You are on page 1of 956

‫اإلسالم غدا‬

‫العمل اإلسالمي‬
‫وحركية املنهاج النبوي يف زمن الفتنة‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫تقديم الطبعة األوىل‬


‫جتيل النظر يف حياة املسلمني‪ ،‬يف مرافقهم املادية وموقفهم‬
‫غري الواعي مما يريدون ومما يراد هبم‪ ،‬فال ترى إال أزمات شديدات‬
‫تشتد باألمة اإلسالمية املنهوكة وتطيح بالقيم وباألرزاق وبالكرامة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬مث ال تنجلي إال عن قطار جديد من الباليا‪ .‬إنه ال‬
‫يرتاءى يف أفقك إن أجلت النظر إال مثلما يتخايله مالح يف‬
‫البحر املدهلم قد أضاع أدوات سلوك البحر وعميت عليه السماء‬
‫بضباب كثيف‪.‬‬
‫ذلك ما تكتشفه يف مستقبل هذه األمة إن مسعت اإلعالن عن‬
‫نيات يف مسرح السياسة‪ ،‬أو قرأت بنات الفكر الكايب احلسري يف‬
‫معرض املنابرات والرتهات‪ ،‬أو تأملت وهن رجال الفكر والعمل‪،‬‬
‫وأَثَرَة املرتفني؛ إنه االهنزام وإنه الضياع واحلرية أىن وليت وجهك‪.‬‬
‫أمر األمة‬
‫اإلسالم بلسان نبيه الكرمي صلى اهلل عليه وسلم َ‬
‫ُ‬ ‫ويسمي‬
‫إذا اختلط حىت ينطوي احلق وميتد الباطل وحيل العنف حمل القوة‪،‬‬
‫والتطاحن على العصبيات حمل التعاون بني املسلمني واحملبة؛ يسمى‬
‫السالم هذا فتنة‪ ،‬وهو مفهوم يعم مدلوالت األزمة والتخلف وعدم‬

‫‪3‬‬
‫االستقرار والفوضى واإلحلاد‪ ،‬يغطيها مجيعها مث يفيض على معاين‬
‫العصبيات املتضاربة واهليمان اجلماعي والفردي يف طلب القيم‬
‫املادية ‪ .‬ولو كان طريق اكتساهبا أن ميسخ املسلم الذي خلق للعزة‬
‫دودة لزجة تدوسها األقدام وتتقزز من نتنها النفوس السليمة‪.‬‬
‫حنن يف زمن الفنت نعيش‪ ،‬وهي كقطع الليل املظلم قتامة‬
‫وإنبهاما‪ ،‬وهي عنيفة تأكل األمة من بني يديها ومن خلفها‪ ،‬بيد‬
‫الطاغوت األهلي‪ ،‬وبسالح العدو الذي تداعت علينا أرساله‪.‬‬
‫ال نستعمل كلمة «جاهلية» يف حق اجملتمع املسلم‪ ،‬فذاك مزلقة‬
‫إىل تكفري املسلمني‪ ،‬وهو درب العنف الذي نسلك فجا غريه‪.‬‬
‫ومن جنبات دار اإلسالم تسمع مهسا خافتا يغالبه حسيس‬
‫الزحام املوسوس املهوس يف سوق الفتنة‪ ،‬مهس املاليني السبعمائة‬
‫املغلوبة على إسالمها يشكو إىل اهلل عجره وجبره‪ ،‬يريد العمل‬
‫اإلسالمي وحين إىل من يسمعه تكبري العمل اإلسالمي وهتليله‪.‬‬
‫وإن كان يصم آذان املسلمني املغلوبني على إسالمهم طنني‪،‬‬
‫بل زفري‪ ،‬الدعوات القومية الظاملة املفرقة فذلك حداء ال تطرب‬
‫له األمة‪ ،‬كما ال تتعرف األمة على نفسها إذا ما مساها قادهتا‬
‫املفتونون شعوبا ومجاهري‪ ،‬والشعب تشعب وفرقة‪ ،‬واجلمهور جتمع‬
‫ال يرجع إىل أصل‪ .‬ولألمة أصلها فهي به كانت أمة وستبقى‪.‬‬
‫أمة اإلسالم نامت عن إسالمها زمنا‪ ،‬وتلهت بطيب ذكرها‬
‫اخلور آخر دولة إسالمية‬‫يف التاريخ زمنا‪ ،‬وأرغمت ملا أدرك َ‬
‫جماهدة على الرجوع لصيغها اجلغرافية املفرقة؛ فتقاتل اإلخوة‬
‫‪4‬‬
‫وحتامل بعضهم على بعض مبا حيمل اجلاهلني ‪ :‬األنانية القومية‬
‫والعنف العرقي‪ .‬وكان من هذا التفتت التارخيي احلزين ما يسود دار‬
‫اإلسالم اليوم من نعرات ال تكتم هواننا على أعدائنا بل تفضحه‪.‬‬
‫نقدم هذا الكتاب للمسلمني الباحثني عن إسالمهم كما‬
‫نبحث‪ ،‬يف خط نظري يعرج على واقعنا الغثائي‪ ،‬يلتمس مالمس‬
‫القوة عند املاليني السبعمائة املغلوبة على أمرها‪ ،‬هادفا لبعث‬
‫إسالمي وسيلته الرتبية مث الرتبية مث الرتبية‪ ،‬ومقصده وحدة املسلمني‬
‫أمة متكاثفة متعاونة‪ ،‬وغايته محل الرسالة اإلسالمية هلذه البشرية‬
‫الكادحة احلالكة املعذبة يف األرض‪ ،‬بعضها بطغيان املعتدين‪،‬‬
‫وبعضها بثقل احلضارة املتخمة‪ ،‬ومجيعها بنهم اإلنسان وهلعه‬
‫وضراوته وتكالبه على هذه الدنيا‪ ،‬وقد ضاعت منه مفاتيح اخلري‪،‬‬
‫فال يهتدي إىل الطمأنينة والسالم سبيال‪.‬‬
‫إن ضعف املسلمني على دويالهتم املرتبص بعضها ببعض‪،‬‬
‫ما هو إال ضعفهم هبذه الدويالت‪ ،‬ألهنا التعبري املاثل الختالف‬
‫القادة املتسلطني‪ ،‬وعجزهم عن األخذ بسياسة القوة‪ ،‬وهي سياسة‬
‫الوحدة‪ .‬وإن هذا العجز ينم عن تشتت إرادة األمة يف أيدي من‬
‫عندهم مقاليدها السياسية؛ إرادة القادة تتجمع حول بريق األدوار‬
‫الزعامية واجملد الشخصي‪ ،‬واألمة َشعبوها فتشتتت إرادهتا مع‬
‫تيارات األحزاب السياسية والدعوات اإلقليمية والشعوبية املتلبسة‬
‫‪5‬‬
‫بالصبغة الدينية والسافرة؛ فال إرادة لألمة املغلوبة على أمرها مهما‬
‫نصب القادة سرادقات االنتخابات ومهما خاطبوا «اجلماهري‬
‫الشعبية» يكيلون هلا الكالم املموه املعسول‪ ،‬ليتم تعامل القائد‬
‫والرعية يف جو كثيف من الريبة واجلهل واجلهالة‪ ،‬عليه غاللة من‬
‫الوعد الكاذب ال ختفي عن اخلبري فشل كال اجلانبني يف فهم‬
‫صاحبه‪.‬‬
‫موقفنا التارخيي موقف ضعف والضعف يدعو إىل القوة‪،‬‬
‫وإن أقرب ما ترد علينا القوة من الثكنات العسكرية‪ ،‬فلذا كانت‬
‫دار اإلسالم بالد االنقالبية‪ .‬وموقفنا التارخيي موقف فتنة مبعاين‬
‫اخلور والوهن والتشتت‪ ،‬فلذا نعطي ألنفسنا بديال زائفا عن‬
‫اإل رادة الواعية املصممة الفاعلة‪ ،‬بصنع شرعية انتخابية حيشر‬
‫إليها احلزب الثوري «املوحد» واألحزاب الربملانية مجاهري تساق‬
‫بالوعد والوعيد‪.‬‬
‫ومن الضعف والتشتت والفتنة والفرقة ال تتألف قوة موحدة‬
‫وال وحدة تصنع القوة‪ ،‬أعين أن نشدان الوحدة بني األقطار‬
‫اإلسالمية كما هي اليوم سعي وراء السراب؛ هذه األقطار تكون‬
‫وحدات ألفت كل منها التعايش مع هزاهلا األهلي اخلاص‪ ،‬وألفت‬
‫التعايش مع وضع دويل حيطنا يف ذنايب الركب اإلنساين‪ ،‬وألف‬
‫قادهتا أن يلبسوا قناعا إسالميا مزيفا ليلجوا بنياهتم حمرابا تتجه‬
‫‪6‬‬
‫إليه األمة‪ ،‬جزؤها السليم‪ ،‬بإخالص وقدسية‪.‬‬
‫كل هذا يصور لنا تصويرا واضحا معاين الفراغ احلائمة حول‬
‫حماوالت التجميع السياسي لدار اإلسالم يف مؤمتراته وحماوراته‪ ،‬وليس‬
‫لنا إىل الوحدة اإلسالمية احلق إال سبيل البناء اجلذري الذي يبدأ‬
‫بتحويل عميق يف وعي األمة‪ ،‬يف وعي «الفاعل التارخيي» املتمثل يف‬
‫األعداد اهلائلة من مساكني املسلمني املغلوبني على أمرهم‪.‬‬
‫لقد بان فشل القادة يف األقطار اإلسالمية بعد جتارهبم املستبدة‬
‫ملنهاج اجلاهلية اليت جاءت وارثة لظلمنا األهلي املوروث‪ ،‬فأتت‬
‫بطاغوت جاهلي بدل طاغوت مفتون‪ .‬وما ولدت االنقاالبية‬
‫ببالدنا مولودا يصح أن نعده ليوم كريهة وأن نعتد به لريد لنا‬
‫كرامتنا اإلنسانية وعزنا اإلسالمي‪.‬‬
‫يقف اليوم قادتنا حائرين بني داعي العمل اجلاد الذي‬
‫تفرضه هزميتنا يف ميدان االقتصاد وميدان اجلالد‪ ،‬وبني استعصاء‬
‫األمة عليهم بعد أن امتهنوها ورهنوها‪ .‬هؤالء القادة‪ ،‬املرتفون‬
‫فكريا مبا حتملوه من رجس العقالنية اإلحلادية‪ ،‬املرتفون من كل‬
‫اجلهات بعاداهتم اجلاهلية‪ ،‬مل يفقدوا حس املكائد واملصانعة؛‬
‫لذلك تراهم إن تأزمت هبم األزمات‪ ،‬وقام إليهم الشباب العاثر‬
‫يريد ثورة منقذة زعموا له أن ما هبم من هوس اشرتاكي هو‬
‫االشرتاكية اليت ينشدها الشباب‪ ،‬ولببوا دعاة املساواة واخلالص‬
‫‪7‬‬
‫االشرتاكي الشيوعي يشهدون عليهم األمة املشعبة اجملمهرة‬
‫أن اإلسالم ديننا؛ مث ال يكون تعريفهم ألنفسهم ولقومهم إال‬
‫أهنم عرب أو بنجاب‪ ،‬أو ما سوى ذلك من األلقاب‪ ،‬حتدهم‬
‫االشرتاكية من كل اجلوانب‪ ،‬ويبقى اإلسالم شعارا تابعا‪ .‬فهذه‬
‫مجهورية فالنية اشرتاكية إسالمية‪ ،‬ولكل مجهورية أو قومية‪،‬‬
‫ملكية أو إمارية‪ ،‬إسالمها واشرتاكيتها‪ .‬وتتشابك عند القوم‬
‫معاين االشرتاكية ومعاين اإلسالم اختالط احلابل بالنابل فال جيد‬
‫االشرتاكيون املراقبون عند القوم اشرتاكية‪ ،‬وال جيد املسلم إسالماً‪.‬‬
‫ال غرو أن ينشأ لنا جيل تظافرت عليه غزوات الكفر يف‬
‫مدارسه ومعاقله‪ ،‬وضرسته يافعا طواغيت املرتفني امللوحني‬
‫بشعارات اإلسالم‪ ،‬حىت أصبح كل ظلم وكل فسق يتسرت حتت‬
‫اإلسالم وحىت تنكر شبابنا إلسالمهم هلول ما يرون‪ ،‬وللفراغ‬
‫املخيف الذي حييط هبم يف سياق تتألق بسمائه مشوس الثورة‬
‫امللحدة وأجنمها‪ ،‬تيار غالب ال تقوم له يف وعي شبابنا شهادة‬
‫أمة بائسة بقي هلا من إسالمها‪ ،‬يف صفوف املسلم األمي املسكني‬
‫أو عند العامل املؤمن الفار بدينه‪ ،‬األصل العقدي‪ ،‬لكنها ال متلك‬
‫أن ختطط طريق اخلالص‪ ،‬طريق عمل إسالمي يستوعب ميادين‬
‫املبادئ واألهداف والغايات‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫لن يطول تالعب قادتنا بالشعارات اإلسالمية ولن يطول‬
‫جهل أهل اإلسالم باإلسالم‪ ،‬فال منفذ لنا إال اإلسالم احلق‪،‬‬
‫وإن اهلل فيما يبعث علينا من سياط التأديب باعثا لنرجع إليه‪،‬‬
‫وإنه‪ ،‬له العزة‪ ،‬لن جيمع علينا حشفا وسوء كيلة‪ ،‬أال وإن احلشف‬
‫هو هذه القشرة من مرتفينا املمسكني مبقاليد أمورنا‪ .‬ولن ندعو‬
‫إىل عنف أبدا ألن اإلسالم ما قام بعنف ولن يقوم‪ ،‬إمنا خنط‬
‫منهاج النبوة القائم على الرفق واحلكمة للعمل اإلسالمي ونبني‬
‫حركيته‪ .‬ولعموم الدعوة اإلسالمية منذ أبينا إبراهيم جمالس الفراعنة‬
‫واألكاسرة واملساكني على السواء‪ ،‬خناطب القادة يف بالد اإلسالم‬
‫أوال؛ ندعوهم إىل أن يتحولوا عن دار اخلزي ليقودوا عمل األمة‬
‫اجلهادى‪ .‬أهي دعوة تعجيز ؟ بل هي إقامة احلجة ليوم يقضي‬
‫اهلل فيه أمراً كان مفعوال‪ .‬مث ندعو رجال الدعوة اإلسالمية أن ال‬
‫خيرجوا إىل ميدان الفكر إال بعد أن يكتشفوا املنهاج النبوي املنبين‬
‫على التجربة الشخصية‪ ،‬أعين هذا العمق الروحي‪ ،‬الذي حيصل‬
‫للعبد بعد أن يصبح متسكه حببل اهلل أوثق عنده من متسكه مبا‬
‫عنده‪ .‬مث إذا كتب رجال الدعوة اإلسالمية‪ ،‬نسأهلم أن يتجاوزوا‬
‫الشكوى من البلوى ليخطوا لنا مبادئ البعث اإلسالمي ووسائله‬
‫وغاياته‪ ،‬ويكبوا فورا على حتقيق نظرياهتم املنهاجية يف تنظيم‬
‫الدعوة ونشرها‪ .‬فإمنا تعرف العامل إذا جلست إىل غريه وإمنا يتبني‬
‫صالح النظر إن ثبت يف امتحان املمارسة ومبعيارها‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫ها حنن أوالء نبدأ حبول اهلل وقوته ال حبولنا حبثا عن حركية‬
‫املنهاج النبوي للخروج من الفتنة‪ ،‬ونبحث عن هذا «الفاعل‬
‫التارخيي» كما يعرب الفالسفة‪ ،‬ونبحث عن هذه الكتل اإلسالمية‬
‫كيف حنررها ومما حنررها‪ ،‬وعن الفرصة املتاحة لقادتنا‪ ،‬وكل‬
‫املتنكبني عن إسالمهم من أهل املروءة والعلم واخلربة من أبنائنا‪،‬‬
‫أن يتوبوا وحيملوا لواء اإلسالم‪ ،‬يف جهاده املرتقب‪ ،‬ونبحث‬
‫عن تنظيم شؤون املسلمني يف عملهم االجتماعي واالقتصادي‬
‫والسياسي‪.‬‬
‫بيد أن كل حبث ال يدخل إليه مبنهجية واضحة بينة‪ ،‬وكل‬
‫عمل ال يسلك به منهاج الحب لن يكون إال خبطا‪ .‬وإن من‬
‫يكتب كتابة إسالمية يف زمننا إما أن يقول «أنا سين» أو «أنا‬
‫شيعي» أو يعرف نفسه بغري ذلك من التعريفات‪ ،‬فذلك له منهاج‬
‫وذلك له منهجية‪ ،‬ومن زاوية ما ورثه من مذهبية يعرض إسالمه‪.‬‬
‫وإن من فضل اهلل علينا أن مهد لنا سلوك الطريق الصويف‪،‬‬
‫واالصطالح ال يعدو أن يكون مذهبية إزاء مذهبيات ملن وقف‬
‫عند املصطلح وعند تاريخ الصوفية احلافل املتناقض‪ .‬وملن سلك‬
‫طريق القوم أن يطلب إىل قارئه سعة صدر وسعة أفق وصربا طويال‬
‫حىت يسمع‪ .‬ولئن قال أئمة الصوفية إن الطريق ما هي إال الكتاب‬
‫والسنة‪ ،‬فليس من اليسري أن يدرك الناس أن جتاوز اخلالفات بني‬
‫‪10‬‬
‫املسلمني للتمسك بالكتاب والسنة يكمن وراء جتاوز اصطالح‬
‫تارخيي طاملا أضل الناس به بعضهم بعضا وضلوا‪.‬‬
‫املنهاج النبوي وحركيته كما نعرضهما اجتهاد ال ندعي أننا له‬
‫أهل إال مبا أهلنا اهلل ويل املتقني‪ ،‬له العزة وله احلمد‪.‬‬
‫ونرجو من القارئ أن يرتيث يف قراءته‪ ،‬فلعله جيد كلمات‬
‫مل يألفها وأسلوبا فرضهما علينا أن النظر اإلسالمي ملا يكسب‬
‫بعد آلية من التصورات واملفاهيم الدقيقة‪ ،‬فنحن نكتب ونصوغ‬
‫تصورات إسالمية نعرب هبا ميدان الفلسفة واالجتماع والسياسة‬
‫واالقتصاد‪ ،‬وإىل اهلل املوئل واملعاد‪.‬‬

‫‪1392‬‬ ‫الرباط يوم اجلمعة ‪ 15‬من ذي القعدة‬


‫‪1972‬‬ ‫دجنـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــرب‬ ‫‪22‬‬ ‫املوافـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــق ليوم‬

‫‪11‬‬
12
‫الفصل األول‬

‫املنهـاج النبوي وحركيته‬

‫‪13‬‬
14
‫املنهاج‬
‫اإلنسان سلوك‪ ،‬هذه كلمة يؤكد إغراءها كصورة حلقيقة اإلنسان‬
‫تعاقب الفلسفات على عرضها بشىت األشكال واملفهومات‪.‬‬
‫التاريخ وفلسفته ال موضوع هلما لو مل يكن اإلنسان سلوكا‪،‬‬
‫والفرويدية ال ترى يف اإلنسان الفرد وتارخييه إال عراقيل وعقابيل‬
‫سلوكه يف الصبا‪ ،‬واملذاهب املادية تفسر اإلنسان املفرد واإلنسان‬
‫االجتماعي بسلوكه التارخيي‪ ،‬فهو يصنع نفسه بسلوكه‪ .‬مث إن‬
‫الفلسفات املعاصرة‪ ،‬الوجودية منها والسياسية‪ ،‬تعرف اإلنسان‬
‫بالنظر إىل مصريه‪ ،‬فهو عند العقالنية املتأملة والعقالنية العملية‬
‫حركة متساوقة حنو مصري ما وعرب متناقضات تقوم يف وجهه‪.‬‬
‫ومعىن كل هذا أن العقل البشري اختار أن ينظر إىل اإلنسان‪،‬‬
‫وبالتايل إىل حقائق الكون‪ ،‬من خالل املنطق اجلديل الدائب احلركة‬
‫وبالتايل إىل حقائق الكون‪ ،‬من خالل املنطق اجلديل الدائب احلركة‬
‫احملرك لكل ما يتناوله بالبحث‪ .‬وللمنطق اجلديل إيواناته املفضلة‬
‫عند املاركسيني وعند من جيري هبم السيل اجلارف يف وجهة‬
‫النشر التارخيية‪ .‬وله بعد ذلك سحر ملا يفتحه للعقل من أسباب‬
‫النشر واللف والتقليب والتلوين لكل ما ميسه من أشياء وفكر‪.‬‬
‫فهو هبذا ضرورة لكل باحث يروم التعمق يف خمبوءات اإلنسان‬

‫‪15‬‬
‫خماطبا جيال ورد ُكدرات اإلحلاد املادي فهو ال يصدر عنها إال‬
‫بسلطان‪.‬‬
‫نعرض املنهاج النبوي كما جاء يف كتاب اهلل وسنة نبيه‪ ،‬ال‬
‫جنتهد إال يف عرضه وفق دواعي الوضوح وخماطبة الناس على قدر‬
‫عقوهلم‪ ،‬ما لنا حاجة إىل الفلسفة ومنهجيتها إال بقدر ما تكون‬
‫األساليب الفلسفية معربا حلوار بني قوم يستغشون ثياب الكربياء‬
‫مبا لديهم من سقط املتاع العقالين‪ ،‬وبني رجال الدعوة اإلسالمية‬
‫الذين يرفضون كثريا املنهجية الفلسفية العقالنية يف أشكاهلا‪ ،‬ألن‬
‫حمتواها يف نور اإلسالم ظلمة وظلم‪.‬‬
‫نلتقى صعوبتني يف اجتهادنا‪ ،‬أوالمها حتميل اللسان العريب‬
‫مفاهيم ملا تتخصص باستعمال‪ ،‬وملا تكتسب الدقة الالزمة‪،‬‬
‫وثانيتهما كسب تصورات‪ 1‬إسالمية قرآنية نبوية وتوظيفها يف‬
‫النسق اخلطايب املنهاجي‪ .‬وقد َحَل الشيوعيون العرب لغة القرآن‬
‫مفاهيمهم وتصوراهتم املاركسية‪ ،‬ما تكبدوا إال عناء نقل الفكر‬
‫الرائد امللحد‪ .‬وآن منذ حني أن خيرج املفكرون اإلسالميون منطا‬
‫موحدا‪.‬‬
‫تصوريا جمدِّدا َّ‬

‫‪ 1‬تصور ‪ concept :‬نعمد إىل هذه الوسيلة‪ ،‬وسيلة التثبيت باملقابل األجنيب‪ ،‬ألننا ال جند أقرب من‬
‫ذلك جدوى‪ .‬على أن التقابل بني التصور القرآين النبوي ومدلول الكلمة األجنبية ليس كامل وال يصح‪،‬‬
‫فال يعدو األمر أن يكون تقريبا إىل أدق ما ميكن التقريب‪ .‬ونكتب فيما يلي الكلمات التصورية اليت‬
‫نعتمدها مميزة خبط حتت كل كلمة‪.‬‬

‫‪16‬‬
‫رويدك أخي فإننا لن نأتيك من عندنا بشيء ما خال املنظار‬
‫الذي به تعود إىل قراءة قرآن ربك‪ .‬فاملنهاج السلوكي جاءتنا‬
‫به الرسل‪ ،‬واملنهجية طريقة للنظر يف املنهاج‪ .‬وليس باإلمكان‬
‫أن نعرض املنهجية النظرية مبعزل عن املنهاج السلوكي‪ .‬فستقرأ‬
‫املنهاج النبوي مبنهجية نبوية‪ ،‬واصرب علينا إن لقيت يف أول‬
‫قراءتك عنَتا‪.‬‬
‫عرض املنهاج على القارئ املسلم دعوة إىل العمل اإلسالمي‬
‫ابتداء من التفكر يف رسالة األنبياء إلينا‪ .‬ومبا حيمله املنهاج ‪-‬ونستعمل‬
‫الكلمة منذ اآلن باملعىن السلوكي واملنهجي‪ -‬من أسباب الكشف‬
‫عن واقع اإلنسان يتيح للمسلم جتديد عمله وجتاوز العوائق الناجتة‬
‫عن سوء الفهم وسوء التطبيق للرسالة املنزلة‪ .‬سوء الفهم لإلسالم‪،‬‬
‫بل جهل اإلسالم العام‪ ،‬يطلب أن يكون املنهاج أداة للمعرفة‪،‬‬
‫وسوء تطبيق الرسالة املنزلة يبغي أن يكون املنهاج وسيلة لبعث وعي‬
‫إسالمي ينفتح على ميادين العمل لتغيري ما بنا‪.‬‬
‫إذا سألنا ‪ :‬ملاذا املنهاج وفيم ؟ أجابنا الوقت وضالتنا فيه أن‬
‫ال معىن للمنهاج إال إذا كان التغيري هدفه ومقصده وغايته‪ .‬وإذا‬
‫كان املنهاج يُعىن باملسلم الفرد‪ ،‬وحيلل عوامل اإلردة يف نفسه كما‬
‫يعين باجلماعة املسلمة‪ ،‬فذلك لكي يكون تغيري الفرد مع تغيري‬
‫اجلماعة وبواسطته مسايرا له‪.‬‬

‫‪17‬‬
‫معرفة اإلنسان والكون ووعي املسلم إلسالمه وملغزى وجوده‬
‫يف األرض ليتصرف وفق نظرته لنفسه وللعامل اخلارجي‪ ،‬ذلك ما‬
‫جيعله املنهاج يف متناولنا‪ .‬أال ترى أن املاركسي مثال‪ ،‬أو الوجودي‬
‫يستطيعان تفسري تعامل اقتصادي أو موقف سياسي أو واقعة من‬
‫حرب أو سلم أو اضطراب فعوي على ضوء منهجية هي العماد‬
‫الفكري للمذهب الذي ينتميان إليه‪ .‬فإذا عرضت للمسلم حالة‬
‫اقتضت تبصره وفهمه قبل سلوكه‪ ،‬وقف جهله لإلسالم حجابا‬
‫عن التبصر‪ ،‬فكان سلوكه اعتباطيا مرجتال‪ .‬وقد يستفىت يف احلالة‬
‫اليت تتحداه للفهم والسلوك من يظنه بصريا بالدين‪ ،‬فال جيد‬
‫إال تفسريا سلوكيا الجتهاد على خطي احلالل واحلرام‪ ،‬وال جيد‬
‫إال فتوى تستند الجتهاد مزمن منقول‪ ،‬فال سعة فيها العتناق‬
‫مشاكل املسلم واألمة اإلسالمية احلاضرة‪ ،‬وال حيوية فيها لبعث‬
‫الروح اإلسالمي العملي ولتغيري ما بنا من مآس وفقر وضيق‪.‬‬
‫تفتت املسلمون تفتت فهمهم لإلسالم وسلوكهم وتفتت‬
‫مناهجهم‪ ،‬فالفقه الشرعي يذكر منهاج احلالل واحلرام يف ظل‬
‫قانون وضعي طاغ‪ ،‬والدعوة اإلسالمية تعمل وتتكلم مبنهاج‬
‫التعارض بني اجلاهلية واإلسالم‪ ،‬إما مطالبة بأالحاكمية إال هلل‪،‬‬
‫وإما بشعار الفرار بالدين من الفتنة‪ ،‬وما إىل ذلك‪ .‬وقد يكون مث‬
‫أسبقيات يف الدعوة والعمل اإلسالميني‪ ،‬فنحن مثال ال نستطيع‬

‫‪18‬‬
‫القيام بعمل إسالمي ما دامت السلطة السياسية يف أيد غري‬
‫إسالمية‪ .‬يرى بعض رجال الدعوة أن املنهاج جيب أن يكون‬
‫مرحليا يُسبق التحرير السياسي‪ .‬وقد عملوا على هذا ويعملون‪.‬‬
‫ونرى حنن أن الوقوف عند مرحلة ما وقوفا هنائيا قصور‪ ،‬ألن‬
‫الرسالة متت‪ ،‬وألن القرآن حيمل هذه الرسالة مفسرة بالسنة‪ ،‬مث‬
‫ألن الدعوة اإلسالمية لن يكون هلا الفاعلية يف العقول واألفئدة‬
‫إن كان منهاجها وحمتواها أن ال حاكمية إال هلل دون وضع هذا‬
‫املبدإ يف خمطط للتجديد ‪ .‬هلذا فاملنهاج النبوي‪ ،‬وقد متت الرسالة‪،‬‬
‫ينبغي أن يعرض اإلسالم عرضا جمددا حيمل للمسلمني األداة‬
‫الفكرية والنظرية البنائية ملمارسة إسالمية متكاملة‪ .‬فباألداة الفكرية‬
‫املناهضة للتحدي اجلاهلي‪ ،‬املستخلصة من لوثاته‪ ،‬نتمكن من‬
‫فك إسارنا بواسطة حتليل اجلاهلية مبنهاجنا‪ .‬وبالنظرية البنائية اليت‬
‫تأخذ يف اعتبارها واقع العصر ووصايا الرسول الكرمي ألمته بعدم‬
‫العنف يف زمن الفنت‪ ،‬نفتح باب األمل هلذه األمة البئيسة جبهلها‬
‫وإعراضها عن حقها إىل باطل غريها‪.‬‬
‫املنهاج النبوي منهاج أمل وبشرى‪ ،‬وأذان باخلالص للمسلم‬
‫اجلغرايف ولكافة أهل األرض‪ .‬منهاج رفق ورمحة‪ ،‬يزف لإلنسان‬
‫ورْوح اإلسالم‪ .‬املناهج املادية تسجن‬ ‫الشقي بسلوكه نسمة احلياة َ‬
‫اإلنسان يف كمه ومادته عندما تعلمه أنه وليد حركة تارخيية‬

‫‪19‬‬
‫تصرفها املعاركة على اخلبز‪ ،‬أو أنه سجني « الليبيدو» الفرويدية‬
‫حيوان بني احليوان ‪ .‬واهلل يدعو إىل دار السالم‪ ،‬أرسل بذلك‬
‫رسله مبشرين ومنذرين ينبئون اإلنسان أن له قيمة مساوية إن آمن‬
‫واهتدى وذكر ربه فصلى‪.‬‬

‫‪20‬‬
‫اقتحام العقبة‬
‫تتجسد الفكرة املخلصة والطاقة احملررة يف طبقة العمال عند‬
‫املذهب املاركسي‪ .‬فالعامل املستغَل هو الوجه اإلنساين الذي‬
‫انكبت عليه املاركسية وتنكب‪ ،‬هو الفاعل املخلص وهو موضوع‬
‫احملَرك التارخيي‪ .‬فخط النظر‪ 1‬إىل املستقبل واملاضي‪،‬‬
‫اخلالص وهو َ‬
‫وحبل القوة املمتد على طول التاريخ وعرضه‪ ،‬هو قوى العامل‬
‫احملروم التائق إىل عدل ومساواة‪ .‬ومبا أن أفق اإلحلاد املادي هو‬
‫األرض وما فيها من تطاحن‪ ،‬فإن غاية التاريخ وغاية وجود‬
‫اإلنسان هو انصاف احملروم وإعطاؤه حقه مما ينازع عليه القوي‬
‫الضعيف‪ .‬ومعىن هذا تعريف اإلنسان يف دوابيته وأرضيته شيئا‬
‫حمدودا زائال مع املوت‪ .‬فعند املاركسية ال جتد حرية يف فهم‬
‫اإلنسان وفهم موضعه يف التاريخ وال جتد ترددا ‪ .‬وقد برعت‬
‫عقالنية ماركس يف إزالة كل حرية وتردد يف هذا الصدد‪ .‬ومن‬
‫هذا كانت العقيدة املاركسية هلا قوة وهلا جاذبية وسلطان‬
‫ومنهجيتها وما أسسته من هذه املنظومة‪ 2‬الثورية تقدم لإلنسان‬

‫‪ 1‬خط النظر ‪.perspective :‬‬


‫‪ 2‬منظومة ‪.système :‬‬

‫‪21‬‬
‫املعاصر لوحة فكرية جذابة تصور مبدأ اإلنسان وغايته‪ ،‬وتعطي‬
‫تطبيقا متعدد النماذج جملتمعات تبنت العقيدة واملنهجية واملنظومة‪،‬‬
‫فصالت يف األرض وجالت وبلغت النجوم‪ ،‬وقال املاركسيون إن‬
‫اإلنسانية بلغت الرشد فال ميكن أن يتجاوز الناس املاركسية‪.‬‬
‫وصدق الناس ملا رأوا الربهان يف هذه الصواريخ وهذه النهضة‬
‫االقتصادية اهلائلة‪.1‬‬
‫احلاجة هي األس الذي عليه انبنت املاركسية وسائر الفلسفات‬
‫الوضعية اجلاهلية‪ .‬اإلنسان عند هذه الفلسفات ومنظومتها سلوك‬
‫حنو اخلبز حنو ارضاء احلاجة‪ ،‬فإذا توسعت هذه الفلسفات اعتنقت‬
‫يف حيز احلاجة هذه النزعات الغََرزية اليت طاملا حاولت املاركسية‬
‫أن تغين هبا فكرها اقتباسا من جهود فرويد‪ ،‬والفلسفة الوجودية‬
‫إذ جتعل مبدأ منهجيتها وأسه املوقف أمام املوت ال تستطيع أن‬
‫هتتدي إال إىل حومان يائس عند املسيحية الوجودية‪ ،‬ويأس حزين‬
‫هابط عند الوجودية امللحدة‪ ،‬يلحقها بالدوابية يف إطار أكثر‬
‫تنميقا من املاركسية اليت ذهبت أحالمها وبقيت كاحلة كئيبة‪.‬‬
‫جعلت املاركسية ميداهنا وحدها تاريخ اإلنسان على األرض‪،‬‬
‫وبارزت الظلم باحلقد الطبقي‪ ،‬وحتكمت يف التاريخ وغريت‪.‬‬
‫وألغت أثناء ذلك كل مصري لإلنسان وكل سلوك ال خيدم دوابية‬
‫اإلنسان‪ ،‬وأنكرت مع تاريخ احلركات الديينية والروحية كل وجود‬
‫‪ 1‬وقد تبني بعد أهنا هنضة كاذبة‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫لنزعات اإلنسان حنو ما يروي غلته يف تعطشه للمثاليات‪ .‬ويف‬
‫ركاهبا ال تسمع ذكرا إال للوسط اجلغرايف وثرواته‪ ،‬وللتاريخ التطاحين‬
‫املوجه املكيف للبشر يسوقهم يف حتمية «علمية» للحل الوحيد‪.‬‬
‫ هذه منهجية هابطة يف حكم املنهاج اإلسالمي‪ ،‬رغم ما‬
‫يبدو من بطولة يف موقف احملروم صانع التاريخ‪ ،‬ورغم ما برهنت‬
‫األحداث عنه من بسالة معتنقي الدين املاركسي وفاعليتهم‪.‬‬
‫هابطة هذه املنهجية ألهنا ختتار الطريق السهل‪ ،‬وال تنتاقض فيما‬
‫تقول‪ ،‬إذ ليست الثورة والعنف من أجل احلياة املادية األفضل‬
‫تزن ثقيال يف ميزان النظرة العامة لإلنسان وشرفه ودوره اخلالد‬
‫بعد املوت‪ .‬هؤالء هم الثوريون امللحدون يعملون يف نظريتهم‬
‫أن للتاريخ جمرى وأن األمحق من يسبح معاكسا لتيار التاريخ‪.‬‬
‫والصورة الذهنية للسابح وفق التيار توضخ لك هبوط السابح‬
‫هلبوط وميله لألسهل‪ .‬وهؤالء هم املاركسيون يعلمون أن الفاعل‬
‫التارخيي هي الطبقة العاملة‪ ،‬فاإلسرتاتيجية أن حيمل الدعاة لقب‬
‫الرفيق جريا مع التيار‪ .‬والتكتيك أن تسخر اجلماهري الكادحة مبا‬
‫يليق من التسخري‪ 1‬لتقنع هي أيضا بلقمة خبز أفضل‪ ،‬جريا مع‬
‫التيار الذي حيرمها احلرية وحيرمها كل معاين اإلنسانية‪.‬‬
‫هكذا نرى أن املنهجيات اجلاهلية‪ ،‬وما مثلنا باملاركسية إال‬
‫‪ 1‬التسخري ‪.manipulation :‬‬

‫‪23‬‬
‫ألهنا آخر ما وصلت إليه الدوابية‪ ،‬فاعال وموضوعا واجتاها‪:‬‬

‫املعَّرف يف حدود حيوانيته وبؤسه‬ ‫ •فالفاعل هو اإلنسان َ‬


‫الدوايب ومطالبته بالنصيب من خريات األرض عانفا ثائرا‪،‬‬
‫والنموذج االجتماعي هلذا اإلنسان هو «الربولتاريا»‪.‬‬
‫ •واملوضوع هو التاريخ األرضي بوقائعه التنافسية اليت حتمل‬
‫جرثومة الثورة الطبقية‪.‬‬
‫ •واالجتاه هابط صوب جمرى التاريخ وصوب املصري الدوايب‬
‫لإلنسان‪ ،‬رغم ما حتركه املاركسية من آمال يف شيوعيته‬
‫متآخية ترفع من قيمة اإلنسان‪ .‬ومع أهنا أحالم فهي ال‬
‫تعدو أبدا باإلنسان قيمة دودة الرتاب‪.‬‬
‫تنطلق الفلسفات اإلنسانية من املعطى‪ ،1‬أي من هذا الوجود‬
‫املوروث الذي تدركه حواس اإلنسان‪ .‬وعالقة اإلنسان هبذا‬
‫املعطى وبأبناء جنسه منبعثة من حاجته إىل الغذاء واألمن‪ .‬ومن‬
‫هذه احلاجة والصراعات إلرضائها يف التكييف بالبيئة الطبعية‬
‫واالجتماعية يتحدد وعيه بنفسه‪ ،‬وتتحدد معرفته حبقائق الكون‪.‬‬
‫اجلدلية اهلابطة حتدد اإلنسان بكونه حيوانا اجتماعيا‬
‫موضوعيا‪ ،‬مبا خلقته الظروف املعاشية‪ ،‬واعيا لقيمته نتيجة لعمله‬

‫‪ 1‬املعطى ‪.la donnée :‬‬

‫‪24‬‬
‫احلسي املتسلط على البيئة الطبيعية واالجتماعية‪.‬‬
‫وإن كانت الفلسفات املثالية تتحدث عن جوهر اإلنسان‬
‫وتبىن عليه‪ ،‬فالفلسفة املادية السائدة منذ العلموية الوضعية‪ ،‬ال‬
‫ترى لإلنسان جوهرا مستقال عن تارخييته‪ .‬عند هيجل يتحقق‬
‫جوهر اإلنسان إذا عارض اجلدلية بينه وبني العامل اخلارجي يف‬
‫قابلياته‪ 1‬اليت ال هناية هلا‪ ،‬وعند اجلدلية اهلابطة يتحقق اإلنسان‬
‫بالسري مع التيار التارخيي احملتوم الذي يسد كل إمكانية ليست‬
‫إمكانية عدل التوزيع لألرزاق املادية‪.‬‬
‫قاعدة الفلسفة املاركسية أن اإلنسان خيلق نفسه بعمله يف‬
‫صراعه مع الرتاب والناس‪ ،‬وقاعدة الفلسفة الوجودية أن اإلنسان‬
‫يتأله باستقالله يف األرض يف فرتة ما قبل املوت‪ .‬وبعبارة أجلى‬
‫فقاعدة املاركسية هي ‪ :‬اإلنسان أمام احلاجة‪ ،‬وقاعدة الوجودية‪: ‬‬
‫استقالل اإلنسان أمام املوت‪ .‬وكان ال بد من هذه املقدمات‬
‫لنضع قاعدة املنهاج النبوي ليسر الفهم بتعارض الشيء وضده‪.‬‬
‫هذه القاعدة هي ‪ :‬عبودية اإلنسان هلل الفاطر‪ ،‬معناه أن اإلنسان‬
‫خملوق لغاية‪ ،‬له خالق فطره فهو مواله‪ .‬فاإلنسان قبل كل شيء‬
‫جوهر فاعل له إرادة وحرية يف االختيار فهو مأمور بالشريعة من‬
‫أجل ذلك‪.‬‬

‫‪ 1‬قابليات ‪.virtualités :‬‬

‫‪25‬‬
‫أما البيئة الطبعية واالجتماعية اليت تكون وسط فعل اإلنسان‬
‫فليست يف املنهاج النبوي معطى مصدر معرفته التاريخ وجدليته‪،‬‬
‫بل هو عامل خملوق لغاية‪ ،‬وهذا العامل مبا فيه من أحداث خارجية‬
‫عن ذات الفاعل اإلنساين ونوازع جبل عليها‪ ،‬هو عامل فتنة‪،‬‬
‫أي عامل اختبار وامتحان لإلنسان املخلوق املريد احلر املأمور‬
‫بالشريعة‪ .‬ومصدر املعرفة أن هذا العامل فتنة هو النبوءة ألن اخلالق‬
‫الفاطر أرسل رسله للخلق‪.‬‬
‫ها إن اإلنسان وضعناه حيث وضعه املنهاج النبوي‪ ،‬ولعل‬
‫عملنا ال يقرب من حتري الفلسفة وشكها‪ ،‬إذ مل نسبق موضوعة‬
‫فكرية‪ 1‬تؤسس املنهاج‪ .‬فلنقل إن هذا الوضع لإلنسان يف خط‬
‫نظر خاص‪ ،‬مسلمة من املسلمات‪ ،‬يأيت نقدها عرب التحليل‬
‫الالحق‪.‬‬
‫ولنا بعد هذا أن نكمل وضع املنهاج وصياغته‪ .‬إنه منهاج‬
‫نبوي مبعىن أن رسالة اخلالق ملخلوقاته جاءتنا بواسطة رجال ُحلوا‬
‫األمر اإلهلي إلينا‪ .‬فماذا قال اهلل بلسان أنبيائه فيم يعرف اإلنسان‬
‫ويرسم له طريقا للسلوك والعمل ؟ سورة واحدة من القرآن الكرمي‬
‫تنتصب أمامنا مشرقة واضحة‪ ،‬تعطي القاعدة ملعرفة اإلنسان‬
‫ومعرفة فاعليته وحتدد له موضوعا واجتاها‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪:‬‬

‫‪ 1‬موضوعة فكرية ‪.cogito :‬‬

‫‪26‬‬
‫َنت ِحلٌّ بِ َه َذا‬ ‫ْس ُم بِ َه َذا الْبـَلَ ِد َوأ َ‬
‫يم َل أُق ِ‬ ‫الر ِح ِ‬‫الر ْحم ِن َّ‬
‫اهلل َّ‬‫﴿بِس ِم ِ‬
‫ْ‬
‫ب أَن‬ ‫س ُ‬
‫ِ ٍ‬
‫نسا َن في َكبَد أَيَ ْح َ‬ ‫ال َ‬‫الْبـَلَ ِد َوَوالِ ٍد َوَما َولَ َد لََق ْد َخلَ ْقنَا ِْ‬
‫ب أَن لَّ ْم يـََرهُ‬ ‫ُّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫س ُ‬ ‫ت َماالً لبَداً أَيَ ْح َ‬ ‫ول أ َْهلَ ْك ُ‬
‫َح ٌد يـَُق ُ‬ ‫لَّن يـَْقد َر َعلَْيه أ َ‬
‫َّج َديْ ِن‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫ساناً َو َش َفتـَْي ِن َو َه َديـْنَاهُ الن ْ‬ ‫َح ٌد أَلَ ْم نَ ْج َعل لهُ َعيـْنـَْي ِن َول َ‬ ‫أَ‬
‫ام فِي‬ ‫اك ما الْع َقبةُ فَ ُّ ٍ‬
‫ك َرقـَبَة أ َْو إِط َْع ٌ‬ ‫فَ َل اقـْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ َوَما أَ ْد َر َ َ َ َ‬
‫يـَْوٍم ِذي َم ْسغَبَ ٍة يَتِيماً َذا َم ْق َربٍَة أ َْو ِم ْس ِكيناً َذا َمتـَْربٍَة ثُ َّم َكا َن‬
‫اص ْوا بِال َْم ْر َح َم ِة أ ُْولَئِ َ‬ ‫اص ْوا بِ َّ‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫ك‬ ‫الص ْب ِر َوتـََو َ‬ ‫آمنُوا َوتـََو َ‬ ‫ين َ‬ ‫م َن الذ َ‬
‫اب ال َْم ْشأ ََم ِة‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫َص َح ُ‬ ‫ين َك َف ُروا بِآيَاتِنَا ُه ْم أ ْ‬ ‫اب ال َْم ْي َمنَة َوالذ َ‬ ‫َص َح ُ‬ ‫أ ْ‬
‫ص َدةٌ﴾‬ ‫َعلَْي ِه ْم نَ ٌ‬
‫ار ُّم ْؤ َ‬
‫‪1‬‬

‫نأخذ من اآليات الكرميات الصيغة الواحدة املركزة للمنهاج‬


‫النبوي‪ ،‬هذه الصيغة هي ‪ :‬اقتحام العقبة‪ ،‬لنرجع بعد نفحصها‬
‫ونتبني ما تعطيه من معرفة ومن إمكانيات وعي للوجود والعمل‬
‫اإلنساين‪.‬‬
‫اجلدلية التارخيية تلح على كون اإلنسان ال يتميز وال يعي‬
‫ذاته إال بالعمل‪ ،‬وعمله يعطيه قيمته إن كان عمال حرا‪ ،‬فإذا‬
‫وسخر أصبح اإلنسان بضاعة على صورة عمله‬ ‫انتُهب منه عمله ُ‬
‫املستبضع وصار كائنا ُم َشيَّئًا ُم ْستـَلَبًا‪ .‬لذلك فأفق السعي املاركسي‬
‫ومداه حترير العمل ليتحرر اإلنسان‪ .‬ويبقى ضمنيا أن اإلنسان دابة‬

‫‪ 1‬سورة البلد‪.‬‬

‫‪27‬‬
‫عاملة دائرهتا اإلنتاج‪ .‬يبقى ذلك ضمنيا ألن اجلدلية التارخيية ال‬
‫تتحدث عما وراء ذلك بل تنفيه وتطارده إن ظهر يف تطلعات‬
‫املثقفني والفنانني‪ .‬أما الوجودية فمجال عملها ومداه دائرة املمكن‪.‬‬
‫ودائرة املمكن هذه مادية حمض ويقتضي العمل الوجودي التحرر‬
‫من كل قانون خلقي واجتماعي الستيعاب كل عمل ممكن‪.‬‬
‫هكذا يذوب اإلنسان وسعيه يف نظر الفلسفة املادية وسط‬
‫مشروعات خبسة إلرضاء احلاجة والتأله على املادة وإمكاناهتا‪،‬‬
‫وهنايته املوت‪.‬‬
‫أما يف املنهاج النبوي فاإلنسان عامل ألنه خلق ليعمل‪ ،‬لكن‬
‫عمله يكون َكبَ ًدا وتعبا إن ظن أن لن يقدر عليه أحد‪ ،‬ومل يتجه‬
‫صعُ ًدا القتحام العقبة‪ .‬إ ْن تأله اإلنسان وطغى بسلطانه‬ ‫بعمله ُ‬
‫على جمال املمكن متجاهال مصدر هذا احلس الذي به كانت له‬
‫القوة كان يف تعب وشقاء‪.‬‬
‫حني يقول اجلاهلي ‪ :‬أنا هنا بقدريت على العمل وحساسييت‬
‫وحرييت ! يقول املسلم معرتفا خبالقه جميبا ‪ :‬بلى رب جعلت يل عينني‬
‫ولسانا وشفتني ! ويستعد لتلقي اهلداية من ربه من حيث يُعرض‬
‫اجلاهلي الكافر‪ .‬إن رهبما هدامها النجدين‪ ،‬والنجد يف اللغة عقبة‬
‫وارتفاع‪ ،‬فاملسلم اقتحم جنده ملا حبس نفسه عند األمر والنهي‪،‬‬
‫واجلاهلي لبث يف كبد بعمله وتأهله كادا يف مغالبة البيئة الطَّبعية‬

‫‪28‬‬
‫واالجتماعية شقيا بذلك‪ ،‬ال يتفتح أمامه باب الرمحة ورجاء ما‬
‫عند اهلل بعد املوت‪.‬‬
‫اجلاهلي يذوب سعيه يف التاريخ متمردا على صورة أمثولته‬
‫األسطورية «بروميثيوس» هاويا ملآله األرضي راضيا به‪ ،‬ويتجاوز‬
‫املؤمن التاريخ ال باهلروب منه بل باقتحام عقبة الفتنة‪.‬‬
‫فموضوع املؤمن احلر العامل املقتحم للعقبة هو نفسه أوال حيملها‬
‫على االعرتاف خبالقه وعلى السري يف االجتاه الذي رمسه الشرع‬
‫اإلهلي‪ ،‬مث عامل الفتنة القائم املشرتك بينه وبني اجلاهلي الكافر‪.‬‬
‫كالمها ولد يف بيئة طبعية واجتماعية‪ ،‬وكالمها حباجة ألكل‬
‫وأمن‪ ،‬كالمها مزود بعقل وحس‪ ،‬وكالمها ورث تطورا ماديا شكل‬
‫ما بني يديه من أدوات ثقافية وتكنلوجية‪.‬‬
‫أحدمها ذاب يف الفتنة (نستعمل عبارة الذوبان ريثما نستبدهلا‬
‫بعبارة الرتف وهي املفهوم القرآين الدال على ذهاب اإلنسان‬
‫مع املعطى املادي واالجتماعي)‪ ،‬والثاين اقتحم الفتنة‪ ،‬أحدمها‬
‫من أصحاب املشأمة والكبد والشقاء األبدي‪ ،‬واآلخر من‬
‫أصحاب امليمنة من أهل السعادة األبدية‪ .‬والناظر لإلنسان بغري‬
‫املنهاج النبوي ال يرى أن اإلنسان يف كبد‪ ،‬بل يفتنت بالرفاهية‬
‫املتاحة للجاهلي يف هذه الفرتة من تاريخ البشر‪ ،‬فيرتاءى له‬
‫أن الكبد من نصيب املؤمنني‪ ،‬بل إن ممن ينتسبون لإلسالم من‬

‫‪29‬‬
‫يفتنت بذلك فيخاصم ربه أن أتاح للكافر حياة رغدا‪ ،‬وقد يطغى‬
‫فينكر ربه‪ .‬هذه بعض أبعاد الفتنة وبعض معانيها ودروهبا‪.‬‬
‫اقتحام العقبة حيدد لعمل املؤمن الفاعل ذي اإلرادة احلرة‬
‫اجتاها صاعدا‪ ،‬وينصب بني عينيه صورة مستقبل يتجاوز التاريخ‬
‫األرضي فيقرتح على املؤمن مسرية إىل اهلل من ماض يثقل حاضره‬
‫باملوروث‪ ،‬عرب حاضر متموج بالفنت ورث اإلنسان ظلما اجتماعيا‬
‫غل رقاب اإلنسانية واستعبدها‪ ،‬فاملنهاج السلوكي يف فك الرقبة‬
‫كما تعرب اآلية الكرمية واملنهاج يف إطعام اليتيم واملسكني رمحة‬
‫للمرتبَة واملقربة‪.‬‬
‫َ‬
‫ولعل من ألف منط الفكر اجلاهلي يتعرض فيقول ‪ :‬أين حنن اليوم‬
‫من عتق الرقاب وإطعام اليتيم واملسكني‪ ،‬وإن ما تقرتحه املناهج‬
‫احملررة أعلى ألهنا تسعى أال يبقى حرمان بعد أن حتقق يف األرض‬
‫التحرير من الرق! واجلواب املنهاجي النبوي أن اهلل خياطب املؤمنني‬
‫باعتبارهم خلفاء وقيمني على األرض ومن فيها‪ ،‬والرقاب مستعبدة‬
‫ال تزال‪ ،‬ويـُْتم اإلنسان ومسكنته ال تغطيهما ما صنعه احملظوظون يف‬
‫مصانعهم اليت تظل البؤس والكآبة الصناعيني ال حيسدمها عليه ثلثا‬
‫اإلنسانية من احملرومني‪ ،‬من هواء وماء‪ .‬هذا هو معىن فك الرقاب‬
‫وإطعام اليتيم واملسكني يف عصرنا‪ .‬وحني يأذن اهلل أن يعز اإلسالم‬
‫‪30‬‬
‫فستذل رقاب اجلاهلية وسيكون فك رقاهبا بالنسبة للمؤمن أخذها‬
‫بيد العزة والرمحة معا حىت تفيء إىل أمر اهلل‪ ،‬ويتم خالصها من‬
‫املشأمة يف الدنيا واألخرة‪.‬‬
‫بني ماضي اإلنسان ومستقبله عرب حاضره املثقل بوراثة متحكمة‬
‫وآمال وخوف وشك يف املستقبل‪ ،‬يقتسم املؤمنون واجلاهليون‬
‫هذه الكرة األرضية يكدحون فيها ويتعبون ويتعارضون منذ بعث‬
‫اهلل األنبياء برسالته ألهل األرض‪ ،‬ويعز املؤمنون يف عصور اإلميان‬
‫ألهنم يقتحمون العقبة‪ ،‬ويذلون فيصبح هلم قيمة الغثاء إن كان‬
‫عملهم سلوك جند الكبد املشؤوم غافلني عن رهبم‪ .‬عندما تلتقم‬
‫الفتنة املؤمنني فيُتـَْرفُو َن فيها‪ ،‬أي يذوبون يف لذائذ احلس أو حبائل‬
‫العقالنية واالستكبار‪ ،‬يفقدون فاعليتهم وتعمى عنهم الشريعة‪،‬‬
‫فال يهتدون عملهم كما علمهم الرسل‪ ،‬وال يهتدون إىل االجتاه‬
‫الذي فيه ينبغي أن يعملوا‪.‬‬
‫ويف فرتات من التاريخ يتقلص اإلميان إىل إسالم فردي‪ ،‬فيعتق‬
‫الناس الرقاب ويطعمون اليتيم واملسكني‪ ،‬كل على حدة‪ ،‬متقربا‬
‫بعمله إىل اهلل‪ ،‬ال يدخل ذلك يف جهاد مجاعي إلحياء األمة‬
‫وإطعامها وحترير رقاهبا‪ .‬وهذا هو اإلسالم املوجود اليوم بني‬
‫ظهرانينا‪ ،‬وهو فهم جزئي وممارسة جزئية للمنهاج النبوي‪ .‬ذلك‬
‫ألن اقتحام العقبة ال يتم بأعمال الرب الفردية وحدها‪ .‬كال !‬

‫‪31‬‬
‫حىت يدخل العمل يف اجلهاد اجلماعي لألمة‪ ،‬ذلك ما قاله اهلل‪:‬‬
‫اص ْوا‬ ‫ِ َّ ِ‬
‫آمنُوا َوتـََو َ‬
‫ين َ‬
‫«فَ َل اقـْتَ َح َم ال َْع َقبَةَ !… ثُ َّم َكا َن م َن الذ َ‬
‫اص ْوا بِال َْم ْر َح َم ِة»‪.‬‬ ‫بِ َّ‬
‫الص ْب ِر َوتـََو َ‬
‫فما مل يكن املؤمن مع املؤمنني وما مل يشاركهم يف الصرب‬
‫والعمل والرمحة اجلماعية‪ ،‬أي ما مل ينضم للجماعة ويتعاون معها‬
‫على إقامة شرع اهلل فإنه مل يقتحم العقبة‪.‬‬
‫املسلمون جيهلون إسالمهم فنشأ عن ذلك أو نتج عنه مجود‬
‫وتوقف حضاري وترد مع التيار اهلابط‪ .‬أي بعبارة أوضح‪ ،‬لقد‬
‫فقد املسلمون حركيتهم‪ 1‬وفقدوا املبدأ الدافع واالجتاه ومعىن العمل‬
‫وإهنم لن يستعيدوا كياهنم اإلسالمي ولن يرجعوا أمة كما كانوا إال‬
‫إن حتركوا‪ .‬وليس ما نراه يف دار اإلسالم من حتركات وضوضاء‬
‫إال اضطرابا‪ ،‬ألن عمل املسلمني املرتفني يف الفتنة ينبثق عن‬
‫معرفة جاهلية ووعي جاهلي للذات واملوضع واالجتاه‪ .‬وإن اقتحام‬
‫العقبة الذي هو املنهاج النبوي هو وحده احلركة اليت سيكتشف‬
‫املسلمون هبا إسالمهم‪ .‬إهنم مىت زالوا عن مواضعهم احلالية‪ ،‬أهل‬
‫السياسة عن تسخريهم للجماهري املشعبة وأهل القيادة عن التألة‬
‫والفسق وأهل املال عن األثرة واالستغالل‪ ،‬ستظهر هلم قتامة‬
‫الوضع احلايل‪.‬‬

‫‪ 1‬حركية ‪.dynamisme :‬‬

‫‪32‬‬
‫إذا كان الشباب يف دار اإلسالم جيهل اإلسالم ويتنكر له فذاك‬
‫ألن املواقع اليت حيتلها من يدعون اإلسالم من األجيال األشد فتنة‬
‫مواقع جاهلية تتصف باجلمود واألثرة واالحنالل اخللقي‪ ،‬فذلك‬
‫املوت وذلك احلرمان وذلك اخلزي واهلزمية ! ويرى الشباب يف‬
‫األيديولوجيا وبالدها حركية فعلية وصراعا حنو دوابية أفضل وهم‬
‫يف بالدهم حيرمون حىت حق الصراع‪.‬‬
‫فالعمل اإلسالمي ليس تأمال منهاجيا للعروض األكادميية بل‬
‫هو دعوة إهلية نبوية تثري القاعد واملرتدي ليقتحم العقبة‪ .‬وال يصح‬
‫عرض املنهاج النبوي إال يف سياق دعوة تصرخ مبشرة منذرة أن‬
‫حتركوا يا مسلمني ودعوا باطل غريكم إىل حقكم املنزل من ربكم!‬
‫العبارة القرآنية ‪« :‬فال اقتحم العقبة!» عبارة غضب ورمحة‬
‫على هذا اإلنسان التعب النكد وله‪ ،‬فال ‪ :‬أداة للتحضيض واألمر‬
‫الصارم اجلاد‪ .‬وقد فسر اآلية مفسرون رأوا يف العبارة نفيا والتمسوا‬
‫العقبة اليت ما اقتحمها اإلنسان يف صخور جهنم‪ .‬وبعض املفسرين‬
‫سبقونا للمعىن التحضيضي وبينوا العقبة وفسروها مبا يليها من فك‬
‫الرقاب وإطعام اليتيم واملسكني والكينونة مع املؤمنني املتواصني‬
‫بالصرب والرمحة‪ .‬نقول هذا ملن يسألنا عن أدوات اجتهادنا‪ .‬مث‬
‫منضي ننظر يف مستقبل اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫لن يتكشف إذن اإلسالم للمسلمني إال إذا حتركوا من مواقعهم‬

‫‪33‬‬
‫اجلاهلية‪ ،‬وباكتشاف صواهبم املستقبل يفتضح يف عني اجلميع‬
‫ضالل احلاضر‪ .‬املسكني يف دار اإلسالم والصغري الذي مل يتكئ‬
‫على مراتب السلطان االجتماعي أو السياسي أو االقتصادي‬
‫يقارن بني حاضر قومه البئيس وحاضر البالد الثورية‪ ،‬الثورية‬
‫بعمق‪ ،‬فيحكم على فساد أوضاع بالده‪ ،‬ويثور ويشقى‪ ،‬ويلتمس‬
‫قلبا لألوضاع ليصلح األمر‪ .‬واملنهاج النبوي الذي نعرضه يف سياق‬
‫دعوة إسالمية لعمل إسالمي إمنا هدفه ومقصده وغايته التغيري‬
‫للحاضر يف اجتاه إسالمي بعمل إسالمي وأسلوب إسالمي‪ .‬فمن‬
‫يقتحم العقبة ؟ أيقتحمها مجاعة باألمة كلها‪ ،‬أم تقتحمها األمة‬
‫مع قيادة إسالمية ؟ وما دام ليس لإلسالميني رجال الدعوة تنظيم‬
‫إسالمي فمن يقتحم العقبة ؟ وبعبارة أوضح ‪ :‬من هو الفاعل‬
‫التارخيي للتغيري اإلسالمي ؟ ويف أي جمال ؟ أهو طاقة العمل‬
‫اجملسمة يف «الربوليتاريا» كما يقول الشيوعيون ؟ أي يف جمال‬
‫املمكن كما يعرب الوجوديون ؟ اجلواب عن كل هذا جنده يف كتاب‬
‫اهلل وسنة رسوله عندما نبحث مبنظار املنهاج النبوي يف صفحات‬
‫هذا الفصل التالية‪ .‬فإذا ذكرنا التجربة الصوفية فإمنا نستعمل‬
‫اصطالحا طاملا عمى عن املسلمني حقيقة املمارسة اإلميانية‬
‫اإلحسانية كما عاشها األنبياء والصحابة عليهم مجيعا سالم اهلل‬
‫ورضوانه‪ .‬وتتساوق حركية املنهاج النبوي يف خصال عشر هي‬
‫صلب الكتاب والسنة‪.‬‬

‫‪34‬‬
‫اخلصال العشر‬
‫مابني احلياة واملوت جمال زمين لعمل اإلنسان‪ ،‬وهذا العامل مبا‬
‫فيه من امكانيات لإلنسان السادج ولإلنسان املسلح بالعقالنية‬
‫التكنولوجية على السواء جمال حيوي يشقى فيه ويسعد‪ ،‬ويتوسع‬
‫فيه أو يضيق حسب هذه العالقات البشرية اليت تربطه بالعدو‬
‫والصديق واملعاون واملنافس واألسرة والقوم‪ .‬بيئة طبعية بشرية هي‬
‫الوسط الذي ميارس فيه اإلنسان كدحه وصراعه من أجل احلياة‪.‬‬
‫ اإلنسان الساذج قليل احلول يقضي عمره يف مغالبة القلة‪،‬‬
‫واإلنسان املسلح بالتكنولوجيا يعلو على دواعي القلة فيعمل يف‬
‫اجتاه املمكن‪ ،‬أي بال وزاع خارج عن مقتضيات النظام واألمن‬
‫االجتماعيني‪ .‬كل ما تتحيه له احلذاقة الصناعية والكثرة إلرضاء‬
‫شهواته فهو له مطلب ال تـَُقيِ ُدهُ عنه إال حقوق غريه‪ ،‬وهكذا فكال‬
‫اإلنسانني يستهلكه الصراع من أجل احلياة‪ ،‬فيذوب األول يف كدح‬
‫من أجل العيش‪ ،‬ويذوب الثاين يف مطاردة اللذة‪ ،‬ذلك جائع‬
‫شقي جبوعته منهمك يف صور ما حرم منه‪ ،‬وهذا مستهلك ذهبت‬
‫عنه معاين اإلنسانية وبقيت دوابيته‪ .‬هذا الذوبان واالستهالك‬
‫نعرب عنه بكلمة الرتف وهو مفهوم قرآين‪ .‬وإن كان الرتف‬

‫‪35‬‬
‫يف اللغة االستهالك واالهنماك والذوبان يف اللذة فنحن نوسعه ليشمل‬
‫كل قصور وكل ارتداد عن اقتحام العقبة‪ .‬فنستعمل فعل أُترف‪ 1‬نظرا‬
‫﴿و ْارِجعُوا إِلَى َما أُتْ ِرفـْتُ ْم فِيهِ﴾‪.‬‬
‫لقوله تعاىل للكافرين يوم الدين ‪َ :‬‬
‫وهكذا يكون لدينا تصور متكامل يعطينا وسيلة لتأمل األنسان املرتف‬
‫بفكره أو بلذاته وممتلكاته أو بالسياسة وطلب اجلاه‪ ،‬باعتبار أن كل‬
‫ما أترف فيه اإلنسان فإمنا يعوقه عن اقتحام العقبة‪.‬‬
‫احلياة والبيئة واجملتمع جماالت يأخذها العقل على أهنا ُم ْعطًى‬
‫لإلنسان موروث‪ ،‬فإن كان هذا اإلنسان جاهليا‪ ،‬وحنن نعيش يف‬
‫جاهلية جهالء‪ ،‬مل يكن هذا املعطى إال فرصة للمتاع ومل تكن‬
‫لإلنسان غاية إال احلياة يف أحسن ما يتمناه‪ .‬فيكون صراعه‬
‫مفضيا إىل تَرف من نوع ما‪ .‬من حصل على التكنولوجيا وأحرز‬
‫الكثرة والوفرة أُترف يف استهالكه‪ ،‬ومن ُحرم ذلك أُترف يف‬
‫مطالبته وثورته ومسى متخلفا‪ .‬ومن خالل مبدإ الصراع اجلاهلي‬
‫وغايته االقتصادية احملض‪ ،‬تستحيل معاين احلرية واإلنسانية والظلم‬
‫شرف اإلنسان يف نظرهتا‬ ‫ُ‬ ‫والعدل إىل نسبيات اقتصادية أرضية‪،‬‬
‫اس مبا عنده من فرص إلرضاء‬ ‫مستوى عيشه املادي‪ ،‬وحريته تـَُق ُ‬
‫شهوته‪ ،‬والظلم والعدل ال يتعديان مقادير الرزق املتصارع عليه‪.‬‬
‫هبذه التصورات يسبح الفكر اجلاهلي واملمارسة اجلاهلية يف‬

‫‪ 1‬ميكن أن يقابل معىن فعل «أترف يف» مفهوم القاموس الفلسفي ‪.»s’exténuer dans« :‬‬

‫‪36‬‬
‫جماالت احلياة‪ .‬ومبعيار هذه التصورات يوصف املسلمون بأهنم‬
‫أقوام متخلفة‪ .‬وال بد لنا أن نستبصر يف هذه التصورات قبل‬
‫أن تقبل على اقتحام العقبة وأن نتعلم ماهية العقبة اليت أمرنا‬
‫باقتحامها‪ .‬أهي عقبة التخلف ؟ إذن فغايتنا أن نرتف يف اجلاهلية‬
‫ونذوب فيها سائرين على دروب الصراع من أجل التصنيع أو‬
‫منهني إىل جمتمع استهالكي‪ ،‬وعندئذ فال حاجة بنا لإلسالم وال‬
‫مطمع يف محل رسالة اخلالص لإلنسانية‪.‬‬
‫ما هي احلرية وما هو العدل وما هي اإلنسانية ؟ إذا رجعنا‬
‫مة أننا عبيد هلل مأمورون‪ ،‬فإننا نتلقى جوابا غري جواب‬ ‫إىل مسلَّ ِ‬
‫اجلاهلية‪ .‬احلرية اجلاهلية حرية للخوض يف اللذات املمكنة‪ ،‬واحلرية‬
‫اإلسالمية أن تكون من أصحاب امليمنة‪ .‬العدل اجلاهلي توزيع‬
‫للرزق باملعاركة والكيد السائدين يف جمال االقتصاد‪ ،‬والعدل‬
‫عدول عن الرتف يف الدنيا إىل مواجهة الواجب اإلهلي‪.‬‬
‫اإلسالمي ٌ‬
‫اإلنسانية اجلاهلية دوابية منقطعة يف األرض‪ ،‬حمط مهتها املريخ‬
‫عرفنا هبا فاطرها طائفتان‪ ،‬أصحاب ميمنة‬ ‫وزحل‪ ،‬واإلنسانية اليت َّ‬
‫وأصحاب مشأمة‪ .‬والفيصل يف كل ذلك اإلميان والعمل الصاحل‪.‬‬
‫لكيال نتيه عن العمل اإلسالمي واجتاهه نتحقق أوال من ماهية‬
‫العقبة باحثني عن ذلك يف كتاب اهلل تعاىل‪ .‬إننا إذ نعرفها بكل‬
‫أبعادها حيصل لنا تصور مركزي‪ .‬هذا التصور هو ‪ :‬العقبة ‪ :‬الفتنة‪.‬‬

‫‪37‬‬
‫ْحيَاةَ لِيَبـْلُ َوُك ْم أَيُّ ُك ْم‬
‫ت َوال َ‬ ‫قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬الَّ ِذي َخلَ َق ال َْم ْو َ‬
‫﴿ونـَبـْلُوُكم بِ َّ‬
‫الش ِّر َوالْ َخ ْي ِر‬ ‫س ُن َع َمالً﴾ وقال عز وجل ‪َ :‬‬ ‫َح َ‬
‫أْ‬
‫فِتـْنَةً﴾‪ ،‬وقال عز وجل من قائل ‪﴿ :‬إِنَّ َما أ َْم َوالُ ُك ْم َوأ َْوَل ُد ُك ْم‬
‫فِتـْنَةٌ ﴾ وهذا كثري جدا يف القرآن‪.‬‬
‫ومؤداه أن وجودنا يف الدنيا إمنا كان من أجل االختبار‬
‫ضعنا الفاطر سبحانه يف بيئة مادية إنسانة تربطنا هبما‬ ‫واالمتحان‪َ ،‬و َ‬
‫عالقات متشعبة‪ ،‬وأرسل إلينا مناذج سلوكية مع أنبيائه املتعاقبني‬
‫ليبلونا هل حنسن العمل وهل نغلب ضراوة غرائزنا وطاغوت عقلنا‬
‫وكربيائنا‪ .‬فنحن يف وسط ابتالء يف وسط فتنة‪.‬‬
‫العقبة هي الفتنة‪ ،‬هي جمال االختبار‪ ،‬وكأن احلياة وأدوارها‬
‫وأحداثها مسرح إهلي تعطى فيه حرية اإلرادة للممثلني أن يتصرفوا‬
‫وفق برنامج مسبق شاق يشكل عقبة‪ ،‬فمنهم من يتجاوز مراحل‬
‫العقبة فيخرج من الفتنة ناجحا‪ ،‬ومنهم من يُرتف فيما ُزين به‬
‫املسرح من ملذات فيفنت ويضيع‪.‬‬
‫السلوك اإلنساين جيري يف جمال هو باعتبار طبيعته ومشاقه‬
‫عقبة‪ ،‬وهو باعتبار مغزاه وغاية خلقه فتنة‪ .‬فالسالك يقتحم العقبة‬
‫على علم تام مبا جاءته به الرسل ‪ :‬أن الدنيا متاع الغرور وأن‬
‫اآلخرة دار النعمة والقرار‪ .‬فإما يكفر بالرسل فهو جاهلي‪ ،‬وإما‬
‫يصدق لكن يعجز عن االقتحام فهو مرتف وهو مفتون‪ .‬وفيما‬

‫‪38‬‬
‫يلي مما نكتب نقصد باجلاهلية واجلاهلني الكفار من سكان دار‬
‫احلرب‪ ،‬ونغطي ردة بعض سكان دار اإلسالم إذ نطلق لفظ الرتف‬
‫والفتنة عليهم رجاء أن يعود اهلل علينا برمحته فنرجع لعزة إسالمنا‪.‬‬
‫التخلف والفتنة تصوران متعارضان أحدمها جاهلي والثاين‬
‫إسالمي‪ .‬وكما نفهم حنن املسلمني أنفسنا ونعيها يكون عملنا‪،‬‬
‫فإن قسنا أنفسنا مبعيار التخلف احنبسنا يف الدائرة املادية وغرزنا‬
‫رؤوسنا يف محأهتا‪ ،‬وكان عملنا مطالبة وصراعا من أجل جمتمع‬
‫استهالكي مصنع‪ .‬وإن حددنا أنفسنا بتصور الفتنة اإلسالمي‬
‫وعملنا عمال إسالميا على أساس أننا قوم مفتونون‪ ،‬اختذ معىن‬
‫اقتحام العقبة أبعادا أخرى ليس التصنيع فيها يكون من أجل‬
‫االستهالك لكن من أجل القوة‪ ،‬وليست احلرية فيها حتلال وذوبانا‬
‫يف اللذة املمكنة لكن اختيارا للواجب اإلهلي وللموعود اإلهلي‪.‬‬
‫وكما نفهم أنفسنا ونعي العامل وعيا جاهليا أو إسالميا يتكيف‬
‫عملنا فننتقل من اخلبط واالضطراب احلاليني إىل عزمة إسالمية‬
‫تصطحب فيها اإلرادة املؤمنة بالرجاء الساطع يف موعود اهلل أن‬
‫يستخلف يف األرض املؤمنني الذين يعملون الصاحلات‪ ،‬وإذا حنن‬
‫أمة كرمية حتمل رسالة اخلالص للبشرية مجعاء‪.‬‬
‫ميكن السلوك املنهاجي على إحدى خطتني اثنتني‪ .‬األوىل‬
‫نعرفها بـ ‪ :‬مشروع اخلالص اجلماعي‪ ،‬والثانية نعرفها بـ ‪ :‬مشروع‬
‫اخلالص الفردي‪.‬‬

‫‪39‬‬
‫ يتصور بعض الناس الدين أنه مطلب خاص بالفرد وعالقته‬
‫مع اهلل‪ ،‬متأثرين باملفهوم السائد خاصة عند املسيحني‪ ،‬فيكون‬
‫إسالمهم قاصرا على اجلانب العبادي وما خيص ذات املسلم يف‬
‫معامالته مع الناس‪ ،‬فال يأكل حراما وال يظلم‪ ،‬ويؤدي صلواته‬
‫وصيامه وحجه وزكاته‪ .‬فهل يقبل اإلسالم هذا املشروع الفردي‬
‫للخالص؟ وقد شاع فيما يكتبه رجال الدعوة اإلسالمية التنديد‬
‫هبذا السلوك ورفضه‪ .‬ولعل رجال الدعوة يقصدون أن خيرج‬
‫املسلمون من إسالمهم الفردي هذا إىل إسالم مجاعي‪.‬‬
‫والذي جنده يف كالم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم عندما‬
‫يصف زمن الفنت عكس هذا‪ ،‬إذ يبيح للمسلم أن يفر وحده‬
‫بدينه‪ .‬وقبل أن نذكر واحدا من أحاديثه الشريفة يف املوضوع‬
‫نضيف مفهوما جديدا آلالتنا التصويرية‪ .‬املعىن القرآين للفتنة‬
‫رأيناه‪ ،‬ويف االستعمال النبوي تتخذ الفتنة معىن آخر هو معىن‬
‫العنف واالضطراب االجتماعي وسفك الدماء‪ .‬ويف كتب احلديث‬
‫أبواب فيها ذكر الفنت‪ ،‬خيرب فيها الرسول الكرمي صلى اهلل عليه‬
‫وسلم باحلروب واألهوال اليت ستمزق األمة‪ ،‬وحيث على منط‬
‫من السلوك غري عنيف من ضمنه الفرار بالدين أي االنزواء يف‬
‫اإلسالم الفردي‪ ،‬يف مشروع اخلالص الفردي‪.‬‬
‫‪40‬‬
‫عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم قال ‪« :‬من خير معاش الناس رجل ممسك عنان فرسه في‬
‫سبيل اهلل‪ ،‬يطير على متنه كلما سمع هيعة أو فزعة طار إليها يبتغي‬
‫القتل والموت مظانه‪ ،‬أو رجل في غنيمة في رأس شعفة من هذه‬
‫الشعف‪ ،‬أو بطن من هذه األودية‪ ،‬يقيم الصالة ويؤتي الزكاة ويعبد‬
‫ربه حتى يأتيه اليقين‪ ،‬ليس من الناس إال في خير»‪.1‬‬
‫احلديث يفتح اجملال لإلسالم الفردي‪ ،‬للرجل العائش مع‬
‫غنمه ويفضل عليه اجملاهد املدافع عن مجاعة املسلمني‪ .‬ويف هذا‬
‫املعىن أحاديث كثرية‪.‬‬
‫أما مشروع اخلالص اجلماعي فهو مشروع اجلهاد مبعناه الواسع‬
‫ين‬ ‫ِِ‬
‫َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ‬
‫﴿وفَض َ‬ ‫الذي يشمل جهاد الدعوة وجهاد البناء‪َ ،‬‬
‫َجراً َع ِظيماً َدرج ٍ‬
‫ات ِّم ْنهُ َوَمغْ ِف َرًة َوَر ْح َمةً﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫ََ‬ ‫َعلَى الْ َقاعد َ‬
‫ين أ ْ‬
‫إذا رجعنا إىل سورة البلد اليت تضع قاعدة املنهاج وسياقه‬
‫وجدنا تعريفا القتحام العقبة حبيث ال يتم السلوك الصاعد املقتحم‬
‫إال بالدخول يف اجلماعة واملشاركة يف التواصي باحلق واملرمحة‪.‬‬
‫وهذا ما يوصلنا إىل عرض مراتب اإلسالم وعرض املعراج‬
‫السلوكي اإلسالمي اإلمياين اإلحساين كما وصف ذلك رسول اهلل‬

‫‪1‬رواه مسلم‪.‬‬

‫‪41‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يف حديث جربيل العظيم‪ .‬اإلسالم شهادة‬
‫هلل ورسوله وصالة وصوم وزكاة وحج بشرط أن يسلم املسلمون‬
‫من لسانه ويده‪ .‬واإلميان يضيف إىل ذلك اعتقادا بغيب اهلل من‬
‫مالئكة وقدر وجنة ونار‪ ،‬واإلحسان أن تعبد اهلل كأنك تراه‪.‬‬
‫املسلم مبقتضى احلديث الشريف دون املؤمن‪ ،‬واحملسن هو قمة‬
‫اإلسالم‪ .‬فاقتحام العقبة يف حق املسلم تبعية للمؤمنني واستسالم‬
‫وسالم‪ ،‬واملؤمن اقتحامه للعقبة هو تنفي ُذه لكل األوامر والنواهي‬
‫ألنه هو املخاطب بالشريعة كلها‪ ،‬املوكول إليه تنفيذها يف نفسه‬
‫ويف غريه من املسلمني يف اخلطاب القرآين الذي يعرب بقوله ‪« :‬يا‬
‫أيها الذين آمنوا»‪ .‬أما احملسن فهو املقتحم للعقبة اخلارج من‬
‫الفتنة طاهرا قويا‪ .‬وكل هذه الطوائف مسلمون مع اختالف قوهتم‬
‫ومدى سلوكهم يف اقتحام العقبة‪.‬‬
‫أما وقد مجعنا هذه التصورات اليت تعرف لنا كنه العقبة‬
‫وتعطينا درجات الضعف والقوة عند السالك املسلم واملؤمن‬
‫واحملسن وفصلنا بني مشروعي اخلالص الفردي واجلماعي فيبقى‬
‫لنا أن نشرع يف الدراسة التطبيقية للسلوك اإلسالمي جمزئني العقبة‬
‫جتزئة اصطناعية لتسهيل البحث‪.‬‬
‫خصال عشر تقابل صعوبات عشر مردها إىل التكوين الغرزي‬
‫يف اإلنسان أو إىل العوامل البيئية والثقافية‪ ،‬جنعلها أقساما نظرية‬

‫‪42‬‬
‫لتوضيح خطابنا‪ ،‬مع تداخل الصعوبات مبقتضى وحدة اإلنسان‬
‫الذي ترجع إىل ذاته وعمله أصوهلا‪.‬‬
‫اخلصال العشر هي ‪ )1 ( :‬الصحبة واجلماعة‪ )2 ( ،‬الذكر ( ‪)3‬‬
‫الصدق‪ )4 ( ،‬البذل‪ )5 ( ،‬العلم‪ )6 ( ،‬العمل‪ )7 ( ،‬السمت‪)8 ( ،‬‬
‫التؤدة‪ )9 ( ،‬االقتصاد‪ )10 ( ،‬اجلهاد‪.‬‬
‫إهنا مقوالت خلقية روحية عملية‪ ،‬ولعل صياغتها على هذه‬
‫املعاين يصدم من ألف املقوالت املادية اجلارية على ألسنة وأقالم‬
‫أصحاب اإلديولوجيات‪ .‬ولئن كان بعض هؤالء ال يزالون يرفضون‬
‫االعرتاف بأن لإلنسان رأسا وإرادة‪ ،1‬ويُرتف عقلهم يف تأمل «البُىن‬
‫التحتية» ال يرون يف «البىن الفوقية» إال انعكاس الظالل املادية يف‬
‫مرآة اإلنسان‪ ،‬فإن واقع الشيوعية وثورهتا الثقافية تؤكد أن لإلنسان‪،‬‬
‫حىت اإلنسان الشيوعي‪ ،‬واإلنسان الشيوعي أكثر من غريه‪ ،‬رأسا‬
‫وإرادة وتشوقا ثقافيا يرفض «البىن التحتية» ويروم جتاوزها وال‬
‫يستجيب هلا برد الفعل كما تستجيب املرآة برجع الظل‪.‬‬
‫خصالنا العشر مقوالت معنوية منسجمة بكوهنا كذلك‬
‫أساس املنهاج واجتاهه وغايته‪ .‬فاملنهاج الذي هو اقتحام العقبة‬
‫صعُدا بإرادة حرة‬‫أسه أن اإلنسان خملوق عبد مأمور‪ ،‬واجتاهه ُ‬
‫متشوفة ملوعود اهلل‪ ،‬وغايته االنتصار على الوسط السلوكي الذي‬

‫‪ 1‬كان من أطروحات الشيوعي برشتاين أن لإلنسان رأسا وتدبريا فقالوا مثايل‪.‬‬

‫‪43‬‬
‫هو فتنة‪ .‬فليست املادة هي املهيمنة على اإلنسان املسلم‪ ،‬بل‬
‫إرادته اإلميانية تغالب ثقل املادة وتصارعها يف كل حني‪ ،‬ألن البيئة‬
‫املادية والبشرية مفضوحة يف نظره يراها فتنة حتط من قيمته خملوقا‬
‫مساويا مآله اجلنة ليصبح دابة أرضية مآهلا الرتاب‪.‬‬
‫وليس معىن هذا نفي الضغط الواقع على اإلنسان من البيئة‬
‫الطبعية والبشرية‪ ،‬إذ لوال هذا الضغط وقوته ملا كان جمال عمل‬
‫اإلنسان فتنة‪ .‬ومن هنا يكون الفاعل التارخيي مبنظار اإلسالم‬
‫إنسان اإلرادة السائر ضد التيار ال مع التيار‪.‬‬
‫يف اخلصال العشر أمهات ثالث هي الصحبة واجلماعة‪،‬‬
‫والذكر‪ ،‬والصدق‪ ،‬والسبعة الباقية مظاهر تطبيقية ملن مجع‬
‫اخلصال الثالث األمهات واقتحم الصعوبات الثالث املقابلة هلن‪.‬‬
‫فاخلصلة األوىل من اخلصال العشر تقابل طاغوت األنانية الفردية‪،‬‬
‫واخلصلة الثانية تقابل طاغوت العقل‪ ،‬والثالثة تقابل طاغوت‬
‫العادة؛ وتكون اخلصلة الرابعة مثال وهي البذل جتاوزا لألنانية‬
‫الفردية وجتاوزاً للعادة وجتاوزاً للعقالنية اليت تبين عالئق اجملتمع‬
‫على املردودية ال على التضحية‪.‬‬
‫تشكل اخلصال العشر تسلسال تصوريا يغطي موقف اإلنسان‬
‫يف اجلماعة وموقفه من العقالنية وموقفه من اهلل ومن العادة‪ ،‬كما‬
‫تغطي الرتبية والتأثري املتبادلني وسط اجلماعة‪ .‬وبإضافة معارج‬

‫‪44‬‬
‫القوة يف السلوك اإلسالمي املنهاجي على مستويات اإلسالم‬
‫واإلميان واإلحسان اليت جيمعها منهاج اقتحام العقبة‪ ،‬نتمكن من‬
‫فهم اإلنسان وعمله وجتميع‪ 1‬أحواله بعرضه على املنهاج فردا كان‬
‫أو مجاعة‪ .‬وقد أعىي املاركسيني البحث عن تلقيح إديولوجيتهم‬
‫بآالت تصورية جديدة متكنهم من جتميع اإلنسان وهم امل ّدعون‬
‫للشمولية‪ .2‬فطاملا حبثوا عن مفاصل يف الفكر املاركسي ليطعموا‬
‫فيها فسائل مقتبسة مما جيد يف التحليل النفسي والبحوث العلمية‪.‬‬
‫وانظر مثال حماوالت سارتر يف كتابه « ‪»Question de la méthode‬‬
‫وجريه ليجد منهجا لتجميع اإلنسان جتميعا أفقيا فيغين بذلك‬
‫املاركسية اليت ال تعرف إال التجمع العمودي‪ ،‬أي التجمع حول‬
‫حمور تارخيي يضغط اإلنسان حىت يعصره من كل معانيه اإلنسانية‪،‬‬
‫ويعرضه عامال كادحا يتسقل ببؤسه وثورته‪ ،‬أو يشارك فيهما طبقة‬
‫بروليتارية ال لون هلا وال أفق وال معىن إال الصراع الطبيقي من أجل‬
‫التمتع بفائض قيمة العمل‪.‬‬
‫مث إن اخلصال العشر ليست إال املضمون القرآين النبوي ملنهاج‬
‫اقتحام العقبة‪ .‬ما هي صياغة خارجة عن مصدر اإلسالم‪ ،‬مصدر‬
‫املنهاج‪ ،‬وإمنا هي لب الصفات اخللقية واألمناط السلوكية اليت‬

‫‪ 1‬جتميع ‪.Totalisation :‬‬


‫‪ 2‬مشولية ‪.Totalité :‬‬

‫‪45‬‬
‫ترتدد يف القرآن والسنة‪ ،‬أرجعنا كل طائفة منها إىل أصل واحد‪.‬‬
‫وكان ترتيبها اجتهادا منا مبنيا على التجربة اإلسالمية الرتبوية‬
‫اخلالدة اليت تبدأ دائما بالصحبة صحبة الرسول والنيب اجملدد أو‬
‫صحبة الشيخ املريب الصويف‪.‬‬

‫‪46‬‬
‫اخلصلة األوىل‬

‫الصحبة واجلماعة‬
‫األنانية الفردية أعظم احلجب بني اإلنسان وبني اقتحام‬
‫العقبة‪ .‬ونستعمل احلجب مبعناها الصويف‪ ،‬فهي ظلمة وكثافة حتول‬
‫بني اإلنسان وعامل التحرر الروحي‪ .‬واألنانية أيضا هي األرضية‬
‫اليت تتأسس عليها العادة‪ ،‬وعندما نقول العادة فلسنا ننظر إىل‬
‫احلركات احلسية والعقلية اليت تتكرر منذ الصبا فتُكون العادات‬
‫وتكون ضرورة التفكري والعمل‪ ،‬لكن نعين بالعادة جمموع املواقف‬
‫النفسية الوجودية املتأصلة يف اجلاهلي‪ ،‬املهيمنة على سلوكه‬
‫القاعدة به عند غرائز الشح والشهوة والكسل‪.‬‬
‫يتحدث الصوفية‪ ،‬وهم عاجلوا النفس البشرية وراقبوها يف‬
‫عروجها السلوكي‪ ،‬عن مقامات لفظها يدل على االرتفاع من‬
‫مستوى نزعات العادات‪ .‬ونضيف حنن مفهوما هابطا ليتأتى لنا‬
‫ترتيب دركات العادة كما رتبوا هم املعارج الصاعدة مقامات‪،‬‬
‫فنقول إن للعادة مواقع واللفظ يدل على الوقوع والرتدي‪.‬‬
‫اجلاهلي أناين قبل كل شيء‪ ،‬واملسلم من استسلم وسلم نفسه هلل‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫ويعرب القرآن عن األنانية بلفظ االستكبار‪ ،‬فما من قوم‬
‫وع ْتوا عن أمر اهلل إال كان دافعهم االستكبار‪ .‬هذا‬ ‫كذبوا الرسل َ‬
‫االستكبار اجلاهلي يستند أكثر ما يستند على القوة واملال‪﴿ ،‬فَأ ََّما‬
‫ْح ِّق َوقَالُوا َم ْن أَ َش ُّد ِمنَّا قـَُّو ًة﴾‪.‬‬ ‫استَ ْكبـَُروا فِي ْال َْر ِ‬
‫ض بِغَْي ِر ال َ‬ ‫َعا ٌد فَ ْ‬
‫ويف سورة البلد اليت أعطتنا املنهاج تصوير اإلنسان مباله الذي‬
‫يقول ‪« :‬أهلكت ماال لُبَداً»‪ .‬وكذب أقوام الرسل ألهنم مساكني‬
‫ميشون يف األسواق سعيا وراء الرزق‪ .‬ويف القرآن ذكر لطوائف‬
‫املستكربين الذين يعوقون بطاغوت القوة وطَْول املال طوائف‬
‫املستضعفني عن اتباع الرسل‪ ،‬فتقرأ يف القرآن الكرمي حجاجهم‬
‫يوم القيامة‪ .‬وما من قوم إال طغوا واستكربوا فزعموا أن النيب‬
‫ساحر أو جمنون‪ ،‬وقال الكافرون للرسول إهنم لن يؤمنوا به حىت‬
‫يكون له بيت من زخف‪ .‬وهذا كثري يف القرآن‪.‬‬
‫احلجب الثالث يقتحمها املؤمن باخلصال الثالث األوىل‬
‫متداخلة تداخل الظالم يف الظالم‪ ،‬فاألصل الذي تنبت عليه‬
‫الغرائز وتنمو هو املال والقوة‪ .‬وطاغوت العقل يصوغ من معاين‬
‫الرتف بالقوة واملال أنانية مستعيلة‪ .‬صور أفالطون‪ ،‬وتبعه فالسفة‬
‫متأخرون من املسلمني‪ ،‬مركبة السلوك اإلنساين جيرها فرسان ‪ :‬مها‬
‫شهوة احلس وقوة الغضب‪ ،‬ومتىن أن يكون العقل سائق العربة املتحكم‬
‫‪48‬‬
‫يف الفرسني‪ .‬هذا تصوير مثايل يكذبه الواقع‪ ،‬فإن العقل وحده إذا‬
‫تأمل الشهوة والقوة ال يكاد يرسم هلما إال مسلكا يؤدي ملزيد من‬
‫أسباب املتاع‪ ،‬ال يردعه عن ذلك إال ضرورة احلياة االجتماعية اليت‬
‫تضع حدا بينك وبني جارك على نسق فيه قليل أو كثري من الظلم‬
‫االجتماعي‪ .‬وباصطدام الشهوة بالشهوة والقوة بالقوة تستوي‬
‫احلياة االجتماعية يف مواقع وضعية قانونية تكبح األنانيات‪ .‬أما‬
‫أن ترتدع قوتا الشهوة والغضب بوازع العقل املتأمل املتفلسف‬
‫فهذا ال حيدث إال يف بعض صومعات الفكر املنقطع أصحاهبا‬
‫عن احلياة‪ .‬وإنك إن مل تأكلهم أكلوك‪ ،‬شعار يهيب باألنانيات‬
‫اجلاهلية للكيد واملكايدة يف كل زمان ومكان‪.‬‬
‫ليس العقل حيكم الغرائز األنانية‪ ،‬بل حيكمها وزاع اهلداية‬
‫املتمثل يف شخص النيب أو الوارث الوالد الروحي بالصحبة املباشرة‬
‫أو بتوسط تربية األبوين الطبيعيني‪ .‬اهلداية النبوية إنارة بالقبس‬
‫اإلهلي حلياة الفرد األناين الواقع يف مستوى عقله وغرائزه ليتطلع‬
‫إىل آفاق اخللود‪.‬‬
‫وباهلداية جاء األنبياء يؤيدهم نور القبس اإلهلي‪ ،‬حيملون‬
‫معهم برهان صدقهم معجزات خترق العادة‪ ،‬برهان صدق من عامل‬
‫الغيب قبل كل شيء‪ .‬وإمنا سدى القرآن وحلمته حديث عن الغيب‬
‫وعن معجزات األنبياء‪ .‬ويكتب بعض الناس يف هذه األيام يف خط‬

‫‪49‬‬
‫بدأ من عهد حممد عبده رمحه اهلل ما به ينكرون أن يكون الغيب‬
‫هو صلب الرباهني املؤيدة للرساالت‪ .‬وملن له عني ولسان وقلب‬
‫أن يتدبر القرآن‪ .‬نعم يقول اهلل يف آيات معدودات كيف رفض‬
‫الرسل أن يظهروا معجزات أمام حتدي الكفار‪ ،‬فيقول اهلل لرسوله‬
‫أن جييب عن التحدي بإظهار املعجزات‪﴿ : ‬قُ ْل ُس ْب َحا َن َربِّي َه ْل‬
‫شراً َّر ُسوالً﴾‪ .‬وجبانب هذه اآليات املعدودات‪ ،‬القرآن‬ ‫نت إَالَّ بَ َ‬
‫ُك ُ‬
‫كله ال يكاد يتحدث إال عن الغيب‪ .‬ولعل من َكبـَُرت يف عينه‬
‫دنيا املخرتعات وضجيجها‪ ،‬عمي قلبه عن إدراك عوامل اهلل اليت‬
‫تتضاءل أمامها منظومات النجوم الذاهبة يف هذه السماء الدنيا‬
‫الصغرية‪.‬‬
‫باهلداية املؤيدة من الغيب جاء األنبياء عليهم السالم‪ ،‬إبراهيم‬
‫عليه السالم ال حترقه النار‪ ،‬ويدعو أشالء طري فيحىي جميبا لندائه‪،‬‬
‫وعيسى عليه السالم حييي املوتى ويربئ األكمه واألبرص‪ ،‬ولكل‬
‫الرسل معجزات أيدهم اهلل هبا ليعرف الناس مصدر الرسالة اليت‬
‫جاء األنبياء عليهم السالم حيملوهنا‪.‬‬
‫ومن لقاء الناس بالغيب تبتدئ الصحبة‪ ،‬باإلرشاد احلادب‬
‫من جناب النيب وبالطاعة واحملبة من جانب الصاحب احلواري‬
‫﴿من يـَْه ِد اللَّهُ فـَُه َو ال ُْم ْهتَ ِد َوَمن‬‫املتَّبِع يقول ربنا عز وجل ‪َ :‬‬
‫ضلِ ْل فـَلَن تَ ِج َد لَهُ َولِيّاً ُّم ْر ِشداً﴾‪.‬‬
‫يُ ْ‬

‫‪50‬‬
‫ال تغلب األنانية إال هبداية وال هداية إال من اهلل‪ ،‬فمن مل يكن‬
‫له ويل مرشد فهو عرضة للضالل‪.‬‬
‫لفظ القرآن أجلى من نور الشمس‪ ،‬اهلداية رهن بأن يكون‬
‫لك ويل مرشد‪ .‬وهذا الويل املرشد يف حق رسول هذه األمة هو‬
‫حممد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فهو من قلب املؤمن قريب‬
‫وهو هدانا هبدي اهلل وأرشدنا وبلغنا رساالت ربه‪ .‬لكن كيف بلغنا‬
‫هذه الرسالة ؟ جييبنا احلديث النبوي بأن تأثري األبوين حاسم يف‬
‫املوضوع ‪« :‬ما من مولود إال يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو‬
‫ينصرانه أو يمجسانه»‪ ،‬ومفهوم احلديث أهنما يهديانه لإلسالم‬
‫إن حافظا على فطرته طاهرة‪.‬‬
‫لكن لفظة «الويل املرشد» حتمل أكثر من هذا املعىن لضعف‬
‫احملبة طبعا وشرعا بني من يسكن قلبه عامل األرض وبني من يطمح‬
‫قلبه إىل سكان عامل السماء‪ ،‬وألن نصيب األبوين من اهلداية قد‬
‫يكون ضئيال‪ .‬وال شك أن كمال اإلميان أن يكون اهلل ورسوله‬
‫أحب إىل املرء مما سوامها كما صرح بذلك القرآن الكرمي واحلديث‬
‫النبوي (وأعيذك باهلل ممن يطعنون يف مقام النبوة فيتحدثون عن دور‬
‫ساعي الربيد يف حق الرسل الكرام‪ ،‬أولئك يف ضالل مبني)‪ .‬كمال‬
‫الوالية هلل والرسول يف كمال حمبتهما‪ ،‬لكن من يريب عاطفتنا ويكبح‬
‫أنانيتنا وينري لنا باهلداية اإلهلية سبيل هذه احملبة الكاملة؟ إنه الويل‬

‫‪51‬‬
‫املرشد ال شك يف ذلك‪.‬‬
‫الصوفية أصحاب التزكية الروحية والسلوك هم الطائفة من‬
‫هذه األمة الذين يتخذ الويل املرشد عندهم وجها آدميا متميزا هو‬
‫وجه الشيخ املريب‪ .‬وعند رجال الشيعة والية إلمام غائب وصحبة‪،‬‬
‫ولسائر املسلمني والية مشتتة لواعظ اجلمعة أو ألب وقريب وعامل‬
‫ومعلم‪ .‬ولكل هؤالء املصحوبني أثر يف الصاحب يقوى بقوة املثال‬
‫احلي ويضعف بضعفه‪.‬‬
‫ملا طغت اجلاهلية على دار اإلسالم باستيالء املستعمرين‬
‫انتصب أمام عني اجليل الناشئ مثال جاهلي خالب حبزم األورويب‬
‫ونظافته الظاهرية وعلمه ونشاطه وقوله‪ ،‬فأزرى باخلمول واجلهل‬
‫والضعف املوروثة وحتول والء األجيال املفتونة فتهذبت أنانيتها‬
‫بني عاملني أحدمها جاهلي منتصر واآلخر خافت الضوء كئيب‬
‫مهزوم‪ .‬وذهبت الصحبة اإلسالمية وذهبت والية الويل املرشد‬
‫فامنحت اهلداية أو كادت من قلوب األجيال املفتونة‪.‬‬
‫وهؤالء هم املسلمون يف دار اإلسالم انغلقت أمامهم السبل‬
‫فتطاحنت أنانيتهم الفردية وسط أنانيات قومية بفعل الصحبة‬
‫اجلاهلية‪ ،‬فهم اليوم‪ ،‬فرادى ومجاعة‪ ،‬أحوج ما يكونون إىل‬
‫صحبة إسالمية قوية‪ .‬فمن الصحبة تبدأ األمة املشتتة مسريهتا يف‬
‫اقتحام العقبة‪ ،‬وال تأليف وال توحيد ميكن يف قطر من أقطارنا إال‬

‫‪52‬‬
‫بصحبة قوية ساطعة بأنوار اهلداية‪ ،‬وال وحدة بني أجزاء دار‬
‫اإلسالم ما دامت تقودها أنانيات مستعارة من دنيا اجلاهلية‪.‬‬
‫الصحبة املنشودة ال بد أن تتعدد ألن موروثنا التارخيي ثقيل‬
‫جدا محل إلينا خالفات مذهبية ال تكاد حتصى‪ .‬وإن كانت كل‬
‫طائفة تزعم انتساهبا للكتاب والنيب أكثر من غريها‪ ،‬فسيمضي‬
‫وقت قبل أن تظهر لوائح اهلداية ونورها وتأييد اهلل ملن هو أهدى‬
‫سبيال‪.‬‬
‫قبل أن تتوحد صحبة كل املسلمني للخالفة على منهاج النبوة‬
‫اليت بشر هبا الرسول الكرمي األمة بعد كبواهتا التارخيية‪ ،‬جيب على‬
‫من يتصدون للدعوة أن يربهنوا على أن هلم مقاما وصفاء بالسلوك‬
‫املثايل‪ .‬وينم عن صفائهم ومقامهم أثرهم يف حتويل الناس من‬
‫غي إىل رشد‪ ،‬ومن ضالل إىل هدى‪ .‬وتدل عليهم نورانية الدعوة‬
‫وقوهتا كما كان األمر بالنسبة للشيخ اجلليل سيدي حسن البنا يف‬
‫عصرنا هذا‪ .‬ولن جتد أصحاب اهلداية والنورانية إال سالكي املنهج‬
‫مقتحمي العقبة الذين أسلموا مث اتقوا وآمنوا مث اتقوا وأحسنوا‪.‬‬
‫وصعود مقامات املعراج يقتضي أن يكون للداعي صحبة هبا‬
‫اهتدى وعلى منوذجها ترىب‪.‬‬
‫وبيدنا معيار لنقيس فائدة الصحبة‪ ،‬هذا املعيار هو أن تستحيل‬
‫األنانية الفردية غريية وعطاء وحمبة‪ ،‬أن تنكسر شوكة العقالنية‬

‫‪53‬‬
‫الثائرة بنور اإلميان فيتلقى املؤمن غيب ربه ويهتدي تبعا لذلك‬
‫بقرآنه‪ ،‬وتنكسر شوكة الغرائز العادية فتصفو الفطرة ويتحرر‬
‫اإلنسان فيصبح حمسنا يراقب اهلل ويعمل عمال إسالميا هبدى اهلل‪.‬‬
‫الصحبة تريب الفرد من أنانيته وتفتح له قابليات االندماج‬
‫يف اجلماعة‪ .‬لكن كسر األنانية قد يتجه اجتاها فرديا حمضا‪ ،‬وقد‬
‫يسلك املريد سبيل التزكية الروحية فيهدف إىل املقامات الروحية‬
‫يف حضن اإلسالم الفردي على هامش اجلماعة اإلسالمية‪ .‬يكون‬
‫هذا مثال عندما يتحول الرباط الصويف من وظيفته اجلهادية إىل‬
‫زاوية هاربة من الفتنة‪ .‬وهذا حدث كثريا وحيدث بني املسلمني‪.‬‬
‫هلذا جعلنا اخلصلة األوىل ذات طرفني لنلح على معىن وجوب‬
‫أن تفضي الصحبة والرتبية الروحية إىل بناء اجلماعة‪ .‬املؤمن الفردي‬
‫قد يكون له ذكر وصدق وبذل وما إىل ذلك من اخلصال التسع‪،‬‬
‫لكن جهاده ال يعدو اجلهاد الباطين يف حلقة مصغَّرة من املريدين‬
‫أو بني جدران خلوة يف أعلى اجلبل وذلك جهاد مع أوهام النفس‬
‫وأحالمها‪ .‬لكن ليس اجلهاد األكرب خلوة الذي رجع إليه الرسول‬
‫ملا عاد من إحدى غزواته‪ ،‬اجلهاد األكرب جهاد النفس وسط‬
‫اجلماعة ومعها هلدف بنائها والصرب معها والتواصى باحلق واملرمحة‪.‬‬
‫ال حاجة بنا هنا أن نستقرئ األحداث التارخيية اليت جعلت‬
‫بعض الصوفية وجتعلهم يقبعون يف الزوايا أو بعضهم يرابطون‬

‫‪54‬‬
‫يف الرباطات جياهدون ليكونوا مجاعة موحدة عاملة وجياهدوا الفتنة‬
‫الداخلية واجلاهلية اخلارجية‪ .‬وال نريد أن ندافع عن اإلسالم الفردي‬
‫وهو صيغة إسالمنا احلايل املنكمشة‪ ،‬فقد قال فيه الرسول الكرمي‬
‫ما يكفينا لنحرتم من فر بدينه من الفتنة ونعذر ضعفه عن اجلهاد‪.‬‬
‫الصحبة تذهب األنانية املتحجرة وتفتح قابليات العمل‬
‫اجلماعي مبا تبذره من بذور احملبة خللق اهلل‪ .‬وكي تنبين على‬
‫الصحبة مجاعة ال بد أن يضاف إىل احملبة آخران ‪ :‬أوهلما الطاعة‪،‬‬
‫طاعة حمبة وثقة‪ 1‬وثانيها النصيحة‪.‬‬
‫يعرب النطق النبوي عن البناء العضوي للجماعة املسلمة فيشبهه‬
‫باجلسد الواحد يشتكي كله باشتكاء عضو منه‪ ،‬والبناء املرصوص‬
‫وتالحم احملبة ال يكفي‪ ،‬أي أن تأسيس اجلماعة‬
‫ُ‬ ‫يشد بعضه بعضا‪.‬‬
‫اإلسالمية ال يثبت على أرضية عاطفة وحدها‪ ،‬بل يقتضي أن‬
‫يتأسس على عامل إرادي يقام بعملية املبايعة اليت تتطلب طاعة‬
‫لقائد اجلماعة مستمدة من طاعة اهلل‪ .‬فإن كان رسوال فمبايعته‬
‫مبايعة اهلل ويد اهلل فوق أيدي املبايعني‪ ،‬وهو سبحانه شاهد هلم‬
‫ومؤيد‪ ،‬وإن مل يكن نبيا فهو اختيار املسلمني ذوي الذمة‪ ،‬يسلمونه‬
‫مقاليدهم ويطيعونه بطاعة اهلل ورسوله كما صرح القرآن‪ ،‬فيكون‬
‫صاحب أمرهم‪ ،‬منهم‪ ،‬حادبا عليهم‪ ،‬خادما هلم‪.‬‬
‫ويقتضي بناء اجلماعة اإلسالمية بناء إسالميا عضويا أن تتأسس‬
‫‪ 1‬ال تلك الطاعة اليت يقتضيها «األمري» اليافع حتت ناموس «بيعة» تتعاطاها مجاعات الشباب‬
‫اإلسالمي لغايات شىت‪.‬‬

‫‪55‬‬
‫اجلماعة بعد ذهاب أنانية أفرادها بالصحبة املربية يف تنظيم‬
‫للحريات واالجتهادات‪ ،‬وهو ما يعرب عنه القرآن بالتواصي بالصرب‬
‫واحلق واملرمحة وجنمعه يف لفظ قرآين هو النصيحة‪.‬‬
‫نصيب املسلم‬ ‫ُ‬ ‫مضمون النصيحة هو تبادل الرأي يف حرية‪،‬‬
‫فيها دون نصيب املؤمن‪ ،‬وللمحسن املقام األول حسب الدرجات‬
‫اإلسالمية اليت ليست طبقية استعالء‪ ،‬بل طبقة خدمة ورعاية‬
‫حلق اهلل وتقوى‪ .‬تبادل الرأي وإبداؤه تسميه األنظمة اجلاهلية‬
‫«حرية الرأي» أو « النقد والنقد الذايت»‪ ،‬وجمال كل ذلك الكدح‬
‫الدوايب‪ .‬أما التواصي اإلسالمي فمجاله احلق لكيال يبقى حمط‬
‫نظر اإلنسان دون قيمته السماوية اخلالدة‪ ،‬والصرب ليكون اجلهاد‬
‫الدائم مقصدا لألمة اإلسالمية حاملة الرسالة‪ ،‬واملرمحة ليكون‬
‫املسلمون أمة تراحم وحمبة‪ .‬وال نصيحة ممكنة بدون الرتبية الفردية‬
‫بالصحبة وبدون الطاعة املنظمة‪ .‬وبدون هذه النصيحة خيسر‬
‫ص ِر‬
‫اإلنسان‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬بسم اهلل الرحمن الرحيم‪َ ،‬وال َْع ْ‬
‫الصالِح ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات‬ ‫آمنُوا َو َعملُوا َّ َ‬‫ين َ‬ ‫نسا َن لَفي ُخ ْس ٍر إِ َّل الذ َ‬ ‫ال َ‬ ‫إِ َّن ِْ‬
‫اص ْوا بِ َّ‬
‫الص ْب ِر﴾‪.‬‬ ‫اص ْوا بِال َ‬
‫ْح ِّق َوتـََو َ‬ ‫َوتـََو َ‬

‫‪56‬‬
‫اخلصلة الثانية‬

‫الذكــر‬

‫املركبة األفالطونية تطغى هبا قوتا األنانية والشهوة ويفلت‬


‫الزمام من يد العقل فال يكون له سلطان على اختيار االجتاه‪.‬‬
‫ومصري اإلنسان بني هاتني القوتني أن ينخذل ويستخذم العقل‬
‫لتربير ميله مع الطاغوت‪.‬‬
‫مث إن العقل بعد ذلك مظهر التأله األناين‪ ،‬فإذا سار يف ركاب‬
‫األنانية املستكربة والشهوة العارمة‪ ،‬وأترف يف لذيت اجلاه واملتاع‬
‫احلسي كفر ونصب نفسه معيارا للوجود‪ .‬وقد يدعى العقل حتررا‬
‫ويدعى صدقا يف طلب احلق‪ ،‬وعندئذ يقفز من تلمذته للحواس‬
‫وإخبارها‪ ،‬فإذا هو عقل فلسفي يبين منظوماته لتفسري اإلنسان‬
‫والعامل‪ ،‬وال يشعر أنه سجني يف شبكة العقالنية كسيح‪.‬‬
‫إن القرآن الكرمي يدعو للتفكري ويدعو للتعجب يف وضع اهلل‬
‫والعقل الذي يفكر فيتعجب ال ميكن أن يكون هو العقل الفلسفي‬
‫أسري العقالنية اليت بناها‪ ،‬رغم حنني الفالسفة دائما إىل ذلك العقل‬

‫‪57‬‬
‫الساذج الذي ينظر فيعجب ويتلقى ما يأتيه بكل استعداد‪.‬‬
‫العقل العلمي احمللل الدقيق قد يعجز أمام معطيات احلس املعقدة‬
‫البديعة لكنه أيضا يرتد إىل قواعده الوضعية فيكفر‪.‬‬
‫ولكال العقلني‪ ،‬الفلسفي والعلمي‪ ،‬عادات يتحجر عليها وإن‬
‫كان يدعي احلرية فيتحجر جبموده على العادة كيان اإلنسان ويتم ترفه‬
‫يف الغريزة واحلس واألنانية املستكربة‪ ،‬وُيسخ‪ .‬واملسخ مفهوم إسالمي‬
‫معناه حتول الكائن البشري من معىن اإلنسانية املخلوقة للتكرمي إىل‬
‫معىن الدوابية املهينة‪ .‬واملمسوخ من بين آدم الفاسق عن أمر ربه يطارده‬
‫املسخ على مدى وجوده‪ ،‬أي يف الدنيا واآلخرة خالدا‪.‬‬
‫هكذا يكون العقل أداة لألنانية والغريزة احليوانية مسخرا‪،‬‬
‫وهكذا يفتنت العقل بأدواته من مفاهيم وتصورات وتقديرات‪،‬‬
‫فيكون حجابا بني اإلنسان وحريته‪ ،‬ويرديه يف عامل املسخ ناسيا‬
‫ربه‪ ،‬ال يذكره‪ ،‬غافال عن مصريه املكرم لو آمن وعمل صاحلا‪.‬‬
‫خياطب القرآن اإلنسان يدعوه للتفكري والتدبر‪ ،‬ويعرض عليه‬
‫آيات اهلل يف نفسه ويف اآلفاق‪ ،‬مث يدعوه ليتعجب ويعظم أمر هذا‬
‫العامل العجيب املتقن وأمر نشأة نفسه من نطفة‪ .‬وإمنا يقدر على مثل‬
‫‪1‬‬
‫هذا التفكري العقل الساذج الذي تسميه الفلسفة «حسا مشرتكا»‬
‫هذا العقل الساذج ال يزال مرتبطا باحلواس والعاطفة‪ ،‬وال يزال‬

‫‪ 1‬احلس املشرتك ‪.common sense :‬‬

‫‪58‬‬
‫خلوا من عوامل التحجر العقالين‪ .‬العقالنية الشهوية تقضي‬
‫أن احلق هو ما خيدم اللذة‪ ،‬والعقالنية األنانية تقضي أن احلق‬
‫هو كل ما يعطي القوة والغلبة‪ ،‬أما العقل الساذج فهو متفتح‬
‫مستعد تسري فيه خلجات العاطفة ويسري فيه احلس بالغرابة‬
‫واالستغراب من سر الوجود اإلنساين وسر الكون احلسي املليء‬
‫باأللوان واألشكال‪.‬‬
‫يتساءل العقل الساذج ‪ :‬من أنا وإىل أين أصري ؟ ويتأمل ويشعر‬
‫بالفراغ‪ .‬أما العقالنية التكنولوجية اليت حتدو املركبة األفالطونية فال‬
‫تطرح إال سؤال ‪ :‬كيف أشكل احلس لرفاهية أكرب؟ »‬
‫من هذه الفجوة بني العقل الساذج تلميذ احلس والعاطفة‪،‬‬
‫وبني العقالنية املستكربة تدخل رمحة اهلل وهدايته بواسطة الصحبة‬
‫أي بواسطة االصطباغ العاطفي‪.‬‬
‫النيب املرسل أو الويل املرشد‪ 1‬يدعو إىل ربه باملثال الناصع والبالغ‪،‬‬
‫فهو قدوة وهو مبلغ‪ ،‬وهو موضع إلعجاب املخاطب باإلسالم أو‬
‫التوبة‪ ،‬مث يتحول اإلعجاب ميال ورغبة‪ .‬ويتبع العقل الساذج حركة‬
‫ص َر َه ْل تـََرى ِمن فُطُو ٍر‬ ‫ِ‬
‫القلب فيسمع آيات اهلل ختاطبه ‪﴿ :‬فَ ْارج ِع الْبَ َ‬
‫اسأً َو ُه َو َح ِس ٌير﴾‪.‬‬‫ك الْبصر َخ ِ‬ ‫صر َك َّرتـَْي ِن يَن َقلِ ْ ِ‬ ‫ِ‬
‫ب إلَْي َ َ َ ُ‬ ‫ثُ َّم ْارج ِع الْبَ َ َ‬
‫‪ 1‬نستعمل عبارة «الويل املرشد» استعماال واسعا‪ ،‬فكل من أحببته حىت صار أوىل بك وأقرب تسمع‬
‫إرشاده وتتخذه قدوة فهو وليك املرشد‪ .‬وال يكون إال وليا من أولياء اهلل بالوالية العامة من الذين آمنوا‬
‫وكانوا يتقون‪ .‬أما الوالية اخلاصة فليسأل من يرغب يف السلوك عل يد «ويل مرشد» رجال هذا الفن إن‬
‫طلب بصدق حىت علم اهلل صدقه فيسر على مدرجته من يأخذ بيده‪ .‬إنه الغين الكرمي سبحانه‪.‬‬

‫‪59‬‬
‫ويتأمل العقل الساذج وجوده وعالقته بالزمان واملكان فيقر بعجزه‬
‫ويرتد حسريا‪ ،‬وهو من اإلحنسار واحلسرة معا‪ .‬ينحسر العقل من‬
‫مواقعه حيث كان حكما ومعيارا‪ ،‬ويتلفت إىل ما وكل إليه فيصري‬
‫خادما للقلب سائرا مع اإلميان مستسلما مسلما بالغيب‪.‬‬
‫وقد ينحسر العقل من مواقع مرتدية جدا ويفك جدا من إساره‬
‫وغلوائه بقوة االجنداب العاطفي‪ ،‬بقوة احملبة‪ .‬قال رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪« :‬المرء على دين خليله‪ ،‬فلينظر أحدكم من‬
‫يخالل»‪ .‬فمىت أتيحت لصاحب العقالنية صحبة نورانية لرجل‬
‫قوي الروحانية عاليها تيسر له الفكاك‪.‬‬
‫اخلطاب القرآين حيدث أويل األلباب ويقصر عليهم وحدهم‬
‫القدرة على التذكر واالهتداء‪ ،‬فإذا عرض علينا طوائف أويل األلباب‬
‫جاءنا مبقوالت عاطفية خلقية‪ ،‬قال تعاىل ‪﴿ :‬إِنَّ َما يـَتَ َذ َّك ُر أ ُْولُواْ‬
‫ين‬ ‫َّ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ين يُوفُو َن بِ َع ْه ِد اللّ ِه َوالَ يِن ُق ُ‬ ‫األَلْب ِ َّ ِ‬
‫ضو َن الْميثَا َق َوالذ َ‬ ‫اب الذ َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ش ْو َن َربـَُّه ْم َويَ َخافُو َن‬ ‫يَصلُو َن َما أ ََم َر اللّهُ بِه أَن يُ َ‬
‫وص َل َويَ ْخ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫الحس ِ َّ ِ‬ ‫سوء ِ‬
‫الصالَ َة‬
‫امواْ َّ‬ ‫صبـَُرواْ ابْتغَاء َو ْجه َربِّ ِه ْم َوأَقَ ُ‬ ‫ين َ‬ ‫اب َوالذ َ‬ ‫َ‬ ‫ُ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫السيِّئَةَ‬
‫سنَة َّ‬ ‫ْح َ‬‫اه ْم س ّراً َو َعالَنيَةً َويَ ْد َرُؤو َن بِال َ‬ ‫َوأَن َف ُقواْ م َّما َر َزقـْنَ ُ‬
‫الدا ِر﴾‪.‬‬ ‫ك لَ ُه ْم عُ ْقبَى َّ‬ ‫أ ُْولَئِ َ‬
‫وأولو األلباب عقالء قبل كل شيء‪ ،‬لكن عقلهم يف خدمة‬

‫‪60‬‬
‫اجتاههم العاطفي اإلمياين‪ ،‬يقوي االجتاه حىت يكون إرادة نافذة‬
‫يفي صاحبها بالعهد‪ ،‬ويصل بالعهد‪ ،‬ويصل ما أمر اهلل به أن‬
‫يوصل‪ ،‬ويصرب وينفق‪ ،‬ويقيم الصالة‪ ،‬كل ذلك رغبة فيما عند‬
‫اهلل ورهبة‪ .‬ذلك عقل حترر من إساره فأصبح لبا من اللب سائرا‬
‫مع اهلداية القلبية‪.‬‬
‫ما أحل القرآن على شيء كما أحل على ذكر اهلل‪ ،‬ذكر اسم‬
‫اهلل‪ ،‬فبالذكر يناط الفالح وبه تناط احلرية‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬قَ ْد‬
‫صلَّى﴾‪ .‬وقال عز من قائل ‪:‬‬ ‫ِ‬
‫اس َم َربِّه فَ َ‬‫أَفـْلَ َح َمن تـََزَّكى َوذَ َك َر ْ‬
‫ش ُرهُ يـَْو َم‬
‫ضنكاً َونَ ْح ُ‬‫شةً َ‬ ‫ض َعن ِذ ْك ِري فَِإ َّن لَهُ َم ِعي َ‬ ‫﴿وَم ْن أَ ْع َر َ‬
‫َ‬
‫ال‬ ‫ِ‬
‫نت بَصيراً قَ َ‬ ‫ِ‬
‫ش ْرتَني أَ ْع َمى َوقَ ْد ُك ُ‬ ‫ِ‬
‫ب ل َم َح َ‬ ‫ال َر ِّ‬‫ال ِْقيَ َامة أَ ْع َمى قَ َ‬
‫ِ‬
‫نسى﴾‪.‬‬ ‫ك الْيـَْو َم تُ َ‬ ‫ك آيَاتـُنَا فـَنَ ِسيتـََها َوَك َذلِ َ‬ ‫َك َذلِ َ‬
‫ك أَتـَْت َ‬
‫والتزكية أمرنا هبا يف آيات كثريات‪ ،‬أمرنا أن نزكي أنفسنا‬
‫بأن نطهرها وجنعلها طيبة‪ ،‬وأمرنا أال نزكي كربياء بدعوى تدغدغ‬
‫زعمها للصالح والتقوى‪ .‬وأهل التزكية الروحية هم أهل الذكر‪،‬‬
‫وهم الصوفية رجال الصحبة سالكو الطريق‪ .‬وقد ألفوا رمحهم‬
‫اهلل ورضي عنهم يف وصف علل النفس وهتافت العقل وسلطان‬
‫الغريزة‪ .‬واستقل هلم تاريخ منفصل عن عامل الفتنة حىت ظن قوم‬
‫أن الصوفية مذهب من املذاهب‪ .‬وفقه املنهاج النبوي مسدود بابه‬
‫على من حرم صحبة وذكرا‪.‬‬

‫‪61‬‬
‫نطلق لفظ الذكر لنجمع به مفاهيم قرآنية كثرية‪ .‬فعندما نعد‬
‫الذكر خصلة من خصالنا العشر فإننا ال نعين به ذكر اللسان‬
‫وحده وال األوراد واملراقبة‪ ،‬بل نقصد به كل األعمال العبادية من‬
‫فرض ونفل‪ .‬ونقصد احلالة النفسية للذاكر وعاقبة التزكية الروحية‪.‬‬
‫وكل هذه املفاهيم جمموعة يف احلديث القدسي املتواتر الذي نعده‬
‫مبثابة العمود الفقري يف فقهنا املنهاجي فقه اقتحام العقبة‪.‬‬
‫عن أيب هريرة رضي اهلل عنه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قال‪ :‬قال اهلل تعالى‪ :‬من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب‪،‬‬
‫وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه‪،‬‬
‫وال يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه‪ ،‬فإذا أحببته‬
‫كنت سمعه الذي يسمع به‪ ،‬وبصره الذي يبصر به‪ ،‬ويده التي‬
‫يبطش بها‪ ،‬ورجله التي يمشي بها‪ .‬وإن سألني ألعطينه‪ ،‬وإن‬
‫استعاذني ألعيذنه‪ ،‬وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي عن‬
‫‪1‬‬
‫قبض نفس المؤمن‪ ،‬يكره الموت وأنا أكره مساءته‪.‬‬
‫الشهادتان والقواعد األربعة األخرى من قواعد اإلسالم فرض‪،‬‬
‫والوقوف عند احلدود اإلهلية من حالل وحرام وسائر ما فرضه اهلل‬
‫على العباد فرض‪ ،‬والفرض أحب ما يذكر فيه العبد ربه‪ .‬ومن‬

‫‪ 1‬هذا لفظ البخاري‪ ،‬رواه الطرباين وأمحد واحلكيم الرتمذي وأبو يعلى وابن عساكر والديلمي عن‬
‫عائشة رضي اهلل عنها‪.‬‬

‫‪62‬‬
‫وراء الفرض نوافل هبا يتقرب العبد لربه حىت حيبه ربه ويصبح له‬
‫ربه عينا ومسعا ويدا ورجال‪.‬‬
‫ولطاملا وقفت أجيال املسلمني عند هذا احلديث الذي ال‬
‫يأتيه الباطل من شك الضعاف وتشكيك امللحدين يف آيات‬
‫اهلل‪ .‬وقف املسلمون موقف حرية من احلديث القدسي الصحيح‬
‫القوي‪ ،‬أهو حيتاج لتأويل؟ وكيف يؤول‪.‬‬
‫أما الذاكرون أهل التزكية أهل اهلل فيأخذونه وعدا صادقا‬
‫من رهبم فيقتحمون عقبة الفرض والنفل‪ ،‬ويسلكون تلك الطريق‬
‫فيتجلى هلم املعىن عندما يصبح اهلل عز وجل هلم يدا ومؤيدا‪،‬‬
‫يبصرون بنوره ويسمعون بنوره ويسمعون بسمعه‪ .‬واخللي التائه‬
‫برأيه يكفر هذه الطائفة احملسنة إن ضعفت عن الكتمان أو أمر‬
‫بالكالم أحد رجال الطريق‪.‬‬
‫ويف ظل الطريق اإلحسانية‪ ،‬يف ظل أهل الذكر املقتحمني‬
‫للعقبة املؤمنني باهلل وغيبه يعبدونه كأهنم يرونه‪ ،‬عشش أدعياء‬
‫التصوف الكساىل‪ ،‬ونطقوا بتلك العبارات‪ ،‬ولبسوا تلك املرقعات‪،‬‬
‫وكانوا آخر األمر وباال على هذه األمة‪.‬‬
‫اإلنسان املسخ يقابله إنسان الفطرة‪ .‬وحنمل تصور‬
‫ك‬‫الفطرة املعىن القرآين يف قوله تعاىل ‪﴿ :‬فَأَقِ ْم َو ْج َه َ‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ َِّ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫يل‬ ‫للدِّي ِن َحنيفاً فط َْرةَ الله التي فَطََر الن َ‬
‫َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ‬

‫‪63‬‬
‫لِ َخل ِْق اللَّ ِه﴾‪ .‬فمن أقام وجههه هلل ووقف بني يديه‬
‫ووعى نفسه مفطورا مراقبا من لدن فاطره فهو إنسان الفطرة‪.‬‬
‫واملوقف الفطري هو موقف املؤمن املؤمتر بشرع فاطره‪ ،‬والنظرة‬
‫الفطرية هي تصور اإلنسان والعامل خلقا أمام اهلل الذي بيده‬
‫مقاليد كل شيء‪.‬‬
‫إن العقل الطاغوت يقول غري هذا ويزعم أمنا هي الطبيعة‬
‫واألرحام اليت تدفع يف اجتاه النهاية يف الرتاب‪ ،‬وحسب تطور‬
‫طبعي‪ ،‬أو يتخيل غري هذا من الفهم‪ .‬فإن خاطبت العقل الطاغي‬
‫باإلميان سألك برهانا على هذه املسلمة ‪ :‬أن اإلنسان خملوق‬
‫عبد بني يدي ربه‪ .‬ويبغي العقل نقدا للبالغ الديين‪ ،‬ويبغي أن‬
‫خيضع ما يفوته إدراكه لقوالبه ومعايريه‪ .‬وللعقل الناقد‪ ،‬إن قبل‬
‫منهاج التحقق‪ ،‬أن يصحب بصدق مؤمنا نور اهلل قلبه ويذكر‬
‫ربه بالفرض والنفل حىت حيصل له ما مساه الصوفية ذوقا‪ .‬فإن اهلل‬
‫اه ُدوا فِينَا لَنـَْه ِديـَنـَُّه ْم ُسبـُلَنَا َوإِ َّن اللَّهَ‬
‫ين َج َ‬
‫سبحانه يقول‪ِ َّ :‬‬
‫﴿والذ َ‬ ‫َ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬
‫لَ َم َع ال ُْم ْحسن َ‬
‫بالذكر والتجربة الشخصية املنبنية على الصحبة يتكشف‬
‫للسالك ما شاء اهلل من عجائب القلب‪ ،‬وتتحقق له معية اهلل اليت‬
‫خص هبا احملسنني‪ ،‬فإذا اقتحم العقل هذه العقبة حترر وحتررت معه‬
‫اإلرادة وأصبح أداة بناء لكرامة اإلنسان‪ ،‬إلنه يدرك معىن املسخ‬
‫احمليط باجلاهلي واجلاهلية‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫أصحاب اجلدلية يضعون العامل واإلنسان يف مواقع تناقضية‬
‫ويبحثون عن القوة الناقلة من النقيض إىل غريه‪ ،‬عن «اللحظة»‬
‫اليت يتجاوز هبا وضع ما نقيضه ‪ :‬وكل وضع حيمل جنني نقيضه‪.‬‬
‫ولسنا حنب أن ننقد هذا التصور للعامل املادي فإن األمر ما‬
‫يقوله الفالسفة هبذا الصدد‪ .‬ونريد أن نقدم‪ ،‬استنادا على الفكر‬
‫اجلديل‪ ،‬تصورا إسالميا ملقام اإلنسان ووضعه اجلديل جتاه النفس‬
‫والشيطان‪ .‬ومعىن هذا ‪ :‬التناقض بني اإلنسان والعامل احلسي‬
‫الذي يريد أن يلتهمه‪ .‬وإمنا ذكرت النفس ألهنا بأنانيتها وشهوهتا‬
‫تتمرد على داعي النظرة الفطرية واملوقف الفطري لترتف يف العامل‪.‬‬
‫وإمنا ذكر الشيطان‪ ،‬وهو غيب بعيد عن الغافلني وحقيقة واقعة‬
‫بالنسبة ملن اقتحموا العقبة وذكروا اهلل واحسنوا فخرجوا من ضنك‬
‫العيش إىل سعة النور‪ ،‬ألن الشيطان ينزغ لإلنسان أن يرتف يف‬
‫العامل وينسى ربه‪.‬‬
‫العقل إذا حترر بالتجربة الشخصية اليت قوامها الصحبة والذكر‬
‫حرر معه اإلرادة‪ ،‬فيكون إميان املؤمن املتساوق معه عقله هو القوة‬
‫اإلرادية اليت تتجاوز النفس والشيطان للقيام حبق الرمحن‪.‬‬
‫ولنطرح هنا مفهوم «التجاوز» لنستبدله مبفهوم قرآين عتيد‬
‫جنعله تصورا يغين آليتنا املنهاجية‪ .‬هذا املفهوم هو العدل‪ .‬واهلل أمر‬
‫يف القرآن بالعدل وحث عليه‪ .‬وقد اكتسب العدل معىن متخصصا‬

‫‪65‬‬
‫هو إعطاء احلقوق ألهلها‪ .‬ونستعملها حنن مبعىن موسع مأخوذ‬
‫من أصله اللغوي‪ ،‬فالعدل ميل عن الشيء إىل غريه وهو توازن‬
‫وقسط‪ .‬هبذا املعىن احلركي نستعمل العدل‪ ،‬ويقابله الظلم مبعناه‬
‫اللغوي األصلي وهو وضع األشياء يف غري مواضعها‪.‬‬
‫فالح اإلنسان أن يكون مؤمنا يعمل الصاحلات‪ ،‬مبعىن أن‬
‫يكسبه إميانه إرادة قوية يعدل هبا عن العوامل املردية ليتسنم‬
‫مقامات إنسانية أعلى فيصلح عمله ويذهب عنه املسخ ويكون‬
‫من أهل الفطرة احملسنني‪.‬‬
‫يف حركة دائبة حيارب املسلم النفس والشيطان فيعدل دائما‪،‬‬
‫وينصب يف ذلك‪ ،‬من شك إىل يقني‪ ،‬ومن كسل إىل عمل‪،‬‬
‫ومن جهل إىل علم‪ ،‬ومن شح إىل بذل‪ ،‬ومن مست جاهلي‬
‫وعنف وهتالك على الدنيا وقعود إىل مست إسالمي وتؤدة إسالمية‬
‫واقتصاد وجهاد‪ .‬ومن ذكر اهلل قام حبقه وأقام عدله آناء الليل‬
‫وأطراف النهار‪.‬‬

‫‪66‬‬
‫اخلصلة الثالثة‬
‫الصــدق‬
‫تفتتت األمة اإلسالمية واحنسر املد النوراين الذي كان حمط‬
‫أنظار التاريخ اإلنساين بانكماش املسلم يف أنانيته وبرتفه يف حيز‬
‫املمكن الذي أتاحته حضارة متفسخة‪ ،‬عزلت املسلمني عن إمياهنم‬
‫الفطري اجلماعي‪ .‬وها حنن أوالء يف دار اإلسالم ال نقدر على‬
‫عمل وال على تعاون وال على توحد ألننا ال نصدق أبدا‪ ،‬وخنيس‬
‫بالعهد وال نقيس أي مشروع عملي إال مبقياس أنانيتنا ومبقياس‬
‫اجلاهلية اليت أترفنا فيها‪ .‬هانت علينا نفوسنا فبعناها بالبخس‬
‫من الشعارات‪ ،‬وكان خطرنا واهيا يف ميدان القوى‪ ،‬وسعينا ذليال‬
‫على األرض‪ .‬ليست أمامنا أهداف وال غايات تستجيب هلا األمة‬
‫بصدق فتطلبها بصدق وتصمد لتحقيقها‪ ،‬ألن ما تقرتحه علينا‬
‫املعايري اجلاهلية من أهداف اقتصادية تسخر فيها مطالب ال هتز‬
‫قلوبنا‪ .‬وقد مخدت منا العقول وهوت الفطرة يف ركام االفرازات‬
‫احلضارية اجلاهلية فال نتبني طريقا إىل اخلالص‪.‬‬
‫إعادة تركيب األمة لن يكون إال بتصفية تربز لنا وجوه الصادقني‬

‫‪67‬‬
‫من املؤمنني وتلم شعثهم‪ ،‬ليقودوا جهادا يرىب األمة وجيدد إميانا‬
‫حىت تصدق يف املبدإ والطلب‪.‬‬
‫بسمو الغاية املطلوبة تصلب إرادة الطالب ويصدق يف العمل‪.‬‬
‫ومنهاج اقتحام العقبة منهاج خلق اإلرادة اإلميانية وتقويتها‪ .‬وغاية‬
‫سلوك املقتحم أن يعد من أصحاب امليمنة كما جاء يف سورة‬
‫البلد‪ .‬وهو مطلب سام نفيس يف حق من صدق وصدَّق‪.‬‬
‫وفوق مرتبة امليمنة مرتبة أخرى أعلى وأمسى‪ ،‬هي رتبة‬
‫السابقية كما يعرب عنها القرآن تارة‪ ،‬ويعرب تارات أخرى بالصدق‬
‫واإلحسان‪.‬واحملسنون يعبدون اهلل كأهنم يرونه‪ ،‬وهم أولياء اهلل‬
‫وأحباؤه‪ ،‬من عاداهم آذنه اهلل باحلرب‪ ،‬ويقتحمون العقبة بالفرض‬
‫والنفل حىت يكون اهلل هلم مسعا وبصرا ويدا مؤيدا‪ ،‬أولئك هم‬
‫الصادقون‪ ،‬وأولئك هم احملسنون‪.‬‬
‫اإلحسان هو قمة الكمال اإلنساين‪ ،‬يبلغه السالك باهلداية‬
‫املمنوحة من جناب احلق بواسطة النيب والويل‪ ،‬مث باجملاهدة والعدل‬
‫من أسباب اإلحنطاط إىل مقامات اإلميان واإلحسان‪ .‬إن التكليف‬
‫اإلهلي بالشريعة مجيل وأمانة يف عنق اإلنسان من حيث هو إنسان‬
‫بلغته رسالة األنبياء‪ .‬فالصادق املصدق للرسالة حيمل األمانة بقوة‬
‫يف ظل حمبة الويل املرشد‪ ،‬ويذكر اهلل يف األمر والنهي فيتقلع من‬
‫مواطن املسخ يف دنيا العادة‪ ،‬دنيا الشهوات واألنانية‪ ،‬وتصفو‬

‫‪68‬‬
‫روحه فتتبدل إىل العامل وإىل نفسه‪ ،‬فإذا موقفه موقف فطرة وإذا‬
‫هو يراقب اهلل فيصدق يف كل حركة من حركاته ويف كل خلجة من‬
‫خلجات نفسه‪ .‬ومن مل يقتحم العقبة يراقب الناس فال يصدق‪.‬‬
‫هذا السالك الصادق صاحب إرادة‪ ،‬وعن هذا عرب الصوفية‬
‫عندما مسوه مريدا‪ ،‬ناظرين إىل أخص صفاته السلوكية‪ .‬يبدأ بالتوبة‬
‫إىل اهلل على يد الويل املرشد‪ ،‬ويوطن النفس على عزمته حىت‬
‫يتحقق له مقام التوبة كما يعرب الصوفية‪ ،‬مث يتقرب إىل اهلل بالفرض‬
‫والنفل فيصبح حمبا للمؤمنني إىل أن يتحقق من مقام احملبة‪.‬‬
‫ويذكر اهلل حىت يتحقق من مقام املراقبة‪ ،‬أي يصبح يف موقف‬
‫فطري بنظرة فطرة باملفهوم القرآين‪ .‬فإذا حترر من عادته أي من هذا‬
‫السلوك اهلابط الذي هتواه النفس فتعود إليه‪ ،‬تسنم مقام الصدق‬
‫وأصبح حمسنا‪ .‬ومقام اإلحسان حتقيق لقابليات الكمال اإلنساين‪،‬‬
‫الكامنة يف كل منا‪ .‬فيه تقوى النظرة الفطرية وتستوعب آفاق‬
‫السالك حىت ال يرى يف الوجود إال اهلل‪ .‬ال تسد عليه آفاقه كثافة‬
‫عامل األسباب‪ ،‬وال يرهبه اخللق‪ ،‬وال حيمله الوهن على االستسالم‪.‬‬
‫ك‬‫ص َّد َق بِ ِه أ ُْولَئِ َ‬ ‫قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬والَّ ِذي جاء بِ ِّ ِ‬
‫الص ْدق َو َ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ُه ُم ال ُْمتـَُّقو َن﴾‪ ،‬ال ينفصل صدق من جاء من عند اهلل عن‬
‫تصديق املبعوث إليه‪ .‬ومىت التقى الصدق بالتصديق حلت اهلداية‬
‫وجاء التأييد من عند اهلل‪.‬‬
‫وهبذا فمشروع العمل اإلسالمي والبعث اإلسالمي هواء يف هواء‬
‫‪69‬‬
‫إن مل يكن عامل الصدق أس بنيانه‪ .‬وهلذا خييب سعي حاملي‬
‫الشعارات اإلسالمية ومن خلفها نيات مرتفة مفتونة‪.‬‬
‫الصادقون احملسنون أهل تصديق وإميان‪ ،‬وهم بذلك أهل‬
‫القرآن أهل اهلل‪ .‬يؤمنون بالغيب فتنفتح هلم أبواب اهلداية والفهم‬
‫يف كتاب اهلل‪ ،‬ومن ال يؤمن بالغيب وال يصدق يلعنه القرآن فال‬
‫يقرأ إال كالما كالكالم‪ .‬وحاشا هلل أن تنفتح أسرار اهلداية إال ملن‬
‫صدق وصدق وآمن مبا وراء احلس يف ملكوت اهلل وجربوته‪.‬‬
‫يف وعي الصادق احملسن يتقلص هذا احلسي فيدخل يف نسبية‬
‫ضئيلة ويفقد سلطانه على احملسن‪ .‬هذا إنسان حر ال تستعبده‬
‫العادة ألنه أصبح عبدا هلل امللك احلق‪ .‬وقد يصبح هذا الوعي‬
‫اإلمياين شهادة يف حق من أكرمه اهلل مبعرفته‪ .‬يقع له ما يسميه‬
‫الصوفية فتحا وينكشف عنه الغطاء إذا ماتت نفسه احلاجبة له‬
‫عن ربه‪.‬‬
‫اجلاهلي‪ ،‬إنسان العادة‪ ،‬ال يؤمن إال مبا يقع حتت حسه‪،‬‬
‫وحىت املسلم مل يعرفه الرسول يف حديث جربيل بأنه يؤمن بالغيب‪،‬‬
‫فكيفيه أن يشهد ويصلي ويصوم ويزكي وحيج على ما كان من‬
‫إميان‪ .‬وطائفة من األعراب ادعوا اإلميان فأنزهلم اهلل يف قرآنه إىل‬
‫آمنَّا قُل لَّ ْم تـُْؤِمنُوا َولَ ِكن‬ ‫ِ‬
‫مرتبة اإلسالم ‪﴿ :‬قَالَت ْالَ ْع َر ُ‬
‫اب َ‬
‫يما ُن فِي قـُلُوبِ ُك ْم﴾‪ .‬فاملسلم اجملرد‬ ‫ال َ‬ ‫َسلَ ْمنَا َولَ َّما يَ ْد ُخ ِل ِْ‬
‫قُولُوا أ ْ‬

‫‪70‬‬
‫العادي يعيش يف دنيا العادة‪ ،‬فكل ما هنالك عنده أرض زاخرة‬
‫باحلركة املتطاحنة ومساء هي مسرح لصوالت االكتشافات اجلاهلية‪.‬‬
‫وما من حلظة من حلظات حياته إال وميلؤها ضجيج العادة ‪ :‬غرائز‬
‫أنانية تطلب حظها من مال وجاه ولذة‪ .‬ال مييزه يف ذلك عن‬
‫اجلاهلي إال اعرتاف باهلل وطاعته‪.‬‬
‫والتجديد اإلمياين الذي ينقذ هذه األمة ال بد أن يكون‬
‫جتديدا على مستوى أعلى‪ ،‬أعلى مستوى إمياين يتحول فيه اهتمام‬
‫أفراد األمة من دنيا العادة يف خط النظر املنهاجي حنو املوقف‬
‫الفطري‪ ،‬وليكون األمر كذلك فال بد أن يقود احلركة رجال الدعوة‬
‫الصادقون احملسنون‪.‬‬
‫أسواء من فتح اهلل بصريته فإذا له حياة روحية‪ ،‬وإذا هو يسبح‬
‫يف ملكوت اهلل ومن متأل حويصلته هنات األرض فيتدفق من‬
‫لسانه ظالم قلبه حني يدعو املسلمني إىل العمل ؟‬
‫إسالمنا الفردي‪ ،‬عند من مل متسخهم اجلاهلية مسخا كامال‪،‬‬
‫إما عقيدة متجذرة لكنها مضببة بدرجات متفاوتة‪ ،‬وإما إميان‬
‫أقرب إىل الفطرة‪ ،‬وإن كانت تُرنِّقه كدورات العادة‪ ،‬ويوهنه نسيان‬
‫األمر والنهي والفرض والنفل قليال أو كثريا‪ .‬عقيدة مضببة عند‬
‫طائفة ممن قارفوا الثقافة املعاصرة فنالت منهم دون ما نالت من‬
‫شرذمة املفتونني املرتفني‪ ،‬وإميان كدر عند أغلبية أفراد األمة خاصة‬

‫‪71‬‬
‫مساكني األمة الذين لطف اهلل هبم فجنبهم «تسهيالت» احلضارة‬
‫املادية وبقيت ضمائرهم عارية كعري أجسامهم مل تلطخها‬
‫اجلاهلية‪ ،‬إهنم احملرمون الذين بنوا لإلسالم أكواخا يف ظل القصور‬
‫املرتفة الظامل أهلها مرتع الفسوق والردة وهتك حرمات اهلل‪.‬‬
‫ولتعود األمة أمة كما كانت ال يرفعها من شعوبية يسوقها‬
‫إليها القادة املرتفون إال تربية تعيد الصدق إىل نصابه‪.‬‬
‫األمة املشعبة املسكينة ال تسمع إال كذبا‪ ،‬كذبا عند إعطاء‬
‫الوعود قبل االنتخابات‪ ،‬أو هكذا جزافا‪ .‬وكذبا يف اخللف عندما‬
‫حيني املوعود‪ ،‬وكذبا يف اخليس باألمانات‪ .‬حىت إن األمة ألفت‬
‫برتبية قادهتا املنافقني أال تنتظر إال متويها وغشا‪.‬‬
‫تربية املسلمني الفرديني حىت يكونوا أمة تبدأ باقتحام عقبة‬
‫النفاق‪ ،‬والنفاق بالتعريف النبوي كذب يف احلديث وخلف للوعد‬
‫وخيانة لألمانات‪ .‬وكل أولئك الصفات حلمة عملنا يف احلياة‬
‫اخلاصة والعامة‪.‬‬
‫ويف ظالم النفاق ال تتبني األمة هلا طريقا ألنه ليست هلا‬
‫أهداف وال مقاصد وال غايات‪.1‬‬
‫‪ 1‬يف حق الفرد ‪ :‬اهلدف الرجوع لإلسالم بالتوبة وااللتزام بألمر اإلسالمي‪ .‬واملقصد املشاركة يف الوالية‬
‫اإلميانية مع مجاعة املؤمنني‪ .‬والغاية التزكية اإلحسانية‪ .‬ويف حق األمة ‪ :‬اهلدف التحرر من اجلاهلية‬
‫وحتقيق العدل واملقصد قيام دولة إسالمية هدفها توحيد املسلمني‪ ،‬والغاية محل رسالة اإلسالم واجلهاد‬
‫لنشر دين اهلل قياما قياما حبق اخلالفة يف األرض‪ .‬هبذه املفاهيم نستعمل هذه الكلمات فيما يأيت من‬
‫صفحات هذا الكتاب‪ .‬فاهلدف يقابل مرتبة اإلسالم‪ ،‬واملقصد اإلميان والغاية اإلحسان‪.‬‬

‫‪72‬‬
‫فإذا بدأ عمل إسالمي صادق يريد تربية األمة لزم أن يرسم‬
‫املريب أهدافا إسالمية ومقاصد وغايات للفرد واجلماعة ليجد‬
‫الكل يف طلبها ويصدق‪.‬‬
‫نسي املسلمون أن اهلل يقبل التوبة من املسيء‪ ،‬وأن كل ابن‬
‫آدم خطاء وأفضل اخلطاءين التوابون فيتوهم املرتف والفاسق وحىت‬
‫املرتد أن باب اإلسالم أغلق يف وجهه‪ ،‬ويتحجر املسلم املصلي يف‬
‫أنانية مهدوية‪ ،‬فال يقبل حوارا مع املرتد والفاسق واملرتف ليتوب‪.‬‬
‫وقد حيكم هذا املسلم املصلي‪ ،‬وحىت إن مل يكن مصليا‪ ،‬بأن‬
‫املرتد يف اإلسالم يقتل حدا وكفرا‪ ،‬وينسى أن ذلك عندما يكون‬
‫اإلسالم قائما له دولة وصولة‪ .‬أما زمن الفتنة هذا فمن يقتل ومن‬
‫يقتل ؟ التوبة باب الرمحة ورفق وصدق‪ ،‬وبدايتنا يف صدق التوبة‬
‫وصدق قبوهلا من األمة مجيعا‪.‬‬
‫ونسي املسلم أن هلل جنة ونارا حقا‪ ،‬وأن له مثابا وحسن العقيب‬
‫للمؤمنني اجملتمعني على عمل الصاحلات‪ .‬نسي ذلك خلمود حسه‬
‫اإلسالمي‪ ،‬كما عاقه عياء فكره أن يتخيل أية طاقة تربز لو توحد‬
‫املؤمنون برابطة إمياهنم‪ ،‬وأي عمل يكون هلم آنئذ‪.‬‬
‫نسي املسلم واملؤمن أن اهلل حيب العبد املتقرب إليه ويبلغه‬
‫أقصى كماله اإلنساين كما فعل ويفعل سبحانه بأوليائه‪ .‬وهذا‬
‫هو لب الرسالة اليت جاء هبا الرسل‪ ،‬وهو أعز مطلب لإلنسانية‬

‫‪73‬‬
‫وأغاله‪ ،‬وهو الكنز املخبوء يف قلب الصادقني من هذه األمة ال‬
‫جيدون جسرا يصلهم بسمع اإلنسانية ووعيها ليبلغوها أن اهلل كرمي‬
‫رحيم حيب من حتبب إليه‪ ،‬وسلك إليه الصراط املستقيم‪ ،‬واقتحم‬
‫إليه عقبة النفس املائلة مع اهلوى‪.‬‬
‫هذه الرتبية حتل تناقضات اإلنسان مع العلم ألهنا تعيد خلق‬
‫الفاعل التارخيي املريد القوي وتقرتح على صدقه الفعال موضوعا‬
‫هو نفسه من حيث تعرضه خلطر الرتف يف العامل‪ .‬وشتان بني‬
‫مطلب يسمو بقيمة اإلنسان إىل السماء واخللود وبني مشروعات‬
‫عامل الوهم‪ ،‬عامل اجلاهلية‪.‬‬
‫من هم الصادقون املربون؟ وأينا أحق باإلسالم ومحل أعبائه ؟‬
‫إن يف سدة احلكم بدار اإلسالم رجاال ما منهم إال من يزعم أنه‬
‫رائد اإلسالم وحامل لوائه‪ .‬وإن بدار اإلسالم خصاما على معىن‬
‫اإلسالم وموطن هدايته‪ .‬فأين الصادقون؟‬
‫إننا نبدأ بالتوبة مجيعا فإن صدقنا فيها فإن لكل صدق برهانا‪.‬‬
‫ين﴾! وبرهان‬ ‫قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬قُل هاتُواْ بـرهانَ ُكم إِن ُكنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬ ‫ْ َ ُْ َ ْ‬
‫صدقنا يف التوبة مقاطعتنا للجاهلية يف حياتنا الفردية مقاطعة‬
‫تامة‪ .‬مث ال يكفي املرشح للقيادة اإلسالمية أن يلتف يف الصوف‬
‫ويأكل طعام املساكني حىت ينحسم يف قلبه وعلى لسانه أننا قومية‬
‫اشرتاكية إسالمية‪ .‬ومن لبث منا يف قصوره وأموره وادعى صدق‬

‫‪74‬‬
‫التوبة أغنانا عن اهلزء به يد اهلل الغالبة اليت ال تفلت الظاملني‪.‬‬
‫مث إن لكل صدق بعد هذا برهانا يؤيده‪ ،‬برهانا من فاعلية النية‬
‫الصادقة والتصميم احملكم الصامد وبرهانا من توفيق اهلل لعباده‪.‬‬
‫أما رجال الدعوة فما الفصاحة برهان على صدقهم‪ ،‬ال أحواهلم‬
‫املتصوفة وال تلك العبارات‪ .‬وال اخلطب «النارية امللتهبة» املطالبة‬
‫بالتغيري‪ ،‬وإمنا اهلداية يف قلوب املستضعفني‪ ،‬والتوبة السارية حىت‬
‫للمرتفني‪ ،‬ووضوح املنهاج واالستقامة على كتاب اهلل وسنة رسوله‪.‬‬
‫هبذا تتميز لنا اإلرادة الصادقة من اإلرادة اخلادعة‪ .‬وبربهان‬
‫العمل الصادق نعرف من له ذمة أي من له «ضمري خلقي»‪ .‬وإذا‬
‫كان لكل شيء عروة ميسك هبا ويرفع فعورة الرجال ذمتهم‪ ،‬وال‬
‫ذمة لغري املؤمنني الصادقني‪.‬‬

