تعريفه ملفهوم العالقة الجتماعية في قالب نفس ي يحدد مرينو‬
‫مسألة املكانة الجتماعية‪:‬‬
‫‪ - Le statut social de l’individu au sein d’un groupe‬التي يحتلها كل‬ ‫‪‬‬
‫فرد داخل مجموعة ما‪ .‬تسهل حين أدى مسألة القياس الجتماعي الذي‬
‫يكون حينه قياس للمكانة الجتماعية التي يتمتع بها كل فرد وسط مجموعة‬
‫ما من خالل ما تقبله من اختيارات ورفض من جهة وما أقامه من‬
‫اختيارات‪ ،‬لآلخرين من جهة أخرى‪.‬‬
‫مفهوم املجموعة في القياس االجتماعي عند مورينو‬ ‫‪‬‬

‫يطبق القياس الجتماعي على أفراد متواجدين داخل مجموعة محددة‪ .‬يولي‬ ‫‪‬‬
‫مورينو للمجموعة أهمية لسبب أن الفرد يتحصل على مكانة اجتماعية‬
‫محددة بفضل تواجده داخل مجموعة‪ .‬فهي تشارك بقسط معتبر في إدماج‬

‫‪87‬‬
‫األفراد ضمنها أو عزلهم وبالتالي تؤثر على تحديد املكانة الجتماعية‬
‫ألعضائها‪.‬‬
‫تتشكل املجموعة من هيئتين‪Instances :‬‬
‫بنية شكلية ‪ Structure formelle du groupe‬تشمل األفراد وطبيعة‬ ‫‪‬‬
‫العالقات الرسمية التي من املفروض أن تربطهم‪ .‬يصف املؤلف هذه البنية‬
‫بأنها شعور املجموعة‪conscience du groupe. .‬‬
‫قاعدة اجتماعية حقيقة ‪ Base sociale informelle‬مشكلة من واقع‬ ‫‪‬‬
‫العالقات املوجودة بين األفراد التي عادة ما تختلف عما هو منتظر منهم‬
‫رسميا‪ .‬تمثل هذه البنية ل شعور املجموعة بالنسبة للمؤلف ‪Inconscient‬‬
‫‪du groupe.‬نالحظ أن هذا التصور ل يبتعد عن تعريف مايو حين أبرز‬
‫وجود تنظيم غير رسمي داخل املجموعات أثر تجربة‬
‫هاوثورن ‪ L’organisation informelle du groupe.‬يعتقد املؤلف أن كل‬
‫مجموعة تتميز بحيوية‪ ،‬وتنقسم املجموعات إلى مجموعات منسجمة‬
‫ومجموعات "مريضة" في حاجة إلى النسجام‪ .‬توفير النسجام للمجموعة‬
‫يأتي بفضل عالجها وهو الغاية الرئيسة للقياس الجتماعي‪.‬‬
‫بعد تحديده ملفهوم العالقات الجتماعية بصفة إجرائية يتصور مورينو‬
‫الوصول إلى العالج النفس ي الجتماعي للمجموعات واألفراد من خالل مرحلتين‪:‬‬
‫إيجاد أداة تسمح إجراء القياس الجتماعي بغية تشخيص حالة املجموعة‬
‫والنتقال بعد ذلك إلى عالجها إن كانت في حاجة لذلك‪ .‬األداة التي أوجدها‬
‫مورينو تعرف بتسمية رائز القياس الجتماعي‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫النموذج الذي جاءت به لتفسيرالعالقات والتواصل بين األفراد ‪:‬‬ ‫‪‬‬

‫بعد عرضنا للنموذج الذي درس فرقة الطيارين األمريكيين هذا النموذج‬
‫بصفة عامة الذي يبين أهم العناصر املكونة للمجموعات حسب النظرية‬
‫السيسيو مترية وهذه العناصر هي‪:‬‬
‫‪ .1‬الفرد الهامش ي‪.‬‬
‫‪ .2‬الفرد النعزالي‪.‬‬
‫‪ .3‬الفرد املرفوض‪.‬‬
‫‪ .4‬القائد السيسيومتري‪.‬‬
‫‪ .5‬الرابط وهو الشخص الذي له عالقة مع املجموعتين‪.‬‬
‫‪ ‬النموذج التبادلي (أوثنائي االتجاه) )‪( Interactive { ual} Model‬‬
‫النموذج ذو التجاه الواحد لتفسير عملية التصال ل يعكس العملية‬
‫التصالية بدقة‪ .‬فمن ناحية ل يمكن القول بأن التصال يسير في اتجاه واحد‬
‫(من املرسل إلى املستقبل)؛ إذ يسهل علينا أن نرى أن معظم حالت التصال ‪-‬‬
‫خاصة في التصال بين شخصين أو مجموعة صغيرة من الناس‪ -‬تسير في‬
‫اتجاهين‪ .‬لقد كان النموذج السابق (ذو التجاه الواحد) يتجاهل رجع الصدى‬
‫وردة الفعل من املستقبل تجاه ما يستقبله من رسائل‪ ،‬ثم يقوم بإرسال رسائل‪،‬‬

‫‪89‬‬
‫وهكذا يتحول من مستقبل إلى مرسل ثم إلى مستقبل في وقت قصير جدا‪ ،‬بل‬
‫حتى في الوقت نفسه‪ .‬يمكن لنا أن نتصور كيف يتفاعل شخص مع خبر عن‬
‫زواج أحد أصدقائه‪ ،‬حيث يتفاعل املستقبل مع الخبر‪ ،‬وتظهر أسارير الفرح‬
‫على وجهه حتى قبل إتمام الخبر‪ ،‬ثم يرسل رسالة كالمية مستفسرا عن وقت‬
‫الزواج‪ ،‬فيأتيه الجواب سريعا أنه كان ليلة البارحة‪ ،‬فيتحول الفرح إلى نوع من‬
‫العتاب على عدم معرفته‪ ،‬وهكذا تتداخل الرسائل‪ ،‬ويصبح كل من الطرفين‬
‫مرسال ومستقبال في آن واحد‪ .‬بل حتى خالل استقبال الرسالة يقوم كل منا‬
‫بتفسير الرسالة والتفكير بشأنها‪ ،‬وهذا ما يفسر اختالف التفسيرات للرسالة‬
‫الواحدة بين الناس‪.‬‬

‫الرسالة‬

‫السلوك‬ ‫السلوك‬
‫الشخص أ‬ ‫األصلي‬ ‫األصلي‬
‫الشخص أ‬

‫الرسالة‬

‫شكل ‪ 3‬نموذج االتصال التبادلي (في اتجاهين)‬


‫‪90‬‬
‫في هذا النموذج يقوم كل من الطرفين (الشخص أ والشخص ب) بإرسال‬
‫واستقبال الرسائل في الوقت نفسه‪ .‬وفي كال الحالين نجد أن التشويش‬
‫يصاحب مرحلة إرسال الرسائل واستقبالها ما يؤثر على كفاءة التصال‬
‫وفعاليته‪.‬‬
‫ج) نموذج االتصال التفاعلي )‪: (Interactive Model‬‬
‫نظرا ألن عملية التصال معقدة‪ ،‬فإن كال من النموذجين السابقين (ذي‬
‫يقصر عن التفسير الكامل لهذه العملية‪.‬‬ ‫التجاه الواحد وذي التجاهين) ُ‬
‫فالتصال يعتمد على البيئة التي يتم فيها سواء أكانت بيئة مادية أو اجتماعية‬
‫أو ثقافية‪ .‬كما أنه يعتمد على العوامل النفسية والذاتية لكل من طرفي‬
‫التصال‪.‬‬
‫ويحاول نموذج التصال التفاعلي أن يشمل كافة عناصر التصال الفاعلة‬
‫كبيئة التصال‪ ،‬ورجع الصدى‪ ،‬وما جاء بعده من سلوك وتصرفات‪ .‬وهذه طبيعة‬
‫العالقات الجتماعية‪ ،‬حيث إنها ل تنتهي‪ ،‬بل ينبني بعضها على بعض‪ ،‬فمدح أبيك‬
‫لك على عمل قمت به هو نتاج أمور أخرى قمت بها سابقا‪ ،‬وقد يكون العكس‬
‫صحيحا‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫الطبيعة التفاعلية لالتصال تشرح لنا طبيعة التأثير املتبادل الذي يحدث‬
‫عندما نتفاعل مع بعضنا البعض‪ ،‬ألن التصال ليس ما يفعله شخص لشخص‬
‫ولكنه ما يفعله شخص مع شخص‪ ،‬فالتصال يعتمد على العالقة مع الطرف‬
‫اآلخر‪ ،‬وكلما كان الطرف اآلخر أكثر مهارة في التصال‪ ،‬كانت فرص النجاح فيه‬
‫أكبر‪.‬‬
‫ويشرح النموذج التالي هذه الطبيعة التفاعلية لالتصال التي تشمل‬
‫التبادل بين طرفي التصال والبيئة التصالية ‪.‬‬

