Professional Documents
Culture Documents
الإسلام غدا
الإسلام غدا
العمل اإلسالمي
وحركية املنهاج النبوي يف زمن الفتنة
بسم اهلل الرمحن الرحيم
3
االستقرار والفوضى واإلحلاد ،يغطيها مجيعها مث يفيض على معاين
العصبيات املتضاربة واهليمان اجلماعي والفردي يف طلب القيم
املادية .ولو كان طريق اكتساهبا أن ميسخ املسلم الذي خلق للعزة
دودة لزجة تدوسها األقدام وتتقزز من نتنها النفوس السليمة.
حنن يف زمن الفنت نعيش ،وهي كقطع الليل املظلم قتامة
وإنبهاما ،وهي عنيفة تأكل األمة من بني يديها ومن خلفها ،بيد
الطاغوت األهلي ،وبسالح العدو الذي تداعت علينا أرساله.
ال نستعمل كلمة «جاهلية» يف حق اجملتمع املسلم ،فذاك مزلقة
إىل تكفري املسلمني ،وهو درب العنف الذي نسلك فجا غريه.
ومن جنبات دار اإلسالم تسمع مهسا خافتا يغالبه حسيس
الزحام املوسوس املهوس يف سوق الفتنة ،مهس املاليني السبعمائة
املغلوبة على إسالمها يشكو إىل اهلل عجره وجبره ،يريد العمل
اإلسالمي وحين إىل من يسمعه تكبري العمل اإلسالمي وهتليله.
وإن كان يصم آذان املسلمني املغلوبني على إسالمهم طنني،
بل زفري ،الدعوات القومية الظاملة املفرقة فذلك حداء ال تطرب
له األمة ،كما ال تتعرف األمة على نفسها إذا ما مساها قادهتا
املفتونون شعوبا ومجاهري ،والشعب تشعب وفرقة ،واجلمهور جتمع
ال يرجع إىل أصل .ولألمة أصلها فهي به كانت أمة وستبقى.
أمة اإلسالم نامت عن إسالمها زمنا ،وتلهت بطيب ذكرها
اخلور آخر دولة إسالميةيف التاريخ زمنا ،وأرغمت ملا أدرك َ
جماهدة على الرجوع لصيغها اجلغرافية املفرقة؛ فتقاتل اإلخوة
4
وحتامل بعضهم على بعض مبا حيمل اجلاهلني :األنانية القومية
والعنف العرقي .وكان من هذا التفتت التارخيي احلزين ما يسود دار
اإلسالم اليوم من نعرات ال تكتم هواننا على أعدائنا بل تفضحه.
نقدم هذا الكتاب للمسلمني الباحثني عن إسالمهم كما
نبحث ،يف خط نظري يعرج على واقعنا الغثائي ،يلتمس مالمس
القوة عند املاليني السبعمائة املغلوبة على أمرها ،هادفا لبعث
إسالمي وسيلته الرتبية مث الرتبية مث الرتبية ،ومقصده وحدة املسلمني
أمة متكاثفة متعاونة ،وغايته محل الرسالة اإلسالمية هلذه البشرية
الكادحة احلالكة املعذبة يف األرض ،بعضها بطغيان املعتدين،
وبعضها بثقل احلضارة املتخمة ،ومجيعها بنهم اإلنسان وهلعه
وضراوته وتكالبه على هذه الدنيا ،وقد ضاعت منه مفاتيح اخلري،
فال يهتدي إىل الطمأنينة والسالم سبيال.
إن ضعف املسلمني على دويالهتم املرتبص بعضها ببعض،
ما هو إال ضعفهم هبذه الدويالت ،ألهنا التعبري املاثل الختالف
القادة املتسلطني ،وعجزهم عن األخذ بسياسة القوة ،وهي سياسة
الوحدة .وإن هذا العجز ينم عن تشتت إرادة األمة يف أيدي من
عندهم مقاليدها السياسية؛ إرادة القادة تتجمع حول بريق األدوار
الزعامية واجملد الشخصي ،واألمة َشعبوها فتشتتت إرادهتا مع
تيارات األحزاب السياسية والدعوات اإلقليمية والشعوبية املتلبسة
5
بالصبغة الدينية والسافرة؛ فال إرادة لألمة املغلوبة على أمرها مهما
نصب القادة سرادقات االنتخابات ومهما خاطبوا «اجلماهري
الشعبية» يكيلون هلا الكالم املموه املعسول ،ليتم تعامل القائد
والرعية يف جو كثيف من الريبة واجلهل واجلهالة ،عليه غاللة من
الوعد الكاذب ال ختفي عن اخلبري فشل كال اجلانبني يف فهم
صاحبه.
موقفنا التارخيي موقف ضعف والضعف يدعو إىل القوة،
وإن أقرب ما ترد علينا القوة من الثكنات العسكرية ،فلذا كانت
دار اإلسالم بالد االنقالبية .وموقفنا التارخيي موقف فتنة مبعاين
اخلور والوهن والتشتت ،فلذا نعطي ألنفسنا بديال زائفا عن
اإل رادة الواعية املصممة الفاعلة ،بصنع شرعية انتخابية حيشر
إليها احلزب الثوري «املوحد» واألحزاب الربملانية مجاهري تساق
بالوعد والوعيد.
ومن الضعف والتشتت والفتنة والفرقة ال تتألف قوة موحدة
وال وحدة تصنع القوة ،أعين أن نشدان الوحدة بني األقطار
اإلسالمية كما هي اليوم سعي وراء السراب؛ هذه األقطار تكون
وحدات ألفت كل منها التعايش مع هزاهلا األهلي اخلاص ،وألفت
التعايش مع وضع دويل حيطنا يف ذنايب الركب اإلنساين ،وألف
قادهتا أن يلبسوا قناعا إسالميا مزيفا ليلجوا بنياهتم حمرابا تتجه
6
إليه األمة ،جزؤها السليم ،بإخالص وقدسية.
كل هذا يصور لنا تصويرا واضحا معاين الفراغ احلائمة حول
حماوالت التجميع السياسي لدار اإلسالم يف مؤمتراته وحماوراته ،وليس
لنا إىل الوحدة اإلسالمية احلق إال سبيل البناء اجلذري الذي يبدأ
بتحويل عميق يف وعي األمة ،يف وعي «الفاعل التارخيي» املتمثل يف
األعداد اهلائلة من مساكني املسلمني املغلوبني على أمرهم.
لقد بان فشل القادة يف األقطار اإلسالمية بعد جتارهبم املستبدة
ملنهاج اجلاهلية اليت جاءت وارثة لظلمنا األهلي املوروث ،فأتت
بطاغوت جاهلي بدل طاغوت مفتون .وما ولدت االنقاالبية
ببالدنا مولودا يصح أن نعده ليوم كريهة وأن نعتد به لريد لنا
كرامتنا اإلنسانية وعزنا اإلسالمي.
يقف اليوم قادتنا حائرين بني داعي العمل اجلاد الذي
تفرضه هزميتنا يف ميدان االقتصاد وميدان اجلالد ،وبني استعصاء
األمة عليهم بعد أن امتهنوها ورهنوها .هؤالء القادة ،املرتفون
فكريا مبا حتملوه من رجس العقالنية اإلحلادية ،املرتفون من كل
اجلهات بعاداهتم اجلاهلية ،مل يفقدوا حس املكائد واملصانعة؛
لذلك تراهم إن تأزمت هبم األزمات ،وقام إليهم الشباب العاثر
يريد ثورة منقذة زعموا له أن ما هبم من هوس اشرتاكي هو
االشرتاكية اليت ينشدها الشباب ،ولببوا دعاة املساواة واخلالص
7
االشرتاكي الشيوعي يشهدون عليهم األمة املشعبة اجملمهرة
أن اإلسالم ديننا؛ مث ال يكون تعريفهم ألنفسهم ولقومهم إال
أهنم عرب أو بنجاب ،أو ما سوى ذلك من األلقاب ،حتدهم
االشرتاكية من كل اجلوانب ،ويبقى اإلسالم شعارا تابعا .فهذه
مجهورية فالنية اشرتاكية إسالمية ،ولكل مجهورية أو قومية،
ملكية أو إمارية ،إسالمها واشرتاكيتها .وتتشابك عند القوم
معاين االشرتاكية ومعاين اإلسالم اختالط احلابل بالنابل فال جيد
االشرتاكيون املراقبون عند القوم اشرتاكية ،وال جيد املسلم إسالماً.
ال غرو أن ينشأ لنا جيل تظافرت عليه غزوات الكفر يف
مدارسه ومعاقله ،وضرسته يافعا طواغيت املرتفني امللوحني
بشعارات اإلسالم ،حىت أصبح كل ظلم وكل فسق يتسرت حتت
اإلسالم وحىت تنكر شبابنا إلسالمهم هلول ما يرون ،وللفراغ
املخيف الذي حييط هبم يف سياق تتألق بسمائه مشوس الثورة
امللحدة وأجنمها ،تيار غالب ال تقوم له يف وعي شبابنا شهادة
أمة بائسة بقي هلا من إسالمها ،يف صفوف املسلم األمي املسكني
أو عند العامل املؤمن الفار بدينه ،األصل العقدي ،لكنها ال متلك
أن ختطط طريق اخلالص ،طريق عمل إسالمي يستوعب ميادين
املبادئ واألهداف والغايات.
8
لن يطول تالعب قادتنا بالشعارات اإلسالمية ولن يطول
جهل أهل اإلسالم باإلسالم ،فال منفذ لنا إال اإلسالم احلق،
وإن اهلل فيما يبعث علينا من سياط التأديب باعثا لنرجع إليه،
وإنه ،له العزة ،لن جيمع علينا حشفا وسوء كيلة ،أال وإن احلشف
هو هذه القشرة من مرتفينا املمسكني مبقاليد أمورنا .ولن ندعو
إىل عنف أبدا ألن اإلسالم ما قام بعنف ولن يقوم ،إمنا خنط
منهاج النبوة القائم على الرفق واحلكمة للعمل اإلسالمي ونبني
حركيته .ولعموم الدعوة اإلسالمية منذ أبينا إبراهيم جمالس الفراعنة
واألكاسرة واملساكني على السواء ،خناطب القادة يف بالد اإلسالم
أوال؛ ندعوهم إىل أن يتحولوا عن دار اخلزي ليقودوا عمل األمة
اجلهادى .أهي دعوة تعجيز ؟ بل هي إقامة احلجة ليوم يقضي
اهلل فيه أمراً كان مفعوال .مث ندعو رجال الدعوة اإلسالمية أن ال
خيرجوا إىل ميدان الفكر إال بعد أن يكتشفوا املنهاج النبوي املنبين
على التجربة الشخصية ،أعين هذا العمق الروحي ،الذي حيصل
للعبد بعد أن يصبح متسكه حببل اهلل أوثق عنده من متسكه مبا
عنده .مث إذا كتب رجال الدعوة اإلسالمية ،نسأهلم أن يتجاوزوا
الشكوى من البلوى ليخطوا لنا مبادئ البعث اإلسالمي ووسائله
وغاياته ،ويكبوا فورا على حتقيق نظرياهتم املنهاجية يف تنظيم
الدعوة ونشرها .فإمنا تعرف العامل إذا جلست إىل غريه وإمنا يتبني
صالح النظر إن ثبت يف امتحان املمارسة ومبعيارها.
9
ها حنن أوالء نبدأ حبول اهلل وقوته ال حبولنا حبثا عن حركية
املنهاج النبوي للخروج من الفتنة ،ونبحث عن هذا «الفاعل
التارخيي» كما يعرب الفالسفة ،ونبحث عن هذه الكتل اإلسالمية
كيف حنررها ومما حنررها ،وعن الفرصة املتاحة لقادتنا ،وكل
املتنكبني عن إسالمهم من أهل املروءة والعلم واخلربة من أبنائنا،
أن يتوبوا وحيملوا لواء اإلسالم ،يف جهاده املرتقب ،ونبحث
عن تنظيم شؤون املسلمني يف عملهم االجتماعي واالقتصادي
والسياسي.
بيد أن كل حبث ال يدخل إليه مبنهجية واضحة بينة ،وكل
عمل ال يسلك به منهاج الحب لن يكون إال خبطا .وإن من
يكتب كتابة إسالمية يف زمننا إما أن يقول «أنا سين» أو «أنا
شيعي» أو يعرف نفسه بغري ذلك من التعريفات ،فذلك له منهاج
وذلك له منهجية ،ومن زاوية ما ورثه من مذهبية يعرض إسالمه.
وإن من فضل اهلل علينا أن مهد لنا سلوك الطريق الصويف،
واالصطالح ال يعدو أن يكون مذهبية إزاء مذهبيات ملن وقف
عند املصطلح وعند تاريخ الصوفية احلافل املتناقض .وملن سلك
طريق القوم أن يطلب إىل قارئه سعة صدر وسعة أفق وصربا طويال
حىت يسمع .ولئن قال أئمة الصوفية إن الطريق ما هي إال الكتاب
والسنة ،فليس من اليسري أن يدرك الناس أن جتاوز اخلالفات بني
10
املسلمني للتمسك بالكتاب والسنة يكمن وراء جتاوز اصطالح
تارخيي طاملا أضل الناس به بعضهم بعضا وضلوا.
املنهاج النبوي وحركيته كما نعرضهما اجتهاد ال ندعي أننا له
أهل إال مبا أهلنا اهلل ويل املتقني ،له العزة وله احلمد.
ونرجو من القارئ أن يرتيث يف قراءته ،فلعله جيد كلمات
مل يألفها وأسلوبا فرضهما علينا أن النظر اإلسالمي ملا يكسب
بعد آلية من التصورات واملفاهيم الدقيقة ،فنحن نكتب ونصوغ
تصورات إسالمية نعرب هبا ميدان الفلسفة واالجتماع والسياسة
واالقتصاد ،وإىل اهلل املوئل واملعاد.
11
12
الفصل األول
13
14
املنهاج
اإلنسان سلوك ،هذه كلمة يؤكد إغراءها كصورة حلقيقة اإلنسان
تعاقب الفلسفات على عرضها بشىت األشكال واملفهومات.
التاريخ وفلسفته ال موضوع هلما لو مل يكن اإلنسان سلوكا،
والفرويدية ال ترى يف اإلنسان الفرد وتارخييه إال عراقيل وعقابيل
سلوكه يف الصبا ،واملذاهب املادية تفسر اإلنسان املفرد واإلنسان
االجتماعي بسلوكه التارخيي ،فهو يصنع نفسه بسلوكه .مث إن
الفلسفات املعاصرة ،الوجودية منها والسياسية ،تعرف اإلنسان
بالنظر إىل مصريه ،فهو عند العقالنية املتأملة والعقالنية العملية
حركة متساوقة حنو مصري ما وعرب متناقضات تقوم يف وجهه.
ومعىن كل هذا أن العقل البشري اختار أن ينظر إىل اإلنسان،
وبالتايل إىل حقائق الكون ،من خالل املنطق اجلديل الدائب احلركة
وبالتايل إىل حقائق الكون ،من خالل املنطق اجلديل الدائب احلركة
احملرك لكل ما يتناوله بالبحث .وللمنطق اجلديل إيواناته املفضلة
عند املاركسيني وعند من جيري هبم السيل اجلارف يف وجهة
النشر التارخيية .وله بعد ذلك سحر ملا يفتحه للعقل من أسباب
النشر واللف والتقليب والتلوين لكل ما ميسه من أشياء وفكر.
فهو هبذا ضرورة لكل باحث يروم التعمق يف خمبوءات اإلنسان
15
خماطبا جيال ورد ُكدرات اإلحلاد املادي فهو ال يصدر عنها إال
بسلطان.
نعرض املنهاج النبوي كما جاء يف كتاب اهلل وسنة نبيه ،ال
جنتهد إال يف عرضه وفق دواعي الوضوح وخماطبة الناس على قدر
عقوهلم ،ما لنا حاجة إىل الفلسفة ومنهجيتها إال بقدر ما تكون
األساليب الفلسفية معربا حلوار بني قوم يستغشون ثياب الكربياء
مبا لديهم من سقط املتاع العقالين ،وبني رجال الدعوة اإلسالمية
الذين يرفضون كثريا املنهجية الفلسفية العقالنية يف أشكاهلا ،ألن
حمتواها يف نور اإلسالم ظلمة وظلم.
نلتقى صعوبتني يف اجتهادنا ،أوالمها حتميل اللسان العريب
مفاهيم ملا تتخصص باستعمال ،وملا تكتسب الدقة الالزمة،
وثانيتهما كسب تصورات 1إسالمية قرآنية نبوية وتوظيفها يف
النسق اخلطايب املنهاجي .وقد َحَل الشيوعيون العرب لغة القرآن
مفاهيمهم وتصوراهتم املاركسية ،ما تكبدوا إال عناء نقل الفكر
الرائد امللحد .وآن منذ حني أن خيرج املفكرون اإلسالميون منطا
موحدا.
تصوريا جمدِّدا َّ
1تصور concept :نعمد إىل هذه الوسيلة ،وسيلة التثبيت باملقابل األجنيب ،ألننا ال جند أقرب من
ذلك جدوى .على أن التقابل بني التصور القرآين النبوي ومدلول الكلمة األجنبية ليس كامل وال يصح،
فال يعدو األمر أن يكون تقريبا إىل أدق ما ميكن التقريب .ونكتب فيما يلي الكلمات التصورية اليت
نعتمدها مميزة خبط حتت كل كلمة.
16
رويدك أخي فإننا لن نأتيك من عندنا بشيء ما خال املنظار
الذي به تعود إىل قراءة قرآن ربك .فاملنهاج السلوكي جاءتنا
به الرسل ،واملنهجية طريقة للنظر يف املنهاج .وليس باإلمكان
أن نعرض املنهجية النظرية مبعزل عن املنهاج السلوكي .فستقرأ
املنهاج النبوي مبنهجية نبوية ،واصرب علينا إن لقيت يف أول
قراءتك عنَتا.
عرض املنهاج على القارئ املسلم دعوة إىل العمل اإلسالمي
ابتداء من التفكر يف رسالة األنبياء إلينا .ومبا حيمله املنهاج -ونستعمل
الكلمة منذ اآلن باملعىن السلوكي واملنهجي -من أسباب الكشف
عن واقع اإلنسان يتيح للمسلم جتديد عمله وجتاوز العوائق الناجتة
عن سوء الفهم وسوء التطبيق للرسالة املنزلة .سوء الفهم لإلسالم،
بل جهل اإلسالم العام ،يطلب أن يكون املنهاج أداة للمعرفة،
وسوء تطبيق الرسالة املنزلة يبغي أن يكون املنهاج وسيلة لبعث وعي
إسالمي ينفتح على ميادين العمل لتغيري ما بنا.
إذا سألنا :ملاذا املنهاج وفيم ؟ أجابنا الوقت وضالتنا فيه أن
ال معىن للمنهاج إال إذا كان التغيري هدفه ومقصده وغايته .وإذا
كان املنهاج يُعىن باملسلم الفرد ،وحيلل عوامل اإلردة يف نفسه كما
يعين باجلماعة املسلمة ،فذلك لكي يكون تغيري الفرد مع تغيري
اجلماعة وبواسطته مسايرا له.
17
معرفة اإلنسان والكون ووعي املسلم إلسالمه وملغزى وجوده
يف األرض ليتصرف وفق نظرته لنفسه وللعامل اخلارجي ،ذلك ما
جيعله املنهاج يف متناولنا .أال ترى أن املاركسي مثال ،أو الوجودي
يستطيعان تفسري تعامل اقتصادي أو موقف سياسي أو واقعة من
حرب أو سلم أو اضطراب فعوي على ضوء منهجية هي العماد
الفكري للمذهب الذي ينتميان إليه .فإذا عرضت للمسلم حالة
اقتضت تبصره وفهمه قبل سلوكه ،وقف جهله لإلسالم حجابا
عن التبصر ،فكان سلوكه اعتباطيا مرجتال .وقد يستفىت يف احلالة
اليت تتحداه للفهم والسلوك من يظنه بصريا بالدين ،فال جيد
إال تفسريا سلوكيا الجتهاد على خطي احلالل واحلرام ،وال جيد
إال فتوى تستند الجتهاد مزمن منقول ،فال سعة فيها العتناق
مشاكل املسلم واألمة اإلسالمية احلاضرة ،وال حيوية فيها لبعث
الروح اإلسالمي العملي ولتغيري ما بنا من مآس وفقر وضيق.
تفتت املسلمون تفتت فهمهم لإلسالم وسلوكهم وتفتت
مناهجهم ،فالفقه الشرعي يذكر منهاج احلالل واحلرام يف ظل
قانون وضعي طاغ ،والدعوة اإلسالمية تعمل وتتكلم مبنهاج
التعارض بني اجلاهلية واإلسالم ،إما مطالبة بأالحاكمية إال هلل،
وإما بشعار الفرار بالدين من الفتنة ،وما إىل ذلك .وقد يكون مث
أسبقيات يف الدعوة والعمل اإلسالميني ،فنحن مثال ال نستطيع
18
القيام بعمل إسالمي ما دامت السلطة السياسية يف أيد غري
إسالمية .يرى بعض رجال الدعوة أن املنهاج جيب أن يكون
مرحليا يُسبق التحرير السياسي .وقد عملوا على هذا ويعملون.
ونرى حنن أن الوقوف عند مرحلة ما وقوفا هنائيا قصور ،ألن
الرسالة متت ،وألن القرآن حيمل هذه الرسالة مفسرة بالسنة ،مث
ألن الدعوة اإلسالمية لن يكون هلا الفاعلية يف العقول واألفئدة
إن كان منهاجها وحمتواها أن ال حاكمية إال هلل دون وضع هذا
املبدإ يف خمطط للتجديد .هلذا فاملنهاج النبوي ،وقد متت الرسالة،
ينبغي أن يعرض اإلسالم عرضا جمددا حيمل للمسلمني األداة
الفكرية والنظرية البنائية ملمارسة إسالمية متكاملة .فباألداة الفكرية
املناهضة للتحدي اجلاهلي ،املستخلصة من لوثاته ،نتمكن من
فك إسارنا بواسطة حتليل اجلاهلية مبنهاجنا .وبالنظرية البنائية اليت
تأخذ يف اعتبارها واقع العصر ووصايا الرسول الكرمي ألمته بعدم
العنف يف زمن الفنت ،نفتح باب األمل هلذه األمة البئيسة جبهلها
وإعراضها عن حقها إىل باطل غريها.
املنهاج النبوي منهاج أمل وبشرى ،وأذان باخلالص للمسلم
اجلغرايف ولكافة أهل األرض .منهاج رفق ورمحة ،يزف لإلنسان
ورْوح اإلسالم .املناهج املادية تسجن الشقي بسلوكه نسمة احلياة َ
اإلنسان يف كمه ومادته عندما تعلمه أنه وليد حركة تارخيية
19
تصرفها املعاركة على اخلبز ،أو أنه سجني « الليبيدو» الفرويدية
حيوان بني احليوان .واهلل يدعو إىل دار السالم ،أرسل بذلك
رسله مبشرين ومنذرين ينبئون اإلنسان أن له قيمة مساوية إن آمن
واهتدى وذكر ربه فصلى.
20
اقتحام العقبة
تتجسد الفكرة املخلصة والطاقة احملررة يف طبقة العمال عند
املذهب املاركسي .فالعامل املستغَل هو الوجه اإلنساين الذي
انكبت عليه املاركسية وتنكب ،هو الفاعل املخلص وهو موضوع
احملَرك التارخيي .فخط النظر 1إىل املستقبل واملاضي،
اخلالص وهو َ
وحبل القوة املمتد على طول التاريخ وعرضه ،هو قوى العامل
احملروم التائق إىل عدل ومساواة .ومبا أن أفق اإلحلاد املادي هو
األرض وما فيها من تطاحن ،فإن غاية التاريخ وغاية وجود
اإلنسان هو انصاف احملروم وإعطاؤه حقه مما ينازع عليه القوي
الضعيف .ومعىن هذا تعريف اإلنسان يف دوابيته وأرضيته شيئا
حمدودا زائال مع املوت .فعند املاركسية ال جتد حرية يف فهم
اإلنسان وفهم موضعه يف التاريخ وال جتد ترددا .وقد برعت
عقالنية ماركس يف إزالة كل حرية وتردد يف هذا الصدد .ومن
هذا كانت العقيدة املاركسية هلا قوة وهلا جاذبية وسلطان
ومنهجيتها وما أسسته من هذه املنظومة 2الثورية تقدم لإلنسان
21
املعاصر لوحة فكرية جذابة تصور مبدأ اإلنسان وغايته ،وتعطي
تطبيقا متعدد النماذج جملتمعات تبنت العقيدة واملنهجية واملنظومة،
فصالت يف األرض وجالت وبلغت النجوم ،وقال املاركسيون إن
اإلنسانية بلغت الرشد فال ميكن أن يتجاوز الناس املاركسية.
وصدق الناس ملا رأوا الربهان يف هذه الصواريخ وهذه النهضة
االقتصادية اهلائلة.1
احلاجة هي األس الذي عليه انبنت املاركسية وسائر الفلسفات
الوضعية اجلاهلية .اإلنسان عند هذه الفلسفات ومنظومتها سلوك
حنو اخلبز حنو ارضاء احلاجة ،فإذا توسعت هذه الفلسفات اعتنقت
يف حيز احلاجة هذه النزعات الغََرزية اليت طاملا حاولت املاركسية
أن تغين هبا فكرها اقتباسا من جهود فرويد ،والفلسفة الوجودية
إذ جتعل مبدأ منهجيتها وأسه املوقف أمام املوت ال تستطيع أن
هتتدي إال إىل حومان يائس عند املسيحية الوجودية ،ويأس حزين
هابط عند الوجودية امللحدة ،يلحقها بالدوابية يف إطار أكثر
تنميقا من املاركسية اليت ذهبت أحالمها وبقيت كاحلة كئيبة.
جعلت املاركسية ميداهنا وحدها تاريخ اإلنسان على األرض،
وبارزت الظلم باحلقد الطبقي ،وحتكمت يف التاريخ وغريت.
وألغت أثناء ذلك كل مصري لإلنسان وكل سلوك ال خيدم دوابية
اإلنسان ،وأنكرت مع تاريخ احلركات الديينية والروحية كل وجود
1وقد تبني بعد أهنا هنضة كاذبة.
22
لنزعات اإلنسان حنو ما يروي غلته يف تعطشه للمثاليات .ويف
ركاهبا ال تسمع ذكرا إال للوسط اجلغرايف وثرواته ،وللتاريخ التطاحين
املوجه املكيف للبشر يسوقهم يف حتمية «علمية» للحل الوحيد.
هذه منهجية هابطة يف حكم املنهاج اإلسالمي ،رغم ما
يبدو من بطولة يف موقف احملروم صانع التاريخ ،ورغم ما برهنت
األحداث عنه من بسالة معتنقي الدين املاركسي وفاعليتهم.
هابطة هذه املنهجية ألهنا ختتار الطريق السهل ،وال تنتاقض فيما
تقول ،إذ ليست الثورة والعنف من أجل احلياة املادية األفضل
تزن ثقيال يف ميزان النظرة العامة لإلنسان وشرفه ودوره اخلالد
بعد املوت .هؤالء هم الثوريون امللحدون يعملون يف نظريتهم
أن للتاريخ جمرى وأن األمحق من يسبح معاكسا لتيار التاريخ.
والصورة الذهنية للسابح وفق التيار توضخ لك هبوط السابح
هلبوط وميله لألسهل .وهؤالء هم املاركسيون يعلمون أن الفاعل
التارخيي هي الطبقة العاملة ،فاإلسرتاتيجية أن حيمل الدعاة لقب
الرفيق جريا مع التيار .والتكتيك أن تسخر اجلماهري الكادحة مبا
يليق من التسخري 1لتقنع هي أيضا بلقمة خبز أفضل ،جريا مع
التيار الذي حيرمها احلرية وحيرمها كل معاين اإلنسانية.
هكذا نرى أن املنهجيات اجلاهلية ،وما مثلنا باملاركسية إال
1التسخري .manipulation :
23
ألهنا آخر ما وصلت إليه الدوابية ،فاعال وموضوعا واجتاها:
24
احلسي املتسلط على البيئة الطبيعية واالجتماعية.
وإن كانت الفلسفات املثالية تتحدث عن جوهر اإلنسان
وتبىن عليه ،فالفلسفة املادية السائدة منذ العلموية الوضعية ،ال
ترى لإلنسان جوهرا مستقال عن تارخييته .عند هيجل يتحقق
جوهر اإلنسان إذا عارض اجلدلية بينه وبني العامل اخلارجي يف
قابلياته 1اليت ال هناية هلا ،وعند اجلدلية اهلابطة يتحقق اإلنسان
بالسري مع التيار التارخيي احملتوم الذي يسد كل إمكانية ليست
إمكانية عدل التوزيع لألرزاق املادية.
قاعدة الفلسفة املاركسية أن اإلنسان خيلق نفسه بعمله يف
صراعه مع الرتاب والناس ،وقاعدة الفلسفة الوجودية أن اإلنسان
يتأله باستقالله يف األرض يف فرتة ما قبل املوت .وبعبارة أجلى
فقاعدة املاركسية هي :اإلنسان أمام احلاجة ،وقاعدة الوجودية:
استقالل اإلنسان أمام املوت .وكان ال بد من هذه املقدمات
لنضع قاعدة املنهاج النبوي ليسر الفهم بتعارض الشيء وضده.
هذه القاعدة هي :عبودية اإلنسان هلل الفاطر ،معناه أن اإلنسان
خملوق لغاية ،له خالق فطره فهو مواله .فاإلنسان قبل كل شيء
جوهر فاعل له إرادة وحرية يف االختيار فهو مأمور بالشريعة من
أجل ذلك.
25
أما البيئة الطبعية واالجتماعية اليت تكون وسط فعل اإلنسان
فليست يف املنهاج النبوي معطى مصدر معرفته التاريخ وجدليته،
بل هو عامل خملوق لغاية ،وهذا العامل مبا فيه من أحداث خارجية
عن ذات الفاعل اإلنساين ونوازع جبل عليها ،هو عامل فتنة،
أي عامل اختبار وامتحان لإلنسان املخلوق املريد احلر املأمور
بالشريعة .ومصدر املعرفة أن هذا العامل فتنة هو النبوءة ألن اخلالق
الفاطر أرسل رسله للخلق.
ها إن اإلنسان وضعناه حيث وضعه املنهاج النبوي ،ولعل
عملنا ال يقرب من حتري الفلسفة وشكها ،إذ مل نسبق موضوعة
فكرية 1تؤسس املنهاج .فلنقل إن هذا الوضع لإلنسان يف خط
نظر خاص ،مسلمة من املسلمات ،يأيت نقدها عرب التحليل
الالحق.
ولنا بعد هذا أن نكمل وضع املنهاج وصياغته .إنه منهاج
نبوي مبعىن أن رسالة اخلالق ملخلوقاته جاءتنا بواسطة رجال ُحلوا
األمر اإلهلي إلينا .فماذا قال اهلل بلسان أنبيائه فيم يعرف اإلنسان
ويرسم له طريقا للسلوك والعمل ؟ سورة واحدة من القرآن الكرمي
تنتصب أمامنا مشرقة واضحة ،تعطي القاعدة ملعرفة اإلنسان
ومعرفة فاعليته وحتدد له موضوعا واجتاها .قال اهلل تعاىل :
26
َنت ِحلٌّ بِ َه َذا ْس ُم بِ َه َذا الْبـَلَ ِد َوأ َ
يم َل أُق ِ الر ِح ِالر ْحم ِن َّ
اهلل َّ﴿بِس ِم ِ
ْ
ب أَن س ُ
ِ ٍ
نسا َن في َكبَد أَيَ ْح َ ال َالْبـَلَ ِد َوَوالِ ٍد َوَما َولَ َد لََق ْد َخلَ ْقنَا ِْ
ب أَن لَّ ْم يـََرهُ ُّ ِ ِ
س ُ ت َماالً لبَداً أَيَ ْح َ ول أ َْهلَ ْك ُ
َح ٌد يـَُق ُ لَّن يـَْقد َر َعلَْيه أ َ
َّج َديْ ِن ِ َّ
ساناً َو َش َفتـَْي ِن َو َه َديـْنَاهُ الن ْ َح ٌد أَلَ ْم نَ ْج َعل لهُ َعيـْنـَْي ِن َول َ أَ
ام فِي اك ما الْع َقبةُ فَ ُّ ٍ
ك َرقـَبَة أ َْو إِط َْع ٌ فَ َل اقـْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ َوَما أَ ْد َر َ َ َ َ
يـَْوٍم ِذي َم ْسغَبَ ٍة يَتِيماً َذا َم ْق َربٍَة أ َْو ِم ْس ِكيناً َذا َمتـَْربٍَة ثُ َّم َكا َن
اص ْوا بِال َْم ْر َح َم ِة أ ُْولَئِ َ اص ْوا بِ َّ ِ َّ ِ
ك الص ْب ِر َوتـََو َ آمنُوا َوتـََو َ ين َ م َن الذ َ
اب ال َْم ْشأ ََم ِة ِ َّ ِ
َص َح ُ ين َك َف ُروا بِآيَاتِنَا ُه ْم أ ْ اب ال َْم ْي َمنَة َوالذ َ َص َح ُ أ ْ
ص َدةٌ﴾ َعلَْي ِه ْم نَ ٌ
ار ُّم ْؤ َ
1
1سورة البلد.
27
عاملة دائرهتا اإلنتاج .يبقى ذلك ضمنيا ألن اجلدلية التارخيية ال
تتحدث عما وراء ذلك بل تنفيه وتطارده إن ظهر يف تطلعات
املثقفني والفنانني .أما الوجودية فمجال عملها ومداه دائرة املمكن.
ودائرة املمكن هذه مادية حمض ويقتضي العمل الوجودي التحرر
من كل قانون خلقي واجتماعي الستيعاب كل عمل ممكن.
هكذا يذوب اإلنسان وسعيه يف نظر الفلسفة املادية وسط
مشروعات خبسة إلرضاء احلاجة والتأله على املادة وإمكاناهتا،
وهنايته املوت.
أما يف املنهاج النبوي فاإلنسان عامل ألنه خلق ليعمل ،لكن
عمله يكون َكبَ ًدا وتعبا إن ظن أن لن يقدر عليه أحد ،ومل يتجه
صعُ ًدا القتحام العقبة .إ ْن تأله اإلنسان وطغى بسلطانه بعمله ُ
على جمال املمكن متجاهال مصدر هذا احلس الذي به كانت له
القوة كان يف تعب وشقاء.
حني يقول اجلاهلي :أنا هنا بقدريت على العمل وحساسييت
وحرييت ! يقول املسلم معرتفا خبالقه جميبا :بلى رب جعلت يل عينني
ولسانا وشفتني ! ويستعد لتلقي اهلداية من ربه من حيث يُعرض
اجلاهلي الكافر .إن رهبما هدامها النجدين ،والنجد يف اللغة عقبة
وارتفاع ،فاملسلم اقتحم جنده ملا حبس نفسه عند األمر والنهي،
واجلاهلي لبث يف كبد بعمله وتأهله كادا يف مغالبة البيئة الطَّبعية
28
واالجتماعية شقيا بذلك ،ال يتفتح أمامه باب الرمحة ورجاء ما
عند اهلل بعد املوت.
اجلاهلي يذوب سعيه يف التاريخ متمردا على صورة أمثولته
األسطورية «بروميثيوس» هاويا ملآله األرضي راضيا به ،ويتجاوز
املؤمن التاريخ ال باهلروب منه بل باقتحام عقبة الفتنة.
فموضوع املؤمن احلر العامل املقتحم للعقبة هو نفسه أوال حيملها
على االعرتاف خبالقه وعلى السري يف االجتاه الذي رمسه الشرع
اإلهلي ،مث عامل الفتنة القائم املشرتك بينه وبني اجلاهلي الكافر.
كالمها ولد يف بيئة طبعية واجتماعية ،وكالمها حباجة ألكل
وأمن ،كالمها مزود بعقل وحس ،وكالمها ورث تطورا ماديا شكل
ما بني يديه من أدوات ثقافية وتكنلوجية.
أحدمها ذاب يف الفتنة (نستعمل عبارة الذوبان ريثما نستبدهلا
بعبارة الرتف وهي املفهوم القرآين الدال على ذهاب اإلنسان
مع املعطى املادي واالجتماعي) ،والثاين اقتحم الفتنة ،أحدمها
من أصحاب املشأمة والكبد والشقاء األبدي ،واآلخر من
أصحاب امليمنة من أهل السعادة األبدية .والناظر لإلنسان بغري
املنهاج النبوي ال يرى أن اإلنسان يف كبد ،بل يفتنت بالرفاهية
املتاحة للجاهلي يف هذه الفرتة من تاريخ البشر ،فيرتاءى له
أن الكبد من نصيب املؤمنني ،بل إن ممن ينتسبون لإلسالم من
29
يفتنت بذلك فيخاصم ربه أن أتاح للكافر حياة رغدا ،وقد يطغى
فينكر ربه .هذه بعض أبعاد الفتنة وبعض معانيها ودروهبا.
اقتحام العقبة حيدد لعمل املؤمن الفاعل ذي اإلرادة احلرة
اجتاها صاعدا ،وينصب بني عينيه صورة مستقبل يتجاوز التاريخ
األرضي فيقرتح على املؤمن مسرية إىل اهلل من ماض يثقل حاضره
باملوروث ،عرب حاضر متموج بالفنت ورث اإلنسان ظلما اجتماعيا
غل رقاب اإلنسانية واستعبدها ،فاملنهاج السلوكي يف فك الرقبة
كما تعرب اآلية الكرمية واملنهاج يف إطعام اليتيم واملسكني رمحة
للمرتبَة واملقربة.
َ
ولعل من ألف منط الفكر اجلاهلي يتعرض فيقول :أين حنن اليوم
من عتق الرقاب وإطعام اليتيم واملسكني ،وإن ما تقرتحه املناهج
احملررة أعلى ألهنا تسعى أال يبقى حرمان بعد أن حتقق يف األرض
التحرير من الرق! واجلواب املنهاجي النبوي أن اهلل خياطب املؤمنني
باعتبارهم خلفاء وقيمني على األرض ومن فيها ،والرقاب مستعبدة
ال تزال ،ويـُْتم اإلنسان ومسكنته ال تغطيهما ما صنعه احملظوظون يف
مصانعهم اليت تظل البؤس والكآبة الصناعيني ال حيسدمها عليه ثلثا
اإلنسانية من احملرومني ،من هواء وماء .هذا هو معىن فك الرقاب
وإطعام اليتيم واملسكني يف عصرنا .وحني يأذن اهلل أن يعز اإلسالم
30
فستذل رقاب اجلاهلية وسيكون فك رقاهبا بالنسبة للمؤمن أخذها
بيد العزة والرمحة معا حىت تفيء إىل أمر اهلل ،ويتم خالصها من
املشأمة يف الدنيا واألخرة.
بني ماضي اإلنسان ومستقبله عرب حاضره املثقل بوراثة متحكمة
وآمال وخوف وشك يف املستقبل ،يقتسم املؤمنون واجلاهليون
هذه الكرة األرضية يكدحون فيها ويتعبون ويتعارضون منذ بعث
اهلل األنبياء برسالته ألهل األرض ،ويعز املؤمنون يف عصور اإلميان
ألهنم يقتحمون العقبة ،ويذلون فيصبح هلم قيمة الغثاء إن كان
عملهم سلوك جند الكبد املشؤوم غافلني عن رهبم .عندما تلتقم
الفتنة املؤمنني فيُتـَْرفُو َن فيها ،أي يذوبون يف لذائذ احلس أو حبائل
العقالنية واالستكبار ،يفقدون فاعليتهم وتعمى عنهم الشريعة،
فال يهتدون عملهم كما علمهم الرسل ،وال يهتدون إىل االجتاه
الذي فيه ينبغي أن يعملوا.
ويف فرتات من التاريخ يتقلص اإلميان إىل إسالم فردي ،فيعتق
الناس الرقاب ويطعمون اليتيم واملسكني ،كل على حدة ،متقربا
بعمله إىل اهلل ،ال يدخل ذلك يف جهاد مجاعي إلحياء األمة
وإطعامها وحترير رقاهبا .وهذا هو اإلسالم املوجود اليوم بني
ظهرانينا ،وهو فهم جزئي وممارسة جزئية للمنهاج النبوي .ذلك
ألن اقتحام العقبة ال يتم بأعمال الرب الفردية وحدها .كال !
31
حىت يدخل العمل يف اجلهاد اجلماعي لألمة ،ذلك ما قاله اهلل:
اص ْوا ِ َّ ِ
آمنُوا َوتـََو َ
ين َ
«فَ َل اقـْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ !… ثُ َّم َكا َن م َن الذ َ
اص ْوا بِال َْم ْر َح َم ِة». بِ َّ
الص ْب ِر َوتـََو َ
فما مل يكن املؤمن مع املؤمنني وما مل يشاركهم يف الصرب
والعمل والرمحة اجلماعية ،أي ما مل ينضم للجماعة ويتعاون معها
على إقامة شرع اهلل فإنه مل يقتحم العقبة.
املسلمون جيهلون إسالمهم فنشأ عن ذلك أو نتج عنه مجود
وتوقف حضاري وترد مع التيار اهلابط .أي بعبارة أوضح ،لقد
فقد املسلمون حركيتهم 1وفقدوا املبدأ الدافع واالجتاه ومعىن العمل
وإهنم لن يستعيدوا كياهنم اإلسالمي ولن يرجعوا أمة كما كانوا إال
إن حتركوا .وليس ما نراه يف دار اإلسالم من حتركات وضوضاء
إال اضطرابا ،ألن عمل املسلمني املرتفني يف الفتنة ينبثق عن
معرفة جاهلية ووعي جاهلي للذات واملوضع واالجتاه .وإن اقتحام
العقبة الذي هو املنهاج النبوي هو وحده احلركة اليت سيكتشف
املسلمون هبا إسالمهم .إهنم مىت زالوا عن مواضعهم احلالية ،أهل
السياسة عن تسخريهم للجماهري املشعبة وأهل القيادة عن التألة
والفسق وأهل املال عن األثرة واالستغالل ،ستظهر هلم قتامة
الوضع احلايل.
32
إذا كان الشباب يف دار اإلسالم جيهل اإلسالم ويتنكر له فذاك
ألن املواقع اليت حيتلها من يدعون اإلسالم من األجيال األشد فتنة
مواقع جاهلية تتصف باجلمود واألثرة واالحنالل اخللقي ،فذلك
املوت وذلك احلرمان وذلك اخلزي واهلزمية ! ويرى الشباب يف
األيديولوجيا وبالدها حركية فعلية وصراعا حنو دوابية أفضل وهم
يف بالدهم حيرمون حىت حق الصراع.
فالعمل اإلسالمي ليس تأمال منهاجيا للعروض األكادميية بل
هو دعوة إهلية نبوية تثري القاعد واملرتدي ليقتحم العقبة .وال يصح
عرض املنهاج النبوي إال يف سياق دعوة تصرخ مبشرة منذرة أن
حتركوا يا مسلمني ودعوا باطل غريكم إىل حقكم املنزل من ربكم!
العبارة القرآنية « :فال اقتحم العقبة!» عبارة غضب ورمحة
على هذا اإلنسان التعب النكد وله ،فال :أداة للتحضيض واألمر
الصارم اجلاد .وقد فسر اآلية مفسرون رأوا يف العبارة نفيا والتمسوا
العقبة اليت ما اقتحمها اإلنسان يف صخور جهنم .وبعض املفسرين
سبقونا للمعىن التحضيضي وبينوا العقبة وفسروها مبا يليها من فك
الرقاب وإطعام اليتيم واملسكني والكينونة مع املؤمنني املتواصني
بالصرب والرمحة .نقول هذا ملن يسألنا عن أدوات اجتهادنا .مث
منضي ننظر يف مستقبل اإلسالم واملسلمني.
لن يتكشف إذن اإلسالم للمسلمني إال إذا حتركوا من مواقعهم
33
اجلاهلية ،وباكتشاف صواهبم املستقبل يفتضح يف عني اجلميع
ضالل احلاضر .املسكني يف دار اإلسالم والصغري الذي مل يتكئ
على مراتب السلطان االجتماعي أو السياسي أو االقتصادي
يقارن بني حاضر قومه البئيس وحاضر البالد الثورية ،الثورية
بعمق ،فيحكم على فساد أوضاع بالده ،ويثور ويشقى ،ويلتمس
قلبا لألوضاع ليصلح األمر .واملنهاج النبوي الذي نعرضه يف سياق
دعوة إسالمية لعمل إسالمي إمنا هدفه ومقصده وغايته التغيري
للحاضر يف اجتاه إسالمي بعمل إسالمي وأسلوب إسالمي .فمن
يقتحم العقبة ؟ أيقتحمها مجاعة باألمة كلها ،أم تقتحمها األمة
مع قيادة إسالمية ؟ وما دام ليس لإلسالميني رجال الدعوة تنظيم
إسالمي فمن يقتحم العقبة ؟ وبعبارة أوضح :من هو الفاعل
التارخيي للتغيري اإلسالمي ؟ ويف أي جمال ؟ أهو طاقة العمل
اجملسمة يف «الربوليتاريا» كما يقول الشيوعيون ؟ أي يف جمال
املمكن كما يعرب الوجوديون ؟ اجلواب عن كل هذا جنده يف كتاب
اهلل وسنة رسوله عندما نبحث مبنظار املنهاج النبوي يف صفحات
هذا الفصل التالية .فإذا ذكرنا التجربة الصوفية فإمنا نستعمل
اصطالحا طاملا عمى عن املسلمني حقيقة املمارسة اإلميانية
اإلحسانية كما عاشها األنبياء والصحابة عليهم مجيعا سالم اهلل
ورضوانه .وتتساوق حركية املنهاج النبوي يف خصال عشر هي
صلب الكتاب والسنة.
34
اخلصال العشر
مابني احلياة واملوت جمال زمين لعمل اإلنسان ،وهذا العامل مبا
فيه من امكانيات لإلنسان السادج ولإلنسان املسلح بالعقالنية
التكنولوجية على السواء جمال حيوي يشقى فيه ويسعد ،ويتوسع
فيه أو يضيق حسب هذه العالقات البشرية اليت تربطه بالعدو
والصديق واملعاون واملنافس واألسرة والقوم .بيئة طبعية بشرية هي
الوسط الذي ميارس فيه اإلنسان كدحه وصراعه من أجل احلياة.
اإلنسان الساذج قليل احلول يقضي عمره يف مغالبة القلة،
واإلنسان املسلح بالتكنولوجيا يعلو على دواعي القلة فيعمل يف
اجتاه املمكن ،أي بال وزاع خارج عن مقتضيات النظام واألمن
االجتماعيني .كل ما تتحيه له احلذاقة الصناعية والكثرة إلرضاء
شهواته فهو له مطلب ال تـَُقيِ ُدهُ عنه إال حقوق غريه ،وهكذا فكال
اإلنسانني يستهلكه الصراع من أجل احلياة ،فيذوب األول يف كدح
من أجل العيش ،ويذوب الثاين يف مطاردة اللذة ،ذلك جائع
شقي جبوعته منهمك يف صور ما حرم منه ،وهذا مستهلك ذهبت
عنه معاين اإلنسانية وبقيت دوابيته .هذا الذوبان واالستهالك
نعرب عنه بكلمة الرتف وهو مفهوم قرآين .وإن كان الرتف
35
يف اللغة االستهالك واالهنماك والذوبان يف اللذة فنحن نوسعه ليشمل
كل قصور وكل ارتداد عن اقتحام العقبة .فنستعمل فعل أُترف 1نظرا
﴿و ْارِجعُوا إِلَى َما أُتْ ِرفـْتُ ْم فِيهِ﴾.
لقوله تعاىل للكافرين يوم الدين َ :
وهكذا يكون لدينا تصور متكامل يعطينا وسيلة لتأمل األنسان املرتف
بفكره أو بلذاته وممتلكاته أو بالسياسة وطلب اجلاه ،باعتبار أن كل
ما أترف فيه اإلنسان فإمنا يعوقه عن اقتحام العقبة.
احلياة والبيئة واجملتمع جماالت يأخذها العقل على أهنا ُم ْعطًى
لإلنسان موروث ،فإن كان هذا اإلنسان جاهليا ،وحنن نعيش يف
جاهلية جهالء ،مل يكن هذا املعطى إال فرصة للمتاع ومل تكن
لإلنسان غاية إال احلياة يف أحسن ما يتمناه .فيكون صراعه
مفضيا إىل تَرف من نوع ما .من حصل على التكنولوجيا وأحرز
الكثرة والوفرة أُترف يف استهالكه ،ومن ُحرم ذلك أُترف يف
مطالبته وثورته ومسى متخلفا .ومن خالل مبدإ الصراع اجلاهلي
وغايته االقتصادية احملض ،تستحيل معاين احلرية واإلنسانية والظلم
شرف اإلنسان يف نظرهتا ُ والعدل إىل نسبيات اقتصادية أرضية،
اس مبا عنده من فرص إلرضاء مستوى عيشه املادي ،وحريته تـَُق ُ
شهوته ،والظلم والعدل ال يتعديان مقادير الرزق املتصارع عليه.
هبذه التصورات يسبح الفكر اجلاهلي واملمارسة اجلاهلية يف
1ميكن أن يقابل معىن فعل «أترف يف» مفهوم القاموس الفلسفي .»s’exténuer dans« :
36
جماالت احلياة .ومبعيار هذه التصورات يوصف املسلمون بأهنم
أقوام متخلفة .وال بد لنا أن نستبصر يف هذه التصورات قبل
أن تقبل على اقتحام العقبة وأن نتعلم ماهية العقبة اليت أمرنا
باقتحامها .أهي عقبة التخلف ؟ إذن فغايتنا أن نرتف يف اجلاهلية
ونذوب فيها سائرين على دروب الصراع من أجل التصنيع أو
منهني إىل جمتمع استهالكي ،وعندئذ فال حاجة بنا لإلسالم وال
مطمع يف محل رسالة اخلالص لإلنسانية.
ما هي احلرية وما هو العدل وما هي اإلنسانية ؟ إذا رجعنا
مة أننا عبيد هلل مأمورون ،فإننا نتلقى جوابا غري جواب إىل مسلَّ ِ
اجلاهلية .احلرية اجلاهلية حرية للخوض يف اللذات املمكنة ،واحلرية
اإلسالمية أن تكون من أصحاب امليمنة .العدل اجلاهلي توزيع
للرزق باملعاركة والكيد السائدين يف جمال االقتصاد ،والعدل
عدول عن الرتف يف الدنيا إىل مواجهة الواجب اإلهلي.
اإلسالمي ٌ
اإلنسانية اجلاهلية دوابية منقطعة يف األرض ،حمط مهتها املريخ
عرفنا هبا فاطرها طائفتان ،أصحاب ميمنة وزحل ،واإلنسانية اليت َّ
وأصحاب مشأمة .والفيصل يف كل ذلك اإلميان والعمل الصاحل.
لكيال نتيه عن العمل اإلسالمي واجتاهه نتحقق أوال من ماهية
العقبة باحثني عن ذلك يف كتاب اهلل تعاىل .إننا إذ نعرفها بكل
أبعادها حيصل لنا تصور مركزي .هذا التصور هو :العقبة :الفتنة.
37
ْحيَاةَ لِيَبـْلُ َوُك ْم أَيُّ ُك ْم
ت َوال َ قال اهلل تعاىل ﴿ :الَّ ِذي َخلَ َق ال َْم ْو َ
﴿ونـَبـْلُوُكم بِ َّ
الش ِّر َوالْ َخ ْي ِر س ُن َع َمالً﴾ وقال عز وجل َ : َح َ
أْ
فِتـْنَةً﴾ ،وقال عز وجل من قائل ﴿ :إِنَّ َما أ َْم َوالُ ُك ْم َوأ َْوَل ُد ُك ْم
فِتـْنَةٌ ﴾ وهذا كثري جدا يف القرآن.
ومؤداه أن وجودنا يف الدنيا إمنا كان من أجل االختبار
ضعنا الفاطر سبحانه يف بيئة مادية إنسانة تربطنا هبما واالمتحانَ ،و َ
عالقات متشعبة ،وأرسل إلينا مناذج سلوكية مع أنبيائه املتعاقبني
ليبلونا هل حنسن العمل وهل نغلب ضراوة غرائزنا وطاغوت عقلنا
وكربيائنا .فنحن يف وسط ابتالء يف وسط فتنة.
العقبة هي الفتنة ،هي جمال االختبار ،وكأن احلياة وأدوارها
وأحداثها مسرح إهلي تعطى فيه حرية اإلرادة للممثلني أن يتصرفوا
وفق برنامج مسبق شاق يشكل عقبة ،فمنهم من يتجاوز مراحل
العقبة فيخرج من الفتنة ناجحا ،ومنهم من يُرتف فيما ُزين به
املسرح من ملذات فيفنت ويضيع.
السلوك اإلنساين جيري يف جمال هو باعتبار طبيعته ومشاقه
عقبة ،وهو باعتبار مغزاه وغاية خلقه فتنة .فالسالك يقتحم العقبة
على علم تام مبا جاءته به الرسل :أن الدنيا متاع الغرور وأن
اآلخرة دار النعمة والقرار .فإما يكفر بالرسل فهو جاهلي ،وإما
يصدق لكن يعجز عن االقتحام فهو مرتف وهو مفتون .وفيما
38
يلي مما نكتب نقصد باجلاهلية واجلاهلني الكفار من سكان دار
احلرب ،ونغطي ردة بعض سكان دار اإلسالم إذ نطلق لفظ الرتف
والفتنة عليهم رجاء أن يعود اهلل علينا برمحته فنرجع لعزة إسالمنا.
التخلف والفتنة تصوران متعارضان أحدمها جاهلي والثاين
إسالمي .وكما نفهم حنن املسلمني أنفسنا ونعيها يكون عملنا،
فإن قسنا أنفسنا مبعيار التخلف احنبسنا يف الدائرة املادية وغرزنا
رؤوسنا يف محأهتا ،وكان عملنا مطالبة وصراعا من أجل جمتمع
استهالكي مصنع .وإن حددنا أنفسنا بتصور الفتنة اإلسالمي
وعملنا عمال إسالميا على أساس أننا قوم مفتونون ،اختذ معىن
اقتحام العقبة أبعادا أخرى ليس التصنيع فيها يكون من أجل
االستهالك لكن من أجل القوة ،وليست احلرية فيها حتلال وذوبانا
يف اللذة املمكنة لكن اختيارا للواجب اإلهلي وللموعود اإلهلي.
وكما نفهم أنفسنا ونعي العامل وعيا جاهليا أو إسالميا يتكيف
عملنا فننتقل من اخلبط واالضطراب احلاليني إىل عزمة إسالمية
تصطحب فيها اإلرادة املؤمنة بالرجاء الساطع يف موعود اهلل أن
يستخلف يف األرض املؤمنني الذين يعملون الصاحلات ،وإذا حنن
أمة كرمية حتمل رسالة اخلالص للبشرية مجعاء.
ميكن السلوك املنهاجي على إحدى خطتني اثنتني .األوىل
نعرفها بـ :مشروع اخلالص اجلماعي ،والثانية نعرفها بـ :مشروع
اخلالص الفردي.
39
يتصور بعض الناس الدين أنه مطلب خاص بالفرد وعالقته
مع اهلل ،متأثرين باملفهوم السائد خاصة عند املسيحني ،فيكون
إسالمهم قاصرا على اجلانب العبادي وما خيص ذات املسلم يف
معامالته مع الناس ،فال يأكل حراما وال يظلم ،ويؤدي صلواته
وصيامه وحجه وزكاته .فهل يقبل اإلسالم هذا املشروع الفردي
للخالص؟ وقد شاع فيما يكتبه رجال الدعوة اإلسالمية التنديد
هبذا السلوك ورفضه .ولعل رجال الدعوة يقصدون أن خيرج
املسلمون من إسالمهم الفردي هذا إىل إسالم مجاعي.
والذي جنده يف كالم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما
يصف زمن الفنت عكس هذا ،إذ يبيح للمسلم أن يفر وحده
بدينه .وقبل أن نذكر واحدا من أحاديثه الشريفة يف املوضوع
نضيف مفهوما جديدا آلالتنا التصويرية .املعىن القرآين للفتنة
رأيناه ،ويف االستعمال النبوي تتخذ الفتنة معىن آخر هو معىن
العنف واالضطراب االجتماعي وسفك الدماء .ويف كتب احلديث
أبواب فيها ذكر الفنت ،خيرب فيها الرسول الكرمي صلى اهلل عليه
وسلم باحلروب واألهوال اليت ستمزق األمة ،وحيث على منط
من السلوك غري عنيف من ضمنه الفرار بالدين أي االنزواء يف
اإلسالم الفردي ،يف مشروع اخلالص الفردي.
40
عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم قال « :من خير معاش الناس رجل ممسك عنان فرسه في
سبيل اهلل ،يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار إليها يبتغي
القتل والموت مظانه ،أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه
الشعف ،أو بطن من هذه األودية ،يقيم الصالة ويؤتي الزكاة ويعبد
ربه حتى يأتيه اليقين ،ليس من الناس إال في خير».1
احلديث يفتح اجملال لإلسالم الفردي ،للرجل العائش مع
غنمه ويفضل عليه اجملاهد املدافع عن مجاعة املسلمني .ويف هذا
املعىن أحاديث كثرية.
أما مشروع اخلالص اجلماعي فهو مشروع اجلهاد مبعناه الواسع
ين ِِ
َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ
﴿وفَض َ الذي يشمل جهاد الدعوة وجهاد البناءَ ،
َجراً َع ِظيماً َدرج ٍ
ات ِّم ْنهُ َوَمغْ ِف َرًة َوَر ْح َمةً﴾. ِِ
ََ َعلَى الْ َقاعد َ
ين أ ْ
إذا رجعنا إىل سورة البلد اليت تضع قاعدة املنهاج وسياقه
وجدنا تعريفا القتحام العقبة حبيث ال يتم السلوك الصاعد املقتحم
إال بالدخول يف اجلماعة واملشاركة يف التواصي باحلق واملرمحة.
وهذا ما يوصلنا إىل عرض مراتب اإلسالم وعرض املعراج
السلوكي اإلسالمي اإلمياين اإلحساين كما وصف ذلك رسول اهلل
1رواه مسلم.
41
صلى اهلل عليه وسلم يف حديث جربيل العظيم .اإلسالم شهادة
هلل ورسوله وصالة وصوم وزكاة وحج بشرط أن يسلم املسلمون
من لسانه ويده .واإلميان يضيف إىل ذلك اعتقادا بغيب اهلل من
مالئكة وقدر وجنة ونار ،واإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه.
املسلم مبقتضى احلديث الشريف دون املؤمن ،واحملسن هو قمة
اإلسالم .فاقتحام العقبة يف حق املسلم تبعية للمؤمنني واستسالم
وسالم ،واملؤمن اقتحامه للعقبة هو تنفي ُذه لكل األوامر والنواهي
ألنه هو املخاطب بالشريعة كلها ،املوكول إليه تنفيذها يف نفسه
ويف غريه من املسلمني يف اخلطاب القرآين الذي يعرب بقوله « :يا
أيها الذين آمنوا» .أما احملسن فهو املقتحم للعقبة اخلارج من
الفتنة طاهرا قويا .وكل هذه الطوائف مسلمون مع اختالف قوهتم
ومدى سلوكهم يف اقتحام العقبة.
أما وقد مجعنا هذه التصورات اليت تعرف لنا كنه العقبة
وتعطينا درجات الضعف والقوة عند السالك املسلم واملؤمن
واحملسن وفصلنا بني مشروعي اخلالص الفردي واجلماعي فيبقى
لنا أن نشرع يف الدراسة التطبيقية للسلوك اإلسالمي جمزئني العقبة
جتزئة اصطناعية لتسهيل البحث.
خصال عشر تقابل صعوبات عشر مردها إىل التكوين الغرزي
يف اإلنسان أو إىل العوامل البيئية والثقافية ،جنعلها أقساما نظرية
42
لتوضيح خطابنا ،مع تداخل الصعوبات مبقتضى وحدة اإلنسان
الذي ترجع إىل ذاته وعمله أصوهلا.
اخلصال العشر هي )1 ( :الصحبة واجلماعة )2 ( ،الذكر ( )3
الصدق )4 ( ،البذل )5 ( ،العلم )6 ( ،العمل )7 ( ،السمت)8 ( ،
التؤدة )9 ( ،االقتصاد )10 ( ،اجلهاد.
إهنا مقوالت خلقية روحية عملية ،ولعل صياغتها على هذه
املعاين يصدم من ألف املقوالت املادية اجلارية على ألسنة وأقالم
أصحاب اإلديولوجيات .ولئن كان بعض هؤالء ال يزالون يرفضون
االعرتاف بأن لإلنسان رأسا وإرادة ،1ويُرتف عقلهم يف تأمل «البُىن
التحتية» ال يرون يف «البىن الفوقية» إال انعكاس الظالل املادية يف
مرآة اإلنسان ،فإن واقع الشيوعية وثورهتا الثقافية تؤكد أن لإلنسان،
حىت اإلنسان الشيوعي ،واإلنسان الشيوعي أكثر من غريه ،رأسا
وإرادة وتشوقا ثقافيا يرفض «البىن التحتية» ويروم جتاوزها وال
يستجيب هلا برد الفعل كما تستجيب املرآة برجع الظل.
خصالنا العشر مقوالت معنوية منسجمة بكوهنا كذلك
أساس املنهاج واجتاهه وغايته .فاملنهاج الذي هو اقتحام العقبة
صعُدا بإرادة حرةأسه أن اإلنسان خملوق عبد مأمور ،واجتاهه ُ
متشوفة ملوعود اهلل ،وغايته االنتصار على الوسط السلوكي الذي
43
هو فتنة .فليست املادة هي املهيمنة على اإلنسان املسلم ،بل
إرادته اإلميانية تغالب ثقل املادة وتصارعها يف كل حني ،ألن البيئة
املادية والبشرية مفضوحة يف نظره يراها فتنة حتط من قيمته خملوقا
مساويا مآله اجلنة ليصبح دابة أرضية مآهلا الرتاب.
وليس معىن هذا نفي الضغط الواقع على اإلنسان من البيئة
الطبعية والبشرية ،إذ لوال هذا الضغط وقوته ملا كان جمال عمل
اإلنسان فتنة .ومن هنا يكون الفاعل التارخيي مبنظار اإلسالم
إنسان اإلرادة السائر ضد التيار ال مع التيار.
يف اخلصال العشر أمهات ثالث هي الصحبة واجلماعة،
والذكر ،والصدق ،والسبعة الباقية مظاهر تطبيقية ملن مجع
اخلصال الثالث األمهات واقتحم الصعوبات الثالث املقابلة هلن.
فاخلصلة األوىل من اخلصال العشر تقابل طاغوت األنانية الفردية،
واخلصلة الثانية تقابل طاغوت العقل ،والثالثة تقابل طاغوت
العادة؛ وتكون اخلصلة الرابعة مثال وهي البذل جتاوزا لألنانية
الفردية وجتاوزاً للعادة وجتاوزاً للعقالنية اليت تبين عالئق اجملتمع
على املردودية ال على التضحية.
تشكل اخلصال العشر تسلسال تصوريا يغطي موقف اإلنسان
يف اجلماعة وموقفه من العقالنية وموقفه من اهلل ومن العادة ،كما
تغطي الرتبية والتأثري املتبادلني وسط اجلماعة .وبإضافة معارج
44
القوة يف السلوك اإلسالمي املنهاجي على مستويات اإلسالم
واإلميان واإلحسان اليت جيمعها منهاج اقتحام العقبة ،نتمكن من
فهم اإلنسان وعمله وجتميع 1أحواله بعرضه على املنهاج فردا كان
أو مجاعة .وقد أعىي املاركسيني البحث عن تلقيح إديولوجيتهم
بآالت تصورية جديدة متكنهم من جتميع اإلنسان وهم امل ّدعون
للشمولية .2فطاملا حبثوا عن مفاصل يف الفكر املاركسي ليطعموا
فيها فسائل مقتبسة مما جيد يف التحليل النفسي والبحوث العلمية.
وانظر مثال حماوالت سارتر يف كتابه « »Question de la méthode
وجريه ليجد منهجا لتجميع اإلنسان جتميعا أفقيا فيغين بذلك
املاركسية اليت ال تعرف إال التجمع العمودي ،أي التجمع حول
حمور تارخيي يضغط اإلنسان حىت يعصره من كل معانيه اإلنسانية،
ويعرضه عامال كادحا يتسقل ببؤسه وثورته ،أو يشارك فيهما طبقة
بروليتارية ال لون هلا وال أفق وال معىن إال الصراع الطبيقي من أجل
التمتع بفائض قيمة العمل.
مث إن اخلصال العشر ليست إال املضمون القرآين النبوي ملنهاج
اقتحام العقبة .ما هي صياغة خارجة عن مصدر اإلسالم ،مصدر
املنهاج ،وإمنا هي لب الصفات اخللقية واألمناط السلوكية اليت
45
ترتدد يف القرآن والسنة ،أرجعنا كل طائفة منها إىل أصل واحد.
وكان ترتيبها اجتهادا منا مبنيا على التجربة اإلسالمية الرتبوية
اخلالدة اليت تبدأ دائما بالصحبة صحبة الرسول والنيب اجملدد أو
صحبة الشيخ املريب الصويف.
46
اخلصلة األوىل
الصحبة واجلماعة
األنانية الفردية أعظم احلجب بني اإلنسان وبني اقتحام
العقبة .ونستعمل احلجب مبعناها الصويف ،فهي ظلمة وكثافة حتول
بني اإلنسان وعامل التحرر الروحي .واألنانية أيضا هي األرضية
اليت تتأسس عليها العادة ،وعندما نقول العادة فلسنا ننظر إىل
احلركات احلسية والعقلية اليت تتكرر منذ الصبا فتُكون العادات
وتكون ضرورة التفكري والعمل ،لكن نعين بالعادة جمموع املواقف
النفسية الوجودية املتأصلة يف اجلاهلي ،املهيمنة على سلوكه
القاعدة به عند غرائز الشح والشهوة والكسل.
يتحدث الصوفية ،وهم عاجلوا النفس البشرية وراقبوها يف
عروجها السلوكي ،عن مقامات لفظها يدل على االرتفاع من
مستوى نزعات العادات .ونضيف حنن مفهوما هابطا ليتأتى لنا
ترتيب دركات العادة كما رتبوا هم املعارج الصاعدة مقامات،
فنقول إن للعادة مواقع واللفظ يدل على الوقوع والرتدي.
اجلاهلي أناين قبل كل شيء ،واملسلم من استسلم وسلم نفسه هلل.
47
ويعرب القرآن عن األنانية بلفظ االستكبار ،فما من قوم
وع ْتوا عن أمر اهلل إال كان دافعهم االستكبار .هذا كذبوا الرسل َ
االستكبار اجلاهلي يستند أكثر ما يستند على القوة واملال﴿ ،فَأ ََّما
ْح ِّق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قـَُّو ًة﴾. استَ ْكبـَُروا فِي ْال َْر ِ
ض بِغَْي ِر ال َ َعا ٌد فَ ْ
ويف سورة البلد اليت أعطتنا املنهاج تصوير اإلنسان مباله الذي
يقول « :أهلكت ماال لُبَداً» .وكذب أقوام الرسل ألهنم مساكني
ميشون يف األسواق سعيا وراء الرزق .ويف القرآن ذكر لطوائف
املستكربين الذين يعوقون بطاغوت القوة وطَْول املال طوائف
املستضعفني عن اتباع الرسل ،فتقرأ يف القرآن الكرمي حجاجهم
يوم القيامة .وما من قوم إال طغوا واستكربوا فزعموا أن النيب
ساحر أو جمنون ،وقال الكافرون للرسول إهنم لن يؤمنوا به حىت
يكون له بيت من زخف .وهذا كثري يف القرآن.
احلجب الثالث يقتحمها املؤمن باخلصال الثالث األوىل
متداخلة تداخل الظالم يف الظالم ،فاألصل الذي تنبت عليه
الغرائز وتنمو هو املال والقوة .وطاغوت العقل يصوغ من معاين
الرتف بالقوة واملال أنانية مستعيلة .صور أفالطون ،وتبعه فالسفة
متأخرون من املسلمني ،مركبة السلوك اإلنساين جيرها فرسان :مها
شهوة احلس وقوة الغضب ،ومتىن أن يكون العقل سائق العربة املتحكم
48
يف الفرسني .هذا تصوير مثايل يكذبه الواقع ،فإن العقل وحده إذا
تأمل الشهوة والقوة ال يكاد يرسم هلما إال مسلكا يؤدي ملزيد من
أسباب املتاع ،ال يردعه عن ذلك إال ضرورة احلياة االجتماعية اليت
تضع حدا بينك وبني جارك على نسق فيه قليل أو كثري من الظلم
االجتماعي .وباصطدام الشهوة بالشهوة والقوة بالقوة تستوي
احلياة االجتماعية يف مواقع وضعية قانونية تكبح األنانيات .أما
أن ترتدع قوتا الشهوة والغضب بوازع العقل املتأمل املتفلسف
فهذا ال حيدث إال يف بعض صومعات الفكر املنقطع أصحاهبا
عن احلياة .وإنك إن مل تأكلهم أكلوك ،شعار يهيب باألنانيات
اجلاهلية للكيد واملكايدة يف كل زمان ومكان.
ليس العقل حيكم الغرائز األنانية ،بل حيكمها وزاع اهلداية
املتمثل يف شخص النيب أو الوارث الوالد الروحي بالصحبة املباشرة
أو بتوسط تربية األبوين الطبيعيني .اهلداية النبوية إنارة بالقبس
اإلهلي حلياة الفرد األناين الواقع يف مستوى عقله وغرائزه ليتطلع
إىل آفاق اخللود.
وباهلداية جاء األنبياء يؤيدهم نور القبس اإلهلي ،حيملون
معهم برهان صدقهم معجزات خترق العادة ،برهان صدق من عامل
الغيب قبل كل شيء .وإمنا سدى القرآن وحلمته حديث عن الغيب
وعن معجزات األنبياء .ويكتب بعض الناس يف هذه األيام يف خط
49
بدأ من عهد حممد عبده رمحه اهلل ما به ينكرون أن يكون الغيب
هو صلب الرباهني املؤيدة للرساالت .وملن له عني ولسان وقلب
أن يتدبر القرآن .نعم يقول اهلل يف آيات معدودات كيف رفض
الرسل أن يظهروا معجزات أمام حتدي الكفار ،فيقول اهلل لرسوله
أن جييب عن التحدي بإظهار املعجزات﴿ : قُ ْل ُس ْب َحا َن َربِّي َه ْل
شراً َّر ُسوالً﴾ .وجبانب هذه اآليات املعدودات ،القرآن نت إَالَّ بَ َ
ُك ُ
كله ال يكاد يتحدث إال عن الغيب .ولعل من َكبـَُرت يف عينه
دنيا املخرتعات وضجيجها ،عمي قلبه عن إدراك عوامل اهلل اليت
تتضاءل أمامها منظومات النجوم الذاهبة يف هذه السماء الدنيا
الصغرية.
باهلداية املؤيدة من الغيب جاء األنبياء عليهم السالم ،إبراهيم
عليه السالم ال حترقه النار ،ويدعو أشالء طري فيحىي جميبا لندائه،
وعيسى عليه السالم حييي املوتى ويربئ األكمه واألبرص ،ولكل
الرسل معجزات أيدهم اهلل هبا ليعرف الناس مصدر الرسالة اليت
جاء األنبياء عليهم السالم حيملوهنا.
ومن لقاء الناس بالغيب تبتدئ الصحبة ،باإلرشاد احلادب
من جناب النيب وبالطاعة واحملبة من جانب الصاحب احلواري
﴿من يـَْه ِد اللَّهُ فـَُه َو ال ُْم ْهتَ ِد َوَمناملتَّبِع يقول ربنا عز وجل َ :
ضلِ ْل فـَلَن تَ ِج َد لَهُ َولِيّاً ُّم ْر ِشداً﴾.
يُ ْ
50
ال تغلب األنانية إال هبداية وال هداية إال من اهلل ،فمن مل يكن
له ويل مرشد فهو عرضة للضالل.
لفظ القرآن أجلى من نور الشمس ،اهلداية رهن بأن يكون
لك ويل مرشد .وهذا الويل املرشد يف حق رسول هذه األمة هو
حممد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فهو من قلب املؤمن قريب
وهو هدانا هبدي اهلل وأرشدنا وبلغنا رساالت ربه .لكن كيف بلغنا
هذه الرسالة ؟ جييبنا احلديث النبوي بأن تأثري األبوين حاسم يف
املوضوع « :ما من مولود إال يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو
ينصرانه أو يمجسانه» ،ومفهوم احلديث أهنما يهديانه لإلسالم
إن حافظا على فطرته طاهرة.
لكن لفظة «الويل املرشد» حتمل أكثر من هذا املعىن لضعف
احملبة طبعا وشرعا بني من يسكن قلبه عامل األرض وبني من يطمح
قلبه إىل سكان عامل السماء ،وألن نصيب األبوين من اهلداية قد
يكون ضئيال .وال شك أن كمال اإلميان أن يكون اهلل ورسوله
أحب إىل املرء مما سوامها كما صرح بذلك القرآن الكرمي واحلديث
النبوي (وأعيذك باهلل ممن يطعنون يف مقام النبوة فيتحدثون عن دور
ساعي الربيد يف حق الرسل الكرام ،أولئك يف ضالل مبني) .كمال
الوالية هلل والرسول يف كمال حمبتهما ،لكن من يريب عاطفتنا ويكبح
أنانيتنا وينري لنا باهلداية اإلهلية سبيل هذه احملبة الكاملة؟ إنه الويل
51
املرشد ال شك يف ذلك.
الصوفية أصحاب التزكية الروحية والسلوك هم الطائفة من
هذه األمة الذين يتخذ الويل املرشد عندهم وجها آدميا متميزا هو
وجه الشيخ املريب .وعند رجال الشيعة والية إلمام غائب وصحبة،
ولسائر املسلمني والية مشتتة لواعظ اجلمعة أو ألب وقريب وعامل
ومعلم .ولكل هؤالء املصحوبني أثر يف الصاحب يقوى بقوة املثال
احلي ويضعف بضعفه.
ملا طغت اجلاهلية على دار اإلسالم باستيالء املستعمرين
انتصب أمام عني اجليل الناشئ مثال جاهلي خالب حبزم األورويب
ونظافته الظاهرية وعلمه ونشاطه وقوله ،فأزرى باخلمول واجلهل
والضعف املوروثة وحتول والء األجيال املفتونة فتهذبت أنانيتها
بني عاملني أحدمها جاهلي منتصر واآلخر خافت الضوء كئيب
مهزوم .وذهبت الصحبة اإلسالمية وذهبت والية الويل املرشد
فامنحت اهلداية أو كادت من قلوب األجيال املفتونة.
وهؤالء هم املسلمون يف دار اإلسالم انغلقت أمامهم السبل
فتطاحنت أنانيتهم الفردية وسط أنانيات قومية بفعل الصحبة
اجلاهلية ،فهم اليوم ،فرادى ومجاعة ،أحوج ما يكونون إىل
صحبة إسالمية قوية .فمن الصحبة تبدأ األمة املشتتة مسريهتا يف
اقتحام العقبة ،وال تأليف وال توحيد ميكن يف قطر من أقطارنا إال
52
بصحبة قوية ساطعة بأنوار اهلداية ،وال وحدة بني أجزاء دار
اإلسالم ما دامت تقودها أنانيات مستعارة من دنيا اجلاهلية.
الصحبة املنشودة ال بد أن تتعدد ألن موروثنا التارخيي ثقيل
جدا محل إلينا خالفات مذهبية ال تكاد حتصى .وإن كانت كل
طائفة تزعم انتساهبا للكتاب والنيب أكثر من غريها ،فسيمضي
وقت قبل أن تظهر لوائح اهلداية ونورها وتأييد اهلل ملن هو أهدى
سبيال.
قبل أن تتوحد صحبة كل املسلمني للخالفة على منهاج النبوة
اليت بشر هبا الرسول الكرمي األمة بعد كبواهتا التارخيية ،جيب على
من يتصدون للدعوة أن يربهنوا على أن هلم مقاما وصفاء بالسلوك
املثايل .وينم عن صفائهم ومقامهم أثرهم يف حتويل الناس من
غي إىل رشد ،ومن ضالل إىل هدى .وتدل عليهم نورانية الدعوة
وقوهتا كما كان األمر بالنسبة للشيخ اجلليل سيدي حسن البنا يف
عصرنا هذا .ولن جتد أصحاب اهلداية والنورانية إال سالكي املنهج
مقتحمي العقبة الذين أسلموا مث اتقوا وآمنوا مث اتقوا وأحسنوا.
وصعود مقامات املعراج يقتضي أن يكون للداعي صحبة هبا
اهتدى وعلى منوذجها ترىب.
وبيدنا معيار لنقيس فائدة الصحبة ،هذا املعيار هو أن تستحيل
األنانية الفردية غريية وعطاء وحمبة ،أن تنكسر شوكة العقالنية
53
الثائرة بنور اإلميان فيتلقى املؤمن غيب ربه ويهتدي تبعا لذلك
بقرآنه ،وتنكسر شوكة الغرائز العادية فتصفو الفطرة ويتحرر
اإلنسان فيصبح حمسنا يراقب اهلل ويعمل عمال إسالميا هبدى اهلل.
الصحبة تريب الفرد من أنانيته وتفتح له قابليات االندماج
يف اجلماعة .لكن كسر األنانية قد يتجه اجتاها فرديا حمضا ،وقد
يسلك املريد سبيل التزكية الروحية فيهدف إىل املقامات الروحية
يف حضن اإلسالم الفردي على هامش اجلماعة اإلسالمية .يكون
هذا مثال عندما يتحول الرباط الصويف من وظيفته اجلهادية إىل
زاوية هاربة من الفتنة .وهذا حدث كثريا وحيدث بني املسلمني.
هلذا جعلنا اخلصلة األوىل ذات طرفني لنلح على معىن وجوب
أن تفضي الصحبة والرتبية الروحية إىل بناء اجلماعة .املؤمن الفردي
قد يكون له ذكر وصدق وبذل وما إىل ذلك من اخلصال التسع،
لكن جهاده ال يعدو اجلهاد الباطين يف حلقة مصغَّرة من املريدين
أو بني جدران خلوة يف أعلى اجلبل وذلك جهاد مع أوهام النفس
وأحالمها .لكن ليس اجلهاد األكرب خلوة الذي رجع إليه الرسول
ملا عاد من إحدى غزواته ،اجلهاد األكرب جهاد النفس وسط
اجلماعة ومعها هلدف بنائها والصرب معها والتواصى باحلق واملرمحة.
ال حاجة بنا هنا أن نستقرئ األحداث التارخيية اليت جعلت
بعض الصوفية وجتعلهم يقبعون يف الزوايا أو بعضهم يرابطون
54
يف الرباطات جياهدون ليكونوا مجاعة موحدة عاملة وجياهدوا الفتنة
الداخلية واجلاهلية اخلارجية .وال نريد أن ندافع عن اإلسالم الفردي
وهو صيغة إسالمنا احلايل املنكمشة ،فقد قال فيه الرسول الكرمي
ما يكفينا لنحرتم من فر بدينه من الفتنة ونعذر ضعفه عن اجلهاد.
الصحبة تذهب األنانية املتحجرة وتفتح قابليات العمل
اجلماعي مبا تبذره من بذور احملبة خللق اهلل .وكي تنبين على
الصحبة مجاعة ال بد أن يضاف إىل احملبة آخران :أوهلما الطاعة،
طاعة حمبة وثقة 1وثانيها النصيحة.
يعرب النطق النبوي عن البناء العضوي للجماعة املسلمة فيشبهه
باجلسد الواحد يشتكي كله باشتكاء عضو منه ،والبناء املرصوص
وتالحم احملبة ال يكفي ،أي أن تأسيس اجلماعة
ُ يشد بعضه بعضا.
اإلسالمية ال يثبت على أرضية عاطفة وحدها ،بل يقتضي أن
يتأسس على عامل إرادي يقام بعملية املبايعة اليت تتطلب طاعة
لقائد اجلماعة مستمدة من طاعة اهلل .فإن كان رسوال فمبايعته
مبايعة اهلل ويد اهلل فوق أيدي املبايعني ،وهو سبحانه شاهد هلم
ومؤيد ،وإن مل يكن نبيا فهو اختيار املسلمني ذوي الذمة ،يسلمونه
مقاليدهم ويطيعونه بطاعة اهلل ورسوله كما صرح القرآن ،فيكون
صاحب أمرهم ،منهم ،حادبا عليهم ،خادما هلم.
ويقتضي بناء اجلماعة اإلسالمية بناء إسالميا عضويا أن تتأسس
1ال تلك الطاعة اليت يقتضيها «األمري» اليافع حتت ناموس «بيعة» تتعاطاها مجاعات الشباب
اإلسالمي لغايات شىت.
55
اجلماعة بعد ذهاب أنانية أفرادها بالصحبة املربية يف تنظيم
للحريات واالجتهادات ،وهو ما يعرب عنه القرآن بالتواصي بالصرب
واحلق واملرمحة وجنمعه يف لفظ قرآين هو النصيحة.
نصيب املسلم ُ مضمون النصيحة هو تبادل الرأي يف حرية،
فيها دون نصيب املؤمن ،وللمحسن املقام األول حسب الدرجات
اإلسالمية اليت ليست طبقية استعالء ،بل طبقة خدمة ورعاية
حلق اهلل وتقوى .تبادل الرأي وإبداؤه تسميه األنظمة اجلاهلية
«حرية الرأي» أو « النقد والنقد الذايت» ،وجمال كل ذلك الكدح
الدوايب .أما التواصي اإلسالمي فمجاله احلق لكيال يبقى حمط
نظر اإلنسان دون قيمته السماوية اخلالدة ،والصرب ليكون اجلهاد
الدائم مقصدا لألمة اإلسالمية حاملة الرسالة ،واملرمحة ليكون
املسلمون أمة تراحم وحمبة .وال نصيحة ممكنة بدون الرتبية الفردية
بالصحبة وبدون الطاعة املنظمة .وبدون هذه النصيحة خيسر
ص ِر
اإلنسان .قال اهلل تعاىل ﴿ :بسم اهلل الرحمن الرحيمَ ،وال َْع ْ
الصالِح ِ ِ َّ ِ ِ
ات آمنُوا َو َعملُوا َّ َين َ نسا َن لَفي ُخ ْس ٍر إِ َّل الذ َ ال َ إِ َّن ِْ
اص ْوا بِ َّ
الص ْب ِر﴾. اص ْوا بِال َ
ْح ِّق َوتـََو َ َوتـََو َ
56
اخلصلة الثانية
الذكــر
57
الساذج الذي ينظر فيعجب ويتلقى ما يأتيه بكل استعداد.
العقل العلمي احمللل الدقيق قد يعجز أمام معطيات احلس املعقدة
البديعة لكنه أيضا يرتد إىل قواعده الوضعية فيكفر.
ولكال العقلني ،الفلسفي والعلمي ،عادات يتحجر عليها وإن
كان يدعي احلرية فيتحجر جبموده على العادة كيان اإلنسان ويتم ترفه
يف الغريزة واحلس واألنانية املستكربة ،وُيسخ .واملسخ مفهوم إسالمي
معناه حتول الكائن البشري من معىن اإلنسانية املخلوقة للتكرمي إىل
معىن الدوابية املهينة .واملمسوخ من بين آدم الفاسق عن أمر ربه يطارده
املسخ على مدى وجوده ،أي يف الدنيا واآلخرة خالدا.
هكذا يكون العقل أداة لألنانية والغريزة احليوانية مسخرا،
وهكذا يفتنت العقل بأدواته من مفاهيم وتصورات وتقديرات،
فيكون حجابا بني اإلنسان وحريته ،ويرديه يف عامل املسخ ناسيا
ربه ،ال يذكره ،غافال عن مصريه املكرم لو آمن وعمل صاحلا.
خياطب القرآن اإلنسان يدعوه للتفكري والتدبر ،ويعرض عليه
آيات اهلل يف نفسه ويف اآلفاق ،مث يدعوه ليتعجب ويعظم أمر هذا
العامل العجيب املتقن وأمر نشأة نفسه من نطفة .وإمنا يقدر على مثل
1
هذا التفكري العقل الساذج الذي تسميه الفلسفة «حسا مشرتكا»
هذا العقل الساذج ال يزال مرتبطا باحلواس والعاطفة ،وال يزال
58
خلوا من عوامل التحجر العقالين .العقالنية الشهوية تقضي
أن احلق هو ما خيدم اللذة ،والعقالنية األنانية تقضي أن احلق
هو كل ما يعطي القوة والغلبة ،أما العقل الساذج فهو متفتح
مستعد تسري فيه خلجات العاطفة ويسري فيه احلس بالغرابة
واالستغراب من سر الوجود اإلنساين وسر الكون احلسي املليء
باأللوان واألشكال.
يتساءل العقل الساذج :من أنا وإىل أين أصري ؟ ويتأمل ويشعر
بالفراغ .أما العقالنية التكنولوجية اليت حتدو املركبة األفالطونية فال
تطرح إال سؤال :كيف أشكل احلس لرفاهية أكرب؟ »
من هذه الفجوة بني العقل الساذج تلميذ احلس والعاطفة،
وبني العقالنية املستكربة تدخل رمحة اهلل وهدايته بواسطة الصحبة
أي بواسطة االصطباغ العاطفي.
النيب املرسل أو الويل املرشد 1يدعو إىل ربه باملثال الناصع والبالغ،
فهو قدوة وهو مبلغ ،وهو موضع إلعجاب املخاطب باإلسالم أو
التوبة ،مث يتحول اإلعجاب ميال ورغبة .ويتبع العقل الساذج حركة
ص َر َه ْل تـََرى ِمن فُطُو ٍر ِ
القلب فيسمع آيات اهلل ختاطبه ﴿ :فَ ْارج ِع الْبَ َ
اسأً َو ُه َو َح ِس ٌير﴾.ك الْبصر َخ ِ صر َك َّرتـَْي ِن يَن َقلِ ْ ِ ِ
ب إلَْي َ َ َ ُ ثُ َّم ْارج ِع الْبَ َ َ
1نستعمل عبارة «الويل املرشد» استعماال واسعا ،فكل من أحببته حىت صار أوىل بك وأقرب تسمع
إرشاده وتتخذه قدوة فهو وليك املرشد .وال يكون إال وليا من أولياء اهلل بالوالية العامة من الذين آمنوا
وكانوا يتقون .أما الوالية اخلاصة فليسأل من يرغب يف السلوك عل يد «ويل مرشد» رجال هذا الفن إن
طلب بصدق حىت علم اهلل صدقه فيسر على مدرجته من يأخذ بيده .إنه الغين الكرمي سبحانه.
59
ويتأمل العقل الساذج وجوده وعالقته بالزمان واملكان فيقر بعجزه
ويرتد حسريا ،وهو من اإلحنسار واحلسرة معا .ينحسر العقل من
مواقعه حيث كان حكما ومعيارا ،ويتلفت إىل ما وكل إليه فيصري
خادما للقلب سائرا مع اإلميان مستسلما مسلما بالغيب.
وقد ينحسر العقل من مواقع مرتدية جدا ويفك جدا من إساره
وغلوائه بقوة االجنداب العاطفي ،بقوة احملبة .قال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم« :المرء على دين خليله ،فلينظر أحدكم من
يخالل» .فمىت أتيحت لصاحب العقالنية صحبة نورانية لرجل
قوي الروحانية عاليها تيسر له الفكاك.
اخلطاب القرآين حيدث أويل األلباب ويقصر عليهم وحدهم
القدرة على التذكر واالهتداء ،فإذا عرض علينا طوائف أويل األلباب
جاءنا مبقوالت عاطفية خلقية ،قال تعاىل ﴿ :إِنَّ َما يـَتَ َذ َّك ُر أ ُْولُواْ
ين َّ ِ ِ ين يُوفُو َن بِ َع ْه ِد اللّ ِه َوالَ يِن ُق ُ األَلْب ِ َّ ِ
ضو َن الْميثَا َق َوالذ َ اب الذ َ َ
ِ ِ
ش ْو َن َربـَُّه ْم َويَ َخافُو َن يَصلُو َن َما أ ََم َر اللّهُ بِه أَن يُ َ
وص َل َويَ ْخ َ
ِ ِ الحس ِ َّ ِ سوء ِ
الصالَ َة
امواْ َّ صبـَُرواْ ابْتغَاء َو ْجه َربِّ ِه ْم َوأَقَ ُ ين َ اب َوالذ َ َ ُ َ
ِ ِ ِ ِ
السيِّئَةَ
سنَة َّ ْح َاه ْم س ّراً َو َعالَنيَةً َويَ ْد َرُؤو َن بِال َ َوأَن َف ُقواْ م َّما َر َزقـْنَ ُ
الدا ِر﴾. ك لَ ُه ْم عُ ْقبَى َّ أ ُْولَئِ َ
وأولو األلباب عقالء قبل كل شيء ،لكن عقلهم يف خدمة
60
اجتاههم العاطفي اإلمياين ،يقوي االجتاه حىت يكون إرادة نافذة
يفي صاحبها بالعهد ،ويصل بالعهد ،ويصل ما أمر اهلل به أن
يوصل ،ويصرب وينفق ،ويقيم الصالة ،كل ذلك رغبة فيما عند
اهلل ورهبة .ذلك عقل حترر من إساره فأصبح لبا من اللب سائرا
مع اهلداية القلبية.
ما أحل القرآن على شيء كما أحل على ذكر اهلل ،ذكر اسم
اهلل ،فبالذكر يناط الفالح وبه تناط احلرية .قال اهلل تعاىل﴿ :قَ ْد
صلَّى﴾ .وقال عز من قائل : ِ
اس َم َربِّه فَ َأَفـْلَ َح َمن تـََزَّكى َوذَ َك َر ْ
ش ُرهُ يـَْو َم
ضنكاً َونَ ْح ُشةً َ ض َعن ِذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َم ِعي َ ﴿وَم ْن أَ ْع َر َ
َ
ال ِ
نت بَصيراً قَ َ ِ
ش ْرتَني أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ُ ِ
ب ل َم َح َ ال َر ِّال ِْقيَ َامة أَ ْع َمى قَ َ
ِ
نسى﴾. ك الْيـَْو َم تُ َ ك آيَاتـُنَا فـَنَ ِسيتـََها َوَك َذلِ َ َك َذلِ َ
ك أَتـَْت َ
والتزكية أمرنا هبا يف آيات كثريات ،أمرنا أن نزكي أنفسنا
بأن نطهرها وجنعلها طيبة ،وأمرنا أال نزكي كربياء بدعوى تدغدغ
زعمها للصالح والتقوى .وأهل التزكية الروحية هم أهل الذكر،
وهم الصوفية رجال الصحبة سالكو الطريق .وقد ألفوا رمحهم
اهلل ورضي عنهم يف وصف علل النفس وهتافت العقل وسلطان
الغريزة .واستقل هلم تاريخ منفصل عن عامل الفتنة حىت ظن قوم
أن الصوفية مذهب من املذاهب .وفقه املنهاج النبوي مسدود بابه
على من حرم صحبة وذكرا.
61
نطلق لفظ الذكر لنجمع به مفاهيم قرآنية كثرية .فعندما نعد
الذكر خصلة من خصالنا العشر فإننا ال نعين به ذكر اللسان
وحده وال األوراد واملراقبة ،بل نقصد به كل األعمال العبادية من
فرض ونفل .ونقصد احلالة النفسية للذاكر وعاقبة التزكية الروحية.
وكل هذه املفاهيم جمموعة يف احلديث القدسي املتواتر الذي نعده
مبثابة العمود الفقري يف فقهنا املنهاجي فقه اقتحام العقبة.
عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم
قال :قال اهلل تعالى :من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب،
وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه،
وال يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه ،فإذا أحببته
كنت سمعه الذي يسمع به ،وبصره الذي يبصر به ،ويده التي
يبطش بها ،ورجله التي يمشي بها .وإن سألني ألعطينه ،وإن
استعاذني ألعيذنه ،وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن
1
قبض نفس المؤمن ،يكره الموت وأنا أكره مساءته.
الشهادتان والقواعد األربعة األخرى من قواعد اإلسالم فرض،
والوقوف عند احلدود اإلهلية من حالل وحرام وسائر ما فرضه اهلل
على العباد فرض ،والفرض أحب ما يذكر فيه العبد ربه .ومن
1هذا لفظ البخاري ،رواه الطرباين وأمحد واحلكيم الرتمذي وأبو يعلى وابن عساكر والديلمي عن
عائشة رضي اهلل عنها.
62
وراء الفرض نوافل هبا يتقرب العبد لربه حىت حيبه ربه ويصبح له
ربه عينا ومسعا ويدا ورجال.
ولطاملا وقفت أجيال املسلمني عند هذا احلديث الذي ال
يأتيه الباطل من شك الضعاف وتشكيك امللحدين يف آيات
اهلل .وقف املسلمون موقف حرية من احلديث القدسي الصحيح
القوي ،أهو حيتاج لتأويل؟ وكيف يؤول.
أما الذاكرون أهل التزكية أهل اهلل فيأخذونه وعدا صادقا
من رهبم فيقتحمون عقبة الفرض والنفل ،ويسلكون تلك الطريق
فيتجلى هلم املعىن عندما يصبح اهلل عز وجل هلم يدا ومؤيدا،
يبصرون بنوره ويسمعون بنوره ويسمعون بسمعه .واخللي التائه
برأيه يكفر هذه الطائفة احملسنة إن ضعفت عن الكتمان أو أمر
بالكالم أحد رجال الطريق.
ويف ظل الطريق اإلحسانية ،يف ظل أهل الذكر املقتحمني
للعقبة املؤمنني باهلل وغيبه يعبدونه كأهنم يرونه ،عشش أدعياء
التصوف الكساىل ،ونطقوا بتلك العبارات ،ولبسوا تلك املرقعات،
وكانوا آخر األمر وباال على هذه األمة.
اإلنسان املسخ يقابله إنسان الفطرة .وحنمل تصور
كالفطرة املعىن القرآين يف قوله تعاىل ﴿ :فَأَقِ ْم َو ْج َه َ
ِ َّ ِ َِّ ِ ِ ِ
يل للدِّي ِن َحنيفاً فط َْرةَ الله التي فَطََر الن َ
َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ
63
لِ َخل ِْق اللَّ ِه﴾ .فمن أقام وجههه هلل ووقف بني يديه
ووعى نفسه مفطورا مراقبا من لدن فاطره فهو إنسان الفطرة.
واملوقف الفطري هو موقف املؤمن املؤمتر بشرع فاطره ،والنظرة
الفطرية هي تصور اإلنسان والعامل خلقا أمام اهلل الذي بيده
مقاليد كل شيء.
إن العقل الطاغوت يقول غري هذا ويزعم أمنا هي الطبيعة
واألرحام اليت تدفع يف اجتاه النهاية يف الرتاب ،وحسب تطور
طبعي ،أو يتخيل غري هذا من الفهم .فإن خاطبت العقل الطاغي
باإلميان سألك برهانا على هذه املسلمة :أن اإلنسان خملوق
عبد بني يدي ربه .ويبغي العقل نقدا للبالغ الديين ،ويبغي أن
خيضع ما يفوته إدراكه لقوالبه ومعايريه .وللعقل الناقد ،إن قبل
منهاج التحقق ،أن يصحب بصدق مؤمنا نور اهلل قلبه ويذكر
ربه بالفرض والنفل حىت حيصل له ما مساه الصوفية ذوقا .فإن اهلل
اه ُدوا فِينَا لَنـَْه ِديـَنـَُّه ْم ُسبـُلَنَا َوإِ َّن اللَّهَ
ين َج َ
سبحانه يقولِ َّ :
﴿والذ َ َ
ين﴾. ِِ
لَ َم َع ال ُْم ْحسن َ
بالذكر والتجربة الشخصية املنبنية على الصحبة يتكشف
للسالك ما شاء اهلل من عجائب القلب ،وتتحقق له معية اهلل اليت
خص هبا احملسنني ،فإذا اقتحم العقل هذه العقبة حترر وحتررت معه
اإلرادة وأصبح أداة بناء لكرامة اإلنسان ،إلنه يدرك معىن املسخ
احمليط باجلاهلي واجلاهلية.
64
أصحاب اجلدلية يضعون العامل واإلنسان يف مواقع تناقضية
ويبحثون عن القوة الناقلة من النقيض إىل غريه ،عن «اللحظة»
اليت يتجاوز هبا وضع ما نقيضه :وكل وضع حيمل جنني نقيضه.
ولسنا حنب أن ننقد هذا التصور للعامل املادي فإن األمر ما
يقوله الفالسفة هبذا الصدد .ونريد أن نقدم ،استنادا على الفكر
اجلديل ،تصورا إسالميا ملقام اإلنسان ووضعه اجلديل جتاه النفس
والشيطان .ومعىن هذا :التناقض بني اإلنسان والعامل احلسي
الذي يريد أن يلتهمه .وإمنا ذكرت النفس ألهنا بأنانيتها وشهوهتا
تتمرد على داعي النظرة الفطرية واملوقف الفطري لترتف يف العامل.
وإمنا ذكر الشيطان ،وهو غيب بعيد عن الغافلني وحقيقة واقعة
بالنسبة ملن اقتحموا العقبة وذكروا اهلل واحسنوا فخرجوا من ضنك
العيش إىل سعة النور ،ألن الشيطان ينزغ لإلنسان أن يرتف يف
العامل وينسى ربه.
العقل إذا حترر بالتجربة الشخصية اليت قوامها الصحبة والذكر
حرر معه اإلرادة ،فيكون إميان املؤمن املتساوق معه عقله هو القوة
اإلرادية اليت تتجاوز النفس والشيطان للقيام حبق الرمحن.
ولنطرح هنا مفهوم «التجاوز» لنستبدله مبفهوم قرآين عتيد
جنعله تصورا يغين آليتنا املنهاجية .هذا املفهوم هو العدل .واهلل أمر
يف القرآن بالعدل وحث عليه .وقد اكتسب العدل معىن متخصصا
65
هو إعطاء احلقوق ألهلها .ونستعملها حنن مبعىن موسع مأخوذ
من أصله اللغوي ،فالعدل ميل عن الشيء إىل غريه وهو توازن
وقسط .هبذا املعىن احلركي نستعمل العدل ،ويقابله الظلم مبعناه
اللغوي األصلي وهو وضع األشياء يف غري مواضعها.
فالح اإلنسان أن يكون مؤمنا يعمل الصاحلات ،مبعىن أن
يكسبه إميانه إرادة قوية يعدل هبا عن العوامل املردية ليتسنم
مقامات إنسانية أعلى فيصلح عمله ويذهب عنه املسخ ويكون
من أهل الفطرة احملسنني.
يف حركة دائبة حيارب املسلم النفس والشيطان فيعدل دائما،
وينصب يف ذلك ،من شك إىل يقني ،ومن كسل إىل عمل،
ومن جهل إىل علم ،ومن شح إىل بذل ،ومن مست جاهلي
وعنف وهتالك على الدنيا وقعود إىل مست إسالمي وتؤدة إسالمية
واقتصاد وجهاد .ومن ذكر اهلل قام حبقه وأقام عدله آناء الليل
وأطراف النهار.
66
اخلصلة الثالثة
الصــدق
تفتتت األمة اإلسالمية واحنسر املد النوراين الذي كان حمط
أنظار التاريخ اإلنساين بانكماش املسلم يف أنانيته وبرتفه يف حيز
املمكن الذي أتاحته حضارة متفسخة ،عزلت املسلمني عن إمياهنم
الفطري اجلماعي .وها حنن أوالء يف دار اإلسالم ال نقدر على
عمل وال على تعاون وال على توحد ألننا ال نصدق أبدا ،وخنيس
بالعهد وال نقيس أي مشروع عملي إال مبقياس أنانيتنا ومبقياس
اجلاهلية اليت أترفنا فيها .هانت علينا نفوسنا فبعناها بالبخس
من الشعارات ،وكان خطرنا واهيا يف ميدان القوى ،وسعينا ذليال
على األرض .ليست أمامنا أهداف وال غايات تستجيب هلا األمة
بصدق فتطلبها بصدق وتصمد لتحقيقها ،ألن ما تقرتحه علينا
املعايري اجلاهلية من أهداف اقتصادية تسخر فيها مطالب ال هتز
قلوبنا .وقد مخدت منا العقول وهوت الفطرة يف ركام االفرازات
احلضارية اجلاهلية فال نتبني طريقا إىل اخلالص.
إعادة تركيب األمة لن يكون إال بتصفية تربز لنا وجوه الصادقني
67
من املؤمنني وتلم شعثهم ،ليقودوا جهادا يرىب األمة وجيدد إميانا
حىت تصدق يف املبدإ والطلب.
بسمو الغاية املطلوبة تصلب إرادة الطالب ويصدق يف العمل.
ومنهاج اقتحام العقبة منهاج خلق اإلرادة اإلميانية وتقويتها .وغاية
سلوك املقتحم أن يعد من أصحاب امليمنة كما جاء يف سورة
البلد .وهو مطلب سام نفيس يف حق من صدق وصدَّق.
وفوق مرتبة امليمنة مرتبة أخرى أعلى وأمسى ،هي رتبة
السابقية كما يعرب عنها القرآن تارة ،ويعرب تارات أخرى بالصدق
واإلحسان.واحملسنون يعبدون اهلل كأهنم يرونه ،وهم أولياء اهلل
وأحباؤه ،من عاداهم آذنه اهلل باحلرب ،ويقتحمون العقبة بالفرض
والنفل حىت يكون اهلل هلم مسعا وبصرا ويدا مؤيدا ،أولئك هم
الصادقون ،وأولئك هم احملسنون.
اإلحسان هو قمة الكمال اإلنساين ،يبلغه السالك باهلداية
املمنوحة من جناب احلق بواسطة النيب والويل ،مث باجملاهدة والعدل
من أسباب اإلحنطاط إىل مقامات اإلميان واإلحسان .إن التكليف
اإلهلي بالشريعة مجيل وأمانة يف عنق اإلنسان من حيث هو إنسان
بلغته رسالة األنبياء .فالصادق املصدق للرسالة حيمل األمانة بقوة
يف ظل حمبة الويل املرشد ،ويذكر اهلل يف األمر والنهي فيتقلع من
مواطن املسخ يف دنيا العادة ،دنيا الشهوات واألنانية ،وتصفو
68
روحه فتتبدل إىل العامل وإىل نفسه ،فإذا موقفه موقف فطرة وإذا
هو يراقب اهلل فيصدق يف كل حركة من حركاته ويف كل خلجة من
خلجات نفسه .ومن مل يقتحم العقبة يراقب الناس فال يصدق.
هذا السالك الصادق صاحب إرادة ،وعن هذا عرب الصوفية
عندما مسوه مريدا ،ناظرين إىل أخص صفاته السلوكية .يبدأ بالتوبة
إىل اهلل على يد الويل املرشد ،ويوطن النفس على عزمته حىت
يتحقق له مقام التوبة كما يعرب الصوفية ،مث يتقرب إىل اهلل بالفرض
والنفل فيصبح حمبا للمؤمنني إىل أن يتحقق من مقام احملبة.
ويذكر اهلل حىت يتحقق من مقام املراقبة ،أي يصبح يف موقف
فطري بنظرة فطرة باملفهوم القرآين .فإذا حترر من عادته أي من هذا
السلوك اهلابط الذي هتواه النفس فتعود إليه ،تسنم مقام الصدق
وأصبح حمسنا .ومقام اإلحسان حتقيق لقابليات الكمال اإلنساين،
الكامنة يف كل منا .فيه تقوى النظرة الفطرية وتستوعب آفاق
السالك حىت ال يرى يف الوجود إال اهلل .ال تسد عليه آفاقه كثافة
عامل األسباب ،وال يرهبه اخللق ،وال حيمله الوهن على االستسالم.
كص َّد َق بِ ِه أ ُْولَئِ َ قال اهلل تعاىل ﴿ :والَّ ِذي جاء بِ ِّ ِ
الص ْدق َو َ َ َ
ُه ُم ال ُْمتـَُّقو َن﴾ ،ال ينفصل صدق من جاء من عند اهلل عن
تصديق املبعوث إليه .ومىت التقى الصدق بالتصديق حلت اهلداية
وجاء التأييد من عند اهلل.
وهبذا فمشروع العمل اإلسالمي والبعث اإلسالمي هواء يف هواء
69
إن مل يكن عامل الصدق أس بنيانه .وهلذا خييب سعي حاملي
الشعارات اإلسالمية ومن خلفها نيات مرتفة مفتونة.
الصادقون احملسنون أهل تصديق وإميان ،وهم بذلك أهل
القرآن أهل اهلل .يؤمنون بالغيب فتنفتح هلم أبواب اهلداية والفهم
يف كتاب اهلل ،ومن ال يؤمن بالغيب وال يصدق يلعنه القرآن فال
يقرأ إال كالما كالكالم .وحاشا هلل أن تنفتح أسرار اهلداية إال ملن
صدق وصدق وآمن مبا وراء احلس يف ملكوت اهلل وجربوته.
يف وعي الصادق احملسن يتقلص هذا احلسي فيدخل يف نسبية
ضئيلة ويفقد سلطانه على احملسن .هذا إنسان حر ال تستعبده
العادة ألنه أصبح عبدا هلل امللك احلق .وقد يصبح هذا الوعي
اإلمياين شهادة يف حق من أكرمه اهلل مبعرفته .يقع له ما يسميه
الصوفية فتحا وينكشف عنه الغطاء إذا ماتت نفسه احلاجبة له
عن ربه.
اجلاهلي ،إنسان العادة ،ال يؤمن إال مبا يقع حتت حسه،
وحىت املسلم مل يعرفه الرسول يف حديث جربيل بأنه يؤمن بالغيب،
فكيفيه أن يشهد ويصلي ويصوم ويزكي وحيج على ما كان من
إميان .وطائفة من األعراب ادعوا اإلميان فأنزهلم اهلل يف قرآنه إىل
آمنَّا قُل لَّ ْم تـُْؤِمنُوا َولَ ِكن ِ
مرتبة اإلسالم ﴿ :قَالَت ْالَ ْع َر ُ
اب َ
يما ُن فِي قـُلُوبِ ُك ْم﴾ .فاملسلم اجملرد ال َ َسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل ِْ
قُولُوا أ ْ
70
العادي يعيش يف دنيا العادة ،فكل ما هنالك عنده أرض زاخرة
باحلركة املتطاحنة ومساء هي مسرح لصوالت االكتشافات اجلاهلية.
وما من حلظة من حلظات حياته إال وميلؤها ضجيج العادة :غرائز
أنانية تطلب حظها من مال وجاه ولذة .ال مييزه يف ذلك عن
اجلاهلي إال اعرتاف باهلل وطاعته.
والتجديد اإلمياين الذي ينقذ هذه األمة ال بد أن يكون
جتديدا على مستوى أعلى ،أعلى مستوى إمياين يتحول فيه اهتمام
أفراد األمة من دنيا العادة يف خط النظر املنهاجي حنو املوقف
الفطري ،وليكون األمر كذلك فال بد أن يقود احلركة رجال الدعوة
الصادقون احملسنون.
أسواء من فتح اهلل بصريته فإذا له حياة روحية ،وإذا هو يسبح
يف ملكوت اهلل ومن متأل حويصلته هنات األرض فيتدفق من
لسانه ظالم قلبه حني يدعو املسلمني إىل العمل ؟
إسالمنا الفردي ،عند من مل متسخهم اجلاهلية مسخا كامال،
إما عقيدة متجذرة لكنها مضببة بدرجات متفاوتة ،وإما إميان
أقرب إىل الفطرة ،وإن كانت تُرنِّقه كدورات العادة ،ويوهنه نسيان
األمر والنهي والفرض والنفل قليال أو كثريا .عقيدة مضببة عند
طائفة ممن قارفوا الثقافة املعاصرة فنالت منهم دون ما نالت من
شرذمة املفتونني املرتفني ،وإميان كدر عند أغلبية أفراد األمة خاصة
71
مساكني األمة الذين لطف اهلل هبم فجنبهم «تسهيالت» احلضارة
املادية وبقيت ضمائرهم عارية كعري أجسامهم مل تلطخها
اجلاهلية ،إهنم احملرمون الذين بنوا لإلسالم أكواخا يف ظل القصور
املرتفة الظامل أهلها مرتع الفسوق والردة وهتك حرمات اهلل.
ولتعود األمة أمة كما كانت ال يرفعها من شعوبية يسوقها
إليها القادة املرتفون إال تربية تعيد الصدق إىل نصابه.
األمة املشعبة املسكينة ال تسمع إال كذبا ،كذبا عند إعطاء
الوعود قبل االنتخابات ،أو هكذا جزافا .وكذبا يف اخللف عندما
حيني املوعود ،وكذبا يف اخليس باألمانات .حىت إن األمة ألفت
برتبية قادهتا املنافقني أال تنتظر إال متويها وغشا.
تربية املسلمني الفرديني حىت يكونوا أمة تبدأ باقتحام عقبة
النفاق ،والنفاق بالتعريف النبوي كذب يف احلديث وخلف للوعد
وخيانة لألمانات .وكل أولئك الصفات حلمة عملنا يف احلياة
اخلاصة والعامة.
ويف ظالم النفاق ال تتبني األمة هلا طريقا ألنه ليست هلا
أهداف وال مقاصد وال غايات.1
1يف حق الفرد :اهلدف الرجوع لإلسالم بالتوبة وااللتزام بألمر اإلسالمي .واملقصد املشاركة يف الوالية
اإلميانية مع مجاعة املؤمنني .والغاية التزكية اإلحسانية .ويف حق األمة :اهلدف التحرر من اجلاهلية
وحتقيق العدل واملقصد قيام دولة إسالمية هدفها توحيد املسلمني ،والغاية محل رسالة اإلسالم واجلهاد
لنشر دين اهلل قياما قياما حبق اخلالفة يف األرض .هبذه املفاهيم نستعمل هذه الكلمات فيما يأيت من
صفحات هذا الكتاب .فاهلدف يقابل مرتبة اإلسالم ،واملقصد اإلميان والغاية اإلحسان.
72
فإذا بدأ عمل إسالمي صادق يريد تربية األمة لزم أن يرسم
املريب أهدافا إسالمية ومقاصد وغايات للفرد واجلماعة ليجد
الكل يف طلبها ويصدق.
نسي املسلمون أن اهلل يقبل التوبة من املسيء ،وأن كل ابن
آدم خطاء وأفضل اخلطاءين التوابون فيتوهم املرتف والفاسق وحىت
املرتد أن باب اإلسالم أغلق يف وجهه ،ويتحجر املسلم املصلي يف
أنانية مهدوية ،فال يقبل حوارا مع املرتد والفاسق واملرتف ليتوب.
وقد حيكم هذا املسلم املصلي ،وحىت إن مل يكن مصليا ،بأن
املرتد يف اإلسالم يقتل حدا وكفرا ،وينسى أن ذلك عندما يكون
اإلسالم قائما له دولة وصولة .أما زمن الفتنة هذا فمن يقتل ومن
يقتل ؟ التوبة باب الرمحة ورفق وصدق ،وبدايتنا يف صدق التوبة
وصدق قبوهلا من األمة مجيعا.
ونسي املسلم أن هلل جنة ونارا حقا ،وأن له مثابا وحسن العقيب
للمؤمنني اجملتمعني على عمل الصاحلات .نسي ذلك خلمود حسه
اإلسالمي ،كما عاقه عياء فكره أن يتخيل أية طاقة تربز لو توحد
املؤمنون برابطة إمياهنم ،وأي عمل يكون هلم آنئذ.
نسي املسلم واملؤمن أن اهلل حيب العبد املتقرب إليه ويبلغه
أقصى كماله اإلنساين كما فعل ويفعل سبحانه بأوليائه .وهذا
هو لب الرسالة اليت جاء هبا الرسل ،وهو أعز مطلب لإلنسانية
73
وأغاله ،وهو الكنز املخبوء يف قلب الصادقني من هذه األمة ال
جيدون جسرا يصلهم بسمع اإلنسانية ووعيها ليبلغوها أن اهلل كرمي
رحيم حيب من حتبب إليه ،وسلك إليه الصراط املستقيم ،واقتحم
إليه عقبة النفس املائلة مع اهلوى.
هذه الرتبية حتل تناقضات اإلنسان مع العلم ألهنا تعيد خلق
الفاعل التارخيي املريد القوي وتقرتح على صدقه الفعال موضوعا
هو نفسه من حيث تعرضه خلطر الرتف يف العامل .وشتان بني
مطلب يسمو بقيمة اإلنسان إىل السماء واخللود وبني مشروعات
عامل الوهم ،عامل اجلاهلية.
من هم الصادقون املربون؟ وأينا أحق باإلسالم ومحل أعبائه ؟
إن يف سدة احلكم بدار اإلسالم رجاال ما منهم إال من يزعم أنه
رائد اإلسالم وحامل لوائه .وإن بدار اإلسالم خصاما على معىن
اإلسالم وموطن هدايته .فأين الصادقون؟
إننا نبدأ بالتوبة مجيعا فإن صدقنا فيها فإن لكل صدق برهانا.
ين﴾! وبرهان قال اهلل تعاىل ﴿ :قُل هاتُواْ بـرهانَ ُكم إِن ُكنتُم ِ ِ
صادق َ
ْ َ ْ َ ُْ َ ْ
صدقنا يف التوبة مقاطعتنا للجاهلية يف حياتنا الفردية مقاطعة
تامة .مث ال يكفي املرشح للقيادة اإلسالمية أن يلتف يف الصوف
ويأكل طعام املساكني حىت ينحسم يف قلبه وعلى لسانه أننا قومية
اشرتاكية إسالمية .ومن لبث منا يف قصوره وأموره وادعى صدق
74
التوبة أغنانا عن اهلزء به يد اهلل الغالبة اليت ال تفلت الظاملني.
مث إن لكل صدق بعد هذا برهانا يؤيده ،برهانا من فاعلية النية
الصادقة والتصميم احملكم الصامد وبرهانا من توفيق اهلل لعباده.
أما رجال الدعوة فما الفصاحة برهان على صدقهم ،ال أحواهلم
املتصوفة وال تلك العبارات .وال اخلطب «النارية امللتهبة» املطالبة
بالتغيري ،وإمنا اهلداية يف قلوب املستضعفني ،والتوبة السارية حىت
للمرتفني ،ووضوح املنهاج واالستقامة على كتاب اهلل وسنة رسوله.
هبذا تتميز لنا اإلرادة الصادقة من اإلرادة اخلادعة .وبربهان
العمل الصادق نعرف من له ذمة أي من له «ضمري خلقي» .وإذا
كان لكل شيء عروة ميسك هبا ويرفع فعورة الرجال ذمتهم ،وال
ذمة لغري املؤمنني الصادقني.
75
اخلصلة الرابعة
البــذل
اهلجرة عن عادات اجلاهلية هي برهان الصدق وهي احلركة
السلبية لإلرادة اليت تعدل عن املوقع العادي إىل الوضع الشرعي
اإلسالمي ،وقد كانت اهلجرة حادثة يف عهد الرسول الكرمي تارخيية
من دار الكفر مكة إىل حمضن اإلميان يثرب .طرح الرسول وصحبه
أمواهلم وأهلهم ورحلوا بإمياهنم .وتبقى اهلجرة حركة إرادية دائمة
يف حياة املؤمن يطرح دائما عنه الرجس ويعدل إىل احلق.
ُجبلت النفس اإلنسانية على الشح ،والشح حتجر على امللكية
وترف لإلرادة فيها وضياع .ومن غلبته النفس بشحها فكان خبيال
معظما لصنم امللكية بقي بعيدا عن اهلل بعيدا عن اجلنة بعيدا عن
﴿وَمن
الناس ،كما جاء يف احلديث الشريف .ويقول ربنا عز وجل َ :
ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾.
يُو َق ُش َّح نـَْف ِس ِه فَأ ُْولَئِ َ
عربنا بالبذل عن معاين اإلنفاق اليت يف القرآن ألن لفظة البذل
تتحمل معىن االبتذال ،وأنت ال تطرح شيئا وتنفقه وتدفعه عنك
إال إذا ابتذلته واحتقرته يف وجه املقابل .وهبذا يعطينا لفظ البذل
تصورا حركيا ينظر إىل حافز اإلنفاق وموقف املنفق مما ينفقه.
76
يف الصفحات السابقة وفيما يليها حنرص على صوغ تصورات
إسالمية فكرية ،ال نبغي وضعها قبلة للتأمل النظري ،لكن ليتحرك
بواسطتها الفكر فاحتا أبواب العمل وإمكانياته .وقد كانت
اخلصال الثالث األوىل من خصالنا العشر خصاال تربوية نفسية،
وندخل هبذه اخلصلة الرابعة يف سرد اخلصال التطبيقية العملية
لننظر كيف ينتج عن تربية إسالمية عمل إسالمي .وسنعرض كل
خصلة على مراتب ثالث :مرتبة األهداف اإلسالمية ،مث مرتبة
املقاصد اإلميانية ،مث مرتبة الغايات اإلحسانية ،حىت ال ننسى
أن املنهاج النبوي اقتحام دائم للعقبة ،ونشدان ال يين لتحقيق
قابليات الكمال اإلنساين .ولطاملا نظر املسلمون إىل إسالمهم
التقليدي نظرة سكونية ألهنم مل يتبنوا املعارضة والتناقض بني
اجلاهلية واإلسالم وألهنم سلموا أن اإلسالم الفردي حالة سطحية
مسطحة هي منتهى املراد من بعثة الرسل.
األهداف اإلسالمية :املسلم الفردي املعتقد حقا أو اجلغرايف
احملض ،مرتدا كان أو منافقا ،يعبد أوثان الفتنة .أناين جيمع ماال
وجاها ويعدده ،ومثقف أو دعي يف الثقافة يسبح يف خياالت
مثالية ثورية أو حاملة ،مث سائر الناس ممن تطحنهم عجالت الفتنة
بثقل الكد اليومي وثقل احلاجات املتجددة املتنوعة الرهيبة .وكل
هؤالء يتصرفون على أساس االبتزاز مللء اجلوعة النهمة ،وترى
77
املتناقضات الصارخة عند املثقف الثوري املرتشي الذي يسهر
ليايل الدعارة وينفق على لذاته رزق أسرة من الفقراء الذين يزعم
أنه ثائر حلقوقهم .أحاول تصوير هذا االلتصاق باملادة وتعظيمها
وعبادهتا .ويف هذا اجلو املادي اإلنساين املؤسس على التكاثر
باجلاه واملال يرتف املسلم الفردي واجلغرايف يف عادته وحيرص
عليها فيكون عائقا للحركة احملررة .وما نراه من حركة احملرومني
وغضب الشباب واحتجاجهم ال يبلغ أن يكون بداية حركة يف
دار اإلسالم ،ألنك ال جتد واحدا حيتقر حقا العادة ،ويقدر على
طرحها حلياة جديدة .والطبقة األكثر ترفا يف دار اإلسالم تعبد مع
عاداهتا الوثن األعظم وثن السلطة فتنفق يف سبيله املال واملتاع.
أنفس شحيحة ملتزمة خبدمة شهواهتا ،وأخرى حمرومة باإلضافة
إىل شحها وعبادهتا ألوهام خرافية على مستوى املستضعفني
املشعبني ،أو أوهام ثقافية جاهلية على مستوى الشباب املدرسي
ومن هذه النفوس املتعكرة اليائسة ،بعدما خابت االنقالبات يف
دار اإلسالم وافتضت االشرتاكيات هبزائم «الشعوب»املسلمة ال
تنتظر حركة حمررة إال إن جاء اإلسالم بالفتح والرمحة واهلداية.
إمنا حتل تناقضات األمة املشعبة حبل إسالمي وفتح إسالمي ،وإال
فسنقضي عصرا لتخلق طبقة ثورية ترث األرض .وليس على املسرح
يف دار اإلسالم من مثال مغر وال عقول ومهم تنظم وتعمل إال
78
على مناذج جاهلية ملحدة شيوعية حمض بعد فشل االشرتاكيات.
وفتح اإلسالم وحله هو الدعوة العامة إىل التوبة العامة ،طرح
للجاهلية وبذل للنفس والنفيس لبناء اإلسالم.
مث إن لألفراد وللدولة القومية يف دار اإلسالم أمواال مرصودة
للدعوات اجلاهلية والدعاية والتهريج السياسي .إهنا أموال وثنية
ألهنا ختدم مشاريع وثنية .هذه دولة اشرتاكية تنفق األموال الطائلة
لتبىن للبطل الزعيم مسعة عاملية أنه تقدمي ومناضل .وهذه دولة
استبدادية من طراز آخر تبدد أمواال لتوطيد االستبداد وشراء
الضمائر حىت تقام حمافل يذكر فيها جمد القائد.
هذه األموال اإلسالم يف حاجة إليها ،لتبذل يف سبيل الدعوة
والرتبية .وما دامت اهلمم املرتفة يف سعة من أحالمها فلن حتتقر
أوهامها اجلاهلية .أال إنه يرتاءى يف األفق ،ملن ألقى السمع وهو
شهيد ،بشائر التوبة بظهور دواعيها ،فإن أبواب العمل اجلاهلي
تغلق يف وجه قادتنا ويفتضحون بوالئهم اجلاهلي ويرتفع وعي
األمة املبعثرة .فما بقي إال جتميع هذا الوعي يف اجتاه التزام فردي
بالعمل اإلسالمي وحتاجز بني اجلاهلية واإلسالم ومتايز يف ضمري
القائد وعمله.
املقاصد اإلميانية :املقصد اإلمياين يف حق الفرد واليته جلماعة
املؤمنني ،وبالنسبة لألمة فاملقصد قيام دولة إسالمية يتجمع حوهلا
79
املسلمون قاطبة .ولتحقيق املقصد ال بد من استبدال عالقات
األفراد النفعية االستغاللية بعالقات تعاونية قوامها البذل.
يقول اهلل تعاىل﴿ :والَّ ِذين آمنُواْ ولَم يـ َه ِ
اج ُرواْ َما لَ ُكم ِّمن َ َ َ َ ْ ُ
اج ُرواْ﴾ .فدخول املؤمن يف والية والَيتِ ِهم ِّمن َشي ٍء حتَّى يـ َه ِ
ْ َ ُ َ َ
املؤمنني منوط بالبذل واإلنفاق وطرح شح املاضي .وال بد من ترك
العالئق اجلاهلية االستغاللية يف ميدان الشغل فال يكون مث عبد
وسيد ،عبد عليه أن يشتغل زمنا معينا لقاء مثن معني .إن كانت
صيغة هذه اجلملة من مقوالت الشيوعية أو االشرتاكية فنحن ال
نقصد ما يقصدونه ،ألن تسوية التوزيع عندهم إن كانت ضرورة
اجتماعية ينظمها ويفرضها سلطان احلكم ،فإن العدل اإلسالمي
من الشح إىل البذل عمل املؤمن امللتزم بإرادته اهلادفة إىل اخلالص
يف إطار مبايعة بني ذمم مؤمنة .وال يتشابه املضمون وال الشكل
اإلسالمي مع نظرييه اجلاهليني.
إن اجلاهلي مندمج فيما ميلكه ،فاألرض والبضائع واملال جزء
من كيانه .فلما كان الشقاء االجتماعي بؤسا ال يتحمله اإلنسان،
وكانت الطبقات املالكة ال تبذل ما بيدها ألن ما بيدها جزء
من كياهنا ،أصبحت الثورة العنيفة الطريقة الوحيدة لنقل امللكية
من الثري البطني إىل الفقري احملروم .وإن حماولة الفكر الثوري
املاركسي لتحرير اإلنسان بتحرمي امللكية الفردية لألرض كان جريا
80
وراء اهلباء .ما حترر الشيوعيون من عبودية املادة ،وإن يف بالد
الشيوعيات هتافتا على امللكية الفردية يف شكل مبان أو سيارات
أو ما سواها من متاع ،فاجلاهلي ال ينفك ذائبا فيما بيده.
واإلسالم ال حيرم امللكية الفردية لألرض ،وحيقق األساسي
الذي من أجله خلق اإلنسان وهو حترير اإلنسان من الفتنة.
تدخل امللكية يف التصور العام للفتنة﴿ :إِنَّ َما أ َْم َوالُ ُك ْم َوأ َْوَل ُد ُك ْم
ِ ِ ِ
يم﴾ ،فينظر املؤمن بنظرته الفطرية إىل فتـْنَةٌ َواللَّهُ عن َدهُ أ ْ
َج ٌر َعظ ٌ
نفسه كعابر سبيل يف جمال احلياة بني امليالد واملوت ،ويعرف نفسه
بانتمائه للمؤمنني وأخوته هلم ووالدته ،ويرغب أن حيشر معهم وأن
خيلد إىل جوارهم يف اجلنة ،بينما ينظر اجلاهلي إىل نفسه ساكنا
لألرض مالكا هلا ،له كربياء تنفخ فيها سلطة املال .فقيمة املؤمن
منفصلة عما يف يده ،وإن أكرمكم عند اهلل أتقاكم ،وقيمة
اجلاهلي قيمة ما ميلك .وهلذا ينفصل املؤمن عن ملكه ويبذله ألنه
ال يساوي شيئا إال مبقدار ما خيدم غايته األخروية .أما اجلاهل
فال ينفصل عن ملكه إال مرغما ،وأنت مسعت املاليني اليت ذحبت
يف بالد الشيوعية زمن تصفية امللكية الفردية ،ميوت اجلاهلي دون
أرضه ألنه ال وجود له بدوهنا ،كيف ال وهو الدابة األرضية !
يفعل كل هذا املؤمن التقى طالب اآلخرة .أما مسلمونا
اجلغرافيون فسيكون اقتحام عقبة العدل التوزيعي شاقا عليهم،
81
ألن الشح هو األصل ،وإمنا حتاربه اإلرادة اإلميانية املتزكية.
فالناس يف دار اإلسالم قريبون جدا من ملكهم ال يبذلون
لتعظيمهم املتاع املادي .فهل يكون معىن البعث اإلسالمي أن
يوكل أمر تعديل امللكية وتسوية األرزاق تسوية الئقة للضمائر
الفردية ؟
كال ! فليس البعث اإلسالمي عملية تأملية يف مسرح غنائي.
ولن يتحقق املقصد اإلمياين يف قيام دولة إسالمية رائدة إال يف جو
تعبئة إسالمية مشدودة حبلها إىل إرادة قيادة حامسة ،تفسح اجملال
للتطوع الفردي للسباق املكون لنواة اجلماعة اإلميانية ،وعلى كل
مسلم بعدئذ أن خيضع للجماعة ويعمل يف إطار مقاصدها إما
متحركا حبافز أهدافه ،أو سائرا بدافع التعبئة العامة.
الس َف َهاء
﴿والَ تـُْؤتُواْ ُّ
الغايات اإلحسانية :قال اهلل تعاىل َ :
أ َْم َوالَ ُك ُم الَّتِي َج َع َل اللّهُ لَ ُك ْم قِيَاماً﴾ ،وتقرأ الكلمة األخرية يف
رواية ورش عن نافع «قيما».
فأموالنا لنا قيم من حيث تكون للمؤمن مطية يفعل هبا
الصاحلات ،وهي لنا قيام جعلت لنقوم حنن أمة مؤمنة ونقوى ونعز.
فأي مال ال خيدم الغاية اليت من أجلها خلقنا فليس يف ملكنا بل
حنن له مستعبدون .وجاءت اآلية يف سياق التشريع ألموال اليتامى
القاصرين مثرية إىل حرمة تصرف السفيه يف أموال اليتامى القاصرين،
82
مثرية إىل حرمة تصرف السفينة يف ماله ،يبدده فال تقوم له مع العوز
قائمة .واآلية بإطالقها بالغ للمؤمنني عامة القصد.
للفكر املاركسي تصوره عن االستالب بواسطة العمل
االستغاليل املهلك لإلنسان ،يفقده ذاته وحيوله بضاعة وشيئا ،ولنا
حنن تصورنا اإلسالمي للمسخ عندما يرتف اإلنسان يف عادته،
ومرد أكثر العادات لعالقتنا باملمتلكات ،وجتيئنا األحاديث
الشريفة ختربنا عن بين آدم الذين حيشرون ويعذبون حبمل متاعهم
املادي الذي أترفوا فيه وعتوا به عن أمر رهبم يوم القيامة.
واملؤمن السالك ملقام اإلحسان يتعلم شيئا فشيئا ،وباطراد ما
يكسبه من قوة الروحانية ،كيف ينفصل عن املتاع املادي ،وكيف
يتصرف فيه باإلرادة املتحررة من الشح ملا أصبحت يف عبودية
رهبا .هذا املؤمن يكون املال له قياما وينظر بعني الرثاء خلدام املال
وعبدة األوثان.
احملسنون عباد هلل فال سلطان للمادة عليهم ،فإن أتوا ماال
مل يتصرفوا فيه تصرف السفيه ،وإمنا يرصدونه خلدمة غاياهتم يف
التقرب إىل موالهم.
واحملسنون هم نواة البعث اإلسالمي والوالية بني املؤمنني ،هم
محلة الرسالة .هلم الدور القيادي طبعا من طبع كل حترك إسالمي،
وإال فال معىن للعمل اإلسالمي .ألن من أخذ مقاليد احلكم وال
83
يزال يشغل قلبه وسواس االستكبار املستغين باملتاع احلسي ،ال
يعمل عمال إسالميا ،وال يبذل ما بيده لقاء ما عند اهلل.
فإذا أقام احملسنون رجال القيادة اإلسالمية مثاال حيا لتجردهم
وبذهلم لذات اليد وذات النفس ،اكتسبوا من قوة السلطان على
أنفسهم ومن مث على أمور األمة العامة ،ما ميكنهم من إقامة دولة
إسالمية تعاونية .وبذلك يستطيعون إن يوجهوا اجلهاد اإلسالمي
حلمل الرسالة احملررة للبشرية املعذبة.
يف عاملنا املادي يسري كل أمر بالسرعة والفاعلية اليت تتيحها
له الوسائل املالية .فاالقتصاد يبغي جتميع املال ،الرأمساليون
جيمعونه بالشح املضاعف ،شح انتظار الفائدة ،والشيوعيون
جيمعونه بالغصب ،ويف الطريق اإلسالمية يكون برهان التوبة
البذل ،ألن الصدقة برهان كما جاء يف احلديث .وهنوض اإلسالم
إىل أن يبلغ غايته يف محل الرسالة يريد تربية ،ووسائل الرتبية تكون
جدواها مبقدار ما ينفق عليها من مال ،فال مناص من أن يكون
البذل السخي املعمم املنظم موردا للعمل اإلسالمي .واملسلمون
اجلغرافيون اليوم ينفقون املال اجلم على خصوماهتم ومالمحهم
السياسة اخلاوية ،وما جعل اهلل من مصرف املال املسلمني إال
للفقري تغنيه وللمسكني ،وحنن أمة مسكينة ،تقويه .مث نبذل
أموالنا يف سبيل اهلل لتعز كلمة اهلل جبهادنا ونعز على وجه الزمان.
84
اخلصلة اخلامسة
ا لعلـم
لعل أهم أبعاد الفتنة اليت خنوض وسطها وال هنتدي سبيال
القتحامها أن عقولنا عشش فيها أنانيات تراكمت ظلماهتا على
مر العصور منذ غزت اإلسالم فلسفات اليونان الوثنية .مث أعقب
هتافت الفالسفة رسوب الوعي وحيويته حتت أثقال تارخيية من
اخلالفات واحلزازات حىت جاء وقت أعرض فيه املسلمون عن قرآن
رهبم وهنا وضعفا وقتامة عقل ،قائلني ملن زعم أنه يقرأ القرآن
فيتدبره أو يفسره « :إن صوابه خطأ وإن خطأه كفر» .فبمنطق
كهذا كبت جذوة اإلميان يف القلوب وومضة احلق يف العقول.
وراكب ذلك اهلزمية احلضارية يف ميادين اجلالء ،حىت استعمرت
اجلاهلية ديارنا ،وخنر ضالهلا يف عقولنا ،فهي اليوم متأهلة بالعقالنية
اإلحلادية اليت ينضوي حتتها ويفخر باالنتساب إليها من غامسها
يف جامعاتنا املمسوخة ،وحىت من قارف من خري الثقافة امللحدة،
مستقيا من فكر املالحة ممن حيملون أمساء إسالمية.
اجلاهلية إمنا كانت جاهلية ألمرين :جهل بقيمة اإلنسان
وجهالة عنيفة .وحنن املسلمني يف زمن فتنتنا هذا نضيف إىل
85
جهلنا مع اجلاهلية باملعنيني جهال ثالثا مركبا ،هو جهلنا كيف
نقيم ألنفسنا استقرارا وحضارة كحضارة اجلاهلية الرخية املتكاثرة.
صارت غايتنا من احلياة أن نغلب التخلف لنحلق بالركب
احلضاري لكنا حىت جريا لنيل هذه الغاية املنحطة خنتلف يف
االجتهاد لتحويل «شعوبنا» دواب مرتفهة ،وتتشكل أقدامنا يف
السري حني تشكلت عقولنا بالطواغيت العقالنية اجمللوبة املتعددة
املصادر .وتبين اجلاهليات ،الواحدة تلو األخرى ،حضاراهتا،
وتتنافس على خريات األرض وعلى دور القيادة احملررة للعامل ،وحنن
تتضور أمعاؤنا جوعا ،وعقولنا حتفزا للنماذج الساطعة الناجحة
اجلاهلية اليت تثور وتبىن وتغري اإلنسان.
الفلسفات اجلاهلية تروم جتميع اإلنسان جتميعا أفقيا وعموديا
يف تارخيه ويف أصوله البيولوجية والنفسية والرتبوية ،وتسعى العلوم
اإلنسانية لدراسة اإلنسان دراسة متزامنة 1ومتفاوتة الزمان،2
فيحصل هلا أن متثل عنصرا ثابتا هو «الطبيعة املتطورة» وعنصرا
متغريا هو اإلنسان .وهكذا تربط اإلنسان بالطبيعة ليتكيف هبا وال
تبحث أبدا عن وسيلة لتكييف الطبيعة حسب الضرورة األوىل :
أال يفقد اإلنسان إنسانيته.
86
هذا هو علم اجلاهلية وعلى ضالله نسري وحنن األمة املسلمة
يف زعم أنفسنا ! كان لنا علماء عاملون يذكرون الناس بالفطرة
أنفاس علمائنا
َ وباملعاد ،فلما غزانا التمدن الكمي اجلاهلي غطت
العاملني حجب كمية ،وقيس علم املرء بشهادته كما تقاس علوم
الطبيعة عند حامليها .ويسري التيار اجلاهلي من خالل النماذج
اجلاهلية أو متثلها غري الواعي ومثاهلا املنتصب مفخرة للحضارة،
حىت يصبح مفهومنا عن العامل املسلم مفهوما ممسوخا ،فكل من
محل شهادة من جامعة إسالمية حسب عاملا قدوة وانتظر منه
أن يعلم الناس دينهم .وقد يكون هو يف نفسه ممسوخا يتلفت
يف أعطافه معجبا حبامل الشهادة الذي ميثله حضرته ،وهو فاسق
يضاهي بفسقه دكاترة برلني وباريس.
إذن مثقفيا أشد الناس بعدا عن الفطرة اإلسالمية ألهنم
جاهلون بالقيمة اإلنسانية .تعلموا يف اجلامعات املمسوخة
معايري لإلنسان جاهلية ،ولقنوا من الفكر اجلاهلي مناذج للسلوك
جاهلية ومع هذا فلنا حبمد اهلل علماء عاملون أطهار يتحسرون
كما نتحسر على ضياع بين قومنا وأبناء ملتنا .وحني تبزغ مشس
اإلسالم يكونون الرعيل األول ،فليستعدوا .وعند اهلل مفاتيح اخلري
نسأله أن يفتح هبا مغاليق األفئدة الضالة .ولن جتدوا يا قوم خمرجا
من ورطتكم إال اإلسالم.
87
إن حاجتنا إىل علم إسالمي كحاجتنا إىل تربية إسالمية ،بل
إن علم اإلسالم وفهمه مقدمة ضرورية للعمل اإلسالمي .يظن
بعض رجال الدعوة من املسلمني أن ضعف املسلمني يف قصور
اجتهادهم الفقهي .وهذا حكم سطحي ألنه يقدر أن البعث
اإلسالمي يكون بالتجديد القانوين وكأنه ليس بيننا إال ضمائر
مؤمنة متعطشة للمعرفة اإلسالمية والعمل هبا .والعمل الذي حنن
1
حباجة إليه هو «الفقه املنهاجي»
كيف نتعلم إسالمنا ويف أي اجتاه ؟ كيف نفهم الوسط الذي
نعيش فيه وكيف نتصرف جتاه فتنة الدنيا وفتنة العنف ؟ ومن
أين نبدأ ومن يبدأ ؟ وإىل أين نسري ومل نسري ؟ وكيف ننتقل من
عامل الكم حلياة الكيف ومن الفتنة اجلاهلية إىل اإلسالم ؟ وما
هي بنية اجلماعة ورابطها ومراتب اإلسالم واإلميان واإلحسان ؟
الفقه املنهاجي فتح للتدبر والفهم مبفتاح القرآن ،ويف ضمنه يتاح
االجتهاد الفقهي الشرعي واالجتهاد الرتبوي وهو أسبق ،واالجتهاد
الغائي احملول ملعاين احلياة على األرض يف معاملة املسلمني مع
الطبيعة ومع اجلاهلية ومع الفتنة مبعنييها.
األهداف اإلسالمية :إذا ما رمنا صوغ املنهاج النبوي فإنه ال
مصدر لنا وال مدرسة نتعلم منها إال أمر اهلل يف قرآنه كما طبقه
88
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه ،مث اجتهاد الرسل عليهم
السالم يف التعامل مع قومهم اجتهادا زكاه اهلل أو عزى رسله عن
فشل اجتهادهم.
أغلقوا باب االجتهاد زمن االحنطاط الذي مرت ومتر به
هذه األمة ،زاعمني أن أدوات االجتهاد غري ميسورة بعد القرن
الفالين .ووقف املسلمون موقف العاجز اليائس ال جيرؤ أحد إال
على االقتداء مبجتهد سبق .وهبذه الكيفية حيكم كل جيل منحط
مبقاييس األجيال الغابرة املنحطة هي أيضا بالنسبة للنموذج العايل
منوذج الرسول وصحبه.
هلذا نعرف كيف السبيل ليعود الناس لإلسالم ألن فقهاء
األمة إبان كان اإلسالم يف عز دولته يستتيبون املرتد ثالثا مث يقتل
حدا وكفرا .فما العمل اليوم والردة هي األصل يف صف كثري من
أصنافنا ؟ إن عبادة «احلد والكفر» هي وحدها اليت تطل من
خزانات وثائقنا الفقهية ،ومن جيرؤ أن خيرج من جوق احلوقلتة
اليائسة املنذرة بالثبور وعظائم األمور وهناية اإلسالم ،فريجع إىل
كتاب اهلل الذي أمر بالتوبة املؤمنني وغري املؤمنني ؟ أما من يتذكر
وسط زحام الوثائق الفقهية التارخيية أحاديث رسول اهلل املنبئة
بزمن الفتنة ،اآلمرة بالرفق والطاعة لذوي األمر ولو جاروا ولو
هنبوا ولو ظلموا ؟
89
إال يكن رجال الدعوة متجردين ال يطلبون جاها وال حيوم
مههم حول احملافظة على السمعة ،فلن يقدروا على اجتهاد ،ألن
أهم أدوات االجتهاد ،مع اآلالت العقلية بل قبلها ،ذمة متجردة
منيبة إىل اهلل.
لكي يتوب املسلم اجلغرايف ويرجع إىل االلتزام بأمر اإلسالم
ولكي تنفصل األعداد الغثائية من أبناء ملتنا عن حاضرها املفتون
وعن عاداهتا اجلاهلية ! ينبغي أن يعلن رجال الدعوة أن «احلد
والكفر» معيار حلكم اهلل يف دولة اإلسالم وعزه ،وأن بدهلا يف
وقتنا «التوبة والطاعة اإلسالمية» ،توبة مفتوحة للكبري والصغري
والظامل باألمس واملظلوم والصاحل والطاحل .ولعل من رجال الدعوة
أو من زهاد املسلمني من يأنف أن يتوب إىل اهلل زاعما أن الصاحل
ال يتوب ! ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يستغفر ربه
سبعني مرة يف اليوم ويتوب إليه!
ولن يستوي لنا علم باإلسالم إن مل نفقه أن اهلل تعاىل يقبل
من عبده سلوك مشروع اخلالص الفردي .يقول رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم « :إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب
كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك» وأمثاله كثري ،يبيح
فيها املعصوم عليه الصالة والسالم للمسلم أن ينفرد بدينه .ومن
املؤكد أن مشروع اخلالص الفردي يتضمن إمكان اقتحام العقبة
90
إىل إميان وإحسان .هذا مؤكد وهلل أولياء حيبهم ويكرمهم ما
وضعوا قدمهم يف ميدان جهاد وإمنا آوهتم اخللوة يسبحون حبمد
رهبم ويعبدونه عبادة مالئكته ال يفرتون .أولئك فاتتهم مرتبة
اجلهاد إلعالء كلمة اهلل يف األرض ،وهي مرتبة عظيمة .ولكن مل
تفتهم مقامات الصاحلني.
إن القرآن كتاب جهاد ،كتاب إسالم مجاعي ،كتاب عمل
مجاعي .لكن من تعاليمه اإلشارة إىل العزلة ورضى اهلل عنها .يف
حق أصحاب الكهف مثال ويف حق أبينا إبراهيم عليه السالم،
وهو رسول جاهد حىت يئس مث اعتزل وكان ينبغي مبقياسنا أن
يبقى يف جهاده حىت يقتلوه .قال اهلل تعاىل﴿ :فـَلَ َّما ا ْعتـََزلَ ُه ْم َوَما
ِ ِ ِ
وب﴾ هذا إكرام يـَْعبُ ُدو َن من ُدون اللَّه َو َهبـْنَا لَهُ إِ ْس َحا َق َويـَْع ُق َ
بعد اعرتاف مبشروعية العزلة.
نريد هبذا أن خنرب من جيهل إسالمه أن «الشعوب»اإلسالمية
سيبقى فيها ناس منعزلني لن يسامهوا يف بناء العمل اإلسالمي
املقبل ولعلهم ينكرون اإلسالم املنبعث اجلماعي وال يعرفونه .فال
حاجة بنا أن نرغمهم على اجلهاد وليس هبم جهاد!
وأمر ثان أساسي حيق أن نتعلمه حىت يرسخ يف ذهننا فيكون
جزءا من خطتنا للبعث اإلسالمي ،هو أن اإلسالم مراتب ثالث،
إسالم وإميان وإحسان ،واملسلمون هدف العمل اإلسالمي يف
91
تربيتهم ،ومردودهم يف بنائه ،أن يتوبوا ويلتزموا بالطاعة ،ال جهاد
عليهم إال أن يرغبوا .نكرر هذا كثريا قصدا ألمهيته.
املقاصد اإلميانية :حدث خالف بني الشيخ حسن البنا وابن
شيخه احلصايف .ومير البنا هبذا اخلالف مر الكرام يف مذكراته،
مث ينتقد الصوفية نقدا شديدا .وهو رمحه اهلل الصويف صاحب
الوظيفة واألوراد والسر الباهر .ويرفض رمحه اهلل حديث البيهقي
الذي يقول فيه الرسول الكرمي « :رجعنا من الجهاد األصغر
إلى الجهاد األكبر» ،وينفي أن يكون مث جهاد أكرب من جهاد
السيف .وألهل احلديث مقاالت يف هذه الرواية يضعفون احلديث.
وإمنا كان خالف البنا مع الصوفية ،ورفضه احلديث حول
نقطة الفرق بني اإلسالم الفردي واجلماعي ،فهو كان ال يعرتف
بإسالم القاعدين ،وهو كان يف اجلهاد األكرب طول حياته ال يف
فرتة محل السالح بفلسطني فقط.
املسلم الفردي ال نسأله أن يدخل يف والية املؤمنني ،ألنه ال
يهاجر أو ال يستطيع هجرة ،فال خناصمه وال حنمله فوق ما يطيق.
وليكن له إن شاء أن يتزكى كما حيب ،ما دام املسلمون يف أمن
من لسانه ويده ،وما دام مطيعا لألمر العام مصليا مزكيا.
على الدعوة اإلسالمية الباعثة أن تنشر الفقه املنهاجي الذي
يرسم لكل مسلم خط العمل اجلهادي .تنشر ذلك بلغة العقالنية
92
ليفهمها املسممة عقوهلم باإلديولوجية ،مع حفظ أطراف العلم
املنهاجي من أن تتسرب إليه العقالنية املعاصرة كما تسربت
الفلسفة القدمية للفالسفة املسلمني األولني حىت هتافتوا.
سيكون الفقه املنهاجي عمال فكريا جديدا ،وسيكون دعوة
مبا هو صيحة وخطاب للعقول والضمائر .لكنه لن يتحول عمال
يقيم والية بني املؤمنني ،ويقيم دولة اإلسالم الباعثة املوحدة لدار
اإلسالم إال إن التقى بوعي مرتقب مستعد .وعلى الفقه املنهاجي
أن يربز االستعدادات اإلنسانية يف دار اإلسالم مثلما عليه أن يقرأ
الكتاب والسنة قراءة حركية جهادية.
الغايات اإلحسانية :من هم أقل املسلمني ترفا يف الفتنة ؟ ال
شك أن خط البحث يشري إىل أقل املسلمني امكانات لالنغماس
يف الرتف املادي والفكري ،املساكني ،والشباب الذي نراه اليوم
متحمسا للشيوعية ومناذجها ،يغلي غليانا ال يدل على ترف،
لكن على استعداد حيوي للعمل ال جيد منفذا وال وسيلة للتعبري
إال املطالبة بتغيري شيوعي .وإمنا يطالب بالتغيري الشيوعي من
يطالب ألنه ال حركة وال نأمة باسم اإلسالم .مث إن الفقه املنهاجي
ال يكون كذلك إال إن أدرك بوضوح وأبرز بوضوح للقادة ولألمة
مجعاء أن هذا الضغط الواقع على «الشعوب» اإلسالمية لن يربح
املسلمني إال حني يتوبون إىل إسالمهم ويفزعون إىل رهبم ،وال
93
مفر ،ولن نكون أمة اشرتاكية وال شعوبا اشرتاكية.
الفقه املنهاجي ال يكون كذلك إال إن وعى وأوعى القادة
وذوي احلول من هذه األمة ،أن األمة احملرومة املسكينة لن تتحرك
إال وراء لواء اإلسالم .وضاعت واهلل جهود املرتفني يف إغرائهم
املسلمني بأكاذيب الوعد االشرتاكي وأباطيل العاملية اليت ال
يدخلها املسلمون إال أن جتردوا عن إسالمهم.
إن كل «األوهام» 1العقالنية وكل «املدن الفاضلة» الفلسفية
من نسج اخليال .أما موعود اهلل للذين آمنوا وعملوا الصاحلات أن
يستخلفهم يف األرض ويعزهم يف الدنيا واآلخرة فهو احلق الذي
نؤمن به ومساكني هذه األمة املستضعفني .وهو أيضا التاريخ
الذي حتقق عهدا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ويتحقق
عندما يرفع اهلل إىل سقر كل متكرب جبار .وخاب واهلل املالحدة
من مثقفينا الذين يسولون لألمة أن جيل الصحابة فلتة تارخيية
لن تعود.
أال إن اهلل حيب احملسنني ،وإن مهم املسلمني ستطلب حمبة
اهلل ورضاه وستعمل عمال إسالميا وستحمل رسالة اإلسالم بقوة
كما محلتها أول مرة .ورحم اهلل مؤمنا حمسنا كان يعنون كتبه :
«املستقبل هلذا الدين».
94
اخلصلة السادسة
العمل
نعم العقل خادما وبئس العقل سيدا متأهلا بعقالنيته .علم
التكنولوجيا حمط اهتمامنا يف فتنتنا« ،والتقنوقراطيون» هم
رجال القيادة املعظمون ،ألن األمة املفتونة يف فئاهتا املرتفة تعظم
التكنولوجيا وتؤهلها وجتعل كل جهودها ووجهة عملها اكتساب
العلم التكنولوجي وتسخريه لبناء االقتصاد .فال خالص إذن إال
بالتكنولوجيا إذا كان اخلالص هو ترفيه اإلنسان -الدابة.-
ماهو هدف العمل اإلسالمي ورسائله ؟ أبِناء احلضارة املادية،
فنكسب التنظيم االجتماعي واملادي ؟ وهذا يطلب كسب
التكنولوجيا التنظيمية والتقنية .أم هو هذا الظل املطل من وعي
كل املسلمني لداعي األمر باملعروف والنهي عن املنكر التصال
املفهومني بعمل إسالمي جميد مضى ،ودفنه من يقولون إن العمل
اإلسالمي يف عهد الصحابة فلتة لن تتكرر؟
جيد الفقه املنهاجي من أهم مهماته أن جيمع يف وعي طالب
اإلسالم ووعي من سريغمهم الرهق السياسي من قادتنا داعي
الرتبية اإلسالمية على كسب العلوم املنهاجية وداعي اكتساب
التكنولوجيا.
95
ومعىن هذا أنه ال ميكن الفصل بني العمل على كسب
العلم التكنولوجي والرتبية والتزكية يف عمل اإلسالم املنبعث.
العمل اإلسالمي سعي لبناء حضارة ختدم قيمة اإلنسان وغايته
اإلحسانية ،فال يرتف يف عامل الكم ناسيا تزكية نفسه ليلقى اهلل
وهو عنه راض وخيلد يف قرب ربه يف اجلنة.
على مسرح األحداث العاملية مسلمون يتحركون ويضطربون
مع الوقائع العاملية ،لكن حركتهم االضطرابية ال حتدد هلم شخصية،
ألهنم ناس كالناس وال يتميز عمل املسلمني عن عمل اجلاهليني.
وبقدر ما يكون عمل املرء وحافزه هو احملدد لشخصيته فال وجود
للشخصية اإلسالمية ألنه ال وجود للعمل اإلسالمي.
يشكو أصحاب اإليديولوجية من أن األثرة الطبقية املستغلة
تشيء العمل اإلنساين فتشيء الواقع علينا ألننا نتحمل النماذج
اجلاهلية يف الفكر والعمل ونتمثلها ونرتف فيها .ومن كان مسيخا
كان عمله العشوائي الغوغاثي وسيلة من وسائل ترديته يف مسخ
أكرب ال من وسائل حتريره.
عنوان هذا الكتاب «اإلسالم غدا» ويف هذا كفاية للداللة
على الضالة اليت ينشدها الفقه املنهاجي .إننا نبحث عن عمل،
عن حوافز للعمل ،عن تنظيم للعمل ،عن توجيه بعد تكوينه ،وعن
جتديد وابتكار عالقات إسالمية نستبدل هبا عالقاتنا اجلاهلية مع
96
العامل وساكنيه .كل ذلك حبس إسالمي ووعي إسالمي وإرادة
إسالمية .خصالنا العشر خصال عمل ،ومنهاج اقتحام العقبة
يوحى باجلهد املتواصل يف سياق مغالبة واعية للنفس املمسوخة
املاسخة وللقوى الرتفية العادية .وكل ذلك يدل على طريق العمل
ويبحث عن احلل اإلسالمي بالعمل اإلسالمي.
ويكون السؤال األهم :من أين نبدأ ؟ بل من يبدأ ومن
يعمل؟ األهداف اإلسالمية :جنيب عن السؤال األخري بأنه ال
عمل إال بتعبئة ،ومعىن التعبئة جتميع للطاقات املسلمة املرتفة
يف النعيم أو البؤس بفتح باب التوبة لعامة املسلمني .وكما كان
اإلسالم جيب ما قبله يف االنتقال من جاهلية لإلسالم فلتكن
التوبة جتب ما قبلها ،حاشا املظامل ،يف انتقالنا املقبل القريب
حبول اهلل من فتنة لإلسالم ،ومن معاين الفتنة العشوائية يف العزم
والتنفيذ .وال انتقال لنا منها إال بفكرة واضحة جلية :أن اإلسالم
رمحة قبل كل شيء ،وأن بعث اإلسالم لن يتم بفتنة تقهر فتنة،
ألن معىن اإلسالم سالم ورمحة والفتنة نقيض كل ذلك.
نبدأ العمل اإلسالمي بدعوة عامة .باستصالح كل القوى
يف دار اإلسالم إن قبلت التوبة والعمل لبناء اإلسالم .ويتبلور
هذا العقد مع اهلل تعاىل باملبايعة العامة للقائد اجملاهد ،أن يتوبوا
إىل رهبم معه ،وأن يطيعوه بطاعة اهلل ورسوله .هذا هو اهلدف
97
اإلسالمي العام يف بدء العمل اإلسالمي ،وكل من ال يتوب وال
يلتزم بأمر اإلسالم ،إال يكن من أهل الذمة فهو مرتد يعد خبثا
يطرح .وإن تكن لنا قيادة جهادية عازمة فال إخال أن خيرج عن
األمر خارج إال نفاقا وتسرتا .وسيجد االنبعاث اإلسالمي يف دار
اإلسالم ،يف أي قطر نشأ فيه البعث اإلسالمي مهما كان ترف
أهله ،استجابة راضية بل محاسية من أنفس ال جتد روح الرمحة يف
الكدح املفتون واألثرة والتغابن على الفرص يف أكل الفقري وابتزاز
ماله.
يرتبط هذا احلماس الضروري للبداية بعاملني اثنني ،أوهلما
االستعداد الفطري الذي يقهر دواعي العادة املرتفة عند فئات
املرتفني ،وهذا االستعداد جتده عند مساكني األمة والشباب
والنساء ،هؤالء املسكينات .وثانيهما احلافز النفسي الذي تزيد
قوته أو تقل حبسب ارتفاع األهداف واملقاصد والغايات اليت
تقرتحها القيادة اجلهادية كموضوع جلهاد األمة جمددة رائدة.
عددت النساء من فئات املساكني ،وأنا أعلم أن منهن رؤوسا
للفتنة وقائمات على سدانة الرتف يف دار اإلسالم .وما أقصد أن
أنصف املرأة متلقا ملا متثله من أعداد ضخمة يف دار اإلسالم ،ألن
اهلل عز وجل يعلم أي داء هو داء النخاب ،فلسنا إذن يف محلة
انتخابية نرضي هذا وذاك.
98
إن املرأة أرهف حسا وأقرب انفعاال .تعيش حبسها أكثر من
الرجل فهي إىل الفطرة واإلميان أقرب إن وجدت حزما يف القيادة
وحرارة يف إميان رجال الدعوة .مث إن العمل اإلسالمي ،بعد التصفية
يف قرتة املبايعة ،إمنا يرتكز على الرتبية اإلسالمية ،فعمل مع تربية
بعمل .وقد أمر اهلل النساء الفضليات أن يقرن يف بيوهتن ألهنن
إن آمن واتقني رهبن أقدر على الرتبية للصغري والكبري ،وأجدر
أن يربزن يف ميدان الدعوة حمجبات جبالبيب الوقار لكن فياضة
قلوهبن بالرمحة اإلسالمية والبذل واجلهاد.
احلافز الذي يستجيب له املسلمون هو عني الشهادة بالقسط يف
األرض على أنفسنا وعلى الناس اليت أمرنا هبا .وجملى هذه الشهادة
هي القوة واإلعداد هلا نداء إهليا خالدا هلذه األمة ﴿ :وأ ِ
َع ُّدواْ لَ ُهم َّما َ
استَطَ ْعتُم ِّمن قـَُّوٍة﴾.
ْ
إذا كان شعار االشرتاكية اململ هو « :اشرتاكية من أجل
جتاوز التخلف» أو بديال له « :االشرتاكية من أجل حمو العدوان
اإلسرائيلي» فإن شعار اإلسالم « :اإلسالم من أجل القوة» حنن
أمة خلقنا لنحمل الرسالة اإلهلية أبد الدهر ،فال نقبل أن متسخ
غاية وجودنا فنقف عند البناء االقتصادي من أجل بطون أكثر
امتالء ،وإمنا نبين االقتصاد لنقوى على محل رسالة ربنا.
املقاصد اإلميانية :عندما يرتفع النداء بالتجديد اإلسالمي
99
تتبدد سحب الوهم اجلاهلية عن وعي املسلمني املساكني ،ومن
نبذ الرتف الفكري واملادي على السواء .وعندئذ يكتشفون أهنم
ليسوا مجاهري وشعوبا متشبعة ال تلمها القومية اجلاهلية مهما
كادت وسخت .إمنا هم أمة هلا أصل واحد ترجع إليه ،هلا أم
واحدة يف التاريخ هي األمة املسلمة من لدن آدم فاألنبياء إىل
خامت الرسالة صلى اهلل عليه وسلم .وهلم أم واحدة يف املكان
الروحي هي هذه الرمحة والرحم بني املسلمني .وهلم أم واحدة
يف جمال التطلع إىل اآلفاق املستقبل هي الصاحلات يف األرض
مهما استضعفوا .وهلم أم واحدة من حيث مصدر اهلداية والبالغ
وتوجيهات العمل هي القرآن الكرمي ال يأتيه الباطل من بني يديه
وال من خلفه ،يلتفون حوله التفاف الفزع إىل ربه.
ما بنا أيها الناس قلة يف العدد وال يف املال ،وإمنا صرنا قصعة
تداعى عليها األكلة كما عرب الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم
النصرافنا عن أصلنا وتشبعنا وجتمهرنا .ولقد أعيانا أن نقتبس
عالقات إنسانية جاهلية لتكون لنا قوة ورباطا ،فكان لنا ما
نقتبس مسخا وعلينا وباال .وهذا كتاب ربنا يصرخ علينا باحلق
ويهيب بنا أن نكون أمة واحدة مؤمنة ،ويعدنا على ذلك النصر
واالستخالف يف األرض واألمن والكرامة يف دار النعيم.
ض ُه ْم أ َْولِيَاء
ات بـَْع ُ﴿وال ُْم ْؤِمنُو َن َوال ُْم ْؤِمنَ ُ
قال اهلل تعاىل َ :
100
ِ ِ ِ
الصالَةَ
يمو َن َّ ض يَأ ُْم ُرو َن بال َْم ْع ُروف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َويُق ُ
بـَْع ٍ
الزَكا َة َويُ ِطيعُو َن اللّهَ َوَر ُسولَهُ أ ُْولَـئِ َ
ك َسيـَْر َح ُم ُه ُم اللّهُ﴾. َويـُْؤتُو َن َّ
فما نعت لنا العالقات اإلنسانية اليت متكننا من العمل وتنهض
بنا جسما عضويا قويا حىت جاء بوعده الرحيم ،ذلك أن رباط
اإلميان بني املؤمنني رمحة يف حد ذاته ،يفضي إىل رمحة خترج باألمة
من ضيق الدنيا إىل سعتها.
الوالية بني املؤمنني حمبة وأخوة وتآلف ،وعالقة األمر باملعروف
والنهي عن املنكر هي عالقة التواصي بالصرب واحلق واملرمحة،
وهي النصيحة ،وهي نفس الوقت وظيفة للجماعة املؤمنة املرتابطة
باحملبة والوالية للمؤمنني ،اعتبارا لوالية اهلل ورسوله اجلامعة.
والعالقة الثالثة هي يف مظهرها التعبدي إقامة للصالة والزكاة
ويف مظهرها العملي اإلنساين طاعة هلل ورسوله طاعة مجاعية تفرض
الطاعة لوي األمر املبايع ذي الذمة والعزم اجلهادي اإلسالمي.
عامة املسلمني وظيفتهم يف بدء العمل اإلسالمي املنبعث
إقامة الصالة والزكاة إقامة مع اجلماعة واملبايعة على السمع
والطاعة هلل ورسوله وصاحب األمر .ويكون هذا الرباط وهذه
الوظيفة مضمون التوبة العامة.
أما رباط األمر باملعروف والنهي عن املنكر ووظيفته فهو
خاص مبن يدخل يف الوالية اخلاصة بني املؤمنني .وهي والية هلا
101
رافدان اثنان :أوهلما الرمحة القلبية ،شعور رقيق حنو األخ املؤمن
مبعاين احملبة والبذل والوالء ،والثاين طاقة األخوة اجلهادية بني
أفراد جيش يسري قاصدا لبناء أمة إسالمية حرة قوية تستقطب
آمال املسلمني مجيعا ،وتنصب للعامل مثاال حيا للتعاون اإلنساين
والتمدن اإلنساين والنظافة واألمن والقوة.
أهل الوالية اخلاصة من املؤمنني ال يكونون دائرة مغلقة يدخلها
مسبقا إال هذا وذلك ممن له ثقافة أو حول ،بل هي تكون رباطا
جهاديا حيتاج جلند صادقني ،فكل من قدم برهان الصدق بأعماله
وجبهوده ونتائجه لبناء األمة كان عضوا باالستحقاق الكامل يف
اجلسم املؤمن.
معىن هذا أن العمل اإلسالمي ،إن كان دعوة عامة مفتوحة،
فإنه بكل تأكيد يستند إىل املؤمنني .وهم وحدهم ،ال عامة
املسلمني ،املخاطبون بالقرآن احلافظون حلدود املعروف واملنكر
املهيمنون على احلياة مبا بذلوا هلل من طاعة ،ومبا بذلوا إلخواهنم
من حمبة وخدمة.
إهنا طبقية ال مراء فيها أراداها اهلل كذلك ،لكنها طبقية خدمة
وإمنا سيد القوم خادمهم كما قال الرسول الكرمي .لذلك فاملؤمن
ال يستعلي بإميانه وال يتبجح وال يطغى ،لكنه يسبق إىل أكل
الطعام البحت عند حاجة املسلمني ،ويسبق إىل لبس اخلشن عند
102
احلاجة ،وإىل نبذ الرتف وأسبابه ،ويبذل ويؤثر غريه ويتسرت يف
كل ذلك .فسلوكه تنفيذ مثايل ملا يوصى به غريه وما يتواصى به
املؤمنني من صرب وحق ومرمحة.
الغايات اإلحسانية :احملسنون هم الطبقة األوىل يف اجلماعة
اإلسالمية .هكذا أرادهم اهلل ألنه كلفهم فوق ما كلف اآلخرين،
وجزاهم على ذلك حمبته ونوره وواليته .وال جتد احملسنني إال على
مثال عمر بن اخلطاب وأيب بكر وأضراهبم من صحابة رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم ،أقل الناس التفاتا لنعيم احلس ،وأكثرهم
حدبا وخدمة لألمة وسهرا متأوها جاهدا على مصاحلها .ال
يتصدرون اجمللس ال يتكربون ،كيف والكرب أعظم الداء وأكثف
احلجب!
طبقيتهم هذه املؤكدة يف كتاب اهلل وسنة نبيه ال تعطيهم حق
االمتياز عن املسكني بلباس وال شارة وال مطعم ،لكن تعطيهم
واجب أن يؤثر على نفسه ولو كانت خصاصة ،وأن يتعب لريتاح
الضعيف ،وجيوع ليشبع اليتيم ،ويسهر لتنام املرأة واألمة مجعاء
آمنة مطمئنة مرزوقة.
هؤالء هم اجملاهدون ،وهم أصحاب القيادة اجلهادية .يعسوهبم
القائد اجملاهد أكثرهم نصبا فيما خيدم األمة ،أمرا من أمر اهلل
ب﴾ .القائد اجملاهد ب َوإِلَى َربِّ َ
ك فَ ْارغَ ْ انص ْ لنبيه﴿ :فَِإ َذا فـََر ْغ َ
ت فَ َ
103
الراغب يف ربه ال يفرغ من عمل إال لعمل فينصب ممثال اجلهاد
يف أروع مناذجه .ولئن كان من شروطه الكفاية الروحية والفكرية،
فإن منها أيضا بل أمهها قدرته على العمل ،على التنظيم والدقة
وامتالك الوقت.
هذا رئيس املسلمني ورأسهم وإمامهم ،ال تنصب له سرادقات،
وإمنا تنصب له خيمة اجلهاد يتقلل فيها ويواسي األمة بنفسه
وكلمته وفكرته وجمالسته وخماطبته .وأي قائد من قادتنا إن رغب
يف ربه ونصب خيمة اجلهاد بقصد إمياين وكفاية ونورانية يربهن
عليها بتجرده ،فليس أحد أحق بالتعرض باملسلمني ملوعود اهلل
منه .وحىت يعاف قادتنا فتنتهم وترفهم ويتقايؤوه فموعود اهلل
قائم ،ورمحته وحمبته للراغبني الناصبني ،وإن اهلل ملع احملسنني.
104
اخلصلة السابعة
ا لسمـت
أكتب هذه الصفحات يوم ثاين رمضان من سنة
1392ه .وقد بلغنا خرب دولة إسالمية اختذت آالت إلكرتونية
حلساب الوقت وقررت أن تقوم السنة وحتدد مواعيد رمضان
ومواعيد األعياد مسبقا .وقد يبدو األمر يف عني «فقيه متعصب»
افتياتا على الشريعة ،وقد يبدو يف عني املسلم العصري غري ذلك.
وال يلفت اخلرب النظر بكل ما حيمله من نذر االختالط والرتف
احلضاري إال يف عني من يلتمس وسيلة لكي تتجدد أمة اإلسالم
وتنسل من اجلاهلية احمليطة اهلاجة املتسربة.
إنه ال بأس أن نقتين آالت الكرتونية حلساب شؤوننا عند
أقصى الضرورة قبل أن نستطيع حنن بناءها بأيدينا ،لكن عندما
تأتينا مقتنياتنا احلضارية معها إحياء باستعماهلا استعماال عشوائيا،
ويف أخص شؤوننا الدينية بداعي عقلنة الوقت فذاك اخلطر.
إن الوقت املادي ليس هو الوقت الديين ،الوقت الديين
مرتبط بآيات اهلل يف األرض والسماء اليت ختاطب املؤمن إنسان
الفطرة فيستجيب هلا خوفا من ربه وطعما ،ويتطلع إىل السماء لريى
105
اهلالل عالمة على عبوديته ،ويشرتك يف ذلك مع الكبري والصغري،
ويبشر من سبق بالرؤية إخوته .إهنا ليست صورة فلكلورية هذه
اليت أعرضها ،إنه مست اإلسالم وشكل احلياة اإلسالمية وموقف
املسلم من العامل ،يعامله بأمر ربه ويعظم أمر ربه وخيدمه خدمة
شخصية بكل ذلة لربه ،كما يفعل إن حج البيت ،أو خرج لصالة
االستسقاء حافيا عاري الرأس متضرعا.
السمت اإلسالمي موضوعه عامل األشكال والسلوك الفردي
واجلماعي .السمت اإلسالمي مرتبط بكرامة املسلم وعزته بربه
الرتباطه دائما بعبوديته له.
يف عامل االنغالق اجلاهلي فقدت حركات اإلنسان وسلوكه
اليومي كل معاين اإلنسانية ،وفرغت إال من معاين الكدح أو
البحث الالهث عن اللذات .وبعد أن كان لعامل اجلاهلية املتكاثر
فن وثقافة يعرب هبا اجلاهلي عن توقانه للسمو عن مستواه األرضي،
أصبحت أسباب احلضارة الصناعية وما تتيحه من وقت فراغ تصبغ
الفن والثقافة بصبغة االستعجال االستهالكي ،حىت مل يبق هناك
إال الثقافة املعلبة هتدف إلرضاء غرائز اجلنس ،وهتدف لصرف
احليوات يف مسارب الدوابية البشرية اليت القرار هلا.
أما املسلم فلكل حركاته معىن متصل بقيمته اإلميانية
اإلحسانية ،خليفة هلل يف األرض ومكلفا بالشريعة .جاءته من
106
اهلل اهلداية والعناية تصف له كيف يقوم وكيف جيلس ،كيف
يتكلم وكيف يصمت ،ووضعت على كل عضو من أعضائه ،بل
على كل سلمة من سلمات أصابعه عبادة وحركة يكون جمموعها
السمت اإلسالمي.
نظافة اجلاهلي قد يكون حافزها التجمل االجتماعي أو الوقاية
الصحية ،أما املسلم فنظافته حركة أوىل حنو الطهارة اجلسمية،
وهذه الطهارة تفضح قذارة اجلاهلي الذي يبول يف سراويله.
مست املؤمن قوة ألن اهلل حيب املؤمن القوي ،مسته وقار يف
اجمللس ويف صف الصالة.
إن لألشكال احلضارية واجلماليات العادية اجلاهلية سلطانا
كبري على نفوس األمة املفتونة .واألمة اإلسالمية يف انبعاثها جيب
أن تقضي على هذه التبعية املاسخة ،ال يف نطاق احلالل واحلرام
فحسب بل بإحالل السكينة وزينة اهلل اليت أخرج لعباده املؤمنني
مكان الفخفخة املتكربة املكابرة.
األهداف اإلسالمية :املسلم التائب امللتزم بأمر اإلسالم
يكتشف نفسه يف اخللجة القلبية ،أو يف الوازع النفسي الذي
رده اللتزام أمر دينه .ويكتشف نفسه أيضا يف املمارسة اليومية
للسمت اإلسالمي يف حركات جسمه حني يتعود إقامة الصالة،
وحني يتهيأ هلا وحني يتنظف ويتطهر .ويتغري موقفه أمام العامل
107
فريى فيه طاهرا وجنسا ،يراه حمدودا حبدود اهلل.
يكتشف التائب نفسه يف العودة إىل الفطرة من حيث جسمه،
قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم « :خمس من الفطرة :الختان،
واالستحداد وتقليم األظفار ونتف اإلبط ،وقص الشارب»1
وينبغي أن يكون هذا االكتشاف حبافز عاطفي ال باإللزام،
فال يكفي أن ترغم الناس على قص الشارب وإعفاء اللحية
ليعوداو مسلمني .وقد برنط ويل الشيطان مصطفى كمال
املسلمني ليكفروا ،فما زادهم ذلك إال إميانا .وقد ميضي وقت قبل
أن نستعيد السمت اإلسالمي على مستوى الفرد وعلى مستوى
األمة .وقد يكون من شعارات التوبة اليت سيخف إليها الناس
طرح السمت اجلاهلي ضربة واحدة.
على أن مشكلة العري ال بد أن تضرب بالقوة فإهنا الفتنة
العامة لتكون أول عالمات السمت اإلسالمي يف شوارع املسلمني.
ويكتشف التائب نفسه يف ضرورة اتباع السمت اإلسالمي مع
زوجه وأوالده ،ويتنصل من الفهم األناين ملعىن األسرة ،لكي يعم
أقاربه مجيعا خاصة والديه بالرب والرمحة.
ومع تصفية الشخصية من أدران اجلاهلية ،يصفو أيضا اجلو
الفين والثقايف وسائر املظاهر احلضارية من أساليب اجلاهلية يف
سياق املبايعة والطاعة.
108
املقاصد اإلميانية :من أول صفات املؤمن بعد لزوم اجلماعة
الذكر والعبادة .إن للجاهلية عاداهتا يف اجلد واهلزل ،يف العمل
والفراغ ،يغشى اجلاهلي املكتب واملعمل ،ويغشى األندية
والسنمات ،ويف كل جيد مرافق لراحته وهلوه وتفكريه وعبثه ،اخلمارة
وأواين التدخني وصور العري ومباين العهارة وجمالهتا وهكذا.
أما املؤمنون يف عملهم فهم جادون ،وهم بعد العمل أكثر
جدا .إن روحوا على أنفسهم فإمنا يفعلون مبا جيلب بينهم الرتاحم
واحملبة ،فإهنم ال بد أن يتجالسوا ويتحادثوا ويضحكوا .لكن يتم
ذلك كله يف حدود السمت اإلسالمي بأحسن مظاهره .وقد
أمرنا اهلل أن نأخذ زينتنا للمسجد .وكان السلف الصاحل يتطيبون
وحيتفلون استعدادا لدخول املسجد .وكانوا جيمرون املساجد
ويعطروهنا.
كانت املساجد حماضن لإلميان ،وكان للصحابة فيها جمالس
يسموهنا «جمالس اإلميان» فيها علم وفيها ذكر وفيها وعظ .ويف
املساجد أيضا الصالة وهي أهم أمورنا.
وللمسلمني أعياد يظهرون فيها بنسائهم وأوالدهم خارج
املدن والقرى يف أمت هبجة .وللمسلمني حمافل تنايف حمافل اجلاهلية
املاسخة.
باستبدال السمت اجلاهلي وطرحه تنعقد بني املسلمني
109
التائبني عالقات جديدة تتسم بالنظافة القلبية اليت تساير الطهارة
اجلسمية ،وتتسم بالقداسة والسكينة الناشئني يف املسجد وجمالس
املسجد ،ينزل اهلل فيها سكينته على املؤمنني وحمبته ،فيتعلمون أن
لكل مؤمن حرمة ،وأن لكل مؤمن حقا إهليا يف التعظيم والتوقري
والنصيحة واحملبة .وكل ذلك هو النقيض لعالقات اجلاهليني
وعنفهم واضطراهبم ،وإن كانت تغرنا املظاهر السطحية فنتيه
إعجابا بسمت الكفار ونظافتهم ،وما أعطاهم تارخيهم احلضاري
من هتذيب.
ومعذور من أُخذ بذلك ألن طرف املقارنة هم هؤالء املسلمون
اجلغرافيون الذين ال حضارة هلم وال ثقافة ألنه ال عقيدة هلم وال
منهاج .وحنن إمنا نصف مستقبلنا النوراين يف أحضان إسالمنا
املشرق علينا غدا بإذن ربنا.
إن إقامة أمر الدولة اإلسالمية املنبعثة لن يتم بالصخب
والكيد املتعاقبني يف االضطراب السياسي وتناحر أحزابه .ال ينعقد
أمر الدولة اإلسالمية إال يف املسجد ومبعاين املسجد بني مسلمني
ذوي ذمة طرحوا السمت اجلاهلي ،ويف أول ما طرحوا التحزب
السياسي.
املسجد معقل صدق وجهاد ومجاعة مؤمنة ،والسياسة أحابيل
تصيد فيها األنانيات الزعامية طموح اخلبثاء يف الوصول إىل أسباب
110
الرتف ،أو طيب السذج تغرهم خطب الزعامات السياسية.
لقد أخربنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالسمت اإلسالمي
يف األمر العام حني رفض طلب من تقدم إليه يف أن يوليه أمرا
عاما وأجابه بأننا األمة املؤمنة ال نويل هذا األمر من طلبه.
والسياسة تدور حول املطالبة باحلكم بدعوى خدمة «الشعب»
أما العمل اجلهادي ،أما العمل اإلسالمي فهو بديل السياسة
شكال ومضمونا .ما كذب السياسيون إذا زعموا أهنم خيدمون
الشعب ،ألهنم يف الواقع إمنا خيدمون ما يف كلمة الشعب من
معاين الفرقة.
السياسيون يعملون بعقلية مطالبة وبسمت جاهلي يعتمد
على العنف مرة ،ومرة على التغرير والتسخري .تيار حيملهم ال
يستطيعون أن يتأبوا عليه ،وعنف جيرفهم جرفا ال مييز بني الصادق
واحملتال .وإن كان من رجال السياسة خملصون فإهنم ال يفلتون من
حكم اإلسالم عليهم مبعياره املنهاجي إهنم مرتفون يف الفتنة ،ألهنم
ما عرفوا أن حيتفظوا مبضمون إسالمي لعملهم ،جزاء استريادهم
للشكل اجلاهلي يف العمل السياسي.
الغايات اإلحسانية :خلفت الفتنة يف التاريخ اإلسالمي
أشكاال ثقافية اجتماعية ،بعضها يرجع إىل عدم العمق يف إسالم
من بلغتهم الدعوة فتوارثوها حىت أصبحت عصيبة قومية .وبعضها
111
يرجع إىل اخلالفات املذهبية حىت كان من املسلمني من يقيم
الصالة أربع مرات يف املسجد بأئمة أربعة .ويرجع بعضها إىل
احلزازات التاريخ بني املسلمني .وإنك لتجد حىت اليوم يف بعض
عواصم املسلمني من حيمل على صدره شعار :يا لثارات احلسني!.
وختلف عن هذه الفتنة أعياد ما هي باألعياد اإلسالمية،
وعادات للصوفية وغريهم هي أبعد شيء عن السمت اإلسالمي.
وقد متس هذه الطقوس بصفاء العقيدة ،وقد تسيء إىل األخوة
اإلسالمية الرحيمة يف االنبعاث اإلسالمي املقبل إن مل تعاجل
حبكمة ومرونة حىت ترجع املياه إىل جماريها.
إننا إذا أردنا أن نكون محلة رسالة فيجب أن نتعلم ونبدع
السمت اإلسالمي الطاهر من الشوائب دون أن خنل بشروط
إعداد القوة القاعدة على أساس التكنولوجيا .ومعىن هذا أن
واجب األمة املنبعثة أن تقتبس علم التكنولوجيا دون أن تستورد
معه أشكال التفكري اجلاهلي والعيش اجلاهلي.
وعلى قدر متيزنا عن اجلاهلية متيزا مبدعا مجيال هنيئ للرسالة
اإلسالمية مسرحا يأخذ جبماله ونظافته أخذه بالسكينة القلبية
اليت ال يتسع للتعبري عنها املظهر اخلارجي إال اشعاعا ال يوصف
وعبريا كما يتنفس الربيع.
كان فيما مضى من تارخينا ينزوي طالب التزكية الروحية يف
112
خلوة ،ويلبسون مرقعات تسرت عن الناس مسو مطلبهم وارتفاع
مهتهم .أما غدا فإن املتزكي أن جيهر بإميانه ،وجيلس مع املؤمنني يف
املسجد ،وخيالطهم يف ميادين السعي اليومي ،واجدا منهم طيب
املنظر واملخرب .يعترب كل ذلك مرابطة ومحال ألعباء الدعوة .وهذا
يقتضي من احملسنني واملؤمنني من طالب اإلحسان مسوا أمسى ،ومهة
أعلى ،حىت ال يكون يف عملهم رياء .ومن أجل مغالبة دواعي الكرب
اليت تصنع املرائي كانوا يتسرتون ،ومن أجل جهاد الدعوة جنهر حنن
معاشر الذاكرين بإمياننا اليوم وغدا عند قيام هذا األمر.
وإن للقيادة اجلهادية ،وللقائد اجملاهد أمري املؤمنني ،احلظ
األوفر من أعباء اجلهاد يف تغيري األشكال اجلاهلية بالسمت
اإلسالمي .إهنم القدوة واملثال ،هبم يقتدي الناس يف رعايتهم
للوالية اإلميانية ،ويف احتفاهلم بذكر اهلل يف املساجد ،ويف طرح
العادات ،ويف البذل والسمت ،ويف التؤدة واالقتصاد واجلهاد.
هيبة القائد اجملاهد القدوة اإلمام تأيت من تأهله للقيام بإمامة
الصالة ،وذلك هو اجمللى األكرب للسمت اإلسالمي .ومن جالل
موقفه أمام الصفوف عند احملراب يناجي ربه ،تشع معاين اجلمال
والكمال على اجلهاد اإلسالمي الذي هو إمامه إىل كعبة اهلل
وجهة اجملاهدين ،وطلبا لوجهه الكرمي طالهبم ،آخذين زينتهم
متجملني ،بامسة وجوههم ناضرة ،ألن اإلسالم يسر وهباء وفرحة.
113
اخلصلة الثامنة
التؤدة
أخرج الرتمذي عن ابن عباس رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم قال « :السمت والتؤدة واالقتصاد جزء
من أربع وعشرين جزءا من النبوة» .إن أنبياء اهلل رجال جهاد،
رجال عمل وبالغ ،زودهم اهلل بأكثر الصفات مالءمة لوظيفتهم
اإلهلية ومن أمهها السمت والتؤدة واالقتصاد .وقد وسعنا استعمال
هذه اخلصال لتكون صفات مجاعية وفردية معا لإلسالم املنبعث
اجملاهد .وهكذا حتيط خصلة السمت مبعاين التجمل والزينة
املخرجة للمؤمنني والتميز عن اجلاهلية وعن التشبه هبا .ويف التؤدة
معاين الصرب وعدم العنف وفيه معاين الرفق والرمحة واألناة واملثابرة.
إن مقتحم العقبة يعوقه عائق نفسه األنانية قبل كل شيء.
شأن النفس األمارة بالسوء أن تكون مستعجلة هلوعا يذهب
وقار املرء أمام رعونتها فيعنف ويظلم .وأخص صفات اجلاهلية
اجلهل مبعىن العنف ،وما العنف إال وضع القوة يف غري موضعها.
لذلك ال يستطيع األناين اجلاهلي وال األناين املفتون أن يقتحما
العقبة ،عادلني عن مواقع الظلم والعنف إىل مقامات التؤدة إال
114
بتقيظ اإلرادة الضابطة ،مع سريان اهلداية من قلب من له خصلة
التؤدة نبيا كان أو وليا مرشدا.
اإلسالم استسالم وطرح لألنانية العنيفة ،وشعار اإلسالم
سالم ،وحياة املسلمني تراحم ال يعرف العنف إال مرضا يف زمن
الفتنة مبعناها النبوي.
توقظ اللذات املمكنة يف العامل غريزة الشهوة يف إنسان العادة.
إنسان االنفعاالت غري املضبوطة ،فيتهالك عليها ويغضب إذا
نافسه عليها منافس ،وهكذا يتكون ثنائي العربة األفالطونية :
شهوة وعنف يف خدمة غريزة االمتالك واالستئثار باجلاه والقوة.
وترتاكب األهواء وتتعارض ،فيكون عنف اجلاهلية عنفا متخفيا
وراء النظام اإلداري القانوين ،ويكون عنف املسلمني املفتونني بأسا
بينهم مفضوحا ساذجا لشدة تباينه مع قيمة اإلنسان وكرامته،
كما عاشها املسلمون يف تارخيهم السليم ،وكما يدعو إليهما
داعي اهلل.
الفتنة ختلط جمال الفكر والعمل وتعطيه كثافة تستحيل معها
الرؤية الشفافة .هو ذا عامل املادة وعامل اجملتمع حييط باجلاهلي
حدود لذاته من جاه َ واملفتون ويقاومان شهوته ،وهو حمدود
ومال ،فيغضب ويعنف ،ويثور على عامل املادة وعامل اإلنسان.
فإذا أخذت العقالنية مبقاليد اإلنسان اجلاهلي وصعدت هواه
115
من مستوى الصراع الفردي على الرزق الضروري واللذة واجلاه
إىل مستوى املطالبة اجلماعية بالعدل االجتماعي والتسوية ،انتقل
عنفه من معناه البسيط إىل معىن مركب امسه الثورة ،وتسمى العقل
الثائر عقال سلبيا ينتقد الواقع املغضوب عليه ويسخط ويعنف من
حيث يظن أنه يقوى ويريد.
إن الفقه املنهاجي ليس حتليال عقالنيا يستخرج للمسلمني
سلوكا عقالنيا باسم اإلسالم ،إمنا هو اتباع ألمر اهلل وأمر رسوله.
وإن رسول اهلل صرح بوجوب الرفق ومسى العنف وأوصى باحلذر
منه .من حديث عائشة رضي اهلل عنها أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم قال « :يا عائشة ،إن اهلل رفيق يحب الرفق ،ويعطي
على الرفق ما ال يعطي على العنف وما ال يعطي على سواه»1
إننا ندعو إىل الرفق يف عملنا اإلسالمي ،لكن حنب أال يفهم
عنا أننا ندعو للخمول واالستسالم والضعف .إن القوة الفاعلة
البناءة هي القوة السائرة يف ركاب اإلرادة الواعية ،وال ميكن أن
يكون لألمة اإلسالمية املنبعثة وجود وال استمرار بال قوة .وإن
الغضب حملارم اهلل قوة أساسية يف العمل اإلسالمي ،فإذا البس
هذا الغضب غضب جاهلي ،قومي مثال أو طبقي ،كان العمل
غري إسالمي.
إننا أمة حباجة إىل غضبة كبرية ،غضبة هتذب فيها اإلرادة
116
االنفعال البدائي وتوجهه وجهة التغيري اإلسالمي .والثورة مجوح
انفعايل تتجمع فيه اإلثارة العارية إىل إرادة طبقة ثورية معينة متجهة
إىل اليسار ،إىل سقر ،واالنقالبية ثورة فئة على سائر الفآت .أما
العمل اإلسالمي يف زمن الفتنة فنهضة عامة تسبقها تربية ويقودها
من يتوب من أي فئة ،أو من يسبق للمبادرة اإلسالمية ممن هلم
الطاعة اليت أمرنا إال هنتكها ولو جاروا.
األهداف اإلسالمية :املسلمون اجلغرافيون يف قبضة عامل
العنف يصبحهم وميسيهم أذاه أو صداه ،يف ظلم حكامهم ويف
أخبار تطاحن القوى العاملية .وتلتهمهم عجلة العنف الواردة
إلينا يف األشكال احلضارية اجلاهلية مثل العنف الذي بني املالك
والعامل ،ال حيله إىل العنف ،ومثل جور اإلدارة املفتونة يطغى
سدنتها مبا هلم من سلطان أصبح عنفا إذ تعذر عليه أن يكون
قوة .وتصطدم النزعات وتضطرم النزاعات وتتحول اإلرادة البناءة
إىل أحقاد تدفع للكيد واالنتقام.
بأسنا بيننا شديد ،ظهر يف محي االنقالبات الغضبة على
الظلم ،أو هو حتت الرماد مجرا من البغضاء والنيات السوداء ظالم
يف ظالم ،ألن طرق اخلالص ال يتبينها العائمون يف ضباب الفتنة
القامت.
يقال ألهل اجلنة :سالما ! وداعي اإلسالم يبشر املسلمني
117
املفتونني أن يف أحضان دينهم بني يدي رهبم سالما وأمنا وسكينة
إن تابوا وآمنوا وعملوا الصاحلات.
صفحة بيضاء من تارخينا تفتح يوم يبدأ اجلهاد اإلسالمي
احلق ،يوم يكون لنا إمام جماهد يعلن أننا أمة ال شعب ،أي ألفة
وحمبة ال فرقة وتشتت وبغضاء .ومن ورائنا يومئذ ليال ليالء وأيام
حالكة مليئة بالظلم والتعسف .فهل جيب اإلسالم فيما جيب
املظامل ويطويها يف عملية التوبة العامة طيا ،فيبقى احملروم حمروما.
ويتسلى بإسالمه ،ويتوب املغتصب الظامل باألمس على ما بيده
من متاع الناس؟
كال فإن التؤدة والرفق ما مها إقرار الظلم بل رفعه .وإذا كان
العنف الثوري ينصب املشانق لطغاة األمس فإن اإلسالم سينصب
أيضا ! لكن ينصب حماكم لرد املظامل ،لرد «جسم» املغصوبات
دون االنتقام ممن شاركنا مجيعا يف الفتنة ضحية من الضحايا ،هذا
هو الرفق اإلسالمي عند االنتقال من فتنة اإلسالم ،عند التوبة
والعدل إىل اهلل.
املقاصد اإلميانية :إنه ال إكراه يف الدين ملن كان كافرا،
أما املؤمنون السابقون يف محل لواء اإلسالم املنبعث ،فعليهم أن
يأخذوا كال بالتوبة .فمن أىب من املرتفني فلهم أن يعتربوه ذميا إن
شاؤوا ريثما تقوم قائمة اإلسالم ،فيحق عليه حد اهلل كما حتق
118
احلدود األخرى على الظاملني.
األمر باملعروف والنهي عن املنكر وظيفة اجلماعة اإلميانية
اإلحسانية اليت تربطها والية املؤمنني املهاجرين الذين قدمو برهان
صدقهم .ومعىن هذه الوظيفة ومضموهنا السهر على إقامة حدود
اهلل واملراقبة السديدة الشديدة على تطبيق أوامره .وقد رأينا يف زمن
فتنتنا هذا ،والدولة معرضة عن إسالمها ،آخذة بالقوانني اجلاهلية
اإلباحية ،مجاعة من املؤمنني انربوا لألمر باملعروف والنهي عن
املنكر .وتؤول حماوالهتم الصادقة إىل عنف ألهنم يف دار العنف
حالون ،فإذا قامت قائمة اإلسالم فوظيفة األمر باملعروف والنهي
عن املنكر وظيفة مجاعية ال بد أن تنظم تنظيما وتعمم على سائر
املؤمنني اجملاهدين ،لكيال تكون مظهرا منعزال ،بل عمال ساريا يف
جسم األمة كلها ،مقصده األخذ بيد املسلمني برفق لكن بقوة
تامة حىت ال يعود عائد جلاهليته.
إن حدود اهلل تعاىل وحي منزل تفصل بني السلوك احلق
واهليجان الباطل ،وتضع عقابا أزليا ملن يتجاوز احلدود .واملسلمون
يتصورون إقامة حدود اهلل ببالدهم املفتونة من قبيل احملال ،بعد أن
أعماهلم وهج الظالم اجلاهلي املتقدة ناره .ومسعنا دولة إسالمية
أعادت قطع السارق وتقطيع احملارب من خالف .ما منعنا أن
نستسيغ احلق ونعظمه إال املسخ الذي خالط منا الضمائر،
119
فوهنا وأصبحنا نعبد األوثان اجلاهلية الثقافية ،واكتسبنا حساسية
مرضية تصور لنا القطع والرجم مهجية وعنفا .وكأن فقهاء القانون
اجلاهليني تسخر منا األقدار اإلهلية بلساهنم حني يكتبون أن
العقوبات الوضعية اآلخذة يف التسامح من أسباب اهنيار احلضارة
الغربية ألهنا ترفع العقاب البدين من جلد وقطع!
إن الضعف ال يرتفع إال إن جاءت القوة ،وملا خانتنا قوة
العقيدة بعد أن خنا حنن عقيدتنا ،تسرب ضعفنا املعنوي إىل
مظاهر حياتنا وسلوكنا ،فال نستطيع إال تقليدا خانعا ،وهكذا
نعنف وحنن ظانون بأنفسنا القوة ونستكني للمذلة وحنن حنسب
أننا رفيقون رمحاء .ونربر هواننا على أنفسنا وعلى الناس بدعوى
كاذبة منافقة :إننا من دعاة السلم العاملي .وما بنا من سلم
وديارنا جتوسها الصهيونية ،وإمنا خنوع وذلة.
لو كانت لنا قوة يف عقيدتنا حبيث نقيم حدود اهلل كما أمر،
ونقطع وجنلد ونرجم وننفي ونقتل كما أمرنا ربنا ،لكانت لنا
أسباب القوة اليت حنارب هبا عدونا .بأسنا بيننا شديد ال جنرؤ
إال على إخواننا من املسلمني ،ويطل علينا فأر مهني يربز من
قاذورات اجلاهلية فنخنع له ونقعد ونربر الذل بالشعارات الزائفة.
احلساسية املرضية واجلنب والكفر بأمر اهلل هي املانعة لنا املثبطة
عن احلركة .يسري كل هؤالء يف ركاب الصناعة العلمية اخلادمة
120
للعنف يف دنيانا اليت تسودها اجلاهلية .وختتلط علينا ،معشر
املفتونني ،الوسائل بالغايات فنحتج على عنف القوي يف حدود
«اجملاهبات» اخلطابية باملربر اخلانع أننا ال نقدر على قتاله ،ونعنف
حنن على بعضنا وال نرفق هجوما على ضعف أخينا وظلما .ولو
كان الرفق مستنا فيما بيننا ،ومن الرفق إقامة حدود اهلل ،لكانت
القوة مستنا أمام العدو الغاضب اهلاجم.
إن يف دار اإلسالم طاقات غضبية هائلة ،فلو يستمسك رجال
الدعوة اإلسالمية باحلكمة والرفق لدى الدعوة وإبان الرتبية حلصل
عندنا بدل التفجر الثوري املعاكس لالجتاه اإلسالمي حتما جهاد
إسالمي يتبطن األمة فيخلقنا خلقا جديدا .فإذا اسرتسلنا يف
عنفنا فلن يلد لنا العنف إال عنفا أعىت منه ،وإن العاقبة للمتقني.
وت
ود َجالُ َ
﴿وقـَتَ َل َد ُاو ُ
الغايات اإلحسانية :قال اهلل تعاىل َ :
شاءُ﴾ .وكان داود ْح ْك َمةَ َو َعلَّ َمهُ ِم َّما يَ َ
ْك وال ِ
َوآتَاهُ اللّهُ ال ُْمل َ َ
فىت بيده سالح من شريط وكان جالوت مدججا باحلديد ،فقتلت
القوة اإلحسانية يف قلب النيب جسم الكافر العنيف ،وغلب رفق
النبوءة عدوان اجلاهلي الغليظ.
إن النخبة اإلحسانية املؤمنة بدار اإلسالم حتمل يف أحشائها
جنني البعث اإلسالمي ،وإن ميالد هذا املوعود املرتقب يطلب رفقا
وسكينة وسالما .إن املسلمني املفتونني عضتهم اجلاهلية بأنياب
121
ووطئتهم مبنسم ،وما هذه املاآسي واملخازي احلازة يف القلب ،مما
نشهده من تطارح املسلمني املغلوبني على أعتاب اإلدارة العاملية
اجلاهلية ،يطلبون مساعدة أو يتفاوضون على استسالم ،إال آخر
رمق تلفظه الفتنة يف ديارنا ،يشيعها قرف القادة من دورهم الكريه
الذليل ،وتشيعه ضمائر السبعمائة مليون مسلم ،عافوا أن جترهم
املركبة اجلاهلية النارية يف تراب القذارة من خلفها.
حاجة املسلمني املساكني رمحة ،وحاجة العامل سالم وحاجة
اإلنسانية تعاون وأخوة .وإن النظرة الفطرية عند املؤمنني احملسنني
حاملي الرسالة تفسر هذا العامل وهذا اإلنسان على ضوء اإلسالم
الذي أمرنا أن نقول للناس حسنا .فاملؤمن ال حتجبه كثافة العامل
وعنف أحداثه عن النفاذ إىل تدبر آيات اهلل يف الكون ،يقبل
مشروع اهلل يف خلقه ،وخيرق الفتنة بنظر اإلميان ،فتحل السكينة
يف قلبه .ويلفي نفسه قد سامل الناس مجيعا ،ال يكره إال الظلم،
وال يغضب إال إذا انتهكت حرمات اهلل.
من شاء يبتهج مبيالد اإلسالم فليسع جادا جلمع الطاقات
املسلمة الذاهبة ضياعا يف تيار التفجر اجلاهلي ،وحتويلها إرادة
فاعلة واعية يدب هديها برفق إىل قلوب مريضة وعقول استعمرها
الفكر السليب العنيف .وهكذا نكون عاملني بعزمة الواجب ال
بعقلية املطالبة ،غري غائبني مع ذلك عن حقوقنا وعن ضرورة
اسرتجاع املظامل من طغاة ماضي الفتنة ومن أعدائنا ،حني تكون
لنا قوة باإلسالم دين السالم واجلهاد.
122
اخلصلة التاسعة
االقتصاد
اخلصال العشر قوى روحية خلقية عملية يتحلى هبا طالب
اإلميان واإلحسان ،طالب السلوك ،ليخرق حجب األنانية والغفلة
والعادة .وهي صفات معنوية يف حوافزها تتجلى يف العمل اجلهادي
إن جتمعت واجتهت حنو اهلدف .أما إن تفرقت واحنبست يف
االعتبارات الفردية فإمنا تعطينا مسلمني فرديني ال جيمع سعيهم
قضية يرومون التفاين يف خدمتها .واملعىن األول لالقتصاد هو
استجماع القوى حنو القصد وجتديد القصد والسري إىل حتقيقه.
أما املعىن الثاين الذي يفسره حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم « :االقتصاد نصف المعيشة» فهو راجع لألخذ بأسباب
العيش بكيفية ال تضيع منا املقاصد والغايات اليت خلقنا من
أجلها ،أال وهي إقامة أمر اهلل وحكمه فينا ،مث محل رسالته للخلق
كافة.
كان من اقتصاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه
وتابعيهم الصاحلني الزهد يف الدنيا والتحري يف كسب احلالل،
ونبذ التنعم ،واالخشيشان لكيال تلني اجلسوم وتطيح العزائم .من
123
كان منهم رمحهم اهلل ورضي عنهم يف بداوة حذر أن يستميله
اسرتوام احلضارة واسرتخاؤها ،من كان حاضرا تقلصت يده عن
الرفاهية وأسباهبا ،حيفظ بذلك نفسه أن تتميع يف الزينة ورغد
العيش .وعرف الصوفية رضي اهلل عنهم باالخشيشان والتمعدد
كما حيبهما الفاروق عمر رضي اهلل عنه.