‫‪75‬‬
‫اخلصلة الرابعة‬
‫البــذل‬
‫اهلجرة عن عادات اجلاهلية هي برهان الصدق وهي احلركة‬
‫السلبية لإلرادة اليت تعدل عن املوقع العادي إىل الوضع الشرعي‬
‫اإلسالمي‪ ،‬وقد كانت اهلجرة حادثة يف عهد الرسول الكرمي تارخيية‬
‫من دار الكفر مكة إىل حمضن اإلميان يثرب‪ .‬طرح الرسول وصحبه‬
‫أمواهلم وأهلهم ورحلوا بإمياهنم‪ .‬وتبقى اهلجرة حركة إرادية دائمة‬
‫يف حياة املؤمن يطرح دائما عنه الرجس ويعدل إىل احلق‪.‬‬
‫ُجبلت النفس اإلنسانية على الشح‪ ،‬والشح حتجر على امللكية‬
‫وترف لإلرادة فيها وضياع‪ .‬ومن غلبته النفس بشحها فكان خبيال‬
‫معظما لصنم امللكية بقي بعيدا عن اهلل بعيدا عن اجلنة بعيدا عن‬
‫﴿وَمن‬
‫الناس‪ ،‬كما جاء يف احلديث الشريف‪ .‬ويقول ربنا عز وجل ‪َ :‬‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾‪.‬‬
‫يُو َق ُش َّح نـَْف ِس ِه فَأ ُْولَئِ َ‬
‫عربنا بالبذل عن معاين اإلنفاق اليت يف القرآن ألن لفظة البذل‬
‫تتحمل معىن االبتذال‪ ،‬وأنت ال تطرح شيئا وتنفقه وتدفعه عنك‬
‫إال إذا ابتذلته واحتقرته يف وجه املقابل‪ .‬وهبذا يعطينا لفظ البذل‬
‫تصورا حركيا ينظر إىل حافز اإلنفاق وموقف املنفق مما ينفقه‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫يف الصفحات السابقة وفيما يليها حنرص على صوغ تصورات‬
‫إسالمية فكرية‪ ،‬ال نبغي وضعها قبلة للتأمل النظري‪ ،‬لكن ليتحرك‬
‫بواسطتها الفكر فاحتا أبواب العمل وإمكانياته‪ .‬وقد كانت‬
‫اخلصال الثالث األوىل من خصالنا العشر خصاال تربوية نفسية‪،‬‬
‫وندخل هبذه اخلصلة الرابعة يف سرد اخلصال التطبيقية العملية‬
‫لننظر كيف ينتج عن تربية إسالمية عمل إسالمي‪ .‬وسنعرض كل‬
‫خصلة على مراتب ثالث ‪ :‬مرتبة األهداف اإلسالمية‪ ،‬مث مرتبة‬
‫املقاصد اإلميانية‪ ،‬مث مرتبة الغايات اإلحسانية‪ ،‬حىت ال ننسى‬
‫أن املنهاج النبوي اقتحام دائم للعقبة‪ ،‬ونشدان ال يين لتحقيق‬
‫قابليات الكمال اإلنساين‪ .‬ولطاملا نظر املسلمون إىل إسالمهم‬
‫التقليدي نظرة سكونية ألهنم مل يتبنوا املعارضة والتناقض بني‬
‫اجلاهلية واإلسالم وألهنم سلموا أن اإلسالم الفردي حالة سطحية‬
‫مسطحة هي منتهى املراد من بعثة الرسل‪.‬‬
‫األهداف اإلسالمية ‪ :‬املسلم الفردي املعتقد حقا أو اجلغرايف‬
‫احملض‪ ،‬مرتدا كان أو منافقا‪ ،‬يعبد أوثان الفتنة‪ .‬أناين جيمع ماال‬
‫وجاها ويعدده‪ ،‬ومثقف أو دعي يف الثقافة يسبح يف خياالت‬
‫مثالية ثورية أو حاملة‪ ،‬مث سائر الناس ممن تطحنهم عجالت الفتنة‬
‫بثقل الكد اليومي وثقل احلاجات املتجددة املتنوعة الرهيبة‪ .‬وكل‬
‫هؤالء يتصرفون على أساس االبتزاز مللء اجلوعة النهمة‪ ،‬وترى‬

‫‪77‬‬
‫املتناقضات الصارخة عند املثقف الثوري املرتشي الذي يسهر‬
‫ليايل الدعارة وينفق على لذاته رزق أسرة من الفقراء الذين يزعم‬
‫أنه ثائر حلقوقهم‪ .‬أحاول تصوير هذا االلتصاق باملادة وتعظيمها‬
‫وعبادهتا‪ .‬ويف هذا اجلو املادي اإلنساين املؤسس على التكاثر‬
‫باجلاه واملال يرتف املسلم الفردي واجلغرايف يف عادته وحيرص‬
‫عليها فيكون عائقا للحركة احملررة‪ .‬وما نراه من حركة احملرومني‬
‫وغضب الشباب واحتجاجهم ال يبلغ أن يكون بداية حركة يف‬
‫دار اإلسالم‪ ،‬ألنك ال جتد واحدا حيتقر حقا العادة‪ ،‬ويقدر على‬
‫طرحها حلياة جديدة‪ .‬والطبقة األكثر ترفا يف دار اإلسالم تعبد مع‬
‫عاداهتا الوثن األعظم وثن السلطة فتنفق يف سبيله املال واملتاع‪.‬‬
‫أنفس شحيحة ملتزمة خبدمة شهواهتا‪ ،‬وأخرى حمرومة باإلضافة‬
‫إىل شحها وعبادهتا ألوهام خرافية على مستوى املستضعفني‬
‫املشعبني‪ ،‬أو أوهام ثقافية جاهلية على مستوى الشباب املدرسي‬
‫ومن هذه النفوس املتعكرة اليائسة‪ ،‬بعدما خابت االنقالبات يف‬
‫دار اإلسالم وافتضت االشرتاكيات هبزائم «الشعوب»املسلمة ال‬
‫تنتظر حركة حمررة إال إن جاء اإلسالم بالفتح والرمحة واهلداية‪.‬‬
‫إمنا حتل تناقضات األمة املشعبة حبل إسالمي وفتح إسالمي‪ ،‬وإال‬
‫فسنقضي عصرا لتخلق طبقة ثورية ترث األرض‪ .‬وليس على املسرح‬
‫يف دار اإلسالم من مثال مغر وال عقول ومهم تنظم وتعمل إال‬

‫‪78‬‬
‫على مناذج جاهلية ملحدة شيوعية حمض بعد فشل االشرتاكيات‪.‬‬
‫وفتح اإلسالم وحله هو الدعوة العامة إىل التوبة العامة‪ ،‬طرح‬
‫للجاهلية وبذل للنفس والنفيس لبناء اإلسالم‪.‬‬
‫مث إن لألفراد وللدولة القومية يف دار اإلسالم أمواال مرصودة‬
‫للدعوات اجلاهلية والدعاية والتهريج السياسي‪ .‬إهنا أموال وثنية‬
‫ألهنا ختدم مشاريع وثنية‪ .‬هذه دولة اشرتاكية تنفق األموال الطائلة‬
‫لتبىن للبطل الزعيم مسعة عاملية أنه تقدمي ومناضل‪ .‬وهذه دولة‬
‫استبدادية من طراز آخر تبدد أمواال لتوطيد االستبداد وشراء‬
‫الضمائر حىت تقام حمافل يذكر فيها جمد القائد‪.‬‬
‫هذه األموال اإلسالم يف حاجة إليها‪ ،‬لتبذل يف سبيل الدعوة‬
‫والرتبية‪ .‬وما دامت اهلمم املرتفة يف سعة من أحالمها فلن حتتقر‬
‫أوهامها اجلاهلية‪ .‬أال إنه يرتاءى يف األفق‪ ،‬ملن ألقى السمع وهو‬
‫شهيد‪ ،‬بشائر التوبة بظهور دواعيها‪ ،‬فإن أبواب العمل اجلاهلي‬
‫تغلق يف وجه قادتنا ويفتضحون بوالئهم اجلاهلي ويرتفع وعي‬
‫األمة املبعثرة‪ .‬فما بقي إال جتميع هذا الوعي يف اجتاه التزام فردي‬
‫بالعمل اإلسالمي وحتاجز بني اجلاهلية واإلسالم ومتايز يف ضمري‬
‫القائد وعمله‪.‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬املقصد اإلمياين يف حق الفرد واليته جلماعة‬
‫املؤمنني‪ ،‬وبالنسبة لألمة فاملقصد قيام دولة إسالمية يتجمع حوهلا‬

‫‪79‬‬
‫املسلمون قاطبة‪ .‬ولتحقيق املقصد ال بد من استبدال عالقات‬
‫األفراد النفعية االستغاللية بعالقات تعاونية قوامها البذل‪.‬‬
‫يقول اهلل تعاىل‪﴿ :‬والَّ ِذين آمنُواْ ولَم يـ َه ِ‬
‫اج ُرواْ َما لَ ُكم ِّمن‬ ‫َ َ َ َ ْ ُ‬
‫اج ُرواْ﴾‪ .‬فدخول املؤمن يف والية‬ ‫والَيتِ ِهم ِّمن َشي ٍء حتَّى يـ َه ِ‬
‫ْ َ ُ‬ ‫َ َ‬
‫املؤمنني منوط بالبذل واإلنفاق وطرح شح املاضي‪ .‬وال بد من ترك‬
‫العالئق اجلاهلية االستغاللية يف ميدان الشغل فال يكون مث عبد‬
‫وسيد‪ ،‬عبد عليه أن يشتغل زمنا معينا لقاء مثن معني‪ .‬إن كانت‬
‫صيغة هذه اجلملة من مقوالت الشيوعية أو االشرتاكية فنحن ال‬
‫نقصد ما يقصدونه‪ ،‬ألن تسوية التوزيع عندهم إن كانت ضرورة‬
‫اجتماعية ينظمها ويفرضها سلطان احلكم‪ ،‬فإن العدل اإلسالمي‬
‫من الشح إىل البذل عمل املؤمن امللتزم بإرادته اهلادفة إىل اخلالص‬
‫يف إطار مبايعة بني ذمم مؤمنة‪ .‬وال يتشابه املضمون وال الشكل‬
‫اإلسالمي مع نظرييه اجلاهليني‪.‬‬
‫إن اجلاهلي مندمج فيما ميلكه‪ ،‬فاألرض والبضائع واملال جزء‬
‫من كيانه‪ .‬فلما كان الشقاء االجتماعي بؤسا ال يتحمله اإلنسان‪،‬‬
‫وكانت الطبقات املالكة ال تبذل ما بيدها ألن ما بيدها جزء‬
‫من كياهنا‪ ،‬أصبحت الثورة العنيفة الطريقة الوحيدة لنقل امللكية‬
‫من الثري البطني إىل الفقري احملروم‪ .‬وإن حماولة الفكر الثوري‬
‫املاركسي لتحرير اإلنسان بتحرمي امللكية الفردية لألرض كان جريا‬

‫‪80‬‬
‫وراء اهلباء‪ .‬ما حترر الشيوعيون من عبودية املادة‪ ،‬وإن يف بالد‬
‫الشيوعيات هتافتا على امللكية الفردية يف شكل مبان أو سيارات‬
‫أو ما سواها من متاع‪ ،‬فاجلاهلي ال ينفك ذائبا فيما بيده‪.‬‬
‫واإلسالم ال حيرم امللكية الفردية لألرض‪ ،‬وحيقق األساسي‬
‫الذي من أجله خلق اإلنسان وهو حترير اإلنسان من الفتنة‪.‬‬
‫تدخل امللكية يف التصور العام للفتنة‪﴿ :‬إِنَّ َما أ َْم َوالُ ُك ْم َوأ َْوَل ُد ُك ْم‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫يم﴾‪ ،‬فينظر املؤمن بنظرته الفطرية إىل‬ ‫فتـْنَةٌ َواللَّهُ عن َدهُ أ ْ‬
‫َج ٌر َعظ ٌ‬
‫نفسه كعابر سبيل يف جمال احلياة بني امليالد واملوت‪ ،‬ويعرف نفسه‬
‫بانتمائه للمؤمنني وأخوته هلم ووالدته‪ ،‬ويرغب أن حيشر معهم وأن‬
‫خيلد إىل جوارهم يف اجلنة‪ ،‬بينما ينظر اجلاهلي إىل نفسه ساكنا‬
‫لألرض مالكا هلا‪ ،‬له كربياء تنفخ فيها سلطة املال‪ .‬فقيمة املؤمن‬
‫منفصلة عما يف يده‪ ،‬وإن أكرمكم عند اهلل أتقاكم‪ ،‬وقيمة‬
‫اجلاهلي قيمة ما ميلك‪ .‬وهلذا ينفصل املؤمن عن ملكه ويبذله ألنه‬
‫ال يساوي شيئا إال مبقدار ما خيدم غايته األخروية‪ .‬أما اجلاهل‬
‫فال ينفصل عن ملكه إال مرغما‪ ،‬وأنت مسعت املاليني اليت ذحبت‬
‫يف بالد الشيوعية زمن تصفية امللكية الفردية‪ ،‬ميوت اجلاهلي دون‬
‫أرضه ألنه ال وجود له بدوهنا‪ ،‬كيف ال وهو الدابة األرضية !‬
‫يفعل كل هذا املؤمن التقى طالب اآلخرة‪ .‬أما مسلمونا‬
‫اجلغرافيون فسيكون اقتحام عقبة العدل التوزيعي شاقا عليهم‪،‬‬

‫‪81‬‬
‫ألن الشح هو األصل‪ ،‬وإمنا حتاربه اإلرادة اإلميانية املتزكية‪.‬‬
‫فالناس يف دار اإلسالم قريبون جدا من ملكهم ال يبذلون‬
‫لتعظيمهم املتاع املادي‪ .‬فهل يكون معىن البعث اإلسالمي أن‬
‫يوكل أمر تعديل امللكية وتسوية األرزاق تسوية الئقة للضمائر‬
‫الفردية ؟‬
‫كال ! فليس البعث اإلسالمي عملية تأملية يف مسرح غنائي‪.‬‬
‫ولن يتحقق املقصد اإلمياين يف قيام دولة إسالمية رائدة إال يف جو‬
‫تعبئة إسالمية مشدودة حبلها إىل إرادة قيادة حامسة‪ ،‬تفسح اجملال‬
‫للتطوع الفردي للسباق املكون لنواة اجلماعة اإلميانية‪ ،‬وعلى كل‬
‫مسلم بعدئذ أن خيضع للجماعة ويعمل يف إطار مقاصدها إما‬
‫متحركا حبافز أهدافه‪ ،‬أو سائرا بدافع التعبئة العامة‪.‬‬
‫الس َف َهاء‬
‫﴿والَ تـُْؤتُواْ ُّ‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬قال اهلل تعاىل ‪َ :‬‬
‫أ َْم َوالَ ُك ُم الَّتِي َج َع َل اللّهُ لَ ُك ْم قِيَاماً﴾‪ ،‬وتقرأ الكلمة األخرية يف‬
‫رواية ورش عن نافع «قيما»‪.‬‬
‫فأموالنا لنا قيم من حيث تكون للمؤمن مطية يفعل هبا‬
‫الصاحلات‪ ،‬وهي لنا قيام جعلت لنقوم حنن أمة مؤمنة ونقوى ونعز‪.‬‬
‫فأي مال ال خيدم الغاية اليت من أجلها خلقنا فليس يف ملكنا بل‬
‫حنن له مستعبدون‪ .‬وجاءت اآلية يف سياق التشريع ألموال اليتامى‬
‫القاصرين مثرية إىل حرمة تصرف السفيه يف أموال اليتامى القاصرين‪،‬‬

‫‪82‬‬
‫مثرية إىل حرمة تصرف السفينة يف ماله‪ ،‬يبدده فال تقوم له مع العوز‬
‫قائمة‪ .‬واآلية بإطالقها بالغ للمؤمنني عامة القصد‪.‬‬
‫للفكر املاركسي تصوره عن االستالب بواسطة العمل‬
‫االستغاليل املهلك لإلنسان‪ ،‬يفقده ذاته وحيوله بضاعة وشيئا‪ ،‬ولنا‬
‫حنن تصورنا اإلسالمي للمسخ عندما يرتف اإلنسان يف عادته‪،‬‬
‫ومرد أكثر العادات لعالقتنا باملمتلكات‪ ،‬وجتيئنا األحاديث‬
‫الشريفة ختربنا عن بين آدم الذين حيشرون ويعذبون حبمل متاعهم‬
‫املادي الذي أترفوا فيه وعتوا به عن أمر رهبم يوم القيامة‪.‬‬
‫واملؤمن السالك ملقام اإلحسان يتعلم شيئا فشيئا‪ ،‬وباطراد ما‬
‫يكسبه من قوة الروحانية‪ ،‬كيف ينفصل عن املتاع املادي‪ ،‬وكيف‬
‫يتصرف فيه باإلرادة املتحررة من الشح ملا أصبحت يف عبودية‬
‫رهبا‪ .‬هذا املؤمن يكون املال له قياما وينظر بعني الرثاء خلدام املال‬
‫وعبدة األوثان‪.‬‬
‫احملسنون عباد هلل فال سلطان للمادة عليهم‪ ،‬فإن أتوا ماال‬
‫مل يتصرفوا فيه تصرف السفيه‪ ،‬وإمنا يرصدونه خلدمة غاياهتم يف‬
‫التقرب إىل موالهم‪.‬‬
‫واحملسنون هم نواة البعث اإلسالمي والوالية بني املؤمنني‪ ،‬هم‬
‫محلة الرسالة‪ .‬هلم الدور القيادي طبعا من طبع كل حترك إسالمي‪،‬‬
‫وإال فال معىن للعمل اإلسالمي‪ .‬ألن من أخذ مقاليد احلكم وال‬

‫‪83‬‬
‫يزال يشغل قلبه وسواس االستكبار املستغين باملتاع احلسي‪ ،‬ال‬
‫يعمل عمال إسالميا‪ ،‬وال يبذل ما بيده لقاء ما عند اهلل‪.‬‬
‫فإذا أقام احملسنون رجال القيادة اإلسالمية مثاال حيا لتجردهم‬
‫وبذهلم لذات اليد وذات النفس‪ ،‬اكتسبوا من قوة السلطان على‬
‫أنفسهم ومن مث على أمور األمة العامة‪ ،‬ما ميكنهم من إقامة دولة‬
‫إسالمية تعاونية‪ .‬وبذلك يستطيعون إن يوجهوا اجلهاد اإلسالمي‬
‫حلمل الرسالة احملررة للبشرية املعذبة‪.‬‬
‫يف عاملنا املادي يسري كل أمر بالسرعة والفاعلية اليت تتيحها‬
‫له الوسائل املالية‪ .‬فاالقتصاد يبغي جتميع املال‪ ،‬الرأمساليون‬
‫جيمعونه بالشح املضاعف‪ ،‬شح انتظار الفائدة‪ ،‬والشيوعيون‬
‫جيمعونه بالغصب‪ ،‬ويف الطريق اإلسالمية يكون برهان التوبة‬
‫البذل‪ ،‬ألن الصدقة برهان كما جاء يف احلديث‪ .‬وهنوض اإلسالم‬
‫إىل أن يبلغ غايته يف محل الرسالة يريد تربية‪ ،‬ووسائل الرتبية تكون‬
‫جدواها مبقدار ما ينفق عليها من مال‪ ،‬فال مناص من أن يكون‬
‫البذل السخي املعمم املنظم موردا للعمل اإلسالمي‪ .‬واملسلمون‬
‫اجلغرافيون اليوم ينفقون املال اجلم على خصوماهتم ومالمحهم‬
‫السياسة اخلاوية‪ ،‬وما جعل اهلل من مصرف املال املسلمني إال‬
‫للفقري تغنيه وللمسكني‪ ،‬وحنن أمة مسكينة‪ ،‬تقويه‪ .‬مث نبذل‬
‫أموالنا يف سبيل اهلل لتعز كلمة اهلل جبهادنا ونعز على وجه الزمان‪.‬‬

‫‪84‬‬
‫اخلصلة اخلامسة‬
‫ا لعلـم‬
‫لعل أهم أبعاد الفتنة اليت خنوض وسطها وال هنتدي سبيال‬
‫القتحامها أن عقولنا عشش فيها أنانيات تراكمت ظلماهتا على‬
‫مر العصور منذ غزت اإلسالم فلسفات اليونان الوثنية‪ .‬مث أعقب‬
‫هتافت الفالسفة رسوب الوعي وحيويته حتت أثقال تارخيية من‬
‫اخلالفات واحلزازات حىت جاء وقت أعرض فيه املسلمون عن قرآن‬
‫رهبم وهنا وضعفا وقتامة عقل‪ ،‬قائلني ملن زعم أنه يقرأ القرآن‬
‫فيتدبره أو يفسره ‪« :‬إن صوابه خطأ وإن خطأه كفر»‪ .‬فبمنطق‬
‫كهذا كبت جذوة اإلميان يف القلوب وومضة احلق يف العقول‪.‬‬
‫وراكب ذلك اهلزمية احلضارية يف ميادين اجلالء‪ ،‬حىت استعمرت‬
‫اجلاهلية ديارنا‪ ،‬وخنر ضالهلا يف عقولنا‪ ،‬فهي اليوم متأهلة بالعقالنية‬
‫اإلحلادية اليت ينضوي حتتها ويفخر باالنتساب إليها من غامسها‬
‫يف جامعاتنا املمسوخة‪ ،‬وحىت من قارف من خري الثقافة امللحدة‪،‬‬
‫مستقيا من فكر املالحة ممن حيملون أمساء إسالمية‪.‬‬
‫اجلاهلية إمنا كانت جاهلية ألمرين ‪ :‬جهل بقيمة اإلنسان‬
‫وجهالة عنيفة‪ .‬وحنن املسلمني يف زمن فتنتنا هذا نضيف إىل‬
‫‪85‬‬
‫جهلنا مع اجلاهلية باملعنيني جهال ثالثا مركبا‪ ،‬هو جهلنا كيف‬
‫نقيم ألنفسنا استقرارا وحضارة كحضارة اجلاهلية الرخية املتكاثرة‪.‬‬
‫صارت غايتنا من احلياة أن نغلب التخلف لنحلق بالركب‬
‫احلضاري لكنا حىت جريا لنيل هذه الغاية املنحطة خنتلف يف‬
‫االجتهاد لتحويل «شعوبنا» دواب مرتفهة‪ ،‬وتتشكل أقدامنا يف‬
‫السري حني تشكلت عقولنا بالطواغيت العقالنية اجمللوبة املتعددة‬
‫املصادر‪ .‬وتبين اجلاهليات‪ ،‬الواحدة تلو األخرى‪ ،‬حضاراهتا‪،‬‬
‫وتتنافس على خريات األرض وعلى دور القيادة احملررة للعامل‪ ،‬وحنن‬
‫تتضور أمعاؤنا جوعا‪ ،‬وعقولنا حتفزا للنماذج الساطعة الناجحة‬
‫اجلاهلية اليت تثور وتبىن وتغري اإلنسان‪.‬‬
‫الفلسفات اجلاهلية تروم جتميع اإلنسان جتميعا أفقيا وعموديا‬
‫يف تارخيه ويف أصوله البيولوجية والنفسية والرتبوية‪ ،‬وتسعى العلوم‬
‫اإلنسانية لدراسة اإلنسان دراسة متزامنة‪ 1‬ومتفاوتة الزمان‪،2‬‬
‫فيحصل هلا أن متثل عنصرا ثابتا هو «الطبيعة املتطورة» وعنصرا‬
‫متغريا هو اإلنسان‪ .‬وهكذا تربط اإلنسان بالطبيعة ليتكيف هبا وال‬
‫تبحث أبدا عن وسيلة لتكييف الطبيعة حسب الضرورة األوىل ‪:‬‬
‫أال يفقد اإلنسان إنسانيته‪.‬‬

‫‪ 1‬متزامنة ‪.synchronique :‬‬


‫‪ 2‬متفوتة الزمان ‪.diachronique :‬‬

‫‪86‬‬
‫هذا هو علم اجلاهلية وعلى ضالله نسري وحنن األمة املسلمة‬
‫يف زعم أنفسنا ! كان لنا علماء عاملون يذكرون الناس بالفطرة‬
‫أنفاس علمائنا‬
‫َ‬ ‫وباملعاد‪ ،‬فلما غزانا التمدن الكمي اجلاهلي غطت‬
‫العاملني حجب كمية‪ ،‬وقيس علم املرء بشهادته كما تقاس علوم‬
‫الطبيعة عند حامليها‪ .‬ويسري التيار اجلاهلي من خالل النماذج‬
‫اجلاهلية أو متثلها غري الواعي ومثاهلا املنتصب مفخرة للحضارة‪،‬‬
‫حىت يصبح مفهومنا عن العامل املسلم مفهوما ممسوخا‪ ،‬فكل من‬
‫محل شهادة من جامعة إسالمية حسب عاملا قدوة وانتظر منه‬
‫أن يعلم الناس دينهم‪ .‬وقد يكون هو يف نفسه ممسوخا يتلفت‬
‫يف أعطافه معجبا حبامل الشهادة الذي ميثله حضرته‪ ،‬وهو فاسق‬
‫يضاهي بفسقه دكاترة برلني وباريس‪.‬‬
‫إذن مثقفيا أشد الناس بعدا عن الفطرة اإلسالمية ألهنم‬
‫جاهلون بالقيمة اإلنسانية‪ .‬تعلموا يف اجلامعات املمسوخة‬
‫معايري لإلنسان جاهلية‪ ،‬ولقنوا من الفكر اجلاهلي مناذج للسلوك‬
‫جاهلية ومع هذا فلنا حبمد اهلل علماء عاملون أطهار يتحسرون‬
‫كما نتحسر على ضياع بين قومنا وأبناء ملتنا‪ .‬وحني تبزغ مشس‬
‫اإلسالم يكونون الرعيل األول‪ ،‬فليستعدوا‪ .‬وعند اهلل مفاتيح اخلري‬
‫نسأله أن يفتح هبا مغاليق األفئدة الضالة‪ .‬ولن جتدوا يا قوم خمرجا‬
‫من ورطتكم إال اإلسالم‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫إن حاجتنا إىل علم إسالمي كحاجتنا إىل تربية إسالمية‪ ،‬بل‬
‫إن علم اإلسالم وفهمه مقدمة ضرورية للعمل اإلسالمي‪ .‬يظن‬
‫بعض رجال الدعوة من املسلمني أن ضعف املسلمني يف قصور‬
‫اجتهادهم الفقهي‪ .‬وهذا حكم سطحي ألنه يقدر أن البعث‬
‫اإلسالمي يكون بالتجديد القانوين وكأنه ليس بيننا إال ضمائر‬
‫مؤمنة متعطشة للمعرفة اإلسالمية والعمل هبا‪ .‬والعمل الذي حنن‬
‫‪1‬‬
‫حباجة إليه هو «الفقه املنهاجي»‬
‫كيف نتعلم إسالمنا ويف أي اجتاه ؟ كيف نفهم الوسط الذي‬
‫نعيش فيه وكيف نتصرف جتاه فتنة الدنيا وفتنة العنف ؟ ومن‬
‫أين نبدأ ومن يبدأ ؟ وإىل أين نسري ومل نسري ؟ وكيف ننتقل من‬
‫عامل الكم حلياة الكيف ومن الفتنة اجلاهلية إىل اإلسالم‪ ‬؟ وما‬
‫هي بنية اجلماعة ورابطها ومراتب اإلسالم واإلميان واإلحسان‪ ‬؟‬
‫الفقه املنهاجي فتح للتدبر والفهم مبفتاح القرآن‪ ،‬ويف ضمنه يتاح‬
‫االجتهاد الفقهي الشرعي واالجتهاد الرتبوي وهو أسبق‪ ،‬واالجتهاد‬
‫الغائي احملول ملعاين احلياة على األرض يف معاملة املسلمني مع‬
‫الطبيعة ومع اجلاهلية ومع الفتنة مبعنييها‪.‬‬
‫األهداف اإلسالمية ‪ :‬إذا ما رمنا صوغ املنهاج النبوي فإنه ال‬
‫مصدر لنا وال مدرسة نتعلم منها إال أمر اهلل يف قرآنه كما طبقه‬

‫‪ 1‬تصور إسالمي ميكن أن يقابله تصور «اإلديولوجية» يف استعماله اإلجيايب‪.‬‬

‫‪88‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه‪ ،‬مث اجتهاد الرسل عليهم‬
‫السالم يف التعامل مع قومهم اجتهادا زكاه اهلل أو عزى رسله عن‬
‫فشل اجتهادهم‪.‬‬
‫أغلقوا باب االجتهاد زمن االحنطاط الذي مرت ومتر به‬
‫هذه األمة‪ ،‬زاعمني أن أدوات االجتهاد غري ميسورة بعد القرن‬
‫الفالين‪ .‬ووقف املسلمون موقف العاجز اليائس ال جيرؤ أحد إال‬
‫على االقتداء مبجتهد سبق‪ .‬وهبذه الكيفية حيكم كل جيل منحط‬
‫مبقاييس األجيال الغابرة املنحطة هي أيضا بالنسبة للنموذج العايل‬
‫منوذج الرسول وصحبه‪.‬‬
‫هلذا نعرف كيف السبيل ليعود الناس لإلسالم ألن فقهاء‬
‫األمة إبان كان اإلسالم يف عز دولته يستتيبون املرتد ثالثا مث يقتل‬
‫حدا وكفرا‪ .‬فما العمل اليوم والردة هي األصل يف صف كثري من‬
‫أصنافنا ؟ إن عبادة «احلد والكفر» هي وحدها اليت تطل من‬
‫خزانات وثائقنا الفقهية‪ ،‬ومن جيرؤ أن خيرج من جوق احلوقلتة‬
‫اليائسة املنذرة بالثبور وعظائم األمور وهناية اإلسالم‪ ،‬فريجع إىل‬
‫كتاب اهلل الذي أمر بالتوبة املؤمنني وغري املؤمنني ؟ أما من يتذكر‬
‫وسط زحام الوثائق الفقهية التارخيية أحاديث رسول اهلل املنبئة‬
‫بزمن الفتنة‪ ،‬اآلمرة بالرفق والطاعة لذوي األمر ولو جاروا ولو‬
‫هنبوا ولو ظلموا ؟‬

‫‪89‬‬
‫إال يكن رجال الدعوة متجردين ال يطلبون جاها وال حيوم‬
‫مههم حول احملافظة على السمعة‪ ،‬فلن يقدروا على اجتهاد‪ ،‬ألن‬
‫أهم أدوات االجتهاد‪ ،‬مع اآلالت العقلية بل قبلها‪ ،‬ذمة متجردة‬
‫منيبة إىل اهلل‪.‬‬
‫لكي يتوب املسلم اجلغرايف ويرجع إىل االلتزام بأمر اإلسالم‬
‫ولكي تنفصل األعداد الغثائية من أبناء ملتنا عن حاضرها املفتون‬
‫وعن عاداهتا اجلاهلية ! ينبغي أن يعلن رجال الدعوة أن «احلد‬
‫والكفر» معيار حلكم اهلل يف دولة اإلسالم وعزه‪ ،‬وأن بدهلا يف‬
‫وقتنا «التوبة والطاعة اإلسالمية»‪ ،‬توبة مفتوحة للكبري والصغري‬
‫والظامل باألمس واملظلوم والصاحل والطاحل‪ .‬ولعل من رجال الدعوة‬
‫أو من زهاد املسلمني من يأنف أن يتوب إىل اهلل زاعما أن الصاحل‬
‫ال يتوب ! ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كان يستغفر ربه‬
‫سبعني مرة يف اليوم ويتوب إليه!‬
‫ولن يستوي لنا علم باإلسالم إن مل نفقه أن اهلل تعاىل يقبل‬
‫من عبده سلوك مشروع اخلالص الفردي‪ .‬يقول رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪« :‬إذا رأيت شحا مطاعا وهوى متبعا وإعجاب‬
‫كل ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك» وأمثاله كثري‪ ،‬يبيح‬
‫فيها املعصوم عليه الصالة والسالم للمسلم أن ينفرد بدينه‪ .‬ومن‬
‫املؤكد أن مشروع اخلالص الفردي يتضمن إمكان اقتحام العقبة‬

‫‪90‬‬
‫إىل إميان وإحسان‪ .‬هذا مؤكد وهلل أولياء حيبهم ويكرمهم ما‬
‫وضعوا قدمهم يف ميدان جهاد وإمنا آوهتم اخللوة يسبحون حبمد‬
‫رهبم ويعبدونه عبادة مالئكته ال يفرتون‪ .‬أولئك فاتتهم مرتبة‬
‫اجلهاد إلعالء كلمة اهلل يف األرض‪ ،‬وهي مرتبة عظيمة‪ .‬ولكن مل‬
‫تفتهم مقامات الصاحلني‪.‬‬
‫إن القرآن كتاب جهاد‪ ،‬كتاب إسالم مجاعي‪ ،‬كتاب عمل‬
‫مجاعي‪ .‬لكن من تعاليمه اإلشارة إىل العزلة ورضى اهلل عنها‪ .‬يف‬
‫حق أصحاب الكهف مثال ويف حق أبينا إبراهيم عليه السالم‪،‬‬
‫وهو رسول جاهد حىت يئس مث اعتزل وكان ينبغي مبقياسنا أن‬
‫يبقى يف جهاده حىت يقتلوه‪ .‬قال اهلل تعاىل‪﴿ :‬فـَلَ َّما ا ْعتـََزلَ ُه ْم َوَما‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫وب﴾ هذا إكرام‬ ‫يـَْعبُ ُدو َن من ُدون اللَّه َو َهبـْنَا لَهُ إِ ْس َحا َق َويـَْع ُق َ‬
‫بعد اعرتاف مبشروعية العزلة‪.‬‬
‫نريد هبذا أن خنرب من جيهل إسالمه أن «الشعوب»اإلسالمية‬
‫سيبقى فيها ناس منعزلني لن يسامهوا يف بناء العمل اإلسالمي‬
‫املقبل ولعلهم ينكرون اإلسالم املنبعث اجلماعي وال يعرفونه‪ .‬فال‬
‫حاجة بنا أن نرغمهم على اجلهاد وليس هبم جهاد!‬
‫وأمر ثان أساسي حيق أن نتعلمه حىت يرسخ يف ذهننا فيكون‬
‫جزءا من خطتنا للبعث اإلسالمي‪ ،‬هو أن اإلسالم مراتب ثالث‪،‬‬
‫إسالم وإميان وإحسان‪ ،‬واملسلمون هدف العمل اإلسالمي يف‬

‫‪91‬‬
‫تربيتهم‪ ،‬ومردودهم يف بنائه‪ ،‬أن يتوبوا ويلتزموا بالطاعة‪ ،‬ال جهاد‬
‫عليهم إال أن يرغبوا‪ .‬نكرر هذا كثريا قصدا ألمهيته‪.‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬حدث خالف بني الشيخ حسن البنا وابن‬
‫شيخه احلصايف‪ .‬ومير البنا هبذا اخلالف مر الكرام يف مذكراته‪،‬‬
‫مث ينتقد الصوفية نقدا شديدا‪ .‬وهو رمحه اهلل الصويف صاحب‬
‫الوظيفة واألوراد والسر الباهر‪ .‬ويرفض رمحه اهلل حديث البيهقي‬
‫الذي يقول فيه الرسول الكرمي ‪« :‬رجعنا من الجهاد األصغر‬
‫إلى الجهاد األكبر»‪ ،‬وينفي أن يكون مث جهاد أكرب من جهاد‬
‫السيف‪ .‬وألهل احلديث مقاالت يف هذه الرواية يضعفون احلديث‪.‬‬
‫وإمنا كان خالف البنا مع الصوفية‪ ،‬ورفضه احلديث حول‬
‫نقطة الفرق بني اإلسالم الفردي واجلماعي‪ ،‬فهو كان ال يعرتف‬
‫بإسالم القاعدين‪ ،‬وهو كان يف اجلهاد األكرب طول حياته ال يف‬
‫فرتة محل السالح بفلسطني فقط‪.‬‬
‫املسلم الفردي ال نسأله أن يدخل يف والية املؤمنني‪ ،‬ألنه ال‬
‫يهاجر أو ال يستطيع هجرة‪ ،‬فال خناصمه وال حنمله فوق ما يطيق‪.‬‬
‫وليكن له إن شاء أن يتزكى كما حيب‪ ،‬ما دام املسلمون يف أمن‬
‫من لسانه ويده‪ ،‬وما دام مطيعا لألمر العام مصليا مزكيا‪.‬‬
‫على الدعوة اإلسالمية الباعثة أن تنشر الفقه املنهاجي الذي‬
‫يرسم لكل مسلم خط العمل اجلهادي‪ .‬تنشر ذلك بلغة العقالنية‬

‫‪92‬‬
‫ليفهمها املسممة عقوهلم باإلديولوجية‪ ،‬مع حفظ أطراف العلم‬
‫املنهاجي من أن تتسرب إليه العقالنية املعاصرة كما تسربت‬
‫الفلسفة القدمية للفالسفة املسلمني األولني حىت هتافتوا‪.‬‬
‫سيكون الفقه املنهاجي عمال فكريا جديدا‪ ،‬وسيكون دعوة‬
‫مبا هو صيحة وخطاب للعقول والضمائر‪ .‬لكنه لن يتحول عمال‬
‫يقيم والية بني املؤمنني‪ ،‬ويقيم دولة اإلسالم الباعثة املوحدة لدار‬
‫اإلسالم إال إن التقى بوعي مرتقب مستعد‪ .‬وعلى الفقه املنهاجي‬
‫أن يربز االستعدادات اإلنسانية يف دار اإلسالم مثلما عليه أن يقرأ‬
‫الكتاب والسنة قراءة حركية جهادية‪.‬‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬من هم أقل املسلمني ترفا يف الفتنة ؟ ال‬
‫شك أن خط البحث يشري إىل أقل املسلمني امكانات لالنغماس‬
‫يف الرتف املادي والفكري‪ ،‬املساكني‪ ،‬والشباب الذي نراه اليوم‬
‫متحمسا للشيوعية ومناذجها‪ ،‬يغلي غليانا ال يدل على ترف‪،‬‬
‫لكن على استعداد حيوي للعمل ال جيد منفذا وال وسيلة للتعبري‬
‫إال املطالبة بتغيري شيوعي‪ .‬وإمنا يطالب بالتغيري الشيوعي من‬
‫يطالب ألنه ال حركة وال نأمة باسم اإلسالم‪ .‬مث إن الفقه املنهاجي‬
‫ال يكون كذلك إال إن أدرك بوضوح وأبرز بوضوح للقادة ولألمة‬
‫مجعاء أن هذا الضغط الواقع على «الشعوب» اإلسالمية لن يربح‬
‫املسلمني إال حني يتوبون إىل إسالمهم ويفزعون إىل رهبم‪ ،‬وال‬

‫‪93‬‬
‫مفر‪ ،‬ولن نكون أمة اشرتاكية وال شعوبا اشرتاكية‪.‬‬
‫الفقه املنهاجي ال يكون كذلك إال إن وعى وأوعى القادة‬
‫وذوي احلول من هذه األمة‪ ،‬أن األمة احملرومة املسكينة لن تتحرك‬
‫إال وراء لواء اإلسالم‪ .‬وضاعت واهلل جهود املرتفني يف إغرائهم‬
‫املسلمني بأكاذيب الوعد االشرتاكي وأباطيل العاملية اليت ال‬
‫يدخلها املسلمون إال أن جتردوا عن إسالمهم‪.‬‬
‫إن كل «األوهام»‪ 1‬العقالنية وكل «املدن الفاضلة» الفلسفية‬
‫من نسج اخليال‪ .‬أما موعود اهلل للذين آمنوا وعملوا الصاحلات أن‬
‫يستخلفهم يف األرض ويعزهم يف الدنيا واآلخرة فهو احلق الذي‬
‫نؤمن به ومساكني هذه األمة املستضعفني‪ .‬وهو أيضا التاريخ‬
‫الذي حتقق عهدا لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويتحقق‬
‫عندما يرفع اهلل إىل سقر كل متكرب جبار‪ .‬وخاب واهلل املالحدة‬
‫من مثقفينا الذين يسولون لألمة أن جيل الصحابة فلتة تارخيية‬
‫لن تعود‪.‬‬
‫أال إن اهلل حيب احملسنني‪ ،‬وإن مهم املسلمني ستطلب حمبة‬
‫اهلل ورضاه وستعمل عمال إسالميا وستحمل رسالة اإلسالم بقوة‬
‫كما محلتها أول مرة‪ .‬ورحم اهلل مؤمنا حمسنا كان يعنون كتبه ‪:‬‬
‫«املستقبل هلذا الدين»‪.‬‬

‫‪« 1‬أوهام» نقصد هبا اليوتوبيا ‪. utopie :‬‬

‫‪94‬‬
‫اخلصلة السادسة‬
‫العمل‬
‫نعم العقل خادما وبئس العقل سيدا متأهلا بعقالنيته‪ .‬علم‬
‫التكنولوجيا حمط اهتمامنا يف فتنتنا‪« ،‬والتقنوقراطيون» هم‬
‫رجال القيادة املعظمون‪ ،‬ألن األمة املفتونة يف فئاهتا املرتفة تعظم‬
‫التكنولوجيا وتؤهلها وجتعل كل جهودها ووجهة عملها اكتساب‬
‫العلم التكنولوجي وتسخريه لبناء االقتصاد‪ .‬فال خالص إذن إال‬
‫بالتكنولوجيا إذا كان اخلالص هو ترفيه اإلنسان ‪-‬الدابة‪.-‬‬
‫ماهو هدف العمل اإلسالمي ورسائله ؟ أبِناء احلضارة املادية‪،‬‬
‫فنكسب التنظيم االجتماعي واملادي ؟ وهذا يطلب كسب‬
‫التكنولوجيا التنظيمية والتقنية‪ .‬أم هو هذا الظل املطل من وعي‬
‫كل املسلمني لداعي األمر باملعروف والنهي عن املنكر التصال‬
‫املفهومني بعمل إسالمي جميد مضى‪ ،‬ودفنه من يقولون إن العمل‬
‫اإلسالمي يف عهد الصحابة فلتة لن تتكرر؟‬
‫جيد الفقه املنهاجي من أهم مهماته أن جيمع يف وعي طالب‬
‫اإلسالم ووعي من سريغمهم الرهق السياسي من قادتنا داعي‬
‫الرتبية اإلسالمية على كسب العلوم املنهاجية وداعي اكتساب‬
‫التكنولوجيا‪.‬‬
‫‪95‬‬
‫ومعىن هذا أنه ال ميكن الفصل بني العمل على كسب‬
‫العلم التكنولوجي والرتبية والتزكية يف عمل اإلسالم املنبعث‪.‬‬
‫العمل اإلسالمي سعي لبناء حضارة ختدم قيمة اإلنسان وغايته‬
‫اإلحسانية‪ ،‬فال يرتف يف عامل الكم ناسيا تزكية نفسه ليلقى اهلل‬
‫وهو عنه راض وخيلد يف قرب ربه يف اجلنة‪.‬‬
‫على مسرح األحداث العاملية مسلمون يتحركون ويضطربون‬
‫مع الوقائع العاملية‪ ،‬لكن حركتهم االضطرابية ال حتدد هلم شخصية‪،‬‬
‫ألهنم ناس كالناس وال يتميز عمل املسلمني عن عمل اجلاهليني‪.‬‬
‫وبقدر ما يكون عمل املرء وحافزه هو احملدد لشخصيته فال وجود‬
‫للشخصية اإلسالمية ألنه ال وجود للعمل اإلسالمي‪.‬‬
‫يشكو أصحاب اإليديولوجية من أن األثرة الطبقية املستغلة‬
‫تشيء العمل اإلنساين فتشيء الواقع علينا ألننا نتحمل النماذج‬
‫اجلاهلية يف الفكر والعمل ونتمثلها ونرتف فيها‪ .‬ومن كان مسيخا‬
‫كان عمله العشوائي الغوغاثي وسيلة من وسائل ترديته يف مسخ‬
‫أكرب ال من وسائل حتريره‪.‬‬
‫عنوان هذا الكتاب «اإلسالم غدا» ويف هذا كفاية للداللة‬
‫على الضالة اليت ينشدها الفقه املنهاجي‪ .‬إننا نبحث عن عمل‪،‬‬
‫عن حوافز للعمل‪ ،‬عن تنظيم للعمل‪ ،‬عن توجيه بعد تكوينه‪ ،‬وعن‬
‫جتديد وابتكار عالقات إسالمية نستبدل هبا عالقاتنا اجلاهلية مع‬

‫‪96‬‬
‫العامل وساكنيه‪ .‬كل ذلك حبس إسالمي ووعي إسالمي وإرادة‬
‫إسالمية‪ .‬خصالنا العشر خصال عمل‪ ،‬ومنهاج اقتحام العقبة‬
‫يوحى باجلهد املتواصل يف سياق مغالبة واعية للنفس املمسوخة‬
‫املاسخة وللقوى الرتفية العادية‪ .‬وكل ذلك يدل على طريق العمل‬
‫ويبحث عن احلل اإلسالمي بالعمل اإلسالمي‪.‬‬
‫ويكون السؤال األهم ‪ :‬من أين نبدأ ؟ بل من يبدأ ومن‬
‫يعمل؟ األهداف اإلسالمية ‪ :‬جنيب عن السؤال األخري بأنه ال‬
‫عمل إال بتعبئة‪ ،‬ومعىن التعبئة جتميع للطاقات املسلمة املرتفة‬
‫يف النعيم أو البؤس بفتح باب التوبة لعامة املسلمني‪ .‬وكما كان‬
‫اإلسالم جيب ما قبله يف االنتقال من جاهلية لإلسالم فلتكن‬
‫التوبة جتب ما قبلها‪ ،‬حاشا املظامل‪ ،‬يف انتقالنا املقبل القريب‬
‫حبول اهلل من فتنة لإلسالم‪ ،‬ومن معاين الفتنة العشوائية يف العزم‬
‫والتنفيذ‪ .‬وال انتقال لنا منها إال بفكرة واضحة جلية ‪ :‬أن اإلسالم‬
‫رمحة قبل كل شيء‪ ،‬وأن بعث اإلسالم لن يتم بفتنة تقهر فتنة‪،‬‬
‫ألن معىن اإلسالم سالم ورمحة والفتنة نقيض كل ذلك‪.‬‬
‫نبدأ العمل اإلسالمي بدعوة عامة‪ .‬باستصالح كل القوى‬
‫يف دار اإلسالم إن قبلت التوبة والعمل لبناء اإلسالم‪ .‬ويتبلور‬
‫هذا العقد مع اهلل تعاىل باملبايعة العامة للقائد اجملاهد‪ ،‬أن يتوبوا‬
‫إىل رهبم معه‪ ،‬وأن يطيعوه بطاعة اهلل ورسوله‪ .‬هذا هو اهلدف‬

‫‪97‬‬
‫اإلسالمي العام يف بدء العمل اإلسالمي‪ ،‬وكل من ال يتوب وال‬
‫يلتزم بأمر اإلسالم‪ ،‬إال يكن من أهل الذمة فهو مرتد يعد خبثا‬
‫يطرح‪ .‬وإن تكن لنا قيادة جهادية عازمة فال إخال أن خيرج عن‬
‫األمر خارج إال نفاقا وتسرتا‪ .‬وسيجد االنبعاث اإلسالمي يف دار‬
‫اإلسالم‪ ،‬يف أي قطر نشأ فيه البعث اإلسالمي مهما كان ترف‬
‫أهله‪ ،‬استجابة راضية بل محاسية من أنفس ال جتد روح الرمحة يف‬
‫الكدح املفتون واألثرة والتغابن على الفرص يف أكل الفقري وابتزاز‬
‫ماله‪.‬‬
‫يرتبط هذا احلماس الضروري للبداية بعاملني اثنني‪ ،‬أوهلما‬
‫االستعداد الفطري الذي يقهر دواعي العادة املرتفة عند فئات‬
‫املرتفني‪ ،‬وهذا االستعداد جتده عند مساكني األمة والشباب‬
‫والنساء‪ ،‬هؤالء املسكينات‪ .‬وثانيهما احلافز النفسي الذي تزيد‬
‫قوته أو تقل حبسب ارتفاع األهداف واملقاصد والغايات اليت‬
‫تقرتحها القيادة اجلهادية كموضوع جلهاد األمة جمددة رائدة‪.‬‬
‫عددت النساء من فئات املساكني‪ ،‬وأنا أعلم أن منهن رؤوسا‬
‫للفتنة وقائمات على سدانة الرتف يف دار اإلسالم‪ .‬وما أقصد أن‬
‫أنصف املرأة متلقا ملا متثله من أعداد ضخمة يف دار اإلسالم‪ ،‬ألن‬
‫اهلل عز وجل يعلم أي داء هو داء النخاب‪ ،‬فلسنا إذن يف محلة‬
‫انتخابية نرضي هذا وذاك‪.‬‬

‫‪98‬‬
‫إن املرأة أرهف حسا وأقرب انفعاال‪ .‬تعيش حبسها أكثر من‬
‫الرجل فهي إىل الفطرة واإلميان أقرب إن وجدت حزما يف القيادة‬
‫وحرارة يف إميان رجال الدعوة‪ .‬مث إن العمل اإلسالمي‪ ،‬بعد التصفية‬
‫يف قرتة املبايعة‪ ،‬إمنا يرتكز على الرتبية اإلسالمية‪ ،‬فعمل مع تربية‬
‫بعمل‪ .‬وقد أمر اهلل النساء الفضليات أن يقرن يف بيوهتن ألهنن‬
‫إن آمن واتقني رهبن أقدر على الرتبية للصغري والكبري‪ ،‬وأجدر‬
‫أن يربزن يف ميدان الدعوة حمجبات جبالبيب الوقار لكن فياضة‬
‫قلوهبن بالرمحة اإلسالمية والبذل واجلهاد‪.‬‬
‫احلافز الذي يستجيب له املسلمون هو عني الشهادة بالقسط يف‬
‫األرض على أنفسنا وعلى الناس اليت أمرنا هبا‪ .‬وجملى هذه الشهادة‬
‫هي القوة واإلعداد هلا نداء إهليا خالدا هلذه األمة ‪﴿ :‬وأ ِ‬
‫َع ُّدواْ لَ ُهم َّما‬ ‫َ‬
‫استَطَ ْعتُم ِّمن قـَُّوٍة﴾‪.‬‬
‫ْ‬
‫إذا كان شعار االشرتاكية اململ هو ‪« :‬اشرتاكية من أجل‬
‫جتاوز التخلف» أو بديال له ‪« :‬االشرتاكية من أجل حمو العدوان‬
‫اإلسرائيلي» فإن شعار اإلسالم ‪« :‬اإلسالم من أجل القوة» حنن‬
‫أمة خلقنا لنحمل الرسالة اإلهلية أبد الدهر‪ ،‬فال نقبل أن متسخ‬
‫غاية وجودنا فنقف عند البناء االقتصادي من أجل بطون أكثر‬
‫امتالء‪ ،‬وإمنا نبين االقتصاد لنقوى على محل رسالة ربنا‪.‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬عندما يرتفع النداء بالتجديد اإلسالمي‬

‫‪99‬‬
‫تتبدد سحب الوهم اجلاهلية عن وعي املسلمني املساكني‪ ،‬ومن‬
‫نبذ الرتف الفكري واملادي على السواء‪ .‬وعندئذ يكتشفون أهنم‬
‫ليسوا مجاهري وشعوبا متشبعة ال تلمها القومية اجلاهلية مهما‬
‫كادت وسخت‪ .‬إمنا هم أمة هلا أصل واحد ترجع إليه‪ ،‬هلا أم‬
‫واحدة يف التاريخ هي األمة املسلمة من لدن آدم فاألنبياء إىل‬
‫خامت الرسالة صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وهلم أم واحدة يف املكان‬
‫الروحي هي هذه الرمحة والرحم بني املسلمني‪ .‬وهلم أم واحدة‬
‫يف جمال التطلع إىل اآلفاق املستقبل هي الصاحلات يف األرض‬
‫مهما استضعفوا‪ .‬وهلم أم واحدة من حيث مصدر اهلداية والبالغ‬
‫وتوجيهات العمل هي القرآن الكرمي ال يأتيه الباطل من بني يديه‬
‫وال من خلفه‪ ،‬يلتفون حوله التفاف الفزع إىل ربه‪.‬‬
‫ما بنا أيها الناس قلة يف العدد وال يف املال‪ ،‬وإمنا صرنا قصعة‬
‫تداعى عليها األكلة كما عرب الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم‬
‫النصرافنا عن أصلنا وتشبعنا وجتمهرنا‪ .‬ولقد أعيانا أن نقتبس‬
‫عالقات إنسانية جاهلية لتكون لنا قوة ورباطا‪ ،‬فكان لنا ما‬
‫نقتبس مسخا وعلينا وباال‪ .‬وهذا كتاب ربنا يصرخ علينا باحلق‬
‫ويهيب بنا أن نكون أمة واحدة مؤمنة‪ ،‬ويعدنا على ذلك النصر‬
‫واالستخالف يف األرض واألمن والكرامة يف دار النعيم‪.‬‬
‫ض ُه ْم أ َْولِيَاء‬
‫ات بـَْع ُ‬‫﴿وال ُْم ْؤِمنُو َن َوال ُْم ْؤِمنَ ُ‬
‫قال اهلل تعاىل ‪َ :‬‬

‫‪100‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصالَةَ‬
‫يمو َن َّ‬ ‫ض يَأ ُْم ُرو َن بال َْم ْع ُروف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َويُق ُ‬
‫بـَْع ٍ‬
‫الزَكا َة َويُ ِطيعُو َن اللّهَ َوَر ُسولَهُ أ ُْولَـئِ َ‬
‫ك َسيـَْر َح ُم ُه ُم اللّهُ﴾‪.‬‬ ‫َويـُْؤتُو َن َّ‬
‫فما نعت لنا العالقات اإلنسانية اليت متكننا من العمل وتنهض‬
‫بنا جسما عضويا قويا حىت جاء بوعده الرحيم‪ ،‬ذلك أن رباط‬
‫اإلميان بني املؤمنني رمحة يف حد ذاته‪ ،‬يفضي إىل رمحة خترج باألمة‬
‫من ضيق الدنيا إىل سعتها‪.‬‬
‫الوالية بني املؤمنني حمبة وأخوة وتآلف‪ ،‬وعالقة األمر باملعروف‬
‫والنهي عن املنكر هي عالقة التواصي بالصرب واحلق واملرمحة‪،‬‬
‫وهي النصيحة‪ ،‬وهي نفس الوقت وظيفة للجماعة املؤمنة املرتابطة‬
‫باحملبة والوالية للمؤمنني‪ ،‬اعتبارا لوالية اهلل ورسوله اجلامعة‪.‬‬
‫والعالقة الثالثة هي يف مظهرها التعبدي إقامة للصالة والزكاة‬
‫ويف مظهرها العملي اإلنساين طاعة هلل ورسوله طاعة مجاعية تفرض‬
‫الطاعة لوي األمر املبايع ذي الذمة والعزم اجلهادي اإلسالمي‪.‬‬
‫عامة املسلمني وظيفتهم يف بدء العمل اإلسالمي املنبعث‬
‫إقامة الصالة والزكاة إقامة مع اجلماعة واملبايعة على السمع‬
‫والطاعة هلل ورسوله وصاحب األمر‪ .‬ويكون هذا الرباط وهذه‬
‫الوظيفة مضمون التوبة العامة‪.‬‬
‫أما رباط األمر باملعروف والنهي عن املنكر ووظيفته فهو‬
‫خاص مبن يدخل يف الوالية اخلاصة بني املؤمنني‪ .‬وهي والية هلا‬

‫‪101‬‬
‫رافدان اثنان ‪ :‬أوهلما الرمحة القلبية‪ ،‬شعور رقيق حنو األخ املؤمن‬
‫مبعاين احملبة والبذل والوالء‪ ،‬والثاين طاقة األخوة اجلهادية بني‬
‫أفراد جيش يسري قاصدا لبناء أمة إسالمية حرة قوية تستقطب‬
‫آمال املسلمني مجيعا‪ ،‬وتنصب للعامل مثاال حيا للتعاون اإلنساين‬
‫والتمدن اإلنساين والنظافة واألمن والقوة‪.‬‬
‫أهل الوالية اخلاصة من املؤمنني ال يكونون دائرة مغلقة يدخلها‬
‫مسبقا إال هذا وذلك ممن له ثقافة أو حول‪ ،‬بل هي تكون رباطا‬
‫جهاديا حيتاج جلند صادقني‪ ،‬فكل من قدم برهان الصدق بأعماله‬
‫وجبهوده ونتائجه لبناء األمة كان عضوا باالستحقاق الكامل يف‬
‫اجلسم املؤمن‪.‬‬
‫معىن هذا أن العمل اإلسالمي‪ ،‬إن كان دعوة عامة مفتوحة‪،‬‬
‫فإنه بكل تأكيد يستند إىل املؤمنني‪ .‬وهم وحدهم‪ ،‬ال عامة‬
‫املسلمني‪ ،‬املخاطبون بالقرآن احلافظون حلدود املعروف واملنكر‬
‫املهيمنون على احلياة مبا بذلوا هلل من طاعة‪ ،‬ومبا بذلوا إلخواهنم‬
‫من حمبة وخدمة‪.‬‬
‫إهنا طبقية ال مراء فيها أراداها اهلل كذلك‪ ،‬لكنها طبقية خدمة‬
‫وإمنا سيد القوم خادمهم كما قال الرسول الكرمي‪ .‬لذلك فاملؤمن‬
‫ال يستعلي بإميانه وال يتبجح وال يطغى‪ ،‬لكنه يسبق إىل أكل‬
‫الطعام البحت عند حاجة املسلمني‪ ،‬ويسبق إىل لبس اخلشن عند‬

‫‪102‬‬
‫احلاجة‪ ،‬وإىل نبذ الرتف وأسبابه‪ ،‬ويبذل ويؤثر غريه ويتسرت يف‬
‫كل ذلك‪ .‬فسلوكه تنفيذ مثايل ملا يوصى به غريه وما يتواصى به‬
‫املؤمنني من صرب وحق ومرمحة‪.‬‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬احملسنون هم الطبقة األوىل يف اجلماعة‬
‫اإلسالمية‪ .‬هكذا أرادهم اهلل ألنه كلفهم فوق ما كلف اآلخرين‪،‬‬
‫وجزاهم على ذلك حمبته ونوره وواليته‪ .‬وال جتد احملسنني إال على‬
‫مثال عمر بن اخلطاب وأيب بكر وأضراهبم من صحابة رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬أقل الناس التفاتا لنعيم احلس‪ ،‬وأكثرهم‬
‫حدبا وخدمة لألمة وسهرا متأوها جاهدا على مصاحلها‪ .‬ال‬
‫يتصدرون اجمللس ال يتكربون‪ ،‬كيف والكرب أعظم الداء وأكثف‬
‫احلجب!‬
‫طبقيتهم هذه املؤكدة يف كتاب اهلل وسنة نبيه ال تعطيهم حق‬
‫االمتياز عن املسكني بلباس وال شارة وال مطعم‪ ،‬لكن تعطيهم‬
‫واجب أن يؤثر على نفسه ولو كانت خصاصة‪ ،‬وأن يتعب لريتاح‬
‫الضعيف‪ ،‬وجيوع ليشبع اليتيم‪ ،‬ويسهر لتنام املرأة واألمة مجعاء‬
‫آمنة مطمئنة مرزوقة‪.‬‬
‫هؤالء هم اجملاهدون‪ ،‬وهم أصحاب القيادة اجلهادية‪ .‬يعسوهبم‬
‫القائد اجملاهد أكثرهم نصبا فيما خيدم األمة‪ ،‬أمرا من أمر اهلل‬
‫ب﴾‪ .‬القائد اجملاهد‬ ‫ب َوإِلَى َربِّ َ‬
‫ك فَ ْارغَ ْ‬ ‫انص ْ‬ ‫لنبيه‪﴿ :‬فَِإ َذا فـََر ْغ َ‬
‫ت فَ َ‬

‫‪103‬‬
‫الراغب يف ربه ال يفرغ من عمل إال لعمل فينصب ممثال اجلهاد‬
‫يف أروع مناذجه‪ .‬ولئن كان من شروطه الكفاية الروحية والفكرية‪،‬‬
‫فإن منها أيضا بل أمهها قدرته على العمل‪ ،‬على التنظيم والدقة‬
‫وامتالك الوقت‪.‬‬
‫هذا رئيس املسلمني ورأسهم وإمامهم‪ ،‬ال تنصب له سرادقات‪،‬‬
‫وإمنا تنصب له خيمة اجلهاد يتقلل فيها ويواسي األمة بنفسه‬
‫وكلمته وفكرته وجمالسته وخماطبته‪ .‬وأي قائد من قادتنا إن رغب‬
‫يف ربه ونصب خيمة اجلهاد بقصد إمياين وكفاية ونورانية يربهن‬
‫عليها بتجرده‪ ،‬فليس أحد أحق بالتعرض باملسلمني ملوعود اهلل‬
‫منه‪ .‬وحىت يعاف قادتنا فتنتهم وترفهم ويتقايؤوه فموعود اهلل‬
‫قائم‪ ،‬ورمحته وحمبته للراغبني الناصبني‪ ،‬وإن اهلل ملع احملسنني‪.‬‬

‫‪104‬‬
‫اخلصلة السابعة‬
‫ا لسمـت‬
‫ أكتب هذه الصفحات يوم ثاين رمضان من سنة‬
‫‪1392‬ه‪ .‬وقد بلغنا خرب دولة إسالمية اختذت آالت إلكرتونية‬
‫حلساب الوقت وقررت أن تقوم السنة وحتدد مواعيد رمضان‬
‫ومواعيد األعياد مسبقا‪ .‬وقد يبدو األمر يف عني «فقيه متعصب»‬
‫افتياتا على الشريعة‪ ،‬وقد يبدو يف عني املسلم العصري غري ذلك‪.‬‬
‫وال يلفت اخلرب النظر بكل ما حيمله من نذر االختالط والرتف‬
‫احلضاري إال يف عني من يلتمس وسيلة لكي تتجدد أمة اإلسالم‬
‫وتنسل من اجلاهلية احمليطة اهلاجة املتسربة‪.‬‬
‫إنه ال بأس أن نقتين آالت الكرتونية حلساب شؤوننا عند‬
‫أقصى الضرورة قبل أن نستطيع حنن بناءها بأيدينا‪ ،‬لكن عندما‬
‫تأتينا مقتنياتنا احلضارية معها إحياء باستعماهلا استعماال عشوائيا‪،‬‬
‫ويف أخص شؤوننا الدينية بداعي عقلنة الوقت فذاك اخلطر‪.‬‬
‫ إن الوقت املادي ليس هو الوقت الديين‪ ،‬الوقت الديين‬
‫مرتبط بآيات اهلل يف األرض والسماء اليت ختاطب املؤمن إنسان‬
‫الفطرة فيستجيب هلا خوفا من ربه وطعما‪ ،‬ويتطلع إىل السماء لريى‬
‫‪105‬‬
‫اهلالل عالمة على عبوديته‪ ،‬ويشرتك يف ذلك مع الكبري والصغري‪،‬‬
‫ويبشر من سبق بالرؤية إخوته‪ .‬إهنا ليست صورة فلكلورية هذه‬
‫اليت أعرضها‪ ،‬إنه مست اإلسالم وشكل احلياة اإلسالمية وموقف‬
‫املسلم من العامل‪ ،‬يعامله بأمر ربه ويعظم أمر ربه وخيدمه خدمة‬
‫شخصية بكل ذلة لربه‪ ،‬كما يفعل إن حج البيت‪ ،‬أو خرج لصالة‬
‫االستسقاء حافيا عاري الرأس متضرعا‪.‬‬
‫السمت اإلسالمي موضوعه عامل األشكال والسلوك الفردي‬
‫واجلماعي‪ .‬السمت اإلسالمي مرتبط بكرامة املسلم وعزته بربه‬
‫الرتباطه دائما بعبوديته له‪.‬‬
‫يف عامل االنغالق اجلاهلي فقدت حركات اإلنسان وسلوكه‬
‫اليومي كل معاين اإلنسانية‪ ،‬وفرغت إال من معاين الكدح أو‬
‫البحث الالهث عن اللذات‪ .‬وبعد أن كان لعامل اجلاهلية املتكاثر‬
‫فن وثقافة يعرب هبا اجلاهلي عن توقانه للسمو عن مستواه األرضي‪،‬‬
‫أصبحت أسباب احلضارة الصناعية وما تتيحه من وقت فراغ تصبغ‬
‫الفن والثقافة بصبغة االستعجال االستهالكي‪ ،‬حىت مل يبق هناك‬
‫إال الثقافة املعلبة هتدف إلرضاء غرائز اجلنس‪ ،‬وهتدف لصرف‬
‫احليوات يف مسارب الدوابية البشرية اليت القرار هلا‪.‬‬
‫أما املسلم فلكل حركاته معىن متصل بقيمته اإلميانية‬
‫اإلحسانية‪ ،‬خليفة هلل يف األرض ومكلفا بالشريعة‪ .‬جاءته من‬

‫‪106‬‬
‫اهلل اهلداية والعناية تصف له كيف يقوم وكيف جيلس‪ ،‬كيف‬
‫يتكلم وكيف يصمت‪ ،‬ووضعت على كل عضو من أعضائه‪ ،‬بل‬
‫على كل سلمة من سلمات أصابعه عبادة وحركة يكون جمموعها‬
‫السمت اإلسالمي‪.‬‬
‫نظافة اجلاهلي قد يكون حافزها التجمل االجتماعي أو الوقاية‬
‫الصحية‪ ،‬أما املسلم فنظافته حركة أوىل حنو الطهارة اجلسمية‪،‬‬
‫وهذه الطهارة تفضح قذارة اجلاهلي الذي يبول يف سراويله‪.‬‬
‫مست املؤمن قوة ألن اهلل حيب املؤمن القوي‪ ،‬مسته وقار يف‬
‫اجمللس ويف صف الصالة‪.‬‬
‫إن لألشكال احلضارية واجلماليات العادية اجلاهلية سلطانا‬
‫كبري على نفوس األمة املفتونة‪ .‬واألمة اإلسالمية يف انبعاثها جيب‬
‫أن تقضي على هذه التبعية املاسخة‪ ،‬ال يف نطاق احلالل واحلرام‬
‫فحسب بل بإحالل السكينة وزينة اهلل اليت أخرج لعباده املؤمنني‬
‫مكان الفخفخة املتكربة املكابرة‪.‬‬
‫األهداف اإلسالمية ‪ :‬املسلم التائب امللتزم بأمر اإلسالم‬
‫يكتشف نفسه يف اخللجة القلبية‪ ،‬أو يف الوازع النفسي الذي‬
‫رده اللتزام أمر دينه‪ .‬ويكتشف نفسه أيضا يف املمارسة اليومية‬
‫للسمت اإلسالمي يف حركات جسمه حني يتعود إقامة الصالة‪،‬‬
‫وحني يتهيأ هلا وحني يتنظف ويتطهر‪ .‬ويتغري موقفه أمام العامل‬

‫‪107‬‬
‫فريى فيه طاهرا وجنسا‪ ،‬يراه حمدودا حبدود اهلل‪.‬‬
‫يكتشف التائب نفسه يف العودة إىل الفطرة من حيث جسمه‪،‬‬
‫قال الرسول صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬خمس من الفطرة ‪ :‬الختان‪،‬‬
‫واالستحداد وتقليم األظفار ونتف اإلبط‪ ،‬وقص الشارب»‪1‬‬
‫وينبغي أن يكون هذا االكتشاف حبافز عاطفي ال باإللزام‪،‬‬
‫فال يكفي أن ترغم الناس على قص الشارب وإعفاء اللحية‬
‫ليعوداو مسلمني‪ .‬وقد برنط ويل الشيطان مصطفى كمال‬
‫املسلمني ليكفروا‪ ،‬فما زادهم ذلك إال إميانا‪ .‬وقد ميضي وقت قبل‬
‫أن نستعيد السمت اإلسالمي على مستوى الفرد وعلى مستوى‬
‫األمة‪ .‬وقد يكون من شعارات التوبة اليت سيخف إليها الناس‬
‫طرح السمت اجلاهلي ضربة واحدة‪.‬‬
‫على أن مشكلة العري ال بد أن تضرب بالقوة فإهنا الفتنة‬
‫العامة لتكون أول عالمات السمت اإلسالمي يف شوارع املسلمني‪.‬‬
‫ويكتشف التائب نفسه يف ضرورة اتباع السمت اإلسالمي مع‬
‫زوجه وأوالده‪ ،‬ويتنصل من الفهم األناين ملعىن األسرة‪ ،‬لكي يعم‬
‫أقاربه مجيعا خاصة والديه بالرب والرمحة‪.‬‬
‫ومع تصفية الشخصية من أدران اجلاهلية‪ ،‬يصفو أيضا اجلو‬
‫الفين والثقايف وسائر املظاهر احلضارية من أساليب اجلاهلية يف‬
‫سياق املبايعة والطاعة‪.‬‬

‫‪108‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬من أول صفات املؤمن بعد لزوم اجلماعة‬
‫الذكر والعبادة‪ .‬إن للجاهلية عاداهتا يف اجلد واهلزل‪ ،‬يف العمل‬
‫والفراغ‪ ،‬يغشى اجلاهلي املكتب واملعمل‪ ،‬ويغشى األندية‬
‫والسنمات‪ ،‬ويف كل جيد مرافق لراحته وهلوه وتفكريه وعبثه‪ ،‬اخلمارة‬
‫وأواين التدخني وصور العري ومباين العهارة وجمالهتا وهكذا‪.‬‬
‫أما املؤمنون يف عملهم فهم جادون‪ ،‬وهم بعد العمل أكثر‬
‫جدا‪ .‬إن روحوا على أنفسهم فإمنا يفعلون مبا جيلب بينهم الرتاحم‬
‫واحملبة‪ ،‬فإهنم ال بد أن يتجالسوا ويتحادثوا ويضحكوا‪ .‬لكن يتم‬
‫ذلك كله يف حدود السمت اإلسالمي بأحسن مظاهره‪ .‬وقد‬
‫أمرنا اهلل أن نأخذ زينتنا للمسجد‪ .‬وكان السلف الصاحل يتطيبون‬
‫وحيتفلون استعدادا لدخول املسجد‪ .‬وكانوا جيمرون املساجد‬
‫ويعطروهنا‪.‬‬
‫كانت املساجد حماضن لإلميان‪ ،‬وكان للصحابة فيها جمالس‬
‫يسموهنا «جمالس اإلميان» فيها علم وفيها ذكر وفيها وعظ‪ .‬ويف‬
‫املساجد أيضا الصالة وهي أهم أمورنا‪.‬‬
‫وللمسلمني أعياد يظهرون فيها بنسائهم وأوالدهم خارج‬
‫املدن والقرى يف أمت هبجة‪ .‬وللمسلمني حمافل تنايف حمافل اجلاهلية‬
‫املاسخة‪.‬‬
‫باستبدال السمت اجلاهلي وطرحه تنعقد بني املسلمني‬

‫‪109‬‬
‫التائبني عالقات جديدة تتسم بالنظافة القلبية اليت تساير الطهارة‬
‫اجلسمية‪ ،‬وتتسم بالقداسة والسكينة الناشئني يف املسجد وجمالس‬
‫املسجد‪ ،‬ينزل اهلل فيها سكينته على املؤمنني وحمبته‪ ،‬فيتعلمون أن‬
‫لكل مؤمن حرمة‪ ،‬وأن لكل مؤمن حقا إهليا يف التعظيم والتوقري‬
‫والنصيحة واحملبة‪ .‬وكل ذلك هو النقيض لعالقات اجلاهليني‬
‫وعنفهم واضطراهبم‪ ،‬وإن كانت تغرنا املظاهر السطحية فنتيه‬
‫إعجابا بسمت الكفار ونظافتهم‪ ،‬وما أعطاهم تارخيهم احلضاري‬
‫من هتذيب‪.‬‬
‫ومعذور من أُخذ بذلك ألن طرف املقارنة هم هؤالء املسلمون‬
‫اجلغرافيون الذين ال حضارة هلم وال ثقافة ألنه ال عقيدة هلم وال‬
‫منهاج‪ .‬وحنن إمنا نصف مستقبلنا النوراين يف أحضان إسالمنا‬
‫املشرق علينا غدا بإذن ربنا‪.‬‬
‫إن إقامة أمر الدولة اإلسالمية املنبعثة لن يتم بالصخب‬
‫والكيد املتعاقبني يف االضطراب السياسي وتناحر أحزابه‪ .‬ال ينعقد‬
‫أمر الدولة اإلسالمية إال يف املسجد ومبعاين املسجد بني مسلمني‬
‫ذوي ذمة طرحوا السمت اجلاهلي‪ ،‬ويف أول ما طرحوا التحزب‬
‫السياسي‪.‬‬
‫املسجد معقل صدق وجهاد ومجاعة مؤمنة‪ ،‬والسياسة أحابيل‬
‫تصيد فيها األنانيات الزعامية طموح اخلبثاء يف الوصول إىل أسباب‬

‫‪110‬‬
‫الرتف‪ ،‬أو طيب السذج تغرهم خطب الزعامات السياسية‪.‬‬
‫لقد أخربنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالسمت اإلسالمي‬
‫يف األمر العام حني رفض طلب من تقدم إليه يف أن يوليه أمرا‬
‫عاما وأجابه بأننا األمة املؤمنة ال نويل هذا األمر من طلبه‪.‬‬
‫والسياسة تدور حول املطالبة باحلكم بدعوى خدمة «الشعب»‬
‫أما العمل اجلهادي‪ ،‬أما العمل اإلسالمي فهو بديل السياسة‬
‫شكال ومضمونا‪ .‬ما كذب السياسيون إذا زعموا أهنم خيدمون‬
‫الشعب‪ ،‬ألهنم يف الواقع إمنا خيدمون ما يف كلمة الشعب من‬
‫معاين الفرقة‪.‬‬
‫السياسيون يعملون بعقلية مطالبة وبسمت جاهلي يعتمد‬
‫على العنف مرة‪ ،‬ومرة على التغرير والتسخري‪ .‬تيار حيملهم ال‬
‫يستطيعون أن يتأبوا عليه‪ ،‬وعنف جيرفهم جرفا ال مييز بني الصادق‬
‫واحملتال‪ .‬وإن كان من رجال السياسة خملصون فإهنم ال يفلتون من‬
‫حكم اإلسالم عليهم مبعياره املنهاجي إهنم مرتفون يف الفتنة‪ ،‬ألهنم‬
‫ما عرفوا أن حيتفظوا مبضمون إسالمي لعملهم‪ ،‬جزاء استريادهم‬
‫للشكل اجلاهلي يف العمل السياسي‪.‬‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬خلفت الفتنة يف التاريخ اإلسالمي‬
‫أشكاال ثقافية اجتماعية‪ ،‬بعضها يرجع إىل عدم العمق يف إسالم‬
‫من بلغتهم الدعوة فتوارثوها حىت أصبحت عصيبة قومية‪ .‬وبعضها‬

‫‪111‬‬
‫يرجع إىل اخلالفات املذهبية حىت كان من املسلمني من يقيم‬
‫الصالة أربع مرات يف املسجد بأئمة أربعة‪ .‬ويرجع بعضها إىل‬
‫احلزازات التاريخ بني املسلمني‪ .‬وإنك لتجد حىت اليوم يف بعض‬
‫عواصم املسلمني من حيمل على صدره شعار ‪ :‬يا لثارات احلسني!‪.‬‬
‫وختلف عن هذه الفتنة أعياد ما هي باألعياد اإلسالمية‪،‬‬
‫وعادات للصوفية وغريهم هي أبعد شيء عن السمت اإلسالمي‪.‬‬
‫وقد متس هذه الطقوس بصفاء العقيدة‪ ،‬وقد تسيء إىل األخوة‬
‫اإلسالمية الرحيمة يف االنبعاث اإلسالمي املقبل إن مل تعاجل‬
‫حبكمة ومرونة حىت ترجع املياه إىل جماريها‪.‬‬
‫إننا إذا أردنا أن نكون محلة رسالة فيجب أن نتعلم ونبدع‬
‫السمت اإلسالمي الطاهر من الشوائب دون أن خنل بشروط‬
‫إعداد القوة القاعدة على أساس التكنولوجيا‪ .‬ومعىن هذا أن‬
‫واجب األمة املنبعثة أن تقتبس علم التكنولوجيا دون أن تستورد‬
‫معه أشكال التفكري اجلاهلي والعيش اجلاهلي‪.‬‬
‫وعلى قدر متيزنا عن اجلاهلية متيزا مبدعا مجيال هنيئ للرسالة‬
‫اإلسالمية مسرحا يأخذ جبماله ونظافته أخذه بالسكينة القلبية‬
‫اليت ال يتسع للتعبري عنها املظهر اخلارجي إال اشعاعا ال يوصف‬
‫وعبريا كما يتنفس الربيع‪.‬‬
‫كان فيما مضى من تارخينا ينزوي طالب التزكية الروحية يف‬

‫‪112‬‬
‫خلوة‪ ،‬ويلبسون مرقعات تسرت عن الناس مسو مطلبهم وارتفاع‬
‫مهتهم‪ .‬أما غدا فإن املتزكي أن جيهر بإميانه‪ ،‬وجيلس مع املؤمنني يف‬
‫املسجد‪ ،‬وخيالطهم يف ميادين السعي اليومي‪ ،‬واجدا منهم طيب‬
‫املنظر واملخرب‪ .‬يعترب كل ذلك مرابطة ومحال ألعباء الدعوة‪ .‬وهذا‬
‫يقتضي من احملسنني واملؤمنني من طالب اإلحسان مسوا أمسى‪ ،‬ومهة‬
‫أعلى‪ ،‬حىت ال يكون يف عملهم رياء‪ .‬ومن أجل مغالبة دواعي الكرب‬
‫اليت تصنع املرائي كانوا يتسرتون‪ ،‬ومن أجل جهاد الدعوة جنهر حنن‬
‫معاشر الذاكرين بإمياننا اليوم وغدا عند قيام هذا األمر‪.‬‬
‫وإن للقيادة اجلهادية‪ ،‬وللقائد اجملاهد أمري املؤمنني‪ ،‬احلظ‬
‫األوفر من أعباء اجلهاد يف تغيري األشكال اجلاهلية بالسمت‬
‫اإلسالمي‪ .‬إهنم القدوة واملثال‪ ،‬هبم يقتدي الناس يف رعايتهم‬
‫للوالية اإلميانية‪ ،‬ويف احتفاهلم بذكر اهلل يف املساجد‪ ،‬ويف طرح‬
‫العادات‪ ،‬ويف البذل والسمت‪ ،‬ويف التؤدة واالقتصاد واجلهاد‪.‬‬
‫هيبة القائد اجملاهد القدوة اإلمام تأيت من تأهله للقيام بإمامة‬
‫الصالة‪ ،‬وذلك هو اجمللى األكرب للسمت اإلسالمي‪ .‬ومن جالل‬
‫موقفه أمام الصفوف عند احملراب يناجي ربه‪ ،‬تشع معاين اجلمال‬
‫والكمال على اجلهاد اإلسالمي الذي هو إمامه إىل كعبة اهلل‬
‫وجهة اجملاهدين‪ ،‬وطلبا لوجهه الكرمي طالهبم‪ ،‬آخذين زينتهم‬
‫متجملني‪ ،‬بامسة وجوههم ناضرة‪ ،‬ألن اإلسالم يسر وهباء وفرحة‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫اخلصلة الثامنة‬
‫التؤدة‬
‫أخرج الرتمذي عن ابن عباس رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم قال ‪« :‬السمت والتؤدة واالقتصاد جزء‬
‫من أربع وعشرين جزءا من النبوة»‪ .‬إن أنبياء اهلل رجال جهاد‪،‬‬
‫رجال عمل وبالغ‪ ،‬زودهم اهلل بأكثر الصفات مالءمة لوظيفتهم‬
‫اإلهلية ومن أمهها السمت والتؤدة واالقتصاد‪ .‬وقد وسعنا استعمال‬
‫هذه اخلصال لتكون صفات مجاعية وفردية معا لإلسالم املنبعث‬
‫اجملاهد‪ .‬وهكذا حتيط خصلة السمت مبعاين التجمل والزينة‬
‫املخرجة للمؤمنني والتميز عن اجلاهلية وعن التشبه هبا‪ .‬ويف التؤدة‬
‫معاين الصرب وعدم العنف وفيه معاين الرفق والرمحة واألناة واملثابرة‪.‬‬
‫إن مقتحم العقبة يعوقه عائق نفسه األنانية قبل كل شيء‪.‬‬
‫شأن النفس األمارة بالسوء أن تكون مستعجلة هلوعا يذهب‬
‫وقار املرء أمام رعونتها فيعنف ويظلم‪ .‬وأخص صفات اجلاهلية‬
‫اجلهل مبعىن العنف‪ ،‬وما العنف إال وضع القوة يف غري موضعها‪.‬‬
‫لذلك ال يستطيع األناين اجلاهلي وال األناين املفتون أن يقتحما‬
‫العقبة‪ ،‬عادلني عن مواقع الظلم والعنف إىل مقامات التؤدة إال‬
‫‪114‬‬
‫بتقيظ اإلرادة الضابطة‪ ،‬مع سريان اهلداية من قلب من له خصلة‬
‫التؤدة نبيا كان أو وليا مرشدا‪.‬‬
‫اإلسالم استسالم وطرح لألنانية العنيفة‪ ،‬وشعار اإلسالم‬
‫سالم‪ ،‬وحياة املسلمني تراحم ال يعرف العنف إال مرضا يف زمن‬
‫الفتنة مبعناها النبوي‪.‬‬
‫توقظ اللذات املمكنة يف العامل غريزة الشهوة يف إنسان العادة‪.‬‬
‫إنسان االنفعاالت غري املضبوطة‪ ،‬فيتهالك عليها ويغضب إذا‬
‫نافسه عليها منافس‪ ،‬وهكذا يتكون ثنائي العربة األفالطونية ‪:‬‬
‫شهوة وعنف يف خدمة غريزة االمتالك واالستئثار باجلاه والقوة‪.‬‬
‫وترتاكب األهواء وتتعارض‪ ،‬فيكون عنف اجلاهلية عنفا متخفيا‬
‫وراء النظام اإلداري القانوين‪ ،‬ويكون عنف املسلمني املفتونني بأسا‬
‫بينهم مفضوحا ساذجا لشدة تباينه مع قيمة اإلنسان وكرامته‪،‬‬
‫كما عاشها املسلمون يف تارخيهم السليم‪ ،‬وكما يدعو إليهما‬
‫داعي اهلل‪.‬‬
‫الفتنة ختلط جمال الفكر والعمل وتعطيه كثافة تستحيل معها‬
‫الرؤية الشفافة‪ .‬هو ذا عامل املادة وعامل اجملتمع حييط باجلاهلي‬
‫حدود لذاته من جاه‬ ‫َ‬ ‫واملفتون ويقاومان شهوته‪ ،‬وهو حمدود‬
‫ومال‪ ،‬فيغضب ويعنف‪ ،‬ويثور على عامل املادة وعامل اإلنسان‪.‬‬
‫فإذا أخذت العقالنية مبقاليد اإلنسان اجلاهلي وصعدت هواه‬

‫‪115‬‬
‫من مستوى الصراع الفردي على الرزق الضروري واللذة واجلاه‬
‫إىل مستوى املطالبة اجلماعية بالعدل االجتماعي والتسوية‪ ،‬انتقل‬
‫عنفه من معناه البسيط إىل معىن مركب امسه الثورة‪ ،‬وتسمى العقل‬
‫الثائر عقال سلبيا ينتقد الواقع املغضوب عليه ويسخط ويعنف من‬
‫حيث يظن أنه يقوى ويريد‪.‬‬
‫إن الفقه املنهاجي ليس حتليال عقالنيا يستخرج للمسلمني‬
‫سلوكا عقالنيا باسم اإلسالم‪ ،‬إمنا هو اتباع ألمر اهلل وأمر رسوله‪.‬‬
‫وإن رسول اهلل صرح بوجوب الرفق ومسى العنف وأوصى باحلذر‬
‫منه‪ .‬من حديث عائشة رضي اهلل عنها أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم قال ‪« :‬يا عائشة‪ ،‬إن اهلل رفيق يحب الرفق‪ ،‬ويعطي‬
‫على الرفق ما ال يعطي على العنف وما ال يعطي على سواه»‪1‬‬
‫إننا ندعو إىل الرفق يف عملنا اإلسالمي‪ ،‬لكن حنب أال يفهم‬
‫عنا أننا ندعو للخمول واالستسالم والضعف‪ .‬إن القوة الفاعلة‬
‫البناءة هي القوة السائرة يف ركاب اإلرادة الواعية‪ ،‬وال ميكن أن‬
‫يكون لألمة اإلسالمية املنبعثة وجود وال استمرار بال قوة‪ .‬وإن‬
‫الغضب حملارم اهلل قوة أساسية يف العمل اإلسالمي‪ ،‬فإذا البس‬
‫هذا الغضب غضب جاهلي‪ ،‬قومي مثال أو طبقي‪ ،‬كان العمل‬
‫غري إسالمي‪.‬‬
‫إننا أمة حباجة إىل غضبة كبرية‪ ،‬غضبة هتذب فيها اإلرادة‬

‫‪116‬‬
‫االنفعال البدائي وتوجهه وجهة التغيري اإلسالمي‪ .‬والثورة مجوح‬
‫انفعايل تتجمع فيه اإلثارة العارية إىل إرادة طبقة ثورية معينة متجهة‬
‫إىل اليسار‪ ،‬إىل سقر‪ ،‬واالنقالبية ثورة فئة على سائر الفآت‪ .‬أما‬
‫العمل اإلسالمي يف زمن الفتنة فنهضة عامة تسبقها تربية ويقودها‬
‫من يتوب من أي فئة‪ ،‬أو من يسبق للمبادرة اإلسالمية ممن هلم‬
‫الطاعة اليت أمرنا إال هنتكها ولو جاروا‪.‬‬
‫األهداف اإلسالمية ‪ :‬املسلمون اجلغرافيون يف قبضة عامل‬
‫العنف يصبحهم وميسيهم أذاه أو صداه‪ ،‬يف ظلم حكامهم ويف‬
‫أخبار تطاحن القوى العاملية‪ .‬وتلتهمهم عجلة العنف الواردة‬
‫إلينا يف األشكال احلضارية اجلاهلية مثل العنف الذي بني املالك‬
‫والعامل‪ ،‬ال حيله إىل العنف‪ ،‬ومثل جور اإلدارة املفتونة يطغى‬
‫سدنتها مبا هلم من سلطان أصبح عنفا إذ تعذر عليه أن يكون‬
‫قوة‪ .‬وتصطدم النزعات وتضطرم النزاعات وتتحول اإلرادة البناءة‬
‫إىل أحقاد تدفع للكيد واالنتقام‪.‬‬
‫بأسنا بيننا شديد‪ ،‬ظهر يف محي االنقالبات الغضبة على‬
‫الظلم‪ ،‬أو هو حتت الرماد مجرا من البغضاء والنيات السوداء ظالم‬
‫يف ظالم‪ ،‬ألن طرق اخلالص ال يتبينها العائمون يف ضباب الفتنة‬
‫القامت‪.‬‬
‫يقال ألهل اجلنة ‪ :‬سالما ! وداعي اإلسالم يبشر املسلمني‬

‫‪117‬‬
‫املفتونني أن يف أحضان دينهم بني يدي رهبم سالما وأمنا وسكينة‬
‫إن تابوا وآمنوا وعملوا الصاحلات‪.‬‬
‫صفحة بيضاء من تارخينا تفتح يوم يبدأ اجلهاد اإلسالمي‬
‫احلق‪ ،‬يوم يكون لنا إمام جماهد يعلن أننا أمة ال شعب‪ ،‬أي ألفة‬
‫وحمبة ال فرقة وتشتت وبغضاء‪ .‬ومن ورائنا يومئذ ليال ليالء وأيام‬
‫حالكة مليئة بالظلم والتعسف‪ .‬فهل جيب اإلسالم فيما جيب‬
‫املظامل ويطويها يف عملية التوبة العامة طيا‪ ،‬فيبقى احملروم حمروما‪.‬‬
‫ويتسلى بإسالمه‪ ،‬ويتوب املغتصب الظامل باألمس على ما بيده‬
‫من متاع الناس؟‬
‫كال فإن التؤدة والرفق ما مها إقرار الظلم بل رفعه‪ .‬وإذا كان‬
‫العنف الثوري ينصب املشانق لطغاة األمس فإن اإلسالم سينصب‬
‫أيضا ! لكن ينصب حماكم لرد املظامل‪ ،‬لرد «جسم» املغصوبات‬
‫دون االنتقام ممن شاركنا مجيعا يف الفتنة ضحية من الضحايا‪ ،‬هذا‬
‫هو الرفق اإلسالمي عند االنتقال من فتنة اإلسالم‪ ،‬عند التوبة‬
‫والعدل إىل اهلل‪.‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬إنه ال إكراه يف الدين ملن كان كافرا‪،‬‬
‫أما املؤمنون السابقون يف محل لواء اإلسالم املنبعث‪ ،‬فعليهم أن‬
‫يأخذوا كال بالتوبة‪ .‬فمن أىب من املرتفني فلهم أن يعتربوه ذميا إن‬
‫شاؤوا ريثما تقوم قائمة اإلسالم‪ ،‬فيحق عليه حد اهلل كما حتق‬

‫‪118‬‬
‫احلدود األخرى على الظاملني‪.‬‬
‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر وظيفة اجلماعة اإلميانية‬
‫اإلحسانية اليت تربطها والية املؤمنني املهاجرين الذين قدمو برهان‬
‫صدقهم‪ .‬ومعىن هذه الوظيفة ومضموهنا السهر على إقامة حدود‬
‫اهلل واملراقبة السديدة الشديدة على تطبيق أوامره‪ .‬وقد رأينا يف زمن‬
‫فتنتنا هذا‪ ،‬والدولة معرضة عن إسالمها‪ ،‬آخذة بالقوانني اجلاهلية‬
‫اإلباحية‪ ،‬مجاعة من املؤمنني انربوا لألمر باملعروف والنهي عن‬
‫املنكر‪ .‬وتؤول حماوالهتم الصادقة إىل عنف ألهنم يف دار العنف‬
‫حالون‪ ،‬فإذا قامت قائمة اإلسالم فوظيفة األمر باملعروف والنهي‬
‫عن املنكر وظيفة مجاعية ال بد أن تنظم تنظيما وتعمم على سائر‬
‫املؤمنني اجملاهدين‪ ،‬لكيال تكون مظهرا منعزال‪ ،‬بل عمال ساريا يف‬
‫جسم األمة كلها‪ ،‬مقصده األخذ بيد املسلمني برفق لكن بقوة‬
‫تامة حىت ال يعود عائد جلاهليته‪.‬‬
‫إن حدود اهلل تعاىل وحي منزل تفصل بني السلوك احلق‬
‫واهليجان الباطل‪ ،‬وتضع عقابا أزليا ملن يتجاوز احلدود‪ .‬واملسلمون‬
‫يتصورون إقامة حدود اهلل ببالدهم املفتونة من قبيل احملال‪ ،‬بعد أن‬
‫أعماهلم وهج الظالم اجلاهلي املتقدة ناره‪ .‬ومسعنا دولة إسالمية‬
‫أعادت قطع السارق وتقطيع احملارب من خالف‪ .‬ما منعنا أن‬
‫نستسيغ احلق ونعظمه إال املسخ الذي خالط منا الضمائر‪،‬‬

‫‪119‬‬
‫فوهنا وأصبحنا نعبد األوثان اجلاهلية الثقافية‪ ،‬واكتسبنا حساسية‬
‫مرضية تصور لنا القطع والرجم مهجية وعنفا‪ .‬وكأن فقهاء القانون‬
‫اجلاهليني تسخر منا األقدار اإلهلية بلساهنم حني يكتبون أن‬
‫العقوبات الوضعية اآلخذة يف التسامح من أسباب اهنيار احلضارة‬
‫الغربية ألهنا ترفع العقاب البدين من جلد وقطع!‬
‫إن الضعف ال يرتفع إال إن جاءت القوة‪ ،‬وملا خانتنا قوة‬
‫العقيدة بعد أن خنا حنن عقيدتنا‪ ،‬تسرب ضعفنا املعنوي إىل‬
‫مظاهر حياتنا وسلوكنا‪ ،‬فال نستطيع إال تقليدا خانعا‪ ،‬وهكذا‬
‫نعنف وحنن ظانون بأنفسنا القوة ونستكني للمذلة وحنن حنسب‬
‫أننا رفيقون رمحاء‪ .‬ونربر هواننا على أنفسنا وعلى الناس بدعوى‬
‫كاذبة منافقة ‪ :‬إننا من دعاة السلم العاملي‪ .‬وما بنا من سلم‬
‫وديارنا جتوسها الصهيونية‪ ،‬وإمنا خنوع وذلة‪.‬‬
‫لو كانت لنا قوة يف عقيدتنا حبيث نقيم حدود اهلل كما أمر‪،‬‬
‫ونقطع وجنلد ونرجم وننفي ونقتل كما أمرنا ربنا‪ ،‬لكانت لنا‬
‫أسباب القوة اليت حنارب هبا عدونا‪ .‬بأسنا بيننا شديد ال جنرؤ‬
‫إال على إخواننا من املسلمني‪ ،‬ويطل علينا فأر مهني يربز من‬
‫قاذورات اجلاهلية فنخنع له ونقعد ونربر الذل بالشعارات الزائفة‪.‬‬
‫احلساسية املرضية واجلنب والكفر بأمر اهلل هي املانعة لنا املثبطة‬
‫عن احلركة‪ .‬يسري كل هؤالء يف ركاب الصناعة العلمية اخلادمة‬

‫‪120‬‬
‫للعنف يف دنيانا اليت تسودها اجلاهلية‪ .‬وختتلط علينا‪ ،‬معشر‬
‫املفتونني‪ ،‬الوسائل بالغايات فنحتج على عنف القوي يف حدود‬
‫«اجملاهبات» اخلطابية باملربر اخلانع أننا ال نقدر على قتاله‪ ،‬ونعنف‬
‫حنن على بعضنا وال نرفق هجوما على ضعف أخينا وظلما‪ .‬ولو‬
‫كان الرفق مستنا فيما بيننا‪ ،‬ومن الرفق إقامة حدود اهلل‪ ،‬لكانت‬
‫القوة مستنا أمام العدو الغاضب اهلاجم‪.‬‬
‫إن يف دار اإلسالم طاقات غضبية هائلة‪ ،‬فلو يستمسك رجال‬
‫الدعوة اإلسالمية باحلكمة والرفق لدى الدعوة وإبان الرتبية حلصل‬
‫عندنا بدل التفجر الثوري املعاكس لالجتاه اإلسالمي حتما جهاد‬
‫إسالمي يتبطن األمة فيخلقنا خلقا جديدا‪ .‬فإذا اسرتسلنا يف‬
‫عنفنا فلن يلد لنا العنف إال عنفا أعىت منه‪ ،‬وإن العاقبة للمتقني‪.‬‬
‫وت‬
‫ود َجالُ َ‬
‫﴿وقـَتَ َل َد ُاو ُ‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬قال اهلل تعاىل ‪َ :‬‬
‫شاءُ﴾ ‪ .‬وكان داود‬ ‫ْح ْك َمةَ َو َعلَّ َمهُ ِم َّما يَ َ‬
‫ْك وال ِ‬
‫َوآتَاهُ اللّهُ ال ُْمل َ َ‬
‫فىت بيده سالح من شريط وكان جالوت مدججا باحلديد‪ ،‬فقتلت‬
‫القوة اإلحسانية يف قلب النيب جسم الكافر العنيف‪ ،‬وغلب رفق‬
‫النبوءة عدوان اجلاهلي الغليظ‪.‬‬
‫إن النخبة اإلحسانية املؤمنة بدار اإلسالم حتمل يف أحشائها‬
‫جنني البعث اإلسالمي‪ ،‬وإن ميالد هذا املوعود املرتقب يطلب رفقا‬
‫وسكينة وسالما‪ .‬إن املسلمني املفتونني عضتهم اجلاهلية بأنياب‬

‫‪121‬‬
‫ووطئتهم مبنسم‪ ،‬وما هذه املاآسي واملخازي احلازة يف القلب‪ ،‬مما‬
‫نشهده من تطارح املسلمني املغلوبني على أعتاب اإلدارة العاملية‬
‫اجلاهلية‪ ،‬يطلبون مساعدة أو يتفاوضون على استسالم‪ ،‬إال آخر‬
‫رمق تلفظه الفتنة يف ديارنا‪ ،‬يشيعها قرف القادة من دورهم الكريه‬
‫الذليل‪ ،‬وتشيعه ضمائر السبعمائة مليون مسلم‪ ،‬عافوا أن جترهم‬
‫املركبة اجلاهلية النارية يف تراب القذارة من خلفها‪.‬‬
‫حاجة املسلمني املساكني رمحة‪ ،‬وحاجة العامل سالم وحاجة‬
‫اإلنسانية تعاون وأخوة‪ .‬وإن النظرة الفطرية عند املؤمنني احملسنني‬
‫حاملي الرسالة تفسر هذا العامل وهذا اإلنسان على ضوء اإلسالم‬
‫الذي أمرنا أن نقول للناس حسنا‪ .‬فاملؤمن ال حتجبه كثافة العامل‬
‫وعنف أحداثه عن النفاذ إىل تدبر آيات اهلل يف الكون‪ ،‬يقبل‬
‫مشروع اهلل يف خلقه‪ ،‬وخيرق الفتنة بنظر اإلميان‪ ،‬فتحل السكينة‬
‫يف قلبه‪ .‬ويلفي نفسه قد سامل الناس مجيعا‪ ،‬ال يكره إال الظلم‪،‬‬
‫وال يغضب إال إذا انتهكت حرمات اهلل‪.‬‬
‫من شاء يبتهج مبيالد اإلسالم فليسع جادا جلمع الطاقات‬
‫املسلمة الذاهبة ضياعا يف تيار التفجر اجلاهلي‪ ،‬وحتويلها إرادة‬
‫فاعلة واعية يدب هديها برفق إىل قلوب مريضة وعقول استعمرها‬
‫الفكر السليب العنيف‪ .‬وهكذا نكون عاملني بعزمة الواجب ال‬
‫بعقلية املطالبة‪ ،‬غري غائبني مع ذلك عن حقوقنا وعن ضرورة‬
‫اسرتجاع املظامل من طغاة ماضي الفتنة ومن أعدائنا‪ ،‬حني تكون‬
‫لنا قوة باإلسالم دين السالم واجلهاد‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫اخلصلة التاسعة‬
‫االقتصاد‬
‫اخلصال العشر قوى روحية خلقية عملية يتحلى هبا طالب‬
‫اإلميان واإلحسان‪ ،‬طالب السلوك‪ ،‬ليخرق حجب األنانية والغفلة‬
‫والعادة‪ .‬وهي صفات معنوية يف حوافزها تتجلى يف العمل اجلهادي‬
‫إن جتمعت واجتهت حنو اهلدف‪ .‬أما إن تفرقت واحنبست يف‬
‫االعتبارات الفردية فإمنا تعطينا مسلمني فرديني ال جيمع سعيهم‬
‫قضية يرومون التفاين يف خدمتها‪ .‬واملعىن األول لالقتصاد هو‬
‫استجماع القوى حنو القصد وجتديد القصد والسري إىل حتقيقه‪.‬‬
‫أما املعىن الثاين الذي يفسره حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪« :‬االقتصاد نصف المعيشة» فهو راجع لألخذ بأسباب‬
‫العيش بكيفية ال تضيع منا املقاصد والغايات اليت خلقنا من‬
‫أجلها‪ ،‬أال وهي إقامة أمر اهلل وحكمه فينا‪ ،‬مث محل رسالته للخلق‬
‫كافة‪.‬‬
‫كان من اقتصاد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه‬
‫وتابعيهم الصاحلني الزهد يف الدنيا والتحري يف كسب احلالل‪،‬‬
‫ونبذ التنعم‪ ،‬واالخشيشان لكيال تلني اجلسوم وتطيح العزائم‪ .‬من‬

‫‪123‬‬
‫كان منهم رمحهم اهلل ورضي عنهم يف بداوة حذر أن يستميله‬
‫اسرتوام احلضارة واسرتخاؤها‪ ،‬من كان حاضرا تقلصت يده عن‬
‫الرفاهية وأسباهبا‪ ،‬حيفظ بذلك نفسه أن تتميع يف الزينة ورغد‬
‫العيش‪ .‬وعرف الصوفية رضي اهلل عنهم باالخشيشان والتمعدد‬
‫كما حيبهما الفاروق عمر رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫وإن زمننا هذا زمن الفتنة راجت فيه متنوعات الرفاهية والعبث‪،‬‬
‫فرتكبت عادة الشح وتألنانية على أرض تتيح للهوى ملء حاجته‬
‫الشهوانية‪ ،‬بل تتحداه بشهوات متجددة‪ ،‬فتخلف له حاجات ال‬
‫تنتهي‪ .‬ويتم الرتف بني دواعي العادة يف نفس اإلنسان وبني عامل‬
‫الصناعة واالستهالك‪.‬‬
‫ويف دار اإلسالم يكتسب األمر معرة ثالثة هي أن ما نستهلكه‬
‫إلرضاء شهواتنا‪ ،‬ونفنت به ألنه يعرض علينا فنتنافس يف اقتنائه‬
‫فيس َمنون وهنْزل ويقوون‬
‫واستهالكه‪ ،‬يصنعه لنا طلباؤنا اجلاهليون‪ْ ،‬‬
‫من حيث نضعف‪.‬‬
‫وهكذا تكون لنا العادة املتأصلة يف نفوسنا والبضاعة الفاتنة‬
‫املمتصة لدمائنا عائقا عن املقصد والغاية‪ ،‬فال نستطيع أن نتحرك‬
‫إال إىل حيث نوفر للعادة مرتعا جديدا يزيد من كسلنا وتبلدنا‬
‫ووهننا‪ .‬ولعل أحسن ما يصف هذه احلال تعريف رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم للوهن بأنه حب احلياة وكراهية املوت يف احلديث‬

‫‪124‬‬
‫النبوي الذي أخربنا به الرسول الكرمي بأن األمم ستأكلنا حني‬
‫يعرونا الوهن‪.‬‬
‫لنحن اليوم أحرص الناس على حياة‪ ،‬على حياة كمية بدايتها‬
‫وهنايتها يف االقتصاد‪ ،‬كما يسمي طالب العادة وكهنتها هدف‬
‫الثورة واالشرتاكية القومية‪.‬‬
‫ويف السياق اإلسالمي ال يكون اهلدف االقتصادي معىن اال‬
‫مقرونا مبقصد القوة‪ .‬اجلاهليون ختللتنا عدواهم إذ ينظرون إىل‬
‫االقتصاد من زاوية مطلب االستهالك‪ ،‬ومع اقتصاد االستهالك‬
‫يصنعون أسلحة ويعنفون ويدمرون ويتعدون ويظلمون‪ .‬ذلك‬
‫ألن اإلنسان اجلاهلي املفتون مبعامله ومشاكلها والضباب اخلانق‬
‫املسموم يف مدهنا يعيش يف جو حرج يعشعش فيه الضغن واحلقد‬
‫والعنف‪ ،‬فال جيد متنفسا لألفراد إال يف اإلجرام وقطع الطريق‪،‬‬
‫وال جيد متنفسا للدولة إال يف جتييش اجليوش لغزو بالد آمنة‪ ،‬أو‬
‫تسليح خصوم من بالد املتخلفني‪ ،‬يتفرج عليهم اجلاهلي كأهنم‬
‫ديكة تتناقش‪ ،‬ويستصفي هو من نتاائج احلرب مركزا أو ذخرية‬
‫يرصدها لعراكه الكوين بني كبار اجلاهلية‪.‬‬
‫اقتصادنا بناء من أجل القوة‪ ،‬وال يكون قويا إال من نشأة‬
‫رجولية متمعددة خمشوشنة‪ .‬وإذا كان الزهد عند أسالفنا الصاحلني‬
‫منحى فرديا وأسلوبا فرديا للعالقة مع العامل املادي‪ ،‬فإن اإلسالم‬

‫‪125‬‬
‫املنبعث جيب أن يكون له أسلوبه اجلماعي يف ذلك ونسميه تقلال‪.‬‬
‫األهداف اإلسالمية ‪ :‬يتوب املسلم من كذا إىل كذا‪ ،‬من‬
‫معصية إىل طاعة ومن حالة إسالم جغرايف إىل حالة إسالم‬
‫حقيقي‪ ،‬من إسالم فردي إىل إسالم مجاعي ملتزم بأمر اإلسالم‪.‬‬
‫إذ التوبة رجوع من غي لصالح‪.‬‬
‫ومبا أن التوبة العامة باملبايعة على الطاعة للقائد اجملاهد هي‬
‫اخلطوة األوىل لالنبعاث اإلسالمي‪ ،‬فال بد من النظر إىل العاوئق‬
‫القائمة بني ضمري التائب وبني حتقيق املقصد من التوبة‪ ،‬وهو‬
‫قيام الدولة اإلسالمية‪ .‬لقد جعلنا من املقاصد اإلميانية اجلماعية‬
‫االنفصال عن اجلاهلية‪ ،‬عن أشكاهلا ومستها وعن نظرهتا للناس‬
‫والعامل وهن عاداهتا‪ .‬وما دامت فينا هذه الشوائب املخزية املغرية‬
‫بالفسوق والعصيان فإن التوبة والطاعة تتبخران سريعا يف الوسط‬
‫املفتون املاجن فال نبلغ قصدا‪.‬‬
‫وهكذا يكون االقتصاد القاصد شرطه األول إزالة العوائق‬
‫املوروثة من طريق التائبني‪.‬‬
‫إن هذه العوائق ميكن أن تصنف على ثالثة أصناف ما منها‬
‫إال ما ُيول عن اهلدف ويصد عن القضية اإلسالمية‪.‬‬
‫أوهلما ‪ :‬ضياع عامة املسلمني الفقراء اجلاهلني بني املقاهي‬
‫واملالهي واخلبائث‪ ،‬هلم فيها عادات متأصلة وجذور‪ ،‬وهم فيها‬

‫‪126‬‬
‫وبالضعف اخللقي املتوالد فيها عرضة لدعايات الزعامات السياسية‬
‫املسخرة للعقول واالنفعالت‪ .‬وهؤالء ينبغي حتويلهم إىل املسجد‬
‫ومسته وجمالس علمه وذكره‪ ،‬ببناء حيطان املسجد ومعناه بناء‬
‫جمددا‪ ،‬مع القضاء على أسباب اخلبائث‪ .‬وحنول حيوية الشباب‬
‫من النشاط املطلوق اجلامح إىل ترويض العقل واجلسم لنحقق‬
‫هدف القوة يف األجسام كما حنققها يف العقول وكما حنققها فيما‬
‫تعطيه اجلهود اليومية ألمة معبأة‪.‬‬
‫ثانيهما ‪ :‬حرفيتنا الثقافية وتبعيتنا الفكرية‪ .‬املرتفون من رجال‬
‫الفكر أهم عائق يف وجه الشباب عن القصد‪ .‬هم الصادون عن‬
‫اهلل وعن الصالة‪ .‬املالحدة منهم واملفتونون يصرخون بأصوات‬
‫حممومة مسمومة بشعارات جاهلية حترض على العنف والتحلل‬
‫اخللقي والنذالة السلوكية‪ .‬وهؤالء حنوهلم إن مل يتوبوا حلقولنا‬
‫املهجورة وغنمنا السائبة يف بالد اهلل يرعون بقرا ويعنفون على‬
‫الرتاب ليرتكونا حنقق مقصدا ما هو مقصدهم‪ ،‬تعزيرا وتربية لقوم‬
‫فاسقني‪.‬‬
‫لكن ال ميكن أن نعوض فراغنا الثقايف باحلرفية املوروثة عن‬
‫السلف على مدى التاريخ‪ .‬إن علماءنا التقليدين حماضن لبذور‬
‫اإلميان‪ ،‬إذا استثنينا ديدان القراء املتحذلقني الفاسقني‪ .‬لكن‬
‫ختصصهم يؤدي إىل حرفية ناقلة تستهلك كل قوى الفكر يف‬

‫‪127‬‬
‫جمهود الذاكرة‪ ،‬حتفظ ما قال هذا وذاك على مر العصور وتتحمس‬
‫تعقبه وانتقده‪ .‬وكل هذا‬ ‫لقضايا مزمنة ميتة بني جمتهد بال ومن َّ‬
‫عائق لنا عن مقصدنا الثقايف وهو تالوة القرآن وتدبره والغرف من‬
‫معنيه‪ .‬ليس يف نييت االستهانة باجتهاد اجملتهدين إن أخذنا منهم‬
‫اللب بفكر نوره القرآن‪ ،‬تالوته وتدبره‪ ،‬كما أمرنا اهلل‪ ،‬ال كما‬
‫يزعم الزاعمون أن صوابه خطأ وأن خطأه كفر‪.‬‬
‫أال يا قوم إن هذا القرآن ما أنزل ليحنط وال ليؤول بل ليتلى‬
‫ويتدبره كل مسلم فيخشع ويعظم ربه فيشفي القرآن علته ألنه‬
‫شفاء ورمحة‪ .‬وإن أوله الباطنية وعاجل رموزه الصوفية‪ ،‬وحتجر على‬
‫حرفية النقل آخرون فمقصد اإلسالم املنبعث أن نتلو القرآن‬
‫وحنتفل خبطاب ربنا ونعتز ونتباهى ونفرح‪.‬‬
‫ثالثها ‪ :‬التكاثر الربوي املستغل‪ ،‬هذا السم الذي ال يقوم‬
‫آكله‪ ،‬ويتخبطه الشيطان فال يصل إىل قصد‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪:‬‬
‫وم الَّ ِذي يـَتَ َخبَّطُهُ‬
‫ومو َن إِالَّ َك َما يـَُق ُ‬ ‫ين يَأْ ُكلُو َن ِّ‬
‫الربَا الَ يـَُق ُ‬
‫َّ ِ‬
‫﴿الذ َ‬
‫س﴾‪.‬‬ ‫الش ْيطَا ُن ِم َن ال َْم ِّ‬
‫َّ‬
‫نضع هنا مشكلة لعلها أهم املشاكل يف بناء اإلسالم على‬
‫أنقاض الفتنة اجلاهلية‪ .‬إهنا مشكلة بناء اقتصاد إسالمي بدل‬
‫االقتصاد املوروث املوبوء‪.‬‬
‫يكفي أن نقول هنا بأن مطلب اكتساب التكنولوجيا وتكييفها‬

‫‪128‬‬
‫خلدمة أهدافنا اإلسالمية ومقاصدنا يتضمن اجتهاد خاصا لصياغة‬
‫اقتصاد إسالمي‪ ،‬يكنس املستغلني الربويني‪ ،‬ويكنس األثرة الربوية‬
‫اليت تتيح لذوي الكفاءات ما ال تتيح للمسكني‪ .‬ودار اإلسالم‬
‫دار مساكني يقصدون قصدا ساميا متساوين متحابني متعاونني‪.‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬هل يكون القضاء على اخلبائث وإقامة‬
‫اإلميان وبعث املرتفني الفكريني لرعي البهم ونبذ الربا كافيا لبناء‬
‫اإلسالم؟ إن كل ذلك يشبه أن يكون أعماال سلبية‪ ،‬ألن ما‬
‫حتب إزالته هو مضمون جمتمعنا املفتون‪ .‬ولسنا نشك يف أن تغيري‬
‫العادات أشق من حتويل اجلبال حىت يف جو تعبئة جادة‪ .‬وإن‬
‫احلماس الذي يصحب عادة كل انطالقة شعبية وراء وعد جديد‬
‫ال يلبث أن خيمد منذ يرتاءى للناس سوء النيات‪ ،‬ويطول األمد‬
‫فريجع كل إىل عادته‪ .‬وفرق ما بني اجلهاد وبني سائر التحركات‬
‫أن اجلهاد بذل متواصل‪ ،‬بذل قاصد للجهد ال يين وال يكل‪.‬‬
‫من بني الطاعة الشكلية للمرتفني‪ ،‬يبايعون عليها يوم يقوم‬
‫اإلسالم كما يبايعون على صفقاهتم أيام الفتنة بنية مرتبصة‬
‫وقصد نفعي وصويل‪ ،‬تربز اهلمم املؤمنة من فئات املساكني ومن‬
‫فئات املتطهرين الصادقني من ترفهم‪ .‬فأقل الناس ترفا واهنماكا‬
‫يف العادات اجملتمعية يكونون أقرب الناس استجابة جلهادات‬
‫مجاعية‪ .‬فمن حتركهم حنو املسجد ويف املسجد ومن مباهاهتم‬

‫‪129‬‬
‫بالقرآن واستقالهلم عن إغراء الدرهم والدينار يبزغ فجر اإلسالم‬
‫ينري اآلفاق للفكر اإلسالمي والعمل اإلسالمي‪ .‬ذلك إن أزيلت‬
‫العراقيل من طريق الشباب املؤمن بيد السلطان‪ ،‬سلطان اإلسالم‬
‫املنبعث‪.‬‬
‫قاهلا موالنا عثمان بن عفان رضي اهلل عنه‪ ،‬وكان أعلم الناس‬
‫بالفتنة إذ خربها من قريب وقتل شهيدا ضحية هلا ‪« :‬يزع اهلل‬
‫بالسلطان ما ال يزع بالقرآن»‪.‬‬
‫كانت أيامه رضي اهلل عنه أيام احنطاط من حياة اجلماعة‬
‫اإلميانية اليت تربطها صالت الطاعة والنصيحة واحملبة بوازع القرآن‪.‬‬
‫وأيامنا‪ ،‬يوم يقوم لألمر داعي اهلل‪ ،‬أيام رفعت من دركات الفتنة‬
‫إىل مراتب اإلميان واإلحسان‪ ،‬وعدا من اهلل مفعوال هلذه األمة‬
‫املستضعفة املستخلفة غدا‪.‬‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬ما كان اإلسالم األول يف عهد الرسول‬
‫أوال وال أخريا‪ ،‬فقد خلت من قبله صلى اهلل عليه وسلم الرسل‬
‫وكانت هلم أمم مسلمة قوية‪ .‬تألقت اجلماعة األوىل مع رسول‬
‫اهلل يف مساء اإلنسانية كما يليق بأصحاب خامت الرسل وجوهر‬
‫اإلنسانية‪ .‬وستتألق هذه األمة وحتقق القصد مرة أخرى كما يليق‬
‫بنبوآته صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬إذ وعدنا بأن اهلل سريفع عنا الفتنة‪،‬‬
‫وأن ستكون خالفة على منهاج النبوة كما كانت أول مرة‪ .‬فنحن‬

‫‪130‬‬
‫نقرتب موعود اهلل وروسله‪.‬‬
‫ال يثبطنا عن هذا من يهذي بأن اجليل األول فلتة من فلتات‬
‫التاريخ‪ .‬كيف ورسولنا الكرمي كان يشتاق إلخوته الذين مل يرهم‪،‬‬
‫يفضلهم على أصحابه ويعدل صالة واحدة من صلوات إخوانه‬
‫خبمسني صالة من صلوات أصحابه ! وال يثبطنا أهنم يرون ذلك‬
‫بعيدا‪ ،‬ألن اهلل تعاىل رب هذا الكون آخذ بناصية كل دابة‬
‫يدحرجها سبحانه يف هاوية الظالم إن عتت عن أمر رهبا‪ ،‬وميهد‬
‫هلا السبيل إىل اخلري إن أطاعت أمره وأخلصت له القصد‪.‬‬
‫بوازعي السلطان والقرآن تزال العوائق ويؤسس الضمري النظيف‬
‫والفكر النري بنور القرآن‪ .‬واالقتصاد القاصد القوي يغنينا أوال عن‬
‫بضاعة من يستبضعنا‪ ،‬مث يقوينا حىت نتمثل أمة شاهدة على‬
‫الناس حاملة للرسالة‪.‬‬
‫بوازعي السلطان والقرآن نرتفع إىل مصاف املسلمني الذين‬
‫بلغوا القصد والغاية‪ ،‬ال يقف يف وجه جهادنا فاجر إال أارده اهلل‪.‬‬
‫يقول اإلمام البوصريي رمحه اهلل ‪:‬‬
‫ومن تكن برسول اهلل نصرته إن تلقه األسد يف آجامها جتم‬
‫وكان من كرامات بعض األولياء أهنم يأخذون بأذن األسد‬
‫يسخرونه يف أمرهم‪ ،‬وحنن الواقفني ببابه عز وجل الباكني من‬
‫خشيته لن تنثنىي عن القصد ولن خييفنا هوام األرض املتأبية على‬

‫‪131‬‬
‫أمر اهلل املستأسدة وهي يف معاين اجلرذان‪ .‬لكننا ال نعنف بل‬
‫نرحم ونرثي للمفتونني من إخواننا املعوقني عن القصد‪ ،‬وندعوهم‬
‫للمقصد العايل والغاية السامية‪ ،‬كما ندعو املساكني من إخواننا‬
‫معشر املعتصمني مبن قال ‪« :‬اللهم أحيني مسكينا وأمتني‬
‫مسكينا واحشرتني في زمرة المساكين»‪.‬‬

‫‪132‬‬
‫‪:‬‬ ‫اخلصلة العاشرة‬
‫اجلهاد‬
‫تصدق نية قائد جماهد يف دار اإلسالم‪ ،‬تصدق‬ ‫عندما ُ‬
‫على اجلهاد لتحقيق أهداف اإلسالم ومقاصد اإلميان وغايات‬
‫اإلحسان‪ ،‬فإن أس سلطانه ومشروعيته نفس خلوص نيته أن‬
‫ينصره اهلل على نفسه وعلى الناس كافة‪ .‬مث يبين سلطانه على‬
‫املبايعة العامة مع التوبة العامة‪ .‬لكن هذا السلطان إن يلق محاسا‬
‫من سواد األمة يلق أيضا عتوا من جانب املرتفني‪ ،‬وقد يطول‬
‫الكيد من هؤالء والتضليل واملراوغة إن مل يلتق السلطان بوازع‬
‫القرآن‪ .‬ومعىن هذا عمليا أن جيتمع على األمر سلطان الدولة‬
‫اجملسد يف شخص القائد اجملاهد بوازع القرآن اجملسد يف رجال‬
‫الدعوة اإلسالمية‪.‬‬
‫هذا اللقاء هو ما نسميه بثنائية الدولة والدعوة‪.‬‬
‫كان من أنبياء اهلل ملوك أنبياء كداود وسليمان عليهما‬
‫السالم‪ ،‬أما أمر هذه األمة فقد قام جبهاد نبينا وصحبه‪ ،‬وكان‬
‫جهاد دعوة ودعوة جهاد‪ .‬يدور عمل املسلمني حول شخص‬
‫الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم املؤيد بنور الوحي واهلداية‪،‬‬

‫‪133‬‬
‫املنصورة ألويته يف جالد الكفار الباغني الظاملني الواقفني يف وجه‬
‫الدعوة‪ .‬فهو كان عليه الصالة والسالم داعيا إىل اهلل وقائد جهاد‪،‬‬
‫يبايعه أصحابه على اإلميان باهلل وعلى الطاعة اجلهادية يف نفس‬
‫الوقت‪.‬‬
‫وكانت تنشب بني الصحابة خالفات يف عهده تنظيمية من‬
‫شؤون األمن أو تنافسية من شؤون اجلهاد احلريب فرتجع اخلالفات‬
‫إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ألنه احلكم الذي نصبه اهلل‬
‫وحيا من عنده‪ ،‬فتنطفئ ويفيء الناس إىل رباطهم اجلماعي‪،‬‬
‫خيشعون إذا تليت عليهم آيات اهلل تأمرهم بالطاعة واالتباع‪.‬‬
‫كان القرآن ينزل طريا على قولب طرية‪ ،‬فما يفهمه املؤمنون‬
‫إال كتاب جهاد ونظام‪ ،‬فيبذلون الطاعة ويبذلون املال والنفس‬
‫جهادا يف سبيل اهلل‪ .‬أليس اهلل القائل سبحانه ‪﴿ :‬إِنَّ َما ال ُْم ْؤِمنُو َن‬
‫اه ُدوا بِأ َْم َوالِ ِه ْم‬ ‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫آمنُوا بِاللَّه َوَر ُسوله ثُ َّم لَ ْم يـَْرتَابُوا َو َج َ‬ ‫ين َ‬ ‫ا لذ َ‬
‫ادقُو َن﴾ ؟‬‫الص ِ‬
‫ك ُه ُم َّ‬ ‫َوأَن ُف ِس ِه ْم فِي َسبِ ِ‬
‫يل اللَّ ِه أ ُْولَئِ َ‬
‫فما من مؤمن حيب أن يقعد عن اجلهاد إال منافق أو عاجز‬
‫ويقرع القرآن القاعدين ويفضح املتلكئني‪ ،‬إال النساء‪ ،‬بيعتهن ال‬ ‫ِّ‬
‫تتضمن جهادا‪ ،‬ومع ذلك يتطوعن ويبذلن ويسعني يف ساحات‬
‫الوغى‪ ،‬بل ويذدن عن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالسالح‪.‬‬
‫وكان ال بد من خالف بني املسلمني يف زمن أيب بكر وعمر‬

‫‪134‬‬
‫رضي اهلل عنهما‪ ،‬ال يلبث أن يتبخر إذ يذكر املؤمنون بعضهم‬
‫بعضا آيات اهلل وحديث نبيه‪ .‬واستفحل اخلالف زمن سيدنا‬
‫عثمان وآل األمر إىل ما نعرفه من فتنة بعد ذلك‪ ،‬ألن القلوب‬
‫قست ملا طال عليها األمد‪ ،‬فكانت صرخة عثمان رضي اهلل عنه‬
‫بأن يقرن وازع السلطان بوازع القرآن‪.‬‬
‫﴿وَكا َن‬
‫طبع اهلل هذا اإلنسان على املشاكسة واجملادلة ‪َ :‬‬
‫نسا ُن أَ ْكثـََر َش ْي ٍء َج َدالً﴾ ‪.‬هلذا جعل أمر املسلمني شورى‬ ‫ِْ‬
‫ال َ‬
‫بينهم‪ ،‬فتح هلم بذلك بابا للرتاضي واجلدال بغية املصاحلة على‬
‫منافعهم‪ .‬وما استبد عليهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫أمر من أمورهم بل شاورهم كما شاورهم خلفاؤه الراشدون‪.‬‬
‫فلما حتول األمر ملكا عاضا برز وازع السطان جيسده سيف‬
‫معاوية على رؤوس من أبوا البيعة ليزيد ابنه‪ .‬وبدأ من َثَّ تدهور‬
‫املسلمني وأنشبت الفتنة أنياهبا فينا‪ ،‬ودالت دول‪ ،‬علماء املسلمني‬
‫الصادقون فيها على هامش األمر وفضالؤهم‪.‬‬
‫جهاد القيادة اجلهادية املستقبلية يهدف إىل نصب نظام يقوم‬
‫على املواجهة املتناسقة غري املندجمة بني الدولة املنفذة والدعوة‬
‫املربية املراقبة‪ .‬ومبا أن دار اإلسالم اليوم تكاد ختلو من تنظيم‬
‫مستقل للدعوة‪ ،‬فإن أول برهان للصدق سيطلب من علماء األمة‬
‫وفضالئها أن يستأنفوا جهادا أوقفهم عنه ظالم الفتنة وظلمها‪،‬‬

‫‪135‬‬
‫وإمنا نعلم صدقهم إن قدموا على صدقهم برهانا فبلغوا كتاب رهبم‬
‫وبينوه وقاموا بأعباء الدعوة متجردين عن اجلاه الفاتن منذ العصر‬
‫الثاين لعلماء هذه األمة إال احملسنني‪.‬‬
‫سيكون لزاما أن ختلق القيادة اجلهادية دعوة ينهض بأعبائها‬
‫كل متطوع قادر من املتقني‪ ،‬ويكون دور رجال الدعوة حامسا يف‬
‫قيام اإلسالم إن تعلموا كيف يصبحون ربانيني‪ ،‬أي رفيقني غري‬
‫مستغلني‪ ،‬يصعدون من مساقة العظمة العلمية املزيفة إىل مقام‬
‫املسكنة مع املساكني‪ ،‬حيث أحب رسول اهلل أن يكون فدعا ربه‪.‬‬
‫وعلى جهاد الدعاة املتطوعني هتيء الدعوة املنظمة‪.‬‬
‫األهداف اإلسالمية ‪ :‬على عامة املسلمني السمع والطاعة‪،‬‬
‫يبايعون على ذلك حني يتوبون مع سائر األمة توبة جمددة تتماسك‬
‫فيها األيدي والذمم املسلمة لتنهض األمة من كبوهتا‪ .‬ولن يرتك‬
‫أمر الطاعة شيئا مقضيا بل يطالب املسلمون بعضهم بعضا‪،‬‬
‫ويطالب القائد اجملاهد الكل بربهان الصدق ملا بايعوه عليه‪ ،‬كما‬
‫يطالبونه هم بالوفاء ملا بايعهم عليه‪ ،‬يف كل يوم ويف كل حلظة‪،‬‬
‫جهادا متواصال يقظا‪.‬‬
‫إهنا قضية اإلسالم‪ ،‬قضية حياة أمر اهلل الذي أؤمتنا عليه‪،‬‬
‫وهي يف نفس الوقت قضية حياة أو موت بالنسبة ألمل املسلمني‬
‫واإلنسانية كافة‪ .‬وهذا ما نسميه جهاد الطاعة‪.‬‬

‫‪136‬‬
‫يف أي جمال جياهد عامة املسلمني مطيعني خلف القيادة‬
‫اجلهادية ؟ إن أغلبية الناس ال يرون أن مث جهاد الزما وال ممكنا إال‬
‫يف احلروب بني املسلمني والكافرين‪ ،‬ويبرتون بذلك معىن اجلهاد‬
‫حىت يصبح عندهم لقاء يف يوم أو أيام بني جيشني‪ .‬ولقد أشار‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إىل اجلهاد األكرب الدائم الذي‬
‫يستغرق كل جهد وكل مال ‪ :‬أال وهو جهاد البناء‪.‬‬
‫ومبا أن واجهتنا الداخلية خربة‪ ،‬فإن جهادنا سينصرف قبل‬
‫كل اعتبار لبناء كيان األمة إعدادا للقوة‪ ،‬وإال فمن نقاتل وعالم‬
‫نقاتل ؟ إن احلمية القومية لن حترر أرضنا ولن هتزم عدونا‪ ،‬وإمنا‬
‫خيرجنا اهلل من صف‬ ‫نب أمة مؤمنة ْ‬‫يفعل ذلك جهاد املؤمنني‪ .‬فلن ِ‬
‫املستضعفني يف األرض‪.‬‬
‫إن إعالن اإلسالم يف دار اإلسالم منهاجا للعمل والفكر‬
‫والتنظيم معناه فتح باب الرجولة احلقيقية على مصراعيه لإلرادة‬
‫العامة يف ظل الطاعة العامة سنكون حمط أنظار العامل وسيرتبص‬
‫بنا العدو وسيقل الصديق‪ ،‬وحنن يومئذ يف رأي العني «أضيع من‬
‫األيتام يف مأدبة اللئام»‪.‬‬
‫قاهلا جماهد يف سبيل اهلل هو طارق بن زياد فاتح األندلس‬
‫قاهلا بعد أن حرق السفن على ما يقال‪ ،‬وحرض املسلمني على‬
‫القتال‪ ،‬فآزرهم اهلل ونصرهم ملا صربوا‪ .‬وهكذا يكون اجملاهدون يف‬

‫‪137‬‬
‫كل موقف عرب األزمان‪ ،‬يراهم اجلاهلي يف ضياع ال يبصر يد اهلل‬
‫املؤيدة املناصرة للصابرين‪.‬‬
‫إن أصحاب الثورة يبدأون عملهم الثوري اهلادف لتعبئة‬
‫اإلنسان بنزع امللكية من اإلنسان حىت ال تعوقه عن العمل من‬
‫أجل املساواة والقوة‪ .‬واإلسالم يفعل خريا من هذا وأبقى‪ ،‬ألنه‬
‫ينزع اإلنسان من امللكية وحيرره بذلك حتررا هنائيا‪ .‬أما من نزعنا‬
‫منه امللكية فما نزعنا من قلبه حبها‪ ،‬وما نزعناها منه إال لنعطيها‬
‫غريه‪ ،‬حىت ولو كان الغري متسرتا خلف اشرتاكية البريوقراطية‬
‫ورأمسالية الدولة‪.‬‬
‫صب عامة املسلمني يف اجلهاد البناء أن يتجردوا ويبذلوا‬ ‫ْ‬
‫ويصربوا على القلة الضرورية للبناء‪ ،‬وينبذوا بيد واحدة عادات‬
‫الرتف واالسرتخاء‪ ،‬ويستبدلوا مجيعا أثاث البذخ خبيمة اجلهاد كما‬
‫يفعل القائد اجملاهد‪ ،‬ويستبدلون طعام الدعة بطعام االخشيشيان‪،‬‬
‫ويتقمصوا مجيعا معاين اجلندية يف كل يوم ويف كل حلظة طاعة‬
‫وتطوعا‪.‬‬
‫املقاصد اإلميانية ‪ :‬إن أشد أزمة يف بالدنا اإلسالمية هي أزمة‬
‫الثقة‪ ،‬لطاملا عبث املرتفون بالذمة والعهد‪ ،‬ولطاملا كذبوا على‬
‫الناس حىت ال يثق أحد برتهات الزعامات‪ .‬واألمر على مثال ذلك‬
‫بني املسلمني يف السوق والعمل واملدرسة‪ .‬وال جهاد إال بصدق‬

‫‪138‬‬
‫وال معىن للجهاد إن مل يثق بعضنا ببعض آمنا أن يؤتى من جانب‬
‫أخيه‪.‬‬
‫ال نعتمد على اهلزة العاطفية اليت هتز قلوب القريبني من الفطرة‬
‫غداة إعالن اإلسالم‪ ،‬ألن اهلزات العاطفية سرعان ما تذهب‪،‬‬
‫لكن يكون برهان الصدق أسا للتعامل والتعاقد‪ ،‬وكما يعطي‬
‫عامة املسلمني برهان صدق الطاعة‪ ،‬ننتظر من النخبة اإلميانية‬
‫اإلحسانية برهان الصدق على التطوع‪ .‬ويتبع كل كلمة انتظار‬
‫للعمل‪ ،‬ويتبع كل وعد انتظار للوفاء‪ ،‬وهذا هو املضمون العملي‬
‫للنصيحة‪ ،‬والنصيحة وظيفة الدعوة من لدن البداية إىل إن تتخذ‬
‫صبغتها الدائمة أمانة يف يد الدعوة املنظمة‪ .‬وسنفسر كل هذا‬
‫فيما يلي من الفصول‪.‬‬
‫يغب عنا حني نقول «عامة املسلمني» أن ما نقصده ليس‬ ‫ال ْ‬
‫ما تذهب إليه العقول اليت ألفت أن تقرن اللفظة باحملرومني‪ .‬وقد‬
‫أشرنا أن األقربني لإلميان‪ ،‬ومن مث للجهاد‪ ،‬هم احملرومون املساكني‬
‫ومن يف معناهم‪ .‬مث إن باب التوبة مفتوح وال حاجز بني أحد وبني‬
‫مرتبة اإلميان إال شح نفسه وعاداته‪ ،‬إن اقتحمها وأعطانا برهان‬
‫الصدق كل صباح وكل مساء عددناه يف واليتنا ونصيحتنا‪.‬‬
‫اجلهاد ال بد له من آالت‪ ،‬فاإلنسان ذو الذمة الذي يغضب‬
‫هلل ورسوله وخيلص هلل ورسوله وينضوي مطيعا متطوعا حتت لواء‬

‫‪139‬‬
‫اإلسالم هو اآللة احملورية للجهاد اإلسالمي‪ .‬إنه املسلم املعبأ املرابط‬
‫يف الرباط‪ .‬وإن يف دار اإلسالم جيوشا منظمة تنظيما جاهليا‪،‬‬
‫يف قاعدهتا املساكني من هذه األمة أميون حمرومون تطؤهم أقدام‬
‫طبقة مرتفة‪ .‬وال يزال جيشنا يف عامته خمشوشنا مسرتجال‪ ،‬فإذا‬
‫أعطانا الضابط برهان صدقه بأن يدخل يف الصف ويلبس اخلشن‬
‫ويقاسم مساكني رعيته عيشهم تألف لنا جماهدون خليقون أن‬
‫يثبوا مليدان اجلهاد خفافا يوم يرفع اللواء اإلسالمي‪ .‬ولعل جيشنا‬
‫هذا‪ ،‬بعد أن نلغي منه الطبقية‪ ،‬كما تلغى بني القائد اجملاهد‬
‫ورجل الشارع‪ ،‬يكون نواة التعبئة وآلتها طائعا متطوعا‪.‬‬
‫وآلة اجلهاد الفكري عقول تائبة راجعة إىل رهبا من الرتف‬
‫والبهتان‪ ،‬تتلو القرآن وتروض الفقه التكنولوجي على صراط‬
‫الفقه املنهاجي‪ .‬لكن الضمائرخبايا ال سبيل لالطالع عليها إال‬
‫بالعمل‪ ،‬فمن أطاع وتطوع من رجال الفكر وأعطى برهان الصدق‬
‫متجردا مؤثرا على نفسه كان أجدر بالقيادة وأحق هبا وأهلها‪،‬‬
‫ومن راوغ فإن لنا أرضا قاحلة هي حباجة ملن حيرثها ليأكل ونأكل‪،‬‬
‫وينحط إىل مرتبة الطاعة بني يدي مساكني األمة يربونه كما يفعل‬
‫أصحاب الثورة الثقافية بالصني‪.‬‬
‫وأصحاب املال ال ننزع منهم أمواهلم‪ ،‬بل ننتظر منهم أن‬
‫يصحبوا األمة ويغلبوا طاغوت العادة فيخدموا ما لديهم من مال‬

‫‪140‬‬
‫ويستثمروه متقللني سائرين يف خط العمل اإلسالمي وختطيطه‪،‬‬
‫طائعني‪ .‬متطوعني‪ .‬ومن سائر األمة تأيت األموال مبذولة مبتذلة‬
‫تطوعا وطاعة‪ ،‬من أمة قلت حاجاهتا إذا نبذت اجلاهلية وعادات‬
‫اجلاهلية‪ ،‬وتعبت ونصبت راغبة لرهبا تنتج اخلري وتفيض اخلري مبا‬
‫أفاض اهلل من بركاته على من سيقوم ليقول يف العامل ريب اهلل‪.‬‬
‫الغايات اإلحسانية ‪ :‬أهم جهاز من أجهزة اجلهاد هو جهاز‬
‫املواصالت‪ .‬يف اجملتمعات الراكدة تكثر الوساطات بني احلاكم‬
‫واحملكوم‪ ،‬حىت إن هذه الوساطات توشك أن توقف احلركة ألهنا‬
‫بطيئة ثقيلة‪ .‬ومجاعة اجلهاد اإلسالمي تأيت فاعليتها من سرعة‬
‫التواصل بني القيادة والقاعدة‪ ،‬ومن عمق هذا التواصل وتكراره‬
‫ودوامه‪ .‬اجليش املعبأ األقوى هو ذلك الذي يتوسطه قائده خياطب‬
‫كل فرقة وكل جندي ويوحي إليهم‪ ،‬مبثالة وخطابه وحيويته وإرادته‬
‫وحتفزه وحتركه‪ ،‬إرادة وحيوية وحركية وإميان‪.‬‬
‫وهذا مثل اجلماعة املؤمنة اجملاهدة يتوسطها القائد اجملاهد‬
‫باذال املال والنفس‪ ،‬من أراده فلن يبحث عنه يف السراداقات‬
‫والقصور املشيدة بني احلجاب «واألحباب» أو بني الدن والعود‪،‬‬
‫بل سيجده يف خيمة اجلهاد مع األمة‪ ،‬يسمعها وتسمعه‪ ،‬جيالسها‬
‫ويواسيها‪ ،‬تدخل عليه العجوز والطفل كما يدخل عليه الوزير‬
‫اخلطري‪ .‬وهبذا يلغى طاغوت االستعالء حني يكون رمز الطاعة‬

‫‪141‬‬
‫والوالء‪ ،‬الذي بيده زمام األمر كله‪ ،‬على مقربة من األمة مجعاء‬
‫جبسمه ولسانه‪ ،‬وبتقلله ومسكنته وبقلبه وحمبته وعبوديته هلل‪،‬‬
‫وبعزمه وقوته‪ ،‬يأمن عنده اخلائف ويقوى الضعيف ويضعف‬
‫القوي املستكرب‪.‬‬
‫صنعت لنا احلضارة آالت لالتصال كثرية أمهها وسائل اإلعالم‬
‫من هاتف وإذاعة وتلفاز وصحافة وأقمار صناعية‪ .‬وسخرت كل‬
‫هذه وشحنت برسائل العنف اجلاهلي والتهافت اجلاهلي‪.‬‬
‫وهلي يف بالدنا أحق أن يبدأ بتطهريها وتصفيتها لتصبح آلة‬
‫جهاد حترض األمة على الصرب وتنفتح للنصيحة والتواصي باحلق‬
‫واملرمحة‪ .‬تنطق من إذاعاتنا ويف صحافتنا ألسنة أجرية متوه احلق‬
‫بالباطل وتكتم احلق‪ ،‬ويف أحضان اإلسالم ينبغي أن تصبح أدوات‬
‫اإلعالم منابر للتطوع بالنصيحة‪ ،‬يغشاها احملسنون الصاحلون‬
‫يعلمون الناس دينهم ويعلموهنم أمر دنياهم‪ ،‬ويعلو منها صوت‬
‫اإلسالم يبشر العامل بالسالم‪.‬‬
‫كل هذا يقرأه القاعد الكدر القلب‪ ،‬فيحكم أننا نسبح يف‬
‫جلة اخليال‪ ،‬ويرمي كل هذا على أنه من قبيل املستحيل‪ .‬ومن كان‬
‫جمال عمله وأحالمه دنيا املمكن املتاح فإىن له أن يقتحم العقبة‪،‬‬
‫ال أن يصف ألمة مضطربة منهاج اقتحامها‪ .‬وحنيل القاعدين على‬
‫املنهاج النبوي ينقلهم عرب الصحبة ألولياء اهلل ملقام اجلهاد‪.‬‬

‫‪142‬‬
‫لقد برهن تاريخ هذه األمة أن حديث رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم حق يتجدد لنا وعده ووعد ربنا‪ .‬قال صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪« :‬إن اهلل يبعث لهذه األمة على رأس كل مائة سنة‬
‫من يجدد لها دينها»‪ .1‬فإن جئت تطلب هلذا احلديث تأويال‬
‫فاحكم أن رأس العصر وشرفه يتشخص يف القائد اجملدد‪ ،‬وإن‬
‫تلقيت وعد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بنظرة فطرية فسرتى‬
‫أن قد آن األوان وأن قد غرب القرن الرابع عشر ليشرق اخلامس‬
‫عشر بنور ربه‪.‬‬
‫صدق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصدق ربنا‪ ،‬فإذا‬
‫األمة بعث اهلل أليها بعد الطاغوت األموي باملنهاج النبوي على‬
‫املنهاج النبوي منهاج الصحبة واجلهاد سيدنا عمر بن عبد العزيز‪.‬‬
‫عاشر أولياء اهلل فتواله اهلل وجعله أداة لقدره وحتقيق وعده ووعد‬
‫رسوله‪ .‬وظهر للمسلمني صالح الدين تلميذ األولياء الصاحلني‪،‬‬
‫وظهر هلم ويل اهلل تعاىل سيدي يوسف بن تاشفني ربيب الرباط‬
‫الصويف‪ ،‬وظهر هلم ويل اهلل تعاىل سيدي حممد الفاتح العثماين‬
‫مريد الشيخ آق مشس الدين فتح اهلل به بالد الكفر وعدا من‬
‫رسول اهلل مكتوبا‪ .‬وظهر يف هذه األمة ويل اهلل تعاىل امللك الصاحل‬
‫«أورنك زيب» ربيب زواية الشيخ السرهندي‪ .‬وظهر يف هذه‬

‫‪ 1‬رواه اإلمام أمحد وأبو داود عن أيب هريرة واحلاكم والبيهقي‪.‬‬

‫‪143‬‬
‫األمة علماء عاملون ومشايخ داعون إىل اهلل جيددون أمر هذه‬
‫األمة ويصححون عقيدهتا‪.‬‬
‫أال إن اهلل أولياء ما فتئ يصطفيهم ويأذن هلم يف الدعوة إليه‬
‫فإنه عز وجل ال يشفع عنده إال بإذنه‪ ،‬وإن هذه األمة ما عقمت‬
‫أن تلد لنا قائدا جماهدا يؤم صالتنا وجهادنا فيكون قبلة األنظار‬
‫واألفئدة يرفع لنا اللواء‪ ،‬ونؤمن بربنا وموعوده فتفتح لنا أبواب‬
‫السماء‪ .‬ويومئذ يفرح املؤمنون بنصر اهلل ينصر من يشاء وهو‬
‫العزيز الرحيم‪.‬‬

‫‪144‬‬
‫الفصل الثاني‬

‫النموذج اخلالد‬

‫‪145‬‬
146
‫املسلمون والتاريخ‬
‫مب حتدثنا فلسفة التاريخ ومب تنبئ فيما خيص مصري اإلنسان‪ ‬؟‬
‫تباينت األنظار كلما تدبر اإلنسان ماضي اإلنسانية ومستقبلها‬
‫ليستخرج من دروس التاريخ حكمة تنري عمله احلاضر‪ .‬ميوت‬
‫الناس وخيلفون صدى أعماهلم ونتائج إرادهتم وعزمهم وسعيهم‬
‫على األرض‪ .‬فريى العقل الفطري يف تاريخ البشر دورات تكاثرية‬
‫تعكس على خطها الصاعد اهلابط جشع اإلنسان وقتاله إخوته‬
‫من أجل السلطان واملال واجلاه واملتاع‪ .‬إهنم أعراب ابن خلدون‬
‫أو «الربلتاريا اخلارجية» عند طوينيب أو «احملرومون اهلامشيون»‬
‫عند ماركوز‪ .‬هؤالء الغالظ يطلبون رخاء يستأثر به أهل احلضارة‬
‫والنعيم‪ ،‬ويطلبون رغدا تتيحه أرض أهل احلضارة ‪ .‬وتنشأ املنافسة‬
‫وينتهي الطالب إىل مداه‪ .‬وهكذا تأيت دول وتدول‪.‬‬
‫ومن الطالب ما يرتكز على عقيدة أو إديولوجية ميتاز حبيوية‬
‫االنطالق لكنه ال تفلته دواعي الرتف‪ ،‬فيطَّرد ضعف األجيال‬
‫وتتخنس اإلرادة بفاعل الدعة‪ ،‬ويطول األمد وتقسو القلوب‪.‬‬
‫إن تاريخ اإلسالم مرآة لتذبذب اإلنسان وضعفه‪ ،‬رغم قوة‬
‫العقيدة املؤسسة‪ ،‬أمام الفتنة‪ ،‬فتنة املال واجلاه والقوة املركبات‬
‫للحضارة اليت أهلكت وهتلك اإلنسان‪ ،‬ألنه ال يفهم احلضارة وال‬
‫‪147‬‬
‫يبغيها إال رقة يف العيش ورفاها‪.‬‬
‫وخيتلف املسلمون يف النظر إىل تارخيهم اختالفا كثريا‪ ،‬اخللي‬
‫منهم يفخر باألجماد احلضارية‪ ،‬إما يف سياق قومي يدعم بذلك‬
‫تعصبا حاضرا‪ ،‬وإما يف سياق عقدي يربر به ضعف احلاضر ووهن‬
‫اجليل ويتسلى بالذكريات‪.‬‬
‫ومن رجال الدعوة من يوصي أال ميس تاريخ املسلمني بسوء خمافة‬
‫أن تفقد األجيال الطالعة مرتكزا للشعور باالنتماء جلانب عزيز‪.‬‬
‫وأظن أن من أسباب عدم جدوانا أننا ال نتبني تارخينا وال نقرأه‬
‫إال مبنظار اإلعجاب‪ ،‬وكأنه شيء تام متكامل حيمل يف طياته‬
‫العناصر السحرية اليت خلقت احلضارة الرباقة القوية‪.‬‬
‫ال شك أن تارخينا يتحمل مقارنة مشرفة جدا مع تاريخ‬
‫األمم فلقد غلبنا وسدنا‪ ،‬ولقد كنا علماء الدنيا ومعلمي أوربا‪،‬‬
‫ولقد كنا أرق الناس حسا وأرهفهم وجدانا وأرغدهم عيشا‪ ،‬كل‬
‫ذلك ومزيد‪ .‬لكن هل يصلنا هذا كله بتارخينا احلقيقي‪ ،‬تاريخ‬
‫اإلسالم ؟ هل منعنا ذلك كله من أن تطوينا الدورة اجلهنمية‪،‬‬
‫دورة التكاثر‪ ،‬بني عجالهتا ؟ أمل نكن أيضا أكثر خالفا وفرقة‪،‬‬
‫وأكثر افتتانا بتأسيس اإلمارات ؟ هل يغطي جمدنا الدنيوي هذا‬
‫االعتبار الوحيد أن اإلسالم الذي هو دين اهلل ومنهاجه لكمال‬
‫اإلنسان إمنا عاش مرهقا منزويا حتت ظل احلضارة العظيمة ؟ أكان‬

‫‪148‬‬
‫املسلمون يف كل فرتات تارخيهم يعملون لدعوهتم وإسالمهم أم‬
‫لنخوهتم وسلطان دلوهتم ؟ إن مل يكن هذا حقا فلم قتل بعضنا‬
‫بعضا على مر التاريخ ويقتل ؟ أم ما هي هذه الرقعة اجلغرافية‬
‫املربقعة اليت هي اليوم دار اإلسالم إن مل يكن اختالف ألواهنا على‬
‫اخلرائط رسالة تارخية لدول دالت بعد أن فرقت وسفكت الدماء‪.‬‬
‫مث إن هذه اخلالفات املذهبية العديدة ما هي إال نتاج فتنة بكرت‬
‫يف الظهور من لدن خالفة موالنا عثمان رضي اهلل عنه‪.‬‬
‫إن اتصالنا بتارخينا احلق هو وحده الكفيل بأن جيعل لنا توترا‬
‫خالقا متحررا حنو املستقبل‪ .‬إن تارخينا احلق هو تاريخ الدعوة‬
‫اإلسالمية‪ ،‬تاريخ حتكم املسلم يف التاريخ واستعالئه على الفتنة‬
‫وعزته بربه‪ .‬إن هذا التاريخ احلضاري املاجد عبء محلناه وحنمله‬
‫يزيدنا قماءة يف نظر أنفسنا كما يزيدنا قزامة ما نراه من تفوق‬
‫احلضارة اجلاهلية املعاصرة‪ .‬هذا هرون الرشيد خياطب السحابة‬
‫ويتحف شرملان اهلمجي األوريب بساعة متحركة أبدعتها األيدي‬
‫املتحضرة والعقول العاملة‪ .‬وهذه حضارة األندلس املتألقة املزرية‬
‫بالدنيا مجاال وهبجة وحضارة وعلما‪ .‬وإمنا يتحول العبء التارخيي‬
‫حافزا للتعبئة إن ختطينا املظاهر احلضارية نرتكها للذرية الناشئة‬
‫تباهي هبا الناس‪ ،‬ونتعمق حنن يف تارخينا احلق نستوحي منه معيارا‬
‫إنسانيا للعمل اإلمياين اإلرادي القوي‪.‬‬

‫‪149‬‬
‫ليكن لنا اجتاه معياري يف عملنا على غرار العمل األول يف‬
‫عهد الصحابة الكرام الذين خلقوا لنا منوذجا خالدا نتمرس به‬
‫وحنذو حذوه‪ ،‬مث ليكن لنا من تارخينا احلضاري‪ ،‬تاريخ الفتنة‪،‬‬
‫درس نتدبره‪.‬‬
‫إن الذي أردى املسلمني وفرقهم شعوبا بعد أن كانوا أمة‬
‫واحدة هو نفس العامل الذي أسس احلضارة الباهرة‪ ،‬وإنه إن‬
‫سرنا يف خط النظام السياسي الذي ورثناه‪ ،‬فإمنا نسري إىل حيث‬
‫سارت األندلس‪ ،‬وإىل حيث سارت وحدة باكستان‪ .‬البد أن نغري‬
‫ما بأنفسنا لنكتسب فاعلية جديدة وقوة‪ ،‬ألن اهلل جل ذكره ال‬
‫يغري ما بقوم حىت يغريوا ما بأنفسهم‪ .‬مث أليس نعتز مبا صرنا إليه‪،‬‬
‫أليست فلسطني مهدا ألنبياء أرض اإلسالم عربة لنا؟ وإذا كانت‬
‫مهانة اجلبناء تزداد ن ُكرا بعزة املكان والزمان الذي يهانون فيه‪ ،‬فما‬
‫أمة كانت أهون منا وأجنب‪ ،‬ألن مسرح فضيحتنا كان على أعز‬
‫أرض من دار اإلسالم ويف زمن الناس فيه أقوياء أعزاء وعدونا بعد‬
‫ذلك أحقر عدو وأجنسه لو كنا نستطيع قياما!‬
‫نظرات عابرة يف صفحات تاريخ اإلسالم تبصرنا مبواقع الفتنة‬
‫وتبصرنا حيث تعشش األنانية والرتف والغفلة عن اهلل من هذه‬
‫الضمائر اليت ال بد لنا من تغيريها حىت يغري اهلل ما بنا‪.‬‬
‫الفتنة ‪ :‬بدأت فتنة املسلمني يف الوقت الذي بلغت فيه‬