‫‪91‬‬
‫املبحث الثالث‪ :‬ابستمولوجيا علوم اإلعالم واالتصال‬
‫املطلب األول‪ :‬ماهية علوم اإلعالم واالتصال‬
‫فيما يخص الباحثين الذين تطرقوا إلى اإلشكال اإلبستمولوجي في علوم‬
‫اإلعالم والتصال تطرق ايبار فوندان ‪ Hubert fondin‬في مقال له حول علوم‬
‫اإلعالم القطيعة اإلبستمولوجية‪ ،‬وخصوصية املوضوع بحيث أشار إلى أن‬
‫الباحثين في علم اإلعالم لم يفهموا حقلهم البحثي‪ ،‬مقارنة بباحثين في‬
‫تخصصات مجاورة‪ ،‬أو مع الباحثين في تخصص علم التصال وبالتالي كيف‬
‫نفكر إليجاد هذا الحل والبعد املعرفي لإلطار النظري للموضوع‪ ،‬وهذا من أجل‬
‫التحقق من اإلشكال املطروح وإيجاد األدوات البحثية ملنهج دراسة هذا‬
‫املوضوع‪ .1‬فهذا التهافت والتضارب في تحديد هوية وخصوصية موضوع اإلعالم‬
‫والتصال جعل من الباحثين دمج مفهوم اإلعالم في ظاهرة اإلتصال وأصبحت‬
‫عالقة التصال باإلعالم هي عالقة احتوائية ومن خالل هذا الطرح ارتأينا أن‬
‫نقف عند التعريف للمفهومين لغويا واصطالحا‪.‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-Hubert fondin ،La science de l’information: posture épistémologique et spécificité disciplinaire ،‬‬
‫‪documentaliste ،science de l’information ،2001 ،vol.38 ،n°2 ،p112.‬‬

‫‪92‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬مسألة بحوث اإلعالم واالتصال‬
‫شهدت العقود الخمسة املاضية جدل واسع النطاق حول أهمية بحوث‬
‫اإلعالم والتصال‪ ،‬وامتد هذا الجدل ليشمل كل األعمال والوسائل واألساليب‬
‫اإلعالمية والتصالية محليا ودوليا‪ ،‬وما يمكن أن تؤديه األبحاث التصالية من‬
‫دور متميز في ترشيد السياسات اإلعالمية التي تنطوي عليها هذه الوظائف‬
‫والوسائل واألساليب‪ ،‬وتطوير طرائق وأساليب املمارسات اإلعالمية املختلفة‪،‬‬
‫هذا الجدل الذي جرى تمخض عن اكتشاف العديد من املتغيرات الناظمة‬
‫لبحوث اإلعالم من حيث أهميتها وأهدافها ومجالتها ودورها الوطني واإلقليمي‬
‫والدولي‪ ،‬ومناهجها واملشكالت التطبيقية التي تواجهها وتقل من إمكانية‬
‫الستفادة منها‪.‬‬
‫املالحظ بالنسبة للمفكر الفرنس ي ريجيس دوبري ‪ Regis Debry‬بأن‬
‫املعاناة اإلنسانية القديمة قد فقدت صوتا ضروريا وحتميا‪ ،‬إن من األهمية‬
‫بمكان أن املؤسسة في كل عملياتها اإلرسالية‪ ،‬أو باألحرى كي تبقى الذاكرة‬
‫مكتوبة لبد من وسيط بين النص الراهن والقراء املعنيين أو املستهدفين‪ ،‬تبقى‬
‫املؤسسة التحريرية بتقنياتها الكالسيكية في النتقاء وهيراركية أو تسلسل‬
‫املعلومة‪.1‬‬
‫كما أنه إذا حاولنا أن نفهم ماتنشره وسائل العالم دون إغفال عملية‬
‫التصال وكيف يؤثر مضمون وسائل اإلعالم على الرأي العام‪ ،‬أي أننا ل بد وأن‬
‫ندرك األثر الكبير الذي تحدثه هذه الوسائل على اتجاهات الرأي العام‪،‬‬
‫وميولته ورغباته‪ ،‬كما أدلى بعض الباحثين في الشؤون اإلعالمية والتصالية‬
‫أنه من الصعب جدا وضع حدود واضحة تحدد األبحاث اإلعالمية وتفصلها عن‬
‫غيرها من األبحاث اإلنسانية‪ ،‬إن الباحث ل يدرس وسائل التصال فقط‪ ،‬بل‬
‫يدرس العملية التصالية برمتها‪ ،‬وهذا مايجرنا للحديث عن عالقة التصال‬
‫‪1‬‬
‫‪-Regis Debry ،introduction a la médiologie ،1ere edition ،presse universitaire de France ،2000.p8‬‬ ‫‪.‬‬
‫‪93‬‬
‫بالعلوم اإلنسانية وعلى رأسها علم النفس العام‪ ،‬علم النفس الجتماعي‪،‬‬
‫القتصاد‪ ،‬األنتروبولوجيا‪ ،‬القانون‪ ،‬الجتماع‪ ،‬السياسة‪.‬‬
‫كما أنه ما خلص به الباحث واملفكر في اإلعالم والتصال ولبرشرام أنه‪:‬‬
‫"من الصعوبة أن يمكن التفريق ما بين أبحاث اإلعالم وأبحاث التصال‪،‬‬
‫فاملصطلحان يلتقيان في املضمون ويختلفان في الشكل واللفظ وأي محاولة‬
‫للتفريق بينهما ستزيد األمور تعقيدا"‪.1‬‬
‫كما فسر برنارد مياج ‪ Bernard Miege‬في كتابه اإلعالم والتصال‬
‫كموضوع معرفة بأن مسألة وسائل اإلعالم تتطلب من جميع الباحثين‬
‫واملتخصصين في التصال بأن يعتبروا وسائل اإلعالم وتكنولوجيات اإلعالم‬
‫والتصال هي في قلب أسئلة التحليل والقتراحات النظرية لدراسة املجتمعات‬
‫املعاصرة في بنائها الجتماعي ومستقبلها القتصادي‪ ،‬وخاصة في التنمية‬
‫السوسيو ثقافية‪ .‬وبالتالي ربط الظاهرة اإلعالمية بالتطور التقاني كما صرح به‬
‫عالم التصال الكندي مارشال ماكلوهان‪Mc 2Luhan.‬‬
‫كما يطرح املفكران الفرنسيان أرمان‪ ،‬وميشال ماتالر ‪Armand et Michèle‬‬
‫‪ mattelart‬في كتاب " التفكير في وسائل اإلعالم" بأن موضوع اإلعالم والتصال‬
‫غامض ابستمولوجيا بحيث هذا املوضوع ينس ى بيئة انتاجه التاريخية والقتصادية‬
‫واللسانية وخاصة انتاجه الفكري‪.3‬‬

‫‪1‬‬
‫‪-Bernard Miege ،L’information communication –objet de connaissance- ،1ere ed ،imprmer en Belgique ،p-‬‬
‫‪50--51‬‬
‫‪2‬‬
‫‪- Armand et michèle mattelart ،penser les médias ،édiion la découvertes ،paris ،1986 ،p58.‬‬
‫‪ -3‬محمد سيد محمد‪ ،‬صحافة سلطة رابعة كيف؟‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الشعب للنشروالتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬مصر‪،‬‬
‫‪ ،1989‬ص‪.20‬‬

