Professional Documents
Culture Documents
تأمل واعتبار في حكايات أندلسية
تأمل واعتبار في حكايات أندلسية
2
3
د .عبد الرحمن علي احلجي:
من مواليد العراق ،حا�صل على الدكتوراه يف التاريخ ،وهو �أ�ستاذ التاريخ الإ�سالمي
والأندل�سي وال�سرية النبوية .له �إنتاج علمي غزير ،من م�ؤلفاته« :العالقات
الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية» ،و« التاريخ الأندل�سي
من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة» ،و«ال�سرية النبوية :منهجية درا�ستها
وا�ستعرا�ض �أحداثها» ،و«�أندل�سيات» ،و«الكتب واملكتبات بالأندل�س» ،و«جوانب من
احل�ضارة الإ�سالمية» وغريها...
1
مت طبع هذا الكتاب يف هذه ال�سل�سلة للمرة الأوىل،
وال يجوز �إعادة طبعه �أو طبع �أجزاء منه ب�أية و�سيلة �إلكرتونية �أو غري
2
فهر�س املحتويات
5 ت�صدير ...........................................................
3
107 � -17إنه لي�س كميناً ........................................
113 � -18إنهم يخافونه ميتاً ....................................
119 -19علماء الهمة والعزمية ................................
129 َ -20مغـرورون �أم ُمكت�شفون ...............................
135 -21فرو�سية املر�أة الأندل�سية .............................
141 -22قرا�صنة �أم جماهدون؟ ...............................
147 ُ -23قرطبة ت�ستقبل �سفرياً! ...............................
155 -24مدينة هزمت �إمرباطوراً .............................
161 -25مدينة �أنقذها اجلهـاد ................................
167 ُ -26
�ض َّيعت فوجدها العلماء ..............................
173 -27القا�ضي الأميـر ال�شهيد ..............................
179 -28وق َّبل ي َد الوزير! ......................................
185 -29وهنْد َ
َ�س الفقيه م�ساجدَها ............................
193 � -30أراد الرهبن َة ف�أ�سـلم ..................................
4
ت�صــــــــديــــــــــــر
5
6
احلمد هلل رب العاملني وال�صالة وال�سالم على حممد وعلى �آله
و�صحبه �أجمعني.
مل يكن �سرد القر�آن الكرمي لتاريخ الأمم ال�سابقة وق�ص�صهم
خلوا من الفائدة ،بل كانت له مقا�صد وغايات ،من بينها حتقيق االعتبار
يف نفو�س النا�س وم�سريتهم ،وتب�صرتهم ب�أ�سباب التقدم والنجاة وموجبات
التخلف والهالك.
و�إذا حتقق ذلك ،ف�إن املنهج يقت�ضي �أن يرتفع مفهوم االعتبار من
داللته الرتبوية الفردية �إىل ن�سق فكري يحكم وعي امل�سلمني يف قراءتهم
ملا�ضيهم وما�ضي الب�شرية وحا�ضرهم وحا�ضر الإن�سانية ،كي ال تتكرر
الأخطاء و�أ�سبابها ،وال تتوقف م�سرية النماء وال�صالح يف عطائها.
ولعل �سقوط الأندل�س ميثل حمطة ح�ضارية كربى لتحقيق �أعلى
درجات الوعي ب�أهمية االعتبار ،فقد كانت منوذجا �إ�سالميا ح�ضاريا
ا�ستوعب العلوم والفنون والآداب ،وامتد �إىل رعاية الإن�سان واحليوان
والطبيعة ،ثم كان ال�سقوط العنيف الذي تواىل با�ست�سالم املدن الأندل�سية
تباعا .
ومن �أجل �إحياء الوعي ب�أهمية االعتبار ودوره يف الفهم والتجاوز،
ف�إن قطاع ال�ش�ؤون الثقافية يقدم اليوم على ن�شر كتاب « ت�أمل واعتبار :قراءات
يف حكايات �أندل�سية» للدكتور عبد الرحمن احلجي ،وهو �سياحة ح�ضارية يف
عطاء امل�سلمني بالأندل�س يف العلوم ال�شرعية واحلياة االجتماعية والأدبية،
عطاء �أ�سهم فيه العلماء ورجاالت الدولة والأدباء والرجال والن�ساء.
ومل يكن الهدف من وراء ن�شر هذا الكتاب الركون �إىل نزعة
بكائية تت�أمل لفقدان الأندل�س ،و�إمنا ي�أتي االهتمام بتلك احلكايات لتحقيق
الأهداف الآتية:
� -إبراز دور امل�سلمني ،مبختلف فئاتهم ،يف النه�ضة احل�ضارية التي عرفتها
الأندل�س.
7
-ت�أكيد قيم الت�سامح والتعاي�ش التي �شكلت اخللفية النف�سية واالجتماعية
للم�سلمني يف عالقتهم بالن�صارى واليهود يف تلك املنطقة التي كانت تنتمي
�إىل العامل ا ٍلإ�سالمي.
-الإ�سهام يف حتقيق درجات كربى من االعتبار ،من خالل الت�أمل الدقيق
يف جمريات الوقائع والأحداث واملواقف ،وا�ستخال�ص الدرو�س الكفيلة
ب�أن تتحول �إىل منارات تهتدي بها الأمة يف نه�ضتها امل�أمولة .يقول الكاتب:
«والأمل ،كل الأمل �إن �شاء اهلل � ،أن يتم تفهم ذلك ،والتعلم منه واالعتبار
له ،وهو بع�ض املطلوب من وراء كل هذه احلكايات ،وهو من الأهداف املهمة
لدرا�سة التاريخ عموما» ،ويقول يف منا�سبة �أخرى بني يدي الإ�شارة �إىل ق�صة
�إقدام �أحد ملوك الإفرجن على رهن تاجه عند خليفة امل�سلمني�« :أال تعترب
هذه احلادثة من النوادر الفريدة التي يحتوي تاريخنا على �أمثالها الكرثة
الوفرية يف كل ميدان ،مما يجعل االهتمام به واجبا �أو فر�ض كفاية ،تنظر
الأمة فيه وتعترب وتقتب�س منه ،وهي يف �سبيل ا�ستئناف م�سريتها الكرمية
بركبها املبارك».
-التدليل على �أن �سبب نه�ضة امل�سلمني بالأندل�س �إمنا تكمن يف ت�شبثهم
بالقيم الإ�سالمية يف كتاب اهلل و�سنة ر�سوله ،والتحرك بها هداية للذات
واملجتمع ،و�إن االنهيار الذي عرفته بالد الأندل�س �إمنا جاء ب�سبب عوامل
مو�ضوعية .
-اعتبار الفرقة واخليانة وال�شقاق بني ملوك الطوائف �أحد الأ�سباب
اجلوهرية يف �سقوط الأندل�س.
وي�سر قطاع ال�ش�ؤون الثقافية بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإٍ�سالمية
بدولة الكويت �أن يقدم للقراء الكرام هذا الكتاب �ضمن م�شروع «روافد»
الفكري والأدبي والفني ،ويف �سل�سلة « مراجعات» � ،أمال يف �أن ي�سهم يف
حتقيق املراجعة احل�ضارية املن�شودة.
�إن الكتابات حول الأندل�س كثرية ومتنوعة ،بل �إن ق�ضية الأندل�س
8
امتدت لت�شكل �أعماال �شعرية وروائية ودرامية ،ومن امل�ؤمل �أن ين�ضاف هذا
الكتاب �إىل تلك الذخرية ،مع الت�أكيد �أنه يتميز مبنهجه االعتباري الوا�ضح ،
ويقدم �إ�ضاءات حول �سنن الفعل احل�ضاري ،ويعتني ب�إلقاء ال�ضوء على عوامل
التقدم و�أ�سبابه ،ويجلي ذلك من خالل الوقوف عند النماذج الإيجابية يف
تلك احل�ضارة التي �أ�شرقت ،وارتقت بالإن�سان يف خمتلف �أبعاده .
وقد �ساعد الكاتب على حتقيق هدفه تخ�ص�ص �أكادميي واطالع
معريف ونظر �شمويل ،ف�ضال عن معاي�شة ميدانية جلغرافية الأندل�س
وطبيعتها ،وذلك كله مالحظ يف عر�ضه ملختلف احلكايات .
ون�س�أل اهلل �أن ينفع بكتابه هذا ،ويجعله لبنة يف بناء املراجعة
احل�ضارية ال�شاملة .واهلل املوفق.
9
10
تــــقــــــــديــــــــــــــم
11
12
احلمد هلل رب العاملني ،وال�صالة وال�سالم على �سيد املر�سلني و�آله
و�صحابته �أجمعني.
ُ
منذ �سنني و�أنا �أع ُّد قائمة بق�ص�ص �أندل�سية ،متر خالل اال�شتغال
ب�أبحاث متنوعة عن الأندل�س ،وكافة متعلقاته التاريخية املت�سعة ،ومنها
احل�ضارية والإن�سانية عموم ًا .وكلما كانت متر حادثة �أو ق�ضية �أو �أمر،
اليخلو من ِع رْ َبة �أو َع رْ َبة� ..أ�ضعها حا ًال يف الأوراق املعدة لذلك ،مع الإ�شارة
�إىل مو�ضعها يف امل�صادر� ،إىل �أن ا�ستوت مادة علمية وح�ضارية ميكن �أن
ت�صاغ يف قالب يجمع بني ال�سرد واالعتبار .
قد ي�أتي �إىل اخلاطر �أن كتابة هذه احلكايات كان �سه ًال ،لكن
حقيقة �أمرها غري ذلك متام ًا ،ف�إىل جانب �أن الأندل�س هو امليدان العلمي
والت�أليفي والدرا�سي الأكرث جري ًا :جَتوا ًال وتَ�صوا ًال ( �أو مجُ اولة و ُم�صاولة)،
فلم يكن كتابتها �سهلة امل�أخذ واال�ستيعاب والتقدمي ،املتنا�سب مع لونها
وهدفها وتدقيق معلوماتها ،دون الدخول يف مناق�شات التباين يف حمتوياتها،
بل تقدمي خال�صة محُْ َبكة ُم ْد َركة ُم�شْ ِرقة ،يف ثوب يمُ ِّهد ملو�ضوعها وال ِع رْ َبة
و�س ْو ِقها بهذا الثوب الذي ُتق َّدم به اليوم ،لي�صل بالقارىء �إىل من تقدميها َ
املعنى املرجو ا�ستقرا ُره يف النف�س ،ال َي ْن ُف ُ�ض وال َي ْن َف ُّ�ض عنه الهدف امل�أمول،
والذي من �أجله ُقدِّ مت هذه احلكايات.
كل ذلك مت – واحلمد ُكلُّه هلل -ب�أعلى درجات التوثيق ،التي غدت
�أوليات �ألفبائية .وبه تتجاوز الكتابة ُك ِّلي ًا هذه املرحلة� ،إىل ال�سعي احلثيث
وراء املعلومات يف كل مظانها ،ال ت�ستثني اللغات الأخرى ،ونوادرها العربية
منها ،مطبوعة كانت �أو خمطوطة .كل ذلك مع النظر العلمي الذي يتحرى
احلقيقة ويو�ضحها ،مع �أيِّ �أحد كانت ،ب�إن�صاف حمكم تام ،حيث يتوفر
الدليل ويقود ،ومع النظر يف بواطن الأمور ومدلوالتها ،بتفتح وا�سرتخاء
وا�ستئنا�س ،املت�ضمن الغرية على احلقيقة والعناية بها وقولها .وهذا بنف�سه
ُيعبرِّ عن اجلهد املبذول يف هذه الكتابة ويبني نوعيتها ومتيزها.
13
�إن كرث ًة من هذه احلكايات ال ت َِردُ ،حني يجري تناول كثري من
املو�ضوعات البحثية العامة .واحلق �أنها ال يجب �أن ُت رْتَك �أو ُت ْه َمل �أو ُت ْب َعد عن
تناول املو�ضوعات التاريخية ،لكنها قد ال جتد لها مكان ًا منا�سب ًا معها .ومن
هنا كان من املهم ِلزام ًا �أن ُتق َّدم وال ُت�ض َّيع ،جلمالها وت�أثريها ومكانتها ،يف
ال�سياق التاريخي وجمريات الأحداث وحبكة الرتابط املو�ضوعي .وجرت لها
العناية الفائقة الالزمة احلازمة ،فا�ستفرغت جهد ًا ووقت ًا ومثابرة للو�صول
بها �إىل �أف�ضل م�ستوى من البحث النوعي واجلدارة والن�ضارة ،من غري �أن
تفقد طبيعتها وم�ضمونها ونكهتها ،مع احلفاظ على �أهليتها العلمية ب�أكرب
دقة وثقة ومرجعية لت�أخذ مكانها.
و�أحتاج منك � -أخي القاريء الكرمي والقارئة الكرمية � -أن تتوجه
�إىل اهلل تعاىل بدعوة كرمية �صاحلة يل وللأمة – �سلف ًا وخلف ًا و�أجيا ًال -
�صاحبة هذا التاريخ وح�ضارته ،بالربكة والعافية والأجر و�أن يتقبل هذا
العمل ويجعله عبادة وجهاد ًا وخدمة لدينه.
و�إين لأظن متام ًا – تبع ًا لهذا كله � -أن كل حكاية ت�صلح دون تردد
�أن تكون ممثلة على �شكل م�سرحية �أو م�سل�سل تاريخي جميل وجذاب وم�ؤثر،
حيث قلما جند م�سل�س ًال تاريخي ًا خالي ًا من احل�شو واللغو والتحريف،مما
يجعله �أحيان ًا فج ًا ومهله ًال وحمبط ًا،بحيث ي�ستخ�سر فيه ذلك اجلهد واخلدمة
والبذل� ،إال �إذا ا�سثنينا الديكور واملالب�س والتجميل( امل�ساحيق)!!! .ولذلك
فتاريخنا بحاجة �إىل من يقدمه بعيد ًا عن التجارة� ،إال �أن تكون جتارة رابحة
نافعة مثمرة.
وال�شكر مو�صول �إىل كل َمنْ عاونني يف هذه احلكايات� ،سواء
بالت�شجيع والكتابة واملتابعة �أو غريها ،واهلل يبارك اجلميع ويثيبهم اخلري
العميم .و�آخر دعوانا �أنْ احلمد هلل رب العاملني.
14
1
�سفارة �أندل�سية
�إىل الدامنارك
15
�سفارة هي من غرائب وعجائب وجنائب الدبلوما�سية الأندل�سية ،قادها
ال�سيا�سي والدبلوما�سي اللبق و�شاعر الأندل�س وحكيمها املبدع :يحيى بن
اجل َّياين من مدينة جيان � ،JAENشرق مدينة قرطبة(، )1 َح َكم الغَزَ ال َ
الذي لقبه بالغزال الأمري الأندل�سي عبدالرحمن الأو�سط ( 238هـ =
852م) لو�سامته بقوله« :جاء الغزال بح�سنه وجماله»ُ ،ع َّمر الغزال نحو مئة
عام (250 - 154هـ = 864 - 770م) ،عا�صر خاللها خم�س ًا من �أمراء
الأندل�س :الداخل وه�شام واحلكم والأو�سط وحممد ،ميثله قوله:
�أدركتُ بامل�ص َر ملوك ًا �أربع ْه وخام�س ًا هذا الذي نحن مع ْه
لقد �سبق �أن كان للغزال �سفر (تويل �سفارة دبلوما�سية) للأمري
عبدالرحمن الأو�سط �إىل ال ُق�سطنطينية (تركيا � -إ�ستانبول اليوم� ،أو
�إ�سالم بول� ،أي :مدينة الإ�سالم) بحر ًا من �ساحل الأندل�س ال�شرقي
( ُم ْر ِ�س َية )(MURCIA225هـ= 480م) ولقاء �إمرباطورها َت ْو ِف ِل�س
( ،)2()Theophilusو�إذا كانت هذه ال�سفارة ال تخلو من غرائب
ممتعة ،ف�إن �سفارته �إىل الدامنارك � Denmarkأ�ش ُّد غرابة و�أك ُرث
أوعب نوادر واجنذاب ًا.
مهابة و� ُ
كانت �سفار ُتنا هذه �سنة 230هـ = 844م �إىل الدامنارك �أيام الفايكنج
( The Vikingsوهم :النورمان -املجو�س الأ ُر ْد ُمانيون) خالل حكم
ملكهم هوريك 240(Horicهـ =854م) املتن�صر حديث ًا من الوثنية؛ �إذ
�أر�سل �سفارة �إىل الأندل�س �أيام الأمري عبدالرحمن الأو�سط ،تطلب �صداقة
الأندل�س بعد هزميتهم (النورمان) يف هجومهم البحري املفاجئ (229هـ /
844م) على �شواطئ الأندل�س الغربية عند ل�شبونة Lisboa,Lisbon
-1عنه وعن �سفارته �إىل الدمنارك ،انظر ر�سالة الدكتوراه:
Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe,pp. 166 ff.
وترجمتها العربية :العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية 322 ،وبعدها
-2عن هذه ال�سفارة ،انظر :العالقات الدبلوما�سية بني الأندل�س وبيزنطة 66-29 ،املقتب�س ،ابن
حيان ،الق�سم الأول من اجلزء الثاين ،ورقة 160ب �163 -أ.
16
(عا�صمة الربتغال اليوم) ،ف�أجابهم الأمري عبدالرحمن الأو�سط بهذه
ال�سفارة برئا�سة الغزال(230هـ845 /م).
�أبحرت ال�سفارة الأندل�سية برئا�سة الغزال � -صحبة الوفد الدامناركي
العائد -من مدينة ِ�ش ْلب ( Silvesالربتغالية اليوم) ،متخر ُعباب مياه
الأطل�سي مبحاذاة ال�ساحل الأندل�سي الغربي �شما ًال ،جمتازة �أمواجه العاتية
املهلكة املغرقة وتياراته الهوجاء ال�ضاربة ،لت�صل �إىل الدمنارك عرب بحر
املان�ش )English) Channel la mancheوم�ضيق
دوفر ،strait of doverوبحر ال�شمال ،north sea
و�صو ًال �إىل الدامنارك.
وجرت للغزال هناك حكايات وطرائف ومواقف ُي�شاد بها ،تنبئ عن قوة
تربيته الإ�سالمية ،ونوعية بناء املجتمع الإ�سالمي امللتزم ،وعنها ينطلقون
يف كافة �أحوالهم ،ال تغلبهم االعتبارات الدبلوما�سية ،ر�سوم ًا و�أعراف ًا
و�أو�صاف ًا.
ا�ستغرقت �سفارة الغزال �إىل الدامنارك -ذهاب ًا و�إياب ًا -ع�شرين �شهر ًا،
كانت مليئة بالغرائب والعجائب والطرائف ،كلها ُت َ�س َّجل �ضمن املفاخر
والأجماد� ،سواء يف رحلة الذهاب البحرية �أو الإياب الربمائية� ،أو �أثناء
الإقامة هناك ،وما دار من لقاءات ومنازالت ومناظرات وما كان من �إعجاب
القوم به ،بل وتعلق امللكة نود ،nudزوجة امللك هوريك ،وكان «للغزال
معهم جمال�س مذكورة ومقا ِوم م�شهورة ،يف بع�ضها جادل علماء هم فب َّكتهم
ويف بع�ضها نا�ضل �شجعانهم ف�أثبتهم ،وملا �سمعت امر�أة ملك املجو�س بذكر
الغزال وجهت فيه لرتاه»(.)3
توفرت �أخبار هذ ال�سفارة امل�شوقة لدى ابن ِد ْحية الكلبي الأندل�سي
( 633هـ =1235م) يف كتابه «املُ ْطرب من �أ�شعار �أهل ا َملغْرب» ،رواية
-3املطرب.145،138 ،
17
عن �صديق الغزال ّمتام بن َع ْلقمة ،وبعد ا�سرتاحة ال�سفارة يف البالط
خذت الإجراءات للقائها بامللك و�أطلعوا على قواعد و�آداب الدامناركي ا ُت َ
املقابلة ،ETIQUETTEوكان منها االنحناء للملك عند الدخول ،ف�أبى
الغزال ذلك ،مبين ًا ب�إ�صرار �أن االنحناء ال يكون �إ ّال هلل تعاىل ،حتى لو مل تتم
املقابلة ،فما كان منهم �إال اال�ستجابة.
ويف يوم اللقاء ،احتالوا عليه فو�ضعوا يف �صدر جمل�س امللك َم ْد َخ ًال
مقو�س ًا منخف�ض ًا ،حيث ال ي�سع الداخل �إال االنحناء �أمام امللك ،ويكونون
قد حققوا رغبتهم ،لكن ال�سفري امل�سلم الذكي الأملعي الأبي� ،أدرك احليلة
حا ًال ،فما كان منه �إال �أن «جل�س على الأر�ض وزحف حتى اجتازه ،وباطن
قدميه �إىل وجه امللك ثم قام ،وهكذا جل�س �إىل الأر�ض وقدم رجليه وزحف
على �إ ْليتيه زحف ًة ،فلما جاز الباب ا�ستوى واقف ًا وامللك قد �أع ّد له و�أحفل
يف ال�سالح والزينة الكاملة ،فما هاله ذلك وال ذعره» ( ،)4و�سلم على امللك
وم�ضى يف جمل�سه داعي ًا وم�ست�شهد ًا ب�آية كرمية}
{ (الق�ص�ص ،)88ف�أعظم امللك كالمه وقال:
هذا حكيم من حكماء القوم وداهية من دهاتهم» ( )5متعجب ًا من جلو�سه
على الأر�ض وتقدمي رجله يف الدخول ،قائ ًال�« :أردنا �أن نذله فقابل وجوهنا
()6
بنعليه ،ولوال �أنه ر�سول لأنكرنا ذلك عليه» .
وبعد بقاء الغزال يف بالط ملك الدامنارك ما يزيد على ال�سنة ،عاد �إىل
قرطبة الأندل�س ،لكن عن طريق �إ�سبانيا الن�صرانية التي دخلها من خليج
ب�سكاي � BAY OF BISCAYإىل مدينة �شن�ست ياقب SANTIAGO
،DE COMPOSTELAوبقي عند ملكهم نحو �شهرين ،ومن هذا
الطريق عاد داخ ًال �إىل الأندل�س ،لي�صل �إىل قرطبة ،حا�ضرة الأندل�س
-4نف�سه.
-5نف�سه.
-6نف�سه..
18
العامرة ،بعد مرور نحو �سنتني �أنفقها يف هذه الرحلة منذ انف�صل عنها
ذهاب ًا و�إياب ًا.
وتتوافر تفا�صيل كثرية �شيقة لهذه ال�سفارة تت�ضمن حديث ًا عن احلياة
االجتماعية والدينية لأهل الدامنارك ،كما حتتوي و�صف ًا جغرافي ًا ،و ُت�سمى
الدامنارك عند بع�ض اجلغرافيني امل�سلمني ،كال�شريف الإدري�سي (560هـ)،
َ ()7
�صاحب كتاب :نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق ،دانا َم ْر�شة.
ولعل هذه ال�سفارة �أول ارتياد �إ�سالمي هناك .وهذه واحدة من م�ضامري
وم�ضامني احل�ضارة الإ�سالمية احلافلة بالفتوحات املتنوعة ،ويف جانبها
الدبلوما�سي� ،أ�ضاءت العامل بالتزام جمتمع الإ�سالم به.
19
20
2
21
ت�سجيالت ،جتاوزت
ٍ احتوى تاريخنا الإ�سالمي والأندل�سي ومقروءاته
أحداث و�سريها الغنية احلية الذكية -حتى وقت الهبوط � -إىل ما وراءها ال َ
من الأحا�سي�س وامل�شاعر ،ب�أقالم �أ�صحابها �أو رواي ًة عنهم ومالحظاتهم
امل�ستنبطة .وكلها ذاتُ نوعية فذةَ ،تد ُعك تقر�أ الكثري من �سطورها �أو ما
وراءها ،تدلك على طبيعتهم الواقعية و�صدقهم مع �أنف�سهم وجمتمعهم،
بعد �صدقهم مع اهلل وحده ،م�صدر الرحمة واخلري كله ،واال�ستقامة والبناء
قدم لك �صور ًا نادرة
والعطاء ،ترى يف كل ذلك من بنائهم الإن�ساين الذي ُي َّ
بعيدة عن التعقيد واالدعاد والتظاهر واملظاهر املُ َه َّو َمة ِ
املوهمة اخلادعة،
تن ِب ُئك عن الثقة والو�ضوح والقوة ،حتى يف موطن ال�ضعف ،وهذا عام ملحوظ
معلوم يف تاريخنا الإ�سالمي وح�ضارته.
ونحن هنا �أمام حدث يو�ضح ذلك�َ ،ص َد َر عن الفقيه القا�ضي �أبي الوليد
ابن ال َف َر�ضي احلافظ املعروف (403 - 351هـ1013 - 962 /م)( )8الذي
جتد �أخباره يف العديد من م�صادرنا الأندل�سية ،وغريها �أحيان ًا� ،أمثال نفح
الطيب لل َم َّقري والذخرية البن ب�سام ،واملغرب البن �سعيد ،ولعل ه�ؤالء جميع ًا
نقلوا من �شيخ امل�ؤرخني الأندل�سيني َ -ب َلد ُّيه وع�صريه -ابن َح ّيان ال ُقرطبي
( 469هـ) من اجلزء املفقود من كتابه «املُ ْقتَب�س يف �أخبار �أهل الأندل�س».
رحل ابن ال َف َر�ضى �إىل امل�شرق �سنة 382هـ و�أخذ عن العلماء و�أدى احلج،
وكان خالل َحج ِه قد تعلق ب�أ�ستار الكعبة ودعا اهلل بال�شهادة ،ثم َن ِد َم و�أراد
�أن ي�ستقيل اهلل تعاىل ،فا�ستحى ومل يفعل ،ثم عاد �إىل الأندل�س ،وخالل فتنة
قرطبة ُق ِت َل �شهيد ًا �سنة 403هـ ،وقد ُر ِوي عنه ذلك بقوله« :علقت ب�أ�ستار
الكعبة و�س�ألت اهلل تعاىل ال�شهادة ،ثم انحرفت وفكرت يف هول القتل،
فندمت وهممت �أن �أرجع ف�أ�ستقيل اهلل �سبحانه وتعاىل ،فا�ستحييت» ،و�أخرب
من ر�آه بني القتلى ودنا منه ،ف�سمعه يقول ب�صوت �ضعيف« :ال يكلم �أحد
يف �سبيل اهلل ،واهلل �أعلم مبن يكلم يف �سبيله� ،إال جاء يوم القيامة وجرحه
-8عنه انظر :نفح الطيب � 92/2أو الذخرية ،183/1املغرب .301/1
22
َي ْث َع ُب دم ًا ،اللون لون الدم والريح ريح امل�سك» ،ك�أنه ُيعيد على نف�سه احلديث
ال�شريف الوارد يف ذلك(.)9
ويف هذا املثال �إ�شارات متعددة �إىل ق�ضايا كثرية مهمة ،و�إن كان مرورنا
بها الآن عابر ًا ،لكنها ُتربز يف حياته و�أمثاله �أمور ًا متنوعة مهمة ،منها:
كرثة الأعالم ،ن�ساء ورجاال ،يف ح�ضارتنا يفوق َ -ك َّما ونوع ًا ونتاج ًا -كل
ما لدى جميع �أُمم الأر�ض الأخرى وقتها من �أعالم .ومو�ضوع الأعالم يف
احل�ضارة الإ�سالمية ي�ستحق الإفراد بالدرا�سة اجلامعية املنهجية املت�أنية،
و�أن العامل يف ح�ضارتنا الذي يعمل بعلمه ويعي�ش به بني النا�س ومعهم ويقدم
لهم اخلدمات ،ال�سيما وقت الأزمات.
وابن الفر�ضي �أحد ه�ؤالء الأعالم العظماء ،و�ألف عنهم �أكرث من كتاب،
منها «تاريخ علماء الأندل�س» ،البن الفر�ضي نف�سه ،وهو الكتاب الوحيد الذي
و�صلنا من م�ؤلفاته التي �ضاعت �ضمن ما �ضاع من نفائ�س ذخائرنا ،و�أثمر
كتابه هذا متابعة الت�أليف يف مو�ضوعه ( ،)10منها :عمق املعرفة وت�أ�صلها
خل ْل ِقية ،وقد كانتومتكنهم فيها حتى لك�أنها موروثة وراث َة املوا�صفات ا َ
عامة و�شاملة ،حتى َليمكن القول �إنه مل يكن فقط ال يوجد يف الأندل�س
� َّأم ٌّي واحد ،بل كان العلم واملعرفة عامة لدى اجلميع ،و�إن كرث ًة من العلماء
كانوا مو�سوعيني ،ولعل اللقب العلمي «احلافظ» يت�ضمن ذلك .فقد كان
ابن الفر�ضي قا�ضي ًا ،توىل الق�ضاء يف �أكرث من مدينة �أندل�سية ،وفقيها
ومحُ َ َّدث ًا حافظ ًا للحديث متقن ًا للعلومُ ،ي ْر َحل �إليه ،وم�ؤرخ ًا وعامل ًا يجمع فنون
العلم ،بارع ًا ف�صيح ًا و�شاعر ًا ح�سن ال�شعر والبالغة واخلط واجلودة ،يدل
القليل الذي و�صلنا من �شعره على منزلته فيه ،وقد احتذاه �شعراء و�أخذوا
من معانيه ،و�أ�شبه هذا التنوع املبني على �أ�سا�س كرمي وقيم الإ�سالم و ُم ُثله
الط َّيب املتنوع الطعوم والألوان ،فيه للنا�س �شفاء ومن �شعره: بال ّنحلُ ،ي َقدم َ
-9رواه البخاري ،3952وم�سلم ،6781والن�سائي 6903عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه.