‫‪150‬‬
‫فتوحاهتم مداها‪ .‬تفرق الناس يف األقطار‪ ،‬قلة مؤمنة يف أكثرية‬
‫جاهلية‪ .‬ضعفت أواصر اجلماعة املؤمنة بتباعد اجلسوم فأصبحت‬
‫األنفس أقل قدرة على مقاومة فتنة الدنيا الزاهية املتزينة‪ .‬واجتمع‬
‫يف املساجد‪ ،‬حيث كانت تستقر النصيحة بني املؤمنني والتواصي‬
‫باحلق والصرب‪ ،‬فلول من طالب الدنيا حديثو عهد باإلسالم‪ .‬وما‬
‫أمكن هلذه األعداد اهلائلة أن تندمج يف اجلماعة وما ناهلا من تربية‬
‫العلماء العاملني إال قليل‪ .‬وعم البالء شيئا فشيئا وأنكر املؤمنون‬
‫وجه اجلاهلية املطل ألهنم عرفوه‪ ،‬أما من نشأ يف الفتنة فقد‬
‫انضوى حتت لواء الغالبني وله من إسالمه ما تتيحه له الصحبة‬
‫للصادقني وما حيضنه اإلسالم الرمسي للدولة من مظاهر إسالمية‬
‫وراءها العصبية ضد املوايل أو ضد املنافس على السلطان‪.‬‬
‫وكانت الفتنة أكثر ضراوة على آل البيت املطهرين الذين‬
‫أوصانا هبم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم كما أوصانا بالتزام‬
‫كتاب اهلل وسنة رسوله ومنهم سلمان الفارسي ومنهم كل تقي‬
‫نقي من أولياء هذه األمة‪.‬‬
‫وخري وصف للفتنة تركه لنا قلب مؤمن طاهر جنده يف خطب‬
‫اإلمام علي كرم اهلل وجهه‪ ،‬وجند مع ذلك مبارزة بني احلق والباطل‪،‬‬
‫وجند منوذجا ساطعا للقائد اجملاهد يف زمن الفتنة حني كان األمر‬
‫آئال إىل فساد‪ .‬وهو منوذج حيق أن نتدبره وحنبه ونتشرب معانيه‬

‫‪151‬‬
‫عسى أن تنبعث فينا إرادة جهادية حني ينطلق اإلسالم انطالقته‬
‫غدا واألمر إىل صالح بإذن اهلل‪.‬‬
‫خطب موالنا علي حني بايعوه قال‪« :‬مل تكن بيعتكم‬
‫إياي فلتة‪ ،‬وليس أمري وأمركم واحدا‪ .‬إين أريدكم هلل وتريدونين‬
‫ألنفسكم‪ .‬أيها الناس‪ ،‬أعينوين على أنفسكم‪ ،‬وامي اهلل ألنصفن‬
‫املظلوم من ظلمه وألقودن الظامل خبزامته‪ ،‬حىت أورده منهل احلق‬
‫وإن كان كارها»‪.1‬‬
‫هذه النية اجلهادية ما لبث أن غمرهتا جلة من األهوال امحرت‬
‫فيها احلدق غيظا لألخ على أخيه ال غضبا هلل ورسوله‪ .‬ويكتب‬
‫اإلمام إىل معاوية يقول ‪« :‬إنه بايعين القوم الذين بايعوا أبا بكر‬
‫وعمر وعثمان على ما بايعوهم عليه‪ ،‬فلم يكن للشاهد أن خيتار‬
‫‪2‬‬
‫وال للغائب أن يرد‪ ،‬وإمنا الشورى للمهاجرين واألنصار»‬
‫ويعظ اإلمام الطاهر خصمه إذ مل ُيد البالغ‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫«وكيف أنت صانع إذا تكشفت عنك جالبيب ما أنت فيه من‬
‫دنيا قد تبهجت بزينتها وخدعت بلذهتا‪ .‬دعتك فأجبتها‪ ،‬وقادتك‬
‫فاتبعتها‪ ،‬وأمرتك فأطعتها‪ .‬وإنه ليوشك أن يقفك واقف على ما‬
‫ال ينجيك منه ِمَ ٌّن‪ .‬فاقعس عن هذا األمر وخذ أهبة احلساب‪،‬‬

‫‪ 1‬هنج البالغة (‪ )2‬ص ‪.19‬‬


‫‪ 2‬نفس املصدر (‪ )3‬ص ‪.7‬‬

‫‪152‬‬
‫ومشر ملا قد نزل بك‪ ،‬وال متكن الغواة من مسعك‪ .‬وإال تفعل‬
‫أعلمك ما أغفلت من نفسك‪ ،‬فإنك مرتف قد أخذ الشيطان‬
‫منك مأخذه‪ ،‬وبلغ فيك أمله‪ ،‬وجرى منك جمرى الروح والدم»‪.1‬‬
‫وصف لنا اإلمام عوامل الرتف وذكر باهلل واليوم اآلخر‪ ،‬لكن‬
‫خصمه ما قعس عن مطلبه‪ .‬وجهر السيف بعد أن أعيت املواعظ‬
‫وكانت املالحم املؤملة آخر قتال بني املسلمني يسبقها وعظ من‬
‫هذا القبس النبوي‪ ،‬وتلتها جمازر ال يزال صداها يقعقع يف ضمري‬
‫هذه األمة‪.‬‬
‫أما وعظ الباغني فقام به بعد اإلمام املطهر علماء هذه األمة‬
‫العاملون‪ .‬ما منهم إال من خرب الفتنة مبا معه من معيار اإلميان‬
‫يعيشه يف قلبه خاليا يف زاوية‪ ،‬زاهدا يف الناس وفيما خيوض فيه‬
‫الناس‪.‬‬
‫كلمة حق عند سلطان جائر ‪ :‬أصبحت القاعدة يف تاريخ‬
‫الفتنة الطويل أال يكون السلطان إال جائرا‪ ،‬واتيحت الفرصة‬
‫لعلماء هذه األمة ممن يطلبون الشهادة أن يربزوا للطاغوت يلقون‬
‫إليه كلمة احلق كما أمر الرسول الكرمي‪ .‬هذا أبو حازم الزاهد‬
‫التابعي اجلليل يدعوه سليمان بن عبد امللك ملا زار املدينة ‪ :‬قال‬
‫سليمان ‪ :‬يا أبا حازم‪ ،‬ما لنا نكره املوت ؟ قال أبو حازم ‪ :‬ألنكم‬

‫‪ 1‬نفس املصدر (‪ )3‬ص ‪.8‬‬

‫‪153‬‬
‫أخربتم اآلخرة وعمرمت الدنيا‪ ،‬فكرهتم أن تنتقلوا من العمران‬
‫للخراب ! قال سليمان ‪ :‬أصبت يا أبا حازم‪ ،‬فكيف القدوم‬
‫غدا على اهلل تعاىل ؟ قال أبو حازم ‪ :‬أما احملسن فكالغائب يقدم‬
‫على أهله‪ ،‬وأما املسيء فكاآلبق يقدم على مواله‪ .‬فبكى سليمان‬
‫وقال‪ : ‬ليت شعري ! ما لنا عند اهلل !… قال سليمان ‪ :‬ما تقول‬
‫فيما حنن فيه؟ … قال أبو حازم ‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬إن آباءك‬
‫قهروا الناس بالسيف‪ ،‬وأخذوا هذا امللك عنوة على غري مشورة‬
‫من املسلمني وال رضاهم‪ ،‬حىت قتلوا مقتلة عظيمة‪ ،‬حىت ارحتلوا‬
‫عنها‪ ،‬فلو شعرت ما قالوه وما قيل هلم ! فقال رجل من جلساء‬
‫امللك ‪ :‬بئس ما قلت يا أبا حازم ! قال أبو حازم ‪ :‬كذبت ! إن‬
‫اهلل أخذ ميثاق العلماء ليُبينُنه للناس وال يكتمونه‪ .‬قال سليمان ‪:‬‬
‫فكيف لنا أن نصلح ؟ قال أبو حازم ‪ :‬تدعون الصلف ومتسكون‬
‫‪1‬‬
‫باملروؤة‪ ،‬وتقسمون بالسوية …»‬
‫كان سليمان يبكي وكأين منهم فتك بالواعظ وعذبه كما‬
‫فعل املأمون باإلمام أمحد وكما فعل قبله املنصور باإلمام مالك‪.‬‬
‫وما يدل العلماء أهل اجلور إال على املنهاج النبوي الذي‬
‫يقتضي طرح الكربياء واألنانية ومعاودة اجلماعة وشورى املسلمني‪.‬‬
‫اإلسالم املفرتى عليه ‪ :‬قاومت العقيدة اإلسالمية عوامل‬

‫‪ 1‬من خرب رواه الدارامي يف مسنده‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫الفتنة‪ ،‬فكان من حيمل السالح يف وجه أخيه ويسفك الدماء‬
‫علوا يف األرض واستعالء هو نفسه ذلك الذي خياطب املسلمني‬
‫مسخرا خوفهم من عقاب اهلل ورعاية حقوقه لكي يرضخوا إلرادته‪.‬‬
‫منوذج لذلك عهد املنصور العباسي البن هبرية بعد معارك طحنت‬
‫املسلمني طحنا‪ ،‬والعهد على لسان السفاح أخي املنصور ووكيله‬
‫يف الصلح ‪ …« :‬وأن عبد اهلل بن حممد إن نقض ما جعل لكم يف‬
‫أمانكم هذا فنكث أو غدر بكم‪ ،‬أو خالف إىل أمر تكرهه أو تابع‬
‫على خالفه أحدا من املخلوقني يف سر أو عالنية‪ ،‬أو أضمر لك يف‬
‫نفسه غري ما ظهر لك‪ ،‬أو أدخل عليك شيئا يف أمانه وما ذكر من‬
‫تسليم أمري املؤمنني (يعين أخاه املنصور) التماس اخلديعة واملكر بك‬
‫وإدخال املكروه عليك‪ ،‬أو نوى غري ما جعل لك من الوفاء عليه‪،‬‬
‫فال قبل اهلل منه صرفا وال عدال وهو بريء من حممد بن علي وهو‬
‫خيلع أمري املؤمنني ويتربأ من طاعته‪ ،‬وعليه ثالثون حجة ميشيها من‬
‫موضعه الذي هو به من مدينة واسط إىل بيت اهلل احلرام الذي مبكة‬
‫حافيا راجال‪ ،‬وكل مملوك ميلكه من اليوم إىل ثالثني حجة بشراء أو‬
‫هبة أحرار لوجه اهلل‪ .‬وكل امرأة له طالق‪ ،‬وكل ما ميلكه من ذهب‬
‫أو فضة أومتاع أو دابة أو غري ذلك فهو صدقة على املساكني‪ ،‬وهو‬
‫يكفر باهلل وبكتابه املنزل على نبيه‪ ،‬واهلل عليه فيما وكد وجعل على‬

‫‪155‬‬
‫‪1‬‬
‫نفسه يف هذه األميان راع وكفيل‪ ،‬وكفى باهلل شهيدا‪».‬‬
‫هكذا تصنع الذمم يف زمن الفتنة‪ ،‬باألميان املغلظة لرتتبط‬
‫طاعة املسخرين بالتهويل الذي تنفطر له أكباد املؤمنني‪ .‬ومن‬
‫يدري فلعل السفاح كان يف عهده صادقا‪ ،‬وإذا فما هو اإلسالم‬
‫يف نظره ؟ وإن تارخيه األمحر املقبل ليلقي الضوء على هذه الوثيقة‬
‫العجيبة فيزيدنا شكا وعجبا‪ ،‬وحيملنا على معاودة قراءة تارخينا‬
‫تاريخ الفتنة اليت ذهبت بالذمم والدماء والشهامة األوىل‪.‬‬
‫مث ما هذا التناقض الفاضح بني اإلسالم الرمسي للدولة الثري‬
‫مبواكبه وجمالس العلم أمام اخلليفة وبني جمالس الشراب والدعارة‬
‫يهتك فيها اجلائر حرمات اهلل وأعراض الناس‪ ،‬ال جند امسا هلذا إال‬
‫الرتف اآلسر يف اجلاه واملال ال يتبني السكران معهما إال ذكرى‬
‫هامشية حني حيلف جبده وحياة رأسه‪.‬‬
‫املرتفون ‪ :‬مفتونون هم زعماء القوميات يف تارخينا كفتنة‬
‫زعمائنا املعاصرين‪ ،‬وقد يبدو شاحبا بذخ املأمون أمام بذخ من‬
‫تبعوه من أكاسرة مسلمني إىل يومنا هذا‪.‬‬
‫يقول ابن خلكان يصف زواج املأمون ببوارن ‪:‬‬
‫«تزوج املأمون بوران بنت احلسن بن سهل‪ ،‬واحتفل أبوها بأمرها‬
‫وعمل من الوالئم واألفراح ما مل يعهد مثله يف عصر من األعصار‪،‬‬

‫‪ 1‬اإلمامة والسياسة البن قتيبة (‪ )2‬ص ‪.165‬‬

‫‪156‬‬
‫وكان ذلك بفم الصلح‪ .‬وانتهى أمره إىل أن نثر على اهلامشيني والقواد‬
‫والكتاب والوجوه بنادق مسك فيها رقاع بأمساء ضياع وأمساء جوار‬
‫وصفات دواب وغري ذلك ‪ :‬فكانت البندقية إذا وقعت يف يد الرجل‬
‫فتحها‪ ،‬فيقرأ ما يف الرقعة‪ ،‬فإذا علم ما فيها مضى إىل الوكيل املرصد‬
‫لذلك فيدفعها له ويتسلم ما فيها‪ ،‬سواء كان ضيعة أو ملكا آخر أو‬
‫فرسا أو جارية أو مملوكا‪ .‬مث نثر بعد ذلك على سائر الناس الدنانري‬
‫والدراهم ونوافح املسك وبيض العنرب وأنفق على املأمون ومجيع أصحابه‬
‫وسائر من كان معه من أجناده وأتباعه – وكانوا خلقا ال حيصى‪ -‬حىت‬
‫على احلمالني واملكارية واملالحني وكل من ضمه عسكره‪ .‬فلم يكن يف‬
‫‪1‬‬
‫العسكر من يشرتي شيئا لنفسه وال لدوابه»‪.‬‬
‫ال جرم أن ما بين على العصبية اجلاهلية لن يبلغ خريا من‬
‫هذا‪ .‬وقد يُ َس ِّمي البُله أو ديدان القراء هذا كرما وغىن ويسرا متتع‬
‫به خليفة اهلل يف األرض‪.‬‬
‫أرادهم اإلمام علي هلل حني بايعوه‪ ،‬وخلف من بعده خلف‬
‫أرادوها جاهلية فهي ال تزال جاهلية منذ أسسوها‪ ،‬وسريفعها‬
‫اهلل عز وجل ويستخلف يف األرض رجاال آمنوا به ومبوعده‪.‬‬
‫يقول حممد كرد علي‪ « : 2‬وكان إبراهيم اإلمام أوصى أبا مسلم‬

‫‪ 1‬نقال عن كتاب أيب احلسن الندوي «رجال الفكر والدعوة يف اإلسالم» ص ‪ 82‬وما يليها‪.‬‬
‫‪ 2‬اإلسالم واحلضارة العربية (‪ )2‬ص ‪ 419‬الطبعة الثالثة‪.‬‬

‫‪157‬‬
‫باليمانيني أن يقتل من يشك فيه من مضر‪ ،‬وإن استطاع أال‬
‫يدع خبراسان من يتكلم بالعربية فليفعل‪ ،‬وأي غالم بلغ مخسة‬
‫أشبار يتهمه فليقتله‪ ،‬فأنفذ أبو مسلم ما أمر به‪ ،‬وقتل أبناء‬
‫املهاجرين واألنصار خبراسان‪ ،‬واستثمر ما كان من الشنآن بني‬
‫النزارية واليمانية‪ ،‬وحتزب الناس باملثالب»‪.‬‬
‫أليس هذا وصفا لقوميات زماننا املتعصبة املتآكلة ؟ أال إنه ال‬
‫مندوحة لنا عن اخللود يف الفتنة أو نتبع قرآن ربنا نستلهمه اهلدي‬
‫ونستهلمه الوجهة واملعيار‪ .‬فإن يف كتاب اهلل وحده سر التاريخ‬
‫وسر اخللق وسر الغاية‪ .‬إن يف سرية نبيه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وسرية أصحابه األسوة احلسنة والنموذج اخلالد‪.‬‬

‫‪158‬‬
‫موكب النبوءة‬
‫على مر التاريخ يطول األمد على الناس فيعرضون عن الفطرة‬
‫ويعرضون عن إقامة الوجه هلل ابتغاء مرضاته وسعيا لتحقيق‬
‫قابلياهتم للكمال اإلنساين‪.‬‬
‫جاءهتم الرسل تنبئهم أن هذا العامل إمنا خلقه اهلل خلدمتهم‬
‫وأهنم املقصودون من اخللق وأن اكتماهلم الروحي هو الغاية من‬
‫التاريخ‪ ،‬من سعي اإلنسان على األرض‪ .‬لكن بين آدم ينسون‬
‫منبتهم وينسلون مما يوصي به الرسل واألنبياء قومهم فيفتنون‬
‫ويرتفون ويبنون احلضارات ويغفلون عن رهبم‪.‬‬
‫جند يف القرآن حدبا على هذا اإلنسان الغافل عن ربه‬
‫املتجمج يف قراه املتحضرة‪ ،‬ال يسأهلم اهلل إال العدل وينذرهم‬
‫على لسان أنبيائه أال يظلموا ويبشرهم باخلريات وحسن املصري إن‬
‫ك الْ ُق َرى بِظُل ٍْم َوأ َْهلُ َها‬‫ك لِيـُْهلِ َ‬
‫‪﴿:‬وَما َكا َن َربُّ َ‬
‫آمنوا‪ .‬قال تعاىل َ‬
‫َن أ َْه َل الْ ُق َرى‬ ‫﴿ولَ ْو أ َّ‬ ‫م ِ‬
‫صل ُحو َن﴾‪ .‬وقال عز وجل من قائل ‪َ :‬‬ ‫ُ ْ‬
‫ض ولَ ِ‬ ‫ِ‬ ‫آمنُواْ واتـََّقواْ لََفتَ ْحنَا َعلَْي ِهم بـرَك ٍ‬
‫ـكن‬ ‫الس َماء َواأل َْر ِ َ‬ ‫ات ِّم َن َّ‬ ‫ََ‬ ‫َ َ‬
‫اهم بِ َما َكانُواْ يَ ْك ِسبُو َن﴾‪.‬‬ ‫َك َّذبُواْ فَأَ َخ ْذنَ ُ‬
‫خيلق اهلل األجيال فتكذب رسله وتستكرب مبا مجعت يف قراها‪،‬‬
‫فيأخذها اهلل جل ذكره ويهلكها ويقصمها بعد أن يعيث املرتفون‬
‫‪159‬‬
‫ك قـَْريَةً أ ََم ْرنَا‬ ‫﴿وإِ َذا أ ََر ْدنَا أَن نـُّْهلِ َ‬ ‫فيها فسادا‪ .‬قال عزوجل ‪َ :‬‬
‫اها تَ ْد ِميراً﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫س ُقواْ ف َيها فَ َح َّق َعلَيـَْها الْ َق ْو ُل فَ َد َّم ْرنَ َ‬
‫ِ‬
‫ُمتـَْرف َيها فـََف َ‬
‫شأْنَا بـَْع َد َها قـَْوماً‬ ‫ت ظَالِ َمةً َوأَن َ‬ ‫ص ْمنَا ِمن قـَْريٍَة َكانَ ْ‬ ‫﴿وَك ْم قَ َ‬
‫وقال ‪َ :‬‬
‫شتـََها﴾‪.‬‬ ‫ت َم ِعي َ‬ ‫﴿وَك ْم أ َْهلَ ْكنَا ِمن قـَْريٍَة بَ ِط َر ْ‬ ‫ين﴾‪ .‬وقال ‪َ :‬‬ ‫آ َخ ِر َ‬
‫ذلك هو التاريخ احلق لإلنسانية ‪ :‬إن اهلل خلق آدم أبانا وجعل‬
‫َنزلْنَا َم َع ُه ُم‬
‫﴿وأ َ‬
‫منه ومن ذريته يف كل جيل أنبياء مبشرين ومنذرين َ‬
‫َّاس بِال ِْق ْس ِط﴾‪ .‬غاية اخللق كله‪ .‬أن‬ ‫وم الن ُ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب َوالْم َيزا َن ليـَُق َ‬
‫ِ‬
‫الْكتَ َ‬
‫يقوم اإلنسان بالقسط أي بالعدل والتوازن ال مييل مع ما يرتفه‬
‫ويرديه‪ ،‬بل يقتحم العقبة دائما ليلقى ربه وهو عنه راض‪ .‬فإذا‬
‫استكرب اإلنسان حبضارته وبأسه وابتعد عن موقف الفطرة من‬
‫حيث خيشى ربه ويعبده وينشد عنده الرمحة والنور واملغفرة أهلكه‬
‫اهلل‪ .‬وسواء كان استكباره على قاعدة اقتصاد بدائي أو قاعدة‬
‫اقتصاد معقلن فإن بأس اهلل ال يفلت القوم اجملرمني‪.‬‬
‫املنهاج النبوي ‪ :‬مر موكب األنبياء عليهم السالم حتذوه هذه‬
‫النورانية اليت تصحب املؤيدين احملبوبني أولياء اهلل املصطفني من‬
‫خلقه‪ .‬وما منهم إال من دعا قومه ليقتحموا العقبة‪ ،‬وما منهم إال‬
‫ِ‬
‫ش ْفنَا َعنـْ ُه ْم‬ ‫آمنُواْ َك َ‬ ‫س لَ َّما َ‬ ‫من كذبوه وعصوا أمره ﴿إالَّ قـَْو َم يُونُ َ‬
‫اه ْم إِلَى ِحي ٍن﴾‪ .‬أما‬ ‫ْحيَاةَ ُّ‬
‫الدنـْيَا َوَمتـَّْعنَ ُ‬
‫ِ‬
‫اب الخ ْز ِي في ال َ‬
‫ِ‬
‫َع َذ َ‬
‫األقوام اآلخرون فهلكوا وأخزاهم اهلل‪.‬‬

‫‪160‬‬
‫دعا سيدنا نوح قومه أن يتقوا اهلل‪ ،‬ولبث فيهم ألف سنة إال‬
‫مخسني عاما فما آمن معه إال قليل‪ .‬ولينتحر هنا منطق املؤرخ العقالين‬
‫حني ابتعد عن الفطرة وجهل أن اهلل الفاطر القادر أخربنا باحلق‪ .‬فال‬
‫يهتدي اجلاهلي وال املفتون إىل اإلميان باأللف سنة وتتبعثر حبوثه حماوال‬
‫تفسري الطوفان والسفينة‪ .‬واملؤمن يسمع آيات ربه ويتدبرها‪ ،‬فإنه عز‬
‫وجل ما جعل لنا التاريخ وقص علينا منه أحسن القصص إال لنتدبر‬
‫اآليات‪ .‬قال عز وجل من قائل ‪﴿ :‬فَأَنجيـْنَاهُ ومن َّمعهُ فِي الْ ُفل ِ‬
‫ْك‬ ‫َ ََ َ‬
‫ين إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫ك َليَةً﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ال َْم ْش ُحون ثُ َّم أَ ْغ َرقـْنَا بـَْع ُد الْبَاق َ‬
‫وكذبت عاد املرسلني‪ ،‬وأعرضت عن نيب اهلل ورسوله سيدنا‬
‫هود ملا دعاها لتقتحم عقبة الكربياء واالستعالء على اهلل ورسله‬
‫بالبناء احلضاري الشاهق العابث تتبعه الغطرسة والتجرب‪ .‬قال‬
‫ك َليَةً﴾ وحنن بآيات‬ ‫اه ْم إِ َّن فِي َذلِ َ‬
‫تعاىل ‪﴿ :‬فَ َك َّذبُوهُ فَأ َْهلَ ْكنَ ُ‬
‫ربنا نصدق‪.‬‬
‫وجاء سيدنا صاحل قومه يدعوهم أن يطيعوه وال يغرتوا بالبيوت‬
‫اليت ينحتوهنا طلبا للخلود فرهني مرتفني يطيعون املسرفني‪ .‬وجاء‬
‫لوط قومه يدعوهم ليكفوا عن الفسق‪ .‬وسيدنا شعيب دعا قومه‬
‫ليعدلوا يف معامالهتم ويقتحموا عقبة األثرة والشح‪ .‬وسائر الرسل‬
‫دعوا قومهم دعوة واحدة أمناء على رساالت رهبم صابرين على‬
‫أدائها‪ .‬جنا معهم من آمن وعمل صاحلا ودمر اهلل الكافرين‪.‬‬

‫‪161‬‬
‫كان الرسول بشرا من إخوة املن َذرين‪ ،‬فيحتقرون أخاهم‬
‫ويطغون عليه‪ .‬وتبهرهم نورانيته ونورانية أصحابه فيقولون ‪ :‬ساحر‬
‫ين ِمن قـَْبلِ ِهم ِّمن‬ ‫َّ ِ‬
‫ك َما أَتَى الذ َ‬ ‫أو جمنون‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪َ ﴿ :‬ك َذلِ َ‬
‫اح ٌر أ َْو َم ْجنُو ٌن﴾ ‪.‬‬ ‫ول إِ َّل قَالُوا س ِ‬ ‫َّر ُس ٍ‬
‫َ‬
‫وكل نيب يدعو قومه أن يؤمنوا بالغيب ويعصوا أمر املسرفني‪.‬‬
‫وإمنا جعل اهلل اهلداية باتباع املرسل النيب وباإلميان بالغيب‪ .‬قال‬
‫اب الَ‬ ‫يم الم َذلِ َ ِ‬
‫ك الْكتَ ُ‬ ‫الر ِح ِ‬
‫الر ْحم ِن َّ‬ ‫اهلل عز وجل ‪﴿ :‬بِس ِم ِ‬
‫اهلل َّ‬ ‫ْ‬
‫ب﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫ين يـُْؤمنُو َن بِالْغَْي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ريْب فِ ِيه ُه ًدى لِّلْمتَّق َّ‬
‫ِ‬
‫ين الذ َ‬ ‫ُ َ‬ ‫َ َ‬
‫فمن اقتحم العقبة مع الرسول النيب فتح اهلل مغالق قلبه ووهبه‬
‫زيادة على النجاة من البأس اإلهلي طمأنينة ونورا‪ .‬قال تعاىل ‪:‬‬
‫ص ْد َرهُ لِ ِْل ْس َلِم فـَُه َو َعلَى نُو ٍر ِّمن َّربِِّه فـََويْ ٌل‬‫﴿أَفَ َمن َش َر َح اللَّهُ َ‬
‫اسيَ ِة قـُلُوبـُُهم ِّمن ِذ ْك ِر اللَّ ِه﴾ وقال ‪﴿ :‬فَ َمن يُ ِر ِد اللّهُ أَن‬ ‫لِّ ْل َق ِ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ْد َرهُ‬‫ص ْد َرهُ ل ِإل ْسالَِم َوَمن يُ ِر ْد أَن يُضلَّهُ يَ ْج َع ْل َ‬ ‫يـَْهديَهُ يَ ْش َر ْح َ‬
‫س‬‫الر ْج َ‬ ‫ك يَ ْج َع ُل اللّهُ ِّ‬ ‫الس َماء َك َذلِ َ‬
‫ص َّع ُد فِي َّ‬ ‫ضيِّقاً َح َرجاً َكأَنَّ َما يَ َّ‬
‫َ‬
‫ين الَ يـُْؤِمنُو َن﴾‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫َعلَى الذ َ‬
‫باإلسالم جاء األنبياء عليهم السالم من لدن آدم‪ ،‬فمنهم‬
‫النيب املرسل يستقل برسالته وشرعه‪ ،‬ومنهم النيب اجملدد لدين‬
‫رسول سبقه‪ .‬وهلذه األمة جمددون كما جاء يف احلديث‪ ،‬ليسوا‬
‫أنبياء ألن النبوءة ختمت برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬لكن‬

‫‪162‬‬
‫أولياء صادقون علماء عاملون ورثة لرسول اهلل ‪.‬‬
‫وهكذا يتكون املوكب النبوي حامال اخلري واهلداية قائما بأمر‬
‫اهلل على صراط مستقيم‪ .‬فإذا قلنا ‪« :‬املنهاج النبوي» فإمنا نقصد‬
‫هذا الصراط السوي الذي مير عليه املوكب الفخم األغر األزهر‪.‬‬
‫التؤدة النبوية ‪ :‬يشرح اهلل صدر املؤمنني‪ ،‬وتقسوا قلوب الغافلني‬
‫عن ذكر اهلل الرافضني لرساالت اهلل ومنهاجه‪ .‬وإن يف كل قرية‬
‫فرعوهنا الذي حوله تنسج الفخفخة احلضارية على منوال كربيائه‪.‬‬
‫قد يكون هذا الفرعون شخصا قائما كما يليق بالقرى البدائية وقد‬
‫يكون فرعونا معنويا كما يليق بالقرى العقالنية‪ .‬وغالبا ما جيتمع‬
‫الطاغوتان فتتحجر قلوب الغافلني حول وثنهم‪ .‬هكذا احلال يف‬
‫عصرنا عصر اإلديولوجيات والزعامات‪.‬‬
‫يد اهلل القوية تدمر القرى الباغية بأمر من الغيب ال يصنعه‬
‫األنبياء‪ ،‬بل تتنزل به مالئكة اهلل‪ .‬أما األنبياء فما بعثهم اهلل‬
‫باحلق إال هلدف واحد ومقصد واحد وغاية واحدة جتتمع كلها يف‬
‫«القيام بالقسط»‪.‬‬
‫النيب املرسل أو النيب اجملدد والويل حضور نوراين ميثل معاين‬
‫الطهارة ومعاين اليسر ومعاين التوازن والسكينة ومعاين اإلسالم‬
‫كافة واإلميان واإلحسان‪ .‬وما عليه أن يكون وكيال على الناس‬
‫وال جبارا‪ .‬وتتكرر يف القرآن خطابات احلق ألنبيائه أهنم ليسوا‬

‫‪163‬‬
‫جبارين وال وكالء وإمنا هم مبشرون منذرون‪.‬‬
‫على الرسل واألنبياء جهاد فرضه اهلل‪ ،‬فكان جهاد نوح أن‬
‫يصرب يف قومه أعواما ألفا‪ ،‬وكان جهاد داود وسليمان ومها ملكان‬
‫نبيان أن يعدال ويقاوما فتنة اجلاه واملال ويشكرا رهبما بالعمل‬
‫الصاحل‪ .‬وكان جهاد سيدنا موسى وسيدنا حممد جهاد دعوة‬
‫حيميها السيف‪.‬‬
‫لكن الصبغة العامة جلهاد األنبياء الرفق والرمحة واحلكمة‬
‫واملوعظة باليت هي أحسن‪.‬‬
‫كل فرعون يتوىل اهلل سبحانه فتنته وعقابه كما فعل بفرعون‬
‫ين َونـَْق ٍ‬ ‫آل فِر َعو َن بِ ِّ ِ‬
‫ص‬ ‫السن َ‬ ‫﴿ولََق ْد أَ َخ ْذنَا َ ْ‬
‫موسى‪ .‬قال تعاىل ‪َ :‬‬
‫ِ‬
‫آل‬ ‫ِّمن الث ََّم َرات لَ َعلَّ ُه ْم يَ َّذ َّك ُرو َن﴾‪ .‬وقال ‪﴿ :‬فَأ َ‬
‫َنجيـْنَا ُك ْم َوأَ ْغ َرقـْنَا َ‬
‫فِ ْر َع ْو َن َوأَنتُ ْم تَنظُُرو َن﴾‪ .‬ومع آل فرعون كان فرعون ‪﴿ :‬يـَْق ُد ُم‬
‫س الْ ِو ْر ُد ال َْم ْو ُرودُ﴾‪.‬‬ ‫ئ‬
‫ْ‬‫قـَْوَمهُ يـَْو َم ال ِْقيَ َام ِة فَأ َْور َد ُهم النَّار وبِ‬
‫َ ُ َ َ َ‬
‫ش َريْ ِن ِمثْلِنَا‬
‫وتكرب فرعون ملا جاء رسوال ربه وقال ‪﴿ :‬أَنـُْؤِم ُن لِبَ َ‬
‫َوقـَْوُم ُه َما لَنَا َعابِ ُدو َن﴾! منعه كربياؤه أن يسمع كالم املستضعفني‬
‫يف األرض وهو يدعي الربويية وينتصب وثنا ليعبده الناس‪.‬‬
‫تعامى فرعون األول كما يتعامى الفراعنة يف كل زمان عن‬
‫سلطان النورانية الذي يؤيد اهلل به أنبياءه وأولياءه‪ ،‬فما وجد إال‬
‫﴿وفِي‬ ‫ما جيده كل كافر يكذب رساالت ربه‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪َ :‬‬
‫‪164‬‬
‫ال‬ ‫موسى إِ ْذ أَرسلْنَاهُ إِلَى فِر َعو َن بِس ْلطَ ٍ‬
‫ان ُّمبِي ٍن فـَتـََولَّى بُِرْكنِ ِه َوقَ َ‬ ‫ْ ْ ُ‬ ‫َْ‬ ‫ُ َ‬
‫اح ٌر أ َْو َم ْجنُو ٌن﴾‪.‬‬ ‫سِ‬
‫َ‬
‫ويبلغ كربياء فرعون وجهله اجلاهلي ذروته إذ جيمع قومه خيطب‬
‫فيهم ويتخذهم شهداء على عظمته ومهانة موسى وأخيه‪ .‬قص‬
‫ِ‬ ‫ادى فِ ْر َع ْو ُن فِي قـَْوِم ِه قَ َ‬
‫س‬‫ال يَا قـَْوم أَلَْي َ‬ ‫﴿ونَ َ‬ ‫اهلل علينا خربه قال ‪َ :‬‬
‫ص ُرو َن أ َْم‬‫صر و َه ِذ ِه ْالَنـَْهار تَ ْج ِري ِمن تَ ْحتِي أَفَ َل تـ ْب ِ‬ ‫لِي مل ُ ِ‬
‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫ْك م ْ َ َ‬ ‫ُ‬
‫اد يبِين فـلَوَل أُل ِْقي َعلَيهِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ‬
‫َ ْ‬ ‫ين َوَل يَ َك ُ ُ ُ َ ْ‬ ‫أَنَا َخيـٌْر ِّم ْن َه َذا الذي ُه َو َم ِه ٌ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َس ِوَرةٌ ِّمن َذ َه ٍ‬
‫ين﴾!‬ ‫ب أ َْو َجاء َم َعهُ ال َْم َلئ َكةُ ُم ْقتَ ِرن َ‬ ‫أْ‬
‫هذا الطاغوت الذي كفر باهلل وغيبه يريد أن يرى آية تدل على‬
‫صدق موسى وأخيه‪ ،‬فيتحدى موسى أن تلقى عليه من السماء‬
‫﴿وقَالُواْ‬ ‫أساور أو تأتيه املالئكة ومثله اجلاهليون يتحدون األنبياء ‪َ :‬‬
‫ك‬ ‫ض يَنبُوعاً أ َْو تَ ُكو َن لَ َ‬ ‫ك َحتَّى تـَْف ُج َر لَنَا ِم َن األ َْر ِ‬ ‫لَن نُّ ْـؤِم َن لَ َ‬
‫ط‬‫ار ِخاللَ َها تـَْف ِجيراً أ َْو تُ ْس ِق َ‬ ‫ب فـَتـَُف ِّج َر األَنـَْه َ‬ ‫يل َو ِعنَ ٍ‬‫َجنَّةٌ ِّمن نَّ ِخ ٍ‬
‫سفاً أ َْو تَأْتِ َي بِاللّ ِه َوال َْمآلئِ َك ِة قَبِيالً‬ ‫ِ‬
‫ت َعلَيـْنَا ك َ‬ ‫الس َماء َك َما َز َع ْم َ‬ ‫َّ‬
‫الس َماء َولَن نـُّْؤِم َن‬‫ف أ َْو تـَْرقَى فِي َّ‬ ‫ت ِّمن ُز ْخر ٍ‬
‫ُ‬ ‫ك بـَْي ٌ‬ ‫أ َْو يَ ُكو َن لَ َ‬
‫ك َحتَّى تـُنـَِّز َل َعلَيـْنَا كِتَاباً نـَّْق َرُؤهُ قُ ْل ُس ْب َحا َن َربِّي َه ْل ُك ُ‬
‫نت‬ ‫لِ ُرقِيِّ َ‬
‫اءه ُم ال ُْه َدى إِالَّ‬ ‫ِ‬
‫َّاس أَن يـُْؤمنُواْ إِ ْذ َج ُ‬ ‫شراً َّر ُسوالً َوَما َمنَ َع الن َ‬ ‫إَالَّ بَ َ‬
‫شراً َّر ُسوالً﴾!‬ ‫ث اللّهُ بَ َ‬ ‫أَن قَالُواْ أَبـََع َ‬
‫سبحان ربنا ما هذا املوكب النبوي إال موكب هداة عباد هلل‬

‫‪165‬‬
‫ال ميتازون عن البشر إال هبذه النورانية اليت يبديها اهلل كما يشاء‬
‫عليهم ال كما يشاؤون وإال برباطة اجلأش ال تستفزهم الفتنة وال‬
‫يستفزهم العنف‪ .‬ملا بلغ احلنق أشده بفرعون قال كما أخرب القرآن ‪:‬‬
‫وسى َولْيَ ْدعُ َربَّهُ إِنِّي أَ َخ ُ‬ ‫ِ‬ ‫﴿وقَ َ ِ‬
‫ِّل‬
‫اف أَن يـُبَد َ‬ ‫ال ف ْر َع ْو ُن َذ ُروني أَقـْتُ ْل ُم َ‬ ‫َ‬
‫ت‬‫وسى إِنِّي عُ ْذ ُ‬ ‫ال ُم َ‬ ‫اد َوقَ َ‬‫سَ‬ ‫ض الْ َف َ‬‫ِدينَ ُك ْم أ َْو أَن يُظْ ِه َر فِي ْال َْر ِ‬
‫اب﴾‪.‬‬ ‫ْحس ِ‬ ‫بِربِّي وربِّ ُكم ِّمن ُك ِّل متَ َكبِّ ٍر َّل يـ ْؤِمن بِيـوِم ال ِ‬
‫َ‬ ‫ُ ُ َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ ََ‬
‫عاذ موسى بربه وكان كإخوته األنبياء ال يضعفون يف أمر‬
‫رهبم وال يلجأون إال إليه‪ .‬ولقد خاف موسى إذ أمره به أن يبلغ‬
‫رسالته‪ ،‬فأعانه ربه بوزير من أهله سيدنا هارون‪ .‬مث طمأهنما‬
‫رهبما لكيال خيافا وبشرمها بأنه معهما‪ .‬وكيف خياف من معه ربه؟‬
‫ول لَهُ قـَْوالً لَّيِّناً لَّ َعلَّهُ‬ ‫قال اهلل ‪﴿ :‬ا ْذ َهبَا إِلَى فِ ْر َع ْو َن إِنَّهُ طَغَى فـَُق َ‬
‫ط َعلَيـْنَا أ َْو أَن‬ ‫اف أَن يـَْف ُر َ‬ ‫شى قَ َال َربـَّنَا إِنـَّنَا نَ َخ ُ‬ ‫يـَتَ َذ َّك ُر أ َْو يَ ْخ َ‬
‫َس َم ُع َوأ ََرى﴾‪.‬‬ ‫ال َل تَ َخافَا إِنَّنِي َم َع ُك َما أ ْ‬ ‫يَطْغَى قَ َ‬
‫هذه هي التؤدة وهذا هو الرفق يف املنهاج النبوي‪.‬‬
‫الصادقون الصاحلون ‪ :‬قال اهلل خياطب املؤمنني ‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها‬
‫ين﴾‪ .‬الصادقون هم‬ ‫الَّ ِذين آمنُواْ اتـَُّقواْ اللّهَ وُكونُواْ مع َّ ِ ِ‬
‫الصادق َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬
‫أهل الطاعة وأهل الدعوة إىل اهلل أهل الكلمة الطيبة التابعون يف‬
‫موكب النبوءة الصديقون‪ .‬هم أحسن الناس قوال وعمال‪ ،‬قال‬
‫صالِحاً‬ ‫ِ ِ‬
‫س ُن قـَْوالً ِّم َّمن َد َعا إِلَى اللَّه َو َعم َل َ‬ ‫َح َ‬
‫﴿وَم ْن أ ْ‬‫تعاىل ‪َ :‬‬
‫‪166‬‬
‫ِِ‬ ‫وقَ َ ِ ِ‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ال إِنَّني م َن ال ُْم ْسلم َ‬ ‫َ‬
‫صحبة الصادقني مفتاح الرب ألهنا مفتاح الطاعة‪ ،‬ومن أطاع‬
‫اهلل ورسوله فقد حصل على حقه ليدمج يف املوكب النبوي كفاء‬
‫ِ‬
‫﴿وَمن يُط ِع اللّهَ‬ ‫سلوكه على املنهاج النبوي‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪َ :‬‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬ ‫ول فَأ ُْولَـئِ َ‬
‫ين أَنـَْع َم اللّهُ َعلَْي ِهم ِّم َن النَّبيِّ َ‬
‫ين‬ ‫ك َم َع الذ َ‬ ‫الر ُس َ‬
‫َو َّ‬
‫ك َرفِيقاً﴾‪ .‬وإمنا‬ ‫س َن أُولَـئِ َ‬ ‫الشه َداء و َّ ِ ِ‬ ‫و ِّ ِ‬
‫ين َو َح ُ‬‫الصالح َ‬ ‫ين َو ُّ َ َ‬ ‫الصدِّيق َ‬ ‫َ‬
‫تكون رفقة اآلخرة يف دار اخللود ملن رافقهم ابن آدم يف دار الفتنة‪.‬‬
‫ماهو نتاج التاريخ والغاية اليت جيري إليها ؟ أعبث كل هذا‬
‫الضجيج الذي حيدثه احليوان العمودي على وجهها‪ ،‬أم أن تكور‬
‫اإلنسانية يف بغي الباغني والبؤس الناتج عن الظلم واألمل والشقاء‬
‫صدفة ال معىن هلا؟ أيكفي اإلنسان غاية وينقع غلته لفهم سر‬
‫الوجود ما تشري إليه العقالنية املادية من صريورة تتم فيها الوفرة‬
‫وتستغين الدابة البشرية عن الكد من اجل العيش يف عامل تنقرض‬
‫فيه مهام الدولة ؟‪.‬‬
‫كال ! إن يف اإلنسان حاسة فطر عليها تتطلع لغاية الوجود‬
‫ويضيق صدرها ويبلغ أشد احلرج دوهنا‪ .‬وليس ينبئ اإلنسان عن‬
‫هذه الغاية‪ ،‬غاية كماله الروحي وحلاقه باملوكب النوراين موكب‬
‫األنبياء الصادقني الصاحلني إىل وحي اهلل الذي جاءنا عن طريق‬
‫املنهاج النبوي‪ .‬على مر التاريخ عاش رجال حييط هبم الغيب‬

‫‪167‬‬
‫أذهلوا معاصريهم بآيات اهلل املعجزة الظاهرة عليهم وأمهها نورانية‬
‫الصحبة‪ .‬ومع ذلك كذبوا واهتموهم بالسحر واجلنون كما كذب‬
‫اخللف املفتون املستغىن بالعامل املغلق عامل العقالنية الفلسفية‬
‫والعلمية‪.‬‬
‫إبراهيم ال حترقه النار‪ ،‬وسليمان ختدمه الريح واجلن‪ ،‬وعيسى‬
‫يربئ األكمه واألبرص وحيي املوتى وموالنا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم تبدو هلم منه يف كل يوم آية‪ .‬هل كان كل هذا فلتات‬
‫اختل فيها «قانون الطبيعة» أم أن حوت يونس وعصا موسى‬
‫حديث خرافة ؟‬
‫إن اإلنسانية اليوم ال تزال حائرة أمام ظواهر الكون اليت‬
‫ال ختضع ملنطق عقالين‪ ،‬وإن شأن التموجات واجلزئيات الذرية‬
‫وتعاقبها وإرادهتا اليت تكاد تكون شخصية ملن أبسط هذه الظواهر‬
‫إذا قيست مثال حبضور شياطني اجلن ومالبسته للناس مع اجلهل‬
‫الكامل املتخفى بستار التجاهل عند الباحثني املعاصرين‪.‬‬
‫وما كل هذه الظواهر إال إعالن غييب من جانب احلق حيوم‬
‫حول أشخاص من اصطفاهم رهبم وكلمهم ملا آمنوا به وصدقوا‬
‫رسله واطاعوا‪ .‬حيوم الغيب حوهلم كما حيوم العامل وكما يدور‬
‫التاريخ‪ .‬فإنه ما خلق اهلل خلقه إال ليعبدوه‪ ،‬فإذا عبدوه أمت هلم‬
‫نورهم وجعلهم من أحبائه الصاحلني الصادقني‪.‬‬

‫‪168‬‬
‫بعد السعي يف األرض وفق الطاعة تأيت رمحة اهلل للمحسنني‬
‫خالدين فيها‪ .‬إبراهيم عليه السالم واسحق يعقوب ابناه اصطفاهم‬
‫اه ْم أَئِ َّمةً يـَْه ُدو َن بِأ َْم ِرنَا‬ ‫رهبم ‪﴿ :‬وُك ّلً جعلْنَا ِ ِ‬
‫ين َو َج َعلْنَ ُ‬‫صالح َ‬ ‫ََ َ‬ ‫َ‬
‫الزَكاةِ‬
‫الص َل ِة َوإِيتَاء َّ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ام َّ‬ ‫َوأ َْو َحيـْنَا إِلَْيه ْم ف ْع َل الْ َخيـَْرات َوإقَ َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين﴾ ولوط عليه السالم أتاه اهلل حكما وعلما‬ ‫ِِ‬
‫َوَكانُوا لَنَا َعابد َ‬
‫الصالِ ِحينَ﴾ ‪ .‬ونوح جناه اهلل‬ ‫﴿وأَ ْد َخلْنَاهُ فِي َر ْح َمتِنَا إِنَّهُ ِم َن َّ‬
‫‪َ :‬‬
‫من الكرب ونصره جزاء ملا نصر ربه قياما بأمره ودعوته وداود‬
‫وسليمان مجع اهلل هلما ملك الدنيا وملك اآلخرة‪ .‬وأيوب عبد ربه‬
‫ين‪.‬‬ ‫ِ ِِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫﴿ر ْح َمةً ِّم ْن عندنَا َوذ ْك َرى لل َْعابد َ‬ ‫فكشف عنه مواله الضر‪َ :‬‬
‫ْك ْف ِل ُكلٌّ ِّمن َّ ِ‬ ‫اعيل وإِ ْد ِريس و َذا ال ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َوأَ ْد َخلْنَ ُ‬
‫اه ْم‬ ‫الصاب ِر َ‬ ‫َ‬ ‫َ َ‬ ‫َوإِ ْس َم َ َ‬
‫ين﴾‪ .‬وكل ويل هلل مطيع تابع من‬ ‫فِي رحمتِنَا إِنـَّهم ِّمن َّ ِ ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫ُ َ‬ ‫ََْ‬
‫هذه األمة صائر بإذن اهلل معهم‪.‬‬
‫أال إن غاية التاريخ هو املصري إىل الرمحة اإلهلية مع الصادقني‪،‬‬
‫وإن هذا املصري نتيجة ال تكون مقدمتها أبدا إال صحبة املعصوم‬
‫عليه الصالة والسالم واتباعه وصحبته مع املؤمنني على املنهاج‬
‫النبوي‪ .‬وال تصح صحبته إال ملن نبذ أنانيته وطاغوته واختذ عند‬
‫اهلل يدا وأوى إىل مجاعة املؤمنني‪.‬‬

‫‪169‬‬
‫حممد رسول اهلل‬
‫اللهم صل عليه وعلى آله وصحبه واملرسلني وكل ويل هلل إىل‬
‫﴿وَما‬
‫يوم الدين‪ .‬ما مينع الناس من هداية رهبم إال استكبارهم ‪َ :‬‬
‫اءه ُم ال ُْه َدى إِالَّ أَن قَالُواْ أَبـََع َ‬ ‫ِ‬
‫ث اللّهُ‬ ‫َّاس أَن يـُْؤمنُواْ إِ ْذ َج ُ‬
‫َمنَ َع الن َ‬
‫شراً َّر ُسوالً﴾ ‪ .‬انتمى الصحابة إىل هذا اجلناب الكرمي والتفوا‬ ‫بَ َ‬
‫حوله وأحبوه مبحبة اهلل فكانوا أفضل جيل وخري أمة‪ .‬ووصانا‬
‫صلى اهلل عليه وسلم بالتقلني من بعده ‪ :‬كتاب اهلل وعرتته أهل‬
‫بيته‪ ،‬وفتح لنا باب الفقه حني دلنا أن سلمان من أهل بيته لتتجه‬
‫حمبتنا للنسبني‪ ،‬نسب فاطمة والعباس وعقيل وجعفر‪ ،‬ونسب‬
‫اإلحسان وهو النسب الروحي وعليه مدار الصحبة‪.‬‬
‫إن اهلل تعاىل ارسل املرسلني وجعل خامتهم سيدنا حممد بن‬
‫عبد اهلل فجمع فيه اهلدى ومجع له أسباب كمال التابع يف حمبته‬
‫وطاعته بنص القرآن الكرمي‪ .‬فمن صحبه صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وأحبه وفين يف حمبته صعد إىل الدرجات العلى‪ ،‬ومن مل يدرك زمانه‬
‫احتاج لرتبية شيخ يرقي روحانيته لتتصل بذلك املقام السامي‪.‬‬
‫وإمنا يسمى الصوفية وصوال هذا الرقي الروحاين حىت يتلقى املريد‬

‫‪170‬‬
‫عن روحانية الرسول مباشرة ويستقي منه الروح والرمحة‪ .‬ويسمى‬
‫عندئذ «حممديا» وهو اصطالح صويف توسع معناه ليشمل كل‬
‫من حيب جناب الرسول وخيلع يف حبه العذار‪.‬‬
‫قال اهلل عز وجل ‪﴿ :‬قُ ْل إِن َكا َن آبَا ُؤُك ْم َوأَبـْنَآ ُؤُك ْم َوإِ ْخ َوانُ ُك ْم‬
‫ال اقـْتـرفـْتُم َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ش ْو َن‬
‫ارةٌ تَ ْخ َ‬ ‫وها َوت َج َ‬ ‫اج ُك ْم َو َعش َيرتُ ُك ْم َوأ َْم َو ٌ ََ ُ‬ ‫َوأَ ْزَو ُ‬
‫ب إِلَْي ُكم ِّم َن اللّ ِه َوَر ُسولِ ِه‬ ‫َح َّ‬ ‫ساكِ ُن تـَْر َ‬
‫ض ْونـََها أ َ‬ ‫اد َها َوَم َ‬ ‫سَ‬ ‫َك َ‬
‫صواْ َحتَّى يَأْتِ َي اللّهُ بِأ َْم ِرِه﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ِ ٍ ِ‬
‫َوج َهاد في َسبِيله فـَتـََربَّ ُ‬
‫وجعل اهلل مبايعة حممد عبده ونبيه مبايعة له سبحانه‪ ،‬قال‪:‬‬
‫ك إِنَّ َما يـُبَايِعُو َن اللَّهَ يَ ُد اللَّ ِه فـَْو َق أَيْ ِدي ِه ْم﴾‪.‬‬ ‫ين يـُبَايِعُونَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫﴿إِ َّن الذ َ‬
‫وتقصر اآليات الكثرية الرمحة والفوز يف طاعته عليه الصالة‬
‫والسالم وأتباعه‪.‬‬
‫ولكي نعرف مقامه العظيم أخربنا بلسان احلق أنه سيد ولد‬
‫آدم وأخربنا أنه لبنة التمام يف البناء اإلهلي‪ .‬قال عليه الصالة‬
‫والسالم ‪« :‬مثلي ومثل األنبياء من قبلي كمثل رجل بنى بنيانا‬
‫فأحسنه وأجمله إال موضع لبنة من زاوية من زواياه‪ ،‬فجعل‬
‫الناس يطوفون به ويعجبون له ويقولون ‪ :‬هال وضعت هذه‬
‫اللبنة ؟ فأنا اللبنة وأنا خاتم النبيئين»‪.1‬‬
‫أول خطوة على احملجبة البيضاء يف املنهاج النبوي حمبته وطاعته‬

‫‪ 1‬متفق عليه واللفظ ملسلم‪ ,‬استفدنا هذه الفقرة وسائر فقرات هذا الفصل من كتاب الشيخ حممد‬
‫يوسف شيخ مجاعة رجال التبليغ ‪ :‬حياة الصحابة‪.‬‬

‫‪171‬‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فمن أحبه فقد ائتمر بأمر اهلل فتفتح له‬
‫أبواب فضل اهلل ومن صلى عليه فقد ائتمر بأمر اهلل وحق له أن‬
‫يتعرض لرمحة اهلل‪ ،‬ومن هلج به وعكف على بابه فقد اهتدى وويف‬
‫له الكيل وسار على درب املوكب النوراين يقتحم العقبة سالكا‬
‫مسالك الرجال‪ .‬ومن وقف مع أنانيته يرد على اهلل يف قرآنه فإمنا‬
‫هو حمروم‪.‬‬
‫ها حنن يا رسول اهلل حبيبنا يا حبيب اهلل غثاء كما حذرتنا‪،‬‬
‫نسينا عهد اهلل إذ نسينا ما بايعك عليه املؤمنون‪ .‬إن اهلل قرن حمبتك‬
‫وحمبته وإيثاركما على اآلباء واألقرباء باجلهاد يف سبيله وسبيلك‪،‬‬
‫فنحن نرتبص بنا الناس الدوائر ويرتبصون بنا السوء‪ ،‬والدعاة إىل‬
‫اهلل املالئذون جبنابك األمحى ال يكاد يسمع هلم صوت‪ ،‬وكان‬
‫أمتك املسكينة املتلوية على أشد من حسك السعدان حلم على‬
‫وضم لآلكلني‪ ،‬وإهنا لذاهبة مع السيل مع ما حيمل السيل‪ ،‬فهل‬
‫من سبيل يا رسول اهلل لنصل حبلنا حببلك فنتمسك عندئذ بالعروة‬
‫الوثقى وتتأصل لنا اجلهود ويتأصل لنا اجلهاد والعمل والقوة؟‬
‫إن حاضرنا املتعثر هو اجملال الكدر الذي جيب علينا أن‬
‫نصفي فيه نظرتنا إىل تارخينا احلقيقي تاريخ املوكب النبوي ونعرب‬
‫تاريخ الفتنة لنجدد ألنفسنا إسالما وإميانا‪ .‬وإن املستقبل الذي‬
‫ينظره لنا املفتونون مبنظار اجلاهلية املرتقبة ملزيد من صناعة ومزيد‬

‫‪172‬‬
‫من اخرتاع ارضاء للدوابية اجلاهلية ال غري‪ ،‬ليس مستقبلنا‪ .‬إمنا‬
‫مستقبلنا يف مقام الثريا ويف األفق األعلى مستقبلنا أن حنمل‬
‫للخلق الرسالة كما محل األنبياء واألصحاب احلواريون‪.‬‬
‫يكفي لتحقيق ذلك أن نعرف املنهاج النبوي ونتتبع اخلطى‬
‫على احملجبة البيضاء‪ ،‬ولن نلبث أن نرى بشائر صبح جديد يعود‬
‫علينا يومه وتسطع علينا مشسه‪ ،‬وإذا حنن مع الصادقني اآلئبني إىل‬
‫رهبم بدار النعيم‪.‬‬
‫دلنا قرآن ربنا على املنهاج إذ وجهنا لرسوله‪ ،‬قال ‪﴿:‬لََق ْد َكا َن‬
‫سنَةٌ لِّ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْو َم‬ ‫لَ ُكم فِي رس ِ ِ‬
‫ول اللَّه أ ْ‬
‫ُس َوةٌ َح َ‬ ‫َُ‬ ‫ْ‬
‫ِ‬
‫ْالخ َر َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾‪.‬‬
‫التأسي برسول اهلل ليس إال يف متناول الصادقني املصدقني‬
‫باهلل واليوم اآلخر الذاكرين اهلل كثريا‪ .‬فصحبة وذكر وصدق‪ ،‬وأنت‬
‫على طريق املعراج اإلسالمي طريق اقتحام العقبة‪.‬‬
‫فإذا رمنا أن نصل مستقبلنا مباضينا اجلهادي عرب الفتنة اليت‬
‫ننوء حتت كلكلها لزم أن نتبايع على الصدق يف أحضان الصحبة‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫ين إِ ْذ‬ ‫النبوية‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬لََق ْد َرض َي اللَّهُ َع ِن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫الس ِكينَةَ‬ ‫ِ‬ ‫ت َّ ِ ِ‬
‫َنز َل َّ‬ ‫الش َج َرة فـََعل َم َما في قـُلُوبِ ِه ْم فَأ َ‬ ‫ك تَ ْح َ‬ ‫يـُبَايِعُونَ َ‬
‫َعلَْي ِه ْم َوأَثَابـَُه ْم فـَْتحاً قَ ِريباً﴾‪.‬‬
‫يف طريق االنبعاث اإلسالمي عقبات كأداء‪ ،‬فال مجاعة لنا‬

‫‪173‬‬
‫وإمنا لنا جمتمعات ألنه ال مبايعة لنا‪ .‬وال مبايعة وال تصح وال متكن‬
‫ألن ما يف قلوبنا نية إسالمية إال ومضات تطفئها األعاصري الفاتنة‬
‫وخيمدها اجلهل باهلل ورسوله ودينه‪ .‬القلوب وجلة خائفة من الناس‬
‫ال من اهلل‪ ،‬والعقول هائجة تتماوج مع التيار اجلاهلي‪ ،‬ومن كل‬
‫هذا ينتج يف ساحة العمل اضطراب ال سكينة ترجى معه‪.‬‬
‫إنه ال بد لنا أن نتأهل بتزكية قلوبنا للتأسي مبحمد وصحبه‪،‬‬
‫وإن أول حركة يف النهضة اإلسالمية مبايعة يرضاها اهلل ورسوله‬
‫وتنزل معها سكينة ربنا‪ ،‬ونغنم حنن بعدها وال نبقى غنيمة وكان‬
‫اهلل عزيزا حكيما‪.‬‬
‫املتبوع األعظم ‪ :‬يف قلوبنا خواء ووحشة وكراهية ألهنا خلت‬
‫من حمبة اهلل‪ ،‬وما تأيت صحبة اهلل لنا وصحبتنا له إال من اتباع‬
‫الرسول الكرمي‪ ،‬قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬قُ ْل إِن ُكنتُ ْم تُ ِحبُّو َن اللّهَ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫فَاتَّبِعونِي يحبِب ُكم اللّه ويـغْ ِفر لَ ُكم ذُنُوب ُكم واللّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬‫ُ ُْ ْ ُ ُ ََ ْ ْ َ ْ َ ُ ٌ‬
‫جتد الصوفية الكرام آمنني حني خياف الناس ضاحكني فرحني‬
‫برهبم حني يبأس الناس ألن هلم قلوبا يعمها احلب هلل ورسوله‪،‬‬
‫فهم تابعون على يقني ال يلحقه الشك ماثلة يف أفئدهتم نوارنية‬
‫املتبوع األعظم صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وما ذاك إال أهنم صحبوا‬
‫الرجال أولياء اهلل حىت وصلوا‪ .‬هذا اإلمام الغزايل يقص كيف لقي‬
‫«متبوعا مقدما» أخذ عنه وتتلمذ حىت وجد أن احلق مع الصوفية‪.‬‬

‫‪174‬‬
‫ومدار احلق الذي جيده الصوفية وسره يف روحانية املتبوع‬
‫األعظم صلى اهلل عليه وسلم حتلق حوهلا أرواحهم وتقتبس اهلداية‬
‫والتقوى وحمبة الرب الرحيم عز وجل‪ ،‬وكما هتيئ املاشطة العروس‬
‫لتزف إىل املقام املكرم يهيء «املتبوع املقدم» على حد تعبري‬
‫الغزايل مريده لذلكم اجلناب األنور صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وغاية ما حتمله الطروس من التشويق للطلعة احملمدية وصف‬
‫حماسنه وأخالقه صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬عسى أن حتمل السطور‬
‫ملعة لقلوب املؤمنني‪.‬‬
‫كان وجهه صلى اهلل عليه وسلم يتألأل كالقمر ليلة البدر‪.‬‬
‫هكذا وصفه أصحابه من أهل الرضى‪ ،‬وهو وصف حمبة ال شك‪.‬‬
‫أما الكفرة الفجرة فقد نظروه كما نظره املؤمنون فما رأوا إال‬
‫وجها بشريا عاديا لعمى قلوهبم‪ .‬أما من خلع العذار يف حمبته‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ممن صحبه يف حياته على األرض وبعد‬
‫انتقاله فال يكفيه لوصف حماسن الوجه الشريف صورة القمر‬
‫والشمس‪ .‬وإن أصحابه من بعده يتملون برؤية ذلك البهاء‪ ،‬يرونه‬
‫رأي العني خياطبهم وخياطبونه ويناجون روحه الطاهرة‪ .‬ذلك ملن‬
‫صفت مرآته‪ ،‬ولسائر املؤمنني رؤيا املنام وهي حق كما أخربنا عليه‬
‫الصالة والسالم‪.‬‬
‫ورد وصف جلسمه الرتايب صلى اهلل عليه وسلم يف أحاديث‬

‫‪175‬‬
‫متعددة عن أصحابه‪ ،‬ومضموهنا أنه كان فخما مفخما كان ملء‬
‫العني تعظمه النفس وميتزح تعظيمها برهبة مما آتاه اهلل من هيبته‬
‫وجالله‪.‬‬
‫األسوة العملية ال تصح أبدا ملن ينهج مل هنج اآلية الكرمية املشرية‬
‫إىل الصدق والذكر الكثري‪ ،‬هلذا كتبنا صفحة لنشوق املؤمنني‪ .‬مث‬
‫ها هو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف حركاته وسكناته كما‬
‫يصفه األصحاب رضي اهلل عنهم‪ .‬سيدنا هند بن أيب هالة يسأله‬
‫موالنا اإلمام احلسن بن علي عن جده صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فبعد‬
‫أن سأله عن هيئته‪ ،‬قال‪« : 1‬صف يل منطقه ! قال ‪ :‬كان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم متواصل األحزان‪ ،‬دائم الفكرة‪ ،‬ليست له‬
‫راحة‪ ،‬ال يتكلم يف غري حاجة‪ ،‬طويل السكوت‪…،‬يتكلم جبوامع‬
‫الكلم كالمه فصل ال فضول وال تقصري‪ ،‬دمث ليس باجلايف وال‬
‫املهني…»‬
‫وسأل موالنا اإلمام الشهيد احلسني بن علي أباه اإلمام املطهر‬
‫قال‪« : 2‬سألت أيب عن دخول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫(أي عن حاله يف البيت) فقال ‪ :‬كان دخوله لنفسه مأذونا له‬
‫يف ذلك‪ ،‬وكان إذا أوى إىل منزله جزأ دخوله ثالثة أجزاء‪ ،‬جزءا‬

‫‪ 1‬حديث أخرجه يعقوب بن سفيان والرتمذي واحلاكم والطرباين‪.‬‬


‫‪ 2‬نفس املصادر‪.‬‬

‫‪176‬‬
‫هلل وجزءا ألهله وجزءا لنفسه‪ ،‬مث جزأ جزأه بينه وبني الناس فرد‬
‫ذلك على العامة واخلاصة ال يدخر عنهم شيئا‪ .‬وكان من سريته‬
‫يف جزء األمة إيثار أهل الفضل بإذنه وقسمه على قدر فضلهم‬
‫يف الدين… ويقول ‪ :‬ليبلغ الشاهد الغائب‪ ،‬وأبلغوني حاجة‬
‫من ال يستطيع إبالغي حاجته‪ ،‬فإنه من أبلغ سلطانا حاجة من‬
‫ال يستطيع إبالغها إياه ثبت اهلل قدميه يوم القيامة»‪ .‬ال يذكر‬
‫عنده إال ذلك‪ ،‬وال يقبل من أحد غريه‪ .‬يدخلون عليه روادا وال‬
‫يفرتقون إال عن ذواق» ترى كيف تستغرق أوقاته عليه الصالة‬
‫والسالم عبادة ربه والرب بأهله‪ ،‬مث ترى كيف يؤثر حوائج الناس‬
‫على راحته وال يقبل إال أن يدخل الناس عليه روادا يرتادون اخلري‬
‫للناس‪ ،‬وكان يطعمهم تأليفا وحمبة‪.‬‬
‫يسأل اإلمام احلسني أباه قال ‪ « :‬وسألته عن خمرجه (حالة‬
‫بروزه إىل الناس) كيف يصنع فيه ! فقال ‪ :‬كان رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم خيزن لسانه إال مبا يعنيه ويؤلفهم وال ينفرهم‪ ،‬ويكرم‬
‫كرمي كل قوم ويوليه عليهم‪ ،‬وحيذر الناس وحيرتس منهم من غري‬
‫أن يطوي عن أحد مهم بشره وال خلقه‪ .‬يتفقد أصحابه‪ ،‬ويسأل‬
‫الناس عما يف الناس (يسأل عن اإلخبار) وحيسن احلسن ويقويه‪،‬‬
‫ويقبح القبيح ويوهيه‪ .‬معتدل األمر غري خمتلف (ال اضطراب‬
‫يف تصرفه)… لكل عنده عتاد‪ ،‬وال يقصر عن احلق وال جيوزه‪.‬‬

‫‪177‬‬
‫الذين يلونه من الناس خيارهم‪ ،‬أفضلهم عنده أعمهم نصيحة‪،‬‬
‫وأعظمهم عنده أحسنهم مواساة وموازرة‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فسألته عن جملسه كيف كان ؟ فقال ‪« :‬كان رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال جيلس وال يقوم إال على ذكر‪…،‬‬
‫قد وسع الناس منه بسطه وخلقه فصار هلم أبا وصاروا عنده‬
‫يف احلق سواء‪ .‬جملسه جملس حلم وحياء وصرب وأمانة‪ .‬ال ترفع‬
‫فيه األصوات‪ ،‬وال تؤبن‪ 1‬فيه احلرم وال تنثى‪ 2‬فلتاته‪ ،‬متعادلني‬
‫يتفاضلون بالتقوى‪ ،‬متواضعني يوقرون فيه الكبري ويرمحون فيه‬
‫الصغري‪ ،‬يؤثرون ذا احلاجة وحيفظون الغريب»‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فسألته عن سريته يف جلساته فقال ‪ « :‬كان رسول اهلل‬
‫صلى اله عليه وسلم دائم البشر سهل اخللق‪ ،‬لني اجلانب‪ ،‬ليس‬
‫بفظ وال غليظ وال سخاب وال فحاش وال عياب وال مزاح‪ .‬يتغافل‬
‫عما ال يشتهي‪ ،‬وال يؤيس منه راجيه‪ ،‬وال خييب فيه‪ .‬قد ترك نفسه‬
‫من ثالث ‪ :‬املراء واإلكثار وما ال يعنيه‪ .‬وترك الناس من ثالث ‪:‬‬
‫كان ال يذم أحدا وال يعريه‪ ،‬وال يطلب عورته‪ ،‬وال يتكلم إال فيما‬
‫يرجو توابه‪ .‬إذا تكلم أطرق جلساؤه كأمنا على رؤوسهم الطري‪ .‬فإذا‬
‫تكلم سكتوا وإذا سكت تكلموا‪ ،‬وال يتنازعون عنده‪ .‬يضحك مما‬

‫‪ 1‬ال تعاب‪.‬‬
‫‪ 2‬ال تداع‪.‬‬

‫‪178‬‬
‫يضحكون منه‪ ،‬ويتعجب مما يتعجبون منه‪ .‬ويصرب للغريب على‬
‫اجلفوة يف منطقه ومسألته‪ ،‬حىت إن كان أصحابه ليستجلبوهنم‬
‫يف املنطق‪ ،‬ويقول ‪ :‬إذا رأيتم صاحب حاجة فأرفدوه‪ .1‬وال يقبل‬
‫الثناء إال من مكايفء وال يقطع على أحد حديثه حىت جيور فيقطعه‬
‫بنهي أو قيام‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فسألته كيف كان سكوته ؟ قال ‪« :‬كان سكوته على‬
‫أربع ‪ :‬احللم واحلذر‪ ،‬والتقدير والتفكر فأما تقديره ففي تسويته‬
‫النظر واالستماع بني الناس‪ ،‬وأما تذكره –أوقال تفكره‪ -‬ففيما‬
‫يبقى ويفىن‪ .‬ومجع له صلى اهلل عليه وسلم احللم والصرب فكان ال‬
‫يغضبه شيء وال يستفزه‪ .‬ومجع له احلذر يف أربع ‪ :‬أخذه باحلسىن‪،‬‬
‫والقيام هلم فيما مجع هلم الدنيا واآلخرة‪ ،‬صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪ 1‬أعينوه‪.‬‬

‫‪179‬‬
‫األسوة‬
‫ اإلسالم عبء تارخيي حنمله إما حفاظا على تراث ال نفقه‬
‫قبيله من دبريه وإما حفاظا على عادة حطت ثقلها على املسلمني‬
‫عرب التاريخ فهي ال تزال يف أرجلنا عقاال ويف عقولنا كثافة متنعنا‬
‫أن نتحرك‪.‬‬
‫وطلبنا لألسوة عند الرسول الكرمي وصحبه ال نريد منه‬
‫أن نتنكر لتارخينا بل نريد أن تزودنا صحبتهم الثقافية التأملية‬
‫بإعجاب يتبعه حمبة واقتداء وممارسة نستطيع هبا أن خنرق كثافات‬
‫تارخينا فنعيد فحص الرتاث على ضوء ما جيد لنا من اكتشاف‬
‫الرجولة واإلميان والسمت الرائع يف حياة الصحابة رضي اهلل عنهم‬
‫وحياة رسولنا املعصوم ذي اخللق العظيم‪.‬‬
‫إننا إن نولع بالنيب وصحبه ونتعلق بدراسة حياهتم ونعايشهم‬
‫مباشرة بالشوق والتشوق واحملبة نفلت من هذه األمناط احململة‬
‫بنسج األجيال اليت ال تستطيع أن تستفتح أوعية القلوب باحملبة‬
‫احلق فتتشرب معاين اإلميان من معينها وتكون حممدية هلا الوصلة‬
‫بذلكم اجلناب الشريف وهلا الفتح من لدن احلكيم اخلبري وهلا‬
‫الشفافية اليت تعطيها الصحبة املباشرة للنورانية احملمدية فال حتجبنا‬
‫األجيال املتالحقة األربعون عن مصدر اإلشعاع واهلداية‪.‬‬

‫‪180‬‬
‫أو لسنا نقرأ القرآن مبنظار سلفنا وهو كتاب ربنا خاطبنا به‬
‫كما خاطبهم وأمر كال بتدبره؟ أولسنا تكل عقولنا أمام هذه‬
‫األمحال الكثرية من كتب التفسري ونشعر بالعجز والبعد عن كتاب‬
‫اهلل ألننا نشعر بضرورة قراءة كل التفاسري واستيعاهبا قبل أن حيق‬
‫لنا القول وخمافة أن حيق علينا القول ؟‬
‫إن الثقافة الصاعدة اليت ستقلع بنا من قاع احلرية لقمم احليوية‬
‫والتحرر العقلي واإلرادي يكمن سرها يف احملمدية السمحة‪.‬‬
‫جذورنا الشعورية الثقافية ضاربة يف أرض الفتنة املرتاكمة‪ ،‬فتنتنا‬
‫التارخيية املمتدة لغدنا كما يراه املفتونون‪ .‬والرتبية اإلسالمية اليت‬
‫حنتاجها ال بد أن تؤصل لنا ثقافة على أرضية بكر طاهرة على‬
‫أرضية الفطرة حيث نسمع كالم اهلل غضا طريا خياطبنا فنفعل‬
‫وخنشع ونطيع فنعمل‪ ،‬وحيث يصبح املنهاج النبوي طريقا نسلكه‬
‫مع املوكب النوراين وعلى خطوات من جعل اهلل لنا هبم األسوة‪.‬‬
‫لعل يف التاريخ درسا ال يعوض وحكمة ملن يتخلص من‬
‫االنفعاالت اإلنسانية اليت نُسج منها التاريخ‪ .‬لكن مدرسة‬
‫السلوك املنهاجي وحمك الفقه املنهاجي الذي خيلصنا هو هذه‬
‫الصفحة اخلالدة من حياة الرسل واحلواريني‪ ،‬ومن حياة سيدنا‬
‫حممد صلى اهلل عليه وسلم وصحبه خاصة‪ .‬نتعلم من هذه املدرسة‬
‫إن تزودنا باإلميان ألهنا صفحة مشبعة بالغيب واألحداث اخلارقة‪،‬‬

‫‪181‬‬
‫يسريون صفا مع املالئكة يف الغزوات يروهنم رأي العني‪ ،‬وينزل‬
‫عليهم جربيل رجال خياطبهم وحيضرون جمالس رسول اهلل حني‬
‫يأتيه الوحي فتثقل رأسه على فخذ جاره‪ ،‬مث خيربهم عن اهلل وأمره‪.‬‬
‫وهم القرون وبرودهتا وقاب ْلنا‬
‫ونتعلم من هذه املدرسة إن أزلنا عنا ْ‬
‫التجرد واإلميان والصدق واإلحسان من جانبهم باإلعجاب واحملبة‬
‫والشوق مث اإلرادة املؤمنة أن نسلك مسلكهم‪ .‬تتعلم قلوبنا منهم‬
‫اإلميان كما نتعلم من سلوكهم اجلهادي مناذج العمل الصاحل‪.‬‬
‫بدون األسوة القلبية يكون التشبه العملي حماكاة جوفاء‪.‬‬
‫ونتعلم من هذه املدرسة إن تزودنا قبل كل شيء بصحبة تفتح‬
‫بركتها األبواب وتريب اإلميان والصدق واإلرادة والعقل‪.‬‬
‫وعندئذ ال تبقى هذه الصفحة فلتة تارخيية بل تصبح منوذجا‬
‫عاطفيا عقليا يتحدانا مباشرة بسموه لنسمو حنن على ثقة من‬
‫أن املنهاج النبوي ال يكون منهاجا نبويا إال ألنه مستمر متجدد‪،‬‬
‫أخربنا بذلك اهلل ورسوله‪.‬‬
‫لتكن حكمة التاريخ فكرا نتأمله ونصفيه مبصفاة ممارسة لنا‬
‫متجددة لإلسالم‪ ،‬وال يتأتى لنا ذلك إال إن كان بيدنا مصفاة‪.‬‬
‫وإذن فلنطو التاريخ ريثما نكون مسلمني نفكر وحنكم مبعيار‬
‫إسالمي‪ .‬لنتلق الرسالة من منبعها‪ ،‬ولنمارس اإلسالم كما مارسه‬
‫األولون‪ ،‬وعلى ضوء السنة كاملة غري منقوصة‪ .‬ألن من الناس‬

‫‪182‬‬
‫من يأخذ من السنة على قدر حاجته أو هواه‪ ،‬فواحد يشتد‬
‫على نفسه ويشاد الدين ويزعم أن الدين مضى وفات وأن اجليل‬
‫احلاضر املفتون حطب جهنم ويغلق باب التوبة والرمحة‪ .‬ومن‬
‫َن يُسر الدين يتسع لبغي الباغني وقعود‬ ‫الناس من يزعم لنفسه أ َّ‬
‫القاعدين وعبث العابثني‪ .‬وكثري يصورون اإلسالم وتاريخ اإلسالم‬
‫تصويرا عقالنيا يلغى به الغيب‪ ،‬وما القرآن إال غيب واخبار عن‬
‫الغيب وال يفتح فيه اهلدى إال للمؤمنني بالغيب‪ ،‬وما حياة الرسول‬
‫وصحبه إال غيب يف غيب‪.‬‬
‫لنأخذ السنة كاملة ولنبدأ باملصدر األول لإلميان‪ ،‬أَهو العقل‬
‫أم هو عامل آخر‪ .‬يقول الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫«والذي نفسي بيده ال تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا وال تؤمنوا‬
‫حتى تحابوا ! أَال أَدلكم على شيء إِذا فعلتموه تحاببتم؟‬
‫‪1‬‬
‫أفشوا السالم بينكم»‪.‬‬
‫هكذا نرى أن اإلميان يسري بالصحبة اليت تلد حمبة‪ ،‬اقسم‬
‫على ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وقد تبدأ حمبة املؤمنني‬
‫باإلعجاب والتقدير‪ ،‬فمن هنا تكون حياة الصحابة بداية السلوك‬
‫إذ تدفعك لصحبة املؤمنني طلبا لتحقيق النموذج التارخيي اخلالد‬
‫والصحبة ال تتبعض لكنها والية املؤمنني كافة مركزة على شخص‬

‫‪ 1‬رواه مسلم عن أيب هريرة‪.‬‬

‫‪183‬‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫ترسلك صحبة األحياء من أولياء اهلل لصحبة النموذج التارخيي‬
‫اخلالد‪ ،‬ويرسلك اإلعجاب بالصحابة الكرام لطلب صحبة‬
‫معاصريك إن كنت حيا أو بك نبض من حياة‪ .‬فإن زدت على‬
‫ذلك مهة تطلب الكمال‪ .‬فاسع إىل كمالك من باب احملبة‪ ،‬لكن‬
‫حمبة متحققة اآلن وهنا‪ ،‬وسائل الصوفية الصادقني‪.‬‬
‫﴿م َح َّم ٌد‬ ‫وصف اهلل تعاىل حممدا وصحبه يف القرآن قال ‪ُّ :‬‬
‫َش َّداء َعلَى الْ ُك َّفا ِر ُر َح َماء بـَيـْنـَُه ْم‬ ‫ول اللَّ ِه والَّ ِذين معهُ أ ِ‬ ‫َّر ُس ُ‬
‫َ َ ََ‬
‫اه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ضالً ِّم َن اللَّ ِه َو ِر ْ‬ ‫اه ْم ُرَّكعاً ُس َّجداً يـَْبتـَغُو َن فَ ْ‬
‫يم ُ‬ ‫ض َواناً س َ‬ ‫تـََر ُ‬
‫ك َمثـَلُ ُه ْم فِي التـَّْوَر ِاة َوَمثـَلُ ُه ْم‬ ‫ود َذلِ َ‬ ‫السج ِ‬ ‫ِ‬
‫في ُو ُجوه ِهم ِّم ْن أَثَ ِر ُّ ُ‬
‫ِ‬
‫استـََوى َعلَى‬ ‫ظ فَ ْ‬ ‫استـَغْلَ َ‬
‫آز َرهُ فَ ْ‬ ‫ال ِ‬
‫نج ِ‬
‫يل َك َز ْر ٍع أَ ْخ َر َج َشطْأَهُ فَ َ‬ ‫فِي ِْ‬
‫َّ ِ‬ ‫اع لِيَ ِغي َ ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫آمنُوا‬ ‫ين َ‬ ‫ار َو َع َد اللَّهُ الذ َ‬ ‫ظ ب ِه ُم الْ ُك َّف َ‬ ‫الزَّر َ‬
‫ب ُّ‬ ‫ُسوقه يـُْعج ُ‬
‫َجراً َع ِظيماً﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫الصالِح ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ات منـْ ُهم َّمغْف َرةً َوأ ْ‬ ‫َو َعملُوا َّ َ‬
‫هبؤالء الكرام جعل اهلل لنا األسوة‪ ،‬نتأسى هبم ونفعل فعلهم‪.‬‬
‫ويف اآليات خصال ثالث بارزة للجماعة املؤمنة‪ .‬أوهلا ‪ :‬شدهتم‬
‫على الكفار فإذا صغنا هذا بلسان عصرنا قلنا ‪ :‬متيزهم عن‬
‫اجلاهلية وبغضهم هلا‪ .‬ثانيها ‪ :‬رمحتهم املتبادلة‪ ،‬ونقول ‪ :‬انتماؤهم‬
‫العاطفي بعضهم لبعض‪ .‬وثالثا ‪ :‬ابتغاء رمحة اهلل‪ ،‬ونقول ‪ :‬نظرهتم‬
‫إىل اإلنسان والعامل نظرة إميانية منهاجية‪.‬‬

‫‪184‬‬
‫وقد أمر اهلل الصحابة الكرام من قبلنا‪ ،‬وهو أمر لنا أيضا أن‬
‫ُس َوةٌ‬
‫ت لَ ُك ْم أ ْ‬ ‫يتأسوا مبؤمنني مضوا‪ ،‬قال عز وجل ‪﴿ :‬قَ ْد َكانَ ْ‬
‫ين َم َعهُ إِ ْذ قَالُوا لَِق ْوِم ِه ْم إِنَّا بـَُراء ِمن ُك ْم‬ ‫َّ ِ‬
‫يم َوالذ َ‬
‫ح ِ ِ ِ‬
‫سنَةٌ في إبـَْراه َ‬ ‫ََ‬
‫ِ‬ ‫وِم َّما تـ ْعب ُدو َن من ُد ِ‬
‫ون اللَّه َك َف ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا بـَيـْنـَنَا َوبـَيـْنَ ُك ُم‬ ‫ِ‬
‫َُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ضاء أَبَداً َحتَّى تـُْؤمنُوا بِاللَّه َو ْح َدهُ﴾‪.‬‬‫ال َْع َد َاوةُ َوالْبـَغْ َ‬
‫وهنا أيضا جند اخلصال الثالث األوىل من اخلصال العشر‬
‫يتضمنها اخلطاب‪ .‬فخصلة الصدق يف التميز عن اجلاهلية‪،‬‬
‫وتتحدث اجلماعة املؤمنة متضامنة متوالية‪ ،‬وجيعلون الشرط يف‬
‫الصلح مع قومهم اإلميان باهلل‪ .‬فتلك هي الصحبة واجلماعة‪،‬‬
‫وذلك هو الذكر‪ ،‬وذلك هو الصدق يف وصف أصحاب إبراهيم‬
‫وحممد عليهما الصالة والسالم‪.‬‬
‫تأملنا يف الفقرة السابقة وجه احملبوب املعصوم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وجها لوجه‪ ،‬ونتأمل هنا النماذج الساطعة للصحابة الكرام‬
‫خلفاءه الراشدين قبل أن منضي للبحث عن فقهنا املنهاجي‬
‫وخصالنا العشر يف حياة الصحابة‪.‬‬
‫أخرج الطرباين عن ربعي بن حراش قال ‪« :‬استأذن عبد‬
‫اهلل بن عباس على معاوية رضي اهلل عنهم وقد علقت‪ 1‬عنده‬
‫بطون قريش وسعيد بن العاص جالس عن ميينه‪ .‬فلما رآه معاوية‬

‫‪ 1‬جلسوا عنده‪.‬‬

‫‪185‬‬
‫مقبال قال ‪ :‬يا سعيد ! واهلل أللقني على ابن عباس مسائل يعىي‬
‫جبواهبا فقال له سعيد ‪ :‬ليس مثل ابن عباس يعىي مبسائلك‪ .‬فلما‬
‫جلس قال له معاوية ‪ :‬ما تقول يف أيب بكر ؟ قال ‪ :‬رحم اهلل‬
‫أبا بكر‪ ،‬كان واهلل للقرآن تاليا‪ ،‬وعن امليل نائيا‪ ،‬وعن الفحشاء‬
‫ساهيا‪ ،‬وعن املنكر ناهيا‪ ،‬وبدينه عارفا‪ ،‬ومن اهلل خائفا‪ ،‬وبالليل‬
‫قائما‪ ،‬وبالنهار صائما‪ ،‬ومن دنياه ساملا‪ ،‬وعلى عدل الربية عازما‪،‬‬
‫وباملعروف آمرا‪ ،‬وإليه صائرا‪ ،‬ويف األحوال شاكرا‪ ،‬وهلل يف الغدو‬
‫والرواح ذاكرا‪ ،‬ولنفسه باملصاحل قاهرا‪ .‬فاق أصحابه ورعا وكفافا‬
‫وزهدا وعفافا وبرا وحياطة وزهادة وكفاءة‪ .‬فأعقب اهلل من ثلبه‬
‫اللعائن إىل يوم القيامة!‬
‫قال معاوية ‪ :‬فما تقول يف عمر بن اخلطاب ؟ قال ‪ :‬رحم‬
‫اهلل أبا حفص‪ ،‬كان واهلل حليف اإلسالم‪ ،‬ومأوى األيتام‪ ،‬وحمل‬
‫اإلميان‪ ،‬ومعاذ الضعفاء‪ ،‬ومعقل احلنفاء‪ ،‬للخلق حصنا وللناس‬
‫عونا‪ .‬قام حبق اهلل صابرا حمتسبا حىت أظهر اهلل الدين وفتح الديار‪،‬‬
‫وذكر اهلل يف األقطار واملناهل‪ ،‬وعلى التالل ويف الضواحي والبقاع‪.‬‬
‫وعند اخلىن‪ 1‬وقورا‪ ،‬ويف الشدة والرخاء شكورا‪ ،‬وهلل يف كل وقت‬
‫وأوان ذكورا‪ ،‬فأعقب اهلل من يبغضه اللعنة إىل يوم احلسرة !‬
‫قال معاوية ‪ :‬فما تقول يف عثمان بن عفان ؟ قال ‪ :‬رحم اهلل‬

‫‪ 1‬اخلىن ‪ :‬الفحش يف القول‪.‬‬

‫‪186‬‬
‫أبا عمرو‪ ،‬كان واهلل أكرم احلفدة‪ ،‬وأوصل الربرة‪ ،‬وأصرب الغزاة‪،‬‬
‫هجادا باألسحار‪ ،‬كثري الدموع عند ذكر اهلل‪ ،‬دائم الفكر فيما‬
‫يعنيه بالليل والنهار‪ ،‬ناهضا إىل كل مكرمة‪ ،‬يسمى إىل كل منجية‬
‫فرارا من كل موبقة‪ ،‬وصاحب اجليش‪ 1‬والبئر‪ ،2‬وخنت‪ 3‬املصطفى‬
‫على ابنتيه‪ .‬فأعقب اهلل من سبه الندامة إىل يوم القيامة !‬
‫قال معاوية ‪ :‬فما تقول يف علي بن أيب طالب ؟ قال ‪ :‬رحم اهلل‬
‫أبا احلسن‪ ،‬كان واهلل علم اهلدى‪ ،‬وكهف التقى‪ ،‬وحمل احلجى‪،4‬‬
‫وطود البهاء‪ ،‬ونور السرى يف ظلم الدجى‪ .‬داعيا إىل احملجة‬
‫العظمى‪ ،‬عاملا مبا يف الصحف االوىل‪ ،‬وقائما بالتأويل والذكرى‪،‬‬
‫متعلقا بأسباب اهلدى‪ ،‬وتاركا للجور واألذى‪ ،‬وحائدا عن طرقات‬
‫الردى‪ ،‬وخري من آمن واتقى‪ ،‬وسيد من تقمص وارتدى‪ ،‬وأفضل‬
‫من حج وسعى‪ ،‬وأمسح من عدل وسوى‪ ،‬وأخطب أهل الدنيا إال‬
‫األنبياء والنيب املصطفى‪ .‬وصاحب القبلتني فهل يوازيه موحد !‬
‫وزوج خري النساء‪ ،‬وأبو السبطني‪ .‬مل تر عيين مثله وال ترى إىل يوم‬
‫القيامة ! يوم اللقاء من لعنه فعليه لعنة اهلل والعباد إىل يوم القيامة!‬
‫(وإمنا لعن سيدنا ابن عباس من يلعن األئمة اهلداة ألن بين أمية‬

‫‪ 1‬جهز جيش العسرة‪.‬‬


‫‪ 2‬تصدق ببئر رومة على املسلمني‪.‬‬
‫‪ 3‬خنت ‪ :‬صهر‪.‬‬
‫‪ 4‬احلجى ‪ :‬العقل‪.‬‬

‫‪187‬‬
‫كانوا يسبون عليا على املنابر)‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فما تقول يف طلحة والزبري؟ قال ‪ :‬رمحة اهلل عليهما‪:‬‬
‫كانا واهلل عفيفني‪ ،‬برين‪ ،‬مسلمني‪ ،‬طاهرين‪ ،‬متطهرين‪ ،‬شهيدين‪،‬‬
‫عاملني‪ .‬زالزلة واهلل غافر هلما إن شاء اهلل بالنصرة القدمية والصحبة‬
‫القدمية‪ ،‬واألفعال اجلميلة‪.‬‬
‫قال معاوية ‪ :‬فما تقول يف العباس ؟ قال ‪ :‬رحم اهلل أبا‬
‫الفضل‪ ،‬كان واهلل صنو أب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقرة‬
‫عني صفي اهلل‪ ،‬كهف األقوام‪ ،‬وسيد األعمام‪ .‬وقد عال بصرا‬
‫باألمور ونظرا بالعواقب‪ .‬قد زانه علم‪ ،‬قد تالشت األحساب عند‬
‫ذكر فضيلته‪ ،‬وتباعدت األسباب عند فخر عشريته‪ ،‬ومل ال يكون‬
‫كذلك وقد ساسه أكرم من دب وهب عبد املطلب أفخر من‬
‫مشى من قريش وركب!»‪.‬‬
‫بذكر الكرام احملسنني تتنزل الرمحات‪ ،‬وبذكر خلفاء رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم نستطلع وجوها صبيحة وضمائر نقية‬
‫وقلوبا طاهرة متطهرة‪ .‬إهنم رجال كانوا جاهليني‪ ،‬وكانت الفتنة‬
‫اجلاهلية أترفتهم‪ ،‬فمنهم العربيد والظامل‪ .‬وما عتم األمر أن جاء‬
‫الرسول بنورانيته وهدايته من اهلل‪ ،‬فلمس نوره قلوهبم‪ ،‬وفتحت‬
‫صحبته صلى اهلل عليه وسلم مغالق نفوسهم‪ ،‬فالتحموا به صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وأحبوه وساروا على خطاه على املنهاج احلق‬

‫‪188‬‬
‫مقتحمني العقبة ذاكرين رهبم باكني من خشيته‪ ،‬وصدقوا اهلل‬
‫ورسوله وهاجروا وقطعوا حبال اجلاهلية‪.‬‬
‫وما معىن خللود الرسالة احملمدية وكماهلا إال أن املنهاج النبوي‬
‫ساطع اليوم كما كان ساطعا أمس‪ ،‬فإن اهتدينا إليه كانت اهلداية‬
‫والقوة أسرع إلينا مما نظن‪ .‬إن ذلك النور الذي أنزل معه عليه‬
‫الصالة والسالم مع قرآن ربه ال يزال هو هو يف قلوب املؤمنني‬
‫الصادقني أهل القرآن أهل اهلل‪ .‬وإن باب التوبة مفتوح ال يزال‬
‫كما كانت مفتوحة أبواب الرمحة لعمر بن اخلطاب وأضرابه‪ ،‬ومع‬
‫التوبة وصحبة للمتطهرين‪ ،‬ونذكر اهلل فنسري على احملجة واملنهاج‬
‫مع أولئكم السائرين‪.‬‬

‫‪189‬‬
‫ا لصحبة‬
‫ الصحبة أوهلا لقاء بالشخص الرباين النوراين لقاء تتبادر‬
‫إىل القلب منه هزة إعجاب وارتياح وطمأنينة‪ ،‬مث حمبة تغذوها‬
‫اجملالسة واملعاشرة يف العمل‪.‬‬
‫الذين صحبوا املعصوم صلى اهلل عليه وسلم أصناف من‬
‫الناس منهم الكهل والشاب ومنم شريف قومه والغريب املهان‪.‬‬
‫ويتفقون مجيعا يف حمبتهم للشخص الكرمي وتصديقهم له وهجرة‬
‫األهل وبذل النفس واملال يف سبيله‪ .‬وكان هلم بعد وفاته صلى‬
‫اهلل عليه وسلم لقب «صاحب رسول اهلل» شارة تزين شيخوختهم‬
‫فتحيط هبم يف عني الناس هالة تعظيم وحمبة‪ ،‬فأصبحوا مصحوبني‬
‫متبوعني‪ ،‬وكان القرن التايل أفضل القرون ألنه صحب من صحبوا‬
‫رسول الرمحة‪.‬‬
‫لقد وردت أحاديث تفضل القرن األول على سائر القرون مث‬
‫القرون التالية أوال بأول‪ .‬وذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫آحاد الناس لو انفق مثل أحد ذهبا ما بلغ مد صحايب وال نصيفه‪.‬‬
‫واتفقت األمة على أفضلية الصحابة رضي اهلل عنهم وكيف ال‬
‫وعليهم نزل القرآن أول ما نزل ! وبينهم عاش أفضل اخللق صلى‬
‫اهلل عليه وسلم!‬

‫‪190‬‬
‫هذا ما ال جنادل فيه وما ينبغي ! بيد أن تقديس األجيال‬
‫ألسبقيتها ال يعين تقديس زمان وإال أصبح وثنية‪ ،‬وما فضل‬
‫األولون رضي اهلل عنهم إال بأعماهلم‪ .‬هم كانوا أتقى وأنقى الناس‬
‫وهم كانوا أكثر املسلمني جهادا وقياما بأمر اهلل وحمبة هلل ورسوله‬
‫فمن عمل مثل عملهم يف ظروف كظروفهم فإن اهلل ال يضيع أجر‬
‫من أحسن عمال‪.‬‬
‫حمبة الصحابة للرسول الكرمي وصحبتهم له مل تكن عاطفة‬
‫تؤكد باملظاهرات والقسم‪ ،‬إمنا كانت يقينا يسيطر على األفئدة‬
‫فيرتجم يف العمل إيثارا وبذال وتعرضا لألذى واملوت وهجرة املال‬
‫والولد‪ ،‬يف ظروف قاسية تكالب فيها أعداء اإلسالم على النيب‬
‫وصحبه واشتدت األزمات وقل النصري‪ .‬لذلك كانت أعماهلم‬
‫أفضل األعمال وكانوا أفضل األجيال‪.‬‬
‫أما اليوم فهل حيق أن نقارن جمال العمل اإلسالمي وظروف‬
‫العمل اإلسالمي باجملال األول ؟ وهل يكون العامل املؤمن ألحياء‬
‫اإلسالم من فتنة كالعامل اجملاهد للجاهلية األوىل؟ إن أجيال‬
‫املسلمني بعد اجليل األول وجدوا أمامهم قاعدة مسلمة ومجاعة‬
‫أو جمتمعا إسالميني‪ .‬إن مل تكن مجاعة باملعىن القرآين متوالية‬
‫متناصحة فمجتمع ينتسب إىل اإلسالم وال ينكر من أمر اهلل إال‬
‫هبذه األثرة يف املال واهليمنة على املسلمني بقوة السلطان‪ .‬حىت‬

‫‪191‬‬
‫يف تاريخ فتنتنا الطويل كان «أولو األمر» من أصحاب امللك‬
‫العاض يطبقون من أحكام اإلسالم يف احلياة العامة ما ال يتناقض‬
‫مع سيطرهتم ويف احلياة اخلاصة ما يعلمه اهلل‪ ،‬لكنهم ال حياربون‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫أما يف فتنتنا املعاصرة فاإلسالم غريب يف داره‪ ،‬واجملاهد إلحياء‬
‫اإلسالم يف غربته بني أهله يتعرض ألذى اجلاهلي‪ ،‬ويتعرض لضياع‬
‫املال وضياع النفس‪ ،‬وما سيد قطب رمحه اهلل منا ببعيد فحق له‬
‫اجلزاء األوىف عند اهلل‪ ،‬وكانت مكافأته طوىب وهي شجرة يف اجلنة‬
‫كما قال الرسول الكرمي‪.‬‬
‫إننا ال نود أن ننصب من حياة الصحابة متثاال معجزا جبماله‬
‫وكماله‪ ،‬وال ينبغي للمسلم أن يقف منهم موقف التقديس‬
‫الضعيف‪ ،‬إمنا كانوا بشرا مثلنا‪ ،‬هلم نفوس كنفوسنا وحاجات‬
‫صعدوا كل‬‫كحاجتنا‪ ،‬وهواجس كهواجسنا‪ .‬فلئن استطاعوا أن يُ ّ‬
‫ذلك ويرقوا بروحانيتهم تائهني على املمكن طالبني «املستحيل»‬
‫حىت حققوه يف أنفسهم وعلى رقعة األرض‪ ،‬فنحن إن سرنا على‬
‫منهاجهم وشيكون أن جندد عهدهم وينصرنا اهلل كما نصرهم‪.‬‬
‫يكفي أن نتعلم كيف ينصر اهلل‪ ،‬ومدرستنا لتعلم ذلك هي كتاب‬
‫اهلل نعيد قراءته قراءة جهادية‪ ،‬وهي سرية الصحابة نعيد قراءهتا‬
‫قراءة من ينوي جهادا جمددا ال من يتأسى باملاضي عن ضياع‬

‫‪192‬‬
‫احلاضر‪ .‬أسوةً نريد ال مسالة!‬
‫من أين لنا حمبة اهلل ورسوله ؟ وهل ميكن أن نتصنع احملبة تايت‬
‫أم أن احملبة ضمنيا من املنهاج نفسه؟ ومن أين لنا نصر اهلل ومعيته‬
‫؟ أنكون معه حنن قبل أن يكون معنا أم ياتينا فضله ورمحته وحنن‬
‫سائرون على احملجة البيضاء؟‬
‫ين ُهم ُّم ْح ِسنُو َن﴾‬ ‫َّ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬إِ َّن اللّهَ َم َع الذ َ‬
‫ين اتـََّقواْ َّوالذ َ‬
‫واإلحسان غاية املنهاج ومداه‪ ،‬واملقصد اإلمياين واهلدف اإلسالمي‬
‫مرقاتان ضروريتان لتحصل لنا معية اهلل تعاىل وحمبته‪.‬‬
‫نسأل الصوفية الكرام أهل التقوى واإلحسان فيدلوننا على‬
‫مقام التوبة يتلوه مقام احملبة مث مقام الفناء والبقاء‪ .‬ولنطرح‬
‫االصطالحات املعماة لنتصور املنهاج غري ناكبني عن الصوفية‬
‫واصطالحهم‪ ،‬لكن طلبا للوضح‪ .‬التوبة على يد مؤمن هي التوبة‬
‫احلق وإمنا تايت بعد ميل إىل املؤمن وإعجاب تتبعه حمبة‪ .‬ومن احملبة‬
‫للمؤمن تايت حمبة اهلل ورسوله كما جاء يف احلديث الشريف املروي‬
‫عن سيدنا أنس رضي اهلل عنه ‪« :‬ثالث من كن فيه ذاق حالوة‬
‫اإليمان ‪ :‬أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سواهما‪ ،‬وأن‬
‫يحب المرء ال يحبه إال اهلل ؟‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر‬
‫بعد أن أنقذه اهلل منه كما يكره أن يعود في النار»‪.1‬‬

‫‪ 1‬متفق عليه‪.‬‬

‫‪193‬‬
‫كراهة وحب‪ ،‬هذان مبدآن منهاجيان‪ .‬إن انفصال املسلم‬
‫املفتون عن طاغوت غفلته كانفصال الكافر عن جاهليته‪ ،‬كالمها‬
‫يتم بعملية عاطفية إرادية‪ .‬ونفس احلركة اليت حتبب إليه اإلميان‬
‫تكره له العودة يف الكفر‪ .‬ومأتى احملبة من صحبة امرىء مؤمن‬
‫يذوق مبحبته حمبة اهلل ورسوله ويذوق حالوة اإلميان‪.‬‬
‫وهذا هو الدين «المرء على دين خليله فلينظر أحدكم‬
‫من يخالل» كما جاء يف احلديث الشريف‪ .‬وما كان الصحابة‬
‫صحابة وماكانو رمحاء بينهم إال بفيض حمبة املتبوع األعظم صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬فيها ذاقوا حالوة اإلميان وهبا اتقوا وأحسنوا‪.‬‬
‫إن هلذه احملبة اإلميانية اليت يسري هبا اإلميان من قلب املؤمن‬
‫احملسن إىل أوعية القلوب املتعطشة شبها بسريان املاء‪ ،‬فلذلك‬
‫جتد الصوفية ميثلون ماء احملبة مباء الشراب‪ ،‬ويتحدثون عن السر‬
‫الساري من الشيخ للمريد‪ ،‬وما عدوا احلق واهلل‪ ،‬فطويب ملن له‬
‫صحبة إميانية توصله حملبة اهلل ورسوله‪ ،‬وللخلي املتشكك كفاء‬
‫احلرمان يف شكه‪.‬‬
‫باحملبة والصحبة بدأ بناء اجلماعة املسلمة القوية‪ ،‬حمبة مركزة‬
‫على شخص رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خالطت القلوب‬
‫بشاشتها وحولت غلظة األعراب رمحة ورقة‪ ،‬واحملبة دفعت احملبني‬
‫األصحاب للبذل والعمل والصدق يف كل ذلك‪ ،‬واحملبة مع‬

‫‪194‬‬
‫التصديق كشفت عن العقول البدائية حجاب الغفلة فذكروا اهلل‬
‫واجنلت هلم لوائح الغيب حىت كانوا من أمرهم على يقني يرون‬
‫اجلنة والنار واملالئكة بالبصرية رؤية أقوى من رؤية العني وال جماز‬
‫يف التعبري‪.‬‬
‫خطب أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه يف أيام الدعوة األوىل‪،‬‬
‫ومل يكن الصحابة يومئذ إال مثانية وثالثني عدا‪ ،‬فثار به املشركون‬
‫وضربوه حىت ما يعرف وجهه من بطنه‪ .‬وغاب أبو بكر فلم يتكلم‬
‫إال آخر النهار‪ ،‬فما مسع منه إال السؤال عن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ .‬إن املرء ينسى عند الشدائد أهله لكن ال ينسى حمبوبه‬
‫وخليله‪ .‬وأقسم أبو بكر ألمه‪« .‬فإن هلل علي أن ال أذوق طعاما‬
‫وال أشرب شرابا أو آيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم»‪.1‬‬
‫وخرجت امرأة من األنصار قتل أبوها وأخوها وزوجها يوم‬
‫أحد مع رسول اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهي تسأل ‪ « :‬ما فعل رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم؟ قالوا خريا ! هو حبمد اهلل كما حتبني‪.‬‬
‫قالت ‪ :‬أرونيه حىت أنظر إليه ! فلما رأته قالت ‪ :‬كل مصيبة‬
‫بعدك جلل»‪ .2‬هذا مثال للصدق يف احملبة تزول معه العادة‬
‫وحماهبا فيكون اهلل ورسوله أحب إىل املؤمن من نفسه وماله والناس‬

‫‪ 1‬رواه احلافظ الطرابلسي‪.‬‬


‫‪ 2‬البيهقي‪.‬‬

‫‪195‬‬
‫أمجعني كما جاءت اآلية الكرمية ‪﴿ :‬قُ ْل إِن َكا َن آبَا ُؤُك ْم َوأَبـْنَآ ُؤُك ْم‬
‫ال اقـْتـرفـْتُم َ ِ‬ ‫ِ‬
‫ارةٌ‬
‫وها َوت َج َ‬ ‫اج ُك ْم َو َعش َيرتُ ُك ْم َوأ َْم َو ٌ ََ ُ‬ ‫َوإِ ْخ َوانُ ُك ْم َوأَ ْزَو ُ‬
‫ب إِلَْي ُكم ِّم َن اللّ ِه‬ ‫َح َّ‬ ‫ساكِ ُن تـَْر َ‬
‫ض ْونـََها أ َ‬ ‫اد َها َوَم َ‬
‫سَ‬ ‫ش ْو َن َك َ‬ ‫تَ ْخ َ‬
‫صواْ َحتَّى يَأْتِ َي اللّهُ بِأ َْم ِرِه﴾ واملرأة‬ ‫ِِ‬ ‫ِِ ِ ٍ ِ‬
‫َوَر ُسوله َوج َهاد في َسبِيله فـَتـََربَّ ُ‬
‫املؤمنة كانت يف موقف جهاد فجمعت بني حمبة اهلل ورسوله وحمبة‬
‫اجلهاد يف سبيله‪ ،‬وكان التعبري العملي لكل هذه احملبة منصبا على‬
‫شخص الرسول الكرمي‪ ،‬على الشخص البشري املاثل يريه الناس‬
‫إياها حىت تنظره فيطمئن قلبها على سالمة حمبوهبا‪.‬‬
‫من الناس من يتصور احملبة اإلهلية هلل والرسول واملؤمنني تصورا‬
‫جمردا نظريا‪ ،‬ومنهم من يذهب به اجلهل واجلاهلية إىل نفي هذه‬
‫احملبة ويدعو أن «يطهر اإلسالم» يف زعمه والسنة تكذبه وحياة‬
‫املؤمنني احملسنني ؟ الذي كان صلى اهلل عليه وسلم وال يزال قرة‬
‫أعينهم‪.‬‬
‫تقرأ للصوفية نسيبا رقيقا يف اجلناب العايل‪ ،‬وتقرأهم يتحدثون‬
‫على احملبة اإلهلية وعذوبتها ورقتها وال تكفيهم اجملازات للتنويه هبا‪.‬‬
‫وما بدأت هذه احملبة يف قلوهبم إىل نقطة نوارنية حتركت حنو‬
‫مؤمن أو أنكره فإمنا ينكر الكتتاب والسنة‪ ،‬وإىل مثله تابوا على‬
‫يده‪ ،‬مث إذا هبا ترقيهم وتشع وتنري اآلفاق‪ ،‬وإذا هبم هائمون يف‬
‫حمبة اهلل ورسوله‪.‬‬

‫‪196‬‬
‫بعث الرسول صلى اهلل عليه وسلم سرية فيها سيدنا خبيب‬
‫وسيدنا زيد بن الدثنة فأسر الرجالن وبيعا حىت بلغوا هبما مكة‪.‬‬
‫فأما خبيب فقالت عنه ابنة احلارث بن عامر وهي سجانته ‪« :‬ما‬
‫رأيت أسريا قط خريا من خبيب‪ ،‬لقد رأيته يأكل من قطف عنب‬
‫وما مبكة يومئذ مثرة‪ ،‬وإنه ملوثق يف احلديد‪ ،‬وما كان إال رزق رزقه‬
‫اهلل» وقتلوه بعد أن استمهلهم للصالة وهو ينشد ‪:‬‬
‫على أي جنبكان يف اهلل مصرعي‬ ‫ولست أبايل حني أقتل مسلم ا‬
‫يبارك على أوصـ ـ ـ ـ ـ ـ ــال شل ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــو ممزع‬ ‫وذلك يف ذات اإلله وإن يش أ‬
‫يف ذات اإلله وحمبته ومرضاة رسوله مات مؤمن محله احلب على‬
‫جناحيه عرب الكثافات العادية وأكل من قطف العنب الغييب وهو‬
‫أسري مثقل‪ ،‬ومع احملبة وخرق حجاب احلس الرجولة والشهامة‪.‬‬
‫وأما زيد بن الدثنة فاجتمع رهط من قريش على قتله‪ ،‬فقال له‬
‫أبو سفيان بن حرب‪« :‬أنشدك باهلل يا زيد ! أحتب أن حممدا اآلن‬
‫عندنا مكانك نضرب عنقه وأنك يف أهلك ؟ قال زيد ‪ :‬واهلل ما‬
‫أحب أن حممدا اآلن يف مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه‬
‫وأين جالس يف أهلي !؟ قال أبو سفيان ‪ :‬ما رأيت من الناس أحدا‬
‫حيب أحدا كحب أصحاب حممد حممدا !»‪.‬‬
‫هذه هي حمبته صلى اهلل عليه وسلم يف موقف الفداء واجلهاد‪،‬‬
‫وهي هي ال تنقص يف يوم عنها يف يوم غريه‪ .‬أخرج الطرباين عن‬
‫‪197‬‬
‫عائشة رضي اهلل عنها قالت «جاء رجل إىل النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! إنك أحب إيل من نفسي وإنك‬
‫ألحب إيل من ولدي‪ ،‬وإين الكون يف البيت فأذكرك فما اصرب‬
‫حىت آيت فأنظر إليك‪ .‬وإذا ذكرت مويت وموتك عرفت أنك إذا‬
‫دخلت اجلنة رفعت مع النبيئني‪ ،‬وإين إذا دخلت اجلنة خشيت‬
‫أال أراك‪ .‬فلم يرد عليه النيب صلى اهلل عليه وسلم بشيء حىت‬
‫ك‬‫ول فَأ ُْولَـئِ َ‬ ‫﴿وَمن يُ ِط ِع اللّهَ َو َّ‬
‫الر ُس َ‬ ‫نزل جربيل هبذه اآلية ‪َ :‬‬
‫الش َه َداء‬‫ين َو ُّ‬ ‫مع الَّ ِذين أَنـعم اللّهُ َعلَي ِهم ِّمن النَّبِيِّين و ِّ ِ‬
‫الصدِّيق َ‬ ‫َ َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬ ‫َ َْ َ‬ ‫ََ‬
‫ين ﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫الصالح َ‬ ‫َو َّ‬
‫وكانوا رضي اهلل عنهم من حمبته صلى اهلل عليه وسلم وحمبة‬
‫رهبم يقاتلون اإلخوة واآلباء املشركني‪ ،‬وكانوا يرتسون عليه يف‬
‫احلرب بأجسادهم تقع السهام يف حنورهم دونه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وكانت حمبة ال تتسرت وكانت حمبة شخص ماثل‪ .‬ولو مل يكن‬
‫هو رسول اهلل ووليه ونبيه لكانت هذه احملبة اشبه أن تكون وثنية‬
‫لكنها كانت حمبة صديقني ملن جاء بالصدق‪ .‬والوثنية الزعامية يف‬
‫عصرنا ادعاءات للمحبة ومظاهرات كاذبة جوفاء ككل الطقوس‬
‫الوثنية‪.‬‬
‫ومع احملبة اإلميانية كان التعظيم والتوقري والتعزير والنصرة‪.‬‬
‫أخرج الرتمذي عن أنس رضي اهلل عنه «أن رسول اهلل صلى اهلل‬

‫‪198‬‬
‫عليه وسلم كان خيرج على أصحابه من املهاجرين واألنصار وهم‬
‫جلوس‪ ،‬فيهم أبو بكر وعمررضي اهلل عنهما فال يرفع أحد منهم‬
‫إليه بصره إال أبو بكر وعمر‪ ،‬فإهنما كانا ينظران إليه وينظر‬
‫إليهما‪ ،‬ويبتسمان إليه ويبتسم هلما»‪.‬‬
‫وكانوا حيبونه ويهابونه‪ ،‬فإذا جلسوا معه كانوا كأمنا على‬
‫رؤوسهم الطري‪ ،‬وقد رأينا كيف كان جيالسهم صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ويوطيء هلم كنفه الشريف‪.‬‬
‫وصف عروة بن مسعود رسول اهلل وصحبه لقومه قال‪ : 1‬فو‬
‫هلل ! ما تنخم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خنامة إال وقعت‬
‫يف كف رجل منهم فذلك هبا وجهه وجلده‪ ،‬وإذا أمرهم ابتدروا‬
‫أمره‪ ،‬وإذا توضأ كادوا يقتتتلون على وضوئه‪ ،‬وإذا تكلم خفضوا‬
‫اصواهتم عنده‪ ،‬وما حيدون إليه النظر تعظيما له أي قوم ! وهلل‬
‫لقد وفدت على امللوك‪ ،‬وفدت على قيصر وكسرى والنجاشي‪.‬‬
‫واهلل إن رأيت ملكا قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب حممد‬
‫حممدا !»‪.‬‬

‫‪ 1‬روله البخاري عن املسور بن خمرمة‪.‬‬

‫‪199‬‬
‫اجلماعة‬
‫ الصحبة واجلماعة تكونان خصلة واحدة من خصالنا‬
‫العشر‪ ،‬وإمنا كتبناها حتت عنوانني لنؤكد أن مشروع اخلالص‬
‫الشخصي له مكان يف اإلسالم‪ .‬وما مجعنامها أول األمر يف خصلة‬
‫واحدة إال اعتقادا يقينيا أن اإلسالم الفردي لن جيمع لنا كلمة‬
‫ولن يؤهلنا جلهاد‪.‬‬
‫ ال يزال الغزايل اإلمام اجلليل املتهم األول عند بعضهم يف‬
‫قضية تأخر املسلمني‪ .‬يقرأون كتبه اخلاصة بتزكية النفس كاإلحياء‪،‬‬
‫فال يرون فيها جهادا وال إمكان جهاد‪ ،‬ألن اإلمام يف هذه الكتب‬
‫إمنا دل على مشروع اخلالص الفردي ومل يزرعه يف املشروع اجلهادي‬
‫لالمة‪ .‬ويف حياة الغزال نفسه ما يدل على أن فهمه لإلسالم ال‬
‫يقف عند املشروع الفردي‪ ،‬فقد نصح أهل وقته وشد رحاله ليلقى‬
‫املؤمن اجملاهد يوسف بن تاشفني ويل اهلل تعاىل أمري املؤمنني‪ .‬وال‬
‫مكان هنا ملرافعة ضد املتصوفة وحىت بعض صادقي الصوفية الذين‬
‫حتول مأواهم من معاين الرباط إىل معاين الزواية‪.‬‬
‫ال مكان هلذه املرافعة ألن الفتنة التارخيية املزمنة أناخت على‬
‫هذه األمة بكلكلها‪ ،‬فدخل املؤمنون يف رخصة القاعدين أوىل‬
‫الضرر‪.‬‬
‫‪200‬‬
‫وكما أنه ليس على األعمى حرج وال على املريض إن قعد فإن‬
‫الفتنة املشتعلة ال ترتك جماال للدعوة إال ملن يستشهد يف سبيل اهلل‪،‬‬
‫وسبيل استشهاده أال يعنف وال يزيد نار الفتنة اضطراما‪ .‬ولقد‬
‫أوصى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعض أصحابه أن يكسروا‬
‫السيوف ويلحقوا باجلبال ويعتزلوا الناس إن برز قرن الفتنة‪ ،‬وفعل‬
‫ذلك كثري من الصحابة فآتاهم اهلل منه رمحة كما آتى أهل الكهف‬
‫يف خلوهتم وكما يؤيت احملسنني الفارين بدينهم‪.‬‬
‫إن مشروع اخلالص الفردي هو احملور الذي تدور عليه اجلماعة‬
‫املؤمنة‪ ،‬وال يتصور أن تتكون للمسلمني مجاعة إن مل يكن لدى‬
‫كل فرد من أفراد األمة حمبة هلل ورسوله وانتظار ملوعوده‪ .‬لكن‬
‫اإلسالم الفردي واإلميان واإلحسان ال يكون بنفسه مجاعة‪ ،‬ولو‬
‫جتمع آالف من احملسنني ما كونوا مجاعة حىت تربطهم روابط ثالث‬
‫هي احملبة والطاعة والنصيحة‪.‬‬
‫إن ما نراه يف بالدنا اإلسالمية من التنظيم االجتماعي ما‬
‫هو إال تركيب منقول عن النظام اجلاهلي‪ .‬هذا الرتكيب قوامه‬
‫وروحه هو القانون الذي يضمن مصلحة كل فرد بضمان األمن‪.‬‬
‫القانون ووازع السلطان مها اإلطار الذي تدور فيه اضطرابات‬
‫الناس وخماصماهتم يف دنيانا دنيا الفتنة‪ ،‬وطلب الوجاهة واملال هو‬
‫الدافع للعمل والسعي‪ .‬ننقل نظام الدميقراطيات واالشرتاكيات نبين‬

‫‪201‬‬
‫عليه حياتنا‪ ،‬ونصرخ بشعار العدل ونتهارش يف جمتمع الكراهية‪.‬‬
‫واإلسالم إن اهتدينا إىل منهاجه يبدل جمتمعنا مجاعة‪ ،‬ينقلنا‬
‫من الرتكيب االجتماعي الذي يواري الفرقة ويداريها إىل بناء‬
‫عضوي روحه احملبة وهيكله الطاعة هلل والرسول وذي األمر منا‬
‫والنصيحة عامة شاملة بيننا‪.‬‬
‫إنه ال يكون املؤمن مؤمنا حىت حيب ألخيه ما حيب لنفسه‪،‬‬
‫وإننا لن نؤمن حىت نتحاب‪ ،‬أقسم على ذلك رسول اهلل‪.‬‬
‫أما املسلم فقد يكون مسلما دون أن حيب اخوته‪ ،‬يكفيه أن‬
‫يقيم الصالة مع اجلماعة وأن يقوم بأركانه اخلمس وأن يطيع األمر‬
‫العام ويسلم املسلمون من لسانه ويده وهكذا يبقى على هامش‬
‫اجلماعة ويف ظلها حىت ترقى به مهة خلالص نفسه والتقرب من‬
‫ربه‪ ،‬وعندئذ يدفعه الطلب فيتقرب من املؤمنني وحيبهم ويندمج‬
‫فيهم بعد أن يعطي برهان صدقه‪.‬‬
‫وقد رأينا يف الفقرة السابقة كيف كانت مجاعة املؤمنني حيبون‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وقرأنا يف القرآن الكرمي كيف‬
‫كانوا رمحاء بينهم‪.‬‬
‫المؤاخاة ‪ :‬بلغت احملبة بني املؤمنني من املهاجرين واألنصار‬
‫حدا تضرب به األمثال فتقامسوا املال والعمل‪ ،‬ومدح اهلل األنصار‬
‫ص ُدو ِر ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج َر إِلَْي ِه ْم َوَل يَج ُدو َن في ُ‬
‫ِ‬
‫بأهنم ‪﴿ :‬يُحبُّو َن َم ْن َه َ‬

‫‪202‬‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اصةٌ‬
‫ص َ‬‫اجةً ِّم َّما أُوتُوا َويـُْؤث ُرو َن َعلَى أَن ُفس ِه ْم َولَ ْو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ‬
‫َح َ‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾‪.‬‬‫َوَمن يُو َق ُش َّح نـَْف ِس ِه فَأ ُْولَئِ َ‬
‫هذه احملبة كانت طاقة هائلة جممعة‪ ،‬وكانت اللحام بني أعضاء‬
‫اجلسد اجلماعي‪ .‬ولكيال تتبدد ولكيال ختطئ احملبة مقصدها‬
‫نظمها رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني آخى بني املهاجرين‬
‫واألنصار‪ ،‬ونظمها اهلل حني جعل أويل القرىب أحق هبا والوالدين‬
‫قبل لك‪ ،‬مث اجلار والصاحب باجلنب‪.‬‬
‫ليست هذه احملبة تائهة مثالية إمنا هلى حلام بني املؤمنني جماله‬
‫يف العمل اليومي والبذل اليومي والتعاون اليومي‪.‬‬
‫الطاعة ‪ :‬كانت مجاعة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم قبل‬
‫اهلجرة تعتمد على احملبة املركزة يف شخصه الكرمي‪ ،‬وكان كل مسلم‬
‫يبايعه على أن ال إله إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل‪ .‬فلما أذن اهلل‬
‫ببناء اجلماعة اجلهادية طلب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وفد‬
‫األوس واخلزرج أن يبايعوه على النصرة فبايعوه ووفوا فكانوا أنصارا‪.‬‬
‫أخرج اإلمام أمحد حديثا طويال فيه أن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪« :‬مكث مبكة عشر سنني يتبع الناس يف منازهلم‬
‫عكاظ وجمنة ويف املواسم» يقول ‪« :‬من يؤويني ؟ من ينصرني‬
‫حتى أبلغ رسالة ربي وله الجنة ؟ فال جيد أحدا يؤويه وال ينصره»‬
‫هكذا كان صلى اهلل عليه وسلم يطلب مجاعة تربطها عقدة اجلهاد‬

‫‪203‬‬
‫على نصرة الرسول ألن مجاعة أصحابه األولني مستضعفون يف‬
‫قومهم مغلوبون‪.‬‬
‫وما أشبه الليلة بالبارحة ! فهؤالء هم املسلمون مستضعفني‬
‫مغلوبني‪ ،‬تتلى بني ظهرانيهم مزامري إبليس العقالنية ويذهب‬
‫هبم مع ريح اجلاهلية فتذهب رحيهم وال نصري ! ما يف صفوف‬
‫العمل القيادي يف دار اإلسالم إال كل ناصية كاذبة خاطئة‪ ،‬وإن‬
‫أفدح الكذب التلويح بشعار اإلسالم لتخفي ذيوله املفرتى عليها‬
‫البهتان القيادي والفجور‪.‬‬
‫فهل تتوب هذه النواصي الكاذبة اخلاطئة‪ ،‬وهل يربز صالح‬
‫الدين من بني املعربدين الفاسقني ؟ كان يبدو أن ال نصري يف فجر‬
‫اإلسالم األول‪ ،‬واليوم‪ ،‬واإلسالم يف غربته‪ ،‬يبدو أن ال نصري‪ ،‬ويد‬
‫اهلل القاهرة تدبر شؤونه تعاىل‪ ،‬وإننا وامي اهلل إىل ربنا لعائدون !‬
‫رحل إىل النيب صلى اهلل عليه وسلم سبعون رجال من يثرب وقد‬
‫ائتمروا وقالوا ‪«:‬حىت مىت نرتك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يطوف ويطرد يف جبال مكة وخياف ؟» قال اإلمام أمحد يروي‬
‫عن سيدنا جابر ‪« :‬فرحل إليه منا سبعون رجال حىت قدموا عليه‬
‫يف املوسم‪ ،‬فواعدناه شعب العقبة‪ .‬فاجتمعنا عندها من رجل‬
‫ورجلني حىت توافينا‪ ،‬فقلنا ‪ « :‬يارسول اهلل‪ ،‬عالم نبايعك ؟»‬
‫قال‪« :‬تبايعونني على السمع والطاعة في النشاط والكسل‪،‬‬

‫‪204‬‬
‫والنفقة في العسر واليسر‪ ،‬وعلى األمر بالمعروف والنهي عن‬
‫المنكر‪ ،‬وأن تقولوا في اهلل ال تخافوا في اهلل لومة الئم‪ ،‬وعلى‬
‫أن تنصروني فتمنعوني إذا قدمت عليكم مما تمنعون منه‬
‫أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة»…قال ‪« :‬فقمنا‬
‫إليه فبايعناه وأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك اجلنة !»‪.‬‬
‫رسول اهلل ‪ :‬لنتدبر هاتني الكلمتني املألوفتني تغطي عنا‬
‫العادة عظمة مدلوهلما‪ .‬إنه رسول‪ ،‬إنه من عند اهلل جاء‪ ،‬إنه محل‬
‫رسالة‪ ،‬محلها من ربه إلينا‪ .‬ومن كان هذا شأنه حق له أن يعطي‬
‫اجلنة وعدا ملن وىف ما بايع عليه‪ .‬ويشرتط رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم! هذا معىن املبايعة أعطيك وتعطيين‪ .‬وقد مسخت هذه‬
‫العقدة املطهرة يف زمن الفتنة حىت صارت بيعة من جانب واحد‪،‬‬
‫بيعة من املسلمني حتت قهر السيف‪ ،‬وخيلت معناها السامي‪.‬‬
‫إن وعد اهلل قائم ملن نصره ال يتخلف أبدا‪ ،‬فهل تؤمن نواصينا‬
‫الكاذبة اخلاطئة بوعد رهبا الذي يتلي قرآنا مهجورا ؟ وهل يربز‬
‫رجل يبايعنك اهلل ورسوله على النصرة فيستحق أن نبايعه على‬
‫السمع والطاعة واجلهاد؟‬
‫وبايع النيب صلى اهلل عليه وسلم مجيع املسلمني حىت النساء‪،‬‬
‫فهن كانت هلن مبايعة ذكرها اهلل يف كتابه وحددها ‪﴿ :‬يَا أَيـَُّها‬
‫ك َعلَى أَن َّل يُ ْش ِرْك َن بِاللَّ ِه‬ ‫اءك ال ُْم ْؤِمنَ ُ‬
‫ات يـُبَايِ ْعنَ َ‬ ‫النَّبِ ُّي إِ َذا َج َ‬

‫‪205‬‬
‫َش ْيئاً وَل يس ِرقْن وَل يـ ْزنِين وَل يـ ْقتـلْن أَوَل َد ُه َّن وَل يأْتِين بِبـ ْهتَ ٍ‬
‫ان‬ ‫َ َ َ ُ‬ ‫َ َْ َ َ َ َ َ َ َُ ْ‬
‫ك فِي معر ٍ‬
‫وف فـَبَايِ ْع ُه َّن‬ ‫يـ ْفتَ ِرينَهُ بـ ْين أَيْ ِدي ِه َّن وأَرجلِ ِه َّن وَل يـ ْع ِ‬
‫صينَ َ‬
‫َ ُْ‬ ‫َ ُْ َ َ‬ ‫ََ‬ ‫َ‬
‫استـَغْ ِف ْر لَ ُه َّن اللَّهَ﴾ وال تتضمن مبايعة النساء جهادا‪ ،‬وكان‬ ‫َو ْ‬
‫يعرف يف عهد الرسول «بيعة النساء» بايعه عليها حىت رجال‬
‫ما التزموا جبهاد لكن التزموا بالطاعة‪ .‬ونسمي هذه مبايعة عامة‬
‫مبايعة الطاعة اليت تلم « الشعب اجلماهريي » وختلق منه أمة‪،‬‬
‫غدا يوم يرفع لواء اإلسالم خفاقا هتفو إليه أفئدتنا معاشر األعداد‬
‫الغثائية ! واملوعد اهلل تعاىل وال نأسى على القوم الفاسقني إمنا‬
‫نشكو بثنا إىل ربنا إذ حقت علينا كلمة ربنا فجرفنا السيل‪.‬‬
‫وتعددت صيغ املبايعة ومضموناهتا بتعدد املواقف‪ ،‬وجتددت‬
‫يف حياته صلى اهلل عليه وسلم لدى كل أمر يستدعي حتفزا اراديا‬
‫جديدا‪ .‬فكانت مبايعة على اجلهاد وعلى املوت وعلى النصيحة‪.‬‬
‫وتنوعت املبايعة وكانت خاصة أحيانا عامة أحيانا حىت تشمل‬
‫األطفال‪.‬‬
‫إن املبايعة رباط ارادي بني ذوي الذمم والصدق‪ ،‬ومعىن هذا‬
‫أن اإلنسان يف هذه األرض مأسور جباذبية األرض ونوازع اهلوى‬
‫لكنه يستطيع اإلقالع بإرادته ويغري التاريخ‪ .‬واحلتمية املادية تقول‬
‫غري هذا ألهنا دعوة للتدحرج على جند الشقاء وفق التيار الغالب‬
‫تيار التكاثر والتناحر حول املال وفائض القيمة والعمل الكادح‬

‫‪206‬‬
‫الكاحل واملبايعة هلل ورسوله على أن تكون لنا اجلنة ينقل اإلنسان‬
‫ملشروع يليق بالسر املودع فيه أال وهو مشروع اقتحام العقبة واملآل‬
‫اهلل تعاىل‪.‬‬
‫واملبايعة رباط واقعي رغم ذلك‪ ،‬فال يكلف اإلنسان فوق‬
‫طاقته وال ينتظر من امللتزمني خرق العادة فيما يلتزمون به‪ ،‬لذلك‬
‫كان الرسول الكرم يفرت احلماس وييسر العمل إذ يدخل يف املبايعة‬
‫استثناءً يف حدود ما يستطيعه اإلنسان‪ .‬فيلتزم املؤمن مبا يبايع‬
‫عليه ويضرب على اليد الكرمية صفقة البيع فيقول الرسول ‪« :‬فيما‬
‫استطعت»‪.‬‬
‫ولذلك أيضا أدخل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف املبايعة‬
‫شرطا يعطي للنقص اإلنساين هامشا غري منكر‪ ،‬فإن الداخل يف‬
‫اجلماعة قد جيد من إخوته ظلما وأثره‪ ،‬فيسبق األمني صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فيشرتط عليه الصرب على األثرة واحليف‪ .‬فعن سيدنا‬
‫عبادة بن الصامت قال‪« : 1‬بايعنا رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم بيعة احلرب على السمع والطاعة يف عسرنا ويسرنا ومنشطنا‬
‫ومكرهنا‪ ،‬وأثرة علينا‪ ،‬وأن ال ننازع األمر أهله‪ ،‬وأن نقول باحلق‬
‫أينما كنا‪ ،‬ال خناف يف اهلل لومة الئم‪.‬‬
‫النصيحة ‪ :‬رأينا كيف بايع األنصار األولون رسول اهلل صلى‬

‫‪ 1‬يونس عت ابن اسحاق‪.‬‬

‫‪207‬‬
‫اهلل عليه وسلم على األمر باملعروف والنهي عن املنكر واجلهر‬
‫باحلق‪ .‬وهذا شرط من الشروط الثالثة لنجاة اإلنسان من اخلسر‬
‫نسا َن لَِفي ُخ ْس ٍر إِ َّل‬
‫ال َ‬ ‫ص ِر إِ َّن ِْ‬
‫﴿وال َْع ْ‬
‫كما يف سورة العصر ‪َ :‬‬
‫الَّ ِذين آمنُوا و َع ِملُوا َّ ِ ِ‬
‫اص ْوا‬ ‫اص ْوا بِال َ‬
‫ْح ِّق َوتـََو َ‬ ‫الصال َحات َوتـََو َ‬ ‫َ َ َ‬
‫الص ْب ِر﴾‪ .‬فاإلميان ال يكون إال مبحبة‪ ،‬والعمل ال يكون إال‬ ‫بِ َّ‬
‫مببايعة والتواصي باحلق والصرب هو الدين‪ ،‬هو النصيحة‪.‬‬
‫يف اإلسالم املنبعث بإذن اهلل تكون النصيحة جماال واسعا‬
‫للشورى بني املسلمني والعدل وتنظيم اجلهاد‪ .‬ويكفينا هنا أن‬
‫نقف حلظة لنرى كيف كان الصحابة يتناصحون‪.‬‬
‫إن النصيحة هلل ورسوله وللمؤمنني خاصتهم وعامتهم‪ .‬فأما‬
‫النصيحة هلل فهي الوفاء حبقه وعبادته والتقرب إليه بالفرض والنفل‬
‫ونصرته يف النفس ويف العامل‪ ،‬وأما النصيحة لروسله فهي السريعلى‬
‫سنته اجلهادية‪ ،‬والنصح للمؤمنني الوفاء حبق واليتهم وحق الطاعة‬
‫ملن هلم األمر‪ .‬أخرج ابن سعد أن سيدنا سعيد بن عامر ابن حذمي‬
‫اجلمحي صاحب رسول اهلل قال لعمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪: ‬‬
‫إني أريد أن أنصحك يا عمر ! قال ‪ :‬أجل‪ ،‬فأوصين فقال ‪:‬‬
‫«أوصيك أن تخشى اهلل في الناس وال تخش الناس في اهلل‪.‬‬
‫وال يختلف قولك وفعلك‪ ،‬فإن خير القول ما صدقه الفعل‪.‬‬
‫ال تقض في أمر واحد بقضاءين فيختلف عليك أمرك وتزيغ‬

‫‪208‬‬
‫عن الحق‪ .‬وخذ باألمر ذي الحجة تأخذ بالفلج‪ 1‬ويعينك اهلل‬
‫ويصلح رعيتك على يدك‪ .‬وأقم وجهك وقضاءك لمن والك‬
‫اهلل أمره من بعيد المسلمين وقريبهم‪ .‬وأحب لهم ما تحب‬
‫لنفسك وأهل بيتك وأكره لهم ما تكره لنفسك وأهل بيتك‪.‬‬
‫وخض الغمرات إلى الحق‪ ،‬وال تخف في اهلل لومة الئم»‪.‬‬
‫ليست النصيحة قوال يقال لكن عمال متواصال جهاديا‪ ،‬وجهر‬
‫باحلق‪ .‬فكما كانوا يقولون كانوا يفعلون‪ ،‬وكما كانوا ينصحون‬
‫خبوض الغمرات إىل احلق خاضوا هم الغمرات إليه مع املؤمنني‬
‫متآزرين متناصرين جاهرين ال متسرتين صادقني صرحاء يقيمون‬
‫وجههم هلل وملن واله اهلل عليهم كما ينصحون اإلمام أن يقيم‬
‫وجهه وجوها صادقة مشرقة ال يرهقها نصب النواصي الكاذبة‬
‫اخلاطئة وذلتها‪ .‬وإىل اهلل املصري‪.‬‬

‫‪ 1‬الفلج ‪ :‬الفوز‪.‬‬

‫‪209‬‬
‫الذكر‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬مثل الذي يذكر ربه‬
‫والذي ال يذكر ربه كمثل الحي والميت»‪.1‬‬
‫ وعن أيب هريرة قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫«يقول اهلل تعالى ‪ :‬أنا عند ظن عبدي بي‪ ،‬وأنا معه إذا ذكرني‪،‬‬
‫فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي‪ ،‬وإن ذكرني في مإل‬
‫ذكرته في مإل خير منه»‪.2‬‬
‫يا بين آدم طاملا إنعطفتم تعجبون بأعطافكم وتغفلون عن‬
‫ربكم وعن املصري الرفيع الذي خلقتم من أجله ! إن املرتف يف‬
‫دوابيته يقف جهده وأمله يف تسمني الدابة اإلنسانية وتروحيها‬
‫ميت بني موتى وإن كان يسعى على قدميه‪ .‬إن ربنا اخلالق فطرنا‬
‫ونفخ فينا من روحه كما أخربنا‪ ،‬وملن نسي ربه وابتعد عن الفطرة‬
‫أوهام وطواغيت صاغتها أنانيته وأظلها ظالم عقالنيته متنعه أن‬
‫يسمع عن اهلل ويفهم عن اهلل‪ .‬إنه عز وجل نفخ فينا من روحه‬
‫وإنه مع من يذكره‪ ،‬وإن انبياء اهلل وأولياءه أخربونا جيال بعد‬
‫جيل‪ ،‬أخربونا حباهلم ومقاهلم‪ ،‬أن اإلنسان ما هو هذه الدابة‬
‫الكادحة بل هو اللطيفة الروحانية اليت تتزكى وترقى طاهرة خترتق‬
‫‪ 1‬متفق عليه عن أيب هريرة‪.‬‬
‫‪ 2‬متفق عليه‪.‬‬

‫‪210‬‬
‫حجب األنانية والغفلة والعادة فتفق بني يدي رهبا يذكرها برضاه‬
‫ورمحته كما ذكرته بعبادهتا وذكرها له آناء الليل وأطراف النهار‬
‫وتسبيحها حبمده‪.‬‬
‫ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن شعب اإلميان بضع‬
‫وسبعون شعبة وأن أعالها ال إال إال اهلل‪ ،‬ودعا املؤمنني لتجديد‬
‫إمياهنم بال إله إال اهلل فقال ‪« :‬جددوا إيمانكم ! قيل ‪ :‬يا رسول‬
‫اهلل‪ ،‬وكيف جندد إمياننا ؟ قال ‪« :‬أكثروا من قول ال إله إال اهلل»‪.‬‬
‫نعلم من هذا أن اإلميان جيدد بالقول أي بالنطق بالكلمة‬
‫الطيبة‪ .‬وقول رسول اهلل حق‪ .‬لكننا نعجب ألن من الناس من‬
‫ينطق بالكلمة الطيبة طويال وال يتجدد إميانه ! وآخرون يقولوهنا‬
‫فيفلحون كما أفلح الصحابة الكرام‪ ،‬يبشرهم متبوعهم األعظم‬
‫بأن ‪« :‬قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا !» فيجدون بعد التجربة قوله‬
‫حقا !‬
‫إن الكلمة الطيبة كالشجرة الطيبة ال بد هلا من زرع ورعاية‬
‫وسقاية‪ ،‬فمن لقي رجال كامال يلقنة ال إله إال اهلل يزرعها يف قلبه‬
‫مبا أويت من روحانية مهيمنة ويسقيها بسره من غيب لغيب مبدد‬
‫اهلل تعاىل‪ ،‬وكان مريدا حمبا يتلقى بصدق فذلك أحر به أن تنمو‬
‫نبتته وترتعرع وتويت أكلها فالحا ونورانية وحياة‪ .‬ومن ذكر اهلل‬
‫يبغي أجرا وثوابا فله عند اهلل ما ظنه‪ ،‬وإن اهلل تعاىل عند ظن عبده‬

‫‪211‬‬
‫كما أخربنا‪ .‬يرجع األمر إىل الصحبة‪ ،‬صحبة عارف باهلل حي‬
‫يسعى تلقاه وجتلس إليه وحتبه وتتلقى من مدده حىت حيصل لك‬
‫هذا امليالد الروحي الذي كثريا ما يتحدث عنه الصوفية وحيسب‬
‫اخللي أهنم حاملون‪ .‬ومن مل يسع لتجديد إميانه تصديقا لقول‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وال للحياة احلق فله تعزية نفسه‬
‫امليتة !‬
‫لتجديد اإلسالم والعمل اإلسالمي ال بد من جتديد اإلميان‬
‫بالقول الثابت‪ ،‬مث ال يكون جتديد حق على صعيد األمة إال أن‬
‫اندرج مشروع اخلالص الفردي يف اجلهاد اجلماعي‪ .‬وال سبيل أبدا‬
‫إىل التعرض للفار بدينه القاعد عن اجلهاد‪ .‬فإن اهلل تعاىل يقول‪:‬‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬ ‫اه ِد ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫ين بأ َْم َوال ِه ْم َوأَن ُفس ِه ْم َعلَى الْ َقاعد َ‬
‫ين‬ ‫َّل اللّهُ ال ُْم َج َ‬ ‫﴿فَض َ‬
‫ِِ‬
‫ين َعلَى‬
‫َّل اللّهُ ال ُْم َجاهد َ‬ ‫ْح ْسنَى َوفَض َ‬ ‫َد َر َجةً َوُكـالًّ َو َع َد اللّهُ ال ُ‬
‫َجراً َع ِظيماً َدرج ٍ‬
‫ات ِّم ْنهُ َوَمغْ ِف َرةً َوَر ْح َمةً﴾‪ .‬إن اهلل‬ ‫ِِ‬
‫ََ‬ ‫ين أ ْ‬ ‫الْ َقاعد َ‬
‫وعد كل املتزكني احلسىن لكنه فضل اجملاهدين‪ .‬وغدا يوم يبدأ‬
‫اجلهاد اإلسالمي لن يتخلف من يقرأ قرآن ربه حقا!‬
‫الذكر ‪ :‬كان ذكر األصحاب الكرام حلمة حياهتم وسداها‪،‬‬
‫فالصالة كانت أهم أمورهم وأسبقها حبق‪ ،‬والفرض كان يكمله‬
‫النفل‪ ،‬وكان الذكر حتت جناح القلب الطاهر مهبط الوحي وعرش‬
‫الرمحن صلى اهلل عليه وسلم يبلغ باملؤمنني مبلغ الكمال فيكون‬

‫‪212‬‬
‫اهلل عز وجل مسع العبد وبصره ويده ورجله‪ ،‬ويصبح العبد وليا هلل‬
‫يغار اهلل عليه فيحارب من آذاه‪.‬‬
‫فذكر منفرد يلقنه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه‬
‫فرادى أو مجاعة‪ ،‬فذلك التلقني هو اإلذن وعليه املعول‪ .‬ودعاؤه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ربه يف كل حني كان حيفظ وتشد عليه‬
‫األنامل ويعض عليه بالنواجذ‪ .‬وقد رأينا يف وصف جملسه الشريف‬
‫أنه كان ال جيلس وال يقوم إال على ذكر‪ .‬وكان آخر ما يدعو‬
‫به قبل النوم قوله ‪« :‬اللهم إني أسلمت نفسي إليك ووجهت‬
‫وجهي إليك‪ ،‬وفوضت أمري إليك‪ ،‬واسندت ظهري إليك‪،‬‬
‫رغبة ورهبة إليك‪ .‬ال ملجأ وال منجى منك إال إليك‪ .‬آمنت‬
‫بكتابك الذي انزلت وبنبيك الذي أرسلت»‪.‬‬
‫مناجاة اهلل عز وجل كانت دأبه ودأب املؤمنني‪ ،‬وكيف ال‬
‫والقرآن الركيم ما حث على شيء ما حث على ذكر اهلل‪ .‬وإن‬
‫بني رسول اهلل أن مثل الذاكر والغافل مثل احلي وامليت فإمنا قرأ‬
‫َحيـَيـْنَاهُ‬
‫هلم القرآن جممال‪ .‬قال اهلل تعاىل ‪﴿ :‬أ ََو َمن َكا َن َم ْيتاً فَأ ْ‬
‫َّاس َكمن َّمثـلُهُ فِي الظُّلُم ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫ات‬ ‫َ‬ ‫َو َج َعلْنَا لَهُ نُوراً يَ ْمشي بِه في الن ِ َ َ‬
‫ِج ِّمنـَْها﴾‪ .‬ولعل كثريين يقرأون اآلية فيحملوهنا حممل‬ ‫س بِ َخار ٍ‬
‫لَْي َ‬
‫اجملاز‪ ،‬ويذهبون املذاهب يف فهم النور املعين يف اآلية وفهم احلياة‬
‫والظالم‪ .‬وما مث إال هذه احلقيقة املشرقة السافرة اليت شهدت هبا‬

‫‪213‬‬
‫األجيال من العلماء العاملني أهل اهلل وما زالت تشهد‪ .‬ويشبه‬
‫الصوفية حياة احملبة والفناء يف ذات اهلل ويومئون‪ ،‬ويصرح القرآن‬
‫ويصرح احلديث القدسي تصرحيا ما بعده اهبام‪ ،‬وتشهد حياة‬
‫الصادقني على مر األجيال أن الغافل ميت حيسب نفسه حيا‪.‬‬
‫وذكر كان للصحابة يف مواقف العمل واجلهاد‪ .‬أخرج البيهقي‬
‫عن سعيد بن املسيب رضي اهلل عنه قال ‪« :‬ملا كان ليلة دخل‬
‫الناس مكة ليلة الفتح‪ ،‬مل يزالوا يف تكبري وهتليل وطواف بالبيت‬
‫حىت أصبحوا‪ .‬فقال أبو سفيان هلند (زوجة) ‪ :‬أترين هذا من اهلل؟‬
‫قالت ‪ :‬نعم ! هذا من اهلل‪ .‬قال ‪ :‬مث أصبح أبو سفيان فغدا على‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪ :‬قلت هلند ‪ :‬أترين هذا من اهلل ؟ قالت ‪ :‬نعم‪ ،‬هذا من‬
‫اهلل! فقال أبو سفيان ‪ :‬أشهد أنك عبد اهلل ورسوله‪ ،‬والذي حيلف‬
‫به أبو سفيان‪ ،‬ما مسع قويل هذا أحد من الناس غري هند»‪.‬‬
‫أبو سفيان كان جديدا يف اإلسالم مل يصحب املسلمني‪،‬‬
‫فتعجب من إقباهلم على الذكر والطواف حىت ظن أن هبم خباال‬
‫وسأل زوجه‪ .‬وكذلك من جيالس الذاكرين يف أيامنا هذه أيام‬
‫الغفلة يعجب من قوم يرفعون أصواهتم بكلمات ترتدد بال ملل‬
‫ويستكرب هو أن يأيت ما يظنه خباال‪ .‬أما أبو سفيان فقد جاءته‬
‫احلجة من الغداة وآمن وصدق‪ ،‬وأما مستكربا فإنه جيد عند‬

‫‪214‬‬
‫«ديدان القراء» الغافلني من يفتيه أن الذكر جهرا واالجتماع يف‬
‫احللق بدعة !‪ 1‬أحاديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف االجتماع‬
‫على الذكر كثرية‪ .‬وجاءته من اهلل عزمة أن جيالس الذاكرين‪ ،‬قال‬
‫ين يَ ْدعُو َن َربـَُّهم بِالْغَ َد ِاة َوال َْع ِش ِّي‬ ‫َّ ِ‬
‫ك َم َع الذ َ‬ ‫سَ‬ ‫تعاىل ‪﴿ :‬و ْ ِ‬
‫اصب ْر نـَْف َ‬ ‫َ‬
‫ِ‬
‫الدنـْيَا َوَل‬‫ْحيَاة ُّ‬ ‫اك َعنـْ ُه ْم تُ ِري ُد ِزينَةَ ال َ‬ ‫يُ ِري ُدو َن َو ْج َههُ َوَل تـَْع ُد َعيـْنَ َ‬
‫تُ ِط ْع َم ْن أَ ْغ َفلْنَا قـَلْبَهُ َعن ِذ ْك ِرنَا﴾‪ .‬وخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فوجد مجاعة يذكرون اهلل ويتطارحون العلم فقال ‪« :‬هؤالء‬
‫الذين أمرت أن أصبر نفسي معهم» أو قال ‪« :‬الحمد هلل الذي‬
‫جعل من أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم»‪.2‬‬
‫نورد حديثا قصريا رواه اإلمام مسلم عن أيب سعيد رضي‬
‫اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬ال يقعد‬
‫قوم يذكرون اهلل إال حفتهم المالئكة وغشيتهم الرحمة ونزلت‬
‫عليهم السكينة‪ ،‬وذكرهم اهلل فيمن عنده»‪.‬‬
‫ال سكينة إال للذاكرين‪ ،‬أال بذكر اهلل تطمئن القلوب‪.‬‬
‫الغيب ‪ :‬بالصحبة والذكر تفتح ظلمات الغفلة للمريد‬
‫الصادق فتتحطم بالغي وبذلك تتحطم كربياء عقالنيته إن كان‬
‫من أصحاب املنظومات الفكرية‪ ،‬وتتحول عقليته إن كان من‬

‫‪ 1‬على أننا ال نشجع على حلق الذكر الصاخب جتنبا ملواطن اخلالف وإثارة النزاع والقيل والقال‪..‬‬
‫‪ 2‬الطربي يف تفسريه‪.‬‬

‫‪215‬‬
‫السذج الواقفني مع العادة‪ .‬كان لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫معجزات مجة‪ ،‬هلا يف كل يوم ومضات من كشفه صلى اهلل عليه‬
‫وسلم كما رأينا يف قصة أيب سفيان‪ ،‬ومن أنواع خرق العادة يرفع‬
‫اهلل أسباب الطبيعة ويعطل قوانينها على يده شهادة على أنه‬
‫امللك احلق وأن حممدا عبده مرسل من عنده‪ .‬وللصحابة رضي اهلل‬
‫عنهم كرامات وكشف يؤيد اهلل هبا قلوهبم ليزدادوا له طلبا مبحبته‬
‫وحمبة رسوله شغفا‪ .‬وما القرآن الذي يتلونه إال غيب يتحدث‬
‫عن أصحاب الكهف ثالمثائة سنني وتسعا مث يبعثون وعن مآت‬
‫األمثلة من هذا‪ .‬ويتحدث هلم اهلل تعاىل عن طريق وحيه يف الرؤيا‬
‫الصادقة يراها رسول اهلل ويراها املؤمنون ويبين على ذلك األمور‬
‫الر ْؤيَا بِال َ‬
‫ْح ِّق‬ ‫ص َد َق اللَّهُ َر ُسولَهُ ُّ‬
‫اجلسام‪ .‬قال تعاىل ‪﴿ :‬لََق ْد َ‬
‫ْح َر َام﴾‪ ،‬وكان رسول اهلل يقول ‪« :‬الرؤيا‬ ‫ِ‬
‫لَتَ ْد ُخلُ َّن ال َْم ْسج َد ال َ‬
‫جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة»‪.‬‬
‫تذكر نزرا من هذه املعجزات والكرامات ألهنا ال تستقصى يف‬
‫القرآن واحلديث‪ ،‬ونلح على تدبر قوله تعاىل ‪ « :‬ذلك الكتاب‬
‫الريب فيه هدى للمتقني الذين يؤمنون بالغيب»‪ .‬فمن ال يؤمن‬
‫بالغيب ال ينفتح له القرآن‪ ،‬فإما يلقى رجال كامال يذكر اهلل بني‬
‫يديه حىت تنجلي عنه ظلمات الغفلة وتسطع له األنوار الكاشفة‬
‫عن الطريق وإال فهو الشك والرتبص إال أن يرمحه اهلل بإميان كإميان‬