‫‪94‬‬
‫املبحث الرابع‪ :‬الدعامة الفلسفية لنظريات اإلعالم واالتصال‬
‫املطلب األول‪ :‬النظرية الليبرالية‬
‫إذا تناولنا دعائم النظرية الليبرالية بش يء قليل من التفصيل‪ ،‬فإننا نجد‬
‫أن الدعامة الفلسفية لها تقوم عل رصيد هائل من كتابات الفالسفة واملفكرين‬
‫الذين شغلتهم قضية الحرية والذين كان لكتاباتهم في القرنين السابع عشر‬
‫والثامن عشر أثر على فكر الثورة الفرنسية‪ ،‬وألن الفكر الفلسفي ل يقف‬
‫عقيما في حياة جارية‪ ،‬فقد تطورت أفكار الحرية عند فالسفة القرنين التاسع‬
‫عشر والعشرين بما يواكب تطور املجتمعات القائمة على فلسفة الحرية‬
‫الرأسمالية وبروز الحتكارات العاملية‪.‬‬
‫ومجمل ماذهب إليه فالسفة الحرية في القرنين السابع عشر والثامن‬
‫عشر‪ ،‬يرتكز على النظر إلى العالم كآلة ضخمة ذات حركة مستمرة‪ ،‬وهذه اآللة‬
‫تسير وفقا لقوانين الطبيعة (‪ )...‬ومن هذا األساس الفكري والفلسفي نتبين‬
‫بوضوح الدعامة الفلسفية للنظرية الليبرالية لإلعالم‪ ،‬فوفقا للنظرية الليبرالية‬
‫ينبغي أن تكون للصحافة قاعدة كبيرة من الحرية كي تساعد الناس في بحههم‬
‫عن الحقيقة‪ ،‬ولكي يصل اإلنسان إلى الحقيقة عن طريق العقل ينبغي أن تتاح‬
‫له حرية الوصول إلى املعلومات واألفكار وهو يستطيع أن يميز فيما تقدمه له‬
‫الصحافة بين الحقيقي والزائف باستخدام عقله‪.)18(1‬‬
‫وفي القرن العشرين أصبح املفهوم الفلسفي للحرية في املجتمع الليبرالي‬
‫يتضمن مسئولية وسائل اإلعالم اتجاه املجتمع‪ ،‬وظهرت نظرية املسؤولية‬
‫الجتماعية التي أكدت فرضية بأن اإلعالم له دور اجتماعي بالدرجة األولى‪،‬‬
‫وأصبح املفكرون يوجهون النقد املباشر والعنيف لصحف اإلثارة التي تسعى في‬
‫نشر الفضائح والجنس والجريمة(‪.)...‬‬

‫‪ -1‬محمد سيد محمد‪ ،‬صحافة سلطة رابعة كيف؟‪،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.29‬‬

‫‪95‬‬
‫املطلب الثاني‪ :‬النظرية الشمولية‬
‫يرى كثير من الباحثين أن أفالطون في جمهوريته قد وضع األساس‬
‫الفلسفي لنظم الحكم الشمولية‪ ،‬وأنه جعل الدولة هي املصلحة العليا‬
‫ومصلحة الفرد دونها ‪ .‬وأنه صرف جل اهتمامه إلى الدولة وجعل كل القوى‬
‫مسخرة في سبيلها‪ ،‬وهو في سبيل ذلك لم يجد ضميرا في التضحية بمصلحة‬
‫الفرد من أجل مصلحة الدولة‪.‬‬
‫ثم يجيء بعده هيجل املثالي ثم يعقبه كارل ماركس الفيلسوف املادي‪،‬‬
‫ولكن النظرية الشمولية في إطارها الفلسفي املعاصر تعتمد على الفلسفة‬
‫املادية في البلدان الشيوعية بصفة عامة‪ ،‬ولشك أن الفلسفة املادية تعني عند‬
‫أصحابها أيديلوجية شاملة وليست كما يتهمها مخالفوها بأنها تعني مفهوم‬
‫الستمتاع الحس ي‪.‬‬
‫املطلب الثالث‪:‬النظرية املختلطة‬
‫العالقة بين الفرد واملجتمع كانت ومازالت الشغل الشاغل لإلنسان منذ‬
‫عصوره القديمة حتي اليوم‪ ،‬وعندما ظهرت بلدان العالم الثالث للوجود‬
‫السياس ي والدولي في القرن العشرين كمجتمعات مستقلة ونامية‪ ،‬كان أهم ما‬
‫طرأ على فلسفة وتطبيق العالقة بين الفرد واملجتمع خالل أحقاب طوية من‬
‫التاريخ‪ ،‬هو العتراف بدور الدولة وتدخلها حتى في املجتمعات الليبرالية‪ ،‬ثم‬
‫التقارب والترابط بين الشعوب نتيجة لنمو وسائل التصال عامليا(‪ ،)...‬وإن‬
‫تعقبنا الدعامة الفلسفية لنظرية اإلعالم املختلطة فإننا نقف أمام حقيقتين‬
‫أساسيتين‪ :‬ـأولهما أن الفكر املاركس ي يرى في تجارب العالم الثالث الشتراكية‬
‫تحريفا‪ ،‬وأن الفكر الليبرالي يرى في تجارب العالم الثالث الليبرالية املقيدة زيفا‪،‬‬
‫أما الحقيقة الثانية‪ ،‬فإن بعض تجارب العالم الثالث قدمت نظريا إطارا‬

‫‪96‬‬
‫متكامال لفكر سياس ي جديد يقف على قدميه كقرين وند للفكر املاركس ي‬
‫وللفكر الليبرالي‪.1‬‬
‫خاتمة‪:‬‬
‫إن الحديث عن املسألة اإلبستمولوجية لعلوم اإلعالم والتصال وهو أمر‬
‫يتطلب التفكير العميق تاريخيا وربط تطور الظاهرة التصالية بالثورة‬
‫التكنولوجية لوسائل اإلعالم فالتصنيف الذي قدمه ريجيس دوبري على‬
‫التصال بداية بمرحلة الصور الذهنية‪ Logosphère‬وتحول إلى عصر صور‬
‫بصري ‪ Graphosphère‬إلى أن أصبحت صورة متحركة‪ vidéosphère‬ومعاصرا‬
‫بفضل التكنولوجيا الحديثة لإلعالم والتصال ظهور مفهوم التفاعلية في‬
‫التصال بفضل املواقع من الجيل الثاني‪ ،WEB02‬كل هذا التحول على هذا‬
‫املستوى يحيلنا إلى نسق فلسفي واحد وهو الرجوع إلى التصال الذهني الذي‬
‫يبقى مؤسسا ألشكال اإلعالم والتصال األخرى‪.‬‬
‫وفي األخير نخلص إلى أن ابستمولوجيا علوم اإلعالم والتصال تبقى رهينة‬
‫تطور الوسيلة أو الوسيط على تعبير مارشال ماكلوهان‪ ،‬فالجتهادات‬
‫اإلبستمولوجيا في هذا امليدان راجعة لفلسفة تاريخ اإلعالم في نسق تكنولوجي‪،‬‬

‫‪ -1‬محمد سيد محمد‪ ،‬املسؤولية اإلعالمية في السالم من البعثة إلى القرن الواحد والعشرون‪،‬ط‪ ،1‬دار‬
‫الفكر العربي‪،2008 ،‬القاهرة‪ ،‬ص ص ‪.273-272‬‬
‫‪97‬‬
:‫املراجع‬
‫ جامعة عبد الحميد بن باديس‬،‫ أستاذ محاضر بقسم علوم اإلعالم والتصال‬.1
.‫مستغانم‬
‫ دار‬،"‫ "تطور الفكر الرياض ي والعقالنية املعاصرة‬،‫ محمد عابد الجابري‬.2
. 42 ‫ ص‬،1982،‫ بيروت‬،‫الطليعة‬
،‫ بيروت‬،‫ دار القلم‬،" ‫ فؤاد كامل وأخرون " املوسوعة الفلسفية املختصرة‬.3
.139 ‫ص‬،1980 ،‫لبنان‬
. 292 ‫ ص‬1‫ عبد الرحمن بدوي " موسوعة الفلسفة " ج‬.‫ د‬.4
‫ محمود زيدان ؛ نظرية املعرفة عند مفكري اإلسالم وفالسفة الغرب‬: ‫ أنظر‬.5
.1989 ‫ بيروت‬،1‫ ط‬،‫املعاصرين‬
6. Voir: Hesse. M .B , Francis Bacon’s Philosophy of Science, In A Critical History
of Western Philosophy, ed. J. O’Conner, New York 1964 ،pp 141 – 152
7. Popkin. R ،Philosophy, made simple, London 1969, p 186
8. -voir-: Clarence. H. Bradford ،An examination of Thomas Hobbes’
Theory of Knowledge, Chicago 1956
9. voir: Anthony Kenny; the Rise of Modern Philosophy, Oxford, 2006
10. -voir : Jonathon Bennett, A study of Spinoza’s Ethics, Hackett, 1984
11. -voir: Hall ،A. R. ،Philosophers at War: The Quarrel between Newton
and Leibniz, Cambridge University Press 1980
12. ‫أنظر‬: Rutherford, Donald, Leibniz and Rational Order of Nature,
Cambridge University Press 1998
13. Rutherford, Donald, Leibniz and Rational Order of Nature,
Cambridge University Press 1998
14. Popkin. R, Op. Cit, p. 190