وإن زمننا هذا زمن الفتنة راجت فيه متنوعات الرفاهية والعبث،
فرتكبت عادة الشح وتألنانية على أرض تتيح للهوى ملء حاجته
الشهوانية ،بل تتحداه بشهوات متجددة ،فتخلف له حاجات ال
تنتهي .ويتم الرتف بني دواعي العادة يف نفس اإلنسان وبني عامل
الصناعة واالستهالك.
ويف دار اإلسالم يكتسب األمر معرة ثالثة هي أن ما نستهلكه
إلرضاء شهواتنا ،ونفنت به ألنه يعرض علينا فنتنافس يف اقتنائه
فيس َمنون وهنْزل ويقوون
واستهالكه ،يصنعه لنا طلباؤنا اجلاهليونْ ،
من حيث نضعف.
وهكذا تكون لنا العادة املتأصلة يف نفوسنا والبضاعة الفاتنة
املمتصة لدمائنا عائقا عن املقصد والغاية ،فال نستطيع أن نتحرك
إال إىل حيث نوفر للعادة مرتعا جديدا يزيد من كسلنا وتبلدنا
ووهننا .ولعل أحسن ما يصف هذه احلال تعريف رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم للوهن بأنه حب احلياة وكراهية املوت يف احلديث
124
النبوي الذي أخربنا به الرسول الكرمي بأن األمم ستأكلنا حني
يعرونا الوهن.
لنحن اليوم أحرص الناس على حياة ،على حياة كمية بدايتها
وهنايتها يف االقتصاد ،كما يسمي طالب العادة وكهنتها هدف
الثورة واالشرتاكية القومية.
ويف السياق اإلسالمي ال يكون اهلدف االقتصادي معىن اال
مقرونا مبقصد القوة .اجلاهليون ختللتنا عدواهم إذ ينظرون إىل
االقتصاد من زاوية مطلب االستهالك ،ومع اقتصاد االستهالك
يصنعون أسلحة ويعنفون ويدمرون ويتعدون ويظلمون .ذلك
ألن اإلنسان اجلاهلي املفتون مبعامله ومشاكلها والضباب اخلانق
املسموم يف مدهنا يعيش يف جو حرج يعشعش فيه الضغن واحلقد
والعنف ،فال جيد متنفسا لألفراد إال يف اإلجرام وقطع الطريق،
وال جيد متنفسا للدولة إال يف جتييش اجليوش لغزو بالد آمنة ،أو
تسليح خصوم من بالد املتخلفني ،يتفرج عليهم اجلاهلي كأهنم
ديكة تتناقش ،ويستصفي هو من نتاائج احلرب مركزا أو ذخرية
يرصدها لعراكه الكوين بني كبار اجلاهلية.
اقتصادنا بناء من أجل القوة ،وال يكون قويا إال من نشأة
رجولية متمعددة خمشوشنة .وإذا كان الزهد عند أسالفنا الصاحلني
منحى فرديا وأسلوبا فرديا للعالقة مع العامل املادي ،فإن اإلسالم
125
املنبعث جيب أن يكون له أسلوبه اجلماعي يف ذلك ونسميه تقلال.
األهداف اإلسالمية :يتوب املسلم من كذا إىل كذا ،من
معصية إىل طاعة ومن حالة إسالم جغرايف إىل حالة إسالم
حقيقي ،من إسالم فردي إىل إسالم مجاعي ملتزم بأمر اإلسالم.
إذ التوبة رجوع من غي لصالح.
ومبا أن التوبة العامة باملبايعة على الطاعة للقائد اجملاهد هي
اخلطوة األوىل لالنبعاث اإلسالمي ،فال بد من النظر إىل العاوئق
القائمة بني ضمري التائب وبني حتقيق املقصد من التوبة ،وهو
قيام الدولة اإلسالمية .لقد جعلنا من املقاصد اإلميانية اجلماعية
االنفصال عن اجلاهلية ،عن أشكاهلا ومستها وعن نظرهتا للناس
والعامل وهن عاداهتا .وما دامت فينا هذه الشوائب املخزية املغرية
بالفسوق والعصيان فإن التوبة والطاعة تتبخران سريعا يف الوسط
املفتون املاجن فال نبلغ قصدا.
وهكذا يكون االقتصاد القاصد شرطه األول إزالة العوائق
املوروثة من طريق التائبني.
إن هذه العوائق ميكن أن تصنف على ثالثة أصناف ما منها
إال ما ُيول عن اهلدف ويصد عن القضية اإلسالمية.
أوهلما :ضياع عامة املسلمني الفقراء اجلاهلني بني املقاهي
واملالهي واخلبائث ،هلم فيها عادات متأصلة وجذور ،وهم فيها
126
وبالضعف اخللقي املتوالد فيها عرضة لدعايات الزعامات السياسية
املسخرة للعقول واالنفعالت .وهؤالء ينبغي حتويلهم إىل املسجد
ومسته وجمالس علمه وذكره ،ببناء حيطان املسجد ومعناه بناء
جمددا ،مع القضاء على أسباب اخلبائث .وحنول حيوية الشباب
من النشاط املطلوق اجلامح إىل ترويض العقل واجلسم لنحقق
هدف القوة يف األجسام كما حنققها يف العقول وكما حنققها فيما
تعطيه اجلهود اليومية ألمة معبأة.
ثانيهما :حرفيتنا الثقافية وتبعيتنا الفكرية .املرتفون من رجال
الفكر أهم عائق يف وجه الشباب عن القصد .هم الصادون عن
اهلل وعن الصالة .املالحدة منهم واملفتونون يصرخون بأصوات
حممومة مسمومة بشعارات جاهلية حترض على العنف والتحلل
اخللقي والنذالة السلوكية .وهؤالء حنوهلم إن مل يتوبوا حلقولنا
املهجورة وغنمنا السائبة يف بالد اهلل يرعون بقرا ويعنفون على
الرتاب ليرتكونا حنقق مقصدا ما هو مقصدهم ،تعزيرا وتربية لقوم
فاسقني.
لكن ال ميكن أن نعوض فراغنا الثقايف باحلرفية املوروثة عن
السلف على مدى التاريخ .إن علماءنا التقليدين حماضن لبذور
اإلميان ،إذا استثنينا ديدان القراء املتحذلقني الفاسقني .لكن
ختصصهم يؤدي إىل حرفية ناقلة تستهلك كل قوى الفكر يف
127
جمهود الذاكرة ،حتفظ ما قال هذا وذاك على مر العصور وتتحمس
تعقبه وانتقده .وكل هذا لقضايا مزمنة ميتة بني جمتهد بال ومن َّ
عائق لنا عن مقصدنا الثقايف وهو تالوة القرآن وتدبره والغرف من
معنيه .ليس يف نييت االستهانة باجتهاد اجملتهدين إن أخذنا منهم
اللب بفكر نوره القرآن ،تالوته وتدبره ،كما أمرنا اهلل ،ال كما
يزعم الزاعمون أن صوابه خطأ وأن خطأه كفر.
أال يا قوم إن هذا القرآن ما أنزل ليحنط وال ليؤول بل ليتلى
ويتدبره كل مسلم فيخشع ويعظم ربه فيشفي القرآن علته ألنه
شفاء ورمحة .وإن أوله الباطنية وعاجل رموزه الصوفية ،وحتجر على
حرفية النقل آخرون فمقصد اإلسالم املنبعث أن نتلو القرآن
وحنتفل خبطاب ربنا ونعتز ونتباهى ونفرح.
ثالثها :التكاثر الربوي املستغل ،هذا السم الذي ال يقوم
آكله ،ويتخبطه الشيطان فال يصل إىل قصد .قال اهلل تعاىل :
وم الَّ ِذي يـَتَ َخبَّطُهُ
ومو َن إِالَّ َك َما يـَُق ُ ين يَأْ ُكلُو َن ِّ
الربَا الَ يـَُق ُ
َّ ِ
﴿الذ َ
س﴾. الش ْيطَا ُن ِم َن ال َْم ِّ
َّ
نضع هنا مشكلة لعلها أهم املشاكل يف بناء اإلسالم على
أنقاض الفتنة اجلاهلية .إهنا مشكلة بناء اقتصاد إسالمي بدل
االقتصاد املوروث املوبوء.
يكفي أن نقول هنا بأن مطلب اكتساب التكنولوجيا وتكييفها
128
خلدمة أهدافنا اإلسالمية ومقاصدنا يتضمن اجتهاد خاصا لصياغة
اقتصاد إسالمي ،يكنس املستغلني الربويني ،ويكنس األثرة الربوية
اليت تتيح لذوي الكفاءات ما ال تتيح للمسكني .ودار اإلسالم
دار مساكني يقصدون قصدا ساميا متساوين متحابني متعاونني.
املقاصد اإلميانية :هل يكون القضاء على اخلبائث وإقامة
اإلميان وبعث املرتفني الفكريني لرعي البهم ونبذ الربا كافيا لبناء
اإلسالم؟ إن كل ذلك يشبه أن يكون أعماال سلبية ،ألن ما
حتب إزالته هو مضمون جمتمعنا املفتون .ولسنا نشك يف أن تغيري
العادات أشق من حتويل اجلبال حىت يف جو تعبئة جادة .وإن
احلماس الذي يصحب عادة كل انطالقة شعبية وراء وعد جديد
ال يلبث أن خيمد منذ يرتاءى للناس سوء النيات ،ويطول األمد
فريجع كل إىل عادته .وفرق ما بني اجلهاد وبني سائر التحركات
أن اجلهاد بذل متواصل ،بذل قاصد للجهد ال يين وال يكل.
من بني الطاعة الشكلية للمرتفني ،يبايعون عليها يوم يقوم
اإلسالم كما يبايعون على صفقاهتم أيام الفتنة بنية مرتبصة
وقصد نفعي وصويل ،تربز اهلمم املؤمنة من فئات املساكني ومن
فئات املتطهرين الصادقني من ترفهم .فأقل الناس ترفا واهنماكا
يف العادات اجملتمعية يكونون أقرب الناس استجابة جلهادات
مجاعية .فمن حتركهم حنو املسجد ويف املسجد ومن مباهاهتم
129
بالقرآن واستقالهلم عن إغراء الدرهم والدينار يبزغ فجر اإلسالم
ينري اآلفاق للفكر اإلسالمي والعمل اإلسالمي .ذلك إن أزيلت
العراقيل من طريق الشباب املؤمن بيد السلطان ،سلطان اإلسالم
املنبعث.
قاهلا موالنا عثمان بن عفان رضي اهلل عنه ،وكان أعلم الناس
بالفتنة إذ خربها من قريب وقتل شهيدا ضحية هلا « :يزع اهلل
بالسلطان ما ال يزع بالقرآن».
كانت أيامه رضي اهلل عنه أيام احنطاط من حياة اجلماعة
اإلميانية اليت تربطها صالت الطاعة والنصيحة واحملبة بوازع القرآن.
وأيامنا ،يوم يقوم لألمر داعي اهلل ،أيام رفعت من دركات الفتنة
إىل مراتب اإلميان واإلحسان ،وعدا من اهلل مفعوال هلذه األمة
املستضعفة املستخلفة غدا.
الغايات اإلحسانية :ما كان اإلسالم األول يف عهد الرسول
أوال وال أخريا ،فقد خلت من قبله صلى اهلل عليه وسلم الرسل
وكانت هلم أمم مسلمة قوية .تألقت اجلماعة األوىل مع رسول
اهلل يف مساء اإلنسانية كما يليق بأصحاب خامت الرسل وجوهر
اإلنسانية .وستتألق هذه األمة وحتقق القصد مرة أخرى كما يليق
بنبوآته صلى اهلل عليه وسلم ،إذ وعدنا بأن اهلل سريفع عنا الفتنة،
وأن ستكون خالفة على منهاج النبوة كما كانت أول مرة .فنحن
130
نقرتب موعود اهلل وروسله.
ال يثبطنا عن هذا من يهذي بأن اجليل األول فلتة من فلتات
التاريخ .كيف ورسولنا الكرمي كان يشتاق إلخوته الذين مل يرهم،
يفضلهم على أصحابه ويعدل صالة واحدة من صلوات إخوانه
خبمسني صالة من صلوات أصحابه ! وال يثبطنا أهنم يرون ذلك
بعيدا ،ألن اهلل تعاىل رب هذا الكون آخذ بناصية كل دابة
يدحرجها سبحانه يف هاوية الظالم إن عتت عن أمر رهبا ،وميهد
هلا السبيل إىل اخلري إن أطاعت أمره وأخلصت له القصد.
بوازعي السلطان والقرآن تزال العوائق ويؤسس الضمري النظيف
والفكر النري بنور القرآن .واالقتصاد القاصد القوي يغنينا أوال عن
بضاعة من يستبضعنا ،مث يقوينا حىت نتمثل أمة شاهدة على
الناس حاملة للرسالة.
بوازعي السلطان والقرآن نرتفع إىل مصاف املسلمني الذين
بلغوا القصد والغاية ،ال يقف يف وجه جهادنا فاجر إال أارده اهلل.
يقول اإلمام البوصريي رمحه اهلل :
ومن تكن برسول اهلل نصرته إن تلقه األسد يف آجامها جتم
وكان من كرامات بعض األولياء أهنم يأخذون بأذن األسد
يسخرونه يف أمرهم ،وحنن الواقفني ببابه عز وجل الباكني من
خشيته لن تنثنىي عن القصد ولن خييفنا هوام األرض املتأبية على
131
أمر اهلل املستأسدة وهي يف معاين اجلرذان .لكننا ال نعنف بل
نرحم ونرثي للمفتونني من إخواننا املعوقني عن القصد ،وندعوهم
للمقصد العايل والغاية السامية ،كما ندعو املساكني من إخواننا
معشر املعتصمني مبن قال « :اللهم أحيني مسكينا وأمتني
مسكينا واحشرتني في زمرة المساكين».
132
: اخلصلة العاشرة
اجلهاد
تصدق نية قائد جماهد يف دار اإلسالم ،تصدق عندما ُ
على اجلهاد لتحقيق أهداف اإلسالم ومقاصد اإلميان وغايات
اإلحسان ،فإن أس سلطانه ومشروعيته نفس خلوص نيته أن
ينصره اهلل على نفسه وعلى الناس كافة .مث يبين سلطانه على
املبايعة العامة مع التوبة العامة .لكن هذا السلطان إن يلق محاسا
من سواد األمة يلق أيضا عتوا من جانب املرتفني ،وقد يطول
الكيد من هؤالء والتضليل واملراوغة إن مل يلتق السلطان بوازع
القرآن .ومعىن هذا عمليا أن جيتمع على األمر سلطان الدولة
اجملسد يف شخص القائد اجملاهد بوازع القرآن اجملسد يف رجال
الدعوة اإلسالمية.
هذا اللقاء هو ما نسميه بثنائية الدولة والدعوة.
كان من أنبياء اهلل ملوك أنبياء كداود وسليمان عليهما
السالم ،أما أمر هذه األمة فقد قام جبهاد نبينا وصحبه ،وكان
جهاد دعوة ودعوة جهاد .يدور عمل املسلمني حول شخص
الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم املؤيد بنور الوحي واهلداية،
133
املنصورة ألويته يف جالد الكفار الباغني الظاملني الواقفني يف وجه
الدعوة .فهو كان عليه الصالة والسالم داعيا إىل اهلل وقائد جهاد،
يبايعه أصحابه على اإلميان باهلل وعلى الطاعة اجلهادية يف نفس
الوقت.
وكانت تنشب بني الصحابة خالفات يف عهده تنظيمية من
شؤون األمن أو تنافسية من شؤون اجلهاد احلريب فرتجع اخلالفات
إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألنه احلكم الذي نصبه اهلل
وحيا من عنده ،فتنطفئ ويفيء الناس إىل رباطهم اجلماعي،
خيشعون إذا تليت عليهم آيات اهلل تأمرهم بالطاعة واالتباع.
كان القرآن ينزل طريا على قولب طرية ،فما يفهمه املؤمنون
إال كتاب جهاد ونظام ،فيبذلون الطاعة ويبذلون املال والنفس
جهادا يف سبيل اهلل .أليس اهلل القائل سبحانه ﴿ :إِنَّ َما ال ُْم ْؤِمنُو َن
اه ُدوا بِأ َْم َوالِ ِه ْم ِِ ِ َّ ِ
آمنُوا بِاللَّه َوَر ُسوله ثُ َّم لَ ْم يـَْرتَابُوا َو َج َ ين َ ا لذ َ
ادقُو َن﴾ ؟الص ِ
ك ُه ُم َّ َوأَن ُف ِس ِه ْم فِي َسبِ ِ
يل اللَّ ِه أ ُْولَئِ َ
فما من مؤمن حيب أن يقعد عن اجلهاد إال منافق أو عاجز
ويقرع القرآن القاعدين ويفضح املتلكئني ،إال النساء ،بيعتهن ال ِّ
تتضمن جهادا ،ومع ذلك يتطوعن ويبذلن ويسعني يف ساحات
الوغى ،بل ويذدن عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالسالح.
وكان ال بد من خالف بني املسلمني يف زمن أيب بكر وعمر
134
رضي اهلل عنهما ،ال يلبث أن يتبخر إذ يذكر املؤمنون بعضهم
بعضا آيات اهلل وحديث نبيه .واستفحل اخلالف زمن سيدنا
عثمان وآل األمر إىل ما نعرفه من فتنة بعد ذلك ،ألن القلوب
قست ملا طال عليها األمد ،فكانت صرخة عثمان رضي اهلل عنه
بأن يقرن وازع السلطان بوازع القرآن.
﴿وَكا َن
طبع اهلل هذا اإلنسان على املشاكسة واجملادلة َ :
نسا ُن أَ ْكثـََر َش ْي ٍء َج َدالً﴾ .هلذا جعل أمر املسلمني شورى ِْ
ال َ
بينهم ،فتح هلم بذلك بابا للرتاضي واجلدال بغية املصاحلة على
منافعهم .وما استبد عليهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف
أمر من أمورهم بل شاورهم كما شاورهم خلفاؤه الراشدون.
فلما حتول األمر ملكا عاضا برز وازع السطان جيسده سيف
معاوية على رؤوس من أبوا البيعة ليزيد ابنه .وبدأ من َثَّ تدهور
املسلمني وأنشبت الفتنة أنياهبا فينا ،ودالت دول ،علماء املسلمني
الصادقون فيها على هامش األمر وفضالؤهم.
جهاد القيادة اجلهادية املستقبلية يهدف إىل نصب نظام يقوم
على املواجهة املتناسقة غري املندجمة بني الدولة املنفذة والدعوة
املربية املراقبة .ومبا أن دار اإلسالم اليوم تكاد ختلو من تنظيم
مستقل للدعوة ،فإن أول برهان للصدق سيطلب من علماء األمة
وفضالئها أن يستأنفوا جهادا أوقفهم عنه ظالم الفتنة وظلمها،
135
وإمنا نعلم صدقهم إن قدموا على صدقهم برهانا فبلغوا كتاب رهبم
وبينوه وقاموا بأعباء الدعوة متجردين عن اجلاه الفاتن منذ العصر
الثاين لعلماء هذه األمة إال احملسنني.
سيكون لزاما أن ختلق القيادة اجلهادية دعوة ينهض بأعبائها
كل متطوع قادر من املتقني ،ويكون دور رجال الدعوة حامسا يف
قيام اإلسالم إن تعلموا كيف يصبحون ربانيني ،أي رفيقني غري
مستغلني ،يصعدون من مساقة العظمة العلمية املزيفة إىل مقام
املسكنة مع املساكني ،حيث أحب رسول اهلل أن يكون فدعا ربه.
وعلى جهاد الدعاة املتطوعني هتيء الدعوة املنظمة.
األهداف اإلسالمية :على عامة املسلمني السمع والطاعة،
يبايعون على ذلك حني يتوبون مع سائر األمة توبة جمددة تتماسك
فيها األيدي والذمم املسلمة لتنهض األمة من كبوهتا .ولن يرتك
أمر الطاعة شيئا مقضيا بل يطالب املسلمون بعضهم بعضا،
ويطالب القائد اجملاهد الكل بربهان الصدق ملا بايعوه عليه ،كما
يطالبونه هم بالوفاء ملا بايعهم عليه ،يف كل يوم ويف كل حلظة،
جهادا متواصال يقظا.
إهنا قضية اإلسالم ،قضية حياة أمر اهلل الذي أؤمتنا عليه،
وهي يف نفس الوقت قضية حياة أو موت بالنسبة ألمل املسلمني
واإلنسانية كافة .وهذا ما نسميه جهاد الطاعة.
136
يف أي جمال جياهد عامة املسلمني مطيعني خلف القيادة
اجلهادية ؟ إن أغلبية الناس ال يرون أن مث جهاد الزما وال ممكنا إال
يف احلروب بني املسلمني والكافرين ،ويبرتون بذلك معىن اجلهاد
حىت يصبح عندهم لقاء يف يوم أو أيام بني جيشني .ولقد أشار
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل اجلهاد األكرب الدائم الذي
يستغرق كل جهد وكل مال :أال وهو جهاد البناء.
ومبا أن واجهتنا الداخلية خربة ،فإن جهادنا سينصرف قبل
كل اعتبار لبناء كيان األمة إعدادا للقوة ،وإال فمن نقاتل وعالم
نقاتل ؟ إن احلمية القومية لن حترر أرضنا ولن هتزم عدونا ،وإمنا
خيرجنا اهلل من صف نب أمة مؤمنة ْيفعل ذلك جهاد املؤمنني .فلن ِ
املستضعفني يف األرض.
إن إعالن اإلسالم يف دار اإلسالم منهاجا للعمل والفكر
والتنظيم معناه فتح باب الرجولة احلقيقية على مصراعيه لإلرادة
العامة يف ظل الطاعة العامة سنكون حمط أنظار العامل وسيرتبص
بنا العدو وسيقل الصديق ،وحنن يومئذ يف رأي العني «أضيع من
األيتام يف مأدبة اللئام».
قاهلا جماهد يف سبيل اهلل هو طارق بن زياد فاتح األندلس
قاهلا بعد أن حرق السفن على ما يقال ،وحرض املسلمني على
القتال ،فآزرهم اهلل ونصرهم ملا صربوا .وهكذا يكون اجملاهدون يف
137
كل موقف عرب األزمان ،يراهم اجلاهلي يف ضياع ال يبصر يد اهلل
املؤيدة املناصرة للصابرين.
إن أصحاب الثورة يبدأون عملهم الثوري اهلادف لتعبئة
اإلنسان بنزع امللكية من اإلنسان حىت ال تعوقه عن العمل من
أجل املساواة والقوة .واإلسالم يفعل خريا من هذا وأبقى ،ألنه
ينزع اإلنسان من امللكية وحيرره بذلك حتررا هنائيا .أما من نزعنا
منه امللكية فما نزعنا من قلبه حبها ،وما نزعناها منه إال لنعطيها
غريه ،حىت ولو كان الغري متسرتا خلف اشرتاكية البريوقراطية
ورأمسالية الدولة.
صب عامة املسلمني يف اجلهاد البناء أن يتجردوا ويبذلوا ْ
ويصربوا على القلة الضرورية للبناء ،وينبذوا بيد واحدة عادات
الرتف واالسرتخاء ،ويستبدلوا مجيعا أثاث البذخ خبيمة اجلهاد كما
يفعل القائد اجملاهد ،ويستبدلون طعام الدعة بطعام االخشيشيان،
ويتقمصوا مجيعا معاين اجلندية يف كل يوم ويف كل حلظة طاعة
وتطوعا.
املقاصد اإلميانية :إن أشد أزمة يف بالدنا اإلسالمية هي أزمة
الثقة ،لطاملا عبث املرتفون بالذمة والعهد ،ولطاملا كذبوا على
الناس حىت ال يثق أحد برتهات الزعامات .واألمر على مثال ذلك
بني املسلمني يف السوق والعمل واملدرسة .وال جهاد إال بصدق
138
وال معىن للجهاد إن مل يثق بعضنا ببعض آمنا أن يؤتى من جانب
أخيه.
ال نعتمد على اهلزة العاطفية اليت هتز قلوب القريبني من الفطرة
غداة إعالن اإلسالم ،ألن اهلزات العاطفية سرعان ما تذهب،
لكن يكون برهان الصدق أسا للتعامل والتعاقد ،وكما يعطي
عامة املسلمني برهان صدق الطاعة ،ننتظر من النخبة اإلميانية
اإلحسانية برهان الصدق على التطوع .ويتبع كل كلمة انتظار
للعمل ،ويتبع كل وعد انتظار للوفاء ،وهذا هو املضمون العملي
للنصيحة ،والنصيحة وظيفة الدعوة من لدن البداية إىل إن تتخذ
صبغتها الدائمة أمانة يف يد الدعوة املنظمة .وسنفسر كل هذا
فيما يلي من الفصول.
يغب عنا حني نقول «عامة املسلمني» أن ما نقصده ليس ال ْ
ما تذهب إليه العقول اليت ألفت أن تقرن اللفظة باحملرومني .وقد
أشرنا أن األقربني لإلميان ،ومن مث للجهاد ،هم احملرومون املساكني
ومن يف معناهم .مث إن باب التوبة مفتوح وال حاجز بني أحد وبني
مرتبة اإلميان إال شح نفسه وعاداته ،إن اقتحمها وأعطانا برهان
الصدق كل صباح وكل مساء عددناه يف واليتنا ونصيحتنا.
اجلهاد ال بد له من آالت ،فاإلنسان ذو الذمة الذي يغضب
هلل ورسوله وخيلص هلل ورسوله وينضوي مطيعا متطوعا حتت لواء
139
اإلسالم هو اآللة احملورية للجهاد اإلسالمي .إنه املسلم املعبأ املرابط
يف الرباط .وإن يف دار اإلسالم جيوشا منظمة تنظيما جاهليا،
يف قاعدهتا املساكني من هذه األمة أميون حمرومون تطؤهم أقدام
طبقة مرتفة .وال يزال جيشنا يف عامته خمشوشنا مسرتجال ،فإذا
أعطانا الضابط برهان صدقه بأن يدخل يف الصف ويلبس اخلشن
ويقاسم مساكني رعيته عيشهم تألف لنا جماهدون خليقون أن
يثبوا مليدان اجلهاد خفافا يوم يرفع اللواء اإلسالمي .ولعل جيشنا
هذا ،بعد أن نلغي منه الطبقية ،كما تلغى بني القائد اجملاهد
ورجل الشارع ،يكون نواة التعبئة وآلتها طائعا متطوعا.
وآلة اجلهاد الفكري عقول تائبة راجعة إىل رهبا من الرتف
والبهتان ،تتلو القرآن وتروض الفقه التكنولوجي على صراط
الفقه املنهاجي .لكن الضمائرخبايا ال سبيل لالطالع عليها إال
بالعمل ،فمن أطاع وتطوع من رجال الفكر وأعطى برهان الصدق
متجردا مؤثرا على نفسه كان أجدر بالقيادة وأحق هبا وأهلها،
ومن راوغ فإن لنا أرضا قاحلة هي حباجة ملن حيرثها ليأكل ونأكل،
وينحط إىل مرتبة الطاعة بني يدي مساكني األمة يربونه كما يفعل
أصحاب الثورة الثقافية بالصني.
وأصحاب املال ال ننزع منهم أمواهلم ،بل ننتظر منهم أن
يصحبوا األمة ويغلبوا طاغوت العادة فيخدموا ما لديهم من مال
140
ويستثمروه متقللني سائرين يف خط العمل اإلسالمي وختطيطه،
طائعني .متطوعني .ومن سائر األمة تأيت األموال مبذولة مبتذلة
تطوعا وطاعة ،من أمة قلت حاجاهتا إذا نبذت اجلاهلية وعادات
اجلاهلية ،وتعبت ونصبت راغبة لرهبا تنتج اخلري وتفيض اخلري مبا
أفاض اهلل من بركاته على من سيقوم ليقول يف العامل ريب اهلل.
الغايات اإلحسانية :أهم جهاز من أجهزة اجلهاد هو جهاز
املواصالت .يف اجملتمعات الراكدة تكثر الوساطات بني احلاكم
واحملكوم ،حىت إن هذه الوساطات توشك أن توقف احلركة ألهنا
بطيئة ثقيلة .ومجاعة اجلهاد اإلسالمي تأيت فاعليتها من سرعة
التواصل بني القيادة والقاعدة ،ومن عمق هذا التواصل وتكراره
ودوامه .اجليش املعبأ األقوى هو ذلك الذي يتوسطه قائده خياطب
كل فرقة وكل جندي ويوحي إليهم ،مبثالة وخطابه وحيويته وإرادته
وحتفزه وحتركه ،إرادة وحيوية وحركية وإميان.
وهذا مثل اجلماعة املؤمنة اجملاهدة يتوسطها القائد اجملاهد
باذال املال والنفس ،من أراده فلن يبحث عنه يف السراداقات
والقصور املشيدة بني احلجاب «واألحباب» أو بني الدن والعود،
بل سيجده يف خيمة اجلهاد مع األمة ،يسمعها وتسمعه ،جيالسها
ويواسيها ،تدخل عليه العجوز والطفل كما يدخل عليه الوزير
اخلطري .وهبذا يلغى طاغوت االستعالء حني يكون رمز الطاعة
141
والوالء ،الذي بيده زمام األمر كله ،على مقربة من األمة مجعاء
جبسمه ولسانه ،وبتقلله ومسكنته وبقلبه وحمبته وعبوديته هلل،
وبعزمه وقوته ،يأمن عنده اخلائف ويقوى الضعيف ويضعف
القوي املستكرب.
صنعت لنا احلضارة آالت لالتصال كثرية أمهها وسائل اإلعالم
من هاتف وإذاعة وتلفاز وصحافة وأقمار صناعية .وسخرت كل
هذه وشحنت برسائل العنف اجلاهلي والتهافت اجلاهلي.
وهلي يف بالدنا أحق أن يبدأ بتطهريها وتصفيتها لتصبح آلة
جهاد حترض األمة على الصرب وتنفتح للنصيحة والتواصي باحلق
واملرمحة .تنطق من إذاعاتنا ويف صحافتنا ألسنة أجرية متوه احلق
بالباطل وتكتم احلق ،ويف أحضان اإلسالم ينبغي أن تصبح أدوات
اإلعالم منابر للتطوع بالنصيحة ،يغشاها احملسنون الصاحلون
يعلمون الناس دينهم ويعلموهنم أمر دنياهم ،ويعلو منها صوت
اإلسالم يبشر العامل بالسالم.
كل هذا يقرأه القاعد الكدر القلب ،فيحكم أننا نسبح يف
جلة اخليال ،ويرمي كل هذا على أنه من قبيل املستحيل .ومن كان
جمال عمله وأحالمه دنيا املمكن املتاح فإىن له أن يقتحم العقبة،
ال أن يصف ألمة مضطربة منهاج اقتحامها .وحنيل القاعدين على
املنهاج النبوي ينقلهم عرب الصحبة ألولياء اهلل ملقام اجلهاد.
142
لقد برهن تاريخ هذه األمة أن حديث رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم حق يتجدد لنا وعده ووعد ربنا .قال صلى اهلل عليه
وسلم « :إن اهلل يبعث لهذه األمة على رأس كل مائة سنة
من يجدد لها دينها» .1فإن جئت تطلب هلذا احلديث تأويال
فاحكم أن رأس العصر وشرفه يتشخص يف القائد اجملدد ،وإن
تلقيت وعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنظرة فطرية فسرتى
أن قد آن األوان وأن قد غرب القرن الرابع عشر ليشرق اخلامس
عشر بنور ربه.
صدق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصدق ربنا ،فإذا
األمة بعث اهلل أليها بعد الطاغوت األموي باملنهاج النبوي على
املنهاج النبوي منهاج الصحبة واجلهاد سيدنا عمر بن عبد العزيز.
عاشر أولياء اهلل فتواله اهلل وجعله أداة لقدره وحتقيق وعده ووعد
رسوله .وظهر للمسلمني صالح الدين تلميذ األولياء الصاحلني،
وظهر هلم ويل اهلل تعاىل سيدي يوسف بن تاشفني ربيب الرباط
الصويف ،وظهر هلم ويل اهلل تعاىل سيدي حممد الفاتح العثماين
مريد الشيخ آق مشس الدين فتح اهلل به بالد الكفر وعدا من
رسول اهلل مكتوبا .وظهر يف هذه األمة ويل اهلل تعاىل امللك الصاحل
«أورنك زيب» ربيب زواية الشيخ السرهندي .وظهر يف هذه
143
األمة علماء عاملون ومشايخ داعون إىل اهلل جيددون أمر هذه
األمة ويصححون عقيدهتا.
أال إن اهلل أولياء ما فتئ يصطفيهم ويأذن هلم يف الدعوة إليه
فإنه عز وجل ال يشفع عنده إال بإذنه ،وإن هذه األمة ما عقمت
أن تلد لنا قائدا جماهدا يؤم صالتنا وجهادنا فيكون قبلة األنظار
واألفئدة يرفع لنا اللواء ،ونؤمن بربنا وموعوده فتفتح لنا أبواب
السماء .ويومئذ يفرح املؤمنون بنصر اهلل ينصر من يشاء وهو
العزيز الرحيم.
144
الفصل الثاني
النموذج اخلالد
145
146
املسلمون والتاريخ
مب حتدثنا فلسفة التاريخ ومب تنبئ فيما خيص مصري اإلنسان ؟
تباينت األنظار كلما تدبر اإلنسان ماضي اإلنسانية ومستقبلها
ليستخرج من دروس التاريخ حكمة تنري عمله احلاضر .ميوت
الناس وخيلفون صدى أعماهلم ونتائج إرادهتم وعزمهم وسعيهم
على األرض .فريى العقل الفطري يف تاريخ البشر دورات تكاثرية
تعكس على خطها الصاعد اهلابط جشع اإلنسان وقتاله إخوته
من أجل السلطان واملال واجلاه واملتاع .إهنم أعراب ابن خلدون
أو «الربلتاريا اخلارجية» عند طوينيب أو «احملرومون اهلامشيون»
عند ماركوز .هؤالء الغالظ يطلبون رخاء يستأثر به أهل احلضارة
والنعيم ،ويطلبون رغدا تتيحه أرض أهل احلضارة .وتنشأ املنافسة
وينتهي الطالب إىل مداه .وهكذا تأيت دول وتدول.
ومن الطالب ما يرتكز على عقيدة أو إديولوجية ميتاز حبيوية
االنطالق لكنه ال تفلته دواعي الرتف ،فيطَّرد ضعف األجيال
وتتخنس اإلرادة بفاعل الدعة ،ويطول األمد وتقسو القلوب.
إن تاريخ اإلسالم مرآة لتذبذب اإلنسان وضعفه ،رغم قوة
العقيدة املؤسسة ،أمام الفتنة ،فتنة املال واجلاه والقوة املركبات
للحضارة اليت أهلكت وهتلك اإلنسان ،ألنه ال يفهم احلضارة وال
147
يبغيها إال رقة يف العيش ورفاها.
وخيتلف املسلمون يف النظر إىل تارخيهم اختالفا كثريا ،اخللي
منهم يفخر باألجماد احلضارية ،إما يف سياق قومي يدعم بذلك
تعصبا حاضرا ،وإما يف سياق عقدي يربر به ضعف احلاضر ووهن
اجليل ويتسلى بالذكريات.
ومن رجال الدعوة من يوصي أال ميس تاريخ املسلمني بسوء خمافة
أن تفقد األجيال الطالعة مرتكزا للشعور باالنتماء جلانب عزيز.
وأظن أن من أسباب عدم جدوانا أننا ال نتبني تارخينا وال نقرأه
إال مبنظار اإلعجاب ،وكأنه شيء تام متكامل حيمل يف طياته
العناصر السحرية اليت خلقت احلضارة الرباقة القوية.
ال شك أن تارخينا يتحمل مقارنة مشرفة جدا مع تاريخ
األمم فلقد غلبنا وسدنا ،ولقد كنا علماء الدنيا ومعلمي أوربا،
ولقد كنا أرق الناس حسا وأرهفهم وجدانا وأرغدهم عيشا ،كل
ذلك ومزيد .لكن هل يصلنا هذا كله بتارخينا احلقيقي ،تاريخ
اإلسالم ؟ هل منعنا ذلك كله من أن تطوينا الدورة اجلهنمية،
دورة التكاثر ،بني عجالهتا ؟ أمل نكن أيضا أكثر خالفا وفرقة،
وأكثر افتتانا بتأسيس اإلمارات ؟ هل يغطي جمدنا الدنيوي هذا
االعتبار الوحيد أن اإلسالم الذي هو دين اهلل ومنهاجه لكمال
اإلنسان إمنا عاش مرهقا منزويا حتت ظل احلضارة العظيمة ؟ أكان
148
املسلمون يف كل فرتات تارخيهم يعملون لدعوهتم وإسالمهم أم
لنخوهتم وسلطان دلوهتم ؟ إن مل يكن هذا حقا فلم قتل بعضنا
بعضا على مر التاريخ ويقتل ؟ أم ما هي هذه الرقعة اجلغرافية
املربقعة اليت هي اليوم دار اإلسالم إن مل يكن اختالف ألواهنا على
اخلرائط رسالة تارخية لدول دالت بعد أن فرقت وسفكت الدماء.
مث إن هذه اخلالفات املذهبية العديدة ما هي إال نتاج فتنة بكرت
يف الظهور من لدن خالفة موالنا عثمان رضي اهلل عنه.
إن اتصالنا بتارخينا احلق هو وحده الكفيل بأن جيعل لنا توترا
خالقا متحررا حنو املستقبل .إن تارخينا احلق هو تاريخ الدعوة
اإلسالمية ،تاريخ حتكم املسلم يف التاريخ واستعالئه على الفتنة
وعزته بربه .إن هذا التاريخ احلضاري املاجد عبء محلناه وحنمله
يزيدنا قماءة يف نظر أنفسنا كما يزيدنا قزامة ما نراه من تفوق
احلضارة اجلاهلية املعاصرة .هذا هرون الرشيد خياطب السحابة
ويتحف شرملان اهلمجي األوريب بساعة متحركة أبدعتها األيدي
املتحضرة والعقول العاملة .وهذه حضارة األندلس املتألقة املزرية
بالدنيا مجاال وهبجة وحضارة وعلما .وإمنا يتحول العبء التارخيي
حافزا للتعبئة إن ختطينا املظاهر احلضارية نرتكها للذرية الناشئة
تباهي هبا الناس ،ونتعمق حنن يف تارخينا احلق نستوحي منه معيارا
إنسانيا للعمل اإلمياين اإلرادي القوي.
149
ليكن لنا اجتاه معياري يف عملنا على غرار العمل األول يف
عهد الصحابة الكرام الذين خلقوا لنا منوذجا خالدا نتمرس به
وحنذو حذوه ،مث ليكن لنا من تارخينا احلضاري ،تاريخ الفتنة،
درس نتدبره.
إن الذي أردى املسلمني وفرقهم شعوبا بعد أن كانوا أمة
واحدة هو نفس العامل الذي أسس احلضارة الباهرة ،وإنه إن
سرنا يف خط النظام السياسي الذي ورثناه ،فإمنا نسري إىل حيث
سارت األندلس ،وإىل حيث سارت وحدة باكستان .البد أن نغري
ما بأنفسنا لنكتسب فاعلية جديدة وقوة ،ألن اهلل جل ذكره ال
يغري ما بقوم حىت يغريوا ما بأنفسهم .مث أليس نعتز مبا صرنا إليه،
أليست فلسطني مهدا ألنبياء أرض اإلسالم عربة لنا؟ وإذا كانت
مهانة اجلبناء تزداد ن ُكرا بعزة املكان والزمان الذي يهانون فيه ،فما
أمة كانت أهون منا وأجنب ،ألن مسرح فضيحتنا كان على أعز
أرض من دار اإلسالم ويف زمن الناس فيه أقوياء أعزاء وعدونا بعد
ذلك أحقر عدو وأجنسه لو كنا نستطيع قياما!
نظرات عابرة يف صفحات تاريخ اإلسالم تبصرنا مبواقع الفتنة
وتبصرنا حيث تعشش األنانية والرتف والغفلة عن اهلل من هذه
الضمائر اليت ال بد لنا من تغيريها حىت يغري اهلل ما بنا.
الفتنة :بدأت فتنة املسلمني يف الوقت الذي بلغت فيه
150
فتوحاهتم مداها .تفرق الناس يف األقطار ،قلة مؤمنة يف أكثرية
جاهلية .ضعفت أواصر اجلماعة املؤمنة بتباعد اجلسوم فأصبحت
األنفس أقل قدرة على مقاومة فتنة الدنيا الزاهية املتزينة .واجتمع
يف املساجد ،حيث كانت تستقر النصيحة بني املؤمنني والتواصي
باحلق والصرب ،فلول من طالب الدنيا حديثو عهد باإلسالم .وما
أمكن هلذه األعداد اهلائلة أن تندمج يف اجلماعة وما ناهلا من تربية
العلماء العاملني إال قليل .وعم البالء شيئا فشيئا وأنكر املؤمنون
وجه اجلاهلية املطل ألهنم عرفوه ،أما من نشأ يف الفتنة فقد
انضوى حتت لواء الغالبني وله من إسالمه ما تتيحه له الصحبة
للصادقني وما حيضنه اإلسالم الرمسي للدولة من مظاهر إسالمية
وراءها العصبية ضد املوايل أو ضد املنافس على السلطان.
وكانت الفتنة أكثر ضراوة على آل البيت املطهرين الذين
أوصانا هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما أوصانا بالتزام
كتاب اهلل وسنة رسوله ومنهم سلمان الفارسي ومنهم كل تقي
نقي من أولياء هذه األمة.
وخري وصف للفتنة تركه لنا قلب مؤمن طاهر جنده يف خطب
اإلمام علي كرم اهلل وجهه ،وجند مع ذلك مبارزة بني احلق والباطل،
وجند منوذجا ساطعا للقائد اجملاهد يف زمن الفتنة حني كان األمر
آئال إىل فساد .وهو منوذج حيق أن نتدبره وحنبه ونتشرب معانيه
151
عسى أن تنبعث فينا إرادة جهادية حني ينطلق اإلسالم انطالقته
غدا واألمر إىل صالح بإذن اهلل.
خطب موالنا علي حني بايعوه قال« :مل تكن بيعتكم
إياي فلتة ،وليس أمري وأمركم واحدا .إين أريدكم هلل وتريدونين
ألنفسكم .أيها الناس ،أعينوين على أنفسكم ،وامي اهلل ألنصفن
املظلوم من ظلمه وألقودن الظامل خبزامته ،حىت أورده منهل احلق
وإن كان كارها».1
هذه النية اجلهادية ما لبث أن غمرهتا جلة من األهوال امحرت
فيها احلدق غيظا لألخ على أخيه ال غضبا هلل ورسوله .ويكتب
اإلمام إىل معاوية يقول « :إنه بايعين القوم الذين بايعوا أبا بكر
وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه ،فلم يكن للشاهد أن خيتار
2
وال للغائب أن يرد ،وإمنا الشورى للمهاجرين واألنصار»
ويعظ اإلمام الطاهر خصمه إذ مل ُيد البالغ ،يقول :
«وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جالبيب ما أنت فيه من
دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذهتا .دعتك فأجبتها ،وقادتك
فاتبعتها ،وأمرتك فأطعتها .وإنه ليوشك أن يقفك واقف على ما
ال ينجيك منه ِمَ ٌّن .فاقعس عن هذا األمر وخذ أهبة احلساب،
152
ومشر ملا قد نزل بك ،وال متكن الغواة من مسعك .وإال تفعل
أعلمك ما أغفلت من نفسك ،فإنك مرتف قد أخذ الشيطان
منك مأخذه ،وبلغ فيك أمله ،وجرى منك جمرى الروح والدم».1
وصف لنا اإلمام عوامل الرتف وذكر باهلل واليوم اآلخر ،لكن
خصمه ما قعس عن مطلبه .وجهر السيف بعد أن أعيت املواعظ
وكانت املالحم املؤملة آخر قتال بني املسلمني يسبقها وعظ من
هذا القبس النبوي ،وتلتها جمازر ال يزال صداها يقعقع يف ضمري
هذه األمة.
أما وعظ الباغني فقام به بعد اإلمام املطهر علماء هذه األمة
العاملون .ما منهم إال من خرب الفتنة مبا معه من معيار اإلميان
يعيشه يف قلبه خاليا يف زاوية ،زاهدا يف الناس وفيما خيوض فيه
الناس.
كلمة حق عند سلطان جائر :أصبحت القاعدة يف تاريخ
الفتنة الطويل أال يكون السلطان إال جائرا ،واتيحت الفرصة
لعلماء هذه األمة ممن يطلبون الشهادة أن يربزوا للطاغوت يلقون
إليه كلمة احلق كما أمر الرسول الكرمي .هذا أبو حازم الزاهد
التابعي اجلليل يدعوه سليمان بن عبد امللك ملا زار املدينة :قال
سليمان :يا أبا حازم ،ما لنا نكره املوت ؟ قال أبو حازم :ألنكم
153
أخربتم اآلخرة وعمرمت الدنيا ،فكرهتم أن تنتقلوا من العمران
للخراب ! قال سليمان :أصبت يا أبا حازم ،فكيف القدوم
غدا على اهلل تعاىل ؟ قال أبو حازم :أما احملسن فكالغائب يقدم
على أهله ،وأما املسيء فكاآلبق يقدم على مواله .فبكى سليمان
وقال : ليت شعري ! ما لنا عند اهلل !… قال سليمان :ما تقول
فيما حنن فيه؟ … قال أبو حازم :يا أمري املؤمنني ،إن آباءك
قهروا الناس بالسيف ،وأخذوا هذا امللك عنوة على غري مشورة
من املسلمني وال رضاهم ،حىت قتلوا مقتلة عظيمة ،حىت ارحتلوا
عنها ،فلو شعرت ما قالوه وما قيل هلم ! فقال رجل من جلساء
امللك :بئس ما قلت يا أبا حازم ! قال أبو حازم :كذبت ! إن
اهلل أخذ ميثاق العلماء ليُبينُنه للناس وال يكتمونه .قال سليمان :
فكيف لنا أن نصلح ؟ قال أبو حازم :تدعون الصلف ومتسكون
1
باملروؤة ،وتقسمون بالسوية …»
كان سليمان يبكي وكأين منهم فتك بالواعظ وعذبه كما
فعل املأمون باإلمام أمحد وكما فعل قبله املنصور باإلمام مالك.
وما يدل العلماء أهل اجلور إال على املنهاج النبوي الذي
يقتضي طرح الكربياء واألنانية ومعاودة اجلماعة وشورى املسلمني.
اإلسالم املفرتى عليه :قاومت العقيدة اإلسالمية عوامل
154
الفتنة ،فكان من حيمل السالح يف وجه أخيه ويسفك الدماء
علوا يف األرض واستعالء هو نفسه ذلك الذي خياطب املسلمني
مسخرا خوفهم من عقاب اهلل ورعاية حقوقه لكي يرضخوا إلرادته.
منوذج لذلك عهد املنصور العباسي البن هبرية بعد معارك طحنت
املسلمني طحنا ،والعهد على لسان السفاح أخي املنصور ووكيله
يف الصلح …« :وأن عبد اهلل بن حممد إن نقض ما جعل لكم يف
أمانكم هذا فنكث أو غدر بكم ،أو خالف إىل أمر تكرهه أو تابع
على خالفه أحدا من املخلوقني يف سر أو عالنية ،أو أضمر لك يف
نفسه غري ما ظهر لك ،أو أدخل عليك شيئا يف أمانه وما ذكر من
تسليم أمري املؤمنني (يعين أخاه املنصور) التماس اخلديعة واملكر بك
وإدخال املكروه عليك ،أو نوى غري ما جعل لك من الوفاء عليه،
فال قبل اهلل منه صرفا وال عدال وهو بريء من حممد بن علي وهو
خيلع أمري املؤمنني ويتربأ من طاعته ،وعليه ثالثون حجة ميشيها من
موضعه الذي هو به من مدينة واسط إىل بيت اهلل احلرام الذي مبكة
حافيا راجال ،وكل مملوك ميلكه من اليوم إىل ثالثني حجة بشراء أو
هبة أحرار لوجه اهلل .وكل امرأة له طالق ،وكل ما ميلكه من ذهب
أو فضة أومتاع أو دابة أو غري ذلك فهو صدقة على املساكني ،وهو
يكفر باهلل وبكتابه املنزل على نبيه ،واهلل عليه فيما وكد وجعل على
155
1
نفسه يف هذه األميان راع وكفيل ،وكفى باهلل شهيدا».
هكذا تصنع الذمم يف زمن الفتنة ،باألميان املغلظة لرتتبط
طاعة املسخرين بالتهويل الذي تنفطر له أكباد املؤمنني .ومن
يدري فلعل السفاح كان يف عهده صادقا ،وإذا فما هو اإلسالم
يف نظره ؟ وإن تارخيه األمحر املقبل ليلقي الضوء على هذه الوثيقة
العجيبة فيزيدنا شكا وعجبا ،وحيملنا على معاودة قراءة تارخينا
تاريخ الفتنة اليت ذهبت بالذمم والدماء والشهامة األوىل.
مث ما هذا التناقض الفاضح بني اإلسالم الرمسي للدولة الثري
مبواكبه وجمالس العلم أمام اخلليفة وبني جمالس الشراب والدعارة
يهتك فيها اجلائر حرمات اهلل وأعراض الناس ،ال جند امسا هلذا إال
الرتف اآلسر يف اجلاه واملال ال يتبني السكران معهما إال ذكرى
هامشية حني حيلف جبده وحياة رأسه.
املرتفون :مفتونون هم زعماء القوميات يف تارخينا كفتنة
زعمائنا املعاصرين ،وقد يبدو شاحبا بذخ املأمون أمام بذخ من
تبعوه من أكاسرة مسلمني إىل يومنا هذا.
يقول ابن خلكان يصف زواج املأمون ببوارن :
«تزوج املأمون بوران بنت احلسن بن سهل ،واحتفل أبوها بأمرها
وعمل من الوالئم واألفراح ما مل يعهد مثله يف عصر من األعصار،
156
وكان ذلك بفم الصلح .وانتهى أمره إىل أن نثر على اهلامشيني والقواد
والكتاب والوجوه بنادق مسك فيها رقاع بأمساء ضياع وأمساء جوار
وصفات دواب وغري ذلك :فكانت البندقية إذا وقعت يف يد الرجل
فتحها ،فيقرأ ما يف الرقعة ،فإذا علم ما فيها مضى إىل الوكيل املرصد
لذلك فيدفعها له ويتسلم ما فيها ،سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو
فرسا أو جارية أو مملوكا .مث نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانري
والدراهم ونوافح املسك وبيض العنرب وأنفق على املأمون ومجيع أصحابه
وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه – وكانوا خلقا ال حيصى -حىت
على احلمالني واملكارية واملالحني وكل من ضمه عسكره .فلم يكن يف
1
العسكر من يشرتي شيئا لنفسه وال لدوابه».
ال جرم أن ما بين على العصبية اجلاهلية لن يبلغ خريا من
هذا .وقد يُ َس ِّمي البُله أو ديدان القراء هذا كرما وغىن ويسرا متتع
به خليفة اهلل يف األرض.
أرادهم اإلمام علي هلل حني بايعوه ،وخلف من بعده خلف
أرادوها جاهلية فهي ال تزال جاهلية منذ أسسوها ،وسريفعها
اهلل عز وجل ويستخلف يف األرض رجاال آمنوا به ومبوعده.
يقول حممد كرد علي « : 2وكان إبراهيم اإلمام أوصى أبا مسلم
1نقال عن كتاب أيب احلسن الندوي «رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم» ص 82وما يليها.
2اإلسالم واحلضارة العربية ( )2ص 419الطبعة الثالثة.
157
باليمانيني أن يقتل من يشك فيه من مضر ،وإن استطاع أال
يدع خبراسان من يتكلم بالعربية فليفعل ،وأي غالم بلغ مخسة
أشبار يتهمه فليقتله ،فأنفذ أبو مسلم ما أمر به ،وقتل أبناء
املهاجرين واألنصار خبراسان ،واستثمر ما كان من الشنآن بني
النزارية واليمانية ،وحتزب الناس باملثالب».
أليس هذا وصفا لقوميات زماننا املتعصبة املتآكلة ؟ أال إنه ال
مندوحة لنا عن اخللود يف الفتنة أو نتبع قرآن ربنا نستلهمه اهلدي
ونستهلمه الوجهة واملعيار .فإن يف كتاب اهلل وحده سر التاريخ
وسر اخللق وسر الغاية .إن يف سرية نبيه صلى اهلل عليه وسلم
وسرية أصحابه األسوة احلسنة والنموذج اخلالد.
158
موكب النبوءة
على مر التاريخ يطول األمد على الناس فيعرضون عن الفطرة
ويعرضون عن إقامة الوجه هلل ابتغاء مرضاته وسعيا لتحقيق
قابلياهتم للكمال اإلنساين.
جاءهتم الرسل تنبئهم أن هذا العامل إمنا خلقه اهلل خلدمتهم
وأهنم املقصودون من اخللق وأن اكتماهلم الروحي هو الغاية من
التاريخ ،من سعي اإلنسان على األرض .لكن بين آدم ينسون
منبتهم وينسلون مما يوصي به الرسل واألنبياء قومهم فيفتنون
ويرتفون ويبنون احلضارات ويغفلون عن رهبم.
جند يف القرآن حدبا على هذا اإلنسان الغافل عن ربه
املتجمج يف قراه املتحضرة ،ال يسأهلم اهلل إال العدل وينذرهم
على لسان أنبيائه أال يظلموا ويبشرهم باخلريات وحسن املصري إن
ك الْ ُق َرى بِظُل ٍْم َوأ َْهلُ َهاك لِيـُْهلِ َ
﴿:وَما َكا َن َربُّ َ
آمنوا .قال تعاىل َ
َن أ َْه َل الْ ُق َرى ﴿ولَ ْو أ َّ م ِ
صل ُحو َن﴾ .وقال عز وجل من قائل َ : ُ ْ
ض ولَ ِ ِ آمنُواْ واتـََّقواْ لََفتَ ْحنَا َعلَْي ِهم بـرَك ٍ
ـكن الس َماء َواأل َْر ِ َ ات ِّم َن َّ ََ َ َ
اهم بِ َما َكانُواْ يَ ْك ِسبُو َن﴾. َك َّذبُواْ فَأَ َخ ْذنَ ُ
خيلق اهلل األجيال فتكذب رسله وتستكرب مبا مجعت يف قراها،
فيأخذها اهلل جل ذكره ويهلكها ويقصمها بعد أن يعيث املرتفون
159
ك قـَْريَةً أ ََم ْرنَا ﴿وإِ َذا أ ََر ْدنَا أَن نـُّْهلِ َ فيها فسادا .قال عزوجل َ :
اها تَ ْد ِميراً﴾. ِ
س ُقواْ ف َيها فَ َح َّق َعلَيـَْها الْ َق ْو ُل فَ َد َّم ْرنَ َ
ِ
ُمتـَْرف َيها فـََف َ
شأْنَا بـَْع َد َها قـَْوماً ت ظَالِ َمةً َوأَن َ ص ْمنَا ِمن قـَْريٍَة َكانَ ْ ﴿وَك ْم قَ َ
وقال َ :
شتـََها﴾. ت َم ِعي َ ﴿وَك ْم أ َْهلَ ْكنَا ِمن قـَْريٍَة بَ ِط َر ْ ين﴾ .وقال َ : آ َخ ِر َ
ذلك هو التاريخ احلق لإلنسانية :إن اهلل خلق آدم أبانا وجعل
َنزلْنَا َم َع ُه ُم
﴿وأ َ
منه ومن ذريته يف كل جيل أنبياء مبشرين ومنذرين َ
َّاس بِال ِْق ْس ِط﴾ .غاية اخللق كله .أن وم الن ُ
ِ ِ
اب َوالْم َيزا َن ليـَُق َ
ِ
الْكتَ َ
يقوم اإلنسان بالقسط أي بالعدل والتوازن ال مييل مع ما يرتفه
ويرديه ،بل يقتحم العقبة دائما ليلقى ربه وهو عنه راض .فإذا
استكرب اإلنسان حبضارته وبأسه وابتعد عن موقف الفطرة من
حيث خيشى ربه ويعبده وينشد عنده الرمحة والنور واملغفرة أهلكه
اهلل .وسواء كان استكباره على قاعدة اقتصاد بدائي أو قاعدة
اقتصاد معقلن فإن بأس اهلل ال يفلت القوم اجملرمني.
املنهاج النبوي :مر موكب األنبياء عليهم السالم حتذوه هذه
النورانية اليت تصحب املؤيدين احملبوبني أولياء اهلل املصطفني من
خلقه .وما منهم إال من دعا قومه ليقتحموا العقبة ،وما منهم إال
ِ
ش ْفنَا َعنـْ ُه ْم آمنُواْ َك َ س لَ َّما َ من كذبوه وعصوا أمره ﴿إالَّ قـَْو َم يُونُ َ
اه ْم إِلَى ِحي ٍن﴾ .أما ْحيَاةَ ُّ
الدنـْيَا َوَمتـَّْعنَ ُ
ِ
اب الخ ْز ِي في ال َ
ِ
َع َذ َ
األقوام اآلخرون فهلكوا وأخزاهم اهلل.
160
دعا سيدنا نوح قومه أن يتقوا اهلل ،ولبث فيهم ألف سنة إال
مخسني عاما فما آمن معه إال قليل .ولينتحر هنا منطق املؤرخ العقالين
حني ابتعد عن الفطرة وجهل أن اهلل الفاطر القادر أخربنا باحلق .فال
يهتدي اجلاهلي وال املفتون إىل اإلميان باأللف سنة وتتبعثر حبوثه حماوال
تفسري الطوفان والسفينة .واملؤمن يسمع آيات ربه ويتدبرها ،فإنه عز
وجل ما جعل لنا التاريخ وقص علينا منه أحسن القصص إال لنتدبر
اآليات .قال عز وجل من قائل ﴿ :فَأَنجيـْنَاهُ ومن َّمعهُ فِي الْ ُفل ِ
ْك َ ََ َ
ين إِ َّن فِي َذلِ َ
ك َليَةً﴾. ِ ِ
ال َْم ْش ُحون ثُ َّم أَ ْغ َرقـْنَا بـَْع ُد الْبَاق َ
وكذبت عاد املرسلني ،وأعرضت عن نيب اهلل ورسوله سيدنا
هود ملا دعاها لتقتحم عقبة الكربياء واالستعالء على اهلل ورسله
بالبناء احلضاري الشاهق العابث تتبعه الغطرسة والتجرب .قال
ك َليَةً﴾ وحنن بآيات اه ْم إِ َّن فِي َذلِ َ
تعاىل ﴿ :فَ َك َّذبُوهُ فَأ َْهلَ ْكنَ ُ
ربنا نصدق.
وجاء سيدنا صاحل قومه يدعوهم أن يطيعوه وال يغرتوا بالبيوت
اليت ينحتوهنا طلبا للخلود فرهني مرتفني يطيعون املسرفني .وجاء
لوط قومه يدعوهم ليكفوا عن الفسق .وسيدنا شعيب دعا قومه
ليعدلوا يف معامالهتم ويقتحموا عقبة األثرة والشح .وسائر الرسل
دعوا قومهم دعوة واحدة أمناء على رساالت رهبم صابرين على
أدائها .جنا معهم من آمن وعمل صاحلا ودمر اهلل الكافرين.
161
كان الرسول بشرا من إخوة املن َذرين ،فيحتقرون أخاهم
ويطغون عليه .وتبهرهم نورانيته ونورانية أصحابه فيقولون :ساحر
ين ِمن قـَْبلِ ِهم ِّمن َّ ِ
ك َما أَتَى الذ َ أو جمنون .قال اهلل تعاىل َ ﴿ :ك َذلِ َ
اح ٌر أ َْو َم ْجنُو ٌن﴾ . ول إِ َّل قَالُوا س ِ َّر ُس ٍ
َ
وكل نيب يدعو قومه أن يؤمنوا بالغيب ويعصوا أمر املسرفني.
وإمنا جعل اهلل اهلداية باتباع املرسل النيب وباإلميان بالغيب .قال
اب الَ يم الم َذلِ َ ِ
ك الْكتَ ُ الر ِح ِ
الر ْحم ِن َّ اهلل عز وجل ﴿ :بِس ِم ِ
اهلل َّ ْ
ب﴾. ِ
ين يـُْؤمنُو َن بِالْغَْي ِ ِ ريْب فِ ِيه ُه ًدى لِّلْمتَّق َّ
ِ
ين الذ َ ُ َ َ َ
فمن اقتحم العقبة مع الرسول النيب فتح اهلل مغالق قلبه ووهبه
زيادة على النجاة من البأس اإلهلي طمأنينة ونورا .قال تعاىل :
ص ْد َرهُ لِ ِْل ْس َلِم فـَُه َو َعلَى نُو ٍر ِّمن َّربِِّه فـََويْ ٌل﴿أَفَ َمن َش َر َح اللَّهُ َ
اسيَ ِة قـُلُوبـُُهم ِّمن ِذ ْك ِر اللَّ ِه﴾ وقال ﴿ :فَ َمن يُ ِر ِد اللّهُ أَن لِّ ْل َق ِ
ِ ِ ِ
ص ْد َرهُص ْد َرهُ ل ِإل ْسالَِم َوَمن يُ ِر ْد أَن يُضلَّهُ يَ ْج َع ْل َ يـَْهديَهُ يَ ْش َر ْح َ
سالر ْج َ ك يَ ْج َع ُل اللّهُ ِّ الس َماء َك َذلِ َ
ص َّع ُد فِي َّ ضيِّقاً َح َرجاً َكأَنَّ َما يَ َّ
َ
ين الَ يـُْؤِمنُو َن﴾. َّ ِ
َعلَى الذ َ
باإلسالم جاء األنبياء عليهم السالم من لدن آدم ،فمنهم
النيب املرسل يستقل برسالته وشرعه ،ومنهم النيب اجملدد لدين
رسول سبقه .وهلذه األمة جمددون كما جاء يف احلديث ،ليسوا
أنبياء ألن النبوءة ختمت برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،لكن
162
أولياء صادقون علماء عاملون ورثة لرسول اهلل .
وهكذا يتكون املوكب النبوي حامال اخلري واهلداية قائما بأمر
اهلل على صراط مستقيم .فإذا قلنا « :املنهاج النبوي» فإمنا نقصد
هذا الصراط السوي الذي مير عليه املوكب الفخم األغر األزهر.
التؤدة النبوية :يشرح اهلل صدر املؤمنني ،وتقسوا قلوب الغافلني
عن ذكر اهلل الرافضني لرساالت اهلل ومنهاجه .وإن يف كل قرية
فرعوهنا الذي حوله تنسج الفخفخة احلضارية على منوال كربيائه.
قد يكون هذا الفرعون شخصا قائما كما يليق بالقرى البدائية وقد
يكون فرعونا معنويا كما يليق بالقرى العقالنية .وغالبا ما جيتمع
الطاغوتان فتتحجر قلوب الغافلني حول وثنهم .هكذا احلال يف
عصرنا عصر اإلديولوجيات والزعامات.
يد اهلل القوية تدمر القرى الباغية بأمر من الغيب ال يصنعه
األنبياء ،بل تتنزل به مالئكة اهلل .أما األنبياء فما بعثهم اهلل
باحلق إال هلدف واحد ومقصد واحد وغاية واحدة جتتمع كلها يف
«القيام بالقسط».
النيب املرسل أو النيب اجملدد والويل حضور نوراين ميثل معاين
الطهارة ومعاين اليسر ومعاين التوازن والسكينة ومعاين اإلسالم
كافة واإلميان واإلحسان .وما عليه أن يكون وكيال على الناس
وال جبارا .وتتكرر يف القرآن خطابات احلق ألنبيائه أهنم ليسوا
163
جبارين وال وكالء وإمنا هم مبشرون منذرون.
على الرسل واألنبياء جهاد فرضه اهلل ،فكان جهاد نوح أن
يصرب يف قومه أعواما ألفا ،وكان جهاد داود وسليمان ومها ملكان
نبيان أن يعدال ويقاوما فتنة اجلاه واملال ويشكرا رهبما بالعمل
الصاحل .وكان جهاد سيدنا موسى وسيدنا حممد جهاد دعوة
حيميها السيف.
لكن الصبغة العامة جلهاد األنبياء الرفق والرمحة واحلكمة
واملوعظة باليت هي أحسن.
كل فرعون يتوىل اهلل سبحانه فتنته وعقابه كما فعل بفرعون
ين َونـَْق ٍ آل فِر َعو َن بِ ِّ ِ
ص السن َ ﴿ولََق ْد أَ َخ ْذنَا َ ْ
موسى .قال تعاىل َ :
ِ
آل ِّمن الث ََّم َرات لَ َعلَّ ُه ْم يَ َّذ َّك ُرو َن﴾ .وقال ﴿ :فَأ َ
َنجيـْنَا ُك ْم َوأَ ْغ َرقـْنَا َ
فِ ْر َع ْو َن َوأَنتُ ْم تَنظُُرو َن﴾ .ومع آل فرعون كان فرعون ﴿ :يـَْق ُد ُم
س الْ ِو ْر ُد ال َْم ْو ُرودُ﴾. ئ
ْقـَْوَمهُ يـَْو َم ال ِْقيَ َام ِة فَأ َْور َد ُهم النَّار وبِ
َ ُ َ َ َ
ش َريْ ِن ِمثْلِنَا
وتكرب فرعون ملا جاء رسوال ربه وقال ﴿ :أَنـُْؤِم ُن لِبَ َ
َوقـَْوُم ُه َما لَنَا َعابِ ُدو َن﴾! منعه كربياؤه أن يسمع كالم املستضعفني
يف األرض وهو يدعي الربويية وينتصب وثنا ليعبده الناس.
تعامى فرعون األول كما يتعامى الفراعنة يف كل زمان عن
سلطان النورانية الذي يؤيد اهلل به أنبياءه وأولياءه ،فما وجد إال
﴿وفِي ما جيده كل كافر يكذب رساالت ربه .قال اهلل تعاىل َ :
164
ال موسى إِ ْذ أَرسلْنَاهُ إِلَى فِر َعو َن بِس ْلطَ ٍ
ان ُّمبِي ٍن فـَتـََولَّى بُِرْكنِ ِه َوقَ َ ْ ْ ُ َْ ُ َ
اح ٌر أ َْو َم ْجنُو ٌن﴾. سِ
َ
ويبلغ كربياء فرعون وجهله اجلاهلي ذروته إذ جيمع قومه خيطب
فيهم ويتخذهم شهداء على عظمته ومهانة موسى وأخيه .قص
ِ ادى فِ ْر َع ْو ُن فِي قـَْوِم ِه قَ َ
سال يَا قـَْوم أَلَْي َ ﴿ونَ َ اهلل علينا خربه قال َ :
ص ُرو َن أ َْمصر و َه ِذ ِه ْالَنـَْهار تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِي أَفَ َل تـ ْب ِ لِي مل ُ ِ
ُ ُ ْك م ْ َ َ ُ
اد يبِين فـلَوَل أُل ِْقي َعلَيهِ ِ َّ
َ ْ ين َوَل يَ َك ُ ُ ُ َ ْ أَنَا َخيـٌْر ِّم ْن َه َذا الذي ُه َو َم ِه ٌ
ِ ِ َس ِوَرةٌ ِّمن َذ َه ٍ
ين﴾! ب أ َْو َجاء َم َعهُ ال َْم َلئ َكةُ ُم ْقتَ ِرن َ أْ
هذا الطاغوت الذي كفر باهلل وغيبه يريد أن يرى آية تدل على
صدق موسى وأخيه ،فيتحدى موسى أن تلقى عليه من السماء
﴿وقَالُواْ أساور أو تأتيه املالئكة ومثله اجلاهليون يتحدون األنبياء َ :
ك ض يَنبُوعاً أ َْو تَ ُكو َن لَ َ ك َحتَّى تـَْف ُج َر لَنَا ِم َن األ َْر ِ لَن نُّ ْـؤِم َن لَ َ
طار ِخاللَ َها تـَْف ِجيراً أ َْو تُ ْس ِق َ ب فـَتـَُف ِّج َر األَنـَْه َ يل َو ِعنَ ٍَجنَّةٌ ِّمن نَّ ِخ ٍ
سفاً أ َْو تَأْتِ َي بِاللّ ِه َوال َْمآلئِ َك ِة قَبِيالً ِ
ت َعلَيـْنَا ك َ الس َماء َك َما َز َع ْم َ َّ
الس َماء َولَن نـُّْؤِم َنف أ َْو تـَْرقَى فِي َّ ت ِّمن ُز ْخر ٍ
ُ ك بـَْي ٌ أ َْو يَ ُكو َن لَ َ
ك َحتَّى تـُنـَِّز َل َعلَيـْنَا كِتَاباً نـَّْق َرُؤهُ قُ ْل ُس ْب َحا َن َربِّي َه ْل ُك ُ
نت لِ ُرقِيِّ َ
اءه ُم ال ُْه َدى إِالَّ ِ
َّاس أَن يـُْؤمنُواْ إِ ْذ َج ُ شراً َّر ُسوالً َوَما َمنَ َع الن َ إَالَّ بَ َ
شراً َّر ُسوالً﴾! ث اللّهُ بَ َ أَن قَالُواْ أَبـََع َ
سبحان ربنا ما هذا املوكب النبوي إال موكب هداة عباد هلل
165
ال ميتازون عن البشر إال هبذه النورانية اليت يبديها اهلل كما يشاء
عليهم ال كما يشاؤون وإال برباطة اجلأش ال تستفزهم الفتنة وال
يستفزهم العنف .ملا بلغ احلنق أشده بفرعون قال كما أخرب القرآن :
وسى َولْيَ ْدعُ َربَّهُ إِنِّي أَ َخ ُ ِ ﴿وقَ َ ِ
ِّل
اف أَن يـُبَد َ ال ف ْر َع ْو ُن َذ ُروني أَقـْتُ ْل ُم َ َ
توسى إِنِّي عُ ْذ ُ ال ُم َ اد َوقَ َسَ ض الْ َف َِدينَ ُك ْم أ َْو أَن يُظْ ِه َر فِي ْال َْر ِ
اب﴾. ْحس ِ بِربِّي وربِّ ُكم ِّمن ُك ِّل متَ َكبِّ ٍر َّل يـ ْؤِمن بِيـوِم ال ِ
َ ُ ُ َْ ُ َ ََ
عاذ موسى بربه وكان كإخوته األنبياء ال يضعفون يف أمر
رهبم وال يلجأون إال إليه .ولقد خاف موسى إذ أمره به أن يبلغ
رسالته ،فأعانه ربه بوزير من أهله سيدنا هارون .مث طمأهنما
رهبما لكيال خيافا وبشرمها بأنه معهما .وكيف خياف من معه ربه؟
ول لَهُ قـَْوالً لَّيِّناً لَّ َعلَّهُ قال اهلل ﴿ :ا ْذ َهبَا إِلَى فِ ْر َع ْو َن إِنَّهُ طَغَى فـَُق َ
ط َعلَيـْنَا أ َْو أَن اف أَن يـَْف ُر َ شى قَ َال َربـَّنَا إِنـَّنَا نَ َخ ُ يـَتَ َذ َّك ُر أ َْو يَ ْخ َ
َس َم ُع َوأ ََرى﴾. ال َل تَ َخافَا إِنَّنِي َم َع ُك َما أ ْ يَطْغَى قَ َ
هذه هي التؤدة وهذا هو الرفق يف املنهاج النبوي.
الصادقون الصاحلون :قال اهلل خياطب املؤمنني ﴿ :يَا أَيـَُّها
ين﴾ .الصادقون هم الَّ ِذين آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ وُكونُواْ مع َّ ِ ِ
الصادق َ ََ َ َ َ
أهل الطاعة وأهل الدعوة إىل اهلل أهل الكلمة الطيبة التابعون يف
موكب النبوءة الصديقون .هم أحسن الناس قوال وعمال ،قال
صالِحاً ِ ِ
س ُن قـَْوالً ِّم َّمن َد َعا إِلَى اللَّه َو َعم َل َ َح َ
﴿وَم ْن أ ْتعاىل َ :
166
ِِ وقَ َ ِ ِ
ين﴾. ال إِنَّني م َن ال ُْم ْسلم َ َ
صحبة الصادقني مفتاح الرب ألهنا مفتاح الطاعة ،ومن أطاع
اهلل ورسوله فقد حصل على حقه ليدمج يف املوكب النبوي كفاء
ِ
﴿وَمن يُط ِع اللّهَ سلوكه على املنهاج النبوي .قال اهلل تعاىل َ :
ِ َّ ِ ول فَأ ُْولَـئِ َ
ين أَنـَْع َم اللّهُ َعلَْي ِهم ِّم َن النَّبيِّ َ
ين ك َم َع الذ َ الر ُس َ
َو َّ
ك َرفِيقاً﴾ .وإمنا س َن أُولَـئِ َ الشه َداء و َّ ِ ِ و ِّ ِ
ين َو َح ُالصالح َ ين َو ُّ َ َ الصدِّيق َ َ
تكون رفقة اآلخرة يف دار اخللود ملن رافقهم ابن آدم يف دار الفتنة.
ماهو نتاج التاريخ والغاية اليت جيري إليها ؟ أعبث كل هذا
الضجيج الذي حيدثه احليوان العمودي على وجهها ،أم أن تكور
اإلنسانية يف بغي الباغني والبؤس الناتج عن الظلم واألمل والشقاء
صدفة ال معىن هلا؟ أيكفي اإلنسان غاية وينقع غلته لفهم سر
الوجود ما تشري إليه العقالنية املادية من صريورة تتم فيها الوفرة
وتستغين الدابة البشرية عن الكد من اجل العيش يف عامل تنقرض
فيه مهام الدولة ؟.
كال ! إن يف اإلنسان حاسة فطر عليها تتطلع لغاية الوجود
ويضيق صدرها ويبلغ أشد احلرج دوهنا .وليس ينبئ اإلنسان عن
هذه الغاية ،غاية كماله الروحي وحلاقه باملوكب النوراين موكب
األنبياء الصادقني الصاحلني إىل وحي اهلل الذي جاءنا عن طريق
املنهاج النبوي .على مر التاريخ عاش رجال حييط هبم الغيب
167
أذهلوا معاصريهم بآيات اهلل املعجزة الظاهرة عليهم وأمهها نورانية
الصحبة .ومع ذلك كذبوا واهتموهم بالسحر واجلنون كما كذب
اخللف املفتون املستغىن بالعامل املغلق عامل العقالنية الفلسفية
والعلمية.
إبراهيم ال حترقه النار ،وسليمان ختدمه الريح واجلن ،وعيسى
يربئ األكمه واألبرص وحيي املوتى وموالنا رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم تبدو هلم منه يف كل يوم آية .هل كان كل هذا فلتات
اختل فيها «قانون الطبيعة» أم أن حوت يونس وعصا موسى
حديث خرافة ؟
إن اإلنسانية اليوم ال تزال حائرة أمام ظواهر الكون اليت
ال ختضع ملنطق عقالين ،وإن شأن التموجات واجلزئيات الذرية
وتعاقبها وإرادهتا اليت تكاد تكون شخصية ملن أبسط هذه الظواهر
إذا قيست مثال حبضور شياطني اجلن ومالبسته للناس مع اجلهل
الكامل املتخفى بستار التجاهل عند الباحثني املعاصرين.
وما كل هذه الظواهر إال إعالن غييب من جانب احلق حيوم
حول أشخاص من اصطفاهم رهبم وكلمهم ملا آمنوا به وصدقوا
رسله واطاعوا .حيوم الغيب حوهلم كما حيوم العامل وكما يدور
التاريخ .فإنه ما خلق اهلل خلقه إال ليعبدوه ،فإذا عبدوه أمت هلم
نورهم وجعلهم من أحبائه الصاحلني الصادقني.
168
بعد السعي يف األرض وفق الطاعة تأيت رمحة اهلل للمحسنني
خالدين فيها .إبراهيم عليه السالم واسحق يعقوب ابناه اصطفاهم
اه ْم أَئِ َّمةً يـَْه ُدو َن بِأ َْم ِرنَا رهبم ﴿ :وُك ّلً جعلْنَا ِ ِ
ين َو َج َعلْنَ ُصالح َ ََ َ َ
الزَكاةِ
الص َل ِة َوإِيتَاء َّ ِ ِ
ام َّ َوأ َْو َحيـْنَا إِلَْيه ْم ف ْع َل الْ َخيـَْرات َوإقَ َ
ِ ِ
ين﴾ ولوط عليه السالم أتاه اهلل حكما وعلما ِِ
َوَكانُوا لَنَا َعابد َ
الصالِ ِحينَ﴾ .ونوح جناه اهلل ﴿وأَ ْد َخلْنَاهُ فِي َر ْح َمتِنَا إِنَّهُ ِم َن َّ
َ :
من الكرب ونصره جزاء ملا نصر ربه قياما بأمره ودعوته وداود
وسليمان مجع اهلل هلما ملك الدنيا وملك اآلخرة .وأيوب عبد ربه
ين. ِ ِِ ِ ِ ِ
﴿ر ْح َمةً ِّم ْن عندنَا َوذ ْك َرى لل َْعابد َ فكشف عنه مواله الضرَ :
ْك ْف ِل ُكلٌّ ِّمن َّ ِ اعيل وإِ ْد ِريس و َذا ال ِ ِ
ين َوأَ ْد َخلْنَ ُ
اه ْم الصاب ِر َ َ َ َ َوإِ ْس َم َ َ
ين﴾ .وكل ويل هلل مطيع تابع من فِي رحمتِنَا إِنـَّهم ِّمن َّ ِ ِ
الصالح َ ُ َ ََْ
هذه األمة صائر بإذن اهلل معهم.
أال إن غاية التاريخ هو املصري إىل الرمحة اإلهلية مع الصادقني،
وإن هذا املصري نتيجة ال تكون مقدمتها أبدا إال صحبة املعصوم
عليه الصالة والسالم واتباعه وصحبته مع املؤمنني على املنهاج
النبوي .وال تصح صحبته إال ملن نبذ أنانيته وطاغوته واختذ عند
اهلل يدا وأوى إىل مجاعة املؤمنني.
169
حممد رسول اهلل
اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه واملرسلني وكل ويل هلل إىل
﴿وَما
يوم الدين .ما مينع الناس من هداية رهبم إال استكبارهم َ :
اءه ُم ال ُْه َدى إِالَّ أَن قَالُواْ أَبـََع َ ِ
ث اللّهُ َّاس أَن يـُْؤمنُواْ إِ ْذ َج ُ
َمنَ َع الن َ
شراً َّر ُسوالً﴾ .انتمى الصحابة إىل هذا اجلناب الكرمي والتفوا بَ َ
حوله وأحبوه مبحبة اهلل فكانوا أفضل جيل وخري أمة .ووصانا
صلى اهلل عليه وسلم بالتقلني من بعده :كتاب اهلل وعرتته أهل
بيته ،وفتح لنا باب الفقه حني دلنا أن سلمان من أهل بيته لتتجه
حمبتنا للنسبني ،نسب فاطمة والعباس وعقيل وجعفر ،ونسب
اإلحسان وهو النسب الروحي وعليه مدار الصحبة.
إن اهلل تعاىل ارسل املرسلني وجعل خامتهم سيدنا حممد بن
عبد اهلل فجمع فيه اهلدى ومجع له أسباب كمال التابع يف حمبته
وطاعته بنص القرآن الكرمي .فمن صحبه صلى اهلل عليه وسلم
وأحبه وفين يف حمبته صعد إىل الدرجات العلى ،ومن مل يدرك زمانه
احتاج لرتبية شيخ يرقي روحانيته لتتصل بذلك املقام السامي.
وإمنا يسمى الصوفية وصوال هذا الرقي الروحاين حىت يتلقى املريد
170
عن روحانية الرسول مباشرة ويستقي منه الروح والرمحة .ويسمى
عندئذ «حممديا» وهو اصطالح صويف توسع معناه ليشمل كل
من حيب جناب الرسول وخيلع يف حبه العذار.
قال اهلل عز وجل ﴿ :قُ ْل إِن َكا َن آبَا ُؤُك ْم َوأَبـْنَآ ُؤُك ْم َوإِ ْخ َوانُ ُك ْم
ال اقـْتـرفـْتُم َ ِ ِ
ش ْو َن
ارةٌ تَ ْخ َ وها َوت َج َ اج ُك ْم َو َعش َيرتُ ُك ْم َوأ َْم َو ٌ ََ ُ َوأَ ْزَو ُ
ب إِلَْي ُكم ِّم َن اللّ ِه َوَر ُسولِ ِه َح َّ ساكِ ُن تـَْر َ
ض ْونـََها أ َ اد َها َوَم َ سَ َك َ
صواْ َحتَّى يَأْتِ َي اللّهُ بِأ َْم ِرِه﴾. ِِ ِ ٍ ِ
َوج َهاد في َسبِيله فـَتـََربَّ ُ
وجعل اهلل مبايعة حممد عبده ونبيه مبايعة له سبحانه ،قال:
ك إِنَّ َما يـُبَايِعُو َن اللَّهَ يَ ُد اللَّ ِه فـَْو َق أَيْ ِدي ِه ْم﴾. ين يـُبَايِعُونَ َ َّ ِ
﴿إِ َّن الذ َ
وتقصر اآليات الكثرية الرمحة والفوز يف طاعته عليه الصالة
والسالم وأتباعه.
ولكي نعرف مقامه العظيم أخربنا بلسان احلق أنه سيد ولد
آدم وأخربنا أنه لبنة التمام يف البناء اإلهلي .قال عليه الصالة
والسالم « :مثلي ومثل األنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا
فأحسنه وأجمله إال موضع لبنة من زاوية من زواياه ،فجعل
الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون :هال وضعت هذه
اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيئين».1
أول خطوة على احملجبة البيضاء يف املنهاج النبوي حمبته وطاعته
1متفق عليه واللفظ ملسلم ,استفدنا هذه الفقرة وسائر فقرات هذا الفصل من كتاب الشيخ حممد
يوسف شيخ مجاعة رجال التبليغ :حياة الصحابة.
171
صلى اهلل عليه وسلم ،فمن أحبه فقد ائتمر بأمر اهلل فتفتح له
أبواب فضل اهلل ومن صلى عليه فقد ائتمر بأمر اهلل وحق له أن
يتعرض لرمحة اهلل ،ومن هلج به وعكف على بابه فقد اهتدى وويف
له الكيل وسار على درب املوكب النوراين يقتحم العقبة سالكا
مسالك الرجال .ومن وقف مع أنانيته يرد على اهلل يف قرآنه فإمنا
هو حمروم.
ها حنن يا رسول اهلل حبيبنا يا حبيب اهلل غثاء كما حذرتنا،
نسينا عهد اهلل إذ نسينا ما بايعك عليه املؤمنون .إن اهلل قرن حمبتك
وحمبته وإيثاركما على اآلباء واألقرباء باجلهاد يف سبيله وسبيلك،
فنحن نرتبص بنا الناس الدوائر ويرتبصون بنا السوء ،والدعاة إىل
اهلل املالئذون جبنابك األمحى ال يكاد يسمع هلم صوت ،وكان
أمتك املسكينة املتلوية على أشد من حسك السعدان حلم على
وضم لآلكلني ،وإهنا لذاهبة مع السيل مع ما حيمل السيل ،فهل
من سبيل يا رسول اهلل لنصل حبلنا حببلك فنتمسك عندئذ بالعروة
الوثقى وتتأصل لنا اجلهود ويتأصل لنا اجلهاد والعمل والقوة؟
إن حاضرنا املتعثر هو اجملال الكدر الذي جيب علينا أن
نصفي فيه نظرتنا إىل تارخينا احلقيقي تاريخ املوكب النبوي ونعرب
تاريخ الفتنة لنجدد ألنفسنا إسالما وإميانا .وإن املستقبل الذي
ينظره لنا املفتونون مبنظار اجلاهلية املرتقبة ملزيد من صناعة ومزيد
172
من اخرتاع ارضاء للدوابية اجلاهلية ال غري ،ليس مستقبلنا .إمنا
مستقبلنا يف مقام الثريا ويف األفق األعلى مستقبلنا أن حنمل
للخلق الرسالة كما محل األنبياء واألصحاب احلواريون.
يكفي لتحقيق ذلك أن نعرف املنهاج النبوي ونتتبع اخلطى
على احملجبة البيضاء ،ولن نلبث أن نرى بشائر صبح جديد يعود
علينا يومه وتسطع علينا مشسه ،وإذا حنن مع الصادقني اآلئبني إىل
رهبم بدار النعيم.
دلنا قرآن ربنا على املنهاج إذ وجهنا لرسوله ،قال ﴿:لََق ْد َكا َن
سنَةٌ لِّ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْو َم لَ ُكم فِي رس ِ ِ
ول اللَّه أ ْ
ُس َوةٌ َح َ َُ ْ
ِ
ْالخ َر َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾.
التأسي برسول اهلل ليس إال يف متناول الصادقني املصدقني
باهلل واليوم اآلخر الذاكرين اهلل كثريا .فصحبة وذكر وصدق ،وأنت
على طريق املعراج اإلسالمي طريق اقتحام العقبة.
فإذا رمنا أن نصل مستقبلنا مباضينا اجلهادي عرب الفتنة اليت
ننوء حتت كلكلها لزم أن نتبايع على الصدق يف أحضان الصحبة
ِِ ِ
ين إِ ْذ النبوية .قال اهلل تعاىل ﴿ :لََق ْد َرض َي اللَّهُ َع ِن ال ُْم ْؤمن َ
الس ِكينَةَ ِ ت َّ ِ ِ
َنز َل َّ الش َج َرة فـََعل َم َما في قـُلُوبِ ِه ْم فَأ َ ك تَ ْح َ يـُبَايِعُونَ َ
َعلَْي ِه ْم َوأَثَابـَُه ْم فـَْتحاً قَ ِريباً﴾.
يف طريق االنبعاث اإلسالمي عقبات كأداء ،فال مجاعة لنا
173
وإمنا لنا جمتمعات ألنه ال مبايعة لنا .وال مبايعة وال تصح وال متكن
ألن ما يف قلوبنا نية إسالمية إال ومضات تطفئها األعاصري الفاتنة
وخيمدها اجلهل باهلل ورسوله ودينه .القلوب وجلة خائفة من الناس
ال من اهلل ،والعقول هائجة تتماوج مع التيار اجلاهلي ،ومن كل
هذا ينتج يف ساحة العمل اضطراب ال سكينة ترجى معه.
إنه ال بد لنا أن نتأهل بتزكية قلوبنا للتأسي مبحمد وصحبه،
وإن أول حركة يف النهضة اإلسالمية مبايعة يرضاها اهلل ورسوله
وتنزل معها سكينة ربنا ،ونغنم حنن بعدها وال نبقى غنيمة وكان
اهلل عزيزا حكيما.
املتبوع األعظم :يف قلوبنا خواء ووحشة وكراهية ألهنا خلت
من حمبة اهلل ،وما تأيت صحبة اهلل لنا وصحبتنا له إال من اتباع
الرسول الكرمي ،قال اهلل تعاىل ﴿ :قُ ْل إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللّهَ
يم﴾. فَاتَّبِعونِي يحبِب ُكم اللّه ويـغْ ِفر لَ ُكم ذُنُوب ُكم واللّه غَ ُف ِ
ور َّرح ٌُ ُْ ْ ُ ُ ََ ْ ْ َ ْ َ ُ ٌ
جتد الصوفية الكرام آمنني حني خياف الناس ضاحكني فرحني
برهبم حني يبأس الناس ألن هلم قلوبا يعمها احلب هلل ورسوله،
فهم تابعون على يقني ال يلحقه الشك ماثلة يف أفئدهتم نوارنية
املتبوع األعظم صلى اهلل عليه وسلم .وما ذاك إال أهنم صحبوا
الرجال أولياء اهلل حىت وصلوا .هذا اإلمام الغزايل يقص كيف لقي
«متبوعا مقدما» أخذ عنه وتتلمذ حىت وجد أن احلق مع الصوفية.
174
ومدار احلق الذي جيده الصوفية وسره يف روحانية املتبوع
األعظم صلى اهلل عليه وسلم حتلق حوهلا أرواحهم وتقتبس اهلداية
والتقوى وحمبة الرب الرحيم عز وجل ،وكما هتيئ املاشطة العروس
لتزف إىل املقام املكرم يهيء «املتبوع املقدم» على حد تعبري
الغزايل مريده لذلكم اجلناب األنور صلى اهلل عليه وسلم.
وغاية ما حتمله الطروس من التشويق للطلعة احملمدية وصف
حماسنه وأخالقه صلى اهلل عليه وسلم ،عسى أن حتمل السطور
ملعة لقلوب املؤمنني.
كان وجهه صلى اهلل عليه وسلم يتألأل كالقمر ليلة البدر.
هكذا وصفه أصحابه من أهل الرضى ،وهو وصف حمبة ال شك.
أما الكفرة الفجرة فقد نظروه كما نظره املؤمنون فما رأوا إال
وجها بشريا عاديا لعمى قلوهبم .أما من خلع العذار يف حمبته
صلى اهلل عليه وسلم ممن صحبه يف حياته على األرض وبعد
انتقاله فال يكفيه لوصف حماسن الوجه الشريف صورة القمر
والشمس .وإن أصحابه من بعده يتملون برؤية ذلك البهاء ،يرونه
رأي العني خياطبهم وخياطبونه ويناجون روحه الطاهرة .ذلك ملن
صفت مرآته ،ولسائر املؤمنني رؤيا املنام وهي حق كما أخربنا عليه
الصالة والسالم.
ورد وصف جلسمه الرتايب صلى اهلل عليه وسلم يف أحاديث
175
متعددة عن أصحابه ،ومضموهنا أنه كان فخما مفخما كان ملء
العني تعظمه النفس وميتزح تعظيمها برهبة مما آتاه اهلل من هيبته
وجالله.
األسوة العملية ال تصح أبدا ملن ينهج مل هنج اآلية الكرمية املشرية
إىل الصدق والذكر الكثري ،هلذا كتبنا صفحة لنشوق املؤمنني .مث
ها هو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حركاته وسكناته كما
يصفه األصحاب رضي اهلل عنهم .سيدنا هند بن أيب هالة يسأله
موالنا اإلمام احلسن بن علي عن جده صلى اهلل عليه وسلم .فبعد
أن سأله عن هيئته ،قال« : 1صف يل منطقه ! قال :كان رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم متواصل األحزان ،دائم الفكرة ،ليست له
راحة ،ال يتكلم يف غري حاجة ،طويل السكوت…،يتكلم جبوامع
الكلم كالمه فصل ال فضول وال تقصري ،دمث ليس باجلايف وال
املهني…»
وسأل موالنا اإلمام الشهيد احلسني بن علي أباه اإلمام املطهر
قال« : 2سألت أيب عن دخول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
(أي عن حاله يف البيت) فقال :كان دخوله لنفسه مأذونا له
يف ذلك ،وكان إذا أوى إىل منزله جزأ دخوله ثالثة أجزاء ،جزءا
176
هلل وجزءا ألهله وجزءا لنفسه ،مث جزأ جزأه بينه وبني الناس فرد
ذلك على العامة واخلاصة ال يدخر عنهم شيئا .وكان من سريته
يف جزء األمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم
يف الدين… ويقول :ليبلغ الشاهد الغائب ،وأبلغوني حاجة
من ال يستطيع إبالغي حاجته ،فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من
ال يستطيع إبالغها إياه ثبت اهلل قدميه يوم القيامة» .ال يذكر
عنده إال ذلك ،وال يقبل من أحد غريه .يدخلون عليه روادا وال
يفرتقون إال عن ذواق» ترى كيف تستغرق أوقاته عليه الصالة
والسالم عبادة ربه والرب بأهله ،مث ترى كيف يؤثر حوائج الناس
على راحته وال يقبل إال أن يدخل الناس عليه روادا يرتادون اخلري
للناس ،وكان يطعمهم تأليفا وحمبة.
يسأل اإلمام احلسني أباه قال « :وسألته عن خمرجه (حالة
بروزه إىل الناس) كيف يصنع فيه ! فقال :كان رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم خيزن لسانه إال مبا يعنيه ويؤلفهم وال ينفرهم ،ويكرم
كرمي كل قوم ويوليه عليهم ،وحيذر الناس وحيرتس منهم من غري
أن يطوي عن أحد مهم بشره وال خلقه .يتفقد أصحابه ،ويسأل
الناس عما يف الناس (يسأل عن اإلخبار) وحيسن احلسن ويقويه،
ويقبح القبيح ويوهيه .معتدل األمر غري خمتلف (ال اضطراب
يف تصرفه)… لكل عنده عتاد ،وال يقصر عن احلق وال جيوزه.
177
الذين يلونه من الناس خيارهم ،أفضلهم عنده أعمهم نصيحة،
وأعظمهم عنده أحسنهم مواساة وموازرة.
قال :فسألته عن جملسه كيف كان ؟ فقال « :كان رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال جيلس وال يقوم إال على ذكر…،
قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار هلم أبا وصاروا عنده
يف احلق سواء .جملسه جملس حلم وحياء وصرب وأمانة .ال ترفع
فيه األصوات ،وال تؤبن 1فيه احلرم وال تنثى 2فلتاته ،متعادلني
يتفاضلون بالتقوى ،متواضعني يوقرون فيه الكبري ويرمحون فيه
الصغري ،يؤثرون ذا احلاجة وحيفظون الغريب».
قال :فسألته عن سريته يف جلساته فقال « :كان رسول اهلل
صلى اله عليه وسلم دائم البشر سهل اخللق ،لني اجلانب ،ليس
بفظ وال غليظ وال سخاب وال فحاش وال عياب وال مزاح .يتغافل
عما ال يشتهي ،وال يؤيس منه راجيه ،وال خييب فيه .قد ترك نفسه
من ثالث :املراء واإلكثار وما ال يعنيه .وترك الناس من ثالث :
كان ال يذم أحدا وال يعريه ،وال يطلب عورته ،وال يتكلم إال فيما
يرجو توابه .إذا تكلم أطرق جلساؤه كأمنا على رؤوسهم الطري .فإذا
تكلم سكتوا وإذا سكت تكلموا ،وال يتنازعون عنده .يضحك مما
1ال تعاب.
2ال تداع.
178
يضحكون منه ،ويتعجب مما يتعجبون منه .ويصرب للغريب على
اجلفوة يف منطقه ومسألته ،حىت إن كان أصحابه ليستجلبوهنم
يف املنطق ،ويقول :إذا رأيتم صاحب حاجة فأرفدوه .1وال يقبل
الثناء إال من مكايفء وال يقطع على أحد حديثه حىت جيور فيقطعه
بنهي أو قيام.
قال :فسألته كيف كان سكوته ؟ قال « :كان سكوته على
أربع :احللم واحلذر ،والتقدير والتفكر فأما تقديره ففي تسويته
النظر واالستماع بني الناس ،وأما تذكره –أوقال تفكره -ففيما
يبقى ويفىن .ومجع له صلى اهلل عليه وسلم احللم والصرب فكان ال
يغضبه شيء وال يستفزه .ومجع له احلذر يف أربع :أخذه باحلسىن،
والقيام هلم فيما مجع هلم الدنيا واآلخرة ،صلى اهلل عليه وسلم.
1أعينوه.
179
األسوة
اإلسالم عبء تارخيي حنمله إما حفاظا على تراث ال نفقه
قبيله من دبريه وإما حفاظا على عادة حطت ثقلها على املسلمني
عرب التاريخ فهي ال تزال يف أرجلنا عقاال ويف عقولنا كثافة متنعنا
أن نتحرك.
وطلبنا لألسوة عند الرسول الكرمي وصحبه ال نريد منه
أن نتنكر لتارخينا بل نريد أن تزودنا صحبتهم الثقافية التأملية
بإعجاب يتبعه حمبة واقتداء وممارسة نستطيع هبا أن خنرق كثافات
تارخينا فنعيد فحص الرتاث على ضوء ما جيد لنا من اكتشاف
الرجولة واإلميان والسمت الرائع يف حياة الصحابة رضي اهلل عنهم
وحياة رسولنا املعصوم ذي اخللق العظيم.
إننا إن نولع بالنيب وصحبه ونتعلق بدراسة حياهتم ونعايشهم
مباشرة بالشوق والتشوق واحملبة نفلت من هذه األمناط احململة
بنسج األجيال اليت ال تستطيع أن تستفتح أوعية القلوب باحملبة
احلق فتتشرب معاين اإلميان من معينها وتكون حممدية هلا الوصلة
بذلكم اجلناب الشريف وهلا الفتح من لدن احلكيم اخلبري وهلا
الشفافية اليت تعطيها الصحبة املباشرة للنورانية احملمدية فال حتجبنا
األجيال املتالحقة األربعون عن مصدر اإلشعاع واهلداية.
180
أو لسنا نقرأ القرآن مبنظار سلفنا وهو كتاب ربنا خاطبنا به
كما خاطبهم وأمر كال بتدبره؟ أولسنا تكل عقولنا أمام هذه
األمحال الكثرية من كتب التفسري ونشعر بالعجز والبعد عن كتاب
اهلل ألننا نشعر بضرورة قراءة كل التفاسري واستيعاهبا قبل أن حيق
لنا القول وخمافة أن حيق علينا القول ؟
إن الثقافة الصاعدة اليت ستقلع بنا من قاع احلرية لقمم احليوية
والتحرر العقلي واإلرادي يكمن سرها يف احملمدية السمحة.
جذورنا الشعورية الثقافية ضاربة يف أرض الفتنة املرتاكمة ،فتنتنا
التارخيية املمتدة لغدنا كما يراه املفتونون .والرتبية اإلسالمية اليت
حنتاجها ال بد أن تؤصل لنا ثقافة على أرضية بكر طاهرة على
أرضية الفطرة حيث نسمع كالم اهلل غضا طريا خياطبنا فنفعل
وخنشع ونطيع فنعمل ،وحيث يصبح املنهاج النبوي طريقا نسلكه
مع املوكب النوراين وعلى خطوات من جعل اهلل لنا هبم األسوة.
لعل يف التاريخ درسا ال يعوض وحكمة ملن يتخلص من
االنفعاالت اإلنسانية اليت نُسج منها التاريخ .لكن مدرسة
السلوك املنهاجي وحمك الفقه املنهاجي الذي خيلصنا هو هذه
الصفحة اخلالدة من حياة الرسل واحلواريني ،ومن حياة سيدنا
حممد صلى اهلل عليه وسلم وصحبه خاصة .نتعلم من هذه املدرسة
إن تزودنا باإلميان ألهنا صفحة مشبعة بالغيب واألحداث اخلارقة،
181
يسريون صفا مع املالئكة يف الغزوات يروهنم رأي العني ،وينزل
عليهم جربيل رجال خياطبهم وحيضرون جمالس رسول اهلل حني
يأتيه الوحي فتثقل رأسه على فخذ جاره ،مث خيربهم عن اهلل وأمره.
وهم القرون وبرودهتا وقاب ْلنا
ونتعلم من هذه املدرسة إن أزلنا عنا ْ
التجرد واإلميان والصدق واإلحسان من جانبهم باإلعجاب واحملبة
والشوق مث اإلرادة املؤمنة أن نسلك مسلكهم .تتعلم قلوبنا منهم
اإلميان كما نتعلم من سلوكهم اجلهادي مناذج العمل الصاحل.
بدون األسوة القلبية يكون التشبه العملي حماكاة جوفاء.
ونتعلم من هذه املدرسة إن تزودنا قبل كل شيء بصحبة تفتح
بركتها األبواب وتريب اإلميان والصدق واإلرادة والعقل.
وعندئذ ال تبقى هذه الصفحة فلتة تارخيية بل تصبح منوذجا
عاطفيا عقليا يتحدانا مباشرة بسموه لنسمو حنن على ثقة من
أن املنهاج النبوي ال يكون منهاجا نبويا إال ألنه مستمر متجدد،
أخربنا بذلك اهلل ورسوله.
لتكن حكمة التاريخ فكرا نتأمله ونصفيه مبصفاة ممارسة لنا
متجددة لإلسالم ،وال يتأتى لنا ذلك إال إن كان بيدنا مصفاة.
وإذن فلنطو التاريخ ريثما نكون مسلمني نفكر وحنكم مبعيار
إسالمي .لنتلق الرسالة من منبعها ،ولنمارس اإلسالم كما مارسه
األولون ،وعلى ضوء السنة كاملة غري منقوصة .ألن من الناس
182
من يأخذ من السنة على قدر حاجته أو هواه ،فواحد يشتد
على نفسه ويشاد الدين ويزعم أن الدين مضى وفات وأن اجليل
احلاضر املفتون حطب جهنم ويغلق باب التوبة والرمحة .ومن
َن يُسر الدين يتسع لبغي الباغني وقعود الناس من يزعم لنفسه أ َّ
القاعدين وعبث العابثني .وكثري يصورون اإلسالم وتاريخ اإلسالم
تصويرا عقالنيا يلغى به الغيب ،وما القرآن إال غيب واخبار عن
الغيب وال يفتح فيه اهلدى إال للمؤمنني بالغيب ،وما حياة الرسول
وصحبه إال غيب يف غيب.
لنأخذ السنة كاملة ولنبدأ باملصدر األول لإلميان ،أَهو العقل
أم هو عامل آخر .يقول الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم :
«والذي نفسي بيده ال تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا وال تؤمنوا
حتى تحابوا ! أَال أَدلكم على شيء إِذا فعلتموه تحاببتم؟
1
أفشوا السالم بينكم».
هكذا نرى أن اإلميان يسري بالصحبة اليت تلد حمبة ،اقسم
على ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وقد تبدأ حمبة املؤمنني
باإلعجاب والتقدير ،فمن هنا تكون حياة الصحابة بداية السلوك
إذ تدفعك لصحبة املؤمنني طلبا لتحقيق النموذج التارخيي اخلالد
والصحبة ال تتبعض لكنها والية املؤمنني كافة مركزة على شخص
183
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
ترسلك صحبة األحياء من أولياء اهلل لصحبة النموذج التارخيي
اخلالد ،ويرسلك اإلعجاب بالصحابة الكرام لطلب صحبة
معاصريك إن كنت حيا أو بك نبض من حياة .فإن زدت على
ذلك مهة تطلب الكمال .فاسع إىل كمالك من باب احملبة ،لكن
حمبة متحققة اآلن وهنا ،وسائل الصوفية الصادقني.
﴿م َح َّم ٌد وصف اهلل تعاىل حممدا وصحبه يف القرآن قال ُّ :
َش َّداء َعلَى الْ ُك َّفا ِر ُر َح َماء بـَيـْنـَُه ْم ول اللَّ ِه والَّ ِذين معهُ أ ِ َّر ُس ُ
َ َ ََ
اه ْم ِ ضالً ِّم َن اللَّ ِه َو ِر ْ اه ْم ُرَّكعاً ُس َّجداً يـَْبتـَغُو َن فَ ْ
يم ُ ض َواناً س َ تـََر ُ
ك َمثـَلُ ُه ْم فِي التـَّْوَر ِاة َوَمثـَلُ ُه ْم ود َذلِ َ السج ِ ِ
في ُو ُجوه ِهم ِّم ْن أَثَ ِر ُّ ُ
ِ
استـََوى َعلَى ظ فَ ْ استـَغْلَ َ
آز َرهُ فَ ْ ال ِ
نج ِ
يل َك َز ْر ٍع أَ ْخ َر َج َشطْأَهُ فَ َ فِي ِْ
َّ ِ اع لِيَ ِغي َ ِ ِِ ِ
آمنُوا ين َ ار َو َع َد اللَّهُ الذ َ ظ ب ِه ُم الْ ُك َّف َ الزَّر َ
ب ُّ ُسوقه يـُْعج ُ
َجراً َع ِظيماً﴾. ِ الصالِح ِ ِ ِ
ات منـْ ُهم َّمغْف َرةً َوأ ْ َو َعملُوا َّ َ
هبؤالء الكرام جعل اهلل لنا األسوة ،نتأسى هبم ونفعل فعلهم.
ويف اآليات خصال ثالث بارزة للجماعة املؤمنة .أوهلا :شدهتم
على الكفار فإذا صغنا هذا بلسان عصرنا قلنا :متيزهم عن
اجلاهلية وبغضهم هلا .ثانيها :رمحتهم املتبادلة ،ونقول :انتماؤهم
العاطفي بعضهم لبعض .وثالثا :ابتغاء رمحة اهلل ،ونقول :نظرهتم
إىل اإلنسان والعامل نظرة إميانية منهاجية.
184
وقد أمر اهلل الصحابة الكرام من قبلنا ،وهو أمر لنا أيضا أن
ُس َوةٌ
ت لَ ُك ْم أ ْ يتأسوا مبؤمنني مضوا ،قال عز وجل ﴿ :قَ ْد َكانَ ْ
ين َم َعهُ إِ ْذ قَالُوا لَِق ْوِم ِه ْم إِنَّا بـَُراء ِمن ُك ْم َّ ِ
يم َوالذ َ
ح ِ ِ ِ
سنَةٌ في إبـَْراه َ ََ
ِ وِم َّما تـ ْعب ُدو َن من ُد ِ
ون اللَّه َك َف ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا بـَيـْنـَنَا َوبـَيـْنَ ُك ُم ِ
َُ َ
ِ ِ
ضاء أَبَداً َحتَّى تـُْؤمنُوا بِاللَّه َو ْح َدهُ﴾.ال َْع َد َاوةُ َوالْبـَغْ َ
وهنا أيضا جند اخلصال الثالث األوىل من اخلصال العشر
يتضمنها اخلطاب .فخصلة الصدق يف التميز عن اجلاهلية،
وتتحدث اجلماعة املؤمنة متضامنة متوالية ،وجيعلون الشرط يف
الصلح مع قومهم اإلميان باهلل .فتلك هي الصحبة واجلماعة،
وذلك هو الذكر ،وذلك هو الصدق يف وصف أصحاب إبراهيم
وحممد عليهما الصالة والسالم.
تأملنا يف الفقرة السابقة وجه احملبوب املعصوم صلى اهلل عليه
وسلم وجها لوجه ،ونتأمل هنا النماذج الساطعة للصحابة الكرام
خلفاءه الراشدين قبل أن منضي للبحث عن فقهنا املنهاجي
وخصالنا العشر يف حياة الصحابة.
أخرج الطرباين عن ربعي بن حراش قال « :استأذن عبد
اهلل بن عباس على معاوية رضي اهلل عنهم وقد علقت 1عنده
بطون قريش وسعيد بن العاص جالس عن ميينه .فلما رآه معاوية
1جلسوا عنده.
185
مقبال قال :يا سعيد ! واهلل أللقني على ابن عباس مسائل يعىي
جبواهبا فقال له سعيد :ليس مثل ابن عباس يعىي مبسائلك .فلما
جلس قال له معاوية :ما تقول يف أيب بكر ؟ قال :رحم اهلل
أبا بكر ،كان واهلل للقرآن تاليا ،وعن امليل نائيا ،وعن الفحشاء
ساهيا ،وعن املنكر ناهيا ،وبدينه عارفا ،ومن اهلل خائفا ،وبالليل
قائما ،وبالنهار صائما ،ومن دنياه ساملا ،وعلى عدل الربية عازما،
وباملعروف آمرا ،وإليه صائرا ،ويف األحوال شاكرا ،وهلل يف الغدو
والرواح ذاكرا ،ولنفسه باملصاحل قاهرا .فاق أصحابه ورعا وكفافا
وزهدا وعفافا وبرا وحياطة وزهادة وكفاءة .فأعقب اهلل من ثلبه
اللعائن إىل يوم القيامة!
قال معاوية :فما تقول يف عمر بن اخلطاب ؟ قال :رحم
اهلل أبا حفص ،كان واهلل حليف اإلسالم ،ومأوى األيتام ،وحمل
اإلميان ،ومعاذ الضعفاء ،ومعقل احلنفاء ،للخلق حصنا وللناس
عونا .قام حبق اهلل صابرا حمتسبا حىت أظهر اهلل الدين وفتح الديار،
وذكر اهلل يف األقطار واملناهل ،وعلى التالل ويف الضواحي والبقاع.
وعند اخلىن 1وقورا ،ويف الشدة والرخاء شكورا ،وهلل يف كل وقت
وأوان ذكورا ،فأعقب اهلل من يبغضه اللعنة إىل يوم احلسرة !
قال معاوية :فما تقول يف عثمان بن عفان ؟ قال :رحم اهلل
186
أبا عمرو ،كان واهلل أكرم احلفدة ،وأوصل الربرة ،وأصرب الغزاة،
هجادا باألسحار ،كثري الدموع عند ذكر اهلل ،دائم الفكر فيما
يعنيه بالليل والنهار ،ناهضا إىل كل مكرمة ،يسمى إىل كل منجية
فرارا من كل موبقة ،وصاحب اجليش 1والبئر ،2وخنت 3املصطفى
على ابنتيه .فأعقب اهلل من سبه الندامة إىل يوم القيامة !
قال معاوية :فما تقول يف علي بن أيب طالب ؟ قال :رحم اهلل
أبا احلسن ،كان واهلل علم اهلدى ،وكهف التقى ،وحمل احلجى،4
وطود البهاء ،ونور السرى يف ظلم الدجى .داعيا إىل احملجة
العظمى ،عاملا مبا يف الصحف االوىل ،وقائما بالتأويل والذكرى،
متعلقا بأسباب اهلدى ،وتاركا للجور واألذى ،وحائدا عن طرقات
الردى ،وخري من آمن واتقى ،وسيد من تقمص وارتدى ،وأفضل
من حج وسعى ،وأمسح من عدل وسوى ،وأخطب أهل الدنيا إال
األنبياء والنيب املصطفى .وصاحب القبلتني فهل يوازيه موحد !
وزوج خري النساء ،وأبو السبطني .مل تر عيين مثله وال ترى إىل يوم
القيامة ! يوم اللقاء من لعنه فعليه لعنة اهلل والعباد إىل يوم القيامة!
(وإمنا لعن سيدنا ابن عباس من يلعن األئمة اهلداة ألن بين أمية
187
كانوا يسبون عليا على املنابر).
قال :فما تقول يف طلحة والزبري؟ قال :رمحة اهلل عليهما:
كانا واهلل عفيفني ،برين ،مسلمني ،طاهرين ،متطهرين ،شهيدين،
عاملني .زالزلة واهلل غافر هلما إن شاء اهلل بالنصرة القدمية والصحبة
القدمية ،واألفعال اجلميلة.
قال معاوية :فما تقول يف العباس ؟ قال :رحم اهلل أبا
الفضل ،كان واهلل صنو أب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقرة
عني صفي اهلل ،كهف األقوام ،وسيد األعمام .وقد عال بصرا
باألمور ونظرا بالعواقب .قد زانه علم ،قد تالشت األحساب عند
ذكر فضيلته ،وتباعدت األسباب عند فخر عشريته ،ومل ال يكون
كذلك وقد ساسه أكرم من دب وهب عبد املطلب أفخر من
مشى من قريش وركب!».
بذكر الكرام احملسنني تتنزل الرمحات ،وبذكر خلفاء رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم نستطلع وجوها صبيحة وضمائر نقية
وقلوبا طاهرة متطهرة .إهنم رجال كانوا جاهليني ،وكانت الفتنة
اجلاهلية أترفتهم ،فمنهم العربيد والظامل .وما عتم األمر أن جاء
الرسول بنورانيته وهدايته من اهلل ،فلمس نوره قلوهبم ،وفتحت
صحبته صلى اهلل عليه وسلم مغالق نفوسهم ،فالتحموا به صلى
اهلل عليه وسلم وأحبوه وساروا على خطاه على املنهاج احلق
188
مقتحمني العقبة ذاكرين رهبم باكني من خشيته ،وصدقوا اهلل
ورسوله وهاجروا وقطعوا حبال اجلاهلية.
وما معىن خللود الرسالة احملمدية وكماهلا إال أن املنهاج النبوي
ساطع اليوم كما كان ساطعا أمس ،فإن اهتدينا إليه كانت اهلداية
والقوة أسرع إلينا مما نظن .إن ذلك النور الذي أنزل معه عليه
الصالة والسالم مع قرآن ربه ال يزال هو هو يف قلوب املؤمنني
الصادقني أهل القرآن أهل اهلل .وإن باب التوبة مفتوح ال يزال
كما كانت مفتوحة أبواب الرمحة لعمر بن اخلطاب وأضرابه ،ومع
التوبة وصحبة للمتطهرين ،ونذكر اهلل فنسري على احملجة واملنهاج
مع أولئكم السائرين.
189
ا لصحبة
الصحبة أوهلا لقاء بالشخص الرباين النوراين لقاء تتبادر
إىل القلب منه هزة إعجاب وارتياح وطمأنينة ،مث حمبة تغذوها
اجملالسة واملعاشرة يف العمل.
الذين صحبوا املعصوم صلى اهلل عليه وسلم أصناف من
الناس منهم الكهل والشاب ومنم شريف قومه والغريب املهان.
ويتفقون مجيعا يف حمبتهم للشخص الكرمي وتصديقهم له وهجرة
األهل وبذل النفس واملال يف سبيله .وكان هلم بعد وفاته صلى
اهلل عليه وسلم لقب «صاحب رسول اهلل» شارة تزين شيخوختهم
فتحيط هبم يف عني الناس هالة تعظيم وحمبة ،فأصبحوا مصحوبني
متبوعني ،وكان القرن التايل أفضل القرون ألنه صحب من صحبوا
رسول الرمحة.
لقد وردت أحاديث تفضل القرن األول على سائر القرون مث
القرون التالية أوال بأول .وذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن
آحاد الناس لو انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد صحايب وال نصيفه.
واتفقت األمة على أفضلية الصحابة رضي اهلل عنهم وكيف ال
وعليهم نزل القرآن أول ما نزل ! وبينهم عاش أفضل اخللق صلى
اهلل عليه وسلم!
190
هذا ما ال جنادل فيه وما ينبغي ! بيد أن تقديس األجيال
ألسبقيتها ال يعين تقديس زمان وإال أصبح وثنية ،وما فضل
األولون رضي اهلل عنهم إال بأعماهلم .هم كانوا أتقى وأنقى الناس
وهم كانوا أكثر املسلمني جهادا وقياما بأمر اهلل وحمبة هلل ورسوله
فمن عمل مثل عملهم يف ظروف كظروفهم فإن اهلل ال يضيع أجر
من أحسن عمال.
حمبة الصحابة للرسول الكرمي وصحبتهم له مل تكن عاطفة
تؤكد باملظاهرات والقسم ،إمنا كانت يقينا يسيطر على األفئدة
فيرتجم يف العمل إيثارا وبذال وتعرضا لألذى واملوت وهجرة املال
والولد ،يف ظروف قاسية تكالب فيها أعداء اإلسالم على النيب
وصحبه واشتدت األزمات وقل النصري .لذلك كانت أعماهلم
أفضل األعمال وكانوا أفضل األجيال.
أما اليوم فهل حيق أن نقارن جمال العمل اإلسالمي وظروف
العمل اإلسالمي باجملال األول ؟ وهل يكون العامل املؤمن ألحياء
اإلسالم من فتنة كالعامل اجملاهد للجاهلية األوىل؟ إن أجيال
املسلمني بعد اجليل األول وجدوا أمامهم قاعدة مسلمة ومجاعة
أو جمتمعا إسالميني .إن مل تكن مجاعة باملعىن القرآين متوالية
متناصحة فمجتمع ينتسب إىل اإلسالم وال ينكر من أمر اهلل إال
هبذه األثرة يف املال واهليمنة على املسلمني بقوة السلطان .حىت
191
يف تاريخ فتنتنا الطويل كان «أولو األمر» من أصحاب امللك
العاض يطبقون من أحكام اإلسالم يف احلياة العامة ما ال يتناقض
مع سيطرهتم ويف احلياة اخلاصة ما يعلمه اهلل ،لكنهم ال حياربون
اإلسالم.
أما يف فتنتنا املعاصرة فاإلسالم غريب يف داره ،واجملاهد إلحياء
اإلسالم يف غربته بني أهله يتعرض ألذى اجلاهلي ،ويتعرض لضياع
املال وضياع النفس ،وما سيد قطب رمحه اهلل منا ببعيد فحق له
اجلزاء األوىف عند اهلل ،وكانت مكافأته طوىب وهي شجرة يف اجلنة
كما قال الرسول الكرمي.
إننا ال نود أن ننصب من حياة الصحابة متثاال معجزا جبماله
وكماله ،وال ينبغي للمسلم أن يقف منهم موقف التقديس
الضعيف ،إمنا كانوا بشرا مثلنا ،هلم نفوس كنفوسنا وحاجات
صعدوا كلكحاجتنا ،وهواجس كهواجسنا .فلئن استطاعوا أن يُ ّ
ذلك ويرقوا بروحانيتهم تائهني على املمكن طالبني «املستحيل»
حىت حققوه يف أنفسهم وعلى رقعة األرض ،فنحن إن سرنا على
منهاجهم وشيكون أن جندد عهدهم وينصرنا اهلل كما نصرهم.
يكفي أن نتعلم كيف ينصر اهلل ،ومدرستنا لتعلم ذلك هي كتاب
اهلل نعيد قراءته قراءة جهادية ،وهي سرية الصحابة نعيد قراءهتا
قراءة من ينوي جهادا جمددا ال من يتأسى باملاضي عن ضياع
192
احلاضر .أسوةً نريد ال مسالة!
من أين لنا حمبة اهلل ورسوله ؟ وهل ميكن أن نتصنع احملبة تايت
أم أن احملبة ضمنيا من املنهاج نفسه؟ ومن أين لنا نصر اهلل ومعيته
؟ أنكون معه حنن قبل أن يكون معنا أم ياتينا فضله ورمحته وحنن
سائرون على احملجة البيضاء؟
ين ُهم ُّم ْح ِسنُو َن﴾ َّ ِ َّ ِ
قال اهلل تعاىل ﴿ :إِ َّن اللّهَ َم َع الذ َ
ين اتـََّقواْ َّوالذ َ
واإلحسان غاية املنهاج ومداه ،واملقصد اإلمياين واهلدف اإلسالمي
مرقاتان ضروريتان لتحصل لنا معية اهلل تعاىل وحمبته.
نسأل الصوفية الكرام أهل التقوى واإلحسان فيدلوننا على
مقام التوبة يتلوه مقام احملبة مث مقام الفناء والبقاء .ولنطرح
االصطالحات املعماة لنتصور املنهاج غري ناكبني عن الصوفية
واصطالحهم ،لكن طلبا للوضح .التوبة على يد مؤمن هي التوبة
احلق وإمنا تايت بعد ميل إىل املؤمن وإعجاب تتبعه حمبة .ومن احملبة
للمؤمن تايت حمبة اهلل ورسوله كما جاء يف احلديث الشريف املروي
عن سيدنا أنس رضي اهلل عنه « :ثالث من كن فيه ذاق حالوة
اإليمان :أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سواهما ،وأن
يحب المرء ال يحبه إال اهلل ؟ ،وأن يكره أن يعود في الكفر
بعد أن أنقذه اهلل منه كما يكره أن يعود في النار».1
1متفق عليه.
193
كراهة وحب ،هذان مبدآن منهاجيان .إن انفصال املسلم
املفتون عن طاغوت غفلته كانفصال الكافر عن جاهليته ،كالمها
يتم بعملية عاطفية إرادية .ونفس احلركة اليت حتبب إليه اإلميان
تكره له العودة يف الكفر .ومأتى احملبة من صحبة امرىء مؤمن
يذوق مبحبته حمبة اهلل ورسوله ويذوق حالوة اإلميان.
وهذا هو الدين «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم
من يخالل» كما جاء يف احلديث الشريف .وما كان الصحابة
صحابة وماكانو رمحاء بينهم إال بفيض حمبة املتبوع األعظم صلى
اهلل عليه وسلم ،فيها ذاقوا حالوة اإلميان وهبا اتقوا وأحسنوا.
إن هلذه احملبة اإلميانية اليت يسري هبا اإلميان من قلب املؤمن
احملسن إىل أوعية القلوب املتعطشة شبها بسريان املاء ،فلذلك
جتد الصوفية ميثلون ماء احملبة مباء الشراب ،ويتحدثون عن السر
الساري من الشيخ للمريد ،وما عدوا احلق واهلل ،فطويب ملن له
صحبة إميانية توصله حملبة اهلل ورسوله ،وللخلي املتشكك كفاء
احلرمان يف شكه.
باحملبة والصحبة بدأ بناء اجلماعة املسلمة القوية ،حمبة مركزة
على شخص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خالطت القلوب
بشاشتها وحولت غلظة األعراب رمحة ورقة ،واحملبة دفعت احملبني
األصحاب للبذل والعمل والصدق يف كل ذلك ،واحملبة مع
194
التصديق كشفت عن العقول البدائية حجاب الغفلة فذكروا اهلل
واجنلت هلم لوائح الغيب حىت كانوا من أمرهم على يقني يرون
اجلنة والنار واملالئكة بالبصرية رؤية أقوى من رؤية العني وال جماز
يف التعبري.
خطب أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه يف أيام الدعوة األوىل،
ومل يكن الصحابة يومئذ إال مثانية وثالثني عدا ،فثار به املشركون
وضربوه حىت ما يعرف وجهه من بطنه .وغاب أبو بكر فلم يتكلم
إال آخر النهار ،فما مسع منه إال السؤال عن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم .إن املرء ينسى عند الشدائد أهله لكن ال ينسى حمبوبه
وخليله .وأقسم أبو بكر ألمه« .فإن هلل علي أن ال أذوق طعاما
وال أشرب شرابا أو آيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم».1
وخرجت امرأة من األنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم
أحد مع رسول اهلل عليه وسلم ،وهي تسأل « :ما فعل رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ قالوا خريا ! هو حبمد اهلل كما حتبني.
قالت :أرونيه حىت أنظر إليه ! فلما رأته قالت :كل مصيبة
بعدك جلل» .2هذا مثال للصدق يف احملبة تزول معه العادة
وحماهبا فيكون اهلل ورسوله أحب إىل املؤمن من نفسه وماله والناس
195
أمجعني كما جاءت اآلية الكرمية ﴿ :قُ ْل إِن َكا َن آبَا ُؤُك ْم َوأَبـْنَآ ُؤُك ْم
ال اقـْتـرفـْتُم َ ِ ِ
ارةٌ
وها َوت َج َ اج ُك ْم َو َعش َيرتُ ُك ْم َوأ َْم َو ٌ ََ ُ َوإِ ْخ َوانُ ُك ْم َوأَ ْزَو ُ
ب إِلَْي ُكم ِّم َن اللّ ِه َح َّ ساكِ ُن تـَْر َ
ض ْونـََها أ َ اد َها َوَم َ
سَ ش ْو َن َك َ تَ ْخ َ
صواْ َحتَّى يَأْتِ َي اللّهُ بِأ َْم ِرِه﴾ واملرأة ِِ ِِ ِ ٍ ِ
َوَر ُسوله َوج َهاد في َسبِيله فـَتـََربَّ ُ
املؤمنة كانت يف موقف جهاد فجمعت بني حمبة اهلل ورسوله وحمبة
اجلهاد يف سبيله ،وكان التعبري العملي لكل هذه احملبة منصبا على
شخص الرسول الكرمي ،على الشخص البشري املاثل يريه الناس
إياها حىت تنظره فيطمئن قلبها على سالمة حمبوهبا.
من الناس من يتصور احملبة اإلهلية هلل والرسول واملؤمنني تصورا
جمردا نظريا ،ومنهم من يذهب به اجلهل واجلاهلية إىل نفي هذه
احملبة ويدعو أن «يطهر اإلسالم» يف زعمه والسنة تكذبه وحياة
املؤمنني احملسنني ؟ الذي كان صلى اهلل عليه وسلم وال يزال قرة
أعينهم.
تقرأ للصوفية نسيبا رقيقا يف اجلناب العايل ،وتقرأهم يتحدثون
على احملبة اإلهلية وعذوبتها ورقتها وال تكفيهم اجملازات للتنويه هبا.
وما بدأت هذه احملبة يف قلوهبم إىل نقطة نوارنية حتركت حنو
مؤمن أو أنكره فإمنا ينكر الكتتاب والسنة ،وإىل مثله تابوا على
يده ،مث إذا هبا ترقيهم وتشع وتنري اآلفاق ،وإذا هبم هائمون يف
حمبة اهلل ورسوله.
196
بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم سرية فيها سيدنا خبيب
وسيدنا زيد بن الدثنة فأسر الرجالن وبيعا حىت بلغوا هبما مكة.
فأما خبيب فقالت عنه ابنة احلارث بن عامر وهي سجانته « :ما
رأيت أسريا قط خريا من خبيب ،لقد رأيته يأكل من قطف عنب
وما مبكة يومئذ مثرة ،وإنه ملوثق يف احلديد ،وما كان إال رزق رزقه
اهلل» وقتلوه بعد أن استمهلهم للصالة وهو ينشد :
على أي جنبكان يف اهلل مصرعي ولست أبايل حني أقتل مسلم ا
يبارك على أوصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال شل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ممزع وذلك يف ذات اإلله وإن يش أ
يف ذات اإلله وحمبته ومرضاة رسوله مات مؤمن محله احلب على
جناحيه عرب الكثافات العادية وأكل من قطف العنب الغييب وهو
أسري مثقل ،ومع احملبة وخرق حجاب احلس الرجولة والشهامة.
وأما زيد بن الدثنة فاجتمع رهط من قريش على قتله ،فقال له
أبو سفيان بن حرب« :أنشدك باهلل يا زيد ! أحتب أن حممدا اآلن
عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك يف أهلك ؟ قال زيد :واهلل ما
أحب أن حممدا اآلن يف مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه
وأين جالس يف أهلي !؟ قال أبو سفيان :ما رأيت من الناس أحدا
حيب أحدا كحب أصحاب حممد حممدا !».
هذه هي حمبته صلى اهلل عليه وسلم يف موقف الفداء واجلهاد،
وهي هي ال تنقص يف يوم عنها يف يوم غريه .أخرج الطرباين عن
197
عائشة رضي اهلل عنها قالت «جاء رجل إىل النيب صلى اهلل عليه
وسلم فقال :يا رسول اهلل ! إنك أحب إيل من نفسي وإنك
ألحب إيل من ولدي ،وإين الكون يف البيت فأذكرك فما اصرب
حىت آيت فأنظر إليك .وإذا ذكرت مويت وموتك عرفت أنك إذا
دخلت اجلنة رفعت مع النبيئني ،وإين إذا دخلت اجلنة خشيت
أال أراك .فلم يرد عليه النيب صلى اهلل عليه وسلم بشيء حىت
كول فَأ ُْولَـئِ َ ﴿وَمن يُ ِط ِع اللّهَ َو َّ
الر ُس َ نزل جربيل هبذه اآلية َ :
الش َه َداءين َو ُّ مع الَّ ِذين أَنـعم اللّهُ َعلَي ِهم ِّمن النَّبِيِّين و ِّ ِ
الصدِّيق َ َ َ َ ْ َ َْ َ ََ
ين ﴾. ِ ِ
الصالح َ َو َّ
وكانوا رضي اهلل عنهم من حمبته صلى اهلل عليه وسلم وحمبة
رهبم يقاتلون اإلخوة واآلباء املشركني ،وكانوا يرتسون عليه يف
احلرب بأجسادهم تقع السهام يف حنورهم دونه صلى اهلل عليه
وسلم وكانت حمبة ال تتسرت وكانت حمبة شخص ماثل .ولو مل يكن
هو رسول اهلل ووليه ونبيه لكانت هذه احملبة اشبه أن تكون وثنية
لكنها كانت حمبة صديقني ملن جاء بالصدق .والوثنية الزعامية يف
عصرنا ادعاءات للمحبة ومظاهرات كاذبة جوفاء ككل الطقوس
الوثنية.
ومع احملبة اإلميانية كان التعظيم والتوقري والتعزير والنصرة.
أخرج الرتمذي عن أنس رضي اهلل عنه «أن رسول اهلل صلى اهلل
198
عليه وسلم كان خيرج على أصحابه من املهاجرين واألنصار وهم
جلوس ،فيهم أبو بكر وعمررضي اهلل عنهما فال يرفع أحد منهم
إليه بصره إال أبو بكر وعمر ،فإهنما كانا ينظران إليه وينظر
إليهما ،ويبتسمان إليه ويبتسم هلما».
وكانوا حيبونه ويهابونه ،فإذا جلسوا معه كانوا كأمنا على
رؤوسهم الطري ،وقد رأينا كيف كان جيالسهم صلى اهلل عليه
وسلم ويوطيء هلم كنفه الشريف.
وصف عروة بن مسعود رسول اهلل وصحبه لقومه قال : 1فو
هلل ! ما تنخم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خنامة إال وقعت
يف كف رجل منهم فذلك هبا وجهه وجلده ،وإذا أمرهم ابتدروا
أمره ،وإذا توضأ كادوا يقتتتلون على وضوئه ،وإذا تكلم خفضوا
اصواهتم عنده ،وما حيدون إليه النظر تعظيما له أي قوم ! وهلل
لقد وفدت على امللوك ،وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي.
واهلل إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب حممد
حممدا !».
199
اجلماعة
الصحبة واجلماعة تكونان خصلة واحدة من خصالنا
العشر ،وإمنا كتبناها حتت عنوانني لنؤكد أن مشروع اخلالص
الشخصي له مكان يف اإلسالم .وما مجعنامها أول األمر يف خصلة
واحدة إال اعتقادا يقينيا أن اإلسالم الفردي لن جيمع لنا كلمة
ولن يؤهلنا جلهاد.
ال يزال الغزايل اإلمام اجلليل املتهم األول عند بعضهم يف
قضية تأخر املسلمني .يقرأون كتبه اخلاصة بتزكية النفس كاإلحياء،
فال يرون فيها جهادا وال إمكان جهاد ،ألن اإلمام يف هذه الكتب
إمنا دل على مشروع اخلالص الفردي ومل يزرعه يف املشروع اجلهادي
لالمة .ويف حياة الغزال نفسه ما يدل على أن فهمه لإلسالم ال
يقف عند املشروع الفردي ،فقد نصح أهل وقته وشد رحاله ليلقى
املؤمن اجملاهد يوسف بن تاشفني ويل اهلل تعاىل أمري املؤمنني .وال
مكان هنا ملرافعة ضد املتصوفة وحىت بعض صادقي الصوفية الذين
حتول مأواهم من معاين الرباط إىل معاين الزواية.
ال مكان هلذه املرافعة ألن الفتنة التارخيية املزمنة أناخت على
هذه األمة بكلكلها ،فدخل املؤمنون يف رخصة القاعدين أوىل
الضرر.
200
وكما أنه ليس على األعمى حرج وال على املريض إن قعد فإن
الفتنة املشتعلة ال ترتك جماال للدعوة إال ملن يستشهد يف سبيل اهلل،
وسبيل استشهاده أال يعنف وال يزيد نار الفتنة اضطراما .ولقد
أوصى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعض أصحابه أن يكسروا
السيوف ويلحقوا باجلبال ويعتزلوا الناس إن برز قرن الفتنة ،وفعل
ذلك كثري من الصحابة فآتاهم اهلل منه رمحة كما آتى أهل الكهف
يف خلوهتم وكما يؤيت احملسنني الفارين بدينهم.
إن مشروع اخلالص الفردي هو احملور الذي تدور عليه اجلماعة
املؤمنة ،وال يتصور أن تتكون للمسلمني مجاعة إن مل يكن لدى
كل فرد من أفراد األمة حمبة هلل ورسوله وانتظار ملوعوده .لكن
اإلسالم الفردي واإلميان واإلحسان ال يكون بنفسه مجاعة ،ولو
جتمع آالف من احملسنني ما كونوا مجاعة حىت تربطهم روابط ثالث
هي احملبة والطاعة والنصيحة.
إن ما نراه يف بالدنا اإلسالمية من التنظيم االجتماعي ما
هو إال تركيب منقول عن النظام اجلاهلي .هذا الرتكيب قوامه
وروحه هو القانون الذي يضمن مصلحة كل فرد بضمان األمن.
القانون ووازع السلطان مها اإلطار الذي تدور فيه اضطرابات
الناس وخماصماهتم يف دنيانا دنيا الفتنة ،وطلب الوجاهة واملال هو
الدافع للعمل والسعي .ننقل نظام الدميقراطيات واالشرتاكيات نبين
201
عليه حياتنا ،ونصرخ بشعار العدل ونتهارش يف جمتمع الكراهية.
واإلسالم إن اهتدينا إىل منهاجه يبدل جمتمعنا مجاعة ،ينقلنا
من الرتكيب االجتماعي الذي يواري الفرقة ويداريها إىل بناء
عضوي روحه احملبة وهيكله الطاعة هلل والرسول وذي األمر منا
والنصيحة عامة شاملة بيننا.
إنه ال يكون املؤمن مؤمنا حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه،
وإننا لن نؤمن حىت نتحاب ،أقسم على ذلك رسول اهلل.
أما املسلم فقد يكون مسلما دون أن حيب اخوته ،يكفيه أن
يقيم الصالة مع اجلماعة وأن يقوم بأركانه اخلمس وأن يطيع األمر
العام ويسلم املسلمون من لسانه ويده وهكذا يبقى على هامش
اجلماعة ويف ظلها حىت ترقى به مهة خلالص نفسه والتقرب من
ربه ،وعندئذ يدفعه الطلب فيتقرب من املؤمنني وحيبهم ويندمج
فيهم بعد أن يعطي برهان صدقه.
وقد رأينا يف الفقرة السابقة كيف كانت مجاعة املؤمنني حيبون
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وقرأنا يف القرآن الكرمي كيف
كانوا رمحاء بينهم.
المؤاخاة :بلغت احملبة بني املؤمنني من املهاجرين واألنصار
حدا تضرب به األمثال فتقامسوا املال والعمل ،ومدح اهلل األنصار
ص ُدو ِر ِه ْم ِ ِ
اج َر إِلَْي ِه ْم َوَل يَج ُدو َن في ُ
ِ
بأهنم ﴿ :يُحبُّو َن َم ْن َه َ
202
ِ ِ
اصةٌ
ص َاجةً ِّم َّما أُوتُوا َويـُْؤث ُرو َن َعلَى أَن ُفس ِه ْم َولَ ْو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ
َح َ
ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾.َوَمن يُو َق ُش َّح نـَْف ِس ِه فَأ ُْولَئِ َ
هذه احملبة كانت طاقة هائلة جممعة ،وكانت اللحام بني أعضاء
اجلسد اجلماعي .ولكيال تتبدد ولكيال ختطئ احملبة مقصدها
نظمها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني آخى بني املهاجرين
واألنصار ،ونظمها اهلل حني جعل أويل القرىب أحق هبا والوالدين
قبل لك ،مث اجلار والصاحب باجلنب.
ليست هذه احملبة تائهة مثالية إمنا هلى حلام بني املؤمنني جماله
يف العمل اليومي والبذل اليومي والتعاون اليومي.
الطاعة :كانت مجاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل
اهلجرة تعتمد على احملبة املركزة يف شخصه الكرمي ،وكان كل مسلم
يبايعه على أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل .فلما أذن اهلل
ببناء اجلماعة اجلهادية طلب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفد
األوس واخلزرج أن يبايعوه على النصرة فبايعوه ووفوا فكانوا أنصارا.
أخرج اإلمام أمحد حديثا طويال فيه أن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم « :مكث مبكة عشر سنني يتبع الناس يف منازهلم
عكاظ وجمنة ويف املواسم» يقول « :من يؤويني ؟ من ينصرني
حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة ؟ فال جيد أحدا يؤويه وال ينصره»
هكذا كان صلى اهلل عليه وسلم يطلب مجاعة تربطها عقدة اجلهاد
203
على نصرة الرسول ألن مجاعة أصحابه األولني مستضعفون يف
قومهم مغلوبون.
وما أشبه الليلة بالبارحة ! فهؤالء هم املسلمون مستضعفني
مغلوبني ،تتلى بني ظهرانيهم مزامري إبليس العقالنية ويذهب
هبم مع ريح اجلاهلية فتذهب رحيهم وال نصري ! ما يف صفوف
العمل القيادي يف دار اإلسالم إال كل ناصية كاذبة خاطئة ،وإن
أفدح الكذب التلويح بشعار اإلسالم لتخفي ذيوله املفرتى عليها
البهتان القيادي والفجور.
فهل تتوب هذه النواصي الكاذبة اخلاطئة ،وهل يربز صالح
الدين من بني املعربدين الفاسقني ؟ كان يبدو أن ال نصري يف فجر
اإلسالم األول ،واليوم ،واإلسالم يف غربته ،يبدو أن ال نصري ،ويد
اهلل القاهرة تدبر شؤونه تعاىل ،وإننا وامي اهلل إىل ربنا لعائدون !
رحل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم سبعون رجال من يثرب وقد
ائتمروا وقالوا «:حىت مىت نرتك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يطوف ويطرد يف جبال مكة وخياف ؟» قال اإلمام أمحد يروي
عن سيدنا جابر « :فرحل إليه منا سبعون رجال حىت قدموا عليه
يف املوسم ،فواعدناه شعب العقبة .فاجتمعنا عندها من رجل
ورجلني حىت توافينا ،فقلنا « :يارسول اهلل ،عالم نبايعك ؟»
قال« :تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل،
204
والنفقة في العسر واليسر ،وعلى األمر بالمعروف والنهي عن
المنكر ،وأن تقولوا في اهلل ال تخافوا في اهلل لومة الئم ،وعلى
أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه
أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة»…قال « :فقمنا
إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك اجلنة !».
رسول اهلل :لنتدبر هاتني الكلمتني املألوفتني تغطي عنا
العادة عظمة مدلوهلما .إنه رسول ،إنه من عند اهلل جاء ،إنه محل
رسالة ،محلها من ربه إلينا .ومن كان هذا شأنه حق له أن يعطي
اجلنة وعدا ملن وىف ما بايع عليه .ويشرتط رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم! هذا معىن املبايعة أعطيك وتعطيين .وقد مسخت هذه
العقدة املطهرة يف زمن الفتنة حىت صارت بيعة من جانب واحد،
بيعة من املسلمني حتت قهر السيف ،وخيلت معناها السامي.
إن وعد اهلل قائم ملن نصره ال يتخلف أبدا ،فهل تؤمن نواصينا
الكاذبة اخلاطئة بوعد رهبا الذي يتلي قرآنا مهجورا ؟ وهل يربز
رجل يبايعنك اهلل ورسوله على النصرة فيستحق أن نبايعه على
السمع والطاعة واجلهاد؟
وبايع النيب صلى اهلل عليه وسلم مجيع املسلمني حىت النساء،
فهن كانت هلن مبايعة ذكرها اهلل يف كتابه وحددها ﴿ :يَا أَيـَُّها
ك َعلَى أَن َّل يُ ْش ِرْك َن بِاللَّ ِه اءك ال ُْم ْؤِمنَ ُ
ات يـُبَايِ ْعنَ َ النَّبِ ُّي إِ َذا َج َ
205
َش ْيئاً وَل يس ِرقْن وَل يـ ْزنِين وَل يـ ْقتـلْن أَوَل َد ُه َّن وَل يأْتِين بِبـ ْهتَ ٍ
ان َ َ َ ُ َ َْ َ َ َ َ َ َ َُ ْ
ك فِي معر ٍ
وف فـَبَايِ ْع ُه َّن يـ ْفتَ ِرينَهُ بـ ْين أَيْ ِدي ِه َّن وأَرجلِ ِه َّن وَل يـ ْع ِ
صينَ َ
َ ُْ َ ُْ َ َ ََ َ
استـَغْ ِف ْر لَ ُه َّن اللَّهَ﴾ وال تتضمن مبايعة النساء جهادا ،وكان َو ْ
يعرف يف عهد الرسول «بيعة النساء» بايعه عليها حىت رجال
ما التزموا جبهاد لكن التزموا بالطاعة .ونسمي هذه مبايعة عامة
مبايعة الطاعة اليت تلم « الشعب اجلماهريي » وختلق منه أمة،
غدا يوم يرفع لواء اإلسالم خفاقا هتفو إليه أفئدتنا معاشر األعداد
الغثائية ! واملوعد اهلل تعاىل وال نأسى على القوم الفاسقني إمنا
نشكو بثنا إىل ربنا إذ حقت علينا كلمة ربنا فجرفنا السيل.
وتعددت صيغ املبايعة ومضموناهتا بتعدد املواقف ،وجتددت
يف حياته صلى اهلل عليه وسلم لدى كل أمر يستدعي حتفزا اراديا
جديدا .فكانت مبايعة على اجلهاد وعلى املوت وعلى النصيحة.
وتنوعت املبايعة وكانت خاصة أحيانا عامة أحيانا حىت تشمل
األطفال.
إن املبايعة رباط ارادي بني ذوي الذمم والصدق ،ومعىن هذا
أن اإلنسان يف هذه األرض مأسور جباذبية األرض ونوازع اهلوى
لكنه يستطيع اإلقالع بإرادته ويغري التاريخ .واحلتمية املادية تقول
غري هذا ألهنا دعوة للتدحرج على جند الشقاء وفق التيار الغالب
تيار التكاثر والتناحر حول املال وفائض القيمة والعمل الكادح
206
الكاحل واملبايعة هلل ورسوله على أن تكون لنا اجلنة ينقل اإلنسان
ملشروع يليق بالسر املودع فيه أال وهو مشروع اقتحام العقبة واملآل
اهلل تعاىل.
واملبايعة رباط واقعي رغم ذلك ،فال يكلف اإلنسان فوق
طاقته وال ينتظر من امللتزمني خرق العادة فيما يلتزمون به ،لذلك
كان الرسول الكرم يفرت احلماس وييسر العمل إذ يدخل يف املبايعة
استثناءً يف حدود ما يستطيعه اإلنسان .فيلتزم املؤمن مبا يبايع
عليه ويضرب على اليد الكرمية صفقة البيع فيقول الرسول « :فيما
استطعت».
ولذلك أيضا أدخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املبايعة
شرطا يعطي للنقص اإلنساين هامشا غري منكر ،فإن الداخل يف
اجلماعة قد جيد من إخوته ظلما وأثره ،فيسبق األمني صلى اهلل
عليه وسلم فيشرتط عليه الصرب على األثرة واحليف .فعن سيدنا
عبادة بن الصامت قال« : 1بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم بيعة احلرب على السمع والطاعة يف عسرنا ويسرنا ومنشطنا
ومكرهنا ،وأثرة علينا ،وأن ال ننازع األمر أهله ،وأن نقول باحلق
أينما كنا ،ال خناف يف اهلل لومة الئم.
النصيحة :رأينا كيف بايع األنصار األولون رسول اهلل صلى
207
اهلل عليه وسلم على األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلهر
باحلق .وهذا شرط من الشروط الثالثة لنجاة اإلنسان من اخلسر
نسا َن لَِفي ُخ ْس ٍر إِ َّل
ال َ ص ِر إِ َّن ِْ
﴿وال َْع ْ
كما يف سورة العصر َ :
الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ
اص ْوا اص ْوا بِال َ
ْح ِّق َوتـََو َ الصال َحات َوتـََو َ َ َ َ
الص ْب ِر﴾ .فاإلميان ال يكون إال مبحبة ،والعمل ال يكون إال بِ َّ
مببايعة والتواصي باحلق والصرب هو الدين ،هو النصيحة.
يف اإلسالم املنبعث بإذن اهلل تكون النصيحة جماال واسعا
للشورى بني املسلمني والعدل وتنظيم اجلهاد .ويكفينا هنا أن
نقف حلظة لنرى كيف كان الصحابة يتناصحون.
إن النصيحة هلل ورسوله وللمؤمنني خاصتهم وعامتهم .فأما
النصيحة هلل فهي الوفاء حبقه وعبادته والتقرب إليه بالفرض والنفل
ونصرته يف النفس ويف العامل ،وأما النصيحة لروسله فهي السريعلى
سنته اجلهادية ،والنصح للمؤمنني الوفاء حبق واليتهم وحق الطاعة
ملن هلم األمر .أخرج ابن سعد أن سيدنا سعيد بن عامر ابن حذمي
اجلمحي صاحب رسول اهلل قال لعمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه:
إني أريد أن أنصحك يا عمر ! قال :أجل ،فأوصين فقال :
«أوصيك أن تخشى اهلل في الناس وال تخش الناس في اهلل.
وال يختلف قولك وفعلك ،فإن خير القول ما صدقه الفعل.
ال تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك وتزيغ
208
عن الحق .وخذ باألمر ذي الحجة تأخذ بالفلج 1ويعينك اهلل
ويصلح رعيتك على يدك .وأقم وجهك وقضاءك لمن والك
اهلل أمره من بعيد المسلمين وقريبهم .وأحب لهم ما تحب
لنفسك وأهل بيتك وأكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك.
وخض الغمرات إلى الحق ،وال تخف في اهلل لومة الئم».
ليست النصيحة قوال يقال لكن عمال متواصال جهاديا ،وجهر
باحلق .فكما كانوا يقولون كانوا يفعلون ،وكما كانوا ينصحون
خبوض الغمرات إىل احلق خاضوا هم الغمرات إليه مع املؤمنني
متآزرين متناصرين جاهرين ال متسرتين صادقني صرحاء يقيمون
وجههم هلل وملن واله اهلل عليهم كما ينصحون اإلمام أن يقيم
وجهه وجوها صادقة مشرقة ال يرهقها نصب النواصي الكاذبة
اخلاطئة وذلتها .وإىل اهلل املصري.
1الفلج :الفوز.
209
الذكر
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :مثل الذي يذكر ربه
والذي ال يذكر ربه كمثل الحي والميت».1
وعن أيب هريرة قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
«يقول اهلل تعالى :أنا عند ظن عبدي بي ،وأنا معه إذا ذكرني،
فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،وإن ذكرني في مإل
ذكرته في مإل خير منه».2
يا بين آدم طاملا إنعطفتم تعجبون بأعطافكم وتغفلون عن
ربكم وعن املصري الرفيع الذي خلقتم من أجله ! إن املرتف يف
دوابيته يقف جهده وأمله يف تسمني الدابة اإلنسانية وتروحيها
ميت بني موتى وإن كان يسعى على قدميه .إن ربنا اخلالق فطرنا
ونفخ فينا من روحه كما أخربنا ،وملن نسي ربه وابتعد عن الفطرة
أوهام وطواغيت صاغتها أنانيته وأظلها ظالم عقالنيته متنعه أن
يسمع عن اهلل ويفهم عن اهلل .إنه عز وجل نفخ فينا من روحه
وإنه مع من يذكره ،وإن انبياء اهلل وأولياءه أخربونا جيال بعد
جيل ،أخربونا حباهلم ومقاهلم ،أن اإلنسان ما هو هذه الدابة
الكادحة بل هو اللطيفة الروحانية اليت تتزكى وترقى طاهرة خترتق
1متفق عليه عن أيب هريرة.
2متفق عليه.
210
حجب األنانية والغفلة والعادة فتفق بني يدي رهبا يذكرها برضاه
ورمحته كما ذكرته بعبادهتا وذكرها له آناء الليل وأطراف النهار
وتسبيحها حبمده.
ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن شعب اإلميان بضع
وسبعون شعبة وأن أعالها ال إال إال اهلل ،ودعا املؤمنني لتجديد
إمياهنم بال إله إال اهلل فقال « :جددوا إيمانكم ! قيل :يا رسول
اهلل ،وكيف جندد إمياننا ؟ قال « :أكثروا من قول ال إله إال اهلل».
نعلم من هذا أن اإلميان جيدد بالقول أي بالنطق بالكلمة
الطيبة .وقول رسول اهلل حق .لكننا نعجب ألن من الناس من
ينطق بالكلمة الطيبة طويال وال يتجدد إميانه ! وآخرون يقولوهنا
فيفلحون كما أفلح الصحابة الكرام ،يبشرهم متبوعهم األعظم
بأن « :قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا !» فيجدون بعد التجربة قوله
حقا !
إن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ال بد هلا من زرع ورعاية
وسقاية ،فمن لقي رجال كامال يلقنة ال إله إال اهلل يزرعها يف قلبه
مبا أويت من روحانية مهيمنة ويسقيها بسره من غيب لغيب مبدد
اهلل تعاىل ،وكان مريدا حمبا يتلقى بصدق فذلك أحر به أن تنمو
نبتته وترتعرع وتويت أكلها فالحا ونورانية وحياة .ومن ذكر اهلل
يبغي أجرا وثوابا فله عند اهلل ما ظنه ،وإن اهلل تعاىل عند ظن عبده
211
كما أخربنا .يرجع األمر إىل الصحبة ،صحبة عارف باهلل حي
يسعى تلقاه وجتلس إليه وحتبه وتتلقى من مدده حىت حيصل لك
هذا امليالد الروحي الذي كثريا ما يتحدث عنه الصوفية وحيسب
اخللي أهنم حاملون .ومن مل يسع لتجديد إميانه تصديقا لقول
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال للحياة احلق فله تعزية نفسه
امليتة !
لتجديد اإلسالم والعمل اإلسالمي ال بد من جتديد اإلميان
بالقول الثابت ،مث ال يكون جتديد حق على صعيد األمة إال أن
اندرج مشروع اخلالص الفردي يف اجلهاد اجلماعي .وال سبيل أبدا
إىل التعرض للفار بدينه القاعد عن اجلهاد .فإن اهلل تعاىل يقول:
ِِ ِ اه ِد ِ ِ ِ
ين بأ َْم َوال ِه ْم َوأَن ُفس ِه ْم َعلَى الْ َقاعد َ
ين َّل اللّهُ ال ُْم َج َ ﴿فَض َ
ِِ
ين َعلَى
َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ ْح ْسنَى َوفَض َ َد َر َجةً َوُكـالًّ َو َع َد اللّهُ ال ُ
َجراً َع ِظيماً َدرج ٍ
ات ِّم ْنهُ َوَمغْ ِف َرةً َوَر ْح َمةً﴾ .إن اهلل ِِ
ََ ين أ ْ الْ َقاعد َ
وعد كل املتزكني احلسىن لكنه فضل اجملاهدين .وغدا يوم يبدأ
اجلهاد اإلسالمي لن يتخلف من يقرأ قرآن ربه حقا!
الذكر :كان ذكر األصحاب الكرام حلمة حياهتم وسداها،
فالصالة كانت أهم أمورهم وأسبقها حبق ،والفرض كان يكمله
النفل ،وكان الذكر حتت جناح القلب الطاهر مهبط الوحي وعرش
الرمحن صلى اهلل عليه وسلم يبلغ باملؤمنني مبلغ الكمال فيكون
212
اهلل عز وجل مسع العبد وبصره ويده ورجله ،ويصبح العبد وليا هلل
يغار اهلل عليه فيحارب من آذاه.
فذكر منفرد يلقنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه
فرادى أو مجاعة ،فذلك التلقني هو اإلذن وعليه املعول .ودعاؤه
صلى اهلل عليه وسلم ربه يف كل حني كان حيفظ وتشد عليه
األنامل ويعض عليه بالنواجذ .وقد رأينا يف وصف جملسه الشريف
أنه كان ال جيلس وال يقوم إال على ذكر .وكان آخر ما يدعو
به قبل النوم قوله « :اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت
وجهي إليك ،وفوضت أمري إليك ،واسندت ظهري إليك،
رغبة ورهبة إليك .ال ملجأ وال منجى منك إال إليك .آمنت
بكتابك الذي انزلت وبنبيك الذي أرسلت».
مناجاة اهلل عز وجل كانت دأبه ودأب املؤمنني ،وكيف ال
والقرآن الركيم ما حث على شيء ما حث على ذكر اهلل .وإن
بني رسول اهلل أن مثل الذاكر والغافل مثل احلي وامليت فإمنا قرأ
َحيـَيـْنَاهُ
هلم القرآن جممال .قال اهلل تعاىل ﴿ :أ ََو َمن َكا َن َم ْيتاً فَأ ْ
َّاس َكمن َّمثـلُهُ فِي الظُّلُم ِ ِ ِ ِ
ات َ َو َج َعلْنَا لَهُ نُوراً يَ ْمشي بِه في الن ِ َ َ
ِج ِّمنـَْها﴾ .ولعل كثريين يقرأون اآلية فيحملوهنا حممل س بِ َخار ٍ
لَْي َ
اجملاز ،ويذهبون املذاهب يف فهم النور املعين يف اآلية وفهم احلياة
والظالم .وما مث إال هذه احلقيقة املشرقة السافرة اليت شهدت هبا
213
األجيال من العلماء العاملني أهل اهلل وما زالت تشهد .ويشبه
الصوفية حياة احملبة والفناء يف ذات اهلل ويومئون ،ويصرح القرآن
ويصرح احلديث القدسي تصرحيا ما بعده اهبام ،وتشهد حياة
الصادقني على مر األجيال أن الغافل ميت حيسب نفسه حيا.
وذكر كان للصحابة يف مواقف العمل واجلهاد .أخرج البيهقي
عن سعيد بن املسيب رضي اهلل عنه قال « :ملا كان ليلة دخل
الناس مكة ليلة الفتح ،مل يزالوا يف تكبري وهتليل وطواف بالبيت
حىت أصبحوا .فقال أبو سفيان هلند (زوجة) :أترين هذا من اهلل؟
قالت :نعم ! هذا من اهلل .قال :مث أصبح أبو سفيان فغدا على
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :قلت هلند :أترين هذا من اهلل ؟ قالت :نعم ،هذا من
اهلل! فقال أبو سفيان :أشهد أنك عبد اهلل ورسوله ،والذي حيلف
به أبو سفيان ،ما مسع قويل هذا أحد من الناس غري هند».
أبو سفيان كان جديدا يف اإلسالم مل يصحب املسلمني،
فتعجب من إقباهلم على الذكر والطواف حىت ظن أن هبم خباال
وسأل زوجه .وكذلك من جيالس الذاكرين يف أيامنا هذه أيام
الغفلة يعجب من قوم يرفعون أصواهتم بكلمات ترتدد بال ملل
ويستكرب هو أن يأيت ما يظنه خباال .أما أبو سفيان فقد جاءته
احلجة من الغداة وآمن وصدق ،وأما مستكربا فإنه جيد عند
214
«ديدان القراء» الغافلني من يفتيه أن الذكر جهرا واالجتماع يف
احللق بدعة ! 1أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف االجتماع
على الذكر كثرية .وجاءته من اهلل عزمة أن جيالس الذاكرين ،قال
ين يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي َّ ِ
ك َم َع الذ َ سَ تعاىل ﴿ :و ْ ِ
اصب ْر نـَْف َ َ
ِ
الدنـْيَا َوَلْحيَاة ُّ اك َعنـْ ُه ْم تُ ِري ُد ِزينَةَ ال َ يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ َوَل تـَْع ُد َعيـْنَ َ
تُ ِط ْع َم ْن أَ ْغ َفلْنَا قـَلْبَهُ َعن ِذ ْك ِرنَا﴾ .وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فوجد مجاعة يذكرون اهلل ويتطارحون العلم فقال « :هؤالء
الذين أمرت أن أصبر نفسي معهم» أو قال « :الحمد هلل الذي
جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم».2
نورد حديثا قصريا رواه اإلمام مسلم عن أيب سعيد رضي
اهلل عنه قال :قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :ال يقعد
قوم يذكرون اهلل إال حفتهم المالئكة وغشيتهم الرحمة ونزلت
عليهم السكينة ،وذكرهم اهلل فيمن عنده».
ال سكينة إال للذاكرين ،أال بذكر اهلل تطمئن القلوب.
الغيب :بالصحبة والذكر تفتح ظلمات الغفلة للمريد
الصادق فتتحطم بالغي وبذلك تتحطم كربياء عقالنيته إن كان
من أصحاب املنظومات الفكرية ،وتتحول عقليته إن كان من
1على أننا ال نشجع على حلق الذكر الصاخب جتنبا ملواطن اخلالف وإثارة النزاع والقيل والقال..
2الطربي يف تفسريه.
215
السذج الواقفني مع العادة .كان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
معجزات مجة ،هلا يف كل يوم ومضات من كشفه صلى اهلل عليه
وسلم كما رأينا يف قصة أيب سفيان ،ومن أنواع خرق العادة يرفع
اهلل أسباب الطبيعة ويعطل قوانينها على يده شهادة على أنه
امللك احلق وأن حممدا عبده مرسل من عنده .وللصحابة رضي اهلل
عنهم كرامات وكشف يؤيد اهلل هبا قلوهبم ليزدادوا له طلبا مبحبته
وحمبة رسوله شغفا .وما القرآن الذي يتلونه إال غيب يتحدث
عن أصحاب الكهف ثالمثائة سنني وتسعا مث يبعثون وعن مآت
األمثلة من هذا .ويتحدث هلم اهلل تعاىل عن طريق وحيه يف الرؤيا
الصادقة يراها رسول اهلل ويراها املؤمنون ويبين على ذلك األمور
الر ْؤيَا بِال َ
ْح ِّق ص َد َق اللَّهُ َر ُسولَهُ ُّ
اجلسام .قال تعاىل ﴿ :لََق ْد َ
ْح َر َام﴾ ،وكان رسول اهلل يقول « :الرؤيا ِ
لَتَ ْد ُخلُ َّن ال َْم ْسج َد ال َ
جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة».
تذكر نزرا من هذه املعجزات والكرامات ألهنا ال تستقصى يف
القرآن واحلديث ،ونلح على تدبر قوله تعاىل « :ذلك الكتاب
الريب فيه هدى للمتقني الذين يؤمنون بالغيب» .فمن ال يؤمن
بالغيب ال ينفتح له القرآن ،فإما يلقى رجال كامال يذكر اهلل بني
يديه حىت تنجلي عنه ظلمات الغفلة وتسطع له األنوار الكاشفة
عن الطريق وإال فهو الشك والرتبص إال أن يرمحه اهلل بإميان كإميان
216
العجائز وإليه يؤول أصحاب العقل حني يرمحهم اهلل.
إن عوامل الغيب ما خلقها اهلل لتصبح شهادة ،وإمنا يفتح
اهلل ملكوته ألحبابه لريبط على قلوهبم فيجدوا يف اقتحام العقبة
وينصرفوا إىل اجلهاد .ومن الناس من يفتنت بلوائح الغيب من
السالكني املبتدئني فتصبح مطلوبه وغايته وذلك هو اخلسران
املبني .وحيري العامل اليوم كما حريه باألمس ظواهر ال يفسرها العلم
التجرييب من هذه اخلزعبالت اليت يأتيها اجملوس اليوكيون وهلم اليوم
يف العامل سطوة ،ويتهافت الناس على كتبهم ومدارسهم يلعب هبم
الشيطان كما يلعب بأساتذهم وكما يلعب بكل غافل ال شيخ
له .إن اهلل تعاىل يأذن بفتح ظلماين تغوص فيه مهة الظلمانيني كما
يفتح عز وجل ألحبابه الفتح النوراين.
كان الصحابة رضي اهلل عنهم يقاتلون مع املالئكة كما جاء
يف القرآن يؤيدهم رهبم هبم ،وكانوا يؤكدون أهنم مل ينصروا بالكثرة
وإمنا انتصروا بتأييد اهلل .كتب أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه
إىل عمرو بن العاص قال « :أما بعد ،فقد جاءين كتابك تذكر
ما مجعت الروم من اجلموع .وإن اهلل مل ينصرنا مع نبيه صلى اهلل
عليه وسلم بكثرة عدد وال بكثرة جنود .وقد كنا نغزو مع رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما معنا إال فرسان ،وإن حنن اال نتعاقب
على اإلبل .وكنا يوم أحد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما
217
معنا إال فرس واحد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يركبه.
ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا».
ورمى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الرتاب يف وجه أعدائه
يوم بدر ويوم حنني بوحي من اهلل فما منهم رجل إال أصابه منه.
ت ولَ ِ
ـك َّن اللّهَ ت إِ ْذ َرَم ْي َ َ﴿وَما َرَم ْي َ
ويف ذلك يقول عز وجل َ :
ين يـُبَايِعُونَ َ َّ ِ
ك َرَمى﴾ .فيد اهلل يف هذه اآلية ويف آية ﴿ :إِ َّن الذ َ
إِنَّ َما يـُبَايِعُو َن اللَّهَ﴾ تصديق للحديث القدسي املخرب بأن اهلل
حيب عبده فيكون مسعه وبصره ويده.
روى اإلمام مسلم عن أيب عباس رضي اله عنهما قال «بينما
رجل من املسلمني يشتد يف أثر رجل من املشركني أمامه ،إذ
مسع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول :أقدم حيزوم !
فنظر إىل املشرك أمامه قد خر مستلقيا .فنظر إليه فإذا هو قد
خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط وأخضر ذلك أمجع .فجاء
األنصاري فحدث ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال :
صدقت ،ذلك من مدد السماء الثالثة !».
عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال :عاد رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم رجال من األنصار ،فلما دنا من منزله مسعه يتكلم
يف الداخل ،فلما استأذن عليه دخل عليه فلم ير أحدا .فقال له
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :مسعتك تكلم غريك ! قال يا
218
رسول اهلل :لقد دخلت الداخل اغتماما بكالم الناس مما يب من
احلمى ،فدخل علي داخل ،ما رأيت رجال قط بعدك أكرم جملسا
وال أحسن حديثا منه .قال :ذاك جبريل ،وإن منكم لرجاال لو
أن أحدهم يقسم على اهلل ألبره».1
وعنه رضي اهلل عنه قال « :كنت مع أيب عند رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وعنده رجل يناجيه ،فكان كاملعرض عن
أيب .فخرجنا من عنده فقال أيب أي نيب ! أمل تر إىل ابن عمك
كاملعرض عين؟ فقلت :يا أبت ،إنه كان عنده رجل يناجيه .قال:
فرحنا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال أيب :يا رسول اهلل،
قلت لعبد اهلل كذا وكذا فأخربين أنه كان عندك رجل يناجيك،
فهل كان عندك أحد ؟ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :
وهل رأيته يا عبد اهلل قلت :نعم ! قال :فإن ذلك جبريل
عليه السالم هو الذي شغلني عنك».2
أولياء اهلل حيمون فتزورهم املالئكة ،وتزور األوهام الغافلني،
وإن عبد اهلل يرى ما مل يره أبوه ملثال واحد من أصحاب الفتح،
ولوال أن التجربة الشخصية تتكرر آالف املرات ملا عدا األمر
أن يكون اخبارا بالغيب يؤخذ باإلميان أو يطرح .لكنها احلقيقة
219
الصارخة يشهدها الذاكرون.
أخرج البخاري ومسلم عن أيب سعد اخلدري رضي اهلل عنه أن
سيدنا أسيد بن حضري بينما هو يف ليلة يقرأ يف مربده ،إذ جالت
فرسه فقرأ .مث جالت أخرى فقرأ ،مث جالت أخرى قال أسيد
فخشيت أن تطأ حيىي .قمت إليها ،فإذا مثل الظلة فوق رأسي
فيها أمثال السرج ،عرجت يف اجلو جىت ما أراها قال :فغدوت
إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقلت :يا رسول اهلل بينما
أنا البارحة يف جوف الليل اقرأ يف مربدي إذ جالت فرسي .فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :اقرأ ابن حضير ! قال :فقرأت
مث جالت أيضا ! مث قال رسول اله صلى اهلل عليه وسلم :اقرأ
ابن حضير! قال فانصرفت ،وكان حيىي قريبا منها فخشيت أن
تطأه ،فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج ،عرجت يف اجلو حىت
ما أراها .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :تلك المالئكة
كانت تستمع لك ،ولو قرأت ألصحبت يراها الناس ما تستتر
منهم».
كان صلى اهلل عليه وسلم يتلو على أصحابه آيات اهلل تعدهم
باحلق ما بعد املوت من نعيم وعذاب وختربهم جبنود اهلل وعوامله
فيؤمنون ويبلغ إمياهنم حد اليقني بل حق اليقني ألهنم يرون ما
يوعدون به ،من أويت منهم النور الكامل ،أو من فتح له فتح
220
يف مشاهدة أكوان اهلل تعاىل .لذلك كانت هلم الفاعلية اخلارقة
ولذلك كانوا جياهدون ويطلبون الشهادة يف سبيل اهلل .أخرج
الشيخان عن جابر رضي اهلل عنه أنه ملا قتل أبوه جعل يكشف
عن وجهه الثوب ويبكي ،فنهاه الناس ،فقال رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم « :تبكيه أو ال تبكيه ،لم تزل المالئكة تظله
بأجنحتها حتى رفعتموه».
إن لشياطني اجلن اليوم سلطانا كبريا على الذين يتولونه ،وهذه
ظاهرة يتجاهلها العقالنيون الكافرون ،وكان للصحابة اإلبرار ما
يكون للمتقني أصحاب النور من سلطان عليه .أخرج البخاري
عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال « :وكلين رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم حبفظ زكاة رمضان ،فأتاين آت ،فجعل حيثو من الطعام،
فأخذته وقلت :ألرفعنك إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم،
قال :إين حمتاج وعلي عيال ،ويل حاجة شديدة ! قال :فخليت
عنه ،فأصبحت فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم :يا أبا هريرة !
ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت يا رسول اهلل ،شكا حاجة شديدة
وعياال فرمحته فخليت سبيله .قال :أما إنه قد كذبك وسيعود.
فعرفت أنه سيعود لقوله صلى اهلل عليه وسلم :إنه سيعود !
فرصدته ،فجاء حيثو من الطعام ،فأخذته ،فقلت :ألرفعنك إىل
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ! قال :دعين فإين حمتاج وعلي
221
عيال ،ال أعود ! فرمحته وخليت سبيله .فأصبحت ،فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :يا أبا هريرة ،ما فعل أسيرك ؟ قلت.
يا رسول اهلل ،شكا إيل حاجة شديدة وعياال ،فرمحته فخيلت
سبيله ! فقال :أما إنه قد كذبك وسيعود ! فعرفت أنه سيعود
لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :إنه سيعود .فرصدته فجاء
حيثو من الطاعم ،فأخذته فقلت :ألرفعنك إىل رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم ،وهذا آخر ثالث مرات ،إنك تزعم أال تعود مث
تعود .قال :دعين أعلمك كلمات ينفعك اهلل هبا .قلت :ما هن
؟ قال :إذا أويت إىل فراشك فاقرأ آية الكرسي ﴿ :اللّهُ الَ إِلَـهَ
وم﴾ حىت ختتم اآلية فإنه لن يزال عليك من اهلل إِالَّ ُه َو ال َ
ْح ُّي الْ َقيُّ ُ
حافظ ،وال يقربك شيطان حىت تصبح .فخيلت سبيله فأصبحت،
فقال يل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :ما فعل أسيرك البارحة
؟ قلت :زعم أنه يعلمين كلمات ينفعين اهلل هبا فخيلت سبيله.
قال :ما هي ؟ قلت :قال يل :إذا أويت إىل فراشك ،فاقرأ
آية الكرسي من أوهلا حىت ختتم ﴿ :اللّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو ال َ
ْح ُّي
وم﴾ ،وقال يل :لن يزال عليك من اهلل حافظ ،وال يقربك الْ َقيُّ ُ
شيطان حىت تصبح -وكانوا أحرص شيء على اخلري -فقال النيب
صلى اهلل عليه وسلم :أما إنه قد صدقك وهو كذوب ! تعلم من
تخاطب منذ ثالث ليال ؟ قلت ال ! ذلك الشيطان !
222
الصدق
الذكر هو القرآن أنزله اهلل لنصدق ونصدق يف العمل.
كانت اجلماعة األوىل مجاعة مؤمنني متقني ،رجل جاء بالصدق
ورجال صدقوا باحلق ،وشاهد صدق الرسول وصدق املرسل إليهم
شاهدان :أحدمها من هذه الطاقة اليت حولت التاريخ وفعلت فيه
والثانية هي النورانية املتحققة يف التجربة الشخصية يف أحضان
رجال اهلل الصادقني أهل الذكر.
رجل غري عادي يتكلم كالما غري عادي ويدعو لسمو عن
العادة هبر معاصريه بالصدق واخللق ،وأيضا باملعجزات والنوارنية،
بل هبذه قبل كل شيء .ومن يكتبون سريته الشريفة بعقلية تصنيفية
مرتفة يتناسون املعجزات والنوارنية ليربزوا «الرجل العبقري» ويصفوه
مع أبطال التاريخ .وحاشا ورسول اهلل نيب اهلل املؤيد من جانب اهلل
الصادق اخلارق لعادة اإلنسانية الغافلة األنانية.
برتوا لنا إسالمنا منذ واجه بضعف ال هناية له األفغاين وحممد
عبده العقالنية الوضعية امللحدة .سورت الفلسفة الوضعية على
نفسها أسوارا حتشر هبا اإلنسان يف املعطى احملسوس الضيق
وتعامت عن واقع اإلنسان املعقد قابعة يف علمانيتها .وعرض
حممد عبده إسالما ال ينفي الغيالبة لكن يقرضها من أطرافها
223
ومن بعده تتابعت الغيبية العقول املرتفة اخلوارة فوارت الغيب
وأولته ولتصور لنا «مودة» إسالم علماين سطحي فيه أخالق وفيه
إرادة لكنه «معقول» و«جاد» وكان الغيب خزعبالت كانت تليق
باألجيال اجلاهلة ورفعها التقدم العلمي لكي ال تكون وصمة يف
صفحة عقالء العصر املتأهلني !
خرق العادة :كان املؤمنون األولون ناس فطرة ،جاءهم
الرسول مبعجزات فمحا عنهم اشعاعها الشك يف كونه رجال
خارقا للعادة ونفى عنهم الشك يف مصدر رسالته .كانت عقوهلم
ساذجة ملا تتحجر يف عقلية مقلدة علمانية أو مشعوذة ،وكانت
ملا يصغ هلا العقل شباك عقالنية يغتال تلقائيتها وقابليتها للغوص
يف اهلم الدائم هم املصري الذي يالزم السذج والعباقرة ويتخطى
املسرتجلني القانعني بلعبة العقالنية.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أول من التقى بعامل
الغيب عندما برز له جربيل وكلمه يف غار حراء وفزع الرسول وفر
وتزمل وتدثر خائفا مما ال عهد له به .هذا صدق برئ يدفعه عليه
الصالة والسالم الستشارة رجل من اهل الكتاب هو ورقة بن
نوفل عنده علم بأمور الغيب .وجاءت الرسول بعد ذلك رسالة
ربه على يد امللك األمني تأمره أن يقرأ ليتعلم أنه خلقه اهلل من
علق وأنه إىل ربه سريجع وأنه حتت نظر اهلل يراه ويعرف املتقني
224
ويعرف املهتدين واملكذبني مث ختربه أول سورة نزلت بأن نواصي
اخللق بيد خالقها وأنه تعاىل يستطيع أن يسفع كل ناصية كاذبة
خاطئة.
كان صلى اهلل عليه وسلم يومئذ حديث عهد هبذا األمر
يتعجب وخياف ،مث تعلم بتعليم ربه وأسلم له األمر حني علم
أنه فاطره حيدثه ويكلفه فتغريت نظرته لنفسه وللعامل وتغري موقفه
ألنه أصبح إنسان فطرة يسعى أمام ربه مراقبا له عاملا أنه ال ختفى
عليه خافية.
وهذا ما حدث أيضا ألصحابه ،صدقوه ملا اعتادوا من صدقه،
لكنهم صدقوه أيضا ملا رأوه من حاله حني ينزل عليه الوحي وملا
خربوه بأنفسهم من اتصال بالغيب .وإن اهلل تعاىل يطلب من كل
من دعي صدقا أن يأيت بربهان صدقه ﴿ :قُ ْل َهاتُواْ بـُْر َهانَ ُك ْم
ين﴾ ،لذلك أعطى أنبياءه براهني على صدقهم، إِن ُكنتُم ِ ِ
صادق َ
ْ َ
براهني موضوعية ملموسة.
وملا جاءت السنة الثامنة أو العاشرة بعد بدء الوحي أسري
بالنيب وعرج به إىل السماء .حدث ذلك بكل بساطة ،وحتدث به
القرآن وأمجعت األمة على أن ذلك حدث جبسمه الشريف وروحه
معا .ويف حديث البخاري ومسلم أنه صلى اهلل عليه وسلم أيت
بدابة طائرة امسها الرباق تضع حافرها عند منتهى بصرها ،فذهبت
225
به إىل املسجد األقصى فصلى إماما باألنبياء ،مث صعد السماوات
فرأى فيها رسل اهلل وخاطبهم ورأى من ملكوت اهلل ما حتدث عنه
بكل صدق وبساطة إىل أن انتهى إىل سدرة املنتهى فأوحى إليه
ربه ما أوحى.
وملا أصبح وأخرب الناس كما يفعل الصادق الفطري تلقى
املشركون خربه وهم لقبوه باألمني يعلمون أنه ال يكذب ،بالسخرية
وحتدوه أن يصف هلم بيت املقدس .وكان صلى اهلل عليه وسلم
زاره ليال فال يتبني جزئياته .قال عليه الصالة والسالم فيما رواه
البخاري ومسلم « :لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى
اهلل لي بيت المقدس ،وأنا فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر
إليه».
هذا الكشف وهذه التجلية اإلهلية عطاء من اهلل ال يزال
يتجدد لصاحلي هذه األمة ،وال يزال يكذب املكذبون .وتعرض
بعض املشركني أليب بكر حيدثه باخلرب الضخم راجيا أن يزلزله،
قال أبو بكر « :إن كان قال ذلك لقد صدق ،إين ألصدقة على
أبعد من ذلك».
ومما أوحى اهلل لنبيه عند سدرة املنتهى أن فرض عليه وعلى
أمته الصالة ،فأصل الدين وعماده جاء يف موقف غييب يكنفه جو
غييب كما يكنف الرسول على مدى دعوته.
226
كذب املشركون باإلسراء واملعراج رغم الوصف عن التجلي،
وكيف ال يكذبون خرب الصادق األمني وهم كذبوا أعينهم قبلها
عندما انشق القمر بإشارته صلى اهلل عليه وسلم وكانوا ليلتها قد
حتروا وسألوا الواردين على مكة فأخربوهم أهنم رأوه منشقا فلقني!
وملا كثر أذى قريش ومهت بقتله صلى اهلل عليه وسلم أعطى
من نفسه برهان الصدق فهاجر ودخل غار ثور بعد أن غاصت
فرس طالبه سراقة يف األرض معجزة له صلى اهلل عليه وسلم .ويف
غار ثور وارته املالئكة بأجنحتها كما أخرب.
إن املؤمنني األولني كانوا يف جاهليتهم من أكثر الناس ترفا يف
عاداهتم ،فهناك طبقية طاغية ،وهناك هلو وعبث ،وهناك أوثان
ورثوها عن أجداد يعظموهنم .وكان أهم مظهرهم لفتنتهم بالعادة،
ما كانوا يكرهون الرسول ألنه يسفه آباءهم ،فهذا أهم مظهر
للعادة ،إهنم ألفوا ما ورثوه ولزقوا به فسد عليهم منافذ النور .وجاء
الغيب النوارين فخرق الصحابة العادة عندما جلس العبد احلبشي
مع سليل األسرة القرشية العتيدة .وخرقوا العادة من أنفسهم ملا
صربوا للعذاب وخرقوها ملا هاجروا وتركوا كل مأولف وحمبوب.
وكان الغيب الزمتهم اليت ال تتخلف ،إذا حلت هبم أزمة دعوا اهلل
فاستجاب دعاءهم ،وإذا عطشوا نبع هلم املاء من اليد الشريفة،
ويكثر هلم الطعام بدعائه وبركته صلى اهلل عليه وسلم.
227
كان شاهد الغيب حافزا للعمل ،ومل يكن قعودا مع األوهام
كما أصبح يف عهود الفتنة حني اختلط صدق الصادقني بشعوذة
الفتان .كانوا رضي اهلل عنهم جماهدين يطلبون اجلنة وهي غيب
ويشتاقون إليها ويطلبون الشهادة فيقتلون ويقتلون .وكانوا ينفقون
ويتزودون ال يعتمدون على النبع الغييب.
كانوا صادقني مع رهبم فصدقهم اهلل واليته ونصرته .ويف
مواقف جهادية بارزة ظهر التأييد الغييب 1يف أجلى مظهره ،يف
بدر وحنني ويف جل املغازي كانت املالئكة ظهريا ومع ذلك كان
معوهلم على اجلهد البشري.
أخرج البخاري وأبو نعيم والطرباين والبيهقي عن أيب هريرة
رضي اهلل عنه قال « :ملا بعث النيب صلى اهلل عليه وسلم العالء
بن احلضرمي رضي عنه إىل البحرين تبعته .فرأيت منه خصاال
ثالثة ال أدري أيتهن أعجب ! انتهينا إىل شاطئ البحر فقال.
مسوا اهلل واقتحموا ،فسمينا واقتحمنا ،فعربنا وما بل املاء أسفل
خفاف إبلنا .فلما قفلنا سرنا معه بفالة من األرض وليس معنا
ماء ،فشكونا إليه .فصلى ركعتني مث دعا ،فإذا سحابة مثل الرتس
مث أرخت عزاليها فسقينا واستقينا .ومات فدفناه يف الرمل .فلما
سرنا غري بعيد قلنا جييء سبع فيأكله ،فرجعنا إليه فلم نره -يعين
1اقرأ اجلزء الرابع من كتاب «حياة الصحابة» للشيخ حممد يوسف رمحه اهلل.
228
يف القرب – وزاد أبو نعيم يف رواية أخرى :فلما رآنا ابن مكعرب
عامل كسرى قال :ال واهلل ال نقابل هؤالء (خوفا من قتاهلم) مث
قعد يف سفينة فلحق بفارس.
وأخرج الطربي وأبو نعيم هذا احلديث العجيب الذي يصور
لنا جهاد الصحابة ملا توغلوا يف بالد فارس حيملون معهم اإلميان
وحيملون معهم النوارنية الغيبية ،عن ابن الرفيل قال :ملا نزل سعد
بن أيب وقاص رضي اهلل عنه هبر سري وهي املدينة الدنيا ،طلب
السفن ليعرب الناس إىل املدينة القصوى .فلم يقدروا على شيء،
وجدهم قد ضموا السفن .فأقاموا ببهر سري أياما من صفر يريدونه
على العبور (عبور دجلة) فيمنعه اإلبقاء على املسلمني (خياف
عليهم) ،حىت أتاه أعالج فدلوه على خماضة ختاض إىل صلب
الوادي ،فأىب وتردد عن ذلك .وفجأهم املد ،فرأى رؤيا أن خيول
املسلمني اقتحمتها فعربت ،وقد أقبلت من املد بأمر عظيم .فعزم،
لتأويل رؤياه على العبور .فجمع سعد الناس فحمد اهلل وأثىن
عليه فقال :إن عدوكم قد اعتصم منكم هبذا البحر فال ختلصون
إليهم ،وهم خيلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشوكم يف سفنهم.
وليس وراءكم شيء ختافون أن تؤتوا منه .وإين قد عزمت على قطع
هذا البحر (يعين دجلة) إليهم .فقالوا مجيعا :عزم اهلل لنا ولك
على الرشد ،فافعل ! فندب سعد الناس إىل العبور فقال :من
229
يبدأ وحيمي لنا الفراض (املكان املقابل من املاء) حىت يتالحق به
الناس لكيال مينعوهم من اخلروج ؟ فانتدب له عاصم بن عمرو،
وانتدب بعده ستمائة رجل من أهل النجدات واستعمل عليهم
عاصما .فسار عاصم فيهم حىت وقف على شاطئ دجلة مث قال :
من ينتدب معي مننع الفراض من عدوكم ؟ فانتدب له ستون منهم
فجعلهم نصفني ،على خيول إناث وذكور ليكون أسلس لعوم
اخليل .مث اقتحموا دجلة .فلما رأى سعد عاصما على الفراض قد
منعها أذن للناس يف اإلقتحام وقال :قولوا :نستعني باهلل ونتوكل
عليه ،وحسبنا اهلل ونعم الوكيل ،ال حول وال قوة إال باهلل العلي
العظيم .وتالحق عظم اجلند ،فركبوا اللجة وإن دجلة لرتمي بالزبد
وإهنا ملسودة ،وإن الناس ليتحدثون يف عومهم وقد اقرتنوا كما
يتحدثون يف مسريهم على األرض ففجأوا أهل فارس بأمر مل يكن
يف حساهبم فأجهضوهم وأعجلوهم على محل أمواهلم .ودخلها
املسلمون يف صفر سنة ستة عشرة ،واستولوا علىكل ما بقي يف
بيوت كسرى من الثالثة اآلالف ألف ألف وما مجع شريويه ومن
بعده».
صدق الهجرة :مات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وورث
الصاحلون من أمته بركته ونورانيته .كان الغيب يف عهده شاهدا
يكتنفه التنظيم والعمل اإلرادي اجلهادي ،أخوة منظمة وطاعة
230
منظمة وجهاد مستمر .كان صلى اهلل عليه وسلم تظهر عليه
وعلى املؤمنني املعجزات تصبحهم ومتسيهم فتزيدهم يقينا ،بل
كان الرسول الكرمي حيدثهم عن الغيب الذي مل يروه ويتلو عليهم
القرآن فيه آيات اخلالق الفاطر من قصص األولني يثبتهم هبا
ويعطيهم األسوة أسوة اإلميان واجلهاد .بل كان يقص عليهم من
أنباء األولني ما يعجب له السامعون ليزدادوا ،إميانا حدثهم مرة
عن رجل ممن كان قبلنا محل على بقرته محال فخاطبته .فلما
تعجب متعجب قال الصادق األمني آمنت هبذا أنا وأبو بكر
وعمر!
ما عدا املالحظون من أهل امللل العقالنية احلق إن وصفوا
اإلسالم بأنه غيبية ! إمنا خيطئون إذ يقارنون شعوذة املشعوذين
املتواكلني ويقرنوهنا بالغيب احلق .إن الغيب عند الصادقني واقع
علمي خيضع للتجربة ،الفرائض والنفل أعمال تعبدية حسية لكنها
تعطى املؤمن نورانية حيسها يف نفسه .وال يزال العبد يتقرب إىل
ربه بالنوافل حىت حيبه ويتواله ويكشف له عن أسرار ملكوته فريى
ما ال يراه الناس كما رأى عبد اهلل بن عباس ومل ير أبو .وما كان
صلى اهلل عليه وسلم يريد املسلمني أن يقرأوا خرب الغيب يف القرآن
ليتواكلوا بل ليزدادوا إميانا مع إمياهنم ،وال كان يقص عليهم خرب
البقرة املتكلمة إال ليؤكد هلم بأنه هو والصديق أبو بكر والشهيد
231
عمر يؤمنون هبذا ،واإلميان مزية وفضيلة وال إميان بدون غيب.
انظر هلؤالء الصادقني املؤمنني بالغيب املصدقني كيف كان
اقباهلم على العمل وكيف كانت فاعليتهم يف اجلهاد وكيف كانت
عزميتهم.
هاجر النيب وأصحابه من دارهم لدار الغربة واجلهاد بعزم ال
مثيل له .وملا خاف أبو بكر يف الغار قال له النيب صلى اهلل عليه
وسلم ﴿ :الَ تَ ْح َز ْن إِ َّن اللّهَ َم َعنَا﴾ وقال له :ما ظنك باثنين اهلل
ثالثهما ! .ولو كانا متواكلني لقعدا يف دارمها واذن ملا حق هلما أن
يعتقدا أن اهلل معهما ألن اهلل معهما ألن اهلل مع املتقني احملسنني
ال مع اجلبناء املتواكلني الكساىل !.
اهلجرة اقتالع للعادة من جذورها وانتزاع للنفس املتزكية مما
ألفته وأنست إليه لتأنس مبوعود اهلل مبوعود اهلل للساعني اجملاهدين.
انتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اإلذن من ربه يف اهلجرة
وانتظر أبو بكر وأعد عدة السفر وأعد الراحلتني ،فما كان ينبغي
أن تتم اهلجرة على ظهر الرباق ! لتبقى لنا األسوة اجلهادية
منفصلة عن الغيب متصلة باإلميان بالغيب .يفعل العبد بإرادته
احلرة املختارة مقتحما العقبة متحمال األالم واخلوف مث ينتظر
أن يصنع له ربه .وملا خبا اإلميان يف عهود الفتنة ووهنت العزائم
وطغت الشعوذة فأصبح املسلمون املفتونون ينتظرون املخلص
232
فارسا ينزل من السماء ،وال يكون املخلص إال مهاجرا جماهدا
يسعى على األرض يؤيده اهلل بالغيب لكن يفعل باإلميان الذي
حيدو اإلرادة البشرية ويوجه اجلهاد البشري .وعندما يشاء اهلل أن
ينزل نيب اهلل عيسى عليه السالم ،فعندما يتصل عامل الغيب بعامل
الشهادة ،وقد أتى يومئذ أمر اهلل الذي ال نعلم منه إال ما علمنا
الصادق األمني املهاجر اجملاهد صلى اهلل عليه وسلم.
منوذج هلجرة الصحابة وما كان من تعبهم وأالمهم جنده يف
حديث هجرة أيب سلمة وأم سلمة رضي اهلل عنهما .عن أم سلمة
رضي اهلل عنها قالت : 1ملا أمجع أبو سلمة رضي اهلل عنه اخلورج
إىل املدينة رحل يل بعريه ،مث محلين عليه ،وجعل معي ابين سلمة
بن أيب َسلَمة يف حجري .مث خرج يقود يب بعريه .فلما رأته رجال
بين مغرية قاموا إليه فقالوا :هذه نفسك غلبتنا عليها ،أرأيت
صاحبتنا هذه؟ عالم نرتكك تسري هبا يف البالد ؟ قالت :فنزعوا
خطام البعري من يده وأخذوين منه .قالت :وغضب عند ذلك
بنو عبد أسد رهط أيب سلمة وقالوا :واهلل ال نرتك ابننا عندها
إذ نزعتموها من صاحبنا قالت :فتجاذبوا ابين سلمة بينهم حىت
خلعوا يده .وانطلق به بنو عبد أسد وحبسين بنو املغرية عندهم.
وانطلق زوجي أبو سلمة إىل املدينة .قالت :ففرق بيين وبني ابين
1ابن اسحاق.
233
وزوجي .قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس يف األبطح ،فما
أزال أبكي حىت أمسي سنة أو قريبا منها ،حىت مر يب رجل من
بين عمي أحد بين املغرية ،فرأى ما يب فرمحين .فقال لبين املغرية :
أال خترجون هذه املسكينة ،فرقتم بينها وبني زوجها وبني ولدها ؟
قالت :فقالوا يل :احلقي بزوجك إن شئت .قالت فرد بنو عبد
أسد إيل عند ذلك ابين .قالت فارحتلت بعريي ،مث أخذت ابين
فوضعته يف حجري ،مث خرجت أريد زوجي باملدينة .قالت :وما
معي أحد من خلق اهلل ،حىت إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن
طلحة ابن أيب طلحة أخا بين عبد الدار .فقال :إىل أين يا ابنة
أيب أمية ؟ قلت :أريد زوجي باملدينة .قال :أوما معك أحد ؟
قلت ما معي أحد إال اهلل وبين هذا ! فقال :واهلل ما لك من
مرتك! فأخذ خبطام البعري فانطلق معي يهوي يب .فواهلل ما صحبت
رجال من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه .كان إذا بلغ املنزل
أناخ يب مث استأخر عين حىت إذا نزلت استأخر ببعريي فحط عنه،
مث قيده يف الشجر مث تنحى إىل شجرة فاضطجع حتتها .فإذا دنا
الرواح قام إىل بعريي فقدمه فرحله ،مث استأخر عين وقال :اركيب.
فإذا ركبت فاستويت على بعريي أتى فأخذ خبطامه فقادين حىت
ينزل يب .فلم يزل يصنع ذلك يب أقدمين املدينة .فلما نظر إىل قرية
بين عمر بن عوف بقباء ،قال :زوجك يف هذه القرية – وكان أبو
234
سلمة هبا نازال – فادخليها على بركة اهلل ،مث انصرف راجعا إىل
مكة .فكانت تقول :ما أعلم أهل بيت يف اإلسالم أصاهبم ما
أصاب آل أيب سلمة ،وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان
بن طلحة !».
مأساة رثى هلا حىت اجلاهلي ،كان عثمان بن طلحة (وقد
أكرمه باإلسالم من ال يضيع أجر من أحسن عمال) .لكن عزم
أىب سلمة وأم سلمة وصدقهما كان أقوى من أن تفت فيه فتنة
العصبيات .وبصدق اهلجرة وبرهانه الواضح ابتدأ املسلمون حياة
اجلهاد يف اجلماعة املبايعة على السمع والطاعة .وغدا ستبدأ هذه
األمة جهادها بصدق اهلجرة من الفكر اجلاهلي والسمت اجلاهلي
متحررة من عقاهلا مؤمنة برهبا وبغيبه ،جبنته وناره ومالئكته وكتبه
ورسله وقدره الذي يتضمنه موعوده باالستخالف يف األرض ملن
آمن وعمل صاحلا.
235
البذل
إن اقتحام العقبة ليس عملية واحدة تنتهي ويبلغ مداها ،إمنا
هي عملية مسرتسلة دائمة .وامللكية وما يتبعها من تكاثر وحب
للقناطري املقنطرة هي العنصر األساسي يف جاذبية األرض وحوهلا
تعشش األنانية وحوهلا تتألف العادة وهبا يرتف اإلنسان أكثر
ما يرتف ،وعندها ختمد مهته وترتكس إرادته إال إن وقي شح
نفسه .هذه النفس جبلت على الشح ،فهي يف حالتها اجلاهلية
أو املفتونة مهزة ملزة منكبة على القيم املادية ،وليست تنفتح خلري
إال إن أحبت ما يعوض هلا احلب األويل الذي جبلت عليه.
اج َر إِلَْي ِه ْم َوَل ِ
كان األنصار رضي اهلل عنهم ﴿يُحبُّو َن َم ْن َه َ
اجةً ِّم َّما أُوتُوا َويـُْؤثُِرو َن َعلَى أَن ُف ِس ِه ْم ِ ِ ِ
ص ُدو ِره ْم َح َ
يَج ُدو َن في ُ
اصةٌ﴾ فكانت احملبة حافزا للبذل وكانت ص َ َولَ ْو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ
صدورهم سليمة ال حسد فيها فال جمال للتكاثر.
وعاملنا املعاصر عامل تكاثر ،وبناء اإلسالم يتوقف على البناء
االقتصادي ،وإال فال إسالم ،ألن الفقر كاد أن يكون كفرا كما
يقول اإلمام علي عليه السالم .فاملسلم الفردي يعظم املال وال
يبتذله فال ينفقه ،األيدي مقبوضة على القيمة الوحيدة املعظمة.
إن الثوراث االشرتاكية والشيوعية تنزع امللكية لتفصل بني الناس
236
واملال ،وال بد لإلسالم املنبعث أن تكون له حرارة حياة جديدة
وباعث حمبة جديدة يفصل بني اإلنسان واملال ،ليبتذل املال
ويبذل .وقد يلزم أن يتضافر وازعا السلطان والقرآن يف هتيء
وسط يبتذل فيه املال ويعظم فيه اإلنسان .إن اإلسالم يستعمل
املال استعمالني :ففي حق حديثي العهد باإلسالم يكون املال
الذي عند املسلمني مطلبا من مطالب املسلم اجلديد ومشجعا،
فلذلك كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطي املال ملن اعتنقوا
اإلسالم حديثا ،عمال بأمر اهلل الذي جعل من مصارف الزكاة
إعطاء املؤلفة قلوهبم .هذه القلوب ال زالت منكمشة على عادة
التكاثر وحب الدنيا فتعان على اقتحام العقبة وتستمال بالعطاء
السخي .واالستعمال الثاين للمال بالنسبة للمؤمنني أن يبذل
وينفق يف سبيل اهلل يقتحم املؤمن بالبذل عقبة شح نفسه املتأصل
فيه .فالبذل للمؤمن تزكية وتطهر وبرهان على الصدق للجماعة
ومادة بناء وتعاون.
ورمبا يكون لزاما أن يسبق وزاع السلطان عند بناء اإلسالم
املنبعث لكي يبذل املال ريثما يفتح اهلل على األمة حاملة اللواء
وييسر ،فإنه من اليسري أن يستيقظ محاس باذل غداة نشر اللواء
اإلسالمي .لكن البذل الذي حنتاجه يومئذ بذل دائم ،بذل يتأصل
فيصبح عادة بدل الشح لتجميع رأس املال ولتسوية األرزاق.
237
وليس يكفي يف ذلك صدقات منثورة شرع اهلل الزكاة فهي تؤخذ
من كل مسلم قسرا إن امتنع ويقاتل عليها ويقتل .هذا ال جدال
فيه ،وإنام نتحدث عن احلق الذي للجماعة يف األموال زيادة على
الزكاة .وقد روى البخاري عن سيدنا جابر حديثا يف الفضول
وإنفاقها ،أمر فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه أن
ينفقوا كل ما زاد عن ضرورهتم من ظهر أو طعام ،قال جابر :
«حىت ظننا أن ال حق الحدنا يف فضل».
يف كل بالد اإلسالم ترف مرد وفقر خمز ،وتسوية كل هذا
الظلم قد ال تتهيأ بوازع القرآن وحده ،ألن النفوس زيادة على
جبلتها ألفت البذخ .فنحن نعيش ،من وجد إىل ذلك سبيال،
على مستوى اجملتمعات املستهلكة ونستورد بضائع الرتف كما
نستورد أفكار الرتف .وما يسعى مرتفو الفكر إال لكسب متاع
املتمولني إال أن يكونوا من هذه اجلرثومة النادرة من املثاليني
الثوريني ،فأولئك خيدمون أوثانا أخرى.
شهد اهلل لألنصار الكرام باحملبة واإليثار وسالمة الصدر،
ورهبم أعلم هبم .ونستخرج حنن درسا تارخييا يعلمنا أن املؤمن ال
يسلم من مطالب نفسه أبدا بل يلزمه أن يعاجلها باستمرار ويعاين
ويدافع ،أخرج الشيخان وغريمها أن رسول اللهصلى اهلل عليه
وسلم قسم غنائم ثقيف بعد غزوة حنني وخص املؤلفة قلبوهم
238
من أهل مكة بالعطاء اجلزل ،فوجد لذلك بعض األنصار وقالوا :
«يغفر اهلل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ! يعطي قريشا ويرتكنا
وسيوفنا تقطر من دمائهم !».
فدعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األنصار ،فلما اجتمعوا
عنده أغلق األبواب مث قال « :يا معشر األنصار ! ما قالة بلغتني
عنكم ؟ ألم آتيكم ضالال فهداكم اهلل بي ،وكنتم متفرقين
فألفكم اهلل بي ،وكنتم عالة فأغناكم اهلل بي ؟ -كلما قال هلم
شيئا من ذلك قالوا :بلى ،اهلل ورسوله آمن وأفضل .-مث قال :
أال تجيبوني يا معشر األنصار ؟ قالوا :مباذا جنيبك يا رسول اهلل؟
هلل ورسوله املن والفضل .فقال صلى اهلل عليه وسلم :أما واهلل لو
شئتم لقلتم ،فلصدقتكم وصدقتم :أتيتنا مكذبا فصدقناك،
ومخذوال فنصرناك ،وطريدا فآويناك ،وعائال فآسيناك فصاحوا:
بل املن علينا هلل ورسوله!
مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أوجدتم يا معشر
األنصار في أنفسكم من أجل لعاعة (بقلة خضراء) من الدنيا
تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسالمكم ! أال ترضون
يا معشر األنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا
برسول اهلل إلى رحالكم ؟ فو اهلل لما تنقلبون به خير مما
ينقلبون به .والذي نفس محمد بيده ،لوال الهجرة لكنت
239
أمرءا من األنصار! ولو سلك الناس شعبا وسلكت األنصار
شعبا لسلكت شعب األنصار ! وإنكم ستلقون أثرة من بعدي
فاصبروا حتى تلقوني على الحوض .اللهم ارحم األنصار !
وأبناء األنصار وأبناء أبناء األنصار .فبكى القوم حىت أخضلت
حلامهم وقالوا :رضينا باهلل ورسوله قسما ونصيبا!»
كان ال بد من هذا املوقف اإلمياين العظيم لتنطفيء غائلة
حب الدنيا والتنافس عليها من قلوب مؤمنة ،استيقظت فجدد هلا
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حمبة وإميانا .التاريخ كله يدور على
هذه اللعاعة من الدنيا يتنافس عليها الناس .وغليان عصرنا أشد
من كل االضطرابات السابقة ألن الناس يتكتلون وألن بأيديهم
ويف عقوهلم أسلحة للتنافس ما عرفها األولون .وهبذه األسلحة
يريد املفتونون منا أن نقاتل الظلم واألثرة وال ينظرون إىل اجلاهلني
كيف ينقلب هبم العنف الثوري من أثرة سوداء إىل أثرة محراء
ملتهبة طبقيتها أطغى وأكثر بغيا بتقنيتها وعلمها!
