You are on page 1of 201

‫ت�أمل واعتبار‬

‫قراءات يف حكايات �أندل�سية‬

‫الدكتور عبدالرحمن علي احلجي‬


‫�أ�ستاذ التاريخ الإ�سالمي والأندل�سي‬

‫‪2‬‬
3
‫د‪ .‬عبد الرحمن علي احلجي‪:‬‬
‫من مواليد العراق‪ ،‬حا�صل على الدكتوراه يف التاريخ‪ ،‬وهو �أ�ستاذ التاريخ الإ�سالمي‬
‫والأندل�سي وال�سرية النبوية‪ .‬له �إنتاج علمي غزير‪ ،‬من م�ؤلفاته‪« :‬العالقات‬
‫الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية»‪ ،‬و« التاريخ الأندل�سي‬
‫من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة»‪ ،‬و«ال�سرية النبوية‪ :‬منهجية درا�ستها‬
‫وا�ستعرا�ض �أحداثها»‪ ،‬و«�أندل�سيات»‪ ،‬و«الكتب واملكتبات بالأندل�س»‪ ،‬و«جوانب من‬
‫احل�ضارة الإ�سالمية» وغريها‪...‬‬

‫نهـ ــر مت ـعـ ـ ــدد ‪ ...‬مت ـجـ ـ ـ ــدد‬


‫م�شروع فكري وثقايف و�أدبي يهدف �إىل الإ�سهام النوعي يف �إثراء املحيط الفكري والأدبي‬
‫والثقايف ب�إ�صدارات دورية وبرامج تدريبية وفق ر�ؤية و�سطية تدرك الواقع وت�ست�شرف امل�ستقبل‪.‬‬

‫وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬


‫قطاع ال�ش�ؤون الثقافية‬
‫�إدارة الثقافة الإ�سالمية‬

‫�ص‪.‬ب‪ 13 :‬ال�صفاة ‪ -‬رمز بريدي‪ 13001 :‬دولة الكويت‬


‫الهاتف‪ - )+956( 2487106 :‬فاكس‪)+965( 2468134 :‬‬
‫الربيد الإلكرتوين‪rawafed@islam.gov.kw :‬‬

‫‪1‬‬
‫مت طبع هذا الكتاب يف هذه ال�سل�سلة للمرة الأوىل‪،‬‬

‫وال يجوز �إعادة طبعه �أو طبع �أجزاء منه ب�أية و�سيلة �إلكرتونية �أو غري‬

‫ذلك �إال بعد احل�صول علىموافقة خطية من النا�شر‬

‫الطبعة الأوىل ‪ -‬دولة الكويت‬

‫يونيو ‪2008‬م ‪ /‬جمادى الآخرة ‪ 1429‬ه ـ‬

‫الآراء املن�شورة يف هذه ال�سل�سلة ال تعرب بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة‬

‫كافة احلقوق حمفوظـة للنا�شر‬

‫وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سالمية‬


‫املوقع الإلكرتوين‪www.islam.gov.kw :‬‬

‫مت احلفظ والت�سجيل مبكتبة الكويت الوطنية‬


‫رقم الإيداع‪2008/183 :‬‬
‫ردمك‪978-99906-678-0-6 :‬‬

‫‪2‬‬
‫فهر�س املحتويات‬
‫‪5‬‬ ‫ت�صدير ‪...........................................................‬‬

‫‪11‬‬ ‫تقدمي ‪...........................................................‬‬


‫‪15‬‬ ‫‪� -1‬سفارة �أندل�سية �إىل الدامنارك ‪........................‬‬
‫‪21‬‬ ‫‪ -2‬ابن ال َف َر�ضي القرطبي‪ ..‬القـا�ضي الفقيه ال�شهيد ‪.....‬‬
‫‪27‬‬ ‫‪ -3‬عائ�شة احلرة الأندل�سية ‪...............................‬‬
‫‪35‬‬ ‫‪ -4‬حمدونة الغرناطية ال�شاعرة ‪...........................‬‬
‫‪41‬‬ ‫تاجه ‪.......................................‬‬ ‫ُ‬
‫امللك َ‬ ‫‪ -5‬و َرهَ َن‬
‫‪47‬‬ ‫الفر�س ‪.........................................‬‬
‫ُ‬ ‫‪ -6‬و َك َبا به‬
‫‪53‬‬ ‫يةُ القايل العلمية ‪...................................‬‬
‫‪َ -7‬ح رْ َ‬
‫‪59‬‬ ‫‪ -8‬حمنة القايل العملية ‪...................................‬‬
‫‪65‬‬ ‫‪ -9‬ق�صـة املُ�صْ َحف ال�شريف ‪...............................‬‬
‫‪71‬‬ ‫‪ -10‬الر�سالة النبوية الكرمية ‪..............................‬‬
‫‪77‬‬ ‫‪ -11‬وللنف�س يقظات ووقفات ‪..............................‬‬
‫‪83‬‬ ‫‪ -12‬ا�ستغاثة �أندل�سية ُح َّرة ‪................................‬‬
‫‪87‬‬ ‫‪ -13‬جمتابي النمار ال الثمار ‪..............................‬‬
‫‪91‬‬ ‫‪ -14‬الر�أي ح ٌّر وقبوله ِب ٌّر ‪..................................‬‬
‫‪95‬‬ ‫‪ -15‬ع َّزةُ العِ ـلم ب�أهله ‪......................................‬‬
‫‪101‬‬ ‫‪ -16‬العلم بنـاء وثمار ‪......................................‬‬

‫‪3‬‬
‫‪107‬‬ ‫‪� -17‬إنه لي�س كميناً ‪........................................‬‬
‫‪113‬‬ ‫‪� -18‬إنهم يخافونه ميتاً ‪....................................‬‬
‫‪119‬‬ ‫‪ -19‬علماء الهمة والعزمية ‪................................‬‬
‫‪129‬‬ ‫‪َ -20‬مغـرورون �أم ُمكت�شفون ‪...............................‬‬
‫‪135‬‬ ‫‪ -21‬فرو�سية املر�أة الأندل�سية ‪.............................‬‬
‫‪141‬‬ ‫‪ -22‬قرا�صنة �أم جماهدون؟ ‪...............................‬‬
‫‪147‬‬ ‫‪ُ -23‬قرطبة ت�ستقبل �سفرياً! ‪...............................‬‬
‫‪155‬‬ ‫‪ -24‬مدينة هزمت �إمرباطوراً ‪.............................‬‬
‫‪161‬‬ ‫‪ -25‬مدينة �أنقذها اجلهـاد ‪................................‬‬
‫‪167‬‬ ‫‪ُ -26‬‬
‫�ض َّيعت فوجدها العلماء ‪..............................‬‬
‫‪173‬‬ ‫‪ -27‬القا�ضي الأميـر ال�شهيد ‪..............................‬‬
‫‪179‬‬ ‫‪ -28‬وق َّبل ي َد الوزير! ‪......................................‬‬
‫‪185‬‬ ‫‪ -29‬وهنْد َ‬
‫َ�س الفقيه م�ساجدَها ‪............................‬‬
‫‪193‬‬ ‫‪� -30‬أراد الرهبن َة ف�أ�سـلم ‪..................................‬‬

‫‪4‬‬
‫ت�صــــــــديــــــــــــر‬

‫‪5‬‬
6
‫احلمد هلل رب العاملني وال�صالة وال�سالم على حممد وعلى �آله‬
‫و�صحبه �أجمعني‪.‬‬
‫مل يكن �سرد القر�آن الكرمي لتاريخ الأمم ال�سابقة وق�ص�صهم‬
‫خلوا من الفائدة‪ ،‬بل كانت له مقا�صد وغايات‪ ،‬من بينها حتقيق االعتبار‬
‫يف نفو�س النا�س وم�سريتهم‪ ،‬وتب�صرتهم ب�أ�سباب التقدم والنجاة وموجبات‬
‫التخلف والهالك‪.‬‬
‫و�إذا حتقق ذلك‪ ،‬ف�إن املنهج يقت�ضي �أن يرتفع مفهوم االعتبار من‬
‫داللته الرتبوية الفردية �إىل ن�سق فكري يحكم وعي امل�سلمني يف قراءتهم‬
‫ملا�ضيهم وما�ضي الب�شرية وحا�ضرهم وحا�ضر الإن�سانية‪ ،‬كي ال تتكرر‬
‫الأخطاء و�أ�سبابها‪ ،‬وال تتوقف م�سرية النماء وال�صالح يف عطائها‪.‬‬
‫ولعل �سقوط الأندل�س ميثل حمطة ح�ضارية كربى لتحقيق �أعلى‬
‫درجات الوعي ب�أهمية االعتبار‪ ،‬فقد كانت منوذجا �إ�سالميا ح�ضاريا‬
‫ا�ستوعب العلوم والفنون والآداب‪ ،‬وامتد �إىل رعاية الإن�سان واحليوان‬
‫والطبيعة‪ ،‬ثم كان ال�سقوط العنيف الذي تواىل با�ست�سالم املدن الأندل�سية‬
‫تباعا ‪.‬‬
‫ومن �أجل �إحياء الوعي ب�أهمية االعتبار ودوره يف الفهم والتجاوز‪،‬‬
‫ف�إن قطاع ال�ش�ؤون الثقافية يقدم اليوم على ن�شر كتاب « ت�أمل واعتبار ‪ :‬قراءات‬
‫يف حكايات �أندل�سية» للدكتور عبد الرحمن احلجي‪ ،‬وهو �سياحة ح�ضارية يف‬
‫عطاء امل�سلمني بالأندل�س يف العلوم ال�شرعية واحلياة االجتماعية والأدبية‪،‬‬
‫عطاء �أ�سهم فيه العلماء ورجاالت الدولة والأدباء والرجال والن�ساء‪.‬‬
‫ومل يكن الهدف من وراء ن�شر هذا الكتاب الركون �إىل نزعة‬
‫بكائية تت�أمل لفقدان الأندل�س‪ ،‬و�إمنا ي�أتي االهتمام بتلك احلكايات لتحقيق‬
‫الأهداف الآتية‪:‬‬
‫‪� -‬إبراز دور امل�سلمني‪ ،‬مبختلف فئاتهم‪ ،‬يف النه�ضة احل�ضارية التي عرفتها‬
‫الأندل�س‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫‪ -‬ت�أكيد قيم الت�سامح والتعاي�ش التي �شكلت اخللفية النف�سية واالجتماعية‬
‫للم�سلمني يف عالقتهم بالن�صارى واليهود يف تلك املنطقة التي كانت تنتمي‬
‫�إىل العامل ا ٍلإ�سالمي‪.‬‬
‫‪ -‬الإ�سهام يف حتقيق درجات كربى من االعتبار ‪ ،‬من خالل الت�أمل الدقيق‬
‫يف جمريات الوقائع والأحداث واملواقف ‪ ،‬وا�ستخال�ص الدرو�س الكفيلة‬
‫ب�أن تتحول �إىل منارات تهتدي بها الأمة يف نه�ضتها امل�أمولة‪ .‬يقول الكاتب‪:‬‬
‫«والأمل‪ ،‬كل الأمل �إن �شاء اهلل ‪� ،‬أن يتم تفهم ذلك‪ ،‬والتعلم منه واالعتبار‬
‫له ‪ ،‬وهو بع�ض املطلوب من وراء كل هذه احلكايات ‪ ،‬وهو من الأهداف املهمة‬
‫لدرا�سة التاريخ عموما» ‪ ،‬ويقول يف منا�سبة �أخرى بني يدي الإ�شارة �إىل ق�صة‬
‫�إقدام �أحد ملوك الإفرجن على رهن تاجه عند خليفة امل�سلمني‪�« :‬أال تعترب‬
‫هذه احلادثة من النوادر الفريدة التي يحتوي تاريخنا على �أمثالها الكرثة‬
‫الوفرية يف كل ميدان‪ ،‬مما يجعل االهتمام به واجبا �أو فر�ض كفاية ‪ ،‬تنظر‬
‫الأمة فيه وتعترب وتقتب�س منه‪ ،‬وهي يف �سبيل ا�ستئناف م�سريتها الكرمية‬
‫بركبها املبارك»‪.‬‬
‫‪ -‬التدليل على �أن �سبب نه�ضة امل�سلمني بالأندل�س �إمنا تكمن يف ت�شبثهم‬
‫بالقيم الإ�سالمية يف كتاب اهلل و�سنة ر�سوله ‪ ،‬والتحرك بها هداية للذات‬
‫واملجتمع ‪ ،‬و�إن االنهيار الذي عرفته بالد الأندل�س �إمنا جاء ب�سبب عوامل‬
‫مو�ضوعية ‪.‬‬
‫‪ -‬اعتبار الفرقة واخليانة وال�شقاق بني ملوك الطوائف �أحد الأ�سباب‬
‫اجلوهرية يف �سقوط الأندل�س‪.‬‬
‫وي�سر قطاع ال�ش�ؤون الثقافية بوزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإٍ�سالمية‬
‫بدولة الكويت �أن يقدم للقراء الكرام هذا الكتاب �ضمن م�شروع «روافد»‬
‫الفكري والأدبي والفني‪ ،‬ويف �سل�سلة « مراجعات» ‪� ،‬أمال يف �أن ي�سهم يف‬
‫حتقيق املراجعة احل�ضارية املن�شودة‪.‬‬
‫�إن الكتابات حول الأندل�س كثرية ومتنوعة‪ ،‬بل �إن ق�ضية الأندل�س‬

‫‪8‬‬
‫امتدت لت�شكل �أعماال �شعرية وروائية ودرامية‪ ،‬ومن امل�ؤمل �أن ين�ضاف هذا‬
‫الكتاب �إىل تلك الذخرية‪ ،‬مع الت�أكيد �أنه يتميز مبنهجه االعتباري الوا�ضح ‪،‬‬
‫ويقدم �إ�ضاءات حول �سنن الفعل احل�ضاري ‪ ،‬ويعتني ب�إلقاء ال�ضوء على عوامل‬
‫التقدم و�أ�سبابه‪ ،‬ويجلي ذلك من خالل الوقوف عند النماذج الإيجابية يف‬
‫تلك احل�ضارة التي �أ�شرقت‪ ،‬وارتقت بالإن�سان يف خمتلف �أبعاده ‪.‬‬
‫وقد �ساعد الكاتب على حتقيق هدفه تخ�ص�ص �أكادميي واطالع‬
‫معريف ونظر �شمويل ‪ ،‬ف�ضال عن معاي�شة ميدانية جلغرافية الأندل�س‬
‫وطبيعتها ‪ ،‬وذلك كله مالحظ يف عر�ضه ملختلف احلكايات ‪.‬‬
‫ون�س�أل اهلل �أن ينفع بكتابه هذا‪ ،‬ويجعله لبنة يف بناء املراجعة‬
‫احل�ضارية ال�شاملة ‪ .‬واهلل املوفق‪.‬‬

‫‪9‬‬
10
‫تــــقــــــــديــــــــــــــم‬

‫‪11‬‬
12
‫احلمد هلل رب العاملني ‪ ،‬وال�صالة وال�سالم على �سيد املر�سلني و�آله‬
‫و�صحابته �أجمعني‪.‬‬
‫ُ‬
‫منذ �سنني و�أنا �أع ُّد قائمة بق�ص�ص �أندل�سية‪ ،‬متر خالل اال�شتغال‬
‫ب�أبحاث متنوعة عن الأندل�س‪ ،‬وكافة متعلقاته التاريخية املت�سعة‪ ،‬ومنها‬
‫احل�ضارية والإن�سانية عموم ًا‪ .‬وكلما كانت متر حادثة �أو ق�ضية �أو �أمر‪،‬‬
‫اليخلو من ِع رْ َبة �أو َع رْ َبة‪� ..‬أ�ضعها حا ًال يف الأوراق املعدة لذلك‪ ،‬مع الإ�شارة‬
‫�إىل مو�ضعها يف امل�صادر‪� ،‬إىل �أن ا�ستوت مادة علمية وح�ضارية ميكن �أن‬
‫ت�صاغ يف قالب يجمع بني ال�سرد واالعتبار ‪.‬‬
‫قد ي�أتي �إىل اخلاطر �أن كتابة هذه احلكايات كان �سه ًال‪ ،‬لكن‬
‫حقيقة �أمرها غري ذلك متام ًا‪ ،‬ف�إىل جانب �أن الأندل�س هو امليدان العلمي‬
‫والت�أليفي والدرا�سي الأكرث جري ًا ‪ :‬جَتوا ًال وتَ�صوا ًال ( �أو مجُ اولة و ُم�صاولة)‪،‬‬
‫فلم يكن كتابتها �سهلة امل�أخذ واال�ستيعاب والتقدمي‪ ،‬املتنا�سب مع لونها‬
‫وهدفها وتدقيق معلوماتها ‪ ،‬دون الدخول يف مناق�شات التباين يف حمتوياتها‪،‬‬
‫بل تقدمي خال�صة محُْ َبكة ُم ْد َركة ُم�شْ ِرقة‪ ،‬يف ثوب يمُ ِّهد ملو�ضوعها وال ِع رْ َبة‬
‫و�س ْو ِقها بهذا الثوب الذي ُتق َّدم به اليوم‪ ،‬لي�صل بالقارىء �إىل‬ ‫من تقدميها َ‬
‫املعنى املرجو ا�ستقرا ُره يف النف�س‪ ،‬ال َي ْن ُف ُ�ض وال َي ْن َف ُّ�ض عنه الهدف امل�أمول‪،‬‬
‫والذي من �أجله ُقدِّ مت هذه احلكايات‪.‬‬
‫كل ذلك مت – واحلمد ُكلُّه هلل ‪ -‬ب�أعلى درجات التوثيق‪ ،‬التي غدت‬
‫�أوليات �ألفبائية‪ .‬وبه تتجاوز الكتابة ُك ِّلي ًا هذه املرحلة‪� ،‬إىل ال�سعي احلثيث‬
‫وراء املعلومات يف كل مظانها‪ ،‬ال ت�ستثني اللغات الأخرى‪ ،‬ونوادرها العربية‬
‫منها‪ ،‬مطبوعة كانت �أو خمطوطة‪ .‬كل ذلك مع النظر العلمي الذي يتحرى‬
‫احلقيقة ويو�ضحها‪ ،‬مع �أيِّ �أحد كانت‪ ،‬ب�إن�صاف حمكم تام‪ ،‬حيث يتوفر‬
‫الدليل ويقود‪ ،‬ومع النظر يف بواطن الأمور ومدلوالتها‪ ،‬بتفتح وا�سرتخاء‬
‫وا�ستئنا�س‪ ،‬املت�ضمن الغرية على احلقيقة والعناية بها وقولها‪ .‬وهذا بنف�سه‬
‫ُيعبرِّ عن اجلهد املبذول يف هذه الكتابة ويبني نوعيتها ومتيزها‪.‬‬

‫‪13‬‬
‫�إن كرث ًة من هذه احلكايات ال ت َِردُ‪ ،‬حني يجري تناول كثري من‬
‫املو�ضوعات البحثية العامة‪ .‬واحلق �أنها ال يجب �أن ُت رْتَك �أو ُت ْه َمل �أو ُت ْب َعد عن‬
‫تناول املو�ضوعات التاريخية‪ ،‬لكنها قد ال جتد لها مكان ًا منا�سب ًا معها‪ .‬ومن‬
‫هنا كان من املهم ِلزام ًا �أن ُتق َّدم وال ُت�ض َّيع‪ ،‬جلمالها وت�أثريها ومكانتها‪ ،‬يف‬
‫ال�سياق التاريخي وجمريات الأحداث وحبكة الرتابط املو�ضوعي‪ .‬وجرت لها‬
‫العناية الفائقة الالزمة احلازمة‪ ،‬فا�ستفرغت جهد ًا ووقت ًا ومثابرة للو�صول‬
‫بها �إىل �أف�ضل م�ستوى من البحث النوعي واجلدارة والن�ضارة‪ ،‬من غري �أن‬
‫تفقد طبيعتها وم�ضمونها ونكهتها‪ ،‬مع احلفاظ على �أهليتها العلمية ب�أكرب‬
‫دقة وثقة ومرجعية لت�أخذ مكانها‪.‬‬
‫و�أحتاج منك ‪� -‬أخي القاريء الكرمي والقارئة الكرمية ‪� -‬أن تتوجه‬
‫�إىل اهلل تعاىل بدعوة كرمية �صاحلة يل وللأمة – �سلف ًا وخلف ًا و�أجيا ًال ‪-‬‬
‫�صاحبة هذا التاريخ وح�ضارته ‪ ،‬بالربكة والعافية والأجر و�أن يتقبل هذا‬
‫العمل ويجعله عبادة وجهاد ًا وخدمة لدينه‪.‬‬
‫و�إين لأظن متام ًا – تبع ًا لهذا كله ‪� -‬أن كل حكاية ت�صلح دون تردد‬
‫�أن تكون ممثلة على �شكل م�سرحية �أو م�سل�سل تاريخي جميل وجذاب وم�ؤثر‪،‬‬
‫حيث قلما جند م�سل�س ًال تاريخي ًا خالي ًا من احل�شو واللغو والتحريف‪،‬مما‬
‫يجعله �أحيان ًا فج ًا ومهله ًال وحمبط ًا‪،‬بحيث ي�ستخ�سر فيه ذلك اجلهد واخلدمة‬
‫والبذل‪� ،‬إال �إذا ا�سثنينا الديكور واملالب�س والتجميل( امل�ساحيق)!!!‪ .‬ولذلك‬
‫فتاريخنا بحاجة �إىل من يقدمه بعيد ًا عن التجارة‪� ،‬إال �أن تكون جتارة رابحة‬
‫نافعة مثمرة‪.‬‬
‫وال�شكر مو�صول �إىل كل َمنْ عاونني يف هذه احلكايات‪� ،‬سواء‬
‫بالت�شجيع والكتابة واملتابعة �أو غريها‪ ،‬واهلل يبارك اجلميع ويثيبهم اخلري‬
‫العميم‪ .‬و�آخر دعوانا �أنْ احلمد هلل رب العاملني‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫‪1‬‬

‫�سفارة �أندل�سية‬
‫�إىل الدامنارك‬

‫‪15‬‬
‫�سفارة هي من غرائب وعجائب وجنائب الدبلوما�سية الأندل�سية‪ ،‬قادها‬
‫ال�سيا�سي والدبلوما�سي اللبق و�شاعر الأندل�س وحكيمها املبدع‪ :‬يحيى بن‬
‫اجل َّياين من مدينة جيان ‪� ،JAEN‬شرق مدينة قرطبة(‪، )1‬‬ ‫َح َكم الغَزَ ال َ‬
‫الذي لقبه بالغزال الأمري الأندل�سي عبدالرحمن الأو�سط (‪ 238‬هـ =‬
‫‪852‬م) لو�سامته بقوله‪« :‬جاء الغزال بح�سنه وجماله»‪ُ ،‬ع َّمر الغزال نحو مئة‬
‫عام (‪250 - 154‬هـ = ‪864 - 770‬م)‪ ،‬عا�صر خاللها خم�س ًا من �أمراء‬
‫الأندل�س‪ :‬الداخل وه�شام واحلكم والأو�سط وحممد‪ ،‬ميثله قوله‪:‬‬
‫�أدركتُ بامل�ص َر ملوك ًا �أربع ْه وخام�س ًا هذا الذي نحن مع ْه‬
‫لقد �سبق �أن كان للغزال �سفر (تويل �سفارة دبلوما�سية) للأمري‬
‫عبدالرحمن الأو�سط �إىل ال ُق�سطنطينية (تركيا ‪� -‬إ�ستانبول اليوم‪� ،‬أو‬
‫�إ�سالم بول‪� ،‬أي‪ :‬مدينة الإ�سالم) بحر ًا من �ساحل الأندل�س ال�شرقي‬
‫( ُم ْر ِ�س َية )(‪MURCIA225‬هـ= ‪480‬م) ولقاء �إمرباطورها َت ْو ِف ِل�س‬
‫(‪ ،)2()Theophilus‬و�إذا كانت هذه ال�سفارة ال تخلو من غرائب‬
‫ممتعة‪ ،‬ف�إن �سفارته �إىل الدامنارك ‪� Denmark‬أ�ش ُّد غرابة و�أك ُرث‬
‫أوعب نوادر واجنذاب ًا‪.‬‬
‫مهابة و� ُ‬
‫كانت �سفار ُتنا هذه �سنة ‪ 230‬هـ = ‪844‬م �إىل الدامنارك �أيام الفايكنج‬
‫‪( The Vikings‬وهم‪ :‬النورمان ‪ -‬املجو�س الأ ُر ْد ُمانيون) خالل حكم‬
‫ملكهم هوريك ‪240(Horic‬هـ =‪854‬م) املتن�صر حديث ًا من الوثنية؛ �إذ‬
‫�أر�سل �سفارة �إىل الأندل�س �أيام الأمري عبدالرحمن الأو�سط‪ ،‬تطلب �صداقة‬
‫الأندل�س بعد هزميتهم (النورمان) يف هجومهم البحري املفاجئ (‪229‬هـ ‪/‬‬
‫‪844‬م) على �شواطئ الأندل�س الغربية عند ل�شبونة ‪Lisboa,Lisbon‬‬
‫‪ -1‬عنه وعن �سفارته �إىل الدمنارك‪ ،‬انظر ر�سالة الدكتوراه‪:‬‬
‫‪Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe,pp. 166 ff.‬‬
‫وترجمتها العربية‪ :‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية‪ 322 ،‬وبعدها‬
‫‪ -2‬عن هذه ال�سفارة‪ ،‬انظر‪ :‬العالقات الدبلوما�سية بني الأندل�س وبيزنطة‪ 66-29 ،‬املقتب�س‪ ،‬ابن‬
‫حيان‪ ،‬الق�سم الأول من اجلزء الثاين‪ ،‬ورقة ‪160‬ب ‪�163 -‬أ‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫(عا�صمة الربتغال اليوم)‪ ،‬ف�أجابهم الأمري عبدالرحمن الأو�سط بهذه‬
‫ال�سفارة برئا�سة الغزال(‪230‬هـ‪845 /‬م)‪.‬‬
‫�أبحرت ال�سفارة الأندل�سية برئا�سة الغزال ‪� -‬صحبة الوفد الدامناركي‬
‫العائد ‪ -‬من مدينة ِ�ش ْلب ‪( Silves‬الربتغالية اليوم)‪ ،‬متخر ُعباب مياه‬
‫الأطل�سي مبحاذاة ال�ساحل الأندل�سي الغربي �شما ًال‪ ،‬جمتازة �أمواجه العاتية‬
‫املهلكة املغرقة وتياراته الهوجاء ال�ضاربة‪ ،‬لت�صل �إىل الدمنارك عرب بحر‬
‫املان�ش ‪ )English) Channel la manche‬وم�ضيق‬
‫دوفر ‪ ،strait of dover‬وبحر ال�شمال ‪،north sea‬‬
‫و�صو ًال �إىل الدامنارك‪.‬‬
‫وجرت للغزال هناك حكايات وطرائف ومواقف ُي�شاد بها‪ ،‬تنبئ عن قوة‬
‫تربيته الإ�سالمية‪ ،‬ونوعية بناء املجتمع الإ�سالمي امللتزم‪ ،‬وعنها ينطلقون‬
‫يف كافة �أحوالهم‪ ،‬ال تغلبهم االعتبارات الدبلوما�سية‪ ،‬ر�سوم ًا و�أعراف ًا‬
‫و�أو�صاف ًا‪.‬‬
‫ا�ستغرقت �سفارة الغزال �إىل الدامنارك ‪ -‬ذهاب ًا و�إياب ًا ‪ -‬ع�شرين �شهر ًا‪،‬‬
‫كانت مليئة بالغرائب والعجائب والطرائف‪ ،‬كلها ُت َ�س َّجل �ضمن املفاخر‬
‫والأجماد‪� ،‬سواء يف رحلة الذهاب البحرية �أو الإياب الربمائية‪� ،‬أو �أثناء‬
‫الإقامة هناك‪ ،‬وما دار من لقاءات ومنازالت ومناظرات وما كان من �إعجاب‬
‫القوم به‪ ،‬بل وتعلق امللكة نود ‪ ،nud‬زوجة امللك هوريك‪ ،‬وكان «للغزال‬
‫معهم جمال�س مذكورة ومقا ِوم م�شهورة‪ ،‬يف بع�ضها جادل علماء هم فب َّكتهم‬
‫ويف بع�ضها نا�ضل �شجعانهم ف�أثبتهم‪ ،‬وملا �سمعت امر�أة ملك املجو�س بذكر‬
‫الغزال وجهت فيه لرتاه»(‪.)3‬‬
‫توفرت �أخبار هذ ال�سفارة امل�شوقة لدى ابن ِد ْحية الكلبي الأندل�سي‬
‫(‪ 633‬هـ =‪1235‬م) يف كتابه «املُ ْطرب من �أ�شعار �أهل ا َملغْرب»‪ ،‬رواية‬

‫‪ -3‬املطرب‪.145،138 ،‬‬

‫‪17‬‬
‫عن �صديق الغزال ّمتام بن َع ْلقمة‪ ،‬وبعد ا�سرتاحة ال�سفارة يف البالط‬
‫خذت الإجراءات للقائها بامللك و�أطلعوا على قواعد و�آداب‬ ‫الدامناركي ا ُت َ‬
‫املقابلة ‪ ،ETIQUETTE‬وكان منها االنحناء للملك عند الدخول‪ ،‬ف�أبى‬
‫الغزال ذلك‪ ،‬مبين ًا ب�إ�صرار �أن االنحناء ال يكون �إ ّال هلل تعاىل‪ ،‬حتى لو مل تتم‬
‫املقابلة‪ ،‬فما كان منهم �إال اال�ستجابة‪.‬‬
‫ويف يوم اللقاء‪ ،‬احتالوا عليه فو�ضعوا يف �صدر جمل�س امللك َم ْد َخ ًال‬
‫مقو�س ًا منخف�ض ًا‪ ،‬حيث ال ي�سع الداخل �إال االنحناء �أمام امللك‪ ،‬ويكونون‬
‫قد حققوا رغبتهم‪ ،‬لكن ال�سفري امل�سلم الذكي الأملعي الأبي‪� ،‬أدرك احليلة‬
‫حا ًال‪ ،‬فما كان منه �إال �أن «جل�س على الأر�ض وزحف حتى اجتازه‪ ،‬وباطن‬
‫قدميه �إىل وجه امللك ثم قام‪ ،‬وهكذا جل�س �إىل الأر�ض وقدم رجليه وزحف‬
‫على �إ ْليتيه زحف ًة‪ ،‬فلما جاز الباب ا�ستوى واقف ًا وامللك قد �أع ّد له و�أحفل‬
‫يف ال�سالح والزينة الكاملة‪ ،‬فما هاله ذلك وال ذعره» (‪ ،)4‬و�سلم على امللك‬
‫وم�ضى يف جمل�سه داعي ًا وم�ست�شهد ًا ب�آية كرمية}‬
‫{ (الق�ص�ص ‪ ،)88‬ف�أعظم امللك كالمه وقال‪:‬‬ ‫ ‬
‫هذا حكيم من حكماء القوم وداهية من دهاتهم» (‪ )5‬متعجب ًا من جلو�سه‬
‫على الأر�ض وتقدمي رجله يف الدخول‪ ،‬قائ ًال‪�« :‬أردنا �أن نذله فقابل وجوهنا‬
‫(‪)6‬‬
‫بنعليه‪ ،‬ولوال �أنه ر�سول لأنكرنا ذلك عليه» ‪.‬‬
‫وبعد بقاء الغزال يف بالط ملك الدامنارك ما يزيد على ال�سنة‪ ،‬عاد �إىل‬
‫قرطبة الأندل�س‪ ،‬لكن عن طريق �إ�سبانيا الن�صرانية التي دخلها من خليج‬
‫ب�سكاي ‪� BAY OF BISCAY‬إىل مدينة �شن�ست ياقب ‪SANTIAGO‬‬
‫‪ ،DE COMPOSTELA‬وبقي عند ملكهم نحو �شهرين‪ ،‬ومن هذا‬
‫الطريق عاد داخ ًال �إىل الأندل�س‪ ،‬لي�صل �إىل قرطبة‪ ،‬حا�ضرة الأندل�س‬
‫‪ -4‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -5‬نف�سه‪.‬‬
‫‪ -6‬نف�سه‪..‬‬

‫‪18‬‬
‫العامرة‪ ،‬بعد مرور نحو �سنتني �أنفقها يف هذه الرحلة منذ انف�صل عنها‬
‫ذهاب ًا و�إياب ًا‪.‬‬
‫وتتوافر تفا�صيل كثرية �شيقة لهذه ال�سفارة تت�ضمن حديث ًا عن احلياة‬
‫االجتماعية والدينية لأهل الدامنارك‪ ،‬كما حتتوي و�صف ًا جغرافي ًا‪ ،‬و ُت�سمى‬
‫الدامنارك عند بع�ض اجلغرافيني امل�سلمني‪ ،‬كال�شريف الإدري�سي (‪560‬هـ)‪،‬‬
‫َ (‪)7‬‬
‫�صاحب كتاب‪ :‬نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪ ،‬دانا َم ْر�شة‪.‬‬
‫ولعل هذه ال�سفارة �أول ارتياد �إ�سالمي هناك‪ .‬وهذه واحدة من م�ضامري‬
‫وم�ضامني احل�ضارة الإ�سالمية احلافلة بالفتوحات املتنوعة‪ ،‬ويف جانبها‬
‫الدبلوما�سي‪� ،‬أ�ضاءت العامل بالتزام جمتمع الإ�سالم به‪.‬‬

‫‪ -7‬راجع ‪ :‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية‪� ،‬ص (‪.)362‬‬

‫‪19‬‬
20
‫‪2‬‬

‫ابن ال َف َر�ضي القرطبي‪..‬‬


‫القا�ضي الفقيه ال�شهيد‬

‫‪21‬‬
‫ت�سجيالت‪ ،‬جتاوزت‬
‫ٍ‬ ‫احتوى تاريخنا الإ�سالمي والأندل�سي ومقروءاته‬
‫أحداث و�سريها الغنية احلية الذكية ‪ -‬حتى وقت الهبوط ‪� -‬إىل ما وراءها‬ ‫ال َ‬
‫من الأحا�سي�س وامل�شاعر‪ ،‬ب�أقالم �أ�صحابها �أو رواي ًة عنهم ومالحظاتهم‬
‫امل�ستنبطة‪ .‬وكلها ذاتُ نوعية فذة‪َ ،‬تد ُعك تقر�أ الكثري من �سطورها �أو ما‬
‫وراءها‪ ،‬تدلك على طبيعتهم الواقعية و�صدقهم مع �أنف�سهم وجمتمعهم‪،‬‬
‫بعد �صدقهم مع اهلل وحده‪ ،‬م�صدر الرحمة واخلري كله‪ ،‬واال�ستقامة والبناء‬
‫قدم لك �صور ًا نادرة‬
‫والعطاء‪ ،‬ترى يف كل ذلك من بنائهم الإن�ساين الذي ُي َّ‬
‫بعيدة عن التعقيد واالدعاد والتظاهر واملظاهر املُ َه َّو َمة ِ‬
‫املوهمة اخلادعة‪،‬‬
‫تن ِب ُئك عن الثقة والو�ضوح والقوة‪ ،‬حتى يف موطن ال�ضعف‪ ،‬وهذا عام ملحوظ‬
‫معلوم يف تاريخنا الإ�سالمي وح�ضارته‪.‬‬
‫ونحن هنا �أمام حدث يو�ضح ذلك‪�َ ،‬ص َد َر عن الفقيه القا�ضي �أبي الوليد‬
‫ابن ال َف َر�ضي احلافظ املعروف (‪403 - 351‬هـ‪1013 - 962 /‬م)(‪ )8‬الذي‬
‫جتد �أخباره يف العديد من م�صادرنا الأندل�سية‪ ،‬وغريها �أحيان ًا‪� ،‬أمثال نفح‬
‫الطيب لل َم َّقري والذخرية البن ب�سام‪ ،‬واملغرب البن �سعيد‪ ،‬ولعل ه�ؤالء جميع ًا‬
‫نقلوا من �شيخ امل�ؤرخني الأندل�سيني ‪َ -‬ب َلد ُّيه وع�صريه ‪ -‬ابن َح ّيان ال ُقرطبي‬
‫(‪ 469‬هـ) من اجلزء املفقود من كتابه «املُ ْقتَب�س يف �أخبار �أهل الأندل�س»‪.‬‬
‫رحل ابن ال َف َر�ضى �إىل امل�شرق �سنة ‪ 382‬هـ و�أخذ عن العلماء و�أدى احلج‪،‬‬
‫وكان خالل َحج ِه قد تعلق ب�أ�ستار الكعبة ودعا اهلل بال�شهادة‪ ،‬ثم َن ِد َم و�أراد‬
‫�أن ي�ستقيل اهلل تعاىل‪ ،‬فا�ستحى ومل يفعل‪ ،‬ثم عاد �إىل الأندل�س‪ ،‬وخالل فتنة‬
‫قرطبة ُق ِت َل �شهيد ًا �سنة ‪403‬هـ‪ ،‬وقد ُر ِوي عنه ذلك بقوله‪« :‬علقت ب�أ�ستار‬
‫الكعبة و�س�ألت اهلل تعاىل ال�شهادة‪ ،‬ثم انحرفت وفكرت يف هول القتل‪،‬‬
‫فندمت وهممت �أن �أرجع ف�أ�ستقيل اهلل �سبحانه وتعاىل‪ ،‬فا�ستحييت»‪ ،‬و�أخرب‬
‫من ر�آه بني القتلى ودنا منه‪ ،‬ف�سمعه يقول ب�صوت �ضعيف‪« :‬ال يكلم �أحد‬
‫يف �سبيل اهلل‪ ،‬واهلل �أعلم مبن يكلم يف �سبيله‪� ،‬إال جاء يوم القيامة وجرحه‬
‫‪ -8‬عنه انظر‪ :‬نفح الطيب ‪� 92/2‬أو الذخرية ‪ ،183/1‬املغرب ‪.301/1‬‬

‫‪22‬‬
‫َي ْث َع ُب دم ًا‪ ،‬اللون لون الدم والريح ريح امل�سك»‪ ،‬ك�أنه ُيعيد على نف�سه احلديث‬
‫ال�شريف الوارد يف ذلك(‪.)9‬‬
‫ويف هذا املثال �إ�شارات متعددة �إىل ق�ضايا كثرية مهمة‪ ،‬و�إن كان مرورنا‬
‫بها الآن عابر ًا‪ ،‬لكنها ُتربز يف حياته و�أمثاله �أمور ًا متنوعة مهمة‪ ،‬منها‪:‬‬
‫كرثة الأعالم‪ ،‬ن�ساء ورجاال‪ ،‬يف ح�ضارتنا يفوق ‪َ -‬ك َّما ونوع ًا ونتاج ًا ‪ -‬كل‬
‫ما لدى جميع �أُمم الأر�ض الأخرى وقتها من �أعالم‪ .‬ومو�ضوع الأعالم يف‬
‫احل�ضارة الإ�سالمية ي�ستحق الإفراد بالدرا�سة اجلامعية املنهجية املت�أنية‪،‬‬
‫و�أن العامل يف ح�ضارتنا الذي يعمل بعلمه ويعي�ش به بني النا�س ومعهم ويقدم‬
‫لهم اخلدمات‪ ،‬ال�سيما وقت الأزمات‪.‬‬
‫وابن الفر�ضي �أحد ه�ؤالء الأعالم العظماء‪ ،‬و�ألف عنهم �أكرث من كتاب‪،‬‬
‫منها «تاريخ علماء الأندل�س»‪ ،‬البن الفر�ضي نف�سه‪ ،‬وهو الكتاب الوحيد الذي‬
‫و�صلنا من م�ؤلفاته التي �ضاعت �ضمن ما �ضاع من نفائ�س ذخائرنا‪ ،‬و�أثمر‬
‫كتابه هذا متابعة الت�أليف يف مو�ضوعه (‪ ،)10‬منها‪ :‬عمق املعرفة وت�أ�صلها‬
‫خل ْل ِقية‪ ،‬وقد كانت‬‫ومتكنهم فيها حتى لك�أنها موروثة وراث َة املوا�صفات ا َ‬
‫عامة و�شاملة‪ ،‬حتى َليمكن القول �إنه مل يكن فقط ال يوجد يف الأندل�س‬
‫� َّأم ٌّي واحد‪ ،‬بل كان العلم واملعرفة عامة لدى اجلميع‪ ،‬و�إن كرث ًة من العلماء‬
‫كانوا مو�سوعيني‪ ،‬ولعل اللقب العلمي «احلافظ» يت�ضمن ذلك‪ .‬فقد كان‬
‫ابن الفر�ضي قا�ضي ًا‪ ،‬توىل الق�ضاء يف �أكرث من مدينة �أندل�سية‪ ،‬وفقيها‬
‫ومحُ َ َّدث ًا حافظ ًا للحديث متقن ًا للعلوم‪ُ ،‬ي ْر َحل �إليه‪ ،‬وم�ؤرخ ًا وعامل ًا يجمع فنون‬
‫العلم‪ ،‬بارع ًا ف�صيح ًا و�شاعر ًا ح�سن ال�شعر والبالغة واخلط واجلودة‪ ،‬يدل‬
‫القليل الذي و�صلنا من �شعره على منزلته فيه‪ ،‬وقد احتذاه �شعراء و�أخذوا‬
‫من معانيه‪ ،‬و�أ�شبه هذا التنوع املبني على �أ�سا�س كرمي وقيم الإ�سالم و ُم ُثله‬
‫الط َّيب املتنوع الطعوم والألوان‪ ،‬فيه للنا�س �شفاء ومن �شعره‪:‬‬ ‫بال ّنحل‪ُ ،‬ي َقدم َ‬
‫‪ -9‬رواه البخاري ‪ ،3952‬وم�سلم ‪ ،6781‬والن�سائي ‪ 6903‬عن �أبي هريرة ر�ضي اهلل عنه‪.‬‬
‫‪ -10‬راجع‪ :‬الكتب واملكتبات يف الأندل�س (للم�ؤلف)‪� ،‬ص‪ 15‬وبعدها‬