98
‫‪15. Carne Brinton. “Enlightenment”, Encyclopaedia of Philosophy,‬‬
‫‪Macmillan 1967 ،Vol. 2 ،P.519‬‬
‫‪ .16‬رينيه ديكارت‪ 31 :‬مارس ‪ 11 – 1596‬فبراير ‪ ،1650‬فيلسوف‪ ،‬ورياض ي‪،‬‬
‫وفيزيائي فرنس ي‪ ،‬يلقب بـ"أبو الفلسفة الحديثة"‪ ،‬وكثير من األطروحات الفلسفية‬
‫الغربية التي جاءت بعده‪ ،‬هي انعكاسات ألطروحاته‪ ،‬التي ما زالت تدرس حتى اليوم‪،‬‬
‫خصوصا كتاب (تأمالت في الفلسفة األولى ‪-1641‬م) الذي ما زال يشكل النص‬
‫القياس ي ملعظم كليات الفلسفة‪ .‬كما أن لديكارت تأثيرا واضحا في علم الرياضيات‪،‬‬
‫فقد اخترع نظاما رياضيا سمي باسمه وهو (نظام اإلحداثيات الديكارتية)‪ ،‬الذي‬
‫شكل النواة األولى لـ(الهندسة التحليلية)‪ ،‬فكان بذلك من الشخصيات الرئيسة في‬
‫تاريخ الثورة العلمية ‪.‬وديكارت هو الشخصية الرئيسة ملذهب العقالنية في القرن‪17‬‬
‫م‪ ،‬كما كان ضليعا في علم الرياضيات‪ ،‬فضال عن الفلسفة‪ ،‬وأسهم إسهاما كبيرا في‬
‫هذه العلوم‪ ،‬وديكارت هو صاحب املقولة الشهيرة‪:‬‬
‫‪ .17‬الدكتور محمد جلوب الفرحان‪ ،‬مقدمة في اإلبستمولوجيا‪ ،‬مجلة أوراق‬
‫فلسفية‪ ،‬العدد‪ ،27‬نوفمبر‪ ،2010‬ص‪.5‬‬
‫‪18. https://drmfarhan.wordpress.com/2010/11/01/‬‬
‫‪ .19‬ديكارت‪ ،‬تر‪ :‬محمود الخضيري‪ ،‬مقال عن املنهج‪ ،،‬القاهرة‪ ،1985 ،‬ص ص‬
‫‪.245-244‬‬
‫‪ .20‬عثمان أمين " ديكارت " سلسلة أعالم الفلسفة‪ ،‬مكتبة القاهرة الحديثة‪ ،‬ط‪،5‬‬
‫‪ ،1965‬ص ‪83‬‬
‫‪ .21‬عثمان أمين " ديكارت "‪ ،‬ص ‪. 91‬‬
‫‪ .22‬عثمان أمين‪ ،‬املرجع السابق‪ ،‬ص ‪. 92‬‬
‫‪ .23‬ديكارت " مقالة في املنهج " ترجمة ‪ :‬جميل صليبا‪ ،‬اللجنة اللبنانية‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫ط‪ ،1997 ،2‬ص ‪. 45‬‬
‫‪ .24‬إيمانويل كانت( باألملانية )‪ :( Immanuel Kant‬هو فيلسوف أملاني من القرن‬
‫الثامن عشر (‪ .)1804 - 1724‬عاش كل حياته في مدينة كونيغسبرغ في مملكة‬
‫بروسيا ‪.‬كان آخر الفالسفة املؤثرين في الثقافة األوروبية الحديثة‪ .‬وأحد أهم‬

‫‪99‬‬
‫الفالسفة الذين كتبوا في نظرية املعرفة الكالسيكية‪ .‬كان إيمانويل كانت آخر‬
‫فالسفة عصر التنوير الذي بدأ باملفكرين البريطانيين جون لوك وجورج‬
‫بيركلي وديفيد هيوم‪.‬‬
‫‪ .25‬طرح إيمانويل كانت منظورا جديدا في الفلسفة أثر ول زال يؤثر في الفلسفة‬
‫األوربية حتى اآلن أي أن تاثيره امتد منذ القرن الثامن عشر حتى القرن الواحد‬
‫والعشرين‪ .‬نشر أعمال هامة وأساسية عن نظرية املعرفة‪ ،‬وأعمال أخرى‬
‫متعلقة بالدين وأخرى عن القانون والتاريخ‪.‬‬
‫‪ .26‬أما أكثر أعماله شهرة فهو كتابه نقد العقل املجرد الذي نشره سنة ‪ 1781‬وهو على‬
‫مشارف الستين من عمره‪ .‬يبحث كانت في هذا الكتاب ويستقص ي محدوديات وبنية‬
‫العقل البشري ذاته‪ .‬قام في كتابه هذا بالهجوم على امليتافيزياء التقليدية ونظرية‬
‫املعرفة الكالسيكية‪ .‬وأجمل وأبدع مساهماته كانت في هذا املجال بالتحديد‪ .‬ثم نشر‬
‫أعمال رئيسة أخرى في شيخوخته‪ ،‬منها كتابه نقد العقل العملي الذي بحث فيه‬
‫جانب األخالق والضمير اإلنساني‪ ،‬وكتابه نقد الحكم الذي استقص ى فيه فلسفة‬
‫الجمال والغائية‪.‬‬
‫‪ .27‬غنار سكيربك ونلز غيلجي‪ .‬تاريخ الفكر الغربي‪ .‬ترجمة د‪ .‬حيدر حاج اسماعيل‪.‬‬
‫‪ .2012‬املنظمة العربية للترجمة‪ .‬بيروت‪ .‬ص ‪573‬‬
‫‪ .28‬جون لويس‪ ،‬تر‪ :‬أنور عبدامللك‪ ،‬مدخل إلى الفلسفة‪ . 197 .،‬دار الحقيقة ‪.‬‬
‫بيروت‪،‬ص ‪.130‬‬
‫‪ .29‬توما األكويني وكانط‪ :‬ترجمة أنور عبدامللك‪ ،‬أسس العلم الحديث ‪.‬وردت في‬
‫جون لويس ‪ :‬مدخل إلى الفلسفة‪ . 1978 .‬دار الحقيقة ‪ .‬بيروت ص ‪.130‬‬
‫‪ .30‬محمد نورالدين أفاية ‪ :‬في النقد الفلسفي املعاصر‪ :‬مصادره الغربية وتجلياته‬
‫العربية‪ . 2014 ،‬مركز دراسات الوحدة العربية‪ .‬بيروت ص ‪.19‬‬
‫‪.31‬يعد غاستون باشالر )‪ (1884 – 1962‬واحدا من أهم الفالسفة الفرنسيين‪ ،‬وهناك‬
‫من يقول‪ :‬إنه أعظم فيلسوف ظاهري‪ ،‬وربما أكثرهم عصرية أيضا ‪ .‬فقد كرس جزءا‬
‫كبيرا من حياته وعمله لفلسفة العلوم‪ ،‬وقدم أفكارا متميزة في مجال اإلبستمولوجيا‬
‫حيث تمثل مفاهيمه في العقبة املعرفية والقطيعة املعرفية والجدلية املعرفية‬