وعند اإلسالم دواءان لعالج األثرة أحدمها اإلميان ،وثانيهما
السلطان العادل القوي .وجيتمع العالجان يف املبايعة على حتمل
األثرة كما بايع سيدنا عبادة بن الصامت .وليس معىن هذه املبايعة
أن يوطد املسلم نفسه على أن يظلم ويذهب حقه وإمنا معناها أن
ال يأخذ حقه عنفا بيده حىت يكون السلطان الفيصل.
240
هذه بني أعيننا شعوب جاهلية تتعلق مبثاليات ثورية فتبذل
املال وتسرتخصه ،وما بلغ أحد منها معشار بذل املؤمنني األولني
وسخائهم .وإمنا قام اإلسالم ويقوم باملال ،فال غرو أن جند يف
أصل تارخينا إنفاقا عظيما ،وال غرو أن يكون اإلنفاق شرطا
أساسيا يف كمال اإلميان بل يف وجود اإلميان .يف القرآن الكرمي
آيات كثرية تعرف املؤمنني تعريفا حصريا وتبدأ بـ« إمنا املؤمنون»
وكلها تذكر اإلنفاق وآيات اجلهاد ال تفرق أبدا بني جهاد املال
والنفس ،وقد جعل اهلل الفالح ونيل الرب يف النفقة ،قال ﴿ :لَن
تـَنَالُواْ الْبِ َّر َحتَّى تُ ِنف ُقواْ ِم َّما تُ ِحبُّو َن﴾.
حياة الصحابة مرآة تعكس صورة البيان القرآين والبالغ،
وهذه نبذة قصرية من سخائهم رضي اهلل عنهم :عن أم سلمة
رضي اهلل عنها قالت : 1دخل عليها رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم وهو ساهم الوجه ،فخشيت ذلك من وجع .فقلت :
يا رسول اهلل ! مالك ساهم الوجه ! فقال :من أجل الدنانري
السبعة اليت أتينا هبا أمس ،أمسينا وهي يف خصم الفراش (طرفه).
وأحاديثه صلى اهلل عليه وسلم يف مثل هذا كثرية ،ال يدخر ما ال
أبدا .وكيف ال واهلل تعاىل توعد الكانزين ! .وكان أبو ذر رضي
اهلل عنه يأخذ اآلية املانعة للكنز يؤيدها حبديث النيب صلى اهلل
241
عليه وسلم ويلتزم برتويج املال ودفعه حاال .عنه 1رضي اهلل عنه
أنه جاء إىل عثمان بن عفان رضي اهلل عنه فأذن له ،وبيده عصا.
فقال عثمان :يا كعب! إن عبد الرمحن مات وترك ماال ،فما ترى
فيه فقال :إن كان قضى فيه حق اهلل فال بأس عليه .فرفع أبو ذر
عصاه وضرب كعبا وقال :مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
يقول « :ما أحب لو أن هذا الجبل لي ذهبا أنفقه ويتقبل مني
أذر منه خلفي ست أواق!»
عن سيدنا عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه« : 2أمرنا رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما أن نتصدق ،ووافق ذلك ماال
عندي .فقلت :اليوم أسبق أبا بكر رضي اهلل عنه أن سبقته
يوما! فجئت بنصف مايل فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم:
ما أبقيت ألهلك ؟ قلت :أبقيت هلم .قال :ما أبقيت لهم ؟
قلت :مثله .وأتى أبو بكر بكل ما عنده .فقال :يا أبا بكر !
ما أبقيت ألهلك ؟ قال :أبقيت اهلل ورسوله .قلت :ال أسبقه
إىل شيء أبدا!
وأخرج البخاري يف األدب املفرد عن عبد اهلل بن الزبري رضي
اهلل عنهما قال« :ما رأيت امرأتني أجود من عائشة فكانت جتمع
242
الشيء إىل الشيء حىت إذا كان اجتمع عندها قسمت .أما أمساء
فكانت ال متسك شيئا لغد».
وأخرج الشيحان عن عائشة رضي اهلل عنها قالت « :قال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أسرعكن لحاقا بي أطولكن
يدا! قالت :فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا .قالت :وكانت
أطولنا يدا زينب ألهنا كانت تعمل بيدها وتتصدق» يا لروعة
النموذج :عمل وبذل فأينكن أيتها املؤمنات!
كان املوسرون ينفقون على اجلهاد وينفقون على إخواهنم،
فقام على نفقتهم مجاعة املؤمنني يف املدينة مبا بذل األنصار وقام
على نقتهم جهاد النيب وفتحه للبالد.
وال حتسنب أن مجاعة املؤمنني مجاعة نصفها كساىل متطفلون
ونصفها حمسنون متطهرون .فكل قادر كان يعمل ،وعلى احلاجة
كان ينفق ! ومع الشهامة والرقة واحملبة!
أخرج البخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال « :قالت
األنصار للنيب صلى اهلل عليه وسلم (حني نزل املدينة مع املهاجرين)
أقسم بيننا وبني إخواننا النخيل ! قال :ال ! فقالوا :أفتكفوننا
املؤونة (العمل) ونشرككم يف الثمرة ؟ قالوا :مسعنا وأطعنا .وقال
عبد الرمحن بن زيد بن أسلم رضي اهلل عنه :قال رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم لألنصار :إن إخوانكم قد تركوا األموال
243
واألوالد وخرجوا إليكم ! فقالوا :أموالنا بيننا قطائع .فقال
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :أو غير ذلك ؟ قالوا :وما ذاك يا
رسول اهلل ؟ قال :هم قوم ال يعرفون العمل ( ال يتقنون صناعة
الغراسة ألهنم من مكة وهي ال خنل هبا) فتكفونهم وتقاسمونهم
الثمر .قالوا :نعم
وأخرج البزار عن جابر رضي اهلل عنه قال « :كانت األنصار
إذا جزوا خنلهم قسم الرجل مثره قسمني إحدمها أقل من اآلخر .مث
جيعلون السعف (جريد النخل) مع أقلهما (ليبدو وكأنه أكثر) ،مث
… خيريون املسلمني (من إخواهنم املهاجرين) فيأخذون أكثرمها
(الذي يبدو قليال ألن حتت القسمة األخرى سعفا) ،ويأخذ
األنصار أقلهما من أجل السعف ،حىت فتحت خيرب .فقال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم :قد وفيتم لنا بالذي كان عليكم ،فإن
شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم
فعلتم .قالوا :إنه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن
لنا اجلنة ،فقد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا .قال :فذاكم
لكم !»
أخرج الطرباين عن أيب عقيل رضي اهلل عنه أنه بات جير اجلرير
(احلبل) على ظهره على صاعني من متر (أجرة على عمله).
فانفلت بأحدمها إىل أهله ينتفعون به ،وجاء باآلخر يتقرب به
244
إىل اهلل عز وجل .فأتى به رسول اهلل صلى اهلل عليه سومل فأخربه
فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :انثره في الصدقة .فقال
فيه املنافقون ،وسخروا منه :ما كان أغىن هذا أن يتقرب إىل اهلل
ِ ِ َّ ِ
ين يـَلْم ُزو َن ال ُْمطَِّّوع َ
ين بصاع من متر ! فأنزل اهلل عز وجل ﴿ :الذ َ
ين الَ يَ ِج ُدو َن إِالَّ ُج ْه َد ُه ْم ِمن الْم ْؤِمنِين فِي َّ ِ َّ ِ
الص َدقَات َوالذ َ َ ُ َ
يم﴾. ِ ِ ِ ِ
اب أَل ٌفـَيَ ْس َخ ُرو َن منـْ ُه ْم َسخ َر اللّهُ منـْ ُه ْم َولَ ُه ْم َع َذ ٌ
أخرج البخاري ومسلم عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال :
جاء رجل إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال :إين جمهود
! فأرسل إىل بعض نسائه فقالت :ال ! والذي بعثك باحلق ما
عندي إال ماء ! مث أرسل إىل أخرى فقالت مثل ذالك ،حىت قلن
كلهن مثل ذلك :ال والذي بعثك باحلق ما عندي إال ماء .فقال:
من يضيف هذا الليلة رحمه اهلل ؟ فقام رجل من األنصار فقال :
أنا يا رسول اهلل ! فانطلق به إىل رحله ،فقال المرأته :هل عندك
شيء ؟ قالت ال ،إال قوت صبياين .قال :فعلليهم بشيء ،فإذا
أرادوا العشاء فنوميهم ،فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا
نأكل .قال :فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويني .فلما أصبح غدا
على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال :قد عجب اهلل من
صنيعكما بضيفكما !».
تقلل وبذل ووحي اهلل يزكي كل ذلك ،ويعجب اهلل فرحا مبا
245
فعل عباده املتقون .إن للصحابة ولكل مؤمن حمسن حياة روحية
ورباطا مع ربه وحمبة له ولرسوله وانتظارا ملوعوده يف اادار اآلخرة.
ميأل كل ذلك قلبه نورا ويفعم أيامه حبورا فتذل يف عينه الدنيا
ويعز اهلل ورسوله ويعز املطلوب فيهون الطلب وينشط املؤمن
القتحام عقبة الشح.
إن هذه األنا تطلب خلودا فينكب اهلمزة اللمزة على ماله
يعدده ويستغين عن ربه حيسب أن ماله أخلده .كال ! إمنا ختلد
األنا بعد التزكى والتطهر وبعد أن تولد الروحانية العلوية من حطام
النفس اخلبيثة بالصحبة والذكر والصدق .وال يبذل املرء ماله إال
قهرا يف جمتمع اجلاهلية ويبذله املؤمن لقاء موعود اهلل.
عن أنس 1رضي اهلل عنه أن رجال قال :يا رسول اهلل ،إن
لفالن خنلة وأنا أقيم حائطي هبا (حيب أن يزيدها إىل بستانه
ليستوى البستان) فأمره أن يعطيين حىت أقيم حائطي هبا .فقال له
النيب صلى اهلل عليه وسلم :أعطه إياها بنخلة يف اجلنة ! فأىب.
قال :فأتاه أبو الدحداح (وهو صاحب احلائط) فقال :بعين
خنلتك حبائطي .قال :ففعل .فأتى النيب صلى اهلل عليه وسلم
فقال :يا رسول اهلل ،ابتعت النخلة حبائطي فاجعلها له فقد
2
اعطيتكها ! فقال صلى اهلل عليه وسلم :كم من عذق رداح
246
أليب الدحداح يف اجلنة ؟ قاهلا مرارا .قال :فأتى امرأته فقال يا
أم الدحداح ! اخرجي من احلائط فإين قد بعته بنخلة يف اجلنة !
فقالت :ربح البيع !»
ِِ ِ
س ُه ْم
ين أَن ُف َ يقول اهلل تعاىل ﴿ :إِ َّن اللّهَ ا ْشتـََرى م َن ال ُْم ْؤمن َ
يل اللّ ِه فـَيـَْقتـُلُو َن الجنَّةَ يـَُقاتِلُو َن فِي َسبِ ِ َن لَ ُه ُم َ َوأ َْم َوالَ ُهم بِأ َّ
يل والْ ُقر ِ ِ ِ ِ ِ
آن َوَم ْن َويـُْقتـَلُو َن َو ْعداً َعلَْيه َح ّقاً في التـَّْوَراة َوا ِإلنج ِ َ ْ
استَْب ِش ُرواْ بِبـَْي ِع ُك ُم الَّ ِذي بَايـَْعتُم بِ ِه َو َذلِ َ ِ ِِ ِ
ك أ َْوفَى بِ َع ْهده م َن اللّه فَ ْ
ِ
يم﴾. ُه َو الْ َف ْو ُز ال َْعظ ُ
كان بيع اهلل وموعوده منهم رضي اهلل عنهم كأنه رأي العني
إلمياهنم ويقينهم .لذلك بذلوا واستحبوا اآلخرة على احلياة الدنيا.
247
العلم
أغمي على الفكر اإلسالمي منذ أصبحت متعذرة تربية
األعداد اهلائلة من الذين دخلوا يف دين اهلل أفواجا ،دخلوا فيما
دخل فيه الناس يفيئون إىل ظل دولة قوية عادلة .ما جالسوا وما
صحبوا إال قليال .ووفد كل منهم بثقافته وتناول العلم النبوي
صاص بإسرائلياهتم إىل أن أنشبت الفلسفة تناوله اخلاص ،فكان ال ُق َّ
اإلغريقية عقالنيتها يف العلم النبوي .فتناول املسلم هذا العلم
الغييب باملنطق لغايات شريفة أحيانا وأحيانا تناوله املوسوسون
بنياهتم .بقي رجال احلديث يرثون العلم النبوي احلق ،فكانوا
يقرأون القرآن ومعه احلديث يفسره عمال نظمه رسول اهلل وزكاه،
وكانوا يروون احلديث ويربطونه بالوحي ،وكان منهم رضي اهلل
عنهم أئمة اهلدى.
وتفرعت فروع العلم النبوي حلاجات «جمتمع» يرتعرع بسرعة
وتتشكل معامالته ،وحظي علماء الفروع باملكانة األوىل يف الدولة
ألن الدولة ما كان يهمها أمر الدعوة بقدر ما كانت حترص على
تنظيم الدولة .وخدم العلماء الدولة بعد أن قل أمثال اإلمام أمحد
وانعزل العلماء العاملون بإمياهنم الغض الطري الذي حافظوا عليه
كما كان يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالرتبية .وكان
248
لرجال احلديث إسناد متسلسل يف رواية احلديث وللصوفية إسناد
متسلسل أخذوا عن طريقه تربيتهم .
أما احلديث والفروع فدونت وتناقلتها األجيال ،فأخذت
جتف شيئا فشيئاحىت تصل إىل حرفية جامدة متاما الصلة هلا
باحلياة العملية إال من بعيد بعيد .فإذا بلغ تدهور «اجملتمع»
اإلسالمي آخر دركاته وجاءت اجلاهلية بتكنولوجيتها تسحب
معها «علوما» مادية واحتار وارث احلرفية التارخيية يف دار اإلسالم
فإما يتحجر وينفى علوم الكفار مفضال اإلحتفاظ بإميانه الغييب
وإما «ينفتح» فينادي مع املنادين بأن اإلسالم ينبغي أن يساير
العلم ،ويفاخر اجلاهلية بأن القرآن سبق العالن هذه احلقيقة أو
تلك بأربعة عشر قرنا! ما قدروا اهلل حق قدره إذ قارنوا بني احلق
املطلق وبني ركض اإلنسان الواهن يف تعلم جزئيات الكون ! وبني
أيدي أولئك وهؤالء يصان العلم النبوي إدراكا وقوال ،وبني أيدي
«ديدان القراء» كما يعرب الرسول صلى اهلل عليه وسلم يبتذل
يف خدمة الطاغوت وتربير الفسوق .أما العمل بالعلم النبوي
فيتفاوت فيه العلماء فإن منهم املتقون.
وأما الصوفية فتوارثوا الرتبية اإلسالمية كاملة ،وحاولوا تدوينها
بصيغ فما وفقوا ،وساحوا يذكرون ليلى والكأس باستعارات ال
جندها يف كتاب اهلل وسنة نبيه ،ألن الصيغة الكاملة الصحيحة
249
هي يف كتاب اهلل وسنة نبيه ،وضرهم التدوين .وكفروهم لعجزهم
يف التعبري عن حقائق صرح اهلل هبا ورسوله .وضرهم تعظيم الناس
على مر العصور ألنوار الوالية البادية عليهم حىت ادعى األدعياء
وكذب املنافقون ،وانتسب كل من هب ودب للموكب النوراين
بلبس املرقعات وتلفيق العبارات.
وكان عن شأن العلماء أن يكونوا متبوعني ،لكنهم ضعف
منهم اإلميان فأصبحوا تابعني ،تبعوا الفلسفة يف القرون األوىل،
ونسوا الغيب فأغلقت عليهم نورانية القرآن فهم اليوم أتباع
خانعون أمام التكنولوجية اإلنسانية اليت أصبحت معيارا يقاس به
حق اهلل وغيبه وعلمه الذي جاء به نبيه.
إن املرء ال يقسو إال على أحبابه ،ولطاملا امتهنوا علماء
الشريعة يتيهون عليهم باحلضارة اإلنسانية وعلومها ،حىت إن
علماء الشريعة يفضلون أن يلقبوا استاذا ودكتورا لكي ال يتميزا
عن زمالئهم من طالب علوم املادة .وشتان بني علم األنبياء وعلم
األغبياء ،اجلاهلني لقيمة اإلنسان ومصريه!
لسنا ننقص من أمهية التكنولوجية ودورها يف إحياء هذه
األمة وإعطاءها القوة .فنحن نعتقد أن األهداف اإلسالمية يف
متيزنا واستقاللنا عن اجلاهلية ال ميكن حتقيقها إال بالتكنواوجيا
وتنظيمها للحياة اليومية واالقتصادية واجلماعية ،وحنن نعتقد أن
250
املقاصد اإلميانية يف بناء دولة إسالمية توحد األمة كلها من حوهلا
لن تتحقق إال بعلم تكنولوجي إسالمي نقتبسه ومنتلكه .لكن
هذا كله أحالم واهية إن مل نربط مهتنا كأمة وكأفراد بالغايات
اإلحسانية الغيبية.
أرأيت لو أن كاتبا كتب لك يف مقدمة كتابه دليال حيدد فيه
معاين مصطلحاته ،أفيمكنك فهم الكتاب إن نبذت الدليل ؟
هكذا كتاب اهلل تعاىل أخربنا يف مقدمته أنه لن يهتدي به إال
ب فِ ِيه ُه ًدى املتقون املؤمنون بالغيب َ ﴿ :ذلِ َ ِ
اب الَ َريْ َ
ك الْكتَ ُ
ب﴾ .علماء الشريعة غاصوا يف الفتنة ين يـُْؤِمنُو َن بِالْغَْي ِ لِّلْمت َِّق َّ ِ
ين الذ َ
ُ َ
مع األمة ففقدوا القدم اليت كانت هلم ،وفاهتم ركب املعرفة على ما
يظنون فتقاعسوا .ولو اكتشفوا الغيب بتجربة شخصية لوجدوا أن
الركب الوحيد الذي له عند اهلل حرمة هو ركب املؤمنني ،ولعلموا
أن مث جاهلية وإسالما ،وظلمة ونورا .وإذا ال نفتح هلم القرآن ولو
جدوا الكنز والسر الذي بعث اإلسالم أول مرة ويبعثه غدا.
أبو الدحداح رضي اهلل عنه اشرتى من رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم خنلة يف اجلنة حبائطه كله .هذا رجل عامل عمل بعمله.
وضيف رسول اهلل اجملهود آواه صحايب فقري فتعجب اهلل من
صنعه ،خيرب بذلك رسوله .وهذا رجل عامل عامل .وكل الصحابة
كانوا علماء بعلم النبوة الذي مصدره غيب ومالبسات العمل
251
به متشكلة بالغيب ،واجلزاء عليه غيب ،لكنه غيب كالشهادة
وأقوى.
ما كان اإلميان بالغيب ينفصل عن العلم والتعلم يف عهد
الصحابة.
أما العهود املتأخرة فإنك جتد علماء حرفيني متاعهم ألفاظ
قاهلا فالن عن مائة فالن يعارض بعضهم بعضا أو يعلق عليه
يف موضوع حديث نبوي أو آية قرآنية تبقى أثناء الشروح على
اهلامش ال ماء هبا ألن املاء غاض من القلوب .وجتد ذاكرين
مؤمنني يفضلون األمية املساملة على التعلم والعلم وما هكذا كان
أصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم .إمنا كانت هلم جمالس لإلميان
فيها علم وتعلم وفيها ذكر يسموهنا جمالس اإلميان .والعلم ذكر
فإذا مسعنا وعد رسول اهلل بالسكينة والرمحة للجالسني على الذكر
فإن ذلك ال ينفي من أصناف الذكر هذا الصنف الشريف الذي
هو العلم النبوي علم القرآن والسنة الطاهرة.
عن أيب الدرداء رضي اهلل عنه قال« : 1كان عبد اهلل بن
رواحة رضي اهلل عنه يأخذ بيدي فيقول :تعال نؤمن ساعة ،إن
القلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غلياهنا» .وعند ابن
عساكر عنه قال :كان عبد اهلل بن رواحة إذا لقيين قال يل :
252
يا عومير ،تعال نتذاكر ساعة ،فنجلس فنتذاكر مث يقول :هذا
جملس اإلميان ،مثل اإلميان قميصك ،بينا أنك قد نزعته إذ لبسته،
وبينا أنك قد لبسته إذ نزعته ،القلب أسرع تقلبا من القدر إذا
استجمعت غلياهنا».
وأخرج ابن أيب شيبة عن أيب ذر رضي اهلل عنه قال « :كان
عمر مما يأخذ بيد الرجل والرجلني من أصحابه فيقول :قم بنا
نزدد إميانا فيذكرون اهلل عز وجل».
واخرج أبو نعيم عن األسود بن هالل قال « :كنا منشي مع
نؤمن ساعة». معاذ رضي اهلل عنه فقال لنا :اجلسوا بنا ْ
إن العلم الذي كانوا يطلبونه يف الذكر واملذاكرة علم غييب
يزيدهم إميانا .وعن هذا العلم خيربنا قرآن اهلل عن غيب اهلل يضرب
ال
اهلل لنا األمثال بأنبيائه لنتأسى هبم ونفعل فعلهم حني قال ﴿ :قَ َ
ت ُر ْشداً﴾ ؟ نيب ك َعلَى أَن تـَُعلِّ َم ِن ِم َّما عُلِّ ْم َ وسى َه ْل أَتَّبِعُ َ
لَهُ ُم َ
اهلل ورسوله يتبع عبدا ما هو نيب وال مرسل ليعلمه الرشد .وصدق اهلل
﴿من يـَْه ِد اللَّهُ فـَُه َو ال ُْم ْهتَ ِدتعاىل حني صرح مبا ال يقبل تأويال َ :
ضلِ ْل فـَلَن تَ ِج َد لَهُ َولِيّاً ُّم ْر ِشداً﴾.َوَمن يُ ْ
علم اإلميان وجمالس اإلميان مها املظهران الرئيسيان للحياة
اإلميانية اإلحسانية اليت دفنوها حتت اسم «الصوفية» .ويف هذه
اجملالس صحبة وذكر ومذاكرة وعلم .علم االتباع للسنة وعلم
253
يفيضه اهلل على قلبك من لدنه كفاء اتباعك وتزكيتك للنفس
اخلبيثة انتزعتها من أنانية الغرور وعادات الثبور.
إن تفرع علوم الشريعة وجتردها من الغيب واإلميان سبب
أصلي يف تدهور املسلمني .ولكي يعود اإلسالم حياة ويكون
العلم عمال ال بد لنا من علم جيمع لنا شتات التخصص املدين
الذي أضاع الوراثة النبوية يف علم منهاجي معتصم بالقرآن ال بث
مع القرآن مشتق منه ،يرجع لنا كل شتات إىل نصابه وخيطط لنا
حياة إميانية غيبية يف وسط الفتنة املعاصرة ويعطينا هذه احلياة.
العلم املنهاجي اكتشاف جديد للمحجة البيضاء ،يعيد
طرواة اإلميان بالغيب ألنه يدل على الطريق العلمي التجرييب
الكتشاف الغيب واكتشاف سر اإلسالم ومفتاح القرآن بالصحبة
واحملبة والذكر .إذا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خيربنا بأن
اإلسالم جيدده شخص يبعثه اهلل على رأس كل مائة سنة وحيدثنا
أن التجديد يكون بال إله إال اهلل فنحن جنرب باحثني عن شخص
يلقننا كلمة احلق فيتجدد إمياننا .وهي جتربة شخصية عاشها أجيال
من أهل التزكية أهل القرآن فرادى يف زاوية منعزلة ومجاعات يف
رباطات اجلهاد ،وستعيشها األمة كلها غدا حني يكشف الغطاء
وتنجلي عن العلم احلق غشاوات احلرفية والسطحية.
كان الصحابة ال يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض
254
كما كان يفعل بنو اسرائيل ،بل كانوا يأخذونه كله .وكان األمر
عندهم فطريا ألهنم ناس فطرة علموا أن اخلالق سبحانه بيده
مقاليد األمور ألن حياهتم اليومية كانت صورة طبق األصل ملا
جاء به القرآن ،وحي اهلل ينزل على نبيه بينهم والغيب والتأييد
الغييب حميط برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وكان كل ما يبلغه
الرسول هداية منزلة فكان العلم به جزءا من العلم املنهاجي ،علم
يكون سلوكا كله ال بعضه .فلذلك كانوا حريصني على تعلمه
يتناقلونه بصدق وحيفظونه ويعلمونه.
عن قبيصة بن اخلارق رضي اهلل عنه قال « : 1أتيت النيب
صلى اهلل عليه وسلم فقال :ما جاء بك؟ قلت :كرب سين
ورق عظمى فأتيتك لتعلمين ما ينفعين اهلل به ،قال :ما مررت
حبجر وال شجر وال مدر إال استغفر لك ؟ يا قبيصة ،إذا صليت
الصبح فقل ثالثا :سبحان اهلل العظيم وحبمده تعاف من العمى
واجلذام والفاجل .يا قبيصة ،قل :اللهم إني أسألك مما عندك
ض علي من فضلك وانشر علي من رحمتك وانزل علي وأَفِ ْ
من بركتك».
هذا هو العلم النبوي ! وال تعجب أن يكون املفتونون من
أبنائنا يسخرون من مثل هذا العلم لتعارضه التام مع ما يلقنه
هلم الفكر الوضعي .ذكر اهلل يربئ من العمى واجلذام والفاجل ؟!
255
واحلجر والشجر واملدر يستغفرون ملن مير عليهم ؟! ال تعجب فإن
من صادقي املسلمني من يذهب مع املستشرقني فينفي احلديث
النبوي كله أو جله .أما األصحاب الكرام فصدقوا وتعلموا
ونفعهم اهلل تعاىل بعلم نبيه .وكان األمر فطريا بسيطا ألهنم مسعوا
احلصى يسبح يف يده الشريفة صلى اهلل عليه وسلم ويد أيب بكر
وعمر ،ورأوا الشجر يتحرك وميشي ومسعوا ِجذع النخلة حين إليه
صلى اهلل عليه وسلم ملا استبدله باملنرب ،وعاشوا مع غيب اهلل كما
عاشوا مع احلس الظاهر كل يوم .فإذا اخربهم رسول اهلل بسر
غييب ووعدهم صدقوا وتعلموا وعملوا فنفعهم اهلل .وحنن نشك
لطول األمد علينا فال ننتفع وإمنا نلهت يف ذنايب ركب احلضارات
اإلنسانية وليس لنا مهة لنمسك بزمام أمرنا ونتعلم العلم النافع
آخذينه عن ربنا سواء يف كتابه املنزل ويف صفحات السنة املشرقة
أو يف كتاب الكون الذي صنعه اهلل وعلم فيه اإلنسان ما مل يعلم.
كال ! إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغىن!
عن صفوان بن عسال رضي اهلل عنه قال : 1أتيت النيب صلى
اهلل عليه وسلم وهو يف املسجد متكيء على برد له أمحر.
فقلت له :يا رسول اهلل إين جئت أطلب العلم .فقال :مرحبا
بطالب العلم ،إن طالب العلم تحفه المالئكة بأجنحتها ،ثم
256
يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما
يطلب» .ولو ترى إذ يقرأ بعضهم مثل هذا احلديث ويؤوله ملكان
الغيب فيه خمافة أن يوصم اإلسالم بالغيبية! وأصحاب التزكية
أهل اهلل وأولياؤه يصدقون كما صدق الصحابة باملالئكة ومبا أخرب
به الرسول الكرمي من فرحهم وتراكبهم حىت السماء الدنيا .ذلك
أهنم عاشوا الغيب وآمنوا به كما عاشه الصحابة وآمنوا به ،ومن
مل جيعل اهلل له نورا فما له من نور.
العلم النبوي علم غيب يربط اللطيفة اإلنسانية مبصدرها
القدسي عن طريق الفرض والنفل .والفرض والنفل كيفيات غيبية
هبا يتقرب العبد إىل ربه حىت حيبه ويكون مسعه وبصره .هذا هو
العلم وهذه هي غايته الشريفة والقرآن كله وسنة النيب إمنا مركزها
هذه النقطة :حترير اإلنسان وهتييئه ملصريه العلوي وهدايته فمن
الناس من تلقى هذا العلم عن أهله وصدق وانتفع ،ومنهم من
عظمت عليه أنانيته فال يأخذ وال ينتفع.
أخرج الشيخان عن أيب موسى رضي اهلل عنه قال :قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :مثل ما بعثني اهلل به من الهدى
والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا ،فكانت منها طائفة
طيبة قبلت الماء فأنبتت الكأل والعشب الكثير .وكانت منها
أجاذب أمسكت الماء فنفع اهلل بها الناس فشربوا وسقوا
257
وزرعوا .وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ال تمسك
ماء وال تنبث كأل ،كذلك مثل من فـُِّقه في دين اهلل ونفعه ما
بعثني اهلل به فعلم وعلَّم ،ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم
يقبل هدي اهلل الذي أرسلت به» .املاء حياة ،فما أبدع ما صور
النيب صلى اهلل عليه وسلم !
إن الغيب هو مصدر العلم النبوي والغيب واملصري الغييب غاية
العلم النبيو وحىت وسائل أخذ العلم غيبية ! هذا حديث عن أيب
هريرة رضي اهلل عنه وقد اهتموه باإلكثار من رواية احلديث ،وما
زالوا يفعلون .وقد كتب أحد ديدان القراء يف عصرنا يشتم ويل اهلل
وصاحب رسوله وأن من ديدان القراء من جيمع بني التواء الديدان
ولزوقها باألرض وقذارهتا معا!
أخرج البخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال :يقولون :إن
أبا هريرة يكثر احلديث ! واهلل املوعد ! ويقولون :ما للمهاجرين
واألنصار ال حيدثون مثل أحاديثه ؟ وإن إخويت من املهاجرين كان
يشغلهم الصفق باألسواق ،وإن إخويت من األنصار كان يشغلهم
عمل أمواهلم .وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم على ملء بطين ،فأحضر حني يغيبون وأعي حني ينسون.
وقال النيب صلى اهلل عليه وسلم يوما :لن يبسط أحد منكم
ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من
258
مقالتي شيئا أبدا ! فبسطت منرة ليس علي ثوب غريها حىت قضى
النيب صلى اهلل عليه مقالته مث مجعتها إىل صدري ،فوالذي بعثه
باحلق ما نسيت من مقالته تلك إىل يومي هذا ! واهلل لوال آيتان
َّ ِ
يف كتاب اهلل ما حدثتكم شيئا أبدا ﴿ :إِ َّن الذ َ
ين يَ ْكتُ ُمو َن َما
﴿الر ِحيم﴾ .هذه معجزة للنيب أَنزلْنَا ِمن الْبـيـِّنَ ِ
ات َوال ُْه َدى﴾ إىل َّ َ َ َ
صلى اهلل عليه وسلم ورثها بعض أوليائه فكانت هلم كرامة ،حيثو
أحدهم من اهلواء يف ثوب مريده خريا من اخلري فيكون كما شاء
اهلل .لكن أين حنن من صدق الصادقني!.
259
العمل
علم علمائنا علم بال عمل ،علم بال قضية .يف عامل الكم
الذي أصبح عاملا يقاس بالء الناس يف «اجملتمع» بإنتاجهم
املادي ،واإلنتاج املادي يتيسر بعلم التكنولوجيا ،فكسبها هو
وحق هلا إذ أصبح مسلما أنناهدف كل طالب وهدف الدولةَّ ،
شعب متخلف .واعرتفنا بتصنيف اجلاهلية إيانا أو دافعناه لنقول:
إننا «أمة نامية» لعبا باأللفاظ .واعرتافنا بأننا شعبمتخلف اعرتافا
صرحيا أو ضمنيا خيدر حسنا بل يقتله بالرتدي الكيفي ،باملسخ
الذي أصابنا حىت صنفنا أنفسنا ،بتصنيف الناس إيانا ،على سلم
اإلنتاج الكمي.
العلم النبوي الذي خلق أمة حية حيقق فيها اإلنسان غاية
وجوده على األرض ومسو عن مرتبة احليوان طاردته الفتنة وطرحته
على اهلامش .وكانت قد اصفرت طروس علماء الفروع وعجزت
عن جتديد فقه شرعي لصدود الناس عن العلم النبوي واعراضهم
عن اإلسالم ،وما يغين شيئا إن يتجدد الفقه الشرعي إن مل يتجدد
اإلميان ويتجدد العمل اإلسالمي .وعلم الفروع ال يقدر على
ذلك .وهكذا محل علماؤنا التقليديون جثتا حمنطة إىل هامش
اجملتمع املفتون ،فمن كان منهم من أصحاب القلوب انصرف
260
إىل ربه ينتظر فرجا وبني جنبيه بذور اإلميان ،ومن كان وراقا مشر
جادا ليساير احلضارة ويساير «العلم» ،وعمل بغري ما يعلم رجاء
أن يلحق باملتفرجنني احلذاق يف الندي أو يف املكتب .وهيهات !
إن األمة املعذبة املسكينة تشكو ظلما وفقرا ،وإن سطوة رأس
املال وسطوة املرتفني األثرين ال ترتك عمال لعامل وتسلبه وتتخذه
شيئا من أشيائها .واحلل االشرتاكي حيلل هذه العملية حتليال مقنعا
ويقرتح املخرج .فلهذا يتبع شبابنا األبرياء اجلاهلون إلسالمهم
داعي االشرتاكية ،وحق هلم ألهنم ال يعرفون من اإلسالم إال
ادعياء وال يعرفون دعاة اإلسالم .ويتجهمون لكلمة اإلسالم فما
هي عندهم إال ستار وراءه التدليس ،وما هي عندهم إال شعار
يصطنعه رجال السياسة خيفون به نيات ماهلا باإلسالم صلة .وبني
كلمات املبطلني تتسرب يف الرمل كلمة الصادقني.
العمل اإلسالمي هو موضوع هذا الكتاب ،والعلم النبوي
املؤدي للعمل اإلسالمي هو بغيتنا وهو طلبة هذه األمة املشعبة
املبعثرة ،ما بالنا نردد أحاديث رسول اهلل النابضة باحلياة والعمل
فال توقظ فينا حس اإلميان ،وما بالنا نقرأ قرآن اهلل فال نتحرك.
وكأن الكتاب والسنة ُد ِّجنا يف وسط الفتنة وعينت هلما وظيفة
رمسية هي وظيفة ختدير األمة عن إسالمها .ما دمنا ميأل اجلو صوت
املذياع بالقرآن ،وما دمنا علماء يعظون يوم اجلمعة فاإلسالم خبري
261
! اإلسالم خبري حقا ألنه دين اهلل لكن حنن ؟ ألسنا ضائعني،
جيد وفقر ال يستغين وضالل ال يهتدي ؟ عملنا عبث ال ُّ
عُزل العلم النبوي عن العمل وأصبح بال قضية .العلم النبوي
املوروث ال قبضة له وال سلطان على جمال العمل اليومي .وجيادل
ذرارينا املفتونون بأنك لن حترك مصنعا وال مكنة بأقوال الزخمشري
واخلرشي .وحق هلم أن جيادلوا ألن علماء الفروع ما يستطيعون
أن يعلموهم أن اإلسالم حيرك ما هو أعظم من مصنع ومكنة ،إنه
حيرك اإلنسان ويرقي مهته حىت يصبح اإلنتاج الكمي وسيلة من
وسائله ال غاية.
ما يستطيع أحد أن يعلمهم ذلك إال على قدر ما لديه من
وراثة حبق للنيب الذي بعثه اهلل معلما .وال تكون له وراثة حبق إال
إن علمه شديد القوى ذو مرة من العلماء العاملني كما عمل
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شديد القوى ذو مرة من املالئكة.
وإن وراثة الوراقني تبلى بعد جيل ويتجدد مرياث العلماء العاملني
على رأس كل مائة سنة ،وهو أبدا جديد بتجدد إميان العاملني
كل غدو ورواح بال إله إال اهلل.
لقد أويت الصحابة اإلميان قبل القرآن كما حيدثنا موالنا عبد
اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما .وهذا يدل على املنهاج والفقه
املنهاجي الذي يسبق اإلميان فيه العلم ويتلوه بعدئذ العمل .فإن
262
دخل يف ومهنا أن بيدنا إسالما إلن من بيننا محلة للعلم النبوي
رواة لفظيني وأن كانوا ال يصلون وال يتقون فلنقبل معها أن يكون
من شبابنا من يضحكون ويسخرون وال يصدقون.
بدأ الصحابة رضي اهلل عنهم عملهم اإلسالمي باهلجرة وكان
عملهم بعدها جهادا باملال والنفس ،وما كانوا يستكثرون من
البضائع املستهلكة إال ما يعدونه من قوة لقتال عدوهم .كان
عملهم حبافز غري حافز الربح املادي وال اجلاه الدنيوي .كان عمال
كيفيا يصل املؤمن بربه وحبياة النعيم السرمدية .أبو عقيل رضي
اهلل عنه جير اجلرير طول الليل ،واجلرير هو احلبل عنوان العمل
الشاق اجملهد .كان جيره طول الليل على ظهره على صاعني من
متر يأكل منها صاعا مع أهله ،وهو قوت اليوم على التقشف
الكامل اخلارق للعادة ،ويتصدق بصاع ينثره مع الصدقة ،وما
صاع متر ببالد التمر لكن انظر إىل احلافز الغييب احملرر لإلنسان
من عبوديته ،ينزعه من سلطان احلاجة إذ يدعوه إىل العمل بنفس
احلركة اليت حيرره هبا من عبودية امللكية وعبادة الربح والثروة يف
اجلماعة املؤمنة األوىل ال يوزع العمل اجلماعي حسب طبقية
أساسها التملك والثروة ،بل حسب طبقية كيفية يضرب فيها
احملسنون املثال وجيتمع فيها املؤمنون متعاونني على الشأن العام.
ويف اجملتمعات املعاصرة تفرض حاجات احلضارة لعنة توزيع
263
العمل الكمي حسب قوانني تعرفها الشيوعية العلمية ،ومع توزيع
العمل استغالل العمل ،ويف سياق العراك حول االستغالل ينشأ
جمتمع جديد فيه توزيع للعمل حلاجة احلضارة وفيه استغالل
للعمل وطبقية أدهى وأمر من الطبقية اليت حارهبا الشيوعيون،
طبقية ولدت هلم على الفراش اإليديولوجية ممجدة العلم والعمل!
واإلنسان يف كل هذا عبد وآلة وشيء.
كان أبو عقيل جبريره على ظهره إنسانا حرا وعامال حرا
وعضوا يف اجلماعة فعاال بصاعه الذي سخر من قلته املنافقو.
ال موضوع للتأمل يف حياة كانت على قدر اإلنسان مضت ،وال
مناص لنا من حتمل احلضارة وما ترزأه اإلنسا َن بل حنني ضائع
ألننا أمة اإلسالم لن نكون جزيرة وسط خضم الصراع اإلنساين
آمنة ترجع لنخلها وجريرها!
إن العلم النبوي إن مل يكن مصدرنا إلحياء األمة بإحياء
اقتصادها فلن تكون لنا حياة .إن اهلل بعث رسوله ليعلمن الكتاب
واحلكمة وليتلو علينا آيات ربنا .فبالتالوة نذكر ربنا فيعطينا إميانا،
ومن الكتاب نستخرج احلكمة لكي تتحكم يف شؤون حياتنا
وتسريها على املنهاج .ما احلكمة إال َح َك َمة تتحكم يف االجتاه
وتتحكم يف العمل ويف نظام العمل .والفقه املنهاجي اكتشاف
للحياة اإلميانية وللحياة املفتونة معا،مث بعدمها للحياة املنبعثة غدا.
264
إنه منظار ننظر به تارخينا يف امتداده للغد املوعود.
ألمة صارت «شعبا ومجهورا» ال بد من دعوة حبكمة ،وحتول
حبكمة وجهاد حبكمة .وكل عمل مرجتل محاسي صاخب ينايف
احلكمة فهو كالفرس الذي ال حكمة له حتكمه.
إن مناط العمل االجتماعي هو هذا النشاط الذي تسميه
اجلاهلية «سياسة» وننقل اللفظ حنن وننقل معه اللغة املتضمنة.
وغري ذلك يكون العمل اجلماعي املسلم ،لنسميه جهادا ولنسميه
عمال ،ليس اللفظ أهم ما يعوقنا ،بل وجود احلكمة .رجل السياسة
يرجتل ويصخب ويلتهب محاسا ،ويدس أيضا ويكذب ويؤارب،
وهو يطلب رئاسة وحكما .وما العمل اإلسالمي يشبه ذلك .إن
الرسول أخرب من سأله والية أنه ال يعطي هذا األمر طالبه .وها
قد حتدد لنا مبدأ الساسة ومعادهم ،إهنم طالب منصب ،وما
الشباب التائر إال أرنب يف حبال!
نعذر الساسة كما نعذر القاعدين ،فقد يكون النشاط
السياسي بديال عن اخلمول إن استطاع السياسي أن يبقى نظيف
اليد والضمري .وإن يف دار اإلسالم لرجاال تاهوا مع الفتنة وهبا
فتجد يف عملهم غضبا حيا على ظلم الظاملني وجتد له عبريا
ينسيك أسى اجلثت احملنطة .إمنا نسأل العلم النبوي عن حكمة
الغد يوم يضطر قادتنا وساستنا العتناق إسالمهم بصدق بعد
265
فشل عملهم املفتون الضائع بني اشرتاكية تتلون باإلسالم إذ مل
يكن هلا من نفسها وبني عشوائية تتقاذفها أمواج الصراع.
إن ثقافتنا يف جمتمع الكراهية ثقافة هجني مشبعة بالكفر واجلهل
اجلاهلي كإشباع إسفنجة البحر مبلحه ومائه .فمن استعمرت عقله
هذه الثقافة املهجنة اصبح دخيال يف األمة املستضعفة الوارثة يدين
حال ومنصب للنماذج اجلاهلية بوالئه ويدين ألنانيته املرتفة مبال ّ
حال أو مبال ممكن ومنصب مطلوب .وبني هذا الدخيل وعامل ّ
الفروع الذي ال يصلي وال يتقي حوار الصم البكم ألن املثقف
فرغ من تصفية ثقافة العناكب يف زعمه وأقنع صاحبه ،فأحدمها يف
برجه العاجي مع برست وماركس واآلخر ال يفتأ يسوي بضاعته
ويسميها «ثقافة» ويقنع من الغنيمة بكرسي الكلمة اإلسالمية يف
املناسبات يفرتي على اهلل ألنه ال يعمل مبا يعلم .أحدمها جيهل
إسالمه ويعاديه وميقت حبق النماذج الدعية ،واآلخر ال يعمل
بعلمه فهو عند اهلل خمزي ،وعجل له سخرية أقرانه وتبعية الديدان.
وعند العلماء العاملني ننشد غدا إن شاء اهلل اجتهادا منهاجيا
ال يلفق بل جيدد ويعاجل الفتنة ليتعلم منها خريها وشرورها مث
ليستنبط لنا ثقافة مسلمة ال تكون مجوحا حنو اجلاهلية ووالء هلا
بل توترا حنو مستقبل عزة اإلسالم.
احلياة اإلسالمية يف ظل لواء اإلسالم تبدأ بعمل جهادي ال
يشبه عمل اجلاهلية اجلالسة على مكتسباهتا املرتاكمة .سيكون
266
العمل اإلسالمي جهاد كل ساعة وكل دقيقة جهاد بناء من عدم
أرض خاوية قحالء وضمائر أكثر خواء ،ومن فوق ذلك فتنة
موروثة ثقيلة .وهذه اخلاليا البشرية العديدة ستتحرك جلدة الدعوة
وستستجيب لداعي اإلسالم لكن مىت ينتهي محاسها ؟ اجلماعة
اإلميانية ال وجود هلا ،وأول العمل بناؤها لتتحمل مسؤولية البناء
حبافز الصدق الذي ال ينتهي وال ميل ال حبافز احلماس العابر .فإذا
رأى املسلمون املنضوون حتت لواء اإلسالم اجلهادي صدق العمل
جتدد محاسهم حىت يصبح صدقا.
إن كان ال ينفع احلنني جلماعة ال توزع اإلنسان بني داوعي
احلضارة املمزقة ،فلنوطد العزم على جر اجلرير بصرب وصدق ننصب
ونتعب ونعرق ونتحمل ونوثر على أنفسنا مع اخلصاصة ،إىل أن
حنول هذا اجلهاز االجتماعي املفتون مجاعة متعاونة ،مث نسري قُ ُد ًما
لنحقق القوة دون أن نُرتف يف اهلدف االقتصادي.
إن العمل اإلسالمي عمل كيفي ،موقف اإلنسان فيه موقف
سيد حر ال حتكمه احلاجة ألنه يصرب على اخلصاصة ويتقلل
ويزهد ،وال يغريه التكاثر بل تغريه اجلنة ويغريه وجه اهلل وتغريه
القوة اليت أمرت األمة أن تعدها لتجاهد يف سبيل اهلل.
كان سلفنا الصاحل يعملون مبا يعلمون فورثهم اهلل علم ما ال
يعلمون ،وكانت ينابيع احلكمة تنبع من قلوهبم كفاء اخالصهم هلل
267
تعاىل ،كما جاء كل ذلك يف احلديث .كان هلم علم لدين يربط
اهلل به على قلوهبم ،وكان هلم منهاج للعمل العبادي واجلماعي
وهلم عزم وهلم قوة ومضاء.
وكان سلفنا الصاحل يعملون وال خيافون التعب ويستعيذون
باهلل كما استعاذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الكسل .عن
الزبري بن العوام رضي اهلل عنه قال« : 1قال رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :ألن يأخذ أحدكم حبله مث يأيت اجلبل فيأيت حبزمة من
حطب على ظهره فيبيعها فيكف اهلل هبا وجهه خري من أن يسأل
الناس ،أعطوه أو منعوه».
أما ترى كيف يتخلل العامل النفسي اإلمياين العمل وكيف
يكون كف الوجه واحلفاظ على املروءة حافزا على العمل ! وخيربنا
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خبرب األنبياء بعد أن يضرب املثال
بعمله .فهو كان يف مهنة أهله إذا دخل يرفو ثوبه ويطحن ويكنس،
فإذا خرج مجل احلجارة وحفر اخلندق وغرس مع الغارسني ،وخيربنا
أن داوود عليه السالم «كان ال يأكل إال من عمل يده» ،2وأن
3
زكرياء عليه السالم كان جنارا.
وحث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على العمل والعمل
1رواه البخاري.
2رواه مسلم عن أيب هريرة.
3رواه مسلم عن أيب هريرة.
268
اليدوي حثا ملحا حىت قال « :إن قامت الساعة وبيد أحدكم
فسيلة (غرسة نخل) فاستطاع أال تقوم الساعة حتى يغرسها،
فليغرسها فله بذلك أجر».
عمل مقابل األجر عند اهلل ومقابل اجلنة ورضى اهلل ،هذا
عمل ال يتشيأ أبدا الرتباطه بالغاية العليا وال يشييء املرء أبدا،
بل يرفعه عن مستوى الدابة ،فهو عند نفسه أشرف ما يكون حني
يعمل ،يكون عمله عبادة إن عمل لقوته أو لقوت عياله ويكون
عبادة إن سعى يف حوائج الناس ،ويكون عبادة إن جر اجلرير لينثر
يف مال املسلمني ولو صاع متر.
إن اإلسالم يرمي لكي ينتزع اإلنسان من جاذبيته األرض،
ليطلب األخرة فيعمل يف دنياه متجردا ال ميلكه الطمع ويتقلل.
مث إن اإلسالم شرع قوانني لتنظيم العمل هي القوانني اإلهلية
النهائية ال يوازيها اجتهاد اإلنسان .ويف ظل قانون اهلل وحنو األخرة
يسلك املؤمن واملسلم مينعهما وازع السلطان ووازع القرآن من
البغي ويزجرمها عن الكسل .ويف ظل اإلسالم يكون للصدقة معىن
وللتعاون معىن وإلطعام الطعام على حبه معىن والكرام الضيف
واجلار معىن وللبذل معىن .ذلك كان يف مجاعة القناعة والقلة
عند أسالفنا ،ويكون غدا هلذه األمة تنفض غبار الكسل وتشمر
لبناء مجاعة فيها القناعة والقوة يزري هباؤها بداوبية اجملتمعات
االستهالكية الصائرة إىل خراب.
269
السمت
ض والذمة والوالء واحملبة مقوالت خلقية غيبية، ِ
الوجهُ والع ْر ُ
وتصبح مقوالت عملية عند اجلماعة املؤمنة ،فبذلك يتميز العمل
اإلسالمي عن العمل اجلاهلي.
إن للجاهلني محية وإن هلم «شرفا» أنانيا به يتعاملون وعليه
يتعاركون ،وللوجاهة املكانة األوىل يف حسباهنم .يطلب الرأمساليون
تسلق السلم االجتماعي جبمع املال ومجع اجملد بالنجاح الصناعي
والثقايف ،ويطلب الشيوعيون رئاسة باالنتماء للحزب السيد.
وحنن املفتونني نتبىن قيم اجلاهلية زمن ضياعنا .ففخفخة اجلاهلية
فخفختنا وأعيادهم أعيادنا ونزامحهم يف الندي نرطن بلساهنم
ونكتسي بأثواهبم ال يتميز أحدنا ،وال ُيب أن يتميز إال ريثما يؤكد
أصالته «الفلكلورية» مث هو املتفرنج ربيب احلضارة ،أو هو الثوري
العاملي حمرر اإلنسانية يف زعمه .ال يتميز أحدنا عن اجلاهلني إال
بأن اجلاهلي يكسب جمده ورئاسته بالكد والغَناء والكفاية .وحتت
أصحابنا املفتونني ركام بشري مستعبد على كتفيه يسقط احلمل
محل طبقة مرتفة ليس هلا مست اإلسالم وال عمل اإلسالم.
مرتفونا ضاعت شخصيتهم يف مظاهر احلضارة اجلاهلية مثلما
ضاعت أرواحهم بكفر اجلاهلية ،فإذا كان هلم وجه فهو وجه ال
270
يستحي من اهلل والناس بل يُصبغ بعد حلقه ليتم املسخ .وإذا
كان هلم أهل فالعشرة جاهلية وماتت حىت املروءة اليت اليت حتفظ
العرض ،وإن كانت هلم والية وحمبة فهي منصرفة للخليلة والصديق
اجلاهليني ومنصرفة لبطانة جاهلية ُتلي السلوك.
كان مصطفى كمال أشجع من أبطال التاريخ القوميني ،كان
كفره صرحيا وكان سلوكه جاهليا ال يتسرت ،فعرفته األمة اإلسالمية
وعانت منه لكنها مل تنسلخ عن دينها وهيهات ! أما أبطال
التاريخ فينتسبون إىل القومية واإلسالم ،أصيلني يف األوىل أدعياء
يف دين اهلل .وحيجون أو يعتمرون «ويرأسون» صالة اجلمعة،
لرياهم الناس يف تلك املواقف بسمت ظاهر يساهم يف عملية
ختدير احلس اإلسالمي وتدجينه حىت ينحصر يف مظاهر رمسية.
فأولئك أنكى على األمة من الكافر ،وإن املنافقني يف الدرك
األسفل من النار.
إن رجوع األمة إىل السمت اإلسالمي يعين حتررها من أشكال
احلضارة اجلاهلية وثقافتها ليتم التحرر من العادة الدوابية .اختاذ
السمت اإلسالمي ونبذ السمت اجلاهلي برهان على الصدق
يف نبذ العادة القاعدة باإلنسان عن اكتمال فطرته .فاألوضاع
االجتماعية املقلدة للجاهلية تقتضي أن نلبس على أعني الناس،
واملرتفون يلبسون على أعني خالهنم اجلاهلييني ،يتبعون املودة
271
لريقصوا يف مراتع الدَّعارة خمنثني ال رجولة هلم .وتقتضي هذه األوضاع
أن نعيش يف أسرتنا ويف الشارع والعمل يف ضيق شديد على أعني
الناس ،لئال ننعت بالتخلف .وللعيال مطالب باهظة يفرضها وضع
الفتنة العارمة .وكل هذا مدعاة للتعب الشديد واالحنالل اخللقي،
وما مجاع السمت اإلسالمي إال خلقية تستعلى على العادة .ال َجَرم
أن تستبد بنا العادات اجلاهلية فنظم ونرتشي ليتأتى لنا أن نباهى
الناس ،وال جرم أن يتخرب اقتصادنا ألن مطالب احلضارة تتنوع
فتزداد عبوديتنا هلا بازدياد حاجات نفوس ال متلك حريتها .ونستورد
السيارات ونبين القصور للفخفخة الكاذبة .ويقوى عدونا من حيث
نفتقر ونضعف .هل قرأت عن نظام الصهاينة يف الكبوتزات ؟ هل
رأيت كيف خيشوشنون ويتقللون ؟ وهل رأيت كيف يستعدون ليوم
اجلالد يف الوقت الذي يلهو فيه شبابنا بالسينما تغريه باحلياة الرخية
املكتظة ؟ فذلك سبب اهنزامنا أمام عدونا!
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« : 1ما من مولود إال
يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه .كما
جماء .أتحسون فيها من جماء؟ ثم قرأ : تنتج البهيمة بهيمة َّ
كيل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِ َ ِ
َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ
َّ ِ َِّ
فط َْرةَ الله التي فَطََر الن َ
ِ
ِّين الْ َقيِّ ُم ».
الد ُ
1رواه البخاري وغريه عن أيب هريرة.
272
فالفطرة أصل ،وعامل الرتبية يُردى اإلنسان يف محأة العادة
وكلما ابتعد اإلنسان عن دين اهلل ابتعد عن الفطرة وزاد شقاؤه.
هذا هو اإلنسان اجلاهلي غارق إىل أذنيه يف ضباب وجرائم جمتمعه
وعنفه اليائس على نفسه وعلى العامل ،يعيش ليأكل ويتنفس
هواء ملوثا ويبذر خريات األرض وينجس البحر ،هذا هو الوجه
احلقيقي للحضارة اجلاهلية ختفيه مظاهر النعيم وإمنا القوة يف اقتناء
هذه املعامل وهذه الصناعة .وإمنا الفطرة قوة يف اخلَلَ ْق واخلُلُق معا،
لكن قوة نظيفة حسا ومعىن.
مث إن احلضارة الصناعية حضارة كئيبة رغم تصنعها للساعدة.
واإلسالم الفرحة الكربى يزف لإلنسان بشرى خالصه من األرض
حني يصله مبعاين السماء .وأكثر ما جيب أن يظهر به اإلسالم
املتجدد غدا من السمت اإلسالمي اليُسر والبشاشة .فقد اعتاد
املسلمون أن يتصوروا إسالمهم تزمتا وضيقا ألن الدنيا سجن
املؤمن ،ويوردون بكاء رسول اهلل وأصحابه وحزهنم وخوفهم ،ال
مييزون مقامات هذه املشاعر الغنية الرقيقة يف حياة الصحابة.
يُعرف البوم املسلمون بسيماهم ،فهم الضعفاء يف معرض
الضعف ،وهم الفقراء وهم املنهزمون وهم املبِ ّذرون لثروات
بالدهم .ويف دار اإلسالم أغىن قطر يف العامل يتيه على األمة
الغثائية بقناطريه املقنطرة ! وغدا حني ييأس قادتنا من مناهبهم
273
ويفيئون إىل اإلسالم هربا من دوامة العنف العسكري ستتبدل
سيما املسلمني فيعزون ويتحررون ويستغنون .ومن أمة مستضعفة
خيلق اهلل الوارثني .والبوتقة اليت سيصنع فيها السمت اإلسالمي
هي املسجد ،لذلك نلخص األمر كله إذ ندعو إىل مست املسجد.
ففي املسجد وقار وفيه هيبة وفيه حياء وفيه جد .وقد احتفظ
املسجد مبظهر املساواة بني املصلني وإن كان قد فقد هذه املشاعر
الرقيقة مشاعر احملبة واملواساة بني املسلمني .وال عجب فإن
الناس يتعاملون خارج املسجد بغري ما كان يتعامل به األنصار
واملهاجرون إذ يضع أولئك األسعف حتت التمر ليختار املهاجر
النصيب األصغر من متر أخيه فال يتأمل قلبه!
دخلت مساجدنا فخفخةٌ ما كانت على عهد رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم وتلك أمة قد خلت ،وال يؤوى إسالمنا إال مساجد
وظيفية يف شكلها إنسانية مبضموهنا ،مبجالس اإلميان وباملبايعة
على الطاعة والتطوع والتعاون البناء .ولن هندم هذه املساجد
املشيدة املزوقة بل نعمرها ،وعمارهتا شيء غري هذا التزويق ،إمنا
عمارهتا بقلوب طاهرة وعقول مدبرة وجسوم نظيفة قوية وأخالقية
تعبق بأريج الروحانية العالية للمؤمنني احملسنني.
مست املسجد يف أجلى صورة حني يتجالس املسلمون يذكرون
رهبم .إهنم عنذئذ يف أعز مكان وأهبى عمل .عن أيب سعيد
274
اخلدري رضي اهلل عنه « : 1خرج معاوية رضي اهلل عنه على حلقة
يف املسجد فقال :ما أجلسكم ؟ قالوا :جلسنا نذكر اهلل .قال :
اهلل ! ما أجلسكم إال ذاك ؟ .قالوا :ما أجلسنا إال ذاك .قال :
أما إين مل اسحلفكم هتمة لكم ،،وما كان أحد مبنزليت من رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم أقل حديثا مين .إن رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال :ما أجلسكم ؟
قالوا :نذكر اهلل وحنمده على ما هدانا لإلسالم ومن به علينا.
سكم إال ذلك ؟ قالوا :اهلل ما أجلسنا إال فقال :آهلل ما أجلَ َ
ذالك ! قال :أما إني لم استحلفكم تهمة لكم ،ولكنه أتاني
جبريل فأخبرني أن اهلل يباهي بكم المالئكة !»
إن اختاذ السمت اإلسالمي يف حركية املنهاج يعين تبديل رموز
اجلاهلية بالرمز اإلسالمي .فأهم رمز هو شخص املؤمن اجملاهد
املتجدد املرابط يف خيمة اجلهاد ،كما كان عمر بن اخلطاب
رضي اهلل عنه رمزا حيكى حياة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
نظافة وتقلال من الدنيا وعدال وسهرا على الرعية .والرمز الثاين
هو املسجد ،فيكون بناء املسجد عالمة لبداية التعبئة اإلسالمية
واجلهاد اإلسالمي ،يساهم فيه املؤمنون املتطوعون حىت يقوم ،مث
يعمرونه ويدورون عليه يف حياهتم اإلسالمية اجلديدة كما فعل
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه.
275
أول عمل مجاعي للمسلمني بعد مبايعة األنصار وبعد هجرة
املسلمني املكيني إىل إخواهنم ،أي بعد تأسيس اجلماعة بالطاعة
وبرهان الصدق ،هو بناء املسجد ،أخرج اإلمام أمحد عن أيب هريرة
رضي اهلل عنه أهنم كانوا حيملون اللَّنب إىل بناء املسجد ،ورسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم معهم :فاستقبلت رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وهو عارض لَبِنة على بطنه ،فظننت أهنا شقت عليه،
فقلت ناولنيها يا رسول اهلل ! قال :خذ غيرها يا أبا هريرة ،فإنه
ال عيش إال عيش اآلخرة!»
وأخرج الطبارين عن عُبادة بن الصامت رضي اهلل عنه قال :
« قالت األنصار :إىل مىت يصلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
إىل هذا اجلريد! فجمعوا له دنانري فأتوا هبا النيب صلى اهلل عليه
وسلم فقالوا :نصلح هذا املسجد ونزينه ،فقال :ليس يل رغبة
عن أخي موسى ! عريش كعريش موسى!».
وعن ابن شهاب قال « :كانت سواري املسجد يف عهد
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جذوعا من جذوع النخل ،وكان
سقفه جريدا وخوصا ليس على السقف كثري طني .إذا كان املطر
امتأل املسجد طينا ،إمنا هو كهيئة العريش».
هكذا كان العمل ،وهكذا أسس مسجد التقوى بالتعاون بني
اإلمام األعظم واملؤمنني ،كان بينهم يبغي ما يبغون من فضل اهلل
276
ويطلب الآلخرة كما يطلبون .وهكذا كان عزم الرسول الكرمي
على التقلل ونبذ التلكف حىت جاء اإلمامان عمر وعثمان فوسعا
املسجد وأحكما البنيان لكنهما مل يـَُزِّوقَاه.
لبناء املسجد معىن حضاري عميق ،فأس اإلسالم احملبة،
واحملبة تنشأ باملعاشرة واأللفة ،وهذا يقتضي أن يتجمع الناس يف
قرى وأن تتجمع حياة القرية يف املسجد ،وأن يـَْع ُمر املسلمون
مسجدهم باملواظبة على الصالة يف اجلماعة .أخرج ابن عساكر
أن عمر بن اخلطاب ملا افتتح البلدان كتب إىل أيب موسى وعمرو
ابن العاص وسعد ابن أيب وقاص يأمرهم أن يتخذوا للجماعة
مسجدا وللقبائل مسجدا ،فإذا كان يوم اجلمعة انضموا إىل
مسجد اجلماعة فشهدوا اجلمعة .وكتب إىل امراء األجناد أن
ال يبدوا إىل القرى وأن ينزلوا املدائن وأن يتخذوا يف كل مدينة
مسجدا واحدا .كل ذلك حفاظا على اجلماعة ليتزوار املؤمنون
كل يوم مرات ويتعارفوا ويتحابوا.
وكان من اهتمام عمر رضي اهلل عنه باملسجد أنه كان جيمره،
أي يطيبه بالبخور ،كل يوم مجعة .وكل ما يُصلح املسجد وحيببه
للمصلني واجللساء فهو من هذا الباب حاشا التزويق .ويرحم
اهلل أسالفنا مل يكفهم أن يتباهوا من املساجد باحليطان حىت بنوا
األضرحة وشيدوها وبذروا األموال!
277
ال ميكن أن نعرف إسالم املسلم يف توبة املسلمني حتت لواء
اإلسالم غدا إال مبا كان يتعارف به املسلمون األولون .فكان
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأمرهم يف البعثات أال يقاتلوا قوما
يؤذنون للصالة ،واألذان رمز ينم عن وجود مسجد واملسجد رمز.
وكان املسلم حيضر الصالة يف اجلماعة فبذلك يعرف أنه مسلم،
ويقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :العهد الذي بيننا
وبينهم الصالة !» .ويوجب اإلسالم شهود اجلمعة ،وعزم رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم على حرق بيوت قوم ال حيضررن اجلماعة
واجلمعة .يف دار اإلسالم اليوم قليل ممن يُصلون .دخلت الصالة
يف الشؤون اخلاصة يف عرف األمة املفتونة ،ال شأن ألحد هبا ،كما
انزوى اإلسالم يف ما يسمونه «معاهد إسالمية» .وليت شعري مب
يفخر الذين يتباهون بوجود معاهد دينية يف دار اإلسالم ؟ إنه يا
قوم ما ذل املسلمون إال منذ أصبحوا وهلم معاهد دينية إىل جانب
أخرى غري دينية !
ليكن لنا يف كل حي مسجد ويف كل معهد ويف كل مصنع
وإدارة ،والعهد الذي بيننا هو الصالة .وإن للصالة يف استواء
أوقاهتا واستواء الناس متواضعني أمام رهبم واستواء صفوفهم وطيب
أنفاسهم لبهاء ومجاال .ويعرف املؤمنون بسيماهم يف وجوههم
من أثر السجود وأثر السجود نوارنية وطمأنينة تظهرها مالحم
278
الوجه ألن الصالة ذكر وتسبيح بالروح واجلسم والعقل معا .وتأيت
الطمأنينة إىل القلب فيتفتح الوجه مستبشرا وجتد املصلني ينضحون
طهارة وبشاشة وسعادة.
كتب عمر رضي اهلل عنه إىل أحد قواده الذي سأله مددا
وشكا له حال اجلند « :إن أهم أمركم عندي الصالة !».
الصالة جتمع وقت املؤمنني ويتبلور مبناسبتها الروح اجلماعي،
فلذلك حيتفل هبا املسلم ،فهي يف كل يوم مخس مناسبات لذكر
اهلل وطلب الغاية اليت من أجلها خلقنا ،وهي يف كل مجعة حفل
هبي ،ويف كل عيد مظهر جلمال اجلماعة وقوهتا وكثرة عددها.
فلذلك أمر صلى اهلل عليه وسلم بالسري إىل املسجد يف الظلم ،يف
غسق الليل وعند الفجر ،وأمر بالطمأنينة يف السري إىل املسجد،
وأمر بالتبكري حلضور صالة اجلمعة وأمر بالربوز لصالة العيدين
بالنساء والصبيان يف مظاهر احلبور.
إىل املسجد كان يفزع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إن
حدث حادث ،وفيه كان جيمع املسلمني ،وفيه كان يربم أمر
اجلماعة ومنه كان خيرج اجملاهدون يف وجههم للجهاد ،وفيه كان
يلقي الوفود ،وفيه كان يعلم أصحابه ،وفيه كان جيلس حلاجة
املسلمني ،وفيه كان يتم أمر األمة األعظم وهو املبايعة لإلمام.
هلذا ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ضمن السبعة
279
الذين يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله رجال قلبه معلق
باملساجد .شيوخ املسلمني اليوم وعجزهتم يلزم بعضهم املساجد،
ولسنا نرغب يف مثل هذا التعلق الفردي إمنا حنب حياة للمسلمني
جديدة تنشأ يف املسجد وتشب وتعمم أوقات املسلم كلها معاين
املسجد ومعاين اجلماعة اليت مأواها املسجد .فتبدأ حركيتنا من
املسجد وتدور حول املسجد عامرا بالقلوب املؤمنة تذكر اهلل
وتصلي له وتتلو قرآنه وتتعلم الكتاب وتتعلم احلكمة .فذلك
مرياث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وحبيازة املرياث يقوى
املستضعفون فيصبحون خلفاء يف األرض أوصياء على اإلنسانية.
روى الطرباين عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أنه مر بسوق املدينة
فقال « :يا أهل السوق ما أعجزكم ! قالوا :وما ذاك ؟ قال :
ذاك مرياث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقسم وأنتم ههنا !
أال تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا :وأين هو ؟ قال يف
املسجد! فخرجوا سراعا ووقف أبو هريرة هلم حىت رجعوا .فقال
هلم :ما لكم ؟ فقالوا :يا أبا هريرة ! قد أتينا املسجد ودخلنا فيه
فلم نر فيه شيئا يقسم! فقال هلم أبو هريرة :وما رأيتم يف املسجد
أحدا ! قالوا « :بلى ! رأينا قوما يصلون ،وقوما يقرأون القرآن،
وقوما يتذاكرون احلالل واحلرام ،فقال هلم أبو هريرة :وحيكم !
فذاك مرياث حممد صلى اهلل عليه وسلم.
280
التــؤدة
املسلمون اليوم رخوة أجسامهم وأرواحهم ،رخوة دوهلم ال
تقدر متتنع عن عدوها .وللعدو درع من حديد تكتنف عنفا
أصيال يف اجلاهلية وال تصل أن تكتمه .ففي يد اجلاهلية أسلحة
حيركها العنف وتلهبها الكراهية والعصبية ودواعي التكاثر .ويوكل
املسلمون أكل اخلراف ويقتلون .وهبذه القوة قوة احلديد يباهي
عامل اجلاهلية أمة املستضعفني كما يباهيها بزينته احلضارية .هكذا
كان دأب اجلاهلية ودأب السالم وال يزال .وما بيننا وبني النصر
إال أن نؤمن باهلل ونصلح العمل ،ليفي اهلل بوعده فيمن على
املستضعفني ويستخلفهم .ما بيننا وبني النصر إال أن ننصر اهلل
على أنفسنا وننصره على الناس ،فنغضب حلَُرمه اليت هتتك وال
نغضب محية وتنافسا على الرئاسة ،ونغضب أن يكون حزب اهلل
مقهورا يف دار اإلسالم ويتحكم الطاغوت ،ونتبع بعد ذلك شرع
اهلل يف إعداد القوة كما أمرنا حىت ُيسك اهلل بالزمان ويكون ولينا
ووكيلنا.
وإن موكبا تقوده يد اهلل القوية وتنصره لبالغ مداه .قال اهلل
ين َك َف ُروا ات قَ َ َّ ِ تعاىل ﴿ :وإِ َذا تـتـلَى َعلَْي ِهم آياتـنَا بـيـِّنَ ٍ
ال الذ َ ْ َُ َ َ ُْ
س ُن نَ ِديّاً َ ،وَك ْم أ َْهلَ ْكنَا ِِ
َي الْ َف ِري َق ْي ِن َخيـٌْر َّم َقاماً َوأ ْ
َح َ آمنُوا أ ُّ للَّذ َ
ين َ
281
س ُن أَثَاثاً َو ِرئْياً﴾. ٍ
َح َ
قـَبـْلَ ُهم ِّمن قـَْرن ُه ْم أ ْ
إن اجلاهلية تستغين بأثاثها وِرئْيها ،وإمنا يفنت املسلمني هذا
األثاث احلضاري فيستبدلون ندي املسجد الذي حتضره املالئكة
وتغشاه السكينة بندي كافر فيه اجلهل حني يسمى ثقافة ألن
هذه الثقافة جتهل قيمة اإلنسان ،وفيه اجلهل حني يكون عمال
ألن العمل اجلاهلي عنف اإلنسان املتأله املستعلى يف األرض يزعم
أن األرض له والسماء وأن عقله حيكمه يف األمر كله .فعنف
وال سكينة وجهل ُمطبق بالغايات اإلهلية .ويهلك اهلل كل قوم
استحسنوا أثاثهم َوِرئـْيـَُهم ولو كانوا ملء مسع الدنيا وبصرها.
هذا األثاث اجلاهلي الذي تتفوق به علينا اجلاهلية درع من
حديد يف يد اإلنسان اجلاهلي ومفتاحه التكنولوجية ،وهذه الثقافة
اجلاهلية الساكنة بني ضلوعنا ال تتطلع إىل مصري أحسن من مصري
طبقة من اإلنسانية حمظوظة ختاف على خرياهتا من سكان األرض
املساكني اجلياع املتكاثرين بأعداد هائلة .ويرتكب اجلهالن يف
تصرف اجلاهليني ويظهر حني يرمقون تارة احلل السلمي فينثرون
ور السالم صُ
أحالمهم ُ
َ للمستضعفني قبضات من ماهلم وتسكن
املدمر املطلق وهو الدرع احلصني الذي يقيهم هجمة اإلنسانية ّ
اجلائعة بعد أن يَتكاثر البشر تكاثر اجلراد .إن هذا اإلنسان املتأله،
هذا الربومثيوس كما يعربون ،ال يرى يف أفقه إال العنف وأسباب
282
العنف ،وله الغلبة يف األرض فيجرنا يف دوامة عنفه ،ويستخفنا
الرئْي ،ويستخفنا وعد اكتساب مثله ،وننسى أن بأيدينا األثاث و ِّ
الكنز الذي تبحث عنه اإلنسانية ،فإذا حنن قوم مسخ أشداء على
أنفسنا واهنون أمام عدونا نكره املوت وحنب احلياة ،أي حياة
حياة الدابة خائعني بلداء.
شو َن َعلَى
َوصف لنا اهلل عز وجل عباد الرمحن ،فهم ﴿ :يَ ْم ُ
ض هوناً وإِ َذا َخاطَبـهم الْج ِ
اهلُو َن قَالُوا َس َلماً﴾ .إهنم َُ ُ َ ْال َْر ِ َ ْ َ
مساملون هينون لينون يف حياهتم اخلاصة ويف حياهتم اجلماعية،
بينهم الرمحة واأللفة يوقر صغريهم كبريهم ويرحم كبريهم صغريهم.
لكنهم أشداء على العدو حازمون مقاتلون .يقولون للناس ُح ْسنا
وسالما ما مل يستفزهم الناس استفز ًازا يصيب مقاتلهم .هذا إذا
كانت هلم مجاعة ،أما يف زمن الفتنة فنشاهد أن التبلُّد هو رائدهم
السلم يف احملافل وما هبم ِسلم ،وإمنا خوف من املوت يدعون إىل ِّ
ال يفارق الصادين املعرضني عن رهبم اجلاهلني لغيبه وسطوته
ودنياه ببالئها وآخرته.
العمل اإلسالمي بناء لألمة من أساسها ،ويتطلب البناء رفقا،
فرفقنا فيما بيننا توبة عامة تشمل رد املظامل لكن ال حتاسب على
ماض كنا فيه مجيعا مفتونني .ورفقنا ُتاه الناس دعوة إىل السالم
إال يف حق من يظلمنا .ويقتضي هذا أن تكون لنا قوة ،بل يقتضي
283
البعث اإلسالمي بناء للقوة قبل كل شيء .إن اجلماعة املؤمنة
مجاعة معها اهلل حيميها وينصرها كما تنصره ،لكنه تعاىل يأمرها
أن تعد القوة.
وإن كانت القوة عند اجلاهليني تطغى أهلها فيعنفون ألهنم
يضعوهنا يف غري موضعها ،فقوة املسلمني ضابطها إهنم ربانيون
مرمى نظرهم اجلنة وال متأل الدنيا قلوهبم ،فهم ال يتنافسوهنا .وإن
هلم من الرتاحم والتكافل اجلماعي قاعدة مادية للطمأنينة تعزز
احلافز الروحي .ينمو االقتصاد اجلاهلي خبمسة يف املائة وهو منو
املنتوجات املادية ،أما اإلنسان فينقص ضعفي ذلك وأكثر ،ويزداد
عدد اجلرائم بأكثر من عشرة باملائة يف بالد اإلحصاء والكم
املعجب به أهله ،أما يف بالد االشرتاكيات املتكتمة فيطل العنف
1
اجلاهلي منها بأخبار متقطعة ال يكاد صوت يرتفع حىت يكموه.
الربانية حتمل معاين ثالث ،أوهلما االنتساب إىل الرب جلت
عظمته والثاين انتساب إىل الرتبية .ويقول املفسرون بأن الرباين
ورب يُرب ورىب يريب معنامها
هو من يريب بصغار العلم قبل كبارهَّ .
أمنى وزاد .فالرباين رجل مؤمن حمسن يريب الناس برفق ويزيد يف
معنوياهتم ويبعث هلم حياة روحية .هؤالء الربانيون هبذه املعاين
بعد ما هنالك فإذا اخلراب الشامل ،خراب اإلنسان ،وخراب االقتصاد وخراب البيئة :
1مث انكشف ُ
أنقاض يف أنقاض.
284
السامية هم بناة اإلسالم غدا .والبناء طويل األمد شاق عسري
يعرتضه عنف اجلاهلية املرتبصة من خارج ويعرتضه عاداتنا اجلاهلية
العنيفة .وكل هذا يُلزم أن يكون مشينا على األرض َه ْونًا مشي
ال دائبني يصلون الليل بالنهار ال يفرتون. عُ ّم ُ
فيكون معىن التؤدة هذا الرفق الرباين الذي هو حلية األنبياء،
مث هذا العمل الدائب املستعصي على عوامل العنف الثابت هلا.
وعندئذ تكون التؤدة هي الصرب .ويف القرآن بشرى للصابرين،
ووصف األنبياء فيه بأهنم صابرون .والصرب صربان ،صرب يقفك أن ُ
ال تستخفك الفتنة ،ويف هذا يقول اهلل عز وجل يف قصة قارون
الطاغوت الفاتن بزينة ماله﴿ :فَ َخ َر َج َعلَى قـَْوِم ِه فِي ِزينَتِ ِه قَ َ
ال
ِ الدنيا يا لَي َ ِ َّ ِ
ارو ُن إِنَّهُت لَنَا مثْ َل َما أُوت َي قَ ُ ْحيَاةَ ُّ َ َ ْ ين يُ ِري ُدو َن ال َ ا لذ َ
اب اللَّ ِه َخيـٌْر ِ يم وقَ َ َّ ِ لَ ُذو ح ٍّ ِ
ْم َويـْلَ ُك ْم ثـََو ُ
ين أُوتُوا الْعل َ ال الذ َ ظ َعظ ٍ َ َ
الصابُِرو َن﴾ .الصابرون ِ ِ
اها إِ َّل َّ صالحاً َوَل يـُلَ َّق َ آم َن َو َعم َل َ لِّ َم ْن َ
ال تستهويهم الزينة وال متلكهم الدنيا .أ ََّما الصرب اآلخر فهو
مواصلة العمل مع التحمل يف كل يوم ويف كل ساعة .قال اهلل
َّ ِ
صابُِرواْ َوَرابِطُواْ َواتـَُّقواْ اصبِ ُرواْ َو َ
آمنُواْ ْ ين َ تعاىل ﴿:يَا أَيـَُّها الذ َ
اللّهَ لَ َعلَّ ُك ْم تـُْفلِ ُحو َن﴾.
ويرجع األمر إىل اإلميان والتقوى واجلهاد ،وما كل ذلك إال
بذل املال والنفس يف سبيل اهلل ،وسبيل اهلل حني ينشر لواء
285
املو ِّحدة حاملة الرسالة .ودعين
اإلسالم هو البناء اجلماعي للدولة َ
من التؤدة كما يفهمها القاعدون تبلدا وكسال ! هذا تعريف إجيايب
للتؤدة ال يُعطيه التعريف السليب بأن التؤدة هي عدم العنف.
ويبقى لنا أن اهلل ورسوله أمرنا أمرا قاطعا أن ال حنمل السيف على
بعضنا .
يف حياة أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم أمثلة رائعة للتؤدة
والصرب والربانية .أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالرفق فقال
يف حديث عائشة رضي اهلل عنها « :يا عائشة ! إن اهلل رفيق
يحب الرفق ويعطي على الرفق ما ال يعطي على العنف وما ال
يعطي على سواه».1
وبالرفق بدأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دعوته .فروى
البيهقي أن أبا طالب قال له صلى اهلل عليه وسلم « :يا ابن
أخي ! إن قومك قد جاؤوين وقالوا كذا وكذا ( حني اشتكوا أنه
صلى اهلل عليه وسلم يسفه أحالمهم ويدعوهم للتوحيد) .فأبق
علي وعلى نفسك ،وال حتملين من األمر ما ال أطيق أنا وال أنت.
فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك ،فظن رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه وأنه خاذله ومسلِّ ُمه وضعُف
عن القيام معه .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :يا عم !
1الشيخان وغريمها
286
لو وضعت الشمس يف مييين والقمر يف يساري ما تركت هذا األمر
حىت يظهر اهلل أو أ َْهلِك يف طلبه! مث استعرب رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم فبكى .فلما وىل قال له-حني رأى ما بلغ األمر برسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم -يا ابن أخي ! فأقبل عليه فقال :امض
ُسلِّ ُمك لشيء أبدا!».
على أمرك وافعل ما أحببت ،فواهلل ال أ َ
هذه تؤدة األنبياء وذلك صربهم ،تصميم وإردة ال تُفل،
وحتمل للشدائد ال ينقطع معه السعي أبدا .أخرج الطرباين عن
منبت األزدي قال « :رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف
اجلاهلية وهو يقول :يا أيها الناس ! قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا
! فمنهم من تفل يف وجهه ومنهم من حثا عليه الرتاب ،ومنهم
س (قدح) من من سبه ،حىت انتصف النهار .فأقبلت جارية بعُ ّ
ماء فغسلت وجهه ويديه وقال :يا بنية ! ال ختشي على أبيك
غيلة وال ذلة ! فقلت من هذه ؟ قالوا :زينب بنت حممد وهي
جارية وضيئة».
وأخرج البخاري عن عروة رضي اهلل عنه قال :سألت ابن
العاص فقلت :أخربين بأشد شيء صنعه املشركون برسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم .قال بينما النيب صلى اهلل عليه وسلم يصلي
يف حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أيب معيط فوضع ثوبه
على عنقه فخنقه خنقا شديدا .فأقبل أبو بكر رضي اهلل عنه حىت
287
أخذ مبنكبه ودفعه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم وقال « :أتقتلون
رجال أن يقول ريب اهلل وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟».
وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عروة أيضا عن عائشة
رضي اهلل عنها زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم حدثه أهنا قالت
للنيب صلى اهلل عليه وسلم « :هل أتى عليك يوم كان أشد عليك
من يوم أحد ؟ قال :لقد لقيت من قومك ما لقيت ،وكان
أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ،إذ عرضت نفسي على ابن
يجبني إلى ما أدرت .فانطلقت وأنا ياليل بن عبد ُكالل فلم ُ
مهموم على وجهي ،فلم أستفق إال وأنا بقرن الثعالب .فرفعت
رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه
السالم .فناداني فقال :إن اهلل قد سمع قول قومك لك وما
ردوا عليك .وقد بعث اهلل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت
فيهم .فناداني ملَك الجبال فسلم علي ثم قال :يا محمد
! فقال ذلك ،فما شئت :إن شئت أطبق عليهم االخشبين
(جبال مكة) .قال النبي صلى اهلل عليه وسلم :بل أرجو أن
يخرج اهلل عز وجل من أصالبهم من يعبد اهلل عز وجل وحده
ال يشرك به شيئا».
هذا رفق نبوي فيه الفالح بقول ال إله إال اهلل وفيه املالئكة
وفيه صرب الداعي إىل اهلل على األذى وعلى داعي النفس املحبة
ُ
288
لالنتقام الغاضبة .وهذا هو معىن الربانية كاملة حيذوها الرجاء يف
أن تنتشر الدعوة وينمو اإلسالم.
وصرب مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه على أذى
قريش قبل اهلجرة مث على اجلهاد مع قلة ذات اليد وقلة العدد
واملؤمنون يف بقعة حتيط هبا اجلاهلية .ويف تاريخ حتمل الصحابة
رضي اهلل عنهم لألذى صفحة مشرقة يذكر فيها مستضعف وارث
عبد حبشي يدعى بالال .أخرج اإلمام أمحد وابن ماجه عن ابن
مسعود رضي اهلل عنه قال :أول من أظهر اإلسالم سبعة :رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأُمه مسية وصهيب
وبالل .واملقداد رضي اهلل عنهم .فأما رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم فمنعه اهلل بعمه ،وأما أبو بكر فمنعه اهلل بقومه ،وأما
سائرهم فأخذهم املشركون فألبسوهم أدرع احلديد وصهروهم يف
الشمس .فما منهم من أحد إال وقد آتاهم ما أرادوا إال بالال فإنه
هانت عليه نفسه يف اهلل وهان على قومه ،فأخذوه فأعطوه الولدان
فجعلوا يطوفون به يف شعاب مكة وهو يقول :أحد ! أحد ! ».
خلف رسول اهلل أعبدة تسعى ُمهانة معذبة مستضعفني يف
األرض ،لكنهم قالوا ال إله إال اهلل فأفلحوا ،وكان من فالحهم
الصرب والرفق والتحمل حىت فتح اهلل هبم األرض واستخلفهم فيها
وبدل خوفهم أمنا ،وحىت أصبح بالل رمزا من رموز اإلسالم،
289
يؤذن يف مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ويعارض عمر
بن اخلطاب يف شؤون الدولة بعد أن فتح سيفه وسيف أمثاله من
عباد الرمحن املاشني هونا وسالما يف بالد اهلل ليعبد فيها اهلل.
يقول الرسول اهلل عليه وسلم « :ال علم إال بتعلم وال حلم
إال بتحلم» واحلكم هو التؤدة ،وهي خصلة تكتسب بالصحبة
والذكر حىت تذهب األنانية وقسوة القلب وحىت يُنتزع اإلنسان
من العادة املخلدة إىل األرض .ويف دولة اإلسالم املنبعثة إذا ال
بد أن ترتكز الربانية يف رمز اجلهاد ،يف شخص القائد اجملاهد.
فبعلمه ينبغي أن يتعلم املسلمون وحبلمه ينبغي أن يتحلموا يف دار
اإلسالم طبقة مرتفة جباهها ،ويف دنيا اجلاهلية يقرتن طاغوت املال
بطاغوت اجلاه ،متتهن املستضعفني بإسالمهم ،فهي العنف جمسما
بني ظهرانينا وهي القسوة .ونفوس اخللق جبلت على الفطرة فهي
مجعاء لكن تاريخ الظلم جعل فيها بذرة العنف وحب االنتقام.
فإن مل يكن القائد اجملاهد املتحرر من الرتف مثاال للحلم وعبدا
هلل هينا لينا فمن أين تلتحم األمة على توبتها ؟
كان النيب وخلفاؤه الراشدون يركبون احلمار ويردفون خلفهم
رديفا .وكانوا يعاجلون أنفسهم خمافة الكرب ،ألن الكرب أصل البالء
كله وأصل الكفر .ويعصد عمر بن اخلطاب العصيدة للمساكني
بيده فهذا هو احللم والعلم .أخرج ابن سعد عن حزام بن هشام
290
قال « :رأيت عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه مر على امرأة تعصد
عصيدة هلا فقال :ليس هكذا يعصد ،مث أخذ املسوط فقال :
هكذا ! فأراها » .فأين حنن وطواغيتنا ال تسعهم األرض كربا !.
وخطب عمر الناس يوما فقال « :أيها الناس ! لقد رأيتين
أرعى على خاالت يل من بين خمزوم فيقبض يل القبضة من التمر
والزبيب فأظل يومي وأي يوم ! مث نزل فقال عبد الرمحن بن عوف
رضي اهلل عنه :يا أمري املؤمنني ،ما زدت على أن قمأت نفسك!
لوت فحدتثين نفسي فقالت: فقال :وحيك يا ابن عوف ! إين َخ ُ
أنت أمري املؤمنني فمن إذا أفضل منك ؟ فأردت أن اعرفها
نفسها!» .1
ملا ويل أبو بكر اخلالفةخافت جاراته أن خيرج عن عادته،
وكان امرأ يتكسب بتجارة بسيطة وله منائح يرعاها أحيانا بنفسه
وحيلبها وحيلب جلاراته .قالت جارية من احلي بعد مبايعة الناس
له« :اآلن ال حتلب لنا منائح دارنا ،فسمعها أبو بكر فقال :بلى!
لَ َع ْمري ألحلبنها لكم ،وإين ألرجو أن ال يغريين ما دخلت فيه عن
خلق كنت عليه .فكان حيلب هلم ،فرمبا قال للجارية من احلي :
يا جارية ! أ َُتبني أن أرغي لكم أو أصرح ،فرمبا قالت :ارغ ،ورمبا
1الدينوري
291
1
صرح ! فأي ذلك قالت فعل!» قالت ِّ :
أخرج ابن سعد عن ُجرموز قال « :رأيت عليا رضي اهلل عنه
وهو خيرج من القصر وعليه قطريتان :إزار إىل نصف الساق ورداء
مشمر قريب منه ،ومعه ِد َّرة له ميشي هبا يف األسواق ويأمرهم
بتقوى اهلل وحسن البيع ويقول :أوفوا الكيل وامليزان! ويقول :ال
تنفخوا اللحم!»
أولئك أهل احللم أهل احلكمة« ،ومن يؤت احلكمة فقد أويت
خريا كثريا»جعلوا ألنفسهم حكمة فروضوها على الطاعة وسلكوا
سلوكا إراديا قويا صامدا حنو غايات اإلحسان وباحلكمة أحكموا
أمر مصريهم ومصري اإلسالم وضربوا لنا مثاال حىت نعكف على
تزكية أنفسنا لكيال تطغى .قال اهلل يف كتابه يعلمنا الكتاب
واحلكمة « :إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغين» فهلُ َّم نطرح
الرئْي اجلاهلي لنصوغ إنسانية طاهرة متزكية تنشر يف األرض هذا ِّ
السالم وتقول للناس ُح ْسنًا وتفعل هبم حسنا!
1ابن سعد
292
االقتصاد
التنمية االقتصادية وثن يعبده املعاصرون .إهنا وثن
النصرافها عن اإلنسان بل ألن هدفها أن يزيد اإلنسان غرقًا
يف أثاثه وِرئْيه .واجلاهليون الرأمساليون أكثر نفاقا من اجلاهلني
اآلخرين ،أولئك يزعمون أهنم يبغون تنمية لإلنسان مع التنمية
االقتصادية ،أما هؤالء فقد وطنوا أنفسهم على خدمة اهلدف
االقتصادي الذي يطوي اإلنسان طيا ويستهلكه استهالكا وفقا
للعقيدة املادية مفسرة التاريخ بالتفسري اجلديل العتيد ! الرأمساليون
يؤسسون شركات «جمهولة االسم» وحتت االسم اجملهول أمساء
معلومة لرجال املال احملتكرين أصحاب اجلاه واحلكم والسيادة،
وعند اجلاهلية األخرى شعار «استبداد الصعاليك» الذي خيفي
حتته حتكم الطبقة اجلديدة صاحبة اجلاه واحلكم والسيادة .وحتت
هؤالء يكدح اجلاهلي ويستغل وتنصب له أوثان تسمى «ارتفاع
مستوى املعيشة» و«احلد األدىن لألجور» وما شابه .ويرجع األمر
إىل تكاثر على الدنيا يظهر يف مفاخرة املعسكرين بعضهما لبعض
بالبضاعة واإلنتاج واستهالك املستهليكن.
معسكران أو معسكرات ألن األمر حرب وعنف ونزاع
على ابتالع املستضعفني يف األرض وألن تعبئة الصني وعداوهتا
293
للمعسكرين العتيقني فتحت بابا ثالثا للمساومة على أنصباء كل
فريق من اهليمنة يف األرض.
ال شك أن اهلدف االقتصادي وإغراءه ودافع الثورة على ظلم
املستغنني األثرين كان حافز ثورة الشيوعيني ،وكانت الثورة مولد
تعبئة عظيمة لقوى اجملتمع اجلاهلي مكنته من هذا البناء اهلائل
السريع الذي نراه يف روسيا ونراه يف الصني .وهذه النماذج هي
األمثلة العليا للمسلمني املفتونني ،لذلك فكلمة الساعة يف بالدنا
هي «الثورة» والوثن هو «التنمية االقتصادية» .وكأن اإلنسانية
ال يفصلها إال خط واحد ،من جانب األغنياء وأصحاب األثاث
والرئي ومن اجلانب الثاين احملرومون يف عامل القلة .أقول كأن
اإلنسانية هكذا يف نظر حقيقة اإلنسان وقيمته السماوية ،وإال
فإن أحداث العامل جتري على منطق العنف املبين على التقسيم
الكمي لإلنسانية.
إننا معشر املسلمني مندجمون يف عامل اجلاهلية بعد أن مسخنا
يف عقيدتنا وبعد أن فقدنا السمت اإلسالمي بفقدان اإلميان.
فلسنا نتميز يف عني أنفسنا ويف عني العامل عن اإلنسانية املعطَّلة
احملرمة إال مبستوى معيشتنا الذي يرتاوح بني دخل 4000دوالر
للفرد سنويا وبني دخل 20دوالرا ،وهذا يقسمنا على اخلط
الكمي فيصنف طائفة من احلفاة العراة مشيدي البنيان مع اجلاهلية
294
املماثلة بثروهتا ،ويصنف اآلخرين مع صعاليك العامل .ونتميز عن
اإلنسانية املتخمة بأن أمراءنا وقادتنا أكثر منهم بطنة وسائرنا
عائمون يف اجلهل واملرض والضعف لعموم الفقر وعموم الظلم.
كل ذلك من عالمات الساعة ،فإن أذن اهلل فستكون ساعة
توبتنا وساعة يقظتنا لنتعلم أن اإلنسانية ينبغي أن يقسمها خط
اإلميان ،فمن جانب أهل اإلميان والنور ومن جانب أهل اجلاهلية
والظلمة .فأهل النور واإلميان أصحاب إرداة هتدف لتحقيق الغاية
اإلحسانية الكتمال اإلنسان يف فرتة مروره على األرض ،يتحابون
ويقصدون وجهتهم فال يتظاملون وال متسك الدنيا خبناقهم .وأهل
الظلمة اجلاهليون إنسانية ضائعة تفتقر ملن يوقظها ويعطيها املثال
احلي على أن اإلنسان ليس دابة مآله الرتاب ،إن اإلنسان لو كان
كذلك ملا أمكن غري ما تقرتحه الشيوعية من مثالية التساوي يف
األرزاق ،هي املبدأ وهي الغاية ،لكن اإلنسان سلوك عابر على
وجه األرض آئل إىل مصري مساوي يف اجلنة أو إىل دركات جهنم
إن زاغ عن الطريق.
َم ْن خيرب اجلاخهلية بذلك ؟ أم من يبلغها رسالة اهلل وهي ال
تفهم إال لغة اإلحصاء؟ إن كلمة اإلسالم تبقى وعدا نظريا حىت
تقوم لنا دولة ختتلف عن اجلاهلية اختالفا كيفيا جذريا .لن تبلغ
دعوة اإلسالم آذان اجلاهلية حىت تتمكن الدعوة اإلسالمية أوال
295
قر قلوهبم ،مث يتمثل اإلسالم يف أمة هلا من مسع قادتنا وأمتنا وتَ َ
درع من حديد قوية لكنها أمة ال تئن حتت ثقل اجلهاز االقتصادي
وال جتعل هدفا هلا ارتفاع مستوى العيش .أمة بامسة سعيدة متوازنة
هاؤ ُم األمة املسلمة !
مجيلة تقول للناس ُح ْسنا ،تقول هلم ُ :
إن بناء اإلسالم يطلب من كل مسلم بايع على الطاعة أن
يشد احلزام ويشحذ اإلرادة باإلميان ،ويصنع اإلميان يف املسجد
يف جمالس اإلميان .ويقتضي أن يبذل كل مسلم ويتعب كل مسلم
ليل هنار ويتقلل وال يبذر .ولو أعطى كل مسلم صاعه من التمر
وجر اجلرير كما فعل أبو عقيل لتحولنا يف بضع سنوات أمة تزري
بالشعوب قوة وصحة.
إن التقلل تصور إجيايب للمؤمن صاحب اإلرادة الصادق.
التقشف يفرض من خارج ويكون شعارا سياسيا أو إداريا ،لكن
يقبع حتته ثعبان الغش والرشوة املرتبص .وشعار التقشف تربير
لكل فشل اقتصادي .أما التقلل فهو مظهر املؤمن املتزكي ،يسمى
ُزْهدا إن اعتربناه اعتبارا ُخلقيا واعتربناه يف حدود احلياة الفردية.
فإذا أصبح جهادا مجاعيا هدفه الفردي يندمج يف اهلدف اجلماعي
لتجميع رأس املال وللتكافل والتساوي على مستوى معيشي كرمي
يضمن الغذاء الصحي الساذج للكل والكساء والسقف الوظيفيني
اجلميلني معا يف عُرف السمت اإلسالمي ،عندئذ يصبح له
296
مغزى إنساين وفاعلية حركية فريدة .أهذا جمرد شعار أن نزعم أن
باإلمكان نزع اإلنسان من امللكية بدل نزع امللكية الذي يؤسس
اجملتمع الشيوعي ؟ أميكن حقا أن يكون العامل اإلرادي عامال
حامسا يف حتويل اإلنسان حتويال كيفيا يف عالقته بامللكية ؟ وتقوم
على ذلك دولة قوية ؟ قد يفيدنا يف ذلك البحث عن ذلك تدبر
حياة الصحابة تدبرا واسعا.
أخرج احلاكم أن معاوية بعث إىل عبد الرمحن بن أيب بكر
الصديق رضي اهلل عنهم مبائة ألف درهم بعد أن أىب البيعة ليزيد
ابن معاوية .فردها عبد الرمحن وأىب أن يأخذها وقال « :أبيع ديين
بدنياي!» .رجل له دين يفضله على الدنيا فال تغريه ،لعل هذا
تعريف الئق بالصحابة الكرام .وهم رضي اهلل عنهم نتاج تربية،
صحبوا وذكروا وصدقوا اهلل ورسوله فيما بايعوا عليه إذ باعوا
اجلنة بأمواهلم وأنفسهم .وكان من تربيته صلى اهلل عليه وسلم أن
حذرهم وخوفهم الدنيا فحذروها فلما ملكوها كانت هلم ملكا
ومل تسيطر عليهم كما يسيطر امللك على صاحبه ،بل صرفوها يف
وجوهها يبنون هبا ألنفسهم بيوتا يف اجلنة.
ال شك أن الوضع اليوم َغ ْي ما كان عليه ،فاملسلمون مرتفة
إرادهتم ،فهمتهم ال تتجاوز مستوى التنافس على املليكة إال قليال
ممن هلم دين يفضلونه على الدنيا .ويوم تقوم قائمة اإلسالم لن
297
يكون وازع القرآن وحده حافزا للتقلل ،فإن اإلسالم جيعل حقا
بل واجبا على اإلمام أن حيقق أمر اهلل الصريح الصارم بأال يكون
املال واألرض دولة بني األغنياء.
رىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه ورقى روحانيتهم
حىت أصبحوا وكأن اجلنة والنار منهم رأي العني .بلغ إمياهنم اليقني
فهانت الدنيا يف أعينهم ألهنم يقارنوهنا يف كل حلظة مبا يدَّخره
اهلل للمتقني الصابرين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كانت هبم
خصاصة .كانوا يعيشون والغيب يكتنفهم فال وزن للكم املادي
يف نظرهم إال إن أنفقوا وبذلوا .أرأيت رجال ينفذون فيه حكم
اإلعدام عشية أكان يلقي باال لطعامه ولباسه ذلك اليوم ؟ أم
تنصرف مهته بكليتها لتلك اللحظة ولكل وسيلة يفلت هبا منها ؟
هذا سلوك على الرهب ،وقد كان الصحابة يعبدون رهبم ويدعونه
خوفا ورهبا معا ،فكانوا ذاكرين هلم ذمة ومهة فانبسطت أيديهم
من ذهاب ُشح أنفسهم .وكان مههم الكبري اخلوف من الدنيا
وانبساطها.
أخرج الشيخان عن عمر بن عوف األنصاري رضي اهلل عنه
أن رسول اهلل صلى اهلل وسلم بعث أبا عبيدة بن اجلراح رضي اهلل
عنه إىل البحرين يأيت جبزيتها .فقدم مبال من البحرين .فسمعت
األنصار بقدوم أيب عبيدة فوافوا صالة الفجر مع رسول اهلل صلى
298
اهلل عليه وسلم .فلما صلى رسول اهلل صلى عليه وسلم انصرف
فتعرضوا له .فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني رآهم مث
قال « :أظنكم سمعتم أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ؟ قالوا
وأملوا ما يسركم ! فواهلل
:أجل يا رسول اهلل ! فقال « :أبشروا ِّ
ما الفقر أخشى عليكم ،ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم
كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها
فتهلككم كما أهلكتهم !»
أخرج البخاري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرمحن
ابن عوف رضي اهلل عنه أيت بطعام ،وكان صائما ،فقال :قتل
مصعب بن عمري ،وهو خري مينُ ،كفن يف بدرة إن غطي رأسه
بدت رجاله وإن غطي رجاله بدا رأسه – وأراه قال :وقتل محزة
رضي اهلل عنه وهو خري مين – مث بسط لنا من الدنيا ما بسط–
أو قال :أعطينا من الدنيا ما أعطينا – وقد خشينا أن تكون
حسناتنا قد عجلت لنا ! مث جعل يبكي حىت ترك طعامه!» وهاك
من آيات التقلل يف حياته صلى عليه وسلم وحياة أصحابه .عن
ابن عباس رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
دخل عليه عمر رضي اهلل عنه وهو على حصري قد أثر يف جنبه
فقال « :يا رسول اهلل ! لو اختذت فراشا أوثر من هذا ! فقال :
مالي وللدنيا ! ما مثلي ومثل الدنيا إال كراكب سار في يوم
299
صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها».1
أخرج الطرباين عن سلمى امرأة أيب رافع رضي اهلل عنهما
قالت :دخل على احلسن بن علي وعبد اهلل بن جعفر وعبد اهلل بن
عباس رضي اهلل عنهم فقالوا :اصنعين لنا طعاما مما كان يعجب
ن ! إذا ال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أكله ! قالت :يا بَِ َّ
تشتهونه اليوم ! فقمت فأخذت شعريا فطحنته ونسفته وجعلت
منه خبزة .وكان ُأد ُمه الزيت .ونثرت عليه الفلفل ،فقربته إليهم
وقلت كان النيب صلى اهلل عليه وسلم حيب هذا!».
أخرج ابن سعد عن محيد بن هالل قال :ملا ويل أبو بكر قال
أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم :افرضوا خلليفة رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يغنيه قالوا :نعم ،بـُْرداه إن أخلقهما
وضعهما وأخذ مثلهما وظهره (دابته) إذا سافر ونفقته على أهله
كما كان ينفق قبل أن يستخلف قال أبو بكر :رضيت».
وعنه عن احلسن أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه رأى
جارية تطيش هزاال فقال :من هذه اجلارية ؟ فقال عبد اهلل بن
عمر :هذه إحدى بناتك ! قال :وأي بنايت هذه ؟ ابنيت ! قال:
ما بلغ هبا ما أرى ؟ قال عملك ال تنفق عليها .قال :إين واهلل ما
أُغرك من ولدك ! فأوسع على ولدك أيها الرجل!»
300
أخرج البغوي أن موالنا عليا رضي عنه خرج يوما على محار
ودىل رجليه إىل موضع واحد مث قال :أنا الذي أهنت الدنيا !»
أخرج اإلمام أمحد عن حممد بن كعب أن ناسا نزلوا على أيب
الدرداء رضي اهلل عنه ليلة قـََّرةً ،فأرسل إليهم بطعام سخن ومل
يرسل إليهم بلحف .فقال بعضهم :لقد أرسل إلينا بالطعام فما
هنأنا مع القر ! ال أنتهي أو أبني له ! قال اآلخر :دعه ! فأىب،
فجاء حىت وقف على الباب فرآه جالسا ،وامرأته ليس عليها من
الثياب إال ما ال يذكر (ألهنا بالية مرقعة) .فرجع الرجل وقال :ما
أراك بت إال بنحو ما بتنا به ! قال إن لنا دارا ننتقل إليها ،قدمنا
فـُُر َشنا و ُلُفنا إليها .ولو الفيت عندنا منه شيئا ألرسلنا إليك به.
املخف فيها خري من املـُثْقل .أفهمتوإن بني أيدينا ع َقبة كؤودا ُ
ما أقول لك ؟ قال نعم !»
أخرج البيهقي عن عائشة رضي اهلل عنها قالت « :رآين رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقد أكلت يف اليوم مرتني فقال :يا
عائشة ! أما تحبين أن يكون لك شغل إال جوفك؟ األكل في
اليوم مرتين من اإلسراف ! واهلل ال يحب المسرفين!».
وأخرج امحد عن احلسن قال :دخل عمر على ابنه عبد اهلل
رضي اهلل عنهما وإن عنده حلما فقال :ما هذا اللحم ؟ قال
اشتهيته ! قال وكلما اشتهيت شيئا أكلته ؟ كفى باملرء سرفا ان
301
يأكل كل ما اشتهاه !»
أخرج البخاري يف األدب وأمحد عن عبد اهلل الرومي قال :
دخلت على ِّأم طَْل ٍق بـَْيتـََها ،فإذا سقف بيتها قصري .فقلت :ما
ُ
أقصر سقف بيتك يا أم طلق ! قالت :يا بين ! إن عمر بن
اخلطاب رضي اهلل عنه كتب إىل عُ َّماله أن ال تطيلوا بناءكم ،فإن
شر أيامكم يوم تطيلون بناءكم»
حسهم وأفنتهم اجلاهلية عن يقرأ بعض الناس ممن فسد ُّ
فطرهتم ،تـَلَ َّو ُن هلم كما تلون يف أثواهبا الغول ،خرب ربعي ابن عامر
إذا دخل فسطاط رستم بثوبه الصفيف وفرسه القصرية وهيأته
املسكينة فينفرون من املظهر الرث ويقولون :أي َهَج يسيء
األدب يف جملس األمري ! ومثل هؤالء ال خياطبون .إمنا خياطب من
يقرأ حياة الصحابة فتمتليء جواحنه إعجابا وفرحا وحمبة ملن كان
طعامهم خشنا ولباسهم مرقعا وكانوا سادة أنفسهم فاستحقوا
االستخالف يف األرض هينني متواضعني رمحاء بينهم أشداء أقوياء
على العدو.
أخرج احلاكم عن طارق بن شهاب أن عمر بن اخلطاب
قدم الشام وعليه إزار وخفان وعمامة ،فلقيه اجلند وهو آخذ
برأس بعريه خيوض املاء ،فقال له أبو عبيدة « :لقد فعلت يا امري
املؤمنني فعال عظيما عند أهل األرض ! نزعت خفيك ،وقدمت
302
راحلتك وخضت املخاضة .قال :فصك عمر بيده يف صدر أيب
عبيدة فقال :أوه ! لو غريك يقوهلا يا أبا عبيدة ! أنتم كنتم أقل
الناس وأذل الناس ،فأعزكم اهلل باإلسالم ،فمهما تطلبوا العزة بغريه
يذلكم اهلل تعاىل !»
حنس حنن األمةَ املفتونةَ مبركب نقص أمام أصحاب األثاث
الرئي فننفق أموالنا يف احملافل الدولية ويف السفارات ويف بالدناو ِّ
ليكون لنا مظهر نعوض بالطواف به على أعني الناس هزالنا
وتفاهتنا .وهتجم علينا الوسائل اجلاهلية الثقافية احلضارية فتتحول
يف يدنا إذ نقتنيها وثنا هو هدف جهودنا ،ويضيع اهلدف احلق
فما دام اشرتينا مصنعا بكذا وكذا فال داعي أن يكون املعمل
آلة تطحن اقتصادنا وتأكله لقلة انتاجيته ! وإن شئنا أن نعلم
أو نؤسس إدارة أو صناعة فاخلرباء اجلاهليون تشرتى تقنيتهم
حبر مالنا وحنتفي مبا تلده أدمغتهم املريضة بأداوت الكراهية لنا
وعدم الكفاية ونتتلمذ ونقلد فال نقلد إال العجرفة وسوء التدبري،
ونبذر جهودنا وأموالنا .وسنبقى عالة متكففني حىت ولو صب
يف جيوبنا الذهب األسود أموال قارون ،بل بسبب ذلك نبقى
عالة متكففني ،ألن بعضنا يرتع يف أموال املسلمني كما ترتع
النار وميتص دماء املسلمني ،وهتمل الكفايات األصيلة َّ
املبذرة
اليت عند أبنائنا .ويوم تقوم قائمة اإلسالم يذهب اهلل بريح من
303
عنده وبأيدينا بالتبذير واألثرة ،وتعز نفوسنا فنصك يف صدور
بعضنا كما صك عمر بن اخلطاب ونصك يف حنور أعدائنا إيذانا
بأننا عزمنا على أن نتمثل شخصية املؤمنني املتقللني ،الدنيا هلم
مطية وهم سادهتا ،التقلل هلم مذهب هدفه القوة ،واالخشيشان
والتشمري مستهم يف ساحة العمل .ولقد ضرب اهلل لنا مثال وعرض
علينا آية لو كنا نعقل يف شخص الصيين املكافح الفقري العزيز
بفقره حطم صنم التكنولوجيا الومهي وصنع واخرتع وابتدع.
304
اجلهاد
ال يتصور الناس إن مسعوا كلمة اجلهاد إال مشهدا واحدا
من مشاهد اجلهاد ،وجماال واحدا من جماالته ،فاجلهاد عندهم
قتال .وأكثر ما يعرف به اجلاهليون أمة اإلسالم أهنا أمة اجلهاد
أمة احلرب املقدسة.
فأما أن يكون اجلهاد عمال مقدسا ال ريب فيه ،وليس ملبايعة
القائد اجملاهد غداة بدء العمل اإلسالمي معىن إن ترمجت املبايعة
إىل عقد مدين ،ال جهاد يف اإلسالم إال يف سبيل اهلل ،أي أنه ال
جهاد باملعىن اإلسالمي إىل مقدسا .وأما أن يكون اجلهاد جيمع
كله يف حلظة القتال فذلك فهم مبتور للتصور اإلسالمي للجهاد.
إن اهلل تعاىل ما ذكر املؤمنني يف موقف التعريف بأخص
خصائصهم إال ذكر اجلهاد باملال والنفس .واجلهاد مستمر أبدا
وغايته محل الرسالة وتبليغها .فإذا اعرتض طريق التبليغ معرتض
أو هدد اإلسالم مهدد فالقتال آخر وسيلة لصد املعتدي وكسر
العائق .ويأمرنا اهلل تعاىل أن نقول للناس حسنا وأن نفي بالعهد
﴿ل يـَنـَْها ُك ُم اللَّهُ
ملن عاهدنا وأن نسامل من ساملنا .وقال تعاىل َ :
ين لَ ْم يـَُقاتِلُوُك ْم فِي الدِّي ِن َولَ ْم يُ ْخ ِر ُجوُكم ِّمن ِديَا ِرُك ْم أَن َّ ِ
َع ِن الذ َ
ب ال ُْم ْق ِس ِطينَ﴾.
وه ْم َوتـُْق ِسطُوا إِلَْي ِه ْم إِ َّن اللَّهَ يُ ِح ُّ
تـَبـَُّر ُ
305
أمامنا يف عامل اجلاهلية قوم قاتلونا وأخرجونا من ديارنا فأولئك
العدو وأولئك اجلهاد اإلسالمي قتاهلم حىت يعطوا اجلزية أو ي َف ْنوا.
أما سائر البشر فلن يتعرضوا لدعوتنا ألنه ال دعوة لنا اليوم .فلنبدأ
جهادنا ببناء اإلسالم أوال حىت يقوم لنا كيان وحىت تكون لنا
دعوة ورسالة.
إن اجلهاد يستوعب كل جماالت العمل ،فاقتحام العقبة
اجلماعيةُ أن نكون مع املؤمنني مببايعة جهادية ،وهذا يطلب
جهادا .واقتحام عقبة الفقر يطلب أن نفك رقابنا من عبودية
احلاجات احلضارية ونطعم املسكني .وال يكفي يف ذلك أن نتناول
األشياء فنرد من مال الغين على الضعيف .معناه أن اجلهاد
اإلسالمي لن يكون عملية ميكانيكية تنزع امللكية وتسوي األجور
بسلطان حاكم .بل اجلهاد اإلسالمي يتناول اإلنسان ليفك رقبته،
وأول الرقاب احتياجا لذلك رقابنا .فأي الناس حنن ؟ وأي الناس
نريد أن نكون ؟ وهل جهادنا لنغري ما بأنفسنا يقتضي أن نقاتل
املرتفني من أهلنا ليحل حمل البنية االجتماعية اجلاهلية استبداد
النخبة اإلميانية اإلحسانية ؟ اجلواب عن كل ذلك مصدره الفقه
املنهاجي الذي نسعى ملعرفته .وإننا لفي وضعية ما سبقت فال بد
لنا من اجتهاد يكون فاحتة اجلهاد.
من أين نبدأ وعي أنفسنا ووعي مستقبلنا اإلسالمي؟ بدأ قوم
306
برسم طريق إىل الفتنة حني زعموا أن الدين يف جانب والدولة يف
جانب ما ينبغي للدين أن خياطبها.
ونبدأ حنن من املوقف الفطري ،ومن املوقف الفطري ينظر
املؤمن نظرة فطرية تعم الكون كله وتدخله يف سياقه احلق ناظرة
َّس َمة ووضعها يف األرض وخط هلا الطريق إىل اخلالق الذي برى الن َ
إىل اخلالص ووعدها وعدا إن آمنت وعملت صاحلا .هل سيصل
اإلسالم لدفة احلكم جبهاد رجال الدعوة حياربون احلاكمية املرتفة
الغامشة ؟ ذلك جهاد حىي اهلل رجاله لنياهتم الصاحلة ورحم اهلل
بالءنا فيهم حني طوهتم الفتنة .إن بني ظهرانينا فراعنة صادين
عن دين اهلل عابثني حائرين ،ولوال أهنم يصلون أمامنا وينتسبون
لإلسالم وحيملون شعاره لدلنا الفقه املنهاجي على قتاهلم .لكنهم
اليوم من أدوات القدر اإلهلي تتالطم هبم أمواج الفتنة ويضرهبم
اهلل عز وجل بسوطه بيد عباده الصهاينة وببأس اجلاهلية وببأس
اليائسني من أبناء هذه األمة املبسوطني على الرغام .فكيف سنقول
هلم قوال لينا كما قال موسى وهرون لفرعون ؟ وماذا نقول ؟
مهما نقل فلن تكون دعوتنا إال عامال جزئيا من هذه العوامل
املتضافرة املتضامنة املوجهة بيد حكيم خبري .كلها تدفع هذه األمة
إىل اإلسالم وختلق احلاجة لعدله وسلطته وتلح يف ذلك بالفساد
املتفشى .قادتنا والزعماء حيملون بنياهتم شعارات اإلسالم ويقرتبون
307
إىل أن تصفو نظرهتم ويذعنوا هلل ويروا أن ال منجاة منه سبحانه إال إليه
فيصدقوا يف طلب اإلسالم وتطبيق اإلسالم .ذلك حني يعافون خبث
ماهم عليه وييأسوا من باطل أنفسهم فيتعلقوا باحلق.
لذلك اليوم نكتب غري حاملني وال تائهني بإذن اهلل جل شأنه
ونستفسح أبواب العمل اإلسالمي لريى الزعماء والقادة البديل
اإلسالمي للثورة ودوامة االنقالبية .أجهاد فكري هذا الذي
نتحدث عنه ؟ ال جدال يف ذلك ،غري أننا نسميه جهاد دعوة
فهو كذلك ألنه يدل على املنهاج النبوي الذي بدأ به أمر األمة،
يدل على الفالح بذكر ال إله إال اهلل كما دل رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم ،ويدل على السنة واالتباع والصحبة ،ويدل بصدق
على الصدق .ولن تلقى املؤمن الفطري مرتددا يف بدل النفس
لو كان ذلك هو اجلهاد يف الفتنة ولو كان جماهدون ؟ كيف
واإلسالم خيوض أهله فتنة مظلمة ال تستبني معها موضع قدمك!
إن األمة لن يصلح آخرها إال مبا صلح به أوهلا ،كما كان
يقول سلفنا الصاحل منذ أخذت الفتنة حتتل ديارنا .وقد صلح أمر
اإلسالم جبهاد ربانيني يدعون إىل اهلل على بصرية.
الربانية تصور أضفناه لتصوراتنا املنهاجية القرآنية النبوية ،وهو
تصور عملي يربز الصفات املتعدية غري الالزمة 1للمؤمن من الذي
1ننقل املصطلح النحوي ليدلنا على ما نريد مقابل الكلمة الفرجنية transitifالين فعل هبا مثل
ذلك
308
يتعدى خريه نفسه فيكون يف الناس رمحة يؤثر فيهم بروحانيته
وجباهده يعلمهم حبكمة ويربيهم حىت يربوا ويزدادوا قوة وإميانا
ومتاسكا .الرباين شخص جامع للخصال العشر يصل احملبة ووالية
املؤمنني بالغاية الرتبوية اجلهادية اليت من أجلها بعث اهلل النبيئني.
فإذا كان تصور السالك مقتحم العقبة يعطينا صفات شخص
حمايد ،فإن تصور الرباين يدل على ما نريده من خروج السالكني
من مشروع خالصهم الفردي إىل العمل اجلماعي بربانية تشمل
الروحانية العالية والفكر املتعدي واخللقية الرفيقة .إنه اجملاهد على
بصرية ،فإن مل يكون اجملاهد ربانيا فسمه إن شئت مناضال ولن
تأتيك منه حياة إسالمية ،ولن تكون حركيته حركية إسالمية حىت
ولو محل شعارات اإلسالم.
إن هذه الربانية ليست تصنع بالعمامة واملظهر وال بالعبارات
تالك وتطن يف اآلذان .من طلب احلق واقتحم إليه عقبة نفسه
اكتشف ما هنالك كما اكتشفه الغزايل ملا صحب الرجال .وكتب
الغزايل للناس يصف هلم الطريق ويدهلم على مقامات اجلهاد
اخلاص ويشهد بأن احلق مع الصوفية .فإن صدقنا ما يزعمه
الغزايل من أن سر اإلميان حيضنه الصوفية فال سبيل للتأكد من
قوله إال أن جنرب حنن ما يقول .وإن ما نكتبه يف هذه الصفحات
ما هو فكر من الفكر بقدر ما هو شهادة نبعث من جتربة ملا من
309
اهلل علينا مبحبة الكاملني أوليائه .وال نؤول كتاب اهلل وسنة نبيه
فيما نكتب ألهنما ال حيتاجان لتأويل .فعندما نتحدث عن الويل
﴿من يـَْه ِد اللَّهُ فـَُه َو ال ُْم ْهتَ ِد َوَمن املرشد فإمنا نتلو كتاب اهلل َ :
ضلِ ْل فـَلَن تَ ِج َد لَهُ َولِيّاً ُّم ْر ِشداً﴾ وإمنا نسرد حديث رسول اهلل يُ ْ
« :المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل» .فأىن
وجهت هذا الكالم فلن حيصل يف يدك إال هذا :ال بد لك من
رجل إن رمت اهلدى ،مؤمن رباين يربيك.
لكي يكون اجلهاد إسالميا ال بد أن حنرر نقطة البداية لذا
نكرر ما عرضناه تكرارا ،هذا الرباين رجل صحب احملسنني وأحبهم
وذكر ربه فشرح اهلل صدره وفتح له مغالق قلبه وآتاه فقها يف قرآنه
فله أسوة يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ خاطبه ربه﴿ :أَلَ ْم
ِ
ض ظَ ْه َر َك َوَرفـَْعنَا نك ِو ْزَر َك الَّذي أَن َق َض ْعنَا َع َ ص ْد َر َك َوَو َك َ نَ ْش َر ْح لَ َ
تك ِذ ْك َر َك فَِإ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسراً إِ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسراً فَِإ َذا فـََر ْغ َلَ َ
ب﴾ .فهو مطمئن له من تقواه ومن ك فَ ْارغَ ْ ب َوإِلَى َربِّ َ انص ْفَ َ
بشرى ربه ما ال تزحزحه معه املسلمات ،فهو رفيق ،وله من خفة
الظهر حسا ومعىن ما يزيل عنه الكدح األعمى فهو ينصب وإىل
ربه يرغب وال يفرغ أبدا من التقرب إىل ربه بالعمل الصاحل .وللرباين
ك أسوة رسول اهلل إذ خاطبه ربه ﴿يا أَيـُّها الْم َّدثـِّر قُم فَأ ِ
َنذ ْر َوَربَّ َ َ َ ُ ُ ْ
ك ِ
اه ُج ْر َوَل تَ ْمنُن تَ ْستَ ْكثِ ُر َول َربِّ َ الر ْج َز فَ ْ
ك فَطَ ِّه ْر َو ُّ فَ َكبـِّْر َوثِيَابَ َ
310
اصبِ ْر﴾ فهو يقتفي أثر نبيه ،وهو متبع سين يتطهر ويصرب .وله فَ ْ
شراً اك َش ِ
اهداً َوُمبَ ِّ يف رسول اهلل أسوة إذ خاطبه ربه ﴿ :إِنَّا أ َْر َسلْنَ َ
اعياً إِلَى اللَّ ِه بِِإ ْذنِِه َو ِس َراجاً ُّمنِيراً﴾. ونَ ِذيراً ود ِ
ََ َ
فهو بذلك مثال ماثل شاهد ميأل العني وميأل جمال الفكر
والعمل بتؤدته ومسته ونورانيته .وهذا يعين أنه يريب بالقدوة أول
شيء كما يريب األنبياء .وإنه ما بعث اهلل األنبياء إال ليَ ْمثُلوا أمام
الناس مناذج شاهدة غري غائبة لإلميان والتقوى ،قال اهلل عز وجل:
اب َوال ِْم َيزا َن ِ ِ
﴿لََق ْد أ َْر َسلْنَا ُر ُسلَنَا بِالْبـَيـِّنَات َوأ َ
َنزلْنَا َم َع ُه ُم الْكتَ َ
َّاس بِال ِْق ْس ِط﴿ .ويتكرر األمر للمؤمنني أن يكونوا وم الن ُ
ِ
ليـَُق َ
شاهدين بالقسط ،والقسط هو العدل وهو التوازن وهو اقتحام
العقبة بالعدل عن اهلوى إىل احلق .فالرباين منوذج ماثل ،وجهاده
تربية مث تريبة مث تربية ،ونفهم الرتبية باملعىن الشامل املتعدي وظيفة
للرباين اجملاهد الداعي إىل اهلل.
ث اهلل جل شأنه فينا قائدا جماهدا ندين له إىل أن يـَْبتَعِ َ
بالطاعة وجناهد معه طاعة وجهاد تطوع .حيمل رجال الدعوة يف
دار اإلسالم عبء الدعوة كل حسب اجتهاده وحسب انتمائه
الطائفي وحسب تنظيمه وحسب تصوره حلياة اإلسالم .ويلقى
رجال الدعوة العنت ويشردون ويقتلون كما شرد األنبياءُ وقُتلوا
ولنا يف جهاد رسول اهلل وصحبه أسوة نرجع إليها لنستقي عزما
311
ويقينا ،ولنستقي حكمة وننظر ألنا هذه الربانية وهذا التوفيق
الذي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبقتضاه يقول للناس
يف جهاد دعوته قبل أن يفتح اهلل على املؤمنني « :قولوا ال إله
إال اهلل تفلحوا ! »؟ ما بعث اهلل بعد حممد نبيا لكن أولياء سرج
منرية هلم من اهلل توفيق.
أخرج أمحد عن ربيعة بن عباد قال « :رأيت رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم يف اجلاهلية يف سوق ذي اجملاز وهو يقول :يا أيها
الناس ،قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا ! والناس جمتمعون عليه ووراءه
رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتني يقول :إنه صايبء كاذب!
فسألت عنه فقالوا :هذا عمه أبو هلب!».
ُ يتبعه حيث ذهب
جمتمعنا جمتمع الكراهية النهمة القذرة واالشرتاكية اخلانعة
سوق اختلط فيها احلابل بالنابل ،بضائعها هذا األثاث اجلاهلي
املكدس يف املخازن والعقول ،وجوها معتم مظلم يسري فيه املرتفون
وضحاياهم على غري هدى .ولن يتبني املسلمون طريقهم إال
بالكلمة الطيبة يرجعون إليها مع الربانيني الصادقن .ومن ادعى
ربانية بغريها فبم يدخل السوق؟.
ال خيفى حامل السر اإلهلي حامل الرسالة واإلذن ألنه وارث
لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،وله من وراثته النور والربهان.
ويكذب املكذبون أولياء اهلل ميثلوهنم ببعض املعوقني أهل الرجس
312
كما كذب املستكربون أنبياء اهلل .الوليد بن املغرية جاء 1إىل
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،فقرأ عليه النيب القرآن ،فكأنه رق
له .فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال :يا عم ! إن قومك يريدون
أن جيمعوا لك ماال .قال ِ :لَ ؟ قال :ليعطوكه فإنك أتيت حممدا
علمت قريش أين من أكثرها ماال قال: ْ لتعرض ما قبله .قال :قد
فقل فيه يبلغ قومك إنك منكر له ،قال :وماذا أقول ؟ فو اهلل
ما منكم رجل أعرف باألشعار مين وال أعلم برجزه وال بقصيده
مين وال بأشعار اجلن ! واهلل ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا،
وواهلل إن لقوله الذي يقول حالوة ،وإن عليه لطالوة ،وإنه ملثمر
َس َفله ،وإهنا ليعلو وال يعلى ،وإنه ليحطم ما حتته! ِ
أعالهُ ،مغد ُق أ ْ
قال :ال يرضى عنك قومك حىت تقول فيه ! قال :قف عين حىت
أفكر فيه .فلما فكر قال :إن هذا إال سحر يؤثر يأثره عن غريه!
ْت لَهُ َماالً ت َو ِحيداً َو َج َعل ُ فأنزل اهلل فيه قوله َ ﴿ :ذ ْرنِي َوَم ْن َخلَ ْق ُ
دت لَهُ تَ ْم ِهيداً ثُ َّم يَط َْم ُع أَ ْن أَ ِزي َد ين ُش ُهوداً َوَم َّه ُّ ِ
َّم ْم ُدوداً َوبَن َ
صعُوداً إِنَّهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر فـَُقتِ َل ِ ِ ِ ِ
َك َّل إِنَّهُ َكا َن ليَاتنَا َعنيداً َسأ ُْره ُقهُ َ
س َر ثُ َّم أَ ْدبـََرس َوبَ َ ف قَ َّد َر ثُ َّم قُتِ َل َك ْي َ
ف قَ َّد َر ثُ َّم نَظََر ثُ َّم َعبَ َ َك ْي َ
ش ِرال إِ ْن َه َذا إِ َّل ِس ْح ٌر يـُْؤثـَُر إِ ْن َه َذا إِ َّل قـَْو ُل الْبَ َ استَ ْكبـََر فـََق َ
َو ْ
ش ِراحةٌ لِّلْبَ َ ِ
اك َما َس َق ُر َل تـُْبقي َوَل تَ َذ ُر لََّو َ ُصلِ ِيه َس َق َر َوَما أَ ْد َر َ
َسأ ْ
ش َر﴾. َعلَيـَْها تِ ْس َعةَ َع َ
1ابن إسحاق عن ابن عباس
313
إن قومنا طال عليهم األمد فقست قولبهم ،وإن دعوتنا إىل
اإلسالم تنشد لقاء مع رمحة اهلل يف توبة تسرت املاضي املظلم وتفتح
أبواهبا لرفق اإلسالم وتؤدته .وما أشبه حاجة اليوم بالبارحة ! يوم
إن كان اجلاهليون يدخلون يف دين اهلل أفواجا بعد أن أعوزهتم
الروغان عن دين اهلل .إن أحضان اإلسالم مفتوحة لضم احليلة يف َّ
أبناء اإلسالم التائهني ،وإن لإلسالم لرفقا وعلو مهة يكتشفهما
التائبون كما اكتشفها معاصرو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم.
وهذه قصة إسالم حرب من أحبار اليهود ،نوردها على طوهلا
ملا فيها من عرب وعالمات ملعرفة الرباين :أخرج الطرباين عن عبد
اهلل بن سالم قال « :إن اهلل عز وجل ملا أراد هدى زيد بن ُس ْعنَة
قال زيد بن سعنة :ما من عالمات النبوة شيء إال وقد عرفتها
يف وجه حممد حني نظرت إليه إال اثنتني مل أخربمها منه :يسبق
حلمه جهله ،وال تزيد شدة اجلهل عليه إال حلما ،قال زيد ابن
سعنة :فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما من احلجرات
ومعه علي ابن أيب طالب رضي اهلل عنه ،فأتاه رجل على راحلته
كالبدوي فقال :يا رسول اهلل ! يل نفر يف قرية بين فالن قد
أسلموا ودخلوا يف اإلسالم ،وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم
الرزق رغدا وقد أصابتهم سنة وشدة وقحط من الغيث ،فأنا
أخشى يا رسول اهلل أن خيرجوا من اإلسالم طمعا ! فإن رأيت أن
314
ترسل اليهم بشيء تعينهم به فعلت ! فنظر إىل رجل إىل جانبه
أراه عليا فقال :يا رسول اهلل ! ما بقي منه شيء ! قال زيد بن
سعنة :فدنوت إليه فقلت :يا حممد ! هل لك أن تبيعين مترا
معلوما يف حائط بين فالن إىل أجل معلوم ،إىل أجل كذا وكذا ؟
قال :ال تسم حائط بني فالن ! قلت :نعم ! فبايعين فأطلقت
مهياين فأعطيته مثانني مثقاال من ذهب يف متر معلوم إىل أجل كذا
وكذا .فأعطاه الرجل وقال :اعدل عليهم وأغثهم .قال زيد بن
سعنة :فلما كان قبل حمل األجل بيومني أو ثالث خرج رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي اهلل
عنهم يف نفر من أصحابه فلما صلى على اجلنازة ودنا إىل اجلدار
ليجلس إليه أتيته فأخذت مبجامع قميصه ورادئه ونظرت إليه
بوجه غليظ .قلت له :يا حممد ! أال تقضيين حقي ؟ فو اهلل ما
عُلمتم بين عبد املطلب إال مطال ولقد كان يل مبخالطتهم علم !
ونظرت إىل عمر وعيناه تدوران يف وجهه ِ
كالفلك املستديرة ،مث
رماين ببصره فقال يا عدو اهلل ! أتقول لرسول اهلل صلى اهلل صلى
اهلل ما أمسع ؟ وتصنع به ما أرى ؟ فوالذي نفسي بيده ! لوال ما
أحاذر فوته لضربت بسيفي عنقك .ورسول اهلل صلى عليه وسلم
أح َو َج إىل
ينظر إيل يف سكون وتـَُؤ َدة .فقال :يا عمر أنا وهو كنا ْ
غري هذا ،أن تأمرين حبسن األداء وتأمره حبسن اتباعه ! اذهب به
315
يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من متر مكا َن ما ُر ْعتَه.
قال زيد :فذهب يب عمر فأعطاين حقي وزادين عشرين صاعا
من متر .فقلت :ما هذه الزيادة يا عمر ؟ قال :أمرين رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم أن أزيدك مكا َن ما ُر ْعتُك .قال :وتَعرفين
يا عمر ؟ قال ال :قال :أن زيد بن سعنة .قال :احلرب ؟ قلت:
احلرب ! قال فما دعاك إىل أن فعلت برسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ما فعلت وقلت له ما قلت ؟ قال :يا عمر ! مل يكن من
عالمات النبوة شيء إال وقد عرفت يف وجه رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم حني نظرت إليه ،إال اثنتني مل أخربمها منه :يسبق
حلمه جهله ،وال تزيده شدة اجلهل عليه إال حلما ،وقد أخربهتما،
فأشهدك يا عمر أنين قد رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينا ومبحمد
نبيا ! وأشهدك أن شطر مايل – فإين أكثرها ماال –صدقة على
بعضهم فإنك أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم .قال عمر :أو على ِ
ال تسعهم ! قلت :أو على بعضهم ! فرجع عمر وزيد إىل النيب
صلى اهلل عليه وسلم ،فقال زيد :أشهد أن ال إله إال اهلل وأشهد
أن حممدا عبده ورسلوه وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه ِ
مشاه َد
كثرية ،مث تويف يف غزوة تبوك مقبال غري مدبر .ورحم اهلل زيدا !».
إن القرآن الكرمي كتاب جهاد قص اهلل فيه كيف كان أنبياؤه
جماهدين صابرين على دعوهتم ،وقص كيف مؤيدين بالغيب.
316
وسرية رسول اهلل تشخص أكمل التشخيص معاين الربانية ،معاين
الشهادة بالقسط ،أي املثول واحلضور بالنور الكامل والسمت
والتؤدة واالقتصاد بني الناس .وانظر كيف حترى احلرب حىت استيقن
أنه احلق فتزكى وبذل وجاهد حىت مات شهيدا ،أال وإن اجلهاد
الذي حتتاجه األمة يف جهلها إلسالمها أن يقوم الناس من رجال
الدعوة بالقسط ويعيشوا حبياة اإلسالم حىت يراهم الناس فيتبعوهم،
عمال وقوال ،اليوم وغدا حني يعز اإلسالم.
317
الفصل الثالث
كتاب العامل
«يف هذه الصفحات اليت كتبت منذ عشرين عاما استعراض
للتجربة الشيوعية الصينية اليت كانت يومئذ شغل املتقفني ينتظرون
من جناح ماو واملاوية منوذجا حيتذى يف العامل الثالث.
أما بعد سقوط الشيوعية يف املعسكر االشرتاكي ،وبعد معاناة
صني ماو وما بعد ماو من كارثة «الثورثة الثقافية» ،وبعدما تعيشه
الصني من مناغاة للرأمسالية ونظمها،فالذي يبقى من الكتابة عن
ماو وفلسفته وجتربة الصني هو الدرس من إديولوجية مادية عبأت
ثورة هائلة غريت وجه التاريخ مث عجزت وسقطت .وتبقى حماولة
النقد سلبا وإجيابا».
318
منها قائم وحصيد
ك ِم ْن أَنبَاء الْ ُق َرىقال اهلل جلت عظمته لنبيه ولنا َ ﴿ :ذلِ َ
صي ٌد﴾ والقرية يف املفهوم القرآين ك ِمنـَْها قَآئِم وح ِ صهُ َعلَْي َ
نـَُق ُّ
ٌ ََ
﴿وَك ْم أ َْهلَ ْكنَا قـَبـْلَ ُهم ِّمن قـَْر ٍن ُه ْم
َ حضارة جاهلية كافرة :
س ُن أَثَاثاً َو ِرئْياً﴾ .فأصحاب األثاث والرئي قرية كافرة زمنية َح َ
أْ
تقوم زمانا مث حيصدها اجلبار سبحانه ببطشه .ويف عامل اليوم قرى
قائمة ينصبها اهلل لنا آيات لنتأملها ونتعلم منها كما نصب لنا يف
قرآنه أمثلة القرى اليت حصدها.
أخربنا احلق عز وجل أن آياته ال يتدبرها إال قوم يعقلون .ويف
املفهوم القرآين يلتقي العقل واللب يف النظرة الفطرية ،فيقبل املؤمن
احملسن مشروع اهلل يف األرض َوقَ َد ُرهُ ويعلم أن هذا الكون َخ ْل ُق اهلل
جعله فتنة ،ويتعلم من الكون على احلد الشرعي يلتقط احلكمة
أىن وجدها .وقد قرأنا كتاب اهلل وسنة رسوله يف الفصلني السابقني
وتعلمنا مباديء الفقه املنهاجي وأصوله ،فإذا أهلمنا اهلل التعلم من
اجلاهلية القائمة وأخذنا منها حكمة ال من حيث كوهنا جاهلية
بل من حيث كوهنا مددا من مدد اهلل ،فنحن نوشك أن نبدأ
بناء إسالمنا بالقسط غري مفتونني وال متخاذلني ،قال اهلل تعاىل
شاء لِ َمن نُّ ِري ُد
اجلَةَ َع َّجلْنَا لَهُ فِ َيها َما نَ َ
﴿من َكا َن ي ِري ُد الْع ِ
َ ُ َّ :
319
ثُ َّم جعلْنا لَه جهنَّم يصالها م ْذموماً َّم ْدحوراً ومن أَراد ِ
اآلخ َرةَ ُ ََ ْ َ َ ََ َ ُ ََ َ َ ْ َ َ ُ
ك َكا َن َس ْعيـُُهم َّم ْش ُكوراًَو َس َعى لَ َها َس ْعيـََها َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن فَأُولَئِ َ
ك ك َوَما َكا َن َعطَاء َربِّ َُكالًّ نُّ ِم ُّد َه ُـؤالء َو َه ُـؤالء ِم ْن َعطَاء َربِّ َ
َم ْحظُوراً﴾ .انتبه إىل عطاء اهلل للعامل وانتبه إىل أنه ليس حمظورا
علينا أن نأخذ عطاء اهلل من مأخذه الشرعي.
ولقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول « :خياركم
في الجاهلية خياركم في اإلسالم إذا فقهوا» .وكان يذكر
خبري حلف الفضول حضره يف اجلاهلية ،وكانت القبائل مبقتضاه
تتضامن ملنع الظلم وأخذ احلقوق فنحن بني ضرورة متيزنا عن
اجلاهلية ومعاداهتا وبني ضرورة التعلم من العامل ،واحلكمة العملية
اليت حنتاجها يف يد اجلاهليني .فهل يكون إسالمنا تزمتا مغلقا أم
نتكيف بالعامل اجلاهلي ؟ كال ! لكن ننظر إىل العامل باملنظار
املنهاجي وننقده باملعيار املنهاجي بالنظرة الفطرية ،ننظر إىل
اجلاهلية وعاملها كما هي يف حقيقتها تدبريا من تدبري اهلل وعطاء
منه غري حمظور .ونتصرف وفاقا لشريعة اهلل ،نأخذ احلكمة ونطرح
اجلهل واجلهالة ونتزكى ربانيني ال رهبانيني وال مذهوبا بنا.
إن العامل اليوم أكلة للجاهلية الرأمسالية ،فلها الغلبة وهلا
معظم األثاث والرئي ،فلننظر أوال وأخريا قتامتها وقذراهتا فكل
ذلك معروض علينا يف صحف العامل ،لكي نتعلم كيف نعاف
320
اجلاهلية إذ يكون نتَاجها هذا اإلنسا ُن الشقي بنفسه املكشر عن
أنيابه :اإلنسان املستهلك.
إهنا قرية قائمة ملا حيصدها اهلل عز وجل ،وحنن نأمل أن يهديها
اهلل على يدنا لدينه معشر األمة املستضعفة كما رجا األنبياء
لقراهم ،فإمنا حنن تابعون سائرون على سننهم وما بيننا وبني
أن ندعوها كما دعوا إال أن هنتدي حنن ونتأهل حلمل الرسالة.
وإن قرية الرأمسالية وقرى الشيوعية جمال إن شاء اهلل لنشر دعوة
اإلسالم ،فكذلك ننظر إىل القرى بال حقد وال كراهية ،ومن
عادانا قاتلناه بال حقد ،بسيف اهلل يوم يكون دعوة ويكون لنا
سيف إن اعرتضنا يف دعوتنا معرتض ،وباحلكمة واملوعظة احلسنة
دائما.
إهنا قرية ورثت العقلية الوضعية من القرن التاسع عشر ،عقلية
ضيقة جهدت جهدا كبريا لتفرغ التصورات اإلنسانية األشد مساسا
بالشخصية املعنوية لإلنسان من حمتواها ،فال ضمري وال إرادة وال
أخالق ،إمنا هو بشر يسري يف دوابيته حسب عالقات جتارية
نفعية تكتنفها الرغبة يف الوجاهة االجتماعية وتدفعها وتدفعها
قوة التنافس .إمنا هو بشر مكانته االجتماعية حيددها ختصصه يف
العمل وحيددها إنتاجيته يف خدمة رجال الصناعات املهيمنني على
املسخر لإلنسان.
ِّ جهاز احلكم
321
جاهلية ذهبت هبا العقالنية العاتية املعجبة بآالهتا إىل أن
ترفض القيم اخللقية وتُكب على التحليل «العلمي» العملي الذي
يعطى آلة جديدة أو طريقة جديدة .وحللوا اإلنسان وأحصوه،
وغرهتم التكنولوجيا السحرية اليت حتقق املستحيل مبجرد الضغط
على زر صغري ،فما هاهلم ما يف جسم اإلنسان من معجزات
وما هاهلم ما يف الكون من آيات .أحصوا اإلنسان فجمعوه
فما وجدوا إال دابة ملتهبة بنزغاهتا البيولوجية ،وأحصوا أيامه يف
األرض ففرحوا ألن العلم الطيب وارتفاع مستوى املعاش زاد يف
معدل عمر اإلنسان كذا وكذا سنة .فذلك هو التقدم وتلك هي
احلضارة.
حضارة تباهي بأثاث املطبخ العجيب الذي حول اقتنائه تدور
اهلمم ،وأصبح الطعام موضوعا للصناعة املكنية ،وأصبح فنا.
بيد أن اجلاهلي الصناعي يأكل بسرعة ويأكل طعاما كثريا ثقيال
فيمرض بسرعة .ويضيع عمر الدودة األرضية بني اجلزع من أخطار
البطن ومن أخطار الطريق حيث تتسارع السيارات وبني اهللع من
الوقت .الوقت من ذهب ،والوقت من حديد ،والوقت سيف
يقطع اجلاهلي الزاحف بكل قواه ليملك أحسن سيارة وأمجل امرأة
وأوسع منزل وأكرب رصيد مايل .حىت إذا مت له من ذلك ما أراد أو
كاد ،جاءهم املوت من كل مكان.
322
فعنف قتَّال يف الشوارع ،وعنف يف أسواق املطالبات واملزامحات
ٌ
السياسية ،وعنف بني األحداث ،والقنابل املدمرة تنتصب مثاثيل
للعنف اجلاهلي.
اإلنسان اجلاهلي دابة غالبت القلة حىت اكتظت أسواقها
طعاما وأثاثا ،وحىت اكتظت بطوهنا طعاما وصدورها دخانا ينشأ
عنه السرطان وال يوشك علم الطب العتيد أن خيرتع دواء لداء
واحد حىت تنبع له عشرة أدواء .1ومع اكتظاظ البطن طعاما
اضا يعيش اجلاهلي يف فاقة روحية ال تغين واكتظاظ اجلسم أمر ً
فيها الكنيسة فتيال منذ أعرض اجلاهلي عن دينه .ويعوض كل
فاقته الروحية كما يشاء ،فيمأل فراغه بالتسافد والدَّعارة ،ويتعاطى
املخدرات من كل نوع ،ويتسابق مع املتسابقني لريوح ريح اهلواء
النقي يوما أو يومني يف األسبوع خيصصهما خلالعته ختصيصا ما
دام يف أرضه هواء نقي ،أو يزحف على البالد املتخلفة سائحا
جيلب معه القذارة اخللقية والقذارة وكفى مع ما جيلبه من فتات
املال لألمم اجلائعة.
والشباب اجلاهلي شقي بكل هذا ،فهو يثور ويكسر أوثان
القيم املادية ويتوغل يف الدوابية توغال مقصودا يشكو قلة العون
وقلة الناصح الذي يدله على معىن للحياة .هذا الشباب يرفض
323
التخمة املادية ويشعر بالفاقة الروحية وباحلاجة لقيم جيد أثرا هلا يف
تارخيه ويعرض عليه جتار الروحيات عيِّنات معاصرة تستهويه وتغريه.
فهناك حيوان «اهليب» الذي أخذ يتحول حنو املسيح يلبس املسوح
ويدعو للدَّعارة املساملة ،حلرية اجلنس باسم املسيح .وهناك جتار
الروحيات من اهلنود اليوك تروج هلم أسواق يف عامل الغرب أميا أسواق.
ولتعويض اخلواء الروحي يتطلع اجلاهلي لتغيري ينقله إىل عامل ما
بعد احلضارة الصناعية .فمركوس يصور عاملا فيه الوفرة وفيه حرية
اجلنس .وآخرون يرمسون حضارة يتوقف فيها النمو الصناعي «nom
324
الرياضة الروحية ! ففي الظاهر تبتعد عن الثقافة والتكنولوجيا
وتتحول روحانيا ترفض العامل .لكنك يف الواقع ترجع إىل قلب ثقافة
ما بعد التكنولوجية».
ومعىن هذا يف سياق مقاله الطويل أن احلضارة التكنولوكية
املتطلعة لثقافة ترتكز على اإلنسان ال على أثاث اإلنسان جيب
أن ترفض مديري األعمال « »managersوترمى يف أحضان اليوك
الدالني على وعي جديد ،املدركني للعلم احلقيقي.
ومعىن هذا بالنسبة للدعوة اإلسالمية أن اجلاهلي قد أشبع
ينشد شيئا ال جيده ولن جيده إال يف اإلسالم.شقاء حبضارته فهو ُ
وتتكاثر يف الغرب ،خاصة يف أمريكا ،نوادي الرياضات الروحية
الشيطانية ،فطائفة يعبدون الشيطان ويسمونه بامسه وهلم قدم يف
السوق وآخرون يتتلمذون لليوك عبدة الشيطان العام.
كان الشهيد سيد قطب يدعو ألن يتحمل املسلمون دور
أستاذية العامل .لنكن أساتذة العامل فالسر عندنا والعامل حمتاج،
لكن أين مؤهالته ؟ إننا قبل أن حتق لنا األستاذية للعامل ال بد أن
نتعلم من العامل ،ال بد أن نتعلم هبمة املؤمن حر العقل واإلرادة،
إنسان الفطرة ،ال هذه التلمذة اخلانعة اليت يأخذ مبقتضاها
املفتونون من أبنائنا أثاث اجلاهلية وزينتها ويفوهتم أخذ احلكمة.
ال نغ ُفلن عن القيم اليت بنت احلضارة الغربية واقفني عند
325
العوامل اليت تنحر الكيان اجلاهلي .إن الدرع احلديد احلصني الذي
بنته احلضارة هو القوة اليت حنتاج إليها ،وإن أصل بنائه الضبط يف
الوقت والعمل ،والصرب واملثابرة ،والتعلم الدائم ،واإلبداع والتنظيم.
وكل أولئك ال يقابلهن عندنا إال الكسل الفكري وهنم ال يشبع
حياكي هنم اجلاهلية وشراستها .إن للجاهلية شيئا ال منلكه ،إن
هلما اجتاها وعزما على حتقيق هدفها يف السيطرة على العامل .تفعل
ذلك لالحتفاظ مبثلها األعلى وهو رفع مستوى املعيشة باستمرار.
وللمسلمني اليوم هدف سليب يسمى يف أحسن صورة «رفعا آلثار
العدوان» .ومىت أصبح لنا هدف متعد غري الزم ،ومىت أصبح لنا
هدف اجيايب خيدم غاية وجودنا كان لنا اإلجتاه والعزم ،ويومئذ
تقودنا يد اهلل وترعانا عينه اليت ال تنام.
أما القرى األخرى ،فإهنا متعددة الوجوه متلونة يف أثواهبا تلون
الغول ،فالتعلم منها عقبة حيب أن يقتحمها رجال الدعوة ويعدلوا
عن االنتقاد لقذارة اجلاهلية ورجسها انتقادا حيول بيننا وبني التدبر
الفطري آلية اهلل الذي هدى عباده الضالني عمال مأل وميأل العامل
صخبا وفكرا وثورة .فاجلاهلية الراكدة يف ثرواهتا وأثاثها متلك
التكنولوجيا وهي لنا بغية ،وهذه اجلاهلية الشيوعية االشرتاكية
متلك ما حنن أشد حاجة إليه وهو احلركية وسر التعبئة والتأثري يف
اإلنسان .وما علينا إال أن نتأمل ابناءنا لنعلم يف أي واد يهيمون.
326
وكان اإلمام عمر بن اخلطاب هنى عن اختاذ لباس األقوام اجلاهلية
ودل على االخشيشان والتمعدد لكنه اقتبس النظام املايل ودون
الدواووين على غرار ما كانت تدون اجلاهلية الفارسية .إنه طرح
األثاث وأخذ احلكمة .وقد وصى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
بطلب العلم وأمر زيدا أن يتعلم لغة اليهود ،وأمر عمر الناس
بتعلم النجوم ،ووصى موالنا علي بطلب العلوم واحلكمة أينما
كانت .لكننا ال نيأس من توبة املثقفني اليساريني من بين جلدتنا.
إنه هكذا يفكر إنسان الفطرة املؤمن ألنه غر كرمي ،يطمع أن
يهدي اهلل به ولو رجال واحدا فيكتب مع الدعاة إىل اهلل ،ويطمع
أن يهدي اهلل به العامل أمجع .ولكي يكون تعلّمنا من االشرتاكيني
تعلما فطريا يتلقى عن اهلل وعن عطائه ال عن اجلاهلية باعتبارها
كفرا وإحلادا ،ال بد أن نتعلم أوال أن صولة الشيوعية ومضة مث
تنطفيء .وإن كانت الصني اليوم رمزا للقوة واإلبداع فهي صائرة
ال حمالة إىل حيث صارت قبلها روسيا ،مصري جبار يف األرض
هدفه هو نفس هدف اجلاهلية األخرى ،وما تغين األلقاب اليت
ينبز هبا الروس خصومهم حني يسموهنم إمربياليني وإقطاعيني.1
فقد أصبحت روسيا بالد إقطاع طبقي ومركز أمرباطورية
استعمارية ،ونستعمل هذه األلفاظ اجلاهلية فهي تدل أحسن
327
داللة على معناها .يبدأ اإلقطاع الشيوعي باالستبداد بالعقل.
يقول زعيم شيوعي يوغوساليف سابق هو ميلوفان ديالس« :1ميارس
الشيوعيون االستبداد بالعقل مبهارة فائقة توليهم أعنة السلطة،
فتدفع املادية الشيوعية املؤمنني هبا إىل موقف ال يتمكنون فيه من
اعتناق أية وجهة نظر أخرى ،وإال فهناك وسائل اإلرهاب وحتطيم
العقل البشري.
… وتواصل الشيوعية املعاصرة خلق أنصاف احلقائق
حماولة تربيرها ،وتبدو وجهات نظرها حقيقية غري أهنا يف الواقع
مطعمة باألكاذيب .وكلما كانت أنصاف احلقائق هذه متسمة
باملبالغة ،وكلما كانت منمقة باألكاذيب ،كلما ساعدت على
تعزيز االحتكارية اليت ميارسها زعماؤها على اجملتمع… هؤالء
البريوقراطيون قد أخرجوا نبضات شعبهم الثقافية .لقد كانوا هم
الذين ابتدعوا عبارة « :االنتزاع من الضمري اإلنساين» -أكثر
العبارات بعدا عن اإلنسانية ،وأخذوا يتصرفون طبقا هلا كما لو
كانوا يتصرفون يف أعشاب وحشائش ال يف أفكار البشر».
وهذا األسلوب يف معاجلة البشر والتسلط على الضمائر تربز
طبقة من اخلانعني وتعطيهم الصدارة وتبرت اجملتمع من العناصر
328
هرب كتابه فنشر يف الغرب: 1احلية .يقول كاتب روسي ّ
«إن النخبة البريوقراطية روعي يف اختيارها األسلوب
البريوقراطي الذي ينتخب أكثر الناس طاعة واستعدادا للتنفيذ.
وهذا االنتخاب املعاكس للطبيعة ألكثر الرجال طاعة من
البريوقراطية القدمية وإقصاء العناصر األكثر حتررا وجرأة عن ميدان
التوجيه ولد أجياال جديدة تزداد ضعفا وحرية على الدوام».
إن الشيوعات سائرة يف درب اجلاهلية الذي سارت فيه القرى
من قبلها حىت حصدها اهلل .فمن حصدها اهلل .فمن مرحلة الثورة
ينتقل الشيوعيون إىل مرحلة التصلب العقدي ،وهي املرحلة اليت
متر هبا الصني ،مث إىل مرحلة االنتهازية وخلق عقيدة جديدة تنكرها
الشيوعيات اليت ما تزال يف املرحلتني السابقتني فتلعن «املراجعني»
اخلائنني للمباديء الشيوعية .وهكذا يرتفع لغط اجلاهلية احلمراء
يف نزاعها الشيوعي مع مثيالهتا أشد أعدائها ضراوة إىل جانب
لغط اجلاهلية السوداء ،وحيتد اهلياج املشرتك يف معركة الغلبة على
األرض والتكاثر .جاهلية تدعو إىل امللكية الفردية فيشقى من
ميلك بثقل ِحْله ويُ َّ
سخر دابةً تنازع من ال ميلكون ،وجاهلية تنزع
امللكية من األفراد لتعطيها حقا كامال لبريوقراطية منتخبة تستبد
329
بالفكر لكي تستبد بالرزق .وكل هذا آئل إىل خراب ،وكله من
آيات اهلل اليت ينبغي أن نتعلم منها .إن الغافل ال يرى يف الكون
إال مسميات كمية وأقواما وأعدادا وقوات تتطاحن ،أما املؤمن
فريى يف كل ذلك مدرسة ما خلقها اهلل إال ليتعلم منها املؤمنون
إذا اهتدوا وغالبوا الفتنة وانربوا ليحملوا رسالة اهلل اليت من أجلها
خلق الكون متعرضني ملوعود اهلل وموعود رسوله.
330
يف مأدبة اللئام
كلمة قاهلا قائد جماهد يف موقف جهادي ،يقول بعض
املؤرخني :إن طارق بن زياد ملا عرب إىل بر األندلس يف أول فتح
إسالمي ألوربا ،حطب جنده قال « :واعلموا أنكم أضيع من
األيتام يف مأدبة اللئام ! وقال « :وإنه ال َوَزَر ل ُكم إال سيوفُكم
وإال ما تستخلصونه من أيدي عدوكم» .ونقول حنن الكلمة من
موقف الضعف الذي آل إليه أمرنا ،لكن نقوهلا بنية جهاد ُمقبل
غري ُمدب ٍر ،ألن العلم اإلسالمي ال يكون إسالميا إن اكتفى َ
بالدفاع والتزام خط التكيف بالعامل والتلمذة اخلانعة له.
ونقول الكلمة بال حقد على العامل ،فال نشتم اللئام ألن
الشتم ليس عمال إسالميا ،وألن املنظار املنهاجي منظار علمي
يلزم صاحبه النظرة اجملردة إىل خلق اهلل .إنك ال تشتم اجلُ َع َل أن
كان جعال وال العقرب أن هلا محة مسمومة توذي هبا ،لكنك
تكنس اجلُ َعل لقذارته وتقاتل العقرب إن أتتك شائلةً ذنبها دون
أن حتقد عليها .كذلك حنن حول مائدة العامل مع عباد اهلل
اجلاهليني ،إهنم خلق اهلل ولسنا عليهم مبسيطرين كما قال اهلل
لنبيه .وملا وقع رسول اهلل صلى اهلل عليه سومل يف حفرة نصبها له
العدو يف غزوة أحد وأصيب حىت َد ِم َي وجهه قال « :كيف يفلح
331
ك ِم َنس لَ َ
قوم أدموا وجه نَبيِّهم ؟ » فخاطبه اهلل قال ﴿ :لَْي َ
ِ
وب َعلَْي ِه ْم أ َْو يـَُع َّذبـَُه ْم فَِإنـَُّه ْم ظَالِ ُمو َن﴾.
األ َْم ِر َش ْيءٌ أ َْو يـَتُ َ
إننا يف مأدبة اللئام مضيَّق علينا مظلومون تطأنا األقدام
اجلاهلية ،ولعل العمل السياسي يف موطن مثل هذا ال يعرف جوابا
إال الغضب املقاتل إن كانت القوة أو املراوغة الدبلوماسية بعد
اهلزائم النكراء .أما العمل اإلسالمي فيقدر الوضع تقديرا إسالميا
تسبق فيه التؤدة العنف ويسبق فيه العلم املنهاجي اجلهل باملبدأ
واملعاد .إن استخالف اهلل لنا يف األرض ويوم نؤمن ونعمل صاحلا
يعين أن نكون أوصياء على خلق اهلل بالرمحة والرجاء يف توبة
العاصي وإسالم الكافر .إن هذا اخللق عيال اهلل ،وقد قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :الخلق عيال اهلل وأحب الخلق
إلى اهلل أنفعهم لعياله» .يقول الصويف « :ال تبغض يهوديا وال
نصرانيا ،لكن أبغض نفسك اليت بني جنبيك» ،فال يفهمه اخللي،
ال يفهم أن أنانية املرء هي املِنوال الذي تُنسج عليه العادة ويتبلور
فيه االستكبار الكافر فإذا املرء جاهلي ينصرف على غري هدى.
إن نفع عيال اهلل يف األرض يف كنس اجلعل وقتل العقرب ،وإن
هلل شريعة عليها يقوم اإلسالم يف القلوب وجمال العمل العام.
وشرع اهلل عني لنا أعداء شديدي العداوة لنا هم املغريون اليهود،
مث ترك خيط رجاء ممتدا يصلنا بالرحم اإلنسانية ،فبهذا الرجاء
332
حنمل الرسالة اإلسالمية للخلق ،ووصايتنا عليهم وصاية رمحة
ال وصاية تسلط .اليهود اخلائنون لعهدنا هم أشد الناس عداوة
لنا ،ومع ذلك فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا فتح خيرب
وخرج منها اليهود رجعوا إليه يسألونه أسفارا من توراهتم كانوا
تركوها ،فأعطاهم ومل مينعهم .وأخربنا اهلل أن أقرب الناس لنا مودة
هم الذين قالوا « :إنا نصارى» ،ومل يأمرنا أن نعانتهم لتثليثهم
وكفرهم شهادة اهلل العلي العليم ،بل أمرنا أن نَدعهم ونُساملهم
ِ ِ ِ َّ ِ
سبُّواْ اللّهَ
ين يَ ْدعُو َن من ُدون اللّه فـَيَ ُ سبُّواْ الذ َ
﴿والَ تَ ُ
فقال َ :
ك َزيـَّنَّا لِ ُك ِّل أ َُّم ٍة َع َملَ ُه ْم ثُ َّم إِلَى َربِّ ِهمَع ْدواً بِغَْي ِر ِعل ٍْم َك َذلِ َ
َّم ْر ِجعُ ُه ْم فـَيـُنَبِّئـُُهم بِ َما َكانُواْ يـَْع َملُو َن﴾ .وكان رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وخلفاؤه يأمرون اجملاهدين أن ال يتعرضوا ملن حبسوا
أنفسهم يف الصوامع.
رجعنا إىل التؤدة اإلسالمية لنحدد معامل الطريق حىت ال ختتلط
علينا السبُل ونركب املركب العادي الذي ال يرى إال قانون املدافعة
بالعنف .وإن املدافعة باليت هي أحسن كما أمر احلق عز وجل هي
القوة وأن عاقبتها أن يصبح الذي بينك وبينه عداوة كأنه ويل محيم.
إنه ال حميد لنا عن املزامحة باملناكب وبكل قوانا على مائدة اللئام،
فإن ال نذكر اهلل كثريا يستحل زحامنا نضاال كالنضال وتفتنا األسوة
برسول اهلل اجملاهد يف سبيل اهلل .قال تعاىل﴿ :لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم فِي
333
سنَةٌ لِّ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْو َم ْال ِخ َر ُس َوةٌ َح َ
رس ِ ِ
ول اللَّه أ ْ َُ
َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾ .هلذا نذكر اهلل كثريا ونرجع إليه ونتوب يف كل
خطوات تفكرينا لكيال حنيد عن األسوة اجلهادية اليت تعرف القوة
وال تعرف العنف.
ونريد أن نريد فهما لألسوة اليت أمرنا اهلل هبا يف تدبر آياته
قبل أن نعرض للنظر يف مائدة اللئام .فهاك آيات جامعة حتدد
موقف حامل الرسالة عندما خياصم العامل يف اهلل فيبغض يف اهلل
دون أن حيسم خيط الرجاء يف أن يهدي اهلل به اخللق ،قال عز
َّ ِ ت لَ ُكم أُسوةٌ ح ِ ِ ِ
ين َم َعهُ يم َوالذ َ سنَةٌ في إبـَْراه َ وجل﴿ : قَ ْد َكانَ ْ ْ ْ َ َ َ
ون اللَّ ِه إِ ْذ قَالُوا لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمن ُكم وِم َّما تـ ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ
َُ ْ َ َُ ْ ْ
ضاء أَبَداً َحتَّى َك َف ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا بـَيـْنـَنَا َوبـَيـْنَ ُك ُم ال َْع َد َاوةُ َوالْبـَغْ َ
َستـَغْ ِف َر َّن لَ َ اه ِ ِ ِ ِ ِ ِ َّ ِ
ك َوَما يم لَبِيه َل ْ ِ
تـُْؤمنُوا بالله َو ْح َدهُ إ َّل قـَْو َل إبـَْر َ
ك أَنـَبـْنَاك تـََوَّكلْنَا َوإِلَْي َ ك ِم َن اللَّ ِه ِمن َش ْي ٍء َّربـَّنَا َعلَْي َ ك لَ َ أ َْملِ ُ
ين َك َف ُروا َوا ْغ ِف ْر لَنَا ِ ِ ِ
ك ال َْمص ُيرَ .ربـَّنَا َل تَ ْج َعلْنَا فتـْنَةً لِّلَّذ َ َوإِلَْي َ
ِ َنت الْع ِزيز ال ِ َربـَّنَا إِنَّ َ
سنَةٌ ُس َوةٌ َح َ يم لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم في ِه ْم أ ْ ْحك ُ كأ َ َ ُ َ
لِ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْو َم ْال ِخ َر َوَمن يـَتـََو َّل فَِإ َّن اللَّهَ ُه َو الْغَنِ ُّي
َّ ِ ال ِ
اديـْتُم ِّمنـْ ُهم ين َع َ سى اللَّهُ أَن يَ ْج َع َل بـَيـْنَ ُك ْم َوبـَْي َن الذ َ ْحمي ُد َع َ َ
يم﴾ .فتأمل أخي املؤمن كيف َّمو َّدةً واللَّه قَ ِدير واللَّه غَ ُف ِ
ور َّرح ٌ َ َ ُ ٌ َ ُ ٌ
عاداهم نيب اهلل ورسوله أبونا أول املسلمني عليه الصالة والسالم،
334
وانظر كيف خشي أن يكون فتنة هلم فسأل ربه أن ال جيعله فتنة
للكفار يصدهم عن دين اهلل إن مل يقم شهادة القسط كما أمر.
مث انظر اإلحلاح على أن يف إبراهيم رسول اهلل لنا اسوة عداوة
الكفار ومودة للذين آمنوا.
هبذه االسوة احلسنة نتأمل أكلة املائدة العاملية لنتقزز من هنم
اجلعالن وقذارهتا وشر العقارب ومسها ونشمر ونأخذ العدة لنحمل
رمحة اإلسالم ألهل األرض بعد أن نتخذ درعا من حديد وننطق
نطقا صادقا خناطب الناس بلغة يفهموهنا ندعوهم ليشهدوا قوتنا
وطهارتنا وتعاوننا وفكرنا املبدع ،وندعوهم للحرية احلق حنو مصري
اإلنسان إىل اجلنة وإىل رضوان اهلل.
كتب رجل اقتصاد فرنسي كتابا عنوانه «التسلط على العامل»
ينشر فيه كيف يتنافس العمالق الروسي مع العمالق األمريكي
يف تقسيم العامل واالستيثار خبرياته .كتبه من وجهة نظر اجملموعة
األوربية الناشئة الطالبة حلظها من القسمة على مائدة اللئام.
يفصل فيه التوظيف املايل واإليديولوجي للمعسكرين ،واملغامرات
النقدية بل حرب الفلوس بني اعضاء من يسميهم «الربجوازية
الدولية» ويفصل فيه احتكار السلطة التابع لإلحتكار االقتصادي،
ويسمي فيه اجلهاز اإلحتكاري تسمية تلخص املوضوع إذ يذكر :
«آلة تفقري العامل» وهي كماشة ذات فكني ،أحدمها ينهش عامل
335
رأمسالية الدولة .وكالمها يتعاون مع نصف اآللة اآلخر يف الوقت
الذي يئس فيه من االستقالل بالعملية بالنظر للألرصاد النووية
املقنعة .وهكذا يؤكل العامل وتذهب خرياته لتزيد املتخم ختمة
وترتك العامل الفقري يتلقط ما يسقط من بني أضراس الكماشة
احملتاشة ملا على مائدة اللئام ،وما كانت مائدة لئام إال مكان
اآللة النهمة.
يقول«: 1هل يوجد يف «العامل احلر» دولة تستقطب أهم جتارة
العامل الثالث وتغمره بسيل منتوجاهتا املصنعة؟ إن األرقام تعني
الواليات املتحدة األمريكية ،إهنا تستورد 33%من «بوكسيت»
العامل ،و 40%من النيكل ،و 41%من التوتيا ( )Etainو 50%
من القهوة…… وتنتج الواليات املتحدة 70% :من املكنات
الصناعية يف العامل ،و 76%من سيارات العامل ،و 73%من برتول
العامل 68% ،من اآلالت اإللكرتونية يف العامل و 62%من املنتخبات
الكيماوية اخل.
ويفسر الكاتب أن الواليات املتحدة متلك اقتصاد أوربا زيادة
على ملكيتها الفعلية القتصاد العامل الثالث ،ويفسر امتالكها
الفعلي أيضا القتصاد اليابان املزدهر ،ويفسر فعل األخطبوط
املتسلط الذي ال حيد هوس امتالكه إال جدار احلديد الشيوعي.
La prise du pouvoir mondial par Jean Carral Denoel 1971 p 143 1
336
لسنا نسرد الوصف الكمي للجاهلية لنشكو فقرنا وال لنيأس
من إمكان ظهورنا على مسرح العامل جندد لإلنسانية أمال يف
احلرية رمبا نشاركها السكن يف األرض ،ونعطيها احلياة احلق مبا
هي دابة ترضى بدوابيتها مآهلا الرتاب ومبا حنن مؤمنون مآلنا اجلنة
إمنا نؤكد أن اهلل عز وجل يسلط على كل داهية ليتدافع الناس فال
تفسد األرض .ومن خالل دفاعهم يصنع اهلل لدينه وأمة نبيه .ال
يغرنك ما ختزنه إسرائيل من متاع وعتاد وال يغرنك ما ميلكه أنصار
إسرائيل من حديد ودوالر فكل ذلك عبء ثقيل مائت يف أيديهم
﴿ولَن تـُغْنِ َي َعن ُك ْم فِئَتُ ُك ْم
إن شاء اهلل أن يبسط لإلسالم بسطةَ .
ين﴾. ِِ ت َوأ َّ
َن اللّهَ َم َع ال ُْم ْؤمن َ َش ْيئاً َولَ ْو َكثـَُر ْ
أما روسيا فإهنا تعوض نقصها االقتصادي «باملقارنة مع العمالق
األمريكي» بالتسلط اإلديولوجي وتعززه به .فاإلديولوجية أقوى
بضائعها وأرسخ ما تعتمد عليه يف استعباد العامل .ومنا مفتونون
جيرون هلذه العبودية ويتلهفون عليها .قال الكاتب املذكور« :1ويف
هذه احلال (حال الضغط االقتصادي العسكري االستعماري)
تؤول العقائد الشيوعية تأويال كثيفا جدا ومستمرا جدا .وجتري
العقائد حتليالت بعيدة جدا عن الواقع ،وتبلغ تناقضاهتا أهنا ال
تصلح للتأمل العقالين .إهنا تصبح إميانا .فكيف ميكن أن نقبل
Ibid p 92 1
337
«الصعلكة الدولية» و«التماسك الطبقي» يف املعسكر الشيوعي
حيث نرى اجلماهري العمالية نفسها تعلن عداءها للسوفييت ونرى
أن القادة الشيوعيني ال شبه هلم بالعصاليك الفقرية ؟ إن هذه
احلذلقة اللفظية اليت تشبه التعاويذ السحرية وهذه الشبكة من
اإلميان حيقق «مساء» سياسة ،نوعا من الدين جديدا حاضرا يف
كل ماكن ودنيوي ،غايته أن ي َقنَّع التسلط السوفييت ويقويه».
وعلى مائدة اللئام تفرض شروط وتقنن العطايا والفروض
للدول الفقرية حبيث تفقد هذه الدول حريتها ،ويفشو الشك يف
الشعوب ألهنا ال تعرف من هو سيد دولتها ،إذ أصبح حمتما أن
يكون لكل دولة سيد من أحد العمالقة النهمني .وكلما قامت
ثورة أو حدث انقالب أو هيعة يف العامل الفقري إال والتفت الناس
يف العامل وأصغوا ليعرفوا من هلجة القائم اجلديد إىل أي جهة
انتماؤه .واملسلمون ،وهم سبعمائة مليون أو يزيدون ويف أرضهم
80%من رصيد برتول العامل ،ويف أرضهم خري كثري ال يفلتون
هذا التسلط ومن جنوده السرية والعلنية .وأمامنا الصني الفقرية
كسرت قيودها ووقفت على أقدامها متحدية لسلطان العمالقني
يف عشرين سنة .ذلك ألهنا رضيت بالفقر مذهبا ،وهو أمر يف
غاية البساطة والرجولة معا .فلذا إما أن نتعلم كيف نكسر القيود
وإال فنحن املستضعفون املأكولون.
338
يقول كاتبنا« :1نشاهد بروزا ال يقاوم حلكومات غري دميوقراطية
يف العامل .غالبا ما تكون هذه احلكومات عسكرية وصلت احلكم
بتأييد أحد الكبار .وهي أحيانا تقدمية تعتمد على اجلماهري
العاملة ،لكنها يف حقيقتها تتسم بسمة سياسية واحدة :إهنا
مشولية تسلطية عاملة طوعا أو كرها لصاحل الوالية املتحدة أو
روسيا».
وحني يبسط اهلل من تأييده ما قبض عنا الرتدادنا لن يكون
للجاهلية سلطان على قائمة اإلسالم .وما أعطاه اهلل لعباده
الوثنيني بالصني عطاء غري حمظور من الصمود والقوة سيعطينا
أضعافه إن صربنا وآمنا وتعلمنا من آيات اهلل نذكره كثريا وندعوه.
ما بال أموالنا الطائلة تتسرب بني أيدي السفهاء من أبنائنا ؟
إن لنا ماال لكن ال نبذله إال إرضاء هلوانا وال ننصر به ربنا.
ولقد كان شكيب أرسالن رمحه اهلل يؤكد أن الشح هو داء
املسلمني العياء ،ويذكر يف كتابه « :ملاذا تأخر املسلمون وتقدم
غريهم ؟» كيف يبذل النصارى أمواهلم لنصرة الكنيسة .وحنن
نتأمل هنا كيف يبذل اليهود الصهاينة لنصرة دولتهم الطاغوت .
فما هذه الطائرات اليت متطرنا وباال وموتا إال نتاج لعطاء منظم
خيدم شباب «الصابرا» املشمرين املتعلمني األقوياء .دعنا من ملز
339
الضعفاء ،فإن عدونا قوي مبعنوياته ،قوته برجولة شبابه ،وقوته
بعطاء بنيه يف األرض .
قال قائل اليهود يف أمريكا« : 1إن حياة يهود أمريكا تدور حول
مجع املال إلسرائيل وما من مؤسسة يهودية يف أمريكا إال وتدين
مبكانتها يف اجملتمع ملقدار عطائها إلسرائيل» .وينظم الضغط على
الناس مجيعا باإلرهاب والكيد اليهودي ليعطوا .وشعارهم« :أعط
إن أردت جتنب املكاره ! » .وتقص جريدة « ديلي ميل » قصة
أمريكي أقسم أن يساعد إسرائيل مباله .ويف مأدبة عشاء حضرها
ليعطي 2500دوالر التزم بعطائها ،قام خطيب اليهود فأعلن أن
فالنا سيعطي 25000دوالر ،وقال « :أليس كذلك يا مسرت فالن
؟!» فخجل األمريكي وأعطى ،وهكذا .
قبل أن نأخذ يف تأمل النموذج الشيوعي األخاذ لنتعلم ،نزود
القارىء حبكم ألحد كتاب الغرب عن روسيا ومستعمراهتا يف أروبا
الشرقية ،لنعرف مسبقا أن مآل كل شيوعية إىل خراب وإن كانت
هذه الشيوعية صينية تزعم أن محرهتا ال تشبهها ُحرة وتُعجبنا
برجولتها وقوهتا.
قال« : 2يف الوقت الذي نرى فيه البعيدين عن روسيا
340
ينفذون أوامر موسكو جند أن فريقا كبريا من الشيوعيني الروس
قد أدركوا فشل النظم الشيوعية بعد أن ظهرت يف البالد مشاكل
اقتصادية وثقافية مل يستطيعوا أن يعاجلوها بالشيوعية فأخذوا
يبتعدون عن التعاليم املاركسية اللينينية .وقد بدأ ضعف إميان
القوم بالتعاليم الشيوعية يبدو على ألسنة زعمائهم يف مناسبات
عديدة ،وأخذ اجلميع بعد النقد يبحثون عن مبادىء جديدة
تقوم مقام الشيوعية .أو مبعىن آخر :إهنم أخذوا يبحثون عن
مبادئ جديدة تقوم مقام الشيوعية .أو مبعىن آخر :إهنم أخذوا
كيفية الرجوع إىل مبادىء العامل احلر (وهذا ما تسميه الصني
مراجعية ويسميه خرشوف حلاقا بأمريكا) من غري أن خيطوا
خطوة مفاجئة فيعرضوا احلزب إىل نقمة بعض الطبقات .ويبدو
أن حركة العلماء والفنيني واملخططني الداعية إىل تغيري األوضاع
السائدة يف روسيا أصبحت حركة واضحة وعلنية .ومع أن
أكثرية القائمني على هذه احلركة هم من كبار أعضاء احلزب
الشيوعي فإهنم أصبحوا يشعرون بأهنم وطنيون قبل أن يكونوا
شيوعيني ،وأن واجبهم يقضي عليهم أن خيدموا بالدهم على
حساب الشيوعية ال أن خيدموا الشيوعية على حساب بالدهم
1
وحساب مصاحلهم».
341
قـائد ثـورة
هكذا يرجع اجلاهلي إىل غيه األول بعد جولة أقامت العامل
وأقعدته .فقد كانت روسيا معقد آمال العامل املتأمل حني ثارت
وحني عبأت اجلماهري وحني بنت قوة ضخمة وهي تنادي بأهنا
نصرية العاين واملظلوم .وتبني العامل أن يد ستالني احلديدية اليت
قتلت املاليني وسط الصخب الشيوعي العاملي ما كانت إال يد
جاهلية مستعمرة تشكلت ملا مات الزعيم لكنها ما تغريت ،وغزت
أوربا الشرقية بالنار لتثبت سلطاهنا االديولوجي .وعادت روسيا
إىل قوقعة قوميتها فهي اآلن تريد مزيدا من القسمة وتريد سالم
الذئاب والدببة مع عمالق الغرب.
وأمام الرجعة القومية والرجعة االستهالكية والرجعية عن
عاملية الشيوعية يربز وجه قائد جديد هو ماو تسي تونغ .إنه آية
جديدة من آيات اهلل ،رجل حيمل شعلة ويوقد شرارا .نفخ يف
أمته اخلانعة باألمس الذليلة املزمن إعياؤها وعياؤها روح الكفاح
فقامت ومشرت عن ساعد اجلد .إنه نفس القائد اجلاهلي التارخيي
من أمثال جنكيز خان ونابليون ،بيد أن غزوة هذا غزوة تتعمق
يف نفسية اإلنسان وتصوغه صياغة جديدة وال تكفي بالتسلط
342
القتايل .وإهنا لغزوة بالغة عربت حدود الصني مع أخبار هذه
احلركة اهلائلة وأخبار هذه احلركية املدهشة اللتان قلبتا الصيين
القميء فأحالتاه رجال مبدعا حرا يبهر بأخالقه وخلقيته قبل أن
يبهر بقوة قذائفه وصوارخيه .
غزوة هائلة بليغة متكن سلطاهنا من أكثر عقول أبنائنا حيوية
فوجد استجابة من كل متعطش لرجولة ال جيدها فيما حواليه،
ووجد استجابة من كل طالب للعمل اجلاد للمساواة ولالستقالل.
وإن النظرة اإلسالمية احلق هي وحدها الكفيلة بأن تنتزع من
عقول أبنائنا الفعل السحري لشخص ماو وفكر ماو إذ تفتح
أمامهم آفاق اإلنسان وقيمته السماوية ،وتقرتح عليهم احلركية
املنهاجية اإلسالمية وما فيها من قابليات للعمل وحتقيق القوة
والعدل والقسط يف العامل .هذا ريثما تقوم قائمة اإلسالم بإذن
اهلل فيكون النموذج العملي املتفوق للدولة اإلسالمية مشسا تسطع
فيجزي شعاعها وهج اجلاهليات .
إن ماو كافر جاهلي ملحد ،وإن قومه لكذلك ،وإن من
تصلبهم اجلاهلي لعمادا النتفاضتهم .لكن لنتجاوز هذه النظرة
اجلزئية ولنضع ماو القائد يف إطار موضوعي أمام املنظار املنهاجي.
واإلطار املوضوعي هو مشروع اهلل يف خلقه ،هذا املشروع الذي
يدور حول األمة املسلمة القائمة بأمر رهبا غدا ،القاعدة عنه اليوم
343
ألهنا ال تتعلم من آيات اهلل وال تضع األمور مواضعها الشرعية،
ومن مث ال تقدر مبنظار اإلسالم ،أو قل إهنا ال تتعلم وال تضع
األمور مواضعها الشرعية ألنه ال منظار هلا إال ايديولوجية مستعارة
تبرت رؤية العامل واإلنسان حتسبه دابة ،أو فكر جامد ينتسب إىل
اإلسالم على غري بصرية مفتوحة فيلعن ويكفر وال يقرتح حال.
هذا املاو عبد اهلل الكافر كما أنك عبد اهلل املسلم هو أوال
قائد أمة منبعثة ،فلنا يف القيادة واالنبعاث آية وحتد ألنه ال قيادة
لنا وال انبعاث .ال أقول إنه لنا اسوة نتبعها فإن أسوتنا أبونا
إبراهيم ومن معه وحممد صلى اهلل عليه وسلم ومن معه .ونكرر
ونستطرد ألننا ال نتكلم لغة الفتنة املألوفة ،نكرر حقا مهجورا،
َّجى يف نفوسنا من احلسرة حيركنا كما ونستطرد أثارةً من هذا الش َ
يرهق شجى احللق الرجل فال يفتأ يتنحنح ويتململ.
كان ماو برجوازيا صغريا على حد تعبريهم فتمركس ونزل
عن ترفه وقاد نضال شعبه منذ حنو مخسني سنة كان أثناءها
املفكر الرائد وقائد اجليش ورئيس احلكومة وباعث الثورة .وإن
كان الصينيون اليوم يتساوى وزيرهم والسوقة يف البساطة والفقر
اإلرادي ،ويقوم السفري يغسل صحنه بعد األكل كما يغسله
الناس مجيعا فذلك ألن ماو كان النموذج الرائد .سكن مع الناس
كأحدهم يف كهوف ينان وعمل بيده عمل الفالحني وسكن
344
مع جيشه خيمة عادية وجالس احملرومني وواساهم بنفسه مث أزال
عنهم الضيم فأحبوه ورفعوه فوق الرؤوس .فما يفعله صواب وما
يقوله أو يكتبه عقيدة ال تناقش .وهكذا اجتمعت مهة شعب كان
أحط الشعوب حول شخص أعطى املثال من نفسه وبدأ هبا قبل
أن يأمر غريه فتحول شعب مهزول إىل دولة رفيعة العماد ،ناوأها
اجلبارون يف األرض وسخروا من ثورهتا حىت برز هلا ناب نووي
ودارت أقمارها يف األفالك ،فتلعثم الساخر وخرس ،مث خطب ود
الدولة القوية والقائد العظيم.
هذا القائد رجل جاهلية ،لكنها جاهلية من نوع خاص ،تتلمذ
ملاركس ولينني ولستالني من بعدمها ،فتشبع بالفكر الشيوعي ومحل
شعار املساواة وشعار استبداد احملرومني .مث إنه مل جيد يف الصني
طبقة عامة برولتارية وإمنا وجد فالحني ،فأصبحت ثورته ثورة
فالحني وكان فكره فكر فيلسوف فالح ميتاز بالبساطة يف التعبري
وهبذه احلكمة القدمية اليت خلفها يف الصني «الوتسي» ،وهي تعطي
للفلسفة الشيوعية عمقا إنسانيا ال جتده عند القوم منذ ماركس .بل
إن الفالح الفيلسوف نسج فكرا إنسيا ذا صبغة شيوعية ال يعتمد
على الدعاية واهلاب احلماس بل يعتمد على التجربة واخلربة العملية،
ويأسر القارئ ببساطته وقوته ووضوحه مثلما يأسر فكر أستاذهم
الكبري ماركس بالصناعة والقوة والتمكن العقالين.
345
ال شأن لنا معشر املسلمني بالفكر اإلنسي والشيوعي ألن
هذا الفكر يضعنا موضع الدابة .فال يغرينا أن هذه الدابة املنشودة
أقل ظلما من دابة اجلاهلية األخرى ما دام املصري واحدا ،وال
حيتاج الفكر الشيوعي منا إىل مناقشة وال نقد وإمنا حيتاج إىل
أن نطرحه طرحا جبملته ،طرحا مجيال مطمئنا آسيا على ضياع
اإلنسان ،ومنضي بعدئذ نتلقف احلكمة أىن وجدناها .وإن من
رجال الدعوة اإلسالمية من جييء يقاتل الفكر الشيوعي كما
يقاتله أصحاب اجلاهلية السوداء ويبذل يف ذلك اجلهد اجلهيد،
فال يبلغ نقده إال أن يزيد أبناءنا املعجبني هبذا الفكر غبطة
مبتاعهم ألن الفكر املنتقد أسس دوال عظيمة وأحدث يف العامل،
وال يزال حيدث ،دويا عظيما ،وحرر شعوبا وبىن مصانع .مث يزيد
من غبطتهم باملتاع الفكري الشيوعي ما فيه من متاسك منهجي
ومنطق داخلي .وليس شيء أقدر على جالء احلق من السلوك
املنهاجي اإلسالمي ،فإنه العلم النبوي الذي يقابل ادعاء العلمية
عند املاركسيني ،وإنه احلق الواضح ملن اكتشف نفسه يف التجربة
الشخصية للحياة اإلسالمية.
لعل مثقفينا املفتونني يتحجرون على منهجية عقالنية مغلقة
فال يستطيعون التحرر كما استطاع ماو تسي تونغ .فهم يرفضون
التجربة ويرفضون احلق احملس إذا مل جيدوا له مصداقا يف أسفارهم.
346
واحلياة اإلسالمية صحبة وذكر يتحول هبما املرء حتوال جذريا،
ويرفض مثل هذا املتحجرون (الضغماطيون يف تعبريهم أي
أصحاب العقيدة املؤمنون هبا) .مث إن ما يطلبونه هم من احلق هو
احلق االجتماعي امللخص يف نقطتني مها الغاية والوسيلة :املساواة
واالستبداد الطبقي املبين على الصراع بني الكاسبني واحملرومني.
ولن تنقاد هذه الفئة لإلسالم قبل أن يفيء مساكني هذه األمة
األقل ترفا إىل إسالمهم خلف قيادة مؤمنة ترفع لواء اإلسالم
وترفع معه مهة هذه األمة وحتقق العدل والقوة .والبساطة والعمق
يف دعوة الرسول الكرمي « :قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا !».
ملاو فكر تربوي ومذهب تعليمي ،يصوغ فكره صياغة هادئة،
فهو تأمالت وتأكيدات يف متناول الفكر العام ويف متناول حىت
أكثر الناس بعدا عن العقالنية .إنه خياطب قومه مبا يفهمون.
عند ماركس تشنج مأسوي وعنده إحلاد واستعالء بطويل ال ختفيه
الفصاحة يف التعبري والتجرد العلمي الظاهر .أما ماو فهو الرزانة
بعينها والثبات .وحيث كان لينني يغلي غليانا هو أشبه بطبيعة
اجلاهلية السوداء اليت نبع منها ،جيري فكر ماو وعمله يف سالسة
أخاذة .وحيث كان ستالني يعبئ اجلماهري باإلرهاب والسفك جتد
ماو يقود شعبه برفق فكأمنا يسري من نفسه لني وحمبة تكسو اليد
احلديدية احملولة كساء من حرير.
347
يف فكر ماو بساطة ووضوح ،وفيه تبتسم وتطمئن بضرب
األمثال وتشخيص املبادىء يف شعارات يفهمها حىت األطفال.
ال جرم أن يصبح هذا الفكر هو املدرسة العامة يف الشارع
واملعمل واملنزل ،وال جرم أن يصبح الكتيب األمحر كتاب العقيدة
ومصحفها ،حيمل كما حتمل التمائم وحيفظ عن ظهر القلب،
ويستشهد به األستاذ ورجال السياسة والفالحة يف حقلها واجلندي
يف معسكره.
فيلسوف معلم وشيوعية تربوية استبدلت جتهم الشيوعي
الثوري بسمة منتصرة ،واستبدلت عنفه تربية رفيقة ماضية عازمة.
ذلك هو ماوتسي تونغ .وما كان لنا به من شأن لوال أنه ورفقائه
حققوا عمال جبارا أفزع اجلاهليات األخرى باملد الفكري والعملي
اجلديد املهدد لكل ما كانت بنته اجلاهليات .وما كان لنا به من
شأن لو كنا أمة قائمة قوية .ولقد فتحنا كتاب اهلل نقرأه فوجدناه
كتاب جهاد وفتحنا سرية الرسول فوجدناها سرية جهاد ،ونفتح
كتاب العامل فيطالعنا فيه أول ما يطالعنا وجه القائد العظيم.
وكتاب العامل كتاب ربنا فهو الفاطر عز وجل ،وما العامل إال
مسرح جيلي لنا فيه ربنا آياته .فماذا نتعلم من الصني؟
ماذا يقول ماو وماذا يفكر؟ .هذا كتيبه األمحر إجنيل الصني
مجع خمتارات من فكره يقول « :من أين تأيت األفكار املصيبة؟
348
هل تسقط من السماء ؟ ال ! هل هي تولد معنا ؟ ال ! إهنا ال
تأيت إال من املمارسة االجتماعية ،من ثالثة أنواع من املمارسة
االجتماعية :الصراع من أجل اإلنتاج ،الصراع الطبقي ،والتجربة
العلمية»
ويقول « :لكي تتم احلركة املفضية إىل معرفة حقيقية ،يلزم يف
غالب األحيان تكرار مستمر ،فتتحول من املادة إىل الفكر مث من
الفكر إىل املادة .مبعىن أنك تتحول من العمل إىل املعرفة ،مث من
املعرفة إىل العمل .وهذه هي النظرية املاركسية للمعرفة ،النظرية
املادية اجلدلية للمعرفة».
هذا فكر ملحد وال شك ألنه من األرض إىل األرض ،فلذلك
ال نكون لنا أسوة باملاوية ،لكن ما هي اخلطوط التطبيقية اإلنسانية
للمساواة على هذه القاعدة الكافرة ؟
نلقى أوال هذه اإلرادة احلديدية املتجلية يف الدعوة إىل
االستماتة يف طلب اهلدف ويف الدعوة إىل اعتماد على النفس.
يقول ماو « :جيب أن نزيل من عقول إطاراتنا توهم أننا ميكن أن
ننتصر انتصارات سهلة بوسيلة الصدف السعيدة دون حاجة إىل
أن نصارع صراعا قويا ودون أن نشرتي انتصارنا بالعرق والدم».
ويقول «جيب على رفقائنا يف احلزب أن يعتربوا كل الصعوبات
وأن يستعدوا جملاهبتها مبنهجية وبإرادة ال ترتد .إن للقوى الرجعية
349
صعوباهتا ولنا صعوباتنا .لكن صعوبات الرجعيني ال ميكن أن
تنحل ألن هذه القوى الرجعية صائرة إىل املوت وال أمل هلا يف
املستقبل .إما صعوباتنا فيمكن أن تغلب ألننا قوى شابة صاعدة
ومستقبلنا مستقبل منري» ويقول « :إن الذي ال يرى إىل اجلانب
الالمع من األشياء وال ينتبه للصعوبات ال يستطيع أن يكافح
بنجاح إلجناز األعمال الالزمة للحزب فهكذا يرسم طريق الكفاح
ويلهب احلماس.
ويعطي للكفاح اجتاها إذ يربطه بالشعب ويدعو خلدمة
الشعب والتماس اخلري من سواد الشعب يقول « :كل عضو من
إطاراتنا كيفما كانت مرتبته خادم للشعب ،وكل ما نعمله إمنا
نعمله يف خدمة الشعب .فما هي العيوب اليت ال ميكن أن نتنصل
منها ؟» .ويقول « :اخدم الشعب من كل قلبك دون أن تفرتق
حلظة عن اجلماهري .ابتدئ دائما من مصلحة الشعب كله ال من
مصلحة فئة وال من مصلحة فرد .اجعل مسؤوليتك أمام الشعب
مثل مسؤوليتك أمام أجهزة احلزب .هذه هي املبادئ اليت نستوحي
منها عملنا» ويقول :إن املعركة تعين أن هناك تضحيات ،واملوت
واقع بيننا .ومبا أن أهم ما يشغل قلوبنا هي مصاحل الشعب فإن
املوت من أجل الشعب تعطي ملوتنا كل معناها .ومع ذلك فيجب
أن نقلل إىل حد اإلمكان من التضحيات اجملانية».
350
ونلقى عند ماو دعوة إىل البطولة ونصرة املظلوم والتضامن
مع مستضعفي العامل وهي دعوة أصبحت اآلن عمال بالتسرب
الشيوعي الصيين غازيا العقول ومتسلال بالسالح والتنظيم يف شىت
بقاع األرض .يقول « :إننا حنن الشعب الصيين مستعدون لقتال
العدو إىل آخر نقطة من دمائنا إننا عازمون أن نسرتد مبجهودنا
اخلاص ما فقدناه ،وإننا لقادرون على أن حنتل مكاننا بني األمم»
ويقول :لكي تتحرر الشعوب املظلومة حتررا كامال جيب عليها
أوال أن تعتمد على صراعها اخلاص ،وبعد ذلك فقط تعتمد على
املعونة الدولية .إن الشعوب اليت جنحت ثورهتا جيب أن تساعد
الشعوب اليت تكافح من أجل التحرر .هذا واجبنا الدويل».
وجند عند ماو دعوة إىل البناء االقتصادي باالعتماد على
النفس وبعدم التبذير الذي هو الصفة البارزة يف اقتصاد اجلاهليات
األخرى ،يقول « :جيب أن ال ينسى الشعب واإلطارات أن الصني
بلد اشرتاكي كبري ،لكنه بلد فقري ،وهذا تناقض كبري ،ولكي
يصبح بلدنا بلدا فيه رخاء وقوة ال بد لنا من عشرات السنني
نبذل أثناءها جمهودا متواصال .ومن هذه اجلهود تطبيق سياسة
السرعة واالقتصاد يف بناء البلد ،وهي سياسة تقتضي اقتصادا
تاما وتقتضي حماربة التبذير ».ويقول « :أما ما يتعلق بنفقات
امليزانية ،فيجب أن يكون مبدؤنا هو االقتصاد .جيب أن يفهم
351
كل أعضاء املنظمات احلكومية أن الرشوة والتبذير جرائم خطرية
جدا .وإن حماربة هذه األمراض قد أعطت نتائج جزئية ،ولكن
ال بد من متابعة بذل اجملهود .اقتصدوا كل فلس من أجل حاجة
القتال والثورة ومن أجل بناء اقتصادنا .ينبغي أن يكون هذا هو
مبدأ حساباتنا».
ولعل ما أغىن به ماو الفكر الشيوعي هو رفقه يف معاملة
خصوم الثورة يف داخل بلده .ويسمى هذا « :احلل األصوب
للتناقضات يف داخل الشعب» .وحيث كان ستالني يعدم خصوم
الثورة جند ماو يدعو إلعادة تربيتهم ،يقول « :إن التناقضات بيننا
وبني أعدائنا تناقضات الضد لضده ،أما التناقضات بني العمال
يف الشعب فليست تناقضات متضادة ،والتناقضات بني الطبقة
املستغلة والطبقة احملرومة هلا وجه ضدى ووجه ليس كذلك».
ويقول « :إن كل مسألة اديولوجية وكل خصام داخل الشعب ال
ميكن حلها إال بطرق دميقراطية ،باملناقشة والنقد واإلقناع والرتبية.
وال ميكن حلها بطرق الضغط وااللتزام».
والنقد والنقد الذايت أهم وسائل هذه الرتبية ،يقول « :جيب
أن ال نفرح أبدا بنجاحنا األول .لننقص من افتخارنا ولننتقد دائما
عيوبنا كما نغسل وجوهنا يف كل يوم لنبقى نظيفني ،وكما نكنس
بيوتا لنزيل الغبار» .ويقول « :إننا خندم الشعب وال خناف أن
352
يكون يف عملنا نقص وال أن يكتشف هذا النقص وينتقد .وميكن
لكل أحد أن يكتشف نقصنا .فإذا كان حمقا أصلحنا خطأنا.
وإذا كان ما يقرتحه نافعا للشعب فإننا نعمل بوصيته» .هذه
حكمة إنسانية ما أحوجنا إليها دخلت يف سياق ملحد جاهلي،
وحنن القاصدون ألستاذية العامل أجدر أن نتعلم احلكمة ونستحي
من اهلل أن يكون جاهليون أشد منا بأسا وأطول يدا يف األرض
اليت استعمرنا اهلل فيها فضيعناها.
353
الثورة الثقافية
تلتقي الطاقة الفكرية يعززها منوذج القائد القوي بطاقة الشباب
فينتج عن ذلك حركية هائلة مسوها «الثورة الثقافية».
كما أغىن ماو الفكر الشيوعي هبذه الرزانة وهذا الرفق يف حل
التناقضات بني أفراد الشعب أغىن املمارسة الشيوعية هبذه املؤسسة
اليت تسمى ثورة ثقافية .وقد جاء هذا من التجربة نفسها ،فقد
انتهت فرتة الكفاح املسلح بانتصار احلزب الشيوعي وقيام دولته،
كفاحها الطويل إرادة
ُ والتفت حول ماو مجاعته اليت صنع هلا
حديدية وصنع هلا وحدة وانتخب األصلح للقيادة من بني ذلك
اجلند املقاتل الذي مل يقو كثري من أفراده على اقتحام «املسرية
الطويلة» كما يسمون هجرهتم انسحابا من أمام عدوهم وحتفزا
واستعدادا للوثبة النهائية.
والثورة الثقافية مل تكن ظاهرة عفوية بل جاءت وليدة
ألزمة كادت تنحرف بالثورة الصينية عن هنجها .فلقد مت النصر
العسكري وتاله صلح شامل كما يليق بالفكر املاوي يف حل
التناقضات الداخلية .مث انصرف الثائرون إىل البناء االقتصادي
وشرعوا يف «القفزة الكربى إىل األمام» حياولون تصنيع البالد
بسرعة .وغضب خرتشوف على املذهب الصيين يف قفزته وعري
354
الصينيني بأن أربعة منهم يشرتكون يف سراويل واحدة لفقرهم
وأهنم سائرون إىل اهلالك ،فسحب من الصني خرباءه وعلماءه،
وأخفقت القفزة واخنفض احملصول الزراعي عدة سنوات متوالية
فتزعزعت ثقة اجلماهري يف ماو وكاد رحيه يذهب .إن الزعيم يف
بالد الشيوعية هو قبل كل شيء رجل اخلطة االقتصادية فإن
أخفقت خطته فذلك إخفاق له وإلديولوجيته.
ولدت الثورة الثقافية من أزمة اقتصادية إستحقت سخرية
خرتشوف وفتحت باب اهلجوم على فكر ماو يف الداخل.
وفكر ماو وقدر وخرج هبجوم مضاد ففضح روسيا واهتمها بأهنا
«مراجعية» هتدف إىل اللحاق بالرأمسالية وتستبدل اخلط الشيوعي
خبط أمربيايل جيرى يف مساق حضارة الرفاهية .وتغىن ماو ،وهو
الشاعر املوهوب ،بالقيم اإلنسانية وببطولة الشعب الصيين الفقري
الذي سيبتدع حضارة جديدة وسيحرر اإلنسانية .ومن ذلك احلني
حتدث خصوم الصني عن الشيوعية الرومانسية احلاملة ،وتسلى
الرأمساليون مبا ظنوه فشال ذريعا لثورة الصني.
ومن بني خنبة ماو املناضلة األوىل برز رجال يعلنون أو يهمسون
خالفهم مع ماو يف عداوته لروسيا وال يرون بديال من الطريق
الروسي .وتغىن الشاعر مرة أخرى يدعو إلبداع عبقري ضد العامل
كله ،فجرف التيار الرومانسي خصوم ماو ونشأت الثورة الثقافية
355
حركة عفوية يتصل فيها القائد بالشباب مباشرة فينطوي بينهما
اجلهاز احلزيب واجلهاز احلكومي .وبدأ التطهري الصيين وبدأت تربية
اخلصوم كما يليق بالشيوعية التعليمية الصينية .أغلقت املدارس
سنة ونيفا وهب ماليني الشباب جيوبون البالد يهتفون ويصرخون
حاملني يف أيديهم الكتيب األمحر يقرأونه ويتدارسونه .محلهم
احلماس البطويل ونشوة الشباب إىل كل اآلفاق فحاكموا أساتذة
اجلامعات وحاكموا الوزراء وحاكموا رئيس اجلمهورية زميل ماو
يف الكفاح .والعجيب هو أن هذه الفورة ما سفكت دما وإمنا
انصرف عنفها إىل أسواق للمنقاشة ال تنتهي ،وانصرفت قوهتا
إىل صهر األفكار وحتويلها عن اإليدلوجية الثورية العادية إىل
إيديولوجية بطولية تثور على الثورة نفسها.
وهكذا أصبحت الثورة العفوية نظاما ايديولوجيا .فمن نداء
ماو إىل اجلماهري ،وإىل الشباب خاصة ،وإىل من هم أصغر سنا
بصفة أخص جاء شعار « :تكوين جيل من وارثي الثورة» .وهو
تكوين يتكرر بال انقطاع يف كل سنة ويف كل شهر ويف كل يوم.