-10راجع :الكتب واملكتبات يف الأندل�س (للم�ؤلف)� ،ص 15وبعدها
23
�أ�سري اخلطايا عند بابك ُ
واقف
ـارف على َو َج ـ ٍـل َع ّما به �أن��ت عـ ُ
ي��خ��اف ذن��وب�� ًا مل ي��غ ْ��ب ع��ن��ك غيبها
ـائف راج وخـ ُ
ويــرجــوك فيهــا فه ــو ٍ
وم��ن ذا ال��ذي ُي��رج��ى ���س��واك ويتقى
ُ
خمالف ومــا لك يف ف�صــل الق�ضاء
ْ��زين يف �صحيفتي فيا �سيدي ال ُت��خ ِ
ُ
ال�صحائف يوم احل�ساب �إذا ُن ِ�ش َرت َ
وك��ن م�ؤن�سي يف ظلمة القرب عندما
َي ُ�صـ ـ ُّد ذوو القــربــى ويجـفو امل� ُ
ؤالف
لئن �ضاق عني َعفْوك الوا�سع الذي
�أُ َر ّج ـ ــي لإ�س ـ ـ ــرايف ف ـ�إنـ ــي لت ــال ُـف
ُيذكر -بغري حق وال علم � -أن الفقهاء جتمدت �أحا�سي�سهم الأدبية،
فكان �أدب الفقهاء و�شعرهم جامد العاطفة ثقيل التعبري �ضعيف اجلودة.
لكن الأمر لي�س كذلك �أبد ًا .فبجانب ال�شعر العلمي ك�ألفية ابن مالك ،التي
و�أمثالها ،ال تخلو من جمال الت�صور والت�صوير والطرافة والنكتة الذكية ،ف�إن
�أدب الفقهاء -نرثا و�شعر ًا -ميتاز بعذوبة التعبري ورقة العاطفة ال�صادقة
النظيفة و�صدق الأحا�سي�س ودقة الو�صف والغور النف�سي والإن�ساين وهدف
املق�صود �أكرث من غريهم .علم ًا ب�أن درا�سة املجتمع الإ�سالمي ب�أكمله يف
الأ�سا�س فقهية ،ثم يكون التخ�ص�ص.
وللأ�سف،ف�إن كثريا من اهتمام الدرا�سات واملناهج والنتاج املعا�صر
واملتابعات الغالبة ركزت على درا�سة ال َّنتاج الهابط املظلم الذي بع�ضه ملفق،
ولذلك جمعت طائف ًة غري قليلة من النماذج الأدبية الكرمية يف الأندل�س
و�سميته «�صالح �شعر ال�شعراء»( ،)11وينتظم ابن الفر�ضي �ضمن ه�ؤالء،
-11راجع التاريخ الأندل�سي� ،ص.346
24
و�إليك ما قاله يف �أ�سرته حني فارقهم واجته �إىل امل�شرق:
َم َ�ضت يل �شهور منذ غبتم ثالث ً ة
غبتم �شهرا وما ِخ ْلتُني �أبقى �إذا ُ
وما يل حيا ٌة بعدكم �أ�ستل ّذها
ولو كان هذا مل �أكن يف الهوى ّحرا
طول التنائي عليكم و ُمل ْي�س ِلني ُ
بل زادين َوج��د ًا َو َج��دد يل ذكرى
طول �شوقي � ُ
إليكم مي ّثلكم يل ُ
وي��دن��ي��ك ُ��م ح��ت��ى �أن��اج��ي��ك ُ��م �سر ًا
أ�ستعتب الده َر المَ َ َفرق بيننا
�س� ُ
وهلنافعي�أن�صرتُ �أ�ستعتبالدهرا
�أع ّلل نف�سي باملنى يف لقائكم
و�أ�ست�سه ُل الرب الذي ُج ْبتُ والبحرا
طي املراحل ُ
عنكم ؤن�سني ُّ
وي� ُ
أروح على �أر�ض و�أغدو على �أخرى � ُ
وتاهلل ما فارقتكم عن ِق ًلى لكم
ت َرىولكنها الأق��دا ُر جتري كما جُّْ
َر َعتْكم من الرحمن عني َب�صرية
عنكم �سرتاوال ك�شفت �أيدي النوى ُ
ويقول متغز ًال يف زوجته:
�إن الذي �أ�صبحت طوع ميينه
�إن مل ي��ك��ن ق��م��ر ًا فلي�س بدون ِه
ُذ َيّل له يف احلب من �سلطانه
و�سقام ج�سمي من �سقام جفونه
25
وهذا كل ما و�صلنا من �شعره و�أظنه قليل من كثري ويدل على �شاعرية
مرهفة قوية عالية .وميكن �أن ي�ستنتج �أن هذين البيتني �سبقهما �أُ َخر .وتكاد
تكون هذه الأبيات هي كل �أو ُج ّل ما و�صلنا من �شعره.
26
3
عائ�شة احلرة
الأندل�سية
27
28
احل�ضارة الإ�سالمية -ومنها الأندل�سية -ث ّرة مدرارة ،ترى غناها
متدفق ًا ،يعجلك ويدافعك �أو ي�سابقك ويغلبك على نف�سه �أو نف�سك .وهذا
يتم عندما تغو�ص يف الأعماق منه ،بال ُع ّدة الالزمة امل� ّؤهلة ،مرتوي ًا متب�صر ّا،
بدوافع نية ذاتيةُ ،ع َّدتها �إميان باهلل تعاىل عميق را�سخ و�إخال�ص له
�سبحانه.
لالطالع ول ْإطالع اجليل عليها ال�صيغ وتقدميها ُمهم َّ �إن ا�ستعرا�ض هذه ّ
وتفهمه لها ،كي يحاكي منطلقاتها ويتبناها ويبني كما بنوا ،فالإ�سالم �أنزله
اهلل تعاىل لكل الأجيال لينريوا به احلياة ويعمروها على �أ�سا�س �سليم كرمي،
ويقيموا احل�ضارة الإن�سانية احلقة ،لقد �شارك يف �صناعتها عموم املجتمع
الإ�سالمي -مبقدار االلتزام به -من الن�ساء والرجال ،كبار ًا و�صغار ًا ،ووجد
فيها َغ رْ ُي امل�سلمني اجلو الذي يح ُلمون به ،بل رمبا مل يكن يخطر لهم على
بال .كل ذلك غاب فهمه عن كثري من م�سلمي هذا اليوم ،فكيف بغريهم؟
كثري ًا ما يدور نقا�ش حول املر�أة وحقوقها وموقعها يف الإ�سالم ،جمتمع ًا
وح�ضارة ،وامل�سلمون يف الغرب اليوم يواجهون ويوجهون �أمطار ًا من الأ�سئلة
عن املر�أة ،وهوما دعاين �إىل التفكري واال�ستعداد لو�ضع م�ؤ ّلف� -إن �شاء اهلل-
عن «املر�أة يف احلياة واحل�ضارة الإ�سالمية»� ،أرجو اهلل تعاىل �أن �أوفق له.
واحلق �أن هذا الأمر وا�ضح معلوم لوال اجلهل بحقائق الإ�سالم .وللمنا�سبة
فقد عقد م�ؤمتر عن املر�أة يف الإ�سالم يف �إحدى الدول العربية ،وكان بني
املتحدثني م�ست�شرقون� ،أحدهم فرن�سي ،فلما جاء دوره يف احلديث ذكر �أن
الذي يعلم قلي ًال عن الإ�سالم يعرف مكانة املر�أة فيه ،وهو ما يعني �أ ّال داعي
ملثل هذا امل�ؤمتر ،لأن خري مكانة للمر�أة هي مكانتها يف الإ�سالم .ورمبا كانت
هذه هي ورقته للم�شاركة يف هذا امل�ؤمتر املخ�ص�ص للمر�أة يف الإ�سالم.
وعلى الرغم من �أن املر�أة امل�سلمة تعلم �أن مهمتها الأوىل والأهم رعاية
الأ�سرة وتربية الأوالد و�إعدادهم لبناء احلياة الفا�ضلة بالإ�سالمّ � ،أهلها
29
اهلل فطر ًة وخلق ًا وطبيعة للقيام بهذا الواجب ،و�أعدها ومبا يتالءم وهذه
املهمة ،نف�س ّي ًا وفكر ّي ًا وبدن ّي ًا ،ف�إنه �أباح لها القيام ب�أعمال �أخرى خارج البيت
وامل�شاركة يف كافة امليادين ،ال�سيما العلمية والعملية ،بل و�أ�صعبها حتى على
مواقف ومواق ُع بناءة ،من �صدق الوفاء وااللتزام، ُ الرجال الأقوياء ،ولها
و ُكتبت يف ذلك �صفحات خالدة جميدة وم�ضيئة ،ابتدا ًء من ال�صحابيات
قدوات الأمة ولهن .كل ذلك كان بن�ش�أتها الإ�سالمية وتربيتها لأوالدها،
فكانت حم�ضن احلنان والبناء بالإميان .وحني تتخلى عن ذلك َيتج ّرع
النا�س من امل�شاكل اجل�سام ،مما ال ينفع معه �أي عالج وال امل�ؤمترات التي ُ
تقام ملواجهتها هنا وهناك.
وهذا َيظهر جل ّي ًا على مدار التاريخ الإ�سالمي وح�ضار ُته يف كافة البلدان،
التي كان منها الأندل�س ،الذي احتوت ح�ضار ُته �صيغ ًا ن�سوية باهرة ،والأمثلة
جد كثرية .فهذه عائ�شة احلرة الأندل�سية واحدة منهن ،وهي غري َ�سمِ يتَّها
املغربية بنت �أحد املجاهدين يف مدينة تطوان -يف اململكة املغربية اليوم -
التي تزوجت حاكم تطوان ،حفيد �أحد مهاجرة الأندل�س ،وحكمت املدينة بعد
وفاة زوجها� .أما �سميتها الأندل�سية فهي زوجة �سلطان الأندل�س �أبو احل�سن
على الغالب باهلل ،و�أم �آخر ملوك غرناطة :Granadaحممد احلادي
ع�شر� ،أبو عبداهلل ال�صغري ،ويعرف بالإ�سبانية بوبديل ،Boabdilوبه
يعرف حتى عند ال�شعب الغرناطي اليوم ،وهو الذي وقع معاهدة ا�ست�سالم
وت�سليم غرناطة ،ثم كان اال�ستيالء عليها �سنة897هـ = 1492م.
ثم كانت مغادرته الأندل�س نهائي ًا �إىل املغرب -بعد �أقل من �سنتني -لي�ستقر
يف مدينة فا�س املغربية ،ويقدم ر�سالة اعتذار مطولة �إىل �سلطانها(.)12
30
لقد كانت مفاو�ضات اال�ست�سالم ثم التخلي عنها للملكني الكاثوليكيني
فرناندو و�إيزابيل FERNANDO, ISABELيف �أكتوبر -نوفمرب
1491م(.)13
�صورة رقم (:)1
متثل هذه ال�صورة ت�سليم مفاتيح غرناطة من قبل �أبي عبداهلل ال�صغري (ي�سار) �إىل امللكني
الكاثوليكيني ،فرناندو و�إيزابيل (ميني) ،بعد توقيع املعاهدة قبل ذلك ،مبا يزيد على ال�شهر .ومت
ت�سليم هذه املفاتيح يف �أوائل ربيع الأول 897هـ �أوائل يناير 1492م .ثم كان دخول الن�صارى غرناطة.
(راجع كتاب هجرة علماء الأندل�س لدى �سقوط غرناطة ،للم�ؤلف�( ،ص )217 ،192 ،186:ال�صورة
موجودة يف الكني�سة الكربى ،العظمى ( )CAREDRAL, CARTHedralيف غرناطة التي
بنيت يف موقع امل�سجد اجلامع الأعظم فيها.
رحل هذا امللك ال�صغري من غرناطة احلرة الأبية الزكية ،وبعد معارك
مقفرة مفقرة مدمرة وقف لها �أبطالها بقيادة فار�سها املُعلم مو�سى بن �أبي
الغ�سان الذي رف�ض اال�ست�سالم.
-13ثم كان ال�سقوط والت�سليم يف ربيع الأول 897ه ـ يناير /كانون الثاين 1492م.
31
مع فر�سان اليم ْني ها �أبو الغ�سان ثائرْ
هَ ُّمه حمو اجلرائر �إن يثوروا بعد ح ْني
مهده هم داخلون
َ هم َي ُع ُّ�ضون الأنامل
وبينما هذا امللك ال�صغري خارج منها �إىل مدينة �أندر�ش Andarax
جنوب �شرق غرناطة من قرى ال ُب َ�ش ْرات aLpujarrasمع �أ�سرته
وحا�شيته و�أمه عائ�شة احلرة ،وقف وهو على فر�سه فوق تل البذول ينظر
�إىل غرناطة ،الدرة الفريدة امل�ضيعة التي �سلمها لقمة �سائغة للعدو ال�صليبي
هجر ،وقف فقال (اهلل �أكرب) ثم انفجر باكي ًا مت�أ�سف ًا الذي ك�سر ودمر ثم َّ
على غرناطة احلبيبة اجلميلة �آخر نظرة دامعة والتي تعرف ب ـ َز ْفرة
(ح�سرة) الأندل�سي الأخرية ،بالإ�سبانية:
sp. el ultimo suspiro del moro
وبالإنكليزيةeng. the last sigh of the moor :
32
�صورة رقم ()2
متثل هذه ال�صورة رحيل �أبي عبد اهلل ال�صغري نهائي ًا من غرناطة �إىل مدينة قريبة منها� :أندر�ش
(مرحلة ليغادر الأندل�س نهائيا �إىل املغرب بعدها بنحو �سنة) مع �أ�سرته وحا�شيته ،وكانت معهم �أمه
عائ�شة احلرة الأندل�سية ،وعندما و�صلوا �إىل مرتفع فوق تل البذول التفت ناظر ًا �إىل غرناطة باكي ًا،
فكانت هذه نظرة وهي زفرة وح�سرة.
33
34
4
حمدونة الغرناطية
ال�شاعرة
35
36
بلغت الأندل�س درجة عالية من الرقي احل�ضاري يف كافة امليادين ،ومنه
الرقي العلمي املتنوع الذي كان �أ�سا�سا للح�ضارة الأوروبية احلديثة .فكانت
الأندل�س �أكرب و�أهم معرب جلوانب من احل�ضارة الإ�سالمية �إىل �أوروبا ،لكن
هذا النقل كان حم�صورا مراقب ًا من الق�س�س والرهبان لتلك القنوات ،ملرور
ما �أرادوه دون غريه ،حيث ال مير �شيء له عالقة بالإ�سالم عقيدة و�شريعة
و�أخالق ًا ،و�إن تفلتت من ذلك �أمور حمدودة غلبتهم ،و�سمحت فقط للعلوم
البحتة ،pure scienceفقطعت تلك العلوم من �أ�صولها وارتباطها،
و�صارت �أداة مل�صاحلها ،وا�ستعملت كذلك يف ال�شرور املبيدة املبرية ،والع�صر
احلا�ضر على ذلك دليل� ،أي دليل.
واحل�ضارة الإ�سالمية ال تعرف هذا اللون من ا�ستعمال العلم وثماره
املرة لأنها م�ؤ�س�سة على الإميان باهلل وتوحيده ومرتبطة بالعقيدة الربانية
و�شريعتها ،فهي ح�ضارة التوحيد الوحيدة ،وح�ضارة الرحمة والعدل واحلق
الأكيد الفريد من بني احل�ضارات ،قدميها وحديثها.
لقد حاربت البابوي ُة كني�ستها هذه العلوم ،لأنها منقولة �إىل �أوروبا من
احل�ضارة الإ�سالمية .ولهذا ال�سبب وغريه� ،أحرقت حماكم تفتي�شها كل من
�أ�صر على تلك املعارف من العلماء الأوروبيني ،من �أمثال :عامل الفلك الإيطايل
جيوردانو برونو 1600( Giordano Brunoم) ،وجنا منها من
تنازل عن مقوالته العلمية من �أمثال:غاليلو Galilei Galileo
(1642م)� ،أما كوبرنيك�س البولندي Nicolas Copernicus
(1543م) فقد �أنقذه املوت!.
حققت الأندل�س هذا الت�ألق احل�ضاري الفريد ذا الكيان والتكوين
الإ�سالمي ،يف وقت كان كل ما حولها مظلم ًا ومتخلف ًا وتالف ًا� ،إن�ساني ًا وفكري ًا
وخلقي ًا ،فنهلت �أوروبا من هذه احل�ضارة ،فكانت توفد طالبها �إىل اجلامعات
الأندل�سية ،يتلقون منها العلم ل�سنوات.
37
لقد عم العلم �أهل الأندل�س ،ن�ساء ورجاال ،وظهرت الن�ساء يف امليادين
املتعددة العلمية والأدبية ،وكل ما يتنا�سب مع تكوينها وفطرتها ووظيفتها،
ونبغت يف الآداب بكل فنونه ال�شعرية والنرثية ،و�أبدعت يف ذلك فنون ًا،
ولي�ست املو�شحات �إال فن ًا �أندل�س ّي ًا وليد ًا.
ولدينا من ال�شواعر قائمة طويلة منهن تناولن �أرق املعاين و�أدقها
وارجتلنه و�أجزنه ،ودع �شهرة والدة بنت امل�ستكفي ومن نتاجها ال�شعري
الذائع وما اتهمت به وما �أُ ْل ِ�صق بها ،بكل ما فيه من ُزور.
فهذه اعتماد ال ُّرميكية �أجازت ن�صف بيت قاله املعتمد بن عباد
وقتئذ -وجماهدها،
(488هـ = 1095م) �أمري �إ�شبيلية و�شاعر الأندل�س ٍ -
الذي كان يف قارب يجول يف نهر �إ�شبيلية sevillaالوادي الكبري
guadalquivirمع �صديقه ال�شاعر املعروف ابن عمار الذي عجز
عن �إمتامه ،ف�إذا جارية تعمل يف �أحد البيوت املطلة على نهر الوادي الكبري،
تغ�سل �شيئ ًا فيه� ،سمعته ف�أجازته ،ف�أعجب بها املعتمد وتزوجها ،وكانت �أم
�أوالده امللوك ،قال املعتمد حني ز َّردت( )14الريح وجه ماء النهر:
�صنع الريح من املاء َز َردْ
وقال ل�صديقه� :أجز ،ف�أطال ابن عمار الفكرة ومل يفعل ،ف�أجازته امر�أة
من الغ�ساالت (اعتماد):
� ُّأي درع لقتال لو َج َم ْد
�أما َحمدونة (�أو حمدة) الغرناطية بنت زياد امل�ؤدب ال�شهرية -ومثلها
�أختها زينب -من �ساكني وادي احل َّمة بقرية بادي من مدينة وادي �آ�ش
Guadixعلى بعد 53كم �شمال �شرق غرناطة ،Granadaومن
�أعمالها� ،أي توابعها �إداري ًا ،قريبة من جبل الثلج� :سريانيفادا Nevada
� Sierraضمن �سل�سلة جبال �شلري (�شلري) :ال�شم�س ،الذي ال تفارق
الريح وجه املياه يف متوجه مثل حلق (حلقات) الدرع املتما�سكة املت�سل�سلة املرتابطة.
-14جعلت َ
38
الثلوج قمته طوال العام ،وهو كذلك الآن.
ُ
ومدينة وادي �آ�ش مدينة جليلة قد �أحاطت بها الب�ساتني والأنهار ،وقد
خ�ص اهلل �أهلها بالعلم والأدب وحب ال�شعر ،ومن عجائبها املذكورة �أنه
توجد قربها �إحدى �شجرتني يف الأندل�س من ال َق ْ�سطل (من ف�صيلة البلوط:
الك�ستنة �أبو فروة) ،يف جوف كل واحدة منها حائك ين�سج الثياب ،وذلك
ل�ضخامة هذه ال�شجرة املُ َع َّمرة .وال عجب ف�إن يف حدائق احلمراء بغرناطة
�شجرة ي�سمونها ال�سلطانة ،وعمرها يزيد على � 700سنة ،وكانت حية ُمورقة
�إىل قبل نحو ع�شرين �سنة.
ولعل جمال البيئة والطبيعة الأندل�سية ،ب�أ�شجارها البا�سقة و�أزهارها
العبقة وثمارها ومياهها قد ك�سى �أدبهم جما ًال وبها ًء ور َّقة ،بهذه ال�صيغ
وال�صور املزدهرة الرقراقة ،وفتق الطاقات وفتح للقرائح الأدبية �أبواب ًا
وارتقى بها و�أ�ضفى عليها ِر ّقة� ،أية رقة!.
وو�صفت ب�أنها �شاعرة الأندل�س� ،شعرها ُلقبت حمدونة بخن�ساء املغربُ ،
رقيق رقراق �أك�سبته وك�سته جما ًال بتعبرياتها ومعانيها و�صورها الأدبية
اجلديدة .لها عدة ق�صائد مما تبقى من �شعرها ،خرجت مرة مع رفيقات
لها �إىل نهر مدينة وادي �آ�ش ،فقالت ت�صف ذلك ب�أبيات ،منها:
لــه للحـُ ْ�ســن �آثـ ــا ٌر َبـ ـ ـ َوادي �أباح الدم ُع �أ�سراري بوادي
يرف بكل وادي رو�ض ُّ ومن ٍ نهر يطوف بك ّل َر ْو�ض
فمِ نْ ٍ
ومن �شعرها هذه القطعة الرائعة -ذات الأبيات اخلم�سة -التي رمبا لها
تتمة مل ت�صلنا .وجلمالها ورقتها و�إجادتها ادعاها �آخرون� ،أو ن�سبت �إليهم،
()15
حتى يف امل�شرق .ولكن الثابت وامل�ؤكد �أنها حلمدونتنا هذه
-15انظر :نفح الطيب ،288/4 ،الإحاطة يف �أخبار غرناطة ،489/1 ،املغرب يف حلى املغرب ،ابن
�سعيد ،146/2 ،حتفة القادم ،ابن الأبار .،235 ،معجم الأدباء ،ياقوت احلموي .1212/3 ،تاريخ
الأدب العربي ،عمر فروخ 531/5 ،ـ 556احل�ضارة الإ�سالمية يف الأندل�س �ص 37وما بعدها.
39
وقانا لف َْح َة ال َّرم�ضا ِء واد
العميم
ِ َ�س َقاه م�ضاعف ِ
الغيث
َح َل ْلنا َد ْو َح ُه فحنا علينا
الفطيم
ِ ُح ُنو املر�ضعات على
و�أر�شفنا على َظ َم�أٍ ُز ً
الال
�ألذ ِمنَ املدامة للندمي
ال�شم�س �أ َّنى واجهتنا
َ ي�ص ُد
ف��ي��ح ُ��ج�� ُب��ه��ا وي���أ ذنُ لل ّن�سيم
يرو ُع َح�صا ُه حال َية ال َعذارى
()16
جانب ال ِعق ِْد ال َّنظيم
فتلم�س َ
ُ
-16قالت حمدونة ت�صف بهذه الأبيات نهر ًا رمبا حول �ضفافه غابة �أو هو يجتازها وي�سقي تلك الغابة
الرائعة بخ�ضرائها يجري فيها مبائه الزالل اللذيذ ال�صايف ،والظاهر �أنه نهر �صغري داخل الغابة
يجري منحدر ًا ب�صفائه و�سيله الرائق املتدفق .ولعلها لو �شبهت ماءه يف البيت الثالث بت�شبيه �آخر
لكانت قد ا�ستكملت بهذه الق�صيدة املحامد وحازت اجلمائل وجمعت احلمائل من �أطرافها.
ت�شري ال�شاعرة حمدونة يف البيت الأخري �إىل روعة و�صفاء مياه النهر وجمال قاعه الذي تغطى بهذا
احل�صى اجلميل الوا�ضح للناظرين حتى ليخيل للفتاة التي تلب�س عقد ًا �إذا نظرت حل�صى النهر
داخلها اخلوف على عقدها متفقدة �إياه جتده ال يزال يف مكانه يزين جيدها فتطمئن حامدة اهلل
تعاىل على �أنها مل تفقده ،وعندها ت�شرع يف اال�ستمتاع يف النهر متملية من جماله الفريد.
40
5
ُ
امللك تاجه ورهن
41
42
وقت التزم فيه امل�سلمون بدينهم �إال وفتح اهلل لهم بذلك املغاليق،ما من ٍ
وحققوا االنت�صارات يف امليادين كافة ،وعا�شوا �أعزة يحفون �أنف�سهم بالرب
وينعمون باخلري العميم وال�سعادة الكرمية واحل�ضارة الو�ضيئة ،ولكل َمنْ
حولها ومعهم والنا�س �أجمعني .وتلك ظاهرة مل تت�أخر على مدار التاريخ
و�أطوار القرون ،وهذا يعني اليوم �أنهم �إذا �أرادوا �أن تكتنفهم تلك النعم ،فما
عليهم �إال ال ُ
أخذ باملنهج الرباين الذي �أراده اهلل للب�شرية ،يقودون به احلياة
نحو احل�ضارة الإن�سانية احلقة.
وما ال�شقاء الذي يلف الب�شرية ومدنيتها اليوم ويخنق �آمالها -بعد ما
حتققت لها املنجزات العلمية � -إال ملا �أدارت ظهرها لهذا املنهج ،متقلبة
يف �شتى املناهج الأر�ضية والو�ضعية ،التي ذهب بريقها الأخاذ ،وقد ادعت
لنف�سها ما مل تنجز منه �شيئ ًا ،وهي حتم ًا ال ت�ستطيع ،لأنها ال متلك �أ�سباب
ذلك ،وحتى بعدما امتلكت قواها �أزمة احلياة وا�ستبدت بها ،متالعبة
مب�صائرها ،مقامرات ومغامرات نفعية �أنانية خادعة مدعية ،رغم كل ما
حتمل من �شعارات براقة ،فهي خالية عموم ًا من كل م�ضمون كرمي.
و َيرد هنا قانو ٌن هداين اهلل تعاىل �إليه -ا�ستخرجته من خالل َ�س رْي
التاريخ الإ�سالمي� -أ�سميه« :اخلط البياين املزدوج» ،فلو ر�سمنا خط ًا بياني ًا
ميثل احليا َة الإ�سالمية -خالل م�سريتها -انت�صار ًا وانح�سار ًا ،ارتقا ًء
وانزوا ًء ،تقدما وتخلفا ،ثم ر�سمنا خطا بيانيا �آخر ميثل مقدار التزام
امل�سلمني بالإ�سالم خالل تاريخهم ،وو�ضعنا اخلطني �أحدهما فوق الآخر
لتطابقا متام ًا .وهذا يعني �أن التقدم يف احلياة الإ�سالمية كان مرتبط ًا دوم ًا
مبقدار التزام امل�سلمني مبنهج اهلل تعاىل ،وبهذا االلتزام حققوا الأعاجيب
التي ال تكون �إال به ،وذلك �أن تقارن مبا �شئت وكيف ومتى �أحببت .والب�شرية
جمعاء اليوم بحاجة �إليه ،و�إن الذي لديها غري م�ؤهل لتحقيق احلياة الكرمية
املرجوة.
وتوجد يف تاريخنا الإ�سالمي وح�ضارته �أدلة كثرية على ما حققه هذا
43
املنهج الرباين للإن�سان ،مما يعد فرائد ونوادر ال تكون �إال به ،وهي ت�شري
وتلفت النظر �إىل اخل�سارة يف جعل امل�سملني عموم ًا -حتى بع�ض �أهل الفهم
منهم -يزهدون يف معرفته ودرا�سته وتقدميه ،مبفاخره وازدهاره وبراءته
وبراعته ،بردائه و�أ�ضوائه ،مما جعل هذه املوا�صفات �سمة الزمة قائمة يف
ح�ضارتنا الفا�ضلة ،ب�صورة م�ستمرة ،حتدثك عن طبيعتها القائمة املعربة
عن مبانيها ومعانيها .وهي ت�شري �إىل مدى اخل�سارة الإن�سانية الكربى يف
�إبعاد هذا املنهج الذي �صنع هذه ال�صنائع وا�صطبغت بها حياته }
{ (البقرة.)138 :
فهذا اخلليفة الأندل�سي عبد الرحمن الثالث (النا�صر لدين اهلل) الذي
حكم خم�سني �سنة ( 359 - 300هـ= 961 - 912م) -والذي ُوجدت مذكرات ُه
بخط يده! ( )17ت�شري �إىل �أن �أيام ال�سرور والراحة خاللها �أربعة ع�شر يوما-
كان �أو�سع حكام العامل �شهرة ومكانة ،وامتلأ بالطه القرطبي بالقادمني،
ملوكا و�أمراء و�سفراء ،كلهم يخطب وده .ومدت �إليه �أمم الن�صرانية
من وراء الدروب يد الإذعان و�أوفدوا عليه ُر ُ�سلهم وهداياهم من رومة
والق�سطنطينية يف �سبيل املهادنة وال�سلم واالعتمال فيما َيعِنّ يف مر�ضاته،
وو�صل �إىل ُ�س َّدته ُ
امللوك من �أهل جزيرة الأندل�س املتاخمني لبالد امل�سلمني
بجهات ق�شتاله و َب ْن ُبلونه وما ُين�سب �إليها من الثغور اجلوفية (ال�شمالية)،
فق َّبلوا يده ،والتم�سوا ر�ضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه) ،ومل تبق �أمة
�سمعت به من ملوك الروم والإفرجنة واملجو�س و�سائر الأمم �إال وفدت عليه
()18
خا�ضعة راغبة وان�صرفت عنه را�ضية.
و�إليك هذه احلادثة العبقرية :ذلك �أن �شانجْ ُ ُه الرابع ()Sancho lv
�أحد ملوك ق�شتاله(� )Castileشمايل �إ�سبانيا ثار �سنة 681ه ـ
-17املغرب يف حلى املغرب ،ابن �سعيد الأندل�سي .182/1 ،نفح الطيب من غ�صن الأندل�س الرطيب،
.379/1
-18نفح الطيب.366 ،345/1 ،
44
(1282م) على �أبيه الفون�سو العا�شر العامل ()Akfanso Xelsabio
()19
بن فرناندو (فرديالند -فريديناند) الثالث بن �ألفون�سو الثامن ملك
ق�شتالة ذلك الوقت ،وهي�إحدى املمالك الن�صرانية يف �شمايل �شبه اجلزيرة
الإيبريية (الأندل�سية)� .ألفون�سو العامل ُعرف مبيله للعلم ،ومبا كانت له
�صالت مع علماء امل�سلمني ،وهوما �أثار ال�سخط عليه يف مملكته ،فا�ستنجد
هذا بال�سلطان املريني (بنو مرين ودولتهم باملغرب) �أبي يو�سف يعقوب
املن�صور ،وهرع امللك املخلوع �إىل لقائه فرهن عنده تاجه ،ذكر ذلك العديد
()20
من م�ؤرخينا
ولهذه احلادثة تف�صيالت مثرية ،جمملها� :أن �ألفون�سو هذا ا�ستن�صر
بال�سلطان املريني املجاهد �أبي يو�سف يعقوب بن عبد احلق ،امللقب باملن�صور،
الذي جاء �إىل الأندل�س غازي ًا وجماهد ًا يف �سبيل اهلل ،والذ به �ألفون�سو العا�شر
تاجه ،ذخري َة قومه ،ولقيه (ب�أحواز ال�صخرة هذا وا�ستجار و َرهَ نَ عنده َ
من ُكورة تا ُك ُر ّنا) قرب مدينة رندة Ronda ،ف�سلم عليه م�صافح ًا
()21
َو َق َّب َل يده ،ولكن ملا فرغ �أمري امل�سلمني من ذلك طلب املاء (بل�سان قبيلة
زناتة) ليغ�سل يده به من ُق ْبلة وم�صافحة �ألفون�سو ،مبح�ضر من الن�صارى
وامل�سلمني ،وملا تويف �ألفون�سو العا�شر هذا طريد ًا �سنة 683هـ (1284م)
دون �أن تتحقق �أمنيته يف العودة �إىل عر�شه ،ف�أنفرد ابنه �شاجنه الرابع،
وهذا بدوره رغب يف �سلم مع املرينيني ،فتم له هذا الأمر وعقد مع ال�سلطان
املريني يو�سف (ابن املن�صور) معاهدة �سلم فقبلت ،وكان لقا�ؤه به باجلزيرة
45
()22
اخل�ضراء جنوب جبل طارق.