‫‪23‬‬
‫�أ�سري اخلطايا عند بابك ُ‬
‫واقف ‬
‫ـارف‬ ‫على َو َج ـ ٍـل َع ّما به �أن��ت عـ ُ‬
‫ي��خ��اف ذن��وب�� ًا مل ي��غ ْ��ب ع��ن��ك غيبها‬
‫ـائف‬ ‫راج وخـ ُ‬
‫ويــرجــوك فيهــا فه ــو ٍ‬
‫وم��ن ذا ال��ذي ُي��رج��ى ���س��واك ويتقى‬
‫ُ‬
‫خمالف‬ ‫ومــا لك يف ف�صــل الق�ضاء‬
‫ْ��زين يف �صحيفتي‬ ‫فيا �سيدي ال ُت��خ ِ‬
‫ُ‬
‫ال�صحائف‬ ‫يوم احل�ساب‬ ‫�إذا ُن ِ�ش َرت َ‬
‫وك��ن م�ؤن�سي يف ظلمة القرب عندما‬
‫َي ُ�صـ ـ ُّد ذوو القــربــى ويجـفو امل� ُ‬
‫ؤالف‬
‫لئن �ضاق عني َعفْوك الوا�سع الذي‬
‫�أُ َر ّج ـ ــي لإ�س ـ ـ ــرايف ف ـ�إنـ ــي لت ــال ُـف‬
‫ُيذكر‪ -‬بغري حق وال علم ‪� -‬أن الفقهاء جتمدت �أحا�سي�سهم الأدبية‪،‬‬
‫فكان �أدب الفقهاء و�شعرهم جامد العاطفة ثقيل التعبري �ضعيف اجلودة‪.‬‬
‫لكن الأمر لي�س كذلك �أبد ًا‪ .‬فبجانب ال�شعر العلمي ك�ألفية ابن مالك‪ ،‬التي‬
‫و�أمثالها‪ ،‬ال تخلو من جمال الت�صور والت�صوير والطرافة والنكتة الذكية‪ ،‬ف�إن‬
‫�أدب الفقهاء ‪ -‬نرثا و�شعر ًا ‪ -‬ميتاز بعذوبة التعبري ورقة العاطفة ال�صادقة‬
‫النظيفة و�صدق الأحا�سي�س ودقة الو�صف والغور النف�سي والإن�ساين وهدف‬
‫املق�صود �أكرث من غريهم‪ .‬علم ًا ب�أن درا�سة املجتمع الإ�سالمي ب�أكمله يف‬
‫الأ�سا�س فقهية‪ ،‬ثم يكون التخ�ص�ص‪.‬‬
‫وللأ�سف‪،‬ف�إن كثريا من اهتمام الدرا�سات واملناهج والنتاج املعا�صر‬
‫واملتابعات الغالبة ركزت على درا�سة ال َّنتاج الهابط املظلم الذي بع�ضه ملفق‪،‬‬
‫ولذلك جمعت طائف ًة غري قليلة من النماذج الأدبية الكرمية يف الأندل�س‬
‫و�سميته «�صالح �شعر ال�شعراء»(‪ ،)11‬وينتظم ابن الفر�ضي �ضمن ه�ؤالء‪،‬‬
‫‪ -11‬راجع التاريخ الأندل�سي‪� ،‬ص‪.346‬‬

‫‪24‬‬
‫و�إليك ما قاله يف �أ�سرته حني فارقهم واجته �إىل امل�شرق‪:‬‬
‫َم َ�ضت يل �شهور منذ غبتم ثالث ً ة‬
‫غبتم �شهرا‬ ‫وما ِخ ْلتُني �أبقى �إذا ُ‬
‫وما يل حيا ٌة بعدكم �أ�ستل ّذها ‬
‫ولو كان هذا مل �أكن يف الهوى ّحرا‬
‫طول التنائي عليكم ‬ ‫و ُمل ْي�س ِلني ُ‬
‫بل زادين َوج��د ًا َو َج��دد يل ذكرى‬
‫طول �شوقي � ُ ‬
‫إليكم‬ ‫مي ّثلكم يل ُ‬
‫وي��دن��ي��ك ُ��م ح��ت��ى �أن��اج��ي��ك ُ��م �سر ًا‬
‫أ�ستعتب الده َر المَ َ َفرق بيننا ‬
‫�س� ُ‬
‫وهلنافعي�أن�صرتُ �أ�ستعتبالدهرا‬
‫�أع ّلل نف�سي باملنى يف لقائكم ‬
‫و�أ�ست�سه ُل الرب الذي ُج ْبتُ والبحرا‬
‫طي املراحل ُ ‬
‫عنكم‬ ‫ؤن�سني ُّ‬
‫وي� ُ‬
‫أروح على �أر�ض و�أغدو على �أخرى‬ ‫� ُ‬
‫وتاهلل ما فارقتكم عن ِق ًلى لكم ‬
‫ت َرى‬‫ولكنها الأق��دا ُر جتري كما جُّْ‬
‫َر َعتْكم من الرحمن عني َب�صرية ‬
‫عنكم �سرتا‬‫وال ك�شفت �أيدي النوى ُ‬
‫ويقول متغز ًال يف زوجته‪:‬‬
‫�إن الذي �أ�صبحت طوع ميينه ‬
‫�إن مل ي��ك��ن ق��م��ر ًا فلي�س بدون ِه‬
‫ُذ َيّل له يف احلب من �سلطانه ‬
‫و�سقام ج�سمي من �سقام جفونه‬

‫‪25‬‬
‫وهذا كل ما و�صلنا من �شعره و�أظنه قليل من كثري ويدل على �شاعرية‬
‫مرهفة قوية عالية‪ .‬وميكن �أن ي�ستنتج �أن هذين البيتني �سبقهما �أُ َخر‪ .‬وتكاد‬
‫تكون هذه الأبيات هي كل �أو ُج ّل ما و�صلنا من �شعره‪.‬‬

‫‪26‬‬
‫‪3‬‬

‫عائ�شة احلرة‬
‫الأندل�سية‬

‫‪27‬‬
28
‫احل�ضارة الإ�سالمية ‪ -‬ومنها الأندل�سية ‪ -‬ث ّرة مدرارة‪ ،‬ترى غناها‬
‫متدفق ًا‪ ،‬يعجلك ويدافعك �أو ي�سابقك ويغلبك على نف�سه �أو نف�سك‪ .‬وهذا‬
‫يتم عندما تغو�ص يف الأعماق منه‪ ،‬بال ُع ّدة الالزمة امل� ّؤهلة‪ ،‬مرتوي ًا متب�صر ّا‪،‬‬
‫بدوافع نية ذاتية‪ُ ،‬ع َّدتها �إميان باهلل تعاىل عميق را�سخ و�إخال�ص له‬
‫�سبحانه‪.‬‬
‫لالطالع ول ْإطالع اجليل عليها‬ ‫ال�صيغ وتقدميها ُمهم َّ‬ ‫�إن ا�ستعرا�ض هذه ّ‬
‫وتفهمه لها‪ ،‬كي يحاكي منطلقاتها ويتبناها ويبني كما بنوا‪ ،‬فالإ�سالم �أنزله‬
‫اهلل تعاىل لكل الأجيال لينريوا به احلياة ويعمروها على �أ�سا�س �سليم كرمي‪،‬‬
‫ويقيموا احل�ضارة الإن�سانية احلقة‪ ،‬لقد �شارك يف �صناعتها عموم املجتمع‬
‫الإ�سالمي ‪ -‬مبقدار االلتزام به ‪ -‬من الن�ساء والرجال‪ ،‬كبار ًا و�صغار ًا‪ ،‬ووجد‬
‫فيها َغ رْ ُي امل�سلمني اجلو الذي يح ُلمون به‪ ،‬بل رمبا مل يكن يخطر لهم على‬
‫بال‪ .‬كل ذلك غاب فهمه عن كثري من م�سلمي هذا اليوم‪ ،‬فكيف بغريهم؟‬
‫كثري ًا ما يدور نقا�ش حول املر�أة وحقوقها وموقعها يف الإ�سالم‪ ،‬جمتمع ًا‬
‫وح�ضارة‪ ،‬وامل�سلمون يف الغرب اليوم يواجهون ويوجهون �أمطار ًا من الأ�سئلة‬
‫عن املر�أة‪ ،‬وهوما دعاين �إىل التفكري واال�ستعداد لو�ضع م�ؤ ّلف‪� -‬إن �شاء اهلل‪-‬‬
‫عن «املر�أة يف احلياة واحل�ضارة الإ�سالمية»‪� ،‬أرجو اهلل تعاىل �أن �أوفق له‪.‬‬
‫واحلق �أن هذا الأمر وا�ضح معلوم لوال اجلهل بحقائق الإ�سالم‪ .‬وللمنا�سبة‬
‫فقد عقد م�ؤمتر عن املر�أة يف الإ�سالم يف �إحدى الدول العربية‪ ،‬وكان بني‬
‫املتحدثني م�ست�شرقون‪� ،‬أحدهم فرن�سي‪ ،‬فلما جاء دوره يف احلديث ذكر �أن‬
‫الذي يعلم قلي ًال عن الإ�سالم يعرف مكانة املر�أة فيه‪ ،‬وهو ما يعني �أ ّال داعي‬
‫ملثل هذا امل�ؤمتر‪ ،‬لأن خري مكانة للمر�أة هي مكانتها يف الإ�سالم‪ .‬ورمبا كانت‬
‫هذه هي ورقته للم�شاركة يف هذا امل�ؤمتر املخ�ص�ص للمر�أة يف الإ�سالم‪.‬‬
‫وعلى الرغم من �أن املر�أة امل�سلمة تعلم �أن مهمتها الأوىل والأهم رعاية‬
‫الأ�سرة وتربية الأوالد و�إعدادهم لبناء احلياة الفا�ضلة بالإ�سالم‪ّ � ،‬أهلها‬

‫‪29‬‬
‫اهلل فطر ًة وخلق ًا وطبيعة للقيام بهذا الواجب‪ ،‬و�أعدها ومبا يتالءم وهذه‬
‫املهمة‪ ،‬نف�س ّي ًا وفكر ّي ًا وبدن ّي ًا‪ ،‬ف�إنه �أباح لها القيام ب�أعمال �أخرى خارج البيت‬
‫وامل�شاركة يف كافة امليادين‪ ،‬ال�سيما العلمية والعملية‪ ،‬بل و�أ�صعبها حتى على‬
‫مواقف ومواق ُع بناءة‪ ،‬من �صدق الوفاء وااللتزام‪،‬‬ ‫ُ‬ ‫الرجال الأقوياء‪ ،‬ولها‬
‫و ُكتبت يف ذلك �صفحات خالدة جميدة وم�ضيئة‪ ،‬ابتدا ًء من ال�صحابيات‬
‫قدوات الأمة ولهن‪ .‬كل ذلك كان بن�ش�أتها الإ�سالمية وتربيتها لأوالدها‪،‬‬
‫فكانت حم�ضن احلنان والبناء بالإميان‪ .‬وحني تتخلى عن ذلك َيتج ّرع‬
‫النا�س من امل�شاكل اجل�سام‪ ،‬مما ال ينفع معه �أي عالج وال امل�ؤمترات التي‬ ‫ُ‬
‫تقام ملواجهتها هنا وهناك‪.‬‬
‫وهذا َيظهر جل ّي ًا على مدار التاريخ الإ�سالمي وح�ضار ُته يف كافة البلدان‪،‬‬
‫التي كان منها الأندل�س‪ ،‬الذي احتوت ح�ضار ُته �صيغ ًا ن�سوية باهرة‪ ،‬والأمثلة‬
‫جد كثرية‪ .‬فهذه عائ�شة احلرة الأندل�سية واحدة منهن‪ ،‬وهي غري َ�سمِ يتَّها‬
‫املغربية بنت �أحد املجاهدين يف مدينة تطوان ‪ -‬يف اململكة املغربية اليوم ‪-‬‬
‫التي تزوجت حاكم تطوان‪ ،‬حفيد �أحد مهاجرة الأندل�س‪ ،‬وحكمت املدينة بعد‬
‫وفاة زوجها‪� .‬أما �سميتها الأندل�سية فهي زوجة �سلطان الأندل�س �أبو احل�سن‬
‫على الغالب باهلل‪ ،‬و�أم �آخر ملوك غرناطة ‪ :Granada‬حممد احلادي‬
‫ع�شر‪� ،‬أبو عبداهلل ال�صغري‪ ،‬ويعرف بالإ�سبانية بوبديل ‪ ،Boabdil‬وبه‬
‫يعرف حتى عند ال�شعب الغرناطي اليوم‪ ،‬وهو الذي وقع معاهدة ا�ست�سالم‬
‫وت�سليم غرناطة‪ ،‬ثم كان اال�ستيالء عليها �سنة‪897‬هـ = ‪1492‬م‪.‬‬
‫ثم كانت مغادرته الأندل�س نهائي ًا �إىل املغرب ‪ -‬بعد �أقل من �سنتني‪ -‬لي�ستقر‬
‫يف مدينة فا�س املغربية‪ ،‬ويقدم ر�سالة اعتذار مطولة �إىل �سلطانها(‪.)12‬‬

‫‪ -12‬راجع‪ :‬التاريخ الأندل�سي �ص ‪ 865‬ومابعدها‪ .‬هجرة علماء الأندل�س �ص ‪ .712‬العالقات‬


‫الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية �ص ‪ 25‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪30‬‬
‫لقد كانت مفاو�ضات اال�ست�سالم ثم التخلي عنها للملكني الكاثوليكيني‬
‫فرناندو و�إيزابيل ‪ FERNANDO, ISABEL‬يف �أكتوبر‪ -‬نوفمرب‬
‫‪1491‬م(‪.)13‬‬
‫�صورة رقم (‪:)1‬‬

‫متثل هذه ال�صورة ت�سليم مفاتيح غرناطة من قبل �أبي عبداهلل ال�صغري (ي�سار) �إىل امللكني‬
‫الكاثوليكيني‪ ،‬فرناندو و�إيزابيل (ميني)‪ ،‬بعد توقيع املعاهدة قبل ذلك‪ ،‬مبا يزيد على ال�شهر‪ .‬ومت‬
‫ت�سليم هذه املفاتيح يف �أوائل ربيع الأول ‪897‬هـ �أوائل يناير ‪1492‬م‪ .‬ثم كان دخول الن�صارى غرناطة‪.‬‬
‫(راجع كتاب هجرة علماء الأندل�س لدى �سقوط غرناطة‪ ،‬للم�ؤلف‪�( ،‬ص ‪ )217 ،192 ،186:‬ال�صورة‬
‫موجودة يف الكني�سة الكربى‪ ،‬العظمى (‪ )CAREDRAL, CARTHedral‬يف غرناطة التي‬
‫بنيت يف موقع امل�سجد اجلامع الأعظم فيها‪.‬‬

‫رحل هذا امللك ال�صغري من غرناطة احلرة الأبية الزكية‪ ،‬وبعد معارك‬
‫مقفرة مفقرة مدمرة وقف لها �أبطالها بقيادة فار�سها املُعلم مو�سى بن �أبي‬
‫الغ�سان الذي رف�ض اال�ست�سالم‪.‬‬

‫‪ -13‬ثم كان ال�سقوط والت�سليم يف ربيع الأول ‪897‬ه ـ يناير‪ /‬كانون الثاين ‪1492‬م‪.‬‬

‫‪31‬‬
‫مع فر�سان اليم ْني‬ ‫ها �أبو الغ�سان ثائرْ ‬
‫هَ ُّمه حمو اجلرائر �إن يثوروا بعد ح ْني‬
‫مهده هم داخلون‬
‫َ‬ ‫هم َي ُع ُّ�ضون الأنامل ‬
‫وبينما هذا امللك ال�صغري خارج منها �إىل مدينة �أندر�ش ‪Andarax‬‬
‫جنوب �شرق غرناطة من قرى ال ُب َ�ش ْرات ‪ aLpujarras‬مع �أ�سرته‬
‫وحا�شيته و�أمه عائ�شة احلرة‪ ،‬وقف وهو على فر�سه فوق تل البذول ينظر‬
‫�إىل غرناطة‪ ،‬الدرة الفريدة امل�ضيعة التي �سلمها لقمة �سائغة للعدو ال�صليبي‬
‫هجر‪ ،‬وقف فقال (اهلل �أكرب) ثم انفجر باكي ًا مت�أ�سف ًا‬ ‫الذي ك�سر ودمر ثم َّ‬
‫على غرناطة احلبيبة اجلميلة �آخر نظرة دامعة والتي تعرف ب ـ َز ْفرة‬
‫(ح�سرة) الأندل�سي الأخرية‪ ،‬بالإ�سبانية‪:‬‬
‫‪sp. el ultimo suspiro del moro‬‬
‫وبالإنكليزية‪eng. the last sigh of the moor :‬‬

‫‪32‬‬
‫�صورة رقم (‪)2‬‬

‫متثل هذه ال�صورة رحيل �أبي عبد اهلل ال�صغري نهائي ًا من غرناطة �إىل مدينة قريبة منها‪� :‬أندر�ش‬
‫(مرحلة ليغادر الأندل�س نهائيا �إىل املغرب بعدها بنحو �سنة) مع �أ�سرته وحا�شيته‪ ،‬وكانت معهم �أمه‬
‫عائ�شة احلرة الأندل�سية‪ ،‬وعندما و�صلوا �إىل مرتفع فوق تل البذول التفت ناظر ًا �إىل غرناطة باكي ًا‪،‬‬
‫فكانت هذه نظرة وهي زفرة وح�سرة‪.‬‬

‫ابك مثل الن�ساء ملك ًا مل‬ ‫معية له ُم�سكتته‪ِ :‬‬


‫وهنا قالت له �أ ّمه مت�أثرة َرّ‬
‫حتافظ عليه مثل الرجال!!‬
‫الرجال‬
‫ِ‬ ‫مل حتافظ عليه مثل‬ ‫�إبك مثل الن�ساء ملك ًا م�ضاع ًا ‬
‫فذهبت عبارتها حكمة ثاقبة باقية م�أثورة‪ ،‬لعلها هي �أي�ضا زفرت حزنا‬
‫ت ِد معه تربيتها و�أُمومتها‪ ،‬الربيئة من ذلك كله ومنه‪ .‬ويف‬ ‫�أ�صي ًال‪ ،‬ولأنه مل جُْ‬
‫ذلك نقول‪:‬‬
‫يبكي ِم َثل ال�صاغرينْ‬ ‫ ‬ ‫�أبو عبد اهلل ال�صغري‬
‫ومت ـ ــالـي الن ــاق ـم ــني‬ ‫ ‬
‫كيف �أ�صبحت الأمري‬
‫واخلي ـ ـ َ‬
‫ـول تــركب ـ ــونْ‬ ‫ ‬
‫زم َت‬
‫ـان هَ ْ‬
‫� َّأي فر�س ـ ـ ـ ٍ‬

‫‪33‬‬
34
‫‪4‬‬

‫حمدونة الغرناطية‬
‫ال�شاعرة‬

‫‪35‬‬
36
‫بلغت الأندل�س درجة عالية من الرقي احل�ضاري يف كافة امليادين‪ ،‬ومنه‬
‫الرقي العلمي املتنوع الذي كان �أ�سا�سا للح�ضارة الأوروبية احلديثة‪ .‬فكانت‬
‫الأندل�س �أكرب و�أهم معرب جلوانب من احل�ضارة الإ�سالمية �إىل �أوروبا‪ ،‬لكن‬
‫هذا النقل كان حم�صورا مراقب ًا من الق�س�س والرهبان لتلك القنوات‪ ،‬ملرور‬
‫ما �أرادوه دون غريه‪ ،‬حيث ال مير �شيء له عالقة بالإ�سالم عقيدة و�شريعة‬
‫و�أخالق ًا‪ ،‬و�إن تفلتت من ذلك �أمور حمدودة غلبتهم‪ ،‬و�سمحت فقط للعلوم‬
‫البحتة ‪ ،pure science‬فقطعت تلك العلوم من �أ�صولها وارتباطها‪،‬‬
‫و�صارت �أداة مل�صاحلها‪ ،‬وا�ستعملت كذلك يف ال�شرور املبيدة املبرية‪ ،‬والع�صر‬
‫احلا�ضر على ذلك دليل‪� ،‬أي دليل‪.‬‬
‫واحل�ضارة الإ�سالمية ال تعرف هذا اللون من ا�ستعمال العلم وثماره‬
‫املرة لأنها م�ؤ�س�سة على الإميان باهلل وتوحيده ومرتبطة بالعقيدة الربانية‬
‫و�شريعتها‪ ،‬فهي ح�ضارة التوحيد الوحيدة‪ ،‬وح�ضارة الرحمة والعدل واحلق‬
‫الأكيد الفريد من بني احل�ضارات‪ ،‬قدميها وحديثها‪.‬‬
‫لقد حاربت البابوي ُة كني�ستها هذه العلوم‪ ،‬لأنها منقولة �إىل �أوروبا من‬
‫احل�ضارة الإ�سالمية‪ .‬ولهذا ال�سبب وغريه‪� ،‬أحرقت حماكم تفتي�شها كل من‬
‫�أ�صر على تلك املعارف من العلماء الأوروبيني‪ ،‬من �أمثال‪ :‬عامل الفلك الإيطايل‬
‫جيوردانو برونو ‪1600( Giordano Bruno‬م)‪ ،‬وجنا منها من‬
‫تنازل عن مقوالته العلمية من �أمثال‪:‬غاليلو ‪Galilei Galileo‬‬
‫(‪1642‬م)‪� ،‬أما كوبرنيك�س البولندي ‪Nicolas Copernicus‬‬
‫(‪1543‬م) فقد �أنقذه املوت!‪.‬‬
‫حققت الأندل�س هذا الت�ألق احل�ضاري الفريد ذا الكيان والتكوين‬
‫الإ�سالمي‪ ،‬يف وقت كان كل ما حولها مظلم ًا ومتخلف ًا وتالف ًا‪� ،‬إن�ساني ًا وفكري ًا‬
‫وخلقي ًا‪ ،‬فنهلت �أوروبا من هذه احل�ضارة‪ ،‬فكانت توفد طالبها �إىل اجلامعات‬
‫الأندل�سية‪ ،‬يتلقون منها العلم ل�سنوات‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫لقد عم العلم �أهل الأندل�س‪ ،‬ن�ساء ورجاال‪ ،‬وظهرت الن�ساء يف امليادين‬
‫املتعددة العلمية والأدبية‪ ،‬وكل ما يتنا�سب مع تكوينها وفطرتها ووظيفتها‪،‬‬
‫ونبغت يف الآداب بكل فنونه ال�شعرية والنرثية‪ ،‬و�أبدعت يف ذلك فنون ًا‪،‬‬
‫ولي�ست املو�شحات �إال فن ًا �أندل�س ّي ًا وليد ًا‪.‬‬
‫ولدينا من ال�شواعر قائمة طويلة منهن تناولن �أرق املعاين و�أدقها‬
‫وارجتلنه و�أجزنه‪ ،‬ودع �شهرة والدة بنت امل�ستكفي ومن نتاجها ال�شعري‬
‫الذائع وما اتهمت به وما �أُ ْل ِ�صق بها‪ ،‬بكل ما فيه من ُزور‪.‬‬
‫فهذه اعتماد ال ُّرميكية �أجازت ن�صف بيت قاله املعتمد بن عباد‬
‫وقتئذ ‪ -‬وجماهدها‪،‬‬
‫(‪488‬هـ = ‪1095‬م) �أمري �إ�شبيلية و�شاعر الأندل�س ‪ٍ -‬‬
‫الذي كان يف قارب يجول يف نهر �إ�شبيلية ‪ sevilla‬الوادي الكبري‬
‫‪ guadalquivir‬مع �صديقه ال�شاعر املعروف ابن عمار الذي عجز‬
‫عن �إمتامه‪ ،‬ف�إذا جارية تعمل يف �أحد البيوت املطلة على نهر الوادي الكبري‪،‬‬
‫تغ�سل �شيئ ًا فيه‪� ،‬سمعته ف�أجازته‪ ،‬ف�أعجب بها املعتمد وتزوجها‪ ،‬وكانت �أم‬
‫�أوالده امللوك‪ ،‬قال املعتمد حني ز َّردت(‪ )14‬الريح وجه ماء النهر‪:‬‬
‫�صنع الريح من املاء َز َردْ‬
‫وقال ل�صديقه‪� :‬أجز‪ ،‬ف�أطال ابن عمار الفكرة ومل يفعل‪ ،‬ف�أجازته امر�أة‬
‫من الغ�ساالت (اعتماد)‪:‬‬
‫� ُّأي درع لقتال لو َج َم ْد‬
‫�أما َحمدونة (�أو حمدة) الغرناطية بنت زياد امل�ؤدب ال�شهرية ‪ -‬ومثلها‬
‫�أختها زينب ‪ -‬من �ساكني وادي احل َّمة بقرية بادي من مدينة وادي �آ�ش‬
‫‪ Guadix‬على بعد ‪ 53‬كم �شمال �شرق غرناطة ‪ ،Granada‬ومن‬
‫�أعمالها‪� ،‬أي توابعها �إداري ًا‪ ،‬قريبة من جبل الثلج‪� :‬سريانيفادا ‪Nevada‬‬
‫‪� Sierra‬ضمن �سل�سلة جبال �شلري (�شلري)‪ :‬ال�شم�س ‪ ،‬الذي ال تفارق‬
‫الريح وجه املياه يف متوجه مثل حلق (حلقات) الدرع املتما�سكة املت�سل�سلة املرتابطة‪.‬‬
‫‪ -14‬جعلت َ‬

‫‪38‬‬
‫الثلوج قمته طوال العام‪ ،‬وهو كذلك الآن‪.‬‬
‫ُ‬
‫ومدينة وادي �آ�ش مدينة جليلة قد �أحاطت بها الب�ساتني والأنهار‪ ،‬وقد‬
‫خ�ص اهلل �أهلها بالعلم والأدب وحب ال�شعر‪ ،‬ومن عجائبها املذكورة �أنه‬
‫توجد قربها �إحدى �شجرتني يف الأندل�س من ال َق ْ�سطل (من ف�صيلة البلوط‪:‬‬
‫الك�ستنة �أبو فروة)‪ ،‬يف جوف كل واحدة منها حائك ين�سج الثياب‪ ،‬وذلك‬
‫ل�ضخامة هذه ال�شجرة املُ َع َّمرة‪ .‬وال عجب ف�إن يف حدائق احلمراء بغرناطة‬
‫�شجرة ي�سمونها ال�سلطانة‪ ،‬وعمرها يزيد على ‪� 700‬سنة‪ ،‬وكانت حية ُمورقة‬
‫�إىل قبل نحو ع�شرين �سنة‪.‬‬
‫ولعل جمال البيئة والطبيعة الأندل�سية‪ ،‬ب�أ�شجارها البا�سقة و�أزهارها‬
‫العبقة وثمارها ومياهها قد ك�سى �أدبهم جما ًال وبها ًء ور َّقة‪ ،‬بهذه ال�صيغ‬
‫وال�صور املزدهرة الرقراقة‪ ،‬وفتق الطاقات وفتح للقرائح الأدبية �أبواب ًا‬
‫وارتقى بها و�أ�ضفى عليها ِر ّقة‪� ،‬أية رقة!‪.‬‬
‫وو�صفت ب�أنها �شاعرة الأندل�س‪� ،‬شعرها‬ ‫ُلقبت حمدونة بخن�ساء املغرب‪ُ ،‬‬
‫رقيق رقراق �أك�سبته وك�سته جما ًال بتعبرياتها ومعانيها و�صورها الأدبية‬
‫اجلديدة‪ .‬لها عدة ق�صائد مما تبقى من �شعرها‪ ،‬خرجت مرة مع رفيقات‬
‫لها �إىل نهر مدينة وادي �آ�ش‪ ،‬فقالت ت�صف ذلك ب�أبيات‪ ،‬منها‪:‬‬
‫لــه للحـُ ْ�ســن �آثـ ــا ٌر َبـ ـ ـ َوادي‬ ‫�أباح الدم ُع �أ�سراري بوادي ‬
‫يرف بكل وادي‬ ‫رو�ض ُّ‬ ‫ومن ٍ‬ ‫نهر يطوف بك ّل َر ْو�ض ‬
‫فمِ نْ ٍ‬
‫ومن �شعرها هذه القطعة الرائعة ‪ -‬ذات الأبيات اخلم�سة ‪ -‬التي رمبا لها‬
‫تتمة مل ت�صلنا‪ .‬وجلمالها ورقتها و�إجادتها ادعاها �آخرون‪� ،‬أو ن�سبت �إليهم‪،‬‬
‫(‪)15‬‬
‫حتى يف امل�شرق‪ .‬ولكن الثابت وامل�ؤكد �أنها حلمدونتنا هذه‬
‫‪ -15‬انظر‪ :‬نفح الطيب‪ ،288/4 ،‬الإحاطة يف �أخبار غرناطة‪ ،489/1 ،‬املغرب يف حلى املغرب‪ ،‬ابن‬
‫�سعيد‪ ،146/2 ،‬حتفة القادم‪ ،‬ابن الأبار‪ .،235 ،‬معجم الأدباء‪ ،‬ياقوت احلموي‪ .1212/3 ،‬تاريخ‬
‫الأدب العربي‪ ،‬عمر فروخ ‪ 531/5 ،‬ـ ‪ 556‬احل�ضارة الإ�سالمية يف الأندل�س �ص ‪37‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫وقانا لف َْح َة ال َّرم�ضا ِء واد‬
‫العميم‬
‫ِ‬ ‫َ�س َقاه م�ضاعف ِ‬
‫الغيث‬
‫َح َل ْلنا َد ْو َح ُه فحنا علينا‬
‫الفطيم‬
‫ِ‬ ‫ُح ُنو املر�ضعات على‬
‫و�أر�شفنا على َظ َم�أٍ ُز ً‬
‫الال‬
‫�ألذ ِمنَ املدامة للندمي‬
‫ال�شم�س �أ َّنى واجهتنا‬
‫َ‬ ‫ي�ص ُد‬
‫ف��ي��ح ُ��ج�� ُب��ه��ا وي���أ ذنُ لل ّن�سيم‬
‫يرو ُع َح�صا ُه حال َية ال َعذارى‬
‫(‪)16‬‬
‫جانب ال ِعق ِْد ال َّنظيم‬
‫فتلم�س َ‬
‫ُ‬

‫‪ -16‬قالت حمدونة ت�صف بهذه الأبيات نهر ًا رمبا حول �ضفافه غابة �أو هو يجتازها وي�سقي تلك الغابة‬
‫الرائعة بخ�ضرائها يجري فيها مبائه الزالل اللذيذ ال�صايف‪ ،‬والظاهر �أنه نهر �صغري داخل الغابة‬
‫يجري منحدر ًا ب�صفائه و�سيله الرائق املتدفق‪ .‬ولعلها لو �شبهت ماءه يف البيت الثالث بت�شبيه �آخر‬
‫لكانت قد ا�ستكملت بهذه الق�صيدة املحامد وحازت اجلمائل وجمعت احلمائل من �أطرافها‪.‬‬
‫ت�شري ال�شاعرة حمدونة يف البيت الأخري �إىل روعة و�صفاء مياه النهر وجمال قاعه الذي تغطى بهذا‬
‫احل�صى اجلميل الوا�ضح للناظرين حتى ليخيل للفتاة التي تلب�س عقد ًا �إذا نظرت حل�صى النهر‬
‫داخلها اخلوف على عقدها متفقدة �إياه جتده ال يزال يف مكانه يزين جيدها فتطمئن حامدة اهلل‬
‫تعاىل على �أنها مل تفقده‪ ،‬وعندها ت�شرع يف اال�ستمتاع يف النهر متملية من جماله الفريد‪.‬‬

‫‪40‬‬
‫‪5‬‬

‫ُ‬
‫امللك تاجه‬ ‫ورهن‬

‫‪41‬‬
42
‫وقت التزم فيه امل�سلمون بدينهم �إال وفتح اهلل لهم بذلك املغاليق‪،‬‬‫ما من ٍ‬
‫وحققوا االنت�صارات يف امليادين كافة‪ ،‬وعا�شوا �أعزة يحفون �أنف�سهم بالرب‬
‫وينعمون باخلري العميم وال�سعادة الكرمية واحل�ضارة الو�ضيئة‪ ،‬ولكل َمنْ‬
‫حولها ومعهم والنا�س �أجمعني‪ .‬وتلك ظاهرة مل تت�أخر على مدار التاريخ‬
‫و�أطوار القرون‪ ،‬وهذا يعني اليوم �أنهم �إذا �أرادوا �أن تكتنفهم تلك النعم‪ ،‬فما‬
‫عليهم �إال ال ُ‬
‫أخذ باملنهج الرباين الذي �أراده اهلل للب�شرية‪ ،‬يقودون به احلياة‬
‫نحو احل�ضارة الإن�سانية احلقة‪.‬‬
‫وما ال�شقاء الذي يلف الب�شرية ومدنيتها اليوم ويخنق �آمالها ‪ -‬بعد ما‬
‫حتققت لها املنجزات العلمية ‪� -‬إال ملا �أدارت ظهرها لهذا املنهج‪ ،‬متقلبة‬
‫يف �شتى املناهج الأر�ضية والو�ضعية‪ ،‬التي ذهب بريقها الأخاذ‪ ،‬وقد ادعت‬
‫لنف�سها ما مل تنجز منه �شيئ ًا‪ ،‬وهي حتم ًا ال ت�ستطيع‪ ،‬لأنها ال متلك �أ�سباب‬
‫ذلك‪ ،‬وحتى بعدما امتلكت قواها �أزمة احلياة وا�ستبدت بها‪ ،‬متالعبة‬
‫مب�صائرها‪ ،‬مقامرات ومغامرات نفعية �أنانية خادعة مدعية‪ ،‬رغم كل ما‬
‫حتمل من �شعارات براقة‪ ،‬فهي خالية عموم ًا من كل م�ضمون كرمي‪.‬‬
‫و َيرد هنا قانو ٌن هداين اهلل تعاىل �إليه ‪ -‬ا�ستخرجته من خالل َ�س رْي‬
‫التاريخ الإ�سالمي‪� -‬أ�سميه‪« :‬اخلط البياين املزدوج»‪ ،‬فلو ر�سمنا خط ًا بياني ًا‬
‫ميثل احليا َة الإ�سالمية ‪ -‬خالل م�سريتها ‪ -‬انت�صار ًا وانح�سار ًا‪ ،‬ارتقا ًء‬
‫وانزوا ًء‪ ،‬تقدما وتخلفا‪ ،‬ثم ر�سمنا خطا بيانيا �آخر ميثل مقدار التزام‬
‫امل�سلمني بالإ�سالم خالل تاريخهم‪ ،‬وو�ضعنا اخلطني �أحدهما فوق الآخر‬
‫لتطابقا متام ًا‪ .‬وهذا يعني �أن التقدم يف احلياة الإ�سالمية كان مرتبط ًا دوم ًا‬
‫مبقدار التزام امل�سلمني مبنهج اهلل تعاىل‪ ،‬وبهذا االلتزام حققوا الأعاجيب‬
‫التي ال تكون �إال به‪ ،‬وذلك �أن تقارن مبا �شئت وكيف ومتى �أحببت‪ .‬والب�شرية‬
‫جمعاء اليوم بحاجة �إليه‪ ،‬و�إن الذي لديها غري م�ؤهل لتحقيق احلياة الكرمية‬
‫املرجوة‪.‬‬
‫وتوجد يف تاريخنا الإ�سالمي وح�ضارته �أدلة كثرية على ما حققه هذا‬

‫‪43‬‬
‫املنهج الرباين للإن�سان‪ ،‬مما يعد فرائد ونوادر ال تكون �إال به‪ ،‬وهي ت�شري‬
‫وتلفت النظر �إىل اخل�سارة يف جعل امل�سملني عموم ًا ‪ -‬حتى بع�ض �أهل الفهم‬
‫منهم ‪ -‬يزهدون يف معرفته ودرا�سته وتقدميه‪ ،‬مبفاخره وازدهاره وبراءته‬
‫وبراعته‪ ،‬بردائه و�أ�ضوائه‪ ،‬مما جعل هذه املوا�صفات �سمة الزمة قائمة يف‬
‫ح�ضارتنا الفا�ضلة‪ ،‬ب�صورة م�ستمرة‪ ،‬حتدثك عن طبيعتها القائمة املعربة‬
‫عن مبانيها ومعانيها‪ .‬وهي ت�شري �إىل مدى اخل�سارة الإن�سانية الكربى يف‬
‫�إبعاد هذا املنهج الذي �صنع هذه ال�صنائع وا�صطبغت بها حياته }‬
‫{ (البقرة‪.)138 :‬‬ ‫ ‬
‫فهذا اخلليفة الأندل�سي عبد الرحمن الثالث (النا�صر لدين اهلل) الذي‬
‫حكم خم�سني �سنة (‪ 359 - 300‬هـ= ‪961 - 912‬م) ‪ -‬والذي ُوجدت مذكرات ُه‬
‫بخط يده! (‪ )17‬ت�شري �إىل �أن �أيام ال�سرور والراحة خاللها �أربعة ع�شر يوما‪-‬‬
‫كان �أو�سع حكام العامل �شهرة ومكانة‪ ،‬وامتلأ بالطه القرطبي بالقادمني‪،‬‬
‫ملوكا و�أمراء و�سفراء‪ ،‬كلهم يخطب وده‪ .‬ومدت �إليه �أمم الن�صرانية‬
‫من وراء الدروب يد الإذعان و�أوفدوا عليه ُر ُ�سلهم وهداياهم من رومة‬
‫والق�سطنطينية يف �سبيل املهادنة وال�سلم واالعتمال فيما َيعِنّ يف مر�ضاته‪،‬‬
‫وو�صل �إىل ُ�س َّدته ُ‬
‫امللوك من �أهل جزيرة الأندل�س املتاخمني لبالد امل�سلمني‬
‫بجهات ق�شتاله و َب ْن ُبلونه وما ُين�سب �إليها من الثغور اجلوفية (ال�شمالية)‪،‬‬
‫فق َّبلوا يده‪ ،‬والتم�سوا ر�ضاه واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه)‪ ،‬ومل تبق �أمة‬
‫�سمعت به من ملوك الروم والإفرجنة واملجو�س و�سائر الأمم �إال وفدت عليه‬
‫(‪)18‬‬
‫خا�ضعة راغبة وان�صرفت عنه را�ضية‪.‬‬
‫و�إليك هذه احلادثة العبقرية‪ :‬ذلك �أن �شانجْ ُ ُه الرابع (‪)Sancho lv‬‬
‫�أحد ملوك ق�شتاله(‪� )Castile‬شمايل �إ�سبانيا ثار �سنة ‪ 681‬ه ـ‬

‫‪-17‬املغرب يف حلى املغرب‪ ،‬ابن �سعيد الأندل�سي‪ .182/1 ،‬نفح الطيب من غ�صن الأندل�س الرطيب‪،‬‬
‫‪.379/1‬‬
‫‪ -18‬نفح الطيب‪.366 ،345/1 ،‬‬