ويبدو كأن الوسيلة الروسية للتطهري ،وهي البوليس السري ،قد
اخلفها يف الصني وسيلة أكثر إنسانية إذ أن ضرب املعارضني
باملقارع والسيوف أصبح ضربا باألفكار واخلجل .هذا الرفق
املوروث عن «الوتسي» و«كونفوشيوس» جيارى حضارة الصني
356
وعالقاهتا اإلنسانية املبنية على املروءة وماء الوجه ،فإن أعظم
شيء خطرا عند الصيين أن يفقد ماء وجهه .وهكذا ترجع املعاين
اإلنسانية تلتمس موقعا من حياة الناس بعد أن أجلتها العقالنية
املاركسية عن مواقعها.
وضعت الثورة الثقافية أسس نظام جديد ال يعتمد على
سلطة البريوقراطية وهيمنة احلزب ،بل يعتمد على الشعب .نظام
يعطي للعنصر اإلنساين السليم يف القاعدة الشعبية مقادة األمر
كله ،وخيص باملسؤولية أكثر الناس سذاجة وأكثرهم محاسا
وهم الشباب .والشباب شديدو التعلق باملثاليات فهم بذلك يف
الصني نقيض صارخ للثوري املاركسي العقالين املتجهم كما عرفته
الشيوعيات السابقة .مث إن هذا النظام مل جيعل حتقيق املساواة من
شأن الدولة املالكة بل َوَك َل أمر توزيع األجور جملموعات العمل
حىت يأخذ كل ذي حق حقه بيده ،أي دائما باإلقناع والرتبية وفقا
ملبادئ املاوية .وهكذا استوى الصينيون مجيعا يف أخذ الضروري
للعيش ونبذ البضائع الكمالية ونبذ املثل األعلى للربجوازية يف
طلب الربوز االجتماعي والتفوق الفردي .فكل شيء يف املعامل
واملعاهد واحلقول خاضع ملبادرة مجاعية يسبق إليها الفرد فال
يلتمس بذلك جمدا حىت ميجدوه وال رحبا ماديا .وهبذه الروح
هنضت الصني من كبوة «القفزة الكربي » وغلبت اجملاعة واكتظت
357
أسواقها بالطعام ،وجال يف شوارعها قوم جدد عليهم أمارات
اإلرتياح لفقرهم وعليهم أمارات حياة جديدة رمزها الكتيب
األمحر يف يد كل قائم وقاعد رجاال ونساء وأطفاال.
فإن تعجب فاعجب لشعب حياته يف مصحفه ومن مصحفه.
وهي حياة باهرة حقا ألن األصوات امل ِّعرية الساخرة خفتت
ُ
وألن عمالقة العامل أخذوا خيطبون ُو َّد الصيين الصغري احملري بنوعية
ثورته وبفاعليته وسرعة ما يكسب القوة.
فكر وشباب ،شباب وفكر ! أليس هذان العنصران مجاع
القوة ؟ أليس العلم هو الدافع للعمل إن لقي العلم عقوال مستعدة
ملا يرتفها املال واجلاه ،ونفوسا حديثة العهد بالعامل متطلعة
للمثاليات ،وسواعد صلب عودها حارة دماؤها ؟
إن نظام الصني وثورته الثقافية «حلظة» حتول غريبة ،هي أهم
ما يعرضه علينا كتاب العامل حني نفتحه لنتدبره بعيون جملوة بنور
اإلميان وقلوب خافقة مبحبة اهلل ورسوله واملؤمنني .وهي حلظة
تعلمية ،قابليتها للتعلم أهم صفاهتا .فالقائد العجوز احتفظ
بطراوة عقله فلم يتحجر يف «عقدية» روسيا وبعض مستعمراهتا
واكتشافه للشباب وطرائق استعمال محاسه وقابلياته نقل العمل
الثوري من معناه األول إىل معىن ثان دائم .كانت الثورة عملية تتم
يف املكان والزمان وتنتهي رغم ما كان يزعمه أمثال تروتسكي من
358
أن الثورة يلزم أن تبقى مستمرة .إمنا كان يعين استمرارها عندهم
امتدادا يف املكان ،أما تربية األجيال ملواصلة العمل الثوري فما
كان يتيحها اجلو البريوقراطي السائد حىت اخرتعها ماو .ومعىن
الثورة منذ اآلن تربية من البدء يف ميدان النضال الثوري املؤسس
مث تربية مستمرة لألجيال الوارثة .وما كان اسهل اخرتاع مثل هذا
لكن ما كان أبعد حتقيقه!
إن يف الصني اليوم اضطرابا ال يزال ،وإن يف الثورة الثقافية
لثغرات يف التنظيم ينم عنها ما ينقل من أخبار بأن هناك فوضى
وبأن خصام ماو احلايل مع بعض أصحابه بعد موت قائد جيشه،
الويف باألمس املتهم بكل التهم ،يرجع إىل هذه الفوضى يف
صفوف احلرس األمحر وبسببهم .ولسنا نُقدِّر إال التقدير املنطقي
بأن الصني مل تبلغ ولن تبلغ أبدا التوازن اإلنساين إذ ال قسط مع
جاهلية وكفر .ولسنا ندري ما حيدث بعد موت القائد العجوز
لكن هذا ال مينعنا من أن نتعلم من هذه «اللحظة» االستثنائية يف
تاريخ البشر .فلنتأمل هنا خطاب ماو للشباب ولننظر بعدئذ إىل
نتائج الثورة الثقافية يف ميادين العمل.
يقول ماو خماطبا بعض الطالب « :إن العامل لنا بقدر ما هو
لكم ،فهو عاملكم ،إن لكم معشر الشباب حيوية وإنكم لفي ريعان
التفتح مثل الشمس يف الضحى .وإن األمل ال يعقد إال عليكم».
359
ويقول « :جيب أن نفهم كل الشباب أن بلدنا ال يزال فقريا
جدا ،وأنه ال ميكن أن نغري هذا الوضع تغيريا جذريا يف وقت
قصري .وأنه ال نستطيع أن نبين دولة غنية وقوية إال بأيدي الشباب
والشعب كله يدفعها جمهود بضع عشرات من السنني .إن النظام
االشرتاكي فتح لنا الطريق إىل جمتمع غد املثايل ،ولكي يصبح هذا
اجملتمع حقيقة ال بد أن نعمل عمال شاقا».
ويقول « :إن كثريا من الشباب ليست هلم خربة سياسية
واجتماعية يستطيعون هبا أن مييزوا بني صني اليوم وصني أمس .من
الصعب عليهم أن يدركوا أية معارك شديدة املراس جدا خاضعا
شعبنا لكي يتحرر من نري اإلمربيالية ورجعيي «الكومنتانغ» .وال
يدركون الفرتة الطويلة من اجملهودات املتواصلة اليت أدت إىل بناء
اجملتمع االشرتاكي اجلميل .وهلذا جيب أن نواصل بني اجلماهري
تربية سياسية حية وجمدية .وجيب أن خنربهم دائما باحلق فيما يرجع
للصعوبات اليت حتدث لنا وأن نبحث معهم الوسائل حللها».
ويقول « :إن الشباب هو القوة األكثر فاعلية وحيوية يف
جمتمعنا .إهنم أكثر الناس ولوعا بالدراسة وأقلهم متسكا باألفكار
احملافظة ،هذه صفتهم السائدة خاصة يف فرتة االشرتاكية .نتمىن
أن تدرس بعناية كل منظمات احلزب بالتفاق مع رابطة الشباب
أجنع الوسائل الستغالل قوة الشباب وأال تتجاهل خصائصهم
360
معاملَةَ اآلخرين .من الطبيعي أن يتعلم الشباب ِ
معاملة إياهم َ
حكمة الشيوخ والكهول وأن يتأكدوا من موافقتهم قبل اإلقبال
على أي عمل نافع».
ويقول « :كيف العمل ملعرفة هل هذا الشاب أو ذاك ثوري ؟
كيف منيز ؟ ليس هناك إال معيار واحد ،هل هذا الشاب حيب أن
يتصل بالعمال والفالحني ،وهل يتصل هبم فعال ؟ فإذا كان يريد
ويفعل فهو ثوري ،وإال فهو غري ثوري أو هو عدو للثورة .إذا كان
يتصل اليوم بالعمال والفالحني فهو ثوري اليوم ،فإذا كف عن ذلك
غدا أو أخذ يظلم الشعب فسيكون غري ثوري أو عدوا للثورة».
وخياطب املثقفني الشباب قائال « :قبل أن يرمتي املثقفون
بكل قواهم يف املعركة الثورية مع اجلماهري جيب أن يعزموا أوال
على خدمة اجلماهري وأن يتحدوا معها .حيدث غالبا أن يكون
للمثقفني آراء غري موضوعية أو فردية أنانية وأن تكون أفكارهم
عقيمة وأن يكونوا مرتددين يف العمل .ورغم أن املثقفني الصينيني
الثوريني يلعبون دورا أساسيا وميثلون القنطرة إىل اجلماهري فإهنم
ليسوا مجيعا ثوريني حىت النهاية .ففي اللحظات احلامسة يغادر
بعضهم الصف ويتحولون إىل موقف سليب ،وبعضهم يصبح عدوا
للثورة .ولن يربأ املثقفون من عيبهم هذا إال يف املعركة املستمرة اليت
ختوضها اجلماهري».
361
ويقول « :جيب على رابطة الشباب أن توحد أعماهلا مع
األهداف املركزية للحزب وأن تقوم بعمل مستقل يتفق مع خصائص
الشباب .جيب على الصني اجلديدة أن تسهر على مصاحل شباهبا،
وأن هتتم اهتماما شديدا برتبية اجليل اجلديد .جيب على الشباب
أن يدرسوا ويعملوا .لكن مبا أهنم يف مرحلة منو فيجب أن نعىن
بدراستهم وعملهم كما نُعىن براحتهم ورياضة أبداهنم».
لعل من حيس أننا أكثرنا من سرد زعيم كافر ،ولعل من يرتاح
أننا قلنا يف سياق إسالمي حكمة يتخطفها شبابنا خفية يبحثون
عن حق ال يرون له أثرا يف حياهتم البئيسة .إما حنن فنعترب بآيات
اهلل ،ونتأمل الفكر الذي أصبح عمال وأصبح معامل وصواريخ
وأصبح قوة وسيادة وحرية ،وبكل ذلك أصبح دعوة عاملية عتيدة.
وإن النظرة العلمية املنهاجية نظرة املؤمن املطمئن لتبصر حدود
الفكر اجلاهلي وبؤسه وإن يكن فكر الشيوعية التعليمية .ويبقى
لنا درس إنساين رائع يرينا كيف حتركت أمة كئيبة حمرتقة كسول
وكيف سرى فيها روح النضال والعزة ،وكيف تكهرب شعب عتيق
مائت بفعل طاقيت الفكر والشباب.
يصف دبلوماسي غريب قطن يف الصني طويال حتول الصني
املعنوي يقول : 1أرى أن الصني ،رغم كوهنا ملحدة وعدوة للدين،
362
تتصف بصفتني تشرتك فيهما مع املسيحية يف القرن احلادي عشر
أو الثاين عشر حني كانت كل احلياة تدور حول الكنيسة يف
أوربا ،يف أملانيا وفرنسا ،وحني كان الشعب يبين الكنائس اجلامعة
البيضاء حيدوه اإلميان .كانت التمثيليات الوحيدة هي التمثيليات
الدينية كما هو الشأن هنا بالنسبة للتمثيليات الثورية وهي نوع
من املسرح الديين .والتماثيل الوحيدة املقبولة هي متاثيل املسيح
والقديسني وكانت متاثيل صارمة ختضع لقوانني ال تتغري (كما
هو احلال بالنسبة لصو ماو يف كل مكان) .وكانت السياسة دينا
(كما هو احلال يف صني اليوم).
أما إعادة تربية املثقفني الصينيني ونقدهم لذواهتم… فليس
عملية مؤملة كما يُظن ،لكنها حترير للفرد ،فبإعادة الرتبية يندمج
املرء يف اجلماهري .فإعادة الرتبية بني الفالحني والعمال ،بني
الناس البسطاء حيقق احلرية الداخلية والسعادة والرياضة الروحية.
إن االنعزال عن اجلماهري حال خمجل .ال يستطيع مثقف يف
الصني أن يشعر أنه مثقف إال إذا استفادت اجلماهري من الثروة
اع ُتف بكفايته يف اإلطار
اليت يستطيع هو أن يعطيها ،وإال إذا ْ
اجلماعي… إنين مل أزر قط مدرسة من «مدارس 7ماي» (وهي
مدارس إلعادة تربية املتخلفني عن الثورة) ،لكين أتصور بسهولة
أن من يتخرجون منها الشبه هلم مبن خيرج من سجون روسيا.
363
إهنم يف احلقيقة رجال جدد من رفقاء «املسرية الطويلة» مسرية تتم
يف باطن اإلنسان .وفعال فإن هذه املدارس هدفها أن تُبقى على
كل شيء وعلى كل الناس ،وإن أكثر من 95%اليت حتدث عنها
ماو يرجعون إىل اجلادة بعد خروجهم من هذه املدارس .من ميلك
فضيلة هذا الشعب ؟ أنين جلت كثريا يف العامل وميكنين أن أقارن.
إن الصينيني أصبحوا أمة ال تعرف احلسد والطمع وال تعرف
األنانية .إهنم يرقعون ثياهبم ويوفرون ويستعملون أحقر الفضالت.
إهنم صبورون هلم أناة يف كل شيء.
…ستأيت الثورة الصناعية يف الصني واملهم أن ماليني
الناس سيكونون شاركوا فيها بنفس التضحية ونفس الوعي ،إهنم
يوفرون من التبنة الصغرية أمواال طائلة يذخروهنا ال ألنفسهم بل
ألمتهم….إن الصينيني يعتقدون اعتقادا جازما بتفوق بالدهم
االشرتاكية وبتفوقهم السياسي على العامل كله…وإن هلم نظرة إىل
العامل قوامها العاملية ،وأبرز شيء يف عامليتهم إخالصهم للقضية
الثورية وتضحيتهم من أجل أقوام ال يعرفوهنم».
364
تربية من القاعدة
إن اجلو الثوري الذي أحدثته الثورة الثقافية واحلركية اليت
أتاحها هذا اجلو هلي أشبه شيء بأتون احلداد .فكما أن احلديد
صهر بالنار فكذلك العنصر ال يتشكل طوع اإلرادة إال إذا ُ
البشري يستعصي على عوامل التحويل إال إذا سلط عليه تيار
عاطفي يلني عنجهيته فيصري أكثر قابلية للتحويل .لقد وقعت
التصفية الشيوعية الروسية يف جو عقالين بارد وجو غصب شديد
من جانب مالك األرض واهنار الوضع القدمي .فكانت الذريعة
االقتصادية مطرقة كسرت اإلرادات الفردية ومل تشلها ،وكان الدم
وكان اإلرهاب والوشايات .إما يف الصني فقد ارتفع احلماس
أوجهَ وتوجه هذا احلماس حنو مثاليات إنسانيةالعاطفي حىت بلغ ُ
بطولية تستقطب مهما كانت خائرة وتعطيها ثقة قاعدهتا نزع
امللكيَّة من ظلمة املالكني القدامى .وبتلك احلماسة البطولية وهبا
ألن حديد األنانيات طوعا وكرها وجتنبت الثورة الصينية مصري
مثيالهتا البريوقراطية.
إن ثورة روسيا ما لبثت أن حتولت قضية إدارية يف أيام
ستالني وتبلورت هذه اإلدارة املتسلطة يف شخص القائد الفوالذي
وحاشيته البريوقراطية ،وكانت الصني سائرة يف نفس االجتاه رغم
365
فكر ماو حىت حدثت األزمة وولدت الثورة الثقافية ،فخرجت
للناس الشيوعية الرتبوية..
وليس هناك أي إمكان ملقارنة هذه الشيوعية وال أية منظومة
فكرية وال أي عمل ثوري كيفما كان بالربانية اإلسالمية اليت
نبحث عنها لسبب جوهري هو أن البطولة اإلنسانية بطولة هنايتها
التنافس البطويل واملسابقة إىل اجملد األرضي .والرباين مبا هو مرب
ومبا هو حكيم يتعلم كيف ينمي اإلنسان بصغار احلكمة قبل
كبارها .يعلم أن اإلنسان يف جاهليته وإسالمه يبقى على طبع
نشأ عليه ،ويعلم أن خيار اجلاهلية هم خيار اإلسالم ،ومعىن هذا
أن العنصر البشري مبقوماته اإلرادية والطبعية وبصالحياته للتعلم
والعمل هو هو ال يتبدل من جاهلية إلسالم .فنفس احلركية جندها
تقود اإلنسان للعمل أو تعوقه عنه ،ونفس اآللية السيكولوجية
تتحكم يف األفعال اإلنسانية ،وعن كل سبب نفسي أو واقعي
ترتتب نفس النتائج عند اجلاهلي واملسلم .فنحن يف بشريتنا سواء،
وكما نأكل نفس الطعام فننتفع به يتشابه عملنا يف عالقته بالعامل
املادي وتتشابه خلجات نفوسنا حني هتفو إىل املثل العليا وحني
تتجاوز األنانية نفسها فتضحي من غري مقابل .وكل هذا يشكل
الفتنة العظمى لإلنسان .فلذلك يسأل أبونا إبراهيم ربه أن ال
جيعله ومن معه فتنة للذين كفروا بأن ينظر الكفار النيب وأصحابه
366
فال جيدوهم إال بشرا كالبشر فيكذبوا .ولذلك يرتد أبناؤنا ألهنم ال
يقدرون إال على املقارنة السطحية بني اجلاهلية واإلسالم ،وواقع
اإلسالم متخلف ضعيف .ما حنن وما اجلاهليون ؟ وما مناط
الفضل لنا أو هلم؟ .نرجع للربانية لنتذكر أن الرباين رجل سلك
املنهاج واقتحم العقبة واكتشف اجملهول الكبري لعامل اجلاهلية وهو
عامل الغيب واإلميان بدار اآلخرة.
وللرباين درس مفيد جدا يف الرتبية الثورية يف صني اليوم ،إهنا
تربية من القاعدة ،إن الفقراء الذين عاشوا حياهتم ساملني من
عوامل التخريب النفسي واجلسمي املالزم لالمتالك واالكتظاظ
والتكاثر الظامل يعودون على املثقفني املرتفني وعلى أصحاب
باحلدب األبوي يعلموهنم ما هو اإلنسان وما هي املساواة الرئاسة َ
وما هي احلقائق األولية للحياة اإلنسانية .فمن كان قابعا يف قصره
أو مكتب رئاسته يتعلم من أين يأتيه طعامه وكساؤه حني يعمل
بيده ويكتشف مشقة العيش وتعب الفالحني والعمال وتلني نفسه
ويتحول إنسانا جديدا.
يف هذا القدر تتفق أهدافنا الرتبوية باألهداف اجلاهلية ،مث حنن
أمة مؤمنة ،إنسانية كاملة غري مبتورة وهم كافرون حيدهم الكفر
يف دار األرض وجيهلون مصري اإلنسان بعد املوت .إن اجلاهلية
تكتشف كل يوم اكتشافا جديدا يف عامل احلس وتتوسع يف رقعة
367
الفضاء لكنها غافلة عن البناء العظيم ساخرة ممن ينَبِّئها أن
اإلنسان خلق للخلود .ويفنت املسلمون باجلاهلية وعلمها وعملها
الثوري ألهنم ال ينظرون إىل كل ذلك إال مبا ينظره به اجلاهليون،
أن بعقلية ممسوخة قررت قرارها النهائي بأن اإلنسان حركة يف
األرض تنتهي باملوت .ولن ترتفع عنا الفتنة إال إذا سلكنا املنهاج
النبوي وذكرنا اهلل حىت يستقر يف قلبنا اليقني واملعرفة .وعندئذ
ننظر إىل اجلاهلية النظرة الصافية احلق ،ننظرها كما هي كفرا
ومسخا ،وننظر إجيابيتها البشرية اليت ينبغي أن نتعلمها.
للمرتفني يف بالدنا اإلسالمية قلوب قاسية مثلما للمرتفني
يف بر الصني ،إهنم جيهلون كيف تطلع لقمة العيش من األرض
وجيهلون اجلهد الدائم للفقري العامل والبؤس األسود الذي يعيش
فيه احملروم العاطل .إهنم يف قصورهم الدافئة ال يذوقون ويل احلاجة
وال برد الليايل ،ويطمس بذخهم احلس اإلنساين والرمحة كما
يطمس فطرهتم فيغفلون عن اهلل ويكفرون بالبعث فإذا هم مسخ
وعبَ ِد الطاغوت .أما املسكني العامل اخلشن كالقردة واخلنازير َ
العيش واليدين فحسه اإلنساين مل يطمس وال تنال منه العوادي،
وفطرته ساملة ال تزال وإن كانت الفتنة العامة أصابت منه فإهنا
مل متسخه كما مسخت املرتفني .ذلك ألن يديه اخلشنتني علمتاه
قصور اإلنسان وضعفه وعوزه فهو ال يتأله مبا بيده من جاه ومال،
368
ألن نظرته إىل العامل نظرة جمددة مل تكدرها الثقافة اجلاهلية فهو
حيكم مبعيار اإلميان وإن يكن إميانه كإميان العجائز .ولعل ذلك
أفضل اإلميان كما يفهم من كالم اجلويين امام احلرمني.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقبل تلك اليد اخلشنة
ويكرمها 1فإن هلا عند اهلل حرمة .وشيوعية الصني تكرم اليد
اخلشنة وتضع فيها أمانة تربية جيل املرتفني .وهذا إبداع الشيوعية
املعلمة الصينية.
لقد استند ماو على فكر ماركس ولينني ،وكان األول فيلسوفا
دعا أن تصبح الفلسفة عمال وأن خترج من تأمالهتا األفالطونية
لتحول العامل .ووعد على ذلك وعودا ومهية ما لبثت أن تبخرت
يف ميدان العمل .واستند لينني على التحليل اهلائل الفلسفي
العلمي يف اخرتاع حركية ثورية مماسة للعمل اليومي السياسي.
وأغىن لينني الفكر املاركسي من حيث صاغه حكمة عملية تتعلم
من التجربة .وبقي فكر لينني يف خط جدلية مفتوحة «علمية»
ملحدة ال حتكم على القيم إال من طرف خفي مستخف أن
ينعت الفكر اجلبار باملثالية .وما كان بدأه ماركس من إنسية
تشكو استالب العامل وتشبيعه ذهب مع ما حيمله الريح يف
ساحة العاصفة اهلوجاء اليت هبت على روؤس البورجوازية الروسية
369
فأسقطت أيضا احلريات وأسقطت حرمة الدماء البشرية والضمائر
والعقول .وتتلمذ ماو للرجلني فكان أذكى الثالثة يف انفتاحه
على واقع الفالحني البسطاء ،وتعلم بيده ما مل يتعلمه العقالنيان
العمالقان.
كان ماركس أمام الفكر الثوري وكان لينني مفكرا وقائدا
ثوريا .وبعد هذا مثل استالني ،وكل زعماء الشيوعية من بعده،
دور القيادة العملية الثورية بواسطة جهاز بريوقراطي فصل بني
القائد والرعية فتثاقلت الثورة مبنجزاهتا االقتصادية القهرية وتثاقلت
مبصاحل الطبقة احلاكمة املالكة املطلقة القوة ،وتثاقلت بطاغوت
القائد املتأله .أما اإلديولوجية فأصبحت آلة عقلية لتربير مبادرات
القائد اإلرادية املتعسفة أو املفروضة من جانب التدافع بني الناس
يف الداخل واخلارج.
وكان ماو فتعلم على طول الطريق بادئا من وضع بسيط من
حيث الكفاية الفكرية ومن وضع بورجوازي صغري ،أي من وضع
اجتماعي يدعو لألثرة والركود ،فخالط املساكني من القاعدة وتعلم
بينهم األمانة والصرب واإلخالص وكل القيم اخللقية الفطرية .وتعلم
أيضا من العقالنية املاركسية فأخرجها برتبيته يف صف الفالحني
الفقراء من أجوائها الفلسفية اجلافة وأعطاها أبعادا إنسانية
خلقية .مث إنه بثورته الثقافية قلب مفهوم القيادة فأطاح باحلواجز
370
بني القائد والفالح البسيط والعامل وختلل صفوف الشعب واحدا
منهم متعلما معلما مربيا متلقيا للرتبية .وكان قبله مفهوم القائد
الشيوعي ينصب على رجل يكتب وخيطب يف سياق واحد ،ذي
بعد واحد كما يعرب مركوس ،هو السياق االقتصادي ،فكان هو
صاحب اخلطة وصاحب القرار .وترك ماو املهام الفرعية للحكومة
وتقمص دور املريب الشعيب حبق لذلك كان آية جيب أن نتعلم من
ظهورها.
ففي فكر ماو أحكام أخالقية تبهت من ألف الفكر املاركسي
«العلمي» الذي ال يصدر أحكام القيمة .فعنده اخلري والشر
حقيقتان عمليتان ،يقول الكتيب األمحر « :ليس من الصعب
على أي إنسان أن يعمل أعماال خرية ،إمنا الصعب أن يعمل خريا
كل حياته دون أن يعمل الشر أبدا .أصعب ما هنالك أن ختوض
معركة شديدة لبضع عشرات من السنني كما ختوضها يف كل يوم،
وذلك يف صاحل اجلماهري الكثرية ويف صاحل الشباب والثورة !».
ويف فكره أسس الرتبية القاعدية يف ما يسميه « :اخلط
اجلماهريي» إنه يعترب الطبقة املثقفة جمرد عبء على الشعب ،فإذا
استعدت هذه الطبقة أن تتعلم بيدها وعشرهتا للجماهري وبرهنت
على ذلك باالنتقال الفعلي يف كل اسبوع أو شهر للحقل واملعمل
من مكاتبها وجامعاهتا أصبحت صاحلة لتكون مرآة تصقل أفكار
371
اجلماهري قبل أن تعكسها إليهم مشبعة باحلكمة اليت يتمخض
عنها العلم بعد أن يتعلم العلم من العمل البسيط اليدوي .يقول
«الشعب ،الشعب وحده هو القوة احملركة ،هو خالق التاريخ
العاملي» ويقول « :إن اجلماهري هي البطلة احلق ،أما حنن فإننا
غالبا ما نكون مغفلني لدرجة تدعو للسخرية .فإذا مل نفهم هذا
فسيكون من املستحيل علينا أن نتعلم حىت أبسط املبادئ».
ويقول « :إن أربعة وعشرين سنة من التجارب (كتب هذا
سنة )1945علمتنا أن مهمة ما أو سياسة ما أو طريقة يف العمل
ال تكون مصيبة إال إذا اتفقت مع حاجات اجلماهري يف وقت
ما ومكان ما ،وإال إذا كانت تصلنا هبذه اجلماهري .وعلمتنا
أن مهمة ما أو سياسة ما أو طريقة يف العمل تكون خمطئة إذا
مل توافق حاجة اجلماهري يف وقت ما ومكان ما وكانت تفصلنا
عن اجلماهري .وإذا كانت أمراض مثل «العقدية» «والتجريبية
العفوية» «واالستبدادية» «والتبعية» «والطائفية» «والبريوقراطية»
والعنجهية يف العمل أمراضا مؤذية متاما وغري مقبولة ،وإذا كان
واجبا على من ابتلوا هبذه األمراض أن يتغلبوا عليها ،حنسب ذلك
أن هذه األمراض حتول بيننا وبني اجلماهري وتقطعنا عنها».
ويعرف ماو اخلط اجلماهريي يف صيغته النهائية اجلامعة هكذا:
«جيب أن نذهب إىل اجلماهري ،وندخل يف مدرستها مث نعمم
372
جتربتها ونستنبط منها مبادئ وطرقا للعمل أفضل من األوىل وأكثر
تنظيما مث نرجعها للجماهري (بواسطة الدعاية) وندعو اجلماهري
لتتبعها كي حتل مشاكلها حىت تتحرر وتكسب السعادة».
وبعد الثورة الثقافية أسست مدارس إلعادة تربية املنحرفني
عن اخلط اجلماهريي مسيت «مدارس 7ماي » تذكيا بيوم النداء
إلعادة الرتبية .وما هذه املدارس إال مراكز أكثر داللة وأكثر
تعميقا للرتبية القاعدية الشاملة .وتعتمد هذه الرتبية على أسس
ثالثة (وهي حتاذي مبادئ العامل االجتماعي تورين) :انتماء
بطويل لشعب بطل مبدع حر متفوق على العامل ،مث معاداة ماض
أسود ماضي تسلط املالك ،مث النظرة املاركسية للعامل واإلنسان
على أساس وجود أرضي حيكمه الصراع الطبقي .ومبقتضى هذا
فالدعاية ترتكز يف تذكري األجيال الصاعدة بواسطة املسرح والتلفزة
والسينما بظلم املالكني القدامى وشقاء الفالحني والعمال يف
العهد البائد ليكون كل ذلك موضوع كراهية وسخط .مث دعوة
لتحرير اإلنسانية كلها بعد حترير الصني وذلك يقتضي صراعا
طبقيا ال ينتهي أبدا .وجتد عند ماو تأكيدا غريبا ينايف األحالم
املاركسية ،وذلك حني خيرب قومه أن االستبداد القيادي سيبقى
طويال طويال جدا يف مستقبل الصني.
أما الرتبية العملية مبخالطة اجلماهري فلنستمع إىل رجل وقع
373
عليه فعلها .يقول أستاذ جامعي من علماء االجتماع شهري جدا
يف الصني وخارجها : 1إنين منوذج للمثقف القدمي ،وأنا ممن بعثوا
لتعاد تربيته يف مدرسة األطر جبامعة كيانغسي… كنت قبل اآلن
آكل األرز كل يوم دون أن أعرف من أين جاء…،فلما دخلت
املدرسة الرتبوية تغريت تغريا كبريا ومسست قرارة نفسي…كنت
يف احلقول يف هذه املدرسة أمحل أكداس األرز فوق كتفي ،وأثناء
احلمل كنت أشعر يف ظهري وكلويت أملا السعا .ويف هذا املوقف
املؤمل علمين الفالحون بلطف كيف أمحل األكداس ،وأحيانا كانوا
يرقون حلايل فيحملوهنا عين .وهذا العطف من جانب الفالحني
أثر يف تأثريا شديدا ،وهذا دفعين إىل التفكري يف مشكل ثان :
كنت يف املاضي استعملت للنقل هذه الكراسي املرفوعة ( تلك
اليت كان يستعملها املثقفون القدامى ( ،)Mandarinsوكان ثقلها
ينحط مجيعا على أكتاف العمال .لكين عندئذ كنت عزمت على
أن أمحل يف هذه الكراسي ،وكنت ال أسأل نفسي عن شيء
يتعلق بالرجال الذي حيملون الكراسي ،ومل أكن أفكر يف أن أنزل
من الكرسي احملمول .قلما أصبح الزما علي أن أمحل محال ثقيال
كان الفالحون يساعدونين بكرم .إن الرتبية ال ميكن أن تنفصل
عن التغيري كما يقول ماو ،وهكذا ربيت تربية جديدة … فيما
Ibid. p. 85 1
374
مضى كنت أحسب نفسي عاملا خطريا وكان موقفي جتاه العاملني
موقف ازدراء… من خندم ؟ هذا هو السؤال كما قلت .لكي نغري
املثقفني البورجوازيني الطريق الوحيد هو أن جنمعهم باجلماهري».
أحدثت الثورة الثقافية تغيريا أساسيا يف الصني ،فتشبع كل
فرد كبريا وصغريا مببادئ التغيري .وأصبح تسييس اجلماهري هدف
اجلميع .واملهم هو أن نسمع حكم األجانب عن الصني بعد الثورة
الثقافية .هذه صحافية شيوعية ايطالية تصف لنا الصينيني اجلدد،
ولعل يف شهادهتا مغاالة تربرها الصداقة والرفقة الشيوعية .لكن
الذي يزكي هذه الشهادة بارز يف مساء هذا الكوكب وأرضه يف
السياسة العاملية الشاهدة بسيادة الصني بعد ذلتها ،تقول :1تنبثق
من الشعب الصيين جاذبية عظيمة هي جاذبية شعب نقي ،شعب
ال تلوثه اآلثام كما نعرب حنن مبقوالتنا (تعين املقوالت املسيحية).
( إهنم نظيفون نظافة من تربأوا من االبتذال ،كما يعرب كوفر
دوبارزو يف جريدة اسربسو 25ماي .1969إن هلم خفة باطنية
كبرية ،هذا الوزن النوعي للحياة الروحية واإلنسانية تشتمل عليه
أجسام عليها ثياب مرتفعة وأحذية من القش أو املخمل الشعب
الصيين كله .وهذا التفوق الكيفي اجلماعي كفيل أن يشعرنا حنن
الغربيني -ما عدا الفالحني واملساكني واستثناآت قليلة -بأننا
375
ثقيلون قذرون ،ويؤسفين أن أقول هذا).
إن األخالق هنا يف الصني ترجع إىل أسبقية التسييس ،ومعىن
السياسة هو التضحية والشجاعة واإليثار والتواضع واالدخار.
وبعد عشرين يوما من خمالطتهم يشعر املرء بأنه قد غمره هذا
احمليط من النقاوة .وحىت الساخرون من الصني تزعزعوا واعرتفوا
بذلك .قلت يف نفسي أن جتربة الصينيني يف أعظم خمترب وأعجبه
يف الدنيا جيب أن تتحقق يف جو حمفوظ من التلوث اخلارجي
والعدوى اخلارجية :إهنم جيرون عملية زرع قلب جديد ملاليني
من الناس مع التغلب على ظاهرة النبذ .أليسوا يتحدثون دائما
عن «قلب الثورة األمحر» ؟ إن العامل مليء باجلراثيم :املراجعية،
واجملتمع التكنولوجي ،وجمتمع االستهالك ،وال ننس العدو األول
وهو اإلمربيالية ،ويف كل هذا جيب أال يعتمدوا إال على أنفسهم
لينجحوا ويتفادوا التلوث واهلزمية….
إن األناقة الباطنية والظاهرة عند الصينني كبرية .إهنا تفجأ
الغرباء حىت أن بعض الدبلوماسيني – هؤالء «اخليل اجلياد»
من البورجوازية الدولية – حياولون تقليدهم لينافسوهم يف امللبس
واحلركة … ويقلدوهنم يف األخالق .فليس لدى الصينيني تكرب
لكن لديهم خجل وتؤدة يف احلركة وتواضع مل نعرفه قبلهم .إن
الدبلوماسيني قد أعيدت تربيتهم دون أن يشعروا .ولكي ميكنهم أن
376
يعيشوا مع الصينيني يتكيفون هبم ليشبهوهم يف حاهلم وحركتهم.
وهكذا يظهرون هم أيضا أدبا وصربا يف املعاملة».
وراء هذا التحول عمل تربوي جبار ،وراءه أيد خشنة وسخة
علمت املثقفني أصحاب األكف احلريرية أكف اجلبارين املرتفني
طريق اجلد .وراء عقل قائد شجاع ومثاله احلي علمهم الشجاعة
والنتيه على العامل .ولوال روح األقدام ملا كانت ثورة ماو إال
كإحدى الثورات املبتذلة ال تبدع وال حتول بل تضغط وتنتج
تعبئة عسكرية تبين املعامل وتستهلك اإلنسان طاقاته وإنسانيته.
يقول ماو يوصي باألقدام واإلبداع « :جيب أن نطرد من صفوفنا
كل ايديولوجية مبنية على الضعف والفشل ،وكل نظرية هتول
قوة العدو وتستصغر قوتنا نظرية خمطئة» .ويقول « :إن كل قوة
رجعية يف تاريخ البشر عندما تشرف على هنايتها تقبل على
انتفاضة آخرة ضد قوى الثورة .وغالبا ما يغلط الثوريون مبظهر
هذه القوة اليت خيتفي وراءها ضعف داخلي .إهنم ال يرون هذه
احلقيقة اجلوهرية وهي أن اخلصم يف طريقه إىل الزوال وأهنم على
وشك اإلنتصار».
وهكذا أقام ماو تربيته اجلماهريية على قواعد نفسية كان
ال يتحدث عنها املاركسيون بل يتفادوهنا ويصموهنا بأهنا فاعلية
« . »subjectivitisteفعنده أن اإلنسان ذو إرادة وشجاعة وصرب
377
مييز بني خري وشر وأن هبذه اخلصال اخللقية وبقابليته للتعلم
من اخلط اجلماهريي يتحرك حنو التحرر مؤثرا هو يف الظروف
املوضوعية متئازرا كثلة واحدة مع العاملني والفالحني كما تزعم
املاكرسية العلمية من أنه كمية تضغطها ظروف الصراع الطبقي يف
حتمية بدون أمل يف اخلالص إال بالعنف الثوري القاتل واالستبداد
الطبقي الذي ال يعرفون كيف هو وكيف يكون.
378
خبري وأمحر !
امتازت الشيوعية منذ نشأهتا بأهنا العقالنية احملض ،فالعقل
هو الرائد واملذهب علمي والتكنولوجية هي وسيلة اخلالص من
القلة وتقدمها حيرر العالقات البشرية بعد الثورة ويؤدي للوفرة اليت
عليها يعيش اجملتمع الشيوعي ااحلامل .فاملناضل الشيوعي رجل
عقالين صاحب عقيدة ومحاس ،إنه مؤمن بدين ماركس متحمس
يستهني املوت دفاعا عن مبادئه واملفروض فيه أن يكون تقنيا أو
أن يعمل ما يف سعه ليكون كذلك لكن النضال الشيوعي يستند
على طبقة العمال وهي طبقة بعيدة عن أن تكسب الكفايات
العلمية الضروية إلقامة دولة ،هلذا كانت الدعوة اللينينية حتاول
دمج «الربجوازية الصغرية» وهي طبقة املتعلمني يف وصف النضال
وتعترب مرحلة االعتماد عليها مرحلة ضرورية لتحرير الطبقة
الكادحة .فاملتعلمون يبعثون الوعي الثوري وهم بعد الثورة يبنون
االقتصاد ريثما يستوي الناس يف التعلم .وهذا ما حدث يف روسيا..
ولقد ظن كاسرتو أن التكنولوجية تأيت يف الرتبة الثانية بعد
النضالية ووسد أمور الدولة واالقتصاد ملناضلني متحمسني ال خربة
هلم فتخبط يف مشاكله وال يزال .أما الصني فقد اتبعت اخلط
379
العام والطفت املتعلمني ،وألقى ماو شعار « :لتتفتح مائة زهرة»
ويعين هذا الشعار قبول املبادرات الثقافية املتنوعة واالستفادة من
اختالف الرأي .فلما وقعت أزمة اخلصام مع روسيا وما تالها من
تضعضع اقتصادي ،متردت الصني على العامل وأمسك ماو بالزمام
امساكا قويا ملا استجاب الشباب لندائه .فماتت املائة زهرة ملا
تفتح الكتيب األمحر وأعطيت األسبقية للحمرة النضالية فطرح
الطالب كتبهم وعكفوا على فكر ماو وأصبح املذهب يف الصني
هو املاركسية اللينية –فكر ماو ،وكسب بذلك امسا مميزا عن سائر
الشيوعيات .وتدل احلمرة الصينية على التصلب ضد العامل كله،
فسلك الصينيون طريقا جديدة يف اإلدارة وقلبوا األوضاع السابقة
واستبلدوها باخلط اجلديد.
كانت الثورة الثقافية وال تزال نقدا عاما للوضع تقوم به
القاعدة ،وكشف هذا النقد أن الفكر البورجوازي القدمي املرتاكم
عرب القرون ال يزال خميما على العقول فتجنح البريوقراطية املتعلمة
خلدمة طريقة احلياة واملعاملة اخلاصة باجملتمع القدمي .وتناول
هذا النقد األفكار وحامليها معا ،ومحل احلرس األمحر شعار :
«خبري وأمحر» كمعيار تقيس به صالحية الناس للعمل الثوري.
فالبورجوازية الصغري املتعلم املثقف قد يكون خبريا لكنه يطرح
أن مل يكن يف خدمة اجلماهري ،وتعاد تربيته حىت يصري أمحر،
380
واملناضل الفالح أو العامل األمي يتعلم ليجمع بني احلمر واخلربة.
حتولت الصني بالثورة الثقافية مدرسة مادهتا الوحيدة هي فكر
ماو يتدارسونه كل يوم من الصباح إىل املساء ويستخرجون منه
التوجيه الذي يكسب احلمرة واخلربة .فالطالب يقرأ ماو ليتعلم
كيف ينبغي أن يتعلم ،فاملهندس والعامل يقرآن ماو ليتعلما كيف
حيسنان اإلنتاج وكيف يسرعان به ويتقنانه .وبفكر ماو يتحاج
الناس إذا اختلفوا ،وبه يستشهدون .ومع الدراسة كان ،وال يزال،
غليان ،كأمنا الصني معمل أو خمترب واسع اإلرجاء يصنع فيه هذا
«اخلبري األمحر» بشىت الوسائل اليت حيددها فكر ماو ،وهي :
املناقشة واإلقناع والرتبية.
اخلبري األمحر جيب أن يبتدع وجيب أن يتعلم كيف يبتدع
ليحقق «املوقف املمتاز للصني يف العامل» .إنه بطل ،إنه فالح
وعامل مترد على عبودية البورجوازية الصغرية املستأثرة بالعامل
والتكنولوجية .إنه خيضع اساتذة اجلامعة واملهندسني واملديرين
للخط اجلديد ،ويفرض عليهم أن ينزلوا للصف فيتعلموا بأيديهم
املعرفة احلقيقية ،ويسخر بالعلم النظري وحيطم صنم التكنولوجية.
حيطمه باإلبداع واالخرتاع ال باإلعراض واجلهل ،فعند األمحر ال
جتد شعورا بالنقص أمام تفوق الرأمسالية والشيوعية الروسية ،بل
جتد فضوال واستعدادا للتعلم ميكنان العامل البسيط من تركيب آلة
381
صينية على منط اآلله املستوردة مع إرضاء الشرط األساسي :أن
حيسنها ويزيد يف انتاجيتها.
اخلبري األمحر يتعلم كيف يعمل حبافز أعلى من احلفز املادي
وكيف يزيد يف اإلنتاج فيتجاوز دائما اخلطة االقتصادية .ويتعلم كيف
خيدم اجلماهري دون التوقان إىل املنصب والربوز اإلجتماعي يتعلم
ذلك إذ خيرج من املدرسة الثانوية إىل املعمل حيث يظهر لرفقائه
مقدرته وكفايته ومحرته أيضا ،فإن مل حيكم رفقاؤه بصالحيته خلدمة
الشعب توقف عن الدراسة .مصريه مقرتن بالرفاق وخدمتهم ،هم
يقرتحون ولوجه اجلامعة أو مينعونه من ذلك وهم يالحظون سلوكه
كل يوم لريوا ما يقدر أن يعمل بيده وليعرفوا إن كان فيه تشوف
ليصبح من النخبة .وهكذا تطهر القاعدة كل جراثيم الربوجوازية
الصغرية املوروثة من ماضي سحيق ،وتثبت اخلط اجلماهريي الذي
يؤكد بأن األفكار املصيبة تأيت فقط من املمارسة االجتماعية وأن
العوائق تأيت من «أوقيانوس الفكر البورجوازي الصغري».
كراهية املاضي البورجوازي يف شخص املالك الظامل دلفع
عاطفي تتحرك به اجلماهري حنو مستقبل ال قلم فيه ،وتلوح
وسائل اإلعالم بالغول املزمن يف األرياف الصنية تذكر الصينني
مباض مشؤوم وحتاول الثورة الثقافية أن تطوي عجرفة املثقفني
من البورجوازية الصغرية تنتقدهم انتقادا علنيا وترغمهم على نقد
382
أنفسهم أمام اجلماهري وتدخلهم مدارس العمل البدوي حىت ولو
كانوا رئيسا للجمهورية مثل «ليوشاوكي».
إن اكتساب التكنولوجية مسألة حياة أو موت لكل ثورة،
وإن الصني مباليينها السبعمائة وفقرها املوروث كانت أحوج
الثورات للخربة ،وكانت اخلربة ملكا لطبقة نظيفة اليد أنيقة يف
قمصاهنا البيضاء وتقليدها القردي للغرب ومعيشته .فلما احتلت
الثورة مقاعد احلكم مال أصحاب اخلربة للسلطان وعاموا على
النخبة املناضلة فغمروها وانقلبوا بريوقراطية منحرفة على اخلط
النضايل .وتعذر تطويرهم املعنوي قبل الثورة الثقافية أي قبل اخلط
اجلماهريي ،قبل أن يهب العامل والفالح ليتعلم من هذا العلم
النظري ما يعزز به قدرته على اإلبداع .وبواسطة الكتيب األمحر
وما حيمله من فكر ويرمز إليه من تعلق عاطفي بالقائد العبقري
سرت شيئا فشيئا روح جديدة يف طبقة املرتفني البريوقراطيني .سرت
فيهم هذه الروح ملا أمسكوا باليد مسكا رفيقا قويا معا وزج هبم يف
الصف ليتعلموا .وهكذا اندفعت القاعدة احلمراء الكتساب اخلربة
وأرغمت الطبقة املثقفة على تطوير نظرهتا لألمور.
طبقة كسبت اخلربة ملا كانت تتاح لألغنياء فرص التعلم،
وطبقة ناضلت ألهنا حمرومة منبوذة .هذا شأن اخللق واملدافعة
والتدافع قانون احلركة اإلنسانية على األرض .وتسمي الشيوعية
383
هذا التدافع صراعا بني الطبقات ،وهتدف املاركسية للقضاء على
الطبقية .والذي حدث فعال يف روسيا هو أن «الربولتاريا املستبدة»
ما لبثت أن حتولت عقليتها إىل عقلية بورجوازية صغرية على حد
تعبريهم فهناك املدير والوزير بسيارته الفخمة وقصره ،وخرشوف
يفصل مالبسه يف إيطاليا ،أدواق كأدواق العهد القدمي وسلوك
طبقي كذلك السلوك .ويرسم خط التطور منحىن اإلهنيار على
جمرى حتدث عنه ابن خلدون بسداجة وبدون اجلمل العقالنية.
وحياول الصينيون أن حيافضوا على اخلط اجلماهريي ليهدموا الطبقية
فاهتدوا إىل الثورة الثقافية كمؤسسة مستمرة جتدد دائما الشعور
وجتدد دائما الضغط االجتماعي املوجه حنو قمع حب الظهور
واللصوق باألرض والعمل اليدوي املبدع .ال تساءل هنا هل يدوم
هذا أو ال يدوم فقد علمنا اهلل عز وجل ،وهو اخلبري البصري
بعباد ،أن اإلنسان يف خسر إال الذين آمنوا وعملوا الصاحلات،
وإمنا يهمنا تدبر هذه اللحظة املتوترة للجمع بني احلمرة واخلربة
باحملافظة على مرمى الطموح البطويل يف حترير العامل ضد النزعات
الفردية اليت يغديها اقيانوس الفكر البورجوازي الصغري وضد العامل
كله.
دخلت الفلسفة املعمل ،أي دخلت السياسة رؤوس العاملني،
ولنؤكد مرة أخرى أن السياسة والفلسفة يف قاموس الثورة الثقافية
384
تعين التضحية والعمل البطويل وتعين حترير اإلنسان من كونه جزءا
يف تركيب اجتماعي أعمى مصمت ليصبح عضوا واعيا يف جمتمع
متحفز إلنقاذ العامل متفوق ممتاز .ودراسة الفلسفة يف املعامل
ترجع فقط إىل دراسة الكتيب األمحر حتت شعار « :أسبقية
السياسة على االقتصاد» .وعند ما يدرس الفالح والعامل
الفلسفة والسياسة يتحول حتوال كيفيا ويتم يف وعيه انقالب عميق
إذ يذهب عنه هاجس التفوق األرستقراطي للمتعلمني .إنه يتعلم
بضعة أفكار واضحة بسيطة فإذا هي حتوله عامال أكثر انتاجية
وفالحا أشد حمبة للتعاون والتضحية.
ويف سياق هذه الثورة يف «البنية العلوية» يتخذ شعار احلركات
الثالث اليت وصفها ماو (صراع الطبقات ،اإلنتاج ،التجربة العلمية)
داللة عملية ،فريتفع اإلنتاج يف احلقول واملعامل ويشكل (اقتحام
الربلتاريا لعامل االديولوجية) عامال حامسا يف تغيري عالقات الناس
بعضهم ببعض وعالقتهم بالدولة واحلزب .فاخلبري األمحر شخص
له كرامة إنسانيته مصونة يعمل ليل هنار ليصل إىل املثل األعلى
البطويل ،يشرتك يف احلمالت الثقافية فيخط شعارا جديدا بفخر
على زمالئه كدليل على حتوله الثقايف أو يصنع آلة جديدة أو خيرتع
طريقة للعمل توفر اجلهد وتزيد يف اإلنتاج .وهكذا جند احلمرة
واخلربة ال يفرتقان ،األيدي تعمل عمال مقتنعا كعمل املأجورين بل
كعمل املالك احلريص البخيل.
385
ويف مقابل « الستخافونية» الروسية يزري اخلبري األمحر الصيين
بالعامل الروسي املثايل اآليل .كل ستاخانوف يظل عاكفا على
قطعته اليت يصنعها ال يرتفع رأسه وال يزيغ بصره الساعات الطويلة
كأمنا هو آلة من اآلالت .ويضرب الرقم القياسي يف اإلنتاج
لينال األومسة والفخر .أما اخلبري األمحر فهو بطيء يف حركته لكنه
دؤوب صابر ومبدع ومفكر وإنسان ،يشارك يف التخطيط والتدبري
ويتطلع للقيم العليا وملصري العامل.
حققت الثورة الثقافية التحول املعنوي للمواطن الصيين
فحولت مع ذلك قدرته على العمل وكان «الكويل» الصيين
مضرب األمثال فيما مضى للكسل واجلنب والقذارة والسرقة.
وجاءت الثورة فحررته من االستغالل ،مث برز الكتيب األمحر
فكهربه وأحدث فيه انقالبا جديدا ،فهو اليوم حيقق املعجزات
كانت النظرية االقتصادية للتصنيع تؤكد أن توزيع العمل وتوزيع
اخلربات والكفايات واالختصاص والتسلسل اإلداري وجتميع رأس
املال بالقروض اخلارجية أو بالقسر االشرتاكي هي الطريق الوحيد.
وجاء اخلبري األمحر فحطم كل هذه النظريات وانتزع نفسه من
سلطان القانون املزعوم .كان يف القمة مديرون وخرباء ومهندسون
هلم األجور العالية والتسهيالت واملتعة وكان يف القاعدة عمال
كاألرقام ،يتساءلون يف ذلك الرأمساليون والشيوعيون القدامى.
386
وأعرض ماو عن كل ذلك واقرتح طريقا جديدة للتصنيع،
ليكن جتميع رأس املال ناجتا عن إبطال امللكية الفردية إبطاال قانونيا
كما تفعل سائر الشيوعيات ،لكن لتبطل العالقات اإلنسانية
اإلدارية اليت ورثها شيوعيو روسيا من العهد القدمي ومل يستطيعوا
التنصل منها ،ولتحل حملها عالقات تساوي بني اخلبري واملدير
وبني العامل ،ولنطلق سراح القابليات الفردية لإلبداع وليحل حمل
السلطان اإلداري حافز خلقي يدور حول الفخر بالعمل املنجز
باتقان.
وكان أن تعلم العمال والفالحون فكر ماو احملرر وتذاكروا
يف السياسة مبعناها النضايل وتناقشوا كل يوم نقاشا فلسفيا وعلميا
وتطبيقيا حىت زالت الفروق بني محلة اخلربة وبني القاعدة العاملة
وحىت أصبح للكل نصيب من املواصفة العامة للثوري النموذجي
اجلامع بني احلمرة واخلربة .وهكذا أصبح الصيين اجلاهل الكسول
باألمس أكثر الناس مهارة وأكثرهم وعيا بعمله وقيمته البطولية.
قال تشي كويفارا ملا عاد من الصني « :يستطيع العامل الصيين أن
يصنع كل ما يستطيع أن يضعه أي العامل آخر ،ويستطيع زيادة
على ذلك أن يصنع ما ال يستطيع صنعه إال العامل الصيين».
والقائد العبقري من وراء اجملهود اجلماعي يلهب احلماس
ويشجع املبادرات املنتجة ويزور املعامل أو يكاتبها حيث على
387
السري يف اخلط اجلديد خط اجلماهري .كتب إىل أحد املعامل
يقول« :ابنوا االشرتاكية حسب هذه املبادىء :ابذلوا كل اجلهود
وامشوا دائما إىل األمام :الكم والكيف والسرعة واالقتصاد».
وأصبح ذلك شعارا لكل املعامل .وكاتب العمال يقول « :إن
املساكني هم األكثر ذكاء وإن األرستقراطيون هم األكثر غباء».
وتعلم املساكني املتواضعون عندما أخربوا أن هلم إنسانية
وبعد أن رأوا الزعيم القائد واحد منهم يعمل بيده ويأكل طعام
الفقراء فتقمصوا الروح النضالية ثقة بأنفسهم جاءت من ثقتهم
به ومل تعد تفزعهم األغوال اليت خييف هبا املثبطون عزائم كل
أمة مستضعفة ،التكنولوجية عريت عن سريتها وهم صعوبتها
والنظرية الرأمسالية يف وضع اخلرباء يف مركز اإلدارة اضمحلت فال
مكان لفساد التقنوقراطية املستبدة ،وذهب أيضا الوهم الشيوعي
بأن قوى االنتاج هي العامل احلاسم يف التنمية االقتصادية .ومن
القلة والفقر طلعت اخلربة وطلعت أجيال واعية تضحي بنفسها
من أجل اجملتمع .وذهب أيضا الوهم الشيوعي املعاد بأن البنية
التحتية االقتصادية ونظامها هي املتحكمة يف اجتاه اجملتمع وهي
الوسيلة للتحرر االشرتاكي والشيوعي ،فأثبتت املمارسة الصينية
تبعا لفكر ماو بأن القوة احلقيقية هي القوة الثقافية فيقول ماو :
و«إن للعمل السياسي أمهية حيوية لعلمنا االقتصادي» ،وتصدقه
النتائج الباهرة يف كل امليادين.
388
إن التعبئة الصينية برهنت على أن احلركية االجتماعية تبدأ
من مجع األنظار واألفكار واهلمم حول قائد ميلك ثقة الناس مبثال
حياته وعمله ،وبرهنت على أن الناس يبحثون عن أنفسهم دائما
فإذا وجدوا أنفسهم يف مشروع يثبت هلم قيمتهم ويفتح هلم اجملال
ليعربوا عنها صنعوا املستحيل ،وكان املستحيل يف حق الصيين
الكسول الذي يضرب هبوانه املثل أن يقوم رجال كالرجل فأحرى
أن يقوم بطال عمالقا متفوقا على العامل يف ضمريه هو ويف واقع
الناس .اعتمد الصيين على وسائله اخلاصة كما قال القائد ،وكان
للجماهري مبادرة وجناعة يف العمل ذكاء وابداع كما قال ،وجترأ
الصيين على نقد كل النظريات السابقة يف االقتصاد والعمل وبدهلا
مبمارسة جديدة برهن جناحها على أن اخلبري األمحر أقدر وأجدر
بقيادة العامل .ويف كل يوم وساعة يتحرك الصيين ليغري العامل وفق
برنامج يقرتحه شعار القائد القائل « :صراع مث نقد مث تغيري».
389
القوة
أن يتعلم شعب كامل ويكسب املهارة والوعي احلافز لبذل
اجلهد ،هذه هي القوة وهذا مظهرها ألن الراكد ال يتعلم وال يعمل.
أن يتحرك شعب بكامله من موقع املهانة ليصبح أمة متماسكة
معبأة متحضرة ،هذه هي القوة وهذا مظهرها ألن الضعيف املنهزم
ال يتحرك وال يتحفز ملكرمة وإمنا يستأخر يف ذنايب القافلة ال حيلم
إال بإزالة آثار العدوان عليه وإال باللحاق بالركب احلضاري.
أن يتعلم شعب بكامله كيف يستخرج من أرضه رزقه
معتمدا على وسائله اخلاصة تائها على األجنيب حمققا للمعجزات
االقتصادية واإلنسانية ،هذه هي القوة وهذا مظهرها ألن الشعب
املتفرق املريض الفقري يف وعيه املبتور يف عاطفته ورجولته ال يبدع
وال يستقل أبدا.
وكل أولئك قوة يعرضها علينا كتاب العامل كتاب اهلل املعروض
على مساحة األرض لنتدبر آيات اهلل ونتعلم .يعرضها علينا يف
الصني عرضا قويا يلفت النظر بالتناقض الشديد بني ماض وحاضر
وبني صعوبة حتريك األعداد اهلائلة من البشر وعمق احلركة الواقعية
فعال وأمهية آثارها.
وليس أمام اجلماهري اإلسالمية السبعمائة مليون ،مثل الصني
390
عدا ،إال أن تتعلم أو متوت .إن ماضينا جميد جدا وغين جدا حىت
حال اجملد والثروة الرتاثية حاجزا بيننا وبني منوذجنا اخلالد ،فبعث اهلل
لنا عبادا له يتحدون رجولتنا ويتحدون ضعفنا باهلجوم العنيف املقاتل
احملتل ،وتألبوا علينا واتفقوا وضيقوا علينا طباق األرض والسماء،
فما حتركنا إال ملطالبة خانعة بالعدل الدويل .وبعث اهلل عز وجل
أمامنا شعبا ميتا مهينا يضرب لنا به األمثال ويشري لنا إىل الرجولة
واملروءة والقوة حىت خنجل من فسولتنا واحناللنا وضعفنا ،واحتل
الصينيون سدة العز بني األمم وبقيت ماليني املسلمني الفرديني
اجلغرافيني غثاء باليا ألننا ال حنب أن نتعلم وال نعرف كيف نتعلم
ومنكث يف جدالنا العقيم نتساءل :من أين نبدأ ؟
مع ضعفنا وختاذلنا وتألب أعدائنا علينا جنهد ونتأمل يف قوقعتنا
املستعارة قوقعة اإليديولوجيات املشركة حنرفها ونقص من أطرافها
ونلفق هلا «أصالة» تليق بقوميتنا العتيدة .وال يلبث حبل العمل
أن ينقطع بانقالب جديد يلفق تلفيقا جديدا .وحنن هبذا يف
دوامة اجلهل والضعف والعنف ال نربح .ولو كانت لنا فكرة واحدة
مستقلة أصيلة حقا ال نفتح لنا باب التعلم من مصادر التعلم
وباألسلوب اخلصب للتعلم .ها حنن أوالء ماليني ال حتصر عدا
وهذه يف أرضنا ثروات فماذا عملنا ؟ ال نعمل غدا كما مل نعمل
األمس واليوم ألنه ال منهاج لنا.
391
إن من يسكنه الشعور بالنقص جتاه اجلاهلية ال يتجرأ أن يتعلم
من الناس ،ومن استقل من عاديات العادات وصدق يف وجهته
يتعلم تعلما مفتوحا ال يتخفى وال يلفق .إن هذه اآليات يف العامل
تذكرة يعرضها اخلالق سبحانه األخذ بناصية كل من على األرض
ليذكرنا بالعهد الذي أخذه علينا أن نؤمن به وننصره ،وليذكرنا
مبوعوده أن ينصر من ينصره ويستخلف يف األرض من آمن وعمل
صاحلا ،ويضرب لنا األمثال جباهليني هلم إميان ما وهلم به عمل ما
أكسبهم القوة كما أكسبتنا ردتنا وشكنا كسال ضعفنا به.
كانت الفلسفة اليت أصبحت عمال تسأل عمن هو الفاعل
التارخيي فوجدته يف شخص احملروم املستغل املستلب .ولقد علمنا
اهلل بأن الفاعل التارخيي هو املتواضع الذي مل يتكرب عن دعوة
األنبياء فآمن وجاهد .وعلمنا أن املستضعفني يف األرض هم
األقوياء مىت آمنوا وهم الوارثون لألرض مىت عملوا صاحلا وفق
إمياهنم ،ولكن ال تنفتح لنا أبواب احلياة جلهلنا العلم النبوي،
ونتهافت على الفكر الفلسفي اجلاهلي فتنقطع بنا احلبال ،وإن
دعوة اهلل على حاهلا قائم هبا العلماء العاملون أولياء اهلل ،وإن
موعود اهلل ينجزه لنا أن استجبنا وحتررنا من تبعيتنا للناس تتقاذفنا
التيارات ويضرب اهلل لنا املثل بدعوة يف الصني لقيت مؤمنني هبا
فحققت املستحيل ،وخرج من الضعف واهلوان العز والقوة.
392
إن احلركة حنو البعث ال تبدأ باملظاهرات الدبلوماسية وال
باملناقشات السياسية اليت ال تنتهي ،إمنا تبتدأ بأخذ الزمام بقوة
وعزم .يف الثورية اجلاهلية صراع طبقي عنيف ويف اإلسالم رفق
التوبة العامة ،لكن هذا الرفق ال يعين أن مرتيف األمس ستزول
فتنتهم بلمسة حريرية .إن جدية العمل وضرورة احلزم من أهم
ما ميكن أن نتعلمه من صني ماو ،يقول الزعيم « :إن الثورة
ليست مأدبة شرفية ،وليست تصنع كما تصنع القطع األدبية أو
اللوحات الفنية أو أشغال التطريز .إهنا ال تصنع مبا يناسب كل
ذلك من األناقة واهلدوء والرقة .وال باللطف والعطف والتأدب
واحلشمة والسماحة .إن الثورة حترك وعمل عنفي تطيح أثناءه
طبقة اجتماعية طبقة أخرى».
إن التؤدة النبوية منهاج سلوكي أوله قوة الصرب والتحمل
وأخره قوة املضاء واالنضباط معا .والعنف قوة غري منضبطة فهي
جتمح بصاحبها فريكب الشطط .والثورة الصينية قامت بالصراع
العنيف صراع الطبقات مث ملا مت هلا ما أرادت وقبضت السلطة
حتول العنف الداخلي إىل عنف لفظي وعملي موجه للخارج وكان
انضباط الصينيني يف معاجلتهم للتناقضات بني الشعب وحفاظهم
على الثروة البشرية اليت ميثلها قدماء البورجوازيني بواسطة إعادة
الرتبية رافدا مهما لتجميع قوى البناء .اإلسالم ال يقوم فيه بعنف
393
إال الدول اليت تدول ،أما اخلالفة النبوية املوعودة اليت آن أواهنا،
وأما التجديد واخلالفة للمسلمني يف األرض فهي صيغة الرمحة اليت
تفتقر إليها األمة املشتتة البئيسة ،وستطلب هي اإلسالم وتسعى
إليه ،قادهتا وسائرها وتتصاحل عليه .وإنه قد جتاوزت األحداث
القادة املسلمني وبلغ يأس األمة دركته السفلى أو كاد ،وعاف
الكل هذه املهانة وهذا العنف الذي يقتل املسلمني يف ديارهم
بأيديهم وال يستطع يكون قوة ترد غائلة العدو اهلاجم املتألب.
وإن من الضعف خترج القوة ،ومن اخلوف من العد ويتخلف
الوعي بالذات والوعي بالضعف والوعي بضرورة اختاذ القوة.
فمنذ قامت الشيوعية يف الصني على قاعدة صراعية وحرب أهلية
تأصل يف الصينيني الشيوعيني روح املعركة والقتال ،فلم ينقصوا من
تعبئتهم يوم كان هلم النصر ،بل حزموا أحزمتهم أشد مما كانت
يكافحون يف واجهتني كفاح الليل والنهار ،يبنون البالد ويستعدون
لقتال عدو خارجي حمتمل .وكان الزعيم يهيب بقومه للتمسك
بالقوة ،وكانت خنبته من اجليش األمحر النواة اليت اجتمع حوهلا
اجلهاز احلزيب .فأعطاه احلزب وكل الشباب يتعلمون مبادئ الثورة
ويتعلمون يف نفس الوقت مباديء استعمال السالح واالستعداد
اجلسمي.
إذا طلبت أمة احلركة واحلياة فعليها أن تتعبأ للمعركة ،ومعىن
394
التعبئة االستعداد النفسي وإعداد القوة لدرء العدو .يف الشعوب
امليتة ويف الشعوب املكتظة املائتة مبوت مشابه يتخصص طائفة
من الناس يف مهنة اجلندية ،أما يف األمة اليت حتمل رسالة فينبغي
أن يكون كل من له يدان وعضالت مستعدا متدربا للجهاد
ممارسا للعمل اجلهادي يف كل يوم على قدم االستنفار العام.
وهكذا كان املسلمون عندما كانوا أمة وقبل أن يصبحوا دوال
وراثية .الصني مثل ضربه اهلل لنا لألمة حاملة الرسالة ،هلم رسالة
ظلمانية كافرة يقوون على محلها ما ال نقوى حنن على محل حقنا
الذي نزل من عند ربنا لكي خنجل من تفاهتنا .إن كان الصينيون
احلمر مل يستطيعوا أن جيعلوا األمة كلها جندا إال بإدماج اجليش
يف األمة إدماجا كبريا فألن اجليش كان له ماض نضايل جميد وألن
تربية اجليش مل تكن تربية عضالت وعقول بل كان أيضا تربية
ضمري وخلق كانت مدرستها كهوف ينان وصحاري كيانغسي
اليت جابوها حماربني متقشفني أبطاال.
لنا جيوش ورثت عادة القعود وأسيء اعدادها إذ هيئت خلدمة
الراية والرتاب هتيئ اآلالت املستعبدة ،أهم ما يعلمون اجلندي
املسكني أن يرفع اليد بالتحية للضابط السيد ويهتف بالشعار،
وجليوشنا مرتفون هم املتأهلون من السادة الضباط ،هلم عنجهية
الضابط اجلاهلي وليست هلم كفايته ،وهلم حاجات ال تنتهي هلا
395
عالقة بالشهوات وال عالقة هلا بأمر القوة وأمر الروح املقاتل .هلذا
ينهزم جنودنا هزمية هي صورة هلزميتنا مجيعا كفاء السرتخائنا وترهل
أجسامنا وعقولنا حني فقدنا العقيدة والروح .اجلندي املسلم اآللة
مستضعف من املستضعفني الذين سيستخلفهم اهلل يف األرض مع
أمتهم وسيحررهم من وطأة املرتفني فيحملوا القوة خلدمة اهلل وحده
ال شريك له له امللك وله احلمد وهو على كل شيء قدير.
ال نعجب أن كان قادة جيوشنا نسخة من مثقفينا املرتفني،
إهنم خترجوا من مدرسة واحدة هي مدرسة اجلاهلية .وهي مدرسة
تعصر من ضمائرهم حياة الرجولة والصدق واإلميان كما تعصر من
أجسامهم مقومات الشهامة مبا تطرحه عليهم من فكر دوايب ومن
عادات جنسة .فإذا حدث إن أفلت عنصر من عناصر جيوشنا
من سلطان الكماشة اجلاهلية املردية واستعمل القوة لنصرة احلق
وابطال الظلم يف بالد املسلمني ،فإنه ال يهتدي إال إىل انقالب
ال يرى ماو وراءه ألننا مل نعلمه إال علم اجلاهلية ،فريجتل ويكون
امسى ما يصل إليه أن يصبح بطال من أبطال التاريخ يتظاهر يف
العامل مع رؤوس الدول إىل أن تأتيه اهلزمية الشنيعة فتذله.
يف دار اإلسالم طبقة عسكرية هي مظنة القوة ومناط العمل
القوي غدا يوم ينبعث اإلسالم ،شريطة أن ينزل الضابط إىل
الصف ويدع عنه الطغيان ويرأف باجلندي املسكني ويعلمه ويربيه
396
من حيث يتعلم هو منه ويرتىب .وإن نظام جيوشنا املوروث عن
اجلاهلية التكاثرية نظام استعباد وقتل لألنفس واهلمم ،وما مينعنا
أن جندد إال أننا قوم أموات فال ميكن امليت تغيري ما به .وأمامنا
أمة حية يف الصني حررت اإلنسان فتحرر اجلندي والضابط
وتساويا يف إنسانيتها واحرقت تلك األشرطة وتلك األومسة ،وقوى
االنضباط يف اجليش وتغريت العالقات تغريا كيفيا .وانصرف اجلند
خلدمة األمة عنصرا حيا فعاال يعدى الناس كلهم بنشاطه وحيويته
وبساطته.
يشبه ماو اجلندي يف الشعب بالسمكة يف املاء ،فالسمكة
ال حتس غربة يف املاء ألنه وسطها الطبعي وال جتد حرجا يف
التحرك ،وهي أيضا ال تستطيع أن حتىي مستقلة عن املاء خارجة
منه مستعلية عليه .فما ينبغي للبندقية أن تتحكم وإمنا عليها أن
تطيع .يقول ماو « :إن مبدأنا هو إن احلزب يأمر البنادق وال
يقبل أن تتآمر البنادق على احلزب» .وكارثة أمتنا املبعثرة أنه ما
لدينا حزب واحد منذ أن تنكرنا حلزب اهلل الذي جيمعنا بل لنا
أحزاب هي بعض ما ابتليتنا به .وليست هذه األحزاب حبيث يليق
أن يطيعها جندي شريف ،وليس اجلندي حىت وأن ربوه على حتية
األشرطة واألومسة من اهلوان حبيث يأمتر ملن ليس هلم ضمري وال
نظافة وهلذا يأخذ جنودنا السالح وينقلبون عن الظلم مث يضعفون
397
عن محل األمر فيرتفون وينقلب عليهم زمالؤهم .وإن االنقالبية
لسيف مصلت علىمرتيف هذه األمة املسكينة يسوقهم كرها ليفيئوا
إىل أمر اهلل.
إننا حباجة إىل قيادة جهادية قوية حتمل برهان صدقها بيدها،
يسكن القائد اجملاهد خيمة اجلهاد ويأكل طعام اجلندي املسكني
ويلبس ملبسه ويطوي بذلك ما بني القيادة واإلنسان من أومسة
وأشرطة .وقد فعلت الصني هذا وهم كفار فياخجلتنا إذ مل نقدر
على سلوك سنة نبينا الذي جعله اهلل لنا اسوة .ولو قد كنا مؤمنني
وكانت لنا قيادة مؤمنة جتلس على احلصري وتأكل الشعري إذا لوجدت
جيشنا قوة ترفع عماد الدين وتسمع مطيعة بالصدق واليقني.
يصف ماو كيف تكون اجلند املقاتلون احلمر ،يقول « :هذا
اجليش قوي ألن الرجال الذين منهم ينضبطون بنظام واع .إهنم
تآخوا وهم يكافحون ال من أجل مصاحل خاصة وال من أجل فئة
معينة بل يكافحون من أجل اجلماهري الواسعة ومن أجل مصلحة
الشعب بكامله .إن هدف اجليش إال وحد أن يكون جبانب
الشعب الصيين بقوة وأن خيدم الشعب الصيين من كل قلبه».
إن وضوح املقصد وصدق القيادة يف طلبه هو الذي يكون
حلام اجلماعة اجملاهدة .لنسمع كيف يرى ماو اجليش احملرر ،يقول:
«لقد التقينا هنا آتني من كل أقطار لنا هدف واحد مشرتك…
398
ينبغي ألطرنا أن هتتم بكل مقاتل وينبغي لنا كلنا يف صفوف الثورة
أن حينو بعضنا على بعض وأن حيبه ويساعده».
كان اجليش الصيين ككل اجليوش يعرف نظام التجرب من
أعلى ،فمر عليه عشرات السنني يربيه القائد العبقري وال يزال
يطلب مزيدا من الرتبية والتوعية ،يقول « :إن مبادئنا الثالثة
الكربى للعمل السياسي يف اجليش هي أوال :الوحدة بني الضباط
واجلنود ،ثانيا :الوحدة بني اجليش والشعب ،ثالثا :حتطيم القوى
املعادية».
وشيئا فشيئا تعلم الضابط املعرفة احلق بيده وكف عن كربيائه
وطرح األشرطة واألومسة ولبس لباس اجلندي وتعب مثل تعبه وأكل
طعامه وسارت يف اجليش املعاين اإلنسانية واإلخوة والتعاون.
ملاو وللصني معه شعار القوة وهو «إن النصر على أطراف
البنادق» ،وهو شعار يلخص دعوة ماركس واجنلز أن يكون
للربولتاريا جيش يكون رأس السهم يف الثورة وحيميها .ويف
التجربة الصنية كان اجليش هو رأس السهم وهو اآلن حامي
الثورة .وتتجلى محايته للثورة يف املشاركة العملية للشعب يف كل
امليادين .إنه ليس جيشا قاعدا يف تكناته يتدرب يف الفراغ ،بل
هو اجليش املكون للثالوث الثوري :احلزب والشعب واجليش،
إن للجندي وعيا بذاته وأمهيته ،وذلك الوعي أغناه عن شارات
399
الرتب العسكرية .إنه إنسان فاعل يف كل امليادين ،فهو كان احملرر
الذي هزم العدو وهو اليوم العمود الفقري للثروة الثقافية والرتبية
العملية .إنه يقرأ الفلسفة ويدير املعامل واملزارع مثلما حيفر احلقل
ويسوق عربة األرز ويدرب تالميذ املدارس ويعلم يف اجلامعات
كما يعلم الفالح األمي باألمي باألمس .إنه عامل أساسي يف
البناء الثوري وحامل ألمانة الرتبية .بيده سالحه الذي صنعه مع
العمال وبقلبه سالح معنوي سياسي ،سياسي مبعىن التضحية
وخدمة الشعب ال كما ميارس املرتفون السياسة خداعا وتلبيسا.
اجلندي خيوض مع القائد العبقري معركة طويلة جدا هي
معركة الرتبية .يقول ماو خياطبهم « :جيب على رفقائنا أن يدركوا
أن إعادة الرتبية اإلديولوجية أمر بعيد املدى ينبغي أن نصمد
لتحقيقه بالصرب والدقة .جيب أن ال نظن أن بضعة دروس أو
اجتماعات تستطيع تغيري اديولوجية تكونت يف عشرات السنني.
ال ميكن أن نقنع إال باحلجة وليس بالغط .إن الضغط نتيجته
اإلخضاع ال اإلقناع وال تقبل بوجه الضغط بالعنف .هذه الطريقة
ميكن أن نستعملها مع العدو ال مع الرفقاء واألصدقاء.
وهكذا نرى أن القوة يف الصني قوة عضالت فقط بل هي قوة
عقيدة وفكر قبل كل شيء ،فإذا خدمت األوىل الثانية اجتمع
وازع السلطان بوازع معنوي فكانت طاقة ال تغلب.
400
الفقر والعفة
لعل اإلنسان املعاصر أشد األجيال خبيبة املسعى اإلنساين
يف األرض وبعث كل هذه احلياة الصاخبة .إن األثاث احلضاري
والرئي والتخمة ما زادت عقالء هذا اجليل إال أسى وحسرة على
ضياع اإلنسان وضعفه .إنه يشعر بأنه مبتور ناقص وتعلم أن كل
األوهام «اليوتوبيات» اليت ولدها الفكر البشري ال تعوض نقص
الواقع اإلنساين وقصوره وقذراته ،وتعلم أن أوهام الذين يتنبأون
بيوم فيه يغري اإلنسان جمرى التاريخ تغيريا كيفيا ليحقق سعادة
اإلنسان إمنا كانوا شعراء هائمني وإن كانوا يدعون العلمية مثل ما
إدعاها ماركس.
اإلنسان املعاصر الذي يشعر ويعرب عن خيبته إنسان جاهلي
عاقل ،إنه جيهل العظيم النبأ الذي جاءت به األنبياء وهو نبأ
البعث وخلود اإلنسان .جيهل هذا النبأ العظيم منذ تدهورت
املسيحية إىل دين كنسي لعبت فيه أهواء الكهنوت حىت جمه الناس
وحترر من الرمحة املسيحية فعنف فتشخص فيه شطرا اجلهل ،هذا
اإلنسان اجلاهلي العاقل يلتمس كمال اإلنسان فال يستطيع أن
يتصور لإلنسان كماال إال على صعيد احلياة البهيمية ،فاإلنسان
الكامل عنده هو الفالح القدمي الذي كان ينتج طعامه وكساءه
401
وجل حاجاته ،واإلنسان املبتور الشقي ما كان كذلك إال من
جراء تقسيم العمل وطغيان اآللة ورأس املال على اإلنسان ،فهو
منذ اليوم مستلب مشيا.
لعل اجلاهلي املعاصر العاقل يدرك حباسة مطموسة ما أخربنا
به اهلل عز وجل من أن اإلنسان يف كبد ويف خسر إال الذين آمنوا
وعملوا الصاحلات .ولعله إذ يتدبر التجربة الصينية إمنا يسأهلا عن
هذا الفالح القدمي يف نظره ،ما تفعل به وهل ستحتفظ له بالفقر
النظيف البطويل املتجلى يف الثورة الصينية وجتنبه كارثة احلضارة
اآللية الباترة لإلنسان .فنلتقي حنن وهؤالء اجلاهليني يف املرقب،
حنن نتعجب من آية اهلل يف عباده الصينيني لنخجل .نتعلم وهو
يبحث عن اليوتوبيا املستحيلة.
ألربتو مورافيا أكرب الكتاب واملفكرين اإليطاليني املعاصرين .زار
الصني منذ سنوات يف فجر الثورة الثقافية وليس هو شيوعيا ينشر
الدعاية وال مغفال حيسب الرماد نارا .لذلك حتدث عن الظاهرة
اإلنسانية الفريدة يف الصني حمتفظا بشكه يف مصري الثورة الصينية
متسائال هل تبلغ التجربة الصينية أن حترر اإلنسان حقا وهل تستطيع
أن تكسب تكنولوجية وحضارة صناعية دون أن ينزل ثقل كل ذلك
على اإلنسان فيربته ويشيئه ويقتل بذلك أمل البشرية يف اخلالص
والكمال ،كما يرى هو الكمال يف منوذج الفالح القدمي.
402
يقول اجلاهلي العاقل يف مقدمة كتابه على شكل حوار: 1
س :أين يوجد اآلن أكثر أنواع الفقر إنسانية ؟
ج :يوجد يف الصني فيما أرى ،ولكن يف الصني اآلن بالطبع،
يف هذه اللحظة بالذات .فليس من املؤكد أن تريد الصني أو أن
تستطيع حتويل اليوتوبيا ،اليت متثلها وجتسدها اليوم على حنو موقت
إىل واقع دائم ،كما أنه ليس من املؤكد أيضا أن تبقى صني الغد
خاضعة لنفس الظروف اليت ختضع هلا اليوم .فاليوتوبيا لكي تكف
عن أن تكون جمرد يوتوبيا وتتحول إىل واقع ال بد هلا من الدوام,
س :قل يل اآلن ،أين يوجد أكثر أنواع الثراء ال إنسانية؟
ج :يف الغرب على ما أعتقد».
ويتساءل الكاتب ما حيدث إن متت يف الصني الثورة الصناعية
وتراكمت رؤوس األموال ورفعت الرواتب وأنشئت صناعة خفيفة
تسمح بإنفاق الرواتب .أميكن للصني مع كل هذا أن تتفادى
مصري الدول الغنية األخرى ؟ وجييب قائال « :اليوتوبيا جيب أن
تصبح وعيا قبل كل شيء .وطاملا وجد هذا الوعي فسوف يكون
احلل هو خلق اإلحساس بأن الثراء خطيئة وجرم وزلة».
وحين اجلاهلي العاقل بعد هذا للمثالية وللدين ،وإن كان
ال يعرف من الدين إال التاريخ الكنسي .يقول « :لقد جنحت
403
املسيحية «لعدة قرون» يف أن جتعل من الفقر احلالة املثلى لإلنسان
وتلك نتيجة ال يستهان هبا حىت اليوم .وذلك ألنين كما ينبغي أن
تضع يف اعتبارك ،ال أتكلم عن كل هذا يف املطلق ،خارج حدود
الزمان واملكان ،وإمنا نسبيا ،ويف عالقته مع الزمن والعامل الذي
نعيش فيه .فاحلالة اليت كانت تقرتحها املسيحية كانت حمددة
بصفة «مثالية» ،وأعرتف بأن ذلك كان حكما مسبقا عليها
بالفشل (يتحدث الرجل عن رهبانية األديرة) أما هذه املرة فيجب
أن ال جنعل من الفقر «حالة مثالية» ،ينبغي أن يصبح الفقر احلل
الوحيد بالنسبة لإلنسان ،حالته الواقعية والعادية».
عم يبحثون عندما هبرهم الصيين النظيف األنيق يف سروايله
املرقعة ترقيعا فنيا؟ إهنم تذكروا قساوستهم الرهابنة فما وجدوا
عندهم هذا التقلل اجلماعي الذي يدعو إليه اإلسالم والذي
يطمحون إليه عند صني الغد ،وهيهات ! وما نستطيع حنن
املسلمني أن نتعلم من آيات اهلل يف اآلفاق ومن عطائه غري
احملظور إال إن رسخ فينا النموذج الكامل حملمد صلى اهلل عليه
وسلم وصحبه الذين كانوا فقراء أغنياء كاملني حق الكمال ،ال
بالكمال األرضي املعاشي لكن بامتدادهم إىل اآلخرة وعيشهم
فيها بالشوق وبذكر اهلل وبالروحانية اليت خيلقها اهلل من الطينة
البشرية فتخلد نسورا بني يدي احلق وخيلد الغافلون يف اآلخرة
404
حطام جهنم إال أن يغفر اهلل ،وهذا ما ال تشم اجلاهلية وال
تالمذهتا اخلانعون املرتفون رائحته.
ويصف الكاتب اإليطايل جمتمع االستهالك الغريب فيصور
عملية «التربز احلضاري» بواسطة االستهالك ومن أثر االستهالك،
ويصور استهالك احلروب وتبذير لإلنسان خريات األرض هتيئا
للحروب .مث يصف العهارة اجلنسية يقول « :اليوم ،هنا ،يف هذا
العامل بالذات ،احلب والعالقات اجلنسية غريبة بعضها عن بعض،
بل هي أيضا متعارضة ومتعادية .مل يعد «الفعل اجلنسي» شيئا
آخر سوى اإلنتاج…أما احلب فعلى العكس…إنه احلب ،إنه
اإلبتكار والبحث واإلشراق والسمو والتالقي واخليال والتأمل .إنه
كل شيء ما عدا اإلنتاج».
لقد أدهشته النظافة اخللقية يف الصني اجلديدة ،أدهشته كيف
أصبحت املرأة إنسانا مكرما حمتشما حييا وقد كانت باألمس
بضاعة خبسة .وأدهشته العفة وتلق إىل مثاليات الغرب الشاعرية.
ولعل سرده ألوصاف احلب املتعاقبة املتالحقة ينم عن تقززه من
احنطاط اجملتمع املنتج املستهلك ومن أهدار اإلنسان اجلاهلي
لكرامته وكرامة جنسه بإقباله الدوايب على الشهوات ،وحيلم أن
تلد الصني جمتمعا فقريا عفيفا نظيفا دائما ،حيلم يف حتفظ شاك،
وجنزم حنن بأن اجلاهلية أبدا ،وأن ما يبدو يف الصني من ظواهر
405
القوة والعفة والسمو اخللقي لن يقوى على مقاومة الثروة اآلتية
وسيطغى اإلنسان يف الصني إذا استغىن وسيلحق ركبهم اجلاهلي
بدرب اجلاهلية جاهلية اخلطوط املؤدى إىل حيث صارت القرى
اليت حصدها اهلل بكفرها وظلمها.
ال يغرنا أن قرية الصني يف هذه اللحظة من حلظات حتفزها
وتعبئتها قرية فريدة يف أسلوب عملها ويف كيفية عملها .ال يغرنا
ذلك عن معرفة املصري الذي يرتقبها ،كما ال يغرنا اجلهل باألعراض
عن آيات اهلل يف اآلفاق اليت يقص علينا نبأها على صفحات
العامل املعاصر ،كما قص علينا نبأ القرى الغابرة يف صفحات
كتابه لنتدبر ونتعلم.
فماذا نتعلم من اجلاهلية ومن صني ماو؟ يسهل علينا التدبر
إن محلنا املنظار املنهاجي وفصلنا تدبرنا على حمور اخلصال العشر
املنهاجية.
.1شعب وقائد ،شعب كان متفككا مائتا إىل أن تيقضت
أرحيية خنبة من الشيوعيني أصحاب العقيدة التحررية ومن خالل
نضاهلم برز قائد عبقري كان وال يزال مناط التعلق العاطفي
للشعب ،وحول شخصه تتبلور املثل العليا وإرادة العمل .عبادة
الشخصية هم التعبري اجلاهلي عن تعلق الناس بالقائد ،وهو تعبري
يدل داللة واضحة على أن شخص القائد أثرا يف حتريك السواكن
406
من الفكرة اليت حيملها .أما القيادة اإلسالمية فيلزم أن تكون خالفة
للرسول ودرجة لصحبته وتكون طاعته من طاعة اهلل ورسوله .وقد
تكونت يف جمتمع الصني اجلديدة عالقات اجتماعية جديدة هي
عالقات زمالة يف الكفاح ورفقة ،فإىل ماذا تصري بعد موت القائد
وانقضاء الكفاح البطويل ؟ أتبقى حوافز التضحية ونكران الذات
وخدمة اجلماعة ؟ إن صحبة اإلسالم والطاعة والنصيحة واحملبة
أجدر بالبقاء على األيام ألهنا متتد إىل اآلخرة.
.2التصور املاركسي للعامل واإلنسان أنتج مشروع الشيوعية
البطويل املأسوي .هدفه التحرر من الظلم وغايته العيش الرخي
يف أحضان الشيوعية املنتصرة .وتتخذ الغاية من العمل الشيوعي
يف الصني أبعادا إنسانية تربوية لكنها كغاية كل الشيوعيات ال
تتجاوز معاين األرض أبدا .فاجلاهلي جيهل قيمة اإلنسان وال يرقى
إىل تصور خارج عن نطاق العلموية الوضعية اليت حتصر اإلنسان
يف دوابيته .وهنا ال ميكن أن نقارن مقام اإلسالم مبوقع اجلاهلية
إال كما يقارن النور بالظالم واحلياة باملوت.
.3هبرت الصني اجلديدة مالحظيها بشجاعة الصيين بعد
جبنه وأمانته بعد ندالته ونشاطه بعد كسله .هذا التحول الشامل
من عادات االنكماش وهذه احلركة الدائمة يف األفكار وحول
األقطار تنم عن الروح اجلديدة احملركة للماليني السبعمائة .وتتعلم
407
من هنوض الصينيني للعمل وصدقهم فيما هم فيه أن اإلنسان
الراكد ال ينبعث إال جبد العمل والقوة املوجهة .من كان ذا مهة
تقبل املبادرة وتقدر عليها سارع إىل العمل ،ومن أثقلته عاداته
فإنه يزج به يف ساعة العمل وينتقد ويرغم على نقد نفسه .فإذا
محل على كتفيه من كان مرتفا منعما علمه التعب ما هي احلياة
فنبذ عاداته .ويوم ينشر لواء اإلسالم ال بد أن يكمل صدق الرتبية
بوازع السلطان صدق الرتبية بوازع القرآن.
.4يف اجملتمعات الراكدة ال توجد ثقة بشيء ،اإلنسان
شحيح خائف ال يهمه إال أن يضمن لنفسه أكرب رخاء ،فيمسك
ما بيده ويزاحم بقوته كلها على التملك فينشأ جمتمع الكراهية
املتناحر على املتاع واملتع .اجلاهلية الرأمسالية تنظم هذا القتال على
امللكية تنظيما فوضويا ،وتستقر الفوضى على أساس صراع دائم
مقبول معروفة قوانينه بني احملظوظني األذكياء ،والعمال األقوياء
بقدرهتم على اإلضراب ،وكل أشحاء أنانيون .وتكسر االشرتاكية
الشيوعية أنانية التملك بنزع امللكية ،وينيخ طاغوت الدولة بكلكه
على الناس .وبني طاغوت الدولة وفوضى اللربالية ال تزال اجلاهلية
تبحث عن حل فال جتد وال يغطي محاس الصيين املضحي بنفسه
يف سبيل اجملتمع األنانية املتأصلة اليت ال ميحوها إال املنهاج النبوي
والتزكية اإلسالمية.
408
.5من السهل أن حتمل شعار «العلم واإلميان» كما يفعل
بعض زعمائنا ،لكن الصعب حقا أن تعلم أمة جاهلة بأسرها
كما فعلت الصني .الفالح األمي منذ اآلالف السنني تعلم برغبة
زائدة وتعلم علما هو رمز املرتفني وهو الفلسفة .كانت فلسفة
بسيطة واضحة لكنها أعطته شعورا جديدا بكرامته وزادته ثقة
بنفسه ،ألن مبدأها األول هو أن املعرفة احلق تأيت من املمارسة
ومن العمل اليدوي اليومي .سبق اإلميان العلم يف الصني ،آمنوا
بالشيوعية بعد أن أمسكت الزمام وأطعمت اجلائع وحررت العبد،
فانطلقوا يتسابقون يف فك رموز الكتيب األمحر ومحلوه يلوحون
به يف كل املناسبات .ولقد قال سيدنا عبد اهلل بن عمر :أوتينا
اإلميان قبل القرآن .فإذا تعلمنا املنهاج النبوي الذي يعملنا من
أين نبدأ وكيف نكسب اإلميان انبعثت لنا حركية خليقة أن تدلنا
على سبيل التعلم ومن التعلم ينبثق كل اخلري.
.6السياسة يف الصني هي العمل املطلق ،هلا األسبقية على
كل نشاط ،لكنها ال تعين التخبط وتسخري املغفلني والكذب
بالوعود اهلائلة .السياسة لدى الصيين كشف للحقيقة اإلنسانية
األوىل اليت تراها الشيوعية ومتيها استغالال طبقيا وتسميها القرآن
تكاثرا وظلما .فإذا انكشفت هذه احلقيقة ووصف طريق التخلص
من وباء الظلم حتررت اإلرادة وحتررت الطاقات ولنخجل حنن
409
املسلمني أن أراد الوثنيون وعملوا وجنحوا على ضالالهتم وتبلدنا
حنن وقعدنا عبيدا لكسلنا مل نتعلم كيف نزيل عنا ظلم الظاملني.
.7يرى الرأمساليون أن احلرية الفردية جتد صيغتها املثلى يف
حرية التملك ،واملثل األعلى للحرية يف نظر الشيوعيني هو حلم
زوال الدولة وتوزيع الرزق مع الرخاء العام .واجلاهليتان ما انفكتا
على ما يظهر من تباين يف املبادئ متشاهبتني حذو القذة بالقذة.
وماهم روسيا إال أن تنتهب حظها من خريات العامل مع مثيلتها
وأن ترفع «مستوى املعيشة» .وتزعم الصني أن مذهبها العمل
التجرييب حترر من أشكال اجلاهليات األخرى ومن حمتواها .وينبغي
أن يتعلم كيف جيدد حترره بشكل جديد من أشكال العمل هو
«الثورة الثقافية» ،تلك ميزة ال شك فريدة ،ولقد حطمت هذه
الثورة أصنام االحتكار التكنولوجي وحطمت العادات ،لكن هل
مست اإلنسان يف صميمه ،وهل غريت حقيقته فنقلته من معىن
دابة إنسانية إىل معىن العبودية هلل يف دار اخللد ؟ إن املسلم إن
سعى للمسجد فإمنا سعى لبيت ربه سيده ،فسمته بذلك مست
خملوق سام فريد ال شبه بينه وبني اجلاهلي إال السحنة وخلق
الرمحن اإلنسانية ،مث إن ذلك حي وهذا ميت.
.8يدعو زعيم الصني للجد واحلزم ،وجتد يف كالمه قسوة
أحيانا .ومع ذلك فأهم ما مييز أسلوب العمل الصيين هو الرفق.
410
وما استغنت املاركسية بعد لينني كما استغنت بالفكرة املاوية يف
حل التناقضات الداخلية بالصلح والرفق .هلذا فلعل إعادة تربية
املرتفني مليدان الكد مع العمال والفالحني بدل رفعهم للمشانق
أهم ما ميكن أن نتعلم من الصني ليؤمنا املوعود .وسنكون أمة
الرفق وأمة التؤدة النبوية وسط عامل العنف .ولنا أيضا درس
يف رفق اجليش الصيين وكسره لوثنية الشارات واألومسة مع القوة
واالستعداد الدائبني.
.9رأينا أن مفكرا غريبا تأمل طويال فقر الصيين ونظافته
اخللقية وحامت حول ما رآه آمال يف حترير اإلنسانية املثقلة
ببضائعها املشيئة املسخرة ومن تقلل الصينيني املفروض بفقر
البالد تغذى الشعور البطويل ،ومن أجله اختارت الصني طريق
االعتماد على النفس يف بناء اقتصادها .وتوقدت العزائم وبلغت
اإلرادة أوج مضائها عند الصغري والكبري ،فأبدع كل إبداعه وصنعوا
آالت أكثر اتقانا من آالت أرباب التكنولوجية ابتداء من الصفر
وبوسائل الفقري املدخر لكل قطعة ولكل مسمار ولكل قرش.
وهذا لنا درس كبري.
.10للصني شعار حركي يشري إىل اجتاه العمل الثوري .ذلك
هو « :الصراع – والنقد -والتغيري» .ومعىن هذا أن الطبقة املسكينة
تفتح أعينها لتعيد حكمها على العامل مث تقبض على املبادرة لتغيري
411
العامل .جياهد الصيين ليحرر اإلنسانية فذلك مرمى طموحه وغاية
جهوده .وأمة اإلسالم يف غدها املشرق الذي أظل زمانه ستتحرك
بنية جهادية خلف قيادة جهادية يبدل اهلل جل جالله هبا قياداتنا
املرتفة ،فتفتح األمة أعينها لتتميز عن اجلاهلية والكفر ،ولرتيب
األنفس وتقدح اإلرادات وتتوحد على احلق لتحمل لواء اجلهاد
الدعوة والقيام بالقسط وسط عامل حائر .ولن يعوقها عن القيام
ما يظهر من ضياعها على مائدة اللئام ومن خلفها وضعها فإن
اهلل هو اخلالق الباعث تقدس امسه.
412
الفصل الرابع
413
هتافت الفالسفة
مضى القرن األول من اإلسالم فكان عصر البعثة اإلسالمية
عصر النورانية والرتبية مث حتول عصر الفتنة العظمى يزيد من نكرها
قرب العهد بالرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم وجالل الصحابة
الكرام الذين طحنتهم رحاها رضي اهلل عنهم أمجعني .ويوضح
لنا كل ذلك أن اإلنسان ضعيف خلقه اهلل ضعيفا ،فهو يقتحم
العقبة إن بعث اهلل له نبيا فصدقه واتبعه ،وال تنتهي العقبة إال
باملوت .فاملؤمن ينصب وإىل ربه يرغب وهو مسؤول عن أعماله
بنياته ال بنتائج اجتهاده .فإن طال عليه األمد بعد البعثة النبوية
فقد يقسو عليه قلبه وقد يكون آنئذ أشد الناس حاجة ملن جيدد
له إميانا وتربية .وهلذا تعاقب أنبياء اهلل يف الناس جيددون هلم حىت
ختم اهلل الرساالت بنبيه املصطفى حممد صلى اهلل عليه وسلم.
وهو أخربنا بأن اإلميان يبلى فيتجدد بال إله إال اهلل ،وأخربنا أن
اهلل يبعث هلذه األمة من بعده جمددين على رأس كل مائة سنة.
وهكذا رسم لنا خطى اللقاء الدالني على اجملدد .فهو رجل قبل
كل شيء شخص مفرد كما يليق بالنموذج الرتبوي ،وهو ال ميلك
أن جيدد إال إن كان صاحب الكلمة الطيبة اليت هي أعلى شعب
اإلميان .فمن كان ميلك أن يقول للناس « :قولوا ال إله إال اهلل
414
تفلحوا» ويفلحون إن قالوها كما أفلح من اتبع الرسول ،فذاك
جمدد فيه مزيتا التعريف النبوي.
يف آخر القرن األول ظهر موالنا عمر بن عبد العزيز فكان
رجل التزكية والصحبة والذكر والعبادة ،التزم أحضان شيخه-قبل
أن خترتع املصطلحات الصوفية-وهو سيدي عطاء ابن حيوة ،حىت
اكتمل رجال .فأعاد اهلل به لألمة املفتونة ألالء العدل وإشراق
اإلميان .مث انطمست تلك الشمس يف عني الفتنة احلمئة.
ومضى الثالثة القرون من بعد ذلك فتقعد الفقه الشرعي كما
تقعد نظام احلكم دولة عاضة كما أخرب الرسول الكرمي صلى اهلل
عليه وسلم وذهبت معاين اخلالفة النبوية وحلت حملها ملكية
وراثية تتسمى باالسم وحتمل الرموز وتتمرد يف قصورها على شرع
اهلل .وتوسعت الدولة يف األرض فقل املؤمنون وحتولت اجلماعة
جمتمعا وعز الصاحب احملسن وعزت الرتبية اإلسالمية ،وانزوى
املؤمنون أهل القرآن والسنة الكاملة فسموهم صوفية وعبادا .أما
الدولة املقعدة فكان ال بد هلا من عقيدة مقعدة .ومن هنا نشأ
«علم التوحيد» ومن هنا نشأ «علم الكالم».
كان اإلسالم إذعانا ألمر اهلل القائم به املؤمنون ومشاركة
يف عبادة اجلماعة املؤمنة وحياهتا العامة بالطاعة .وكان اإلميان
يأيت الناس قبل القرآن ،يأتيهم من الصحبة ويعديهم من جمالسة
415
املؤمنني يف جمالس الذكر والعلم اليت مساها الصحابة «جمالس
اإلميان» .فلما ورد على اإلسالم أقوام يسألون ويتفرعون يف السؤال
ويشكون ويبذرون بذور الفلسفة املشككة ،طلع علماء املسلمني
بعقدية جافة حولت العقيدة من السياق اإلنساين املتكامل عاطفة
وعقال وحمبة إىل جانب العقل ،فمنذئذ جيب على املسلم أن يعتقد
كذا وكذا .كل ذلك قمني أن يتناسب مع النظام يف الدولة وأن
يدمج الدين يف العمل العام ملا أصبح الدين جزءا من العمل ال
كل العمل .واستقى الناس العقيدة من درس التوحيد ال من القرآن
مباشرة.
ذهب ذلك الفيض النوراين الذي عاش يف ظله الصحابة
الكرام من احلياة العامة وانزوى يف املساجد والرباطات ،وبرز العلم
الشرعي يف ميادين القضاء وصرف شؤون الدولة .وتشعب العلم
النبوي املوروث شعبتني ،علم ظاهر هو علم السلوك العبادي
واملعامالت وعلم إمياين تربوي مسي أصحابه صوفية.
فأما علماء الظاهر فاختلفوا يف جزئيات الشريعة وانتهى األمر
يف انتصار املذاهب األربعة ،واختلفوا يف االستدالل على الكليات
فظهر املعتزلة وانتهى األمر إىل انتصار عقيدة األشعرية.
وأما أصحاب علم الباطن فكان منهم الشيعة الذين رفضوا
كل والء إال الوالء ألهل البيت من األئمة املطهرين ،وظهرت
416
علوم الصوفية أصحاب التزكية والذكر يأخذ الناس علمهم ميتا
عن ميت ويأخذون علمهم عن احلي الذي ال ميوت كما يقول
إمامهم اجلنيد رضي اهلل عنه .وللقاصر املنكر للتحديث الذي
خيتص اهلل به أولياءه كما للباحث عن طراوة اإلميان أن يرى يف
قول اإلمام انكارا لإلبتعاد عن املعني اإلهلي للحق وهو القرآن
واالشتغالل بالكالم .ولطالب احلق أن يتدبر علوم القوم عله جيد
من أنفاسهم ربح احملبة اإلهلية وذكر اهلل به يتميز من هلم باإلمام
األعظم صلى اهلل عليه وسلم األسوة احلسنة.
ومن بني أنصار الشيعة النبوية الصادقني وأهل الطريق نشأت
رؤوس الفتنة الباطنية من املعطلة أعداء الدين ومن أصحاب
التأويل .ما منهم إال من يلتصق بأهل احلق ويظهر مبظهرهم.
أما الفالسفة فقد اختذوا هلم إماما جاهليا هو أرسطو ،أعظموه
ملا رأوا آالته العقالنية اللماعة يف نظرهم .ومارس الفلسفة رجال
مؤمنون فتفعلوا تفعال شديدا يف حماولة الصلح بني العقل والغيب،
ومارسها آخرون يف قلوهبم مرض فدسوا الكفر واإلحلاد يف صيغهم
وأشكاهلم اجلاهلية ،وبثوا يف املسلمني بذور الوثنية العقالنية حىت
نبغ منهم جمدد القرن اخلامس اإلمام الغزايل رمحه اهلل.
نشأ الرجل يف بيئة الفتنة املتعددة الوجوه واأللوان ،فدولة
وراثية اختذت القرابة النبوية واجهة لالستبداد أدركها الغزايل وهي
417
يف طور االهنيار ،وفكر جاهلي طاغ متأله ميثل أشباه «إخوان
الصفا» وانشقاق يف األمة مزمن يندس يف شطريه الرئيسيني دعاة
الباطل املتلبسون باحلق من باطنية كافرة ومتصوفة متسولة طفيلية
منافقة.
درس الغزايل علوم عصره فنبغ يف كلها وكان له صيت وجمد
علمي .لكن مهته كانت ال تقف عند حد وتتطلع للحق والسعادة
واليقني .ما أقنعته الفلسفة اجلافة الشاكة املشككة وما أقنعه
املنقول امللفوظ من علوم زمانه .تكونت له إرادة فاستحق اسم
مريد وذهب حيث يذهب املريدون يلتمس إسالما حيا ويفتش
عن رجل مؤمن يعلمه .وقص علينا الغزايل كيف أتاح اهلل له حمبة
«متبوع مقدم» على حد تعبريه وكيف ذكر اهلل بني يديه وكيف
انكشف عنه حجاب الغفلة ،وكيف جاءه العلم اللدين الذي
يلوح به أحيانا ويفصح أحيانا وإن كان مل يبلغ يف ذلك ما بلغه
املتأخرون.
إن الغزايل وجه بارز من وجوه املؤمنني الداعني إىل اهلل اجملددين،
ومن فالسفتنا املعاصرين من يتهمه بأنه كان سببا عظيما من
أسباب تدهور املسلمني ألنه صرفهم عن احلياة العامة ودهلم على
اخلالص الفردي التزكية الفدرية .وخنشى أن يكون هتافت هؤالء
أكثر من هتافت الفالسفة الذين سبقوا الغزايل وعاصروه فاستحقوا
418
منه نقدا حارب فيه عامل املسلمني خصومه بأسلحتهم.
يفيدنا وحنن نبحث عن طريق للتجديد يف عصرنا هذا عصر
الفتنة املنتشرة كانتشارها ذاك أو أشد أن خنترب معامل التجديد
عند اإلمام علنا نتعلم من تارخينا درسا .إن الفلسفة يف عصرنا
ولدت أجياال من الفكر مسيت علوما واستقلت وترعرعت حىت
قويت بنظرياهتا ومنجزاهتا اجلبارة .فيبدو أن للفلسفة هبذا املفهوم
الواسع يف عصرنا سطوة مل تكن هلا من قبل ،ويبدو أن مشروع
نقد الرياضيات واملنطق واإلهليات مثلما نقد اإلمام مشروع لن
ننتهى منه لو شرعنا فيه حىت يفوتنا العمر وتفوتنا فرصة لقاء كلمة
احلق .ونصرف جهودنا وجهادنا لتعلم احلكمة من بني وثنيات
العقالنية.
وإن لقاء كلمة احلق لعمل فطري سنده الوحيد هو القلب
الصادق املؤمن املتزكي .كتب الغزال كتبا كثرية وبسط يف إحيائه
طريق التزكي وطلب اآلخرة ،اشتد يف ذلك على منط السلوك
باجملاهدة ،وطلب األسوة من رسول اهلل وصحبه طاويا أربعة قرون
ونيفا ،لكنه ما انفك تلميذا ألجيال الصوفية الذين سبقوه .أخذ
عنهم الزهادة وأخذ عنهم اخللوة اليت قد متتد العمر كله .لكنه
قال كلمة احلق وبلغها أحسن التبليغ حني دلنا على أصحاب
احلق وأعلن أنه وجد احلق مع الصوفية بعد حبث وطلب جادين.
419
وقال كلمة احلق حني أثبت تباين العقل والغيب وأرشد إىل ضرورة
خضوع العقل للغيب الذي هو طور ما فوق العقل .وقال كلمة
احلق حني حدثنا عن جتربته بصدق وقال « :حدث يل كذا وكذا
ورأيت كذا وكذا» ومثل هذه الشهادات قليلة يف تارخينا ،ألن
كثريا من أصحاهبا يكتمون األسرار خمافة فتنة الناس .ولو قد فعل
كل جيل ما فعله أمثال الغزايل وسيدي عبد العزيز الدباغ األمي
واإلمام الشعارين الحتفظ املسلمون باللب الذي ال تسعه السطور
إال إشارة ويسعه قلب العبد املؤمن الذي تصحبه فيصيبك من
صدقه ما يصيبك وتتعلم منه إن ذكرت اهلل صادقا يف طلبك.
قال الغزايل « : 1ودمت على ذلك مقدار عشر سنني،
وانكشف يل يف أثناء هذه اخللوات أمور ال ميكن إحصاؤها
واستقصاؤها .والقدر الذي أذكره ينتفع به .إين علمت يقينا أن
الصوفية هم السالكون لطريق اهلل تعاىل خاصة ،وأن سريهتم أحسن
السري ،وطريقهم أصوب الطرق ،وأخالقهم أزكى األخالق .بل لو
مجع عقل العقالء ،وحكمة احلكماء ،وعلم الواقفني على أسرار
الشرع من العلماء ليغريوا شيئا من سري أخالقهم ويبدلوه مبا هو
خري منه مل جيدوا إىل ذلك سبيال ،فإن مجيع حركاهتم وسكناهتم
يف ظاهرهم وباطنهم ،مقتبسة من نور مشكاة النبوة .وليس وراء
420
نور النبوة على وجه األرض نور يستضاء به».
وقال« : 1اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسري
بطريق اإلهلام والوقوع يف القلب من حيث ال يدري فقد صار
عارفا بصحة الطريق .ومن مل يدركه بنفسه قط فينبغي أن يؤمن
به ،فإن درجة املعرفة فيه عزيزة جدا .ويشهد لذلك شواهد الشرع
والتجارب واحلكايات».
وجاء الغزايل بعد هذا الكالم بشواهد على إمكان التجربة
الشخصية من القرآن والسنة وأخبار الصاحلني من الصحابة
والتابعني .وهو يدعو كما نرى إىل الصحبة والصدق يف الطلب
ويرجع للقرآن معرضا بعلماء الرسوم الذين يسميهم «املتومسني من
العلماء» وهم الواقفون عند احلرفية املنقولة الذين ال يعنيهم من
احلق إال رمسه.
بكل هذا يكون الغزايل رجال يقول ال اله إال اهلل ويدل عليها
فله من مسات اجملدد أمارات علمناها رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم .وله من تأييد اهلل له حيث نفع به أجياال عظيمة من
املسلمني وخلد له يف الصاحلني ذكرا.
أما غناؤه يف اإلسالم وأثره يف إحياء األمة وبعثها من ركام
الفتنة فغاية حاول بلوغها بوسائله ويف حدود ظروفه ،فإن كان مل
يبلغ أن جيدد اإلسالم فينقل عمل املسلمني من املشروع الفردي
421
للمشروع اجلماعي فمرد ذلك النفراد الدعوة اليت قام هبا ولغياب
الوازع السلطاين .فقد كان اخللفاء من بين العباس سادرين يف
غفلتهم مل يلقوا باال إىل ما يعلمه اإلمام من شروط اإلمارة
ومل يستجيبوا .وكان من رفقه رمحه اهلل أن عقد فصال يف كتابه
«فضائح الباطنية» عنونه كما يلي « :الباب التاسع يف إقامة
الرباهني الشرعية على أن اإلمام القائم باحلق الواجب على اخللق
طاعته يف عصرنا هذا هو اإلمام املستظهر باهلل حرس اهلل ظالله».
يف زمن فتنة خرج الغزايل من عزلته وخلوته بعد تردد وكتب
إحياءه فضمنه نقدا ألحوال العامة واخلاصة ،ونقد امللوك واألمراء
ونعى عليهم ظلمهم .فكان كتابه إرشادا خلقيا بقدر ما كان
دعوة عامة إلصالح األمة .دعا رمحه اهلل إىل العلم والرفق وذكر يف
كل صفحة بضرورة متريض القلوب وتطبيبها ،ووضع أصبعه على
موطن الداء املزمن منذ عصره ،والذي استفحل منذئذ بالتكديس
التارخيي لرتاث الفتنة ،وعندما افتقد أطباء للقلوب فلم جيد إال
طالبا للدنيا .قال « : 1فإن األطباء هم العلماء» للقلوب وقد
استوىل عليهم املرض ،فالطبيب املريض قلما يتلفت إىل عالجه.
فلهذا صار الداء عضاال ،واملرض مزمنا .واندرس العلم ،وأنكر
بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها ،وأقبل اخللق على حب الدنيا
422
وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادادت ومراآت».
وقال « : 1باجلملة إمنا فسدت الرعية بفساد امللوك ،وفسد
امللوك لفساد العلماء .فلوال القضاة السوء والعلماء السوء لقل
فساد امللوك خوفا من إنكارهم».
هكذا نرى أن الفتنة يف عصرنا هي الفتنة دائما .ونرى أن
ديدان القراء هم دائما عبدة الطاغوت ،كان صنفهم يومئذ من
العلماء وهم اليوم من علماء الرسوم ومن «املثقفني» مييت العقل
واهلمة .وال يزال امللوك واألمراء ومن يف معناهم كما عرفهم الغزايل.
مل يلق اإلمام استجابة من الناس ،ومل يلق قيادة جهادية
تتقبل الدعوة وحتملها كما محل األنصار الكرام دعوة رسول اهلل
وجاهدوا عليها حىت انتصر احلق .وصرب اإلمام طويال ينتظر من
أمثال املستظهر أن يهبوا لنصرة اإلسالم فكان كنافخ يف رماد.
فلما طال به االنتظار وأعيته سبل الرفق ،يربهن تارة على أن
املستظهر حق وينسب الفساد للملوك واألمراء تارة ،حزم أمتعته
لريحل إىل جمدد العصر الكامل الذي مل يكن له علم الغزايل وكان
له توفيق اهلل وكان له القلب الطاهر قلب اجملاهدين يف سبيل
اهلل .إنه أمري املسلمني يوسف بن تاشفني .رباه الصوفية وأحيوا
قلبه بصحبتهم الزكية .وذكر اهلل فخرج رجال صادقا جماهدا بعثه
423
اهلل رمحة فأحيا األمة كما سيبعث اهلل لنا إماما يوقظنا من الغفلة
وجيدد لنا ديننا .فوعده احلق ،وترقبه صدق ،وما اهلل بغافل عما
يعمل الظاملون.
وتويف ويل اهلل تعاىل اجملاهد أمري املسلمني قبل أن يلحق به
حجة اإلسالم وإمام العلماء .فرمحهما اهلل ورمحنا.
لقد قوي الرجالن على الفتنة واقتحما العقبة بصحبة
الصادقني ،ذاك ملك الدنيا فأهاهنا كما أهاهنا موالنا اإلمام علي
بن أيب طالب كرم اهلل وجهه ،وهذا خاض تيار الفتنة من بني
املرتزقة من ديدان القراء املتملقني ومن بني ملوك وأمراء متسلطني
يفيت بأن أمواهلم حرام كلها أو جلها ،ويفضح هنب الوزراء وأرباب
الدولة ملال املسلمني ويأمر باملعروف وينهى عن املنكر .وقيض
اهلل له وبه رجال أمر باملعروف وهنى عن املنكر ،وخاض الفتنة
كما خاض شيخه وهو السيد الكرمي حممد بن تومرت .فبعد
وفاة اجملاهد العظيم ابن تاشفني عادت أمور األمة لغي وفساد
واستحال جهاد أمري املسلمني مزامحة على امللك ،وما قامت،
خالفة نبوية دائمة بل قامت دولة بنت القصور وأفسدت األمور
فسلط اهلل عليها سوط العذاب بيد رجل ال زال التاريخ جيهله وإىل
الشعوذة ينسبه ،أعين حممد بن تومرت الذي جتد يف كتب التاريخ
من القدح فيه حتامال فظيعا.
424
كلمات خترق السكون
متضي مثانية قرون على املسلمني منذ الغزايل استمر فيها
احنسار اإلسالم عن ميدان العمل إال يف بقعة واحدة من بقاع
دار اإلسالم هي بالد الدولة العثمانية .مثانية قرون قيض اهلل فيها
عباده الكافرين من التتار فاقتلعوا جذور احلضارة وأفنوا املسلمني،
وأصاب اهلل بفتنتهم املظلوم والظامل جزاء وفاقا لألعراض املسلمة
املنتهكة يف القصور وحلرم اهلل اليت أهينت .فلوال كان من املؤمنني
أولو بقية ينهون عن الفساد يف األرض ملا أجنى اهلل بفضله حشاشة
من هذه األمة .وإهنا ألمة رسوله احلبيب ،حقت هلا شفاعته
وحلقتها عناية اهلل بأهل بيته املطهرين.
ومن أهل البيت سلمان الفارسي ومنهم جند اهلل من
املماليك العجم الذين كانوا يتلون آيات اهلل ويذكرون اهلل ويعظمون
أهل البيت من أمثال الشيخ أمحد البدوي رضي اهلل عنه الذي كان
الظاهر بيربس خيرج للقائه جبنده يعظمه ويتربك به .فال عجب أن
حمق جند اهلل املؤمنون جنده الكافر .وال عجب أن أسلم التتار
على يد أهل البيت رجال الطريق الصوفية.
وكانت آية اهلل التالية بعد اندحار التتار مث إسالمهم أن
بعث اهلل من هؤالء العجم البداة أمة جماهدة كان درة عقدها ويل
425
اهلل تعاىل اجملاهد يف سبيله سيدي حممد الفاتح العثماين.
ال عجب أن يكون ذلك كذلك ،فإن حممدا العثماين كان
امرءا صاحب األخيار ،ومل يفتح القسطنطينية إال بإذن شيخه
السيد اجلليل « آق مشس الدين» أمره بأن يصوم وجنده ثالثة
أيام ،مث استفتح بالتكبري والتهليل ،وخرت من بعد ذلك أسوار
اجلاهلية ،وارتفعت يف أحناء أوربا الدولة أصوات مؤمنة دعت إىل
اهلل ورفعت كلمته ،إىل أن أترفت الدولة بطغيان املتكربين ،وإىل أن
ابتعث اهلل عبده الكافر مصطفى كماال فعاث يف األرض فسادا.
وإن اهلل ليخضد شوكة الكفر يف بالد حممد الفاتح ،وإن األمة
املسلمة العظيمة يف بالد الرتك ال تزال قلوهبا مؤمنة برهبا ذاكرة
المسه مرتقبة ليوم يرفع فيه اللواء لتحمل الرسالة كما محلتها عدة
قرون.
ويف القرون الثمانية ازدهرت حضارة يف األندلس حلق جمدها
للثريا ،وكان هلا العلم وكانت هلا القوة ،مث حتول كل ذلك فأصبح
أثاثا ورئيا مما حيمله سيل التاريخ فيلقي به يف املتاحف حمنطا فتهفو
عقول املسلمني لذلك اجملد ولتلك احلضارة وال تعترب بالكارثة
العظيمة اليت جرها املرتفون ملوك الطوائف على أمة اإلسالم
املستضعفة .ووطئ املسلمون يف األندلس بأقدام اجلاهلية وضرسوا
بأنياهبا ،وسيموا اخلسف وأرغموا على الردة .فيا هلف نفسي
426
على املسلمني يومها ويا هلف نفسي على فتية عصرنا كالفراشات
أغراهم هلب اجلاهلية فهم فيه يتهافتون ! وإنه ال حول وال قوة إال
باهلل العلي العظيم ،له اخللق واألمر وال اعرتاض على قضائه .لكننا
ندعوه وندعو أنفسنا ،وا إسالماه! .
ركد املسلمون بعد هذه القرون حتت تراث غين جدا وحتت
عادات مرتاكمة جدا ترجع كل قوم لعصبياهتم فهي تربة خصبة
للفكر اجلاهلي والعنف اجلاهلي ،مستعدة ،كانت ،لالستعمار
الذي بذر وحيصد .فأما العلماء فمقلدة يسدنون جثة املرياث
الفقهي ،وأما احلكام فعناصر من العث املزمن داؤه املعضل
دواؤه ،وأما الصوفية فصريوا الرباط زواية ،ومتكن بذلك أصحاب
البدع وأدعياء املرقعة واملسبحة من عقول األمة وأمواهلا .يأخذون
وال يبذلون ،ويهون عليهم أن يلبسوا الشارة ويتمتعوا باألدعية
مادام األمر دعة وكسال ،وما دامت مفاهيم الزاوية أبعد األفكار
عن معاين الرباط واجلهاد .عاد الصدق تدليسا وعادت اإلرادة
والطلب أحبولة لصيد املغفلني .ومن بني كل هؤالء أىن لك أن
متيز الصادقني ؟.
وقامت الدعوة الوهابية فهدمت األضرحة وخربت التكايا
وحرمت السبح .وكان ما كان مما لست أذكره ،فلنحن إىل اجلمع
والصلح أحوج منا إىل غريه ،وما يهمنا إن كان من املسلمني من
427
ينكر مقام الرسالة وينكر التوسل جباه حممد صلى اهلل عليه وسلم
وينكر أن يذكر امسه بلفظ السيادة .إننا يف حاجة لبعث إسالمي
وإن كان لقاء الدعوة الوهابية بالقيادة املقاتلة قد حرر البلد
الطيب ومحاه من األجنيب فال يزال املسلمون يرتقبون فيض القوة
الذي حيررهم من الشرك حقا حتريرا يفرق بني اجلاهلية واإلسالم
وال جيعل بأس طائفة على طائفة يكفر هذا ذاك.
نعرب هذه القرن عبورا سريعا لنجد الفتنة يف القرن الرابع
عشر كالفتنة يف عصر الغزايل ،ولنرتقب أمارات التجديد املوعود
وآثاره بيننا.
وجد حممد عبه هذه الفتنة وترىب يف أحضاهنا ،فحفظ
القرآن والتقى يف فجر حياته خبال له صويف جمرى أفكاره ونفخ
فيه حمبة العلم وطلب احلق .وكان هذا اللقاء أول عهد الشيخ
بالصوفية وأول لقاء يذكره مدى احلياة .ولقي بعدها رجال جاء
من الشرق هامت حوله وحول دعوته العقول املسلمة منذ ما
يقرب من قرن هو السيد األفغاين .وتدور حوله اليوم شبهات ال
شأن لنا هبا إذ يكفينا أن نتبصر يف عمل صاحبه وتابعه الشيخ
حممد عبده.
استقر جهاد الشيخ آخر األمر على حماولة إصالح األزهر
وإصالح التعليم بعد نضاله جبانب أستاذه وبعد خصامه له.
428
بدأ هذا النضال بدعوة األفغاين الذي احتك بأوربا يف
مستعمراهتا فأتى يبشر أمة اإلسالم النائمة مبصر أن املوتى يبعثهم
اهلل إن حتركوا حبركة كحركته .وكان الرجل داهية ذكيا ،وكان قليل
الورع طويل اللسان ،فتبعه عبده وانفتح للشيخ األزهري نافذة
على العامل تفظي بضوئها من اجلمود القدمي ،ورحل إىل أوربا مع
أستاذه يف مشروع بطويل مل يدرك الشيخ عدم جدواه إال بالتجربة
املريرة الطويلة ،فعرب عن ذلك وعن أسفه على اجلهود الضائعة إذ
متىن يف أخرياته أن لو كان له عشرة مريدين يربيهم تربية صوفية،
وإذن لكان حلياته مغزى ! وهيهات فما يريب الرتبية الصوفية إال
رجل ذكر اهلل بني يدي الصادقني حىت انكشف له ما انكشف
للغزايل وأمثاله !
كان األفغاين رجل سياسة خالط يف مصر حمافل املاسونيني،
وإن لرجال السياسة الالبسني هلا لبسوها ملعرفة بدخائل األمور
وحدسا مييزون به بني السمني الذي يتيح غنيمة وبني اليابس
الذي يومهك بطراوته ليمتص دماءك .فما بال األفغاين يرمتي
وسط املاسون ؟ وما باله بعد أن عادى حمفله يؤسس حمفال
ماسونيا للمسلمني ؟ أم ما بال تلميذه بعد ذلك يؤسس مجعية
رغم أهنا تقرب بني األديان؟
إن دين اهلل لواحد ،فأما أن نوحد اليهودية احملرفة اليت
429
أحالت دين اهلل املوحى به لنبيه موسى بضاعة مفرتاة ونوحد
املسيحية املطهرة اليت جعلوها وثنية ثالوثية بإسالم املناسبات
الذي احنسر عن العمل وأصبح نفاقا اجتماعيا فذلك جائز.
وأما أن نظن أن دين اهلل يكون دين اهلل والعقول واأليدي تتناوله
بالتأويل والتقليل فعسري فهم ما يبعثه خاصة من لدن رجل عامل
ترىب باألزهر.
سافر الرجالن لباريس وأسسا صحيفة حتمل امسا إسالميا
براقا هو اسم «العروة الوثقى» .وكان للصحيفة صدى وكان هلا
وللفكر الذي نشرته أبعد األثر يف النهضة العربية املعاصرة لندع
ما اقرتفه الشيخ عبده رمحه اهلل من تأويالت للغيب ومن تأويل
يف القرآن فإن ذلك مما يغفره اهلل إن شاء جملتهد مل يفتح عينه
من نومة القرون إال على وهج اجلاهلية يف أوربا عالية مستكربة
تناطح النجوم بعجرفتها العلومية يف أواخر قرن الفلسفة الوضعية
فبهرته .ولنتأمل هذا الفكر اجلديد الذي يف الصحيفة حيث فكر
األفغاين ببيان الشيخ .هذا الفكر سيطر على التلميذ مدى حياته
رغم خصامه ألستاذه .وهذا الفكر هو األصل لكثري مما نراه من
نزعات القومية ومن سوء فهم لإلسالم يف عصرنا .ولئن كانت
فلسفة عبده الكالمية يف «رسالة التوحيد» كلمة جديدة بعد
سكتة القرون ،فإن الصحيفة الباريسية كانت حتمل كلمات كثرية
430
حديثة العهد جباهليتها صيغت آلذان عربية مسلمة .وقبلها كنت
ال تسمع هذه الغنة القومية يف الكلمات اإلسالمية.
افتقد األفغاين وتلميذه الشيخ يف واقع املسلمني روح اجلماعة
فما مسعوا نأمة ،وحدثوا قراءهم عن اجملد الغابر وعن دولة املسلمني
الذين « :دمروا بالدا ودكدكوا أطوادا ورفعوا فوق األرض أرضا
ثامنة من القسطل (غبار احلرب) وطبقة أخرى من النقع (هو
القسطل) ،وسحقوا رؤوس اجلبال حتت حوافر جيادهم ،وأقاموا
بدهلا جباال وتالال من رؤوس النابذين لسلطاهنم ،وأرجفوا كل
قلب وأرعدوا كل فريصة .وما كان قائدهم وسائقهم إىل مجيع
هذا ،إال اعتقاد بالقضاء والقدر».1
كان حتليل املستشرقني لتدهور اإلسالم يعيد األسباب للعقيدة
باجلرب ،وتنسب كسل املسلمني ووهنهم إىل سلبية العقيدة .فجاء
رد الصحيفة عنيفا مزجمرا يثري نقع القوم األولني ،يرجو بذلك أن
جيدد للراقدين حياة .رجل صفحات العروة على هذا النمط من
ذكر األجداد الفاحتني األقوياء.
ولعل تعيري األحياء باألموات ،وتعيري احلاضر باملاضي كان
يثري إميانا وجيدد عزما ،لو دخل يف سياق إسالمي منسجم مع
داعي الرتبية وتطبيق اجلسم اإلسالمي املريض .لكنه مل يثر إال
431
محية وعصبية كان منها هذه النهضة اليت محل لواءها الشيخ رشيد
رضا يف مناره ،وحتولت عرب فكره دعوة إسالمية أكثر وضوحا من
دعوة الشيخ عبده وأستاذه .كان اجليل الثالث مع السيد رشيد
رضا يسمي الدعوة سلفية ،وأهم معامل هذه السلفية الرجوع إىل
العهد األول ،وهذا شيء مجيل ألنه ال يقف مع النقع والقسطل
وإمنا حياول أن يستمد من املعني األصيل .بيد أن هذه السلفية
إمنا بنيت يف الواقع على أساس فكر الشيخ عبده فصاغته صياغة
«تناسب العصر» وأولت القرآن وختففت عن ذكر الغيب،
وجردت العقيدة اإلميانية باهلل ورسله ومالئكته وجنته وناره من
عامل اإلنسان لتضعها يف عامل تأملي حبيث يتاح هلا أن حتاج
املستشرقني تدافعهم عن اإلسالم مبنطقهم .ورحم اهلل األستاذ
رضا وجازاه بنيته عن املسلمني ،فقد جاهد جهاد املؤمنني .ولسنا
ندري ما يتحمل من نصيب يف توجيه إسالم اجليل الرابع جيل
العقاد .كان جيال مفتونا رجع بعضه لإلسالم ليتغىن «بالعبقرية
النبوية» ضمن العبقرية العربية وال غيب وال روح .وهؤالء مسلمون
أقرب إلينا من أصحاب اجلامعة امللحدين األكمه منهم واألعمى.
1
هم أقرب إلينا وإن يكن منهم عبد الرزاق وخالد حممد خالد.
أدرك حممد عبده أن النفوس والعقول يف دار اإلسالم مريضة
432
فما وصف العالج وإمنا انتظر أن تدفع العقيدة املسلمني لعمل
جاد .ومل يسأل أين العقيدة ؟ مل يضع السؤال على صيغته احلق:
هل حنن مسلمون؟ فقد كانت من املسلمات عنده وعند من
جاءوا بعده أننا مسلمون ضربة الزب ،وأن اإلسالم ليس إال
اإلسالم الفردي ،وال جيمع اجلماعة إىل العصبية كما ينص على
ذلك أصحاب الصحيفة بإحلاح شديد .تقول الصحيفة: 1
«ولكي أقول ،وحق ما أقول ،أن هذه امللة لن متوت ما دامت
هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوهبم ،ورسومها تلوح
يف أذهاهنم ،وحقائقها متداولة بني العلماء الراسخني منهم .وكل
ما عرض عليهم من األمراض النفسية واالعتالل العقلي فال بد أن
تدفعه قوة العقائد احلقة (هكذا) ،ويعود األمر كما بدأ وينشطوا
من عقاهلم ،ويذهبوا مذاهب احلكمة والتبصر يف إنقاذ بالدهم،
وإرهاب األمم الطامعة فيهم وإيقافها عند حدها».
إن هناك أمراضا وعلال ،وستذهب إن أنشأنا عالقة عصبية
تساعد رباط العقيدة وتدعمه ،ولتبق حقائق اإلميان عند العلماء
الراسخني ! هكذا نفهم وهكذا فهم اجليل الرابع.
2
خصصت الصحيفة مقاهلا الرئيسي يف أحد األعداد
لتتحدث للمسلمني عن التعصب ومزيته ،ومعىن التعصب يف
لغة العصر القومية ووصف العصيبة يف احلديث النبوي أهنا
1نفس العدد
28 2مجادى الثانية 24 - 1301أبريل 1884
433
منتنة .تقول الصحيفة « :فالتعصب وصف للنفس اإلنسانية
تصدر عنه هنضة حلماية من يتصل هبا والذود عن حقه… هذا
الوصف هو الذي شكل اهلل به الشعوب وأقام بناء األمم .وهو
عقد الربط يف كل أمة بل هو قوة الصحيح يوحد املتفرق منها
حتت اسم واحد ،وينشئها بتقدير اهلل خلقا واحدا كبدن تألف
من أجزاء وعناصر تدبره روح واحدة …كلما ضعفت قوة
الربط بني أفراد األمة بضعف التعصب فيهم اسرتخت األعصاب
ورثت األطناب ،ورقت األوتار ،وتداعى بناء األمة إىل االحنالل
كما يتداعى بناء البنية البدنية إىل الفناء ،بعد هذا ميوت الروح
الكلي (يقصد روح اجلماعة) وتبطل هيئة األمة وإن بقيت
آحادها فما هي إال كاألجزاء املتناثرة .أما أن تتصل بأبدان
أخرى حبكم ضرورة الكون وأما أن تبقى يف قبضة املوت إىل أن
ينفخ فيها روح النشأة اآلخرة .سنة اهلل يف خلقه :إذا ضعفت
العصيبة يف قوم رماهم بالفشل».
وهكذا فرتكيب األمة املسلمة كرتكيب سائر األمم ،رباطهم
العصبية بقوام املزاج الصحيح .وبعث اإلسالم لن يكون إال
بتجديد عصبية كما ذهب ريح املسلمني لفقدان العصبية ،ويف
هذا الوادي هام املسلمون ويهيمون.
يرحم اهلل الشيخ األزهري فإننا ال نتهمه يف إخالصه ،ونعذر
434
قصوره عن مرتبة اجملددين ،فقد فاته صحبة الرجال وما يبقى لنا
إال تأسفه آخر حياته على عشرة يربيهم بدال من املاليني اليت
خاطبها من منربه بباريس خطابا ملتهبا باحلماس والغرية ال يتعدى
مع ذلك نطاق الفكر لعصره وال يطلب إال حلاقا باألمم على نسق
بنائها وحبافز التعصب على غرار حوافزها .ووراء كل هذا اجلهاد
حنني إىل النقع والقسطل واجملد الغابر ،وال تزال هذه األمة تنتظر
من جيدد هلا إمياهنا بال إله إال اهلل ويبدئ هلا نشأة جديدة بالرتبية
الصوفية اليت انتهى إىل ضرورهتا الشيخ اجلليل رمحه اهلل رمحة واسعة
ورمحنا .وقد آن األوان واهلل املستعان.
435
من جيدد ؟
يف السنة األوىل من القرن الرابع عشر ارتفع نداء من دار
الفكر حرق سكون الفكر اإلسالمي املزمن .وكان صوتا جديدا
حقا وإن كان ال يتميز عن اجلاهلية إىل مباض جميد وعصبية تناطح
العصبيات .وذهب قومنا العرب كل مذهب من بعد الشيخ عبده
ونبغ منهم من ثار على الدولة العثمانية املريضة فزادها مرضا
وضعفا ،ونبغ منهم امللحدون وأصحاب اإلسالم القوي العبقري.
ويف دار اإلسالم برب اهلند برز رجل حيمل القلم ويتحدث عن
اإلسالم بنصاعة وقوة يثبت بذلك أن اإلسالم ما كان قومية وال
عصبية ولن يكون ،وإن اهلل عز وجل ال يرضى ألمة رسوله أن
حتمل لواء التفرقة العنصرية يف أية حلة جاءت وحتت أي شعار.
هذا هو األستاذ السيد أبو األعلى املودودي صاحب اجلماعة
اإلسالمية بباكستان .حترر من الفكر «اإلسالمي العصري» ،الذي
محل رايته السيد أمحد خان كما محل رايته األستاذ رشيد رضا يف
أرض العرب ويف كل أرض ،حتررا جزئيا .بقي لديه اجلهل املطبق
بالرتبية الروحية والصحبة ،وعمم الشكوى من الصوفية ومل يستثن إال
أصحاب الرموس من أمثال ويل اهلل تعاىل سيدي أمحد السرهندي
وسيدي ويل اهلل الدهلوي .وكان صاحبنا ال يرى العصر إال بنور
436
العقل ،فهو يدعو ملا يسميه «بالقومية الفكرية» ،يعترب اإلسالم
فكرة واقتناعا عقليا منطقيا ،وينسجم هذا يف ذهنه وكتبه مع اإلميان
باهلل وغيبه ومع التمسك الشديد بالسنة ،فيما نقرأ.
وإن من العسري جدا أن تقول ملعاصريك كلمة ال تدري
أتنفع وتلم الشعت أم جترح وتسبب الفرقة .سيما واملسلمون
اليوم أضعف ما كانوا ،فهم يف غىن عن التنافر والتدابر .لسنا
ننكر فضل الرجل وسابقته يف الدفاع عن اإلسالم ولن يضيع اهلل
أجر املخلصني .لكننا نبحث كما يبحث رجال مجاعة املودودي،
على ما قص يف أحد كتبه ،عن روحانية اإلسالم األول :أين هي
وكيف تكتسب؟ .وقد رد املودودي على أصحابه أن حنينهم إىل
الزوايا وأصحاهبا إمنا هو قناعة بالركود واجلهل ،وأن عقد الرباط
مع اهلل يف وسع كل امرىء يتخفى بنوافله ويتلو كتاب ربه ،وكتب
يف هذا كتيب مساه « :تذكرة دعاة اإلسالم».
اإلسالم كقومية فكرية يستلزم صحبة فكرية ومجاعة فكرية.
ذلك ما كنت تفهمه من الكتب السابقة للسيد اجلليل .وإن
كان يف خالل كتبه يتبني أن عند الرجل إدراكا ملقومات اخللق
اإلسالمي واجلهاد منافية ألصحاب اإلسالم الثقايف السياسي
أمثال مجاعة النبهاين صاحب «حزب التحرير» .يف كتاب «تذكرة
دعاة اإلسالم » حتدث السيد املودودي عن اإلسالم الفردي
437
واجلماعي وعن مقومات اجلهاد حديثا يسلينا عن أمل الدعوات
القومية وميسح نكاثها ،مث ال يضع إصبعنا على نقطة البداية بل
يدع لكل امريء أن جيتهد ويريب نفسه.
ليس يف كتب الشيخ الوقور ما ينم ولو من بعيد على
أنه ولو مرة يف هذه الشهادات اليت قدمها لنا رسول اهلل صلى
اهلل عليه وسلم وورثته ،وفصلها لنا القرآن ،واليت تتلخص يف أن
العبد إن تزكى وذكر اسم ربه فصلى حيبه اهلل ويكمله ويلحقه
باملأل األعلى ويصبح مسعه وبصره ،وخيلده مع النبيئني والصديقني.
هؤالء الصوفية شهدوا وال يزالون يشهدون أن ما وعد اهلل املتقربني
إليه ينجزه هلم وعدا غري مكذوب إن سلكوا الطريق وعثروا على
الرفيق .هؤالء الصوفية شهدوا وال يزالون يشهدون أن اهلل عز
وجل يفتح على عبده املتزكي يف دار الدنيا فريى ويسمع ما ال
يراه وال يسمعه الغافلون ،ويلهمه اهلل عز وجل وحيدثه حتديثا
ويوفقه توفيقا .هؤالء الصوفية أطوارهم غريبة :إن تقواهم وزهدهم
وأخالقهم وكرامتهم املتصلة الواصلة بعامل الغيب خرب متواثر وواقع
حاضر ،لكن ما باهلم قابعني يف الزوايا ،وما باهلم ال يعرف
الدخيل منهم واألصيل؟.
ومن كان طالبا للجهاد يتعذر عليه أن يهتدي إىل جلية األمر
حىت ولو كان أمامه مثال اجلماعة املؤمنة من «رجال التبليغ»
438
اجملاهدين الذين حياكون بتقللهم وصربهم وهجرهتم اجلماعة
األوىل .ومن كان كالشيخ املودودي العامل يف حقل الدعوة منذ
مخسني سنة أو يزيد ،فإنه جيمع لنا علما غنيا باجتهاده ويؤثل
لنا جتربة عملية سياسية ،فيها الكفاح والنضال واإلخالص ،لكن
فيها أيضا ما يقتضي أن تتخزب اجلماعة وتنتخب امرأة ضالة أو
كافرة لرئاسة اجلمهورية.
لنأخذ من السيد املودودي علمه ،ما نتعلم منه ونعترب بعد
اعتبارنا من كفاحه بأن اإلسالم املتحزب مع األحزاب ،يقبلها
ندا ويقبل أسلوب عملها أسلوبا ،ال يؤدي إال النشقاق املسلمني
وضياعهم يف غيابات الفتنة .مامل نوضح للشعب فرق ما بني
الدميقراطية الالئيكية اليت تتمذهب هبا األحزاب وبني الشورى اليت
هي مذهب اإلسالم.
يقول السيد يف وصف اجلماعة املؤمنة بعد أن ذكر الصفات
الفردية للمسلم يلخصها يف حديثه صلى اهلل عليه وسلم حيث
قال « :أمرين ريب بتسع :خشية اهلل يف السر والعالنية ،وكلمة
العدل يف الغضب والرضى ،والقصد يف الفقر والغىن ،وأن أصل
من قطعين ،وأعطي من حرمين ،وأعفو عمن ظلمين ،وأن يكون
صميت فكرا ،ونطقي ذكرا ،ونظري عربة ،وأن آمر باملعروف وأهنى
439
عن املنكر ».يقول بعد هذا « : 1وعالوة على الصفات الفردية
املذكورة آنفا ،فإننا حنتاج إىل نوع آخر من الصفات واألخالق
لتأسيس حياتنا اجلماعية واحملافظة عليها ،إنه مما ال غىن لنا عنه
إلحكام نظام مجاعتنا والزيادة من متاسكه ونفعه ،أن يكون بني
أعضائنا التحاب والتواثق والتعاون وأن يكونوا معتادين للتناصح
والتواصي بينهم باحلق والصرب ليتقدموا بأنفسهم ،ويقدموا معهم
غريهم يف سبيل الدعوة .إنه ال غىن عن هذه الصفات لنظام أي
مجاعة يف األرض ،وإال فلو ختلق كل فرد يف ذاته بأعلى ما يكون
من الصفات اجلميلة واألخالق احملمودة ،ولكن بدون أن يكونوا
مرتبطني بينهم متخلقني بالصفات اجلماعية املذكورة ،فإهنم ال
يستطيعون أبدا أن يقوموا يف وجه الباطل ويقارعوا أهله مقارعة
الند للند».
ما أحسن هذا الكالم وما أبعدنا عن دعوة العصبية ومماثلة
األمم يف نشأهتا وتكوينها ! إن هنا حديثا عن احملبة والتواصي
والتناصح ،وفيه متيز الباطل عن احلق يسمى باطال يقارعه احلق
اإلسالمي .هذا كالم مشرق ،وفيما يتلو من هذا الفصل يذكر
الشيخ بأن كثريا من املسلمني يتحلون بصفات صاحلة لكنهم ال
يقوون على تكوين مجاعة .ويقول « :وأقول إن الذين قد ارتقوا
440
إىل األعلى منزل الصالح الفردي ،فإن غاية ما جاءوا به أن أثروا
بسريهتم على بضع مآت أو بضع آالف من األفراد مث مضوا إىل
رهبم تاركني وراءهم آثارا تدل على تقدسهم وعلو سريهتم ،ولكن
ال يكفي هذا الطريق ألن تتم به أعمال اجتماعية كبرية».
جلي جدا أنه يعين املشايخ الصوفية من أمثال من يذكر
فضلهم يف كتابه «موجز تاريخ جتديد الدين وإحيائه» .ما رأى
إال أصحاب الزاوية الصاحلني ومل يعرف اجملاهدين املؤمنني عمار
الرباطات الصوفية ،وهو يؤرخ حياة جهادهم ! وهكذا يتعذر على
علماء املسلمني األجالء يف عصرنا كما تعذر عليهم فيما مضى
إال قليال اجلمع بني الصالح الفردي والتزكية الفردية وبني احلياة
اجلماعية واجلهاد اجلماعي ،والكتاب املذكور يقدمه عاملنا بوصف
واسع للجاهلية وخصائصها ويذكر كيف بلي إسالم املسلمني
وكيف أنشبت فيهم اجلاهلية رجسها ،ويصف جاهلية عصرنا
ليمهد حلديثه عن التجديد يف العصور اإلسالمية املاضية وعن
خصائص اجملدد .وذكر من اجملددين عمر بن عبد العزيز واألئمة
األربعة ،والغزايل وابن تيمية والشيخ السرهندي وويل اهلل الدهلوي
والشيخان أمحد وإمساعيل الشهيدان .وحنن نضع معه السؤال عن
اجملدد ،وكيف هو ومن أين يأيت وما يعمل وكيف يعمل ،إن كان
الشيخ قد اهتدى إىل أن تكوين اجلماعة ال بد من جمدد جيمع
441
القلوب واهلمم على احملبة والتواصي باحلق فقد أصاب واهتدى،
لكن من جيدد ؟ وما هو التجديد؟
يذكر املودودي الفرق بني من جيدد يف الدين وبني جتديد
الدين فيقول« : 1التجديد ال يكون عبارة عن التماس الوسائل
ملساملة اجلاهلية وال هو عبارة عن أعمال خلط جديد من اإلسالم
واجلاهلية ،بل التجديد هو تنقية اإلسالم من كل جزء من أجزاء
اجلاهلية ،مث العمل على إحيائه خالصا حمضا على قدر اإلمكان
ومن هنا يكون اجملدد أبعد ما يكون عن مصاحلة اجلاهلية ،وال
يكاد يصرب على أن يرى أثرا من آثارها يف أي جزء من اإلسالم
مهما كان تافها».
ويف نفس الصفحات يعرف األستاذ اجملدد بذكر خصائصه
ويضع برنامج التجديد وخطواته .وهو تارة يشري إىل ضرورة أن
يكون اجملدد ذا روحانية عالية « مزاجه أقرب إىل مزاج النبوة».
وتارة ينسى الربانية والرتبية الروحية فيجعل وظيفة اجملدد أن يبعث
«العقلية اإلسالمية اخلالصة» .وهبذا يكون األمر عنده فكرا يف
فكر .وليس يدرك معىن الروحانية من مل يسلك إليها الطريق ومل
يقتحم إليها العقبة فيجلس تلميذا بني يدي رجل يعلمه احملبة
ويعلمه اإلحسان ! على أن الرجل رمحه اهلل وأمثاله من علمائنا
442
جبال راسخة من اإلميان رمحهم اهلل ورفع مقامهم.
يقول األستاذ « :إن اجملدد ال يكون نبيا ،ما يف ذلك
شك ،ولكنه يكون يف طبعه ومزاجه أقرب إىل مزاج النبوة .ومن
اخلصائص اليت ال بد أن يتصف هبا اجملدد :الدهن الصايف ،والبصر
النفاذ ،والفكر املستقيم بال عوج ،والقدرة النادرة على تبيني سبيل
القصد بني اإلفراط والتفريط ومراعاة االعتدال بينهما ،والقوة
على التفكري اجملرد من تأثري األوضاع الراهنة والعصبيات القدمية
الراسخة على طول القرون ،والشجاعة واجلرأة على مزامحة سري
الزمان املنحرف ،واألهلية املوهوبة للقيادة والزعامة ،والكفاية
الفذة لالجتهاد وألعمال البناء واإلنشاء .مث كونه – مع ذلك
كله – مطمئنا قلبه بتعاليم اإلسالم ،وكونه مسلما حقا يف وجهة
نظره وفهمه وشعوره ،مييز بني اإلسالم واجلاهلية حىت يف جزيئات
األمور ،ويبني احلق ويفصله عن ركام املعضالت اليت أتت عليها
القرون .فهذه اخلصائص اليت ال ميكن أن يكون أحد جمددا بدوهنا.
وهي الصفات اليت تكون يف األنبياء واملرسلني مكربة مضاعفة».
لنمض مع الرجل فنقرأ أن من اجملددين من يكون كامال وهو
مقام ال يبلغه أحد يف نظر األستاذ منذ ظهر اإلسالم إىل اآلن،
وقد كاد يف نظره أن يكونه عمر بن عبد العزيز .ولألستاذ بعد
هذا كالم مجيل يف حاجة املسلمني إىل رجل مهدي األمة يف
443
انتظاره ،وله نقد صاحل للعقيدة الشعبية اليت تتصور أن املهدي
سيايت من تكايا الصوفية بعمامته وسبحته يقارن العلماء أوصافه
مبا عندهم من أخبار عنه ،وختر لرؤيته الدبابات العدوة .ويقول
بعد هذا « :فالذي أقدره وأتصوره أن اإلمام املنتظر سيكون زعيما
من الطراز األحدث يف زمانه بصريا بالعلوم اجلديدة بصر اجملتهد
املطلع ،ويكون جيد الفهم ملسائل احلياة ،ويربهن للعاملني رجاحة
عقله وفكره وبراعة تفكريه السياسي ،وكمال حذقه لفنون احلرب،
ويبذل كل أبناء زمانه اجلهد يف تقدمه وارتقائه .وإين ألخشى
أن حضرات املشايخ ورجال الدين هؤالء هم يكونون أول من
يرفع النكري على رجحانه إىل الوسائل العصرية وعلى طرقه احملدثة
لإلصالح».
ويفصل األستاذ بعد هذا شعب التجديد كما يلي ملخصا
من نصه :
.1تشخيص أمراض اجملتمع اإلسالمي املوروث وتبني مواقع
اجلاهلية يف حياة الناس وكيف سرت عدوى اجلاهلية إىل املسلمني.
.2تعيني مواضع الفساد اليت ينبغي أن تعاجل بالشذب
والضرب لكي تزول غلبة اجلاهلية .وحيدد يف هذه النقطة ما نعرب
عنه حنن باللفظ املأثور :العمل بوازع السلطان.
.3اختبار اجملدد نفسه وتعيينه حدود عمله ،وتقديره قوته
444
ومقدرته ،واختيار الناحية اليت يرى نفسه قادرا على إصالح األمر
منها» هكذا بلفظه.
« .4السعي ألحداث االنقالب الفكري والنظري ،أي تغيري
أفكار الناس وطبع عقائدهم ومشاعرهم ووجهة نظرهم اخللقية
بطابع اإلسالم .وإصالح نظام التعليم والرتبية ،وإحياء العلوم
والفنون اإلسالمية ،وباجلملة بعث العقلية اإلسالمية اخلاصة من
جديد!»
.5حماولة اإلصالح العملي ،وذلك كإبطال التقاليد اجلاهلية
وتزكية األخالق وإشباع النفوس حبا التباع الشريعة من جديد،
وترشيح رجال يصلحون أن يكونوا زعماء من الطراز اإلسالمي
.6االجتهاد يف الدين وتغيري طرائق التمدن القدمية « يضمن
للشريعة اإلسالمية روحها وميكن اإلسالم من إمامة العامل يف رقي
املدينة الصحيح!»
« .7الكفاح والدفاع » لنصرة اإلسالم «ومعناه مناضلة القوى
السياسية الناهضة الستئصال اإلسالم».
.8نزع السلطة من أيدي اجلاهلية لتقام خالفة على منهاج
النبوة كما جاء يف احلديث الشريف.
.9إحداث االنقالب العاملي الذي يسود فيه اإلسالم وحضارة
اإلسالم العامل كله.
445
كل هذا ال جند فيه ذكرا للروحانية القوية لصاحب التجديد
فإن أهم خصائصه يف نظر األستاذ الكفايات الفكرية العملية
والتفوق على اجليل بعمق اإلدراك ووضوح الرؤية .وال جند يف
هذا أثرا للربانية اليت ننشد فيها الكمال الروحي أساسا وفيها
الكفاية الفكرية املتعلمة وفيها الرفق املريب .ولقد كتب املودودي
غري هذا كتبا تناول فيها البحث عن السبيل إلحياء اإلسالم،
وكلها تنصب على التجديد الثقايف وتغيري العقلية كما يعرب،
وجبانب هذا دعوة للتمسك بالشريعة واملنهاج النبوي .ولو عرفنا
ما هو املنهاج النبوي وعثرنا على ربانيته ومسته وتؤدته واقتصاده
لكنا خطونا خطوة حنو التجديد .ويكثر املودودي من استعمال
مفهوم «االنقالب» وهو مفهوم أجنيب عنا ألنه نشأ من
املمارسة اجلاهلية ففيه ريح العنف وريح اإلظطراب.
ونتعلم من عاملنا اجلليل إميانه بأن القيادة املشخصة يف رجل
ضرورة أساسية لتجديد اإلسالم .نتعلم منه وإن كان ينقصه
التجربة الشخصية اليت تعلمه معىن املنهاج النبوي .ونتعلم منه
انتظاره لرجل مهدي يصلح اهلل به أمر هذه األمة حىت يظهر
اإلسالم على الدين كله كما بشر بذلك القرآن الكرمي ،يقول :
« إذا كان األنبياء السابقون قد بشروا أممهم –كما بشر خامت
النبيئني صلى اهلل عليه وسلم أمته بأن اإلسالم ليكونن دين العامل
446
كله قبل أن تنتهي فيه حياة النوع اإلنساين ،وإن اإلنسان بعد أن
جيرب خيبة األنظمة الوضعية ويعاين عواقبها الوخيمة ،يضطر يف
آخر األمر إىل أن يفيء إىل النظام الذي وضعه اهلل تعاىل للحياة،
وأن هذه النعمة يناهلا اإلنسان بفضل زعيم جليل القدر يعمل
على شاكلة األنبياء وينفذ اإلسالم يف صورته األصلية تنفيذا
كامال» .قال :يف صورته وأين معاين القلب وطبه وطهارته وتربيته
مما جند فقهه عند أمثال الغزايل؟ رحم اهلل اجلميع.
وبعد فإن اهلل جلت قدرته ال يبخس اجملاهدين أجرهم ،وليس
ذنب املودودي عامل املسلمني اجملاهد غري القاعد أن يكون تراث
املسلمني ثقيال وأن يكون من بني من يسمون صوفية من اعرتف
بفضلهم يف التاريخ وحارهبم يف اآلن ومن هم أدعياء وقاصرون.
447
اإلمام البنا
يذكر السيد أبو األعلى املودودي أن اجملدد احلق قد ال يعلم
أنه جمدد وقد يدعي ذلك املقام كما ادعاه الشيخان السرهندى
والدهلوي .وقد برز يف القرن الثالث عشر رجال جددوا للناس
من أمور الدين ،فكان الشيخ حممد بن علي السنوسي علم ذلك
القرن وانتشرت رباطاته يف أحناء افريقيا ،ورىب املؤمنني وعلمهم
وفاض خري السادة السنوسية على هذا القرن فكانوا يف ساحات
اجلهاد املقاتل رجاال كما كانوا يف جهاد الدعوة والرتبية .وبرز
يف القرن املاضي الشيخ املهدي السوداين جدد للناس إميانا وقوة
وجهادا يف الوقت الذي كان األفغاين ينشر أخبار جهاده يف
الصحيفة بلهجة حيادية متفرجة .وكان املهدي رمحه اهلل من
هؤالء الصوفية احملريين بأصالتهم وغرابتهم ،لكنه جاهد واستحق
بذلك ذكرا يف الصاحلني ،وأن ما نقل عنه من أخبار وما آل
إليه اتباعه من بعده لتاريخ إسالمي ملا يكتب .وملا يكتب أيضا
تاريخ اجملددين اجملاهدين سيدي أمحد بن عرفان والشيخ إمساعيل
الشهيدان اللذان حاربا اجنلرتا يف اهلند بعد أن خنعت البالد كلها
حتت وطأة الكافر.
كل أولئك كانوا صوفية كما كان رجال اجلهاد والتجديد يف
448
تاريخ اإلسالم .وبالروحانية العالية كان عمر بن عبد العزيز رجال،
وصالح الدين وابن تاشفني وامللك الصاحل املكري .وكان أوىل أن
نتدبر عمل السنوسية العظيم وتربيتهم لوال ما يعطينا اإلسالم
الفكري عند عبده واملودودي من دروس هي يف إجيابيتها أقل إفادة
منها يف سلبياهتا .ولن يفوتنا شيء من جهاد الصوفية وتربيتهم
وعلمهم إذ سنجد كل ذلك يف أهبى صوره عند رجل مل يدع
جتديدا وال مقاما وال ادعاه له أحد ،وإمنا نزل على هذه األمة كما
تنزل الرمحة ،خفيف احلاذ يف تواضع األنبياء وروحانية الصديقني
وجهاد الصادقني .هذا الرجل هو علم هذا القرن وإمامه سيدي
حسن البنا رمحه اهلل رمحة واسعة ورضي اهلل عنه.
قضى البنا عشرين سنة يف جهاد الدعوة وجماهدة الفتنة ،فأنار
أثناء ذلك القلوب وأنار العقول ومجع اهلل به مؤمنني ،ورىب اهلل به
شبابا خرجوا على الناس بسمتهم وإمياهنم وصدقهم ،واإلسالم يف
غربته ،وضربوا مثاال للنجاعة يف أمة متخاذلة فاشلة ،وضربوا مثاال
للقوة يف أمة ضعيفة عنيفة ،ونشدوا العدل يف أرض طغى فراعنتها
وامتصوا أموال الناس ودماءهم وأعراضهم .وكان اخلطب عظيما
على كل مسلم يف األرض ملا قتل الطاغوت الفرعوين إمام اإلخوان
املسلمني وحني تكالب على اجلماعة من بعد ذلك الطاغوت
البطويل الظامل املظلم يقتل ويشرد.
449
وليس متحو يد الظاملني ما سطرته العصابة املؤمنة يف تاريخ هذه
األمة املعاصر من جهاد وصدق ،وسيشع لنا من جتربة اإلخوان
املسلمني نور يومض لنا مشريا أن اإلسالم ممكن وأن املؤمنني هم
الرجال إذا حدب األمر ودعا داعي القتال ،وهم الرجال إن عز
العاملون ودعا األمر لبناء االقتصاد .وهم الرجال لرمحة البائس
الفقري والعناية باليتيم واحملروم .فقد كانت للجماعة يد بيضاء يف
كل ساحة للعمل ،وحيمنا اهلل بفضله حىت ال يضيع الدرس من
بناء اإلمام ومجاعته بني جهل اجلاهلني وتأويل املؤولني.
وأول درس من حركة البنا هو أن دعوته مل يكن يدعمها فكر
ناضج ألن البنا بدأ دعوته بثقافة معلم ابتدائي ال يسعه هبا إن
يطاول قدوم مصر وفراعنتها الثقافيني ،ومل يكن يدعمها جاه وال
مال ألن الشاب الصاحل يف الثانية والعشرين من عمره بدأ الدعوة
يف مدينة هو فيها غريب فقري ،ومل يكن يدعمه سلطان إال سلطان
الروحانية الصافية اليت هبا يقول العبد :ريب ! فيجيب الرب عز
وجل :عبدي !
كان صوفيا صحب الرجال وبايع الشيخ وتتلمذ للذاكرين
وسافر مع الذاكرين وزار أضرحة األولياء ،وجالس املؤمنني ،وحظي
بدعوات الصاحلني ،وفصل كل ذلك يف مذكراته.
وكان بعذئذ مربيا صوفيا وضع جلماعته مأثورات يتلوهنا وظيفة
450
يف جمالس الذكر ،واختذ هلم وردا وأحل يف كل مناسبة على الرابطة
الروحية بني أعضاء اجلماعة.
وهذا ما ال يكاد يدركه حىت أصحاب البنا أنفسهم ألن من
رفقه رمحه اهلل ومن حسن اجتهاده أنه كان يعرف مجاعته بأهنا
مجاعة إسالمية ثقافية رياضية وما يشبه هذا من ضروب النشاط
وجيعل النعت الصويف واحدا من نعوهتا من بني صفات أخرى
يفهمها الناس بلغة العصر على أهنا حركة وجهاد وعلم ونشاط
ومشاركة يف احلياة العامة.
كان من رفقه رمحه اهلل ومن حسن اجتهاده أنه تنصل من
جل املصطلحات الصوفية ليتجنب مواطن الغلط يف ذهن أصحابه
ومريديه الذين ال يعرفون من الصوفية إال تكايا االنعزال وحرفة
أصحاب األمسال .ورجع رمحه اهلل للكتاب والسنة فيما خيطب
ويكتب ليتكلم بلغة جهادية هي لغة القرآن طاويا تاريخ اإلميان
واإلحسان يف زمن الفتنة الذي أصبح الصوفية أثناءه ،القاعدون
منهم ،يتحدثون بلغة املناقب وتأمل كرامات السابقني ،يكتبها
الالحقون بغري دارية فتفوهتم العربة يف حياة األولياء من حيث
تزكيتهم ألنفسهم وطلبهم لرهبم بالفرض والنفل واالستقامة على
الطريقة.يقول البنا رمحه اهلل يف مذكراته حتت عنوان «رأي يف
451
التصوف»« : 1وطرأ على هذه احلقائق (حقائق اإلميان واإلحسان)
ما طرأ على غريها من حقائق املعارف اإلسالمية ،فأخذت صورة
العلم الذي ينظم سلوك اإلنسان ويرسم له طريقا من احلياة
خاصا :مراحله الذكر والعبادة ومعرفة اهلل ،وهنايته الوصول إىل
اجلنة ومرضاة اهلل.
وهذا القسم من علوم التصوف ،وأمسيه «علوم الرتبية والسلوك»
ال شك أنه من لب اإلسالم وصميمه ،وال شك أن الصوفية قد
بلغوا به مرتبة من عالج النفوس ودوائها ،والطب هلا والرقي هبا،
مل يبلغ إليها غريهم من املربني…
ولكن فكرة الدعوة الصوفية مل تقف عند حد علم السلوك
والرتبية ،ولو وقفت عند هذا احلد لكان خريا هلا وللناس ،ولكنها
جاوزت ذلك بعد العصور األوىل إىل حتليل األذواق واملواجد ،ومزج
ذلك بعلوم الفلسفة واملنطق ومواريث األمم املاضية وأفكارها.
فخلطت بذلك الدين مبا ليس منه ،وفتحت الثغرات الواسعة لكل
زنديق أو ملحد أو فاسد الرأي والعقيدة ،ليدخل من هذا الباب
باسم التصوف والدعوة إىل الزهد والتقشف والرغبة يف احلصول
على هذه النتائج الروحية الباهرة .وأصبح كل ما يكتب أو يقال
يف هذه الناحية جيب أن يكون حمل نظر دقيق من الناظرين يف دين
452
اهلل واحلريصني على صفائه ونقائه».
ودعا الشيخ البنا بعد هذا لاللتقاء العلماء والواعظني بالصوفية
ليبحثوا عن منهاج لريدوا األمة إىل سواء السبيل ،وتفاءل خريا.
لكن من يسميهم بعض الناظرين «صوفية احلقائق» هؤالء الذين
يتكلمون الكالم املعمي ويدخلون الشك يف عقائد املسلمني ال
تزال هلم سوق رائجة كما للمحرتفني األدعياء .أولئك بضاعتهم
ورقات خلفها رجال اهلل العلماء يقرأوهنا قراءة حمرفة بنفوس عكرة
فيقرأون كفرا وينطقون كفرا ،وهؤالء ،بضاعتهم االسم والشارة
واملسبحة والعمامة .وكل يسبحون يف فلك الكسل واجلهل واملرض
املزمن يف هذه األمة ،مرض حب الرئاسة والظهور.
وكأين مبن يقرأ مذكرات البنا وإخباره عن زمان إرادته وسلوكه
الصويف يعتقد أنه يقرأ تارخيا طواه البنا يوم قام للدعوة ،وإنك
لتقرأ ما كتبه اإلخوان املسلمون يف جمالهتم وكتبهم فال تقرأ عن
الصوفية إال أحكاما سلبية تنبئ عن إغفال روحانية البنَّا ومصدرها
ومصرفها يف النظام الرتبوي لإلخوان ،1وكان يبدأ مببايعة تتضمن
قراءة األوراد والوظيفة إىل جانب الشروط اجلهادية العامة.
بعد حنو عشر سنوات من قيام الدعوة نشر البنا منهاجا
1مث نشر الشيخ سعيد حوى رمحه اهلل يف آخر ما نشر كتبا قيمة عن الربانية ما أجدر أن يتأملها
بعمق الغارقون يف «اإلسالم الفكري» الثقايف.
453
يلخص ما كان فصله يف رسالة التعاليم .يقول : 1الواجبات
العشر 1 :محل شارتنا 2حفظ عقيدتنا 3قراءة وظيفتنا 4حضور
جلستنا 5إجابة دعوتنا 6مساع وصيتنا 7كتمان سريرتنا 8صيانة
كرامتنا 9حمبة إخوتنا 10دوام صلتنا.
وكل هذه الواجبات جيمعها مفهوم الصحبة واجلماعة وهي
تفصل شروط الصحبة واجلماعة .فرتى كيف ذهبت مصطلحات
الصوفية يف التعبري عن آداب املريد مع الشيخ والفقراء وحل
حملها تعليم أكثر تفتحا على احلياة العامة وأكثر مجعا ملعاين
احملبة والنصيحة والتضامن والوالء اجلماعي .كان االنتماء الصويف
يعرفه الناس هبيئة املريد ونوع خرقته أو سبحته ،وكان من املشايخ
من يلبس املرقعة ملن يراه من مريديه مياال للتكرب ليكسر غلواءه
ويسمون ذلك «خرقا للعادة» يربهن هبا املريد على هوان نفسه
عليه ،ورمبا بلغ ببعض املشايخ الصادقني أن حيمل مريده على لبس
األمسال والتسول يف السوق ليخرجه بذلك عن عادته .ويتسامع
الناس بذلك فيتخذها بعضهم حرفة فال يتميز لك الصادق من
الكاذبني.
فجعل البنا محل الشارة عالمة على اإلنتماء وذلك اهتمام
بالسمت واهتمام بتمييز اجلماعة عن سائر الناس ومذهب يف
454
الرتبية أجدى وأنظف وأكثر تالؤما مع املطلب اجلماعي اجلهادي.
فمن محل الشارة وحفظ العقيدة وتال الورد والوظيفة يف جمالس
اإلميان يصل فيها إخوانه وحيبهم ويعضد دعوهتم أدته الشارة
الرمزية ملوطن الصادقني واندمج مع املؤمنني .لكن جل الناس ال
يقدر على ذلك ويقف عند الشارة.
وهذا هو الدرس الثاين من جتربة اإلخوان املسلمني .لقد
رأينا يف حياة الشيوعيني الصينيني كيف أمكن للقيادة الشيوعية
مبحن «املسرية الكربى» أن تـَبـْلَُو الصادقني الصابرين حىت جتمعت
هلم خنبة صهرهتا ليايل اجلبال وهنارات الصحراء .وكان «املريد»
الشيوعي يوضع ألول وهلة حبيث يربهن عن صدقه ،فإن كان
مطلبه يف االلتحاق بالصف الشيوعي أهون عنده من بذل النفس
وبذل اجلهد نبذته اجلماعة .ويف آخر املرحلة بعد الكفاح الطويل
واألهوال اجلسيمة محل الشارة الشيوعية أبطال وراءهم تاريخ نضايل
جبار .ولسنا جند حرجا يف مقارنة املؤمنني الطاهرين باملقاتلني
الكافرين ،فإمنا الناس بشر وإمنا خيارنا يف اجلاهلية خيارنا يف
اإلسالم.
كان أول واجب من واجبات املبايع املسلم من مجاعة اإلخوان
أن حيمل الشارة .وهو واجب ميكن ضبطه يف كل جلسة وعند كل
لقاء ،وال ميكن ضبط الصدق يف العقيدة والتالوة واحملبة والصلة
455
إال بربهان الصدق العملي .وكان أصحاب البنا األولون ملا كانت
الدعوة يف مهدها رجاال من الذين صحبوا شابا طاهرا متيل إليه
القلوب وحتبه وتتشبه به وتلتمس عنده القدوة .فلما حتول الشاب
زعيما خطريا تقوم له الدنيا وتقعد محل الشارة أقوام بعقلية مطالبة
واندس أقوام من العدى حتركهم نيات سياسية غرضها أن تنسف
احلركة اإلسالمية .ومن أولئك وهؤالء تركب االضطراب العنيف
الذي آل إىل إرهابية كما تؤول كل حركة شيب فكرها ومنهاجها
بعناصر االستعجال وعناصر التخريب.
الدرس الثاين مما نتعلمه من اإلخوان املسلمني أن جتميع
األعداد اهلائلة :بسرعة قبل أن تعطي برهان صدقها ودون أن
يطلب منها إال مظهر محل الشارة أسلوب أشبه باألسلوب احلزيب
السياسي املعتمد على التظاهرات االضطرابية.
كانت ظروف طاغية وكان عمل الشيخ اجلليل وأصحابه
عمال صادقا تعوزه التجربة وتغنيه التجربة يف آن واحد .ال شك
أن ما بناه الشاب اجملاهد وما أصابه من جناح وتوفيق كان كفاء
لصدق الروحانية وكفاء لعمل الليل والنهار وكفاء للمحبة اليت
وصلت قلب مؤمن زكي بقلوب مساكني كانوا يعملون يف حبر
الظلمات قبل أن يرتفع هلم نور اهلداية يف طلعة البنا .وال شك
أيضا أن مسرية اجلهاد اإلخواين سحبت من ورائها أثقال سلوك
456
مجاعي تقوم بإصالح اخلطإ فكان جتريبية إىل حد ما ،تلوح لك
ثغراهتا من خالل شكوى البنا مثال من صديقه القدمي السكري
الذي واله أمور اجلماعة فما هنض هلا ،وتلوح لك من خالل
الفكر اإلخواين الذي ما متيز فيه املنهاج اإلسالمي عن أساليب
السياسة متيزا كامال .وهكذا جتد ،إىل جانب التطهر ونبذ النموذج
الغريب للسلوك ،دعوة إىل الوطنية القومية يف رتبة معا جبوار العمل
بالشريعة احملمدية.
يكتب لإلخوان املسلمني تلخيصا للمنهاج العلمي ما
يلي : 1املوبقات العشر .1 :االستعمار .2اخلالفات السياسية
والشخصية واملذهبية .3الربا .4الشركات األجنبية .5التقلبد
الغريب .6القوانني الوضعية .7اإلحلاد والفوضى الفكرية . 8
الشهوات واإلباحية .9فساد اخللق وإمهال الفضائل النفسية . 10
ضعف القيادة وفقدان املناهج العلمية.
املنجيات العشر .1 :الوحدة .2احلرية .3تنظيم الزكاة
.4تشجيع املشروعات الوطنية .5احرتام القومية .6العمل
بالشرائع اإلسالمية .7تثبيت العقائد اإلميانية .8إقامة احلدود
اإلسالمية .9تقوية الفضائل اخللقية .10اتباع السرية احملمدية.
الدرس الثالث لنا من اإلخوان املسلمني هو أن العمل
457
اجلهادي إذا مل يؤسس على فكر ناضج سابق للعمل يتعلم من
املمارسة ،فإمنا يكون األمر جتريبية حتمل معها عناصر ضياعها
إذ تنفتح لكل هوى وحتسب أهنا تتعلم من األخطاء مبجرد أن
هنالك أخطاء عوجلت يف وقتها .وعند السيد املودودي منظومة
فكرية أشد متاسكا وأوسع جماال ،لكن مكان الروحانية النورانية
يتبني لك مبقارنة نتائج األعمال .ولقد وقى اهلل الصادقني من
عباده اإلخوان املسلمني ما كادهم العدو ورزقهم الشهادة وحسن
املآب ،وال يزال عمل البنا وأصحابه مخرية شعورية ومنوذجا عمليا
يصرخ فينا أن اإلسالم الفكري إسالم مبتور وأن ذكر اهلل وصحبة
أهل اهلل هي املنهاج إن أقامها العلم على منهاج اجلهاد والدعوة
على بصرية.
وآخر درس نتلقاه من عمل البنا هو أن املرتفني أصحاب
املنصب والثروات ال يتحركون إال يف آخر الركب ويلتمسون مع
ذلك الصدارة والرئاسة ويفسدون العمل الصاحل بنياهتم املرتفة.
كان أتباع البنا األول من املساكني ،من العمال والفالحني ،يبدأون
بتواضع تلمذهتم للشيخ بتعلم الوضوء والصالة وجيمعون القروش
ليبنوا هلل بيتا .ولقد كاد البيت يكون أمة منبعثة لوال أن هب مرتفو
الفكر واملال واجلاه جيرون خلف الزعيم الناجح ويرهقون جهاده.
وكان رجل دعوة ليس له أن يستعمل وازع السلطان ليعيد تربية
458
املرتفني كما فعل ماو الكافر من بعده .وكانت املطالبة السياسية
بديل األسف عن تلك الرتبية املتكاملة اليت أنشأها جمدد هذا
القرن وإمامه رضي اهلل عنه وجازاه عن املسلمني خريا.
459
غضبة القطب
كتبت منذ بضعة أشهر 1تأمالت حول فكر قطب رمحه
اهلل فاستحقت كلمايت تعليقا من صحيفة إسالمية عزيزة علينا
وكان تعليقها يف أسطر صغرية قليلة مؤداه أن صاحب الكتاب
جاء «بفكر مغريب» ينقد «فكرا شرقيا» ،ويفعل ذلك «بصوفية
متطرفة» .ويكفي من اإلشارة عنواهنا ،ويكفي مها وحزنا أن يكون
وعي العاملني يف الدعوة اإلسالمية ال يعدو خطوط اجلغرافية
والقومية وال يفهم أن اجتهاد اجملتهدين يلعن من يتلقونه وحيا
منزال ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه .ويكفي مها
وحزنا أن يكون فكر اإلسالميني يفضل على التعلم املتواصل
بالتفتح لكل جتربة ولكل ممارسة ولكل علم عملي يأخذ كال بعني
حديدية وعقل ناقد ركودا مع املوروث املقدس .ولعمري أن لنا من
املكدسات املقدسات ما كان يغنينا عن فكر قطب وأمثاله لوكان
قطب ذا عقلية راكدة.
إذا كنا يبلغ بنا اجلهل والعطالة أن نظن أن الفكر اإلسالمي
منا وزكا وترعرع ونور وأمثر وبلغ أوج كماله يف فكر سيد قطب
فإمنا نقرب بذلك آمال املسلمني ورجاء العامل الذي تغىن هبما سيد
1أنظر كتابنا «اإلسالم بني الدعوة والدولة».
460
قطب ،وإمنا حنكم على أنفسنا بالغباوة إذا كنا نواجه الشيوعيني
احلذاق املتطلعني لنواميس هذا العامل الصاخب بتقليد مطمئن
جلهاد رجل كيفما كان هذا الرجل حاشا املعصوم سيدنا حممد
صلى اهلل عليه وسلم .ولئن شئنا أن تتفتح أذهاننا للفكر املتحرر
الناقد اجملتهد فلنبدأ بتفتيح قلوبنا لإلميان حىت نصبح أهال للتأسي
برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .وما سبيل ذلك يا ترى ؟ إن
ربكم يقول « :لقد كان لكم يف رسول اهلل أسوة حسنة ملن كان
يرجو اهلل واليوم اآلخر وذكر اهلل كثريا».
فإن كنا نفكر بأشكال مفرغة مسبقة ،وحنكم على من يدعونا
لذكر اهلل الذكر الكثري بأنه صويف متطرف ،وال حناول فهم معاين
التصوف لنعرف معىن التطرف فأحسن لنا مجيعا أن نصطلح على
أن خريا منا شهيد اإلسالم سيد قطب الذي خاصم اجلاهلية
وصب غضبه على الطاغوت املفتون الفاتن .وأوىل لنا أن نتصاحل
على أن اإلسالم جيهله بنوه وأن القطب اجلليل بذل مهجته وكرس
عمره ليعلم املسلمني معاين العزة باهلل ومعاين اجلهاد والشهامة.
ولكل منا بعد ذلك أن يعترب أن اإلسالم يف أوج عزه وذروة
كمال فكره أو يبحث عن منهاج عملي تكون معامل طريقة ماسة
بواقع املسلمني على األرض كمساسها باملثل العليا اليت أشاد هبا
شهيدنا مجيعا رمحه اهلل.
461
صوت ارتفع يف اجلو احلالك أيام كان االستعمار ال يزال
ضاربا أطنابه يف كثري من بالد املسلمني .وغضبة مؤمنة على ظلم
الطاغوت وتعسفه بلورت الروح اجلهادي الذي حرك اإلخوان
املسلمني على صيغة فكر مقاتل يقذف محما وشواظا من نار
على عدو اإلسالم .وكان فكر سيد قطب رمحه اهلل قمينا أن
يكون مقدمة ملرحلة جهادية جديدة للجماعة لو كان مع الفكر
عمل تربوي يوازيه ولو مل تكتسب الظروف املعادية كثافة خلطت
املزامحة السياسية مع نصاعة البيان القطيب.
ما تقول يف جماهد كان وال يزال لسان اإلسالم الناطق بعد
نكبة إخوانه اجملاهدين؟ وما نقول يف رجل بذل نفسه وحنن قعود
باردون متدفئون بدفء االسرتواح والكسل؟ وإذا قلنا فهل يكون
قولنا نقدا يستقبله املسلمون بذهن ال جتمح به العاطفة وال يثريه
الوالء األفالطوين الومهي؟
تلك أسئلة جييب عنها كلها جيل ألف األحالم وتأمالت األبطال
األجماد بأن فكر سيد قطب فكر حتده جغرافيا حدود القومية العرقية
وحيده تارخييا حيث يتناطح حبر الظلمات اجلاهلية ببحر الغضبة
الكربى تناطحا حامسا سينجلي عن قيام الدولة اإلسالمية جملرد أن
صحنا يف أنفسنا ويف الناس أن الدين اإلسالمي هو دين اهلل الكامل
وأن احلاكمية الظاملة جيب أن نتمرد عليها ونقاتلها.
462
ولقد مت األمر أو كان قد!
إنه كان املاليني الناعسون احلاملون حباجة إىل رجة كبرية
تثري االنتباه .فكانت الرجة هي مقتل املفكر اإلسالمي العظيم
لفتت أنظار املسلمني للدعوة القطبية ،ونفع اهلل بكتبه أجياال
من املسلمني .قرأوا ظالل القرآن وقرأوا الكتب األخرى فأعداهم
محاس الشهيد واستوثق من قلوهبم حسن بيانه وصدق هلجته.
وهذه مأثرة عظيمة وخطوة مهمة يف نشر الوعي اإلسالمي .وإذا
ذكرنا الرجال بأعماهلم ،وال تقاس الرجال إال مبا حققوا ألمتهم
من خري ،وجدنا أن إحياء اإلسالم يف عصرنا يرجع الفضل فيه
للشيخ البنا ،ووجدنا أن الفتنة ملا عامت على الشيخ ومجاعته
خنقت صوت الدعوة إال صوت السيد اجملاهد ،فله فضل بث
الكلمة الطيبة إن مل يكن له أثر اإلحياء بعد املوت.
إن لغة سيد قطب هي لغة الغضب ،وهو غضب حممود
ألنه غضب هلل ولدين اهلل .وإذا كنا ندعو للتؤدة النبوية الصامدة
الصابرة على العمل املثابرة عليه ،فإن الغضب هلل ال بد أن يكون
عنصرا من عناصرها .وما كانت لنا األسوة بإبراهيم ومن معه
إال أهنم غضبوا على قومهم فقاطعوهم .وأن غضبة آل إبراهيم
وإبراهيم عليه الصالة والسالم أفضى ذكرها يف القرآن إىل الرجاء
سى اللَّهُ أَن يَ ْج َع َل
﴿ع َ
يف قوله تعاىل بعد ذكر الغضبة واملقاطعة َ :
463
ِ َّ ِ
اديـْتُم ِّمنـْ ُهم َّم َو َّد ًة َواللَّهُ قَد ٌير َواللَّهُ غَ ُف ٌ
ور ين َع َ
بـَيـْنَ ُك ْم َوبـَْي َن الذ َ
يم ﴾. ِ
َّرح ٌ
إذا كانت الغضبة تؤدي إىل الرجاء واحملبة ومن مث إىل الصرب
واملثابرة يف الطلب فهي غضبة إجيابية ألن اجلهاد احلكيم يكتمها
يف رمحة الدعوة وتؤدة النبوة .وإذا كانت الغضبة ال تصيب تؤدة
وطول نفس فإهنا إمنا ختطط للثورة والفورة العنيفة ،وعندئذ يغيب
مفهوم الفتنة وما أوصانا به النيب من التؤدة واحلكمة فيها ،ويعمم
مفهوم اجلاهلية فيشمل العامل مجيعا.
إن صوت اإلسالم ارتفع قويا أخاذا يف فكر سيد قطب ،فإذا
فهمنا أنه رجل دعوة أفرغ ما يف فؤاده من إميان وما يف عقله من
تصور لنتعلم من إميانه وعلمه فنوشك أن نتقدم يف طريقنا ،وإن
فهمنا أن «معامل يف الطريق» اجتهاد هنائي رسم خطوط العمل
وحركية املنهاج حىت ال مزيد ،فإمنا نعكس نية رجل من املسلمني،
وندخل يف خط النظر البطويل ،ونرجع إىل الوراء نسبح هلل حبمده
ونلهج مغتبطني برتاث حننطه إىل جانب أكداسنا املوروثة.
لنتعلم من سيد قطب غضبته ولنخاطب املستضعفني الوارثني
غدا بلهجته العاطفية ،لكن لننظر أي طريق وضعت هلا املعامل.
يف مقدمة الكتاب يتساءل الكاتب« : 1فكيف تبدأ عملية
464
البعث اإلسالمي؟
إنه ال بد من طليعة تعزم هذه العزمة ومتضي يف الطريق …
متضي يف خضم اجلاهلية الضاربة األطناب يف األرض مجيعا.
متضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب ،ونوعا من االتصال
من اجلانب اآلخر باجلاهلية احمليطة .وال بد هلذه الطليعة اليت تعزم
هذه العزمة من «معامل يف الطريق» ،معامل تعرف منها طبيعة
دورها ،وحقيقة وظيفتها ،وصلب غايتها ،ونقطة البدء يف الرحلة
الطويلة ..كما تعرف منها طبيعة موقفها من اجلاهلية الضاربة
األطناب يف األرض مجيعا ..أين تلتقي مع الناس وأين تفرتق ؟ ما
خصائصها هي وما خصائص اجلاهلية من حوهلا؟ كيف ختاطب
أهل هذه اجلاهلية بلغة اإلسالم وفيم ختاطبها ؟ مث تعرف من أين
تتلقى يف هذا كله وكيف تتلقى ؟ هذه العقيدة ال بد أن تقام من
املصدر األول هلذه العقيدة :القرآن ،ومن توجيهاته األساسية،
ومن التصور الذي أنشأه يف نفوس الصفوة املختارة اليت صنع اهلل
هبا يف األرض ما شاء أن يصنع ،واليت حولت خط سري التاريخ
مرة إىل حيث شاء اهلل أن يسري».
إنه برنامج مجيل حافل يضع للبحث النقطة احملورية اليت هي
معرفة الفاعل التارخيي الذي مساه الكاتب «طليعة تعزم العزمة
ومتضي يف الطريق» .ويضع للبحث عالقات اإلسالم املنبعث
465
مع اجلاهلية وضرورة «العزلة من جانب واالتصال من اجلانب
اآلخر» .فهذه اسرتاتيجية احلركة .مث يضع الربنامج نقط البدء
ومراحل السري يف الرحلة الطويلة» ولغة اخلطاب وأسلوب العمل
وخمالطة الناس .وكل ذلك نقط أساسية حنن حباجة للتعرف عليها
مبعامل واضحة.
لنبدأ أوال مع سيد قطب باجملتمعات اإلسالمية املعاصرة اليت
ينبغي للطليعة أن تقودها .إهنا جمتمعات جاهلية خارجة عن دين
اهلل .ألهنا تقبل حاكمية العباد .يقول الكاتب 1بعد أن عدد
جاهليات العصر « :وأخريا يدخل يف إطار اجملتمع اجلاهلي تلك
اجملتمعات اليت تزعم لنفسها أهنا «مسلمة» .وهذه اجملتمعات ال
تدخل يف هذا اإلطار ألهنا تعتقد بألوهية أحد غري اهلل وألهنا تقدم
الشعائر التعبدية لغري اهلل أيضا… فهي تعطي أخص خصائص
األلوهية لغري اهلل ،فتدين حباكمية غري اهلل ،وتتلقى من هذه
احلاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداهتا وتقاليدها
وكل مقومات حياهتا تقريبا… وإذا تعني هذا فإن موقف اإلسالم
من هذه اجملتمعات اجلاهلية كلها يتحدد يف عبارة واحدة :إنه
يرفض االعرتاف بإسالمية هذه اجملتمعات كلها وشرعيتها يف
اعتباره»
كان املرحوم أرسالن يسمى إسالم معاصريه «إسالما جغرافيا»
466
وختفي العبارة حكم الكاتب وتصوره للمجتمعات اإلسالمية ،أما
سيد قطب فيحكم جباهلية كل اجملتمعات املعاصرة .وليس يهمنا
أن نعرف هل هذه اجلاهلية يف اعتقاده جاهلية كفر بقدر ما يهمنا
أن نعرف كيف نعاجلها .كان الغزايل والبنا ينظران إىل األمة نظر
الطبيب إىل املريض ،مريض مفتون حينو عليه طبيب رحيم ميرضه
ويصابره حىت يقتلع من جذور الفتنة واملرض ،وكانا مربيني .أما
سيد قطب فالناس يف نظره جاهلية ومصدر جاهليتهم هي هذه
احلاكمية الظاملة اخلارجة عن حكم رهبا.
فبهذه النظرة ال جند يف تاريخ اإلسالم مسلمني بعد مقتل
موالنا عثمان بن عفان إلن احلاكمية كانت للناس منذئذ وال
تزال .األولون حرفوا من حاكمية اهلل جزءا ،واملعاصرون حادوا
عنها مجيعا ،لكن احلكم ينبغي أن ال خيتلف ألن حكم اهلل
ال يقبل التبعيض .وعلى هذا األساس فكل ما يقرتح الكاتب
لعالج احلالة منطقي جدا ،العائق الوحيد لقيام الدولة املسلمة هي
احلاكمية فمىت تسلمت الطليعة املسلمة احلكم فقد قامت الدولة،
وقبل ذلك فالثورة والتمرد مها التعبري اإلسالمي حملاربة «اجملتمع
اجلاهلي» حنن منه ونعيش فيه .يقول : 1إن إعالن الربوبية هلل
وحده للعاملني معناها :الثورة الشاملة على حاكمية البشر يف كل
467
صورها وأشكاهلا وأنظمتها وأوضاعها ،والتمرد الكامل على كل
وضع يف أرجاء األرض».
لقد حلل الشهيد اجلليل حياة الصحابة ومساهم «اجليل القرآين
الفريد» ،وعاش يف ظالل القرآن سنني طويلة ويف أرجاء السرية
النبوية .وملخص نظرته يف حياة الصحابة أن القرآن كان النبع
الصايف الذي منه استقوا ،وأهنم استمعوا آليات اهلل باستعداد للتنفيذ
ال بقصد التالوة والتأمل وأن كل ذلك جعل هلم «عزلة شعورية»
فصلتهم عن بيئتهم اجلاهلية .ويستخرج الكاتب من ذلك درسا
أساسيا هو أن شخص الرسول ليس وجوده ضروريا إذ لو كان ذلك
لبطل أن اإلسالم دين اهلل لكل األجيال من بعده .وإذن فما بيدنا
إال القرآن الكرمي ،وإذا أردنا أن نكون مجاعة مسلمة فما علينا إال أن
حنرر ضمائر األفراد من العبودية لغري اهلل .فإذا تساءلنا كيف نفعل
ذلك وتصفحنا كتب الناطق املسلم وجدناه يعرض علينا ببالغة
النموذج اخلالد يف نشأته وحركيته دون أن يدلنا على مكان الصحبة
يف كل ذلك وال مكان التزكية والذكر وبعث الروحانية .يقول: 1
«وإذن فإنه قبل التفكري يف إقامة نظام اجتماعي إسالمي وإقامة
جمتمع مسلم على أساس هذا النظام ،ينبغي أن يتجه االهتمام أوال
إىل ختليص ضمائر األفراد من العبودية لغري اهلل يف أية صورة من
468
صورها اليت أسلفنا وأن يتجمع األفراد الذين ختلص ضمائرهم من
العبودية لغري اهلل يف مجاعة مسلمة .وهذه اجلماعة اليت خلصت
ضمائر أفرادها من العبودية لغري اهلل ،اعتقادا وعبادة وشريعة ،وهي
اليت ينشأ منها اجملتمع املسلم ،وينضم إليها من يريد أن يعيش يف
هذا اجملتمع بعقيدته وعبادته وشريعته اليت تتمثل فيها العبودية هلل
وحده… أو بتعبري آخر تتمثل فيها شهادة أن ال إله إال اهلل وأن
حممدا رسول اهلل.
هكذا كانت نشأة اجلماعة املسلمة األوىل اليت أقامت اجملتمع
املسلم األول ،وهكذا تكون نشأة كل مجاعة مسلمة وهكذا يقوم
كل جمتمع مسلم».
وال حيب الشهيد أن يضع لنا معامل يف الطريق أخص من هذه
التأمالت للنموذج اخلالد وأخص من احلث على ضرورة التحرر
من اجلاهلية وحترير الضمائر من العبودية لغري اهلل .وكأن كتاب
املعامل يرفض أن تكون مث أية معامل للطريق غري ما تضعه احلركة
التجريبية الواقعية من معاير .وال حيب الكاتب أن تسبق النظرية
﴿وقـُْرآناً فـََرقـْنَاهُ لِتـَْق َرأَهُ َعلَى
املمارسة أبدا وحيتج بقوله تعاىلَ :
ث َونـََّزلْنَاهُ تَن ِزيالً﴾.َّاس َعلَى م ْك ٍ
الن ِ
ُ
وإذا كان القرآن املنزل حسب حاجة اجلماعة األوىل هو
الوحي وهو الفيصل يف وقائع معينة فإن القرآن كفيل أن يريب
469
لنا عقيدة وأن يعلمنا بتأمل النموذج احلركي املشخص يف اجليل
القرآين الفريد كيف نتحرك .وحيث الكاتب اإلسالميني على أن
يستعدوا لرحلة طويلة يفصل خطواهتا كما يلي« : 1هكذا ينبغي
أن تطول مرحلة بناء العقيدة ،وأن تتم خطوات البناء على مهل
ويف عمق وتثبت» .فإذا انتظرنا أن نعلم كيف جندد عقيدة وبناء
فال نتلقى إال اجلواب الدائم وهو أن احلركة تولد املنهاج وأنه ال
جمال للنظرية السابقة .ولو قبلنا هذا املنطق وقبلنا أن املسلمني
يف عصرنا جاهليون لبقي لنا إشكال يرجع إىل اختالف ظروفنا
وظروف الذين عرفهم املسلمون من كوهنم صحابة وعرفهم الكاتب
بأهنم جيل قرآين فريد ،ويرجع إىل ضياع اجلهد يف كل حماولة
نظرية مثل حماولة الكاتب نفسه .لنقرأ رفض املعامل ولنعرف مكان
الرجل املمتاز بني رجال اإلسالم الفكري يف سلسلة عبده وأيب
األعلى وقطبنا احملبوب .يقول « : 2إن التصور اإلسالمي لألوهلية
وللوجود الكوين وللحياة ولإلنسان…يكره بطبيعته أن يتمثل يف
جمرد تصور ذهين معريف ألن هذا خيالف طبيعته وغايته» .وهذا
كالم ال غبار عليه ،لكن بعد هذا « :وكل منو نظري يسبق النمو
احلركي الواقعي ،وال يتمثل من خالله ،هو خطأ وخطر كبري».
470
إن من بني كتاب الدعوة اإلسالمية من يشكو يف أيامنا هذه
ركود الفكر اإلسالمي على الكثرة العددية ملا ينشر .ولعل أهم
أسباب الركود إحجامنا عن النظر بالعني األخوية الناقدة لكل ما
كتب يف اإلسالم بعد الوحي واحلديث املصحح ،مث لعل إحجامنا
هذا نفسه جاء من قلة ثقتنا باهلل ،ثقة ال نزال ننتظر أن يربينا
عليها جمدد يبشر الناس بنوارنية ال إله إال اهلل ونورانية الصحابة
ألهل ال إله إال اهلل يف زمن الفتنة .
471
االجتهاد
مفتونون حنن غري جاهليني ،وإن كان من بيننا أهل الردة ومن
قادتنا فإن األمة املستضعفة ال تزال هي أمة سيدنا حممد سليم
اعتقادها وال ينال منها الطاغوت اجلاهلي املتكالب عليها املتألب
إال إشارة بالرأس املائل من الظلم املرتقب لرمحة اهلل الذي جعل
متسعا يف رضاه ملن أكره وقلبه مطمئن باإلميان.
ال نقاش يف أن حترك الركب اإلسالمي رهني بالوعي الواضح
لواقعنا ،فإننا إن ذهبنا حنسب أننا مسلمون حقا فلن هنتدي إىل
الطريق بل نطمس معاملها قانعني بالفتنة املوروثة جادين بفكر
مفتون حنو واقع أشد فتنة .لكننا إن حكمنا بأن جمتمعاتنا جاهلية
خارجة عن دين اهلل فقد كفرنا مجيعا حبكم أنفسنا ،وحكم اهلل
أن ال عدوان إال على الظاملني وحكم رسوله أن نرفق وال نعنف
خاصة يف زمن الفتنة واهلرج ،وإن حكمنا بأننا جاهليون فرمبا
نطمس معامل احلياة املتجددة طمسا ال رجاء معه لوضوح وسري،
إذا كنا جاهليني فما ألحد ذمة و ال ألنفسنا ،وخلري مع ذلك أن
حنطم ونكسر ونثور ونتمرد وندمر.
نعم ،هذه اجلاهلية خالطتنا كما فتنتنا يف فكرنا كما فتنتنا
يف حسنا .ونعم إن ضرورة حتررنا منها والتمييز عنها أسبق
472
الضروريات .ونعم أن مفتاح اخلالص يف كتاب اهلل جيب أن جنتهد
لنعثر عليه .فإما توبة من فتنة تعم الناس مجيعا وتسرت ويالت
املاضي ومآسيه وإما أن نعلن أن اإلسالم مات ونبحث عن عامل
غري عاملنا وعن جمتمع غري جمتمعاتنا لنبذر فيها بذرة جديدة.إما
توبة تكون هي الرفق وتكون هي التؤدة ترأب الصدع ومتحو الفتنة
وتفتح باب اجلهاد يف اجتاه التباين املطلق مع اجلاهلية ،وإما حشر
للمحكومني اجلاهليني بأهنم ضحايا لواقع موروث حيز الضمائر
مثلما حيز الرؤوس مع احلكام اجلاهليني بأهنم ورثوا الفتنة فكانوا
أعالمها وطواغيتها .ويف هذا نتشوف لإلمام املهدي حيمل السيف
ويقطع دابر القوم الكافرين.
إن األمة ال تزال مسلمة ،وفتنتها عن إسالمها تدهو تارخيي
تكثفت أثناءه مبادئ العمل اإلسالمي وأساليبه وأنغمت اآلفاق
الفكرية والروحية حتت قيادات عاضة .وما وحدت هذه القيادات
الصفوف وال مهدت للقوة إال يف فرتات متقطعة على يد رجال
استثنائيني يشرقون يف مساء اإلسالم جيددون الدين ويعزون املؤمنني
فإذا ماتوا رجع األمر كما كان دولة دائلة ومعارك بني املسلمني
هائلة خصاما على السلطان أو خصاما على اخلالفات املذهبية.
وسلمت من بعد كل هذا عقيدة األمة يف جمموعها إال هذا الزبد
من ذرارينا امللحدين ،ومن جيل هؤالء مثقفونا وقادتنا وهو جيل
473
تتفاوت معرفته لإلسالم واعتقاده من امللحد الكافر إىل الورع التقي
وقليل ماهم ،لكنهم يوجدون يف دواويننا وجامعاتنا ومدارسنا إىل
جانب املالحدة وإىل جانب الفاترين.
إننا مسلمون فرديون مفتونون وإننا حباجة إىل جتديد يبصر
املسلمني الفرديني مبنهاج العمل بعد أن جيدد هلم إميانا .فأما جتديد
اإلميان فقد دلنا على وسيلته من له الوسيلة والفضيلة ،ويكمن
السر يف الكلمة الطيبة جييئنا هبا من يقول بسلطان وراثته لنبيه:
«قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا !» وهو املتبوع املصحوب،وهو
ويل اهلل الذي يغضب ربه على من عاداه ويؤذنه حبرب .ويف
تاريخ املسلمني أعظم األدلة وأوضحها على مكان اجملدد يف بعث
األمة وإحيائها .وقد صحب عمر بن عبد العزيز إماما أنار له
جوانب قلبه كما صحبه صالح الدين وابن تاشفني وحممد الفاتح
واملكري وكثري من رجال اإلسالم اجملاهدين .ويف تاريخ اإلسالم
أمثلة للرباين حامل الكلمة الطيبة خيرج من رباطه ليحرر األمة
ويقودها للفالح.
بيد أن الذي ال جنده يف تاريخ اإلسالم هو ذاك اجملدد الكامل
الذي يسلك باألمة منهاجا خيرجها من دائرة الدولة إىل دائرة
اخلالفة النبوية .ونرى بداهة أن اخلروج من دوامة احلكم العاض
يقتضي اجتهادا فكريا إىل جانب الربانية بل تكون النظرية والفكر
474
عنصر! من عناصر الربانية .إن من سبقونا من اجملاهدين كانوا
ال حيبون أن تسبق النظرية املمارسة مثلما يوصي سيد قطب،
فكان جهادهم جهادا جتريبيا يواجهون كل يوم مبشاكله ويعدلون
ويصلحون وال يتجاوزون اخلط العادي مدى حياهتم ويف نطاق
مهمة شخصية يؤدوهنا .وملا مل يكن هلم منهاج للعمل متكامل
تدول من بعدهم الدولة وينسى اجلهاد وينسى التجديد.
االجتهاد طلب للجهاد وألساليب اجلهاد ومبادئه ،لنفهم
الكلمة هبذه املعاين اجلذرية حىت ال يتقلص مفهوم االجتهاد
ويتحدد يف دائرة جزئية .إن اهلل تعاىل جعل لكل أمة شرعة
ومنهاجا ،فاجتهاد الشرع اجتهاد يرتبط باألمر والنهي واحلالل
واحلرام واحلقوق ،وأما اجتهاد املنهاج فهو البحث عن املسلك
اإلمياين يف ظرف متغري ومع أجيال هلا خصائصها يف عامل متطور.
الفقه الشرعي اإلسالمي غين كل الغىن لو وجد جماال
للتطبيق .لكنك ال ختلق أمة بسلطان القانون وحده وال جتدد
إميان الغافلني إن سردت عليهم ما فرضه اهلل وما حرمه ،وسردت
عليهم «توحيدا» .كان سيد قطب رمحه اهلل ورضي عنه يرفض
رفضا باتا يف كتبه أن يضيع رجال الدعوة جهدا يف اجتهاد الفقه
الشرعي قبل أن تقوم الدولة اإلسالمية .ونِ َّ
عما يقول لو كان كالمه
يوضح الفرق بني نظرية اجلهاد ،أو ما نسميه بالفقه املنهاجي،
475
وبني اجتهاد الفقه الشرعي .لكنه رمحه اهلل يعمم .أما األستاذ
اجلليل أبو األعلى املودودي فقد كانت ظروف دعوته خاصة ،إذ
حضر ميالد باكستان ،وفرح بالدولة اإلسالمية حاسبا مع الناس
مجيعا أن اإلسالم قومية أقوى من القوميات وكفى .وشارك علماء
املسلمني الذين اقرتحوا دستورا إسالميا واقرتحوا قانونا إسالميا
للدولة الوليدة .وكان كل ذلك اجتهادا شرعيا ،أما االجتهاد
املنهاجي ،أما وضع معامل الطريق فقد اقتصر على تعليم لإلسالم
الفكري مع احملاولة الطيبة لبدء حركية إسالمية خملصة .وانتهى
األمر إىل تكوين مجاعة تشبه حركيتها إىل حد بعيد حركية األحزاب
السياسية .وليس يهتدي اإلسالم الفكري ألكثر من هذا.ولسنا
نعيب الثقافة اإلسالمية اليت يعد السيد املودودي قطبها إىل جانب
قطبها الشهيد رمحهما اهلل.كيف وهم أساتذتنا ! درسنا كتبهم فما
جتدد لنا إميان حىت صحبنا رجال لقننا الكلمة الطيبة ودلنا على
ذكر اهلل وحمبته.