‫‪100‬‬
‫والتاريخ التراجعي‪ ،‬مساهمات ل يمكن تجاوزها بل تركت آثارها واضحة في فلسفة‬
‫معاصريه ومن جاء بعده ‪ .‬ولعل أهم مؤلفاته في مجال فلسفة العلوم هي‪ :‬العقل‬
‫العلمي الجديد ‪،1934‬تكوين العقل العلمي ‪ ،1938‬العقالنية والتطبيقية‬
‫‪ ،1948‬املادية العقالنية ‪.1953‬‬
‫‪ .32‬د‪ .‬عبد الرحمن بدوي " موسوعة الفلسفة " ج‪ 1‬ص ‪. 292‬‬
‫‪ .33‬محمد عابد الجابري " تطور الفكر الرياض ي والعقالنية املعاصرة " ج‪ 1‬ص ‪-31‬‬
‫‪ ،33‬دار الطليعة‪ ،‬بيروت‪ ،1982 ،‬ص ‪.42‬‬
‫‪ .34‬نقال عن السيد شعبان حسن " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم "‪ ،‬ص ‪.40‬‬
‫‪ .35‬السيد شعبان حسن‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪142‬‬
‫‪ .36‬محمد عابد الجابري " تطور الفكر الرياض ي والعقالنية املعاصرة " ص ‪. 16‬‬
‫‪ .37‬السيد شعبان حسين " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " دراسة نقدية‬
‫مقارنة‪ ،‬ص ‪.125‬‬
‫‪ .38‬غاستون باشالر ‪ ":‬تكوين العقل العلمي" ت‪:‬خليل أحمد خليل‪ ،‬املؤسسة الجامعية‬
‫للدراست والنشر‪ ،‬بيروت لبنان‪ ،1981 ،‬ص ‪.21‬‬
‫‪ .39‬محمد وقيدي " ماهي اإلبستمولوجيا "‪ ،‬دار الشؤون الثقافية العامة‪ ،‬بغداد‪،‬‬
‫‪ ،1980‬ط‪ ،1‬ص‪. 113_111‬‬
‫‪ .40‬غاستون باشالر " فلسفة الرفض " ترجمة ‪:‬خليل أحمد خليل‪ ،‬املؤسسة الجامعية‬
‫للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ ،1985 ،‬ص ‪144‬‬
‫‪ .41‬غاستون باشالر ‪":‬الفكر العلمي الجديد " ترجمة ‪ :‬خليل أحمد خليل املؤسسة‬
‫الجامعية للدراسات والنشر‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪ . 1985 ،‬ط‪ ،1‬ص ‪14‬‬
‫‪ .42‬د‪ .‬السيد شعبان حسن "برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " ص ‪30.‬‬
‫‪ .43‬أن العقالنية العلمية عند باشالر تعترف بأزدواج عنصري الخيال والعقل في‬
‫املوقف العلمي‪ ،‬ولكنها بأعتبارها مذهبا علميا خالصا تنتحي بالخيال جانبا وتنتقي‬
‫العقل‪.‬‬
‫‪ .44‬السيد شعبان حسن "برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم" دراسة نقدية‬
‫ص ‪. 121‬‬

‫‪101‬‬
‫‪ .45‬السيد شعبان حسن " برونشفيك وباشالر بين الفلسفة والعلم " دراسة نقدية‪،‬‬
‫ص ‪.121‬‬
‫‪ .46‬ميشال فوكو )‪ (1926 - 1984‬فيلسوف فرنس ي‪ ،‬يعتبر من أهم فالسفة‬
‫النصف األخير من القرن العشرين‪ ،‬تأثر بالبنيويين ودرس وحلل تاريخ الجنون في‬
‫كتابه "تاريخ الجنون"‪ ،‬وعالج مواضيع مثل اإلجرام والعقوبات واملمارسات‬
‫الجتماعية في السجون‪ .‬ابتكر مصطلح "أركيولوجية املعرفة"‪ .‬أرخ للجنس أيضا‬
‫من "حب الغلمان عند اليونان" وصول إلى معالجاته الجدلية املعاصرة كما في‬
‫"تاريخ الجنسانية‪".‬‬
‫‪ .47‬عبد السالم دخان‪ ،‬ميشيل فوكو وإرادة املعرفة‪ ،2014 12 14 ،‬مقال في‬
‫جريدة القدس العربي‪http://www.alquds.co.uk/?p=265592‬‬
‫‪1‬‬
‫‪ .48‬عبد السالم دخان‪ ،‬مرجع سابق‪.‬‬
‫‪ .49‬ميشيل فوكو‪ ،‬تر‪ :‬أحمد السطاني وعبد السالم بن عبد العالي‪ ،‬جينيالوجيا‬
‫املعرفة‪ ،‬ط‪ ،1‬دار توبقال للنشر‪ ،‬الدار البيضاء‪ ،‬املغرب‪ ،1994 ،‬ص ‪.6‬‬
‫‪ .50‬ميشيل فوكو‪ ،‬تر‪ :‬أحمد السطاني وعبد السالم بن عبد العالي‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.7‬‬
‫‪ .51‬عبد السالم حيمر‪ ،‬في سوسيولوجيا الخطاب‪-‬من سوسيولوجيا التمثالت إلى‬
‫سوسيولوجيا الفعل‪ ،-‬ط‪ ،1‬الشبكة العربية لألبحاث والنشر‪ ،‬لبنان‪،2008 ،‬‬
‫ص ‪.183‬‬
‫‪ .52‬بلخير بومحراث‪ ،‬الخطاب والتاريخ في فلسفة ميشال فوكو‪ ،‬مجلة التدوين‪،‬‬
‫جامعة وهران‪ ،‬العدد‪ ،04‬ديسمبر‪ ،2012‬ص‪.68‬‬
‫‪ .53‬ميشيل فوكو‪ ،‬تر‪ :‬مطاع صفدي‪ ،‬جورج أبي صالح‪ ،‬إرادة املعرفة‪ ،‬بيروت‪،‬‬
‫لبنان‪ ،‬مركز اإلنماء القومي‪ ،‬ط‪ ،1990 ،1‬ص ص ‪.109.-108‬‬
‫‪ .54‬كارل ريموند كارل پوپر ‪ 28‬يوليو ‪ 1902‬في فينا ‪ - 17‬سبتمبر‬
‫‪ 1994‬في لندن )فيلسوف نمساوي‪-‬إنكليزي متخصص في فلسفة العلوم ‪.‬عمل‬
‫مدرسا في كلية لندن لالقتصاد ‪.‬يعتبر كارل پوپرأحد أهم واغزر املؤلفين في فلسفة‬
‫العلم في القرن العشرين كما كتب بشكل موسع عن الفلسفة الجتماعية‬
‫والسياسية‪.‬‬