‫‪44‬‬
‫(‪1282‬م) على �أبيه الفون�سو العا�شر العامل (‪)Akfanso Xelsabio‬‬
‫(‪)19‬‬
‫بن فرناندو (فرديالند ‪ -‬فريديناند) الثالث بن �ألفون�سو الثامن ملك‬
‫ق�شتالة ذلك الوقت‪ ،‬وهي‍‍�إحدى املمالك الن�صرانية يف �شمايل �شبه اجلزيرة‬
‫الإيبريية (الأندل�سية)‪� .‬ألفون�سو العامل ُعرف مبيله للعلم‪ ،‬ومبا كانت له‬
‫�صالت مع علماء امل�سلمني‪ ،‬وهوما �أثار ال�سخط عليه يف مملكته‪ ،‬فا�ستنجد‬
‫هذا بال�سلطان املريني (بنو مرين ودولتهم باملغرب) �أبي يو�سف يعقوب‬
‫املن�صور‪ ،‬وهرع امللك املخلوع �إىل لقائه فرهن عنده تاجه‪ ،‬ذكر ذلك العديد‬
‫(‪)20‬‬
‫من م�ؤرخينا‬
‫ولهذه احلادثة تف�صيالت مثرية‪ ،‬جمملها‪� :‬أن �ألفون�سو هذا ا�ستن�صر‬
‫بال�سلطان املريني املجاهد �أبي يو�سف يعقوب بن عبد احلق‪ ،‬امللقب باملن�صور‪،‬‬
‫الذي جاء �إىل الأندل�س غازي ًا وجماهد ًا يف �سبيل اهلل‪ ،‬والذ به �ألفون�سو العا�شر‬
‫تاجه‪ ،‬ذخري َة قومه‪ ،‬ولقيه (ب�أحواز ال�صخرة‬ ‫هذا وا�ستجار و َرهَ نَ عنده َ‬
‫من ُكورة تا ُك ُر ّنا) قرب مدينة رندة ‪ Ronda ،‬ف�سلم عليه م�صافح ًا‬
‫(‪)21‬‬

‫َو َق َّب َل يده‪ ،‬ولكن ملا فرغ �أمري امل�سلمني من ذلك طلب املاء (بل�سان قبيلة‬
‫زناتة) ليغ�سل يده به من ُق ْبلة وم�صافحة �ألفون�سو‪ ،‬مبح�ضر من الن�صارى‬
‫وامل�سلمني‪ ،‬وملا تويف �ألفون�سو العا�شر هذا طريد ًا �سنة ‪ 683‬هـ (‪1284‬م)‬
‫دون �أن تتحقق �أمنيته يف العودة �إىل عر�شه‪ ،‬ف�أنفرد ابنه �شاجنه الرابع‪،‬‬
‫وهذا بدوره رغب يف �سلم مع املرينيني‪ ،‬فتم له هذا الأمر وعقد مع ال�سلطان‬
‫املريني يو�سف (ابن املن�صور) معاهدة �سلم فقبلت‪ ،‬وكان لقا�ؤه به باجلزيرة‬

‫‪� -19‬أنظر‪ :‬التاريخ الأندل�س‪� ،‬ص ‪.526، 467 ،466‬‬


‫‪� -20‬أعمال الأعالم‪ ،‬ابن اخلطيب‪ ،334-332 :‬وله‪ :‬الإحاطة يف �أخبار غرناطة‪ ،‬ابن اخلطيب‪:‬‬
‫‪ 63-61/1‬التاريخ الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة �ص ‪.540-539‬‬
‫‪ -21‬كانت هذه املدينة قاعدة لبني مرين‪ ،‬ومقر ًا النطالقهم �إىل اجلهاد يف الأندل�س‪ ،‬انظر عن‬
‫هذه املدينة الآثار الأندل�سية الباقية يف �إ�سبانيا والربتغال حممد عبد اهلل عنان‪ ، 276 ،‬واملق�صود‬
‫بال�صخرة هي �صخرة عباد من �أحواز مدينة رندة‪ ،‬وملعرفة موقع رندة انظر اخلارطة املرفقة‪ ،‬وهي‬
‫مبعنى املدينة املدورة‪ .‬انظر كذلك عن هذه املدينة الرو�ض املعطار‪ 269-129 :‬نفح الطيب‪،265/1 ،‬‬
‫‪.607/2‬‬

‫‪45‬‬
‫(‪)22‬‬
‫اخل�ضراء جنوب جبل طارق‪.‬‬
‫ويوم جاء ر�سول �إ�سبانيا الن�صرانية �إىل مملكة غرناطة وتكلم مع رئي�س‬
‫وزرائها (ل�سان الدين بن اخلطيب‪ 776 ،‬هــ) ذكره بذلك �أمام النا�س‪،‬‬
‫الذين ُذهلوا معجبني بهذا املوقف اجلريء‪ ،‬وبع�ضهم قبل يده‪ ،‬وهو (ومن‬
‫معه) يبكي وا�صف ًا ابن اخلطيب بويل اهلل‪ ،‬جعل اهلل تعاىل ذلك خال�صا‬
‫لوجهه الكرمي(‪.)23‬‬
‫�أال تعترب هذ احلادثة من النوادر الفريدة‪ ،‬التي يحتوي تاريخنا على‬
‫�أمثالها الكثري الوفري يف كل ميدان‪ ،‬وهو ما يجعل االهتمام به واجب ًا �أو فر�ض‬
‫كفاية‪ ،‬تنظر الأمة فيه وتعترب وتقتب�س منه‪ ،‬وهي ب�سبيل ا�ستئناف م�سريتها‬
‫الكرمية بركبها املبارك؟ وذلك هو الرجاء‪.‬‬

‫‪ -22‬عرب ابن خلدون‪ .393/4 ،‬الإحاطة يف �أخبار غرناطة‪ ،‬ابن اخلطيب‪ .563/1 .‬نهاية الأندل�س‪� :‬ص‪.106‬‬
‫‪� -23‬أعمال الأعالم‪ ،‬ابن اخلطيب‪ ،333 :‬نفح الطيب‪ ،‬املقري‪.121-120/5 :‬‬

‫‪46‬‬
‫‪6‬‬

‫وكبا به الفر�س‬

‫‪47‬‬
48
‫ال�شيخ الوزير ذو الوزارتني ل�سان لدين ابن اخلطيب الغرناطي (�أبو عبد‬
‫اهلل حممد بن عبد اهلل بن �سعيد بن عبد اهلل بن �سعيد بن علي بن �أحمد‬
‫ال�سلماين‪ 776-713( ،‬هـ = ‪1374-1313‬م) معا�صر و�صديق ومثيل ابن‬
‫خلدون (‪808‬هــ)‪ .‬وا�سم ابن اخلطيب مت�ألق يف �سماء الأندل�س يف القرن‬
‫الثامن الهجري �أيام مملكة َغرناطة التي امتدت نحو ‪ 260‬عاما‪ ،‬على غري‬
‫املتوقع بحال(‪.)24‬‬
‫تاج ابن اخلطيب العلمي والفكري والأدبي املتعدد املتنوع يف‬ ‫وعرف ِن ُ‬‫ُ‬
‫حياته يف امل�شرق الإ�سالمي كذلك‪ ،‬بعد مغربه‪ ،‬حيث ُوجدت ن�سخة (�أو �أجزاء‬
‫منها) من كتابه ال�شهري (الإحاطة يف �أخبار غرناطة) يف �إحدى مكتبات‬
‫م�صر‪ ،‬بعث بها هو نف�سه �إىل هناك وجعلها وقف ًا على �أهل العلم(‪ ،)25‬والكتاب‬
‫مطبوع الآن يف �أربعة جملدات كبار‪ ،‬ميثل واحد ًا من م�ؤلفاته الكثرية‪.‬‬
‫و ُي َع ُّد ابن اخلطيب �شخ�صية عجيبة ميثل َ�س ْم َت احلياة الأندل�سية يف‬
‫ع�صره يف العديد من امليادين احل�ضارية‪ ،‬ولذلك اعتُرب من املو�سوعيني‪،‬‬
‫�صفة عامة مو�سومة‪ ،‬قدمت احلياة الإ�سالمية وح�ضارتها الكثري منهم يف‬
‫�أم�صارها‪ .‬و�أع�صارها‪ .‬وهو من �أئمة البيان املتعدد الأغرا�ض وال�شعراء‬
‫(‪)26‬‬
‫والو�شاحني‪ ،‬و�صاحب املو�شحة الذائعة ال�شهرة قدمي ًا وحديث ًا‪ ،‬ومطلعها‬
‫جادك الغيثُ �إذا الغيثُ همى يازمــانَ الو�صــل بال ِ‬
‫أندل�س‬ ‫َ‬
‫لـم يك ـ ــنْ َو�صْ ـ ـ ُل َك �إال ُح ُل ـم ـ ـا يف ال َك َرا �أو ِخ ْل َ�س َة املُ ِ‬
‫ختل�س‬
‫جرى ذلك يف املجتمع الأندل�سي ال ّغرناطي رغم �شدة الظروف و�أحوال‬
‫‪ -24‬انظر‪ :‬التاريخ الأندل�سي �ص‪ 519‬وما بعدها‪ .‬نفح الطيب‪ 7/5 ،‬وما بعدها‪ ،‬الإحاطة‪.439/6 ،‬‬
‫�أزهار الريا�ض ‪ 186‬وبعدها (ترجمته)‪ .‬تاريخ الأدب العربي‪ ،‬فروخ‪ 179/176 ،507/6 ،‬الأعالم‬
‫‪.42 ،76/1‬‬
‫‪ -25‬انظر ذلك يف‪ :‬الكتب واملكتبات يف الأندل�س �ص‪ 151‬وبعدها‪.‬‬
‫‪ -26‬املغرب يف ُحلى املغرب‪ ،269/1 ،‬فتح الطيب‪( 14 ،82-11/7 ،‬مو�شحته)‪� .‬أزهار الريا�ض‪،‬‬
‫‪( 213/2‬مو�شحته)‪ .‬نهاية الأندل�س �ص ‪.480‬‬

‫‪49‬‬
‫ال�ضعف التي �ألمَ َّ ْت بهذه اململكة ال�صغرية وجمتمعها‪ ،‬لذا ما كان ميكن‬
‫و�ش َغ َلها ونال منها‪ ،‬لكنها‬
‫ا�ستمرارها يف خ�ضم ذلك املعرتك الذي �أحاط بها َ‬
‫بقيت ت�صارع عدوها اخلارجي وم�شاكلها الداخلية‪ ،‬وهي تداوي جراحها‬
‫الكثرية املرة امل�ستمرة و ُت�صْ غي و ُت َ�ص ّفي مواقع الأذى الداخلي‪� ،‬أوقعها فيه‬
‫جلي‪ ،‬خمبوء �أو ملحوظ‪� ،‬أملت به‬ ‫�ضعف وفنت واعوجاج يف حالها‪َ ،‬خ ًّ‬
‫في �أو ًّ‬
‫و�أ�شغلته عوادي الأعداء‪ ،‬ت�ست�شريه وهي تدفع بحيويتها املوروثة لرد جيو�شها‬
‫وم�ؤامراتها نحوها‪ ،‬ومع ذلك �سجلت بطوالت يف املقاومة واجلهاد‪ ،‬وهي‬
‫دائرة مل تتوقف يف البناء والنماء واملقاومة‪ ،‬حتى كان اال�ست�سالم الذليل‪� ،‬أو‬
‫العميل الذي مت على يد �آخر �أمرائها �أبو عبد اهلل ال�صغري‪ ،‬وبع�ض بطانته‪،‬‬
‫رغم ما �أبدى املجتمع الغرناطي من فداء و�إباء �أمام هذا امل�صري الأ�سود‬
‫املنكود امل�شهود‪ .‬فكان توقيع معاهدة اال�ست�سالم للملكني الكاثولوكيني‬
‫(فرناندو وايزبيل ‪ – Fernando lsanl‬فردناندو و�إيزابيال‬
‫‪ Ferdinand/and lsabella‬وجيو�شهما ال�ضاربة املدمرة‬
‫املحيطة)‪ ،‬وبعد �أربعني يوم ًا كان ت�سلميها للعدو الغادر واحتاللها واال�ستيالء‬
‫على غرناطة الأبية احلبيبة النجيبة �أوائل ‪ 897‬هـ = ‪1492‬م(‪.)27‬‬
‫عا�ش ابن اخلطيب يف مثل هذه الأجواء وكان عمود �سيا�ستها وعلمها‬
‫وجهادها‪ ،‬هو و�أ�سرته التي ُعرفت قدمي ًا ببني الوزير ثم ببني اخلطيب‪.‬‬
‫و�أ�صل هذه الأ�سرة �أو ًال‪ )Cordoba Toledo( :‬قرطبة‪ ،‬ثم‬
‫طليطلة عند وقعة الرب�ض‪� ،‬أيام الأمري حكم الأول‪ ،‬رم�ضان‪ 202 ،‬هـ =‬
‫مار�س ‪818‬م‪ .‬ثم تنقلت يف عدة مدن �أندل�سية‪ ،‬كان �آخرها ‪َ Loja‬ل ْو َ�ش ًة‪،‬‬
‫ثم غرناطة العا�صمة �أيام مملكتها‪� ،‬أ�سرة نبغ فيها العديد‪ ،‬ولهم �سجل‬
‫حافل باملواقف والأعمال العلمية واالجتماعية والقيادية املتنوعة‪ ،‬ولكن ابن‬
‫اخلطيب فيها وا�سطة عقدها و�أكرثهم �شهرة‪ ،‬وقد توىل رئا�سة الوزراء يف‬
‫‪ -27‬راجع‪ :‬التاريخ الأندل�سي �ص ‪ 552‬وما بعدها‪ ،‬هجرة علماء الأندل�س لدى �سقوط غرناطة‬
‫�ص‪.227 ،217 ،193- 192-186‬‬

‫‪50‬‬
‫مملكة غرناطة نحو ع�شر �سنوات‪ .‬وكانت م�ؤلفاته مثل مواقفه وحياته‪ ،‬تمُ ّثل‬
‫قمة يف الدقة والقوة والعمق‪ ،‬غزارة ِنتاج و�شمول مدارك وعمق تفكري‪ ،‬رغم‬
‫امل�شاغل وامل�شاكل‪ ،‬كما كان متمكن ًا يف النتاج‪ ،‬بحيث �إنه كتب يف �أربعني‬
‫ليلة ‪ -‬رغم امل�س�ؤوليات وامل�شاكل ال�سيا�سية ‪ -‬كتاب ًا يف فل�سفة احلب الإلهي‪،‬‬
‫�س ّماه‪( :‬رو�ضة التعريف باحلب ال�شريف)‪ ،‬مطبوع يف جملدين‪.‬‬
‫و�سجلت �أ�سرته خالل �أجيالها مفاخر ومواقف معروفة مذكورة متوارثة‪،‬‬
‫فجده الأعلى �سعيد من �أهل العلم واخلري وال�صالح والف�ضل والدين‪ ،‬كان‬ ‫َ‬
‫ي�سكن لو�شة على طريق املارة من َغرناطة �إىل �إ�شبيلية‪ ، Seville‬فكان‬
‫يذيع ف�صو ًال من العلم ويجهر بتالوة القر�آن‪ ،‬وجلمال تالوته كان ي�ستوقف‬
‫املدجلة احلن ُني �إىل نغمته واخل�شوع �إىل �صدقه ف ُت ْعر�س (ت�سرتيح‬‫الرفاق ْ‬
‫من التعب) رحالها ِل�صْ ق جداره وتريح ظهرها موهن ًا‪� ،‬إىل �أن ي�أتي على‬
‫ورده(‪.)28‬‬
‫�أما جد الوزير الغرناطي ل�سان الدين ابن اخلطيب الأقرب هو �سعيد‪،‬‬
‫فكان كذلك من العلم والف�ضل ‍‍�إىل درجة �أن �أراده �سلطان غرناطة مربي ًا‬
‫لبع�ض �أوالده‪ .‬وكان �أبوه كذلك‪ .‬وهذا ي�شري �أي�ض ًا �إ‍لى مزية للمجتمع‬
‫الإ�سالمي والأندل�سي‪ :‬عناية الأ�سرة ب�أوالدها (بنني وبنات)‪ ،‬وكان كثري‬
‫من الآباء �أ�ساتذة و�شيوخا لأوالدهم‪ ،‬وهي ظاهرة علمية م�شهورة ب�أمثلتها‬
‫ومثالياتها الكثرية‪ .‬وكم من �أ�سرة تورث �أبناءها العلم واملهنة والتخ�ص�ص‬
‫فيه‪ ،‬وما �أكرث الأمثلة‪ .‬بجانب كل ذلك كان علمهم للعمل‪ ،‬يطرد مع مقداره‪،‬‬
‫ولذلك كان العلماء حا�ضرين يف احلياة معاونني للنا�س‪ .‬عاملني به‪ ،‬ويف‬
‫�أكرب مواقفه و�أ�صعب ميادينه‪ :‬اجلهاد‪ .‬وعلى ذلك كان �أخوه و�أبوه عبد اهلل‬
‫بارزين للجهاد ومعاركه وا�ستُ�شهدا فيه‪.‬‬

‫‪ -28‬راجع الكتب واملكتبات يف الأندل�س �ص ‪ ،144‬الإحاطة‪� 386/3 ،440/4‬أزهار الريا�ض ‪186/1‬‬


‫وما بعدها‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫كان ا�ست�شهادهم يف معركة طريف(‪Batelladel Salado )29‬‬
‫�ضد الق�شتالني ومن معهم من الأوروبيني برعاية البابوية‪ ،‬وقاتل املرينيون‬
‫(دولة يف املغرب)‪ ،‬جند ًة لإخوانهم �أهل الأندل�س‪ ،‬وا�ستعمل امل�سلمون‬
‫فيها نوع ًا من املدافع تقذف النريان‪ ،‬وا�ست�شهد فيها العديد من العلماء‪،‬‬
‫كان منهم �أخو ل�سان الدين و�أبوه عبد اهلل حيث ُفقدا يف الكائنة العظمى‪،‬‬
‫والوقيعة الكربى‪ ،‬بطريف (مدينة) �ضحوة يوم الإثنني �سابع جمادى الأوىل‬
‫�سنة �إحدى و�أربعني و�سبعمائة للهجرة (‪1340/10/30‬م)‪.‬‬
‫َح ّدث ابنَ اخلطيب بذلك �أح ُد �شهودها الفقي ُه �أبو عبد هلل ابن اللو�شي‬
‫خطيب م�سجد غرناطة اجلامع قائ ًال‪َ (( :‬ك َبا ب�أخيك َّ‬
‫الط ْر ُف َ‬
‫(اجل َّيد من‬
‫اخليل) وقد َغ ِ�ش َي العدو َ‬
‫وج َن ْحتُ �إىل �إردافه فانحدر �إليه والدُك و�صرفني‪،‬‬
‫(‪)30‬‬
‫وقال‪� :‬أنا �أوىل به‪ ،‬فكان �آخر العهد بهما))‬
‫ف�أي ُة كبو ٍة هذه‪ ،‬ال كالكبوات‪� ،‬إنها كبو ُة ت�ضحية �أهل اجلهاد‪ ،‬وكم هي يف‬
‫تاريخنا‪ ،‬ونحن نحتاج �إىل �إ�ضاءاتها وت�ألقاتها وم ُثلها‪ .‬يظهر ذلك ويتجلى‬
‫مبعرفة تاريخنا الإ�سالمي وتقدميه من الأعماق الرخية الأبية احلقة‪.‬‬

‫‪ -29‬التاريخ الأندل�سي �ص ‪.544‬‬


‫‪ -30‬التاريخ الأندل�سي �ص ‪ 345‬وبعدها‪.‬‬

‫‪52‬‬
‫‪7‬‬

‫يةُ القايل العلمية‬


‫َح رْ َ‬

‫‪53‬‬
54
‫ح�ضارتنا الإ�سالمية مليئة باخلري‪ ،‬تطفح غنا ًء وثرا ًء وتنوع ًا يف كل اجتاه‬
‫َخ َرّي كرمي جديد‪َ ،‬خرييتُها غالبة �شاملة‪ ،‬يت�ضح ذلك حني ُت َقلب �صفحاتها‪،‬‬
‫وهي ال تخلو منه حتى يف حاالت ال�ضعف الذي قد يعرتي من �أهلها‪ ،‬الفرد‬
‫واجلماعة واملجتمع‪ .‬وت�سود خرييتُها كلما زاد مت�سك �أهلها بهذا املنهج‬
‫الرباين الذي �صنعها‪.‬‬
‫وكم حاالت تت�أ�صل فيها الطرافة العفوية‪َ ،‬تف َْج ُ�ؤ َك ِعبرَ ُ ها ومدلوالتها‬
‫وبواعثها‪ ،‬ت�سودها يف كل ذلك حيوية متنامية‪ُ ،‬تلهم �أهلها و ُي َ�س َّددون‪ ،‬دلي ًال‬
‫على بركة هذا الدين مبنهجه الرباين الفريد‪ ،‬ي�ضفي على احلياة وحركتها‬
‫منا ًء وعلو ًا و�إ�ضاءة‪ ،‬مما ال متتلكه �أي ُة ح�ضارة �أخرى �سابقة �أو الحقة‪� ،‬إذ‬
‫ا�ستمدت تفر َدها من تفرد هذا املنهج القر�آين الفريد‪ .‬وهي كذلك دوم ًا‪،‬‬
‫كلما كانت �أقرب لهذا املنهج يف بنائها‪� ،‬أ�س�سا ومقومات وخ�صائ�ص‪.‬‬
‫وظني �أن هذه احل�ضارة ما زالت بحاجة �إىل درا�سة مت�أنية منقحة ُم�ؤَ َّ�صلة‪،‬‬
‫ال تخ�شى بحو ُثها نقد ًا جمهري ًا جوهري ًا حر ًا علمي ًا مو�ضوعي ًا متحقق ًا‪ ،‬حني‬
‫ُت َ�ص ُّب يف قوالبها احلقة املدققة املتفهمة‪ ،‬وهي ت�ستبطن مدلوالتها ن�ش�أة‬
‫وا�ستمداد ًا ومنو ًا‪ ،‬عند ذلك ترى ِمن عجائبها املتكاثرة املتبارية البارعة ما‬
‫يبهرك‪ ،‬و ُيق ّرك �إن�ساني ًة وتكرمي ًا‪ ،‬ورقي ًا‪ ،‬وكله بعيد عن املزايدة واالفتعال‬
‫والتكلف‪ ،‬كل يجيد دوره ويعرف قدره فال يتجاوز �أمره‪ ،‬م�ستقرة بحاالتها‬
‫الطبيعية ومداركها املتنامية املقررة‪.‬‬
‫وهذا الكالم مبني ب�أجمعه على الوقائع املدققة املختبرَ ة املوثقة‪ ،‬فلي�س‬
‫هنالك من كالم يف هذه الأمور ُيلقى على عواهنه وال ُيدعى له �إال بربهان‪.‬‬
‫وهذا هو املنهج الإ�سالمي يف احلياة كلها‪ ،‬ومنه عرفت �أوروبا املناهج‬
‫العلمية يف البحث والتق�صي واملعرفة باعرتاف �أعالم الأوروبيني الذين‬
‫�أن�صفوا هذه احل�ضارة‪ ،‬م�أخوذين بالوقائع الباهرة التي عا�شوا بها وابتنوا‬
‫ح�ضارتهم عليها‪� ،‬أمثال الفيل�سوف وعامل الب�صريات الإنكليزي‪ :‬روجر بيكون‬

‫‪55‬‬
‫(‪ ،)AD 1292 RogerBacon‬وهو و�أمثاله‪ ،‬معرتفني بف�ضل هذه‬
‫احل�ضارة عليهم بكل و�ضوح ويف كل منا�سبة‪ ،‬بل و�أمام طلبتهم وم�ستمعيهم‬
‫وقرائهم‪.‬‬
‫وبذلك جتد ح�ضارتنا كافة �أحوالها وم�ستوياتها و�أقدارها و�أن�صارها‪،‬‬
‫تعرب عنه با�ستحقاقها يف موقعها الطبيعي ومقدارها احلق الأ�صيل‪.‬‬
‫كل ذلك جتده مدون ًا م�ستوعب ًا مو�صوف ًا بقدره وظرفه‪ ،‬وتلك الطاقات‬
‫كانت حتاط بالرعاية وتهي�أ لها الأجواء ومتد بكل امل�ستلزمات واملتطلبات‪،‬‬
‫وال مي�ضي الكالم �إال و ُتعطي له مناذج تدل عليه وت�ؤكده و َت ْعر�ضه‪ ،‬ولي�س من‬
‫ال�ضروري بذل اجلهد يف الت�أنق لإيجاد الأمثلة‪� ،‬إمنا هي متكاثرة �أمامك‪.‬‬
‫متوج بها �صفحات هذا التاريخ و�ساحاته احل�ضارية امل�ضيئة‪.‬‬
‫فهذا �أبو علي القايل (‪ 356‬ه ـ ‪967‬م) الأديب اللغوي وافد الأندل�س ‪-‬‬
‫قادم ًا من بغداد ‪� -‬أيام اخلليفة عبد الرحمن بن حممد (‪ 350‬هـ = ‪961‬م)‬
‫النا�صر لدين اهلل‪ ،‬ي�ستدعيه ويحتفي به �أميا احتفاء‪� ،‬إىل حد �أنه �أوكل‬
‫ا�ستقباله �إىل ابنه وويل عهده اخلليفة العامل احلكم الثاين (‪ 266‬هـ =‬
‫‪976‬م) امل�ستن�صر باهلل‪ ،‬ويو�صيه به‪ .‬وهو ال يحتاج‪ ،‬لكن زيادة يف االعتناء‬
‫والتكرمي واحلر�ص عليه‪ ،‬فيقوم احلكم باملهمة على خري �صورة‪ .‬وقد �أحبه‬
‫احلكم بعد اال�ستقرار يف قرطبة‪ ،‬وكان يحثه على الت�أليف ويو�سعه رعاي ًة‬
‫وكرم ًا وعناية �شاملة‪ ،‬مادي ًا ومعنوي ًا واجتماعي ًا‪.‬‬
‫احلكم ا�ستقباله منذ َو ِطئت �أقدام القايل �شواطئ الأندل�س‪ ،‬وكتب‬
‫ُ‬ ‫�أح�سن‬
‫ماح�س الأمري العامل (املحافظ‪ ،‬الوايل) على‬‫بذلك �إىل عبد الرحمن بن ال ُر ِ‬
‫ُكورت َْي �إلبرية ‪ Elvira‬وبجانة‪ Pechina ،‬وطلب �إليه �أن ي�صحبه‬
‫مع وفد من وجوه الرعية ومن العلماء يو�صلونه �إىل قرطبة‪ ،‬وقد مت‪.‬‬
‫وكان �ضمن العلماء امل�ستقبلني ابن رفاعة‪ ،‬وطوال الطريق كانوا يتذاكرون‬
‫العلم ويتجاذبون الأدب ويتبادلون احلديث‪ ،‬حتى و�صلوا قريب ًا من قرطبة‪،‬‬

‫‪56‬‬
‫فدار احلديث عن خري املناديل‪ ،‬وا�ست�شهد القايل ببيت من ال�شعر لل�شاعر‬
‫ال�صحابي (�أو التابعي) َع ْبدة بن الطبيب (‪25‬هــ)‪� ،‬ضمن ق�صيدة قالها يف‬
‫و�صف املجاهدين يف القاد�سية (‪15‬هــ)‪� ،‬أذكر منها ثالثة �أبيات(‪:)31‬‬
‫ُ‬
‫املراجيل‬ ‫ملا َنزَ ْلنا َن َ�ص ْبنا ِظل �أَخْ بية وفـار باللـحم للقـوم‬
‫الغلي منه فهو م� ُ‬
‫أكول‬ ‫ما غيرّ َ ُ‬ ‫َو ْر ٌد و�أ�شْ َق ُر ما ُي�ؤني ِه ُ‬
‫طابخ َُه ‬
‫�أعـرا ُفـهُـنَّ لأيـديـنــا منــاديـ ُل‬ ‫َث َّمت ُقمنا �إىل ُج ْر ٍد ُم َ�س ّو َمة ‬
‫لكن القايل قر�أها �أعرافهم (بدي ًال عن �أعرافهن‪ ،‬يف البيت الثالث)‪،‬‬
‫وا�ستعاده ابن رفاعة الأديب الأندل�سي‪ ،‬فثبتها القايل بتلك القراءة‪:‬‬
‫�أعرافهم‪ ،‬فما كان من ابن رفاعة �إال �أن فارق الركب ُم ْن ِكر ًا على القايل‬
‫ذلك ُم ِق ًّال من قدره وا�ستحقاقه ُم ِعيب ًا علمه و�أدبه‪ ،‬قائ ًال‪ :‬كيف يكون هذا‬
‫ت ِد حماوالت‬ ‫عامل ًا وهو ال ُيح�سن بيت ًا يعرفه يف الأندل�س الأطفال‪ .‬ومل جُْ‬
‫الركب و�أم ِريهم يف رد ابن رفاعة عن قراره يف مفارقتهم(‪ )32‬و�أُ ْع ِلم َ‬
‫احل َكم‬
‫بذلك الذي مل َي ِع ْب على ابن رفاعة موقفه‪ ،‬ومل ينتق�ص من علمية القايل‬
‫الذي كانت يف ذلك َخ رْ َي ُته‪ ،‬وهي دون حمنته العجيبة التي تدعو �إ‍لى الرثاء‬
‫والرجاء والدعاء(‪. )33‬‬

‫‪ -31‬انظر‪ :‬الطريق �إىل املدائن‪� ،‬أحمد عادل كمال‪� ،‬ص‪.51‬‬


‫‪ -32‬عن ذلك وعن ترجمة �أبي علي القايل‪ ،‬انظر‪ :‬نفح الطيب‪.71-70/3 ،‬‬
‫‪ -33‬كما �سريد تف�صيل ذلك يف احلكاية التالية‪.‬‬

‫‪57‬‬
58
‫‪8‬‬

‫حمنة القايل العجيبة‬

‫‪59‬‬
60
‫وكانت تلك �أخرى خا�ضها القايل وعا�ش خاللها يف حرج �شديد‪ ،‬والبداية‬
‫البد من التمهيد لهذا الأمر اجلديد الفريد الأكيد‪ ،‬يف حمنته العلمية العجيبة‬
‫ال�شاهدة الواردة‪.‬‬
‫و�صلت الأندل�س يف القرن الرابع الهجري (احلادي ع�شر امليالدي) قم ًة‬
‫ح�ضارية و�سيا�سية ودبلوما�سية قامت عليها‪ ،‬وو�ضعتها �أول بلد يف عاملها‬
‫الإ�سالمي والعاملي‪ ،‬رقي ًا متناغم ًا يف كافة اجلوانب احل�ضارية‪ ،‬جعلته‬
‫مق�صد ًا يخطب وده متوج طرقاته بالوافدين من البلدان ير�أ�س بع�ضها‬
‫الأمراء وامللوك‪ .‬وكان الأندل�س بقوته املتمكنة تلك ال ين�شر دمار ًا �أو ي�سو�س‬
‫بالتحكم ويدعي العدل‪ ،‬ولكنه كان ين�شر العلم واخلري والقيم على القادمني‪،‬‬
‫ولدينا يف ذلك ق�ص�ص ما �أكرثها‪.‬‬
‫وقد و�صف ابن حيان القرطبي (‪ 469‬هـ = ‪1076‬م) كل ذلك التقدم‬
‫(وم َّدت‬
‫والرقي والقيادة ‪ -‬كما �أ�شار �إليه العديد من امل�ؤرخني ‪ -‬فقال‪َ :‬‬
‫ر�س َلهم‬
‫أمم الن�صرانية من وراء الدروب َيد الإذعان و�أوفدوا عليه ُ‬‫�إليه � ُ‬
‫وهداياهم‪ ،‬من ُرومة وال ُق�سطنطينية يف �سبيل املهادنة وال�سلم واالعتمال‬
‫(‪)34‬‬
‫فيما يعن يف مر�ضاته)‬
‫ففي �سنة (‪ 338‬هــ‪949/‬م)‪ ،‬وفدت �سفارة من الق�سطنطينية �إىل بالط‬
‫قرطبة‪ ،‬حيث اخلليفة عبد الرحمن الثالث‪ ،‬النا�صر لدين اهلل‪ .‬واحتفل النا�س‬
‫با�ستقبالها‪ ،‬و�أوكل تنظيم احلفل �إىل ابنه ويل عهده احلكم امل�ستن�صر‪،‬‬
‫وكان ذلك اال�ستقبال املهيب يف ق�صر قرطبة الزاهر العامر بجوار م�سجدها‬
‫ال�ض َّفة اليمنى لنهر الوادي الكبري‪َ ،‬تفْ�صل بني الق�صر‬
‫اجلامع الباهر‪ ،‬على َّ‬
‫باملح َّجة الكربى‪.‬‬
‫وم�سجدها ال�شارع الرئي�سي املعروف َ‬
‫وكانت العادة �أن ُت َع َّمر هذه ال ُ‬
‫أحفال لدى ا�ستقبالها يف موقعها وجمل�سها‪،‬‬
‫‪ -34‬كما ورد ذلك يف‪ :‬نفح الطيب‪ ،‬املقري‪.384 ،366 ،354/1 ،‬‬

‫‪61‬‬
‫حتف بذلك مراتب �أهل الدولة وميتلئ بهم املكان من ال�شهود‪ ،‬ن�سا ًء ورجا ًال‬
‫و�شيوخ ًا وعموم النا�س‪ ،‬مفتوحة مرتادة ُمرحبة‪ ،‬ويقوم اخلطباء يحدثون‬
‫و ُي�شيدون مبا حققه الأندل�س من التقدم وما بذله امل�سلمون وحكامهم من‬
‫جهود ل�صيانة احلياة ورعايتها وما حتقق لهم من نعمة اهلل �أمن ًا و�أمان ًا ورقي ًا‬
‫و�سلطان ًا وعلم ًا وبيان ًا‪.‬‬
‫فاختار احلكم �صديقه املُ َّقرب الفقيه ابن عبدالرب ال َك ْ�ستنياين‪ ،‬وتقدم‬
‫ليلقي كلمته يف هذا احلفل املهيب العجيب الغريب‪� ،‬أمام اخلليفة ومن حوله‬
‫والنا�س‪ ،‬وبح�ضور وفد الروم‪ .‬فما �أن وقف الفقيه حتى �أخذته الده�شة‬
‫جت عليه (ذهب‬ ‫وا�ست�أثرت به‪ ،‬فحار ودار وما ا�ستدار‪ ،‬ف�صمت و�سكت بل و�أر َ‬
‫عنه الكالم) و�أُغمي عليه‪ .‬فما العمل يا ُترى للخروج من هذا امل�أزق احلرج!‬
‫ال�س َّدة (اخلليفة وويل عهده والوزراء) �إىل‬ ‫واجتهت الأنظار ابتدا ًء من �أهل ُّ‬
‫وافد بغداد الأديب اللغوي �صاحب امل�ؤلفات‪� :‬أبو علي القايل‪ ،‬ليقوم في�سد‬
‫الفراغ وي�شد الفتق ويلئم ا َ‬
‫خل ْر َق‪.‬‬
‫وفع ًال قام القايل ووقف وابتد�أ‪ :‬فحمد اهلل و�أثنى عليه مبا هو �أهله و�صلى‬
‫على نبيه حممد [‪ ،‬ثم وقف وقد �أرجت عليه القول وامتنع منه الكالم‪ ،‬فال‬
‫يجد ما يقول‪ ،‬وهنا زاد احلرج وم�ضى يف النا�س الإ�شفاق واخلجل‪ ،‬يبحثون‬
‫متلفتني عمن يقوم في�سد اخللل ويبعث الأمل‪ ،‬و�إذا بهم جميع ًا يفاج�أون‬
‫برجل يقوم على غري ترتيب وال حت�ضري ودومنا طلب من �أحد ومن غري‬
‫�إعداد‪ ،‬يقوم مقام اخلطيب بجوار القايل‪ ،‬وهو ما زال واقف ًا قائم ًا واجم ًا‪،‬‬
‫ليبد�أ من حيث انتهى القايل‪ ،‬في�أتي بكالم عجيب نرث ًا و�شعر ًا على البديهة‪،‬‬
‫مما �أذهل احلا�ضرين جميع ًا و�أده�شهم و�أطربهم‪ ،‬و�أولهم اخلليفة وويل‬
‫ُ‬
‫املواقف‬ ‫عهده والقائمون‪ .‬فلو كان ذلك عن �إعداد لكان عجيب ًا وهكذا ُتظهر‬
‫املعادن‪ ،‬وكم يف الأمة من مغمور ُيعرف مبواقفه حيث تكون الفر�ص متاحة‬
‫وجتد القابليات طري ًقها‪ ،‬يجد فيها ك ّل �أحد مكانه امل�ؤهل‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫فكان هذا هو القا�ضي منذر بن �سعيد البلوطي(‪355( )35‬هـ = ‪966‬م)‪،‬‬
‫الذي وجد العناية والرعاية والتقدير‪ ،‬فغدا قا�ضي اجلماعة بقرطبة‪ .‬وكانت‬
‫له مواقف بارعة رائعة دافعة يف احلياة واملجتمع وا ُ‬
‫حل ْكم‪ ،‬وكان له قدره عند‬
‫اجلميع‪ ،‬وكان هذا املوقف بركة على منذر وحمنة على القايل‪.‬‬
‫ولكن ال ب�أ�س عليك يا �أبا علي القايل‪ ،‬فقد يحتار اللبيب الأديب وي�سكت‬
‫يف املحنة اخلطيب‪� ،‬أو كما قيل لكل فار�س كبوة‪ ،‬و�إذا كان لكل فار�س َن ْبوة‬
‫خطيب هَ فْوة‪.‬‬
‫ٍ‬ ‫ف�إن لكل‬

‫‪ -35‬انظر‪ :‬نفح الطيب‪ 364/1 ،‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪63‬‬
‫منظر خارجي لإحدى واجهات م�سجد قرطبة اجلامع التي تقع على املحجة الكربى‪ ،‬ومنها املدخل‬
‫الرئي�سي �إليه‪.‬‬

‫منظر جوي مل�سجد قرطبة اجلامع‪ ،‬ويبدو فيه امل�سجد و�صومعته (مئذنته) و�ساحته وداخله‪ .‬ويرى يف‬
‫ال�شاطئ الآخر �أمامك بعد النهر‪ :‬رب�ض‪� Sacunda‬شقثدة‬

‫‪64‬‬
‫‪9‬‬

‫ق�صة‬
‫املُ�صْ َحف ال�رشيف‬

‫‪65‬‬
66
‫ال ِع ْل ُم ال يفتح �أبوابه �أو مغاليقه وال مينحك نف�سه �أو من نف�سه �إال �أن‬
‫تعطيه كذلك‪ ،‬تلك طبيعته‪ .‬وهذا ي�ستفاد من ح�ضارتنا ملن عا�شها وخربها‬
‫وا�ستبطن كنهها‪.‬‬
‫واجل َّدة والأ�صالة‪ ،‬وهو ما يجب ال�سعي‬ ‫وبذلك ميكن ويكمن الإبداع ِ‬
‫�إليه يف التعرف والقراءة والدرا�سة حل�ضارتنا‪ .‬حتى ليمكن تداعي ال�شوارد‬
‫وال�شواهد لتنظم بها ِعقْد ًا �أو تر�سم لوحة �أو تكتب ق�صة‪ ،‬تعجبك وتده�شك‬
‫وتنع�شك‪ ،‬حتى لتغدو وك�أنها بني يديك ت�ستعر�ضها وت�شاهدها وت�ست�شهد‬
‫بها‪ .‬ت�ست�شعر وقعها وحيويتها �أو تتذوق نكهتها وحت�س رائحتها‪ .‬تنطلق بها‬
‫متحدث ًا كاتب ًا راوي ًا وك�أنها جز ٌء منك يعي�ش يف حياتك وغدا من طبيعتك‪.‬‬
‫متتلكها ُت ّلون مبانيها و ُتك ّون كيانها‪ .‬كل ذلك كان ويكون‪ ،‬مبتابعتها وتت ُّبع‬
‫م�سارها وثمارها والإحاطة ب�أخبارها‪.‬‬
‫اجتمع الكثري من ذلك‪ ،‬بع�ضها ميكن نظمها �ضمن �سل�سلة طرائف‬
‫تاريخية وح�ضارية �أو خواطر �أو لفتات �إخبارية‪ ،‬لكن يف احلقيقة‪ ،‬كل ُّها‬
‫ي�سلكها خيط واحد‪ ،‬كان الأ�سا�س‪ .‬مع توفر ذلك يف ح�ضارتنا‪ ،‬البتنائها على‬
‫منهج اهلل تعاىل الذي �أغناها و�أورثها عز ًا وفخر ًا‪ ،‬ولكن ل�ضياع الكثري من‬
‫�أمهات امل�صادر فقد ي�صعب ذلك يف بع�ض الأمور الواردة التي ت�شري �إىل‬
‫تتمات لها ذهبت‪ ،‬بادت �أو غابت‪.‬‬
‫و� ُأ�سوق هنا ق�صة للم�صحف ال�شريف‪ :‬القر�آن الكرمي وعالقتها بالأندل�س‪.‬‬
‫�إذ كان لأهله اهتمام ُم َر َّكز بالقر�آن الكرمي واحلديث ال�شريف‪ ،‬والذي هو َد ْي َدن‬
‫كافة البلدان الإ�سالمية و�شعوبها‪ .‬والق�ضية تتعلق مبلك ق�شتاله(‪ .)36‬وت�سميه‬
‫بال�س َليطني»‪.‬‬
‫الرواية الأندل�سية «الطاغية �أذفون�ش بن ِر ُم ْند املعروف ُّ‬
‫‪ -36‬ق�شتالة‪ :‬مملكة ن�صرانية يف ال�شمال الإ�سباين من �شبه اجلزيرة الأيبريية‪ ,‬راجع عنها التاريخ‬
‫الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة‪� ،‬ص‪.275‬‬
‫‪ANDALUSIAN DIPLOMATIC RELATIONS WITH‬‬
‫‪WETH WESTERN EUROPE DURING THE UMAYYAD‬‬
‫‪PERIODP49.‬‬
‫والرتجمة العربية‪ :‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية �ص‪.75‬‬