وكانت النهاية أن حتول محاس املسلمني يف باكستان نشوة
سياسية ،وتعثرت الدولة إىل أن تصدعت وانشقت وضحك منا
املشركون .ما سبق قيام الدولة فهم للمنهاج الرتبوي الذي ينقل
كل فرد من إسالمه املتقلص إىل آفاق إسالم مجاعي يدور على
احملبة والطاعة والنصيحة .ولعله كانت السلطة يف فرتة من فرتات
476
باكستان بيد مسلمة خملصة لكن هذه السلطة ما عرفت كيف
تنظم البعث اإلسالمي مستعملة وازعي القرآن والسلطان .إهنا
ما عرفت ذلك وأىن هلا أن تعرف وقد خترج قادة بالدنا املسكينة
املمزقة من مدرسة اإلسالم العصري
إن رفض االجتهاد املسبق منطق ما عليه سؤال إن كان
االجتهاد يعين بناء القصور يف السحاب ،يعين ختطيط دولة على
الورق .لكن رفض االجتهاد إعراض عن اجلهد وغرور إن كان
معىن هذا االجتهاد اكتشاف اإلسالم اكتشافا جديدا ،اكتشافا
يعلمنا من حنن أوال ،وهل حنن مسلمون أو جاهليون ،ويعلمنا يف
نفس الوقت املصدر النبوي البشري للهداية ،ويعلمنا كيف دخل
الناس اإلسالم أول ما دخلوه استجابة لدعوة الرسول ،ويعلمنا
غرابة حياة الرسول وصحبه والغيب الذي كان يغشاهم صباح
مساء .ويعلمنا بعد ذلك كيف نرجع حنن من موقعنا الراهن حلياة
اإلسالم كما اجتمع الصحابة من أشتات القبائل وكونوا أمة مؤمنة
ومجاعة جماهدة.
إن رجال الدعوة األجالء من أمثال الشيخ حممد عبده
واملودودي وسيد قطب يذكرون النموذج اخلالد يف كتبهم ويوصون
بالتمسك بالسنة والسري على هدي النبوة .لكنهم ال يشرحون
لنا كيف نفعل ذلك ،أما سيد قطب فريسلنا إىل القرآن ويوصينا
477
أن نتلقاه «بنية التنفيذ» كما تلقاه الصحابة ،فإذا فعلنا كنا
صاحلني وكنا مؤمنني وجماهدين .ولو كان لنا نية تنفيذ لشريعة اهلل
ملا احتجنا إىل وصية ولكنا السابقني ملرضاة اهلل .وأما املودودي
فيعطينا برناجما أوسع من هذا يف كتابه «تذكرة دعاة اإلسالم»،
يدعونا لربط العالقة باهلل بالذكر والنفل واخللق احلسن.
نعم هذا كتاب اهلل هو الثابت املطلق يف وسط متغريات
اإلنسان وظروف حياته .وهو مصدر اهلداية ال شك .وربنا يعلمنا
يف أول سورة املصحف أن للقرآن مفتاحا ،فمن جاء بال مفتاح
فال يتدبر اآليات وال يتلقى األمر بنية التنفيذ .هذا املفتاح هو
اب يم الم َذلِ َ ِ
ك الْكتَ ُ الر ِح ِ
الر ْحم ِن َّ اإلميان بالغيب ﴿ :بِس ِم ِ
اهلل َّ ْ
ب﴾ .إذا كنت ين يـُْؤِمنُو َن بِالْغَْي ِ الَ ريب فِ ِيه ه ًدى لِّلْمت َِّق َّ ِ
ين الذ َُ َ ُ َْ َ
متقيا تؤمن بالغيب فلك يف القرآن هدى ،وإال تكن فما تزيدك
التالوة إميانا .وكان سيدنا عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما أهدى
بالغا حني أخربنا متحدثا عن نفسه وإخوته « :أوتينا اإلميان قبل
القرآن».
وربط العالئق باهلل هو التقوى وهو اإلميان بالغيب ،وال إميان
إال مبحبة ،وصدق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث قال :
«لن تؤمنوا حتى تحابوا» وحيث قال « :ثالثة من كن فيه ذاق
حالوة اإليمان :أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سواهما،
478
وأن يحب المرء ال يحبه إال هلل ،وأن يكره أن يعود في الكفر
كما يكره أن يعود في النار» .ولقد كان الغزايل والبنا رمحهما اهلل
تعاىل يدالن أصحاهبما على أن القلوب مترض وأن هلذه القلوب
أطباء .وهبذا يضعون قدم املريد على أول الطريق .نعم إن املنهاج
الصويف قد حيتاج إىل تكميل لكي يطابق املنهاج اجلهادي ،لكنه
بربانيته يدلك على منبع اإلرادة وأصل احلركية اإلميانية ألنه يقفك
أمام املوت وحيدثك مبنهاج القرآن عن النبإ العظيم وعن مصريك مث
يرشدك إىل اهلداية وإىل الويل املرشد .املنهاج الصويف وحده يكشف
لك مشتبكات اآليات يف قرآن ربك ويف ملكوت اهلل يف اآلفاق
وملكوته يف نفسك .وهو وحده حيدثك عن الغيب ويزج بك يف
عامل الغيب حىت يكون لك إميان يقيين بالغيب وينفتح لك بذلك
باب الفهم يف القرآن ،وتسلك الطريق لتحقق قابليات كمالك
الذي من أجله خلقت ،حيث يكون اهلل تعاىل جده وتبارك امسه
وال إله غريه عينك ومسعك ويدك ورجلك .املنهاج الصويف يدلك
على احملجة البيضاء اليت تلحقك مبوكب األنبياء خالدا يف رضى
ربك ،وجيمع لك شتيت اجلهد ويقرب لك املطلب البعيد العزيز،
إذ جيمع مهتك على حمبة متبوع ناصح ويل مرشد .وأنت بعدها
أما أن جتد نفسك يف ظروف فتنة ما كلفك اهلل مبناهضتها وحدك
وأفسح لك جمال الفرار بدينك ،فتسلك سبيل اخلالص الفردي،
479
وأما أن تتسامى إىل مقام وراثة أويل العزم من الرسل فتلتمس
جهادا وجتتهد خلالص اجلماعة وتصل الصحبة باجلهاد.
وسائل يسأل :كيف يكون الناس مجيعا صوفية ؟ وجميب
املنهاج يذكره أن االصطالح التارخيي ووسائل الرتبية وكسر النفس
اليت علقت بالصوفية متعلقات زمانية اجتهادية .واالجتهاد
املنهاجي يثبت على اللب وجيدد األسلوب ومنطق اخلطاب.
من تعابري سيد قطب رمحه اهلل « :اجليل القرآين الفريد»،
تعبري يعرف به جيل الصحابة األبرار .ويف التعبري عدول عن
املعىن الروحي اإلنساين للصحبة إىل املعىن الفكري للتفرد باخلطاب
القرآين ،وفيه إعجاز لألجيال الالحقة يشبه إعجاز قول امللحدين
بأن جيل الصحابة فلتة ال تعود .وحنن نسمي الصحابة منوذجا
خالدا خللوده بالتجدد طبقا ألحاديث النيب املؤيد بالوحي حيث
قال « : 1مثل أميت مثل املطر ال يدري أوله خري أم آخره» ،وحيث
قال : 2خري أميت أوهلا وآخرها ويف وسطها الكدر» ،وحيث بكى
أصحاب رسول اهلل مقتل جعفر وعبد اهلل بن رواحة فسأهلم صلى
اهلل عليه وسلم :ما يبكيكم ؟ قالوا :ومالنا ال نبكي وقد قتل
خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل فينا ! فقال : 3ال تبكوا ،إمنا مثل
1الرتمذي يف جامعه.
2احلكيم الرتمذي يف كتابه «كتاب ختم األولياء».
3احلكيم الرتمذي يف «نوادر األصول».
480
أميت مثل حديقة ،قام عليها صاحبها ،فاجتث رواكبها وهيأ
ساكنها وحلق سعفها .فأطعمت عاما فوجا مث عاما فوجا مث عاما
فوجا ،فلعل آخرها طعما يكون أجودها قنوانا وأطوهلا مشراخا !
والذي بعثي باحلق ! ليجدن ابن مرمي يف أميت خلفاء عن حوارييه !
فإن اإلسالم ما مات وإن هذه األمة حمتد الفاضلني أولياء
اهلل وما فضلنا القرن األول إال بصحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم ،ولنا إن حنن جاهدنا جهادهم وابتغينا إىل ربنا الوسيلة
وتأسينا بسنته فضل اإلميان بشرى رسول اهلل بأننا الطائفة القائمة
على احلق حىت يأيت أمر اهلل.
إن عنوان هذا الكتاب يبشر باحلدث القريب الذي بشر به
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،والتعرض ملوعود اهلل وموعود
رسوله تقوى ورباح .وال يتم الفقه املنهاجي إن مل يكن من مقوماته
االعتقاد اجلازم بغد اإلسالم املوعود يف كتاب اهلل وسنة نبيه ،كما
ال يتم التجديد الذي أظل زمانه إال إن نقلنا من احلكم العاض إىل
اخلالفة على منهاج النبوة مبنهاج النبوة ،منهاج البشر الذين بعثهم
اهلل ومل يبعث مالئكة ،بعثهم باحلق أنبياء ورسال ،وأورث ربانيتهم
ونورانيتهم أولياء هذه األمة أهل اهلل أهل القرآن.
ولئن كان فكر العصر أعشته اإليديولوجية املبشرة بقانون
التطور وقانون االقتصاد ،احلابسة لإلنسان اجلاهلي يف معركة
481
تناقضات قوى اإلنتاج مع عالقات اإلنتاج ،فإن بشري رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يزال ناطقا بلسان النبوة أن قد حان
الوقت لريفع اهلل احلكم اجلربي وينزل اخلالفة على منهاج النبوة،
وقانونه املقدر خيدم قضاءه احملتوم ،فال مرد حلكمه ،ومن فضله
علينا أن حيركنا لنقرأ على هذا اجليل حديث نبيه إذ قال «1إن أول
دينكم نبوة ورمحة ،وتكون فيكم ما شاء اهلل أن تكون مث يرفعها
اهلل جل جالله .مث تكون خالفة على منهاج النبوة ما شاء اهلل
أن تكون مث يرفعها اهلل جل جالله .مث يكون ملكا عاضا ،فيكون
ما شاء اهلل أن يكون مث يرفعها اهلل جل جالله ،مث يكون ملكا
جربية فتكون ما شاء اهلل أن تكون مث يرفعها اهلل جل جالله ،مث
تكون خالفة على منهاج النبوة تعمل يف الناس بسنة النيب ،ويلقي
اإلسالم جبرانه يف األرض ،يرضى عنها ساكن السماء وساكن
األرض ،ال تدع السماء من قطر إال صبته مدرارا ،وال تدع األرض
من نباهتا وبركاهتا شيئا إال أخرجته».
«هذا بالغ ولينذروا به وليعلموا إمنا هو إله واحد وليذكر أولوا
األلباب» صدق اهلل العظيم.
1رواه مسلم والرتمذي وابن ماجه بصيغ خمتلفة ،واللفظ للشاطيب كما نقلناه من كتاب املودودي
«موجز تاريخ جتديد الدين وإحيائه» ص.58 .
482
ا لتنظري
يتطابق حديث رسول اهلل املبشر باخلالفة على منهاج
النبوة مع بشارته بأن الكدر الذي شاب وسط هذه األمة ذاهب
وتعود األمة إىل سابق خريها ،وإن التجديد املنهاجي يكسب
فاعليته باألبعاد اإلميانية الغيبية اليت تعطي للرجاء معناه اجلدري
فيصبح ترقبا وانتظارا .فأما الذين عاهبم الشيخ املودودي الذين
ينتظرون مهديا هابطا بسيفه وفرسه من السماء فإمنا رجاؤهم
وترقبهم نوع من األحالم اخلرافية تتعايش مع اخلمول والكسل.
وأما الرجاء اإلجيايب فيقتضي جهادا عمليا ال يفرتق عن اجلهاد
الفكري وعن التنظري املنهاجي.
ملن ننظر منهاج البعث اإلسالمي وعلى من نعرض اإلسالم؟
إذا حكمنا أن جمتمعنا جمتمعات جاهلية ،أو حكمنا أهنا مسلمة
ال عوج هلا ،فتنظرينا للبعث اإلسالمي إما أن يعود بنا إىل نقطة
انطالق من الصفر ،وال بد عندئذ من رجل واحد يقول ريب اهلل
ويدعو الناس إىل ال إله إال اهلل ليخرجوا من الكفر إىل اإلميان،
ومن اجلاهلية إىل اإلسالم ،وإما أن يعود بنا إىل إسالم سياسي
مناط عمله جتميع الناس يف أحزاب سياسية وجتميع الدول يف
جمموعات وأحالف والناس كما هم ال يشعرون بأهنم أغيار غرباء
عن اإلسالم.
483
وكال املوقفني تعرفهما ساحة العمل اإلسالمي .أما منطلق
التنظري املنهاجي فهو أن املسلمني جسم مريض يسمى مرضهم
العام فتنة ،وهذا اجلسم حباجة إىل متريض وتطبيب وتربية مبعىن
الرتبية اجلذري أي مبعىن التنشئة والتنمية معا.
إن هذه املاليني الكثرية من املسلمني الوراثيني هم مضمون
األمة ،وخيتفي عنا هذا املضمون اهلزيل حتت أشكال تسمى دوال
وتسمى أنظمة حكم وتسمى جمتمعات إشرتاكية أو ملكية أو
أمريية .فإذا جئنا نغري الشكل دون أن يدخل يف حسابنا تغيري
املضمون فإمنا نستبدل لباسا بلون آخر نضعه على نفس اجلسم
اهلزيل املريض .وليس مهما يف نظر احلق والواقع أن نرفع شعار
اإلسالم إال بقدر ما يكون الشعار ومحله جزءا من عملية تربوية
هدفها تغيري اإلنسان ليصبح مسلما مؤمنا ،ينقل بالرتبية من وضع
الفتنة والغفلة عن اهلل إىل مقام اإلسالم واإلميان واإلحسان.
تنشر اليوم كثري من الكتب عن اإلسالم ،أغلبيتها الكربى
أدب إسالمي ينظر إىل اجليل اخلالد بعني اإلعجاب والتحسر،
ويف كل صفحة يعرض جهاد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه،
ويف كل صفحة يعلن أن اإلسالم سبق لكذا وكذا من أنظمة
االجتماع أو اكتشاف العلم ويف هذا األدب اإلسالمي عزاء
وسلوى وفيه أيضا تذكري ألجيال نسيت اإلسالم ،وله أثر حسن
484
ألنه خياطب عاطفة املسلمني وإن كان هذا اخلطاب ال يتجاوز
عتبة االعتزاز القومي إال قليال .لكن املهم يف نظرنا هو أن هذه
الكتب الكثرية ما نشرت إال استجابة لرغبة القارئني ،فوجودها
ينم عن تطلع املسلمني إىل اإلسالم ،ووقوف الكاتبني عند حد
التمجيد واالستذكار خيرب عن فقر الفكر اإلسالمي يف ميدان
التنظري اهلادف إىل بناء املخطط جلهاد عملي واقعي قريب ممكن
غري بعيد ممتنع.
ومن بني هذه الكتب الكثرية طائفة مما كتبه اإلخوان املسلمون،
بل إن جلها من إنشائهم ،وتدور مجيعها من بعد سيد قطب يف
فلك اإلسالم الفكري .فإذا جتاوزت قطبا واقتبست نفحات علوية
من اإلمام البنا حتدثت عن ضرورة الرتبية مث ال ختربنا عن مبدئها
ومعادها ،وال تتجاوز عقلية املطالبة الناشئة عن وضع احلصار
الذي اضطر إليه رجال الدعوة اإلسالمية لتنظر انبعاثا متعديا غري
الزم يبادر إىل العمل ويفتح جماال للرتبية واجلهاد.
جل ما تقرأه إذا حتدث رجال الدعوة املسلمون عن مبادئ
اسرتاتيجية العمل اإلسالمية مبدأ حفر اخلنادق يف واجهة األعداء
احملاصرين للدعوة ،فهناك العدو التقليدي وهو التبشري املسيحي
وهناك طاغوت احلكم وهناك العامل اجلاهلي .ويف الواجهة املقابلة
مسلمون هلم مشاكل وبينهم خماذالت ،فأسبق شيء إليهم أن حيفروا
485
خندقا ملصابرة طويلة طويلة .وتقتضي احملاسبات اإلسرتاتيجية أن
تعترب قوى اجملاهد جبانب قوى العدو ،ويف هذا احلساب يذكر
جمد اإلسالم الذي تآمروا عليه ويذكر فضل األولني ،ويؤول األمر
إىل حب وشوق وإعجاب «باجليل القرآين الفريد» .وكل هذا
ناتج طبعا عن حمنة املسلمني يف عصرنا ،وكل هذا يرينا البعث
اإلسالمي بعيدا ممتنعا.
اللهم ال خري إال خري اآلخرة ،اللهم إن النصيحة للمسلمني
تقتضي أن جنهر بإسالمنا وإن جنهر باحلق كما نراه .فال يأخذن
إخواننا ما نكتبه إال مأخذ الظن احلسن باملؤمنني ،وخري لنا أن نعترب
ببعض الذين ينشرون تبشريهم باإلسالم االشرتاكي وباالشرتاكية
اإلسالمية ويزكون سعي املفتونني إذ يزعمون إن االشرتاكية مرحلة
ضرورية إلحياء اإلسالم .لنعترب هبؤالء ولننهض لنعرض اإلسالم
على إخواننا املفتونني فهم ضحايا يستحلون اجلرب اآلكل
ألجسامهم ،ولو عرضنا عليهم املنهاج اإلسالمي بوضوح وقوة
وتعد لعرفوا به الدواء وعرفوا به داءهم.
ال شك أن يف واجهة اجلهاد اإلسالمي قوى متضافرة هلا
دخيل من بني ذرارينا ،لكن الوقوف عند استعظام قوة اخلصم
فشل مسبق ،ولينصرن اهلل من ينصره ،ولن تغين عنكم فئتكم شيئا
ولو كثرت ،وإن اهلل مع املؤمنني.
486
انظر إىل اإلمام البنا ،إنه ما كان يتحدث عن «املرحلة
الطويلة» وعن األجيال املعدة للتضحية كما كان يفعل سيد قطب
رمحهما اهلل ،ولكنه كان خيتم كالمه بقوله تعاىل « :ولتعلمن نبأه
بعد حني» .ويف اآلية شحنة من الرجاء والتوقع القريب .هؤالء
قومنا اختذوا من دون اهلل أولياء ،وهجروا شرع اهلل واختصموا
إىل الطاغوت ،فهم ال يلتمسون حال إال عند الفكر اجلاهلي
وال منوذجا إال يف اجلاهلية .وقد ثبط اهلل عزائمهم بقهره فآبوا
خاسرين ،وقد ابتعث اهلل من بني عباده الكافرين دوال أويل بأس
يعذب هبم يف الدنيا أجيالنا املفتونة وخيضد هبم شوكة الفتنة حىت
لتسمع اليوم نربة األسى يف صوت قوادنا املتهدج إذ يلفظون
شعارات اإلسالم .وما بينهم وبني اإلسالم إىل التوبة ،نعرضها
عليهم وندهلم على أهنا باب العمل املفتوح دائما إن قبلوا شروطها
واستطاعوا أن ينبذوا ذهبهم ودبدهبم وقبقبهم وينزلوا من القصر
إىل خيمة اجلهاد مع املستضعفني الوارثني .وإنك لتسمع من قادتنا
من يلهج باإلسالم هلجا ،لكن عميت عليه أنباء اإلسالم فأمره
اشرتاكية قومية يسبح اإلسالم يف جلتها سبحا.
فلكل هؤالء ينبغي لرجال الدعوة أن ينظروا ،ينبغي أن يذكروهم
بفضل األولني يف سياق يفتح اآلفاق لتجديد اجلهاد ،وينبغي أن
يرمسوا الغذ كما يصفون هلم النموذج اخلالد ،ولن يفيد شيئا أن
487
نتيه إعجابا بالسابقني أن مل نقرن جهادهم باخلط اجلهادي اخلالد
الذي سنسري فيه غدا بعد ارتفاع الكدر ورجوع اخلري إلينا من ربنا.
ال بد مع الرتبية وتطبيب القلوب من فكر يسبق املمارسة،
وإن كان الفكر يضع منهاجا من شأنه أن حيطم الكربياء ويرجع
الناظر إىل موقف الفطرة ،فإن هذا الفكر حيمل يف طياته داعي
التعلم من املمارسة كما يليق بإنسان الفطرة الذي يعجب من كل
شيء ،ويتعلم من كل شيء آخذا العلم من ربه اخلالق لكل شيء.
وهذا الفكر املنهاجي يتضمن مبدأ العلم والتعلم ومعناه ختطيط
الفكر املسبق للمارسة وتطعيم املمارسة للفكر.
واملنهاج النبوي الذي نعرضه ال يقصر ضرورة التعلم على فئة
من األمة دون فئة وال حيصر ميدان التعلم يف املمارسة اإلسالمية
دون غريها .فكتاب اهلل مصدر جهاد املسلمني وسنة رسوله ،مث
بعد ذلك ومعه هذا العامل احلافل بالنشاط والتجارب والنظريات
عطاء من ربك غري حمظور.
مث هل ميكن أن ننظر لالنبعاث اإلسالمي دون أن نعترب
اجلرب الفكري املنتشر وباؤه فينا ،وأعين الفكر املاركسي ؟ وهل
ميكن أن ننظر إلسالم الغد غري ناظرين للجاهلية املذهبية املتحدية
للعامل يف هيكل روسيا الفوالذي ويف تربية الصني العتيدة 1؟ دعنا
1كان ذلك ومها عاش عليه العامل سبعني سنة،مث اهنار ذلك الصرح وخرت الشيوعية على وجهها.
488
من خزعبالت البنية التحتية اليت تشع البنية الفوقية ،ودعنا من
خزعبالت احلتميات التارخيية ،فإن كل ذلك أصبح هراء منذ
عرف الصينيون السياسية بأهنا تضحية وخدمة للجماهري ،أي أهنا
عمل إرادي يف أقصى ما ميكن من الذاتية.
دعنا من تفاصيل الفكر املاركسي وشعبه فإمنا يستحق منا الرثاء
إلنسان اجلاهلية الذي ال يعرف ربه فال يعرف مصريه بعد املوت،
وال بأس علينا من حتليله للتاريخ التكاثري هذا التحليل اخلبري فقد
يفيدنا أن نتعلم منه رداءة اإلنسان وهويه إذا سقطت مهته بسقوط
إميانه باهلل إىل حيث تتحكم فيه قوانني الصراع الطبقي.
تعلمنا من الصني أن البنية الفوقية هي العامل األول يف
البناء ،وتعلمنا من أولئك الفالحني والعمال الصينيني إن «أسبقية
السياسة» شعار عقدي يفعل يف الناس فعل السحر .وإذن فلنعرض
منهاجنا النبوي عرضا حركيا يوقظ الوعي يف ضمري احلاكم املفتون
ويف ضمري األمة الغارقة يف أوحاهلا.
من رجال االجتماع فرنسي يدعى تورين Alain Touraine
489
تعريفا واضحا .ومعىن تعريف النفس الوعي بالذات .مبادىء
جاهلية ننظر إليها لنقيسها مبعيارنا املنهاجي .فنحن أوال نريد
مجاعة ال جمتمعا وحركية اجلماعة غري حركية اجملتمع ،لكننا معا
حنتاج لوعي ذاتنا.
.1املبدأ األول :مبدأ االنتماء « »Principe d’Identité
490
« »Principe d’opposition .2املبدأ الثاين :مبدأ التعارض
الذي مييز جمتمعا ما أو كتلة ما ،هو تعارضها مع مصاحل اجملتمعات
والتكتالت األخرى.
وحنن املسلمني نشعر شعورا مريرا بعداوة العامل لنا ،فتميزنا
عنه متيز سليب ،متيز مطالبة وأسى على الظلم احلاضر واملاضي،
ومتيز نقص ألننا شعوب متخلفة ،ومتيز هزمية ألن بالدنا املقدسة
تطأها أقدام جنسة .ويف داخل كل هذا متيز خاص برجال
الدعوة اإلسالمية وتعارض ،إذ يرون غريهم جاهليني ويتقمصون
دور التضحية التارخيية املكيدة املضطهدة من جانب الصليبية
والطاغوت احلاقدين.
والبديل اإلسالمي هلذا هو اإلجيابية اليت تعرب اخلصلة الثالثة من
خصالنا العشر ،وهي الصدق .فتميز مجاعة املؤمنني ال يقف عند
تعارض الكفر مع اإلميان بل هو متيز اإلنسان احلي عن اإلنسان
امليت ومتيز اجملاهد املتجدد اجلهاد عن إنسان العادة .ومعىن التميز
عن العادة االرتفاع عن مستوى الشعوب اجلاهلة لقيمة اإلنسان
الكافرة باهلل واليوم اآلخر واالرتفاع عن مستوى عادة القعود
وعادة االسرتواح والرتف يف املتاع املادي أو اإلغراء الثقايف .إنه
متيز إقالع ومتيز استمرار جهادي .وتصور لنا حركة املسلمني
األولني مع أبينا ابراهيم ومع سيدنا حممد عليهما الصالة والسالم
491
قوة الصادقني اليت ال تقاوم وحركية اجلماعة اجملاهدة املناهضة
للجاهلية ،لكن املطمئنة القادرة على محل رسالتها الراجية أن
تكون بينهم وبني العامل مودة ،واهلل قدير واهلل غفور رحيم.
.3املبدأ الثالث :مبدأ الشمولية « »Principe de Totalité
إن أي جمتمع أو جتمع حركي ينبعث استجابة لفلسفة أودين أو
إيديولوجية .ونكمل مفاهيم صاحبنا باملفهوم املاركسي للشمولية،
وهي تفسري اإلنسان والتاريخ واملبدإ واملعاد تفسريا حميطا بكل
نشاط اإلنسان عارفا بقوانني االجتماع وبضروب االستغالل اليت
تستلب اإلنسان وحترفه عن مصريه .ولكل فلسفة أو مذهب
جاهلي تصورها للعامل واإلنسان ،وجتتمع كلها يف لون الدوابية
اليت تسمى للتشريف بلساهنم «إنسية».
وحنن املسلمني املفتونني غفلنا عن اهلل واخنرمت صفوف
الصالة يف املساجد كاخنرام صفوفنا أمام العدو ملا ذهبت عقيدة
اجليل احلاكم وفرتت عقيدة األمة تلوي عنقها حنو املتاع املادي
والقيم املادية كغاية هلا.
والبديل احلق لكل هذا الباطل ذكر اهلل الذي ال ينفصل عن
مبدأي االنتماء والتعارض ،أو قل ذكر اهلل مع الصحبة واجلماعة
ومع الصدق .وبذكر اهلل والتقرب إليه بالفرض والنفل جتلى القلوب
ويشرق نور اإلميان ،وبذلك يتحول املسلمون املفتونون ،أفرادا
492
يف حضن مجاعة ،ومجاعة يف صحبة قيادة جماهدة ،من وضعهم
الراهن غري املستقر إىل مقام أوىل الذمم الذين يوفون بعهد اهلل
وال ينقضون امليثاق والذين يتبايعون على نصرة اهلل فينصرهم اهلل.
إن مقادة اإلنسان ال تعدو هذه النقط الثالثة ،وإن تنظري
البعث اإلسالمي إن عرفنا وضعنا الراهن بوضوح وعرفنا كيف
حنول انتماءنا وكيف نتميز عن الشعوب واجلماهري لنكون أمة
حاملة رسالة تبشر العامل بأن اإلنسان ليس دابة وتربهن على
صدق رسالتها بواقع إسالمي يزري كماله ومجاله مبجتمعات
اجلاهلية ،إن كان التنظري مشوليا على هذا النحو ودل على نقطة
البدء وهي الصحبة واجلماعة ،واجلماعة بصحبة ،فقد بان الطريق
للعمل .ومن عند اهلل بعدئذ يأيت املدد فريتفع الكدر مث تكون
خالفة على منهاج النبوة تتدرج من حتقيق األهداف اإلسالمية
للمقاصد اإلميانية فالغايات اإلحسانية.
493
ا لتنظيم
جاءت مبادىء صاحب االجتماع مطابقة خلط اخلصال
اإلميانية اإلحسانية واحنسر الفكر اجلاهلي يف تقليب األفكار
تقليبا علميا ،واستفدنا حنن حكمة تعلن دمغ الباطل حني يقذف
باحلق.
ووقف بنا الشعور حباجة التجديد اإلمياين إىل اجتهاد يلح
علينا أن اجلهاد اإلسالمي مفتاحه رجل يقول ال إله إال اهلل وإىل
تنظري يلح علينا أن الصحبة والصدق املفضيني إىل حترير اإلنسان
من جهله وجهالته ترسم خط السري .وثالثهما احلاجة إىل التنظيم.
ذلك ألن العنصر النظري الثقايف ،أو قل بلسان اإليديولوجية ،إن
البنية الفوقية إن كانت حتدد القيم وتعلم التصور الشمويل وتفرض
معايري العمل فإن البنية االجتماعية تستعصي على التغيري ويقاوم
الناس مستندين إىل العادات االجتماعية كل حماولة للتجديد.
فمن هنا يلزم أن نكتشف دخيلة العالقات اجملتمعية قبل أن نشرع
يف تغيريها ونتمكن من وضع عالقات مجاعية إطاعة حلركية التغيري
بدهلا.
ومبا أن عالقاتنا املوروثة ،عالقات التاريخ املفتون ،مل تغري
منها الظروف احلاضرة إال املظهر واللون وعززت طبيعة االستغالل
494
واالستعباد والتسخري فيها ،فينبغي أن نفقه أن تصاحلنا مع األوضاع
الراهنة بإسالم نسيب ال يشبه تفاهته كمقصد إال رجوعنا إىل
عالقات ما قبل االستعمار .وينبغي أن نفقه أن التغيري اإلسالمي
اجلذري الذي نريده إن كان من احلكمة والضرورة أن يقبل فرتة
انتقال من األوضاع املفتونة إىل مقامات النظام اجلماعي فواجبنا
أن نتيقظ لكيال تطول املرحلة فتنعكس املطالبات االجتماعية
على حركية التغيري وميسخ الواقع اجملرور القوة الناقلة أداة للحركة
الدائرة اليت ال تربح مواقع الفتنة والتبعية للجاهلية.
إن عاملنا عامل تتضارب فيه عقليتان تنظيميتان ،إحدامها تنظم
اجملتمع على أساس حرية الفرد يف زعمها ،واألخرى تنظمه على
أساس خدمة اجلماعة يف زعمها ،وبني النموذجني اجلاهليني لقاء
حمتوم على صعيد القمع االجتماعي .وال خيتلف التنظيمان إال
من حيث أن جمتمع اإليديولوجية ميارس القمع بسذاجة تتمثل يف
عنف ستالني ،وأن جمتمع الفوضى يتثاقل حتت ممتلكاته وحاجاته
اليت ال تنتهي فيضطر ملزاولة قمع علمي يتمثل يف التسخري
السياسي ويتمثل يف اآللة القانونية اليت ختنق الفرد قبل ميالده
وتضع يف عنقه أوهاقا فال يتحرك إال مبقدار وال يتصرف إال وفق
قانون مسبق وضعته ضرورة جمتمع استهالكي تستعبد كماشته
االقتصادية عمل اإلنسان ووقت اإلنسان وضمري اإلنسان.
495
التنظيم االجتماعي اجلاهلي بنيته قائمة على ضرورات
املشروع االقتصادي ،فعند جاهلية الكثرة والتكاثر يستعلي قوم
باملال والتكنولوجية فهم طبقة برجوازية كما يعربون ،وطبقة أخرى
ورثت استعباد القرون فهي كادحة عاملة ،وتتخاصم الطبقتان
وتتقاتالن مث تصطلحان على رفع مستوى املعيشة ،وهم الليل
والنهار املطالبة واملنازعة .وعند جمتمع الثورة جتد اجلماهري تنظم
غداة الثورة تنظيما جادا بوازع التعبئة الثورية ،بالتهديد واملوت يف
روسيا ،أو بالرتبية وإعادة الرتبية يف الصني.
التنظيم االجتماعي اجلاهلي قائم البنية على عالئق اقتصادية
تطابق قوى اإلنتاج أوال تطابقها وتوفر البضاعة املادية للمستهلكني،
وكل من يف بالد اجلاهلية ال تعريف له إال أنه مستهلك ،فهو مبعيار
اإلسالم مسخ ،وحنن مبعيار اجلاهلية متخلفون .فأيا ما التفتنا حنن
األمة املستضعفة طلع علينا األكلة على مأدبة اللئام بوجه املقاتل
القوي الطاعم الكاسي وهم صف معبأ متحد متضامن منظم،
وحنن ال نظام لنا.
فحاجتنا إىل تنظيم األمة غداة عودة اإلسالم كحاجة اجليش
إىل تعبئة صفوفه غداة القتال .لنا بنية اجتماعية موروثة ،وهي
بنية فتنة مسخت البنية اجلماعية األوىل .فنحن جمتمع وجيب أن
نتحول يف ظل اإلسالم غدا مجاعة .وجيب أن تكون بني املؤمنني
496
روابط مجاعية بدل العالقات االجتماعية .يف الفصول السابقة رأينا
أن روابط اجلماعة منواهلا احملبة ،والطاعة باملبايعة العامة سداها،
وحلمتها النصيحة هلل ورسوله واملؤمنني .فهذا نسيج فريد … نظريا!
أما عمليا فالشوط بني بنيتنا املهزولة وبني بناء التعبئة طويل
يبدو ،واجلهاد لتحويل املسلمني احلاليني عن شحهم وأنانيتهم
وعادهتم ال بد أن نشمر له تشمريا بعيدا .ولعلنا إن كشفنا عن داء
جمتمعاتنا املريضة كشفا موثوقا به وعرفنا الوصفة النبوية لعالجه أن
نقرب الشوط وأن جيلو لنا اجلهاد.
كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوحى إليه فيخرب أصحابه
وخيربنا معشر الذين يلقون السمع وهم شهداء مبا سيقع ألمته
العزيزة ،ويوصي بالسلوك املنجي من الفنت .فكان فيما أخرب به
مآل األمة يف زماننا وضعفها وهزميتها وهواهنا على أكلة املائدة
اللئام .قال صلى اهلل عليه وسلم « يوشك أن تتداعى عليكم
األمم من كل أفق كما تداعى األكلة على قصعتها .قال :قلنا :
يا رسول اهلل ! أمن قلة بنا يومئذ ؟ قال :أنتم يومئذ كثري ،ولكن
تكونون غثاء كغثاء السيل ،تنتزع املهابة من قلوب عدوكم وجيعل
يف قلوبكم الوهن .قال :قلنا :وما الوهن ؟ قال :حب احلياة
وكراهية املوت !».1
497
وذكر اهلل تعاىل املشركني يف القرآن فقال « :ولتجدهنم أحرص
الناس على حياة» فهم حيرصون على حياة أي حياة ،أي أهنم
يقنعون باحلياة الدوابية البيولوجية ويلتصقون باألرض وقيمها.
فلما خبت جذوة اإلميان يف قلوب املسلمني احنطوا إىل مصاف
الذين حيرصون على حياة أي حياة ولو كانت حياة هوان .وهبذا
احلرص يفر اجلندي من القتال ويشتغل املرتف بشهواته غداة
املعركة وتباع الذمم للعدو وخيون الساسة والقادة وربائب اجلاهلية
دينهم وأمتهم حرصا على حياة أي حياة.
وبذلك كنا غثاء كغثاء السيل ،والصيغة تدل يف العربية على
املرض والقلة كما تدل املادة على اهلزال والضعف .وهذا التنب
البايل والقاذورات اليت حيملها السيل ال متاسك هبا وال قوة هلا.
وليس يزيدها كثرة العدد إال إحلاحا يف اإلشارة إىل مكان الداء.
فها حنن أوالء سبعمائة مليون نسمة ،كثريون كثرة الصينيني !
لكن يا أسفا على املقارنة ! إنه ال يذكر كثرة اخلرباء وقوهتم يف
عددهم ذلك إال ضآلتنا وجهلنا وضعفنا!
أفنجنح إىل عصبية نقاتل عليها كما أوصانا حممد عبده ،أم
أن الغثاء والقلوب اجلبانة تتجدد هلا حياة بالقومية واالشرتاكية ؟
كال ! فإن املرض ال يربأ إال بتطبيب ماهر ،وإن القلوب اخلاوية
اليائسة احلريصة على حياة أي حياة ال ُْتلَى إىل حبقنة الربانية
498
وال يذهب وهنها فتعبأ لبذل النفس والنفيس إال مبا أصلح قلوب
احلواريني واألصحاب ،فمن الشك والتخاذل السائدين يف جمتمع
الكراهية واهلزمية ال نقلة لنا حىت نعيد بنية األمة الغثاء حبيث
يقودها وينفخ فيها من روحه من ذكروا اهلل حىت أتاهم اليقني.
إن االنقالبية واالشرتاكية متوجات متر على سطح اجملتمع
الغثائي وال تبلغ من الناس إال األذان وإال طاعة منقادة خائفة.
فعلى سطح جمتمعاتنا املفتونة نشاهد غليان فتية رفعت احلمية
القومية تغدوها اإليديولوجية من غضبهم ،ثاروا على االستغالل
من جانب املرتفني وثاروا على هزمية األبطال املستكربين .فلما
تسلطوا على األمر حبق شجاعتهم ومغامرهتم حبوافز العصيبة
والشرف القومي والتحرر العاملي استعملوا سلطان فكرهم وسلطان
يدهم ليكيفوا اجملتمع الراقد املائت مع أهدافهم يف البعث القومي
ومزاحمة أمم األرض على مائدة العامل .وال تستجيب األعداد
الغثائية لنداء وال تتحرك لتعبئة إال مبقدار ما تشتد نربة الصوت
وحتمر احلدق.
ونتيجة هذه التحركات الثورية من بعد التحركات اليت سبقتها
يف عهد االستعمار ويف عهد االستقالل السابق للثورة واالنقالب
أن اجملتمع الغثائي فقد توازنه السكوين املوروث دون أن جيد توازنا
جديدا يستقر عليه فتتكون له ظروف العمل والبناء .يف أسفل
499
السلم االجتماعي الغثائي مسلمون عقيدهتم ال تزال صافية قوية
كعقيدة العجائز أو يشوهبا شوائب ترجع للجهل والعادة أكثر
مما ترجع للكفر املفلسف ،ويف أعلى السلم طبقات من الناس
تتصارع على السلطة فطالع هابط ،وما منهم إال من يفقر األمة
املغلوبة الواهنة ليعد العدة يف أبناك اجلاهلية إما لغد االنقالب
وإما لتدمري أعداء الثورة يوم حتني الفرصة.
ال توازن هناك وما يغين أن يكون للغثاء توازن ،وترتفع درجة
التوثر بني طبقات جمتمع الكراهية وأحزابه وأجياله على السطح
املرتف جباهه وثقافته ويف الساحة متفرجون ال يشرتكون يف حركات
املسرح ،وفيهم تكمن بذور اإلميان ،وهم املستضعفون الوارثون.
فمن كان من املسلمني يف زماننا يرثي حلال اإلسالم بصدق
وجيتهد فال جيد جماال للجهاد فذلك معقد أمل للغد .ومن كان
صادقا يف غضبه على ظلم الظاملني وهب يثور ثورته وينقلب
انقالبه باحثا عن شهامة ورجولة فذاك قوة اإلسالم املذخورة ليوم
تتفتح فيه عينه على احلق املنزل واحلق العلمي واحلق الواضح الذي
هو أننا لن حنرك هذه األمة أبدا إن مل خناطبها بلغة تفهمها وإن مل
جنتهد ليعود نبع اإلميان باهلل واليوم اآلخر إىل صفائه يف القلوب.
وإن هذه األمة ليست هي هؤالء املرتفني املخنثني الذين جيلسون
يف نواديهم يثريون جدال حول العدل االشرتاكي ،جدال من جدل
500
الصالونات،وحشو أحدهم جهل وارتياب يف ضمريه وعقله ،ويف
نيته مشاريع ليتسلق هام الشعب احملتقر يف صميم اعتقاده الصاحل
ليكون عتبة الصعود ،ويبذر أموال املسلمني املستضعفني .وليست
األمة هي هؤالء املتورطني يف الثورة القومية واالشرتاكية يتظاهرون
يف منتديات السياسة العاملية ومع قومهم أحالس اخلبائث وفراعنة
االستكبار.أولئك طبقة تقشر ويعاد هتذيبها حىت جتد ،إن صدقت
وأعطت الربهان ،مكاهنا يف أحضان األمة التائبة.
إن إسالمنا العزيز وبعثتنا غدا لعزة وعد اهلل هبا املؤمنني لن
تغري األمة حرصا على توازن أي توازن بل سيغري منكر االستكبار
الرتيف .وحنب أن نذكر أن الرتف يف لساننا مقولة منهاجية حركية
تشخص مرضا ،وال نقصد هبا ثلبا خلقيا ،ومتحو طبقية الظلم
لتحل حملها بنية مجاعية إسالمية إميانية إحسانية ،فأئمتنا غذاهم
الربانيون املؤمنون احملسنون ،ووالء اجلماعة ال ينفتح إال ملن هاجر
وأعطى برهان الصدق على ذلك برهانا مستمرا يف كل صباح
ومساء .واملسلمون بعد ذلك يف توادهم وترامحهم كاجلسد إذا
اشتكى منه عضو تداعى له سائر اجلسد بالسهر واحلمى.
هذا البناء العضوي هو تنظيم اجلماعة وإنه لتنظيم مراتب
اخلدمة ونفع الناس ،وإنه لتنظيم أدوار أرضية ميثلها مؤمنون هلم
روحانية كشفت هلم عن الغيب فازدادوا إميانا ويقينا وعلموا أن ال
501
خري إال خري اآلخرة ،فهم لذلك يعملون ولرضى رهبم يسارعون
ومغفرته .هذه رمحتنا بيننا غدا يوم تقوم قائمة اإلسالم إىل اإلمام
اجملاهد والؤنا وجلماعة املؤمنني ،وإىل اهلل مرجعنا فنحن له يف كل
حركة عابدون .وأما مبدأ الرفق جتاه العامل الذي يعوض يف شرعة
اإلسالم مبدأ املعاداة ،كما يعرضه تورين ،فهو الدليل والشارة
على أننا أمة متميزة عن اخللق كما يليق بأمة حتمل رسالة الرمحة.
عندما يستخلفنا اهلل يف األرض فلن تكون خالفتنا سوى خالفة
رعاية ،فإن اخللق عيال اهلل وأحب اخللق إىل اهلل أنفعهم لعياله
كما جاء النطق النبوي الشريف ،وحنن نرغب إىل ربنا ليحبنا فال
نستعلي يف األرض وال نطغى.
اإلسالم غدا يطرح مناذج السلوك والتنظيم االجتماعي،
وجيتهد وينظم تنظيما ربانيا قوامه النخبة اإلميانية اإلحسانية وهي
خنبة خدمة وطبقية ايثار وبذل.
ولنأخذ من مصنوعات العصر منوذجا تصوريا لنقرب بنية
العمل اإلسالمي كما قربنا ضرورة التعبئة اجلماعية إذ شبهنا
موقفنا مبوقف اجليش احملارب ،الطائرة ينظرون بنياهنا ويهندسون
وخيططون ،فذلك مقام االجتهاد والتنظري يقوم به رجال الدعوة
اإلسالمية .ويشرف مهندسون على بناء الطائرة حتت إمرة رئيس،
فذاك هو القائد اجملاهد .فإذا مت تركيبها وصنعها وضع احملرك مكانه
502
ومليء وقودا كان البد لتحرك الطائرة من قائد يعرف الوجهة
وحيسن ملس اآلالت ويعرف أسرارها ويسهر على راحة املسافرين،
وحيرص أن يلزم كل مكانه وأن يؤدي كل موظف وظيفته .فالقائد
هو اإلمام اخلليفة الرائد ،واحملرك هو قلوب هذه األمة حيييها وقود
اإلميان ،والعاملون لتجهيز الطائرة وتنظيم مراتب املسافرين وخدمة
الرحلة كلها هم الربانيون .وكل أولئك تربطهم راوبط اهلجرة هلم
يقني بأن الطائرة متلك أن تقلع وأن الوجهة املتفق عليها املقصود
إليها بقيادة القائد هي اهلل ،وأن التضامن العضوي والتعاون شرط
لنجاح الرحلة.
فهكذا املسلمون يف األرض مرحتلون إىل دار النعيم ،إبان
فتنتهم جيهز كل واحد رحلته يف مشروع اخلالص الفردي ،فإذا
نشر لواء اإلسالم كانت الرحلة اجلهادية الرائعة اليت تقلع باألمة
فيكون إقالعها وحسن هيئتها بالغا للناس مجيعا وتبليغا للرسالة
اخلالدة املتجددة.
إن اهلل عز وجل ال يستحي أن يضرب مثال ما بعوضة فما
فوقها ،فهو يعلمنا مبصري األمم ويعلمنا بكل صغرية وكبرية من
آياته يف األرض ويف أنفسنا .وقد يكون عجزنا عن التعلم من
النظام الرمزي الذي شرعه اهلل لنا يف الصالة ناجتا عن غفلتنا
ومنتجا هلا .ضرب اهلل لنا مثال للنظام يف الصالة ،وهي أهم
503
أمورنا ،فاملسجد جممع لنا ينبغي أن نأخذ عنده زينتنا وأن جنمره
ونعطره ونوقره وجنلس فيه جمالس اإلميان .ولكل مسلم مكانه يف
صف الصالة أمام احملراب أمام اهلل ،وال تصح الصالة يف اجلمعة
واجلماعة إال خلف إمام شرطه ذكورة يف روحانيته وعلم يعقل
معه التكليف العظيم ويعرف معه أركان اإلمامة وأركان الصالة.
وعلمنا اهلل آداب النظام يف صالة اجلماعة لكيال ينخرم صف،
وعلمنا أن نظام الصالة اجلماعية يرفع أجر املصلني سبعا وعشرين
درجة.
ويف اآلفاق علمنا اهلل أن النظام ناموسه األكرب ،به تتماسك
الكائنات وبه حتيا األمم املائتة .وسندخل املسجد إن شاء اهلل
آمنني يوم الفتح األكرب يوم اإلسالم غدا.
504
الفصل اخلامس
505
العدل
استعملنا مفهوم اإلقالع لتمثيل حركية اإلسالم املنبعث
وحركيته ،وأصحاب الفكر االقتصادي يستعملون هذا املفهوم
حني يتحدثون عن إقالع اقتصاد أمة متخلفة يف حركته للتصنيع
ومغادرته ملعيشة القلة .ولعل عنوان هذا الفصل يفهمه القارئ
عروجا عن هدف اإلقالع االقتصادي وهو التصنيع املؤدي
للكثرة .ونشري هنا إىل أن الكثرة ال تعين القوة مبزية وتعطيها الكثرة
وتعطيها الصناعة وحدمها ،ونشري إىل رحلة املسلم قاصدة ملا وراء
الكم وقد تكون الكثرة االستهالكية أهم ما يرتفه عن مقصده.
فلذلك ينبغي أن يكون بناؤنا االقتصادي يرعى هدف الكم يف
إطار املقصد اإلمياين والغاية اإلحسانية لكيال يرتف جهاد اإلسالم
يف اهلدف االقتصادي كما ترتف اجلاهليات الواحدة تلو األخرى
ريثما يأيت دور اخلرباء احلمر .ولن تكون مجاعة اإلسالم غدا جمتمعا
استهالكيا ،وإن اخلالفة على منهاج النبوة رهن استمرارها بنجاح
األمة احلية اجملتهدة يف اإلفالت من دوامة االقتصاد االستهالكي.
بلوغ اهلدف االقتصادي هو وعد اإليديولوجية يف دعوهتا
وجناحها يف حتقيقه برهان تزعم أنه يزكي علمية املذهب وصالحيته.
ويشكل الوعد االشرتاكي من كونه وعدا ومن كون وسيلته
506
دكتاتورية وتعبئة منظومة عملية ناجعة متارس يف ظل عمليتها
كل التسخريات اليت تربط اإلنسان بعجلة اإلنتاج .فلذلك تنجح
الثورات الشيوعية ولو بعد حني يف تصنيع البالد وإعطاءها القوة.
أما بالد الفوضى املنظمة فإهنا تعرض علينا منوذجا خمتلفا ،يف هذه
البالد استقرار سياسي وعادة موروثة يف حفظ احلقوق وحكمة
قومية خلفها العنف التارخيي ،ويشكل كل ذلك منظومة تشجع
التعايش يف ظل املطالبات واملنازعات االجتماعية بني العمال
وأصحاب املال.
وملا استيقظ املسلمون على واقع العامل بوخز االستعمار
ولسعه وفتكه وجدوا الشيوعية والرأمسالية تتنازعان السلطان يف
العامل ووجدوا أن موضوع النزاع خريات األرض وأن وسيلة الصراع
القوة اليت يعطيها التصنيع .وتتلمذت أجيال املسلمني للفكر
اجلاهلي ،فكان جل مهها بلوغ اهلدف االقتصادي .فكانت جتربة
اللربالية يف بالد املسلمني نسخا سطحيا للنظام الرأمسايل ،ومل
تستقر اللربالية يف بالد املسلمني ولن تستقر أبدا ألن رأس املال
احلاكم بأمره يف بالد اجلاهلية الرأمسالية أشد ضراوة وأوسع فتكا
يف بالد جمتمعها منحل ضعيف .يف أرض اجلاهلية حس مرهف
باحلقوق وميدان مفتوح للعدل خيفف من سلطان رأس املال ،أما
يف بالدنا فإن رهافة احلس بالظلم ال جتد ميدانا للعدل ينفس عن
507
احملرومني وطأة طاغوت املال .فيزداد عندنا الغين غىن والفقري فقرا،
وإذا استنسخنا تنظيمات مطالبية كالنقابات فإننا نستورد شكال
فارغا نضع عليه الالفتات اليت من ورائها طواغيت يستنقون من
دم العمال واحملرومني ويعرقون ما أبقاه طاغوت املال .إن كان
يستقيم لعامل رأس املال أمر فذلك ألن العنف التارخيي رىب الناس
وهذب هلم نظاما اجتماعيا استقروا عليه ،وحنن عنفنا باألمس
وعنفنا اليوم خلف لنا غليانا مظهره تفاوت الفرص بني من ميلك
ومن ال ميلك ،فريتفع قوم جباه املال يرشون به احلاكم وحيرم آخرون
ويرتكون .ويف هذا املثلث املوبوء يرتف الغين مبا ابتزه ويرتف احلاكم
مبا ارتشى وهنب ،ويرتف احملروم بالظلم الواقع عليه ،ففي قلبه
بغض وغيظ فأىن له أن ينتج !
والوعد الشيوعي خياطب احملرومني بأفصح لغة يفهموهنا وهي
لغة الرزق ولغة العدل ولغة اسرتجاع السلطان من يد املستأثرين
املتسلطني إىل يد الطبقة الكادحة .والثورة الشيوعية عند قيامها
تنزع امللكية وتسوي بني الناس مجيعا وتصنع وتعطي القوة
للقومية الشيوعية .وإذا كانت هذه الشيوعية خبرية ومحراء معا
وكانت شيوعية جمددة كما هو احلال يف الصني فإن لغة اخلطاب
اإلديولوجي تكتسب يف ميدان التطبيق جهارة وإغراء حىت تصك
آذان العامل .ويف بالد املسلمني آذان تسمع وعقول تفكر وتدبر
508
حيذوها املثال الشيوعي بعدله ومساواته ويتحداها ظلم املرتفني
الظاملني .فلهذا ينقلب املنقلبون وهلذا يتمرد الشباب ،وال يبغون
عند الشيوعية تفسريا للعامل واإلنسان وال يبغون عندها فلسفة،
إمنا يأخذون كل ذلك الغالف اإلديولوجي ملكان احملتوى امللفوف
فيه وهو العدل االجتماعي ورفع الظلم ،وملكان العمل البطويل
املنفتح يف وجه من يناصر احملرومني ويعلن الثورة على الظاملني.
ولن تقوم ببالد املسلمني شيوعية أبدا ألن األمة سليمة ،ال
تزال ،يف عقيدهتا وألن الوعد اإلسالمي خياطب هذه القلوب
املسلمة بقوة حىت ولو كان ذلك على صعيد تأمل التاريخ احلي
تاريخ عمر بن اخلطاب وأمثاله .ولئن ظهر يف أفق البالد اإلسالمية
قوم زعموا أهنم شيوعيون وحتدوا بذلك نفاق وعجز من خيفون
حريهتم برفع شعار االشرتاكية اإلسالمية فإمنا هم سحابة صيف،
وسيأيت اهلل جلت عظمته برجال حيبهم وحيبونه أذلة على املؤمنني
أعزة على الكافرين جياهدون يف سبيل اهلل وال خيافون لومة الئم،
ذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم.
إن املسلمني يف حالة فقرهم وضعفهم ال يستطيعون أن خيطوا
ألنفسهم منهاجا عمليا للحياة يتمثل يف الواقع احملس ،يتمثل
يف إجياد عمل للعاطلني ،وإجياد طعام للجائعني وكساء للعرايا
وسالح للمقاتلني .عالة حنن نتكفف الناس على مائدة وعدنا
509
اهلل أن نكون خلفاءه عليها إن آمنا وعملنا صاحلا .ونستورد
أسلحة وطعاما كما نستورد إيديولوجية ،فأما األسلحة فال تعمل
يف أيدينا ملوضع اجلنب وخوف املوت يف قلوبنا ،وأما الطعام فيتجر
به املرتفون ويبقى اجلائع جائعا واحملروم حمروما ،وأما اإليديولوجية
فدمية تتنكر يف أيدينا مبا وضعناه عليها من ألوان منوه هبا مصدر
لعبتنا الفكرية ،وتكون اإليديولوجية عند الناس عقيدة وسالحا
للقتال ،وتكون عندنا احنالال خلقيا وعنفا فوضويا.
إن املسلم يف عصرنا أحق الناس أن ينعت بأنه «إنسان
مظروف» ،تتحكم ظروف فتنته يف فكره وحركته فال يعي نفسه
أبدا إنسانا حرا ،تتحكم فيه حاجات االستهالك اليت ورثها من
معاشرته للحضارة اجلاهلية ،فالبزة والسيجار والسيارة وما إىل
ذلك حجته الوحيدة على أنه انسان .وتتحكم فيه قماءته وعدم
ثقته بقيمة مل يشهد له األساتذة اجلاهليون بأهنا قيمة حضارية.
وتتحكم فيه عاداته ،فإن كان حمروما فعادة الكسل والغيظ املكتوم
العاجز عقاله ،وإن كان مرتفا فتوقانه لتقليد اإلنسان اجلاهلي
املثقف املتحضر يغرقه يف هم مقيم خوفا من أن تفوته «املودة»
أو يرى ويف رقبته شناق ال يتناسب والبزة العتيدة .ومظروف
أيضا الثوري الصادق ألنه ينظر إىل نفسه وقومه وإىل العامل بعني
مستعارة ،وجيتهد اجتهاده فال يبلغ إال أن يعبد متثاال جاهليا أو
510
وثنا فكريا يفتح له باب العاملية االشرتاكية حيسب ذلك حتررا
وحيسب العمل من أجله رجولة ويبذل نفسه وعصارة فكره ومنتهى
حيلته يف ذلك.
مظروف ومستلب ،ويف لغة اإلسالم ممسوخ ،كل من يقرتح
على املسلمني سبيال غري سبيل املؤمنني .وما سبيل املؤمنني أن
يستحيلوا مالئكة يف السماء ال حاجة هلم وال جسد ويتحدون
قوانني االقتصاد حتديا ال يقدر عليه غريهم .إمنا سبيل املؤمنني
يف عالقتهم باألرض واجلسد واقع يلح القرآن الكرمي يف إثباته
واالعرتاف مبشروعيته وتقنينه .فواقعية اإلسالم اعرتاف كامل
حباجة اجلسم وحاجة اجلماعة املسلمة للشرعة اليت تنظم عالقتهم
يف اإلنتاج والتوزيع ،وتنظم ملكية األموال واألرض وتعطي للعملية
االقتصادية وظيفتها األوىل يف إطعام اجلائع واليتيم قبل أن تصرف
اهلمة املسلمة القتحام سائر العقبات.
يف حدود املعىن الوجودي والغاية الوجودية لإلنسان ،ويف
حدود املقاصد اإلميانية والعمل لليوم اآلخر ،يأمرنا اهلل عز وجل
بالعدل يف أموالنا ويوصينا بالتكافل بيننا ،وقد جعل يف شرعته
مكانا لتنظيم تعاملنا كبريا ،وجتد اهلل تعاىل يأمرنا بالصالة يف قرآنه
فال يفصل لنا عدد الركعات وال مواقيت الصالة ،فإذا تعلق األمر
بامللكية وتنظيمها فصل اهلل تفصيال فيه معاين احلدب على حقوق
511
بعضنا إزاء بعض ،وفيه االعرتاف الضمين بأن املسلم ما هو ملك
﴿وأَ ْش ِه ُد ْواْ إِ َذا تـَبَايـَْعتُ ْم
ميتنع على املغريات .يقول اهلل تعاىل َ :
ب َوالَ َش ِهي ٌد … َوإِن ُكنتُ ْم َعلَى َس َف ٍر َولَ ْم تَ ِج ُدواْ ض َّ ِ
آر َكات ٌ َوالَ يُ َ
ض ُكم بـَْعضاً فـَْليـَُؤ ِّد الَّ ِذي ضةٌ فَِإ ْن أ َِم َن بـَْع ُ َكاتِباً فَ ِرَها ٌن َّم ْقبُو َ
ادةَ َوَمن يَ ْكتُ ْم َها الش َه َْاؤتُ ِم َن أ ََمانـَتَهُ َولْيَت َِّق اللّهَ َربَّهُ َوالَ تَ ْكتُ ُمواْ َّ
ِ ِ ِ
فَِإنَّهُ آث ٌم قـَلْبُهُ َواللّهُ ب َما تـَْع َملُو َن َعل ٌ
يم﴾.
اهلدف اإلسالمي لالقتصاد عدل ،واملقصد اإلمياين من
االقتصاد قوة مثلها اهلل برباط اخليل إشارة لضرورة إرهاب العدو
وردعه بأقوى األسلحة ،والغاية اإلحسانية من االقتصاد منوذجية
تربهن للعامل أن اإلنسان يستطيع أن خيرج من دائرة اإلنتاج
واالستهالك.
أول درجة من درج املنهاج فك الرقبة وإطعام اليتيم واملسكني،
فذلك هو هدف العدل .وأول الفقه املنهاجي يف الدعوة إىل
اإلسالم أن نقول للمسلمني املفتونني ما يأيت به احلل اإلسالمي
من عدل ،وما دخل الناس أفواجا يف دين اهلل إال انتجاعا لعدل
اإلسالم .وجعل اهلل تأليف القلوب على اإلسالم مصرفا من
مصاريف الزكاة ،وأعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املؤلفة
قلوهبم فأصبحوا دعاة لإلسالم ال يدعون جلنة ونار وإمنا يدعون
لنيب يعطي عطاء من ال خيشى الفقر ولقد طبعت النفس على حمبة
512
من حيسن إليها ،فلذلك جعل فاطر السماوات واألرض ومن فيهن
من الرباطات اإلجتماعية األساسية العدل يف العطاء والكرم .وإن
معىن أن يكون تأليف القلوب مصرفا من مصاريف الزكاة أن اهلل
عز وجل يعلم أن من الناس من ال يسلم إال انتجاعا للخري ،وإن
كان موالنا عمر بن اخلطاب منع من جاءه يزعم أنه من املؤلفة
قلوهبم ويريد عطاء فحالة مفردة والشرعة القرآنية ماضية إىل يوم
الدين.
فإذا دعونا إىل اإلسالم دعوة عامة فينبغي أن نعرض إسالما
يعدل ويسوي ويرد املظامل ،وإذا قام اإلسالم غدا فإمنا قاعدة
اإلقالع النموذجي هو رفع املظامل وإعطاء اخلري .إن الفالح ال
ينتج إذا كان احلقل ملكا لغريه ،وإن العامل ال ينتج وإن الناس ال
خيلصون يف بذل اجلهد إال إن كان جهدهم واضح املنتوج وكان
حق العامل واملالك عدال وتساويا.
غداة قيام اإلسالم جيب أن تعاد املظامل لتستقر األنفس قبل
أن يطلب منها أن تتعبأ للجهاد .من كان بيده ملك اغتصبه
بنوع من أنواع االغتصاب ،الظاهر منها واملتسرت ،رد امللك إىل
أهله ،ومن كان ميلك أرضا ال يعمل فيها فإن يف اإلسالم ما يبيح
أن جتعل األرض ملن حيرثها ،ومن كان له فضل مال فإن رسول
اهلل أمر أصحابه بإنفاق الفضول حىت ظنوا أنه ال حق ألحد يف
513
فضل زائد على حاجته الضرورية .ومعىن توزيع الفضول يف الفقه
املنهاجي لعصرنا جتميع لرأس املال على أساس مجاعي تكافلي
يضمن حق الفرد وحق اجلماعة ،فأول الفضول وأشدها وباء مال
مكنوز توعد اهلل من كنزه بأشد العذاب ،فهذا جيب أن توضع
له قوانني تسيله وترده أليدي التداول .والفضول بعد ذلك كل
مظاهر البذخ املستنزفة لدماء املساكني .ففي ظل اإلسالم لن
تستورد السيارات الضخمة ولن تبىن القصور .ويف ظل اإلسالم
يشبع كل جائع من حيث يردع أصحاب التخم عن عاداهتم.
وقبل أن نستطيع نزع اإلنسان من امللكية بوازع اإلميان حىت
ميلك ما ميلك وليس له هم إال شراء اآلخرة بالدنيا ،ال بد أن
نستقر االستقرار اإلسالمي على حق امللكية اخلاصة لألرض
بشرط املصلحة العامة .وإن لنا ملتسعا يف الضرائب التصاعدية ويف
سائر التقنيات االقتصادية ما خيولنا أن جنمع بني مزايا االقتصاد
احلر ومزايا االقتصاد املوجه إن اجتهدنا وجاهدنا .وعلى أساس
العدل العام تتقيد املصاحل اخلاصة وتتهذب بوازع السلطان أوال.
جاء الضحاك ابن خليفة يشكو لعمر بن اخلطاب أن جاره حممد
بن مسلمة ال يرتك املاء يصل إىل أرضه عرب أرض جاره ،فسأل
عمر مانع املاء هل يف عبور اجلدول ألرضه ضرر ،فلما أجاب أن
ال قال عمر « :واهلل لو مل أجد له ممرا إال على بطنك ألمررته !».
514
املصاحل العامة يقدمها اإلسالم على غريها ملكان العدل،
فحىت املرياث الذي قننه اهلل تعاىل تفصيال أمرنا أن نعطي منه
أويل القرىب واليتامى واملساكني إن حضروا ،ومعىن احلضور ال
خيتص مبكان القسيمة ،وهبذا فإن هذه املاليني من املنبوذين العرايا
اجلاهلني يف حكم اليتم واملسكنة ،وإهنا ملظلمة أية مظلمة أن يرث
املرتف ماليني من أبيه وال يعطي اليتامى واملساكني من ذاك املال،
إنه جمافاة للحق وخروج عن أمر اهلل وتنفري للقلوب من اإلسالم
ال تأليف.
والناس ،كما أمر رسول اهلل شركاء يف ثالث ،يف املاء والكإل
والنار ،وإن يف هذا جملال الجتهادنا يف نشر عدل اإلسالم.
وهناك مظلمة عامة حصلت وحتصل يف ذمة كل مالك
للنصاب بأرض املسلمني وهي الزكاة .فالزكاة ضريبة واجبة يقاتل
مانعها ،ونتاجها مادة يبارك فيها اهلل تعاىل ويزكي هبا تكافلنا
اجلماعي .وهذه املظلمة جيب أن تكون من أول ما يستخلص من
املظامل غداة قيام اإلسالم.
ال نطلب إىل املسلمني أن يبذلوا جهدا ال يقدر عليه غريهم،
لكن ال ميكن أن نطلب إليهم بذل أي جهد قبل أن يربهن هلم
السطان اإلسالمي غداة قيامه أن الناس سواسية يف الرزق وأن
األمر جد .ولئن قدر الصينيون اخلرباء احلمر أن يلغوا حافز الربح
515
املادي من نظام اإلنتاج ،فلنحن أحق هبا وأهلها يوم يستيقظ يف
قلبنا اإلميان ثقة باهلل ومبن واله اهلل فعدل يف القسمة.
إن هذا اإلنسان ضعيف ،وإن اهلل بارئه شرع أن يتألف قلبه
على اإلسالم ،وإن رسوله سيد الرعاة رأف باخللق وتألف الناس
على اإلسالم وأعطاهم من الدنيا ما به رجعوا إىل رهبم.
أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعرابيا فغضب واستقل
العطاء ،وهم به بعض املسلمني ليقتلوه ،فمنعهم الرسول من ذلك
وزاده حىت رضي فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم « :1إن
مثلي ومثل هذا األعرايب كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه،
فأتبعها الناس فلم يزيدوها إال نفورا ،فقال هلم صاحب الناقة :
خلوا بيين وبني ناقيت فأنا أرفق هبا وأنا أعلم هبا .فتوجه إليها وأخذ
هلا من قشام األرض ودعاها حىت جاءت واستجابت وشد عليها
رحلها واستوى عليها .وإين لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل
النار!»
أال إننا معشر املسلمني املفتونني نافرون عن ربنا ،وهلو عز وجل
أرفق بنا وأعلم ،وإنه جعل لنا شرعة العدل وهدانا ملنهاج العدل
حىت ينال كل املسلمني من قشام األرض وخريها ما به تستقر
نفسه وما به يلتم جرحه املزمن وحزازته املكبوتة من ظلم الظاملني.
وما يصلحنا إال توبة اإلسالم ورفق اإلسالم وعدله احلازم.
516
اليقظة واالنضباط
يف املال حق الزكاة ،وفيه حق زائد على الزكاة ،وفيه فضول
جيب أن تنفق وشرعة اهلل واسعة الجتهاد اجملتهدين .لكن بيننا
وبني حتويل األموال يف دار اإلسالم من اجتاهها التكاثري ملصلحة
طبقة اإلقطاعيني أو اإلداريني أرباب التقنوقراطية االشرتاكية
عقبات أمهها فساد اإلنسان وخراب الضمري.
من أين تأيت البنية االقتصادية املريضة يف بالد املسلمني يوم
يصبح لواء اإلسالم عاليا؟ إن ضرورة العدل كقاعدة لإلقالع قد
يبدو حتقيقها مستحيال ألن اإلدارة يف دار اإلسالم أكثر اإلدارات
فسادا .فلعل األيدي اليت جتمع الزكاة أيد سرقت وتعودت السرقة
يف عامل ال تقطع فيه يد السارق ،ولعل قاضي احملكمة الذي وكل
إليه أن يرد املظامل ألهلها قاض مرتش ألف الفساد يف بالد ال
يقتل فيها ويصلب ويقطع من خالف من حارب اهلل ورسوله
وأفسد يف األرض .فمن أين نبدأ ؟
إن أهم أساس تنظيمي لالقتصاد تشريع حيطم الوضع املمسوخ
ويعوضه بقانون عادل .وإن أسبق ما يغري فيه التشريع الوضعي
املمسوخ يف دار اإلسالم أن تعاد احلدود الرادعة للفساد اإلداري .
وأي جمهود لبسط قاعدة العدل أمام االنبعاث اإلسالمي يتسرب
517
بني أيدي السارق واملرتشي إن مل يكن وازع السلطان أول قوة
تفجأ اجملتمع املفتون حبزمها ومضائها.
يتسرب الضعف للجهود االشرتاكية يف دار اإلسالم من كوهنا
تنخنس من الثورية املزعومة نظريا إىل إصالحية ضئيلة يزيدها
ضآلة وضالال جنب القادة وفساد اإلدارة .وما هكذا يفعل رجال
الثورة اجلاهليون ! إهنا عندهم تعبئة و«حالة طوارئ» ،وإهنم
يأخذون بالشبهة وجيندون الشعوب يف حراسة يقظة لكيال تغتال
الثورة وميضي أمرهم جبد وينتهون إىل هدف.
ما للمسلمني نفري يتعارفون بنشيده لكن هلم أذانا تعرفه قلوهبم
وحتن إليه ،فإذا أذن مؤذن اإلسالم غدا فيحمل كل من يف قلبه
إميان سالح اليقظة ويوضع امليزان برفق الربانية لكن بقوة العدل
ومضاء اإلرادة املؤمنة ،ويبدأ التحرك اإلسالمي يف جو الغبطة
ومشاركة املستضعفني يف األرض ،فرحتهم باإلسالم تزيدهم رغبة
ووعد اإلسالم بالعدل يعطيهم قابلية لتمثيل احلزم يف الشارع
والبيت .إن كان شيوعيو روسيا يشجعون اجلاسوسية بني الناس
فإىل فساد التجسس أوصلهم احلرص على الثورة واليقظة لكيال
تغتال الثورة.
وما ينبغي للمسلم أن يتجسس لكن عليه أن يفضح من ظلم
األمة ولو قالمة ظفر وعليه أن ينضبط فال جيعل التوبة فوضى
518
وثورة وعنفا .وبني نار الرادع الشرعي وحزم األمة املستضعفة جيد
رجل اإلدارة والقاضي وكل من له سلطة عاملني قويني ليغري من
سلوكه وينفذ أمر اإلسالم وحيفظ احلقوق واألموال.
اإلصالح اإلداري ال يعين أن هنضة اإلسالم تتوقف على
حسن اإلدارة وحده ،فذاك وهم خمطئ متام اخلطإ ،لكن صالح
اإلدارة شرط ال يرتفع للنهضة واحلياة .إن اليد املنفذة يف مجاعة
املسلمني جيوز أن تكون يدا غري متوضئة عند الضرورة وجيوز حىت
أن تكون يدا غري مسلمة ،لكن ال جيوز يف قانون اهلل الذي به
تسري األمور كلها أن تكون يدا غري أمينة وإن القطع ورادع احلدود
ال يكفي وحده إلصالح اإلدارة بل ال بد من يقظة األمة كلها
ومراقبتها يف الغدو والرواح لرجل السلطة.
هذه اليقظة جزء من املهمات اجلماعية اليت يشهدها مفهوم
النصيحة والتواصي باحلق والصرب .وإقامة العدل ليست وظيفة
احلاكم بقدر ما هي وظيفة احملكوم .فلذلك يتشخص التساوي
بني املسلمني حتت نظام إسالمي يف احلق كما يتشخص يف
الواجب .للحاكم املسلم املؤمن الذي أعطى برهان صدقه كل يوم
حق الطاعة وواجب النصيحة يف صرف وازع السلطان إىل وجهة
العدل ،وعلى احملكوم واجب النصيحة باليقظة لكيال يغتال العدل
وله إن فعل حق التمتع خبري اإلسالم وعدله ،فإن مل يفعل بطلت
519
احلركية اإلسالمية وعطلت اجلماعة واجبها يف القيام بالقسط.
ومن معاين القيام بالقسط يف مستوى اهلدف االقتصادي السهر
املراقب حلركات الشريك يف الرزق بالصدق والنصيحة والتوجيه
تواصيا باحلق وتواصيا بالصرب .فصرب عن حق الغري حيملك عليه
رادع احلد ويقظة اجلماعة وصرب على الكد حيملك إليه استبشارك
بعدل اإلسالم وبأن جهدك لن يستغله غريك وأن حقك لن يضيع.
إذا وضعت قوانني تقضي بإنصاف احملروم ،وهي موضوعة
فعال يف بالدنا وضعا للزينة ،فإن جمرد وضعها ال يغري من واقع
األمر شيئا .ذلك ألن احلق يضيع إن مل يكن وراءه طالب ،ويزداد
ضياعا إذا كان اجلهاز اإلداري متعفنا ،فإذا اجتمعا أصبح العدل
اإلداري شعارا على املنصات السياسية فارغا.
فمشكلتنا األوىل العائقة لإلقالع االقتصادي هي نفس
املشكلة العامة اجملتمعة يف العنصر البشري .إن هذا اإلنسان قشة
بالية كأمنا أبلتها حضارة تليدة وتاريخ جميد بعد أن استنزفت كل
عناصر احلياة فيها .إن هذا اإلنسان غثاء ال يتحرك بنفسه وإمنا
حيركه السيل فهو مع مهوى املياه ال ميتنع وينفعل وال يفعل .وكأمنا
هذا الغثاء البشري ضغطه ظلم الظاملني فألف على مر العصور
أن يكون عبدا مستغال خادما ،وإن كان فيه غضب وخنوة فهو
يكتمها وينفس عن كبده باللعنة الصامتة الناطقة بسوء حال هذه
520
األمة ،بأمساهلا وجهلها ومرضها.
ال يكفي إذن تشريع إدراي يرفع املظامل ويقيم احلق ،بل ال
بد أن يدمج التشريع العادل يف سياق يقظة تبعثها حياة اإلسالم
بروح إسالمية حيرر الرقبة ويقتحم العقبة .يف مناهج السياسة
وأساليبها يتخذ التهييج املكانة األوىل ،فمن أراد أن يكون له
أتباع وأن جيمع الناس ليحشرهم يف مشروعه صاح وأوعد وشكا
الظلم وزعم الدفاع عن احملرومني إن كان يف صف املعارضة،
فإن كان من الصف اآلخر هيج الناس ضد «أعداء الشعب»
وتعالت األصوات يف بلد الدميوقراطية ،يف مهدها اجلاهلي أو عند
جمتمعات الكراهية يف دار اإلسالم ،ويتخذ التهييج يف بالد احلزب
الواحد شكل الفوران الثوري احلماسي ترتفع حرارته باخنفاض ثقة
الناس يف العمل االشرتاكي.
وبني ضرورة اليقظة اجلماعية وضرورة االنضباط والصدق خيط
اإلسالم برفقه مذهب النصيحة ،فال هيجان وال كذب ،واهليجان
إمنا يعتمد على الكذب .لكن الصدق من القائد اجملاهد حيىي
حبياة الرجاء وحبياة العدل املفتوح جمموعات املسلمني املستضعفني
حىت يشاركوا يف إهناض أمرهم ويشاركوا يف الدفاع عن لوائهم .
وإن هذه األعداد املهملة املظلومة من مساكني املسلمني ويتاماهم
كانت رقاهبا موهوقة يف يد الفتنة املزمنة ،مث طوقها رق خمز يف يد
521
االستعمار وهي اليوم يف عبودية الطاغوت القومي أو الطاغوت
املستنسر بالسلطان اجلربي .ولقد نشأت على الكذب وهانت
عليها القيم حىت لتوشك أن ترجو خمرجا من أوهاقها .وكل هذا
ضعف ،ومن الضعف تأيت القوة أبدا إن كان اإلميان .فمىت دعا
داعي اإلميان بصدق وأعطى احلق بصدق كان ذلك كفيال أن
يبعث من جمراه اجلربي هذا الغثاء فيتحول جندا منظما يقظا
منضبطا .
حدث يف الثورات الشيوعية ويف اإلنقالبات املربقعة أن قام
مظلومو األمس ينتقمون ألنفسهم ،يف الفوضى الثورية أو بوسيلة
القمع املنظم .وكان هذا الشكل من اليقظة الئقا باجلاهلية فهي
جهالة عنف ،صفتان ال تنفك عنها .وامتازت الثورة الصينية
الرتبوية برفقها على الناس ،وحلت تناقضاهتا الداخلية كما تعرب
اإلديولوجية بإعادة الرتبية واسرتدت الثورة إىل صفوفها أكثر من
مخس وتسعني باملائة من النقضاء الطبقيني للجماهري احلاكمة.
وكان يف الصني رجال أعمال وصناعة نزعت الدولة منهم أمواهلم
نزعا رفيقا ،إذ عوضتهم إيرادا حسنا ،لكنه إيراد ال يستطيع أن
يشرتي يف الصني إال الضروري من الطعام والكساء ،فما أمام
أصحاب املال إال أن يندجموا طوعا أو كرها يف اجلماهري.
وإن من طبيعة الضعيف املضطهد أن ينفجر إذا وجد قوة،
522
فلكيال خنلط الفقه املنهاجي بالتهييج السياسي ،ولكيال يشتبه
علينا اجلهاد يف أرض الفتنة إلنقاذ إسالمنا ينبغي أن ندرك جيدا
أن مستقبل االنبعاث اإلسالمي يتوقف على انضباط املسلمني
خاصة غداة القيام بقدر ما يتوقف على يقظتهم اجلماعية.
ويندس يف صفوف العاملني من يرتبص الدوائر ،فلذلك يقتضي
املوقف مهارة قيادية كبرية تنظم إيقاع احلركة املنبعثة وتوجه سريها
يف انسجام ورفق حىت ال تكون الفوضى .ومعىن هذا أن التدرج
القانوين واللجام اإلداري يكونان يف يد القائد اجملاهد مبثابة
مصراعي الباب يفتح هذا بقدر ويغلق اآلخر بقدر ما يسمح أن
تتنظم احلركة فال تنخنق وال تفيض.
مكان القائد اجملاهد يف بعث اليقظة وضبطها كمكان قائد
اجلند ،درس تعبئته بالنظر للمأمورية اجلهادية بعد أن درس عنصره
اإلنساين فعلم اجلاهل وعاجل املريض.
الركود أحد أمراض األعداد الغثائية الكارهة للموت احلريصة
على حياة أي حياة .وعكس الركود الفوران والفوضى .وبني طريف
اخلسار استواء االنضباط املقبول بعد الضبط املفروض .واملرض
الثاين هو مرض العطالة ،وهو مرض من أعراضه الكسل وانعدام
املهارة وعدم التحكم يف الوقت.
يعرف كل من نظر يف حال الناس ونظر يف شؤون االقتصاد
523
ولو نظرة غري خبرية أن أركان النهضة االقتصادية ثالثة :تشريع
عادل ينظم العمل االقتصادي ،وتعبئة املال ،وتعبئة الرجال.
فتحدثنا عن ضرورة يقظة الضمائر ملراقبة اجلهاز اإلداري
وإصالحه ،وحتدثنا عن ضرورة مشاركة األمة كلها يف السهر على
عدهلا ،وحتدثنا عن ضرورة انضباط الرجال لئال يتحول البعث
اإلسالمي ثورة وفوضى ،وكل هذه تعبئة جزئية ال تكفي إلجياد
شروط االنطالق االقتصادي .ال تكفي يقظة الضمري واملشاركة
السياسية ،لنستعمل هذا االصطالح اجلاهلي كما يفهمه اخلرباء
احلمر تضحية وخدمة ،وحدها ،بل البد من اجلانب العلمي الذي
عليه يقوم العمل وبه يقوم العمل وهو قابلية األفراد للمسامهة يف
بناء االقتصاد باليد والعقل والوقت.
هذه القابليات قليلة جدا يف بالد املسلمني بالنسبة حلاجتهم
على كثرة املثقفني حاملي اإلجازات عندنا .ففي الوضع الراهن
تنقصنا اخلربة نقصا فظيعا لسببني اثنني :أحدمها مرتتب على
عقلية قدمية تفضل التكوين األديب على اخلربة العملية خاصة إن
كانت هذه اخلربة تتوقف على العمل اليدوي .والسبب الثاين
عملية االستنزاف االستعماري اليت مبقتضاها علمونا وأقنعونا أن
اخلبري األجنيب رجل ناجع فاعل موثوق بإجنازاته وأن الوطين ال
خربة له وإن محل الشهادات .ولطاملا تأكد لنا بالتجربة ذلك حىت
524
أصبح لنا عقيدة وعقدة ،ويئس اخلبري الوطين من نفسه وهاجر
ألرض اجلاهلية بأعداد ضخمة يبغى أجرا أعلى ويبغى جوا للعمل
تصان فيه كرامته ويشعر بأنه مكان للثقة.
فنضيع ضياعني :أحدمها أننا نعطي األجنيب أجرا مضاعفا
عدة مرات لقاء ومهنا بتفوقه ،والثاين أن اخلبري األجنيب ال تصدره
لنا بالده إال لقلة كفاية أو بنية نسف أخالقنا واقتصادنا وأدمغتنا.
فهل يستطيع اإلسالم يف انبعاثه أن جيمع جيال من اخلرباء
املؤمنني ؟ ال شك أن واجب اهلجرة إىل اهلل ورسوله يقضي أن
يسرع أصحاب اخلربة من املؤمنني ألرض االنبعاث ،وأن يف أرض
اإلسالم رجاال مغمورين يف هذا الطور الغثائي من تارخينا يرتقبون
كما ترتقب األمة بأمجعها نداء اإلسالم وأذانه .مث إن اإلسالم غدا
لن يكون جزيرة منفصلة عن العامل ،بل سيتعاون مع الناس تعاونا
مصلحيا بشرط أن ال يغطي اصطالح التعاون الكسل الوراثي
والغفلة اليت يصادق عليها ترف املرتفني وجماملتهم ملن حيسبوهنم
شيئا من سكان عامل اجلاهلية.
إذا مل يفسح لكل إنسان باب العمل بقي عاطال ،وإذا كان
يظلم يف القسمة كان عمله املرتاخي أشبه شيء بالعطالة ،وإذا
تضافر عليه الظلم وقلة املشغل مع مخول اهلمة اجملتمعية كان مثاال
للكسل وهبطت إنتاجيته هبوطا يصرح مبا هو فيه ومبا ينتظره من
525
هوان ووهن من يكره املوت يكره العمل ويكره اجلهاد ومن حيرص
على حياة أي حياة يقنع مبا دون اجلوع والعري من أسباب احلياة
أو يصرف مهه كله ليجمع أكثر مما مجع جاره .فاجلاهلية التكاثرية
يتجلى حرصها على احلياة يف الكدح الدائب التكاثري وجمتمعاتنا
الراكدة يكتسي قعودها عن العمل وكسلها فيه لباس التزهد الذي
أصبح عادة موروثة.
حيفز اجلاهلي طمعه وحبه للظهور وإرضاء شهواته وحاجاته
املتجددة وحيفز رجل العقيدة للعمل أمله يف خدمة الصاحل العام
مثلما نرى عند الصينيني .وكال الرجلني يعمل وينتج وباإلنتاج
تروج السوق ،فسوق لالستهالك يف عامل اجلاهليات االحتكارية
وسوق قوة يف الصني وحترر واعتماد على النفس.
ويف بالدنا تعيش األعداد اهلائلة يف وقت أزيل طويل ال يعمره
إال جلسات الكسل وال حيدده إال ظلمة الليل ووضح النهار ،وكأن
الوقت يصرف الناس على هواه ،فوقت بارد يدعو لالنكماش،
ووقت حار حيبب الظل ،ووقت واسع ال ينبغي أن يتحجر مبيعاد
وال أن ينضبط مبيقات .وإن وقت الكسل مرتبط مبكان الكسل
وعالقات الكسل ،فوقت دوالن الدولة يكسل فيه احلاكمون
مبتعهم فال يدبرون إال أمر شهواهتم ويكسل فيه العاطلون حيث
ال جدوى من عملهم ،ومكان الكسل حيث يستحوذ الظامل على
526
األرض وما عليها ومن عليها ،وعالقات الكسل تقيد أيدي الناس
ألن أكثر الناس حيلة وكذبا ومكرا هو الذي يرتفع به اجملتمع وهو
الذي يتاح له أن ميضي الوقت يف االسرتواح ولعب األقداح.
527
سلم القيم
خلق اهلل اآلدميني متفاوتني يف قوى اجلسم والعقل متفاوتني
يف ارتفاع اهلمم .فمن الناس من ال يوضع عليه أبدا سؤال الغايات
اإلنسانية ،ال يضعه على نفسه وال يسمعه إن وضعه عليه غريه
إال بأذن غري صاغية .ومن الناس من يلح عليه نداء املطلق
ويقضي العمر باحثا عن حتقيق جوهريته واخلروج من سجنه سجن
العادة واحلياة الدوابية .وكل واحد من الناس يسعى على األرض
حتركه حوافز تتفاوت مراتبها :فإنسان يستجيب لداعي العدل يف
القسمة والعدل يف املتعة والعدل يف الفرص املتاحة وهؤالء أغلب
الناس وعامتهم ،وإنسان يبذل للجار والرفيق ويفيض اخلري على
غريه بداعي احملبة واألرحيية أو بداعي الواجب العقدي.
وتتفاعل هذه احلوافز داخل اجملتمع فتكون عقلية خاصة
وعادة خاصة يف املعامالت ،وتتفاوت اجملتمعات على سلم القيم
استعدادا لتغيري حاهلم إىل أحسن منها ،فاجملتمعات الراكدة تعمها
املطالبة بالعدل وختتار قيما مستعارة من حضارة أهل الكثرة
فيتعذر عليها من إمكاناهتا ،وألن املطالبة مع الركود والقلة تنتهي
إىل غيظ مكتوم أو متفجر معلوم على ظلم يتشكل ويتلون.
وأما اجملتمعات املصنعة اجلاهلية فإن سلم القيم اليت حتفزها سلم
528
متع وجاه وزيادة يف الدخل ورفع ملستوى املعيشة .ومن شأن
العقلية االجتماعية أن تغمر التشوفات الفردية وتستعصى عليها،
فاألفراد الذين يتحركون حبوافز عالية حيسون بالغربة بني مواطنيهم
فينكمشون على سلوك فردي متطهر منابذ للوسط أو تكون هلم
قوة فيدعون إىل تغيري اجملتمع ويرفعون راية الثورة على األوضاع.
وأحيانا تتضافر عوامل الوعي الطالئعي مع تفشي الظلم وقلة
املعاش فتولد جمتمعا مضطربا متهيئا للثورة.
وهذا هو وضع بالدنا اإلسالمية ،فإن فيها غليانا على السطح
يف طبقة واعية تعتمد على هتييج اجلماهري ،والذي يؤسف هو أن
هذه الطبقة الواعية منحرفة القصد لسوء ما علمها أساتذة الفكر
اجلاهلي .إهنا تريد حرية وتريد عدال وتريد تساويا ،لكن حريتها
وعدهلا ال يتجاوزان سلم القيم األرضية االقتصادية ،وهلذا فدعوة
هذه الطبقة ال تتجاوز املذهب االقتصادي العلمي.
ومن مث فإن اقتناعها باملذهب االشرتاكي العلمي يشمل
اقتناعا بآلية التغيري اللينينية املاركسية .وهذه اآللية الثورية عمادها
التطور التهييجي ،يبدأ مبرحلة جتميع القشرة الواعية من املفكرين،
مث تبث هذه القشرة غضبها لتوعية احملرومني بالظلم الواقع عليهم،
مث تتبىن الصراع الطبقي وختلقه خلقا ،وتنتظر أن تسوء األوضاع
اليت ثارت عليها وتساهم يف النزول هبا إىل أسفل دركات الفساد
529
لكي جتين الثمرة ناضجة عندما تنغلق أبواب العمل وجييء وقت
الوثبة احلامسة على احلكم.
هذه قيم هابطة ،قيم الغضب واحلقد الطبقي ،قيم النزاع على
اخلبز وقيم احلرية املادية اليت تنتهي عند التصنيع والبناء االقتصادي.
وهذا الغضب واحلقد هو احملرك النفسي احلقيقي للثوار ال احلتمية
«العلمية» املاركسية .إن فكر اليهودي الفيلسوف فصل تطور
التاريخ وأدرك أن حالة قوى اإلنتاج ومدى تطورها ينعكس يف
عالقات اإلنتاج ،فعلى رتبة تطورها يكون أسلوب اإلنتاج ونظام
امللكية .هذا واقع ال جدال فيه بصفة عامة ،لكن ثورية الفلسفة
إمنا جاءت من ربط كل ذلك بنفس اإلنسان وشعوره بالظلم،
وجاءت من الصياغة اجلدلية لتطور الصراع الطبقي .وتشكل
الفلسفة الثورية شبكة عقالنية تفهمها كل العقول جبهد متعمق
ميأل آفاق املثقفني أو بكيفية مبسطة تدخل عقل العامل املسكني
فتستعمره ويصبح إمكان تعلمها ووضوح منطقها قيمة يف حد
ذاته.
الذي يواجهه املسلمون يف الوضع الراهن ،وضع ما بعد خيبة
االشرتاكية أو وضع ما قبل االنقالب االشرتاكي ،هو سلم القيم
الشيوعية ،فبعضنا جرب اشرتاكيته امللفقة فلم تغن شيئا ومل حتل
مشكال ،وبعضنا ملا جيرهبا فهو ال يزال يتوقع اخلالص االشرتاكي
530
وكالنا ال ينفك يهفو إىل جمتمع شيوعي حيمل امسا تقبله األمة
املسلمة.
مأساة املسلمني الراهنة وحريهتم بني القيم الشيوعية ال يفرجها
إال فضح هذه القيم التائهة بإجنازاهتا االقتصادية بقيم أعلى منحها
حمتدا وأكثر فاعلية يف ميدان اإلنتاج والقوة .وال مينع رجال الدعوة
اإلسالمية وال يثبط من عزميتهم صعوبة التباري مع سلم القيم
الديالكتيكية املادية املشخصة يف دول متعددة متنوعة ،وال يفت
يف عضدهم أن ليس لإلسالم ركن واحد قام فيه االقتصاد وقام
فيه االجتماع على قيم إسالمية.
من رجال الدعوة اإلسالمية من يدفعه اقتناعه بأن اجملال
االقتصادي موضع لقيم نسبية آلية فدعوته إىل اإلسالم دعوة
روحية حمض ،وكثري منهم يشعرون بأن صراع احلق والباطل جيب
أن يتم أوال على ميدان املعركة الذي فرضته ظروف القلة اليت
نعيشها وفرضته قوة املذهب املاركسي يف هذا امليدان متغذيا من
سوء هذه الظروف وإحلاح مشاكلها ومن مناذجه الناجحة القوية.
ويكتب رجال اإلسالم يف االقتصاد االسالمي يساهم كل مبا عنده
فمن يذكرنا بعدل عمر ابن اخلطاب ومن يشرح املاركسية وينتقدها
ويرفضها.
وحنن نعتقد أن القيمة االقتصادية قيمة نسبية آلية ونعتقد
531
يقينا أن نظام رب العاملني ال تقاس به أنظمة احلاملني .لكننا
نسمع ربنا جل شأنه خيربنا أن أموالنا هي لنا قيام ،ويأمرنا أال
نويت السفهاء أموالنا فنفهم األمر على عمومه ونعرف احلق أمر
اهلل تعاىل إذ نرى تبذير السفهاء ألموال املسلمني تبذيرا ال يقاربه
تبذير الصغار القاصرين .فإن كان هؤالء يلزمهم احلجر فإن أولئك
أحق أن تنزع منهم أمواهلم لتكون لنا قياما.
ويف قراءة ورش ﴿ :أ َْم َوالَ ُك ُم الَّتِي َج َع َل اللّهُ لَ ُك ْم قِيَماً﴾ فهي
قيم وال بد للدعوة اإلسالمية أن تضعها موضعها يف سلم القيم.
وهذا هو موضوع الفقه املنهاجي ،أن يصنف القيم ويدل على
الغايات قبل الداللة على املقاصد واألهداف.
تنتظم حول اهلدف االقتصادي كل احلوافز وكل الطاقات عند
االشرتاكيني ،فمن أجل اهلدف االقتصادي يتحرك اإلنسان ويتحرك
اجملتمع كله ومن أجله وطبقا له جيري تغيري البنية االجتماعية
واألنظمة السياسية ،ومن أجله وطبقا ملقتضياته يعبأ اإلنسان
ويطوى اإلنسان ويستلب اإلنسان ليصبح دابة فاعلة منتجة هلا
حركات على إيقاع حركة اآللة وهلا دؤوب وسرعة كسرعة اآللة.
وهذا التنظيم يعطيك آخر األمر إنسانا منوذجيا هو ستاخانوف يف
بالد الشيوعيات أو العامل «املتلري» 1يف بالد الكثرة االحتكارية.
532
نرى الشيوعية الرتبوية يف الصني ترفض أن تطحن اإلنسان يف
رحى االقتصاد فتبتدع قيما أعلى وبذلك تكذب احلتمية الشيوعية
املادية وتنقل أسى اليهودي الفيلسوف على اإلنسان املستلب يف
العمل املستعبد إىل الواقع اليومي ،ونراها على هذا النحو جتدد
لإلنسان الفرد شرفا وسط جمتمعه وتعطيه قيمة يكتشفها إذا قرأ
«الفلسفة» وشارك يف «السياسة» ،ويكتشفها إذا خرق ناموس
التقنية وابتدع وأبدع.
فهل أعطت الصني لإلنسان قيمة أعلى من قيمته الرتابية
الدودية االقتصادية ؟ كال! فاجلاهلية جاهلية ال تربح ،واإلسالم
وحده يقرتح علينا قيمة الغاية الوجودية لإلنسان وطبق هذه القيمة
ومن أجلها وتبعا هلا ينبغي أن تنتظم القيم األخرى على سلم
اإلسالم واإلميان واإلحسان .ويف هذا السلم مكان لالقتصاد يعرفه
اإلسالم ويشرعه اهلل خللقه وينظمه نظامه األزيل الذي ال تتخلف
نتائجه ،إن أموالنا لنا قيم ،كانت قيما يف عصر النخلة واجلمل،
وهي اليوم لنا قيم يف عصر االقتصاد والتكنولوجيا.
كان صاع التمر الذي جر عليه أبو عقيل الصحايب اجلرير
طول الليل لينثره يف صدقة املسلمني قياما وقيمة .كان صاع التمر
الضئيل وصعوبة العمل باحلبل طول الليل دليال على أن اإلنسان
إذا حركته احلوافز العالية أقدر على العمل وأكثر صربا عليه ،وكان
533
ذلك دليال أن على القيمة املعنوية اليت حركت أبا عقيل ليساهم
يف الصدقة ويشرتي رضى اهلل ورضى رسوله هونت عليه البذل إذا
كان بذل صاع التمر مثنا الستحقاق العضوية يف اجلماعة املؤمنة
وبرهانا على أن أبا عقيل قيمة تستطيع اجلماعة أن تعتمد على
إخالصها وأن تقوم أمورها عليها.
ال حنتاج يف عصرنا ألكثر من صرب أيب عقيل وبذله إن أضفنا
إىل ذلك عقال متفتحا للعلم متحررا من وهم امتناع التكنولوجية
علينا متحررا من عقلية الركود األنانية املعرضة عن اجلماعة.
قيمة العامل يف بالد اجلاهلية املتكاثرة ،شيوعية وغريها ،هي
قيمة األجر الذي يعطاه ،وقد قنع اإلنسان املمسوخ هبذه القيمة
واندرج يف سلمها التكاثري فال يطالب إال بزيادة األجر ليزداد
متعة .وقيمة عمل أيب عقيل وإن كان أجرها املادي ضئيال صعدها
احلافز العايل ،وباركها أهنا سعي من أجل اجلماعة وبذل وقربة هلل.
ال حديث للماركسية إال قيمة املال وقيمة العمل وفائض
القيمة وما إىل ذلك مما يؤكد لكل مرتاب أن االقتصادية
املاركسية والفلسفة الثورية ونظام املطالبة الصعلوكي هتافت حول
قيمة واحدة هي قيمة الدابة اإلنسانية يف حال عركها يف الرحى
اإلنتاجية ويف حال تفكريها ويف حال نظامها الثوري .ولذلك ترى
«قدماء الشيوعية» يلتفتون إىل الصني بعجب مث برهب ونصب
534
إذ يكتشفون أن املروءة اإلنسانية ومعاين التضحية والشجاعة
واإليثار هي اليت تقرتح على اجلماهري الصفراء عوضا عن القومية
االشرتاكية البطولية وحدها املتصلبة بعلميتها املاركسية اللينينية.
وأعجب من هذا أن اخلرباء احلمر يعملون منذ الثورة الثقافية
ومنذ ألغي احلافز املادي ،حافز األجور ،أكثر مما كانوا يعملون
من قبل ،واألعجب أن العامل خيرتع ويسهر وأن الفالح ينحين
على حقله طول النهار وطرفا من الليل مث ال ينسب لنفسه مزية
إن ارتفع اإلنتاج لكن ينسبه جلماعته.
ينظر إىل كل هذا الشيوعيون وأنسباءهم اجلاهليون احملتكرون
فرتهبهم الصني وخيطبون ودها بعد أن أعياهم االفرتاء على الصيين
املنحل املتفكك األوصال اجلائع العاري .ومم خيافون يا ترى ؟
أخيافون من القنابل الذرية فهي أحقر من أن حيسب هلا حساب
أمام أسلحة اجلاهلية السابقة ؟ أم خيافون من كثرة عدد الصينيني
فاملسلمون أكثر منهم عددا وال حيسب هلم حساب؟
إن الذي ختافه اجلاهلية القدمية جبزئيها هو سلم القيم الذي
يسود اآلن بالد الصني إثر الثورة الثقافية .إهنم يعلمون أن اإلنسان
حين دائما بدرجة من الدرجات إىل االرتفاع عن املستوى الدوايب،
وجيب أن ختاطب أرحييته وحترتم قيم الرجولة واملروءة والبطولة.
وكل هذه قد فرغ منها جمتمع اإلجرام الغريب وجمتمع الطبقية املرتفة
535
الروسية ،جمتمعان حينان إىل التغيري وتوشك الدعوة املاوية أن
تتغلغل يف العامل املصنع تغلغلها يف بالد املسلمني الضعفاء.
صراع العامل صراع قيم ،هي قيم تكاثرية ،غنيمة الصراع
خريات العامل املادية ،وعلى هامش هذه القيم تعيش قيم طفيلية
سطحية كقيم السمعة السياسية وقيم اخلطب األممية وما إىل هذا،
ومن كل هذه القيم ال نأخذ حنن اجلد وإمنا نأخذ اهلني اليسري،
فال القومية بلغت بنا أن ننمي االقتصاد ونتحرر من االستعباد
وال االشرتاكية أعطتنا سالحا ورجاال حنرر هبما بالدنا .ويف بالد
الصني رجال جيرون احلبل ويسهرون النهار والليل فيتجاوزوا صراع
العامل بقوة احلافز وشدة العزم ،وأرهبوا العامل بإيديولوجية متعلمة
مربية ،إديولوجية أعطت برهان جناعتها يف هذه الصواريخ ويف
هذه األقمار والقنابل واإلبداع الذي سيبهر العامل أكثر مما هبرته
جدية السري.
كانت املاركسية احلاملة واللينينية املصارعة حتلل واقع اجملتمعات
املستعدة للثورة وقابليتها إلجناز العمل الثوري على ضوء احلالة
النفسية للقاعدة الشعبية .فإذا كانت القاعدة اإلنسانية سوى
الضغط سطحها حىت أصبحت صاحلة لتعكس تيار الغضب
الطالئعي فذلك هو إبان زرع معاين التضحية والتضامن الطبقي
وجتاوز احلياة الفردية من أجل حياة اجلماعة ومن أجل جناح
536
القضية احلزبية .إذا كان اإلنسان قد جهلت قيمته على مستوى
الرزق وجهل حقه يف الكرامة واستغل عمله وظلم ظلما شديدا
فسبيل إثارته أن تزرع يف وعيه قيم غري موجودة ليتطلع إليها ويبذل
يف سبيل نيلها روحه ويثور ويقاتل ،وعلى هذا األساس قامت
ثورة ماو ،وكان احلقد الطبقي دافعها ،وهذا قدر مشرتك بني كل
اجلاهليات.
وقد دخل اآلن سوق القيم العاملية بضاعة جديدة رأينا كيف
أعجب هبا الكاتب اإليطايل وتذكر يوتوبيا عامل اإلنسان الكامل
إنسان الفقر والعفة .ولعل هذا الكاتب اجلاهلي حيسب أن إنسية
الشيوعية الصينية وعاطفتها كما كان يصفها اخلصوم هي كمال
اإلنسان .وكيف للناس أن يعلموا أن قيمة اإلنسان أعلى مبا ال
يقاس وأن لإلنسان جوهرا خالدا بعد موت اجلسد ؟ من أين هلم
أن يعلموا ذلك وحنن املسلمني ال نعلم ألنفسنا قيمة إال على
سلم التصنيع والتخلف االقتصادي نزن أنفسنا مبيزان االقتصاد
كما يزننا الغري!
﴿إِ َّن اللّهَ الَ يـُغَيـُِّر َما بَِق ْوٍم َحتَّى يـُغَيـُِّرواْ َما بِأَنـُْف ِس ِه ًْم﴾
صدق موالنا العظيم .وصدق من دعانا إىل أن ننتزع من حلبة
املزامحة على القيم اجلاهلية بتغيري ما بأنفسنا تغيريا يكفل لنا أن
نأخذ جد األمور ال سفسفها ونرفع مرمى نظرنا لنتجاوز يف اخلطو
537
مواقع خطى اجلاهلية ،ينشد املسلم كماله الروحي من حيث يبذل
ومن حيث يتعلم ومن حيث يتقلل ليدخر صاعا من متر وساعة
من هنار ليغين هبا مجاعة املسلمني .صدق من دعانا إىل أن نكون
أساتذة العامل فنحن أحق هبا وأهلها إن عشنا على ضوء قيمة
اإلنسان اإلحسانية ليهون علينا حتقيق اهلدف االقتصادي.
538
التحويل الثقايف
قبل أن تقلع الطائرة ال بد هلا أن تتخذ وضعا خاصا مسامتا
خلط السري وال بد هلا أن تعدل عتادها ونظامها وفقا هلدف
الرحلة .وإن إقالع اإلسالم ال بد أن يغري من أجله قادة اجلهاد
عقلية األمة وعتادها ونظامه وفقا للغاية اإلحسانية ووفقا للمقصد
اإلمياين واهلدف اإلسالمي ،وقد رأينا أن قاعدة األمن االقتصادي
أساس عليه تعتمد هنضة كل حركة ألن حامل الرسالة رجل يأكل
الطعام وميشي يف األسواق ،فقبل أن نكلفه حبمل الرسالة ال بدا
أن هنيء له أسواقا تضمن له حاجاته الضرورة ،وإنه بدون طعام
ال تقوم أجسام وبدون أجسام ال تقوم أعمال.
من أهداف التنظري للبعث اإلسالمي وهدف االجتهاد وهدف
الفقه املنهاجي أن نعرف كيف ندمج العمل االقتصادي يف سياق
البعث العام ،وأين نضعه وكيف نؤسس حركيته .إذا حصل يف نية
القيادة اجلهادية رفع لواء اإلسالم ومجعت اإلرادة التنفيذية إىل
روحانية الدعوة فأول مهمة هلا أن تلتقي هذه اإلرادة املركزة وهذه
النية بإرادة اجملتمع الراكد يف أعماقه املضطرب يف سطحه ،والعقبة
الرئيسية أمام هذا اللقاء هي عقبة الثقة ،أو قل عقبة انعدام الثقة،
فمهما كان صدق القائد ومهما كانت قدرته على العمل وعلى
539
االقتناع فستبطئ عنه االستجابة وستتخلف عنه إىل حني ضمائر
سجينة يف سياج عقلية راكدة أو عقلية فوارة .والعقلية عادة فكر
وعادة حكم والثقة انفصال عن العادة وحركة حنو اجلديد.
هذا التناقض بني ركود العقلية الواقع وبني حترر اإلنسان
ومشاركته وثقته حله الصينيون بزعزعة الثورة الثقافية للعقلية
السابقة يف انسجام مع خط العدل اجلماهريي .وحنله حنن بتحويل
روحي قاعدته عدل رد املظامل ،ومع التحويل بعملية التوبة تبدأ
عملية التحويل الثقايف.
الفرق بني طائفة من الناس مندفعة حنو هدف ما بقوة ال
تنضبط وبني حركة اجلماعة العضوية البانية املنظمة قد يكمن
يف إمكان التفاهم الفكري بني القيادة والقاعدة بقدر ما ميكن
أن يكمن يف إحكام اخلطة والنظام فاملسلمون غداة بدء الرحلة
أشتات موزعون بني عقلية األمي الغريب عن هذا العامل وبني
عقلية أمي الفكر الذي تعاورته اآلراء املتضاربة املتناقضة ،فعقله
هواء ،وبني املثقف املرتف يف ثقافته ،ومن العسري أن يتفاهم
كل هؤالء فيما بينهم وأن يتفامهوا مع القيادة اجلهادية ألن كال
ينطق بلغته وجيري يف مهيعه الفكري بعقليته املتحجرة على اجلهل
البسيط أو على اجلهل املركب العزيز بعقالنيته .إن لكل جند تعبئة
كما له قيادة ،لكن حركة العمل ال متكن إال برتبية فكرية أدناها
540
أن حيفظ اجلندي صيغ األوامر لكي يستجيب وفق اإلرادة القيادية
يف انسجام تام مع فريقه ،وأعالها أن يتحرر عقل اجلندي من
أساره ،ويعي نفسه ويعي مجاعته وعيا جديدا ويعي قيمته ومهمته
يف احلياة فيسلك حسب ذلك منضبطا حريصا على الصاحل العام.
ومبا أن التعبئة اإلسالمية ليست جتنيدا إجباريا يعطينا جمموعة
عمال آليني بعقلية جمتمع ستاخانويف ،فإن الرتبية الفكرية الالزمة
لنا هي تربية حترر الفرد وتفتح له آفاق التعلم وآفاق اإلبداع وآفاق
اجلهاد الالئق باملسلمني.
أغلبية األمة املسلمة رجال ونساء وأطفال ورثوا األمية وورثوا
عقلية خرافية ،ومن يتلقى منهم تعليما فإمنا ينحصر تعليمه يف جمال
ضيق مث إذا أمت تعليمه رجع إىل أميته فتجد املوظف يكتب ويقرأ
لكنه أمي ال يتعلم وال يبتكر وجتد املعلم والتقين قد احنسر فكره
وحتجر وكف عن التعلم وكف عن النمو .وإما يكون التعليم حتويال
بعيدا ينقل املرء من عامله الوطين إىل عامل احلضارة األثاثية يعيش
فيها جبوارحه ويرصد هلا ماله وماال يقرتفه هنبا ،ويعيش فيها بفكره
مستعبدا عابدا ألوثان عقالنية متسخه عن دينه أو عقالنية سياسية
متسح هبا فأخذ يظن أن احلق له وحده وأن له بسطة العلم ختوله أن
حيتقر الناس مجيعا ويسخرهم إذا عجز أن يكون ثوريا أصيال مثل
وثن الثورة كويفارا الذي كان خيدم الناس وال يسخرهم.
541
وهكذا الناس طائفتان :فطائفة مرتفة بثقافتها ،وأخرى ليس
هلا من العلم إال قليل بقدر ما يركبها به الغرور فتتوقف عن
التعلم وتعود يف حساب األميني اخلرافيني .وكال الطائفتني حباجة
إىل حترير من اجلهل البسيط واجلهل املركب .فبعد حترير العنصر
اإلنساين حتريرا نفسيا يعيد له الثقة بالقيادة ال بد من حترير فكري
ميكنه من أن يربط بالناس وبالعامل عالقات منطقية ،وجتعله واعيا
لقيمة عمله مدركا لألسباب واملسببات ،وجتعله أكثر فاعلية يف
شغله.
ويف الطائفة املثقفة فريقان أحدمها نوع استعصى على االنقراض
مبحض املعاناة الدفاعية عن نوعه وهو فريق املعاهد الدينية كما
يسموهنا ،والفريق الثاين وإن كان ظهر وليدا غريبا أصبح صاحب
السلطان ورب امليدان وهو فريق «العصريني» .هؤالء يسخرون من
أصحاب املعهد الديين كما يسخر كثري منهم من الدين نفسه،
وأولئك ينسحبون شيئا فشيئا عن مواقعهم ويتشبهون بالعصري
على قدر ما يناله هذا من حظوة وجناح اجتماعي .ومع تدهور
األمة وابتعادها عن اإلسالم يف احلياة العامة واخلاصة بارت بضاعة
املعهد الديين واختلط األمر إذ أتى تالمذة املعهد الديين بتفرجنهم
الفكري وتنكرهم للدين أكرب جرمية ارتكبها املثقفون يف دار
اإلسالم .كان الناس ينظرون إىل العامل املسلم نظرة تقديس ونظرة
542
منوذج يقتدى به ،فلما تفسخت أخالق بعضهم وما استحيوا من
اهلل إذ أنكروا اهلل رآهم العامة فخاب ظنهم يف الناس وخاب ظنهم
يف اإلسالم.
مثقفونا فريقان :عقول مكونة تكوينا منطقيا هم أصحاب
الثقافة العملية وهم أصحاب احلول والطول ،قضيتهم إن كانوا
منحطني قضية استعالء أناين يرتقب املناصب ويفتضح خبالء
الذمة وسوء السرية ،فإن كانوا أعلى من ذلك فإمنا قضيتهم التحرر
السياسي والتنمية االقتصادية ،ونعم القضية لو كان غاية ما ترمسه
أن تكون أمة اإلسالم أمة حرة حقا باملعاين اإلميانية اإلحسانية.
وقضية علمائنا وتالمذة املعهد الديين قضية إحياء اإلسالم،
لكنها قضية ال تسمع وال تقبل ألن من بني أصوات من يدافعون
عنها أصوات ديدان القراء املنافقني ،وألن عقلية بعض علمائنا ال
تزال عقلية خرافية ال تتسع ملنطق العمل أو تتصور العمل تصورا
صبيانيا ،وأعرف من الناس املنتمني هلذه الفرق من يعتقد أن بعث
اإلسالم له مظهر وحقيقة وخمرب جتتمع كلها يف منع اخلمور وسدل
اخلمار ،ومن يزعم لنفسه وللناس أن اإلسالم ينبعث يف أسرع من
ملح البصر لو ويل احلكم مجاعة من أمثاله.
قضيتان ال تلتقيان يف ذهن املثقفني ،مثقف يعتقد أن الدين
أفيون الشعوب ،ومثقف ال حيسن أن يعرض قضية اإلسالم العرض
543
الكامل الذي يدرج األموال اليت جعلها اهلل لنا قيما وقياما يف سلم
حقائقه .فال لقاء يرجى بني مثقفينا إال بتحويل ثقايف يتم على
صعيد التوبة العامة .وإن ملثقفينا لطاقات سائبة مسلوبة مستلبة
مبذرة ملا مل جتد منهاجا جيمعها .وكما أن االنشقاق السياسي
يف الصفوف صيغة عملية لغثائية األمة الذاهبة مع السيل فإن
االنشقاق الثقايف صيغة عملية للجهل املركب ،ويلم شعت ذلك
كله فقه منهاجي يضع األمور مواضعها.
التجديد اإلسالمي جهاد ميتنع عنه ويتعسر عليه هذا العنصر
البشري املتحجر على عقلية ال تثق بشيء وال تطمح إىل شيء إال
طموح مطالبة .الناس حيبون أن يتمتعوا ببضائع االستهالك لكنهم
ال يستعدون ليعرفوا هلا مصدرا غري املصدر السهل اليسري ،ال حيبون
أن ينالوا هذه البضائع بالكد والتعلم الضروريني لصنعها ،يعوقهم
عن ذلك الكسل الذي هو من صفات الركود ومن خصائص
العقلية املتحجرة .فضروري أن تعبأ العقول من أجل جتديد كامل،
وضروري أن حيول تفكري األمة حتويال حنو عقلنة عالقاتنا بالناس
والطبيعة ،وحنو تنظيم وقت العمل وعالقات العمل.
عند اجلاهلني أملت ضرورة عقلنة عالئق اإلنسان بالطبيعة
وباإلنسان تنظيمات ضيقت معه شيئا فشيئا على املعاين اإلنسانية
يف احلياة اليومية حىت كاد اإلنسان اجلاهلي أن ينحصر دوره على
544
األرض يف وظيفته االقتصادية ،فما تسمع إال ساعة العمل وقدر
املردودية وارتفاع اإلنتاجية .وإننا األمة الضعيفة العائشة يف القلة
حملتاجون إىل كثري من كل ذلك ريثما نقرب العقلية املتخلفة .وإننا
إن واجهنا قلتنا وضعفنا بإرادة إميانية يعضدها الوعي جبدوى
العمل والعلم التكنولوجي والتنظيم العقالين لعالقاتنا بعامل
االقتصاد فستتحول قلتنا كثرة وال يبقى لنا خالل ذلك ومعه إال
أن جنتهد لكي تكون كثرتنا قوة ختدم غاية محل الرسالة ال تكاثرا
يردينا مع اجلاهلني.
فريقان من مثقفينا وطائفة كبرية من األمة تراكبت يف ذهنها
القيم واصطرعت االجتاهات ،فقوم ال رغبة هلم إال يف التقنية
والعمل املنتج والدخول يف عاملية االقتصاد ،وقوم ال يبني هلم يف
ظالم الفتنة طريق إسالمي لبناء القوة ،وسواد األمة ال يتحرك
حبداء هؤالء وال جيد أسباب الثقة باآلخرين .يف بالد القومية
االشرتاكية جتند وسائل اإلعالم وجتند سياط احلكم لتقنع الناس
أن التنمية االقتصادية ثورة من أجل هدف أمسى هو جمد الشعب
القومي .وكم من شعب إسالمي غرته الشعارات وخدعته عن
قيمه اإلسالمية املغفول عنها ومشر عن ساعد اجلد ليخدم القضية
االشرتاكية ،حىت إذا ظهر أن االشرتاكية تنهزم يف ميادين القتال
كما تنهزم يف ميادين اإلنتاج رجع الناس إىل انكماشهم واقتصر
545
اشرتاكهم على طاعة سلبية.
ويف بالد الكراهية األخرى من بالد املسلمني حيث تتدفق
أموال هائلة يتهافت املرتفون املتسلطون على عمل الكادحني
ويرحبون من حيث خيسر اآلخرون ،وبذلك يسود املسلمني شعور
بالظلم والقلق واالضطهاد ال يشجع على حتويل العقلية الكسول
إىل وعي إنتاجي.
كل هذا الذي كتبناه يصور مشكلة عدم التفاهم بني املسلمني
وبالتايل عسر تعليم اجلاهل وإعمال العاطل .اإلرادات مشلولة
واألفكار معطلة يف ملهاهتا املألوفة .ال يتفاهم الناس بأفكارهم
ألهنم ال يتفامهون يف أسس كياهنم ،تضطرب هبم دعاوي القادة
والزعماء فطورا ينتمون للقومية واالشرتاكية وتارة هم متوسطيون،
طورا يلتمسون حلفا مع الشرق إذا مل جيدوا وسيلة للتحالف مع
الغرب ،وطورا هم مسلمون يبغون وحدة اإلسالم وتارة عاملهم
قاري ال توحده وال يهم أن توحده العقيدة.
عدم االستقرار العاطفي سبب ونتيجة معا لعدم االستقرار
الفكري ،واالستقرار أرضية ضرورية للبناء .إمنا يستقر العقل على
قاعدة كيانية واضحة ،وعلى نظرة لإلنسان واحلياة واملصري توحد
وجهة األمة ،وسبب عدم التفاهم بني املسلمني نشأ عن اختالف
تصورهم للكليات ،ومن هذا نشأ اختالف تصورهم للجزئيات
546
العملية ،الكليات اليت يعتقدها القادة واملثقفون احملظوظون يف
األمة هي اجلاه والرتبة االجتماعية واملال خيفوهنا يف كليات التغيري
السياسي وجمد القومية وبناء االشرتاكية .والكليات اليت تؤمن هبا
األمة إن كانت غري جلية من أثر اجلهل وعشرة اجلاهلني فمنظرها
يف العدل العمري املفقود املنشود ويف عقيدة أن ال إله إال اهلل وأن
حممدا رسول اهلل أجلى من كل شعار.
هذا االنشقاق الفكري املرتتب على االنشقاق العقدي
يقسم العامل اإلسالمي تقسما طبقيا عرب احلدود اجلغرافية
املفرتاة على دار اإلسالم ،فاملستضعفون هم بعقيدهتم متالقون
واملرتفون بعقليتهم متشاهبون .ومع تفاوت البالد اإلسالمية من
حيث النماء االقتصادي فهي متقاربة جدا من حيث عدم النماء
اإلنساين ،وال يغرنك كثرة محلة الشهادات يف بعض البالد وقلتها
يف األخرى ،فليس حامل الشهادة رجال حتول نظره ضرورة من
الفردية املستهلكة إىل اجلماعية املنتجة املضحية .وإذا كنا ننتظر
من مثقفينا أن حيولوا األمة كلها حتويال ثقافيا فسننتظر طويال ألن
مثقفينا يفكرون يف مسارب املطالبة ،ال تأيت منهم فكرة سياسية
أو اقتصادية إال ردا على فكرة اخلصم وحماربة له ومطالبة بكرسيه.
املثقفون املسلحون ينقلبون على اخلصم لكن ال حيولون عقلية
األمة ،واملثقفون اآلخرون يتصارعون يف حلبات الفكر االشرتاكي
547
املستورد بعقول صنعتها أيد أجنبية صنعا عائدا ال يتاح معه أن
ينفعوا األمة.
عقلية املطالبة تقابلها حرية القيام بالواجب ،وهي حرية
األحياء الذين تسود الثقة عالئقهم وحيدو الطموح يف احلياة العليا
جهودهم .ويقابل ركود الطبقية السائدة يف دار اإلسالم حتدي
العصر يف شخص أصحاب الثورة الثقافية الذين حتولوا من دركة
أحط بكثري من مهواتنا وانبعثوا بشعور جديد وروح جديدة.
قد يتصور بعض الناس أن التحويل الثقايف عملية تتم إن عبأنا
وسائل اإلعالم ونظمنا التعليم وأنفقنا يف ذلك ما يكفي لنمحو
األمية وندخل كل األطفال املدرسة ولنرفع مستوى املدارس .هذه
جهود تنفع يف جو الثقة والعدل أي يف جو االستقرار العاطفي.
أما إذا جندت وسائل اإلعالم واملدارس يف جو اضطراب وظلم
فلن خيدم تعليمك إال أهدافا مرتفة مث ال يكون تعليما جمديا وال
حىت منتجا من حيث الكم ألن العاملني يف احلقل مأجورون
مغبونون وهم ينشرون يف األجيال عدوى اليأس واإلعياء.
التحويل الثقايف يعين انتقاال من عامل تصوري إىل عامل غريه
جديد حي ،ال أقول انتقاال نظريا بل انتقاال عمليا ،انتقال الفكرة
من تأمل يف الصحف إىل عامل الواقع،وانتقال العزمة القيادية إىل
تطبيق يومي ،وانتقال اخلطة االقتصادية من عامل التخطيط واإلرادة
548
إىل دنيا األرقام اإلنتاجية .وكل هذا إمنا ميكن إن حتول من بيده
السلطان إماما للصالة يصلي مع الناس مجيعا على البساط ألن
الصالة ال جتوز على الكراسي والعروش .وبتحوله ميسك الرجل
بالرجل يبث فيه إميان قلبه وحرارة والئه وإرادته بنفس احلركة اليت
يبث فيه العلم ،ويتلقى اآلخر بثقة ما ال يصله إال خربا باردا عن
طريق وسائل اإلعالم بلهفة الذي يريد أن يتعلم وحيرص على أن
يتعلم ويؤمن أن التعلم عمل .وهكذا يسري العلم سريان اإلميان
ومعهما اجلدوى والفاعلية.
549
التعاون اجلماعي
التنمية االقتصادية قد تكون مفروضة بعامل خارجي ،كمثل
اليت فرضها االستعمار ،ويكون منتوجها غنيمة لألجنيب وال تنمي
اإلنسان .وقد يكون هذا العامل داخليا لكنه يف صاحل إقطاعية
وطنية تستأثر باملنتوج وال تنمي اإلنسان .مث إن سوق رأس املال
العاملية ترغب يف تصنيع البالد املعطلة إن كان فيها أمن ال ختاف
معه على ماهلا ،واملال املستورد قد حيرك األرض ويبين هياكل
اقتصادية لكنه ال ينمي اإلنسان.
ما من بالد املسلمني إال ورث من حقبة االستعمار جهازا
اقتصاديا ما ،ومنذ عشرات السنني تعلم املسلمون كيف خيدمون
اجلهاز االقتصادي طلبا للرزق بعقلية املنتجع ال حبرية املشارك يف
بناء اجلماعة .ما غري من ذلك االستقالل السياسي وما غري من
ذلك جهد االشرتاكية الضائع .فاقتصادنا اليوم اقتصاد طائفة
دون طائفة ،إن كان إقطاعا فإقطاع وإن كان اشرتاكية فطبقة
التقنوقراطيني الذين جيهرون لألمة أن األرض هلا وما عليها وخيافتون
تواصيا وعمال بغري ذلك .ال تكاد جتد فرقا بني من يعمل انتجاعا
واعتمادا على حذاقة املالك وعمله وتقنيته وبني التقنيني املدجنني
يف خدمة مجاعة ال يؤمنون مببادئها وال حيبون أن يتعاونوا معها.
550
إن مشكلة االقتصاد املتقدم يف بالد الصناعة العودة باإلنسان
العامل إىل درجة من إنسانيته حبيث يساهم يف االقتصاد ،يف
تدبريه ويف ختطيطه وحبيث يرفع عنه ضغط العمل املسلسل وضغط
التوقيت التايلوري ،وحبيث يعود إىل عضوية مجاعة إنسانية ليس
أجنبيا عنها .ومشكلتنا حنن الضعفاء مسامهة أيضا لكنها مسامهة
تأيت من علم اجلهل والقلة وعدم اجلدوى .مشكلتنا أن نرفع
العامل إىل درجة من الفاعلية واإلنتاجية بوازع مجاعي ال انتجاعي
حبيث يشرتك يف البناء بوعي املالك ملا يبنيه احلريص على إمتامه
وإتقانه ،وحبيث يساهم بفكره ليبدع ومباله ليجمع املال وبوالئه
ليتعاون يف السهر على املصلحة العامة يقظا منضبطا .مشكلة
أولئك مشكلة ترجع إىل إفراط يف العقلنة وإفراط يف اإلنتاج،
ومشكلتنا ترجع إىل تفريط يف ذلك وإىل انعدام وشيجة الوعي
اجلماعي الذي نراه يزهر ويثمر يف بر الصني.
عامل اجلاهلية حيضن إنسانية ال رمحة بينها وال تعاون ،وعندما
يتحدث فالسفتها عن جمتمع تعاوين فإمنا خيربون عن العنقاء املغرب
يطلبوهنا وهي ممتنعة أبدا .ولقد بقي بني املسلمني أثارة من بر
ورمحة وتعاون لكنه تعاون فردي وبر فردي فيه معىن الصدقة وليس
فيه معىن التكافل .أوفر منه بر النصارى الذي ينظمون صدقاهتم
ومسامهتهم من أجل الدعوة وأوفر منه صدقات املتطوعني من
551
اجلاهليني اليت تأتينا لعنة لفاقتنا الكسول كلما أوفدوا لنا من يوزع
الدقيق وينقذ الغرقى.
هذه األثرة من الشعور بالرمحة ومن الرب أطالل للتعاون
اجلماعي الذي ال نراه إال مثاال يف اخليال ،وإال منوذجا فريدا
يف حياة املسلمني األولني .وإن التعاون اجلماعي وظيفة طبيعية
إن وجدت مجاعة تربطها صالت عضوية ،وإن هذا التعاون إن
توسعت دائرته ونظمت حركته هلو الوسيلة الوحيدة لبناء اقتصاد
إسالمي يواكب منوه منو اإلنسان .وحركة البعث اإلسالمي وفق
احلركية املنهاجية تتكامل بني وازعي السلطان والقرآن ،وبني داعي
الصدق الذي يتجلى أثره التعاوين يف خصلة االقتصاد النبوية
وداعي الطاعة الذي يضم جهدا إىل جهد حىت يكون جهدا
مجاعيا توجهه إرادة واحدة موحدة بانية موثوق هبا.
التعاون اإلسالمي اجلماعي يقوم على قاعدتني عقديتني :
أوالمها أن نصيبك من الدنيا ما بلغك رضى اهلل ،فكل ما متلكه
ترصده للجهاد اإلسالمي وجتنده يف خدمة الغاية اإلحسانية واملقصد
اإلمياين ،والثانية أن املبذر واملسرف يوشكان أن يرتفهما املال وأن
ترتفهما املتعة فلذلك جيب أن تتقلل من الدنيا وجتعل لك منها وقاية
من الورع يف املكسب ومن القصد يف النفقة حبيث ال جتعل يدك
مغلولة إىل عنقك وال تبسطها كل البسط فتقعد ملوما حمسورا.
552
وتلتقي املسامهة وهي مقولة نقابية يف لسان املطالبة املصنعة
مبعاين التقوى التكافلية اإلميانية يف وحدة اجلهاد اإلسالمي مبحو
الطبقية املستأثرة وبدمج األجيال املتنافرة وبإعادة قيمة العمل
اليدوي وباالعتماد على النفس يف البناء االقتصادي .وكل ذلك
هو حمتوى الرتبية الباعثة ومن وسائله التحويل الثقايف الذي يقرب
بني النظرات ويوصل الثقة بني الناس.
هذه اليد اليت تعمل وتتسخ بالرتاب وخيشن ملمسها مبعاناة
الفأس وآلة الصناعة هي اليد القريبة للحرية والتحول والقدرة على
التحويل ،وقد رأينا كيف تعاد تربية الشيوعيني يف الصني مبزاولة
األعمال اليدوية والشاقة الوسخة يف صف املستضعفني العاملني.
ورأينا كيف تذهب عنهم الكربياء وكيف يكتشفون رمحة املساكني
بالضعيف املقهور وكيف يساعدونه ويتعاونون معه .وبتحويل
وظيفة اليد من مزاولة النعيم وملس احلرير إىل وظيفة اليد النافعة
يقع التحويل النفسي والثقايف ويلتقي املتخاصمون على صعيد
البساطة اإلنسانية كلهم ضعيف حيتاج للتعاون مع اجلماعة.
وإن اليد التقية اليت متتد بالصدقة ال يكمل تقواها إال مبناولة
املسكني يدا بيد ليزول فارق االستكبار بالغىن ولكي تكون املناولة
رمزا لقوة التعاون .وال حيب اإلسالم أن متتد األيدي بالصدقة
لتتعطل أيد أخرى عن العمل ،فلذلك جعل اليد العليا خريا من
553
اليد السفلى ولذلك قبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدا
خشنة كانت يد حمرتف وكان األنبياء يعملون بأيديهم ليتأسى
هبم الناس فال يكسلوا وجرى على سنتهم أهل الرتبية اإلميانية
اإلحسانية فكانت هلم سنة قوة مثل الرتبية السنوسية اليت كانت
تتضمن االحرتاف باليد وكسب مهارات يدوية يتبارى يف ميداهنا
الشيخ مع مريديه.
اليد يف اليد رمز للتعاون إذا كانت األيدي عاملة ماهرة ،إذا
كانت خبرية ونشيطة يف خدمة عقيدة ،وجمموعة من األيدي يؤيد
بعضها بعضا تشري إىل القوة قوة التآزر وقوة السواعد املتآخية ،فإن
تيقظت الضمائر نشطت األيدي وإن انضبطت احلركة بانضباط
اإلرادة اكتسبت األيدي مهارة ،فذاك انضباطها.
يف البنية االجتماعية الطبقية ،سواء يف ذلك تقنوقراطية
الرأمسالية وبريقراطية اآلخرين ،يشرف خرباء بعيدون عن ميدان
العمل الفعلي على مجاعة املنفذين يتخذون قراراهتم على الورق
ويزيدهم التأمر استعالء ،ويضاف ضغطهم على العاملني إىل
مضايقة ظروف العمل احملروس ،فال جيد العامل إال خمرجا واحدا
هو أن يصبح ستاخونوفيا بطال جزءا من آليته أو متيلرا يتحرك
«كاألتومات» املرصودة .واخرتعت الصني عمال على قدر اإلنسان
حني رأت مآل البريقراطية وفرضت العمل اليدوي والتعاون الفعلي
554
يف الورشة واحلقل بني رجال اخلربة الفنية والعمال ورجال اإلدارة.
كل يتناول اآللة ويتعب ويعرق ،فإن كان برجوازيا عدوا داخليا
للطبقة كلف من األعمال الشاقة ما يكشف عنه وهم األنانية ورد
إىل التعاون بقهر السلطان ورمحة الرفاق الكادحني.
بدأ شقاء اإلنسانية بالعمل ،كما بني ماركس ،مع تقسيم
العمل إجابة للحاجات املتنوعة ،ومع تعدد العمل وانقسامه
انشقت وحدة اإلنسان املتعاون املتكامل النشاط ،والعمل اليدوي
يرد هذه الوحدة ويقرب بني الناس فال يكون لألمري ميزة إال بكونه
أقدر على التعاون وعلى العمل من غريه وتعترب فيه ميزة التفوق
الفين بعد ذلك فقط.
يف جمتمعنا الراكد ويف كل اجملتمعات االستغاللية يعرف الرئيس
بلني يديه ومشوخ أنفه كما يعرف اجملرمون بسيماهم ،وتظهر أنانية
املدبرين واستكبارهم على املنفذين أكثر ما تكون فضيحة يف
البالد املستعمرة سابقا ،فقد كان الرئيس األجنيب حيتقر الوطنيني
ويركلهم وله وحده الرأي ،فلما ورثه اخلبري واملدير من بني أبناء
الوطن املستقل تقمص دور الرئيس املتأله.
هبذه العقلية اليت مل تستطع مقاومتها شعارات االستبداد
الصعلوكي يف روسيا وال شعار املواساة يف البالد األخرى سندخل
عصر اإلسالم غدا ،وإن مشكلتنا أن ننزل األمري ليعمل بيده مع
555
املساكني ويتعاون معهم ويشركهم يف األمر .وقد يظن بعضهم أن
التوبة العامة اليت هي عتبة العصر اإلسالمي هي استتابة طبقة
لطبقة ،قيام طائفة نقية بتلقي توبة طائفة كانت جمرمة ،ويؤول
األمر هبذا االعتبار إىل وصاية طائفة مرتفة بتنزهها على الناس،
ويطلب إىل األمة أن تقوم على خدمة مجاعة طفيلية .وما األمر
كذلك ،وأخطر األخطار أن تسرق طائفة متأمرة أمر اجلماعة
املتعاونة املتضامنة .كلنا خطاؤون وكلنا كنا جمرمني ،ومن رفض
التعاون معنا فليس منا.
وسيكون التعاون شاقا لبناء اإلسالم ،املهام خطرية معقدة
وجناحها يتوقف على قوة التوجيه وضبط التنفيذ وهذا قد يدعو
األمراء حديثي العهد بالتعاون أن يلتمسوا سلطة يف مشوخ األنف.
مث إن املشغلة شاقة عسرية ألن وسائل اإلنتاج متأخرة وألن
الطاقات اآللية قليلة فيضطر ذلك العمال لبذل جهد بدين شاق
ال يقدر عليه املثقفون اخلرباء .وهنا ينبغي أن تظهر كفاية األمراء
الرتبوية إن استطاعوا بتواضعهم وحمبتهم أن يلطفوا مشقة العاملني
ويضاعفوا من محاسهم ،فإنه ال يطلب إليهم أكثر مما يقدرون
ويف حق كثري من الناس لن يكون العمل اليدوي إال رمزيا الرختاء
اجلسوم ورخاوة األيدي ريثما نتعلم االخشيشان والتمعدد وكبح
النفس فنتعاون مع إخواننا.
556
ال عهد لنا بالتعاون فال مناص لنا غدا من أن نتعلم كيف
نتعاون فمن لقاء املسجد اليومي ،مرات يف اليوم ،وعلى صوت
قائد جيلس على البساط يف خيمة اجلهاد يبدأ التعارف وتنشأ
بذور احملبة والتعاون .ومن هنا تنطلق عملية تربية متبادلة ،فنرفع
العامل من وحدته اليت تتجهم له فيها احلياة لنشركه يف اجمللس
ونشركه يف الرزق حىت ال يبقى ساكن القصر وساكن الكوخ،
والشوط بعيد بينهما والنفس ال حتب املساواة ،لكن الرتبية تتحمل
معىن الرفق ومعىن التقومي بالسلطان معا.
وبالتعاون يف العدل نرفع الغين املكثر من بواره املرتف إىل
درجة حب املساكني ومشاركتهم يف العمل والطعام واملسكن.
ومن كان متعلما شارك اجلماعة يف تعليم اجلاهلني ،ومن دراهم
اجلماعة املتعاونة تتأصل أموال ضرورية لبناء االقتصاد.
الرتبية اجلماعية تضرب الشح ضربات ،تارة بقوة السلطان
وتارة بقوة الضغط اجلماعي ،وقد شرع اإلسالم أن من غشنا
فليس منا .ويتخذ معىن «فليس منا» شكال تطبيقيا يف حد اهلل
املنزل على الذين يفسدون يف األرض ،فمن منع الزكاة قوتل وقتل،
ومن امتنع عن التعاون نبذ وهجر ومن كاد حركة اإلسالم قطع
وشرد.
إن انبعاث اإلسالم بشرى لقلوب هذه املاليني الكثرية من
557
املسلمني ،والبشرى ال تقتضي أن يكون البناء سهال مفروشة
طريقه بالورود .إن هذه املاليني نسيت التعاون ونسيت االعتماد
على النفس بعد أن مزقت أوصاهلا كل ممزق وبعد أن رقدت كل
طائفة يف مذهبيتها أو قوميتها .ويف دار اإلسالم عناصر للبناء
االقتصادي عتيدة لكنها عناصر غثائية ال تتماسك ويذهب هبا
السيل .لنا موارد طبيعية هائلة ولنا خرباء ولنا مال كثري ،ومع
ذلك فهذه العناصر تبذر تبذيرا ،مواردنا يستغلها مال أجنيب بينما
تذهب أموالنا لألمي الدافئ يف حجر األبناك األجنبية تتناوهلا اليد
اخلبرية الواثقة بنفسها فتوظفها عندنا وتربح مث ترمي لنا بفتات
ربوي نطعمه مسا ال نقوم معه إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان
من املس.
ولنا خرباء وعلماء وأدمغة خام مهجورة يف مدننا وقرانا ،وهي
سائبة ضائعة ال جتمعها آصرة قضية قوية ختدمها وإمنا يشدها إىل
بالدها عمل مأجور هزيل أو تقطع احلبال فتنقذف يف حبر العاملية
املذهب.
على مناضد رجال احلكم يف دار اإلسالم مشاريع لتوحيد
املسلمني توحيدا سياسيا باملعىن املعروف هلذه الكلمة أي مبعىن
التكتل االقتصادي ،ويظن قادتنا املساكني أن التوحد بني الشعوب
املشعبة يف بساطة وحدة اهلراوات كما يقص القاصون ،تربطها
558
حببل تسميه دستورا موحدا فإذا هي رزمة ال تنكسر .وهيهات !
ولو تفيدنا التجارب املرة لتعلمنا أن نلتمس طريق احلق لنقوض به
دعائم الباطل ! التعاون االقتصادي بني البالد اإلسالمية ضرورة
حمتومة ،والتعاون بني دار البعثة اإلسالمية احلق وبني املسلمني يف
أقطار القوميات إىل حني ضرورة حمتومة ،إن مل يدفعنا إىل ذلك
خشية سوء املنقلب فال أقل من أن نعتمده حسابا للربح وضمان
احلق .وسيكون تعاون الدولة اإلسالمية يف مهد انبعاثها مع سائر
املسلمني تعاون اقتصاد حيمل معه دعوة ،وسيتعلم املسلمون يف
األرض من التجربة املظفرة بإذن اهلل الذي سيستخلف املؤمنني
الصاحلني ويؤيدهم كيف يتحرر اإلنسان من أنانيته وكيف يرتفع
عن جمافاته للعامل ويندمج يف اجلماعة املرحومة اليت ال رمحة إال
معها.
إن إقالع االقتصاد اإلسالمي قد يبدأ يف قطر االنبعاث لكن
ال يتم بناء االقتصاد اإلسالمي وال يستوي استقالله إال بتوحيد
دار اإلسالم توحيدا قد يبدأ بتوحيد االقتصاد .ففي املساحات
الكربى املتكاملة فقط ميكن أن تتجمع األموال واملوارد والعنصر
اإلنساين يف مشروع ابتكار تكنولوجي متفتح على مستقبل حرية
اإلنسان على األرض حبرية اإلسالم وبتحرير اإلسالم.
االقتصاد املتغذي على عطاء خارجي اقتصاد حمضون يف
559
القطن هش يدغدغ حاجات املستهلك وال يستنهض مهته ملشروع
رجويل ،وغدا يوم يدعو داعي اإلسالم للجهاد سيكون اجلهاد
االقتصادي تقلال يكمل املؤمنون بواسطة مذهبيته ما يف عناصر
اإلنتاج من نقص ببذل اإلنسان واجتهاد اإلنسان وابتكاره وتعاونه
حرا يعيش بالضروري ليضمن غدا ألمته اخلري والقوة والنصر ،إن
اهلل ملع املؤمنني .ومن كان اهلل معه فمكانه أن يكون هلل عبدا وعلى
نفسه سيدا يسقوها إىل الرباح سوق الذي ال يفرغ من عمل إال
لينصب يف عمل غريه.
560
اقتصاد القوة
التطوع املنظم ،التطوع باملال والتطوع بالعمل والتطوع بالتعليم،
هو وسيلة من ال وسيلة له يف بناء االستقالل االقتصادي .نرى يف
بالد اجلاهلية أن من شبع واكتسى وأمن على غده عوادي الزمن
يلني قلبه ويعطي ماله وعونه عن طواعية .املسيحيون ينظمون
مجاعات إسعاف وإحسان فدافعهم ديين عقدي .وهناك مجاعات
أخرى ال دين هلا وهي تتطوع وترحم البائس وتنظم مساعدة
املعذبني يف األرض .ويف بالد اإلسالم اليوم تتحول حىت مجعيات
اإلحسان التطوعية وكرا للغش والسرقة ،ويدل ذلك على أن
التطوع مستحيل يف بالدنا على حاهلا الراهن .وسبب ذلك شيئان:
أوهلما أن التطوع ال يعيش إال يف ظل الطاعة ،سواء كانت هذه
الطاعة طاعة عقدية كما ينبغي أن يكون األمر يف مجاعة املسلمني
يطيعون أمري املؤمنني أو كانت طاعة جمتمعية يف ظل قانون يعطي
لكل حقه وحريته كما يتصور هو احلرية .والسبب الثاين الستحالة
التعاون والتطوع يف بالدنا اليوم هو أن الناس ال يأمنون على
غدهم وخيافون الفقر ويعتمدون على الغش واهلرب باحلقوق إيثارا
ألنفسهم على اجلار املرتبص والشريك الفاغر فاه.
فبانعدام األمن وبانعدام التكافل االجتماعي ال ميكن أن ينظم
561
التطوع جهود الناس ويوجه تعاوهنم .وهذا يرجعنا إىل ضرورة قاعدة
العدل كمنطلق للبناء االقتصادي ،ومن العدل تكافل املسلمني
حبيث تتساوى دماؤهم وأمواهلم وذممهم ويأخذ احملتاج نصيبه من
الزكاة أخذا عزيزا.
اإلنسان ضعيف كل الضعف يف جو الوحدة الغابوية ،فإن
أعطيته ضمانا على رزق يومه وغده أطلقت سراح أفكاره من اهلم
ومن احلزن وأعطاك ما تشتهي من ذات نفسه ،إن برهنت له على
صدقك يبذل ما حتب أنت أن يتعاون معك ببذله طيعا .وعندئذ
يكون لديك رجال أقوياء طائعون متطوعون ميكن أن تواجه هبم
مشاكل االقتصاد وميكن أن حتول هبم وبتعاوهنم املنظم ضعف
البالد قوة وفقرها غىن.
التهييء للتطوع هتييء نفسي جييب حاجة اإلنسان أن يستند
إىل قوة يثق هبا وحيبها ويرضي حاجته إىل األمن على الرزق .وهذا
ما تعطيه إياه املبايعة للقائد اجملاهد يف دار اإلسالم املنبعث وما
يلي ذلك من العدل التكافلي .فها هو هذا اإلنسان قد حترر من
اخلوف واستعد للعطاء والنصيحة وقام ليسهر على عدله يقظا
حازما فهل يكفي هذا التحرر السليب القاعدي لتعبئة مجاعة
جماهدة ؟ ال يكفي ذلك ،بل ال بد أن تعطي للطاقات احملررة
وجهة وتقنعها بقضية وتربيها حىت تتحمس للقضية وتتبناها
562
وتستميت يف سبيل حتقيقها.
تقول للناس :هذا إسالمكم وهذا لواء نبيكم دافعوا عنه،
فهذا شعار عام قد حيرك محاسا كثريا لكن ال يتحول هذا احلماس
طاقة فاعلة منتجة .إمنا الذي ينفع هو أن جتعل األسبقية للتفقيه
املنهجي فتدل الناس على دائهم أوال :تدهلم على داء املسخ
بسبب اإلعراض عن اهلل وتدهلم على داء الغثائية بسبب اخلوف
من املوت واحلرص على حياة أي حياة ،وتدهلم على داء الذلة اليت
لبسناها خبواء قلوبنا ثوب عار بدال عن ثوب العزة الذي يكسوه
اهلل عباده املؤمنني اجملاهدين .مث جتمع للناس هذه األدواء يف تصور
واضح للفتنة حىت يعوا الفتنة كيف تأكلهم وما أين أتتهم ويثقوا
بأن العزة هلل ورسوله وللمؤمنني وأن عالج الفتنة يكون بالرفق
اليقظ وبالتؤدة الناصحة اجملاهدة.
ال بد أن يرتبط يف وعي األمة هدف االقتصاد باملقاصد
اإلميانية ،فإذا عمل العاملون اجلاهليون ليكون هلم اقتصاد خيرجهم
من القلة إىل الوفرة ،فنحن اقتصادنا نريد أن يتجاوز بنا القلة
والوفرة معا ليكون ما نعده من درع حديدية وما نقتنيه من طعام
وسالح قوة للمؤمنني يف األرض مجيعا .إن االقتصاد يف عني
اجلاهلية املرتفة املتخمة ويف عني صاحبتها املرتفة بتلهفها على
البضاعة والقوة اللتني ال تتيحهما القلة والتخلف غاية الغايات
563
وأهم ما يثقل كاهل اإلنسان ويصده عن حتقيق غايته الوجودية.
وال بد بعد هذا أن نربط املقاصد اإلميانية بغاية اإلحسان فإذا
قلنا :اقتصاد من أجل القوة فإن هذه القوة ميكن أن تسخر يف
وجه غري الوجه الذي خيدم غاية األمة يف محل رسالة رب العاملني
إىل خلقه أمجعني .فنحن ننشد القوة لنرهب عدو اهلل وعدونا
ونطرده من طريقنا إىل الناس نبلغهم بشرى اإلسالم وحنررهم من
طاغوت الكفر.
هذه الكثرة الغثائية مكونة من القذى املتعفن ومن اهلباء
الضعيف الواهي ومن القش املسوس ومن بني كل ذلك عناصر
ساملة صحيحة .ويف لقاء املسجد وبرتبية املسجد وجمالس اإلميان
باملسجد تسري صحة العناصر الساملة يف سقم القذى وتسري
قوة القلوب املؤمنة يف القلوب اخلاوية الضعيفة وتأخذ اليد
الرحيمة الربانية باليد األخت املسكينة ويتم التعاون ومن التعاون
تنشأ وحدة ومن الوحدة كيان إسالمي قوي له من ماله وعمله
واقتصاده قيم وقيام .هذه الدراهم املعدودات يف جيب احملروم
وهذه األكداس من الذهب يف صناديق الغين تلتقي ،ويلتقي جهد
العقول والسواعد مع ساعات كانت ضائعة مبذرة يف املالهي
والعبث أو يف الكيد أو يف الكسل .وينضبط كل ذلك فيكون
طاقة متكاملة مساهتا التقلل واالدخار واالبتكار الذي خيرج القوة
564
من الضعف وحيقق ما حيسبه الكسول مستحيال.
إذا عمرت قلوبنا باحملبة واإلميان وحتررت أفكارنا مبمارسة
القرآن فلن خنجل أن نظهر مبظهرنا احلق أمة مسكينة تلبس املرقع
ريثما تدخر ما به تبىن القوة وتأكل طعام اجملاهدين املنقطعني
ضحية ألصحاب مأدبة اللئام.
إننا يف فتنتنا نعيش فوق ما حيق لنا ،انسحب االستعمار
بعد أن أزاح عنا أوهام الزهادة دون أن يعلمنا مواطن القوة
ودون أن يعلمنا االعتماد على النفس وحزم البطون ،ما كان ذلك
يصلح أموره لذلك زرع فينا بعشرته وزرع فينا بتعليمه وثقافته اليت
تلقيناها بالعني املنبهرة والنفس املتلهفة عادات خربت رجولتنا
وأوهنت عزائمنا .ما مصدر فقرنا ؟ أرضنا يف جمموعها أرض غنية
مبواردها ،ولنا أموال ولنا سواعد ولنا عقول وحنن أكثر عددا من
شعوب القوميات اجلاهلية .وكان كل ذلك لو جتمع كفيال أن
يذهب عنا الفقر ،وكان العدد وتنوع املناخ واتساع الرقعة كفيال
أن جيعلنا أقوى األمم لو تعاونا.
إن مصدر فقرنا يف كون عددنا كما غثائيا ال يتماسك وال
يتعاون ،وحنن كذلك ألننا فتات تاريخ جميد لكنه كان تاريخ تدرج
وتدحرج على درب الفتنة الطويل ،فلن حيولنا من الضعف والوهن
إىل القوة واملنعة إال التجديد لإلنسان يف عقيدته وعقليته بالتطبيب
565
والتمريض .وهذا التحويل الكيفي هو وحده جيعل احتادنا وحدة،
وليس خيفي االحتاد السياسي الكمي إال وهنا على وهن يظهر
مبظهر التعاون والوحدة قبل أن جيد اجلد فريجع كل إىل أحط
مقوماته وهي العصيبة القومية.
إذا حصلنا على صدق التعاون يف قطر االنبعاث االسالمي
ومهده فإن الصدق يف نفسه قوة ،وإن الدرهم الذي يأتيك
صدقا وتعتمد عليه وعلى صاحبه يف كل املهمات هلو أجدى
من آالف جتمعها مرة من مصدر ال تعرف نيته ووجهته .صاع
التمر الذي نثره أبو عقيل يف صدقة املسلمني مسامهة صاقدة
ميكن أن تعتمد عليها ،فإذا عمت إرادة التعاون واملسامهة وصدق
املؤمنون فعطاؤهم للدرهم والعرق والوقت يعطيك أساسا للعمل
االقتصادي تبين عليه نظامك وخطتك مطمئنا إىل أن املعني لن
ينضب جمراه.
يف جمتمع راكد تنبين اخلطة االقتصادية على املصاحل املتبادلة
يف مصلحة املالك إن كان شخصا أو دولة وعلى مصلحة العامل
أو قل على اضطراره .أما يف جمتمع يريد احلياة ويتحرك حبافز طلب
القوة وبشجاعة حامل الرسالة وبذل الصادقني فاخلطة االقتصادية
ال بد أن تكون طموحا وال بد أن تستدعي إىل جانب موارد
الطاعة موارد التطوع .زد على هذا أن اإلسالم املنبعث غدا ال
566
يأمن كيد العامل وال يأمن أن حياربه العامل غري واثق بأن اإلسالم
يبلغ رسالته رمحة ال شوكة ،وما يتصور العامل اإلسالم إال جندا
مقاتال فاحتا .وإن اإلسالم لكذلك إن كاده الكائدون ووقف يف
طريق دعوته الكافرون.
فما بد من أن يعتمد املؤمنون على قوة اهلل بعد أن يعدوا
كل ما عندهم من وسائل ذاتية .وإذا خطوا القتصادهم ختطيطا
فينبغي أن تعتمد اخلطة على ما يف اليد ،وليس يف اليد إال دراهم
الصادقني وجهدهم وجهادهم الذي ال يين .ولعمري إن قام العدل
وحترر املسلمون من خوف العوز يف ظل التكافل ،ليأتني من
التطوع ما ينسيك يف يوم اهلل غدا يوم الرمحة اإلسالمية تطوع
الصيين العنيد الشجاع اخلبري يف مرقعته ونظافته.
إن قاعدة التخطيط االقتصادي أن ختتار األمة هدفا مؤقتا
على قدر ما تستطيع رصده من جهاز مايل وإنساين ،مث أن حتدد
املنهاج التقين اإلداري الذي من شأنه أن يسرع إىل تنفيذ اخلطة.
وما يعطيه التطوع للخطة اإلسالمية من قوة ينبغي أن يظهر
يف قدرة األمة املنبعثة على ختطي العوز التكنولوجي وقلة املوارد
وتشتت رأس املال ،ويف قدرهتا على تطوير اخلطة االقتصادية
للشريعة اإلسالمية اليت تبيح امللكية يف حدود املصلحة العامة كما
جتيز ملكية اجلماعة للطاقات االقتصادية األساسية مبقتضى أن
567
الناس شركاء يف املاء والكإل والنار ،وتشمل هذه الثالثة معظم
طاقات اإلنتاج.
لكي نطوع وضع امللكية لدواعي التخطيط والتنظيم والزيادة
يف اإلنتاج ورفع مستوى اإلنتاجية ال بد أن تتضافر قوة الطاعة وقوة
التطوع معا .اخرتع الشيوعيون التخطيط االقتصادي وكان يسريا
عليهم عقلنة االقتصاد ألن للدولة وحدها احلق يف كل املمتلكات
وهلا التصرف املطلق .وحيس الرأمساليون بنجاعة التخطيط
االقتصادي منذ رأوا املأثرة الصناعية الستالينية فيقول عنه ديكول
الفرنسي إنه واجب ملح! .L’ardente obligation du Planلكن
التخطيط يف ظل الرأمسالية يصطدم باملصاحل اخلاصة فيؤول ذلك
إىل تصاحل بني املصلحة العامة وشبكة املصاحل املستغلة.
التخطيط يف نفسه قوة ألنه توجيه كل الطاقات وجهة
واحدة وألنه يسبق مصلحة األمة على مصلحة األشخاص .طبقه
الروسيون وأتباعهم بنجاح حسده عليهم اآلخرون وقلدوهم أو
حاولوا التقليد .على أن تطبيق الشيوعيني للخطة مل يسلم إال
جزئيا من آلية السوق وطلب الربح من اإلنتاج ،وذلك ألن العامل
الروسي األكثر إنتاجا حيظى مبكافآت زائدة فكأنه ميتص من
املصلحة العامة جزءا ملصلحته الفردية .وعلى هذه احملرضات
األجرية قامت املعركة اإليديولوجية بني اخلرباء احلمر وإخواهنم
568
الذين علموهم بانسحاب اخلرباء الروس من الصني فجأة أن
يعتمدوا على أنفسهم وأن يوقظوا العامل بوعي جديد ليعمل
مبقابل واحد هو استحقاق الرضى عن النفس مبشاركة اجلماعة يف
محل رسالة حترير العامل.
قوة الطاعة للمسلمني يف أن يشرعوا ألنفسهم قوانني تفصل
ما أمجله احلديث الشريف يف موضوع الشراكة يف الثالث الطاقات
ويف بذل الفضول ويف نزع ملكية تعرقل املصلحة العامة كما رأينا
يف واقعة ابن مسلمة مع عمر .وقوة التطوع يف أن يفتح باب البذل
ملن حيفر الطرقات وملن يعلم اجلاهلني وملن ينثر صاعه يف بيت
مال املسلمني .وجتتمع قوتا الطاعة والتطوع يف حتمل املسلمني إذا
محلوا كل تنظيم أو إجراء من شأنه أن جيعل الطعام أقل تنوعا
وأن جيعل الكماليات بضاعة مفقودة وأن يردنا إىل مذهب التقلل
واالخشيشان والتمعدد.
أال ترى قوة الصينني ،ونكثر من التذكري بآية اهلل اليت جعلت
لنا حنن األمة الغثائية لنخجل من وهننا ،وجدوا أنفسهم معرضني
أمام أنظار العامل ووجدوا أمامهم عدوا متحفزا للهجوم وعدوا
حمتمال ،فصور هلم القائد العمالق عدوهم منرا له ناب وخملب وله
ضراوة وعداء لكنه إن بارز رجاال فإمنا هو يف حكم منر الورق.
وملا مسعت خطاب القائد آذان واعية على قلوب متأججة من
569
فعل «الفلسفة» والسياسية» ومن فعل العمل اليدوي املريب مل
حتتفظ من اخلطاب إال بشعار «منر الورق» فكل عدو يف عينها
ال بأس منه ألن الشعب احملقور باألمس أعد قوته ابتداء من
القشة واملسمار واهلنة من املعدن يدخرها ويصنعها ويبتكر ويصنع
القنابل والصواريخ.
هكذا حنن غدا سنكون أمام أنظار العامل ،بيد أن قوتنا لن
تأيت من تعاوننا وجتندنا وختطيطنا وجهادنا اإلنساين إال مبا يزكينا به
القوي العزيز من تأييده .إننا أمة مؤمنة تؤمن بالغيب ،وتنزل على
هذه األمة املالئكة يف ساحات القتال ومواطن السلم ،وبذلك
فقوهتا ختتلف اختالفا كيفيا عن قوة اجلاهلية .هي تعنف وحنن
ال نعنف وهي تقاس قوهتا بالعدد والكم وحنن نقاس مع إعدادنا
للعدد والكم بالقوة الغيبية ،فإن يكن منا عشرون صابرون يغلبوا
مائتني ،تتضاعف قوتنا مبا ال حيصى.
قوة الكم اجلاهلي يف حقنا باطل وضعف ،فهي قوة ربوية
وحنن لن تقوم لنا قائمة أبدا بالكم الربوي ،وعد اهلل ال خيلف
ومو َن ين يَأْ ُكلُو َن ِّ َّ ِ
الربَا الَ يـَُق ُ اهلل امليعاد .قال اهلل عز وجل ﴿ :الذ َ
س﴾ .فنبذ الربا الش ْيطَا ُن ِم َن ال َْم ِّ
وم الَّ ِذي يـَتَ َخبَّطُهُ َّ
إِالَّ َك َما يـَُق ُ
شرط أساسي لقوتنا ،فإن فعلنا فسيأتينا من اهلل عون ال حنتسبه،
وسريزقنا اهلل من فضله ال إله غريه.
570
لقد وعد رسول اهلل أن ستأيت خالفة على منهاج النبوة يرضى
عنها ساكن السماء وساكن األرض وتؤتيها السماء من قطرها
واألرض من بركاهتا .فإن بعث اهلل لنا خليفة رسوله فبوجهه
نستسقي الغمام وبوجهه نتعرض لربكات ربنا .إن اجلاهلية ال
تعرف للرزق إال موردا واحدا هو ما حيصل عليه العقل الربوميثي
والساعد اهلرقلي من الطبيعة ،أما يف حقنا فإن األرض هلل يورثها
املستضعفني املؤمنني ،وهو الذي ينزل الغيث وهو الذي يرسل
الرياح لواقح فيصيب برمحته من يشاء .وإن وراء قانون اهلل يف
اجلغرافية وقانونه يف األرض والسماء لقانونا غيبيا حيق به الوراثة
هلذه األمة يوم انبعاثها.
571
تنمية اإلنسان
منذ أدى الصراع الدويل إىل استقالل الشعوب بدأت أنظار
العامل املصنع الغين ترتكز على األقطار احملرومة املستعمرة باألمس
واليت يكون تكتلها وكثرة أعدادها خطرا على مستوى العيش يف
البالد الغنية .وبرزت للوجود على يد الصهيونية العاملية املتحكمة
يف دفة الثقافات مذهبية ثقافية ختتص مبا أمسته العامل الثالث.
وهتتم بتنميته وتدحرجه ذات اليمني وذات الشمال بني جاهلييت
السود واحلمر ،بني من يستعبدون اإلنسان جهارا وبني من
يستعبدونه حتت ستار اإليديولوجية املسدول على عصبية القومية
وعلى مطلب السيطرة على العامل ورفع مستوى العيش.
ثقافة التنمية االقتصادية تفرعت وتنوعت وراجت سوقها
حىت أصبحت ميدانا لتنافس رجال االقتصاد من املعسكرين،
هؤالء يقرتحون تنمية على أساس قرض بربا قليل أو عطاء جماين
يكون مهر املعاهدات ،وأولئك يقرتحون أساس قرض وعطاء
يشابه األول مشاهبة القطط يف الظالم كما يقال .ويف هذه الثقافة
دراسات علمية وأرقام وإحصاء تعني نتائج حتليل ملفوف تارة يف
لفظية إيديولوجية وطورا يف ظروف العوز احمللي .ويف هذه الثقافة
دراسات عن جتارب األقوام الثائرين ،كيف نظموا حكمهم وكيف
572
تدحرجوا يف تنميتهم االقتصادية.
هذه الدراسات تقرتح علينا مناذج ومبادئ قد تكون فيها
حكمة لكنها حتشر يف سياق من التعاون الدويل وتعتمد على
اخلبري األجنيب واملال األجنيب .فلئن قبل احلل املستورد مع الثقافة
املستوردة بعض قادتنا املفتونون اليوم فسنرفضها غدا لسببني،
أوهلما أن اخلبري األجنيب واملستشار األجنيب الذي تصغى إليه
آذان قادتنا اليوم يف أمور األمن واخلوف بطانة سوء له علينا
دالة مبا يف عقله من خربة نتعبدها لكسلنا ووهننا ومبا يف يده
من مال هو القضاء على ذمتنا وحريتنا معا .والسبب الثاين هو
أن هذه الثقافة املستوردة ال تقرتح علينا إال مناذج جاهلية لتنمية
كمية ،تفضي القتصاد تكاثري استهالكي ينتهي عنده ومعه دور
اإلنسان ،وتسلسل معه حياة اإلنسان يف دورة اإلنتاج واالستهالك
فإذا هو دودة تسعى !
دودة تسعى ،ويف األرض ترعى ! هكذا هو اإلنسان اجلاهلي
وال حميد له عن دوابيته مهما سعى حبثا عن إنسيته وعن قيمته
الوجودية يف مجالية الفن ويف بطولية اإلجناز العلمي والصعود
على الصواريخ .إذا ما ضاق اجلاهليون بدوابيتهم وناءوا حبمل
مصانعهم وقذارهتم امللوثة للرب والبحر فإمنا يهتدون إىل فكرة
واحدة ،هي أن اإلنسان ينبغي أن ينمى دراكا مع تنمية االقتصاد.
573
ومعىن هذا أن الفكرة اليت يهتدي إليها اجلاهليون ،احلكماء منهم،
هي أن املطلب االقتصادي الذي خدمته حذاقة اإلنسان وكشوفه
العلمية وتكيفه مع ناموس الطبيعة مطلب ال يسعد اإلنسان
حتقيقه بل يشقيه شقاء مثل شقائه قبل ذلك بالفقر والعوز .ففيم
كل هذا العناء!
إهنا فكرة بديهية لكنه أيضا اكتشاف عبقري ،وككل البديهات
واالكتشافات العبقرية املنقطعة عن اهلل بقيت فكرة تنمية اإلنسان
ضرورة أرضية حمضا تدور يف دوامة التكاثر اجلاهلي والتبذير اجلاهلي
وعبودية اجلاهلية ملا تولوه من ُمثل غايتها مداعبة هذه األنانية الطاغية
بشهوتيها .كان اإلنسان فقريا يعيش يف القلة ففرض ذلك عليه أن
جيتهد ليغلب القلة .وكان التصنيع العلمي جواب اإلنسان عن
حتدي القلة .بيد أن مثن التنمية االقتصادية يبذله اإلنسان نصيبا من
حريته كبريا ،ويبذله نصيبا من راحته ونصيبا من صحته .فهو جيب
أن يتكيف مع اآللة الصانعة ،وجيب أن يتكيف مع وقت الصناعة،
وجيب أن يتكيف مع ظروف املناخ املتلوث من جراء الصناعة .ويبلغ
األمر غايته يف البالد اليت جتاوزت مرحلة الثورة الصناعية أن يتحول
اإلنسان رأسا من حالة التكيف اجلزئي إىل حالة التسخري الكلي
فيكون آلة إنتاج واستهالك ال شيء غري ذلك ،يكون آلة إفراز
حضاري وجهاز هضم حضاري.
574
ويصف هذا التشييء وصف عارف اليهودي مركوس ،وحق
له ألن الفكر اليهودي رأس البالء وموقد الفتنة وشعلة اجلاهلية.
ويقول مثلنا الدارج ملثل ما يفعله مركوس من نقد للجاهليات
ونكاية هبا « :باع القرد وضحك على من اشرتاه»! فمن فلسفة
اليهود ومن مذهبيتهم االشرتاكية الشيوعية ومن حتليلهم لنفس
اإلنسان املمسوخ امتزجت عناصر هذه احلضارة املمسوخة .أال
وإن أقبح املسخ املسخ القردي فال هو إنسان وال هو دابة وهبذا
يكون مثلنا الدارج ذا داللة مزدوجة ،فما مسخ اجلاهليني قردة
إال متسكهم باملثل اليهودية ،مثل الذين غضب اهلل عليهم وجعل
منهم القردة واخلنازير وعبد الطاغوت.
تنمية اإلنسان تصورها ماركوس حتررا من القلة بتطوير اآللة
تطويرا علميا حىت يصبح هلا حركة ذاتية ،فبذلك ختدم اآللة
اإلنسان ويتفرغ اإلنسان ملمارسة شيوعية حاملة .وتصور مركوس
مناء اإلنسان يف «أتوماتية» تنفتح على جنة فرويدية تارخيية يتفرغ
فيها اإلنسان للذاته اجلنسية يف حضارة إباحية ألبسها بائع القردية
غاللة من اجلمالية والعاطفية كما يفعل مساسرة التدليس .وقد
تطورت اآللة وأصبح هلا حركة ذاتية وبىن العقل الربوميثي عقوال
إلكرتونية لتخدمه ،وتراكمت رؤوس األموال وتراكمت البضائع يف
بالد التكاثر فهل حترر بذلك اإلنسان ؟ ال جيد األمريكيون اليوم
575
وأقراهنم يف اجلاهلية إال مشاريع يلهو هبا الفكر البشري واخليال
البشري عن قذارة الرب والبحر وعن ظلم ثلثي سكان املعمور يرزحون
حتت وبال اجلبارين .مشاريع اكتشاف املريخ والزهرة وزحل بعد
اكتشاف القمر جتند املال واألفكار والعقول اإللكرتونية لشيء
آخر غري تنمية اإلنسان .وياليتهم اجتهوا لتنمية اإلنسان كما
يفهمون التنمية توفريا للخبز والكسوة! إن فقر الفقراء لعنة على
األغنياء يف جاهلية وإسالم ،وإن الفقر كفر ،كاد أن يكون كفرا
وَكانَه يف حق أبنائنا املعجبني باجلاهلية املصنعة املنماة يف نظرهم.
مركوس يقرتح أن تثور الربولتاريا اهلامشية اليت يكوهنا احملرومون
يف األرض وتنتزع اآللة من يد اجلاهليني احلاليني لتحقق يف األرض
الوفرة األوتوماتية والدعارة .والكاتب اإليطايل موارفيا رأيناه يعجب
بالنموذج الصيين ويتطلع إىل اإلنسان الكامل يف نظره املتمثل يف
الفالح الذي جيمع بني الفقر والعفة .وال يتحقق مع اجلاهلية إال
دعارة وسط حرمان ،وهامش احلرمان هو ثلثا اإلنسانية.
ما بالنا وحنن املستضعفون نصنع يف اخليال أحذية للعامل وحنن
ال نستطيع خصف نعلنا البالية ،ونريد للعامل خريا حنن عاجزون
عن حتقيقه ألنفسنا؟ ال ننس أننا املستضعفون فبذلك نستحق
الوراثة إن كانت فينا خصائص الوارثني .إن الوارثني خلفاء يف
األرض وإن هذا اخللق أمجع هو عيال اهلل وإن أحب اخللق إىل اهلل
576
أنفعهم لعياله .فالرب الشامل لإلنسانية هو رائد اإلسالم كلما قام
لإلسالم قائمة ،نريد لإلنسانية أن يعمها اخلري وترتفع عنها ألواء
اجلوع كما نريد أن يرتفع عنها بأس الظلم .إن اهلل تعاىل أمرنا أن
ال نكره الناس على ديننا وأمرنا أمرا جازما أن حنمل رسالته إىل
العامل قائمني بالقسط بني الناس شاهدين باحلق.
على مائدة اللئام شعوب مكتظة متخمة مريضة على حفظ
مستوى معيشتها بل على رفعه باستمرار ،وحول هذه املائدة
إنسانية هامشية يزداد فقرها يوما عن يوم وتزداد أعدادها ويزداد
عويلها .وخيرتع أصحاب الوفرة التكاثريون مذهبية حتديد النسل
وخيرتعون مؤسسات ملساعدة األمم احملرومة خمافة اضطراب التوازن
االستغاليل على األرض ،ترمي هذه املؤسسات لشعوب القلة
فتات املائدة صدقة تشجع الكسل وتفت يف اهلمم وتوطد عالقات
السيد املستغل بالتابع الضعيف .ومع التوازن االستغاليل ،ويف
العبارة تناقض يغين عن شرح نوعية التوازن ،توازن الرعب النووي.
وهاتان لعنتا وهم اجلاهلية الدائم ،فتزداد اجلاهلية خوفا وهلعا
من تكاثر اإلنسان اجلائع احملروم على األرض ومن سيف القنابل
املصلت على رأسها يف كل ساعة .ومع اخلوف واهللع يزداد عنفها
وجهلها مبصري اإلنسان وكرامته وجتاهال لذلك سيما إن كان هذا
اإلنسان ملونا غريب السحنة واللغة.
577
وإن اإلسالم هو السالح للعامل لو كان لإلسالم قوة اقتصادية،
لو كان له درع من حديد ولو كان له طعام يقيم أجسام املسلمني
الضعيفة ولو كان لإلسالم خرباء مؤمنون وسواعد مؤمنة يصنعون
القوة.
إن املسلمني يف األرض يبلغون ربع اإلنسانية غدا ،وهم
يتكاثرون بسرعة ،وبالكثرة اإلميانية يباهي بنا رسول اهلل األمم
يوم القيامة ،فيجب أن نتكاثر ،لكن كثرتنا احلالية كثرة غثائية،
فال مزية لنا بالعدد .وقد غزتنا مذهبية حتديد النسل ودخلت يف
اخلطة االقتصادية املستوردة املستنبتة يف دار اإلسالم .لكن ذلك
ما نقلنا ولن ينقلنا من الغثائية إىل التحول الكيفي الذي به نكون
أمة قوية بإمياهنا وعملها .وإن حتديد النسل حني يتخذ مذهبا
اجتماعيا هلو حل الكساىل ،إذ هو جمرد برت ألجيال متالحقة لئال
تزامحنا يف الطعام والكساء ،وهو أيضا حل املغفلني واالهنزاميني.
فأي أمة ال تستطيع أن تكبس اجملال احليوي وتقتسم فيما بينها
القليل مما عندها ريثما تريب سواعد جديدة تصنع هلا الوفرة ،وريثما
تريب عقوال جديدة تصنع هلا القوة فهي أمة إمنا تدخل يف منطق
اللئام الذين أتلفوا معادن األرض تبذيرا ،بره وحبره وهم يتلفون
املاء واهلواء .ولوال أن ماء البحر ال ينفد لكنا نرى اآلن جاهلية
التكاثر حتتل األرض لتستأثر بأهنارنا ،ولوال أن اهلواء قسم مشرتك
578
على البسيطة لكنا رأيناها تستأثر باحلياة دوننا .فإذا مل تر لذلك
سبيال وال إليه ضرورة فهي تدعو اإلنسانية لتحديد النسل وهو
أقرب احللول وأسهلها فتجري الدول املتخلفة يف ركاب حضارة
األثاث جري التابع تنقطع أنفاسه على طول الطريق .ويساقط
التابعون ويقل عددهم ليتمكن السيد يف األرض بعدده كما هو
متمكن منها بعُدده.
إن احلل اإلسالمي ،حل الرجولة والقوة ،هو أن نتكاثر عددا
ونتحول كيفا يف نفس الوقت .1فإذا كانت كل يد تولد نعلمها أن
حتمل اآللة سعيا لكسب القوت ،وإذا استطعنا أن نفسح للجيل
اجلديد من ذات نفسنا فنعلم كل فرد وندبر له مكانا يستقر فيه
فإن كثرتنا قوة عندئذ وعتاد نواجه به مستقبلنا الزاهر حىت يكون
على األرض مقابل كل جاهلي مؤمن يدعوه إىل اهلل حياوره بصحة
جسمه وقوة شخصيته واستنارة فكره وطمأنينته وسط اخلوف
وفاعليته يف رعاية عيال اهلل على األرض.
إن حتديد النسل يف حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم
قسمان ،فقد رخص لبعض الناس يف العزل ،ومسى العزل يف
أحاديث أخرى «املؤودة الصغرى» .وإن اهلل يف كتابه أمرنا أن ال
1هذا هو الطرح املتحدى يف موضوع االنفجار الدميوقارطي :أن ال يكون التكاثر العددي عائقا
للتنمية والتحول الكيفي .وانظر كتابنا «اإلسالميون واحلكم»
579
نقتل أوالدنا خشية إمالق .فبذلك يكون مذهب حتديد النسل
كفرا بنعم اهلل واعتمادا على غريه ،وليست النسم اليت نتعرض هلا
إال أوالدا لنا سارعنا إليهم خشية الفقر .وتبقى رخصة االمتناع
عن احلمل خاصة باألسر فأميا امرأة ضعف جسمها عن حتمل
تواىل احلمل عليها أو أصاهبا مرض دائم أو يف معىن ذلك فأمرها
إىل ضمريها .وإن اجلسوم مريضة يف هذا العصر فال حرج على
املرضى.
حالنا قلة يف األرزاق وكثرة يف العدد وكسل وجهل يف األيدي
والعقول وشح يف النفوس ،وإذا شئنا القوة فلنعاجل اجلهل والكسل
والشح بالطب النبوي املنهاجي وعندئذ يكون لنا من قوة املعىن
ما يؤهلنا للقوة يف كل امليادين .إن من يتلقى الفقر والقلة تلقيا
سلبيا قد يدعي الزهد وحيرتف الزهادة ،وباالحرتاف يعاجل فقره.
لكن القوي هو من يتفاعل مع القلة ويغالبها ليوفر اجلهد الالزم
لبناء القوة ،ومن املوارد الشحيحة يستخرج رزقا كثريا باالبتكار
وبالتقلل.
الزهادة احرتاف والزهد قوة وعبادة والتقلل مذهب رجويل
إرادي يوسع دائرة الزهد فيجعلها تعم اجلماعة وتصبح هلا ناموسا
يف احلياة .إن الزاهد الفردي خياف فتنة الدنيا على نفسه فيطرحها،
واجلماعة املؤمنة ينبغي أن تتقلل لتجتنب الفتنة والرتف يف األثاث
580
واملأوى ولتفسح اجملال من ذات نفسها ومن ذات بطنها وشهواهتا
ألجيال كثرية تعيش على الضروري وتكون قوية تستحق أن يباهي
هبا رسوهلا األمم يوم القيامة.
أما ترى كيف يعجب السفراء املرتفون يف الصني بالصيين
النظيف البسيط فيقلدونه يف اللباس كما يقلدونه يف الرزانة
والسمت؟ وتقرأ فيما تقرأ من حديثهم عن الصني إعجاهبم
هبذه السروايل املرقعة ،ببساطتها ونظافتها وباخلياطة الفنية حول
الرقعة! هذا تقلل مفروض وبه استطاع زعيم الصني أن يدمج
يف إيديولوجيته عقيدة أن الكثرة عدة وأن الكثرة ال تعوق تنمية
اإلنسان بل تيسرها.
اجلاهليون ينشدون تنمية اإلنسان ملا خاب أملهم يف التنمية
االقتصادية اليت استعبدت اإلنسان أكثر مما كان مستعبدا.وهم
يعلقون كل آماهلم على مستقبل حضارة اسرتواحية Civilisation
de loisirتقوم فيها اآلالت باخلدمة ويتفرغ اإلنسان للهوه ،فتلك
تنميته إن لعب بفكره يف ميادين الثقافة والفن وجبسمه يف ميادين
الشهوة واملتعة.
وهيهات أن يقنع اإلنسان أبدا وأن يرضى بقيم أية حضارة ما
مل يطمئن إىل احلقيقة األوىل يف الوجود .وسيبقى شقيا حبضارته
وأثاثه ومهه وخوفه من الناس وبأس العدو واملنافس ما مل يسلم
581
وجهه إىل اهلل .فإن فعل فسريتفع عنه السأم وامللل وسيقبل على
شأنه يرعى اإلنسان متحررا من أنانيته وعبياته ،وإمنا يعلمه ذلك
املؤمنون ،غدا يف ضحى اإلسالم املشرق .ويف أحضان اإلسالم
زينة ومتعة وفرح ،فإن التقلل ال يعين التقشف املعطل ،بل يكون
مع التقلل حسن السمت وإبداء النعمة يف حدود الشريعة ،فال
قصور وال ذهب وال حرير لكن مأوى اجملاهدين وكسوة األبرار
وطعام الصحة والقوة .ال يستأثر أحد على أحد بل نقلد اإلمام
صفا مرصوصا ونتبعة ويكون لنا قدوة كما كان رسول اهلل قدوة
ألصحابه يلبس مثلما يلبسون ويشاركهم الطاعم ويشاركهم فرحة
العيد ال يتميز عنهم إال مبا يوقرونه وحيبونه .وياهلا من مجالية تلك
الوحدة اجلماعية يف التكافل والتجالس وتلك الفرحة يف ساحات
املصارعة والسباق والتدرب على السالح .وهذه هي الوظائف
االسرتواحية لإلنسان النامي ،اإلنسان املؤمن.
582
أمراض التكاثر
اجملتمعات اإلنسانية يف رحلتها األرضية تبدأ من القلة،
فيتكون اجملتمع حول مطالبة للمالكني ،تتجمع قبيلة لتغزو جاراهتا
وتأخذ ما بيدها ،وقد يتكرر الغزو ويتوسع وينتظم حىت تقوم دولة
غازية رباط قوهتا هو القلة اليت نشأ فيها أفرادها .وقد حلل ابن
خلدون كيف يتطور اجليل الثاين ويتخذ عادات حضارية يسرتخي
معها جسمه وإرادته ويرتف عزمه يف أثاث احلضارة ،وفصل كيف
يتفسخ اجليل الثالث إىل أن تدول الدولة وتذهب رحيها ليخلفها
من يسميهم طوينيب «الربولتاريا اخلارجية» .فالقوة مرتبطة بالقلة
دائما ،وهذه بديهة تشاهد مصداقها يف احلياة اليومية حيث يكون
ولد الفقراء أصلب عودا من رفيقه املنعم .وهي حقيقة على مستوى
اجملتمعات وإن كان يسرتها عنا اليوم ما نراه من مواكبة احلضارة
للقوة ،فيخيل إلينا أن أقوى الناس هم اجلاهليون أصحاب األثاث
واحلضارة ملا نرى من سالحهم وعنفهم .ولو نفذنا فكرنا إىل عامل
اجلاهلية التكاثرية لوجدنا أن اجملتمعات املنعمة جمتمعات مريضة
تراكمت عليها أمراض التكاثر فما حتت الدرع احلديدية وما وراء
القنابل النووية إال أجسام خنرة وعزائم خائرة ،ما حتتها يف احلقيقة
إال … منر من ورق!
583
ذكي هو فيلسوف اليهود مركوس! إنه عاشر اجلاهلية بعد أن
انتزع نفسه منها بفكر وراقبها ،فوصفها أعظم الوصف وحكم
أهنا زائلة ،والتفت فما رأى رجولة ترجتى إال مما مساه «الربولتاريا
اهلامشية» .أولئك السود األمريكان وهذه الشعوب من العامل
الثالث كما يصفه جليسا مأدبة اللئام هم وحدهم القادرون على
اختاذ موقف يعارض جمرى اجلاهلية ويقطف مثرة حضارهتا ليحوهلا
إىل فحولة انعدمت عند اإلنسان احلضاري املرتهل الشائح.
هذه العقول التكنولوجية اجلبارة اليت تغزو املريخ وتبهر عيون
املتفرجني على الصواريخ وعلى معارض االخرتاع ماذا ختفي عنا
من حقائق اإلنسان اجلاهلي؟ وهذه األجسام الرياضية البديعة اليت
تضرب األرقام القياسية كل عام يف شىت أنواع الرياضة ويف الصراع
والسباق أي حقيقة بشرية وراءها؟
إن اهلل جل شأنه خاطبنا حنن اإلنسانية قائال ﴿ :أَل َْها ُك ُم
التَّ َكاثـُُر َحتَّى ُز ْرتُ ُم ال َْم َقابَِر﴾ فأخربنا أن التكاثر ملهاة لنا عن
األمر احملتوم يصدنا عن مصرينا إليه بعد مثوى أجسامنا يف القبور.
ونفهم من خطابه عز وجل مطلق اللهو بالتكاثر ،نفهم منه أن
الكم والتسابق الكمي واالستعراض الكمي ظواهر سطحية حتتها
حقائق اإلنسان ،فليست كثرة الطعام ووفرة اللباس تعين صحة
وعافية ،وليست كثرة املال والعدد والسالم تعين أمنا ،وليست
584
كثرة املدارس ونشر الثاقفة تعين هتذيبا لإلنسان ،وليست األسلحة
املتنوعة اهلائلة تعين شجاعة .ولو كان للجاهلي صحة وأمن ومناء
لإلنسان ،وشجاعة كما يتصور املغفلون ملا أغناه ذلك شيئا بالنظر
ملصري ما بعد الوت ،فاجلاهلية مغبونة مرتني ،مغبونة يف دنياها ألن
تكاثرها خيفي أمراضا ستطيح هبا وجتتثها من جذورها ،وألن وهم
السعادة األثاثية أهلاها عن طلب األخرة وأهلاها عن احلق الذي
من أجله خلق اإلنسان .اجلاهلية أهلتها مظاهر القوة عن القوة
ومظاهر السرف والتبذير عن الغىن احلقيقي وأهلتها املخرتعات
واألثاث عن تنمية اإلنسان ولو تنمية أرضية نظيفة.
قد يرى املالحظ السطحي أن احلضارة العلمية رفعت مستوى
املعيشة مبا مل يسبق له مثيل ورفعت معدل عمر اإلنسان ورفعت
مستواه الثقايف ورفعت معنويته بتنظيم العامل ونشر معاين احلرية
واملساواة واحرتام حقوق اإلنسان .ويؤيد كل هذا إحصاآت ناطقة
كما يليق بعامل تكاثري أن يكون أنطق شيء فيه أرقامه.
إن من مآسى اجلاهلية ما ال تسعه األرقام وال يقبل صيغة
العدد ،خذ مثاال لذلك ضيق النفس وتعفن األسرة والفسق واحلقد
الطبقي واخللل العقلي الذي مل يبلغ حد اإلجرام وما إىل ذلك.
وهناك املآسي اليت تفصح عنها االحصاآت ،وتعطيك اجلاهلية
كشفا عن عدد اجلرائم وتعطيك كشفا عن عدد املنتحرين وعن
585
عدد املدمنني واملخدرين كما تعطيك صورة عن مرض النقد وعن
التضخم املايل وعن املسابقة اجملنونة بني األجور واألمثان.
وأفصح ما تكون األرقام داللة يف ميدان الصحة النفسية
والبدينة .فعلى مرآهتا تنعكس مضاعفات الطاعم الوفري ومدلول
املستشفيات للمجانني واملرضى .هذا اجلاهلي يأكل من سبعة
أمعاء كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وميرض على قدر
ذلك .وال فخر لنا إن كانت مستشفياتنا ومن فيها أقل عددا
بالنسبة هلم ،فلنحن أكثر مرضا يف فتنتنا وإمنا نتدبر اجلاهلية
املريضة بتكاثرها ملكان التقلل والقوة الذي نريده لغدنا.
نشرت جملة أمريكية 1إحصاآت قالت فيها :إن 13%فقط
من سكان الواليات املتحدة ساملون من األمراض اجلسمية ،وإن
تشريح 200جثة من جنود األمريكان الذين قتلوا يف كوريا أظهر
أن 80%منهم مرضى بالقلب ،وإن 30%ممن عمرهم بني 55
و 64سنة ميوتون بالسرطان وأن 80%من سكان أمريكا مصابون
بنوع من أنواع السرطان يعلمون ذلك أو ال يعلمونه ،وإن واحدا
من كل عشرة أمركيني متخمني يقضي حياته يف ملجإ اجملانني
وتزداد النسبة كل يوم.
هذا مثن االستهالك احلضاري والتخمة والبطنة وهو باهظ
586
تكفي فداحته لنا واعظا لنتخذ العدة حىت ال نسقط يف دورة
احلضارة التكاثرية.
ينفق األمريكيون أمواال قارونية يف صنع األدوية مثلما ينفقون
على صنع األطعمة املولدة للسرطان ومثلما ينفقون على صنع
األسلحة النووية ،هذه يعدوهنا ليخربوا العامل وتلك يصنعوهنا
فيخربون هبا أجسامهم وعقلوهم .إهنم عبيد لتقنيتهم مبا فيهم
حذاق االختصاصيني ومهرة األطباء .كلهم يف أغالل الشهوة
وأطواقها املسماة رفاهية ولذة ومستوى معيشة .فإذا برزوا مليدان
الرجولة افتضح جبنهم ،وقد تفرج العامل على جنب املتخمني يف
فتنام فكانوا يفرون ويلتحقون باملالجىء السياسية كأمنا هم أبطال
ضامهم ظلم منافسيهم السياسيني.
إن قوة سالح األزرار قوة حقيقية ما يف ذلك من شك يصنعها
إنسان خرب متدهور لكنه متعلم حاذق .1فهل تثبت قوة العقل
الصانع مع خراب اجلسم والنفس وخراب الذمة عند من يبيع
الشعب كله ليحصل على خمدر؟ كال ! فاملصري اجلاهلي مرسوم،
وهو أيضا مصرينا إن سلكنا طريق اجلاهلية التكاثري.
وما قوم الشيوعية اخلرشوفية منا ببعيد! فاللحاق اللحاق بركب
1وجاء اهلجمة الشرسة بقيادة الواليات املتحدة على املسلمني بالعراق ليكون املسلمون موضوعا
لتجربة حرب األزرار.
587
االستهالك! هذا شعار كل جاهلية ثائرة وإن كانت شعارات
الصني احلمراء اليوم ترتفع بنداء للرجولة واالستقالل وحترير العامل
فما هي إال مرحلة استثنائية يليها تصنيع شامل ويلي ذلك تراكم
رأس املال والصناعة اخلفيفة االستهاللكية ويبدأ خط املنحىن يف
اإلهواء إىل موضع الدودة اجلاهلية على الرغام.
إن عالقة املؤمنني باألرض عالقة حيددها شرع اهلل ومنهاجها.
إن لنا أمواال هي قيم وقيام وإن اهلل أخرج لنا زينة هي لنا خالصة
يوم القيامة ،أي أهنا ال تأخذنا إليها بل حنن نأخذها متاعا إىل
حني ،متاعا موقوتا مملوكا غري مالك ،وخنلص بعد ذلك إىل ربنا
يوم القيامة.
لن يكون اإلقالع االقتصادي ممتنعا علينا غدا إن شاء اهلل،
لكن الذي يعسر علينا ويطلب جهاد الليل والنهار وهو أن حنافظ
على اخلط االسالمي يف السلوك .فما من ثروة نضمها إلينا إال
وحتمل هتديدا ملصرينا مع ما حتمل لنا من قوة .العلوم التكنولوجية
إن ملكناها قوة وخطر معا ،قوة إن عرفنا كيف نسخرها لننافس
سالح اجلاهلية وابتكارها ،وخطر إن خدم هذا التنافس وهذا
االبتكار غاية غري غاية السالم يف األرض ومحل الرسالة لتحرير
اجلاهلية من جهلها وجهالتها .رأس املال الضروري إلقالعنا جنمعه
بالتعاون وإضمار البطون فهو لنا قوة إن ملكناه ومل ميلكنا،إن
588
ملكناه صرفناه يف تبليغ رسالة ربنا باإلحسان إىل اإلنسان عيال
اهلل يف األرض ،وإن َملَ َكنا تكدس علينا فأردانا يف محأة االستهالك
والرتهل واملرض واإلجرام والعته .وهذه األيدي العاملة اخلبرية
والسواعد املتطوعة والتخطيط العلمي إن اجتمعت قوهتا على
تغذية جائعنا وكسوة عراتنا وتربية عائلنا وتعليمه ،وأدت اىل ختطيط
مجاعة فرحة برهبا حمبة للبشر الذين ستحمل إليهم الرسالة نظافة
يف مستها وقوة يف أجسامها ومجاال يف منهاج حياهتا ومتاسكا يف
فكرها ونورانية مطمئنة فهي لنا قوة ،فإن محلت األيدي السالح
لتستبدل ظلما بظلم وشراهة بشارهة فذلك خرابنا.
إن اإلسالم يتألف القلوب على اإلسالم وإن تنميتنا االقتصادية
وقوتنا ال معىن هلما متاما إن مل ختدما الغاية اإلحسانية ،فإن ائتالفنا
فيما بيننا يكون من أسبابه إطعام الطعام وجمالسة املؤمنني على
موائد القناعة الصحية ،وإن تألفنا للناس على إسالمنا يريد أن
نطعمهم ونعلمهم وحنررهم ونضمن سالم العامل هلم ،فإن تكدست
لنا أموال فسنصرفها يف مشروع ال ينتهي وهو حترير اإلنسانية
كافة ،من قبل إسالمنا أحسنا إليه وزدناه إحسانا ليثبت ،ومن
مل يستجب لدعوتنا أحسنا إليه وزدناه إحسانا حىت يستجيب.
وحنن هبذا يومئذ خلفاء اهلل على عياله حقا .وإنه ال معىن لتنميتنا
االقتصادية وال لقيام اإلسالم إن مل نضرب للعامل مثال لإلنسانية
589
املؤمنة اليت متلك زمام أمرها وال متلكها عجلة احلضارة وال يصرعها
سلطان االستهالك .إن أستاذية العامل اليت خلقنا من أجلها وبعث
اهلل هلا أنبياءه بعد رسله وأولياءه بعد أنبيائه مثنها رباطة اجلأش
وامتالك النفس أمام الطعام وأمام الزينة فال نأخذ منهما إال ما
يقيم صلبنا .فإن أسرف اإلنسان يف طعام وزينة كان ذلك لصلبه
تقويضا ال إقامة ،واستحق مقت اهلل الذي ال حيب املسرفني ،فأىن
ملن ببغضه اهلل أن حيمل الرسالة أو يعلم اإلنسانية!
ما أهوى بصحة اجلاهليني وعقوهلم ورجولتهم إال االسرتخاء
احلضاري اإلسرايف ،يإكلون كثريا ويبذرون كثريا ويفسقون فسق
الذبابة وخيرجون عن احلد بطلب سعادة خيالية يف املخدرات.
كل جمهودات اجلاهليني هتدف المتالك أكرب عدد ممكن وأكثر
األنواع املمكنة من البضاعات ،وتتنظم جمتمعاهتم حول حمورين
اثنني مها اإلنتاج واالستهالك .وينتجون وهم الهثون جريا مع
حركة الدوالب الصناعي آفتني أوالمها بضائع تفتك بالعقول
واجلسوم والذمم وثانيتهما فائض ربح يعاد فيوظف يف اإلنتاج.
وكلما كانت نسبة النماء عالية كان ذلك أدعى لفخر الدولة
وغبطة املستهليكن وعلى قدر نسبة مناء املال املوظف ومناء حجم
الصناعة ترتفع نسبة األوبئة االجتماعية ويرتفع شقاء اإلنسان.
هذا هو عامل التكاثر وينبغي أن يتجنبه اإلسالم املنبعث بأن
590
يكيف حاجاته حىت ال جيره تسلسلها إىل حتمية التقنية واإلنتاج.
كان ماركس يؤكد أن اجملتع ال ينتج إال ليستهلك وهذا منطق دوايب
ال غبار عليه قاعدته احلاجة وقضيته الكربى إرضاؤها .واإلنسان
اجلاهلي الدوايب ال حميد له عن العلف وطلبه وطلب تنوعه وال عن
األثاث والزينة ومها غاية من ال يؤمن باآلخرة .ويف نظر ماركس أن
التحرر من العوز يكون بالسيطرة على العمل وحتريره من ضرورة
احلاجة اخلارجية اليت جييب عنها اإلنتاج املادي ،ويف نظره أن
هذا التحرر هو دولة احلرية املوعودة يف اجملتمع الشيوعي .لكن
الفيلسوف اليهودي ال يقرتح على اإلنسان احلرية احلق ،وأىن له
ذلك وهو امللحد الكافر ،وما احلرية احلق إال أن ميلك اإلنسان زمام
نفسه ويقلص من كمية حاجاته ونوعيتها .هذا املوقف اإلرادي
موقف االستعالء على احلاجة والقناعة بالضروري والتقلل من
الدنيا كمذهب اقتصادي مجاعي يبدو لنا سهال…نظريا .لكنه
عند التطبيق أعوص من كل عويص .يعرتض حتقيقه متنع الناس إن
أردت نقلهم من عادة االمتداد والذوبان يف املتع ،ويعرتضه هذا
الغول اهلائل هذا الكائن املنفصل عن اإلنسان املتحكم فيه الذي
يسمى اقتصادا إنتاجيا .يعين التقلل كمذهب اقتصادي ابتكار
نظام إنساين مناقض متاما لنظام االقتصاد اجلاهلي .وإهنا ملغامرة
ال يقدر عليها إال القلوب املؤمنة الشجاعة املعتمدة على رهبا،
591
وقد يكون من الالزم أن يتدرج االقتصاد االسالمي غدا يف معارج
االستقالل عن االقتصاد اإلنتاجي ويتعلم عرب الطريق وبإرادة إميانية
إحسانية مسبقة كيف يكيف الطبيعة وفق حياة الكمال اإلنساين
بدل أن يتكيف هو عبدا لآللة الصانعة وضحية لألخطبوط
الصناعي الذي خلقه بيده ،ولئن كانت مرحلة التصنيع على غرار
النموذج اجلاهلي ومعاناة اآللة والوقت واملردودية واملنافسية أمرا
ضروريا يف طريق اإلسالم فسيكون ردءا لبالء كل ذلك العدد
اإلسالمي واليقظة والتعاون وسطوة الروحانية اجملاهدة.
إن عالقة املؤمنني باألرض والرزق عالقة فطرية نابعة من
املوقف الفطري موقف الربانيني املعرتفني بربوبية خالقهم وخالق
الكون املسري له املتحكم فيه .جهاد املؤمنني لبناء االقتصاد
وإلعداد القوة كجاهدهم لتبليغ الرسالة لن يكون جهادا منفردا
خمذوال بل سيكون جهادا يزكيه اهلل ويعينه اهلل رب اإلنسان ورب
السماء واألرض ورب النواميس الطبيعية اليت جعلها لنا فتنة ،فإذا
آمنا به وعبدناه وقصدنا وجهه سخرها لنا وسخر لنا كل شيء.
هذه آيات ربنا البينات ختط لنا كنه عالقاتنا بربنا وخملوقاته،
ص ِّدقُو َن أَفـََرأَيـْتُم يقول عز من قائل ﴿ :نَ ْح ُن َخلَ ْقنَا ُك ْم فـَلَ ْوَل تُ َ
َّما تُ ْمنُو َن أَأَنتُ ْم تَ ْخلُ ُقونَهُ أ َْم نَ ْح ُن الْ َخالِ ُقو َن نَ ْح ُن قَ َّد ْرنَا بـَيـْنَ ُك ُم
نشئَ ُك ْم ِّل أَمثَالَ ُكم ونُ ِ ِ ِ
ين َعلَى أَن نـُّبَد َ ْ ْ َ ت َوَما نَ ْح ُن ب َم ْسبُوق َ ال َْم ْو َ
592
فِي َما َل تـَْعلَ ُمو َن َولََق ْد َعلِ ْمتُ ُم النَّ ْشأَةَ ْالُولَى فـَلَ ْوَل تَ َّ
ذك ُرو َن
شاء الزا ِرعُو َن لَ ْو نَ َ أَفـََرأَيـْتُم َّما تَ ْح ُرثُو َن أَأَنتُ ْم تـَْز َرعُونَهُ أ َْم نَ ْح ُن َّ
لَ َج َعلْنَاهُ ُحطَاماً فَظَلْتُ ْم تـََف َّك ُهو َن إِنَّا لَ ُمغْ َرُمو َن بَ ْل نَ ْح ُن َم ْح ُر ُ
ومو َن
َنزلْتُ ُموهُ ِم َن ال ُْم ْز ِن أ َْم نَ ْح ُن ِ
أَفـََرأَيـْتُ ُم ال َْماء الَّذي تَ ْش َربُو َن أَأَنتُ ْم أ َ
ُجاجاً فـَلَ ْوَل تَ ْش ُك ُرو َن أَفـََرأَيـْتُ ُم الن َ
َّار شاء َج َعلْنَاهُ أ َ ال ُْمن ِزلُو َن لَ ْو نَ َ
شأْتُم َشجرتـها أَم نَحن الْم ِ َِّ
نش ُؤو َن نَ ْح ُن ورو َن أَأَنتُ ْم أَن َ ْ َ َ ََ ْ ْ ُ ُ التي تُ ُ
جعلْنَاها تَذْكِرًة ومتاعاً لِّلْم ْق ِوين فَسبِّح بِاس ِم ربِّ َ ِ
يم﴾. ك ال َْعظ َِ ُ َ َ ْ ْ َ َ َ ََ ََ َ
أتدري من هم املقوون الذين جعل اهلل هلم شجرة النار تذكرة
ومتاعا ؟ إهنم املسافرون املقرورون احملتاجون لدفء .وتلك صورة
املسلمني يف حالة ضعفهم اليوم وهواهنم على أنفسهم وعلى
الناس .وإهنم أحوج ما يكونون إىل شجرة النار اليت يصهرون عليها
درع احلديد وسالح اجلهاد لغد اإلسالم املشرق على الدوام .وما
لنا سبيل لرزق ربنا تدر علينا مساؤه وخترج بركاهتا أرضه إال أن
نسبح بامسه العظيم! فذلك هو املنهاج النبوي ،أن نذكر اهلل يف
صحبة املؤمنني.
593
الفصل السادس
الرتبية والربانيون
594
الرتبية والتغيري
هل جتري أحداث التاريخ على دروب احلتمية السببية وهل
لإلنسان يد يف تغيري جمرى التاريخ ؟ إن املاركسية ،وهي أكثر
الفلسفات اجلاهلية متاسكا يف منطقها الداخلي ،تعرض التاريخ
وكأنه ضغط على اإلنسان وحتمية خارجة عن إرداته .وتستفيد
الفلسفة املاركسية من الدراسات اجملتمعية ومن تصرف اجلماهري
على مدى التاريخ البشري لتطرح لنا صورة عن اإلنسان الفرد
املندمج يف نسيج اجتماعي يتحرك ويتغري حركة اجتماعية وتغريا
اجتماعيا حتت سلطان ماهيات كثيفة امسها عالقات اإلنتاج.
وهذه العالقات خملوقة تسعى وتتلون حسب تطور القوى اإلنتاجية
وبتلون أسلوب اإلنتاج.
وهبذه النظرة ،فالعامل اخلارجي مبا يضعه رهن إشارة اإلنسان
من موارد ومبا يرثه اإلنسان عن األجيال السابقة من أدوات عمل
ومن تكنولوجيا ،وهو املتحكم املطلق يف مصري اجملتمعات .وتعاون
الناس إمنا يتم حسب تطور التنظيم اجملتمعي القائم على أسلوب
اإلنتاج ،وكلما اكتشف اإلنسان أسلوبا جديدا لإلنتاج تغري تنظيم
جمتمعه وتغريت بذلك أشكال تعاون الناس وسط اجملتمع.
اإلنسان يف كل هذا موضوع ينفعل مع عوامل التغري ،فهو
595
مفعول به وهو مرآة للعامل اخلارجي .وتلخص الشيوعية قانون
التغيري هكذا« :ليس وجدان البشر هو ما حيدد كياهنم ،بل على
العكس ،كياهنم االجتماعي هو ما حيدد وجداهنم» .وجتري
أحداث التاريخ مرتددة بني طرفني (دياليكتيكيني) ماديني مها
النقيضان الطبقيان اجملتمعيان السائران يف جمرى حتمية الصريورة
االجتماعية.
اإلنسان الفرد هبذه النظرة نواة اجتماعية ،واجملتمع أيضا نواة
اجتماعية مصرية غري صائرة وإن كانت هي تصنع نفسها بنفسها،
وتكرر حياهتا بنشاط اإلنتاج .تقول اجلدلية املاركسية أن اإلنسان
ذات وموضوع معا ،فهو الفاعل واملفعول ،لكن خصائصه كفاعل
منوطة مبوضوعيته ككم مصري يتحكم فيها التطور التارخيي الطبقي.
أخزاهم اهلل فما لنا حاجة جبدليتهم ،وال يهمنا أن تكون
الفلسفة املاركسية ذريعة تربر العمل الثوري الشيوعي .الذي
يعنينا أن هذه الفلسفة الذريعة هي روح السم الذي احتل منا
العقول واألفئدة ،فأخزاها اهلل ،والقنوت على الكافرين ليس من
قواعد احلجاج العقالين ،لكننا ال حناجهم يف باطلهم ونقنت على
الكافرين ألن القنوت والدعاء قوة املؤمن وعتاده قبل أي قوة ،وإنه
ال حول وال قوة إال باهلل لعلى العلي العظيم.