‫‪102‬‬
‫‪ .55‬والداه يهوديان باألصل لكنهما تحول للديانة املسيحية‪ ،‬إل أن بوبر يصف‬
‫نفسه الالأدري‪ .‬درس الرياضيات‪ ،‬التاريخ‪ ،‬علم النفس‪ ،‬الفيزياء‪ ،‬املوسيقى‪،‬‬
‫الفلسفة‪ ،‬وعلوم التربية‪ .‬عام‪ 1928‬حصل على درجة الدكتورا في مجال مناهج‬
‫ُ‬
‫علم النفس اإلدراكي‪ 1930.‬تزوج‪ ،‬وبدأ كتابة أول أعماله‪ ،‬الذي نشر في صورة‬
‫مختصرة بعنوان "منطق البحث‪" 1934‬وفي طبعة كاملة عام ‪ 1979‬بعنوان‬
‫"املشكلتان الرئيستان في النظرية املعرفية ‪". 1937‬هاجر إلى نيوزيلندا حيث قام‬
‫بالتدريس في عدة جامعات هناك‪ ،‬وألف كتاب "املجتمع املفتوح وأعدؤه" ‪،1945‬‬
‫الذي اكتسب من خالله شهرة عاملية ككاتب سياس ي‪ .‬أهم سمة تميز أعماله‬
‫الفلسفية هي البحث عن معيار صادق للعقالنية العلمية‪ .‬ما بين‬
‫عامي‪ 1949‬ـ ‪ 1969‬عمل أستاذا للمنطق واملناهج العلمية بجامعة لندن ‪.‬حصل‬
‫في عام ‪ 1965‬على لقب "سير‪".‬‬
‫‪ .56‬كارل بوبر ‪:‬منطق الكشف العلمي‪ ،‬ترجمة ماهر عبد القادر‪ ،‬دار النهضة‬
‫العربية‪ ،‬ص‪.78‬‬
‫‪ .57‬كارل بوبر ‪:‬منطق الكشف العلمي‪ ،‬مرجع نفسه‪ ،‬ص ‪.81-80‬‬
‫‪58. Imre Lakatos, ‘Falsification and the Methodology of Scientific Research‬‬
‫‪programmes’, 1969, in: The Methodology of Scientific Research‬‬
‫‪Programmes. Philosophical Papers ،volume 1. edited by Worrall and‬‬
‫‪14‬ـ‪Currie, Cambridge University Press, reprinted 1984, p.13‬‬
‫‪59. Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.43-51.‬‬
‫‪60. Karl Popper, Conjectures and Refutations, Routledge, 2002, p.290-29 .‬‬
‫‪61. Karl Popper, ibid, p.341-345.‬‬
‫‪62. Feyerabend ،p.k ;. « Realism ،rationalism ans scientific method «philosophical‬‬
‫‪papers, vol 11, Cambridge University press, London, 1981, p1‬‬
‫‪ .63‬تحمل انتاجات فيرابند دللة مباشرة عن جملة فكرة‪ ،‬فمنها مثال " ضد املنهج"‬
‫‪ ،Against method‬وداعا للعقل‪ ،fareewell to reason ،‬العلم في مجتمع‬
‫حر" ‪ ،" science in free society‬قتل الوقت ‪killing time‬‬

‫‪103‬‬
‫‪op.cit.p 1 ،against method ،p.k ،Feyerabend .64‬‬
‫‪ .65‬عادل عوض‪ ،‬اإلبستمولوجيا بين نسبية فيرابند وموضوعية شاملرز‪ ،‬ط‪ ،1‬دار‬
‫الوفاء لدنيا للطباعة والنشر‪ ،2002 ،‬ص‪.17‬‬
‫‪ .66‬ريجيس دوبر‪ ،‬تر‪ :‬فؤاد شاهين وجورجيت الحداد‪ ،‬محاضرات في علم اإلعالم‬
‫العام –امليديولوجيا‪ ،-‬ط‪ ،1‬دار الطليعة –بيروت‪،1996،-‬ص‪.33‬‬
‫‪ .67‬ريجيس دوبراي‪ ،‬تر‪ :‬فؤاد شاهين وجورجيت الحداد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ .68‬قدم الكثير من الباحثين تصنيفا عاما قريبا من هذا التصنيف‪ ،‬فمثال يرى‬
‫سيبرت وزمياله أن األصل في النظريات اإلعالمية هما نظريتا السلطة والحرية‪،‬‬
‫وأن النظرية السوفياتية تطوير لألولى واملسؤولية اإلجتماعية تطوير للثانية‪.‬‬
‫‪ F.S. SiebertT.Peterson and w.shramm. four of the press ( Urbana :‬أنظر ‪69.‬‬
‫‪university of illinois press ،1956) ،p81‬‬
‫‪ .70‬كذلك يقسم كل من جون ميرل‪ ،‬ورالف لوينشتاين‪ ،‬النظم اإلعالمية في العالم‬
‫إلى نظامين "نظام مرتبط بالدولة‪ ،‬نظام حر" أو نظم ذات ميول سلطوية‪ ،‬ونظم‬
‫ذات ميول ليبرالية‪.‬‬
‫‪ j.Merril and R.Lowenstein ،Media ،message and men, (New‬أنظر‪71. :‬‬
‫‪york : longman, 1979)p154‬‬
‫‪ .72‬كذلك يرى سامي زبيان أن هناك صنفين من اإلعالم في العالم‪ ،‬اعالم مرتبط‬
‫بالدولة واعالم مستقل عن الدولة ‪ :‬انظر زبيان سامي ‪ .‬الصحافة اليومية‬
‫واإلعالم‪ ،‬ط‪ ،2‬بيروت‪ ،‬دار املسيرة‪ ،1987 ،‬ص‪.94-93‬‬
‫‪ .73‬الكوزمولوجيا ‪ Cosmology‬علم يبحث في أصل الكون وبنيته العامة وعناصره‬
‫وقوانينه التي تسيره‪ ،‬أما الكوزمولوجيا العلمانية وهي تبحث في البيئة التي‬
‫تتحكم في طبيعة اإلنسان وأهم القوانين الوضعية وغاياتها‪.‬‬
‫‪ .74‬أنظر‪ :‬ريفرز‪ ،‬وليام ل‪ .‬وأخرون‪ .‬وسائل اإلعالم واملجتمع الحديث‪ ،‬تر‪ :‬ابراهيم‬
‫إمام‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار املعرفة‪ ،1975 ،‬ص ‪.97-94‬‬
‫‪ .75‬كان هذا نتيجة الهجوم على القانون الطبيعي والحقوق الطبيعية القائمة عليه‪،‬‬
‫من قبل بعض الفالسفة‪ ،‬ل سيما (ديفيد هيوم)‪ ،‬وملا كان (بنتام) أستاذ(مل) قد‬

‫‪104‬‬
‫قال باملنفعة كأساس لكل الحقوق اإلنسانية‪ ،‬فقد استخدم مل هذا األساس‬
‫كركيزة لحرية الرأي‪.‬‬
‫‪ .76‬مل‪ ،‬جون ستيوارت تر‪ :‬طه السباعي‪ ،‬في الحرية‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ :‬مطبعة األدب‪،‬‬
‫‪ ،1922‬ص ص‪.135-134‬‬
‫‪ .77‬ريفرز‪ ،‬وليام ل‪ .‬وآخرون‪ .‬وسائل اإلعالم واملجتمع الحديث‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‬
‫‪.111-110‬‬
‫‪ .78‬بيل‪ ،‬أيلي تر‪ :‬ألفرد عصفور‪ ،‬العودة إلى هتشستر‪ :‬خمسة وثالثون عاما على‬
‫نظرية املسؤولية الجتماعية‪ ،‬في‪ :‬شمول‪ ،‬روبرت‪".‬محرر"مسؤوليات الصحافة‪،،‬‬
‫عمان‪ :‬مركز الكتب األردني‪ ،1990،‬ص ‪.50-49‬‬
‫‪ .79‬حمزة عبد اللطيف‪ ،‬اإلعالم له تاريخ ومذاهبه‪ ،‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬
‫‪ ،1965‬ص ‪.135‬‬
‫‪ .80‬حسن حمدي‪ ،‬الوظيفة اإلخبارية لوسائل اإلعالم القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،‬‬
‫‪ ،1989‬ص‪.155‬‬
‫‪ .81‬عبد الرحمن عواطف‪ ،‬املدرسة اإلشتراكية في الصحافة‪ :‬الحقبة اللينينية‪:‬‬
‫‪ ،1923-1896‬ط‪ ،2‬القاهرة‪ :‬مركز البحوث العربية‪ ،1988 ،‬ص‪.10-7‬‬
‫‪ .82‬تأثير اإلبديولوجيا السياسية التي تتبناها الدول النامية بالظروف التاريخية واملجتمعية‬
‫والثقافات املحلية‪ ،‬أنظر‪ :‬أبو زيد أحمد ‪ .‬الدولة في العالم الثالث‪ :‬الرؤية‬
‫السوسيولوجية‪ ،‬القاهرة‪ :‬دار الثقافة للنشر والتوزيع‪ ،1985 ،‬ص ‪.190-183‬‬
‫‪ .83‬يرى في هذا املعنى محمد صابر " أن الدول النامية ل يمكنها في ظل الظروف‬
‫القائمة إحراق املراحل للحاق بركب الحضارة"‪ ،‬فرنسيس بال‪ ،‬وسائل اإلعالم‬
‫والدول النامية‪ ،‬تر‪ :‬حسين العويدات‪ ،‬تونس ‪ :‬املنظمة العربية للتربية والعلوم‬
‫الثقافية‪ ،1982 ،‬ص ‪.5‬‬
‫‪ .84‬محمود يوسف السماسيري‪ ،‬فلسفات اإلعالم املعاصرة في ضوء املنظور اإلسالمي‪،‬‬
‫املعهد العالمي للفكر اإلسالمي‪ ،‬ط‪ ،2008 ،1‬فرجينيا‪ ،‬ص ص ‪.71-70‬‬
‫‪ .85‬عواطف عبد الرحمن‪ ،‬قضايا التبعية اإلعالمية والثقافية في العالم الثالث‪،‬‬
‫مرجع سابق‪ ،‬ص‪.50‬‬