‫‪67‬‬
‫وهكذا كانت ق�ضية امل�صحف ال�شريف(‪ :)37‬وذلك �أن وايل قرطبة‬
‫‪ Cordoba‬وما �إليها �أواخر �أيام الدولة املرابطية‪ ،‬املجاهد �أبو زكريا‬
‫تا�شفني بن علي بن يو�سف بن ُ‬
‫تا�شفني‪،‬‬ ‫يحيى بن غانية الذي و ّاله �أمريها ُ‬
‫دافع الن�صارى ال�صليبيني الذين ا�ستغاث بهم الثائر اخلائن الغادر ابنُ‬
‫حمدين(‪ .)38‬بعد هزميته �أمام ابن غانية لغزو قرطبة التي دافعت با�ستماتة‬
‫و�شجاعة‪ ،‬لكنه �أدخلهم �إليها يف العا�شر من ذي احلجة �سنة(‪540‬هـ‪/‬‬
‫‪1145‬م)‪ ،‬وكان �أول ما ا�ستباحوا م�سجدها اجلامع‪ ،‬ف�أخذوا م�صابيحه‬
‫ومزقوا م�صاحفه‪.‬‬
‫فيذكر �أنه كان �ضمنها ن�سخة من م�صحف اخلليفة عثمان بن عفان‬
‫(ر�ضي اهلل عنه) ‪ ،‬الذي على ما يبدو كان قد ح�صل عليه بع�ض رحالة‬
‫العلماء الأندل�سيني الذين اعتادوا الذهاب �إىل امل�شرق لتلقي العلم‪� ،‬سنة �أهل‬
‫الأندل�س‪.‬‬
‫ولكن البع�ض يذكر �أن هذا امل�صحف نقل من م�سجد قرطبة اجلامع �إ‍لى‬
‫م�سجد مراك�ش �أوائل �أيام قيام الدولة املوحدية‪ .‬وهذه الن�سخة من امل�صحف‬
‫ال�شريف‪ُ ،‬يذكر �أن الذي خطها هو اخلليفة ال�شهيد عثمان (ر�ضي اهلل عنه)‬
‫بيمينه‪ ،‬وفيه نقط من دمه‪ .‬وكان يحتفل بالقراءة فيه كل يوم جمعة يف‬
‫م�سجد قرطبة‪ .‬فهل هذا الذي �أخذه الن�صارى كان ن�سخة �أخرى منه‪ ،‬جرى‬
‫ن�سخ مثلها؟‬
‫وبعد �أن �شمل التدمري كل ما يف امل�سجد‪ ،‬دخلوا املدينة‪ ،‬ف�أحرقوا الأ�سواق‬
‫وخربوا كثري ًا من معامل املدينة‪ .‬ورغم كل هذه ال�شدة وعنف الهجوم‬
‫ووح�شيته ثبت ابن غانيه وا�ستطاع رد هذه الهجمة ودحر وحو�شها وخونتها‬
‫وحافظ على قرطبة‪ ،‬ال�سيدة الأبية والعزيزة الغنية والعرو�س احلزين‪.‬‬

‫‪ -37‬الإحاطة‪ ،345/4 ،‬نفح الطيب ‪.607 ،606 ،602 ، 563 ،548 ،204/1‬‬
‫‪ -38‬انظر‪ :‬الإحاطة ‪ 743-543/4‬املن بالإمامة‪ ،‬ابن �صاحب ال�صالة ‪.053‬‬

‫‪68‬‬
‫و«�أدخل ابن َح َمدين الن�صارى قرطبة يف عا�شر ذي احلجة من عام‬
‫�أربعني (‪540‬هـ) فا�ستباحوا امل�سجد و�أخذوا ما كان به من امل�صابيح ومزقوا‬
‫م�صاحفه‪ ،‬وزعموا �أن منها م�صحف عثمان‪ ،‬و�أنزلوا املنار من ال�صومعة‬
‫وحرقت الأ�سواق و�أف�سدت املدينة وظهر من َ�ص رْب‬
‫(املئذنة) وكان كله ف�ضة‪ُ .‬‬
‫ابن غانية و�شدة ب�أ�سه و�صدق دفاعه ما �أي�أ�س منه‪ ،‬وكان من قدر اهلل �أن‬
‫بلغ طاغية الروم يوم دخولهم قرطبة اجتياز املوحدين �إىل الأندل�س ف�أجال‬
‫طاغيتهم قداح الر�أي‪ ،‬فاقت�ضى �أن يهادن ابن غانية ويرتكه بقرطبة يف نحر‬
‫عدوه من املوحدين �سد ًا بينهم وبني بالده‪ ،‬ف ُعقدت ال�شروط ونزل �إليه ابن‬
‫(‪)39‬‬
‫غانية فعاقده وا�ستح�ضر له �أهل قرطبة»‬
‫تلك هي ق�صة امل�صحف ال�شريف‪ :‬القر�آن الكرمي‪ ،‬هناك يف قرطبة‬
‫الأندل�س‪.‬‬

‫‪ -39‬الإحاطة‪ ،‬ابن اخلطيب‪.643-543/4 ،‬‬

‫‪69‬‬
70
‫‪10‬‬

‫الر�سالة‬
‫النبوية الكرمية‬

‫‪71‬‬
72
‫املق�صود بالر�سالة النبوية الكرمية هي ر�سالة ر�سول اهلل [ �إىل هرقل‬
‫(قي�صر الروم) ‪Hercules, Caesar, King of the/‬‬
‫‪ Romans‬يدعوه وقومه فيها �إ‍لى الإ�سالم‪ .‬وهنا يرد ما له عالقة بها‬
‫يف الأندل�س‪.‬‬
‫و�صل املو�ضوع يف هذه الر�سالة ‪ -‬مما هو معلوم ‪� -‬أن الر�سول الكرمي‬
‫[ عمل على تبليغ الدعوة الإ�سالمية لكل �أحد ويف كل زمان ومكان‬
‫}‬
‫{(املائدة‪.)67 ،‬‬ ‫ ‬
‫فما �أن عقد ر�سول اهلل [ ُ�صلح احلديبية يف ذي احلجة ال�سنة ال�ساد�سة‬
‫للهجرة (‪628‬م)‪ ،‬وانتهى من فتح خيرب‪� ،‬آخر قالع اليهود يف احلجاز‪ ،‬يف‬
‫حمرم ال�سنة ال�سابعة للهجرة‪ ،‬حتى بد�أ يف نف�س ال�سنة الدعوة �إىل الإ�سالم‬
‫خارج اجلزيرة العربية‪.‬‬
‫فوجه ر�سله �إىل امللوك والأمراء واحلكام يف �أنحاء الأر�ض‪ ،‬يدعوهم �إىل‬
‫الإ�سالم‪ .‬ويف �أوائل ال�سنة ال�سابعة للهجرة ‪� -‬صيف ‪628‬م‪ ،‬خرج من املدينة‬
‫املنورة يف يوم واحد �ستة ر�سل يحملون كتبه �إىل العديد من اجلهات‪ ،‬منهم‪:‬‬
‫هرقل‪ ،‬قي�صر الروم‪ ،‬وك�سرى �إمرباطور الفر�س‪ ،‬والنجا�شي ملك احلب�شة‪،‬‬
‫واملقوق�س حاكم م�صر‪ ،‬وغريهم‪.‬‬
‫واملق�صود يف هذه احلكاية ر�سالة ر�سول اهلل [ �إىل هرقل قي�صر الروم‬
‫(حكمه‪12 :‬ق‪.‬ه ـ ‪20 -‬هـ =‪641 - 610‬م) التي حملها �إليه ال�صحابي اجلليل‬
‫دحية بن خليفة الكلبي (‪45‬هـ)‪ .‬وكان ن�صها «ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪،‬‬
‫من حممد عبد اهلل ور�سوله �إىل هرقل عظيم الروم‪� .‬سالم على من اتبع‬
‫الهدى‪� ،‬أما بعد‪ :‬ف�إين �أدعوك بدعاية الإ�سالم‪ْ � ،‬أ�س ِل ْم ت َْ�س َل ْم‪ْ � ،‬‬
‫أ�سلم ي�ؤتك اهلل‬

‫‪73‬‬
‫�أجرك مرتني‪ ،‬ف�إن توليت ف�إن عليك �إثم الأري�سيني‪،‬‬
‫}‬

‫{»(‪�( )40‬آل عمران‪.)64 ،‬‬ ‫ ‬

‫ر�سول اهلل [ ‪ ،‬يدعوه فيها‬‫ر�سول ِ‬‫َ‬ ‫ويف القد�س ا�ستقبل هرقل دحي َة‪،‬‬
‫�إىل الإ�سالم‪ ،‬عندما جاء هرقل ل�شكر اهلل على انت�صاره على الفر�س بعد‬
‫الهزمية املنكرة املجتاحة الفاقرة التي �أ�شارت �إليها �سورة الروم‪.‬‬
‫ف�أخذ هرقل الكتاب وقرئ له‪ ،‬وبعد اختبارات وم�ساءالت وا�ستق�صاء‪،‬‬
‫�أعلن مت�أكد ًا جازم ًا حازم ًا �أن حممد ًا [ ر�سول اهلل حق ًا وهو النبي املنتظر‬
‫الذي ب�شرت به �أنبيا�ؤهم وكتبهم‪ .‬وكان مما قال‪( :‬ف�إن كان ما تقول حق ًا‬
‫ف�سيملك مو�ضع قدمي هاتني‪ ،‬وقد كنت �أعلم �أنه خارج (�أي قادم ظاهر)‬
‫ومل �أكن �أظن �أنه منكم‪ ،‬فلو �أين �أعلم �أين �أخل�ص �إليه لتج�شمت لقاءه‪ ،‬ولو‬
‫كنت عنده لغ�سلت عن قدمه)‪ .‬وكان هرقل قد �س�أل عنه‪ ،‬ثم قال‪« :‬لئن كنت‬
‫�صدقتني فيما �أخربتني عنه ف�سيملك ما حتت قدمي هاتني وهذه �صفات‬
‫نبي‪� ،‬أعرف �أنه نبي ولكن ال�أ�ستطيع �أن �أفعل‪� ،‬إن فعلت ذهب ملكي وقتلني‬
‫الروم»‪ .‬لكن هرقل يف احلقيقة �آثر امللك الذي زال بعد ذلك بنحو عقد من‬
‫ال�سنني‪ ،‬ولو كان �آمن لدام له امللك والقوة والعز يف الدنيا والآخرة‪.‬‬
‫وقد روى العديد هذا الكتاب ب�سنده‪ ،‬وفيه من �أهل الأندل�س ‪ -‬وبع�ضهم‬
‫ن�ساء ‪� -‬أمثال ابن ب�شكوال و�أبو عمر يو�سف بن عبد الرب وبقي بن خملد‪.‬‬
‫وكان من اهتمام القي�صر بهذه الر�سالة �أن جعلها يف ق�صبة من ذهب‪،‬‬
‫وقد تناقلتها �أجيالهم حمفوظة معزوزة مكرمة يتوارثها ملوك الروم‪ ،‬وانتقل‬
‫‪ -40‬عن هذه الر�سالة‪ ،‬انظر‪ :‬جمموعة الوثائق ال�سيا�سية يف العهد النبوي واخلالفة الرا�شدة‪ ،‬حممد‬
‫حميد اهلل‪�،‬ص ‪ ،107‬ال�سرية النبوية‪� ،‬أبو احل�سن الندوي‪� ،‬ص ‪ ،250،248‬الر�سول املبلغ [ �صالح‬
‫اخلالدي‪� ،‬ص‪.149-102‬‬

‫‪74‬‬
‫الكتاب �إىل ملوك الفرجن يف فرن�سا ثم �إىل ملوكهم يف ا�سبانيا الن�صرانية يف‬
‫�شمايل �شبه اجلزيرة الأندل�سية (الإيبريية)‪ ،‬حتى ا�ستقر عند ملك ق�شتالة‬
‫املذكور(‪ ، )41‬وقد ذكر العديد من الثقات ذلك‪.‬‬
‫وهنا ت�أتي منا�سبة ذكر هذا الأمر يف حكاياتنا الأندل�سية‪ ،‬فقد ذكر‬
‫ال�سهيلي الأندل�سي (عبدالرحمن بن عبداهلل‪581 ،‬هــ) يف كتابه الرو�ض‬
‫الأنف(‪� :)42‬أن حممد ًا بن عبد امللك بن �سعيد( ‪ 589 - 504‬ه ـ ‪- 1125/‬‬
‫‪1193‬م )(�أو �أباه) �أحد �أعالم �أ�سرة بني �سعيد الأندل�سيني حكام قلعة‬
‫َي ْح ُ�صب‪ ،‬وهم من �أهل الفقه وال�سيا�سة والعلم والأدب وهم �أ�صحاب كتاب‬
‫املغرب يف ُح َلى املغرب‪ ،‬حني ذهب ابن �سعيد هذا لزيارة هذا امللك الن�صراين‬
‫�أطلعه على الكتاب مكرم ًا مفتخر ًا به قائ ًال‪« :‬فعندي كتاب نبيكم �إىل جدي‪،‬‬
‫و�أح�ضر حق من ذهب‪ ،‬فتح و�أخرج منه كتاب من ر�سول اهلل [ �إىل قي�صر‬
‫ملك الروم‪ ،‬وهو جده بزعمه‪ ،‬والكتاب بخط علي بن �أبي طالب‪ .‬قال ابن‬
‫�سعيد هذا(‪ : )43‬قر�أته من �أوله �إىل �آخره كما جاء يف حديث البخاري»(‪. )44‬‬
‫ومن املعلوم �أن الر�سول [ �أر�سل كتابني �إل‍ى هرقل هذا‪ ،‬حملهما جميعا‬
‫‪ -41‬وهو �ألفون�سو ال�سابع ملك ق�شتالة امل�شار �إليه يف احلكاية ال�سابقة‪ ،‬رقم ‪ ،9‬وهو �أدفون�ش (الفون�سو‬
‫ال�سابع بن رمند‪ ،‬املعروف بال�سليطني‪ ،‬ت�صغري ًا له‪ :‬امللك ال�صغري‪ ،‬كما كان يطلق عليه �أحيان ًا‪:‬‬
‫الإمرباطور‪.‬‬
‫‪ -42‬الرو�ض الأنف‪.365/6 ،‬‬
‫‪ -43‬وهو‪� :‬أبو عبداهلل حممد بن عبد امللك بن �سعيد (‪589-514‬هـ)عنه انظر‪ :‬املن بالإمامة‪ ،‬ابن‬
‫�صاحب ال�صالة‪ 053 ،‬وبعدها املغرب‪( 261/232،111،201،2/1 ،‬ترجمة) وذكر احلديث عن‬
‫الر�سالة يف الهام�ش‪ ،‬نفح الطيب‪ 335/2 ،‬وما بعدها (ترجمة)‪ ،‬وذكر ر�ؤيته للر�سالة وذكر �إ�شارة‬
‫ال�سهيلي‪� .‬أما عن بنو �سعيد �أ�صحاب قلعة يح�صب‪ ،‬فانظر نفح الطيب ‪( 533/2‬ترجمة �أبو عبد اهلل‬
‫حممد بن عبد مللك وذكر الر�سالة نقال عن ال�سهيلي) نفح الطيب‪ ،374-262/2 ،‬املغرب ‪102/1‬‬
‫(ذكره) ‪( 111‬ذكره) ‪( 162-160/2 ،231-230‬ترجمته)‪ ،186 ،‬الإحاطة‪،220-214 ،11/1،‬‬
‫‪ ( 213/3 ،486/2 ،485-483‬ترجمته ور�ؤيته الر�سالة‪ ،‬نق ًال عن ال�سهيلي‪ ،‬يف كتابه الرو�ض الأنف‪،‬‬
‫‪.346/4 ،572-570 ،458-456-434-433 ،217 ،365/6‬‬
‫‪ -44‬الإحاطة‪ ،‬ابن اخلطيب ‪ .346/4‬وذكر ذلك �أي�ض ًا مرة �أخرى‪ :‬الإحاطة ‪ ،213/3‬كما نقله‬
‫املقري يف نفح الطيب‪.335/2 ،‬‬

‫‪75‬‬
‫ال�صحابي اجلليل دحية بن خليفة الكلبي‪ ،‬الأول هو املذكور والثاين كان‬
‫مر�سال من تبوك‪ .‬وعلى ذلك ف�أي من الكتابني هو الذي اطلع عليه ابن‬
‫�سعيد‪ ،‬لكن الذي يبدو �أنه الأول(‪.)45‬‬
‫والظاهر �أن الكتاب خرج من ملوك الغرب �إىل غريهم‪ ،‬وقيل �إنه ُوجد‬
‫�أخري ًا عند �أمرية عربية متتلك �أ�صل الكتاب(‪ ،)46‬فهل هذ الأ�صل هو الأول‬
‫�أم الثاين؟‬

‫‪ -45‬ورد ذكر الطاغية للر�سالة النبوية هذه يف‪ :‬الإحاطة ‪ .346/4 ،‬وبدون ذكر ابن �سعيد‪ ،‬كما ورد‬
‫ذكر الطاغية للر�سالة ب�شهادة ابن �سعيد يف‪ :‬الإحاطة‪ ، 213/3 ،‬كما يرد ذكر ال�سهيلي لهذا الأمر‬
‫هنا‪ ،‬نفح الطيب‪ 335/2 ،‬وما بعدها (ترجمته)‪ .،‬وهنا يذكر ر�ؤية ابن �سعيد للر�سالة واطالعه عليها‬
‫وقراءته لها بنف�سه حني �أطلعه عليها الطاغية ملك ق�شتالة‪ ،‬كما ترد هنا ذكر �إ�شارة ال�سهيلي بو�ضوح‬
‫للر�سالة الأنبوبية‪.‬‬
‫‪ -46‬الر�سول املبلغ �صلى اهلل عليه و�سلم‪� :‬ص‪.150‬‬

‫‪76‬‬
‫‪11‬‬

‫وللنف�س‪..‬‬
‫يقظات ووقفات‬

‫‪77‬‬
78
‫حني ُت ْب َنى النف�س الإن�سانية على اخلري الر�صني والفطري الأ�صيل ف�إنها‬
‫تتيقظ‪ ،‬حتى لو َ�س َد َرت يف مهاوي ال�ضعف‪� ،‬إذ ي�صبح اخل ُري لديها �أ�ص ًال تعود‬
‫�إليه كلما ّ‬
‫�شطت وتقوم كلما عرثت‪ُ ،‬ت َذ َّكر فتتذكر‪} ،‬‬
‫{ (الذاريات‪ .)55 :‬وحني يتوا�صى النا�س بهذه املعاين ف�إن‬ ‫ ‬
‫احلياة يف ترقٍ م�ستمر‪.‬‬
‫ومثلما مير الأفرا ُد ب�أحداث تردهم �إىل اخلري وت�ستثري فيهم نوازع‬
‫ال�صلح وتوقظهم و ُتف َتّق مكامن الف�ضائل فيهم‪ ،‬فذلك يكون �أي�ض ًا مع املجتمع‬
‫واحلياة‪.‬‬
‫وكم مرة يقرتن ذلك بالدعوة �إليه واحلث عليه وبيان مبانيه‪ ،‬حيث‬
‫النفو�س تهفو لال�ستماع واال�ستمتاع واالندفاع‪ .‬وهي يف هذه الأحوال ترى‬
‫الأمور على رونقها وتدركها على حقيقتها وتراها بحجمها‪ ،‬بعيد ًا عن الإلفة‬
‫�أو الغفلة �أو الن�سيان‪ .‬يقوم �أهل الهمم بالدعوة �إليه ويلم النا�س عليه و ُي ْب َذل‬
‫لأجله‪ .‬والتاريخ �سجل الأمثلة املتكررة املمهورة املنظورة �أو املطمورة‪ ،‬التي‬
‫ادخرتها م�ضامري احلياة الإ�سالمية خالل الأجيال على مر الع�صور‪.‬‬
‫و�أروع �ضمان للحفاظ على ذلك واالرتقاء به حني يلتقي من �أجله العلماء‬
‫والأمراء‪ ،‬يف خيط ُمنتظم وعقد ُملتئم ومنظر ُمن�سجم‪ .‬وكان العلماء دوم ًا‬
‫ي�ؤدون دورهم كام ًال ب�أعلى مقدار‪ ،‬لأن العلماء هم القوة القوية التي تمُ �سك‬
‫املجتمع وحتافظ عليه وترفع به كلما هبط‪ ،‬وتقيمه كلما هوى‪ ،‬وتزينه كلما‬
‫َكدمته امل�ساقط‪.‬‬
‫وهذا كله وا�ضح يف احلياة الإ�سالمية وح�ضارتها‪ ،‬ول�شدة و�ضوحها غدت‬
‫ظاهرة وا�ضحة‪ ،‬تهاديك وتناديك وتبادلك‪ .‬والعلماء يربهنون �أنهم ح�صن‬
‫املجتمعات املتني وكه ُفه الدافئ الأمني‪ ،‬وهم حماته وقادته‪ ،‬يلتحق بركبهم‬
‫الأمراء‪ ،‬ويف املحن يكون ذلك �أبرز‪.‬‬

‫‪79‬‬
‫ويف احلياة الإ�سالمية الأندل�سية حت�سها وت�شهدها وتعتمدها‪ ،‬و� ْأظ َه ُرها‬
‫�أيام الطوائف (القرن اخلام�س الهجري‪/‬احلادي ع�شر امليالدي)‪ .‬وهو‬
‫احلرج فيه والهرج واملرج‪ .‬لكني �أذهب �إىل �أيام �أ�سبق منه جرت‬ ‫ُ‬ ‫قرن زاد‬
‫حوادثها‪ ،‬وهي �أقل بعد ًا عن ال�ضوء مهما خفت واختفت منه‪ ،‬ب�أي مقدار‪،‬‬
‫ذلك اللآلئ‪.‬‬
‫احل َكم‬
‫وا�ستقامت احلياة فيه على هذا املنوال يف �أيام �أبكر‪ ،‬يوم كان َ‬
‫(‪206- 180‬هـ = ‪822 - 796‬م) بن ه�شام بن عبدالرحمن الأول (الداخل)‪،‬‬
‫�أمري ًا للأندل�س‪ .‬وهو الذي �أنحى عليه العديد من امل�ؤرخني بالو�صف الرديء‬
‫(‪)48‬‬
‫واتهموه‪� ،‬أمثال‪ :‬ابن حزم الأندل�سي(‪456( )47‬هــ) وابن حيان القرطبي‬
‫(‪469‬هــ)‪.‬‬
‫وب�سبب ذلك قامت عليه مواجهة (‪ 202‬هــ‪808/‬م) يف الرب�ض (احلي‬
‫= املحلة) اجلنوبي لقرطبة امل�سمى رب�ض �شقنده(‪)secunda( )49‬‬
‫على ال�ضفة الأخرى لنهر الوادي الكبري (‪ .)Guadalquivir‬وكان‬
‫فيهم الفقيه طالوت بن عبداجلبار املعافري(‪ ،)50‬الذي اختفى مدة عام يف‬
‫بيت يهودي‪ ،‬ثم خرج من عنده وجل�أ �إىل وزير للحكم ليكون و�سيط ًا للتفاهم‬
‫واالنتهاء من هذه احلال‪ .‬وملا انتقل الفقيه �إ‍لى بيت الوزير و�شى به عند‬
‫احلكم الذي عرف ق�صة الفقيه‪ .‬ولكن الوزير الذي ظن �أنه �أتى ب�صيد ثمني‬
‫�أوقع نف�سه يف الفخ‪ ،‬ليلقى �شر �أعماله‪ .‬حيث �إن احلكم ‪ -‬ل�شهامته ‪ -‬عنف‬

‫‪ -47‬عنه انظر مثال‪ :‬نفح الطيب‪.342/1 ،‬‬


‫‪ -48‬عنه انظر مثال‪ :‬الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة‪ ،‬ابن ب�سام ال�شنرتيني‪ 381-356/1 ،‬امل ُغرب‪،‬‬
‫‪ ،117/1‬التاريخ الأندل�سي‪� ،‬ص ‪.266‬‬
‫‪ -49‬عن هذه احلادثة‪ ،‬انظر‪ :‬نفح الطيب‪ ،339/1 ،‬احللة ال�سرياء‪ ،‬ابن الأبار‪ 44/1 ،‬وما بعدها‪،‬‬
‫امل ُغرب يف حلى املغرب‪ ،‬ابن �سعيد الأندل�سي‪ 42/1 ،‬وبعدها‪� ،‬أعمال الأعالم‪ .15/2 ،‬نهاية الأرب‪،‬‬
‫النوبري‪ .37/22 ،‬كذلك‪ :‬العالقات الدبلوما�سية بني الأندل�س وبيزنطة‪� ،‬ص‪ 32‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -50‬عنه انظر‪ :‬املغرب‪ ،43/1 ،‬التكملة‪ ،‬ابن الأبار‪ .345 ،‬الذيل والتكملة‪ ،‬املراك�شي‪ ،152/4 ،‬نفح‬
‫الطيب‪� .639/2 ،‬سري �أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ .259-258/8 ،‬التاريخ الأندل�سي‪�،‬ص ‪.242‬‬

‫‪80‬‬
‫الوزير و�أنبه قائال له‪� :‬إن اليهودي حفظه �سنة و�أنت امل�سلم ف�ضحته بعد �أن‬
‫ائتمنك‪ ،‬فال كنت بعد اليوم يف �أعواين‪ ،‬وعفا عن الفقيه‪.‬‬
‫وذكر �أن الأمري احلكم ندم �أ�شد الندم على ما �أوقع يف �أهل الرب�ض‪« .‬وملا‬
‫دنت وفاته عاتب نف�سه فيما تقدم منه عتاب ًا وتاب �إىل اهلل متاب ًا ورجع �إىل‬
‫الطريقة املثلى وقال �إن الآخرة هي الأبقى والأوىل‪ ،‬فتزين بالتقوى واعت�صم‬
‫بالعروة الوثقى و�أقر بذنوبه واعرتف‪ ،‬فمات على توبة من ذنوبه وندم على‬
‫ما اقرتف(‪.»)51‬‬

‫‪ -51‬عن ندمه‪ ،‬انظر‪ :‬املغرب‪ ،43/1 ،‬احللة ال�سرياء‪ ،‬ابن الأبار‪ .46/1 ،‬نفح الطيب‪ ،‬املقري‪،‬‬
‫‪.342،343/1‬‬

‫‪81‬‬
82
‫‪12‬‬

‫ا�ستغاثة‬
‫�أندل�سية حرة‬

‫‪83‬‬
84
‫وهذه احلكاية من حكايات الأمري الأندل�سي احلكم نف�سه‪ ،‬لكنها‬
‫نوع تمُ ّثل موقف ًا وحكاية اعتربها املقري من بديع �أخباره(‪ ،)52‬ذلك‬
‫من ٍ‬
‫�أن امر�أة �أندل�سية ‪ -‬لعلها كانت مدافعة مقاتلة ‪� -‬ضمن اجلند الذين‬
‫واجهوا اعتداءاتهم‪� ،‬أي الأعداء يف حمالت �إ�سبانيا الن�صرانية على‬
‫الأندل�س‪� ،‬أ�سرها الأعدا ُء و�آذوها يف منطقة وادي احلجارة ‪ 57‬مي ًال (كم)‬
‫‪� Guadalajara‬شمال �شرق مدريد اليوم‪.‬‬
‫وكان القا�ضي ال�شاعر عبا�س بن نا�صح اجلزيري قريب ًا من موقع‬
‫�أ�سرها‪ ،‬ف�سمعها ت�ستغيث وتقول‪ :‬وا غوثاه بك يا َح َكم لقد �أهملتنا حتى َك ِل َب‬
‫العدو علينا ف�أيمّ نا و�أيتمنا‪ ،‬ف�س�ألها عن �ش�أنها فذكرت له ق�صة �أ�سرها‪ ،‬ف�أبلغ‬
‫ال�شاعر الأمري بق�صيدة ا�ستغاثة‪ ،‬كان منها‪:‬‬
‫ف�إنك �أحرى �أن تُغيثَ و َت ْن ُ�صرا‬ ‫َ‬
‫تدارك ن�ساء العاملني بن�صر ٍة ‬
‫احل َكم �إال �أن نادى باجلهاد واال�ستعداد وج ّهز جي�ش ًا قاده‬
‫فما كان من َ‬
‫بنف�سه‪ ،‬و�سار �إىل املكان‪ ،‬و�أنقذ املر�أة امل�سلمة وجميع �أ�سرى امل�سلمني يف تلك‬
‫البالد‪ ،‬وقال لها‪ :‬هل �أغاثك احلكم‪ ،‬فقالت‪ :‬نعم‪ ،‬ودعت له‪.‬‬
‫ولعل هذه احلكاية تقرتن ب�أمثالها من مثل ق�صة املر�أة امل�سلمة التي‬
‫ا�ستغاثت باخلليفة العبا�سي املعت�صم باهلل‪ ،‬قائل ًة منادي ًة م�ستنجد ًة‪:‬‬
‫وا ُمعت�صماه ‪ -‬وهي كثرية ‪ -‬ف�أجندها بحملة ع�سكرية‪ .‬وهذه و�أمثالها و�أكرب‬
‫منها كثرية يف تاريخنا‪.‬‬
‫‪ -52‬نفح الطيب‪.343/1 ،‬‬

‫‪85‬‬
‫ويبدو �أن هذا الأمري (احلكم الأندل�سي) ا�ستقام �أمره بعد حادثة الرب�ض‬
‫(احلكاية ال�سابقة)‪ ،‬حيث ندم على ما ارتكب يف حق العلماء والنا�س‪ ،‬و�أ َك َله‬
‫الندم على ذلك(‪ ،)53‬ولقد مات كمدا‪ ،‬وهو يطلب من اهلل �سبحانه وتعاىل‬
‫ُ‬
‫الغفران‪.‬‬

‫‪ -53‬عن ذلك انظر‪ :‬احلكاية ال�سابقة‪ ،‬حا�شية رقم ‪.5‬‬

‫‪86‬‬
‫‪13‬‬

‫جمتابي ال ّنمار‬
‫ال ال ّثمار‬

‫‪87‬‬
88
‫�صفحات ح�ضارتنا متعددة الأو�صاف بخرييتها‪ ،‬متعالية الهيئات‬
‫ب�صفحاتها‪ ،‬متنوعة الطعوم بنكهتها‪ ،‬ت�سقى مباء واحد‪ .‬ونكهة اليوم هو‬
‫التوا�ضع للعلم والر�ضوخ له ولأهله‪ ،‬حتى لو �أتى من طالب لأ�ستاذه‪ ،‬و�أمثاله‪.‬‬
‫ولذلك فيوم ا�ستقامت على الطريقة �أتت بكل تلك الثمرات‪� ،‬أُ ُك ُلها طيب‬
‫وظلها دائم‪ .‬ولهذا �أمثله كثرية‪ ،‬وهي حقيقة ُم�ستنبط منها‪.‬‬
‫وهكذا غدا الذهاب �إىل امل�شرق ‪ -‬من قبل �أهل الأندل�س‪ ،‬ن�سا ًء ورجا ًال ‪-‬‬
‫هدف ًا و�أم ًال و�أمني ًة‪ ،‬تهفو �إليه قلوبهم وتت�سابق مواكبهم وتتدافع مناكبهم‪.‬‬
‫والطريق منها و�إليها ميوج بالقا�صدين‪ .‬كلهم يف �شوق �شديد جديد �أكيد‪ ،‬مهما‬
‫تنوعت نوازعهم‪ ،‬ومن النادر �أن �أحد ًا من علماء الأندل�س ‪ -‬بل وعمومهم‪،‬‬
‫ما ا�ستطاع ذلك ‪ -‬حرم نف�سه منه‪ .‬وهذا رغم ُبعد الأندل�س و�صعوبة ال�سفر‬
‫يومها وتكاليفه‪ ،‬وانف�صال الأندل�س �سيا�سي ًا عن امل�شرق البعيد‪.‬‬
‫يذكر القرطبي(‪ )54‬يف تف�سريه عن قا�سم بن �أ�صبغ البياين الأندل�سي‬
‫(القرن الثالث ‪ -‬الرابع الهجري)‪ ،‬ونقله املقري(‪� ،)55‬أنه حني ذهب (الب ّياين)‬
‫من الأندل�س �إىل امل�شرق للحج �أو العلم �أو التجارة‪ ،‬در�س على العديد وتلقى‬
‫العلم يف جمال�س كثرية و�أخذ الفهم من �أفواه العلماء يف البلدان التي مر‬
‫بها‪ ،‬كعادة �أهل الأندل�س الذين يحنون لزيارة امل�شرق‪ ،‬موطن الوحي‪ ،‬جتارة‬
‫وتعلم ًا وحج ًا‪ ،‬وقد جتتمع كلها‪ ،‬وغالب ًا هي كذلك‪.‬‬
‫ويف عودته �إىل الأندل�س‪ ،‬نزل القريوان (تون�س) وذهب �إىل م�سجدها‬
‫لأخذ العلم من منابرها‪ .‬فيقول‪ :‬ملا َر َح َلتُ �إىل امل�شرق نزلت القريوان‪،‬‬
‫ف�أخذت على بكر بن حماد حديث م�سدد‪ ،‬ثم رحلت �إىل بغداد ولقيت النا�س‪،‬‬
‫فلما ان�صرفت عدت �إليه لتمام حديث م�سدد‪ ،‬فقر�أت عليه يوم ًا حديث النبى‬

‫‪ -54‬تف�سري القرطبي‪ ،287/1 ،‬والقرطبي هذا ‪ ،‬هو‪� :‬أبو عبداهلل القرطبي‪ ،‬حممد بن �أحمد بن �أبي‬
‫بكر بن فرح الأن�صاري اخلزرجى الأندل�سي (‪671‬هـ = ‪1274‬م)‪� ،‬صاحب التف�سري امل�شهور‪ :‬اجلامع‬
‫لأحكام القر�آن املعروف بتف�سري القرطبي‪.‬‬
‫‪ -55‬نفح الطيب‪.48/2 ،‬‬

‫‪89‬‬
‫�أنه قدم عليه قوم من ُم�ضر من مجُ تابي ال َّنمار(‪ .)56‬فقال‪� :‬إمنا هو جمتابي‬
‫الثمار‪ ،‬فقلت‪� :‬إمنا هو جمتابي النمار‪ ،‬هكذا قر�أته على كل من قر�أته عليه‬
‫بالأندل�س والعراق‪ ،‬فقال يل‪ :‬بدخولك العراق تعار�ضنا وتفخر علينا! �أو نحو‬
‫هذا‪ .‬ثم قال يل‪ :‬قم بنا �إىل ذلك ال�شيخ ‪ -‬ل�شيخ كان يف امل�سجد ‪ -‬ف�إن له‬
‫مبثل هذا علم ًا‪ ،‬فقمنا �إليه ف�س�ألناه عن ذلك‪ ،‬فقال‪� :‬إمنا هو جمتابي النمار‪،‬‬
‫كما قلت‪ .‬وهم قوم كانوا يلب�سون الثياب م�شققة‪ ،‬جيوبهم �أمامهم‪ .‬والنمار‬
‫جمع منرة‪ .‬فقال بكر بن حماد و�أخذ ب�أنفه‪ :‬رغم �أنفي للحق‪ ،‬رغم �أنفي‬
‫للحق‪،‬وان�صرف‪.‬‬
‫ومن مثل هذا التوا�ضع للعلم واال�ست�سالم لوجه احلق فيه واالنقياد �إىل‬
‫�صوابه لدينا الكثري من الأمثلة‪.‬‬

‫‪ -56‬جمتابي النمار‪ :‬الب�سيها‪ ،‬والنمار كل �شملة خمططة من م�آزر الأعراب‪ ،‬ك�أمنا �أخذت من لون‬
‫النمر‪.‬‬

‫‪90‬‬
‫‪14‬‬

‫الر� ُأي ُح ُّر ‪..‬‬


‫بر‬
‫ُوق َُبوله ّ‬

‫‪91‬‬
92
‫حني ذهب القا�ضي الأندل�سي‪ ،‬قا�ضي اجلماعة بقرطبة‪ ،‬منذر بن �سعيد‬
‫البلوطي(‪355( )57‬هـ‪966 /‬م) �إىل امل�شرق للحج والعلم وغريه‪ ،‬وعند مروره‬
‫مب�صر جرى له يف �أحد جمال�س العلم فيها �أم ٌر طريف‪ ،‬قال‪� :‬أتيتُ ‪ ،‬و�أبو‬
‫جعفر بن النحا�س يف جمل�سه مب�صر‪ ،‬ميلي يف �أخبار ال�شعراء �شعر قي�س‬
‫املجنون‪ ،‬حيث يقول‪:‬‬

‫ني حزين ٌة‬


‫خليلي هل بال�شام ع ٌ‬
‫َّ‬
‫جند لع ّلي �أُ ِعي ُنها‬
‫ُت َب ّكي على ٍ‬
‫قد � ْأ�سلمها الباكونَ �إال حمامةً‬
‫مطوق ًة باتت وبات قري ُنها‬
‫جتاوبها �أخرى على خيزران ٍة‬
‫يكاد يدنيها من الأر�ض لي ُنها‬
‫فقلت له‪ :‬يا �أبا جعفر‪ ،‬ماذا‪� ،‬أعزك اهلل تعاىل‪ ،‬باتا ي�صنعان؟ فقال يل‪:‬‬
‫وكيف تقول �أنت يا �أندل�سي؟ فقلت له‪ :‬بانت وبان قرينها‪ ،‬ف�سكت وما زال‬
‫ي�ستثقلني بعد ذلك‪ ،‬ثم ندم �أبو جعفر ملا بلغه عني وعاد �إىل ما كنت �أعرفه‬
‫منه‪.‬‬
‫ومن ذلك �أي�ض ًا �أن يحيى بن حكم الغزال (‪ 250‬هــ‪864 /‬م)‪ ،‬ال�شاعر‬
‫الأندل�سي واحلكيم الدبلوما�سي(‪ )58‬كان يدر�س ال�شعر على ال�شاعر القا�ضي‬
‫عبا�س بن نا�صح اجلزيري‪ ،‬قا�ضي اجلزيرة اخل�ضراء(‪ ،)59‬الذي كان يفد‬
‫‪ -57‬عن املنذر انظر‪ :‬املغرب يف حلى ا ملغرب‪ ،179 ،183/1 ،‬نفح الطيب‪�( 376-368/1 ،‬أخباره‬
‫وترجمته) ‪(22-16/2 ،‬ترجمته)‪ ،‬نفح الطيب‪( 372/1 ،‬من كتاب املغرب ولي�س موجود ًا يف املطبوع‬
‫(�أزهار الريا�ض‪ ،‬املقري‪ 297-294 ،282،289-272/2 ،‬جدوة املقتب�س‪ ،‬احلميدي‪( 315 ،‬وبات‬
‫قرينها)‪ .‬تاريخ علماء الأندل�س ‪ ،‬ابن الفر�ضي‪( 404 ،‬وبات قرينها)‪ .‬ق�ضاة الأندل�س‪ ،‬التباهي‪،66 ،‬‬
‫جل َمريي‪،436 ،95 ،‬‬‫معجم الأدباء‪ ،‬ياقوت احلموي‪ ،470-468/1 ،‬الرو�ض املعطار‪ ،‬ابن عبد املنعم ا ْ‬
‫و�سري �أعالم النبالء‪ ،‬الذهبي‪ ،178-173/16 ،‬عرب الذهبي‪ ،303-302/2 ،‬الأعالم‪ ،‬الزركللي‪،‬‬
‫‪.294/7‬‬
‫‪ -58‬مر احلديث عن الغزال يف احلكاية رقم ‪.1‬‬
‫‪ -59‬مر ذكر اجلزيري يف احلكاية رقم (‪ ،)12‬وانظر عنه مثال‪ :‬املغرب‪.321/1 ،‬‬