إن اهلل عز وجل أنبأنا بقانون التغيري ،فبه نأخذ لنغري ما
596
بأنفسنا حىت يتغري ما بنا﴿ .إِ َّن اللّهَ الَ يـُغَيـُِّر َما بَِق ْوٍم َحتَّى يـُغَيـُِّرواْ
َما بِأَنـُْف ِس ِه ْم﴾ صدق اهلل العظيم .وأخربنا رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم بأن املرء يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه
أو ميجسانه .ففرقان اهلل يدلنا على مصدر التغيري وهو سلطانه عز
وجل فهو املغري ،وإنه جعل سببا للتغيري ما حندثه حنن يف أنفسنا
من حتول .وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم علمنا أن التحول
النفسي من اإلميان للكفر حيدث بعامل الرتبية فنفهم أن التحول
املعاكس حيدث أيضا بالرتبية.
التغيري االجتماعي حيكمه قانون اجلزاء اإلهلي ،فالقوم
الكافرون ،أهل القرية الظاملون ،ميدهم مدا وميلي هلم إمالء مث
﴿لَ ْوَل يأخذهم أخذ عزيز مقتدر .ويفتنهم عز وجل بزينة الدنياَ :
الر ْح َم ِن لِبـُيُوتِ ِه ْم أَن ي ُكو َن النَّاس أ َُّمةً و ِ
اح َد ًة لَ َج َعلْنَا لِ َمن يَ ْك ُف ُر بِ َّ َ ُ َ
ِ ِ
ِج َعلَيـَْها يَظ َْه ُرو َن َولبـُيُوت ِه ْم أَبـَْواباً َو ُس ُرراً ٍ
ُس ُقفاً ِّمن فَضَّة َوَم َعار َ
ْحيَ ِاة ُّ
الدنـْيَا ك لَ َّما َمتَاعُ ال َ َّك ُؤو َن َوُز ْخ ُرفاً َوإِن ُك ُّل َذلِ َ َعلَيـها يـت ِ
َْ َ
ش َعن ِذ ْك ِر َّ ك لِل ِ ِ ِ
ضالر ْح َم ِن نـَُقيِّ ْ ين َوَمن يـَْع ُ ْمتَّق ََو ْالخ َرةُ عن َد َربِّ َ ُ
ين﴾ .أما أهل التقوى فإهنم يغريون ما لَهُ َش ْيطَاناً فـَُه َو لَهُ قَ ِر ٌ
بأنفسهم من فساد فيغري اهلل ما هبم وال ميتنع عن يده القوية أن
يرفعهم بعد ذل ويستخلفهم يف األرض وهم فيها مستضعفون.
وإن قانون التغيري اإلهلي قائم على الرتبية ،تربية بشر لبشر تربية
597
تعيد الناس إىل الفطرة ويربيهم هبا ربانيون هم رسل اهلل مث أنبياؤه
بعد رسله مث أولياؤه بعد أنبيائه.
إن اهلل عز وجل قيض للغافلني عن ذكره شياطني تؤزهم أزا
وتقرتن هبم اقرتانا فيضلون عن السبيل .ومن هذه الشياطني ومعها
يف عامل الظاهر شياطني العقالنية امللحدة اليت فتنت أجيالنا ،فإن
هلا قوانني تفسر هبا التاريخ علمية منطقية ،وإن هلا حكمة يف
جمال الرتبية البشرية ومعرفة بالنفس اإلنسانية العاطلة من اإلميان،
فتغلف احلكمة يف باطل اإليديولوجية وتربر العمل الثوري القومي
اجلاهلي باإليديولوجية واحلكمة ومن وراء كل ذلك تطلب تنمية
بضائعية ليزداد بطن الدابة امتالء وممكنات متعتها تنوعا.
وتتحدانا منجزات اإليديولوجية التربيرية على صعيد التغيري
كما تتحدانا احلكمة اجملتمعية املربية الساخرة على العامل من بر
الصني .وال خمرج لنا من منطق اإليديولوجية إال بطرحها جزافا،
لكن نريد خمرجا إجيابيا حنن نلتمسه غدا بتغيري أنفسنا ليغري اهلل ما
بنا فنكون حنن نسخر منهم كما يسخرون.
إننا معشر األمة املتفتتة يف قومياهتا وعصبياهتا اجلاهلية جنهل
معاين الرتبية إال ما علمناه اجلاهليون ،وننكر الربانية والربانيني
لكثرة ما عبث األدعياء بسمت املؤمنني ودسوا على الناس
بالزهادية واملظاهر املنافقة.
598
الرتبية يف مفهوم القرآن واحلديث تغيري باطين لنفس اإلنسان،
ومعناها يف اللغة تنمية وتقومي .بيد أن نوعية الرتبية ختتلف
باختالف الغاية اليت نرجوها للذي نربيه .فاجلاهلية تريب أبناءها،
تنمي جسمهم وعقلهم وآداهبم اجملتمعية ،لغاية هي االندماج يف
اجملتمع وإغناؤه باملهارة املنتجة للبضاعة واالبتكار املنوع للبضاعة
واملشاركة املستهلكة للبضاعة .وهي يف ذلك منطقية حمادية خلط
سريها الوحيد على درب الدوابية .وإذا أرادت اجلاهلية تغيريا
بالدافع الثوري الطالب للقوة أو بالدافع احلضاري املساير لتطور
البيئة االخرتاعية فإهنا تريب اإلنسان تربية مغرية ،فتخصصه يف
املهنة وختصصه يف العلوم وختصصه حىت بالنظر لظرف عمله فرتاها
مثال تدرب رواد الفضاء على حركات وعلى حياة وغذاء خاصة.
وال تتجاوز اجلاهلية مستوى االستهالك إال يف ظروف مرحلية
مثل ظروف الصني ،مث ال تبلغ أبدا إال مطلب البطولية والتمييز
واالستقالل كرد فعل شجاع على حتدي اخلصوم.
أما الرتبية اإلسالمية ،تربية الغد اإلسالمي ،فلن تكون
مستحقة المسها إال إن تناولت اإلنسان فأودعت قلبه إميانا وعقله
حكمه وجسمه صالبة .فباإلميان يكتسب حركية ختتلف يف كيفها
عن حركية اجلاهلية وترمي لغاية هي من وراء احلس ومن وراء
زمن الدنيا ومن خالهلا أيضا ،وبالعقل احلكيم يكتسب املؤمن
599
جهازا مدبرا جمتهدا خيوض به الفتنة ويقتحم عقبتها ليكيف حلياة
االسالم وملدنية اإلميان هذه البيئة املوروثة املمسوخة ،وليغالب تيار
اجلاهلية بالتمهيد لنورانية اإلسالم لتغزو دار الفكر ساطعة من
الثقافة اإلسالمية املستقلة ببوارق اإلميان واإلحسان .وباألجسام
الصلبة املخشوشنة ،أجسام الرجال ،ينفذ املؤمنون خطة جهادهم
ال يسكنون لزينة الدنيا إال استجماما وإعدادا لرغبة جديدة
ونصب جديد يف طريقهم إىل دار الكرامة يف الدنيا وعند اهلل.
الرتبية تغيري لنفس اإلنسان ،بعث إلرادته بتصفية رؤيته لنفسه
ومصريه وللعامل ،وحترير لعقله ببث روح اإلميان بالغيب وبالرتبية
املتكاملة يصبح اإلنسان هو الفاعل التارخيي الذي يؤثر فيما
حوله ،فمهما كانت درجة تقنيته ومهما كان الوسط الطبعي
الذي يعيش فيه ومهما كان جنسه وعرقه وبنية جمتمعه فإن الرتبية
حتول طاقته مبثل هذا ،وقد آن للفلسفة اجلدلية املادية أن تعرتف
منذ ارتدت الفلسفة املادية من مواقعها كعامل مغري لتصبح فقط
مربرا لتغيري عملي جترييب ثوري ،ومنذ برزت متفوقة على النماذج
األوىل شيوعية «ماو» املربية.
وإذا قلنا إن الرتبية تغيري لإلنسان استنادا لتعليم اهلل ربنا وآمنا
بأن النفس اليت هي جوهرة اإلنسان مقر التغيري وموضوع الرتبية
فإمنا نقول بلسان العصر :إن الكيان السيكولوجي لإلنسان
600
امللفوف يف الوسط يتصاعد على العاوئق البيئية ويؤثر يف العامل
بدافع باطين غري الدافع اخلارجي املتحدي له املسلط عليه.
وأول مكونات البيئة اليت يرىب فيها اإلنسان هو جمتمعه
ويف العبارة تكرار ألن الرتبية ال تتصور إال تفاعال بني أشخاص
بينهم عالقات اجتماعية .املسلمون أعداد كثرية ،ويزعم اليهودي
دركهامي أن كثرة العدد وتزاحم السكان يؤدي لتنافس بني الناس
ينتج عنه التقدم احلضاري ،وما نتج عن تكاثر املسلمني تقدم،
حىت وال تقدم حضاري ،وإمنا نتج من باعثهم ،أو قل من كابتهم،
النفسي وهو الوهن غثائية خامدة .فتكاثر عددنا حجر عثرة يف
سبيل هنضتنا ما دام يف جمتمعنا مرتع للعادة يف غياب العامل
الرتبوي اجملدد الباعث .العادة هي ناتج ترسب السلوك الكسول
على مر األجيال ،ويتلقى العادة مذهبا للسلوك جيل كسول بعد
جيل فإذا مجعت األعداد الكبرية من أصحاب السلوك العادي
مل يتحصل لك إال غثاء .وكثرة عددنا عائق للرتبية بالنظر إىل أن
األجيال الشابة جتد أمامها سلفاً أثِراً جاهالً فتثور عليه إذ ال جتد
عنده أهلية لتتلقى منه الرتبية .فكثرة الثائرين من الشباب وسوء
تنشئتهم وافتتاهنم بالنموذج الثوري االشرتاكي الذي يهفون إليه
ويعظمونه يف نفوسهم عقبة كؤود أمام الرتبية اإلسالمية غدا.
ومن مكونات البيئة درجة تطور الصناعة ،فقد كان يكتب
601
ماركس « :إن طاحون اليد يعطيك جمتمعا حيكمه سيد ،والطاحون
البخاري يعطيك جمتمع الرأمسالية الصناعية» فلئن كان حتليل
اليهودي يبني عامال مهما من عوامل تطوير اجملتمعات وتغيريها
فإن الرتبية اإلسالمية ستلقى يف طريقها حتديا كبريا لتطور ميادين
العمل وتيسرها وتعمم الشغل .إننا أمة ال صناعة لنا ،ومن مث
فال عمل لأليدي العاطلة ،وبالتايل فال أمل يف تربية وتغيري إن
مل يصحب عملية الرتبية ،بل إن مل يكن من وسائلها ،تشغيل
األيدي وإشباع البطون.
وثالثة العراقيل يف وجه الرتبية اإلسالمية االختالط الثقايف أو
قل املسخ الثقايف الناتج عن غزو النماذج اجلاهلية لعقولنا وقلوبنا.
قد يفرت عنا هم ما جنده أن نعزو فتنتنا لتألب اجلاهلية ضدنا
ولغزوها الفكري لنا ،وتلك ملهاة تربيرية ،فما دمت طعمة سائغة
ال متتنع على آكل وما دمت فريسة سهلة فمن الغباوة أن تنتطر
رمحة اجلاهلية .إهنم يغزوننا فكريا وعمليا ألن الداء يف نفوسنا ولو
كان لنا استقالل فكري واستقالل نفسي الستطعنا أوال أن نتعاىل
على بضاعة اجلاهلية ،فإهنا حاملة رسالة اجلاهلية إلينا .لسنا
نقرأ كتب اجلاهلية ولسنا نتبىن مذاهبنا إال يف سياق هتافتنا على
البضاعة املغرية يف شكل سيارات ويف شكل ِشناقات لرقابنا من
شىت األحجام واملواد .ولنحن أشد تفاهة مما نظن حني نربر هزائمنا
602
بأن اجلاهلية تتألب علينا وتغزونا .أفما نرى أن أفخم ما تنتجه
مصانع اجلاهلية نستورده حنن قبل أن يتناولوه هم ؟ أفما نرى أن
دعايتهم ختلق عندنا حنن قبل غرينا حاجة ملا يدعون القتنائه .فلو
كان بنا أثر من حياة أو حىت أثر من مروءة وشهامة الستعصينا
على البضاعة األجنبية ولكسبنا بذلك منعةعلى أفكارها وثقافتها.
ولو جاءتنا اجلاهلية حافية عارية أفَ ُكنا نتلفت إليها وإىل ثقافتها ؟
وهكذا نرى كيف تتداخل عراقيل الرتبية يف بيئتنا وتتضافر
فتكون لنا عقلية مطالبة ونفسية حرمان عاجز يشعرنا بأننا كثريون
كثرة فشل ال كثرة جناح فال استعدادا بيننا للتعاون .وأثرتنا ختلق
طبقات متكارهة وأجياال متنافرة .فمن أجل تسوية الطريق للرتبية
اإلسالمية ينبغي أن يسبق عدل إسالمي بوازع السلطان تنظيم
اجلماعة املتطوعة بوازع القرآن.
ونرى أن قلة ذات يدنا عامل مثبط للتغيري اإلسالمي ينافسه
بقوة منوذج التغيري االشرتاكي ،فينبغي أن نزيل هذه العرقلة لتحقيق
الرتبية اإلميانية ،بالتقلل يف مجاعة ال حيكمها سيد ،وبرفع املظامل
لينمحي أثر اإلقطاع وتفاوت فرص العيش ،وبالتعاون داخل قطر
االنبعاث اإلسالمي ومع سائر املسلمني ،تعاونا جيمع طاقات
األيدي وطاقات الفكر وطاقات الدريهمات املتعاونة حىت تكون
لنا وفرة تعطي القوة.
603
ونرى أن اختالطنا الثقايف مرتتب عن عاملي الكثرة السكانية
والقلة االقتصادية ،فينبغي أن نصحب اجلهاد العديل جبهاد حتويل
النفوس بوازع القرآن وتنوير األفكار بنوره.
هذا وإن أغلبية الناس يتأثرون بالعامل اخلارجي ويستجيبون
لداعي العدل والتساوي أكثر مما يستجيبون للدعوة النظرية ،وهلذا
يؤلف اإلسالم القلوب بالعطاء املادي .لكن من الناس من ينبعثون
حبافز باطين إمياين وهؤالء هم عامل الرتبية اإلجيايب ،وهم الفاعل
التارخيي أصحاب اإلرادة واهلمة واإلميان .إهنم الربانيون الذين يف
قلبوهم بذرة اإلميان واإلحسان .فهم قادة الرتبية اإلسالمية غدا،
وهم مخرية احلياة وسط هذه الكثرة الغثائية ،وهم جيب أن يسبقوا
لضرب املثل وبسط اليد باخلري وبسط الوجه بالبشاشة والرفق
وبسط جمالسهم لذكر اهلل وترتيل آياته.
وهكذا يكون أمامنا فاعل تربوي هم الربانيون ،وبإزائهم سائر
األمة .فلكي تنجح الرتبية ينبغي أن نعلم بأي جهاز علمي يتزود
الربانيون وحبثنا عن منهاجهم الرتبوي سيؤدينا إىل البحث عن
حقيقة الربانية وعن أصل الربانيني ومصدر احلركية اليت تسري هبم
لتحقيق الغاية اإلحسانية لألفراد وجلماعة املؤمنني.
604
الفقه املنهاجي
يف كل صفحات هذا الكتاب ذكر للمنهاج النبوي وتدليل
عليه بالنص الشرعي وبالربهان التارخيي .ونعين بالفقه املنهاجي
البيان العلمي الذي يكون حافزا جمليا لرؤية األهداف والغايات
ولوعي املوقف وسلوك املنهاج املنقذ برغبة وطلب .ولعل هذه
التعريف قريب من تعريف معىن اإليديولوجية عندما يستعملون
اللفظة استعماال إجيابيا ال عندما يرتاشقون هبا يتهمون بعضهم
بالتدليس الفكري لتربير العمل اإلرادي التعسفي .وحنن هنجر
اجلاهلية ومفاهيمها بقدر ما يتناسب مع ضرورة خماطبة الناس
على قدر عقوهلم .وحنن هناجر إىل اهلل ورسوله نلتمس اهلدى،
ونسنت من شرع اهلل منهاجا لعملنا االسالمي الطالع علينا يومه
غدا.
إن الربانيني أشخاص بأعياهنم يوجدون اليوم يف دار االسالم
حيث يعلمهم خالقهم الذي فطرهم ليستجيبوا لنداء دينه غدا،
إهنم قابلية اجتماعية هلذه األمة املسكينة املرحومة املستضعفة
الوارثة غدا .إهنم ال يتعارفون ،ويضغطهم الواقع املفتون فينكمش
بعضهم يف ركنه وبعضهم يقول ريب اهلل فيشنق أو يزج به يف
سجون الطاغوت القومي.
605
هذا النداء الذي آن له أن ينطلق والذي سيجمع أذانُه
الربانيني املستضعفني ليتحملوا عبء الرتبية بأي لغة خياطبون؟
ويف أي عامل وبأية وسيلة سيبلغهم النداء؟ ومب خياطبهم النداء من
مبادئ حيللون على ضوئها جمتمعهم املفتون ويرفقون مبقتضاها
ويبذلون؟ هذه أسئلة حتدد شكل الفقه املنهاجي ومضمونه .وقد
كتبنا ما شاء اهلل إجابة عنها ،ونعود هنا لننظر إىل املنهاج النبوي
يف اقتحام عقبة الرتبية ابتداء من تربية املربني الربانيني مث إىل
تربية سواد األمة ،فمنهم احملسنون املؤمنون السابقون ،ومنهم من
يدخلون يف دين اهلل أفواجا فنسبح عندئذ حبمد ربنا ونستغفرهإنه
كان توابا ،وإنه بالتوبة ورفقها ينفتح باب الفقه املنهاجي.
املسلمون اليوم يف موقف احلرية ويف موقف اإلعجال من
ضرورة حل هذه املشاكل اليت يرتامون بني أمواجها ال حيلة هلم إال
اقتباس االشرتاكية ريثما تصعد موجة أخرى من الشباب أدركت
إخفاق االشرتاكية القومية يف دار اإلسالم فرتيد قومية شيوعية
ختلع العذار .بعض الدول اإلسالمية أسرية يف عصبيتها القومية
حتسب إسارها موقفا ثوريا متحررا ،وبعض الدول يف موقف ما
قبل الثورة أو قل ما قبل االنقالب .وإذا قلنا «الدول اإلسالمية»
فإمنا نعين جهاز احلكم يف دار اإلسالم املمزقة .يف جمموع البالد
اإلسالمية املسلمون يف موقف أمل وحسرة وغيظ تتواىل عليهم
606
الضربات فتزيدهم يأسا ،فضربات من بني قومهم املرتفني وضربات
من عدوهم املاهر املاكر اآلكل لفريسته سائغة هينة.
املسلمون يف دار الفتنة تنحر عظامهم العنصرية القومية،
ويأكل قلوهبم غضب احملروم على الظامل ،وخيرب جسمهم احلرص
على حياة أي حياة ،وتعشش يف عقوهلم أفكار خمدرة ،بعضها
يومههم بأحالم املتعة احلضارية واستمرارها جزاء ترفعهم على بين
جلدهتم وعيشهم على مستوى الرتف اجلاهلي ،وهؤالء هم سادة
اجملتمع الكراهي القاعدين على كراسي العدوان ،ال اختالف
بني عقلياهتم إال اختالفا يف لون القناع اإليديولوجي وشكله.
واملخدرات الفكرية يف حسبان طائفة املثقفني احملرومني من طلبة
وحمرتفني ثوريني هي هذه اإليديولوجية الشيوعية اليت يأخذون
قوالبها املنطقية فيستعمروهنا مبضمونات حقدهم العنصري أو
أملهم القاطع من مضاضة ظلم الظاملني .وكل هؤالء مبعزل عن
جسم األمة املسلمة الرازحة حتت نري فتنتها هبم ونري فتنتها بالعوز
والفقر واملرض واجلهل.
وتتجمع الفتنة وتنصب روافدها يف مظهر بشري يشخص
حاضر املسلمني البغيض ،إنه هذا املستوزر وهذا املوظف وهذا
احلاكم الذي يعيش يف عرصات قصره ،فإن مل يكن له قصر فقصري.
وتكثر حاجاته ويكثر بذخه وتبذيره فيذهب اليتيم واألرملة بعد
607
أن ينهب مال املسلمني ويرتشي ويسرق ويكذب.
وللفتنة مع هذا املظهر حركية خمربة ،إهنا حركية احلقد والغضب
العاجز ،وينتج عن هذا العجز الغاضب شلل يف إرادة األمة
فهي عرضة جاهزة لكل دعوة ،وهي مستعدة راغبة يف التغيري
أي تغيري .إهنا ال متلك فسحة لالختيار فكل من دعاها وهي
منهمكة منهوكة لبت نداءه مبوقفها السليب العاجز والقلب ال
يستجيب أبدا .والتغيري املقرتح دائما بل املفروض دائما تغيري
يستبدل أشخاصا بأشخاص وفق قانون الغاب املنبين على صراع
العنف والدهاء يف خدمة الغضب أو األنانية أو يف خدمتها معا.
هذ التغيري املفروض دائما ،املتقبل بسلبية ،يدخل يف دورة مفرغة
ال هناية هلا هي دورة االنقالبية .واالنقالبية تغيري سطحي لواقع
سطحي ،ال تريب أبدا ألهنا ال جتد مشدا متتلك به قلوب أمة
مسلمة ال حيب قلبها الشرك وال اجلاهلية ،ويفتضح عندها مكر
القادة املرتفني إذ يلوحون هلا بشعارات ممسوخة متزج احلق بالباطل
وتدعو الشرتاكية قومية إسالمية.
واقعنا بغيض كريه وحنن جنهل إسالمنا ،ومن بيده السلطان
ال يعلمنا اإلسالم ألنه جيهل اإلسالم ،وال يربينا باإلسالم ألنه ال
يريب باإلسالم إال من كان ربانيا .فإىل أين املفر من الوهن ومن
الظلم ومن الدورة املفرغة دورة العنف والكراهية؟.
608
هنا ينادي اإلسالم بالتوبة والرفق ،وخياطب املسلمني بلغة
العقل أوال ريثما يتعلمون لغة القلب .خياطبهم بلغة العقل أن
انتماءنا للجاهلية وذوباننا فيها أمر واقع ال تغطيه األمساء إال
عن عني اجلاهلني .إننا ننتمي للجاهلية بفكرنا ألننا ننتمي إليها
بشهوة نفوسنا .آية ذلك أننا أول املستجيبني لكل هيعة يف بالد
الكفر وأننا إذ ندعو لعصبية القوميات فإمنا نؤيد دعوتنا ونربرها
بأن أوربا ما تقدمت إال بعد أن تقلصت إىل جمتمعات عصيبة
قومية .فتدخلنا اجلاهلية من جانبني ،من عصبيتنا القومية نفسها
مث من تربيرنا هلا بواقع جاهلي كافر .يدعونا داعي اإلسالم أن
ومهنا القومي وانتماءنا للجاهلية لن يتغري بتغيري األمساء والوجوه
والشعارات لكن يتغري بطرحنا للجاهلية ورفضنا لكل والية إال
والية اهلل ورسوله واملؤمنني.
داعي اإلسالم حيررنا من التبعية وحيررنا من اليأس إذ يفتح لنا
باب التوبة ،لنرجع إىل ربنا برفق ولكي نتواله فيتوالنا .إن اإلسالم
وحده يغري اهلل به ما بنا من مكروه حني نغري ما بأنفسنا من
أعراض وغفلة عن اهلل.
حنن اآلن ننتمي لعاملية مقلدة ،مثلنا األعلى جاهلي ،ودواعي
التقليد يف نفوسنا هي دواعي اإلعجاب بالسيد املتفوق ،ومظهر
تقليدنا تبعية خانعة .واإلسالم يرفعنا إىل عاملية املسؤولية عن
609
أنفسنا لريبطنا حنن األمة املمزقة بني القوميات رباط الوالية واحملبة،
مث يرفعنا إىل عاملية املسؤولية عن األرض ومن عليها .فحركة
التوبة إىل اهلل حركة تغيري تربوي رائدها التطلع لقيادة العامل عرب
اجلهاد لالستقالل عن اجلاهلية استقالال يوحدنا بعد ما فرقتنا فتنة
التاريخ وقصرتنا يف القوميات.
والبد للتوبة أن تنقلنا من إسالمنا الفردي الذري إىل إسالم
مجاعي ،ولكل مجاعة رباط تنظيمي ضروري .فنحن اليوم ننتمي
لدول هلا قيادات بعضها يتنكر لإلسالم عالنية ويضطهد كل
حركة إسالمية ،وبعضها خيدر اإلرادة اإلسالمية عند األمة بنصب
شعارات هي بديل املسخ لإلسالم احملرر من الطاغوت.
فإذا أردنا فقها منهاجيا لغدنا فال بد أن نعلم من نتوب على
يده كما نعلم كيف تكون التوبة ومم تكون التوبة.
وهنا عقدة الفقه املنهاجي بأكمله ،فإذا أعطتنا البديهة أن
يف األمة يكمن الربانيون كقابلية اجتماعية ويكمنون يف املساجد
والسجون ،فإن السؤال احملوري هو ،من خيطو اخلطوة األوىل حنو
اإلسالم ؟ والسؤال يتضمن أننا رغم ما نسمعه ال نزال يف موقف
عداء أو موقف فتور جتاه اإلسالم يف كل دار االسالم.
من خيطو اخلطوة األوىل ؟ أهو االمام املهدي املنتظر كما
يتصوره العامة نازال من السماء بسيفه؟ كال! فإن اهلل عز وجل
610
أنبأنا بلسان نبيه أن سيحل بيننا عيسى بن مرمي رسول اهلل يعدل
بعدل اإلسالم ،وحنن نؤمن بآيات ربنا وغيبه .لكنه سبحانه
علمنا مبا وضعه من نواميس يف الكون ويف نفس اإلنسان أن
التغيري التارخيي إمنا يتم حبوافز بشرية ووسائل بشرية .وحىت األنبياء
والرسل عليهم السالم كانوا رجاال يأكلون الطعام وميشون يف
األسواق ويقاتلون ويُقتلون ،وجياهدون حياهتم لنصرة أمر اهلل.
فليس أكثر منا غباء إن انتظرنا أن ينبعث لنا نداء اإلسالم من
صور املالئكة يف مساء! ُ
ها حنن أوالء بشرنا باإلسالم وقرب ظهروه وحلول أوانه منذ
هذه الصفحات الكثرية ،أفرتانا ندخل يف مساومات اإليدولوجية
ويوتوبيتها؟ كال فإن وعد اهلل ورسوله حق ،وما حبثنا عن منطلق
احلركية اإلسالمية ضربا من الفضول .وإن معرفتنا أن هلل ناموسا
سببيا يف الكون هي اليت هتدينا سبيل البحث والطلب .لقد قامت
دعوات إسالمية جماهدة منذ هجم اجلاهليون املستعمرون على
دار اإلسالم يف هذا القرن الرابع عشر الذي ستشرق علينا مشس
اإلسالم من مغربه .وكان قادة هذا اجلهاد اإلسالمي رجاال مؤمنني
ذاكرين كان منهم يف اهلند وكان منهم يف السودان ويف مشال
إفريقيا وكان للبنا رمحه اهلل جهاد متكامل ،وجهاد تربوي برهن
للمسلمني جناحه أن الروحانية العليا يف شخص القائد هي موطن
611
القوة وموطن الرجولة ومنها تقتبس األفئدة املقبلة على الدعوة كل
طاقات العمل .شهيدا اهلند ومهدي السودان ومشايخ السنوسية
والبنا رجال مثلنا رغبوا إىل رهبم بعد أن رباهم رجال ليسوا مثلنا إال
يف رأي العني .إهنم خرجيو هذه املدرسة احملمدية مدرسة الصحبة
والذكر .مث إن هؤالء اجملاهدين مل تعلن عن قيامهم أصوات
املالئكة .وإمنا درجوا على األرض كما يدرج غريهم متمسكني
بأسباب السعي البشري ،ومروا من األرض كما مر غريهم من أهل
اهلل الصاحلني يؤيدهم روح اهلل وتسطع على حمبيهم نوارنية ينكرها
معاصروهم ويعزون أثرها ملصدر يصوره هواهم وكيدهم .فقد كان
املهدي يف نظرهم مشعوذا وكان البنا عميال .هؤالء الرجال مل
ينزلوا من السماء كما يتصور الناس املعجزة ،بل هم حققوا يف
أنفسهم معجزة فصعدوا لسماء الطهارة الروحية وخرقوا عادات
الغفلة وحجاب الرتف .وهم بذلك معجزة تسعى بقدمني.
أننتظر معجزة تنقذنا من ورطتنا؟ نعم! ننتظرها بكل تأكيد؟
وإن مل نكن ممن يؤمنون بغيب اهلل ويرون إعجازه عز وجل يف
تدبري أسباب العامل كما يرونه يف كشف عامل الغيب لسكان عامل
الشهادة ملا صح أن ننتسب إلميان .درجنا منذ حني نتأمل مصدر
الفاعل التارخيي نستعمل تصورا شائعا يفهمه معنا من ال ينظر إال
لألسباب ،فوجدناه يف ذلك املؤمن املتحرر عقله حبرية روحه املريد
612
اجملاهد .وهذا منطق مشروع غري مدفوع ،بيد أن احلق املطلق هو
إطالق إرادة اهلل سبحانه إذ هو املهيمن القادر املريد وهو الفاعل
وحده ال شريك له .فهو جل ذكره يغري ما بالناس ويده القوية
ماسكة بناصية كل شيء .وخطابه التكليفي لنا بالعمل واجلهاد
نصيبنا من فضله إذ ينسب لنا عمال هو ميسره ومدبره.
على ضوء اإلميان واإلحسان يكون معىن انتظار املعجزة ومعىن
الرجاء انفتاح على عامل األسباب بكل ثقة وانطالق ،ومع هذا
االنفتاح ومن خلفه اعتماد على اهلل ربنا يسهل معه الصعب
وتذوب معه العراقيل .ومن يرى هذه النواصي الكاذبة اخلاطئة
اليت تسري كواكب م َذنّبة يف مدارها حول اجلاهلية وقيمها ال يرجو
منها خريا وال يأنس عندها مريا .فإذا اعترب إىل ذلك أصابع الرمحن
اليت تقلب قلوب عباده وتذكر من أين خرج لإلسالم عمر بن
عبد العزيز وصالح الدين حىت عز هبم بعد أن عزوا به يسلم أن
انتظار املعجزة يف زمننا أشبه بانتظارها قبيل ظهور صالح الدين.
كانت يومئذ الفرقة الذرية وكان الناس يومئذ فتاتا إنسانيا خلفته
فتنة الفاطميني وكان العدو اإلسالمي الغازي يف أوج قوته واحتاده
وتألبه .فلما أراد رب احلركة والسكون عز وجل أن مين على
عباده املستضعفني اليائسني ابتعث لأليويب رجال امسه رمز خالد
هو «قطب الدين» فجدد لألمري األيويب عقيدة وصحب األيويب
613
األخيار والصاحلني فصلُح وصلَح به الدين.
وإن حالة املسلمني اليوم حالة استيئاس ،وقانون اهلل يف كونه
أن يأيت نصره لرسله وأتباعهم عند االستيئاس ،وينجي اهلل من
يشاء وال يرد بأسه عن القوم اجملرمني .فتنة اليوم ال ختتلف عن
سابقتها إال شكال ،وهي هي واملسلمون اليوم كاملسلمني قبيل أن
جيمعهم اهلل على يد عبيده املماليك الذاكرين لرهبم ،وقبيل أن
جيمعهم على يد عبده الصاحل األيويب الكردي لينصرهم على التتار
وعلى كفار أوربا الصليبيني.
قد حيلل لنا حملل تاريخ انبعاث املماليك واأليويب فينسب
انفجار الطاقة اإلسالمية لغري أسباهبا جهال وغفلة ،وقد نبحث
حنن عن ظواهر األسباب احلالية لنحرر من أي وجهة يطلع علينا
وجه قائدنا اجملاهد املنتظر املرجو تأمال وترقبا ألمر اهلل ،ويف
كلتا احلالتني ميتنع علينا أن ندرك تدبري اهلل تعاىل إال مبقدر ما
نتلقى آياته بالقلب الصادق والعقل الفطري املتعجب من كل
هذه املعجزات اليت نعيش معها .فمعجزة كبرية أن نسمع صوت
البعيدين وأن نطري يف جو السماء كالطري ،ومعجزة أعظم منها لو
كنا نعقل أن يكون على األرض سبعمائة مليون مسلم وتغلبهم
شرذمة من اليهود .تقول إن من وراء اليهود الكفر كله يتألب،
فأجيبك أن املعجزة املعضلة أن قوميتنا اليت استبدلنا هبا أخوتنا
614
اإلسالمية عجزت حىت عن التألب نعرة ومحية أن أهني مسجد
اهلل األقصى.
عوامل استيئاس حتمل بشرى نصر اهلل الذي ال يرد بأسه عن
القوم اجملرمني .وإنه اإلسالم أو الطوفان لوال أن سبقت كلمات
ربك ،ومتت كلمات ربك صدقا وعدال ،ال مبدل لكلماته وهو
السميع العليم .وكلمة ربنا للمستضعفني أن مين عليهم ويورثهم
األرض فإن األرض هلل يورثنا من يشاء من عباده ،وموعوده
للمستيئسني من املؤمنني أن ينصرهم ويهلك عدوهم بأمر من
عنده وبأيدينا.
615
الربانيون
إن وضعنا لسؤال بدء احلركة وقيادة اجلهاد حبث ملكان وازع
السلطان من العمل الرتبوي .رأينا من أن عراقيل الرتبية جتتمع يف
أصول ثالثة ،هي الكثرة العددية املشتغلة بالتنافر والتباغض والكيد
املتبادل ضحية للفئة املرتفة املستغلة ،وهي القلة اليت يعيش املرتفون
مبقتضاها وسببا هلا يف البذخ ،فيكون بذخهم وهنبهم العائق األول
لتدبري معاش كرمي حيرر الرقاب الكثرية من كفر الفقر ،وهي آخر
األمر وأوله ووسطه اخللط الثقايف والفتنة العقدية اليت جيرها ذيال
من أذياله.
فأولئك مجيعا مسخ مثلث ،مسخ قردي قوامه التقليد ومظهره
الطيش الالهي ،ومسخ خنزيري قوامه الدوابية اليت احندر إليها
مرتفونا ومظهره بطون مكتظة باحلرام تلعنها بطون خاوية ماليني،
مث املسخ الطاغويت مبقتضاه يستعبد بعضنا بعضا ويلعن بعضنا
بعضا وبأسنا بيننا شديد ،قلوبنا شىت فال تطلع علينا اإليديولوجية
جبديد.
ضغط احملرومني وثورة األجيال الشابة مناط الثورية احملررة
حسب ناموس اإليديولوجية .وإن هذا الضغط وهذه الثورة ملظهر
من دفع اهلل الناس بعضهم ببعض ،وهو دفع جديل كما تعرب
616
الفلسفة ،ولواله لفسدت األرض .ونرى أثر هذا الضغط مضافا
ألثر الضغط اخلارجي جيعل كثريا من قادتنا يلفظون باإلسالم
ويتابرون يف عرض شعاراته .إهنم يفعلون ذلك إجابة عن الضغط
العام وتعبريا بالكتابة عن فشل االشرتاكية يف دار اإلسالم .فهل
هؤالء هم الربانيون الذين نريدهم ليعيدوا اإلسالم للمسلمني
ويربوا أجياهلم على اإلميان واإلحسان؟
عراقيل الرتبية اإلسالمية تتلخص يف التدهور والتخلف
االقتصادي واملسخ الثقايف ،وال تبدأ حركة التغيري إال إن أمسكت
دفة احلكم يد مؤمنة تستبد وال تعجز .وهذا فرق ما بني السلطان
املغري والسلطان املتدهور .قادتنا إن لفظوا باإلسالم وقرأوا على
الناس القرآن فكالم من كالمهم وجزء من خطاباهتم السياسية.
والسياسة مذهب جاهلي يف مسك السلطة وتصريفها واالحتيال
عليها بطشا أو كذبا يف غالب األحيان .قادتنا هلم إرادة سياسية
وأساليب سياسية وأهداف سياسية كلها تنظر جلمهور الراضني
والساخطني ناخبني كانوا يف ظل الدميقراطية وزمهريرها أو راتعني
يف جنة االشرتاكية بل جحيمها .والربانية إرادة مؤمنة تنظر إىل اهلل
بالقلب احملسن وإىل الناس بالرمحة واملودة والرفق املريب.
يريد اإلسالم النبعاثه ربانيني يبدأون احلركة .إهنم رجال
ينتقلون من فتنتهم ملنهاج رهبم وينتقلون من ترفهم ليقتحموا
617
عقبة خالصهم .ال ينربون حلمل شعارات اإلسالم خدعة سياسية
وال حىت بديال عن مذهب فاشل ،ال يتحركون بوازع خارجي بل
يتحركون مبادأة بإميان باهلل متجدد ،ويقطعون أسباب ماضيهم
تائبني إىل رهبم .خيرجون من األثاث والقصور وجيلسون يف خيمة
اجلهاد ويف مساجد املسلمني شاهدين بوحدانيته ،منسلخني
عن أنانيتهم .أولئك إن بدأوا التغيري بأنفسهم كانوا خليقني أن
يلحقوا باألئمة اجملاهدين اجملددين أمثال عمر بن عبد العزيز ويل
اهلل وناصره وصالح الدين وابن تاشفني وحممد الفاتح وامللك
الصاحل عاملكري .ذلك موكب الصاحلني اجملاهدين التائبني ،وما
كانوا كذلك إال ألهنم صحبوا رجال الدعوة وذكروا اهلل حىت
خرجت الدنيا من نفوسهم .فلما تغري ما بأنفسهم غري اهلل هبم
حال املسلمني ورىب هبم أجياال من املؤمنني.
رجال نفتقدهم ،ال يعجز ربنا أن يربزهم من صفوف النواصي
اخلاطئة الكاذبة على كراسي احلكم أو يبتعثهم من سواد هذه
األمة اخلصبة غري العقيم.
فإذا برزوا وأعطوا برهان صدقهم بأن طرحوا ماضيهم وأمحاهلم،
مث أعطونا برهان كفايتهم القيادية طبعا مستقرا وفكرا وعلما وعزمية
ماضية وربانية رفيقة ،حق لنا أن نسري يف ركاهبم وينبعث من األمة
ربانيوها باستبشار املنبعثني مث سائر املسلمني دخوال يف طاعة
618
اهلل ورسوله .وعندئذ تؤول إليهم مقاليد األمر ،فأول واجبهم أن
ميارسوا الربانية تربية رفيقة ،وأول الرفق أن يضع احلقائق يف نصاهبا
فيكونوا أصحاب الرأي املستقل ال هتزمهم هيعة وال تضعفهم
ميعة.
ربانية القائد اجملاهد أن ميارس وظيفته مربيا لألمة ،وال تربية
إال بإزاحة العراقيل ،عرقلة الكثرة الفقرية بإفشاء العدل واخلري،
وعرقلة املسخ الثقايف بفرض وجهة مسلمة .إن ربانيته لن تستطيع
اقتحام العقبة إىل قلوب الناس وعقوهلم إال إن أعطاهم اخلري
وأفشى العدل ،وإنه لن يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك إال أن
استبد بالتوجيه الرتبوي استبداد اخللفاء الراشدين.
االستبداد الرتبوي له مناذج يف الثورات ،املعاصرة منها والغابرة،
نتائجه وأسبابه أن األمة منحلة سائبة يستحوذ فيها على اإلرادة
السلطانية رجل قوي فيحول األمة حتويال كامال .كان ستالني
منوذجا لالستبداد القهري العنيف لرتبية من نوع خاص تربية زاجرة
قاتلة ،لكنها فعالة من حيث النتيحة الصناعية ال اإلنسانية.
ومنوذج التسلط اإلرادي ال يصلح عليه حال يف دار اإلسالم
أبدا ،وآية ذلك أن استبداد مصطفى كمال امللحد الكافر ما
أصلح أمة اجملاهدين يف تركيا بل عاث فيها فسادا ،فساد كفره
وزندقته وإحلاده وفساد مبادئه احلركية وإديولوجيته السياسية اليت
619
عارضت عقيدة األمة فانكسرت على نصال املقاومة املؤمنة ،وقد
آن أن يستأصل اهلل جذورها فينبعث اجملاهدون يف دار اإلسالم
برتكيا لفرحة اإلسالم غدا.
االستبداد الرتبوي الرباين ال يعين أن حيكم القائد اجملاهد
هبواه ،ألن شريعة اهلل سنت لنا املنهاج وشرعت لنا الشورى بني
املسلمني وشرعت لنا االجتهاد واألخذ باإلمجاع فيما يعرضنا من
أمور األمن واخلوف .ويعين هذا االستبداد صرفا عازما ماضيا
لسلطان احلكم يف إهناض الساقط وإقامة املعوج وحمق املخلفات
اجلاهلية .وال يعين االستبداد الرتبوي كنس الناس وحماكمتهم بل
يعين فتح باب التوية املؤدي للطاعة تدرجييا مع رد املظامل وإفشاء
العدل.
هذا الرفق املالزم لالستبداد الرتبوي ضمانة للسري على املنهاج
يف بعث األمة من فتنتها ،وهذه الربانية يف القائد اجملاهد ضمانة
أن ال يصبح البعث اإلسالمي قضية يناط حلها باإلجراء اإلداري
بل هبا يكون البعث قضية تربية أوال وقبل كل شيء ،قضية يتضافر
على نصرها عامالن :مها وازع السلطان ووازع القرآن.
أمامنا مناذج التجديد الثوري الشيوعي ،فبعد معارك لينني
النظرية منها والعملية التماس لصيغة تنظيمية متجددة تشخص
معىن الثورية املستفيدة على مر األحقاب من معارف اإلنسان
620
يف ممارسته ملشاكل الطبيعة ومشاكل اجملتمع ،هبطت التنظيمات
يف روسيا وهي هابطة غدا يف الشيوعيات األخرى إىل استبداد
جهاز .إهنا اآلن ثورية جهازية حدودها إرادة الطبقة احلاكمة
ومعيارها اجتهاد القيادة املركزية.
تطور احلركة اجملددة إىل جهاز مغلق على نفسه ظاهرة يف
تاريخ البشرية عامة .ومن االنغالق اجلهازي يتحول االستبداد
املريب إىل استبداد مصلحي يف خدمة الطبقة احلاكمة .على هذا
الدرب سارت كل الدول اليت دالت مهما كان صدق مؤسسها
ومهما كانت املنظومة الفكرية اليت سارت على هديها .ما وصف
ابن خلدون وما وصف غريه من فالسفة االجتماع والتاريخ إال
هذا التطور اهلابط .وإن ربنا عز وجل علمنا أن قانونه الكوين
احلاكم يف شؤون من يريد إهالكهم هو ظهور الطبقة املستكربة
املرتفة تفسق يف القرية فيحق عليها قول اهلل.
الربانية إن ذكرنا مقوماهتا قائمة على إخالص الوجهة للرب
العلي مث هي رفق يف الرتبية تريب بصغار العلم قبل كباره .فمن
حيث إخالص الوجه هلل تعاىل يكون الرباين راعيا خللق اهلل خليفة
له مراقبا خائفا من سطوة مواله وسيده ،ومن حيث الرتبية بالرفق
والعلم صغاره قبل كباره يكون الرباين مربيا يف كل حاالته ،مربيا
مبثال سلوكه مربيا بكلمته مربيا بفكره.
621
سيأتينا يف طريق اإلسالم غدا الرباين ،فال يكفي أن يستبد
بالتوجيه الرتبوي لتؤدي الربانية وظيفتها احليوية ،بل ال بد أن
جيتهد ليشاركه يف األمر ثلة من الربانيني على مثال روحانيته
وخلقه وعلمه .هؤالء هم رجال الدعوة وتعاوهنم مع القائد اجملاهد
نسميه ثنائية بني الدولة والدعوة ،ثنائية وظيفية إذ يريب القائد
بوازع السلطان أكثر شيء ويؤسس على صولته تربيته ،ويريب
رجال الدعوة بوازع القرآن أكثر شيء وبتعاوهنم مع القائد املريب
جيمعون سلطان الوازعني.
املؤمنون احملسنون رجال نبذوا الدنيا فال سلطان هلا عليهم،
األمر هكذا نظريا ،أما عمليا فإننا أوال ال ميكن أن نعرف املؤمن
احملسن من كثرة صالة وقيام لكن نعرفه بربهان الصدق يثبته لنا كل
يوم وكل حلظة ،وإننا ثانيا نعلم ضعف البشر فهم غري معصومني.
وليس مثة ما جيعلنا يف أمن من أن تتحول مجاعة الربانيني جهازا
مستبدا ،هلذا يلزم أن ينظم هذا االستبداد الرتبوي وهذه الربانية
تنظيما يفتح عملهما على الغاية اإلحسانية بداية وهناية.
ففي البداية حنن تائبون من فتنة ومن مسخ ،فمن احملسن منا
ومن الرباين ؟ وال شك أن التطوع سيكثر طالبه بالعقلية املوروثة
عقلية التسارع إىل النجعة ومظنة اجلاه واملال .وهنا االمتحان
لنعرف الصادق والكاذب واحملسن يف بدايته! فال يكفي أن يعلن
622
املرء استعداده للتطوع لنصدقه ونقلده وسام الربانية ،كال! بل ال
بد أن يتجرد لسلوك مجاعي قوامه احملبة والطاعة والبذل والصدق،
وهذا التجرد جيب أن نراه مستا يف شخصه وجيب أن نراه خدمة
دائمة للمؤمنني ولقضية املؤمنني .مث هو بعد هذا ال يرث صفة
الربانية حقا مسرمدا ،ومىت أحب أن خيدمه الناس أو كف عن
خدمة املسلمني فقد بدت آثار االستكبار وحيق عليه وحده القول
فتلك هنايته.
من أي اآلفاق جييئنا الربانيون ؟ أما الرباين األول فيأيت من عند
اهلل القادر القوي على طريق الطلب القليب ال على طريق التربير
السياسي لسعي فاشل .ومن هذا املصدر نفسه يأيت الربانيون.
إن النخبة الظاهرة مبعايريها املفتونة هم هؤالء املثقفون الذين ميأل
بعضهم أرض اإلسالم فسقا واستكبارا وميألها اآلخرون صراخا
وغيظا ويرتوى اآلخرون يف تفاهة وظيف معبود أو يف مسجد
احلوقلة.
هؤالء جزء من األمة احلاملة جبنني الربانية ،من أحشاء هذه
األمة خيرج اهلل عباده املصطفني .والناس كما طبعهم اهلل ثالثة،
أما خامل منزو ،وأما منبعث عن حافز باطين إما يطلب حقيقة
وجوده فيهديه اهلل لإلسالم أو طائش مع تيار اهليعة اجلاهلية
وثالث يتبع ويقلد ويدخل فيما يدخل فيه الناس.
623
شبيه هبذا ما فصله باحث اجتماعي أمريكي 1يف سياق
تصنيفه للناس يف جمتمع اجلاهلية املتطورة .فعنده طائفة املتحركني
حبافز احلفاظ التقليدي « ،»tradition-directedوطائفة
يتحركون حبافز باطين مرده للرتبية وهم اجملددون الدافعون للحركة
االجتماعية « ،»inner-directedوطائفة التابعني الذين يدخلون
فيما يدخل فيه الناس « .»other-directed
إذا طابقنا هذا التصنيف مع واقع الطبقية املفتونة يف جمتمعنا
املوروث .وجدنا أن السابقني القادرين على حركة مستقلة لن يأتوا
من طبقة السياسيني املثقفني فهؤالء أساتذهتم يهود أوربا وزعماء
الصني ،ولن يأتوا من طبقة ديدان القراء املربرين «لإلقطاعية
اإلسالمية» أو «اإلسالم االشرتاكي» .وال يبقى بعد هؤالء إال
صنفان من الناس ،مستضعفون عاقهم الطاغوت عن تبليغ رسالة
رهبم وعاقهم فساد البيئة عن ممارسة دعوهتم خللو امليدان من
الوازع الثاين ،وآخرون من شبابنا أعطوا ثقتهم لطبقة احملرتفني
للثورة فاغتاظوا بصدق وأحلدوا يف دين اهلل ملا علمهم احملرتفون أن
اإلسالم هو ظلم وأن السجن هو املصحف والعمامة.
املستضعفون يف األرض من عامة املسلمني رجال ونساء وقاهم
اهلل شر الفتنة فعاشوا يف القلة والفاقة ومل يرتفوا يف مال وجاه،
624
ومن كان له منهم سيطلب جاه ومال وقاه اهلل بعزة يف نفسه أن
يكون مع األرذال .هؤالء تكمن فيهم قابلية الربانية خاصة يف
أبنائهم من الشباب املثقف الذي ال ينتظر إال أن يزاح عنه طلسم
التقدمية الذي سحرهم به كهنة االحرتاف الثوري .وسيكون من
املستضعفني ورثة ربانيون ،ومن قلوهبم إن تطهروا بالتوبة والتزكية
وذكروا اسم اهلل وصلوا خمتبني تفيض نوراينة اإلسالم على الفضاء
اإلسالمي وعلى وجه األرض القامت جباهليته.
إن يف بالد املسلمني طائفة العلماء ،مسوهم علماء الدين منذ
انفصل الناس عن الدين .هؤالء العلماء خنبة األخيار خيتفي يف
صفوفهم فسقة فجرة كما خيتفي اخلبث يف احلديد قبل أن تصهره
النار .ويف صفوفهم عقلية اإلسالم الفردي ويأس الزاهدين وانتظار
قيام الساعة لفساد الوقت ،إهنم محلة العلم النبوي الذي هو العلم
احلق ألن به يدرك اإلنسان كماله ويعلو من دوابيته اليت ختدمها
العلوم التجريبية اليت نؤهلها ونعري هبا علماء امللة.
علماء املسلمني يكونون جهازا مغلقا حيمل يف طياته أسباب
عدم صالحيته حلمل رسالة الربانيني إال بشرط انفتاحه .إنه جهاز
مغلق وراثة من عصور كان فيها طائفة العلماء طبقة اجتماعية
إدارية ،وإنه ازداد انغالقا منذ طغت الفتنة وخلف أجيال املسلمني
رهط من عباد الدميقراطية واالشرتاكية.
625
كان يف دولة آل عثمان علماء موظفون يشكلون جهاز مغلقا
إن مل يكن حاكما فهو يف خدمة احلكم .ومل يؤثر عنهم أثر يذكر
يف االجتهاد اجملدد وإمنا كانوا يتكيفون حباجات الدولة ويغريون
أشكال الفقه وال جيددون به حياة .فلما تسلط املارق مصطفى
كمال على دولة اإلسالم عذب العلماء تعذيبا مرا وأهاهنم إهانة
اجلبابرة األجناس .وكان ذلك اهلوان منبها للعلماء وعامال يف هدم
اجلهاز املغلق .فعز العلم وسرت فيه احلياة وهو يف استخفائه،
وعز بالعلم اإلميان ،وجتمع حول العلماء مستضعفو األمة وشباهبا
فارين من وجه الشرك الكاسح.
وعامة العلماء يف دار اإلسالم رجال أبرار إذا استثنينا من
ذكر وقد يكون االستثناء قاعدة االنتخاب غدا يف يوم اإلسالم.
لن نسأل علماءنا ما فعلوا باإلسالم يف اليوم الغابر ،لكن نطلب
إليهم التوبة مع التائبني ،ونسأهلم أن يضيفوا إىل ربانية العلم
بصغار الدين وكباره ربانية التقوى والرفق واخلدمة ،ونسأهلم أن
يعطونا كل يوم برهان صدقهم حبيث نراهم علماء عاملني ،علماء
عماال قائمني باخلدمة .فإن فعلوا فهم الربانيون حبق ورثة األنبياء
وهم عماد األمر كله.
626
خصوم االسالم
شرطنا أن يكون العلماء عاملني وعماال ليستحقوا أن نعدهم
ربانيني .واملفهوم العادي للعمل عند العلماء هو العمل العبادي،
فالعامل العامل رجل يتقي وخيشاه ويؤدي فرضه ويتقرب هلل بنفله.
هذا املفهوم ال يعدو اإلسالم الفردي ،وال تستفيد اجلماعة من
تقوى املتقني ما مل يصلهم من املتقني خري .مث إن العمل العبادي
أمانة فردية ومسؤولية أمام اهلل عز وجل ،فاجلماعة ال تستطيع
معرفة إخالص العابد ودرجة تقواه .احلد األدىن من العمل
العبادي الذي حتاسب عليه اجلماعة املؤمنة كل مسلم وكل فئة
من املسلمني هو الصالة واالجتماع عليها يف املسجد واآلذان هلا
والزكاة تؤدى لوقتها .أما التقوى اليت موطنها القلب فال سبيل
لالطالع عليها .ولئن كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقنع
مبظهر الطاعة ومظهر اإلسالم وخيربنا أنه مل يؤمر أن يشق صدور
الناس ،فإن سريته عليه الصالة والسالم مع املنافقني كانت تتسم
بالرفق واحلذر معا ،وكان عمر بن اخلطاب يعلم الناس أال يغرتوا
بصالة مصل وال مبظاهره إن مل يكن له يف العمل اجلماعي يد.
معىن هذا الكالم أن خلصوم اإلسالم صفات كوامن يف
الصدور تتجلى يف فئات من الناس يعادون اإلسالم عداء ظاهرا
627
أو يندسون فيه ويكيدون له أو خيذلونه يف أشد املواقف حرجا.
خلصوم اإلسالم صفات نفسية تتجلى يف السلوك الفردي ويف
العقلية االجتماعية وتتشخص .وإن منطق القرآن ،وهو املنطق
الرباين الرتبوي حيارب الكفر والنفاق والظلم وهي صفات نفسية
دائمة وأمراض يصاب هبا اإلنسان .أما اإلنسان املتصف بالظلم
والكفر والنفاق وسائر األمراض فهو حمط عناية اهلل يفسح له
فسحات الرمحة يف دعوة رسله ويدعوه ليغري ما بنفسه فيصبح بني
عشية وضحاها ويل االسالم ونصريه.
خصومها أفرادا بأعينهم وتناصب العداءَ اجلاهلية تتشخص
خصوم الثورة وتفتك هبم ،أما اإلسالم يف زمن الفتنة فرييب برفق
الربانية وحيافظ على الناس وحيارب أدواء النفس ،ويرجو دائما أن
ينصر اهلل اإلسالم غدا خبصومه اليوم .سألوا رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم :أي الناس أفضل ؟ فقال « :خياركم في الجاهلية
خياركم في اإلسالم إذا فقهوا» .فالناس يف املنطق الرباين أوان
أودع اهلل فيها خرية ومروءة ،فمادة اإلسالم يوم انبعاثه هم أهل
املروءة والرجولة من املتنكرين إلسالمهم ضحايا الفتنة واجلهل
باهلل.
شرط واحد ليدخل أهل املروءة املفتونون يف مرتبة األخيار من
املؤمنني هو أن يفقهوا .والفقه يف الدين ليس هو حفظ العقائد
628
والصفات وال دراسة الفرض والسنة دراسة فكرية أكادميية .إمنا
الفقه أن يدخل اإلميان يف القلب وأن تنكسر األنانية الطبقية
وأن جتفى العادة املاسخة للنفس .الفقه املنهاجي الذي به يصبح
ذوو املروءة من خصوم اإلسالم اليوم أنصارا له غدا يبدأ بالتعليم
ملا جنهله من حيوية اإلسالم مدخال ملن هلم االهتمام بالسياسة،
وينتهي بالنسبة هلم ولآلخرين بالوقوف على النبإ العظيم نبإ
البعث والنشور ونبإ اجلنة والنار ونبإ سر خلق اإلنسان ومصريه
وقيمته عند اهلل.
وإذا كنا قد كتبنا أن الربانيني لن يفدوا علينا تائبني من
صفوف الساسة احملرتفني الثوريني فذلك ألن نبأهم العظيم نبأ
البشارة املاركسية مسم عقوهلم ونفوسهم حىت ال مطمع فيهم
للطبيب النطاسي .ونرجو أن يكون حكمنا هذا سوء ظن نستغفر
اهلل منه .وإذا كنا كتبنا أن ديدان القراء لن يكون منهم ربانيون
فذلك ألن النبأ العظيم هم املخربون به على املنابر ويف احملافل،
فيعظون وما يتعظون ويفسقون ،وإن أدوى الداء النفاق ،وال
نفع لرجل الدعوة أن جيلس إىل امللحدين يلتمس هلم هداية من
أن حياول معاناة املنافقني .ويوم يقول اإلسالم سيندس املنافقون
ستـَْعلَ ُمو َن َم ْن
صوا فَ َ
قابعني يرتبصون﴿ ،قُ ْل ُك ّل ُمتـََربّص فـَتـََربَّ ُ
وي َوَم ْن ْاهتَ َدى﴾ .وكما كان يف اإلسالم الس ّ
الص َراط َّ
َص َحاب ّ أ ْ
629
األول منافقون غطاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جبناح
السرت والرمحة فسيبقى هلؤالء اخلصوم وجود يف األمة أبد الدهر،
هم مخرية الفساد ،وأشدهم نكاية باإلسالم ديدان القراء ،حفظنا
اهلل ربنا من مسومهم.
خصوم داخليون جيب على الربانية املنبعثة أن حتافظ عليهم
وترفق هبم حىت تنكفيء الفتنة ،وجيب أن تربيهم وال تيأس من
أن ينصر اهلل اإلسالم بأيب جهل بن هشام جالد الصحابة وعدو
اهلل ورسوله .وخصوم خارجيون هم اليهود الصهاينة أهل املسخ
واخلزي وهم املستحوذون على الفكر اجلاهلي ومساربه اإلعالمية
وهم احملركون للدمى اجلاهلية بالكيد القدمي ،وهو سحر ثقايف أبلغ
أثرا وشر عمال من سحرهم القدمي ،وهو حتريف للقول ورثوه عن
جدودهم امللعونني الكافرين الذين اشرتوا بآيات اهلل مثنا قليال.ومع
الصهاينة خصوم لإلسالم كثري ،وينبغي للمسلمني أن حيذروا العدو
ويتيقظوا لكيده ،لكن اخلطر الشديد الذي خناف أن يعرقل إجيابية
الدعوة اإلسالمية غدا كما يعرقلها اليوم يكمن يف هذا النواح
املتواصل على مظامل املاضي واحلاضر دون أن يصحبه مبادرات
تكذبه وتبطل أثره .إن كان رجال التبشري ورجال االستعمار خلفوا
لنا مسا ال يزالون يغذونه بضاعة حنن نشتهيها وثلبا لإلسالم وحنن
أكرب مثلبة لإلسالم ،كنا قبل التبشري واالستعمار ،فما يقاوم
630
هذا السم إال التشمري لدخول ميدان اجلهاد والتعبئة لصنع جهاز
صناعي بقلوب مؤمنة تصنع أيضا دعوة ومدارس ومربات تطعم
وتريب مثلما يطعم ويريب التبشري.
اخلصوم اخلارجيون هم العامل كله ،فإن وعينا هذا العداء
بقلوب حية فلن يزيدنا عداء العامل إال مضاء واستشهادا يف سبيل
اهلل ،أما إن صعدنا فيه النظر من موطن الذلة وبعقلية التبعية
فنظرنا فشل يهيء فشال .نفوس ختاف املوت وحترص على حياة
أي حياة تستحلي املسخ القردي بل وحتكي توابث القردة يف عدم
استقرارها ،وتفضل ذلك على حل الشهامة واالستقالل .وما
رجولة الصيننني واستعالؤهم على العامل ،مث ما أنتج هلم وعيهم
ذاك من قوة وتطاول ملركز القيادة العليا إال مثال نصبه اهلل لنا
عتابا ،كما انتصب يف املسجد األقصى عدونا األلد أخزاه اهلل
حتديا يقتل من حيرصون على حياة ،يقتلنا مدبرين مقهورين وكان
موعد اهلل لنا لو آمنا به وجاهدنا صفا مسلما كأنه بنيان مرصوص
إحدى احلسنيني .وإن إحدى احلسنيني جزاء ما يذخره اهلل إال ملن
قاتل حتت لواء اإلسالم ،إما من قاتل حتت لواء عصبية عمية فإن
هزائم دنياه عربون خلزيه بني يدي اهلل يوم الدين.
وهذا يرجعنا خلصومنا احلقيقيني وهم األنانية والعصبية ،مث
الطاغوت العقالين الثقايف ،مث العادة الدوابية .وهكذا جند خط
631
البيان املنهاجي لتدهورنا يف العقبة اليت مل تقتحمها وهي عقبة
وصفناها ونعود لنتذكرها .على مستوى الفرد يكون االستكبار
واألنانية حجابا مظلما وجدارا مسيكا مينعه من اقتحام العقبة
خلالصه ،وخصلة الصحبة واجلماعة ترىب يف قلبه أسا سليما
الرتباطه باجلماعة ،وهو أس اإلميان الذي هو حمبة ،وباحملبة تنكسر
الكربياء ،وتنكسر أيضا باجللوس على البساط يف جمالس اإلميان
وخدمة املؤمنني .أما على مستوى اجملتمعات اإلسالمية فعقبة
األنانية واالستكبار مظهرها العصبية القومية .هذه النتنة اخلبيثة
اليت مزقتنا وجعلتنا هنبا مقسما تقطعنا اجلاهلية مبخلب وناب.
فإذا قاتلنا العدو محلنا له راية القومية نعبدها الهنزامها .فإذا فرغ
منا العدو فرغنا حنن إىل إخواننا املسلمني هنينهم من حيث نظن
أننا ننتصر ألنفسنا .وإن أنفسنا خلبيثة عفنة خببث قوميتنا ،ولن
يغري اهلل ما بنا حىت تنتسب إليه وإىل رسوله وإىل ملة إبراهيم
﴿وَم ْن يُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأَنَّ َما َخ َّر ِم َن
حنفاء هلل غري مشركني بهَ ،
ان َس ِح ٍالريح فِي م َك ٍ ِِ َّ ِ
يق﴾ َ الس َماء فـَتَ ْخطَُفهُ الطَّيـُْر أ َْو تـَْه ِوي به ِّ ُ
صدق اهلل العظيم ،وإن كلمته تنطبق علينا ،وإن من الشرك شرك
ظاهر وآخر خفي ،ومنه نوع جيمع الشر كله هو شركنا يوم ندعو
للقومية واالشرتاكية واإلسالم كتلة واحدة مشركة ،أو نشرك وثنية
طاغوتنا يف شعار مع اهلل والوطن .أال وإن التوحيد هو شهادة أن
632
ال إال إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل .ال إله إال اهلل وحده ال شريك
له ،له امللك ،وله احلمد ،وهو على كل شيء قديرَ ﴿.ش ِه َد اللَّهُ
أَنَّهُ َل إِلَهَ إِ َّل ُه َو َوال َْم َلئِ َكةُ َوأ ُْولُوا ال ِْعل ِْم قَائِ ًما بِال ِْق ْسط،ال إِلَهَ
ال ْس َلم﴾. ِّين ِع ْن َد اللَّ ِه ِْ
ْحكيم،إِ َّن الد َ
إِ َّل هو الْع ِزيز ال ِ
َُ َ ُ َ
فمن وثنية الطاغوت وشرك العصبيات ،ومن عجزنا عن
اقتحام الظلمة العقالنية الثقافية وعقبة العادة ،نتوب إىل توحيد
ربنا باأللوهية والعزة ونشهد قائمني بالقسط مع اهلل ومالئكته
وأوىل العلم القائمني على احلق .وإن الدين عند اهلل اإلسالم ،وإن
اإلسالم تربية شاهد بالقسط ،شاهد هلل بوحدانيته ،عامل رباين.
ال نربح أول خطوة على املنهاج وأول خصلة من خصاله
العشر ،فإن الصحبة واجلماعة إكسري احلياة وطريق النجاة .وإن
اخلصم األول لإلسالم بل اخلصم الوحيد لإلنسان واإلسالم والذي
ال يتغري اإلنسان إال بتغريه هو النفس .ففي النفس تستوطن
األمراض االجتماعية واألمراض الشخصية الباطنة ،وعلى ساحة
العمل االجتماعي يتعامل الناس بالعقول واجلسوم والتدافع بقهر
القانون ونفوسهم مريضة يف ذاهتا متنافرة فيما بينها ،ونتاج ذلك
جمتمع الكراهية جاهليا ومفتونا .ويف النفس خصوم اإلسالم من
استكبار وعصبية وشهوة بضائعية ومسخ ثقايف.
والرتبية الربانية تضرب النفس األمارة بالسوء وتغسلها
633
وتسوطها حىت يزول ما علق هبا من شرك وجربوت.
الربانيون أولياء اإلسالم وأولياء اهلل وشهادهتم بالقسط
وتطبيبهم للنفوس املريضة هتزم اخلصوم النفسية فتتغري النفوس
ويتغري ما بنا .وبصحبة الربانيني واالندماج يف مجاعتهم يربأ عليلنا
ويشفى غليلنا إن عرفنا من إليه نلجأ وإن تعلمنا أن نتعرف على
صدق الصادق من برهانه .وبصحبة األمة كلها للجماعات الربانية
يتهيأ توحد املسلمني بعد الفرقة وجهادهم بعد قعود الفتنة ،حول
الرباين اخلادم للمؤمنني العامل األجري القائد األمري.
سواد األمة اإلسالمية فالحون ساذجون وشباب متحفزون،
هم أقرب الناس لفطرة وأسلسهم قيادا وأنفعهم عتادا .هم أسبق
الناس غداً هنضة لنصرة اإلسالم ،وهم أول جند لوائه وهم البشرى
اخلافقة يف مسائه .أصحاب املروءة منهم واهلمة ينبعثون باحلافز
الباطين انبعاثا ال حتسبه كربياء املتمكنني يف األرض الالصقني هبا
وال عادات الرتف القاتلة للرجولة وال هذه الغشاوة الثقافية اليت
يضلل هبا خصوم اإلسالم احملرتفون سذاجتهم .وهم أمة كثرية
تتلقى القائد اجملاهد اإلمام ودعوته تلقيا عاطفيا صادقا إن جاء
حيمل معه برهان صدقه .بيد أن هذا اللقاء يتم يف عرصات
القلوب ونرتات العقول ويوشك أن حترف تواصله ومواصالته
أمراض النفوس املزمنة عاهتهم .يصول القائد اجملاهد بسلطان
634
احلكم ويسخره خلدمة اإلسالم ،لكن هناك جهاز حكم قوامه
خلق اهلل الكثيف احلاجب للعواطف املستجيبة بكربيائه .ويصول
القائد اجملاهد بنورانية قلبه وفكره ،لكن حقائق األرض اليومية
وعالقات املستضعفني الوارثني غدا بدعاة اإلسالم وأدعيائه كثيفة
بكثافة قلوب خلق اهلل اجلالسني فوق الناس فتوشك أن تسد تيار
احملبة وتيار التعليم والرتبية بني اإلمام واملأمومني.
فهل ينطبق وازع السلطان بيد اإلمام وسطوة األمة املستضعفة
على طاغوت الكربياء يف أشخاص املرتفني كما تنطبق املكنة
الكابسة فتمحق كال على كل؟ كال! فقد علمتنا ربانية رسولنا
الرؤوف الرحيم أن نرجو اخلري من خصوم اليوم يف غد التوبة
ومستقبل األجيال .أو ما رأيناه ملا جاءه ملك اجلبال يقرتح أن
يطبق األخشبني على كفار مكة الذين طردوه وآذوه يرد االقرتاح
برجاء أن خيرج اهلل مؤمنني من أصالب الكافرين؟.
رفق اإلسالم خبصومه ربانية مربية حتسب حساب الضعف
البشري وحساب الفتنة املاضية واحلاضرة وحساب الرتبية املفتونة
وحساب العادات املتجذرة منذ الصبا وحساب الفراغ اهلائل
والفوضى املظلمة املاضية واحلاضرة .ومن كل ذلك تتعلم كيف
تنري املنهاج ليسلكه الناس عن طواعية وعن طاعة مدخلها رفق
التوبة .وخيرج من كل ذلك اخلري املرجو -مبعىن املنتظر -فإن
635
اهلل عز وجل خيرج من أصالب الكافرين أولياء اإلسالم أولياء
اهلل بالتناسل احليوي مثلما نسل الكافر األكرب السلطان «أكرب»
ويل اهلل تعاىل وويل اإلسالم امللك الصاحل عاملكري ،أو باإلنسالخ
عن الكفر وبالتوبة مثلما أسلم عدو املسلمني باألمس عمر بن
اخلطاب وحبيب اهلل وحبيبنا أبد الدهر.
رفق اإلسالم خبصومه رفق الطبيب الذي جيس النبض ويأسو
اجلرح وينحين على املريض بالكلمة الطيبة ،وينقذ إىل احلياة
مائتني ويرجع للصحة جسوم اهلالكني املتعفنني .إذا فكرنا يف
أمهية التطبيب وصفات الرفق واحلنو والتفاؤل واإلخالص الضرورية
للطبيب ،وإذا فكرنا يف عظمة الربانية وقداسة طهر الربانيني
ودورهم احليوي يف غد اإلسالم فسنجد يف أنفسنا رهبة وإكبارا
لألمر وسنبحث له عن مرشح عظيم .هذا املرشح البديهي هم
علماء اإلسالم.
فنسأل املرشح أوال ،أو األحق أن ننقذه حنن ليستعد للجواب،
يوم االمتحان غدا يف صف العاملني العمال ال جوابا جداليا
لفظيا .نرى مواقع الفتنة يف تاج عز اإلسالم ودرة مفرقه علمائنا
األفاضل .ونصرح هلم بالنصيحة بعد أن نلفظ من اعتبارنا ديدان
القراء الفسقة الذين محلوا القرآن مث مل حيملوه .هؤالء خصوم
لإلسالم أشد خصومه وأكثرهم استعصاء على العالج.
636
أما سائر األفاضل املبجلني ورثة العلم النبوي املنقذ لإلنسانية
فنطرح عليهم أوال سؤال عتب ،فنحن الرعية سواء ورعاتنا منهم
يف الفتنة .نسأهلم عن العقبة واقتحامها ،وعن الكربياء العلمية
ومهديتها ،وعن اجلماعة أين ينبغي أن جيلس منها العامل :أعلى
منرب اخلشوع ومراقبة اهلل يوم الوعظ وحيث انتهى به اجمللس يوم
اخلدمة أم يف برج اجلمعة لتعيري األمة بفسادها وعلى أرائك املرتفني
يوم الزينة؟.
ونسأهلم عن األمانة العظمى اليت محلها اإلنسان إنه كان
ظلوما جهوال ،نسأهلم هل األمر عندهم إسالم وإميان وإحسان
ولن جيادلوا يف ذلك ،لكن نسأهلم كيف يدخل اإلميان يف القلوب
وما هي الصحبة وما هو الذكر فإن بعضهم ال يذكر اهلل إال قليال،
حوقلة يائسة أو رقية سياسية يدرأ هبا بأس غريه إذ مل يستطع إن
يدرأ بذكر اهلل الكثري وبصحبة األخيار بأس نفسه؟
ونسأهلم عن الصدق ما مطلعه وما برهانه ،وعن الشح بالدرهم
والقنطار وعن الكنز لألموال وعن السمت والتؤدة ،وعن االقتصاد
والتخمة ،وعن القعود تعلة ال رجاء؟
نسأهلم ما حكم اهلل يف كل ذلك؟ مث نسأهلم السؤال العملي
سؤاال جييبون عنه غدا يوم ينشر اللواء وتذهب الألواء :ماذا
أعددمت حلمل الدعوة ،وأين الربانية خترج للميدان باسطة يدها
637
ووجهها وقلبها للتائبني؟ أكانت لكم توبة تستأنفوهنا آناء الليل
وأطراف النهار؟ أجلنوبكم اليوم جتاف عن املضاجع تدعونه تضرعا
وخفية ،تدعونه جبهادكم وتشكرون له بأداء حق األمانة اليت
طوقتم هبا ومبا أخذ عليكم امليثاق األنبياء ليصدقن من دعاهم
لصدق وليؤمنن به وليعزرونه؟.
638
القيام بالقسط
نسأل علماءنا األخيار فإن أجابوا إعراضا عن اللغو
وفعال للزكاة باملعىن املنهاجي وبذال وصدقا وتؤدة وجهادا عرضنا
عليهم فهما للجهاد غري الفهم املوروث املنقرض بانقراض السيف
وحامله وباهنزام املدافع القومية وسدنة دباباهتا .وعرضنا عليهم
أن يتجلببوا بلباس التقوى خشية يف القلب وعلما كيفيا ال كميا
عسى أن يتأهلوا لإلجتهاد بتأهلهم وتعلمهم للربانية لريبوا هبا.
إن أمر الرتبية ال يقتصر على وعظ منذر مبشر يف زمن الفتنة
وإن اإلنذار والتبشري وجهان لنطق الداعي إىل اهلل ،لكن الدعوة
مالكها الرتبية ،والرتبية منوذجية تسعى يراها الناس مستا مجيال
وجيدون عرفها أخالقا نبوية وروحانية عبقة مساوية وعلما يأسو
ويثلج الصدر وجيدد اإلميان.
الرتبية من الفتنة والرتبية من املسخ تأثري مفروض بسلطان
نوارنية الربانيني وليست تدخل يف رباط الطاعة وال يف بذل التطوع.
أغلبية الناس ال حيولون سلوكهم باحلافز الباطين مبادأة وتوبة من
سوء إىل خري ،بعضهم حيتاج ملنبه وموقظ ،وبعضهم حيتاج لصورة
أبوية يشكل سلوكه على مثاهلا ،وكثري تفتت شخصياهتم فال قيام
هلا إال بتضافر النموذجية األبوية النوارنية وتأنيب الرباين الطاهر
639
الشاهد بطهارته على تلوث املتلوث وضعف املنحل .إن الرتبية ما
هي عملية طاعة يؤتيها الناس قادهتم اطمئنانا إىل العدل وانتظارا
ملردود الطاعة يف استقرار احلال وحتميل املسؤولية أهلها ،وما
هي تطوع من جانب أو من جانبني .وإنك لن جتد أحدا يأتيك
يسألك أن تربيه أو يعرتف لك حباجته لرتبية ،إال أن يكون من
أصحاب اهلمة من الذين يطلبون تربية خاصة هي تربية الروح
املستحيلة بدون شيخ عارف تسلمه نفسك.
وإن الرتبية من الفتنة ومن املسخ ما هي العملية احلَِرفية اليت
مبقتضاها يتوىل أستاذ مفتون حراسة أطفال أو شباب يف ساعات
التعليم .والرتبية يف األسرة ليست أيضا هي الرتبية املغرية ألن
األسرة منغمسة يف تيار الفتنة فأىن هلا أن تنشىء أفرادا يفلتون من
الفتنة وهي ترتقبهم من خالل عادات األسرة مهما كانت متطهرة
ومن خالل اتصاالت الشارع واملدرسة والسوق.
الطاعة للسلطان السياسي وتأثري األستاذ املعلم وتأثري األسرة
يف اجملتمع املفتون روافد ثالث ومسارب تتمكن بفعلها العادة
وتتضافر جمهوداهتا لتُمركز ثقافة متكاملة ختاطب العاطفة والعقل
املكتشف والعقل االجتماعي فإن كان يف األسرة بقية من إميان أو
عند األستاذ أو احلاكم فإمنا يبقى خطاب اإلميان يف حيز جزئي
سرعان ما هتوي به عوامل التعرية االجتماعية يف مكان سحيق.
640
يف بالد أمريكا اجلنوبية سلطان حكم مستبد وهلا مدارس كثرية
وأسر حمافظة على أخالقية كاثوليكية ،وهي أمم ال تتغري وإن كان
السلطان ميلي على الناس سلوكا معينا واملدرسة والكنيسة .إهنم
بالطبع ال يتصورون فتنة وال مسخا كما نتصور ،لكن نقارن بواقع
حنن سائرون على دربه إن مل جند منهاجا نسلك منه .وبالد
أمريكا اجلنوبية هي بالد االنقالبية منذ قرن ونصف ،تعيش يف
دورة أبدية معروفة :رجال القوة من اجليش يقلبون حكومة فاسدة
وينشؤون جمموعة جديدة متارس احلكم وتغري رجال اإلدارة ،لكنها
ال تلبث أن يظهر عوارها ويفتضح فسادها فينهض لقلبها ضباط
يطمحون ملثل ما ناله إخواهنم ،أو يسرع هؤالء لقلب احلكم
اغتناما لفرصة .وتتعاقب االنقالبات على مدى قرن ونصف وال
حيدث تغيري .وحنن بالد املسلمني سائرون على هذا الدرب وإن
كان خييل ملن حارب ظلم اإلقطاعية فانقلب عليها باشرتاكيته أن
األمر قد مت وأن التغيري قد بدأ.
مرد هذه الدورية االنقالبية إىل أن االستبداد االنقاليب استبداد
غري تربوي ،إنه تسخري للسلطة يف خدمة طبقة اجتماعية .يف تلك
البالد النائية كما يف بالدنا بني ظهرانينا عادات قدمية وطبقات
إقطاعية منط حياهتا ودرجة بذخها االجتماعي مها املعيار الذي به
تقاس الرجولةـ فأميا جهد يف السياسة أو التعليم أو االقتصاد فإمنا
641
يرمي إليصال من بيده القوة إىل منط احلياة والبذخ املثاليني .وريثما
تصل فئة إىل ما تصبو إليه تزمحها فئة أخرى متطلعة يتسابق كل
إىل مكانه يف سلم الطاغوت الطبقي.
وللخروج من دورية التقليد واالستبداد الظامل البد من استبداد
تربوي جيمع عاملي السلطان والقرآن يف يده ،وخياطب العقل
االجتماعي مبنطق الربح ويف استبدال الطاعة االجتماعية املفتونة
املسخرة بطاعة مجاعية مغرية ،وخياطب العاطفة والعقل املتأمل يف
املصري مبعاين الرجولة والشهامة واإلميان الدافع للجهاد املنجي من
مسخ الكفر .هذا االستبداد املريب مظهره أوال يف املوقف اإلرادي
للقائد اجملاهد القوي اآلمر بسلطان القوة تزكيه صولة النموذجية
النوارنية ،ورمزية وثقة يستحقهما برباهني الصدق ونتائج العدل
املقدم عربونا على النية املستقبلة .ومظهر االستبداد الرتبوي بعد
هذا يف موقف الربانيني إذ يعطون املثال بتطوعهم وجهادهم
واستقالهلم يف منط احلياة والفكر والسلوك الفردي واالجتماعي،
حلياة اإلميان واإلحسان.
إن الدورية االنقالبية حركة ومهية على خط التاريخ وهي يف
احلقيقة حركة مستديرة تتم دورهتا يف شهور أو سنني ،لكنها يف
هناية دورهتا ال ختلف إال يأسا وجتربة ال تفيد لتشابه نتائجها ،إن
الدورية االنقالبية تغيري ومهي مبا يصحبها من قعقعة سالح واستبدال
642
وجوه بوجوه وخطب خبطب ورمبا تشريع بتشريع .وكل ذلك زبد
على السطح ال حيرك ساكن اجملتمع وال يتحمى مجوده ويأسه وال
خياطب منه إال واجب الطاعة حتت السيف وواجب الكدح حتت
السوط .ومثل الدورية االنقالبية كل التغيريات السياسية يف بالدنا
ما دامت تدخل يف إطار التناوب الدميقراطي املوهم بتغيري أو يف
إطار األلعوبات االنتخابية أو املطاردات املذهبية.
إن التغيري ال حيدث إال بفعل اإلنسان اإلرادي ،تقع إرادته
حتت ضغط التدافع الطبقي كما تصور املاركسية وحتت دافع
الطموح للبطولة الفردية الزعامية ،أو بباعث أمسى من هذين هو
باعث القيام بالقسط ومحل رسالة احلياة.
قام يف أملانيا رجل واحد معتوه هو هتلري .قام يف وقت تدهور
فيه اقتصاد بلده وتضاربت فيه االجتاهات واحتاج املوقف لتغيري،
وكان للرجل طموح بطويل ختدمه فكرة واحدة هي العنصرية وقدرة
على اخلطابة جتلب أهواء السامعني واحلاضرين .فكرة واحدة
كونت دعوة إىل القوة والتفوق ،محلها رجل واحد ضد التيار
العام ،وطاردوه وقاتلوه حىت انتصر وحىت محل حبماسه شعبه كله
للقوة ،هنا وقع تغيري ملكان اخلطاب الذي مس الكبري والصغري
والغين والفقري وعرب قشرة الطبقية .وحيث تكون الدعوات جزئية
ال يفيد الطموح البطويل شيئا ،وآية ذلك أبطال القومية يف بالدنا
643
خلفوا بعدهم رمادا ألن دعوهتم مل ختاطب األمة يف كياهنا وإمنا
خاطبت طبقة سطحية ،وما عدا سعيهم غليانا على السطح.
وبعد احلرب العاملية الثانية هنضت أملانيا وتغري الشعب األملاين
بدافع صراع طبقي قومي مل حتلل حركيته اإليديولوجية .بعد هزمية
أملانيا شعر كل أملاين وكل أملانية باخلزي الواقع على قومية كانت
باألمس متأهلة ،وحتفز الكل وهنضوا ملنافسة العدو الطبقي القومي،
وكان هلم ما أرادوا .ويف بالد املسلمني ال يتغري إال شكل هزائمنا
ألن وعينا ألنفسنا وعي متفتت ذري فردي ال نشعر بإطار جيمعنا
وال بآصرة تربط مصري بعضنا ببعض .وما تعين القومية يف ذهننا
وشعورنا شيئا ألهنا عنصر دخيل اخرتعه املفتونون يف شكل جمدد
وأوقدوا جذوته بعد أن كاد االحتالل األجنيب يوحدنا يف أمة
مستعمرة يربطها مجيعا رباط اإلسالم.
رواد القومية وطالب البطولة طائفة على سطح هذه األمة
وعلى هامشه فهي ال تستجيب هلم وال لدوافعهم وإن كانت
تطأطيء الرؤوس طاعة مفروضة غري مقبولة .والنداء الوحيد الذي
تسمعه كل اآلذان فتصغى وينفذ لكل القلوب فتهتز هو اإلسالم.
والذي ينادي باسم اإلسالم ويؤذن لقيام اإلسالم وينتصب ضد
التيار كله مثاال للدعوة اإلسالمية هو القائم بالقسط.
عرفنا الرباين بأنه املؤمن احملسن املتقي ربه الرفيق يف الرتبية
644
وظيفته أن يريب الناس تربية حتوهلم من الغفلة للذكر ومن التشعب
للجماعة ومن العادة للصدق .وإنه ال ينهض هبذه الوظيفة إال
بقدر ما يقوم بالقسط شاهدا به شاهدا على الناس مغريا إياهم
بتفوق منط سلوكه أن يتبعوه وحيبوه ويسريوا بسريه ضد التيار
مقتحمني معه العقبة ،شاهدا بدعوة قسط وعدل ال شاهدا طبقيا.
ال تزال يف أفئدة املسلمني أثارة من تعظيم الربانني وحمبتهم،
وللعامة من الناس تصور واضح للربانية.إنه تصور ينبين على املظاهر
واأللقاب ،فكان اسم الشريف أو السيد موضعا للتعظيم وال يزال
ملكان أويل القرىب من قلوب املسلمني ،وكان اسم عامل لقبا يعظمه
الناس ويكربونه ،وكان اسم الشيخ والويل عنوانا للكمال والطهر
ومدعاة الحرتام املسلمني .وأثناء فتنة املسلمني الطويلة احرتف
احملرتفون وظيفة العامل والشيخ وادعوا النسب الشريف ،وصحب
كل هذا التدليس اعتناء باملظاهر ،بطليسان العامل وعماماة الشيخ
ومرقعة الصويف .وبني احرتاف املشعوذين وصدق املستضعفني من
أهل العلم والصالح ضاع اإلسالم واختلطت مفاهيمه ،وحىت
املظاهر أصبحت مسخرة عند الناس منذ اكتشفت الناس أن
املخرب خراب عند كثري من األدعياء أصحاب الطيالسة واملرقعات.
فال ثقة اليوم حباكم جلالء طغيانه أو إحلاده وال ثقة مبن يدعي
الربانية لكثرة ما كذب املشعوذون .وباعتبار أن سواد األمة بكوهنا
645
الشباب فال مطمع يف أن يغرت املسلمون باملظاهر ،أو يغريهم
البس العمامة إن مل يأت بربهان صدقه أو احلاكم الداعي إىل
تغيري إن مل يأهتم خبري مما أتى به أبطال القومية .نعم هنالك زبائن
أو قل ضحايا لتجار اإليديولوجية كما هنالك مثلهم من املغرتين
بالزي ،لكن هؤالء قلة واحلاذقون هم الكثرة مييزون بني القائم
بالقسط صدقا وعدال وبني الذي حيكي الكرام بزيه ولغوه ويف
ثيابه ِصلٌّ وثعبان.
يف هذه السوق احلامية ببالدنا سوق املذهبيات ،تعرض
اشرتاكيتها على كل األلوان ومتارس قوميتها كما شاءت أطواقا يف
األعناق أو حلفا مع الرفاق أو احنطاطا وما مث من راق ،مسلمون
قائمون بالقسط .إهنم رجال خرجوا من مدرسة االضطهاد القومي
مليالد جديد .أناخ عليهم الكفر بكلكله أعواما طويلة ،وصهرهتم
نار الفتنة حىت انكسرت قوقعة العلماء وتفتت جهازهم ،وعذب
املشايخ حىت أصبح ال يرغب مشعوذ يف لبس العمامة .وحول هؤالء
ترىب جيل قائم بالقسط شاهد بإسالمه على املسلمني مجيعا يف
بقاع األرض .إهنم علماء تركيا ومشاخيها الربانيون وشباهبا الطاهر
املتطهر .لقد كسر طاغوت الكافر الناقص وزبانيته من بعده كل
خبث الدعاية واالحرتاف وبقي صامدا يف امليدان الصادقون .ويف
شوارع تركيا وحدها جتد القائمني بالقسط ينهون عن املنكر قتاال
646
إن اقتضى األمر رغم طاغوت احلكم اجلاهلي.
يف دار اإلسالم برتكيا وبؤرة فتنته رجال مؤمنون ونساء ،واألمر
َث تربية مغرية صاعدة ،ويف سائر األرض مسلمون ال يزالون ينتظرون
قائمني بالقسط منذ أمخد الطاغوت القومي العريب ،إمخادا ظاهرا،
ذلك القبس الرباين املشخص يف تالميذ اجملدد العظيم حسن
البنا .وبني اإلخوان املسلمني اليوم من مييل مع صبا جند وعقالنية
العلماء النجديني فهم يف حاجة ملن يقوم بينهم بالقسط قيام
الشيخ اجلليل رمحه اهلل ورضي عنه ،يف حاجة ملن جيدد هلم وردا
ووظيفة ورابطة حىت ال ينسوا مأثورات شيخهم .إهنم اختذوا قدوة
هلم شهيد اإلسالم سيد قطب ،وبعضهم درج إىل مصاف املثقفني
احملتكني باإلسالم أمثال مالك بن نيب .ومىت كان اإلسالم الفكري
قياما بالقسط وربانية؟ وإن اإلسالم الفكري كان جيري مع التيار
حني قام اجملاهد العظيم املهدي السوداين مقتحما العقبة ضد
التيار كله ،فكان اإلسالم الفكري ينقل أخباره يف صحيفته كما
تنقل لنا األخبار وكاالت األنباء مبوضوعية باردة أو بلمزات خفية
حمرفة .ذلك كان رجال قائما بالقسط ومن معه رمحهم اهلل.
وملا هجمت فرنسا على اجلزائر يف أواسط القرن الثالث عشر،
نكصت الدول اإلسالمية عن املقاومة وقام ضد التيار رجل صويف
عرفه الناس باسم األمري عبد القادر .وهو رمز خالد للجهاد
647
والربانية .ذلك هو العامل العامل وذلك هو الرباين الكامل قدس
اهلل روحه .ولن جتد يف تاريخ اإلسالم قائما بالقسط إال من أرباب
القلوب من الذاكرين الصادقني العلماء العاملني الذين طرحوا
العادة وخاطبوا األمة بعمق ووجهوا هلا دعوة تعين جمموعهم ووقفوا
هم مصداقا ملا يدعون إليه ومنوذجا ورمزا.
عن عسعس بن سالمة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم 1كان
يف سفر ففقد رجال من أصحابه فأيت به ،فقال« :إين أردت أن
أخلو بعبادة ريب وأعتزل الناس .فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم :فال تفعله وال يفعله أحد منكم قط :قاهلا ثالثا .فلصبر
ساعة في مواطن المسلمين خير من عبادة أربعين سنة!».
هذا فرق ما بني اإلسالم الفردي وإسالم الشهادة بالقسط،
وهي الصرب يف مواطن املسلمني والقيام أمامهم مثاال للصرب ومثاال
لإلميان .وهلذا بعث اهلل أنبياءه ورسله ،وهلذا يوفق اهلل أولياءه
الربانيني .قال تعاىل﴿:لََق ْد أَرسلْنَا رسلَنَا بِالْبـيـِّنَ ِ
ات َوأَنـَْزلْنَا َم َع ُه ُم َ َْ ُُ
ْكتَاب وال ِْميزا َن لِيـ ُقوم النَّاس بِال ِْقس ِط وأَنـزلْنَا الْح ِدي َد فِيهِ ِ
َ ْ َ َْ ُ َ َ ال َ َ َ
ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِالْغَْي ِ بأْس َش ِدي ٌد ومنافِع لِلن ِ ِ
ب َّاس َوليـَْعلَ َم اللَّهُ َم ْن يـَْن ُ َ ََ ُ َ ٌ
إِ َّن اللَّهَ قَ ِو ٌّ
ي َع ِز ٌيز﴾.
والقسط عدل والقسط قسمة ،وإن مرياث رسول اهلل خدمة
648
لإلسالم وبالء وغناء فكل من دعا لإلسالم خبدمته وبالئه وغنائه
فهو الرباين .عن مالك بن أنس أنه قال :1كان عمر حيلف على
أميان ثالث :واهلل ما أحد أحق هبذا املال من أحد ،وما أنا أحق
به من أحد .واهلل ما من املسلمني أحد إال وله يف هذا املال نصيب
إال عبدا مملوكا .ولكنا على منازلنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم وقسمنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،والرجل وغناؤه
يف اإلسالم والرجل وحاجته .واهلل لو بقيت هلم ألوتني الراعي حببل
صنعاء حظه من هذا املال وهو يرعى مكانه!
فبنموذجية الربانيني القائمني بالقسط الذين هلم البالء والغناء
والقدم يف مناهضة التيار وفرض منط احلياة واألخالقية بسلطاهنم
املعنوي وبسلطاهنم احلكمي العادل عدل عمر يف رعاته كعدله يف
والته تتجدد الرتبية وتتعمم وتتجاوز نطاق احرتاف األستاذ املعلم
وعجز األسرة الساحبة وسط الفتنة.
649
األم
مها أبوان حيافظان على الفطرة أو ميسخاهنا برتبية منحرفة.
أول ما يراه الطفل من أمناط السلوك سلوك أبويه ،وأول منوذج
يعرتض آفاقه هو منوذج أمه .فريجع صالح النموذج أو فساده
لصالح األم ،وأول تأثري وأقواه تأثريها .لذلك فإن كانت هذه
األم ضحية للفتنة ذاهبة مع التيار رضع اإلبن مبادئ الفتنة
وحمبة العادة املنحرفة إىل غفلة أو كفر عاطفة يف مهده وحنو
على صدر أمه وتوجيها إن رقد أو ركض أو تعلم حقيقة جوهر
وعرض.
إن املرأة شطر األمة األسلس قيادا األلني عريكة .وهي أشد
الناس متسكا بعادة وحفاظا على موروث .ذلك وتسلط الرجل
عليها جيعالهنا ضحية الفتنة األوىل وموطن الداء املزمن ألن منها
يتسلسل املرياث املوبوء لألجيال الناشئة .كان للمرأة املسلمة
يف عصرنا منوذج سلوكي منحدر أخذته عن جدهتا وأمها ،فلما
عششت اجلاهلية يف عقلية الرجل وذهبت مروءته واضمحلت
حىت خنوته وغريته عرض املرأة لبلواه ومحلها على االنسالخ من
عقليتها املوروثة ،وأغراها بزينة اجلاهلية ،وهي ضعيفة ال متتنع عن
داعي الزينة ،برزت من خدرها وطاوعت الرجل املفتون لعبة يف
650
يده ممتهنة وأما ترضع أبناءها من لقاح ال تدري أهو من نكاح أو
سفاح فسولة مسرتخية.
وكانت املرأة زوجا وأما فتخطفتها الفتنة بإغراء الزينة املنكشفة
املكشوفة وبإغراء النموذج اجلاهلي للمرأة املساوية للرجل املطالبة
حبق خيرجها عن أنوثتها وال يضعها موضع الرجل ،بل يتضع هبا
عاملة مكروبة أو موظفة مرهقة بني أعباء البيت ورهق الوقت
اإلداري .وتضيع البيت وتنزع مسؤوليتها لتكون رجلة معصوصبة
متحزمة يف ظاهرها عرضة لألوباش وضحبة لطاحون الفساد
االجتماعي .أما الزوج واألطفال فيتعلمون بالتقليد واملنافسة على
حياة اللهو أن يتخذوا ألنفسهم بديال عن الزوج واألم .وهكذا
يسري االحنالل يف األسرة وينصرف كل إىل شأنه ويلتقي رجل
وامرأة يف بيت كئيب فارغ به صبية ضائعون .أما األب واألم
فيتشاكيان أو يتشامتان إن كان بأحدمها رمق مما تبقيه الشؤون
اخلاصة وأما األطفال فتقع عليهم مناذج السلوك املنحلة ويرتكون
بال تربية يف البيت تؤصل هلم مروءة وإميانا ،لُقطة يف الشارع لكل
ما هب ودب من قاذورات اجملتمع املتحضر بتقليد الرجل اجلاهلي
الدابة واملرأة اجلاهلية احمللِّسة الرضاء شهوة وحلمل أثقال.
هل نطلب إىل املرأة ،وهي الضعيفة الضحية ،أن تقوم ضد
التيار وتقوم بالقسط يف بيتها أمام أبنائها؟ أم تقتصر تربيتها على
651
إعداد خلادم تطبخ طبخا جيدا وتعلم كيف تغذي الطفل وتنظفه؟
كال! فإن مشكلة املرأة أبعد من ذلك .إهنا أوال مسألة عدل
وتوزيع للرزق .إن املرأة البدوية جتد توزانا بني عملها يف شؤون
العيش وبني حقوق أهلها وفق ما يسمح بذلك اجلهل والفقر
واملرض املتفشية فينا .لكن املرأة احلضرية عاطل يف الطبقات املرتفة
ودمية وضحية حمالة بقالئدها ،ويف الطبقات املسترتفة مطية لغواية
الرجل ولغواية التنافس اجملتمعي ،ويف طبقات املستضعفني جائعة
عارية ال مكسب هلا إال أن متتهن وتنتزع من بيتها لتقذف عرضة
لعوادي األيدي القذرة.
ظلم واحتالل من جانب املرتفني احلاملني جلرثومة اجلاهلية
والفسق جيعل املرأة ضحية موافقة أحيانا عاجزة دائما .ومنذ
أصبح الرجل ال يطلب منه بالء وال غناء وال قدم يف نفع األمة،
بل خيشى جانبه يتقى مكره وظلمه ودهاؤه ويقسم له من غنائم
الغارات نصيب ضاعت األسرة.
النصفة والعدل االجتماعيني مطلب أساسي ألي حتويل،
ونصفة املرأة من خصمها الكبري وهو الرجل شرط إلحداث جو
الطمأنينة واألمن على الرزق الضروريني لتعيش املرأة يف كنف حريز
ولكي تتفرغ الداء وظيفتها الكربى ،أال وهي تربية الناشئة.
املرأة يف أسوة املرتفني أداة استهالك ودمية حمالة بقناطري
652
الذهب واحلجارة .واحنراف املرأة يف هذه األسر أوضح داللة
على املهوى الذي تردت فيه املرأة املسلمة احملافظة باألمس ملا
غزاها وهي الضعيفة ،منوذج صور السينما اليت قادها إليها الرجل،
وإحلاح هذا أن تكون له زوجة عصرية تكشف اجلسم ،والتسابق
العام للظهور مبظهر احلضارة اجلاهلية .ومع االنكشاف والتربج
اجلاهليني وما يتبع ذلك من تفسخ خمز تستهلك املرأة الغنية يف دار
اإلسالم ذهب العامل وجواهره قناطري مقنطرة .يستورد هلا احلكام
ليهلوا هبا ويطيعوا رغبتها ،ألهنا احلاكمة بأمرها كما هو الشأن
يف اجملتمعات املتفسخة ،ذهب العامل وجواهره باستنزاف خزائن
الدولة ،وتتكدس احللي يف بيوت أمة ليس هبا رجال يدخرون املال
ليصنعوا طائرة تقاتل العدو واقتصادا يطعم البائسني املاليني.
هذه املرأة املكللة املدللة نصفتها أن تعلم مع مثيالهتا وأمثاهلا
من أين يأيت اخلبز وكيف حترث األرض ومن أين يستعذب املاء يف
البادية ومن حيمل على ظهره وخيبز وحيلب البقرة.
ودون هذه متطلعة إىل موضعها امرأة فتحت عينها على الفتنة
فركبت احلافالت تزاحم فيها الرجل وغشيت السنما مع أبيها
وأخيها ورضعت لبان اهللكة فيما يقذف به الشارع أو يقذف به
املذياع والتلفاز .هذه هي املرأة احلضرية املتعلمة املوظفة أو أختها
اجلارية يف موكبها .جيتمع النساء يف جمالسهن يتناقلن فيما يتناقلن،
653
وأهم ما يتناقلن ما جد عند فالنة وفالنات من فساتني وحلي،
ولكل منهم يف كل يوم مطالب تأيت على راتب املوظفة ومثله
معه من رزق األسرة ،وإذا أعجز إحداهن أن تنفق مما يف اليد
على عطور باريس وحرير إيطاليا فلها مندوحة فيما يثقل كاهل
األسرة ليشتت مشلها آخر األمر .ومع كل هذا ،ووقودا له ،العرض
املهتوك بالليل والنهار ،لكن من ختاطب وقد نسيت فسولة الرجل
معايل العرض مع نسيانه معاين اإلميان؟.
هذه هي املرأة املرتفة يف متعتها ،إهنا قائمة قاعدة بشعار واحد
ومطلب واحد يستويل على فكرها وينهك حتقيقه املال والذمة،
إنه مطلب الزينة .ومن وراء الزينة بيوت خربة وجيل حمروم .إهنا
كارثة عظيمة!.
أما املرأة املسكينة ربيبة أسرة عدا عليها الزمن وفل منها
العائل ،فهذه مضطرة لدخول معمعان التكسب .إهنا ضحية
املدينة وضحية احلقول ،وهي يف املدينة أشد إرهاقا .تعيش أيامها
حتاذي الالهيات العابثات ال جتد عن عشرهتن حميدا .ويف كل يوم
يتفتت من عزميتها على قدر ما تنوء به أنوثتها من دواعي املنافسة
يف معرض املكتب أو معرض املشغل .إن املرأة يف معرض أبدا
وقد خلقها اهلل لتكون كذلك يف سياق املتاع والزينة اليت أخرجها
لعباده .لكن اجملتمع الفاسد يتيح الفرصة للغرائز الدنيا أن تتفتح
654
يف جماالته ،فيستحيل جمال العمل جماال لألمر الذي يستحوذ على
األذهان .إن يف مكاتبنا حيث تكون املرأة مع املرأة والنساء مع
الرجال معارض للفتنة ،فتنة متعددة اجلوانب مفسدة للذمم عائقة
لإلنتاج.
وإذا كانت إدارتنا معروفة بالكسل والعجز فذلك ألن وقت
الرئيس واملرؤوس ينقضي يف التربج لنساء اإلدارة والنظر يف معرض
الفتنة.
والنساء منذ خرجن من وظيفتهن الفطرية وعُلمن االستبداد
على الرجل ملا هان وماتت مروءته ،ومنذ اختذن للزينة احملرمة ال
لألمومة،دخلن يف سوق باخسة حلقوقهن ،وظلمهن الرجل من
حيث ظنن أنه أعطاهن املساواة معه ،إهنن يف زمن الفتنة هذا
عنصر غري قار ،إهنن رهن إشارة الرجل لعبة بني يديه أن مل أن
يكون هو ،بفسولته أو بداعي ثقافته احملررة للمرأة ،ثورا حترث هي
عليه يف حقول غوايتها.
وبينهما ينسل نسل ال شرقي وال غريب ،األم تربجت تربج
اجلاهلية األوىل فال تقيم الصالة وال تنتهي عن فحشاء ومنكر،
وهي غشيت املنتديات واملالهي وجمالس العطالة وأخلت البيت
والرجل أعجبه جمتمع اجلاهلية يوم كان فيه ثاويا ،فتعلم اخلالعة
ومحلها معه ألمثاله جرثومة فكرية يزاول حياته على ضوئها
655
وشخصا قائما هو وصاحبته اجلاهلية السيدة يقبل يدها تقليدا
للجاهلية وهو تقبيل مذلة يف الواقع ال تقبيل تقليد.
الزوج اجلاهلية ،ونسميها زوجا لإلحتشام ،منوذج هابط
النصف هبذه األمة مبا جين شبابنا الذي بعثناه ألوربا وأمريكا
يتعلم رذائلها من حيث كنا نرجو أن حيمل إلينا علما .جاء هبا
أفعى رقطاء زرقاء ملكته كما ملكه الفكر اجلاهلي فسلمها قياده
وسلمناه حنن ،عن طواعية املرتفني وغم أنف املستضعفني ،زمام
أنفسنا فهو يقودنا برأي أساتذته ممتزجا برأي عقليته وهواها وما
«تبتكر» من «النصائح» حتملها إليه من «جمالسها» مع أبناء
عموهتا .إهنا تكون ومثيالهتا الكثريات ببلدنا واجهة غازية تنفذ
فيما بني اللحم والعظم .إهنن اجلاهليات يف بلدنا متضامنات
مدجنيهن بيد متمسكة بدوائر عواصمهن .وتعطاهن أمسى يشددن َّ
الوظائف حمطات لتخريبهن وجاسوسيتهن ومكرهن املضاعف
بضعف األنوثة والدجانة ولو ترى إذ يعتلي بعض املتحلالت
منهن كراسي األستاذية يف معاهدنا! فتلك خمزاة أصبحنا ال نكاد
نتلفت إليها ألن اهلم ينسيك بعضه بعضا!
هذه «العقائل» ميتصصن املال والرجولة منا مصا ،وهن مثال
مدجنيهن .أما نسلهن فمسخ املسخ والكفر حيتدى ملن يف طبقة َّ
الصريح .وهن هلم الناصحات الدليالت على مضان الزينة واملتاع
656
يف عواصم أوربا حيث يطري مرتفونا كل أسبوع بأسرع مما حتلق علينا
طائرات أخرى تقتل العناكب الغثائية وخترب .وهن «العقائل»
يزدن على بنات احلي عتوا يف املطالب وإسرافا يكملن به نقصهن
يف عني أبناء العمومة إن اقرتن جبنس دون ،فإذا برهنت إحداهن
خبدمة وطنها ومصاحله حىت تعترب كاجلندي يف بعثته فقد ذهبت
عنها لعنة النزول ملستوى املدجن.
أولئك هن التلميذات وهؤالء أستاذاهتن ،وتسيل الدعارة من
أعلى كما يسيل القطران املشتعل حيرق ما يف طريقه .وال يزلن
نساؤنا ينتظرن حمررا يعطيهن النصفة فهن رعية مستضعفة على
كل حال.
لكي تأمن املرأة على رزقها جعل اهلل هلا صداقا حقا هلا خملصا
وجعل هلا عند الطالق متاعا ومتتيعا باملعروف حقا على احملسنني.
وإمنا حياة األسرة ما بني النكاح والطالق فإن صينت املرأة بالعدل
اإلسالمي العام ووفرت لتقوم بوظيفتها قائمة بالقسط يف بيتها،
وإن ضمن هلا وزاع السلطان ما ميكن أن تغمطها نزوات الرجل
من حق فقد وضعت أسس األسرة القارة.
حق هلا أن ترث نصف ما يرثه الرجل اقتضاء الستقالهلن يف
التملك وقضاء لواجب الرجل يف القوامة .وحق هلا أن يعطاها
صداقها ونفقتها باملعروف ما دامت زوجا أو مرضعة ،وحق هلا
657
إن طلقها الرجل أن ميتعها متاعا مجيال .وقد جيري بعض الفقهاء
املسلمني يف مهيع تقليدي فيعتربون املتاع عند الطالق أمرا مندوبا
إليه وال يعدونه واجبا .ومبا أن اهلل جلت قدرته جعله حقا على
احملسنني أي واجبا عليهم ،فهذا اإلجياب ينظر إىل عاقبة الطالق
فيكفل هلا رزقا حسنا إن انقضى صربمها على العشرة ،وجيعل املتاع
باملعروف اعتبارا ماديا يدخله املطلق يف حسابه لكيال يطيش
ويظلم .وحق للشريعة يف اإلسالم املنبعث أن تعترب املتاع يف سياق
التكافل وضمان احلقوق ،وأن حتسبه مبا يكفي املرأة خزي الضياع
والتشريد من بيتها.
إن دعاة الكفر يزعمون املزاعم ويطعنون يف املقام املشرف
الذي خصصه اهلل رهبا للمرأة يف اإلسالم ،يتكلمون يف الطالق
واحلجاب ويتكلمون يف املرياث املشطور .وجييبهم املدافعون
باحلجج والبالغ اللفظي ،وهم دعاة الكفر ،يسمون اإلسالم
رجعية ويتمسكون مبزاعمهم خاصة يف التشريع اإلسالمي لألسرة
يتملقون بذلك أحالم الداعرين وأهواء املستعبدين للمرأة.
لقد وصفت يف هذه الصفحات حال املرأة يف بالدنا وصفا ال
يبلغ احلقيقة وال معاشرها ،وما يب أن أثلب املرأة أو أنقص منها،
إمنا مهي أن اشري إىل موطن التخلي عن املسؤولية مسؤولية قوامة
الرجل على املرأة .فإهنا أمانة بيده جعلها له رعية ،فإن داستها
658
األقدام وامتهنتها األيدي واألعني حىت غاض حياؤها وذل مجاهلا
وتلوثت أمومتها فذلك الرجل ضيعها.
وصفت واقعا مكروها حقريا جيب أن نغريه ،وفتنتنا بالنساء
السائبات يف شوارعنا جزء من فتنة صنعناها بأيد مرتفة مقلدة
مسخ .إننا دفعنا املرأة املسلمة ،وهي كانت ألجدادنا أما مقدسة
وزوجا مكرمة وأختا مرفوعة ،إىل مسارح اللهو وعرضنا مفاتنها يف
صاالت الرقص العمومي وعلى السنما والتلفاز .وإن قوامة الرجل
على املرأة تعين استبداد تربويا به يبدأ التغيري الرتبوي من داخل
األسرة .وزاع السلطان يف اإلسالم املنبعث يفرض على الرجل
قوامة ال يهتدي إليها يف فتنته .ولعلنا نضطر ألعمال املرأة خارج
بيتها زمانا ريثما نبتكر حياة مجاعية ال خترج فيه املرأة من خدر
عزها إال أداء لواجب من فروض الكفاية اليت ال يقوم هبا إال املرأة.
وشيئا فشيئا نتعلم كيف ننظم اقتصادا خيدم غاياتنا اإلحسانية
ويرفع املرأة إىل فطرهتا لتتحمل مسؤولية احلافظية لغيب الرجل.
وغيبه هو أسرته ونسله وعرضه وسكونه جلزئه احليوي وهو املرأة.
ظ ات لِ ْلغَْي ِ
ب بِ َما َح ِف َ ات َحافِظَ ٌ الصالِ َح ُ
ات قَانِتَ ٌ يقول ربنا﴿:فَ َّ
اللَّهُ ﴾ فال صالح للمرأة إال حبافظيتها ،وماذا حتفظ إن ضيعت
البيت وضيعت النسل؟
كان نساء الصني قبل الثورة أمثولة للرخص ،كن حلما على
659
وضم ،وكن عابثات مهينات .وتراهن اليوم عاد إليهن احلياء
وعادت إليهن العفة ونزعن ثياب الزينة وتساوين مع الرجل يف
الفقر كما تساوين معه يف اجلد .وال درس لنا يف بالد اجلاهلية
عامل األنوثة الدوابية .إن للمرأة يف كتاب اهلل وعدا باخللود يف
نعيمه كوعد الرجل .وإن اهلل اقرتح عليهن منوذج نساء النيبء
اء ِ
سَ ليحذون حذوهن ويلحقن بالصاحلات قال عز وجل﴿ :يَا ن َ
ِّس ِاء إِ ِن اتـََّق ْيتُ َّن فَ َل تَ ْخ َ
ض ْع َن بِالْ َق ْو ِل النَّبِي لَست َّن َكأ ٍ ِ
َحد م َن الن َ َ ِّ ْ ُ
ِ
،وقـَْر َن في ِ ِ ِ
فـَيَط َْم َع الَّذي في قـَْلبِه َم َر ٌ
ْن قـَْوالً َم ْع ُروفاً َ ض َوقـُل َ
الص َلةَاهلِيَّ ِة ْالُولَى َوأَقِ ْم َن َّ بـيوتِ ُك َّن وَل تـبـ َّرجن تـبـ ُّرج الْج ِ
َ ََ ْ َ ََ َ َ ُُ
ِ
الزَكاةَ َوأَط ْع َن اللَّهَ َوَر ُسولَهَُ﴾ ين َّ ِ
َوآَت َ
660
تربية من فشل
يف تاريخ اإلسالم عصور فشل كما يف تاريخ كل أمة ،بيد
أن فشل املسلمني يتخذ شكال تربويا فيه العربة ومن ورائه رمحة اهلل
الذي ال يهلك هذه األمة كما يهلك القرى بطشةً جبارة .عندما
هتبط مهم املسلمني وينحدرون إىل أحط دركات الرتف خيافون
املوت وحيرصون على احلياة وينغمسون يف ملذاهتم غافلني عن
رهبم ال قدرة هلم على محل رسالة القسط والشهادة به بني الناس
وال إرادة .وعند ذلك يبعث الرب عز وجل تربية هلذه األمة موقظا
ومنبها لتهب من غفلتها وختجل من فشلها.
إن فشل املسلمني يف عصرنا فشل ذريع يفضح الفرقة القومية
كما يفضح الغثائية الفردية .إن هذه املاليني تنبض قلوهبا بوالء
هلل ورسوله ما يف ذلك شك .والوالء اإلمياين يتجه باملؤمنني حنو
اقتحام العقبة وعبور دار الفتنة باجلأش الربيط والبأس والشدة
على الكافرين والرمحة بني املؤمنني .هكذا يتجه الوالء اإلمياين إال
إن اعرتضه عائق يرتفه وحيبسه عن غايته مث يرده وحيبط جهده.
لو سألت كل مسلم على حدة لوجدت يف قلبه إسالما وإميانا ال
حيسن أن يعرب عنه حديثا على لسانه وال سلوكا يف حياته .فالعائق
األول القتحام العقبة ولتحقيق القوة هو اجلهل باإلسالم كيف
661
خيرج من عامل القابليات إىل عامل الواقع .وقد فشل دعاة اإلسالم
يف حماولتهم خلرق هذا العائق وإلخراج قابليات األمة ،بعضهم
لبث يرتقب أن حتيي له الصحبة الفكرية واجلهاد الفكري أمة مفتتة
بني قوميات تعد باخلبز والزبد وبني خطيب اجلمعة ينذر بانقضاء
الزمان وقيام الساعة هلذا الفساد الغالب ،وبعضهم كانت الفتنة
وطاغوت احلكم أضخم من جهاده ومقومات جهاده ،فحارب
بالسيف أو استبطن الفتنة ليطهر البالد منها فما غلب رفقه عنف
اجلاهليني.
الشعور بالفشل يلون عقلية األمة يف حاهلا بلون قامت يائس،
وتوايل اهلزائم عليها وتوايل كذب القادة يف وعودها ،وانغالق املنافذ
يزيد الشعور بالفشل تعمقا ويزيد اهلمم اتضاعا .ويف هذا ينشغل
كل خبويصة نفسه ،فعابد منزو وحموقل وموقد للفتنة راتع فيها
ومستضعفون خاضعون مقهورون .وعلى سطح الفشل الساري
جمموعة من املهرجني املهيجني ،ال يبدئون وال يعيدون ،وخيبئون
الفشل املتسلسل يف خطب قومية أو بطوالت عاملية تلتهم ما
بيدنا من مال ،ما أبقاه منه سرف القادة يف قصورهم وسفاراهتم
اخلارجية وأكثرنا لغطا يف جمالس األمم .ماذا حتت الستار يا أيها
الغثائيون؟!
ورثنا حضارة إسالمية ال نزال نتنازع عليها ،فهي حضارة
662
عربية يدعيها القوميون العرب ،وخياصمهم عليها الفرس ألن
عقول الفرس كانت بانية احلضارة ،وينازع الكل سيف اجلندي
الرتكي الذي دافع عن احلضارة .وملا ذهبت القوة احلضارية ومل
يبق منها إال «فلكلور» نعرضه على األمم ومسة لفشلنا وإفالسنا
التارخيي من حيث نظن أنه وسام جملدنا الغابر ،تقلصت األمة
الغثائية إىل مواقعها القومية وتفتتت وحدهتا الثقافية حىت ألغت
كل رباط يربطها باإلسالم .قبل اخرتاع القومية العربية كان للعرب
انتماءات فرعونية وفينيقية وأشورية .وكان االنتماء هلذه األثريات
لباسا اكتسته لربالية الربع األول من القرن العشرين امليالدي تقليدا
لرتكيب جمتمعات الغرب .وفشلت هذه االنتماآت ألهنا إمنا كانت
تغطي نفس البضاعة وهي الغثاء التارخيي ،عربةُ اهلل لنا إن كنا
نعقل.
مث اخرتعوا القومية العربية وانضوى املسلمون يف ركنهم حتت
لواء عصبياهتم فانقسم الفشل وتضاعف بانقسامه ،مث اجتمع
الفشل الرعيب يف نداآت األبطال التائهني الفاسقني استعدادا
للضربة القاضية ضربة اليهود الثانية اليت من ورائها رمحة اهلل .فلنا
معشر األمة املسلمة يف كل زاوية من زوايا األرض فشل نسرته
بالعويل أو اخلطب املزجمرة أو احلفالت الصاخبة .لنا يف أندوسيا
فشل اقتصادي تغطيه بنايات الرأمسالية الدولية يف العاصمة
663
ويفضحه يف شوارعها وضواحيها العرايا اجلياع املشردون .ولنا
يف بالد قومنا العرب فشل مطلق تغطيه آمال النفط ويفضحه
الصهيوين يف القدس الشريف ويف حرم أبينا إبراهيم عليه السالم.
ولنا يف باكستان فشل سياسي كان كذلك ألن أمة اإلسالم
بباكستان توحدت على أساس غري تربوي وغري قابل خللق القوة
اإلسالمية من الغثاء اإلسالمي .ولنا بإيران فشل مذهيب ألن قومنا
العرب امتهنوا قوم موالنا سلمان على مدى الدهر وأنكروا على
من أحب آل البيت تشيعهم وانفصل املسلمون طائفتني لكل
منهما فشله وكفره ،فال أمل أن يثق غثاؤنا السين بغثائنا الشيعي
إال برتبية من فشل ،تربية منهاجية تعود بنا إىل منبع اإلميان يف
كتاب اهلل وسنة رسوله بقيادة الربانيني املعلمني شديدة ال ُقوى
ذوي املِرة.
جاءت هزائمنا مليقات معلوم هو ميقات الطاغوت القومي
املفرق جلماعة املسلمني .كانت هذه اهلزائم وال تزال ولن يذهب
عنا احلزن حىت نفهم عن اهلل آياته وتربيته .وهي فادحة فاضحة
جزاء وفاقا لرغبتنا عن العدل ولرغبتنا عن شرف محل الرسالة
والشهادة بالقسط بني الناس .ملا استفحل الطاغوت القومي سلط
اهلل علينا بذنوبنا أخبث أعدائه يف أقدس بقعة لنا وعلى نسق
خنجل منه لو كان بنا رمق من مروءة إن مخدت جذوة اإلميان.
664
وهكذا وقع يف ماضينا املفتون ،ويف ظروف تشبه ظروفنا شبها
شديدا .كان ذلك يف عهد بلغ فيه بذخ الدولة العباسية وتبذيرها
وظلمها أوجه .وبلغت فيه قصور بغداد أهبى زينة تكون للمرتفني.
وبلغ فيها تشتت األمة يف قوميتها شأوا بليغا .يف هذا القرن
السابع اهلجري بعث اهلل عباده التتار على دار اإلسالم بعد أن
كانت اهلزمية األوىل على يد الصليبيني من قبل مث جهاد ويل اهلل
اجملاهد صالح الدين درسا غري كاف.
جاء جنكيزخان فوجد أمة فاشلة .وغزا مائة ألف فارس
مهجي حضارة اإلسالم كلها فما وقف يف وجههم واقف ،ودخلوا
عاصمة بغداد وهبا مليون ونيف نسمة ذحبوا منهما 800.000ذبح
الكباش .وكانت املرأة الترتية تقاتل فتدخل بيتا ال ميتنع فيه عنها
ممتنع حىت حتز رؤوسهم مجيعا.
كان أخبث اهلمج يدوسون حرم اخلليفة املرتف وينتهكون
أعراض املسلمني .وكان درسا إهليا قاسيا ،خذل سبحانه أمة
خذلته وعصت أمره .فما هنضت لفرقتها وأثرة حكامها وفساد
أخالق مرتفيها ملقاومة وال هزت رأسا جلهاد وأىن للفاشلني يف
اللذات أن جياهدوا!.
حىت مل يبق ببالد اإلسالم إال طائفة من املؤمنني كانوا عبادا
هلل ما هلم قومية يستعلون هبا على الناس وال هلم عصبية يأكلون هبا
665
اآلخرين .إهنم هذه الفئة من املماليك ببالد مصر .كان هلم جند
يسبحون اهلل حني كان قضاة بغداد وعلماؤها يتملقون اخلليفة
املزعوم املستأسد على خدم قصره ببغداد .وكان جندا ريب على
القوة واإلميان فنهض للقاء عدوه وكانت هزمية علمنا اهلل هبا يف
ذلك اجليل ولكل األجيال أن اهلل امنا يتقبل من املتقني .لكن
نسينا وعدنا فعاد اهلل علينا بسوط تأديبه.
فشلنا عود على بدء ،وإسالمنا وحده ينقذنا ويربينا للقاء
عويصات مستقبل اإلنسانية بعد اقتحام عقبة حاضرنا.
كان بالط اخلليفة املزعوم وكرا للشهوات ومنبتا للرذيلة ،ومن
حوله كان طاغوت القومية العربية قد أهنى عمله التخرييب يف تفريق
األمة .وها حنن اليوم لنا بالطات تزري ببالط اهلررة املستأسدة
بذخا وفسادا ،وحفنة قليلة من اليهود النجسني تدوس حرم اهلل
وحرم املسلمني .وال حتدثنا أنفسنا جبهاد حنن العرب إال دعاية
فاشلة ،وما ميسنا شيء إال عاديناه بفشلنا ،فدميقراطيتنا فشل
وهي يف بالد اجلاهلية جناح ،واشرتاكيتنا فشل وهي املذهبية املعبئة
لكل متخلفي العامل الثوريني على صراط اجلاهلية بال روغان وحىت
طائرات اشرتيناها متائم لنرقي هبا هزائمنا وما معها من دبابات
تفشل بني أيدينا ويسري إليها من غثائيتنا.
يعزو املفتونون منا ،علنا جهرا أو خفية ونفاقا ،فشل األمة
666
املسلمة إلسالمنا ذهابا مع ما هتمسه إليهم شياطني اجلاهلية أو ما
تصرح به وتكتبه ومتنطقه .وهو كذلك واهلل! ما فشلنا إال بإسالمنا
حني ضيعناه ،وحني اختذنا ألنفسنا شخصية قومية جاهلية وتلقينا
الدواء من العقول الصهيونية الدساسة كما تلقينا من طائراهتا
الوبال .هذا منطره بالقوة وذلك نفغر له فأنا متهللني مسارعني
إليه غري معاجزين فيه .يكفي أن نذكر باليهودي العاملي احلاذق
الداهية يف شخص أستاذ مرتفينا ومتنبئهم وصديقهم القومي
احلميم عدو اهلل ورسوله واملؤمنني املسمى رودنسون .يتتلمذ له
مثقفونا الفاسقون قرناء الدمى األوربيات الزرقاوات ،ويتيه إعجابا
بنفسه من حظي منه بأسطر يضعها مقدمة لثرثرته الفاسقة .وهو
هو عدو اهلل كتب يف حياة رسولنا املعظم احلبيب حديثا أودعه
سم احلقد اليهودي وعصارة املكر والدهاء املتولن كاحلرباء .وجاء
كتابه ذلك مبا مل تستطعه أوائل أعداء اهلل ورسوله من املستشرقني
وال أواخرهم ،إذ سخر رصيد اليهودية اجملادلة على مر العصور
ليثبت أن حممدا كان صادقا يف إخباره عن الغيب غري كاذب،
لكن صدق مرضي يفسره علم النفس الفرويدي ويفسر ما لقي من
جناح علم االجتماع املاركسي .وهكذا يتعلم أشباه الرجال أحالم
العصافري املدجنون من ذراينا كيف كان الفشل بذرة يف كيان هذه
األمة ،يلقنون ذلك يف كل صفحة من صفحات كتب اليهودي
667
العبقري ،وعبقر بالد من بالد الشياطني موطنها هذه األيام يف
أرض القدس الشريف .حني يكتب عن الرسول الكرمي فإمنا يعلن
عن عالمات الفشل ،وحني يكتب عن رأمسالية املسلمني فهو
يتسقط ضعف األمة يف فتنتها ليثبت أن املسلمني أمة مرابية
غشاشة فاشلة يف احلقل االقتصادي فشلها يف ميدان النبوءة وحني
يكتب القذر عن أصدقائه القوميني العرب على ضوء املاركسية
اليت يتبىن فلسفتها حني يصادف التحليل املاركسي هوى عنده
ويزعم أنه ينقدها إن كانت ال تساير مكره ،يربت على أكتاف
األصدقاء برفق ويلوح هلم بالنماذج الشيوعية اللماعة وينصح
بالردة اجلماعية مشيدا مبثال ألبانيا الضائعة ومثال كافرها القائد
عدو اهلل ،وما من صفحة إال تؤكد أن اإلسالم فشل وأن املسلمني
ال وزر هلم إال بضاعة اليهود العاملية الثقافية.
إن هزمية اإلمام املهدي السوداين ال تعد فشال ألن الرجل ومن
معه من املؤمنني ماتوا شهداء غري مدبرين وكانوا أعزاء بإسالمهم،
وال يعد فشال تغلب الكفر الطلياين على األمة املسلمة بقيادة
املشايخ السنوسية ،وال يعد فشال تشريد اإلخوان املسلمني ،وال
يعد فشال حىت اخليبة االنتخابية جلماعة اإلسالم بباكستان ،ألن
كل هؤالء إسالمهم صحيح وإمياهنم .لكن الفشل اإلسالمي
الذي رأيناه حىت حتت أقالم مثقفينا القالئل ممن ينتمون لإلسالم
668
ال يزال ينتظر بعثا ربانيا .ففشل الساسة وفشل املثقفني ،فشل
الفكر واإلرادة يرفضه شبابنا املتوثب الضائع يف الفوضى .وإن
لنا ملنابع للقوة كفيلة أن تذهب عنا مرض الغثائية وجتمعنا أمة
واحدة حرة يكفي أن يقوم رجل واحد بيده السلطان وبقلبه إميان
وإحسان فينادي بالصالة اجلامعة ،ويستبد غري عاجز ،وإذا فشلنا
أضحى قوة وجناحا ،وإذا حنن أهل لتحرير العامل بعد حترير أنفسنا.
669
احلرية واملسؤولية
إن الرتبية تأثري يتشربه كيان الفرد واجلماعة تشربا من
رموزه ومناذجه .وهذه أمتنا شعوب متفرقة وقبائل تشربت الفشل
وربيت عليه ابتداء من طفولة الطفل املطروح للعوادي يف غياب
األمومة واحلشمة وغياب األبوة القوية الناجحة ،مث مرورا بالنماذج
اهلابطة يف الشارع واملدرسة ،مث عندما يتيقظ املسلم الناشئ يف
الفتنة للحياة العامة تستقبله أشد النماذج نكرة وأحقها أن تقنعه
بأنه عضو أشل يف جسم خنر بظلمها يف حماكم القضاة املرتشني
وبفسولتها يف تلمذة املثقفني املسخ لسادهتم وعمومة وأمومة
زوجاهتم ،مث بتقلبها احلربائي على ألوان اإليدولوجيات السياسية.
وآخر األمر جيد املسلم الناشىء نفسه نكرة عددية يف خضم
الغثاء له احلرية أن يتسكع يف مالهي اإلقطاعية اللربالية وسنمات
يفسق ويَطعم أو َيوع
االشرتاكية العتيدة ،وله احلرية أن يك ُفر أو ُ
وميوت أو حيىي هبمة لقيطة .وجيد نفسه عليه مسؤولية واحدة،
مسؤولية ضغط باهلراوة أن يسري مع الركب الغيا بشعاره أو ممجدا
لفجاره.
هبذا الوعي جيابه شبابنا احلياة ،وهبذا الوعي يقادون يف
العتيمة ،حىت إذا سنحت الفرصة واعتلى أحدهم مسارب الفوضى َ
670
على الرقاب كفر وفجر مقتديا برؤوس الفسق وتسلى عن ثوريته
واعرتاضه باألموال ينهبها رشوة من املساكني أو غنيمة من مال
املسلمني ،وتسلى عنها بأعراض املسكينات تعلم صغريا أن يهينها
تشبها مبثال السنما فهو اليوم كبريا يقتنصها بسلطان احلضارة
املفلسفة احملررة للمرأة.
النماذج اهلابطة أولتنا تربية على الفشل ،وأورثتنا ختاذال إغراء
اجلاهلية ثقافتها وأثاثها ،فالنعي حريتنا اال هنبا لللذات ومسؤوليتنا
إال فرصة لإلثراء متواطئني مع طاغوتنا.
ولعمري إن تعفننا وامنساخنا وفشلنا بلغ من الرذالة ما أصبحت
تعافه حىت النفوس العادية .وإن ببالدنا رأيا ممزقا بني أنصار
احلريات :هؤالء يدعون ،قبل مرحلة االنقالب االشرتاكي ،حلرية
اختيار ممثلة يف انتخابات هزلية ،وملسؤولية قوامها اللعب على
حبل التوازن مع األحزاب السياسية على هامش األمة وسطحها
وعلى حساهبا كما يقولون .أما اآلخرون ببالد االنقالبية فهم
زعماء حترير اإلنسان حتريرا واحدا هو عندهم الغاية والنهاية ،حترير
االشرتاكية من والء اهلل لوالء الزعيم ومسؤولية التقليد لالشرتاكيات
الناجحة 1بأصالة قومية خالقة!.
1جيادل اليوم تالمذة االشرتاكية العلمية يف زعمها،وبعد اهنيار صرح عامل الشيوعيةبأن ذلك االهنيار
671
وما تنتظر األمة إال قيادة طليعية تصدقها وتسلس هلا القياد
إن جاءت بربهان صدقها وعنوان رجولتها .إن الفاشلني يكذبون
على األمة ومينوهنا األماين ،وإهنم واهلل ال يرون أمامهم إال ظالما
يف ظالم ،وما عهد ذلك الوعيد املوقوت إلسرائيل ببعيد! اعرضوا
على األمة وجها مؤمنا غري منافق مث قودوها حلرية الرجال ومسؤولية
الرجال ،قودوها حلرية اقتحام العقبة ومسؤولية اقتحام العقبة.
إنكم يا قادتنا وهذه األمة من ورائكم تغررون هبا ال ترجون
هلل وقارا وال تستعدون للقائه إحلادا وبوارا ،إنكم على رقابكم
طوق العبودية لشهواتكم فهي منبع فشلكم .وإن برقابكم
ربقة ثانية أشد مسكا بزمامكم وأشد سلطانا على نفوسكم
املريضة ،إهنا ربقة التبعية للفكر العاملي الناجح يف نظركم .هذه
هي أمتنا الغثائية ختاف املوت وحترص على احلياة .وإن رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني وصف غثائيتنا ما أنكر انتسابنا
إليه وال طرحنا من محاه ،فال ختافون املوت الذي حيول بينكم
وبني شهواتكم وقصوركم فحسب بل ختشون أكثر من املوت أن
تضيع مسعتكم أمام املإل اجلاهلي ،فبعضهم يتقرب آلهلة الشرك
اإليديولوجي حياذيهم بتسوله لسالح ال يعتم أن يفشل يف أيدينا
الغثائية ،وبعضهم يتعبد آهلة الدوابية احلرة ،يشعر مبسؤوليته عن
الدميوقراطية ،مظاهرها وطقوسها النيتها العادلة ،ويشعر مبسؤوليته
672
يف اتباع اخلط العاملي على األسلوب العاملي ،فأنتم وامي اهلل ركاب
اجلاهلية بني ظهرانينا،وأنتم لنا بئس الرمز وبئس النموذج.
إن عليكم أمام اهلل مسؤولية يوم يكون املؤمنون أحرارا حتت
ظل اهلل ،أفيزج بكم إىل جهنم وأنتم ال تشعرون .وإن لكم من
ورطاتكم يف الدنيا وخزيكم أمام عدوكم لعذابا وهوانا فال جتعلوه
عربونا هلوانكم وخزيكم يوم يعرض الناس على رهبم .ومن يسمع
منكم نبأ اآلخرة كما يسمع تالمذة رودنسون نقد أبيهم الروحي
مبنطق اإلسالم ال مبنطق اجلدال ويستهني بوعيد اهلل لكل متكرب
جبار فإن علينا مسؤولية النصيحة الرفيقة وله حرية أن يتحمل ما
ُحِّل حىت يقرع عليه الباب صاعقة من أمر اهلل أو أمر الناس ،وما
هي من الظاملني ببعيد؟.
إنه ال معىن للحرية وال للمسؤولية يف جمتمع سائب فاشل
كمجتمعنا ،إن كان للناس يف جاهليتهم احلضارية مفهوم للحرية
الفردية يف بالد الفوضى املنظمة ومفهوم للمسؤولية أمام اجلماعة
يف بالد اإليديولوجية ،فنحن ما يصح أن يكون لنا مفهوم للحرية
واملسؤولية ألن فوضانا ال نظام معها يرجى وألن استبدادنا
اإليديولوجي حرباء هلا حربائيتها تلون ومن حريهتا وفشلها
تلونات ،فتغدو علينا بشعار ميحوه شعار الليل ،وبكالم بالليل
ميحوه كالم النهار.
673
إن احلرية سلوك وإن املسؤولية سلوك ،وما دمنا حنن ال سلوك
لنا إال يف حلبة الكالم إذ حنن أبطاهلا ،فال حرية لنا إال أن نسبح
حبمد الزعماء واألمراء وال مسؤولية علينا إال أن نستمع خلطاباهتم
عن احلرية واملسؤولية.
ال سلوك للفرد منا وال للجماعة بل ختبط عشوائي ،فال
حرية لنا ترجى وال عبء ينتظر من الفاشلني أن يتحملوه .خلقنا
اهلل عز وجل ملشروع عظيم وسلوك يصلنا إىل احلرية من سلطان
العامل وسلطان نفسنا الساقطة بنظرها للعامل ،ويصلنا الستحقاق
مسؤولية خالفته تعاىل يف األرض ،فجاء حكامنا وبدلوا نعمة اهلل
علينا كفرا ،ووعده لنا بوعود كاذبة خاطئة.
احلرية واملسؤولية تلخصها كلمة التوحيد ال إله إال اهلل .إهنا
برنامج احلرية من طاغوت املتأهلني وإهنا مسؤولية أمام من نوحده
عن قيامنا بأمره واتقائنا لوجهه الكرمي .وحرية قادتنا يلخصها
شعار القومية االشرتاكية املنافقة بادعائها اإلسالم .فلنا حرية
القتال القومي بني الكردي املسلم والعريب املسلم ،ولنا حرية
التناحر بني البنجايب املسلم والبنغايل املسلم .ومينعنا من اجلدوى
أننا اشرتاكيون ومن الفاعلية أننا مسملون ومن مث فنحن أمة
فاشلة.
ال يقرتح القادة على األمة اليت عافتهم مبا عافت احنالل
674
األخالقية وتفسخ الذمم وعار اهلزمية إال ناموسا مشركا جبارا
خيلط علينا معامل إنسانيتنا وعزنا من حيث يومهنا أنه يكمل لنا
مقومات النهضة والقوة .اعترب مثال الربنامج اإليديولوجي الذي
اقرتحه معتوه من قادتنا ذهب اهلل جبسمه بعد أن ذهب بنوره هذا
الفيلسوف الزعيم ببالدنا أندونسيا وضع برنامج التحرر شركا باهلل
على شكل عقيدة مخاسية مساها « :بانتجا سيال» .ما وسعه أن
جيهر بالكفر يف دار اإلسالم فأخفى ذلك إذ دمج يف عقيدته
األلوهية .عقيدته مخسة ال واحد ،هي :اإلله ،واإلنسية والقومية،
والدميقراطية ،والعدالة االجتماعية.
مخسة أكثر من واحد ! والشرك له اجملد يف عامل اجلاهلية ويف
عامل رؤوسنا! ورؤوسنا ال جيرؤون أن جيعلوها «بروميثية» جاهرة
كما فعل عدو اهلل برتكيا فلذلك يضيفون اإلنسية وما بعدها إىل
األلوهية إشارة إىل حتررهم من عقيدة التوحيد وإضاعتهم ملسؤولية
ختطفوها بزعامتهم املهيجة البطولية.
ومثل هذا الشرك وأشباهه لغة شعاراتنا اليت سيستبدلنا اهلل
مبخازيها عزا حتت ظل ألوهيته ،غدا القريب حبوله وإرادته ال
حبولنا.
إن احلرية اإلباحية ما تتمناه النفوس اخلبيثة ،وإهنا أيضا أقصى
ما تكونه احلرية يف بالد الفوضى االنتهازية .ذلك ألن املسؤولني
675
ال إرادة هلم يستقلون هبا ،فالهم يستبدون على أنفسهم ليخلقوا
رجولة يستبدون هبا على رعيتهم استبدادا تربويا ربانيا ،وال هم
يطلبون إن كانت هلم إرادة إال بطولة قومية إشرتاكية يتوراثوهنا
طالبا وغالبا.
فشل لن يربينا منه إال إرادة قائد مؤمن قوي ،وعبودية ما
أخرجنا منها إال سلوك قيادي مستقل يرسم اهلدف فيسبق إليه
ويلفت األنظار بصدقه ويلفت القلوب بصفائه ،مث يستبد مربيا
حرا مسؤوال.
يف غياب الرمز اإلسالمي الضائع منذ اإلمام علي ويف ضآلة
النموذج العام للمسلمني الراسب يف بالدنا من بقايا امللكية
العاضة رسوبا شاهدا بفتنتنا اإلسالمية األوىل فتنة التسلط على
احلكم ،هذا الفراغ ميأله مناذج احلرية اجلاهلية والبطولة اجلاهلية.
مدراسنا معاطن للفتنة تطبع على قلوب أبنائنا صور البطوالت يف
أي مدرسة لنا إال إن درست تاريخ اجلاهلية ،وال تسمى جامعةً ُّ
فلسفة اليونان وحضارة ترومان .فالنموذج األعلى يف أدمغتنا هو
اجلاهلي البطل نرتجم من موقع فشلنا بطولته املوروثة استخداء
أمام كل صعلوك تقذف إلينا به اجلاهلية أستاذا يف جامعاتنا أو
مستشارا خبريا لقادتنا .وأحيانا نكون حنن أبطاال لنا من البطولة
كفرها ،ولنا من استقالهلا التحرر اإلباحي ،ولنا من رجولتها
676
ومروءهتا البهلوانية العاملية العبني على احلبال لنوهم قومنا بأن
حركتنا حرة مستقلة.
وعلى قلوبنا تنطبع مناذج النجاح اجلاهلي ،فأكثر ما يسلك
على ضوئه قاضينا أن يتفقه يف قانون الكفر ليتسنم املناصب
فتكون له حرية االرتشاء ومسؤولية الردع للمظلومني كيال ينتصروا
على اخلصم املرتف .وأكثر ما يسلك اآلباء واألمهات تقليدهم
احلر للنموذج اجلاهلي وتعبدهم للرمز اجلاهلي اهنماكا يف العبث
بل اخلالعة والدعارة كمذهب اجتماعي منسق .وعلى اهلامش قوم
فاشلون فشل املظلومني املستضعفني ،ما نالوا نصيبا من الثقافة
املسمومة وقاهم اهلل شرها ،أو قاوموا التيار فكانوا من األخيار.
وهؤالء هم الوارثون ،ينشؤون غدا إن شاء اهلل يف ضحى
اإلسالم املشرق منوذجا للتحرر واملسؤولية يستبدون استبدادا
تربويا 1ال يتصاحل قيد شعرة على االجتاه يستبدون استبدادا ال
معىن بغريه للحرية وال للمسؤولية .سيكونون قائمني بالقسط إذ
يردعون الفتنة وأوكارها ردعا مربيا غايته االستتابة واحلد ،إن أعيت
احليلة ،وإن أضحى لإلسالم متكن يف األرض جيعل ذلك حكمة
وموعظة حسنة .وسيقومون بالقسط يقظني متعاونني حىت تسري
1حيثما حتدثت عن «االستبداد الرتبوي» فإمنا أعين به السلطة األخالقية اليت تفرض حضورها
واجتاهها بالسلطان املعنوي والسلوك النموذجي،يكون سلطان احلكم يف خدمة احلق واألخالق والعدل
سائرا يف ركاب الشورى،ال االستبداد السلطوي القهري احلاكم هبواه.
677
إىل األفئدة كلها رمحة الربانية ورفق الرتبية وحمبة احلرية اإلسالمية
واملسؤولية اإلسالمية .يف البيت يفرض الربانيون منوذجا ،ويف
احملكمة وكرسي السلطان وأبوة األستاذ ،يستبدون بصالحهم
ويستبدون حبصارهم الثقايف يصدون أعالم اجلاهلية ويطردون
إعالمها من األمساع والعقول.
إن حرية اإلسالم ومسؤوليته هلا معىن واحد ،هو أن نسري إىل
األمام بيقظة ومضاء تقتحم كل عقبة ونستحلي كل مر ونقوى على
كل مكروه .إذا اجتمع لنا اثنا عشر ألف مؤمن اقتحمنا القدس
ولو هبروات ال حنسن صنع خري منها لنلقى إحدى احلسنيني ،ولن
يغلب اثنا عشر ألف مؤمن من قلة ،وعدا من نبينا غري مكذوب.
وإن قل الزاد حفرنا أرضنا ولو باألظافر لنستنبت طعام احلرية هنيا
مريا بديال لطعام اخلزي واملذلة املتمثل يف قمح أمريكا.
وإن أعوز الدرهم طرحت لنا الفالحة خامتها الفضة بعد
أن تطرح أختها املفتونة باألمس قناطريها من األحجار واملتاع
األصفر.
تلك هي احلرية وتلك هي املسؤولية ،وهو تصور ما يعرفه
اجلاهليون سواء من ينصبون وثن احلرية حجراً مشرفاً على برهم
وإباحية يف أخالقهم وفوضى متحدية لنظامهم ،أو اآلخرون
املستعبدون للدابة اإلنسانية حتت نري االقتصاد جتره جراً وتلهث
678
طالبة احلرية فيجيب عن هلاثها جهاز القمع اإليديولوجي.
إن احلرية واملسؤولية أول اجلهاد اإلسالمي وأول شرط القتحام
العقبة .إن اهلل عز شأنه ملا سألنا عن كنه اقتحام العقبة ،وعجزنا
جبعل عبوديتنا له واسرتمحناه دلنا أن اقتحام العقبة هو أوال فك
الرقبة .ولنرتك الفقيه الشرعي جيتهد لنا يف تفسري استعباد أسرى
احملاربني اجلاهليني اجتهادا حرا ينسينا تفاهة جيل اإلسالم الفكري
الذي خاض حبرية! ،معارك مع املستشرقني ليثبت أن العبودية يف
حق الكافر كذا وكذا ،وأنه ال عبودية يف اإلسالم وما أشبه هذا
من الرتهات .إهنم مسخوا اإلسالم إذ برتوه من املغزى العظيم
اخلالد الستعباد الكافر األسري كما مسخته الفتنة إذ استعبدت
أحرارا وباعتهم يف سوق النخاسة كما باعتهم اجلاهلية باألمس
مسروقني من إفريقا ،وتبيعهم اليوم جزافا وحنن يف مجلتهم منذ مل
يبق لنا إميان حمسن يفك الرقاب تقربا لربه ،وشوكة جمتهدة حتب
املوت كما حيبون احلياة ،وتأسر الكافر وتستعبده بقيد اهلل لرتبيه
وتضع حكم اهلل عليه موضعه ،حكمه اخلالد تبارك امسه ،وخاب
دعاة الوهن والتربير.
لريد فقيهنا الشرعي على هبتان جيل اإلسالم الفكري وما
واكبه من ضالل ريثما نفرغ حنن من تدبر آيات ربنا ننقب عن
منهاج أنبيائنا.
679
فك الرقبة عمل عظيم يتم بني فاعل ومفعول ،بني الباذل
العامل الرباين وبني من حيس بالعبودية وآالمها ويرتقب احملرر.
وما األمة إال رقبة مرهوقة يف عبودية العادة والغفلة واألنانية ،وما
حتريرها ميكن إال باملنهاج النبوي ،منهاج اقتحام عقبة األنانية
املشققة وعقبة الغفلة احلاطة لإلنسان يف حمط البهائم عن مقام
حريته يف رضى ربه وعقبة العادة املقلدة.
فك رقبة األمة تربية مشولية تتناول الروح فتبعثها حية من
موات ،وتتناول الفكر فتنفي عنه السم بإكسري القرآن واجلسم
الفاشل بفشل روحه وعقله فتسرتجله وتستخشنه .وإنه ال إسالم
بال تربية ،وإنه ال تربية إال ببث روح االستقالل وضبط النفس
والثقة مبوعود اهلل ورسوله .ومن يبث ذلك إن مل يكن وجه القائد
اجملاهد يقف أمام الصف للصالة ،وأمام اجليل رمزا ومنوذجا ملعاين
االستقالل واالنضباط والثقة باهلل حىت يكون موضع ثقة املسلمني
املشتتني يف قومياهتم .وإن هذه النواصي الكاذبة اخلاطئة ال تقدر
على ذلك إال بإعجاز من اهلل .وحنن املعجزة تنتظر ،فمن املعجزات
ما يفك رقبة عن جثتها ومنها ما يهدي باحلق إىل احلق على يد
أهل احلق أحباب اهلل.
680
الفصل السابع
التعليم والتعلم
681
الرتبية والتعلم
أتى املنافقون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد افتقام
نفاقهم فعلمه اهلل كيف يعاملهم وتعلمنا حنن كيف نقتفي أثر
نبينا .جاءوا رسول اهلل حيلفون على صدقهم كما حيلف قادتنا،
ت أَيْ ِدي ِه ْم ثُ َّم ف إِ َذا أَصابـتـْ ُهم م ِ
صيبَةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ َ َ ْ ُ فقال اهلل﴿ :فَ َك ْي َ
ين وك يحلِ ُفو َن بِاللَّ ِه إِ ْن أَر ْدنَا إِ َّل إِحساناً وتـوفِيقاً أُولَئِ َ َّ ِ
ك ا لذ َ ْ َ َ َْ َ َجاءُ َ َ ْ
ض َعنـْ ُه ْم َو ِعظ ُْه ْم َوقُ ْل لَ ُه ْم فِي يـَْعلَ ُم اللَّهُ َما فِي قـُلُوبِ ِه ْم فَأَ ْع ِر ْ
أَنـُْف ِس ِه ْم قـَْوالً بَلِيغاً﴾ .وقد أصابتنا مصائب مبا قدمت أيدينا
وكان جديرا هبا أن تربينا ونتعلم منها لنستأنف عمال من خوضنا
القومي واضطرابنا السياسي على درب اجلاهلية.
كل من ينشدون تغيريا لواقعنا يقلدون اإليديوجليات يف
حركيتها ،وإن لسوقها لرواجا وإهنا ألشكال وألوان .وكل من ييأس
مما يراه من فشلنا يعرض إعراض املمتعض أو إعراض احملوقول ،أو
يعظ وعظ الزاجر .قوم منا هلم عنف الثوريني واحتقاهنم وكفرهم،
وقوم يرتاشقون بشديد القول وخفي املكر ،وقوم ينتظرون فرج
اهلل ال جيدون خمرجا ،ويعافون واقعنا لكن ال يهتدون إىل منهاج
يعرضون به عن اجلاهلية يعوهنا مسخا ،ويقبلون على الفتنة
واملفتونني ليعظوهم وعظ املريب املعلم وليقولوا هلم قوال بليغا.
682
املنافق له يف أسلوب الفكر والعمل وجهان كما لنافِ َق ِاء الريبوع
واجلرذ ثقبان .ونفاق يف اإلميان يصحبه نفاق من نوع آخر نفاق
سياسي ال يثبت معه هلم قول وال وعد ،ويضاف إىل النفاق ُجرذية
اجلنب والسقوط اخللقي ،فال يستحق من مجع الثالثة منك إال
إعراض املعادات أو إعراض االحتقار أو إعراض اهلجر .ذلك إن
مل تكن على املنهاج الرتبوي النبوي .ولقد كان املنافقون يف زمن
النيب واإلسالم يف أوج عزه وجوها معروفة وذمما ساقطة يفضحها
اخنذاهلا عن املسلمني كلما حزب األمر .فما قتلهم رسول اهلل
إبقاء راجيا لتوبتهم وسلوكا تعليميا لكيال يقال أن حممدا يقتل
أصحابه ،فإهنم كانوا ينتسبون إليه.
أال وإن منافقينا منا كاجللد األجرب ال حميد لنا عنهم .وهم
أشد الناس استكبارا وأكثرهم امتناعا عن التعلم .فنحن اليوم يف
وقت الدعوة نعرض عنهم إعراض املستقذر لبلواهم لكن الرحيم
هبم الواعظ هلم ،ونقول هلم يف أنفسهم القول البليغ ال نريده
هتييجا وسبا ،لكن نريد أن يبلغ منهم مبلغا عسى أن يلتفت منهم
ملتفت إىل نفسه يستنقصها وينتقدها ويكرهها ،ليبحث هلا عن
بديل ،ويربيها من رذيل ،ويتعلم من القول البليغ .وغدا يف يوم
اإلسالم سنتناول منافقينا باليد لنزج هبم يف ميدان الشغل عسى
أن خنلق فيهم احلاجة إىل التعلم ومن مث إىل تغيري العقلية واالجتاه
683
واملوقف.
دعوة اإلسالم تربية وتعليم ،وبالغ وتبليغ ،تبشري وإنذار.
فالرتبية فعل فاعل بسلطان منوذجيته وسلطان بالغه وصولة دعوته.
الرتبية تأثري يفرض نفسه على الناس يعلم عاطفتهم ويعلم عقلهم
مث يتناوهلا من جمرى العادة إىل مساق الوعي اإلرادي والسلوك
اإلرادي طاعة منتزعة لسلطان الرمز والنموذج .والرتبية هبذا ال
تنفك عن املريب بل هي إشعاع منه يتشربه املتعرضون له طواعية
أو رغما .الفاعل املريب يف فتنتنا الغالب على عواطفنا وعقولنا هو
النموذج اجلاهلي ،إنه هذا القائد املنفتح على املذهبية اجلاهلية
وهذا األب وهذا األستاذ وهذه األم الغارقون يف تيار النفايات
احلضارية األثاثية والسموم املستوردة كتبا وصحفا وسينما .كلما
درجنا من البيت أو إليه تلقانا صوت الفاعل املريب وصوره
وحتريضه ،وكلما مسعنا إذاعة أو حماضرة أو درسا ،وكلما حتدث
بعضنا إىل بعض أو جلس إليه ،وكلما حترك منا متحرك أو سكن
ساكن وقع علينا فعل الرتبية .ونستعمل يف كل هذا كلمة الرتبية
مبعىن سليب يف نظر األخالق.
أخذ املفتونون من أجيالنا األوىل اجتاها منحرفا بتأثري اجلاهلية
الراجعة بطبعها وطبعنا وفشت منهم إلينا تربية متسلسلة .فاإلباحي
يسقط علينا وباء مثاله املنحل فيجد يف نفسنا استجابة ألهنا عبدة
684
للشهوة ،والظامل يسقط علينا ظلمه فيجد يف نفسنا من يقلده
تقليدا لالستكبار ،ومن حيقد ردا على األنانية مبثلها ،والزنديق
يسقط علينا كفره فتتلقاه عقولنا فلسفة وعقالنية ملحدة ،وليس
لألمة منوذج موحد يعرفونه مجيعا وال ينكرونه ،ويعظمونه وحيبونه،
ويسريون معه من دار الفشل إىل دار احلياة والقوة .الفاعل الرتبوي
يف فتنتنا فاعل حمرف ،هو املرآة اإلنسانية املتعددة األمساء واألدوار
العاكسة لقيم اجلاهلية وحياهتا .ولقوة اجلاهليني وكثرة أثاثهم
ومعرفتنا بتارخيهم ورجاالهتم ،ولفراغ يف أفئدتنا وعقولنا ننفعل
للنموذج اجلاهلي ،بل وحنبه ونكربه ونتشبه به ونفىن يف ذاتيته
ونذوب.
فبهذا حنن قوم مسخ وقوم فاشلون ،وقوم يظلم بعضنا بعضا
ويستعبده وحيتقره .على رأسنا أشخاص بعقول ملفقة ونفوس يف
ترفها مغرقة ،ربتها اجلاهلية مبعىن حرفتهم ،فهم يدوسوننا باألقدام
اقتداء مبا كان يفعل بنا املستعمرون .وحنن املستضعفون الوارثون
مضى علينا زمن كنا نعجب بقدرتنا ،ونفخر أن لنا رجاال دكاترة،
حىت بان لنا أهنم جبابرة .وأحسوا هم أن دنياهم املرتفة سطح
عائم على حبر هذه األمة ،فلذلك عادوا يتشبهون بقومهم نفاقا
ويزعمون أهنم تغريوا منذ باتوا قوميني .وننظر حنن فندرك أن لباس
القومية مسخ ثان ونفاق مضاعف .ألن هذه القومية ال تنهى عن
685
فحشاء وال منكر ،وال حتد ظلما وال تسلح يدا وال تريب يدا حتمل
السالح .وحنن أمة لنا قيم مساوية نشمئز من الفحشاء وننكر
املنكر مبعايري متأصلة يف قلوبنا إميانا وعزة باهلل ونسبتنا لرسوله
صلى اهلل عليه وسلم.
فنحن وهم يف منعرج الطريق ،واألمر بيننا نزاع ،فمن جانبهم
السيادة اجلاهلية اليت خيدموهنا وهذا األثاث وهذه التكنولوجيا اليت
يتيهون هبا علينا .ومن جانبنا قلوب األمة كلها مل متتها الغثائية
وإمنا أمرضتها ،ومن جانبنا قلوب املستضعفني وحنني الشباب إىل
طهارة ال جيدوهنا يف جرذية املرتفني ،ومن جانبنا أيضا حرية هؤالء
بدماهموقرفُهم من فراغ حياهتم ،وإن كانوا يتلهون عن ذلك ُ
األوروبية وأموالنا املسلوبة ومتاعهم القذر.
الوضع يقتضي تربية من احنراف ،تربية حنو الربانية ،حنو تكوين
املؤمن الرباين .والرتبية استبداد يف جوهرها ،استبداد روحي فكري
منوذجي .املسلمون حائرون مشتتة مهمهم وليس يف امليدان إال
تالمذة اجلاهلية ما يف جعبتهم مهما ارتقوا عن مرتبة اإلقطاعيني
إال فكرة واحدة وعقيدة واحدة هي التنمية االقتصادية وإن هم
دعوا لتنمية اإلنسان فإمنا يدعون إلنسية مثل دعوة سوكارنو،
وهلا بديل «إسالمي» عتيد عند بعضهم! واألقوال اليت يسمعها
املسلمون ال تَبلغ وال تُبلِّغ ألهنا صخب منكر وشعارات خلقة
686
جوفاء .ووسط الصخب يتسرب صوت اإلسالم من خالل الطبقة
احلاكمة ليستقر يف آذان املستضعفني وأفئدهتم يذكر بالكرامة
الضائعة.
إن القول ال يستبد مهما كان بليغا إال إن استند إىل سلطان
وازع ،وما كان قول الرسول للمنافقني بليغا إال ألنه صوت صاحب
السلطان بعد كونه صاحب الربهان.
فالصوت املعلم املريب باالستبداد ،املريب بوازع السلطان هو
الكفء الوحيد لقوة النموذج اجلاهلي املائل بنا .لذا فالدعوة إىل
اإلسالم بالكلمة البليغة وسلطان الفكر والروح قبل قيام هذا
األمر تبقى يف دائرة حمدودة ،وال تعم الرتبية اإلسالمية إال حتت
ظل اللواء املنشور .إن قرآننا هو القول البليغ وهو العلم وتبليغه
هو التعليم .وقد نفذ إىل قلوب املسلمني األولني بنورانية النبوة
وبقاصم املعجزات النبوية .لكن اإلسالم بقي يف دائرة حمدودة،
ولبث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبحث عن قوم حيملونه
إليهم حىت يبلغ رسالة ربه .حىت إذا بايعه األنصار على الطاعة
والنصرة واجتمع يف يده الوازعان استبد استبدادا مربيا وقوم من
احنراف وطهر من رجس.
كذلك يعود األمر وبذلك يصلح كما صلح أوله .إن اإلنذار
والتبشري والبالغ والتبليغ تعليم يسنده صدق الداعي ونواريته لكن
687
ال تقوم قائمة الدعوة إال بسلطان وازع .وقد عرب عن هذا ابن
خلدون تعبريا غري ّبي إذ ذكر أن األديان ال تقوم إال بعصبية،
وعدم البيان يف كتابته لكلمة «العصبية» ألن اإلسالم دين اهلل
احلق ال يقوم إال على كسر العصبيات وإبداهلا بوالية اإلميان وحمبته
وطاعته ونصيحته.
إن الرتبية يقوى مفعوهلا بقوة موقف املريب وبقوة اهليبة اليت
يف قلوب الناس له .وإن يف بعض بالد اإلسالم ،مثل تركيا،
هليبة عظيمة لرجال الدعوة اإلسالمية ،ذلك ملكان هذه املشانق
املنصوبة وهذا التكفري القاتل الذي طهر الصفوف وأيقظ يف
الناس حمبة إسالم كان عاديا يوم كان مباحا فأصبح عزيزا مطلوبا
باملهج ملا اقرتن إعالنه باملوت .أما يف باقي ديار املسلمني فرجال
الدعوة والبالغ يف موقف ضعيف جدا إما بقلة حكمتهم يف
الرتبية أو بانسدال ستار احلديد عليهم واملشانق أو بقعودهم أن
صح أن نسمي رجال دعوة من هلم قابليات معطلة يائسة.
مفهوم الرتبية والتعليم السائد حتت نظام القوميات هو السري
مع ركاب العصر ومسايرة التقدم ،وأعاله مسايرة التقدمية .وال
أثر للوعي باحنرافنا إال مبعيار القومية .فإن كانوا يريدون من
الرتبية والتعليم أن حتول الناس فإمنا يريدون التلفيق بني األصالة
القومية ومسايرة العصر .وإن هلم السلطان يف األرض يعلمون
688
الناس فيتعلمون ،ويسقطون عليهم مناذج السلوك فيهيمنون على
األفكار واآلمال ،فأىن وليت ال تسمع وال تبصر إال ما يرغمك
على مسرية واحدة هي املسرية القومية .ومن القوميات ما يتطهر
بدعوى اإلسالم لكننا ال نثق أبدا بإسالم يبدأ شعاره بالقومية
واالشرتاكية ويكون اإلسالم شركا هلما.
إن تعليم القوميات املنظم تعليم فاشل باإلضافة إىل كونه
تعليما ممسوخا ضاال .التعليم املكفر الناجح هو التعليم العفوي
أو املقصود الذي يصاغ مصاغ التسلية ،إنه تعليم السينما والتلفزة
واملذياع واجلريدة والكتاب اخلليع .أما التعليم املدرسي ففاشل
فشال ذريعا ،إنه تسلط على الناشئة مبناهج ليست مسلية فتكون
للناس املفتونني هبا رغبة فيتعلموا منها ،وال للناس حافز قوي
يدفعهم للتعلم .إمنا األمر أكداس تقرتح للحفظ األكادميي بتهديد
االمتحان ليس غري.
وأيا ما كان األمر فاإلسالم يرزح حتت ثقل هذه املؤثرات
احملرفة وفتنتها .عند أبنائنا رغبة يف بضاعة السينما واجملالت
الداعرة فهم منها يتعلمون وعلى منوذجها يسلكون .وهلم رغبة إن
عقلوا يف نشاط وحركة فال جيدون إال منوذج العنف اجلاهلي حيذون
حذوه فيثورون ويعرتضون ،وتضيع أخالق األولني وجهود اآلخرين
وأخالقهم معا ،ألن املطالبة املعارضة يف صفوف الشباب تتضمن
689
الثورة الشمولية على جمتمع ولد الظلم.
والقوميات ال تستبد استبدادا مربيا إمنا تستبد استبدادا رادعا
ال يعنيها من التغيري إال مظهره ،أو ال تعرف منه إال ذلك ،أو كل
ذلك وكوهنا ال تقدر على تغيري .وكيف تقدر وشعار الدميقراطية ال
يطرح أبدا ولو يف ظل االنقالبية .إمنا الفرق أن ميوعة الدميقراطية
اإلقطاعية الشاملة تتحول إقطاعا اشرتاكيا تعييه مناوشة الضمائر
لتقبل بضاعة اإليديولوجية ،وهي ترفضها يف شكلها وحمتواها.
الرتبية تعليم وتعلم ،فهي تعليم بالنظر إلرادة الفاعل املستبد
القاصد إىل تغيري ،فإن وجد تعليمه رغبة من جانب الناس تقبلت
العواطف واألفكار واملثل العليا ووقع التغيري .وإن رفض الناس
دعوة املريب فال تكون استجابتهم له إال رضوخا .وهنا تكمن
مأساة جيلنا وحريته .فاألمة يف جمموعها ال ترغب يف كفر وإمنا
ترغب يف إسالم ،متارسه على شكل من األشكال ،أو حتن إليه
بعقيدة ،أو هي يف حرية ومتزق بني عامل وعامل ،ال يتلقيان يف
ضمريها ،وتريد أن يتصاحلا لكيال تضيع قيم احلضارة القومية وقيم
الكمال اإلنساين املبهم يف صورة مشوق إىل ذاتية أصيلة أو انتماء
أحق بالتقدير من االنتماء القومي.
متزق األمة بني أجياهلا وبني طبقاهتا يرجع لعوامل الفتنة وأمهها
الظلم واألثرة ،من هلم السلطان ال حيققون عدال ،ومن يعيشون يف
690
احلرمان حينون إىل عدل .ومنهاجية االنبعاث اإلسالمي أن تبسط
قاعدة العدل لتبين عليها تربية ولتخلق يف الناس رغبة يف التلقي
والتعلم من القائد العادل.
إهنا أزمة ظلم ومن مث أزمة ثقة ،أما هذه العوائق من املغريات
املسمومة مما حتمله وسائل اإلعالم ،ففيها قابليات ال هناية هلا
لبت القول البليغ الرتبوي يف األمة يوم يصبح السلطان لإلسالم.
إهنا اليوم أدوات لإلعالم والتعليم احملرفني ،إذ ال يقف األمر عند
اإلطالع اجملرد ،بل يتلقى الناس ما جاءهم من دار الكفر بإجالل
ويعتقدونه كمال احلضارة وكمال الثقافة ،وهي غدا كتب وإذاعة
ومسرح وتلفاز يف خدمة اإلسالم .العامل من حولنا يبعث كلماته
وصوره وإعالمه تتبارى يف مساومة اإليديولوجيات والثقافات
اخلليعة ،وال بد لنا غدا من حصار يعزلنا عن التيار احملرف.
كان للنيب صلى اهلل عليه وسلم عزلة قبل بعثته ،ولكل
الذاكرين خلوة إىل رهبم ينتزعون هبا أنفسهم من مغريات الدنيا
لريبطوا برهبم رباط التقوى .ويتحدث سيد قطب عن «العزلة
الشعورية» الضرورية للمسلمني .فأما عزلة الفرد الطالب للكمال
اإلنساين الراغب يف التعلم حبافز عال فهي عزلة خاصة تدخل يف
نطاق الرتبية الفردية .وأما عزلة أمة بكاملها فلن متكن بعزل آيل
من الظاهر ،إذ كل ممتنع عزيز .وإمنا متكن بنفث روح جديد قوي
691
يف األمة يأتيها من جانب الربانية القائدة ،من جانب مناذجها
املقرتحة باملثال واملقرتحة بالتخطيط .وبقوة هذا الروح ترغب األمة
يف املصري الرفيع حتت ظل اإلسالم وتتعلم كيف تصري إليه معاكسة
تيار اجلاهلية كله ما ترسب منه فينا وما يبلغنا من إغرائه عن طريق
موجات اإلذاعة بعد حماصرة موجات البضاعة .وبقوة هذا الروح
تُغري املدرسة ومناهجها واجلامعة وعقليتها واألمة ولغتها يف سياق
واحد قوي بقوة اإلرادة املستبدة بسيفها ومصحفها ونورانيتها
وربانيتها .طاعة وتطوع وتعليم يستمد جناعته من العدل كما
يستمدها من الرغبة يف التعلم.
692
لغة القرآن
لغة الرتبية اإلسالمية لغة يفهمها األمي والقارئ ،هي لغة
الرمز واملثال ،لغة العدل والنوال .أما لغة التعليم ومطلب التعلم
فهو القرآن ولغته ،وبالغته ونربته .إن هذا الدين هو قرآن اهلل،
وإن تاريخ هذا الدين يف قرآن اهلل ،وإن حكم هذا الدين يعرضه
كتاب اهلل .إنه خطاب الرب لعبده ،خطاب جاء بلسان عريب
مبني ال ينفصل إمياننا عن بيانه ،وال يتميز تارخينا إال مبمارسة على
األسوة ألبينا إبراهيم ومن معه وحملمد صلى اهلل عليه وسلم ومن
معه ،وال تشريع ميكن إلسالم الغد إال بإحكام لسان البيان.
إن أول اإلسالم قول بليغ ،وأول اإلميان حمبة للداعي ،وآخره
ذكر وصدق .فالذكر هو كتاب اهلل يتلى بلسانه ويستضاء بفرقانه
والصدق هجر لعادة ،والعادة قعود ينهض منه القرآن.
نزل اهلل أول آية من كتابه املبني أمرا بالقراءة ،والقراءة مجع
من شتات وإحياء من موات .إهنا جهاد يرجعك من العادة إىل
الفطرة .إذ تقرأ باسم ربك الذي خلق ،خلق اإلنسان من علق.
فإذا كنت ال تعلم اللسان العريب املبني ،اللسان الشريف باختيار
اهلل له حامال خلطابه ،أو كنت أميا غري قارئ فإن لك حظا من
عادة القعود ،وحاجة جلهاد وتعلم حىت يصبح اللسان العريب
693
لسان اإلسالم وجامع األمة القارئة الراقية إىل فطرهتا.
لنا معشر العرب ولوع بلساننا العريب وهو لنا خزانة الثقافة
وصيغة اجلد والطرافة .وهو لنا أدب منقول وشعر مكرر غري
مملول .العربية لغتنا القومية ومفخرتنا ،وغايتنا الثقافية ومعجزتنا
نرمي بالبهتان من اهتمها بالعقم ،ونتصفح آثارها يف حرب وسلم
وحق لنا أن هنتم بلغة قومية ونستهدف هلا جتديدا تساير به
العصر.
لكن هذه اللغة القومية عقيم من كوهنا قومية .إننا معشر
العرب ننسبها إىل أنفسنا فنغلق علينا آفاق اإلسالم ،وال ننتسب
حنن إليها لكي نعز بعز اإلسالم .إهنا لغة كان يتكلمها جاهليون
جبزيرة العرب فلما شرفهم اهلل باإلسالم وشرف لغتهم بتحميل
خطابه أصبحت إعرابا إهليا وبيانا .ولوال ذلك ال انقرضت يف
الغابرين.
إن العربية إمنا حييت واستعصت على الدهر حبياة القرآن.
وعلى قومنا إن أرادوا احلياة أن ينتسبوا للقرآن ولللسان العريب
باعتباره لغة القرآن ،ففي ذلك عزهم وبالقومية مذلتهم.
القرآن لغة حياة ولغة جهاد ال يفهم خطابه العريب بفصاحة
لسانه إن كان القلب منه أعجم ،وإمنا يفهمه أن أضاف إىل
فصاحة اللسان فصاحة اإلميان .وقد أخربنا الصحابة الكرام أهنم
694
أوتوا اإلميان قبل القرآن .فسمعوا آياته باكني خاشعني قارئني
جمتمعني ،ومسعه قومهم اجلاهليون وهم يف مثل فصاحتهم اللسانية
فشهدوا بإعجازه وبالغة كالمه وعجبوا لكنهم ما بكوا من خشية
وال اجتمعوا من فرقة.
القرآن لغة قراءة أي لغة مجع ،فهو للفرد مجع للهمة من
طغيان الذي ال يتعلم وال مييز ما خيطه القلم اإلهلي املعلم ،وهو
لألمة مجع مستقرئ ال مجع حاشر .وإن معظم األمة يف عددها
وأعظمهم إميانا ذوو قلوب فصيحة قارئة قبلتها بيت اهلل تتوجه
إليه األجسام وقبلتها الكلية كتاب اهلل .وإن كانت ألسنتهم ال
تفصح بالعربية فإن هلم على القرآن غدوا ورواحا يتلونه ويستعذبون
خطابه ويناجون به رهبم يف الصالة والذكر.
استغلق القرآن علينا معشر العرب على فصاحة ألسننا النغالق
قلوبنا عن اإلميان ،وعرتنا خنوة اجلاهلية وتعاظمها باآلباء فادعينا
الصالحية اليت ال تكون إال للمتقني .ادعينا الكرامة العربية وال
كرامة إال للمتقني ،وادعينا العلم ببضاعتنا اللفظية وال علم إال
للمحسنني .والتقوى واإلحسان ال تعرف حواجز اللغة فتكون
وقفا على وارثي لغة العرب إمنا تقف عند حواجز القلوب .وحنن
قلوبنا قومية ما تنتسب للقرآن .وما يعري العرب بكل هذا إال عريب
من ذروة سنامها لو كانت تغين عروبة .فما ننطق عن حتامل قومي
695
لكن عن غرية إسالمية.
األمة اإلسالمية متفرقة واهنة وال جيمعها إال القرآن العريب
املبني ،قرآن القراءة والفطرة والتعلم من اجلهل والطغيان .إننا أمة
الرجعى قبل أن نرجع إليه
العز لو جعلنا منا اختيارا وعزما إىل ربنا ُّ
خزايا من فرقتنا .ولقد حدنا عن اجلماعة اإلسالمية جلماعات
القومية فحق علينا وعيد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن من
حاد عن اجلماعة قيد شرب مات ميتة جاهلية ،إال أن يعفو اهلل
الغفور الرحيم.
جتمعنا يف قوميتنا على قواعد العرق واللغة ،ومل يعد يربطنا
باإلسالم إال إميان مكنون يف القلوب يعلمه اهلل عز وجل وحياسب
عليه ،ونعلمه حنن من انعدام آثاره ،ألن رسول اهلل علمنا أن
اإلميان حمبة وعلمنا القرآن أن جزاءه وراثة األرض واالستخالف
فيها .ويربطنا باإلسالم حمبة للقرآن تظهر عندكم إخواننا الناطقني
بلغاتكم إخباتا وخشوعا ،ونتجرأ حنن العرب على قرآننا يؤوله
كفارنا ويلعبون به ،ويغنيه اآلخرون بأصوات مرتهلة فيها رنة
الفشل واألنوثة.
فإذا دعونا لالجتماع حول القرآن ولغته ،فإمنا ندعو للجماعة
الشمولية اليت أساسها اإلميان السابق للقرآن مث القراءة مبعىن
االجتماع على الفطرة من الطاغوت مث القراءة للغة واحدة هي
696
لغة اإلسالم ،وهي العربية اليت فنت هبا قومنا أدبا وشعرا وعجزا
وفقرا .فإذا أصبحت لغة اإلسالم نطقت بلغته وهي لغة القوة
والعزة ،والغىن والقدرة.
العربية بال قرآن تعطيك العروبة بكل أمراضها املعروضة على
العامل .إهنا لغة الفرقة والكراهية ،وما على األرض اليوم قوم
ينطقون بلغة واحدة أشد تباغضا وتباعدا وتقاتال من قوم العروبة.
يتواثبون على الزعامات القطرية وختدمهم الفصاحة العربية حني
يتنابزون باأللقاب وحني يلعن بعضهم بعضا .لغتهم ال تتسع
ملعرفة وال تسعفهم يف مشروعهم الذليل مشروع مسايرة الركب.
ال تتسع لذلك وال تقدر عليه كما ال تقدر أيديهم على صنع
إبرة يرشقوهنا يف جسم العدو اجلامث يف القدس ،وإن كانت العروبة
البطلة قد صنعت صواريخ يف عامل اخليال وهددت بأحالمها قوما
أوىل بأس شديد.
دعوها يا قومنا فإهنا منثنة ،ولئن فعلتم ليدعن إخواننا يف
األرض قومياهتم ،ولننطقن بلغة واحدة موحدة هي لغة القرآن لغة
اجلهاد واجلماعة والعزة ،ولغة التقوى واملعية مع اهلل .ولئن لبثتم يف
معيتكم مع عروبتكم ليبعثن اهلل عليكم عدوا أشد بأسا الصهيونية
لرتجعوا عن الطغيان.
اللسان العريب إن نطق بلغة القرآن لسان مجيل بديع يزينه
697
شرف اخلطاب اإلهلي وينري له السبيل إميان سبعمائة مليون مسلم
يتوحدون عليه فيجعلونه لسان حضارة وعمل .وإن يف اللسان
العريب لثروات وإن له إلمكانات عز أن توجد يف لسان غريه.
لغات املسلمني القومية لغات ذليلة على صورة الغثاء
البشري ،إهنا لغات متخلفة تتسكع على موائد الثقافات األجنبية
ولغاهتا ،ولكل منا ثقافته احلضارية ،فإذا اجتمع املفتونون منا
فبلغة اجلاهليني يتفامهون ،وإن اجتمع املسلم الصادق بأخيه كان
اللقاء لقاء جسميا وعاقتهما عن التواصل فرقة اللسان ،إال أن
يرطن أحدمها لصاحبه بلسان ثقافته العاملي .وما جاءنا هذا الذل
إال من فرقتنا.
وإذا دعونا لالجتماع فلسنا ندعو إىل اجتماع ثقايف على
لسان موحد فقط .لكن ندعو الجتماع على القرآن وجهاده
وأخوته بني املؤمنني وطاعته وشريعته .فإن االنتماء للقومية مرتكز
يف النفوس وللعربية من ختلفها احلضاري ما ال يؤهلها لتكون لغة
ثقافة للعامل اإلسالمي .فإذا كانت اخلالفة اإلميانية الباعثة ونادى
املنادي فما يؤهل العربية للتوحيد الثقايف إال إرادة املسلمني يف
األرض للحياة والعزة يصوغون من لسان القرآن أداة لغوية تتضمن
ثقافة املؤمنني .يصوغوهنا باهلمة اجلمعية واجملهودات املتعاونة.
إن اللغة هي الفكر وإهنا هي الرمز احلامل للمعرفة .فرتسبت يف
698
تارخينا أحقاد بني قوميات كانت عامل الفرقة التارخيي ،وانقسمت
الوحدة اإلسالمية دويالت مث اشتدت أسباب العداوة فأعرض
عن اللغة العربية من كان تبناها إذ كانت لغة وحدة حضارية.
ومع تقلص اإلسالم من احلياة العامة وتشعب الفكر بتشعب
مصادر املعرفة ذهب الرمز املوحد وحوربت لغة القرآن حىت طردت
احلروف العربية من دولة املارق الرتكي ،إجهازا على أثر اإلسالم
يف احلياة العامة وحماولة حملق اإلسالم من القلوب بطمس العقول
وفصلها عن مصدر اهلداية واملعرفة اإلميانية.
والتفتت احلضاري بعد التفتت اإلسالمي صحبة اللغة العربية
من كماهلا القرآين إىل هلجات عامية ليس سببا هلا عجمة األلسنة
فحسب لكن هبوط املستوى الفكري العام بني املسلمني .وتسارع
تدهور املسلمني الثقايف ملا ضعف الرابط اإلمياين وعادت اجلاهلية
غازية منتصرة فانسحبت اللغة العربية من ميادين العمل ،وانزوت
يف مكتبات العلماء بأدهبا البديع وبالغتها املعجزة يف القرآن
واحلديث ،وانزوت يف دواوين السلطان أداة طيعة وموضوعا
للتحريف العامي بعد أيام الوزراء أصحاب األقالم.
كانت لغة العرب يف اجلزيرة قبل اإلسالم لغة خطابة وشعر،
لغة العاطفة الرقيقة ولغة الفخر والعصبية واألجماد .فلما اصطفاها
اهلل جل شأنه وأودعها خطابه للخلق ،وملا حدث هبا النيب صلى
699
اهلل عليه وسلم وأصحابه وأجيال املؤمنني من بعده ،اكتسبت
قداسة وتبلورت يف البيان القرآين املعجز .فكانت يف الصدر األول
من اإلسالم لغة قوة وإميان ،مث يف العصور التابعة لغة حساب
وديوان ولغة علم وعرفان .وما عجزت قط عن التصرف املنطلق يف
حاجات التنظيم احليايت وال عن التصرف احمللق يف أجواء العاطفة
والشعر .وتفتت اجملتمع اإلسالمي ،وهو نفسه فُتات اجلماعة
اإلميانية يف عهد اخلالفة الرشيدة ،وجلس على أرائك القصر عرب
أجماد سيقت إليهم قصائد املدح ،وجلس على كرسي احلكم رجال
ال ينطقون بالعربية إال قليال وال ينتسبون إليها إال من كوهنا لسان
القرآن ،فسيقت إليهم قصائد العربية يف ساعات األنس ومتكنت
عندهم اللهجات القومية ،ومن هذه اللهجات تسربت العجمة
إىل العربية فأصبحت عامية هلا مساس حبياة الواقع ،بينما انقطعت
العربية وبقيت حملقة يف الفراغ هجرها حكام قطريون قوميون
وهجرها العلم بعد ذلك اللمعان األخاذ.
وبقي املسلمون يرتلون قرآهنم ،والعرب الذين هجنت ألسنتهم
وجرسها البديع ،واحتفظوا منها على اللفظ حينون إىل فُصحاهم ْ
وأخذوا به أخذا شديدا ،كما يؤخذ املرء بتحفة يرفعها على الرف
وال وظيفة هلا إال أن تكون مجيلة ملاعة .وعلى مر القرون َنَت
إلينا لغة العرب باستعارهتا اخلالبة وتراثها اللفظي الضخم .وكانت
700
الفجوة عظيمة بني معاين احلياة الواقعية وبني الواقع اللفظي التارخيي
الذي حتمله ألفاظ متبلورة ال تتطور إال بتعاقب أصباغها البديعة.
فإذا كتب العامل بعد عصر التوسع العلمي خاطب معاصريه بلغة
القرون السابقة ،وإذا فكر املفكر عاقه النطق عن أداء معانيه أداء
حيا ومل تسعفه العربية املبلورة.
مرضت العربية مبرض املسلمني وزالت عن مقامها ،وملا
استيقظت القومية العربية من سبات اإلسالم عاجلت أوال لغتها
لتعرب عن املعاين العصرية ،وتقدم الركب موارنة الشام ،مث أعقب
حتوٍل
حماوالهتم اجلم الغفري من العرب ،املروضني لللغة العربية على ّ
أديب يعلن حتوال حضاريا .كان أبرزهم أكمه العرب ،ما نطق
بالفصحى إال ليحارب القرآن ويهتف حبضارة اليونان الوثنية.
ومنذ ذلك أريدت العربية على مهنة مهينة هي خدمة القومية
العربية ،فجاءت عجفاء جرداء يف جرائدها ،وجاءت عجماء غري
مبنية على لسان الساسة ويف كتب املرتمجني.
وال تزال العربية تبحث عن طريقها كما نبحث حنن املسلمني.
ال تزال الكلمة العربية واجلملة العربية حتدث يف أذن السامع
إيقاعا مجيال ،وال تزال الصيغ العربية واألشكال اللفظية تسري
يف تسلسلها اللفظي بيانا يف شعر الفحول وحتت أقالم الكتاب
الفصحاء .وإذا قرأهتا خربا يف صحيفة أو علما منقوال قرأت لغة
701
هجينة يشم منه نفح الرتمجة وريح اجلسم الدخيل.
ثقافة قومنا العرب اليوم ثقافة لفظية كما كانت يف عهد
جاهليتها األوىل .ويف كل جاهلية تتهجن األفكار وتنحط الثقافة،
ففي العهد الغابر عهد الغارات واملعلقات والعصبية املفاخرة كان
فكر اجلاهلي ،مجوحا عاطفيا صاغ أداة تعرب عنه ،وكانت أداة
مجيلة لكن مجاهلا ال ينسينا احنطاط العرب ومهجيتهم قبل اإلسالم.
ويف جاهليتنا احلاضرة محلنا لغة القرآن شاهدا على احنطاطنا
ألننا هبطنا هبا من عز اخلطاب اإلهلي وعز اجلهاد اإلمياين الرامي
لوحدة اإلنسانية يف حرية اإلسالم ،إىل لفظية عاطفية أبلغ ما
نسمعها هتاجيا وتفاخرا وحنقا وكراهية .كان للجاهليني األولني
معلقات تقرأ مث ترفع ،أما اليوم فلنا معشر العرب يف كل يوم سيل
من األلفاظ يف جرائدنا وإذاعاتنا ختاصم فتفجر شأن املنافقني.
ونفتقر لفكرة واحدة من ذاتنا ال تكون عاطفة كراهية وتبعية
للسيد اجلاهلي فال جندها .نعم إن لنا ألدبا كثريا يدعي األصالة
ويدعو إليها ،ولنا «مقامات» إيديولوجية يسب فيها أبو زيدها
عدو العرب ،ولو كشفت عن وجه أيب زيد ملا طلع عليك إال
وجه مفتون على قلب غافل أو جمنون .ولو تدبرت حديثه لوجدته
مسخا مرتمجا أو دعوة ممسوخة .وإن من الرتمجة ما يتناول العقول
بكاملها ،فال خيرج من عقل مرتجم إال فكر مرتجم.
702
إن اللغة العربية لغة اإلسالم املنبعث ،وإهنا ألمجل اللغات
وأقواها ،وإهنا لللغة الوحيدة اخلالدة ،ولن ينال منها أعداؤها من
القوميني العرب ،فهي حمفوظة حبفظ الذكر .وأنك لرتى فتنتهم يف
أنفسهم ،يفتضح انقسامهم اجلوهري بتنافر مصطلحاهتم وإخفاق
حماوالهتم إلحياء اللغة يف جمال العلم .ويوم يكون للمسلمني عمل
إسالمي تتجند قرائح مؤمنة مزودة بفكر مؤمن حر مستظل بتقوى
اهلل وهبدي كتاب اهلل ،وستفصح اللغة القرآنية عن وحدة القلوب
ووحدة الفكر والعمل بوحدة اللغة .وإن كانت تبدو لنا عقبات
أمام توحيد اللغة بني كل املسلمني ،فإمنا اإلميان اقتحام للعقبة وما
للمسلمني لغة إال لغة القرآن ،وإهنم ألغراب يف هلجاهتم كغربتهم
املفروضة عليهم يف القوميات اجلاهلية.
703
الثقافة والتنمية
أما بعد أن وضعنا شرط احلافز املتلقي للرتبية املرغب يف
التعلم ،ووضعنا شرط األداة فسننظر يف حال تعليمنا ونقصه
ووسائل النهوض به يف سياق التعبئة اإلسالمية .ولعل النهوض
بالتعليم ال يكون نتيجة للتعبئة فقط بل يساهم أيضا يف تقدمي
هذه التعبئة وريادة اآلفاق للنشاط املتجدد .ولعل النهوض بالتعليم
على يد الربانيني املربني هو الذي حيرر األداة اللغوية من أوشاهبا
وهو الذي يكمل نقصها ويفسح هلا اجملال العملي.
إن رجال التعليم هم النخبة الثقافية ،إهنم أساتذة اجلامعة
وطالهبا ومديرو املدارس ومعلموها .وكل هؤالء موظفون يتحركون
بعقلية املوظف ،ونعرف أن عقلية املوظف عقلية أجري تقيس هي
إنتاجها ويقيسه املراقبون قياسا كميا .ويف آداب الوظيفة على
شكلها املنقول من اجلاهلية ونظامها نداء متواصل للضمري املهين
ومراقبته ،فإذا كان نداء الضمري املهين ينبعث من مصدر يربهن
على عدم كفايته وينتمي جلهاز عرف خبيانته ،فإن املوظف ،حىت
ولو كان عايل الثقافة ،ينحط إىل سلوك مريض بعد أن تصاحل
مع نفسه بأن جو الفشل العام ال تصلح معه حركة وال تؤثر فيه
النصيحة.
704
وهبذه العقلية أيضا يفكر اجلهاز التعليمي ببالدنا ،فالوصولية
والرشوة قاعدتان ال يشذ عنهما إال املستثنون من الرجال ،ويزكي
وجودهم يف جو التفسخ العام األمل الواسع بأن نواة الربانيني
هلا بيننا وجود ،وما ننتظر إال أن متطر مبطر اإلميان .إهنا بذرة
مندسة حتت األرض ،فإذا أمطرت السماء خريها زكت البذرة
ومنت وشقت األرض على صالبتها ،وترعرعت وأينعت مث أمثرت
بإذن رهبا.
فكذلك أخيار مثقفينا غدا يوم تزول الألواء .إهنم اليوم
مستضعفون يسخر منهم ،وهم يف احلق شهداء بالقسط
وسيوحدهم الوعي الصادق ،وسيتحررون من جنب النفاق السائد
الغالب.
تعليمنا املفتون كم وحسابات وأعداد تتكاثر .ويف مدارسنا
ماليني الشبان واألطفال يوكل أمر تنشئتهم جلسم تنخر فيه
االرتزاقية وتقلبه كما تشاء أيد جنسة وعقول رباها الرجس ،هي
أيدي اخلرباء الزرق وأفكارهم ،وأمثاهلم وتالمذهتم الفاسقني.
تعليمنا كم وعدد ورجال احلكم يتحكمون يف العدد فيوظفون
على قدر ما عندهم من أجور ،لكنهم ال يتحكمون يف الرتبية
ألهنم ال يتحكمون يف نفوسهم .ويف جامعتنا ومدارسنا انفصلت
كل صلة بني التعليم ،الذي تشهد على حتصيله االمتحانات
705
شهادة مزورة بتزوير الضمائر ،وبني الرتبية والقيمة اخللقية .بل
أصبح تعليمنا ميتاز باإلحناللية جريا على منط الشباب اجلاهلي
املعرتض الثائر .وهو تيار ال حيصر ألن لنا به صلة دائمة متجددة
يفد علينا زعماؤهُ الزرق أو سفراء الفسق من أبنائنا.
ومبا أن املطلب الوحيد يف ذهن شبابنا هو التحرر من الظلم
بالثورة للتفرغ بعد ذلك إىل تنمية ثورية ،فإن من معاين الثقافة
وشروطها كسر التقاليد كلها ،خاصة األخالقية .الثقافة من
أجل التنمية مبدأ النظام التعليمي وهدفه ،يقصده احلكام خطة
كمية حياولون الرتويض عليها بالوعد والوعيد ،ويقصده املوظفون
الثقافيون رسالة حيملوهنا جيال بطوليا عارفا ثوريا بالكالم والفسق
الذي ليس هلم منه فطام .أما املوضوع املسخر ،الطلبة والتالميذ،
فهم يقصدون عدال ال يتسع له املستقبل الذي ينتظرهم .لذلك
يثورون ،ويسري عنفهم يف خط اجلاهلية ،فإن هلا الغلبة على
العقول .واألغلبية من ضحايا الثقافة اهلجينة املاردة شبان أغرار
تنفتح فيهم رياح التمرد من ثعابينها اجلامعيني فيطربون لللحن
ويهتفون بالنشيد ،إىل يوم يكتشفون أن الزمار كذاب مزور وأن
ثوريته تنتهي حني يرضى مبنصب يف اجلهاز املثلوب.
وعند ذلك يقف الشبان موقف احلرية وينضمون للحركة
العامة اليت ال تزال ،وهي حركة املطالبة بالرزق .ويف كل سنة
706
يتكاثر اجلمهور املظلوم الواعي بالظلم الواقع عليه بربكة الثقافة
املنمية الفاشلة ،وذلك أمل اإلسالم بعد أن تقر األنظمة بفشلها
لرباليتها أو اشرتاكيتها.
هذا اجلمهور احملتك بالثقافة ما له من مقومات العمل إال
علم ضئيل ينوء حتت حرية تتناول الكائن بأمجعه .مثقفونا ادعاءً
وأنصاف مثقفينا واحملتكون قوم كسحتهم األفكار اخلليطة،
وأقعدهتم عن الرجولة مبا بثت فيهم من شك يف أنفسهم يغطونه
بالتنكر لألجنيب ،وهم يف احلقيقة معجبون ذائبون يف النموذج
الغالب .شخصيات منشقة تائهة مع التيار العنفي اهلدام .وترتع
يف األذهان وعود اشرتاكية غامضة ،وكلما برهنت انقالبياتنا
االشرتاكية عن فشلها ازداد تقرب املثقفني احملرومني من الوعد
الشيوعي .فلتلك الشخصيات انشقاقان أحدمها يف الرؤية
للمستقبل ال يبني هلم على ضوء احلاضر احلالك وال على ضوء
إيديولوجية غري قارة .واالنشقاق الثاين مصدره انفصال هذا الرهط
عن جسم األمة انفصاال فكريا وعاطفيا معا ،ألن عاطفة األمة
يف غضبها على الظلم عاطفة إسالمية ال تدين بالوالء لوعود
اإليديوجلية اليهودية.
املثقفون األغراب بيننا حنن األمة املستضعفة منهم قادتنا
احلاكمون ومنهم اخلرباء املنظمون بتقليد الزرق ،ومنهم املعلمون
707
واألساتذة اجلهابذة .ويف شخصياهتم متزق ويف عقوهلم وهن
الدخالء ،وسلوكهم بني املسلمني سلوك منافق إال من جرؤ على
حتدي اإلسالم ،وكثري ماهم .هذا حالنا اليوم ،وغدا يأخذ األمر
رجال اإلسالم املؤمنون الربانيون .والرباين رجل كامل متكامل ال
ينفصل علمه عن عمله ،وال عقيدته وتقواه عن سلوكه ،فهو منوذج
قائم بالقسط مرب يف كل حاالته معلم بصغار العلم وكباره رفيق
يعاجل لنا األمراض النفسية والعلل الثقافية اليت تشل حركتنا.
ومن هذه العلل فشل تعليمنا.فمن بالدنا ما جتد فيه محلة
الشهادات العليا يتسكعون يف الشوارع ،وال مؤهل هلم إال تلك
الورقة ،فإن دخلوا مليدان اإلجناز العملي عجزوا وبدا عوارهم.
ومن بالدنا ما يفتقر ملتعلمني فإن استورد املتسكعني من جريانه
اكتشف أن نتاج القومية يف ميدان الثقافة أشد فشال من نتاجها
يف ميدان احلرب ،ويدفعه تسرعه الستقالله بتعليم قومي ضعيف
أو يرمتي يف أحضان اخلرباء الزرق.
إن التنمية اإلنسانية الربانية من مجلة وسائلها وأهدافها التنمية
االقتصادية .وهذه االقتصاديات علم دقيق وتكنولوجيا وضبط،
ويتعقد ويغمض علم التنمية االقتصادية حىت لتخاله سحرا جداوله
أرقام ورموزه إحصاآت ومؤهالته يقظة فكرية منظمة ،وإفشاء
للتعليم خاصة التعليم التقين.
708
ولقد تغريت نظرة الناس إىل التعليم بني العهد الذي كان التعليم
فيه وسيلة ثقافية لتهذيب اإلنسان وعهد التنمية االقتصادية الذي
يعد التعليم توظيفا للجهود االجتماعية يف مقابل مردود منتج يف
شخص مهندسني يصنعون املكنات ،وأطباء حيافظون على صحة
األجسام ،وأساتذتة يكررون العملية ويضاعفوهنا.
وتوضع يف نقطة االنطالق مشكلة بالنسبة للبالد املتخلفة،
بأي اإلمناء جيب أن نبدأ ؟ أنبدأ حبفر الطرق والسدود وما يسمى
بالبنية التحتية لالقتصاد ؟ أم نبدأ بتهييء اإلنسان وتعليمه؟ وإذا
كان لنا مال فلِ َم نكرسه ؟ أننفقه على املدارس واجلامعات أم
خنصصه لبناء املعامل وجنمعه يف رأس املال؟
إنه مشكل يوضع يف خط النظر الرأمسايل لالقتصاد املبين
على التوظيف الرأمسايل .أما يف بالد الثورة والتعبئة ،فإما يكون
األمر كرها وحتكما يف املال واجلهد ،وأما يتطوع الناس جبهدهم
ودرمههم كما حيدث يف بالد الشيوعية التعليمية.
إنه ال بد من بنية حتتية لالقتصاد تسبق التنمية ومتهد هلا لكن
األهم هو تغيري العقلية وتطويرها لتتصرف يف عملها تصرفا منتجا.
وحيصي احملصون أن القدر املتماثل من املال يزيد يف إنتاجية
اجملتمع إن وظف يف التعليم أكثر مما يزيد فيه إن أنفق على الطرق
واآلالت واملصانع.
709
ونعلم من جتربة بالدنا اإلسالمية أن التعليم موكول إىل املوظفني
املكونني تكوينا أجنبيا ،وكان من املنتظر أن يغريوا عقلية جمموعاتنا
الناعسة .لكن الذي حيدث أن العلم اجمللوب من بالد اجلاهلية
يغري عقلية املعلم واملتعلم يف اجتاه واحد هو اجتاه حنو االستهالك
ومن هنا حنو املطالبة .وإمنا يأتينا ذلك من الفشل العام الناتج
عن بنيتنا االجتماعية وفساد الضمائر واالضطراب يف املبادئ
واالجتاه .فاملثقف ال حيصل على ثقافته إال بالتكفيء معرضا عن
قيم أمته األخالقية ،وما حيتك به من نشاط اجلاهليني وجديتهم
سرعان ما يتبخر عنه تأثريه إن انغمس يف وسط جمتمعه بعقلية
مستعلية حمتقرة .فبضعفه العقدي أو بتقززه من اجلمهور املتأخر
اجلوعان اجلاهل ،ومبا حيسه اجلمهور ويكرهه من استعالئه وغربته،
ال يستطيع املعلم العصري أن يفعل يف تغيري عقلية األمة إال تغيريا
سلبيا .يرونه طاعما كاسيا يفضل عليهم يف الرزق والسكن مبا ال
يقارن ،ويشاهدون كسله وعدم جدواه ،فما منهم إال من يتطلع
لشهادة مثل شهادته تؤهلهم لكسل أنظف من كسل العامة.
واملال الذي خنصصه للتعليم ينفق على مثل هؤالء املوظفني،
وهم زمرة من املستهلكني غري املنتجني .وبينهم يف كثري من بالدنا
خرباء أجانب ميثلون بالنسبة إليهم ما ميثلونه هم بالنسبة لألمة.
هؤالء اخلرباء يأخذون أجورا أعلى ويعيشون رخاء أوسع .وبذلك
710
جيتمع على املعلم املوظف عامال الكسل املتكرب والغنب الالحق
به .وجترى مطالبته للمساواة مع األجنيب يف خط الوجهة العامة،
فكل يطالب بتغيري ،وكل يتصور التغيري تصوره اخلاص.
ويرتقب الناس التنمية االقتصادية وتأثري هذه األعداد املتعلمة
يف مدارسنا على الفقر واجلهل واملرض بيننا ،فإذا الذي يرونه
هي مشاريع البناء العمراين املاثلة من عدم .هذه سدود عظيمة
صممها مهندس اشرتاكي أو مهندس غريه وأنفق عليها مال
أجنيب ،وسهرت على تشييدها عقول أجنبية ،وذلك طبعا مبسامهة
مهندسينا .فنحن طرف مساهم ما لنا مبادرة إال مبادرة طلب
العون وتلقيه .فلذلك ال نستطيع تغيري عقلية أمتنا ما دام ليس لنا
بشؤوننا استقالل.
ولكي نغري ما بنا من ختلف اقتصادي جيب أن نغري ما حيكم
أنفسنا من مبادئ وما يوجهها من حوافر يف إطار تغيري جذري.
فليس األستاذ املعلم وال الطبيب املعاجل وال املهندس الفين إال
آحادا يف جمتمعنا املتفكك .فبتفككنا ال جيدون حافزا وال مشجعا
على العمل .من كان منهم ذا صرب ورجولة قاوم التيار وأىن له
وحده ! ومن كان يبلغ به احلنق أشده فهو ثائر حمرك للثورة ،أو
حيمل بضاعته إىل األرض تأجره عليه وتعرف مكانه .ومن العجب
أن جتد بأمريكا املستنزفة لعقول العامل علماء مسلمني يصنعون
711
الذرة ويرسلون الصواريخ بينما أمتهم تفتقر ملن يصنع هلا إبرة
حرة غري هجينة .ما هلم ذنب إذ هم آحاد منفصلون عن األمة
بثقافتهم أغراب عنها ال يفهموهنا وال تفهمهم ،إمنا الذنب للنظام
الفاشل ،والعقلية الفاشلة اليت تسودنا.
ينبغي للبعث اإلسالمي أن يقتصد ،مبا لديه من وسائل مالية
وبشرية ،اقتصادا منهاجيا ،فيعبئ العقول بتعبئة اإلرادات املتحررة
اهلادفة لقوة .فإذا عرف األستاذ املعلم والطبيب والفين هدف
العمل ومقصده وغايته فرض كل منهم سلوكا نافعا يف حقله
فاملعلم يعي وعيا صافيا دوره اإلنساين اجلهادي وعيا خمتلفا عن
وعي املوظف األجري ،فهو يتناول رزقه جزاء عمله لكنه ينصح
ويضاعف عمله بالتطوع ،ويأخذ على نفسه أن ينفع كل تلميذ
وطالب ويصنع منه رجال .يصبح ذلك عنده رسالة شخصية كأمنا
يتوقف جناح األمة على جمهوده وحده ،وكأن كل طالب وتلميذ
عنصر أساسي وقيمة وحيدة ال بديل هلا .وهكذا يفعل الطبيب
مبرضاه وأصحائه والفين مبن يواصلهم من مساعديه ومن الناس
أمجعني.
الفالح يف بالدنا ميتنع عن التغيري وال حيب بديال عن أسلوب
زراعته ،ومثله احملرتف باحلرف اليدوية أو العقلية .وإن تلعم الفالح
وقرأ كان أقرب أن يغري أسلوبه ويرفع من إنتاجيته ،وكذلك احملرتف
712
باليد .أم املثقفون فهم حمرتفو الفكر ،وهم بعقليتهم الطبقية
وتقاليدهم اجلامعية ،بل تقوقعهم اجلامعي ،أكثر استعصاء على
تغيري عملي وإن كانوا دعاة التغيري املنظرين لالشرتاكية .إن للجامعة
جهازا يتناظر فيه األقران واألجيال كل بباهي بأوراقه ووراقته،
وحببال الوصل اليت نشهده باجلامعة األم يف أوربا وأمريكا .وهم
يف برجهم العاجي منقطعون عن سواد األمة بعاداهتم االستهالكية
الباهضة ،وبسلطتهم احلاكمة بأمرها يف مصائر الطلبة .هؤالء
الطلبة رعيتهم ينظرون إليها من أعلى ويف ساعات اخلطب املنربية،
على أعواد الفتنة ال على أعواد املسجد ،واحلظي منهم من يلتفت
إليه حضرة األستاذ ويكلمه.