ويوم جاء ر�سول �إ�سبانيا الن�صرانية �إىل مملكة غرناطة وتكلم مع رئي�س
وزرائها (ل�سان الدين بن اخلطيب 776 ،هــ) ذكره بذلك �أمام النا�س،
الذين ُذهلوا معجبني بهذا املوقف اجلريء ،وبع�ضهم قبل يده ،وهو (ومن
معه) يبكي وا�صف ًا ابن اخلطيب بويل اهلل ،جعل اهلل تعاىل ذلك خال�صا
لوجهه الكرمي(.)23
�أال تعترب هذ احلادثة من النوادر الفريدة ،التي يحتوي تاريخنا على
�أمثالها الكثري الوفري يف كل ميدان ،وهو ما يجعل االهتمام به واجب ًا �أو فر�ض
كفاية ،تنظر الأمة فيه وتعترب وتقتب�س منه ،وهي ب�سبيل ا�ستئناف م�سريتها
الكرمية بركبها املبارك؟ وذلك هو الرجاء.
-22عرب ابن خلدون .393/4 ،الإحاطة يف �أخبار غرناطة ،ابن اخلطيب .563/1 .نهاية الأندل�س� :ص.106
� -23أعمال الأعالم ،ابن اخلطيب ،333 :نفح الطيب ،املقري.121-120/5 :
46
6
وكبا به الفر�س
47
48
ال�شيخ الوزير ذو الوزارتني ل�سان لدين ابن اخلطيب الغرناطي (�أبو عبد
اهلل حممد بن عبد اهلل بن �سعيد بن عبد اهلل بن �سعيد بن علي بن �أحمد
ال�سلماين 776-713( ،هـ = 1374-1313م) معا�صر و�صديق ومثيل ابن
خلدون (808هــ) .وا�سم ابن اخلطيب مت�ألق يف �سماء الأندل�س يف القرن
الثامن الهجري �أيام مملكة َغرناطة التي امتدت نحو 260عاما ،على غري
املتوقع بحال(.)24
تاج ابن اخلطيب العلمي والفكري والأدبي املتعدد املتنوع يف وعرف ِن ُُ
حياته يف امل�شرق الإ�سالمي كذلك ،بعد مغربه ،حيث ُوجدت ن�سخة (�أو �أجزاء
منها) من كتابه ال�شهري (الإحاطة يف �أخبار غرناطة) يف �إحدى مكتبات
م�صر ،بعث بها هو نف�سه �إىل هناك وجعلها وقف ًا على �أهل العلم( ،)25والكتاب
مطبوع الآن يف �أربعة جملدات كبار ،ميثل واحد ًا من م�ؤلفاته الكثرية.
و ُي َع ُّد ابن اخلطيب �شخ�صية عجيبة ميثل َ�س ْم َت احلياة الأندل�سية يف
ع�صره يف العديد من امليادين احل�ضارية ،ولذلك اعتُرب من املو�سوعيني،
�صفة عامة مو�سومة ،قدمت احلياة الإ�سالمية وح�ضارتها الكثري منهم يف
�أم�صارها .و�أع�صارها .وهو من �أئمة البيان املتعدد الأغرا�ض وال�شعراء
()26
والو�شاحني ،و�صاحب املو�شحة الذائعة ال�شهرة قدمي ًا وحديث ًا ،ومطلعها
جادك الغيثُ �إذا الغيثُ همى يازمــانَ الو�صــل بال ِ
أندل�س َ
لـم يك ـ ــنْ َو�صْ ـ ـ ُل َك �إال ُح ُل ـم ـ ـا يف ال َك َرا �أو ِخ ْل َ�س َة املُ ِ
ختل�س
جرى ذلك يف املجتمع الأندل�سي ال ّغرناطي رغم �شدة الظروف و�أحوال
-24انظر :التاريخ الأندل�سي �ص 519وما بعدها .نفح الطيب 7/5 ،وما بعدها ،الإحاطة.439/6 ،
�أزهار الريا�ض 186وبعدها (ترجمته) .تاريخ الأدب العربي ،فروخ 179/176 ،507/6 ،الأعالم
.42 ،76/1
-25انظر ذلك يف :الكتب واملكتبات يف الأندل�س �ص 151وبعدها.
-26املغرب يف ُحلى املغرب ،269/1 ،فتح الطيب( 14 ،82-11/7 ،مو�شحته)� .أزهار الريا�ض،
( 213/2مو�شحته) .نهاية الأندل�س �ص .480
49
ال�ضعف التي �ألمَ َّ ْت بهذه اململكة ال�صغرية وجمتمعها ،لذا ما كان ميكن
و�ش َغ َلها ونال منها ،لكنها
ا�ستمرارها يف خ�ضم ذلك املعرتك الذي �أحاط بها َ
بقيت ت�صارع عدوها اخلارجي وم�شاكلها الداخلية ،وهي تداوي جراحها
الكثرية املرة امل�ستمرة و ُت�صْ غي و ُت َ�ص ّفي مواقع الأذى الداخلي� ،أوقعها فيه
جلي ،خمبوء �أو ملحوظ� ،أملت به �ضعف وفنت واعوجاج يف حالهاَ ،خ ًّ
في �أو ًّ
و�أ�شغلته عوادي الأعداء ،ت�ست�شريه وهي تدفع بحيويتها املوروثة لرد جيو�شها
وم�ؤامراتها نحوها ،ومع ذلك �سجلت بطوالت يف املقاومة واجلهاد ،وهي
دائرة مل تتوقف يف البناء والنماء واملقاومة ،حتى كان اال�ست�سالم الذليل� ،أو
العميل الذي مت على يد �آخر �أمرائها �أبو عبد اهلل ال�صغري ،وبع�ض بطانته،
رغم ما �أبدى املجتمع الغرناطي من فداء و�إباء �أمام هذا امل�صري الأ�سود
املنكود امل�شهود .فكان توقيع معاهدة اال�ست�سالم للملكني الكاثولوكيني
(فرناندو وايزبيل – Fernando lsanlفردناندو و�إيزابيال
Ferdinand/and lsabellaوجيو�شهما ال�ضاربة املدمرة
املحيطة) ،وبعد �أربعني يوم ًا كان ت�سلميها للعدو الغادر واحتاللها واال�ستيالء
على غرناطة الأبية احلبيبة النجيبة �أوائل 897هـ = 1492م(.)27
عا�ش ابن اخلطيب يف مثل هذه الأجواء وكان عمود �سيا�ستها وعلمها
وجهادها ،هو و�أ�سرته التي ُعرفت قدمي ًا ببني الوزير ثم ببني اخلطيب.
و�أ�صل هذه الأ�سرة �أو ًال )Cordoba Toledo( :قرطبة ،ثم
طليطلة عند وقعة الرب�ض� ،أيام الأمري حكم الأول ،رم�ضان 202 ،هـ =
مار�س 818م .ثم تنقلت يف عدة مدن �أندل�سية ،كان �آخرها َ Lojaل ْو َ�ش ًة،
ثم غرناطة العا�صمة �أيام مملكتها� ،أ�سرة نبغ فيها العديد ،ولهم �سجل
حافل باملواقف والأعمال العلمية واالجتماعية والقيادية املتنوعة ،ولكن ابن
اخلطيب فيها وا�سطة عقدها و�أكرثهم �شهرة ،وقد توىل رئا�سة الوزراء يف
-27راجع :التاريخ الأندل�سي �ص 552وما بعدها ،هجرة علماء الأندل�س لدى �سقوط غرناطة
�ص.227 ،217 ،193- 192-186
50
مملكة غرناطة نحو ع�شر �سنوات .وكانت م�ؤلفاته مثل مواقفه وحياته ،تمُ ّثل
قمة يف الدقة والقوة والعمق ،غزارة ِنتاج و�شمول مدارك وعمق تفكري ،رغم
امل�شاغل وامل�شاكل ،كما كان متمكن ًا يف النتاج ،بحيث �إنه كتب يف �أربعني
ليلة -رغم امل�س�ؤوليات وامل�شاكل ال�سيا�سية -كتاب ًا يف فل�سفة احلب الإلهي،
�س ّماه( :رو�ضة التعريف باحلب ال�شريف) ،مطبوع يف جملدين.
و�سجلت �أ�سرته خالل �أجيالها مفاخر ومواقف معروفة مذكورة متوارثة،
فجده الأعلى �سعيد من �أهل العلم واخلري وال�صالح والف�ضل والدين ،كان َ
ي�سكن لو�شة على طريق املارة من َغرناطة �إىل �إ�شبيلية ، Sevilleفكان
يذيع ف�صو ًال من العلم ويجهر بتالوة القر�آن ،وجلمال تالوته كان ي�ستوقف
املدجلة احلن ُني �إىل نغمته واخل�شوع �إىل �صدقه ف ُت ْعر�س (ت�سرتيحالرفاق ْ
من التعب) رحالها ِل�صْ ق جداره وتريح ظهرها موهن ًا� ،إىل �أن ي�أتي على
ورده(.)28
�أما جد الوزير الغرناطي ل�سان الدين ابن اخلطيب الأقرب هو �سعيد،
فكان كذلك من العلم والف�ضل �إىل درجة �أن �أراده �سلطان غرناطة مربي ًا
لبع�ض �أوالده .وكان �أبوه كذلك .وهذا ي�شري �أي�ض ًا �إلى مزية للمجتمع
الإ�سالمي والأندل�سي :عناية الأ�سرة ب�أوالدها (بنني وبنات) ،وكان كثري
من الآباء �أ�ساتذة و�شيوخا لأوالدهم ،وهي ظاهرة علمية م�شهورة ب�أمثلتها
ومثالياتها الكثرية .وكم من �أ�سرة تورث �أبناءها العلم واملهنة والتخ�ص�ص
فيه ،وما �أكرث الأمثلة .بجانب كل ذلك كان علمهم للعمل ،يطرد مع مقداره،
ولذلك كان العلماء حا�ضرين يف احلياة معاونني للنا�س .عاملني به ،ويف
�أكرب مواقفه و�أ�صعب ميادينه :اجلهاد .وعلى ذلك كان �أخوه و�أبوه عبد اهلل
بارزين للجهاد ومعاركه وا�ستُ�شهدا فيه.
51
كان ا�ست�شهادهم يف معركة طريف(Batelladel Salado )29
�ضد الق�شتالني ومن معهم من الأوروبيني برعاية البابوية ،وقاتل املرينيون
(دولة يف املغرب) ،جند ًة لإخوانهم �أهل الأندل�س ،وا�ستعمل امل�سلمون
فيها نوع ًا من املدافع تقذف النريان ،وا�ست�شهد فيها العديد من العلماء،
كان منهم �أخو ل�سان الدين و�أبوه عبد اهلل حيث ُفقدا يف الكائنة العظمى،
والوقيعة الكربى ،بطريف (مدينة) �ضحوة يوم الإثنني �سابع جمادى الأوىل
�سنة �إحدى و�أربعني و�سبعمائة للهجرة (1340/10/30م).
َح ّدث ابنَ اخلطيب بذلك �أح ُد �شهودها الفقي ُه �أبو عبد هلل ابن اللو�شي
خطيب م�سجد غرناطة اجلامع قائ ًالَ (( :ك َبا ب�أخيك َّ
الط ْر ُف َ
(اجل َّيد من
اخليل) وقد َغ ِ�ش َي العدو َ
وج َن ْحتُ �إىل �إردافه فانحدر �إليه والدُك و�صرفني،
()30
وقال� :أنا �أوىل به ،فكان �آخر العهد بهما))
ف�أي ُة كبو ٍة هذه ،ال كالكبوات� ،إنها كبو ُة ت�ضحية �أهل اجلهاد ،وكم هي يف
تاريخنا ،ونحن نحتاج �إىل �إ�ضاءاتها وت�ألقاتها وم ُثلها .يظهر ذلك ويتجلى
مبعرفة تاريخنا الإ�سالمي وتقدميه من الأعماق الرخية الأبية احلقة.
52
7
53
54
ح�ضارتنا الإ�سالمية مليئة باخلري ،تطفح غنا ًء وثرا ًء وتنوع ًا يف كل اجتاه
َخ َرّي كرمي جديدَ ،خرييتُها غالبة �شاملة ،يت�ضح ذلك حني ُت َقلب �صفحاتها،
وهي ال تخلو منه حتى يف حاالت ال�ضعف الذي قد يعرتي من �أهلها ،الفرد
واجلماعة واملجتمع .وت�سود خرييتُها كلما زاد مت�سك �أهلها بهذا املنهج
الرباين الذي �صنعها.
وكم حاالت تت�أ�صل فيها الطرافة العفويةَ ،تف َْج ُ�ؤ َك ِعبرَ ُ ها ومدلوالتها
وبواعثها ،ت�سودها يف كل ذلك حيوية متناميةُ ،تلهم �أهلها و ُي َ�س َّددون ،دلي ًال
على بركة هذا الدين مبنهجه الرباين الفريد ،ي�ضفي على احلياة وحركتها
منا ًء وعلو ًا و�إ�ضاءة ،مما ال متتلكه �أي ُة ح�ضارة �أخرى �سابقة �أو الحقة� ،إذ
ا�ستمدت تفر َدها من تفرد هذا املنهج القر�آين الفريد .وهي كذلك دوم ًا،
كلما كانت �أقرب لهذا املنهج يف بنائها� ،أ�س�سا ومقومات وخ�صائ�ص.
وظني �أن هذه احل�ضارة ما زالت بحاجة �إىل درا�سة مت�أنية منقحة ُم�ؤَ َّ�صلة،
ال تخ�شى بحو ُثها نقد ًا جمهري ًا جوهري ًا حر ًا علمي ًا مو�ضوعي ًا متحقق ًا ،حني
ُت َ�ص ُّب يف قوالبها احلقة املدققة املتفهمة ،وهي ت�ستبطن مدلوالتها ن�ش�أة
وا�ستمداد ًا ومنو ًا ،عند ذلك ترى ِمن عجائبها املتكاثرة املتبارية البارعة ما
يبهرك ،و ُيق ّرك �إن�ساني ًة وتكرمي ًا ،ورقي ًا ،وكله بعيد عن املزايدة واالفتعال
والتكلف ،كل يجيد دوره ويعرف قدره فال يتجاوز �أمره ،م�ستقرة بحاالتها
الطبيعية ومداركها املتنامية املقررة.
وهذا الكالم مبني ب�أجمعه على الوقائع املدققة املختبرَ ة املوثقة ،فلي�س
هنالك من كالم يف هذه الأمور ُيلقى على عواهنه وال ُيدعى له �إال بربهان.
وهذا هو املنهج الإ�سالمي يف احلياة كلها ،ومنه عرفت �أوروبا املناهج
العلمية يف البحث والتق�صي واملعرفة باعرتاف �أعالم الأوروبيني الذين
�أن�صفوا هذه احل�ضارة ،م�أخوذين بالوقائع الباهرة التي عا�شوا بها وابتنوا
ح�ضارتهم عليها� ،أمثال الفيل�سوف وعامل الب�صريات الإنكليزي :روجر بيكون
55
( ،)AD 1292 RogerBaconوهو و�أمثاله ،معرتفني بف�ضل هذه
احل�ضارة عليهم بكل و�ضوح ويف كل منا�سبة ،بل و�أمام طلبتهم وم�ستمعيهم
وقرائهم.
وبذلك جتد ح�ضارتنا كافة �أحوالها وم�ستوياتها و�أقدارها و�أن�صارها،
تعرب عنه با�ستحقاقها يف موقعها الطبيعي ومقدارها احلق الأ�صيل.
كل ذلك جتده مدون ًا م�ستوعب ًا مو�صوف ًا بقدره وظرفه ،وتلك الطاقات
كانت حتاط بالرعاية وتهي�أ لها الأجواء ومتد بكل امل�ستلزمات واملتطلبات،
وال مي�ضي الكالم �إال و ُتعطي له مناذج تدل عليه وت�ؤكده و َت ْعر�ضه ،ولي�س من
ال�ضروري بذل اجلهد يف الت�أنق لإيجاد الأمثلة� ،إمنا هي متكاثرة �أمامك.
متوج بها �صفحات هذا التاريخ و�ساحاته احل�ضارية امل�ضيئة.
فهذا �أبو علي القايل ( 356ه ـ 967م) الأديب اللغوي وافد الأندل�س -
قادم ًا من بغداد � -أيام اخلليفة عبد الرحمن بن حممد ( 350هـ = 961م)
النا�صر لدين اهلل ،ي�ستدعيه ويحتفي به �أميا احتفاء� ،إىل حد �أنه �أوكل
ا�ستقباله �إىل ابنه وويل عهده اخلليفة العامل احلكم الثاين ( 266هـ =
976م) امل�ستن�صر باهلل ،ويو�صيه به .وهو ال يحتاج ،لكن زيادة يف االعتناء
والتكرمي واحلر�ص عليه ،فيقوم احلكم باملهمة على خري �صورة .وقد �أحبه
احلكم بعد اال�ستقرار يف قرطبة ،وكان يحثه على الت�أليف ويو�سعه رعاي ًة
وكرم ًا وعناية �شاملة ،مادي ًا ومعنوي ًا واجتماعي ًا.
احلكم ا�ستقباله منذ َو ِطئت �أقدام القايل �شواطئ الأندل�س ،وكتب
ُ �أح�سن
ماح�س الأمري العامل (املحافظ ،الوايل) علىبذلك �إىل عبد الرحمن بن ال ُر ِ
ُكورت َْي �إلبرية Elviraوبجانة Pechina ،وطلب �إليه �أن ي�صحبه
مع وفد من وجوه الرعية ومن العلماء يو�صلونه �إىل قرطبة ،وقد مت.
وكان �ضمن العلماء امل�ستقبلني ابن رفاعة ،وطوال الطريق كانوا يتذاكرون
العلم ويتجاذبون الأدب ويتبادلون احلديث ،حتى و�صلوا قريب ًا من قرطبة،
56
فدار احلديث عن خري املناديل ،وا�ست�شهد القايل ببيت من ال�شعر لل�شاعر
ال�صحابي (�أو التابعي) َع ْبدة بن الطبيب (25هــ)� ،ضمن ق�صيدة قالها يف
و�صف املجاهدين يف القاد�سية (15هــ)� ،أذكر منها ثالثة �أبيات(:)31
ُ
املراجيل ملا َنزَ ْلنا َن َ�ص ْبنا ِظل �أَخْ بية وفـار باللـحم للقـوم
الغلي منه فهو م� ُ
أكول ما غيرّ َ ُ َو ْر ٌد و�أ�شْ َق ُر ما ُي�ؤني ِه ُ
طابخ َُه
�أعـرا ُفـهُـنَّ لأيـديـنــا منــاديـ ُل َث َّمت ُقمنا �إىل ُج ْر ٍد ُم َ�س ّو َمة
لكن القايل قر�أها �أعرافهم (بدي ًال عن �أعرافهن ،يف البيت الثالث)،
وا�ستعاده ابن رفاعة الأديب الأندل�سي ،فثبتها القايل بتلك القراءة:
�أعرافهم ،فما كان من ابن رفاعة �إال �أن فارق الركب ُم ْن ِكر ًا على القايل
ذلك ُم ِق ًّال من قدره وا�ستحقاقه ُم ِعيب ًا علمه و�أدبه ،قائ ًال :كيف يكون هذا
ت ِد حماوالت عامل ًا وهو ال ُيح�سن بيت ًا يعرفه يف الأندل�س الأطفال .ومل جُْ
الركب و�أم ِريهم يف رد ابن رفاعة عن قراره يف مفارقتهم( )32و�أُ ْع ِلم َ
احل َكم
بذلك الذي مل َي ِع ْب على ابن رفاعة موقفه ،ومل ينتق�ص من علمية القايل
الذي كانت يف ذلك َخ رْ َي ُته ،وهي دون حمنته العجيبة التي تدعو �إلى الرثاء
والرجاء والدعاء(. )33
57
58
8
59
60
وكانت تلك �أخرى خا�ضها القايل وعا�ش خاللها يف حرج �شديد ،والبداية
البد من التمهيد لهذا الأمر اجلديد الفريد الأكيد ،يف حمنته العلمية العجيبة
ال�شاهدة الواردة.
و�صلت الأندل�س يف القرن الرابع الهجري (احلادي ع�شر امليالدي) قم ًة
ح�ضارية و�سيا�سية ودبلوما�سية قامت عليها ،وو�ضعتها �أول بلد يف عاملها
الإ�سالمي والعاملي ،رقي ًا متناغم ًا يف كافة اجلوانب احل�ضارية ،جعلته
مق�صد ًا يخطب وده متوج طرقاته بالوافدين من البلدان ير�أ�س بع�ضها
الأمراء وامللوك .وكان الأندل�س بقوته املتمكنة تلك ال ين�شر دمار ًا �أو ي�سو�س
بالتحكم ويدعي العدل ،ولكنه كان ين�شر العلم واخلري والقيم على القادمني،
ولدينا يف ذلك ق�ص�ص ما �أكرثها.
وقد و�صف ابن حيان القرطبي ( 469هـ = 1076م) كل ذلك التقدم
(وم َّدت
والرقي والقيادة -كما �أ�شار �إليه العديد من امل�ؤرخني -فقالَ :
ر�س َلهم
أمم الن�صرانية من وراء الدروب َيد الإذعان و�أوفدوا عليه ُ�إليه � ُ
وهداياهم ،من ُرومة وال ُق�سطنطينية يف �سبيل املهادنة وال�سلم واالعتمال
()34
فيما يعن يف مر�ضاته)
ففي �سنة ( 338هــ949/م) ،وفدت �سفارة من الق�سطنطينية �إىل بالط
قرطبة ،حيث اخلليفة عبد الرحمن الثالث ،النا�صر لدين اهلل .واحتفل النا�س
با�ستقبالها ،و�أوكل تنظيم احلفل �إىل ابنه ويل عهده احلكم امل�ستن�صر،
وكان ذلك اال�ستقبال املهيب يف ق�صر قرطبة الزاهر العامر بجوار م�سجدها
ال�ض َّفة اليمنى لنهر الوادي الكبريَ ،تفْ�صل بني الق�صر
اجلامع الباهر ،على َّ
باملح َّجة الكربى.
وم�سجدها ال�شارع الرئي�سي املعروف َ
وكانت العادة �أن ُت َع َّمر هذه ال ُ
أحفال لدى ا�ستقبالها يف موقعها وجمل�سها،
-34كما ورد ذلك يف :نفح الطيب ،املقري.384 ،366 ،354/1 ،
61
حتف بذلك مراتب �أهل الدولة وميتلئ بهم املكان من ال�شهود ،ن�سا ًء ورجا ًال
و�شيوخ ًا وعموم النا�س ،مفتوحة مرتادة ُمرحبة ،ويقوم اخلطباء يحدثون
و ُي�شيدون مبا حققه الأندل�س من التقدم وما بذله امل�سلمون وحكامهم من
جهود ل�صيانة احلياة ورعايتها وما حتقق لهم من نعمة اهلل �أمن ًا و�أمان ًا ورقي ًا
و�سلطان ًا وعلم ًا وبيان ًا.
فاختار احلكم �صديقه املُ َّقرب الفقيه ابن عبدالرب ال َك ْ�ستنياين ،وتقدم
ليلقي كلمته يف هذا احلفل املهيب العجيب الغريب� ،أمام اخلليفة ومن حوله
والنا�س ،وبح�ضور وفد الروم .فما �أن وقف الفقيه حتى �أخذته الده�شة
جت عليه (ذهب وا�ست�أثرت به ،فحار ودار وما ا�ستدار ،ف�صمت و�سكت بل و�أر َ
عنه الكالم) و�أُغمي عليه .فما العمل يا ُترى للخروج من هذا امل�أزق احلرج!
ال�س َّدة (اخلليفة وويل عهده والوزراء) �إىل واجتهت الأنظار ابتدا ًء من �أهل ُّ
وافد بغداد الأديب اللغوي �صاحب امل�ؤلفات� :أبو علي القايل ،ليقوم في�سد
الفراغ وي�شد الفتق ويلئم ا َ
خل ْر َق.
وفع ًال قام القايل ووقف وابتد�أ :فحمد اهلل و�أثنى عليه مبا هو �أهله و�صلى
على نبيه حممد [ ،ثم وقف وقد �أرجت عليه القول وامتنع منه الكالم ،فال
يجد ما يقول ،وهنا زاد احلرج وم�ضى يف النا�س الإ�شفاق واخلجل ،يبحثون
متلفتني عمن يقوم في�سد اخللل ويبعث الأمل ،و�إذا بهم جميع ًا يفاج�أون
برجل يقوم على غري ترتيب وال حت�ضري ودومنا طلب من �أحد ومن غري
�إعداد ،يقوم مقام اخلطيب بجوار القايل ،وهو ما زال واقف ًا قائم ًا واجم ًا،
ليبد�أ من حيث انتهى القايل ،في�أتي بكالم عجيب نرث ًا و�شعر ًا على البديهة،
مما �أذهل احلا�ضرين جميع ًا و�أده�شهم و�أطربهم ،و�أولهم اخلليفة وويل
ُ
املواقف عهده والقائمون .فلو كان ذلك عن �إعداد لكان عجيب ًا وهكذا ُتظهر
املعادن ،وكم يف الأمة من مغمور ُيعرف مبواقفه حيث تكون الفر�ص متاحة
وجتد القابليات طري ًقها ،يجد فيها ك ّل �أحد مكانه امل�ؤهل.
62
فكان هذا هو القا�ضي منذر بن �سعيد البلوطي(355( )35هـ = 966م)،
الذي وجد العناية والرعاية والتقدير ،فغدا قا�ضي اجلماعة بقرطبة .وكانت
له مواقف بارعة رائعة دافعة يف احلياة واملجتمع وا ُ
حل ْكم ،وكان له قدره عند
اجلميع ،وكان هذا املوقف بركة على منذر وحمنة على القايل.
ولكن ال ب�أ�س عليك يا �أبا علي القايل ،فقد يحتار اللبيب الأديب وي�سكت
يف املحنة اخلطيب� ،أو كما قيل لكل فار�س كبوة ،و�إذا كان لكل فار�س َن ْبوة
خطيب هَ فْوة.
ٍ ف�إن لكل
63
منظر خارجي لإحدى واجهات م�سجد قرطبة اجلامع التي تقع على املحجة الكربى ،ومنها املدخل
الرئي�سي �إليه.
منظر جوي مل�سجد قرطبة اجلامع ،ويبدو فيه امل�سجد و�صومعته (مئذنته) و�ساحته وداخله .ويرى يف
ال�شاطئ الآخر �أمامك بعد النهر :رب�ض� Sacundaشقثدة
64
9
ق�صة
املُ�صْ َحف ال�رشيف
65
66
ال ِع ْل ُم ال يفتح �أبوابه �أو مغاليقه وال مينحك نف�سه �أو من نف�سه �إال �أن
تعطيه كذلك ،تلك طبيعته .وهذا ي�ستفاد من ح�ضارتنا ملن عا�شها وخربها
وا�ستبطن كنهها.
واجل َّدة والأ�صالة ،وهو ما يجب ال�سعي وبذلك ميكن ويكمن الإبداع ِ
�إليه يف التعرف والقراءة والدرا�سة حل�ضارتنا .حتى ليمكن تداعي ال�شوارد
وال�شواهد لتنظم بها ِعقْد ًا �أو تر�سم لوحة �أو تكتب ق�صة ،تعجبك وتده�شك
وتنع�شك ،حتى لتغدو وك�أنها بني يديك ت�ستعر�ضها وت�شاهدها وت�ست�شهد
بها .ت�ست�شعر وقعها وحيويتها �أو تتذوق نكهتها وحت�س رائحتها .تنطلق بها
متحدث ًا كاتب ًا راوي ًا وك�أنها جز ٌء منك يعي�ش يف حياتك وغدا من طبيعتك.
متتلكها ُت ّلون مبانيها و ُتك ّون كيانها .كل ذلك كان ويكون ،مبتابعتها وتت ُّبع
م�سارها وثمارها والإحاطة ب�أخبارها.
اجتمع الكثري من ذلك ،بع�ضها ميكن نظمها �ضمن �سل�سلة طرائف
تاريخية وح�ضارية �أو خواطر �أو لفتات �إخبارية ،لكن يف احلقيقة ،كل ُّها
ي�سلكها خيط واحد ،كان الأ�سا�س .مع توفر ذلك يف ح�ضارتنا ،البتنائها على
منهج اهلل تعاىل الذي �أغناها و�أورثها عز ًا وفخر ًا ،ولكن ل�ضياع الكثري من
�أمهات امل�صادر فقد ي�صعب ذلك يف بع�ض الأمور الواردة التي ت�شري �إىل
تتمات لها ذهبت ،بادت �أو غابت.
و� ُأ�سوق هنا ق�صة للم�صحف ال�شريف :القر�آن الكرمي وعالقتها بالأندل�س.
�إذ كان لأهله اهتمام ُم َر َّكز بالقر�آن الكرمي واحلديث ال�شريف ،والذي هو َد ْي َدن
كافة البلدان الإ�سالمية و�شعوبها .والق�ضية تتعلق مبلك ق�شتاله( .)36وت�سميه
بال�س َليطني».