‫‪93‬‬
‫على قرطبة وي�أخذ عنه �أدبا�ؤها‪ ،‬ومرت عليهم ق�صيدته التي �أولها‪:‬‬
‫والكرم‬
‫ْ‬ ‫َل َع ْم ُر َك ما البلوى بعا ٍر وال ال َع َد ْم �إذا املرء مل َي ْع ْدم ُتقى اهلل‬
‫حتى انتهى القارئ �إىل قوله‪:‬‬
‫وال عاجز �إال الذي ُخ ًّط بالقلم‬ ‫جتاف عن الدنيا فما ملُ َع َّج ٍ ز‬
‫َ‬
‫أدب ذكي‬
‫نظا ٌم مت� ٌ‬‫حدث ّ‬
‫فقال له الغزال‪ ،‬وكان يف احللقة‪ ،‬وهو �إذ ذاك ٌ‬
‫القريحة‪� :‬أيها ال�شيخ‪ ،‬وما الذي ي�صنع ُم َف ّعل (معجز) مع فاعل (عاجز)؟‬
‫فقال له‪ :‬كيف تقول؟ فقال‪ :‬كنت �أقول‪ :‬فلي�س لعاجز وال حازم‪ ،‬فقال له‬
‫عبا�س‪ :‬واهلل يا بني لقد طلبها عمك فما وجدها‪.‬‬
‫وهنالك مواقف كثرية متميزة يف كل موقع وموقف وحال‪ ،‬مما يو�ضح‬
‫�أن املجتمع الأندل�سي كان بكل فئاته متفاهم ًا ومتفتح ًا‪ ،‬يقبل احلق ويقف‬
‫عنده‪ ،‬قاب ًال لآراء الآخرين‪ ،‬مت�ساحم ًا فيما بينه‪ ،‬تو�صال �إىل الر�أي الأر�شد‬
‫والأوجب والأ�صوب‪ ،‬بل وحتى يف �أوقات ال�ضعف‪ ،‬و�أوقات امل�شاغل وامل�شاكل‪،‬‬
‫مل تغب هذه ال�صور‪.‬‬
‫أخذ‬
‫نقا�ش وتداول و� ٍ‬
‫ومن طرائف الأمثلة يف هذه الأمور‪ ،‬ما جرى من ٍ‬
‫ورد حول �شراء �أر�ض موقوفة على �إحدى كنائ�س الن�صارى الأندل�سيني من‬ ‫ٍ‬
‫�أهل الذمة يف قرطبة‪ ،‬حيث انتهى الأمر �إىل ر�أي جامع‪ ،‬تو�صل �إليه جمموع‬
‫الفقهاء‪ ،‬و�أخذ به احلاجب املن�صور حممد بن �أبي عامر (‪392‬ه ـ ‪1002‬م)‪،‬‬
‫ومت ذلك يف ج ٍو يدل على ترقٍ فريد وحكمة متبادلة و�سعة يف النفو�س‪ ،‬وكان‬
‫هو القرار ال�صائب بعدم جواز �شراء هذه الأر�ض(‪.)60‬‬
‫وهكذا كان املجتمع الأندل�سي راعي ًا لكل من عا�ش يف ظله‪ ،‬رعى حقوقهم‪،‬‬
‫�شام ًال بذلك امل�سلمني وغريهم‪.‬‬

‫‪ -60‬راجع‪ :‬التاريخ الأندل�سي‪� ،‬ص ‪.575‬‬

‫‪94‬‬
‫‪15‬‬

‫ِع ّزة العلم ب�أهْ له‬

‫‪95‬‬
96
‫و ّفرت ح�ضار ُتنا وحيا ُتها موا�صفات و�أعراف ًا ور�سوم ًا‪� ،‬أ�صبحت �سمت ًا‬
‫كرمي ًا‪� ،‬أر�ست قواعده و�أقامت �أ�صوله و�أعلته‪ ،‬بنا ًء متميز ًا‪ .‬عرفت به بكل‬
‫امليادين والأفانني واملوازين‪ ،‬ثبتت لديهم‪ ،‬و�أ�صبحت منوذج ًا يحتذى ومثاال‬
‫يقتدى و�أعالم ًا بها ُيهتدى‪ .‬غدت من املقومات العلمية والظواهر احلياتية‬
‫يف ح�ضارتنا‪ ،‬حيث العلم فيها فري�ضة‪ ،‬كما �أن العلم للعمل‪.‬‬
‫َق َّدمت ح�ضار ُتنا ‪ -‬يف بلدانها كافة‪ ،‬ومنها الأندل�س ‪� -‬أعالم ًا عالية‬
‫من الرجال والن�ساء‪ ،‬الذين �أ�سهموا فيها‪ .‬جند يف ذلك كتب ًا جعلت هذا‬
‫مو�ضوع ًا لها‪ ،‬وهي كثرية‪ ،‬من مثل كتاب‪ :‬جامع بيان العلم وف�ضله وما ينبغي‬
‫يف روايته وحمله‪ ،‬يقع يف جزءين‪ ،‬لعامل الأندل�س والغرب الإ�سالمي‪� :‬أبو عمر‬
‫يو�سف بن عبدالرب (‪ 463‬هـ = ‪1071‬م)‪ ،‬وكان هذا الكتاب جواب ًا على �س�ؤال‬
‫�سائل(‪ .)61‬بجانب ما ُيذكر من تلك املوا�صفات حني احلديث عن الأعالم‬
‫كافة‪ ،‬لدى ترجمتها يف كتب الأعالم الأندل�سية‪ ،‬وهي بالع�شرات‪ .‬فمواقفهم‬
‫الكرمية واعتزازهم بعلمهم وب�أنف�سهم ومكانتهم رائعة م�ضيئة رفيعة‪ ،‬فقد‬
‫عرفت الأندل�س ‪ -‬مثل غريها من بقاع هذه احل�ضارة ‪ -‬منه الكثري‪.‬‬
‫والأمثلة يف ذلك متنوعة يف كل الع�صور‪ ،‬حتى يف الع�صور ال�صعبة من‬
‫مثل ع�صر الطوائف يف الأندل�س (القرن اخلام�س الهجري = احلادي ع�شر‬
‫كتب التاريخ عن العامل‬
‫امليالدي)‪ ،‬فمن م�أثور الأمثلة يف هذا ما ترويه ُ‬
‫اللغوي املذكور بالديانة والفقه والورع‪� ،‬أبي غالب متام بن غالب املعروف‬

‫‪ -61‬لدينا كتب وكتابات ور�سائل �أخرى‪ -‬وبع�ضها مطول‪ -‬كانت جواب ًا ل�س�ؤال من �أحد‪ ،‬قد ال يكون‬
‫بينه وبني الكاتب وامل�ؤلف والعامل �أية معرفة‪ ،‬من مثل‪ :‬ما جرى البن حزم الأندل�سي(‪456‬هـ =‬
‫‪1064‬م)( يف كتابه طوق احلمامة يف الألفة والإيالف طوق احلمامة‪ 14 ،‬وما بعدها)‪ ،‬وكذلك يف‬
‫جوابه على ف�ضائل الأندل�س التي وردت يف نفح الطيب‪ ،179-156/3 ،‬بعنوان ر�سالة ابن حزم يف‬
‫ف�ضل الأندل�س‪ ،‬وهذه ظاهرة مهمة تلفت االنتباه يف العناية با�ستيفاء اجلواب‪ .‬كل ذلك بدافع الإميان‬
‫باهلل تعاىل وكتابه ور�سوله[ وهو دليل على البناء الإ�سالمي القوي على منهج اهلل تعاىل وحتري‬
‫االلتزام به بتقوى وحر�ص وبذل‪.‬‬

‫‪97‬‬
‫بابن التياين(‪ ، )62‬القرطبي الأ�صل (ا َملر ّية‪ 436 ،‬هـ = ‪1044‬م)‪� ،‬أنه �صنف‬
‫ر�س ّية (‪� )63‬شرقي الأندل�س على‬ ‫كتاب ًا جلي ًال‪ ،‬وكان يومها ي�سكن مدينة ُم ِ‬
‫البحر املتو�سط‪ .‬وملا وقف على هذا الكتاب �أبو اجلي�ش‪ ،‬جماهد بن عبداهلل‬
‫العامري (‪ 346‬هــ‪1044 /‬م) �أر�سل �إىل ابن التياين �ألف ًا من الدنانري‬
‫الأندل�سية مع ك�سوة‪ ،‬كي يزيد التياين يف ترجمة الكتاب عبارة‪ :‬مما �ألفه‬
‫متام بن غالب لأبي اجلي�ش جماهد‪ ،‬لكن التياين ر ّد عليه هديته‪ ،‬قائ ًال‪:‬‬
‫كتاب �صنفته هلل ولطلبة العلم‪� ،‬أ�صرفه �إليه؟ هذا واهلل ما ال يكون �أبد ًا! فكان‬
‫وع ُظم يف �صدور النا�س‪ .‬كما ُيذكر �أن التياين‬ ‫�أن زاد التياين يف عني جماهد َ‬
‫قال �أي�ض ًا بهذه املنا�سبة‪ :‬واهلل لو ُب ِذ َلت يل الدنيا على ذلك‪ ،‬ما فعلت وال‬
‫ا�ستجزت الكذب‪ ،‬ف�إين مل �أكتبه له خا�صة‪ ،‬لكن لكل طالب عامة‪ .‬ف� ْأع َجب‬
‫لهمة جماهد وعلوها‪ ،‬و�أعجب لنف�س هذا العامل وعزتها‪ .‬وهكذا ينبغي �أن‬
‫تكون الهمم وهذا ما يجب على العلماء‪.‬‬
‫ما لي�س يبلغ باجلياد ُّ‬
‫ال�ض َّم ِر‬ ‫و ِب ُ�ض َّمر الأقالم يبلغ �أه ُلها ‬
‫وهكذا كانت لهذه املعاين عند العلماء الأندل�سيني مكان ٌة و�أهمي ٌة‪ .‬وبهذا‬
‫امل�ستوى كان فعلها يف كل �أوان وميدان‪ ،‬وهي �أم�ضى من �سنان‪� .‬إذن‪ ،‬فلي�س‬
‫عجب ًا �أن يكون قلم الكاتب ال�صادق الأ�صيل �أم�ضى من �سنان املحارب‬
‫النبيل‪.‬‬
‫وبهذه الدوافع والبناء والقواعد‪ ،‬جند ظواهر كثرية جد ًا‪ ،‬غريبة‬
‫وعجيبة‪ ،‬وهي عامة م�أ‍‍لوفة‪ ،‬دعتهم �إىل التو�سع يف هذه الظواهر‪� ،‬إحدى‬
‫ثمار ذلك البناء‪ ،‬الذي ملأت ظواهره العلمية الفا�ضلة جوانب املجتمع‪،‬‬
‫و�سادت و�أ�صبح لها االهتمام واملكانة واالمتياز‪ ،‬حتى جرى التناف�س فيها‪.‬‬

‫‪ -62‬عنه انظر‪ :‬املغرب يف ُحلى املغرب‪ .166/1 ،‬نفح الطيب‪ .132/3 ،‬الكتب واملكتبات يف الأندل�س‬
‫�ص ‪.32‬‬
‫‪ -63‬وهي مدينة بناها امل�سلمون‪ ،‬وا�شتقوا ا�سمها من وظيفتها‪ ،‬حيث كانت ميناء ومر�سى لل�سفن‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫هذا وغريه ُينبئ بو�ضوح كامل و�إ�ضاءة قوية وتعبري م�سموع عن حقيقة هذا‬
‫املجتمع وبنائه الر�صني ومتانة مقوماته الأ�صيلة‪ .‬وهو ال يت�أتى �إال بالبناء على‬
‫هذا املنهج الرباين الكرمي ال�سليم‪.‬‬

‫‪99‬‬
100
‫‪16‬‬

‫العلم‪ ..‬بناء وثمار‬

‫‪101‬‬
102
‫لقد غدا العلم ‪ -‬مبناراته الرائعة املنرية املت�سعة ‪� -‬شام ًال وا�ضح ًا‪ ،‬جاذب ًا‬
‫لكل �أحد من الن�ساء والرجال والأطفال‪ .‬وظهر يف املجتمع امل�سلم علماء غاية‬
‫يف القوة والعلم وال�سعة‪ ،‬وه�ؤالء كثريون جد ًا‪ .‬ونذكر هنا‪ ،‬على االخت�صار‪،‬‬
‫بع�ض ًا منهم و�شيئ ًا من �أخبارهم ونتاجهم وعلمهم‪.‬‬
‫فهذا قا�ضي اجلماعة بقرطبة(‪� )64‬أبو املُط َّرف عبدالرحمن بن حممد بن‬
‫عي�سى بن ُف َط ْي�س (قرطبة‪ 402 ،‬هـ = ‪1012‬م)‪ ،‬كان هو نف�سه من منارات‬
‫العلم يف املجتمع‪ ،‬وله امل�ؤلفات الكثرية‪ ،‬تعد �أجزا�ؤها باملئات! وكان �صاحب‬
‫مكتبة �ضخمة! وحيث �إن كرثة املكتبات العامة واخلا�صة يف الأندل�س كانت‬
‫�سائدة‪ ،‬بحيث ُيذكر �أن املكتبات العامة يف قرطبة وحدها بلغت �سبعني مكتبة‪،‬‬
‫�أما اخلا�صة فيندر من ال ميلك مكتبة يف بيته ‪ -‬ن�سا ًء ورجا ًال ‪�َ -‬ص ُغرت �أو‬
‫َكبرُ ت‪.‬‬
‫وكان يف مكتبة القا�ضي �أبو املطرف من ذخائر ونوادر الكتب‪ُ ،‬ي ْن ِفق‬
‫عليها �إنفاق ًا عجيب ًا‪ ،‬وكان لديه �ستة وراقني‪ ،‬ين�سخون له دائم ًا‪ ،‬وقد رتب‬
‫لهم على ذلك راتب ًا معلوما‪ .‬فما �إن ي�سمع بكتاب حتى يعمل على �شرائه‪ ،‬و�إال‬
‫ي�ستن�سخه‪ .‬وما كان ي�سمح ب�سهولة �إعارة كتبه خارج املكتبة‪ ،‬فهي مفتوحة‬
‫للباحثني دون قيود‪.‬‬
‫ومن جمائل حكاياته يف ذلك‪� ،‬أنه �أقام بنا ًء خا�ص ًا للمكتبة على �أروع‬
‫هند�سة متقدمة مرتقية‪ُ ،‬د َّر ًة معمارية‪ ،‬بحيث �إذا وقف �أحد يف �أي من‬
‫�أبوابها‪ ،‬يرى كافة رفوفها‪ ،‬ذات الألوان املتباينة‪ ،‬رمبا ح�سب مو�ضوعاتها‪.‬‬
‫وفيها قاعات للجلو�س‪ ،‬يجلب من رفوفها الكتب املطلوبة للباحثني‪� ،‬شيوخ ًا‬
‫وم�ؤلفني ودار�سني‪ ،‬مع توفري كافة اخلدمات لهم‪ .‬وكان �إذا طلب �أحد �أي‬
‫وع ّدة الكتابة وم�ستلزمات الراحة‪ .‬و�إذا رغب‬ ‫�شيء‪ ،‬يق َّدم �إليه‪ ،‬من �ضيافة ُ‬
‫�أي �أحد با�ستعارة كتاب‪ ،‬ال يتي�سر له ذلك‪ ،‬ف�إذا �ألح يف الأمر كلف �أحد‬
‫‪ -64‬قا�ضي اجلماعة بقرطبة ‪ :‬م�صطلح ق�ضائي �أندل�سي‪ ،‬ولعله يعدل‪ -‬كلي ًا وجزئي ًا‪ -‬قا�ضي‬
‫الق�ضاة يف امل�شرق الإ�سالمي‪.‬‬

‫‪103‬‬
‫الن�ساخني لديه �أن ي�ستن�سخ منه ن�سخة‪ ،‬ويهديها له جمان ًا‪ ،‬وال يقبل �أي مال‬
‫مقابل كل تلك اخلدمات‪ ،‬وكان هو يرعاها بنف�سه‪ ،‬وهو على علم وفري‪.‬‬
‫كان ميلي من ذاكرته ارجتا ًال جميع درو�سه يف م�سجد قرطبة اجلامع (�أو‬
‫جامعتها العتيدة)‪ ،‬وبني يديه يف املجل�س مئات الطلبة والدار�سني وال�شيوخ‪،‬‬
‫يتلقون عنه ويكتبون ما ميليه عليهم‪ ،‬وك�أنه كان يقر�أ مكتوب ًا من ورق(‪.)65‬‬
‫ومن نوادر ‪ -‬بل وغرائب ‪ -‬حكاياتهم يف امتالك مكتبة خا�صة واقتناء‬
‫الكتب فيها‪� ،‬أن �أ�صبح جمع الكتب واحل�صول عليها ميدان ًا للمناف�سة‪ ،‬لي�س‬
‫فقط للدراية والرواية‪ ،‬بل وكذلك لإ�شباع جماح الهواية‪ُ .‬‬
‫فيذكر �أن �أحدهم‬
‫الذي ال تكون عنده معرفة وا�سعة‪ ،‬واهتمام ًا كبري ًا‪ ،‬وعلم ًا ظاهر ًا‪ ،‬يحتفل يف‬
‫�أن تكون يف بيته خزانة كتب مهمة‪ ،‬يحاول اقتناء ما يجملها‪.‬‬
‫ومن ذلك �أن �أحد العلماء �أقام مرة بقرطبة و َال َز َم ُ�سوق كتبها‪ ،‬يرتقب‬
‫ح�صول كتاب‪ ،‬له بطلبه اعتناء‪� ،‬إىل �أن وقع ذلك وبخط جيد وت�سفري‬
‫(جتليد) مليح‪ ،‬ففرح به �أ�شد الفرح‪ ،‬وجعل يزيد يف ثمنه‪ ،‬فريجع �إليه‬
‫املنادي بالزيادة‪� ،‬إىل �أن بلغ فوق حده‪ ،‬فقال له‪� :‬أرين من الذي يزيد يف هذا‬
‫الكتاب‪ ،‬حتى �أو�صله �إىل هذا الثمن‪ ،‬ف�أراه �شخ�ص ًا عليه ُ‬
‫لبا�س �أهل العلم‪،‬‬
‫فاقرتب منه وقال له‪� :‬أعزَ اهلل �سيدنا الفقيه‪� ،‬إن كان لك غر�ض يف هذا‬
‫لدي خزانة كتب‪ ،‬احتفلتُ‬‫الكتاب تركته لك‪ ،‬فرد عليه‪ ،‬ل�ست بفقيه‪ ،‬ولكن َّ‬
‫مبال‬
‫بجمع الكتب لها‪ ،‬و�أعجبني هذا الكتاب �أن يكون فيها‪ ،‬وا�ستح�سنته غري ٍ‬
‫بثمنه‪ ،‬واحلمد هلل على ما �أنعم من الرزق‪ ،‬فهو كثري(‪ .)66‬ثم تنازل للعامل‬
‫عليه ورمبا ا�شرتاه ف�أكرمه به‪.‬‬
‫وهكذا حتى كان تبادل الهدايا بالكتب من �أف�ضل ما ُي ْهدى‪ ،‬بجانب ما‬
‫ُي ْقتَنى و ُي ْع َت َنى ويباهى به‪.‬‬

‫‪ -65‬انظر عن ذلك‪ :‬الكتب واملكتبات يف الأندل�س‪.463/1 ،180 ،178 ،49 ،47 ،30 ،‬‬
‫‪ -66‬نفح الطيب‪.463/1 ،‬‬

‫‪104‬‬
‫�صورة جوية مل�سجد قرطبة اجلامع ويبدو فيها امل�سجد كام ًال مع ال�صحن اخلارجي وال�صومعة‬
‫(املئذنة‪ .‬وهذا امل�سجد يقع يف اجلهة الغربية من مدينة قرطبة‪ ،‬على اجلهة اليمنى من النهر (الوادي‬
‫الكبري‪ )Guadalquivir‬وهو النهر الوحيد يف الأندل�س (�شبه اجلزيرة الإيبريية) الذي‬
‫يحمل ا�سم ًا عربي ًا‪ .‬ويف اجلهة الأخرى من النهر يبدو رب�ض (حي) �شقندة‪.‬‬

‫‪105‬‬
106
‫‪17‬‬

‫�إنه لي�س كمين ًا‬

‫‪107‬‬
108
‫أهل هذه احل�ضارة الإ�سالمية ‪ -‬مما عرفوا به ‪ -‬بال�شجاعة‬ ‫عرف � ُ‬
‫ُ‬
‫املتنوعة‪ ،‬يف ميدان ن�صرة احلق وال�صرب عليه وجندة مواقعها‪ ،‬ال �سيما يف‬
‫املواجهات واملعارك احلربية‪ .‬وهي مرئية وكثرية و�شاملة‪ ،‬لكن البد من �إيراد‬
‫�أمثلة �أو حكايات منها يف الأندل�س‪ ،‬وهي كثرية ب�ألوانها يف كافة ال ُوجهات‬
‫وامليادين‪.‬‬
‫�أتوقف هنا عند واحدة‪ ،‬وهي جماعية‪ ،‬وكل �أهلها كذلك‪ .‬وهي ثمرة بناء‬
‫الفرد واملجتمع امل�سلم الذي ال �شك هو بناء �أفراد‪ ،‬مبجموعهم يكونون هذا‬
‫اللون من املواقف‪� .‬ألتقط هذه اللقطة من معركة بالط ال�شهداء‪ ،‬التي ال‬
‫نعرف �إال �صورها‪ ،‬م�شوهة مقلوبة ُمد ّمرة‪.‬‬
‫وبالط ال�شهداء معركة متت يف قلب فرن�سا‪ ،‬جنوب باري�س نحو ‪200‬كم‪،‬‬
‫بني مدينتي تور وبواتييه (تور – بواتييه ‪ ،)Toiters-tours‬وهي‬
‫معركة �شهرية يف التاريخ الإ�سالمي الأندل�سي والأوروبي على ال�سواء‪ .‬وقد‬
‫(‪)67‬‬
‫جرت بني امل�سلمني بقيادة التابعي اجلليل املُق َّدم عبدالرحمن الغافقي‬
‫‪ -‬وايل الأندل�س ‪ -‬واجلي�ش الفرجني بقيادة �شارل مارتل (قا ْر ُلهْ)‬
‫‪ .charles martel‬وتعترب من املعارك الفا�صلة يف التاريخ‬
‫الإن�ساين العام كذلك‪.‬‬
‫وقد جرت بني هاتني املدينتني ‪ -‬وبهما ُ�سميت معركة بالط ال�شهداء �أو‬
‫ب�أحدهما ‪ -‬وامل�سافة بينهما نحو ت�سعني كيلومرت ًا‪ ،‬يف ميدان مت�سع تدل عليه‬
‫امل�سافة‪ ،‬وكانت يف �أواخر �شعبان ‪� -‬أوائل رم�ضان ‪ 114‬هـ = ت�شرين الأول‬
‫‪ -‬الثاين‪� ،‬أكتوبر ‪ -‬نوفمرب ‪732‬م‪ ،‬م�ستمرة نحو ‪� 10‬أيام(‪ .)68‬وكانت معركة‬
‫‪ -67‬عن الغافقي انظر‪ :‬نفح الطيب‪288 ،299 ،480 ،3-235/1 ،‬ـ ‪ .15 ،16/236‬تاريخ علماء‬
‫حلميدي ‪ ،242‬الأعالم‪ ،‬الزركلي‪ ،312/3 ،‬فجر‬ ‫الأندل�س‪ ،‬ابن الفر�ضني ‪ 210‬جذوة املقتب�س‪ ،‬ا ُ‬
‫الأندل�س‪ ،‬ح�سني م�ؤن�س‪ 319 ،‬وبعدها‪ .‬دولة الإ�سالم يف الأندل�س‪ ،‬حممد عبداهلل عنان‪-84/1/1 ،‬‬
‫‪.115 ،96 ،91‬‬
‫‪68-Andalusian Diplomatic Relations with Western Europe during the‬‬
‫‪Umayyad period*,121.‬‬
‫والرتجمة العربية‪ :‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية‪،167 ،‬‬
‫التاريخ الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة‪ 193 :‬وبعدها‪ ،‬البيان املغرب‪ ،‬ابن عذارى‪،‬‬
‫‪ ،27/2‬العرب‪ ،‬ابن خلدون‪ ،119/4 ،‬نفح الطيب‪ ،‬املقري‪ 18 ،16-15/3 ،299 ،288/1 ،‬وبعدها‪.‬‬
‫�أعمال الأعالم‪� ،‬ص ‪ ،6‬فجر الأندل�س‪ ،‬ح�سني م�ؤن�س �ص‪ 330‬دولة الإ�سالم يف الأندل�س ‪.101-100/1/1‬‬

‫‪109‬‬
‫حامية كثيفة عنيفة ومتفاوتة يف كل الإمكانيات بني الطرفني‪ ،‬امل�سلمني‬
‫والفرجن‪ :‬ال ُع ّدة والعدد وطبيعة الأر�ض والرتبة وت�ضاري�سها وحالتها‪ ،‬ال�سيما‬
‫وقت اخلريف املمطر‪ ،‬ونوع الأ�سلحة وطريقة النزال ومكان التزود‪ ،‬وامليدان‬
‫يف �أر�ض العدو‪ .‬وكل هذا وغريه كان ل�صالح الفرجن الذين جمعهم وانتقاهم‬
‫واختارهم �شارل مارتل من كل �أنحاء الإمرباطورية الرومانية املقد�سة‪،‬‬
‫بجانب � ْأمداد كثرية من جوانب �أخرى‪ .‬واعتربها معركة موت ال حياة بعده‪.‬‬
‫وقد �سار لها اجلي�ش الإ�سالمي م�سافة ‪ -‬من عا�صمته قرطبة ‪ -‬قرابة ‪1500‬‬
‫كيلو مرت‪ .‬وا�ستمرت املعركة نحو ع�شرة �أيام‪ ،‬ويف تا�سعها �أو عا�شرها ا�ستُ�شهد‬
‫وايل الأندل�س وقائد املعركة وبطلها املقدام الأمري املجاهد عبدالرحمن‬
‫الغافقي‪.‬‬

‫لوحة ‪ :2‬ا�ست�شهاد عبدالرحمن الغافقي يف معركة بالط ال�شهداء‪114 ،‬هـ =‪732‬م‬

‫‪110‬‬
‫ال�ص َعداء‪،‬‬
‫ان�سحب اجلي�ش الإ�سالمي حتى تنف�سوا بارتواء وا�ستن�شقوا ُ‬
‫ليح�سبوا ذلك ن�صر ًا‪ ،‬طبلت له الكتابات الأوروبية‪ .‬ف�أبى اجلي�ش الفرجني‬
‫�إال القعود ومل يالحق اجلي�ش الإ�سالمي �أو يتبعه �أو يتابعه‪ ،‬لأنهم فهموا‬
‫متام ًا وعلى ثقة ومعرفة �أكيدة �أنه ال بد �أن تكون هذه خطة ع�سكرية‪ ،‬و�أنهم‬
‫�سيكرون عائدين �إليهم و�أن الأمر كمني‪ ،‬ومل يكن يف حقيقته كمين ًا بحال‪.‬‬
‫وهكذا ف�إن �شجاعتهم ‪-‬بعد عون اهلل والإميان بدعوته وااللتزام‬
‫بتعاليمه‪ -‬حمتهم من �إبادة حمتملة‪ ،‬بل قائمة وماثلة‪ .‬وبذلك ت�أكد لدى‬
‫الفرجن �أنه لي�س كمين ًا‪.‬‬

‫‪111‬‬
112
‫‪18‬‬

‫�إنهم يخافونه ميت ًا‬

‫‪113‬‬
114
‫�أينما ُت َن َّقب يف تاريخنا ‪ -‬بجوانبه وامتداداته وتنوعاته ‪ -‬جتد روائع‬
‫باهرة و�إ�شراقات �آ�سرة‪ ،‬كان لها �أن تكون �سائرة‪ .‬وقد َي ْع َجب كل �أحد‪ :‬كيف‬
‫وملاذا غابت هذه عن الذاكرة؟‬
‫وللو�صول �إليها البد من جهد وتنقيب وتنبه‪ ،‬يقوم على ال�صرب واملعرفة‬
‫حل ُجب‬‫واخلربة‪ .‬وجتد هذا مركون ًا �أحيان ًا‪ ،‬رمبا مل يجر التوجه �إليه‪� ،‬أمام ا ُ‬
‫والأغ�شية والأغطية التي حجبته عن الر�ؤية العابرة‪ ،‬و�أحيان ًا حتى املرتيثة‬
‫املكيثة‪ .‬وهي‪ ،‬مهما بدت �صغرية مهم�شة‪ ،‬لكن لها مدلو ًال ُم ْدرك ًا قريب ًا‬
‫�أو حمبوك ًا بعيد ًا‪ ،‬له قيمة عليا يف معرفة �أبعاد احلياة الغائرة‪ ،‬مبعانيها‬
‫ومبانيها‪ ،‬وكرائمها‪ ،‬مت�أ�صلة يف مراميها‪ .‬تدل عليها طبيعتها القوية الغائرة‪،‬‬
‫ال تنفك ت�صنع ال�صيغ الكرمية البعيدة عن توقع توفرها بهذا ال�شكل الأنيق‪،‬‬
‫وهي كثرية منرية و�ضيئة متدفقة‪.‬‬
‫ولهذه احلكايات مو�ضع منا�سب وموقع متنا�سق وبيان رائق‪ ،‬ي�ستدعي‬
‫�إظهارها‪ .‬وهذا جانب يتعلق بظواهر حا�ضرة حل�ضارتنا‪� .‬إنها حممية‪ ،‬من‬
‫ال�صعب اخرتاق جمتمعها الذي ميوج بر�سوم و�أعراف‪ ،‬متثل طابع ًا لها قوة‬
‫ظهور عميقة اجلذور‪� ،‬أ�صال ًة وداللة وتوجه ًا‪ .‬وهي �أثر من البناء الإ�سالمي‬
‫لهذه احل�ضارة الكرمية املنرية الربانية‪.‬‬
‫وهذه املوا�صفات يعرفها الآخرون‪ ،‬وعلى �ضوئها يت�صرفون‪ ،‬وهي ظواهر‬
‫كثرية‪ ،‬من مثل �صدق املجتمع والتزامه بالقيم امل�ضيئة وال�شجاعة البارعة‬
‫التي ال تغلب وال تهزم‪ .‬وهي ع�صية على ذلك كله وما يجري جمراه‪ ،‬وذلك‬
‫البتنائها وقيامها على عقيدة التوحيد ال�صافية الكرمية و�شريعتها الإن�سانية‬
‫الرائعة‪ ،‬التي �أنبتت هذه ال�صيغ الفا�ضلة التي تفتقدها �أية ح�ضارة �أخرى‪.‬‬
‫ف�أمدت هذه املعاين مبانيها يف كافة الأحوال‪ ،‬و�إن نزلت �أحيان ًا‪� ،‬أو انحرفت‬
‫وبجهد كبري �أو غري كبري‪،‬‬
‫ٍ‬ ‫زمان ًا‪� ،‬أو �ضعفت مكان ًا‪ ،‬لكنها دوم ًا تعود لأ�صلها‬
‫ح�سب الأحوال والظروف‪.‬‬

‫‪115‬‬
‫وما م�ضى يف احلكاية ال�سابقة ي�صلح �شاهد ًا عليه‪ ،‬لكن الق�صة التالية‪،‬‬
‫فيها لهذا الأمر �شاهد ومدلول‪ ،‬وهي ق�صة الفر�س الأندل�سي‪.‬‬
‫وهذه الق�صة من النوادر املهمة العجيبة‪ ،‬وهي تتعلق بهذا الفار�س‪ ،‬الذي‬
‫مل يكن فريد ًا‪ ،‬رغم مكانته‪� .‬إنه حممود بن عبداجلبار بن راحلة‪� ،‬أحد بني‬
‫طريف من م�صمودة ‪� -‬أيام الأمري عبدالرحمن الأو�سط‪238 - 206 ،‬هـ‬
‫(‪)69‬‬
‫= ‪852 - 822‬م ‪ -‬الذي واجه من القلة من رفاقه ملك ليون ‪Leon‬‬
‫�ألفون�سو الثاين ‪228 - 175( Alfonso‬هـ = ‪842 - 791‬م)‪ ،‬ومعه‬
‫فرق من جي�شه‪ .‬وجرت بينهم معركة حامية قوية غري متكافئة (‪225‬هـ =‬
‫‪840‬م)‪ ،‬قاتل فيها ابن راحلة ب�شجاعة فائقة عجيبة مت�ألقة‪ .‬ورغم ذلك مل‬
‫ي�ستطيعوا النيل من ابن راحلة‪ ،‬لكنه ‪ -‬ويا للأ�سف الكبري ‪ -‬قتل بطريقة‬
‫غريبة نادرة غري متوقعة‪ ،‬وبال �سيف �أو نزال �أو قتال‪ ،‬وهكذا جرت فج�أة‪.‬‬
‫والوحيد من كتاب م�صادرنا الذين رووا هذه احلكاية يف كتبهم (املغرب‬
‫يف ُح َلى ا َملغ ِْرب) �أ�سرة بني �سعيد‪ ،‬ومتت �صياغته على يد �آخر هذه ال�سل�سلة‬
‫الكرمية الأدبية العلمية التاريخية‪ :‬علي بن مو�سي بن �سعيد الأندل�سي‬
‫(‪685‬هـ = ‪1286‬م)‪.‬‬
‫ذلك �أن فر�س ابن راحلة جمح به حني كان يحارب �ألفون�سو وجي�شه‪،‬‬
‫فا�صطدم ب�شجرة بلوط فكان فيه حتفه‪ .‬وبقي م�ستلقي ًا وهو ميت وال يجر�ؤ‬
‫�أحد من فر�سان �ألفون�سو على االقرتاب منه‪ .‬فوقفوا فوق �أجمة (م ُرتفع)‬
‫بعيدين‪ ،‬خوف ًا �أن تكون حيلة منه �أو كمين ًا لهم‪ .‬وهذا هو ن�صه‪« :‬بقي (ابن‬
‫راحلة) مجُ َ ّد ًال يف الأر�ض حين ًا‪ ،‬وفر�سان الن�صارى قيام على ربوة يهابون‬
‫الدنو ويخافون �أنها حيلة منه(‪ )70‬وبعد انتظار طويل اقرتبوا بخطى بطيئة‬
‫متئدة مرتددة حتى ت�أكدوا �أنها لي�ست حيلة»‪.‬‬

‫‪ -69‬مدينة ومملكة يف �شمال �إ�سبانيا الن�صرانية‪.‬‬


‫‪ - 70‬املغرب‪.84/1 :‬‬

‫‪116‬‬
‫وهكذا ترى مثل هذه املعاين الرفيعة القوية البديعة يف كافة امليادين‪ ،‬ال‬
‫ترى فيها فاقع ًا وال تخلف ًا وال �ضعف ًا وال تردي ًا‪ .‬ذلك ما قدمه املجتمع امل�سلم‬
‫يف جوانب احلياة املتعددة وميادينها املتنوعة‪ ،‬فانظر ومت َّل واعترب‪.‬‬
‫وقد تقدمت يف هذه احلكايات �ألوان الأمناط البارعة من الأحوال يف‬
‫ق�ص�ص رويت يف الكتب الأمهات‪ ،‬وامل�صادر الأ�صيلة والكتابات املوثقة‬
‫تنوع ًا‪ ،‬فيها من جوانب احلياة الكثرية يف كافة امليادين‪ ،‬للن�ساء والرجال‪،‬‬
‫والأطفال‪ ،‬ولكافة �أهل املجتمع‪ ،‬خالل القرون وال�سنني والأحوال‪.‬‬

‫‪117‬‬
118
‫‪19‬‬

‫علماء‬
‫الهمة والعزمية‬

‫‪119‬‬
120
‫جمتمعنا الإ�سالمي الكرمي وح�ضارته ميوج بال�صيغ العزيزة الباهرة‬
‫بكل �ألوانها و�صيغها‪� .‬إذا مررت بها ك�أنك يف ب�ستان رائق‪ ،‬تنوعت �أزهاره‬
‫وت�ضوعت رائحته‪ ،‬وما غاب امل�سك عن �ساحته عموم ًا‪ ،‬يعجبك ذكر ذلك‬
‫و ُتكرره‪ُ ،‬متفوح ًا نا�شر ًا عطر ًا‪.‬‬
‫هو امل�سك ما كررته َيتَ�ض ّوع‬ ‫ �أعد ذكر نعمان مرار ًا ف�إنه ‬
‫�أثمرت ُطعوم ًا غذاء �شفاء‪ ،‬وهو يحدثك عن نف�سه دون �إعالن وبال‬
‫ادعاء‪ ،‬الذي لي�س من طبيعته‬
‫�شف عنه ذا ُته ال ما غدا ينعتُه بائع ُه‬ ‫ُ‬
‫وامل�سك ما قد ّ‬ ‫ ‬
‫وكلما وادعته �أو داعبته وناغيته ظهر طيبه فواح ًا وزكت رائحته وتناثرت‬
‫وتطايرت باهرة � ّأخاذة مرتامية‪.‬‬
‫كل هذا م�شتق من واقع احلياة الإ�سالمية وح�ضارتها‪ ،‬يف عاملها الوا�سع‪،‬‬
‫كلما �أخذت ب�شرعه‪ .‬وللأ�سف ف�إن حقائقها ما زالت بحاجة �إىل �سرب غوره‬
‫والنظر يف �أعماقها و�إح�سان قراءتها والت�أين يف فهمها‪ .‬ولذلك ف�إن احلديث‬
‫عنها ال تغنيه روايتها و�سردُها ور�ؤية ومعرفة ظاهرها‪ ،‬والبحث عنها يف‬
‫الن�صو�ص املتوفرة واملنتظرة‪ ،‬حيث �ضاع الكثري من ثروة �أ�صيلة كانت‬
‫ملك ًا له‪.‬‬
‫ذلك مهم �أ�سا�س‪ ،‬لكن البد من ت�أ�صيله كله‪ ،‬درا�سة وفهم ًا وتقدمي ًا‪ .‬و�أنت‬
‫واجده يف عموم ح�ضارتنا الفا�ضلة خالل م�سريتها‪ ،‬ويف الأندل�س خ�صو�ص ًا‪،‬‬
‫لرتيك عجائب �أن�ش�أها ذلك البناء الر�صني ملجتمعها املتح�ضر‪ ،‬حتى ليعجب‬
‫الدار�س منبهر ًا بتلك النماذج‪ ،‬التي �صنعها هذا املنهج }‬
‫{ (البقرة‪.)138 :‬‬ ‫ ‬
‫فكان بنا�ؤه ن�سيج وحده‪ ،‬ج ّماع ًا للخري من كل �أطرافه‪ ،‬يدعك تبحث عن‬
‫�سره املكنون‪ ،‬يوقفك عنده‪ ،‬لت�ست�ضيء به‪ .‬كله تراه واقع ًا‪� ،‬أف�ض ُل ما تقر�ؤه‬
‫�سلوك ًا يف �أهله‪ ،‬تز ّيوا به ُخ ُلق ًا وتعام ًال بال افتعال‪ ،‬تربية وبناء بال مثال‬

‫‪121‬‬
‫ابتداء‪ ،‬تفتقت عنه حياتهم ثمارا كرمية حتى لك�أنه خلق ًة و�سليق ًة وفطر ًة‪.‬‬
‫فق�س على ذلك �أمر احلياة الإ�سالمية يف حركتها احلية وبنائها الإن�ساين‬
‫الوديع الرفيع‪ .‬ومن الواقع احلياتي ن�ستقي �أروع الأو�صاف ون�ستخرج �أرفع‬
‫الأحكام‪ ،‬عالية مرفرفة يف عامل جمتمعاتنا الكرمية عموم ًا‪ ،‬ويف الأندل�س‬
‫منه بالذات‪.‬‬