‫‪216‬‬
‫العجائز وإليه يؤول أصحاب العقل حني يرمحهم اهلل‪.‬‬
‫إن عوامل الغيب ما خلقها اهلل لتصبح شهادة‪ ،‬وإمنا يفتح‬
‫اهلل ملكوته ألحبابه لريبط على قلوهبم فيجدوا يف اقتحام العقبة‬
‫وينصرفوا إىل اجلهاد‪ .‬ومن الناس من يفتنت بلوائح الغيب من‬
‫السالكني املبتدئني فتصبح مطلوبه وغايته وذلك هو اخلسران‬
‫املبني‪ .‬وحيري العامل اليوم كما حريه باألمس ظواهر ال يفسرها العلم‬
‫التجرييب من هذه اخلزعبالت اليت يأتيها اجملوس اليوكيون وهلم اليوم‬
‫يف العامل سطوة‪ ،‬ويتهافت الناس على كتبهم ومدارسهم يلعب هبم‬
‫الشيطان كما يلعب بأساتذهم وكما يلعب بكل غافل ال شيخ‬
‫له‪ .‬إن اهلل تعاىل يأذن بفتح ظلماين تغوص فيه مهة الظلمانيني كما‬
‫يفتح عز وجل ألحبابه الفتح النوراين‪.‬‬
‫كان الصحابة رضي اهلل عنهم يقاتلون مع املالئكة كما جاء‬
‫يف القرآن يؤيدهم رهبم هبم‪ ،‬وكانوا يؤكدون أهنم مل ينصروا بالكثرة‬
‫وإمنا انتصروا بتأييد اهلل‪ .‬كتب أبو بكر الصديق رضي اهلل عنه‬
‫إىل عمرو بن العاص قال ‪ « :‬أما بعد‪ ،‬فقد جاءين كتابك تذكر‬
‫ما مجعت الروم من اجلموع‪ .‬وإن اهلل مل ينصرنا مع نبيه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بكثرة عدد وال بكثرة جنود‪ .‬وقد كنا نغزو مع رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما معنا إال فرسان‪ ،‬وإن حنن اال نتعاقب‬
‫على اإلبل‪ .‬وكنا يوم أحد مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وما‬

‫‪217‬‬
‫معنا إال فرس واحد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يركبه‪.‬‬
‫ولقد كان يظهرنا ويعيننا على من خالفنا»‪.‬‬
‫ورمى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم الرتاب يف وجه أعدائه‬
‫يوم بدر ويوم حنني بوحي من اهلل فما منهم رجل إال أصابه منه‪.‬‬
‫ت ولَ ِ‬
‫ـك َّن اللّهَ‬ ‫ت إِ ْذ َرَم ْي َ َ‬‫﴿وَما َرَم ْي َ‬
‫ويف ذلك يقول عز وجل ‪َ :‬‬
‫ين يـُبَايِعُونَ َ‬ ‫َّ ِ‬
‫ك‬ ‫َرَمى﴾‪ .‬فيد اهلل يف هذه اآلية ويف آية ‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫إِنَّ َما يـُبَايِعُو َن اللَّهَ﴾ تصديق للحديث القدسي املخرب بأن اهلل‬
‫حيب عبده فيكون مسعه وبصره ويده‪.‬‬
‫روى اإلمام مسلم عن أيب عباس رضي اله عنهما قال «بينما‬
‫رجل من املسلمني يشتد يف أثر رجل من املشركني أمامه‪ ،‬إذ‬
‫مسع ضربة بالسوط فوقه وصوت الفارس يقول ‪ :‬أقدم حيزوم !‬
‫فنظر إىل املشرك أمامه قد خر مستلقيا‪ .‬فنظر إليه فإذا هو قد‬
‫خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط وأخضر ذلك أمجع‪ .‬فجاء‬
‫األنصاري فحدث ذلك رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال ‪:‬‬
‫صدقت‪ ،‬ذلك من مدد السماء الثالثة !»‪.‬‬
‫عن ابن عباس رضي اهلل عنهما قال ‪ :‬عاد رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم رجال من األنصار‪ ،‬فلما دنا من منزله مسعه يتكلم‬
‫يف الداخل‪ ،‬فلما استأذن عليه دخل عليه فلم ير أحدا‪ .‬فقال له‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬مسعتك تكلم غريك ! قال يا‬

‫‪218‬‬
‫رسول اهلل ‪ :‬لقد دخلت الداخل اغتماما بكالم الناس مما يب من‬
‫احلمى‪ ،‬فدخل علي داخل‪ ،‬ما رأيت رجال قط بعدك أكرم جملسا‬
‫وال أحسن حديثا منه‪ .‬قال ‪ :‬ذاك جبريل‪ ،‬وإن منكم لرجاال لو‬
‫أن أحدهم يقسم على اهلل ألبره»‪.1‬‬
‫وعنه رضي اهلل عنه قال ‪« :‬كنت مع أيب عند رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وعنده رجل يناجيه‪ ،‬فكان كاملعرض عن‬
‫أيب‪ .‬فخرجنا من عنده فقال أيب أي نيب ! أمل تر إىل ابن عمك‬
‫كاملعرض عين؟ فقلت ‪ :‬يا أبت‪ ،‬إنه كان عنده رجل يناجيه‪ .‬قال‪:‬‬
‫فرحنا إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال أيب ‪ :‬يا رسول اهلل‪،‬‬
‫قلت لعبد اهلل كذا وكذا فأخربين أنه كان عندك رجل يناجيك‪،‬‬
‫فهل كان عندك أحد ؟ فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪:‬‬
‫وهل رأيته يا عبد اهلل قلت ‪ :‬نعم ! قال ‪ :‬فإن ذلك جبريل‬
‫عليه السالم هو الذي شغلني عنك»‪.2‬‬
‫أولياء اهلل حيمون فتزورهم املالئكة‪ ،‬وتزور األوهام الغافلني‪،‬‬
‫وإن عبد اهلل يرى ما مل يره أبوه ملثال واحد من أصحاب الفتح‪،‬‬
‫ولوال أن التجربة الشخصية تتكرر آالف املرات ملا عدا األمر‬
‫أن يكون اخبارا بالغيب يؤخذ باإلميان أو يطرح‪ .‬لكنها احلقيقة‬

‫‪ 1‬البزار والطرباين بسند حسن‪.‬‬


‫‪ 2‬أمحد والطرباين‪.‬‬

‫‪219‬‬
‫الصارخة يشهدها الذاكرون‪.‬‬
‫أخرج البخاري ومسلم عن أيب سعد اخلدري رضي اهلل عنه أن‬
‫سيدنا أسيد بن حضري بينما هو يف ليلة يقرأ يف مربده‪ ،‬إذ جالت‬
‫فرسه فقرأ‪ .‬مث جالت أخرى فقرأ‪ ،‬مث جالت أخرى قال أسيد‬
‫فخشيت أن تطأ حيىي‪ .‬قمت إليها‪ ،‬فإذا مثل الظلة فوق رأسي‬
‫فيها أمثال السرج‪ ،‬عرجت يف اجلو جىت ما أراها قال ‪ :‬فغدوت‬
‫إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقلت ‪ :‬يا رسول اهلل بينما‬
‫أنا البارحة يف جوف الليل اقرأ يف مربدي إذ جالت فرسي‪ .‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اقرأ ابن حضير ! قال ‪ :‬فقرأت‬
‫مث جالت أيضا ! مث قال رسول اله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬اقرأ‬
‫ابن حضير! قال فانصرفت‪ ،‬وكان حيىي قريبا منها فخشيت أن‬
‫تطأه‪ ،‬فرأيت مثل الظلة فيها أمثال السرج‪ ،‬عرجت يف اجلو حىت‬
‫ما أراها‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬تلك المالئكة‬
‫كانت تستمع لك‪ ،‬ولو قرأت ألصحبت يراها الناس ما تستتر‬
‫منهم»‪.‬‬
‫كان صلى اهلل عليه وسلم يتلو على أصحابه آيات اهلل تعدهم‬
‫باحلق ما بعد املوت من نعيم وعذاب وختربهم جبنود اهلل وعوامله‬
‫فيؤمنون ويبلغ إمياهنم حد اليقني بل حق اليقني ألهنم يرون ما‬
‫يوعدون به‪ ،‬من أويت منهم النور الكامل‪ ،‬أو من فتح له فتح‬

‫‪220‬‬
‫يف مشاهدة أكوان اهلل تعاىل‪ .‬لذلك كانت هلم الفاعلية اخلارقة‬
‫ولذلك كانوا جياهدون ويطلبون الشهادة يف سبيل اهلل‪ .‬أخرج‬
‫الشيخان عن جابر رضي اهلل عنه أنه ملا قتل أبوه جعل يكشف‬
‫عن وجهه الثوب ويبكي‪ ،‬فنهاه الناس‪ ،‬فقال رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪« :‬تبكيه أو ال تبكيه‪ ،‬لم تزل المالئكة تظله‬
‫بأجنحتها حتى رفعتموه»‪.‬‬
‫إن لشياطني اجلن اليوم سلطانا كبريا على الذين يتولونه‪ ،‬وهذه‬
‫ظاهرة يتجاهلها العقالنيون الكافرون‪ ،‬وكان للصحابة اإلبرار ما‬
‫يكون للمتقني أصحاب النور من سلطان عليه‪ .‬أخرج البخاري‬
‫عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال ‪ « :‬وكلين رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم حبفظ زكاة رمضان‪ ،‬فأتاين آت‪ ،‬فجعل حيثو من الطعام‪،‬‬
‫فأخذته وقلت ‪ :‬ألرفعنك إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫قال ‪ :‬إين حمتاج وعلي عيال‪ ،‬ويل حاجة شديدة ! قال ‪ :‬فخليت‬
‫عنه‪ ،‬فأصبحت فقال النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا أبا هريرة !‬
‫ما فعل أسيرك البارحة ؟ قلت يا رسول اهلل‪ ،‬شكا حاجة شديدة‬
‫وعياال فرمحته فخليت سبيله‪ .‬قال ‪ :‬أما إنه قد كذبك وسيعود‪.‬‬
‫فعرفت أنه سيعود لقوله صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬إنه سيعود !‬
‫فرصدته‪ ،‬فجاء حيثو من الطعام‪ ،‬فأخذته‪ ،‬فقلت ‪ :‬ألرفعنك إىل‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ! قال ‪ :‬دعين فإين حمتاج وعلي‬

‫‪221‬‬
‫عيال‪ ،‬ال أعود ! فرمحته وخليت سبيله‪ .‬فأصبحت‪ ،‬فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا أبا هريرة‪ ،‬ما فعل أسيرك ؟ قلت‪.‬‬
‫يا رسول اهلل‪ ،‬شكا إيل حاجة شديدة وعياال‪ ،‬فرمحته فخيلت‬
‫سبيله ! فقال‪ :‬أما إنه قد كذبك وسيعود ! فعرفت أنه سيعود‬
‫لقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬إنه سيعود‪ .‬فرصدته فجاء‬
‫حيثو من الطاعم‪ ،‬فأخذته فقلت ‪ :‬ألرفعنك إىل رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم‪ ،‬وهذا آخر ثالث مرات‪ ،‬إنك تزعم أال تعود مث‬
‫تعود‪ .‬قال ‪ :‬دعين أعلمك كلمات ينفعك اهلل هبا‪ .‬قلت ‪ :‬ما هن‬
‫؟ قال ‪ :‬إذا أويت إىل فراشك فاقرأ آية الكرسي ‪﴿ :‬اللّهُ الَ إِلَـهَ‬
‫وم﴾ حىت ختتم اآلية فإنه لن يزال عليك من اهلل‬ ‫إِالَّ ُه َو ال َ‬
‫ْح ُّي الْ َقيُّ ُ‬
‫حافظ‪ ،‬وال يقربك شيطان حىت تصبح‪ .‬فخيلت سبيله فأصبحت‪،‬‬
‫فقال يل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬ما فعل أسيرك البارحة‬
‫؟ قلت ‪ :‬زعم أنه يعلمين كلمات ينفعين اهلل هبا فخيلت سبيله‪.‬‬
‫قال ‪ :‬ما هي ؟ قلت ‪ :‬قال يل ‪ :‬إذا أويت إىل فراشك‪ ،‬فاقرأ‬
‫آية الكرسي من أوهلا حىت ختتم ‪﴿ :‬اللّهُ الَ إِلَـهَ إِالَّ ُه َو ال َ‬
‫ْح ُّي‬
‫وم﴾‪ ،‬وقال يل ‪ :‬لن يزال عليك من اهلل حافظ‪ ،‬وال يقربك‬ ‫الْ َقيُّ ُ‬
‫شيطان حىت تصبح ‪-‬وكانوا أحرص شيء على اخلري‪ -‬فقال النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أما إنه قد صدقك وهو كذوب ! تعلم من‬
‫تخاطب منذ ثالث ليال ؟ قلت ال ! ذلك الشيطان !‬

‫‪222‬‬
‫الصدق‬
‫ الذكر هو القرآن أنزله اهلل لنصدق ونصدق يف العمل‪.‬‬
‫كانت اجلماعة األوىل مجاعة مؤمنني متقني‪ ،‬رجل جاء بالصدق‬
‫ورجال صدقوا باحلق‪ ،‬وشاهد صدق الرسول وصدق املرسل إليهم‬
‫شاهدان ‪ :‬أحدمها من هذه الطاقة اليت حولت التاريخ وفعلت فيه‬
‫والثانية هي النورانية املتحققة يف التجربة الشخصية يف أحضان‬
‫رجال اهلل الصادقني أهل الذكر‪.‬‬
‫رجل غري عادي يتكلم كالما غري عادي ويدعو لسمو عن‬
‫العادة هبر معاصريه بالصدق واخللق‪ ،‬وأيضا باملعجزات والنوارنية‪،‬‬
‫بل هبذه قبل كل شيء‪ .‬ومن يكتبون سريته الشريفة بعقلية تصنيفية‬
‫مرتفة يتناسون املعجزات والنوارنية ليربزوا «الرجل العبقري» ويصفوه‬
‫مع أبطال التاريخ‪ .‬وحاشا ورسول اهلل نيب اهلل املؤيد من جانب اهلل‬
‫الصادق اخلارق لعادة اإلنسانية الغافلة األنانية‪.‬‬
‫برتوا لنا إسالمنا منذ واجه بضعف ال هناية له األفغاين وحممد‬
‫عبده العقالنية الوضعية امللحدة‪ .‬سورت الفلسفة الوضعية على‬
‫نفسها أسوارا حتشر هبا اإلنسان يف املعطى احملسوس الضيق‬
‫وتعامت عن واقع اإلنسان املعقد قابعة يف علمانيتها‪ .‬وعرض‬
‫حممد عبده إسالما ال ينفي الغيالبة لكن يقرضها من أطرافها‬

‫‪223‬‬
‫ومن بعده تتابعت الغيبية العقول املرتفة اخلوارة فوارت الغيب‬
‫وأولته ولتصور لنا «مودة» إسالم علماين سطحي فيه أخالق وفيه‬
‫إرادة لكنه «معقول» و«جاد» وكان الغيب خزعبالت كانت تليق‬
‫باألجيال اجلاهلة ورفعها التقدم العلمي لكي ال تكون وصمة يف‬
‫صفحة عقالء العصر املتأهلني !‬
‫خرق العادة ‪ :‬كان املؤمنون األولون ناس فطرة‪ ،‬جاءهم‬
‫الرسول مبعجزات فمحا عنهم اشعاعها الشك يف كونه رجال‬
‫خارقا للعادة ونفى عنهم الشك يف مصدر رسالته‪ .‬كانت عقوهلم‬
‫ساذجة ملا تتحجر يف عقلية مقلدة علمانية أو مشعوذة‪ ،‬وكانت‬
‫ملا يصغ هلا العقل شباك عقالنية يغتال تلقائيتها وقابليتها للغوص‬
‫يف اهلم الدائم هم املصري الذي يالزم السذج والعباقرة ويتخطى‬
‫املسرتجلني القانعني بلعبة العقالنية‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أول من التقى بعامل‬
‫الغيب عندما برز له جربيل وكلمه يف غار حراء وفزع الرسول وفر‬
‫وتزمل وتدثر خائفا مما ال عهد له به‪ .‬هذا صدق برئ يدفعه عليه‬
‫الصالة والسالم الستشارة رجل من اهل الكتاب هو ورقة بن‬
‫نوفل عنده علم بأمور الغيب‪ .‬وجاءت الرسول بعد ذلك رسالة‬
‫ربه على يد امللك األمني تأمره أن يقرأ ليتعلم أنه خلقه اهلل من‬
‫علق وأنه إىل ربه سريجع وأنه حتت نظر اهلل يراه ويعرف املتقني‬

‫‪224‬‬
‫ويعرف املهتدين واملكذبني مث ختربه أول سورة نزلت بأن نواصي‬
‫اخللق بيد خالقها وأنه تعاىل يستطيع أن يسفع كل ناصية كاذبة‬
‫خاطئة‪.‬‬
‫كان صلى اهلل عليه وسلم يومئذ حديث عهد هبذا األمر‬
‫يتعجب وخياف‪ ،‬مث تعلم بتعليم ربه وأسلم له األمر حني علم‬
‫أنه فاطره حيدثه ويكلفه فتغريت نظرته لنفسه وللعامل وتغري موقفه‬
‫ألنه أصبح إنسان فطرة يسعى أمام ربه مراقبا له عاملا أنه ال ختفى‬
‫عليه خافية‪.‬‬
‫وهذا ما حدث أيضا ألصحابه‪ ،‬صدقوه ملا اعتادوا من صدقه‪،‬‬
‫لكنهم صدقوه أيضا ملا رأوه من حاله حني ينزل عليه الوحي وملا‬
‫خربوه بأنفسهم من اتصال بالغيب‪ .‬وإن اهلل تعاىل يطلب من كل‬
‫من دعي صدقا أن يأيت بربهان صدقه ‪﴿ :‬قُ ْل َهاتُواْ بـُْر َهانَ ُك ْم‬
‫ين﴾‪ ،‬لذلك أعطى أنبياءه براهني على صدقهم‪،‬‬ ‫إِن ُكنتُم ِ ِ‬
‫صادق َ‬
‫ْ َ‬
‫براهني موضوعية ملموسة‪.‬‬
‫وملا جاءت السنة الثامنة أو العاشرة بعد بدء الوحي أسري‬
‫بالنيب وعرج به إىل السماء‪ .‬حدث ذلك بكل بساطة‪ ،‬وحتدث به‬
‫القرآن وأمجعت األمة على أن ذلك حدث جبسمه الشريف وروحه‬
‫معا‪ .‬ويف حديث البخاري ومسلم أنه صلى اهلل عليه وسلم أيت‬
‫بدابة طائرة امسها الرباق تضع حافرها عند منتهى بصرها‪ ،‬فذهبت‬

‫‪225‬‬
‫به إىل املسجد األقصى فصلى إماما باألنبياء‪ ،‬مث صعد السماوات‬
‫فرأى فيها رسل اهلل وخاطبهم ورأى من ملكوت اهلل ما حتدث عنه‬
‫بكل صدق وبساطة إىل أن انتهى إىل سدرة املنتهى فأوحى إليه‬
‫ربه ما أوحى‪.‬‬
‫وملا أصبح وأخرب الناس كما يفعل الصادق الفطري تلقى‬
‫املشركون خربه وهم لقبوه باألمني يعلمون أنه ال يكذب‪ ،‬بالسخرية‬
‫وحتدوه أن يصف هلم بيت املقدس‪ .‬وكان صلى اهلل عليه وسلم‬
‫زاره ليال فال يتبني جزئياته‪ .‬قال عليه الصالة والسالم فيما رواه‬
‫البخاري ومسلم ‪« :‬لما كذبتني قريش قمت في الحجر فجلى‬
‫اهلل لي بيت المقدس‪ ،‬وأنا فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر‬
‫إليه»‪.‬‬
‫هذا الكشف وهذه التجلية اإلهلية عطاء من اهلل ال يزال‬
‫يتجدد لصاحلي هذه األمة‪ ،‬وال يزال يكذب املكذبون‪ .‬وتعرض‬
‫بعض املشركني أليب بكر حيدثه باخلرب الضخم راجيا أن يزلزله‪،‬‬
‫قال أبو بكر ‪« :‬إن كان قال ذلك لقد صدق‪ ،‬إين ألصدقة على‬
‫أبعد من ذلك»‪.‬‬
‫ومما أوحى اهلل لنبيه عند سدرة املنتهى أن فرض عليه وعلى‬
‫أمته الصالة‪ ،‬فأصل الدين وعماده جاء يف موقف غييب يكنفه جو‬
‫غييب كما يكنف الرسول على مدى دعوته‪.‬‬

‫‪226‬‬
‫كذب املشركون باإلسراء واملعراج رغم الوصف عن التجلي‪،‬‬
‫وكيف ال يكذبون خرب الصادق األمني وهم كذبوا أعينهم قبلها‬
‫عندما انشق القمر بإشارته صلى اهلل عليه وسلم وكانوا ليلتها قد‬
‫حتروا وسألوا الواردين على مكة فأخربوهم أهنم رأوه منشقا فلقني!‬
‫وملا كثر أذى قريش ومهت بقتله صلى اهلل عليه وسلم أعطى‬
‫من نفسه برهان الصدق فهاجر ودخل غار ثور بعد أن غاصت‬
‫فرس طالبه سراقة يف األرض معجزة له صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ويف‬
‫غار ثور وارته املالئكة بأجنحتها كما أخرب‪.‬‬
‫إن املؤمنني األولني كانوا يف جاهليتهم من أكثر الناس ترفا يف‬
‫عاداهتم‪ ،‬فهناك طبقية طاغية‪ ،‬وهناك هلو وعبث‪ ،‬وهناك أوثان‬
‫ورثوها عن أجداد يعظموهنم‪ .‬وكان أهم مظهرهم لفتنتهم بالعادة‪،‬‬
‫ما كانوا يكرهون الرسول ألنه يسفه آباءهم‪ ،‬فهذا أهم مظهر‬
‫للعادة‪ ،‬إهنم ألفوا ما ورثوه ولزقوا به فسد عليهم منافذ النور‪ .‬وجاء‬
‫الغيب النوارين فخرق الصحابة العادة عندما جلس العبد احلبشي‬
‫مع سليل األسرة القرشية العتيدة‪ .‬وخرقوا العادة من أنفسهم ملا‬
‫صربوا للعذاب وخرقوها ملا هاجروا وتركوا كل مأولف وحمبوب‪.‬‬
‫وكان الغيب الزمتهم اليت ال تتخلف‪ ،‬إذا حلت هبم أزمة دعوا اهلل‬
‫فاستجاب دعاءهم‪ ،‬وإذا عطشوا نبع هلم املاء من اليد الشريفة‪،‬‬
‫ويكثر هلم الطعام بدعائه وبركته صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪227‬‬
‫كان شاهد الغيب حافزا للعمل‪ ،‬ومل يكن قعودا مع األوهام‬
‫كما أصبح يف عهود الفتنة حني اختلط صدق الصادقني بشعوذة‬
‫الفتان‪ .‬كانوا رضي اهلل عنهم جماهدين يطلبون اجلنة وهي غيب‬
‫ويشتاقون إليها ويطلبون الشهادة فيقتلون ويقتلون‪ .‬وكانوا ينفقون‬
‫ويتزودون ال يعتمدون على النبع الغييب‪.‬‬
‫كانوا صادقني مع رهبم فصدقهم اهلل واليته ونصرته‪ .‬ويف‬
‫مواقف جهادية بارزة ظهر التأييد الغييب‪ 1‬يف أجلى مظهره‪ ،‬يف‬
‫بدر وحنني ويف جل املغازي كانت املالئكة ظهريا ومع ذلك كان‬
‫معوهلم على اجلهد البشري‪.‬‬
‫أخرج البخاري وأبو نعيم والطرباين والبيهقي عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه قال ‪« :‬ملا بعث النيب صلى اهلل عليه وسلم العالء‬
‫بن احلضرمي رضي عنه إىل البحرين تبعته‪ .‬فرأيت منه خصاال‬
‫ثالثة ال أدري أيتهن أعجب ! انتهينا إىل شاطئ البحر فقال‪.‬‬
‫مسوا اهلل واقتحموا‪ ،‬فسمينا واقتحمنا‪ ،‬فعربنا وما بل املاء أسفل‬
‫خفاف إبلنا‪ .‬فلما قفلنا سرنا معه بفالة من األرض وليس معنا‬
‫ماء‪ ،‬فشكونا إليه‪ .‬فصلى ركعتني مث دعا‪ ،‬فإذا سحابة مثل الرتس‬
‫مث أرخت عزاليها فسقينا واستقينا‪ .‬ومات فدفناه يف الرمل‪ .‬فلما‬
‫سرنا غري بعيد قلنا جييء سبع فيأكله‪ ،‬فرجعنا إليه فلم نره‪ -‬يعين‬

‫‪ 1‬اقرأ اجلزء الرابع من كتاب «حياة الصحابة» للشيخ حممد يوسف رمحه اهلل‪.‬‬

‫‪228‬‬
‫يف القرب – وزاد أبو نعيم يف رواية أخرى‪ :‬فلما رآنا ابن مكعرب‬
‫عامل كسرى قال ‪ :‬ال واهلل ال نقابل هؤالء (خوفا من قتاهلم) مث‬
‫قعد يف سفينة فلحق بفارس‪.‬‬
‫وأخرج الطربي وأبو نعيم هذا احلديث العجيب الذي يصور‬
‫لنا جهاد الصحابة ملا توغلوا يف بالد فارس حيملون معهم اإلميان‬
‫وحيملون معهم النوارنية الغيبية‪ ،‬عن ابن الرفيل قال ‪ :‬ملا نزل سعد‬
‫بن أيب وقاص رضي اهلل عنه هبر سري وهي املدينة الدنيا‪ ،‬طلب‬
‫السفن ليعرب الناس إىل املدينة القصوى‪ .‬فلم يقدروا على شيء‪،‬‬
‫وجدهم قد ضموا السفن‪ .‬فأقاموا ببهر سري أياما من صفر يريدونه‬
‫على العبور (عبور دجلة) فيمنعه اإلبقاء على املسلمني (خياف‬
‫عليهم)‪ ،‬حىت أتاه أعالج فدلوه على خماضة ختاض إىل صلب‬
‫الوادي‪ ،‬فأىب وتردد عن ذلك‪ .‬وفجأهم املد‪ ،‬فرأى رؤيا أن خيول‬
‫املسلمني اقتحمتها فعربت‪ ،‬وقد أقبلت من املد بأمر عظيم‪ .‬فعزم‪،‬‬
‫لتأويل رؤياه على العبور‪ .‬فجمع سعد الناس فحمد اهلل وأثىن‬
‫عليه فقال ‪ :‬إن عدوكم قد اعتصم منكم هبذا البحر فال ختلصون‬
‫إليهم‪ ،‬وهم خيلصون إليكم إذا شاءوا فيناوشوكم يف سفنهم‪.‬‬
‫وليس وراءكم شيء ختافون أن تؤتوا منه‪ .‬وإين قد عزمت على قطع‬
‫هذا البحر (يعين دجلة) إليهم‪ .‬فقالوا مجيعا ‪ :‬عزم اهلل لنا ولك‬
‫على الرشد‪ ،‬فافعل ! فندب سعد الناس إىل العبور فقال ‪ :‬من‬

‫‪229‬‬
‫يبدأ وحيمي لنا الفراض (املكان املقابل من املاء) حىت يتالحق به‬
‫الناس لكيال مينعوهم من اخلروج ؟ فانتدب له عاصم بن عمرو‪،‬‬
‫وانتدب بعده ستمائة رجل من أهل النجدات واستعمل عليهم‬
‫عاصما‪ .‬فسار عاصم فيهم حىت وقف على شاطئ دجلة مث قال ‪:‬‬
‫من ينتدب معي مننع الفراض من عدوكم ؟ فانتدب له ستون منهم‬
‫فجعلهم نصفني‪ ،‬على خيول إناث وذكور ليكون أسلس لعوم‬
‫اخليل‪ .‬مث اقتحموا دجلة‪ .‬فلما رأى سعد عاصما على الفراض قد‬
‫منعها أذن للناس يف اإلقتحام وقال ‪ :‬قولوا ‪ :‬نستعني باهلل ونتوكل‬
‫عليه‪ ،‬وحسبنا اهلل ونعم الوكيل‪ ،‬ال حول وال قوة إال باهلل العلي‬
‫العظيم‪ .‬وتالحق عظم اجلند‪ ،‬فركبوا اللجة وإن دجلة لرتمي بالزبد‬
‫وإهنا ملسودة‪ ،‬وإن الناس ليتحدثون يف عومهم وقد اقرتنوا كما‬
‫يتحدثون يف مسريهم على األرض ففجأوا أهل فارس بأمر مل يكن‬
‫يف حساهبم فأجهضوهم وأعجلوهم على محل أمواهلم‪ .‬ودخلها‬
‫املسلمون يف صفر سنة ستة عشرة‪ ،‬واستولوا علىكل ما بقي يف‬
‫بيوت كسرى من الثالثة اآلالف ألف ألف وما مجع شريويه ومن‬
‫بعده»‪.‬‬
‫صدق الهجرة ‪ :‬مات رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وورث‬
‫الصاحلون من أمته بركته ونورانيته‪ .‬كان الغيب يف عهده شاهدا‬
‫يكتنفه التنظيم والعمل اإلرادي اجلهادي‪ ،‬أخوة منظمة وطاعة‬

‫‪230‬‬
‫منظمة وجهاد مستمر‪ .‬كان صلى اهلل عليه وسلم تظهر عليه‬
‫وعلى املؤمنني املعجزات تصبحهم ومتسيهم فتزيدهم يقينا‪ ،‬بل‬
‫كان الرسول الكرمي حيدثهم عن الغيب الذي مل يروه ويتلو عليهم‬
‫القرآن فيه آيات اخلالق الفاطر من قصص األولني يثبتهم هبا‬
‫ويعطيهم األسوة أسوة اإلميان واجلهاد‪ .‬بل كان يقص عليهم من‬
‫أنباء األولني ما يعجب له السامعون ليزدادوا‪ ،‬إميانا حدثهم مرة‬
‫عن رجل ممن كان قبلنا محل على بقرته محال فخاطبته‪ .‬فلما‬
‫تعجب متعجب قال الصادق األمني آمنت هبذا أنا وأبو بكر‬
‫وعمر!‬
‫ما عدا املالحظون من أهل امللل العقالنية احلق إن وصفوا‬
‫اإلسالم بأنه غيبية ! إمنا خيطئون إذ يقارنون شعوذة املشعوذين‬
‫املتواكلني ويقرنوهنا بالغيب احلق‪ .‬إن الغيب عند الصادقني واقع‬
‫علمي خيضع للتجربة‪ ،‬الفرائض والنفل أعمال تعبدية حسية لكنها‬
‫تعطى املؤمن نورانية حيسها يف نفسه‪ .‬وال يزال العبد يتقرب إىل‬
‫ربه بالنوافل حىت حيبه ويتواله ويكشف له عن أسرار ملكوته فريى‬
‫ما ال يراه الناس كما رأى عبد اهلل بن عباس ومل ير أبو‪ .‬وما كان‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يريد املسلمني أن يقرأوا خرب الغيب يف القرآن‬
‫ليتواكلوا بل ليزدادوا إميانا مع إمياهنم‪ ،‬وال كان يقص عليهم خرب‬
‫البقرة املتكلمة إال ليؤكد هلم بأنه هو والصديق أبو بكر والشهيد‬

‫‪231‬‬
‫عمر يؤمنون هبذا‪ ،‬واإلميان مزية وفضيلة وال إميان بدون غيب‪.‬‬
‫انظر هلؤالء الصادقني املؤمنني بالغيب املصدقني كيف كان‬
‫اقباهلم على العمل وكيف كانت فاعليتهم يف اجلهاد وكيف كانت‬
‫عزميتهم‪.‬‬
‫هاجر النيب وأصحابه من دارهم لدار الغربة واجلهاد بعزم ال‬
‫مثيل له‪ .‬وملا خاف أبو بكر يف الغار قال له النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ‪﴿ :‬الَ تَ ْح َز ْن إِ َّن اللّهَ َم َعنَا﴾ وقال له ‪ :‬ما ظنك باثنين اهلل‬
‫ثالثهما !‪ .‬ولو كانا متواكلني لقعدا يف دارمها واذن ملا حق هلما أن‬
‫يعتقدا أن اهلل معهما ألن اهلل معهما ألن اهلل مع املتقني احملسنني‬
‫ال مع اجلبناء املتواكلني الكساىل !‪.‬‬
‫اهلجرة اقتالع للعادة من جذورها وانتزاع للنفس املتزكية مما‬
‫ألفته وأنست إليه لتأنس مبوعود اهلل مبوعود اهلل للساعني اجملاهدين‪.‬‬
‫انتظر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم اإلذن من ربه يف اهلجرة‬
‫وانتظر أبو بكر وأعد عدة السفر وأعد الراحلتني‪ ،‬فما كان ينبغي‬
‫أن تتم اهلجرة على ظهر الرباق ! لتبقى لنا األسوة اجلهادية‬
‫منفصلة عن الغيب متصلة باإلميان بالغيب‪ .‬يفعل العبد بإرادته‬
‫احلرة املختارة مقتحما العقبة متحمال األالم واخلوف مث ينتظر‬
‫أن يصنع له ربه‪ .‬وملا خبا اإلميان يف عهود الفتنة ووهنت العزائم‬
‫وطغت الشعوذة فأصبح املسلمون املفتونون ينتظرون املخلص‬

‫‪232‬‬
‫فارسا ينزل من السماء‪ ،‬وال يكون املخلص إال مهاجرا جماهدا‬
‫يسعى على األرض يؤيده اهلل بالغيب لكن يفعل باإلميان الذي‬
‫حيدو اإلرادة البشرية ويوجه اجلهاد البشري‪ .‬وعندما يشاء اهلل أن‬
‫ينزل نيب اهلل عيسى عليه السالم‪ ،‬فعندما يتصل عامل الغيب بعامل‬
‫الشهادة‪ ،‬وقد أتى يومئذ أمر اهلل الذي ال نعلم منه إال ما علمنا‬
‫الصادق األمني املهاجر اجملاهد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫منوذج هلجرة الصحابة وما كان من تعبهم وأالمهم جنده يف‬
‫حديث هجرة أيب سلمة وأم سلمة رضي اهلل عنهما‪ .‬عن أم سلمة‬
‫رضي اهلل عنها قالت‪ : 1‬ملا أمجع أبو سلمة رضي اهلل عنه اخلورج‬
‫إىل املدينة رحل يل بعريه‪ ،‬مث محلين عليه‪ ،‬وجعل معي ابين سلمة‬
‫بن أيب َسلَمة يف حجري‪ .‬مث خرج يقود يب بعريه‪ .‬فلما رأته رجال‬
‫بين مغرية قاموا إليه فقالوا ‪ :‬هذه نفسك غلبتنا عليها‪ ،‬أرأيت‬
‫صاحبتنا هذه؟ عالم نرتكك تسري هبا يف البالد ؟ قالت ‪ :‬فنزعوا‬
‫خطام البعري من يده وأخذوين منه‪ .‬قالت ‪ :‬وغضب عند ذلك‬
‫بنو عبد أسد رهط أيب سلمة وقالوا ‪ :‬واهلل ال نرتك ابننا عندها‬
‫إذ نزعتموها من صاحبنا قالت ‪ :‬فتجاذبوا ابين سلمة بينهم حىت‬
‫خلعوا يده‪ .‬وانطلق به بنو عبد أسد وحبسين بنو املغرية عندهم‪.‬‬
‫وانطلق زوجي أبو سلمة إىل املدينة‪ .‬قالت ‪ :‬ففرق بيين وبني ابين‬

‫‪ 1‬ابن اسحاق‪.‬‬

‫‪233‬‬
‫وزوجي‪ .‬قالت فكنت أخرج كل غداة فأجلس يف األبطح‪ ،‬فما‬
‫أزال أبكي حىت أمسي سنة أو قريبا منها‪ ،‬حىت مر يب رجل من‬
‫بين عمي أحد بين املغرية‪ ،‬فرأى ما يب فرمحين‪ .‬فقال لبين املغرية ‪:‬‬
‫أال خترجون هذه املسكينة‪ ،‬فرقتم بينها وبني زوجها وبني ولدها ؟‬
‫قالت ‪ :‬فقالوا يل ‪ :‬احلقي بزوجك إن شئت‪ .‬قالت فرد بنو عبد‬
‫أسد إيل عند ذلك ابين‪ .‬قالت فارحتلت بعريي‪ ،‬مث أخذت ابين‬
‫فوضعته يف حجري‪ ،‬مث خرجت أريد زوجي باملدينة‪ .‬قالت ‪ :‬وما‬
‫معي أحد من خلق اهلل‪ ،‬حىت إذا كنت بالتنعيم لقيت عثمان بن‬
‫طلحة ابن أيب طلحة أخا بين عبد الدار‪ .‬فقال ‪ :‬إىل أين يا ابنة‬
‫أيب أمية ؟ قلت ‪ :‬أريد زوجي باملدينة‪ .‬قال ‪ :‬أوما معك أحد ؟‬
‫قلت ما معي أحد إال اهلل وبين هذا ! فقال ‪ :‬واهلل ما لك من‬
‫مرتك! فأخذ خبطام البعري فانطلق معي يهوي يب‪ .‬فواهلل ما صحبت‬
‫رجال من العرب قط أرى أنه كان أكرم منه‪ .‬كان إذا بلغ املنزل‬
‫أناخ يب مث استأخر عين حىت إذا نزلت استأخر ببعريي فحط عنه‪،‬‬
‫مث قيده يف الشجر مث تنحى إىل شجرة فاضطجع حتتها‪ .‬فإذا دنا‬
‫الرواح قام إىل بعريي فقدمه فرحله‪ ،‬مث استأخر عين وقال ‪ :‬اركيب‪.‬‬
‫فإذا ركبت فاستويت على بعريي أتى فأخذ خبطامه فقادين حىت‬
‫ينزل يب‪ .‬فلم يزل يصنع ذلك يب أقدمين املدينة‪ .‬فلما نظر إىل قرية‬
‫بين عمر بن عوف بقباء‪ ،‬قال‪ :‬زوجك يف هذه القرية – وكان أبو‬

‫‪234‬‬
‫سلمة هبا نازال – فادخليها على بركة اهلل‪ ،‬مث انصرف راجعا إىل‬
‫مكة‪ .‬فكانت تقول ‪ :‬ما أعلم أهل بيت يف اإلسالم أصاهبم ما‬
‫أصاب آل أيب سلمة‪ ،‬وما رأيت صاحبا قط كان أكرم من عثمان‬
‫بن طلحة !»‪.‬‬
‫مأساة رثى هلا حىت اجلاهلي‪ ،‬كان عثمان بن طلحة (وقد‬
‫أكرمه باإلسالم من ال يضيع أجر من أحسن عمال)‪ .‬لكن عزم‬
‫أىب سلمة وأم سلمة وصدقهما كان أقوى من أن تفت فيه فتنة‬
‫العصبيات‪ .‬وبصدق اهلجرة وبرهانه الواضح ابتدأ املسلمون حياة‬
‫اجلهاد يف اجلماعة املبايعة على السمع والطاعة‪ .‬وغدا ستبدأ هذه‬
‫األمة جهادها بصدق اهلجرة من الفكر اجلاهلي والسمت اجلاهلي‬
‫متحررة من عقاهلا مؤمنة برهبا وبغيبه‪ ،‬جبنته وناره ومالئكته وكتبه‬
‫ورسله وقدره الذي يتضمنه موعوده باالستخالف يف األرض ملن‬
‫آمن وعمل صاحلا‪.‬‬

‫‪235‬‬
‫البذل‬
‫إن اقتحام العقبة ليس عملية واحدة تنتهي ويبلغ مداها‪ ،‬إمنا‬
‫هي عملية مسرتسلة دائمة‪ .‬وامللكية وما يتبعها من تكاثر وحب‬
‫للقناطري املقنطرة هي العنصر األساسي يف جاذبية األرض وحوهلا‬
‫تعشش األنانية وحوهلا تتألف العادة وهبا يرتف اإلنسان أكثر‬
‫ما يرتف‪ ،‬وعندها ختمد مهته وترتكس إرادته إال إن وقي شح‬
‫نفسه‪ .‬هذه النفس جبلت على الشح‪ ،‬فهي يف حالتها اجلاهلية‬
‫أو املفتونة مهزة ملزة منكبة على القيم املادية‪ ،‬وليست تنفتح خلري‬
‫إال إن أحبت ما يعوض هلا احلب األويل الذي جبلت عليه‪.‬‬
‫اج َر إِلَْي ِه ْم َوَل‬ ‫ِ‬
‫كان األنصار رضي اهلل عنهم ﴿يُحبُّو َن َم ْن َه َ‬
‫اجةً ِّم َّما أُوتُوا َويـُْؤثُِرو َن َعلَى أَن ُف ِس ِه ْم‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ص ُدو ِره ْم َح َ‬
‫يَج ُدو َن في ُ‬
‫اصةٌ﴾ فكانت احملبة حافزا للبذل وكانت‬ ‫ص َ‬ ‫َولَ ْو َكا َن بِ ِه ْم َخ َ‬
‫صدورهم سليمة ال حسد فيها فال جمال للتكاثر‪.‬‬
‫وعاملنا املعاصر عامل تكاثر‪ ،‬وبناء اإلسالم يتوقف على البناء‬
‫االقتصادي‪ ،‬وإال فال إسالم‪ ،‬ألن الفقر كاد أن يكون كفرا كما‬
‫يقول اإلمام علي عليه السالم‪ .‬فاملسلم الفردي يعظم املال وال‬
‫يبتذله فال ينفقه‪ ،‬األيدي مقبوضة على القيمة الوحيدة املعظمة‪.‬‬
‫إن الثوراث االشرتاكية والشيوعية تنزع امللكية لتفصل بني الناس‬
‫‪236‬‬
‫واملال‪ ،‬وال بد لإلسالم املنبعث أن تكون له حرارة حياة جديدة‬
‫وباعث حمبة جديدة يفصل بني اإلنسان واملال‪ ،‬ليبتذل املال‬
‫ويبذل‪ .‬وقد يلزم أن يتضافر وازعا السلطان والقرآن يف هتيء‬
‫وسط يبتذل فيه املال ويعظم فيه اإلنسان‪ .‬إن اإلسالم يستعمل‬
‫املال استعمالني ‪ :‬ففي حق حديثي العهد باإلسالم يكون املال‬
‫الذي عند املسلمني مطلبا من مطالب املسلم اجلديد ومشجعا‪،‬‬
‫فلذلك كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يعطي املال ملن اعتنقوا‬
‫اإلسالم حديثا‪ ،‬عمال بأمر اهلل الذي جعل من مصارف الزكاة‬
‫إعطاء املؤلفة قلوهبم‪ .‬هذه القلوب ال زالت منكمشة على عادة‬
‫التكاثر وحب الدنيا فتعان على اقتحام العقبة وتستمال بالعطاء‬
‫السخي‪ .‬واالستعمال الثاين للمال بالنسبة للمؤمنني أن يبذل‬
‫وينفق يف سبيل اهلل يقتحم املؤمن بالبذل عقبة شح نفسه املتأصل‬
‫فيه‪ .‬فالبذل للمؤمن تزكية وتطهر وبرهان على الصدق للجماعة‬
‫ومادة بناء وتعاون‪.‬‬
‫ورمبا يكون لزاما أن يسبق وزاع السلطان عند بناء اإلسالم‬
‫املنبعث لكي يبذل املال ريثما يفتح اهلل على األمة حاملة اللواء‬
‫وييسر‪ ،‬فإنه من اليسري أن يستيقظ محاس باذل غداة نشر اللواء‬
‫اإلسالمي‪ .‬لكن البذل الذي حنتاجه يومئذ بذل دائم‪ ،‬بذل يتأصل‬
‫فيصبح عادة بدل الشح لتجميع رأس املال ولتسوية األرزاق‪.‬‬

‫‪237‬‬
‫وليس يكفي يف ذلك صدقات منثورة شرع اهلل الزكاة فهي تؤخذ‬
‫من كل مسلم قسرا إن امتنع ويقاتل عليها ويقتل‪ .‬هذا ال جدال‬
‫فيه‪ ،‬وإنام نتحدث عن احلق الذي للجماعة يف األموال زيادة على‬
‫الزكاة‪ .‬وقد روى البخاري عن سيدنا جابر حديثا يف الفضول‬
‫وإنفاقها‪ ،‬أمر فيه رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه أن‬
‫ينفقوا كل ما زاد عن ضرورهتم من ظهر أو طعام‪ ،‬قال جابر ‪:‬‬
‫«حىت ظننا أن ال حق الحدنا يف فضل»‪.‬‬
‫يف كل بالد اإلسالم ترف مرد وفقر خمز‪ ،‬وتسوية كل هذا‬
‫الظلم قد ال تتهيأ بوازع القرآن وحده‪ ،‬ألن النفوس زيادة على‬
‫جبلتها ألفت البذخ‪ .‬فنحن نعيش‪ ،‬من وجد إىل ذلك سبيال‪،‬‬
‫على مستوى اجملتمعات املستهلكة ونستورد بضائع الرتف كما‬
‫نستورد أفكار الرتف‪ .‬وما يسعى مرتفو الفكر إال لكسب متاع‬
‫املتمولني إال أن يكونوا من هذه اجلرثومة النادرة من املثاليني‬
‫الثوريني‪ ،‬فأولئك خيدمون أوثانا أخرى‪.‬‬
‫شهد اهلل لألنصار الكرام باحملبة واإليثار وسالمة الصدر‪،‬‬
‫ورهبم أعلم هبم‪ .‬ونستخرج حنن درسا تارخييا يعلمنا أن املؤمن ال‬
‫يسلم من مطالب نفسه أبدا بل يلزمه أن يعاجلها باستمرار ويعاين‬
‫ويدافع‪ ،‬أخرج الشيخان وغريمها أن رسول اللهصلى اهلل عليه‬
‫وسلم قسم غنائم ثقيف بعد غزوة حنني وخص املؤلفة قلبوهم‬

‫‪238‬‬
‫من أهل مكة بالعطاء اجلزل‪ ،‬فوجد لذلك بعض األنصار وقالوا ‪:‬‬
‫«يغفر اهلل لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ! يعطي قريشا ويرتكنا‬
‫وسيوفنا تقطر من دمائهم !»‪.‬‬
‫فدعا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم األنصار‪ ،‬فلما اجتمعوا‬
‫عنده أغلق األبواب مث قال ‪« :‬يا معشر األنصار ! ما قالة بلغتني‬
‫عنكم ؟ ألم آتيكم ضالال فهداكم اهلل بي‪ ،‬وكنتم متفرقين‬
‫فألفكم اهلل بي‪ ،‬وكنتم عالة فأغناكم اهلل بي ؟ ‪-‬كلما قال هلم‬
‫شيئا من ذلك قالوا ‪ :‬بلى‪ ،‬اهلل ورسوله آمن وأفضل‪ .-‬مث قال ‪:‬‬
‫أال تجيبوني يا معشر األنصار ؟ قالوا ‪ :‬مباذا جنيبك يا رسول اهلل؟‬
‫هلل ورسوله املن والفضل‪ .‬فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أما واهلل لو‬
‫شئتم لقلتم‪ ،‬فلصدقتكم وصدقتم ‪ :‬أتيتنا مكذبا فصدقناك‪،‬‬
‫ومخذوال فنصرناك‪ ،‬وطريدا فآويناك‪ ،‬وعائال فآسيناك فصاحوا‪:‬‬
‫بل املن علينا هلل ورسوله!‬
‫مث قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أوجدتم يا معشر‬
‫األنصار في أنفسكم من أجل لعاعة (بقلة خضراء) من الدنيا‬
‫تألفت بها قوما ليسلموا ووكلتكم إلى إسالمكم ! أال ترضون‬
‫يا معشر األنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا‬
‫برسول اهلل إلى رحالكم ؟ فو اهلل لما تنقلبون به خير مما‬
‫ينقلبون به‪ .‬والذي نفس محمد بيده‪ ،‬لوال الهجرة لكنت‬

‫‪239‬‬
‫أمرءا من األنصار! ولو سلك الناس شعبا وسلكت األنصار‬
‫شعبا لسلكت شعب األنصار ! وإنكم ستلقون أثرة من بعدي‬
‫فاصبروا حتى تلقوني على الحوض‪ .‬اللهم ارحم األنصار !‬
‫وأبناء األنصار وأبناء أبناء األنصار‪ .‬فبكى القوم حىت أخضلت‬
‫حلامهم وقالوا ‪ :‬رضينا باهلل ورسوله قسما ونصيبا!»‬
‫كان ال بد من هذا املوقف اإلمياين العظيم لتنطفيء غائلة‬
‫حب الدنيا والتنافس عليها من قلوب مؤمنة‪ ،‬استيقظت فجدد هلا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حمبة وإميانا‪ .‬التاريخ كله يدور على‬
‫هذه اللعاعة من الدنيا يتنافس عليها الناس‪ .‬وغليان عصرنا أشد‬
‫من كل االضطرابات السابقة ألن الناس يتكتلون وألن بأيديهم‬
‫ويف عقوهلم أسلحة للتنافس ما عرفها األولون‪ .‬وهبذه األسلحة‬
‫يريد املفتونون منا أن نقاتل الظلم واألثرة وال ينظرون إىل اجلاهلني‬
‫كيف ينقلب هبم العنف الثوري من أثرة سوداء إىل أثرة محراء‬
‫ملتهبة طبقيتها أطغى وأكثر بغيا بتقنيتها وعلمها!‬
‫وعند اإلسالم دواءان لعالج األثرة أحدمها اإلميان‪ ،‬وثانيهما‬
‫السلطان العادل القوي‪ .‬وجيتمع العالجان يف املبايعة على حتمل‬
‫األثرة كما بايع سيدنا عبادة بن الصامت‪ .‬وليس معىن هذه املبايعة‬
‫أن يوطد املسلم نفسه على أن يظلم ويذهب حقه وإمنا معناها أن‬
‫ال يأخذ حقه عنفا بيده حىت يكون السلطان الفيصل‪.‬‬

‫‪240‬‬
‫هذه بني أعيننا شعوب جاهلية تتعلق مبثاليات ثورية فتبذل‬
‫املال وتسرتخصه‪ ،‬وما بلغ أحد منها معشار بذل املؤمنني األولني‬
‫وسخائهم‪ .‬وإمنا قام اإلسالم ويقوم باملال‪ ،‬فال غرو أن جند يف‬
‫أصل تارخينا إنفاقا عظيما‪ ،‬وال غرو أن يكون اإلنفاق شرطا‬
‫أساسيا يف كمال اإلميان بل يف وجود اإلميان‪ .‬يف القرآن الكرمي‬
‫آيات كثرية تعرف املؤمنني تعريفا حصريا وتبدأ بـ« إمنا املؤمنون»‬
‫وكلها تذكر اإلنفاق وآيات اجلهاد ال تفرق أبدا بني جهاد املال‬
‫والنفس‪ ،‬وقد جعل اهلل الفالح ونيل الرب يف النفقة‪ ،‬قال ‪﴿ :‬لَن‬
‫تـَنَالُواْ الْبِ َّر َحتَّى تُ ِنف ُقواْ ِم َّما تُ ِحبُّو َن﴾‪.‬‬
‫حياة الصحابة مرآة تعكس صورة البيان القرآين والبالغ‪،‬‬
‫وهذه نبذة قصرية من سخائهم رضي اهلل عنهم ‪ :‬عن أم سلمة‬
‫رضي اهلل عنها قالت‪ : 1‬دخل عليها رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وهو ساهم الوجه‪ ،‬فخشيت ذلك من وجع‪ .‬فقلت ‪:‬‬
‫يا رسول اهلل ! مالك ساهم الوجه ! فقال ‪ :‬من أجل الدنانري‬
‫السبعة اليت أتينا هبا أمس‪ ،‬أمسينا وهي يف خصم الفراش (طرفه)‪.‬‬
‫وأحاديثه صلى اهلل عليه وسلم يف مثل هذا كثرية‪ ،‬ال يدخر ما ال‬
‫أبدا‪ .‬وكيف ال واهلل تعاىل توعد الكانزين !‪ .‬وكان أبو ذر رضي‬
‫اهلل عنه يأخذ اآلية املانعة للكنز يؤيدها حبديث النيب صلى اهلل‬

‫‪ 1‬اإلمام أمحد وأبو يعلى‪.‬‬

‫‪241‬‬
‫عليه وسلم ويلتزم برتويج املال ودفعه حاال‪ .‬عنه‪ 1‬رضي اهلل عنه‬
‫أنه جاء إىل عثمان بن عفان رضي اهلل عنه فأذن له‪ ،‬وبيده عصا‪.‬‬
‫فقال عثمان ‪ :‬يا كعب! إن عبد الرمحن مات وترك ماال‪ ،‬فما ترى‬
‫فيه فقال ‪ :‬إن كان قضى فيه حق اهلل فال بأس عليه‪ .‬فرفع أبو ذر‬
‫عصاه وضرب كعبا وقال ‪ :‬مسعت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫يقول ‪« :‬ما أحب لو أن هذا الجبل لي ذهبا أنفقه ويتقبل مني‬
‫أذر منه خلفي ست أواق!»‬
‫عن سيدنا عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪« : 2‬أمرنا رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما أن نتصدق‪ ،‬ووافق ذلك ماال‬
‫عندي‪ .‬فقلت ‪ :‬اليوم أسبق أبا بكر رضي اهلل عنه أن سبقته‬
‫يوما! فجئت بنصف مايل فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪:‬‬
‫ما أبقيت ألهلك ؟ قلت ‪ :‬أبقيت هلم‪ .‬قال ‪ :‬ما أبقيت لهم ؟‬
‫قلت ‪ :‬مثله‪ .‬وأتى أبو بكر بكل ما عنده‪ .‬فقال ‪ :‬يا أبا بكر !‬
‫ما أبقيت ألهلك ؟ قال ‪ :‬أبقيت اهلل ورسوله‪ .‬قلت ‪ :‬ال أسبقه‬
‫إىل شيء أبدا!‬
‫وأخرج البخاري يف األدب املفرد عن عبد اهلل بن الزبري رضي‬
‫اهلل عنهما قال‪« :‬ما رأيت امرأتني أجود من عائشة فكانت جتمع‬

‫‪ 1‬اإلمام أمحد والبيهقي‪.‬‬


‫‪ 2‬أبو داود والرتمذي‪.‬‬

‫‪242‬‬
‫الشيء إىل الشيء حىت إذا كان اجتمع عندها قسمت‪ .‬أما أمساء‬
‫فكانت ال متسك شيئا لغد»‪.‬‬
‫وأخرج الشيحان عن عائشة رضي اهلل عنها قالت ‪« :‬قال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أسرعكن لحاقا بي أطولكن‬
‫يدا! قالت ‪ :‬فكن يتطاولن أيتهن أطول يدا‪ .‬قالت ‪ :‬وكانت‬
‫أطولنا يدا زينب ألهنا كانت تعمل بيدها وتتصدق» يا لروعة‬
‫النموذج ‪ :‬عمل وبذل فأينكن أيتها املؤمنات!‬
‫كان املوسرون ينفقون على اجلهاد وينفقون على إخواهنم‪،‬‬
‫فقام على نفقتهم مجاعة املؤمنني يف املدينة مبا بذل األنصار وقام‬
‫على نقتهم جهاد النيب وفتحه للبالد‪.‬‬
‫وال حتسنب أن مجاعة املؤمنني مجاعة نصفها كساىل متطفلون‬
‫ونصفها حمسنون متطهرون‪ .‬فكل قادر كان يعمل‪ ،‬وعلى احلاجة‬
‫كان ينفق ! ومع الشهامة والرقة واحملبة!‬
‫أخرج البخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال ‪« :‬قالت‬
‫األنصار للنيب صلى اهلل عليه وسلم (حني نزل املدينة مع املهاجرين)‬
‫أقسم بيننا وبني إخواننا النخيل ! قال ‪ :‬ال ! فقالوا ‪ :‬أفتكفوننا‬
‫املؤونة (العمل) ونشرككم يف الثمرة ؟ قالوا ‪ :‬مسعنا وأطعنا‪ .‬وقال‬
‫عبد الرمحن بن زيد بن أسلم رضي اهلل عنه ‪ :‬قال رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم لألنصار ‪ :‬إن إخوانكم قد تركوا األموال‬

‫‪243‬‬
‫واألوالد وخرجوا إليكم ! فقالوا ‪ :‬أموالنا بيننا قطائع‪ .‬فقال‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ :‬أو غير ذلك ؟ قالوا ‪ :‬وما ذاك يا‬
‫رسول اهلل ؟ قال ‪ :‬هم قوم ال يعرفون العمل ( ال يتقنون صناعة‬
‫الغراسة ألهنم من مكة وهي ال خنل هبا) فتكفونهم وتقاسمونهم‬
‫الثمر‪ .‬قالوا ‪ :‬نعم‬
‫وأخرج البزار عن جابر رضي اهلل عنه قال ‪« :‬كانت األنصار‬
‫إذا جزوا خنلهم قسم الرجل مثره قسمني إحدمها أقل من اآلخر‪ .‬مث‬
‫جيعلون السعف (جريد النخل) مع أقلهما (ليبدو وكأنه أكثر)‪ ،‬مث‬
‫… خيريون املسلمني (من إخواهنم املهاجرين) فيأخذون أكثرمها‬
‫(الذي يبدو قليال ألن حتت القسمة األخرى سعفا)‪ ،‬ويأخذ‬
‫األنصار أقلهما من أجل السعف‪ ،‬حىت فتحت خيرب‪ .‬فقال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬قد وفيتم لنا بالذي كان عليكم‪ ،‬فإن‬
‫شئتم أن تطيب أنفسكم بنصيبكم من خيبر ويطيب ثماركم‬
‫فعلتم‪ .‬قالوا ‪ :‬إنه قد كان لك علينا شروط ولنا عليك شرط بأن‬
‫لنا اجلنة‪ ،‬فقد فعلنا الذي سألتنا بأن لنا شرطنا‪ .‬قال‪ :‬فذاكم‬
‫لكم !»‬
‫أخرج الطرباين عن أيب عقيل رضي اهلل عنه أنه بات جير اجلرير‬
‫(احلبل) على ظهره على صاعني من متر (أجرة على عمله)‪.‬‬
‫فانفلت بأحدمها إىل أهله ينتفعون به‪ ،‬وجاء باآلخر يتقرب به‬

‫‪244‬‬
‫إىل اهلل عز وجل‪ .‬فأتى به رسول اهلل صلى اهلل عليه سومل فأخربه‬
‫فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬انثره في الصدقة‪ .‬فقال‬
‫فيه املنافقون‪ ،‬وسخروا منه‪ :‬ما كان أغىن هذا أن يتقرب إىل اهلل‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ين يـَلْم ُزو َن ال ُْمطَِّّوع َ‬
‫ين‬ ‫بصاع من متر ! فأنزل اهلل عز وجل ‪﴿ :‬الذ َ‬
‫ين الَ يَ ِج ُدو َن إِالَّ ُج ْه َد ُه ْم‬ ‫ِمن الْم ْؤِمنِين فِي َّ ِ َّ ِ‬
‫الص َدقَات َوالذ َ‬ ‫َ ُ َ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اب أَل ٌ‬‫فـَيَ ْس َخ ُرو َن منـْ ُه ْم َسخ َر اللّهُ منـْ ُه ْم َولَ ُه ْم َع َذ ٌ‬
‫أخرج البخاري ومسلم عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال ‪:‬‬
‫جاء رجل إىل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال ‪ :‬إين جمهود‬
‫! فأرسل إىل بعض نسائه فقالت ‪ :‬ال ! والذي بعثك باحلق ما‬
‫عندي إال ماء ! مث أرسل إىل أخرى فقالت مثل ذالك‪ ،‬حىت قلن‬
‫كلهن مثل ذلك ‪ :‬ال والذي بعثك باحلق ما عندي إال ماء‪ .‬فقال‪:‬‬
‫من يضيف هذا الليلة رحمه اهلل ؟ فقام رجل من األنصار فقال ‪:‬‬
‫أنا يا رسول اهلل ! فانطلق به إىل رحله‪ ،‬فقال المرأته ‪ :‬هل عندك‬
‫شيء ؟ قالت ال‪ ،‬إال قوت صبياين‪ .‬قال ‪ :‬فعلليهم بشيء‪ ،‬فإذا‬
‫أرادوا العشاء فنوميهم‪ ،‬فإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج وأريه أنا‬
‫نأكل‪ .‬قال ‪ :‬فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويني‪ .‬فلما أصبح غدا‬
‫على رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم فقال ‪ :‬قد عجب اهلل من‬
‫صنيعكما بضيفكما !»‪.‬‬
‫تقلل وبذل ووحي اهلل يزكي كل ذلك‪ ،‬ويعجب اهلل فرحا مبا‬

‫‪245‬‬
‫فعل عباده املتقون‪ .‬إن للصحابة ولكل مؤمن حمسن حياة روحية‬
‫ورباطا مع ربه وحمبة له ولرسوله وانتظارا ملوعوده يف اادار اآلخرة‪.‬‬
‫ميأل كل ذلك قلبه نورا ويفعم أيامه حبورا فتذل يف عينه الدنيا‬
‫ويعز اهلل ورسوله ويعز املطلوب فيهون الطلب وينشط املؤمن‬
‫القتحام عقبة الشح‪.‬‬
‫إن هذه األنا تطلب خلودا فينكب اهلمزة اللمزة على ماله‬
‫يعدده ويستغين عن ربه حيسب أن ماله أخلده‪ .‬كال ! إمنا ختلد‬
‫األنا بعد التزكى والتطهر وبعد أن تولد الروحانية العلوية من حطام‬
‫النفس اخلبيثة بالصحبة والذكر والصدق‪ .‬وال يبذل املرء ماله إال‬
‫قهرا يف جمتمع اجلاهلية ويبذله املؤمن لقاء موعود اهلل‪.‬‬
‫عن أنس‪ 1‬رضي اهلل عنه أن رجال قال ‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬إن‬
‫لفالن خنلة وأنا أقيم حائطي هبا (حيب أن يزيدها إىل بستانه‬
‫ليستوى البستان) فأمره أن يعطيين حىت أقيم حائطي هبا‪ .‬فقال له‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬أعطه إياها بنخلة يف اجلنة ! فأىب‪.‬‬
‫قال ‪ :‬فأتاه أبو الدحداح (وهو صاحب احلائط) فقال ‪ :‬بعين‬
‫خنلتك حبائطي‪ .‬قال ‪ :‬ففعل‪ .‬فأتى النيب صلى اهلل عليه وسلم‬
‫فقال ‪ :‬يا رسول اهلل‪ ،‬ابتعت النخلة حبائطي فاجعلها له فقد‬
‫‪2‬‬
‫اعطيتكها ! فقال صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬كم من عذق رداح‬

‫‪ 1‬رواه اإلمام أمحد والطرباين واحلاكم‪.‬‬


‫‪ 2‬خنلة ثقيلة بالتمر‪.‬‬

‫‪246‬‬
‫أليب الدحداح يف اجلنة ؟ قاهلا مرارا‪ .‬قال ‪ :‬فأتى امرأته فقال يا‬
‫أم الدحداح ! اخرجي من احلائط فإين قد بعته بنخلة يف اجلنة !‬
‫فقالت ‪ :‬ربح البيع !»‬
‫ِِ‬ ‫ِ‬
‫س ُه ْم‬
‫ين أَن ُف َ‬ ‫يقول اهلل تعاىل ‪﴿ :‬إِ َّن اللّهَ ا ْشتـََرى م َن ال ُْم ْؤمن َ‬
‫يل اللّ ِه فـَيـَْقتـُلُو َن‬ ‫الجنَّةَ يـَُقاتِلُو َن فِي َسبِ ِ‬ ‫َن لَ ُه ُم َ‬ ‫َوأ َْم َوالَ ُهم بِأ َّ‬
‫يل والْ ُقر ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫آن َوَم ْن‬ ‫َويـُْقتـَلُو َن َو ْعداً َعلَْيه َح ّقاً في التـَّْوَراة َوا ِإلنج ِ َ ْ‬
‫استَْب ِش ُرواْ بِبـَْي ِع ُك ُم الَّ ِذي بَايـَْعتُم بِ ِه َو َذلِ َ‬ ‫ِ‬ ‫ِِ ِ‬
‫ك‬ ‫أ َْوفَى بِ َع ْهده م َن اللّه فَ ْ‬
‫ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ُه َو الْ َف ْو ُز ال َْعظ ُ‬
‫كان بيع اهلل وموعوده منهم رضي اهلل عنهم كأنه رأي العني‬
‫إلمياهنم ويقينهم‪ .‬لذلك بذلوا واستحبوا اآلخرة على احلياة الدنيا‪.‬‬

‫‪247‬‬
‫العلم‬
‫أغمي على الفكر اإلسالمي منذ أصبحت متعذرة تربية‬
‫األعداد اهلائلة من الذين دخلوا يف دين اهلل أفواجا‪ ،‬دخلوا فيما‬
‫دخل فيه الناس يفيئون إىل ظل دولة قوية عادلة‪ .‬ما جالسوا وما‬
‫صحبوا إال قليال‪ .‬ووفد كل منهم بثقافته وتناول العلم النبوي‬
‫صاص بإسرائلياهتم إىل أن أنشبت الفلسفة‬ ‫تناوله اخلاص‪ ،‬فكان ال ُق َّ‬
‫اإلغريقية عقالنيتها يف العلم النبوي‪ .‬فتناول املسلم هذا العلم‬
‫الغييب باملنطق لغايات شريفة أحيانا وأحيانا تناوله املوسوسون‬
‫بنياهتم‪ .‬بقي رجال احلديث يرثون العلم النبوي احلق‪ ،‬فكانوا‬
‫يقرأون القرآن ومعه احلديث يفسره عمال نظمه رسول اهلل وزكاه‪،‬‬
‫وكانوا يروون احلديث ويربطونه بالوحي‪ ،‬وكان منهم رضي اهلل‬
‫عنهم أئمة اهلدى‪.‬‬
‫وتفرعت فروع العلم النبوي حلاجات «جمتمع» يرتعرع بسرعة‬
‫وتتشكل معامالته‪ ،‬وحظي علماء الفروع باملكانة األوىل يف الدولة‬
‫ألن الدولة ما كان يهمها أمر الدعوة بقدر ما كانت حترص على‬
‫تنظيم الدولة‪ .‬وخدم العلماء الدولة بعد أن قل أمثال اإلمام أمحد‬
‫وانعزل العلماء العاملون بإمياهنم الغض الطري الذي حافظوا عليه‬
‫كما كان يف عهد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالرتبية‪ .‬وكان‬

‫‪248‬‬
‫لرجال احلديث إسناد متسلسل يف رواية احلديث وللصوفية إسناد‬
‫متسلسل أخذوا عن طريقه تربيتهم ‪.‬‬
‫أما احلديث والفروع فدونت وتناقلتها األجيال‪ ،‬فأخذت‬
‫جتف شيئا فشيئاحىت تصل إىل حرفية جامدة متاما الصلة هلا‬
‫باحلياة العملية إال من بعيد بعيد‪ .‬فإذا بلغ تدهور «اجملتمع»‬
‫اإلسالمي آخر دركاته وجاءت اجلاهلية بتكنولوجيتها تسحب‬
‫معها «علوما» مادية واحتار وارث احلرفية التارخيية يف دار اإلسالم‬
‫فإما يتحجر وينفى علوم الكفار مفضال اإلحتفاظ بإميانه الغييب‬
‫وإما «ينفتح» فينادي مع املنادين بأن اإلسالم ينبغي أن يساير‬
‫العلم‪ ،‬ويفاخر اجلاهلية بأن القرآن سبق العالن هذه احلقيقة أو‬
‫تلك بأربعة عشر قرنا! ما قدروا اهلل حق قدره إذ قارنوا بني احلق‬
‫املطلق وبني ركض اإلنسان الواهن يف تعلم جزئيات الكون ! وبني‬
‫أيدي أولئك وهؤالء يصان العلم النبوي إدراكا وقوال‪ ،‬وبني أيدي‬
‫«ديدان القراء» كما يعرب الرسول صلى اهلل عليه وسلم يبتذل‬
‫يف خدمة الطاغوت وتربير الفسوق‪ .‬أما العمل بالعلم النبوي‬
‫فيتفاوت فيه العلماء فإن منهم املتقون‪.‬‬
‫وأما الصوفية فتوارثوا الرتبية اإلسالمية كاملة‪ ،‬وحاولوا تدوينها‬
‫بصيغ فما وفقوا‪ ،‬وساحوا يذكرون ليلى والكأس باستعارات ال‬
‫جندها يف كتاب اهلل وسنة نبيه‪ ،‬ألن الصيغة الكاملة الصحيحة‬

‫‪249‬‬
‫هي يف كتاب اهلل وسنة نبيه‪ ،‬وضرهم التدوين‪ .‬وكفروهم لعجزهم‬
‫يف التعبري عن حقائق صرح اهلل هبا ورسوله‪ .‬وضرهم تعظيم الناس‬
‫على مر العصور ألنوار الوالية البادية عليهم حىت ادعى األدعياء‬
‫وكذب املنافقون‪ ،‬وانتسب كل من هب ودب للموكب النوراين‬
‫بلبس املرقعات وتلفيق العبارات‪.‬‬
‫وكان عن شأن العلماء أن يكونوا متبوعني‪ ،‬لكنهم ضعف‬
‫منهم اإلميان فأصبحوا تابعني‪ ،‬تبعوا الفلسفة يف القرون األوىل‪،‬‬
‫ونسوا الغيب فأغلقت عليهم نورانية القرآن فهم اليوم أتباع‬
‫خانعون أمام التكنولوجية اإلنسانية اليت أصبحت معيارا يقاس به‬
‫حق اهلل وغيبه وعلمه الذي جاء به نبيه‪.‬‬
‫إن املرء ال يقسو إال على أحبابه‪ ،‬ولطاملا امتهنوا علماء‬
‫الشريعة يتيهون عليهم باحلضارة اإلنسانية وعلومها‪ ،‬حىت إن‬
‫علماء الشريعة يفضلون أن يلقبوا استاذا ودكتورا لكي ال يتميزا‬
‫عن زمالئهم من طالب علوم املادة‪ .‬وشتان بني علم األنبياء وعلم‬
‫األغبياء‪ ،‬اجلاهلني لقيمة اإلنسان ومصريه!‬
‫لسنا ننقص من أمهية التكنولوجية ودورها يف إحياء هذه‬
‫األمة وإعطاءها القوة‪ .‬فنحن نعتقد أن األهداف اإلسالمية يف‬
‫متيزنا واستقاللنا عن اجلاهلية ال ميكن حتقيقها إال بالتكنواوجيا‬
‫وتنظيمها للحياة اليومية واالقتصادية واجلماعية‪ ،‬وحنن نعتقد أن‬

‫‪250‬‬
‫املقاصد اإلميانية يف بناء دولة إسالمية توحد األمة كلها من حوهلا‬
‫لن تتحقق إال بعلم تكنولوجي إسالمي نقتبسه ومنتلكه‪ .‬لكن‬
‫هذا كله أحالم واهية إن مل نربط مهتنا كأمة وكأفراد بالغايات‬
‫اإلحسانية الغيبية‪.‬‬
‫أرأيت لو أن كاتبا كتب لك يف مقدمة كتابه دليال حيدد فيه‬
‫معاين مصطلحاته‪ ،‬أفيمكنك فهم الكتاب إن نبذت الدليل ؟‬
‫هكذا كتاب اهلل تعاىل أخربنا يف مقدمته أنه لن يهتدي به إال‬
‫ب فِ ِيه ُه ًدى‬ ‫املتقون املؤمنون بالغيب ‪َ ﴿ :‬ذلِ َ ِ‬
‫اب الَ َريْ َ‬
‫ك الْكتَ ُ‬
‫ب﴾‪ .‬علماء الشريعة غاصوا يف الفتنة‬ ‫ين يـُْؤِمنُو َن بِالْغَْي ِ‬ ‫لِّلْمت َِّق َّ ِ‬
‫ين الذ َ‬
‫ُ َ‬
‫مع األمة ففقدوا القدم اليت كانت هلم‪ ،‬وفاهتم ركب املعرفة على ما‬
‫يظنون فتقاعسوا‪ .‬ولو اكتشفوا الغيب بتجربة شخصية لوجدوا أن‬
‫الركب الوحيد الذي له عند اهلل حرمة هو ركب املؤمنني‪ ،‬ولعلموا‬
‫أن مث جاهلية وإسالما‪ ،‬وظلمة ونورا‪ .‬وإذا ال نفتح هلم القرآن ولو‬
‫جدوا الكنز والسر الذي بعث اإلسالم أول مرة ويبعثه غدا‪.‬‬
‫أبو الدحداح رضي اهلل عنه اشرتى من رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم خنلة يف اجلنة حبائطه كله‪ .‬هذا رجل عامل عمل بعمله‪.‬‬
‫وضيف رسول اهلل اجملهود آواه صحايب فقري فتعجب اهلل من‬
‫صنعه‪ ،‬خيرب بذلك رسوله‪ .‬وهذا رجل عامل عامل‪ .‬وكل الصحابة‬
‫كانوا علماء بعلم النبوة الذي مصدره غيب ومالبسات العمل‬

‫‪251‬‬
‫به متشكلة بالغيب‪ ،‬واجلزاء عليه غيب‪ ،‬لكنه غيب كالشهادة‬
‫وأقوى‪.‬‬
‫ما كان اإلميان بالغيب ينفصل عن العلم والتعلم يف عهد‬
‫الصحابة‪.‬‬
‫أما العهود املتأخرة فإنك جتد علماء حرفيني متاعهم ألفاظ‬
‫قاهلا فالن عن مائة فالن يعارض بعضهم بعضا أو يعلق عليه‬
‫يف موضوع حديث نبوي أو آية قرآنية تبقى أثناء الشروح على‬
‫اهلامش ال ماء هبا ألن املاء غاض من القلوب‪ .‬وجتد ذاكرين‬
‫مؤمنني يفضلون األمية املساملة على التعلم والعلم وما هكذا كان‬
‫أصحاب حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬إمنا كانت هلم جمالس لإلميان‬
‫فيها علم وتعلم وفيها ذكر يسموهنا جمالس اإلميان‪ .‬والعلم ذكر‬
‫فإذا مسعنا وعد رسول اهلل بالسكينة والرمحة للجالسني على الذكر‬
‫فإن ذلك ال ينفي من أصناف الذكر هذا الصنف الشريف الذي‬
‫هو العلم النبوي علم القرآن والسنة الطاهرة‪.‬‬
‫عن أيب الدرداء رضي اهلل عنه قال‪« : 1‬كان عبد اهلل بن‬
‫رواحة رضي اهلل عنه يأخذ بيدي فيقول ‪ :‬تعال نؤمن ساعة‪ ،‬إن‬
‫القلب أسرع تقلبا من القدر إذا استجمعت غلياهنا»‪ .‬وعند ابن‬
‫عساكر عنه قال ‪ :‬كان عبد اهلل بن رواحة إذا لقيين قال يل ‪:‬‬

‫‪ 1‬اإلمام أمحد والبيهقي والطيالسي واللفظ له‪.‬‬

‫‪252‬‬
‫يا عومير‪ ،‬تعال نتذاكر ساعة‪ ،‬فنجلس فنتذاكر مث يقول ‪ :‬هذا‬
‫جملس اإلميان‪ ،‬مثل اإلميان قميصك‪ ،‬بينا أنك قد نزعته إذ لبسته‪،‬‬
‫وبينا أنك قد لبسته إذ نزعته‪ ،‬القلب أسرع تقلبا من القدر إذا‬
‫استجمعت غلياهنا»‪.‬‬
‫وأخرج ابن أيب شيبة عن أيب ذر رضي اهلل عنه قال ‪« :‬كان‬
‫عمر مما يأخذ بيد الرجل والرجلني من أصحابه فيقول ‪ :‬قم بنا‬
‫نزدد إميانا فيذكرون اهلل عز وجل»‪.‬‬
‫واخرج أبو نعيم عن األسود بن هالل قال ‪« :‬كنا منشي مع‬
‫نؤمن ساعة»‪.‬‬ ‫معاذ رضي اهلل عنه فقال لنا ‪ :‬اجلسوا بنا ْ‬
‫إن العلم الذي كانوا يطلبونه يف الذكر واملذاكرة علم غييب‬
‫يزيدهم إميانا‪ .‬وعن هذا العلم خيربنا قرآن اهلل عن غيب اهلل يضرب‬
‫ال‬
‫اهلل لنا األمثال بأنبيائه لنتأسى هبم ونفعل فعلهم حني قال ‪﴿ :‬قَ َ‬
‫ت ُر ْشداً﴾ ؟ نيب‬ ‫ك َعلَى أَن تـَُعلِّ َم ِن ِم َّما عُلِّ ْم َ‬ ‫وسى َه ْل أَتَّبِعُ َ‬
‫لَهُ ُم َ‬
‫اهلل ورسوله يتبع عبدا ما هو نيب وال مرسل ليعلمه الرشد‪ .‬وصدق اهلل‬
‫﴿من يـَْه ِد اللَّهُ فـَُه َو ال ُْم ْهتَ ِد‬‫تعاىل حني صرح مبا ال يقبل تأويال ‪َ :‬‬
‫ضلِ ْل فـَلَن تَ ِج َد لَهُ َولِيّاً ُّم ْر ِشداً﴾‪.‬‬‫َوَمن يُ ْ‬
‫علم اإلميان وجمالس اإلميان مها املظهران الرئيسيان للحياة‬
‫اإلميانية اإلحسانية اليت دفنوها حتت اسم «الصوفية»‪ .‬ويف هذه‬
‫اجملالس صحبة وذكر ومذاكرة وعلم‪ .‬علم االتباع للسنة وعلم‬

‫‪253‬‬
‫يفيضه اهلل على قلبك من لدنه كفاء اتباعك وتزكيتك للنفس‬
‫اخلبيثة انتزعتها من أنانية الغرور وعادات الثبور‪.‬‬
‫إن تفرع علوم الشريعة وجتردها من الغيب واإلميان سبب‬
‫أصلي يف تدهور املسلمني‪ .‬ولكي يعود اإلسالم حياة ويكون‬
‫العلم عمال ال بد لنا من علم جيمع لنا شتات التخصص املدين‬
‫الذي أضاع الوراثة النبوية يف علم منهاجي معتصم بالقرآن ال بث‬
‫مع القرآن مشتق منه‪ ،‬يرجع لنا كل شتات إىل نصابه وخيطط لنا‬
‫حياة إميانية غيبية يف وسط الفتنة املعاصرة ويعطينا هذه احلياة‪.‬‬
‫العلم املنهاجي اكتشاف جديد للمحجة البيضاء‪ ،‬يعيد‬
‫طرواة اإلميان بالغيب ألنه يدل على الطريق العلمي التجرييب‬
‫الكتشاف الغيب واكتشاف سر اإلسالم ومفتاح القرآن بالصحبة‬
‫واحملبة والذكر‪ .‬إذا كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خيربنا بأن‬
‫اإلسالم جيدده شخص يبعثه اهلل على رأس كل مائة سنة وحيدثنا‬
‫أن التجديد يكون بال إله إال اهلل فنحن جنرب باحثني عن شخص‬
‫يلقننا كلمة احلق فيتجدد إمياننا‪ .‬وهي جتربة شخصية عاشها أجيال‬
‫من أهل التزكية أهل القرآن فرادى يف زاوية منعزلة ومجاعات يف‬
‫رباطات اجلهاد‪ ،‬وستعيشها األمة كلها غدا حني يكشف الغطاء‬
‫وتنجلي عن العلم احلق غشاوات احلرفية والسطحية‪.‬‬
‫كان الصحابة ال يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض‬

‫‪254‬‬
‫كما كان يفعل بنو اسرائيل‪ ،‬بل كانوا يأخذونه كله‪ .‬وكان األمر‬
‫عندهم فطريا ألهنم ناس فطرة علموا أن اخلالق سبحانه بيده‬
‫مقاليد األمور ألن حياهتم اليومية كانت صورة طبق األصل ملا‬
‫جاء به القرآن‪ ،‬وحي اهلل ينزل على نبيه بينهم والغيب والتأييد‬
‫الغييب حميط برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وكان كل ما يبلغه‬
‫الرسول هداية منزلة فكان العلم به جزءا من العلم املنهاجي‪ ،‬علم‬
‫يكون سلوكا كله ال بعضه‪ .‬فلذلك كانوا حريصني على تعلمه‬
‫يتناقلونه بصدق وحيفظونه ويعلمونه‪.‬‬
‫عن قبيصة بن اخلارق رضي اهلل عنه قال ‪ « : 1‬أتيت النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم فقال ‪ :‬ما جاء بك؟ قلت ‪ :‬كرب سين‬
‫ورق عظمى فأتيتك لتعلمين ما ينفعين اهلل به‪ ،‬قال ‪ :‬ما مررت‬
‫حبجر وال شجر وال مدر إال استغفر لك ؟ يا قبيصة‪ ،‬إذا صليت‬
‫الصبح فقل ثالثا ‪ :‬سبحان اهلل العظيم وحبمده تعاف من العمى‬
‫واجلذام والفاجل‪ .‬يا قبيصة‪ ،‬قل ‪ :‬اللهم إني أسألك مما عندك‬
‫ض علي من فضلك وانشر علي من رحمتك وانزل علي‬ ‫وأَفِ ْ‬
‫من بركتك»‪.‬‬
‫هذا هو العلم النبوي ! وال تعجب أن يكون املفتونون من‬
‫أبنائنا يسخرون من مثل هذا العلم لتعارضه التام مع ما يلقنه‬
‫هلم الفكر الوضعي‪ .‬ذكر اهلل يربئ من العمى واجلذام والفاجل ؟!‬

‫‪255‬‬
‫واحلجر والشجر واملدر يستغفرون ملن مير عليهم ؟! ال تعجب فإن‬
‫من صادقي املسلمني من يذهب مع املستشرقني فينفي احلديث‬
‫النبوي كله أو جله‪ .‬أما األصحاب الكرام فصدقوا وتعلموا‬
‫ونفعهم اهلل تعاىل بعلم نبيه‪ .‬وكان األمر فطريا بسيطا ألهنم مسعوا‬
‫احلصى يسبح يف يده الشريفة صلى اهلل عليه وسلم ويد أيب بكر‬
‫وعمر‪ ،‬ورأوا الشجر يتحرك وميشي ومسعوا ِجذع النخلة حين إليه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ملا استبدله باملنرب‪ ،‬وعاشوا مع غيب اهلل كما‬
‫عاشوا مع احلس الظاهر كل يوم‪ .‬فإذا اخربهم رسول اهلل بسر‬
‫غييب ووعدهم صدقوا وتعلموا وعملوا فنفعهم اهلل‪ .‬وحنن نشك‬
‫لطول األمد علينا فال ننتفع وإمنا نلهت يف ذنايب ركب احلضارات‬
‫اإلنسانية وليس لنا مهة لنمسك بزمام أمرنا ونتعلم العلم النافع‬
‫آخذينه عن ربنا سواء يف كتابه املنزل ويف صفحات السنة املشرقة‬
‫أو يف كتاب الكون الذي صنعه اهلل وعلم فيه اإلنسان ما مل يعلم‪.‬‬
‫كال ! إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغىن!‬
‫عن صفوان بن عسال رضي اهلل عنه قال‪ : 1‬أتيت النيب صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وهو يف املسجد متكيء على برد له أمحر‪.‬‬
‫فقلت له ‪ :‬يا رسول اهلل إين جئت أطلب العلم‪ .‬فقال ‪ :‬مرحبا‬
‫بطالب العلم‪ ،‬إن طالب العلم تحفه المالئكة بأجنحتها‪ ،‬ثم‬

‫‪ 1‬رواه اإلمام أمحد والطرباين واحلاكم‪.‬‬

‫‪256‬‬
‫يركب بعضهم بعضا حتى يبلغوا السماء الدنيا من محبتهم لما‬
‫يطلب»‪ .‬ولو ترى إذ يقرأ بعضهم مثل هذا احلديث ويؤوله ملكان‬
‫الغيب فيه خمافة أن يوصم اإلسالم بالغيبية! وأصحاب التزكية‬
‫أهل اهلل وأولياؤه يصدقون كما صدق الصحابة باملالئكة ومبا أخرب‬
‫به الرسول الكرمي من فرحهم وتراكبهم حىت السماء الدنيا‪ .‬ذلك‬
‫أهنم عاشوا الغيب وآمنوا به كما عاشه الصحابة وآمنوا به‪ ،‬ومن‬
‫مل جيعل اهلل له نورا فما له من نور‪.‬‬
‫العلم النبوي علم غيب يربط اللطيفة اإلنسانية مبصدرها‬
‫القدسي عن طريق الفرض والنفل‪ .‬والفرض والنفل كيفيات غيبية‬
‫هبا يتقرب العبد إىل ربه حىت حيبه ويكون مسعه وبصره‪ .‬هذا هو‬
‫العلم وهذه هي غايته الشريفة والقرآن كله وسنة النيب إمنا مركزها‬
‫هذه النقطة ‪ :‬حترير اإلنسان وهتييئه ملصريه العلوي وهدايته فمن‬
‫الناس من تلقى هذا العلم عن أهله وصدق وانتفع‪ ،‬ومنهم من‬
‫عظمت عليه أنانيته فال يأخذ وال ينتفع‪.‬‬
‫أخرج الشيخان عن أيب موسى رضي اهلل عنه قال ‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬مثل ما بعثني اهلل به من الهدى‬
‫والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا‪ ،‬فكانت منها طائفة‬
‫طيبة قبلت الماء فأنبتت الكأل والعشب الكثير‪ .‬وكانت منها‬
‫أجاذب أمسكت الماء فنفع اهلل بها الناس فشربوا وسقوا‬

‫‪257‬‬
‫وزرعوا‪ .‬وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان ال تمسك‬
‫ماء وال تنبث كأل‪ ،‬كذلك مثل من فـُِّقه في دين اهلل ونفعه ما‬
‫بعثني اهلل به فعلم وعلَّم‪ ،‬ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ولم‬
‫يقبل هدي اهلل الذي أرسلت به»‪ .‬املاء حياة‪ ،‬فما أبدع ما صور‬
‫النيب صلى اهلل عليه وسلم !‬
‫إن الغيب هو مصدر العلم النبوي والغيب واملصري الغييب غاية‬
‫العلم النبيو وحىت وسائل أخذ العلم غيبية ! هذا حديث عن أيب‬
‫هريرة رضي اهلل عنه وقد اهتموه باإلكثار من رواية احلديث‪ ،‬وما‬
‫زالوا يفعلون‪ .‬وقد كتب أحد ديدان القراء يف عصرنا يشتم ويل اهلل‬
‫وصاحب رسوله وأن من ديدان القراء من جيمع بني التواء الديدان‬
‫ولزوقها باألرض وقذارهتا معا!‬
‫أخرج البخاري عن أيب هريرة رضي اهلل عنه قال ‪ :‬يقولون ‪ :‬إن‬
‫أبا هريرة يكثر احلديث ! واهلل املوعد ! ويقولون ‪ :‬ما للمهاجرين‬
‫واألنصار ال حيدثون مثل أحاديثه ؟ وإن إخويت من املهاجرين كان‬
‫يشغلهم الصفق باألسواق‪ ،‬وإن إخويت من األنصار كان يشغلهم‬
‫عمل أمواهلم‪ .‬وكنت امرأ مسكينا ألزم رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم على ملء بطين‪ ،‬فأحضر حني يغيبون وأعي حني ينسون‪.‬‬
‫وقال النيب صلى اهلل عليه وسلم يوما ‪ :‬لن يبسط أحد منكم‬
‫ثوبه حتى أقضي مقالتي هذه ثم يجمعه إلى صدره فينسى من‬

‫‪258‬‬
‫مقالتي شيئا أبدا ! فبسطت منرة ليس علي ثوب غريها حىت قضى‬
‫النيب صلى اهلل عليه مقالته مث مجعتها إىل صدري‪ ،‬فوالذي بعثه‬
‫باحلق ما نسيت من مقالته تلك إىل يومي هذا ! واهلل لوال آيتان‬
‫َّ ِ‬
‫يف كتاب اهلل ما حدثتكم شيئا أبدا ‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ين يَ ْكتُ ُمو َن َما‬
‫﴿الر ِحيم﴾‪ .‬هذه معجزة للنيب‬ ‫أَنزلْنَا ِمن الْبـيـِّنَ ِ‬
‫ات َوال ُْه َدى﴾ إىل َّ‬ ‫َ َ َ‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ورثها بعض أوليائه فكانت هلم كرامة‪ ،‬حيثو‬
‫أحدهم من اهلواء يف ثوب مريده خريا من اخلري فيكون كما شاء‬
‫اهلل‪ .‬لكن أين حنن من صدق الصادقني!‪.‬‬

‫‪259‬‬
‫العمل‬
‫علم علمائنا علم بال عمل‪ ،‬علم بال قضية‪ .‬يف عامل الكم‬
‫الذي أصبح عاملا يقاس بالء الناس يف «اجملتمع» بإنتاجهم‬
‫املادي‪ ،‬واإلنتاج املادي يتيسر بعلم التكنولوجيا‪ ،‬فكسبها هو‬
‫وحق هلا إذ أصبح مسلما أننا‬‫هدف كل طالب وهدف الدولة‪َّ ،‬‬
‫شعب متخلف‪ .‬واعرتفنا بتصنيف اجلاهلية إيانا أو دافعناه لنقول‪:‬‬
‫إننا «أمة نامية» لعبا باأللفاظ‪ .‬واعرتافنا بأننا شعبمتخلف اعرتافا‬
‫صرحيا أو ضمنيا خيدر حسنا بل يقتله بالرتدي الكيفي‪ ،‬باملسخ‬
‫الذي أصابنا حىت صنفنا أنفسنا‪ ،‬بتصنيف الناس إيانا‪ ،‬على سلم‬
‫اإلنتاج الكمي‪.‬‬
‫العلم النبوي الذي خلق أمة حية حيقق فيها اإلنسان غاية‬
‫وجوده على األرض ومسو عن مرتبة احليوان طاردته الفتنة وطرحته‬
‫على اهلامش‪ .‬وكانت قد اصفرت طروس علماء الفروع وعجزت‬
‫عن جتديد فقه شرعي لصدود الناس عن العلم النبوي واعراضهم‬
‫عن اإلسالم‪ ،‬وما يغين شيئا إن يتجدد الفقه الشرعي إن مل يتجدد‬
‫اإلميان ويتجدد العمل اإلسالمي‪ .‬وعلم الفروع ال يقدر على‬
‫ذلك‪ .‬وهكذا محل علماؤنا التقليديون جثتا حمنطة إىل هامش‬
‫اجملتمع املفتون‪ ،‬فمن كان منهم من أصحاب القلوب انصرف‬

‫‪260‬‬
‫إىل ربه ينتظر فرجا وبني جنبيه بذور اإلميان‪ ،‬ومن كان وراقا مشر‬
‫جادا ليساير احلضارة ويساير «العلم»‪ ،‬وعمل بغري ما يعلم رجاء‬
‫أن يلحق باملتفرجنني احلذاق يف الندي أو يف املكتب‪ .‬وهيهات !‬
‫إن األمة املعذبة املسكينة تشكو ظلما وفقرا‪ ،‬وإن سطوة رأس‬
‫املال وسطوة املرتفني األثرين ال ترتك عمال لعامل وتسلبه وتتخذه‬
‫شيئا من أشيائها‪ .‬واحلل االشرتاكي حيلل هذه العملية حتليال مقنعا‬
‫ويقرتح املخرج‪ .‬فلهذا يتبع شبابنا األبرياء اجلاهلون إلسالمهم‬
‫داعي االشرتاكية‪ ،‬وحق هلم ألهنم ال يعرفون من اإلسالم إال‬
‫ادعياء وال يعرفون دعاة اإلسالم‪ .‬ويتجهمون لكلمة اإلسالم فما‬
‫هي عندهم إال ستار وراءه التدليس‪ ،‬وما هي عندهم إال شعار‬
‫يصطنعه رجال السياسة خيفون به نيات ماهلا باإلسالم صلة‪ .‬وبني‬
‫كلمات املبطلني تتسرب يف الرمل كلمة الصادقني‪.‬‬
‫العمل اإلسالمي هو موضوع هذا الكتاب‪ ،‬والعلم النبوي‬
‫املؤدي للعمل اإلسالمي هو بغيتنا وهو طلبة هذه األمة املشعبة‬
‫املبعثرة‪ ،‬ما بالنا نردد أحاديث رسول اهلل النابضة باحلياة والعمل‬
‫فال توقظ فينا حس اإلميان‪ ،‬وما بالنا نقرأ قرآن اهلل فال نتحرك‪.‬‬
‫وكأن الكتاب والسنة ُد ِّجنا يف وسط الفتنة وعينت هلما وظيفة‬
‫رمسية هي وظيفة ختدير األمة عن إسالمها‪ .‬ما دمنا ميأل اجلو صوت‬
‫املذياع بالقرآن‪ ،‬وما دمنا علماء يعظون يوم اجلمعة فاإلسالم خبري‬

‫‪261‬‬
‫! اإلسالم خبري حقا ألنه دين اهلل لكن حنن ؟ ألسنا ضائعني‪،‬‬
‫جيد وفقر ال يستغين وضالل ال يهتدي ؟‬ ‫عملنا عبث ال ُّ‬
‫عُزل العلم النبوي عن العمل وأصبح بال قضية‪ .‬العلم النبوي‬
‫املوروث ال قبضة له وال سلطان على جمال العمل اليومي‪ .‬وجيادل‬
‫ذرارينا املفتونون بأنك لن حترك مصنعا وال مكنة بأقوال الزخمشري‬
‫واخلرشي‪ .‬وحق هلم أن جيادلوا ألن علماء الفروع ما يستطيعون‬
‫أن يعلموهم أن اإلسالم حيرك ما هو أعظم من مصنع ومكنة‪ ،‬إنه‬
‫حيرك اإلنسان ويرقي مهته حىت يصبح اإلنتاج الكمي وسيلة من‬
‫وسائله ال غاية‪.‬‬
‫ما يستطيع أحد أن يعلمهم ذلك إال على قدر ما لديه من‬
‫وراثة حبق للنيب الذي بعثه اهلل معلما‪ .‬وال تكون له وراثة حبق إال‬
‫إن علمه شديد القوى ذو مرة من العلماء العاملني كما عمل‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شديد القوى ذو مرة من املالئكة‪.‬‬
‫وإن وراثة الوراقني تبلى بعد جيل ويتجدد مرياث العلماء العاملني‬
‫على رأس كل مائة سنة‪ ،‬وهو أبدا جديد بتجدد إميان العاملني‬
‫كل غدو ورواح بال إله إال اهلل‪.‬‬
‫لقد أويت الصحابة اإلميان قبل القرآن كما حيدثنا موالنا عبد‬
‫اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما‪ .‬وهذا يدل على املنهاج والفقه‬
‫املنهاجي الذي يسبق اإلميان فيه العلم ويتلوه بعدئذ العمل‪ .‬فإن‬

‫‪262‬‬
‫دخل يف ومهنا أن بيدنا إسالما إلن من بيننا محلة للعلم النبوي‬
‫رواة لفظيني وأن كانوا ال يصلون وال يتقون فلنقبل معها أن يكون‬
‫من شبابنا من يضحكون ويسخرون وال يصدقون‪.‬‬
‫بدأ الصحابة رضي اهلل عنهم عملهم اإلسالمي باهلجرة وكان‬
‫عملهم بعدها جهادا باملال والنفس‪ ،‬وما كانوا يستكثرون من‬
‫البضائع املستهلكة إال ما يعدونه من قوة لقتال عدوهم‪ .‬كان‬
‫عملهم حبافز غري حافز الربح املادي وال اجلاه الدنيوي‪ .‬كان عمال‬
‫كيفيا يصل املؤمن بربه وحبياة النعيم السرمدية‪ .‬أبو عقيل رضي‬
‫اهلل عنه جير اجلرير طول الليل‪ ،‬واجلرير هو احلبل عنوان العمل‬
‫الشاق اجملهد‪ .‬كان جيره طول الليل على ظهره على صاعني من‬
‫متر يأكل منها صاعا مع أهله‪ ،‬وهو قوت اليوم على التقشف‬
‫الكامل اخلارق للعادة‪ ،‬ويتصدق بصاع ينثره مع الصدقة‪ ،‬وما‬
‫صاع متر ببالد التمر لكن انظر إىل احلافز الغييب احملرر لإلنسان‬
‫من عبوديته‪ ،‬ينزعه من سلطان احلاجة إذ يدعوه إىل العمل بنفس‬
‫احلركة اليت حيرره هبا من عبودية امللكية وعبادة الربح والثروة يف‬
‫اجلماعة املؤمنة األوىل ال يوزع العمل اجلماعي حسب طبقية‬
‫أساسها التملك والثروة‪ ،‬بل حسب طبقية كيفية يضرب فيها‬
‫احملسنون املثال وجيتمع فيها املؤمنون متعاونني على الشأن العام‪.‬‬
‫ويف اجملتمعات املعاصرة تفرض حاجات احلضارة لعنة توزيع‬

‫‪263‬‬
‫العمل الكمي حسب قوانني تعرفها الشيوعية العلمية‪ ،‬ومع توزيع‬
‫العمل استغالل العمل‪ ،‬ويف سياق العراك حول االستغالل ينشأ‬
‫جمتمع جديد فيه توزيع للعمل حلاجة احلضارة وفيه استغالل‬
‫للعمل وطبقية أدهى وأمر من الطبقية اليت حارهبا الشيوعيون‪،‬‬
‫طبقية ولدت هلم على الفراش اإليديولوجية ممجدة العلم والعمل!‬
‫واإلنسان يف كل هذا عبد وآلة وشيء‪.‬‬
‫كان أبو عقيل جبريره على ظهره إنسانا حرا وعامال حرا‬
‫وعضوا يف اجلماعة فعاال بصاعه الذي سخر من قلته املنافقو‪.‬‬
‫ال موضوع للتأمل يف حياة كانت على قدر اإلنسان مضت‪ ،‬وال‬
‫مناص لنا من حتمل احلضارة وما ترزأه اإلنسا َن بل حنني ضائع‬
‫ألننا أمة اإلسالم لن نكون جزيرة وسط خضم الصراع اإلنساين‬
‫آمنة ترجع لنخلها وجريرها!‬
‫إن العلم النبوي إن مل يكن مصدرنا إلحياء األمة بإحياء‬
‫اقتصادها فلن تكون لنا حياة‪ .‬إن اهلل بعث رسوله ليعلمن الكتاب‬
‫واحلكمة وليتلو علينا آيات ربنا‪ .‬فبالتالوة نذكر ربنا فيعطينا إميانا‪،‬‬
‫ومن الكتاب نستخرج احلكمة لكي تتحكم يف شؤون حياتنا‬
‫وتسريها على املنهاج‪ .‬ما احلكمة إال َح َك َمة تتحكم يف االجتاه‬
‫وتتحكم يف العمل ويف نظام العمل‪ .‬والفقه املنهاجي اكتشاف‬
‫للحياة اإلميانية وللحياة املفتونة معا‪،‬مث بعدمها للحياة املنبعثة غدا‪.‬‬

‫‪264‬‬
‫إنه منظار ننظر به تارخينا يف امتداده للغد املوعود‪.‬‬
‫ألمة صارت «شعبا ومجهورا» ال بد من دعوة حبكمة‪ ،‬وحتول‬
‫حبكمة وجهاد حبكمة‪ .‬وكل عمل مرجتل محاسي صاخب ينايف‬
‫احلكمة فهو كالفرس الذي ال حكمة له حتكمه‪.‬‬
‫إن مناط العمل االجتماعي هو هذا النشاط الذي تسميه‬
‫اجلاهلية «سياسة» وننقل اللفظ حنن وننقل معه اللغة املتضمنة‪.‬‬
‫وغري ذلك يكون العمل اجلماعي املسلم‪ ،‬لنسميه جهادا ولنسميه‬
‫عمال‪ ،‬ليس اللفظ أهم ما يعوقنا‪ ،‬بل وجود احلكمة‪ .‬رجل السياسة‬
‫يرجتل ويصخب ويلتهب محاسا‪ ،‬ويدس أيضا ويكذب ويؤارب‪،‬‬
‫وهو يطلب رئاسة وحكما‪ .‬وما العمل اإلسالمي يشبه ذلك‪ .‬إن‬
‫الرسول أخرب من سأله والية أنه ال يعطي هذا األمر طالبه‪ .‬وها‬
‫قد حتدد لنا مبدأ الساسة ومعادهم‪ ،‬إهنم طالب منصب‪ ،‬وما‬
‫الشباب التائر إال أرنب يف حبال!‬
‫نعذر الساسة كما نعذر القاعدين‪ ،‬فقد يكون النشاط‬
‫السياسي بديال عن اخلمول إن استطاع السياسي أن يبقى نظيف‬
‫اليد والضمري‪ .‬وإن يف دار اإلسالم لرجاال تاهوا مع الفتنة وهبا‬
‫فتجد يف عملهم غضبا حيا على ظلم الظاملني وجتد له عبريا‬
‫ينسيك أسى اجلثت احملنطة‪ .‬إمنا نسأل العلم النبوي عن حكمة‬
‫الغد يوم يضطر قادتنا وساستنا العتناق إسالمهم بصدق بعد‬

‫‪265‬‬
‫فشل عملهم املفتون الضائع بني اشرتاكية تتلون باإلسالم إذ مل‬
‫يكن هلا من نفسها وبني عشوائية تتقاذفها أمواج الصراع‪.‬‬
‫إن ثقافتنا يف جمتمع الكراهية ثقافة هجني مشبعة بالكفر واجلهل‬
‫اجلاهلي كإشباع إسفنجة البحر مبلحه ومائه‪ .‬فمن استعمرت عقله‬
‫هذه الثقافة املهجنة اصبح دخيال يف األمة املستضعفة الوارثة يدين‬
‫حال ومنصب‬ ‫للنماذج اجلاهلية بوالئه ويدين ألنانيته املرتفة مبال ّ‬
‫حال أو مبال ممكن ومنصب مطلوب‪ .‬وبني هذا الدخيل وعامل‬ ‫ّ‬
‫الفروع الذي ال يصلي وال يتقي حوار الصم البكم ألن املثقف‬
‫فرغ من تصفية ثقافة العناكب يف زعمه وأقنع صاحبه‪ ،‬فأحدمها يف‬
‫برجه العاجي مع برست وماركس واآلخر ال يفتأ يسوي بضاعته‬
‫ويسميها «ثقافة» ويقنع من الغنيمة بكرسي الكلمة اإلسالمية يف‬
‫املناسبات يفرتي على اهلل ألنه ال يعمل مبا يعلم‪ .‬أحدمها جيهل‬
‫إسالمه ويعاديه وميقت حبق النماذج الدعية‪ ،‬واآلخر ال يعمل‬
‫بعلمه فهو عند اهلل خمزي‪ ،‬وعجل له سخرية أقرانه وتبعية الديدان‪.‬‬
‫وعند العلماء العاملني ننشد غدا إن شاء اهلل اجتهادا منهاجيا‬
‫ال يلفق بل جيدد ويعاجل الفتنة ليتعلم منها خريها وشرورها مث‬
‫ليستنبط لنا ثقافة مسلمة ال تكون مجوحا حنو اجلاهلية ووالء هلا‬
‫بل توترا حنو مستقبل عزة اإلسالم‪.‬‬
‫احلياة اإلسالمية يف ظل لواء اإلسالم تبدأ بعمل جهادي ال‬
‫يشبه عمل اجلاهلية اجلالسة على مكتسباهتا املرتاكمة‪ .‬سيكون‬

‫‪266‬‬
‫العمل اإلسالمي جهاد كل ساعة وكل دقيقة جهاد بناء من عدم‬
‫أرض خاوية قحالء وضمائر أكثر خواء‪ ،‬ومن فوق ذلك فتنة‬
‫موروثة ثقيلة‪ .‬وهذه اخلاليا البشرية العديدة ستتحرك جلدة الدعوة‬
‫وستستجيب لداعي اإلسالم لكن مىت ينتهي محاسها ؟ اجلماعة‬
‫اإلميانية ال وجود هلا‪ ،‬وأول العمل بناؤها لتتحمل مسؤولية البناء‬
‫حبافز الصدق الذي ال ينتهي وال ميل ال حبافز احلماس العابر‪ .‬فإذا‬
‫رأى املسلمون املنضوون حتت لواء اإلسالم اجلهادي صدق العمل‬
‫جتدد محاسهم حىت يصبح صدقا‪.‬‬
‫إن كان ال ينفع احلنني جلماعة ال توزع اإلنسان بني داوعي‬
‫احلضارة املمزقة‪ ،‬فلنوطد العزم على جر اجلرير بصرب وصدق ننصب‬
‫ونتعب ونعرق ونتحمل ونوثر على أنفسنا مع اخلصاصة‪ ،‬إىل أن‬
‫حنول هذا اجلهاز االجتماعي املفتون مجاعة متعاونة‪ ،‬مث نسري قُ ُد ًما‬
‫لنحقق القوة دون أن نُرتف يف اهلدف االقتصادي‪.‬‬
‫إن العمل اإلسالمي عمل كيفي‪ ،‬موقف اإلنسان فيه موقف‬
‫سيد حر ال حتكمه احلاجة ألنه يصرب على اخلصاصة ويتقلل‬
‫ويزهد‪ ،‬وال يغريه التكاثر بل تغريه اجلنة ويغريه وجه اهلل وتغريه‬
‫القوة اليت أمرت األمة أن تعدها لتجاهد يف سبيل اهلل‪.‬‬
‫كان سلفنا الصاحل يعملون مبا يعلمون فورثهم اهلل علم ما ال‬
‫يعلمون‪ ،‬وكانت ينابيع احلكمة تنبع من قلوهبم كفاء اخالصهم هلل‬

‫‪267‬‬
‫تعاىل‪ ،‬كما جاء كل ذلك يف احلديث‪ .‬كان هلم علم لدين يربط‬
‫اهلل به على قلوهبم‪ ،‬وكان هلم منهاج للعمل العبادي واجلماعي‬
‫وهلم عزم وهلم قوة ومضاء‪.‬‬
‫وكان سلفنا الصاحل يعملون وال خيافون التعب ويستعيذون‬
‫باهلل كما استعاذ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من الكسل‪ .‬عن‬
‫الزبري بن العوام رضي اهلل عنه قال‪« : 1‬قال رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬ألن يأخذ أحدكم حبله مث يأيت اجلبل فيأيت حبزمة من‬
‫حطب على ظهره فيبيعها فيكف اهلل هبا وجهه خري من أن يسأل‬
‫الناس‪ ،‬أعطوه أو منعوه»‪.‬‬
‫أما ترى كيف يتخلل العامل النفسي اإلمياين العمل وكيف‬
‫يكون كف الوجه واحلفاظ على املروءة حافزا على العمل ! وخيربنا‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم خبرب األنبياء بعد أن يضرب املثال‬
‫بعمله‪ .‬فهو كان يف مهنة أهله إذا دخل يرفو ثوبه ويطحن ويكنس‪،‬‬
‫فإذا خرج مجل احلجارة وحفر اخلندق وغرس مع الغارسني‪ ،‬وخيربنا‬
‫أن داوود عليه السالم «كان ال يأكل إال من عمل يده»‪ ،2‬وأن‬
‫‪3‬‬
‫زكرياء عليه السالم كان جنارا‪.‬‬
‫وحث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم على العمل والعمل‬

‫‪ 1‬رواه البخاري‪.‬‬
‫‪ 2‬رواه مسلم عن أيب هريرة‪.‬‬
‫‪ 3‬رواه مسلم عن أيب هريرة‪.‬‬

‫‪268‬‬
‫اليدوي حثا ملحا حىت قال ‪« :‬إن قامت الساعة وبيد أحدكم‬
‫فسيلة (غرسة نخل) فاستطاع أال تقوم الساعة حتى يغرسها‪،‬‬
‫فليغرسها فله بذلك أجر»‪.‬‬
‫عمل مقابل األجر عند اهلل ومقابل اجلنة ورضى اهلل‪ ،‬هذا‬
‫عمل ال يتشيأ أبدا الرتباطه بالغاية العليا وال يشييء املرء أبدا‪،‬‬
‫بل يرفعه عن مستوى الدابة‪ ،‬فهو عند نفسه أشرف ما يكون حني‬
‫يعمل‪ ،‬يكون عمله عبادة إن عمل لقوته أو لقوت عياله ويكون‬
‫عبادة إن سعى يف حوائج الناس‪ ،‬ويكون عبادة إن جر اجلرير لينثر‬
‫يف مال املسلمني ولو صاع متر‪.‬‬
‫إن اإلسالم يرمي لكي ينتزع اإلنسان من جاذبيته األرض‪،‬‬
‫ليطلب األخرة فيعمل يف دنياه متجردا ال ميلكه الطمع ويتقلل‪.‬‬
‫مث إن اإلسالم شرع قوانني لتنظيم العمل هي القوانني اإلهلية‬
‫النهائية ال يوازيها اجتهاد اإلنسان‪ .‬ويف ظل قانون اهلل وحنو األخرة‬
‫يسلك املؤمن واملسلم مينعهما وازع السلطان ووازع القرآن من‬
‫البغي ويزجرمها عن الكسل‪ .‬ويف ظل اإلسالم يكون للصدقة معىن‬
‫وللتعاون معىن وإلطعام الطعام على حبه معىن والكرام الضيف‬
‫واجلار معىن وللبذل معىن‪ .‬ذلك كان يف مجاعة القناعة والقلة‬
‫عند أسالفنا‪ ،‬ويكون غدا هلذه األمة تنفض غبار الكسل وتشمر‬
‫لبناء مجاعة فيها القناعة والقوة يزري هباؤها بداوبية اجملتمعات‬
‫االستهالكية الصائرة إىل خراب‪.‬‬

‫‪269‬‬
‫السمت‬
‫ض والذمة والوالء واحملبة مقوالت خلقية غيبية‪،‬‬ ‫ِ‬
‫الوجهُ والع ْر ُ‬
‫وتصبح مقوالت عملية عند اجلماعة املؤمنة‪ ،‬فبذلك يتميز العمل‬
‫اإلسالمي عن العمل اجلاهلي‪.‬‬
‫إن للجاهلني محية وإن هلم «شرفا» أنانيا به يتعاملون وعليه‬
‫يتعاركون‪ ،‬وللوجاهة املكانة األوىل يف حسباهنم‪ .‬يطلب الرأمساليون‬
‫تسلق السلم االجتماعي جبمع املال ومجع اجملد بالنجاح الصناعي‬
‫والثقايف‪ ،‬ويطلب الشيوعيون رئاسة باالنتماء للحزب السيد‪.‬‬
‫وحنن املفتونني نتبىن قيم اجلاهلية زمن ضياعنا‪ .‬ففخفخة اجلاهلية‬
‫فخفختنا وأعيادهم أعيادنا ونزامحهم يف الندي نرطن بلساهنم‬
‫ونكتسي بأثواهبم ال يتميز أحدنا‪ ،‬وال ُيب أن يتميز إال ريثما يؤكد‬
‫أصالته «الفلكلورية» مث هو املتفرنج ربيب احلضارة‪ ،‬أو هو الثوري‬
‫العاملي حمرر اإلنسانية يف زعمه‪ .‬ال يتميز أحدنا عن اجلاهلني إال‬
‫بأن اجلاهلي يكسب جمده ورئاسته بالكد والغَناء والكفاية‪ .‬وحتت‬
‫أصحابنا املفتونني ركام بشري مستعبد على كتفيه يسقط احلمل‬
‫محل طبقة مرتفة ليس هلا مست اإلسالم وال عمل اإلسالم‪.‬‬
‫مرتفونا ضاعت شخصيتهم يف مظاهر احلضارة اجلاهلية مثلما‬
‫ضاعت أرواحهم بكفر اجلاهلية‪ ،‬فإذا كان هلم وجه فهو وجه ال‬

‫‪270‬‬
‫يستحي من اهلل والناس بل يُصبغ بعد حلقه ليتم املسخ‪ .‬وإذا‬
‫كان هلم أهل فالعشرة جاهلية وماتت حىت املروءة اليت اليت حتفظ‬
‫العرض‪ ،‬وإن كانت هلم والية وحمبة فهي منصرفة للخليلة والصديق‬
‫اجلاهليني ومنصرفة لبطانة جاهلية ُتلي السلوك‪.‬‬
‫كان مصطفى كمال أشجع من أبطال التاريخ القوميني‪ ،‬كان‬
‫كفره صرحيا وكان سلوكه جاهليا ال يتسرت‪ ،‬فعرفته األمة اإلسالمية‬
‫وعانت منه لكنها مل تنسلخ عن دينها وهيهات !‍ أما أبطال‬
‫التاريخ فينتسبون إىل القومية واإلسالم‪ ،‬أصيلني يف األوىل أدعياء‬
‫يف دين اهلل‪ .‬وحيجون أو يعتمرون «ويرأسون» صالة اجلمعة‪،‬‬
‫لرياهم الناس يف تلك املواقف بسمت ظاهر يساهم يف عملية‬
‫ختدير احلس اإلسالمي وتدجينه حىت ينحصر يف مظاهر رمسية‪.‬‬
‫فأولئك أنكى على األمة من الكافر‪ ،‬وإن املنافقني يف الدرك‬
‫األسفل من النار‪.‬‬
‫إن رجوع األمة إىل السمت اإلسالمي يعين حتررها من أشكال‬
‫احلضارة اجلاهلية وثقافتها ليتم التحرر من العادة الدوابية‪ .‬اختاذ‬
‫السمت اإلسالمي ونبذ السمت اجلاهلي برهان على الصدق‬
‫يف نبذ العادة القاعدة باإلنسان عن اكتمال فطرته‪ .‬فاألوضاع‬
‫االجتماعية املقلدة للجاهلية تقتضي أن نلبس على أعني الناس‪،‬‬
‫واملرتفون يلبسون على أعني خالهنم اجلاهلييني‪ ،‬يتبعون املودة‬

‫‪271‬‬
‫لريقصوا يف مراتع الدَّعارة خمنثني ال رجولة هلم‪ .‬وتقتضي هذه األوضاع‬
‫أن نعيش يف أسرتنا ويف الشارع والعمل يف ضيق شديد على أعني‬
‫الناس‪ ،‬لئال ننعت بالتخلف‪ .‬وللعيال مطالب باهظة يفرضها وضع‬
‫الفتنة العارمة‪ .‬وكل هذا مدعاة للتعب الشديد واالحنالل اخللقي‪،‬‬
‫وما مجاع السمت اإلسالمي إال خلقية تستعلى على العادة‪ .‬ال َجَرم‬
‫أن تستبد بنا العادات اجلاهلية فنظم ونرتشي ليتأتى لنا أن نباهى‬
‫الناس‪ ،‬وال جرم أن يتخرب اقتصادنا ألن مطالب احلضارة تتنوع‬
‫فتزداد عبوديتنا هلا بازدياد حاجات نفوس ال متلك حريتها‪ .‬ونستورد‬
‫السيارات ونبين القصور للفخفخة الكاذبة‪ .‬ويقوى عدونا من حيث‬
‫نفتقر ونضعف‪ .‬هل قرأت عن نظام الصهاينة يف الكبوتزات ؟ هل‬
‫رأيت كيف خيشوشنون ويتقللون ؟ وهل رأيت كيف يستعدون ليوم‬
‫اجلالد يف الوقت الذي يلهو فيه شبابنا بالسينما تغريه باحلياة الرخية‬
‫املكتظة ؟ فذلك سبب اهنزامنا أمام عدونا‍‍!‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« : 1‬ما من مولود إال‬
‫يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه‪ .‬كما‬
‫جماء‪ .‬أتحسون فيها من جماء؟ ثم قرأ ‪:‬‬ ‫تنتج البهيمة بهيمة َّ‬
‫ك‬‫يل لِ َخل ِْق اللَّ ِه َذلِ َ‬ ‫ِ‬
‫َّاس َعلَيـَْها َل تـَْبد َ‬
‫َّ ِ َِّ‬
‫فط َْرةَ الله التي فَطََر الن َ‬
‫ِ‬
‫ِّين الْ َقيِّ ُم »‪.‬‬
‫الد ُ‬
‫‪ 1‬رواه البخاري وغريه عن أيب هريرة‪.‬‬

‫‪272‬‬
‫فالفطرة أصل‪ ،‬وعامل الرتبية يُردى اإلنسان يف محأة العادة‬
‫وكلما ابتعد اإلنسان عن دين اهلل ابتعد عن الفطرة وزاد شقاؤه‪.‬‬
‫هذا هو اإلنسان اجلاهلي غارق إىل أذنيه يف ضباب وجرائم جمتمعه‬
‫وعنفه اليائس على نفسه وعلى العامل‪ ،‬يعيش ليأكل ويتنفس‬
‫هواء ملوثا ويبذر خريات األرض وينجس البحر‪ ،‬هذا هو الوجه‬
‫احلقيقي للحضارة اجلاهلية ختفيه مظاهر النعيم وإمنا القوة يف اقتناء‬
‫هذه املعامل وهذه الصناعة‪ .‬وإمنا الفطرة قوة يف اخلَلَ ْق واخلُلُق معا‪،‬‬
‫لكن قوة نظيفة حسا ومعىن‪.‬‬
‫مث إن احلضارة الصناعية حضارة كئيبة رغم تصنعها للساعدة‪.‬‬
‫واإلسالم الفرحة الكربى يزف لإلنسان بشرى خالصه من األرض‬
‫حني يصله مبعاين السماء‪ .‬وأكثر ما جيب أن يظهر به اإلسالم‬
‫املتجدد غدا من السمت اإلسالمي اليُسر والبشاشة‪ .‬فقد اعتاد‬
‫املسلمون أن يتصوروا إسالمهم تزمتا وضيقا ألن الدنيا سجن‬
‫املؤمن‪ ،‬ويوردون بكاء رسول اهلل وأصحابه وحزهنم وخوفهم‪ ،‬ال‬
‫مييزون مقامات هذه املشاعر الغنية الرقيقة يف حياة الصحابة‪.‬‬
‫يُعرف البوم املسلمون بسيماهم‪ ،‬فهم الضعفاء يف معرض‬
‫الضعف‪ ،‬وهم الفقراء وهم املنهزمون وهم املبِ ّذرون لثروات‬
‫بالدهم‪ .‬ويف دار اإلسالم أغىن قطر يف العامل يتيه على األمة‬
‫الغثائية بقناطريه املقنطرة ! وغدا حني ييأس قادتنا من مناهبهم‬

‫‪273‬‬
‫ويفيئون إىل اإلسالم هربا من دوامة العنف العسكري ستتبدل‬
‫سيما املسلمني فيعزون ويتحررون ويستغنون‪ .‬ومن أمة مستضعفة‬
‫خيلق اهلل الوارثني‪ .‬والبوتقة اليت سيصنع فيها السمت اإلسالمي‬
‫هي املسجد‪ ،‬لذلك نلخص األمر كله إذ ندعو إىل مست املسجد‪.‬‬
‫ففي املسجد وقار وفيه هيبة وفيه حياء وفيه جد‪ .‬وقد احتفظ‬
‫املسجد مبظهر املساواة بني املصلني وإن كان قد فقد هذه املشاعر‬
‫الرقيقة مشاعر احملبة واملواساة بني املسلمني‪ .‬وال عجب فإن‬
‫الناس يتعاملون خارج املسجد بغري ما كان يتعامل به األنصار‬
‫واملهاجرون إذ يضع أولئك األسعف حتت التمر ليختار املهاجر‬
‫النصيب األصغر من متر أخيه فال يتأمل قلبه!‬
‫دخلت مساجدنا فخفخةٌ ما كانت على عهد رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وتلك أمة قد خلت‪ ،‬وال يؤوى إسالمنا إال مساجد‬
‫وظيفية يف شكلها إنسانية مبضموهنا‪ ،‬مبجالس اإلميان وباملبايعة‬
‫على الطاعة والتطوع والتعاون البناء‪ .‬ولن هندم هذه املساجد‬
‫املشيدة املزوقة بل نعمرها‪ ،‬وعمارهتا شيء غري هذا التزويق‪ ،‬إمنا‬
‫عمارهتا بقلوب طاهرة وعقول مدبرة وجسوم نظيفة قوية وأخالقية‬
‫تعبق بأريج الروحانية العالية للمؤمنني احملسنني‪.‬‬
‫مست املسجد يف أجلى صورة حني يتجالس املسلمون يذكرون‬
‫رهبم‪ .‬إهنم عنذئذ يف أعز مكان وأهبى عمل‪ .‬عن أيب سعيد‬

‫‪274‬‬
‫اخلدري رضي اهلل عنه‪ « : 1‬خرج معاوية رضي اهلل عنه على حلقة‬
‫يف املسجد فقال ‪ :‬ما أجلسكم ؟ قالوا ‪ :‬جلسنا نذكر اهلل‪ .‬قال ‪:‬‬
‫اهلل ! ما أجلسكم إال ذاك ؟‪ .‬قالوا ‪ :‬ما أجلسنا إال ذاك‪ .‬قال ‪:‬‬
‫أما إين مل اسحلفكم هتمة لكم‪ ،،‬وما كان أحد مبنزليت من رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم أقل حديثا مين‪ .‬إن رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم خرج على حلقة من أصحابه فقال ‪ :‬ما أجلسكم ؟‬
‫قالوا ‪ :‬نذكر اهلل وحنمده على ما هدانا لإلسالم ومن به علينا‪.‬‬
‫سكم إال ذلك ؟ قالوا ‪ :‬اهلل ما أجلسنا إال‬ ‫فقال ‪ :‬آهلل ما أجلَ َ‬
‫ذالك ! قال ‪ :‬أما إني لم استحلفكم تهمة لكم‪ ،‬ولكنه أتاني‬
‫جبريل فأخبرني أن اهلل يباهي بكم المالئكة !»‬
‫إن اختاذ السمت اإلسالمي يف حركية املنهاج يعين تبديل رموز‬
‫اجلاهلية بالرمز اإلسالمي‪ .‬فأهم رمز هو شخص املؤمن اجملاهد‬
‫املتجدد املرابط يف خيمة اجلهاد‪ ،‬كما كان عمر بن اخلطاب‬
‫رضي اهلل عنه رمزا حيكى حياة رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫نظافة وتقلال من الدنيا وعدال وسهرا على الرعية‪ .‬والرمز الثاين‬
‫هو املسجد‪ ،‬فيكون بناء املسجد عالمة لبداية التعبئة اإلسالمية‬
‫واجلهاد اإلسالمي‪ ،‬يساهم فيه املؤمنون املتطوعون حىت يقوم‪ ،‬مث‬
‫يعمرونه ويدورون عليه يف حياهتم اإلسالمية اجلديدة كما فعل‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وصحبه‪.‬‬

‫‪275‬‬
‫أول عمل مجاعي للمسلمني بعد مبايعة األنصار وبعد هجرة‬
‫املسلمني املكيني إىل إخواهنم‪ ،‬أي بعد تأسيس اجلماعة بالطاعة‬
‫وبرهان الصدق‪ ،‬هو بناء املسجد‪ ،‬أخرج اإلمام أمحد عن أيب هريرة‬
‫رضي اهلل عنه أهنم كانوا حيملون اللَّنب إىل بناء املسجد‪ ،‬ورسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم معهم ‪ :‬فاستقبلت رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وهو عارض لَبِنة على بطنه‪ ،‬فظننت أهنا شقت عليه‪،‬‬
‫فقلت ناولنيها يا رسول اهلل ! قال ‪ :‬خذ غيرها يا أبا هريرة‪ ،‬فإنه‬
‫ال عيش إال عيش اآلخرة!»‬
‫وأخرج الطبارين عن عُبادة بن الصامت رضي اهلل عنه قال ‪:‬‬
‫« قالت األنصار ‪ :‬إىل مىت يصلى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫إىل هذا اجلريد! فجمعوا له دنانري فأتوا هبا النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فقالوا ‪ :‬نصلح هذا املسجد ونزينه‪ ،‬فقال ‪ :‬ليس يل رغبة‬
‫عن أخي موسى ! عريش كعريش موسى!»‪.‬‬
‫وعن ابن شهاب قال ‪« :‬كانت سواري املسجد يف عهد‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جذوعا من جذوع النخل‪ ،‬وكان‬
‫سقفه جريدا وخوصا ليس على السقف كثري طني‪ .‬إذا كان املطر‬
‫امتأل املسجد طينا‪ ،‬إمنا هو كهيئة العريش»‪.‬‬
‫هكذا كان العمل‪ ،‬وهكذا أسس مسجد التقوى بالتعاون بني‬
‫اإلمام األعظم واملؤمنني‪ ،‬كان بينهم يبغي ما يبغون من فضل اهلل‬

‫‪276‬‬
‫ويطلب الآلخرة كما يطلبون‪ .‬وهكذا كان عزم الرسول الكرمي‬
‫على التقلل ونبذ التلكف حىت جاء اإلمامان عمر وعثمان فوسعا‬
‫املسجد وأحكما البنيان لكنهما مل يـَُزِّوقَاه‪.‬‬
‫لبناء املسجد معىن حضاري عميق‪ ،‬فأس اإلسالم احملبة‪،‬‬
‫واحملبة تنشأ باملعاشرة واأللفة‪ ،‬وهذا يقتضي أن يتجمع الناس يف‬
‫قرى وأن تتجمع حياة القرية يف املسجد‪ ،‬وأن يـَْع ُمر املسلمون‬
‫مسجدهم باملواظبة على الصالة يف اجلماعة‪ .‬أخرج ابن عساكر‬
‫أن عمر بن اخلطاب ملا افتتح البلدان كتب إىل أيب موسى وعمرو‬
‫ابن العاص وسعد ابن أيب وقاص يأمرهم أن يتخذوا للجماعة‬
‫مسجدا وللقبائل مسجدا‪ ،‬فإذا كان يوم اجلمعة انضموا إىل‬
‫مسجد اجلماعة فشهدوا اجلمعة‪ .‬وكتب إىل امراء األجناد أن‬
‫ال يبدوا إىل القرى وأن ينزلوا املدائن وأن يتخذوا يف كل مدينة‬
‫مسجدا واحدا‪ .‬كل ذلك حفاظا على اجلماعة ليتزوار املؤمنون‬
‫كل يوم مرات ويتعارفوا ويتحابوا‪.‬‬
‫وكان من اهتمام عمر رضي اهلل عنه باملسجد أنه كان جيمره‪،‬‬
‫أي يطيبه بالبخور‪ ،‬كل يوم مجعة‪ .‬وكل ما يُصلح املسجد وحيببه‬
‫للمصلني واجللساء فهو من هذا الباب حاشا التزويق‪ .‬ويرحم‬
‫اهلل أسالفنا مل يكفهم أن يتباهوا من املساجد باحليطان حىت بنوا‬
‫األضرحة وشيدوها وبذروا األموال!‬

‫‪277‬‬
‫ال ميكن أن نعرف إسالم املسلم يف توبة املسلمني حتت لواء‬
‫اإلسالم غدا إال مبا كان يتعارف به املسلمون األولون‪ .‬فكان‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يأمرهم يف البعثات أال يقاتلوا قوما‬
‫يؤذنون للصالة‪ ،‬واألذان رمز ينم عن وجود مسجد واملسجد رمز‪.‬‬
‫وكان املسلم حيضر الصالة يف اجلماعة فبذلك يعرف أنه مسلم‪،‬‬
‫ويقول رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬العهد الذي بيننا‬
‫وبينهم الصالة !»‪ .‬ويوجب اإلسالم شهود اجلمعة‪ ،‬وعزم رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم على حرق بيوت قوم ال حيضررن اجلماعة‬
‫واجلمعة‪ .‬يف دار اإلسالم اليوم قليل ممن يُصلون‪ .‬دخلت الصالة‬
‫يف الشؤون اخلاصة يف عرف األمة املفتونة‪ ،‬ال شأن ألحد هبا‪ ،‬كما‬
‫انزوى اإلسالم يف ما يسمونه «معاهد إسالمية»‪ .‬وليت شعري مب‬
‫يفخر الذين يتباهون بوجود معاهد دينية يف دار اإلسالم ؟ إنه يا‬
‫قوم ما ذل املسلمون إال منذ أصبحوا وهلم معاهد دينية إىل جانب‬
‫أخرى غري دينية !‬
‫ليكن لنا يف كل حي مسجد ويف كل معهد ويف كل مصنع‬
‫وإدارة‪ ،‬والعهد الذي بيننا هو الصالة‪ .‬وإن للصالة يف استواء‬
‫أوقاهتا واستواء الناس متواضعني أمام رهبم واستواء صفوفهم وطيب‬
‫أنفاسهم لبهاء ومجاال‪ .‬ويعرف املؤمنون بسيماهم يف وجوههم‬
‫من أثر السجود وأثر السجود نوارنية وطمأنينة تظهرها مالحم‬

‫‪278‬‬
‫الوجه ألن الصالة ذكر وتسبيح بالروح واجلسم والعقل معا‪ .‬وتأيت‬
‫الطمأنينة إىل القلب فيتفتح الوجه مستبشرا وجتد املصلني ينضحون‬
‫طهارة وبشاشة وسعادة‪.‬‬
‫كتب عمر رضي اهلل عنه إىل أحد قواده الذي سأله مددا‬
‫وشكا له حال اجلند ‪« :‬إن أهم أمركم عندي الصالة !»‪.‬‬
‫الصالة جتمع وقت املؤمنني ويتبلور مبناسبتها الروح اجلماعي‪،‬‬
‫فلذلك حيتفل هبا املسلم‪ ،‬فهي يف كل يوم مخس مناسبات لذكر‬
‫اهلل وطلب الغاية اليت من أجلها خلقنا‪ ،‬وهي يف كل مجعة حفل‬
‫هبي‪ ،‬ويف كل عيد مظهر جلمال اجلماعة وقوهتا وكثرة عددها‪.‬‬
‫فلذلك أمر صلى اهلل عليه وسلم بالسري إىل املسجد يف الظلم‪ ،‬يف‬
‫غسق الليل وعند الفجر‪ ،‬وأمر بالطمأنينة يف السري إىل املسجد‪،‬‬
‫وأمر بالتبكري حلضور صالة اجلمعة وأمر بالربوز لصالة العيدين‬
‫بالنساء والصبيان يف مظاهر احلبور‪.‬‬
‫إىل املسجد كان يفزع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إن‬
‫حدث حادث‪ ،‬وفيه كان جيمع املسلمني‪ ،‬وفيه كان يربم أمر‬
‫اجلماعة ومنه كان خيرج اجملاهدون يف وجههم للجهاد‪ ،‬وفيه كان‬
‫يلقي الوفود‪ ،‬وفيه كان يعلم أصحابه‪ ،‬وفيه كان جيلس حلاجة‬
‫املسلمني‪ ،‬وفيه كان يتم أمر األمة األعظم وهو املبايعة لإلمام‪.‬‬
‫هلذا ذكر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ضمن السبعة‬

‫‪279‬‬
‫الذين يظلهم اهلل يف ظله يوم ال ظل إال ظله رجال قلبه معلق‬
‫باملساجد‪ .‬شيوخ املسلمني اليوم وعجزهتم يلزم بعضهم املساجد‪،‬‬
‫ولسنا نرغب يف مثل هذا التعلق الفردي إمنا حنب حياة للمسلمني‬
‫جديدة تنشأ يف املسجد وتشب وتعمم أوقات املسلم كلها معاين‬
‫املسجد ومعاين اجلماعة اليت مأواها املسجد‪ .‬فتبدأ حركيتنا من‬
‫املسجد وتدور حول املسجد عامرا بالقلوب املؤمنة تذكر اهلل‬
‫وتصلي له وتتلو قرآنه وتتعلم الكتاب وتتعلم احلكمة‪ .‬فذلك‬
‫مرياث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وحبيازة املرياث يقوى‬
‫املستضعفون فيصبحون خلفاء يف األرض أوصياء على اإلنسانية‪.‬‬
‫روى الطرباين عن أيب هريرة رضي اهلل عنه أنه مر بسوق املدينة‬
‫فقال ‪« :‬يا أهل السوق ما أعجزكم ! قالوا ‪ :‬وما ذاك ؟ قال ‪:‬‬
‫ذاك مرياث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقسم وأنتم ههنا !‬
‫أال تذهبون فتأخذون نصيبكم منه؟ قالوا ‪ :‬وأين هو ؟ قال يف‬
‫املسجد! فخرجوا سراعا ووقف أبو هريرة هلم حىت رجعوا‪ .‬فقال‬
‫هلم ‪ :‬ما لكم ؟ فقالوا ‪ :‬يا أبا هريرة ! قد أتينا املسجد ودخلنا فيه‬
‫فلم نر فيه شيئا يقسم! فقال هلم أبو هريرة ‪ :‬وما رأيتم يف املسجد‬
‫أحدا ! قالوا ‪« :‬بلى ! رأينا قوما يصلون‪ ،‬وقوما يقرأون القرآن‪،‬‬
‫وقوما يتذاكرون احلالل واحلرام‪ ،‬فقال هلم أبو هريرة ‪ :‬وحيكم !‬
‫فذاك مرياث حممد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬

‫‪280‬‬
‫التــؤدة‬
‫املسلمون اليوم رخوة أجسامهم وأرواحهم‪ ،‬رخوة دوهلم ال‬
‫تقدر متتنع عن عدوها‪ .‬وللعدو درع من حديد تكتنف عنفا‬
‫أصيال يف اجلاهلية وال تصل أن تكتمه‪ .‬ففي يد اجلاهلية أسلحة‬
‫حيركها العنف وتلهبها الكراهية والعصبية ودواعي التكاثر‪ .‬ويوكل‬
‫املسلمون أكل اخلراف ويقتلون‪ .‬وهبذه القوة قوة احلديد يباهي‬
‫عامل اجلاهلية أمة املستضعفني كما يباهيها بزينته احلضارية‪ .‬هكذا‬
‫كان دأب اجلاهلية ودأب السالم وال يزال‪ .‬وما بيننا وبني النصر‬
‫إال أن نؤمن باهلل ونصلح العمل‪ ،‬ليفي اهلل بوعده فيمن على‬
‫املستضعفني ويستخلفهم‪ .‬ما بيننا وبني النصر إال أن ننصر اهلل‬
‫على أنفسنا وننصره على الناس‪ ،‬فنغضب حلَُرمه اليت هتتك وال‬
‫نغضب محية وتنافسا على الرئاسة‪ ،‬ونغضب أن يكون حزب اهلل‬
‫مقهورا يف دار اإلسالم ويتحكم الطاغوت‪ ،‬ونتبع بعد ذلك شرع‬
‫اهلل يف إعداد القوة كما أمرنا حىت ُيسك اهلل بالزمان ويكون ولينا‬
‫ووكيلنا‪.‬‬
‫وإن موكبا تقوده يد اهلل القوية وتنصره لبالغ مداه‪ .‬قال اهلل‬
‫ين َك َف ُروا‬ ‫ات قَ َ َّ ِ‬ ‫تعاىل ‪﴿ :‬وإِ َذا تـتـلَى َعلَْي ِهم آياتـنَا بـيـِّنَ ٍ‬
‫ال الذ َ‬ ‫ْ َُ َ‬ ‫َ ُْ‬
‫س ُن نَ ِديّاً ‪َ ،‬وَك ْم أ َْهلَ ْكنَا‬ ‫ِِ‬
‫َي الْ َف ِري َق ْي ِن َخيـٌْر َّم َقاماً َوأ ْ‬
‫َح َ‬ ‫آمنُوا أ ُّ‬ ‫للَّذ َ‬
‫ين َ‬

‫‪281‬‬
‫س ُن أَثَاثاً َو ِرئْياً﴾‪.‬‬ ‫ٍ‬
‫َح َ‬
‫قـَبـْلَ ُهم ِّمن قـَْرن ُه ْم أ ْ‬
‫إن اجلاهلية تستغين بأثاثها وِرئْيها‪ ،‬وإمنا يفنت املسلمني هذا‬
‫األثاث احلضاري فيستبدلون ندي املسجد الذي حتضره املالئكة‬
‫وتغشاه السكينة بندي كافر فيه اجلهل حني يسمى ثقافة ألن‬
‫هذه الثقافة جتهل قيمة اإلنسان‪ ،‬وفيه اجلهل حني يكون عمال‬
‫ألن العمل اجلاهلي عنف اإلنسان املتأله املستعلى يف األرض يزعم‬
‫أن األرض له والسماء وأن عقله حيكمه يف األمر كله‪ .‬فعنف‬
‫وال سكينة وجهل ُمطبق بالغايات اإلهلية‪ .‬ويهلك اهلل كل قوم‬
‫استحسنوا أثاثهم َوِرئـْيـَُهم ولو كانوا ملء مسع الدنيا وبصرها‪.‬‬
‫هذا األثاث اجلاهلي الذي تتفوق به علينا اجلاهلية درع من‬
‫حديد يف يد اإلنسان اجلاهلي ومفتاحه التكنولوجية‪ ،‬وهذه الثقافة‬
‫اجلاهلية الساكنة بني ضلوعنا ال تتطلع إىل مصري أحسن من مصري‬
‫طبقة من اإلنسانية حمظوظة ختاف على خرياهتا من سكان األرض‬
‫املساكني اجلياع املتكاثرين بأعداد هائلة‪ .‬ويرتكب اجلهالن يف‬
‫تصرف اجلاهليني ويظهر حني يرمقون تارة احلل السلمي فينثرون‬
‫ور السالم‬ ‫صُ‬
‫أحالمهم ُ‬
‫َ‬ ‫للمستضعفني قبضات من ماهلم وتسكن‬
‫املدمر املطلق وهو الدرع احلصني الذي يقيهم هجمة اإلنسانية‬ ‫ّ‬
‫اجلائعة بعد أن يَتكاثر البشر تكاثر اجلراد‪ .‬إن هذا اإلنسان املتأله‪،‬‬
‫هذا الربومثيوس كما يعربون‪ ،‬ال يرى يف أفقه إال العنف وأسباب‬

‫‪282‬‬
‫العنف‪ ،‬وله الغلبة يف األرض فيجرنا يف دوامة عنفه‪ ،‬ويستخفنا‬
‫الرئْي‪ ،‬ويستخفنا وعد اكتساب مثله‪ ،‬وننسى أن بأيدينا‬ ‫األثاث و ِّ‬
‫الكنز الذي تبحث عنه اإلنسانية‪ ،‬فإذا حنن قوم مسخ أشداء على‬
‫أنفسنا واهنون أمام عدونا نكره املوت وحنب احلياة‪ ،‬أي حياة‬
‫حياة الدابة خائعني بلداء‪.‬‬
‫شو َن َعلَى‬
‫َوصف لنا اهلل عز وجل عباد الرمحن‪ ،‬فهم ‪﴿ :‬يَ ْم ُ‬
‫ض هوناً وإِ َذا َخاطَبـهم الْج ِ‬
‫اهلُو َن قَالُوا َس َلماً﴾‪ .‬إهنم‬ ‫َُ ُ َ‬ ‫ْال َْر ِ َ ْ َ‬
‫مساملون هينون لينون يف حياهتم اخلاصة ويف حياهتم اجلماعية‪،‬‬
‫بينهم الرمحة واأللفة يوقر صغريهم كبريهم ويرحم كبريهم صغريهم‪.‬‬
‫لكنهم أشداء على العدو حازمون مقاتلون‪ .‬يقولون للناس ُح ْسنا‬
‫وسالما ما مل يستفزهم الناس استفز ًازا يصيب مقاتلهم‪ .‬هذا إذا‬
‫كانت هلم مجاعة‪ ،‬أما يف زمن الفتنة فنشاهد أن التبلُّد هو رائدهم‬
‫السلم يف احملافل وما هبم ِسلم‪ ،‬وإمنا خوف من املوت‬ ‫يدعون إىل ِّ‬
‫ال يفارق الصادين املعرضني عن رهبم اجلاهلني لغيبه وسطوته‬
‫ودنياه ببالئها وآخرته‪.‬‬
‫العمل اإلسالمي بناء لألمة من أساسها‪ ،‬ويتطلب البناء رفقا‪،‬‬
‫فرفقنا فيما بيننا توبة عامة تشمل رد املظامل لكن ال حتاسب على‬
‫ماض كنا فيه مجيعا مفتونني‪ .‬ورفقنا ُتاه الناس دعوة إىل السالم‬
‫إال يف حق من يظلمنا‪ .‬ويقتضي هذا أن تكون لنا قوة‪ ،‬بل يقتضي‬

‫‪283‬‬
‫البعث اإلسالمي بناء للقوة قبل كل شيء‪ .‬إن اجلماعة املؤمنة‬
‫مجاعة معها اهلل حيميها وينصرها كما تنصره‪ ،‬لكنه تعاىل يأمرها‬
‫أن تعد القوة‪.‬‬
‫وإن كانت القوة عند اجلاهليني تطغى أهلها فيعنفون ألهنم‬
‫يضعوهنا يف غري موضعها‪ ،‬فقوة املسلمني ضابطها إهنم ربانيون‬
‫مرمى نظرهم اجلنة وال متأل الدنيا قلوهبم‪ ،‬فهم ال يتنافسوهنا‪ .‬وإن‬
‫هلم من الرتاحم والتكافل اجلماعي قاعدة مادية للطمأنينة تعزز‬
‫احلافز الروحي‪ .‬ينمو االقتصاد اجلاهلي خبمسة يف املائة وهو منو‬
‫املنتوجات املادية‪ ،‬أما اإلنسان فينقص ضعفي ذلك وأكثر‪ ،‬ويزداد‬
‫عدد اجلرائم بأكثر من عشرة باملائة يف بالد اإلحصاء والكم‬
‫املعجب به أهله‪ ،‬أما يف بالد االشرتاكيات املتكتمة فيطل العنف‬
‫‪1‬‬
‫اجلاهلي منها بأخبار متقطعة ال يكاد صوت يرتفع حىت يكموه‪.‬‬
‫الربانية حتمل معاين ثالث‪ ،‬أوهلما االنتساب إىل الرب جلت‬
‫عظمته والثاين انتساب إىل الرتبية‪ .‬ويقول املفسرون بأن الرباين‬
‫ورب يُرب ورىب يريب معنامها‬
‫هو من يريب بصغار العلم قبل كباره‪َّ .‬‬
‫أمنى وزاد‪ .‬فالرباين رجل مؤمن حمسن يريب الناس برفق ويزيد يف‬
‫معنوياهتم ويبعث هلم حياة روحية‪ .‬هؤالء الربانيون هبذه املعاين‬

‫بعد ما هنالك فإذا اخلراب الشامل‪ ،‬خراب اإلنسان‪ ،‬وخراب االقتصاد وخراب البيئة ‪:‬‬
‫‪ 1‬مث انكشف ُ‬
‫أنقاض يف أنقاض‪.‬‬

‫‪284‬‬
‫السامية هم بناة اإلسالم غدا‪ .‬والبناء طويل األمد شاق عسري‬
‫يعرتضه عنف اجلاهلية املرتبصة من خارج ويعرتضه عاداتنا اجلاهلية‬
‫العنيفة‪ .‬وكل هذا يُلزم أن يكون مشينا على األرض َه ْونًا مشي‬
‫ال دائبني يصلون الليل بالنهار ال يفرتون‪.‬‬ ‫عُ ّم ُ‬
‫فيكون معىن التؤدة هذا الرفق الرباين الذي هو حلية األنبياء‪،‬‬
‫مث هذا العمل الدائب املستعصي على عوامل العنف الثابت هلا‪.‬‬
‫وعندئذ تكون التؤدة هي الصرب‪ .‬ويف القرآن بشرى للصابرين‪،‬‬
‫ووصف األنبياء فيه بأهنم صابرون‪ .‬والصرب صربان‪ ،‬صرب يقفك أن‬ ‫ُ‬
‫ال تستخفك الفتنة‪ ،‬ويف هذا يقول اهلل عز وجل يف قصة قارون‬
‫الطاغوت الفاتن بزينة ماله‪﴿ :‬فَ َخ َر َج َعلَى قـَْوِم ِه فِي ِزينَتِ ِه قَ َ‬
‫ال‬
‫ِ‬ ‫الدنيا يا لَي َ ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫ارو ُن إِنَّهُ‬‫ت لَنَا مثْ َل َما أُوت َي قَ ُ‬ ‫ْحيَاةَ ُّ َ َ ْ‬ ‫ين يُ ِري ُدو َن ال َ‬ ‫ا لذ َ‬
‫اب اللَّ ِه َخيـٌْر‬ ‫ِ‬ ‫يم وقَ َ َّ ِ‬ ‫لَ ُذو ح ٍّ ِ‬
‫ْم َويـْلَ ُك ْم ثـََو ُ‬
‫ين أُوتُوا الْعل َ‬ ‫ال الذ َ‬ ‫ظ َعظ ٍ َ‬ ‫َ‬
‫الصابُِرو َن﴾‪ .‬الصابرون‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اها إِ َّل َّ‬ ‫صالحاً َوَل يـُلَ َّق َ‬ ‫آم َن َو َعم َل َ‬ ‫لِّ َم ْن َ‬
‫ال تستهويهم الزينة وال متلكهم الدنيا‪ .‬أ ََّما الصرب اآلخر فهو‬
‫مواصلة العمل مع التحمل يف كل يوم ويف كل ساعة‪ .‬قال اهلل‬
‫َّ ِ‬
‫صابُِرواْ َوَرابِطُواْ َواتـَُّقواْ‬ ‫اصبِ ُرواْ َو َ‬
‫آمنُواْ ْ‬ ‫ين َ‬ ‫تعاىل ‪﴿:‬يَا أَيـَُّها الذ َ‬
‫اللّهَ لَ َعلَّ ُك ْم تـُْفلِ ُحو َن﴾‪.‬‬
‫ويرجع األمر إىل اإلميان والتقوى واجلهاد‪ ،‬وما كل ذلك إال‬
‫بذل املال والنفس يف سبيل اهلل‪ ،‬وسبيل اهلل حني ينشر لواء‬

‫‪285‬‬
‫املو ِّحدة حاملة الرسالة‪ .‬ودعين‬
‫اإلسالم هو البناء اجلماعي للدولة َ‬
‫من التؤدة كما يفهمها القاعدون تبلدا وكسال ! هذا تعريف إجيايب‬
‫للتؤدة ال يُعطيه التعريف السليب بأن التؤدة هي عدم العنف‪.‬‬
‫ويبقى لنا أن اهلل ورسوله أمرنا أمرا قاطعا أن ال حنمل السيف على‬
‫بعضنا ‪.‬‬
‫يف حياة أصحاب النيب صلى اهلل عليه وسلم أمثلة رائعة للتؤدة‬
‫والصرب والربانية‪ .‬أمر رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بالرفق فقال‬
‫يف حديث عائشة رضي اهلل عنها ‪« :‬يا عائشة ! إن اهلل رفيق‬
‫يحب الرفق ويعطي على الرفق ما ال يعطي على العنف وما ال‬
‫يعطي على سواه»‪.1‬‬
‫وبالرفق بدأ رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم دعوته‪ .‬فروى‬
‫البيهقي أن أبا طالب قال له صلى اهلل عليه وسلم ‪ « :‬يا ابن‬
‫أخي ! إن قومك قد جاؤوين وقالوا كذا وكذا ( حني اشتكوا أنه‬
‫صلى اهلل عليه وسلم يسفه أحالمهم ويدعوهم للتوحيد)‪ .‬فأبق‬
‫علي وعلى نفسك‪ ،‬وال حتملين من األمر ما ال أطيق أنا وال أنت‪.‬‬
‫فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك‪ ،‬فظن رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم أن قد بدا لعمه فيه وأنه خاذله ومسلِّ ُمه وضعُف‬
‫عن القيام معه‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬يا عم !‬

‫‪ 1‬الشيخان وغريمها‬

‫‪286‬‬
‫لو وضعت الشمس يف مييين والقمر يف يساري ما تركت هذا األمر‬
‫حىت يظهر اهلل أو أ َْهلِك يف طلبه! مث استعرب رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم فبكى‪ .‬فلما وىل قال له‪-‬حني رأى ما بلغ األمر برسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ -‬يا ابن أخي ! فأقبل عليه فقال ‪ :‬امض‬
‫ُسلِّ ُمك لشيء أبدا!»‪.‬‬
‫على أمرك وافعل ما أحببت‪ ،‬فواهلل ال أ َ‬
‫هذه تؤدة األنبياء وذلك صربهم‪ ،‬تصميم وإردة ال تُفل‪،‬‬
‫وحتمل للشدائد ال ينقطع معه السعي أبدا‪ .‬أخرج الطرباين عن‬
‫منبت األزدي قال ‪« :‬رأيت رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يف‬
‫اجلاهلية وهو يقول ‪ :‬يا أيها الناس ! قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا‬
‫! فمنهم من تفل يف وجهه ومنهم من حثا عليه الرتاب‪ ،‬ومنهم‬
‫س (قدح) من‬ ‫من سبه‪ ،‬حىت انتصف النهار‪ .‬فأقبلت جارية بعُ ّ‬
‫ماء فغسلت وجهه ويديه وقال ‪ :‬يا بنية ! ال ختشي على أبيك‬
‫غيلة وال ذلة ! فقلت من هذه ؟ قالوا ‪ :‬زينب بنت حممد وهي‬
‫جارية وضيئة»‪.‬‬
‫وأخرج البخاري عن عروة رضي اهلل عنه قال ‪ :‬سألت ابن‬
‫العاص فقلت ‪ :‬أخربين بأشد شيء صنعه املشركون برسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬قال بينما النيب صلى اهلل عليه وسلم يصلي‬
‫يف حجر الكعبة إذ أقبل عليه عقبة بن أيب معيط فوضع ثوبه‬
‫على عنقه فخنقه خنقا شديدا‪ .‬فأقبل أبو بكر رضي اهلل عنه حىت‬