الرواية الأندل�سية «الطاغية �أذفون�ش بن ِر ُم ْند املعروف ُّ
-36ق�شتالة :مملكة ن�صرانية يف ال�شمال الإ�سباين من �شبه اجلزيرة الأيبريية ,راجع عنها التاريخ
الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة� ،ص.275
ANDALUSIAN DIPLOMATIC RELATIONS WITH
WETH WESTERN EUROPE DURING THE UMAYYAD
PERIODP49.
والرتجمة العربية :العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية �ص.75
67
وهكذا كانت ق�ضية امل�صحف ال�شريف( :)37وذلك �أن وايل قرطبة
Cordobaوما �إليها �أواخر �أيام الدولة املرابطية ،املجاهد �أبو زكريا
تا�شفني بن علي بن يو�سف بن ُ
تا�شفني، يحيى بن غانية الذي و ّاله �أمريها ُ
دافع الن�صارى ال�صليبيني الذين ا�ستغاث بهم الثائر اخلائن الغادر ابنُ
حمدين( .)38بعد هزميته �أمام ابن غانية لغزو قرطبة التي دافعت با�ستماتة
و�شجاعة ،لكنه �أدخلهم �إليها يف العا�شر من ذي احلجة �سنة(540هـ/
1145م) ،وكان �أول ما ا�ستباحوا م�سجدها اجلامع ،ف�أخذوا م�صابيحه
ومزقوا م�صاحفه.
فيذكر �أنه كان �ضمنها ن�سخة من م�صحف اخلليفة عثمان بن عفان
(ر�ضي اهلل عنه) ،الذي على ما يبدو كان قد ح�صل عليه بع�ض رحالة
العلماء الأندل�سيني الذين اعتادوا الذهاب �إىل امل�شرق لتلقي العلم� ،سنة �أهل
الأندل�س.
ولكن البع�ض يذكر �أن هذا امل�صحف نقل من م�سجد قرطبة اجلامع �إلى
م�سجد مراك�ش �أوائل �أيام قيام الدولة املوحدية .وهذه الن�سخة من امل�صحف
ال�شريفُ ،يذكر �أن الذي خطها هو اخلليفة ال�شهيد عثمان (ر�ضي اهلل عنه)
بيمينه ،وفيه نقط من دمه .وكان يحتفل بالقراءة فيه كل يوم جمعة يف
م�سجد قرطبة .فهل هذا الذي �أخذه الن�صارى كان ن�سخة �أخرى منه ،جرى
ن�سخ مثلها؟
وبعد �أن �شمل التدمري كل ما يف امل�سجد ،دخلوا املدينة ،ف�أحرقوا الأ�سواق
وخربوا كثري ًا من معامل املدينة .ورغم كل هذه ال�شدة وعنف الهجوم
ووح�شيته ثبت ابن غانيه وا�ستطاع رد هذه الهجمة ودحر وحو�شها وخونتها
وحافظ على قرطبة ،ال�سيدة الأبية والعزيزة الغنية والعرو�س احلزين.
-37الإحاطة ،345/4 ،نفح الطيب .607 ،606 ،602 ، 563 ،548 ،204/1
-38انظر :الإحاطة 743-543/4املن بالإمامة ،ابن �صاحب ال�صالة .053
68
و«�أدخل ابن َح َمدين الن�صارى قرطبة يف عا�شر ذي احلجة من عام
�أربعني (540هـ) فا�ستباحوا امل�سجد و�أخذوا ما كان به من امل�صابيح ومزقوا
م�صاحفه ،وزعموا �أن منها م�صحف عثمان ،و�أنزلوا املنار من ال�صومعة
وحرقت الأ�سواق و�أف�سدت املدينة وظهر من َ�ص رْب
(املئذنة) وكان كله ف�ضةُ .
ابن غانية و�شدة ب�أ�سه و�صدق دفاعه ما �أي�أ�س منه ،وكان من قدر اهلل �أن
بلغ طاغية الروم يوم دخولهم قرطبة اجتياز املوحدين �إىل الأندل�س ف�أجال
طاغيتهم قداح الر�أي ،فاقت�ضى �أن يهادن ابن غانية ويرتكه بقرطبة يف نحر
عدوه من املوحدين �سد ًا بينهم وبني بالده ،ف ُعقدت ال�شروط ونزل �إليه ابن
()39
غانية فعاقده وا�ستح�ضر له �أهل قرطبة»
تلك هي ق�صة امل�صحف ال�شريف :القر�آن الكرمي ،هناك يف قرطبة
الأندل�س.
69
70
10
الر�سالة
النبوية الكرمية
71
72
املق�صود بالر�سالة النبوية الكرمية هي ر�سالة ر�سول اهلل [ �إىل هرقل
(قي�صر الروم) Hercules, Caesar, King of the/
Romansيدعوه وقومه فيها �إلى الإ�سالم .وهنا يرد ما له عالقة بها
يف الأندل�س.
و�صل املو�ضوع يف هذه الر�سالة -مما هو معلوم � -أن الر�سول الكرمي
[ عمل على تبليغ الدعوة الإ�سالمية لكل �أحد ويف كل زمان ومكان
}
{(املائدة.)67 ،
فما �أن عقد ر�سول اهلل [ ُ�صلح احلديبية يف ذي احلجة ال�سنة ال�ساد�سة
للهجرة (628م) ،وانتهى من فتح خيرب� ،آخر قالع اليهود يف احلجاز ،يف
حمرم ال�سنة ال�سابعة للهجرة ،حتى بد�أ يف نف�س ال�سنة الدعوة �إىل الإ�سالم
خارج اجلزيرة العربية.
فوجه ر�سله �إىل امللوك والأمراء واحلكام يف �أنحاء الأر�ض ،يدعوهم �إىل
الإ�سالم .ويف �أوائل ال�سنة ال�سابعة للهجرة � -صيف 628م ،خرج من املدينة
املنورة يف يوم واحد �ستة ر�سل يحملون كتبه �إىل العديد من اجلهات ،منهم:
هرقل ،قي�صر الروم ،وك�سرى �إمرباطور الفر�س ،والنجا�شي ملك احلب�شة،
واملقوق�س حاكم م�صر ،وغريهم.
واملق�صود يف هذه احلكاية ر�سالة ر�سول اهلل [ �إىل هرقل قي�صر الروم
(حكمه12 :ق.ه ـ 20 -هـ =641 - 610م) التي حملها �إليه ال�صحابي اجلليل
دحية بن خليفة الكلبي (45هـ) .وكان ن�صها «ب�سم اهلل الرحمن الرحيم،
من حممد عبد اهلل ور�سوله �إىل هرقل عظيم الروم� .سالم على من اتبع
الهدى� ،أما بعد :ف�إين �أدعوك بدعاية الإ�سالمْ � ،أ�س ِل ْم ت َْ�س َل ْمْ � ،
أ�سلم ي�ؤتك اهلل
73
�أجرك مرتني ،ف�إن توليت ف�إن عليك �إثم الأري�سيني،
}
ر�سول اهلل [ ،يدعوه فيهار�سول َِ ويف القد�س ا�ستقبل هرقل دحي َة،
�إىل الإ�سالم ،عندما جاء هرقل ل�شكر اهلل على انت�صاره على الفر�س بعد
الهزمية املنكرة املجتاحة الفاقرة التي �أ�شارت �إليها �سورة الروم.
ف�أخذ هرقل الكتاب وقرئ له ،وبعد اختبارات وم�ساءالت وا�ستق�صاء،
�أعلن مت�أكد ًا جازم ًا حازم ًا �أن حممد ًا [ ر�سول اهلل حق ًا وهو النبي املنتظر
الذي ب�شرت به �أنبيا�ؤهم وكتبهم .وكان مما قال( :ف�إن كان ما تقول حق ًا
ف�سيملك مو�ضع قدمي هاتني ،وقد كنت �أعلم �أنه خارج (�أي قادم ظاهر)
ومل �أكن �أظن �أنه منكم ،فلو �أين �أعلم �أين �أخل�ص �إليه لتج�شمت لقاءه ،ولو
كنت عنده لغ�سلت عن قدمه) .وكان هرقل قد �س�أل عنه ،ثم قال« :لئن كنت
�صدقتني فيما �أخربتني عنه ف�سيملك ما حتت قدمي هاتني وهذه �صفات
نبي� ،أعرف �أنه نبي ولكن ال�أ�ستطيع �أن �أفعل� ،إن فعلت ذهب ملكي وقتلني
الروم» .لكن هرقل يف احلقيقة �آثر امللك الذي زال بعد ذلك بنحو عقد من
ال�سنني ،ولو كان �آمن لدام له امللك والقوة والعز يف الدنيا والآخرة.
وقد روى العديد هذا الكتاب ب�سنده ،وفيه من �أهل الأندل�س -وبع�ضهم
ن�ساء � -أمثال ابن ب�شكوال و�أبو عمر يو�سف بن عبد الرب وبقي بن خملد.
وكان من اهتمام القي�صر بهذه الر�سالة �أن جعلها يف ق�صبة من ذهب،
وقد تناقلتها �أجيالهم حمفوظة معزوزة مكرمة يتوارثها ملوك الروم ،وانتقل
-40عن هذه الر�سالة ،انظر :جمموعة الوثائق ال�سيا�سية يف العهد النبوي واخلالفة الرا�شدة ،حممد
حميد اهلل�،ص ،107ال�سرية النبوية� ،أبو احل�سن الندوي� ،ص ،250،248الر�سول املبلغ [ �صالح
اخلالدي� ،ص.149-102
74
الكتاب �إىل ملوك الفرجن يف فرن�سا ثم �إىل ملوكهم يف ا�سبانيا الن�صرانية يف
�شمايل �شبه اجلزيرة الأندل�سية (الإيبريية) ،حتى ا�ستقر عند ملك ق�شتالة
املذكور( ، )41وقد ذكر العديد من الثقات ذلك.
وهنا ت�أتي منا�سبة ذكر هذا الأمر يف حكاياتنا الأندل�سية ،فقد ذكر
ال�سهيلي الأندل�سي (عبدالرحمن بن عبداهلل581 ،هــ) يف كتابه الرو�ض
الأنف(� :)42أن حممد ًا بن عبد امللك بن �سعيد( 589 - 504ه ـ - 1125/
1193م )(�أو �أباه) �أحد �أعالم �أ�سرة بني �سعيد الأندل�سيني حكام قلعة
َي ْح ُ�صب ،وهم من �أهل الفقه وال�سيا�سة والعلم والأدب وهم �أ�صحاب كتاب
املغرب يف ُح َلى املغرب ،حني ذهب ابن �سعيد هذا لزيارة هذا امللك الن�صراين
�أطلعه على الكتاب مكرم ًا مفتخر ًا به قائ ًال« :فعندي كتاب نبيكم �إىل جدي،
و�أح�ضر حق من ذهب ،فتح و�أخرج منه كتاب من ر�سول اهلل [ �إىل قي�صر
ملك الروم ،وهو جده بزعمه ،والكتاب بخط علي بن �أبي طالب .قال ابن
�سعيد هذا( : )43قر�أته من �أوله �إىل �آخره كما جاء يف حديث البخاري»(. )44
ومن املعلوم �أن الر�سول [ �أر�سل كتابني �إلى هرقل هذا ،حملهما جميعا
-41وهو �ألفون�سو ال�سابع ملك ق�شتالة امل�شار �إليه يف احلكاية ال�سابقة ،رقم ،9وهو �أدفون�ش (الفون�سو
ال�سابع بن رمند ،املعروف بال�سليطني ،ت�صغري ًا له :امللك ال�صغري ،كما كان يطلق عليه �أحيان ًا:
الإمرباطور.
-42الرو�ض الأنف.365/6 ،
-43وهو� :أبو عبداهلل حممد بن عبد امللك بن �سعيد (589-514هـ)عنه انظر :املن بالإمامة ،ابن
�صاحب ال�صالة 053 ،وبعدها املغرب( 261/232،111،201،2/1 ،ترجمة) وذكر احلديث عن
الر�سالة يف الهام�ش ،نفح الطيب 335/2 ،وما بعدها (ترجمة) ،وذكر ر�ؤيته للر�سالة وذكر �إ�شارة
ال�سهيلي� .أما عن بنو �سعيد �أ�صحاب قلعة يح�صب ،فانظر نفح الطيب ( 533/2ترجمة �أبو عبد اهلل
حممد بن عبد مللك وذكر الر�سالة نقال عن ال�سهيلي) نفح الطيب ،374-262/2 ،املغرب 102/1
(ذكره) ( 111ذكره) ( 162-160/2 ،231-230ترجمته) ،186 ،الإحاطة،220-214 ،11/1،
( 213/3 ،486/2 ،485-483ترجمته ور�ؤيته الر�سالة ،نق ًال عن ال�سهيلي ،يف كتابه الرو�ض الأنف،
.346/4 ،572-570 ،458-456-434-433 ،217 ،365/6
-44الإحاطة ،ابن اخلطيب .346/4وذكر ذلك �أي�ض ًا مرة �أخرى :الإحاطة ،213/3كما نقله
املقري يف نفح الطيب.335/2 ،
75
ال�صحابي اجلليل دحية بن خليفة الكلبي ،الأول هو املذكور والثاين كان
مر�سال من تبوك .وعلى ذلك ف�أي من الكتابني هو الذي اطلع عليه ابن
�سعيد ،لكن الذي يبدو �أنه الأول(.)45
والظاهر �أن الكتاب خرج من ملوك الغرب �إىل غريهم ،وقيل �إنه ُوجد
�أخري ًا عند �أمرية عربية متتلك �أ�صل الكتاب( ،)46فهل هذ الأ�صل هو الأول
�أم الثاين؟
-45ورد ذكر الطاغية للر�سالة النبوية هذه يف :الإحاطة .346/4 ،وبدون ذكر ابن �سعيد ،كما ورد
ذكر الطاغية للر�سالة ب�شهادة ابن �سعيد يف :الإحاطة ، 213/3 ،كما يرد ذكر ال�سهيلي لهذا الأمر
هنا ،نفح الطيب 335/2 ،وما بعدها (ترجمته) .،وهنا يذكر ر�ؤية ابن �سعيد للر�سالة واطالعه عليها
وقراءته لها بنف�سه حني �أطلعه عليها الطاغية ملك ق�شتالة ،كما ترد هنا ذكر �إ�شارة ال�سهيلي بو�ضوح
للر�سالة الأنبوبية.
-46الر�سول املبلغ �صلى اهلل عليه و�سلم� :ص.150
76
11
وللنف�س..
يقظات ووقفات
77
78
حني ُت ْب َنى النف�س الإن�سانية على اخلري الر�صني والفطري الأ�صيل ف�إنها
تتيقظ ،حتى لو َ�س َد َرت يف مهاوي ال�ضعف� ،إذ ي�صبح اخل ُري لديها �أ�ص ًال تعود
�إليه كلما ّ
�شطت وتقوم كلما عرثتُ ،ت َذ َّكر فتتذكر} ،
{ (الذاريات .)55 :وحني يتوا�صى النا�س بهذه املعاين ف�إن
احلياة يف ترقٍ م�ستمر.
ومثلما مير الأفرا ُد ب�أحداث تردهم �إىل اخلري وت�ستثري فيهم نوازع
ال�صلح وتوقظهم و ُتف َتّق مكامن الف�ضائل فيهم ،فذلك يكون �أي�ض ًا مع املجتمع
واحلياة.
وكم مرة يقرتن ذلك بالدعوة �إليه واحلث عليه وبيان مبانيه ،حيث
النفو�س تهفو لال�ستماع واال�ستمتاع واالندفاع .وهي يف هذه الأحوال ترى
الأمور على رونقها وتدركها على حقيقتها وتراها بحجمها ،بعيد ًا عن الإلفة
�أو الغفلة �أو الن�سيان .يقوم �أهل الهمم بالدعوة �إليه ويلم النا�س عليه و ُي ْب َذل
لأجله .والتاريخ �سجل الأمثلة املتكررة املمهورة املنظورة �أو املطمورة ،التي
ادخرتها م�ضامري احلياة الإ�سالمية خالل الأجيال على مر الع�صور.
و�أروع �ضمان للحفاظ على ذلك واالرتقاء به حني يلتقي من �أجله العلماء
والأمراء ،يف خيط ُمنتظم وعقد ُملتئم ومنظر ُمن�سجم .وكان العلماء دوم ًا
ي�ؤدون دورهم كام ًال ب�أعلى مقدار ،لأن العلماء هم القوة القوية التي تمُ �سك
املجتمع وحتافظ عليه وترفع به كلما هبط ،وتقيمه كلما هوى ،وتزينه كلما
َكدمته امل�ساقط.
وهذا كله وا�ضح يف احلياة الإ�سالمية وح�ضارتها ،ول�شدة و�ضوحها غدت
ظاهرة وا�ضحة ،تهاديك وتناديك وتبادلك .والعلماء يربهنون �أنهم ح�صن
املجتمعات املتني وكه ُفه الدافئ الأمني ،وهم حماته وقادته ،يلتحق بركبهم
الأمراء ،ويف املحن يكون ذلك �أبرز.
79
ويف احلياة الإ�سالمية الأندل�سية حت�سها وت�شهدها وتعتمدها ،و� ْأظ َه ُرها
�أيام الطوائف (القرن اخلام�س الهجري/احلادي ع�شر امليالدي) .وهو
احلرج فيه والهرج واملرج .لكني �أذهب �إىل �أيام �أ�سبق منه جرت ُ قرن زاد
حوادثها ،وهي �أقل بعد ًا عن ال�ضوء مهما خفت واختفت منه ،ب�أي مقدار،
ذلك اللآلئ.
احل َكم
وا�ستقامت احلياة فيه على هذا املنوال يف �أيام �أبكر ،يوم كان َ
(206- 180هـ = 822 - 796م) بن ه�شام بن عبدالرحمن الأول (الداخل)،
�أمري ًا للأندل�س .وهو الذي �أنحى عليه العديد من امل�ؤرخني بالو�صف الرديء
()48
واتهموه� ،أمثال :ابن حزم الأندل�سي(456( )47هــ) وابن حيان القرطبي
(469هــ).
وب�سبب ذلك قامت عليه مواجهة ( 202هــ808/م) يف الرب�ض (احلي
= املحلة) اجلنوبي لقرطبة امل�سمى رب�ض �شقنده()secunda( )49
على ال�ضفة الأخرى لنهر الوادي الكبري ( .)Guadalquivirوكان
فيهم الفقيه طالوت بن عبداجلبار املعافري( ،)50الذي اختفى مدة عام يف
بيت يهودي ،ثم خرج من عنده وجل�أ �إىل وزير للحكم ليكون و�سيط ًا للتفاهم
واالنتهاء من هذه احلال .وملا انتقل الفقيه �إلى بيت الوزير و�شى به عند
احلكم الذي عرف ق�صة الفقيه .ولكن الوزير الذي ظن �أنه �أتى ب�صيد ثمني
�أوقع نف�سه يف الفخ ،ليلقى �شر �أعماله .حيث �إن احلكم -ل�شهامته -عنف
80
الوزير و�أنبه قائال له� :إن اليهودي حفظه �سنة و�أنت امل�سلم ف�ضحته بعد �أن
ائتمنك ،فال كنت بعد اليوم يف �أعواين ،وعفا عن الفقيه.
وذكر �أن الأمري احلكم ندم �أ�شد الندم على ما �أوقع يف �أهل الرب�ض« .وملا
دنت وفاته عاتب نف�سه فيما تقدم منه عتاب ًا وتاب �إىل اهلل متاب ًا ورجع �إىل
الطريقة املثلى وقال �إن الآخرة هي الأبقى والأوىل ،فتزين بالتقوى واعت�صم
بالعروة الوثقى و�أقر بذنوبه واعرتف ،فمات على توبة من ذنوبه وندم على
ما اقرتف(.»)51
-51عن ندمه ،انظر :املغرب ،43/1 ،احللة ال�سرياء ،ابن الأبار .46/1 ،نفح الطيب ،املقري،
.342،343/1
81
82
12
ا�ستغاثة
�أندل�سية حرة
83
84
وهذه احلكاية من حكايات الأمري الأندل�سي احلكم نف�سه ،لكنها
نوع تمُ ّثل موقف ًا وحكاية اعتربها املقري من بديع �أخباره( ،)52ذلك
من ٍ
�أن امر�أة �أندل�سية -لعلها كانت مدافعة مقاتلة � -ضمن اجلند الذين
واجهوا اعتداءاتهم� ،أي الأعداء يف حمالت �إ�سبانيا الن�صرانية على
الأندل�س� ،أ�سرها الأعدا ُء و�آذوها يف منطقة وادي احلجارة 57مي ًال (كم)
� Guadalajaraشمال �شرق مدريد اليوم.
وكان القا�ضي ال�شاعر عبا�س بن نا�صح اجلزيري قريب ًا من موقع
�أ�سرها ،ف�سمعها ت�ستغيث وتقول :وا غوثاه بك يا َح َكم لقد �أهملتنا حتى َك ِل َب
العدو علينا ف�أيمّ نا و�أيتمنا ،ف�س�ألها عن �ش�أنها فذكرت له ق�صة �أ�سرها ،ف�أبلغ
ال�شاعر الأمري بق�صيدة ا�ستغاثة ،كان منها:
ف�إنك �أحرى �أن تُغيثَ و َت ْن ُ�صرا َ
تدارك ن�ساء العاملني بن�صر ٍة
احل َكم �إال �أن نادى باجلهاد واال�ستعداد وج ّهز جي�ش ًا قاده
فما كان من َ
بنف�سه ،و�سار �إىل املكان ،و�أنقذ املر�أة امل�سلمة وجميع �أ�سرى امل�سلمني يف تلك
البالد ،وقال لها :هل �أغاثك احلكم ،فقالت :نعم ،ودعت له.
ولعل هذه احلكاية تقرتن ب�أمثالها من مثل ق�صة املر�أة امل�سلمة التي
ا�ستغاثت باخلليفة العبا�سي املعت�صم باهلل ،قائل ًة منادي ًة م�ستنجد ًة:
وا ُمعت�صماه -وهي كثرية -ف�أجندها بحملة ع�سكرية .وهذه و�أمثالها و�أكرب
منها كثرية يف تاريخنا.
-52نفح الطيب.343/1 ،
85
ويبدو �أن هذا الأمري (احلكم الأندل�سي) ا�ستقام �أمره بعد حادثة الرب�ض
(احلكاية ال�سابقة) ،حيث ندم على ما ارتكب يف حق العلماء والنا�س ،و�أ َك َله
الندم على ذلك( ،)53ولقد مات كمدا ،وهو يطلب من اهلل �سبحانه وتعاىل
ُ
الغفران.
86
13
جمتابي ال ّنمار
ال ال ّثمار
87
88
�صفحات ح�ضارتنا متعددة الأو�صاف بخرييتها ،متعالية الهيئات
ب�صفحاتها ،متنوعة الطعوم بنكهتها ،ت�سقى مباء واحد .ونكهة اليوم هو
التوا�ضع للعلم والر�ضوخ له ولأهله ،حتى لو �أتى من طالب لأ�ستاذه ،و�أمثاله.
ولذلك فيوم ا�ستقامت على الطريقة �أتت بكل تلك الثمرات� ،أُ ُك ُلها طيب
وظلها دائم .ولهذا �أمثله كثرية ،وهي حقيقة ُم�ستنبط منها.
وهكذا غدا الذهاب �إىل امل�شرق -من قبل �أهل الأندل�س ،ن�سا ًء ورجا ًال -
هدف ًا و�أم ًال و�أمني ًة ،تهفو �إليه قلوبهم وتت�سابق مواكبهم وتتدافع مناكبهم.
والطريق منها و�إليها ميوج بالقا�صدين .كلهم يف �شوق �شديد جديد �أكيد ،مهما
تنوعت نوازعهم ،ومن النادر �أن �أحد ًا من علماء الأندل�س -بل وعمومهم،
ما ا�ستطاع ذلك -حرم نف�سه منه .وهذا رغم ُبعد الأندل�س و�صعوبة ال�سفر
يومها وتكاليفه ،وانف�صال الأندل�س �سيا�سي ًا عن امل�شرق البعيد.
يذكر القرطبي( )54يف تف�سريه عن قا�سم بن �أ�صبغ البياين الأندل�سي
(القرن الثالث -الرابع الهجري) ،ونقله املقري(� ،)55أنه حني ذهب (الب ّياين)
من الأندل�س �إىل امل�شرق للحج �أو العلم �أو التجارة ،در�س على العديد وتلقى
العلم يف جمال�س كثرية و�أخذ الفهم من �أفواه العلماء يف البلدان التي مر
بها ،كعادة �أهل الأندل�س الذين يحنون لزيارة امل�شرق ،موطن الوحي ،جتارة
وتعلم ًا وحج ًا ،وقد جتتمع كلها ،وغالب ًا هي كذلك.
ويف عودته �إىل الأندل�س ،نزل القريوان (تون�س) وذهب �إىل م�سجدها
لأخذ العلم من منابرها .فيقول :ملا َر َح َلتُ �إىل امل�شرق نزلت القريوان،
ف�أخذت على بكر بن حماد حديث م�سدد ،ثم رحلت �إىل بغداد ولقيت النا�س،
فلما ان�صرفت عدت �إليه لتمام حديث م�سدد ،فقر�أت عليه يوم ًا حديث النبى
-54تف�سري القرطبي ،287/1 ،والقرطبي هذا ،هو� :أبو عبداهلل القرطبي ،حممد بن �أحمد بن �أبي
بكر بن فرح الأن�صاري اخلزرجى الأندل�سي (671هـ = 1274م)� ،صاحب التف�سري امل�شهور :اجلامع
لأحكام القر�آن املعروف بتف�سري القرطبي.
-55نفح الطيب.48/2 ،
89
�أنه قدم عليه قوم من ُم�ضر من مجُ تابي ال َّنمار( .)56فقال� :إمنا هو جمتابي
الثمار ،فقلت� :إمنا هو جمتابي النمار ،هكذا قر�أته على كل من قر�أته عليه
بالأندل�س والعراق ،فقال يل :بدخولك العراق تعار�ضنا وتفخر علينا! �أو نحو
هذا .ثم قال يل :قم بنا �إىل ذلك ال�شيخ -ل�شيخ كان يف امل�سجد -ف�إن له
مبثل هذا علم ًا ،فقمنا �إليه ف�س�ألناه عن ذلك ،فقال� :إمنا هو جمتابي النمار،
كما قلت .وهم قوم كانوا يلب�سون الثياب م�شققة ،جيوبهم �أمامهم .والنمار
جمع منرة .فقال بكر بن حماد و�أخذ ب�أنفه :رغم �أنفي للحق ،رغم �أنفي
للحق،وان�صرف.
ومن مثل هذا التوا�ضع للعلم واال�ست�سالم لوجه احلق فيه واالنقياد �إىل
�صوابه لدينا الكثري من الأمثلة.
-56جمتابي النمار :الب�سيها ،والنمار كل �شملة خمططة من م�آزر الأعراب ،ك�أمنا �أخذت من لون
النمر.
90
14
91
92
حني ذهب القا�ضي الأندل�سي ،قا�ضي اجلماعة بقرطبة ،منذر بن �سعيد
البلوطي(355( )57هـ966 /م) �إىل امل�شرق للحج والعلم وغريه ،وعند مروره
مب�صر جرى له يف �أحد جمال�س العلم فيها �أم ٌر طريف ،قال� :أتيتُ ،و�أبو
جعفر بن النحا�س يف جمل�سه مب�صر ،ميلي يف �أخبار ال�شعراء �شعر قي�س
املجنون ،حيث يقول:
93
على قرطبة وي�أخذ عنه �أدبا�ؤها ،ومرت عليهم ق�صيدته التي �أولها:
والكرم
ْ َل َع ْم ُر َك ما البلوى بعا ٍر وال ال َع َد ْم �إذا املرء مل َي ْع ْدم ُتقى اهلل
حتى انتهى القارئ �إىل قوله:
وال عاجز �إال الذي ُخ ًّط بالقلم جتاف عن الدنيا فما ملُ َع َّج ٍ ز
َ
أدب ذكي
نظا ٌم مت� ٌحدث ّ
فقال له الغزال ،وكان يف احللقة ،وهو �إذ ذاك ٌ
القريحة� :أيها ال�شيخ ،وما الذي ي�صنع ُم َف ّعل (معجز) مع فاعل (عاجز)؟
فقال له :كيف تقول؟ فقال :كنت �أقول :فلي�س لعاجز وال حازم ،فقال له
عبا�س :واهلل يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها.
وهنالك مواقف كثرية متميزة يف كل موقع وموقف وحال ،مما يو�ضح
�أن املجتمع الأندل�سي كان بكل فئاته متفاهم ًا ومتفتح ًا ،يقبل احلق ويقف
عنده ،قاب ًال لآراء الآخرين ،مت�ساحم ًا فيما بينه ،تو�صال �إىل الر�أي الأر�شد
والأوجب والأ�صوب ،بل وحتى يف �أوقات ال�ضعف ،و�أوقات امل�شاغل وامل�شاكل،
مل تغب هذه ال�صور.
أخذ
نقا�ش وتداول و� ٍ
ومن طرائف الأمثلة يف هذه الأمور ،ما جرى من ٍ
ورد حول �شراء �أر�ض موقوفة على �إحدى كنائ�س الن�صارى الأندل�سيني من ٍ
�أهل الذمة يف قرطبة ،حيث انتهى الأمر �إىل ر�أي جامع ،تو�صل �إليه جمموع
الفقهاء ،و�أخذ به احلاجب املن�صور حممد بن �أبي عامر (392ه ـ 1002م)،
ومت ذلك يف ج ٍو يدل على ترقٍ فريد وحكمة متبادلة و�سعة يف النفو�س ،وكان
هو القرار ال�صائب بعدم جواز �شراء هذه الأر�ض(.)60
وهكذا كان املجتمع الأندل�سي راعي ًا لكل من عا�ش يف ظله ،رعى حقوقهم،
�شام ًال بذلك امل�سلمني وغريهم.
94
15
95
96
و ّفرت ح�ضار ُتنا وحيا ُتها موا�صفات و�أعراف ًا ور�سوم ًا� ،أ�صبحت �سمت ًا
كرمي ًا� ،أر�ست قواعده و�أقامت �أ�صوله و�أعلته ،بنا ًء متميز ًا .عرفت به بكل
امليادين والأفانني واملوازين ،ثبتت لديهم ،و�أ�صبحت منوذج ًا يحتذى ومثاال
يقتدى و�أعالم ًا بها ُيهتدى .غدت من املقومات العلمية والظواهر احلياتية
يف ح�ضارتنا ،حيث العلم فيها فري�ضة ،كما �أن العلم للعمل.