‫منظر عام ملدينة طليطلة التي تقع جنوب غرب مدريد نحو ‪70‬كم‬

‫فا�سمع واقر�أ وا�ستخرج من موقف هذا العامل الأندل�سي ما َي َ�س ُعك‬


‫وو�س َعك وتريد‪ .‬عامل فقيه �أندل�سي من �أهل مدينة ُطليطلة ‪،Toledo‬‬ ‫ِ‬
‫كانت عا�صمة ال ُقوط قبل الفتح الإ�سالمي للأندل�س‪ ،‬تقع جنوب غرب مدريد‬
‫تاج ُه ‪،Tajo‬‬ ‫(عا�صمة �إ�سبانيا اليوم)‪ ،‬نحو �سبعني كم (كيال) على نهر ُ‬
‫ي�صب عند ل�شْ ُبونة ‪Lishoa,Lisbon‬عا�صمة الربتغال الآن)‪ ،‬يف‬
‫املحيط الأطل�سي‪ ،‬وطليطلة من �أوائل ما فتحه امل�سلمون من مدن الأندل�س‬
‫يف الربع الأخري (ذو القعدة) ‪92‬هـ �سبتمرب (�أيلول) ‪711‬م‪ ،‬و�أوائل ما �سقط‬
‫منه‪� .‬أوا�سط املحرم �أو م�ستهل �صفر ‪478‬ه ـ مايو (ماي�س) ‪1085‬م‪ ،‬وكم‬
‫حاول امل�سلمون هناك ا�ستعادتها فلم ت�سعفهم الأحوال‪.‬‬

‫‪122‬‬
‫وكان من عادة الن�صارى عند �سقوط مدينة �أندل�سية �أن يحولوا م�سجدها‬
‫اجلامع �إىل كني�سة املدينة الكربى ‪،Catedral, Cathedral‬‬
‫رغم الوعود الأكيدة بعدم القيام مبثل ذلك‪ ،‬وهكذا فعلوا مع طليطلة‪� ،‬إذ بعد‬
‫�سقوطها رمبا ب�أ�شهر �أو �أ�سابيع ح ّولوا م�سجدها اجلامع �إىل كني�سة ومنعوا‬
‫امل�سلمني من ال�صالة فيه والدخول �إليه‪ ،‬لكن �أحد الفقهاء الأفا�ضل الذي ال‬
‫نعرف غري لقبه‪ :‬املُغامي (ن�سبة �إىل قرية ُمغام القريبة من طليطلة) �أ�صر‬
‫على دخوله لي�صلي فيه ويقر�أ القر�آن الكرمي يطيل �صالته وقراءته‪ ،‬بينما‬
‫اجلند من حوله مدججون بال�سالح ي�ستحثونه على االنتهاء واخلروج منه‪،‬‬
‫وك�أنه ما كان يريد تركه ومفارقته‪ ،‬ولو كان ب�إمكانه حلمله معه �أو �أقام فيه‬
‫عمره(‪. )71‬‬

‫‪ -71‬التاريخ الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط غرناطة �ص ‪.384‬‬

‫‪123‬‬
‫باب املردوم وهو �أحد مداخل مدينة طليطلة‬

‫‪124‬‬
‫م�سجد (م�سجد �صغري) باب املردوم الذي حول �إىل كني�سة ويحافظ عليه الآن �سياحي ًا ب�صفة‬
‫م�سجد‪ ،‬وي�سمونه كني�سة م�سيح النور (‪the church of cristo de la luz,‬‬
‫‪)already a mosque‬‬

‫و�إنه ملن الغريب �أال جتد معلومات عن هذا الفقيه فلعلها كانت وذهبت‪ ،‬مثل‬
‫ذهاب هذا امل�سجد‪� ،‬ضمن ما دمر و�أحرق من مئات الآالف من املخطوطات‪.‬‬
‫والذي بقي ب�أيدينا ‪ -‬مما و�صلنا ‪ -‬م�صدر واحد يذكر هذه احلكاية‪ ،‬وهو‬
‫كتاب الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة(‪( )72‬جزيرة الأندل�س)‪ ،‬البن ب�سام‬
‫ال�شنرتيني (‪542‬هـ) من مدينة �شنرتين(‪Santarem )73‬بالربتغال‬
‫اليوم‪� ،‬شمال �شرق عا�صمته ل�شبونة ‪ lisbon, lisboa‬نحو �سبعني‬
‫كيال‪ .‬ثم �شرع �ألفون�سو ال�ساد�س ‪ Alfonso vl‬بتغيري امل�سجد اجلامع‬
‫كني�سة بقوة ال�سالح‪ ،‬يف ربيع الأول �سنة ثمان و�سبعني و�أربع مائة‪.‬‬

‫‪ -72‬الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة‪.104/4 ،‬‬


‫‪ -73‬عنها انظر كتاب‪ :‬الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار‪ ،‬ابن عبد املنعم احلمريي‪�-346 ،‬صفة جزيرة‬
‫الأندل�س‪.18-16 ،‬‬

‫‪125‬‬
‫هذه ال�صورة متثل الواجهة الرئي�سية مل�سجد قرطبة اجلامع الذي ُحول �إىل الكني�سة الكربى‪ ،‬وفيه‬
‫جرت ق�صة الفقيه املغامي املذكور يف احلكاية‬

‫‪126‬‬
‫وحدثني (يقول ابن ب�سام)‪ :‬من َ�شهِ َد طواغيته َت ْبت َِد ُره يف يوم �أعمى‬
‫الب�صائر والأب�صار منظره ولي�س فيه �إال ال�شيخ الأ�ستاذ املغامي �آخ َر من‬
‫َ�ص َد َر عنه واعتمده يف ذلك اليوم ليتزود منه‪ ،‬وقد �أحاط بامل�سجد وبال�شيخ‬
‫َمردة عفاريته و�أوائل طواغيته‪ ،‬وتكاثر عليه جند الفرجن لتغيري القبلة‪.‬‬
‫عجل �أ�شار هو �إىل‬
‫وكان مع الفقيه �أحد تالميذه يقر�أ فكلما قالوا له ّ‬
‫تلميذه ب�أن �أكمل‪ .‬ثم قام وما ارتعب وال تهيب‪ ،‬ف�سجد به واقرتب وبكى عليه‬
‫َمل ّي ًا وانتحب‪ ،‬فما َج َ�س َر �أحد منهم على �إزعاج ال�شيخ وال معار�ضته‪ ،‬وع�صمه‬
‫اهلل تعاىل منهم‪ ،‬والن�صارى يعظمون �ش�أنه ويهابون مكانه‪ ،‬مل متتد �إليه يد‬
‫وال عر�ض له مبكروه �أحد‪.‬‬
‫وهكذا ع�صمه اهلل تعاىل منهم حتى �أكمل قراءة ما يريد‪ ،‬و�سجد �سجدة‬
‫ورفع ر�أ�سه وبكى على اجلامع بكا ًء �شديد ًا حتى خرج مل يعر�ض له �أحد‬
‫مبكروه‪ ،‬وك�أنه يحمل حزن القرون ال�سابقة واحلا�ضرة والالحقة‪.‬‬
‫فذهبت طليطلة وا�سطة العقد يف الأندل�س العتيدة املريدة الفريدة‪..‬‬

‫‪127‬‬
128
‫‪20‬‬

‫مغرورون‬
‫�أم ُم ْكتَ�شفون؟‬

‫‪129‬‬
130
‫كم من �صفحات نا�صعة زاهرة باهرة‪ ،‬حتتويها احل�ضارة الإ�سالمية يف‬
‫رحمها الودود الولود و�أكنافها‪ ،‬بع�ضها تناثر �أو اندثر �أو انغمر‪ ،‬هي جديرة‬
‫بالتنقيب والتنقري‪ ،‬لكن املتابعة والتحري املكيث ي�أتي بالغرائب‪ ،‬وكل ذلك يف‬
‫منهج اهلل تعاىل‪ ،‬كلما �أخذ به‬
‫ف�ضا‍ئل هذه احل�ضارة الإن�سانية‪ ،‬التي �أقامها ُ‬
‫امل�سلمون‪.‬‬
‫واملو�ضو ُع بحاجة �إىل همة عالية ورغبة بانية ومنهجية ر�شيدة‪ ،‬تن�ضج‬
‫فهم الأحداث‪ ،‬وال تقف عند ظواهرها‪ ،‬بل تنظر يف بواطنها متعمقة يف‬
‫�أغوارها‪ ،‬لت�أتي باجليد اجلديد‪� ،‬إخبار ًا واعتبار ًا و�أنهار ًا‪ .‬وذلك �شامل يف‬
‫اجلوانب املادية والعلمية والقيمية الروحية واالجتماعية والإن�سانية‪.‬‬
‫و�إذا كان ذلك عام ًا يف هذه احل�ضارة الإ�سالمية‪ ،‬ف�إن لها يف الأندل�س‬
‫�سهم ًا كبري ًا ومثري ًا وجدير ًا‪ ،‬ومنها �أفاد الغرب وارتوى نه ًال وعال دون حتفظ‬
‫�أو تريث �أو حدود‪ ،‬يف بناء ح�ضارته وتقدمي الكثري من منجزاته وما حققه‬
‫البع�ض خط�أً �أنه انفرد‬
‫ُ‬ ‫من مبتكراته‪ ،‬يف اجلوانب التي �أرادها‪ ،‬والتي يظن‬
‫بها وكان لها رائد ًا ومالئ ًا �ساحتها ابتدا ًء‪.‬‬
‫من ذلك الك�شوف اجلغرافية وارتياد املجاهيل‪ ،‬بر ًا وبحر ًا وجو ًا‪.‬‬
‫وامل�سلمون هم الذين بد�ؤوها وو�ضعوا �أ�س�سها ومهدوا لها قبله بقرون‪.‬‬
‫يذكر ال�شريف الإدري�سي – اجلغرايف امل�سلم العاملي – (‪568 – 487‬ه‍‍‪/‬‬
‫‪1165 -1100‬م) ابتداء يف الق�سم الأندل�سي من كتابه «نزهة امل�شتاق يف‬
‫اخرتاق الآفاق» ق�صة الكت�شاف املحيط الأطل�سي امل�سمى بحر الظلمات‬
‫جرت �أواخر القرن الثالث‪� /‬أوائل الربع الهجري = القرن التا�سع‪ /‬العا�شر‬
‫امليالدي‪ ،‬و�إن كان قد �سبقتها ارتيادات �أخرى للمحيط نف�سه‪.‬‬
‫وملخ�ص الق�صة – مو�ضوع احلكاية‪� -‬أنه اجتمع من �أهل مدينة ل�شبونه‬
‫(عا�صمة الربتغال اليوم) ثمانية رجال �أبنا ُء عمومة من درب واحد‪�ُ ،‬س َّمي‬

‫‪131‬‬
‫با�سمهم (درب املغرورين)(‪ )74‬والبد �أنهم كانوا بحارة لهم خربة بركوبه‪،‬‬
‫اتفقوا على خو�ض بحر الظلمات الأطل�سي ليعرفوا ما فيه‪ ،‬ف�أعدوا مركب ًا مل�ؤوه‬
‫بالزاد واملاء يكفيهم لأ�شهر‪ ،‬و�ساروا لأول الريح ال�شرقية وملدة �أحد ع�شر يوم ًا‬
‫فواجهوا موج ًا وقلة �ضوء �أيقنوا بالتلف‪ .‬ف�أداروا �أ�شرعتهم نحو اجلنوب لإثنى‬
‫ع�شر يوم ًا‪ ،‬و�صلوا جزيرة الغنم‪ ،‬لكرثتها‪ ،‬فنزلوها و�شربوا من عني جارية‬
‫و�أكلوا من فواكه التني‪.‬‬
‫وملا ذبحوا من �أغنامها وجدوها مرة‪ ،‬ف�أبحروا نحو اجلنوب �إثنى ع�شر‬
‫يوم ًا حتى و�صلوا جزيرة عامرة‪ ،‬ف�أحاط بهم �أهلها و�أخذوهم‪ ،‬فر�أوا رجالها‬
‫طوا ًال �شقر ًا �شعورهم �سبط ًة ولن�سائهم جمال عجيب فاعتقلوا �أيام ًا رحلوهم‬
‫و�أو�صلوهم �إىل بر بعد نحو ثالثة �أيام عند مر�سى يف �أق�صى املغرب‪.‬‬
‫هذه خال�صة الق�صة التي تناولتها التف�سريات والتحليالت للأماكن التي‬
‫و�صلوها‪ ،‬والظن �أن اجلزيرة الأخرية التي و�صولها هي �إحدى جزر الكناري‬
‫(‪ = Canary, Canarias‬اخلالدات)‪� .‬أو لي�س �أوىل �إذن ت�سمية‬
‫ه�ؤالء الفتية «املكت�شفني» ال املغرورين �أو املُ َغ َررين؟‬
‫وهكذا ف�إن يف ف�صول املدونات الإ�سالمية مناذج لهذه الق�صة َ�س َب َقت‬
‫�أو لحَ ِ قت يف الأندل�س بالذات‪ ،‬منها رحلة ال�شيخ القاد�سي من مدينة قاد�س‬
‫(‪ )Cadiz‬الأندل�سية وق�صة خ�شخا�ش‪ ،‬فتى من �أهل قرطبة يف جامعة‬
‫من �أحداثها �أعدوا مراكب ارتادوا بها املحيط الأطل�سي وعادوا بعد مدة‪.‬‬

‫‪ -74‬راجع‪ :‬نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪ ،‬ال�شريف الإدري�سي‪ ،‬الق�سم الأندل�سي‪� ،‬ص ‪ 184‬وما‬
‫بعدها‪ .‬الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار‪ ،‬ابن عبد املنعم احلمريي‪ .61 ،‬كذلك ‪� .509 ،52 :‬أندل�سيات*‪،‬‬
‫‪ 147/1‬وبعدها‪ .‬عن الإدري�سي انظر‪ :‬الأعالم‪ ،‬الزركلي ‪ .24/7‬تاريخ اجلغرافية واجلغرافيني‬
‫يف الأندل�س‪ ،‬ح�سن م�ؤن�س‪ 165 ،‬وما بعدها‪ .‬تراجم �إ�سالمية (�شرقية و�أندل�سية) حممد عبد اهلل‬
‫عنان‪.314-305‬‬

‫‪132‬‬
‫�أال ترى �أن ما قدمته احل�ضارة الإ�سالمية ابتدا ًء وابتداع ًا و�إيداع ًا يف‬
‫احل�ضارة الإن�سانية كانت رائدة فيها‪ ،‬وهي كثرية متنوعة متدافعة بحاجة‬
‫�إىل اكت�شاف؟‬
‫�أال ي�صح �إذن �أن نقول‪�( :‬إنه اكت�شاف بحاجة �إىل اكت�شاف)‪.‬‬

‫‪133‬‬
134
‫‪21‬‬

‫فرو�سية‬
‫املر�أة الأندل�سية‬

‫‪135‬‬
136
‫جعل الإ�سالم املر�أة امل�سلمة يف �أح�سن مو�ضع‪ ،‬مل تعرفه ولن تعرفه �إال‬
‫وحد ُه‪ ،‬وتكرميه لها – ك�ش َّقها و�شقيقها الرجل – طبيعي‪ ،‬حيث �إن‬
‫بالإ�سالم َ‬
‫اهلل تعاىل كرم الإن�سان‪ ،‬كل �إن�سان }‬
‫{‬ ‫ ‬
‫بعيون كرمية‪ .‬وهو وا�ضح لأهل‬
‫(الإ�سراء ‪ .)70‬وذلك بديهي ملن فهم احلياة ٍ‬
‫الإ�سالم ومعروف مو�صوف للمن�صفني من غري �أهله‪ ،‬فقد خلق اهلل تعاىل‬
‫املر�أة والرجل من نف�س واحدة وقد �أ�شري �إىل طرف من ذلك احلكايتني‬
‫الأندل�سيتني الثالثة والرابعة �سابق ًا‪.‬‬
‫�شاركت املر�أة يف بناء احلياة الإ�سالمية وتر�سيخ قواعدها‪ ،‬ودورها‬
‫ال يقوم به غ ُريها‪ ،‬و�أو ُلها تربي ُة الن�شء و�إعدادُه وتقوميه‪ ،‬متد به احلياة‬
‫الفا�ضلة‪ .‬ومع كل ذلك فقد قامت بكل دور �آخر يتنا�سب ووظيفتها التي‬
‫�أعدها اهلل �سبحانه وتعاىل لها‪ ،‬مما يتما�شى وفطرتها وتكوينها وخلقتها‪.‬‬
‫وهذا وا�ضح منذ احلياة الإ�سالمية الأوىل �أيام الر�سول الكرمي \ ومنذ‬
‫العهد املكي وهو ما �سارت عليه الأجيال يف القرون التالية‪.‬‬
‫�ألي�س �أول م�ؤمن امر�أة و�أول �شهيد امر�أة‪ ،‬و�أول مهاجر �إىل احلب�شة‬
‫امر�أة‪ ،‬و�أول مهاجر �إىل املدينة املنورة امر�أة‪ ،‬و�أول من روى نزول �سورة‬
‫الأنعام جملة واحدة يف مكة امر�أة‪ ،‬و�أول من هاجر الهجرتني و�صلى القبلتني‬
‫امر�أة‪ .‬و�أول من ن�صح اخلليفة عمر بن اخلطاب و�صوبه امر�أة‪ ،‬و�أول من‬
‫بنى جامعة يف الإ�سالم – �أول جامعة يف العامل (‪245‬ه‍‍) – امر�أة‪ ،‬وغريها‬
‫ذلك كثري‪ ،‬وهذه هي املفاخر والأجماد التي تبقى على مدى القرون �شاهدة‬
‫ناطقة‪.‬‬
‫�ضربت املر�أة امل�سلمة ب�سهم كبري يف كافة امليادين يف العامل الإ�سالمي‬
‫وبكم وفري‪ ،‬فكانت �أديبة ومربية ومعلمة وموجهة وعاملة وفقيهة‬
‫ويف الأندل�س‪ًّ ،‬‬
‫وطبيبة بل وحتى فار�سة‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫ولدينا يف هذا مثال رائق‪ ،‬تلك هي جميلة العذراء بنت عبداجلبار بن‬
‫راحلة‪ ،‬التي ا�شتهرت يف الأندل�س بجمالها ورمبا ب�شعرها‪ .‬كما كانت م�شتهرة‬
‫بال�شجاعة والنجدة والفرو�سية ولقاء الفر�سان ومبارزتهم حتى يف الع�ساكر‪،‬‬
‫ك�أختها – مث ًال – خولة بنت الأزور‪ ،‬و�أُخريات‪.‬‬
‫وحني ثار �أخوها حممود �ضد ال�سلطة الأندل�سية يف قرطبة كانت هي‬
‫اخلالف‪ .‬ثم جل�أ مع �أخته جميلة وبع�ض‬
‫تدعوه �إىل الطاعة وهو يدعوها �إىل ِ‬
‫�أتباعه �إىل مملكة ليون (‪ )Leon‬عا�صمة �إ�سبانيا الن�صرانية يومذاك‬
‫م�ستجري ًا مبلكها �ألفون�سو الثاين ‪ II Alfonso‬املتلقب عندهم بالعفيف‬
‫(‪)The Chaste, El Casto‬‬
‫لكن �أخته جميلة كانت تدعوه �إىل العودة وطاعة ال�سلطة الأندل�سية يف‬
‫قرطبة ونبذ اخلالف‪ ،‬حتى ر�أى فع ًال �أنه ال ي�صح اال�ستمرار يف هذا ال�ش�أن‪.‬‬
‫فندم على ذلك وكاتب الأمري عبد الرحمن الأو�سط (الثاين) �سنة ‪225‬ه‍‍‪/‬‬
‫‪840‬م‪ ،‬لكن �ألفون�سو � َأح َّ�س بتلك املكاتبة فخ�شي �أن ينقلب �سالح ًا �ضده‪،‬‬
‫فواجهه مع جنده و�أحاطوا به وب�أخته ومن معهما‪ ،‬فحاربوه م�ستب�سلني‪،‬‬
‫وهو و�أخته ي�صوالن ويجوالن مدافعني ببطولة‪ ،‬لكن �أخاها الفار�س حممود‬
‫ا�صطدم ب�شجرة قتلته (‪ ،)75‬ورمبا قتلت �أخته معه �أو فرت �أو �أُ ِ�سرت‪.‬‬
‫فانظر كيف كان موقعها وموقفها ووفا�ؤها‪ .‬كانت بانية حانية موالية‪� ،‬أبلت‬
‫�أح�سن البالء يف فرو�سيتها ووالئها لقومها وبلدها ودينها وفية لواجباتها‪،‬‬
‫حتث على اخلري وت�صونه وتكف عن ال�شر وتدينه وتن�صح ما و�سعها بالعفة‬
‫والأمومة وال�صون‪.‬‬

‫‪� -75‬أطروحة الدكتوراه‪Andalusian Diplomatic Relations With :‬‬


‫‪Western Europe during the Umayyad period.pp 112-113‬‬
‫والرتجمة العربية لها‪ :‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية‬
‫(املجمع الثقايف‪� ،‬أبو ظبي‪ .159-158 ،)2004‬املُغ ِْرب يف ُح َلى ا َملغ ِْرب‪ ،‬ابن �سعيد الأندل�سي ‪.48/1‬‬
‫�أندل�سيات‪.124/2‬‬

‫‪138‬‬
‫هكذا كانت تربيتها التي تلقتها يف ذلك املجتمع الكرمي مببانيها امل�ضيئة‬
‫وتربيتها الربيئة وتكوينها الإ�سالمي الر�صني‪.‬‬
‫تلكم هي املر�أة امل�سلمة يف الأندل�س وغريه‪ ،‬من عامل الإ�سالم الوا�سع خالل‬
‫القرون‪ .‬حازت مكانتها الراقية‪ ,‬و�أدت دورها البناء وحققت �إن�سانيتها‪ ،‬يف‬
‫ح�ضارة فا�ضلة مثلها‪ ،‬ومنارة رفيعة وحياة وارفة‪ ،‬حققه لها ولأخيها الرجل‬
‫هذا املنهج الإ�سالمي الرباين الكرمي‪ ،‬ال يحققه �أبد ًا غريه ب�أي حال‪.‬‬

‫‪139‬‬
140
‫‪22‬‬

‫قرا�صنة‬
‫�أم جماهدون؟‬

‫‪141‬‬
142
‫احتوت احليا ُة الإ�سالمي ُة وجمتمعها وتاريخها امتال ًء بالقوة والعفة‬
‫نفو�س �أهله من معان كرمية‬ ‫والهمة‪ ،‬نوادر فريدة مده�شة‪ ،‬مبا ابتنت عليه ُ‬
‫�صلحت لبناته فطاب بنا�ؤه وهوا�ؤه وتفتحت ُمناه وطال مداه‪ ،‬تعددت امليادين‪،‬‬
‫قائمة ومبتكرة تدفع ب�أهله �إىل تيار احلياة يرتادها ويقودها‪ ،‬تتبارى يف‬
‫م�ضامري اخلري وم�ضامني الف�ضل والإجناز‪ .‬فحيثما ت�ضعه ي�أتي اخلري‪،‬‬
‫معرب ًا مزدهر ًا مثمر ًا‪ ،‬وك�أنه م�ؤهل له معد ملهماته خبري مبدركاته ي�أتيها‬
‫�سبق ًا يدعو للنظر ويثري الفكر ممث ًال ومتمث ًال بالعرب‪.‬‬
‫كل هذا يدعو ُم�سلمة اليوم للرتيث والتوقف والتعرف‪ ،‬بحث ًا عن ذلك‬
‫البناء الأنيق الر�شيق الر�شيد‪ .‬وهكذا كانت تتفتق املعاين �أمامهم َي ِل ُجون بها‬
‫مواقع احلياة �إبداع ًا واقرتاع ًا يف كل ما ُيفيد وي�أتي باخلري الأكيد والإجناز‬
‫اجلديد‪ ،‬رمبا على غري مثال �أو خيال‪ .‬و�أينما َت َل َّف َّت جتد ذلك‪ُ ،‬يعجبك‬
‫ويجذبك‪ ،‬مراكب ومناكب ومواكب‪ ،‬من الن�ساء والرجال والأطفال‪ ،‬اخت�ص‬
‫العا ُمل الإ�سالمي ب�أمثالها و�أندل�سها املوعود رافع الأعالم والبنود‪ ،‬وكثريا‬
‫منها ال نكاد نعرف تفا�صيلها بل جنهل وجودها �أحيانا‪ ،‬حني املوعد املورود‪.‬‬
‫فماذا نقول يف ع�شرين بحار ًا �أندل�سي ًا‪ ،‬ال نعرف ا�سم واحد منهم‪،‬‬
‫يبحرون من �سواحل الأندل�س ال�شرقية على البحر املتو�سط‪ ،‬باجتاه �شماله‬
‫�إىل �شواطئ فرن�سا‪ .‬فماذا تراهم يريدون‪ ،‬وما هو �سر قوتهم وحقيقة‬
‫دوافعهم‪ِ ،‬لت ََح ُّمل ذلك وخو�ض غمار املجهول وامتطاء غمرات املخاطر‪،‬‬
‫وماذا �أعدوا من م�ؤهالت هذه الرحلة ومتطلبات املهمة و َمب ا�ستعدوا لها؟‬
‫وما �أن و�صلوا �سواحل فرن�سا �شمال مر�سيليا ‪ ،Marseille‬بينها‬
‫وبني ‪( Nice‬نيقة)‪ ،‬عند خليج �سان تروبي�س ‪� Saint-Tropes‬شمال‬
‫طولون ‪ Toulon‬يف منطقة الربوفان�س ‪ Provanse‬جنوب فرن�سا‬
‫عند �سفوح جبال الألب (‪ ،).Alps: Mts‬حيث الآن جبال املور ‪massif‬‬
‫‪ = des maures‬الأندل�سيون‪ ،‬وتقع عليها قرية غارد فرينيه ‪Garde‬‬
‫‪ ،– Freinet‬حتى نزلوا فيه باحثني عن مكان �آمن‪ ،‬يتخذونه قاعدة لهم‪،‬‬

‫‪143‬‬
‫ليبد�ؤوا القيام مبهمتهم‪.‬‬
‫فكان ذلك املوقع البارز البارع الذي يدل اختياره على حكمة وخربة‪.‬‬
‫ف�أقاموا عدة معاقل وح�صون كان �أمنعها املكان الذي يقوم على جبل مرتفع‬
‫داخل غابات كثيفة‪ ،‬حتيط به وا�سمه بالالتينية ‪Fraxinetum‬‬
‫م�شتق من ا�سم �شجرة الدردار (‪ )76‬الكثري هناك‪ ،‬ومنه �أخذت الت�سميات‬
‫الأوروبية الأخرى‪.‬‬

‫هذه �شجرة الدفلى‬

‫‪� -76‬شجرة الدردار‪� :‬شجر عظيم له زهر �أ�صفر وثمر كقرون الدفلة‪ُ ،‬يغر�س على حافة الطريق للزينة‬
‫والظل واخل�ضرة‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫لكن ا�سمه يف م�صادرنا الإ�سالمية (جبل القالل) جبل القمم ‪ .2‬كان‬
‫ذلك حوايل �سنة ‪277‬ه‍‍ = ‪890‬م �أيام الأمري الأندل�سي عبداهلل حفيد الأمري‬
‫عبدالرحمن الأو�سط وجد اخلليفة عبدالرحمن النا�صر‪ .‬وتقاطر عليهم‬
‫الأتباع من الأندل�س واملغرب‪ ،‬ف�أقاموا دولة ا�ستمرت قرابة مئة عام‪.‬‬
‫واملتوفر من م�صادرنا ت�سميهم (املجاهدون) لكن امل�صادر الأوروبية‬
‫املتوفرة – ومنها �أكرث املعلومات‪ -‬ت�سميهم القرا�صنة ‪Pirates,‬‬
‫‪ ...Piratas‬والقر�صنة ‪. Pirateria Piracy‬‬
‫لكن ا�ستقراء الأحداث وا�ستكناه ما تدخره م�ضامي ُنها واعتبار �أبعاد‬
‫�أمثالها تدل على �أنهم فع ًال ذهبوا جماهدين‪ ،‬ال هاربني وال ناهبني وال‬
‫معتدين‪.‬‬
‫فانظر �أية همة عالية كانت متلأ نفو�سهم‪ ،‬وقوة متوقدة �أخذتهم �إىل‬
‫�سام جعلهم يتحملون كل ذلك؟ ال �شك �أنه اجلهاد يف �سبيل‬ ‫هناك‪ ،‬وهدف ٍ‬
‫اهلل فهم مل يذهبوا هذه الوجهة واملذهب وي�سعون لهذا املطلب واحتمال‬
‫ال�سري �إال لذلك والبد �أنهم عرفوا من الأخبار هناك وو�صلت �أنباء �أحوالها‬
‫و�أ�سبقوا �سفرهم بطالئع �أتتهم بالأخبار‪ ،‬بجانب املعلومات ال�سابقة كما هي‬
‫العادة يف مثل هذه الآثار وال يبعد �أبد ًا �أن يكونوا قد علموا بوجود م�سلمني‬
‫هناك بقايا الفتوحات الإ�سالمية ال�سابقة لتلك املناطق (‪� )77‬أو جاء وفد‬
‫يحمل �إليهم هذه الأنباء‪ ،‬فل ُّبوا النداء وا�ستجا�شوا للفداء‪ ،‬فانطلقوا بالوالء‬
‫للبناء‪.‬‬

‫‪ -77‬التاريخ الأندل�سي حتى �سقوط غرناطة ‪�:‬ص ‪ 58‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪145‬‬
146
‫‪23‬‬

‫قرطبة‬
‫ت�ستقبل �سفري ًا !‬

‫‪147‬‬
148
‫حازت الأندل�س خالل قرونها الأوىل‪ ،‬ال�سيما الرابع الهجري = العا�شر‬
‫امليالدي‪� ،‬أعلى و�أرقى و�أ�سمى الأ�ضواء يف العامل الإ�سالمي �أحيان ًا‪ ،‬مبا كان‬
‫لها من بنائها احل�ضاري الرفيع ويف كافة جوانب احلياة وميادينها‪ .‬حيث‬
‫�أقامت – بدين اهلل تعاىل – جمتمع ًا رفيع ًا منا ُره و�سيع ًا‪ ،‬و�إطاره �سامي ًا‬
‫إهاب ف�سيح َ�ض َربت ِخ َي ُم ُة �أطناب ًا را�سخة ثابتة الأوتاد ظليلة‬
‫م�ضماره يف � ٍ‬
‫الأفياء‪.‬‬
‫ات�ضح ذلك كلما اقرتبت من منهج اهلل املبارك لكل من ي�أخذ به من‬
‫الأع�صار والأم�صار‪�ُ ،‬سنة ما�ضية �إىل يوم الدين‪ ،‬وكل خري فيها كان من‬
‫بركاته ومنه عرف العامل �أفانني احلياة الكرمية‪� ،‬أخذ منها علمه و�أقام‬
‫عليه تقدمه احلا�ضر و�آلة مبتدعاته و�أركان مدنيته‪ ،‬وكان قبلها غف ًال وجه ًال‬
‫وعط ًال‪.‬‬
‫وامليادين الإن�سانية املركنة عرفها عامل الإ�سالم‪ ،‬ابتدا ًء‪ ،‬ب�أعراف ثابتة‬
‫كرمية وفنون �سامية �أنيقة و�آداب عالية رقيقة طبعت حياته‪ ،‬يف وقت كان كل ما‬
‫حوله حمال غريب ًا وقاح ًال �سليب ًا وجدب ًا رعيب ًا حتى ما يدركه �أو يفهمه ف�ض ًال‬
‫عن �أن يعلمه‪.‬‬
‫من ذلك فن الدبلوما�سية‪ ،‬بل ف�ضائله وخلقياته و�أعرافه الربة‪ ،‬التي‬
‫ال تلحق غباره دبلوما�سية اليوم وقد �سبق �أن مر طرف منها يف احلكاية‬
‫الأندل�سية الأوىل (�سفارة �أندل�سية �إىل الدامنارك)‪ .‬تلك كانت من الأندل�س‬
‫ذاهبة جواب ًا‪� ،‬أما �سفارة اليوم فهي قادمة �إليه ركاب ًا‪ ،‬و�إن اختلف االجتاه‪.‬‬
‫ومو�ضوع الدبلوما�سية والعالقات الدولية الإ�سالمية يف ح�ضارتنا �أمر‬
‫�شبه جمهول �أو مغيب يف درا�ساتنا الأكادميية والدرا�سات العلمية واملواد‬
‫اجلامعية‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫وحكاية اليوم تقدم خرب �سفارة �أملانية (‪ )78‬ير�سلها الإمرباطور الأملاين‬
‫(�إمرباطور الدولة الرومانية املقد�سة)‪� :‬أوتو الأول الكبري (‪Otto I the‬‬
‫‪� )Great‬إىل حاكم الع�صر اخلليفة الأندل�سي عبدالرحمن الثالث النا�صر‬
‫لدين اهلل الذي كانت مدة حكمه فوق خم�سني عام ًا‪ ،‬كل الن�صف الأول من‬
‫القرن الرابع الهجري وجدت يف مذكراته �أنه ا�سرتاح خالله ‪ 14‬يوم ًا ال‬
‫غري(‪!!!)79‬‬
‫ازدهرت يف الأندل�س كافة جوانب احلياة وبلغت ح�ضارته مبلغ ًا عظيم ًا‪،‬‬
‫ال�سيما القرن الرابع الهجري‪ ،‬فماجت الدروب �إىل قرطبة بالبعثات‬
‫الدبلوما�سية وال�سفراء والوفود الرائدة الراغبة الراجية (منهن �أمريات)‬
‫من البلدان‪ ،‬خا�صة الأوروبية‪ ،‬كل يطلب ودها ويروم �صداقتها‪ ،‬وهكذا توالت‬
‫ال�سفارات �إليها برئا�سة �سفراء �أو �أمراء ر�ؤ�ساء‪.‬‬
‫وخري من و�صف ذلك ابن حيان القرطبي (‪469‬ه‍‍ = ‪1076‬م)‪ ،‬ونقله‬
‫عنه �آخرون‪ ،‬مثل ابن خلدون (�أبو زيد عبدالرحمن بن حممد بن خلدون‪،‬‬
‫‪808‬هـ = ‪1406‬م)‪« ،‬ومدت �إليه �أمم الن�صرانية من وراء الدروب يد‬
‫الإذعان‪ ،‬و�أوفدوا عليه ر�سلهم وهداياهم من رومة والق�سطنطينية يف �سبيل‬
‫املهادنة وال�سلم واالعتمال فيما يعن يف مر�ضاته‪ ،‬وو�صل �إىل �سدته امللوك‬
‫من �أهل جزيرة الأندل�س املتاخمني لبالد امل�سلمني فقبلوا يده والتم�سوا ر�ضاه‬
‫واحتقبوا جوائزه وامتطوا مراكبه(‪.)80‬‬
‫‪ -78‬راجع كل تف�صيالتها هذه يف �أطروحة الدكتوراه‪Andalusian Diplomaric Relations :‬‬
‫‪With Western Europe during the Umayyad period.pp.‬‬
‫والرتجمة العربية لها‪ :‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية (املجمع‬
‫الثقايف‪� ،‬أبو ظبي ‪ .297-273 ،)2004‬كذلك‪ :‬التاريخ الأندل�سي من الفتح الإ�سالمي حتى �سقوط‬
‫غرناطة* ‪ 318‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ - 79‬املغرب يف حلى املغرب‪ ،‬ابن �سعيد الأندل�سي‪ ،182/1 ،‬نفح الطيب من غ�صن الأندل�س الرطيب‬
‫املقري ‪973/1‬‬
‫‪ -80‬نفح الطيب ‪� ,453/1‬أزهار الريا�ض‪ ,392-882 ,372-162,272 - 852/2 ,‬العرب‪ ,‬ابن خلدون‪,‬‬
‫‪.113-903 ,992/4‬‬

‫‪150‬‬
‫و«هادته الروم وازدلفت �إليه تطلب مهادنته ومتاحفته بعظيم الذخائر‬
‫ومل تبق �أمة �سمعت به من ملوك الروم والإفرجنة واملجو�س و�سائر الأمم �إال‬
‫وفدت عليه خا�ضعة راغبة وان�صرفت عنه را�ضية»(‪.)81‬‬
‫وكان من بني هذه ال�سفارات تلك التي �أر�سلها �أوتو الأول �إمرباطور الدولة‬
‫الرومانية املقد�سة‪ ،‬الذي �أر�سل �سفارة برئا�سة �سفريه‪ ،‬الراهب‪ :‬يوحنا‬
‫الغرزيني (‪ ،)John of Gorze‬حام ًال معه ر�سالة الإمرباطور‪،‬‬
‫راجيا فيها اخلليفة النا�صر �أن يتدخل يف مو�ضوع دولة املجاهدين يف جبل‬
‫القالل (احلكاية الأندل�سية ال�سابقة) وو�صلت هذه ال�سفارة قرطبة العلم‬
‫واملجد واحل�ضارة بعد �سنة (‪‍‍ 340‬ه ‪951/‬م)‪ .‬لكن هذه ال�سفارة بقيت يف‬
‫قرطبة نحو ثالث �سنوات‪ ،‬يقال‪� :‬إن ال�سفري الراهب تعلم العربية وحمل معه‬
‫يف عودته منها بع�ض املخطوطات‪.‬‬
‫وخالل ذلك �أر�سل النا�صر �سفارة �إىل �أملانيا للقاء الإمرباطور‪ ،‬وعند‬
‫عودتها �إىل قرطبة بد�أت ترتيبات لقاء ال�سفري الراهب يوحنا ملقابلة اخلليفة‬
‫يف ربيع الأول النبوي ‪‍‍ 345‬ه = �صيف ‪956‬م‪ ،‬يف مدينة الزهراء اخلليفية‬
‫الواقعة خارج قرطبة غرب ًا على بعد نحو ثمانية كيل‪ ،‬وامل�ستلقية عند �أقدام‬
‫جبل العرو�س‪ .‬ويف الق�صر اخلليفي يف قاعة جمل�س ال�سفراء امل�سمى‪ :‬املجل�س‬
‫امل�ؤن�س‪� ،‬أُقيمت االحتفاالت بح�ضور رجال الدولة واجلند وامل�ستقبلني من‬
‫النا�س يف حفل بالغ احلفاوة واالحتفاء‪ .‬ودخل ال�سفري الراهب املجل�س‪ .‬وكان‬
‫اخلليفة جال�س ًا مرتبع ًا على �سريره‪ ،‬وق ّبل ال�سفري يد اخلليفة‪ ،‬لكن ال�سفري‬
‫كان متوتر ًا‪� ،‬إال �أنه تعجب من �سماحة اخلليفة وحديثه عن الإمرباطور‪ ،‬وكان‬
‫ا�ستقبا ًال رائع ًا حاف ًال‪ ،‬جعل ال�سفري يذهب توتره‪ ،‬وحتادثا فى الأمور الالزمة‬
‫وانتهت املقابلة على �أن تتكرر‪.‬‬

‫‪ -81‬نفح الطيب‪.366/1 ,‬‬

‫‪151‬‬
‫اخلليفة االندل�سي عبد الرحمن (النا�صر لدين اهلل‪350 ,‬ه ـ ‪962 /‬م)‪ ،‬ي�ستقبل الراهب (ال�سفري‬
‫الأملاين) يوحنى الغرزيني يف ق�صر الزهراء‪� ،‬سنة ‪345‬هـ ‪956 /‬م‪.‬‬

‫بع�ض غرف ق�صر مدينة الزهراء (دار امللك) حيث ي�ستقبل ال�سفراء والزوار ا�ستعدادا‬
‫للقائهم باخلليفة‪.‬‬