‫‪287‬‬
‫أخذ مبنكبه ودفعه عن النيب صلى اهلل عليه وسلم وقال ‪« :‬أتقتلون‬
‫رجال أن يقول ريب اهلل وقد جاءكم بالبينات من ربكم ؟»‪.‬‬
‫وأخرج البخاري ومسلم والنسائي عن عروة أيضا عن عائشة‬
‫رضي اهلل عنها زوج النيب صلى اهلل عليه وسلم حدثه أهنا قالت‬
‫للنيب صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬هل أتى عليك يوم كان أشد عليك‬
‫من يوم أحد ؟ قال ‪ :‬لقد لقيت من قومك ما لقيت‪ ،‬وكان‬
‫أشد ما لقيت منهم يوم العقبة‪ ،‬إذ عرضت نفسي على ابن‬
‫يجبني إلى ما أدرت‪ .‬فانطلقت وأنا‬ ‫ياليل بن عبد ُكالل فلم ُ‬
‫مهموم على وجهي‪ ،‬فلم أستفق إال وأنا بقرن الثعالب‪ .‬فرفعت‬
‫رأسي فإذا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل عليه‬
‫السالم‪ .‬فناداني فقال ‪ :‬إن اهلل قد سمع قول قومك لك وما‬
‫ردوا عليك‪ .‬وقد بعث اهلل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت‬
‫فيهم‪ .‬فناداني ملَك الجبال فسلم علي ثم قال ‪ :‬يا محمد‬
‫! فقال ذلك‪ ،‬فما شئت ‪ :‬إن شئت أطبق عليهم االخشبين‬
‫(جبال مكة)‪ .‬قال النبي صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬بل أرجو أن‬
‫يخرج اهلل عز وجل من أصالبهم من يعبد اهلل عز وجل وحده‬
‫ال يشرك به شيئا»‪.‬‬
‫هذا رفق نبوي فيه الفالح بقول ال إله إال اهلل وفيه املالئكة‬
‫وفيه صرب الداعي إىل اهلل على األذى وعلى داعي النفس املحبة‬
‫ُ‬
‫‪288‬‬
‫لالنتقام الغاضبة‪ .‬وهذا هو معىن الربانية كاملة حيذوها الرجاء يف‬
‫أن تنتشر الدعوة وينمو اإلسالم‪.‬‬
‫وصرب مع رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه على أذى‬
‫قريش قبل اهلجرة مث على اجلهاد مع قلة ذات اليد وقلة العدد‬
‫واملؤمنون يف بقعة حتيط هبا اجلاهلية‪ .‬ويف تاريخ حتمل الصحابة‬
‫رضي اهلل عنهم لألذى صفحة مشرقة يذكر فيها مستضعف وارث‬
‫عبد حبشي يدعى بالال ‪ .‬أخرج اإلمام أمحد وابن ماجه عن ابن‬
‫مسعود رضي اهلل عنه قال ‪ :‬أول من أظهر اإلسالم سبعة ‪ :‬رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم وأبو بكر وعمار وأُمه مسية وصهيب‬
‫وبالل‪ .‬واملقداد رضي اهلل عنهم‪ .‬فأما رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم فمنعه اهلل بعمه‪ ،‬وأما أبو بكر فمنعه اهلل بقومه‪ ،‬وأما‬
‫سائرهم فأخذهم املشركون فألبسوهم أدرع احلديد وصهروهم يف‬
‫الشمس‪ .‬فما منهم من أحد إال وقد آتاهم ما أرادوا إال بالال فإنه‬
‫هانت عليه نفسه يف اهلل وهان على قومه‪ ،‬فأخذوه فأعطوه الولدان‬
‫فجعلوا يطوفون به يف شعاب مكة وهو يقول ‪ :‬أحد ! أحد ! »‪.‬‬
‫خلف رسول اهلل أعبدة تسعى ُمهانة معذبة مستضعفني يف‬
‫األرض‪ ،‬لكنهم قالوا ال إله إال اهلل فأفلحوا‪ ،‬وكان من فالحهم‬
‫الصرب والرفق والتحمل حىت فتح اهلل هبم األرض واستخلفهم فيها‬
‫وبدل خوفهم أمنا‪ ،‬وحىت أصبح بالل رمزا من رموز اإلسالم‪،‬‬

‫‪289‬‬
‫يؤذن يف مسجد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ويعارض عمر‬
‫بن اخلطاب يف شؤون الدولة بعد أن فتح سيفه وسيف أمثاله من‬
‫عباد الرمحن املاشني هونا وسالما يف بالد اهلل ليعبد فيها اهلل‪.‬‬
‫يقول الرسول اهلل عليه وسلم ‪« :‬ال علم إال بتعلم وال حلم‬
‫إال بتحلم» واحلكم هو التؤدة‪ ،‬وهي خصلة تكتسب بالصحبة‬
‫والذكر حىت تذهب األنانية وقسوة القلب وحىت يُنتزع اإلنسان‬
‫من العادة املخلدة إىل األرض‪ .‬ويف دولة اإلسالم املنبعثة إذا ال‬
‫بد أن ترتكز الربانية يف رمز اجلهاد‪ ،‬يف شخص القائد اجملاهد‪.‬‬
‫فبعلمه ينبغي أن يتعلم املسلمون وحبلمه ينبغي أن يتحلموا يف دار‬
‫اإلسالم طبقة مرتفة جباهها‪ ،‬ويف دنيا اجلاهلية يقرتن طاغوت املال‬
‫بطاغوت اجلاه‪ ،‬متتهن املستضعفني بإسالمهم‪ ،‬فهي العنف جمسما‬
‫بني ظهرانينا وهي القسوة‪ .‬ونفوس اخللق جبلت على الفطرة فهي‬
‫مجعاء لكن تاريخ الظلم جعل فيها بذرة العنف وحب االنتقام‪.‬‬
‫فإن مل يكن القائد اجملاهد املتحرر من الرتف مثاال للحلم وعبدا‬
‫هلل هينا لينا فمن أين تلتحم األمة على توبتها ؟‬
‫كان النيب وخلفاؤه الراشدون يركبون احلمار ويردفون خلفهم‬
‫رديفا‪ .‬وكانوا يعاجلون أنفسهم خمافة الكرب‪ ،‬ألن الكرب أصل البالء‬
‫كله وأصل الكفر‪ .‬ويعصد عمر بن اخلطاب العصيدة للمساكني‬
‫بيده فهذا هو احللم والعلم‪ .‬أخرج ابن سعد عن حزام بن هشام‬

‫‪290‬‬
‫قال ‪« :‬رأيت عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه مر على امرأة تعصد‬
‫عصيدة هلا فقال ‪ :‬ليس هكذا يعصد‪ ،‬مث أخذ املسوط فقال ‪:‬‬
‫هكذا ! فأراها »‪ .‬فأين حنن وطواغيتنا ال تسعهم األرض كربا !‪.‬‬
‫وخطب عمر الناس يوما فقال ‪« :‬أيها الناس ! لقد رأيتين‬
‫أرعى على خاالت يل من بين خمزوم فيقبض يل القبضة من التمر‬
‫والزبيب فأظل يومي وأي يوم ! مث نزل فقال عبد الرمحن بن عوف‬
‫رضي اهلل عنه ‪ :‬يا أمري املؤمنني‪ ،‬ما زدت على أن قمأت نفسك!‬
‫لوت فحدتثين نفسي فقالت‪:‬‬ ‫فقال ‪ :‬وحيك يا ابن عوف ! إين َخ ُ‬
‫أنت أمري املؤمنني فمن إذا أفضل منك ؟ فأردت أن اعرفها‬
‫نفسها!» ‪.1‬‬
‫ملا ويل أبو بكر اخلالفةخافت جاراته أن خيرج عن عادته‪،‬‬
‫وكان امرأ يتكسب بتجارة بسيطة وله منائح يرعاها أحيانا بنفسه‬
‫وحيلبها وحيلب جلاراته‪ .‬قالت جارية من احلي بعد مبايعة الناس‬
‫له‪« :‬اآلن ال حتلب لنا منائح دارنا‪ ،‬فسمعها أبو بكر فقال ‪ :‬بلى!‬
‫لَ َع ْمري ألحلبنها لكم‪ ،‬وإين ألرجو أن ال يغريين ما دخلت فيه عن‬
‫خلق كنت عليه‪ .‬فكان حيلب هلم‪ ،‬فرمبا قال للجارية من احلي ‪:‬‬
‫يا جارية ! أ َُتبني أن أرغي لكم أو أصرح‪ ،‬فرمبا قالت ‪ :‬ارغ‪ ،‬ورمبا‬

‫‪ 1‬الدينوري‬

‫‪291‬‬
‫‪1‬‬
‫صرح ! فأي ذلك قالت فعل!»‬ ‫قالت ‪ِّ :‬‬
‫أخرج ابن سعد عن ُجرموز قال ‪« :‬رأيت عليا رضي اهلل عنه‬
‫وهو خيرج من القصر وعليه قطريتان ‪ :‬إزار إىل نصف الساق ورداء‬
‫مشمر قريب منه‪ ،‬ومعه ِد َّرة له ميشي هبا يف األسواق ويأمرهم‬
‫بتقوى اهلل وحسن البيع ويقول ‪ :‬أوفوا الكيل وامليزان! ويقول ‪ :‬ال‬
‫تنفخوا اللحم!»‬
‫أولئك أهل احللم أهل احلكمة‪« ،‬ومن يؤت احلكمة فقد أويت‬
‫خريا كثريا»جعلوا ألنفسهم حكمة فروضوها على الطاعة وسلكوا‬
‫سلوكا إراديا قويا صامدا حنو غايات اإلحسان وباحلكمة أحكموا‬
‫أمر مصريهم ومصري اإلسالم وضربوا لنا مثاال حىت نعكف على‬
‫تزكية أنفسنا لكيال تطغى‪ .‬قال اهلل يف كتابه يعلمنا الكتاب‬
‫واحلكمة ‪« :‬إن اإلنسان ليطغى أن رآه استغين» فهلُ َّم نطرح‬
‫الرئْي اجلاهلي لنصوغ إنسانية طاهرة متزكية تنشر يف األرض‬ ‫هذا ِّ‬
‫السالم وتقول للناس ُح ْسنًا وتفعل هبم حسنا!‬

‫‪ 1‬ابن سعد‬

‫‪292‬‬
‫االقتصاد‬
‫ التنمية االقتصادية وثن يعبده املعاصرون‪ .‬إهنا وثن‬
‫النصرافها عن اإلنسان بل ألن هدفها أن يزيد اإلنسان غرقًا‬
‫يف أثاثه وِرئْيه‪ .‬واجلاهليون الرأمساليون أكثر نفاقا من اجلاهلني‬
‫اآلخرين‪ ،‬أولئك يزعمون أهنم يبغون تنمية لإلنسان مع التنمية‬
‫االقتصادية‪ ،‬أما هؤالء فقد وطنوا أنفسهم على خدمة اهلدف‬
‫االقتصادي الذي يطوي اإلنسان طيا ويستهلكه استهالكا وفقا‬
‫للعقيدة املادية مفسرة التاريخ بالتفسري اجلديل العتيد ! الرأمساليون‬
‫يؤسسون شركات «جمهولة االسم» وحتت االسم اجملهول أمساء‬
‫معلومة لرجال املال احملتكرين أصحاب اجلاه واحلكم والسيادة‪،‬‬
‫وعند اجلاهلية األخرى شعار «استبداد الصعاليك» الذي خيفي‬
‫حتته حتكم الطبقة اجلديدة صاحبة اجلاه واحلكم والسيادة‪ .‬وحتت‬
‫هؤالء يكدح اجلاهلي ويستغل وتنصب له أوثان تسمى «ارتفاع‬
‫مستوى املعيشة» و«احلد األدىن لألجور» وما شابه‪ .‬ويرجع األمر‬
‫إىل تكاثر على الدنيا يظهر يف مفاخرة املعسكرين بعضهما لبعض‬
‫بالبضاعة واإلنتاج واستهالك املستهليكن‪.‬‬
‫معسكران أو معسكرات ألن األمر حرب وعنف ونزاع‬
‫على ابتالع املستضعفني يف األرض وألن تعبئة الصني وعداوهتا‬

‫‪293‬‬
‫للمعسكرين العتيقني فتحت بابا ثالثا للمساومة على أنصباء كل‬
‫فريق من اهليمنة يف األرض‪.‬‬
‫ال شك أن اهلدف االقتصادي وإغراءه ودافع الثورة على ظلم‬
‫املستغنني األثرين كان حافز ثورة الشيوعيني‪ ،‬وكانت الثورة مولد‬
‫تعبئة عظيمة لقوى اجملتمع اجلاهلي مكنته من هذا البناء اهلائل‬
‫السريع الذي نراه يف روسيا ونراه يف الصني‪ .‬وهذه النماذج هي‬
‫األمثلة العليا للمسلمني املفتونني‪ ،‬لذلك فكلمة الساعة يف بالدنا‬
‫هي «الثورة» والوثن هو «التنمية االقتصادية»‪ .‬وكأن اإلنسانية‬
‫ال يفصلها إال خط واحد‪ ،‬من جانب األغنياء وأصحاب األثاث‬
‫والرئي ومن اجلانب الثاين احملرومون يف عامل القلة‪ .‬أقول كأن‬
‫اإلنسانية هكذا يف نظر حقيقة اإلنسان وقيمته السماوية‪ ،‬وإال‬
‫فإن أحداث العامل جتري على منطق العنف املبين على التقسيم‬
‫الكمي لإلنسانية‪.‬‬
‫إننا معشر املسلمني مندجمون يف عامل اجلاهلية بعد أن مسخنا‬
‫يف عقيدتنا وبعد أن فقدنا السمت اإلسالمي بفقدان اإلميان‪.‬‬
‫فلسنا نتميز يف عني أنفسنا ويف عني العامل عن اإلنسانية املعطَّلة‬
‫احملرمة إال مبستوى معيشتنا الذي يرتاوح بني دخل ‪ 4000‬دوالر‬
‫للفرد سنويا وبني دخل ‪ 20‬دوالرا‪ ،‬وهذا يقسمنا على اخلط‬
‫الكمي فيصنف طائفة من احلفاة العراة مشيدي البنيان مع اجلاهلية‬

‫‪294‬‬
‫املماثلة بثروهتا‪ ،‬ويصنف اآلخرين مع صعاليك العامل‪ .‬ونتميز عن‬
‫اإلنسانية املتخمة بأن أمراءنا وقادتنا أكثر منهم بطنة وسائرنا‬
‫عائمون يف اجلهل واملرض والضعف لعموم الفقر وعموم الظلم‪.‬‬
‫كل ذلك من عالمات الساعة‪ ،‬فإن أذن اهلل فستكون ساعة‬
‫توبتنا وساعة يقظتنا لنتعلم أن اإلنسانية ينبغي أن يقسمها خط‬
‫اإلميان‪ ،‬فمن جانب أهل اإلميان والنور ومن جانب أهل اجلاهلية‬
‫والظلمة‪ .‬فأهل النور واإلميان أصحاب إرداة هتدف لتحقيق الغاية‬
‫اإلحسانية الكتمال اإلنسان يف فرتة مروره على األرض‪ ،‬يتحابون‬
‫ويقصدون وجهتهم فال يتظاملون وال متسك الدنيا خبناقهم‪ .‬وأهل‬
‫الظلمة اجلاهليون إنسانية ضائعة تفتقر ملن يوقظها ويعطيها املثال‬
‫احلي على أن اإلنسان ليس دابة مآله الرتاب‪ ،‬إن اإلنسان لو كان‬
‫كذلك ملا أمكن غري ما تقرتحه الشيوعية من مثالية التساوي يف‬
‫األرزاق‪ ،‬هي املبدأ وهي الغاية‪ ،‬لكن اإلنسان سلوك عابر على‬
‫وجه األرض آئل إىل مصري مساوي يف اجلنة أو إىل دركات جهنم‬
‫إن زاغ عن الطريق‪.‬‬
‫َم ْن خيرب اجلاخهلية بذلك ؟ أم من يبلغها رسالة اهلل وهي ال‬
‫تفهم إال لغة اإلحصاء؟ إن كلمة اإلسالم تبقى وعدا نظريا حىت‬
‫تقوم لنا دولة ختتلف عن اجلاهلية اختالفا كيفيا جذريا‪ .‬لن تبلغ‬
‫دعوة اإلسالم آذان اجلاهلية حىت تتمكن الدعوة اإلسالمية أوال‬

‫‪295‬‬
‫قر قلوهبم‪ ،‬مث يتمثل اإلسالم يف أمة هلا‬ ‫من مسع قادتنا وأمتنا وتَ َ‬
‫درع من حديد قوية لكنها أمة ال تئن حتت ثقل اجلهاز االقتصادي‬
‫وال جتعل هدفا هلا ارتفاع مستوى العيش‪ .‬أمة بامسة سعيدة متوازنة‬
‫هاؤ ُم األمة املسلمة !‬
‫مجيلة تقول للناس ُح ْسنا‪ ،‬تقول هلم ‪ُ :‬‬
‫إن بناء اإلسالم يطلب من كل مسلم بايع على الطاعة أن‬
‫يشد احلزام ويشحذ اإلرادة باإلميان‪ ،‬ويصنع اإلميان يف املسجد‬
‫يف جمالس اإلميان‪ .‬ويقتضي أن يبذل كل مسلم ويتعب كل مسلم‬
‫ليل هنار ويتقلل وال يبذر‪ .‬ولو أعطى كل مسلم صاعه من التمر‬
‫وجر اجلرير كما فعل أبو عقيل لتحولنا يف بضع سنوات أمة تزري‬
‫بالشعوب قوة وصحة‪.‬‬
‫إن التقلل تصور إجيايب للمؤمن صاحب اإلرادة الصادق‪.‬‬
‫التقشف يفرض من خارج ويكون شعارا سياسيا أو إداريا‪ ،‬لكن‬
‫يقبع حتته ثعبان الغش والرشوة املرتبص‪ .‬وشعار التقشف تربير‬
‫لكل فشل اقتصادي‪ .‬أما التقلل فهو مظهر املؤمن املتزكي‪ ،‬يسمى‬
‫ُزْهدا إن اعتربناه اعتبارا ُخلقيا واعتربناه يف حدود احلياة الفردية‪.‬‬
‫فإذا أصبح جهادا مجاعيا هدفه الفردي يندمج يف اهلدف اجلماعي‬
‫لتجميع رأس املال وللتكافل والتساوي على مستوى معيشي كرمي‬
‫يضمن الغذاء الصحي الساذج للكل والكساء والسقف الوظيفيني‬
‫اجلميلني معا يف عُرف السمت اإلسالمي‪ ،‬عندئذ يصبح له‬

‫‪296‬‬
‫مغزى إنساين وفاعلية حركية فريدة‪ .‬أهذا جمرد شعار أن نزعم أن‬
‫باإلمكان نزع اإلنسان من امللكية بدل نزع امللكية الذي يؤسس‬
‫اجملتمع الشيوعي ؟ أميكن حقا أن يكون العامل اإلرادي عامال‬
‫حامسا يف حتويل اإلنسان حتويال كيفيا يف عالقته بامللكية ؟ وتقوم‬
‫على ذلك دولة قوية ؟ قد يفيدنا يف ذلك البحث عن ذلك تدبر‬
‫حياة الصحابة تدبرا واسعا‪.‬‬
‫أخرج احلاكم أن معاوية بعث إىل عبد الرمحن بن أيب بكر‬
‫الصديق رضي اهلل عنهم مبائة ألف درهم بعد أن أىب البيعة ليزيد‬
‫ابن معاوية‪ .‬فردها عبد الرمحن وأىب أن يأخذها وقال ‪« :‬أبيع ديين‬
‫بدنياي!»‪ .‬رجل له دين يفضله على الدنيا فال تغريه‪ ،‬لعل هذا‬
‫تعريف الئق بالصحابة الكرام‪ .‬وهم رضي اهلل عنهم نتاج تربية‪،‬‬
‫صحبوا وذكروا وصدقوا اهلل ورسوله فيما بايعوا عليه إذ باعوا‬
‫اجلنة بأمواهلم وأنفسهم‪ .‬وكان من تربيته صلى اهلل عليه وسلم أن‬
‫حذرهم وخوفهم الدنيا فحذروها فلما ملكوها كانت هلم ملكا‬
‫ومل تسيطر عليهم كما يسيطر امللك على صاحبه‪ ،‬بل صرفوها يف‬
‫وجوهها يبنون هبا ألنفسهم بيوتا يف اجلنة‪.‬‬
‫ال شك أن الوضع اليوم َغ ْي ما كان عليه‪ ،‬فاملسلمون مرتفة‬
‫إرادهتم‪ ،‬فهمتهم ال تتجاوز مستوى التنافس على املليكة إال قليال‬
‫ممن هلم دين يفضلونه على الدنيا‪ .‬ويوم تقوم قائمة اإلسالم لن‬

‫‪297‬‬
‫يكون وازع القرآن وحده حافزا للتقلل‪ ،‬فإن اإلسالم جيعل حقا‬
‫بل واجبا على اإلمام أن حيقق أمر اهلل الصريح الصارم بأال يكون‬
‫املال واألرض دولة بني األغنياء‪.‬‬
‫رىب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أصحابه ورقى روحانيتهم‬
‫حىت أصبحوا وكأن اجلنة والنار منهم رأي العني‪ .‬بلغ إمياهنم اليقني‬
‫فهانت الدنيا يف أعينهم ألهنم يقارنوهنا يف كل حلظة مبا يدَّخره‬
‫اهلل للمتقني الصابرين الذين يؤثرون على أنفسهم ولو كانت هبم‬
‫خصاصة‪ .‬كانوا يعيشون والغيب يكتنفهم فال وزن للكم املادي‬
‫يف نظرهم إال إن أنفقوا وبذلوا‪ .‬أرأيت رجال ينفذون فيه حكم‬
‫اإلعدام عشية أكان يلقي باال لطعامه ولباسه ذلك اليوم ؟ أم‬
‫تنصرف مهته بكليتها لتلك اللحظة ولكل وسيلة يفلت هبا منها ؟‬
‫هذا سلوك على الرهب‪ ،‬وقد كان الصحابة يعبدون رهبم ويدعونه‬
‫خوفا ورهبا معا‪ ،‬فكانوا ذاكرين هلم ذمة ومهة فانبسطت أيديهم‬
‫من ذهاب ُشح أنفسهم‪ .‬وكان مههم الكبري اخلوف من الدنيا‬
‫وانبساطها‪.‬‬
‫أخرج الشيخان عن عمر بن عوف األنصاري رضي اهلل عنه‬
‫أن رسول اهلل صلى اهلل وسلم بعث أبا عبيدة بن اجلراح رضي اهلل‬
‫عنه إىل البحرين يأيت جبزيتها‪ .‬فقدم مبال من البحرين‪ .‬فسمعت‬
‫األنصار بقدوم أيب عبيدة فوافوا صالة الفجر مع رسول اهلل صلى‬

‫‪298‬‬
‫اهلل عليه وسلم‪ .‬فلما صلى رسول اهلل صلى عليه وسلم انصرف‬
‫فتعرضوا له‪ .‬فتبسم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني رآهم مث‬
‫قال ‪« :‬أظنكم سمعتم أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين ؟ قالوا‬
‫وأملوا ما يسركم ! فواهلل‬
‫‪ :‬أجل يا رسول اهلل ! فقال ‪« :‬أبشروا ِّ‬
‫ما الفقر أخشى عليكم‪ ،‬ولكن أخشى أن تبسط الدنيا عليكم‬
‫كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها‬
‫فتهلككم كما أهلكتهم !»‬
‫أخرج البخاري عن سعد بن إبراهيم عن أبيه أن عبد الرمحن‬
‫ابن عوف رضي اهلل عنه أيت بطعام‪ ،‬وكان صائما‪ ،‬فقال ‪ :‬قتل‬
‫مصعب بن عمري‪ ،‬وهو خري مين‪ُ ،‬كفن يف بدرة إن غطي رأسه‬
‫بدت رجاله وإن غطي رجاله بدا رأسه – وأراه قال ‪ :‬وقتل محزة‬
‫رضي اهلل عنه وهو خري مين – مث بسط لنا من الدنيا ما بسط–‬
‫أو قال ‪ :‬أعطينا من الدنيا ما أعطينا – وقد خشينا أن تكون‬
‫حسناتنا قد عجلت لنا ! مث جعل يبكي حىت ترك طعامه!» وهاك‬
‫من آيات التقلل يف حياته صلى عليه وسلم وحياة أصحابه‪ .‬عن‬
‫ابن عباس رضي اهلل عنهما أن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫دخل عليه عمر رضي اهلل عنه وهو على حصري قد أثر يف جنبه‬
‫فقال ‪« :‬يا رسول اهلل ! لو اختذت فراشا أوثر من هذا ! فقال ‪:‬‬
‫مالي وللدنيا ! ما مثلي ومثل الدنيا إال كراكب سار في يوم‬

‫‪299‬‬
‫صائف فاستظل تحت شجرة ساعة ثم راح وتركها»‪.1‬‬
‫أخرج الطرباين عن سلمى امرأة أيب رافع رضي اهلل عنهما‬
‫قالت‪ :‬دخل على احلسن بن علي وعبد اهلل بن جعفر وعبد اهلل بن‬
‫عباس رضي اهلل عنهم فقالوا ‪ :‬اصنعين لنا طعاما مما كان يعجب‬
‫ن ! إذا ال‬ ‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أكله ! قالت ‪ :‬يا بَِ َّ‬
‫تشتهونه اليوم ! فقمت فأخذت شعريا فطحنته ونسفته وجعلت‬
‫منه خبزة‪ .‬وكان ُأد ُمه الزيت‪ .‬ونثرت عليه الفلفل‪ ،‬فقربته إليهم‬
‫وقلت كان النيب صلى اهلل عليه وسلم حيب هذا!»‪.‬‬
‫أخرج ابن سعد عن محيد بن هالل قال ‪ :‬ملا ويل أبو بكر قال‬
‫أصحاب رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪ :‬افرضوا خلليفة رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ما يغنيه قالوا ‪ :‬نعم‪ ،‬بـُْرداه إن أخلقهما‬
‫وضعهما وأخذ مثلهما وظهره (دابته) إذا سافر ونفقته على أهله‬
‫كما كان ينفق قبل أن يستخلف قال أبو بكر ‪ :‬رضيت»‪.‬‬
‫وعنه عن احلسن أن عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه رأى‬
‫جارية تطيش هزاال فقال ‪ :‬من هذه اجلارية ؟ فقال عبد اهلل بن‬
‫عمر ‪ :‬هذه إحدى بناتك ! قال ‪ :‬وأي بنايت هذه ؟ ابنيت ! قال‪:‬‬
‫ما بلغ هبا ما أرى ؟ قال عملك ال تنفق عليها‪ .‬قال ‪ :‬إين واهلل ما‬
‫أُغرك من ولدك ! فأوسع على ولدك أيها الرجل!»‬

‫‪ 1‬أمحد وابن حبان‬

‫‪300‬‬
‫أخرج البغوي أن موالنا عليا رضي عنه خرج يوما على محار‬
‫ودىل رجليه إىل موضع واحد مث قال ‪ :‬أنا الذي أهنت الدنيا !»‬
‫أخرج اإلمام أمحد عن حممد بن كعب أن ناسا نزلوا على أيب‬
‫الدرداء رضي اهلل عنه ليلة قـََّرةً‪ ،‬فأرسل إليهم بطعام سخن ومل‬
‫يرسل إليهم بلحف‪ .‬فقال بعضهم ‪ :‬لقد أرسل إلينا بالطعام فما‬
‫هنأنا مع القر ! ال أنتهي أو أبني له ! قال اآلخر ‪:‬دعه ! فأىب‪،‬‬
‫فجاء حىت وقف على الباب فرآه جالسا‪ ،‬وامرأته ليس عليها من‬
‫الثياب إال ما ال يذكر (ألهنا بالية مرقعة)‪ .‬فرجع الرجل وقال ‪ :‬ما‬
‫أراك بت إال بنحو ما بتنا به ! قال إن لنا دارا ننتقل إليها‪ ،‬قدمنا‬
‫فـُُر َشنا و ُلُفنا إليها‪ .‬ولو الفيت عندنا منه شيئا ألرسلنا إليك به‪.‬‬
‫املخف فيها خري من املـُثْقل‪ .‬أفهمت‬‫وإن بني أيدينا ع َقبة كؤودا ُ‬
‫ما أقول لك ؟ قال نعم !»‬
‫أخرج البيهقي عن عائشة رضي اهلل عنها قالت ‪« :‬رآين رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم وقد أكلت يف اليوم مرتني فقال ‪ :‬يا‬
‫عائشة ! أما تحبين أن يكون لك شغل إال جوفك؟ األكل في‬
‫اليوم مرتين من اإلسراف ! واهلل ال يحب المسرفين!»‪.‬‬
‫وأخرج امحد عن احلسن قال ‪ :‬دخل عمر على ابنه عبد اهلل‬
‫رضي اهلل عنهما وإن عنده حلما فقال ‪ :‬ما هذا اللحم ؟ قال‬
‫اشتهيته ! قال وكلما اشتهيت شيئا أكلته ؟ كفى باملرء سرفا ان‬

‫‪301‬‬
‫يأكل كل ما اشتهاه !»‬
‫أخرج البخاري يف األدب وأمحد عن عبد اهلل الرومي قال ‪:‬‬
‫دخلت على ِّأم طَْل ٍق بـَْيتـََها‪ ،‬فإذا سقف بيتها قصري‪ .‬فقلت ‪ :‬ما‬
‫ُ‬
‫أقصر سقف بيتك يا أم طلق ! قالت ‪ :‬يا بين ! إن عمر بن‬
‫اخلطاب رضي اهلل عنه كتب إىل عُ َّماله أن ال تطيلوا بناءكم‪ ،‬فإن‬
‫شر أيامكم يوم تطيلون بناءكم»‬
‫حسهم وأفنتهم اجلاهلية عن‬ ‫يقرأ بعض الناس ممن فسد ُّ‬
‫فطرهتم‪ ،‬تـَلَ َّو ُن هلم كما تلون يف أثواهبا الغول‪ ،‬خرب ربعي ابن عامر‬
‫إذا دخل فسطاط رستم بثوبه الصفيف وفرسه القصرية وهيأته‬
‫املسكينة فينفرون من املظهر الرث ويقولون ‪ :‬أي َهَج يسيء‬
‫األدب يف جملس األمري ! ومثل هؤالء ال خياطبون‪ .‬إمنا خياطب من‬
‫يقرأ حياة الصحابة فتمتليء جواحنه إعجابا وفرحا وحمبة ملن كان‬
‫طعامهم خشنا ولباسهم مرقعا وكانوا سادة أنفسهم فاستحقوا‬
‫االستخالف يف األرض هينني متواضعني رمحاء بينهم أشداء أقوياء‬
‫على العدو‪.‬‬
‫أخرج احلاكم عن طارق بن شهاب أن عمر بن اخلطاب‬
‫قدم الشام وعليه إزار وخفان وعمامة‪ ،‬فلقيه اجلند وهو آخذ‬
‫برأس بعريه خيوض املاء‪ ،‬فقال له أبو عبيدة ‪« :‬لقد فعلت يا امري‬
‫املؤمنني فعال عظيما عند أهل األرض ! نزعت خفيك‪ ،‬وقدمت‬

‫‪302‬‬
‫راحلتك وخضت املخاضة‪ .‬قال ‪ :‬فصك عمر بيده يف صدر أيب‬
‫عبيدة فقال ‪ :‬أوه ! لو غريك يقوهلا يا أبا عبيدة ! أنتم كنتم أقل‬
‫الناس وأذل الناس‪ ،‬فأعزكم اهلل باإلسالم‪ ،‬فمهما تطلبوا العزة بغريه‬
‫يذلكم اهلل تعاىل !»‬
‫حنس حنن األمةَ املفتونةَ مبركب نقص أمام أصحاب األثاث‬
‫الرئي فننفق أموالنا يف احملافل الدولية ويف السفارات ويف بالدنا‬‫و ِّ‬
‫ليكون لنا مظهر نعوض بالطواف به على أعني الناس هزالنا‬
‫وتفاهتنا‪ .‬وهتجم علينا الوسائل اجلاهلية الثقافية احلضارية فتتحول‬
‫يف يدنا إذ نقتنيها وثنا هو هدف جهودنا‪ ،‬ويضيع اهلدف احلق‬
‫فما دام اشرتينا مصنعا بكذا وكذا فال داعي أن يكون املعمل‬
‫آلة تطحن اقتصادنا وتأكله لقلة انتاجيته ! وإن شئنا أن نعلم‬
‫أو نؤسس إدارة أو صناعة فاخلرباء اجلاهليون تشرتى تقنيتهم‬
‫حبر مالنا وحنتفي مبا تلده أدمغتهم املريضة بأداوت الكراهية لنا‬
‫وعدم الكفاية ونتتلمذ ونقلد فال نقلد إال العجرفة وسوء التدبري‪،‬‬
‫ونبذر جهودنا وأموالنا‪ .‬وسنبقى عالة متكففني حىت ولو صب‬
‫يف جيوبنا الذهب األسود أموال قارون‪ ،‬بل بسبب ذلك نبقى‬
‫عالة متكففني‪ ،‬ألن بعضنا يرتع يف أموال املسلمني كما ترتع‬
‫النار وميتص دماء املسلمني‪ ،‬وهتمل الكفايات األصيلة َّ‬
‫املبذرة‬
‫اليت عند أبنائنا‪ .‬ويوم تقوم قائمة اإلسالم يذهب اهلل بريح من‬

‫‪303‬‬
‫عنده وبأيدينا بالتبذير واألثرة‪ ،‬وتعز نفوسنا فنصك يف صدور‬
‫بعضنا كما صك عمر بن اخلطاب ونصك يف حنور أعدائنا إيذانا‬
‫بأننا عزمنا على أن نتمثل شخصية املؤمنني املتقللني‪ ،‬الدنيا هلم‬
‫مطية وهم سادهتا‪ ،‬التقلل هلم مذهب هدفه القوة‪ ،‬واالخشيشان‬
‫والتشمري مستهم يف ساحة العمل‪ .‬ولقد ضرب اهلل لنا مثال وعرض‬
‫علينا آية لو كنا نعقل يف شخص الصيين املكافح الفقري العزيز‬
‫بفقره حطم صنم التكنولوجيا الومهي وصنع واخرتع وابتدع‪.‬‬

‫‪304‬‬
‫اجلهاد‬
‫ ال يتصور الناس إن مسعوا كلمة اجلهاد إال مشهدا واحدا‬
‫من مشاهد اجلهاد‪ ،‬وجماال واحدا من جماالته‪ ،‬فاجلهاد عندهم‬
‫قتال‪ .‬وأكثر ما يعرف به اجلاهليون أمة اإلسالم أهنا أمة اجلهاد‬
‫أمة احلرب املقدسة‪.‬‬
‫فأما أن يكون اجلهاد عمال مقدسا ال ريب فيه‪ ،‬وليس ملبايعة‬
‫القائد اجملاهد غداة بدء العمل اإلسالمي معىن إن ترمجت املبايعة‬
‫إىل عقد مدين‪ ،‬ال جهاد يف اإلسالم إال يف سبيل اهلل‪ ،‬أي أنه ال‬
‫جهاد باملعىن اإلسالمي إىل مقدسا‪ .‬وأما أن يكون اجلهاد جيمع‬
‫كله يف حلظة القتال فذلك فهم مبتور للتصور اإلسالمي للجهاد‪.‬‬
‫إن اهلل تعاىل ما ذكر املؤمنني يف موقف التعريف بأخص‬
‫خصائصهم إال ذكر اجلهاد باملال والنفس‪ .‬واجلهاد مستمر أبدا‬
‫وغايته محل الرسالة وتبليغها‪ .‬فإذا اعرتض طريق التبليغ معرتض‬
‫أو هدد اإلسالم مهدد فالقتال آخر وسيلة لصد املعتدي وكسر‬
‫العائق‪ .‬ويأمرنا اهلل تعاىل أن نقول للناس حسنا وأن نفي بالعهد‬
‫﴿ل يـَنـَْها ُك ُم اللَّهُ‬
‫ملن عاهدنا وأن نسامل من ساملنا‪ .‬وقال تعاىل ‪َ :‬‬
‫ين لَ ْم يـَُقاتِلُوُك ْم فِي الدِّي ِن َولَ ْم يُ ْخ ِر ُجوُكم ِّمن ِديَا ِرُك ْم أَن‬ ‫َّ ِ‬
‫َع ِن الذ َ‬
‫ب ال ُْم ْق ِس ِطينَ﴾‪.‬‬
‫وه ْم َوتـُْق ِسطُوا إِلَْي ِه ْم إِ َّن اللَّهَ يُ ِح ُّ‬
‫تـَبـَُّر ُ‬
‫‪305‬‬
‫أمامنا يف عامل اجلاهلية قوم قاتلونا وأخرجونا من ديارنا فأولئك‬
‫العدو وأولئك اجلهاد اإلسالمي قتاهلم حىت يعطوا اجلزية أو ي َف ْنوا‪.‬‬
‫أما سائر البشر فلن يتعرضوا لدعوتنا ألنه ال دعوة لنا اليوم‪ .‬فلنبدأ‬
‫جهادنا ببناء اإلسالم أوال حىت يقوم لنا كيان وحىت تكون لنا‬
‫دعوة ورسالة‪.‬‬
‫إن اجلهاد يستوعب كل جماالت العمل‪ ،‬فاقتحام العقبة‬
‫اجلماعيةُ أن نكون مع املؤمنني مببايعة جهادية‪ ،‬وهذا يطلب‬
‫جهادا‪ .‬واقتحام عقبة الفقر يطلب أن نفك رقابنا من عبودية‬
‫احلاجات احلضارية ونطعم املسكني‪ .‬وال يكفي يف ذلك أن نتناول‬
‫األشياء فنرد من مال الغين على الضعيف‪ .‬معناه أن اجلهاد‬
‫اإلسالمي لن يكون عملية ميكانيكية تنزع امللكية وتسوي األجور‬
‫بسلطان حاكم‪ .‬بل اجلهاد اإلسالمي يتناول اإلنسان ليفك رقبته‪،‬‬
‫وأول الرقاب احتياجا لذلك رقابنا‪ .‬فأي الناس حنن ؟ وأي الناس‬
‫نريد أن نكون ؟ وهل جهادنا لنغري ما بأنفسنا يقتضي أن نقاتل‬
‫املرتفني من أهلنا ليحل حمل البنية االجتماعية اجلاهلية استبداد‬
‫النخبة اإلميانية اإلحسانية ؟ اجلواب عن كل ذلك مصدره الفقه‬
‫املنهاجي الذي نسعى ملعرفته‪ .‬وإننا لفي وضعية ما سبقت فال بد‬
‫لنا من اجتهاد يكون فاحتة اجلهاد‪.‬‬
‫من أين نبدأ وعي أنفسنا ووعي مستقبلنا اإلسالمي؟ بدأ قوم‬

‫‪306‬‬
‫برسم طريق إىل الفتنة حني زعموا أن الدين يف جانب والدولة يف‬
‫جانب ما ينبغي للدين أن خياطبها‪.‬‬
‫ونبدأ حنن من املوقف الفطري‪ ،‬ومن املوقف الفطري ينظر‬
‫املؤمن نظرة فطرية تعم الكون كله وتدخله يف سياقه احلق ناظرة‬
‫َّس َمة ووضعها يف األرض وخط هلا الطريق‬ ‫إىل اخلالق الذي برى الن َ‬
‫إىل اخلالص ووعدها وعدا إن آمنت وعملت صاحلا‪ .‬هل سيصل‬
‫اإلسالم لدفة احلكم جبهاد رجال الدعوة حياربون احلاكمية املرتفة‬
‫الغامشة ؟ ذلك جهاد حىي اهلل رجاله لنياهتم الصاحلة ورحم اهلل‬
‫بالءنا فيهم حني طوهتم الفتنة‪ .‬إن بني ظهرانينا فراعنة صادين‬
‫عن دين اهلل عابثني حائرين‪ ،‬ولوال أهنم يصلون أمامنا وينتسبون‬
‫لإلسالم وحيملون شعاره لدلنا الفقه املنهاجي على قتاهلم‪ .‬لكنهم‬
‫اليوم من أدوات القدر اإلهلي تتالطم هبم أمواج الفتنة ويضرهبم‬
‫اهلل عز وجل بسوطه بيد عباده الصهاينة وببأس اجلاهلية وببأس‬
‫اليائسني من أبناء هذه األمة املبسوطني على الرغام‪ .‬فكيف سنقول‬
‫هلم قوال لينا كما قال موسى وهرون لفرعون ؟ وماذا نقول ؟‬
‫مهما نقل فلن تكون دعوتنا إال عامال جزئيا من هذه العوامل‬
‫املتضافرة املتضامنة املوجهة بيد حكيم خبري‪ .‬كلها تدفع هذه األمة‬
‫إىل اإلسالم وختلق احلاجة لعدله وسلطته وتلح يف ذلك بالفساد‬
‫املتفشى‪ .‬قادتنا والزعماء حيملون بنياهتم شعارات اإلسالم ويقرتبون‬

‫‪307‬‬
‫إىل أن تصفو نظرهتم ويذعنوا هلل ويروا أن ال منجاة منه سبحانه إال إليه‬
‫فيصدقوا يف طلب اإلسالم وتطبيق اإلسالم‪ .‬ذلك حني يعافون خبث‬
‫ماهم عليه وييأسوا من باطل أنفسهم فيتعلقوا باحلق‪.‬‬
‫لذلك اليوم نكتب غري حاملني وال تائهني بإذن اهلل جل شأنه‬
‫ونستفسح أبواب العمل اإلسالمي لريى الزعماء والقادة البديل‬
‫اإلسالمي للثورة ودوامة االنقالبية‪ .‬أجهاد فكري هذا الذي‬
‫نتحدث عنه ؟ ال جدال يف ذلك‪ ،‬غري أننا نسميه جهاد دعوة‬
‫فهو كذلك ألنه يدل على املنهاج النبوي الذي بدأ به أمر األمة‪،‬‬
‫يدل على الفالح بذكر ال إله إال اهلل كما دل رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم‪ ،‬ويدل على السنة واالتباع والصحبة‪ ،‬ويدل بصدق‬
‫على الصدق‪ .‬ولن تلقى املؤمن الفطري مرتددا يف بدل النفس‬
‫لو كان ذلك هو اجلهاد يف الفتنة ولو كان جماهدون ؟ كيف‬
‫واإلسالم خيوض أهله فتنة مظلمة ال تستبني معها موضع قدمك!‬
‫إن األمة لن يصلح آخرها إال مبا صلح به أوهلا‪ ،‬كما كان‬
‫يقول سلفنا الصاحل منذ أخذت الفتنة حتتل ديارنا‪ .‬وقد صلح أمر‬
‫اإلسالم جبهاد ربانيني يدعون إىل اهلل على بصرية‪.‬‬
‫الربانية تصور أضفناه لتصوراتنا املنهاجية القرآنية النبوية‪ ،‬وهو‬
‫تصور عملي يربز الصفات املتعدية غري الالزمة‪ 1‬للمؤمن من الذي‬

‫‪ 1‬ننقل املصطلح النحوي ليدلنا على ما نريد مقابل الكلمة الفرجنية ‪ transitif‬الين فعل هبا مثل‬
‫ذلك‬

‫‪308‬‬
‫يتعدى خريه نفسه فيكون يف الناس رمحة يؤثر فيهم بروحانيته‬
‫وجباهده يعلمهم حبكمة ويربيهم حىت يربوا ويزدادوا قوة وإميانا‬
‫ومتاسكا‪ .‬الرباين شخص جامع للخصال العشر يصل احملبة ووالية‬
‫املؤمنني بالغاية الرتبوية اجلهادية اليت من أجلها بعث اهلل النبيئني‪.‬‬
‫فإذا كان تصور السالك مقتحم العقبة يعطينا صفات شخص‬
‫حمايد‪ ،‬فإن تصور الرباين يدل على ما نريده من خروج السالكني‬
‫من مشروع خالصهم الفردي إىل العمل اجلماعي بربانية تشمل‬
‫الروحانية العالية والفكر املتعدي واخللقية الرفيقة‪ .‬إنه اجملاهد على‬
‫بصرية‪ ،‬فإن مل يكون اجملاهد ربانيا فسمه إن شئت مناضال ولن‬
‫تأتيك منه حياة إسالمية‪ ،‬ولن تكون حركيته حركية إسالمية حىت‬
‫ولو محل شعارات اإلسالم‪.‬‬
‫إن هذه الربانية ليست تصنع بالعمامة واملظهر وال بالعبارات‬
‫تالك وتطن يف اآلذان‪ .‬من طلب احلق واقتحم إليه عقبة نفسه‬
‫اكتشف ما هنالك كما اكتشفه الغزايل ملا صحب الرجال‪ .‬وكتب‬
‫الغزايل للناس يصف هلم الطريق ويدهلم على مقامات اجلهاد‬
‫اخلاص ويشهد بأن احلق مع الصوفية‪ .‬فإن صدقنا ما يزعمه‬
‫الغزايل من أن سر اإلميان حيضنه الصوفية فال سبيل للتأكد من‬
‫قوله إال أن جنرب حنن ما يقول‪ .‬وإن ما نكتبه يف هذه الصفحات‬
‫ما هو فكر من الفكر بقدر ما هو شهادة نبعث من جتربة ملا من‬

‫‪309‬‬
‫اهلل علينا مبحبة الكاملني أوليائه‪ .‬وال نؤول كتاب اهلل وسنة نبيه‬
‫فيما نكتب ألهنما ال حيتاجان لتأويل‪ .‬فعندما نتحدث عن الويل‬
‫﴿من يـَْه ِد اللَّهُ فـَُه َو ال ُْم ْهتَ ِد َوَمن‬ ‫املرشد فإمنا نتلو كتاب اهلل ‪َ :‬‬
‫ضلِ ْل فـَلَن تَ ِج َد لَهُ َولِيّاً ُّم ْر ِشداً﴾ وإمنا نسرد حديث رسول اهلل‬ ‫يُ ْ‬
‫‪« :‬المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل»‪ .‬فأىن‬
‫وجهت هذا الكالم فلن حيصل يف يدك إال هذا ‪ :‬ال بد لك من‬
‫رجل إن رمت اهلدى‪ ،‬مؤمن رباين يربيك‪.‬‬
‫لكي يكون اجلهاد إسالميا ال بد أن حنرر نقطة البداية لذا‬
‫نكرر ما عرضناه تكرارا‪ ،‬هذا الرباين رجل صحب احملسنني وأحبهم‬
‫وذكر ربه فشرح اهلل صدره وفتح له مغالق قلبه وآتاه فقها يف قرآنه‬
‫فله أسوة يف رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذ خاطبه ربه‪﴿ :‬أَلَ ْم‬
‫ِ‬
‫ض ظَ ْه َر َك َوَرفـَْعنَا‬ ‫نك ِو ْزَر َك الَّذي أَن َق َ‬‫ض ْعنَا َع َ‬ ‫ص ْد َر َك َوَو َ‬‫ك َ‬ ‫نَ ْش َر ْح لَ َ‬
‫ت‬‫ك ِذ ْك َر َك فَِإ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسراً إِ َّن َم َع الْعُ ْس ِر يُ ْسراً فَِإ َذا فـََر ْغ َ‬‫لَ َ‬
‫ب﴾‪ .‬فهو مطمئن له من تقواه ومن‬ ‫ك فَ ْارغَ ْ‬ ‫ب َوإِلَى َربِّ َ‬ ‫انص ْ‬‫فَ َ‬
‫بشرى ربه ما ال تزحزحه معه املسلمات‪ ،‬فهو رفيق‪ ،‬وله من خفة‬
‫الظهر حسا ومعىن ما يزيل عنه الكدح األعمى فهو ينصب وإىل‬
‫ربه يرغب وال يفرغ أبدا من التقرب إىل ربه بالعمل الصاحل‪ .‬وللرباين‬
‫ك‬ ‫أسوة رسول اهلل إذ خاطبه ربه ﴿يا أَيـُّها الْم َّدثـِّر قُم فَأ ِ‬
‫َنذ ْر َوَربَّ َ‬ ‫َ َ ُ ُ ْ‬
‫ك‬ ‫ِ‬
‫اه ُج ْر َوَل تَ ْمنُن تَ ْستَ ْكثِ ُر َول َربِّ َ‬ ‫الر ْج َز فَ ْ‬
‫ك فَطَ ِّه ْر َو ُّ‬ ‫فَ َكبـِّْر َوثِيَابَ َ‬

‫‪310‬‬
‫اصبِ ْر﴾ فهو يقتفي أثر نبيه‪ ،‬وهو متبع سين يتطهر ويصرب‪ .‬وله‬ ‫فَ ْ‬
‫شراً‬ ‫اك َش ِ‬
‫اهداً َوُمبَ ِّ‬ ‫يف رسول اهلل أسوة إذ خاطبه ربه ‪﴿ :‬إِنَّا أ َْر َسلْنَ َ‬
‫اعياً إِلَى اللَّ ِه بِِإ ْذنِِه َو ِس َراجاً ُّمنِيراً﴾‪.‬‬ ‫ونَ ِذيراً ود ِ‬
‫ََ‬ ‫َ‬
‫فهو بذلك مثال ماثل شاهد ميأل العني وميأل جمال الفكر‬
‫والعمل بتؤدته ومسته ونورانيته‪ .‬وهذا يعين أنه يريب بالقدوة أول‬
‫شيء كما يريب األنبياء‪ .‬وإنه ما بعث اهلل األنبياء إال ليَ ْمثُلوا أمام‬
‫الناس مناذج شاهدة غري غائبة لإلميان والتقوى‪ ،‬قال اهلل عز وجل‪:‬‬
‫اب َوال ِْم َيزا َن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿لََق ْد أ َْر َسلْنَا ُر ُسلَنَا بِالْبـَيـِّنَات َوأ َ‬
‫َنزلْنَا َم َع ُه ُم الْكتَ َ‬
‫َّاس بِال ِْق ْس ِط﴿‪ .‬ويتكرر األمر للمؤمنني أن يكونوا‬ ‫وم الن ُ‬
‫ِ‬
‫ليـَُق َ‬
‫شاهدين بالقسط‪ ،‬والقسط هو العدل وهو التوازن وهو اقتحام‬
‫العقبة بالعدل عن اهلوى إىل احلق‪ .‬فالرباين منوذج ماثل‪ ،‬وجهاده‬
‫تربية مث تريبة مث تربية‪ ،‬ونفهم الرتبية باملعىن الشامل املتعدي وظيفة‬
‫للرباين اجملاهد الداعي إىل اهلل‪.‬‬
‫ث اهلل جل شأنه فينا قائدا جماهدا ندين له‬ ‫إىل أن يـَْبتَعِ َ‬
‫بالطاعة وجناهد معه طاعة وجهاد تطوع‪ .‬حيمل رجال الدعوة يف‬
‫دار اإلسالم عبء الدعوة كل حسب اجتهاده وحسب انتمائه‬
‫الطائفي وحسب تنظيمه وحسب تصوره حلياة اإلسالم‪ .‬ويلقى‬
‫رجال الدعوة العنت ويشردون ويقتلون كما شرد األنبياءُ وقُتلوا‬
‫ولنا يف جهاد رسول اهلل وصحبه أسوة نرجع إليها لنستقي عزما‬

‫‪311‬‬
‫ويقينا‪ ،‬ولنستقي حكمة وننظر ألنا هذه الربانية وهذا التوفيق‬
‫الذي كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبقتضاه يقول للناس‬
‫يف جهاد دعوته قبل أن يفتح اهلل على املؤمنني ‪« :‬قولوا ال إله‬
‫إال اهلل تفلحوا ! »؟ ما بعث اهلل بعد حممد نبيا لكن أولياء سرج‬
‫منرية هلم من اهلل توفيق‪.‬‬
‫أخرج أمحد عن ربيعة بن عباد قال ‪« :‬رأيت رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم يف اجلاهلية يف سوق ذي اجملاز وهو يقول ‪ :‬يا أيها‬
‫الناس‪ ،‬قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا ! والناس جمتمعون عليه ووراءه‬
‫رجل وضيء الوجه أحول ذو غديرتني يقول ‪ :‬إنه صايبء كاذب!‬
‫فسألت عنه فقالوا ‪ :‬هذا عمه أبو هلب!»‪.‬‬
‫ُ‬ ‫يتبعه حيث ذهب‬
‫جمتمعنا جمتمع الكراهية النهمة القذرة واالشرتاكية اخلانعة‬
‫سوق اختلط فيها احلابل بالنابل‪ ،‬بضائعها هذا األثاث اجلاهلي‬
‫املكدس يف املخازن والعقول‪ ،‬وجوها معتم مظلم يسري فيه املرتفون‬
‫وضحاياهم على غري هدى‪ .‬ولن يتبني املسلمون طريقهم إال‬
‫بالكلمة الطيبة يرجعون إليها مع الربانيني الصادقن‪ .‬ومن ادعى‬
‫ربانية بغريها فبم يدخل السوق؟‪.‬‬
‫ال خيفى حامل السر اإلهلي حامل الرسالة واإلذن ألنه وارث‬
‫لرسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬وله من وراثته النور والربهان‪.‬‬
‫ويكذب املكذبون أولياء اهلل ميثلوهنم ببعض املعوقني أهل الرجس‬

‫‪312‬‬
‫كما كذب املستكربون أنبياء اهلل‪ .‬الوليد بن املغرية جاء‪ 1‬إىل‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقرأ عليه النيب القرآن‪ ،‬فكأنه رق‬
‫له‪ .‬فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال ‪ :‬يا عم ! إن قومك يريدون‬
‫أن جيمعوا لك ماال‪ .‬قال ‪ِ :‬لَ ؟ قال ‪ :‬ليعطوكه فإنك أتيت حممدا‬
‫علمت قريش أين من أكثرها ماال قال‪:‬‬ ‫ْ‬ ‫لتعرض ما قبله‪ .‬قال ‪ :‬قد‬
‫فقل فيه يبلغ قومك إنك منكر له‪ ،‬قال ‪ :‬وماذا أقول ؟ فو اهلل‬
‫ما منكم رجل أعرف باألشعار مين وال أعلم برجزه وال بقصيده‬
‫مين وال بأشعار اجلن ! واهلل ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا‪،‬‬
‫وواهلل إن لقوله الذي يقول حالوة‪ ،‬وإن عليه لطالوة‪ ،‬وإنه ملثمر‬
‫َس َفله‪ ،‬وإهنا ليعلو وال يعلى‪ ،‬وإنه ليحطم ما حتته!‬ ‫ِ‬
‫أعاله‪ُ ،‬مغد ُق أ ْ‬
‫قال‪ :‬ال يرضى عنك قومك حىت تقول فيه ! قال ‪ :‬قف عين حىت‬
‫أفكر فيه‪ .‬فلما فكر قال ‪ :‬إن هذا إال سحر يؤثر يأثره عن غريه!‬
‫ْت لَهُ َماالً‬ ‫ت َو ِحيداً َو َج َعل ُ‬ ‫فأنزل اهلل فيه قوله ‪َ ﴿ :‬ذ ْرنِي َوَم ْن َخلَ ْق ُ‬
‫دت لَهُ تَ ْم ِهيداً ثُ َّم يَط َْم ُع أَ ْن أَ ِزي َد‬ ‫ين ُش ُهوداً َوَم َّه ُّ‬ ‫ِ‬
‫َّم ْم ُدوداً َوبَن َ‬
‫صعُوداً إِنَّهُ فَ َّك َر َوقَ َّد َر فـَُقتِ َل‬ ‫ِ‬ ‫ِ ِ ِ‬
‫َك َّل إِنَّهُ َكا َن ليَاتنَا َعنيداً َسأ ُْره ُقهُ َ‬
‫س َر ثُ َّم أَ ْدبـََر‬‫س َوبَ َ‬ ‫ف قَ َّد َر ثُ َّم قُتِ َل َك ْي َ‬
‫ف قَ َّد َر ثُ َّم نَظََر ثُ َّم َعبَ َ‬ ‫َك ْي َ‬
‫ش ِر‬‫ال إِ ْن َه َذا إِ َّل ِس ْح ٌر يـُْؤثـَُر إِ ْن َه َذا إِ َّل قـَْو ُل الْبَ َ‬ ‫استَ ْكبـََر فـََق َ‬
‫َو ْ‬
‫ش ِر‬‫احةٌ لِّلْبَ َ‬ ‫ِ‬
‫اك َما َس َق ُر َل تـُْبقي َوَل تَ َذ ُر لََّو َ‬ ‫ُصلِ ِيه َس َق َر َوَما أَ ْد َر َ‬
‫َسأ ْ‬
‫ش َر﴾‪.‬‬ ‫َعلَيـَْها تِ ْس َعةَ َع َ‬
‫‪ 1‬ابن إسحاق عن ابن عباس‬

‫‪313‬‬
‫إن قومنا طال عليهم األمد فقست قولبهم‪ ،‬وإن دعوتنا إىل‬
‫اإلسالم تنشد لقاء مع رمحة اهلل يف توبة تسرت املاضي املظلم وتفتح‬
‫أبواهبا لرفق اإلسالم وتؤدته‪ .‬وما أشبه حاجة اليوم بالبارحة ! يوم‬
‫إن كان اجلاهليون يدخلون يف دين اهلل أفواجا بعد أن أعوزهتم‬
‫الروغان عن دين اهلل‪ .‬إن أحضان اإلسالم مفتوحة لضم‬ ‫احليلة يف َّ‬
‫أبناء اإلسالم التائهني‪ ،‬وإن لإلسالم لرفقا وعلو مهة يكتشفهما‬
‫التائبون كما اكتشفها معاصرو رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وهذه قصة إسالم حرب من أحبار اليهود‪ ،‬نوردها على طوهلا‬
‫ملا فيها من عرب وعالمات ملعرفة الرباين ‪ :‬أخرج الطرباين عن عبد‬
‫اهلل بن سالم قال ‪« :‬إن اهلل عز وجل ملا أراد هدى زيد بن ُس ْعنَة‬
‫قال زيد بن سعنة ‪ :‬ما من عالمات النبوة شيء إال وقد عرفتها‬
‫يف وجه حممد حني نظرت إليه إال اثنتني مل أخربمها منه ‪ :‬يسبق‬
‫حلمه جهله‪ ،‬وال تزيد شدة اجلهل عليه إال حلما‪ ،‬قال زيد ابن‬
‫سعنة ‪ :‬فخرج رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوما من احلجرات‬
‫ومعه علي ابن أيب طالب رضي اهلل عنه‪ ،‬فأتاه رجل على راحلته‬
‫كالبدوي فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! يل نفر يف قرية بين فالن قد‬
‫أسلموا ودخلوا يف اإلسالم‪ ،‬وكنت حدثتهم إن أسلموا أتاهم‬
‫الرزق رغدا وقد أصابتهم سنة وشدة وقحط من الغيث‪ ،‬فأنا‬
‫أخشى يا رسول اهلل أن خيرجوا من اإلسالم طمعا ! فإن رأيت أن‬

‫‪314‬‬
‫ترسل اليهم بشيء تعينهم به فعلت ! فنظر إىل رجل إىل جانبه‬
‫أراه عليا فقال ‪ :‬يا رسول اهلل ! ما بقي منه شيء ! قال زيد بن‬
‫سعنة ‪ :‬فدنوت إليه فقلت ‪ :‬يا حممد ! هل لك أن تبيعين مترا‬
‫معلوما يف حائط بين فالن إىل أجل معلوم‪ ،‬إىل أجل كذا وكذا ؟‬
‫قال ‪ :‬ال تسم حائط بني فالن ! قلت ‪ :‬نعم ! فبايعين فأطلقت‬
‫مهياين فأعطيته مثانني مثقاال من ذهب يف متر معلوم إىل أجل كذا‬
‫وكذا‪ .‬فأعطاه الرجل وقال ‪ :‬اعدل عليهم وأغثهم‪ .‬قال زيد بن‬
‫سعنة ‪ :‬فلما كان قبل حمل األجل بيومني أو ثالث خرج رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ومعه أبو بكر وعمر وعثمان رضي اهلل‬
‫عنهم يف نفر من أصحابه فلما صلى على اجلنازة ودنا إىل اجلدار‬
‫ليجلس إليه أتيته فأخذت مبجامع قميصه ورادئه ونظرت إليه‬
‫بوجه غليظ‪ .‬قلت له‪ :‬يا حممد ! أال تقضيين حقي ؟ فو اهلل ما‬
‫عُلمتم بين عبد املطلب إال مطال ولقد كان يل مبخالطتهم علم !‬
‫ونظرت إىل عمر وعيناه تدوران يف وجهه ِ‬
‫كالفلك املستديرة‪ ،‬مث‬
‫رماين ببصره فقال يا عدو اهلل ! أتقول لرسول اهلل صلى اهلل صلى‬
‫اهلل ما أمسع ؟ وتصنع به ما أرى ؟ فوالذي نفسي بيده ! لوال ما‬
‫أحاذر فوته لضربت بسيفي عنقك‪ .‬ورسول اهلل صلى عليه وسلم‬
‫أح َو َج إىل‬
‫ينظر إيل يف سكون وتـَُؤ َدة‪ .‬فقال ‪ :‬يا عمر أنا وهو كنا ْ‬
‫غري هذا‪ ،‬أن تأمرين حبسن األداء وتأمره حبسن اتباعه ! اذهب به‬

‫‪315‬‬
‫يا عمر فأعطه حقه وزده عشرين صاعا من متر مكا َن ما ُر ْعتَه‪.‬‬
‫قال زيد ‪ :‬فذهب يب عمر فأعطاين حقي وزادين عشرين صاعا‬
‫من متر‪ .‬فقلت‪ :‬ما هذه الزيادة يا عمر ؟ قال ‪ :‬أمرين رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أن أزيدك مكا َن ما ُر ْعتُك‪ .‬قال ‪ :‬وتَعرفين‬
‫يا عمر ؟ قال ال ‪ :‬قال ‪ :‬أن زيد بن سعنة‪ .‬قال ‪ :‬احلرب ؟ قلت‪:‬‬
‫احلرب ! قال فما دعاك إىل أن فعلت برسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم ما فعلت وقلت له ما قلت ؟ قال ‪ :‬يا عمر ! مل يكن من‬
‫عالمات النبوة شيء إال وقد عرفت يف وجه رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم حني نظرت إليه‪ ،‬إال اثنتني مل أخربمها منه ‪ :‬يسبق‬
‫حلمه جهله‪ ،‬وال تزيده شدة اجلهل عليه إال حلما‪ ،‬وقد أخربهتما‪،‬‬
‫فأشهدك يا عمر أنين قد رضيت باهلل ربا وباإلسالم دينا ومبحمد‬
‫نبيا ! وأشهدك أن شطر مايل – فإين أكثرها ماال –صدقة على‬
‫بعضهم فإنك‬ ‫أمة حممد صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬قال عمر ‪ :‬أو على ِ‬
‫ال تسعهم ! قلت ‪ :‬أو على بعضهم ! فرجع عمر وزيد إىل النيب‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬فقال زيد ‪ :‬أشهد أن ال إله إال اهلل وأشهد‬
‫أن حممدا عبده ورسلوه وآمن به وصدقه وبايعه وشهد معه ِ‬
‫مشاه َد‬
‫كثرية‪ ،‬مث تويف يف غزوة تبوك مقبال غري مدبر‪ .‬ورحم اهلل زيدا !»‪.‬‬
‫إن القرآن الكرمي كتاب جهاد قص اهلل فيه كيف كان أنبياؤه‬
‫جماهدين صابرين على دعوهتم‪ ،‬وقص كيف مؤيدين بالغيب‪.‬‬

‫‪316‬‬
‫وسرية رسول اهلل تشخص أكمل التشخيص معاين الربانية‪ ،‬معاين‬
‫الشهادة بالقسط‪ ،‬أي املثول واحلضور بالنور الكامل والسمت‬
‫والتؤدة واالقتصاد بني الناس‪ .‬وانظر كيف حترى احلرب حىت استيقن‬
‫أنه احلق فتزكى وبذل وجاهد حىت مات شهيدا‪ ،‬أال وإن اجلهاد‬
‫الذي حتتاجه األمة يف جهلها إلسالمها أن يقوم الناس من رجال‬
‫الدعوة بالقسط ويعيشوا حبياة اإلسالم حىت يراهم الناس فيتبعوهم‪،‬‬
‫عمال وقوال‪ ،‬اليوم وغدا حني يعز اإلسالم‪.‬‬

‫‪317‬‬
‫الفصل الثالث‬

‫كتاب العامل‬
‫«يف هذه الصفحات اليت كتبت منذ عشرين عاما استعراض‬
‫للتجربة الشيوعية الصينية اليت كانت يومئذ شغل املتقفني ينتظرون‬
‫من جناح ماو واملاوية منوذجا حيتذى يف العامل الثالث‪.‬‬
‫أما بعد سقوط الشيوعية يف املعسكر االشرتاكي‪ ،‬وبعد معاناة‬
‫صني ماو وما بعد ماو من كارثة «الثورثة الثقافية»‪ ،‬وبعدما تعيشه‬
‫الصني من مناغاة للرأمسالية ونظمها‪،‬فالذي يبقى من الكتابة عن‬
‫ماو وفلسفته وجتربة الصني هو الدرس من إديولوجية مادية عبأت‬
‫ثورة هائلة غريت وجه التاريخ مث عجزت وسقطت‪ .‬وتبقى حماولة‬
‫النقد سلبا وإجيابا»‪.‬‬

‫‪318‬‬
‫منها قائم وحصيد‬
‫ك ِم ْن أَنبَاء الْ ُق َرى‬‫قال اهلل جلت عظمته لنبيه ولنا ‪َ ﴿ :‬ذلِ َ‬
‫صي ٌد﴾ والقرية يف املفهوم القرآين‬ ‫ك ِمنـَْها قَآئِم وح ِ‬ ‫صهُ َعلَْي َ‬
‫نـَُق ُّ‬
‫ٌ ََ‬
‫﴿وَك ْم أ َْهلَ ْكنَا قـَبـْلَ ُهم ِّمن قـَْر ٍن ُه ْم‬
‫َ‬ ‫حضارة جاهلية كافرة ‪:‬‬
‫س ُن أَثَاثاً َو ِرئْياً﴾‪ .‬فأصحاب األثاث والرئي قرية كافرة زمنية‬ ‫َح َ‬
‫أْ‬
‫تقوم زمانا مث حيصدها اجلبار سبحانه ببطشه‪ .‬ويف عامل اليوم قرى‬
‫قائمة ينصبها اهلل لنا آيات لنتأملها ونتعلم منها كما نصب لنا يف‬
‫قرآنه أمثلة القرى اليت حصدها‪.‬‬
‫أخربنا احلق عز وجل أن آياته ال يتدبرها إال قوم يعقلون‪ .‬ويف‬
‫املفهوم القرآين يلتقي العقل واللب يف النظرة الفطرية‪ ،‬فيقبل املؤمن‬
‫احملسن مشروع اهلل يف األرض َوقَ َد ُرهُ ويعلم أن هذا الكون َخ ْل ُق اهلل‬
‫جعله فتنة‪ ،‬ويتعلم من الكون على احلد الشرعي يلتقط احلكمة‬
‫أىن وجدها‪ .‬وقد قرأنا كتاب اهلل وسنة رسوله يف الفصلني السابقني‬
‫وتعلمنا مباديء الفقه املنهاجي وأصوله‪ ،‬فإذا أهلمنا اهلل التعلم من‬
‫اجلاهلية القائمة وأخذنا منها حكمة ال من حيث كوهنا جاهلية‬
‫بل من حيث كوهنا مددا من مدد اهلل‪ ،‬فنحن نوشك أن نبدأ‬
‫بناء إسالمنا بالقسط غري مفتونني وال متخاذلني‪ ،‬قال اهلل تعاىل‬
‫شاء لِ َمن نُّ ِري ُد‬
‫اجلَةَ َع َّجلْنَا لَهُ فِ َيها َما نَ َ‬
‫﴿من َكا َن ي ِري ُد الْع ِ‬
‫َ‬ ‫ُ‬ ‫‪َّ :‬‬
‫‪319‬‬
‫ثُ َّم جعلْنا لَه جهنَّم يصالها م ْذموماً َّم ْدحوراً ومن أَراد ِ‬
‫اآلخ َرةَ‬ ‫ُ ََ ْ َ َ‬ ‫ََ َ ُ ََ َ َ ْ َ َ ُ‬
‫ك َكا َن َس ْعيـُُهم َّم ْش ُكوراً‬‫َو َس َعى لَ َها َس ْعيـََها َو ُه َو ُم ْؤِم ٌن فَأُولَئِ َ‬
‫ك‬ ‫ك َوَما َكا َن َعطَاء َربِّ َ‬‫ُكالًّ نُّ ِم ُّد َه ُـؤالء َو َه ُـؤالء ِم ْن َعطَاء َربِّ َ‬
‫َم ْحظُوراً﴾‪ .‬انتبه إىل عطاء اهلل للعامل وانتبه إىل أنه ليس حمظورا‬
‫علينا أن نأخذ عطاء اهلل من مأخذه الشرعي‪.‬‬
‫ولقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول ‪« :‬خياركم‬
‫في الجاهلية خياركم في اإلسالم إذا فقهوا»‪ .‬وكان يذكر‬
‫خبري حلف الفضول حضره يف اجلاهلية‪ ،‬وكانت القبائل مبقتضاه‬
‫تتضامن ملنع الظلم وأخذ احلقوق فنحن بني ضرورة متيزنا عن‬
‫اجلاهلية ومعاداهتا وبني ضرورة التعلم من العامل‪ ،‬واحلكمة العملية‬
‫اليت حنتاجها يف يد اجلاهليني‪ .‬فهل يكون إسالمنا تزمتا مغلقا أم‬
‫نتكيف بالعامل اجلاهلي ؟ كال ! لكن ننظر إىل العامل باملنظار‬
‫املنهاجي وننقده باملعيار املنهاجي بالنظرة الفطرية‪ ،‬ننظر إىل‬
‫اجلاهلية وعاملها كما هي يف حقيقتها تدبريا من تدبري اهلل وعطاء‬
‫منه غري حمظور‪ .‬ونتصرف وفاقا لشريعة اهلل‪ ،‬نأخذ احلكمة ونطرح‬
‫اجلهل واجلهالة ونتزكى ربانيني ال رهبانيني وال مذهوبا بنا‪.‬‬
‫إن العامل اليوم أكلة للجاهلية الرأمسالية‪ ،‬فلها الغلبة وهلا‬
‫معظم األثاث والرئي‪ ،‬فلننظر أوال وأخريا قتامتها وقذراهتا فكل‬
‫ذلك معروض علينا يف صحف العامل‪ ،‬لكي نتعلم كيف نعاف‬

‫‪320‬‬
‫اجلاهلية إذ يكون نتَاجها هذا اإلنسا ُن الشقي بنفسه املكشر عن‬
‫أنيابه ‪ :‬اإلنسان املستهلك‪.‬‬
‫إهنا قرية قائمة ملا حيصدها اهلل عز وجل‪ ،‬وحنن نأمل أن يهديها‬
‫اهلل على يدنا لدينه معشر األمة املستضعفة كما رجا األنبياء‬
‫لقراهم‪ ،‬فإمنا حنن تابعون سائرون على سننهم وما بيننا وبني‬
‫أن ندعوها كما دعوا إال أن هنتدي حنن ونتأهل حلمل الرسالة‪.‬‬
‫وإن قرية الرأمسالية وقرى الشيوعية جمال إن شاء اهلل لنشر دعوة‬
‫اإلسالم‪ ،‬فكذلك ننظر إىل القرى بال حقد وال كراهية‪ ،‬ومن‬
‫عادانا قاتلناه بال حقد‪ ،‬بسيف اهلل يوم يكون دعوة ويكون لنا‬
‫سيف إن اعرتضنا يف دعوتنا معرتض‪ ،‬وباحلكمة واملوعظة احلسنة‬
‫دائما‪.‬‬
‫إهنا قرية ورثت العقلية الوضعية من القرن التاسع عشر‪ ،‬عقلية‬
‫ضيقة جهدت جهدا كبريا لتفرغ التصورات اإلنسانية األشد مساسا‬
‫بالشخصية املعنوية لإلنسان من حمتواها‪ ،‬فال ضمري وال إرادة وال‬
‫أخالق‪ ،‬إمنا هو بشر يسري يف دوابيته حسب عالقات جتارية‬
‫نفعية تكتنفها الرغبة يف الوجاهة االجتماعية وتدفعها وتدفعها‬
‫قوة التنافس‪ .‬إمنا هو بشر مكانته االجتماعية حيددها ختصصه يف‬
‫العمل وحيددها إنتاجيته يف خدمة رجال الصناعات املهيمنني على‬
‫املسخر لإلنسان‪.‬‬
‫ِّ‬ ‫جهاز احلكم‬

‫‪321‬‬
‫جاهلية ذهبت هبا العقالنية العاتية املعجبة بآالهتا إىل أن‬
‫ترفض القيم اخللقية وتُكب على التحليل «العلمي» العملي الذي‬
‫يعطى آلة جديدة أو طريقة جديدة‪ .‬وحللوا اإلنسان وأحصوه‪،‬‬
‫وغرهتم التكنولوجيا السحرية اليت حتقق املستحيل مبجرد الضغط‬
‫على زر صغري‪ ،‬فما هاهلم ما يف جسم اإلنسان من معجزات‬
‫وما هاهلم ما يف الكون من آيات‪ .‬أحصوا اإلنسان فجمعوه‬
‫فما وجدوا إال دابة ملتهبة بنزغاهتا البيولوجية‪ ،‬وأحصوا أيامه يف‬
‫األرض ففرحوا ألن العلم الطيب وارتفاع مستوى املعاش زاد يف‬
‫معدل عمر اإلنسان كذا وكذا سنة‪ .‬فذلك هو التقدم وتلك هي‬
‫احلضارة‪.‬‬
‫حضارة تباهي بأثاث املطبخ العجيب الذي حول اقتنائه تدور‬
‫اهلمم‪ ،‬وأصبح الطعام موضوعا للصناعة املكنية‪ ،‬وأصبح فنا‪.‬‬
‫بيد أن اجلاهلي الصناعي يأكل بسرعة ويأكل طعاما كثريا ثقيال‬
‫فيمرض بسرعة‪ .‬ويضيع عمر الدودة األرضية بني اجلزع من أخطار‬
‫البطن ومن أخطار الطريق حيث تتسارع السيارات وبني اهللع من‬
‫الوقت‪ .‬الوقت من ذهب‪ ،‬والوقت من حديد‪ ،‬والوقت سيف‬
‫يقطع اجلاهلي الزاحف بكل قواه ليملك أحسن سيارة وأمجل امرأة‬
‫وأوسع منزل وأكرب رصيد مايل‪ .‬حىت إذا مت له من ذلك ما أراد أو‬
‫كاد‪ ،‬جاءهم املوت من كل مكان‪.‬‬

‫‪322‬‬
‫فعنف قتَّال يف الشوارع‪ ،‬وعنف يف أسواق املطالبات واملزامحات‬
‫ٌ‬
‫السياسية‪ ،‬وعنف بني األحداث‪ ،‬والقنابل املدمرة تنتصب مثاثيل‬
‫للعنف اجلاهلي‪.‬‬
‫اإلنسان اجلاهلي دابة غالبت القلة حىت اكتظت أسواقها‬
‫طعاما وأثاثا‪ ،‬وحىت اكتظت بطوهنا طعاما وصدورها دخانا ينشأ‬
‫عنه السرطان وال يوشك علم الطب العتيد أن خيرتع دواء لداء‬
‫واحد حىت تنبع له عشرة أدواء‪ .1‬ومع اكتظاظ البطن طعاما‬
‫اضا يعيش اجلاهلي يف فاقة روحية ال تغين‬ ‫واكتظاظ اجلسم أمر ً‬
‫فيها الكنيسة فتيال منذ أعرض اجلاهلي عن دينه‪ .‬ويعوض كل‬
‫فاقته الروحية كما يشاء‪ ،‬فيمأل فراغه بالتسافد والدَّعارة‪ ،‬ويتعاطى‬
‫املخدرات من كل نوع‪ ،‬ويتسابق مع املتسابقني لريوح ريح اهلواء‬
‫النقي يوما أو يومني يف األسبوع خيصصهما خلالعته ختصيصا ما‬
‫دام يف أرضه هواء نقي‪ ،‬أو يزحف على البالد املتخلفة سائحا‬
‫جيلب معه القذارة اخللقية والقذارة وكفى مع ما جيلبه من فتات‬
‫املال لألمم اجلائعة‪.‬‬
‫والشباب اجلاهلي شقي بكل هذا‪ ،‬فهو يثور ويكسر أوثان‬
‫القيم املادية ويتوغل يف الدوابية توغال مقصودا يشكو قلة العون‬
‫وقلة الناصح الذي يدله على معىن للحياة‪ .‬هذا الشباب يرفض‬

‫‪ 1‬وتأمل آيات اهلل يف العصاة من ظهور مرض ‘اإلدز’ أو ‘السيدا’‬

‫‪323‬‬
‫التخمة املادية ويشعر بالفاقة الروحية وباحلاجة لقيم جيد أثرا هلا يف‬
‫تارخيه ويعرض عليه جتار الروحيات عيِّنات معاصرة تستهويه وتغريه‪.‬‬
‫فهناك حيوان «اهليب» الذي أخذ يتحول حنو املسيح يلبس املسوح‬
‫ويدعو للدَّعارة املساملة‪ ،‬حلرية اجلنس باسم املسيح‪ .‬وهناك جتار‬
‫الروحيات من اهلنود اليوك تروج هلم أسواق يف عامل الغرب أميا أسواق‪.‬‬
‫ولتعويض اخلواء الروحي يتطلع اجلاهلي لتغيري ينقله إىل عامل ما‬
‫بعد احلضارة الصناعية‪ .‬فمركوس يصور عاملا فيه الوفرة وفيه حرية‬
‫اجلنس‪ .‬وآخرون يرمسون حضارة يتوقف فيها النمو الصناعي «‪nom‬‬

‫‪ »growth culture‬ويذهب استبداد الضرورة والتكنولوجية لرتضى‬


‫احلاجة اإلنسانية للسعادة‪ ،‬ويكتب أحد أساتذة امريكة يقول‪: 1‬‬
‫«إنه من الواضح أنك إذا أردت أن جتعل التكنولوجية أكثر إنسانية‬
‫فلن تستطيع ذلك يف النطاق احملدود إلمكانيات الكتب واحلضارة‬
‫األوعية العتيقة‪ .‬ال بد لك أن تذهب بعيدا جدا‪ .‬ويف هذا‬ ‫وكل ْ‬
‫االجتاه‪ ،‬فاألشخاص الذين يعرفون حقا التكنولوجية اإللكرتونية‬
‫واألفعال املردودة البيولوجية‪ »bio feedbyck« 2‬وأنواعا من الوعي ال‬
‫حتتم عليك أن تقرأ ستة وثالثني ألف كتاب يف السنة هم أصحاب‬

‫‪Irwin thompson in «Time magasine» August 21. 1972 1‬‬


‫‪ 2‬كلمة ‪ feedback‬اصطالح سرياين ‪ cybernetique‬يعين رد الفعل املخزون املرصود‬
‫‪ travail asservi‬يف اآللة‪ .‬فتعبريه يشري إىل مصدر خارج اجلسم البشري يتحكم يف الفورات‬
‫الغريزية‪ ،‬فيتضمن تطلعا للغيب‪.‬‬

‫‪324‬‬
‫الرياضة الروحية ! ففي الظاهر تبتعد عن الثقافة والتكنولوجيا‬
‫وتتحول روحانيا ترفض العامل‪ .‬لكنك يف الواقع ترجع إىل قلب ثقافة‬
‫ما بعد التكنولوجية»‪.‬‬
‫ومعىن هذا يف سياق مقاله الطويل أن احلضارة التكنولوكية‬
‫املتطلعة لثقافة ترتكز على اإلنسان ال على أثاث اإلنسان جيب‬
‫أن ترفض مديري األعمال «‪ »managers‬وترمى يف أحضان اليوك‬
‫الدالني على وعي جديد‪ ،‬املدركني للعلم احلقيقي‪.‬‬
‫ومعىن هذا بالنسبة للدعوة اإلسالمية أن اجلاهلي قد أشبع‬
‫ينشد شيئا ال جيده ولن جيده إال يف اإلسالم‪.‬‬‫شقاء حبضارته فهو ُ‬
‫وتتكاثر يف الغرب‪ ،‬خاصة يف أمريكا‪ ،‬نوادي الرياضات الروحية‬
‫الشيطانية‪ ،‬فطائفة يعبدون الشيطان ويسمونه بامسه وهلم قدم يف‬
‫السوق وآخرون يتتلمذون لليوك عبدة الشيطان العام‪.‬‬
‫كان الشهيد سيد قطب يدعو ألن يتحمل املسلمون دور‬
‫أستاذية العامل‪ .‬لنكن أساتذة العامل فالسر عندنا والعامل حمتاج‪،‬‬
‫لكن أين مؤهالته ؟ إننا قبل أن حتق لنا األستاذية للعامل ال بد أن‬
‫نتعلم من العامل‪ ،‬ال بد أن نتعلم هبمة املؤمن حر العقل واإلرادة‪،‬‬
‫إنسان الفطرة‪ ،‬ال هذه التلمذة اخلانعة اليت يأخذ مبقتضاها‬
‫املفتونون من أبنائنا أثاث اجلاهلية وزينتها ويفوهتم أخذ احلكمة‪.‬‬
‫ال نغ ُفلن عن القيم اليت بنت احلضارة الغربية واقفني عند‬

‫‪325‬‬
‫العوامل اليت تنحر الكيان اجلاهلي‪ .‬إن الدرع احلديد احلصني الذي‬
‫بنته احلضارة هو القوة اليت حنتاج إليها‪ ،‬وإن أصل بنائه الضبط يف‬
‫الوقت والعمل‪ ،‬والصرب واملثابرة‪ ،‬والتعلم الدائم‪ ،‬واإلبداع والتنظيم‪.‬‬
‫وكل أولئك ال يقابلهن عندنا إال الكسل الفكري وهنم ال يشبع‬
‫حياكي هنم اجلاهلية وشراستها‪ .‬إن للجاهلية شيئا ال منلكه‪ ،‬إن‬
‫هلما اجتاها وعزما على حتقيق هدفها يف السيطرة على العامل‪ .‬تفعل‬
‫ذلك لالحتفاظ مبثلها األعلى وهو رفع مستوى املعيشة باستمرار‪.‬‬
‫وللمسلمني اليوم هدف سليب يسمى يف أحسن صورة «رفعا آلثار‬
‫العدوان»‪ .‬ومىت أصبح لنا هدف متعد غري الزم‪ ،‬ومىت أصبح لنا‬
‫هدف اجيايب خيدم غاية وجودنا كان لنا اإلجتاه والعزم‪ ،‬ويومئذ‬
‫تقودنا يد اهلل وترعانا عينه اليت ال تنام‪.‬‬
‫أما القرى األخرى‪ ،‬فإهنا متعددة الوجوه متلونة يف أثواهبا تلون‬
‫الغول‪ ،‬فالتعلم منها عقبة حيب أن يقتحمها رجال الدعوة ويعدلوا‬
‫عن االنتقاد لقذارة اجلاهلية ورجسها انتقادا حيول بيننا وبني التدبر‬
‫الفطري آلية اهلل الذي هدى عباده الضالني عمال مأل وميأل العامل‬
‫صخبا وفكرا وثورة‪ .‬فاجلاهلية الراكدة يف ثرواهتا وأثاثها متلك‬
‫التكنولوجيا وهي لنا بغية‪ ،‬وهذه اجلاهلية الشيوعية االشرتاكية‬
‫متلك ما حنن أشد حاجة إليه وهو احلركية وسر التعبئة والتأثري يف‬
‫اإلنسان‪ .‬وما علينا إال أن نتأمل ابناءنا لنعلم يف أي واد يهيمون‪.‬‬

‫‪326‬‬
‫وكان اإلمام عمر بن اخلطاب هنى عن اختاذ لباس األقوام اجلاهلية‬
‫ودل على االخشيشان والتمعدد لكنه اقتبس النظام املايل ودون‬
‫الدواووين على غرار ما كانت تدون اجلاهلية الفارسية‪ .‬إنه طرح‬
‫األثاث وأخذ احلكمة‪ .‬وقد وصى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بطلب العلم وأمر زيدا أن يتعلم لغة اليهود‪ ،‬وأمر عمر الناس‬
‫بتعلم النجوم‪ ،‬ووصى موالنا علي بطلب العلوم واحلكمة أينما‬
‫كانت‪ .‬لكننا ال نيأس من توبة املثقفني اليساريني من بين جلدتنا‪.‬‬
‫إنه هكذا يفكر إنسان الفطرة املؤمن ألنه غر كرمي‪ ،‬يطمع أن‬
‫يهدي اهلل به ولو رجال واحدا فيكتب مع الدعاة إىل اهلل‪ ،‬ويطمع‬
‫أن يهدي اهلل به العامل أمجع‪ .‬ولكي يكون تعلّمنا من االشرتاكيني‬
‫تعلما فطريا يتلقى عن اهلل وعن عطائه ال عن اجلاهلية باعتبارها‬
‫كفرا وإحلادا‪ ،‬ال بد أن نتعلم أوال أن صولة الشيوعية ومضة مث‬
‫تنطفيء‪ .‬وإن كانت الصني اليوم رمزا للقوة واإلبداع فهي صائرة‬
‫ال حمالة إىل حيث صارت قبلها روسيا‪ ،‬مصري جبار يف األرض‬
‫هدفه هو نفس هدف اجلاهلية األخرى‪ ،‬وما تغين األلقاب اليت‬
‫ينبز هبا الروس خصومهم حني يسموهنم إمربياليني وإقطاعيني‪.1‬‬
‫فقد أصبحت روسيا بالد إقطاع طبقي ومركز أمرباطورية‬
‫استعمارية‪ ،‬ونستعمل هذه األلفاظ اجلاهلية فهي تدل أحسن‬

‫‪ 1‬وقد كان‪ ،‬والعظمة هلل الواحد الديان‪.‬‬

‫‪327‬‬
‫داللة على معناها‪ .‬يبدأ اإلقطاع الشيوعي باالستبداد بالعقل‪.‬‬
‫يقول زعيم شيوعي يوغوساليف سابق هو ميلوفان ديالس‪« :1‬ميارس‬
‫الشيوعيون االستبداد بالعقل مبهارة فائقة توليهم أعنة السلطة‪،‬‬
‫فتدفع املادية الشيوعية املؤمنني هبا إىل موقف ال يتمكنون فيه من‬
‫اعتناق أية وجهة نظر أخرى‪ ،‬وإال فهناك وسائل اإلرهاب وحتطيم‬
‫العقل البشري‪.‬‬
‫… وتواصل الشيوعية املعاصرة خلق أنصاف احلقائق‬
‫حماولة تربيرها‪ ،‬وتبدو وجهات نظرها حقيقية غري أهنا يف الواقع‬
‫مطعمة باألكاذيب‪ .‬وكلما كانت أنصاف احلقائق هذه متسمة‬
‫باملبالغة‪ ،‬وكلما كانت منمقة باألكاذيب‪ ،‬كلما ساعدت على‬
‫تعزيز االحتكارية اليت ميارسها زعماؤها على اجملتمع… هؤالء‬
‫البريوقراطيون قد أخرجوا نبضات شعبهم الثقافية‪ .‬لقد كانوا هم‬
‫الذين ابتدعوا عبارة ‪« :‬االنتزاع من الضمري اإلنساين»‪ -‬أكثر‬
‫العبارات بعدا عن اإلنسانية‪ ،‬وأخذوا يتصرفون طبقا هلا كما لو‬
‫كانوا يتصرفون يف أعشاب وحشائش ال يف أفكار البشر»‪.‬‬
‫وهذا األسلوب يف معاجلة البشر والتسلط على الضمائر تربز‬
‫طبقة من اخلانعني وتعطيهم الصدارة وتبرت اجملتمع من العناصر‬

‫‪ 1‬كتابه «الطبقة اجلديدة»‪.‬‬

‫‪328‬‬
‫هرب كتابه فنشر يف الغرب‪: 1‬‬‫احلية‪ .‬يقول كاتب روسي ّ‬
‫«إن النخبة البريوقراطية روعي يف اختيارها األسلوب‬
‫البريوقراطي الذي ينتخب أكثر الناس طاعة واستعدادا للتنفيذ‪.‬‬
‫وهذا االنتخاب املعاكس للطبيعة ألكثر الرجال طاعة من‬
‫البريوقراطية القدمية وإقصاء العناصر األكثر حتررا وجرأة عن ميدان‬
‫التوجيه ولد أجياال جديدة تزداد ضعفا وحرية على الدوام‪».‬‬
‫إن الشيوعات سائرة يف درب اجلاهلية الذي سارت فيه القرى‬
‫من قبلها حىت حصدها اهلل‪ .‬فمن حصدها اهلل‪ .‬فمن مرحلة الثورة‬
‫ينتقل الشيوعيون إىل مرحلة التصلب العقدي‪ ،‬وهي املرحلة اليت‬
‫متر هبا الصني‪ ،‬مث إىل مرحلة االنتهازية وخلق عقيدة جديدة تنكرها‬
‫الشيوعيات اليت ما تزال يف املرحلتني السابقتني فتلعن «املراجعني»‬
‫اخلائنني للمباديء الشيوعية‪ .‬وهكذا يرتفع لغط اجلاهلية احلمراء‬
‫يف نزاعها الشيوعي مع مثيالهتا أشد أعدائها ضراوة إىل جانب‬
‫لغط اجلاهلية السوداء‪ ،‬وحيتد اهلياج املشرتك يف معركة الغلبة على‬
‫األرض والتكاثر‪ .‬جاهلية تدعو إىل امللكية الفردية فيشقى من‬
‫ميلك بثقل ِحْله ويُ َّ‬
‫سخر دابةً تنازع من ال ميلكون‪ ،‬وجاهلية تنزع‬
‫امللكية من األفراد لتعطيها حقا كامال لبريوقراطية منتخبة تستبد‬

‫‪Andrei Amalrik in «l’Union Soviétique sur vivra t-elle en‬‬ ‫‪1‬‬


‫‪1984? 1970 p 68‬‬

‫‪329‬‬
‫بالفكر لكي تستبد بالرزق‪ .‬وكل هذا آئل إىل خراب‪ ،‬وكله من‬
‫آيات اهلل اليت ينبغي أن نتعلم منها‪ .‬إن الغافل ال يرى يف الكون‬
‫إال مسميات كمية وأقواما وأعدادا وقوات تتطاحن‪ ،‬أما املؤمن‬
‫فريى يف كل ذلك مدرسة ما خلقها اهلل إال ليتعلم منها املؤمنون‬
‫إذا اهتدوا وغالبوا الفتنة وانربوا ليحملوا رسالة اهلل اليت من أجلها‬
‫خلق الكون متعرضني ملوعود اهلل وموعود رسوله‪.‬‬

‫‪330‬‬
‫يف مأدبة اللئام‬
‫كلمة قاهلا قائد جماهد يف موقف جهادي‪ ،‬يقول بعض‬
‫املؤرخني ‪ :‬إن طارق بن زياد ملا عرب إىل بر األندلس يف أول فتح‬
‫إسالمي ألوربا‪ ،‬حطب جنده قال ‪« :‬واعلموا أنكم أضيع من‬
‫األيتام يف مأدبة اللئام ! وقال ‪« :‬وإنه ال َوَزَر ل ُكم إال سيوفُكم‬
‫وإال ما تستخلصونه من أيدي عدوكم»‪ .‬ونقول حنن الكلمة من‬
‫موقف الضعف الذي آل إليه أمرنا‪ ،‬لكن نقوهلا بنية جهاد ُمقبل‬
‫غري ُمدب ٍر‪ ،‬ألن العلم اإلسالمي ال يكون إسالميا إن اكتفى‬ ‫َ‬
‫بالدفاع والتزام خط التكيف بالعامل والتلمذة اخلانعة له‪.‬‬
‫ونقول الكلمة بال حقد على العامل‪ ،‬فال نشتم اللئام ألن‬
‫الشتم ليس عمال إسالميا‪ ،‬وألن املنظار املنهاجي منظار علمي‬
‫يلزم صاحبه النظرة اجملردة إىل خلق اهلل‪ .‬إنك ال تشتم اجلُ َع َل أن‬
‫كان جعال وال العقرب أن هلا محة مسمومة توذي هبا‪ ،‬لكنك‬
‫تكنس اجلُ َعل لقذارته وتقاتل العقرب إن أتتك شائلةً ذنبها دون‬
‫أن حتقد عليها‪ .‬كذلك حنن حول مائدة العامل مع عباد اهلل‬
‫اجلاهليني‪ ،‬إهنم خلق اهلل ولسنا عليهم مبسيطرين كما قال اهلل‬
‫لنبيه‪ .‬وملا وقع رسول اهلل صلى اهلل عليه سومل يف حفرة نصبها له‬
‫العدو يف غزوة أحد وأصيب حىت َد ِم َي وجهه قال ‪« :‬كيف يفلح‬
‫‪331‬‬
‫ك ِم َن‬‫س لَ َ‬
‫قوم أدموا وجه نَبيِّهم ؟ » فخاطبه اهلل قال ‪﴿ :‬لَْي َ‬
‫ِ‬
‫وب َعلَْي ِه ْم أ َْو يـَُع َّذبـَُه ْم فَِإنـَُّه ْم ظَالِ ُمو َن﴾‪.‬‬
‫األ َْم ِر َش ْيءٌ أ َْو يـَتُ َ‬
‫إننا يف مأدبة اللئام مضيَّق علينا مظلومون تطأنا األقدام‬
‫اجلاهلية‪ ،‬ولعل العمل السياسي يف موطن مثل هذا ال يعرف جوابا‬
‫إال الغضب املقاتل إن كانت القوة أو املراوغة الدبلوماسية بعد‬
‫اهلزائم النكراء‪ .‬أما العمل اإلسالمي فيقدر الوضع تقديرا إسالميا‬
‫تسبق فيه التؤدة العنف ويسبق فيه العلم املنهاجي اجلهل باملبدأ‬
‫واملعاد‪ .‬إن استخالف اهلل لنا يف األرض ويوم نؤمن ونعمل صاحلا‬
‫يعين أن نكون أوصياء على خلق اهلل بالرمحة والرجاء يف توبة‬
‫العاصي وإسالم الكافر‪ .‬إن هذا اخللق عيال اهلل‪ ،‬وقد قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬الخلق عيال اهلل وأحب الخلق‬
‫إلى اهلل أنفعهم لعياله»‪ .‬يقول الصويف ‪« :‬ال تبغض يهوديا وال‬
‫نصرانيا‪ ،‬لكن أبغض نفسك اليت بني جنبيك»‪ ،‬فال يفهمه اخللي‪،‬‬
‫ال يفهم أن أنانية املرء هي املِنوال الذي تُنسج عليه العادة ويتبلور‬
‫فيه االستكبار الكافر فإذا املرء جاهلي ينصرف على غري هدى‪.‬‬
‫إن نفع عيال اهلل يف األرض يف كنس اجلعل وقتل العقرب‪ ،‬وإن‬
‫هلل شريعة عليها يقوم اإلسالم يف القلوب وجمال العمل العام‪.‬‬
‫وشرع اهلل عني لنا أعداء شديدي العداوة لنا هم املغريون اليهود‪،‬‬
‫مث ترك خيط رجاء ممتدا يصلنا بالرحم اإلنسانية‪ ،‬فبهذا الرجاء‬

‫‪332‬‬
‫حنمل الرسالة اإلسالمية للخلق‪ ،‬ووصايتنا عليهم وصاية رمحة‬
‫ال وصاية تسلط‪ .‬اليهود اخلائنون لعهدنا هم أشد الناس عداوة‬
‫لنا‪ ،‬ومع ذلك فإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم ملا فتح خيرب‬
‫وخرج منها اليهود رجعوا إليه يسألونه أسفارا من توراهتم كانوا‬
‫تركوها‪ ،‬فأعطاهم ومل مينعهم‪ .‬وأخربنا اهلل أن أقرب الناس لنا مودة‬
‫هم الذين قالوا ‪« :‬إنا نصارى»‪ ،‬ومل يأمرنا أن نعانتهم لتثليثهم‬
‫وكفرهم شهادة اهلل العلي العليم‪ ،‬بل أمرنا أن نَدعهم ونُساملهم‬
‫ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫سبُّواْ اللّهَ‬
‫ين يَ ْدعُو َن من ُدون اللّه فـَيَ ُ‬ ‫سبُّواْ الذ َ‬
‫﴿والَ تَ ُ‬
‫فقال ‪َ :‬‬
‫ك َزيـَّنَّا لِ ُك ِّل أ َُّم ٍة َع َملَ ُه ْم ثُ َّم إِلَى َربِّ ِهم‬‫َع ْدواً بِغَْي ِر ِعل ٍْم َك َذلِ َ‬
‫َّم ْر ِجعُ ُه ْم فـَيـُنَبِّئـُُهم بِ َما َكانُواْ يـَْع َملُو َن﴾‪ .‬وكان رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وخلفاؤه يأمرون اجملاهدين أن ال يتعرضوا ملن حبسوا‬
‫أنفسهم يف الصوامع‪.‬‬
‫رجعنا إىل التؤدة اإلسالمية لنحدد معامل الطريق حىت ال ختتلط‬
‫علينا السبُل ونركب املركب العادي الذي ال يرى إال قانون املدافعة‬
‫بالعنف‪ .‬وإن املدافعة باليت هي أحسن كما أمر احلق عز وجل هي‬
‫القوة وأن عاقبتها أن يصبح الذي بينك وبينه عداوة كأنه ويل محيم‪.‬‬
‫إنه ال حميد لنا عن املزامحة باملناكب وبكل قوانا على مائدة اللئام‪،‬‬
‫فإن ال نذكر اهلل كثريا يستحل زحامنا نضاال كالنضال وتفتنا األسوة‬
‫برسول اهلل اجملاهد يف سبيل اهلل‪ .‬قال تعاىل‪﴿ :‬لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم فِي‬

‫‪333‬‬
‫سنَةٌ لِّ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْو َم ْال ِخ َر‬ ‫ُس َوةٌ َح َ‬
‫رس ِ ِ‬
‫ول اللَّه أ ْ‬ ‫َُ‬
‫َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾‪ .‬هلذا نذكر اهلل كثريا ونرجع إليه ونتوب يف كل‬
‫خطوات تفكرينا لكيال حنيد عن األسوة اجلهادية اليت تعرف القوة‬
‫وال تعرف العنف‪.‬‬
‫ونريد أن نريد فهما لألسوة اليت أمرنا اهلل هبا يف تدبر آياته‬
‫قبل أن نعرض للنظر يف مائدة اللئام‪ .‬فهاك آيات جامعة حتدد‬
‫موقف حامل الرسالة عندما خياصم العامل يف اهلل فيبغض يف اهلل‬
‫دون أن حيسم خيط الرجاء يف أن يهدي اهلل به اخللق‪ ،‬قال عز‬
‫َّ ِ‬ ‫ت لَ ُكم أُسوةٌ ح ِ ِ ِ‬
‫ين َم َعهُ‬ ‫يم َوالذ َ‬ ‫سنَةٌ في إبـَْراه َ‬ ‫وجل‪﴿ : ‬قَ ْد َكانَ ْ ْ ْ َ َ َ‬
‫ون اللَّ ِه‬ ‫إِ ْذ قَالُوا لَِقوِم ِهم إِنَّا بـراء ِمن ُكم وِم َّما تـ ْعب ُدو َن ِمن ُد ِ‬
‫َُ‬ ‫ْ َ‬ ‫َُ‬ ‫ْ ْ‬
‫ضاء أَبَداً َحتَّى‬ ‫َك َف ْرنَا بِ ُك ْم َوبَ َدا بـَيـْنـَنَا َوبـَيـْنَ ُك ُم ال َْع َد َاوةُ َوالْبـَغْ َ‬
‫َستـَغْ ِف َر َّن لَ َ‬ ‫اه ِ ِ‬ ‫ِ ِ‬ ‫ِ ِ َّ ِ‬
‫ك َوَما‬ ‫يم لَبِيه َل ْ‬ ‫ِ‬
‫تـُْؤمنُوا بالله َو ْح َدهُ إ َّل قـَْو َل إبـَْر َ‬
‫ك أَنـَبـْنَا‬‫ك تـََوَّكلْنَا َوإِلَْي َ‬ ‫ك ِم َن اللَّ ِه ِمن َش ْي ٍء َّربـَّنَا َعلَْي َ‬ ‫ك لَ َ‬ ‫أ َْملِ ُ‬
‫ين َك َف ُروا َوا ْغ ِف ْر لَنَا‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ك ال َْمص ُير‪َ .‬ربـَّنَا َل تَ ْج َعلْنَا فتـْنَةً لِّلَّذ َ‬ ‫َوإِلَْي َ‬
‫ِ‬ ‫َنت الْع ِزيز ال ِ‬ ‫َربـَّنَا إِنَّ َ‬
‫سنَةٌ‬ ‫ُس َوةٌ َح َ‬ ‫يم لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم في ِه ْم أ ْ‬ ‫ْحك ُ‬ ‫كأ َ َ ُ َ‬
‫لِ َمن َكا َن يـَْر ُجو اللَّهَ َوالْيـَْو َم ْال ِخ َر َوَمن يـَتـََو َّل فَِإ َّن اللَّهَ ُه َو الْغَنِ ُّي‬
‫َّ ِ‬ ‫ال ِ‬
‫اديـْتُم ِّمنـْ ُهم‬ ‫ين َع َ‬ ‫سى اللَّهُ أَن يَ ْج َع َل بـَيـْنَ ُك ْم َوبـَْي َن الذ َ‬ ‫ْحمي ُد َع َ‬ ‫َ‬
‫يم﴾‪ .‬فتأمل أخي املؤمن كيف‬ ‫َّمو َّدةً واللَّه قَ ِدير واللَّه غَ ُف ِ‬
‫ور َّرح ٌ‬ ‫َ َ ُ ٌ َ ُ ٌ‬
‫عاداهم نيب اهلل ورسوله أبونا أول املسلمني عليه الصالة والسالم‪،‬‬

‫‪334‬‬
‫وانظر كيف خشي أن يكون فتنة هلم فسأل ربه أن ال جيعله فتنة‬
‫للكفار يصدهم عن دين اهلل إن مل يقم شهادة القسط كما أمر‪.‬‬
‫مث انظر اإلحلاح على أن يف إبراهيم رسول اهلل لنا اسوة عداوة‬
‫الكفار ومودة للذين آمنوا‪.‬‬
‫هبذه االسوة احلسنة نتأمل أكلة املائدة العاملية لنتقزز من هنم‬
‫اجلعالن وقذارهتا وشر العقارب ومسها ونشمر ونأخذ العدة لنحمل‬
‫رمحة اإلسالم ألهل األرض بعد أن نتخذ درعا من حديد وننطق‬
‫نطقا صادقا خناطب الناس بلغة يفهموهنا ندعوهم ليشهدوا قوتنا‬
‫وطهارتنا وتعاوننا وفكرنا املبدع‪ ،‬وندعوهم للحرية احلق حنو مصري‬
‫اإلنسان إىل اجلنة وإىل رضوان اهلل‪.‬‬
‫كتب رجل اقتصاد فرنسي كتابا عنوانه «التسلط على العامل»‬
‫ينشر فيه كيف يتنافس العمالق الروسي مع العمالق األمريكي‬
‫يف تقسيم العامل واالستيثار خبرياته‪ .‬كتبه من وجهة نظر اجملموعة‬
‫األوربية الناشئة الطالبة حلظها من القسمة على مائدة اللئام‪.‬‬
‫يفصل فيه التوظيف املايل واإليديولوجي للمعسكرين‪ ،‬واملغامرات‬
‫النقدية بل حرب الفلوس بني اعضاء من يسميهم «الربجوازية‬
‫الدولية» ويفصل فيه احتكار السلطة التابع لإلحتكار االقتصادي‪،‬‬
‫ويسمي فيه اجلهاز اإلحتكاري تسمية تلخص املوضوع إذ يذكر ‪:‬‬
‫«آلة تفقري العامل» وهي كماشة ذات فكني‪ ،‬أحدمها ينهش عامل‬

‫‪335‬‬
‫رأمسالية الدولة‪ .‬وكالمها يتعاون مع نصف اآللة اآلخر يف الوقت‬
‫الذي يئس فيه من االستقالل بالعملية بالنظر للألرصاد النووية‬
‫املقنعة‪ .‬وهكذا يؤكل العامل وتذهب خرياته لتزيد املتخم ختمة‬
‫وترتك العامل الفقري يتلقط ما يسقط من بني أضراس الكماشة‬
‫احملتاشة ملا على مائدة اللئام‪ ،‬وما كانت مائدة لئام إال مكان‬
‫اآللة النهمة‪.‬‬
‫يقول‪«: 1‬هل يوجد يف «العامل احلر» دولة تستقطب أهم جتارة‬
‫العامل الثالث وتغمره بسيل منتوجاهتا املصنعة؟ إن األرقام تعني‬
‫الواليات املتحدة األمريكية‪ ،‬إهنا تستورد ‪ 33%‬من «بوكسيت»‬
‫العامل‪ ،‬و ‪ 40%‬من النيكل‪ ،‬و ‪ 41%‬من التوتيا ( ‪ )Etain‬و ‪50%‬‬
‫من القهوة…… وتنتج الواليات املتحدة ‪ 70% :‬من املكنات‬
‫الصناعية يف العامل‪ ،‬و ‪ 76%‬من سيارات العامل‪ ،‬و ‪ 73%‬من برتول‬
‫العامل‪ 68% ،‬من اآلالت اإللكرتونية يف العامل و ‪ 62%‬من املنتخبات‬
‫الكيماوية اخل‪.‬‬
‫ويفسر الكاتب أن الواليات املتحدة متلك اقتصاد أوربا زيادة‬
‫على ملكيتها الفعلية القتصاد العامل الثالث‪ ،‬ويفسر امتالكها‬
‫الفعلي أيضا القتصاد اليابان املزدهر‪ ،‬ويفسر فعل األخطبوط‬
‫املتسلط الذي ال حيد هوس امتالكه إال جدار احلديد الشيوعي‪.‬‬

‫‪La prise du pouvoir mondial par Jean Carral Denoel 1971 p 143 1‬‬

‫‪336‬‬
‫لسنا نسرد الوصف الكمي للجاهلية لنشكو فقرنا وال لنيأس‬
‫من إمكان ظهورنا على مسرح العامل جندد لإلنسانية أمال يف‬
‫احلرية رمبا نشاركها السكن يف األرض‪ ،‬ونعطيها احلياة احلق مبا‬
‫هي دابة ترضى بدوابيتها مآهلا الرتاب ومبا حنن مؤمنون مآلنا اجلنة‬
‫إمنا نؤكد أن اهلل عز وجل يسلط على كل داهية ليتدافع الناس فال‬
‫تفسد األرض‪ .‬ومن خالل دفاعهم يصنع اهلل لدينه وأمة نبيه‪ .‬ال‬
‫يغرنك ما ختزنه إسرائيل من متاع وعتاد وال يغرنك ما ميلكه أنصار‬
‫إسرائيل من حديد ودوالر فكل ذلك عبء ثقيل مائت يف أيديهم‬
‫﴿ولَن تـُغْنِ َي َعن ُك ْم فِئَتُ ُك ْم‬
‫إن شاء اهلل أن يبسط لإلسالم بسطة‪َ .‬‬
‫ين﴾‪.‬‬ ‫ِِ‬ ‫ت َوأ َّ‬
‫َن اللّهَ َم َع ال ُْم ْؤمن َ‬ ‫َش ْيئاً َولَ ْو َكثـَُر ْ‬
‫أما روسيا فإهنا تعوض نقصها االقتصادي «باملقارنة مع العمالق‬
‫األمريكي» بالتسلط اإلديولوجي وتعززه به‪ .‬فاإلديولوجية أقوى‬
‫بضائعها وأرسخ ما تعتمد عليه يف استعباد العامل‪ .‬ومنا مفتونون‬
‫جيرون هلذه العبودية ويتلهفون عليها‪ .‬قال الكاتب املذكور‪« :1‬ويف‬
‫هذه احلال (حال الضغط االقتصادي العسكري االستعماري)‬
‫تؤول العقائد الشيوعية تأويال كثيفا جدا ومستمرا جدا‪ .‬وجتري‬
‫العقائد حتليالت بعيدة جدا عن الواقع‪ ،‬وتبلغ تناقضاهتا أهنا ال‬
‫تصلح للتأمل العقالين‪ .‬إهنا تصبح إميانا‪ .‬فكيف ميكن أن نقبل‬

‫‪Ibid p 92 1‬‬

‫‪337‬‬
‫«الصعلكة الدولية» و«التماسك الطبقي» يف املعسكر الشيوعي‬
‫حيث نرى اجلماهري العمالية نفسها تعلن عداءها للسوفييت ونرى‬
‫أن القادة الشيوعيني ال شبه هلم بالعصاليك الفقرية ؟ إن هذه‬
‫احلذلقة اللفظية اليت تشبه التعاويذ السحرية وهذه الشبكة من‬
‫اإلميان حيقق «مساء» سياسة‪ ،‬نوعا من الدين جديدا حاضرا يف‬
‫كل ماكن ودنيوي‪ ،‬غايته أن ي َقنَّع التسلط السوفييت ويقويه‪».‬‬
‫وعلى مائدة اللئام تفرض شروط وتقنن العطايا والفروض‬
‫للدول الفقرية حبيث تفقد هذه الدول حريتها‪ ،‬ويفشو الشك يف‬
‫الشعوب ألهنا ال تعرف من هو سيد دولتها‪ ،‬إذ أصبح حمتما أن‬
‫يكون لكل دولة سيد من أحد العمالقة النهمني‪ .‬وكلما قامت‬
‫ثورة أو حدث انقالب أو هيعة يف العامل الفقري إال والتفت الناس‬
‫يف العامل وأصغوا ليعرفوا من هلجة القائم اجلديد إىل أي جهة‬
‫انتماؤه‪ .‬واملسلمون‪ ،‬وهم سبعمائة مليون أو يزيدون ويف أرضهم‬
‫‪ 80%‬من رصيد برتول العامل‪ ،‬ويف أرضهم خري كثري ال يفلتون‬
‫هذا التسلط ومن جنوده السرية والعلنية‪ .‬وأمامنا الصني الفقرية‬
‫كسرت قيودها ووقفت على أقدامها متحدية لسلطان العمالقني‬
‫يف عشرين سنة‪ .‬ذلك ألهنا رضيت بالفقر مذهبا‪ ،‬وهو أمر يف‬
‫غاية البساطة والرجولة معا‪ .‬فلذا إما أن نتعلم كيف نكسر القيود‬
‫وإال فنحن املستضعفون املأكولون‪.‬‬

‫‪338‬‬
‫يقول كاتبنا‪« :1‬نشاهد بروزا ال يقاوم حلكومات غري دميوقراطية‬
‫يف العامل ‪ .‬غالبا ما تكون هذه احلكومات عسكرية وصلت احلكم‬
‫بتأييد أحد الكبار‪ .‬وهي أحيانا تقدمية تعتمد على اجلماهري‬
‫العاملة‪ ،‬لكنها يف حقيقتها تتسم بسمة سياسية واحدة ‪ :‬إهنا‬
‫مشولية تسلطية عاملة طوعا أو كرها لصاحل الوالية املتحدة أو‬
‫روسيا»‪.‬‬
‫وحني يبسط اهلل من تأييده ما قبض عنا الرتدادنا لن يكون‬
‫للجاهلية سلطان على قائمة اإلسالم ‪ .‬وما أعطاه اهلل لعباده‬
‫الوثنيني بالصني عطاء غري حمظور من الصمود والقوة سيعطينا‬
‫أضعافه إن صربنا وآمنا وتعلمنا من آيات اهلل نذكره كثريا وندعوه‪.‬‬
‫ما بال أموالنا الطائلة تتسرب بني أيدي السفهاء من أبنائنا ؟‬
‫إن لنا ماال لكن ال نبذله إال إرضاء هلوانا وال ننصر به ربنا‪.‬‬
‫ولقد كان شكيب أرسالن رمحه اهلل يؤكد أن الشح هو داء‬
‫املسلمني العياء‪ ،‬ويذكر يف كتابه ‪« :‬ملاذا تأخر املسلمون وتقدم‬
‫غريهم ؟» كيف يبذل النصارى أمواهلم لنصرة الكنيسة‪ .‬وحنن‬
‫نتأمل هنا كيف يبذل اليهود الصهاينة لنصرة دولتهم الطاغوت ‪.‬‬
‫فما هذه الطائرات اليت متطرنا وباال وموتا إال نتاج لعطاء منظم‬
‫خيدم شباب «الصابرا» املشمرين املتعلمني األقوياء‪ .‬دعنا من ملز‬

‫‪Ibid p: 251 1‬‬

‫‪339‬‬
‫الضعفاء‪ ،‬فإن عدونا قوي مبعنوياته‪ ،‬قوته برجولة شبابه‪ ،‬وقوته‬
‫بعطاء بنيه يف األرض ‪.‬‬
‫قال قائل اليهود يف أمريكا‪« : 1‬إن حياة يهود أمريكا تدور حول‬
‫مجع املال إلسرائيل وما من مؤسسة يهودية يف أمريكا إال وتدين‬
‫مبكانتها يف اجملتمع ملقدار عطائها إلسرائيل»‪ .‬وينظم الضغط على‬
‫الناس مجيعا باإلرهاب والكيد اليهودي ليعطوا ‪ .‬وشعارهم‪« :‬أعط‬
‫إن أردت جتنب املكاره ! »‪ .‬وتقص جريدة « ديلي ميل » قصة‬
‫أمريكي أقسم أن يساعد إسرائيل مباله ‪ .‬ويف مأدبة عشاء حضرها‬
‫ليعطي ‪ 2500‬دوالر التزم بعطائها‪ ،‬قام خطيب اليهود فأعلن أن‬
‫فالنا سيعطي ‪ 25000‬دوالر‪ ،‬وقال ‪« :‬أليس كذلك يا مسرت فالن‬
‫؟!» فخجل األمريكي وأعطى‪ ،‬وهكذا ‪.‬‬
‫قبل أن نأخذ يف تأمل النموذج الشيوعي األخاذ لنتعلم‪ ،‬نزود‬
‫القارىء حبكم ألحد كتاب الغرب عن روسيا ومستعمراهتا يف أروبا‬
‫الشرقية‪ ،‬لنعرف مسبقا أن مآل كل شيوعية إىل خراب وإن كانت‬
‫هذه الشيوعية صينية تزعم أن محرهتا ال تشبهها ُحرة وتُعجبنا‬
‫برجولتها وقوهتا‪.‬‬
‫قال‪« : 2‬يف الوقت الذي نرى فيه البعيدين عن روسيا‬

‫‪Jeune Afrique 18 Mai 1971 1‬‬


‫‪ 2‬أنطوان دو مازه يف كتابه «عائد من اجلحيم» ص ‪ 292‬وهو كتاب يفصح عن حمتواه عنوانه‬

‫‪340‬‬
‫ينفذون أوامر موسكو جند أن فريقا كبريا من الشيوعيني الروس‬
‫قد أدركوا فشل النظم الشيوعية بعد أن ظهرت يف البالد مشاكل‬
‫اقتصادية وثقافية مل يستطيعوا أن يعاجلوها بالشيوعية فأخذوا‬
‫يبتعدون عن التعاليم املاركسية اللينينية ‪ .‬وقد بدأ ضعف إميان‬
‫القوم بالتعاليم الشيوعية يبدو على ألسنة زعمائهم يف مناسبات‬
‫عديدة‪ ،‬وأخذ اجلميع بعد النقد يبحثون عن مبادىء جديدة‬
‫تقوم مقام الشيوعية‪ .‬أو مبعىن آخر ‪ :‬إهنم أخذوا يبحثون عن‬
‫مبادئ جديدة تقوم مقام الشيوعية‪ .‬أو مبعىن آخر ‪ :‬إهنم أخذوا‬
‫كيفية الرجوع إىل مبادىء العامل احلر (وهذا ما تسميه الصني‬
‫مراجعية ويسميه خرشوف حلاقا بأمريكا) من غري أن خيطوا‬
‫خطوة مفاجئة فيعرضوا احلزب إىل نقمة بعض الطبقات‪ .‬ويبدو‬
‫أن حركة العلماء والفنيني واملخططني الداعية إىل تغيري األوضاع‬
‫السائدة يف روسيا أصبحت حركة واضحة وعلنية‪ .‬ومع أن‬
‫أكثرية القائمني على هذه احلركة هم من كبار أعضاء احلزب‬
‫الشيوعي فإهنم أصبحوا يشعرون بأهنم وطنيون قبل أن يكونوا‬
‫شيوعيني‪ ،‬وأن واجبهم يقضي عليهم أن خيدموا بالدهم على‬
‫حساب الشيوعية ال أن خيدموا الشيوعية على حساب بالدهم‬
‫‪1‬‬
‫وحساب مصاحلهم‪».‬‬

‫‪ 1‬وقد أكدت األحداث اليوم صحة هذا التحليل‬

‫‪341‬‬
‫قـائد ثـورة‬
‫هكذا يرجع اجلاهلي إىل غيه األول بعد جولة أقامت العامل‬
‫وأقعدته‪ .‬فقد كانت روسيا معقد آمال العامل املتأمل حني ثارت‬
‫وحني عبأت اجلماهري وحني بنت قوة ضخمة وهي تنادي بأهنا‬
‫نصرية العاين واملظلوم‪ .‬وتبني العامل أن يد ستالني احلديدية اليت‬
‫قتلت املاليني وسط الصخب الشيوعي العاملي ما كانت إال يد‬
‫جاهلية مستعمرة تشكلت ملا مات الزعيم لكنها ما تغريت‪ ،‬وغزت‬
‫أوربا الشرقية بالنار لتثبت سلطاهنا االديولوجي‪ .‬وعادت روسيا‬
‫إىل قوقعة قوميتها فهي اآلن تريد مزيدا من القسمة وتريد سالم‬
‫الذئاب والدببة مع عمالق الغرب‪.‬‬
‫وأمام الرجعة القومية والرجعة االستهالكية والرجعية عن‬
‫عاملية الشيوعية يربز وجه قائد جديد هو ماو تسي تونغ‪ .‬إنه آية‬
‫جديدة من آيات اهلل‪ ،‬رجل حيمل شعلة ويوقد شرارا ‪ .‬نفخ يف‬
‫أمته اخلانعة باألمس الذليلة املزمن إعياؤها وعياؤها روح الكفاح‬
‫فقامت ومشرت عن ساعد اجلد‪ .‬إنه نفس القائد اجلاهلي التارخيي‬
‫من أمثال جنكيز خان ونابليون‪ ،‬بيد أن غزوة هذا غزوة تتعمق‬
‫يف نفسية اإلنسان وتصوغه صياغة جديدة وال تكفي بالتسلط‬

‫‪342‬‬
‫القتايل ‪ .‬وإهنا لغزوة بالغة عربت حدود الصني مع أخبار هذه‬
‫احلركة اهلائلة وأخبار هذه احلركية املدهشة اللتان قلبتا الصيين‬
‫القميء فأحالتاه رجال مبدعا حرا يبهر بأخالقه وخلقيته قبل أن‬
‫يبهر بقوة قذائفه وصوارخيه ‪.‬‬
‫غزوة هائلة بليغة متكن سلطاهنا من أكثر عقول أبنائنا حيوية‬
‫فوجد استجابة من كل متعطش لرجولة ال جيدها فيما حواليه‪،‬‬
‫ووجد استجابة من كل طالب للعمل اجلاد للمساواة ولالستقالل‪.‬‬
‫وإن النظرة اإلسالمية احلق هي وحدها الكفيلة بأن تنتزع من‬
‫عقول أبنائنا الفعل السحري لشخص ماو وفكر ماو إذ تفتح‬
‫أمامهم آفاق اإلنسان وقيمته السماوية‪ ،‬وتقرتح عليهم احلركية‬
‫املنهاجية اإلسالمية وما فيها من قابليات للعمل وحتقيق القوة‬
‫والعدل والقسط يف العامل‪ .‬هذا ريثما تقوم قائمة اإلسالم بإذن‬
‫اهلل فيكون النموذج العملي املتفوق للدولة اإلسالمية مشسا تسطع‬
‫فيجزي شعاعها وهج اجلاهليات ‪.‬‬
‫إن ماو كافر جاهلي ملحد‪ ،‬وإن قومه لكذلك‪ ،‬وإن من‬
‫تصلبهم اجلاهلي لعمادا النتفاضتهم‪ .‬لكن لنتجاوز هذه النظرة‬
‫اجلزئية ولنضع ماو القائد يف إطار موضوعي أمام املنظار املنهاجي‪.‬‬
‫واإلطار املوضوعي هو مشروع اهلل يف خلقه‪ ،‬هذا املشروع الذي‬
‫يدور حول األمة املسلمة القائمة بأمر رهبا غدا‪ ،‬القاعدة عنه اليوم‬

‫‪343‬‬
‫ألهنا ال تتعلم من آيات اهلل وال تضع األمور مواضعها الشرعية‪،‬‬
‫ومن مث ال تقدر مبنظار اإلسالم‪ ،‬أو قل إهنا ال تتعلم وال تضع‬
‫األمور مواضعها الشرعية ألنه ال منظار هلا إال ايديولوجية مستعارة‬
‫تبرت رؤية العامل واإلنسان حتسبه دابة‪ ،‬أو فكر جامد ينتسب إىل‬
‫اإلسالم على غري بصرية مفتوحة فيلعن ويكفر وال يقرتح حال‪.‬‬
‫هذا املاو عبد اهلل الكافر كما أنك عبد اهلل املسلم هو أوال‬
‫قائد أمة منبعثة‪ ،‬فلنا يف القيادة واالنبعاث آية وحتد ألنه ال قيادة‬
‫لنا وال انبعاث‪ .‬ال أقول إنه لنا اسوة نتبعها فإن أسوتنا أبونا‬
‫إبراهيم ومن معه وحممد صلى اهلل عليه وسلم ومن معه‪ .‬ونكرر‬
‫ونستطرد ألننا ال نتكلم لغة الفتنة املألوفة‪ ،‬نكرر حقا مهجورا‪،‬‬
‫َّجى يف نفوسنا من احلسرة حيركنا كما‬ ‫ونستطرد أثارةً من هذا الش َ‬
‫يرهق شجى احللق الرجل فال يفتأ يتنحنح ويتململ‪.‬‬
‫كان ماو برجوازيا صغريا على حد تعبريهم فتمركس ونزل‬
‫عن ترفه وقاد نضال شعبه منذ حنو مخسني سنة كان أثناءها‬
‫املفكر الرائد وقائد اجليش ورئيس احلكومة وباعث الثورة‪ .‬وإن‬
‫كان الصينيون اليوم يتساوى وزيرهم والسوقة يف البساطة والفقر‬
‫اإلرادي‪ ،‬ويقوم السفري يغسل صحنه بعد األكل كما يغسله‬
‫الناس مجيعا فذلك ألن ماو كان النموذج الرائد‪ .‬سكن مع الناس‬
‫كأحدهم يف كهوف ينان وعمل بيده عمل الفالحني وسكن‬

‫‪344‬‬
‫مع جيشه خيمة عادية وجالس احملرومني وواساهم بنفسه مث أزال‬
‫عنهم الضيم فأحبوه ورفعوه فوق الرؤوس‪ .‬فما يفعله صواب وما‬
‫يقوله أو يكتبه عقيدة ال تناقش‪ .‬وهكذا اجتمعت مهة شعب كان‬
‫أحط الشعوب حول شخص أعطى املثال من نفسه وبدأ هبا قبل‬
‫أن يأمر غريه فتحول شعب مهزول إىل دولة رفيعة العماد‪ ،‬ناوأها‬
‫اجلبارون يف األرض وسخروا من ثورهتا حىت برز هلا ناب نووي‬
‫ودارت أقمارها يف األفالك‪ ،‬فتلعثم الساخر وخرس‪ ،‬مث خطب ود‬
‫الدولة القوية والقائد العظيم‪.‬‬
‫هذا القائد رجل جاهلية‪ ،‬لكنها جاهلية من نوع خاص‪ ،‬تتلمذ‬
‫ملاركس ولينني ولستالني من بعدمها‪ ،‬فتشبع بالفكر الشيوعي ومحل‬
‫شعار املساواة وشعار استبداد احملرومني‪ .‬مث إنه مل جيد يف الصني‬
‫طبقة عامة برولتارية وإمنا وجد فالحني‪ ،‬فأصبحت ثورته ثورة‬
‫فالحني وكان فكره فكر فيلسوف فالح ميتاز بالبساطة يف التعبري‬
‫وهبذه احلكمة القدمية اليت خلفها يف الصني «الوتسي»‪ ،‬وهي تعطي‬
‫للفلسفة الشيوعية عمقا إنسانيا ال جتده عند القوم منذ ماركس‪ .‬بل‬
‫إن الفالح الفيلسوف نسج فكرا إنسيا ذا صبغة شيوعية ال يعتمد‬
‫على الدعاية واهلاب احلماس بل يعتمد على التجربة واخلربة العملية‪،‬‬
‫ويأسر القارئ ببساطته وقوته ووضوحه مثلما يأسر فكر أستاذهم‬
‫الكبري ماركس بالصناعة والقوة والتمكن العقالين‪.‬‬

‫‪345‬‬
‫ال شأن لنا معشر املسلمني بالفكر اإلنسي والشيوعي ألن‬
‫هذا الفكر يضعنا موضع الدابة‪ .‬فال يغرينا أن هذه الدابة املنشودة‬
‫أقل ظلما من دابة اجلاهلية األخرى ما دام املصري واحدا‪ ،‬وال‬
‫حيتاج الفكر الشيوعي منا إىل مناقشة وال نقد وإمنا حيتاج إىل‬
‫أن نطرحه طرحا جبملته‪ ،‬طرحا مجيال مطمئنا آسيا على ضياع‬
‫اإلنسان‪ ،‬ومنضي بعدئذ نتلقف احلكمة أىن وجدناها‪ .‬وإن من‬
‫رجال الدعوة اإلسالمية من جييء يقاتل الفكر الشيوعي كما‬
‫يقاتله أصحاب اجلاهلية السوداء ويبذل يف ذلك اجلهد اجلهيد‪،‬‬
‫فال يبلغ نقده إال أن يزيد أبناءنا املعجبني هبذا الفكر غبطة‬
‫مبتاعهم ألن الفكر املنتقد أسس دوال عظيمة وأحدث يف العامل‪،‬‬
‫وال يزال حيدث‪ ،‬دويا عظيما‪ ،‬وحرر شعوبا وبىن مصانع‪ .‬مث يزيد‬
‫من غبطتهم باملتاع الفكري الشيوعي ما فيه من متاسك منهجي‬
‫ومنطق داخلي‪ .‬وليس شيء أقدر على جالء احلق من السلوك‬
‫املنهاجي اإلسالمي‪ ،‬فإنه العلم النبوي الذي يقابل ادعاء العلمية‬
‫عند املاركسيني‪ ،‬وإنه احلق الواضح ملن اكتشف نفسه يف التجربة‬
‫الشخصية للحياة اإلسالمية‪.‬‬
‫لعل مثقفينا املفتونني يتحجرون على منهجية عقالنية مغلقة‬
‫فال يستطيعون التحرر كما استطاع ماو تسي تونغ‪ .‬فهم يرفضون‬
‫التجربة ويرفضون احلق احملس إذا مل جيدوا له مصداقا يف أسفارهم‪.‬‬

‫‪346‬‬
‫واحلياة اإلسالمية صحبة وذكر يتحول هبما املرء حتوال جذريا‪،‬‬
‫ويرفض مثل هذا املتحجرون (الضغماطيون يف تعبريهم أي‬
‫أصحاب العقيدة املؤمنون هبا)‪ .‬مث إن ما يطلبونه هم من احلق هو‬
‫احلق االجتماعي امللخص يف نقطتني مها الغاية والوسيلة ‪ :‬املساواة‬
‫واالستبداد الطبقي املبين على الصراع بني الكاسبني واحملرومني‪.‬‬
‫ولن تنقاد هذه الفئة لإلسالم قبل أن يفيء مساكني هذه األمة‬
‫األقل ترفا إىل إسالمهم خلف قيادة مؤمنة ترفع لواء اإلسالم‬
‫وترفع معه مهة هذه األمة وحتقق العدل والقوة‪ .‬والبساطة والعمق‬
‫يف دعوة الرسول الكرمي ‪« :‬قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا !»‪.‬‬
‫ملاو فكر تربوي ومذهب تعليمي‪ ،‬يصوغ فكره صياغة هادئة‪،‬‬
‫فهو تأمالت وتأكيدات يف متناول الفكر العام ويف متناول حىت‬
‫أكثر الناس بعدا عن العقالنية‪ .‬إنه خياطب قومه مبا يفهمون‪.‬‬
‫عند ماركس تشنج مأسوي وعنده إحلاد واستعالء بطويل ال ختفيه‬
‫الفصاحة يف التعبري والتجرد العلمي الظاهر‪ .‬أما ماو فهو الرزانة‬
‫بعينها والثبات‪ .‬وحيث كان لينني يغلي غليانا هو أشبه بطبيعة‬
‫اجلاهلية السوداء اليت نبع منها‪ ،‬جيري فكر ماو وعمله يف سالسة‬
‫أخاذة‪ .‬وحيث كان ستالني يعبئ اجلماهري باإلرهاب والسفك جتد‬
‫ماو يقود شعبه برفق فكأمنا يسري من نفسه لني وحمبة تكسو اليد‬
‫احلديدية احملولة كساء من حرير‪.‬‬

‫‪347‬‬
‫يف فكر ماو بساطة ووضوح‪ ،‬وفيه تبتسم وتطمئن بضرب‬
‫األمثال وتشخيص املبادىء يف شعارات يفهمها حىت األطفال‪.‬‬
‫ال جرم أن يصبح هذا الفكر هو املدرسة العامة يف الشارع‬
‫واملعمل واملنزل‪ ،‬وال جرم أن يصبح الكتيب األمحر كتاب العقيدة‬
‫ومصحفها‪ ،‬حيمل كما حتمل التمائم وحيفظ عن ظهر القلب‪،‬‬
‫ويستشهد به األستاذ ورجال السياسة والفالحة يف حقلها واجلندي‬
‫يف معسكره‪.‬‬
‫فيلسوف معلم وشيوعية تربوية استبدلت جتهم الشيوعي‬
‫الثوري بسمة منتصرة‪ ،‬واستبدلت عنفه تربية رفيقة ماضية عازمة‪.‬‬
‫ذلك هو ماوتسي تونغ‪ .‬وما كان لنا به من شأن لوال أنه ورفقائه‬
‫حققوا عمال جبارا أفزع اجلاهليات األخرى باملد الفكري والعملي‬
‫اجلديد املهدد لكل ما كانت بنته اجلاهليات‪ .‬وما كان لنا به من‬
‫شأن لو كنا أمة قائمة قوية‪ .‬ولقد فتحنا كتاب اهلل نقرأه فوجدناه‬
‫كتاب جهاد وفتحنا سرية الرسول فوجدناها سرية جهاد‪ ،‬ونفتح‬
‫كتاب العامل فيطالعنا فيه أول ما يطالعنا وجه القائد العظيم‪.‬‬
‫وكتاب العامل كتاب ربنا فهو الفاطر عز وجل‪ ،‬وما العامل إال‬
‫مسرح جيلي لنا فيه ربنا آياته‪ .‬فماذا نتعلم من الصني؟‬
‫ماذا يقول ماو وماذا يفكر؟‪ .‬هذا كتيبه األمحر إجنيل الصني‬
‫مجع خمتارات من فكره يقول ‪ « :‬من أين تأيت األفكار املصيبة؟‬

‫‪348‬‬
‫هل تسقط من السماء ؟ ال ! هل هي تولد معنا ؟ ال ! إهنا ال‬
‫تأيت إال من املمارسة االجتماعية‪ ،‬من ثالثة أنواع من املمارسة‬
‫االجتماعية ‪ :‬الصراع من أجل اإلنتاج‪ ،‬الصراع الطبقي‪ ،‬والتجربة‬
‫العلمية»‬
‫ويقول ‪« :‬لكي تتم احلركة املفضية إىل معرفة حقيقية‪ ،‬يلزم يف‬
‫غالب األحيان تكرار مستمر‪ ،‬فتتحول من املادة إىل الفكر مث من‬
‫الفكر إىل املادة‪ .‬مبعىن أنك تتحول من العمل إىل املعرفة‪ ،‬مث من‬
‫املعرفة إىل العمل‪ .‬وهذه هي النظرية املاركسية للمعرفة‪ ،‬النظرية‬
‫املادية اجلدلية للمعرفة»‪.‬‬
‫هذا فكر ملحد وال شك ألنه من األرض إىل األرض‪ ،‬فلذلك‬
‫ال نكون لنا أسوة باملاوية‪ ،‬لكن ما هي اخلطوط التطبيقية اإلنسانية‬
‫للمساواة على هذه القاعدة الكافرة ؟‬
‫نلقى أوال هذه اإلرادة احلديدية املتجلية يف الدعوة إىل‬
‫االستماتة يف طلب اهلدف ويف الدعوة إىل اعتماد على النفس‪.‬‬
‫يقول ماو ‪ « :‬جيب أن نزيل من عقول إطاراتنا توهم أننا ميكن أن‬
‫ننتصر انتصارات سهلة بوسيلة الصدف السعيدة دون حاجة إىل‬
‫أن نصارع صراعا قويا ودون أن نشرتي انتصارنا بالعرق والدم»‪.‬‬
‫ويقول «جيب على رفقائنا يف احلزب أن يعتربوا كل الصعوبات‬
‫وأن يستعدوا جملاهبتها مبنهجية وبإرادة ال ترتد‪ .‬إن للقوى الرجعية‬

‫‪349‬‬
‫صعوباهتا ولنا صعوباتنا‪ .‬لكن صعوبات الرجعيني ال ميكن أن‬
‫تنحل ألن هذه القوى الرجعية صائرة إىل املوت وال أمل هلا يف‬
‫املستقبل‪ .‬إما صعوباتنا فيمكن أن تغلب ألننا قوى شابة صاعدة‬
‫ومستقبلنا مستقبل منري» ويقول ‪ « :‬إن الذي ال يرى إىل اجلانب‬
‫الالمع من األشياء وال ينتبه للصعوبات ال يستطيع أن يكافح‬
‫بنجاح إلجناز األعمال الالزمة للحزب فهكذا يرسم طريق الكفاح‬
‫ويلهب احلماس‪.‬‬
‫ويعطي للكفاح اجتاها إذ يربطه بالشعب ويدعو خلدمة‬
‫الشعب والتماس اخلري من سواد الشعب يقول ‪« :‬كل عضو من‬
‫إطاراتنا كيفما كانت مرتبته خادم للشعب‪ ،‬وكل ما نعمله إمنا‬
‫نعمله يف خدمة الشعب‪ .‬فما هي العيوب اليت ال ميكن أن نتنصل‬
‫منها ؟»‪ .‬ويقول ‪« :‬اخدم الشعب من كل قلبك دون أن تفرتق‬
‫حلظة عن اجلماهري‪ .‬ابتدئ دائما من مصلحة الشعب كله ال من‬
‫مصلحة فئة وال من مصلحة فرد‪ .‬اجعل مسؤوليتك أمام الشعب‬
‫مثل مسؤوليتك أمام أجهزة احلزب‪ .‬هذه هي املبادئ اليت نستوحي‬
‫منها عملنا» ويقول ‪ :‬إن املعركة تعين أن هناك تضحيات‪ ،‬واملوت‬
‫واقع بيننا‪ .‬ومبا أن أهم ما يشغل قلوبنا هي مصاحل الشعب فإن‬
‫املوت من أجل الشعب تعطي ملوتنا كل معناها‪ .‬ومع ذلك فيجب‬
‫أن نقلل إىل حد اإلمكان من التضحيات اجملانية»‪.‬‬

‫‪350‬‬
‫ونلقى عند ماو دعوة إىل البطولة ونصرة املظلوم والتضامن‬
‫مع مستضعفي العامل وهي دعوة أصبحت اآلن عمال بالتسرب‬
‫الشيوعي الصيين غازيا العقول ومتسلال بالسالح والتنظيم يف شىت‬
‫بقاع األرض‪ .‬يقول ‪« :‬إننا حنن الشعب الصيين مستعدون لقتال‬
‫العدو إىل آخر نقطة من دمائنا إننا عازمون أن نسرتد مبجهودنا‬
‫اخلاص ما فقدناه‪ ،‬وإننا لقادرون على أن حنتل مكاننا بني األمم»‬
‫ويقول ‪ :‬لكي تتحرر الشعوب املظلومة حتررا كامال جيب عليها‬
‫أوال أن تعتمد على صراعها اخلاص‪ ،‬وبعد ذلك فقط تعتمد على‬
‫املعونة الدولية‪ .‬إن الشعوب اليت جنحت ثورهتا جيب أن تساعد‬
‫الشعوب اليت تكافح من أجل التحرر‪ .‬هذا واجبنا الدويل»‪.‬‬
‫وجند عند ماو دعوة إىل البناء االقتصادي باالعتماد على‬
‫النفس وبعدم التبذير الذي هو الصفة البارزة يف اقتصاد اجلاهليات‬
‫األخرى‪ ،‬يقول ‪« :‬جيب أن ال ينسى الشعب واإلطارات أن الصني‬
‫بلد اشرتاكي كبري‪ ،‬لكنه بلد فقري‪ ،‬وهذا تناقض كبري‪ ،‬ولكي‬
‫يصبح بلدنا بلدا فيه رخاء وقوة ال بد لنا من عشرات السنني‬
‫نبذل أثناءها جمهودا متواصال‪ .‬ومن هذه اجلهود تطبيق سياسة‬
‫السرعة واالقتصاد يف بناء البلد‪ ،‬وهي سياسة تقتضي اقتصادا‬
‫تاما وتقتضي حماربة التبذير‪ ».‬ويقول ‪« :‬أما ما يتعلق بنفقات‬
‫امليزانية‪ ،‬فيجب أن يكون مبدؤنا هو االقتصاد‪ .‬جيب أن يفهم‬

‫‪351‬‬
‫كل أعضاء املنظمات احلكومية أن الرشوة والتبذير جرائم خطرية‬
‫جدا‪ .‬وإن حماربة هذه األمراض قد أعطت نتائج جزئية‪ ،‬ولكن‬
‫ال بد من متابعة بذل اجملهود‪ .‬اقتصدوا كل فلس من أجل حاجة‬
‫القتال والثورة ومن أجل بناء اقتصادنا‪ .‬ينبغي أن يكون هذا هو‬
‫مبدأ حساباتنا‪».‬‬
‫ولعل ما أغىن به ماو الفكر الشيوعي هو رفقه يف معاملة‬
‫خصوم الثورة يف داخل بلده‪ .‬ويسمى هذا ‪ « :‬احلل األصوب‬
‫للتناقضات يف داخل الشعب»‪ .‬وحيث كان ستالني يعدم خصوم‬
‫الثورة جند ماو يدعو إلعادة تربيتهم‪ ،‬يقول ‪« :‬إن التناقضات بيننا‬
‫وبني أعدائنا تناقضات الضد لضده‪ ،‬أما التناقضات بني العمال‬
‫يف الشعب فليست تناقضات متضادة‪ ،‬والتناقضات بني الطبقة‬
‫املستغلة والطبقة احملرومة هلا وجه ضدى ووجه ليس كذلك»‪.‬‬
‫ويقول ‪ « :‬إن كل مسألة اديولوجية وكل خصام داخل الشعب ال‬
‫ميكن حلها إال بطرق دميقراطية‪ ،‬باملناقشة والنقد واإلقناع والرتبية‪.‬‬
‫وال ميكن حلها بطرق الضغط وااللتزام‪».‬‬
‫والنقد والنقد الذايت أهم وسائل هذه الرتبية‪ ،‬يقول ‪ « :‬جيب‬
‫أن ال نفرح أبدا بنجاحنا األول‪ .‬لننقص من افتخارنا ولننتقد دائما‬
‫عيوبنا كما نغسل وجوهنا يف كل يوم لنبقى نظيفني‪ ،‬وكما نكنس‬
‫بيوتا لنزيل الغبار»‪ .‬ويقول ‪ « :‬إننا خندم الشعب وال خناف أن‬

‫‪352‬‬
‫يكون يف عملنا نقص وال أن يكتشف هذا النقص وينتقد‪ .‬وميكن‬
‫لكل أحد أن يكتشف نقصنا‪ .‬فإذا كان حمقا أصلحنا خطأنا‪.‬‬
‫وإذا كان ما يقرتحه نافعا للشعب فإننا نعمل بوصيته»‪ .‬هذه‬
‫حكمة إنسانية ما أحوجنا إليها دخلت يف سياق ملحد جاهلي‪،‬‬
‫وحنن القاصدون ألستاذية العامل أجدر أن نتعلم احلكمة ونستحي‬
‫من اهلل أن يكون جاهليون أشد منا بأسا وأطول يدا يف األرض‬
‫اليت استعمرنا اهلل فيها فضيعناها‪.‬‬

‫‪353‬‬
‫الثورة الثقافية‬
‫تلتقي الطاقة الفكرية يعززها منوذج القائد القوي بطاقة الشباب‬
‫فينتج عن ذلك حركية هائلة مسوها «الثورة الثقافية»‪.‬‬
‫كما أغىن ماو الفكر الشيوعي هبذه الرزانة وهذا الرفق يف حل‬
‫التناقضات بني أفراد الشعب أغىن املمارسة الشيوعية هبذه املؤسسة‬
‫اليت تسمى ثورة ثقافية‪ .‬وقد جاء هذا من التجربة نفسها‪ ،‬فقد‬
‫انتهت فرتة الكفاح املسلح بانتصار احلزب الشيوعي وقيام دولته‪،‬‬
‫كفاحها الطويل إرادة‬
‫ُ‬ ‫والتفت حول ماو مجاعته اليت صنع هلا‬
‫حديدية وصنع هلا وحدة وانتخب األصلح للقيادة من بني ذلك‬
‫اجلند املقاتل الذي مل يقو كثري من أفراده على اقتحام «املسرية‬
‫الطويلة» كما يسمون هجرهتم انسحابا من أمام عدوهم وحتفزا‬
‫واستعدادا للوثبة النهائية‪.‬‬
‫والثورة الثقافية مل تكن ظاهرة عفوية بل جاءت وليدة‬
‫ألزمة كادت تنحرف بالثورة الصينية عن هنجها‪ .‬فلقد مت النصر‬
‫العسكري وتاله صلح شامل كما يليق بالفكر املاوي يف حل‬
‫التناقضات الداخلية‪ .‬مث انصرف الثائرون إىل البناء االقتصادي‬
‫وشرعوا يف «القفزة الكربى إىل األمام» حياولون تصنيع البالد‬
‫بسرعة‪ .‬وغضب خرتشوف على املذهب الصيين يف قفزته وعري‬
‫‪354‬‬
‫الصينيني بأن أربعة منهم يشرتكون يف سراويل واحدة لفقرهم‬
‫وأهنم سائرون إىل اهلالك‪ ،‬فسحب من الصني خرباءه وعلماءه‪،‬‬
‫وأخفقت القفزة واخنفض احملصول الزراعي عدة سنوات متوالية‬
‫فتزعزعت ثقة اجلماهري يف ماو وكاد رحيه يذهب‪ .‬إن الزعيم يف‬
‫بالد الشيوعية هو قبل كل شيء رجل اخلطة االقتصادية فإن‬
‫أخفقت خطته فذلك إخفاق له وإلديولوجيته‪.‬‬
‫ولدت الثورة الثقافية من أزمة اقتصادية إستحقت سخرية‬
‫خرتشوف وفتحت باب اهلجوم على فكر ماو يف الداخل‪.‬‬
‫وفكر ماو وقدر وخرج هبجوم مضاد ففضح روسيا واهتمها بأهنا‬
‫«مراجعية» هتدف إىل اللحاق بالرأمسالية وتستبدل اخلط الشيوعي‬
‫خبط أمربيايل جيرى يف مساق حضارة الرفاهية‪ .‬وتغىن ماو‪ ،‬وهو‬
‫الشاعر املوهوب‪ ،‬بالقيم اإلنسانية وببطولة الشعب الصيين الفقري‬
‫الذي سيبتدع حضارة جديدة وسيحرر اإلنسانية‪ .‬ومن ذلك احلني‬
‫حتدث خصوم الصني عن الشيوعية الرومانسية احلاملة‪ ،‬وتسلى‬
‫الرأمساليون مبا ظنوه فشال ذريعا لثورة الصني‪.‬‬
‫ومن بني خنبة ماو املناضلة األوىل برز رجال يعلنون أو يهمسون‬
‫خالفهم مع ماو يف عداوته لروسيا وال يرون بديال من الطريق‬
‫الروسي‪ .‬وتغىن الشاعر مرة أخرى يدعو إلبداع عبقري ضد العامل‬
‫كله‪ ،‬فجرف التيار الرومانسي خصوم ماو ونشأت الثورة الثقافية‬

‫‪355‬‬
‫حركة عفوية يتصل فيها القائد بالشباب مباشرة فينطوي بينهما‬
‫اجلهاز احلزيب واجلهاز احلكومي‪ .‬وبدأ التطهري الصيين وبدأت تربية‬
‫اخلصوم كما يليق بالشيوعية التعليمية الصينية‪ .‬أغلقت املدارس‬
‫سنة ونيفا وهب ماليني الشباب جيوبون البالد يهتفون ويصرخون‬
‫حاملني يف أيديهم الكتيب األمحر يقرأونه ويتدارسونه‪ .‬محلهم‬
‫احلماس البطويل ونشوة الشباب إىل كل اآلفاق فحاكموا أساتذة‬
‫اجلامعات وحاكموا الوزراء وحاكموا رئيس اجلمهورية زميل ماو‬
‫يف الكفاح‪ .‬والعجيب هو أن هذه الفورة ما سفكت دما وإمنا‬
‫انصرف عنفها إىل أسواق للمنقاشة ال تنتهي‪ ،‬وانصرفت قوهتا‬
‫إىل صهر األفكار وحتويلها عن اإليدلوجية الثورية العادية إىل‬
‫إيديولوجية بطولية تثور على الثورة نفسها‪.‬‬
‫وهكذا أصبحت الثورة العفوية نظاما ايديولوجيا‪ .‬فمن نداء‬
‫ماو إىل اجلماهري‪ ،‬وإىل الشباب خاصة‪ ،‬وإىل من هم أصغر سنا‬
‫بصفة أخص جاء شعار ‪« :‬تكوين جيل من وارثي الثورة»‪ .‬وهو‬
‫تكوين يتكرر بال انقطاع يف كل سنة ويف كل شهر ويف كل يوم‪.‬‬
‫ويبدو كأن الوسيلة الروسية للتطهري‪ ،‬وهي البوليس السري‪ ،‬قد‬
‫اخلفها يف الصني وسيلة أكثر إنسانية إذ أن ضرب املعارضني‬
‫باملقارع والسيوف أصبح ضربا باألفكار واخلجل‪ .‬هذا الرفق‬
‫املوروث عن «الوتسي» و«كونفوشيوس» جيارى حضارة الصني‬