‫‪105‬‬
‫‪ .86‬رشتي جيهان أحمد‪ ،‬اإلعالم الدولي‪ ،‬ط‪ ،1‬القاهرة‪ ،‬دار الفكر العربي‪،1986 ،‬‬
‫‪.326-325‬‬
‫‪ .87‬محمود يوسف السماسيري‪ ،‬مرجع سايق‪ ،‬ص‪.75‬‬
‫‪ .88‬محمد سيد محمد‪ ،‬املسؤولية اإلعالمية في اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،1‬املؤسسة الوطنية‬
‫للكتاب‪ ،1986 ،‬الجزائر‪ ،‬ص ص ‪.257-256‬‬
‫‪ .89‬محمد سيد محمد‪ ،‬املسؤولية اإلعالمية في اإلسالم‪ ،‬ط‪ ،1‬دار الفكر العربي‪،‬‬
‫‪ ،2008‬القاهرة‪ ،‬ص ص ‪.44-43‬‬
‫‪ .90‬محمد سيد محمد‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ‪.44‬‬
‫‪ .91‬مثنى حارث الضاري‪ ،‬طه أحمد الزيدي‪ ،‬اإلعالم اإلسالمي – الواقع والطموح‪،-‬‬
‫ط‪ ،1‬دار النفائس للنشر والتوزيع‪ ،2007 ،‬ص ‪20‬‬
‫‪ .92‬أبو سليمان عبد املجيد‪ ،‬أزمة العقل املسلم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص ص ‪.136-135‬‬
‫‪ .93‬الشيباني عمر التومي‪ ،‬مفهوم اإلنسان في الفكر اإلسالمي‪ ،‬الكتاب اإلسالمي‬
‫الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع واإلعالن‪ ،‬يوليو ‪ ،1987‬ص ‪.269-263‬‬
‫‪ .94‬الغنوش ي راشد‪ ،‬الحريات العامة في الدولة اإلسالمية‪ ،‬ط‪ ،1‬بيروت مركز‬
‫دراسات الوحدة العربية‪ ،1993 ،‬ص ‪.327-326‬‬
‫‪.95‬الشنقيطي محمد سيد ساداتي‪ ،‬اإلعالم اإلسالمي‪ ،‬األهداف والوظائف‪ ،‬سلسلة‬
‫دراسات في اإلعالم والرأي العام‪ ،‬الرياض‪ ،‬دار عالم الكتب‪ ،1991 ،‬ص ‪.7‬‬
‫‪ .96‬عبد الرحمن عزي أكاديمي وباحث إعالمي جزائري‪ ،‬من مواليد ‪ 1954‬بقرية بني‬
‫ورثيالن هذه املنطقة التي تتـ ـ ــميز بمميزات قل أن نجد لها مثيال في تراب الجزائر‬
‫فعرفت بالثورة وعدم قب ـ ـ ــول النماط والقوال ـ ــب الجاهزة وترسيـ ـ ــخ كروموزمات‬
‫الحرية في أبنائه‪،‬ا لتكون بمثابة البيئة الصغرى التي ترعرع فيها وكان لها النبع‬
‫التصوري الالشعوري املستقبلي في نشأته األولى‪ ،‬فقد ذكر حسب " بشير‬
‫كردوس ي " أنه فطم في بيئة دينية مفعمة بالتعاليم الدينية وحفظ القرآن‪ ،‬وهذا‬
‫سيكون له الدور املحرك املستقبلي في بصمات فكره‪.‬‬
‫‪ .97‬لينتقل من مصدر رأسه إلى ثانوية عمر بن الخطاب بالبليدة ويتحصل بعدها‬
‫على شهادة الليسانس في ال ـ ـ ــصحافة عام ‪ 1977‬من جامعة الجزائر ‪ .‬وتأتي‬

‫‪106‬‬
‫مرحلة سفره إلى أمريكا فيما بين ‪ 1977‬إلى غاية ‪ 1985‬دارسا وأستاذا باحدى‬
‫جامعاتها بمثابة الحافز الذي سجل حضور نظريته الحتمية القيمية لالعالم أو‬
‫كما يسميها هو م ـ ـ ــجازيا بالح ـ ـ ــتمية النظرية القيمية‪ ،‬حيث أحدث هذا السفر‬
‫صدمة استفاقة لديه للنهل من املنابع الغربية ومن مختلف مدارسها وخاصة‬
‫الجتماعية منها التي تنبع من منابع الفكر الفلسفي الغربي‪ ،‬هذا النهل سيكون له‬
‫الواقع البستيمولوجي في تكون نظرية " الحتمية القيمية لإلعالم " لدي ـ ـ ـ ــه حيث‬
‫بدأت رح ـ ــلته إلى هذه النظرية بقراءاته املتأنـ ـ ــية لنظريات التصال السائدة‬
‫آنذاك‪ .‬أكاديمي وباحث إعالمي من الجزائر ويعرف د‪ .‬عبد الرحمن عزي أنه‬
‫صاحب نظرية "الحتمية القيمية في اإلعالم" ومن مؤلفاته‪ :‬قراءات في نظرية‬
‫التصال من إصدار مركز دراسات الوحدة العربية اإلعالم وتفكك البنيات‬
‫القيمية في املنطقة العربية واإلسالمية‪ ،‬من إصدار الدار املتوسطية للنشر‬
‫ومؤسسة محمد بن راشد آل مكتوم‪ .‬حفريات في الفكر اإلعالمي القيمي‪ :‬مالك‬
‫بن نبي‪ ،‬الوثيالني‪ ،‬النورس ي‪ ،‬صن تسو‪ ،‬من إصدار الدار املتوسطية للنشر‬
‫منهجية الحتمية القيمية في اإلعالم ومقياس ع‪،‬س‪،‬ن لإلعالم والقيم من إصدار‬
‫الدار املتوسطية للنشر وصدرت ثالتة كتب عن نظرية الحتمية القيمية في‬
‫اإلعالم من إسهام عدة أساتذة وطلبة دراسات عليا‪ -‬كما عقد أربعة مؤتمرات‬
‫وطنية ودولية حول تلك النظرية بجامعة األمير عبد القادر بقسنطينة وجامعة‬
‫مستغانم ويمكن زيارة موقع د‪ .‬عبد الرحمن عزي عن نظرية الحتمية القيمية في‬
‫‪https://ar.wikipedia.org/wiki‬‬ ‫أنظر ‪:‬‬ ‫أسفله‪:‬‬ ‫اإلعالم‬
‫‪ ،https://sites.google.com/site/valuemediadeterminismtheory‬بتصرف‪.‬‬
‫‪ .98‬عزي عبد الرحمن‪ ،‬دراسات في نظرية اإلتصال –نحو فكر إعالمي متميز‪،-‬‬
‫ط‪ ،1‬مركز دراسات الوحدة العربية‪،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪،2001،‬ص‪.108‬‬
‫‪ .99‬عبد هللا ثاني محمد النذير‪ ،‬الرأسمال القيمي من منظور عزي‪ ،‬مداخلة قدمت‬
‫في امللتقى الوطني األول حول النظريات الحديثة في علوم اإلعالم والتصال أيام‬
‫‪ 25/24‬أفريل‪ ، 2012‬جامعة عبد الحميد بن باديس ‪-‬مستغانم‪-‬‬