فأول ما جيب أن نغريه حنو تنمية اإلنسان واستقالل املسلمني
بعقوهلم إعادة تربية اجلامعة .ويتصور العقل أنه كما يغري سلوك
الفالح بإقرائه ،ميكن أن يتغري سلوك املثقف برده إىل صف
الفالحني ليذوق حياهتم وبداوهتم وفقرهم ،وليتعلم من صربهم
على العمل وتعاوهنم ورقة قلوهبم .من املمكن تصور هذا جمرد
تصور ،أما وقد أصبح مذهبا تربويا برهن عن جناحه بشهادة
املثقفني «املستهلكني» لفضائل الثورة الثقافية بالصني ،فإنه الرفق
الذي حيبه املؤمنون.
إننا يف غدنا الناجح حنتاج ملثقفينا وحنتفظ هبم ونعتمد عليهم،
713
ومن استعصى علينا سقناه سوقا رفيقا للعمل املنتج حقا ،ألننا
نتغذى حبب الشعري فينمي أجسامنا ،ويفرز لنا املثقفون اللفظيون
أو املثقفون احملرتفون غذاء عقليا يسمم نفوسنا.
هلذا فالثقافة الباعثة لن تتحقق ازدهارا يف االقتصاد وقوة
وبأسا إال باالستقالل الشمويل ،بتغيري ما بالنفس .وتتذكر أسبقية
السياسة يف بر الصني ،السياسة مبعىن التضحية وخدمة اجلماهري.
نعلم من حنن يف خدمته ،وما حظنا من فال شأن لنا غدا أو َ
املسامهة يف اخلدمة .وأن األيدي الرخوة الناعمة ال يعلوها إال فكر
رخو منحل أما األيدي اخلشنة فهي تعلم الفكر رجولة وشدة،
وهي تصنع االقتصاد وتصنع العقول وتغري النفوس .وكفى باهلل
وليا وكفى باهلل شهيدا.
714
التعليم املتخلف
أزمة التعليم أزمة عاملية ،تعرفها البالد املصنعة على شكل
احتجاج الطلبة واعرتاضهم ،وتعرفها بالدنا املتخلفة على شكل
نقص يف األطر وعدم جدوى .وأزمة التعليم هذه أزمة كم وكيف
معا عندنا ،فمنذ تيقظ الناس للمصاحل املرتتبة على التعليم وما
يعطيه من شهادات أقبلوا على املدارس يبغون شهادات ،وفتحت
حكوماتنا مدارس بسرعة حتت ضغط اإلقبال وبداعي التنمية
البشرية مللء الوظائف وتزويد اجلهاز بعاملني متعلمني .العدد
الكبري من الناس يطلبون التعليم املدرسي يف البالد املتخلفة،
ولذلك تطالعنا ظاهرة عامة هي ظاهرة ارتفاع عدد األطفال
يف املدارس منذ استقالل البالد املتخلفة ارتفاعا هائال .وهكذا
ظهرت يف هذه البالد املدرسة القومية يسندها طموح القومية يف
االستقالل الثقايف بعد االستقالل السياسي.
لكن عائقني اثنني يعرقالن سري املدرسة القومية ،مها قلة املال
والرجال ،فأما املال فال جتد احلكومات القومية حميدا عن رصده
للتعليم بكميات تتكاثر بتغري نظرة اجملتمعات التقليدية للمدرسة،
كانت هلم منها وحشة حىت شاهدوا أن املتخرجني منها هلم القدم
واحلظوة ،فتزامحوا عليها واحتجوا إن أعوزهتم املدرسة .وأما الرجال
715
فما كانت القومية وعاطفيتها وعصبيتها كافية لتخلق يف املعلم
حافزا يضاعف عمله ويضاعف إنتاجه مضاعفة كيفية .فابتاعت
باملال وقت املوظفني وما يبتاع املال يف هذا اجملال إال قليال.
وكان لالستقالل السياسي نشوة دعت دوال حديثة العهد
باإلدارة والتنظيم ،قليلة اخلربة مبنطق احلركة االجتماعية ،ال متيز
بني الوسائل واألهداف ،أن تشرع يف دساتريها إجبارية التعليم
وتعميمه ،وترمجته إىل اللغة القومية يف بعض األحيان ،أقول ترمجته
ألن القوميات املتخلفة ال تطلب عند اللغة القومية ما نطلبه حنن
عند لغتنا القرآنية .وبرز للوجود مشروع التعليم واإلجبار والرتمجة
مرتحنا بني أهداف غري واضحة ووسائل مبعثرة تتسرب بني األيدي
اليت ال خشونة هبا والضمائر اليت ال أمانة هلا .وعرفت كل الشعوب
حديثة العهد باالستقالل السياسي محاسا شديدا للمدرسة
يتقدم أو يتأخر حسب درجة الوعي القومي .وتطوع الناس لبناء
املدارس ،وأزهرت املدن والبوادي حجرا تعليمية أو مدارس كاملة
جاهزة .والتطوع القومي يستطيع أن يبين باحلجر بيوتا لكن ال
يستطيع محاسه مهما بلغ ،ولو كان محاسا قوميا اشرتاكيا ،أن يبين
رجاال يعلمون يف املدارس القائمة حيطانا .وكان املوقف السياسي
يقتضي تأثيت املدارس احلماسية بأشخاص ميثلون دور املعلم كما
اقتضت ضرورة التنظيم املادي املقلد لنماذج املستعمر أن تؤثث
716
احلجرات بأثاث خشيب تعليمي يستورد باملال الباهظ أو تستورد
األيدي اليت تصنعه ،لكيال يتغري شكل املنضدة وما إليها ولو قيد
أمنلة ،ألن كل ذلك أتقن صنعا ودرس دراسة علمية ال ينبغي لنا
إال أن جنتين مثرة جهودها سهلة هنية.
فلما جتهزت املدارس بأثاثها البشري وأثاثها التقين الصنمي،
دخلت يف نظام اجلهاز التعليمي دخوال مشهودا .واحتفل الناس
مبدارسهم اليت أنفقوا عليها املال من قلة واجلهد من شغل ،وهتفوا
بالسيد الذي «دشنها» وساقوا بعد ذلك بنيهم ليصبحوا رعية
للجهاز التعليمي ،يرقون درجة اجتماعية مبجرد جلوسهم على
ذلك اآلثاث الغريب عن بيئتهم ،ودرجة مث درجات بربكة اجلهاز
وبركة املعلم الذي ورد من املدينة حيث جرت أحداث جسام
جاءت باالستقالل ،وكان املعلم ممثل العصرية والبطولية القومية،
أحد رجاهلا.
يدرك الفالح ببديهته أن ما يف اليد خري مما يف الغد خصوصا
إذا كان الغد جمرد وعد ال تدري صدق صاحبه وما بلوته .فدفع
ابنه للمدرسة وحرم نفسه وأسرته من يد عاملة تسعى مع الساعني
جلمع السنابل ورعي البقرة .وما كان له أن يفعل غري هذا ،ألن
احلماس اجلماعي للمدرسة يعضده سلطان احلاكم الساهر لتكون
املدرسة عامرة .وسرعان ما انتقض البناء من قاعدته .لقد كانت
717
هذه اجلدران مسيكة ،وكان األثاث املستورد جيدا ،لكن العامل
البشري هوى ومل يصدق على حمك املزاولة اليومية ألمانة عظيمة،
فال احلكم سهر ليحضر املعلم يف مدرسته حضورا جسميا ،وال
اجلهاز استطاع أن يراقب املعلم ومردوديته .وما كان لذينك أن
يستطيعا وهلما من شؤوهنما اخلاصة شاغل.
وضج الناس أول األمر واحتجوا وانتظروا ،ضجوا من ضياع
أبنائهم اجملندين على أثاث اخلشب طول اليوم يف انتظار األثاث
اآلخر ،وضجوا من أخالقية البطل العصري احملزم يف سراويله
األفرجنية .فلقد أعدى القرية وأخزى املهنة .وبعد الضجيج اململ
أرخى احلاكم وأرخى اجلهاز زمام اإلجبارية والتعميم ،ونقل
كل ذلك إىل ميدان املماحكات السياسية اللفظية .أما الفالح
فاسرتجع ابنه لريعى البقرة وجيمع السنابل ،فأىب هذا وجاول
والده بعادة تعلمها من مثال معلمه ،وأرهقه مطالبة ليكون البيت
املسكني الطيين يف نظافة حجرة الدرس وشهاقتها ومجال أثاثها.
وهكذا كان نتاج املدرسة مشكلة اجتماعية عويصة.
وعلى مدارج السنوات ،وبني القرية واملدينة ،أفلتت أفواج
من األطفال بصدفة معلم خملص أو مدير جاد ،وصعدت مراقي
التعليم .وما من فوج إال ويف جنبه آثار املرض اجلهازي ،تستفحل
كلما صعد يف سلم الدرس ،بلقاء أساتذة أشد احتكاكا باجلاهلية،
718
وأشد تفسخا يف األخالق .وهكذا صنع جيل التعميم .أما الرتمجة
إىل اللغة القومية فال حديث لنا عنها بغري ما خيجل القومية
ويفضح عجزها.
وأما اجلهاز التعليمي فهو املرآة الصادقة لفساد اجملتمعات
القومية .أحتدث عن هذا اجلهاز وحق يل أن أحتدث ،فقد كنت
جزءا من أجزائه وعاصرته وخربته عن كثب ،وبلوت عجائبه .فإذا
نطقت فما أنطق عن تطلع ثقايف وال عن رواية بلغتين لكن عن
جتربة مباشرة.
اجلهاز التعليمي فاسد ببلدنا ،ولست ادري ما حاله بدار
اإلسالم كافة ،لكن أحرر وأقرأ ما ينبئين أن الداء الغثائي ال
خيص قطرا دون قطر .أعرف من مديري املدارس من يعطي
العطلة الدائمة ملعلميه ،ويقامسهم الراتب آخر الشهر ،وآخرين
يأخذون نصيبا مفروضا من كل معلم لقاء التغاضى أو ضريبة
حالة .وأعرف مراقبني تربويني يوظفون بالرشوة ،ويعطون رتب
االستحقاق بالرشوة .وأعرف من جنح يف مدارس املعلمني وجنح
يف االمتحان املهين ،ورجاله مل تطا قط مدرسة املعلمني وال جملس
االمتحان .وال تسع األوراق قصة فساد جهازنا التعليمي وهو جزء
ضئيل جدا من الداء العياء الذي ينخر جسمنا .وكيف ال يزداد
اجلهاز فسادا واحملاكم ال تعدل وترتشي ،وهكذا دواليك.
719
إن لنا عادة يومية نسميها مدرسة ونسميها تعليما ،ومن يغدو
للمدرسة ويروح فال يغدو إال هبمة فاترة وعزم خائر ،سواء يف ذلك
الطلبة واملعلمون .فمن املعلمني رجال هلم شهامة ونظافة ،يتأملون
ملا يرون ويسمعون .ومن حسن العربة أن الطلبة هلم حساسية
دقيقة ،فمهما بلغ هبم إغراء الفتنة وإغراء النموذج املتفوق بثقافته
اللفظية ،فهم ال ينسون أبدا املعلم النظيف الصادق ،وهم يكنون
له أكرب االحرتام ،فإذا كان هلذا املعلم قدم يف العلم واتساع يف
األفق ،فإنه كثريا ما يلد ضمائر شابة تقاوم التيار وحتن حلياة
الطهارة.
وهنا بذرة الربانية يف شخص املعلم املؤمن وشخص الطالب
احلامل للقابليات الطيبة ال مييتها التسمم اإليديولوجي ،وتتيقظ
غدا للجهاد اإلسالمي إن شاء اهلل.
يف عقول مرتفة بقيادهتا وأخرى تذهب ضحية التزوير ختتلط
الوسائل باألهداف ،وتصبح الوسائل مقصودة لذاهتا ،أو ختون
فيتهدم البناء كله .إن املدرسة يقصد من بنائها إيواء التعليم،
فتعود عند اخللط بناء مشيدا باهظ التكاليف ،وعامال اجتماعيا
مهما جدا يف بث احلرمان والشعور باحلرمان ،فهذا أكثر جوانبها
إجيابية يف منطق التغيري .واملدرسة مفهومها أن تكون مؤسسة
للرتبية والتنمية الشمولية للطفل واليافع ،فتعود مع اخللط مؤسسة
720
للرتويض والتدجني وتغذية الطموح الفردي املستأثر املستعلي يف
خدمة اجلهاز ،وعوض أن خترج جيال خيدمون األمة خترج أجياال
هلا بينها تناسب وتوالد يف حلقة مفرغة مدرسية تدور حياة أفرادها
حول املدرسة والثقافة األكادميية ،وال يصل منها خري لألمة يف
أسفل .ومبثل هذه املدرسة وما تلده من جمتمع سطحي تنبت
عقلية االنقالبية الدائرة املفصولة عن األمة.
ووسيلة املال تصبح مع اخللط هدفا ،ويتبارى احلكام يف أيهم
ينفق على التعليم أكرب نصيب من ميزانيته .ويقارنون نفقاهتم
بنفقات اجملتمعات املنظمة ،وال تصح هلم مقارنة .يف جمتمع
متحضر منظم قوانني هلا القداسة ،ورجال نشأوا يف ظل القانون،
وحتت ضغط اجتماعي يقظ ومراقبة لإلنتاج وتنافس على اجملد
والشرف .فأميا مال أنفقوه على التعليم صرفوه حبكمة هلم تليدة،
ونسقوا العمل
ووضعوه حيث يكون أعظم إنتاجية وأوفر مردوداَّ ،
حبيث ال يتسرب هلم جمهود وال يضيع .أما يف بالد القوميات
املتخلفة ،فاملال يتسرب بني األيدي بأسرع مما تتسرب مياه الطل
يف صحرائها .وما تناوله منها اإلجراء فإنه يف عينهم نفحة الغنب
وحظ احملروم .ومن يعمل بعقلية املغبون ال يأت إنتاجه إال شهادة
الحتجاجه ،وال يشارك يف العمل إال خداعا ومماطلة.
إن إحصاآت التعليم ببلدنا غرور وتغرير ،ولسنا نرجو حتسنا
721
جلهاز التعليم وال رفعا إلنتاجيته بغري التحويل اجلذري الذي يقلع
البالء من أصله ،فليس التعليم دولة وحده مستقلة ،وال ميكن أن
خيتص التعليم بوظيفة التغري عن العوامل الشمولية ،أعين عوامل
العقيدة والتفقيه املنهاجي والقيادة اجلهادية.
تقول إحصاآتنا إن كذا وكذا باملائة من األطفال يلتحقون
باملدرسة ،وليكن 70%مثال ممن هم يف سن الدراسة .فإذا
قورنت األعداد باألعداد القدمية زمن االستعمار بدا كأمنا رحبنا
رحبا عظيما ،لكن وراء األعداد اإلحصائية ما ميكن أن يرتجم
عنه اإلحصاء وما ال ميكن .فاإلفساد اخللقي والتلحيد وطمس
الذاتية آثار كيفية ال يعرب عنه الرقم .وبعد ذلك تبذير يف املال
واجلهد مرده مجيعا لعدم كفاية أنظمتنا القومية وعجزها عن تطهري
الضمائر واأليدي فمن التبذير ما أشرنا إليه من بناءات شاهقة
ينصبوهنا وسط الفالحني املساكني سبة لفقرهم وبضاعة حضرية
تسلب ألباب أبنائهم فيحتقرون الكوخ والبقرة وثوب الصوف
ألهنم احتكوا بريح احلضارة وأثاث احلضارة .وتقول األرقام إن
يف بالدنا املتخلفة على تفاوت يف مراتبها يتسرب عدد هائل من
التالميذ أو يكررون السنوات الدراسية ،وذلك جيعل تكاليف
التعليم باهظة جدا.
وكما تنتج معامل األمم بضائع رخيصة تغزو أسواقنا ألننا
722
إن بنينا مصنعا أنفقنا عليه بسخاء سلف القوميات هرون الرشيد،
فيفشل عن املنافسة وتدور دواليبه تأكل من رأس املال ال مردودية
هلا بتاتا .كذلك تعليمنا إذا قارنا مردوديته مبثيالهتا يف العامل
املتقدم .من كل 1000تلميذ يدخلون املدرسة االبتدائية يف أحد
أقطارنا يتبخر 904قبل هناية السنة السادسة ،فال يكمل الدراسة
يف ست سنوات إال 96من ألف .أما الباقون فمنهم من هجر
املدرسة هجرا هنائيا ،ومنهم من تعثر وراء الركب يكرر مرة ومرتني
وثالثا .ومن تدبرينا وحكمتنا أننا نساعد الدوالب فتقرر أجهزتنا
التعليمية طرد كل تلميذ كرر مرتني وفشل يف االمتحان ،كأمنا
األطفال هم مصدر الفشل.
وهكذا فإن الدولة يف القطر املذكور تنفق نفقات تبلغ 13سنة
تعليمية عن كل ستة أطفال .أو بعبارة أخرى فإن نسبة التوظيف
إىل اإلنتاج ( )input/outputيف هذا القطر .2,2وهذه النسبة يف
بلد ميلك عقوال ورجاال ونظاما هتبط إىل ( 1,003اليابان).
واألدهى من هذا أن من يتم تعليمه من األطفال يف ست
سنوات يرجع فينغمس يف وسط راكد أمي فال يستطيع أن حيرك
هو ساكن ذويه بل يرتدى فينقلب أميا بعد سنوات أو شهور،
وهذا بعض جهودنا الضائعة ،ولنا جهود ما أشبهها مبن حيرث يف
البحر يتوهم ويوهم الناس أنه يشتغل فيما يفيد.
723
هذا التعليم املتخلف تعليم أجنيب ال يندمج أبدا يف األمة وال
حيرك ساكنها .إنه تعليم خنبة غريبة عن األمة ،هي نقلت شكله
وحمتواه من أرض اجلاهلية وجعلته سلما أفقيا شاق املراس سريع
التزليق حتديا للطالبني .فينربي اجلمهور الغفري يطلبون الشهادة
النهائية اليت ختوهلم أن ينتموا للطبقة املثقفة احلاكمة ،فأغلبيتهم
الساحقة جترفهم عوامل التسقيط على كل املستويات ويلفظهم
اجلهاز ،ومن وصل منهم القمة بعد أن بذروا عليه أموال املسلمني،
فإمنا يصل كسيحا ممسوخا ،تؤهله تلك اخلصلتان ليعد يف تلك
النخبة العتيدة.
جهاز التعليم يف بالدنا جسم غريب مستورد وآلة لتفقري
البالد ومسخ العباد .وهو يف نفس الوقت آلة لصنع الوعي الثوري
اجلارف ،ألنه ظلم مركب ،ظلم يف املبدإ إذ حيمل إلينا قسرا
كفر اجلاهلية يف صيغ مناهجه ويف شخص معلميه اجلاهليني
وتالمذهتم ،وظلم يف املعاملة ألنه وقف على من ميلكون الوسائل
ليغشوا مدارس خاصة باملرتفني أو يتلقوا دروسا خاصة .الصدفة
وحدها واملال تؤهل األطفال ليتعلموا ويبقى على اهلامش عناصر
بشرية ذكية يف البادية واملدينة يعرض عنها اجلهاز .ويزيد الطني
بلة أن املدرسة منعزلة بشكلها وحمتواها عن األمة ومنعزلة أيضا عن
األجهزة اإلعالمية ،فهذه يف شغل لبث الوسوسة السياسية واللهو
724
اجملوين .هي يف شغل عن تتبع املطرودين من املدرسة واألميني
تعلمهم وترقي مداركهم .وكيف هلا أن تفعل وحمركها هو الطارد،
وكيف هلا أن تفعل والناس ال يرغبون يف تعلّم .وقد قال احلديث
الشريف :ال علم إال بتعلّم ،وال حلم إال بتحلّم .وللعلم حدود،
كما للحلم حدود ،تلك يصنعوها من حيث يصنعون هذه.
725
وسائل اإلعالم
وسائل اإلعالم حبل يصلنا ببعضنا كما يصلنا باجلاهلية وصال
حمكما مستمرا .فبالفكر يبدأ التغيري وبه تتوطد العقائد ،وهو
احلَ َك َمةُ املعنوية واآللة الفعالة اليت هبا يتحارب أرباب املذاهب
واالجتهات .اإلعالم كلمة حيملها إليك املذياع وصورة ناطقة يف
التلفاز وصفحة من صفحات اجلريدة واجمللة والكتاب .ودنيا
اإلعالم زاخرة باألخبار السياسية واالقتصادية واالجتماعية ،هلا
سوق ال تبور ،وهلا أذواق ترضي كل غرور .إهنا مجاع الثقافة
وجممع مناذجها.
يف املدرسة تعليم منظم تكرهه للنفوس رتابته وتقنياته وحمتواه،
أما وسائل اإلعالم احلرة فتتلقفها الناس وتتعلم منها .فهي التعليم
املستمر وهي الرتبية بالنسبة لعامة الناس صغريهم وكبريهم معا.
كنا حنن األمة املتدهورة حنو الغثائية ال نعلم من هذه الوسائل
إال الكتاب .وكان للكتاب قداسة وحرمة ،ألن الكتاب أوال هو
كتاب اهلل حيمل بني دفتيه اهلدى والرشاد .وكان للكتاب قداسة
ألن العلماء الربانيني ما كانوا خيطون إال قرآنا من قرآن اهلل وحديثا
من خرب رسوله .وملا غزتنا الفلسفة اإلغريقية بعد الصدر األول
خط كل يف كتبه باطال أو حقا ال يتميز املبطلون يف تفعلهم
726
للصيغ الكهنوتية عن باقي الفالسفة اجلاهليني .وكان لكل جديد
لذة وانصرف الناس عن الكتاب والسنة والفروع الشرعية الضرورية
إىل اخلوض يف العقيدة ،وبذلك اختلطت على املسلمني منابع
اهلداية وتكدرت ثقافتنا كدرا حاول تصفيته أمثال الغزايل واإلمام
األشعري.
وورثنا مع ما ورثنا هذه الثقافة املخلوطة ،وكانت جزءا من
فتنتنا ألن علماءنا الربانيني يف كل جيل حافظوا على الصفاء
األول ،وقاموا على احلق ال يضرهم من خافلهم .أما اليوم فبلوانا
يف عقولنا أشد البلوى .وقد انضاف إىل الكتاب صحف وجمالت
وأصوات وصور يرفعها إلينا اهلواء .وإن ما حتمله كل هذه من ثرثرة
وعلم خلليط مغر متقن الصنع ،يستهوي بالتنوع واالنتقال من
جد هلزل ومن لون للون .وال تزال التكنولوجيا اجلبارة حتسن اآللة
ومضمومنها ،فهاك التلفاز امللون ،وهاك األقمار الصناعية اليت
تصلك ببث احملطات العاملية ،وهاك املهارة الفنية عند الصحافيني
واملذيعني واملتربجات واملتربجني على الشاشات.
السينما مدرسة الفتنة الكربى ،وخلفها ومن حواليها رسل
الشيطان إىل عقولنا .وما كانت رسل الشيطان إال ألن وسائل
اإلعالم يف أيدي شياطني اجلاهلية وشياطني الفتنة .يذهب الناس
لالسرتواح واللهو فتعجبهم احلياة اليت تعج هبا األفالم ،وهي
727
حياة أول مساهتا االحنالل الدوايب ألهنا تدور مجيعا على الفسق
وهو ما يسمونه ثقافة جنسية وأدبا ومتثيال .وباإلعجاب باحلياة
احليوانية والتمرس هبا تسري عدوى اجلاهلية يف عمق أعماقنا.
ولئن كان اجلاهليون أنفسهم يشكون من عنف أحداثهم ألن
السينما تعرض عليهم مناذج عنيفة ،فإهنم ال يرون الشر إال يف
اجلرائم عند األحداث ،أما الوباء اخللقي فقد اندمج يف السلوك
العام ،أما حنن فوقع السينما وما يواكبها من اإلفرازات «الثقافية»
احلضارية وقع حنسه يف مشوليته املفسدة .فعامل السينما عامل أنيق
ثري يقلع من قلب أحداثنا كل حمبة وانتماء لعاملهم الفقري يف
أمساله .وحياة السينما يف األضواء والنوادي واملتربجات والعصابات
اإلجرامية تستلب األحداث من حياهتم الواقعية الكئيبة فيعيشون
يف األحالم .وما كان من السينما يف نظر اجلاهلية ثقافيا اجتماعيا
ناقدا ،فتعوق صياغته وشكله وغرابة دنياه عن بيئتنا ومشاكله عن
مشاكلنا أن يتعلم منه أحداثنا غري املضمون السليب.
يف املدرسة تعليم متلف كئيب ،ويف اجملالت والسينما إغراء،
يف املدرسة نظام ورقابة ،ويف وسائل اإلعالم احلرة عفوية واختيار
حر .ولعناوين الصحف املختصة صحف اجلرائم والفسق ،جاذبية
مثلما إلعالنات األفالم .فلكل هذا اإلغراء يقبل أحداثنا بلهفة
على التعلم من حيث يتعرضون للمسخ تعرضا اختياريا وهو
728
مسخ ال خيتلف عن مسخ الربامج املدرسية املشحونة بالبطوالت
اجلاهلية ،والفلسفة امللحدة يف طبيعته ،وإن كان هذا يتخذ أسلوبا
بيداغوجيا ذلك يعرض بضاعته عرضا صرحيا .وبني املسخني تعلم
جيل مفتون من بعده أجيال أشد فتنة الوقاحة قبل الغضب
اإلعرتاضي ،والفساد اخللقي قبل الفساد الثوري.
عندما يدرس خرباء جهازنا التعليمي ،حبضور أساتذهتم الزرق
أو فيما بينهم فهم لذلك كفاء ،مناهج التعليم ليجعلوها مالئمة
للقومية مرتمجة أصيلة ،يرصفون أمساء فالسفة اجلاهلية ليكون
فكرهم قاعدة للتكوين العام ،مث يضيفون إىل الالئحة اسم الغزايل
وطه حسني متجاورين ليمكن مقارنة الفلسفة األم بفلسفتنا
القومية ويلعن اسم الغزايل اسم اجلاهليني واسم جاره يف املنهاج
املدرسي لعنا ال تدركه العقول املطموسة .فهذا مسامهتنا القومية
يف ميدان املدرسة والكتاب .أما يف السينما فلخالعتنا القدح
املعلى على خالعتهم مهما كانت منمقة ،وحنن نصدر نساءنا
لريقصن هلم رقصة الداعرات ،أجسادا يف سوق الرقيق العاملي،
وصورا ملونة على أفالمنا القومية الشهرية.
نالحظ وحنن على أبواب عهد احلياة اإلسالمية أن نظامنا
التعليمي ومناهجه ومدارسه رخيصة من حيث إنتاجها باهظة
التكاليف عند النفقة .ونالحظ أن اإلمكانات التكنولوجية اليت
729
يتيحها االكتشاف العلمي تطور التعليم املدرسي يف بالد اجلاهلية
وتعطيه جناعة أكثر فتجتمع عندهم الوسائل التقليدية بالوسائل
التقنية فرتتفع مردودية التعليم املدرسي ارتفاعا عظيما حىت ال
يقصَر عن كل ألف تلميذ إال ثالثة ال يتممون تعليمهم االبتدائي.ُ
أما عندنا فضعف املعلم وفساد اإلدارة ال تستقيم معهما تقنية وال
ترتفع معها فاعلية ،فيضيع من كل ألف طفل أكثر من مخسمائة
ومخسني قبل الشهادة االبتدائية .وإن استعنا يف مدارسنا بوسائل
اإلعالم ،فهي آالت مستوردة باهظة األمثان تناقض تناقضا صارخا
جهل الذين يستعملوهنا وفقر الذين تستعمل من أجلهم بعد أن
دفع ذووهم مثنها.
أصبح العامل املتطور يضاعف جمهود البشر بطاقة اآللة ،ويف
ميدان التعليم يستعملون الوسائل السمعية البصرية للتوضيح
وإنشاء حركية جديدة يف جمموعة األطفال والطلبة أكثر تفتحا
على الواقع العملي من حركيات األسلوب التقليدي املرتكزة
على شخص األستاذ وكلمته ومبادرته .ويف عاملنا السريع عامل
التخصص واحلاجة املتواصلة للمخرتعني ،تتيح الوسائل املكنية يف
املدرسة اطالعا أوسع على العامل وعلى جتاريبه ،وختاطب اخليال
والذاكرة معا .فبذلك تنبه ملكات الناشئني ،وتوجه فكره حنو
إدراك للمعلومات مشويل يسرع هبم للنضج أكثر مما تفعل املنهجية
730
التعليمية التقليدية ،والتفكر املنطقي املدرسي.
فيظهر ملن يهتم بتغيري العقلية الراكدة تنوع االستعمال املمكن
ملنتجات العلم يف ميدان التعليم .وقد وصل التطور عند اجلاهليات
أن صاروا يكلون إىل العقول احلاسبة بعض مهمات التعليم .وما
ذلك إال مظهر من مظاهر األتوماتية العشوائية الباحثة عن طريقها
يف أرض الفوضى املنظمة .ولعل مشكلة تطويرية مماثلة تعرتض
طريقنا يوما ما .أما اآلن فمعركتنا مع وسائل اإلعالم ،كيف
ندمج يف النظام املدرسي منها ما ندمج ،وكيف نروض الباقية
خلدمة أهدافنا وغاياتنا؟
إن أحوج ما حنتاجه هو النموذج اإلسالمي النابض باحلياة،
إنه الرمز الذي يشخصه يف احلياة اليومية مناذج إنسانية وتعبريات
فنية وقيم ثقافية .فالرمز والنموذج الرباين اجلامع هلمة األمة عند
إرداهتا للنهضة به هو الرجل الذي ينفصل عن قافلة الفتنة فيقول
ريب اهلل ،وينطق بقوة ويريد بقوة من موقف قوة يكتسبه من صدقه
بربهان صدقه .لكن وسيلة الرتبية والتعليم هي االتصال اإلنساين
بني النموذج وموضوع التغيري .وال يكفي يف االتصال مثول مجاعة
الربانيني وشهادهتم بالقسط ،بل ال بد من هيمنة الرمز والنموذج
على حياة الناس اليومية ،حبيث ال يسمعون إال ما يذكرهم باهلل
واجلهاد يف سبيله ،وال يرون إال ما حيرضهم على احملبة والطاعة
731
والنصيحة .وحبيث تكون هلم حياة منوذجية رائدة يف كل امليادين
تعلم حياهتم العادية وتوقظها وتدفعها لتحقيق املستحيل.
وهنا يتبني لنا الدور احلاسم الذي ميكن وجيب أن تلعبه وسائل
اإلعالم .إهنا تضاعف الطاقة الرتبوية للربانيني وتيسر االتصال
وتعممه ،وتسرع باحلركة .فخطبة اإلمام اخلليفة يوم اجلمعة بالغ
عام وموعد للقاء يتلقى فيه جند اهلل العاملون اجملاهدون األمر
اجلهادي .وإن كان هذا اإلمام اخلليفة رجال ربانيا وارثا فإن خطبته
ستكون على سورة ومضمون خطب رسول اهلل صلى اهلل عليه
وسلم وكانت هذه اخلطب أحداثا مشهودة ،تأخذ الناس ببالغتها
كما تأخذهم بصدق اخلطيب .فقد كان صلى اهلل عليه وسلم
خيطب حىت حيمر وجهه ويغضب وينظر كأمنا حيذر من عدو يراه
ويسمعه ،لنسم هذا الصدق وهذا الغضب املروي عنه صلى اهلل
عليه وسلم انفعاال مؤثرا ،ولنتدبر أي وسيلة لإلقناع وتعبئة اجلهود
متثلها االتصاالت احلديثة بالتلفاز واملذياع والتمثيل.
إذا صفا لنا وجه األيام وأمطرنا اهلل برمحته ،فإن كنا ال نستطيع
لتّونا أن نصنع بأنفسنا آالت إعالمية ،فال بأس أن نستوردها باملال
ريثما نتعلم ونصنع .وعندئذ لن نستورد أفالما مسمومة وال وسائل
مسعية-بصرية مربجمة معها متاعها اجلاهلي ،وإمنا نشرتي اآللة حنن
نُعلّمها اإلسالم ونودعها نتاج القلوب الطاهرة والعقول املؤمنة.
732
سنطرد من وسائل إعالمنا شياطني الوسواس اخلناس،
وسنحملها رسالة القلوب الربانية احملبة ألمتنا وللعامل أمجع .إن
لنا ممثلني حمنكني تعلموا فن القول وصناعة اإلنفعال ،فإن تناولت
قلوهبم رمحة اهلداية ورقة اخلشوع وتبتلوا هلل حىت صفت مرآهتم ،فإن
متثيلهم سيتحول صدقا ،وسيبعثون هلذه األمة الغثائية مرياثها من
النموذج اخلالد ومستقبلها من الغيب املوعود .وسيكون بصحفنا
وجمالتنا ذكر اهلل املشيد بقيمة اإلنسان بقيمة اإلنسان اخلالد
بدل التهافت السياسي ،وسيكون هبا املتانة والتقوى بدل اخلالعة
والغثاثة.
إن بالد اهلل الثورية تنتزع أمتها من فوضى اإلعالم االسرتواحي،
وجتند كل صوت وكل ملكة وكل قدرة خلدمة اهلدف الثوري .هناك
ثقافة ملتزمة باخلط الثوري ،مبقتضاها يعاد النظر يف التاريخ ويعاد
النظر يف اإلنسان وعالقته بالكون وعالقة بعضه ببعض ،وطرق
تفكريه وتعبريه ،فما تنبس نابسة وال تتحرك رطبة ويابسة إال ِوفْ َق
اخلط املفروض .هذا االلتزام الثقايف حصار للعقل والعاطفة تلهبه
وسائل اإلعالم استبدادا لكيال حييد عن الوجهة .وهبذا تصبح
وسائل اإلعالم وسائل تكوين وتطوير.
لروسيا فنها الواقعي الستاليين الذي يرفض مغامرات الفنانني
الفوضويني .وهذا الرفض مظهر دقيق للخالف اجلوهري بني
733
التصور التقليدي للفن والتصور الثوري املغري .وال تزال روسيا
متخلفة يف التعبري الفىن باهتام زبنائها اجلاهليني ،لكن اهتامهم ال
مينعهم من اإلعجاب باألفالم الرائعة اليت أنتجتها اجلمالية الواقعية
الفنية.
ويزور الزائرون بالد الثورة الثقافية فيهوهلم االنطالق املتموج
اهلائل الذي أسفرت عنه حركة احلرس األمحر ،إهنا شعارات على
كل اجلدران ،وسيل من الكتابة والتعبري الفين .ويصف الواصفون
أفالم الصني امللتزمة وآداب صحافتها ومست اجتماعاهتا اجلماهريية
بأهنا صبيانية مبنية على االنفعالية البدائية .إن األدب امللتزم يف
بالد اجلاهلية الثائرة أدب بدائي يف معايريهم الثقافية املرتفة ،لكنه
أدب رجولة وفاعلية ،لذلك فإهنم ال يقاومون تأثريه وال يفسرون
كيف يَأْ ُسُرُهم التعبري البدائي بقوته وبساطته ،ألهنم ال مييزون بني
التمثيل الفين الصناعي وبني التمثيل الصادق حلياة منبعثة.
تلك اجلاهلية نصبها اهلل يف ثورهتا تعليما لنا بضرب األمثال.
وإن لنا آلدابا قومية وعقوال وفنانني قوميني لن حتوهلم الثورة
رجاال ،وإمنا يبعثهم اإلسالم ليشرفوا باألذان لصالته على املنارات
وبالتكبري والتهليل ،وعلى أعواد املسرح والشاشة ويف املذياع
والصحف باملوعظة احلسنة واجلدل اجلميل.
ويذكرنا تقدم وسائل االتصال واإلعالم يف عصرنا بتخلف
734
عقليتنا وقصور فهمنا لإلسالم ،وال يزال من علمائنا األماجد
من يكر ويفر حيرم وحيلل باحلجة الغامضة والقرحية الراكضة مع
األلفاظ.
ومل ينتظر اإلسالم يوم انبعاثه أن تأيت اإلشارة من مجود بعض
الفقهاء .فإهنم إن كانوا يظنون بأنفسهم الصدق ،فخليق هبم أن
يضعوا أنفسهم يف مظنة الفحولة اليت ال تأيت األمور من أطرافها
بل متسك هبا مسكا قويا ،يا حيىي خذ الكتاب بقوة .وما عقلية
التحرمي والتكفري على غري حجة إال سالح دفاعي عن مواقع
العجز واحلرية.
وسائل اإلعالم أداة حركية هائلة سائبة اليوم بني ظهرانينا
مرتوكة لفوضي اإلدارة املرتفة ومبادرات االبتداع الفين املمسوخ.
وإنك لتخجل مما تفرزه اشرتاكيتنا القومية يف أفالمها وإذاعتها
وجمالهتا خجال فيه مرارة الشعور بفسولة قوميتها وحياء من
السقوط اخللقي والعري املعروض وما بني السطور والصور والسرد
القصصي من عالمات تفسر اهنزامنا وضياعنا.
وسائل اإلعالم أداة للرتبية الشمولية والتعليم املستمر املتكامل،
وإن أدجمنا وسائل اإلعالم العامة يف اجلهاز التعليمي املدرسي
حىت يصبح يف يدنا أداة موحدة للرتبية لنحصل على مقاليد
العقول واألفئدة .تلك تعلمها احلكم الصائب املميز للجاهلية من
735
اإلسالم ،والنظرة الناقدة اليت تستخلص احلق من الباطل ،والقوة
والرجولة من الغثاثة واالحنطاط ،وهذه نلقنها اإلميان بالنموذج
احلي الواصل بني املؤمنني ،ونلقنها القرآن حياة جمسمة ال جمرد
سرد متغنج.
736
تطوير التعليم
من حاجات النهضة اإلسالمية دمج وسائل اإلعالم يف اجلهاز
التعليمي .وهو مطلب هتدف إليه اجلاهلية الفوضوية فال تصل إليه،
وال ميكن حتقيقه يف واقع األمر إال يف سياق مغري .ورثت اجلاهلية
اجلامعية نظاما تعليميا من القرون األوىل الناهضة ،من أعالمه
روسو وديوي وأقراهنما .وكان هلؤالء األعالم باع طويل يف تطوير
التعليم وتقنيته ،ويف معاملة األطفال ومعاناهتم .وعندما ابتدع
العقل اليهودي العبقري علم النفس ،ج ّد يف عامل الرتبية والتعليم
اهتمام بنفسية املعلم واملتعلم ،وجدت حماوالت ملالءمة الكيانات
البشرية املتغرية باألهداف التعليمية املتنوعة .ودرس علم النفس
الرتبوي مشاكل منو الطفل يف حلقات عمره ،ومشاكل اليفاعة
والشباب وحوافز التعلم ودواعيه وعوائقه اخلارجية والنفسية.
ولعل أيامنا هذه أكثر األزمان حرية أمام احنراف األحداث
وأكثرها اهتماما بتطوير الرتبية والتعليم .وإن كان االهتمام
بالتطوير منصرفا إىل التعليم أكثر من انصرافه إلصالح االحنراف.
وإذا استثنينا الشيوعية املربية اخلبرية بالصني فال نكاد نسمع
شكوى اجلاهلية األخرى من احنرافها إال إحصاءً وإصالحا إداريا
رادعا ،أما التعليم ومشاكله فيحتل الصف األول يف العناية.
737
ذلك التصال التعليم بالصناعة ورفع مستوى العيش ،وألن العقول
املبتدعة اجملددة لنوعية البضاعة ضرورية للمجتمع االستهالكي
وللعقلية املتصارعة يف حلبة التوازن النووي.
ينفق على التعليم يف بالد اهلل ما بني 20و 30باملائة من جمموع
النفقات العامة .وكأمنا يكون ارتفاع النفقات العامة على التعليم
معيارا للجهد املبذول لتحسينه وتطويره .وذلك ميشي يف نسق مع
املنطق الكمي .أما يف بالد الرتبية املغرية ،فإن االهتمام بالناشئة
ال ينفصل عن االهتمام الكلي باإلنسان كما ال تنفصل الرتبية
املغرية للنفوس عن التعليم املغري للعقلية .تلك تنشل العادات
السيكولوجية من مربضها ،وهذه تنشل العقل من عاداته .ويف
بالد الرتبية املغرية ،بالد اإلسالم غدا يوم الفرحة إن شاء اهلل ،لن
تكون النفقات العامة إال جزءا من اجملهود املبذول لتطوير التعليم
وإصالح االحنراف .إن مع الطاعة تطوعا ومع النفقة املفروضة
بذال زائدا ال حد له إال مهارتنا يف استثمار ما لدينا من خربة
وإرادتنا للمسامهة يف اجلهاد .إذا ذكرنا هبذا ،وفرغنا من االقتناع
بضرورة دمج كل الوسائل لصنع آلة واحدة موحدة للتغيري الرتبوي
التعليمي ،فلننظر من ماذا نغري التعليم ونطوره ويف أي اجتاه.
أول ما جيب أن نطوره ونغريه هو عالقة املعلم بالطفل واألستاذ
بالطالب .العالقة احلالية عالقة هلا عيبان ،أوهلما يف نفس املعلم
738
وعقليته اليت يؤدي هبا وظيفته ،إنه موظف مأجور ال يشعر أن له
يف العملية كلها مسؤولية ،إال املسؤولية اإلدارية املتآكلة .والثاين
عيب ناشىء عن األول وهو اجلفوة العاطفية بني املعلم والتلميذ.
فجو املدرسة جو بارد ثقيل مرهق ،وقليل من املعلمني من حيب
مهنته ليحب هبا الطفل .أو من حيب الطفل ليحب حببه مهنته.
ويعرب الطلبة املهتزون املعارضون عن هذه اجلفوة وعن العقلية
املأجورة وما يصحبها من فشل بنفورهم من استعالء األستاذ
وبعنفهم عليه ،حىت يرغموه على سلوك إنساين حيرتم كرامتهم.
ومن العقلية املأجورة واجلمود العاطفي يرتكب مجود أكادميي
حاربه طلبة اجلاهلية املعرتضون .فلما جنحوا عوضوه بعالقات
جديدة بني األستاذ والطالب ،فمن جانبه اخلنوع لإلرادة اجلماعية
«الدميقراطية» ومن جانبهم التحلل اخللقي ،والتحدي لألخالق
والذوق السليم واألدب العام يف قاعة الدرس .وقد نقل طالبنا
سلوك زمالئهم ومناذجهم اجلاهليني ،فأساتذهتم أشد خنوعا ،ومن
تأىب منهم استعدوا عليه بزمالئه من الكافرين الزرق ،وحاربوه حىت
ينقاد للفتنة إذ مل يكن من قادهتا .وهكذا يتسابق األساتذة أيهم
أكثر مروقا وأسبق ملوبق.
والتغيري الصيين يف الثورة الثقافية بدأ بتمرد الطلبة استجابة لنداء
الزعيم ،وكسر احلماس الطاليب عقلية اجلمود األكادميي ونفسية
739
االستعالء الطبقي يف صفوف املثقفني .بيد أن الوقاحة الفوضوية
حل مكاهنا االنضباط الثوري واآلن أخذت تبدو عالمات تنذر
بأن ذلك االنضباط مل يكن وازعا كافيا لصد الشباب عن أسباب
الفوضى.
وغدا يف ظل اإلسالم لن يكون للطالب وال للمعلم مكان غري
املكان الذي شرعه اهلل وال مبادرة غري اجلهاد املنضبط يف موقف
كل واحد من الصف .إن اهلل عز وجل علمنا يف قصة موسى عليه
السالم كيف ينبغي للمتعلم أن يتبع معلمه ويصرب معه ،وأمرنا
أن نعزر الرسول ونوقره وحنبه .وقد كان حممد رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم معلما ،ما بعث إال لذلك ،وكان منوذجا كامال وأهال
للتوقري والتعزير واحملبة .فمن هذه النموذجية ينزل الوقار وتنزل
السكينة على املتعملني واحلشمة .فاملعلم املؤمن اجملاهد ينبغي أن
يكون منوذجا حيا باسطا ذراعي احملبة ملن اسرتعاه اهلل من أطفال
املسلمني وشباهبم ،باسطا وجه احلياء والوقار ،وعلم الربانيني
ورفقهم .وعلى اجلانبني بعد ذلك ،بل هلما حقا ورمحة ،أن يرتفقا
برفق اإلسالم فيوقر الصغري الكبري ويرحم الكبري الصغري.
ال بد من تربية املربني وتعليم املعلمني أوال ،وعلينا أن حندث
على مرتفينا ضغطا ينزهلم من األبراج العاجية دون أن خنل باملبادئ
اخللقية وسيلة وغاية .إعادة الرتبية كما مارسها الصينيون ابتكار
740
عظيم ،وعلينا أن نسلك منهاج الرفق لنغري بنية اجملتمع الراكد
الغثائي مبا يشبه موجة البشرى ال موجة الثورة الثقافية ،ومن
البشرى ما يزفه شديدو القوى ذوو املرة فيعلمون ويربون وال
ينتكس تعليمهم وتربيتهم لفوضى عنيفة.
مث إن تنظيم مدارسنا وإدارهتا وبراجمها حباجة لتغيري وتطوير.
فالعقول الكليلة ال تستطيع جتديدا يف أسلوب العمل لعدم ارتباطها
بغايات واضحة وأهداف معلومة خمطوطة .فتتخذ الشكليات
والتقاليد مكان اللب واملقصود .واملعلم نفسه يف هذا التعليم
املتخلف شكل وأثاث ،مؤهالته أشكال لالمتحانات وامللكات
حمكية عن النموذج املرتجم ،وينتظر منه اجلهاز التعليمي أن حيكي
صورة رجل بلباسه ويوخبه الرئيس إن دخل املدرسة بال شناق
يف عنقه أو أخل بطقس من الطقوس البيداغوجية العتيقة .ألن
اإلخالل هبا وطرح الشناق أخطر األخطار يف نظر اجلهاز ،أما
الفاعلية واإلنتاج ،وأما إفادة التالميذ فحساهبا عند اإلحصاآت
الناطقة الفصيحة.
يف دنيا العقلية املأجورة واحملسوبية والشكل الفارغ ينتخب
لإلشراف على املدارس وإدارهتا من هلم العتاقة والبلى ال من هلم
الكفاية والبالء .ومىت أحرز املوظف التعليمي علة منصب إداري
ايف أصبح له حق يف احتالل مركزه كما حيتل اجليش الغازي إشر ٍّ
741
أرض العدو .فله أن يعمل جبد فيرتسب جده يف اهلزل العام
والعبث العام إىل أن يُعيىي خبذالن أهل املهنة ،وله إن كان من
نوع آخر أن يعيث يف األرض فسادا على غرار طبقته من املرتفني.
ويعلمنا التنظيم اجلاهلي ،حىت الفوضوي منه ،أن املستهلك
للخدمات أوىل بانتخاب من خيدمه .وتعلمنا الشيوعية املربية
أسبقية «السياسة» مبعىن التضحية واخلدمة .لذلك ففي ظل
اإلسالم ينبغي أن يكون للوظيفة معىن غري الذي تعرفه اجلاهلية.
فاملوظف محل على األمة ضربة الزب إىل أن ترتشي أعضاؤه هرما،
وتبلى مهته وذمته ،واخلادم األجري ينبغي أن يعطي حساب عمله
وبرهان صالحيته يف كل يوم يشهد به من خيدمهم.
هؤالء املديرون املوظفون ،ويصحف أهل العربية القومية
املريضة فيسموهنم «مدراء» وذلك أشبه بانتمائهم لطبقة السفراء
واألمراء ،أصحاب إقطاع جيب أن يعاد النظر يف ترشيحهم للرئاسة
ويف كفايتهم وخدمتهم ،يف إطار مراجعة عامة للنظام اإلداري
الفاسد .وليس عند اجلاهلية درس نستفيده ،فهي تشكو من عدم
جدوى أجهزهتا اإلدارية مثلما نشكو ،وإن كان الفساد يبدو أكثر
وضوحا جبسمنا اهلزيل.
مناهج التعليم املرتمجة ختدم قضية التغريب والتكفري مع قصورها
عن حتقيق األهداف التعليمة .وهي مناهج ثقيلة عشوائية وضعها
742
الواضعون من خربائنا الداجنني يف خط النظر الكمي ،فكأمنا
يتوقف جناح تعليمنا على كثرة وتنوع املواد اليت ندرسها ،أو كأمنا
يقصد من ذلك تعجيز املتعلمني وإرهاقهم .ويف كثري من احلاالت
يعجز املعلم نفسه عن فهم املنهاج املدرسي فكيف بالتالميذ.
إن ميدان التنظيم املدرسي والتقنية التعليمية ككل ميادين
التكنولوجية جمال فسيح جلهادنا البنائي .علينا أن هنجم بشجاعة
على املهمات العويصة فال يثبطنا وهم امتناع التكنولوجيا عنا.
وحينئذ ميكننا أن نتعلم كيف نبتكر ألنفسنا نظاما وتعليما بدراسة
جناح اجلاهليات وفشلها .ال حيد ابتكارنا عائق إن استقلت إرداتنا
وعقولنا وجعلنا االقتصاد إىل الغاية مبدأنا .فللجاهلية املؤثثة
جتاريب غنية يف حقل التعليم لن ننقلها ونرتمجها ألن وسائلها من
آالت ومتاع ينتجونه وال ننتجه ،ولكن التعليم اآليل املربمج يتناول
الذاكرة والفكر وال خياطب اإلرادة ،وال يوقظ الفكر الناقد .فال
نكون أتباعا آلليتهم وال لعقلنتهم عالقات املدرسة إىل حد يفقد
معه الناشئة معاين الصلة اإلنسانية والرتاحم واحلشمة.
يرفع الصينيون شعارات االعتماد على النفس وشعارات
التطوع القتحام معاقل التكنولوجيا .ولنحن أحق بشجاعة ورجولة،
فلذلك ننتزع أنفسنا من سلطان الثقافة األجنبية ونبتكر جهادا
تعليميا مربيا ميارس معه املعلم أبوته وحينو على أبنائه ،وحيمل
743
إليهم يف املدرسة ما حتمله إليهم وسائل اإلعالم غدوا وعشيا من
بشائر احلياة وإشارات العمل واجلد واملثابرة.
املعلم ضحية لدوالب الفتنة ،واملدير وكل اجلهاز التعليمي،
كما حنن ضحايا رئيسنا ومرؤوسنا .هكذا ننظر إىل املستقبل يف
خط نظر التوبة العامة اليت ترفع املظامل وجتب ما عداها بتجديد
النية والعقد واملبايعة.
املعلم ،ورجل التعليم بصفة عامة ،ال يتصل باحلياة إال اتصاال
مهنيا حمدودا ،وأحيانا يسكن بادية هو فيها غريب ،دفع إليها
وهو يتأفف وسكنها وهو يتقزز من خشونة العيش وجفاء الناس.
الناس ال حيبونه لسوأة محلها إليهم ،وال يثقون به إال مثلما يثقون
بأمثاله مراوغة ومداراة .إنه ال صلة تربط املعلم ببيئته ،وهو ال حيس
بانتمائه للمستضعفني من الفالحني .فإذا تغريت العقلية العامة،
وأصبح سكن البادية وخشونتها ورجولة املستضعفني وصربهم وهو
سبيل اخلالص العام ،لزم أن يتعلم رجال التعليم كيف ينزلون إىل
مستوى أخوهتم ،وكيف يعملون باليد وكيف حيملون على الظهر
سابقني ليضربوا املثل ،وميحوا عار الفتنة اإلقطاعية اليت هلم فيها
أصبع أو ظفر بوجه من الوجوه.
هذا تكوينهم العام ،أما التكوين العقلي فتتيح لنا التقنية
التلفازية مضاعفة اخلربة النادرة عندنا .إن لنا أجهزة ابتعناها
744
للمتعة واللهو ،فلتنطق هذه األجهزة باحلكمة حاملة ملعلمينا يف
مدارسهم مع تالمذهتم ومع الناس إرشادا عاما .ولتحمل إليهم
خاصة تعليما مهنيا ودروسا يسمعوهنا ويروهنا مع التالميذ ليحيكوا
حوهلا نشاطهم.
كان تكوين املعلمني والتالميذ عملية حرفية تريب كل فرد
على حدة داخل جمموعة من املتعلمني .فيكون لكل منهم صلته
باألستاذ وخط سريه على قدر ذكائه ودوافعه .فلما استعملوا
التلفاز أصبح األمر كأنه إنتاج عمومي للثقافة وتكوين جمموعي.
يف العامل اليوم حماوالت عديدة متنوعة لإلستفادة من التلفزة يف
ميدان التعليم دون التعرض ألخطار تعليم آيل ال شخصي .وال
يزالون يبحثون عن وسيلة لتحقيق هدفني متناقضني كانت املدرسة
بال تلفاز حتققهما حبرفيتها ،مها التعميم ليأخذ كل طفل نصيبه
من التعليم ،مث الرتبية الفردية والعناية بكل شخصية على حدة.
وحيصي احملصون أن تعميم التلفزة يف مدارس جهاز تعليمي
ما يكلف زيادة يف النفقات التعليمية تقارب سبعة باملائة بني ما
يبلغ إنتاجها زيادة يف التحصيل تقارب مخسني باملائة .بيد أن
العقبة يف وجه تطوير التعليم تكمن يف املعلمني أنفسهم ،ألهنم
يقاومون كل جديد يغري ما ألفوه ،كما يقاوم املشرفون على
اجلهاز هذا التجديد بنفس العقلية .إن التجديد يريد جتددا يف
745
أسلوب التفكري وأسلوب العمل ،ولكل طريقة جديدة يف التعليم
تقنية يكسل املعلمون عن تعلمها وخياف املشرفون منافسة خبري
حيل مكاهنم ليسهر على تطبيقها .وهكذا نرجع إىل ضرورة النظر
يف كل مشكلة من مشاكلنا يف سياق تغيري عام جيرف الغثاء بعد
اليأس من عالجه ،ويبعث حياتا يف جسم األمة وعافية.
لقادتنا اليوم مشاريع «عظيمة» إلصالح التعليم كما هلم
مشاريع إصالحية أخرى يف مثل العظمة وكل ذلك آئل إىل فشل
ما دمنا نفكر بعقلية ذرية ال تصل األسباب باملسببات يف حركية
البنية العامة .وما هلذه األمة إال مشروع واحد منقذ هو مشروع
احلرية والتحرر من التقليد وسلطان العادة مث اقتحام عقبة االبتكار
والتجديد الشاملني العامني.
746
التعليم املستمر
يتقدم منط احلياة االجتماعية يف عصرنا ويتطور تطورا
سريعا .والتعليم ال يساير هذه السرعة ،بل يتخلف وحياول
اللحاق مستعريا أجهزة الكشوف العلمية ،فإن أرضى حاجة
االقتصاد باجلهد املتواصل ،فإنه ال يرضي حاجة الفرد وال حاجة
اجلماعة .هناك يف العامل تعليمان أحدمها مدرسي متخلف رغم
اإلصالحات املتواصلة ،واآلخر حر سهل املتناول مغر وإن كان
غري وظيفي وال منتج وهو التعليم اإلعالمي.
مشاكل الثقافة والتعلم الثقايف واملهين فرضت على ناس
اجلاهلية أن يبحثوا عن تعليم مستمر .وقد رأينا منوذج الثورة
الثقافية املستمرة وكتيبها األمحر وفاعلية أسبقية السياسة يف بالد
الصني أرض العلم والتعليم .وهنا نستعرض ما عند اجلاهلية املؤثثة
لتتم لنا االستفادة من عطاء اهلل غري احملظور.
يف بالد الثورة الصناعية ويف مقدمتها أرض «ما بعد الصناعة»
تتقدم التقنيات وتتعقد استعماالهتا فتزداد حاجة االقتصاد إىل
تعليم العمال وحتسني تعليمهم وتطويره .وبتقدم التقنيات يتوجب
على العامل أن يتكيف حبركية التغيري املخرتع وما يتبعه من تغري يف
التنظيم االجتماعي .ويف اجملتمعات السكونية الراكدة يتعلم املرء
747
صناعة ما فيكسب جتربة وخربة تغنيه مدى حياته عن جتديد ما
تعلمه ألن التقنية ال تتغري ،أما يف عاملنا املتحرك فإن ضرورة التعليم
املستمر تواكب ضرورة التجديد املستمر يف أساليب االنتاج ،وهذه
ختدم حاجة اإلنسان اجلاهلي االستهالكي لتجديد أثاثه.
يف مجاعة اإلسالم وحركية التطور حنو إسالم القوة والتقلل ومحل
الرسالة لتكون حاجتنا للتجدد واالبتكار أشد من حاجتهم ،لكن
يف اجتاه مغاير ،وحنو غاية ال تدخل هلم يف حسبان .لنضع هذا
نصب عيننا حىت نعلم موضع العربة يف مراقبتنا لتعليمهم املستمر،
غري وامهني حنسب الشحم فيمن شحمه ورم.
يف أرض ما بعد الصناعة أرض أمريكا بالد األثاث والرئي
تغري يف طبيعة املنتوجات وأشكاهلا ،ففي سنة 1968كان أربعون
باملائة من جمموع البضائع املعروضة يف األسواق قد اخرتع منذ
أقل من مخس عشرة سنة .والنسبة يف تزايد سريع .وكل هذه
البضائع أو جلها يصنع اليوم يف معامل تتحكم السربانية يف
إنتاجها كما تتحكم يف حساباهتا بعضا أو كال .ويف موازاة هذا
التغيري حتول سريع يف نفس اجلاهلي املؤثث ،إنه قلق على مستقبله
املهدد باألوتوماتية السربانية وبالقلق االجتماعي وصراع األجيال
واألجناس وعنف الشارع والصواريخ .أخالقيته تتغري وتتواىل عليها
«مودات» السلوك من خنافسية إىل هبية ،تنوعات دوابية هي
748
لنا من آيات اهلل اآلذنة خبراب اجلاهلية وحضارهتا .ويف ميدان
اجلماليات تغري سريع مماثل بل إن عقلية أولئك باتت خاضعة
للتيار املتماوج تعطي للتجديد قيمة جملرد أنه جتديد ،فكل من لطخ
القماش باأللوان تلطيخا أشد نكرا من سابقه رسام ،وكل من جن
يف ضرب القيثارة جنونا أعمق من صاحبه عبقري .وهكذا غليان
التجديد ،ومصدر احلاجة إىل التعليم املستمر ،لكيال يتخلف
اإلنسان عن آالته يف هذه املسابقة اجملنونة.
لكل جتديد يف بالد اجلدة وقعه على احلياة اليومية ،فال بد
لكل إنسان أن يساير حركة االخرتاع ليغري على ضوئها أسلوب
حياته داخل األسرة ويف ميدان العمل .وكان ذلك خاصا فيما
مضى باملختصني ،أما اآلن فكل من مل يتكيف بسرعة مع اجلديد
ينطرح بعيدا من وراء اجملتمع املتحرك متخلفا عن الركب وعرضة
لألحداث املتسارعة ال يعرف كيف يتقيها.
وإذا أضفنا إىل االعتبارات السابقة أن بالد األثاث املتجدد
حيكمها طاغوت اإلعالم املتضارب املصارع يف الفوضى املنظمة،
وإن كل ذي فكرة أو مذهب أو قضية من القضايا حتميه الدميقراطية
العتيدة وتعطيه ليقول ما يريد حبرية يف الصحف والتلفزة ،كما
حتمي كل ذي بضاعة حىت يعرض بضاعته سواء كانت البضاعة
أثاثا يرضي حاجة اجلدة ،أو أخالقية من أخالقيات مسارح العُْري
749
مثال .وأجهزة اإلعالم يف اجلاهلية املتفسخة أدوات اسرتواح كما
هي يف بالدنا ،مماثلة الرتمجة بنسختها ،أو ترمجة منقحة تضع النقط
على احلروف مشرية ملكان الفحش والرذيلة ،ليفهمها املتخلفون
عن موكب التجديد االحنطاطي.
وال تستطيع جمتمعات اجلاهلية املنحطة أن تصوغ من أجهزة
إعالمها آلة موحدة للرتبية ألن هذه الدميقراطية كالتنني هلا رؤوس
متعددة ال تتعايش وال تتصاحل إال على مبدإ «اترك الناس يعملون»
ال تستطيع ذلك مثلما تفعل جاهلية الثقافة امللتزمة وجاهلية
الشيوعية املربية األكثر التزاما .لكن هنالك عقالنية منظمة
وفاعلية وإنتاجا عرفت هبا أمريكا ،وهنالك تطلعات وتقنيات
تعليمية حتاول إحلاق الرجال والنساء مبستوى الثقافة وإعطائهم
مواقف أمام تطورات السياسة والفن وفرص االسرتواح والعطلة.
هي تقنيات ختدمها وسائل بشرية ليس لدينا منها إال القليل
ووسائل مادية حنن إليها فقراء لفقرنا من الرجال.
وسائل اإلعالم األمريكية تعطي عن العامل صورة مربقشة حائرة
مضطربة ،وتفرض نفسها على الفرد فال يستطيع مقاومة ،ففي
الشارع أضواء اإلشهار بالليل والنهار ،ويف البيت قعيدة مرتبصة
هي زجاجة التلفاز .ومع الليل كل ذلك وحواليه صخب وتعب.
ويف هذا اجلو تتفجر إرادة الفرد لتحسني مستواه باجملهود الفردي،
750
إال أن عقالنية صنعت الصخب متلك من احلكمة أيضا ما تصنع
به وسيلة تعليمية اجتماعية.
وقد درس أصحاب التعليم املستمر مشاكل تعليم الكبار
تعليما يصلحهم مبستوى اخلربات املتجددة يف عامل الثقافة والصناعة
واحلياة االجتماعية ،فوضعوا أسئلة ثالثة 1تلخص اهتماماهتم،
أوال :كيف حيدث اتصال مستمر وحقيقي ومتبادل بني رجال
الفكر واالبتكار والقيادة وبني اجلماهري ؟ وهذا شرط أساسي يف
إفشاء العلم والثقافة.
ثانيا :كيف يوازن بني نفقات تعليم الكبار وبني نفقات
اإلعالم العامة؟ وقد حسبوا أن نفقات اإلشهار بأمريكا تساوي
نفقات التعليم االبتدائي والثانوي جمموعة.
ثالثا :كيف يوازن يف عامل العطلة واالسرتواح بني وقت
التكوين اجلاد ووقت اللهو والراحة.
ندع اجلاهلية املؤثثة تبحث عن خمرج هلا من صخبها وتعاين
تعليمها يف حل موازناهتا ،ولنتعلم حنن كيف يقف اإلنسان أبدا
عاجزا أمام العقبة ،فال هو يستطيع اقتحامها جلهله وجهالته ،وال
هو يستطيع جتنبها ألهنا يف نفسه ال يف العامل اخلارجي .والعقبة
هي هي ال ينال من طبيعتها وال من مشوخها على اإلرادة غري
751
املؤمنة التقدم احلضاري وال الثقافة الفاحتة ألجواء السماء.
يضع السؤال األول من أسئلة اخلرباء مشكلة احلواجز بني
الناس وعسر االتصال بينهم .يرى اخلرباء األمريكان املشكل نظرة
جتريبية جزئية تالئم بيداغوجية وليم جيمس وديوي .إهنم يعتربون
العقدة يف ابتعاد رجال الفكر واإلبداع عن اجلماهري ،واحلل يف
االتصال الفكري ليطلع الناس على ما يبدعه الفنان والكاتب
فيمكنهم أن يستهلكوا خمرتعاته ويتمتعوا برفاهيتها ويتزودوا بزوائد
خربته .فاالختالف بني أصناف الناس اختالف كمي يدخل يف
نطاق التفاوت العقلي ،واحللول املقرتحة حلول استهالكية ال
تروم تغيري اإلنسان ،بل تريد تكييفه لكيال حتول خمرتعاته وما
تفرضته من ضغط على الوقت بني الثقافة ومستهلكيها .وَث َ
بيداغوجية مغرية ،كتلك اليت يف فكر روسو ولينني وماو ،تصنف
الناس تصنيفا طبقيا لتعرب عن املشكل ذاته تعبريا يرمي إىل التغيري.
فاألول يقول يف اجملتمع الرفاهي :نعلم الكبار لكي يلتحقوا
بركب االخرتاع ويكسبوا كل خربة جديدة ،وذلك بتيسري اتصاهلم
الفكري مع أهل االبتكار .وتقول الثانية :نغري البنية االجتماعية
لنمحو الطبقية بني الناس وذلك بثورة الصعاليك على املستغلني،
نعلمهم الثورة ومبادئها حىت يثوروا.
وسواء ثورية التعليم املستمر الشيوعي والتعليم املستمر القمعي
752
الرفاهي يف جهل عقدة العقد يف اإلنسان .أال وهي األنانية وما
يتبعها من عالقات جمتمعية متفاقمة أبدا مادام اإلنسان يعي نفسه
وسط اجملتمع قطعة حيوانية تدب إىل املوت وتنتهي عنده.
لكي يتعلم اإلنسان تعلما مستمرا ال يكفي أن نتيح له
فرص التعلم ،بل جيب أن خنلق فيه حافزا قويا حيركه من داخل.
ويف اجملتمعات الراكدة يتجمد الناس على جهلهم فال حيبون
أن يتعلموا ألهنم ال يطيقون أن يقروا جبهلهم وحاجتهم للتعلم
.متنعهم األنانية من ذلك كما متنع من هلم اخلربة والدراية من
إشراك إخواهنم يف عملهم .وإن الفقه املنهاجي يدلنا على أن
اقتحام العقبة يبدأ بتحطيم حاجز االستكبار والتفرد األناين.
وأول خصاله الصحبة تفرض يف املريد أن جيلس جملس املتعلم
برغبة يف التعلم قوية ومستمرة.
يف الصني كان الفالح أشد الناس مجودا ،إىل أن نشأ يف نفسه
حافز تعلم «الفلسفة» «والسياسية» ،وحطم أنانية املستكربين
كما حطم أنانية حمتكري التكنولوجيا .ويف ظل اإلسالم ينزل كل
عن أنانيته طوعا أو كرها ليقتسم مع اجلماعة خربته ويساهم يف
التغيري متعلما من األيدي املتواضعة خادما هلا .وإن كان أصحاب
األثاث يفشون الثقافة الغاوية والعلم الطاغوت بوسائل ال منلكها،
فنحن بسرينا يف صف املستضعفني سنضاعف باحملبة علمنا القليل
753
ووسائلنا الضئيلة وسنخلق وسنجدد ثقافة ترفعنا وال تنحط بنا.
جيب علينا يومئذ أن ننظر إىل الغاية اإلحسانية أبدا لكيال ينحرف
علمنا وثقافتنا إىل األهداف التكاثرية االستهالكية ،ولكي يستمر
تعليمنا ويتعمم عرب احلواجز االستكبارية اليت خلقها الظلم والنكاد
البشري .إن لنا عقوال خامة مهجورة لفقر يدها ،فيستبد املرتفون
باملال لينفقوه على أبنائهم ويشرتوا هلم به علما ومكانة اجتماعية،
حىت ولو كانوا أغبياء ،ويضيع العلم بضياع أوالد الفقراء ..وإن
العلم املشرتى ال حييي أمة أبدا بل حيييها علم مبذول بعناية ملتعلم
راغب بقوة.
وهنا نلتقي بالسؤال الثاين من أسئلة اخلرباء ،وهو الذي يضع
مشكل التوازن بني نفقات التعليم ونفقات البذخ .ويرجع بنا هذا
ملنهاج اقتحام العقبة يف شكلها العادي وطبيعة عالقتنا باملال
واملتاع .إهنا عقبة الشح وااللتفات يف العادة القاعدة باإلنسان يف
أنانية شهوته .ونتعلم من جاهلية اجلاهليات بالد االستهالك ،أن
اإلنسان عندما تغريه حياة النعيم يضحي يف سبيلها بذاتيته ،فال
هناية ترجى لعبوديته للشهوة واحلاجة املتجددة واآللة اليت تسريها
بسري الدواليب واملسارب اإللكرتونية.
خصلة الصدق خصلة عملية تنيبء عن حقيقة اإلنسان
بصدق ،إن املؤمن الصادق إنسان أصيل حر ،وإنسان االستهالك
754
كاذب تنىبء عنه كميات البضاعة ونوعيتها وال ينبئ هو عن
شيء .ويف جاهلية االستهالك تتساوى نفقات اإلشهار ونفقات
التعليم اليوم ،ومنطق احلياة االستهالكية يفرض عليها أن تفوق
نفقات اإلشهار النفقات التعليمية بإطراد لغلبة البضاعة وأسبقيتها
يف كل االعتبارات.
واجلواب اإلسالمي عن مشكل استالب اإلنسان وذوبانه يف
البضاعة ومغرياهتا يف خصليت البذل واالقتصاد ،وبينهما العلم
والتعلم واحللم والتحلم .واجلماعة املؤمنة مجاعة نصيحة وحمبة
وطاعة ،إهنا ركب إمياين وموكب إحساين سائر إىل غاية يؤمن هبا،
ويعرفها ببالئه للغيب ورجائه ملوعود اهلل وانتظاره .فما يف يدها
من مال تعتربه قياما هلا وقيما فال تبذره ،ولكي تبين أمة اإلسالم
ترصده ملا يعطي القوة وتتعلم احللم بالتحلم لتصرب على اإلغراء
وتقاومه .ومع ما يف يدنا من وسائل مهما كانت قليلة يكتمل لنا
سبب االستمرار يف التعليم بصدق املعلم واملتعلم ،ذاك ال يكذب
يف بذل وقته وعنايته ،وهذا ال يكذب يف رغبته ومثابرته .وإن هي
إال جولة أو جولتان حىت تنشأ حركية مغرية يزداد معها الصادقون
صدقا ويهون النقص الذي نعانيه يف وسائلنا.
أما السؤال الثالث من أسئلة اخلباء فيعرب عن جهل اجلاهلية
وغفلتها عن مصريها .إن هذه اجلاهلية فرغت منذ ردهتا عن
755
دينها النصراين من اعتبار أي مصري لإلنسان خارج عن مصريه
األرضي الرتايب ،كما رسخت عقيدته الفلسفة الوضعية وأكدته
اجلدلية املادية القابعة يف ركن اجلاهلية اآلخر .إهنم ال يرجون هلل
وقارا ،وال يعيشون إال لللهو واالسرتواح ،مشكلتهم أن يوازنوا بني
وقت اللهو ووقت التكوين ،فوقت يزيدهم انغماسا يف دوابيتهم
من حيث كوهنم حيوانات خلقت للرتاب فهي تنهب اللذات قبل
فوات األوان ال تذكر اهلل وال تعرفه .ووقت يتكونون فيه فيزدادون
استالبا ومسخا من حيث تأهلهم ليجروا عربة احلضارة ويندرجوا
بني عجالهتا كما جير محار الرحى ويندرج يف دائرة سريه مغمض
العينني أعمى.
إن هذا العلم الذي كسبه املرتفون منا مظلمة من املظامل
تطلب اسرتدادها لتكون حقا لألمة .وفداء كل متعلم أن يفشي
علمه ويبذله حقا مسرتدا أن أىب أن يبذله تطوعا مشكورا .يفتدي
نفسه كما افتدى أسراء بدر أنفسهم بتعليم صبية املسلمني .وإن
هذا العلم احملتكر القليل ببالدنا ذخرية وكنز تطلب أن تزكى
ويعطي ركازها لعامة الطالبني .وبذلك يكون لنا تعليم مستمر
مجاعي صادق مع الصادقني.
756
تعليم للتغيري
البيداغوجية املغرية ،كما نراها تطبق يف الصني ونقرأها
عند لينني بني سطور اإليديولوجية ،بيداغوجية جدلية متسك
باإلنسان من عاطفته لتستدعي استجابة العقل حلافز التغيري.
وعند الرأمساليني اليوم حافز خارجي يفرض عليهم البحث عن
بيداغوجية مغرية حتت ضغط الفورة الطالبية .ملا ثار الطلبة ثورهتم
على التقليد األكادميي ولفحت نارهم جهاز احلكم ،أخذ املفكرون
والسياسيون يلتمسون طريقا إىل التغيري ليدرءوا عن أنفسهم بأس
حرسهم األمحر الذي يتعبد البطل الصيين ومثاليته الشيوعية ،أو
قل شيوعيته املثالية املربية.
واكتشفوا أن ظروف جمتمعاهتم كانت مناسبة للثورة ،وأن
التحجر األكادميي الذي فضحته الثورة الثقافية وجناحها يف إعادة
تربية األساتذة ،إمنا يعكس حتجرا اجتماعيا حيمل يف أحشائه
جنني الثورة ال ينفس من دفعها إال العنف املنظم يف إضرابات
املضربني وانفجار الغضب الطاليب.
اجلاهلية املؤثثة يف أوربا وأمريكا حتملت تغيريا وقع عليها من
جراء تقدمها العلمي .وحركية التقدم العلمي حركية تسارع تارخيي
الهث ،تفوت اآللة فيه اإلنسان وتسبقه ،فتحدث له أزمة يف
757
التعليم مبا أحدثت من أزمات يف كيانه وكل نواحي حياته .حتملت
اجلاهلية ثورات يف التكنولوجيا والنظام االجتماعي واالقتصادي
والسكاين ،وتلقت معها حاجات متزايدة للمهارات واخلربات
املسرية .فسألت النظام التعليمي أن يتحرك ليجيب احلاجة وحيقق
املطلب .وكان اجلهاز التعليمي أثقل من أن يستجيب ملا ورثه من
جمد أكادميي وعادات ثقيلة تدور حول أنانية األستاذية.
نعلم إن اجلاهلية ال هتتدي لتوازن أبدا ،فهي قلقة تتقلب،
ولن نضيع وقتنا حبثا عن مصري اجلاهلية ،األنانية منها والسائرة
إىل الثأثيت .أهي تقنع غدا بإصالحية تتفادى هبا الثورة ،أم
ختفق حماوالت اإلصالح وحماوالت الثورة املتجددة يف كل جيل
كما يفهما ماو؟ .املهم لدينا أن نؤكد أن تغيري التعليم ونظامه ما
هو بالعامل الكايف لتغيري طبيعة اإلنسان يف نفسه وال يف عالقته
بالناس والعامل.
والتعليم ببالد اجلاهلية املؤثثة حيصى نتاجه إحصاء كميا،
ألن اجلهد املطلوب للتغيري يتوجه إىل عامل الكم وهو عامل األفكار
وما تفرزه من مهارات وخمرتعات .وهو تعليم يغري سطح األشياء
وسطح اإلنسان بتغيري عقليته يف إطار عقالنية رأمسالية .والتعليم
الصيين مفعم بالعاطفة الثورية داخل يف سياقها متأجج بوهجها،
فيحدث تغيريا كيفيا يف اإلنسان بذلك.
758
وطلبتنا ،أمة اإلسالم ،أن نؤسس تعليما يعطينا العقالنية ِ
اإلميانية ،أي طاقة العقل ودرايته اخلادمتني للغاية اإلميانية
اإلحسانية ،ويساهم يف تغيري أنفسنا تغيريا كيفيا ليس كتغيري
الشيوعية املربية ،ألن هذه الشيوعية مهما تألقت وتفوقت على
غرميتها ال تنفك عن كوهنا جاهلية دوابية ،وألن إنسيتها املثالية ال
ختتلف عن إنسية اجلاهلية األخرى الوضعية إال اختالفا شكليا،
أما احملتوى فهو الكفر واإلحلاد واجلهل املطبق بقيمة اإلنسان.
ولعل من إنسية اجلاهلية املؤثثة ما ينتسب إىل النصرانية فيشم منه
رائحة السماء وذاك من بقايا دين النصرانية املضطرب يف مشاكله
الذي أرغم أن يتعلم من األحداث ويلتمس طريقا إىل التغيري.
إن آالت احلضارة األثاثية وبضائعها محلت اجلاهلية ثورات
وهي حتملنا مثل ذلك وإن كان ما لدينا من آالت بنات كفر
غريبة عنا ،ال تربطنا هبا إال عالقات التلهف والنهم املستهلك
املستحوذ علينا .وإن تعليمهم اآلن تعليم يغري العقالنية لتساير
تغري نتاجها ،أما حاجتنا حنن فهي تعليم يغري عقلنا لنستطيع صنع
حضارة على قدر اإلنسان املؤمن بربه ومبصريه إليه.
وهنا تبدو لنا ضرورة االبتكار والسري على هدي اإلميان لئال
نقع يف خط اجلاهلية ،ولكي نقتحم العقبة على جادة اجلهاد.
العلم والتعلم يف نطاق احلضارة اإلنسية العقالنية هو ما يعطيك
759
فكرا ناقدا يبين حكمه على الواقع ،ومهارة متهد لك السيطرة على
الطبيعة وتضع رهن إشارتك أرزاق األرض .وليس شيء ينقصنا
مثلما ينقصنا العقل النقدي العلمي .فلذلك حنتاج لصياغة
بيداغوجيتنا يف نطاق حضارة إميانية غيبية حبيث ال يتعارض عندنا
داعي اإلميان بالغيب وداعي العقالنية والنقد العلمي والسيطرة
على الطبيعة وموارد الرزق.
تعليمنا وفلسفته يف ظل اإلسالم لن يكون نقال وترمجة لفلسفة
التعليم اجلاهلي ،وإال خرج لنا من املدرسة واجلامعة أعداء لإلسالم
مثل الذين خيرجون .وإن هؤالء يزعمون برتديدهم لضالل أساتذهتم
اجلاهليني أن العقل املؤمن بالغيب اخلاضع ألحكامه ال يقدر على
ابتكار ألنه عاجز عن املوقف أمام األشياء واألحداث موقف
الناقد املستخرب .ويكذهبم جناح التعليم اإلسالمي واكتشاف
العلماء املسلمني يف عصور االزدهار رغم نقص احلياة اإلسالمية
وبرتها بعد استيالء امللكية العاضة على السلطان.
فلما ازداد ُهوي املسلمني بعد طفرهتم األوىل هوى معهم
الفكر ،واختلط عليه الغيب بالشهادة وبات ناعسا يف أحالمه
وخرافاته طوال قرون االحنطاط .وقد كررنا يف الصفحات املاضية
ونكرر ليقع اخلرب موقع اإلخبار وموقع التحدي معا أن اإلميان
والغيب واإلحسان مقوالت علمية جتريبية ،وأن التجربة الصوفية
760
وما تتضمنه من اكتشاف لعوامل املثال ولواقح األنوار برهان
ساطع مستمر ،يتحدى باستمراره العقالنية الكافرة ،ويعرض على
من يريد أن يسمع كلمة احلق يقوهلا بني يدي عارف باهلل ويصحبه
حىت يزول عنه حجاب الغفلة .ذلك إن كان مريدا يطلب احلق ال
مكابرا يبغي جدال.
إن التعليم املرتجم حىت إن أسكناه اللغة القومية ال يكون إال
ساكنا متقلقال وعامل سكون ومجود مقلد ال عامل تغيري وترقية.
مث إنه ينطق بالكفر من خالل صيغته اجلاهلية ،وينطق بتفوق
اجلاهلية حني يعرض علينا أعالم املخرتعني الكافرين ،ويسرد قصة
عبقريتهم .وبذلك يلبسنا رداء املذلة واخلنوع ألننا مل نرتب على
االستقالل الفطري ومل نرتب على الفطرة املتعلمة لنتعلم من آيات
اهلل وحنن يف عز إسالمنا ،فيبدو لنا اجلاهليون خلقا من خلق اهلل
سخرهم اهلل ليمهدوا لنا الصعب ،ونأخذ العلم منهم دون أن نأخذ
الكفر .وإن عقليتنا اجلامدة املوروثة تدرك الظواهر إدراكا ذريا ال
تستطيع ربط األسباب مبسبباهتا ،وال تستطيع أن حتيل كل ظاهرة
إىل تطور األحداث العام فتدخلها يف نسبتها .ال يفعل ذلك إال
العقل الناقد ،وحنن املسلمني الغثائيني ،خاصة حنن العرب ،قوم
عاطفيون مندفعون سواء اخلرافيون منا واملتحذلقون .فإذا أعجبنا
باحلضارة الغربية أعطيناها والءنا واعتربناها احلق املطلق وتفسخنا
761
من أخالقنا وتتلمذنا للجاهلية.
واإلسالم املنبعث إسالم متعلم ،لكنه يتعلم من ظواهر الكون
نظرا ملصدرها اإلهلي ويدخلها يف نسبيتها وخملوقيتها ،فإذا نقل
العلم من اجلاهليني نقل احلكمة وتعلم املهارة دون أن ينقل معها
الفلسفة وتصور العامل واإلنسان .ذلك ألن املؤمنني يذكرون رهبم
فيزيل عنهم الغفلة وينري هلم بنور اإلميان السبيل.
للجاهلية ذات الرأسني جناح الفوضى ببيداغوجيته الالهثة
لتلحق اآللة ،وجناح له بيداغوجية انتهت من التغيري يف روسيا
وهي ال تزال تغري يف الصني .وكال املذهبني يف التعليم خيدم
فلسفة للحياة وسياسة لتسيري اإلنسان وتسخريه .فإن اقتبسنا
شظايا من هنا وههنا ولفقنا لنا بيداغوجية تأخذ ما يستحسن من
كل شيء ،كما يفعل القوميون اإلداريون ،حكمنا على تعليمنا
هاب منا
بالفشل ،وعدنا إىل ذريتنا القرونية يف انتظار أن يهب ّ
لينادي بالكفر نداء ثانيا وثالثا مع نداء قادتنا الكفار السابقني
منهم والالحقني …إىل سقر .أما إن ابتكرنا لنا عمال تعليميا يف
ضوء منهاج اإلسالم ويف تناسق مع حركة التغيري اإلسالمية العامة
فسيكون لنا مذهب تعليمي يكون صورة لنفسه ال مسخا ملذاهب
الناس ،وسيكون مذهبا لتحرير اإلنسان ال لتسخريه.
فإن االقتباس غري التعلم ،والتلفيق واالختيار غري احلياة
762
الصادقة .إذا كان يعجبنا النموذج الصيين ونعجب بعبقرية
الشيوعية املربية املعلمة ،وحنب أن نتعلم من الصني كما حنب أن
نتعلم من خلق اهلل أمجع ،فال اإلعجاب وال حب التعلم ينسينا
أن التغيري ال يأيت من خارج بل يأيت من تغيري النفس وما هبا .وكل
ما حتدثه من حتوير يف اإلطار البشري أو املؤسسي مع االحتفاظ
بالنفسية والعقلية العتيقني لن يكون إال اقتباسا ماسخا ال عامال
للتغيري .
إذا كان التعليم يرمي لتغيري العقلية وإيقاظ العقل العلمي الناقد
ليعوض العقل اخلرايف ،فإن املذهب التعليمي املغري ال تبدعه إال
العاطفة الصادقة الراغبة يف التغيري .فنعود إىل جناح التعليم الصيين
لنقارنه بالتعليم احلضاري اآلخر الباحث عن توازنه .ذاك سبقته
ومهدت له «أسبقية السياسة والفسفة» ،وهذا دعا إىل تطويره
حافز االتباع والتكيف مع العوامل االجتماعية والتكنولوجية.
كثريا ما نسمع ببالدنا اإلسالمية ساسة يزعمون أن التعليم
وتغيري مناهجه وحمتواه هو وسيلة التغيري ،والثوريون امللفقون منهم
يزعمون أن املسلمني بعد الثورة سيتعلمون الشيوعية بفضائل
فلسفتها وما حتدثه من حتسن يف مستوى معاشهم .فهم حائرون
يف تلفيقهم حرية ال يعرتفون هبا ،ألن تغيري العقلية العامة لألمة
استعصى عليهم قبل الثورة وبعدها ،ونسمي االنقالبية ثورة
763
للتجوز والسخرية .العقل الثوري املتعلم عائم على سطح العاطفة
منفصم عنها ،وغاية ما يتأتى له هو أن ينفث مسومه يف عقول
الناشئة وشكوكه .فمثقفونا وشيوعيونا عربة ملن اعترب ،وثوريتهم
الفكرية تعبري عن عصاب جيل عجز عن إجياد رتق لتمزقه .غريهم
التعليم اجلاهلي تغيريا مرضيا حني مسم عقوهلم وحقنها باقتناع
أبدي أن اجلاهلية األستاذة هي املعيار ،وأن منهج حياهتا هو
احلياة .فلهم عقلية مقلدة على قاعدة عاطفة جمتثة من أرضها.
يتلفتون إىل أنفسهم فينكروهنا ألهنم مسخ صارخ ولعنة على
أنفسهم ،مث يعودون يف عقليتهم املسممة فيستوحون منها مربرات
لغربتهم وغرابتهم بني أمتهم وبني أساتذهتم ،فإذا هم رواد وقادة
لألصالة الثائرة يومهون األجانب بذلك أهنم من أمتهم يعتزون هبا،
وينافقون بذلك أمتهم إذ يتملقوهنا بشعار القومية .وإذا هم أمام
فشل حماوالهتم يتلونون يف اشرتاكياهتم كما تـَلَ َّو ُن يف أثواهبا الغول.
غالتهم األيام ،فما أكثر جدهلم! وليتهم حيلمون ولو مرة
باالستقالل الفكري إذ ال يتصورون استقالال مشوليا يكونون به
أساتذة العامل .وما كان حيلم سيد قطب رمحه اهلل حني بشرنا
بأن املستقبل لإلسالم ،وأن املسلمني هم أساتذة العامل غدا.
وتزرى الفحولة اإلميانية بنذالة أذيال اجلاهلية ،ويرحم اهلل شهداءنا
األبرار.
764
التعليم املغري غري التعليم امللفق ،كما أن الرجولة القائدة هي
غري الزعامة املنقلبة .القيادة اإلميانية اإلحسانية وظيفة عاطفة
حية متماسكة بعقل حر ،والزعامة متسك العصا بيدها وتتلعثم
يف شعورها وفكرها كما يتلعثم الظنني .فلهذه تعليم متعثر متلعثم
على صورهتا ،ويوم ميسك الزمام قائد اإلسالم وإمامه فإن مذاهب
تعليمنا وأنظمته حتلها روح التغيري ،بل حتتلها أيضا ،بني وازعي
القرآن والسلطان .ويتغري التعليم ونظامه ليساهم يف التحويل
اإلسالمي لألمة من غثائيتها أساتذة العامل خلفاء هلل يف أرضه
مقتصدين إىل غايته مقتحمني إليها العقبة.
حيل التغيري مذهبنا التعلمي وحيتله فننتقل من مذهب األيدي
الناعمة والعقول املرتفة واألجسام امللفوفة باحلرير إىل مذهب
االخشيشان والرجولة .املذهب التعليمي القاعد يعلم الطفل أن
البقرة تعطي حليباً ويعرض عليه صورا أو يُزيره مزرعة منوذجية،
ويشب ال يعلم من أين يكتسب القوت إال علما نظريا كما ال يعلم
من البقرة ووظيفتها إال مجال وألفاظا .واملذهب التعليمي اجملاهد
املغري يسوق األمة كلها ليحلب كل البقرة ويقطع هلا احلشيش
وحيمله على ظهره كما كان حيمل عمر بن اخلطاب وعلي بن أيب
طالب متاعهما على ظهريهما.
واملذهب التعليمي املتغري الذي يعلم باليد والقلم ،ويعلم
765
أسَر هذه األمة مجيعها يصطادبالقلم بعد أن يعلم باليد ،سيمسح َ
الكفايات املقبورة والعبقريات املهجورة ،وال يرتك جمال العمل
طعمة ملغتنم بل جيعله ميدانا للمتطوعني اخلادمني.
ويف أمتنا مؤهالت إنسانية يزكيها ربنا الذي يبعثنا غدا للعز
ومحل الرسالة ،فيجمعها رابط احملبة والطاعة والنصيحة ،وترقى بنا
تتجاوز األهداف اإلسالمية ومقاصد الوحدة لألمة مجيعا ليحمل
جيل آت قريب رسالة النور واحلرية للبشرية املعذبة بعقلها وعلمها.
ولن يعجزنا العلم والبحث عنه ألننا سننزل عن احلاجة
املوهومة وسننتقل ونقتصد كما ننزل إىل ِحَرفية مبدعة كما نزلت
الصني الشيوعية ،فيضع عمالنا ما ال يقدر عليه إال عمالنا كما
صنع الصينيون ويبتكرون وخيرتعون .نتلعم اإلميان والقرآن فتتفتح
لنا أبواب السماء وفتوق األرض ،وينبهر اإلحتكاريون املستأثرون
بالتكنولوجيا ،يبيعوهنا لنا قطرات ،برباعة املسلم الطاهر كما
ينبهرون اليوم من ذكاء الصيين وعبقريته ومرونته.
766
الفصل الثامن
الدعـــوة
767
احملجة البيضاء
يف الصفحات الفائتة من هذا الكتاب نثرنا نقدا للعقلية
والنفسية العائقتني لتغيري ما بنا .وقلنا يف شأن سادتنا العلماء
وسادتنا الصوفية قوال أردناه ليكون بليغا يثري االنتباه ويثري الغرية
اإلسالمية .والقول البليغ أسلوب القرآن حنذو حذوه ،يبشر وينذر
خياطب العاطفة والعقل معا .وقد آن ،وحنن ننظر يف الدعوة
اإلسالمية والتنظيم اجلهادي ،أن جنمع ما كنا نثرناه مجعا يريد
اإلبالغ والبالغ.
كنا استعرضنا بعض رجال الدعوة اإلسالمية املعاصرين،
وتعلمنا من عملهم مواطن الضعف وأسباب القوة يف الدعوة
اإلسالمية املعاصرة .وهنا نعمم البحث وحناول تعميقه استكشافا
على مدى خطوط القوة يف الدعوة اإلسالمية بني رجال العقل
والعاطفة من العلماء العاملني ،بني علماء الشريعة ورثة األنبياء
وبني علماء احلقيقة ورثة األنبياء.
هؤالء هم الربانيون ،وهؤالء هم احلاملون ألمانة اإلسالم ورسالته،
وهم املسؤولون عن حياته يوم حيىي وعن خفوته حني خيفت.
أخربنا الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم قبيل وفاته أنه
تركنا على احملجبة البيضاء اليت ال يزيغ عنها إال هالك ،وأوصانا
768
بالثقلني كتاب اهلل وسنته كما أوصانا بآل البيت وذكر أن أوىل
الناس به املتقون.
فبذلك أشار إىل أن آل البيت هم املتقون كما أشار
بالتخصيص والتمثيل إذ أعلمنا أن سلمان من آل البيت .وما
عتم القرن األول من اهلجرة حىت اختلف الناس يف ماهية احملجة
البيضاء ،وتنازع أشبه الناس أن ال يتنازعوا على السلطان ،وهم
الصحابة األبرار .واقتتل الربانيون بصدق كل يوقن أن احلق جبانبه،
وجاهد كل جهاده ،كما اجتهد من بعدهم اجتهاده ،فضاعت
معامل تلك احملجة بني فتنة الصحابة ومن تبعهم وبني نزاع العلماء
ومن تبعهم.
فكل يدعو جلماعته ولتصور إسالمه ووحدته ،وباتساع
رقعة اإلسالم وسرعة اتساعها انتشر رجال الدعوة اإلسالمية يف
األقطار كل محل معه تصوره للمحجة البيضاء ومحلها من صحبوه
وتعلموا منه العلم واقتدوا به يف الدين .وهكذا أثلوا لنا اختالفا يف
املذاهب وأثلوا لنا نفورا نشأ من الفتنة والقتال بني املسلمني على
مدى أربعة عشر قرنا حنن يف آخر عقد من آخرها .فلكي تكون
لنا دعوة جتمع وال تفرق وتوحد الشتيت وتلم الشعت ،يلزم أن
نقتحم عقبة الفتنة التارخيية اليت استدبرناها كما يلزم أن نقتحم
الفتنة اليت نستقبلها .بل إن دعوة املسلمني لن تنجح يف توحيد
769
األمة إال إن قلعت الفتنة من جذورها التارخيية ،بأن يكشف الفقه
املنهاجي عن منابع الفتنة وحيلل أسباهبا ونتائجها ،حىت يتعلم كل
مسلم من أين أويت املسلمون ويستعد استعدادا عاطفيا وعقليا معا
ليطوي سجل األحقاد واملنافسات ،وليوبخ نفسه ويزجرها لرتجع
إىل احملجة البيضاء من تشعب القوميات وبلوى الوطنيات.
قربت بني عقليات املسلمني وطرق تفكريهم هذه الثقافة
اجلاهلية تقريبا على بساط الشك واإلحلاد واملسخ ،وعقلنت
احلضارة املستعمرة حياهتم اليومية وعاداهتم ووقتهم إىل حد ما.
فهم اليوم يتعارفون على صعيد الدعوة اجلاهلية البضائعية ،مرتفوهم
الظاملون يركبون مجيعا سيارات أمريكا الفخمة ،وفقراؤهم يتغذون
بصدقات القمح األمريكي وأفالم الدعوة الدوابية.
ومن هب ليدعو إىل اإلسالم بوخزة من ضمريه ،سلحتها
ومضة من ومضات اهلداية اإلهلية ،شغله عن احملجة البيضاء
وتدبرها شاغل من عاطفته املذهبية أو شاغل من عقليته املوروثة،
فدعا مبا يعرفه وما نشأ عليه .وكانت احتكاكات رجال الدعوة
اإلسالمية بالعقالنية العلمية حمرضا على االجتهاد من أجل توحيد
الدعوة اإلسالمية ،بيد أهنا كانت بكل أسف باعثا أيضا على
عقلنة اإلسالم وإفراغه من معناه اإلمياين .وقد بزغ قرن العقلنة مع
الشيخ حممد عبده رمحه اهلل فجدد نزاعا مزمنا بني علماء الشريعة
770
وعلماء احلقيقة ،ونشر تصورا متقلقال عن الغيب وعامله ملا بدأ
يقارن اجلن باملكروبات وينبذ يف املوضوع كالما ال يبني.
إن العقل نور عظيم ،وهو الذي جيلو الشرعة واحملجة ويسهر
على سلوكها ،لكن احملجة البيضاء باهبا مغلق ال ينفتح إال
باإلميان ،واإلميان عمل القلب والعاطفة خيدمه العقل بعد احنساره
وتعجبه من آيات اهلل وخوفه من املوت واملصري الذي أخربه به
الرسل عليهم السالم .إن هذه العقالنية اجلاهلية ما كانت وثاقا
لإلنسان إال النغالقها على منطقها وإفرازاهتا احلضارية .فإن
فتحنا املنطق العقالين بنور اإلميان القار يف القلب كنا اليوم أقدر
منا يف أي وقت مضى على استكشاف احملجة البيضاء .يكفي
لذلك أن نتسلح بعقل ناقد ونقبل املنهج العلمي املؤسس على
التجربة .وبالعلم املنهاجي القائم على التجربة الشخصية ميكن
فقط أن نرقى إىل منابع تارخينا ،وأن ننحدر معه فال نستغرب
النزاع والقتال يف الفتنة كما ال نستغرب النزاع املذهيب الذي يقعد
بالدعوة اإلسالمية أن تتوحد.
يف كل قطر من أقطارنا وبني القطر والقطر اختالف شديد
يف فهم احملجة البيضاء ،يبلغ االختالف حد العداء اجلاهر بني
شيعة وسنة وبني وهابية وتصوف ،ويكمن فيما بني ذلك ،كمون
الرتبص ال كمون الغيبة ،أرباب العقول من جانب وهم طوائف
771
وأمم ،وأرباب القلوب من جانب وهم أشد نُ ْكرا وتبديال.
رأينا فيما مضى توزان الصحابة وكماهلم ،ورأينا كيف صحبوا
الرسول صلى اهلل عليه وسلم صحبة مبايعة وحمبة وجهاد ،وكيف
قرأوا القرآن قراءة جهادية ،كل ذلك مع اإلميان وباإلميان ،ومع
الغيب وباإلميان بالغيب ومعايشة الغيب .مسينا مجاعتهم منوذجا
خالدا تبشريا بتجدده وإمكان جتدده ،لكن الفتنة الطاغية منذ
قتل اإلمام سيدنا عثمان تكون حجابا كثيفا حيول بيننا وبينهم،
فطائفة من املسلمني متزقوا بني الوالء آلل البيت كما وصى الرسول
صلى اهلل عليه وسلم وبني الثقلني كما وصى ،فحاروا يف فهم شيعة
اإلمام علي .وهؤالء متزقوا من صدمات الفتنة ومآسيها الدموية
فتأولوا الثقلني ونبذوا مجلة من الصحابة .وكل يكفر صاحبه،
فيربهنون بذلك على عجز علمائنا يف ضبط احملجة البيضاء ومعرفة
أصوهلا ،ويربهنون على أن الصدع بني القلب والعقل صدع ال
يرتئب مع األيام بل يزداد ِش ّقاه ابتعادا.
وليس أعجز عن االحتاد والتوحد على مثال النموذج اخلالد
من املختلفني يف حضن السنة أو الشيعة ،بني شيعة صوفية هم
أعمق عاطفة من عاطفية عامة الشيعة ،وشيعة سنية يتهمهم
علماء الشرع من كل جانب بامليل إىل املعسكر اآلخر .فإن األمر
آل ،وياخلجلتنا ،إىل اهتام ومعسكرات!
772
أال إن اكتشاف منوذجية الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصحبه،
واكتشاف احملجة البيضاء ما اختلف فيه وعجز عنه املسلمون إال
لقصورهم يف آلة البحث واالستكشاف .أرباب العقول يدخلون
عليه من روايات القول وصفحات الكراريس يقارنون ويستدلون،
وأرباب القلوب أمطرهتم سحائب الرمحة املهداة فذاقوا اإلميان
حالوة يف قلوهبم ونورا يف بصريهتم عجزوا عن التعبري عنه بلسان
يفهمه أهل العقل .وتنوعت املصطلحات وتكاثرت وتثاقلت،
وكل زيادة فيها ُتعن يف اخلالف وتزيده كثافة.
إن الثقلني مفتاحهما مفتاح عاطفي ،إنه اإلميان بالغيب كما
جاء يف مقدمة القرآن يف أول سورة البقرة لكيال يقتحم القرآن
عقل مل يتطهر مباء الغيب .فإن فتح الباب ملن أويت اإلميان فسيجد
طوع لإلميان عقال حكيما خبريا. يف القرآن وحدة وانسجاما إن ّ
أما من مل جيمع اآللتني فلن خيرج عن َذ ِّريَّته ،يرى أن شظية من
شظايا املذهبية اإلسالمية هو احلق املطلق فيتقوقع يف مذهبيته،
ولن يعجزه التعصب من تأويل آيات اهلل بغري علم.
الطريق الكتشاف اإلسالم ووحدته هو التجربة الشخصية
اليت تعطيك إميانا قبل القرآن ،ومعها الكفاية الفكرية الواسعة
اليت تتيح لنور العقل أن يسلك بك املعميات على هدى نور
البصرية .واستكشاف القرآن والسنة باآللتني هو التفقه املنهاجي،
773
وعصارته فقه منهاجي جيمع بني احلقيقة والشريعة يف خط الحب
هو خط اجلهاد .فعلى ضوء الفقه املنهاجي ينظر املؤمن أن احلق
مع الشيعة ،وأن احلق مع السنيني معا ،وينظر أن علماء الشريعة
أرباب العقل والنقل هم أهل احلق ومحاة الدين وأن الصوفية أهل
كل صاحلُُ إن طرحنا غالة
القلوب هم أهل التقوى واإلحسانُُّ .
الضاللة من الباطنية وديدان القراء املنافقني ،ولكل ينفتح فضل
اهلل عز وجل وتنفتح أبواب السماء .إهنم مسلمون مؤمنون أولياء
هلل.
إن صدق ابن تيمية ونصحه للمسلمني وصدق ابن عبد
الوهاب ونصحه للمسلمني ال ينايف صدق ابن عريب وال ينايف
صدق من بنوا على الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأولياء هذه
األمة قببا .ومع صدق كل هؤالء ورغم اختالفهم وتنافرهم وتكفري
بعضهم لبعض هداية مبعثرة ينكرها كل فريق ألنه ال يتفاهم مع
غرميه .فابن تيمية ال ينكر اإلميان والقلب العارف والورد ،ويذكر
من ذلك يف كتاب اإلميان وسائر كتبه ما يثلج الصدر ،ويعرتف
مبوالنا عبد القادر اجليالين بعد أن قرأ عقيدته ،بينما ال يرى عند
ابن عريب إال كفرا .ويفهم اخلبري من أحكامه أن تكفري شخص
يتحدث حبديث مل يعرفه األولون أهون على األمة من نظره من
مسارب الضالل اليت ميكن أن يتذرع إليها الناس حبقائق الشيخ
774
األكرب.
والشيخ األكرب كان رجل عاطفة وقلب طاوعه املنطق ما مل
يطاوع غريه فنطق باحلقيقة نطقا ما هو بأفصح وال أمجل وال أمجع
من حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املتحدث عن ربه
حني أخرب أن اهلل عز وجل حيب عبده فيكون له مسعا وبصرا ويدا
ورجال .وقد كنا ذكرنا أن هذا احلديث القدسي العظيم هو صلب
الفقه املنهاجي وحموره .ولو آمن املسلمون مجيعا مبا جاءهم من
بشارة اهلل فيه اميان الفطرة ال يؤولونه تأويال المنحت اخلالفات،
لكن حيول بني الناس والفطرة عقبة األنانية والعقل املتأله والعادة
املوروثة أو املستحدثة ،فما بد مع ذلك من الدخول إىل اإلسالم
من املدخل املنهاجي وهو الصحبة.
الشيعة الكرام يغمر قلبهم حمبة آل بيت النيب صلى اهلل عليه
وسلم ،فتلك صحبتهم ونعم الصحبة ،ومن أحب قوما واهلل حشر
معهم ،قال ذلك رسول اهلل عليه الصالة والسالم ،فما يكف عن
ضالله من جهل فضل الشيعة وأعماه التعصب املذهيب عن احلق!
إهنم أحبوا األئمة اهلداة أولياء اهلل املصطفني ،ونقلوا عنهم شعائر
الدين ،فنعم األئمة ونعم النقل .وال مينعنا من االعرتاف باحلق إال
الضاللة األخرى ،ضاللة القومية اليت تربض مع صاحبتها املذهبية
على خط احلدود الوطنية .وكل خالف زائف ،وكل ضاللة يف
775
النار.
ولعلماء الشريعة صحبتهم وإسنادهم ،وهو إسناد عقلي
علمي يروي مبقتضاه فالن عن فالن العلم النبوي ،فبذلك اإلسناد
متتد إليهم الوراثة النبوية ،ونعم الوراثة إن كان معها التقوى،
وإال فهي شاهد احلق على زور حامل األسفار .وحىت إن كان
ورَهقهم بالعبء الرتاثي املتكدس لعلماء الشريعة من حرفيتهم َ
باعث للتطرف ،ومن ابتداعات املتصوفة باعث أقوى منه ،فإن
هذا التطرف «السلفي» أو الوهايب هلو رمحة للمسلمني ينكرها
العاجزون عن اكتناه سر اهلل يف خلقه وإتقانه سبحانه لصنعته يف
الكون .إن الدين دينه عز وجل واحلرم حرمه ،وما انربى ابن عبد
الوهاب والتيميون اجلدد هلدم القبب وقطع رقاب املتصوفة أينما
قدروا إال ليظهر بإحلاح عجز كل فريق عن جتاوز اخلالفات ،وعن
االهتداء للمحجة البيضاء.
وهكذا حيمل كل فريق إسالمه عبئا ثقيال ،وال حيرره إسالمه
ليخف للجهاد .الشيعة حيملون عبء الظلم القومي والغضبة
املستمرة ملصرع آل البيت الكرام ،يتشخص ذلك احلمل يف الرفض
عند الروافض ،والزيغ والباطنية عند اآلخرين ،أما معظم األمة من
الشيعة فهم أبرار أطهار ،وهم أيضا عاجزون عن ختطي العراقيل
اليت تفصلهم عن السنيني .وهم ال خيتصون بالعجز وإمنا يرجع
776
النصيب األكرب منه ألهل السنة .فهؤالء حيملون عبئا ال يقل
كثافة وثقال ،ينكرون صوفيتهم ويكفرون غريهم .ويبقى عبء
الصوفية الذي حيملونه ،إهنم مظطهدون مشكوك يف إسالمهم
حيث ال يصرح بكفرهم وحيث ال يستتابون ويقتلون .إهنم قلة
يف هذه األمة ،وإهنم العنصر احلي النابض باحلياة كلما قيض اهلل
مربيا يطيح بالعادات واإلبداعات ،وخيرج من زاوية اخلمول إىل
رباط اجلهاد.
والصوفية كانوا على مر التاريخ أعجز الطوائف عن خماطبة
الناس مجيعا مبا يفهمه املسلمون مجيعهم .رقدوا على تلك الصحبة
واحملبة وغلَّفوا احملجة البيضاء باملصطلحات ،فإن كتب اهلل لعلماء
الشريعة خريا بعث هلم الشك يف نفوسهم وطلبوا احلقيقة فما
جيدوهنا إال عند الصوفية ،فيتتلمذون هلم كما تتلمذ الغزايل وعز
الدين بن عبد السالم والشعراين وأخيار هذه األمة.1
فاللقاء على احملجة البيضاء دائما بشروط الصوفية ،واالنبعاث
وتذكر عمر بن عبد العزيز
ْ اإلسالمي يتم دائما على يد الصوفية،
وابن تاشفني وكل اجملددين اجملاهدين ،واستقريء تاريخ اإلسالم
فإنك لن جتد يف صفوف اجلهاد إال الذاكرين ،وما عهد املهدي
السوداين وعبد القادر اجلزائري وابن عبد الكرمي اخلطايب ببعيد.
777
بيد أن مطلب املنهاج النبوي هو توحيد كل طوائف املسلمني
على احملجة النبوية ،ليتعلم كل فريق أن احلق الذي نتنازع عليه ليس
مقصورا على أحد ،وأن حق الشيعة الذي هو الصحبة واحملبة وحق
الذكر الذي يلهج به الصوفية وحق الصدق يف االتباع للسنة ،ما
هو إال احلق الواحد ،حق اهلل احلق املبني .ومىت مجعنا صدق علماء
الشريعة العاملني وعاطفة الشيعة احملبني وكمال الصوفية احملسنني،
وكونا من ذلك ربانية جماهدة تربينا على جتاوز اخلالفات فقد جنح
اإلسالم ورضي ساكن األرض وساكن السماء.
778
الداعي إىل اهلل
يعج تاريخ اإلسالم برجال الدعوة ،وكل من هنض لدعوة
ادعى أنه أهدى سبيال من غرميه .فإن كان طالب دنيا وسلطان
أظهر أنه ناصر اإلسالم ومثبت أركانه ،وإن كان من علماء الشرع
قارع خصومه بالنصوص واحلجة ليظهر حقه على باطل خصومه،
وإن كان صوفيا أو شيعيا عرض حقه مرتبطا بقضية وراثة وتبعية.
وقد لعبت الفتنة التارخيية املشجعة للفوضى دورا مهما يف
تكثيف الفتنة املرتبطة باإلنسان وسلوكه يف العامل ،فال يزداد
اإلسالم يف عني الناس إال استغالقا وقتامة .ومن يفكر لإلسالم
اليوم يعرض قرآن اهلل على تاريخ األمة ،مث يعرض تاريخ األمة على
منوذج اإلسالم اخلالد فال يتبني شيئا.
والناس أتباع لنخبة متلك صولة امللك وبرهان العقل وهيبة
التقوى ،فإن حنن حاولنا حتليل عقلية القادة والعلماء والصوفية
على ضوء املنهاج النبوي فإننا نقرتب من فهم إسالمنا والتعرف
على شظاياه ،ويف نفس الوقت منلك ثقة باإلسالم متكننا من مجع
تلك الشظايا .وقد ذكرنا يف الفقرة السابقة حق أرباب القلوب
وحق أرباب العقول ،فلنقرهنم هنا بأرباب السلطة لنرى أين احلق
أن تسرب ،وكيف صدت الفتنة املسلمني عن اقتحام العقبة، وّ
779
لكي جندد لنا علما منهاجيا وإرادة إميانية إحسانية.
دعوة أصحاب السلطان يف اإلسالم كانت تقوم على مهدية
ترجع احلق إىل نصابه .هذا معاوية بن أيب سفيان طلب حق
القصاص للخليفة املقتول ،والعباسيون طلبوا حقهم يف قيادة األمة
لقرابتهم من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ومثلهم الفاطميون
وهلم جرا .وبعد االنتصار العسكري تقوم الدولة العاضة وتتبخر
الدعوة وتتالشى مع األجيال ،حىت تدول الدولة وتذهب رحيها.
وحىت الدعوات اجلهادية كدعوة يوسف بن تاشفني ال ختلف إال
دولة دائلة ،ألن عوامل التفتيت النفسي خترب رجال السلطان
وتورثهم مع األجيال رخاوة يف اجلسم واحنالال يف اخللق ،يرث
ذلك منهم صاغر عن كابر.
ودعوة علماء الشريعة دعوة ال تتصل باملدعوين إال من خالل
األوراق أو من على أعواد املنابر .فلهم مهديتهم يتوارثوهنا ،وهلم
«كربياء العلم» ،والعبارة شاهدة بتناقض شطريها على أن عقبة
الفتنة يقف العلماء من ذوي الطيالسة والكربياء العلمي عند
أول خطوة فيها ،فهم عند أنانيتهم ال يربحون .وإن عممت فما
قصدت االستقراء ،لكن قصدت وصف ظاهرة بينة جدا.
أما دعوة الصوفية فهي دعوة الرباين املتواضع الذاكر اخلاشع،
لكنها دعوة تورث كما يورث امللك .وكما يكون من رجولة
780
مؤسسي الدولة شاهد على فسولة خلفهم املرىب يف احلرير فكذلك
يكون كمال مؤسسي الطرق الصوفية شاهد على قصور أخالفهم
لنفس السبب ،وهو أن املال واجلاه يستغين هبما املرء فيطغى،
ويهيئان له حياة الدعة واالسرتخاء .فرجل السلطة الوارث لدولته
ينهب اللذات ويتأله يف األرض ،ورجل الزاوية ينوء حبمل العطاء
الوارد ويسرتخي مع عاداته إن استطاع اقتحام عقبة أنانيته وغفلته.
وغالبا ما جتتمع الثالثة فيقعد املتصوف الدعي مبكان أخزى من
موقع العامل املتكرب.
وميسخ العامل املتكرب دودة قارئة متملقة بنفس السهولة اليت
يتحول هبا وارث التصوف بالوراثة النسلية اجلسمية عن سنة أبيه
أو جده إىل مذهب من يبتزون املال ويبيعون احملال.
ولعل علماء الشريعة أجنى الفرق وأقرهبا للسالمة ،وذلك
لسببني أحدمها نفسي واآلخر سلوكي .فأما السبب السلوكي فهو
أن عالقة عامل الشريعة باجملتمع هي عالقة مصلحة متبادلة قبل
كل شيء ،فهو القاضي وهو املفيت وهو الواعظ وإمام اجلمعة.
ويبقى بعد ذلك منفردا ال جيمع مجاعة ،وال يأخذ من الناس أتاوة،
إال ما جاء عفوا من حتلق طالب العلم يف داره بعد حتلقهم عليه
يف املدرسة مأجورا أو متطوعا ،وإال ما ينفحه من يعظمون العلم
والعلماء .وللعلماء يف عني املسلمني جالل وهيبة ،إال أن من
781
يغشون بابه قليل ألنه ال يهب شيئا غري علمه وال يعرض بضاعة
غري وعظه ،فهو ال خيوض يف احلقائق وال كرامة له أو بركة يدعيها،
فذلك السبب النفسي لنجاته .بضاعته تـَُقيَّ ُم على وجها وال تـَُقيَّ ُم
حظوة الدنيا وبركة الروح ،بل تقدران تقديرا فيعرض ذلك للغنب.
أما رجل الدولة ،وأما املتصوف بعد الصويف ،فهما جيمعان
الناس ،ومها يأخذان األتاوة .ذلك يصلت سيف القمع ويلوح
باجلزاء والغنائم واملراتب فيقبل عليه الناس رغبا ورهبا .وهذا كان
أبوه داعيا إىل اهلل له نور وصدق يصيب اهلل هبما من أحبه وصحبه
ملكانه من اهلل الذي تواله .وكان جيتمع عليه الزائرون ،وكان يقطن
يف زاويته ورباطه املريدون وال بد لكل مجع عابر أو ثاو من مبيت
وطعام ،فيأيت الناس بدريهماهتم ينثروهنا يف صدقة املسلمني ،ويرث
اإلبن واحلفيد الزاوية وقد نشأت فيها عادات ،فمهما كان ابن
الشيخ وحفيده رجل صدق وروحانية فإنه ضحية تربيته مثل األمري
سواء بسواء.
إن األمري كلف ن ْفسه عناء اخلروج من بطن أمه كما يعربون،
فهو من املهد يُوطأ هلم الفراش وتتهافت حوله األماين كتهافت
اخلدم واحلشم ،وتقبل يده ورجله ،ويتملقه ديدان القراء ومن
يشبههم فيغذون أنانيته ،ويرتفونه يف الغفلة واللهو .وماذا يكون
من تلقى مثل هذه الرتبية ؟ إنه ضحية مثل أمري الزاوية ،بل إن
782
هذا أجدر أن يُ ِسف أكثر من صاحبه لوال صحبة املريدين.أمري
الدولة ختدمه أيد أجرية وحتوم حوله أحالم معلولة بعلة تقبل
النفاق .أما أمري الزاوية فتخدمه أيد صادقة وتعظمه وحتبه قلوب
تعرف قدر الربكة ألهنا أصابتها وأخرى مسعت بالربكة وكرامات
الويل فصدقت بالسمع وقبلت رجل الصيب ويده.
األمريان يرزحان حتت عبء اجلاه واملال ،واجلاه واملال مها
رافدا السلطان ،فيتنكر أمري القصر للقرآن ووازعه ،ويضل أمري
الزاوية عن قرآنه بني هلوه إن انقلب العبا أو بدأ مشعوذا وبني
أمواله جيمعها لبدا .فإن مل يضل هذا عن قرآنه قرأه قراءة تعبد
وانعزال ،وإن مل يتنكر ذاك وحصلت املعجزة ،فما حديثه عن
القرآن إال حديث هاو غاو.
فمن هذا التحليل نتعرف على االنشقاق الثالثي ،ومنه نلمح
طبع العقبة وشكلها وطريق اقتحامها ليجتمع لنا وازعا القرآن
والسلطان يف قيادة جهادية جتدد أمر هذه األمة غدا .وقد نظرنا
إىل منحدر التدهور التارخيي يف قادته من أسفل ،فلننظر إليها
اآلن من أعلى ،من رأس األمر ومنبعه لنجلو الرؤية ،وخنرج مبعيار
إنساين لرجل الدعوة ،للداعي إىل اهلل السليم من وباء األنانية
ورهق الوراثة الشكلية وما يتبعها من املعوقات النفسية.
الداعي إىل اهلل ،قبل أن تستحدث املصطلحات ،وقبل أن
783
تعمل عوامل التعرية التارخيية عملها يف فتنة الصحبة والذكر
والصدق ،هو النيب والرسول ،أو هو الوراث الكامل من هذه
األمة اليت ختمت عليها النبوة والرسالة.
احملجة البيضاء دلنا عليها صاحبها صلى اهلل عليه وسلم
بسلوكه ،ودلنا عليها ربنا حبكاية هذا السلوك النبوي املنهاجي،
وبالتعلم واهلداية لألسوة احلسنة .قال اهلل عز وجل لرسوله حممد
صلى اهلل عليه وسلم ﴿قُل َه ِذ ِه سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى اللَّ ِه َعلَى ب ِ
ص َيرٍة َ َ ْ
أَنَا َوَم ِن اتـَّبـََعنِي﴾ فهذا يهدينا إىل أن الداعني إىل اهلل من هذه
األمة أشخاص يبتعثهم اهلل بعد نبيه فيتبعون النيب حىت يعطيهم
اإلتباع نورانية وبصرية هبا وعليها يدعون الناس إىل اهلل .وهذا
أيضا يهدينا لنعلم طبيعة الدعوة الصادقة وغايتها ،ألهنا دعوة إىل
اهلل وليست دعوة لعصبية وال لطائفية .إهنا دعوة موحدة جتمع
املسلمني على اهلل يطلبون رضاه وجنته .وطلب اهلل وجنته طلب
للغيب ،فإن اهلل غيب وجنته غيب .والغيب ال يدرك إال بالبصرية،
فلذلك نعرف صدق الدعوة من وجود البصرية وآثارها يف هذه
الكرامات اليت حتكي معجزات األنبياء ،ويف هذا اإلميان الذي
حيمل صاحبه فيتجرد من الدنيا تعرضا لرضى اهلل وجنته .وهذا
يشري للصوفية وصحبتهم ،لشيخهم وكراماته ،ونورانيته وزكاته.
وال بد للمصحوب الداعي إىل اهلل على بصرية أن يكون له
784
من رسوله مرياث يؤهله ليكون تعبريا بشريا للثقلني كتاب اهلل وسنة
نبيه .فكمال مرياثه أن يكون من آل البيت الذين أمرنا أن حنبهم
ونتبعهم .وقد رأى الشيعة أن آل البيت هم اإلمام موالنا علي
عليه السالم وبنوه ،وال يشك يف هذا مسلم ،وال يقصر عن حمبتهم
إال حمروم .بيد أن سنة اهلل يف الكون أن تسري اهلداية باملرياث
الروحي كما تسري خصائص اجلسم بالتناسل البيولوجي .ويسرى
من املصحوب املقبور لتابعه نوارنية وال شك ،إال أهنا ال تبلغ أبدا
أن تعطيه امليالد الروحي الذي يوجدك يف عامل ال تولد فيه إن مل
تكن لك أبوة ،وإن مل تزرع يف أرض نفسك فحولة األب الروحي
بذرة احلياة.
فآل البيت الداعون إىل اهلل الضروريون لتجديد اإلميان هم
ورثة الكمال الروحي ،ال يغين عن وجودهم أصحاب القبور أبدا،
وال يتأهل لوظيفتهم من انتسب باجلسم دون الروح .وترىب الروح
فتدل بنورانيتها على أهليتها حلمل الرسالة ومرياثها من رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم أكثر مما تدل بإسناد مشاخيها .أما النسبة
اجلسمية فسلسلة اآلباء واألجداد الطاهرين ذكر حسن ومغرس
طيب ،لكنها ال خترج بصاحبها عن مرتبة العوام أو يصحب كامال
حيييه من موات.
آل البيت هم أهل القرىب الذين سألنا اهلل ورسوله أن نوادهم
785
وحنبهم ،وهم من بلغ مرتبة سلمان بروحانيته فانتسب لرسول اهلل
بالروح نسبة كاملة أو مجع إىل ذلك نسب اجلسد فأضاف طهرا
إىل طهر .وهذا يشري إىل الصحبة ،واستمرارها ،وإىل احملبة ،وكل
ذلك عند الصوفية الصادقني.
وطريق الرتبية الروحية هو احملجة البيضاء ،يف أول عتبتها
صحبة ويف العتبة الثانية ذكر وتسبيح .وما بعث اهلل النبيئني
وت َو ُه َوْح ُ والرسل إال وهم مسبحون .فسيدنا يونس ﴿فَالْتـََق َمهُ ال ُ
ث فِي بَطْنِ ِه إِلَى يـَْوِم ين ،لَلَبِ َ ملِيم ،فـلَوَل أَنَّهُ َكا َن ِمن الْم ِ
سبِّح َ
ْ َُ ُ ٌ َْ
يـُبـَْعثُو َن﴾ .وسيدنا حممد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمره اهلل
ك اس َم َربِّ َ
تعاىل﴿سبِّ ْح ْ
َ أن يسبح وأمرنا معه مامل يأمر بغريه .قال
ْالَ ْعلَى﴾ .وحنن نتأسى بالرسل كما أمرنا اهلل .فيخربنا القرآن أن
التأسي واإلتباع ال يتأتى إال ملن ذكر اهلل كثريا ﴿لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم
ول اللَّ ِه أُسوةٌ حسنةٌ لِمن َكا َن يـرجو اللَّه والْيـوم ْال ِ
َخ َر فِي ر ُس ِ
َْ ُ َ َ َْ َ ْ َ َ ََ َ ْ َ
َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾.
والذاكرون اهلل كثريا هم مجاعة الصوفية خاصة ،أما اآلخرون
فمنهم من يزعم أن الذكر ذكر بالقلب ال باللسان ،وماذا نفعل
بأمر اهلل لنا أن نسبح؟ مث إن ختصيص القرآن للذكر والتسبيح
باإلسم دليل على منهاج الرتبية الصوفية كأن املنكرين ال يقرأون
القرآن ،وخليق مبن جيهل الغيب وال يرجو الدار اآلخرة انتظارا أن
786
يعرض عنه القرآن بإعراضه عن ذكر ربه.
الصحبة والذكر هلما مؤهالت تتألق يف صفائها عند الشيخ
الصويف الكامل ،ويشرق نورمها على األتباع فينم عن حق حمري
ضائع بني رجال الطروس وأصحاب الذوق والكؤوس .فهما
احلزبان املتالزمان املتشاكيان املتعاديان .وبينهما انفرط العقد
ودبت الوحشة .علماء الشريعة يريدون سلوكا شرعيا على ظاهر
الكتاب والسنة ،فهم محاة اإلسالم .وجييء أصحاب الذوق
فيتحدثون عما وراء اإلسالم ،يتحدثون عن حالوة اإلميان وعن
كمال اإلحسان ،ومها ماهيتان جيهلهما رجل األوراق جهال وإن
كان يقرأ القرآن وينطح يف تالوته ألفاظا ال مدلول هلا يف قاموسه
إال مدلوال منقوال وشكال مقبوال.
إن ظاهر اإلسالم هو شاطيء األمان .وإن مواجيد الصوفية
وغلبة عاطفتهم امل ِحبة الذائقة لإلميان واإلحسان ألمر تفزع منه
ُ
قلوب العامة حىت ولو كانوا مفتني وُكرباء .وال حق للصوفية يف
إفشاء ما يفشونه لوال أن اجلذب واحلال ،وهذه القشعريرة ولني
اجللود شؤون ال يستجلبها املريد الصادق ،وإمنا ترد فتغلب.
ويشمئز منها علماء الشرع ويشهرون الرقص الصويف1ويشنعونه،
وهلم احلق إذ ال يعرفون احلال إال عيونا جاحظة وهيئة مزرية ال
787
تدري أجنون هو أم فنون للنصب والكذب .اترك الصادق يغالب
حاله وتعال أنبئك مبا أنبأك به من قبلي أمثال الغزايل الفحل رضي
اهلل عنه.
إن ابتداعات املتصوفة اليت أخفت عنك صدق الصادقني،
وإن اصطالحات الصوفية املرتاكمة على األيام ختفي وراءها حقيقة
احلياة األبدية .وضروري للمسلمني يف يوم انبعاثهم أن يرقوا من
املصطلحات وكل املظاهر املوروثة إىل مست الصحابة واقتصادهم
وتؤدهتم لكي يفتحوا بابا كان مغلقا شديدة مسالكه وعرة عطابه.
إنه باب الوصول إىل اهلل رب الرمحة واحملبة .إنك أخي واهلل إن
عربت هذه الدنيا ومل تطلب كمالك لَرجل مغبون غبنا ال يقاس.
وإنك إن طغت عليك أنانيتك وعقالنيتك وعادتك فما تعلم أي
جحيم تعيش فيه يف الدنيا قبل اآلخرة ،ولن تعلمه حىت تصحب
كامال كما صحبنا ،وهلل املنة وله احلمد.
إن مرياث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والنبيئني حق مقسم
لك منه نصيب إن تعرضت .وما تتعرض بعبادتك وحدها وعلمك
إال ملقام اإلسالم واإلميان ،أما اإلحسان فاطلبه عند داع إىل
اهلل صاحب بصرية .فمن هذا الداعي ومنك نفسك يبدأ بعث
اإلسالم .فإن كان الداعي وارث نبوة دلك على خالصك الفردي
وأوصلك إىل مقام الرجال ،وإن كان وارث رسالة ونبوة معا أهاب
788
بك إىل الرباط لتجاهد يف سبيل اهلل ومتوت موتة معنوية حتررك
لتكون يف الدنيا حامل رسالة رسولك صلى اهلل عليه وسلم،
ولتكون يف اآلخرة عند ربك يف مقعد الصدق بعد أن تقربت إليه
يف الدنيا بالفرض والنفل حىت أحبك ،فكان مسعك وبصرك ،ويدك
ورجلك .وما يدلك دعاة اإلسالم إال على عمل هل يوصلك
إىل غاية حىت؟ ألن من ليس داعيا إىل اهلل على بصرية ووراثة ال
يعرف حمبة اهلل لعبده وكمال العبد بالسلوك إىل سيده والعبودية
بني يديه .ال يعرف ذلك ولو كان يدعو لفرض ونفل مع دعوته
إلسالمه الفكري .ولن يتم بعث اإلسالم إال باكتمال الدعوة
إسالما وإميانا وإحسانا .وذلك هو املنهاج النبوي الذي نسيه
الناس ،وحفظه لك الصوفية بشرى من رسولك خالدة.
789
التنظيم اجلهادي
أمر اهلل رسوله حممدا صلى اهلل عليه وسلم أول ما جاءه الوحي
أن يقرأ باسم ربه ،كما أمره بعد ذلك أن يسبح اسم ربه ليكون
من املسبحني الناجني املنجني .فبالذكر والتسبيح تكمل الروح
وتتأهل حلمل األمانة اليت عرضها اهلل على السماوات واألرض
فأبينها وأشفقن منها .وبالقراءة وهي اجلمع تتعني الوظيفة اجلهادية
لصاحب الرسالة املبلغ عن ربه.
فالداعي إىل اهلل على بصرية إما أن يكون رجل مسبحة يسبح
اسم ربه ويتزكى ويصيب الناس منه صدق وعبري ومسك ذفري،
وإما أن يضيف إىل الذكر والتسبيح والتقرب بالفرض والنفل علما
وقراءة فيتأهل لعمارة الرباط وتنظيم اجلهاد .وذلك هو الوارث
الكامل بكمالني ،أحدمها روحي مبا ورث عن املسبحني ،والثاين
ورثه عن أويل العزم من الرسل ،وأويل املرياث شديدي القوى من
اجملاهدين ،الذين كانوا رمحة للعاملني .وذلك مقام القارئ اجلامع
باسم ربه وإذنه.
اجلذب قد يؤدي لروحانية إن كان جذبا إهليا ،فإن صحبه
سلوك على يد شيخ كان املريد بني سلوك وجذب ،أي بني عقل
قابض للزمام يروم خدمة عاطفية هياجة .وذلك لعمري صعب
790
املنال وعر املرتقى ،ألن العقل يتأله وينكسر ويستبد ،ذلك ديدنه
سيما إن لطخته العقالنية القلمية بشكوكها ،وألن العاطفة هوجاء
ال حد لطاقتها .فيظن صاحب األوراق أن األمر كله عقل ونقل
ألنه مل يكتشف عامله القليب ،ويطرب الذائق ويتيه يف حمبته حىت ال
ميلك العقل من أمره قليال وال كثريا ،وخيلع العذار ويبوح باألسرار.
وعلماء الشرع يقتلونه كما يقتلون الفجار.
على طريق اجلهاد عائق يف نفوس املسلمني وعقوهلم ،إهنم
مجيعا بني عاطفة وعقل ،فأما أهل النور فعاطفتهم جذب إهلي،
وأما أهل النقل فعقلهم شرعي .ومع ذلك فوضى ،ومع هذا مجود
وال ميكن أي جهاد مع الفوضى واجلمود.
فلكي يكون لنا دعوة جهادية ال بد من تنظيم جهادي،
وليكون التنظيم ال بد من حترير العقلية اجلامدة وضبط العاطفة
اجلاحمة .ويف تاريخ اإلسالم املعاصر جتربة تنظيمية غنية جدا مفيدة
جدا بسلبياهتا وإجيابيتها ،إهنا جهاد ويل اهلل تعاىل سيدي حسن
البنا.
ترىب البنَّا يف حجر الصوفية على منط الرتبية الفردية ،وكان
شيخه احلصايف رجال صادقا قويا ال خياف يف اهلل لومة الئم،
يدخل على األمراء ويقرعهم بالقول ،يأمرهم باملعروف وينهاهم
عن املنكر .وهذا ال مينع أن تصنف الطريقة احلصافية مع أصحاب
791
القضية الفردية واخلالص الفردي .وإن بني األمر باملعروف والنهي
عن املنكر على تنسيق الشيخ احلصايف وكل علماء املسلمني
الصادقني وبني اجلهاد واملرابطة لفرقا كبريا وفجوة بعيدة ،ويزيدها
متايزا عادات الزاوية يف اخلمول والدعة واحلرص على اخللوة لكيال
يتصل املريد بإخوانه إال يف ساعات خمصوصة .أما العامل فإن
اتصاله به يقتصر على احلد األدىن خمافة أن يلوث العامل مريد اهلل.
فلما أراد البنا سلوكا جهاديا اضطر أن يغادر زاوية ابن شيخه،
وبدأ عمله يف املساجد يعلم الناس الوضوء والصالة ،ويعظهم يف
املقاهي والشوارع .وتكاثر األتباع فتدرجت الدعوة شيئا فشيئا حنو
التنظيم ملا أحس البنا بضرورته .لكن العفوية اليت كانت أساسا
لبناء اجلماعة ،وتسارع احلركة وعدم وضوح اهلدف الرتبوي واملبدإ
املنهاجي جعلت التنظيم اإلخواين عرضة لألغراض ،وكان ما كان
مما جعله اهلل لنا درسا وعربة ومثاال للرجولة والربانية.
ال نرجم بالغيب وال نعلم إىل أي مرتبة روحية انتهى الشيخ
البنا رمحه اهلل .هل كان صاحب إذن وصاحب سر؟ هل كان شيخا
واصال موصال؟ هل اكتمل كيانه الروحي وهو حيمل أعباء الدعوة؟
تلك أسئلة ال ميكن أن جند هلا جوابا ألهنا من غيب اهلل ،ال نعلم
منها إال ما يتحدث به املشايخ من نعم اهلل عليهم .وال حتسب
هذه األمور وال تقاس كما تقاس الكفاية الفكرية بآثارها .بيد أن
792
وجود الوظيفة والورد والرابطة ،وروعة ذلك السيد اجلليل املهيب
احملبوب الساطع األنوار برهان واضح للوالية واإلرث النبوي .لكن
الذي حيري هو أن مجاعة اإلخوان املسلمني ،بعد وفاة السيد الكرمي
نسوا ،كثري منهم ،انتماءهم الصويف للشيخ ،واحتفظوا بالفكر
واملبدإ السياسي الذي عمى عليهم املبدأ الرتبوي .وفكر الشيخ
رمحه اهلل ضئيل إذا قسناه بفكر األستاذ املودودي مثال ،أو بفكر
الشهيد سيد قطب رمحه اهلل .ال جرم أن يصبح تنظيم اإلخوان
بعد الشيخ تنظيما فكريا أول شيء ،وال جرم أن متيل اجلماعة
وتتنكر للصحبة ،فتلك ثغرة كبرية يف تربية الشيخ رمحه اهلل ،مردها
إىل أنه عرف اجلماعة بأهنا مجعية ثقافية ،وتنظيم سياسي وفرقة
رياضية ومجاعة صوفية .فكأنه دس الصحبة والذكر دسا خياف أن
ينفض من حوله الناس لعدم ثقتهم بالصوفية .ويف كتاباته رمحه
أثرا لذكر معرفة اهلل وحمبته املوصلة
اهلل إسالم وإميان ،لكنك ال جتد ً
لرضوانه ووصله .وكل تنظيم إسالمي ال تكتمل فيه الدرجات
الثالث ومؤهالهتا ال جيمع إال خنبة وسطا .ذلك ألن ذوي اهلمة
العليا الذين ال حيرصون على حياة هم طالبو احلق الطاحمون مع
اجلنة إىل رب اجلنة .فمن دهلم على طلبتهم اتبعوه ولو فرض
عليهم اإلنزواء واخللوة.
قلنا من قبل أن العمل اإلسالمي يف نظر رجال الدعوة ال
793
يزال يف نطاق عاطفية حتب الغموض وال جتسر على استجالء
احلقائق بعقل ناقد .وحنن ال مينعنا حب البنّا واللهج بذكره أن
حنلل دعوته بقدر ما ينفعنا يف حبثنا عن إسالمنا .والذين ال تسمو
مهتهم للحق واملعرفة والسلوك إىل املوىل عز وجل حىت حيبنا ويكون
مسعنا وبصرنا ،هلم أن جياهدوا جهادهم فهم إخواننا ،وإن كانوا
وهابية مع علماء الشريعة على شاطئ اإلسالم ،فنحن نعذرهم يف
إحجامهم عن الطلب ،لكن خنربهم أن صلب اإلسالم يف الصدر
األول كانوا رجاال مثل أيب بكر وعمر ،أحبوا رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم وفنوا عن أنفسهم وماتوا يف اهلل فعرفوا اهلل باهلل ،فلذلك
كانوا ما كانوا.
وإن التجديد الذي ننتظره هو جتديد يصل علماء الشريعة
أرباب العقول بالذاكرين احملبني أصحاب القلوب ،وينقل هؤالء
وأولئك من القضية الفردية إىل القضية اجلهادية .وقد كان عمل
البنا رمحه اهلل وجهاده خطوة مهمة جدا يف هذا السبيل ،فلو
قيض اهلل أن يعلم الناس تعليما ال ينسونه ما أتاهم به النبيئون
والصديقون من ترغيب يف اهلل وداللة على ملكوت القلب وعلى
الكنز الدفني يف كل آدمي ،لكان جهاده جهادا حامسا .لكن
األمر أمر اهلل تعاىل والتوفيق توفيقه ،وما ترك من اجلهل شيئا من
أراد أن يظهر يف الكون غري ما أظهره اهلل كما يقول الصويف.
794
كان عند الصوفية املنزوون وال يزال ،إعراض كلي عن الدنيا
وأهلها ،فكان مرياثهم نبويا مل يكلفوا جبهاد كما مل يكلف به
معظم األنبياء .وترى رسول اهلل سيدنا نوحا عليه السالم ملا دعاهم
فأعرضوا دعا عليهم مث أعرض عنهم كما دعا أنبياء آخرون على
أممهم ملا كذبتهم وتأبت على هدايتهم .وهؤالء املشايخ الصوفية
هلم من قلوهبم ملكوت يتعهدونه بالذكر والعمل الصاحل حىت
ينكشف هلم عنه احلجاب ،ويُفتح عليهم فيعرفوا اهلل .ويربز من
الصوفية أفذاذ عليهم يدور تاريخ اجلهاد اإلسالمي كله ،فيطلبون
مرياث رسل اهلل أوىل العزم اجملاهدين ،فأولئك هم املرابطون ،وكان
أحدهم ويل اهلل البنا رمحه اهلل ،غري أنك لو غشيت جمالس صوفية
أهل احلقيقة وسألت عن البنا ملا وجدت له عندهم خربا ،ولو
سألتهم عن ويل هلل اآلخر ابن عريب لوجدهتم فيه حائرين وعليه
وعلى كتبه عاكفني .ذلك ألن البنا دعا جلهاد جامع قارئ ،وابن
عريب دعا لقراءة من نوع آلخر ،إليها يهفو الرجال ،وحوهلا أيضا
يتجمع الكساىل والعاطلون.
تقلصت الدعوة اإلسالمية من ميادين احلياة العامة شيئا
فشيئا ،ومل يبق منها إال مطالبة أصحاب الدنيا املغلفة بالدعوة،
وإال األمر باملعروف والنهي عن املنكر يقوم به العلماء العاملون
وظيفة فردية ،أما الصوفية فانعزلوا عن الناس فآتاهم اهلل من فضله
795
كما آتى إبراهيم ملا اعتزل وأصحاب الكهف ملا انزووا ولبثوا يف
كهفهم ناعسني عن الدنيا وأهلها .فدعوة علماء الشريعة دعوة
لتويل اهلل تعاىل بالعمل الصاحل ،ودعوة الصوفية دعوة لكي يتوالك
اهلل عز وجل بالفضل .وينضم عامة الناس للصوفية كما ينضم
إليهم خاصة اخلاصة ،أما الوسط فمع علماء الشرع .وكان البنا
رمحه اهلل رأى أن سواد املتعلمني يلبون دعوة ال تكتم بروحانيتها،
فلذلك يبقى احلديث عن الوالية والكمال الروحي حديثا غريبا
عند اإلخوان املسلمني احملدثني.1
إن الدعوة الصوفية املنزوية بؤرة للعاطفية ومدعاة للكسل ،إن
هؤالء األولياء مسبحون من املسبحني ،ويستطيع كل الناس أن
يسبح ال يعوقه عن ذلك جهد يبذله ،بل يكفيه أن حيب ويصدق.
إما القراءة واجلمع فال يطيقهما إال من ملك زمامه عقله ميشي به
يف أنوار الغيب وأسراره ،كما ميشي العقل باجلاهليني يف ظلمات
الكفر وبواره .السالك الذي اختفى جذبه وانضبطت عاطفته
يستطيع أن ينتظم للجهاد ،أما اجملذوب واملتواجد الكاسل فعناصر
نورانية تسبح حبمد رهبا كما يسبح الضفدع واحلجر .وأمرها إىل
اهلل عز وجل ،جيتيب إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب.
أمامنا اذن مثال البنا ومجاعته ،كانت تربيته مبدئيا تربية
1إال ما ظهر أخريا من كتابات الشيخ سعيد حوى رمحه اهلل وأجزل له املثوبة.
796
ثالثية تشمل الروح والعقل واجلسم ،فأما العقل فقد أتى أكله
يف جناح اإلخوان االقتصادي والثقايف ،وأما اجلسم فقد برزوا فيه
فكانوا أنظف الناس وأقوى الناس ،وأما الروحانية فهي كانت
أساسا الجتماعهم حني تفرق الناس ،وألفتهم حني تباغضت
األحزاب ،ووحدهتم وسط شعب مشعب التنظيم كان يف صبغته
العامة تنظيما فكريا ،والتنظيم ال يكون إال كذلك ،فإن العاطفة
حتفز للعمل وال تضبط العمل .غري أن كل تنظيم اسالمي ال يبلغ
من قوة روحانيته أن يرضي النخبة العليا من طالب احلق ذوي
اهلمم العليا كما يرضي اآلخرين ،يوشك أن ينحدر إىل التنظيم
الفكري احلامل الذي ال يستطيع مقاومة التنظيمات الشيوعية
املغرية بيوتوبيتها ومناذجها الناجحة املساندة الدساسة.
بعد التنظيمات الثورية اليت جيب أن نتعلم من ممارستها
فأمامنا ُ
ونظامها كما تعلمنا من كتاب العامل وهو كتاب اهلل احملس وعطاؤه
غري احملظور.
النظرية الثورية كانت حربا على ورق ،وفلسفة شاعر عامل،
قبل أن تدخل عامل الواقع واملمارسة .كان روسو وفولتري شعراء
وفالسفة ،فأصبحت حقيقة على يد دانتون وربسبري ،وكانت ثورة
صنعها الشيوعيون يف سلم طبقياهتم وتعلموا منها .وبتعلمهم
من التاريخ العملي احلاضر ،مثل تعلمهم من حتليله النظري عرب
797
األجيال اهتدى زعيمهم لينني لوصف اآللة التنظيمية احلزبية مث
بنائها لتؤدي وظيفتها وسط اجلماهري .تعلمت املاركسية النظرية
كيف تتناول الناس وكيف تسوقهم إن مل ينقادوا ،وكيف حتل
مشاكل النضال اليومي ،من يقظة لينني ومراقبته لألحداث والناس
بعقل ناقد ذكي واسع االطالع مسلح بالنظرية ومنهجيتها ،وأعز
العلم أن تتعلم كيف تتعلم.
وتراكمت اخلربة الثورية يف دنيا الشيوعية ،واستغنت استغناء
كبريا باملمارسة الصينية .فهذه كانت أطول تارخيا وأوسع مدى
وأمشل.
لنا يف تنظيماهتم جمال للتأمل والتدبر والتعلم ،فإن تنظيم
اخلاليا السرية قبل ثورة روسيا ،وتنظيم اجليش األمحر الصيين
املناضل ،وما تبع ذلك من تنظيمات احلزب املطالب بالسلطة
دروس للدعوة اإلسالمية قبيل البعث اإلسالمي بشرط واحد.
ذلك الشرط هو أن تتعلم الدعوة اإلسالمية أن جتهر بأمرها ال
تتسرت وال تعنف ،فرفق ومست إسالميان ينافيان احلقد الطبقي
واجلهامة الثورية.
مث إن التنظيم الثوري لن تنفعنا دراسته إال إن كانت لنا
ممارسة ،ولن يكون للفقه املنهاجي معىن إن زعم أنه الصيغة
النهائية للنظرية اإلسالمية .كال فإن العلم بالتعلم كما أن احللم
798
بالتحلم ،ومبا أن العلم النظري يبقى مشلوال إن دار يف هواء
األفكار كما يكون احللم تصورا فارغا إن مل منارسه بني اجلماعة،
فإن فقهنا املنهاجي ختطيط ال قيمة له إال إن ترتب عليه تنظيم
قبيل وبعد ،فيه تعلم وحتلم.
للتنظيمات الثورية اجلاهلية مراتب ثالث :النظرية واحلزب
والطبقة ،فقاعدهتم فكرية حمض تستغل الغضب الطبقي وآلتهم
حتزب على الفكرة والوعد الفكري ووسطهم مجاهري وشعوب.
وقاعدتنا حنن عاطفية اميانية وعقل منهاجي يضبط العاطفة،
وختتلف طبيعة الدعوة املنظمة عن معاين احلزب كما ختتلف معاين
األمة واجلماعة عن مدلول الشعب واجلماهري.
799
عضو اجلماعة
يف حقل العمل اإلسالمي تنظيمات متفرقات بعضها يف أسر
الطاغوت يف مدرسة الصرب والرجولة ،واألخرى طليقة .فواحد
يستحق الذكر ،وشبه تنظيم يستحق اإلعجاب والتنويه .أوهلما
تنظيم مجاعة املودودي وهو تنظيم حائر ملكان الفجوة الروحية
فيه .وأما الذي يستحق إعجابنا فهي حركة رجال التبليغ ،هؤالء
املساكني السائحون يف األرض احلاملون إسالمهم على أكف
طاهرة وقلوب عامرة باإلميان .إنه شبه تنظيم وحلمته أقوى الوشائج
وأعظمها وهي حلمة االنتماء إىل الرسول صلى اهلل عليه وسلم
وصحابته .فكتاهبم القائد هو كتاب «حياة الصحابة» وحديثهم
يف اجملالس يدور حول حياة الصحابة ،وكل حركاهتم وأعماهلم
حتكي حياة الصحابة .فهم أهل السنة واجلماعة .بقي هلم من
أصلهم الصويف إخبات إىل اهلل وذكر يستغرق األوقات وتعظيم
للمؤمنني ،يزورون األحياء ويلتمسون الدعاء.
وبينما تنظم اجلمعيات اإلسالمية املنتشرة يف دار اإلسالم
حماضراهتا وتأمالهتا ،ترى رجال التبليغ يهاجرون هجرة مستمرة
حيملون الدعوة لكل البقاع .فلهم من هجرهتم برهان ،وهلم من
تقللهم وصربهم الربهان على أن اتباع السنة ،ولو تقمصا من
800
خارج ،يشحذ العزمية وينور البصرية .وليس للجماعة فكر وثقافة
فهم مساكني جماهدون ،خريهم بينهم وقيادهتم ال تنبين على
صحبة معينة أو فكرة رائدة غري هذه الفكرة الرئيسية ،أن مرياث
األنبياء يف محل الرسالة فرصة متاحة لكل من يرجو لقاء اهلل ،وأن
وسيلة ذلك هو التشبه بالصحابة ومعاشرة املؤمنني على قواعد
السلوك الصحايب ،وأوله اهلجرة وترك العادة.
لرجال التبليغ فاعلية أكرب مما تتيحه وسائلهم البسيطة ،وذلك
دليل على مكان توفيق اهلل جلهاد املساكني املهاجرين .ومن عناصر
فاعليتهم جتاوزهم لإلقليمة وعموم دعوهتم .ففي مساجدهم جيتمع
املسلمون من كل األقطار ،وجيتمعون يف الرحالت الطويلة ويف
أرض الغربة ،فيتعلمون اخلشونة والرجولة كما يتعلمون أهنم إخوة.
ليس عجيبا أن تقوى الدعوة اإلسالمية يف أرض اهلند ألن
االضطهاد الواقع على املسلمني يوحد الصف ويعني على طلب
احلق املقهور .ويف تركيا تنظيمات إسالمية عظيمة تتحفز للعمل
ولعلها اليوم أصفى وأقوى احلركات اإلسالمية ألن إحلاد املارد
مصطفى كمال وأتباعه يكون ظالما قامتا ال ينهض له إال نور
اإلسالم يف أكمل صفائه .وقد قتلوا املسلمني وشردوهم حىت مل
يبق يف امليدان إال الصادقون الذين ال حيرصون على حياة.
وهذا يصلنا إىل طريقة االنتساب والعضوية ،وما يطرحه ذلك
801
من مشاكل يف يوم اإلسالم وغده .وقد حملنا فيما مضى إىل أن يسر
االنتساب جلماعة اإلخوان املسلمني كان عامال مهما يف أن توغل
يف الصفوف من محلوا الشارة ورققوا العبارة لغاية غري غاية اإلخوان.
وعند املودودي حرص شديد على أن يبدأ االنتساب باملبايعة،
وعنده شكوى ال جتد جوابا من الفراغ الروحي .فاألعضاء يبايعون
على الطاعة ،لكن الطاعة تثقل إن مل تسبقها حمبة متهد هلا .ففي
هذه التنظيمات وما يشاهبها يقبل الناس لينتسبوا للجماعة رغبة
يف الدعوة ،بينما تقوى هذه الرغبة يف أرض االضطهاد رغبة عن
الرجس احمليط .فرباط العضو باجلماعة هو شعوره باحلاجة لتغيري
ما به ،وثقته بأن الدعوة متأل فراغ نفسه وتُربح جهاده وتوظيفه
حلياته .وهو أقوى ما يكون إن دلته الدعوة على الطلبة العظمى
يف حياة الروح ،وأعطته وعيا لذاته كشخص مفرد يف خصائصه
عزيز على خالقه ،حيمل قابليات الكمال بني جنبيه ،وميكنه أن
حيققها سالكا إىل ربه مع مجاعته.
وكلما ارتفع اهلدف املقرتح على طالب االنتساب وخوطبت
فيه روح التضحية والبطولة كان أدعى أن يلتصق باجلماعة ويتفاىن
فيها .فاملناضل الشيوعي يقوم ضد العامل كله ليحرر اإلنسانية
كلها ،فشعوره ذاك حيرره من عادته ويبعثه لطلب البطولة .ويقوى
هذا الشعور بالثقة اليت توحي هبا القيادة ،وبالنجاح يف العمل.
802
فلهذا جتد املنتسبني لألحزاب الثورية يف بالدنا اإلسالمية قوما
خاوية أفئدهتم ،ال جيمع بينهم إال قشرة تافهة من النظرية الثورية
من ورائها حرية عقلية وعاطفية .فال ثقة هلم بشيء ،وال جناح
يرغبهم يف تضحية.
نظرنا يف احلافز لإلنتساب ،فلننظر اآلن إىل وظيفة املنتسب
وعمله يف اجلماعة ،واحلركية يف اجلسم كله .قد يكون احلافز قويا
جدا مع وجود قيادة توحي بالثقة وتدعو للرجولة ،لكن املنتسب
يستحيل آلة جامدة أو آلة مسخرة إن كان يف الدعوة غموض
يشل العقل الناقد ،أو يشرتط االتباع األعمى .فنتذكر «شيخ
اجلبل» الصباح الذي كان ميين أتباعه األماين ،ويغرهم مبخذراته،
فيضحون حبياهتم من أجل مكره وباطله .ويف الدعوات املوجودة
بدار اإلسالم أصحاب خمدرات من هذا النوع أو ذاك ،ومنهم
أصحاب غموض وغبش يف الفكر.
وأجلى مثال للغموض يف الدعوة املؤدي للشلل وركود
املنتسب ،هو مثال االنتساب الصويف حني يعتمد على التقليد.
ال أحتدث عن املشعوذين الكاذبني ،فأولئك ال يستحقون كل هذا
االهتمام ،وإمنا أحتدث عن الصادقني وهم أكثرية الذاكرين أولياء
اهلل .فنحن الصوفية ورثنا مرياثا ثقيال مثلما ورث أصحاب النقل.
أقول حنن الصوفية أنتسب للكرام ألن اهلل ال يطرد من بابه من
803
انتسب جلنابه ،فحيثما وجدت منا شيخا مربيا وارثا نبويا غطت
نورانيته على ما هنالك وفتح لك إىل ربك املسالك ،أما إن مل
تعثر إال على أمري الزاوية وقارئي املناقب فستقرأ من الكرامات
حىت يغمى على فكرك ،وستمىن بالفتح تشل إرادتك انتظارا ملا ال
يكون ،وصربا يف غري موطن للصرب .إن هذه الكرامات حق ،وإن
الغيب حق ،لكنها تصبح غاية من حيث نوى كتاب املناقب أن
تكون تذكرة ،مث إن هذه الكرامات حتيط هبا ظروف ومالبسات
هي من قبيل العادة ،فيقرأها الغري وخيتلط عليه األمر فينغمس يف
البدع والضالالت .إن املريد ينتسب للشيخ يطلب الوصول إىل
اهلل ويطلب الفتح ،هذا مطلب مشروع مقبول يف حق املبتدئ.
وهو مطلب شامخ هتون معه كل تضحية وكل ختل عن الذات.
لكن الشرط الغامض هو أن يكون بني يدي الشيخ كامليت بني
يدي غاسله.
وهنا تتلقفه العوادي ،فالشيخ احلق ال ميكن أن تعرفه من حليته
أو مسته أو عمله الظاهر ،وليس لك قوة روحانية متيز هبا بني الغث
والسمني ،بني اخلالء واملالء .مهما أعطتك الكتب من مواصفات
للشيخ املريب فلن تعرف هبا الرجل إذ ما معك املعيار الروحي.
فينتسب املريد للطريقة على حسن الظن ،فإذا كان من
خاصة اخلاصة ،وأعين هبم ذوي الطموح الذي ال ينتهي الصادقني
804
املصدقني بالكمال وإمكانه ،فإن له من إقباله على اهلل أو من
علمه ما ميكنه من عبور حواجز النورانية وحواجز العادة .أما إن
كان من عامة املسلمني فالزاوية تقربه قربا وتشل فكره وإرادته،
فال ينهض جلهاد أبدا ،ويستحلي اخلمول النوراين ،ويلوك تلك
العبارات حىت يتوفاه ملك املوت الذي وكل به ،ويهبه اهلل إن شاء
ما شاء فإنه صرب وصدق ،وإن هلل يف خلقه شؤونا يقصر العقل
عن حملها فكيف بتحليلها.
إن الدعوة اإلسالمية حتت ظل االنبعاث اإلسالمي هي األداة
الفاعلة يف بث الوعي وإهناض اهلمم واكتشافها ،ويف ضبط العمل
وقيادة اجلهاد .والدعوة اإلسالمية اآلن دعوة مبعثرة ،فكل طائفة
من املؤمنني تدعو إىل اخلري وتأمر باملعروف وتنهى عن املنكر يف
ركنها ال تربطها رابطة .وحني ينبعث اإلسالم ستكون الدعوة
املنظمة يف قطر االنبعاث نواة التوحيد ومنوذجه .ونعين بالدعوة
املنظمة جسما واحدا ينتمي أعضاؤه للجهاد اإلسالمي حتت
قيادة واحدة .ولكل عضو احلرية أن ينتمي للطريقة أو ال ينتمي،
وأن يصحب من يشاء صحبته شريطة أن يسبق واجبه اجلهادي
حنو التنظيم ،وأن يسبق يف وقته وماله ونفسه حقوق التنظيم على
ما سواها .نرى يف مجاعة التبليغ أخوة جهادية جتمع بني الصويف
وغريه وحتاول بإلغاء املصطلحات والرجوع للمنبع الصايف جتاوز
805
اخلالفات .فذلك لنا درس عظيم.
صياغة األداة العملية اجلهادية تبدأ بتحديد شروط العضوية.
فالتنظيم احلزيب الثوري يفرض على املنتسب واجبات ويعني له
حقوقا .وقد كان للشيوعيني خصام طويل ونقاش ،على عهد لينني
وبزعامته ،ملعرفة من يقبل عضوا يف التنظيم ومن ال يقبل .وكان
يف روسيا قبل توحيد احلزب البلشفي جتمعات كثرية متوزعة بني
التيارات الفكرية .وهو وضع يشبه وضع الدعوة اإلسالمية احلايل،
بل إن هذا أشد تعقدا لتمكن العنصر اإلنفعايل العقدي من زمام
القلوب ،وإن ببالدنا اإلسالمية أقواما ال يزالون يف تراشق بالتهم
وتكفري للناس ،يطعنون بالرماح العالية ،يف عناوين منشوراهتم،
صدور إخواهنم خلالف جزئي تافه .وأولئك قوم فاهتم الركب ،فما
حديثنا عن الغابرين!
إن التنظيم أمر حيكمه العقل الناقد أساسا ،فالتنظيم اجلاهلي
يطرد العاطفة طردا ويعتمد على العقالنية العملية يف إثارة احلماس،
وعلى اليوتوبيا يف إبعاد املطمح .وعلى اإلسالم املنبعث أن يؤسس
اجلهاد على العقل الراسخ بالعلم النبوي املنهاجي ،ويتعلم كيف
وأين خيصص للعاطفة جماهلا ،وكيف يصلح بني اجتاهات املنتسبني
العاطفية يف خط جهادي واحد .وما يتيسر ذلك إال باخللوص إىل
اللب من وراء القشر اللفظي ،ومبحاذاة النموذج اخلالد عرب الرتاث
806
والعادة .ونعين هبذا عكس ما يفعله اإلسالم الفكري ،فالدعوة
الكاملة تنظيم جلهاد املسلمني بقيادة النخبة اإلميانية اإلحسانية،
على مراتب األهداف واملقاصد والغايات .وإن إسالم من يقفون
عند اهلدف قانعني بإبداء تفوق الشريعة ونظامها اإلهلي على
أنظمة الوضع إلسالم مبتور .مبتور ألنه ال حيدث اإلنسان عن
كماله وعن رضى ربه ليجعل منه عضوا يف اجلماعة حرا ينشد
الشهادة يف سبيل اهلل وال خياف املوت.
الغاية اإلحسانية وطلبها هو ما يفرقنا عن التنظيمات املعهودة
يف الدعوات اإلسالمية احلالية .واجلهاد املنظم هو ما مييزنا عن
صوفية الزوايا حيث يفهم اجلهاد فهما خاصا وينكر التنظيم.
وحيث يعطي امليثاق الشيوعي للعضو يف احلزب حقوقا تقابل
واجبات فإن اجلهاد اإلسالمي املنظم يقتضي أن يسبق الواجب
احلق ،فإن اجملاهد رجل يبذل ما اشرتاه اهلل منه ليجزى به يوم
القيامة وحىت إقامة العدل بني املسلمني قاعدة للجماعة اإلسالمية
يسبقها بذل النخبة املنظمة اجلهادية.
يقول نظام احلزب السوفيايت لسنة « : 1961من واجب عضو
احلزب أن يناضل إلنشاء القاعدة املادية والتقنية للشيوعية ،وأن
يعطي مثال موقف شيوعي يف العمل ،وأن يرفع إنتاجية العمل،
وأن يكون احملرك األول لكل ما هو جديد وتقدمي ،وأن يدعم
807
وينشر جتربة الطليعة ،وأن يتمثل التقنية ،وأن حيسن مستواه املهين،
وأن يسهر على امللكية االجتماعية االشرتاكية أساس قوة وازدهار
الوطن السوفيايت ،وأن يوسع هذه امللكية».
فذلك أول واجب العضو ،ونراه يدور حول القاعدة املادية
كما نقرأ يف كل الواجبات ما يوجه للهدف االقتصادي وخدمة
الشعب لتحقيقه.
وهو واجب عطاء وتضحية وخدمة يف مقابل حقوق :أن
ينتخب يف هيآت احلزب وأن يناقش وميارس النقد .ويزيد امليثاق
الصيين لسنة 1969واجب العضو وحقه يف النقد الذايت .فكل
هذا مييز لنا باعث التنظيم اإلسالمي اإلمياين اإلحساين عن بواعث
البطولية والتضحية يف مقابل إرضاء أنانية الفرد وحبه للظهور يف
اهليآت .ولكم تكبت الشيوعية املربية يف الصني باعث األنانية
وتلح يف دستورها ويف ممارستها على ضرورة خدمة الشعب والتفاين
فيه والتضحية من أجله ،لكن ذلك لن ميحق األنانيات ،ولن
ميحقها اجلهاد اإلسالمي إن انفصل عن الغاية اإلحسانية وطلبها.
وظيفة العضو يف التنظيم اإلسالمي الكامل أن يلتحم
باجلماعة قلبا وقالبا ،وأن يعطيها والءه ،ويندمج فيها رغبا ال
رهبا ،حىت تصبح اجلماعة وسيلة لتحقيق اهلدف القاعدي وهو
العدل واالستقرار .ويف اندماجه مع اجلماعة وحمبته إلخوانه
808
خالصه أيضا ،ألنه باحملبة والبذل يقوى إميانه وتقوى عالقته بربه.
فاملقصد اإلمياين يرجع قوة اجلماعة خلدمة اهلدف ،بينما يرقى
بالعضو حنو آفاق احملبة ،واحملبة إميان ،واإلميان درجة حنو الكمال
الروحي واخللود يف رضى اهلل عز وجل.
التنظيم اجلاهلي يؤلف اجلماعة بأخوة الفلسفة واإليديولوجية
وأخوة اهلدف السامي .وهو تنظيم ينجح جناحا باهرا يف الصني.
ومن ألفة العمل الثوري وأسبقية السياسة والفلسفة تتولد يف
العاطفة موجات من احلماس البطويل تكهرب اجلماعة وتلهب
تشوفاهتا .واحلماس رغوة العاطفة وفيضها غري املستقر .وحياول
التنظيم الشيوعي أن يدخل عنصر العاطفة يف حسابه ،بتشجيع
الوالء لشخصية القائد ،لكن القاعدة تبقى هي الفكر وال يكون
الوالء للقائد إال إعجابا ومحاسا .يقول دستور احلزب الشيوعي
الصيين لسنة « : 1969جيب على أعضاء احلزب الشيوعي الصيين
أوال :أن يدرسوا ويطبقوا املاركسية – اللينية – أفكار ماوتسي
تونغ بصورة حية» ،فأول واجب العضو واجب فكري محاسي
خالق للوالء البطويل.
وما هكذا يكون عضو اجلماعة اإلسالمية ،إن عاطفته أساس
إميانه وجممع كيانه ،تلك حقيقته يف ذاته .أما حقيقته اجلهادية
فهي االنضباط وإحكام الوقت واجلهد .وحيافظ التنظيم على
809
احلقيقة اإلميانية دون أن يزول عن املنطلق التنظيمي ،وميارس
اجلهاد املنظم دون أن يضيع احلقيقة العاطفية .وبعبارة أخرى
يكون العضو سالكا بعقله يف عمله مع اجلماعة يف الوقت نفسه
الذي يكون منهمكا يف مناجاة ربه والتقرب إليه ،وبنفس احلركة.
فإذا كان الصويف وظيفته التسبيح الفردى ،ويرتك سائر عمله عرضة
لدواعي اجلذب والغموض ،فإن عضو اجلماعة اجملاهدة ينبغي أن
يتخذ التسبيح والفرض والنفل وشيجه بينه وبني اهلل ،من حيث
كونه يسبح مع مجاعته ،ويؤدي معها فرضه ،وجيعل أعظم نفله
حمبتها وخدمتها والتفاين يف نفع املسلمني ورعاية اخللق أمجعني.
وال يزال داعي التفقه املنهاجي يسري بنا يف طريق اكتشاق اإلنسان
املضطرب ،نبحث عن االستقرار والعدل ،وعن اجلماعة اليت تغري
معاين اجملتمع ،ونبحث عن اهلل عز وحل ومرضاته.
810
مركزية الطاعة
على خط اخلصال العشر املنهاجية حددنا واجبات السالك
وحقوقه .وخيتفي احلق يف ثنايا الواجب ،ألن احلقوق املبذولة عطاء
متبادل ضمىن يف ظل الطاعة لصاحب األمر ،واحلق املكتسب
باجلهاد حق عند اهلل يتجاوز عامل الفتنة وجهادها ويتسامى على
كل مطمح ويقتحم كل عقبة.
العضو العامل مطالبةً باحلق ليس له من العضوية إال امسها،
وجتد يف التنظيمات احلزبية متفرجني ممن ينتمون للحزب ال يشاركون
إال بالضجيج وانتظار املغنم .أما العضو العامل فهو من يسأل
قبل كل شيء :ما هو العمل؟ وما ميكنين أن أساهم به؟ وإذا كان
احلق ال ينفصل عن الواجب يف التنظيم اجلهادي انفصاال ،وإمنا
ينسحب من الواجهة وينسحب من العقلية قليال أو كثريا حسب
مسو احلافز وقوة دواعي البذل واإليثار ،فإن التطوع ألداء الواجب
ال يكون نشاطا خالقا إال إن حاطته طاعة وصانه انضباط.
قبل قيام األمر اإلسالمي توجد تنظيمات نلحظ منها مجاعة
اإلخوان املسلمني ومجاعة باكستان ومجاعة التبليغ ،وغريها الكثري
املبارك بإذن اهلل ،ويرجع جناح من جنح من هذه اجلماعات فيما
يرجع إىل مكان الطاعة واالنضباط .فأي عضو ال يتم اندماجه
811
يف التنظيم إال بإعطائه القياد ألمري يطيعه ،وخيط له سياجا للعمل
يتقدم فيه بكل شخصيته ويتفاعل على خطه مع إرداة اجلماعة
املمثلة يف القائد .وبعد قيام األمر اإلسالمي توحد الدعوة املنظمة
مجاعات الدعوة يف تنظيم واحد يدين بالطاعة لقيادة واحدة،
أو يف جبهة إسالمية قطرية تقوم يف وجه الطبقة الالئيكية حىت
تستخلص منها مقاليد احلكم.
القائد اجملاهد هو الرجل الذي يبادر إلعالن توبته ويتقدم
ليتقمص الدور الرباين متعرضا ملوعود اهلل .له من مبادرته أسبقية،
وميكن أن يكون هذا القائد قاصرا عن الربانية الكاملة اليت تؤهله
حلمل الدعوة ،واستجالب اهلم واإلرادات للتطوع .وهذا ال مينع
من أن تكون له الطاعة العامة كما تكون له طاعة الدعوة ،ألن
علماءنا أفاضوا يف البحث عن جواز إمامة املفضول يف حال
وجود الفاضل أو غيابه .وإذن فالقائد اإلمام صاحب األمر العام
والطاعة العامة هو نفسه قائد التنظيم وصاحب الطاعة اليت
مينحها املتطوعون للجهاد.
وقد تعثر التنظيم الشيوعي منذ عهد لينني يف التعارض الذي
وقع بني ضرورة املركزية الدميقراطية نظريا ،ومعىن ذلك أن تكون
للتنظيم قيادة قوية منبثقة من إرادة اجلماهري ،وبني واقع املركزية
االستبدادية الذي مثله ستالني ،وقلده كل زعيم صنع عمال مذكورا
812
يف أرض الشيوعيات .تتعثر النظرية الثورية واملمارسة الثورية يف
البحث عن القيادة القوية فال جتدها إال يف االستبداد الفردي
الزائغ عن النظرية الدميقراطية املركزية .ويدل الواقع الشيوعي على
أن قوة القيادة واستبداد القيادة بالتوجيه عامل حاسم يف جناح
الثورة.
واإلسالم يركز اجلهاد يف يد قائد يبايعه الناس ويطيعون له،
وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا بعث اثنني فما فوق
أمر أحدهم على األخرين وأمرهم بطاعته .فال تردد يف الفقه
املنهاجي فيما يرجع ملركزية الطاعة وضرورهتا ،وإمنا حتدد الطاعة
وحتدد املركزية بشرطني؛ أوهلما أن يكون القائد رضى للجماعة،
اختارته عن طواعية وبايعته على غري كره ،وثانيهما أن يطيع اهلل
ورسوله فإن زاغ خلعوه حقا هلم وواجبا عليهم.
وحنب أن منيز بني قيادتني ،جيب أن تبقى وظيفتهما متميزة
يف ظل احلكم اإلسالمي؛ مها قيادة الدعوة وقيادة الدولة .عند
الشيوعية يبدأ الزعيم قبل االستيالء على السلطان قائدا للحزب،
وبعد ذلك يتطابق جهاز احلزب مع جهاز احلكم ،ويرتكب احلكم
مع احلزب فيكونان جهازا واحدا منه يصدر األمر وإليه ينتهي.
وأمامنا ختبط الشيوعية بعد الزعامة املستبدة يف حبثها عن صيغة
للحكم اجلماعي ،يرتمجها التنظيم املؤسسي الذي يفصل ظاهرا
813
احلزب عن احلكم ،ويضع جبانبها رئيسا للدولة .غري أن ذلك ال
مينع أن تكون اهليمنة جلهاز احلزب يف كل ميدان .وليس للشيوعية
أن هتتدي إىل غري ذلك ،ألن احلزب والدولة يعمالن هلدف واحد
هو اهلدف االقتصادي ،وال جيد احلزب أفقا غريه ليشتغل به،
فيزاحم اإلدارة البريوقراطية ،وال يقتصر على مراقبتها ،بل يهيمن
وينشىء احلركة وخيطط هلا وينفذها .بل يصبح هو البريوقراطية.
أما يف اإلسالم فإن الدعوة ال معىن هلا إال إن جتاوزت باإلنسان
وعيه االقتصادي ،وبعثت فيه رغبة اإلميان ورغبة الكمال ،فلذلك
بعث اهلل رسله وأنبياءه وأورث أولياءه دعوهتم .وليس معىن هذا أن
الدعوة ورجاهلا يف ظل اإلسالم ال يهتمون باهلدف االقتصادي.
كال! فإن قاعدة العدل وإقامتها هدف ال يقدر على حتقيقه إال
من أتاه من أعلى .لكن الدعوة ورجاهلا ال ينهمكون وال ترتكز كل
جهودهم يف إقامة العدل ،بل هم أساسا منوذج للمؤمن املقبل
على ربه بنفس احلركة اليت يقبل هبا على استصالح األرض وتكثري
اخلري وتعميمه على الناس .فاإلقبال على اهلل والسعي حنو املقصد
والغاية وظيفة رجال الدعوة ،وهلم غريها وظيفة أخرى بصفتهم
أعضاء يف مجاعة املسلمني عليهم واجب الطاعة العامة كما على
الناس.
وهكذا فينبغي للدعوة املنظمة أن تكون اليد اليمىن للحاكم
814
اإلسالمي دون أن تتحول أداة تنهمك يف شؤون اهلدف فتضيع
املقصد والغاية .وهذا مطمح صعب جدا .فإن مل جنتهد غدا يف
مجع الطاعة وتركزها بال خلط ،فإن مصري الدول الدائلة يتهددنا.
وما من دولة إال بدأت بدعوة ،ويأيت السلطان فيلتهم رجال
الدعوة ويستهلك جهودهم يف األرض فينسون تربية األجيال
واجلهاد املتفتح على العامل احلامل للرسالة.
هلذا نلح على ما نسميه بثنائية الدعوة والدولة ،وهو نظر
ال نرى له يف واقع الناس إال أمثلة متفرقة ،لصعوبة اجلمع بني
وظيفتني يف يد واحدة .فقد كان الرسل عليهم الصالة والسالم
رجال دعوة قبل كل شيء ،هلم الطاعة من املؤمنني بدافع احملبة
والثقة والتقرب إىل اهلل .وقد ينزع الناس اليد من الرسول فيقول
ك فـََقاتَِل ب أَنْ َ
ت َوَربُّ َ بنو اسرائيل مثال لسيدنا موسى﴿ :فَا ْذ َه ْ
اع ُدو َن﴾ٍ.وبنزعهم اليد من نبيهم أعرضوا عن الدعوة إِنَّا هاهنا قَ ِ
َ َُ
وكانوا قوما فاسقني .وكان رسوالن مجعا بني الدعوة وتطوعها
وطاعتها وبني احلكم وطاعته مها سيدنا موسى وسيدنا حممد
عليهما الصالة والسالم .فكان معصومني تركزت يف أيديهما
الطاعة الشاملة فصرفا أمر الناس صرفا موفقا .وجاءنا خرب نبيني
خليفتني آتامها اهلل الدعوة وامللك معا ومها داوود وسليمان عليهما
أفضل الصالة والسالم.
815
فاملعصومون محلوا العبئني معا هبمة مقتدرة وبصرية مدبرة،
وداوود قبل نبوته وملكه قاتل حتت إمرة طالوت ،ومل يك طالوت
نبيا وإمنا كان ملكا ،بعث اهلل نبيا له يف بين إسرائيل ،فطلبوا إىل
رهبم أن يبعث هلم ملكا ليجاهدوا حتت قيادته .فربز طالوت
جبنده ومعه نيب اهلل ،وكان طالوت مؤمنا حمسنا مطيعا لنبيه .فهذه
مناذج لثنائية الدعوة والدولة ،أحيانا جياهد رجل الدعوة حىت يتم
له النصر فترتكز عنده طاعة التطوع اجلهادي وطاعة األمر العام.
وتارة جيتمع للرجل الواحد حكمة وملك فيدعو إىل ربه بسطوة
النورانية وصولة السلطان .وتارة يصحب رجل الدولة رجل الدعوة
ويقود اجلهاد ،فللنيب طاعة الدعوة من حيث كونه نبيا وله الطاعة
اجلهادية العامة من حيث أن طالوت كان يطيعه .فكان طالوت
صاحب أمره ،وكانت الطاعة مرتكزة يف يد النيب.
هذا وإن أنبياء اهلل ورسله هلم من اهلل توفيق وعصمة فال
يضعون األمور يف غري مواضعها .وقد جاءتنا حياة رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وصحبه بالنموذج الكامل للجمع بني الدعوة
اجملاهدة واملعايشة املتساعدة ،ورأينا كيف كانت الطاعة لرسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبنية على احملبة والبذل واإليثار .وكذلك
كان أبو بكر وعمر رضي اهلل عنهما .ومنذ سيدنا عثمان رضي
اهلل عنه توسعت الرقعة ،وغلبت الفتنة بعد ذهاب يد كانت حتمل
816
الدرة فتزجر هبا من ال يسمع الكلم.
إن غد اإلسالم هو غد اخلالفة على منهاج النبوة ،وسيكون
األمر دولة تدول إن مل يفتح الفكر النظري والتنظيم املرن املتعلم
اجتهادا يعضد إميان القائد اجملاهد ويكمل النقص البشري ،يرفع
الدعوة مستوية على عروشها ،مشرفة على الساحة مراقبة غري
منهمكة وال مستهلكة.
إن رجل الدعوة رجل هتفو إليه األفئدة ،فهو مناط احملبة
ومناط الرجاء للكمال واإلحسان ،فباحملبة جيمع القلوب ،وعلى
احملبة ينسج تطوع املتطوعني للجهاد على منوال الطاعة .وأيا ما
كان فهو غري معصوم ،فإن مجع إىل هذه احملبة وجالهلا الطاعة
العامة فبم حتدثه نفسه إن مل يكن عبدا مطهرا كامال؟.
مركزية الطاعة يف اإلسالم حيدها اختيار أويل احلل والعقد،
وحرية اخللع وواجبه إن زاغ .واإلمام بني هذين احلدين مرتوك
لنفسه يلجمها ويزجرها ويربيها ويروضها على الصرب والصدق.
وقد رأينا كيف خطب عمر بن اخلطاب ،ليخرب الناس أنه كان
يف صباه يرعى على خاالته بقبضة من متر ،حيسب ذلك اليوم
أي يوم! كان يريب بذلك نفسه لكيال تطغى ،ويهينها لرتتد عن
غلوائها.
ومن يقدر على ما يقدر عليه عمر؟
817
مركزية الطاعة ضرورة نظامية إنسانية سيكولوجية تربوية؛ إن
النموذج العايل الذي يصبح يف عني الناس رمزا ومثال أكرب حافز
للجهاد .تسمع كلمته فتكون هلا صولة هائلة وينظر إىل وجهه
فيوحي إىل الناس معاين النبل ويوقظ فيهم داعي احملبة والبذل
واإلقدام .ال شك أن كل قائد ينصرف على منطه وحسب كفاياته
وقدرته على االستقالل بالرأي والعزم .بيد أن املبادئ الدستورية
يف انتخاب الشخص املركزي وخلعه ال تكفي لتحديد وظيفة
اإلمام ،بل ال بد من اجتهاد لتستقر ثنائية الدعوة والدولة على
نسق معلوم.
لكي نعرب عن خطر االحنراف عن معاين اخلالفة إىل معاين
الدولة ،نضرب مثال بعبادة الشخصية وهي وباء الشيوعيات
بل هو وباء أكثر استحكاما عند حكام العض واجلرب يف بالد
املسلمني .إن الزعيم يتأله أمام جناح قيادته ،واألدهى من ذلك أن
طبع اجلماهري أن تلتمس األمن يف ظل صنم تتخيل له قدرة فائقة
وتتوهم له كماال ،فهي تعبد ذلك املتأله وتنصب وجهها إليه،
ذلك يقع عند امللحدين ،فيكيف لو اجتمعت شخصية ستالني
وجناحه االقتصادي بقدسية البابا مثال ؟ إن إمام املسلمني رجل
رباين ورجل دعوة قبل كل شيء ،فله يف القلوب حمبة وإجالل
وتعظيم .وقليل جدا من الرجال من ال يطغيه تعظيم الناس له
818
سيما إن أضيفت إىل ذلك سلطة السلطان.
إمام الدعوة قبلة للقلوب ،فإن كان كامال الكمال الروحي
فهو الطود الشامخ ،ال تزعزعه املظاهر .فقد مات عن الدنيا
وحيي بروح اهلل .وطاعته عندئذ تنفع مثلما تنفع حمبته ،وهو
ال يضره من ذلك شيء .إنه عندئذ مثال لألبوة الروحية جلميع
املسلمني .وإن كان من الذين إذا رؤوا ذكر اهلل ،فإن حمبته قربة
ومن ال يعلم كيف يذكر اهلل فقد علم اهلل حيث قال ﴿:فَِإ َذا
َش َّد ِذ ْكراً﴾.1 ِ قَضيتُم منَ ِ
اس َك ُك ْم فَاذْ ُكُروا اللَّهَ َكذ ْك ِرُك ْم آَبَاءَ ُك ْم أ َْو أ َ َْ ْ َ
فذلك اإلمام تسطع نورانيته ويراه املؤمنون ويتذكرونه ويذكرون اهلل
بذكره .وليس من اهليبة أبعد من هذا .فتصور أن الناس نشأوا على
هذا التعظيم وهذه احملبة ،مث ويل األمر من ليس له كمال .فما
يكون وقع ذلك يف نفسه؟ وما يكون أثره عليه؟ أو ليس يتملقه
املتلقون فيتهاوى ،ويدب إليه ديدان القراء فيفتنونه عن أمره؟
جيب أن تنتظم اخلالفة على منهاج النبوة حبيث تيسر لإلمام
اخلليفة القيام بوظيفتيه دون أن تطغى إحدامها على األخرى ،ودون
أن يرهقه السلطان وطاعة الرقاب فيتأله أو ينحرف .وال يستطيع
التنظيم الدستوري أن يهيء ذلك إال إن أدخل يف حسابه مرونة
ال ختلع وتنصب بتسرع فتضيع املثال وتكسر عاطفة املسلمني،
1البقرة .199
819
وال تلني حىت تقبل خطأ ال يستقيم مع األسوة احلسنة يف إبراهيم
والذين معه وحممد صلى اهلل عليه وسلم والذين معه.
واإلمام اخلليفة رجل دعوة قبل كل شيء ،وإن كان يف فرتة
القيادة اجلهادية ال بد أن يأخذ األمر كله بقوة حىت يصفو
االجتاه ،فإنه بعد استقرار األمر اإلسالمي ينبغي أن يشرف على
أمر املسلمني ،وأمرهم شورى بينهم .فهم يتخاصمون ويتشاورون
على مصاحلهم االقتصادية ،وهو يشرف ويوجه ،وحيسم إن اقتضى
احلال .وبعد أمر املسلمني بل قبله أمر اهلل تعاىل وهو الدعوة
واجلهاد.
اإلمام اخلليفة بني األمرين ،أمر اهلل وأمر املسلمني ،إنه مع
املسلمني يف جمالسهم ومساجدهم ،على املنرب ويف احملراب ليبلغهم
أمر اهلل وحيثهم عليه وحييي قلوهبم مبواساته ومثاله .وهو مع اهلل يف
كل وقت ويف خدمة أمر املسلمني.
بني األمرين جمال الجتهاد الفقهاء الدستوريني ،وجمال
لتوفيق اهلل عبده اإلمام حىت تستوي لنا غدا خالفة على منهاج
النبوة .وأمامنا للدرس والتعلم يف ملكوت اهلل عبادة الشخصية
عند الشيوعيني ،هي هلم ضرورة ال يعرتفون هبا ،وبإزائها خبط
الدميقراطيات وغلياهنا الدميقراطي الذي ال يستقر بني انتخاب
رئيس ال سلطة له ،أو رئيس له سلطة ال ينفك يتجاذهبا مع
820
منتخبيه وممثليهم .أولئك اجلاهليون ال دعوة هلم ،والدعوة الثورية
ال نسميها دعوة ألهنا عند اهلدف االقتصادي قاعدة .ومع قصور
أمرهم على اهلدف الواحد املوحد ،منذ انتهوا من كنيستهم ،فهم
يشعرون حباجة أجهزهتم ملركزية تعطى القوة وتفرض االجتاه .وقد
عرب عن ذلك أحد قادهتم املعجب بالنموذج الرئاسي األمريكي
حيث قال بأن الرئيس له الدفع واالستمرار implusion et
821
ا لنصيحة
احملبة ثوب رضى خيلعه اهلل على من يشاء من عباده .فقد
ك َم َحبَّةً ِمنِّي﴾. ﴿وأَلْ َق ْي ُ
ت َعلَْي َ امنت على عبده موسى قالَ :
فاملسلمون حيبون رجل الدعوة حبا خالصا ملا أعطاه ربه من نورانية
وبصرية يدعو عليهما إىل ربه .وإمام املسلمني وخليفتهم غدا لن
يصنع له احملبة صانع خارجي ولن خيلعها عليه إال ربه إن صدقه
الوجهة وأخلص له النية ،فإذا كانت طاعة رجل الدعوة طاعة حمبة
متصلة بطاعة اهلل ورسوله ،فصاحب األمر العام ينبغي أن يستحق
هذه احملبة قبل أن تعطاه مقاليد األمور ،أو نقول بلسان دارج :
ينغي أن يستوي على عرش القلوب قبل أن يستوي إماما لألمر
العام .أمرنا اهلل عز وجل أن نطيع اهلل والرسول وأويل األمر ،فهي
سلسلة متصلة تتدرج من ربويية اهلل إىل ناسوت اإلمام عرب األسوة
احلسنة والنموذج اخلالد .وينبغي أن يكون اإلمام حكما مرضيا
وأن يكون أمره مقضيا ،فهو خليفة الرسول الشاهد على األمة
بالقسط.
طاعة الدنيا طاعة ظاهرة ال حتاسب على القبول العاطفي،
أما طاعة اهلل املمثلة يف طاعة اخلليفة فهي شرط اإلميان ،وكماهلا
أن يصحبها قبول يف القلب وتسليم كامل .إهنا عطاء غري مشروط
822
يما ك َل يـ ْؤِمنُو َن حتَّى يح ِّكم َ ِ
وك ف َ َ َُ ُ وال حمدود .قال اهلل﴿:فَ َل َوَربِّ َ ُ
ت َش َج َر بـَيـْنـَُه ْم ثُ َّم َل يَ ِج ُدوا فِي أَنـُْف ِس ِه ْم َح َرجاً ِم َّما قَ َ
ض ْي َ
سلِّ ُموا تَ ْسلِيماً﴾ .واخلليفة له مثل ذلك من أمته .فهي طاعة َويُ َ
كاملة ختتلف عن طاعة اجلاهليات اختالفا جوهريا كما خيتلف
انضباط املؤمن بإميانه وطاعة ذمته اختالفا جوهريا.
فهاتان قائمتان من قوائم اجلماعة املؤمنة ،احملبة والطاعة،
وبينهما تضامن وتساند ،احملبة بال طاعة عاطفية مائعة ،والطاعة
بال حمبة ضبط عسكري تسمع منه قعقعة العنف اجلاهلي .بيد أن
اجلماعة ال تقوم على قائمتني حىت تكمل الثالثة وهي النصيحة.
ليست اجلماعة قطيعا أعمى يساق بالعصا ،وال كوكبة من املالئكة
ترفرف يف أنوار امللكوت متحابة متعاطفة .حقائق األرض ومصاحل
الدنيا تفرق وتكدر ،وتنسي حلظة من التظامل حلظات الصفو
وحلظات التسليم احملب.
فال بد لألمة يف جمموعها من خصام ،لذلك شرع اهلل احملاكمة
وشرع احلدود ،ولذلك ينظم القضاء اإلسالمي العطاء واألخذ.
وال بد من اختالف ينشأ يف صف الدعوة وصف األمة مجعاء،
لذلك فحيوية الدعوة يف تنظيمها الداخلي وحيويتها يف نشاطها
بني املسلمني تتوقف على فسح آفاق النصيحة وتنظيمها وضبطها
بضوابط حرية االجتهاد وواجب الصدق.
823
إن التنظيم معناه الضبط واالنضباط ،فال بد من قيادة ضابطة
وطاعة منضبطة .ومن طبع اإلنسان أن يتمرد بأنانيته على الطاعة
أو يراوغها إن كانت تشوش عادته أو متنعه شهوة وارتفاقا وكسال.
ففي التنظيمات اجلاهلية تُعد النظرية مكانا بارزا ملركزية القيادة
واالنضباط حتت لوائها وتعقد فاعلية احلركة على قوة القيادة،
وتربهن املمارسة على صحة ذلك وتؤكده .لكن موطن اخللل هو
صعوبة املصاحلة بني مركزية القيادة وبني ضرورة التزام األعضاء
عن تراض وتشاور .ففي النظرية يسمى لقاء املركزية بالرتاضي
«مركزية دميقراطية» ،وينتظر مبقتضى هذا أن تنبثق القيادة من
إرادة القاعدة .وعندما ينزل التنظيم مليدان العمل يتبني أن القاعدة
تتكون من ذرات بشرية شديدة االختالف مائلة للتنافر والتحزب
والتعصب ،وذلك يشل احلركة ،فيضطرون أن يأيت التوجيه من
أعلى .وهكذا تعلو طبقة من ذوي الشكيمة على مراتب التنظيم،
ويطول بينهم النزاع أو يقصر حىت ميسك األقوى أو األدهى زمام
األمر ،وتتحول مركزية القيادة إىل عبادة الشخصية.
اجلهاز القيادي اجلاهلي الثوري يفتقد داعي الثقة واالنضباط
الذي جيمع إرادات حرة تدعم القيادة وتطيعها وال تبدد اجلهود
يف النقاش الفارغ والتكتل املفرق .وإن عالقات األعضاء فيما
السوق
بينهم وعالقاهتم بالقيادة ال تزال ولن تزال مؤسسة على ْ
824
االستبدادي ودمية تسريها أيد ماهرة قاهرة .وإن أصحاب
اجلدلية الثورية يدركون جيدا التناقض بني طريف العبارة « :املركزية
الدميقراطية» ويدركون جيدا أن اجلماعات بال راع وقائد قطيع ال
وحدة بينه وال فاعلية له ،لكنهم ال حيسنون أن ميهدوا ملشاركة
أعضاء التنظيم يف العمل ،ويبقى عندهم طرف «الدميوقراطية» يف
عبارة التنظيم تعويذة مربرة .وما أشبه دميقراطية الشيوعية بدميقراطية
االنتخابات يف بالدنا ،سواء منها الثورية االشرتاكية وصاحبتها.
ففي بالدنا وبالدهم تبلغ نسبة املوافقني بضعا وتسعني ونيفا يف
املائة ال تتخلف ،وتدل داللة واضحة على أن املوافقة ما كانت
مشاركة إال حبركة السعي إىل خمادع التصويت.
وعند الشيوعية املربية يهتف شعار «خط اجلماهري» أن
االنطالق ينبغي أن يكون من اجلماهري ليعود األمر إىل اجلماهري،
بعد متحيص الرأي وغربلته وإغنائه .وال تزال هذه الشيوعية تتمخض
ولن تلد إال طاغوتا كما ولدت سابقاهتا .وجند يف تشوفات
القادة الصينيني وتطلعاهتم وصفا لأللفة واخلدمة كما يتصوروهنا.
يقول قائلهم يف املؤمتر الثامن سنة « 1:1956إن واجب قيادة
احلزب أن تعرف ،عرب عملية ‘‘االنطالق من اجلماهري للعودة إىل
اجلماهري’’ وتكرارها الالمتناهي ،كيف ترفع بصورة دائمة معرفة
825
احلزب واجلماهري ،وكيف تتقدم بعمل احلزب والشعب بصورة
دائمة .وإن من واجب احلزب وأعضائه ،يف سبيل هذا اهلدف ،أن
يقيموا صالت كثرية ووثيقة مع العمال والفالحني واملثقفني وسائر
املواطنني ،مع اهتمامهم الدائم بتوسيع هذه الصالت وتدعيمها.
إن من واجب كل عضو أن يفهم التناغم القائم بني مصلحة
احلزب ومصلحة الشعب ،بني أن يكون مسؤوال أمام احلزب وبني
أن يكون مسؤوال أمام الشعب من واجبه أن يضع نفسه من كل
قلبه يف خدمة اجلماهري الشعبية وأن يستشريها باستمرار ،وأن
يصغي إىل صوهتا ،وأن يطلع على مشاقها وآالمها ،وأن يساعدها
بكل ما يف وسعه على حتقيق رغائبها .إن احلزب الشيوعي الصيين
هو حزب يف السلطة .لذا فمن األمهية مبكان بالنسبة إليه أن
يكون متواضعا وفطنا ،وأن حيذر العجرفة وقلة الصرب ،وأن يناضل
بقوة ضد النزعة البريوقراطية اليت تبتعد عن اجلماهري وواقع احلياة
يف كل منظمة من منظمات احلزب ويف كل إدارة حكومية أو
منظمة اقتصادية».
أوردنا هذا النص ملا فيه من مثالية وملا يرتجم عنه من صعوبات
نبعت من املمارسة الثورية الغنية الناجحة املتحدية للعامل .فمن
فطنة الشيوعية املربية ودهائها أن نفهم «خط اجلماهري» فهما
أكثر مرونة من مفهوم املركزية الدميقراطية ،وإن كانت العاطفية
826
الصينية تتسلل بني السطور يف خجل واستحياء ،وتغطي عليها
اعتبارات املصلحة وضرورة الفهم والعقل وواقع احلياة.
إن اإلسالم ينطق باحلق ال يعلق بوضوحه شوائب بشرية
تُرنق صفوه ،فالعالقات بني أعضاء مجاعة املؤمنني هي عالقات
والية ،احملبة أبرز صفاهتا وأوالها؛ فال خيجل املؤمن أن ميارس
حمبته كما ال خيجل الشيوعي أن ميارس دميقراطيته الثورية ،إال أن
هذه وهم وراءه عنجهية احلاكم املتسلط ،وتلك صادقة .والتنظيم
الشيوعي يسمي استبداد القيادة وتأله القائد مركزية دميوقراطية
نفاقا إيديولوجيا مربرا ،ويسمي تناحر األنانيات خطا مجاهريا
وما سوى ذلك ،أما اإلسالم فيقبل بوضوح بل يفرض بوضوح
الطاعة على الرعية ،ويسمي الرعية باسم واضح يدل على ثقة
املرعي ورفق الراعي .ومع احملبة والطاعة النصيحة ،وهي مسامهة
كل مؤمن يف الفكر والتخطيط والعمل.
إن للمنظمات صريرا منكرا وصريفا ينجلي بني آونة وآونة عن
تصفيات يُلفظ فيها أشخاص على هامش التنظيم أو تقلع فيها
رؤوس من على أجسادها ،وما دام األمر مصلحة اقتصادية وزعامة
ودغدغة لألنانيات فما األفراد إال أرقام جيب أن يصطفوا طوع
األمر مبقتضى الفاعلية العقالنية املؤسسة للنظام .ويف اإلسالم
ترتبط األهداف الدنيوية باملقصد والغاية ،فينطق ناطق احلق:
827
«لن تدخلوا اجلنة حىت تؤمنوا ولن تؤمنوا حىت حتابوا» ،وينطق
لسان احلق بأن اقتحام العقبة هو التواصي بالصرب واملرمحة ،وإن
اإلنسان يف خسر ما مل يتواص الناس باحلق ويتواصوا بالصرب.
ويلح القرآن على وجوب الطاعة لدوي األمر فإن طاعتهم من
طاعة اهلل ورسوله.
فالعضو املؤمن يف اجلماعة اإلميانية ينبعث حبافز سعيه للخالص
والسلوك إىل ربه ،وهو يف التنظيم اجلهادي يزداد رغبة يف جزاء
اهلل وحمبته ،فإخوانه حيبهم وال يرى منجاة له وال مصريا حممودا إال
مبحبتهم ،وهو يطيع القائد اإلمام طاعة هلل ربه ،وال مينعه احلب
والطاعة من املسامهة يف النصيحة والتواصي باحلق والصرب.
بني خطي احلق والواجب يرتدد اجلهد اجلاهلي غدوا ورواحا،
وجهد املؤمن دفع لواجب فرضه اهلل عليه .ويف أحسن صورة
للعمل اجلاهلي ،وهو النضال الثوري ،يتصور املناضل حقه خريا
مغصوبا وواجبه غضبا ثائرا ،فيكون له من غضبه وطلبه جمال
إلرضاء نزعته للبطولة والزعامة املأسوية .أما املؤمن فقد أمره اهلل
بالتواصي باحلق والصرب ،وبني له يف اآلية األخرى أن احلق هو
املرمحة أي احملبة والتعرض لرمحة اهلل من خالهلا.
احلق الذي يتواصى عليه املؤمنون ويتناصحون به هو التفاين يف
خدمة اجلماعة مقتحمني عقبة األنانية ،حيبون إخواهنم ويواسون،
828
وبذلك يستحقون اجلنة الهنم أحبوا فآمنوا ،ومن ال حيب ال يؤمن.
والطرف الثاين من التواصي والنصيحة هو الصرب والصرب خدمة
وبذل ومواصلة للجهاد .فإنك إن عاشرت إخوانك يف حضن
الوالية اليت بني املؤمنني ،فمهما وصلت بك عاطفة احملبة والغريية
ال بد أن تتعارض مصلحتك مع مصلحة غريك ،فماذا أنت
فاعل؟ إنك تصرب فتتنازل عن بعض حقك وتتسامح ،وتصرب على
ماعناة أخيك والرتفق به حىت يرجع إىل احلق والصرب ويشاركك يف
النصيحة.
تتمزع وشائج اجلماعة أو تلتئم .فجماعةبني احلق والواجب ّ
من رعاة الوهم أو من الفارين بدينهم يطلبون احلق وال يبذلون
الواجب .خذ مثال هلم املتصوفة األدعياء ،أو الصادقني املنزويني.
إهنم يفهمون احملبة فهما جيدا ويقصرون الطاعة يف نطاقهم
فيطبقوهنا تطبيقا ما ،لكنهم ال يعرفون النصيحة وإمنا يستبدلوهنا
مبفهوم غامض هو التسليم .فالتسليم ألولياء اهلل أصحاب
الكرامات أمر ال حميد لذى قلب وعقل عنه ،وإن هلل مع أوليائه
معاملة ال يعرتض عليها إال هالك .لكن مفهوم التسليم ينسحب
على كل نشاط املتصوفة ،فكل حر يف تصرفه ال يُعرتض عليه
خمافة دعوة نافذة أو حرمان .بدل النصيحة يتميع بني املتصوفة
السلوك اإلسالمي وتفشو البدع ،حىت إن اجلذب املزعوم ال يغطي
829
أكثر األحيان إال خباال يتنكر حتت املرقعات أو كسال وهباال.
قال موالنا جعفر الصادق عليه السالم « :اشتغلنا مبا أريد بنا
عما أريد منا» ،وهذا أمجل تعبري وأدقه عن حال من يرتك الواجب
متعلقا بوهم احلق .يف عقلية املسلمني عامة رواسب خرافية ختلفت
عن اخلبط العقدي فيما مل يكلفنا اهلل به ،هو القدر .فالعقيدة
اجلربية تشل احلركة حنو الواجب وأدائه ،ويلزم أن يقبل الناس كل
ما يرد عليهم دون اعرتاض ،ألن املشيئة مشيئة اهلل ،وألن العبد
مسري .وهذا تعطيل للواجب والنصيحة والتواصي باحلق والصرب.
ويف عقلية الصوفية اشتغال مبا يراد باملريد عما يراد منه .فالفتح
الرباين وترقبه حق مشروع للمبتدئ لكنه إن أصبح مشغلة له عاقه
عن أداء الواجب وعاقه عن التمييز والنقد والنصيحة .وحنن نشكر
اهلل أن جعل من رجال الطريق شهداء يفضح صحوهم وغناؤهم
يف اإلسالم كسل املشتغلني بالرتهات املشلولني .مييز بني الفريقني
بعضهم إذ يذكر «صوفية األخالق» و«صوفية احلقائق» ،وهو
تقسيم سطحي أعمى؛ ألنه ال حقائق إال بأخالق ،وإن أهل
احلقائق هم أهل األخالق لكن نقسم الفريقني إىل «صوفية رباط»
وهم أهل الواجب والنصيحة ،أروع مثال هلم يف عصرنا اإلخوان
املسلمون األولون ،وإىل «صوفية زاوية» وهم أهل التسليم ،ومن
بينهم الصادقون املعذورون يف فرارهم بدينهم ،وآخرون يشتغلون
830
باحملال يبغونه بكسلهم وأحالمهم.
ما خرجنا عن موضوعنا ،بل عمقناه إذ حبثنا عن مصادر
تعطيل النصيحة واالنشغال عنها عند الصوفية.
للتنظيم واحلياة اجلماعية مشاكل ترتكز حول القيادة واالتصال
بني األعضاء والتعاون .فيعطي اإلسالم للمؤمن عضو اجلماعة
حق الفالح عند اهلل لقاء واجباته يف الطاعة بعد احملبة ويف
النصيحة املبذولة .وعلى كل عضو واجب النصيحة كما عليه
واجب الطاعة .فالطاعة للقائد تفرتض منـََعتَه يف احلق وكماله يف
الرأي ،والنصيحة تفرتض نقص اإلنسان وحاجته لتكميل نقصه
برأي أخيه وحكمته.
واجب النصيحة والتواصي املعممني اعرتاف بالنقص البشري
وواقعية ،كما أن واجب الطاعة اعرتاف مبثل ذلك .الرعية يف
ضعفها حتتاج لسند قوي معنوي يكسبها الثقة فلذلك يوجب
اإلسالم أن ترتكز اهلمم حول اإلمام فتطيعه وتسري بسريه .والراعي
عرضة يف كل وقت للخطإ ،وعرضة لطغيان النفس ،لذلك ففرض
عليه أن يتناصح مع املؤمنني وأن يقبل نصيحتهم.
ولن جتد من القادة والزعماء أبدا من يقبل النصيحة مثلما
قبلها أبو بكر وعمر إال أن يكون مثلهما .فقد خطب أبو بكر
خطبته األوىل فأعلم الناس أن يعينوه إن أصاب وأن يقوموه إن
831
أخطأ .فاعرتف باخلطأ وإمكانه ،واستعد لقبول النصيحة بل هو
استجلبها .وكان عمر تعرتض عليه العجوز تنصحه فيقبل حقها
وحق كل ناصح.