‫‪356‬‬
‫وعالقاهتا اإلنسانية املبنية على املروءة وماء الوجه‪ ،‬فإن أعظم‬
‫شيء خطرا عند الصيين أن يفقد ماء وجهه‪ .‬وهكذا ترجع املعاين‬
‫اإلنسانية تلتمس موقعا من حياة الناس بعد أن أجلتها العقالنية‬
‫املاركسية عن مواقعها‪.‬‬
‫وضعت الثورة الثقافية أسس نظام جديد ال يعتمد على‬
‫سلطة البريوقراطية وهيمنة احلزب‪ ،‬بل يعتمد على الشعب‪ .‬نظام‬
‫يعطي للعنصر اإلنساين السليم يف القاعدة الشعبية مقادة األمر‬
‫كله‪ ،‬وخيص باملسؤولية أكثر الناس سذاجة وأكثرهم محاسا‬
‫وهم الشباب‪ .‬والشباب شديدو التعلق باملثاليات فهم بذلك يف‬
‫الصني نقيض صارخ للثوري املاركسي العقالين املتجهم كما عرفته‬
‫الشيوعيات السابقة‪ .‬مث إن هذا النظام مل جيعل حتقيق املساواة من‬
‫شأن الدولة املالكة بل َوَك َل أمر توزيع األجور جملموعات العمل‬
‫حىت يأخذ كل ذي حق حقه بيده‪ ،‬أي دائما باإلقناع والرتبية وفقا‬
‫ملبادئ املاوية‪ .‬وهكذا استوى الصينيون مجيعا يف أخذ الضروري‬
‫للعيش ونبذ البضائع الكمالية ونبذ املثل األعلى للربجوازية يف‬
‫طلب الربوز االجتماعي والتفوق الفردي‪ .‬فكل شيء يف املعامل‬
‫واملعاهد واحلقول خاضع ملبادرة مجاعية يسبق إليها الفرد فال‬
‫يلتمس بذلك جمدا حىت ميجدوه وال رحبا ماديا‪ .‬وهبذه الروح‬
‫هنضت الصني من كبوة «القفزة الكربي » وغلبت اجملاعة واكتظت‬

‫‪357‬‬
‫أسواقها بالطعام‪ ،‬وجال يف شوارعها قوم جدد عليهم أمارات‬
‫اإلرتياح لفقرهم وعليهم أمارات حياة جديدة رمزها الكتيب‬
‫األمحر يف يد كل قائم وقاعد رجاال ونساء وأطفاال‪.‬‬
‫فإن تعجب فاعجب لشعب حياته يف مصحفه ومن مصحفه‪.‬‬
‫وهي حياة باهرة حقا ألن األصوات امل ِّعرية الساخرة خفتت‬
‫ُ‬
‫وألن عمالقة العامل أخذوا خيطبون ُو َّد الصيين الصغري احملري بنوعية‬
‫ثورته وبفاعليته وسرعة ما يكسب القوة‪.‬‬
‫فكر وشباب‪ ،‬شباب وفكر ! أليس هذان العنصران مجاع‬
‫القوة ؟ أليس العلم هو الدافع للعمل إن لقي العلم عقوال مستعدة‬
‫ملا يرتفها املال واجلاه‪ ،‬ونفوسا حديثة العهد بالعامل متطلعة‬
‫للمثاليات‪ ،‬وسواعد صلب عودها حارة دماؤها ؟‬
‫إن نظام الصني وثورته الثقافية «حلظة» حتول غريبة‪ ،‬هي أهم‬
‫ما يعرضه علينا كتاب العامل حني نفتحه لنتدبره بعيون جملوة بنور‬
‫اإلميان وقلوب خافقة مبحبة اهلل ورسوله واملؤمنني‪ .‬وهي حلظة‬
‫تعلمية‪ ،‬قابليتها للتعلم أهم صفاهتا‪ .‬فالقائد العجوز احتفظ‬
‫بطراوة عقله فلم يتحجر يف «عقدية» روسيا وبعض مستعمراهتا‬
‫واكتشافه للشباب وطرائق استعمال محاسه وقابلياته نقل العمل‬
‫الثوري من معناه األول إىل معىن ثان دائم‪ .‬كانت الثورة عملية تتم‬
‫يف املكان والزمان وتنتهي رغم ما كان يزعمه أمثال تروتسكي من‬

‫‪358‬‬
‫أن الثورة يلزم أن تبقى مستمرة‪ .‬إمنا كان يعين استمرارها عندهم‬
‫امتدادا يف املكان‪ ،‬أما تربية األجيال ملواصلة العمل الثوري فما‬
‫كان يتيحها اجلو البريوقراطي السائد حىت اخرتعها ماو‪ .‬ومعىن‬
‫الثورة منذ اآلن تربية من البدء يف ميدان النضال الثوري املؤسس‬
‫مث تربية مستمرة لألجيال الوارثة‪ .‬وما كان اسهل اخرتاع مثل هذا‬
‫لكن ما كان أبعد حتقيقه!‬
‫إن يف الصني اليوم اضطرابا ال يزال‪ ،‬وإن يف الثورة الثقافية‬
‫لثغرات يف التنظيم ينم عنها ما ينقل من أخبار بأن هناك فوضى‬
‫وبأن خصام ماو احلايل مع بعض أصحابه بعد موت قائد جيشه‪،‬‬
‫الويف باألمس املتهم بكل التهم‪ ،‬يرجع إىل هذه الفوضى يف‬
‫صفوف احلرس األمحر وبسببهم‪ .‬ولسنا نُقدِّر إال التقدير املنطقي‬
‫بأن الصني مل تبلغ ولن تبلغ أبدا التوازن اإلنساين إذ ال قسط مع‬
‫جاهلية وكفر‪ .‬ولسنا ندري ما حيدث بعد موت القائد العجوز‬
‫لكن هذا ال مينعنا من أن نتعلم من هذه «اللحظة» االستثنائية يف‬
‫تاريخ البشر‪ .‬فلنتأمل هنا خطاب ماو للشباب ولننظر بعدئذ إىل‬
‫نتائج الثورة الثقافية يف ميادين العمل‪.‬‬
‫يقول ماو خماطبا بعض الطالب ‪« :‬إن العامل لنا بقدر ما هو‬
‫لكم‪ ،‬فهو عاملكم‪ ،‬إن لكم معشر الشباب حيوية وإنكم لفي ريعان‬
‫التفتح مثل الشمس يف الضحى‪ .‬وإن األمل ال يعقد إال عليكم»‪.‬‬

‫‪359‬‬
‫ويقول ‪« :‬جيب أن نفهم كل الشباب أن بلدنا ال يزال فقريا‬
‫جدا‪ ،‬وأنه ال ميكن أن نغري هذا الوضع تغيريا جذريا يف وقت‬
‫قصري‪ .‬وأنه ال نستطيع أن نبين دولة غنية وقوية إال بأيدي الشباب‬
‫والشعب كله يدفعها جمهود بضع عشرات من السنني‪ .‬إن النظام‬
‫االشرتاكي فتح لنا الطريق إىل جمتمع غد املثايل‪ ،‬ولكي يصبح هذا‬
‫اجملتمع حقيقة ال بد أن نعمل عمال شاقا»‪.‬‬
‫ويقول ‪ « :‬إن كثريا من الشباب ليست هلم خربة سياسية‬
‫واجتماعية يستطيعون هبا أن مييزوا بني صني اليوم وصني أمس‪ .‬من‬
‫الصعب عليهم أن يدركوا أية معارك شديدة املراس جدا خاضعا‬
‫شعبنا لكي يتحرر من نري اإلمربيالية ورجعيي «الكومنتانغ»‪ .‬وال‬
‫يدركون الفرتة الطويلة من اجملهودات املتواصلة اليت أدت إىل بناء‬
‫اجملتمع االشرتاكي اجلميل‪ .‬وهلذا جيب أن نواصل بني اجلماهري‬
‫تربية سياسية حية وجمدية‪ .‬وجيب أن خنربهم دائما باحلق فيما يرجع‬
‫للصعوبات اليت حتدث لنا وأن نبحث معهم الوسائل حللها»‪.‬‬
‫ويقول ‪« :‬إن الشباب هو القوة األكثر فاعلية وحيوية يف‬
‫جمتمعنا‪ .‬إهنم أكثر الناس ولوعا بالدراسة وأقلهم متسكا باألفكار‬
‫احملافظة‪ ،‬هذه صفتهم السائدة خاصة يف فرتة االشرتاكية‪ .‬نتمىن‬
‫أن تدرس بعناية كل منظمات احلزب بالتفاق مع رابطة الشباب‬
‫أجنع الوسائل الستغالل قوة الشباب وأال تتجاهل خصائصهم‬

‫‪360‬‬
‫معاملَةَ اآلخرين‪ .‬من الطبيعي أن يتعلم الشباب‬ ‫ِ‬
‫معاملة إياهم َ‬
‫حكمة الشيوخ والكهول وأن يتأكدوا من موافقتهم قبل اإلقبال‬
‫على أي عمل نافع»‪.‬‬
‫ويقول ‪« :‬كيف العمل ملعرفة هل هذا الشاب أو ذاك ثوري ؟‬
‫كيف منيز ؟ ليس هناك إال معيار واحد‪ ،‬هل هذا الشاب حيب أن‬
‫يتصل بالعمال والفالحني‪ ،‬وهل يتصل هبم فعال ؟ فإذا كان يريد‬
‫ويفعل فهو ثوري‪ ،‬وإال فهو غري ثوري أو هو عدو للثورة‪ .‬إذا كان‬
‫يتصل اليوم بالعمال والفالحني فهو ثوري اليوم‪ ،‬فإذا كف عن ذلك‬
‫غدا أو أخذ يظلم الشعب فسيكون غري ثوري أو عدوا للثورة»‪.‬‬
‫وخياطب املثقفني الشباب قائال ‪« :‬قبل أن يرمتي املثقفون‬
‫بكل قواهم يف املعركة الثورية مع اجلماهري جيب أن يعزموا أوال‬
‫على خدمة اجلماهري وأن يتحدوا معها‪ .‬حيدث غالبا أن يكون‬
‫للمثقفني آراء غري موضوعية أو فردية أنانية وأن تكون أفكارهم‬
‫عقيمة وأن يكونوا مرتددين يف العمل‪ .‬ورغم أن املثقفني الصينيني‬
‫الثوريني يلعبون دورا أساسيا وميثلون القنطرة إىل اجلماهري فإهنم‬
‫ليسوا مجيعا ثوريني حىت النهاية‪ .‬ففي اللحظات احلامسة يغادر‬
‫بعضهم الصف ويتحولون إىل موقف سليب‪ ،‬وبعضهم يصبح عدوا‬
‫للثورة‪ .‬ولن يربأ املثقفون من عيبهم هذا إال يف املعركة املستمرة اليت‬
‫ختوضها اجلماهري»‪.‬‬

‫‪361‬‬
‫ويقول ‪« :‬جيب على رابطة الشباب أن توحد أعماهلا مع‬
‫األهداف املركزية للحزب وأن تقوم بعمل مستقل يتفق مع خصائص‬
‫الشباب‪ .‬جيب على الصني اجلديدة أن تسهر على مصاحل شباهبا‪،‬‬
‫وأن هتتم اهتماما شديدا برتبية اجليل اجلديد‪ .‬جيب على الشباب‬
‫أن يدرسوا ويعملوا‪ .‬لكن مبا أهنم يف مرحلة منو فيجب أن نعىن‬
‫بدراستهم وعملهم كما نُعىن براحتهم ورياضة أبداهنم»‪.‬‬
‫لعل من حيس أننا أكثرنا من سرد زعيم كافر‪ ،‬ولعل من يرتاح‬
‫أننا قلنا يف سياق إسالمي حكمة يتخطفها شبابنا خفية يبحثون‬
‫عن حق ال يرون له أثرا يف حياهتم البئيسة‪ .‬إما حنن فنعترب بآيات‬
‫اهلل‪ ،‬ونتأمل الفكر الذي أصبح عمال وأصبح معامل وصواريخ‬
‫وأصبح قوة وسيادة وحرية‪ ،‬وبكل ذلك أصبح دعوة عاملية عتيدة‪.‬‬
‫وإن النظرة العلمية املنهاجية نظرة املؤمن املطمئن لتبصر حدود‬
‫الفكر اجلاهلي وبؤسه وإن يكن فكر الشيوعية التعليمية‪ .‬ويبقى‬
‫لنا درس إنساين رائع يرينا كيف حتركت أمة كئيبة حمرتقة كسول‬
‫وكيف سرى فيها روح النضال والعزة‪ ،‬وكيف تكهرب شعب عتيق‬
‫مائت بفعل طاقيت الفكر والشباب‪.‬‬
‫يصف دبلوماسي غريب قطن يف الصني طويال حتول الصني‬
‫املعنوي يقول‪ : 1‬أرى أن الصني‪ ،‬رغم كوهنا ملحدة وعدوة للدين‪،‬‬

‫‪M. A. MACCIOCCHI, de la chine, Paris 1971 p. 135‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪362‬‬
‫تتصف بصفتني تشرتك فيهما مع املسيحية يف القرن احلادي عشر‬
‫أو الثاين عشر حني كانت كل احلياة تدور حول الكنيسة يف‬
‫أوربا‪ ،‬يف أملانيا وفرنسا‪ ،‬وحني كان الشعب يبين الكنائس اجلامعة‬
‫البيضاء حيدوه اإلميان‪ .‬كانت التمثيليات الوحيدة هي التمثيليات‬
‫الدينية كما هو الشأن هنا بالنسبة للتمثيليات الثورية وهي نوع‬
‫من املسرح الديين‪ .‬والتماثيل الوحيدة املقبولة هي متاثيل املسيح‬
‫والقديسني وكانت متاثيل صارمة ختضع لقوانني ال تتغري (كما‬
‫هو احلال بالنسبة لصو ماو يف كل مكان)‪ .‬وكانت السياسة دينا‬
‫(كما هو احلال يف صني اليوم)‪.‬‬
‫أما إعادة تربية املثقفني الصينيني ونقدهم لذواهتم… فليس‬
‫عملية مؤملة كما يُظن‪ ،‬لكنها حترير للفرد‪ ،‬فبإعادة الرتبية يندمج‬
‫املرء يف اجلماهري‪ .‬فإعادة الرتبية بني الفالحني والعمال‪ ،‬بني‬
‫الناس البسطاء حيقق احلرية الداخلية والسعادة والرياضة الروحية‪.‬‬
‫إن االنعزال عن اجلماهري حال خمجل‪ .‬ال يستطيع مثقف يف‬
‫الصني أن يشعر أنه مثقف إال إذا استفادت اجلماهري من الثروة‬
‫اع ُتف بكفايته يف اإلطار‬
‫اليت يستطيع هو أن يعطيها‪ ،‬وإال إذا ْ‬
‫اجلماعي… إنين مل أزر قط مدرسة من «مدارس ‪ 7‬ماي» (وهي‬
‫مدارس إلعادة تربية املتخلفني عن الثورة)‪ ،‬لكين أتصور بسهولة‬
‫أن من يتخرجون منها الشبه هلم مبن خيرج من سجون روسيا‪.‬‬

‫‪363‬‬
‫إهنم يف احلقيقة رجال جدد من رفقاء «املسرية الطويلة» مسرية تتم‬
‫يف باطن اإلنسان‪ .‬وفعال فإن هذه املدارس هدفها أن تُبقى على‬
‫كل شيء وعلى كل الناس‪ ،‬وإن أكثر من ‪ 95%‬اليت حتدث عنها‬
‫ماو يرجعون إىل اجلادة بعد خروجهم من هذه املدارس‪ .‬من ميلك‬
‫فضيلة هذا الشعب ؟ أنين جلت كثريا يف العامل وميكنين أن أقارن‪.‬‬
‫إن الصينيني أصبحوا أمة ال تعرف احلسد والطمع وال تعرف‬
‫األنانية‪ .‬إهنم يرقعون ثياهبم ويوفرون ويستعملون أحقر الفضالت‪.‬‬
‫إهنم صبورون هلم أناة يف كل شيء‪.‬‬
‫…ستأيت الثورة الصناعية يف الصني واملهم أن ماليني‬
‫الناس سيكونون شاركوا فيها بنفس التضحية ونفس الوعي‪ ،‬إهنم‬
‫يوفرون من التبنة الصغرية أمواال طائلة يذخروهنا ال ألنفسهم بل‬
‫ألمتهم…‪.‬إن الصينيني يعتقدون اعتقادا جازما بتفوق بالدهم‬
‫االشرتاكية وبتفوقهم السياسي على العامل كله…وإن هلم نظرة إىل‬
‫العامل قوامها العاملية‪ ،‬وأبرز شيء يف عامليتهم إخالصهم للقضية‬
‫الثورية وتضحيتهم من أجل أقوام ال يعرفوهنم‪».‬‬

‫‪364‬‬
‫تربية من القاعدة‬
‫إن اجلو الثوري الذي أحدثته الثورة الثقافية واحلركية اليت‬
‫أتاحها هذا اجلو هلي أشبه شيء بأتون احلداد‪ .‬فكما أن احلديد‬
‫صهر بالنار فكذلك العنصر‬ ‫ال يتشكل طوع اإلرادة إال إذا ُ‬
‫البشري يستعصي على عوامل التحويل إال إذا سلط عليه تيار‬
‫عاطفي يلني عنجهيته فيصري أكثر قابلية للتحويل‪ .‬لقد وقعت‬
‫التصفية الشيوعية الروسية يف جو عقالين بارد وجو غصب شديد‬
‫من جانب مالك األرض واهنار الوضع القدمي‪ .‬فكانت الذريعة‬
‫االقتصادية مطرقة كسرت اإلرادات الفردية ومل تشلها‪ ،‬وكان الدم‬
‫وكان اإلرهاب والوشايات‪ .‬إما يف الصني فقد ارتفع احلماس‬
‫أوجهَ وتوجه هذا احلماس حنو مثاليات إنسانية‬‫العاطفي حىت بلغ ُ‬
‫بطولية تستقطب مهما كانت خائرة وتعطيها ثقة قاعدهتا نزع‬
‫امللكيَّة من ظلمة املالكني القدامى‪ .‬وبتلك احلماسة البطولية وهبا‬
‫ألن حديد األنانيات طوعا وكرها وجتنبت الثورة الصينية مصري‬
‫مثيالهتا البريوقراطية‪.‬‬
‫إن ثورة روسيا ما لبثت أن حتولت قضية إدارية يف أيام‬
‫ستالني وتبلورت هذه اإلدارة املتسلطة يف شخص القائد الفوالذي‬
‫وحاشيته البريوقراطية‪ ،‬وكانت الصني سائرة يف نفس االجتاه رغم‬
‫‪365‬‬
‫فكر ماو حىت حدثت األزمة وولدت الثورة الثقافية‪ ،‬فخرجت‬
‫للناس الشيوعية الرتبوية‪..‬‬
‫وليس هناك أي إمكان ملقارنة هذه الشيوعية وال أية منظومة‬
‫فكرية وال أي عمل ثوري كيفما كان بالربانية اإلسالمية اليت‬
‫نبحث عنها لسبب جوهري هو أن البطولة اإلنسانية بطولة هنايتها‬
‫التنافس البطويل واملسابقة إىل اجملد األرضي‪ .‬والرباين مبا هو مرب‬
‫ومبا هو حكيم يتعلم كيف ينمي اإلنسان بصغار احلكمة قبل‬
‫كبارها‪ .‬يعلم أن اإلنسان يف جاهليته وإسالمه يبقى على طبع‬
‫نشأ عليه‪ ،‬ويعلم أن خيار اجلاهلية هم خيار اإلسالم‪ ،‬ومعىن هذا‬
‫أن العنصر البشري مبقوماته اإلرادية والطبعية وبصالحياته للتعلم‬
‫والعمل هو هو ال يتبدل من جاهلية إلسالم‪ .‬فنفس احلركية جندها‬
‫تقود اإلنسان للعمل أو تعوقه عنه‪ ،‬ونفس اآللية السيكولوجية‬
‫تتحكم يف األفعال اإلنسانية‪ ،‬وعن كل سبب نفسي أو واقعي‬
‫ترتتب نفس النتائج عند اجلاهلي واملسلم‪ .‬فنحن يف بشريتنا سواء‪،‬‬
‫وكما نأكل نفس الطعام فننتفع به يتشابه عملنا يف عالقته بالعامل‬
‫املادي وتتشابه خلجات نفوسنا حني هتفو إىل املثل العليا وحني‬
‫تتجاوز األنانية نفسها فتضحي من غري مقابل‪ .‬وكل هذا يشكل‬
‫الفتنة العظمى لإلنسان‪ .‬فلذلك يسأل أبونا إبراهيم ربه أن ال‬
‫جيعله ومن معه فتنة للذين كفروا بأن ينظر الكفار النيب وأصحابه‬

‫‪366‬‬
‫فال جيدوهم إال بشرا كالبشر فيكذبوا‪ .‬ولذلك يرتد أبناؤنا ألهنم ال‬
‫يقدرون إال على املقارنة السطحية بني اجلاهلية واإلسالم‪ ،‬وواقع‬
‫اإلسالم متخلف ضعيف‪ .‬ما حنن وما اجلاهليون ؟ وما مناط‬
‫الفضل لنا أو هلم؟‪ .‬نرجع للربانية لنتذكر أن الرباين رجل سلك‬
‫املنهاج واقتحم العقبة واكتشف اجملهول الكبري لعامل اجلاهلية وهو‬
‫عامل الغيب واإلميان بدار اآلخرة‪.‬‬
‫وللرباين درس مفيد جدا يف الرتبية الثورية يف صني اليوم‪ ،‬إهنا‬
‫تربية من القاعدة‪ ،‬إن الفقراء الذين عاشوا حياهتم ساملني من‬
‫عوامل التخريب النفسي واجلسمي املالزم لالمتالك واالكتظاظ‬
‫والتكاثر الظامل يعودون على املثقفني املرتفني وعلى أصحاب‬
‫باحلدب األبوي يعلموهنم ما هو اإلنسان وما هي املساواة‬ ‫الرئاسة َ‬
‫وما هي احلقائق األولية للحياة اإلنسانية‪ .‬فمن كان قابعا يف قصره‬
‫أو مكتب رئاسته يتعلم من أين يأتيه طعامه وكساؤه حني يعمل‬
‫بيده ويكتشف مشقة العيش وتعب الفالحني والعمال وتلني نفسه‬
‫ويتحول إنسانا جديدا‪.‬‬
‫يف هذا القدر تتفق أهدافنا الرتبوية باألهداف اجلاهلية‪ ،‬مث حنن‬
‫أمة مؤمنة‪ ،‬إنسانية كاملة غري مبتورة وهم كافرون حيدهم الكفر‬
‫يف دار األرض وجيهلون مصري اإلنسان بعد املوت‪ .‬إن اجلاهلية‬
‫تكتشف كل يوم اكتشافا جديدا يف عامل احلس وتتوسع يف رقعة‬

‫‪367‬‬
‫الفضاء لكنها غافلة عن البناء العظيم ساخرة ممن ينَبِّئها أن‬
‫اإلنسان خلق للخلود‪ .‬ويفنت املسلمون باجلاهلية وعلمها وعملها‬
‫الثوري ألهنم ال ينظرون إىل كل ذلك إال مبا ينظره به اجلاهليون‪،‬‬
‫أن بعقلية ممسوخة قررت قرارها النهائي بأن اإلنسان حركة يف‬
‫األرض تنتهي باملوت‪ .‬ولن ترتفع عنا الفتنة إال إذا سلكنا املنهاج‬
‫النبوي وذكرنا اهلل حىت يستقر يف قلبنا اليقني واملعرفة‪ .‬وعندئذ‬
‫ننظر إىل اجلاهلية النظرة الصافية احلق‪ ،‬ننظرها كما هي كفرا‬
‫ومسخا‪ ،‬وننظر إجيابيتها البشرية اليت ينبغي أن نتعلمها‪.‬‬
‫للمرتفني يف بالدنا اإلسالمية قلوب قاسية مثلما للمرتفني‬
‫يف بر الصني‪ ،‬إهنم جيهلون كيف تطلع لقمة العيش من األرض‬
‫وجيهلون اجلهد الدائم للفقري العامل والبؤس األسود الذي يعيش‬
‫فيه احملروم العاطل‪ .‬إهنم يف قصورهم الدافئة ال يذوقون ويل احلاجة‬
‫وال برد الليايل‪ ،‬ويطمس بذخهم احلس اإلنساين والرمحة كما‬
‫يطمس فطرهتم فيغفلون عن اهلل ويكفرون بالبعث فإذا هم مسخ‬
‫وعبَ ِد الطاغوت‪ .‬أما املسكني العامل اخلشن‬ ‫كالقردة واخلنازير َ‬
‫العيش واليدين فحسه اإلنساين مل يطمس وال تنال منه العوادي‪،‬‬
‫وفطرته ساملة ال تزال وإن كانت الفتنة العامة أصابت منه فإهنا‬
‫مل متسخه كما مسخت املرتفني‪ .‬ذلك ألن يديه اخلشنتني علمتاه‬
‫قصور اإلنسان وضعفه وعوزه فهو ال يتأله مبا بيده من جاه ومال‪،‬‬

‫‪368‬‬
‫ألن نظرته إىل العامل نظرة جمددة مل تكدرها الثقافة اجلاهلية فهو‬
‫حيكم مبعيار اإلميان وإن يكن إميانه كإميان العجائز‪ .‬ولعل ذلك‬
‫أفضل اإلميان كما يفهم من كالم اجلويين امام احلرمني‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقبل تلك اليد اخلشنة‬
‫ويكرمها‪ 1‬فإن هلا عند اهلل حرمة‪ .‬وشيوعية الصني تكرم اليد‬
‫اخلشنة وتضع فيها أمانة تربية جيل املرتفني‪ .‬وهذا إبداع الشيوعية‬
‫املعلمة الصينية‪.‬‬
‫لقد استند ماو على فكر ماركس ولينني‪ ،‬وكان األول فيلسوفا‬
‫دعا أن تصبح الفلسفة عمال وأن خترج من تأمالهتا األفالطونية‬
‫لتحول العامل‪ .‬ووعد على ذلك وعودا ومهية ما لبثت أن تبخرت‬
‫يف ميدان العمل‪ .‬واستند لينني على التحليل اهلائل الفلسفي‬
‫العلمي يف اخرتاع حركية ثورية مماسة للعمل اليومي السياسي‪.‬‬
‫وأغىن لينني الفكر املاركسي من حيث صاغه حكمة عملية تتعلم‬
‫من التجربة‪ .‬وبقي فكر لينني يف خط جدلية مفتوحة «علمية»‬
‫ملحدة ال حتكم على القيم إال من طرف خفي مستخف أن‬
‫ينعت الفكر اجلبار باملثالية‪ .‬وما كان بدأه ماركس من إنسية‬
‫تشكو استالب العامل وتشبيعه ذهب مع ما حيمله الريح يف‬
‫ساحة العاصفة اهلوجاء اليت هبت على روؤس البورجوازية الروسية‬

‫‪ 1‬خيرج احلديث ويبني درجة صحته‬

‫‪369‬‬
‫فأسقطت أيضا احلريات وأسقطت حرمة الدماء البشرية والضمائر‬
‫والعقول‪ .‬وتتلمذ ماو للرجلني فكان أذكى الثالثة يف انفتاحه‬
‫على واقع الفالحني البسطاء‪ ،‬وتعلم بيده ما مل يتعلمه العقالنيان‬
‫العمالقان‪.‬‬
‫كان ماركس أمام الفكر الثوري وكان لينني مفكرا وقائدا‬
‫ثوريا‪ .‬وبعد هذا مثل استالني‪ ،‬وكل زعماء الشيوعية من بعده‪،‬‬
‫دور القيادة العملية الثورية بواسطة جهاز بريوقراطي فصل بني‬
‫القائد والرعية فتثاقلت الثورة مبنجزاهتا االقتصادية القهرية وتثاقلت‬
‫مبصاحل الطبقة احلاكمة املالكة املطلقة القوة‪ ،‬وتثاقلت بطاغوت‬
‫القائد املتأله‪ .‬أما اإلديولوجية فأصبحت آلة عقلية لتربير مبادرات‬
‫القائد اإلرادية املتعسفة أو املفروضة من جانب التدافع بني الناس‬
‫يف الداخل واخلارج‪.‬‬
‫وكان ماو فتعلم على طول الطريق بادئا من وضع بسيط من‬
‫حيث الكفاية الفكرية ومن وضع بورجوازي صغري‪ ،‬أي من وضع‬
‫اجتماعي يدعو لألثرة والركود‪ ،‬فخالط املساكني من القاعدة وتعلم‬
‫بينهم األمانة والصرب واإلخالص وكل القيم اخللقية الفطرية‪ .‬وتعلم‬
‫أيضا من العقالنية املاركسية فأخرجها برتبيته يف صف الفالحني‬
‫الفقراء من أجوائها الفلسفية اجلافة وأعطاها أبعادا إنسانية‬
‫خلقية‪ .‬مث إنه بثورته الثقافية قلب مفهوم القيادة فأطاح باحلواجز‬

‫‪370‬‬
‫بني القائد والفالح البسيط والعامل وختلل صفوف الشعب واحدا‬
‫منهم متعلما معلما مربيا متلقيا للرتبية‪ .‬وكان قبله مفهوم القائد‬
‫الشيوعي ينصب على رجل يكتب وخيطب يف سياق واحد‪ ،‬ذي‬
‫بعد واحد كما يعرب مركوس‪ ،‬هو السياق االقتصادي‪ ،‬فكان هو‬
‫صاحب اخلطة وصاحب القرار‪ .‬وترك ماو املهام الفرعية للحكومة‬
‫وتقمص دور املريب الشعيب حبق لذلك كان آية جيب أن نتعلم من‬
‫ظهورها‪.‬‬
‫ففي فكر ماو أحكام أخالقية تبهت من ألف الفكر املاركسي‬
‫«العلمي» الذي ال يصدر أحكام القيمة‪ .‬فعنده اخلري والشر‬
‫حقيقتان عمليتان‪ ،‬يقول الكتيب األمحر ‪« :‬ليس من الصعب‬
‫على أي إنسان أن يعمل أعماال خرية‪ ،‬إمنا الصعب أن يعمل خريا‬
‫كل حياته دون أن يعمل الشر أبدا‪ .‬أصعب ما هنالك أن ختوض‬
‫معركة شديدة لبضع عشرات من السنني كما ختوضها يف كل يوم‪،‬‬
‫وذلك يف صاحل اجلماهري الكثرية ويف صاحل الشباب والثورة !»‪.‬‬
‫ويف فكره أسس الرتبية القاعدية يف ما يسميه ‪« :‬اخلط‬
‫اجلماهريي» إنه يعترب الطبقة املثقفة جمرد عبء على الشعب‪ ،‬فإذا‬
‫استعدت هذه الطبقة أن تتعلم بيدها وعشرهتا للجماهري وبرهنت‬
‫على ذلك باالنتقال الفعلي يف كل اسبوع أو شهر للحقل واملعمل‬
‫من مكاتبها وجامعاهتا أصبحت صاحلة لتكون مرآة تصقل أفكار‬

‫‪371‬‬
‫اجلماهري قبل أن تعكسها إليهم مشبعة باحلكمة اليت يتمخض‬
‫عنها العلم بعد أن يتعلم العلم من العمل البسيط اليدوي‪ .‬يقول‬
‫«الشعب‪ ،‬الشعب وحده هو القوة احملركة‪ ،‬هو خالق التاريخ‬
‫العاملي» ويقول ‪« :‬إن اجلماهري هي البطلة احلق‪ ،‬أما حنن فإننا‬
‫غالبا ما نكون مغفلني لدرجة تدعو للسخرية‪ .‬فإذا مل نفهم هذا‬
‫فسيكون من املستحيل علينا أن نتعلم حىت أبسط املبادئ»‪.‬‬
‫ويقول ‪ « :‬إن أربعة وعشرين سنة من التجارب (كتب هذا‬
‫سنة ‪ )1945‬علمتنا أن مهمة ما أو سياسة ما أو طريقة يف العمل‬
‫ال تكون مصيبة إال إذا اتفقت مع حاجات اجلماهري يف وقت‬
‫ما ومكان ما‪ ،‬وإال إذا كانت تصلنا هبذه اجلماهري‪ .‬وعلمتنا‬
‫أن مهمة ما أو سياسة ما أو طريقة يف العمل تكون خمطئة إذا‬
‫مل توافق حاجة اجلماهري يف وقت ما ومكان ما وكانت تفصلنا‬
‫عن اجلماهري‪ .‬وإذا كانت أمراض مثل «العقدية» «والتجريبية‬
‫العفوية» «واالستبدادية» «والتبعية» «والطائفية» «والبريوقراطية»‬
‫والعنجهية يف العمل أمراضا مؤذية متاما وغري مقبولة‪ ،‬وإذا كان‬
‫واجبا على من ابتلوا هبذه األمراض أن يتغلبوا عليها‪ ،‬حنسب ذلك‬
‫أن هذه األمراض حتول بيننا وبني اجلماهري وتقطعنا عنها»‪.‬‬
‫ويعرف ماو اخلط اجلماهريي يف صيغته النهائية اجلامعة هكذا‪:‬‬
‫«جيب أن نذهب إىل اجلماهري‪ ،‬وندخل يف مدرستها مث نعمم‬

‫‪372‬‬
‫جتربتها ونستنبط منها مبادئ وطرقا للعمل أفضل من األوىل وأكثر‬
‫تنظيما مث نرجعها للجماهري (بواسطة الدعاية) وندعو اجلماهري‬
‫لتتبعها كي حتل مشاكلها حىت تتحرر وتكسب السعادة»‪.‬‬
‫وبعد الثورة الثقافية أسست مدارس إلعادة تربية املنحرفني‬
‫عن اخلط اجلماهريي مسيت «مدارس ‪ 7‬ماي » تذكيا بيوم النداء‬
‫إلعادة الرتبية‪ .‬وما هذه املدارس إال مراكز أكثر داللة وأكثر‬
‫تعميقا للرتبية القاعدية الشاملة‪ .‬وتعتمد هذه الرتبية على أسس‬
‫ثالثة (وهي حتاذي مبادئ العامل االجتماعي تورين) ‪ :‬انتماء‬
‫بطويل لشعب بطل مبدع حر متفوق على العامل‪ ،‬مث معاداة ماض‬
‫أسود ماضي تسلط املالك‪ ،‬مث النظرة املاركسية للعامل واإلنسان‬
‫على أساس وجود أرضي حيكمه الصراع الطبقي‪ .‬ومبقتضى هذا‬
‫فالدعاية ترتكز يف تذكري األجيال الصاعدة بواسطة املسرح والتلفزة‬
‫والسينما بظلم املالكني القدامى وشقاء الفالحني والعمال يف‬
‫العهد البائد ليكون كل ذلك موضوع كراهية وسخط‪ .‬مث دعوة‬
‫لتحرير اإلنسانية كلها بعد حترير الصني وذلك يقتضي صراعا‬
‫طبقيا ال ينتهي أبدا‪ .‬وجتد عند ماو تأكيدا غريبا ينايف األحالم‬
‫املاركسية‪ ،‬وذلك حني خيرب قومه أن االستبداد القيادي سيبقى‬
‫طويال طويال جدا يف مستقبل الصني‪.‬‬
‫أما الرتبية العملية مبخالطة اجلماهري فلنستمع إىل رجل وقع‬

‫‪373‬‬
‫عليه فعلها‪ .‬يقول أستاذ جامعي من علماء االجتماع شهري جدا‬
‫يف الصني وخارجها‪ : 1‬إنين منوذج للمثقف القدمي‪ ،‬وأنا ممن بعثوا‬
‫لتعاد تربيته يف مدرسة األطر جبامعة كيانغسي… كنت قبل اآلن‬
‫آكل األرز كل يوم دون أن أعرف من أين جاء‪…،‬فلما دخلت‬
‫املدرسة الرتبوية تغريت تغريا كبريا ومسست قرارة نفسي…كنت‬
‫يف احلقول يف هذه املدرسة أمحل أكداس األرز فوق كتفي‪ ،‬وأثناء‬
‫احلمل كنت أشعر يف ظهري وكلويت أملا السعا‪ .‬ويف هذا املوقف‬
‫املؤمل علمين الفالحون بلطف كيف أمحل األكداس‪ ،‬وأحيانا كانوا‬
‫يرقون حلايل فيحملوهنا عين‪ .‬وهذا العطف من جانب الفالحني‬
‫أثر يف تأثريا شديدا‪ ،‬وهذا دفعين إىل التفكري يف مشكل ثان ‪:‬‬
‫كنت يف املاضي استعملت للنقل هذه الكراسي املرفوعة ( تلك‬
‫اليت كان يستعملها املثقفون القدامى ( ‪ ،)Mandarins‬وكان ثقلها‬
‫ينحط مجيعا على أكتاف العمال‪ .‬لكين عندئذ كنت عزمت على‬
‫أن أمحل يف هذه الكراسي‪ ،‬وكنت ال أسأل نفسي عن شيء‬
‫يتعلق بالرجال الذي حيملون الكراسي‪ ،‬ومل أكن أفكر يف أن أنزل‬
‫من الكرسي احملمول‪ .‬قلما أصبح الزما علي أن أمحل محال ثقيال‬
‫كان الفالحون يساعدونين بكرم‪ .‬إن الرتبية ال ميكن أن تنفصل‬
‫عن التغيري كما يقول ماو‪ ،‬وهكذا ربيت تربية جديدة … فيما‬

‫‪Ibid. p. 85 1‬‬

‫‪374‬‬
‫مضى كنت أحسب نفسي عاملا خطريا وكان موقفي جتاه العاملني‬
‫موقف ازدراء… من خندم ؟ هذا هو السؤال كما قلت‪ .‬لكي نغري‬
‫املثقفني البورجوازيني الطريق الوحيد هو أن جنمعهم باجلماهري»‪.‬‬
‫أحدثت الثورة الثقافية تغيريا أساسيا يف الصني‪ ،‬فتشبع كل‬
‫فرد كبريا وصغريا مببادئ التغيري‪ .‬وأصبح تسييس اجلماهري هدف‬
‫اجلميع‪ .‬واملهم هو أن نسمع حكم األجانب عن الصني بعد الثورة‬
‫الثقافية‪ .‬هذه صحافية شيوعية ايطالية تصف لنا الصينيني اجلدد‪،‬‬
‫ولعل يف شهادهتا مغاالة تربرها الصداقة والرفقة الشيوعية‪ .‬لكن‬
‫الذي يزكي هذه الشهادة بارز يف مساء هذا الكوكب وأرضه يف‬
‫السياسة العاملية الشاهدة بسيادة الصني بعد ذلتها‪ ،‬تقول‪ :1‬تنبثق‬
‫من الشعب الصيين جاذبية عظيمة هي جاذبية شعب نقي‪ ،‬شعب‬
‫ال تلوثه اآلثام كما نعرب حنن مبقوالتنا (تعين املقوالت املسيحية)‪.‬‬
‫( إهنم نظيفون نظافة من تربأوا من االبتذال‪ ،‬كما يعرب كوفر‬
‫دوبارزو يف جريدة اسربسو ‪ 25‬ماي ‪ .1969‬إن هلم خفة باطنية‬
‫كبرية‪ ،‬هذا الوزن النوعي للحياة الروحية واإلنسانية تشتمل عليه‬
‫أجسام عليها ثياب مرتفعة وأحذية من القش أو املخمل الشعب‬
‫الصيين كله‪ .‬وهذا التفوق الكيفي اجلماعي كفيل أن يشعرنا حنن‬
‫الغربيني‪ -‬ما عدا الفالحني واملساكني واستثناآت قليلة‪ -‬بأننا‬

‫‪Ibid. p. 132 1‬‬

‫‪375‬‬
‫ثقيلون قذرون‪ ،‬ويؤسفين أن أقول هذا)‪.‬‬
‫إن األخالق هنا يف الصني ترجع إىل أسبقية التسييس‪ ،‬ومعىن‬
‫السياسة هو التضحية والشجاعة واإليثار والتواضع واالدخار‪.‬‬
‫وبعد عشرين يوما من خمالطتهم يشعر املرء بأنه قد غمره هذا‬
‫احمليط من النقاوة‪ .‬وحىت الساخرون من الصني تزعزعوا واعرتفوا‬
‫بذلك‪ .‬قلت يف نفسي أن جتربة الصينيني يف أعظم خمترب وأعجبه‬
‫يف الدنيا جيب أن تتحقق يف جو حمفوظ من التلوث اخلارجي‬
‫والعدوى اخلارجية ‪ :‬إهنم جيرون عملية زرع قلب جديد ملاليني‬
‫من الناس مع التغلب على ظاهرة النبذ‪ .‬أليسوا يتحدثون دائما‬
‫عن «قلب الثورة األمحر» ؟ إن العامل مليء باجلراثيم ‪ :‬املراجعية‪،‬‬
‫واجملتمع التكنولوجي‪ ،‬وجمتمع االستهالك‪ ،‬وال ننس العدو األول‬
‫وهو اإلمربيالية‪ ،‬ويف كل هذا جيب أال يعتمدوا إال على أنفسهم‬
‫لينجحوا ويتفادوا التلوث واهلزمية…‪.‬‬
‫إن األناقة الباطنية والظاهرة عند الصينني كبرية‪ .‬إهنا تفجأ‬
‫الغرباء حىت أن بعض الدبلوماسيني – هؤالء «اخليل اجلياد»‬
‫من البورجوازية الدولية – حياولون تقليدهم لينافسوهم يف امللبس‬
‫واحلركة … ويقلدوهنم يف األخالق ‪ .‬فليس لدى الصينيني تكرب‬
‫لكن لديهم خجل وتؤدة يف احلركة وتواضع مل نعرفه قبلهم‪ .‬إن‬
‫الدبلوماسيني قد أعيدت تربيتهم دون أن يشعروا‪ .‬ولكي ميكنهم أن‬

‫‪376‬‬
‫يعيشوا مع الصينيني يتكيفون هبم ليشبهوهم يف حاهلم وحركتهم‪.‬‬
‫وهكذا يظهرون هم أيضا أدبا وصربا يف املعاملة‪».‬‬
‫وراء هذا التحول عمل تربوي جبار‪ ،‬وراءه أيد خشنة وسخة‬
‫علمت املثقفني أصحاب األكف احلريرية أكف اجلبارين املرتفني‬
‫طريق اجلد‪ .‬وراء عقل قائد شجاع ومثاله احلي علمهم الشجاعة‬
‫والنتيه على العامل‪ .‬ولوال روح األقدام ملا كانت ثورة ماو إال‬
‫كإحدى الثورات املبتذلة ال تبدع وال حتول بل تضغط وتنتج‬
‫تعبئة عسكرية تبين املعامل وتستهلك اإلنسان طاقاته وإنسانيته‪.‬‬
‫يقول ماو يوصي باألقدام واإلبداع ‪« :‬جيب أن نطرد من صفوفنا‬
‫كل ايديولوجية مبنية على الضعف والفشل‪ ،‬وكل نظرية هتول‬
‫قوة العدو وتستصغر قوتنا نظرية خمطئة»‪ .‬ويقول ‪« :‬إن كل قوة‬
‫رجعية يف تاريخ البشر عندما تشرف على هنايتها تقبل على‬
‫انتفاضة آخرة ضد قوى الثورة‪ .‬وغالبا ما يغلط الثوريون مبظهر‬
‫هذه القوة اليت خيتفي وراءها ضعف داخلي‪ .‬إهنم ال يرون هذه‬
‫احلقيقة اجلوهرية وهي أن اخلصم يف طريقه إىل الزوال وأهنم على‬
‫وشك اإلنتصار»‪.‬‬
‫وهكذا أقام ماو تربيته اجلماهريية على قواعد نفسية كان‬
‫ال يتحدث عنها املاركسيون بل يتفادوهنا ويصموهنا بأهنا فاعلية‬
‫« ‪ . »subjectivitiste‬فعنده أن اإلنسان ذو إرادة وشجاعة وصرب‬

‫‪377‬‬
‫مييز بني خري وشر وأن هبذه اخلصال اخللقية وبقابليته للتعلم‬
‫من اخلط اجلماهريي يتحرك حنو التحرر مؤثرا هو يف الظروف‬
‫املوضوعية متئازرا كثلة واحدة مع العاملني والفالحني كما تزعم‬
‫املاكرسية العلمية من أنه كمية تضغطها ظروف الصراع الطبقي يف‬
‫حتمية بدون أمل يف اخلالص إال بالعنف الثوري القاتل واالستبداد‬
‫الطبقي الذي ال يعرفون كيف هو وكيف يكون‪.‬‬

‫‪378‬‬
‫خبري وأمحر !‬
‫امتازت الشيوعية منذ نشأهتا بأهنا العقالنية احملض‪ ،‬فالعقل‬
‫هو الرائد واملذهب علمي والتكنولوجية هي وسيلة اخلالص من‬
‫القلة وتقدمها حيرر العالقات البشرية بعد الثورة ويؤدي للوفرة اليت‬
‫عليها يعيش اجملتمع الشيوعي ااحلامل‪ .‬فاملناضل الشيوعي رجل‬
‫عقالين صاحب عقيدة ومحاس‪ ،‬إنه مؤمن بدين ماركس متحمس‬
‫يستهني املوت دفاعا عن مبادئه واملفروض فيه أن يكون تقنيا أو‬
‫أن يعمل ما يف سعه ليكون كذلك لكن النضال الشيوعي يستند‬
‫على طبقة العمال وهي طبقة بعيدة عن أن تكسب الكفايات‬
‫العلمية الضروية إلقامة دولة‪ ،‬هلذا كانت الدعوة اللينينية حتاول‬
‫دمج «الربجوازية الصغرية» وهي طبقة املتعلمني يف وصف النضال‬
‫وتعترب مرحلة االعتماد عليها مرحلة ضرورية لتحرير الطبقة‬
‫الكادحة‪ .‬فاملتعلمون يبعثون الوعي الثوري وهم بعد الثورة يبنون‬
‫االقتصاد ريثما يستوي الناس يف التعلم‪ .‬وهذا ما حدث يف روسيا‪..‬‬
‫ولقد ظن كاسرتو أن التكنولوجية تأيت يف الرتبة الثانية بعد‬
‫النضالية ووسد أمور الدولة واالقتصاد ملناضلني متحمسني ال خربة‬
‫هلم فتخبط يف مشاكله وال يزال‪ .‬أما الصني فقد اتبعت اخلط‬

‫‪379‬‬
‫العام والطفت املتعلمني‪ ،‬وألقى ماو شعار ‪« :‬لتتفتح مائة زهرة»‬
‫ويعين هذا الشعار قبول املبادرات الثقافية املتنوعة واالستفادة من‬
‫اختالف الرأي‪ .‬فلما وقعت أزمة اخلصام مع روسيا وما تالها من‬
‫تضعضع اقتصادي‪ ،‬متردت الصني على العامل وأمسك ماو بالزمام‬
‫امساكا قويا ملا استجاب الشباب لندائه‪ .‬فماتت املائة زهرة ملا‬
‫تفتح الكتيب األمحر وأعطيت األسبقية للحمرة النضالية فطرح‬
‫الطالب كتبهم وعكفوا على فكر ماو وأصبح املذهب يف الصني‬
‫هو املاركسية اللينية –فكر ماو‪ ،‬وكسب بذلك امسا مميزا عن سائر‬
‫الشيوعيات‪ .‬وتدل احلمرة الصينية على التصلب ضد العامل كله‪،‬‬
‫فسلك الصينيون طريقا جديدة يف اإلدارة وقلبوا األوضاع السابقة‬
‫واستبلدوها باخلط اجلديد‪.‬‬
‫كانت الثورة الثقافية وال تزال نقدا عاما للوضع تقوم به‬
‫القاعدة‪ ،‬وكشف هذا النقد أن الفكر البورجوازي القدمي املرتاكم‬
‫عرب القرون ال يزال خميما على العقول فتجنح البريوقراطية املتعلمة‬
‫خلدمة طريقة احلياة واملعاملة اخلاصة باجملتمع القدمي‪ .‬وتناول‬
‫هذا النقد األفكار وحامليها معا‪ ،‬ومحل احلرس األمحر شعار ‪:‬‬
‫«خبري وأمحر» كمعيار تقيس به صالحية الناس للعمل الثوري‪.‬‬
‫فالبورجوازية الصغري املتعلم املثقف قد يكون خبريا لكنه يطرح‬
‫أن مل يكن يف خدمة اجلماهري‪ ،‬وتعاد تربيته حىت يصري أمحر‪،‬‬

‫‪380‬‬
‫واملناضل الفالح أو العامل األمي يتعلم ليجمع بني احلمر واخلربة‪.‬‬
‫حتولت الصني بالثورة الثقافية مدرسة مادهتا الوحيدة هي فكر‬
‫ماو يتدارسونه كل يوم من الصباح إىل املساء ويستخرجون منه‬
‫التوجيه الذي يكسب احلمرة واخلربة‪ .‬فالطالب يقرأ ماو ليتعلم‬
‫كيف ينبغي أن يتعلم‪ ،‬فاملهندس والعامل يقرآن ماو ليتعلما كيف‬
‫حيسنان اإلنتاج وكيف يسرعان به ويتقنانه‪ .‬وبفكر ماو يتحاج‬
‫الناس إذا اختلفوا‪ ،‬وبه يستشهدون‪ .‬ومع الدراسة كان‪ ،‬وال يزال‪،‬‬
‫غليان‪ ،‬كأمنا الصني معمل أو خمترب واسع اإلرجاء يصنع فيه هذا‬
‫«اخلبري األمحر» بشىت الوسائل اليت حيددها فكر ماو‪ ،‬وهي ‪:‬‬
‫املناقشة واإلقناع والرتبية‪.‬‬
‫اخلبري األمحر جيب أن يبتدع وجيب أن يتعلم كيف يبتدع‬
‫ليحقق «املوقف املمتاز للصني يف العامل»‪ .‬إنه بطل‪ ،‬إنه فالح‬
‫وعامل مترد على عبودية البورجوازية الصغرية املستأثرة بالعامل‬
‫والتكنولوجية‪ .‬إنه خيضع اساتذة اجلامعة واملهندسني واملديرين‬
‫للخط اجلديد‪ ،‬ويفرض عليهم أن ينزلوا للصف فيتعلموا بأيديهم‬
‫املعرفة احلقيقية‪ ،‬ويسخر بالعلم النظري وحيطم صنم التكنولوجية‪.‬‬
‫حيطمه باإلبداع واالخرتاع ال باإلعراض واجلهل‪ ،‬فعند األمحر ال‬
‫جتد شعورا بالنقص أمام تفوق الرأمسالية والشيوعية الروسية‪ ،‬بل‬
‫جتد فضوال واستعدادا للتعلم ميكنان العامل البسيط من تركيب آلة‬

‫‪381‬‬
‫صينية على منط اآلله املستوردة مع إرضاء الشرط األساسي ‪ :‬أن‬
‫حيسنها ويزيد يف انتاجيتها‪.‬‬
‫اخلبري األمحر يتعلم كيف يعمل حبافز أعلى من احلفز املادي‬
‫وكيف يزيد يف اإلنتاج فيتجاوز دائما اخلطة االقتصادية‪ .‬ويتعلم كيف‬
‫خيدم اجلماهري دون التوقان إىل املنصب والربوز اإلجتماعي يتعلم‬
‫ذلك إذ خيرج من املدرسة الثانوية إىل املعمل حيث يظهر لرفقائه‬
‫مقدرته وكفايته ومحرته أيضا‪ ،‬فإن مل حيكم رفقاؤه بصالحيته خلدمة‬
‫الشعب توقف عن الدراسة‪ .‬مصريه مقرتن بالرفاق وخدمتهم‪ ،‬هم‬
‫يقرتحون ولوجه اجلامعة أو مينعونه من ذلك وهم يالحظون سلوكه‬
‫كل يوم لريوا ما يقدر أن يعمل بيده وليعرفوا إن كان فيه تشوف‬
‫ليصبح من النخبة‪ .‬وهكذا تطهر القاعدة كل جراثيم الربوجوازية‬
‫الصغرية املوروثة من ماضي سحيق‪ ،‬وتثبت اخلط اجلماهريي الذي‬
‫يؤكد بأن األفكار املصيبة تأيت فقط من املمارسة االجتماعية وأن‬
‫العوائق تأيت من «أوقيانوس الفكر البورجوازي الصغري»‪.‬‬
‫كراهية املاضي البورجوازي يف شخص املالك الظامل دلفع‬
‫عاطفي تتحرك به اجلماهري حنو مستقبل ال قلم فيه‪ ،‬وتلوح‬
‫وسائل اإلعالم بالغول املزمن يف األرياف الصنية تذكر الصينني‬
‫مباض مشؤوم وحتاول الثورة الثقافية أن تطوي عجرفة املثقفني‬
‫من البورجوازية الصغرية تنتقدهم انتقادا علنيا وترغمهم على نقد‬

‫‪382‬‬
‫أنفسهم أمام اجلماهري وتدخلهم مدارس العمل البدوي حىت ولو‬
‫كانوا رئيسا للجمهورية مثل «ليوشاوكي»‪.‬‬
‫إن اكتساب التكنولوجية مسألة حياة أو موت لكل ثورة‪،‬‬
‫وإن الصني مباليينها السبعمائة وفقرها املوروث كانت أحوج‬
‫الثورات للخربة‪ ،‬وكانت اخلربة ملكا لطبقة نظيفة اليد أنيقة يف‬
‫قمصاهنا البيضاء وتقليدها القردي للغرب ومعيشته‪ .‬فلما احتلت‬
‫الثورة مقاعد احلكم مال أصحاب اخلربة للسلطان وعاموا على‬
‫النخبة املناضلة فغمروها وانقلبوا بريوقراطية منحرفة على اخلط‬
‫النضايل‪ .‬وتعذر تطويرهم املعنوي قبل الثورة الثقافية أي قبل اخلط‬
‫اجلماهريي‪ ،‬قبل أن يهب العامل والفالح ليتعلم من هذا العلم‬
‫النظري ما يعزز به قدرته على اإلبداع‪ .‬وبواسطة الكتيب األمحر‬
‫وما حيمله من فكر ويرمز إليه من تعلق عاطفي بالقائد العبقري‬
‫سرت شيئا فشيئا روح جديدة يف طبقة املرتفني البريوقراطيني‪ .‬سرت‬
‫فيهم هذه الروح ملا أمسكوا باليد مسكا رفيقا قويا معا وزج هبم يف‬
‫الصف ليتعلموا‪ .‬وهكذا اندفعت القاعدة احلمراء الكتساب اخلربة‬
‫وأرغمت الطبقة املثقفة على تطوير نظرهتا لألمور‪.‬‬
‫طبقة كسبت اخلربة ملا كانت تتاح لألغنياء فرص التعلم‪،‬‬
‫وطبقة ناضلت ألهنا حمرومة منبوذة‪ .‬هذا شأن اخللق واملدافعة‬
‫والتدافع قانون احلركة اإلنسانية على األرض‪ .‬وتسمي الشيوعية‬

‫‪383‬‬
‫هذا التدافع صراعا بني الطبقات‪ ،‬وهتدف املاركسية للقضاء على‬
‫الطبقية‪ .‬والذي حدث فعال يف روسيا هو أن «الربولتاريا املستبدة»‬
‫ما لبثت أن حتولت عقليتها إىل عقلية بورجوازية صغرية على حد‬
‫تعبريهم فهناك املدير والوزير بسيارته الفخمة وقصره‪ ،‬وخرشوف‬
‫يفصل مالبسه يف إيطاليا‪ ،‬أدواق كأدواق العهد القدمي وسلوك‬
‫طبقي كذلك السلوك‪ .‬ويرسم خط التطور منحىن اإلهنيار على‬
‫جمرى حتدث عنه ابن خلدون بسداجة وبدون اجلمل العقالنية‪.‬‬
‫وحياول الصينيون أن حيافضوا على اخلط اجلماهريي ليهدموا الطبقية‬
‫فاهتدوا إىل الثورة الثقافية كمؤسسة مستمرة جتدد دائما الشعور‬
‫وجتدد دائما الضغط االجتماعي املوجه حنو قمع حب الظهور‬
‫واللصوق باألرض والعمل اليدوي املبدع‪ .‬ال تساءل هنا هل يدوم‬
‫هذا أو ال يدوم فقد علمنا اهلل عز وجل‪ ،‬وهو اخلبري البصري‬
‫بعباد‪ ،‬أن اإلنسان يف خسر إال الذين آمنوا وعملوا الصاحلات‪،‬‬
‫وإمنا يهمنا تدبر هذه اللحظة املتوترة للجمع بني احلمرة واخلربة‬
‫باحملافظة على مرمى الطموح البطويل يف حترير العامل ضد النزعات‬
‫الفردية اليت يغديها اقيانوس الفكر البورجوازي الصغري وضد العامل‬
‫كله‪.‬‬
‫دخلت الفلسفة املعمل‪ ،‬أي دخلت السياسة رؤوس العاملني‪،‬‬
‫ولنؤكد مرة أخرى أن السياسة والفلسفة يف قاموس الثورة الثقافية‬

‫‪384‬‬
‫تعين التضحية والعمل البطويل وتعين حترير اإلنسان من كونه جزءا‬
‫يف تركيب اجتماعي أعمى مصمت ليصبح عضوا واعيا يف جمتمع‬
‫متحفز إلنقاذ العامل متفوق ممتاز‪ .‬ودراسة الفلسفة يف املعامل‬
‫ترجع فقط إىل دراسة الكتيب األمحر حتت شعار ‪« :‬أسبقية‬
‫السياسة على االقتصاد»‪ .‬وعند ما يدرس الفالح والعامل‬
‫الفلسفة والسياسة يتحول حتوال كيفيا ويتم يف وعيه انقالب عميق‬
‫إذ يذهب عنه هاجس التفوق األرستقراطي للمتعلمني‪ .‬إنه يتعلم‬
‫بضعة أفكار واضحة بسيطة فإذا هي حتوله عامال أكثر انتاجية‬
‫وفالحا أشد حمبة للتعاون والتضحية‪.‬‬
‫ويف سياق هذه الثورة يف «البنية العلوية» يتخذ شعار احلركات‬
‫الثالث اليت وصفها ماو (صراع الطبقات‪ ،‬اإلنتاج‪ ،‬التجربة العلمية)‬
‫داللة عملية‪ ،‬فريتفع اإلنتاج يف احلقول واملعامل ويشكل (اقتحام‬
‫الربلتاريا لعامل االديولوجية) عامال حامسا يف تغيري عالقات الناس‬
‫بعضهم ببعض وعالقتهم بالدولة واحلزب ‪ .‬فاخلبري األمحر شخص‬
‫له كرامة إنسانيته مصونة يعمل ليل هنار ليصل إىل املثل األعلى‬
‫البطويل‪ ،‬يشرتك يف احلمالت الثقافية فيخط شعارا جديدا بفخر‬
‫على زمالئه كدليل على حتوله الثقايف أو يصنع آلة جديدة أو خيرتع‬
‫طريقة للعمل توفر اجلهد وتزيد يف اإلنتاج‪ .‬وهكذا جند احلمرة‬
‫واخلربة ال يفرتقان‪ ،‬األيدي تعمل عمال مقتنعا كعمل املأجورين بل‬
‫كعمل املالك احلريص البخيل‪.‬‬
‫‪385‬‬
‫ويف مقابل « الستخافونية» الروسية يزري اخلبري األمحر الصيين‬
‫بالعامل الروسي املثايل اآليل‪ .‬كل ستاخانوف يظل عاكفا على‬
‫قطعته اليت يصنعها ال يرتفع رأسه وال يزيغ بصره الساعات الطويلة‬
‫كأمنا هو آلة من اآلالت‪ .‬ويضرب الرقم القياسي يف اإلنتاج‬
‫لينال األومسة والفخر‪ .‬أما اخلبري األمحر فهو بطيء يف حركته لكنه‬
‫دؤوب صابر ومبدع ومفكر وإنسان‪ ،‬يشارك يف التخطيط والتدبري‬
‫ويتطلع للقيم العليا وملصري العامل‪.‬‬
‫ حققت الثورة الثقافية التحول املعنوي للمواطن الصيين‬
‫فحولت مع ذلك قدرته على العمل وكان «الكويل» الصيين‬
‫مضرب األمثال فيما مضى للكسل واجلنب والقذارة والسرقة‪.‬‬
‫وجاءت الثورة فحررته من االستغالل‪ ،‬مث برز الكتيب األمحر‬
‫فكهربه وأحدث فيه انقالبا جديدا‪ ،‬فهو اليوم حيقق املعجزات‬
‫كانت النظرية االقتصادية للتصنيع تؤكد أن توزيع العمل وتوزيع‬
‫اخلربات والكفايات واالختصاص والتسلسل اإلداري وجتميع رأس‬
‫املال بالقروض اخلارجية أو بالقسر االشرتاكي هي الطريق الوحيد‪.‬‬
‫وجاء اخلبري األمحر فحطم كل هذه النظريات وانتزع نفسه من‬
‫سلطان القانون املزعوم‪ .‬كان يف القمة مديرون وخرباء ومهندسون‬
‫هلم األجور العالية والتسهيالت واملتعة وكان يف القاعدة عمال‬
‫كاألرقام‪ ،‬يتساءلون يف ذلك الرأمساليون والشيوعيون القدامى‪.‬‬

‫‪386‬‬
‫ وأعرض ماو عن كل ذلك واقرتح طريقا جديدة للتصنيع‪،‬‬
‫ليكن جتميع رأس املال ناجتا عن إبطال امللكية الفردية إبطاال قانونيا‬
‫كما تفعل سائر الشيوعيات‪ ،‬لكن لتبطل العالقات اإلنسانية‬
‫اإلدارية اليت ورثها شيوعيو روسيا من العهد القدمي ومل يستطيعوا‬
‫التنصل منها‪ ،‬ولتحل حملها عالقات تساوي بني اخلبري واملدير‬
‫وبني العامل‪ ،‬ولنطلق سراح القابليات الفردية لإلبداع وليحل حمل‬
‫السلطان اإلداري حافز خلقي يدور حول الفخر بالعمل املنجز‬
‫باتقان‪.‬‬
‫ وكان أن تعلم العمال والفالحون فكر ماو احملرر وتذاكروا‬
‫يف السياسة مبعناها النضايل وتناقشوا كل يوم نقاشا فلسفيا وعلميا‬
‫وتطبيقيا حىت زالت الفروق بني محلة اخلربة وبني القاعدة العاملة‬
‫وحىت أصبح للكل نصيب من املواصفة العامة للثوري النموذجي‬
‫اجلامع بني احلمرة واخلربة‪ .‬وهكذا أصبح الصيين اجلاهل الكسول‬
‫باألمس أكثر الناس مهارة وأكثرهم وعيا بعمله وقيمته البطولية‪.‬‬
‫قال تشي كويفارا ملا عاد من الصني ‪« :‬يستطيع العامل الصيين أن‬
‫يصنع كل ما يستطيع أن يضعه أي العامل آخر‪ ،‬ويستطيع زيادة‬
‫على ذلك أن يصنع ما ال يستطيع صنعه إال العامل الصيين»‪.‬‬
‫ والقائد العبقري من وراء اجملهود اجلماعي يلهب احلماس‬
‫ويشجع املبادرات املنتجة ويزور املعامل أو يكاتبها حيث على‬

‫‪387‬‬
‫السري يف اخلط اجلديد خط اجلماهري‪ .‬كتب إىل أحد املعامل‬
‫يقول‪« :‬ابنوا االشرتاكية حسب هذه املبادىء ‪ :‬ابذلوا كل اجلهود‬
‫وامشوا دائما إىل األمام ‪ :‬الكم والكيف والسرعة واالقتصاد»‪.‬‬
‫وأصبح ذلك شعارا لكل املعامل‪ .‬وكاتب العمال يقول ‪« :‬إن‬
‫املساكني هم األكثر ذكاء وإن األرستقراطيون هم األكثر غباء»‪.‬‬
‫وتعلم املساكني املتواضعون عندما أخربوا أن هلم إنسانية‬
‫وبعد أن رأوا الزعيم القائد واحد منهم يعمل بيده ويأكل طعام‬
‫الفقراء فتقمصوا الروح النضالية ثقة بأنفسهم جاءت من ثقتهم‬
‫به ومل تعد تفزعهم األغوال اليت خييف هبا املثبطون عزائم كل‬
‫أمة مستضعفة‪ ،‬التكنولوجية عريت عن سريتها وهم صعوبتها‬
‫والنظرية الرأمسالية يف وضع اخلرباء يف مركز اإلدارة اضمحلت فال‬
‫مكان لفساد التقنوقراطية املستبدة‪ ،‬وذهب أيضا الوهم الشيوعي‬
‫بأن قوى االنتاج هي العامل احلاسم يف التنمية االقتصادية‪ .‬ومن‬
‫القلة والفقر طلعت اخلربة وطلعت أجيال واعية تضحي بنفسها‬
‫من أجل اجملتمع‪ .‬وذهب أيضا الوهم الشيوعي املعاد بأن البنية‬
‫التحتية االقتصادية ونظامها هي املتحكمة يف اجتاه اجملتمع وهي‬
‫الوسيلة للتحرر االشرتاكي والشيوعي‪ ،‬فأثبتت املمارسة الصينية‬
‫تبعا لفكر ماو بأن القوة احلقيقية هي القوة الثقافية فيقول ماو ‪:‬‬
‫و«إن للعمل السياسي أمهية حيوية لعلمنا االقتصادي»‪ ،‬وتصدقه‬
‫النتائج الباهرة يف كل امليادين‪.‬‬
‫‪388‬‬
‫إن التعبئة الصينية برهنت على أن احلركية االجتماعية تبدأ‬
‫من مجع األنظار واألفكار واهلمم حول قائد ميلك ثقة الناس مبثال‬
‫حياته وعمله‪ ،‬وبرهنت على أن الناس يبحثون عن أنفسهم دائما‬
‫فإذا وجدوا أنفسهم يف مشروع يثبت هلم قيمتهم ويفتح هلم اجملال‬
‫ليعربوا عنها صنعوا املستحيل‪ ،‬وكان املستحيل يف حق الصيين‬
‫الكسول الذي يضرب هبوانه املثل أن يقوم رجال كالرجل فأحرى‬
‫أن يقوم بطال عمالقا متفوقا على العامل يف ضمريه هو ويف واقع‬
‫الناس‪ .‬اعتمد الصيين على وسائله اخلاصة كما قال القائد‪ ،‬وكان‬
‫للجماهري مبادرة وجناعة يف العمل ذكاء وابداع كما قال‪ ،‬وجترأ‬
‫الصيين على نقد كل النظريات السابقة يف االقتصاد والعمل وبدهلا‬
‫مبمارسة جديدة برهن جناحها على أن اخلبري األمحر أقدر وأجدر‬
‫بقيادة العامل‪ .‬ويف كل يوم وساعة يتحرك الصيين ليغري العامل وفق‬
‫برنامج يقرتحه شعار القائد القائل ‪« :‬صراع مث نقد مث تغيري»‪.‬‬

‫‪389‬‬
‫القوة‬
‫ أن يتعلم شعب كامل ويكسب املهارة والوعي احلافز لبذل‬
‫اجلهد‪ ،‬هذه هي القوة وهذا مظهرها ألن الراكد ال يتعلم وال يعمل‪.‬‬
‫أن يتحرك شعب بكامله من موقع املهانة ليصبح أمة متماسكة‬
‫معبأة متحضرة‪ ،‬هذه هي القوة وهذا مظهرها ألن الضعيف املنهزم‬
‫ال يتحرك وال يتحفز ملكرمة وإمنا يستأخر يف ذنايب القافلة ال حيلم‬
‫إال بإزالة آثار العدوان عليه وإال باللحاق بالركب احلضاري‪.‬‬
‫أن يتعلم شعب بكامله كيف يستخرج من أرضه رزقه‬
‫معتمدا على وسائله اخلاصة تائها على األجنيب حمققا للمعجزات‬
‫االقتصادية واإلنسانية‪ ،‬هذه هي القوة وهذا مظهرها ألن الشعب‬
‫املتفرق املريض الفقري يف وعيه املبتور يف عاطفته ورجولته ال يبدع‬
‫وال يستقل أبدا‪.‬‬
‫وكل أولئك قوة يعرضها علينا كتاب العامل كتاب اهلل املعروض‬
‫على مساحة األرض لنتدبر آيات اهلل ونتعلم‪ .‬يعرضها علينا يف‬
‫الصني عرضا قويا يلفت النظر بالتناقض الشديد بني ماض وحاضر‬
‫وبني صعوبة حتريك األعداد اهلائلة من البشر وعمق احلركة الواقعية‬
‫فعال وأمهية آثارها‪.‬‬
‫وليس أمام اجلماهري اإلسالمية السبعمائة مليون‪ ،‬مثل الصني‬
‫‪390‬‬
‫عدا‪ ،‬إال أن تتعلم أو متوت‪ .‬إن ماضينا جميد جدا وغين جدا حىت‬
‫حال اجملد والثروة الرتاثية حاجزا بيننا وبني منوذجنا اخلالد‪ ،‬فبعث اهلل‬
‫لنا عبادا له يتحدون رجولتنا ويتحدون ضعفنا باهلجوم العنيف املقاتل‬
‫احملتل‪ ،‬وتألبوا علينا واتفقوا وضيقوا علينا طباق األرض والسماء‪،‬‬
‫فما حتركنا إال ملطالبة خانعة بالعدل الدويل‪ .‬وبعث اهلل عز وجل‬
‫أمامنا شعبا ميتا مهينا يضرب لنا به األمثال ويشري لنا إىل الرجولة‬
‫واملروءة والقوة حىت خنجل من فسولتنا واحناللنا وضعفنا‪ ،‬واحتل‬
‫الصينيون سدة العز بني األمم وبقيت ماليني املسلمني الفرديني‬
‫اجلغرافيني غثاء باليا ألننا ال حنب أن نتعلم وال نعرف كيف نتعلم‬
‫ومنكث يف جدالنا العقيم نتساءل ‪ :‬من أين نبدأ ؟‬
‫مع ضعفنا وختاذلنا وتألب أعدائنا علينا جنهد ونتأمل يف قوقعتنا‬
‫املستعارة قوقعة اإليديولوجيات املشركة حنرفها ونقص من أطرافها‬
‫ونلفق هلا «أصالة» تليق بقوميتنا العتيدة‪ .‬وال يلبث حبل العمل‬
‫أن ينقطع بانقالب جديد يلفق تلفيقا جديدا‪ .‬وحنن هبذا يف‬
‫دوامة اجلهل والضعف والعنف ال نربح‪ .‬ولو كانت لنا فكرة واحدة‬
‫مستقلة أصيلة حقا ال نفتح لنا باب التعلم من مصادر التعلم‬
‫وباألسلوب اخلصب للتعلم‪ .‬ها حنن أوالء ماليني ال حتصر عدا‬
‫وهذه يف أرضنا ثروات فماذا عملنا ؟ ال نعمل غدا كما مل نعمل‬
‫األمس واليوم ألنه ال منهاج لنا‪.‬‬

‫‪391‬‬
‫إن من يسكنه الشعور بالنقص جتاه اجلاهلية ال يتجرأ أن يتعلم‬
‫من الناس‪ ،‬ومن استقل من عاديات العادات وصدق يف وجهته‬
‫يتعلم تعلما مفتوحا ال يتخفى وال يلفق‪ .‬إن هذه اآليات يف العامل‬
‫تذكرة يعرضها اخلالق سبحانه األخذ بناصية كل من على األرض‬
‫ليذكرنا بالعهد الذي أخذه علينا أن نؤمن به وننصره‪ ،‬وليذكرنا‬
‫مبوعوده أن ينصر من ينصره ويستخلف يف األرض من آمن وعمل‬
‫صاحلا‪ ،‬ويضرب لنا األمثال جباهليني هلم إميان ما وهلم به عمل ما‬
‫أكسبهم القوة كما أكسبتنا ردتنا وشكنا كسال ضعفنا به‪.‬‬
‫كانت الفلسفة اليت أصبحت عمال تسأل عمن هو الفاعل‬
‫التارخيي فوجدته يف شخص احملروم املستغل املستلب‪ .‬ولقد علمنا‬
‫اهلل بأن الفاعل التارخيي هو املتواضع الذي مل يتكرب عن دعوة‬
‫األنبياء فآمن وجاهد‪ .‬وعلمنا أن املستضعفني يف األرض هم‬
‫األقوياء مىت آمنوا وهم الوارثون لألرض مىت عملوا صاحلا وفق‬
‫إمياهنم‪ ،‬ولكن ال تنفتح لنا أبواب احلياة جلهلنا العلم النبوي‪،‬‬
‫ونتهافت على الفكر الفلسفي اجلاهلي فتنقطع بنا احلبال‪ ،‬وإن‬
‫دعوة اهلل على حاهلا قائم هبا العلماء العاملون أولياء اهلل‪ ،‬وإن‬
‫موعود اهلل ينجزه لنا أن استجبنا وحتررنا من تبعيتنا للناس تتقاذفنا‬
‫التيارات ويضرب اهلل لنا املثل بدعوة يف الصني لقيت مؤمنني هبا‬
‫فحققت املستحيل‪ ،‬وخرج من الضعف واهلوان العز والقوة‪.‬‬

‫‪392‬‬
‫إن احلركة حنو البعث ال تبدأ باملظاهرات الدبلوماسية وال‬
‫باملناقشات السياسية اليت ال تنتهي‪ ،‬إمنا تبتدأ بأخذ الزمام بقوة‬
‫وعزم‪ .‬يف الثورية اجلاهلية صراع طبقي عنيف ويف اإلسالم رفق‬
‫التوبة العامة‪ ،‬لكن هذا الرفق ال يعين أن مرتيف األمس ستزول‬
‫فتنتهم بلمسة حريرية‪ .‬إن جدية العمل وضرورة احلزم من أهم‬
‫ما ميكن أن نتعلمه من صني ماو‪ ،‬يقول الزعيم ‪« :‬إن الثورة‬
‫ليست مأدبة شرفية‪ ،‬وليست تصنع كما تصنع القطع األدبية أو‬
‫اللوحات الفنية أو أشغال التطريز‪ .‬إهنا ال تصنع مبا يناسب كل‬
‫ذلك من األناقة واهلدوء والرقة‪ .‬وال باللطف والعطف والتأدب‬
‫واحلشمة والسماحة‪ .‬إن الثورة حترك وعمل عنفي تطيح أثناءه‬
‫طبقة اجتماعية طبقة أخرى»‪.‬‬
‫إن التؤدة النبوية منهاج سلوكي أوله قوة الصرب والتحمل‬
‫وأخره قوة املضاء واالنضباط معا‪ .‬والعنف قوة غري منضبطة فهي‬
‫جتمح بصاحبها فريكب الشطط‪ .‬والثورة الصينية قامت بالصراع‬
‫العنيف صراع الطبقات مث ملا مت هلا ما أرادت وقبضت السلطة‬
‫حتول العنف الداخلي إىل عنف لفظي وعملي موجه للخارج وكان‬
‫انضباط الصينيني يف معاجلتهم للتناقضات بني الشعب وحفاظهم‬
‫على الثروة البشرية اليت ميثلها قدماء البورجوازيني بواسطة إعادة‬
‫الرتبية رافدا مهما لتجميع قوى البناء‪ .‬اإلسالم ال يقوم فيه بعنف‬

‫‪393‬‬
‫إال الدول اليت تدول‪ ،‬أما اخلالفة النبوية املوعودة اليت آن أواهنا‪،‬‬
‫وأما التجديد واخلالفة للمسلمني يف األرض فهي صيغة الرمحة اليت‬
‫تفتقر إليها األمة املشتتة البئيسة‪ ،‬وستطلب هي اإلسالم وتسعى‬
‫إليه‪ ،‬قادهتا وسائرها وتتصاحل عليه‪ .‬وإنه قد جتاوزت األحداث‬
‫القادة املسلمني وبلغ يأس األمة دركته السفلى أو كاد‪ ،‬وعاف‬
‫الكل هذه املهانة وهذا العنف الذي يقتل املسلمني يف ديارهم‬
‫بأيديهم وال يستطع يكون قوة ترد غائلة العدو اهلاجم املتألب‪.‬‬
‫وإن من الضعف خترج القوة‪ ،‬ومن اخلوف من العد ويتخلف‬
‫الوعي بالذات والوعي بالضعف والوعي بضرورة اختاذ القوة‪.‬‬
‫فمنذ قامت الشيوعية يف الصني على قاعدة صراعية وحرب أهلية‬
‫تأصل يف الصينيني الشيوعيني روح املعركة والقتال‪ ،‬فلم ينقصوا من‬
‫تعبئتهم يوم كان هلم النصر‪ ،‬بل حزموا أحزمتهم أشد مما كانت‬
‫يكافحون يف واجهتني كفاح الليل والنهار‪ ،‬يبنون البالد ويستعدون‬
‫لقتال عدو خارجي حمتمل‪ .‬وكان الزعيم يهيب بقومه للتمسك‬
‫بالقوة‪ ،‬وكانت خنبته من اجليش األمحر النواة اليت اجتمع حوهلا‬
‫اجلهاز احلزيب‪ .‬فأعطاه احلزب وكل الشباب يتعلمون مبادئ الثورة‬
‫ويتعلمون يف نفس الوقت مباديء استعمال السالح واالستعداد‬
‫اجلسمي‪.‬‬
‫إذا طلبت أمة احلركة واحلياة فعليها أن تتعبأ للمعركة‪ ،‬ومعىن‬

‫‪394‬‬
‫التعبئة االستعداد النفسي وإعداد القوة لدرء العدو‪ .‬يف الشعوب‬
‫امليتة ويف الشعوب املكتظة املائتة مبوت مشابه يتخصص طائفة‬
‫من الناس يف مهنة اجلندية‪ ،‬أما يف األمة اليت حتمل رسالة فينبغي‬
‫أن يكون كل من له يدان وعضالت مستعدا متدربا للجهاد‬
‫ممارسا للعمل اجلهادي يف كل يوم على قدم االستنفار العام‪.‬‬
‫وهكذا كان املسلمون عندما كانوا أمة وقبل أن يصبحوا دوال‬
‫وراثية‪ .‬الصني مثل ضربه اهلل لنا لألمة حاملة الرسالة‪ ،‬هلم رسالة‬
‫ظلمانية كافرة يقوون على محلها ما ال نقوى حنن على محل حقنا‬
‫الذي نزل من عند ربنا لكي خنجل من تفاهتنا‪ .‬إن كان الصينيون‬
‫احلمر مل يستطيعوا أن جيعلوا األمة كلها جندا إال بإدماج اجليش‬
‫يف األمة إدماجا كبريا فألن اجليش كان له ماض نضايل جميد وألن‬
‫تربية اجليش مل تكن تربية عضالت وعقول بل كان أيضا تربية‬
‫ضمري وخلق كانت مدرستها كهوف ينان وصحاري كيانغسي‬
‫اليت جابوها حماربني متقشفني أبطاال‪.‬‬
‫لنا جيوش ورثت عادة القعود وأسيء اعدادها إذ هيئت خلدمة‬
‫الراية والرتاب هتيئ اآلالت املستعبدة‪ ،‬أهم ما يعلمون اجلندي‬
‫املسكني أن يرفع اليد بالتحية للضابط السيد ويهتف بالشعار‪،‬‬
‫وجليوشنا مرتفون هم املتأهلون من السادة الضباط‪ ،‬هلم عنجهية‬
‫الضابط اجلاهلي وليست هلم كفايته‪ ،‬وهلم حاجات ال تنتهي هلا‬

‫‪395‬‬
‫عالقة بالشهوات وال عالقة هلا بأمر القوة وأمر الروح املقاتل‪ .‬هلذا‬
‫ينهزم جنودنا هزمية هي صورة هلزميتنا مجيعا كفاء السرتخائنا وترهل‬
‫أجسامنا وعقولنا حني فقدنا العقيدة والروح‪ .‬اجلندي املسلم اآللة‬
‫مستضعف من املستضعفني الذين سيستخلفهم اهلل يف األرض مع‬
‫أمتهم وسيحررهم من وطأة املرتفني فيحملوا القوة خلدمة اهلل وحده‬
‫ال شريك له له امللك وله احلمد وهو على كل شيء قدير‪.‬‬
‫ال نعجب أن كان قادة جيوشنا نسخة من مثقفينا املرتفني‪،‬‬
‫إهنم خترجوا من مدرسة واحدة هي مدرسة اجلاهلية‪ .‬وهي مدرسة‬
‫تعصر من ضمائرهم حياة الرجولة والصدق واإلميان كما تعصر من‬
‫أجسامهم مقومات الشهامة مبا تطرحه عليهم من فكر دوايب ومن‬
‫عادات جنسة‪ .‬فإذا حدث إن أفلت عنصر من عناصر جيوشنا‬
‫من سلطان الكماشة اجلاهلية املردية واستعمل القوة لنصرة احلق‬
‫وابطال الظلم يف بالد املسلمني‪ ،‬فإنه ال يهتدي إال إىل انقالب‬
‫ال يرى ماو وراءه ألننا مل نعلمه إال علم اجلاهلية‪ ،‬فريجتل ويكون‬
‫امسى ما يصل إليه أن يصبح بطال من أبطال التاريخ يتظاهر يف‬
‫العامل مع رؤوس الدول إىل أن تأتيه اهلزمية الشنيعة فتذله‪.‬‬
‫يف دار اإلسالم طبقة عسكرية هي مظنة القوة ومناط العمل‬
‫القوي غدا يوم ينبعث اإلسالم‪ ،‬شريطة أن ينزل الضابط إىل‬
‫الصف ويدع عنه الطغيان ويرأف باجلندي املسكني ويعلمه ويربيه‬

‫‪396‬‬
‫من حيث يتعلم هو منه ويرتىب‪ .‬وإن نظام جيوشنا املوروث عن‬
‫اجلاهلية التكاثرية نظام استعباد وقتل لألنفس واهلمم‪ ،‬وما مينعنا‬
‫أن جندد إال أننا قوم أموات فال ميكن امليت تغيري ما به‪ .‬وأمامنا‬
‫أمة حية يف الصني حررت اإلنسان فتحرر اجلندي والضابط‬
‫وتساويا يف إنسانيتها واحرقت تلك األشرطة وتلك األومسة‪ ،‬وقوى‬
‫االنضباط يف اجليش وتغريت العالقات تغريا كيفيا‪ .‬وانصرف اجلند‬
‫خلدمة األمة عنصرا حيا فعاال يعدى الناس كلهم بنشاطه وحيويته‬
‫وبساطته‪.‬‬
‫يشبه ماو اجلندي يف الشعب بالسمكة يف املاء‪ ،‬فالسمكة‬
‫ال حتس غربة يف املاء ألنه وسطها الطبعي وال جتد حرجا يف‬
‫التحرك‪ ،‬وهي أيضا ال تستطيع أن حتىي مستقلة عن املاء خارجة‬
‫منه مستعلية عليه‪ .‬فما ينبغي للبندقية أن تتحكم وإمنا عليها أن‬
‫تطيع‪ .‬يقول ماو ‪« :‬إن مبدأنا هو إن احلزب يأمر البنادق وال‬
‫يقبل أن تتآمر البنادق على احلزب»‪ .‬وكارثة أمتنا املبعثرة أنه ما‬
‫لدينا حزب واحد منذ أن تنكرنا حلزب اهلل الذي جيمعنا بل لنا‬
‫أحزاب هي بعض ما ابتليتنا به‪ .‬وليست هذه األحزاب حبيث يليق‬
‫أن يطيعها جندي شريف‪ ،‬وليس اجلندي حىت وأن ربوه على حتية‬
‫األشرطة واألومسة من اهلوان حبيث يأمتر ملن ليس هلم ضمري وال‬
‫نظافة وهلذا يأخذ جنودنا السالح وينقلبون عن الظلم مث يضعفون‬

‫‪397‬‬
‫عن محل األمر فيرتفون وينقلب عليهم زمالؤهم‪ .‬وإن االنقالبية‬
‫لسيف مصلت علىمرتيف هذه األمة املسكينة يسوقهم كرها ليفيئوا‬
‫إىل أمر اهلل‪.‬‬
‫إننا حباجة إىل قيادة جهادية قوية حتمل برهان صدقها بيدها‪،‬‬
‫يسكن القائد اجملاهد خيمة اجلهاد ويأكل طعام اجلندي املسكني‬
‫ويلبس ملبسه ويطوي بذلك ما بني القيادة واإلنسان من أومسة‬
‫وأشرطة‪ .‬وقد فعلت الصني هذا وهم كفار فياخجلتنا إذ مل نقدر‬
‫على سلوك سنة نبينا الذي جعله اهلل لنا اسوة‪ .‬ولو قد كنا مؤمنني‬
‫وكانت لنا قيادة مؤمنة جتلس على احلصري وتأكل الشعري إذا لوجدت‬
‫جيشنا قوة ترفع عماد الدين وتسمع مطيعة بالصدق واليقني‪.‬‬
‫يصف ماو كيف تكون اجلند املقاتلون احلمر‪ ،‬يقول ‪« :‬هذا‬
‫اجليش قوي ألن الرجال الذين منهم ينضبطون بنظام واع‪ .‬إهنم‬
‫تآخوا وهم يكافحون ال من أجل مصاحل خاصة وال من أجل فئة‬
‫معينة بل يكافحون من أجل اجلماهري الواسعة ومن أجل مصلحة‬
‫الشعب بكامله‪ .‬إن هدف اجليش إال وحد أن يكون جبانب‬
‫الشعب الصيين بقوة وأن خيدم الشعب الصيين من كل قلبه»‪.‬‬
‫إن وضوح املقصد وصدق القيادة يف طلبه هو الذي يكون‬
‫حلام اجلماعة اجملاهدة‪ .‬لنسمع كيف يرى ماو اجليش احملرر‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫«لقد التقينا هنا آتني من كل أقطار لنا هدف واحد مشرتك…‬

‫‪398‬‬
‫ينبغي ألطرنا أن هتتم بكل مقاتل وينبغي لنا كلنا يف صفوف الثورة‬
‫أن حينو بعضنا على بعض وأن حيبه ويساعده»‪.‬‬
‫كان اجليش الصيين ككل اجليوش يعرف نظام التجرب من‬
‫أعلى‪ ،‬فمر عليه عشرات السنني يربيه القائد العبقري وال يزال‬
‫يطلب مزيدا من الرتبية والتوعية‪ ،‬يقول ‪« :‬إن مبادئنا الثالثة‬
‫الكربى للعمل السياسي يف اجليش هي أوال ‪ :‬الوحدة بني الضباط‬
‫واجلنود‪ ،‬ثانيا ‪ :‬الوحدة بني اجليش والشعب‪ ،‬ثالثا ‪ :‬حتطيم القوى‬
‫املعادية»‪.‬‬
‫وشيئا فشيئا تعلم الضابط املعرفة احلق بيده وكف عن كربيائه‬
‫وطرح األشرطة واألومسة ولبس لباس اجلندي وتعب مثل تعبه وأكل‬
‫طعامه وسارت يف اجليش املعاين اإلنسانية واإلخوة والتعاون‪.‬‬
‫ملاو وللصني معه شعار القوة وهو «إن النصر على أطراف‬
‫البنادق»‪ ،‬وهو شعار يلخص دعوة ماركس واجنلز أن يكون‬
‫للربولتاريا جيش يكون رأس السهم يف الثورة وحيميها‪ .‬ويف‬
‫التجربة الصنية كان اجليش هو رأس السهم وهو اآلن حامي‬
‫الثورة‪ .‬وتتجلى محايته للثورة يف املشاركة العملية للشعب يف كل‬
‫امليادين‪ .‬إنه ليس جيشا قاعدا يف تكناته يتدرب يف الفراغ‪ ،‬بل‬
‫هو اجليش املكون للثالوث الثوري ‪ :‬احلزب والشعب واجليش‪،‬‬
‫إن للجندي وعيا بذاته وأمهيته‪ ،‬وذلك الوعي أغناه عن شارات‬

‫‪399‬‬
‫الرتب العسكرية‪ .‬إنه إنسان فاعل يف كل امليادين‪ ،‬فهو كان احملرر‬
‫الذي هزم العدو وهو اليوم العمود الفقري للثروة الثقافية والرتبية‬
‫العملية‪ .‬إنه يقرأ الفلسفة ويدير املعامل واملزارع مثلما حيفر احلقل‬
‫ويسوق عربة األرز ويدرب تالميذ املدارس ويعلم يف اجلامعات‬
‫كما يعلم الفالح األمي باألمي باألمس‪ .‬إنه عامل أساسي يف‬
‫البناء الثوري وحامل ألمانة الرتبية‪ .‬بيده سالحه الذي صنعه مع‬
‫العمال وبقلبه سالح معنوي سياسي‪ ،‬سياسي مبعىن التضحية‬
‫وخدمة الشعب ال كما ميارس املرتفون السياسة خداعا وتلبيسا‪.‬‬
‫اجلندي خيوض مع القائد العبقري معركة طويلة جدا هي‬
‫معركة الرتبية‪ .‬يقول ماو خياطبهم ‪« :‬جيب على رفقائنا أن يدركوا‬
‫أن إعادة الرتبية اإلديولوجية أمر بعيد املدى ينبغي أن نصمد‬
‫لتحقيقه بالصرب والدقة‪ .‬جيب أن ال نظن أن بضعة دروس أو‬
‫اجتماعات تستطيع تغيري اديولوجية تكونت يف عشرات السنني‪.‬‬
‫ال ميكن أن نقنع إال باحلجة وليس بالغط‪ .‬إن الضغط نتيجته‬
‫اإلخضاع ال اإلقناع وال تقبل بوجه الضغط بالعنف‪ .‬هذه الطريقة‬
‫ميكن أن نستعملها مع العدو ال مع الرفقاء واألصدقاء‪.‬‬
‫وهكذا نرى أن القوة يف الصني قوة عضالت فقط بل هي قوة‬
‫عقيدة وفكر قبل كل شيء‪ ،‬فإذا خدمت األوىل الثانية اجتمع‬
‫وازع السلطان بوازع معنوي فكانت طاقة ال تغلب‪.‬‬

‫‪400‬‬
‫الفقر والعفة‬
‫ لعل اإلنسان املعاصر أشد األجيال خبيبة املسعى اإلنساين‬
‫يف األرض وبعث كل هذه احلياة الصاخبة‪ .‬إن األثاث احلضاري‬
‫والرئي والتخمة ما زادت عقالء هذا اجليل إال أسى وحسرة على‬
‫ضياع اإلنسان وضعفه‪ .‬إنه يشعر بأنه مبتور ناقص وتعلم أن كل‬
‫األوهام «اليوتوبيات» اليت ولدها الفكر البشري ال تعوض نقص‬
‫الواقع اإلنساين وقصوره وقذراته‪ ،‬وتعلم أن أوهام الذين يتنبأون‬
‫بيوم فيه يغري اإلنسان جمرى التاريخ تغيريا كيفيا ليحقق سعادة‬
‫اإلنسان إمنا كانوا شعراء هائمني وإن كانوا يدعون العلمية مثل ما‬
‫إدعاها ماركس‪.‬‬
‫اإلنسان املعاصر الذي يشعر ويعرب عن خيبته إنسان جاهلي‬
‫عاقل‪ ،‬إنه جيهل العظيم النبأ الذي جاءت به األنبياء وهو نبأ‬
‫البعث وخلود اإلنسان‪ .‬جيهل هذا النبأ العظيم منذ تدهورت‬
‫املسيحية إىل دين كنسي لعبت فيه أهواء الكهنوت حىت جمه الناس‬
‫وحترر من الرمحة املسيحية فعنف فتشخص فيه شطرا اجلهل‪ ،‬هذا‬
‫اإلنسان اجلاهلي العاقل يلتمس كمال اإلنسان فال يستطيع أن‬
‫يتصور لإلنسان كماال إال على صعيد احلياة البهيمية‪ ،‬فاإلنسان‬
‫الكامل عنده هو الفالح القدمي الذي كان ينتج طعامه وكساءه‬
‫‪401‬‬
‫وجل حاجاته‪ ،‬واإلنسان املبتور الشقي ما كان كذلك إال من‬
‫جراء تقسيم العمل وطغيان اآللة ورأس املال على اإلنسان‪ ،‬فهو‬
‫منذ اليوم مستلب مشيا‪.‬‬
‫لعل اجلاهلي املعاصر العاقل يدرك حباسة مطموسة ما أخربنا‬
‫به اهلل عز وجل من أن اإلنسان يف كبد ويف خسر إال الذين آمنوا‬
‫وعملوا الصاحلات‪ .‬ولعله إذ يتدبر التجربة الصينية إمنا يسأهلا عن‬
‫هذا الفالح القدمي يف نظره‪ ،‬ما تفعل به وهل ستحتفظ له بالفقر‬
‫النظيف البطويل املتجلى يف الثورة الصينية وجتنبه كارثة احلضارة‬
‫اآللية الباترة لإلنسان‪ .‬فنلتقي حنن وهؤالء اجلاهليني يف املرقب‪،‬‬
‫حنن نتعجب من آية اهلل يف عباده الصينيني لنخجل‪ .‬نتعلم وهو‬
‫يبحث عن اليوتوبيا املستحيلة‪.‬‬
‫ألربتو مورافيا أكرب الكتاب واملفكرين اإليطاليني املعاصرين‪ .‬زار‬
‫الصني منذ سنوات يف فجر الثورة الثقافية وليس هو شيوعيا ينشر‬
‫الدعاية وال مغفال حيسب الرماد نارا‪ .‬لذلك حتدث عن الظاهرة‬
‫اإلنسانية الفريدة يف الصني حمتفظا بشكه يف مصري الثورة الصينية‬
‫متسائال هل تبلغ التجربة الصينية أن حترر اإلنسان حقا وهل تستطيع‬
‫أن تكسب تكنولوجية وحضارة صناعية دون أن ينزل ثقل كل ذلك‬
‫على اإلنسان فيربته ويشيئه ويقتل بذلك أمل البشرية يف اخلالص‬
‫والكمال‪ ،‬كما يرى هو الكمال يف منوذج الفالح القدمي‪.‬‬

‫‪402‬‬
‫يقول اجلاهلي العاقل يف مقدمة كتابه على شكل حوار‪: 1‬‬
‫س ‪ :‬أين يوجد اآلن أكثر أنواع الفقر إنسانية ؟‬
‫ج ‪ :‬يوجد يف الصني فيما أرى‪ ،‬ولكن يف الصني اآلن بالطبع‪،‬‬
‫يف هذه اللحظة بالذات‪ .‬فليس من املؤكد أن تريد الصني أو أن‬
‫تستطيع حتويل اليوتوبيا‪ ،‬اليت متثلها وجتسدها اليوم على حنو موقت‬
‫إىل واقع دائم‪ ،‬كما أنه ليس من املؤكد أيضا أن تبقى صني الغد‬
‫خاضعة لنفس الظروف اليت ختضع هلا اليوم‪ .‬فاليوتوبيا لكي تكف‬
‫عن أن تكون جمرد يوتوبيا وتتحول إىل واقع ال بد هلا من الدوام‪,‬‬
‫س ‪ :‬قل يل اآلن‪ ،‬أين يوجد أكثر أنواع الثراء ال إنسانية؟‬
‫ج ‪ :‬يف الغرب على ما أعتقد»‪.‬‬
‫ويتساءل الكاتب ما حيدث إن متت يف الصني الثورة الصناعية‬
‫وتراكمت رؤوس األموال ورفعت الرواتب وأنشئت صناعة خفيفة‬
‫تسمح بإنفاق الرواتب‪ .‬أميكن للصني مع كل هذا أن تتفادى‬
‫مصري الدول الغنية األخرى ؟ وجييب قائال ‪« :‬اليوتوبيا جيب أن‬
‫تصبح وعيا قبل كل شيء‪ .‬وطاملا وجد هذا الوعي فسوف يكون‬
‫احلل هو خلق اإلحساس بأن الثراء خطيئة وجرم وزلة»‪.‬‬
‫وحين اجلاهلي العاقل بعد هذا للمثالية وللدين‪ ،‬وإن كان‬
‫ال يعرف من الدين إال التاريخ الكنسي‪ .‬يقول ‪« :‬لقد جنحت‬

‫‪ 1‬ألربتو مورافيا ‪« :‬ثورة الصني الثقافية» ترمجة وحيد النقاش‬

‫‪403‬‬
‫املسيحية «لعدة قرون» يف أن جتعل من الفقر احلالة املثلى لإلنسان‬
‫وتلك نتيجة ال يستهان هبا حىت اليوم‪ .‬وذلك ألنين كما ينبغي أن‬
‫تضع يف اعتبارك‪ ،‬ال أتكلم عن كل هذا يف املطلق‪ ،‬خارج حدود‬
‫الزمان واملكان‪ ،‬وإمنا نسبيا‪ ،‬ويف عالقته مع الزمن والعامل الذي‬
‫نعيش فيه‪ .‬فاحلالة اليت كانت تقرتحها املسيحية كانت حمددة‬
‫بصفة «مثالية»‪ ،‬وأعرتف بأن ذلك كان حكما مسبقا عليها‬
‫بالفشل (يتحدث الرجل عن رهبانية األديرة) أما هذه املرة فيجب‬
‫أن ال جنعل من الفقر «حالة مثالية»‪ ،‬ينبغي أن يصبح الفقر احلل‬
‫الوحيد بالنسبة لإلنسان‪ ،‬حالته الواقعية والعادية»‪.‬‬
‫عم يبحثون عندما هبرهم الصيين النظيف األنيق يف سروايله‬
‫املرقعة ترقيعا فنيا؟ إهنم تذكروا قساوستهم الرهابنة فما وجدوا‬
‫عندهم هذا التقلل اجلماعي الذي يدعو إليه اإلسالم والذي‬
‫يطمحون إليه عند صني الغد‪ ،‬وهيهات ! وما نستطيع حنن‬
‫املسلمني أن نتعلم من آيات اهلل يف اآلفاق ومن عطائه غري‬
‫احملظور إال إن رسخ فينا النموذج الكامل حملمد صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وصحبه الذين كانوا فقراء أغنياء كاملني حق الكمال‪ ،‬ال‬
‫بالكمال األرضي املعاشي لكن بامتدادهم إىل اآلخرة وعيشهم‬
‫فيها بالشوق وبذكر اهلل وبالروحانية اليت خيلقها اهلل من الطينة‬
‫البشرية فتخلد نسورا بني يدي احلق وخيلد الغافلون يف اآلخرة‬

‫‪404‬‬
‫حطام جهنم إال أن يغفر اهلل‪ ،‬وهذا ما ال تشم اجلاهلية وال‬
‫تالمذهتا اخلانعون املرتفون رائحته‪.‬‬
‫ويصف الكاتب اإليطايل جمتمع االستهالك الغريب فيصور‬
‫عملية «التربز احلضاري» بواسطة االستهالك ومن أثر االستهالك‪،‬‬
‫ويصور استهالك احلروب وتبذير لإلنسان خريات األرض هتيئا‬
‫للحروب‪ .‬مث يصف العهارة اجلنسية يقول ‪« :‬اليوم‪ ،‬هنا‪ ،‬يف هذا‬
‫العامل بالذات‪ ،‬احلب والعالقات اجلنسية غريبة بعضها عن بعض‪،‬‬
‫بل هي أيضا متعارضة ومتعادية‪ .‬مل يعد «الفعل اجلنسي» شيئا‬
‫آخر سوى اإلنتاج…أما احلب فعلى العكس…إنه احلب‪ ،‬إنه‬
‫اإلبتكار والبحث واإلشراق والسمو والتالقي واخليال والتأمل‪ .‬إنه‬
‫كل شيء ما عدا اإلنتاج»‪.‬‬
‫لقد أدهشته النظافة اخللقية يف الصني اجلديدة‪ ،‬أدهشته كيف‬
‫أصبحت املرأة إنسانا مكرما حمتشما حييا وقد كانت باألمس‬
‫بضاعة خبسة‪ .‬وأدهشته العفة وتلق إىل مثاليات الغرب الشاعرية‪.‬‬
‫ولعل سرده ألوصاف احلب املتعاقبة املتالحقة ينم عن تقززه من‬
‫احنطاط اجملتمع املنتج املستهلك ومن أهدار اإلنسان اجلاهلي‬
‫لكرامته وكرامة جنسه بإقباله الدوايب على الشهوات‪ ،‬وحيلم أن‬
‫تلد الصني جمتمعا فقريا عفيفا نظيفا دائما‪ ،‬حيلم يف حتفظ شاك‪،‬‬
‫وجنزم حنن بأن اجلاهلية أبدا‪ ،‬وأن ما يبدو يف الصني من ظواهر‬

‫‪405‬‬
‫القوة والعفة والسمو اخللقي لن يقوى على مقاومة الثروة اآلتية‬
‫وسيطغى اإلنسان يف الصني إذا استغىن وسيلحق ركبهم اجلاهلي‬
‫بدرب اجلاهلية جاهلية اخلطوط املؤدى إىل حيث صارت القرى‬
‫اليت حصدها اهلل بكفرها وظلمها‪.‬‬
‫ال يغرنا أن قرية الصني يف هذه اللحظة من حلظات حتفزها‬
‫وتعبئتها قرية فريدة يف أسلوب عملها ويف كيفية عملها‪ .‬ال يغرنا‬
‫ذلك عن معرفة املصري الذي يرتقبها‪ ،‬كما ال يغرنا اجلهل باألعراض‬
‫عن آيات اهلل يف اآلفاق اليت يقص علينا نبأها على صفحات‬
‫العامل املعاصر‪ ،‬كما قص علينا نبأ القرى الغابرة يف صفحات‬
‫كتابه لنتدبر ونتعلم‪.‬‬
‫فماذا نتعلم من اجلاهلية ومن صني ماو؟ يسهل علينا التدبر‬
‫إن محلنا املنظار املنهاجي وفصلنا تدبرنا على حمور اخلصال العشر‬
‫املنهاجية‪.‬‬
‫‪ .1‬شعب وقائد‪ ،‬شعب كان متفككا مائتا إىل أن تيقضت‬
‫أرحيية خنبة من الشيوعيني أصحاب العقيدة التحررية ومن خالل‬
‫نضاهلم برز قائد عبقري كان وال يزال مناط التعلق العاطفي‬
‫للشعب‪ ،‬وحول شخصه تتبلور املثل العليا وإرادة العمل‪ .‬عبادة‬
‫الشخصية هم التعبري اجلاهلي عن تعلق الناس بالقائد‪ ،‬وهو تعبري‬
‫يدل داللة واضحة على أن شخص القائد أثرا يف حتريك السواكن‬

‫‪406‬‬
‫من الفكرة اليت حيملها‪ .‬أما القيادة اإلسالمية فيلزم أن تكون خالفة‬
‫للرسول ودرجة لصحبته وتكون طاعته من طاعة اهلل ورسوله‪ .‬وقد‬
‫تكونت يف جمتمع الصني اجلديدة عالقات اجتماعية جديدة هي‬
‫عالقات زمالة يف الكفاح ورفقة‪ ،‬فإىل ماذا تصري بعد موت القائد‬
‫وانقضاء الكفاح البطويل ؟ أتبقى حوافز التضحية ونكران الذات‬
‫وخدمة اجلماعة ؟ إن صحبة اإلسالم والطاعة والنصيحة واحملبة‬
‫أجدر بالبقاء على األيام ألهنا متتد إىل اآلخرة‪.‬‬
‫‪ .2‬التصور املاركسي للعامل واإلنسان أنتج مشروع الشيوعية‬
‫البطويل املأسوي‪ .‬هدفه التحرر من الظلم وغايته العيش الرخي‬
‫يف أحضان الشيوعية املنتصرة‪ .‬وتتخذ الغاية من العمل الشيوعي‬
‫يف الصني أبعادا إنسانية تربوية لكنها كغاية كل الشيوعيات ال‬
‫تتجاوز معاين األرض أبدا‪ .‬فاجلاهلي جيهل قيمة اإلنسان وال يرقى‬
‫إىل تصور خارج عن نطاق العلموية الوضعية اليت حتصر اإلنسان‬
‫يف دوابيته‪ .‬وهنا ال ميكن أن نقارن مقام اإلسالم مبوقع اجلاهلية‬
‫إال كما يقارن النور بالظالم واحلياة باملوت‪.‬‬
‫‪ .3‬هبرت الصني اجلديدة مالحظيها بشجاعة الصيين بعد‬
‫جبنه وأمانته بعد ندالته ونشاطه بعد كسله‪ .‬هذا التحول الشامل‬
‫من عادات االنكماش وهذه احلركة الدائمة يف األفكار وحول‬
‫األقطار تنم عن الروح اجلديدة احملركة للماليني السبعمائة‪ .‬وتتعلم‬

‫‪407‬‬
‫من هنوض الصينيني للعمل وصدقهم فيما هم فيه أن اإلنسان‬
‫الراكد ال ينبعث إال جبد العمل والقوة املوجهة‪ .‬من كان ذا مهة‬
‫تقبل املبادرة وتقدر عليها سارع إىل العمل‪ ،‬ومن أثقلته عاداته‬
‫فإنه يزج به يف ساعة العمل وينتقد ويرغم على نقد نفسه‪ .‬فإذا‬
‫محل على كتفيه من كان مرتفا منعما علمه التعب ما هي احلياة‬
‫فنبذ عاداته‪ .‬ويوم ينشر لواء اإلسالم ال بد أن يكمل صدق الرتبية‬
‫بوازع السلطان صدق الرتبية بوازع القرآن‪.‬‬
‫‪ .4‬يف اجملتمعات الراكدة ال توجد ثقة بشيء‪ ،‬اإلنسان‬
‫شحيح خائف ال يهمه إال أن يضمن لنفسه أكرب رخاء‪ ،‬فيمسك‬
‫ما بيده ويزاحم بقوته كلها على التملك فينشأ جمتمع الكراهية‬
‫املتناحر على املتاع واملتع‪ .‬اجلاهلية الرأمسالية تنظم هذا القتال على‬
‫امللكية تنظيما فوضويا‪ ،‬وتستقر الفوضى على أساس صراع دائم‬
‫مقبول معروفة قوانينه بني احملظوظني األذكياء‪ ،‬والعمال األقوياء‬
‫بقدرهتم على اإلضراب‪ ،‬وكل أشحاء أنانيون‪ .‬وتكسر االشرتاكية‬
‫الشيوعية أنانية التملك بنزع امللكية‪ ،‬وينيخ طاغوت الدولة بكلكه‬
‫على الناس‪ .‬وبني طاغوت الدولة وفوضى اللربالية ال تزال اجلاهلية‬
‫تبحث عن حل فال جتد وال يغطي محاس الصيين املضحي بنفسه‬
‫يف سبيل اجملتمع األنانية املتأصلة اليت ال ميحوها إال املنهاج النبوي‬
‫والتزكية اإلسالمية‪.‬‬

‫‪408‬‬
‫‪ .5‬من السهل أن حتمل شعار «العلم واإلميان» كما يفعل‬
‫بعض زعمائنا‪ ،‬لكن الصعب حقا أن تعلم أمة جاهلة بأسرها‬
‫كما فعلت الصني‪ .‬الفالح األمي منذ اآلالف السنني تعلم برغبة‬
‫زائدة وتعلم علما هو رمز املرتفني وهو الفلسفة‪ .‬كانت فلسفة‬
‫بسيطة واضحة لكنها أعطته شعورا جديدا بكرامته وزادته ثقة‬
‫بنفسه‪ ،‬ألن مبدأها األول هو أن املعرفة احلق تأيت من املمارسة‬
‫ومن العمل اليدوي اليومي‪ .‬سبق اإلميان العلم يف الصني‪ ،‬آمنوا‬
‫بالشيوعية بعد أن أمسكت الزمام وأطعمت اجلائع وحررت العبد‪،‬‬
‫فانطلقوا يتسابقون يف فك رموز الكتيب األمحر ومحلوه يلوحون‬
‫به يف كل املناسبات‪ .‬ولقد قال سيدنا عبد اهلل بن عمر ‪ :‬أوتينا‬
‫اإلميان قبل القرآن‪ .‬فإذا تعلمنا املنهاج النبوي الذي يعملنا من‬
‫أين نبدأ وكيف نكسب اإلميان انبعثت لنا حركية خليقة أن تدلنا‬
‫على سبيل التعلم ومن التعلم ينبثق كل اخلري‪.‬‬
‫‪ .6‬السياسة يف الصني هي العمل املطلق‪ ،‬هلا األسبقية على‬
‫كل نشاط‪ ،‬لكنها ال تعين التخبط وتسخري املغفلني والكذب‬
‫بالوعود اهلائلة‪ .‬السياسة لدى الصيين كشف للحقيقة اإلنسانية‬
‫األوىل اليت تراها الشيوعية ومتيها استغالال طبقيا وتسميها القرآن‬
‫تكاثرا وظلما‪ .‬فإذا انكشفت هذه احلقيقة ووصف طريق التخلص‬
‫من وباء الظلم حتررت اإلرادة وحتررت الطاقات ولنخجل حنن‬

‫‪409‬‬
‫املسلمني أن أراد الوثنيون وعملوا وجنحوا على ضالالهتم وتبلدنا‬
‫حنن وقعدنا عبيدا لكسلنا مل نتعلم كيف نزيل عنا ظلم الظاملني‪.‬‬
‫‪ .7‬يرى الرأمساليون أن احلرية الفردية جتد صيغتها املثلى يف‬
‫حرية التملك‪ ،‬واملثل األعلى للحرية يف نظر الشيوعيني هو حلم‬
‫زوال الدولة وتوزيع الرزق مع الرخاء العام‪ .‬واجلاهليتان ما انفكتا‬
‫على ما يظهر من تباين يف املبادئ متشاهبتني حذو القذة بالقذة‪.‬‬
‫وماهم روسيا إال أن تنتهب حظها من خريات العامل مع مثيلتها‬
‫وأن ترفع «مستوى املعيشة»‪ .‬وتزعم الصني أن مذهبها العمل‬
‫التجرييب حترر من أشكال اجلاهليات األخرى ومن حمتواها‪ .‬وينبغي‬
‫أن يتعلم كيف جيدد حترره بشكل جديد من أشكال العمل هو‬
‫«الثورة الثقافية»‪ ،‬تلك ميزة ال شك فريدة‪ ،‬ولقد حطمت هذه‬
‫الثورة أصنام االحتكار التكنولوجي وحطمت العادات‪ ،‬لكن هل‬
‫مست اإلنسان يف صميمه‪ ،‬وهل غريت حقيقته فنقلته من معىن‬
‫دابة إنسانية إىل معىن العبودية هلل يف دار اخللد ؟ إن املسلم إن‬
‫سعى للمسجد فإمنا سعى لبيت ربه سيده‪ ،‬فسمته بذلك مست‬
‫خملوق سام فريد ال شبه بينه وبني اجلاهلي إال السحنة وخلق‬
‫الرمحن اإلنسانية‪ ،‬مث إن ذلك حي وهذا ميت‪.‬‬
‫‪ .8‬يدعو زعيم الصني للجد واحلزم‪ ،‬وجتد يف كالمه قسوة‬
‫أحيانا‪ .‬ومع ذلك فأهم ما مييز أسلوب العمل الصيين هو الرفق‪.‬‬

‫‪410‬‬
‫وما استغنت املاركسية بعد لينني كما استغنت بالفكرة املاوية يف‬
‫حل التناقضات الداخلية بالصلح والرفق‪ .‬هلذا فلعل إعادة تربية‬
‫املرتفني مليدان الكد مع العمال والفالحني بدل رفعهم للمشانق‬
‫أهم ما ميكن أن نتعلم من الصني ليؤمنا املوعود‪ .‬وسنكون أمة‬
‫الرفق وأمة التؤدة النبوية وسط عامل العنف‪ .‬ولنا أيضا درس‬
‫يف رفق اجليش الصيين وكسره لوثنية الشارات واألومسة مع القوة‬
‫واالستعداد الدائبني‪.‬‬
‫‪ .9‬رأينا أن مفكرا غريبا تأمل طويال فقر الصيين ونظافته‬
‫اخللقية وحامت حول ما رآه آمال يف حترير اإلنسانية املثقلة‬
‫ببضائعها املشيئة املسخرة ومن تقلل الصينيني املفروض بفقر‬
‫البالد تغذى الشعور البطويل‪ ،‬ومن أجله اختارت الصني طريق‬
‫االعتماد على النفس يف بناء اقتصادها‪ .‬وتوقدت العزائم وبلغت‬
‫اإلرادة أوج مضائها عند الصغري والكبري‪ ،‬فأبدع كل إبداعه وصنعوا‬
‫آالت أكثر اتقانا من آالت أرباب التكنولوجية ابتداء من الصفر‬
‫وبوسائل الفقري املدخر لكل قطعة ولكل مسمار ولكل قرش‪.‬‬
‫وهذا لنا درس كبري‪.‬‬
‫‪ .10‬للصني شعار حركي يشري إىل اجتاه العمل الثوري‪ .‬ذلك‬
‫هو ‪« :‬الصراع – والنقد‪ -‬والتغيري»‪ .‬ومعىن هذا أن الطبقة املسكينة‬
‫تفتح أعينها لتعيد حكمها على العامل مث تقبض على املبادرة لتغيري‬

‫‪411‬‬
‫العامل‪ .‬جياهد الصيين ليحرر اإلنسانية فذلك مرمى طموحه وغاية‬
‫جهوده‪ .‬وأمة اإلسالم يف غدها املشرق الذي أظل زمانه ستتحرك‬
‫بنية جهادية خلف قيادة جهادية يبدل اهلل جل جالله هبا قياداتنا‬
‫املرتفة‪ ،‬فتفتح األمة أعينها لتتميز عن اجلاهلية والكفر‪ ،‬ولرتيب‬
‫األنفس وتقدح اإلرادات وتتوحد على احلق لتحمل لواء اجلهاد‬
‫الدعوة والقيام بالقسط وسط عامل حائر‪ .‬ولن يعوقها عن القيام‬
‫ما يظهر من ضياعها على مائدة اللئام ومن خلفها وضعها فإن‬
‫اهلل هو اخلالق الباعث تقدس امسه‪.‬‬

‫‪412‬‬
‫الفصل الرابع‬

‫طريق إىل التجديد‬

‫‪413‬‬
‫هتافت الفالسفة‬
‫ مضى القرن األول من اإلسالم فكان عصر البعثة اإلسالمية‬
‫عصر النورانية والرتبية مث حتول عصر الفتنة العظمى يزيد من نكرها‬
‫قرب العهد بالرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم وجالل الصحابة‬
‫الكرام الذين طحنتهم رحاها رضي اهلل عنهم أمجعني‪ .‬ويوضح‬
‫لنا كل ذلك أن اإلنسان ضعيف خلقه اهلل ضعيفا‪ ،‬فهو يقتحم‬
‫العقبة إن بعث اهلل له نبيا فصدقه واتبعه‪ ،‬وال تنتهي العقبة إال‬
‫باملوت‪ .‬فاملؤمن ينصب وإىل ربه يرغب وهو مسؤول عن أعماله‬
‫بنياته ال بنتائج اجتهاده‪ .‬فإن طال عليه األمد بعد البعثة النبوية‬
‫فقد يقسو عليه قلبه وقد يكون آنئذ أشد الناس حاجة ملن جيدد‬
‫له إميانا وتربية‪ .‬وهلذا تعاقب أنبياء اهلل يف الناس جيددون هلم حىت‬
‫ختم اهلل الرساالت بنبيه املصطفى حممد صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫وهو أخربنا بأن اإلميان يبلى فيتجدد بال إله إال اهلل‪ ،‬وأخربنا أن‬
‫اهلل يبعث هلذه األمة من بعده جمددين على رأس كل مائة سنة‪.‬‬
‫وهكذا رسم لنا خطى اللقاء الدالني على اجملدد‪ .‬فهو رجل قبل‬
‫كل شيء شخص مفرد كما يليق بالنموذج الرتبوي‪ ،‬وهو ال ميلك‬
‫أن جيدد إال إن كان صاحب الكلمة الطيبة اليت هي أعلى شعب‬
‫اإلميان‪ .‬فمن كان ميلك أن يقول للناس ‪« :‬قولوا ال إله إال اهلل‬
‫‪414‬‬
‫تفلحوا» ويفلحون إن قالوها كما أفلح من اتبع الرسول‪ ،‬فذاك‬
‫جمدد فيه مزيتا التعريف النبوي‪.‬‬
‫ يف آخر القرن األول ظهر موالنا عمر بن عبد العزيز فكان‬
‫رجل التزكية والصحبة والذكر والعبادة‪ ،‬التزم أحضان شيخه‪-‬قبل‬
‫أن خترتع املصطلحات الصوفية‪-‬وهو سيدي عطاء ابن حيوة‪ ،‬حىت‬
‫اكتمل رجال‪ .‬فأعاد اهلل به لألمة املفتونة ألالء العدل وإشراق‬
‫اإلميان‪ .‬مث انطمست تلك الشمس يف عني الفتنة احلمئة‪.‬‬
‫ومضى الثالثة القرون من بعد ذلك فتقعد الفقه الشرعي كما‬
‫تقعد نظام احلكم دولة عاضة كما أخرب الرسول الكرمي صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وذهبت معاين اخلالفة النبوية وحلت حملها ملكية‬
‫وراثية تتسمى باالسم وحتمل الرموز وتتمرد يف قصورها على شرع‬
‫اهلل‪ .‬وتوسعت الدولة يف األرض فقل املؤمنون وحتولت اجلماعة‬
‫جمتمعا وعز الصاحب احملسن وعزت الرتبية اإلسالمية‪ ،‬وانزوى‬
‫املؤمنون أهل القرآن والسنة الكاملة فسموهم صوفية وعبادا‪ .‬أما‬
‫الدولة املقعدة فكان ال بد هلا من عقيدة مقعدة‪ .‬ومن هنا نشأ‬
‫«علم التوحيد» ومن هنا نشأ «علم الكالم»‪.‬‬
‫كان اإلسالم إذعانا ألمر اهلل القائم به املؤمنون ومشاركة‬
‫يف عبادة اجلماعة املؤمنة وحياهتا العامة بالطاعة‪ .‬وكان اإلميان‬
‫يأيت الناس قبل القرآن‪ ،‬يأتيهم من الصحبة ويعديهم من جمالسة‬

‫‪415‬‬
‫املؤمنني يف جمالس الذكر والعلم اليت مساها الصحابة «جمالس‬
‫اإلميان»‪ .‬فلما ورد على اإلسالم أقوام يسألون ويتفرعون يف السؤال‬
‫ويشكون ويبذرون بذور الفلسفة املشككة‪ ،‬طلع علماء املسلمني‬
‫بعقدية جافة حولت العقيدة من السياق اإلنساين املتكامل عاطفة‬
‫وعقال وحمبة إىل جانب العقل‪ ،‬فمنذئذ جيب على املسلم أن يعتقد‬
‫كذا وكذا‪ .‬كل ذلك قمني أن يتناسب مع النظام يف الدولة وأن‬
‫يدمج الدين يف العمل العام ملا أصبح الدين جزءا من العمل ال‬
‫كل العمل‪ .‬واستقى الناس العقيدة من درس التوحيد ال من القرآن‬
‫مباشرة‪.‬‬
‫ذهب ذلك الفيض النوراين الذي عاش يف ظله الصحابة‬
‫الكرام من احلياة العامة وانزوى يف املساجد والرباطات‪ ،‬وبرز العلم‬
‫الشرعي يف ميادين القضاء وصرف شؤون الدولة‪ .‬وتشعب العلم‬
‫النبوي املوروث شعبتني‪ ،‬علم ظاهر هو علم السلوك العبادي‬
‫واملعامالت وعلم إمياين تربوي مسي أصحابه صوفية‪.‬‬
‫فأما علماء الظاهر فاختلفوا يف جزئيات الشريعة وانتهى األمر‬
‫يف انتصار املذاهب األربعة‪ ،‬واختلفوا يف االستدالل على الكليات‬
‫فظهر املعتزلة وانتهى األمر إىل انتصار عقيدة األشعرية‪.‬‬
‫وأما أصحاب علم الباطن فكان منهم الشيعة الذين رفضوا‬
‫كل والء إال الوالء ألهل البيت من األئمة املطهرين‪ ،‬وظهرت‬

‫‪416‬‬
‫علوم الصوفية أصحاب التزكية والذكر يأخذ الناس علمهم ميتا‬
‫عن ميت ويأخذون علمهم عن احلي الذي ال ميوت كما يقول‬
‫إمامهم اجلنيد رضي اهلل عنه‪ .‬وللقاصر املنكر للتحديث الذي‬
‫خيتص اهلل به أولياءه كما للباحث عن طراوة اإلميان أن يرى يف‬
‫قول اإلمام انكارا لإلبتعاد عن املعني اإلهلي للحق وهو القرآن‬
‫واالشتغالل بالكالم‪ .‬ولطالب احلق أن يتدبر علوم القوم عله جيد‬
‫من أنفاسهم ربح احملبة اإلهلية وذكر اهلل به يتميز من هلم باإلمام‬
‫األعظم صلى اهلل عليه وسلم األسوة احلسنة‪.‬‬
‫ومن بني أنصار الشيعة النبوية الصادقني وأهل الطريق نشأت‬
‫رؤوس الفتنة الباطنية من املعطلة أعداء الدين ومن أصحاب‬
‫التأويل‪ .‬ما منهم إال من يلتصق بأهل احلق ويظهر مبظهرهم‪.‬‬
‫أما الفالسفة فقد اختذوا هلم إماما جاهليا هو أرسطو‪ ،‬أعظموه‬
‫ملا رأوا آالته العقالنية اللماعة يف نظرهم‪ .‬ومارس الفلسفة رجال‬
‫مؤمنون فتفعلوا تفعال شديدا يف حماولة الصلح بني العقل والغيب‪،‬‬
‫ومارسها آخرون يف قلوهبم مرض فدسوا الكفر واإلحلاد يف صيغهم‬
‫وأشكاهلم اجلاهلية‪ ،‬وبثوا يف املسلمني بذور الوثنية العقالنية حىت‬
‫نبغ منهم جمدد القرن اخلامس اإلمام الغزايل رمحه اهلل‪.‬‬
‫نشأ الرجل يف بيئة الفتنة املتعددة الوجوه واأللوان‪ ،‬فدولة‬
‫وراثية اختذت القرابة النبوية واجهة لالستبداد أدركها الغزايل وهي‬

‫‪417‬‬
‫يف طور االهنيار‪ ،‬وفكر جاهلي طاغ متأله ميثل أشباه «إخوان‬
‫الصفا» وانشقاق يف األمة مزمن يندس يف شطريه الرئيسيني دعاة‬
‫الباطل املتلبسون باحلق من باطنية كافرة ومتصوفة متسولة طفيلية‬
‫منافقة‪.‬‬
‫درس الغزايل علوم عصره فنبغ يف كلها وكان له صيت وجمد‬
‫علمي‪ .‬لكن مهته كانت ال تقف عند حد وتتطلع للحق والسعادة‬
‫واليقني‪ .‬ما أقنعته الفلسفة اجلافة الشاكة املشككة وما أقنعه‬
‫املنقول امللفوظ من علوم زمانه‪ .‬تكونت له إرادة فاستحق اسم‬
‫مريد وذهب حيث يذهب املريدون يلتمس إسالما حيا ويفتش‬
‫عن رجل مؤمن يعلمه‪ .‬وقص علينا الغزايل كيف أتاح اهلل له حمبة‬
‫«متبوع مقدم» على حد تعبريه وكيف ذكر اهلل بني يديه وكيف‬
‫انكشف عنه حجاب الغفلة‪ ،‬وكيف جاءه العلم اللدين الذي‬
‫يلوح به أحيانا ويفصح أحيانا وإن كان مل يبلغ يف ذلك ما بلغه‬
‫املتأخرون‪.‬‬
‫إن الغزايل وجه بارز من وجوه املؤمنني الداعني إىل اهلل اجملددين‪،‬‬
‫ومن فالسفتنا املعاصرين من يتهمه بأنه كان سببا عظيما من‬
‫أسباب تدهور املسلمني ألنه صرفهم عن احلياة العامة ودهلم على‬
‫اخلالص الفردي التزكية الفدرية‪ .‬وخنشى أن يكون هتافت هؤالء‬
‫أكثر من هتافت الفالسفة الذين سبقوا الغزايل وعاصروه فاستحقوا‬

‫‪418‬‬
‫منه نقدا حارب فيه عامل املسلمني خصومه بأسلحتهم‪.‬‬
‫يفيدنا وحنن نبحث عن طريق للتجديد يف عصرنا هذا عصر‬
‫الفتنة املنتشرة كانتشارها ذاك أو أشد أن خنترب معامل التجديد‬
‫عند اإلمام علنا نتعلم من تارخينا درسا‪ .‬إن الفلسفة يف عصرنا‬
‫ولدت أجياال من الفكر مسيت علوما واستقلت وترعرعت حىت‬
‫قويت بنظرياهتا ومنجزاهتا اجلبارة‪ .‬فيبدو أن للفلسفة هبذا املفهوم‬
‫الواسع يف عصرنا سطوة مل تكن هلا من قبل‪ ،‬ويبدو أن مشروع‬
‫نقد الرياضيات واملنطق واإلهليات مثلما نقد اإلمام مشروع لن‬
‫ننتهى منه لو شرعنا فيه حىت يفوتنا العمر وتفوتنا فرصة لقاء كلمة‬
‫احلق‪ .‬ونصرف جهودنا وجهادنا لتعلم احلكمة من بني وثنيات‬
‫العقالنية‪.‬‬
‫وإن لقاء كلمة احلق لعمل فطري سنده الوحيد هو القلب‬
‫الصادق املؤمن املتزكي‪ .‬كتب الغزال كتبا كثرية وبسط يف إحيائه‬
‫طريق التزكي وطلب اآلخرة‪ ،‬اشتد يف ذلك على منط السلوك‬
‫باجملاهدة‪ ،‬وطلب األسوة من رسول اهلل وصحبه طاويا أربعة قرون‬
‫ونيفا‪ ،‬لكنه ما انفك تلميذا ألجيال الصوفية الذين سبقوه‪ .‬أخذ‬
‫عنهم الزهادة وأخذ عنهم اخللوة اليت قد متتد العمر كله‪ .‬لكنه‬
‫قال كلمة احلق وبلغها أحسن التبليغ حني دلنا على أصحاب‬
‫احلق وأعلن أنه وجد احلق مع الصوفية بعد حبث وطلب جادين‪.‬‬

‫‪419‬‬
‫وقال كلمة احلق حني أثبت تباين العقل والغيب وأرشد إىل ضرورة‬
‫خضوع العقل للغيب الذي هو طور ما فوق العقل‪ .‬وقال كلمة‬
‫احلق حني حدثنا عن جتربته بصدق وقال ‪« :‬حدث يل كذا وكذا‬
‫ورأيت كذا وكذا» ومثل هذه الشهادات قليلة يف تارخينا‪ ،‬ألن‬
‫كثريا من أصحاهبا يكتمون األسرار خمافة فتنة الناس‪ .‬ولو قد فعل‬
‫كل جيل ما فعله أمثال الغزايل وسيدي عبد العزيز الدباغ األمي‬
‫واإلمام الشعارين الحتفظ املسلمون باللب الذي ال تسعه السطور‬
‫إال إشارة ويسعه قلب العبد املؤمن الذي تصحبه فيصيبك من‬
‫صدقه ما يصيبك وتتعلم منه إن ذكرت اهلل صادقا يف طلبك‪.‬‬
‫قال الغزايل‪ « : 1‬ودمت على ذلك مقدار عشر سنني‪،‬‬
‫وانكشف يل يف أثناء هذه اخللوات أمور ال ميكن إحصاؤها‬
‫واستقصاؤها‪ .‬والقدر الذي أذكره ينتفع به‪ .‬إين علمت يقينا أن‬
‫الصوفية هم السالكون لطريق اهلل تعاىل خاصة‪ ،‬وأن سريهتم أحسن‬
‫السري‪ ،‬وطريقهم أصوب الطرق‪ ،‬وأخالقهم أزكى األخالق‪ .‬بل لو‬
‫مجع عقل العقالء‪ ،‬وحكمة احلكماء‪ ،‬وعلم الواقفني على أسرار‬
‫الشرع من العلماء ليغريوا شيئا من سري أخالقهم ويبدلوه مبا هو‬
‫خري منه مل جيدوا إىل ذلك سبيال‪ ،‬فإن مجيع حركاهتم وسكناهتم‬
‫يف ظاهرهم وباطنهم‪ ،‬مقتبسة من نور مشكاة النبوة‪ .‬وليس وراء‬

‫‪ 1‬املنقذ من الضالل ص‪131 .‬‬

‫‪420‬‬
‫نور النبوة على وجه األرض نور يستضاء به»‪.‬‬
‫وقال‪« : 1‬اعلم أن من انكشف له شيء ولو الشيء اليسري‬
‫بطريق اإلهلام والوقوع يف القلب من حيث ال يدري فقد صار‬
‫عارفا بصحة الطريق‪ .‬ومن مل يدركه بنفسه قط فينبغي أن يؤمن‬
‫به‪ ،‬فإن درجة املعرفة فيه عزيزة جدا‪ .‬ويشهد لذلك شواهد الشرع‬
‫والتجارب واحلكايات»‪.‬‬
‫وجاء الغزايل بعد هذا الكالم بشواهد على إمكان التجربة‬
‫الشخصية من القرآن والسنة وأخبار الصاحلني من الصحابة‬
‫والتابعني‪ .‬وهو يدعو كما نرى إىل الصحبة والصدق يف الطلب‬
‫ويرجع للقرآن معرضا بعلماء الرسوم الذين يسميهم «املتومسني من‬
‫العلماء» وهم الواقفون عند احلرفية املنقولة الذين ال يعنيهم من‬
‫احلق إال رمسه‪.‬‬
‫بكل هذا يكون الغزايل رجال يقول ال اله إال اهلل ويدل عليها‬
‫فله من مسات اجملدد أمارات علمناها رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ .‬وله من تأييد اهلل له حيث نفع به أجياال عظيمة من‬
‫املسلمني وخلد له يف الصاحلني ذكرا‪.‬‬
‫أما غناؤه يف اإلسالم وأثره يف إحياء األمة وبعثها من ركام‬
‫الفتنة فغاية حاول بلوغها بوسائله ويف حدود ظروفه‪ ،‬فإن كان مل‬
‫يبلغ أن جيدد اإلسالم فينقل عمل املسلمني من املشروع الفردي‬

‫‪421‬‬
‫للمشروع اجلماعي فمرد ذلك النفراد الدعوة اليت قام هبا ولغياب‬
‫الوازع السلطاين‪ .‬فقد كان اخللفاء من بين العباس سادرين يف‬
‫غفلتهم مل يلقوا باال إىل ما يعلمه اإلمام من شروط اإلمارة‬
‫ومل يستجيبوا‪ .‬وكان من رفقه رمحه اهلل أن عقد فصال يف كتابه‬
‫«فضائح الباطنية» عنونه كما يلي ‪« :‬الباب التاسع يف إقامة‬
‫الرباهني الشرعية على أن اإلمام القائم باحلق الواجب على اخللق‬
‫طاعته يف عصرنا هذا هو اإلمام املستظهر باهلل حرس اهلل ظالله»‪.‬‬
‫يف زمن فتنة خرج الغزايل من عزلته وخلوته بعد تردد وكتب‬
‫إحياءه فضمنه نقدا ألحوال العامة واخلاصة‪ ،‬ونقد امللوك واألمراء‬
‫ونعى عليهم ظلمهم‪ .‬فكان كتابه إرشادا خلقيا بقدر ما كان‬
‫دعوة عامة إلصالح األمة‪ .‬دعا رمحه اهلل إىل العلم والرفق وذكر يف‬
‫كل صفحة بضرورة متريض القلوب وتطبيبها‪ ،‬ووضع أصبعه على‬
‫موطن الداء املزمن منذ عصره‪ ،‬والذي استفحل منذئذ بالتكديس‬
‫التارخيي لرتاث الفتنة‪ ،‬وعندما افتقد أطباء للقلوب فلم جيد إال‬
‫طالبا للدنيا‪ .‬قال ‪« : 1‬فإن األطباء هم العلماء» للقلوب وقد‬
‫استوىل عليهم املرض‪ ،‬فالطبيب املريض قلما يتلفت إىل عالجه‪.‬‬
‫فلهذا صار الداء عضاال‪ ،‬واملرض مزمنا‪ .‬واندرس العلم‪ ،‬وأنكر‬
‫بالكلية طب القلوب وأنكر مرضها‪ ،‬وأقبل اخللق على حب الدنيا‬

‫‪ 1‬إحياء علوم الدين ج ‪ 3‬ص‪20 ,‬‬

‫‪422‬‬
‫وعلى أعمال ظاهرها عبادات وباطنها عادادت ومراآت»‪.‬‬
‫وقال‪ « : 1‬باجلملة إمنا فسدت الرعية بفساد امللوك‪ ،‬وفسد‬
‫امللوك لفساد العلماء‪ .‬فلوال القضاة السوء والعلماء السوء لقل‬
‫فساد امللوك خوفا من إنكارهم»‪.‬‬
‫هكذا نرى أن الفتنة يف عصرنا هي الفتنة دائما‪ .‬ونرى أن‬
‫ديدان القراء هم دائما عبدة الطاغوت‪ ،‬كان صنفهم يومئذ من‬
‫العلماء وهم اليوم من علماء الرسوم ومن «املثقفني» مييت العقل‬
‫واهلمة‪ .‬وال يزال امللوك واألمراء ومن يف معناهم كما عرفهم الغزايل‪.‬‬
‫ مل يلق اإلمام استجابة من الناس‪ ،‬ومل يلق قيادة جهادية‬
‫تتقبل الدعوة وحتملها كما محل األنصار الكرام دعوة رسول اهلل‬
‫وجاهدوا عليها حىت انتصر احلق‪ .‬وصرب اإلمام طويال ينتظر من‬
‫أمثال املستظهر أن يهبوا لنصرة اإلسالم فكان كنافخ يف رماد‪.‬‬
‫فلما طال به االنتظار وأعيته سبل الرفق‪ ،‬يربهن تارة على أن‬
‫املستظهر حق وينسب الفساد للملوك واألمراء تارة‪ ،‬حزم أمتعته‬
‫لريحل إىل جمدد العصر الكامل الذي مل يكن له علم الغزايل وكان‬
‫له توفيق اهلل وكان له القلب الطاهر قلب اجملاهدين يف سبيل‬
‫اهلل‪ .‬إنه أمري املسلمني يوسف بن تاشفني‪ .‬رباه الصوفية وأحيوا‬
‫قلبه بصحبتهم الزكية‪ .‬وذكر اهلل فخرج رجال صادقا جماهدا بعثه‬

‫‪ 1‬إحياء علوم الدين ج ‪ 3‬ص‪54 ,‬‬

‫‪423‬‬
‫اهلل رمحة فأحيا األمة كما سيبعث اهلل لنا إماما يوقظنا من الغفلة‬
‫وجيدد لنا ديننا‪ .‬فوعده احلق‪ ،‬وترقبه صدق‪ ،‬وما اهلل بغافل عما‬
‫يعمل الظاملون‪.‬‬
‫ وتويف ويل اهلل تعاىل اجملاهد أمري املسلمني قبل أن يلحق به‬
‫حجة اإلسالم وإمام العلماء‪ .‬فرمحهما اهلل ورمحنا‪.‬‬
‫ لقد قوي الرجالن على الفتنة واقتحما العقبة بصحبة‬
‫الصادقني‪ ،‬ذاك ملك الدنيا فأهاهنا كما أهاهنا موالنا اإلمام علي‬
‫بن أيب طالب كرم اهلل وجهه‪ ،‬وهذا خاض تيار الفتنة من بني‬
‫املرتزقة من ديدان القراء املتملقني ومن بني ملوك وأمراء متسلطني‬
‫يفيت بأن أمواهلم حرام كلها أو جلها‪ ،‬ويفضح هنب الوزراء وأرباب‬
‫الدولة ملال املسلمني ويأمر باملعروف وينهى عن املنكر‪ .‬وقيض‬
‫اهلل له وبه رجال أمر باملعروف وهنى عن املنكر‪ ،‬وخاض الفتنة‬
‫كما خاض شيخه وهو السيد الكرمي حممد بن تومرت‪ .‬فبعد‬
‫وفاة اجملاهد العظيم ابن تاشفني عادت أمور األمة لغي وفساد‬
‫واستحال جهاد أمري املسلمني مزامحة على امللك‪ ،‬وما قامت‪،‬‬
‫خالفة نبوية دائمة بل قامت دولة بنت القصور وأفسدت األمور‬
‫فسلط اهلل عليها سوط العذاب بيد رجل ال زال التاريخ جيهله وإىل‬
‫الشعوذة ينسبه‪ ،‬أعين حممد بن تومرت الذي جتد يف كتب التاريخ‬
‫من القدح فيه حتامال فظيعا‪.‬‬

‫‪424‬‬
‫كلمات خترق السكون‬
‫ متضي مثانية قرون على املسلمني منذ الغزايل استمر فيها‬
‫احنسار اإلسالم عن ميدان العمل إال يف بقعة واحدة من بقاع‬
‫دار اإلسالم هي بالد الدولة العثمانية‪ .‬مثانية قرون قيض اهلل فيها‬
‫عباده الكافرين من التتار فاقتلعوا جذور احلضارة وأفنوا املسلمني‪،‬‬
‫وأصاب اهلل بفتنتهم املظلوم والظامل جزاء وفاقا لألعراض املسلمة‬
‫املنتهكة يف القصور وحلرم اهلل اليت أهينت‪ .‬فلوال كان من املؤمنني‬
‫أولو بقية ينهون عن الفساد يف األرض ملا أجنى اهلل بفضله حشاشة‬
‫من هذه األمة‪ .‬وإهنا ألمة رسوله احلبيب‪ ،‬حقت هلا شفاعته‬
‫وحلقتها عناية اهلل بأهل بيته املطهرين‪.‬‬
‫ ومن أهل البيت سلمان الفارسي ومنهم جند اهلل من‬
‫املماليك العجم الذين كانوا يتلون آيات اهلل ويذكرون اهلل ويعظمون‬
‫أهل البيت من أمثال الشيخ أمحد البدوي رضي اهلل عنه الذي كان‬
‫الظاهر بيربس خيرج للقائه جبنده يعظمه ويتربك به‪ .‬فال عجب أن‬
‫حمق جند اهلل املؤمنون جنده الكافر‪ .‬وال عجب أن أسلم التتار‬
‫على يد أهل البيت رجال الطريق الصوفية‪.‬‬
‫ وكانت آية اهلل التالية بعد اندحار التتار مث إسالمهم أن‬
‫بعث اهلل من هؤالء العجم البداة أمة جماهدة كان درة عقدها ويل‬

‫‪425‬‬
‫اهلل تعاىل اجملاهد يف سبيله سيدي حممد الفاتح العثماين‪.‬‬
‫ ال عجب أن يكون ذلك كذلك‪ ،‬فإن حممدا العثماين كان‬
‫امرءا صاحب األخيار‪ ،‬ومل يفتح القسطنطينية إال بإذن شيخه‬
‫السيد اجلليل « آق مشس الدين» أمره بأن يصوم وجنده ثالثة‬
‫أيام‪ ،‬مث استفتح بالتكبري والتهليل‪ ،‬وخرت من بعد ذلك أسوار‬
‫اجلاهلية‪ ،‬وارتفعت يف أحناء أوربا الدولة أصوات مؤمنة دعت إىل‬
‫اهلل ورفعت كلمته‪ ،‬إىل أن أترفت الدولة بطغيان املتكربين‪ ،‬وإىل أن‬
‫ابتعث اهلل عبده الكافر مصطفى كماال فعاث يف األرض فسادا‪.‬‬
‫وإن اهلل ليخضد شوكة الكفر يف بالد حممد الفاتح‪ ،‬وإن األمة‬
‫املسلمة العظيمة يف بالد الرتك ال تزال قلوهبا مؤمنة برهبا ذاكرة‬
‫المسه مرتقبة ليوم يرفع فيه اللواء لتحمل الرسالة كما محلتها عدة‬
‫قرون‪.‬‬
‫ويف القرون الثمانية ازدهرت حضارة يف األندلس حلق جمدها‬
‫للثريا‪ ،‬وكان هلا العلم وكانت هلا القوة‪ ،‬مث حتول كل ذلك فأصبح‬
‫أثاثا ورئيا مما حيمله سيل التاريخ فيلقي به يف املتاحف حمنطا فتهفو‬
‫عقول املسلمني لذلك اجملد ولتلك احلضارة وال تعترب بالكارثة‬
‫العظيمة اليت جرها املرتفون ملوك الطوائف على أمة اإلسالم‬
‫املستضعفة‪ .‬ووطئ املسلمون يف األندلس بأقدام اجلاهلية وضرسوا‬
‫بأنياهبا‪ ،‬وسيموا اخلسف وأرغموا على الردة‪ .‬فيا هلف نفسي‬

‫‪426‬‬
‫على املسلمني يومها ويا هلف نفسي على فتية عصرنا كالفراشات‬
‫أغراهم هلب اجلاهلية فهم فيه يتهافتون ! وإنه ال حول وال قوة إال‬
‫باهلل العلي العظيم‪ ،‬له اخللق واألمر وال اعرتاض على قضائه‪ .‬لكننا‬
‫ندعوه وندعو أنفسنا‪ ،‬وا إسالماه! ‪.‬‬
‫ ركد املسلمون بعد هذه القرون حتت تراث غين جدا وحتت‬
‫عادات مرتاكمة جدا ترجع كل قوم لعصبياهتم فهي تربة خصبة‬
‫للفكر اجلاهلي والعنف اجلاهلي‪ ،‬مستعدة‪ ،‬كانت‪ ،‬لالستعمار‬
‫الذي بذر وحيصد‪ .‬فأما العلماء فمقلدة يسدنون جثة املرياث‬
‫الفقهي‪ ،‬وأما احلكام فعناصر من العث املزمن داؤه املعضل‬
‫دواؤه‪ ،‬وأما الصوفية فصريوا الرباط زواية‪ ،‬ومتكن بذلك أصحاب‬
‫البدع وأدعياء املرقعة واملسبحة من عقول األمة وأمواهلا‪ .‬يأخذون‬
‫وال يبذلون‪ ،‬ويهون عليهم أن يلبسوا الشارة ويتمتعوا باألدعية‬
‫مادام األمر دعة وكسال‪ ،‬وما دامت مفاهيم الزاوية أبعد األفكار‬
‫عن معاين الرباط واجلهاد‪ .‬عاد الصدق تدليسا وعادت اإلرادة‬
‫والطلب أحبولة لصيد املغفلني‪ .‬ومن بني كل هؤالء أىن لك أن‬
‫متيز الصادقني ؟‪.‬‬
‫ وقامت الدعوة الوهابية فهدمت األضرحة وخربت التكايا‬
‫وحرمت السبح‪ .‬وكان ما كان مما لست أذكره‪ ،‬فلنحن إىل اجلمع‬
‫والصلح أحوج منا إىل غريه‪ ،‬وما يهمنا إن كان من املسلمني من‬

‫‪427‬‬
‫ينكر مقام الرسالة وينكر التوسل جباه حممد صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وينكر أن يذكر امسه بلفظ السيادة‪ .‬إننا يف حاجة لبعث إسالمي‬
‫وإن كان لقاء الدعوة الوهابية بالقيادة املقاتلة قد حرر البلد‬
‫الطيب ومحاه من األجنيب فال يزال املسلمون يرتقبون فيض القوة‬
‫الذي حيررهم من الشرك حقا حتريرا يفرق بني اجلاهلية واإلسالم‬
‫وال جيعل بأس طائفة على طائفة يكفر هذا ذاك‪.‬‬
‫ نعرب هذه القرن عبورا سريعا لنجد الفتنة يف القرن الرابع‬
‫عشر كالفتنة يف عصر الغزايل‪ ،‬ولنرتقب أمارات التجديد املوعود‬
‫وآثاره بيننا‪.‬‬
‫ وجد حممد عبه هذه الفتنة وترىب يف أحضاهنا‪ ،‬فحفظ‬
‫القرآن والتقى يف فجر حياته خبال له صويف جمرى أفكاره ونفخ‬
‫فيه حمبة العلم وطلب احلق‪ .‬وكان هذا اللقاء أول عهد الشيخ‬
‫بالصوفية وأول لقاء يذكره مدى احلياة‪ .‬ولقي بعدها رجال جاء‬
‫من الشرق هامت حوله وحول دعوته العقول املسلمة منذ ما‬
‫يقرب من قرن هو السيد األفغاين‪ .‬وتدور حوله اليوم شبهات ال‬
‫شأن لنا هبا إذ يكفينا أن نتبصر يف عمل صاحبه وتابعه الشيخ‬
‫حممد عبده‪.‬‬
‫ استقر جهاد الشيخ آخر األمر على حماولة إصالح األزهر‬
‫وإصالح التعليم بعد نضاله جبانب أستاذه وبعد خصامه له‪.‬‬

‫‪428‬‬
‫بدأ هذا النضال بدعوة األفغاين الذي احتك بأوربا يف‬
‫مستعمراهتا فأتى يبشر أمة اإلسالم النائمة مبصر أن املوتى يبعثهم‬
‫اهلل إن حتركوا حبركة كحركته‪ .‬وكان الرجل داهية ذكيا‪ ،‬وكان قليل‬
‫الورع طويل اللسان‪ ،‬فتبعه عبده وانفتح للشيخ األزهري نافذة‬
‫على العامل تفظي بضوئها من اجلمود القدمي‪ ،‬ورحل إىل أوربا مع‬
‫أستاذه يف مشروع بطويل مل يدرك الشيخ عدم جدواه إال بالتجربة‬
‫املريرة الطويلة‪ ،‬فعرب عن ذلك وعن أسفه على اجلهود الضائعة إذ‬
‫متىن يف أخرياته أن لو كان له عشرة مريدين يربيهم تربية صوفية‪،‬‬
‫وإذن لكان حلياته مغزى ! وهيهات فما يريب الرتبية الصوفية إال‬
‫رجل ذكر اهلل بني يدي الصادقني حىت انكشف له ما انكشف‬
‫للغزايل وأمثاله !‬
‫ كان األفغاين رجل سياسة خالط يف مصر حمافل املاسونيني‪،‬‬
‫وإن لرجال السياسة الالبسني هلا لبسوها ملعرفة بدخائل األمور‬
‫وحدسا مييزون به بني السمني الذي يتيح غنيمة وبني اليابس‬
‫الذي يومهك بطراوته ليمتص دماءك‪ .‬فما بال األفغاين يرمتي‬
‫وسط املاسون ؟ وما باله بعد أن عادى حمفله يؤسس حمفال‬
‫ماسونيا للمسلمني ؟ أم ما بال تلميذه بعد ذلك يؤسس مجعية‬
‫رغم أهنا تقرب بني األديان؟‬
‫ إن دين اهلل لواحد‪ ،‬فأما أن نوحد اليهودية احملرفة اليت‬

‫‪429‬‬
‫أحالت دين اهلل املوحى به لنبيه موسى بضاعة مفرتاة ونوحد‬
‫املسيحية املطهرة اليت جعلوها وثنية ثالوثية بإسالم املناسبات‬
‫الذي احنسر عن العمل وأصبح نفاقا اجتماعيا فذلك جائز‪.‬‬
‫وأما أن نظن أن دين اهلل يكون دين اهلل والعقول واأليدي تتناوله‬
‫بالتأويل والتقليل فعسري فهم ما يبعثه خاصة من لدن رجل عامل‬
‫ترىب باألزهر‪.‬‬
‫ سافر الرجالن لباريس وأسسا صحيفة حتمل امسا إسالميا‬
‫براقا هو اسم «العروة الوثقى»‪ .‬وكان للصحيفة صدى وكان هلا‬
‫وللفكر الذي نشرته أبعد األثر يف النهضة العربية املعاصرة لندع‬
‫ما اقرتفه الشيخ عبده رمحه اهلل من تأويالت للغيب ومن تأويل‬
‫يف القرآن فإن ذلك مما يغفره اهلل إن شاء جملتهد مل يفتح عينه‬
‫من نومة القرون إال على وهج اجلاهلية يف أوربا عالية مستكربة‬
‫تناطح النجوم بعجرفتها العلومية يف أواخر قرن الفلسفة الوضعية‬
‫فبهرته‪ .‬ولنتأمل هذا الفكر اجلديد الذي يف الصحيفة حيث فكر‬
‫األفغاين ببيان الشيخ‪ .‬هذا الفكر سيطر على التلميذ مدى حياته‬
‫رغم خصامه ألستاذه‪ .‬وهذا الفكر هو األصل لكثري مما نراه من‬
‫نزعات القومية ومن سوء فهم لإلسالم يف عصرنا‪ .‬ولئن كانت‬
‫فلسفة عبده الكالمية يف «رسالة التوحيد» كلمة جديدة بعد‬
‫سكتة القرون‪ ،‬فإن الصحيفة الباريسية كانت حتمل كلمات كثرية‬

‫‪430‬‬
‫حديثة العهد جباهليتها صيغت آلذان عربية مسلمة‪ .‬وقبلها كنت‬
‫ال تسمع هذه الغنة القومية يف الكلمات اإلسالمية‪.‬‬
‫افتقد األفغاين وتلميذه الشيخ يف واقع املسلمني روح اجلماعة‬
‫فما مسعوا نأمة‪ ،‬وحدثوا قراءهم عن اجملد الغابر وعن دولة املسلمني‬
‫الذين ‪« :‬دمروا بالدا ودكدكوا أطوادا ورفعوا فوق األرض أرضا‬
‫ثامنة من القسطل (غبار احلرب) وطبقة أخرى من النقع (هو‬
‫القسطل)‪ ،‬وسحقوا رؤوس اجلبال حتت حوافر جيادهم‪ ،‬وأقاموا‬
‫بدهلا جباال وتالال من رؤوس النابذين لسلطاهنم‪ ،‬وأرجفوا كل‬
‫قلب وأرعدوا كل فريصة‪ .‬وما كان قائدهم وسائقهم إىل مجيع‬
‫هذا‪ ،‬إال اعتقاد بالقضاء والقدر»‪.1‬‬
‫كان حتليل املستشرقني لتدهور اإلسالم يعيد األسباب للعقيدة‬
‫باجلرب‪ ،‬وتنسب كسل املسلمني ووهنهم إىل سلبية العقيدة‪ .‬فجاء‬
‫رد الصحيفة عنيفا مزجمرا يثري نقع القوم األولني‪ ،‬يرجو بذلك أن‬
‫جيدد للراقدين حياة‪ .‬رجل صفحات العروة على هذا النمط من‬
‫ذكر األجداد الفاحتني األقوياء‪.‬‬
‫ولعل تعيري األحياء باألموات‪ ،‬وتعيري احلاضر باملاضي كان‬
‫يثري إميانا وجيدد عزما‪ ،‬لو دخل يف سياق إسالمي منسجم مع‬
‫داعي الرتبية وتطبيق اجلسم اإلسالمي املريض‪ .‬لكنه مل يثر إال‬