‫‪107‬‬
‫‪ .100‬فضيل دليو‪ ،‬اإلتصال‪-‬مفاهيمه‪ ،‬نظرياته‪ ،‬وسائله‪،‬ط‪ ،1‬دار الفجر‬
‫للنشروالتوزيع‪ ،‬القاهرة‪ ،‬ط‪،2003 ،1‬ال ص‪.15‬‬
‫‪ .101‬حسن عمار‪ ،‬ليلى حسن السيد‪ ،‬اإلتصال ونظرياته املعاصرة‪،‬‬
‫ط‪2‬مصر‪،‬الدار املصرية اللبنانية‪ ،‬ـ‪ ،2002‬ص‪.15‬‬
‫‪ .102‬ريحي مصطفى عليان‪ ،‬محمد عبد الديس‪ ،‬وسائل اإلتصال وتكنولوجيا‬
‫التعليم‪،‬ط‪ ،1‬عمان دار الصفا للنشر التوزيع‪ ،1999 ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ .103‬حسن عماد مكاوي‪ ،‬ليلى حسن السيد‪ ،‬اإلتصال ونظرياته املعاصرة‪ ،‬ط‪،1‬‬
‫مصر‪ ،‬الدار املصرية اللبنانية‪ ،2002 ،‬ص‪.15‬‬
‫‪ .104‬ريحي مصطفى عليان‪ ،‬محمد عبدالديس‪ ،‬وسائل اإلتصال وتكنولوجيا‬
‫التعليم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.24‬‬
‫‪ .105‬ريحي مصطفى عليان‪،‬املرجع نفسه‪ ،‬ص‪.25‬‬
‫‪ .106‬دليو فضيل‪ ،‬مقدمة في وسائل االتصال للجماهيرية‪ ،‬الجزائر‪ ،‬ديوان‬
‫املطبوعات الجامعية‪،‬ط‪ ،1998 ،2‬ص‪.18‬‬
‫‪ .107‬حسن عمار مكاوي‪ ،‬ليلى حسين السيد‪ ،‬االتصال ونظرياته املعاصرة‪،‬ط‪،2‬‬
‫مصر‪ ،‬الدار املصرية اللبنانية‪ ،2002 ،‬ص‪.25-24‬‬
‫‪ .108‬ريحي مصطفى عليان محمد عبد الديس‪ ،‬وسائل االتصال وتكنولوجيا‬
‫التعليم‪ ،‬مرجع سابق‪ ،‬ص‪.29‬‬
‫‪ .a‬أستاذ وباحث إعالمي جزائري‪.‬‬
‫‪ .109‬زهير احدادن‪ ،‬مدخل لعلوم اإلعالم والتصال‪ ،‬ط‪ ،1‬ديوان املطبوعات‬
‫الجامعية‪،2002 ،‬الجزائر‪،‬ـص ‪9‬‬
‫‪ .110‬عبد الرزاق محمد الدليمي‪ ،‬اإلعالم التربوي‪ ،‬ط‪ ،1‬دار املسيرة للنشر‬
‫والتوزيع‪ ،2001 ،‬عمان‪ ،‬ص ‪.31‬‬
‫‪111. JL MORENO. Les fondements de la Sociométrie. Paris. PUF. 1964‬‬
‫‪Psychothérapie et Psychodrame. Paris. PUF. 1965‬‬

‫‪108‬‬
112. Hubert fondin ،La science de l’information: posture
épistémologique et spécificité disciplinaire ; documentaliste,
science de l’information, 2001, vol.38, n°2, p112.
113. Regis Debry ،introduction a la médiologie, 1ere edition, presse
universitaire de France ،2000.p8.
114. Bernard Miege, L’information communication –objet de
connaissance-, 1ere ed, imprmer en Belgique, p-50--51
115. Armand et michèle mattelart, penser les médias, édiion la
découvertes, paris, 1986, p58.
‫ دار الشعب‬،1‫ ط‬،‫ صحافة سلطة رابعة كيف؟‬،‫ محمد سيد محمد‬.116
.20‫ ص‬،1989 ،‫ مصر‬،‫ القاهرة‬،‫للنشروالتوزيع‬
.29‫ ص‬،‫مرجع سابق‬،‫ صحافة سلطة رابعة كيف؟‬،‫ محمد سيد محمد‬.117

109
‫فهرس المحتويات‬

‫الصفح‬ ‫محتويات الكتاب‬


‫ة‬
‫‪4‬‬ ‫إهداء‬
‫‪7‬‬ ‫مقدمة عامة‬
‫‪9‬‬ ‫الفصل األول‪ :‬ماهية اإلبستمولوجيا‬
‫‪9‬‬ ‫املبحث األول‪ :‬مفهوم اإلبستمولوجيا‬
‫‪9‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬اإلبستمولوجيا لغة‬
‫‪9‬‬ ‫املطلب الثاني‪ :‬اإلبستمولوجيا اصطالحا‬
‫‪12‬‬ ‫املبحث الثاني‪ :‬جذور اإلبستمولوجيا‬
‫‪12‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬نشأة اإلبستمولوجيا‬
‫‪16‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬اتجاهات اإلبستمولوجيا‬
‫‪16‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬ابستمولوجيا رينيه ديكارت‪René descart‬‬
‫‪18‬‬ ‫املطلب الثاني‪ :‬ابستمولوجيا امانويل كانط ‪Emmanuel Kant‬‬
‫‪24‬‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬ابستمولوجيا غاستون باشالر‪Gaston Bachelard‬‬
‫‪37‬‬ ‫ملطلب الرابع‪ :‬ابستمولوجيا ميشيل فوكو‪Michel foucou‬‬
‫‪42‬‬ ‫املطلب الخامس‪ :‬ابستمولوجيا كارل بوبر ‪Karl Popper‬‬
‫‪46‬‬ ‫املطلب السادس‪ :‬ابستمولوجيا فايربند‪Feyerabend‬‬
‫‪48‬‬ ‫الفصل الثاتي‪ :‬ابستمولوجيا علوم اإلعالم والتصال‬
‫‪48‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬ابستمولوجيا اإلعالم ( املفاهيم والنماذج)‬
‫‪48‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬مفهوم ابستمولوجيا اإلعالم‬
‫‪48‬‬ ‫مفهوم اإلعالم‬
‫‪51‬‬ ‫املطلب الثاني‪ :‬تصنيفات ابستمولوجيا اإلعالم‬
‫‪51‬‬ ‫الفرع األول‪ :‬فلسفة اإلعالم الحر‬
‫‪110‬‬
‫‪53‬‬ ‫فلسفة املسؤولية اإلجتماعية‬
‫‪55‬‬ ‫الفرع الثاني‪ :‬فلسفة اإلعالم املوجه‬
‫‪55‬‬ ‫الفرع الثاني‪:‬فلسفة اإلعالم اإلشتراكي‬
‫‪56‬‬ ‫الفرع الثالث‪:‬فلسفة اإلعالم التنموي‬
‫‪57‬‬ ‫التوجه األول ‪ :‬توجه مدرسة التحديث‬
‫‪58‬‬ ‫التوجه الثاني ‪ :‬توجه مدرسة التبعية‬
‫‪59‬‬ ‫الفرع الرابع‪ :‬فلسفة اإلعالم اإلسالمية‬
‫‪63‬‬ ‫املبحث الثاني‪ :‬ابستمولوجيا التصال‬
‫‪63‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬مفهوم ابستمولوجيا التصال ( املفاهيم والنماذج)‬
‫‪63‬‬ ‫مفهوم اإلتصال‬
‫‪66‬‬ ‫املطلب الثاني‪ :‬جذور ابستمولوجيا اإلتصال‬
‫‪66‬‬ ‫املطلب الثالث‪ :‬إشكالية النماذج من إشكالية املفاهيم‪،‬‬
‫‪82‬‬ ‫املبحث الثالث‪ :‬ابستمولوجيا علوم اإلعالم والتصال‬
‫‪82‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬ماهية علوم اإلعالم والتصال‬
‫‪83‬‬ ‫املطلب الثاني‪ :‬مسألة بحوث اإلعالم والتصال‬
‫‪85‬‬ ‫املبحث الرابع‪ :‬الدعامة الفلسفية لنظريات اإلعالم والتصال‬
‫‪85‬‬ ‫املطلب األول‪ :‬النظرية الليبرالية‬
‫‪86‬‬ ‫املطلب الثاني‪ :‬النظرية الشمولية‬
‫‪86‬‬ ‫املطلب الثالث‪:‬النظرية املختلطة‬
‫‪87‬‬ ‫خاتمة‪:‬‬
‫‪88‬‬ ‫قائمة املراجع‪:‬‬
‫‪101‬‬ ‫فهرس املحتويات‬

‫‪111‬‬

You might also like