‫‪152‬‬
‫و�إىل هنا تقف مذكرات ال�سفري‪ ،‬حيث ُج ُّل هذه املعلومات منها مكتوبة‬
‫بالالتينية مرتجمة �إىل الإ�سبانية (‪ )82‬ولدى رحيل ال�سفري الأملاين و�سفارته‬
‫ودعها اخلليفة النا�صر بنف�سه يف احتفال ر�سمي‪ ،‬وكان ذلك يف نف�س ال�شهر‬
‫من العام‪.‬‬
‫هذه م�شاهد من احلياة الدبلوما�سية الأندل�سية غنية بالتفا�صيل‪ ،‬وقد‬
‫�أوعبتُها بحث ًا يف �أكرث من درا�سة‪ ،‬ال�سيما �أطروحة الدكتوراه عن‪ :‬العالقات‬
‫الدبلوما�سية الأندل�سية مع �أوروبا الغربية خالل املدة الأموية‪ ،‬املطبوع‬
‫بالإجنليزية‪ ،‬وترجمتها العربية ظهرت بف�ضل اهلل تعاىل يف املجمع الثقايف‪،‬‬
‫�أبوظبي‪.2004 ،‬‬
‫ولقد تبني خالل ذلك كله مما عرثت عليه واكت�شفت وك�شفت اعتماد ًا على‬
‫م�صادر منها خمطوطة �أن الأندل�س‪ ،‬بجانب كل ذلك‪ ،‬و�ضعت بذور التمثيل‬
‫الدبلوما�سي الدائم الذي �أن�ش�أته (‪ )83‬رمبا يف �أكرث من منا�سبة ومكان‪.‬‬
‫هكذا كان حال الأندل�س �سموا وتعلما وتقدما مبقدار �أخذه باملعاين‬
‫الفا�ضلة كانت امل�صدر الوحيد لكثري من العلوم واملبتدعات والتقدم‪ ،‬هديتها‬
‫لعامل اليوم‪ .‬مثلما �أن الرتدي دون تلك املعاين ي�أتي مبباعدتها‪ ،‬لكن العودة‬
‫– والعود �أحمد – يوم تعود الأمة �إىل اخلري والقوة والن�صر كلما عادت �إليه‬
‫و�أخذت به واحت�ضنته‪.‬‬

‫‪ -82‬املُغْرب يف ُح َلى ا َملغ ِْرب‪ ،‬ابن �سعيد الأندل�سي‪ .182/1 ،‬نفح الطيب من غ�صن الأندل�س الرطيب‪،‬‬
‫املقري‪.379/1 ،‬‬
‫‪ -83‬نفح الطيب‪� .354/1 ،‬أزهار الريا�ض‪ .293-288 ،273-272 ،261-258/2 ،‬ا ِل َع رْب‪ ،‬ابن خلدن‪،‬‬
‫‪.311-309 ،299/4‬‬

‫‪153‬‬
154
‫‪24‬‬

‫مدينة هزمت‬
‫امرباطور ًا !!!‬

‫‪155‬‬
156
‫كان الفتح الإ�سالمي للأندل�س هدية التاريخ واحلياة واحل�ضارة‪ ،‬لتلك‬
‫الأر�ض وملا بعدها التي عرفت بالبرُ ت ‪ Pirineos Pyrenees‬بني‬
‫�إ�سبانيا وفرن�سا‪ ،‬ابتداء مما ي�سمى بالأر�ض الكبرية (فرن�سا وما يليها)‬
‫وكثري من بقية �أوروبا الغربية‪ ،‬هدية حملت كل �أفانني الرب واخلري وال�سعادة‬
‫(للدارين)‪.‬‬
‫ه�ؤالء الذين حملوا منهج اهلل تعاىل وبه انطلقوا ينريون الأر�ض حيثما‬
‫�أقاموا‪ .‬و�إذا كان املد الإ�سالمي قد توقف تدفقه �سنة ‪114‬ه‍‍ = ‪732‬م بقيادة‬
‫وايل الأندل�س املقدام الهمام املجاهد عبدالرحمن الغافقي وا�ست�شهد هو فيه‬
‫عند تور بواتييه ‪ Tours- Poitires‬بالط ال�شهداء‪ ،‬جنوب باري�س‬
‫نحو ‪ 200‬كيل‪ ،‬ف�إنَّ اخل�سارة عظمت به‪ ،‬و�إن حاول املد التدافع والرتافع‬
‫واالنبثاق هنا وهناك‪ ،‬لوقته وفيما بعده‪ .‬لكن توقف نهر اخلري من االن�سياح‬
‫يف تلك الأر�ض لي�سقيها غر�س ًا تكون ب�ساتني خ�ضراء مثمرة‪ ،‬بعد �أن كانت‬
‫�صحراء مقفرة‪� ،‬صحراء النف�س واحلياة واحل�ضارة‪ ،‬ويب�سها من اخلري‬
‫والنعم والإن�سانية‪ ،‬اعرتف بخريه الذاهب عنهم‪ ،‬حتى بع�ض الأوروبيني‬
‫املن�صفني‪.‬‬
‫دارت بالأندل�س لفرتة رحى فنت وحمن اقتحمت �ساحتها عنوة‪ ،‬ليو�ضع‬
‫لها حد مبجيء الداخل للأندل�س وهو عبدالرحمن بن معاوية بن ه�شام بن‬
‫عبدامللك‪� ،‬صقر قري�ش‪ ،‬بو�صوله �إليها �سنة ‪138‬ه‍‍ = ‪755‬م‪ .‬فاجتمع عليه‬
‫النا�س وبويع بالإمارة يف قرطبة يف ال�سنة نف�سها‪.‬‬
‫بد�أ الداخل – من خالل طاقاته وم�ؤهالته وح�سن �سيا�سته – جمع‬
‫الإمكانيات واخلربات والتجارب‪ ،‬ب�إقرار الأو�ضاع وبناء دولة مركنة موحدة‬
‫متما�سكة‪.‬‬
‫كانت على اجلانب الآخر – خلف اجلبل يف فرن�سا وما بعدها –‬

‫‪157‬‬
‫الدولة الرومانية املقد�سة‪� ،‬إمرباطورية فتية قوية يقودها �شارملان‬
‫‪�( Charlemagne‬شارل الكبري)‪� ،‬أقوى ملوك الأ�سرة الكارولنجية‬
‫(‪ ، )Carolingian Dynasty‬مل يرقه �أن تقوم دولة م�سلمة‬
‫يف �أوروبا جتاوره‪ ،‬فزينت له �سلطته �إ�سقاطها و�إحلاقها امرباطوريته‪،‬‬
‫يف وقت تبع انت�صاره على قبائل ال�سك�سون‪ ،‬قوية ال�شكيمة الثائرة عليه‬
‫واتفق �أن بع�ض والة املقاطعات الأندل�سية ال�شمالية‪ ،‬ال�سيما بر�شلونة‬
‫(‪ )Barcelona‬و�سرق�سطة (‪� )Zaragoza‬شقوا ع�صا‬
‫الطاعة على قرطبة (‪ ، )Cordoba‬و�أر�سلوا وفد ًا �إىل �شارملان‬
‫ي�ستدعونه ملهاجمة الأندل�س و�أخذها فجهز �شارملان جي�ش ًا �ضخم ًا من‬
‫جميع مناطق االمرباطورية‪ ،‬قاده بنف�سه‪.‬‬
‫وعند و�صوله اجلبال (�ألربت‪ ،‬ولي�س الربان�س(‪ ،))84‬ق�سم جي�شه ق�سمني‪:‬‬
‫ق�سم يقوده بع�ض قادته‪ ،‬يعرب �إىل الأندل�س �شرق ًا على البحر املتو�سط (ممر‬
‫باربنيان (‪ ، )Perpignan‬وق�سم يتواله هو يجتاز ممر رن�شفاله‬
‫(‪( )Roncesvalles‬باب ال�شيزرا) يف الغرب‪ ،‬ليلتقيا عند‬
‫مدينة �سرق�سطة (�شمال �شرق مدريد ‪325‬كيل) التي كان واليها م�شارك ًا‬
‫يف دعوته‪ ،‬لكن �ضمريه �صحا لهول هذه اخليانة‪ ،‬فغري موقفه وح�صن املدينة‬
‫�ضد حملة �شارملان‪ ،‬م�ستعد ًا ومرتب ًا وم�صمم ًا للدفاع عنها‪.‬‬
‫وملدة �شهر من احل�صار‪ ،‬باءت حماوالت �شارملان بالف�شل‪ ،‬فلم يفلح يف‬
‫دخول املدينة‪ .‬وجتمعت عليه هموم الف�شل وغريها‪ ،‬فعاد بكل جي�شه من‬
‫املعرب الغربي‪ .‬وبينما هو يف و�سطه وقعت له الكارثة الكربى‪ ،‬هاجم اجلي�ش‬
‫الأندل�سي – رمبا بالتعاون مع �سكان ال�شمال – م�ؤخرته وفيها خرية قادته‬
‫ف�أفنوها‪ ،‬وا�ستنقذوا من فيها من الأ�سرى والغنائم ومل ي�ستطع عمل �شيء‬

‫احلمْيرَ ي ‪ .435‬احللة ال�سرياء‪ ،‬ابن الأ ّبار‪ .179/2 ،‬تاريخ‬


‫‪ -84‬انظر‪ :‬الرو�ض املعطار‪ ،‬ابن عبد املنعم ِ‬
‫اجلغرافيا و اجلغرافيني يف الأندل�س‪ ،‬ح�سني م�ؤن�س‪� ،‬ص ‪.481‬‬

‫‪158‬‬
‫وهو ي�شهده بعينه حم�سور ًا ل�ضيق املمر و�صعوبة احلركة فيه حيث ال ي�سمح‬
‫باملرور �إال الفار�س بعد الفار�س‪ .‬وكان بينهم �أ�شهر قادته‪ ،‬منهم روالن‬
‫(‪ )Roland‬الذي نظمت حوله الكثري من الأغاين ال�شعبية يف الع�صور‬
‫الو�سطى الأوروبية‪ ،‬معتربة �إياه بط ًال قومي ًا‪ ،‬منها �أن�شودة روالن ال�شهرية‬
‫(‪ )La Chanson de Roland‬وال يزال قربه هناك مكتوب ًا‬
‫عليه تاريخها عام ‪161‬ه‍‍ = ‪778‬م‪.‬‬
‫وهكذا عاد �شارملان خائب ًا‪ ،‬نتيجة الوقفة الكرمية التي ظهرت وهزمت‬
‫الفرقة واخليانة‪ ،‬التي ردت يف نحورهم وظهورهم ودبورهم‪ .‬ف�أدرك �شارملان‬
‫بعدها ا�ستحالة هذا الأمر الوهم‪ ،‬فمال �إىل طلب ال�سلم مع الأندل�س‪ ،‬و�أر�سل‬
‫�سفارة لذلك‪ ،‬بل وعر�ض على عبدالرحمن الداخل امل�صاهرة الذي اعتذر‬
‫عنها وقبل ال�سلم مبعاهدة وقعت بينهما (‪.)85‬‬
‫وهكذا ترى كيف �أن اخليانة والعمالة جتلب �أكرب الأذى‪ ،‬لكن بااللتزام‬
‫والفهم يتم االلتئام‪ ،‬فال ي�ستطيع �أحد االقتحام وال يتم الإتيان من الداخل‪.‬‬
‫والأمل كل الأمل – �إن �شاء اهلل – �أن يتم تفهم ذلك والتعلم منه واالعتبار‬
‫له‪ ،‬وهو بع�ض املطلوب من وراء كل هذه احلكايات‪ ،‬وهو من الأهداف املهمة‬
‫لدرا�سة التاريخ عموم ًا‪.‬‬

‫‪ -85‬احللة ال�سرياء‪ .269/1،‬التاريخ الأندل�سي *‪ ،226-218 ،‬العالقات الدبلوما�سية الأندل�سية مع‬


‫�أوروبا الغربية‪ ،177-173 ،‬دولة الإ�سالم يف الأندل�س‪ ،‬حممد عبداهلل عنان‪ .‬نفح الطيب‪-330/1 ،‬‬
‫‪.331‬‬

‫‪159‬‬
160
‫‪25‬‬

‫مدين ٌة ‪..‬‬
‫�أنقذها اجلهاد‬

‫‪161‬‬
162
‫بنى الإ�سالم – مبنهجه الرباين – جمتمع ًا كرمي ًا قوي ًا �أمين ًا يف كل �شيء‪،‬‬
‫من النف�س الإن�سانية �إىل ميادينه ومبانيه الأخرى‪ ،‬لت�صل �إىل جمتمع ميتلك‬
‫كل تلك املوا�صفات التي جتعله عزيز ًا متح�ضر ًا �إن�ساني ًا لنف�سه وجمتمعه‬
‫قانون ومعيار‪ ،‬لكن عدم‬ ‫ٍ‬ ‫وكل من عاي�شهم وعاملهم ولغريهم‪ .‬ذلك ميزانُ‬
‫مالزمة هذا املنهج ومفارقته �أو مواربة منهجه تقود �إىل عك�سه ومبقداره‪.‬‬
‫وعندها ت�صبح الأمة نهب ًا لعدوها و�أهل الأهواء فيها‪ ،‬ومركب ًا للنهازين‬
‫من �أعدائها و�أبنائها املردة على ال�سواء‪ ،‬داخ ًال وخارج ًا‪ ،‬ال يرقبون فيها �إال‬
‫وال ذمة (ال عهد ًا وال �أمان ًا)‪ ،‬يتفننون ويعبثون‪ ،‬ي�صوبون وي�صبون وح�شيتهم‬
‫بكل لون يخطر على بال‪ ،‬وهم يدعون �أنهم يح�سنون �صنع ًا‪ .‬وهذا ما جرى‬
‫يف الأندل�س مرة �أيام الطوائف‪ .‬فعلينا �أن ن�ستقرئ التاريخ وندر�سه بعمق‬
‫نظر و�سرب غور‪.‬‬
‫وحني تعود الأمة (�أمتنا املجيدة العتيدة) �إىل منهجها‪ ،‬يعود �إليها كل‬
‫ما فقدته يوم �ضيعت منه‪ .‬واحلياة الإ�سالمية – وبكل حركة جمتمعها‬
‫ما�ضي ًا وحا�ضر ًا – ال يرمي عن ذلك وال يهيم‪ .‬وهذا جزء من تف�سري التاريخ‬
‫الإ�سالمي ومعرفة حركته و�سنن م�سريته‪.‬‬
‫فبعد تلك ال�صيغ الفا�ضلة فيه املتمتعة بالعافية‪ ،‬تالها – لأ�سباب –‬
‫النزول �إىل التخفف منها والتخلف عنها والتقليل �أو البطء فيها‪ ،‬فانزلقت‬ ‫ُ‬
‫�إىل هاوية عا�شت بالفرقة والت�شتت‪ ،‬ب�سبب �ضعف االلتزام‪ ،‬فذاقوا وباله‪،‬‬
‫وما �أنقذهم �إال العودة �إىل اخلط الكرمي ومنهجه القوي القومي‪.‬‬
‫وحكاية اليوم عن ع�صر الطوائف يف الأندل�س‪ ،‬القرن اخلام�س الهجري‪/‬‬
‫(‪)86‬‬
‫احلادي ع�شر امليالدي‪ ،‬وما حمله من كوارث كان منها‪ :‬مدينة برب�شرت‬
‫‪ -86‬راجع التاريخ الأندل�سي ‪ 359 ،‬وما بعدها‪ .‬الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة‪ ،‬ابن ب�سام‬
‫ال�شنرتيني‪ .145-137/3 ،‬جغرافية الأندل�س و�أوروبا‪� ،‬أبو عبيد البكري‪ .93 ،‬البيان املغرب‪ ،‬ابن‬
‫عذاري‪ 225/3 ،‬وما بعدها‪ .‬املغرب يف حلى املغرب‪ ،‬ابن �سعيد الأندل�سي‪�.239/1 ،‬أعمال الأعالم‪،‬‬
‫ابن اخلطيب الغرناطي‪� ،‬ص‪ .171‬نفح الطيب املفري‪ .454-449/4 ،‬دول الطوائف‪ ،‬حممد عبداهلل‬
‫عنان‪ .279-274 ،‬تاريخ الأندل�س وو�صفه‪ .71-69 ،‬الرو�ض املعطار‪ ،‬ابن عبداملنعم احلمريي‪-90 ،‬‬
‫‪ .91‬احللة ال�سرياء‪ ،‬ابن الأ ّبار‪.247/2 ،‬‬

‫‪163‬‬
‫(‪ )Barbastro‬التي �ضاعت بالتق�صري و�أنقذت باجلهاد وح�سن‬
‫التدبري‪ .‬تقع هذه املدينة �شمايل الأندل�س نحو ‪ 400‬كيل‪ ،‬فوق مدريد‬
‫و�شمال غرب بر�شلونة (‪ )Barcelona‬على �أحد فروع نهر �إبره‬
‫(‪ )Ebro‬الذي ي�صب (يقع) يف البحر املتو�سط عند مدينة طرطو�شة‬
‫(‪. )Tortosa‬‬
‫وع�صر الطوائف يف الأندل�س‪ ،‬هو ع�صر التمزق والت�شتت والتفكك �إىل‬
‫ممالك �صغرية‪ ،‬حيث بلغت �أحيانا فوق الع�شرين (‪ )87‬غ�صت به الأندل�س‬
‫وكان �سبب ًا يف ذهابها‪ ،‬ولو بعد خم�سة قرون‪ ،‬غ�صة مل يذهبها �أو يرفعها غري‬
‫بناء النف�س بالنقاوة للمباين واملعاين اخلرية‪،‬التي �أقيم عليها ذلك املجتمع‬
‫ابتداء واعتمد دوم ًا اخلط اخللقي الكرمي‪ ،‬يوم التزم بالبيعة والقيم وما‬
‫انهزم‪.‬‬
‫كانت كارثة هذه املدينة على يد النورمان‪� ،‬شعب �أ�صلهم من الأرا�ضي‬
‫املنخف�ضة يف ال�شمال الأوروبي تقلبت بهم ظروف النهب وال�سلب والعدوان‬
‫على كل �أحد حيث ميكنهم‪ ،‬وقا�ست وعانت منهم دول �أوربية الويالت‪ ،‬ثم‬
‫ا�ستقر ق�سم منهم – بعد �أن خرج بع�ضهم من وثنيتهم �إىل الن�صرانية‪،‬‬
‫و�أ�صله دين حمبة‪ ،‬وهم على حالهم مل يتبدل فيهم غري املظهر‪ -‬منطقة‬
‫احتلوها �شمال غربي فرن�سا‪ ،‬بداية القرن الرابع الهجري = العا�شر امليالدي‪،‬‬
‫وحملت ا�سمهم‪ :‬نورماندي (‪ .)Normandy‬وهبها لهم ملك فرن�سا‬
‫يومها‪� ،‬شارل الثالث الب�سيط �أو الأبله (‪. )Charles III, the Simple‬‬
‫وكان ق�سم منهم قد وفد �إىل روما (رومة)‪ ،‬خلدمة الكر�سي البابوي‪،‬‬
‫برئا�سة قائدهم جيوم دي مونري (‪. )Guillaume de Montreiul‬‬
‫عم يقربهم يف‬‫وملا �س�ألوا البابا �إ�سكندر الثاين ‪َّ :Alexander II‬‬
‫الن�صرانية‪� ،‬أ�شار عليهم بحرب امل�سلمني يف الأندل�س‪ ،‬خمالف ًا �أ�صول دينه‪.‬‬

‫‪ -87‬التاريخ الأندل�سي �ص‪323‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪164‬‬
‫ف�سارت جيو�شهم املحت�شدة يف النورماندي نحو الأندل�س‪ ،‬مع جيو�ش من‬
‫الفرن�سيني والإيطاليني‪ ،‬ذكر �أن عددهم بلغ الأربعني �ألف ًا‪� ،‬أغلبهم خيالة‪.‬‬
‫فكانت حملة �صليبية ب�أو�سع معانيها‪ ،‬تكوين ًا وهدف ًا وفعا ًال‪ ،‬ال ميلكون من‬
‫الن�صرانية احلقة غري ا�سمها حتى و�صلوا مدينة و�شقه (‪)Huesca‬‬
‫الأندل�سية‪ .‬فلما �أعجزتهم اجتهوا جنوبها ال�شرقي حيث مدينة برب�شرت‬
‫رم�ضان ‪456‬ه‍‍ ‪1064 /‬م‪ .‬فحا�صروها �أربعني يوم ًا‪ ،‬جرت خاللها مناو�شات‬
‫كر وفر‪ ،‬لكن املدينة �أنهكت واحتل النورمان مواقع خارجها‪.‬‬ ‫�شديدة بني ٍ‬
‫وقتل امل�سلمون منهم عدد ًا كبري ًا‪.‬‬
‫وحدث �أن النهر الذي ميد املدينة �أغلق‪ ،‬ثم املجرى الداخلي ال�سري‪،‬‬
‫حني دل النورمان عليه �أح ُد اخلونة‪ ،‬فمنعوا املاء بتخريبه و�إلقاء �صخرة‬
‫فيه‪ ،‬فانقطع املاء عن املدينة كلي ًا وقلت الأقوات وبات الو�ضع ُمه ّدد ًا باملوت‬
‫والفناء‪ ،‬مما ا�ضطرهم �أن َيعر�ضوا على النورمان اال�ست�سالم والت�سليم‪،‬‬
‫مقابل الت�أمني على �أنف�سهم و�أهليهم و�أموالهم‪ ،‬ويخرج املقاتلون وغريهم‬
‫كثري من املدينة‪ .‬وذلك مثلما حدث يف بلن�سية (كما �سي�أتي يف احلكاية‬
‫الأندل�سية ال�سابعة والع�شرين)‪ ،‬فوافق �سريع ًا النورمانُ ‪ ،‬الذين دخلوا املدينة‬
‫دخول الوحو�ش الهائجة‪ ،‬قت ًال وهتك ًا وفتك ًا‪ ،‬خلو ًا من كل معنى متجردين من‬
‫�أي م�ضامني‪ ،‬حتى بلغت �ضحايا القتل بالآالف �أو ع�شراتها‪ ،‬ب�شائع و�شنائع‬
‫يبدو معها املوت م�صري ًا مف�ض ًال مغبوط ًا‪ ،‬غري ما عبث بالنا�س دو�س ًا ورف�س ًا‬
‫بالرجل واحلافر و�أ�سر ًا‪ ،‬ن�سا ًء ورجا ًال و�أطفا ًال‪.‬‬
‫دم‪.‬‬
‫مت ذلك ب�شكل عبثي جمرد من �أي معنى وقيمة‪ ،‬لعر�ض �أو حيا ٍة �أو ٍ‬
‫فهذا هو انت�صارهم وفعالهم‪ ،‬وهم يتفننون فيه ويتقنونه وبه يتفوقون مما‬
‫جعل م�ؤرخونا يعتربونها نازلة �أعظم من �أن تو�صف‪.‬‬
‫وتفي�ض الرواية الإ�سالمية يف ذلك كله‪ ،‬ومنهم معا�صرون و�شهود عيان‪،‬‬

‫‪165‬‬
‫ال�سيما ما �سجله امل�ؤرخ الأندل�سي املعا�صر ابن حيان القرطبي (‪469( )88‬ه‍‍‪/‬‬
‫‪107‬م)‪ .‬والذي يخجل الإن�سان من روايته‪ ،‬وهو ما كانوا ي�ستمتعون به بولع‬
‫غامر ثم �إنهم اختاروا الآالف من �أبكار الفتيات امل�سلمات ووزعوهن على‬
‫�أمرائهم يف �أكرث من بلد من بلدانهم‪.‬‬
‫�ضرب هذا احلدث الأندل�س كله بزلزاله‪ ،‬فتجاوزت حالة الطوائف‬
‫وتنادت للجهاد‪ ،‬قاده �أبو جعفر �أحمد بن �سليمان بن هُ ود‪ ،‬الذي ُل َّقلب‬
‫بـ«املقتدر باهلل» لقيادته حركة اجلهاد هذه‪ ،‬ف�سار موكبه املبارك بالآالف‬
‫ال�ستة �أو تزيد نحو برب�شرت نهاية جمادى الأوىل من عام ‪‍‍ 457‬ه ‪1065 -‬م‬
‫ومت حتريرها من الوحو�ش الكا�سرة بعد ت�سعة �شهور من بداية املحنة املهلكة‬
‫املبيدة املبرية‪.‬‬
‫وهكذا �أذهب العجز والفرقة والف�شل املدينة و�أعادها اجلهاد واللحمة‬
‫والإقدام رغم الهول الغامر‪ ،‬حيث مل يجد الكالم والبكاء والدموع �أمام هذا‬
‫امل�شهد املريع و�أمثاله‪ ،‬حتى لو كان بع�ضها دمو َع التما�سيح‪ ،‬متا�سيح الب�شر‬
‫املتوح�شة ومهارة التمثيل‪.‬‬
‫وهذه ق�ضية مثل كثري غريها يف التاريخ الإ�سالمي –ال�سيما الأندل�سي‪-‬‬
‫غائب ومغمور جمهول‪ ،‬ومعرفته الزمة مهمة و�ضرورة حياتية وعلمية‬
‫و�إ�سالمية‪ .‬بجانب �أن عر�ض التاريخ الإ�سالمي ب�شكله ال�سليم املُ�ؤ�صل املُد ّقق‬
‫– مع التعرف عليه – يجعل اجليل �أكرث ح�ضور ًا وفهم ًا ووعي ًا‪ ،‬ي�ستوعب‬
‫�أحداث الع�صور – مع معرفة ع�صره – ب�شكل �أدق ويرتقي بفهمه للحياة‬
‫وطبيعة الإن�سان وطريق االرتقاء املقبل عليه‪.‬‬

‫‪ -88‬التاريخ الأندل�سي‪ 362 ،‬وبعدها‪.‬‬

‫‪166‬‬
‫‪26‬‬

‫�ضيعت ‪..‬‬
‫فوجدها العلماء‬

‫‪167‬‬
168
‫الأ�صالة وا�ضحة يف بناء الإ�سالم ملجتمعه‪ ،‬وقد تزل قدم‪� ،‬أو �أقدام‪،‬‬
‫فانتظر الكوارث‪ ،‬بع�ضها ج�سام‪ ،‬لكن ما دام �أهله مرتبطني به‪ ،‬يحومون‬
‫حوله‪ ،‬يفتح ذلك طريق العودة �إىل رحابه بفعل احلماة والرعاة والدعاة‬
‫يبعثهم اهلل تعاىل ال�ستعادة حيوية الأمة وخرييتها‪ ،‬بتجديد املعاين و�إقامة‬
‫املباين‪ ،‬رغم الرياح العاتية امل�ضيعة‪ .‬يوفرون جهدهم لهذا ب�إخال�صهم‬
‫وتفانيهم واحت�سابهم‪ ،‬فتهب روح الإميان ورياحه‪ ،‬طرية ندية �سخية‪.‬‬
‫ودوم ًا عند التياث الأمر‪ ،‬مرة ومرات‪ ،‬يقوم علماء الأمة(‪ -)89‬حماتها‬
‫احلقيقيون – يتبعهم النا�س‪ ،‬وغري قليل ممن كانوا �سبب نكبتها‪� ،‬أوبة‬
‫وتوبة‪ ،‬ويهدي اهلل �سبحانه وتعاىل من ي�شاء‪ .‬وقد ي�أتي النور اللأالء من‬
‫باطن الظلمة وي�شق الطريق من مرتاكم ال�صخور وينبثق املاء متدفق ًا من‬
‫�صم اجلبال وعاتيها‪ ،‬لكن باجلهد واالجتهاد واجلهاد‪ ،‬يتداوله �أهل الفطرة‬
‫واخلري والإميان‪ .‬هذه هي �صورة ع�صر ملوك الطوائف(‪ )90‬يف الأندل�س‬
‫(القرن اخلام�س الهجري = احلادي ع�شر امليالدي)‪:‬‬
‫وتفرقوا �شيع ًا فك ُّل حملة فيها �أم ُري امل�ؤمنني ومن ُرب‬
‫يوم �ألقوا ب�أيديهم �إىل عدو الأمة‪ ،‬وطلبوا معاونته على �أمتهم‪ ،‬وت�سابقوا‬
‫ملر�ضاته وحتقيق رغباته‪ ،‬و�أعطوه �أكرث مما يريد‪ ،‬تنازلوا له عن البلد‪،‬‬
‫ح�صون ًا وميادين‪ ،‬لكن بفعل العلماء‪ -‬توجيه ًا وقيادة وزعامة – تابعهم‬
‫عموم النا�س‪ ،‬لإخال�صهم‪ ،‬ف�آبوا �إىل الطريق‪.‬‬
‫�أدرك العلماء – �أول من �أدرك – فهبوا داعني �إىل جتديد املعاين‬
‫الإ�سالمية‪ ،‬واقت�ضاهم ذلك �سنوات كثرية‪.‬وكان �أولهم القا�ضي الفقيه‬
‫العامل �سليمان بن خلف‪� :‬أبو الوليد الباجي (ا َمل ِر ّية ‪474 Almeria‬ه‍‍‬
‫= ‪1081‬م)‪ ،‬ن�سب ًة �إىل مدينة باجه الأندل�سية ‪ ،Beja‬كان قد ذهب �إىل‬
‫املرية مبعوث ًا‪� ،‬سفري ًا وو�سيط ًا لل�صلح بني بع�ض الأمراء‪ .‬والباجي معروف‬
‫‪ -89‬التاريخ الأندل�سي ‪ 336،‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -90‬التاريخ الأندل�سي ‪ 323 ،‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫ب�أنه �صاحب العلم الوا�سع واملعرفة وامل�ؤلفات‪ ،‬والرحلة �إىل امل�شرق – كعادة‬
‫الكثري من �أهل الأندل�س – فرحل �سنة ‪‍‍ 423‬ه وعاد منها �سنة ‪ 440‬ه‍‍‪ ،‬ملدة‬
‫ثالثة ع�شر عام ًا‪ ،‬و�أقام ببغداد ثالث �سنوات‪ ،‬در�س ود ّر�س(‪.)91‬‬
‫وهناك �أجر نف�سه حلرا�سة الدروب‪ ،‬ي�ستعني بذلك على تكاليف معي�شته‪،‬‬
‫و«ملا قدم من ال�شرق �إىل الأندل�س بعد ثالثة ع�شر عام ًا وجد ملوك الطوائف‬
‫�أحزاب ًا متفرقة‪ ،‬فم�شى بينهم يف ال�صلح وهم يجلونه يف الظاهر وي�ستثقلونه‬
‫يف الباطن وي�ستربدون نزعته‪ ..‬فاهلل تعاىل يجازيه عن نيته»(‪ )92‬وكانوا يلقونه‬
‫بالرتحيب لهيبته «مقامه مقام م�ؤمن �آل فرعون‪ ...‬كان يرجو حاال تثوب‬
‫ومذنب ًا يتوب»(‪.)93‬‬
‫وملا كرث عيث الطاغية �ألفرن�سو ال�ساد�س ‪ Alfonso VI‬ملك‬
‫ق�شتاله‪ )Castilla( :‬وتطاوله وا�ستنزاف الأموال منهم انتدب‬
‫�أبا الوليد الباجي عمر املتوكل‪� ،‬أحد ملوك الطوائف يف �سرق�سطه‪:‬‬
‫(‪« )zaragoza‬للتطواف على �أولئك الر�ؤ�ساء ‪ ...‬يندبهم �إىل‬
‫مل ال�شعث ومدافعة العدو ويطوف عليهم واحد ًا واحد ًا وكلهم ي�صغي �إىل‬
‫وعظه»(‪.)94‬‬
‫فكان الباجي يتجول يف الأندل�س كلها لدعوة النا�س والأمراء �إىل النهو�ض‬
‫والأخذ بالأ�سباب واحت�ضان ما يف الكتاب‪ ،‬فلم يرتك مدينة �إال وزارها‪،‬‬
‫يجدد معاين الإ�سالم يف �أهلها‪ ،‬ويرتقي بنفو�سهم‪ ،‬عاونه يف ذلك �آخرون‬
‫منهم �أبو عمر يو�سف بن عبدالرب (‪463‬ه‍‍) عامل املغرب وابنه �أبو حممد‬
‫عبداهلل‪ ،‬ف�أخذت الأمة ت�ستجيب له �شيئ ًا ف�شيئ ًا‪.‬‬
‫‪ -91‬عن �أبي الوليد الباجي‪ :‬الذخرية‪ .84-76/2 ،‬املرقبة العليا‪� ،‬أبو احل�سن ال ُنباهي‪ .95 ،‬التاريخ‬
‫الأندل�سي‪ .344-338 ،‬املغرب‪ .404/1 ،‬معجم الأدباء‪ ،‬ياقوت احلموي‪ ،387/3 ،‬نفح الطيب‪،‬‬
‫‪ .85-72/2‬الرو�ض املعطار‪ .‬الديباج املذهب‪ .120 ،‬احللة ال�سرياء‪� .128 ،98/2 ،‬سري �أعالم النبالء‬
‫الذهبي‪ .545-535/18 ،‬الأعالم الزركلي‪.125/3 ،‬‬
‫‪ -92‬التاريخ الأندل�سي ‪ 339‬وما بعدها‪.‬‬
‫‪ -93‬الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة‪ ،‬ابن ب�سام‪.56/2 ،‬‬
‫‪ -94‬احللة ال�سرياء‪ ،‬ابن الأبار‪.98/2 ،‬‬

‫‪170‬‬
‫وهكذا هبت ريح الإميان ن�سيم ًا ندي ًا حرك النفو�س و�أعلى الر�ؤو�س و�أقام‬
‫الهمة يف الأرجاء‪ .‬ولقد �سمت بالقا�ضي الفقيه �أبو الوليد الباجي تقواه وعلمه‬
‫وهمته‪.‬وهكذا ق�ضى ثالثة وثالثني عام ًا يف الدعوة �إىل اخلري والتوحد ونبذ‬
‫اخلالف وجمع الكلمة‪ ،‬بهذه املعاين‪.‬‬
‫وكان تطوافه يف عموم الأندل�س بجانب ما كان يدر�س من طلبة‪ ،‬ي�أتي‬
‫الدر�س و�أثر امل ِْط َرقة يف يده‪ ،‬يقوم من التدري�س للطلب والذي به غرامه‪،‬‬
‫وذلك يف �أكرث من مدينة‪ ،‬مثل‪� :‬سرق�سطة وبلن�سية (‪،)Valencia‬‬
‫م�ضى على ذلك عمره‪ ،‬وق�ضى يف مدينة املرية (‪� )Almeria‬سنة‬
‫‪474‬ه‍‍‪ ،‬حيث جاءها �سفري ًا بني ر�ؤ�ساء الأندل�س ي�ؤلفهم على ن�صرة الإ�سالم‪،‬‬
‫ويروم جمع كلمتهم مع جنود �أمري املرابطني احت�ساب ًا هلل‪.‬‬
‫ولعله كان م�شارك ًا يف بث روح اجلهاد الذي انتهى بتحرير برب�شرت‬
‫(احلكاية الأندل�سية ال�سابقة)‪ .‬وكان بجانب ذلك قد م�شى بني ملوك‬
‫الطوائف بال�صلح وتر�سل لبع�ضهم‪ ،‬ي�صلح ذات بينهم‪ ،‬فمنهم من قبله‬
‫و�أقبل عليه ومنهم من ا�ستثقله و�إن �أظهر احرتامه‪ ،‬م�شبها ذلك مب�ؤمن �آل‬
‫فرعون‪.‬‬
‫وكانت دعوة الباجي و�إخوانه من علماء الأندل�س قد �أتت بحياة ر�شيدة‬
‫ووالدة جديدة للأندل�س‪ ،‬فلم ت�ؤد �إىل توحيده و�إزالة حالة الت�شتت فقط‪،‬‬
‫بل وردت كيد الأعداء مما قاد �إىل ا�ستمراره يف البناء والتقدم واالنت�صار‬
‫–و�إن تعرث �أحيانا– لكنه عا�ش بكثري من العافية حتى �أتاه اليقني‪.‬‬
‫فنه�ضت الأمة‪ ،‬ترف�ض حالة التمزق‪ ،‬قامت �ضد ملوك الطوائف التي‬
‫جعلت الأندل�س مهدد ًا من الداخل واخلارج‪ ،‬فردت – بعد التوحد – �أهل‬
‫تلك العاديات الذين �أرهقوها تهديد ًا وا�ستنزاف ًا وا�ستنزا ًال‪.‬‬
‫فهب النا�س بتلك املعاين حتى ن�ضجت جوانبها التي كان منها الوجهة‬
‫ال�شعبية النا�ضجة‪ ،‬ال�ستدعاء جي�ش املرابطني‪� -‬إخوة العدوة املغربية –‬

‫‪171‬‬
‫لإنقاذهم بقيادة الأمري يو�سف بن ت�شافني ال�سيما بعد �سقوط طليطلة‬
‫(‪� )Toledo‬سنة ‪478‬ه‍‍ ‪1085 /‬م‪.‬‬
‫وكان البد من الإعداد لذلك‪ ،‬الأمر الذي توج مب�ؤمتر ح�ضره العديد‬
‫من �أمراء الطوائف والعلماء والق�ضاة ومنهم القا�ضي الوزير �أبو بكر حممد‬
‫بن �أبي الوليد ابن زيدون (وهو ابن ال�شاعر �أحمد بن عبداهلل بن زيدون)‪،‬‬
‫وبزعامة املعتمد بن عباد الذي قال كلمته امل�شهورة حني حذر من املرابطني‪:‬‬
‫«لأن �أكون راعي اجلمال يف �صحراء �إفريقيا خري من �أن �أرعى اخلنازير يف‬
‫ق�شتالة»(‪� ،)95‬أي �أن ي�أ�سره املرابطون فريعى جمالهم يف �إفريقيا �أف�ضل من‬
‫�أن ي�أ�سره �ألفون�سو لريعى له اخلنازير يف ق�شتالة‪ .‬تلك كلمة �أنطقه بها روح‬
‫اجلهاد والت�ضحية واالحت�ساب‪.‬‬
‫فكانت معركة الزالقة (‪ )96()Sagrajas‬التي توجت ذلك كله‬
‫باالنت�صار يف ‪ 12‬رجب ‪479‬ه‍‍ = ‪�23‬أكتوبر ‪1086‬م‪ ،‬حيث ُو ِ�صفت ب�أنها مدت‬
‫يف عمر الأندل�س �أربعة قرون‪.‬‬
‫وهكذا كان ف�ضل العلماء والفقهاء والعاملني ‪ ..‬علماء النجدة والغرية‬
‫واالحت�ساب‪.‬‬

‫‪ -95‬التاريخ الأندل�سي‪ 391 ،‬وما بعدها‪.‬‬


‫‪ -96‬التاريخ الأندل�س‪ 403 ،‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪172‬‬
‫‪27‬‬

‫القا�ضي‬
‫الأمري ال�شهيد‬

‫‪173‬‬
174
‫ك ُّل يوم ي�أتينا الدلي ُل القاطع على �أن املاكرين ال عهد لهم �أبد ًا‪� ،‬إال‬
‫مل�صلحة �أو لنقمة طمع ًا‪ ،‬و�إن كان يف ذلك حتف �أمتنا كاملة‪ .‬وخري م�صلحة‬
‫هو �إحلاق الأذى بها‪ ،‬حتى �إنه ليكون العداء لها �سبب ًا يف اجتماعهم علينا‪.‬‬
‫على �أن ح�صن الأمة وعزتها و�سعادتها كلما كان �إيوا�ؤها �إىل كتاب ربها‬
‫والعمل مبنهجه واالعت�صام بتعاليمه‪ .‬فال خوف عليها عند ذاك‪ ،‬ال من عد ٍو‬
‫وال من دخيل �أو عميل‪ .‬وهذا كله م�شهود على الدوام‪ ،‬والتاريخ خري �شاهد‪.‬‬
‫وتتفتق �أو تتدفق على الأمة الويالت والكوارث والنوازل حيت ت�ضعف يف‬
‫الأخذ باملنهج‪ ،‬ولكن العلماء عليهم دوم ًا �أكرب امل�س�ؤولية‪ ،‬وخالل التاريخ قاموا‬
‫بها و�أدوا ما عليهم ورعوها حق رعايتها فعرفت الأُمة قدرهم وكانوا لها �أدالء‬
‫خمل�صني‪ ،‬يقفون �أمام الركب ويقودونه باحلق‪ ،‬اعت�صام ًا واحت�ساب ًا قائمني‪،‬‬
‫مبثابة كهف �أمني وموئل متني وملج�أ ح�صني‪ ،‬وتاريخنا �شاهد ودليل‪.‬‬
‫يربز ذلك كله بو�ضوح يف ع�صر الطوائف يف الأندل�س‪ ،‬القرن اخلام�س‬
‫الهجري = احلادي ع�شر امليالدي‪ ،‬حيث التمزق والت�شتت والتهتك‪ ،‬يوم‬
‫مال البع�ض عن اخلط اخللقي الوا�ضح الكرمي (‪ ،)97‬ا�ستهانة باملهمة امللقاة‬
‫عليهم‪.‬‬
‫كل ذلك ت�شهده يف هذه احلكاية‪ ،‬ذلك �أن مدينة بلن�سية‬
‫(‪ )Valencia‬الأندل�سية‪ ،‬نحو ‪ 350‬كلم �شرق مدريد ‪Madrid‬‬
‫على البحر املتو�سط �شهدت على يد العدو املحارب (�أيام الطوائف)‪ ،‬ما قد‬
‫ال يخطر على بال‪ ،‬على قدر ما فيها من اخلري واخلريات وال�شهامات‪ .‬كان‬
‫ذلك رغم ما م�ضى لهم من امل�سلمني من الت�سامح والعفو والإن�صاف‪.‬‬
‫وانظر ما قام به رذريق الفيفاري (‪)Rodrigo Diaz Viviar‬‬
‫املعروف بال�سيد الكمبيطور (‪)El Cid Campeador, Brave‬‬
‫‪ -97‬التاريخ الأندل�سي‪� :‬ص ‪.352‬‬