‫‪ 1‬العروة الوثقى‪ 4 ،‬رجب ‪ - 1301‬فاتح ماي ‪1883‬‬

‫‪431‬‬
‫محية وعصبية كان منها هذه النهضة اليت محل لواءها الشيخ رشيد‬
‫رضا يف مناره‪ ،‬وحتولت عرب فكره دعوة إسالمية أكثر وضوحا من‬
‫دعوة الشيخ عبده وأستاذه‪ .‬كان اجليل الثالث مع السيد رشيد‬
‫رضا يسمي الدعوة سلفية‪ ،‬وأهم معامل هذه السلفية الرجوع إىل‬
‫العهد األول‪ ،‬وهذا شيء مجيل ألنه ال يقف مع النقع والقسطل‬
‫وإمنا حياول أن يستمد من املعني األصيل‪ .‬بيد أن هذه السلفية‬
‫إمنا بنيت يف الواقع على أساس فكر الشيخ عبده فصاغته صياغة‬
‫«تناسب العصر» وأولت القرآن وختففت عن ذكر الغيب‪،‬‬
‫وجردت العقيدة اإلميانية باهلل ورسله ومالئكته وجنته وناره من‬
‫عامل اإلنسان لتضعها يف عامل تأملي حبيث يتاح هلا أن حتاج‬
‫املستشرقني تدافعهم عن اإلسالم مبنطقهم‪ .‬ورحم اهلل األستاذ‬
‫رضا وجازاه بنيته عن املسلمني‪ ،‬فقد جاهد جهاد املؤمنني‪ .‬ولسنا‬
‫ندري ما يتحمل من نصيب يف توجيه إسالم اجليل الرابع جيل‬
‫العقاد‪ .‬كان جيال مفتونا رجع بعضه لإلسالم ليتغىن «بالعبقرية‬
‫النبوية» ضمن العبقرية العربية وال غيب وال روح‪ .‬وهؤالء مسلمون‬
‫أقرب إلينا من أصحاب اجلامعة امللحدين األكمه منهم واألعمى‪.‬‬
‫‪1‬‬
‫هم أقرب إلينا وإن يكن منهم عبد الرزاق وخالد حممد خالد‪.‬‬
‫أدرك حممد عبده أن النفوس والعقول يف دار اإلسالم مريضة‬

‫‪ 1‬مث تاب خالد من بعد‬

‫‪432‬‬
‫فما وصف العالج وإمنا انتظر أن تدفع العقيدة املسلمني لعمل‬
‫جاد‪ .‬ومل يسأل أين العقيدة ؟ مل يضع السؤال على صيغته احلق‪:‬‬
‫هل حنن مسلمون؟ فقد كانت من املسلمات عنده وعند من‬
‫جاءوا بعده أننا مسلمون ضربة الزب‪ ،‬وأن اإلسالم ليس إال‬
‫اإلسالم الفردي‪ ،‬وال جيمع اجلماعة إىل العصبية كما ينص على‬
‫ذلك أصحاب الصحيفة بإحلاح شديد‪ .‬تقول الصحيفة‪: 1‬‬
‫«ولكي أقول‪ ،‬وحق ما أقول‪ ،‬أن هذه امللة لن متوت ما دامت‬
‫هذه العقائد الشريفة آخذة مأخذها من قلوهبم‪ ،‬ورسومها تلوح‬
‫يف أذهاهنم‪ ،‬وحقائقها متداولة بني العلماء الراسخني منهم‪ .‬وكل‬
‫ما عرض عليهم من األمراض النفسية واالعتالل العقلي فال بد أن‬
‫تدفعه قوة العقائد احلقة (هكذا)‪ ،‬ويعود األمر كما بدأ وينشطوا‬
‫من عقاهلم‪ ،‬ويذهبوا مذاهب احلكمة والتبصر يف إنقاذ بالدهم‪،‬‬
‫وإرهاب األمم الطامعة فيهم وإيقافها عند حدها»‪.‬‬
‫إن هناك أمراضا وعلال‪ ،‬وستذهب إن أنشأنا عالقة عصبية‬
‫تساعد رباط العقيدة وتدعمه‪ ،‬ولتبق حقائق اإلميان عند العلماء‬
‫الراسخني ! هكذا نفهم وهكذا فهم اجليل الرابع‪.‬‬
‫‪2‬‬
‫خصصت الصحيفة مقاهلا الرئيسي يف أحد األعداد‬
‫لتتحدث للمسلمني عن التعصب ومزيته‪ ،‬ومعىن التعصب يف‬
‫لغة العصر القومية ووصف العصيبة يف احلديث النبوي أهنا‬
‫‪ 1‬نفس العدد‬
‫‪ 28 2‬مجادى الثانية ‪ 24 - 1301‬أبريل ‪1884‬‬

‫‪433‬‬
‫منتنة‪ .‬تقول الصحيفة ‪« :‬فالتعصب وصف للنفس اإلنسانية‬
‫تصدر عنه هنضة حلماية من يتصل هبا والذود عن حقه… هذا‬
‫الوصف هو الذي شكل اهلل به الشعوب وأقام بناء األمم‪ .‬وهو‬
‫عقد الربط يف كل أمة بل هو قوة الصحيح يوحد املتفرق منها‬
‫حتت اسم واحد‪ ،‬وينشئها بتقدير اهلل خلقا واحدا كبدن تألف‬
‫من أجزاء وعناصر تدبره روح واحدة …كلما ضعفت قوة‬
‫الربط بني أفراد األمة بضعف التعصب فيهم اسرتخت األعصاب‬
‫ورثت األطناب‪ ،‬ورقت األوتار‪ ،‬وتداعى بناء األمة إىل االحنالل‬
‫كما يتداعى بناء البنية البدنية إىل الفناء‪ ،‬بعد هذا ميوت الروح‬
‫الكلي (يقصد روح اجلماعة) وتبطل هيئة األمة وإن بقيت‬
‫آحادها فما هي إال كاألجزاء املتناثرة‪ .‬أما أن تتصل بأبدان‬
‫أخرى حبكم ضرورة الكون وأما أن تبقى يف قبضة املوت إىل أن‬
‫ينفخ فيها روح النشأة اآلخرة‪ .‬سنة اهلل يف خلقه ‪ :‬إذا ضعفت‬
‫العصيبة يف قوم رماهم بالفشل»‪.‬‬
‫وهكذا فرتكيب األمة املسلمة كرتكيب سائر األمم‪ ،‬رباطهم‬
‫العصبية بقوام املزاج الصحيح‪ .‬وبعث اإلسالم لن يكون إال‬
‫بتجديد عصبية كما ذهب ريح املسلمني لفقدان العصبية‪ ،‬ويف‬
‫هذا الوادي هام املسلمون ويهيمون‪.‬‬
‫يرحم اهلل الشيخ األزهري فإننا ال نتهمه يف إخالصه‪ ،‬ونعذر‬

‫‪434‬‬
‫قصوره عن مرتبة اجملددين‪ ،‬فقد فاته صحبة الرجال وما يبقى لنا‬
‫إال تأسفه آخر حياته على عشرة يربيهم بدال من املاليني اليت‬
‫خاطبها من منربه بباريس خطابا ملتهبا باحلماس والغرية ال يتعدى‬
‫مع ذلك نطاق الفكر لعصره وال يطلب إال حلاقا باألمم على نسق‬
‫بنائها وحبافز التعصب على غرار حوافزها‪ .‬ووراء كل هذا اجلهاد‬
‫حنني إىل النقع والقسطل واجملد الغابر‪ ،‬وال تزال هذه األمة تنتظر‬
‫من جيدد هلا إمياهنا بال إله إال اهلل ويبدئ هلا نشأة جديدة بالرتبية‬
‫الصوفية اليت انتهى إىل ضرورهتا الشيخ اجلليل رمحه اهلل رمحة واسعة‬
‫ورمحنا‪ .‬وقد آن األوان واهلل املستعان‪.‬‬

‫‪435‬‬
‫من جيدد ؟‬
‫يف السنة األوىل من القرن الرابع عشر ارتفع نداء من دار‬
‫الفكر حرق سكون الفكر اإلسالمي املزمن‪ .‬وكان صوتا جديدا‬
‫حقا وإن كان ال يتميز عن اجلاهلية إىل مباض جميد وعصبية تناطح‬
‫العصبيات‪ .‬وذهب قومنا العرب كل مذهب من بعد الشيخ عبده‬
‫ونبغ منهم من ثار على الدولة العثمانية املريضة فزادها مرضا‬
‫وضعفا‪ ،‬ونبغ منهم امللحدون وأصحاب اإلسالم القوي العبقري‪.‬‬
‫ويف دار اإلسالم برب اهلند برز رجل حيمل القلم ويتحدث عن‬
‫اإلسالم بنصاعة وقوة يثبت بذلك أن اإلسالم ما كان قومية وال‬
‫عصبية ولن يكون‪ ،‬وإن اهلل عز وجل ال يرضى ألمة رسوله أن‬
‫حتمل لواء التفرقة العنصرية يف أية حلة جاءت وحتت أي شعار‪.‬‬
‫هذا هو األستاذ السيد أبو األعلى املودودي صاحب اجلماعة‬
‫اإلسالمية بباكستان‪ .‬حترر من الفكر «اإلسالمي العصري»‪ ،‬الذي‬
‫محل رايته السيد أمحد خان كما محل رايته األستاذ رشيد رضا يف‬
‫أرض العرب ويف كل أرض‪ ،‬حتررا جزئيا‪ .‬بقي لديه اجلهل املطبق‬
‫بالرتبية الروحية والصحبة‪ ،‬وعمم الشكوى من الصوفية ومل يستثن إال‬
‫أصحاب الرموس من أمثال ويل اهلل تعاىل سيدي أمحد السرهندي‬
‫وسيدي ويل اهلل الدهلوي‪ .‬وكان صاحبنا ال يرى العصر إال بنور‬
‫‪436‬‬
‫العقل‪ ،‬فهو يدعو ملا يسميه «بالقومية الفكرية»‪ ،‬يعترب اإلسالم‬
‫فكرة واقتناعا عقليا منطقيا‪ ،‬وينسجم هذا يف ذهنه وكتبه مع اإلميان‬
‫باهلل وغيبه ومع التمسك الشديد بالسنة‪ ،‬فيما نقرأ‪.‬‬
‫ وإن من العسري جدا أن تقول ملعاصريك كلمة ال تدري‬
‫أتنفع وتلم الشعت أم جترح وتسبب الفرقة‪ .‬سيما واملسلمون‬
‫اليوم أضعف ما كانوا‪ ،‬فهم يف غىن عن التنافر والتدابر‪ .‬لسنا‬
‫ننكر فضل الرجل وسابقته يف الدفاع عن اإلسالم ولن يضيع اهلل‬
‫أجر املخلصني‪ .‬لكننا نبحث كما يبحث رجال مجاعة املودودي‪،‬‬
‫على ما قص يف أحد كتبه‪ ،‬عن روحانية اإلسالم األول ‪ :‬أين هي‬
‫وكيف تكتسب؟‪ .‬وقد رد املودودي على أصحابه أن حنينهم إىل‬
‫الزوايا وأصحاهبا إمنا هو قناعة بالركود واجلهل‪ ،‬وأن عقد الرباط‬
‫مع اهلل يف وسع كل امرىء يتخفى بنوافله ويتلو كتاب ربه‪ ،‬وكتب‬
‫يف هذا كتيب مساه ‪« :‬تذكرة دعاة اإلسالم»‪.‬‬
‫اإلسالم كقومية فكرية يستلزم صحبة فكرية ومجاعة فكرية‪.‬‬
‫ذلك ما كنت تفهمه من الكتب السابقة للسيد اجلليل‪ .‬وإن‬
‫كان يف خالل كتبه يتبني أن عند الرجل إدراكا ملقومات اخللق‬
‫اإلسالمي واجلهاد منافية ألصحاب اإلسالم الثقايف السياسي‬
‫أمثال مجاعة النبهاين صاحب «حزب التحرير»‪ .‬يف كتاب «تذكرة‬
‫دعاة اإلسالم » حتدث السيد املودودي عن اإلسالم الفردي‬

‫‪437‬‬
‫واجلماعي وعن مقومات اجلهاد حديثا يسلينا عن أمل الدعوات‬
‫القومية وميسح نكاثها‪ ،‬مث ال يضع إصبعنا على نقطة البداية بل‬
‫يدع لكل امريء أن جيتهد ويريب نفسه‪.‬‬
‫ ليس يف كتب الشيخ الوقور ما ينم ولو من بعيد على‬
‫أنه ولو مرة يف هذه الشهادات اليت قدمها لنا رسول اهلل صلى‬
‫اهلل عليه وسلم وورثته‪ ،‬وفصلها لنا القرآن‪ ،‬واليت تتلخص يف أن‬
‫العبد إن تزكى وذكر اسم ربه فصلى حيبه اهلل ويكمله ويلحقه‬
‫باملأل األعلى ويصبح مسعه وبصره‪ ،‬وخيلده مع النبيئني والصديقني‪.‬‬
‫هؤالء الصوفية شهدوا وال يزالون يشهدون أن ما وعد اهلل املتقربني‬
‫إليه ينجزه هلم وعدا غري مكذوب إن سلكوا الطريق وعثروا على‬
‫الرفيق‪ .‬هؤالء الصوفية شهدوا وال يزالون يشهدون أن اهلل عز‬
‫وجل يفتح على عبده املتزكي يف دار الدنيا فريى ويسمع ما ال‬
‫يراه وال يسمعه الغافلون‪ ،‬ويلهمه اهلل عز وجل وحيدثه حتديثا‬
‫ويوفقه توفيقا‪ .‬هؤالء الصوفية أطوارهم غريبة ‪ :‬إن تقواهم وزهدهم‬
‫وأخالقهم وكرامتهم املتصلة الواصلة بعامل الغيب خرب متواثر وواقع‬
‫حاضر‪ ،‬لكن ما باهلم قابعني يف الزوايا‪ ،‬وما باهلم ال يعرف‬
‫الدخيل منهم واألصيل؟‪.‬‬
‫ومن كان طالبا للجهاد يتعذر عليه أن يهتدي إىل جلية األمر‬
‫حىت ولو كان أمامه مثال اجلماعة املؤمنة من «رجال التبليغ»‬

‫‪438‬‬
‫اجملاهدين الذين حياكون بتقللهم وصربهم وهجرهتم اجلماعة‬
‫األوىل‪ .‬ومن كان كالشيخ املودودي العامل يف حقل الدعوة منذ‬
‫مخسني سنة أو يزيد‪ ،‬فإنه جيمع لنا علما غنيا باجتهاده ويؤثل‬
‫لنا جتربة عملية سياسية‪ ،‬فيها الكفاح والنضال واإلخالص‪ ،‬لكن‬
‫فيها أيضا ما يقتضي أن تتخزب اجلماعة وتنتخب امرأة ضالة أو‬
‫كافرة لرئاسة اجلمهورية‪.‬‬
‫لنأخذ من السيد املودودي علمه‪ ،‬ما نتعلم منه ونعترب بعد‬
‫اعتبارنا من كفاحه بأن اإلسالم املتحزب مع األحزاب‪ ،‬يقبلها‬
‫ندا ويقبل أسلوب عملها أسلوبا‪ ،‬ال يؤدي إال النشقاق املسلمني‬
‫وضياعهم يف غيابات الفتنة‪ .‬مامل نوضح للشعب فرق ما بني‬
‫الدميقراطية الالئيكية اليت تتمذهب هبا األحزاب وبني الشورى اليت‬
‫هي مذهب اإلسالم‪.‬‬
‫يقول السيد يف وصف اجلماعة املؤمنة بعد أن ذكر الصفات‬
‫الفردية للمسلم يلخصها يف حديثه صلى اهلل عليه وسلم حيث‬
‫قال ‪ « :‬أمرين ريب بتسع ‪ :‬خشية اهلل يف السر والعالنية‪ ،‬وكلمة‬
‫العدل يف الغضب والرضى‪ ،‬والقصد يف الفقر والغىن‪ ،‬وأن أصل‬
‫من قطعين‪ ،‬وأعطي من حرمين‪ ،‬وأعفو عمن ظلمين‪ ،‬وأن يكون‬
‫صميت فكرا‪ ،‬ونطقي ذكرا‪ ،‬ونظري عربة‪ ،‬وأن آمر باملعروف وأهنى‬

‫‪439‬‬
‫عن املنكر‪ ».‬يقول بعد هذا‪ « : 1‬وعالوة على الصفات الفردية‬
‫املذكورة آنفا‪ ،‬فإننا حنتاج إىل نوع آخر من الصفات واألخالق‬
‫لتأسيس حياتنا اجلماعية واحملافظة عليها‪ ،‬إنه مما ال غىن لنا عنه‬
‫إلحكام نظام مجاعتنا والزيادة من متاسكه ونفعه‪ ،‬أن يكون بني‬
‫أعضائنا التحاب والتواثق والتعاون وأن يكونوا معتادين للتناصح‬
‫والتواصي بينهم باحلق والصرب ليتقدموا بأنفسهم‪ ،‬ويقدموا معهم‬
‫غريهم يف سبيل الدعوة‪ .‬إنه ال غىن عن هذه الصفات لنظام أي‬
‫مجاعة يف األرض‪ ،‬وإال فلو ختلق كل فرد يف ذاته بأعلى ما يكون‬
‫من الصفات اجلميلة واألخالق احملمودة‪ ،‬ولكن بدون أن يكونوا‬
‫مرتبطني بينهم متخلقني بالصفات اجلماعية املذكورة‪ ،‬فإهنم ال‬
‫يستطيعون أبدا أن يقوموا يف وجه الباطل ويقارعوا أهله مقارعة‬
‫الند للند‪».‬‬
‫ما أحسن هذا الكالم وما أبعدنا عن دعوة العصبية ومماثلة‬
‫األمم يف نشأهتا وتكوينها ! إن هنا حديثا عن احملبة والتواصي‬
‫والتناصح‪ ،‬وفيه متيز الباطل عن احلق يسمى باطال يقارعه احلق‬
‫اإلسالمي‪ .‬هذا كالم مشرق‪ ،‬وفيما يتلو من هذا الفصل يذكر‬
‫الشيخ بأن كثريا من املسلمني يتحلون بصفات صاحلة لكنهم ال‬
‫يقوون على تكوين مجاعة‪ .‬ويقول ‪« :‬وأقول إن الذين قد ارتقوا‬

‫‪ 1‬تذكرة دعاة اإلسالم‪ ،‬الرتمجة العربية ص‪.48 ,‬‬

‫‪440‬‬
‫إىل األعلى منزل الصالح الفردي‪ ،‬فإن غاية ما جاءوا به أن أثروا‬
‫بسريهتم على بضع مآت أو بضع آالف من األفراد مث مضوا إىل‬
‫رهبم تاركني وراءهم آثارا تدل على تقدسهم وعلو سريهتم‪ ،‬ولكن‬
‫ال يكفي هذا الطريق ألن تتم به أعمال اجتماعية كبرية»‪.‬‬
‫جلي جدا أنه يعين املشايخ الصوفية من أمثال من يذكر‬
‫فضلهم يف كتابه «موجز تاريخ جتديد الدين وإحيائه»‪ .‬ما رأى‬
‫إال أصحاب الزاوية الصاحلني ومل يعرف اجملاهدين املؤمنني عمار‬
‫الرباطات الصوفية‪ ،‬وهو يؤرخ حياة جهادهم ! وهكذا يتعذر على‬
‫علماء املسلمني األجالء يف عصرنا كما تعذر عليهم فيما مضى‬
‫إال قليال اجلمع بني الصالح الفردي والتزكية الفردية وبني احلياة‬
‫اجلماعية واجلهاد اجلماعي‪ ،‬والكتاب املذكور يقدمه عاملنا بوصف‬
‫واسع للجاهلية وخصائصها ويذكر كيف بلي إسالم املسلمني‬
‫وكيف أنشبت فيهم اجلاهلية رجسها‪ ،‬ويصف جاهلية عصرنا‬
‫ليمهد حلديثه عن التجديد يف العصور اإلسالمية املاضية وعن‬
‫خصائص اجملدد‪ .‬وذكر من اجملددين عمر بن عبد العزيز واألئمة‬
‫األربعة‪ ،‬والغزايل وابن تيمية والشيخ السرهندي وويل اهلل الدهلوي‬
‫والشيخان أمحد وإمساعيل الشهيدان‪ .‬وحنن نضع معه السؤال عن‬
‫اجملدد‪ ،‬وكيف هو ومن أين يأيت وما يعمل وكيف يعمل‪ ،‬إن كان‬
‫الشيخ قد اهتدى إىل أن تكوين اجلماعة ال بد من جمدد جيمع‬

‫‪441‬‬
‫القلوب واهلمم على احملبة والتواصي باحلق فقد أصاب واهتدى‪،‬‬
‫لكن من جيدد ؟ وما هو التجديد؟‬
‫ يذكر املودودي الفرق بني من جيدد يف الدين وبني جتديد‬
‫الدين فيقول‪« : 1‬التجديد ال يكون عبارة عن التماس الوسائل‬
‫ملساملة اجلاهلية وال هو عبارة عن أعمال خلط جديد من اإلسالم‬
‫واجلاهلية‪ ،‬بل التجديد هو تنقية اإلسالم من كل جزء من أجزاء‬
‫اجلاهلية‪ ،‬مث العمل على إحيائه خالصا حمضا على قدر اإلمكان‬
‫ومن هنا يكون اجملدد أبعد ما يكون عن مصاحلة اجلاهلية‪ ،‬وال‬
‫يكاد يصرب على أن يرى أثرا من آثارها يف أي جزء من اإلسالم‬
‫مهما كان تافها»‪.‬‬
‫ويف نفس الصفحات يعرف األستاذ اجملدد بذكر خصائصه‬
‫ويضع برنامج التجديد وخطواته‪ .‬وهو تارة يشري إىل ضرورة أن‬
‫يكون اجملدد ذا روحانية عالية « مزاجه أقرب إىل مزاج النبوة»‪.‬‬
‫وتارة ينسى الربانية والرتبية الروحية فيجعل وظيفة اجملدد أن يبعث‬
‫«العقلية اإلسالمية اخلالصة»‪ .‬وهبذا يكون األمر عنده فكرا يف‬
‫فكر‪ .‬وليس يدرك معىن الروحانية من مل يسلك إليها الطريق ومل‬
‫يقتحم إليها العقبة فيجلس تلميذا بني يدي رجل يعلمه احملبة‬
‫ويعلمه اإلحسان ! على أن الرجل رمحه اهلل وأمثاله من علمائنا‬

‫‪ 1‬موجز جتديد الدين وإحيائه ص‪ 52 ,‬وما بعدها‪.‬‬

‫‪442‬‬
‫جبال راسخة من اإلميان رمحهم اهلل ورفع مقامهم‪.‬‬
‫يقول األستاذ ‪ « :‬إن اجملدد ال يكون نبيا‪ ،‬ما يف ذلك‬
‫شك‪ ،‬ولكنه يكون يف طبعه ومزاجه أقرب إىل مزاج النبوة‪ .‬ومن‬
‫اخلصائص اليت ال بد أن يتصف هبا اجملدد‪ :‬الدهن الصايف‪ ،‬والبصر‬
‫النفاذ‪ ،‬والفكر املستقيم بال عوج‪ ،‬والقدرة النادرة على تبيني سبيل‬
‫القصد بني اإلفراط والتفريط ومراعاة االعتدال بينهما‪ ،‬والقوة‬
‫على التفكري اجملرد من تأثري األوضاع الراهنة والعصبيات القدمية‬
‫الراسخة على طول القرون‪ ،‬والشجاعة واجلرأة على مزامحة سري‬
‫الزمان املنحرف‪ ،‬واألهلية املوهوبة للقيادة والزعامة‪ ،‬والكفاية‬
‫الفذة لالجتهاد وألعمال البناء واإلنشاء‪ .‬مث كونه – مع ذلك‬
‫كله – مطمئنا قلبه بتعاليم اإلسالم‪ ،‬وكونه مسلما حقا يف وجهة‬
‫نظره وفهمه وشعوره‪ ،‬مييز بني اإلسالم واجلاهلية حىت يف جزيئات‬
‫األمور‪ ،‬ويبني احلق ويفصله عن ركام املعضالت اليت أتت عليها‬
‫القرون‪ .‬فهذه اخلصائص اليت ال ميكن أن يكون أحد جمددا بدوهنا‪.‬‬
‫وهي الصفات اليت تكون يف األنبياء واملرسلني مكربة مضاعفة»‪.‬‬
‫لنمض مع الرجل فنقرأ أن من اجملددين من يكون كامال وهو‬
‫مقام ال يبلغه أحد يف نظر األستاذ منذ ظهر اإلسالم إىل اآلن‪،‬‬
‫وقد كاد يف نظره أن يكونه عمر بن عبد العزيز‪ .‬ولألستاذ بعد‬
‫هذا كالم مجيل يف حاجة املسلمني إىل رجل مهدي األمة يف‬

‫‪443‬‬
‫انتظاره‪ ،‬وله نقد صاحل للعقيدة الشعبية اليت تتصور أن املهدي‬
‫سيايت من تكايا الصوفية بعمامته وسبحته يقارن العلماء أوصافه‬
‫مبا عندهم من أخبار عنه‪ ،‬وختر لرؤيته الدبابات العدوة‪ .‬ويقول‬
‫بعد هذا ‪« :‬فالذي أقدره وأتصوره أن اإلمام املنتظر سيكون زعيما‬
‫من الطراز األحدث يف زمانه بصريا بالعلوم اجلديدة بصر اجملتهد‬
‫املطلع‪ ،‬ويكون جيد الفهم ملسائل احلياة‪ ،‬ويربهن للعاملني رجاحة‬
‫عقله وفكره وبراعة تفكريه السياسي‪ ،‬وكمال حذقه لفنون احلرب‪،‬‬
‫ويبذل كل أبناء زمانه اجلهد يف تقدمه وارتقائه‪ .‬وإين ألخشى‬
‫أن حضرات املشايخ ورجال الدين هؤالء هم يكونون أول من‬
‫يرفع النكري على رجحانه إىل الوسائل العصرية وعلى طرقه احملدثة‬
‫لإلصالح»‪.‬‬
‫ويفصل األستاذ بعد هذا شعب التجديد كما يلي ملخصا‬
‫من نصه ‪:‬‬
‫‪ .1‬تشخيص أمراض اجملتمع اإلسالمي املوروث وتبني مواقع‬
‫اجلاهلية يف حياة الناس وكيف سرت عدوى اجلاهلية إىل املسلمني‪.‬‬
‫‪ .2‬تعيني مواضع الفساد اليت ينبغي أن تعاجل بالشذب‬
‫والضرب لكي تزول غلبة اجلاهلية‪ .‬وحيدد يف هذه النقطة ما نعرب‬
‫عنه حنن باللفظ املأثور ‪ :‬العمل بوازع السلطان‪.‬‬
‫‪ .3‬اختبار اجملدد نفسه وتعيينه حدود عمله‪ ،‬وتقديره قوته‬

‫‪444‬‬
‫ومقدرته‪ ،‬واختيار الناحية اليت يرى نفسه قادرا على إصالح األمر‬
‫منها» هكذا بلفظه‪.‬‬
‫‪« .4‬السعي ألحداث االنقالب الفكري والنظري‪ ،‬أي تغيري‬
‫أفكار الناس وطبع عقائدهم ومشاعرهم ووجهة نظرهم اخللقية‬
‫بطابع اإلسالم‪ .‬وإصالح نظام التعليم والرتبية‪ ،‬وإحياء العلوم‬
‫والفنون اإلسالمية‪ ،‬وباجلملة بعث العقلية اإلسالمية اخلاصة من‬
‫جديد!»‬
‫‪ .5‬حماولة اإلصالح العملي‪ ،‬وذلك كإبطال التقاليد اجلاهلية‬
‫وتزكية األخالق وإشباع النفوس حبا التباع الشريعة من جديد‪،‬‬
‫وترشيح رجال يصلحون أن يكونوا زعماء من الطراز اإلسالمي‬
‫‪ .6‬االجتهاد يف الدين وتغيري طرائق التمدن القدمية « يضمن‬
‫للشريعة اإلسالمية روحها وميكن اإلسالم من إمامة العامل يف رقي‬
‫املدينة الصحيح!»‬
‫‪« .7‬الكفاح والدفاع » لنصرة اإلسالم «ومعناه مناضلة القوى‬
‫السياسية الناهضة الستئصال اإلسالم»‪.‬‬
‫‪ .8‬نزع السلطة من أيدي اجلاهلية لتقام خالفة على منهاج‬
‫النبوة كما جاء يف احلديث الشريف‪.‬‬
‫‪ .9‬إحداث االنقالب العاملي الذي يسود فيه اإلسالم وحضارة‬
‫اإلسالم العامل كله‪.‬‬

‫‪445‬‬
‫كل هذا ال جند فيه ذكرا للروحانية القوية لصاحب التجديد‬
‫فإن أهم خصائصه يف نظر األستاذ الكفايات الفكرية العملية‬
‫والتفوق على اجليل بعمق اإلدراك ووضوح الرؤية‪ .‬وال جند يف‬
‫هذا أثرا للربانية اليت ننشد فيها الكمال الروحي أساسا وفيها‬
‫الكفاية الفكرية املتعلمة وفيها الرفق املريب‪ .‬ولقد كتب املودودي‬
‫غري هذا كتبا تناول فيها البحث عن السبيل إلحياء اإلسالم‪،‬‬
‫وكلها تنصب على التجديد الثقايف وتغيري العقلية كما يعرب‪،‬‬
‫وجبانب هذا دعوة للتمسك بالشريعة واملنهاج النبوي‪ .‬ولو عرفنا‬
‫ما هو املنهاج النبوي وعثرنا على ربانيته ومسته وتؤدته واقتصاده‬
‫لكنا خطونا خطوة حنو التجديد‪ .‬ويكثر املودودي من استعمال‬
‫مفهوم «االنقالب» وهو مفهوم أجنيب عنا ألنه نشأ من‬
‫املمارسة اجلاهلية ففيه ريح العنف وريح اإلظطراب‪.‬‬
‫ونتعلم من عاملنا اجلليل إميانه بأن القيادة املشخصة يف رجل‬
‫ضرورة أساسية لتجديد اإلسالم‪ .‬نتعلم منه وإن كان ينقصه‬
‫التجربة الشخصية اليت تعلمه معىن املنهاج النبوي‪ .‬ونتعلم منه‬
‫انتظاره لرجل مهدي يصلح اهلل به أمر هذه األمة حىت يظهر‬
‫اإلسالم على الدين كله كما بشر بذلك القرآن الكرمي‪ ،‬يقول ‪:‬‬
‫« إذا كان األنبياء السابقون قد بشروا أممهم –كما بشر خامت‬
‫النبيئني صلى اهلل عليه وسلم أمته بأن اإلسالم ليكونن دين العامل‬

‫‪446‬‬
‫كله قبل أن تنتهي فيه حياة النوع اإلنساين‪ ،‬وإن اإلنسان بعد أن‬
‫جيرب خيبة األنظمة الوضعية ويعاين عواقبها الوخيمة‪ ،‬يضطر يف‬
‫آخر األمر إىل أن يفيء إىل النظام الذي وضعه اهلل تعاىل للحياة‪،‬‬
‫وأن هذه النعمة يناهلا اإلنسان بفضل زعيم جليل القدر يعمل‬
‫على شاكلة األنبياء وينفذ اإلسالم يف صورته األصلية تنفيذا‬
‫كامال»‪ .‬قال ‪ :‬يف صورته وأين معاين القلب وطبه وطهارته وتربيته‬
‫مما جند فقهه عند أمثال الغزايل؟ رحم اهلل اجلميع‪.‬‬
‫وبعد فإن اهلل جلت قدرته ال يبخس اجملاهدين أجرهم‪ ،‬وليس‬
‫ذنب املودودي عامل املسلمني اجملاهد غري القاعد أن يكون تراث‬
‫املسلمني ثقيال وأن يكون من بني من يسمون صوفية من اعرتف‬
‫بفضلهم يف التاريخ وحارهبم يف اآلن ومن هم أدعياء وقاصرون‪.‬‬

‫‪447‬‬
‫اإلمام البنا‬
‫ يذكر السيد أبو األعلى املودودي أن اجملدد احلق قد ال يعلم‬
‫أنه جمدد وقد يدعي ذلك املقام كما ادعاه الشيخان السرهندى‬
‫والدهلوي‪ .‬وقد برز يف القرن الثالث عشر رجال جددوا للناس‬
‫من أمور الدين‪ ،‬فكان الشيخ حممد بن علي السنوسي علم ذلك‬
‫القرن وانتشرت رباطاته يف أحناء افريقيا‪ ،‬ورىب املؤمنني وعلمهم‬
‫وفاض خري السادة السنوسية على هذا القرن فكانوا يف ساحات‬
‫اجلهاد املقاتل رجاال كما كانوا يف جهاد الدعوة والرتبية‪ .‬وبرز‬
‫يف القرن املاضي الشيخ املهدي السوداين جدد للناس إميانا وقوة‬
‫وجهادا يف الوقت الذي كان األفغاين ينشر أخبار جهاده يف‬
‫الصحيفة بلهجة حيادية متفرجة‪ .‬وكان املهدي رمحه اهلل من‬
‫هؤالء الصوفية احملريين بأصالتهم وغرابتهم‪ ،‬لكنه جاهد واستحق‬
‫بذلك ذكرا يف الصاحلني‪ ،‬وأن ما نقل عنه من أخبار وما آل‬
‫إليه اتباعه من بعده لتاريخ إسالمي ملا يكتب‪ .‬وملا يكتب أيضا‬
‫تاريخ اجملددين اجملاهدين سيدي أمحد بن عرفان والشيخ إمساعيل‬
‫الشهيدان اللذان حاربا اجنلرتا يف اهلند بعد أن خنعت البالد كلها‬
‫حتت وطأة الكافر‪.‬‬
‫كل أولئك كانوا صوفية كما كان رجال اجلهاد والتجديد يف‬
‫‪448‬‬
‫تاريخ اإلسالم‪ .‬وبالروحانية العالية كان عمر بن عبد العزيز رجال‪،‬‬
‫وصالح الدين وابن تاشفني وامللك الصاحل املكري‪ .‬وكان أوىل أن‬
‫نتدبر عمل السنوسية العظيم وتربيتهم لوال ما يعطينا اإلسالم‬
‫الفكري عند عبده واملودودي من دروس هي يف إجيابيتها أقل إفادة‬
‫منها يف سلبياهتا‪ .‬ولن يفوتنا شيء من جهاد الصوفية وتربيتهم‬
‫وعلمهم إذ سنجد كل ذلك يف أهبى صوره عند رجل مل يدع‬
‫جتديدا وال مقاما وال ادعاه له أحد‪ ،‬وإمنا نزل على هذه األمة كما‬
‫تنزل الرمحة‪ ،‬خفيف احلاذ يف تواضع األنبياء وروحانية الصديقني‬
‫وجهاد الصادقني‪ .‬هذا الرجل هو علم هذا القرن وإمامه سيدي‬
‫حسن البنا رمحه اهلل رمحة واسعة ورضي اهلل عنه‪.‬‬
‫قضى البنا عشرين سنة يف جهاد الدعوة وجماهدة الفتنة‪ ،‬فأنار‬
‫أثناء ذلك القلوب وأنار العقول ومجع اهلل به مؤمنني‪ ،‬ورىب اهلل به‬
‫شبابا خرجوا على الناس بسمتهم وإمياهنم وصدقهم‪ ،‬واإلسالم يف‬
‫غربته‪ ،‬وضربوا مثاال للنجاعة يف أمة متخاذلة فاشلة‪ ،‬وضربوا مثاال‬
‫للقوة يف أمة ضعيفة عنيفة‪ ،‬ونشدوا العدل يف أرض طغى فراعنتها‬
‫وامتصوا أموال الناس ودماءهم وأعراضهم‪ .‬وكان اخلطب عظيما‬
‫على كل مسلم يف األرض ملا قتل الطاغوت الفرعوين إمام اإلخوان‬
‫املسلمني وحني تكالب على اجلماعة من بعد ذلك الطاغوت‬
‫البطويل الظامل املظلم يقتل ويشرد‪.‬‬

‫‪449‬‬
‫وليس متحو يد الظاملني ما سطرته العصابة املؤمنة يف تاريخ هذه‬
‫األمة املعاصر من جهاد وصدق‪ ،‬وسيشع لنا من جتربة اإلخوان‬
‫املسلمني نور يومض لنا مشريا أن اإلسالم ممكن وأن املؤمنني هم‬
‫الرجال إذا حدب األمر ودعا داعي القتال‪ ،‬وهم الرجال إن عز‬
‫العاملون ودعا األمر لبناء االقتصاد‪ .‬وهم الرجال لرمحة البائس‬
‫الفقري والعناية باليتيم واحملروم‪ .‬فقد كانت للجماعة يد بيضاء يف‬
‫كل ساحة للعمل‪ ،‬وحيمنا اهلل بفضله حىت ال يضيع الدرس من‬
‫بناء اإلمام ومجاعته بني جهل اجلاهلني وتأويل املؤولني‪.‬‬
‫وأول درس من حركة البنا هو أن دعوته مل يكن يدعمها فكر‬
‫ناضج ألن البنا بدأ دعوته بثقافة معلم ابتدائي ال يسعه هبا إن‬
‫يطاول قدوم مصر وفراعنتها الثقافيني‪ ،‬ومل يكن يدعمها جاه وال‬
‫مال ألن الشاب الصاحل يف الثانية والعشرين من عمره بدأ الدعوة‬
‫يف مدينة هو فيها غريب فقري‪ ،‬ومل يكن يدعمه سلطان إال سلطان‬
‫الروحانية الصافية اليت هبا يقول العبد ‪ :‬ريب ‍! فيجيب الرب عز‬
‫وجل ‪ :‬عبدي !‬
‫كان صوفيا صحب الرجال وبايع الشيخ وتتلمذ للذاكرين‬
‫وسافر مع الذاكرين وزار أضرحة األولياء‪ ،‬وجالس املؤمنني‪ ،‬وحظي‬
‫بدعوات الصاحلني‪ ،‬وفصل كل ذلك يف مذكراته‪.‬‬
‫وكان بعذئذ مربيا صوفيا وضع جلماعته مأثورات يتلوهنا وظيفة‬

‫‪450‬‬
‫يف جمالس الذكر‪ ،‬واختذ هلم وردا وأحل يف كل مناسبة على الرابطة‬
‫الروحية بني أعضاء اجلماعة‪.‬‬
‫وهذا ما ال يكاد يدركه حىت أصحاب البنا أنفسهم ألن من‬
‫رفقه رمحه اهلل ومن حسن اجتهاده أنه كان يعرف مجاعته بأهنا‬
‫مجاعة إسالمية ثقافية رياضية وما يشبه هذا من ضروب النشاط‬
‫وجيعل النعت الصويف واحدا من نعوهتا من بني صفات أخرى‬
‫يفهمها الناس بلغة العصر على أهنا حركة وجهاد وعلم ونشاط‬
‫ومشاركة يف احلياة العامة‪.‬‬
‫كان من رفقه رمحه اهلل ومن حسن اجتهاده أنه تنصل من‬
‫جل املصطلحات الصوفية ليتجنب مواطن الغلط يف ذهن أصحابه‬
‫ومريديه الذين ال يعرفون من الصوفية إال تكايا االنعزال وحرفة‬
‫أصحاب األمسال‪ .‬ورجع رمحه اهلل للكتاب والسنة فيما خيطب‬
‫ويكتب ليتكلم بلغة جهادية هي لغة القرآن طاويا تاريخ اإلميان‬
‫واإلحسان يف زمن الفتنة الذي أصبح الصوفية أثناءه‪ ،‬القاعدون‬
‫منهم‪ ،‬يتحدثون بلغة املناقب وتأمل كرامات السابقني‪ ،‬يكتبها‬
‫الالحقون بغري دارية فتفوهتم العربة يف حياة األولياء من حيث‬
‫تزكيتهم ألنفسهم وطلبهم لرهبم بالفرض والنفل واالستقامة على‬
‫الطريقة‪.‬يقول البنا رمحه اهلل يف مذكراته حتت عنوان «رأي يف‬

‫‪451‬‬
‫التصوف»‪« : 1‬وطرأ على هذه احلقائق (حقائق اإلميان واإلحسان)‬
‫ما طرأ على غريها من حقائق املعارف اإلسالمية‪ ،‬فأخذت صورة‬
‫العلم الذي ينظم سلوك اإلنسان ويرسم له طريقا من احلياة‬
‫خاصا‪ :‬مراحله الذكر والعبادة ومعرفة اهلل‪ ،‬وهنايته الوصول إىل‬
‫اجلنة ومرضاة اهلل‪.‬‬
‫وهذا القسم من علوم التصوف‪ ،‬وأمسيه «علوم الرتبية والسلوك»‬
‫ال شك أنه من لب اإلسالم وصميمه‪ ،‬وال شك أن الصوفية قد‬
‫بلغوا به مرتبة من عالج النفوس ودوائها‪ ،‬والطب هلا والرقي هبا‪،‬‬
‫مل يبلغ إليها غريهم من املربني…‬
‫ولكن فكرة الدعوة الصوفية مل تقف عند حد علم السلوك‬
‫والرتبية‪ ،‬ولو وقفت عند هذا احلد لكان خريا هلا وللناس‪ ،‬ولكنها‬
‫جاوزت ذلك بعد العصور األوىل إىل حتليل األذواق واملواجد‪ ،‬ومزج‬
‫ذلك بعلوم الفلسفة واملنطق ومواريث األمم املاضية وأفكارها‪.‬‬
‫فخلطت بذلك الدين مبا ليس منه‪ ،‬وفتحت الثغرات الواسعة لكل‬
‫زنديق أو ملحد أو فاسد الرأي والعقيدة‪ ،‬ليدخل من هذا الباب‬
‫باسم التصوف والدعوة إىل الزهد والتقشف والرغبة يف احلصول‬
‫على هذه النتائج الروحية الباهرة‪ .‬وأصبح كل ما يكتب أو يقال‬
‫يف هذه الناحية جيب أن يكون حمل نظر دقيق من الناظرين يف دين‬

‫‪ 1‬مذكرات الدعوة والداعية ص‪.15 ,‬‬

‫‪452‬‬
‫اهلل واحلريصني على صفائه ونقائه‪».‬‬
‫ودعا الشيخ البنا بعد هذا لاللتقاء العلماء والواعظني بالصوفية‬
‫ليبحثوا عن منهاج لريدوا األمة إىل سواء السبيل‪ ،‬وتفاءل خريا‪.‬‬
‫لكن من يسميهم بعض الناظرين «صوفية احلقائق» هؤالء الذين‬
‫يتكلمون الكالم املعمي ويدخلون الشك يف عقائد املسلمني ال‬
‫تزال هلم سوق رائجة كما للمحرتفني األدعياء‪ .‬أولئك بضاعتهم‬
‫ورقات خلفها رجال اهلل العلماء يقرأوهنا قراءة حمرفة بنفوس عكرة‬
‫فيقرأون كفرا وينطقون كفرا‪ ،‬وهؤالء‪ ،‬بضاعتهم االسم والشارة‬
‫واملسبحة والعمامة‪ .‬وكل يسبحون يف فلك الكسل واجلهل واملرض‬
‫املزمن يف هذه األمة‪ ،‬مرض حب الرئاسة والظهور‪.‬‬
‫وكأين مبن يقرأ مذكرات البنا وإخباره عن زمان إرادته وسلوكه‬
‫الصويف يعتقد أنه يقرأ تارخيا طواه البنا يوم قام للدعوة‪ ،‬وإنك‬
‫لتقرأ ما كتبه اإلخوان املسلمون يف جمالهتم وكتبهم فال تقرأ عن‬
‫الصوفية إال أحكاما سلبية تنبئ عن إغفال روحانية البنَّا ومصدرها‬
‫ومصرفها يف النظام الرتبوي لإلخوان‪ ،1‬وكان يبدأ مببايعة تتضمن‬
‫قراءة األوراد والوظيفة إىل جانب الشروط اجلهادية العامة‪.‬‬
‫بعد حنو عشر سنوات من قيام الدعوة نشر البنا منهاجا‬

‫‪ 1‬مث نشر الشيخ سعيد حوى رمحه اهلل يف آخر ما نشر كتبا قيمة عن الربانية ما أجدر أن يتأملها‬
‫بعمق الغارقون يف «اإلسالم الفكري» الثقايف‪.‬‬

‫‪453‬‬
‫يلخص ما كان فصله يف رسالة التعاليم‪ .‬يقول‪ : 1‬الواجبات‬
‫العشر‪ 1 :‬محل شارتنا ‪ 2‬حفظ عقيدتنا ‪ 3‬قراءة وظيفتنا ‪ 4‬حضور‬
‫جلستنا ‪ 5‬إجابة دعوتنا ‪ 6‬مساع وصيتنا ‪ 7‬كتمان سريرتنا ‪ 8‬صيانة‬
‫كرامتنا ‪ 9‬حمبة إخوتنا ‪ 10‬دوام صلتنا‪.‬‬
‫وكل هذه الواجبات جيمعها مفهوم الصحبة واجلماعة وهي‬
‫تفصل شروط الصحبة واجلماعة‪ .‬فرتى كيف ذهبت مصطلحات‬
‫الصوفية يف التعبري عن آداب املريد مع الشيخ والفقراء وحل‬
‫حملها تعليم أكثر تفتحا على احلياة العامة وأكثر مجعا ملعاين‬
‫احملبة والنصيحة والتضامن والوالء اجلماعي‪ .‬كان االنتماء الصويف‬
‫يعرفه الناس هبيئة املريد ونوع خرقته أو سبحته‪ ،‬وكان من املشايخ‬
‫من يلبس املرقعة ملن يراه من مريديه مياال للتكرب ليكسر غلواءه‬
‫ويسمون ذلك «خرقا للعادة» يربهن هبا املريد على هوان نفسه‬
‫عليه‪ ،‬ورمبا بلغ ببعض املشايخ الصادقني أن حيمل مريده على لبس‬
‫األمسال والتسول يف السوق ليخرجه بذلك عن عادته‪ .‬ويتسامع‬
‫الناس بذلك فيتخذها بعضهم حرفة فال يتميز لك الصادق من‬
‫الكاذبني‪.‬‬
‫فجعل البنا محل الشارة عالمة على اإلنتماء وذلك اهتمام‬
‫بالسمت واهتمام بتمييز اجلماعة عن سائر الناس ومذهب يف‬

‫‪ 1‬املذكرات ص‪.213 ,‬‬

‫‪454‬‬
‫الرتبية أجدى وأنظف وأكثر تالؤما مع املطلب اجلماعي اجلهادي‪.‬‬
‫فمن محل الشارة وحفظ العقيدة وتال الورد والوظيفة يف جمالس‬
‫اإلميان يصل فيها إخوانه وحيبهم ويعضد دعوهتم أدته الشارة‬
‫الرمزية ملوطن الصادقني واندمج مع املؤمنني‪ .‬لكن جل الناس ال‬
‫يقدر على ذلك ويقف عند الشارة‪.‬‬
‫وهذا هو الدرس الثاين من جتربة اإلخوان املسلمني‪ .‬لقد‬
‫رأينا يف حياة الشيوعيني الصينيني كيف أمكن للقيادة الشيوعية‬
‫مبحن «املسرية الكربى» أن تـَبـْلَُو الصادقني الصابرين حىت جتمعت‬
‫هلم خنبة صهرهتا ليايل اجلبال وهنارات الصحراء‪ .‬وكان «املريد»‬
‫الشيوعي يوضع ألول وهلة حبيث يربهن عن صدقه‪ ،‬فإن كان‬
‫مطلبه يف االلتحاق بالصف الشيوعي أهون عنده من بذل النفس‬
‫وبذل اجلهد نبذته اجلماعة‪ .‬ويف آخر املرحلة بعد الكفاح الطويل‬
‫واألهوال اجلسيمة محل الشارة الشيوعية أبطال وراءهم تاريخ نضايل‬
‫جبار‪ .‬ولسنا جند حرجا يف مقارنة املؤمنني الطاهرين باملقاتلني‬
‫الكافرين‪ ،‬فإمنا الناس بشر وإمنا خيارنا يف اجلاهلية خيارنا يف‬
‫اإلسالم‪.‬‬
‫كان أول واجب من واجبات املبايع املسلم من مجاعة اإلخوان‬
‫أن حيمل الشارة‪ .‬وهو واجب ميكن ضبطه يف كل جلسة وعند كل‬
‫لقاء‪ ،‬وال ميكن ضبط الصدق يف العقيدة والتالوة واحملبة والصلة‬

‫‪455‬‬
‫إال بربهان الصدق العملي‪ .‬وكان أصحاب البنا األولون ملا كانت‬
‫الدعوة يف مهدها رجاال من الذين صحبوا شابا طاهرا متيل إليه‬
‫القلوب وحتبه وتتشبه به وتلتمس عنده القدوة‪ .‬فلما حتول الشاب‬
‫زعيما خطريا تقوم له الدنيا وتقعد محل الشارة أقوام بعقلية مطالبة‬
‫واندس أقوام من العدى حتركهم نيات سياسية غرضها أن تنسف‬
‫احلركة اإلسالمية‪ .‬ومن أولئك وهؤالء تركب االضطراب العنيف‬
‫الذي آل إىل إرهابية كما تؤول كل حركة شيب فكرها ومنهاجها‬
‫بعناصر االستعجال وعناصر التخريب‪.‬‬
‫الدرس الثاين مما نتعلمه من اإلخوان املسلمني أن جتميع‬
‫األعداد اهلائلة ‪ :‬بسرعة قبل أن تعطي برهان صدقها ودون أن‬
‫يطلب منها إال مظهر محل الشارة أسلوب أشبه باألسلوب احلزيب‬
‫السياسي املعتمد على التظاهرات االضطرابية‪.‬‬
‫كانت ظروف طاغية وكان عمل الشيخ اجلليل وأصحابه‬
‫عمال صادقا تعوزه التجربة وتغنيه التجربة يف آن واحد‪ .‬ال شك‬
‫أن ما بناه الشاب اجملاهد وما أصابه من جناح وتوفيق كان كفاء‬
‫لصدق الروحانية وكفاء لعمل الليل والنهار وكفاء للمحبة اليت‬
‫وصلت قلب مؤمن زكي بقلوب مساكني كانوا يعملون يف حبر‬
‫الظلمات قبل أن يرتفع هلم نور اهلداية يف طلعة البنا‪ .‬وال شك‬
‫أيضا أن مسرية اجلهاد اإلخواين سحبت من ورائها أثقال سلوك‬

‫‪456‬‬
‫مجاعي تقوم بإصالح اخلطإ فكان جتريبية إىل حد ما‪ ،‬تلوح لك‬
‫ثغراهتا من خالل شكوى البنا مثال من صديقه القدمي السكري‬
‫الذي واله أمور اجلماعة فما هنض هلا‪ ،‬وتلوح لك من خالل‬
‫الفكر اإلخواين الذي ما متيز فيه املنهاج اإلسالمي عن أساليب‬
‫السياسة متيزا كامال‪ .‬وهكذا جتد‪ ،‬إىل جانب التطهر ونبذ النموذج‬
‫الغريب للسلوك‪ ،‬دعوة إىل الوطنية القومية يف رتبة معا جبوار العمل‬
‫بالشريعة احملمدية‪.‬‬
‫يكتب لإلخوان املسلمني تلخيصا للمنهاج العلمي ما‬
‫يلي‪ : 1‬املوبقات العشر ‪ .1 :‬االستعمار ‪ .2‬اخلالفات السياسية‬
‫والشخصية واملذهبية ‪ .3‬الربا ‪ .4‬الشركات األجنبية ‪ .5‬التقلبد‬
‫الغريب ‪ .6‬القوانني الوضعية ‪ .7‬اإلحلاد والفوضى الفكرية ‪. 8‬‬
‫الشهوات واإلباحية ‪ .9‬فساد اخللق وإمهال الفضائل النفسية ‪. 10‬‬
‫ضعف القيادة وفقدان املناهج العلمية‪.‬‬
‫املنجيات العشر ‪ .1 :‬الوحدة ‪ .2‬احلرية ‪ .3‬تنظيم الزكاة‬
‫‪ .4‬تشجيع املشروعات الوطنية ‪ .5‬احرتام القومية ‪ .6‬العمل‬
‫بالشرائع اإلسالمية ‪ .7‬تثبيت العقائد اإلميانية ‪ .8‬إقامة احلدود‬
‫اإلسالمية ‪ .9‬تقوية الفضائل اخللقية ‪ .10‬اتباع السرية احملمدية‪.‬‬
‫الدرس الثالث لنا من اإلخوان املسلمني هو أن العمل‬

‫‪ 1‬املذكرات ص‪.213 ,‬‬

‫‪457‬‬
‫اجلهادي إذا مل يؤسس على فكر ناضج سابق للعمل يتعلم من‬
‫املمارسة‪ ،‬فإمنا يكون األمر جتريبية حتمل معها عناصر ضياعها‬
‫إذ تنفتح لكل هوى وحتسب أهنا تتعلم من األخطاء مبجرد أن‬
‫هنالك أخطاء عوجلت يف وقتها‪ .‬وعند السيد املودودي منظومة‬
‫فكرية أشد متاسكا وأوسع جماال‪ ،‬لكن مكان الروحانية النورانية‬
‫يتبني لك مبقارنة نتائج األعمال‪ .‬ولقد وقى اهلل الصادقني من‬
‫عباده اإلخوان املسلمني ما كادهم العدو ورزقهم الشهادة وحسن‬
‫املآب‪ ،‬وال يزال عمل البنا وأصحابه مخرية شعورية ومنوذجا عمليا‬
‫يصرخ فينا أن اإلسالم الفكري إسالم مبتور وأن ذكر اهلل وصحبة‬
‫أهل اهلل هي املنهاج إن أقامها العلم على منهاج اجلهاد والدعوة‬
‫على بصرية‪.‬‬
‫وآخر درس نتلقاه من عمل البنا هو أن املرتفني أصحاب‬
‫املنصب والثروات ال يتحركون إال يف آخر الركب ويلتمسون مع‬
‫ذلك الصدارة والرئاسة ويفسدون العمل الصاحل بنياهتم املرتفة‪.‬‬
‫كان أتباع البنا األول من املساكني‪ ،‬من العمال والفالحني‪ ،‬يبدأون‬
‫بتواضع تلمذهتم للشيخ بتعلم الوضوء والصالة وجيمعون القروش‬
‫ليبنوا هلل بيتا‪ .‬ولقد كاد البيت يكون أمة منبعثة لوال أن هب مرتفو‬
‫الفكر واملال واجلاه جيرون خلف الزعيم الناجح ويرهقون جهاده‪.‬‬
‫وكان رجل دعوة ليس له أن يستعمل وازع السلطان ليعيد تربية‬

‫‪458‬‬
‫املرتفني كما فعل ماو الكافر من بعده‪ .‬وكانت املطالبة السياسية‬
‫بديل األسف عن تلك الرتبية املتكاملة اليت أنشأها جمدد هذا‬
‫القرن وإمامه رضي اهلل عنه وجازاه عن املسلمني خريا‪.‬‬

‫‪459‬‬
‫غضبة القطب‬
‫كتبت منذ بضعة أشهر‪ 1‬تأمالت حول فكر قطب رمحه‬
‫اهلل فاستحقت كلمايت تعليقا من صحيفة إسالمية عزيزة علينا‬
‫وكان تعليقها يف أسطر صغرية قليلة مؤداه أن صاحب الكتاب‬
‫جاء «بفكر مغريب» ينقد «فكرا شرقيا»‪ ،‬ويفعل ذلك «بصوفية‬
‫متطرفة»‪ .‬ويكفي من اإلشارة عنواهنا‪ ،‬ويكفي مها وحزنا أن يكون‬
‫وعي العاملني يف الدعوة اإلسالمية ال يعدو خطوط اجلغرافية‬
‫والقومية وال يفهم أن اجتهاد اجملتهدين يلعن من يتلقونه وحيا‬
‫منزال ال يأتيه الباطل من بني يديه وال من خلفه‪ .‬ويكفي مها‬
‫وحزنا أن يكون فكر اإلسالميني يفضل على التعلم املتواصل‬
‫بالتفتح لكل جتربة ولكل ممارسة ولكل علم عملي يأخذ كال بعني‬
‫حديدية وعقل ناقد ركودا مع املوروث املقدس‪ .‬ولعمري أن لنا من‬
‫املكدسات املقدسات ما كان يغنينا عن فكر قطب وأمثاله لوكان‬
‫قطب ذا عقلية راكدة‪.‬‬
‫إذا كنا يبلغ بنا اجلهل والعطالة أن نظن أن الفكر اإلسالمي‬
‫منا وزكا وترعرع ونور وأمثر وبلغ أوج كماله يف فكر سيد قطب‬
‫فإمنا نقرب بذلك آمال املسلمني ورجاء العامل الذي تغىن هبما سيد‬
‫‪ 1‬أنظر كتابنا «اإلسالم بني الدعوة والدولة»‪.‬‬

‫‪460‬‬
‫قطب‪ ،‬وإمنا حنكم على أنفسنا بالغباوة إذا كنا نواجه الشيوعيني‬
‫احلذاق املتطلعني لنواميس هذا العامل الصاخب بتقليد مطمئن‬
‫جلهاد رجل كيفما كان هذا الرجل حاشا املعصوم سيدنا حممد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬ولئن شئنا أن تتفتح أذهاننا للفكر املتحرر‬
‫الناقد اجملتهد فلنبدأ بتفتيح قلوبنا لإلميان حىت نصبح أهال للتأسي‬
‫برسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬وما سبيل ذلك يا ترى ؟ إن‬
‫ربكم يقول ‪« :‬لقد كان لكم يف رسول اهلل أسوة حسنة ملن كان‬
‫يرجو اهلل واليوم اآلخر وذكر اهلل كثريا»‪.‬‬
‫فإن كنا نفكر بأشكال مفرغة مسبقة‪ ،‬وحنكم على من يدعونا‬
‫لذكر اهلل الذكر الكثري بأنه صويف متطرف‪ ،‬وال حناول فهم معاين‬
‫التصوف لنعرف معىن التطرف فأحسن لنا مجيعا أن نصطلح على‬
‫أن خريا منا شهيد اإلسالم سيد قطب الذي خاصم اجلاهلية‬
‫وصب غضبه على الطاغوت املفتون الفاتن‪ .‬وأوىل لنا أن نتصاحل‬
‫على أن اإلسالم جيهله بنوه وأن القطب اجلليل بذل مهجته وكرس‬
‫عمره ليعلم املسلمني معاين العزة باهلل ومعاين اجلهاد والشهامة‪.‬‬
‫ولكل منا بعد ذلك أن يعترب أن اإلسالم يف أوج عزه وذروة‬
‫كمال فكره أو يبحث عن منهاج عملي تكون معامل طريقة ماسة‬
‫بواقع املسلمني على األرض كمساسها باملثل العليا اليت أشاد هبا‬
‫شهيدنا مجيعا رمحه اهلل‪.‬‬

‫‪461‬‬
‫صوت ارتفع يف اجلو احلالك أيام كان االستعمار ال يزال‬
‫ضاربا أطنابه يف كثري من بالد املسلمني‪ .‬وغضبة مؤمنة على ظلم‬
‫الطاغوت وتعسفه بلورت الروح اجلهادي الذي حرك اإلخوان‬
‫املسلمني على صيغة فكر مقاتل يقذف محما وشواظا من نار‬
‫على عدو اإلسالم‪ .‬وكان فكر سيد قطب رمحه اهلل قمينا أن‬
‫يكون مقدمة ملرحلة جهادية جديدة للجماعة لو كان مع الفكر‬
‫عمل تربوي يوازيه ولو مل تكتسب الظروف املعادية كثافة خلطت‬
‫املزامحة السياسية مع نصاعة البيان القطيب‪.‬‬
‫ما تقول يف جماهد كان وال يزال لسان اإلسالم الناطق بعد‬
‫نكبة إخوانه اجملاهدين؟ وما نقول يف رجل بذل نفسه وحنن قعود‬
‫باردون متدفئون بدفء االسرتواح والكسل؟ وإذا قلنا فهل يكون‬
‫قولنا نقدا يستقبله املسلمون بذهن ال جتمح به العاطفة وال يثريه‬
‫الوالء األفالطوين الومهي؟‬
‫تلك أسئلة جييب عنها كلها جيل ألف األحالم وتأمالت األبطال‬
‫األجماد بأن فكر سيد قطب فكر حتده جغرافيا حدود القومية العرقية‬
‫وحيده تارخييا حيث يتناطح حبر الظلمات اجلاهلية ببحر الغضبة‬
‫الكربى تناطحا حامسا سينجلي عن قيام الدولة اإلسالمية جملرد أن‬
‫صحنا يف أنفسنا ويف الناس أن الدين اإلسالمي هو دين اهلل الكامل‬
‫وأن احلاكمية الظاملة جيب أن نتمرد عليها ونقاتلها‪.‬‬

‫‪462‬‬
‫ولقد مت األمر أو كان قد!‬
‫إنه كان املاليني الناعسون احلاملون حباجة إىل رجة كبرية‬
‫تثري االنتباه‪ .‬فكانت الرجة هي مقتل املفكر اإلسالمي العظيم‬
‫لفتت أنظار املسلمني للدعوة القطبية‪ ،‬ونفع اهلل بكتبه أجياال‬
‫من املسلمني‪ .‬قرأوا ظالل القرآن وقرأوا الكتب األخرى فأعداهم‬
‫محاس الشهيد واستوثق من قلوهبم حسن بيانه وصدق هلجته‪.‬‬
‫وهذه مأثرة عظيمة وخطوة مهمة يف نشر الوعي اإلسالمي‪ .‬وإذا‬
‫ذكرنا الرجال بأعماهلم‪ ،‬وال تقاس الرجال إال مبا حققوا ألمتهم‬
‫من خري‪ ،‬وجدنا أن إحياء اإلسالم يف عصرنا يرجع الفضل فيه‬
‫للشيخ البنا‪ ،‬ووجدنا أن الفتنة ملا عامت على الشيخ ومجاعته‬
‫خنقت صوت الدعوة إال صوت السيد اجملاهد‪ ،‬فله فضل بث‬
‫الكلمة الطيبة إن مل يكن له أثر اإلحياء بعد املوت‪.‬‬
‫إن لغة سيد قطب هي لغة الغضب‪ ،‬وهو غضب حممود‬
‫ألنه غضب هلل ولدين اهلل‪ .‬وإذا كنا ندعو للتؤدة النبوية الصامدة‬
‫الصابرة على العمل املثابرة عليه‪ ،‬فإن الغضب هلل ال بد أن يكون‬
‫عنصرا من عناصرها‪ .‬وما كانت لنا األسوة بإبراهيم ومن معه‬
‫إال أهنم غضبوا على قومهم فقاطعوهم‪ .‬وأن غضبة آل إبراهيم‬
‫وإبراهيم عليه الصالة والسالم أفضى ذكرها يف القرآن إىل الرجاء‬
‫سى اللَّهُ أَن يَ ْج َع َل‬
‫﴿ع َ‬
‫يف قوله تعاىل بعد ذكر الغضبة واملقاطعة ‪َ :‬‬

‫‪463‬‬
‫ِ‬ ‫َّ ِ‬
‫اديـْتُم ِّمنـْ ُهم َّم َو َّد ًة َواللَّهُ قَد ٌير َواللَّهُ غَ ُف ٌ‬
‫ور‬ ‫ين َع َ‬
‫بـَيـْنَ ُك ْم َوبـَْي َن الذ َ‬
‫يم ﴾‪.‬‬ ‫ِ‬
‫َّرح ٌ‬
‫إذا كانت الغضبة تؤدي إىل الرجاء واحملبة ومن مث إىل الصرب‬
‫واملثابرة يف الطلب فهي غضبة إجيابية ألن اجلهاد احلكيم يكتمها‬
‫يف رمحة الدعوة وتؤدة النبوة‪ .‬وإذا كانت الغضبة ال تصيب تؤدة‬
‫وطول نفس فإهنا إمنا ختطط للثورة والفورة العنيفة‪ ،‬وعندئذ يغيب‬
‫مفهوم الفتنة وما أوصانا به النيب من التؤدة واحلكمة فيها‪ ،‬ويعمم‬
‫مفهوم اجلاهلية فيشمل العامل مجيعا‪.‬‬
‫إن صوت اإلسالم ارتفع قويا أخاذا يف فكر سيد قطب‪ ،‬فإذا‬
‫فهمنا أنه رجل دعوة أفرغ ما يف فؤاده من إميان وما يف عقله من‬
‫تصور لنتعلم من إميانه وعلمه فنوشك أن نتقدم يف طريقنا‪ ،‬وإن‬
‫فهمنا أن «معامل يف الطريق» اجتهاد هنائي رسم خطوط العمل‬
‫وحركية املنهاج حىت ال مزيد‪ ،‬فإمنا نعكس نية رجل من املسلمني‪،‬‬
‫وندخل يف خط النظر البطويل‪ ،‬ونرجع إىل الوراء نسبح هلل حبمده‬
‫ونلهج مغتبطني برتاث حننطه إىل جانب أكداسنا املوروثة‪.‬‬
‫لنتعلم من سيد قطب غضبته ولنخاطب املستضعفني الوارثني‬
‫غدا بلهجته العاطفية‪ ،‬لكن لننظر أي طريق وضعت هلا املعامل‪.‬‬
‫يف مقدمة الكتاب يتساءل الكاتب‪« : 1‬فكيف تبدأ عملية‬

‫‪« 1‬معامل يف الطريق» الطبعة املغربية ص‪.13 .‬‬

‫‪464‬‬
‫البعث اإلسالمي؟‬
‫إنه ال بد من طليعة تعزم هذه العزمة ومتضي يف الطريق …‬
‫متضي يف خضم اجلاهلية الضاربة األطناب يف األرض مجيعا‪.‬‬
‫متضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب‪ ،‬ونوعا من االتصال‬
‫من اجلانب اآلخر باجلاهلية احمليطة‪ .‬وال بد هلذه الطليعة اليت تعزم‬
‫هذه العزمة من «معامل يف الطريق»‪ ،‬معامل تعرف منها طبيعة‬
‫دورها‪ ،‬وحقيقة وظيفتها‪ ،‬وصلب غايتها‪ ،‬ونقطة البدء يف الرحلة‬
‫الطويلة‪ ..‬كما تعرف منها طبيعة موقفها من اجلاهلية الضاربة‬
‫األطناب يف األرض مجيعا‪ ..‬أين تلتقي مع الناس وأين تفرتق ؟ ما‬
‫خصائصها هي وما خصائص اجلاهلية من حوهلا؟ كيف ختاطب‬
‫أهل هذه اجلاهلية بلغة اإلسالم وفيم ختاطبها ؟ مث تعرف من أين‬
‫تتلقى يف هذا كله وكيف تتلقى ؟ هذه العقيدة ال بد أن تقام من‬
‫املصدر األول هلذه العقيدة ‪ :‬القرآن‪ ،‬ومن توجيهاته األساسية‪،‬‬
‫ومن التصور الذي أنشأه يف نفوس الصفوة املختارة اليت صنع اهلل‬
‫هبا يف األرض ما شاء أن يصنع‪ ،‬واليت حولت خط سري التاريخ‬
‫مرة إىل حيث شاء اهلل أن يسري»‪.‬‬
‫إنه برنامج مجيل حافل يضع للبحث النقطة احملورية اليت هي‬
‫معرفة الفاعل التارخيي الذي مساه الكاتب «طليعة تعزم العزمة‬
‫ومتضي يف الطريق»‪ .‬ويضع للبحث عالقات اإلسالم املنبعث‬

‫‪465‬‬
‫مع اجلاهلية وضرورة «العزلة من جانب واالتصال من اجلانب‬
‫اآلخر»‪ .‬فهذه اسرتاتيجية احلركة‪ .‬مث يضع الربنامج نقط البدء‬
‫ومراحل السري يف الرحلة الطويلة» ولغة اخلطاب وأسلوب العمل‬
‫وخمالطة الناس‪ .‬وكل ذلك نقط أساسية حنن حباجة للتعرف عليها‬
‫مبعامل واضحة‪.‬‬
‫لنبدأ أوال مع سيد قطب باجملتمعات اإلسالمية املعاصرة اليت‬
‫ينبغي للطليعة أن تقودها‪ .‬إهنا جمتمعات جاهلية خارجة عن دين‬
‫اهلل‪ .‬ألهنا تقبل حاكمية العباد‪ .‬يقول الكاتب‪ 1‬بعد أن عدد‬
‫جاهليات العصر ‪« :‬وأخريا يدخل يف إطار اجملتمع اجلاهلي تلك‬
‫اجملتمعات اليت تزعم لنفسها أهنا «مسلمة»‪ .‬وهذه اجملتمعات ال‬
‫تدخل يف هذا اإلطار ألهنا تعتقد بألوهية أحد غري اهلل وألهنا تقدم‬
‫الشعائر التعبدية لغري اهلل أيضا… فهي تعطي أخص خصائص‬
‫األلوهية لغري اهلل‪ ،‬فتدين حباكمية غري اهلل‪ ،‬وتتلقى من هذه‬
‫احلاكمية نظامها وشرائعها وقيمها وموازينها وعاداهتا وتقاليدها‬
‫وكل مقومات حياهتا تقريبا… وإذا تعني هذا فإن موقف اإلسالم‬
‫من هذه اجملتمعات اجلاهلية كلها يتحدد يف عبارة واحدة ‪ :‬إنه‬
‫يرفض االعرتاف بإسالمية هذه اجملتمعات كلها وشرعيتها يف‬
‫اعتباره»‬
‫كان املرحوم أرسالن يسمى إسالم معاصريه «إسالما جغرافيا»‬

‫‪466‬‬
‫وختفي العبارة حكم الكاتب وتصوره للمجتمعات اإلسالمية‪ ،‬أما‬
‫سيد قطب فيحكم جباهلية كل اجملتمعات املعاصرة‪ .‬وليس يهمنا‬
‫أن نعرف هل هذه اجلاهلية يف اعتقاده جاهلية كفر بقدر ما يهمنا‬
‫أن نعرف كيف نعاجلها‪ .‬كان الغزايل والبنا ينظران إىل األمة نظر‬
‫الطبيب إىل املريض‪ ،‬مريض مفتون حينو عليه طبيب رحيم ميرضه‬
‫ويصابره حىت يقتلع من جذور الفتنة واملرض‪ ،‬وكانا مربيني‪ .‬أما‬
‫سيد قطب فالناس يف نظره جاهلية ومصدر جاهليتهم هي هذه‬
‫احلاكمية الظاملة اخلارجة عن حكم رهبا‪.‬‬
‫فبهذه النظرة ال جند يف تاريخ اإلسالم مسلمني بعد مقتل‬
‫موالنا عثمان بن عفان إلن احلاكمية كانت للناس منذئذ وال‬
‫تزال‪ .‬األولون حرفوا من حاكمية اهلل جزءا‪ ،‬واملعاصرون حادوا‬
‫عنها مجيعا‪ ،‬لكن احلكم ينبغي أن ال خيتلف ألن حكم اهلل‬
‫ال يقبل التبعيض‪ .‬وعلى هذا األساس فكل ما يقرتح الكاتب‬
‫لعالج احلالة منطقي جدا‪ ،‬العائق الوحيد لقيام الدولة املسلمة هي‬
‫احلاكمية فمىت تسلمت الطليعة املسلمة احلكم فقد قامت الدولة‪،‬‬
‫وقبل ذلك فالثورة والتمرد مها التعبري اإلسالمي حملاربة «اجملتمع‬
‫اجلاهلي» حنن منه ونعيش فيه‪ .‬يقول‪ : 1‬إن إعالن الربوبية هلل‬
‫وحده للعاملني معناها ‪ :‬الثورة الشاملة على حاكمية البشر يف كل‬

‫‪ 1‬نفس املصدر ص‪.81 .‬‬

‫‪467‬‬
‫صورها وأشكاهلا وأنظمتها وأوضاعها‪ ،‬والتمرد الكامل على كل‬
‫وضع يف أرجاء األرض»‪.‬‬
‫لقد حلل الشهيد اجلليل حياة الصحابة ومساهم «اجليل القرآين‬
‫الفريد»‪ ،‬وعاش يف ظالل القرآن سنني طويلة ويف أرجاء السرية‬
‫النبوية‪ .‬وملخص نظرته يف حياة الصحابة أن القرآن كان النبع‬
‫الصايف الذي منه استقوا‪ ،‬وأهنم استمعوا آليات اهلل باستعداد للتنفيذ‬
‫ال بقصد التالوة والتأمل وأن كل ذلك جعل هلم «عزلة شعورية»‬
‫فصلتهم عن بيئتهم اجلاهلية‪ .‬ويستخرج الكاتب من ذلك درسا‬
‫أساسيا هو أن شخص الرسول ليس وجوده ضروريا إذ لو كان ذلك‬
‫لبطل أن اإلسالم دين اهلل لكل األجيال من بعده‪ .‬وإذن فما بيدنا‬
‫إال القرآن الكرمي‪ ،‬وإذا أردنا أن نكون مجاعة مسلمة فما علينا إال أن‬
‫حنرر ضمائر األفراد من العبودية لغري اهلل‪ .‬فإذا تساءلنا كيف نفعل‬
‫ذلك وتصفحنا كتب الناطق املسلم وجدناه يعرض علينا ببالغة‬
‫النموذج اخلالد يف نشأته وحركيته دون أن يدلنا على مكان الصحبة‬
‫يف كل ذلك وال مكان التزكية والذكر وبعث الروحانية‪ .‬يقول‪: 1‬‬
‫«وإذن فإنه قبل التفكري يف إقامة نظام اجتماعي إسالمي وإقامة‬
‫جمتمع مسلم على أساس هذا النظام‪ ،‬ينبغي أن يتجه االهتمام أوال‬
‫إىل ختليص ضمائر األفراد من العبودية لغري اهلل يف أية صورة من‬

‫‪ 1‬املصدر السابق ص‪.116.‬‬

‫‪468‬‬
‫صورها اليت أسلفنا وأن يتجمع األفراد الذين ختلص ضمائرهم من‬
‫العبودية لغري اهلل يف مجاعة مسلمة‪ .‬وهذه اجلماعة اليت خلصت‬
‫ضمائر أفرادها من العبودية لغري اهلل‪ ،‬اعتقادا وعبادة وشريعة‪ ،‬وهي‬
‫اليت ينشأ منها اجملتمع املسلم‪ ،‬وينضم إليها من يريد أن يعيش يف‬
‫هذا اجملتمع بعقيدته وعبادته وشريعته اليت تتمثل فيها العبودية هلل‬
‫وحده… أو بتعبري آخر تتمثل فيها شهادة أن ال إله إال اهلل وأن‬
‫حممدا رسول اهلل‪.‬‬
‫هكذا كانت نشأة اجلماعة املسلمة األوىل اليت أقامت اجملتمع‬
‫املسلم األول‪ ،‬وهكذا تكون نشأة كل مجاعة مسلمة وهكذا يقوم‬
‫كل جمتمع مسلم»‪.‬‬
‫وال حيب الشهيد أن يضع لنا معامل يف الطريق أخص من هذه‬
‫التأمالت للنموذج اخلالد وأخص من احلث على ضرورة التحرر‬
‫من اجلاهلية وحترير الضمائر من العبودية لغري اهلل‪ .‬وكأن كتاب‬
‫املعامل يرفض أن تكون مث أية معامل للطريق غري ما تضعه احلركة‬
‫التجريبية الواقعية من معاير‪ .‬وال حيب الكاتب أن تسبق النظرية‬
‫﴿وقـُْرآناً فـََرقـْنَاهُ لِتـَْق َرأَهُ َعلَى‬
‫املمارسة أبدا وحيتج بقوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ث َونـََّزلْنَاهُ تَن ِزيالً﴾‪.‬‬‫َّاس َعلَى م ْك ٍ‬
‫الن ِ‬
‫ُ‬
‫وإذا كان القرآن املنزل حسب حاجة اجلماعة األوىل هو‬
‫الوحي وهو الفيصل يف وقائع معينة فإن القرآن كفيل أن يريب‬

‫‪469‬‬
‫لنا عقيدة وأن يعلمنا بتأمل النموذج احلركي املشخص يف اجليل‬
‫القرآين الفريد كيف نتحرك‪ .‬وحيث الكاتب اإلسالميني على أن‬
‫يستعدوا لرحلة طويلة يفصل خطواهتا كما يلي‪« : 1‬هكذا ينبغي‬
‫أن تطول مرحلة بناء العقيدة‪ ،‬وأن تتم خطوات البناء على مهل‬
‫ويف عمق وتثبت»‪ .‬فإذا انتظرنا أن نعلم كيف جندد عقيدة وبناء‬
‫فال نتلقى إال اجلواب الدائم وهو أن احلركة تولد املنهاج وأنه ال‬
‫جمال للنظرية السابقة‪ .‬ولو قبلنا هذا املنطق وقبلنا أن املسلمني‬
‫يف عصرنا جاهليون لبقي لنا إشكال يرجع إىل اختالف ظروفنا‬
‫وظروف الذين عرفهم املسلمون من كوهنم صحابة وعرفهم الكاتب‬
‫بأهنم جيل قرآين فريد‪ ،‬ويرجع إىل ضياع اجلهد يف كل حماولة‬
‫نظرية مثل حماولة الكاتب نفسه‪ .‬لنقرأ رفض املعامل ولنعرف مكان‬
‫الرجل املمتاز بني رجال اإلسالم الفكري يف سلسلة عبده وأيب‬
‫األعلى وقطبنا احملبوب‪ .‬يقول ‪« : 2‬إن التصور اإلسالمي لألوهلية‬
‫وللوجود الكوين وللحياة ولإلنسان…يكره بطبيعته أن يتمثل يف‬
‫جمرد تصور ذهين معريف ألن هذا خيالف طبيعته وغايته»‪ .‬وهذا‬
‫كالم ال غبار عليه‪ ،‬لكن بعد هذا ‪« :‬وكل منو نظري يسبق النمو‬
‫احلركي الواقعي‪ ،‬وال يتمثل من خالله‪ ،‬هو خطأ وخطر كبري»‪.‬‬

‫‪ 1‬املصدر السابق ص‪.51.‬‬


‫‪ 2‬املصدر السابق ص‪.54.‬‬

‫‪470‬‬
‫إن من بني كتاب الدعوة اإلسالمية من يشكو يف أيامنا هذه‬
‫ركود الفكر اإلسالمي على الكثرة العددية ملا ينشر‪ .‬ولعل أهم‬
‫أسباب الركود إحجامنا عن النظر بالعني األخوية الناقدة لكل ما‬
‫كتب يف اإلسالم بعد الوحي واحلديث املصحح‪ ،‬مث لعل إحجامنا‬
‫هذا نفسه جاء من قلة ثقتنا باهلل‪ ،‬ثقة ال نزال ننتظر أن يربينا‬
‫عليها جمدد يبشر الناس بنوارنية ال إله إال اهلل ونورانية الصحابة‬
‫ألهل ال إله إال اهلل يف زمن الفتنة ‪.‬‬

‫‪471‬‬
‫االجتهاد‬
‫مفتونون حنن غري جاهليني‪ ،‬وإن كان من بيننا أهل الردة ومن‬
‫قادتنا فإن األمة املستضعفة ال تزال هي أمة سيدنا حممد سليم‬
‫اعتقادها وال ينال منها الطاغوت اجلاهلي املتكالب عليها املتألب‬
‫إال إشارة بالرأس املائل من الظلم املرتقب لرمحة اهلل الذي جعل‬
‫متسعا يف رضاه ملن أكره وقلبه مطمئن باإلميان‪.‬‬
‫ال نقاش يف أن حترك الركب اإلسالمي رهني بالوعي الواضح‬
‫لواقعنا‪ ،‬فإننا إن ذهبنا حنسب أننا مسلمون حقا فلن هنتدي إىل‬
‫الطريق بل نطمس معاملها قانعني بالفتنة املوروثة جادين بفكر‬
‫مفتون حنو واقع أشد فتنة‪ .‬لكننا إن حكمنا بأن جمتمعاتنا جاهلية‬
‫خارجة عن دين اهلل فقد كفرنا مجيعا حبكم أنفسنا‪ ،‬وحكم اهلل‬
‫أن ال عدوان إال على الظاملني وحكم رسوله أن نرفق وال نعنف‬
‫خاصة يف زمن الفتنة واهلرج‪ ،‬وإن حكمنا بأننا جاهليون فرمبا‬
‫نطمس معامل احلياة املتجددة طمسا ال رجاء معه لوضوح وسري‪،‬‬
‫إذا كنا جاهليني فما ألحد ذمة و ال ألنفسنا‪ ،‬وخلري مع ذلك أن‬
‫حنطم ونكسر ونثور ونتمرد وندمر‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬هذه اجلاهلية خالطتنا كما فتنتنا يف فكرنا كما فتنتنا‬
‫يف حسنا‪ .‬ونعم إن ضرورة حتررنا منها والتمييز عنها أسبق‬
‫‪472‬‬
‫الضروريات‪ .‬ونعم أن مفتاح اخلالص يف كتاب اهلل جيب أن جنتهد‬
‫لنعثر عليه‪ .‬فإما توبة من فتنة تعم الناس مجيعا وتسرت ويالت‬
‫املاضي ومآسيه وإما أن نعلن أن اإلسالم مات ونبحث عن عامل‬
‫غري عاملنا وعن جمتمع غري جمتمعاتنا لنبذر فيها بذرة جديدة‪.‬إما‬
‫توبة تكون هي الرفق وتكون هي التؤدة ترأب الصدع ومتحو الفتنة‬
‫وتفتح باب اجلهاد يف اجتاه التباين املطلق مع اجلاهلية‪ ،‬وإما حشر‬
‫للمحكومني اجلاهليني بأهنم ضحايا لواقع موروث حيز الضمائر‬
‫مثلما حيز الرؤوس مع احلكام اجلاهليني بأهنم ورثوا الفتنة فكانوا‬
‫أعالمها وطواغيتها‪ .‬ويف هذا نتشوف لإلمام املهدي حيمل السيف‬
‫ويقطع دابر القوم الكافرين‪.‬‬
‫إن األمة ال تزال مسلمة‪ ،‬وفتنتها عن إسالمها تدهو تارخيي‬
‫تكثفت أثناءه مبادئ العمل اإلسالمي وأساليبه وأنغمت اآلفاق‬
‫الفكرية والروحية حتت قيادات عاضة‪ .‬وما وحدت هذه القيادات‬
‫الصفوف وال مهدت للقوة إال يف فرتات متقطعة على يد رجال‬
‫استثنائيني يشرقون يف مساء اإلسالم جيددون الدين ويعزون املؤمنني‬
‫فإذا ماتوا رجع األمر كما كان دولة دائلة ومعارك بني املسلمني‬
‫هائلة خصاما على السلطان أو خصاما على اخلالفات املذهبية‪.‬‬
‫وسلمت من بعد كل هذا عقيدة األمة يف جمموعها إال هذا الزبد‬
‫من ذرارينا امللحدين‪ ،‬ومن جيل هؤالء مثقفونا وقادتنا وهو جيل‬

‫‪473‬‬
‫تتفاوت معرفته لإلسالم واعتقاده من امللحد الكافر إىل الورع التقي‬
‫وقليل ماهم‪ ،‬لكنهم يوجدون يف دواويننا وجامعاتنا ومدارسنا إىل‬
‫جانب املالحدة وإىل جانب الفاترين‪.‬‬
‫إننا مسلمون فرديون مفتونون وإننا حباجة إىل جتديد يبصر‬
‫املسلمني الفرديني مبنهاج العمل بعد أن جيدد هلم إميانا‪ .‬فأما جتديد‬
‫اإلميان فقد دلنا على وسيلته من له الوسيلة والفضيلة‪ ،‬ويكمن‬
‫السر يف الكلمة الطيبة جييئنا هبا من يقول بسلطان وراثته لنبيه‪: ‬‬
‫«قولوا ال إله إال اهلل تفلحوا !» وهو املتبوع املصحوب‪،‬وهو‬
‫ويل اهلل الذي يغضب ربه على من عاداه ويؤذنه حبرب‪ .‬ويف‬
‫تاريخ املسلمني أعظم األدلة وأوضحها على مكان اجملدد يف بعث‬
‫األمة وإحيائها‪ .‬وقد صحب عمر بن عبد العزيز إماما أنار له‬
‫جوانب قلبه كما صحبه صالح الدين وابن تاشفني وحممد الفاتح‬
‫واملكري وكثري من رجال اإلسالم اجملاهدين‪ .‬ويف تاريخ اإلسالم‬
‫أمثلة للرباين حامل الكلمة الطيبة خيرج من رباطه ليحرر األمة‬
‫ويقودها للفالح‪.‬‬
‫بيد أن الذي ال جنده يف تاريخ اإلسالم هو ذاك اجملدد الكامل‬
‫الذي يسلك باألمة منهاجا خيرجها من دائرة الدولة إىل دائرة‬
‫اخلالفة النبوية‪ .‬ونرى بداهة أن اخلروج من دوامة احلكم العاض‬
‫يقتضي اجتهادا فكريا إىل جانب الربانية بل تكون النظرية والفكر‬

‫‪474‬‬
‫عنصر! من عناصر الربانية‪ .‬إن من سبقونا من اجملاهدين كانوا‬
‫ال حيبون أن تسبق النظرية املمارسة مثلما يوصي سيد قطب‪،‬‬
‫فكان جهادهم جهادا جتريبيا يواجهون كل يوم مبشاكله ويعدلون‬
‫ويصلحون وال يتجاوزون اخلط العادي مدى حياهتم ويف نطاق‬
‫مهمة شخصية يؤدوهنا‪ .‬وملا مل يكن هلم منهاج للعمل متكامل‬
‫تدول من بعدهم الدولة وينسى اجلهاد وينسى التجديد‪.‬‬
‫االجتهاد طلب للجهاد وألساليب اجلهاد ومبادئه‪ ،‬لنفهم‬
‫الكلمة هبذه املعاين اجلذرية حىت ال يتقلص مفهوم االجتهاد‬
‫ويتحدد يف دائرة جزئية‪ .‬إن اهلل تعاىل جعل لكل أمة شرعة‬
‫ومنهاجا‪ ،‬فاجتهاد الشرع اجتهاد يرتبط باألمر والنهي واحلالل‬
‫واحلرام واحلقوق‪ ،‬وأما اجتهاد املنهاج فهو البحث عن املسلك‬
‫اإلمياين يف ظرف متغري ومع أجيال هلا خصائصها يف عامل متطور‪.‬‬
‫الفقه الشرعي اإلسالمي غين كل الغىن لو وجد جماال‬
‫للتطبيق‪ .‬لكنك ال ختلق أمة بسلطان القانون وحده وال جتدد‬
‫إميان الغافلني إن سردت عليهم ما فرضه اهلل وما حرمه‪ ،‬وسردت‬
‫عليهم «توحيدا»‪ .‬كان سيد قطب رمحه اهلل ورضي عنه يرفض‬
‫رفضا باتا يف كتبه أن يضيع رجال الدعوة جهدا يف اجتهاد الفقه‬
‫الشرعي قبل أن تقوم الدولة اإلسالمية‪ .‬ونِ َّ‬
‫عما يقول لو كان كالمه‬
‫يوضح الفرق بني نظرية اجلهاد‪ ،‬أو ما نسميه بالفقه املنهاجي‪،‬‬

‫‪475‬‬
‫وبني اجتهاد الفقه الشرعي‪ .‬لكنه رمحه اهلل يعمم‪ .‬أما األستاذ‬
‫اجلليل أبو األعلى املودودي فقد كانت ظروف دعوته خاصة‪ ،‬إذ‬
‫حضر ميالد باكستان‪ ،‬وفرح بالدولة اإلسالمية حاسبا مع الناس‬
‫مجيعا أن اإلسالم قومية أقوى من القوميات وكفى‪ .‬وشارك علماء‬
‫املسلمني الذين اقرتحوا دستورا إسالميا واقرتحوا قانونا إسالميا‬
‫للدولة الوليدة‪ .‬وكان كل ذلك اجتهادا شرعيا‪ ،‬أما االجتهاد‬
‫املنهاجي‪ ،‬أما وضع معامل الطريق فقد اقتصر على تعليم لإلسالم‬
‫الفكري مع احملاولة الطيبة لبدء حركية إسالمية خملصة‪ .‬وانتهى‬
‫األمر إىل تكوين مجاعة تشبه حركيتها إىل حد بعيد حركية األحزاب‬
‫السياسية‪ .‬وليس يهتدي اإلسالم الفكري ألكثر من هذا‪.‬ولسنا‬
‫نعيب الثقافة اإلسالمية اليت يعد السيد املودودي قطبها إىل جانب‬
‫قطبها الشهيد رمحهما اهلل‪.‬كيف وهم أساتذتنا ‍! درسنا كتبهم فما‬
‫جتدد لنا إميان حىت صحبنا رجال لقننا الكلمة الطيبة ودلنا على‬
‫ذكر اهلل وحمبته‪.‬‬
‫وكانت النهاية أن حتول محاس املسلمني يف باكستان نشوة‬
‫سياسية‪ ،‬وتعثرت الدولة إىل أن تصدعت وانشقت وضحك منا‬
‫املشركون‪ .‬ما سبق قيام الدولة فهم للمنهاج الرتبوي الذي ينقل‬
‫كل فرد من إسالمه املتقلص إىل آفاق إسالم مجاعي يدور على‬
‫احملبة والطاعة والنصيحة‪ .‬ولعله كانت السلطة يف فرتة من فرتات‬

‫‪476‬‬
‫باكستان بيد مسلمة خملصة لكن هذه السلطة ما عرفت كيف‬
‫تنظم البعث اإلسالمي مستعملة وازعي القرآن والسلطان‪ .‬إهنا‬
‫ما عرفت ذلك وأىن هلا أن تعرف وقد خترج قادة بالدنا املسكينة‬
‫املمزقة من مدرسة اإلسالم العصري‬
‫إن رفض االجتهاد املسبق منطق ما عليه سؤال إن كان‬
‫االجتهاد يعين بناء القصور يف السحاب‪ ،‬يعين ختطيط دولة على‬
‫الورق‪ .‬لكن رفض االجتهاد إعراض عن اجلهد وغرور إن كان‬
‫معىن هذا االجتهاد اكتشاف اإلسالم اكتشافا جديدا‪ ،‬اكتشافا‬
‫يعلمنا من حنن أوال‪ ،‬وهل حنن مسلمون أو جاهليون‪ ،‬ويعلمنا يف‬
‫نفس الوقت املصدر النبوي البشري للهداية‪ ،‬ويعلمنا كيف دخل‬
‫الناس اإلسالم أول ما دخلوه استجابة لدعوة الرسول‪ ،‬ويعلمنا‬
‫غرابة حياة الرسول وصحبه والغيب الذي كان يغشاهم صباح‬
‫مساء‪ .‬ويعلمنا بعد ذلك كيف نرجع حنن من موقعنا الراهن حلياة‬
‫اإلسالم كما اجتمع الصحابة من أشتات القبائل وكونوا أمة مؤمنة‬
‫ومجاعة جماهدة‪.‬‬
‫إن رجال الدعوة األجالء من أمثال الشيخ حممد عبده‬
‫واملودودي وسيد قطب يذكرون النموذج اخلالد يف كتبهم ويوصون‬
‫بالتمسك بالسنة والسري على هدي النبوة‪ .‬لكنهم ال يشرحون‬
‫لنا كيف نفعل ذلك‪ ،‬أما سيد قطب فريسلنا إىل القرآن ويوصينا‬

‫‪477‬‬
‫أن نتلقاه «بنية التنفيذ» كما تلقاه الصحابة‪ ،‬فإذا فعلنا كنا‬
‫صاحلني وكنا مؤمنني وجماهدين‪ .‬ولو كان لنا نية تنفيذ لشريعة اهلل‬
‫ملا احتجنا إىل وصية ولكنا السابقني ملرضاة اهلل‪ .‬وأما املودودي‬
‫فيعطينا برناجما أوسع من هذا يف كتابه «تذكرة دعاة اإلسالم»‪،‬‬
‫يدعونا لربط العالقة باهلل بالذكر والنفل واخللق احلسن‪.‬‬
‫نعم هذا كتاب اهلل هو الثابت املطلق يف وسط متغريات‬
‫اإلنسان وظروف حياته‪ .‬وهو مصدر اهلداية ال شك‪ .‬وربنا يعلمنا‬
‫يف أول سورة املصحف أن للقرآن مفتاحا‪ ،‬فمن جاء بال مفتاح‬
‫فال يتدبر اآليات وال يتلقى األمر بنية التنفيذ‪ .‬هذا املفتاح هو‬
‫اب‬ ‫يم الم َذلِ َ ِ‬
‫ك الْكتَ ُ‬ ‫الر ِح ِ‬
‫الر ْحم ِن َّ‬ ‫اإلميان بالغيب ‪﴿ :‬بِس ِم ِ‬
‫اهلل َّ‬ ‫ْ‬
‫ب﴾‪ .‬إذا كنت‬ ‫ين يـُْؤِمنُو َن بِالْغَْي ِ‬ ‫الَ ريب فِ ِيه ه ًدى لِّلْمت َِّق َّ ِ‬
‫ين الذ َ‬‫ُ َ‬ ‫ُ‬ ‫َْ َ‬
‫متقيا تؤمن بالغيب فلك يف القرآن هدى‪ ،‬وإال تكن فما تزيدك‬
‫التالوة إميانا‪ .‬وكان سيدنا عبد اهلل بن عمر رضي اهلل عنهما أهدى‬
‫بالغا حني أخربنا متحدثا عن نفسه وإخوته‪ « :‬أوتينا اإلميان قبل‬
‫القرآن»‪.‬‬
‫وربط العالئق باهلل هو التقوى وهو اإلميان بالغيب‪ ،‬وال إميان‬
‫إال مبحبة‪ ،‬وصدق رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم حيث قال ‪:‬‬
‫«لن تؤمنوا حتى تحابوا» وحيث قال ‪« :‬ثالثة من كن فيه ذاق‬
‫حالوة اإليمان ‪ :‬أن يكون اهلل ورسوله أحب إليه مما سواهما‪،‬‬

‫‪478‬‬
‫وأن يحب المرء ال يحبه إال هلل‪ ،‬وأن يكره أن يعود في الكفر‬
‫كما يكره أن يعود في النار»‪ .‬ولقد كان الغزايل والبنا رمحهما اهلل‬
‫تعاىل يدالن أصحاهبما على أن القلوب مترض وأن هلذه القلوب‬
‫أطباء‪ .‬وهبذا يضعون قدم املريد على أول الطريق‪ .‬نعم إن املنهاج‬
‫الصويف قد حيتاج إىل تكميل لكي يطابق املنهاج اجلهادي‪ ،‬لكنه‬
‫بربانيته يدلك على منبع اإلرادة وأصل احلركية اإلميانية ألنه يقفك‬
‫أمام املوت وحيدثك مبنهاج القرآن عن النبإ العظيم وعن مصريك مث‬
‫يرشدك إىل اهلداية وإىل الويل املرشد‪ .‬املنهاج الصويف وحده يكشف‬
‫لك مشتبكات اآليات يف قرآن ربك ويف ملكوت اهلل يف اآلفاق‬
‫وملكوته يف نفسك‪ .‬وهو وحده حيدثك عن الغيب ويزج بك يف‬
‫عامل الغيب حىت يكون لك إميان يقيين بالغيب وينفتح لك بذلك‬
‫باب الفهم يف القرآن‪ ،‬وتسلك الطريق لتحقق قابليات كمالك‬
‫الذي من أجله خلقت‪ ،‬حيث يكون اهلل تعاىل جده وتبارك امسه‬
‫وال إله غريه عينك ومسعك ويدك ورجلك‪ .‬املنهاج الصويف يدلك‬
‫على احملجة البيضاء اليت تلحقك مبوكب األنبياء خالدا يف رضى‬
‫ربك‪ ،‬وجيمع لك شتيت اجلهد ويقرب لك املطلب البعيد العزيز‪،‬‬
‫إذ جيمع مهتك على حمبة متبوع ناصح ويل مرشد‪ .‬وأنت بعدها‬
‫أما أن جتد نفسك يف ظروف فتنة ما كلفك اهلل مبناهضتها وحدك‬
‫وأفسح لك جمال الفرار بدينك‪ ،‬فتسلك سبيل اخلالص الفردي‪،‬‬

‫‪479‬‬
‫وأما أن تتسامى إىل مقام وراثة أويل العزم من الرسل فتلتمس‬
‫جهادا وجتتهد خلالص اجلماعة وتصل الصحبة باجلهاد‪.‬‬
‫وسائل يسأل ‪ :‬كيف يكون الناس مجيعا صوفية ؟ وجميب‬
‫املنهاج يذكره أن االصطالح التارخيي ووسائل الرتبية وكسر النفس‬
‫اليت علقت بالصوفية متعلقات زمانية اجتهادية‪ .‬واالجتهاد‬
‫املنهاجي يثبت على اللب وجيدد األسلوب ومنطق اخلطاب‪.‬‬
‫من تعابري سيد قطب رمحه اهلل ‪« :‬اجليل القرآين الفريد»‪،‬‬
‫تعبري يعرف به جيل الصحابة األبرار ‪ .‬ويف التعبري عدول عن‬
‫املعىن الروحي اإلنساين للصحبة إىل املعىن الفكري للتفرد باخلطاب‬
‫القرآين‪ ،‬وفيه إعجاز لألجيال الالحقة يشبه إعجاز قول امللحدين‬
‫بأن جيل الصحابة فلتة ال تعود‪ .‬وحنن نسمي الصحابة منوذجا‬
‫خالدا خللوده بالتجدد طبقا ألحاديث النيب املؤيد بالوحي حيث‬
‫قال‪ « : 1‬مثل أميت مثل املطر ال يدري أوله خري أم آخره»‪ ،‬وحيث‬
‫قال‪ : 2‬خري أميت أوهلا وآخرها ويف وسطها الكدر»‪ ،‬وحيث بكى‬
‫أصحاب رسول اهلل مقتل جعفر وعبد اهلل بن رواحة فسأهلم صلى‬
‫اهلل عليه وسلم ‪ :‬ما يبكيكم ؟ قالوا ‪ :‬ومالنا ال نبكي وقد قتل‬
‫خيارنا وأشرافنا وأهل الفضل فينا ! فقال‪ : 3‬ال تبكوا‪ ،‬إمنا مثل‬

‫‪ 1‬الرتمذي يف جامعه‪.‬‬
‫‪ 2‬احلكيم الرتمذي يف كتابه «كتاب ختم األولياء»‪.‬‬
‫‪ 3‬احلكيم الرتمذي يف «نوادر األصول»‪.‬‬

‫‪480‬‬
‫أميت مثل حديقة‪ ،‬قام عليها صاحبها‪ ،‬فاجتث رواكبها وهيأ‬
‫ساكنها وحلق سعفها‪ .‬فأطعمت عاما فوجا مث عاما فوجا مث عاما‬
‫فوجا‪ ،‬فلعل آخرها طعما يكون أجودها قنوانا وأطوهلا مشراخا !‬
‫والذي بعثي باحلق ! ليجدن ابن مرمي يف أميت خلفاء عن حوارييه !‬
‫فإن اإلسالم ما مات وإن هذه األمة حمتد الفاضلني أولياء‬
‫اهلل وما فضلنا القرن األول إال بصحبة رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬ولنا إن حنن جاهدنا جهادهم وابتغينا إىل ربنا الوسيلة‬
‫وتأسينا بسنته فضل اإلميان بشرى رسول اهلل بأننا الطائفة القائمة‬
‫على احلق حىت يأيت أمر اهلل‪.‬‬
‫إن عنوان هذا الكتاب يبشر باحلدث القريب الذي بشر به‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والتعرض ملوعود اهلل وموعود‬
‫رسوله تقوى ورباح‪ .‬وال يتم الفقه املنهاجي إن مل يكن من مقوماته‬
‫االعتقاد اجلازم بغد اإلسالم املوعود يف كتاب اهلل وسنة نبيه‪ ،‬كما‬
‫ال يتم التجديد الذي أظل زمانه إال إن نقلنا من احلكم العاض إىل‬
‫اخلالفة على منهاج النبوة مبنهاج النبوة‪ ،‬منهاج البشر الذين بعثهم‬
‫اهلل ومل يبعث مالئكة‪ ،‬بعثهم باحلق أنبياء ورسال‪ ،‬وأورث ربانيتهم‬
‫ونورانيتهم أولياء هذه األمة أهل اهلل أهل القرآن‪.‬‬
‫ولئن كان فكر العصر أعشته اإليديولوجية املبشرة بقانون‬
‫التطور وقانون االقتصاد‪ ،‬احلابسة لإلنسان اجلاهلي يف معركة‬

‫‪481‬‬
‫تناقضات قوى اإلنتاج مع عالقات اإلنتاج‪ ،‬فإن بشري رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم ال يزال ناطقا بلسان النبوة أن قد حان‬
‫الوقت لريفع اهلل احلكم اجلربي وينزل اخلالفة على منهاج النبوة‪،‬‬
‫وقانونه املقدر خيدم قضاءه احملتوم‪ ،‬فال مرد حلكمه‪ ،‬ومن فضله‬
‫علينا أن حيركنا لنقرأ على هذا اجليل حديث نبيه إذ قال ‪«1‬إن أول‬
‫دينكم نبوة ورمحة‪ ،‬وتكون فيكم ما شاء اهلل أن تكون مث يرفعها‬
‫اهلل جل جالله‪ .‬مث تكون خالفة على منهاج النبوة ما شاء اهلل‬
‫أن تكون مث يرفعها اهلل جل جالله‪ .‬مث يكون ملكا عاضا‪ ،‬فيكون‬
‫ما شاء اهلل أن يكون مث يرفعها اهلل جل جالله‪ ،‬مث يكون ملكا‬
‫جربية فتكون ما شاء اهلل أن تكون مث يرفعها اهلل جل جالله‪ ،‬مث‬
‫تكون خالفة على منهاج النبوة تعمل يف الناس بسنة النيب‪ ،‬ويلقي‬
‫اإلسالم جبرانه يف األرض‪ ،‬يرضى عنها ساكن السماء وساكن‬
‫األرض‪ ،‬ال تدع السماء من قطر إال صبته مدرارا‪ ،‬وال تدع األرض‬
‫من نباهتا وبركاهتا شيئا إال أخرجته»‪.‬‬
‫«هذا بالغ ولينذروا به وليعلموا إمنا هو إله واحد وليذكر أولوا‬
‫األلباب» صدق اهلل العظيم‪.‬‬

‫‪ 1‬رواه مسلم والرتمذي وابن ماجه بصيغ خمتلفة‪ ،‬واللفظ للشاطيب كما نقلناه من كتاب املودودي‬
‫«موجز تاريخ جتديد الدين وإحيائه» ص‪.58 .‬‬

‫‪482‬‬
‫ا لتنظري‬
‫ يتطابق حديث رسول اهلل املبشر باخلالفة على منهاج‬
‫النبوة مع بشارته بأن الكدر الذي شاب وسط هذه األمة ذاهب‬
‫وتعود األمة إىل سابق خريها‪ ،‬وإن التجديد املنهاجي يكسب‬
‫فاعليته باألبعاد اإلميانية الغيبية اليت تعطي للرجاء معناه اجلدري‬
‫فيصبح ترقبا وانتظارا‪ .‬فأما الذين عاهبم الشيخ املودودي الذين‬
‫ينتظرون مهديا هابطا بسيفه وفرسه من السماء فإمنا رجاؤهم‬
‫وترقبهم نوع من األحالم اخلرافية تتعايش مع اخلمول والكسل‪.‬‬
‫وأما الرجاء اإلجيايب فيقتضي جهادا عمليا ال يفرتق عن اجلهاد‬
‫الفكري وعن التنظري املنهاجي‪.‬‬
‫ملن ننظر منهاج البعث اإلسالمي وعلى من نعرض اإلسالم؟‬
‫إذا حكمنا أن جمتمعنا جمتمعات جاهلية‪ ،‬أو حكمنا أهنا مسلمة‬
‫ال عوج هلا‪ ،‬فتنظرينا للبعث اإلسالمي إما أن يعود بنا إىل نقطة‬
‫انطالق من الصفر‪ ،‬وال بد عندئذ من رجل واحد يقول ريب اهلل‬
‫ويدعو الناس إىل ال إله إال اهلل ليخرجوا من الكفر إىل اإلميان‪،‬‬
‫ومن اجلاهلية إىل اإلسالم‪ ،‬وإما أن يعود بنا إىل إسالم سياسي‬
‫مناط عمله جتميع الناس يف أحزاب سياسية وجتميع الدول يف‬
‫جمموعات وأحالف والناس كما هم ال يشعرون بأهنم أغيار غرباء‬
‫عن اإلسالم‪.‬‬

‫‪483‬‬
‫وكال املوقفني تعرفهما ساحة العمل اإلسالمي‪ .‬أما منطلق‬
‫التنظري املنهاجي فهو أن املسلمني جسم مريض يسمى مرضهم‬
‫العام فتنة‪ ،‬وهذا اجلسم حباجة إىل متريض وتطبيب وتربية مبعىن‬
‫الرتبية اجلذري أي مبعىن التنشئة والتنمية معا‪.‬‬
‫إن هذه املاليني الكثرية من املسلمني الوراثيني هم مضمون‬
‫األمة‪ ،‬وخيتفي عنا هذا املضمون اهلزيل حتت أشكال تسمى دوال‬
‫وتسمى أنظمة حكم وتسمى جمتمعات إشرتاكية أو ملكية أو‬
‫أمريية‪ .‬فإذا جئنا نغري الشكل دون أن يدخل يف حسابنا تغيري‬
‫املضمون فإمنا نستبدل لباسا بلون آخر نضعه على نفس اجلسم‬
‫اهلزيل املريض‪ .‬وليس مهما يف نظر احلق والواقع أن نرفع شعار‬
‫اإلسالم إال بقدر ما يكون الشعار ومحله جزءا من عملية تربوية‬
‫هدفها تغيري اإلنسان ليصبح مسلما مؤمنا‪ ،‬ينقل بالرتبية من وضع‬
‫الفتنة والغفلة عن اهلل إىل مقام اإلسالم واإلميان واإلحسان‪.‬‬
‫تنشر اليوم كثري من الكتب عن اإلسالم‪ ،‬أغلبيتها الكربى‬
‫أدب إسالمي ينظر إىل اجليل اخلالد بعني اإلعجاب والتحسر‪،‬‬
‫ويف كل صفحة يعرض جهاد عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪،‬‬
‫ويف كل صفحة يعلن أن اإلسالم سبق لكذا وكذا من أنظمة‬
‫االجتماع أو اكتشاف العلم ويف هذا األدب اإلسالمي عزاء‬
‫وسلوى وفيه أيضا تذكري ألجيال نسيت اإلسالم‪ ،‬وله أثر حسن‬

‫‪484‬‬
‫ألنه خياطب عاطفة املسلمني وإن كان هذا اخلطاب ال يتجاوز‬
‫عتبة االعتزاز القومي إال قليال‪ .‬لكن املهم يف نظرنا هو أن هذه‬
‫الكتب الكثرية ما نشرت إال استجابة لرغبة القارئني‪ ،‬فوجودها‬
‫ينم عن تطلع املسلمني إىل اإلسالم‪ ،‬ووقوف الكاتبني عند حد‬
‫التمجيد واالستذكار خيرب عن فقر الفكر اإلسالمي يف ميدان‬
‫التنظري اهلادف إىل بناء املخطط جلهاد عملي واقعي قريب ممكن‬
‫غري بعيد ممتنع‪.‬‬
‫ومن بني هذه الكتب الكثرية طائفة مما كتبه اإلخوان املسلمون‪،‬‬
‫بل إن جلها من إنشائهم‪ ،‬وتدور مجيعها من بعد سيد قطب يف‬
‫فلك اإلسالم الفكري‪ .‬فإذا جتاوزت قطبا واقتبست نفحات علوية‬
‫من اإلمام البنا حتدثت عن ضرورة الرتبية مث ال ختربنا عن مبدئها‬
‫ومعادها‪ ،‬وال تتجاوز عقلية املطالبة الناشئة عن وضع احلصار‬
‫الذي اضطر إليه رجال الدعوة اإلسالمية لتنظر انبعاثا متعديا غري‬
‫الزم يبادر إىل العمل ويفتح جماال للرتبية واجلهاد‪.‬‬
‫جل ما تقرأه إذا حتدث رجال الدعوة املسلمون عن مبادئ‬
‫اسرتاتيجية العمل اإلسالمية مبدأ حفر اخلنادق يف واجهة األعداء‬
‫احملاصرين للدعوة‪ ،‬فهناك العدو التقليدي وهو التبشري املسيحي‬
‫وهناك طاغوت احلكم وهناك العامل اجلاهلي‪ .‬ويف الواجهة املقابلة‬
‫مسلمون هلم مشاكل وبينهم خماذالت‪ ،‬فأسبق شيء إليهم أن حيفروا‬

‫‪485‬‬
‫خندقا ملصابرة طويلة طويلة‪ .‬وتقتضي احملاسبات اإلسرتاتيجية أن‬
‫تعترب قوى اجملاهد جبانب قوى العدو‪ ،‬ويف هذا احلساب يذكر‬
‫جمد اإلسالم الذي تآمروا عليه ويذكر فضل األولني‪ ،‬ويؤول األمر‬
‫إىل حب وشوق وإعجاب «باجليل القرآين الفريد»‪ .‬وكل هذا‬
‫ناتج طبعا عن حمنة املسلمني يف عصرنا‪ ،‬وكل هذا يرينا البعث‬
‫اإلسالمي بعيدا ممتنعا‪.‬‬
‫اللهم ال خري إال خري اآلخرة‪ ،‬اللهم إن النصيحة للمسلمني‬
‫تقتضي أن جنهر بإسالمنا وإن جنهر باحلق كما نراه‪ .‬فال يأخذن‬
‫إخواننا ما نكتبه إال مأخذ الظن احلسن باملؤمنني‪ ،‬وخري لنا أن نعترب‬
‫ببعض الذين ينشرون تبشريهم باإلسالم االشرتاكي وباالشرتاكية‬
‫اإلسالمية ويزكون سعي املفتونني إذ يزعمون إن االشرتاكية مرحلة‬
‫ضرورية إلحياء اإلسالم‪ .‬لنعترب هبؤالء ولننهض لنعرض اإلسالم‬
‫على إخواننا املفتونني فهم ضحايا يستحلون اجلرب اآلكل‬
‫ألجسامهم‪ ،‬ولو عرضنا عليهم املنهاج اإلسالمي بوضوح وقوة‬
‫وتعد لعرفوا به الدواء وعرفوا به داءهم‪.‬‬
‫ال شك أن يف واجهة اجلهاد اإلسالمي قوى متضافرة هلا‬
‫دخيل من بني ذرارينا‪ ،‬لكن الوقوف عند استعظام قوة اخلصم‬
‫فشل مسبق‪ ،‬ولينصرن اهلل من ينصره‪ ،‬ولن تغين عنكم فئتكم شيئا‬
‫ولو كثرت‪ ،‬وإن اهلل مع املؤمنني‪.‬‬

‫‪486‬‬
‫انظر إىل اإلمام البنا‪ ،‬إنه ما كان يتحدث عن «املرحلة‬
‫الطويلة» وعن األجيال املعدة للتضحية كما كان يفعل سيد قطب‬
‫رمحهما اهلل‪ ،‬ولكنه كان خيتم كالمه بقوله تعاىل‪ « :‬ولتعلمن نبأه‬
‫بعد حني»‪ .‬ويف اآلية شحنة من الرجاء والتوقع القريب‪ .‬هؤالء‬
‫قومنا اختذوا من دون اهلل أولياء‪ ،‬وهجروا شرع اهلل واختصموا‬
‫إىل الطاغوت‪ ،‬فهم ال يلتمسون حال إال عند الفكر اجلاهلي‬
‫وال منوذجا إال يف اجلاهلية‪ .‬وقد ثبط اهلل عزائمهم بقهره فآبوا‬
‫خاسرين‪ ،‬وقد ابتعث اهلل من بني عباده الكافرين دوال أويل بأس‬
‫يعذب هبم يف الدنيا أجيالنا املفتونة وخيضد هبم شوكة الفتنة حىت‬
‫لتسمع اليوم نربة األسى يف صوت قوادنا املتهدج إذ يلفظون‬
‫شعارات اإلسالم‪ .‬وما بينهم وبني اإلسالم إىل التوبة‪ ،‬نعرضها‬
‫عليهم وندهلم على أهنا باب العمل املفتوح دائما إن قبلوا شروطها‬
‫واستطاعوا أن ينبذوا ذهبهم ودبدهبم وقبقبهم وينزلوا من القصر‬
‫إىل خيمة اجلهاد مع املستضعفني الوارثني‪ .‬وإنك لتسمع من قادتنا‬
‫من يلهج باإلسالم هلجا‪ ،‬لكن عميت عليه أنباء اإلسالم فأمره‬
‫اشرتاكية قومية يسبح اإلسالم يف جلتها سبحا‪.‬‬
‫فلكل هؤالء ينبغي لرجال الدعوة أن ينظروا‪ ،‬ينبغي أن يذكروهم‬
‫بفضل األولني يف سياق يفتح اآلفاق لتجديد اجلهاد‪ ،‬وينبغي أن‬
‫يرمسوا الغذ كما يصفون هلم النموذج اخلالد‪ ،‬ولن يفيد شيئا أن‬

‫‪487‬‬
‫نتيه إعجابا بالسابقني أن مل نقرن جهادهم باخلط اجلهادي اخلالد‬
‫الذي سنسري فيه غدا بعد ارتفاع الكدر ورجوع اخلري إلينا من ربنا‪.‬‬
‫ال بد مع الرتبية وتطبيب القلوب من فكر يسبق املمارسة‪،‬‬
‫وإن كان الفكر يضع منهاجا من شأنه أن حيطم الكربياء ويرجع‬
‫الناظر إىل موقف الفطرة‪ ،‬فإن هذا الفكر حيمل يف طياته داعي‬
‫التعلم من املمارسة كما يليق بإنسان الفطرة الذي يعجب من كل‬
‫شيء‪ ،‬ويتعلم من كل شيء آخذا العلم من ربه اخلالق لكل شيء‪.‬‬
‫وهذا الفكر املنهاجي يتضمن مبدأ العلم والتعلم ومعناه ختطيط‬
‫الفكر املسبق للمارسة وتطعيم املمارسة للفكر‪.‬‬
‫واملنهاج النبوي الذي نعرضه ال يقصر ضرورة التعلم على فئة‬
‫من األمة دون فئة وال حيصر ميدان التعلم يف املمارسة اإلسالمية‬
‫دون غريها‪ .‬فكتاب اهلل مصدر جهاد املسلمني وسنة رسوله‪ ،‬مث‬
‫بعد ذلك ومعه هذا العامل احلافل بالنشاط والتجارب والنظريات‬
‫عطاء من ربك غري حمظور‪.‬‬
‫مث هل ميكن أن ننظر لالنبعاث اإلسالمي دون أن نعترب‬
‫اجلرب الفكري املنتشر وباؤه فينا‪ ،‬وأعين الفكر املاركسي ؟ وهل‬
‫ميكن أن ننظر إلسالم الغد غري ناظرين للجاهلية املذهبية املتحدية‬
‫للعامل يف هيكل روسيا الفوالذي ويف تربية الصني العتيدة‪ 1‬؟ دعنا‬

‫‪ 1‬كان ذلك ومها عاش عليه العامل سبعني سنة‪،‬مث اهنار ذلك الصرح وخرت الشيوعية على وجهها‪.‬‬

‫‪488‬‬
‫من خزعبالت البنية التحتية اليت تشع البنية الفوقية‪ ،‬ودعنا من‬
‫خزعبالت احلتميات التارخيية‪ ،‬فإن كل ذلك أصبح هراء منذ‬
‫عرف الصينيون السياسية بأهنا تضحية وخدمة للجماهري‪ ،‬أي أهنا‬
‫عمل إرادي يف أقصى ما ميكن من الذاتية‪.‬‬
‫دعنا من تفاصيل الفكر املاركسي وشعبه فإمنا يستحق منا الرثاء‬
‫إلنسان اجلاهلية الذي ال يعرف ربه فال يعرف مصريه بعد املوت‪،‬‬
‫وال بأس علينا من حتليله للتاريخ التكاثري هذا التحليل اخلبري فقد‬
‫يفيدنا أن نتعلم منه رداءة اإلنسان وهويه إذا سقطت مهته بسقوط‬
‫إميانه باهلل إىل حيث تتحكم فيه قوانني الصراع الطبقي‪.‬‬
‫تعلمنا من الصني أن البنية الفوقية هي العامل األول يف‬
‫البناء‪ ،‬وتعلمنا من أولئك الفالحني والعمال الصينيني إن «أسبقية‬
‫السياسة» شعار عقدي يفعل يف الناس فعل السحر‪ .‬وإذن فلنعرض‬
‫منهاجنا النبوي عرضا حركيا يوقظ الوعي يف ضمري احلاكم املفتون‬
‫ويف ضمري األمة الغارقة يف أوحاهلا‪.‬‬
‫من رجال االجتماع فرنسي يدعى تورين ‪Alain Touraine‬‬

‫عرض ثالثة مبادئ‪ 1‬يلخص فيها حركية العمل االجتماعي‪،‬‬


‫وخاصة عمل التجمعات املطالبة حبقوقها مثل جتمعات العمال‪.‬‬
‫مبادئه الثالثة متكن كل جمتمع من حل مشاكله بتعريف نفسه‬

‫‪.Alain Touraine, Sociologie de l’action Paris, 1965 1‬‬

‫‪489‬‬
‫تعريفا واضحا‪ .‬ومعىن تعريف النفس الوعي بالذات‪ .‬مبادىء‬
‫جاهلية ننظر إليها لنقيسها مبعيارنا املنهاجي‪ .‬فنحن أوال نريد‬
‫مجاعة ال جمتمعا وحركية اجلماعة غري حركية اجملتمع‪ ،‬لكننا معا‬
‫حنتاج لوعي ذاتنا‪.‬‬
‫‪ .1‬املبدأ األول ‪ :‬مبدأ االنتماء « ‪»Principe d’Identité‬‬

‫فاجملتمع اجلاهلي يعي انتماءه للشعب أو التجمع العمايل أو‬


‫غريمها انتماء مطالبة ومصلحة وأمن وحقوق‪ .‬يف اجملتمع تضمن‬
‫أسباب العيش وباإلنتماء للمجتمع تصان األرزاق‪.‬‬
‫وحنن املسلمني‪ ،‬قادة ورعية‪ ،‬نشعر بالضياع على مأدبة اللئام‪،‬‬
‫فنحن نؤكد ألنفسنا أننا ننتمي للقومية اجمليدة لكننا يف الواقع ال‬
‫انتماء لنا ألن ريح الغلبة متيل بنا ذات اليمني وذات الشمال‪،‬‬
‫وحىت على مستوى العادة الذي تعيش يف نطاقه اجلاهلية ال نعرف‬
‫من يصون حقوقنا فنبذل له الوالء‪ .‬وعلى هذا فلنا مثلما للجاهلية‬
‫عقلية مطالبة لكنها مطالبة طياشة كما يناسب جمتمعات منحلة‪.‬‬
‫والبديل اإلسالمي هلذا الوضع االلتفاف حول قائد جماهد‬
‫نوليه حبنا إن برهن لنا مسبقا عن أهليته وصدقه‪ ،‬مث يقودنا ويربينا‬
‫حىت تستيقظ منا الضمائر وتستنري القلوب باإلميان ويتحرر العقل‬
‫ونكون أمة واجب ال شعب مطالبة‪ ،‬حىت نكون مجاعة بانية‬
‫جماهدة‪ .‬فصحبة ومجاعة إذن‪ ،‬وقوامها احملبة والطاعة والنصيحة‪.‬‬

‫‪490‬‬
‫« ‪»Principe d’opposition‬‬ ‫‪ .2‬املبدأ الثاين ‪ :‬مبدأ التعارض‬
‫الذي مييز جمتمعا ما أو كتلة ما‪ ،‬هو تعارضها مع مصاحل اجملتمعات‬
‫والتكتالت األخرى‪.‬‬
‫وحنن املسلمني نشعر شعورا مريرا بعداوة العامل لنا‪ ،‬فتميزنا‬
‫عنه متيز سليب‪ ،‬متيز مطالبة وأسى على الظلم احلاضر واملاضي‪،‬‬
‫ومتيز نقص ألننا شعوب متخلفة‪ ،‬ومتيز هزمية ألن بالدنا املقدسة‬
‫تطأها أقدام جنسة‪ .‬ويف داخل كل هذا متيز خاص برجال‬
‫الدعوة اإلسالمية وتعارض‪ ،‬إذ يرون غريهم جاهليني ويتقمصون‬
‫دور التضحية التارخيية املكيدة املضطهدة من جانب الصليبية‬
‫والطاغوت احلاقدين‪.‬‬
‫والبديل اإلسالمي هلذا هو اإلجيابية اليت تعرب اخلصلة الثالثة من‬
‫خصالنا العشر‪ ،‬وهي الصدق‪ .‬فتميز مجاعة املؤمنني ال يقف عند‬
‫تعارض الكفر مع اإلميان بل هو متيز اإلنسان احلي عن اإلنسان‬
‫امليت ومتيز اجملاهد املتجدد اجلهاد عن إنسان العادة‪ .‬ومعىن التميز‬
‫عن العادة االرتفاع عن مستوى الشعوب اجلاهلة لقيمة اإلنسان‬
‫الكافرة باهلل واليوم اآلخر واالرتفاع عن مستوى عادة القعود‬
‫وعادة االسرتواح والرتف يف املتاع املادي أو اإلغراء الثقايف‪ .‬إنه‬
‫متيز إقالع ومتيز استمرار جهادي‪ .‬وتصور لنا حركة املسلمني‬
‫األولني مع أبينا ابراهيم ومع سيدنا حممد عليهما الصالة والسالم‬

‫‪491‬‬
‫قوة الصادقني اليت ال تقاوم وحركية اجلماعة اجملاهدة املناهضة‬
‫للجاهلية‪ ،‬لكن املطمئنة القادرة على محل رسالتها الراجية أن‬
‫تكون بينهم وبني العامل مودة‪ ،‬واهلل قدير واهلل غفور رحيم‪.‬‬
‫‪ .3‬املبدأ الثالث ‪ :‬مبدأ الشمولية « ‪»Principe de Totalité‬‬
‫إن أي جمتمع أو جتمع حركي ينبعث استجابة لفلسفة أودين أو‬
‫إيديولوجية‪ .‬ونكمل مفاهيم صاحبنا باملفهوم املاركسي للشمولية‪،‬‬
‫وهي تفسري اإلنسان والتاريخ واملبدإ واملعاد تفسريا حميطا بكل‬
‫نشاط اإلنسان عارفا بقوانني االجتماع وبضروب االستغالل اليت‬
‫تستلب اإلنسان وحترفه عن مصريه‪ .‬ولكل فلسفة أو مذهب‬
‫جاهلي تصورها للعامل واإلنسان‪ ،‬وجتتمع كلها يف لون الدوابية‬
‫اليت تسمى للتشريف بلساهنم «إنسية»‪.‬‬
‫وحنن املسلمني املفتونني غفلنا عن اهلل واخنرمت صفوف‬
‫الصالة يف املساجد كاخنرام صفوفنا أمام العدو ملا ذهبت عقيدة‬
‫اجليل احلاكم وفرتت عقيدة األمة تلوي عنقها حنو املتاع املادي‬
‫والقيم املادية كغاية هلا‪.‬‬
‫والبديل احلق لكل هذا الباطل ذكر اهلل الذي ال ينفصل عن‬
‫مبدأي االنتماء والتعارض‪ ،‬أو قل ذكر اهلل مع الصحبة واجلماعة‬
‫ومع الصدق‪ .‬وبذكر اهلل والتقرب إليه بالفرض والنفل جتلى القلوب‬
‫ويشرق نور اإلميان‪ ،‬وبذلك يتحول املسلمون املفتونون‪ ،‬أفرادا‬

‫‪492‬‬
‫يف حضن مجاعة‪ ،‬ومجاعة يف صحبة قيادة جماهدة‪ ،‬من وضعهم‬
‫الراهن غري املستقر إىل مقام أوىل الذمم الذين يوفون بعهد اهلل‬
‫وال ينقضون امليثاق والذين يتبايعون على نصرة اهلل فينصرهم اهلل‪.‬‬
‫إن مقادة اإلنسان ال تعدو هذه النقط الثالثة‪ ،‬وإن تنظري‬
‫البعث اإلسالمي إن عرفنا وضعنا الراهن بوضوح وعرفنا كيف‬
‫حنول انتماءنا وكيف نتميز عن الشعوب واجلماهري لنكون أمة‬
‫حاملة رسالة تبشر العامل بأن اإلنسان ليس دابة وتربهن على‬
‫صدق رسالتها بواقع إسالمي يزري كماله ومجاله مبجتمعات‬
‫اجلاهلية‪ ،‬إن كان التنظري مشوليا على هذا النحو ودل على نقطة‬
‫البدء وهي الصحبة واجلماعة‪ ،‬واجلماعة بصحبة‪ ،‬فقد بان الطريق‬
‫للعمل‪ .‬ومن عند اهلل بعدئذ يأيت املدد فريتفع الكدر مث تكون‬
‫خالفة على منهاج النبوة تتدرج من حتقيق األهداف اإلسالمية‬
‫للمقاصد اإلميانية فالغايات اإلحسانية‪.‬‬

‫‪493‬‬
‫ا لتنظيم‬
‫ جاءت مبادىء صاحب االجتماع مطابقة خلط اخلصال‬
‫اإلميانية اإلحسانية واحنسر الفكر اجلاهلي يف تقليب األفكار‬
‫تقليبا علميا‪ ،‬واستفدنا حنن حكمة تعلن دمغ الباطل حني يقذف‬
‫باحلق‪.‬‬
‫ووقف بنا الشعور حباجة التجديد اإلمياين إىل اجتهاد يلح‬
‫علينا أن اجلهاد اإلسالمي مفتاحه رجل يقول ال إله إال اهلل وإىل‬
‫تنظري يلح علينا أن الصحبة والصدق املفضيني إىل حترير اإلنسان‬
‫من جهله وجهالته ترسم خط السري‪ .‬وثالثهما احلاجة إىل التنظيم‪.‬‬
‫ذلك ألن العنصر النظري الثقايف‪ ،‬أو قل بلسان اإليديولوجية‪ ،‬إن‬
‫البنية الفوقية إن كانت حتدد القيم وتعلم التصور الشمويل وتفرض‬
‫معايري العمل فإن البنية االجتماعية تستعصي على التغيري ويقاوم‬
‫الناس مستندين إىل العادات االجتماعية كل حماولة للتجديد‪.‬‬
‫فمن هنا يلزم أن نكتشف دخيلة العالقات اجملتمعية قبل أن نشرع‬
‫يف تغيريها ونتمكن من وضع عالقات مجاعية إطاعة حلركية التغيري‬
‫بدهلا‪.‬‬
‫ومبا أن عالقاتنا املوروثة‪ ،‬عالقات التاريخ املفتون‪ ،‬مل تغري‬
‫منها الظروف احلاضرة إال املظهر واللون وعززت طبيعة االستغالل‬
‫‪494‬‬
‫واالستعباد والتسخري فيها‪ ،‬فينبغي أن نفقه أن تصاحلنا مع األوضاع‬
‫الراهنة بإسالم نسيب ال يشبه تفاهته كمقصد إال رجوعنا إىل‬
‫عالقات ما قبل االستعمار‪ .‬وينبغي أن نفقه أن التغيري اإلسالمي‬
‫اجلذري الذي نريده إن كان من احلكمة والضرورة أن يقبل فرتة‬
‫انتقال من األوضاع املفتونة إىل مقامات النظام اجلماعي فواجبنا‬
‫أن نتيقظ لكيال تطول املرحلة فتنعكس املطالبات االجتماعية‬
‫على حركية التغيري وميسخ الواقع اجملرور القوة الناقلة أداة للحركة‬
‫الدائرة اليت ال تربح مواقع الفتنة والتبعية للجاهلية‪.‬‬
‫إن عاملنا عامل تتضارب فيه عقليتان تنظيميتان‪ ،‬إحدامها تنظم‬
‫اجملتمع على أساس حرية الفرد يف زعمها‪ ،‬واألخرى تنظمه على‬
‫أساس خدمة اجلماعة يف زعمها‪ ،‬وبني النموذجني اجلاهليني لقاء‬
‫حمتوم على صعيد القمع االجتماعي‪ .‬وال خيتلف التنظيمان إال‬
‫من حيث أن جمتمع اإليديولوجية ميارس القمع بسذاجة تتمثل يف‬
‫عنف ستالني‪ ،‬وأن جمتمع الفوضى يتثاقل حتت ممتلكاته وحاجاته‬
‫اليت ال تنتهي فيضطر ملزاولة قمع علمي يتمثل يف التسخري‬
‫السياسي ويتمثل يف اآللة القانونية اليت ختنق الفرد قبل ميالده‬
‫وتضع يف عنقه أوهاقا فال يتحرك إال مبقدار وال يتصرف إال وفق‬
‫قانون مسبق وضعته ضرورة جمتمع استهالكي تستعبد كماشته‬
‫االقتصادية عمل اإلنسان ووقت اإلنسان وضمري اإلنسان‪.‬‬

‫‪495‬‬
‫التنظيم االجتماعي اجلاهلي بنيته قائمة على ضرورات‬
‫املشروع االقتصادي‪ ،‬فعند جاهلية الكثرة والتكاثر يستعلي قوم‬
‫باملال والتكنولوجية فهم طبقة برجوازية كما يعربون‪ ،‬وطبقة أخرى‬
‫ورثت استعباد القرون فهي كادحة عاملة‪ ،‬وتتخاصم الطبقتان‬
‫وتتقاتالن مث تصطلحان على رفع مستوى املعيشة‪ ،‬وهم الليل‬
‫والنهار املطالبة واملنازعة‪ .‬وعند جمتمع الثورة جتد اجلماهري تنظم‬
‫غداة الثورة تنظيما جادا بوازع التعبئة الثورية‪ ،‬بالتهديد واملوت يف‬
‫روسيا‪ ،‬أو بالرتبية وإعادة الرتبية يف الصني‪.‬‬
‫التنظيم االجتماعي اجلاهلي قائم البنية على عالئق اقتصادية‬
‫تطابق قوى اإلنتاج أوال تطابقها وتوفر البضاعة املادية للمستهلكني‪،‬‬
‫وكل من يف بالد اجلاهلية ال تعريف له إال أنه مستهلك‪ ،‬فهو مبعيار‬
‫اإلسالم مسخ‪ ،‬وحنن مبعيار اجلاهلية متخلفون‪ .‬فأيا ما التفتنا حنن‬
‫األمة املستضعفة طلع علينا األكلة على مأدبة اللئام بوجه املقاتل‬
‫القوي الطاعم الكاسي وهم صف معبأ متحد متضامن منظم‪،‬‬
‫وحنن ال نظام لنا‪.‬‬
‫فحاجتنا إىل تنظيم األمة غداة عودة اإلسالم كحاجة اجليش‬
‫إىل تعبئة صفوفه غداة القتال‪ .‬لنا بنية اجتماعية موروثة‪ ،‬وهي‬
‫بنية فتنة مسخت البنية اجلماعية األوىل‪ .‬فنحن جمتمع وجيب أن‬
‫نتحول يف ظل اإلسالم غدا مجاعة‪ .‬وجيب أن تكون بني املؤمنني‬

‫‪496‬‬
‫روابط مجاعية بدل العالقات االجتماعية‪ .‬يف الفصول السابقة رأينا‬
‫أن روابط اجلماعة منواهلا احملبة‪ ،‬والطاعة باملبايعة العامة سداها‪،‬‬
‫وحلمتها النصيحة هلل ورسوله واملؤمنني‪ .‬فهذا نسيج فريد … نظريا!‬
‫أما عمليا فالشوط بني بنيتنا املهزولة وبني بناء التعبئة طويل‬
‫يبدو‪ ،‬واجلهاد لتحويل املسلمني احلاليني عن شحهم وأنانيتهم‬
‫وعادهتم ال بد أن نشمر له تشمريا بعيدا‪ .‬ولعلنا إن كشفنا عن داء‬
‫جمتمعاتنا املريضة كشفا موثوقا به وعرفنا الوصفة النبوية لعالجه أن‬
‫نقرب الشوط وأن جيلو لنا اجلهاد‪.‬‬
‫كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يوحى إليه فيخرب أصحابه‬
‫وخيربنا معشر الذين يلقون السمع وهم شهداء مبا سيقع ألمته‬
‫العزيزة‪ ،‬ويوصي بالسلوك املنجي من الفنت‪ .‬فكان فيما أخرب به‬
‫مآل األمة يف زماننا وضعفها وهزميتها وهواهنا على أكلة املائدة‬
‫اللئام‪ .‬قال صلى اهلل عليه وسلم « يوشك أن تتداعى عليكم‬
‫األمم من كل أفق كما تداعى األكلة على قصعتها‪ .‬قال ‪ :‬قلنا ‪:‬‬
‫يا رسول اهلل ! أمن قلة بنا يومئذ ؟ قال ‪ :‬أنتم يومئذ كثري‪ ،‬ولكن‬
‫تكونون غثاء كغثاء السيل‪ ،‬تنتزع املهابة من قلوب عدوكم وجيعل‬
‫يف قلوبكم الوهن‪ .‬قال ‪ :‬قلنا ‪ :‬وما الوهن ؟ قال ‪ :‬حب احلياة‬
‫وكراهية املوت !»‪.1‬‬

‫‪ 1‬اإلمام أمحد وأبو داود والبيهقي عن ثوبان‪.‬‬

‫‪497‬‬
‫وذكر اهلل تعاىل املشركني يف القرآن فقال ‪ « :‬ولتجدهنم أحرص‬
‫الناس على حياة» فهم حيرصون على حياة أي حياة‪ ،‬أي أهنم‬
‫يقنعون باحلياة الدوابية البيولوجية ويلتصقون باألرض وقيمها‪.‬‬
‫فلما خبت جذوة اإلميان يف قلوب املسلمني احنطوا إىل مصاف‬
‫الذين حيرصون على حياة أي حياة ولو كانت حياة هوان‪ .‬وهبذا‬
‫احلرص يفر اجلندي من القتال ويشتغل املرتف بشهواته غداة‬
‫املعركة وتباع الذمم للعدو وخيون الساسة والقادة وربائب اجلاهلية‬
‫دينهم وأمتهم حرصا على حياة أي حياة‪.‬‬
‫وبذلك كنا غثاء كغثاء السيل‪ ،‬والصيغة تدل يف العربية على‬
‫املرض والقلة كما تدل املادة على اهلزال والضعف‪ .‬وهذا التنب‬
‫البايل والقاذورات اليت حيملها السيل ال متاسك هبا وال قوة هلا‪.‬‬
‫وليس يزيدها كثرة العدد إال إحلاحا يف اإلشارة إىل مكان الداء‪.‬‬
‫فها حنن أوالء سبعمائة مليون نسمة‪ ،‬كثريون كثرة الصينيني !‬
‫لكن يا أسفا على املقارنة ! إنه ال يذكر كثرة اخلرباء وقوهتم يف‬
‫عددهم ذلك إال ضآلتنا وجهلنا وضعفنا!‬
‫أفنجنح إىل عصبية نقاتل عليها كما أوصانا حممد عبده‪ ،‬أم‬
‫أن الغثاء والقلوب اجلبانة تتجدد هلا حياة بالقومية واالشرتاكية ؟‬
‫كال ! فإن املرض ال يربأ إال بتطبيب ماهر‪ ،‬وإن القلوب اخلاوية‬
‫اليائسة احلريصة على حياة أي حياة ال ُْتلَى إىل حبقنة الربانية‬

‫‪498‬‬
‫وال يذهب وهنها فتعبأ لبذل النفس والنفيس إال مبا أصلح قلوب‬
‫احلواريني واألصحاب‪ ،‬فمن الشك والتخاذل السائدين يف جمتمع‬
‫الكراهية واهلزمية ال نقلة لنا حىت نعيد بنية األمة الغثاء حبيث‬
‫يقودها وينفخ فيها من روحه من ذكروا اهلل حىت أتاهم اليقني‪.‬‬
‫إن االنقالبية واالشرتاكية متوجات متر على سطح اجملتمع‬
‫الغثائي وال تبلغ من الناس إال األذان وإال طاعة منقادة خائفة‪.‬‬
‫فعلى سطح جمتمعاتنا املفتونة نشاهد غليان فتية رفعت احلمية‬
‫القومية تغدوها اإليديولوجية من غضبهم‪ ،‬ثاروا على االستغالل‬
‫من جانب املرتفني وثاروا على هزمية األبطال املستكربين‪ .‬فلما‬
‫تسلطوا على األمر حبق شجاعتهم ومغامرهتم حبوافز العصيبة‬
‫والشرف القومي والتحرر العاملي استعملوا سلطان فكرهم وسلطان‬
‫يدهم ليكيفوا اجملتمع الراقد املائت مع أهدافهم يف البعث القومي‬
‫ومزاحمة أمم األرض على مائدة العامل‪ .‬وال تستجيب األعداد‬
‫الغثائية لنداء وال تتحرك لتعبئة إال مبقدار ما تشتد نربة الصوت‬
‫وحتمر احلدق‪.‬‬
‫ونتيجة هذه التحركات الثورية من بعد التحركات اليت سبقتها‬
‫يف عهد االستعمار ويف عهد االستقالل السابق للثورة واالنقالب‬
‫أن اجملتمع الغثائي فقد توازنه السكوين املوروث دون أن جيد توازنا‬
‫جديدا يستقر عليه فتتكون له ظروف العمل والبناء‪ .‬يف أسفل‬

‫‪499‬‬
‫السلم االجتماعي الغثائي مسلمون عقيدهتم ال تزال صافية قوية‬
‫كعقيدة العجائز أو يشوهبا شوائب ترجع للجهل والعادة أكثر‬
‫مما ترجع للكفر املفلسف‪ ،‬ويف أعلى السلم طبقات من الناس‬
‫تتصارع على السلطة فطالع هابط‪ ،‬وما منهم إال من يفقر األمة‬
‫املغلوبة الواهنة ليعد العدة يف أبناك اجلاهلية إما لغد االنقالب‬
‫وإما لتدمري أعداء الثورة يوم حتني الفرصة‪.‬‬
‫ال توازن هناك وما يغين أن يكون للغثاء توازن‪ ،‬وترتفع درجة‬
‫التوثر بني طبقات جمتمع الكراهية وأحزابه وأجياله على السطح‬
‫املرتف جباهه وثقافته ويف الساحة متفرجون ال يشرتكون يف حركات‬
‫املسرح‪ ،‬وفيهم تكمن بذور اإلميان‪ ،‬وهم املستضعفون الوارثون‪.‬‬
‫فمن كان من املسلمني يف زماننا يرثي حلال اإلسالم بصدق‬
‫وجيتهد فال جيد جماال للجهاد فذلك معقد أمل للغد‪ .‬ومن كان‬
‫صادقا يف غضبه على ظلم الظاملني وهب يثور ثورته وينقلب‬
‫انقالبه باحثا عن شهامة ورجولة فذاك قوة اإلسالم املذخورة ليوم‬
‫تتفتح فيه عينه على احلق املنزل واحلق العلمي واحلق الواضح الذي‬
‫هو أننا لن حنرك هذه األمة أبدا إن مل خناطبها بلغة تفهمها وإن مل‬
‫جنتهد ليعود نبع اإلميان باهلل واليوم اآلخر إىل صفائه يف القلوب‪.‬‬
‫وإن هذه األمة ليست هي هؤالء املرتفني املخنثني الذين جيلسون‬
‫يف نواديهم يثريون جدال حول العدل االشرتاكي‪ ،‬جدال من جدل‬

‫‪500‬‬
‫الصالونات‪،‬وحشو أحدهم جهل وارتياب يف ضمريه وعقله‪ ،‬ويف‬
‫نيته مشاريع ليتسلق هام الشعب احملتقر يف صميم اعتقاده الصاحل‬
‫ليكون عتبة الصعود‪ ،‬ويبذر أموال املسلمني املستضعفني‪ .‬وليست‬
‫األمة هي هؤالء املتورطني يف الثورة القومية واالشرتاكية يتظاهرون‬
‫يف منتديات السياسة العاملية ومع قومهم أحالس اخلبائث وفراعنة‬
‫االستكبار‪.‬أولئك طبقة تقشر ويعاد هتذيبها حىت جتد‪ ،‬إن صدقت‬
‫وأعطت الربهان‪ ،‬مكاهنا يف أحضان األمة التائبة‪.‬‬
‫إن إسالمنا العزيز وبعثتنا غدا لعزة وعد اهلل هبا املؤمنني لن‬
‫تغري األمة حرصا على توازن أي توازن بل سيغري منكر االستكبار‬
‫الرتيف‪ .‬وحنب أن نذكر أن الرتف يف لساننا مقولة منهاجية حركية‬
‫تشخص مرضا‪ ،‬وال نقصد هبا ثلبا خلقيا‪ ،‬ومتحو طبقية الظلم‬
‫لتحل حملها بنية مجاعية إسالمية إميانية إحسانية‪ ،‬فأئمتنا غذاهم‬
‫الربانيون املؤمنون احملسنون‪ ،‬ووالء اجلماعة ال ينفتح إال ملن هاجر‬
‫وأعطى برهان الصدق على ذلك برهانا مستمرا يف كل صباح‬
‫ومساء‪ .‬واملسلمون بعد ذلك يف توادهم وترامحهم كاجلسد إذا‬
‫اشتكى منه عضو تداعى له سائر اجلسد بالسهر واحلمى‪.‬‬
‫هذا البناء العضوي هو تنظيم اجلماعة وإنه لتنظيم مراتب‬
‫اخلدمة ونفع الناس‪ ،‬وإنه لتنظيم أدوار أرضية ميثلها مؤمنون هلم‬
‫روحانية كشفت هلم عن الغيب فازدادوا إميانا ويقينا وعلموا أن ال‬

‫‪501‬‬
‫خري إال خري اآلخرة‪ ،‬فهم لذلك يعملون ولرضى رهبم يسارعون‬
‫ومغفرته‪ .‬هذه رمحتنا بيننا غدا يوم تقوم قائمة اإلسالم إىل اإلمام‬
‫اجملاهد والؤنا وجلماعة املؤمنني‪ ،‬وإىل اهلل مرجعنا فنحن له يف كل‬
‫حركة عابدون‪ .‬وأما مبدأ الرفق جتاه العامل الذي يعوض يف شرعة‬
‫اإلسالم مبدأ املعاداة‪ ،‬كما يعرضه تورين‪ ،‬فهو الدليل والشارة‬
‫على أننا أمة متميزة عن اخللق كما يليق بأمة حتمل رسالة الرمحة‪.‬‬
‫عندما يستخلفنا اهلل يف األرض فلن تكون خالفتنا سوى خالفة‬
‫رعاية‪ ،‬فإن اخللق عيال اهلل وأحب اخللق إىل اهلل أنفعهم لعياله‬
‫كما جاء النطق النبوي الشريف‪ ،‬وحنن نرغب إىل ربنا ليحبنا فال‬
‫نستعلي يف األرض وال نطغى‪.‬‬
‫اإلسالم غدا يطرح مناذج السلوك والتنظيم االجتماعي‪،‬‬
‫وجيتهد وينظم تنظيما ربانيا قوامه النخبة اإلميانية اإلحسانية وهي‬
‫خنبة خدمة وطبقية ايثار وبذل‪.‬‬
‫ولنأخذ من مصنوعات العصر منوذجا تصوريا لنقرب بنية‬
‫العمل اإلسالمي كما قربنا ضرورة التعبئة اجلماعية إذ شبهنا‬
‫موقفنا مبوقف اجليش احملارب‪ ،‬الطائرة ينظرون بنياهنا ويهندسون‬
‫وخيططون‪ ،‬فذلك مقام االجتهاد والتنظري يقوم به رجال الدعوة‬
‫اإلسالمية‪ .‬ويشرف مهندسون على بناء الطائرة حتت إمرة رئيس‪،‬‬
‫فذاك هو القائد اجملاهد‪ .‬فإذا مت تركيبها وصنعها وضع احملرك مكانه‬

‫‪502‬‬
‫ومليء وقودا كان البد لتحرك الطائرة من قائد يعرف الوجهة‬
‫وحيسن ملس اآلالت ويعرف أسرارها ويسهر على راحة املسافرين‪،‬‬
‫وحيرص أن يلزم كل مكانه وأن يؤدي كل موظف وظيفته‪ .‬فالقائد‬
‫هو اإلمام اخلليفة الرائد‪ ،‬واحملرك هو قلوب هذه األمة حيييها وقود‬
‫اإلميان‪ ،‬والعاملون لتجهيز الطائرة وتنظيم مراتب املسافرين وخدمة‬
‫الرحلة كلها هم الربانيون‪ .‬وكل أولئك تربطهم راوبط اهلجرة هلم‬
‫يقني بأن الطائرة متلك أن تقلع وأن الوجهة املتفق عليها املقصود‬
‫إليها بقيادة القائد هي اهلل‪ ،‬وأن التضامن العضوي والتعاون شرط‬
‫لنجاح الرحلة‪.‬‬
‫فهكذا املسلمون يف األرض مرحتلون إىل دار النعيم‪ ،‬إبان‬
‫فتنتهم جيهز كل واحد رحلته يف مشروع اخلالص الفردي‪ ،‬فإذا‬
‫نشر لواء اإلسالم كانت الرحلة اجلهادية الرائعة اليت تقلع باألمة‬
‫فيكون إقالعها وحسن هيئتها بالغا للناس مجيعا وتبليغا للرسالة‬
‫اخلالدة املتجددة‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل ال يستحي أن يضرب مثال ما بعوضة فما‬
‫فوقها‪ ،‬فهو يعلمنا مبصري األمم ويعلمنا بكل صغرية وكبرية من‬
‫آياته يف األرض ويف أنفسنا‪ .‬وقد يكون عجزنا عن التعلم من‬
‫النظام الرمزي الذي شرعه اهلل لنا يف الصالة ناجتا عن غفلتنا‬
‫ومنتجا هلا‪ .‬ضرب اهلل لنا مثال للنظام يف الصالة‪ ،‬وهي أهم‬

‫‪503‬‬
‫أمورنا‪ ،‬فاملسجد جممع لنا ينبغي أن نأخذ عنده زينتنا وأن جنمره‬
‫ونعطره ونوقره وجنلس فيه جمالس اإلميان‪ .‬ولكل مسلم مكانه يف‬
‫صف الصالة أمام احملراب أمام اهلل‪ ،‬وال تصح الصالة يف اجلمعة‬
‫واجلماعة إال خلف إمام شرطه ذكورة يف روحانيته وعلم يعقل‬
‫معه التكليف العظيم ويعرف معه أركان اإلمامة وأركان الصالة‪.‬‬
‫وعلمنا اهلل آداب النظام يف صالة اجلماعة لكيال ينخرم صف‪،‬‬
‫وعلمنا أن نظام الصالة اجلماعية يرفع أجر املصلني سبعا وعشرين‬
‫درجة‪.‬‬
‫ويف اآلفاق علمنا اهلل أن النظام ناموسه األكرب‪ ،‬به تتماسك‬
‫الكائنات وبه حتيا األمم املائتة‪ .‬وسندخل املسجد إن شاء اهلل‬
‫آمنني يوم الفتح األكرب يوم اإلسالم غدا‪.‬‬