َق َّدمت ح�ضار ُتنا -يف بلدانها كافة ،ومنها الأندل�س � -أعالم ًا عالية
من الرجال والن�ساء ،الذين �أ�سهموا فيها .جند يف ذلك كتب ًا جعلت هذا
مو�ضوع ًا لها ،وهي كثرية ،من مثل كتاب :جامع بيان العلم وف�ضله وما ينبغي
يف روايته وحمله ،يقع يف جزءين ،لعامل الأندل�س والغرب الإ�سالمي� :أبو عمر
يو�سف بن عبدالرب ( 463هـ = 1071م) ،وكان هذا الكتاب جواب ًا على �س�ؤال
�سائل( .)61بجانب ما ُيذكر من تلك املوا�صفات حني احلديث عن الأعالم
كافة ،لدى ترجمتها يف كتب الأعالم الأندل�سية ،وهي بالع�شرات .فمواقفهم
الكرمية واعتزازهم بعلمهم وب�أنف�سهم ومكانتهم رائعة م�ضيئة رفيعة ،فقد
عرفت الأندل�س -مثل غريها من بقاع هذه احل�ضارة -منه الكثري.
والأمثلة يف ذلك متنوعة يف كل الع�صور ،حتى يف الع�صور ال�صعبة من
مثل ع�صر الطوائف يف الأندل�س (القرن اخلام�س الهجري = احلادي ع�شر
كتب التاريخ عن العامل
امليالدي) ،فمن م�أثور الأمثلة يف هذا ما ترويه ُ
اللغوي املذكور بالديانة والفقه والورع� ،أبي غالب متام بن غالب املعروف
-61لدينا كتب وكتابات ور�سائل �أخرى -وبع�ضها مطول -كانت جواب ًا ل�س�ؤال من �أحد ،قد ال يكون
بينه وبني الكاتب وامل�ؤلف والعامل �أية معرفة ،من مثل :ما جرى البن حزم الأندل�سي(456هـ =
1064م)( يف كتابه طوق احلمامة يف الألفة والإيالف طوق احلمامة 14 ،وما بعدها) ،وكذلك يف
جوابه على ف�ضائل الأندل�س التي وردت يف نفح الطيب ،179-156/3 ،بعنوان ر�سالة ابن حزم يف
ف�ضل الأندل�س ،وهذه ظاهرة مهمة تلفت االنتباه يف العناية با�ستيفاء اجلواب .كل ذلك بدافع الإميان
باهلل تعاىل وكتابه ور�سوله[ وهو دليل على البناء الإ�سالمي القوي على منهج اهلل تعاىل وحتري
االلتزام به بتقوى وحر�ص وبذل.
97
بابن التياين( ، )62القرطبي الأ�صل (ا َملر ّية 436 ،هـ = 1044م)� ،أنه �صنف
ر�س ّية (� )63شرقي الأندل�س على كتاب ًا جلي ًال ،وكان يومها ي�سكن مدينة ُم ِ
البحر املتو�سط .وملا وقف على هذا الكتاب �أبو اجلي�ش ،جماهد بن عبداهلل
العامري ( 346هــ1044 /م) �أر�سل �إىل ابن التياين �ألف ًا من الدنانري
الأندل�سية مع ك�سوة ،كي يزيد التياين يف ترجمة الكتاب عبارة :مما �ألفه
متام بن غالب لأبي اجلي�ش جماهد ،لكن التياين ر ّد عليه هديته ،قائ ًال:
كتاب �صنفته هلل ولطلبة العلم� ،أ�صرفه �إليه؟ هذا واهلل ما ال يكون �أبد ًا! فكان
وع ُظم يف �صدور النا�س .كما ُيذكر �أن التياين �أن زاد التياين يف عني جماهد َ
قال �أي�ض ًا بهذه املنا�سبة :واهلل لو ُب ِذ َلت يل الدنيا على ذلك ،ما فعلت وال
ا�ستجزت الكذب ،ف�إين مل �أكتبه له خا�صة ،لكن لكل طالب عامة .ف� ْأع َجب
لهمة جماهد وعلوها ،و�أعجب لنف�س هذا العامل وعزتها .وهكذا ينبغي �أن
تكون الهمم وهذا ما يجب على العلماء.
ما لي�س يبلغ باجلياد ُّ
ال�ض َّم ِر و ِب ُ�ض َّمر الأقالم يبلغ �أه ُلها
وهكذا كانت لهذه املعاين عند العلماء الأندل�سيني مكان ٌة و�أهمي ٌة .وبهذا
امل�ستوى كان فعلها يف كل �أوان وميدان ،وهي �أم�ضى من �سنان� .إذن ،فلي�س
عجب ًا �أن يكون قلم الكاتب ال�صادق الأ�صيل �أم�ضى من �سنان املحارب
النبيل.
وبهذه الدوافع والبناء والقواعد ،جند ظواهر كثرية جد ًا ،غريبة
وعجيبة ،وهي عامة م�ألوفة ،دعتهم �إىل التو�سع يف هذه الظواهر� ،إحدى
ثمار ذلك البناء ،الذي ملأت ظواهره العلمية الفا�ضلة جوانب املجتمع،
و�سادت و�أ�صبح لها االهتمام واملكانة واالمتياز ،حتى جرى التناف�س فيها.
-62عنه انظر :املغرب يف ُحلى املغرب .166/1 ،نفح الطيب .132/3 ،الكتب واملكتبات يف الأندل�س
�ص .32
-63وهي مدينة بناها امل�سلمون ،وا�شتقوا ا�سمها من وظيفتها ،حيث كانت ميناء ومر�سى لل�سفن.
98
هذا وغريه ُينبئ بو�ضوح كامل و�إ�ضاءة قوية وتعبري م�سموع عن حقيقة هذا
املجتمع وبنائه الر�صني ومتانة مقوماته الأ�صيلة .وهو ال يت�أتى �إال بالبناء على
هذا املنهج الرباين الكرمي ال�سليم.
99
100
16
101
102
لقد غدا العلم -مبناراته الرائعة املنرية املت�سعة � -شام ًال وا�ضح ًا ،جاذب ًا
لكل �أحد من الن�ساء والرجال والأطفال .وظهر يف املجتمع امل�سلم علماء غاية
يف القوة والعلم وال�سعة ،وه�ؤالء كثريون جد ًا .ونذكر هنا ،على االخت�صار،
بع�ض ًا منهم و�شيئ ًا من �أخبارهم ونتاجهم وعلمهم.
فهذا قا�ضي اجلماعة بقرطبة(� )64أبو املُط َّرف عبدالرحمن بن حممد بن
عي�سى بن ُف َط ْي�س (قرطبة 402 ،هـ = 1012م) ،كان هو نف�سه من منارات
العلم يف املجتمع ،وله امل�ؤلفات الكثرية ،تعد �أجزا�ؤها باملئات! وكان �صاحب
مكتبة �ضخمة! وحيث �إن كرثة املكتبات العامة واخلا�صة يف الأندل�س كانت
�سائدة ،بحيث ُيذكر �أن املكتبات العامة يف قرطبة وحدها بلغت �سبعني مكتبة،
�أما اخلا�صة فيندر من ال ميلك مكتبة يف بيته -ن�سا ًء ورجا ًال �َ -ص ُغرت �أو
َكبرُ ت.
وكان يف مكتبة القا�ضي �أبو املطرف من ذخائر ونوادر الكتبُ ،ي ْن ِفق
عليها �إنفاق ًا عجيب ًا ،وكان لديه �ستة وراقني ،ين�سخون له دائم ًا ،وقد رتب
لهم على ذلك راتب ًا معلوما .فما �إن ي�سمع بكتاب حتى يعمل على �شرائه ،و�إال
ي�ستن�سخه .وما كان ي�سمح ب�سهولة �إعارة كتبه خارج املكتبة ،فهي مفتوحة
للباحثني دون قيود.
ومن جمائل حكاياته يف ذلك� ،أنه �أقام بنا ًء خا�ص ًا للمكتبة على �أروع
هند�سة متقدمة مرتقيةُ ،د َّر ًة معمارية ،بحيث �إذا وقف �أحد يف �أي من
�أبوابها ،يرى كافة رفوفها ،ذات الألوان املتباينة ،رمبا ح�سب مو�ضوعاتها.
وفيها قاعات للجلو�س ،يجلب من رفوفها الكتب املطلوبة للباحثني� ،شيوخ ًا
وم�ؤلفني ودار�سني ،مع توفري كافة اخلدمات لهم .وكان �إذا طلب �أحد �أي
وع ّدة الكتابة وم�ستلزمات الراحة .و�إذا رغب �شيء ،يق َّدم �إليه ،من �ضيافة ُ
�أي �أحد با�ستعارة كتاب ،ال يتي�سر له ذلك ،ف�إذا �ألح يف الأمر كلف �أحد
-64قا�ضي اجلماعة بقرطبة :م�صطلح ق�ضائي �أندل�سي ،ولعله يعدل -كلي ًا وجزئي ًا -قا�ضي
الق�ضاة يف امل�شرق الإ�سالمي.
103
الن�ساخني لديه �أن ي�ستن�سخ منه ن�سخة ،ويهديها له جمان ًا ،وال يقبل �أي مال
مقابل كل تلك اخلدمات ،وكان هو يرعاها بنف�سه ،وهو على علم وفري.
كان ميلي من ذاكرته ارجتا ًال جميع درو�سه يف م�سجد قرطبة اجلامع (�أو
جامعتها العتيدة) ،وبني يديه يف املجل�س مئات الطلبة والدار�سني وال�شيوخ،
يتلقون عنه ويكتبون ما ميليه عليهم ،وك�أنه كان يقر�أ مكتوب ًا من ورق(.)65
ومن نوادر -بل وغرائب -حكاياتهم يف امتالك مكتبة خا�صة واقتناء
الكتب فيها� ،أن �أ�صبح جمع الكتب واحل�صول عليها ميدان ًا للمناف�سة ،لي�س
فقط للدراية والرواية ،بل وكذلك لإ�شباع جماح الهوايةُ .
فيذكر �أن �أحدهم
الذي ال تكون عنده معرفة وا�سعة ،واهتمام ًا كبري ًا ،وعلم ًا ظاهر ًا ،يحتفل يف
�أن تكون يف بيته خزانة كتب مهمة ،يحاول اقتناء ما يجملها.
ومن ذلك �أن �أحد العلماء �أقام مرة بقرطبة و َال َز َم ُ�سوق كتبها ،يرتقب
ح�صول كتاب ،له بطلبه اعتناء� ،إىل �أن وقع ذلك وبخط جيد وت�سفري
(جتليد) مليح ،ففرح به �أ�شد الفرح ،وجعل يزيد يف ثمنه ،فريجع �إليه
املنادي بالزيادة� ،إىل �أن بلغ فوق حده ،فقال له� :أرين من الذي يزيد يف هذا
الكتاب ،حتى �أو�صله �إىل هذا الثمن ،ف�أراه �شخ�ص ًا عليه ُ
لبا�س �أهل العلم،
فاقرتب منه وقال له� :أعزَ اهلل �سيدنا الفقيه� ،إن كان لك غر�ض يف هذا
لدي خزانة كتب ،احتفلتُالكتاب تركته لك ،فرد عليه ،ل�ست بفقيه ،ولكن َّ
مبال
بجمع الكتب لها ،و�أعجبني هذا الكتاب �أن يكون فيها ،وا�ستح�سنته غري ٍ
بثمنه ،واحلمد هلل على ما �أنعم من الرزق ،فهو كثري( .)66ثم تنازل للعامل
عليه ورمبا ا�شرتاه ف�أكرمه به.
وهكذا حتى كان تبادل الهدايا بالكتب من �أف�ضل ما ُي ْهدى ،بجانب ما
ُي ْقتَنى و ُي ْع َت َنى ويباهى به.
-65انظر عن ذلك :الكتب واملكتبات يف الأندل�س.463/1 ،180 ،178 ،49 ،47 ،30 ،
-66نفح الطيب.463/1 ،
104
�صورة جوية مل�سجد قرطبة اجلامع ويبدو فيها امل�سجد كام ًال مع ال�صحن اخلارجي وال�صومعة
(املئذنة .وهذا امل�سجد يقع يف اجلهة الغربية من مدينة قرطبة ،على اجلهة اليمنى من النهر (الوادي
الكبري )Guadalquivirوهو النهر الوحيد يف الأندل�س (�شبه اجلزيرة الإيبريية) الذي
يحمل ا�سم ًا عربي ًا .ويف اجلهة الأخرى من النهر يبدو رب�ض (حي) �شقندة.
105
106
17
107
108
أهل هذه احل�ضارة الإ�سالمية -مما عرفوا به -بال�شجاعة عرف � ُ
ُ
املتنوعة ،يف ميدان ن�صرة احلق وال�صرب عليه وجندة مواقعها ،ال �سيما يف
املواجهات واملعارك احلربية .وهي مرئية وكثرية و�شاملة ،لكن البد من �إيراد
�أمثلة �أو حكايات منها يف الأندل�س ،وهي كثرية ب�ألوانها يف كافة ال ُوجهات
وامليادين.
�أتوقف هنا عند واحدة ،وهي جماعية ،وكل �أهلها كذلك .وهي ثمرة بناء
الفرد واملجتمع امل�سلم الذي ال �شك هو بناء �أفراد ،مبجموعهم يكونون هذا
اللون من املواقف� .ألتقط هذه اللقطة من معركة بالط ال�شهداء ،التي ال
نعرف �إال �صورها ،م�شوهة مقلوبة ُمد ّمرة.
وبالط ال�شهداء معركة متت يف قلب فرن�سا ،جنوب باري�س نحو 200كم،
بني مدينتي تور وبواتييه (تور – بواتييه ،)Toiters-toursوهي
معركة �شهرية يف التاريخ الإ�سالمي الأندل�سي والأوروبي على ال�سواء .وقد
()67
جرت بني امل�سلمني بقيادة التابعي اجلليل املُق َّدم عبدالرحمن الغافقي
-وايل الأندل�س -واجلي�ش الفرجني بقيادة �شارل مارتل (قا ْر ُلهْ)
.charles martelوتعترب من املعارك الفا�صلة يف التاريخ
الإن�ساين العام كذلك.
وقد جرت بني هاتني املدينتني -وبهما ُ�سميت معركة بالط ال�شهداء �أو
ب�أحدهما -وامل�سافة بينهما نحو ت�سعني كيلومرت ًا ،يف ميدان مت�سع تدل عليه
امل�سافة ،وكانت يف �أواخر �شعبان � -أوائل رم�ضان 114هـ = ت�شرين الأول
-الثاين� ،أكتوبر -نوفمرب 732م ،م�ستمرة نحو � 10أيام( .)68وكانت معركة
-67عن الغافقي انظر :نفح الطيب288 ،299 ،480 ،3-235/1 ،ـ .15 ،16/236تاريخ علماء
حلميدي ،242الأعالم ،الزركلي ،312/3 ،فجر الأندل�س ،ابن الفر�ضني 210جذوة املقتب�س ،ا ُ
الأندل�س ،ح�سني م�ؤن�س 319 ،وبعدها .دولة الإ�سالم يف الأندل�س ،حممد عبداهلل عنان-84/1/1 ،
.115 ،96 ،91
68-Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe during the
Umayyad period*,121.
والرتجمة العربية :العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية،167 ،
التاريخ الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة 193 :وبعدها ،البيان املغرب ،ابن عذارى،
،27/2العرب ،ابن خلدون ،119/4 ،نفح الطيب ،املقري 18 ،16-15/3 ،299 ،288/1 ،وبعدها.
�أعمال الأعالم� ،ص ،6فجر الأندل�س ،ح�سني م�ؤن�س �ص 330دولة الإ�سالم يف الأندل�س .101-100/1/1
109
حامية كثيفة عنيفة ومتفاوتة يف كل الإمكانيات بني الطرفني ،امل�سلمني
والفرجن :ال ُع ّدة والعدد وطبيعة الأر�ض والرتبة وت�ضاري�سها وحالتها ،ال�سيما
وقت اخلريف املمطر ،ونوع الأ�سلحة وطريقة النزال ومكان التزود ،وامليدان
يف �أر�ض العدو .وكل هذا وغريه كان ل�صالح الفرجن الذين جمعهم وانتقاهم
واختارهم �شارل مارتل من كل �أنحاء الإمرباطورية الرومانية املقد�سة،
بجانب � ْأمداد كثرية من جوانب �أخرى .واعتربها معركة موت ال حياة بعده.
وقد �سار لها اجلي�ش الإ�سالمي م�سافة -من عا�صمته قرطبة -قرابة 1500
كيلو مرت .وا�ستمرت املعركة نحو ع�شرة �أيام ،ويف تا�سعها �أو عا�شرها ا�ستُ�شهد
وايل الأندل�س وقائد املعركة وبطلها املقدام الأمري املجاهد عبدالرحمن
الغافقي.
110
ال�ص َعداء،
ان�سحب اجلي�ش الإ�سالمي حتى تنف�سوا بارتواء وا�ستن�شقوا ُ
ليح�سبوا ذلك ن�صر ًا ،طبلت له الكتابات الأوروبية .ف�أبى اجلي�ش الفرجني
�إال القعود ومل يالحق اجلي�ش الإ�سالمي �أو يتبعه �أو يتابعه ،لأنهم فهموا
متام ًا وعلى ثقة ومعرفة �أكيدة �أنه ال بد �أن تكون هذه خطة ع�سكرية ،و�أنهم
�سيكرون عائدين �إليهم و�أن الأمر كمني ،ومل يكن يف حقيقته كمين ًا بحال.
وهكذا ف�إن �شجاعتهم -بعد عون اهلل والإميان بدعوته وااللتزام
بتعاليمه -حمتهم من �إبادة حمتملة ،بل قائمة وماثلة .وبذلك ت�أكد لدى
الفرجن �أنه لي�س كمين ًا.
111
112
18
113
114
�أينما ُت َن َّقب يف تاريخنا -بجوانبه وامتداداته وتنوعاته -جتد روائع
باهرة و�إ�شراقات �آ�سرة ،كان لها �أن تكون �سائرة .وقد َي ْع َجب كل �أحد :كيف
وملاذا غابت هذه عن الذاكرة؟
وللو�صول �إليها البد من جهد وتنقيب وتنبه ،يقوم على ال�صرب واملعرفة
حل ُجبواخلربة .وجتد هذا مركون ًا �أحيان ًا ،رمبا مل يجر التوجه �إليه� ،أمام ا ُ
والأغ�شية والأغطية التي حجبته عن الر�ؤية العابرة ،و�أحيان ًا حتى املرتيثة
املكيثة .وهي ،مهما بدت �صغرية مهم�شة ،لكن لها مدلو ًال ُم ْدرك ًا قريب ًا
�أو حمبوك ًا بعيد ًا ،له قيمة عليا يف معرفة �أبعاد احلياة الغائرة ،مبعانيها
ومبانيها ،وكرائمها ،مت�أ�صلة يف مراميها .تدل عليها طبيعتها القوية الغائرة،
ال تنفك ت�صنع ال�صيغ الكرمية البعيدة عن توقع توفرها بهذا ال�شكل الأنيق،
وهي كثرية منرية و�ضيئة متدفقة.
ولهذه احلكايات مو�ضع منا�سب وموقع متنا�سق وبيان رائق ،ي�ستدعي
�إظهارها .وهذا جانب يتعلق بظواهر حا�ضرة حل�ضارتنا� .إنها حممية ،من
ال�صعب اخرتاق جمتمعها الذي ميوج بر�سوم و�أعراف ،متثل طابع ًا لها قوة
ظهور عميقة اجلذور� ،أ�صال ًة وداللة وتوجه ًا .وهي �أثر من البناء الإ�سالمي
لهذه احل�ضارة الكرمية املنرية الربانية.
وهذه املوا�صفات يعرفها الآخرون ،وعلى �ضوئها يت�صرفون ،وهي ظواهر
كثرية ،من مثل �صدق املجتمع والتزامه بالقيم امل�ضيئة وال�شجاعة البارعة
التي ال تغلب وال تهزم .وهي ع�صية على ذلك كله وما يجري جمراه ،وذلك
البتنائها وقيامها على عقيدة التوحيد ال�صافية الكرمية و�شريعتها الإن�سانية
الرائعة ،التي �أنبتت هذه ال�صيغ الفا�ضلة التي تفتقدها �أية ح�ضارة �أخرى.
ف�أمدت هذه املعاين مبانيها يف كافة الأحوال ،و�إن نزلت �أحيان ًا� ،أو انحرفت
وبجهد كبري �أو غري كبري،
ٍ زمان ًا� ،أو �ضعفت مكان ًا ،لكنها دوم ًا تعود لأ�صلها
ح�سب الأحوال والظروف.
115
وما م�ضى يف احلكاية ال�سابقة ي�صلح �شاهد ًا عليه ،لكن الق�صة التالية،
فيها لهذا الأمر �شاهد ومدلول ،وهي ق�صة الفر�س الأندل�سي.
وهذه الق�صة من النوادر املهمة العجيبة ،وهي تتعلق بهذا الفار�س ،الذي
مل يكن فريد ًا ،رغم مكانته� .إنه حممود بن عبداجلبار بن راحلة� ،أحد بني
طريف من م�صمودة � -أيام الأمري عبدالرحمن الأو�سط238 - 206 ،هـ
()69
= 852 - 822م -الذي واجه من القلة من رفاقه ملك ليون Leon
�ألفون�سو الثاين 228 - 175( Alfonsoهـ = 842 - 791م) ،ومعه
فرق من جي�شه .وجرت بينهم معركة حامية قوية غري متكافئة (225هـ =
840م) ،قاتل فيها ابن راحلة ب�شجاعة فائقة عجيبة مت�ألقة .ورغم ذلك مل
ي�ستطيعوا النيل من ابن راحلة ،لكنه -ويا للأ�سف الكبري -قتل بطريقة
غريبة نادرة غري متوقعة ،وبال �سيف �أو نزال �أو قتال ،وهكذا جرت فج�أة.
والوحيد من كتاب م�صادرنا الذين رووا هذه احلكاية يف كتبهم (املغرب
يف ُح َلى ا َملغ ِْرب) �أ�سرة بني �سعيد ،ومتت �صياغته على يد �آخر هذه ال�سل�سلة
الكرمية الأدبية العلمية التاريخية :علي بن مو�سي بن �سعيد الأندل�سي
(685هـ = 1286م).
ذلك �أن فر�س ابن راحلة جمح به حني كان يحارب �ألفون�سو وجي�شه،
فا�صطدم ب�شجرة بلوط فكان فيه حتفه .وبقي م�ستلقي ًا وهو ميت وال يجر�ؤ
�أحد من فر�سان �ألفون�سو على االقرتاب منه .فوقفوا فوق �أجمة (م ُرتفع)
بعيدين ،خوف ًا �أن تكون حيلة منه �أو كمين ًا لهم .وهذا هو ن�صه« :بقي (ابن
راحلة) مجُ َ ّد ًال يف الأر�ض حين ًا ،وفر�سان الن�صارى قيام على ربوة يهابون
الدنو ويخافون �أنها حيلة منه( )70وبعد انتظار طويل اقرتبوا بخطى بطيئة
متئدة مرتددة حتى ت�أكدوا �أنها لي�ست حيلة».
116
وهكذا ترى مثل هذه املعاين الرفيعة القوية البديعة يف كافة امليادين ،ال
ترى فيها فاقع ًا وال تخلف ًا وال �ضعف ًا وال تردي ًا .ذلك ما قدمه املجتمع امل�سلم
يف جوانب احلياة املتعددة وميادينها املتنوعة ،فانظر ومت َّل واعترب.
وقد تقدمت يف هذه احلكايات �ألوان الأمناط البارعة من الأحوال يف
ق�ص�ص رويت يف الكتب الأمهات ،وامل�صادر الأ�صيلة والكتابات املوثقة
تنوع ًا ،فيها من جوانب احلياة الكثرية يف كافة امليادين ،للن�ساء والرجال،
والأطفال ،ولكافة �أهل املجتمع ،خالل القرون وال�سنني والأحوال.
117
118
19
علماء
الهمة والعزمية
119
120
جمتمعنا الإ�سالمي الكرمي وح�ضارته ميوج بال�صيغ العزيزة الباهرة
بكل �ألوانها و�صيغها� .إذا مررت بها ك�أنك يف ب�ستان رائق ،تنوعت �أزهاره
وت�ضوعت رائحته ،وما غاب امل�سك عن �ساحته عموم ًا ،يعجبك ذكر ذلك
و ُتكررهُ ،متفوح ًا نا�شر ًا عطر ًا.
هو امل�سك ما كررته َيتَ�ض ّوع �أعد ذكر نعمان مرار ًا ف�إنه
�أثمرت ُطعوم ًا غذاء �شفاء ،وهو يحدثك عن نف�سه دون �إعالن وبال
ادعاء ،الذي لي�س من طبيعته
�شف عنه ذا ُته ال ما غدا ينعتُه بائع ُه ُ
وامل�سك ما قد ّ
وكلما وادعته �أو داعبته وناغيته ظهر طيبه فواح ًا وزكت رائحته وتناثرت
وتطايرت باهرة � ّأخاذة مرتامية.
كل هذا م�شتق من واقع احلياة الإ�سالمية وح�ضارتها ،يف عاملها الوا�سع،
كلما �أخذت ب�شرعه .وللأ�سف ف�إن حقائقها ما زالت بحاجة �إىل �سرب غوره
والنظر يف �أعماقها و�إح�سان قراءتها والت�أين يف فهمها .ولذلك ف�إن احلديث
عنها ال تغنيه روايتها و�سردُها ور�ؤية ومعرفة ظاهرها ،والبحث عنها يف
الن�صو�ص املتوفرة واملنتظرة ،حيث �ضاع الكثري من ثروة �أ�صيلة كانت
ملك ًا له.
ذلك مهم �أ�سا�س ،لكن البد من ت�أ�صيله كله ،درا�سة وفهم ًا وتقدمي ًا .و�أنت
واجده يف عموم ح�ضارتنا الفا�ضلة خالل م�سريتها ،ويف الأندل�س خ�صو�ص ًا،
لرتيك عجائب �أن�ش�أها ذلك البناء الر�صني ملجتمعها املتح�ضر ،حتى ليعجب
الدار�س منبهر ًا بتلك النماذج ،التي �صنعها هذا املنهج }
{ (البقرة.)138 :
فكان بنا�ؤه ن�سيج وحده ،ج ّماع ًا للخري من كل �أطرافه ،يدعك تبحث عن
�سره املكنون ،يوقفك عنده ،لت�ست�ضيء به .كله تراه واقع ًا� ،أف�ض ُل ما تقر�ؤه
�سلوك ًا يف �أهله ،تز ّيوا به ُخ ُلق ًا وتعام ًال بال افتعال ،تربية وبناء بال مثال
121
ابتداء ،تفتقت عنه حياتهم ثمارا كرمية حتى لك�أنه خلق ًة و�سليق ًة وفطر ًة.
فق�س على ذلك �أمر احلياة الإ�سالمية يف حركتها احلية وبنائها الإن�ساين
الوديع الرفيع .ومن الواقع احلياتي ن�ستقي �أروع الأو�صاف ون�ستخرج �أرفع
الأحكام ،عالية مرفرفة يف عامل جمتمعاتنا الكرمية عموم ًا ،ويف الأندل�س
منه بالذات.
منظر عام ملدينة طليطلة التي تقع جنوب غرب مدريد نحو 70كم
122
وكان من عادة الن�صارى عند �سقوط مدينة �أندل�سية �أن يحولوا م�سجدها
اجلامع �إىل كني�سة املدينة الكربى ،Catedral, Cathedral
رغم الوعود الأكيدة بعدم القيام مبثل ذلك ،وهكذا فعلوا مع طليطلة� ،إذ بعد
�سقوطها رمبا ب�أ�شهر �أو �أ�سابيع ح ّولوا م�سجدها اجلامع �إىل كني�سة ومنعوا
امل�سلمني من ال�صالة فيه والدخول �إليه ،لكن �أحد الفقهاء الأفا�ضل الذي ال
نعرف غري لقبه :املُغامي (ن�سبة �إىل قرية ُمغام القريبة من طليطلة) �أ�صر
على دخوله لي�صلي فيه ويقر�أ القر�آن الكرمي يطيل �صالته وقراءته ،بينما
اجلند من حوله مدججون بال�سالح ي�ستحثونه على االنتهاء واخلروج منه،
وك�أنه ما كان يريد تركه ومفارقته ،ولو كان ب�إمكانه حلمله معه �أو �أقام فيه
عمره(. )71
123
باب املردوم وهو �أحد مداخل مدينة طليطلة
124
م�سجد (م�سجد �صغري) باب املردوم الذي حول �إىل كني�سة ويحافظ عليه الآن �سياحي ًا ب�صفة
م�سجد ،وي�سمونه كني�سة م�سيح النور (the church of cristo de la luz,
)already a mosque
و�إنه ملن الغريب �أال جتد معلومات عن هذا الفقيه فلعلها كانت وذهبت ،مثل
ذهاب هذا امل�سجد� ،ضمن ما دمر و�أحرق من مئات الآالف من املخطوطات.
والذي بقي ب�أيدينا -مما و�صلنا -م�صدر واحد يذكر هذه احلكاية ،وهو
كتاب الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة(( )72جزيرة الأندل�س) ،البن ب�سام
ال�شنرتيني (542هـ) من مدينة �شنرتين(Santarem )73بالربتغال
اليوم� ،شمال �شرق عا�صمته ل�شبونة lisbon, lisboaنحو �سبعني
كيال .ثم �شرع �ألفون�سو ال�ساد�س Alfonso vlبتغيري امل�سجد اجلامع
كني�سة بقوة ال�سالح ،يف ربيع الأول �سنة ثمان و�سبعني و�أربع مائة.
125
هذه ال�صورة متثل الواجهة الرئي�سية مل�سجد قرطبة اجلامع الذي ُحول �إىل الكني�سة الكربى ،وفيه
جرت ق�صة الفقيه املغامي املذكور يف احلكاية
126
وحدثني (يقول ابن ب�سام) :من َ�شهِ َد طواغيته َت ْبت َِد ُره يف يوم �أعمى
الب�صائر والأب�صار منظره ولي�س فيه �إال ال�شيخ الأ�ستاذ املغامي �آخ َر من
َ�ص َد َر عنه واعتمده يف ذلك اليوم ليتزود منه ،وقد �أحاط بامل�سجد وبال�شيخ
َمردة عفاريته و�أوائل طواغيته ،وتكاثر عليه جند الفرجن لتغيري القبلة.