يف كتاب اهلل وعيد شديد ملن ال يقبل حق الناصحني ،قال
َّم تعاىل﴿:وإِ َذا قِيل لَهُ اتَّ ِق اللَّهَ أَ َخ َذتْهُ ال ِْع َّزةُ بِ ِْ
الثْ ِم فَ َح ْسبُهُ َج َهن ُ َ
َ
اد﴾ .وهكذا يكون بذل النصيحة واجبا يتعلق بالذمم س ال ِْم َه ُ ِ
َولَب ْئ َ
والضمائر ،ويرتبط بالغاية واملصري الفردي .فلذلك يكون اإلسالم
أقدر على حل مشاكل النقد والنقد الذايت وتعدد التيارات يف
التنظيم اجلهادي.
832
دعوة إىل اخلري
لعل من ورثة اجلمود القروين من يعرتضون أساسا على وجود
تنظيم جهادي داخل األمة ،أو ال يتصورون أن تكون الدعوة
منظمة ،ألن التنظيم اقرتن يف األذهان باملباديء احلزبية ومنهج
االضطراب السياسي .فلمن يسأل عن مشروعية التنظيم يف
اإلسالم جنيب بالضرورة العملية وجنيب بالنص القرآين .فأما من
جهة الضرورة العملية فإن األمة تشمل أفرادا يشكلون ذرات
بعد غثاء التتلقفها تيارات الفتنة هتيجها وتسخرها ،وهي ُ
يتماسك .وإن إسالم هذه اجلماهري إسالم فردي متفتت تسبح
فيه خنبة مؤمنة جتهل نفسها وال تتعرف على الطريق .فأي دعوة
تقوم قبل اجتماع الوازعني يف القيادة املؤمنة تتشعت وتتسرب إن
مل ينظمها سلك ويوحدها منهاج ضابط .وأي انبعاث إسالمي
ال يسنده تنظيم للنخبة املؤمنة لن يكون إال اضطرابا ،ولن تتاح
له ظروف االستبداد الرتبوي ووسائله .وإن كان يف بالدنا ال
ينجح دعاة احلزب الواحد االشرتاكي إال كمثل جناح األحزاب
املتعددة ،فال يرجع ذلك لعدم فهم التنظيم وأمهيته ،بل يرجع لعدم
استجابة الناس ألمر ال يثقون به وال خياطب شعورهم اإلمياين.
فالتنظيم اإلسالمي للدعوة ضرورة وشرط أساسي للجهاد والعمل
833
والتجديد .وبالتنظيم جتتمع الطاقات املبعثرة وينتقل اإلميان من
كونه شعورا يتفاوت يقظة وخبوا إىل كونه حركة تتناول الواقع
وتغريه.
ص ُموا بِ َح ْب ِل أما النص القرآين فهو قوله عز وجل﴿:وا ْعتَ ِ
َ
ت اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم إِ ْذ ُكنتُ ْم اللَّ ِه َج ِم ًيعا َوَل تـََف َّرقُوا َواذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ
َصبَ ْحتُم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوانًا َوُكنتُ ْم َعلَ ٰىف بـَْي َن قـُلُوبِ ُك ْم فَأ ْ اء فَأَلَّ َ
أَ ْع َد ً
َش َفا ُح ْف َرٍة ِّم َن النَّا ِر فَأَن َق َذ ُكم ِّمنـَْها َك َٰذلِ َ
ك يـُبـَيِّ ُن اللَّهُ لَ ُك ْم آيَاتِِه
لَ َعلَّ ُك ْم تـَْهتَ ُدو َن َولْتَ ُكن ِّمن ُك ْم أ َُّمةٌ يَ ْدعُو َن إِلَى الْ َخ ْي ِر َويَأ ُْم ُرو َن
ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾ وف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َوأُوٰلَئِ َ بِالْمعر ِ
.
َ ُْ
فاالجتماع من التفرق ووحدة االعتصام حببل اهلل ،يرجع إىل
رباط األلفة بني القلوب ،وهو احملبة ،وهو نور اإلميان مين اهلل علينا
به وجيعلنا إخوانا .فلكي تستمر األلفة ولكي يستمر االجتماع
ينبغي أن يكون منا أمة يدعون إىل اخلري ويسهرون على النظام.
إن حبل اهلل يربط األمة مجيعا باحملبة والذمة والطاعة ،لكن جيب
أن تكون أمة من األمة ،أي طائفة خاصة هم أهل الدعوة،
حيافظون على احلبل املتني وعلى األلفة واألخوة والنظام .أمة
خاصة من األمة العامة هم النخبة ،وهم أهل التطوع واإلحسان.
ت يف آية أخرى خطاب لألمة مجيعاُ ﴿:ك ْنتُ ْم َخيـَْر أ َُّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ
َّاس تَأْمرو َن بِالْمعر ِ ِ
وف َوتـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْم ْن َكرِ﴾ ،فلم تذكر َ ُْ للن ِ ُ ُ
834
فيها الدعوة ،وإمنا ذكرت النصيحة والتواصي باملعروف وبالصرب.
ذلك ألن الدعوة إىل اخلري ال يتأتى إال ملن كان على بصرية متبعا
لرسوله عارفا السبيل .فالنصيحة يشارك فيها كل مسلم على قدر
علمه وحلمه ،وحسب قدرته على البذل والتطوع ،أما الدعوة
للخري فتقتضي أن يعرف الداعي اخلري قبل أن يدعو إليه .واخلري
درجات ،لكن الكلمة حتمل معىن التفضيل ،فلعل الداعي يدعو
إىل خري ما يعلمه حيسب ذلك غاية الغايات ،وهو ما خرب إال
نصف الطريق أو دون ذلك .يدعوك داع إىل اإلسالم وآخر إلميان
وإحسان ،فصاحب املرتبة اإلسالمية دعاك إىل خري حسبه مجاع
األمر ،وما عنده خرب مبا متتد إليه طريق السلوك ،وهو التماس
الزلفى إىل اهلل واقتباس النور من قلب املؤمن العارف باهلل.
مث إن الدعاة إىل اخلري إن مل ينتظموا يف سلك تبددت جهودهم
وتنافروا وتدابروا ،وهو حال املسلمني على مدى القرون .فمن
كان منهم ال يعلم من اخلري إال شرعة احلق والطاعة والعبادة
أنكر ما يدعو إليه أصحاب القلوب من رقائق املعامالت مع اهلل
تبارك وتعاىل .وهكذا تفرتق طريق الصويف عن طريق العامي ،هذا
يتجهم بدعوته وهلا ،وذلك يبشر وال ينفر ،وخيرب عن فضل اهلل
الواسع ورمحته وعطائه لعبده إذا امنت عليه فأصبح مسعه وبصره
ويده ورجله .والدعوة إخبار وحتديث ،فما ينتهي تشعب التعابري،
835
وما ينتهي تكفري الناس للصويف حني تفجأه األنوار واألسرار،
فيتلعثم لسانه وينطق مبا ال يقبله نقل الناقلني.
فالدعوة إىل اخلري ختتلف يف سلم املراتب على درجات
اإلسالم واإلميان واإلحسان ،وختتلف اختالفا أفقيا بني دعاة
الطائفة الواحدة .ويبدو لك جليا أية صعوبات تعرتض تنظيم
الدعوة ،وقد كان الشيخ البنا رمحه اهلل رائد التنظيم اإلسالمي،
فقد ألغى الطائفية ودعا ليجتمع املسلمون على ما يقرب بينهم
ويرتكوا اخلالفات املذهبية ،يسلم كل لصاحبه ما ال يضريه من
اخلالفات اجلزئية .وما مت له شيء مما أراد إال بإغماضه مراتب
اإلسالم الضائعة يف املصطلحات ،فجعل طلب احلقيقة الصوفية
جزءا وفرعا من نشاط األخ املسلم ،وتفرغ لالنتشار األفقي على
صعيد اإلسالم العام .واآلية الكرمية مطلقة يف الداللة على أن خنبة
األمة جيب أن تدعو إىل اخلري ،واخلري يف احلديث النبوي هو خري
اآلخرة ،فذلك اإلميان ،أما نص القرآن فال يذكر اخلري إال مقرونا
باالصطفاء ،فاملصطفون األخيار هم الرسل واألنبياء ،واخلري الذي
أوتوه هو اإلحسان والكمال.
التنظيمات ميتد نشاطها يف جمال أفقي عقالين ،إنه جمال جيدده
من مجيع جوانبه الكم ،وال تقبل اإليديولوجية احنرافا عن اخلط
العقالين املذهيب بل تشجب عاطفية الصني وشاعرية كاسرتو.
836
فبعد أن نكرر أن الدعوة اإلسالمية إن نُظمت على أساس إسالم
ال يرقى إلميان وإحسان دعوة مبتورة ،ننظر إىل ما جيب أن يتحمله
التنظيم اإلسالمي اإلمياين اإلحساين من اختالفات هي من طبيعة
احلركة والعمل.
مارست املنظمات الثورية ثوريتها ،وباحتكاك اآلراء واإلرادات
قبل انتصار الشيوعيات وبعده ،دققت النظرية الثورية مباديء
التنظيم ومناهجه ،وأعدت ملفاهيم النقد والنقد الذايت مكاهنا يف
حركية اجلماعة .فلألعضاء حق االعرتاض على القيادة بالنقد،
وعلى القيادة واجب االنصياع للحق .وولدت املمارسة الثورية
ألصحاهبا خالفات على مناهج التنفيذ وحىت على مباديء العمل،
فنشأ ميل إىل إحياء التيارات اليت تكون بني الثوريني قبل التنظيم
املوحد .وتعارضت ضرورة الوحدة واملركزية الضامنة للفاعلية واملضاء
حبق املسامهة والتعبري الدميقراطي عن الرأي وحق اختيار القيادة.
وال يزال النظام الشيوعي يتخبط مثل ختبط األنظمة الدميقراطية أو
أشد يف مشاكل تقسيم السلط وحرية الفكر واالنتخاب .ويتحمل
التنظيم اإلسالمي بواجب احملبة والطاعة والنصيحة ما ال تتحمله
األنظمة اجلاهلية ،يتحمله لطبع فيه وفطرة فطرها اخلالق ربنا،
ويتحمله النفتاح باب االجتهاد والرتاضي والتشاور .ويتحمله بعد
ذلك لتعلق التنظيم كله باملصري ،وألن هذا املصري وخط السري إليه
837
حتكمه أوامر احلق ،فال يؤذن فيه ملن أخل بشروط اإلميان .ومن
شروط اإلميان أن حيسم النزاع باحملاكمة إىل احلكم املطلق النهائي،
وهو اهلل عز وجل ،حيكم بشرعه رسوله أو خليفة رسوله .كل نزاع
على التنفيذ واملنهاج داخل التنظيم اإلسالمي لن يؤول إىل فوضى
از ْعتُ ْم فِي وتباغض لوجود احلكم ،قال اهلل عز وجل﴿:فَِإ ْن تـَنَ َ
ول إِ ْن ُكنتُ ْم تـُْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه َوالْيـَْوِم َش ْي ٍء فـَُردُّوهُ إِلَى اللَّ ِه َو َّ
الر ُس ِ
ْال ِخر﴾.
يدلنا تاريخ اإلسالم على أن ما نشب من خالفات بني
املسلمني مل تقفه كل هذه االعتبارات .وكان الصدر األول زمان
الرجال األفذاذ من الصحابة والتابعني ،وكانوا أعلم الناس باخلري
وأقرهبم للمعروف ،وأبعدهم عن املنكر .ومع ذلك تنازعوا ومل
يرتاضوا باملعروف ،بل احتكموا للسيف .وهكذا فيما بعد ،فكيف
ننظم حنن بعد كل ذلك الكدر أمرنا نزعم أن اإلسالم يتيح لنا ما
ال تتيحه األنظمة اجلاهلية؟
إن الصحابة اختلفوا يف احلَ َكم من يكون ،اختلفوا على
اخلالفة فلم يعرتف بعضهم ببعض .وزمحهم من تكاثر الداخلني
يف اإلسالم وعنفهم ما أعجلهم عن التشاور والتصاحل .ودالت
من بعدهم دول كان خالفها يدور حول احلكم ومبدإ احلكم ،أما
يف غد اإلسالم فإن اخلالفة على منهاج النبوة ستكون لنا اختيارا
838
نستبدل به واقعنا الغث املهني .من بعد جهلنا باخلري وإنكارنا
للمعروف نقبل على خرينا الضائع ،ونتعارف على طريق ٍ
وعد قوي
يدل عليه منهاجه .فلنا من ماضينا املفتون العريق يف الفتنة درس،
ولنا من واقعنا حافز ،ويف جتاريب اإلنسانية ُمتعلَّم.
ما هو اخلري ،وماهو املعروف ،وما هو املنكر؟ على هذا اختلف
املسلمون وبلغ اختالفهم اليوم درجة ال رجاء معها لإللتئام .أو
ليس من حكام املسلمني اليوم رهط من الكفرة الفجرة! إن األمة
جهلت اخلري واملعروف ،وما كان منكرا يف شرع اهلل أصبح لدينا
معروفا مطلوبا .يف بالد املسلمني نصارى وأهل ذمة ،فأولئك
حنسن إليهم كما أمرنا اهلل .لكن تدهور اإلسالم أدى بنا إىل
تصور غري إسالمي لعالقة الناس بعضهم ببعض يف أرض اإلسالم.
وردت علينا الفلسفات السياسية واإلنسيات اجلاهلية ،فعلمتنا أن
قيمة القيم هي احلرية واملساواة ،وأن املواطنة هي القاسم املشرتك
بني السكان .وحلت عالقة املواطنة حمل اخلالف املذهيب الذي
كان عامال من عوامل التفتيت ،لكن بأي شيء أتانا التعارف
على املواطنة؟
برز مليدان السياسة مواطنون دعوا خلريهم ،وخريهم ضالل
مبني وكفر وإحلاد ال يتكتم وال يتسرت .زعماء السياسة يقودوننا
من اخلطم ذلال ومنهم مالحدة النصارى .ومبقتضى الزعامة
839
املواطنة حيكمنا أجالف الناس ألهنم كانوا رائدي الدعوة القومية
أو رائدي الطاغوت االشرتاكي .وقد اختلطت مساؤنا اإلسالمية
بأرض الكفر والفسوق فال نعرف معروفا وال ننكر منكرا.
هلذا فبدل أن نسأل :ما هو اخلري وما هو املعروف واملنكر؟
ينبغي أن نبحث عن رأس احلكمة ومالكها ونسأل :من األجدر
أن يدعونا إىل خري ويعرفنا مبعروف وينهانا عن منكر؟ هبذا السؤال
نضع مسألة الثقة ومسألة الفراغ القيادي ،ومسألة الفجوة بني
القادة امللحدين والفاسقني وبني األمة املسلمة .ونضع أيضا
مسألة االستبداد الرتبوي.
إن اإلسالم سيكون اختيار األمة غدا ومالذها من الفوضى
املذهبية ،ومن التسلسل االنقاليب والسطحية .وسيجد القائد
أمامه تصدعا يف الرأي وتشتتا يف اإلرادات ووهنا ،سيما عند
الطبقة املثقفة أو دعية الثقافة .وما يرمي إليه جهاد اإلمام هو
بناء مجاعة مؤمنة ختلف اجملتمع الغثائي احلايل ،فاالنتقال من البنية
اجملتمعية إىل البنية اجلماعية خري يف حد ذاته كل اخلري يف حق
األمة مجعاء .وهو املقصد ،وببلوغه يتحقق اهلدف وتتأهل األمة
حلمل الرسالة كي تؤدي دورها الوجودي.
وهذا اخلري ال سبيل له إال عن طريق اخلري امللموس لألمة كافة،
ولكل فرد منها على حدة .فاألمة كافة حتتاج لعدل ،والفرد حيتاج
840
الستقرار يف حق يقيم عليه وغاية يصمد إليها .وكل ذلك موضع
خالف وإهبام للجهل الفاشي والتميع الفكري واإلرادي.
وهنا يربهن القائد اإلمام على مضاء العزم ،فتكون دعوته
إىل اخلري وأمره باملعروف وهنيه عن املنكر مبادرة مستبدة مربية.1
حبق الطاعة العامة يعبئ القوى ويصرف الوجهة الضالة صوب
ُهداها .ومن حوله تتوافق النخبة اإلميانية مليعاد اجلهاد ،يأيت هبا
احملبة والتطوع ،فتتكون قيادة مجاعية حتضن التنظيم اجلهادي بعد
ميالده ،وتربيه لكي يرشد وميارس النصيحة.
إن حبل اهلل الذي جيب أن نعتصم به مجيعا يوم جنتمع من
فرقة هو طاعة اإلمام الذي وثقنا به .طاعة مشروطة ببيعة مشروطة
وشورى ملزمة .وعلى هذا احلبل حنسم نزاعاتنا السابقة ،وحيسمها
لنا هو باستبداده الرتبوي ريثما تنشأ لنا عالقات أخوة وينشأ
لنا رشد .واملذهب الغوغائي ،وهو الصورة الوحيدة اليت نستطيع
حتت أنظمة العض واجلرب نقلها من أشكال الدميقراطية ،ال حتب
الوصاية على الشعب كما تعرب ،وتطلب ضمانات للحرية ،وتندد
بأبوية كل قائد يروم االستبداد بالتوجيه.
احلرية يف دار اإلسالم املفتونة اليوم غوغائية ال أكثر وال
1أكرر أن ما أقصده باالستبداد الرتبوي هو الطائلة املعنوية والسلطة األخالقية ال استبداد القمع
والقهر .اإلقناع ال حشر الناس يف األقماع.
841
أقل ،فاحلرية السياسية فوضى حزبية حيسمها االنقالب االشرتاكي
فيستبد استبدادا منحرفا عن القصد حسب ضالل قائده وحسب
أوهامه .واحلرية الفكرية احنالل يف الرأي وفوضى ال يعوضها
االلتزام االشرتاكي داخل احلزب الوحيد إال هبزال ببغائي يرثى له.
واحلريات العامة كما لقنتها لنا اجلاهلية فساد يف اخللق
وتلويث للناشئة ومتيع برهنت التجارب على أن االنقالبية ال تغري
منه قليال وال كثريا .ولن تستطيع االنقالبية أبدا أن تريب أمة فقرية
عفيفة نظيفة .وذلك ألن االنقالبية جسم طاف فوق خضم األمة
الساكن.
فمن شر احلريات وسوء فهم احلريات وشر اغتيال احلريات،
يدعونا اإلسالم إىل خري ال نعرفه اليوم وسنعرفه غدا بعد أن ميسك
اإلسالم بيدنا خيطو بنا حنو اخلالص خطوة خطوة ،فنتعلم كيف
نطيع ،مث نتعلم كيف حنب صاحب طاعتنا وربانيينا ،مث نتفسح يف
واجب النصيحة فإذا أمرنا باملعروف أو هنينا عن املنكر كان لنا
تصور واضح ملا نأمر وننهي ،وكان لنا سلوك يدعو بلسان احلال
قبل أن تدعو األلسنة بلغة الكالم.
التنظيم الثوري يتطابق ويرتاكب مع اجلهاز التنفيذي ،مييل
إىل ذلك ميال من طبيعته ،ويرتاكم السلطان يف نفس األيدي فإذا
اجملتمعات الشيوعية استبدادية طبقية وإذا احلزب والدولة جهاز
842
واحد حاكم بأمره خينق كل فكر وكل ضمري ،ويطوق الرقاب
تطويقا من شأنه أن يبدأ جلدلية العنف الثوري حلقة تفضي
حللقة لكي يلبث اجلاهلي يف جهالته يعاين احلياة نكدا شقيا.
والتنظيم اإلسالمي غدا لن حتدد وظيفته النظرية املنهاجية ،وإمنا
ستحددها املمارسة .فهل يكون للتنظيم واجب اليقظة واملراقبة
دون الناس؟ وكيف يراقب ويساهم يف الرتبية العامة والنصيحة؟
وهل ينتخب أهل الشورى من صفوفه وحده أهل احلل والعقد؟
وأسئلة تنظيمية دستورية كثرية ال جمال لطرحها هنا وال ملناقشتها
يف اهلواء .1واحلاصل لدينا أن قابليات احملبة والطاعة والنصيحة
يف إحكام التنظيم وتعزيز فاعليته كبرية جدا مبشرة باخلري املوعود.
843
املستضعفون الوارثون
ال نطرح من كل تلك األسئلة إال سؤاال واحدا هو :كيف يعمل
التنظيم لكي ينصب جهاده على خدمة املستضعفني الوارثني ،على
خدمة ضعفهم ليصحبوا أقوياء ،وعلى خدمة وراثتهم يف اتصال
شامل دائم بني املقصد والغاية؟ أو بعبارة أخرى ينبغي أن يكون
التنظيم خنبةَ خدمة ال خنبةَ استعالء .واملمارسة الثورية عجمت
عود الثوريني فوجدهتم ال يقوون على مقاومة إغراء اجلاه واملال،
وإغراء السيارات اخلاصة والقصور واألسواق الثرية وسط احلرمان
العام .وال نشك أن وازع القرآن وحده لن يكون رادعا للمؤمنني
من أصحاب التطوع عن االستيثار واالستعالء ،فما تعصمهم
ربانيتهم من اخلطإ .إذن فال بد أن يتدخل وازع السلطان لريسم
الوجهة وخيصص يف مباديء التنظيم املسؤوليات ختصيصا دقيقا.
ويف هذه النقطة يلتقي مجهور األمة بالنخبة القيادية وجند
الدعوة اجلهادي املنظم .إن املستضعفني الوارثني هم املدعوون
للخري وهم امللبون .وهم وحدهم الذين ميكنهم عددهم وضعفهم
وحضورهم يف كل ميادين العمل من التعرف على خري األخيار
وفضح نفاق املندسني .إن املستضعفني الوارثني هم «املستهلكون»
لنتاج التطوع والبذل ،وهم ضحايا الظلم الفائت واخللط البائت،
844
فيعرفون اخلري إن رأوا اخلري ،وال يلتبس عليهم الباطل يف شخص
يغادونه ومياسونه ،و يلتبس على زمالئه يف التنظيم ال يرونه إال يف
معرض التأكيد اللفظي على حسن النية وخلوص الوجهة .مجاعة
املسلمني أينما كانوا هم احلارس اليقظ على اإلسالم وعدله،
الدالون على داعي اخلري وفضله .فذلك نصيبهم من النصيحة من
كان منهم ال يتجاوز نطاق الطاعة العامة جلهاد التطوع.
فمن هم أوال املستضعفون الوارثون ؟
االستضعاف فعل واقع على املستضعفني ،إنه ظلم الغين
باجلاه أو املال ملن ال سند له يف جمتمعاتنا الغثائية اليت ال تقيم
وزنا للمسكني وال تعرف له قيمة وال ترعى فيه ذمة .وإنه استهزاء
املستهزئني من املالحدة الساخرين بكل ما هو إسالم وإميان
وغيب .فبهذا يلتقي على صعيد االستضعاف املسكني املظلوم
على قلة ماله وجاهه واملؤمن املستهزأ به على إسالمه .وهبذا
االعتبار فليس التقسيم بني ظامل ومظلوم وساخر ومسخور منه
تقسيما طبقيا باملعىن االقتصادي االجتماعي على خط العمل
وتوزيع نتاج العمل وما يلي ذلك يف منطق اجلدلية املاركسية.
إنه تقسيم مذهيب بني املسلمني على إسالمهم وبني الغاوين من
ضحايا الفتنة اجلاهلية .وإن كان هذا التقسيم ميشي إىل حد
كبري على خط التمايز الطبقي املاركسي ،نظرا ألن املرتفني منا
845
وامللحدين هم الذين خوهلم جاههم وماهلم أن حيتكوا بالكفار
ويعايشوهم ،ويتعلموا يف مدارسهم الفكر الذي ميسخ قلوهبم
والتقنية اليت هبا يستعبدون املساكني.
أما الوراثة فهي وراثة بالقوة ال بالفعل كما يقول املتكلمون.
إن هذه الوراثة موعود اهلل املدخور ملن آمنوا وعملوا الصاحلات.
فما يكون املستضعفون وارثني من كوهنم مظلومني حمقورين؛ لكن
جتيئهم الوراثة جزاء لقيامهم بأمر اهلل وتنفيذهم إلرادته .وإن اهلل
جعل حكمة قدره معلقة بأسباب هذا العامل وبسعي اإلنسان،
فهو سبحانه حمرك كل ساكن ،لكن للحركة أسبابا يدركها املنطق
وتتسلسل عليها األحداث يف نسق منطقي .وهذا ما تفسره
اجلدلية املاركسية يف حركة التاريخ باالستقراء والتعليل .فقد رأى
ماركس الداهية أن اإلنسان مينع اخلري عن غريه ويستأثر بأنانيته
ويظلم ،ومع كل ظلم حقد جييب عنه ويرتبص به .ويكمل التحليل
املاركسي لتولد الطبقية ودواعي الصراع الطبقي التفوق امللحوظ
للفقراء الناشئني نشأة الكد على املرتفني يف النعيم العاطلني يف
احللية واحلرير .تفوق يف قوة اجلسم وصالبة العزمية وشدة املراس
صفات نوه هبا فالسفة التاريخ يف كل عصر.
وكل أولئك أسباب ظاهرة تؤهل املساكني العاملني أن خيلفوا
املرتفني يف النعيم الذين أفسدهتم الزينة والفسق ،أثقل كاهلهم
846
املال والبذخ احلضاري .لكنا نرجع إىل الفقه املنهاجي فنجد أن
املستضعف أقل الناس أنانية فهو يستجيب لداعي اهلل أسرع من
غريه بذمة مل تفسدها معاجلة النفاق احلضاري .وجند أن حظ
املستضعف من العقالنية املطغية ومن األثاث املوطد للعادة ِّ
املمكن
من اإلغراق يف الشهوات أقل من حظ اآلخر .فاملستضعف أقل
فتنة من صاحبه وأقدر أن يتوب ويبذل مهجته يف سبيل احلق،
وكذلك يفعل املستضعفون اجلاهليون حتت شعار الثورة وضرورة
«الدكتاتورية الربولتارية» النتزاع حق العدل واملساواة من الطبقة
الظاملة .أما يف منطق احلركية املنهاجية ،فاملستضعفون يطلبون حق
العدل ضمنيا ،لكنهم ال يهبون للعمل الكلي إال جهادا لنصرة
دينهم الذي ارتضوه وغصبه من حياهتم املرتفون.
يف جمتمعنا اإلسالمي املفتون طوائف من املثقفني أدعياء الثقافة
يعومون على سطح األمة ،هم بثور الوباء وأحالس الكفر ،ومنهم
استثماره.
ُ أيضا الرصيد العقالين الضروري لالنبعاث اإلسالمي
املنحلون منهم املخنثون يطأون األمة بكربياء وقسوة ،وأكثرهم
مروءة ثوريون أو يروحون ريح اإلديولوجية الكافرة .واملستضعفون
من األمة هم سوادها من الفالحني وسائر املساكني .وهم األقوياء
على احلق مثفقون ظلوا على إمياهنم رغم انتمائهم االجتماعي
للطبقة املخنثة أو امللحدة .فهل يلتقي املستضعفون على اإلميان
847
وحده ؟ وهل يستطيع املؤمنون من ذوي املتاع أن يضربوا املثال
ببذهلم وجهادهم يف الصف إلخواهنم الفاسقني والكافرين؟
أم هل يكون العنف وحتزب املساكني لنزع السلطان من يد
الطوائف املرتفة وسيلة اإلسالم كما هو وسيلة الثورة؟ هل يرث
املستضعفون األرض بقوة السالح يف دار اإلسالم كما ورثوها به
يف أرض اجلاهلية؟
نرجع إىل بالد اإلقطاعات «الالتفندية» يف أمريكا اجلنوبية.
إن من حسن صنع اهلل لنا أن الشيوعية ودعوهتا يف بالد اإلسالم
ال تنبت وال يقوم هلا قائم .فذلك يدل على أن مستضعفي
املسلمني ال يزالون متمسكني بدينهم ال تزحزحهم عنه مغريات
النضال اليساري الكافر .ويدل على أن بني املثقفني امللحدين
فجوة عظيمة وبني املستضعفني ،ال يستطيعون عبورها ولو لبسوا
لألمة لباس الثعالب ،ولو يقوم الشيوعي األمحر الكافر خيطب يف
الناس فيبدأ خطابه بالبسملة خيدع بذلك سامعيه وما ينخدعون.
فحالنا بوجود الفجوة السحيقة وببؤس املساكني وانقطاع املرتفني
يف دوائرهم املفرغة على نزاعاهتم أشبه حبال اإلقطاع األمريكي
اجلنويب ،ويف مثل هذه احلالة يستحيل التنظيم الثوري .وإذا محل
السالح فإمنا حيدث استعماله انقالبا يف سلسلة االنقالبات
وظاهرة ملرض االنقالبية املزمن.
848
لذا ،ولعهد رسول اهلل لنا أال حنمل السالح على بعضنا،
فوراثة املستضعفني ألرض اهلل لن تأيت عن طريق العنف .وخيتلف
االنتقال من حال اجلاهلية عن االنتقال من حال الفتنة .فجاهلية
فرعون وجاهلية قريش واجهها املسلمون مع سيدنا موسى وسيدنا
حممد عليهما الصالة والسالم ،بقوة السالح أما جاهلية الفتنة
املعاصرة فالدعوة إىل تغيريها ،كالدعوة يف كل فتنة ،جيب أن
تكون إقناعا وجهادا مستشهدا وقياما بالقسط إىل أن يبتعث اهلل
املنقذ .وليخسأ املنطق اجلديل وكل منطق سواه! فإننا أمة تؤمن
بالغيب ومبا عند اهلل مما وراء األسباب .ونكرر أننا ننتظر املعجزة
ونرجوها رجاء الداعني اجملاهدين ال انتظار احلاملني .معجزة ترتتب
على أسباب ،وقومة ،وتربية ،وتنظيم ،وزحف ،ومصانعة للواقع.
رؤوس الفتنة يف دار اإلسالم هم أصحاب السلطان املهيمنون
على مصادر الرزق ومصادر الفكر ومصادر احلركة .وهبذه اهليمنة
تطحن رحاهم طائفة من املستضعفني هم مناط الرجاء ومعقد
اخلري لغد اإلسالم .إهنم شبابنا الذين نشأوا أيتاما منقطعني عن
األب واجلد منذ دخلوا تلك املدرسة الشاهق بنياهتا بني األكواخ،
املزرية بنظافتها وغرابة أثاثها وكتبها بالبيئة احمليطة وباألسرة اجلاهلة
املريضة .إن شبابنا نشؤوهم على احتقار دينهم واحتقار أهلهم،
فهم الضحية الكربى ،وهم عصب هذه األمة ورجاهلا غدا.
849
إهنم أغرار ورطهم أساتذهم امللحدون يف محأة الفساد اخللقي
والضياع الفكري والعاطفي ،وورطهم احلكم الفاسد يف مطالبة
ومترد وعنف ،ينفسون بذلك عن شعورهم بالظلم ويشكو لسان
حاهلم بؤس ضمائر جديدة ملطخة ملوثة تائهة .ورطهم هؤالء من
حيث ال يشعرون ،وورطهم أولئك بالقصد والكيد ،فطرحوهم يف
الشوارع يف نصب ولغوب ،وجلسوا من خلفهم على أرائك الرتف
ومناضد العبث ينتظرون أن تؤسس هلم تعاسة الشباب وضياعهم
جمدا يتسلقون إليه متلصصني .وما شعر رجال احلكم بالورطة
ألهنم خانوا عهد اهلل وميثاقه فخذهلم اهلل ،وال استحىي املثقفون
امللحدون من عرض بضاعتهم النتنة على األغرار ،وهم يعلمون
أن قلوهبم أنفسهم هواء ،وأن أحالمهم شعاع.
إن البذرة تطرحها يف األرض ويسقيها الغمام ألمل حصاد
غين .ولو أطللت على البذرة قبل نباهتا لرأيت ما يقطع عليك
الرجاء .إهنا تعفنت بعد أن أصاهبا املاء وتغري لوهنا وطعمها ،وهي
بعد حاملة ألمل الغد ،وإمنا غذاها تعفنها بأمزاج تتصفى من بعد، ُ
وتربز ساقا نظيفا قويا وورقا أخضر ُمعجبا .كذلك واقع الفتنة يف
أرض اإلسالم ،وما هذا اهلزال وما هذه اهلزائم العامة املتوالية وما
هذا العنف العاجز إال أمزاج وأمشاج تغذي جنني اإلسالم احملمول
يف أحشاء هذه األمة املستضعفة يف كل ميدان ،وهذا يوحدنا على
850
إسالمنا جتاه العامل املتألب.
إن مرتفينا ورواد اجلاهلية فينا قوم منا وإلينا ،وإن اإلسالم
سالم وخري ،ولن يكون كذلك إن تأسس على صراع الطبقات
قبل نشأته وبعدها .وإن كثريا من بني زعماء الفتنة بني ظهرانينا
خرجوا من حجر املساكني ودرجوا من عشهم إىل بطولة اخلزي
وقيادة ركب الفساد .تنكروا لتعليم األسرة املسكينة وناطحوا
السحاب ملا ملكوا لسانا ينطق وقلما إىل العتاهة يسبق .حتللوا من
واجب الدين إىل حرية املواطنة اليت أتاحتها األنظمة الطاغوت،
فكان منهم املواطن طه حسني واملواطن سالمة موسى واملواطن
ابن البوسطجي بطل القومية ،يفخر بانتمائه ألسرة مسكينة كأمنا
يغطي ذلك غطرسة الذئب وشراسته.
وعلى ساحة احلكم والثقافة ،ومها شران متالزمان يف بالدنا
أحدمها طليب اآلخر ،قادة وأساتذة وزعماء يُصر أحدهم على
أن يُعرف أنه من أسرة فالحني ومساكني .وكأمنا يعترب ذلك مأثرة
يربر هبا ترفه احلاضر واستكباره يف األرض بغري احلق .وال يرث
هؤالء من ماضي غريهم املستضعف إال خزيا وعارا يوم يذل كل
جبار عنيد وخييب.
التوبة اإلسالمية العامة غداة جيتمع يف يدي اإلمام وازعا
السلطان والقرآن هي وحدها الكفيلة حبل تناقضاتنا وتعقداتنا .ما
851
أحوج املسلمني يومها إىل وعي ُم َوحد يربط بني القلوب يف احلضن
الدايفء الرحيم! وعي يقلم أظافر البغي والتظامل بيننا ،ويضع يف
الصف األول للجهاد أويل الكفاية والغناء بورقة تعريف جديدة ال
رصيده
تسأل عن املاضي وأتعابه ،بل تفتح حسابا جديدا يصنف ُ
تباعا كل جماهد وكل باذل حبسب استحقاقه للوراثة مبا كسبت
يداه.
ومن التوبة يبدأ التنظيم ،فتنظيم حماسبة على املظامل يصفي
احلقوق املسلوبة ،وتنظيم حلساب الغد لتعرف األمة رجاهلا؛ فإمنا
الرجل وبالؤه وغناؤه وقدمه يف اإلسالم كما كان يقول موالنا
عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه .ففي كل وراثة حماسبة وحساب.
وينبغي أن ال تفهم وراثة املستضعفني فهما أعوج ،ينبغي أن نعلم
أن دعوة اخلري واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ال تعين الفوضى
واملطالبة اجلاحمة والطفرة احلمقى .لن يفرغ مرتفوا األمس ديارهم
احملصنة املؤثثة ليحتلها مساكني الفالحني ،ولن تنزع من ظامل
األمس رأسه .وإمنا ينزع من كل حق معلوم كان سلبه ،أو حق
باملعروف يوخذ من الكاسني باحلرير حىت يستوي الناس مجيعا يف
الكساء ،ومن الطاعم يف سبعة أمعاء حىت تسد جوعه كل طاو
وتعاجل أمراض كل بائس .فاحملاسبة ورد املظامل شأن من شؤون
الطاعة العامة تسندها اليقظة العامة ،واحلساب اجلديد حساب
852
تطوع تنظمه النصيحة العامة .واملسرية إىل ذلك طويلة شاقة.
عندما ينشر لواء اإلسالم ملوعود اهلل ورسوله وللخالفة على
منهاج النبوة ،سيجد قطر االنبعاث نفسه أمة غريبة يف األرض،
أمة مستضعفة حييط الريب حبركاهتا ونواياها ،وتستقطب أنظار
العامل .فهذا من شأنه أن يساهم مسامهة قوية يف توحيد الصف
الداخلي وتقوية الدعوة والتنظيم .ها حنن أوالء على املسرح حتدق
فينا األعني وترتقبنا األطماع واألحقاد .فهنا تبدو ضرورة االستبداد
الرتبوي وضرورة صرف النقد مصرفا بناء.
إن النصيحة غري حرية النقد وحرية الصحافة واإلعالم كما
يفهم احلرية «املواطنون» الذين حطموا سياج األخالق والقيم.
النصيحة التزام باخلدمة والتزام بالوضوح يف معاجلة قضية اإلسالم.
وهي أيضا دعوة جامعة ال دعوة مفرقة .التنابز باأللقاب والنزاع
النظري واملذهيب ِشَّرة تعلمها مرتفونا من اجلاهلية وعنف .أما
أمة املستضعفني حني يتسلمون إرثهم فالنصيحة تعليم من جهل
وتشجيع على املعروف وفضح للداء الساكن ولظواهر االنتكاس
إىل األساليب املفتونة.
النصيحة خدمة للمستضعفني والتزام ،فمن بذل النصيحة يف
جالء وشارك يف اليقظة العامة واجلهاد العام انتمى إىل املستضعفني
ورقم له يف حسابه نصيب .ومن عبارة «بذل النصيحة» تظهر لك
853
معاين الواجب والعطاء كما تظهر من عبارة النقد معاين املطالبة
والتصلب يف اجلدال.
جتمع الوراثة وواجب محل أعباء اخلالفة يف األرض وواجب
أستاذية العامل كل األمة على صعيد املسكنة واإلخوة والتعاون.
وإن دعوة اإلسالم املنظمة جمال مفتوح لكل من تاب ،ختوله
التوبة ونصاحتُها أن يبغي عند اهلل مقاما يسلك إليه عن طريق
اخلدمة للجماعة واحملبة هلا والطاعة .ومن ال يكن له توبة نصوح
فاملستضعفون اليقظون لن تعوزهم قيادة من ذاهتم حتتضنه لكيال
يدس فكرا مفرقا ورأيا معوقا .وسيعمل رجال الدعوة يف وضح
النهار ونصاحته كما يعمل فالحونا يف وضح الشمس احملرقة،
على الصرب واملثابرة واجلد.
854
الفصل التاسع
اخلـالفـة
855
ا خلليفـة
إن فشل القادة يف دار اإلسالم وتعقد املشاكل املتعرضة
لرجال احلكم ،يدفع بدفة السفينة يف مسار مطرد حنو التغيري.
وهناك عوامل متنوعة تساهم كلها يف فرض الوجهة اإلسالمية،
فكلما اداركت موجة من موجات االنقالبية يف هاوية الفوضى
وتلتها موجة أخرى ،حتمل نذير االهنيار كما محلته سابقتها،
قربنا ذلك إىل احلل اإلسالمي .تنوء كواهل احلكام بعظم احلمل
الذي حتملوه ،وهم يدركون جيدا أن ما تنتظره منهم األمة من
حكمة وقيادة قوية حمال ملا يكتنف عقوهلم وإرادهتم من ظالم يف
الرؤية وجنب أمام األهوال اهلادرة ،فما يف آفاقهم إال خمرج املزايدة
والتسخري.
األمر أعظم من أن ينهض له اخلاوية قلوهبم ،وينظرون حواليهم
باحثني عن إهلام فال يرتاءى هلم إال الروغة احلامسة اجلريئة حنو
الكفر والشيوعية الصرحية ،وهذا ال تتبعه عليهم األمة أبدا وال
على املساومة اخلبيثة باسم اإلسالم .وكل ذلك مما يصنع ربك
ملستقبل األمة املشرق ،القريب غري البعيد.
وقد فضح اهلل قومنا العرب فضيحة نكراء ليميز اهلل اخلبيث
من الطيب فيجعل اخلبيث بعضه على بعض فريكمه مجيعا فيجعله
856
يف جهنم ،أولئك هو اخلاسرون .ذلك حني نبغ منا بطل العروبة
وعدو اإلسالم ففكر وقدر ،فقتل كيف قدر! وزعمت له شياطينه
أن على مسرح العامل دورا لقيادة القومية العربية ينتظر من
يتقمصه ،وذلك ما فعله وكتبه يف هرائه املسمى «فلسفة الثورة».
وكان الدور حقا معرض الفضيحة ،رفع اهلل عليه هذه النتنة املفرقة
الرغام .وحنن العرب ال نزال جنر خزي جلماعة املسلمني ليخبط هبا َّ
قوميتنا يف خرائبنا على مسمع ومرأى من العامل ،ال حنسن إال
األنني… والغناء واألناشيد البطولية بعد اهلزمية.
يتأخر فهم الناس لألحداث فال يدركون ما دهاهم إال بعد
ابتعاد الداهية أو بعد أن يألفوها ،وقد جلبت علينا القوميات
يف دار اإلسالم دواهي ذوات العدد ،دمهتنا وفاجأتنا فجزعنا من
عجزنا وقلة َغنائنا .واآلن بعد سنة من داهية انشطار باكستان
وبعد ست سنوات من هزمية العرب النكراء ،أخذت هذه األمة
تدرك ما هنالك ،وحيلل العقل ويرفض الضمري ويعاف كل هذه
التصرحيات املكررة وكل هذا التدليس السياسي الذي ال خيفي عن
أعيننا حرية القادة وسخافتهم.
وهكذا تعلن األحداث ،ويعلن الوعي يف صفوف األمة وتعلن
آيات اهلل الفصيحة يف الكتاب ويف اآلفاق ،أن مثت دورا كونيا
تعرضه يد القدرة اإلهلية على الطالبني ،وتستعرض له املرشحني،
857
وقد أتى أمر اهلل وحق احلق لتعود األمة إىل عزها يف حضن خالفة
على منهاج النبوة.
إن السلطة يف يد احلاكمني املرتفني العاضني كانت لعنة على
أصحاهبا يف تاريخ هذه األمة املفتون .وهي اليوم لعنة على قادتنا
صارخة تلهبهم عليها سياط اهلل الذي يبعث من عباده من يشاء
ملا يشاء .ومن يتدبر واقعنا املعاصر ببصرية وإميان يتبني له كيف
تتجه عوامل التاريخ العاملي وعوامل احلركة واالضطراب بني األمة
املسلمة وعوامل الشعور بالفراغ والتفاهة والفشل العام واالهنيار
االقتصادي على كل مستوياتنا حنو النقطة املركزية ،نقطة انتهاء
عهد فاشل باالعرتاف املتبادل ،واالنطالق على أساس جديد
يبعث الثقة من مواهتا والرجولة من احنالل املرتفني ورهق املساكني.
وما مث إال اإلسالم ،إسالم صدق ال إسالم شعار ومساومة.
تعرض يد القدر اإلهلي دور القيادة اإلسالمية للطالبني
الصادقني .ومن قادتنا اليوم صادقون يف طلبهم لإلسالم ،ال
نشك يف ذلك .لكن الذي جيب أن نفهمه هو أن إسالم هؤالء
إسالم من وراء ثالثة حجب ! انه إسالم ال يقتحم العقبة بل
حيوم حوهلا ال يدري ما هي وال كيف تُعا َل إليها األسباب.
حجاب األنانية خيلط يف إرادهتم داعي تذلل النفس يف اجلهاد
هلل مع دواعي الزعامة والرئاسة .وقد خلف لنا بطل العروبة من
858
الكربياء البطولية أمحاال لو وزعت على مجاعة ملا وسع أحدهم
آفاق السماء واألرض استكبارا .واإلسالم ال يقبل خبث الكربياء،
سيما يف قائد اجلهاد اإلسالمي .فمن هنا ال نزال ننتظر عبدا
خاضعا هلل مسكينا هينا ،إن كان مل يرع الغنم على خاالته فيتذكر
ذلك ليقمع نفسه ،فليكن عمر بن عبد العزيز ينزع ديباج الرتف
ليلبس قطن املساكني.
وحجاب العقالنية والغفلة حيول بني طاليب اإلسالم وبني ما
يبغون ،إهنم قوميون اشرتاكيون أوال ،أو هم أباطرة محاة لإلسالم
يف دائرة اإلسالم اإلمسي خيالفون القول عمال .وهم مجيعا ال
يذكرون اهلل إال قليال مذبذبني بني ذلك ال إىل هؤالء وال إىل
هؤالء ،ومن يضلل اهلل فلن جتد له سبيال.
وحجاب العادة حيول بينهم وبني الفحولة ،فمن نشأ منهم
يف الرتف والبذخ فشهواته أقوى من أن تسمح له بطهارة ،وأمواله
لعنة تثقله وهو حيملها الهثا حائرا .ومن نشأ يف غري ذلك فما
يعرف شجاعة الصادقني املتئدة لكن تعصف به محى االشرتاكية
وطيش الذي ال حيب أن يتعلم وال يشعر حباجة ألن يتعلم.
سيأيت اهلل ربنا بقائد جماهد ترشحه يد العزة والقدرة خلالفة
رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم .لن يهبط علينا من مساء األرض،
بل سينبت من بيننا كما فطر اهلل أنبياءه الوارثني ،فكل شيء من
859
حالنا يناديه ،وكل عويصة من أمراضنا تنتظره .ولتشتت األمة يف
أقطار قومياهتا فسيمضي وقت قبل أن حيق للقائد اجملاهد صدارة
األمة بكاملها واحتالل جملس اخلالفة .إنه يف قطر اإلنبعاث صوت
يؤذن وفكر رائد جمدد ،وروحانية متطهرة ويد تنتظم حركتها على
املقود على إيقاع االجتهاد وعلى إيقاع التوفيق الغييب اإلهلي الذي
خيص اهلل به من أخلص له الوجهة.
ال بد من فرتة يربهن فيها القائد اجملاهد يف قطره على كفاياته
بالنجاح امللموس الساطع قبل أن تنفتح له يف أرجاء دار اإلسالم
قلوب األمة وتنضوي حتت لوائه .فهو قائد وإمام يف بلده حىت
يظهر غناؤه يف التقدم حنو اهلدف االقتصادي ويف حتويل اجملتمع
الغثائي مجاعة حية .ومىت اجتمع يف يده قطران من أقطار الفتنة
حق له أن يعلن اخلالقة على منهاج النبوة ،فإن أعوص شيء علينا
بشهادة األمس واليوم أن نتجاوز قماءة القطرية ،وجربوت احلدود
اجلغرافية والعرقية.
لعل شاكا يشك وسائال يسأل :فيم هذه اجلمل الشعرية
احلاملة وأين حنن من اخلالفة ومقوماهتا؟ ال نكتفي باإلجابة أن
نؤكد أن كلمة واحدة تقال بقوة لقوم فارغي األفئدة تعد إجيابية
عظيمة وأن ما وصف وكتب فقد خطا خطوة حنو الواقع ،لكن
نلقن الغافل أن اهلل ربنا موجود ،وأنه وعدنا ورسوله وعدا ما هو
860
مبخلفه ،وأن الكدر سيزول ليصفو لنا اخلري ،ولنعز بعد ذل.
ومن يقرأ القرآن ويفهم إشارته ،فقد تدبر آية اهلل يف وعد اآلخرة
واقرتاهنا بالرمحة هلذه األمة .ومن ال تقرع مسعه نذر اهلل قستقرعه
قارعة ليزول عن طريق اإلسالم .ولتعلمن نبأه بعد حني ،وقد أتى
أمر اهلل وخرت األوثان على األذقان.
نعطي عن اخلليفة املرتقب صورة مثالية لطبيعة الغيبية احمليطة
مببعثه ،فما هو إال رجل يأكل الطعام وميشي يف األسواق ،لكنه
يومها فاتح لعهد جديد يستمر بعد موت األشخاص دورا خالدا
إىل يوم الدين .هلذا فلنمض يف تفقهنا املنهاجي لننظر يف التشريع
الدستوري املنظم للخالفة النبوية املوجه هلا .وقد كتب يف املوضوع
أحباث ال بأس هبا غداة تأسيس باكستان ،يف مرحلة من أحالم
هذه األمة؛ إذ ظنت أن اإلرادة الشعبية وما يصحبها من محاس
يكفيان لفرض نظام إسالمي يعزف عنه املثقفون ويتجاهلونه
ويتنكرون له ،كما جتهله العامة من أصحاب احلماس وجتهل
مقوماته ومقدماته الرتبوية .وقد ورثنا أيضا عن مؤرخي النظم
اإلسالمية سردا الجتهادات فقهائنا يف تنظيم احلكم بعد فتنة
احلكم وذهاب معاين اخلالفة مع بقاء شكلها .فلنستعرض قليال
من اجتهاداهتم.
يذكر الغزايل يف كتابه «فضائح الباطنية» أن علماء اإلسالم
861
على عهده عدوا من صفات اإلمامة عشر صفات هي :البلوغ،
والعقل واحلرية ،والذكورية ونسب قريش ،وسالمة حاسة السمع
والبصر ،والنجدة ،والكفاية ،والورع ،والعلم.
وال إشكال يف أن هذه الشروط العشرة شروط فقهية مؤسسة
على الكتاب والسنة ،وجيمعها الكفايات الثالث :الكفاية الروحية
والفكرية والعملية .باستثناء شرطني أحدمها تشريع إسالمي حمض
ال تعرفه اجلاهلية وهو املتعلق بالذكورية ،والثاين شرط طاملا وقف
عنده علماؤنا وداروا من حواليه واستنطقوه فاستعجم عليهم،
وهو شرط النسب القريشي .فأما مكان املرأة يف ظل اإلسالم
ووظيفتها فقد حدده القرآن ،وجعلهن موطنا لسكن الرجل
واستقرار األسرة وما يليه من استقرار اجلماعة .فما ينبغي للمرأة
أن تكون العنصر الفاتن املتقلقل بوظيفتها االجتماعية فتضاعف
ما هلا من فتنة وتقلقل بطبيعة نشأهتا .وإمنا عليهن أن يقرن يف
بيوهتن ليكن مربيات ولتكون اجلنة حتت أقدامهن إن أنشأن األمة
وكألهنا وحطنها بالعناية .وصرح احلديث الشريف بأن األمر العام
من أمور املسلمني عرضة للخسران إن وليته املرأة .وهذا ال يعين
بالطبع أن حتصر املرأة يف بيتها يف غري معروف ،وإن منهن من
ينفعن األمة بعلمهن وعملهن ،فما علينا إال أن ننكر املنكر
وندعو للخري ونعرف املعروف.
862
وأما النسب إىل قريش واألحاديث املخربة بأن األئمة من قريش
واردة يف الصحيح ،فقد وقف العلماء أمام األحاديث الواردة فيه،
وطعن من طعن ،وضعف من ضعف .وكانت الغلبة يف عصور
طويلة لقريش على أمر األمة فرتسب من كل ذلك هذا الشرط
القبلي لغزا معمى إال على املبصرين .إن اهلل خص آل البيت
الكرام بالفضل وسعة العلم والبسطة يف النورانية .ومىت عرضت
العارضات وكان من بيننا أبو حسن يف مثل علم اإلمام األعظم
وحلمه وفحولته ،فال أحق هبا منه .لكن النسب القبلي ال مزية
له من نفسه ،بل هو العصبية بعينها والرجعية والتنكر لإلسالم.
ولبيس نظام يقيس كفاية الناس بانتمائهم العرقي .كيف ورسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمرنا أمرا صرحيا غري مطعون فيه أن
نسمع ونطيع ولو ويل علينا عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ! ال
يعنينا هنا إن استغل اجلامدون مثل هذا احلديث لتربير املنكر يف
زمان الفتنة ،وإمنا يعنينا أن إمام األمة وخليفة رسوهلا ينبغي أن
يكون أكرم الناس على اهلل وعلى الناس ،والقرآن الكرمي يعلمنا أن
أكرمنا عند اهلل أتقانا ،ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول: 1
«ال فضل لعربي على عجمي إال بالتقوى!».
ومن خيض يف أهنار فقهائنا ومن تبعهم ،وإن كان الغزايل ،ال
1رواه اإلمام أمحد والبيهقي وأبو نعيم من حديث جابر بن عبد اهلل
863
يعثر على الآللئ ،ألن الآليلء ال توجد إال يف البحر .أال وان
البحارين املهرة والغواصني على بصرية من أهل اهلل أوليائه وأحبائه
هم من خيرجون األمة من ورطاهتا .وقد فسر أحد الصوفية كون
األئمة من قريش بأن قريشا اليت منها يكون األئمة ليست القبيلة،
بل هي أمة الداعني إىل اهلل اجلامعني القارشني ،1وال يكون إماما
يش ال َق ْر ِش علم
إال من مجع األمة ومجع احلكمة والروحانية .ف ُقَر ُ
وهبته احلكمة ومل يهبه التأويل ،ومن يتصدى ملرياث رسول اهلل
صلى اهلل عليه وسلم وخالفته يف أمته فلن يكونه إال إن عد يف
املسبحني يف القارشني ،الذين يسبحون اسم رهبم ويقرأون بامسه،
عد
جيمعون ما ال يقدر على مجعه إال أهل الكمال .واحلديث بَ ُ
إخبار بالغيب ألن أهل الكمال القارشني اجلامعني بعده صلى اهلل
عليه وسلم هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي ،وهم من قبيلة النيب.
ذكر أبو يعلى أحاديث يف إمامة قريش وما منها إال ما يؤيد
أن النص على قريش إخبار بواقع زمين ال تكليف وتشريع .وأظهر
هذه األحاديث ما رواه عن أيب املثىن احلمصي قال :قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :2الخالفة في قريش ،والحكمة في
األنصار ،واألذان في الحبشة» .فهذا يشري إىل أحداث مفردة،
864
وما حيتكر القريشيون اخلالفة باستناد على مثل هذه األحاديث
إال حبق يشبه حق كل أنصاري يزعم أن احلكمة موقوفة عليه ،أو
حق حبشي يلزم الناس أن يقفوا عن اآلذان حىت يكون هو املؤذن!
وخري من شروط الغزايل وعلمائه اجتهاد شيخ اإلسالم ابن
تيمية رمحه اهلل يف سياسته الشرعية؛ فقد عقد الفصل الثالث من
كتابه للبحث عن الشرطني القرآنيني يف من يلي األمر العام .يف
ت إِ ْح َد ُ
اه َما يَا القرآن اقرتاح ابنة سيدنا شعيب على أبيها﴿ :قَالَ ْ
ي ْال َِمين﴾،فالقوة ت الْ َق ِو ُّ
ْج ْر َ
استَأ َ
استَأ ِ
ْج ْرهُ إِ َّن َخيـَْر َم ِن ْ ت ْ أَب ِ
َ
واألمانة مؤهالن للوفاء بالذمة .واقرتح سيدنا يوسف على عزيز
ض إِنِّي َح ِفي ٌ
ظ قال﴿:اج َعلْنِي َعلَى َخ َزائِ ِن ْال َْر ِ
ْ مصر أن يعلمه،
يم﴾ .فلما كان حفظ اخلزائن يبغي األمانة ،كان األمني احلافظ ِ
َعل ٌ
واألمني العليم باحلساب هو األقوى على الوظيفة .وملا بعث اهلل
اصطََفاهُطالوت ملكا لبين اسرائيل أخربهم النيب قائال﴿ :إن اللَّهَ ْ
ْج ْسم﴾ .فاجتمعت خصلتا ادهُ بسطَةً فِي ال ِْعل ِْم وال ِ
َ َعلَْي ُك ْم َوَز َ َ ْ
األمانة والقوة يف املوقف اجلهادي عند كفاية العقل وكفاية القوة
البدنية .مل يذكر ابن تيمية كل هذا ،وإمنا جعلناه مقدمة لنتأمل
مقارنة ابن تيمية بني قوة خالد وأمانة أيب ذر ،وإحلاحه على أن
اخلصلتني قلما جتتمعان يف شخص واحد ،مث تقسيمه الشرطني
والوفاء هبما حسب طبيعة الوظيفة ،فيكتفى عنده باألمانة يف مجع
865
املال وحفظه ،وبالقوة يف إمارة اجلند ،والورع يف القضاء وهكذا.
ويذكر ابن تيمية رمحه اهلل أن الضرورة تبيح تولية حىت من ليس
أهال للوالية العامة ،يذكر كالمه ما اختصم فيه علماء الشيعة يف
جواز إمامة املفضول.
وإن كنا وجدنا عند الغزايل شرطا قبليا لوجود نص صحيح
حمري ال يهتدي لكشفه إال فحول الرجال ،فإن عند ابن تيمية على
فضله وجهاده عقلية تربر وال تغري ،ولعله كان يف قبضة املماليك
أعجز من أن يقرتح جتديد اخلالفة ،وإمنا أحل يف كتبه إحلاحا كبريا
على أن أويل األمر املقصودين يف القرآن الواجبة طاعتهم على
األمة هم األمراء والعلماء .وكأمنا كان يرى رمحه اهلل أن قد ُح ّم
القضاء فال يلي األمر العام إال حامل سيف الغصب ميشي يف
ركابه علماء جزئيون نسبيون مربرون .أما حنن فقد وسع اهلل علينا
من حرية طواغيتنا لنقول بوضوح :إن اخلالفة على املنهاج النبوي
حتدد الكفايات باهلدف واملقصد والغاية ،ولن يطابق هذا املعيار
أمراؤنا وقادتنا ببأس ومراوغة لكن بالسعي إىل االكتمال ،باقتحام
العقبة صادقني على السمت والتؤدة واالقتصاد.
866
حنن والفوضى الدميقراطية
لنقل أوال إن ما نسميه بالفوضى الدميقراطية هو النظام اللربايل،
فهو يف بالد اجلاهلية دميقراطية أكثر مما هو فوضى وعندما ننقله
حنن ونرتمجه لننظم جمتمعاتنا على سننه يكون فوضى أكثر مما
يكون دميقراطية.
األنظمة اللربالية عاشت عليها أمم أوربا وأمريكا وال تزال،
وهي يف دار اإلسالم توشك أن تصبح أثرا بعد عني ،أو قل أثرا
بعد وهم .فإن أمتنا املسكينة تتغري عليها األمساء ،وتسمى هلا
األنظمة املستوردة باألسامي ،وهي يف احلقيقة حتت نري استعمار
بوليسي خيلف عليه احلاكم املواطن حاكما أجنبيا ،وذلك معىن
امللكية العاضة ،وذلك معىن ما جاء يف حديث نبوي أن احلكام
بعد امللكية العاضة يف دار اإلسالم يتهارشون على احلكم هتارش
األمحرة .وقد برهنت األنظمة املستوردة على فشلها مجيعا .فأمامنا
اخلالفة على منهاج النبوة غدا ،وستجد يف مقابلتها يف العامل
نوعني من النظام السياسي مها اللربايل واملاركسي .وليس أسهل
من التلفظ باسم اخلالفة وال أيسر من النظر العام يف املنهاج
النبوي وحركيته .لكن قيام اخلالفة وإن طابت هبا األنفس ورغب
فيها املسلمون دوهنا عراقيل كاجلبال .من اليسري أن نؤكد أن
867
اخلالفة نظام مستقل ال ينبثق عما تعرفه األنظمة اجلاهلية ،ومن
اليسري أن تقرأ تاريخ اخللفاء الراشدين ونستلهمه احلكمة .لكن
عاملنا املعقد غري عامل عمر بن اخلطاب ،وتاريخ األنظمة اجلاهلية
تاريخ ثري غين بالتجاريب.
فكما دون عمر بن اخلطاب الدواويني واسرتشد حبكمة
األمم اجلاهلية دون أن خيط يف ديوان املسلمني كفرا أو يزيغ عن
روح اإلسالم ،وكما قال عمر للعامل سالما وخريا وأمنا ،فنحن
أحوج لتقصي األنظمة السياسية اجلاهلية ندرسها لنتعلم مبنهاجنا
املستقل.
فأول ما نطرحه من أسئلة على النظامني املعاصرين هو كيف
نصل نظام الدولة بالقاعدة اجلماعية؟ كيف نقاوم االستبداد اجلامث،
وكيف نقطع الطريق على انقالبية متسلسلة جتدد االستبداد؟ قال
املثقف الآلييكي :ما هي إال الدميقراطية!
األمة يف أمسها ويومها مفصولة عن جهاز احلكم فصال طبقيا
واضحا .إن الذين يشكلون اجلهاز احلاكم من بين جلدتنا لكنهم
أغراب عن األمة ،الييكيون مغربون ،وامليل الطبيعي لكل الناس
أن يسريوا يف ركاب احلاكم ،فما يتعلم متعلم إال لينضم إىل
الطبقة احلاكمة ،وال جيتهد جمتهد يف ميادين الثقافة والعلم إال
لينال احلظوة من تلك الطبقة .فحكمها على األشياء هو املعيار،
868
وإرادهتا نافذة .وملكان هذا الفصل متثل الدولة طائفة متحكمة
بالسلطان البوليسي وبالدهاء املسخر .فمن كان من دولنا ال يزال
يف فرتة ما قبل االنقالب االشرتاكي يعمي الواقع التحكمي بطالء
الدميقراطية ،ويوهم بتعدد األحزاب وحرية الرأي أن األمة حتكم
نفسها بنفسها.
إن مصادرة احلكم واالستبداد به جيعل عالقة القاعدة احملكومة
باحلاكمني عالقة غري منطقية وغري قارة ،ألن احلاكم يتوهم أنه
ال خيطىء أبدا وأن بوسعه أن ميلي اإلرادة من أعلى فريبح بذلك
الوقت ويتجنب ضياع اجلهد يف تبصري قوم ال يستطيعون أن
يبصروا .وبالفعل فتناقضات احلاكم مع نفسه ،وثعلبية رجال
السياسة وتقلبهم وتلوهنم ،جيعل من املستحيل أن يبصر الناس
حاضرهم ومستقبلهم ،ومن املؤكد على الدعوة حماولة إشراكهم يف
التفكري والتدبري ،وحماولة كسب ثقتهم بعد أن أصبحوا ال يثقون
بشيء ،وبعد الذي بلوه من املستكربين.
فاخلالفة على املنهاج النبوي ترث يف أرض ما قبل االنقالب
االشرتاكي وما بعده وحدة يف القاعدة ومتزقا بني طبقة املثقفني
املنفصلة الطافية .وقبل احلكم اإلسالمي قد يوهم املتمزقون
بصراخهم واحتجاجهم أن تعدد أشالئهم ما هو إال تعبري عن
حرية الرأي ودميقراطية املطالبة .وهم يزعمون اليوم أهنم خيدمون
869
األمة ويناضلون بامسها دفاعا عن حقوقها يف صف املعارضة ،كما
يزعم منافسوهم يف سوق النخاسة السياسية أن االستبداد بالرأي
خدمة لألمة وتوجيه.
هذا التمزق املوروث يرأبه غداة اإلسالم رجوع من خيتار ذلك
إىل صف العاملني املساكني مندجما يف الصف ،فإن أىب فمرغما
ب من داء كلبه .فإنه مجيل جدا أن يعيش حمنوا عليه ُيََّرض ويُطَ ُّ
الناس أحرارا ،ووقت اجلاهلية ميأله صراخ األسواق السياسية
وخصامها ،لكن من يزعم أن احلرية هي استبدال جهاز العنف
البوليسي بتسخري يعنف على الضمائر ويسخرها إضافة إىل
جهاز قمعي أعنف فإمنا ميين الناس بالكذب والبهتان .وال يرضى
بدميقراطية املساومات وشراء األصوات واآلراء بسلطان املاليني
إال جاهليون مكتظون ،وقتهم فراغ وحياهتم فراغ ،إن مل ميألوها
بالضجيج واالضطراب الذي يومههم أن هلم يف احلياة وظيفا غري
وظيف اآللة املنتجة املستهلكة الكانزة!
هتارش السياسيني يف أسواق الدميقراطية احملتضرة ببالدنا ال
يعين األمة يف شيء ،وإمنا يزعجها جبعجعة الرحى الدائبة .وهي
عن ذلك الشأن يف شغل بالبحث عن الكسرة والدرهم .فوحدة
األمة املوروثة وحدة يف الفقر ووحدة يف اخلوف ووحدة يف عدم
الثقة بشيء .إن كان للمتهارشني مزية على األمة وفضل فذلك
870
أهنم مبثال حياهتم املرتفة الباذخة وبتفاهة أحالمهم وفضحهم
بعضهم بعضا يفتحون أعني األمة على هذه احلقيقة املركزية :وهي
أهنم ومنافسوهم ليسوا أهال للثقة وال لالحرتام .وما رأيك بزعماء
املع ِول على
العدل واملساواة يتحولون من سوق النزاع الالئمْ ،
صفحات اجلرائد بأن خصومهم احتجنوا املال وشيدوا القصور،
إىل سوق هلوهم وعبثهم يف قصور جتاور قصور اآلخرين وبتبذير
مثل تبذيرهم؟
ذلك التمزق وهذه الوحدة على الشك واخلوف وعدم الثقة
يشكالن تعفنا عاما ووعيا عاما بأن الطبقة املستبدة املتهارشة
طبقة من األغيار ال ستحقون أن يتبعوا وال يستحقون أن حيرتموا.
وهذا الوعي بالتعفن وكراهيته تسرع بتحويل القاعدة املسكينة من
كوهنا مفعوال سلبيا عانيا إىل فاعلية االستجابة لداعي اإلسالم
وااللتحام به والثقة.
خيتلف وضعنا عن وضع الدميقراطيات املتعددة األحزاب يف
شكل العالقات بني القاعدة والدولة ويف نوع هذه العالقات ،فمن
حيث الشكل ينتخب الناس مجيعا مبا يسمى االقرتاع العام املرشح
للمنصب يف الدولة .فاملرشح ينشر طلبه ويعرض نواياه ،ويقدح
فيه اخلصوم .وتتضارب األحزاب على توجيه الرأي العام حىت تنتج
االنتخابات نتاجها .فإذا نقلنا حنن الشكل االنتخايب يف تقليدنا
871
القردي عاجلناه بعقلية متسخه مسخا زائدا على مسخه األول ،وإذا
باالنتخابات مهرجان هزيل ال متارسه األمة إال كما متارس الطقوس
السحرية ومعها عنت السخرة والتكليف .وهنا يظهر االختالف
النوعي يف عالقتنا املفتونة بالدولة ،فحيث يكون التصويت عملية
حرة ال يكره عليها الناس إال اإلكراه املعنوي بعويل الدعاية
اإلعالمية ،جيند قادتنا املسلمني املساكني ليزاولوا وثنية االنتخاب
إكراها شديدا .وحيث يقنع الناس يف أرض اجلاهلية أن مصاحلهم
تقضى إن صوتوا لفالن ،يقال للمسلم ،وهو البليد العقيم يف نظر
الطاغوت ،ضع يف غالفك الورقة البيضاء .وال يكفي ذلك حىت
يُعوذوه بتعويذة سحرية فيخربونه أن اللون األبيض لون الطهارة
والسعد .وستنتهي شعوذة السياسيني إىل قرار ،وبيس القرار.
يف أرض اللربالية اجلاهلية وحدة يف جهاز الدولة يتصاحلون
عليها ،ويف الواجهة األخرى تعدد يف صفوف الشعب متثله األحزاب
واحلركات .أما عندنا فالعكس هو الصحيح ،من جهة احلق أمة
يوحدها الفقر والشك والريبة ،ومن جهة الباطل املتهارشون على
احلكم املتعددو الصبغات والوجهات .يتخاطبون بلغة مشرتكة
بينهم ال تفهمها األمة ،يعيشون يف نفس القصور ويركبون نفس
السيارات وحيتقورن األمة نفس االحتقار .وأعالهم ادعاء أنه
نصري الطبقة الكادحة أمعنهم يف البذخ والكذب.
872
اإلسالم املشرق غدا ينزع النبتة الشيطانية من جذورها،
واإلمام القائد ،خليفة رسول اهلل وأمري املؤمنني ،يبدأ بفضح الدس
السياسي ويتوب إىل اهلل منه ويستتيب املتهارشني الغرباء عن
الفالح خلف حمراثه اخلشيب العتيق مع أمة الفالحني ،ال يعرفون
كيف يستنبت الطعام إذ عجزوا أن يستنبتوا قرائحهم اجلدباء
وعزائمهم الغارقة يف الشهوات كلمة صدق وحق تضرب هلم
بنصيب يف حياة العز اإلسالمي.
ال بد أن تنتزع النبتة الشيطانية من أصلها لكي توحد األمة حىت
تصبح جسما متضامنا .ولكل جسم أعضاء تشرتك يف اإلحساس
وتشرتك يف العمل .لذلك فلن يكون مستويان يف األمة بل ختصص
عضوي ضروري .وإن تأليف القاعدة اجلماعية بالقيادة احلاكمة
يتوقف على كسب الثقة وتبادل الثقة .والثقة تـََع ُّو ُُد على الصدق،
ف أنه صدق من مصدره ،ألنه كان كذلك باإلخبار املتواتر. يـُْعَر ُ
ولقد قال العريب األول « :إن كذبة املنرب بلقاء» .وكثريا ما يكذب
رجال السياسة وال يصدقون حبكم سوقية املهارشة وتـََقلُّب العقول
الفارغة والقلوب اخلافقة خوفاً وهلعاً.
اإلمام القائد ذو الروحانية والذمة والربانية ال يكذب إذا
وعد ،كما ال يكذب السيف اهلندواين إذا ضرب .فبعزم الصدق
والوفاء بالوعد يصفي القائد اإلمام أول ما يصفى هذه النبتة
873
السياسية املوبوءة ،وينزل خليمة اجلهاد من قصر كان فيه الهيا أو
من حيث يأيت به اهلل من اآلفاق ،فرياه الناس مجيعا قسيمهم يف
املسكنة وأسوة يف اجلد .فعليه جيتمعون وعلى منوذجه يتوحدون.
إنه سيكون «املرَّكب» الكيماوي الذي ينشىء تفاعال يقرب
الذرات بعضها من بعض ويستخرج ما فيها من الطاقة ومتنوع
اخلصائص .مرتفو األمس بثقافتهم يرتفعون من محأة الشك العقدي
وبالء التمزق الذايت إىل كمال يرونه ماثال يف اإلمام رجل الصفاء
الفكري والنورانية الروحية .واملستضعفون يرقون من مواطئ األقدام
إىل جملس اخلليفة حقهم فيه سواء وحق سائر املسلمني .فعدل
يبدأ فيه اإلمام بنفسه ويضرب املثل عدل يسري بقوة يف كل
العقول إغراؤه ويف كل القلوب سكينته .وبعد العدل ثقة باحلق
والصدق من مضاء عزم اإلمام .وعلى الثقة بالعدل ينبين صرح
اإلسالم .فإذا كان املسلمون يف فتنتهم ال ينتهي هبم اضطراب
لربايل إال ِلضطراب انقاليب أحدمها أشد نكرا من صاحبه ،فذلك
ألن العدل لديهم عدالن ،أحدمها تسلط على حق املسكني باسم
القانون ،والثاين تربير لظلم احلاكمني باسم القانون.
وقد كان موالنا اخلليفة أبو بكر أعلم الناس غداة توليته أن
الضعيف عنده قوي وأن القوي عنده ضعيف حىت يأخذ لذلك
احلق من هذا .وكذلك كان يفعل اخللفاء الراشدون ،ومبثله حيكم
874
إمامنا غدا.
فبالعدل والوعد الصادق ،والثقة اليت تعطيها جتربة األيام يتأهل
اإلمام اخلليفة ليكون من جسم األمة مبثابة الرأس من اجلسد .إنه
املدبر املستبد بالوجهة والرتبية .وال يعين هذا أن يسكت املسلمون
من حتته ،ألنه غري معصوم وألنه إن زعم لنفسه مكانا فوق األمة
فقد أتى على الثقة من أساسها.
بعد فرتة التطهري من جذور الشر ،وهي فرتة ضرورية تطول
أو تقصر ،تنظم املبايعة العامة مع التوبة املعلنة الواضحة .وهذه
عملية ال تتسع الدميقراطية لتصورها .فبعد املبايعة العامة تنظم
النصيحة مع تنظيم الدعوة .هل تتخذ هذه النصيحة مكان
األحزاب السياسية املتعددة؟ وهل تقوم بوظيفتها؟ اجلواب بالقطع
جواب نفي! وذلك ألن عالقة األحزاب بقياداهتا وعالقة القيادات
باحلكم عالقات مطالبة وانتجاع للرتب والغىن واجلاه .والنصيحة
تواص باحلق والصرب ،فتنظيمها تنظيم جند معبإ مرابط .مث إن
األحزاب السياسية تنظيمات تنتسب لألمة وليست منها لكي
ترشح للحكم نصراءها ،ويف اخلالفة اإلسالمية ال يعطى هذا األمر
من طلبه باملخادعة والوصولية أبدا إال أن يكون يف مقام يوسف
﴿اج َعلْنِي َعلَى
بن يعقوب عليهما السالم حيث قال للعزيزْ :
ظ َعلِيم﴾.
ض إِنِّي َح ِفي ٌ
َخ َزائِ ِن ْال َْر ِ
875
سرتى األحزاب املتنكرة باألمس لإلسالم تدخل سوق املزايدة
وتدعو إىل عروبة وإسالم .فما قبل منها االعرتاف بالشرع احلنيف
مصدرا وقانونا فله بني اجلماعات اإلسالمية مكانه .وله يف الدولة
ما تكسبه إياه ثقة األمة وتصويتها يف انتخابات حرة نزيهة.
يف ظل اإلسالم ،بعد فرتة التصفية الرتبوية ،يهيمن على
جمال الرأي ويفرض اجلهر باحلق قول أيب علي الدقاق «الساكت
عن احلق شيطان اخرس» .وقد رأينا أن الدعوة إىل اخلري هي
وظيفة أهل النصيحة واألمر باملعروف والنهي عن املنكر .فالنطق
باحلق وإعالنه وتغيري املنكر واجب كل مؤمن دخل يف الوالية
اإلميانية .وهي والية خاصة ال تشمل املسلمني مجيعا .إهنا والية
بني املهاجرين أهل البالء واحملبة والقدم يف اإلسالم .قال اهلل عز
اه ُدوا بِأ َْم َوالِ ِه ْم َوأَنـُْف ِس ِه ْماج ُروا َو َج َ ين آ ََمنُوا َو َه َ
َّ ِ
وجل﴿ :إِ َّن الذ َ
ض ض ُه ْم أ َْولِيَاءُ بـَْع ٍ ك بـَْع ُ ص ُروا أُولَئِ َين آ ََوْوا َونَ َ
فِي سبِ ِ ِ َّ ِ
يل اللَّه َوالذ َ َ
ٍ ِ ِ
اج ُروا َما لَ ُك ْم م ْن َوَليَتِ ِه ْم م ْن َش ْيء َحتَّى والَّ ِذين آَمنُوا ولَم يـ َه ِ
َ َ َ َ ْ ُ
ض ِ
ض ُه ْم أ َْوليَاءُ بـَْع ٍ ات بـَْع ُ ِ ِ
﴿وال ُْم ْؤمنُو َن َوال ُْم ْؤمنَ ُ ِ
يـَُهاج ُروا﴾ َ ،
1
1األنفال 73
876
وال يكونون طبقة حاكمة بوجه من الوجوه ألهنم مع األمة يف كل
ميدان ،بل هم أكثر الناس صربا وأسبقهم لبذل .فإذا ثبت لنا
صدقهم بالربهان كما يثبت لنا ضرورة االستبداد الرتبوي الدائم
املستمر للخليفة من حيث كونه احلكم ومن حيث كونه خليفة
رسول اهلل احلاسم لكل نزاع ،فال تردد يف أن النطق باحلق جمال
واجب النصيحة واالجتهاد والتعبري بصراحة ووضوح عن مشاكل
احلاضر ونوايا املستقبل يف حق املهاجرين اجملاهدين املنتظمني يف
الدعوة .ولكيال ال يكون أحدهم شيطانا أخرس فال مندوحة
عن قبول تعدد وجهات النظر ونقد كل عامل يف احلقل العام
واخلاص مبا يف ذلك اخلليفة نفسه .ذلك واجب إسالمي يف حدود
السيادة الكاملة للشرع ومؤسسات الشورى .ولن يكون رجال
احلكم اإلسالمي أولئك الرجال إن مل يكونوا كعمر يقول« :رحم
اهلل من أهدى إلينا عيوبنا» ،ويوبخ نفسه أمام مإل حني أصابت
عجوز وأخطأ عمر.
من حيث املبدإ نتعلم من جاهلية الفوضى املنظمة أن الفوضى
املتعددة الوجوه املسماة أحزابا داء وبيل َوّرثوه لنا .وعلينا أن خنرتع
تعددية شورية تعاجل اخلالف وحترتم رأي الغري يف حدود الشرع،
وتقرتحها بديال للتعددية الدميقراطية اليت تفنت عقول املثقفني
حيسبوهنا العالج الشايف لكل داء .ونتعلم من كوهنا تنظيما كيف
877
يعطي التنظيم منعة للجهاز ضد التفتت رغم أسباب الفرقة
واخلالف .فلذلك ينبغي أن نستقرئ أنظمة املؤسسات اإلدارية
لنشكل نصيحتنا شكال عقالنيا مع االحتفاظ باملضمون اإلمياين
اإلحساين الذي ال تعرفه اجلاهلية وال تقدر أن تتصوره .الفوضى
املنظمة تتصور اجملتمع تيارات متفارقة أو متوازية أو متصراعة ،وهي
تتمنع من االعرتاف بالتحليل املاركسي الذي يفضح االستغالل
الطبقي وتزعم أن حرية التعبري واملمارسة السياسية والنقابية متحو
الطبقات .وال ناقة لنا يف ذلك وال مجل ،وال غىن لنا أيضا عن
وعي وضعنا املتعفن لنعاجل فتنتنا بالطب اإلسالمي ونقلع نبتة
الشر بالرفق اإلسالمي.
878
1
حنن واالستبدادية املذهبية
النظامان السائدان يف العامل ينتسبان إىل الدميقراطية ،وكالمها
حريص أن يوهم احملكومني أن الدولة تستمد سلطاهنا من القاعدة
الشعبية .وهكذا تزعم الشيوعيات أهنا دميقراطية ،وللكلمة يف حد
ذاهتا سحر وجاذبية .ففي النظر تفيد الكلمة حكم الشعب نفسه
بنفسه ،ويف التنظيم الدستوري يشرع التصويت العام واالنتخاب.
أما يف الواقع فال ختتلف دميقراطية الشيوعيات عن دميقراطية
اجلانب املقابل يف جوهرها ،وإن كانت ختتلف يف لون التدليس.
وقد رأينا أن جهاز الدولة يف بالد الفوضى الدميقراطية يعتمد على
مؤسسات تسمى دميقراطية ،فتوهم بذلك أهنا مؤسسات الشعب،
وهي يف الواقع مؤسسات يف قبضة احملرتفني السياسيني ،وأصحاب
االحرتاف السياسي ،خرباء يف التمويه واختالس األصوات وغصبها
بقوة املال والدعاية.
أما دميقراطية الشيوعيات فهي أقل نفاقا من صاحبتها ،ألهنا
تعلن يف أول حركتها أن األمر دكتاتورية طبقية ،فكل من ال
ينتمي للعمال والفالحني حمروم من حقه يف التسابق للمناصب.
1هل بقي جمال ملناقشة الشيوعية بعد اهنيارها الكئيب؟ أم أن النظرة إىل خلف ال ختلو من فائدة،ال
سيما يف جمتمعاتنا احلافلة برواسب الفكر الشيوعي؟
879
وتزعم النظرية أن الربولتارية متارس استبدادها على سائر الطبقات
بدميقراطية داخلية تنتخب فيها اخلاليا جمالس املقاطعات ويصعد
االنتخاب الدميقراطي إىل القمة .والواقع عكس ذلك متاما ،فإمنا
هي دميقراطية امسية ،وما قامت شيوعية قط إال باستبداد قوي ال
يقبل النقاش يف املبادئ املذهبية وال مساومة على املرشحني الذين
تقرتحهم القيادة .وكما أن لألنظمة اللربالية أزماهتا عندما يتعسر
عليها أن تتصاحل على رأي ومصلحة وأشخاص ،فالشيوعيات
تتجدد فيها اإلعصارات التطهريية .ومن حاولت منهن املناقشة
احلرة واالنتخاب احلر فسرعان ما تقتحم أرضه دبابات األم الروسية
الوصية ،أو خيتل صفه كما وقع لتشكوسلوفكيا ويوغسالفيا.
إن السلطان إذا كان ال يستمد من إرادة الشعب فهو نوع
من الضغط واالستبداد .وإرادة الشعب يف حياته االجتماعية
املتضاربة أمواجها باألهواء واخلالفات ال ميكن معرفتها بالضبط
وال بالتقريب .فاالنتخاب الدميقراطي عبارة عن خمض لآلراء بعد
هتييجها بالدعايات املتناقضة ،فال خيرج منها إال زبد يعتمده
احملرتفون ويبنون عليه تآمرهم الطبقي .ويبلغ التهييج واالحرتاف
صيغته القصوى بالواليات املتحدة األمريكية حيث األموال
والتقنيات الدعائية ،وموسم االنتخابات الرئاسية موسم هيجان
كبري ،يفيض على العامل كله ،فيتحمس الناس ألفراس السباق
880
تلهبهم أصوات الدعاية وصورها .ونظريا ميكن لكل أمريكي أن
يرقى لدرجة الرئاسة ،أما عمليا فيستبد باألمر جهاز األحزاب
استبدادا مطلقا ،ويفرض الفرس األمثل أن يغري اجلمهور بصورته
ونربة صوته وقدرته على اجلدال فرضا مطلقا.
واالستبدادية املذهبية تسمي تسلطها مركزية دميقراطية .ويقول
املذهب :إن احلزب حمضن للربولتاريا يربيها ويوحدها ويؤهلها
ملمارسة الدميقراطية .ويقول تاريخ الشيوعيات بأن االستبداد
واملركزية املذهبية الضيقة كانت وال تزال قوة احلركة الشيوعية
األوىل .فمنذ سنة 1903اختصم شيوعيو روسيا على التنظيم
واملركزية القيادية ،وانتصر مذهب لينني الداعي إىل احلكم «من
أجل الشعب» وليس احلكم بالشعب .ومعىن قوله أن النخبة من
البورجوازية الصغرية الذكية الواعية املتمذهبة املناضلة حيق هلا أن
تستبد وجيب أن تستبد لرتيب الشعب .وذلك هو اخلط البلشفي
وهو الذي انتصر وال يزال ينتصر .ومن أصبح يذكر األقلية
املنشفكية احلاملة اليت كانت تظن أن التسامح املذهيب والرباط احلر
بني تيارات احلزب ميكن أن حتقق هدف الثورة واالستيالء على
احلكم وبناء االشرتاكية؟
وال خيتلف خط اجلماهري الصيين عن اخلط البلشفي إال يف
كون االستبداد الصيين املريب يعيد لإلنسان اعتباره واحرتامه لنفسه
881
يف ظروف االمتثال املطلق لألوامر العليا ،مبا خيوله من حرية يف
اقرتاح ما يقرتح ،وما يعطيه من تشريف حني يكلف اجلماهري
احملرومة الكادحة بإعادة تربية املنحرفني .أما االستبداد املطلق فال
خيفيه شعار « .من اجلماهري مث إليها» .ومن االستبداد الشيوعي
ما هو ذكي دقيق احلس كلما نسي التصلب اإلديولوجي .ومثال
له جنده يف حماكمة رجال اإلدارة إىل الشعب املستهلك خلدماهتم
يف النظام الصيين.
إن األمم املنحلة ال تكون منحلة إال من تشعب إراداهتا على
مسارب التعصب املذهيب واالنفعال العاطفي والتأله اجملادل .وال
خترج من احنالهلا إال باستبداد جيمع اإلرادة ويستأثر بالسلطان.
وإن سر جناح الثورات يف عصرنا ال يرجع خلاصية يف املذهب
االشرتاكي والعقيدة املاركسية .وإمنا املذهب والعقيدة ذريعة
ووسيلة جلمع اآلراء حنو هدف ،إىل أن تتمكن القيادة الثورية من
الزمام وتستبد ،وباستبدادها تبدأ الثورة حقا .واقرأ تاريخ املذهب
املاركسي قبل ثورة روسيا وجناح ستالني اخلارق يف كل امليادين،
إهنا كانت حركة دولية ككل احلركات ،وكان مذهبا يقارع املذاهب
األخرى وتغلبه كما غلبته يف أملانيا حىت بعد قيام ثورة روسيا.
ولو جتددت يف أملانيا بعد استبداد ستالني وجناحه فرصة مثل اليت
كانت على عهد لينني لتكهربت إرادات املاركسيني وجلرفت معها
882
إرادة الطبقة العاملة األملانية.
هذا االستبداد هو سر التعبئة اهلائلة يف روسيا والصني وحيثما
قبض السلطان أيد شيوعية .وما يفرق بني االستبداد اإلقطاعي
أو االستبداد االنقاليب عن االستبداد املعبئ الناجح إال حرية
املنقلب؛ ال خطة معه وال فكر وال مذهب ،وإال فساد اإلقطاعي
وقصور جهده على إرضاء مصاحله ومصاحل حاشيته .وعندما
جيتمع النظر الواضح واإلرادة املطلقة تسري الشعوب راضية فرحة
واثقة كسري الصينيني يف هذه اللحظة من تاريخ البشر ،أو تسري
مقموعة كما سار الروس حتت هراوة ستالني.
إن نظرة الناس إىل السلطان وصاحب السلطان نظرة تصحبها
الرهبة والتقديس .كان ذلك هو القاعدة يف تاريخ البشر .ويظن
املفكرون اليوم أن اإلنسانية تقدمت وأن هلا من علمها وثقافتها ما
يزيل عن عينها وهم القدسية والرهبة من صاحب السلطان .وليس
األمر كذلك اليوم ولن يكونه غدا ،ألن حاجة كل إنسان وحاجة
اجلماهري إىل السند القوي والصورة األبوية الواثقة بنفسها احلامية ملن
يتعلق هبا فراغ يف العاطفة ال يف العقل .هلذا فالشخص اهلادئ الرزين
الذي يتكلم بثقة ،ويتصرف بثبات وشجاعة يفرض سلطته وهيبته
حىت ولو كان حياضر العلماء .وإن تاريخ العامل املعاصر والقريب
يربهن على أن القائد ذا اجلاذبية الغالبة «»chef charismatique
883
يسوق أمته أين أراد ،وتضاعف ثقتهم به وتعلقهم كفايات كل يف
فرد وفاعلية اجملموع.
كان هتلر أقرب مثال من التاريخ البائد ،وماو نصب أعيننا
اليوم .فإذا أعوزت الشخصية اجلاذبة القوية صنعتها الشيوعية
صنعا بكل وسائل التمويه واإلعالم كما تصنعها الدميقراطيات
اليت أصبحت تدين «للدولة املشهد» . Etat spectacleوكما
حتوم حياة األمريكان حول الرئاسة وانتخاهبا وعبادة شخصية
الرئيس ،فحياة الشيوعيني تدور حول عبادة الشخصية القيادية،
وال حنسب فرتة القيادة اجلماعية يف روسيا بعد فضح ستالني وبعد
مظاهرات خرشوف إال قنطرة إىل استبداد يفرضه التأزم املذهيب
واستفحال االعرتاض يف روسيا.
انظر إىل فرنسا وإىل املفعول السحري الستبداد بطلها
ديغول؛إهنا كانت على شفا اهلاوية ،فلما خاطبها رجل قوي
ونفخ فيها خنوة القومية انساقت له وعبدته إىل حني .وينافق أهل
الدميقراطيات يف ادعائهم أن السلطان الرئيسي يف الدولة دور
يتقمصه شخص أي شخص فال يتأثر سري الدولة ألن املؤسسات
واملذهب هي سر النجاح ،لكن تفضحهم األحداث.
لنأخذ مثال كوريا بعد انقسامها .جنحت كوريا اجلنوبية
جناحا اقتصاديا كبريا بفضل عطاء حليفتها العظمى .لكن كوريا
884
الشمالية جنحت جناحا أضخم بفضل االستبداد املستقر املتكىء
على عبادة الشخصية.1
قائد كوريا الشمالية رجل نكرة امسه «كيم إيل سونغ» ،له
«مؤلفات» هزيلة أشد اهلزال ،ومع ذلك تطبعها الدولة طبعا
فاخرا وتوزعها يف أحناء العامل ليتاح هلا أن متأل وسائل اإلعالم
بأخبار النجاح اإلديولوجي لفكر الزعيم .ويف بالد كوريا الشمالية
ال تظهر على احليطان وال على الصحف والتلفزة إال صور
الرفيق الزعيم ،ويهتف بامسه الطلبة والكشافة واخلطباء يف كل
املهرجانات .ويؤهلونه ويعبدونه يف غري التواء .وقد خطب كاتب
اللجنة املركزية للحزب «يانغ هيونغ» مدة ثالث ساعات يف أحد
املؤمترات العلمية خصصها كلها لتمجيد الرفيق الزعيم .فمن
كالمه« :2رئيسنا احملرتم احملبوب جدا ،الرفيق «كيم إيل سونغ»
عبقري الثورة أحد عظماء رؤساء احلركات الشيوعية الدولية وطبقة
العمال .ماركسي لينيين عظيم يف زماننا … الرفيق كيم إيل سونغ
القائد الفكري العظيم ،واألب ذو القلب الرحيم لالختصاصيني
يف العلوم االجتماعية مثلنا …الرفيق كيم إيل سونغ قائد مظفر
دائما ،ذو اإلرادة احلديدية واجملد املتألق…شعبنا ال يعرف سعادة
885
أعظم من العيش والعمل والكفاح الثوري إىل جانبه ،مؤيدا التوجيه
املصيب للرفيق كيم إيل سونغ الزعيم احملرتم احملبوب جدا».
يف املعسكرين اجلاهليني يكون جهاز الدولة آلة يف يد أقلية
بل تذوب هذه األقلية عند الشيوعيني يف إرادة شخص واحد،
وكالمها يؤكد أن احلكم لألغلبية وإن إرادة اجلماهري هي السائدة.
ويفسر املذهبان استبداد الدولة بضرورة قمع األقلية وإلزامها أو
حماربة أعداء الطبقة لئال ينتكسوا بالثورة.
وقد كانت اإليديولوجية اليوتوبية تبشر أن الدولة واستبدادها
يزوالن بزوال سببهما وهو العدو الطبقي والقلة .فلما قتل ستالني
أعداء الربولتاريا مل يكفه ذلك وما أحرزه من جناح عن اإلمعان يف
االستبداد ،بل وتنظري هذا االستبداد وتربيره بأن العدو الطبقي حىت
بعد تصفيته بالقتل واإلزاحة يستمر يف امليدان بوجود إيديولوجيته.
فمن هنا جيب أن يستمر االستبداد.
ال علينا يف متويه الدميقراطيات الستبدادها ،فإن اإلسالم ال
يستعري مبادئه من اجلاهلية ،لكنه يتدبر التاريخ ليتبني كيف يتحرك
الناس يف جمتماعتهم تصديقا لعلم اإلنسان املضمن يف القرآن :إن
اإلنسان هلوع متقلب ضعيف ،فإذا مل يعط وجهه لقبلة واحدة،
وإذا تركت له حرية االختيار ،فإمنا تتلقفه التيارات ويضيع جهدا
كبريا يف معاناة اخلواطر والنزعات.
886
وال علينا يف الفوضى املنظمة وال يف االستبداد املقنع إن
تعبدا لوثن الدميقراطية ووهم حرية االختيار واستقالل الشعوب
بأمورها .اإلسالم مذهب الواجب قبل املطالبة ،ومذهب واجب
بال مطالبة ،ومذهب الشورى السابقة لكل اعتبار .لننس هذه
اللفظة امللعونة املشحونة بإمكانيات الكذب والغش ولننس مدلول
الدميقراطية .فما دام اإلنسان وحيدا مع أخيه اإلنسان ال يرعى
فيه ذمة اهلل ومراقبة الفاطر الذي يبعث اخللق لدار اجلزاء فإمنا مها
ذئبان .ومتارس اإلنسانية ذئبيتها بشكل التنظيم املغري على غريه
يف جمتمعات ما قبل التاريخ ،وهي جمتمعات عصرنا اجلامعة هلول
الصناعة املخربة ودهاء علوم االجتماع والسياسة والدعاية .وما
تكتسيه هذه املمارسة من أشكال التهذيب واإلنسية الرحيمة
غاللة شفافة تبدو من خلفها األنانيات مكشرة أنياب الطمع
واملغالبة.
تاريخ اإلنسان يبدأ باإلسالم ،وخيتفي يف التاريخ الذئيب
باختفاء اإلسالم من ميدان السلطان .واإلسالم يعلن مبدأ الطاعة
املطلقة لصاحب األمر ولزوم اجلماعة ويوعد على ذلك باملوتة
اجلاهلية .فبهذا االعتبار يكون من خرج عن اجلماعة وهي طاعة
أمري املؤمنني خرج إىل اجلاهلية وذئبيتها .وال ينصب هذا على
حاضرنا املفتون ألنه ليس للمؤمنني أمري جتب طاعته هبذا املعىن،
887
إمنا هم ملوك عاضون حيذرنا الشرع أن حنمل السيف على بعضنا
إل زالتهم.
فاخلليفة رجل الرأي والوجهة واالستبداد الرتبوي .مبعىن أنه
احلَكم النهائي الذي ال ينقض حكمه يف خالف يقع ونزاع ينشب
بني املسلمني بعد أن تأخذ الشورى جمراها .إنه خليفة اهلل ورسوله،
وإنه الوجه اإلنساين الذي يضعه اهلل للمحبة والقدوة ،وجيمع له
قدسية واليته ونفاسته على املؤمنني املتحابني املتآخني.
إرادات اجلماهري إرادات متقلبة متضاربة واهنة ،وال مضاء
هلا أبدا ألن العمر ينقضي يف نقاش وقتال .وغدا يف يوم اإلسالم
األغر لن يرتفع لنا لواء إن مل نبدأ مببايعة اإلمام بذممنا وخنلص له
إخالصا ونعضده ونؤزره .وإال فستمضي علينا قرون نتساءل ما
بالنا ومن أين نبدأ؟ ال بداية لنا صحيحة يف ميدان احلكم إن مل
جنعل أمرنا بيننا شورى.
إرادة مستبدة حمبوبة مطاعة يساندها النصح .وفرق ما بني
وثنية عبادة الشخصية ووحدة الطاعة والنصيحة لإلمام اخلليفة
أن الطاغوت املستبد ال يقبل رأيا غري رأيه ،ويصنع لنفسه أهبة
مستعلية ويصنعها له السدنة .أما اإلمام فواجب كل مؤمن أن
ينصحه إن غلط ،فهو مثلنا خطاء ،لكنه أفضلنا ألنه تواب يرجع
للحق .وإن مع مركزية الطاعة للخليفة ومع النصيحة تتمكن
888
األخوة من القلوب بتوايل النجاح يف كل عمل مجاعي .وقد خابت
احلضارة اجلاهلية وخسرت ،ومثلها املؤرخ طوينيب بسفينة مشرفة
على صخور األهوال ،وقال بأن أفق اإلنسانية ال يبدو فيه أمل
لظهور مالح جينب السفينة البشرية من اهلالك إال من جانب
األخوة اإلسالمية .ويتمىن قبحه اهلل وكذبه أن ال يكون لإلسالم
بعث .وخاب فأل الكافرين وصدق وعد اهلل لعباده املستضعفني
الوارثني ،وكأين واهلل بوجه إمامنا يتألق يف هذا اجلو املكفهر الذي
يبشر غمامه بالغيث والرمحة!
889
سوق السياسة
وقائل يشك :من أين يربز للمسلمني إمام وخليفة وسوق ٍ
اإلسالم بائرة ،وأهل اإلسالم يف نزاع على إسالمهم ،ويكفر
«علماؤهم» من خالفهم يف املذهب ،وأهل الدعوة يكبسهم
الطاغوت كبسا ويشرد ويقتل ،وبيت اهلل احلرام يف القدس يطأه
اليهود األجناس؟ فكيف يقدر املسلمون على مبايعة خليفة يوحد
صفوفهم وهم ال يقدرون حىت على توحيد مدافع وطيارات
يستخلصون هبا البيت املقدس من عدوهم ؟!
وخاله ذم ذلك الشاك إن كان يف قلبه حنني وأنني! ورغم أنفه
إن كان من الضالني املشككني !
ما كان حظ حممد بن عبد اهلل يتيم مكة من حظوظ النجاح
حبساب املنطق البشري يوم تآمروا ليقتلوه ويوم فر هاربا بدينه من
مكة؟ ومن كان حيسب أنه تدين له اجلزيرة العربية بعد عشر سنوات
من هجرته؟ ومن كان حيسب أن اإلسالم سيتمكن يف األرض بعد
أقل من مخسني سنة؟ إن املسلمني اليوم يئنون حتت وطأة طواغيتهم
املفتونني ،وإن هؤالء خيزيهم اهلل تباعا ويضيق عليهم املسالك .وإهنم
ال يرون أمامهم إال ظالما ويأسا .واألمر عند اهلل ربنا كذلك فقد
آن أن جتتث من أرض اإلسالم نبتتهم اخلبيثة.
890
فتية املسلمني تتوزعهم أسواق السياسة واإليديولوجيات ،وهم
يف هوسهم قد بدأوا يعافون قذارة ما هم فيه .ويوم تغابنهم يف
الدنيا قريب ،ساعة يكتشفون قماءة تقليدهم القردي للحيوان
العمودي اجلاهلي ،ويكتشفون أن بضائع اجلاهلية الفكرية بضاعة
غنب كالبضائع األخرى .وسواد األمة على عهده مل يتحول وإن
وجهله من جهل .فبحساب التخمني البشري ظلمه من ظلم َّ
تكون حظوظ اإلسالم اليوم أوهى منها يف أي زمان .لكن حكمة
اهلل هلا سبل معجزة .وعسى ربنا أن يرمحنا ،وال تدل كلمة عسى
يف القول احلق على ترجئة بل هي رجاء مبعىن االنتظار .وستعلن
كلمة التوحيد يف كل سوق ،وسيأسو بـَْل َس ُم َها جروح اإلنسانية
املكلومة اهلالكة إن شاء اهلل ،ربنا وهو امللك الوهاب.
غزتنا اجلاهلية يف عقر دارنا بالسالح واالحتالل اجلسدي
وروضتنا على الطاعة واخلضوع فما خنعنا هلا .بل حاربناها ما
دامت حمتلة ديارنا حىت أجليناها .وكان مع الغزو العنيف غزو مواز
عمد إىل الفكر وخاطب الشهوات وداعب األنانيات .وكان غزوا
ماكرا دقيقا متلبسا علينا مغريا لنا ،فكنا أثناءه زبائن نبتاع السم
من سوق اجلاهليني ومنتسخ رويدا رويدا .اتبعنا الثقافة امللحدة
ونقلنا عن اجلاهلي غطرسته وتأهله على املساكني .وكان ألعن
ما أخذناه عنه هو هذه البضاعة العفنة املسماة سياسة الييكية،
891
سياسة تنبذ الدين ظهريا.
كنا قبل االستعمار قبائل وشيعا وكان بعضنا يقتل بعضا
فسقطنا طعمة للمستعمر هينة .لكننا مل نكن نعرف أنفسنا
إال بأننا مسلمون .فعلمنا اجلاهليون القومية وجتهزنا من ترسانة
سياستها بالوعي القومي الوطين .كنا نقتل بعضنا بعضا لكنا كنا
ال نكذب كذب احملرتفني ،فاختذنا من سوق السياسة اجلاهلية
ضمائر مزورة وألسنة وأقالما تزوق الكالم.
كنا خمدرين بأفيون الشعوب ،كما مسى ماركس الدين
الكنسي وكان لنا وال يزال من ديدان القراء وأمراء الزوايا ما يشبه
الطبقة الكنسية والعبث باسم الدين .وقبل أن يكتشف زعماؤنا
السياسيون ماركس وحتليله قلدوا اجلاهلي يف تصوره لإلنسان
والعامل ،وانتقلوا من شعار الوطنية اإلسالمية إىل الوطنية املناضلة
القومية .مث هم اآلن يهتفون باسم اإلسالم يلفقون بعد أن بارت
جتارهتم يف سوق السياسة.
يف العامل محالت منظمة لتخريب عقول املسلمني وختريب
رجولتهم وإغواء شباهبم وإفساده .وما من زعيم يف بالد املسلمني
فاشل ،وكلهم فاشلون واحلمد هلل العلي الكبري ،إال ويشكو من
هذه احلمالت املنظمة .ولو مجعنا أذى رجال التبشري وأذى رجال
الثقافة واإلعالم وأذى الصهيونية العاملية يف حساب لنقرنه باألذى
892
الذي جنلبه حنن باختيارنا من سوق السياسة اجلاهلية ملا كان
احلساب األول يف وجه البضاعة املطلوبة إال مناوشات سطحية.
وإن كان منا من يتتلمذ للصهاينة يف حقل الثقافة ومن يستهلك
بضائع البذخ اجلاهلي فيجلب ألمته خسارا وبوارا ،فإن زبائن
األساليب السياسية اجلاهلية حيملون إلينا الغول الفاتك إىل عقر
دارنا من حيث ال جيلب اآلخرون إىل خربه وصداه.
عقول قادتنا مطموسة فال يقدرون على توليد فكرة واحدة
مسلمة ،وإن كنت ال تسمع منهم إال حديث السياسات العاملية
املتصارعة فما ذلك ألهنم يتعلمون من مصائب الناس ومن حكمة
الناس ،بل ألهنم يصدرون عن رأي اخلرباء اجلاهليني والنصراء.
ويقدر اخلبري سياسة احلكم لتلميذه فيرتمجها التلميذ النبيه إىل
اللغة القومية ويغمر األفيون السياسي يف فيض من االنفعال
القومي املتأجج.
يف سوق العامل مضاربات ومقامرات ،ومن حتتها الغزو
الضاري املاكر الذي يرمي حملق العدو بكل الوسائل .وقانون
العرض والطلب حيكم سوق السياسة العاملية كما حيكمها الدهاء
الصهيوين املكر ال ُكبّار .وندخل حنن املسلمني السوق السياسية
فتنبهر أنفاسنا مما نرى من علم ورأي وفلسفة ،ونبتاع بأموال
النفط خرباء زرقا ومحرا ،أو نتلقاهم هدية مسمومة مع ما نتلقى
893
من متاع حنسبه سالحا ،وهو وثاق يقيدنا إىل عجلة السيد املتكرم
بقمحه أو صوارخيه.
يدخل كل سوق من له حاجة ،وإن لنا حلاجات ال تنتهي،
فلذلك ندخل السوق فنبتاع على غري هدى ،وإن ترددنا خلق لنا
العدو حاجات لنبتاع .ونبعث بأبنائنا يتعلمون يف بالد الكفار
فيعودون إلينا وقد شحنوهم أفيونا ومسا كما يشحن األمريكيون
جثث موتاهم باألفيون الصيين.
وهاك قصة ذلك فهي واقع يدل على طبيعة السوق السياسة
العاملية ،ويرمز الخنداعنا بل الهنماكنا على بضاعة اجلاهلية ،سيما
السياسة منها.
يف القرن املاضي دبر اإلجنليز احتالل الصني ،فمهدوا لذلك
بأن علموا الصينيني تعاطي األفيون مث فرضوا عليهم ابتياعه
فرضا .فخلقوا احلاجة يف الشعب لتعاطي املخدرات ،مث ألزموا
احلكومة بإباحة البضاعة اإلجنليزية يف السوق .ويف أيامنا هذه
جنح األمريكيون جناحا اقتصاديا هائال ،وأعجبتهم رخاوة جمتمعهم
االستهالكي مث أملتهم فطلبوا التغيري .وما كان هلم يلتمسوا تغيريا
سياسيا ألن استقرارهم الدميقراطي وحده يضمن هلم مستوى
العيش ،وألن الثائرين من شباهبم ومن طوائفهم احملرومة ،وإن
كانوا يلعنون النظام ،ال حيلمون بنظام أفضل منه .فطلبوا الفرار
894
من واقعهم بتعاطي املخدرات .وتكونت هلم حاجة إليها شديدة
فهي هلم ألزم من الغذاء والكساء .ولنمر على الداللة املصريية
هلذه الظاهرة لنصل إىل اجلثث احملشوة باألفيون كما حشيت جثث
مثقفينا بالفكر املسمم.
صرح رئيس وزراء الصني أن أفضل أنواع األفيون تصنع
بالصني ،وإهنا تباع للجنود األمريكان باهلند الصينية .ونقلت
األنباء أن الشرطة األمريكية اكتشفت أن جثث األمريكني املنقولة
من معارك اهلند الصينية منذ أول احلرب كانت حتشى باألفيون
يهرب فيها إىل أمريكا.
ما أشبه اجلثث بعضها ببعض ،وإن كانت تلك تصدع مث ال
حتمل إىل بالدها إال مادة خترب األجسام والعقول ،وجثثنا أجسام
تسعى بنفوس ممسوخة حتكمنا بالرأي األفن والضمري العفن.
إن املنصب احلكومي يف بالدنا هنب مقسم لكل ثعلب وذئب،
وإن يف صدورنا معشر املستضعفني لضيق مما ميكرون ،وإن اهلل
مع الذين اتقوا والذين هم حمسنون .يف أقطار االنقالبية زمرة من
القوميني يشكلون نديا جيثم على األمة بكلكله ،ومن نقل من
سوق الكافرين نظاما إقطاعيا فهي عصابات فاشية على شكل
املكروبات العمودية املستطيلة .فقد كتبنا كلمة «فاشية» مبعناها
السياسي اجلاهلي ،وهي حتدد نظام التآلف العمودي لألجسام
895
الوسطى يف اجملتمع كما يقولون .واملقلدون للنظام اللربايل يكونون
شرذمة متقلبة مفتونة ال يقر هلا قرار ،فلها يف كل يوم خصام وهلا
يف كل شهر حتالف وتشكيل ،وهلا مع كل هيعة فزع وبلبلة ريثما
يسويها االنقالب بالرغام.
لكل هذه الزمر والشرذمات عاملها املنفرد عن األمة ،ويف جنب
كل حركة من حركاهتا .ومن حتتها زمر تدس وتعد العدة لتثب
على الفريسة ،وما الفريسة إال هذه األمة ،يتعلمون يف مقدساهتا
كيف يصعدون لقمم البطوالت ،وكيف يروجون ألنفسهم أسواقا
يف صحف اجلاهلية ومنتديات العامل .وإن يف أيديهم إال بضاعة
مزيفة ،وإن يف جثثهم إال حشو من األفيون السياسي ابتاعوه
بطواعية ممن ينتجون أفضل األنواع االشرتاكية.
ولكثرة ما ورد على بالدنا من بضائع تلك السوق نشأ لنا
لغط ،وفشت فينا حرفة املساومات والسمسرة .ولو قدر حلساب
ماهر طويل الصرب أن حيصى موجات اإلغراء اليت يتعرض ملدها
شبابنا كل يوم خلرج لنا خبط بياين فريد .يف اخلفاء حتت االنقالبية
ويف شبه اخلفاء دون ذلك عروض سياسية تساوم عليها ضمائر
شبابنا ،ال تشتمل يف جزء منها على دعوة للرجولة والتضحية،
وإمنا هي حقد وتغن باحلرية املسلوبة وتشجيع على ممارسة هذه
احلرية ممارسة كاملة .واملراهق ذو نفس كبرية ال ميألها إال أمل كبري
896
أو مشروع كبري .فعندما تتواىل عليه العروض وختتلط ويتمزق بني
ذاتيته املنبعثة من أرضية األمة املسلمة وبني احلرية الدوابية ،خيتار
هذه لرواجها ويطرح األخرى هلواهنا يف حساب مساسرة السوق.
وهكذا ميارس خالعته ودوابيته وال جيد من يعرض عليه إنسانيته
وقيمته.
قادتنا املفتونون ومنافسوهم يف اخلفاء والعالنية ،وأعداؤهم
املذهبيون من أقراهنم ،يشغلهم ضجيج السوق السياسية عن
شؤون املسلمني .لنتصور رئيس دولة أو وزيرا خطريا وسط احلمى
السياسية .إنه طليب خصومه السياسيني يف بلده؛ فكل جهده
منصرف ليحمي نفسه من كيدهم .وإنه منقطع عن األمة يف
عقيدته وفكره .فما بقي له من جهد يوظفه يف الدعاية الكاذبة
ليوهم الناس أنه هو منهم أو ليومههم أهنم منه .فمن حاول أن
يوهم األمة أنه منها صلى يف املسجد أو ذهب إىل أبعد من ذلك
فتخلى عن القصر ومظاهر الرئاسة .حىت إذا نطق قال كفرا ومزج
اإلسالم بعقيدته االشرتاكية .وكل أتعابه ليكسب الشعبية تطيح
هبا الرياح يف يومنا العاصف .ومن عمد ليوهم األمة أهنا منه
فرمبا يثري محاسا مصدره اجلهل والغرور ،لكن سرعان ما يفتضح
وينمسخ وذلك مثل أبطال القوميات .فقد كان املسلمون يف بالد
العرب نائمني إىل أن هب البطل القومي وصرخ وصاح وأرعد
897
وأزبد ،فخيل للعرب أن القومية طلسم عجيب انفتحت به قناة
السويز وغلبت به إجنلرتا .إىل أن كان حزيران وخر البطل القومي
وتعلم املسلمون أن القومية هي الفشل والذل واهلوان .وقد بارت
سوق القومية يف أرض املسلمني ،لكن السماسرة ال يزالون يهتفون
عليها وينادون ،ولكن املنافقني ال يفقهون.
كل أمريكي يولد تعلمه أمه أن كرسي الرئاسة يف متناول يده
إن جد واجتهد ،وكل روسي أو صيين تعلمه أنه عامل جيب أن
يكدح ليخدم أمته .وأن كل مولود فينا هتيئه أدوات اإلعالم ليكون
زبون بضاعتها البخسة املرذولة ،وتعلمه أن ال يعمل شيئا ألنه إن
حترك مينة أو يسرة يفتضح عجزه .فاألمريكيون واألوروبيون يغشون
احلياة بعقلية مغامر يأكلونه إن مل يأكلهم .والروسي أو الصيين
يدخل احلياة فخورا حباضر رفعه من ماضي الذلة واالسرتقاق
فيكون منتجا فاعال .أما املسلم فيفتح عينيه على قادة خيطبون
السنني الطويلة يتوعدون عدوهم الصهيوين ويقتلونه بالكلمات
احلادة واجلمل املتفرقعة .وقد آن أن يتعلم املسلمون أن األدمغة
احملشوة بأفيون اإلديولوجية ،واأليدي املسلحة ببضاعة اجلاهلية
بار سوقها وأفل جنمها .وهاهو اإلسالم وخالفته يف األفق القريب.
يضع اإلسالم حدا هنائيا للسوق السياسية ومساوماهتا؛ «إننا
واهلل ال نعطي هذا األمر من طلبه» .هذا قانون اإلسالم ،هو
898
احلكمة ،وهو القوة واالستقرار .لن يكون يف اخلالفة هتافت على
املناصب ،ولن يكون للمنصب الواحد مرشح وال مرشحون ،كما
لن تنظم الغزوات احلربية املسمات محالت انتخابية .املنصب
مبنطق السياسة اجلاهلية بضاعة مطلوبة وغنيمة مشتهاة ،فلذلك
يبذل املرشح نفسه وكل ما يف وسعه ليقنع الناس باملنطق ويغريهم
بالعطاء وخيدعهم بالكذب والتزوير ،لكي يبيعوه بضاعة أصواهتم.
ال خيتلف الرتشيح يف أرض االشرتاكيات القومية عن معىن السوق
كما وصفناه إال من كون املساومات تتم يف خاليا احلزب الواحد،
ويتم الرتاضي قبل إعالن الالئحة الوحيدة لطقوس االنتخاب.
وال ختتلف سوقية االنتخاب يف بالد اإلسالم اللربالية عن مثيلتها
اجلاهلية إال باحتكار املنصب واألصوات يف يد احلاكم املستبد.
فهو يرشح وهو يفرض الطقوس ونتائجها وهو ينصب ويعزل.
الوالية بني املؤمنني يف ظل اخلالفة اإلسالمية تؤسس تعايشا
على احملبة وتالزما بني املؤمنني حىت تعرف اجلماعة أيهم األتقى
وأيهم األقدر على األمر واألجدر به .وإن تواصيهم باحلق والصرب
يتضمن أن ميسك بعضهم بعضا عن إغراء املنصب ،وأن يتالوموا
إن ضعف أحدهم ونسي اآلخرة واشرأبت عنقه للمنصب .هذا
خط وازع القرآن .أما وازع السلطان فيجب أن ينظم الشورى
على كيفية ختالف متاما االنتخاب الدميقراطي ونظام املركزية
899
الدميقراطية ،وتستبدل معاين السوق مبعاين السمت اإلسالمي
ووقار العقود املمضاة يف املسجد ،يف بيت اهلل.
واملؤمنون حباجة لوزاع السلطان فهم غري معصومني .والنفس
حتب الرئاسة إن مل تزجر .وقد وصى أبو بكر عمر بن اخلطاب
ملا عهد إليه قال « :أول ما أحذرك يا عمر نفسك؛ إن لكل
نفس شهوة ،فإذا أعطيتها متادت يف غريها .واحذر هؤالء النفر
من أصحاب رسول اهلل ،فإهنم قد طمحت أبصارهم ،وانتفخت
أجوافهم ،وأحب كل امريء منهم نفسه».
إن املؤمنني مىت تعلقت مهتهم بالغاية اإلحسانية ،ونبهت
روحانيتهم من غفلتها ،أوىل أن يتدافعوا الرئاسة من أن يتنافسوها
كما يفعل املغبونون.
900
الشورى
االعتبارات املؤثرة على التحركات السياسية والقرارات يف
جمتمعنا املفتون اعتبارات اقتصادية جمتمعية تقع حتت ضغط
التنافس السياسي يف الداخل واخلارج ،فهي مكتوفة حمدودة.
وإرادة أرباب السلطان مرهونة بعقليتهم األجنبية عاكفة على
إرادات احللفاء اجلاهليني ترقبها وتالعبها .وما خييل إلينا من
استقالل يف الرأي وسبق للمبادرة ما هو إال تعمية للرق والعبودية
واألسر يف أغالل اخلوف من الناس واخلوف من املوت واخلوف
من اخلروج عن املألوف .فليس على ساحة قراراتنا وحركاتنا عزمة
واحدة حرة تبعثها احلكمة والثقة باهلل ،وخترج للعامل تسعى وتفعل
وتبلغ مداها .دعنا من مظاهرات األبطال القوميني ،فإن نتائج
خبطهم كانت وباال وتكون ،ويعرف الرأي الفاشل من وجهه؛
ينم عنه اخلطل والعجلة الطائشة ،كما تعرف املبادرات احلمقاء
من نتائجها.
حكامنا يفتاتون على األمة يف رأيهم وسعيهم ،واجملالس القومية
ما هي شورى لسببني ،أوهلما أهنا جمالس اسرتاحة واسرتواح بني
دورتني من دورات السوق السياسية .فأفرادها ،وال أقول أعضاؤها
ألن القوم أنكار أشتات ،ابتاعوا املنصب وطلبوه ورغبوا فيه رغبة
901
املؤمن يف رمحة اهلل .وهم يعتربون تسلقهم للنيابة الربملانية جناحا
ملسعاهم يف احلياة .فمن كانت مهته صغرية حقرية فكيف يستشار
يف أمر املسلمني يف أمر املسلمني؟ وكيف يستشار يف أمر اإلمامة
واخلالفة وهي أمر اهلل األقدس؟
والسبب الثاين أن اجملالس النيابية يف بالدنا ترهات مستوردة
بأشكاهلا وأساليبها ومضموهنا من اجلاهلية مرتمجة عنها .فهي
برملان ،والكلمة يف لغة اجلاهليني تعين اهلذر والثرثرة .إن هذه
اجملالس معارض للطواويس البشرية يُزكم األنوف ريح األنانيات
إن تكلمت وإن انتفخت أوداجها لتخاطب الوزير اخلطري وتلومه
وتوخبه .إهنا سوق سياسية لطبقة جتمع بني االرتزاق وذئبية
السياسيني .وإن هذه األسواق اهلذرية أماكن تباع فيها ذمم
املستضعفني وتغتال فيها حقوقهم..
كيف يعقل يف بالد املساكني ،وهي كل بالد اإلسالم ،أن
مينح من مال املسلمني لكسول يغشى سوق الثرثرة شهرين يف
السنة ،اخلمسمائة دينار يف مطلع كل شهر ،ومينحه اجلاه الذي
به يبتز األموال واحلصانة اليت هبا خيرق حرمة القوانني ،وببالد
املسلمني معلمون أجرهم الشهري ال يتجاوز ثالثة دنانري ،وأساتذة
جامعيون ال يبلغ أجرهم ثالثني دينارا؟
لكن حكامنا يعبدون األشكال كما يعبدها كل فارغ القلب.
902
وإهنا ملفخرة أن يكون لنا برملان وأن يكون فيه ضجيج قائم لنربهن
للناس أننا أمة دميقراطية .ولتخسأ الدميقراطية إن كانت واجهة
يقتات من خلفها املأفونون باألفن املطلق واألفيون السياسي!
شورانا يف غد اإلسالم الطاهر تكليف وخدمة .وقد كررنا أن
أصحاب اخلدمة من النخبة اإلميانية اإلحسانية ،رجال الدعوة
ورجال األمة ،ينبغي أن يعملوا على مثل أجر اإلمام اخلليفة لكيال
يكون أي منصب يف احلكم مغنما ماليا ،ولن تدع النصيحة ويقظة
األمة مجعاء لطالب املناصب ووالهتا فرصة الستغالل النفوذ.
وقلنا إن اإلمام اخلليفة لن يكونه أبدا إن مل ينزع أهبة اجلبارين
وجيالس املساكني على احلصري والشعري .ما ينبغي أن يكون حكم
املسلمني وشورى املسلمني عمال مأجورا وغُنما مشهورا ،بل يكون
التقلل والقدرة عليه والصرب وضرب املثل يف ذلك شرطا نستدل به
على الذمة وخلوصها ،وإن احلكم تكليف وإن الشورى تكليف.
وهكذا طرحنا أقوى أسباب السوقية السياسية ،وإن هذه الذئاب
هتجر مكانا ال تظن به فريسة.
أما هذه االنتخابات اهلرجية وطقوسها والدسائس والتسخري
فهي املظهر الشكلي للدميقراطية ،وهي التعويذة السحرية اليت هبا
يغشون أبصار األمة ويومهوهنا لوال بدائية أساليبهم ولوال ظهور
لعبهم على األمة اليت حيتقروهنا.
903
فيجدر باخلالفة اإلسالمية أن جتدد يف العامل أسلوبا الختيار
أهل الشورى ،تفتقر إليه اإلنسانية وال هتتدي إليه .جيب أن
تبتكر اخلالفة أسلوبا لالختيار يتوفر على شرط الوضوح وشرط
املسامهة احملدودة يف النخبة اإلميانية ذات الوالية واحملبة اجلماعية
دون أن يستحيل األمر إىل استبداد طبقة على طبقة أو مصلحة
على مصلحة إال استبدادا تربويا على مستوى الوجهة واملبدإ
والغاية .والشرطان مها النصيحة ،فما هي نصيحة إال لنصاحتها
ووضوحها ،وما أمر بالتواصي باحلق والصرب إال املؤمنون ال سائر
املسلمني.
غوغائية التصويت العام جاءته من ذئبية احملرتفني ،وهو سوق
الغنب لألمة ألن هذه األمة ال تعرف للتصويت معىن إال أنه
كلفة غريبة من هذه الكلف اليت يصدر هبا أمر السادة احلكام.
ولو قد تعلم الناس معىن االنتخاب ،ولو قد توفرت فيه شروط
األمانة ،وذلك مستحيل يف يد قادتنا ،ملا صح أن يكون االقرتاع
العام أسلوبا إسالميا الختيار أهل الشورى .إننا واهلل ال نعطي
هذا األمر من طلبه ،فتلك واحدة .وأخرى ناجتة عنها وهي أن
املال والرشوة يفتحان أبواب احلكام الفاسدين ويصنعان الدعاية
ويصنعان التزوير.
لنا موعد فيه نضبط أمورنا غداة اإلسالم ،إنه املسجد
904
وإن العقدة مبايعة بني ذوي الذمم وميثاق .فالندي اإلحساين
واجمللس اإلمياين يف املسجد يبدأ منهما التعارف بني املؤمنني،
ويتم التعارف يف ميدان العمل واجلهاد والنصيحة .فلكي نكتشف
الرجال على قانون «الرجل وبالؤه والرجل وغناؤه والرجل وقدمه
يف اإلسالم» نقبل يف صف التطوع املنظم كل طالب شهد على
صالحه املسلمون يف قريته أو معمله .وعلى كل رجل منذئذ أن
يعطي برهان الصدق والكفاية والبالء والغناء كل صباح وكل
مساء .وهكذا نعرف الرجال بانتخاب مستمر يومي يشمل كل
الوقت ،وال ينحصر يف مواسم التهييج والتهريج .إنه انتخاب
دائم وامتحان عسري .ولن ميكن فيه التدليس ،ألن رجال الدعوة
املنظمة رعاة كلهم ورعية ،فإن على كل طائفة شهيداً له الطاعة
فكلهم شهداء على احلق .وإن للمؤمنني لذمة نعرفها من بالئهم،
ومن كانت له ذمة وعهد وميثاق ال يسكت عن احلق أبدا ،ألن
الساكت عن احلق شيطان أخرس.
يف هذه املواسم االنتخابية التهييجية يكثر التجريح واالنتقاد
والشتم والتنابز باأللقاب .وتلك سوقية حيسمها اإلسالم حسما
ليحل حملها مست املؤمنني ووقار املصلني يف بيوت اهلل املسبحني
حبمده يف عرصات اهلل ،يف أرجاء األرض .لن يكون يف صحفنا
املسلمة دعاية بل تكون هبا دعوة ،لن يكون الكذب املموه بل
905
الصدق الناصح .ومىت رشحت طائفة املؤمنني رجال وفرضت عليه
أن يقوم بكلفة من الكلف يف منظمات الشورى ،فلكل مؤمن
متسع يف الصحافة واجملالس ،وعليه الواجب أن ينصح للمسلمني
إن ثبتت له احلجة على أن املرشح فاسق .وإن لكالم املسلمني
لرزانة وتثبتا يفرضهما وازع احلد يف حق من يتهم الناس بالظلم
وال يأيت ببينته.
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :1خياركم في الجاهلية
خياركم في اإلسالم إذا فقهوا» هذا احلديث ال يغلق باب العمل
يف وجه من كانوا باألمس مفتونني .ولعل منهم من يتوب فتحسن
توبته وحيسن إسالمه حىت يبلغ مرتبة اإلميان واإلحسان .والناس
أعداء ملا جهلوا ،فلعل جلساء اهلذر يف أمس الفتنة يتعلمون
اإلسالم وحيبون اإلسالم فنُعلمهم ونستفيد من خربهتم .هذا
حظ الرفق وحظ الرجاء .أما حظ احليطة والتدبري فهو أن من
شب على شيء وألفه ال جيد من نفسه قوة جملافاته .وإن هؤالء
احملرتفة املرتزقة منتفخة أجوافهم كما يعرب الصديق رضي اهلل عنه يف
زمان جاهليتهم فما خيليها من كربيائها وما جيلسها على احلصري
والشعري!
نعم ،لن ينزل نظام اخلالفة مكموال من يومه األول قد سطرته
906
املالئكة ،بل إنه اجتهاد وتعلم .وليس نظام اخلالفة بأمر يتوقف
على مؤسسات قانونية دستورية توضع ألول وهلة قالبا للعمل،
إمنا هو ممارسة واختبار .وسريث اإلمام اخلليفة مؤسسات ورجاال
وحمرتفة ،فليس من احلكمة أن يهدم قبل أن خيطط لبناء ،وال أن
يتخذ اهلدم مبدأ.
إن إمامنا غدا رجل اهلمة واملضاء والعزم الشجاع ،لكنه أيضا
رجل احلكمة ورجل البصرية ،وفوق ذلك كله رجل التوفيق اإلهلي
معه نور اهلل به يسعى ،ومعه يد اهلل هبا يصول وجيول .إن أول
موجه الختيار الرجال ليس االعتبار السياسي القائم على ضرورة
ربط القاعدة الشعبية باحلكم ،بل هو اعتبار ثوري ،ونستعمل
هذه العبارة اجلاهلية ومثلها تقريبا للمعىن وإقرارا بقصور الفقه
املنهاجي عن التعبري الكامل .إنه عداء بني املستضعفني الوارثني
اجلاهرين بفرحتهم لإلسالم وبني املنكوبني من احملرتفة واملرتفني
أمجعني .فأول خطوات العمل وأوسطها وآخرها استبداد تربوي،
فال مندوحة لإلمام من اختيار بطانة له بنفسه ،فأولئك أصحاب
شوراه األسبقون .وبعد ذلك يف مرحلة التنظيم الوسطى واألخرية
حيث تدبر املؤسسات وتوضع لالختبار والتمحيص والتحسني
املستمر املفتوح على الدوام ،حىت تذوب العداوة ويستوي تنظيم
الدعوة وتستوي النصيحة ويرشد املؤمنون.
907
استعملت عبارة البطانة ،وكثريا ما تستعمل للداللة على
التعفن واحتكار السلطان واحتجان األموال .واحلق أن الناس
أسرع إىل صاحب السلطان من الذباب إىل قاذوراته .فمىت كان
صاحب السلطان حشوه الشهوات وحشوه األفيون اإليديولوجي
فلبطانة السوء مرتع ،وهلا عند بابه أسواق .لكن من يوفقه اهلل ربه
ووليه ويعصمه من هواه يكشف الزيف من احلق .وقد قال رسول
اهلل صلى اهلل عليه وسلم« :1ما بعث اهلل من نبي وال استخلف
من خليفة إال كانت له بطانتان ،بطانة تأمره بالمعروف وتحضه
عليه ،وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه ،المعصوم من عصمه
اهلل تعالى».
ينبثق االختيار من أعلى إذا كما حتدد املعايري إىل وقت ترشد
فيه األمة ،ويسمي الفكر السوقي هذا مصادرة للحريات ووصاية
على الشعوب ،والشيوعية تنافق أيضا .وما كان على وجه األرض
جتديد وال تعبئة إنسانية إال بالوصاية الرشيدة اجلادة .إمنا ختتلف
وصاية اخلالفة اإلسالمية عن استبداد الطاغوت القومي اختالف
النهار عن الليل ،ألن البطولة القومية تكذب ومتوه وتسطو سطوة
اجلبارين .أما اخلالفة اإلسالمية فهي قوية بقوة املصحف قبل
كل قوة ،وهي تعلم أن احلرب خدعة ،وأن أعظم احلرب هو
908
مصانعة أعداء يف حجرك تريد هبم خريا وتريد هلم نصحا وتكفهم
باليد لتعقلهم عن الفساد .لكن عملها صدق وإخالص ،وجمال
عملها تعمه معاين املسجد ال معاين السوق .واملاء ينفي اخلبث
عن نفسه كما يقول الفقهاء .وإن املاء حياة ،وإن انبعاثنا حياة
من موت القرون .فلن جيد الكذابون يف جملس من يستخلفه اهلل
فيحفظه ويوفقه أذنا صاغية كما مل جيدوا يف جملس من بعثه اهلل
نبيا فعصمه.
ستَنفي الكذابني طهارةُ اإلمام ونورانيته ،ولن تنفق عنده إال
الرجولة الكاملة ،رجولة املسبحني القارئني .قال سيدنا موسى يف
َخي ،ا ْش ُد ْد بِ ِه دعائه﴿ :واجعل لِي و ِزيراً ِمن أ َْهلِي ،هارو َن أ ِ
َُ ْ َ َ َْ ْ
ك َكثِيراًَ ،ونَ ْذ ُك َر َك َكثِيراً، ِ
أَ ْز ِريَ ،وأَ ْش ِرْكهُ في أ َْم ِريَ ،ك ْي نُ َ
سبِّ َح َ
صيراً﴾ .فها قد رأينا األسوة يف ثالثة أمور؛ يف ت بِنَا ب ِ إِنَّ َ
ك ُك ْن َ َ
طلب عون اهلل تعاىل على االختيار ،ويف وظيفة الوزير املشري يشد
األزر وحيمي الظهر ويشرتك يف األمر ،مث يف الرباط العلوي املقدس
بني اإلمام وبطانته ،ألهنم جيتهدون يف األمر العام ليزدادوا قربا من
اهلل ويسبحون ويذكروه كثريا.
إن أهم وظيفة من وظائف املؤسسات الشورية يف اإلسالم
ستكون مثل الوظيفة الكربى للمؤسسات الدميقراطية اجلاهلية،
وهي اختيار رئيس الدولة وإقراره ومؤازرته .وميكن أن نتبني من اآلن
909
نقطيت اجتهاد لتكون شورانا غدا إسالمية ال ترمجة للدميقراطيات.
النقطة األوىل هي أن اختيار اإلمام إما أن يكون يف عنق أهل
الشورى عامة كمثل انتخاب الصديق أيب بكر ،أو يكون عهدا
من اخلليفة املائت كما كان عهد الصديق للفاروق ،أو يوكل
االختيار إىل فئة من أهل احلل والعقد دون اآلخرين ،وذلك فعله
الفاروق رضي اهلل عنه .فكل ذلك سنة .وأهم ما يف هذه السنن
وأكثرها إخبارا عن طبيعة الروابط الروحانية بني أجيال املسلمني،
أن اخلليفة املائت ،الرجل الكامل النوراين على بصرية ،ميكن أن
خيتار خليفة من بعده يقبله املسلمون فيبايعونه باستفتاء ،أو
يردون أمرهم إىل الشورى فهي أسبق.
والنقطة الثانية يف مزاولة الشورى لوظيفتها الكربى ولسائر
وظائفها اليت يتميز هبا اإلسالم هو التحرر من العقدة املوقوتة.
فإن كل عهدة تعهدها لعامل مؤمن يف احلكم أو الشورى ،ويف
النشاط العام أيضا إمنا هي ميثاق جار حيده يف كل حلظة طوارىء
اإلخالل بالواجب أو العجز الوظيفي .ومسألة التعاقب على
احلكم درس نستفيده من العقد الدميقراطي دومنا حرج.
العقلية اجلاهلية تبين أنظمتها على املالحظة العلمية ،فهي
تعرف أن االستمرار يف احلكم مفسدة ،ألن من طال به األمد يف
السلطان كان أميل للتجرب والظلم ،فلذلك توقت والية احلكام
910
واملنتخبني .ويرتتب على ذلك أن احلاكم واملستشار ال يتفرغ
ملزاولة عمله أبدا بل هو يرتقب ميعاد االنتخاب ،ويشل إرداته هم
إرضاء املنتخبني لكي يعطوه ثقتهم املرة بعد األخرى .وجيب أن
يلغي اإلسالم هذا ،وأن جيعل كل والية ابتداء من اخلالفة العظمى
والية قابلة لإللغاء يف كل حلظة بشروط نكلها للفقه الدستوري
تضمن االستقرار وال تربر األهواء املتالعبة .ومثل هذا ،الوظائف
العامة اليت تنظمها اجلاهلية حبيث تكون غري موقوتة وال مضبوطة،
فكل من وظف يف أمر من أمور املسلمني جيب أن يكون التوظيف
عقدة مبايعة تبطل إن أخل املوظف بشرط من شروطه دون ارتباط
بزمنية فرتات االنتخاب.
911
السلطان
يصرخ احملرتفون بأن للشعب حق كذا وكذا ،ويزعمون أهنم
بامسه يتكلمون ،وهم واهلل كاذبون ،فقد تقايأهم املسلمون منذ
خربوا فسولتهم وذئبيتهم .ويصرخون بأن عصرهم عصر حرية
واستخالص للحقوق فهم ال يقبلون شورى ممنوحة .وقد أفل
جنمهم ورب الكعبة وذهب اهلل بنورهم.
إن القوة والشورى كرامة اهلل للحكم اإلسالمي .إنه ميسك
الزمام بقوة ليخاطب املرتفني بقوة السلطان اليت حيرتموهنا حىت
يطأطئوا الرأس ويسمعوا للقول احلسن ودعوة اخلري ،إنه يرث فتنة
مزمنة ويرث صراعات وقودها األمة املستضعفة ،ودهاقينها من
بيدهم القوة من هذه «النخبة» املثقفة احملتكرة للحكم واحملتكرة
للمال واجلاه .وبني األمة وبنيها املتنكرين لإلسالم نفور شديد،
وبني هؤالء ومنافسيهم يف الرأي والغنائم حقد .فال يتصور أن
يستجيب املرتفون لدعوة اإلسالم وال أن يقبلوها كما تستجيب
األمة ،وال يتصور أن يتضامنوا مع حكم يأتيهم مبا ال يعلمون
وبشجاعة ال يعهدوهنا .أليس أهنم فرغوا يف أنفسهم أن اإلسالم
خرافة بائدة ،وأن شعارات اإلسالم ما تصلح إال ملهاة تنبذ
للشعب اجلاهل املتخلف؟
912
قوة السلطان ووازعه هو اجلامع هلذا الشتات .واحلزم يف ضرب
الالعبني وزجر املخربني ضرورة لصاحب العزمية املاضية.
لن يكون قطر االنبعاث غداة اإلسالم صفحة بيضاء كما
يقول ماو عن صينه .بل إن بني الناس خالفات مذهبية وعادات
متصلة بالعقائد الضالة املتأصلة يف جسم األمة .وإن من الناس
راقدين كساىل ال ترجى منهم حركة ،وآخرين تعفنت ضمائرهم
حىت خييل أن البرت الكامل هو وسيلة تطبيب األمة وإعداد الصفحة
البيضاء اليت تستأنف إسالما بني قوم طهروا من عدوى الشلل
وعدوى الكفر .لكن اإلسالم رفق ال عنف ،والقوة العازمة املاضية
ينبغي أن تكون مشرط الطبيب ال يبرت كلما أمكن اإلبقاء.
إن قوة السلطان حتمي القوانني وتنمع من ختريب األعداء.
فالقانون هو األساس وقبول األمة له شرط سابق إلمكان تطبيق
القوة لتكون نظاما ومجعا .وبعبارة أخرى فالدعوة اإلسالمية حني
تصل إىل احلكم تدعمها استجابة املؤمنني من بني هذا اخلليط
املفتون يتبعها بالتدرج املتئد الثابت اخلطى ال بالقفز فرض الشريعة
ومحايتها بقوة الوازع السلطاين .ومبا أن األمة يف جمموعها أمة
صدقها الدعوة وبرهن عن ِصدقه ،فلن يكون مسلمة تليب َمن َ
استعمال القوة نوعا من اإلكراه االنقاليب .اإللزام اإلسالمي يتشكل
يف طائفة من رجال احلسبة ويف اجلند املتطوع لليقظة العامة.
913
ووراء كل هؤالء ،يسندهم ويعضدهم ،مشاركا يف النصيحة ،كل
املسلمني املتضامنني على إسالمهم .وسيبقى على اهلامش هذا
الزبد الغثائي املثقف بثقافة اإلحلاد بعد أن تنتزع منه زبدة األخيار
من رجال العلم والثقافة واحلكم .يف االنقالبية تتعاور السلطان
فتية ال صلة هلم باألمة مطلقا وإن كانوا من بين جلدتنا ألهنم ال
يدعون إلسالم ،وإن دعوا فدعوهتم ظالم ال يبني .وأما استبداد
ك للسلطان باأليدي املؤمنة يف خدمة اإلسالم الرتبوي فهو َم ْس ُُ
هدف واضح ومقصد وغاية يعرفها املؤمنون وهتفو إليها قلوهبم
وينكرها الذين يف قلوهبم مرض.
ذكرت احلسبة ورجاهلا ألشري إىل االختالف اجلذري بني النظام
البوليسي والنظام اإلسالمي .احملتسب وأعوان احلسبة ينتمون
ملؤسسة إسالمية صرف ،فهي حماسبة عامة على السلوك اإلسالمي
يف كل امليادين ،إهنا النصيحة املنظمة ،وإهنا اليقظة السلطانية اليت
ينبغي أن ختدمها وتؤيدها اليقظة العامة .النظام البوليسي حيارب
الرأي املخالف ويقتفي أثر املنافسني السياسيني ليقطع دابرهم،
ويتجسس على كل حركة ال تسري يف ركاب االستبداد .أما احلسبة
فوظيفتها أمشل وأعم ،وهي أنظف أيضا ،بعد املرحلة االنتقالية،
حني يتعلم املسلمون جمافاة األساليب البوليسية الفظة وممارسة
النصيحة بيقظة أكثر وحزم ورفق معا.
914
إن األمر العام والنظام العام ،سيما إن كان نقلة بعيدة كنُقلتنا
من الفتنة اجلاهلية إىل احلكم اإلسالمي ،لن يقوم إال على السلطان
اليقظ الشديد ال يتساهل يف ذرة .وهنا تكمن أخطار االحنراف
العديدة الالصقة بطبيعة اإلنسان .هناك التجهم الثوري والعنف
الثوري الذي يتبع كل تغيري جذري .فقد كانت اجلهامة والعنف
بعد ثورة روسيا أقوى من أن تعدهلما حكمة لينني ودهاؤه .وقد
تصرف التنظيم بعد انتصار الثورة تصرفا وحشيا أدى سريعا إىل
االنقطاع بني العمال يف القاعدة وبني رجال احلزب .وما مضت
سنتان بعد الثورة حىت كانت روسيا قد خربت خرابا شامال .كان
من عوامله احلرب واحلرب الداخلية ،لكن أهم عامل ،بل والسبب
األول يف احلرب الداخلية هو التسرع والعنف الفظ .واخلراب
الذي حلق بروسيا نوع من جرد األخطاء ومتهيد الطريق الستئناف
الكتابة على الصحيفة البيضاء .لكنه بيس األسلوب ،وقد كانت
روسيا يف سنوات 1921و 1922متاهة ميوت الناس فيها جوعا
ويسعى يف شوارعها األطفال املشردون « »bezprisonieويوزَّع فيها
حساء اإلحسان…األمريكي.
وما نسيت اإلنسانية تلك املاليني اليت سفك دماءها ستالني
اجلبار ،وال الفوضى واجملاعات املطردة يف بداية كل الثورات
الشيوعية ،حىت يف بر الصني بعد إخفاق «القفزة الكربى» .وال
915
يزال النظام الروسي وغريه من األنظمة الشيوعية نظاما يستند على
البوليس السري .ويذكر الناس أن تربية الثورى الصغري من األجيال
وليدة الثورة يبدأ بتعليمه كيف يتجسس على ذويه ليفضح كل
احنراف عن خط الثورة .ومل يكن ذلك خاصا بالعهد الستاليين،
وإن حكماء الصني الثوريني ينفون أن يكون يف بالدهم بوليس
سري ،لكن من يدري لعل هذه اليقظة العامة ما أساسها إال
تعميم للتجسس وتصعيد إديولوجي للتضاغط االجتماعي؟
يصحب الثورات الشيوعية إعصار اجتماعي شديد ،ألن
رجال الثورة يستعجلون أمرهم ،وثورهتم أساسها نزع امللكية،
فيلقون متنعا شديدا ومعاكسة وختريبا ،وتقل األقوات وتستأصل
تعب الثورات أهوال البداية إال باملضاء
طوائف من الناس .وما ُ
والعزم الذي ال يرتد أبدا ،فإن ارتد فإمنا هي مراوغة .وكانت
حكمة الصينني هونت من هول اإلعصار كما هون منه حجم
احملرومني وضآلة عدد املالك وفداحة ظلمهم املاضي.
أما اإلسالم فال ينزع ملكية ،لكنه ينزع اإلنسان بنفسه ويهيئه
بالرتبية أساسا ،لسلوك يتعارض متاما مع سلوكه املألوف يف زمن
الفتنة .فاإلسالم يطلب من الناس أكثر مما تطلبه الثورة ،بيد أن
لب السلوك اإلسالمي ناحية ال تصل إليها يد السلطان ،إمنا
تصل لربهان الصدق العملي .فهل يقتصر السلطان اإلسالمي
916
على مراقبة السلوك الفكري االقتصادي أم يتسلط على الضمائر
وحياول أن يسرب أغوارها ليعرف إخالصها للقضية اإلسالمية؟
وبعبارة أخرى ما الفرق بني احلسبة الناصحة الواضحة اليت
تسندها اليقظة العامة وبني اجلاسوسية البوليسية؟ وهل يستغين
اإلسالم املنبعث عن شبكة جتسس؟ ال شك أن من األخطار اليت
يتعرض هلا النظام اإلسالمي خطر املغاالة يف الدين حىت يشبه
األمر ما كان يف زمن التفتيش الكنسي .وما أمر اهلل بالتجسس
بل هنى عنه وهنى عن النميمة والغيبة ،وزجر رسول اهلل صلى اهلل
عليه وسلم سيدنا أسامة ملا قتل رجال تلفظ بالشهادة وغضب
عليه أن قتل رجال مسلما .فلما أبدى اسامة ظنه أن الرجل
قاهلا نفاقا قال املعصوم صلى اهلل عليه وسلم « :هال شققت
على صدره !» .فال جمال وال إمكان للتجسس على الصدق
إال من مراقبة براهينه العملية .فكل من صلى يف املسجد مع
اجلماعة وأدى زكاته وصام رمضانه ،واحرتم السلوك اإلسالمي
العام يف ظاهره فال سبيل عليه .وتبقى النصيحة تضامنا عاما
لفضح كل احنراف وزجره وقتاله ،بشرط أساسي هو أن ال تعترب
املذهبية وممارستها احنرافا وإمنا االحنراف حماربة املذهب اآلخر.
وأعين بالطبع املذاهب اإلسالمية الطاهرة من الشرك والباطنية،
كاملذاهب الفقهية والشيعة غري الرافضة وال املبهمة ،والصوفية
917
تنزع عن قتاهلا للوهابية ،وهذه تكف عن تكفريها للناس.
وقد كانت الثورة الوهابية درسا سلبيا لكل عمل إسالمي
يأيت بعدها .احندر علماء جند بأفكارهم احلرجة املكفرة واهنالوا
على مساكني هتامة كما اهنالوا على املبتدعة يف احلرمني الشريفني.
وكان سلطان الوهابية دواء ناجعا للفوضى وقطع الطريق ،لكنه
كان أيضا احتالال دينيا ضيق العطن قصري النفس .فمن محالت
األمر باملعروف والنهي عن املنكر الوهابية ،ومن كسر الطنابري
واملذياعات ،مل يبق اليوم إال أسى وحسرة وإال سوق فاضحة
مفضوحة لبضائع اجلاهلية الباذخة تباع يف جوار بيت اهلل ومسجد
رسوله صلى اهلل عليه وسلم .فإن كانت الطنابري منكرا يف احلرمني
فهو كان وال يزال منكرا خاصا ،واملنكر االقتصادي املخرب لألمة
ال تبصره أعني املتشددين يف الدين.
كان سيدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شديد احلذر كثري
السؤال عن الناس ،وكان عمر بن اخلطاب أعلم الناس مبا يف
الناس ال ختفى عنه من أمور أمته خافية .فكذلك ينبغي أن يكون
احلكم اإلسالمي املريب ،وكذلك ينبغي أن تبقى اخلالفة على مدى
األيام .لكن جيب أن ال ينحدر اإلطالع على الناس وأحواهلم إىل
تشاؤم جيعل من مبادئه االعتماد على األرغام وسيلة لتغيري األمة
وأخالقيتها وعقليتها .فليست الرتبية هي الردع ،بل إن الردع مييت
918
وال حيىي إن كان وحده الوسيلة ،ويثبط وال ينمى.
اإلطالع على الناس وأحواهلم يكشف حقيقة ذئبية الناس
وقلة الصاحلني .وإن «الناس كإبل مائة ال جتد فيها راحلة» كما
قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ،ونظرة التشاؤم هذه قد تستبد
باحلاكم فيزاول سلطانه إرهابا وقمعا .لكن من ينصبه املسلمون
حاكما لن يرعيه اهلل رعية إن مل يكن هبا رفيقا .وقد كان رسول
اهلل يقول « :أنا نيب الرمحة ،أنا نيب امللحمة» وكان يقول « :أنا
الضحوك القتال» .1فكان عليه الصالة والسالم جامعا باسم ربه
مسبحا له نور وبصرية وله رفق وتؤدة ومست .فكان يعلم من وحي
اهلل إليه من هم املنافقون فال يفضحهم ،وإن افتضحوا بأعماهلم
سرتهم وعفا عنهم .وال متنعه هذه الرمحة وهذا الرفق من املضاء يف
قتال عدوه ،ويضرب كل من أبدى له صفحة وجهه.
سيطلع علينا احلكم اإلسالمي ،فهل يلزم الناس بالطاعة
وحدها ،أم يفرض التطوع إن مل يتطوع من الناس من يقومون
بفرض الكفاية ؟ وما حد الطاعة؟ وما حد التطوع؟ لقد تركت
لنا الفتنة األوىل درسا خالدا يف معقد االحتالل ،بل قل يف سر
االحنالل ،حني تفاقم اضطراب الذئاب اإلنسانية وألن مقبض
العصا السلطانية يف يد خليفة رسول اهلل سيدنا عثمان .فقد لبث
919
رضي اهلل عنه مرتددا بني حدود الدعوة ووازعها وبني حدود القسر
السلطاين حىت قال قولته بعد أن الت حني مناص « :ملا يزع اهلل
بالسلطان أكثر مما ال يزع بالقرآن».
وما متاسكت عصا التأديب يف اليد الكرمية ،فتداعت الدعوة،
وما تعلم املؤمنون يومها أن يرتكوا لألمة أمر املال شورى بينهم
ليستبد اإلمام بأمر اهلل .وقد كان اختلط أمر اهلل بأمر الناس،
وكان ظهر االجتهاد واختالف الرأي بني الصحابة دون أن يكونوا
استعدوا لتنظيم خالفهم على إثر صاحب الدرة والعزمية احلادة
القوية سيدنا عمر بن اخلطاب .هل هذا املال الذي جيب أن
يساس لصاحل املسلمني هو مال اهلل أو مال الناس ؟ وهل يدود
الناس عن حظرية الغنائم العامة قولة اخلري أو سيف السلطان.
وبعبارة أخرى هل يكون اإللزام يوما ما خربا بعد عني إن ترىب
الناس والتزموا خط العدل؟ وهل ينفصل حامل العصا املؤدبة عن
قضايا املال فيتعاىل عن التهمة ويتمكن من ضبط األمر وإحكامه،
أم تفرض طبيعة احلكم أن يلصق الناس مطالباهتم وأسباهبا باحلاكم
صاحب العصا ؟
كل هذه األسئلة كانت تطرحها منطقية الفتنة الكربى كما
يطرح اليوم السؤال الومهي :هل ميكن يوما أن ختتفي الدولة
من حيث كوهنا أداة قسر ؟ وإن الفقه القانوين الدستوري الغين
920
بتجاريب األمم وحكمة التاريخ يفتح لنا أبوابا لالجتهاد كي
يكون «االستبداد الرتبوي» مستندا على الوازعني دون أن يكون
اإلمام رجل اخلطة االقتصادية ،ودون أن ينقص ذلك من هيمنته
على كل صغرية وكبرية من حيث التوجيه واحلكم الفاصل عند
النزاع .فما كان يدري موالنا عثمان أين تنتهي صالحياته ،فلذلك
ضعف .وكان عمر خليفة هلل ال حد لسلطانه ،فنجح وكذلك
يكون إمامنا غدا .حاور موالنا عثمان أبا ذر حني نازعه ،قال
أبو ذر « :إنه ال ينبغي أن يقال مال اهلل ،وال ينبغي لألغنياء أن
يقتنوا ماال» فقال « :يا أبا ذر ،علي أن أقضي ما علي وآخذ
ما على الرعية وال أجربهم على الزهد .وأن أدعوهم إىل االجتهاد
واالقتصاد» .1
ماذا على اإلمام وماذا على الرعية ؟ هذا ما كان فقهنا
املنهاجي يبحثه ،ومبقتضى حمو عقلية املطالبة وإبداهلا بالتطوع
والطاعة اجلهادية يفرض اإلمام بالقرآن والسلطان االقتصاد
واجلهاد فرضا.
1الطربي
921
توحيد املسلمني
«إمنا يستجيب الذين يسمعون ،واملوتى يبعثهم اهلل مث إليه
يرجعون» .إن األمة ال تسمع مكاء القوميني وال تصدية احملرتفني
فلذلك ال تستجيب وإمنا ختضع للطاغوت .وكل األنظمة القائمة
يف دار اإلسالم اليوم أنظمة إرهاب وقمع ال استثناء من ذلك
البتة 1.وعلى سطح األمة يطفو الزبد الغثائي جمتثا غدا إن شاء
اهلل من فوق األرض ما له من قرار .فعندما تنبعث الكلمة الطيبة
وينشر لواء اإلسالم وتنصب خيمة اجلهاد ويصلت سيف سلطانه،
ستفرح قلوب املؤمنني وستكون مشاركتهم يف ممارسة اإللزام
والنصيحة مشاركة من انبعث من موت ،فهو على ما فاته حزين
وعلى الفرصة الثمينة اليت بيده حريص .إن احلاكم اإلسالمي أخ
حمبوب ألن قلبه فيه التوحيد وفيه اإلميان فهو يتجاوب مع قلوب
السبعمائة مليون مسلم ويتناغى معها .وإن سيف العدل سالح
حتركه يد الرمحة ودعوته الصادقة الالحقة شعت القطر اإلنبعاثي،
وسيعطي اهلل أحبته وأولياءه الذين انربوا حلمل رسالته رفقا وتؤدة
كما يعطيهم مضاء وقوة وعزما ال يلني وال يتصاحل على أنصاف
احللول.
1مث جاءت الثورة اإلرانية اإلسالمية .هي اآلن خترج من خماضاهتا امليالدية الصعبة.
922
وإن لنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بشرى أن اخلالفة
على منهاج النبوة سريضى عنها ساكن األرض وساكن السماء،
وستمطرها السماء وتنبت هلا األرض وخترج هلا من بركاهتا .ذلك
من تزكية اهلل القوى العزيز للجهاد املشمر الدائب الذي يقوده
املؤمنون يف كل ميدان ،يبدأون يف كل يوم عند الفجر يف صف
للصالة ،فيبكر العاملون اجملاهدون ألرضهم خياطبوهنا باجلد
فتستجيب هلم بأمر رهبا حىت يعمهم اخلري.
األمة اإلسالمية متخلفة يف اقتصادها فذلك ما يهيمن على
وعيها ،وإهنا مجيعا عند إعالن الدولة اإلسالمية سترتحك حتركا
عاطفيا على سطحه شك القادة املنحرفني والضالني ويف أعماقه
فرحة كل مسلم مستضعف .لكن هذه احلركة العاطفية تتحول
اهتماما جادا يعقبه وشيكا حرية املفتونني الضالني وهتاويهم
وخزيهم عندما تبدو طالئع النصر اإلسالمي يف كل ميدان ،خاصة
يف البناء االقتصادي اجملدد املبتكر الذي يتعلم من عطاء اهلل غري
احملظور لكن يسري على غري مثال سابق وينسج على منوال إسالم
منهاجي متكامل ،يومئذ فقط ميكن لكل قطر حترر وقامت فيه
دولة القرآن أن يدعو لتوحيد املسلمني ،وميكن أن يطرح للنقاش
واإلعجاب حجج صدق اهلل يف عطائه ملن صدقه عز وجل يف
التعرض ملوعوده.
923
من زعمائنا اآلن من يقيم دنيا اهلتافات ويقعدها يريد وحدة
بني دول اإلسالم القومي االشرتاكي .وجيتمع رجال احلكم
والسياسة يف مؤمتراهتم ليتدارسوا وسائل توحيد املسلمني .وهم
جيهلون اإلسالم ويتصورونه رباطا قوميا وعصبية يكاثرون هبا أهل
الغلبة من أعدائهم .إهنم رجال العقالنية السياسية وأصحاب
االحرتاف واملماطلة واملراوغة من ال ييكيني قوميني وعشائريني
تقليديني .بعد أن ينتهوا من تنازعهم على الزعامة والرئاسة يلدون
أفكارا اقتصادية تبقى دائما يف حيز األحالم ،ويتعاهدونا على
النصرة والوحدة ،مث ال يكون من مؤمتراهتم طائل .وكيف يتآلف
اإلسالم مع النيات القومية والنوايا املخادعة؟ واقرأ فشل اجلامعة
العربية يف مذكرات القشريي ففيها البالغ!
ولعلمائنا األفاضل مؤمترات يسعون فيها لتوحيد املسلمني
ال سيما بعد أن غُ ِزي املسجد احلرام بالقدس واحتل وامتنهت
حرماته .ولعلمائنا غرية شديدة على اإلسالم تسهل عليهم إن
شاء اهلل نبذ اخلالفات املذهبية .وإهنا خلطوة ال يستهان هبا .جيتمع
علماؤنا الكرام فال يعتمون أن يتفقوا على وجوب جهاد العدو
الصهيوين وتوحيد املسلمني لتعبئة اجلهاد ،ويرفعون توصياهتم
للقادة املراوغني املتخاذلني ،فرتمى تلك التوصيات ويرجع العلماء
ألمتهم باألفئدة الكئيبة يشكون بثهم وحزهنم إىل اهلل .ومن خلفهم
924
ديدان القراء يبصبصون للزعماء والطواغيت ويكذبون على األمة
باخلطب املدنسة بنياهتم الدودية.
القادة على رقاب األمة ال يستطيعون مجع األمة ألن أفئدهتم
هواء ال إميان هلم ،وألن وعيهم املمسوخ املصنوع املرتجم ال يرى
يف البالد إال قوما يسخرون ويعتسف هبم .هم الدخالء يف األمة
وبيدهم قوة العقل وقوة البطش ،واألمة املمثلة يف علمائها أمة
عاطفية تتكلم بلسان العاطفة واإلميان ،فال حيسن الزعماء إال
تقليدا قرديا للشعارات ،وإن بكى العلماء وبكى معهم املسلمون
لضياع األمة وفتور اإلميان ،هتف الزعماء بشعار اإلسالم واإلميان
وعموا على األمة اجلاهلة احملرومة كل معلم حنو استعادة شخصيتهم
وعزهم بإمياهنم.
فإذا يئس علماؤنا من الزعماء ،كما كان يئس منهم حممد
عبده بعد أن قضى عمره يف مداراهتم ،فكروا كما فكر يف إنشاء
جامعة إسالمية تريب لألمة أجياال صاحلة ،وعولوا على سلوك
الطريق الوعر الطويل بادئني من البداية .ففي ظل الكفر اجملوسي
باهلند تزدهر املدارس اإلسالمية وتؤدي مهمتها يف تربية املسلمني
ومل شتاهتم وإيقاظ روح اإلميان فيهم ما وسعها ذلك ،وما تركها
الفاتن اجملوسي .أما يف بالد اإلسالم القومي فجامعاتنا اإلسالمية
حتتضن علماء خملصني ومن بينهم آخرون أدعياء منافقون خيادعون
925
اهلل واملسلمني ويربرون القومية ويعبدون الطاغوت .ويا حسرتا
على األزهر الشريف ،معقل اإلسالم ،تربز منه رؤوس الشياطني
من أمثال الذين عبدوا البطل القومي ومتسحوا حبذائه« .فويل
للذين يكتبون الكتاب بأيديهم مث يقولون هذا من عند اهلل ليشرتوا
به مثنا قليال ،فويل مما كتبت أيديهم وويل هلم مما يكسبون !»
ويف العامل اإلسالمي اليوم مشروعات تدرس لتأسيس جامعة
اسالمية توحد الفكر اإلسالمي .وما من زعيم حامل لشعار
اإلسالم كما حيمل األفاكون شهادة الزور مسخا ظاهرا على
وجوههم ،إال ولديه مشروعه لتأسيس جامعته اإلسالمية .ما منهم
إال من يطلب الرئاسة ويسابق منافسيه لتزعم الوحدة اإلسالمية
ولو يف صورة جامعة .وإن جامعة اسالمية ينفق عليها ويوجهها
الطاغوت القومي ملؤسسة مدجنة ،اغرت هبا علماء املسلمني
وشكلتهم حبائلها فسرعان ما سيكتشفون أن الطبقة املرتفة يفسد
يف يدها كل شيء ،فما بالك باملشروع اجلليل الذي هو مجع
املسلمني وتوحيدهم.
وعلى هامش لعب القادة وسذاجة العلماء الصادقني تتم
لقاآت شعبية بني املسلمني ،جيتمعون; أبيضهم وأمحرهم ،مرة يف
السنة حول بيت اهلل احلرام .جيتمعون على اإلميان بالغيب ،يلثمون
احلجر األسعد ويطوفون بالبيت احلرام ويهرولون بني الصفا واملروة.
926
فاإلميان بالغيب جيمعهم ويفرقهم العقل .لكن هذا اجلمع حول
الغيب وهذا اإلميان بامليقات واإلحرام والوقوف ورمي اجلمرات
اجتماع شكلي ذري .ويف وسط مليون ونيف من الناس يقف كل
حاج بعرفات يطلب خالص نفسه وأهله ،فإن دعا للمسلمني فإهنا
دعوة عابرة ال ترتجم وعيا مجاعيا وال نية جهاد مجاعي .وجيتمع
احلجاج يف بيت اهلل احلرام فال مينعهم ذلك من اإلفرتاق عند
الصالة ،فإن من الطوائف الضالة من ال يصلي بصالةاجلماعة.
ويفرتقون الفرقة الكربى حول قرب النيب صلى اهلل عليه وسلم،
فاألمة يف جمموعها حتبه وتعظمه وتوقره وتعزره وتتوسل إىل اهلل به
وتتشفع كما أمرها اهلل ،وطائفة يكفرون أحباب رسول اهلل وال
يرون يف الوجود مهمة غري التكفري واالهتام بالشرك.
كل هذا ألن االجتماع على الغيب يف املستوى الشعيب ،إن
كان إميانا يقبله اهلل ،فإنه ال يكفي ليكون آصرة مجع وتوحيد حىت
يفضى اإلميان بالغيب إىل االهتداء بالقرآن.
وجيتمع املسلمون ،خواصهم من أهل العزم واهلمة ،يف مساجد
دعوة رجال التبليغ وأمثاهلم .إنه اجتماع على اإلميان واهلجرة والسنة
واالقتصاد والتعارف .لكنه اجتماع تظاهر وجهر باإلميان ودعوة
فردية لغياب الفكر والتخطيط واملنهاج العملي .وما كان األمر
ليكون غري ذلك ،فإن اهلند مهد دعوة التبليغ هي بالد اجملوس،
927
وكل حماولة للتفكري اإلسالمي يعده الكافر سياسة ويضطهد عليه.
الوحدة يف مساجد التبليغ وحدة حتضر آحاد املسلمني من شىت
اآلفاق ،ويتظاهرون بإسالمهم وإمياهنم ،وينفع اهلل هبم األمة.
وعندهم مبدأ أساسي هو ترك ما ال يعنيك .وهذا الرتك قد خيفي
ما ال يعلمه إال اهلل من عدم اإلهتمام بأمور املسلمني ،كما قد
يكون اقتصادا وصمودا حنو اهلدف واملقصد والغاية .وال نعتب
على رجال التبليغ إن كانوا يصرحون بأهنم ال حيبون التخطيط وال
الفكر املخطط اعتمادا على ما حيدثه اهلل هلم; تلك عفوية وتواكل
قدميان فينا موروثان .وإن رجال التبليغ بصراحتهم وصدقهم ال
يدعون ما يدعيه القادة الكاذبون من مشولية دعوهتم ومن اخالص
لقضية اإلسالم واملسلمني.
هذه الوحدة الشعبية يف احلج ومسجد التبليغ ،وتلك احملاوالت
املؤمترية نبضات غائضة للشعور اإلسالمي النائم الضبايب .ولن
تكون لنا وحدة إال بقيادة دعوة منظمة تؤمن بالغيب وتعبد
اهلل وتسبحه ويقرأ باسم رهبا جامعة الربانية من أطرافها ،عاملة
مربية رفيقة ،ليس مطية العاطفية الساذجة وال ضحية العقالنية
واالحرتاف.
قلنا يف فقرة مضت إن احلاكم اإلسالمي ينبغي أن ال يكون
رجل اخلطة االقتصادية .قلنا ذلك لسببني اثنني; أوهلما أن ثنائية
928
الدعوة والدولة ،وضرورة مجع الوازع السلطاين مع الوازع القرآين يف
يد واحدة قوية ،تقتضي أن يرتك اإلمام اهلدف االقتصادي ومال
املسلمني شورى بني املسلمني ،وأن يبقى هو مشرفا من أعلى على
احلركة كلها ،مبكان احلَكم اليقظ الذي تفزع إليه كل اخلصوم،
ذلك أدعى أال يضطرب السلطان يف يده إن أصبح خصما يف
النزاعات اليومية .والسبب الثاين هو أن احلاكم اإلسالمي جيب
أن يتفرغ للمقصد اإلمياين والغاية االحسانية ،واملقصد اإلمياين هو
تربية مجاعة مؤمنة تربط بني أعضائها والية املؤمنني ،حتمل مشروع
توحيد األمة عرب أقطارها .معىن هذا أن يتفرغ للدعوة وتنظيمها
وإشعاعها على األمة قاطبة .والغاية اإلحسانية هي مرياث الدعوة
احملمدية الكاملة ،فاإلمام يدل املسلمني على ما دهلم عليه اخللفاء
الراشدون من حمبة اهلل والتقرب إليه والتماس الزلفى لديه ،وحمبة
اخللق أمجعني وتبليغهم رسالة رهبم.
اإلمام إذن جامع األمة وقارشها بإذن ربه ،إنه ال يرتنح على
تلك املقاعد الزعامية يف املؤمترات يفتات على املسلمني ،بل هو
جليسهم كل يوم يف مسجد جامعته; إذ جيب أن يكون له جامعة
تعلم وتريب ويفد إليها كل مؤمن يؤهله اإلميان والفكر واالستعداد
حلمل دعوة التوحيد وتنفيذها .وإن اإلمام يبلغ املسلمني عامة صوته
إذا خطب وأثر سلوكه يف العدل والنصيحة هلل ورسوله واملسلمني،
929
وأثر فضل اهلل على أمته به ،فيحبونه وتنفتح قلوهبم وعقوهلم ملعاين
الوحدة ،فيشتاقون إليها ويفهمون شروطها ويتأهبون هلا جبد،
ألن الوحدة ال ترجتل وال ميكن أن نطوي قرون الفتنة بني عشية
وضحاها.
حول شخص اإلمام سيتم مجع املسلمني من فتنة كما اجتمع
اإلسالم األول حول شخص الداعي إىل اهلل الرسول من جاهلية.
إهنا وحدة عاطفة وثقة باإلسالم جمسمة يف الثقة برجل اإلسالم.
وعلى أساس الثقة واحملبة تتكون وحدة فكرية ودستورية وجغرافية
يف إباهنا .ذلك بعد توحيد األجيال ،وتوحيد العقليات وتوحيد
الوجهة وتوحيد االجتهاد ،وتوحيد حرية املذهبية مبا ال ينايف صريح
النص ومبا ال يتناىف واهلدي القرآين وحمبة الرسول الكرمي وآل بيته.
أال وأن أعظم عرقلة يف وجه الوحدة هي هذه القومية النتنة
هي كانت فرقتنا وأوهنتنا وال تزال .وإن يف دار اإلسالم رجاال
ألواهنم خمتلفة ،هم ذخرية اإلسالم غدا وعماده ،جيب أن يهاجروا،
من كان له منهم غناء ،إىل اإلمام يعزرونه وينصرونه .وكما كان
زعماء القوميات يف أوائل الفتنة يكرهون «املوىل» الذي مساه
رسول اهلل بسم احملبة املتبادلة واملناصرة ،فأحالوها حقدا ومعرة،
فنحن غدا نبتهج ومنرح ونفرح إن اجتمع اخواننا املؤمنون على
صعيد الوالية ،كلهم موىل لصاحبه وموىل للمسلمني .وقد وصفوا
930
لنا داءهم القومي القدمي ،فإن ذكرناه اليوم فضحنا الوباء الذي
ال يزال على حاله ،وكرهناه لنتقاياه ونبغضه .روى صاحب العقد
الفريد ما يلي ،كما روى غريه مثل ذلك عن هشام بن عبد امللك.
وهي روايات تنتشر خزي الشعوبية القدمية ،وننشرها حنن لنخزي
الشعوبية املعاصرة .ومن أحب أن يعرف خمازي القومية احلديثة
فعليه مبذكرات أحد أبطاهلا :الشقريي .قال ابن عبد ربه.
«قال يل ابن أيب ليلى :كان عيسى بن موسى شديد العصبية
فقال يل :من كان فقيه العراق ؟ قلت :احلسن بن أىب احلسن.
قال :مث من ؟ قلت :حممد بن سريين .قال :فما مها ؟ قلت :
موليان .قال :فمن كان فقيه مكة ؟ قلت :عطاء بن ايب رباح،
وجماهد ،وسعيد بن جبري وسلمان بن يسار .قال :فما هؤالء ؟
قلت :موال .قال :فمن فقهاء املدينة ؟ فقلت :زيد بن اسلم،
وحممد بن املنكدر ،ونافع بن أيب جنيح .قال :فمن هؤالء؟ قلت
:موال .فتغري لونه مث قال :فمن افقه أهل قباء ؟ قلت :ربيعة
الرأي ،وابن أىب الزناد .قال :فما كانا ؟ قلت :من املواىل ،فاربد
وجهه ! مث قال :فمن فقيه اليمن ؟ قلت :طاووس وابنه وابن
منبه .قال :ومن هؤالء ؟ قلت :من املواىل .فانتفخت أوداجه
وانتصب قائما! قال :فمن كان فقيه خراسان ؟ قلت :عطاء
بن عبد اهلل اخلراساين .قال :فمن كان عطاء هذا ؟ قلت :موىل
931
فازداد وجهه تربدا ،وأسود اسودادا حىت خشيته ! مث قال فمن
فقيه الشام ؟ قلت مكحول .قال :فما كان مكحول هذا ؟ قلت
:موىل .فتنفس الصعداء .مث قال :فمن فقيه الكوفة ؟ فو اهلل لوال
خوفه لقلت احلكم بن عتبة ومحاد بن أيب سليمان ،ولكين رأيت
فيه الشر فقلت :ابراهيم النخعي والشعيب .قال :فما مها ؟ فقلت
عربيان .فقال :اهلل أكرب ! وسكن جأشه».
لقد حررنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من رق اجلاهلية
وخنوهتا وعصبياهتا ،وأوصانا بأن نرتك هذه املنتنة .واهلل أولئك
الرجال املوايل الفقهاء املؤمنون كم قاسوا من طاغوت الشعوبية
العربية .وما تطأنا أقدام اجلاهلية إال لتمكن العصبيات من قلوبنا،
وسيمحوها اهلل عز وجل ويرفعها .لقد ضيعنا معاشر العرب
استحقاقنا حملبة املؤمنني امجعني بضيق قلوبنا وتفاهة أحالمنا ،وإن
مل تنبدوها ويلكم! فإن موعدكم الصبح أليس الصبح بقريب ؟!!
932
الرمحة يف العاملني
س ي ل
َ َ
أ ح ب الص
ُّ م ه د
َ قال اهلل عز وجل للمنذرين ﴿:إِ َّن مو ِ
ع
َ ْ ُ ْ ُ ُ َْ
ِ
يب فـَلَ َّما َجاء أ َْم ُرنَا َج َعلْنَا َعاليـََها َسافِلَ َها َوأ َْمطَ ْرنَا
الص ْب ُح بَِق ِر ٍ
ُّ
ك َوَما ِه َي ِم َن س َّوَمةً ِعن َد َربِّ َ
ضود ُّم َ ارةً ِّمن ِس ِّج ٍ
يل َّمن ُ ٍ ِ
َعلَيـَْها ح َج َ
يد﴾ اللهم اجعله صبح الرمحة مطر الرمحة يغسلنا الظَّالِ ِمين بِب ِع ٍ
َ َ
من أدراننا وجيدد يف هذه البذور الغثائية العفنة حياة وقوة ،وتبعثنا
ربنا رمحة يف العاملني .إن أمرك يا قوي يا عزيز إذا جاءنا بالبشرى
كفيل أن يذل القوميات ويعلي كلمتك احلق ،أنت احلق وأنت
الرمحن الرحيم.
بعث اهلل رسوله حممدا صلى اهلل عليه وسلم رمحة للعاملني،
وكل من سار على منهاجه وعرج لسماء الروح مبعراجه ،فهو
للعاملني رمحة ،وإىل املرمحة يدعو والصرب واجلهاد .الرمحة يف العاملني
وظيفة معطلة ،مل يبق من خريها إال رأفة الرهبان املتبتلني الذين
ابتدعوها ابتغاء رضوان اهلل ،كانوا متبعني روح اهلل ،فلما تأله
من بينهم القساوسة وحرفوا هلم دينهم ترسب رغم ذلك الرمحة
والرأفة .وهم ال يزالون يقولون إنا نصارى ،فنأمتر بأمر اهلل ونفهم
إشارة اهلل ،فهم أقرب الناس مودة لنا .لكن رأفتهم ورمحتهم ختتلط
بالشرك املثلث وال تنجح دعوهتم يف داللة العاملني على الفطرة اليت
933
فقدوها ،رغم قوة التنظيم الكنيسي وغناه ،ورغم وسائله اهلائلة
ورجاله األذكياء العلماء .والكنيسة اليوم يف أزمة شديدة ،وعملها
يف نفس الوقت حيظى باهتمام متزايد من جانب العاملني.
دعوة الكنيسة واحدة من الدعوات اليت تصدع بدعايتها يف
هذا العامل املخبول .الدعوات الشيطانية السحرية ،والشعوذات من
كل فن ولون ،والتنجيم والتزليم .وحىت راكبوا الصورايخ حيملقون
يف األجواء الفضائية يبحثون عن اهلل ،ويصرخ امللحد منهم من
على منربه الفضائي أنه عرب اآلفاق العليا فما وجد هلل أثرا.
إن هذه اإلنسانية معذبة شقية بدوابيتها ،فهي تنتظر الرمحة،
وال رمحة إال من اهلل جاء هبا حممد بن عبد اهلل عليه صلوات
اهلل وسالمه .وإن اإلسالم هو دين املغلوبني املستعمرين .وإنه
كان وال يزال الغرض املنصوب الفرتاء املستشرقني وكيد املنصرين.
ورغم ذلك كله ،ورغم أن أهل اإلسالم ال ميثلون اإلسالم ،بل
يعاكسون وجهته ويهتكون حرمته ،فإن اجلاهليني يرتقبون رمحة
إسالمية تفتح القلوب احلرجة لرجاء مشرق .علمائهم واملؤرخون
يرتقبون أخوة إسالمية ورمحة اسالمية تعوض جهامة اجملتمعات
الكافرة ،كان منهم اشبنجلر وطوينيب وبرناردشو وكثريون .ومن
علمائهم وعامتهم من يعتنقون اإلسالم طالبني راغبني بأهون
اجلهد .قد أسلم منهم على يد رجال التبليغ خلق كثري .ويكتب
934
America إيل أحد املهتدين بأن أمريكا بالد ضياع روحي واسعة
.is a vast spiritual wastlandنعلم ذلك من حركة اإلسالم بني
السود األمرييكيني ،وهو اسالم مشوه يتخذ شكل التنظيم القومي
املعارض .وملا زار حممد خباز أحد مسلمي السود األمريكيني
دار اإلسالم وحج مع املسلمني ،اكتشف اإلسالم احلق ،وألغى
امسه النضايل يف صفوف اإلسالم املشوه «مالكوم إكس» ،ورجع
لبالده يبشره برمحة اإلسالم ،وخيرب قومه أن اإلسالم ال يفضل
األبيض على األسود ،وأن املسلمني يتعايشون ويواكل أبيضهم
األمحر ويصاهره وحيبه ،بل ويؤمره عليه ويطيعه ،حىت قتلوه.
وبقيت مذكراته كتابا جيب أن يتأمله رجال الدعوة اإلسالمية
طويال ،ليدركوا معىن الضياع الروحي الذي يعيشه العامل.
اغرت حممد خباز مبظاهر األلفة واإلخوة بني املسلمني التقليديني
ولعله أدرك أبعاد هذه األلفة وحدودها ،ومع ذلك ورغم ذلك قنع
هبذه األخوة النسبية املظهرية بديال جلحيم امليز العنصري وغابوية
اجملتمعات املستهلكة.
تصور ما يكون عليه األمر يوم تقوم يف األرض دولة اسالمية
حقا ،ويوم جتمع املسلمني على كلمة احلق ،ويوم تكون لنا
أخوة غري حمدودة وال مظهرية .تصور أن لنا معشار الوسائل
اليت مجعتها الكنيسة وجندهتا لدعايتها ،وأن لنا عشر معشار
935
علمائها وجديتهم أن العاملني يروحون منا روح الرمحة ويقبلون
علينا ليتعلموا سالم اإلسالم ورفق اإلسالم .إن سفينتهم احلضارية
تتحطم على صخور اجلهل واجلهالة ،وإن حضارهتم لفي النزع،
يدركون ذلك على مراتبهم وينذر به عقالؤهم .فدعنا من التخيل
وهلموا يا مسلمني نتعلم كيف نصبح أساتذة العامل.
األرزاق حنن أقل العاملني نصيبا منها ،والسالح حنن نشرتيه به
بثمن الغنب مث ال حنسن مسكه بأيدينا ،والعلوم العقالنية لن ننتهي
من تعلمها يف مدارسهم ليوم قريب .فما بقي لنا إال روحانية
املؤمنني ،وقد استأثرنا باللب والصميم إن اكتشفناها ومارسناها.
أما ترى أن اجلاهليني يرتدون إىل البهيمية القذرة املتحللة هروبا
من نظامهم احلضاري القامت ،وسعيا وراء خيال جمنح يف املخدرات
وما إليها ،ال جتتمع هلم راحة الضمري وكرامة اإلنسان ،فيهينون
هذه الدابة اإلنسانية املستهلكة يف عاداهتا ويرذلوهنا ليشرتوا وهم
الراحة ووهم احلرية.
عندما نكتشف امياننا ومنارسه يف الشارع والبيت والديوان
واملعمل ،ومنارسه حيث يرانا الناس مجيعا ،فلن حنتاج حنن أن
حنمل إىل العاملني اسالمنا بل هم يهرعون إلينا ليتعلموه ويقتبسوه.
الرهبانية الكنسية ،وأختها اهلندوسية وما يسري يف الركب الظلماين
من ترهات ،تقرتح على العامل روحية تقتضي انزواء عن العامل أو
936
طقوسا مبهرجة تغر وال تسر .وكل ذلك كان وال يزال نشاطا
هامشيا ظنينا ال صلة له باحلياة.
وإن اسالمنا حياة ،وإن امياننا رمحة ،وإن إحساننا حقيقة
ترتفع باإلنسان لكماله.
لعل ما سردناه من قصورنا يف األرزاق والعلم والقوة يومهك
أن اكتشافنا للب اإلميان ومثرة اإلحسان قد يكون مبعزل عن
الفاعلية يف مزمحة العامل .وما قتله هو أن منافستنا للجاهلية يف
تلك امليادين لن تكون احلافز هلم على قبول دعوتنا ،بل احلافز هو
تغرينا الكيفي الذي ال يتناىف مع إعدادنا للقوة وغزونا لدينا الكم
مبا يتناسب واملبدأ املنهاجي يف االقتصاد.
تعشش يف عقول املسلمني املفتونني آمال لدخول األمة يف
عاملية تعيد لنا اجملد احلضاري ،وخنوة اآلباء واألجداد ،عاملية منتهى
طموحها أن ندخل العصر ونلحق بركب احلضارة املادية .ولنا حنن
رجاء وانتظار ليوم اإلسالم األغر ،يوم نتسلم مرياثنا للخالفة يف
األرض ،ونرتفع عن األماين القومية إىل اهلمة القعساء ،وجمايل
الرمحة العامة اإلجيابية املتعدية .إن هذا العامل لنا ،ومن أجلنا خلقه
اهلل بأرضه ومساواته .فإن وعينا أنفسنا وعيا قوميا ضيقا فما لنا
مرياث إال اخلزي واهلزائم .أما إن وسعت تطلعاتنا العاملني ،وفسحنا
لإلنسان مكانه يف مرياثه ،أىن تكن جنسيته ولسانه وماضيه بشرط
937
واحد هو أن يؤمن مبحمد ورسالته وبأنبياء اهلل مجيعا ويسلك على
شريعته ،فستخلع أنانية كلمة «حنن» رجسها ،وستجمع خلق اهلل
وعياله كفالة اإلميان ورمحة اإلحسان.
قادتنا املضطربون مههم بالليل والنهار أن يفسح هلم جملس
على مائدة اللئام .إهنم يبغون املشاركة يف عاملية حقيقتها التقليد
والتبعية والتلمذة اخلانعة ،وعليها غاللة صفيقة من نفاق األصالة
ومنكر القومية .إهنا عاملية استهالك ومطالبة ومسخ .ال يضريها
أن تكون مطالبة حبق مهضوم وإمنا يضريها املسخ القردي املتنكر
لقيمة اإلنسان وكوهنا ذنبا للجاهلية ،وزمنة لروسيا وأمريكا.
وإذا اجتمع املسلمون مبكة واملدينة يف حلظة اخبات وتوبة
تعلموا من زيارهتم لتلك البقاع الشريفة عاملية اإلستهالك وتقبلوها
على أهنا احلق واهلدى ،ألن اللعب اإللكرتونية الواردة من اليابان
وأمريكا متوفرة بباب احلرمني املقدسني ،واملسلمون بني بائع ومشرت
هلنات احلضارة العفنة باملال الذي نبذره تبذير السفهاء ،فال نقوم
به وال نعز.
عاملية التقليد املسخ وعاملية االستهالك تتموج على خطوطها
عقلية املسلمني وعاطفتهم على كل مستوياهتم .وإن كانت مائدة
األرزاق يف العامل حيتكرها اللئام ،ومتلى علينا ضرورة العيش أن
نقاتلهم بسالحهم السياسي لنأخذ نصيبنا ،فإن هتالكنا على
938
البضائع العاملية مهانة وبرهان على سفاهتنا وعدم أهليتنا حلمل
الرسالة الرحيمة.
العامل اجلاهلي يغزونا بفكره ويغزونا بنتائج علمه ،فما من
كتاب هلم نقرأه وما من مسمار ولعبة نستهلكهما من متاع
اجلاهلية وأثاثها ،حنتاج إليه وال نقدر على صنعه ،إال حيمل معه
مسا ناقعا يبعدنا عن معاين وراثتنا ورجولة تلقيها .فهل نغلق علينا
األبواب بستار من طني ،إذ يعوزنا حديد نسدله علينا كما أسدلته
روسيا مدة خماضها بالعاملية الشيوعية؟ وهل نتنكر للعامل وننابذه
حىت يستوي لنا نظام اخلالفة وركائز قوته؟
هنا نصل إىل اسرتاتيجية رجال الدعوة اإلسالميني اخواننا .إهنا
أسلوب احلرب الطويلة البعيدة :أسلوب حفر اخلنادق والرتبص
بالعدو يف غبش املؤامرات العاملية الصهيونية .وأسلوب املطاولة
ومعاداة العامل .يستعمل اإلسالميون اخواننا عبارة املواجهة،
ولعلها عدوى لفظية سرت لصفوفنا من البهلوانية القومية اليت
تظل على املواجهة وتبيت ،وهي مواجهة خاصة مبجتمع الكراهية
دالة على طبيعته ،ومبقتضاها يواجه القومي شركاءه يف اجلرمية.
يواجهه سرا وجهرا ،على صفحات املذكرات واجلرائد أو على أمواج
اإلذاعة .ويلعن بعضهم بعضا ويفضح .ويدعون أهنم يواجهون
عدوا مشرتكا .واحلق أن أعدى أعدائهم يكمن يف قلوهبم الكارهة
939
الضيقة .فلو غلبوه لطار قلب الصهاينة الراتعني فينا شعاعا وفرقا
من الظاهرة املستحيلة.
عاملية املواجهة عند رجال الدعوة اإلسالميني عاملية شريفة
نظيفة ،إهنا عاملية الرجولة اجملاهدة املتحفزة للقاء العدو ،بيد
أن عداء العامل لوجود الصهيونية والتنصري ومائدة اللئام ،موقف
انكماشي ذو أهداف قريبة جزئية .فهال عاملية الدعوة إىل اهلل،
تعرف مواقع الصهيونية وال تستهني هبا وتتجاوز كيد املنصرين،
عاملية أن من طبيعة العقرب أن تلدغ ،وأن الرجل ينبغي أن ال
يركز مهته يف النعل اليت أعدها للعقرب .فإن فعل فغاية أمره أن
مياحك العقرب وتراوغه ،وميضى العمر يف تقليب األحجار ليبعثها
من أحجارها.
ينبغي لرجال الدعوة إخواننا أن يوسعوا الدائرة وأن ينظروا
بعيدا ،وينظروا واسعا ،وينظروا رحيما ،ويرفعوا الرأس عاليا واهلمة
شاخمة يف تواضع احلامدين لنعمة اهلل علينا إذ ندعو لدينه يف زمن
الغربة والكفر والردة .وإهنم مجيعا سريجعون إلينا فارين من رهق
احلضارة املادية املنقطعة عن اهلل ،فارين من العنف الطاحن ،ومن
الدماء املراقة والذمم اخلوانة .إن هذا العامل أصبح جحيما ال
يطاق ،وكل انسان ميلك حظا من التمييز على ظهرها يئن وحين
ويقلب وجهه وقلبه لومضة اشراق تنريه من ظلمة ،أو ملسة رمحة
940
تسقيه من جفاف.
إن خالفتنا اإلسالمية اليت بدت طالئع فجرها لن تكون
مبعزل عن العامل ،ولن متنعها كراهية التقليد والتقاط الفتات من
التفتح على العامل باسطة ذراع الرمحة والسالم واإلخوة بني بين
اإلنسان .إهنا ستكون رمحة يف العاملني مجيعا ،ولن يزكيها اهلل إن
احنرفت عن غاية محل الرسالة ونشر الرمحة لتكون فقط ثارا من
اجلاهلية وماضي ظلمها .إن اهلل عز وجل يبعث رسله وأنبياءه،
وخلفاءه أولياءه ليقوموا يف الناس بالقسط .وحنن ال غاية إلنبعاثنا
اجلماعي إال أن نشهد على العامل بالقسط بشهادة نبينا فينا .وال
تقوم مجاعة بشهادة القسط إن مل حتقق إمياهنا بعد إسالمها ،وإن
مل يكن عمادها حمسنون بلغوا قمة الكمال ،فكانوا هم املرجع
واملآل.
إن حمبة الرسول وآل بيته ،والفناء يف روحانيته ،وما يواكب
ذلك السلوك الشريف ،واملشروع املنيف من أنوار الغيب وأسرار
امللكوت ،هي الكنز الذي آن أن يكشف للعاملني .إن منا معشر
املسلمني من جيهل احملبة ويناصب أهلها العداء ،وحيج املسلمون
وكلهم صوفية حمبون واهلون يف شخص رسولنا الكرمي فيسمعون
بعرفات شتم األولياء وحتقري األنبياء .ال جرم أن تكون دعوة
التكفري وكراهية الصويف الفقري مطية لعاملية االستهالك ،وما مث من
941
أنواع الثبور واهلالك .وإمنا شرع اهلل احلج لشهود املنافع ولذكر اهلل
يف تلك األيام املعلومات أيام احملبة والفرح باهلل وبأخوة اإلسالم.
إن خالفة الرسول على منهاجه ستطلع مشسها وتنري السبيل
وتربيء العليل ،وهي عطاء للعاملني مجيعا .يتوىل حضانتها
املسلمون ،وتتوىل هي تربيتهم وترقيتهم إىل اميان واحسان .إىل
أخوة متعاونة وبر بالعامل موصول .وإىل ربانية مترض العامل وتعطف
عليه وترأف ،وتنشر السلوك اإلمياين اإلحساين باحلق ليدحض
باطل الروحية الشيطانية اجلامثة على العامل.
وهذه آخر الدعوة وأوهلا .يأيها اإلنسان ،سل نفسك مل هذه
األرض والسماء ،ومل األمل والبغضاء ،وفيم احلياة واملوت ،ومل
يضيق صدرك بفوت الفوت ؟ إنك خلقت للخلود وإن اإلسالم
ما هو فقط نظام احلياة اليومية واالقتصادية ،وما هو فقط أخالقية
إميانية وحمبة واخوة ،بل هو بعد اإلسالم واإلميان إحسان يقربك
من ربك ،ويصلك جبنابه إن وقفت ببابه .إنك يا إنسان غرة
الزمان ومعقد احلدثان ،وقد جاءك الرسول بأخبار ربك أنه حيب
من احبه ويصطفيه ،وأخربك العارفون باهلل أولياء اهلل بتجربتهم
الشخصية واكتشافهم ملا وراء حسك املغلق وعقلك الذي أنت
سجينه .امسعها واضحة بليغة مؤثرة تبكي شكرا وغبطة بنعمة
اإلسالم ،وبلغها يوم يسطع نورك بأقصى ما تقدر من بالغ
942
للعاملني رمحة وبشرى :إن اهلل عز وجل يتقرب إليه العبد بالفرض
والنفل حىت حيبه ربه ،فإذا أحبه كان له مسعا وبصرا ويدا ورجال.
فذلك هو اإلنسان ال تلك الدودة العاملية .وذلك هو املرشح
للكمال واللحاق بركب النور مع النبيئني والصديقني والشهداء
والصاحلني .وال بد لك من صحبة فهي أول املنهاج وآخره،
والصحبة دعوتنا للعامل.
943
اخلامتة
بسم اهلل الرمحن الرحيم
بلغ هذا الكتاب إىل ختامه ،وطلع بدر متامه ،وقد بدا فجر
اإلسالم وانتشرت تباشريه ،فحىي على الصالة ! حىي على الفالح
أخي القارئ وأخيت القارئة ،كنت صربت على ما يف
الصفحات الطويلة من اإلغزار والنجود ،ومزجمرات الرعود ،فاعذر
نصيحا أراد أن يقول للهالكني يف أنفسهم قوال بليغا ،فلعله غلظ
عليهم ،ولنا أسوة برسولنا احملبوب ،بلسم كل مكروب ،فانه أمر
وامرنا أن نغلظ ونقول للمنافق يف نفسه قوال بليغا ،حىت ميقت
نفسه وميجها ،ويزيل قذى افكه ،ويرجع عن شركه .
و لعلنا عممنا كثريا ويف الناس أفاضل كراما ،فاللهم غفرا
وسرتا .وإمنا يبلغ السمع املختوم بالوهم املركوم ،كالم ذو زوايا
حادة جيرح ويؤمل .وإىل ذلك قصدنا وعلى اهلل اعتمدنا .
وقد أكثرنا من احلث على ضرورة التعلم من عطاء اهلل غري
احملظور ،وال ننتظر أن يفهم عنا بساط األحالم كيف يعري مسلم
إخوانه بالصني وجتربتها وإخصاب تربتها .إننا أردناها كلمات
منبهة تقرع يف آذان الغافلني قرع اجلرس ،بعد أن قل من ينتبهون
944
آلذان الصبح .
أما املنهاج فقد كتبناه بسطة من ربنا ،ووسيلة ملأربنا .ومن
العبد القصور سيما يف عظائم األمور .ولوال فضل اهلل ورمحته لكنا
كالقردة املقلدين .وال نزال ننتظر أن يأتونا بفكرة واحدة ،مؤمنة
غري جاحدة .وإن هلم العقم ولإلسالم مستقبل األيام .
أما بعد فلعل من يستعجم دعوتنا من أهل الفضل والدعاء
على إعراهبا ،فما مثلنا ومثله إال كموسى وصاحبه .وكل موسى
يقف عند جممع البحرين ،ويعاين األمرين .يطلب العلم واحلقيقة
حىت يلقى العبد املرحوم .فال يرهقه متبوعة من أمره عسرا ،وإمنا
يعجل موسى مبا عنده من العلم فال يستطيع صربا .ويأخذ
موسى يرتق ويفري ،إىل أن يهتف به هاتف احلق بلسان صاحبه
« :ما فعلته عن أمري « .وعندها يثبت الربهان ويصح التأويل،
فيذعن موسى للسبيل .يتعلم طريق كماله ،واجلهاد لبلوغ رضى
اهلل ونواله .خيرق سفينة عادية ،ويقتل غلمة شهوته ،ويقيم على
ذكر ربه حىت يناديه احلق من جانب الطور .فذلك مشروع طالب
احلق واحلقيقة ،يعتصم بالرفيق ويسلك طريقه .سقته الغوادي
الثرة ،وحلت قلبه املسرية .
وما مثلنا ومثل اهلائمني احلائرين ،يف آفاقنا اإلسالمية ويف
العاملني ،إال كمن يستفتون يف بقراهتم العجاف ،حىت بشرهم
945
يوسف احلسن واإلحسان برمحة اهلل واأللطاف ،باإلشارات اللطاف
.يبشرهم باألذن الصحيح ،واألمر النجيح .
ويلمح املستفتون عنقاءهم املغرب ،فتلتفت إليها األعناق،
ويتم التالق .مث يتحول املسلمون من غثائية العناكب ،يزامحون
الناس باملناكب .يبلغوهنم رسالة اهلل ،حيبون املوت يف سبيله
ويلتمسون رضاه .أما املغبون فقرأ ما نكتب وقال :إسالم فلسفي!
وما درى أن اهلل يعد ويفي .
اللهم ملكنا نفوسنا لنتبعها اهلدى ،ونسلك إليك طريق
اجلهاد البعيد املدى ،وامت علينا نعمتك حىت ندعوك بدعوة احلفيظ
ب قَ ْد آتـ ْيتَنِي ِمن الْمل ِ
ْك َو َعلَّ ْمتَنِي ﴿ر ِّ
َ ُ َ العليم ،الرسول األمني َ :
َنت َولِيِّي فِي ضأ َ السماو ِ
ات َواأل َْر ِ يل األ ِ ِ ِ
َحاديث فَاط َر َّ َ َ من تَأْ ِو ِ َ
ِ
ين﴾ . ْح ْقنِي بِ َّ ِ ِ ِ
اآلخرِة تـوفَّنِي مسلِماً وأَل ِ ُّ
الصالح َ الدنـُيَا َو َ ََ ُ ْ َ
أعوذ باهلل من خطل الرأي والزلل ،وأعوذ بوجهه الكرمي من
اللغو والكسل .واستغفره مما جرى به اللسان وليس له رضى ،فهو
ولينا غافر الذنب وقابل التوب .
اللهم هؤالء جنودك من طالئع الكالم ،سقناهم بتوفيقك هذا
املساق ،باملعاين الرقاق .فأعملهم اللهم يف خدمة أمة رسولك
حممد احلبيب ،ليوم اإلسالم القريب ،وبعد ذلك إىل يوم الدين
.فقد جعلت علينا إرثا له البالغ ،وعليك موالنا احلساب .
946
اللهم فبجاهه العلي ،ومقامه السين ،وحبق كل مصطفى نيب،
وكل مطهر ويل ،آتنا من لدنك رمحة وهيئ لنا من امرنا رشدا،
ورقنا يف مقعد الصدق عندك أبدا ،ويسر لنا من نورك ومن قلوب
خلقك مددا « ,من يهد اهلل فهو املهتدي ،و من يضلل فلن
جتد له وليا مرشدا « .واجعل اللهم وجهك الكرمي وعز اإلسالم
لنا غاية ومقصدا .وارحم اللهم من قرأ ووعى ،مث ترحم ودعا،
للسابقني بإميان ،والالحقني بإحسان ،يا رحيم يا رمحان.
اللهم نصرك الذي وعدت املستضعفني ،من عليهم سيدي
واجعلهم أئمة واجعلهم الوارثني .
دعتك موالنا كلمات هذا الكتاب حبال املسلمني .وندعوك
بلسان من عصى فتاب ،فجعلته ردء للصواب وآتيته احلكمة
وفصل اخلطاب ،أن تغفر لنا خطايانا ،وأن جتعل لنا من عبادك
الصاحلني فرطا ومثال لآلخرين.
اللهم صل على سيدنا حممد وعلى آل سيدنا حممد ،كما
صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم ،إنك محيد
جميد ،وبارك على سيدنا حممد وعلى آل سيدنا حممد كما باركت
على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم يف العاملني إنك محيد
جميد.
947
نشر هذا الكتاب مجلة منذ زهاء عشرين سنة ،ونعيد طبعه
بعد تنقيحه.
فيه بضعة أفكار تسبح حبمد رهبا يف كل صفحة من صفحاته،
مستبشرة ببشرى رهبا أن بعثها رائدة لإلسالم ،مؤذنة مليقاته،
ليسمعها قلب مؤمن سعيد ،يلقى السمع وهو شهيد.
إنه من قلب مؤمن ،إن شاء اهلل ،وقد شاء ثناؤه فمن ،وهنج
لعباده وسن .فله احلمد ما ترمن شاد وحن.
َنزلْنَا إِلَْي ُك ْم
َّاس قَ ْد َجاء ُكم بـُْر َها ٌن ِّمن َّربِّ ُك ْم َوأ َ ﴿يَا أَيـَُّها الن ُ
سيُ ْد ِخلُ ُه ْم فِي ِِ
ص ُمواْ به فَ َ
ِ
آمنُواْ بِاللّه َوا ْعتَ َ ين َ
َّ ِ ِ
نُوراً ُّمبيناً فَأ ََّما الذ َ
ص َراطاً ُّم ْستَ ِقيماً.ض ٍل ويـ ْه ِدي ِهم إِلَْي ِه ِ
َر ْح َمة ِّم ْنهُ َوفَ ْ َ َ ْ
ٍ
﴿قَ ْد َجاء ُك ْم َر ُسولُنَا يـُبـَيِّ ُن لَ ُك ْم َكثِيراً ِّم َّما ُكنتُ ْم تُ ْخ ُفو َن ِم َن
اب ويـع ُفو َعن َكثِي ٍر قَ ْد جاء ُكم ِّمن اللّ ِه نُ ِ ِ
اب ُّمبِ ٌ
ين ور َوكتَ ٌ ٌ َ َ الْكتَ ِ َ َْ
السالَِم َويُ ْخ ِر ُج ُهم ِّم ِن ض َوانَهُ ُسبُ َل َّ يـَْه ِدي بِ ِه اللّهُ َم ِن اتـَّبَ َع ِر ْ
صر ٍ
اط ُّم ْستَ ِق ٍ ِِ ِِ ِ ِ ِ ُّ ِ ِ
يم﴾. الظلُ َمات إلَى النُّو ِر بإ ْذنه َويـَْهدي ِه ْم إلَى َ
صدق اهلل العظيم
948
حمتويات الكتاب
الفصل األول :المنهاج النبوي وحركيته
املنهاج15..........................................
اقتحام العقبة21....................................
اخلصال العشر35...................................
الصحبة واجلماعة47................................
الذكر57...........................................
الصدق67.........................................
البذل76...........................................
العلم85...........................................
العمل95..........................................
السمت105........................................
التؤدة114..........................................
االقتصاد123.......................................
اجلهاد133.........................................
الفصل الثاني :النموذج الخالد
املسلمون والتاريخ147...............................
موكب النبوءة159...................................
949
حممد رسول اهلل170 ..................................
اإلسوة180...........................................
الصحبة190..........................................
اجلماعة200..........................................
الذكر210............................................
الصدق223 .........................................
البذل236............................................
العلم248............................................
العمل260...........................................
السمت270..........................................
التؤدة281............................................
االقتصاد293.........................................
اجلهاد305...........................................
950
تربية من القاعدة365.................................
خبري وأمحر379......................................
القوة390 ...........................................
الفقر والعفة401.....................................
951
التحويل الثقايف539...................................
التعاون اجلماعي550..................................
اقتصاد القوة561.....................................
تنمية اإلنسان572....................................
أمراض التكاثر583....................................
952
الثقافة والتنمية704..................................
التعليم املتخلف719.................................
وسائل اإلعالم726..................................
تطوير التعليم737...................................
التعليم املستمر747.................................
تعليم للتغيري757....................................
953
حنن والفوضى الدميقراطية867.........................
حنن واالستبدادية املذهبية879........................
سوق السياسة890..................................
الشورى901........................................
السلطان912.......................................
توحيد املسلمني922.................................
الرمحة يف العاملني933................................
خامتة الكتاب944..................................
954