‫‪175‬‬
‫�أي‪ :‬ال�شجاع �أو البا�سل �أو املغامر‪ ،‬املو�صوف لدى م�ؤرخينا بالطاغية‪ ،‬الذي‬
‫كون جي�ش ًا ينال به من مناطق ومدن �أندل�سية‪ ،‬قت ًال ونهب ًا وهتك ًا‪ ،‬ال يرعوي‬
‫عن جرمية مهما بلغت ب�شاعتها‪ ،‬وبروح عدوانية وا�ضحة‪ ،‬ي�ؤيده عدد من‬
‫القادة هناك‪.‬‬
‫وملا ا�ضطربت الأحوال داخل مدينة بلن�سية توىل �أمر �إدارتها والدفاع‬
‫عنها قا�ضيها الفقية‪� :‬أبو �أحمد جعفر بن عبداهلل بن جحاف‪ ،‬وا�ستعد مبا‬
‫يلزم للدفاع عنها �أمام هذا الغول ال�شر�س‪ ،‬الذي قدم لدخول املدينة عنوة‬
‫فحا�صرها ب�إحكام و�شدة‪ ،‬ملدة ع�شرين �شهر ًا (‪ ،)98‬وعاث فيما حولها تخريب ًا‬
‫وحرق ًا‪ ،‬مانع ًا عنها �أقواتها وعام ًال على مقاتلة حماتها وحرق من يخرج من‬
‫املدينة لي ًال‪ ،‬كيال تقوى على الوقوف والدفاع �ضده‪ ،‬حتى بلغ ب�أهلها اجلهد‬
‫ف�أكلوا احليوانات امليتة �أحيان ًا‪.‬‬
‫وكان الفقيه م�صر ًا على الدفاع عن املدينة منتظر ًا العون من مناطق‬
‫�أخرى كتب �إليها‪ ،‬لكن �أنا�س ًا �أجربوه على املفاو�ضة والت�سليم (وال�صلح)‪.‬‬
‫فتم لهم ذلك ب�شروط ت�أمني النا�س وامل�س�ؤولني والقا�ضي على حياتهم‬
‫و�أهليهم وممتلكاتهم‪.‬‬
‫فدخلها الطاغية بجنده جمادى الأوىل �سنة ‪‍‍ 487‬ه = �أوا�سط ‪1094/6‬م‪.‬‬
‫ويف احلال احتل الأبراج و�سكن الق�صر‪ ،‬خالف ًا للمعاهدة املوقعة نف�س اليوم‬
‫ومع ذلك جمع �أ�شراف املدينة وتكلم عن �سيا�سة العدل فيها وحمايتها!‬
‫لكنهم م�ضوا يحتلون دورها ومروجها‪ .‬وا�ستمر يتحيف عليهم ويتحيل‬
‫حتى بلغ الأمر �أن �أحرق العديد من �أعالمها وعلمائها‪� ،‬أولهم زعميها‬
‫القا�ضي ابن َج ّحاف‪ ،‬مدعي ًا عليه ومتهم ًا �إياه بقتل حاكمها ال�سابق العميل‬

‫‪ -98‬التاريخ الأندل�سي البن الكردبو�س وو�صفه البن ال�شباط‪ .103 ،‬نفح الطيب‪ .456/4 ،‬دول‬
‫الطوائف‪ ،‬عنان‪.243 ،‬‬

‫‪176‬‬
‫و�أخذ �أمواله وحيله‪ ،‬وهو وليه يطالب بدمه(‪ ! )99‬والقا�ضي هو الذي �أبى‬
‫اخل�ضوع له‪.‬‬
‫ومت حرق القا�ضي يف حفل وم�شهد �أمام النا�س‪ ،‬وذلك بعد �أن �أمنه على‬
‫نف�سه وماله‪ ،‬ف�سجنه و�أ�سرته و�أذاقه �شديد العذاب �ألوانا و�أعدمه حرق ًا‪.‬‬
‫وروى بع�ض �شهود العيان ذلك‪ ،‬منهم امل�ؤرخ البلن�سي ابن علقمة (�أبو‬
‫عبداهلل حممد بن خلف ال�صديف‪ ،‬بلن�سية ‪‍‍ 509 – 428‬ه = ‪1116‬م)(‪ )100‬يف‬
‫كتابه «البيان الوا�ضح يف امللم الفادح»الذي �شاهد تلك احلوادث‪ ،‬ودون يوم ًا‬
‫بيوم امل�شاهد املبكية الدامية(‪.)101‬‬
‫حيث �أمر الطاغية بحرق القا�ضي الفقيه مع �أهله وبنيه و�أ�سرته كاملة‬
‫ف�ضج كل النا�س من ذلك حتى بع�ض �أعوانه ومن �أهل ملته (ورمبا حذر منه)‪.‬‬
‫فاكتفى بحرق القا�ضي ال�شهيد ب�أن حفر له حفرة يف �ساحة (وجلة) املدينة‬
‫التي تعرف اليوم يف بلن�سية برحبة القا�ضي ‪� Rahbatolcadi‬أمام‬
‫كني�سة ‪ Santa Catlina‬والتي �أ�صلها م�سجد رحبة القا�ضي ‪،6‬‬
‫و�أنزله فيها �إىل حجزته (و�سطه)‪ ،‬حماط ًا باحلطب و�أ�شعله فيه‪ ،‬والقا�ضي‬
‫الفقيه املجاهد ي�ضم النار �إليه بيديه ليكون �أ�سرع خلروج روحه‪ ،‬وهو‬
‫يقول‪ :‬ب�سم اهلل الرحمن الرحيم‪ ،‬وقب�ض على �أقبا�سها و�ضمها �إىل ج�سده‬
‫فاحرتق رحمه اهلل‪ ،‬وذلك يف جمادى الأوىل �سنة ‪‍‍ 488‬ه ‪1095 /‬م‪ .‬بعد‬
‫�سنة من معاهدة الت�سليم التي كانت من�سلخ (�آخر) ُجمادى الأوىل ‪487‬ه‍‍ ‪/‬‬
‫‪.)102(1094/6/18‬‬
‫ثم �أحرق هذا الطاغية �أعالم ًا �آخرين منهم ال�شاعر الأديب ال�شهيد �أبو‬
‫جعفر �أحمد بن عبدالويل البتي (البني) البلن�سي (‪.)103‬‬
‫‪ -99‬احللة ال�سرياء‪ .130/2 ،‬دول الطوائف‪.245-242 ،‬‬
‫‪ -100‬احللة ال�سرياء‪ .168/2 ،‬دول الطوائف‪ .251 ،‬الأعالم‪ ،‬الزركلي ‪.115/6‬‬
‫‪ -101‬الذخرية يف حما�سن �أهل اجلزيرة‪ .61/3 ،‬احللة‪.168/2 ،‬‬
‫‪ -102‬احللة ال�سرياء‪.126/2 ،‬‬
‫‪ -103‬احللة‪ .127/2 ،‬نفح الطيب‪.456 ،21/4 ،‬‬

‫‪177‬‬
‫وهكذا �أحرق العديد من اجللة والأعيان من �أهل بلن�سية وبعد �أن توىل‬
‫تعذيبهم يف �سجون‪ ،‬الرجال منهم والن�ساء‪ ،‬وهم يت�صارخون �أمام املحنة‪.‬‬
‫كل ذلك لأنهم اجتهدوا للن�صرة رجاء ا�ستم�ساك بلن�سية وبقاء الكلمة فيها‪.‬‬
‫ولقد اعترب بع�ض الغربيني املن�صفني هذا القمبيطور الطاغية رئي�س ع�صابة‪،‬‬
‫م�ستخف ًا بكل القيم الإن�سانية‪ ،‬حقود ًا (‪ .)104‬فنزعوا منه جميع ًا كل هال ٍة‬
‫�أخرى‪ ،‬مهما كانت مزرك�شة ومزوقة ومربقعة‪ ،‬فحقائق التاريخ تدمغه‪.‬‬

‫‪ -104‬ح�ضارة العرب‪ ،‬غو�ستاف لوبون‪ .278 ،‬العرب يف �إ�سبانيا‪ ،‬لني بول‪ .164 ،‬التاريخ الأندل�سي‬
‫‪.374‬‬

‫‪178‬‬
‫‪28‬‬

‫وقبل ي َد الوزير !‬
‫َّ‬

‫‪179‬‬
180
‫ال جتد �أ�صالة يف احلياة الإن�سانية ب�أبعادها املتنوعة كتلك التي ي�صيغها‬
‫الإ�س ــالم وي�صبغـهــا }‬
‫{ (البقرة‪ .)138 :‬ويبقى املجتمع الإ�سالمي كذلك حتى يف‬ ‫ ‬
‫حاالت ال�ضعف والتفلت والتدحرج فما �أن تتهي�أ الأجواء املنا�سبة حتى‬
‫ت�ستجيب للخري وتعود‪ ،‬بل وت�ستجي�ش بهواها نحوه‪ ،‬جارية يف خطه‪� ،‬آخذة‬
‫هداه ومداه‪ ،‬بل �إن بع�ضها حتى وهي يف حاالت ال�ضعف ت�أتي ب�صيغ كرمية‪.‬‬
‫ومهما يكن‪ ،‬ف�إن هبوب روح وريح الإميان‪ ،‬هي التي ترتقي بالإن�سان‬
‫وحياته و ُت َو َّر ُثه الثمار املتبارية‪ ،‬قوة وعمق ًا وابتدار ًا‪� .‬أما حني حتيا ب�أ�صالتها‬
‫فهي التي ال مثيل لها‪ ،‬ال حتيد وال تتبدد �أو تبي ُد بحال‪ ،‬مهما جرى وكان‪،‬‬
‫خالل الأعوام والقرون‪.‬‬
‫وه�ؤالء الآخذون باملنهج هم �أعمدة احلياة جمعاء‪ ،‬ترى من خاللهم‬
‫م�أتى الرقي الإن�ساين‪ ،‬م�أواه ومثواه‪ .‬ال ترى مناذجه �إال يف هذه الأجواء وال‬
‫لون له �إال بهذا البناء وال ي�ستطاب طعمه �إال كلما اقرتبت �إليه‪ .‬تطرب له‬
‫وتزداد ويعجبك امل�شي يف ركابه واحلداء ملوكبه واالنتماء لقافلته‪.‬‬
‫وهذا للحياة الإ�سالمية وجمتمعها بل ونتاجها‪ ،‬حتى يف �أوقات احل�سرة‬
‫واالنح�سار وترادف عوامل االندثار‪ ،‬ح�سابات رائقة و�أفاعيل �صادقة ومواقف‬
‫ثابتة‪ .‬كل ذلك لأن الأمر دين وال�سعي عقيدة والوقوف عندها قربى وعبادة‬
‫هلل رب العاملني‪ ،‬اقتدا ًء بر�سول اهلل الكرمي [ }‬
‫{ (الأحزاب‪.)21 :‬‬ ‫ ‬
‫يلوح لك ذلك بو�ضوح من خالل التعرف على حقائق التاريخ الإ�سالمي‪،‬‬
‫مرتوي ًا يف النظر �إليها وحم�سن ًا قراءتها مدقق ًا يف �أبعادها‪ ،‬قاعدة يف فهم‬
‫هذا التاريخ الإ�سالمي والتعرف على طبيعته و�إجادة تف�سريه‪ ،‬ح�سب �سنن‬
‫اهلل �سبحانه وتعاىل يف جمرى الأمور يف الكون واخللق واحلياة‪.‬‬

‫‪181‬‬
‫انظر �إىل ما جرى ع�شية ا�ست�سالم وت�سليم غرناطة للملكني الكاثوليكيني‬
‫فرناندو اخلام�س (‪ )FernandoV‬وزوجته �إيزابيل (‪)Isabel‬‬
‫(فردناند و�إزابيال)‪ ،‬يف الثاين من ربيع الأول �سنة ‪‍‍ 897‬ه = ‪1492/1/2‬م‪،‬‬
‫بعد معاهدة من �سبعة و�ستني بند ًا ت�ؤكد كلها ت�أمني النا�س على كافة حقوقهم‬
‫وتكرر توقيعها من ال�سلطات الكن�سية والر�سمية‪ ،‬التي ما �إن متكنت حتى‬
‫بد�أت بنق�ضها‪ ،‬بل وكذلك ب�إجبار الأندل�سيني على التن�صر‪ ،‬ومنعوا كل ما‬
‫هو �إ�سالمي وطاردوه و�أحرقوه‪.‬‬

‫ر�سم يبني ت�سليم مفاتيح غرناطة من قبل �آخر ملوكها (�أبو عبداهلل ال�صغري املعروف بالإ�سبانية‬
‫‪� )Boabdil‬إىل امللكني الكاثوليكيني‪� ،‬سنة ‪ 897‬ه ـ ‪1492‬م‬

‫وبد�ؤوا بالعلماء الذين كان منهم الإمام �أبو عبد اهلل حممد بن يو�سف‬
‫ا َمل ّواق (‪ ،)105‬عا ُمل غرناطة و�إمامها و�شيخها‪ ،‬املفتي القدوة احلجة خطيب‬
‫امل�سجد اجلامع الأعظم فيها �أح�ضروه �إىل الكني�سة‪ ،‬التي حلت للتو حمل‬
‫‪ -105‬جتد كامل الق�صة‪ :‬هجرة علماء الأندل�س لدى �سقوط غرناطة‪ .‬ظروفها و�آثارها ‪ 92‬وما بعدها‪،‬‬
‫‪.262 ،220 ،204 ،203 ،197 ،163 ،155 ،119‬‬

‫‪182‬‬
‫م�سجدها اجلامع‪ ،‬وعر�ضوا عليه التعاون معهم والتفاهم والتن�صر ترغيب ًا‪،‬‬
‫مقابل الذهب (ذهب �إبريز) واملجد واجلاه‪ ،‬ف�أبى‪ ،‬فهددوه بالتعذيب والأذى‬
‫واملوت ترهيب ًا فامتنع‪ ،‬ف�أذاقوه �شيئ ًا منه و�أدموه‪� ،‬إال �أنهم ر�أوا �أن يطلقوه‬
‫ا�ستدراج ًا و�إمها ًال‪ ،‬لعله يلني وي�ستكني في�ستجيب‪ ،‬لكنهم ا�شرتطوا عليه �أن‬
‫يقبل يد الطاغية الوزير ففعل‪ ،‬فالمه النا�س و�أنكروه عليه ف�سكت‪.‬‬
‫وبعد �أيام ظهرت له كرامة‪� ،‬إذ ما لبثت يد الوزير تلك �أن تورمت مكان‬
‫القبلة فيها وتوجع منها ف�أمر برد الإمام املواق �إليه وطلب منه الدعاء‬
‫لل�شفاء‪.‬‬
‫لكن مع ذلك ا�ستمرت حماوالتهم معه عن طريق الرتهيب والتهديد‬
‫بالقتل‪ ،‬وهو ما يعلمه نهاية وتقدم �إليها حمت�سب ًا‪ ،‬فما وجدوا فيه م�أرب ًا غري‬
‫تنفيذ ذلك‪ .‬فا�ست�شهد بني �أو حتت �أيديهم و�أمام �أعينهم‪ ،‬م�شهد ي�أن�سون‬
‫به‪ .‬فذهب �إىل اهلل �شهيد ًا يف �شعبان �سنة ‪896‬ه‍‍‪ ،‬بعد ت�سليم غرناطة بنحو‬
‫�ستة �أ�شهر‪.‬‬
‫وا�ستمر ذلك النهج حتى كانت حماكم التفتي�ش الغا�شمة‪ ،‬لكن الإمام‬
‫املواق ذهب �إىل اهلل �شهيد ًا مقب ًال غري مدبر قوي ًا ثابت ًا‪� ،‬إميانا واحت�ساب ًا‪،‬‬
‫ليبقى مثا ًال لكل حر كرمي �أ�صيل‪ ،‬رحمه اهلل تعاىل و�أكرمه وجزاه خري‬
‫اجلزاء على �إبائه جهاد ًا وا�ست�شهاد ًا‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫الواجهة اخلارجية للمدخل الرئي�سي ملا ي�سمى امل�صلى امللكي‪ ،‬وقد بني بعد �سقوط غرناطة بوقت‬
‫ق�صري مكان امل�سجد اجلامع‪ ،‬الذي حول �إىل الكني�سة الرئي�سية العظمي‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫‪29‬‬

‫وهَ ْن َد َ‬
‫�س الفقيه‬
‫م�ساج َدها‬

‫‪185‬‬
186
‫البناء الإ�سالمي للحياة الإن�سانية واملجتمع والفرد رائع و�أ�صيل‪ ،‬يطلق‬
‫�صاحبه يف احلياة يقيمها و ُيعليها وي�صونها ُملك ًا �أمين ًا م�صون ًا‪ ،‬ينطلق بحث ًا‬
‫عن طريق مبتدعة لالرتقاء والإعالء واالرتفاع بها‪ ،‬بدافع الأجر والقرب‬
‫من اهلل تعاىل‪.‬‬
‫و�إن مبناه مبنهج اهلل تعاىل يوفر تلك املعاين ويقيمها ويعمقها ويفتح‬
‫�أبوابها جديدة‪ ،‬يقودها �إىل الإبداع املتميز �إفراد ًا‪ ،‬واملتجدد �أعداد ًا و�إعداد ًا‪،‬‬
‫فتمتلئ احلياة باخلري والف�ضل والأمن‪ .‬يكون ذلك مبقدار الأخذ مبنهج‬
‫القر�آن الرباين‪ .‬وكل خربة لها اال�ستعداد والإمداد واالجتهاد‪ .‬وكذلك كانت‬
‫اخلربة تتح�صل ب�سرعة مثا ًال ب�أ�سلوب اجلالل واجلمال‪.‬‬
‫ومن هنا ينطلق امل�سلم يف احلياة ف�أينما ت�ضعه‪ ،‬خمتار ًا واعتبار ًا‪،‬‬
‫جتده ُيجيد و ُي ْح ِكم دوره و ُيق ّدم خريه‪ ،‬ب�شكل فيه املبادرة واالبتداء وح�سن‬
‫االختيار‪� ،‬إبداع ًا و�إروا ًء و�سبق ًا حتى �إن فعله يبقى مثا ًال يحتذى‪ ،‬ور�سم ًا‬
‫يرت�ضى‪ ،‬و�أ�سلوب ًا هادي ًا‪.‬‬
‫�سبق مث ٍري للإعجاب‪ ،‬والتعجب‬ ‫ولذا كان الإبداع يف كل امليادين ب�شكل ٍ‬
‫وال�سبقُ ال يف الزمن فح�سب بل يف النوع‪ ،‬وبذلك قدم امل�سلمون �أعاجيب‬
‫الإبداعات يف كافة امليادين مما يعترب مثا ًال و�أناق ًة وجما ًال‪.‬‬
‫فهم �إذن �أ�س�سوا �أمور ًا عا�شت احل�ضارات الأخرى عليها قرون ًا طوا ًال‪،‬‬
‫وما زالت �أ�صولها لكثري من مقوماتها التقنية‪ ،‬متتد وت�شتد و َت َّت ِقد‪ .‬ولبع�ضها‬
‫كان العجز والتخلف والقعود عن م�ضاهاتها ولو بعد قرون‪ ،‬رغم املثابرة‬
‫وال�سعي وامل�صابرة‪.‬‬
‫فغدت احل�ضارة الإ�سالمية ذات �أ�صول را�سخة َم َّدت العامل بالأ�س�س‬
‫احل�ضارية الإن�سانية‪ ،‬بذوق ولباقة ولياقة وفن ورقة ودقة‪ ،‬وب�إح�سا�س اجلمال‬
‫وامل�شاعر واحلنان‪ .‬وذاك وا�ضح ملمو�س �شامخ يف كافة جوانب احلياة‬
‫ومنجزاتها وميادينها‪ ،‬فكان ذلك �أكرب من التعوي�ض عن العمر الطويل‬

‫‪187‬‬
‫والذي ال يدرك ما يعطيه هذا املنهج بقوته وبنيته وربانيته‪ .‬حتى مبانيهم‬
‫امتازت باملعنى اجلمايل املعرب املف�صح عن مبناها ومعناها وات�سمت بالقوة‬
‫تعقيد‪ ،‬يف كافة �أمورها وحمتوياتها و�صورها‪ ،‬حتى‬
‫والب�ساطة وبدون �أدنى ٍ‬
‫مادتها عجنت من �أ�سهل و�أوفر و�أي�سر املواد املتوفرة ال�صافية‪ .‬اعتمدت‬
‫على املعنى دون احلجم وال�ضخامة واملظهر‪ ،‬ك�أنه ا�ستنباتٌ وا�ستمدا ُد‬
‫الندوة والنقاوة‪ ،‬وا�ستجواب وا�ستجالب ملعاين الإ�سالم املت�سمة بالعقيدة‬
‫القلبية ال�سمحة ال�صادقة والإميان القوي النبيل الأ�صيل‪ ،‬م�شاعر و�أحا�سي�س‬
‫ووجدان‪.‬‬
‫ذلك كله وا�ضح جلي بهي‪ ،‬فيما بقي من عماراتهم ومناراتهم ومبانيهم‪،‬‬
‫ال�سيما يف الأندل�س‪ ،‬الأمر الذي جعل �إ�سبانيا منذ نحو ربع قرن �أو يزيد –‬
‫(‪)106‬‬
‫وحتى الآن – �أول بلد �سياحي يف العامل‪ ،‬ب�سبب الآثار الإ�سالمية فيه‬
‫ال�سيما املتبقي منها‪ ،‬مت�أبي ًا على �أيدي العيث والعبث والتخريب املتعدي‪،‬‬
‫يف مباين قرطبة ‪ Cordoba‬و�إ�شبيلية ‪ Seville‬وغرناطة‬
‫‪ Granada‬وغريها‪.‬‬
‫وحكاية اليوم عن جزئية يف م�سجد قرطبة اجلامع‪ ،‬يف و�سط املدينة‬
‫الأبية الثكلى ال�صبور‪ ،‬التي تنقلك و�أنت تزورها �أو تذرع دروبها‪ ،‬تتفقد‬
‫مبانيها ك�أنها �أيامها الأوىل‪ ،‬لوال حزمة من جمالها الذاهب �أو املهاجر �أو‬
‫املتناثر‪.‬‬
‫وم�سجدها اجلامع(‪ )107‬هذا – الذي مل يكن يف بالد الإ�سالم مثله –‬
‫و�أنت تزوره لوال �أنه �أمامك حمتفظ ًا �شاخما ببع�ض �ش�أنه متما�سك ًا ببقية من‬
‫فنه‪ ،‬يلثم معماره �شيئ ًا من جماله‪ ،‬ال تكاد ت�صدق وجود هذا الفن املتفرد‬
‫النادر �أو عدمي املثال‪ .‬وهو يعلن عن ذلك ويناديك‪� ،‬سلطان ًا و�إميان ًا وحنان ًا‪،‬‬
‫‪ -106‬مع الأندل�س لقاء ودعاء ‪.33 ،‬‬
‫‪ -107‬عن م�سجد قرطبة اجلامع‪ ،‬انظر‪� :‬أندل�سيات‪ 157/22 ،‬وما بعدها‪ .‬التاريخ الأندل�سي ‪،244 ،‬‬
‫‪ .303‬مع الأندل�س ‪ 49 ،‬وبعدها‪.‬‬

‫‪188‬‬
‫علك ت�صافحه �أو تنافحه وتغازله‪ ،‬ولو �أمكن يحادثك وحتادثه‪.‬‬
‫وهو كذلك حتى هذه اللحظة‪ ،‬وقد احتمل مواجع الت�شويه والتحريف‬
‫والت�صريف‪ ،‬فكيف وقد م�ضى على بنائه ما يعانق ثالثة ع�شر قرن ًا (منذ‬
‫‪170‬ه‍‍ = ‪786‬م)‪ .‬تزوره مذهو ًال مرة وم�أخوذ ًا �أخرى وحمزون ًا بعدها‪ .‬لعل‬
‫اهلل تعاىل يرزقك زيارته وحماورته ومداورته‪ ،‬وقد تفنن فيه الوا�صفون‬
‫م�ؤرخني وجغرافيني وزائرين و�شعراء و�أدباء وعلماء‪� ،‬أقوا ًال و�أنغام ًا و�أ�شجان ًا‪.‬‬
‫وقد ا�ستحق و�صف �أحدهم «يحار فيه الطرف ويعجز عن ح�سنه الو�صف»‬
‫فلي�س يف م�ساجد امل�سلمني مثله تنميق ًا وطو ًال وعر�ض ًا (‪.)108‬‬
‫ف�أي نوع من املهند�سني املعماريني �أقاموا بناءه‪ ،‬تتداوله �أيديهم على‬
‫مدى قرون وك�أنها عم ٌل واحد بيد نف�س املهند�س‪.‬‬
‫م�ضت عاد ُة الفاحتني امل�سلمني �أن ين�شئوا‪� ،‬أول ما ين�شئون – بعد فتح‬
‫�أية مدينة – م�سجدها‪ ،‬يقيمونه ابتدا ًء بنا ًء يف �أر�ض بكر – ما �أمكن ذلك‪-‬‬
‫ال يتحيفون على �أحد فيه‪ ،‬وهنالك يف الأندل�س ي�ضعون ر�سمه وت�صميمه‬
‫وي�سددون قبلته‪.‬‬

‫‪ -108‬نزهة امل�شتاق يف اخرتاق الآفاق‪ ،‬ال�شريف الأندل�سي‪ ،‬الق�سم اخلا�ص بقرطبة وم�سجدها‬
‫اجلامع‪ .‬الرو�ض املعطار يف خرب الأقطار‪ ،‬ابن عبد املنعم احلمريي‪ 456 ،‬وما بعدها‪ .‬نفح الطيب‪،‬‬
‫‪.616 ،563 ،545 ،540 ،519 ،465 ،462 ،460 ،153‬‬

‫‪189‬‬
‫منظر جوي مل�سجد قرطبة اجلامع ويبدو كام ًال مط ًال على نهر الوادي الكبري‬

‫وكان عدد من التابعني دخلوا الأندل�س لدى �أول الفتح‪ ،‬كان منهم مهند�س‬
‫امل�ساجد الأندلي�سة الفقيه املجاهد الإداري‪ :‬حن�ش بن عبداهلل ال�صنعاين‬
‫(من �صنعاء ال�شام) دخلها �سنة (‪712 ‍‍/93‬م) جماهد ًا مع مو�سى بن‬
‫ن�صري‪ .‬وهو الذي توىل الإ�شراف على ت�أ�سي�س عدة م�ساجد يف مدنها‪ :‬جامع‬
‫مدينة البرية ‪� Elvira‬أ�شرف عليه وجدد قبلته‪ ،‬و�أ�س�س امل�سجد اجلامع‬
‫ب�سرق�سطة ‪ Zaragoza‬وو�ضع حمرابه‪ ،‬وم�سجد قرطبة اجلامع‬
‫الأول‪ ،‬كان على ر�أ�س جمموعة �أ�شرفت على بنائه وت�أ�سي�سه‪ ،‬ال�سيما حتديد‬
‫وتعديل وتقومي قبلته وتركيزها بيده وتوجيه حمرابه‪ ،‬ثم كان البناء احلايل‬
‫على و�ضعه ووجهته وحمرابه‪ ،‬الذي ابتد�أه الأمري عبد الرحمن الداخل قبل‬

‫‪190‬‬
‫�سنة ‪‍ 170‬ه ‪ .‬وتوالت الزيادات خالل �أكرث من قرنني‪ ،‬لكنها كانت كلها ك�أنها‬
‫بيد مهند�س واحد‪.‬‬
‫ويذكر �أن كني�سة نوتردام الباري�سية‪ ،‬التي �أن�شئت بعد ذلك بقرون‪،‬‬
‫ا�ستعني يف بنائها مبهند�سني معماريني �أندل�سيني‪ ،‬ورغم ذلك ال مقارنة‬
‫بينهما‪ ،‬ولكن هيهات �أين الرثى من الرثيا وملا �أريد لهذه الكني�سة �أن يكون‬
‫علو �سقفها �أعلى �أو مثل م�سجد قرطبة البالغ نحو ت�سعة �أمتار على عمود‬
‫قطره ‪�25‬سم كان قطر العمود يف تلك الكن�سية �أ�ضعاف ًا م�ضاعفة (‪.)109‬‬

‫واجهة كني�سة نوتردام (‪ )Notre-Dame‬الباري�سية القريبة من نهر ال�سني‬

‫‪ -109‬ح�ضارة العرب‪ ،‬غو�ستاف لوبون‪.574 ،‬‬

‫‪191‬‬
‫وحكاية اليوم تتعلق بهذا الفقيه املهند�س املجاهد‪� .‬إنه بينما اجلي�ش‬
‫الفاحت و�صل �شمايل �إ�سبانيا بقيادة مو�سى وطارق بعد فتح مدينة �سرق�سطة‬
‫(�شمال �شرق مدريد ‪320‬كلم)‪ ،‬و�أراد القائد االنطالق ملا بعدها �أخذ الفقيه‬
‫حن�ش بعنان فر�سه و�أوقفه قائ ًال له‪� :‬أيها الأمري رفق ًا بالنا�س لقد تبعوا وملوا‬
‫وكلوا‪ ،‬ل�سنني ويريدون اال�سرتاحة من عناء اجلهاد الطويل‪ .‬فتمهل‪ ،‬ف�ضحك‬
‫مو�سى كذلك وقال له‪� :‬أر�شدك اهلل وكرث من امل�سلمني مثلك‪ ،‬وبني �أن البد من‬
‫اال�ستمرار‪ ،‬بل زاد مو�سى كذلك‪�« :‬أما واهلل لو انقادوا لقدتهم حتى �أوقفهم‬
‫على رومية (روما) ويفتحها اهلل على يدي �إن �شاء اهلل»‪ ،‬ف�ساروا جميع ًا و�سار‬
‫هذا الفقيه املهند�س املجاهد‪.‬‬
‫�ألي�س يف موقف كل منهما و�أمثالهما من الآخرين جند ًا وفقهاء وعلماء‪،‬‬
‫ما يدل على هذا البناء الإن�ساين الذي يهن�أ بكل بناء ويرفع اللواء ويحيل‬
‫�صحراء احلياة �إىل حدائق غناء‪ ،‬رحمهم اهلل جميع ًا و�أثابهم خري اجلزاء‪،‬‬
‫وما عنده �أبقى‪.‬‬

‫‪192‬‬
‫‪30‬‬

‫�أراد الرهبنة ‪..‬‬


‫ف�أ�سلم‬

‫‪193‬‬
194
‫احلق �أبلج والباطل جللج (�أعوج‪ ،‬ملتب�س غري م�ستقيم) ُيقبل على‬
‫احلق – قبل غريه – كل من �سلمت نف�سه من االنحراف وا�ستقامت فطرته‬
‫و�أخ�ضع �إرادته للحق حيثما يظهر ولذلك ف�إنه خالل التاريخ‪ ،‬ابتدا ًء من‬
‫اليوم الذي �أنزل اهلل تعاىل كتابه و�أوحى �إىل ر�سوله الكرمي \ ‪ ،‬كان �أ�سرع‬
‫�إىل اعتناق هذا الدين‪ ،‬هم �أف�ضل النا�س �أخالق ًا و�أ�صفاهم فطرة و�أجودهم‬
‫ر�ؤي ًة وفهم ًا‪.‬‬
‫وانظر �أولئك الذين �أ�سلموا من �أول الدعوة الإ�سالمية‪ ،‬لكن الآخرين‬
‫قد يرون �أحقية وحجية و�صدقية هذه الدعوة‪ ،‬وت�صدهم �أمور وروا�سب‬
‫وموروثات وهم يتفاوتون يف ذلك وبه كان كل يوم يرد دائرة نور اهلل �أفراد‪،‬‬
‫كان كثري منهم حاربه مدة‪.‬‬
‫ومن مل يلتحق به‪ ،‬رغم معرفته باحلق كانت ت�صده اعتبارات متنوعة‬
‫مو َزعة (وموزِعة)‪ .‬وحتى اليوم ف�إن كثري ًا ممن در�س الإ�سالم‪ ،‬ورمبا يقرتب‬
‫منه‪ ،‬لكن للأ�سف تعوقه �أمور هام�شية تراكمية مغرقة تثقله وتقعده وتبعده‪.‬‬
‫رمبا �أية ر�سوبات وتراكمات وركامات‪ ،‬كما حدث مع الفيل�سوف الفرن�سي‬
‫رينان الذي �أ�شاد بالإ�سالم و�أ�شار علن ًا عن �شعوره الوا�ضح بالأ�سف ال�شديد‬
‫�أنه مل يكن م�سلم ًا (‪)110‬؟!‬
‫�أما �أهل الكتاب وعلما�ؤهم بالذات (يهود ًا ون�صارى) فقد �أ�سلم الكثري‪،‬‬
‫مبا عرف من احلق ب�صفائه }‬
‫{(البقرة‪ .)146 :‬و�أولهم املتن�صر ورقة بن نوفل‪� ،‬أبن عم خديجة‬
‫(ر�ضي اهلل عنها) زوج الر�سول الكرمي \ يف مكة املكرمة‪.‬‬
‫ثم يف املدينة املنورة حيث �أ�سلم ح ُرب اليهود عبداهلل بن �سالم وخالته‬
‫خالدة‪ .‬وكذلك خمرييق الن�ضري‪ ،‬والذي كان من علماء و�أغنياء وزعماء‬
‫اليهود‪� ،‬أ�سلم يوم �أحد وخرج مقات ًال وا�ستُ�شهد فيها فا�ستحق و�صف ر�سول‬
‫اهلل \ له‪« :‬خمرييق خري يهود»(‪.)111‬‬
‫‪ -110‬ح�ضارة العرب‪ ،‬غو�ستاف لوبون‪.579 ،‬‬
‫‪ -111‬نظرات يف درا�سة التاريخ الإ�سالمي *‪.107 ،‬‬

‫‪195‬‬
‫وخالل التاريخ و�إىل اليوم ي�سلم الكثري منهم‪ ،‬فعل ذلك العديد من‬
‫علمائهم ثم ي�ؤلف كتاب ًا‪ ،‬يذكر ق�صة �إ�سالمه‪ .‬كما فعل اليهودي الأندل�سي‬
‫الذي �أ�سلم و�أ�سرته نهاية القرن الرابع ع�شر امليالدي و�سمى نف�سه‪� :‬أبو‬
‫حممد عبداحلق الإ�سالمي‪ ،‬وو�ضع كتاب ًا يف ذلك (ال�سف املمدود يف الرد‬
‫على �أحبار اليهود)(‪ )112‬بني فيه – مما بني – ما يف كتبهم من الب�شارات‬
‫بالر�سول الكرمي ونبوته [‪.‬‬
‫وحكاية اليوم تتعلق ب�أحد علماء الن�صارى الذي در�س وهي�أ نف�سه و�أ�سرته‬
‫�أن يكون راهب ًا وعامل ًا بديانته‪ .‬وبعد درا�ستها ل�سنني طويلة نحو ربع قرن متنق ًال‬
‫بني البلدان‪ ،‬انتهى به املطاف �إىل الإ�سالم‪ ،‬يف ق�صة عجيبة‪ ،‬ذكرها يف كتابه‬
‫الذي و�ضعه بعد �إ�سالمه (حتفة الأريب يف الرد على �أهل ال�صليب)(‪ .)113‬بني‬
‫فيه بالدليل ثبوت نبوة نبينا حممد [ من ن�صو�ص الإجنيل‪ .‬كان قد تدرج‬
‫يف درا�سته الن�صرانية حتى غدا �أ�ستاذ ًا وعامل ًا فيها‪ .‬وتنقل من مدينة لأخرى‬
‫من �أجل ذلك‪ ،‬ابتداء من جزيرة ميورقة (‪ )Mallorca‬يف البحر‬
‫املتو�سط‪ ،‬موطنه‪ ،‬ثم الردة ‪ Lerida‬قرب بر�شلونة ‪Barcelona‬‬
‫‪ ،‬ثم �إىل مدينة �أخرى يف ال�شمال الإ�سباين �أو يف جنوب فرن�سا‪ ،‬حيث در�س‬
‫على �أحد �أكرب علمائهم‪ ،‬وبقي معه ع�شر �سنوات ي�ساكنه ويخدمه ويدر�س‬
‫على يديه ويح�ضر درو�سه اليومية يف الكني�سة ف�أحبه ال�شيخ (الق�سي�س) ملا‬
‫ر�أى من جديته و�صدقه و�إخال�صه‪ .‬وبعد �أن م�ضى على درا�سته نحو ربع قرن‬
‫حدث �شيء عجيب‪.‬‬
‫ذات يوم ذهب التلميذ (الراهب اجلديد) وا�سمه �أن�سيلموترميدا �إىل‬
‫الدر�س مع الطلبة الآخرين‪ ،‬لكن الق�سي�س مل يح�ضر‪ ،‬لمِ َا �أمل به‪ .‬و�أخذ الطلبة‬
‫يتناق�شون يف املعلومات ال�سابقة‪ ،‬فتذاكروا يف مدلول كلمة البارقليط اليوناين‬
‫‪ ، Periclyte, Periclytos‬التي تعني �أحمد متام ًا‪ ،‬التي‬
‫‪ -112‬هذا الكتاب مطبوع حديث ًا يف مدريد‪.‬‬
‫‪ -113‬هذا الكتاب مطبوع عدة مرات بع�ضها حمقق‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫�سبق للق�سي�س �أن �أ�شار �إليها يف درو�سه ال�سابقة‪ ،‬التي تباينت حولها �آرا�ؤهم‬
‫(الطلبة)‪.‬‬
‫وملا ان�صرفوا ذهب الراهب �إىل دار �أ�ستاذه الق�سي�س الذي �س�أله عما دار‬
‫بينهم‪ ،‬ف�أخربه عن كلمة البارقليط الواردة يف الإجنيل وب�شر بها عي�سى \‪،‬‬
‫واختلف الطلبة يف تف�سريها‪ ،‬و�أن بع�ضهم قال ب�أنها تعني نبي الإ�سالم حممد‬
‫بن عبداهلل [‪.‬‬
‫ف�س�أل الق�سي�س الراهب و�أنت ماذا تقول؟ قال‪ :‬بجواب القا�ضي فالن‬
‫يف تف�سريه للإجنيل‪ ،‬فقال له �أ�ستاذه‪ :‬ما ق�صرت وقربت‪ ،‬و�أثنى الق�سي�س‬
‫عليه‪ ،‬وقال وهو يبكي‪� :‬إن تف�سري هذا اال�سم ال�شريف يعرفه الرا�سخون يف‬
‫العلم‪ ،‬وتو�سل الراهب �إىل �أ�ستاذه �أن يبني له معناه‪ ،‬فقال‪ :‬هو ا�سم نبي‬
‫الإ�سالم – الدين احلق‪ ،‬و�إذا �أردت الدين احلق فاتبعه – فده�ش وتعجب‪،‬‬
‫فقال الراهب للق�سي�س (�أ�ستاذه)‪ :‬و�أنت؟ فقا‍ل‪� :‬أنا م�سلم‪ ،‬ولكن ال �أ�ستطيع‬
‫�إعالن ذلك باعتبار كرب �سني‪ ،‬لأنهم يقتلونني‪ ،‬فا�ستن�صحه عما عليه �أن‬
‫يفعله‪ ،‬قال‪� :‬إذا �أردت الدين احلق فاتبعه واذهب �إىل بلد م�سلم وهناك �أعلن‬
‫�إ�سالمك‪.‬‬
‫وفع ًال توجه �أن�سيلموا الراهب �إىل تون�س بعد �أن مر ب�أ�سرته يف جزيرة‬
‫ميورقة ل�ستة �أ�شهر‪ ،‬ثم �سافر �إىل تون�س عرب �صقلية ‪.Sicily, Sicilia‬‬
‫وهناك �أ�سلم و�أعلن �إ�سالمه و�سمى نف�سه عبداهلل الرتجمان لأنه امتهن‬
‫الرتجمة‪ ،‬وتزوج ورزق ولد ًا �سماه حممد ًا تربك ًا با�سم النبي حممد [‪.‬‬
‫وعندها �ألف كتابه املهم اجلدير بالقراءة واالهتمام والفهم‪� ،‬سائر ًا يف‬
‫�سنن املخل�صني ال�صادقني الأقوياء‬
‫رحمه اهلل تعاىل رحمة وا�سعة تامة �سابغة‪..‬‬

‫‪197‬‬

You might also like