عجل �أ�شار هو �إىل
وكان مع الفقيه �أحد تالميذه يقر�أ فكلما قالوا له ّ
تلميذه ب�أن �أكمل .ثم قام وما ارتعب وال تهيب ،ف�سجد به واقرتب وبكى عليه
َمل ّي ًا وانتحب ،فما َج َ�س َر �أحد منهم على �إزعاج ال�شيخ وال معار�ضته ،وع�صمه
اهلل تعاىل منهم ،والن�صارى يعظمون �ش�أنه ويهابون مكانه ،مل متتد �إليه يد
وال عر�ض له مبكروه �أحد.
وهكذا ع�صمه اهلل تعاىل منهم حتى �أكمل قراءة ما يريد ،و�سجد �سجدة
ورفع ر�أ�سه وبكى على اجلامع بكا ًء �شديد ًا حتى خرج مل يعر�ض له �أحد
مبكروه ،وك�أنه يحمل حزن القرون ال�سابقة واحلا�ضرة والالحقة.
فذهبت طليطلة وا�سطة العقد يف الأندل�س العتيدة املريدة الفريدة..
127
128
20
مغرورون
�أم ُم ْكتَ�شفون؟
129
130
كم من �صفحات نا�صعة زاهرة باهرة ،حتتويها احل�ضارة الإ�سالمية يف
رحمها الودود الولود و�أكنافها ،بع�ضها تناثر �أو اندثر �أو انغمر ،هي جديرة
بالتنقيب والتنقري ،لكن املتابعة والتحري املكيث ي�أتي بالغرائب ،وكل ذلك يف
منهج اهلل تعاىل ،كلما �أخذ به
ف�ضائل هذه احل�ضارة الإن�سانية ،التي �أقامها ُ
امل�سلمون.
واملو�ضو ُع بحاجة �إىل همة عالية ورغبة بانية ومنهجية ر�شيدة ،تن�ضج
فهم الأحداث ،وال تقف عند ظواهرها ،بل تنظر يف بواطنها متعمقة يف
�أغوارها ،لت�أتي باجليد اجلديد� ،إخبار ًا واعتبار ًا و�أنهار ًا .وذلك �شامل يف
اجلوانب املادية والعلمية والقيمية الروحية واالجتماعية والإن�سانية.
و�إذا كان ذلك عام ًا يف هذه احل�ضارة الإ�سالمية ،ف�إن لها يف الأندل�س
�سهم ًا كبري ًا ومثري ًا وجدير ًا ،ومنها �أفاد الغرب وارتوى نه ًال وعال دون حتفظ
�أو تريث �أو حدود ،يف بناء ح�ضارته وتقدمي الكثري من منجزاته وما حققه
البع�ض خط�أً �أنه انفرد
ُ من مبتكراته ،يف اجلوانب التي �أرادها ،والتي يظن
بها وكان لها رائد ًا ومالئ ًا �ساحتها ابتدا ًء.
من ذلك الك�شوف اجلغرافية وارتياد املجاهيل ،بر ًا وبحر ًا وجو ًا.
وامل�سلمون هم الذين بد�ؤوها وو�ضعوا �أ�س�سها ومهدوا لها قبله بقرون.
يذكر ال�شريف الإدري�سي – اجلغرايف امل�سلم العاملي – (568 – 487ه/
1165 -1100م) ابتداء يف الق�سم الأندل�سي من كتابه «نزهة امل�شتاق يف
اخرتاق الآفاق» ق�صة الكت�شاف املحيط الأطل�سي امل�سمى بحر الظلمات
جرت �أواخر القرن الثالث� /أوائل الربع الهجري = القرن التا�سع /العا�شر
امليالدي ،و�إن كان قد �سبقتها ارتيادات �أخرى للمحيط نف�سه.
وملخ�ص الق�صة – مو�ضوع احلكاية� -أنه اجتمع من �أهل مدينة ل�شبونه
(عا�صمة الربتغال اليوم) ثمانية رجال �أبنا ُء عمومة من درب واحد�ُ ،س َّمي
131
با�سمهم (درب املغرورين)( )74والبد �أنهم كانوا بحارة لهم خربة بركوبه،
اتفقوا على خو�ض بحر الظلمات الأطل�سي ليعرفوا ما فيه ،ف�أعدوا مركب ًا مل�ؤوه
بالزاد واملاء يكفيهم لأ�شهر ،و�ساروا لأول الريح ال�شرقية وملدة �أحد ع�شر يوم ًا
فواجهوا موج ًا وقلة �ضوء �أيقنوا بالتلف .ف�أداروا �أ�شرعتهم نحو اجلنوب لإثنى
ع�شر يوم ًا ،و�صلوا جزيرة الغنم ،لكرثتها ،فنزلوها و�شربوا من عني جارية
و�أكلوا من فواكه التني.
وملا ذبحوا من �أغنامها وجدوها مرة ،ف�أبحروا نحو اجلنوب �إثنى ع�شر
يوم ًا حتى و�صلوا جزيرة عامرة ،ف�أحاط بهم �أهلها و�أخذوهم ،فر�أوا رجالها
طوا ًال �شقر ًا �شعورهم �سبط ًة ولن�سائهم جمال عجيب فاعتقلوا �أيام ًا رحلوهم
و�أو�صلوهم �إىل بر بعد نحو ثالثة �أيام عند مر�سى يف �أق�صى املغرب.
هذه خال�صة الق�صة التي تناولتها التف�سريات والتحليالت للأماكن التي
و�صلوها ،والظن �أن اجلزيرة الأخرية التي و�صولها هي �إحدى جزر الكناري
( = Canary, Canariasاخلالدات)� .أو لي�س �أوىل �إذن ت�سمية
ه�ؤالء الفتية «املكت�شفني» ال املغرورين �أو املُ َغ َررين؟
وهكذا ف�إن يف ف�صول املدونات الإ�سالمية مناذج لهذه الق�صة َ�س َب َقت
�أو لحَ ِ قت يف الأندل�س بالذات ،منها رحلة ال�شيخ القاد�سي من مدينة قاد�س
( )Cadizالأندل�سية وق�صة خ�شخا�ش ،فتى من �أهل قرطبة يف جامعة
من �أحداثها �أعدوا مراكب ارتادوا بها املحيط الأطل�سي وعادوا بعد مدة.
-74راجع :نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق ،ال�شريف الإدري�سي ،الق�سم الأندل�سي� ،ص 184وما
بعدها .الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار ،ابن عبد املنعم احلمريي .61 ،كذلك � .509 ،52 :أندل�سيات*،
147/1وبعدها .عن الإدري�سي انظر :الأعالم ،الزركلي .24/7تاريخ اجلغرافية واجلغرافيني
يف الأندل�س ،ح�سن م�ؤن�س 165 ،وما بعدها .تراجم �إ�سالمية (�شرقية و�أندل�سية) حممد عبد اهلل
عنان.314-305
132
�أال ترى �أن ما قدمته احل�ضارة الإ�سالمية ابتدا ًء وابتداع ًا و�إيداع ًا يف
احل�ضارة الإن�سانية كانت رائدة فيها ،وهي كثرية متنوعة متدافعة بحاجة
�إىل اكت�شاف؟
�أال ي�صح �إذن �أن نقول�( :إنه اكت�شاف بحاجة �إىل اكت�شاف).
133
134
21
فرو�سية
املر�أة الأندل�سية
135
136
جعل الإ�سالم املر�أة امل�سلمة يف �أح�سن مو�ضع ،مل تعرفه ولن تعرفه �إال
وحد ُه ،وتكرميه لها – ك�ش َّقها و�شقيقها الرجل – طبيعي ،حيث �إن
بالإ�سالم َ
اهلل تعاىل كرم الإن�سان ،كل �إن�سان }
{
بعيون كرمية .وهو وا�ضح لأهل
(الإ�سراء .)70وذلك بديهي ملن فهم احلياة ٍ
الإ�سالم ومعروف مو�صوف للمن�صفني من غري �أهله ،فقد خلق اهلل تعاىل
املر�أة والرجل من نف�س واحدة وقد �أ�شري �إىل طرف من ذلك احلكايتني
الأندل�سيتني الثالثة والرابعة �سابق ًا.
�شاركت املر�أة يف بناء احلياة الإ�سالمية وتر�سيخ قواعدها ،ودورها
ال يقوم به غ ُريها ،و�أو ُلها تربي ُة الن�شء و�إعدادُه وتقوميه ،متد به احلياة
الفا�ضلة .ومع كل ذلك فقد قامت بكل دور �آخر يتنا�سب ووظيفتها التي
�أعدها اهلل �سبحانه وتعاىل لها ،مما يتما�شى وفطرتها وتكوينها وخلقتها.
وهذا وا�ضح منذ احلياة الإ�سالمية الأوىل �أيام الر�سول الكرمي \ ومنذ
العهد املكي وهو ما �سارت عليه الأجيال يف القرون التالية.
�ألي�س �أول م�ؤمن امر�أة و�أول �شهيد امر�أة ،و�أول مهاجر �إىل احلب�شة
امر�أة ،و�أول مهاجر �إىل املدينة املنورة امر�أة ،و�أول من روى نزول �سورة
الأنعام جملة واحدة يف مكة امر�أة ،و�أول من هاجر الهجرتني و�صلى القبلتني
امر�أة .و�أول من ن�صح اخلليفة عمر بن اخلطاب و�صوبه امر�أة ،و�أول من
بنى جامعة يف الإ�سالم – �أول جامعة يف العامل (245ه) – امر�أة ،وغريها
ذلك كثري ،وهذه هي املفاخر والأجماد التي تبقى على مدى القرون �شاهدة
ناطقة.
�ضربت املر�أة امل�سلمة ب�سهم كبري يف كافة امليادين يف العامل الإ�سالمي
وبكم وفري ،فكانت �أديبة ومربية ومعلمة وموجهة وعاملة وفقيهة
ويف الأندل�سًّ ،
وطبيبة بل وحتى فار�سة.
137
ولدينا يف هذا مثال رائق ،تلك هي جميلة العذراء بنت عبداجلبار بن
راحلة ،التي ا�شتهرت يف الأندل�س بجمالها ورمبا ب�شعرها .كما كانت م�شتهرة
بال�شجاعة والنجدة والفرو�سية ولقاء الفر�سان ومبارزتهم حتى يف الع�ساكر،
ك�أختها – مث ًال – خولة بنت الأزور ،و�أُخريات.
وحني ثار �أخوها حممود �ضد ال�سلطة الأندل�سية يف قرطبة كانت هي
اخلالف .ثم جل�أ مع �أخته جميلة وبع�ض
تدعوه �إىل الطاعة وهو يدعوها �إىل ِ
�أتباعه �إىل مملكة ليون ( )Leonعا�صمة �إ�سبانيا الن�صرانية يومذاك
م�ستجري ًا مبلكها �ألفون�سو الثاين II Alfonsoاملتلقب عندهم بالعفيف
()The Chaste, El Casto
لكن �أخته جميلة كانت تدعوه �إىل العودة وطاعة ال�سلطة الأندل�سية يف
قرطبة ونبذ اخلالف ،حتى ر�أى فع ًال �أنه ال ي�صح اال�ستمرار يف هذا ال�ش�أن.
فندم على ذلك وكاتب الأمري عبد الرحمن الأو�سط (الثاين) �سنة 225ه/
840م ،لكن �ألفون�سو � َأح َّ�س بتلك املكاتبة فخ�شي �أن ينقلب �سالح ًا �ضده،
فواجهه مع جنده و�أحاطوا به وب�أخته ومن معهما ،فحاربوه م�ستب�سلني،
وهو و�أخته ي�صوالن ويجوالن مدافعني ببطولة ،لكن �أخاها الفار�س حممود
ا�صطدم ب�شجرة قتلته ( ،)75ورمبا قتلت �أخته معه �أو فرت �أو �أُ ِ�سرت.
فانظر كيف كان موقعها وموقفها ووفا�ؤها .كانت بانية حانية موالية� ،أبلت
�أح�سن البالء يف فرو�سيتها ووالئها لقومها وبلدها ودينها وفية لواجباتها،
حتث على اخلري وت�صونه وتكف عن ال�شر وتدينه وتن�صح ما و�سعها بالعفة
والأمومة وال�صون.
138
هكذا كانت تربيتها التي تلقتها يف ذلك املجتمع الكرمي مببانيها امل�ضيئة
وتربيتها الربيئة وتكوينها الإ�سالمي الر�صني.
تلكم هي املر�أة امل�سلمة يف الأندل�س وغريه ،من عامل الإ�سالم الوا�سع خالل
القرون .حازت مكانتها الراقية ,و�أدت دورها البناء وحققت �إن�سانيتها ،يف
ح�ضارة فا�ضلة مثلها ،ومنارة رفيعة وحياة وارفة ،حققه لها ولأخيها الرجل
هذا املنهج الإ�سالمي الرباين الكرمي ،ال يحققه �أبد ًا غريه ب�أي حال.
139
140
22
قرا�صنة
�أم جماهدون؟
141
142
احتوت احليا ُة الإ�سالمي ُة وجمتمعها وتاريخها امتال ًء بالقوة والعفة
نفو�س �أهله من معان كرمية والهمة ،نوادر فريدة مده�شة ،مبا ابتنت عليه ُ
�صلحت لبناته فطاب بنا�ؤه وهوا�ؤه وتفتحت ُمناه وطال مداه ،تعددت امليادين،
قائمة ومبتكرة تدفع ب�أهله �إىل تيار احلياة يرتادها ويقودها ،تتبارى يف
م�ضامري اخلري وم�ضامني الف�ضل والإجناز .فحيثما ت�ضعه ي�أتي اخلري،
معرب ًا مزدهر ًا مثمر ًا ،وك�أنه م�ؤهل له معد ملهماته خبري مبدركاته ي�أتيها
�سبق ًا يدعو للنظر ويثري الفكر ممث ًال ومتمث ًال بالعرب.
كل هذا يدعو ُم�سلمة اليوم للرتيث والتوقف والتعرف ،بحث ًا عن ذلك
البناء الأنيق الر�شيق الر�شيد .وهكذا كانت تتفتق املعاين �أمامهم َي ِل ُجون بها
مواقع احلياة �إبداع ًا واقرتاع ًا يف كل ما ُيفيد وي�أتي باخلري الأكيد والإجناز
اجلديد ،رمبا على غري مثال �أو خيال .و�أينما َت َل َّف َّت جتد ذلكُ ،يعجبك
ويجذبك ،مراكب ومناكب ومواكب ،من الن�ساء والرجال والأطفال ،اخت�ص
العا ُمل الإ�سالمي ب�أمثالها و�أندل�سها املوعود رافع الأعالم والبنود ،وكثريا
منها ال نكاد نعرف تفا�صيلها بل جنهل وجودها �أحيانا ،حني املوعد املورود.
فماذا نقول يف ع�شرين بحار ًا �أندل�سي ًا ،ال نعرف ا�سم واحد منهم،
يبحرون من �سواحل الأندل�س ال�شرقية على البحر املتو�سط ،باجتاه �شماله
�إىل �شواطئ فرن�سا .فماذا تراهم يريدون ،وما هو �سر قوتهم وحقيقة
دوافعهمِ ،لت ََح ُّمل ذلك وخو�ض غمار املجهول وامتطاء غمرات املخاطر،
وماذا �أعدوا من م�ؤهالت هذه الرحلة ومتطلبات املهمة و َمب ا�ستعدوا لها؟
وما �أن و�صلوا �سواحل فرن�سا �شمال مر�سيليا ،Marseilleبينها
وبني ( Niceنيقة) ،عند خليج �سان تروبي�س � Saint-Tropesشمال
طولون Toulonيف منطقة الربوفان�س Provanseجنوب فرن�سا
عند �سفوح جبال الألب ( ،).Alps: Mtsحيث الآن جبال املور massif
= des mauresالأندل�سيون ،وتقع عليها قرية غارد فرينيه Garde
،– Freinetحتى نزلوا فيه باحثني عن مكان �آمن ،يتخذونه قاعدة لهم،
143
ليبد�ؤوا القيام مبهمتهم.
فكان ذلك املوقع البارز البارع الذي يدل اختياره على حكمة وخربة.
ف�أقاموا عدة معاقل وح�صون كان �أمنعها املكان الذي يقوم على جبل مرتفع
داخل غابات كثيفة ،حتيط به وا�سمه بالالتينية Fraxinetum
م�شتق من ا�سم �شجرة الدردار ( )76الكثري هناك ،ومنه �أخذت الت�سميات
الأوروبية الأخرى.
� -76شجرة الدردار� :شجر عظيم له زهر �أ�صفر وثمر كقرون الدفلةُ ،يغر�س على حافة الطريق للزينة
والظل واخل�ضرة.
144
لكن ا�سمه يف م�صادرنا الإ�سالمية (جبل القالل) جبل القمم .2كان
ذلك حوايل �سنة 277ه = 890م �أيام الأمري الأندل�سي عبداهلل حفيد الأمري
عبدالرحمن الأو�سط وجد اخلليفة عبدالرحمن النا�صر .وتقاطر عليهم
الأتباع من الأندل�س واملغرب ،ف�أقاموا دولة ا�ستمرت قرابة مئة عام.
واملتوفر من م�صادرنا ت�سميهم (املجاهدون) لكن امل�صادر الأوروبية
املتوفرة – ومنها �أكرث املعلومات -ت�سميهم القرا�صنة Pirates,
...Piratasوالقر�صنة . Pirateria Piracy
لكن ا�ستقراء الأحداث وا�ستكناه ما تدخره م�ضامي ُنها واعتبار �أبعاد
�أمثالها تدل على �أنهم فع ًال ذهبوا جماهدين ،ال هاربني وال ناهبني وال
معتدين.
فانظر �أية همة عالية كانت متلأ نفو�سهم ،وقوة متوقدة �أخذتهم �إىل
�سام جعلهم يتحملون كل ذلك؟ ال �شك �أنه اجلهاد يف �سبيل هناك ،وهدف ٍ
اهلل فهم مل يذهبوا هذه الوجهة واملذهب وي�سعون لهذا املطلب واحتمال
ال�سري �إال لذلك والبد �أنهم عرفوا من الأخبار هناك وو�صلت �أنباء �أحوالها
و�أ�سبقوا �سفرهم بطالئع �أتتهم بالأخبار ،بجانب املعلومات ال�سابقة كما هي
العادة يف مثل هذه الآثار وال يبعد �أبد ًا �أن يكونوا قد علموا بوجود م�سلمني
هناك بقايا الفتوحات الإ�سالمية ال�سابقة لتلك املناطق (� )77أو جاء وفد
يحمل �إليهم هذه الأنباء ،فل ُّبوا النداء وا�ستجا�شوا للفداء ،فانطلقوا بالوالء
للبناء.
145
146
23
قرطبة
ت�ستقبل �سفري ًا !
147
148
حازت الأندل�س خالل قرونها الأوىل ،ال�سيما الرابع الهجري = العا�شر
امليالدي� ،أعلى و�أرقى و�أ�سمى الأ�ضواء يف العامل الإ�سالمي �أحيان ًا ،مبا كان
لها من بنائها احل�ضاري الرفيع ويف كافة جوانب احلياة وميادينها .حيث
�أقامت – بدين اهلل تعاىل – جمتمع ًا رفيع ًا منا ُره و�سيع ًا ،و�إطاره �سامي ًا
إهاب ف�سيح َ�ض َربت ِخ َي ُم ُة �أطناب ًا را�سخة ثابتة الأوتاد ظليلة
م�ضماره يف � ٍ
الأفياء.
ات�ضح ذلك كلما اقرتبت من منهج اهلل املبارك لكل من ي�أخذ به من
الأع�صار والأم�صار�ُ ،سنة ما�ضية �إىل يوم الدين ،وكل خري فيها كان من
بركاته ومنه عرف العامل �أفانني احلياة الكرمية� ،أخذ منها علمه و�أقام
عليه تقدمه احلا�ضر و�آلة مبتدعاته و�أركان مدنيته ،وكان قبلها غف ًال وجه ًال
وعط ًال.
وامليادين الإن�سانية املركنة عرفها عامل الإ�سالم ،ابتدا ًء ،ب�أعراف ثابتة
كرمية وفنون �سامية �أنيقة و�آداب عالية رقيقة طبعت حياته ،يف وقت كان كل ما
حوله حمال غريب ًا وقاح ًال �سليب ًا وجدب ًا رعيب ًا حتى ما يدركه �أو يفهمه ف�ض ًال
عن �أن يعلمه.
من ذلك فن الدبلوما�سية ،بل ف�ضائله وخلقياته و�أعرافه الربة ،التي
ال تلحق غباره دبلوما�سية اليوم وقد �سبق �أن مر طرف منها يف احلكاية
الأندل�سية الأوىل (�سفارة �أندل�سية �إىل الدامنارك) .تلك كانت من الأندل�س
ذاهبة جواب ًا� ،أما �سفارة اليوم فهي قادمة �إليه ركاب ًا ،و�إن اختلف االجتاه.
ومو�ضوع الدبلوما�سية والعالقات الدولية الإ�سالمية يف ح�ضارتنا �أمر
�شبه جمهول �أو مغيب يف درا�ساتنا الأكادميية والدرا�سات العلمية واملواد
اجلامعية.
149
وحكاية اليوم تقدم خرب �سفارة �أملانية ( )78ير�سلها الإمرباطور الأملاين
(�إمرباطور الدولة الرومانية املقد�سة)� :أوتو الأول الكبري (Otto I the
� )Greatإىل حاكم الع�صر اخلليفة الأندل�سي عبدالرحمن الثالث النا�صر
لدين اهلل الذي كانت مدة حكمه فوق خم�سني عام ًا ،كل الن�صف الأول من
القرن الرابع الهجري وجدت يف مذكراته �أنه ا�سرتاح خالله 14يوم ًا ال
غري(!!!)79
ازدهرت يف الأندل�س كافة جوانب احلياة وبلغت ح�ضارته مبلغ ًا عظيم ًا،
ال�سيما القرن الرابع الهجري ،فماجت الدروب �إىل قرطبة بالبعثات
الدبلوما�سية وال�سفراء والوفود الرائدة الراغبة الراجية (منهن �أمريات)
من البلدان ،خا�صة الأوروبية ،كل يطلب ودها ويروم �صداقتها ،وهكذا توالت
ال�سفارات �إليها برئا�سة �سفراء �أو �أمراء ر�ؤ�ساء.
وخري من و�صف ذلك ابن حيان القرطبي (469ه = 1076م) ،ونقله
عنه �آخرون ،مثل ابن خلدون (�أبو زيد عبدالرحمن بن حممد بن خلدون،
808هـ = 1406م)« ،ومدت �إليه �أمم الن�صرانية من وراء الدروب يد
الإذعان ،و�أوفدوا عليه ر�سلهم وهداياهم من رومة والق�سطنطينية يف �سبيل
املهادنة وال�سلم واالعتمال فيما يعن يف مر�ضاته ،وو�صل �إىل �سدته امللوك
من �أهل جزيرة الأندل�س املتاخمني لبالد امل�سلمني فقبلوا يده والتم�سوا ر�ضاه
واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه(.)80
-78راجع كل تف�صيالتها هذه يف �أطروحة الدكتوراهAndalusian Diplomaric Relations :
With Western Europe during the Umayyad period.pp.
والرتجمة العربية لها :العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية (املجمع
الثقايف� ،أبو ظبي .297-273 ،)2004كذلك :التاريخ الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط
غرناطة* 318وما بعدها.
- 79املغرب يف حلى املغرب ،ابن �سعيد الأندل�سي ،182/1 ،نفح الطيب من غ�صن الأندل�س الرطيب
املقري 973/1
-80نفح الطيب � ,453/1أزهار الريا�ض ,392-882 ,372-162,272 - 852/2 ,العرب ,ابن خلدون,
.113-903 ,992/4
150
و«هادته الروم وازدلفت �إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر
ومل تبق �أمة �سمعت به من ملوك الروم والإفرجنة واملجو�س و�سائر الأمم �إال
وفدت عليه خا�ضعة راغبة وان�صرفت عنه را�ضية»(.)81
وكان من بني هذه ال�سفارات تلك التي �أر�سلها �أوتو الأول �إمرباطور الدولة
الرومانية املقد�سة ،الذي �أر�سل �سفارة برئا�سة �سفريه ،الراهب :يوحنا
الغرزيني ( ،)John of Gorzeحام ًال معه ر�سالة الإمرباطور،
راجيا فيها اخلليفة النا�صر �أن يتدخل يف مو�ضوع دولة املجاهدين يف جبل
القالل (احلكاية الأندل�سية ال�سابقة) وو�صلت هذه ال�سفارة قرطبة العلم
واملجد واحل�ضارة بعد �سنة ( 340ه 951/م) .لكن هذه ال�سفارة بقيت يف
قرطبة نحو ثالث �سنوات ،يقال� :إن ال�سفري الراهب تعلم العربية وحمل معه
يف عودته منها بع�ض املخطوطات.
وخالل ذلك �أر�سل النا�صر �سفارة �إىل �أملانيا للقاء الإمرباطور ،وعند
عودتها �إىل قرطبة بد�أت ترتيبات لقاء ال�سفري الراهب يوحنا ملقابلة اخلليفة
يف ربيع الأول النبوي 345ه = �صيف 956م ،يف مدينة الزهراء اخلليفية
الواقعة خارج قرطبة غرب ًا على بعد نحو ثمانية كيل ،وامل�ستلقية عند �أقدام
جبل العرو�س .ويف الق�صر اخلليفي يف قاعة جمل�س ال�سفراء امل�سمى :املجل�س
امل�ؤن�س� ،أُقيمت االحتفاالت بح�ضور رجال الدولة واجلند وامل�ستقبلني من
النا�س يف حفل بالغ احلفاوة واالحتفاء .ودخل ال�سفري الراهب املجل�س .وكان
اخلليفة جال�س ًا مرتبع ًا على �سريره ،وق ّبل ال�سفري يد اخلليفة ،لكن ال�سفري
كان متوتر ًا� ،إال �أنه تعجب من �سماحة اخلليفة وحديثه عن الإمرباطور ،وكان
ا�ستقبا ًال رائع ًا حاف ًال ،جعل ال�سفري يذهب توتره ،وحتادثا فى الأمور الالزمة
وانتهت املقابلة على �أن تتكرر.
151
اخلليفة االندل�سي عبد الرحمن (النا�صر لدين اهلل350 ,ه ـ 962 /م) ،ي�ستقبل الراهب (ال�سفري
الأملاين) يوحنى الغرزيني يف ق�صر الزهراء� ،سنة 345هـ 956 /م.
بع�ض غرف ق�صر مدينة الزهراء (دار امللك) حيث ي�ستقبل ال�سفراء والزوار ا�ستعدادا
للقائهم باخلليفة.
152
و�إىل هنا تقف مذكرات ال�سفري ،حيث ُج ُّل هذه املعلومات منها مكتوبة
بالالتينية مرتجمة �إىل الإ�سبانية ( )82ولدى رحيل ال�سفري الأملاين و�سفارته
ودعها اخلليفة النا�صر بنف�سه يف احتفال ر�سمي ،وكان ذلك يف نف�س ال�شهر
من العام.
هذه م�شاهد من احلياة الدبلوما�سية الأندل�سية غنية بالتفا�صيل ،وقد
�أوعبتُها بحث ًا يف �أكرث من درا�سة ،ال�سيما �أطروحة الدكتوراه عن :العالقات
الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية ،املطبوع
بالإجنليزية ،وترجمتها العربية ظهرت بف�ضل اهلل تعاىل يف املجمع الثقايف،
�أبوظبي.2004 ،
ولقد تبني خالل ذلك كله مما عرثت عليه واكت�شفت وك�شفت اعتماد ًا على
م�صادر منها خمطوطة �أن الأندل�س ،بجانب كل ذلك ،و�ضعت بذور التمثيل
الدبلوما�سي الدائم الذي �أن�ش�أته ( )83رمبا يف �أكرث من منا�سبة ومكان.
هكذا كان حال الأندل�س �سموا وتعلما وتقدما مبقدار �أخذه باملعاين
الفا�ضلة كانت امل�صدر الوحيد لكثري من العلوم واملبتدعات والتقدم ،هديتها
لعامل اليوم .مثلما �أن الرتدي دون تلك املعاين ي�أتي مبباعدتها ،لكن العودة
– والعود �أحمد – يوم تعود الأمة �إىل اخلري والقوة والن�صر كلما عادت �إليه
و�أخذت به واحت�ضنته.
-82املُغْرب يف ُح َلى ا َملغ ِْرب ،ابن �سعيد الأندل�سي .182/1 ،نفح الطيب من غ�صن الأندل�س الرطيب،
املقري.379/1 ،
-83نفح الطيب� .354/1 ،أزهار الريا�ض .293-288 ،273-272 ،261-258/2 ،ا ِل َع رْب ،ابن خلدن،
.311-309 ،299/4
153
154
24
مدينة هزمت
امرباطور ًا !!!
155
156
كان الفتح الإ�سالمي للأندل�س هدية التاريخ واحلياة واحل�ضارة ،لتلك
الأر�ض وملا بعدها التي عرفت بالبرُ ت Pirineos Pyreneesبني
�إ�سبانيا وفرن�سا ،ابتداء مما ي�سمى بالأر�ض الكبرية (فرن�سا وما يليها)
وكثري من بقية �أوروبا الغربية ،هدية حملت كل �أفانني الرب واخلري وال�سعادة
(للدارين).
ه�ؤالء الذين حملوا منهج اهلل تعاىل وبه انطلقوا ينريون الأر�ض حيثما
�أقاموا .و�إذا كان املد الإ�سالمي قد توقف تدفقه �سنة 114ه = 732م بقيادة
وايل الأندل�س املقدام الهمام املجاهد عبدالرحمن الغافقي وا�ست�شهد هو فيه
عند تور بواتييه Tours- Poitiresبالط ال�شهداء ،جنوب باري�س
نحو 200كيل ،ف�إنَّ اخل�سارة عظمت به ،و�إن حاول املد التدافع والرتافع
واالنبثاق هنا وهناك ،لوقته وفيما بعده .لكن توقف نهر اخلري من االن�سياح
يف تلك الأر�ض لي�سقيها غر�س ًا تكون ب�ساتني خ�ضراء مثمرة ،بعد �أن كانت
�صحراء مقفرة� ،صحراء النف�س واحلياة واحل�ضارة ،ويب�سها من اخلري
والنعم والإن�سانية ،اعرتف بخريه الذاهب عنهم ،حتى بع�ض الأوروبيني
املن�صفني.
دارت بالأندل�س لفرتة رحى فنت وحمن اقتحمت �ساحتها عنوة ،ليو�ضع
لها حد مبجيء الداخل للأندل�س وهو عبدالرحمن بن معاوية بن ه�شام بن
عبدامللك� ،صقر قري�ش ،بو�صوله �إليها �سنة 138ه = 755م .فاجتمع عليه
النا�س وبويع بالإمارة يف قرطبة يف ال�سنة نف�سها.
بد�أ الداخل – من خالل طاقاته وم�ؤهالته وح�سن �سيا�سته – جمع
الإمكانيات واخلربات والتجارب ،ب�إقرار الأو�ضاع وبناء دولة مركنة موحدة
متما�سكة.
كانت على اجلانب الآخر – خلف اجلبل يف فرن�سا وما بعدها –
157
الدولة الرومانية املقد�سة� ،إمرباطورية فتية قوية يقودها �شارملان
�( Charlemagneشارل الكبري)� ،أقوى ملوك الأ�سرة الكارولنجية
( ، )Carolingian Dynastyمل يرقه �أن تقوم دولة م�سلمة
يف �أوروبا جتاوره ،فزينت له �سلطته �إ�سقاطها و�إحلاقها امرباطوريته،
يف وقت تبع انت�صاره على قبائل ال�سك�سون ،قوية ال�شكيمة الثائرة عليه
واتفق �أن بع�ض والة املقاطعات الأندل�سية ال�شمالية ،ال�سيما بر�شلونة
( )Barcelonaو�سرق�سطة (� )Zaragozaشقوا ع�صا
الطاعة على قرطبة ( ، )Cordobaو�أر�سلوا وفد ًا �إىل �شارملان
ي�ستدعونه ملهاجمة الأندل�س و�أخذها فجهز �شارملان جي�ش ًا �ضخم ًا من
جميع مناطق االمرباطورية ،قاده بنف�سه.
وعند و�صوله اجلبال (�ألربت ،ولي�س الربان�س( ،))84ق�سم جي�شه ق�سمني:
ق�سم يقوده بع�ض قادته ،يعرب �إىل الأندل�س �شرق ًا على البحر املتو�سط (ممر
باربنيان ( ، )Perpignanوق�سم يتواله هو يجتاز ممر رن�شفاله
(( )Roncesvallesباب ال�شيزرا) يف الغرب ،ليلتقيا عند
مدينة �سرق�سطة (�شمال �شرق مدريد 325كيل) التي كان واليها م�شارك ًا
يف دعوته ،لكن �ضمريه �صحا لهول هذه اخليانة ،فغري موقفه وح�صن املدينة
�ضد حملة �شارملان ،م�ستعد ًا ومرتب ًا وم�صمم ًا للدفاع عنها.
وملدة �شهر من احل�صار ،باءت حماوالت �شارملان بالف�شل ،فلم يفلح يف
دخول املدينة .وجتمعت عليه هموم الف�شل وغريها ،فعاد بكل جي�شه من
املعرب الغربي .وبينما هو يف و�سطه وقعت له الكارثة الكربى ،هاجم اجلي�ش
الأندل�سي – رمبا بالتعاون مع �سكان ال�شمال – م�ؤخرته وفيها خرية قادته
ف�أفنوها ،وا�ستنقذوا من فيها من الأ�سرى والغنائم ومل ي�ستطع عمل �شيء
158
وهو ي�شهده بعينه حم�سور ًا ل�ضيق املمر و�صعوبة احلركة فيه حيث ال ي�سمح
باملرور �إال الفار�س بعد الفار�س .وكان بينهم �أ�شهر قادته ،منهم روالن
( )Rolandالذي نظمت حوله الكثري من الأغاين ال�شعبية يف الع�صور
الو�سطى الأوروبية ،معتربة �إياه بط ًال قومي ًا ،منها �أن�شودة روالن ال�شهرية
( )La Chanson de Rolandوال يزال قربه هناك مكتوب ًا
عليه تاريخها عام 161ه = 778م.
وهكذا عاد �شارملان خائب ًا ،نتيجة الوقفة الكرمية التي ظهرت وهزمت
الفرقة واخليانة ،التي ردت يف نحورهم وظهورهم ودبورهم .ف�أدرك �شارملان
بعدها ا�ستحالة هذا الأمر الوهم ،فمال �إىل طلب ال�سلم مع الأندل�س ،و�أر�سل
�سفارة لذلك ،بل وعر�ض على عبدالرحمن الداخل امل�صاهرة الذي اعتذر
عنها وقبل ال�سلم مبعاهدة وقعت بينهما (.)85
وهكذا ترى كيف �أن اخليانة والعمالة جتلب �أكرب الأذى ،لكن بااللتزام
والفهم يتم االلتئام ،فال ي�ستطيع �أحد االقتحام وال يتم الإتيان من الداخل.
والأمل كل الأمل – �إن �شاء اهلل – �أن يتم تفهم ذلك والتعلم منه واالعتبار
له ،وهو بع�ض املطلوب من وراء كل هذه احلكايات ،وهو من الأهداف املهمة
لدرا�سة التاريخ عموم ًا.
159
160
25
مدين ٌة ..
�أنقذها اجلهاد
161
162
بنى الإ�سالم – مبنهجه الرباين – جمتمع ًا كرمي ًا قوي ًا �أمين ًا يف كل �شيء،
من النف�س الإن�سانية �إىل ميادينه ومبانيه الأخرى ،لت�صل �إىل جمتمع ميتلك
كل تلك املوا�صفات التي جتعله عزيز ًا متح�ضر ًا �إن�ساني ًا لنف�سه وجمتمعه
قانون ومعيار ،لكن عدم ٍ وكل من عاي�شهم وعاملهم ولغريهم .ذلك ميزانُ
مالزمة هذا املنهج ومفارقته �أو مواربة منهجه تقود �إىل عك�سه ومبقداره.
وعندها ت�صبح الأمة نهب ًا لعدوها و�أهل الأهواء فيها ،ومركب ًا للنهازين
من �أعدائها و�أبنائها املردة على ال�سواء ،داخ ًال وخارج ًا ،ال يرقبون فيها �إال
وال ذمة (ال عهد ًا وال �أمان ًا) ،يتفننون ويعبثون ،ي�صوبون وي�صبون وح�شيتهم
بكل لون يخطر على بال ،وهم يدعون �أنهم يح�سنون �صنع ًا .وهذا ما جرى
يف الأندل�س مرة �أيام الطوائف .فعلينا �أن ن�ستقرئ التاريخ وندر�سه بعمق
نظر و�سرب غور.
وحني تعود الأمة (�أمتنا املجيدة العتيدة) �إىل منهجها ،يعود �إليها كل
ما فقدته يوم �ضيعت منه .واحلياة الإ�سالمية – وبكل حركة جمتمعها
ما�ضي ًا وحا�ضر ًا – ال يرمي عن ذلك وال يهيم .وهذا جزء من تف�سري التاريخ
الإ�سالمي ومعرفة حركته و�سنن م�سريته.
فبعد تلك ال�صيغ الفا�ضلة فيه املتمتعة بالعافية ،تالها – لأ�سباب –
النزول �إىل التخفف منها والتخلف عنها والتقليل �أو البطء فيها ،فانزلقت ُ
�إىل هاوية عا�شت بالفرقة والت�شتت ،ب�سبب �ضعف االلتزام ،فذاقوا وباله،
وما �أنقذهم �إال العودة �إىل اخلط الكرمي ومنهجه القوي القومي.
وحكاية اليوم عن ع�صر الطوائف يف الأندل�س ،القرن اخلام�س الهجري/
()86
احلادي ع�شر امليالدي ،وما حمله من كوارث كان منها :مدينة برب�شرت
-86راجع التاريخ الأندل�سي 359 ،وما بعدها .الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة ،ابن ب�سام
ال�شنرتيني .145-137/3 ،جغرافية الأندل�س و�أوروبا� ،أبو عبيد البكري .93 ،البيان املغرب ،ابن
عذاري 225/3 ،وما بعدها .املغرب يف حلى املغرب ،ابن �سعيد الأندل�سي�.239/1 ،أعمال الأعالم،
ابن اخلطيب الغرناطي� ،ص .171نفح الطيب املفري .454-449/4 ،دول الطوائف ،حممد عبداهلل
عنان .279-274 ،تاريخ الأندل�س وو�صفه .71-69 ،الرو�ض املعطار ،ابن عبداملنعم احلمريي-90 ،
.91احللة ال�سرياء ،ابن الأ ّبار.247/2 ،
163
( )Barbastroالتي �ضاعت بالتق�صري و�أنقذت باجلهاد وح�سن
التدبري .تقع هذه املدينة �شمايل الأندل�س نحو 400كيل ،فوق مدريد
و�شمال غرب بر�شلونة ( )Barcelonaعلى �أحد فروع نهر �إبره
( )Ebroالذي ي�صب (يقع) يف البحر املتو�سط عند مدينة طرطو�شة
(. )Tortosa
وع�صر الطوائف يف الأندل�س ،هو ع�صر التمزق والت�شتت والتفكك �إىل
ممالك �صغرية ،حيث بلغت �أحيانا فوق الع�شرين ( )87غ�صت به الأندل�س
وكان �سبب ًا يف ذهابها ،ولو بعد خم�سة قرون ،غ�صة مل يذهبها �أو يرفعها غري
بناء النف�س بالنقاوة للمباين واملعاين اخلرية،التي �أقيم عليها ذلك املجتمع
ابتداء واعتمد دوم ًا اخلط اخللقي الكرمي ،يوم التزم بالبيعة والقيم وما
انهزم.
كانت كارثة هذه املدينة على يد النورمان� ،شعب �أ�صلهم من الأرا�ضي
املنخف�ضة يف ال�شمال الأوروبي تقلبت بهم ظروف النهب وال�سلب والعدوان
على كل �أحد حيث ميكنهم ،وقا�ست وعانت منهم دول �أوربية الويالت ،ثم
ا�ستقر ق�سم منهم – بعد �أن خرج بع�ضهم من وثنيتهم �إىل الن�صرانية،
و�أ�صله دين حمبة ،وهم على حالهم مل يتبدل فيهم غري املظهر -منطقة
احتلوها �شمال غربي فرن�سا ،بداية القرن الرابع الهجري = العا�شر امليالدي،
وحملت ا�سمهم :نورماندي ( .)Normandyوهبها لهم ملك فرن�سا
يومها� ،شارل الثالث الب�سيط �أو الأبله (. )Charles III, the Simple
وكان ق�سم منهم قد وفد �إىل روما (رومة) ،خلدمة الكر�سي البابوي،
برئا�سة قائدهم جيوم دي مونري (. )Guillaume de Montreiul
عم يقربهم يفوملا �س�ألوا البابا �إ�سكندر الثاين َّ :Alexander II
الن�صرانية� ،أ�شار عليهم بحرب امل�سلمني يف الأندل�س ،خمالف ًا �أ�صول دينه.
164
ف�سارت جيو�شهم املحت�شدة يف النورماندي نحو الأندل�س ،مع جيو�ش من
الفرن�سيني والإيطاليني ،ذكر �أن عددهم بلغ الأربعني �ألف ًا� ،أغلبهم خيالة.
فكانت حملة �صليبية ب�أو�سع معانيها ،تكوين ًا وهدف ًا وفعا ًال ،ال ميلكون من
الن�صرانية احلقة غري ا�سمها حتى و�صلوا مدينة و�شقه ()Huesca
الأندل�سية .فلما �أعجزتهم اجتهوا جنوبها ال�شرقي حيث مدينة برب�شرت
رم�ضان 456ه 1064 /م .فحا�صروها �أربعني يوم ًا ،جرت خاللها مناو�شات
كر وفر ،لكن املدينة �أنهكت واحتل النورمان مواقع خارجها. �شديدة بني ٍ
وقتل امل�سلمون منهم عدد ًا كبري ًا.
وحدث �أن النهر الذي ميد املدينة �أغلق ،ثم املجرى الداخلي ال�سري،
حني دل النورمان عليه �أح ُد اخلونة ،فمنعوا املاء بتخريبه و�إلقاء �صخرة
فيه ،فانقطع املاء عن املدينة كلي ًا وقلت الأقوات وبات الو�ضع ُمه ّدد ًا باملوت
والفناء ،مما ا�ضطرهم �أن َيعر�ضوا على النورمان اال�ست�سالم والت�سليم،
مقابل الت�أمني على �أنف�سهم و�أهليهم و�أموالهم ،ويخرج املقاتلون وغريهم
كثري من املدينة .وذلك مثلما حدث يف بلن�سية (كما �سي�أتي يف احلكاية
الأندل�سية ال�سابعة والع�شرين) ،فوافق �سريع ًا النورمانُ ،الذين دخلوا املدينة
دخول الوحو�ش الهائجة ،قت ًال وهتك ًا وفتك ًا ،خلو ًا من كل معنى متجردين من
�أي م�ضامني ،حتى بلغت �ضحايا القتل بالآالف �أو ع�شراتها ،ب�شائع و�شنائع
يبدو معها املوت م�صري ًا مف�ض ًال مغبوط ًا ،غري ما عبث بالنا�س دو�س ًا ورف�س ًا
بالرجل واحلافر و�أ�سر ًا ،ن�سا ًء ورجا ًال و�أطفا ًال.
دم.
مت ذلك ب�شكل عبثي جمرد من �أي معنى وقيمة ،لعر�ض �أو حيا ٍة �أو ٍ
فهذا هو انت�صارهم وفعالهم ،وهم يتفننون فيه ويتقنونه وبه يتفوقون مما
جعل م�ؤرخونا يعتربونها نازلة �أعظم من �أن تو�صف.
وتفي�ض الرواية الإ�سالمية يف ذلك كله ،ومنهم معا�صرون و�شهود عيان،
165
ال�سيما ما �سجله امل�ؤرخ الأندل�سي املعا�صر ابن حيان القرطبي (469( )88ه/
107م) .والذي يخجل الإن�سان من روايته ،وهو ما كانوا ي�ستمتعون به بولع
غامر ثم �إنهم اختاروا الآالف من �أبكار الفتيات امل�سلمات ووزعوهن على
�أمرائهم يف �أكرث من بلد من بلدانهم.
�ضرب هذا احلدث الأندل�س كله بزلزاله ،فتجاوزت حالة الطوائف
وتنادت للجهاد ،قاده �أبو جعفر �أحمد بن �سليمان بن هُ ود ،الذي ُل َّقلب
بـ«املقتدر باهلل» لقيادته حركة اجلهاد هذه ،ف�سار موكبه املبارك بالآالف
ال�ستة �أو تزيد نحو برب�شرت نهاية جمادى الأوىل من عام 457ه 1065 -م
ومت حتريرها من الوحو�ش الكا�سرة بعد ت�سعة �شهور من بداية املحنة املهلكة
املبيدة املبرية.
وهكذا �أذهب العجز والفرقة والف�شل املدينة و�أعادها اجلهاد واللحمة
والإقدام رغم الهول الغامر ،حيث مل يجد الكالم والبكاء والدموع �أمام هذا
امل�شهد املريع و�أمثاله ،حتى لو كان بع�ضها دمو َع التما�سيح ،متا�سيح الب�شر
املتوح�شة ومهارة التمثيل.
وهذه ق�ضية مثل كثري غريها يف التاريخ الإ�سالمي –ال�سيما الأندل�سي-
غائب ومغمور جمهول ،ومعرفته الزمة مهمة و�ضرورة حياتية وعلمية
و�إ�سالمية .بجانب �أن عر�ض التاريخ الإ�سالمي ب�شكله ال�سليم املُ�ؤ�صل املُد ّقق
– مع التعرف عليه – يجعل اجليل �أكرث ح�ضور ًا وفهم ًا ووعي ًا ،ي�ستوعب
�أحداث الع�صور – مع معرفة ع�صره – ب�شكل �أدق ويرتقي بفهمه للحياة
وطبيعة الإن�سان وطريق االرتقاء املقبل عليه.
166
26
�ضيعت ..
فوجدها العلماء
167
168
الأ�صالة وا�ضحة يف بناء الإ�سالم ملجتمعه ،وقد تزل قدم� ،أو �أقدام،
فانتظر الكوارث ،بع�ضها ج�سام ،لكن ما دام �أهله مرتبطني به ،يحومون
حوله ،يفتح ذلك طريق العودة �إىل رحابه بفعل احلماة والرعاة والدعاة
يبعثهم اهلل تعاىل ال�ستعادة حيوية الأمة وخرييتها ،بتجديد املعاين و�إقامة
املباين ،رغم الرياح العاتية امل�ضيعة .يوفرون جهدهم لهذا ب�إخال�صهم
وتفانيهم واحت�سابهم ،فتهب روح الإميان ورياحه ،طرية ندية �سخية.
ودوم ًا عند التياث الأمر ،مرة ومرات ،يقوم علماء الأمة( -)89حماتها
احلقيقيون – يتبعهم النا�س ،وغري قليل ممن كانوا �سبب نكبتها� ،أوبة
وتوبة ،ويهدي اهلل �سبحانه وتعاىل من ي�شاء .وقد ي�أتي النور اللأالء من
باطن الظلمة وي�شق الطريق من مرتاكم ال�صخور وينبثق املاء متدفق ًا من
�صم اجلبال وعاتيها ،لكن باجلهد واالجتهاد واجلهاد ،يتداوله �أهل الفطرة
واخلري والإميان .هذه هي �صورة ع�صر ملوك الطوائف( )90يف الأندل�س
(القرن اخلام�س الهجري = احلادي ع�شر امليالدي):
وتفرقوا �شيع ًا فك ُّل حملة فيها �أم ُري امل�ؤمنني ومن ُرب
يوم �ألقوا ب�أيديهم �إىل عدو الأمة ،وطلبوا معاونته على �أمتهم ،وت�سابقوا
ملر�ضاته وحتقيق رغباته ،و�أعطوه �أكرث مما يريد ،تنازلوا له عن البلد،
ح�صون ًا وميادين ،لكن بفعل العلماء -توجيه ًا وقيادة وزعامة – تابعهم
عموم النا�س ،لإخال�صهم ،ف�آبوا �إىل الطريق.
�أدرك العلماء – �أول من �أدرك – فهبوا داعني �إىل جتديد املعاين
الإ�سالمية ،واقت�ضاهم ذلك �سنوات كثرية.وكان �أولهم القا�ضي الفقيه
العامل �سليمان بن خلف� :أبو الوليد الباجي (ا َمل ِر ّية 474 Almeriaه
= 1081م) ،ن�سب ًة �إىل مدينة باجه الأندل�سية ،Bejaكان قد ذهب �إىل
املرية مبعوث ًا� ،سفري ًا وو�سيط ًا لل�صلح بني بع�ض الأمراء .والباجي معروف
-89التاريخ الأندل�سي 336،وما بعدها.
-90التاريخ الأندل�سي 323 ،وما بعدها.
169
ب�أنه �صاحب العلم الوا�سع واملعرفة وامل�ؤلفات ،والرحلة �إىل امل�شرق – كعادة
الكثري من �أهل الأندل�س – فرحل �سنة 423ه وعاد منها �سنة 440ه ،ملدة
ثالثة ع�شر عام ًا ،و�أقام ببغداد ثالث �سنوات ،در�س ود ّر�س(.)91
وهناك �أجر نف�سه حلرا�سة الدروب ،ي�ستعني بذلك على تكاليف معي�شته،
و«ملا قدم من ال�شرق �إىل الأندل�س بعد ثالثة ع�شر عام ًا وجد ملوك الطوائف
�أحزاب ًا متفرقة ،فم�شى بينهم يف ال�صلح وهم يجلونه يف الظاهر وي�ستثقلونه
يف الباطن وي�ستربدون نزعته ..فاهلل تعاىل يجازيه عن نيته»( )92وكانوا يلقونه
بالرتحيب لهيبته «مقامه مقام م�ؤمن �آل فرعون ...كان يرجو حاال تثوب
ومذنب ًا يتوب»(.)93
وملا كرث عيث الطاغية �ألفرن�سو ال�ساد�س Alfonso VIملك
ق�شتاله )Castilla( :وتطاوله وا�ستنزاف الأموال منهم انتدب
�أبا الوليد الباجي عمر املتوكل� ،أحد ملوك الطوائف يف �سرق�سطه:
(« )zaragozaللتطواف على �أولئك الر�ؤ�ساء ...يندبهم �إىل
مل ال�شعث ومدافعة العدو ويطوف عليهم واحد ًا واحد ًا وكلهم ي�صغي �إىل
وعظه»(.)94
فكان الباجي يتجول يف الأندل�س كلها لدعوة النا�س والأمراء �إىل النهو�ض
والأخذ بالأ�سباب واحت�ضان ما يف الكتاب ،فلم يرتك مدينة �إال وزارها،
يجدد معاين الإ�سالم يف �أهلها ،ويرتقي بنفو�سهم ،عاونه يف ذلك �آخرون
منهم �أبو عمر يو�سف بن عبدالرب (463ه) عامل املغرب وابنه �أبو حممد
عبداهلل ،ف�أخذت الأمة ت�ستجيب له �شيئ ًا ف�شيئ ًا.
-91عن �أبي الوليد الباجي :الذخرية .84-76/2 ،املرقبة العليا� ،أبو احل�سن ال ُنباهي .95 ،التاريخ
الأندل�سي .344-338 ،املغرب .404/1 ،معجم الأدباء ،ياقوت احلموي ،387/3 ،نفح الطيب،
.85-72/2الرو�ض املعطار .الديباج املذهب .120 ،احللة ال�سرياء� .128 ،98/2 ،سري �أعالم النبالء
الذهبي .545-535/18 ،الأعالم الزركلي.125/3 ،
-92التاريخ الأندل�سي 339وما بعدها.
-93الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة ،ابن ب�سام.56/2 ،
-94احللة ال�سرياء ،ابن الأبار.98/2 ،
170
وهكذا هبت ريح الإميان ن�سيم ًا ندي ًا حرك النفو�س و�أعلى الر�ؤو�س و�أقام
الهمة يف الأرجاء .ولقد �سمت بالقا�ضي الفقيه �أبو الوليد الباجي تقواه وعلمه
وهمته.وهكذا ق�ضى ثالثة وثالثني عام ًا يف الدعوة �إىل اخلري والتوحد ونبذ
اخلالف وجمع الكلمة ،بهذه املعاين.
وكان تطوافه يف عموم الأندل�س بجانب ما كان يدر�س من طلبة ،ي�أتي
الدر�س و�أثر امل ِْط َرقة يف يده ،يقوم من التدري�س للطلب والذي به غرامه،
وذلك يف �أكرث من مدينة ،مثل� :سرق�سطة وبلن�سية (،)Valencia
م�ضى على ذلك عمره ،وق�ضى يف مدينة املرية (� )Almeriaسنة
474ه ،حيث جاءها �سفري ًا بني ر�ؤ�ساء الأندل�س ي�ؤلفهم على ن�صرة الإ�سالم،
ويروم جمع كلمتهم مع جنود �أمري املرابطني احت�ساب ًا هلل.
ولعله كان م�شارك ًا يف بث روح اجلهاد الذي انتهى بتحرير برب�شرت
(احلكاية الأندل�سية ال�سابقة) .وكان بجانب ذلك قد م�شى بني ملوك
الطوائف بال�صلح وتر�سل لبع�ضهم ،ي�صلح ذات بينهم ،فمنهم من قبله
و�أقبل عليه ومنهم من ا�ستثقله و�إن �أظهر احرتامه ،م�شبها ذلك مب�ؤمن �آل
فرعون.
وكانت دعوة الباجي و�إخوانه من علماء الأندل�س قد �أتت بحياة ر�شيدة
ووالدة جديدة للأندل�س ،فلم ت�ؤد �إىل توحيده و�إزالة حالة الت�شتت فقط،
بل وردت كيد الأعداء مما قاد �إىل ا�ستمراره يف البناء والتقدم واالنت�صار
–و�إن تعرث �أحيانا– لكنه عا�ش بكثري من العافية حتى �أتاه اليقني.
فنه�ضت الأمة ،ترف�ض حالة التمزق ،قامت �ضد ملوك الطوائف التي
جعلت الأندل�س مهدد ًا من الداخل واخلارج ،فردت – بعد التوحد – �أهل
تلك العاديات الذين �أرهقوها تهديد ًا وا�ستنزاف ًا وا�ستنزا ًال.
فهب النا�س بتلك املعاين حتى ن�ضجت جوانبها التي كان منها الوجهة
ال�شعبية النا�ضجة ،ال�ستدعاء جي�ش املرابطني� -إخوة العدوة املغربية –
171
لإنقاذهم بقيادة الأمري يو�سف بن ت�شافني ال�سيما بعد �سقوط طليطلة
(� )Toledoسنة 478ه 1085 /م.
وكان البد من الإعداد لذلك ،الأمر الذي توج مب�ؤمتر ح�ضره العديد
من �أمراء الطوائف والعلماء والق�ضاة ومنهم القا�ضي الوزير �أبو بكر حممد
بن �أبي الوليد ابن زيدون (وهو ابن ال�شاعر �أحمد بن عبداهلل بن زيدون)،
وبزعامة املعتمد بن عباد الذي قال كلمته امل�شهورة حني حذر من املرابطني:
«لأن �أكون راعي اجلمال يف �صحراء �إفريقيا خري من �أن �أرعى اخلنازير يف
ق�شتالة»(� ،)95أي �أن ي�أ�سره املرابطون فريعى جمالهم يف �إفريقيا �أف�ضل من
�أن ي�أ�سره �ألفون�سو لريعى له اخلنازير يف ق�شتالة .تلك كلمة �أنطقه بها روح
اجلهاد والت�ضحية واالحت�ساب.
فكانت معركة الزالقة ( )96()Sagrajasالتي توجت ذلك كله
باالنت�صار يف 12رجب 479ه = �23أكتوبر 1086م ،حيث ُو ِ�صفت ب�أنها مدت
يف عمر الأندل�س �أربعة قرون.
وهكذا كان ف�ضل العلماء والفقهاء والعاملني ..علماء النجدة والغرية
واالحت�ساب.
172
27
القا�ضي
الأمري ال�شهيد
173
174
ك ُّل يوم ي�أتينا الدلي ُل القاطع على �أن املاكرين ال عهد لهم �أبد ًا� ،إال
مل�صلحة �أو لنقمة طمع ًا ،و�إن كان يف ذلك حتف �أمتنا كاملة .وخري م�صلحة
هو �إحلاق الأذى بها ،حتى �إنه ليكون العداء لها �سبب ًا يف اجتماعهم علينا.
على �أن ح�صن الأمة وعزتها و�سعادتها كلما كان �إيوا�ؤها �إىل كتاب ربها
والعمل مبنهجه واالعت�صام بتعاليمه .فال خوف عليها عند ذاك ،ال من عد ٍو
وال من دخيل �أو عميل .وهذا كله م�شهود على الدوام ،والتاريخ خري �شاهد.
وتتفتق �أو تتدفق على الأمة الويالت والكوارث والنوازل حيت ت�ضعف يف
الأخذ باملنهج ،ولكن العلماء عليهم دوم ًا �أكرب امل�س�ؤولية ،وخالل التاريخ قاموا
بها و�أدوا ما عليهم ورعوها حق رعايتها فعرفت الأُمة قدرهم وكانوا لها �أدالء
خمل�صني ،يقفون �أمام الركب ويقودونه باحلق ،اعت�صام ًا واحت�ساب ًا قائمني،
مبثابة كهف �أمني وموئل متني وملج�أ ح�صني ،وتاريخنا �شاهد ودليل.
يربز ذلك كله بو�ضوح يف ع�صر الطوائف يف الأندل�س ،القرن اخلام�س
الهجري = احلادي ع�شر امليالدي ،حيث التمزق والت�شتت والتهتك ،يوم
مال البع�ض عن اخلط اخللقي الوا�ضح الكرمي ( ،)97ا�ستهانة باملهمة امللقاة
عليهم.
كل ذلك ت�شهده يف هذه احلكاية ،ذلك �أن مدينة بلن�سية
( )Valenciaالأندل�سية ،نحو 350كلم �شرق مدريد Madrid
على البحر املتو�سط �شهدت على يد العدو املحارب (�أيام الطوائف) ،ما قد
ال يخطر على بال ،على قدر ما فيها من اخلري واخلريات وال�شهامات .كان
ذلك رغم ما م�ضى لهم من امل�سلمني من الت�سامح والعفو والإن�صاف.
وانظر ما قام به رذريق الفيفاري ()Rodrigo Diaz Viviar
املعروف بال�سيد الكمبيطور ()El Cid Campeador, Brave
-97التاريخ الأندل�سي� :ص .352
175
�أي :ال�شجاع �أو البا�سل �أو املغامر ،املو�صوف لدى م�ؤرخينا بالطاغية ،الذي
كون جي�ش ًا ينال به من مناطق ومدن �أندل�سية ،قت ًال ونهب ًا وهتك ًا ،ال يرعوي
عن جرمية مهما بلغت ب�شاعتها ،وبروح عدوانية وا�ضحة ،ي�ؤيده عدد من
القادة هناك.
وملا ا�ضطربت الأحوال داخل مدينة بلن�سية توىل �أمر �إدارتها والدفاع
عنها قا�ضيها الفقية� :أبو �أحمد جعفر بن عبداهلل بن جحاف ،وا�ستعد مبا
يلزم للدفاع عنها �أمام هذا الغول ال�شر�س ،الذي قدم لدخول املدينة عنوة
فحا�صرها ب�إحكام و�شدة ،ملدة ع�شرين �شهر ًا ( ،)98وعاث فيما حولها تخريب ًا
وحرق ًا ،مانع ًا عنها �أقواتها وعام ًال على مقاتلة حماتها وحرق من يخرج من
املدينة لي ًال ،كيال تقوى على الوقوف والدفاع �ضده ،حتى بلغ ب�أهلها اجلهد
ف�أكلوا احليوانات امليتة �أحيان ًا.
وكان الفقيه م�صر ًا على الدفاع عن املدينة منتظر ًا العون من مناطق
�أخرى كتب �إليها ،لكن �أنا�س ًا �أجربوه على املفاو�ضة والت�سليم (وال�صلح).
فتم لهم ذلك ب�شروط ت�أمني النا�س وامل�س�ؤولني والقا�ضي على حياتهم
و�أهليهم وممتلكاتهم.
فدخلها الطاغية بجنده جمادى الأوىل �سنة 487ه = �أوا�سط 1094/6م.
ويف احلال احتل الأبراج و�سكن الق�صر ،خالف ًا للمعاهدة املوقعة نف�س اليوم
ومع ذلك جمع �أ�شراف املدينة وتكلم عن �سيا�سة العدل فيها وحمايتها!
لكنهم م�ضوا يحتلون دورها ومروجها .وا�ستمر يتحيف عليهم ويتحيل
حتى بلغ الأمر �أن �أحرق العديد من �أعالمها وعلمائها� ،أولهم زعميها
القا�ضي ابن َج ّحاف ،مدعي ًا عليه ومتهم ًا �إياه بقتل حاكمها ال�سابق العميل
-98التاريخ الأندل�سي البن الكردبو�س وو�صفه البن ال�شباط .103 ،نفح الطيب .456/4 ،دول
الطوائف ،عنان.243 ،
176
و�أخذ �أمواله وحيله ،وهو وليه يطالب بدمه( ! )99والقا�ضي هو الذي �أبى
اخل�ضوع له.
ومت حرق القا�ضي يف حفل وم�شهد �أمام النا�س ،وذلك بعد �أن �أمنه على
نف�سه وماله ،ف�سجنه و�أ�سرته و�أذاقه �شديد العذاب �ألوانا و�أعدمه حرق ًا.
وروى بع�ض �شهود العيان ذلك ،منهم امل�ؤرخ البلن�سي ابن علقمة (�أبو
عبداهلل حممد بن خلف ال�صديف ،بلن�سية 509 – 428ه = 1116م)( )100يف
كتابه «البيان الوا�ضح يف امللم الفادح»الذي �شاهد تلك احلوادث ،ودون يوم ًا
بيوم امل�شاهد املبكية الدامية(.)101
حيث �أمر الطاغية بحرق القا�ضي الفقيه مع �أهله وبنيه و�أ�سرته كاملة
ف�ضج كل النا�س من ذلك حتى بع�ض �أعوانه ومن �أهل ملته (ورمبا حذر منه).
فاكتفى بحرق القا�ضي ال�شهيد ب�أن حفر له حفرة يف �ساحة (وجلة) املدينة
التي تعرف اليوم يف بلن�سية برحبة القا�ضي � Rahbatolcadiأمام
كني�سة Santa Catlinaوالتي �أ�صلها م�سجد رحبة القا�ضي ،6
و�أنزله فيها �إىل حجزته (و�سطه) ،حماط ًا باحلطب و�أ�شعله فيه ،والقا�ضي
الفقيه املجاهد ي�ضم النار �إليه بيديه ليكون �أ�سرع خلروج روحه ،وهو
يقول :ب�سم اهلل الرحمن الرحيم ،وقب�ض على �أقبا�سها و�ضمها �إىل ج�سده
فاحرتق رحمه اهلل ،وذلك يف جمادى الأوىل �سنة 488ه 1095 /م .بعد
�سنة من معاهدة الت�سليم التي كانت من�سلخ (�آخر) ُجمادى الأوىل 487ه /
.)102(1094/6/18
ثم �أحرق هذا الطاغية �أعالم ًا �آخرين منهم ال�شاعر الأديب ال�شهيد �أبو
جعفر �أحمد بن عبدالويل البتي (البني) البلن�سي (.)103
-99احللة ال�سرياء .130/2 ،دول الطوائف.245-242 ،
-100احللة ال�سرياء .168/2 ،دول الطوائف .251 ،الأعالم ،الزركلي .115/6
-101الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة .61/3 ،احللة.168/2 ،
-102احللة ال�سرياء.126/2 ،
-103احللة .127/2 ،نفح الطيب.456 ،21/4 ،
177
وهكذا �أحرق العديد من اجللة والأعيان من �أهل بلن�سية وبعد �أن توىل
تعذيبهم يف �سجون ،الرجال منهم والن�ساء ،وهم يت�صارخون �أمام املحنة.
كل ذلك لأنهم اجتهدوا للن�صرة رجاء ا�ستم�ساك بلن�سية وبقاء الكلمة فيها.
ولقد اعترب بع�ض الغربيني املن�صفني هذا القمبيطور الطاغية رئي�س ع�صابة،
م�ستخف ًا بكل القيم الإن�سانية ،حقود ًا ( .)104فنزعوا منه جميع ًا كل هال ٍة
�أخرى ،مهما كانت مزرك�شة ومزوقة ومربقعة ،فحقائق التاريخ تدمغه.
-104ح�ضارة العرب ،غو�ستاف لوبون .278 ،العرب يف �إ�سبانيا ،لني بول .164 ،التاريخ الأندل�سي
.374
178
28
وقبل ي َد الوزير !
َّ
179
180
ال جتد �أ�صالة يف احلياة الإن�سانية ب�أبعادها املتنوعة كتلك التي ي�صيغها
الإ�س ــالم وي�صبغـهــا }
{ (البقرة .)138 :ويبقى املجتمع الإ�سالمي كذلك حتى يف
حاالت ال�ضعف والتفلت والتدحرج فما �أن تتهي�أ الأجواء املنا�سبة حتى
ت�ستجيب للخري وتعود ،بل وت�ستجي�ش بهواها نحوه ،جارية يف خطه� ،آخذة
هداه ومداه ،بل �إن بع�ضها حتى وهي يف حاالت ال�ضعف ت�أتي ب�صيغ كرمية.
ومهما يكن ،ف�إن هبوب روح وريح الإميان ،هي التي ترتقي بالإن�سان
وحياته و ُت َو َّر ُثه الثمار املتبارية ،قوة وعمق ًا وابتدار ًا� .أما حني حتيا ب�أ�صالتها
فهي التي ال مثيل لها ،ال حتيد وال تتبدد �أو تبي ُد بحال ،مهما جرى وكان،
خالل الأعوام والقرون.
وه�ؤالء الآخذون باملنهج هم �أعمدة احلياة جمعاء ،ترى من خاللهم
م�أتى الرقي الإن�ساين ،م�أواه ومثواه .ال ترى مناذجه �إال يف هذه الأجواء وال
لون له �إال بهذا البناء وال ي�ستطاب طعمه �إال كلما اقرتبت �إليه .تطرب له
وتزداد ويعجبك امل�شي يف ركابه واحلداء ملوكبه واالنتماء لقافلته.
وهذا للحياة الإ�سالمية وجمتمعها بل ونتاجها ،حتى يف �أوقات احل�سرة
واالنح�سار وترادف عوامل االندثار ،ح�سابات رائقة و�أفاعيل �صادقة ومواقف
ثابتة .كل ذلك لأن الأمر دين وال�سعي عقيدة والوقوف عندها قربى وعبادة
هلل رب العاملني ،اقتدا ًء بر�سول اهلل الكرمي [ }
{ (الأحزاب.)21 :
يلوح لك ذلك بو�ضوح من خالل التعرف على حقائق التاريخ الإ�سالمي،
مرتوي ًا يف النظر �إليها وحم�سن ًا قراءتها مدقق ًا يف �أبعادها ،قاعدة يف فهم
هذا التاريخ الإ�سالمي والتعرف على طبيعته و�إجادة تف�سريه ،ح�سب �سنن
اهلل �سبحانه وتعاىل يف جمرى الأمور يف الكون واخللق واحلياة.
181
انظر �إىل ما جرى ع�شية ا�ست�سالم وت�سليم غرناطة للملكني الكاثوليكيني
فرناندو اخلام�س ( )FernandoVوزوجته �إيزابيل ()Isabel
(فردناند و�إزابيال) ،يف الثاين من ربيع الأول �سنة 897ه = 1492/1/2م،
بعد معاهدة من �سبعة و�ستني بند ًا ت�ؤكد كلها ت�أمني النا�س على كافة حقوقهم
وتكرر توقيعها من ال�سلطات الكن�سية والر�سمية ،التي ما �إن متكنت حتى
بد�أت بنق�ضها ،بل وكذلك ب�إجبار الأندل�سيني على التن�صر ،ومنعوا كل ما
هو �إ�سالمي وطاردوه و�أحرقوه.
ر�سم يبني ت�سليم مفاتيح غرناطة من قبل �آخر ملوكها (�أبو عبداهلل ال�صغري املعروف بالإ�سبانية
� )Boabdilإىل امللكني الكاثوليكيني� ،سنة 897ه ـ 1492م
وبد�ؤوا بالعلماء الذين كان منهم الإمام �أبو عبد اهلل حممد بن يو�سف
ا َمل ّواق ( ،)105عا ُمل غرناطة و�إمامها و�شيخها ،املفتي القدوة احلجة خطيب
امل�سجد اجلامع الأعظم فيها �أح�ضروه �إىل الكني�سة ،التي حلت للتو حمل
-105جتد كامل الق�صة :هجرة علماء الأندل�س لدى �سقوط غرناطة .ظروفها و�آثارها 92وما بعدها،
.262 ،220 ،204 ،203 ،197 ،163 ،155 ،119
182
م�سجدها اجلامع ،وعر�ضوا عليه التعاون معهم والتفاهم والتن�صر ترغيب ًا،
مقابل الذهب (ذهب �إبريز) واملجد واجلاه ،ف�أبى ،فهددوه بالتعذيب والأذى
واملوت ترهيب ًا فامتنع ،ف�أذاقوه �شيئ ًا منه و�أدموه� ،إال �أنهم ر�أوا �أن يطلقوه
ا�ستدراج ًا و�إمها ًال ،لعله يلني وي�ستكني في�ستجيب ،لكنهم ا�شرتطوا عليه �أن
يقبل يد الطاغية الوزير ففعل ،فالمه النا�س و�أنكروه عليه ف�سكت.
وبعد �أيام ظهرت له كرامة� ،إذ ما لبثت يد الوزير تلك �أن تورمت مكان
القبلة فيها وتوجع منها ف�أمر برد الإمام املواق �إليه وطلب منه الدعاء
لل�شفاء.
لكن مع ذلك ا�ستمرت حماوالتهم معه عن طريق الرتهيب والتهديد
بالقتل ،وهو ما يعلمه نهاية وتقدم �إليها حمت�سب ًا ،فما وجدوا فيه م�أرب ًا غري
تنفيذ ذلك .فا�ست�شهد بني �أو حتت �أيديهم و�أمام �أعينهم ،م�شهد ي�أن�سون
به .فذهب �إىل اهلل �شهيد ًا يف �شعبان �سنة 896ه ،بعد ت�سليم غرناطة بنحو
�ستة �أ�شهر.
وا�ستمر ذلك النهج حتى كانت حماكم التفتي�ش الغا�شمة ،لكن الإمام
املواق ذهب �إىل اهلل �شهيد ًا مقب ًال غري مدبر قوي ًا ثابت ًا� ،إميانا واحت�ساب ًا،
ليبقى مثا ًال لكل حر كرمي �أ�صيل ،رحمه اهلل تعاىل و�أكرمه وجزاه خري
اجلزاء على �إبائه جهاد ًا وا�ست�شهاد ًا.
183
الواجهة اخلارجية للمدخل الرئي�سي ملا ي�سمى امل�صلى امللكي ،وقد بني بعد �سقوط غرناطة بوقت
ق�صري مكان امل�سجد اجلامع ،الذي حول �إىل الكني�سة الرئي�سية العظمي.
184
29
وهَ ْن َد َ
�س الفقيه
م�ساج َدها
185
186
البناء الإ�سالمي للحياة الإن�سانية واملجتمع والفرد رائع و�أ�صيل ،يطلق
�صاحبه يف احلياة يقيمها و ُيعليها وي�صونها ُملك ًا �أمين ًا م�صون ًا ،ينطلق بحث ًا
عن طريق مبتدعة لالرتقاء والإعالء واالرتفاع بها ،بدافع الأجر والقرب
من اهلل تعاىل.
و�إن مبناه مبنهج اهلل تعاىل يوفر تلك املعاين ويقيمها ويعمقها ويفتح
�أبوابها جديدة ،يقودها �إىل الإبداع املتميز �إفراد ًا ،واملتجدد �أعداد ًا و�إعداد ًا،
فتمتلئ احلياة باخلري والف�ضل والأمن .يكون ذلك مبقدار الأخذ مبنهج
القر�آن الرباين .وكل خربة لها اال�ستعداد والإمداد واالجتهاد .وكذلك كانت
اخلربة تتح�صل ب�سرعة مثا ًال ب�أ�سلوب اجلالل واجلمال.
ومن هنا ينطلق امل�سلم يف احلياة ف�أينما ت�ضعه ،خمتار ًا واعتبار ًا،
جتده ُيجيد و ُي ْح ِكم دوره و ُيق ّدم خريه ،ب�شكل فيه املبادرة واالبتداء وح�سن
االختيار� ،إبداع ًا و�إروا ًء و�سبق ًا حتى �إن فعله يبقى مثا ًال يحتذى ،ور�سم ًا
يرت�ضى ،و�أ�سلوب ًا هادي ًا.
�سبق مث ٍري للإعجاب ،والتعجب ولذا كان الإبداع يف كل امليادين ب�شكل ٍ
وال�سبقُ ال يف الزمن فح�سب بل يف النوع ،وبذلك قدم امل�سلمون �أعاجيب
الإبداعات يف كافة امليادين مما يعترب مثا ًال و�أناق ًة وجما ًال.
فهم �إذن �أ�س�سوا �أمور ًا عا�شت احل�ضارات الأخرى عليها قرون ًا طوا ًال،
وما زالت �أ�صولها لكثري من مقوماتها التقنية ،متتد وت�شتد و َت َّت ِقد .ولبع�ضها
كان العجز والتخلف والقعود عن م�ضاهاتها ولو بعد قرون ،رغم املثابرة
وال�سعي وامل�صابرة.
فغدت احل�ضارة الإ�سالمية ذات �أ�صول را�سخة َم َّدت العامل بالأ�س�س
احل�ضارية الإن�سانية ،بذوق ولباقة ولياقة وفن ورقة ودقة ،وب�إح�سا�س اجلمال
وامل�شاعر واحلنان .وذاك وا�ضح ملمو�س �شامخ يف كافة جوانب احلياة
ومنجزاتها وميادينها ،فكان ذلك �أكرب من التعوي�ض عن العمر الطويل
187
والذي ال يدرك ما يعطيه هذا املنهج بقوته وبنيته وربانيته .حتى مبانيهم
امتازت باملعنى اجلمايل املعرب املف�صح عن مبناها ومعناها وات�سمت بالقوة
تعقيد ،يف كافة �أمورها وحمتوياتها و�صورها ،حتى
والب�ساطة وبدون �أدنى ٍ
مادتها عجنت من �أ�سهل و�أوفر و�أي�سر املواد املتوفرة ال�صافية .اعتمدت
على املعنى دون احلجم وال�ضخامة واملظهر ،ك�أنه ا�ستنباتٌ وا�ستمدا ُد
الندوة والنقاوة ،وا�ستجواب وا�ستجالب ملعاين الإ�سالم املت�سمة بالعقيدة
القلبية ال�سمحة ال�صادقة والإميان القوي النبيل الأ�صيل ،م�شاعر و�أحا�سي�س
ووجدان.
ذلك كله وا�ضح جلي بهي ،فيما بقي من عماراتهم ومناراتهم ومبانيهم،
ال�سيما يف الأندل�س ،الأمر الذي جعل �إ�سبانيا منذ نحو ربع قرن �أو يزيد –
()106
وحتى الآن – �أول بلد �سياحي يف العامل ،ب�سبب الآثار الإ�سالمية فيه
ال�سيما املتبقي منها ،مت�أبي ًا على �أيدي العيث والعبث والتخريب املتعدي،
يف مباين قرطبة Cordobaو�إ�شبيلية Sevilleوغرناطة
Granadaوغريها.
وحكاية اليوم عن جزئية يف م�سجد قرطبة اجلامع ،يف و�سط املدينة
الأبية الثكلى ال�صبور ،التي تنقلك و�أنت تزورها �أو تذرع دروبها ،تتفقد
مبانيها ك�أنها �أيامها الأوىل ،لوال حزمة من جمالها الذاهب �أو املهاجر �أو
املتناثر.
وم�سجدها اجلامع( )107هذا – الذي مل يكن يف بالد الإ�سالم مثله –
و�أنت تزوره لوال �أنه �أمامك حمتفظ ًا �شاخما ببع�ض �ش�أنه متما�سك ًا ببقية من
فنه ،يلثم معماره �شيئ ًا من جماله ،ال تكاد ت�صدق وجود هذا الفن املتفرد
النادر �أو عدمي املثال .وهو يعلن عن ذلك ويناديك� ،سلطان ًا و�إميان ًا وحنان ًا،
-106مع الأندل�س لقاء ودعاء .33 ،
-107عن م�سجد قرطبة اجلامع ،انظر� :أندل�سيات 157/22 ،وما بعدها .التاريخ الأندل�سي ،244 ،
.303مع الأندل�س 49 ،وبعدها.
188
علك ت�صافحه �أو تنافحه وتغازله ،ولو �أمكن يحادثك وحتادثه.
وهو كذلك حتى هذه اللحظة ،وقد احتمل مواجع الت�شويه والتحريف
والت�صريف ،فكيف وقد م�ضى على بنائه ما يعانق ثالثة ع�شر قرن ًا (منذ
170ه = 786م) .تزوره مذهو ًال مرة وم�أخوذ ًا �أخرى وحمزون ًا بعدها .لعل
اهلل تعاىل يرزقك زيارته وحماورته ومداورته ،وقد تفنن فيه الوا�صفون
م�ؤرخني وجغرافيني وزائرين و�شعراء و�أدباء وعلماء� ،أقوا ًال و�أنغام ًا و�أ�شجان ًا.
وقد ا�ستحق و�صف �أحدهم «يحار فيه الطرف ويعجز عن ح�سنه الو�صف»
فلي�س يف م�ساجد امل�سلمني مثله تنميق ًا وطو ًال وعر�ض ًا (.)108
ف�أي نوع من املهند�سني املعماريني �أقاموا بناءه ،تتداوله �أيديهم على
مدى قرون وك�أنها عم ٌل واحد بيد نف�س املهند�س.
م�ضت عاد ُة الفاحتني امل�سلمني �أن ين�شئوا� ،أول ما ين�شئون – بعد فتح
�أية مدينة – م�سجدها ،يقيمونه ابتدا ًء بنا ًء يف �أر�ض بكر – ما �أمكن ذلك-
ال يتحيفون على �أحد فيه ،وهنالك يف الأندل�س ي�ضعون ر�سمه وت�صميمه
وي�سددون قبلته.
-108نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق ،ال�شريف الأندل�سي ،الق�سم اخلا�ص بقرطبة وم�سجدها
اجلامع .الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار ،ابن عبد املنعم احلمريي 456 ،وما بعدها .نفح الطيب،
.616 ،563 ،545 ،540 ،519 ،465 ،462 ،460 ،153
189
منظر جوي مل�سجد قرطبة اجلامع ويبدو كام ًال مط ًال على نهر الوادي الكبري
وكان عدد من التابعني دخلوا الأندل�س لدى �أول الفتح ،كان منهم مهند�س
امل�ساجد الأندلي�سة الفقيه املجاهد الإداري :حن�ش بن عبداهلل ال�صنعاين
(من �صنعاء ال�شام) دخلها �سنة (712 /93م) جماهد ًا مع مو�سى بن
ن�صري .وهو الذي توىل الإ�شراف على ت�أ�سي�س عدة م�ساجد يف مدنها :جامع
مدينة البرية � Elviraأ�شرف عليه وجدد قبلته ،و�أ�س�س امل�سجد اجلامع
ب�سرق�سطة Zaragozaوو�ضع حمرابه ،وم�سجد قرطبة اجلامع
الأول ،كان على ر�أ�س جمموعة �أ�شرفت على بنائه وت�أ�سي�سه ،ال�سيما حتديد
وتعديل وتقومي قبلته وتركيزها بيده وتوجيه حمرابه ،ثم كان البناء احلايل
على و�ضعه ووجهته وحمرابه ،الذي ابتد�أه الأمري عبد الرحمن الداخل قبل
190
�سنة 170ه .وتوالت الزيادات خالل �أكرث من قرنني ،لكنها كانت كلها ك�أنها
بيد مهند�س واحد.
ويذكر �أن كني�سة نوتردام الباري�سية ،التي �أن�شئت بعد ذلك بقرون،
ا�ستعني يف بنائها مبهند�سني معماريني �أندل�سيني ،ورغم ذلك ال مقارنة
بينهما ،ولكن هيهات �أين الرثى من الرثيا وملا �أريد لهذه الكني�سة �أن يكون
علو �سقفها �أعلى �أو مثل م�سجد قرطبة البالغ نحو ت�سعة �أمتار على عمود
قطره �25سم كان قطر العمود يف تلك الكن�سية �أ�ضعاف ًا م�ضاعفة (.)109
191
وحكاية اليوم تتعلق بهذا الفقيه املهند�س املجاهد� .إنه بينما اجلي�ش
الفاحت و�صل �شمايل �إ�سبانيا بقيادة مو�سى وطارق بعد فتح مدينة �سرق�سطة
(�شمال �شرق مدريد 320كلم) ،و�أراد القائد االنطالق ملا بعدها �أخذ الفقيه
حن�ش بعنان فر�سه و�أوقفه قائ ًال له� :أيها الأمري رفق ًا بالنا�س لقد تبعوا وملوا
وكلوا ،ل�سنني ويريدون اال�سرتاحة من عناء اجلهاد الطويل .فتمهل ،ف�ضحك
مو�سى كذلك وقال له� :أر�شدك اهلل وكرث من امل�سلمني مثلك ،وبني �أن البد من
اال�ستمرار ،بل زاد مو�سى كذلك�« :أما واهلل لو انقادوا لقدتهم حتى �أوقفهم
على رومية (روما) ويفتحها اهلل على يدي �إن �شاء اهلل» ،ف�ساروا جميع ًا و�سار
هذا الفقيه املهند�س املجاهد.
�ألي�س يف موقف كل منهما و�أمثالهما من الآخرين جند ًا وفقهاء وعلماء،
ما يدل على هذا البناء الإن�ساين الذي يهن�أ بكل بناء ويرفع اللواء ويحيل
�صحراء احلياة �إىل حدائق غناء ،رحمهم اهلل جميع ًا و�أثابهم خري اجلزاء،
وما عنده �أبقى.
192
30
193
194
احلق �أبلج والباطل جللج (�أعوج ،ملتب�س غري م�ستقيم) ُيقبل على
احلق – قبل غريه – كل من �سلمت نف�سه من االنحراف وا�ستقامت فطرته
و�أخ�ضع �إرادته للحق حيثما يظهر ولذلك ف�إنه خالل التاريخ ،ابتدا ًء من
اليوم الذي �أنزل اهلل تعاىل كتابه و�أوحى �إىل ر�سوله الكرمي \ ،كان �أ�سرع
�إىل اعتناق هذا الدين ،هم �أف�ضل النا�س �أخالق ًا و�أ�صفاهم فطرة و�أجودهم
ر�ؤي ًة وفهم ًا.
وانظر �أولئك الذين �أ�سلموا من �أول الدعوة الإ�سالمية ،لكن الآخرين
قد يرون �أحقية وحجية و�صدقية هذه الدعوة ،وت�صدهم �أمور وروا�سب
وموروثات وهم يتفاوتون يف ذلك وبه كان كل يوم يرد دائرة نور اهلل �أفراد،
كان كثري منهم حاربه مدة.
ومن مل يلتحق به ،رغم معرفته باحلق كانت ت�صده اعتبارات متنوعة
مو َزعة (وموزِعة) .وحتى اليوم ف�إن كثري ًا ممن در�س الإ�سالم ،ورمبا يقرتب
منه ،لكن للأ�سف تعوقه �أمور هام�شية تراكمية مغرقة تثقله وتقعده وتبعده.
رمبا �أية ر�سوبات وتراكمات وركامات ،كما حدث مع الفيل�سوف الفرن�سي
رينان الذي �أ�شاد بالإ�سالم و�أ�شار علن ًا عن �شعوره الوا�ضح بالأ�سف ال�شديد
�أنه مل يكن م�سلم ًا ()110؟!
�أما �أهل الكتاب وعلما�ؤهم بالذات (يهود ًا ون�صارى) فقد �أ�سلم الكثري،
مبا عرف من احلق ب�صفائه }
{(البقرة .)146 :و�أولهم املتن�صر ورقة بن نوفل� ،أبن عم خديجة
(ر�ضي اهلل عنها) زوج الر�سول الكرمي \ يف مكة املكرمة.
ثم يف املدينة املنورة حيث �أ�سلم ح ُرب اليهود عبداهلل بن �سالم وخالته
خالدة .وكذلك خمرييق الن�ضري ،والذي كان من علماء و�أغنياء وزعماء
اليهود� ،أ�سلم يوم �أحد وخرج مقات ًال وا�ستُ�شهد فيها فا�ستحق و�صف ر�سول
اهلل \ له« :خمرييق خري يهود»(.)111
-110ح�ضارة العرب ،غو�ستاف لوبون.579 ،
-111نظرات يف درا�سة التاريخ الإ�سالمي *.107 ،
195
وخالل التاريخ و�إىل اليوم ي�سلم الكثري منهم ،فعل ذلك العديد من
علمائهم ثم ي�ؤلف كتاب ًا ،يذكر ق�صة �إ�سالمه .كما فعل اليهودي الأندل�سي
الذي �أ�سلم و�أ�سرته نهاية القرن الرابع ع�شر امليالدي و�سمى نف�سه� :أبو
حممد عبداحلق الإ�سالمي ،وو�ضع كتاب ًا يف ذلك (ال�سف املمدود يف الرد
على �أحبار اليهود)( )112بني فيه – مما بني – ما يف كتبهم من الب�شارات
بالر�سول الكرمي ونبوته [.
وحكاية اليوم تتعلق ب�أحد علماء الن�صارى الذي در�س وهي�أ نف�سه و�أ�سرته
�أن يكون راهب ًا وعامل ًا بديانته .وبعد درا�ستها ل�سنني طويلة نحو ربع قرن متنق ًال
بني البلدان ،انتهى به املطاف �إىل الإ�سالم ،يف ق�صة عجيبة ،ذكرها يف كتابه
الذي و�ضعه بعد �إ�سالمه (حتفة الأريب يف الرد على �أهل ال�صليب)( .)113بني
فيه بالدليل ثبوت نبوة نبينا حممد [ من ن�صو�ص الإجنيل .كان قد تدرج
يف درا�سته الن�صرانية حتى غدا �أ�ستاذ ًا وعامل ًا فيها .وتنقل من مدينة لأخرى
من �أجل ذلك ،ابتداء من جزيرة ميورقة ( )Mallorcaيف البحر
املتو�سط ،موطنه ،ثم الردة Leridaقرب بر�شلونة Barcelona
،ثم �إىل مدينة �أخرى يف ال�شمال الإ�سباين �أو يف جنوب فرن�سا ،حيث در�س
على �أحد �أكرب علمائهم ،وبقي معه ع�شر �سنوات ي�ساكنه ويخدمه ويدر�س
على يديه ويح�ضر درو�سه اليومية يف الكني�سة ف�أحبه ال�شيخ (الق�سي�س) ملا
ر�أى من جديته و�صدقه و�إخال�صه .وبعد �أن م�ضى على درا�سته نحو ربع قرن
حدث �شيء عجيب.
ذات يوم ذهب التلميذ (الراهب اجلديد) وا�سمه �أن�سيلموترميدا �إىل
الدر�س مع الطلبة الآخرين ،لكن الق�سي�س مل يح�ضر ،لمِ َا �أمل به .و�أخذ الطلبة
يتناق�شون يف املعلومات ال�سابقة ،فتذاكروا يف مدلول كلمة البارقليط اليوناين
، Periclyte, Periclytosالتي تعني �أحمد متام ًا ،التي
-112هذا الكتاب مطبوع حديث ًا يف مدريد.
-113هذا الكتاب مطبوع عدة مرات بع�ضها حمقق.
196
�سبق للق�سي�س �أن �أ�شار �إليها يف درو�سه ال�سابقة ،التي تباينت حولها �آرا�ؤهم
(الطلبة).
وملا ان�صرفوا ذهب الراهب �إىل دار �أ�ستاذه الق�سي�س الذي �س�أله عما دار
بينهم ،ف�أخربه عن كلمة البارقليط الواردة يف الإجنيل وب�شر بها عي�سى \،
واختلف الطلبة يف تف�سريها ،و�أن بع�ضهم قال ب�أنها تعني نبي الإ�سالم حممد
بن عبداهلل [.
ف�س�أل الق�سي�س الراهب و�أنت ماذا تقول؟ قال :بجواب القا�ضي فالن
يف تف�سريه للإجنيل ،فقال له �أ�ستاذه :ما ق�صرت وقربت ،و�أثنى الق�سي�س
عليه ،وقال وهو يبكي� :إن تف�سري هذا اال�سم ال�شريف يعرفه الرا�سخون يف
العلم ،وتو�سل الراهب �إىل �أ�ستاذه �أن يبني له معناه ،فقال :هو ا�سم نبي
الإ�سالم – الدين احلق ،و�إذا �أردت الدين احلق فاتبعه – فده�ش وتعجب،
فقال الراهب للق�سي�س (�أ�ستاذه) :و�أنت؟ فقال� :أنا م�سلم ،ولكن ال �أ�ستطيع
�إعالن ذلك باعتبار كرب �سني ،لأنهم يقتلونني ،فا�ستن�صحه عما عليه �أن
يفعله ،قال� :إذا �أردت الدين احلق فاتبعه واذهب �إىل بلد م�سلم وهناك �أعلن
�إ�سالمك.
وفع ًال توجه �أن�سيلموا الراهب �إىل تون�س بعد �أن مر ب�أ�سرته يف جزيرة
ميورقة ل�ستة �أ�شهر ،ثم �سافر �إىل تون�س عرب �صقلية .Sicily, Sicilia
وهناك �أ�سلم و�أعلن �إ�سالمه و�سمى نف�سه عبداهلل الرتجمان لأنه امتهن
الرتجمة ،وتزوج ورزق ولد ًا �سماه حممد ًا تربك ًا با�سم النبي حممد [.
وعندها �ألف كتابه املهم اجلدير بالقراءة واالهتمام والفهم� ،سائر ًا يف
�سنن املخل�صني ال�صادقني الأقوياء
رحمه اهلل تعاىل رحمة وا�سعة تامة �سابغة..
197