‫‪504‬‬
‫الفصل اخلامس‬

‫من القلة إىل التقلل‬

‫‪505‬‬
‫العدل‬
‫ استعملنا مفهوم اإلقالع لتمثيل حركية اإلسالم املنبعث‬
‫وحركيته‪ ،‬وأصحاب الفكر االقتصادي يستعملون هذا املفهوم‬
‫حني يتحدثون عن إقالع اقتصاد أمة متخلفة يف حركته للتصنيع‬
‫ومغادرته ملعيشة القلة‪ .‬ولعل عنوان هذا الفصل يفهمه القارئ‬
‫عروجا عن هدف اإلقالع االقتصادي وهو التصنيع املؤدي‬
‫للكثرة‪ .‬ونشري هنا إىل أن الكثرة ال تعين القوة مبزية وتعطيها الكثرة‬
‫وتعطيها الصناعة وحدمها‪ ،‬ونشري إىل رحلة املسلم قاصدة ملا وراء‬
‫الكم وقد تكون الكثرة االستهالكية أهم ما يرتفه عن مقصده‪.‬‬
‫فلذلك ينبغي أن يكون بناؤنا االقتصادي يرعى هدف الكم يف‬
‫إطار املقصد اإلمياين والغاية اإلحسانية لكيال يرتف جهاد اإلسالم‬
‫يف اهلدف االقتصادي كما ترتف اجلاهليات الواحدة تلو األخرى‬
‫ريثما يأيت دور اخلرباء احلمر‪ .‬ولن تكون مجاعة اإلسالم غدا جمتمعا‬
‫استهالكيا‪ ،‬وإن اخلالفة على منهاج النبوة رهن استمرارها بنجاح‬
‫األمة احلية اجملتهدة يف اإلفالت من دوامة االقتصاد االستهالكي‪.‬‬
‫بلوغ اهلدف االقتصادي هو وعد اإليديولوجية يف دعوهتا‬
‫وجناحها يف حتقيقه برهان تزعم أنه يزكي علمية املذهب وصالحيته‪.‬‬
‫ويشكل الوعد االشرتاكي من كونه وعدا ومن كون وسيلته‬
‫‪506‬‬
‫دكتاتورية وتعبئة منظومة عملية ناجعة متارس يف ظل عمليتها‬
‫كل التسخريات اليت تربط اإلنسان بعجلة اإلنتاج‪ .‬فلذلك تنجح‬
‫الثورات الشيوعية ولو بعد حني يف تصنيع البالد وإعطاءها القوة‪.‬‬
‫أما بالد الفوضى املنظمة فإهنا تعرض علينا منوذجا خمتلفا‪ ،‬يف هذه‬
‫البالد استقرار سياسي وعادة موروثة يف حفظ احلقوق وحكمة‬
‫قومية خلفها العنف التارخيي‪ ،‬ويشكل كل ذلك منظومة تشجع‬
‫التعايش يف ظل املطالبات واملنازعات االجتماعية بني العمال‬
‫وأصحاب املال‪.‬‬
‫وملا استيقظ املسلمون على واقع العامل بوخز االستعمار‬
‫ولسعه وفتكه وجدوا الشيوعية والرأمسالية تتنازعان السلطان يف‬
‫العامل ووجدوا أن موضوع النزاع خريات األرض وأن وسيلة الصراع‬
‫القوة اليت يعطيها التصنيع‪ .‬وتتلمذت أجيال املسلمني للفكر‬
‫اجلاهلي‪ ،‬فكان جل مهها بلوغ اهلدف االقتصادي‪ .‬فكانت جتربة‬
‫اللربالية يف بالد املسلمني نسخا سطحيا للنظام الرأمسايل‪ ،‬ومل‬
‫تستقر اللربالية يف بالد املسلمني ولن تستقر أبدا ألن رأس املال‬
‫احلاكم بأمره يف بالد اجلاهلية الرأمسالية أشد ضراوة وأوسع فتكا‬
‫يف بالد جمتمعها منحل ضعيف‪ .‬يف أرض اجلاهلية حس مرهف‬
‫باحلقوق وميدان مفتوح للعدل خيفف من سلطان رأس املال‪ ،‬أما‬
‫يف بالدنا فإن رهافة احلس بالظلم ال جتد ميدانا للعدل ينفس عن‬

‫‪507‬‬
‫احملرومني وطأة طاغوت املال‪ .‬فيزداد عندنا الغين غىن والفقري فقرا‪،‬‬
‫وإذا استنسخنا تنظيمات مطالبية كالنقابات فإننا نستورد شكال‬
‫فارغا نضع عليه الالفتات اليت من ورائها طواغيت يستنقون من‬
‫دم العمال واحملرومني ويعرقون ما أبقاه طاغوت املال‪ .‬إن كان‬
‫يستقيم لعامل رأس املال أمر فذلك ألن العنف التارخيي رىب الناس‬
‫وهذب هلم نظاما اجتماعيا استقروا عليه‪ ،‬وحنن عنفنا باألمس‬
‫وعنفنا اليوم خلف لنا غليانا مظهره تفاوت الفرص بني من ميلك‬
‫ومن ال ميلك‪ ،‬فريتفع قوم جباه املال يرشون به احلاكم وحيرم آخرون‬
‫ويرتكون‪ .‬ويف هذا املثلث املوبوء يرتف الغين مبا ابتزه ويرتف احلاكم‬
‫مبا ارتشى وهنب‪ ،‬ويرتف احملروم بالظلم الواقع عليه‪ ،‬ففي قلبه‬
‫بغض وغيظ فأىن له أن ينتج !‬
‫والوعد الشيوعي خياطب احملرومني بأفصح لغة يفهموهنا وهي‬
‫لغة الرزق ولغة العدل ولغة اسرتجاع السلطان من يد املستأثرين‬
‫املتسلطني إىل يد الطبقة الكادحة‪ .‬والثورة الشيوعية عند قيامها‬
‫تنزع امللكية وتسوي بني الناس مجيعا وتصنع وتعطي القوة‬
‫للقومية الشيوعية‪ .‬وإذا كانت هذه الشيوعية خبرية ومحراء معا‬
‫وكانت شيوعية جمددة كما هو احلال يف الصني فإن لغة اخلطاب‬
‫اإلديولوجي تكتسب يف ميدان التطبيق جهارة وإغراء حىت تصك‬
‫آذان العامل‪ .‬ويف بالد املسلمني آذان تسمع وعقول تفكر وتدبر‬

‫‪508‬‬
‫حيذوها املثال الشيوعي بعدله ومساواته ويتحداها ظلم املرتفني‬
‫الظاملني‪ .‬فلهذا ينقلب املنقلبون وهلذا يتمرد الشباب‪ ،‬وال يبغون‬
‫عند الشيوعية تفسريا للعامل واإلنسان وال يبغون عندها فلسفة‪،‬‬
‫إمنا يأخذون كل ذلك الغالف اإلديولوجي ملكان احملتوى امللفوف‬
‫فيه وهو العدل االجتماعي ورفع الظلم‪ ،‬وملكان العمل البطويل‬
‫املنفتح يف وجه من يناصر احملرومني ويعلن الثورة على الظاملني‪.‬‬
‫ولن تقوم ببالد املسلمني شيوعية أبدا ألن األمة سليمة‪ ،‬ال‬
‫تزال‪ ،‬يف عقيدهتا وألن الوعد اإلسالمي خياطب هذه القلوب‬
‫املسلمة بقوة حىت ولو كان ذلك على صعيد تأمل التاريخ احلي‬
‫تاريخ عمر بن اخلطاب وأمثاله‪ .‬ولئن ظهر يف أفق البالد اإلسالمية‬
‫قوم زعموا أهنم شيوعيون وحتدوا بذلك نفاق وعجز من خيفون‬
‫حريهتم برفع شعار االشرتاكية اإلسالمية فإمنا هم سحابة صيف‪،‬‬
‫وسيأيت اهلل جلت عظمته برجال حيبهم وحيبونه أذلة على املؤمنني‬
‫أعزة على الكافرين جياهدون يف سبيل اهلل وال خيافون لومة الئم‪،‬‬
‫ذلك فضل اهلل يؤتيه من يشاء واهلل ذو الفضل العظيم‪.‬‬
‫إن املسلمني يف حالة فقرهم وضعفهم ال يستطيعون أن خيطوا‬
‫ألنفسهم منهاجا عمليا للحياة يتمثل يف الواقع احملس‪ ،‬يتمثل‬
‫يف إجياد عمل للعاطلني‪ ،‬وإجياد طعام للجائعني وكساء للعرايا‬
‫وسالح للمقاتلني‪ .‬عالة حنن نتكفف الناس على مائدة وعدنا‬

‫‪509‬‬
‫اهلل أن نكون خلفاءه عليها إن آمنا وعملنا صاحلا‪ .‬ونستورد‬
‫أسلحة وطعاما كما نستورد إيديولوجية‪ ،‬فأما األسلحة فال تعمل‬
‫يف أيدينا ملوضع اجلنب وخوف املوت يف قلوبنا‪ ،‬وأما الطعام فيتجر‬
‫به املرتفون ويبقى اجلائع جائعا واحملروم حمروما‪ ،‬وأما اإليديولوجية‬
‫فدمية تتنكر يف أيدينا مبا وضعناه عليها من ألوان منوه هبا مصدر‬
‫لعبتنا الفكرية‪ ،‬وتكون اإليديولوجية عند الناس عقيدة وسالحا‬
‫للقتال‪ ،‬وتكون عندنا احنالال خلقيا وعنفا فوضويا‪.‬‬
‫إن املسلم يف عصرنا أحق الناس أن ينعت بأنه «إنسان‬
‫مظروف»‪ ،‬تتحكم ظروف فتنته يف فكره وحركته فال يعي نفسه‬
‫أبدا إنسانا حرا‪ ،‬تتحكم فيه حاجات االستهالك اليت ورثها من‬
‫معاشرته للحضارة اجلاهلية‪ ،‬فالبزة والسيجار والسيارة وما إىل‬
‫ذلك حجته الوحيدة على أنه انسان‪ .‬وتتحكم فيه قماءته وعدم‬
‫ثقته بقيمة مل يشهد له األساتذة اجلاهليون بأهنا قيمة حضارية‪.‬‬
‫وتتحكم فيه عاداته‪ ،‬فإن كان حمروما فعادة الكسل والغيظ املكتوم‬
‫العاجز عقاله‪ ،‬وإن كان مرتفا فتوقانه لتقليد اإلنسان اجلاهلي‬
‫املثقف املتحضر يغرقه يف هم مقيم خوفا من أن تفوته «املودة»‬
‫أو يرى ويف رقبته شناق ال يتناسب والبزة العتيدة‪ .‬ومظروف‬
‫أيضا الثوري الصادق ألنه ينظر إىل نفسه وقومه وإىل العامل بعني‬
‫مستعارة‪ ،‬وجيتهد اجتهاده فال يبلغ إال أن يعبد متثاال جاهليا أو‬

‫‪510‬‬
‫وثنا فكريا يفتح له باب العاملية االشرتاكية حيسب ذلك حتررا‬
‫وحيسب العمل من أجله رجولة ويبذل نفسه وعصارة فكره ومنتهى‬
‫حيلته يف ذلك‪.‬‬
‫مظروف ومستلب‪ ،‬ويف لغة اإلسالم ممسوخ‪ ،‬كل من يقرتح‬
‫على املسلمني سبيال غري سبيل املؤمنني‪ .‬وما سبيل املؤمنني أن‬
‫يستحيلوا مالئكة يف السماء ال حاجة هلم وال جسد ويتحدون‬
‫قوانني االقتصاد حتديا ال يقدر عليه غريهم‪ .‬إمنا سبيل املؤمنني‬
‫يف عالقتهم باألرض واجلسد واقع يلح القرآن الكرمي يف إثباته‬
‫واالعرتاف مبشروعيته وتقنينه‪ .‬فواقعية اإلسالم اعرتاف كامل‬
‫حباجة اجلسم وحاجة اجلماعة املسلمة للشرعة اليت تنظم عالقتهم‬
‫يف اإلنتاج والتوزيع‪ ،‬وتنظم ملكية األموال واألرض وتعطي للعملية‬
‫االقتصادية وظيفتها األوىل يف إطعام اجلائع واليتيم قبل أن تصرف‬
‫اهلمة املسلمة القتحام سائر العقبات‪.‬‬
‫يف حدود املعىن الوجودي والغاية الوجودية لإلنسان‪ ،‬ويف‬
‫حدود املقاصد اإلميانية والعمل لليوم اآلخر‪ ،‬يأمرنا اهلل عز وجل‬
‫بالعدل يف أموالنا ويوصينا بالتكافل بيننا‪ ،‬وقد جعل يف شرعته‬
‫مكانا لتنظيم تعاملنا كبريا‪ ،‬وجتد اهلل تعاىل يأمرنا بالصالة يف قرآنه‬
‫فال يفصل لنا عدد الركعات وال مواقيت الصالة‪ ،‬فإذا تعلق األمر‬
‫بامللكية وتنظيمها فصل اهلل تفصيال فيه معاين احلدب على حقوق‬

‫‪511‬‬
‫بعضنا إزاء بعض‪ ،‬وفيه االعرتاف الضمين بأن املسلم ما هو ملك‬
‫﴿وأَ ْش ِه ُد ْواْ إِ َذا تـَبَايـَْعتُ ْم‬
‫ميتنع على املغريات‪ .‬يقول اهلل تعاىل ‪َ :‬‬
‫ب َوالَ َش ِهي ٌد … َوإِن ُكنتُ ْم َعلَى َس َف ٍر َولَ ْم تَ ِج ُدواْ‬ ‫ض َّ ِ‬
‫آر َكات ٌ‬ ‫َوالَ يُ َ‬
‫ض ُكم بـَْعضاً فـَْليـَُؤ ِّد الَّ ِذي‬ ‫ضةٌ فَِإ ْن أ َِم َن بـَْع ُ‬ ‫َكاتِباً فَ ِرَها ٌن َّم ْقبُو َ‬
‫ادةَ َوَمن يَ ْكتُ ْم َها‬ ‫الش َه َ‬‫ْاؤتُ ِم َن أ ََمانـَتَهُ َولْيَت َِّق اللّهَ َربَّهُ َوالَ تَ ْكتُ ُمواْ َّ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فَِإنَّهُ آث ٌم قـَلْبُهُ َواللّهُ ب َما تـَْع َملُو َن َعل ٌ‬
‫يم﴾‪.‬‬
‫اهلدف اإلسالمي لالقتصاد عدل‪ ،‬واملقصد اإلمياين من‬
‫االقتصاد قوة مثلها اهلل برباط اخليل إشارة لضرورة إرهاب العدو‬
‫وردعه بأقوى األسلحة‪ ،‬والغاية اإلحسانية من االقتصاد منوذجية‬
‫تربهن للعامل أن اإلنسان يستطيع أن خيرج من دائرة اإلنتاج‬
‫واالستهالك‪.‬‬
‫أول درجة من درج املنهاج فك الرقبة وإطعام اليتيم واملسكني‪،‬‬
‫فذلك هو هدف العدل‪ .‬وأول الفقه املنهاجي يف الدعوة إىل‬
‫اإلسالم أن نقول للمسلمني املفتونني ما يأيت به احلل اإلسالمي‬
‫من عدل‪ ،‬وما دخل الناس أفواجا يف دين اهلل إال انتجاعا لعدل‬
‫اإلسالم‪ .‬وجعل اهلل تأليف القلوب على اإلسالم مصرفا من‬
‫مصاريف الزكاة‪ ،‬وأعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املؤلفة‬
‫قلوهبم فأصبحوا دعاة لإلسالم ال يدعون جلنة ونار وإمنا يدعون‬
‫لنيب يعطي عطاء من ال خيشى الفقر ولقد طبعت النفس على حمبة‬

‫‪512‬‬
‫من حيسن إليها‪ ،‬فلذلك جعل فاطر السماوات واألرض ومن فيهن‬
‫من الرباطات اإلجتماعية األساسية العدل يف العطاء والكرم‪ .‬وإن‬
‫معىن أن يكون تأليف القلوب مصرفا من مصاريف الزكاة أن اهلل‬
‫عز وجل يعلم أن من الناس من ال يسلم إال انتجاعا للخري‪ ،‬وإن‬
‫كان موالنا عمر بن اخلطاب منع من جاءه يزعم أنه من املؤلفة‬
‫قلوهبم ويريد عطاء فحالة مفردة والشرعة القرآنية ماضية إىل يوم‬
‫الدين‪.‬‬
‫فإذا دعونا إىل اإلسالم دعوة عامة فينبغي أن نعرض إسالما‬
‫يعدل ويسوي ويرد املظامل‪ ،‬وإذا قام اإلسالم غدا فإمنا قاعدة‬
‫اإلقالع النموذجي هو رفع املظامل وإعطاء اخلري‪ .‬إن الفالح ال‬
‫ينتج إذا كان احلقل ملكا لغريه‪ ،‬وإن العامل ال ينتج وإن الناس ال‬
‫خيلصون يف بذل اجلهد إال إن كان جهدهم واضح املنتوج وكان‬
‫حق العامل واملالك عدال وتساويا‪.‬‬
‫غداة قيام اإلسالم جيب أن تعاد املظامل لتستقر األنفس قبل‬
‫أن يطلب منها أن تتعبأ للجهاد‪ .‬من كان بيده ملك اغتصبه‬
‫بنوع من أنواع االغتصاب‪ ،‬الظاهر منها واملتسرت‪ ،‬رد امللك إىل‬
‫أهله‪ ،‬ومن كان ميلك أرضا ال يعمل فيها فإن يف اإلسالم ما يبيح‬
‫أن جتعل األرض ملن حيرثها‪ ،‬ومن كان له فضل مال فإن رسول‬
‫اهلل أمر أصحابه بإنفاق الفضول حىت ظنوا أنه ال حق ألحد يف‬

‫‪513‬‬
‫فضل زائد على حاجته الضرورية‪ .‬ومعىن توزيع الفضول يف الفقه‬
‫املنهاجي لعصرنا جتميع لرأس املال على أساس مجاعي تكافلي‬
‫يضمن حق الفرد وحق اجلماعة‪ ،‬فأول الفضول وأشدها وباء مال‬
‫مكنوز توعد اهلل من كنزه بأشد العذاب‪ ،‬فهذا جيب أن توضع‬
‫له قوانني تسيله وترده أليدي التداول‪ .‬والفضول بعد ذلك كل‬
‫مظاهر البذخ املستنزفة لدماء املساكني‪ .‬ففي ظل اإلسالم لن‬
‫تستورد السيارات الضخمة ولن تبىن القصور‪ .‬ويف ظل اإلسالم‬
‫يشبع كل جائع من حيث يردع أصحاب التخم عن عاداهتم‪.‬‬
‫وقبل أن نستطيع نزع اإلنسان من امللكية بوازع اإلميان حىت‬
‫ميلك ما ميلك وليس له هم إال شراء اآلخرة بالدنيا‪ ،‬ال بد أن‬
‫نستقر االستقرار اإلسالمي على حق امللكية اخلاصة لألرض‬
‫بشرط املصلحة العامة‪ .‬وإن لنا ملتسعا يف الضرائب التصاعدية ويف‬
‫سائر التقنيات االقتصادية ما خيولنا أن جنمع بني مزايا االقتصاد‬
‫احلر ومزايا االقتصاد املوجه إن اجتهدنا وجاهدنا‪ .‬وعلى أساس‬
‫العدل العام تتقيد املصاحل اخلاصة وتتهذب بوازع السلطان أوال‪.‬‬
‫جاء الضحاك ابن خليفة يشكو لعمر بن اخلطاب أن جاره حممد‬
‫بن مسلمة ال يرتك املاء يصل إىل أرضه عرب أرض جاره‪ ،‬فسأل‬
‫عمر مانع املاء هل يف عبور اجلدول ألرضه ضرر‪ ،‬فلما أجاب أن‬
‫ال قال عمر ‪ « :‬واهلل لو مل أجد له ممرا إال على بطنك ألمررته !»‪.‬‬

‫‪514‬‬
‫املصاحل العامة يقدمها اإلسالم على غريها ملكان العدل‪،‬‬
‫فحىت املرياث الذي قننه اهلل تعاىل تفصيال أمرنا أن نعطي منه‬
‫أويل القرىب واليتامى واملساكني إن حضروا‪ ،‬ومعىن احلضور ال‬
‫خيتص مبكان القسيمة‪ ،‬وهبذا فإن هذه املاليني من املنبوذين العرايا‬
‫اجلاهلني يف حكم اليتم واملسكنة‪ ،‬وإهنا ملظلمة أية مظلمة أن يرث‬
‫املرتف ماليني من أبيه وال يعطي اليتامى واملساكني من ذاك املال‪،‬‬
‫إنه جمافاة للحق وخروج عن أمر اهلل وتنفري للقلوب من اإلسالم‬
‫ال تأليف‪.‬‬
‫والناس‪ ،‬كما أمر رسول اهلل شركاء يف ثالث‪ ،‬يف املاء والكإل‬
‫والنار‪ ،‬وإن يف هذا جملال الجتهادنا يف نشر عدل اإلسالم‪.‬‬
‫وهناك مظلمة عامة حصلت وحتصل يف ذمة كل مالك‬
‫للنصاب بأرض املسلمني وهي الزكاة‪ .‬فالزكاة ضريبة واجبة يقاتل‬
‫مانعها‪ ،‬ونتاجها مادة يبارك فيها اهلل تعاىل ويزكي هبا تكافلنا‬
‫اجلماعي‪ .‬وهذه املظلمة جيب أن تكون من أول ما يستخلص من‬
‫املظامل غداة قيام اإلسالم‪.‬‬
‫ال نطلب إىل املسلمني أن يبذلوا جهدا ال يقدر عليه غريهم‪،‬‬
‫لكن ال ميكن أن نطلب إليهم بذل أي جهد قبل أن يربهن هلم‬
‫السطان اإلسالمي غداة قيامه أن الناس سواسية يف الرزق وأن‬
‫األمر جد‪ .‬ولئن قدر الصينيون اخلرباء احلمر أن يلغوا حافز الربح‬

‫‪515‬‬
‫املادي من نظام اإلنتاج‪ ،‬فلنحن أحق هبا وأهلها يوم يستيقظ يف‬
‫قلبنا اإلميان ثقة باهلل ومبن واله اهلل فعدل يف القسمة‪.‬‬
‫إن هذا اإلنسان ضعيف‪ ،‬وإن اهلل بارئه شرع أن يتألف قلبه‬
‫على اإلسالم‪ ،‬وإن رسوله سيد الرعاة رأف باخللق وتألف الناس‬
‫على اإلسالم وأعطاهم من الدنيا ما به رجعوا إىل رهبم‪.‬‬
‫أعطى رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أعرابيا فغضب واستقل‬
‫العطاء‪ ،‬وهم به بعض املسلمني ليقتلوه‪ ،‬فمنعهم الرسول من ذلك‬
‫وزاده حىت رضي فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ « :1‬إن‬
‫مثلي ومثل هذا األعرايب كمثل رجل كانت له ناقة فشردت عليه‪،‬‬
‫فأتبعها الناس فلم يزيدوها إال نفورا‪ ،‬فقال هلم صاحب الناقة ‪:‬‬
‫خلوا بيين وبني ناقيت فأنا أرفق هبا وأنا أعلم هبا‪ .‬فتوجه إليها وأخذ‬
‫هلا من قشام األرض ودعاها حىت جاءت واستجابت وشد عليها‬
‫رحلها واستوى عليها‪ .‬وإين لو أطعتكم حيث قال ما قال لدخل‬
‫النار!»‬
‫أال إننا معشر املسلمني املفتونني نافرون عن ربنا‪ ،‬وهلو عز وجل‬
‫أرفق بنا وأعلم‪ ،‬وإنه جعل لنا شرعة العدل وهدانا ملنهاج العدل‬
‫حىت ينال كل املسلمني من قشام األرض وخريها ما به تستقر‬
‫نفسه وما به يلتم جرحه املزمن وحزازته املكبوتة من ظلم الظاملني‪.‬‬
‫وما يصلحنا إال توبة اإلسالم ورفق اإلسالم وعدله احلازم‪.‬‬

‫‪516‬‬
‫اليقظة واالنضباط‬
‫يف املال حق الزكاة‪ ،‬وفيه حق زائد على الزكاة‪ ،‬وفيه فضول‬
‫جيب أن تنفق وشرعة اهلل واسعة الجتهاد اجملتهدين‪ .‬لكن بيننا‬
‫وبني حتويل األموال يف دار اإلسالم من اجتاهها التكاثري ملصلحة‬
‫طبقة اإلقطاعيني أو اإلداريني أرباب التقنوقراطية االشرتاكية‬
‫عقبات أمهها فساد اإلنسان وخراب الضمري‪.‬‬
‫من أين تأيت البنية االقتصادية املريضة يف بالد املسلمني يوم‬
‫يصبح لواء اإلسالم عاليا؟ إن ضرورة العدل كقاعدة لإلقالع قد‬
‫يبدو حتقيقها مستحيال ألن اإلدارة يف دار اإلسالم أكثر اإلدارات‬
‫فسادا‪ .‬فلعل األيدي اليت جتمع الزكاة أيد سرقت وتعودت السرقة‬
‫يف عامل ال تقطع فيه يد السارق‪ ،‬ولعل قاضي احملكمة الذي وكل‬
‫إليه أن يرد املظامل ألهلها قاض مرتش ألف الفساد يف بالد ال‬
‫يقتل فيها ويصلب ويقطع من خالف من حارب اهلل ورسوله‬
‫وأفسد يف األرض‪ .‬فمن أين نبدأ ؟‬
‫إن أهم أساس تنظيمي لالقتصاد تشريع حيطم الوضع املمسوخ‬
‫ويعوضه بقانون عادل‪ .‬وإن أسبق ما يغري فيه التشريع الوضعي‬
‫املمسوخ يف دار اإلسالم أن تعاد احلدود الرادعة للفساد اإلداري ‪.‬‬
‫وأي جمهود لبسط قاعدة العدل أمام االنبعاث اإلسالمي يتسرب‬
‫‪517‬‬
‫بني أيدي السارق واملرتشي إن مل يكن وازع السلطان أول قوة‬
‫تفجأ اجملتمع املفتون حبزمها ومضائها‪.‬‬
‫يتسرب الضعف للجهود االشرتاكية يف دار اإلسالم من كوهنا‬
‫تنخنس من الثورية املزعومة نظريا إىل إصالحية ضئيلة يزيدها‬
‫ضآلة وضالال جنب القادة وفساد اإلدارة‪ .‬وما هكذا يفعل رجال‬
‫الثورة اجلاهليون ! إهنا عندهم تعبئة و«حالة طوارئ»‪ ،‬وإهنم‬
‫يأخذون بالشبهة وجيندون الشعوب يف حراسة يقظة لكيال تغتال‬
‫الثورة وميضي أمرهم جبد وينتهون إىل هدف‪.‬‬
‫ما للمسلمني نفري يتعارفون بنشيده لكن هلم أذانا تعرفه قلوهبم‬
‫وحتن إليه‪ ،‬فإذا أذن مؤذن اإلسالم غدا فيحمل كل من يف قلبه‬
‫إميان سالح اليقظة ويوضع امليزان برفق الربانية لكن بقوة العدل‬
‫ومضاء اإلرادة املؤمنة‪ ،‬ويبدأ التحرك اإلسالمي يف جو الغبطة‬
‫ومشاركة املستضعفني يف األرض‪ ،‬فرحتهم باإلسالم تزيدهم رغبة‬
‫ووعد اإلسالم بالعدل يعطيهم قابلية لتمثيل احلزم يف الشارع‬
‫والبيت‪ .‬إن كان شيوعيو روسيا يشجعون اجلاسوسية بني الناس‬
‫فإىل فساد التجسس أوصلهم احلرص على الثورة واليقظة لكيال‬
‫تغتال الثورة‪.‬‬
‫وما ينبغي للمسلم أن يتجسس لكن عليه أن يفضح من ظلم‬
‫األمة ولو قالمة ظفر وعليه أن ينضبط فال جيعل التوبة فوضى‬

‫‪518‬‬
‫وثورة وعنفا‪ .‬وبني نار الرادع الشرعي وحزم األمة املستضعفة جيد‬
‫رجل اإلدارة والقاضي وكل من له سلطة عاملني قويني ليغري من‬
‫سلوكه وينفذ أمر اإلسالم وحيفظ احلقوق واألموال‪.‬‬
‫اإلصالح اإلداري ال يعين أن هنضة اإلسالم تتوقف على‬
‫حسن اإلدارة وحده‪ ،‬فذاك وهم خمطئ متام اخلطإ‪ ،‬لكن صالح‬
‫اإلدارة شرط ال يرتفع للنهضة واحلياة‪ .‬إن اليد املنفذة يف مجاعة‬
‫املسلمني جيوز أن تكون يدا غري متوضئة عند الضرورة وجيوز حىت‬
‫أن تكون يدا غري مسلمة‪ ،‬لكن ال جيوز يف قانون اهلل الذي به‬
‫تسري األمور كلها أن تكون يدا غري أمينة وإن القطع ورادع احلدود‬
‫ال يكفي وحده إلصالح اإلدارة بل ال بد من يقظة األمة كلها‬
‫ومراقبتها يف الغدو والرواح لرجل السلطة‪.‬‬
‫هذه اليقظة جزء من املهمات اجلماعية اليت يشهدها مفهوم‬
‫النصيحة والتواصي باحلق والصرب‪ .‬وإقامة العدل ليست وظيفة‬
‫احلاكم بقدر ما هي وظيفة احملكوم‪ .‬فلذلك يتشخص التساوي‬
‫بني املسلمني حتت نظام إسالمي يف احلق كما يتشخص يف‬
‫الواجب‪ .‬للحاكم املسلم املؤمن الذي أعطى برهان صدقه كل يوم‬
‫حق الطاعة وواجب النصيحة يف صرف وازع السلطان إىل وجهة‬
‫العدل‪ ،‬وعلى احملكوم واجب النصيحة باليقظة لكيال يغتال العدل‬
‫وله إن فعل حق التمتع خبري اإلسالم وعدله‪ ،‬فإن مل يفعل بطلت‬

‫‪519‬‬
‫احلركية اإلسالمية وعطلت اجلماعة واجبها يف القيام بالقسط‪.‬‬
‫ومن معاين القيام بالقسط يف مستوى اهلدف االقتصادي السهر‬
‫املراقب حلركات الشريك يف الرزق بالصدق والنصيحة والتوجيه‬
‫تواصيا باحلق وتواصيا بالصرب‪ .‬فصرب عن حق الغري حيملك عليه‬
‫رادع احلد ويقظة اجلماعة وصرب على الكد حيملك إليه استبشارك‬
‫بعدل اإلسالم وبأن جهدك لن يستغله غريك وأن حقك لن يضيع‪.‬‬
‫إذا وضعت قوانني تقضي بإنصاف احملروم‪ ،‬وهي موضوعة‬
‫فعال يف بالدنا وضعا للزينة‪ ،‬فإن جمرد وضعها ال يغري من واقع‬
‫األمر شيئا‪ .‬ذلك ألن احلق يضيع إن مل يكن وراءه طالب‪ ،‬ويزداد‬
‫ضياعا إذا كان اجلهاز اإلداري متعفنا‪ ،‬فإذا اجتمعا أصبح العدل‬
‫اإلداري شعارا على املنصات السياسية فارغا‪.‬‬
‫فمشكلتنا األوىل العائقة لإلقالع االقتصادي هي نفس‬
‫املشكلة العامة اجملتمعة يف العنصر البشري‪ .‬إن هذا اإلنسان قشة‬
‫بالية كأمنا أبلتها حضارة تليدة وتاريخ جميد بعد أن استنزفت كل‬
‫عناصر احلياة فيها‪ .‬إن هذا اإلنسان غثاء ال يتحرك بنفسه وإمنا‬
‫حيركه السيل فهو مع مهوى املياه ال ميتنع وينفعل وال يفعل‪ .‬وكأمنا‬
‫هذا الغثاء البشري ضغطه ظلم الظاملني فألف على مر العصور‬
‫أن يكون عبدا مستغال خادما‪ ،‬وإن كان فيه غضب وخنوة فهو‬
‫يكتمها وينفس عن كبده باللعنة الصامتة الناطقة بسوء حال هذه‬

‫‪520‬‬
‫األمة‪ ،‬بأمساهلا وجهلها ومرضها‪.‬‬
‫ال يكفي إذن تشريع إدراي يرفع املظامل ويقيم احلق‪ ،‬بل ال‬
‫بد أن يدمج التشريع العادل يف سياق يقظة تبعثها حياة اإلسالم‬
‫بروح إسالمية حيرر الرقبة ويقتحم العقبة‪ .‬يف مناهج السياسة‬
‫وأساليبها يتخذ التهييج املكانة األوىل‪ ،‬فمن أراد أن يكون له‬
‫أتباع وأن جيمع الناس ليحشرهم يف مشروعه صاح وأوعد وشكا‬
‫الظلم وزعم الدفاع عن احملرومني إن كان يف صف املعارضة‪،‬‬
‫فإن كان من الصف اآلخر هيج الناس ضد «أعداء الشعب»‬
‫وتعالت األصوات يف بلد الدميوقراطية‪ ،‬يف مهدها اجلاهلي أو عند‬
‫جمتمعات الكراهية يف دار اإلسالم‪ ،‬ويتخذ التهييج يف بالد احلزب‬
‫الواحد شكل الفوران الثوري احلماسي ترتفع حرارته باخنفاض ثقة‬
‫الناس يف العمل االشرتاكي‪.‬‬
‫وبني ضرورة اليقظة اجلماعية وضرورة االنضباط والصدق خيط‬
‫اإلسالم برفقه مذهب النصيحة‪ ،‬فال هيجان وال كذب‪ ،‬واهليجان‬
‫إمنا يعتمد على الكذب‪ .‬لكن الصدق من القائد اجملاهد حيىي‬
‫حبياة الرجاء وحبياة العدل املفتوح جمموعات املسلمني املستضعفني‬
‫حىت يشاركوا يف إهناض أمرهم ويشاركوا يف الدفاع عن لوائهم ‪.‬‬
‫وإن هذه األعداد املهملة املظلومة من مساكني املسلمني ويتاماهم‬
‫كانت رقاهبا موهوقة يف يد الفتنة املزمنة‪ ،‬مث طوقها رق خمز يف يد‬

‫‪521‬‬
‫االستعمار وهي اليوم يف عبودية الطاغوت القومي أو الطاغوت‬
‫املستنسر بالسلطان اجلربي‪ .‬ولقد نشأت على الكذب وهانت‬
‫عليها القيم حىت لتوشك أن ترجو خمرجا من أوهاقها‪ .‬وكل هذا‬
‫ضعف‪ ،‬ومن الضعف تأيت القوة أبدا إن كان اإلميان‪ .‬فمىت دعا‬
‫داعي اإلميان بصدق وأعطى احلق بصدق كان ذلك كفيال أن‬
‫يبعث من جمراه اجلربي هذا الغثاء فيتحول جندا منظما يقظا‬
‫منضبطا ‪.‬‬
‫حدث يف الثورات الشيوعية ويف اإلنقالبات املربقعة أن قام‬
‫مظلومو األمس ينتقمون ألنفسهم‪ ،‬يف الفوضى الثورية أو بوسيلة‬
‫القمع املنظم‪ .‬وكان هذا الشكل من اليقظة الئقا باجلاهلية فهي‬
‫جهالة عنف‪ ،‬صفتان ال تنفك عنها‪ .‬وامتازت الثورة الصينية‬
‫الرتبوية برفقها على الناس‪ ،‬وحلت تناقضاهتا الداخلية كما تعرب‬
‫اإلديولوجية بإعادة الرتبية واسرتدت الثورة إىل صفوفها أكثر من‬
‫مخس وتسعني باملائة من النقضاء الطبقيني للجماهري احلاكمة‪.‬‬
‫وكان يف الصني رجال أعمال وصناعة نزعت الدولة منهم أمواهلم‬
‫نزعا رفيقا‪ ،‬إذ عوضتهم إيرادا حسنا‪ ،‬لكنه إيراد ال يستطيع أن‬
‫يشرتي يف الصني إال الضروري من الطعام والكساء‪ ،‬فما أمام‬
‫أصحاب املال إال أن يندجموا طوعا أو كرها يف اجلماهري‪.‬‬
‫وإن من طبيعة الضعيف املضطهد أن ينفجر إذا وجد قوة‪،‬‬

‫‪522‬‬
‫فلكيال خنلط الفقه املنهاجي بالتهييج السياسي‪ ،‬ولكيال يشتبه‬
‫علينا اجلهاد يف أرض الفتنة إلنقاذ إسالمنا ينبغي أن ندرك جيدا‬
‫أن مستقبل االنبعاث اإلسالمي يتوقف على انضباط املسلمني‬
‫خاصة غداة القيام بقدر ما يتوقف على يقظتهم اجلماعية‪.‬‬
‫ويندس يف صفوف العاملني من يرتبص الدوائر‪ ،‬فلذلك يقتضي‬
‫املوقف مهارة قيادية كبرية تنظم إيقاع احلركة املنبعثة وتوجه سريها‬
‫يف انسجام ورفق حىت ال تكون الفوضى‪ .‬ومعىن هذا أن التدرج‬
‫القانوين واللجام اإلداري يكونان يف يد القائد اجملاهد مبثابة‬
‫مصراعي الباب يفتح هذا بقدر ويغلق اآلخر بقدر ما يسمح أن‬
‫تتنظم احلركة فال تنخنق وال تفيض‪.‬‬
‫مكان القائد اجملاهد يف بعث اليقظة وضبطها كمكان قائد‬
‫اجلند‪ ،‬درس تعبئته بالنظر للمأمورية اجلهادية بعد أن درس عنصره‬
‫اإلنساين فعلم اجلاهل وعاجل املريض‪.‬‬
‫الركود أحد أمراض األعداد الغثائية الكارهة للموت احلريصة‬
‫على حياة أي حياة‪ .‬وعكس الركود الفوران والفوضى‪ .‬وبني طريف‬
‫اخلسار استواء االنضباط املقبول بعد الضبط املفروض‪ .‬واملرض‬
‫الثاين هو مرض العطالة‪ ،‬وهو مرض من أعراضه الكسل وانعدام‬
‫املهارة وعدم التحكم يف الوقت‪.‬‬
‫يعرف كل من نظر يف حال الناس ونظر يف شؤون االقتصاد‬

‫‪523‬‬
‫ولو نظرة غري خبرية أن أركان النهضة االقتصادية ثالثة ‪ :‬تشريع‬
‫عادل ينظم العمل االقتصادي‪ ،‬وتعبئة املال‪ ،‬وتعبئة الرجال‪.‬‬
‫فتحدثنا عن ضرورة يقظة الضمائر ملراقبة اجلهاز اإلداري‬
‫وإصالحه‪ ،‬وحتدثنا عن ضرورة مشاركة األمة كلها يف السهر على‬
‫عدهلا‪ ،‬وحتدثنا عن ضرورة انضباط الرجال لئال يتحول البعث‬
‫اإلسالمي ثورة وفوضى‪ ،‬وكل هذه تعبئة جزئية ال تكفي إلجياد‬
‫شروط االنطالق االقتصادي‪ .‬ال تكفي يقظة الضمري واملشاركة‬
‫السياسية‪ ،‬لنستعمل هذا االصطالح اجلاهلي كما يفهمه اخلرباء‬
‫احلمر تضحية وخدمة‪ ،‬وحدها‪ ،‬بل البد من اجلانب العلمي الذي‬
‫عليه يقوم العمل وبه يقوم العمل وهو قابلية األفراد للمسامهة يف‬
‫بناء االقتصاد باليد والعقل والوقت‪.‬‬
‫هذه القابليات قليلة جدا يف بالد املسلمني بالنسبة حلاجتهم‬
‫على كثرة املثقفني حاملي اإلجازات عندنا‪ .‬ففي الوضع الراهن‬
‫تنقصنا اخلربة نقصا فظيعا لسببني اثنني ‪ :‬أحدمها مرتتب على‬
‫عقلية قدمية تفضل التكوين األديب على اخلربة العملية خاصة إن‬
‫كانت هذه اخلربة تتوقف على العمل اليدوي‪ .‬والسبب الثاين‬
‫عملية االستنزاف االستعماري اليت مبقتضاها علمونا وأقنعونا أن‬
‫اخلبري األجنيب رجل ناجع فاعل موثوق بإجنازاته وأن الوطين ال‬
‫خربة له وإن محل الشهادات‪ .‬ولطاملا تأكد لنا بالتجربة ذلك حىت‬

‫‪524‬‬
‫أصبح لنا عقيدة وعقدة‪ ،‬ويئس اخلبري الوطين من نفسه وهاجر‬
‫ألرض اجلاهلية بأعداد ضخمة يبغى أجرا أعلى ويبغى جوا للعمل‬
‫تصان فيه كرامته ويشعر بأنه مكان للثقة‪.‬‬
‫فنضيع ضياعني ‪ :‬أحدمها أننا نعطي األجنيب أجرا مضاعفا‬
‫عدة مرات لقاء ومهنا بتفوقه‪ ،‬والثاين أن اخلبري األجنيب ال تصدره‬
‫لنا بالده إال لقلة كفاية أو بنية نسف أخالقنا واقتصادنا وأدمغتنا‪.‬‬
‫فهل يستطيع اإلسالم يف انبعاثه أن جيمع جيال من اخلرباء‬
‫املؤمنني ؟ ال شك أن واجب اهلجرة إىل اهلل ورسوله يقضي أن‬
‫يسرع أصحاب اخلربة من املؤمنني ألرض االنبعاث‪ ،‬وأن يف أرض‬
‫اإلسالم رجاال مغمورين يف هذا الطور الغثائي من تارخينا يرتقبون‬
‫كما ترتقب األمة بأمجعها نداء اإلسالم وأذانه‪ .‬مث إن اإلسالم غدا‬
‫لن يكون جزيرة منفصلة عن العامل‪ ،‬بل سيتعاون مع الناس تعاونا‬
‫مصلحيا بشرط أن ال يغطي اصطالح التعاون الكسل الوراثي‬
‫والغفلة اليت يصادق عليها ترف املرتفني وجماملتهم ملن حيسبوهنم‬
‫شيئا من سكان عامل اجلاهلية‪.‬‬
‫إذا مل يفسح لكل إنسان باب العمل بقي عاطال‪ ،‬وإذا كان‬
‫يظلم يف القسمة كان عمله املرتاخي أشبه شيء بالعطالة‪ ،‬وإذا‬
‫تضافر عليه الظلم وقلة املشغل مع مخول اهلمة اجملتمعية كان مثاال‬
‫للكسل وهبطت إنتاجيته هبوطا يصرح مبا هو فيه ومبا ينتظره من‬

‫‪525‬‬
‫هوان ووهن من يكره املوت يكره العمل ويكره اجلهاد ومن حيرص‬
‫على حياة أي حياة يقنع مبا دون اجلوع والعري من أسباب احلياة‬
‫أو يصرف مهه كله ليجمع أكثر مما مجع جاره‪ .‬فاجلاهلية التكاثرية‬
‫يتجلى حرصها على احلياة يف الكدح الدائب التكاثري وجمتمعاتنا‬
‫الراكدة يكتسي قعودها عن العمل وكسلها فيه لباس التزهد الذي‬
‫أصبح عادة موروثة‪.‬‬
‫حيفز اجلاهلي طمعه وحبه للظهور وإرضاء شهواته وحاجاته‬
‫املتجددة وحيفز رجل العقيدة للعمل أمله يف خدمة الصاحل العام‬
‫مثلما نرى عند الصينيني‪ .‬وكال الرجلني يعمل وينتج وباإلنتاج‬
‫تروج السوق‪ ،‬فسوق لالستهالك يف عامل اجلاهليات االحتكارية‬
‫وسوق قوة يف الصني وحترر واعتماد على النفس‪.‬‬
‫ويف بالدنا تعيش األعداد اهلائلة يف وقت أزيل طويل ال يعمره‬
‫إال جلسات الكسل وال حيدده إال ظلمة الليل ووضح النهار‪ ،‬وكأن‬
‫الوقت يصرف الناس على هواه‪ ،‬فوقت بارد يدعو لالنكماش‪،‬‬
‫ووقت حار حيبب الظل‪ ،‬ووقت واسع ال ينبغي أن يتحجر مبيعاد‬
‫وال أن ينضبط مبيقات‪ .‬وإن وقت الكسل مرتبط مبكان الكسل‬
‫وعالقات الكسل‪ ،‬فوقت دوالن الدولة يكسل فيه احلاكمون‬
‫مبتعهم فال يدبرون إال أمر شهواهتم ويكسل فيه العاطلون حيث‬
‫ال جدوى من عملهم‪ ،‬ومكان الكسل حيث يستحوذ الظامل على‬

‫‪526‬‬
‫األرض وما عليها ومن عليها‪ ،‬وعالقات الكسل تقيد أيدي الناس‬
‫ألن أكثر الناس حيلة وكذبا ومكرا هو الذي يرتفع به اجملتمع وهو‬
‫الذي يتاح له أن ميضي الوقت يف االسرتواح ولعب األقداح‪.‬‬

‫‪527‬‬
‫سلم القيم‬
‫خلق اهلل اآلدميني متفاوتني يف قوى اجلسم والعقل متفاوتني‬
‫يف ارتفاع اهلمم‪ .‬فمن الناس من ال يوضع عليه أبدا سؤال الغايات‬
‫اإلنسانية‪ ،‬ال يضعه على نفسه وال يسمعه إن وضعه عليه غريه‬
‫إال بأذن غري صاغية‪ .‬ومن الناس من يلح عليه نداء املطلق‬
‫ويقضي العمر باحثا عن حتقيق جوهريته واخلروج من سجنه سجن‬
‫العادة واحلياة الدوابية‪ .‬وكل واحد من الناس يسعى على األرض‬
‫حتركه حوافز تتفاوت مراتبها ‪ :‬فإنسان يستجيب لداعي العدل يف‬
‫القسمة والعدل يف املتعة والعدل يف الفرص املتاحة وهؤالء أغلب‬
‫الناس وعامتهم‪ ،‬وإنسان يبذل للجار والرفيق ويفيض اخلري على‬
‫غريه بداعي احملبة واألرحيية أو بداعي الواجب العقدي‪.‬‬
‫وتتفاعل هذه احلوافز داخل اجملتمع فتكون عقلية خاصة‬
‫وعادة خاصة يف املعامالت‪ ،‬وتتفاوت اجملتمعات على سلم القيم‬
‫استعدادا لتغيري حاهلم إىل أحسن منها‪ ،‬فاجملتمعات الراكدة تعمها‬
‫املطالبة بالعدل وختتار قيما مستعارة من حضارة أهل الكثرة‬
‫فيتعذر عليها من إمكاناهتا‪ ،‬وألن املطالبة مع الركود والقلة تنتهي‬
‫إىل غيظ مكتوم أو متفجر معلوم على ظلم يتشكل ويتلون‪.‬‬
‫وأما اجملتمعات املصنعة اجلاهلية فإن سلم القيم اليت حتفزها سلم‬
‫‪528‬‬
‫متع وجاه وزيادة يف الدخل ورفع ملستوى املعيشة‪ .‬ومن شأن‬
‫العقلية االجتماعية أن تغمر التشوفات الفردية وتستعصى عليها‪،‬‬
‫فاألفراد الذين يتحركون حبوافز عالية حيسون بالغربة بني مواطنيهم‬
‫فينكمشون على سلوك فردي متطهر منابذ للوسط أو تكون هلم‬
‫قوة فيدعون إىل تغيري اجملتمع ويرفعون راية الثورة على األوضاع‪.‬‬
‫وأحيانا تتضافر عوامل الوعي الطالئعي مع تفشي الظلم وقلة‬
‫املعاش فتولد جمتمعا مضطربا متهيئا للثورة‪.‬‬
‫وهذا هو وضع بالدنا اإلسالمية‪ ،‬فإن فيها غليانا على السطح‬
‫يف طبقة واعية تعتمد على هتييج اجلماهري‪ ،‬والذي يؤسف هو أن‬
‫هذه الطبقة الواعية منحرفة القصد لسوء ما علمها أساتذة الفكر‬
‫اجلاهلي‪ .‬إهنا تريد حرية وتريد عدال وتريد تساويا‪ ،‬لكن حريتها‬
‫وعدهلا ال يتجاوزان سلم القيم األرضية االقتصادية‪ ،‬وهلذا فدعوة‬
‫هذه الطبقة ال تتجاوز املذهب االقتصادي العلمي‪.‬‬
‫ومن مث فإن اقتناعها باملذهب االشرتاكي العلمي يشمل‬
‫اقتناعا بآلية التغيري اللينينية املاركسية ‪ .‬وهذه اآللية الثورية عمادها‬
‫التطور التهييجي‪ ،‬يبدأ مبرحلة جتميع القشرة الواعية من املفكرين‪،‬‬
‫مث تبث هذه القشرة غضبها لتوعية احملرومني بالظلم الواقع عليهم‪،‬‬
‫مث تتبىن الصراع الطبقي وختلقه خلقا‪ ،‬وتنتظر أن تسوء األوضاع‬
‫اليت ثارت عليها وتساهم يف النزول هبا إىل أسفل دركات الفساد‬

‫‪529‬‬
‫لكي جتين الثمرة ناضجة عندما تنغلق أبواب العمل وجييء وقت‬
‫الوثبة احلامسة على احلكم‪.‬‬
‫هذه قيم هابطة‪ ،‬قيم الغضب واحلقد الطبقي‪ ،‬قيم النزاع على‬
‫اخلبز وقيم احلرية املادية اليت تنتهي عند التصنيع والبناء االقتصادي‪.‬‬
‫وهذا الغضب واحلقد هو احملرك النفسي احلقيقي للثوار ال احلتمية‬
‫«العلمية» املاركسية‪ .‬إن فكر اليهودي الفيلسوف فصل تطور‬
‫التاريخ وأدرك أن حالة قوى اإلنتاج ومدى تطورها ينعكس يف‬
‫عالقات اإلنتاج‪ ،‬فعلى رتبة تطورها يكون أسلوب اإلنتاج ونظام‬
‫امللكية‪ .‬هذا واقع ال جدال فيه بصفة عامة‪ ،‬لكن ثورية الفلسفة‬
‫إمنا جاءت من ربط كل ذلك بنفس اإلنسان وشعوره بالظلم‪،‬‬
‫وجاءت من الصياغة اجلدلية لتطور الصراع الطبقي‪ .‬وتشكل‬
‫الفلسفة الثورية شبكة عقالنية تفهمها كل العقول جبهد متعمق‬
‫ميأل آفاق املثقفني أو بكيفية مبسطة تدخل عقل العامل املسكني‬
‫فتستعمره ويصبح إمكان تعلمها ووضوح منطقها قيمة يف حد‬
‫ذاته‪.‬‬
‫الذي يواجهه املسلمون يف الوضع الراهن‪ ،‬وضع ما بعد خيبة‬
‫االشرتاكية أو وضع ما قبل االنقالب االشرتاكي‪ ،‬هو سلم القيم‬
‫الشيوعية‪ ،‬فبعضنا جرب اشرتاكيته امللفقة فلم تغن شيئا ومل حتل‬
‫مشكال‪ ،‬وبعضنا ملا جيرهبا فهو ال يزال يتوقع اخلالص االشرتاكي‬

‫‪530‬‬
‫وكالنا ال ينفك يهفو إىل جمتمع شيوعي حيمل امسا تقبله األمة‬
‫املسلمة‪.‬‬
‫مأساة املسلمني الراهنة وحريهتم بني القيم الشيوعية ال يفرجها‬
‫إال فضح هذه القيم التائهة بإجنازاهتا االقتصادية بقيم أعلى منحها‬
‫حمتدا وأكثر فاعلية يف ميدان اإلنتاج والقوة‪ .‬وال مينع رجال الدعوة‬
‫اإلسالمية وال يثبط من عزميتهم صعوبة التباري مع سلم القيم‬
‫الديالكتيكية املادية املشخصة يف دول متعددة متنوعة‪ ،‬وال يفت‬
‫يف عضدهم أن ليس لإلسالم ركن واحد قام فيه االقتصاد وقام‬
‫فيه االجتماع على قيم إسالمية‪.‬‬
‫من رجال الدعوة اإلسالمية من يدفعه اقتناعه بأن اجملال‬
‫االقتصادي موضع لقيم نسبية آلية فدعوته إىل اإلسالم دعوة‬
‫روحية حمض‪ ،‬وكثري منهم يشعرون بأن صراع احلق والباطل جيب‬
‫أن يتم أوال على ميدان املعركة الذي فرضته ظروف القلة اليت‬
‫نعيشها وفرضته قوة املذهب املاركسي يف هذا امليدان متغذيا من‬
‫سوء هذه الظروف وإحلاح مشاكلها ومن مناذجه الناجحة القوية‪.‬‬
‫ويكتب رجال اإلسالم يف االقتصاد االسالمي يساهم كل مبا عنده‬
‫فمن يذكرنا بعدل عمر ابن اخلطاب ومن يشرح املاركسية وينتقدها‬
‫ويرفضها‪.‬‬
‫وحنن نعتقد أن القيمة االقتصادية قيمة نسبية آلية ونعتقد‬

‫‪531‬‬
‫يقينا أن نظام رب العاملني ال تقاس به أنظمة احلاملني‪ .‬لكننا‬
‫نسمع ربنا جل شأنه خيربنا أن أموالنا هي لنا قيام‪ ،‬ويأمرنا أال‬
‫نويت السفهاء أموالنا فنفهم األمر على عمومه ونعرف احلق أمر‬
‫اهلل تعاىل إذ نرى تبذير السفهاء ألموال املسلمني تبذيرا ال يقاربه‬
‫تبذير الصغار القاصرين‪ .‬فإن كان هؤالء يلزمهم احلجر فإن أولئك‬
‫أحق أن تنزع منهم أمواهلم لتكون لنا قياما‪.‬‬
‫ويف قراءة ورش ‪﴿ :‬أ َْم َوالَ ُك ُم الَّتِي َج َع َل اللّهُ لَ ُك ْم قِيَماً﴾ فهي‬
‫قيم وال بد للدعوة اإلسالمية أن تضعها موضعها يف سلم القيم‪.‬‬
‫وهذا هو موضوع الفقه املنهاجي‪ ،‬أن يصنف القيم ويدل على‬
‫الغايات قبل الداللة على املقاصد واألهداف‪.‬‬
‫تنتظم حول اهلدف االقتصادي كل احلوافز وكل الطاقات عند‬
‫االشرتاكيني‪ ،‬فمن أجل اهلدف االقتصادي يتحرك اإلنسان ويتحرك‬
‫اجملتمع كله ومن أجله وطبقا له جيري تغيري البنية االجتماعية‬
‫واألنظمة السياسية‪ ،‬ومن أجله وطبقا ملقتضياته يعبأ اإلنسان‬
‫ويطوى اإلنسان ويستلب اإلنسان ليصبح دابة فاعلة منتجة هلا‬
‫حركات على إيقاع حركة اآللة وهلا دؤوب وسرعة كسرعة اآللة‪.‬‬
‫وهذا التنظيم يعطيك آخر األمر إنسانا منوذجيا هو ستاخانوف يف‬
‫بالد الشيوعيات أو العامل «املتلري»‪ 1‬يف بالد الكثرة االحتكارية‪.‬‬

‫‪ 1‬السائر على نظام حركة العمل الذي ابتكره األمريكي تايلور‪.‬‬

‫‪532‬‬
‫نرى الشيوعية الرتبوية يف الصني ترفض أن تطحن اإلنسان يف‬
‫رحى االقتصاد فتبتدع قيما أعلى وبذلك تكذب احلتمية الشيوعية‬
‫املادية وتنقل أسى اليهودي الفيلسوف على اإلنسان املستلب يف‬
‫العمل املستعبد إىل الواقع اليومي‪ ،‬ونراها على هذا النحو جتدد‬
‫لإلنسان الفرد شرفا وسط جمتمعه وتعطيه قيمة يكتشفها إذا قرأ‬
‫«الفلسفة» وشارك يف «السياسة»‪ ،‬ويكتشفها إذا خرق ناموس‬
‫التقنية وابتدع وأبدع‪.‬‬
‫فهل أعطت الصني لإلنسان قيمة أعلى من قيمته الرتابية‬
‫الدودية االقتصادية ؟ كال! فاجلاهلية جاهلية ال تربح‪ ،‬واإلسالم‬
‫وحده يقرتح علينا قيمة الغاية الوجودية لإلنسان وطبق هذه القيمة‬
‫ومن أجلها وتبعا هلا ينبغي أن تنتظم القيم األخرى على سلم‬
‫اإلسالم واإلميان واإلحسان‪ .‬ويف هذا السلم مكان لالقتصاد يعرفه‬
‫اإلسالم ويشرعه اهلل خللقه وينظمه نظامه األزيل الذي ال تتخلف‬
‫نتائجه‪ ،‬إن أموالنا لنا قيم‪ ،‬كانت قيما يف عصر النخلة واجلمل‪،‬‬
‫وهي اليوم لنا قيم يف عصر االقتصاد والتكنولوجيا‪.‬‬
‫كان صاع التمر الذي جر عليه أبو عقيل الصحايب اجلرير‬
‫طول الليل لينثره يف صدقة املسلمني قياما وقيمة‪ .‬كان صاع التمر‬
‫الضئيل وصعوبة العمل باحلبل طول الليل دليال على أن اإلنسان‬
‫إذا حركته احلوافز العالية أقدر على العمل وأكثر صربا عليه‪ ،‬وكان‬

‫‪533‬‬
‫ذلك دليال أن على القيمة املعنوية اليت حركت أبا عقيل ليساهم‬
‫يف الصدقة ويشرتي رضى اهلل ورضى رسوله هونت عليه البذل إذا‬
‫كان بذل صاع التمر مثنا الستحقاق العضوية يف اجلماعة املؤمنة‬
‫وبرهانا على أن أبا عقيل قيمة تستطيع اجلماعة أن تعتمد على‬
‫إخالصها وأن تقوم أمورها عليها‪.‬‬
‫ال حنتاج يف عصرنا ألكثر من صرب أيب عقيل وبذله إن أضفنا‬
‫إىل ذلك عقال متفتحا للعلم متحررا من وهم امتناع التكنولوجية‬
‫علينا متحررا من عقلية الركود األنانية املعرضة عن اجلماعة‪.‬‬
‫قيمة العامل يف بالد اجلاهلية املتكاثرة‪ ،‬شيوعية وغريها‪ ،‬هي‬
‫قيمة األجر الذي يعطاه‪ ،‬وقد قنع اإلنسان املمسوخ هبذه القيمة‬
‫واندرج يف سلمها التكاثري فال يطالب إال بزيادة األجر ليزداد‬
‫متعة‪ .‬وقيمة عمل أيب عقيل وإن كان أجرها املادي ضئيال صعدها‬
‫احلافز العايل‪ ،‬وباركها أهنا سعي من أجل اجلماعة وبذل وقربة هلل‪.‬‬
‫ال حديث للماركسية إال قيمة املال وقيمة العمل وفائض‬
‫القيمة وما إىل ذلك مما يؤكد لكل مرتاب أن االقتصادية‬
‫املاركسية والفلسفة الثورية ونظام املطالبة الصعلوكي هتافت حول‬
‫قيمة واحدة هي قيمة الدابة اإلنسانية يف حال عركها يف الرحى‬
‫اإلنتاجية ويف حال تفكريها ويف حال نظامها الثوري‪ .‬ولذلك ترى‬
‫«قدماء الشيوعية» يلتفتون إىل الصني بعجب مث برهب ونصب‬

‫‪534‬‬
‫إذ يكتشفون أن املروءة اإلنسانية ومعاين التضحية والشجاعة‬
‫واإليثار هي اليت تقرتح على اجلماهري الصفراء عوضا عن القومية‬
‫االشرتاكية البطولية وحدها املتصلبة بعلميتها املاركسية اللينينية‪.‬‬
‫وأعجب من هذا أن اخلرباء احلمر يعملون منذ الثورة الثقافية‬
‫ومنذ ألغي احلافز املادي‪ ،‬حافز األجور‪ ،‬أكثر مما كانوا يعملون‬
‫من قبل‪ ،‬واألعجب أن العامل خيرتع ويسهر وأن الفالح ينحين‬
‫على حقله طول النهار وطرفا من الليل مث ال ينسب لنفسه مزية‬
‫إن ارتفع اإلنتاج لكن ينسبه جلماعته‪.‬‬
‫ينظر إىل كل هذا الشيوعيون وأنسباءهم اجلاهليون احملتكرون‬
‫فرتهبهم الصني وخيطبون ودها بعد أن أعياهم االفرتاء على الصيين‬
‫املنحل املتفكك األوصال اجلائع العاري‪ .‬ومم خيافون يا ترى ؟‬
‫أخيافون من القنابل الذرية فهي أحقر من أن حيسب هلا حساب‬
‫أمام أسلحة اجلاهلية السابقة ؟ أم خيافون من كثرة عدد الصينيني‬
‫فاملسلمون أكثر منهم عددا وال حيسب هلم حساب؟‬
‫إن الذي ختافه اجلاهلية القدمية جبزئيها هو سلم القيم الذي‬
‫يسود اآلن بالد الصني إثر الثورة الثقافية‪ .‬إهنم يعلمون أن اإلنسان‬
‫حين دائما بدرجة من الدرجات إىل االرتفاع عن املستوى الدوايب‪،‬‬
‫وجيب أن ختاطب أرحييته وحترتم قيم الرجولة واملروءة والبطولة‪.‬‬
‫وكل هذه قد فرغ منها جمتمع اإلجرام الغريب وجمتمع الطبقية املرتفة‬

‫‪535‬‬
‫الروسية‪ ،‬جمتمعان حينان إىل التغيري وتوشك الدعوة املاوية أن‬
‫تتغلغل يف العامل املصنع تغلغلها يف بالد املسلمني الضعفاء‪.‬‬
‫صراع العامل صراع قيم‪ ،‬هي قيم تكاثرية‪ ،‬غنيمة الصراع‬
‫خريات العامل املادية‪ ،‬وعلى هامش هذه القيم تعيش قيم طفيلية‬
‫سطحية كقيم السمعة السياسية وقيم اخلطب األممية وما إىل هذا‪،‬‬
‫ومن كل هذه القيم ال نأخذ حنن اجلد وإمنا نأخذ اهلني اليسري‪،‬‬
‫فال القومية بلغت بنا أن ننمي االقتصاد ونتحرر من االستعباد‬
‫وال االشرتاكية أعطتنا سالحا ورجاال حنرر هبما بالدنا‪ .‬ويف بالد‬
‫الصني رجال جيرون احلبل ويسهرون النهار والليل فيتجاوزوا صراع‬
‫العامل بقوة احلافز وشدة العزم‪ ،‬وأرهبوا العامل بإيديولوجية متعلمة‬
‫مربية‪ ،‬إديولوجية أعطت برهان جناعتها يف هذه الصواريخ ويف‬
‫هذه األقمار والقنابل واإلبداع الذي سيبهر العامل أكثر مما هبرته‬
‫جدية السري‪.‬‬
‫كانت املاركسية احلاملة واللينينية املصارعة حتلل واقع اجملتمعات‬
‫املستعدة للثورة وقابليتها إلجناز العمل الثوري على ضوء احلالة‬
‫النفسية للقاعدة الشعبية‪ .‬فإذا كانت القاعدة اإلنسانية سوى‬
‫الضغط سطحها حىت أصبحت صاحلة لتعكس تيار الغضب‬
‫الطالئعي فذلك هو إبان زرع معاين التضحية والتضامن الطبقي‬
‫وجتاوز احلياة الفردية من أجل حياة اجلماعة ومن أجل جناح‬

‫‪536‬‬
‫القضية احلزبية‪ .‬إذا كان اإلنسان قد جهلت قيمته على مستوى‬
‫الرزق وجهل حقه يف الكرامة واستغل عمله وظلم ظلما شديدا‬
‫فسبيل إثارته أن تزرع يف وعيه قيم غري موجودة ليتطلع إليها ويبذل‬
‫يف سبيل نيلها روحه ويثور ويقاتل‪ ،‬وعلى هذا األساس قامت‬
‫ثورة ماو‪ ،‬وكان احلقد الطبقي دافعها‪ ،‬وهذا قدر مشرتك بني كل‬
‫اجلاهليات‪.‬‬
‫وقد دخل اآلن سوق القيم العاملية بضاعة جديدة رأينا كيف‬
‫أعجب هبا الكاتب اإليطايل وتذكر يوتوبيا عامل اإلنسان الكامل‬
‫إنسان الفقر والعفة‪ .‬ولعل هذا الكاتب اجلاهلي حيسب أن إنسية‬
‫الشيوعية الصينية وعاطفتها كما كان يصفها اخلصوم هي كمال‬
‫اإلنسان‪ .‬وكيف للناس أن يعلموا أن قيمة اإلنسان أعلى مبا ال‬
‫يقاس وأن لإلنسان جوهرا خالدا بعد موت اجلسد ؟ من أين هلم‬
‫أن يعلموا ذلك وحنن املسلمني ال نعلم ألنفسنا قيمة إال على‬
‫سلم التصنيع والتخلف االقتصادي نزن أنفسنا مبيزان االقتصاد‬
‫كما يزننا الغري!‬
‫﴿إِ َّن اللّهَ الَ يـُغَيـُِّر َما بَِق ْوٍم َحتَّى يـُغَيـُِّرواْ َما بِأَنـُْف ِس ِه ًْم﴾‬
‫صدق موالنا العظيم‪ .‬وصدق من دعانا إىل أن ننتزع من حلبة‬
‫املزامحة على القيم اجلاهلية بتغيري ما بأنفسنا تغيريا يكفل لنا أن‬
‫نأخذ جد األمور ال سفسفها ونرفع مرمى نظرنا لنتجاوز يف اخلطو‬

‫‪537‬‬
‫مواقع خطى اجلاهلية‪ ،‬ينشد املسلم كماله الروحي من حيث يبذل‬
‫ومن حيث يتعلم ومن حيث يتقلل ليدخر صاعا من متر وساعة‬
‫من هنار ليغين هبا مجاعة املسلمني‪ .‬صدق من دعانا إىل أن نكون‬
‫أساتذة العامل فنحن أحق هبا وأهلها إن عشنا على ضوء قيمة‬
‫اإلنسان اإلحسانية ليهون علينا حتقيق اهلدف االقتصادي‪.‬‬

‫‪538‬‬
‫التحويل الثقايف‬
‫قبل أن تقلع الطائرة ال بد هلا أن تتخذ وضعا خاصا مسامتا‬
‫خلط السري وال بد هلا أن تعدل عتادها ونظامها وفقا هلدف‬
‫الرحلة‪ .‬وإن إقالع اإلسالم ال بد أن يغري من أجله قادة اجلهاد‬
‫عقلية األمة وعتادها ونظامه وفقا للغاية اإلحسانية ووفقا للمقصد‬
‫اإلمياين واهلدف اإلسالمي‪ ،‬وقد رأينا أن قاعدة األمن االقتصادي‬
‫أساس عليه تعتمد هنضة كل حركة ألن حامل الرسالة رجل يأكل‬
‫الطعام وميشي يف األسواق‪ ،‬فقبل أن نكلفه حبمل الرسالة ال بدا‬
‫أن هنيء له أسواقا تضمن له حاجاته الضرورة‪ ،‬وإنه بدون طعام‬
‫ال تقوم أجسام وبدون أجسام ال تقوم أعمال‪.‬‬
‫من أهداف التنظري للبعث اإلسالمي وهدف االجتهاد وهدف‬
‫الفقه املنهاجي أن نعرف كيف ندمج العمل االقتصادي يف سياق‬
‫البعث العام‪ ،‬وأين نضعه وكيف نؤسس حركيته‪ .‬إذا حصل يف نية‬
‫القيادة اجلهادية رفع لواء اإلسالم ومجعت اإلرادة التنفيذية إىل‬
‫روحانية الدعوة فأول مهمة هلا أن تلتقي هذه اإلرادة املركزة وهذه‬
‫النية بإرادة اجملتمع الراكد يف أعماقه املضطرب يف سطحه‪ ،‬والعقبة‬
‫الرئيسية أمام هذا اللقاء هي عقبة الثقة‪ ،‬أو قل عقبة انعدام الثقة‪،‬‬
‫فمهما كان صدق القائد ومهما كانت قدرته على العمل وعلى‬

‫‪539‬‬
‫االقتناع فستبطئ عنه االستجابة وستتخلف عنه إىل حني ضمائر‬
‫سجينة يف سياج عقلية راكدة أو عقلية فوارة‪ .‬والعقلية عادة فكر‬
‫وعادة حكم والثقة انفصال عن العادة وحركة حنو اجلديد‪.‬‬
‫هذا التناقض بني ركود العقلية الواقع وبني حترر اإلنسان‬
‫ومشاركته وثقته حله الصينيون بزعزعة الثورة الثقافية للعقلية‬
‫السابقة يف انسجام مع خط العدل اجلماهريي‪ .‬وحنله حنن بتحويل‬
‫روحي قاعدته عدل رد املظامل‪ ،‬ومع التحويل بعملية التوبة تبدأ‬
‫عملية التحويل الثقايف‪.‬‬
‫الفرق بني طائفة من الناس مندفعة حنو هدف ما بقوة ال‬
‫تنضبط وبني حركة اجلماعة العضوية البانية املنظمة قد يكمن‬
‫يف إمكان التفاهم الفكري بني القيادة والقاعدة بقدر ما ميكن‬
‫أن يكمن يف إحكام اخلطة والنظام فاملسلمون غداة بدء الرحلة‬
‫أشتات موزعون بني عقلية األمي الغريب عن هذا العامل وبني‬
‫عقلية أمي الفكر الذي تعاورته اآلراء املتضاربة املتناقضة‪ ،‬فعقله‬
‫هواء‪ ،‬وبني املثقف املرتف يف ثقافته‪ ،‬ومن العسري أن يتفاهم‬
‫كل هؤالء فيما بينهم وأن يتفامهوا مع القيادة اجلهادية ألن كال‬
‫ينطق بلغته وجيري يف مهيعه الفكري بعقليته املتحجرة على اجلهل‬
‫البسيط أو على اجلهل املركب العزيز بعقالنيته‪ .‬إن لكل جند تعبئة‬
‫كما له قيادة‪ ،‬لكن حركة العمل ال متكن إال برتبية فكرية أدناها‬

‫‪540‬‬
‫أن حيفظ اجلندي صيغ األوامر لكي يستجيب وفق اإلرادة القيادية‬
‫يف انسجام تام مع فريقه‪ ،‬وأعالها أن يتحرر عقل اجلندي من‬
‫أساره‪ ،‬ويعي نفسه ويعي مجاعته وعيا جديدا ويعي قيمته ومهمته‬
‫يف احلياة فيسلك حسب ذلك منضبطا حريصا على الصاحل العام‪.‬‬
‫ومبا أن التعبئة اإلسالمية ليست جتنيدا إجباريا يعطينا جمموعة‬
‫عمال آليني بعقلية جمتمع ستاخانويف‪ ،‬فإن الرتبية الفكرية الالزمة‬
‫لنا هي تربية حترر الفرد وتفتح له آفاق التعلم وآفاق اإلبداع وآفاق‬
‫اجلهاد الالئق باملسلمني‪.‬‬
‫أغلبية األمة املسلمة رجال ونساء وأطفال ورثوا األمية وورثوا‬
‫عقلية خرافية‪ ،‬ومن يتلقى منهم تعليما فإمنا ينحصر تعليمه يف جمال‬
‫ضيق مث إذا أمت تعليمه رجع إىل أميته فتجد املوظف يكتب ويقرأ‬
‫لكنه أمي ال يتعلم وال يبتكر وجتد املعلم والتقين قد احنسر فكره‬
‫وحتجر وكف عن التعلم وكف عن النمو‪ .‬وإما يكون التعليم حتويال‬
‫بعيدا ينقل املرء من عامله الوطين إىل عامل احلضارة األثاثية يعيش‬
‫فيها جبوارحه ويرصد هلا ماله وماال يقرتفه هنبا‪ ،‬ويعيش فيها بفكره‬
‫مستعبدا عابدا ألوثان عقالنية متسخه عن دينه أو عقالنية سياسية‬
‫متسح هبا فأخذ يظن أن احلق له وحده وأن له بسطة العلم ختوله أن‬
‫حيتقر الناس مجيعا ويسخرهم إذا عجز أن يكون ثوريا أصيال مثل‬
‫وثن الثورة كويفارا الذي كان خيدم الناس وال يسخرهم‪.‬‬

‫‪541‬‬
‫وهكذا الناس طائفتان ‪ :‬فطائفة مرتفة بثقافتها‪ ،‬وأخرى ليس‬
‫هلا من العلم إال قليل بقدر ما يركبها به الغرور فتتوقف عن‬
‫التعلم وتعود يف حساب األميني اخلرافيني‪ .‬وكال الطائفتني حباجة‬
‫إىل حترير من اجلهل البسيط واجلهل املركب‪ .‬فبعد حترير العنصر‬
‫اإلنساين حتريرا نفسيا يعيد له الثقة بالقيادة ال بد من حترير فكري‬
‫ميكنه من أن يربط بالناس وبالعامل عالقات منطقية‪ ،‬وجتعله واعيا‬
‫لقيمة عمله مدركا لألسباب واملسببات‪ ،‬وجتعله أكثر فاعلية يف‬
‫شغله‪.‬‬
‫ويف الطائفة املثقفة فريقان أحدمها نوع استعصى على االنقراض‬
‫مبحض املعاناة الدفاعية عن نوعه وهو فريق املعاهد الدينية كما‬
‫يسموهنا‪ ،‬والفريق الثاين وإن كان ظهر وليدا غريبا أصبح صاحب‬
‫السلطان ورب امليدان وهو فريق «العصريني»‪ .‬هؤالء يسخرون من‬
‫أصحاب املعهد الديين كما يسخر كثري منهم من الدين نفسه‪،‬‬
‫وأولئك ينسحبون شيئا فشيئا عن مواقعهم ويتشبهون بالعصري‬
‫على قدر ما يناله هذا من حظوة وجناح اجتماعي‪ .‬ومع تدهور‬
‫األمة وابتعادها عن اإلسالم يف احلياة العامة واخلاصة بارت بضاعة‬
‫املعهد الديين واختلط األمر إذ أتى تالمذة املعهد الديين بتفرجنهم‬
‫الفكري وتنكرهم للدين أكرب جرمية ارتكبها املثقفون يف دار‬
‫اإلسالم‪ .‬كان الناس ينظرون إىل العامل املسلم نظرة تقديس ونظرة‬

‫‪542‬‬
‫منوذج يقتدى به‪ ،‬فلما تفسخت أخالق بعضهم وما استحيوا من‬
‫اهلل إذ أنكروا اهلل رآهم العامة فخاب ظنهم يف الناس وخاب ظنهم‬
‫يف اإلسالم‪.‬‬
‫مثقفونا فريقان ‪ :‬عقول مكونة تكوينا منطقيا هم أصحاب‬
‫الثقافة العملية وهم أصحاب احلول والطول‪ ،‬قضيتهم إن كانوا‬
‫منحطني قضية استعالء أناين يرتقب املناصب ويفتضح خبالء‬
‫الذمة وسوء السرية‪ ،‬فإن كانوا أعلى من ذلك فإمنا قضيتهم التحرر‬
‫السياسي والتنمية االقتصادية‪ ،‬ونعم القضية لو كان غاية ما ترمسه‬
‫أن تكون أمة اإلسالم أمة حرة حقا باملعاين اإلميانية اإلحسانية‪.‬‬
‫وقضية علمائنا وتالمذة املعهد الديين قضية إحياء اإلسالم‪،‬‬
‫لكنها قضية ال تسمع وال تقبل ألن من بني أصوات من يدافعون‬
‫عنها أصوات ديدان القراء املنافقني‪ ،‬وألن عقلية بعض علمائنا ال‬
‫تزال عقلية خرافية ال تتسع ملنطق العمل أو تتصور العمل تصورا‬
‫صبيانيا‪ ،‬وأعرف من الناس املنتمني هلذه الفرق من يعتقد أن بعث‬
‫اإلسالم له مظهر وحقيقة وخمرب جتتمع كلها يف منع اخلمور وسدل‬
‫اخلمار‪ ،‬ومن يزعم لنفسه وللناس أن اإلسالم ينبعث يف أسرع من‬
‫ملح البصر لو ويل احلكم مجاعة من أمثاله‪.‬‬
‫قضيتان ال تلتقيان يف ذهن املثقفني‪ ،‬مثقف يعتقد أن الدين‬
‫أفيون الشعوب‪ ،‬ومثقف ال حيسن أن يعرض قضية اإلسالم العرض‬

‫‪543‬‬
‫الكامل الذي يدرج األموال اليت جعلها اهلل لنا قيما وقياما يف سلم‬
‫حقائقه‪ .‬فال لقاء يرجى بني مثقفينا إال بتحويل ثقايف يتم على‬
‫صعيد التوبة العامة‪ .‬وإن ملثقفينا لطاقات سائبة مسلوبة مستلبة‬
‫مبذرة ملا مل جتد منهاجا جيمعها‪ .‬وكما أن االنشقاق السياسي‬
‫يف الصفوف صيغة عملية لغثائية األمة الذاهبة مع السيل فإن‬
‫االنشقاق الثقايف صيغة عملية للجهل املركب‪ ،‬ويلم شعت ذلك‬
‫كله فقه منهاجي يضع األمور مواضعها‪.‬‬
‫التجديد اإلسالمي جهاد ميتنع عنه ويتعسر عليه هذا العنصر‬
‫البشري املتحجر على عقلية ال تثق بشيء وال تطمح إىل شيء إال‬
‫طموح مطالبة‪ .‬الناس حيبون أن يتمتعوا ببضائع االستهالك لكنهم‬
‫ال يستعدون ليعرفوا هلا مصدرا غري املصدر السهل اليسري‪ ،‬ال حيبون‬
‫أن ينالوا هذه البضائع بالكد والتعلم الضروريني لصنعها‪ ،‬يعوقهم‬
‫عن ذلك الكسل الذي هو من صفات الركود ومن خصائص‬
‫العقلية املتحجرة‪ .‬فضروري أن تعبأ العقول من أجل جتديد كامل‪،‬‬
‫وضروري أن حيول تفكري األمة حتويال حنو عقلنة عالقاتنا بالناس‬
‫والطبيعة‪ ،‬وحنو تنظيم وقت العمل وعالقات العمل‪.‬‬
‫عند اجلاهلني أملت ضرورة عقلنة عالئق اإلنسان بالطبيعة‬
‫وباإلنسان تنظيمات ضيقت معه شيئا فشيئا على املعاين اإلنسانية‬
‫يف احلياة اليومية حىت كاد اإلنسان اجلاهلي أن ينحصر دوره على‬

‫‪544‬‬
‫األرض يف وظيفته االقتصادية‪ ،‬فما تسمع إال ساعة العمل وقدر‬
‫املردودية وارتفاع اإلنتاجية‪ .‬وإننا األمة الضعيفة العائشة يف القلة‬
‫حملتاجون إىل كثري من كل ذلك ريثما نقرب العقلية املتخلفة‪ .‬وإننا‬
‫إن واجهنا قلتنا وضعفنا بإرادة إميانية يعضدها الوعي جبدوى‬
‫العمل والعلم التكنولوجي والتنظيم العقالين لعالقاتنا بعامل‬
‫االقتصاد فستتحول قلتنا كثرة وال يبقى لنا خالل ذلك ومعه إال‬
‫أن جنتهد لكي تكون كثرتنا قوة ختدم غاية محل الرسالة ال تكاثرا‬
‫يردينا مع اجلاهلني‪.‬‬
‫فريقان من مثقفينا وطائفة كبرية من األمة تراكبت يف ذهنها‬
‫القيم واصطرعت االجتاهات‪ ،‬فقوم ال رغبة هلم إال يف التقنية‬
‫والعمل املنتج والدخول يف عاملية االقتصاد‪ ،‬وقوم ال يبني هلم يف‬
‫ظالم الفتنة طريق إسالمي لبناء القوة‪ ،‬وسواد األمة ال يتحرك‬
‫حبداء هؤالء وال جيد أسباب الثقة باآلخرين‪ .‬يف بالد القومية‬
‫االشرتاكية جتند وسائل اإلعالم وجتند سياط احلكم لتقنع الناس‬
‫أن التنمية االقتصادية ثورة من أجل هدف أمسى هو جمد الشعب‬
‫القومي‪ .‬وكم من شعب إسالمي غرته الشعارات وخدعته عن‬
‫قيمه اإلسالمية املغفول عنها ومشر عن ساعد اجلد ليخدم القضية‬
‫االشرتاكية‪ ،‬حىت إذا ظهر أن االشرتاكية تنهزم يف ميادين القتال‬
‫كما تنهزم يف ميادين اإلنتاج رجع الناس إىل انكماشهم واقتصر‬

‫‪545‬‬
‫اشرتاكهم على طاعة سلبية‪.‬‬
‫ويف بالد الكراهية األخرى من بالد املسلمني حيث تتدفق‬
‫أموال هائلة يتهافت املرتفون املتسلطون على عمل الكادحني‬
‫ويرحبون من حيث خيسر اآلخرون‪ ،‬وبذلك يسود املسلمني شعور‬
‫بالظلم والقلق واالضطهاد ال يشجع على حتويل العقلية الكسول‬
‫إىل وعي إنتاجي‪.‬‬
‫كل هذا الذي كتبناه يصور مشكلة عدم التفاهم بني املسلمني‬
‫وبالتايل عسر تعليم اجلاهل وإعمال العاطل‪ .‬اإلرادات مشلولة‬
‫واألفكار معطلة يف ملهاهتا املألوفة‪ .‬ال يتفاهم الناس بأفكارهم‬
‫ألهنم ال يتفامهون يف أسس كياهنم‪ ،‬تضطرب هبم دعاوي القادة‬
‫والزعماء فطورا ينتمون للقومية واالشرتاكية وتارة هم متوسطيون‪،‬‬
‫طورا يلتمسون حلفا مع الشرق إذا مل جيدوا وسيلة للتحالف مع‬
‫الغرب‪ ،‬وطورا هم مسلمون يبغون وحدة اإلسالم وتارة عاملهم‬
‫قاري ال توحده وال يهم أن توحده العقيدة‪.‬‬
‫عدم االستقرار العاطفي سبب ونتيجة معا لعدم االستقرار‬
‫الفكري‪ ،‬واالستقرار أرضية ضرورية للبناء‪ .‬إمنا يستقر العقل على‬
‫قاعدة كيانية واضحة‪ ،‬وعلى نظرة لإلنسان واحلياة واملصري توحد‬
‫وجهة األمة‪ ،‬وسبب عدم التفاهم بني املسلمني نشأ عن اختالف‬
‫تصورهم للكليات‪ ،‬ومن هذا نشأ اختالف تصورهم للجزئيات‬

‫‪546‬‬
‫العملية‪ ،‬الكليات اليت يعتقدها القادة واملثقفون احملظوظون يف‬
‫األمة هي اجلاه والرتبة االجتماعية واملال خيفوهنا يف كليات التغيري‬
‫السياسي وجمد القومية وبناء االشرتاكية‪ .‬والكليات اليت تؤمن هبا‬
‫األمة إن كانت غري جلية من أثر اجلهل وعشرة اجلاهلني فمنظرها‬
‫يف العدل العمري املفقود املنشود ويف عقيدة أن ال إله إال اهلل وأن‬
‫حممدا رسول اهلل أجلى من كل شعار‪.‬‬
‫هذا االنشقاق الفكري املرتتب على االنشقاق العقدي‬
‫يقسم العامل اإلسالمي تقسما طبقيا عرب احلدود اجلغرافية‬
‫املفرتاة على دار اإلسالم‪ ،‬فاملستضعفون هم بعقيدهتم متالقون‬
‫واملرتفون بعقليتهم متشاهبون‪ .‬ومع تفاوت البالد اإلسالمية من‬
‫حيث النماء االقتصادي فهي متقاربة جدا من حيث عدم النماء‬
‫اإلنساين‪ ،‬وال يغرنك كثرة محلة الشهادات يف بعض البالد وقلتها‬
‫يف األخرى‪ ،‬فليس حامل الشهادة رجال حتول نظره ضرورة من‬
‫الفردية املستهلكة إىل اجلماعية املنتجة املضحية‪ .‬وإذا كنا ننتظر‬
‫من مثقفينا أن حيولوا األمة كلها حتويال ثقافيا فسننتظر طويال ألن‬
‫مثقفينا يفكرون يف مسارب املطالبة‪ ،‬ال تأيت منهم فكرة سياسية‬
‫أو اقتصادية إال ردا على فكرة اخلصم وحماربة له ومطالبة بكرسيه‪.‬‬
‫املثقفون املسلحون ينقلبون على اخلصم لكن ال حيولون عقلية‬
‫األمة‪ ،‬واملثقفون اآلخرون يتصارعون يف حلبات الفكر االشرتاكي‬

‫‪547‬‬
‫املستورد بعقول صنعتها أيد أجنبية صنعا عائدا ال يتاح معه أن‬
‫ينفعوا األمة‪.‬‬
‫عقلية املطالبة تقابلها حرية القيام بالواجب‪ ،‬وهي حرية‬
‫األحياء الذين تسود الثقة عالئقهم وحيدو الطموح يف احلياة العليا‬
‫جهودهم‪ .‬ويقابل ركود الطبقية السائدة يف دار اإلسالم حتدي‬
‫العصر يف شخص أصحاب الثورة الثقافية الذين حتولوا من دركة‬
‫أحط بكثري من مهواتنا وانبعثوا بشعور جديد وروح جديدة‪.‬‬
‫قد يتصور بعض الناس أن التحويل الثقايف عملية تتم إن عبأنا‬
‫وسائل اإلعالم ونظمنا التعليم وأنفقنا يف ذلك ما يكفي لنمحو‬
‫األمية وندخل كل األطفال املدرسة ولنرفع مستوى املدارس‪ .‬هذه‬
‫جهود تنفع يف جو الثقة والعدل أي يف جو االستقرار العاطفي‪.‬‬
‫أما إذا جندت وسائل اإلعالم واملدارس يف جو اضطراب وظلم‬
‫فلن خيدم تعليمك إال أهدافا مرتفة مث ال يكون تعليما جمديا وال‬
‫حىت منتجا من حيث الكم ألن العاملني يف احلقل مأجورون‬
‫مغبونون وهم ينشرون يف األجيال عدوى اليأس واإلعياء‪.‬‬
‫التحويل الثقايف يعين انتقاال من عامل تصوري إىل عامل غريه‬
‫جديد حي‪ ،‬ال أقول انتقاال نظريا بل انتقاال عمليا‪ ،‬انتقال الفكرة‬
‫من تأمل يف الصحف إىل عامل الواقع‪،‬وانتقال العزمة القيادية إىل‬
‫تطبيق يومي‪ ،‬وانتقال اخلطة االقتصادية من عامل التخطيط واإلرادة‬

‫‪548‬‬
‫إىل دنيا األرقام اإلنتاجية‪ .‬وكل هذا إمنا ميكن إن حتول من بيده‬
‫السلطان إماما للصالة يصلي مع الناس مجيعا على البساط ألن‬
‫الصالة ال جتوز على الكراسي والعروش‪ .‬وبتحوله ميسك الرجل‬
‫بالرجل يبث فيه إميان قلبه وحرارة والئه وإرادته بنفس احلركة اليت‬
‫يبث فيه العلم‪ ،‬ويتلقى اآلخر بثقة ما ال يصله إال خربا باردا عن‬
‫طريق وسائل اإلعالم بلهفة الذي يريد أن يتعلم وحيرص على أن‬
‫يتعلم ويؤمن أن التعلم عمل‪ .‬وهكذا يسري العلم سريان اإلميان‬
‫ومعهما اجلدوى والفاعلية‪.‬‬

‫‪549‬‬
‫التعاون اجلماعي‬
‫التنمية االقتصادية قد تكون مفروضة بعامل خارجي‪ ،‬كمثل‬
‫اليت فرضها االستعمار‪ ،‬ويكون منتوجها غنيمة لألجنيب وال تنمي‬
‫اإلنسان‪ .‬وقد يكون هذا العامل داخليا لكنه يف صاحل إقطاعية‬
‫وطنية تستأثر باملنتوج وال تنمي اإلنسان‪ .‬مث إن سوق رأس املال‬
‫العاملية ترغب يف تصنيع البالد املعطلة إن كان فيها أمن ال ختاف‬
‫معه على ماهلا‪ ،‬واملال املستورد قد حيرك األرض ويبين هياكل‬
‫اقتصادية لكنه ال ينمي اإلنسان‪.‬‬
‫ما من بالد املسلمني إال ورث من حقبة االستعمار جهازا‬
‫اقتصاديا ما‪ ،‬ومنذ عشرات السنني تعلم املسلمون كيف خيدمون‬
‫اجلهاز االقتصادي طلبا للرزق بعقلية املنتجع ال حبرية املشارك يف‬
‫بناء اجلماعة‪ .‬ما غري من ذلك االستقالل السياسي وما غري من‬
‫ذلك جهد االشرتاكية الضائع‪ .‬فاقتصادنا اليوم اقتصاد طائفة‬
‫دون طائفة‪ ،‬إن كان إقطاعا فإقطاع وإن كان اشرتاكية فطبقة‬
‫التقنوقراطيني الذين جيهرون لألمة أن األرض هلا وما عليها وخيافتون‬
‫تواصيا وعمال بغري ذلك‪ .‬ال تكاد جتد فرقا بني من يعمل انتجاعا‬
‫واعتمادا على حذاقة املالك وعمله وتقنيته وبني التقنيني املدجنني‬
‫يف خدمة مجاعة ال يؤمنون مببادئها وال حيبون أن يتعاونوا معها‪.‬‬

‫‪550‬‬
‫إن مشكلة االقتصاد املتقدم يف بالد الصناعة العودة باإلنسان‬
‫العامل إىل درجة من إنسانيته حبيث يساهم يف االقتصاد‪ ،‬يف‬
‫تدبريه ويف ختطيطه وحبيث يرفع عنه ضغط العمل املسلسل وضغط‬
‫التوقيت التايلوري‪ ،‬وحبيث يعود إىل عضوية مجاعة إنسانية ليس‬
‫أجنبيا عنها‪ .‬ومشكلتنا حنن الضعفاء مسامهة أيضا لكنها مسامهة‬
‫تأيت من علم اجلهل والقلة وعدم اجلدوى‪ .‬مشكلتنا أن نرفع‬
‫العامل إىل درجة من الفاعلية واإلنتاجية بوازع مجاعي ال انتجاعي‬
‫حبيث يشرتك يف البناء بوعي املالك ملا يبنيه احلريص على إمتامه‬
‫وإتقانه‪ ،‬وحبيث يساهم بفكره ليبدع ومباله ليجمع املال وبوالئه‬
‫ليتعاون يف السهر على املصلحة العامة يقظا منضبطا‪ .‬مشكلة‬
‫أولئك مشكلة ترجع إىل إفراط يف العقلنة وإفراط يف اإلنتاج‪،‬‬
‫ومشكلتنا ترجع إىل تفريط يف ذلك وإىل انعدام وشيجة الوعي‬
‫اجلماعي الذي نراه يزهر ويثمر يف بر الصني‪.‬‬
‫عامل اجلاهلية حيضن إنسانية ال رمحة بينها وال تعاون‪ ،‬وعندما‬
‫يتحدث فالسفتها عن جمتمع تعاوين فإمنا خيربون عن العنقاء املغرب‬
‫يطلبوهنا وهي ممتنعة أبدا‪ .‬ولقد بقي بني املسلمني أثارة من بر‬
‫ورمحة وتعاون لكنه تعاون فردي وبر فردي فيه معىن الصدقة وليس‬
‫فيه معىن التكافل‪ .‬أوفر منه بر النصارى الذي ينظمون صدقاهتم‬
‫ومسامهتهم من أجل الدعوة وأوفر منه صدقات املتطوعني من‬

‫‪551‬‬
‫اجلاهليني اليت تأتينا لعنة لفاقتنا الكسول كلما أوفدوا لنا من يوزع‬
‫الدقيق وينقذ الغرقى‪.‬‬
‫هذه األثرة من الشعور بالرمحة ومن الرب أطالل للتعاون‬
‫اجلماعي الذي ال نراه إال مثاال يف اخليال‪ ،‬وإال منوذجا فريدا‬
‫يف حياة املسلمني األولني‪ .‬وإن التعاون اجلماعي وظيفة طبيعية‬
‫إن وجدت مجاعة تربطها صالت عضوية‪ ،‬وإن هذا التعاون إن‬
‫توسعت دائرته ونظمت حركته هلو الوسيلة الوحيدة لبناء اقتصاد‬
‫إسالمي يواكب منوه منو اإلنسان‪ .‬وحركة البعث اإلسالمي وفق‬
‫احلركية املنهاجية تتكامل بني وازعي السلطان والقرآن‪ ،‬وبني داعي‬
‫الصدق الذي يتجلى أثره التعاوين يف خصلة االقتصاد النبوية‬
‫وداعي الطاعة الذي يضم جهدا إىل جهد حىت يكون جهدا‬
‫مجاعيا توجهه إرادة واحدة موحدة بانية موثوق هبا‪.‬‬
‫التعاون اإلسالمي اجلماعي يقوم على قاعدتني عقديتني ‪:‬‬
‫أوالمها أن نصيبك من الدنيا ما بلغك رضى اهلل‪ ،‬فكل ما متلكه‬
‫ترصده للجهاد اإلسالمي وجتنده يف خدمة الغاية اإلحسانية واملقصد‬
‫اإلمياين‪ ،‬والثانية أن املبذر واملسرف يوشكان أن يرتفهما املال وأن‬
‫ترتفهما املتعة فلذلك جيب أن تتقلل من الدنيا وجتعل لك منها وقاية‬
‫من الورع يف املكسب ومن القصد يف النفقة حبيث ال جتعل يدك‬
‫مغلولة إىل عنقك وال تبسطها كل البسط فتقعد ملوما حمسورا‪.‬‬

‫‪552‬‬
‫وتلتقي املسامهة وهي مقولة نقابية يف لسان املطالبة املصنعة‬
‫مبعاين التقوى التكافلية اإلميانية يف وحدة اجلهاد اإلسالمي مبحو‬
‫الطبقية املستأثرة وبدمج األجيال املتنافرة وبإعادة قيمة العمل‬
‫اليدوي وباالعتماد على النفس يف البناء االقتصادي‪ .‬وكل ذلك‬
‫هو حمتوى الرتبية الباعثة ومن وسائله التحويل الثقايف الذي يقرب‬
‫بني النظرات ويوصل الثقة بني الناس‪.‬‬
‫هذه اليد اليت تعمل وتتسخ بالرتاب وخيشن ملمسها مبعاناة‬
‫الفأس وآلة الصناعة هي اليد القريبة للحرية والتحول والقدرة على‬
‫التحويل‪ ،‬وقد رأينا كيف تعاد تربية الشيوعيني يف الصني مبزاولة‬
‫األعمال اليدوية والشاقة الوسخة يف صف املستضعفني العاملني‪.‬‬
‫ورأينا كيف تذهب عنهم الكربياء وكيف يكتشفون رمحة املساكني‬
‫بالضعيف املقهور وكيف يساعدونه ويتعاونون معه‪ .‬وبتحويل‬
‫وظيفة اليد من مزاولة النعيم وملس احلرير إىل وظيفة اليد النافعة‬
‫يقع التحويل النفسي والثقايف ويلتقي املتخاصمون على صعيد‬
‫البساطة اإلنسانية كلهم ضعيف حيتاج للتعاون مع اجلماعة‪.‬‬
‫وإن اليد التقية اليت متتد بالصدقة ال يكمل تقواها إال مبناولة‬
‫املسكني يدا بيد ليزول فارق االستكبار بالغىن ولكي تكون املناولة‬
‫رمزا لقوة التعاون‪ .‬وال حيب اإلسالم أن متتد األيدي بالصدقة‬
‫لتتعطل أيد أخرى عن العمل‪ ،‬فلذلك جعل اليد العليا خريا من‬

‫‪553‬‬
‫اليد السفلى ولذلك قبل رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يدا‬
‫خشنة كانت يد حمرتف وكان األنبياء يعملون بأيديهم ليتأسى‬
‫هبم الناس فال يكسلوا وجرى على سنتهم أهل الرتبية اإلميانية‬
‫اإلحسانية فكانت هلم سنة قوة مثل الرتبية السنوسية اليت كانت‬
‫تتضمن االحرتاف باليد وكسب مهارات يدوية يتبارى يف ميداهنا‬
‫الشيخ مع مريديه‪.‬‬
‫اليد يف اليد رمز للتعاون إذا كانت األيدي عاملة ماهرة‪ ،‬إذا‬
‫كانت خبرية ونشيطة يف خدمة عقيدة‪ ،‬وجمموعة من األيدي يؤيد‬
‫بعضها بعضا تشري إىل القوة قوة التآزر وقوة السواعد املتآخية‪ ،‬فإن‬
‫تيقظت الضمائر نشطت األيدي وإن انضبطت احلركة بانضباط‬
‫اإلرادة اكتسبت األيدي مهارة‪ ،‬فذاك انضباطها‪.‬‬
‫يف البنية االجتماعية الطبقية‪ ،‬سواء يف ذلك تقنوقراطية‬
‫الرأمسالية وبريقراطية اآلخرين‪ ،‬يشرف خرباء بعيدون عن ميدان‬
‫العمل الفعلي على مجاعة املنفذين يتخذون قراراهتم على الورق‬
‫ويزيدهم التأمر استعالء‪ ،‬ويضاف ضغطهم على العاملني إىل‬
‫مضايقة ظروف العمل احملروس‪ ،‬فال جيد العامل إال خمرجا واحدا‬
‫هو أن يصبح ستاخونوفيا بطال جزءا من آليته أو متيلرا يتحرك‬
‫«كاألتومات» املرصودة‪ .‬واخرتعت الصني عمال على قدر اإلنسان‬
‫حني رأت مآل البريقراطية وفرضت العمل اليدوي والتعاون الفعلي‬

‫‪554‬‬
‫يف الورشة واحلقل بني رجال اخلربة الفنية والعمال ورجال اإلدارة‪.‬‬
‫كل يتناول اآللة ويتعب ويعرق‪ ،‬فإن كان برجوازيا عدوا داخليا‬
‫للطبقة كلف من األعمال الشاقة ما يكشف عنه وهم األنانية ورد‬
‫إىل التعاون بقهر السلطان ورمحة الرفاق الكادحني‪.‬‬
‫بدأ شقاء اإلنسانية بالعمل‪ ،‬كما بني ماركس‪ ،‬مع تقسيم‬
‫العمل إجابة للحاجات املتنوعة‪ ،‬ومع تعدد العمل وانقسامه‬
‫انشقت وحدة اإلنسان املتعاون املتكامل النشاط‪ ،‬والعمل اليدوي‬
‫يرد هذه الوحدة ويقرب بني الناس فال يكون لألمري ميزة إال بكونه‬
‫أقدر على التعاون وعلى العمل من غريه وتعترب فيه ميزة التفوق‬
‫الفين بعد ذلك فقط‪.‬‬
‫يف جمتمعنا الراكد ويف كل اجملتمعات االستغاللية يعرف الرئيس‬
‫بلني يديه ومشوخ أنفه كما يعرف اجملرمون بسيماهم‪ ،‬وتظهر أنانية‬
‫املدبرين واستكبارهم على املنفذين أكثر ما تكون فضيحة يف‬
‫البالد املستعمرة سابقا‪ ،‬فقد كان الرئيس األجنيب حيتقر الوطنيني‬
‫ويركلهم وله وحده الرأي‪ ،‬فلما ورثه اخلبري واملدير من بني أبناء‬
‫الوطن املستقل تقمص دور الرئيس املتأله‪.‬‬
‫هبذه العقلية اليت مل تستطع مقاومتها شعارات االستبداد‬
‫الصعلوكي يف روسيا وال شعار املواساة يف البالد األخرى سندخل‬
‫عصر اإلسالم غدا‪ ،‬وإن مشكلتنا أن ننزل األمري ليعمل بيده مع‬

‫‪555‬‬
‫املساكني ويتعاون معهم ويشركهم يف األمر‪ .‬وقد يظن بعضهم أن‬
‫التوبة العامة اليت هي عتبة العصر اإلسالمي هي استتابة طبقة‬
‫لطبقة‪ ،‬قيام طائفة نقية بتلقي توبة طائفة كانت جمرمة‪ ،‬ويؤول‬
‫األمر هبذا االعتبار إىل وصاية طائفة مرتفة بتنزهها على الناس‪،‬‬
‫ويطلب إىل األمة أن تقوم على خدمة مجاعة طفيلية‪ .‬وما األمر‬
‫كذلك‪ ،‬وأخطر األخطار أن تسرق طائفة متأمرة أمر اجلماعة‬
‫املتعاونة املتضامنة‪ .‬كلنا خطاؤون وكلنا كنا جمرمني‪ ،‬ومن رفض‬
‫التعاون معنا فليس منا‪.‬‬
‫وسيكون التعاون شاقا لبناء اإلسالم‪ ،‬املهام خطرية معقدة‬
‫وجناحها يتوقف على قوة التوجيه وضبط التنفيذ وهذا قد يدعو‬
‫األمراء حديثي العهد بالتعاون أن يلتمسوا سلطة يف مشوخ األنف‪.‬‬
‫مث إن املشغلة شاقة عسرية ألن وسائل اإلنتاج متأخرة وألن‬
‫الطاقات اآللية قليلة فيضطر ذلك العمال لبذل جهد بدين شاق‬
‫ال يقدر عليه املثقفون اخلرباء‪ .‬وهنا ينبغي أن تظهر كفاية األمراء‬
‫الرتبوية إن استطاعوا بتواضعهم وحمبتهم أن يلطفوا مشقة العاملني‬
‫ويضاعفوا من محاسهم‪ ،‬فإنه ال يطلب إليهم أكثر مما يقدرون‬
‫ويف حق كثري من الناس لن يكون العمل اليدوي إال رمزيا الرختاء‬
‫اجلسوم ورخاوة األيدي ريثما نتعلم االخشيشان والتمعدد وكبح‬
‫النفس فنتعاون مع إخواننا‪.‬‬

‫‪556‬‬
‫ال عهد لنا بالتعاون فال مناص لنا غدا من أن نتعلم كيف‬
‫نتعاون فمن لقاء املسجد اليومي‪ ،‬مرات يف اليوم‪ ،‬وعلى صوت‬
‫قائد جيلس على البساط يف خيمة اجلهاد يبدأ التعارف وتنشأ‬
‫بذور احملبة والتعاون‪ .‬ومن هنا تنطلق عملية تربية متبادلة‪ ،‬فنرفع‬
‫العامل من وحدته اليت تتجهم له فيها احلياة لنشركه يف اجمللس‬
‫ونشركه يف الرزق حىت ال يبقى ساكن القصر وساكن الكوخ‪،‬‬
‫والشوط بعيد بينهما والنفس ال حتب املساواة‪ ،‬لكن الرتبية تتحمل‬
‫معىن الرفق ومعىن التقومي بالسلطان معا‪.‬‬
‫وبالتعاون يف العدل نرفع الغين املكثر من بواره املرتف إىل‬
‫درجة حب املساكني ومشاركتهم يف العمل والطعام واملسكن‪.‬‬
‫ومن كان متعلما شارك اجلماعة يف تعليم اجلاهلني‪ ،‬ومن دراهم‬
‫اجلماعة املتعاونة تتأصل أموال ضرورية لبناء االقتصاد‪.‬‬
‫الرتبية اجلماعية تضرب الشح ضربات‪ ،‬تارة بقوة السلطان‬
‫وتارة بقوة الضغط اجلماعي‪ ،‬وقد شرع اإلسالم أن من غشنا‬
‫فليس منا‪ .‬ويتخذ معىن «فليس منا» شكال تطبيقيا يف حد اهلل‬
‫املنزل على الذين يفسدون يف األرض‪ ،‬فمن منع الزكاة قوتل وقتل‪،‬‬
‫ومن امتنع عن التعاون نبذ وهجر ومن كاد حركة اإلسالم قطع‬
‫وشرد‪.‬‬
‫إن انبعاث اإلسالم بشرى لقلوب هذه املاليني الكثرية من‬

‫‪557‬‬
‫املسلمني‪ ،‬والبشرى ال تقتضي أن يكون البناء سهال مفروشة‬
‫طريقه بالورود‪ .‬إن هذه املاليني نسيت التعاون ونسيت االعتماد‬
‫على النفس بعد أن مزقت أوصاهلا كل ممزق وبعد أن رقدت كل‬
‫طائفة يف مذهبيتها أو قوميتها‪ .‬ويف دار اإلسالم عناصر للبناء‬
‫االقتصادي عتيدة لكنها عناصر غثائية ال تتماسك ويذهب هبا‬
‫السيل‪ .‬لنا موارد طبيعية هائلة ولنا خرباء ولنا مال كثري‪ ،‬ومع‬
‫ذلك فهذه العناصر تبذر تبذيرا‪ ،‬مواردنا يستغلها مال أجنيب بينما‬
‫تذهب أموالنا لألمي الدافئ يف حجر األبناك األجنبية تتناوهلا اليد‬
‫اخلبرية الواثقة بنفسها فتوظفها عندنا وتربح مث ترمي لنا بفتات‬
‫ربوي نطعمه مسا ال نقوم معه إال كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان‬
‫من املس‪.‬‬
‫ولنا خرباء وعلماء وأدمغة خام مهجورة يف مدننا وقرانا‪ ،‬وهي‬
‫سائبة ضائعة ال جتمعها آصرة قضية قوية ختدمها وإمنا يشدها إىل‬
‫بالدها عمل مأجور هزيل أو تقطع احلبال فتنقذف يف حبر العاملية‬
‫املذهب‪.‬‬
‫على مناضد رجال احلكم يف دار اإلسالم مشاريع لتوحيد‬
‫املسلمني توحيدا سياسيا باملعىن املعروف هلذه الكلمة أي مبعىن‬
‫التكتل االقتصادي‪ ،‬ويظن قادتنا املساكني أن التوحد بني الشعوب‬
‫املشعبة يف بساطة وحدة اهلراوات كما يقص القاصون‪ ،‬تربطها‬

‫‪558‬‬
‫حببل تسميه دستورا موحدا فإذا هي رزمة ال تنكسر‪ .‬وهيهات !‬
‫ولو تفيدنا التجارب املرة لتعلمنا أن نلتمس طريق احلق لنقوض به‬
‫دعائم الباطل ! التعاون االقتصادي بني البالد اإلسالمية ضرورة‬
‫حمتومة‪ ،‬والتعاون بني دار البعثة اإلسالمية احلق وبني املسلمني يف‬
‫أقطار القوميات إىل حني ضرورة حمتومة‪ ،‬إن مل يدفعنا إىل ذلك‬
‫خشية سوء املنقلب فال أقل من أن نعتمده حسابا للربح وضمان‬
‫احلق‪ .‬وسيكون تعاون الدولة اإلسالمية يف مهد انبعاثها مع سائر‬
‫املسلمني تعاون اقتصاد حيمل معه دعوة‪ ،‬وسيتعلم املسلمون يف‬
‫األرض من التجربة املظفرة بإذن اهلل الذي سيستخلف املؤمنني‬
‫الصاحلني ويؤيدهم كيف يتحرر اإلنسان من أنانيته وكيف يرتفع‬
‫عن جمافاته للعامل ويندمج يف اجلماعة املرحومة اليت ال رمحة إال‬
‫معها‪.‬‬
‫إن إقالع االقتصاد اإلسالمي قد يبدأ يف قطر االنبعاث لكن‬
‫ال يتم بناء االقتصاد اإلسالمي وال يستوي استقالله إال بتوحيد‬
‫دار اإلسالم توحيدا قد يبدأ بتوحيد االقتصاد‪ .‬ففي املساحات‬
‫الكربى املتكاملة فقط ميكن أن تتجمع األموال واملوارد والعنصر‬
‫اإلنساين يف مشروع ابتكار تكنولوجي متفتح على مستقبل حرية‬
‫اإلنسان على األرض حبرية اإلسالم وبتحرير اإلسالم‪.‬‬
‫االقتصاد املتغذي على عطاء خارجي اقتصاد حمضون يف‬

‫‪559‬‬
‫القطن هش يدغدغ حاجات املستهلك وال يستنهض مهته ملشروع‬
‫رجويل‪ ،‬وغدا يوم يدعو داعي اإلسالم للجهاد سيكون اجلهاد‬
‫االقتصادي تقلال يكمل املؤمنون بواسطة مذهبيته ما يف عناصر‬
‫اإلنتاج من نقص ببذل اإلنسان واجتهاد اإلنسان وابتكاره وتعاونه‬
‫حرا يعيش بالضروري ليضمن غدا ألمته اخلري والقوة والنصر‪ ،‬إن‬
‫اهلل ملع املؤمنني‪ .‬ومن كان اهلل معه فمكانه أن يكون هلل عبدا وعلى‬
‫نفسه سيدا يسقوها إىل الرباح سوق الذي ال يفرغ من عمل إال‬
‫لينصب يف عمل غريه‪.‬‬

‫‪560‬‬
‫اقتصاد القوة‬
‫التطوع املنظم‪ ،‬التطوع باملال والتطوع بالعمل والتطوع بالتعليم‪،‬‬
‫هو وسيلة من ال وسيلة له يف بناء االستقالل االقتصادي‪ .‬نرى يف‬
‫بالد اجلاهلية أن من شبع واكتسى وأمن على غده عوادي الزمن‬
‫يلني قلبه ويعطي ماله وعونه عن طواعية‪ .‬املسيحيون ينظمون‬
‫مجاعات إسعاف وإحسان فدافعهم ديين عقدي‪ .‬وهناك مجاعات‬
‫أخرى ال دين هلا وهي تتطوع وترحم البائس وتنظم مساعدة‬
‫املعذبني يف األرض‪ .‬ويف بالد اإلسالم اليوم تتحول حىت مجعيات‬
‫اإلحسان التطوعية وكرا للغش والسرقة‪ ،‬ويدل ذلك على أن‬
‫التطوع مستحيل يف بالدنا على حاهلا الراهن‪ .‬وسبب ذلك شيئان‪:‬‬
‫أوهلما أن التطوع ال يعيش إال يف ظل الطاعة‪ ،‬سواء كانت هذه‬
‫الطاعة طاعة عقدية كما ينبغي أن يكون األمر يف مجاعة املسلمني‬
‫يطيعون أمري املؤمنني أو كانت طاعة جمتمعية يف ظل قانون يعطي‬
‫لكل حقه وحريته كما يتصور هو احلرية‪ .‬والسبب الثاين الستحالة‬
‫التعاون والتطوع يف بالدنا اليوم هو أن الناس ال يأمنون على‬
‫غدهم وخيافون الفقر ويعتمدون على الغش واهلرب باحلقوق إيثارا‬
‫ألنفسهم على اجلار املرتبص والشريك الفاغر فاه‪.‬‬
‫فبانعدام األمن وبانعدام التكافل االجتماعي ال ميكن أن ينظم‬

‫‪561‬‬
‫التطوع جهود الناس ويوجه تعاوهنم‪ .‬وهذا يرجعنا إىل ضرورة قاعدة‬
‫العدل كمنطلق للبناء االقتصادي‪ ،‬ومن العدل تكافل املسلمني‬
‫حبيث تتساوى دماؤهم وأمواهلم وذممهم ويأخذ احملتاج نصيبه من‬
‫الزكاة أخذا عزيزا‪.‬‬
‫اإلنسان ضعيف كل الضعف يف جو الوحدة الغابوية‪ ،‬فإن‬
‫أعطيته ضمانا على رزق يومه وغده أطلقت سراح أفكاره من اهلم‬
‫ومن احلزن وأعطاك ما تشتهي من ذات نفسه‪ ،‬إن برهنت له على‬
‫صدقك يبذل ما حتب أنت أن يتعاون معك ببذله طيعا‪ .‬وعندئذ‬
‫يكون لديك رجال أقوياء طائعون متطوعون ميكن أن تواجه هبم‬
‫مشاكل االقتصاد وميكن أن حتول هبم وبتعاوهنم املنظم ضعف‬
‫البالد قوة وفقرها غىن‪.‬‬
‫التهييء للتطوع هتييء نفسي جييب حاجة اإلنسان أن يستند‬
‫إىل قوة يثق هبا وحيبها ويرضي حاجته إىل األمن على الرزق‪ .‬وهذا‬
‫ما تعطيه إياه املبايعة للقائد اجملاهد يف دار اإلسالم املنبعث وما‬
‫يلي ذلك من العدل التكافلي‪ .‬فها هو هذا اإلنسان قد حترر من‬
‫اخلوف واستعد للعطاء والنصيحة وقام ليسهر على عدله يقظا‬
‫حازما فهل يكفي هذا التحرر السليب القاعدي لتعبئة مجاعة‬
‫جماهدة ؟ ال يكفي ذلك‪ ،‬بل ال بد أن تعطي للطاقات احملررة‬
‫وجهة وتقنعها بقضية وتربيها حىت تتحمس للقضية وتتبناها‬

‫‪562‬‬
‫وتستميت يف سبيل حتقيقها‪.‬‬
‫تقول للناس ‪ :‬هذا إسالمكم وهذا لواء نبيكم دافعوا عنه‪،‬‬
‫فهذا شعار عام قد حيرك محاسا كثريا لكن ال يتحول هذا احلماس‬
‫طاقة فاعلة منتجة‪ .‬إمنا الذي ينفع هو أن جتعل األسبقية للتفقيه‬
‫املنهجي فتدل الناس على دائهم أوال ‪ :‬تدهلم على داء املسخ‬
‫بسبب اإلعراض عن اهلل وتدهلم على داء الغثائية بسبب اخلوف‬
‫من املوت واحلرص على حياة أي حياة‪ ،‬وتدهلم على داء الذلة اليت‬
‫لبسناها خبواء قلوبنا ثوب عار بدال عن ثوب العزة الذي يكسوه‬
‫اهلل عباده املؤمنني اجملاهدين‪ .‬مث جتمع للناس هذه األدواء يف تصور‬
‫واضح للفتنة حىت يعوا الفتنة كيف تأكلهم وما أين أتتهم ويثقوا‬
‫بأن العزة هلل ورسوله وللمؤمنني وأن عالج الفتنة يكون بالرفق‬
‫اليقظ وبالتؤدة الناصحة اجملاهدة‪.‬‬
‫ال بد أن يرتبط يف وعي األمة هدف االقتصاد باملقاصد‬
‫اإلميانية‪ ،‬فإذا عمل العاملون اجلاهليون ليكون هلم اقتصاد خيرجهم‬
‫من القلة إىل الوفرة‪ ،‬فنحن اقتصادنا نريد أن يتجاوز بنا القلة‬
‫والوفرة معا ليكون ما نعده من درع حديدية وما نقتنيه من طعام‬
‫وسالح قوة للمؤمنني يف األرض مجيعا‪ .‬إن االقتصاد يف عني‬
‫اجلاهلية املرتفة املتخمة ويف عني صاحبتها املرتفة بتلهفها على‬
‫البضاعة والقوة اللتني ال تتيحهما القلة والتخلف غاية الغايات‬

‫‪563‬‬
‫وأهم ما يثقل كاهل اإلنسان ويصده عن حتقيق غايته الوجودية‪.‬‬
‫وال بد بعد هذا أن نربط املقاصد اإلميانية بغاية اإلحسان فإذا‬
‫قلنا ‪ :‬اقتصاد من أجل القوة فإن هذه القوة ميكن أن تسخر يف‬
‫وجه غري الوجه الذي خيدم غاية األمة يف محل رسالة رب العاملني‬
‫إىل خلقه أمجعني‪ .‬فنحن ننشد القوة لنرهب عدو اهلل وعدونا‬
‫ونطرده من طريقنا إىل الناس نبلغهم بشرى اإلسالم وحنررهم من‬
‫طاغوت الكفر‪.‬‬
‫هذه الكثرة الغثائية مكونة من القذى املتعفن ومن اهلباء‬
‫الضعيف الواهي ومن القش املسوس ومن بني كل ذلك عناصر‬
‫ساملة صحيحة‪ .‬ويف لقاء املسجد وبرتبية املسجد وجمالس اإلميان‬
‫باملسجد تسري صحة العناصر الساملة يف سقم القذى وتسري‬
‫قوة القلوب املؤمنة يف القلوب اخلاوية الضعيفة وتأخذ اليد‬
‫الرحيمة الربانية باليد األخت املسكينة ويتم التعاون ومن التعاون‬
‫تنشأ وحدة ومن الوحدة كيان إسالمي قوي له من ماله وعمله‬
‫واقتصاده قيم وقيام‪ .‬هذه الدراهم املعدودات يف جيب احملروم‬
‫وهذه األكداس من الذهب يف صناديق الغين تلتقي‪ ،‬ويلتقي جهد‬
‫العقول والسواعد مع ساعات كانت ضائعة مبذرة يف املالهي‬
‫والعبث أو يف الكيد أو يف الكسل‪ .‬وينضبط كل ذلك فيكون‬
‫طاقة متكاملة مساهتا التقلل واالدخار واالبتكار الذي خيرج القوة‬

‫‪564‬‬
‫من الضعف وحيقق ما حيسبه الكسول مستحيال‪.‬‬
‫إذا عمرت قلوبنا باحملبة واإلميان وحتررت أفكارنا مبمارسة‬
‫القرآن فلن خنجل أن نظهر مبظهرنا احلق أمة مسكينة تلبس املرقع‬
‫ريثما تدخر ما به تبىن القوة وتأكل طعام اجملاهدين املنقطعني‬
‫ضحية ألصحاب مأدبة اللئام‪.‬‬
‫إننا يف فتنتنا نعيش فوق ما حيق لنا‪ ،‬انسحب االستعمار‬
‫بعد أن أزاح عنا أوهام الزهادة دون أن يعلمنا مواطن القوة‬
‫ودون أن يعلمنا االعتماد على النفس وحزم البطون‪ ،‬ما كان ذلك‬
‫يصلح أموره لذلك زرع فينا بعشرته وزرع فينا بتعليمه وثقافته اليت‬
‫تلقيناها بالعني املنبهرة والنفس املتلهفة عادات خربت رجولتنا‬
‫وأوهنت عزائمنا‪ .‬ما مصدر فقرنا ؟ أرضنا يف جمموعها أرض غنية‬
‫مبواردها‪ ،‬ولنا أموال ولنا سواعد ولنا عقول وحنن أكثر عددا من‬
‫شعوب القوميات اجلاهلية‪ .‬وكان كل ذلك لو جتمع كفيال أن‬
‫يذهب عنا الفقر‪ ،‬وكان العدد وتنوع املناخ واتساع الرقعة كفيال‬
‫أن جيعلنا أقوى األمم لو تعاونا‪.‬‬
‫إن مصدر فقرنا يف كون عددنا كما غثائيا ال يتماسك وال‬
‫يتعاون‪ ،‬وحنن كذلك ألننا فتات تاريخ جميد لكنه كان تاريخ تدرج‬
‫وتدحرج على درب الفتنة الطويل‪ ،‬فلن حيولنا من الضعف والوهن‬
‫إىل القوة واملنعة إال التجديد لإلنسان يف عقيدته وعقليته بالتطبيب‬

‫‪565‬‬
‫والتمريض‪ .‬وهذا التحويل الكيفي هو وحده جيعل احتادنا وحدة‪،‬‬
‫وليس خيفي االحتاد السياسي الكمي إال وهنا على وهن يظهر‬
‫مبظهر التعاون والوحدة قبل أن جيد اجلد فريجع كل إىل أحط‬
‫مقوماته وهي العصيبة القومية‪.‬‬
‫إذا حصلنا على صدق التعاون يف قطر االنبعاث االسالمي‬
‫ومهده فإن الصدق يف نفسه قوة‪ ،‬وإن الدرهم الذي يأتيك‬
‫صدقا وتعتمد عليه وعلى صاحبه يف كل املهمات هلو أجدى‬
‫من آالف جتمعها مرة من مصدر ال تعرف نيته ووجهته‪ .‬صاع‬
‫التمر الذي نثره أبو عقيل يف صدقة املسلمني مسامهة صاقدة‬
‫ميكن أن تعتمد عليها‪ ،‬فإذا عمت إرادة التعاون واملسامهة وصدق‬
‫املؤمنون فعطاؤهم للدرهم والعرق والوقت يعطيك أساسا للعمل‬
‫االقتصادي تبين عليه نظامك وخطتك مطمئنا إىل أن املعني لن‬
‫ينضب جمراه‪.‬‬
‫يف جمتمع راكد تنبين اخلطة االقتصادية على املصاحل املتبادلة‬
‫يف مصلحة املالك إن كان شخصا أو دولة وعلى مصلحة العامل‬
‫أو قل على اضطراره‪ .‬أما يف جمتمع يريد احلياة ويتحرك حبافز طلب‬
‫القوة وبشجاعة حامل الرسالة وبذل الصادقني فاخلطة االقتصادية‬
‫ال بد أن تكون طموحا وال بد أن تستدعي إىل جانب موارد‬
‫الطاعة موارد التطوع‪ .‬زد على هذا أن اإلسالم املنبعث غدا ال‬

‫‪566‬‬
‫يأمن كيد العامل وال يأمن أن حياربه العامل غري واثق بأن اإلسالم‬
‫يبلغ رسالته رمحة ال شوكة‪ ،‬وما يتصور العامل اإلسالم إال جندا‬
‫مقاتال فاحتا‪ .‬وإن اإلسالم لكذلك إن كاده الكائدون ووقف يف‬
‫طريق دعوته الكافرون‪.‬‬
‫فما بد من أن يعتمد املؤمنون على قوة اهلل بعد أن يعدوا‬
‫كل ما عندهم من وسائل ذاتية‪ .‬وإذا خطوا القتصادهم ختطيطا‬
‫فينبغي أن تعتمد اخلطة على ما يف اليد‪ ،‬وليس يف اليد إال دراهم‬
‫الصادقني وجهدهم وجهادهم الذي ال يين‪ .‬ولعمري إن قام العدل‬
‫وحترر املسلمون من خوف العوز يف ظل التكافل‪ ،‬ليأتني من‬
‫التطوع ما ينسيك يف يوم اهلل غدا يوم الرمحة اإلسالمية تطوع‬
‫الصيين العنيد الشجاع اخلبري يف مرقعته ونظافته‪.‬‬
‫إن قاعدة التخطيط االقتصادي أن ختتار األمة هدفا مؤقتا‬
‫على قدر ما تستطيع رصده من جهاز مايل وإنساين‪ ،‬مث أن حتدد‬
‫املنهاج التقين اإلداري الذي من شأنه أن يسرع إىل تنفيذ اخلطة‪.‬‬
‫وما يعطيه التطوع للخطة اإلسالمية من قوة ينبغي أن يظهر‬
‫يف قدرة األمة املنبعثة على ختطي العوز التكنولوجي وقلة املوارد‬
‫وتشتت رأس املال‪ ،‬ويف قدرهتا على تطوير اخلطة االقتصادية‬
‫للشريعة اإلسالمية اليت تبيح امللكية يف حدود املصلحة العامة كما‬
‫جتيز ملكية اجلماعة للطاقات االقتصادية األساسية مبقتضى أن‬

‫‪567‬‬
‫الناس شركاء يف املاء والكإل والنار‪ ،‬وتشمل هذه الثالثة معظم‬
‫طاقات اإلنتاج‪.‬‬
‫لكي نطوع وضع امللكية لدواعي التخطيط والتنظيم والزيادة‬
‫يف اإلنتاج ورفع مستوى اإلنتاجية ال بد أن تتضافر قوة الطاعة وقوة‬
‫التطوع معا‪ .‬اخرتع الشيوعيون التخطيط االقتصادي وكان يسريا‬
‫عليهم عقلنة االقتصاد ألن للدولة وحدها احلق يف كل املمتلكات‬
‫وهلا التصرف املطلق‪ .‬وحيس الرأمساليون بنجاعة التخطيط‬
‫االقتصادي منذ رأوا املأثرة الصناعية الستالينية فيقول عنه ديكول‬
‫الفرنسي إنه واجب ملح! ‪ .L’ardente obligation du Plan‬لكن‬
‫التخطيط يف ظل الرأمسالية يصطدم باملصاحل اخلاصة فيؤول ذلك‬
‫إىل تصاحل بني املصلحة العامة وشبكة املصاحل املستغلة‪.‬‬
‫التخطيط يف نفسه قوة ألنه توجيه كل الطاقات وجهة‬
‫واحدة وألنه يسبق مصلحة األمة على مصلحة األشخاص‪ .‬طبقه‬
‫الروسيون وأتباعهم بنجاح حسده عليهم اآلخرون وقلدوهم أو‬
‫حاولوا التقليد‪ .‬على أن تطبيق الشيوعيني للخطة مل يسلم إال‬
‫جزئيا من آلية السوق وطلب الربح من اإلنتاج‪ ،‬وذلك ألن العامل‬
‫الروسي األكثر إنتاجا حيظى مبكافآت زائدة فكأنه ميتص من‬
‫املصلحة العامة جزءا ملصلحته الفردية‪ .‬وعلى هذه احملرضات‬
‫األجرية قامت املعركة اإليديولوجية بني اخلرباء احلمر وإخواهنم‬

‫‪568‬‬
‫الذين علموهم بانسحاب اخلرباء الروس من الصني فجأة أن‬
‫يعتمدوا على أنفسهم وأن يوقظوا العامل بوعي جديد ليعمل‬
‫مبقابل واحد هو استحقاق الرضى عن النفس مبشاركة اجلماعة يف‬
‫محل رسالة حترير العامل‪.‬‬
‫قوة الطاعة للمسلمني يف أن يشرعوا ألنفسهم قوانني تفصل‬
‫ما أمجله احلديث الشريف يف موضوع الشراكة يف الثالث الطاقات‬
‫ويف بذل الفضول ويف نزع ملكية تعرقل املصلحة العامة كما رأينا‬
‫يف واقعة ابن مسلمة مع عمر‪ .‬وقوة التطوع يف أن يفتح باب البذل‬
‫ملن حيفر الطرقات وملن يعلم اجلاهلني وملن ينثر صاعه يف بيت‬
‫مال املسلمني‪ .‬وجتتمع قوتا الطاعة والتطوع يف حتمل املسلمني إذا‬
‫محلوا كل تنظيم أو إجراء من شأنه أن جيعل الطعام أقل تنوعا‬
‫وأن جيعل الكماليات بضاعة مفقودة وأن يردنا إىل مذهب التقلل‬
‫واالخشيشان والتمعدد‪.‬‬
‫أال ترى قوة الصينني‪ ،‬ونكثر من التذكري بآية اهلل اليت جعلت‬
‫لنا حنن األمة الغثائية لنخجل من وهننا‪ ،‬وجدوا أنفسهم معرضني‬
‫أمام أنظار العامل ووجدوا أمامهم عدوا متحفزا للهجوم وعدوا‬
‫حمتمال‪ ،‬فصور هلم القائد العمالق عدوهم منرا له ناب وخملب وله‬
‫ضراوة وعداء لكنه إن بارز رجاال فإمنا هو يف حكم منر الورق‪.‬‬
‫وملا مسعت خطاب القائد آذان واعية على قلوب متأججة من‬

‫‪569‬‬
‫فعل «الفلسفة» والسياسية» ومن فعل العمل اليدوي املريب مل‬
‫حتتفظ من اخلطاب إال بشعار «منر الورق» فكل عدو يف عينها‬
‫ال بأس منه ألن الشعب احملقور باألمس أعد قوته ابتداء من‬
‫القشة واملسمار واهلنة من املعدن يدخرها ويصنعها ويبتكر ويصنع‬
‫القنابل والصواريخ‪.‬‬
‫هكذا حنن غدا سنكون أمام أنظار العامل‪ ،‬بيد أن قوتنا لن‬
‫تأيت من تعاوننا وجتندنا وختطيطنا وجهادنا اإلنساين إال مبا يزكينا به‬
‫القوي العزيز من تأييده‪ .‬إننا أمة مؤمنة تؤمن بالغيب‪ ،‬وتنزل على‬
‫هذه األمة املالئكة يف ساحات القتال ومواطن السلم‪ ،‬وبذلك‬
‫فقوهتا ختتلف اختالفا كيفيا عن قوة اجلاهلية‪ .‬هي تعنف وحنن‬
‫ال نعنف وهي تقاس قوهتا بالعدد والكم وحنن نقاس مع إعدادنا‬
‫للعدد والكم بالقوة الغيبية‪ ،‬فإن يكن منا عشرون صابرون يغلبوا‬
‫مائتني‪ ،‬تتضاعف قوتنا مبا ال حيصى‪.‬‬
‫قوة الكم اجلاهلي يف حقنا باطل وضعف‪ ،‬فهي قوة ربوية‬
‫وحنن لن تقوم لنا قائمة أبدا بالكم الربوي‪ ،‬وعد اهلل ال خيلف‬
‫ومو َن‬ ‫ين يَأْ ُكلُو َن ِّ‬ ‫َّ ِ‬
‫الربَا الَ يـَُق ُ‬ ‫اهلل امليعاد‪ .‬قال اهلل عز وجل ‪﴿ :‬الذ َ‬
‫س﴾‪ .‬فنبذ الربا‬ ‫الش ْيطَا ُن ِم َن ال َْم ِّ‬
‫وم الَّ ِذي يـَتَ َخبَّطُهُ َّ‬
‫إِالَّ َك َما يـَُق ُ‬
‫شرط أساسي لقوتنا‪ ،‬فإن فعلنا فسيأتينا من اهلل عون ال حنتسبه‪،‬‬
‫وسريزقنا اهلل من فضله ال إله غريه‪.‬‬

‫‪570‬‬
‫لقد وعد رسول اهلل أن ستأيت خالفة على منهاج النبوة يرضى‬
‫عنها ساكن السماء وساكن األرض وتؤتيها السماء من قطرها‬
‫واألرض من بركاهتا‪ .‬فإن بعث اهلل لنا خليفة رسوله فبوجهه‬
‫نستسقي الغمام وبوجهه نتعرض لربكات ربنا‪ .‬إن اجلاهلية ال‬
‫تعرف للرزق إال موردا واحدا هو ما حيصل عليه العقل الربوميثي‬
‫والساعد اهلرقلي من الطبيعة‪ ،‬أما يف حقنا فإن األرض هلل يورثها‬
‫املستضعفني املؤمنني‪ ،‬وهو الذي ينزل الغيث وهو الذي يرسل‬
‫الرياح لواقح فيصيب برمحته من يشاء‪ .‬وإن وراء قانون اهلل يف‬
‫اجلغرافية وقانونه يف األرض والسماء لقانونا غيبيا حيق به الوراثة‬
‫هلذه األمة يوم انبعاثها‪.‬‬

‫‪571‬‬
‫تنمية اإلنسان‬
‫منذ أدى الصراع الدويل إىل استقالل الشعوب بدأت أنظار‬
‫العامل املصنع الغين ترتكز على األقطار احملرومة املستعمرة باألمس‬
‫واليت يكون تكتلها وكثرة أعدادها خطرا على مستوى العيش يف‬
‫البالد الغنية‪ .‬وبرزت للوجود على يد الصهيونية العاملية املتحكمة‬
‫يف دفة الثقافات مذهبية ثقافية ختتص مبا أمسته العامل الثالث‪.‬‬
‫وهتتم بتنميته وتدحرجه ذات اليمني وذات الشمال بني جاهلييت‬
‫السود واحلمر‪ ،‬بني من يستعبدون اإلنسان جهارا وبني من‬
‫يستعبدونه حتت ستار اإليديولوجية املسدول على عصبية القومية‬
‫وعلى مطلب السيطرة على العامل ورفع مستوى العيش‪.‬‬
‫ثقافة التنمية االقتصادية تفرعت وتنوعت وراجت سوقها‬
‫حىت أصبحت ميدانا لتنافس رجال االقتصاد من املعسكرين‪،‬‬
‫هؤالء يقرتحون تنمية على أساس قرض بربا قليل أو عطاء جماين‬
‫يكون مهر املعاهدات‪ ،‬وأولئك يقرتحون أساس قرض وعطاء‬
‫يشابه األول مشاهبة القطط يف الظالم كما يقال‪ .‬ويف هذه الثقافة‬
‫دراسات علمية وأرقام وإحصاء تعني نتائج حتليل ملفوف تارة يف‬
‫لفظية إيديولوجية وطورا يف ظروف العوز احمللي‪ .‬ويف هذه الثقافة‬
‫دراسات عن جتارب األقوام الثائرين‪ ،‬كيف نظموا حكمهم وكيف‬

‫‪572‬‬
‫تدحرجوا يف تنميتهم االقتصادية‪.‬‬
‫هذه الدراسات تقرتح علينا مناذج ومبادئ قد تكون فيها‬
‫حكمة لكنها حتشر يف سياق من التعاون الدويل وتعتمد على‬
‫اخلبري األجنيب واملال األجنيب‪ .‬فلئن قبل احلل املستورد مع الثقافة‬
‫املستوردة بعض قادتنا املفتونون اليوم فسنرفضها غدا لسببني‪،‬‬
‫أوهلما أن اخلبري األجنيب واملستشار األجنيب الذي تصغى إليه‬
‫آذان قادتنا اليوم يف أمور األمن واخلوف بطانة سوء له علينا‬
‫دالة مبا يف عقله من خربة نتعبدها لكسلنا ووهننا ومبا يف يده‬
‫من مال هو القضاء على ذمتنا وحريتنا معا‪ .‬والسبب الثاين هو‬
‫أن هذه الثقافة املستوردة ال تقرتح علينا إال مناذج جاهلية لتنمية‬
‫كمية‪ ،‬تفضي القتصاد تكاثري استهالكي ينتهي عنده ومعه دور‬
‫اإلنسان‪ ،‬وتسلسل معه حياة اإلنسان يف دورة اإلنتاج واالستهالك‬
‫فإذا هو دودة تسعى !‬
‫دودة تسعى‪ ،‬ويف األرض ترعى ! هكذا هو اإلنسان اجلاهلي‬
‫وال حميد له عن دوابيته مهما سعى حبثا عن إنسيته وعن قيمته‬
‫الوجودية يف مجالية الفن ويف بطولية اإلجناز العلمي والصعود‬
‫على الصواريخ‪ .‬إذا ما ضاق اجلاهليون بدوابيتهم وناءوا حبمل‬
‫مصانعهم وقذارهتم امللوثة للرب والبحر فإمنا يهتدون إىل فكرة‬
‫واحدة‪ ،‬هي أن اإلنسان ينبغي أن ينمى دراكا مع تنمية االقتصاد‪.‬‬

‫‪573‬‬
‫ومعىن هذا أن الفكرة اليت يهتدي إليها اجلاهليون‪ ،‬احلكماء منهم‪،‬‬
‫هي أن املطلب االقتصادي الذي خدمته حذاقة اإلنسان وكشوفه‬
‫العلمية وتكيفه مع ناموس الطبيعة مطلب ال يسعد اإلنسان‬
‫حتقيقه بل يشقيه شقاء مثل شقائه قبل ذلك بالفقر والعوز‪ .‬ففيم‬
‫كل هذا العناء!‬
‫إهنا فكرة بديهية لكنه أيضا اكتشاف عبقري‪ ،‬وككل البديهات‬
‫واالكتشافات العبقرية املنقطعة عن اهلل بقيت فكرة تنمية اإلنسان‬
‫ضرورة أرضية حمضا تدور يف دوامة التكاثر اجلاهلي والتبذير اجلاهلي‬
‫وعبودية اجلاهلية ملا تولوه من ُمثل غايتها مداعبة هذه األنانية الطاغية‬
‫بشهوتيها‪ .‬كان اإلنسان فقريا يعيش يف القلة ففرض ذلك عليه أن‬
‫جيتهد ليغلب القلة‪ .‬وكان التصنيع العلمي جواب اإلنسان عن‬
‫حتدي القلة‪ .‬بيد أن مثن التنمية االقتصادية يبذله اإلنسان نصيبا من‬
‫حريته كبريا‪ ،‬ويبذله نصيبا من راحته ونصيبا من صحته‪ .‬فهو جيب‬
‫أن يتكيف مع اآللة الصانعة‪ ،‬وجيب أن يتكيف مع وقت الصناعة‪،‬‬
‫وجيب أن يتكيف مع ظروف املناخ املتلوث من جراء الصناعة‪ .‬ويبلغ‬
‫األمر غايته يف البالد اليت جتاوزت مرحلة الثورة الصناعية أن يتحول‬
‫اإلنسان رأسا من حالة التكيف اجلزئي إىل حالة التسخري الكلي‬
‫فيكون آلة إنتاج واستهالك ال شيء غري ذلك‪ ،‬يكون آلة إفراز‬
‫حضاري وجهاز هضم حضاري‪.‬‬

‫‪574‬‬
‫ويصف هذا التشييء وصف عارف اليهودي مركوس‪ ،‬وحق‬
‫له ألن الفكر اليهودي رأس البالء وموقد الفتنة وشعلة اجلاهلية‪.‬‬
‫ويقول مثلنا الدارج ملثل ما يفعله مركوس من نقد للجاهليات‬
‫ونكاية هبا ‪« :‬باع القرد وضحك على من اشرتاه»! فمن فلسفة‬
‫اليهود ومن مذهبيتهم االشرتاكية الشيوعية ومن حتليلهم لنفس‬
‫اإلنسان املمسوخ امتزجت عناصر هذه احلضارة املمسوخة‪ .‬أال‬
‫وإن أقبح املسخ املسخ القردي فال هو إنسان وال هو دابة وهبذا‬
‫يكون مثلنا الدارج ذا داللة مزدوجة‪ ،‬فما مسخ اجلاهليني قردة‬
‫إال متسكهم باملثل اليهودية‪ ،‬مثل الذين غضب اهلل عليهم وجعل‬
‫منهم القردة واخلنازير وعبد الطاغوت‪.‬‬
‫تنمية اإلنسان تصورها ماركوس حتررا من القلة بتطوير اآللة‬
‫تطويرا علميا حىت يصبح هلا حركة ذاتية‪ ،‬فبذلك ختدم اآللة‬
‫اإلنسان ويتفرغ اإلنسان ملمارسة شيوعية حاملة‪ .‬وتصور مركوس‬
‫مناء اإلنسان يف «أتوماتية» تنفتح على جنة فرويدية تارخيية يتفرغ‬
‫فيها اإلنسان للذاته اجلنسية يف حضارة إباحية ألبسها بائع القردية‬
‫غاللة من اجلمالية والعاطفية كما يفعل مساسرة التدليس‪ .‬وقد‬
‫تطورت اآللة وأصبح هلا حركة ذاتية وبىن العقل الربوميثي عقوال‬
‫إلكرتونية لتخدمه‪ ،‬وتراكمت رؤوس األموال وتراكمت البضائع يف‬
‫بالد التكاثر فهل حترر بذلك اإلنسان ؟ ال جيد األمريكيون اليوم‬

‫‪575‬‬
‫وأقراهنم يف اجلاهلية إال مشاريع يلهو هبا الفكر البشري واخليال‬
‫البشري عن قذارة الرب والبحر وعن ظلم ثلثي سكان املعمور يرزحون‬
‫حتت وبال اجلبارين‪ .‬مشاريع اكتشاف املريخ والزهرة وزحل بعد‬
‫اكتشاف القمر جتند املال واألفكار والعقول اإللكرتونية لشيء‬
‫آخر غري تنمية اإلنسان‪ .‬وياليتهم اجتهوا لتنمية اإلنسان كما‬
‫يفهمون التنمية توفريا للخبز والكسوة! إن فقر الفقراء لعنة على‬
‫األغنياء يف جاهلية وإسالم‪ ،‬وإن الفقر كفر‪ ،‬كاد أن يكون كفرا‬
‫وَكانَه يف حق أبنائنا املعجبني باجلاهلية املصنعة املنماة يف نظرهم‪.‬‬
‫مركوس يقرتح أن تثور الربولتاريا اهلامشية اليت يكوهنا احملرومون‬
‫يف األرض وتنتزع اآللة من يد اجلاهليني احلاليني لتحقق يف األرض‬
‫الوفرة األوتوماتية والدعارة‪ .‬والكاتب اإليطايل موارفيا رأيناه يعجب‬
‫بالنموذج الصيين ويتطلع إىل اإلنسان الكامل يف نظره املتمثل يف‬
‫الفالح الذي جيمع بني الفقر والعفة‪ .‬وال يتحقق مع اجلاهلية إال‬
‫دعارة وسط حرمان‪ ،‬وهامش احلرمان هو ثلثا اإلنسانية‪.‬‬
‫ما بالنا وحنن املستضعفون نصنع يف اخليال أحذية للعامل وحنن‬
‫ال نستطيع خصف نعلنا البالية‪ ،‬ونريد للعامل خريا حنن عاجزون‬
‫عن حتقيقه ألنفسنا؟ ال ننس أننا املستضعفون فبذلك نستحق‬
‫الوراثة إن كانت فينا خصائص الوارثني‪ .‬إن الوارثني خلفاء يف‬
‫األرض وإن هذا اخللق أمجع هو عيال اهلل وإن أحب اخللق إىل اهلل‬

‫‪576‬‬
‫أنفعهم لعياله‪ .‬فالرب الشامل لإلنسانية هو رائد اإلسالم كلما قام‬
‫لإلسالم قائمة‪ ،‬نريد لإلنسانية أن يعمها اخلري وترتفع عنها ألواء‬
‫اجلوع كما نريد أن يرتفع عنها بأس الظلم‪ .‬إن اهلل تعاىل أمرنا أن‬
‫ال نكره الناس على ديننا وأمرنا أمرا جازما أن حنمل رسالته إىل‬
‫العامل قائمني بالقسط بني الناس شاهدين باحلق‪.‬‬
‫على مائدة اللئام شعوب مكتظة متخمة مريضة على حفظ‬
‫مستوى معيشتها بل على رفعه باستمرار‪ ،‬وحول هذه املائدة‬
‫إنسانية هامشية يزداد فقرها يوما عن يوم وتزداد أعدادها ويزداد‬
‫عويلها‪ .‬وخيرتع أصحاب الوفرة التكاثريون مذهبية حتديد النسل‬
‫وخيرتعون مؤسسات ملساعدة األمم احملرومة خمافة اضطراب التوازن‬
‫االستغاليل على األرض‪ ،‬ترمي هذه املؤسسات لشعوب القلة‬
‫فتات املائدة صدقة تشجع الكسل وتفت يف اهلمم وتوطد عالقات‬
‫السيد املستغل بالتابع الضعيف‪ .‬ومع التوازن االستغاليل‪ ،‬ويف‬
‫العبارة تناقض يغين عن شرح نوعية التوازن‪ ،‬توازن الرعب النووي‪.‬‬
‫وهاتان لعنتا وهم اجلاهلية الدائم‪ ،‬فتزداد اجلاهلية خوفا وهلعا‬
‫من تكاثر اإلنسان اجلائع احملروم على األرض ومن سيف القنابل‬
‫املصلت على رأسها يف كل ساعة‪ .‬ومع اخلوف واهللع يزداد عنفها‬
‫وجهلها مبصري اإلنسان وكرامته وجتاهال لذلك سيما إن كان هذا‬
‫اإلنسان ملونا غريب السحنة واللغة‪.‬‬

‫‪577‬‬
‫وإن اإلسالم هو السالح للعامل لو كان لإلسالم قوة اقتصادية‪،‬‬
‫لو كان له درع من حديد ولو كان له طعام يقيم أجسام املسلمني‬
‫الضعيفة ولو كان لإلسالم خرباء مؤمنون وسواعد مؤمنة يصنعون‬
‫القوة‪.‬‬
‫إن املسلمني يف األرض يبلغون ربع اإلنسانية غدا‪ ،‬وهم‬
‫يتكاثرون بسرعة‪ ،‬وبالكثرة اإلميانية يباهي بنا رسول اهلل األمم‬
‫يوم القيامة‪ ،‬فيجب أن نتكاثر‪ ،‬لكن كثرتنا احلالية كثرة غثائية‪،‬‬
‫فال مزية لنا بالعدد‪ .‬وقد غزتنا مذهبية حتديد النسل ودخلت يف‬
‫اخلطة االقتصادية املستوردة املستنبتة يف دار اإلسالم‪ .‬لكن ذلك‬
‫ما نقلنا ولن ينقلنا من الغثائية إىل التحول الكيفي الذي به نكون‬
‫أمة قوية بإمياهنا وعملها‪ .‬وإن حتديد النسل حني يتخذ مذهبا‬
‫اجتماعيا هلو حل الكساىل‪ ،‬إذ هو جمرد برت ألجيال متالحقة لئال‬
‫تزامحنا يف الطعام والكساء‪ ،‬وهو أيضا حل املغفلني واالهنزاميني‪.‬‬
‫فأي أمة ال تستطيع أن تكبس اجملال احليوي وتقتسم فيما بينها‬
‫القليل مما عندها ريثما تريب سواعد جديدة تصنع هلا الوفرة‪ ،‬وريثما‬
‫تريب عقوال جديدة تصنع هلا القوة فهي أمة إمنا تدخل يف منطق‬
‫اللئام الذين أتلفوا معادن األرض تبذيرا‪ ،‬بره وحبره وهم يتلفون‬
‫املاء واهلواء‪ .‬ولوال أن ماء البحر ال ينفد لكنا نرى اآلن جاهلية‬
‫التكاثر حتتل األرض لتستأثر بأهنارنا‪ ،‬ولوال أن اهلواء قسم مشرتك‬

‫‪578‬‬
‫على البسيطة لكنا رأيناها تستأثر باحلياة دوننا‪ .‬فإذا مل تر لذلك‬
‫سبيال وال إليه ضرورة فهي تدعو اإلنسانية لتحديد النسل وهو‬
‫أقرب احللول وأسهلها فتجري الدول املتخلفة يف ركاب حضارة‬
‫األثاث جري التابع تنقطع أنفاسه على طول الطريق‪ .‬ويساقط‬
‫التابعون ويقل عددهم ليتمكن السيد يف األرض بعدده كما هو‬
‫متمكن منها بعُدده‪.‬‬
‫إن احلل اإلسالمي‪ ،‬حل الرجولة والقوة‪ ،‬هو أن نتكاثر عددا‬
‫ونتحول كيفا يف نفس الوقت‪ .1‬فإذا كانت كل يد تولد نعلمها أن‬
‫حتمل اآللة سعيا لكسب القوت‪ ،‬وإذا استطعنا أن نفسح للجيل‬
‫اجلديد من ذات نفسنا فنعلم كل فرد وندبر له مكانا يستقر فيه‬
‫فإن كثرتنا قوة عندئذ وعتاد نواجه به مستقبلنا الزاهر حىت يكون‬
‫على األرض مقابل كل جاهلي مؤمن يدعوه إىل اهلل حياوره بصحة‬
‫جسمه وقوة شخصيته واستنارة فكره وطمأنينته وسط اخلوف‬
‫وفاعليته يف رعاية عيال اهلل على األرض‪.‬‬
‫إن حتديد النسل يف حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‬
‫قسمان‪ ،‬فقد رخص لبعض الناس يف العزل‪ ،‬ومسى العزل يف‬
‫أحاديث أخرى «املؤودة الصغرى»‪ .‬وإن اهلل يف كتابه أمرنا أن ال‬

‫‪ 1‬هذا هو الطرح املتحدى يف موضوع االنفجار الدميوقارطي ‪ :‬أن ال يكون التكاثر العددي عائقا‬
‫للتنمية والتحول الكيفي‪ .‬وانظر كتابنا «اإلسالميون واحلكم»‬

‫‪579‬‬
‫نقتل أوالدنا خشية إمالق‪ .‬فبذلك يكون مذهب حتديد النسل‬
‫كفرا بنعم اهلل واعتمادا على غريه‪ ،‬وليست النسم اليت نتعرض هلا‬
‫إال أوالدا لنا سارعنا إليهم خشية الفقر‪ .‬وتبقى رخصة االمتناع‬
‫عن احلمل خاصة باألسر فأميا امرأة ضعف جسمها عن حتمل‬
‫تواىل احلمل عليها أو أصاهبا مرض دائم أو يف معىن ذلك فأمرها‬
‫إىل ضمريها‪ .‬وإن اجلسوم مريضة يف هذا العصر فال حرج على‬
‫املرضى‪.‬‬
‫حالنا قلة يف األرزاق وكثرة يف العدد وكسل وجهل يف األيدي‬
‫والعقول وشح يف النفوس‪ ،‬وإذا شئنا القوة فلنعاجل اجلهل والكسل‬
‫والشح بالطب النبوي املنهاجي وعندئذ يكون لنا من قوة املعىن‬
‫ما يؤهلنا للقوة يف كل امليادين‪ .‬إن من يتلقى الفقر والقلة تلقيا‬
‫سلبيا قد يدعي الزهد وحيرتف الزهادة‪ ،‬وباالحرتاف يعاجل فقره‪.‬‬
‫لكن القوي هو من يتفاعل مع القلة ويغالبها ليوفر اجلهد الالزم‬
‫لبناء القوة‪ ،‬ومن املوارد الشحيحة يستخرج رزقا كثريا باالبتكار‬
‫وبالتقلل‪.‬‬
‫الزهادة احرتاف والزهد قوة وعبادة والتقلل مذهب رجويل‬
‫إرادي يوسع دائرة الزهد فيجعلها تعم اجلماعة وتصبح هلا ناموسا‬
‫يف احلياة‪ .‬إن الزاهد الفردي خياف فتنة الدنيا على نفسه فيطرحها‪،‬‬
‫واجلماعة املؤمنة ينبغي أن تتقلل لتجتنب الفتنة والرتف يف األثاث‬

‫‪580‬‬
‫واملأوى ولتفسح اجملال من ذات نفسها ومن ذات بطنها وشهواهتا‬
‫ألجيال كثرية تعيش على الضروري وتكون قوية تستحق أن يباهي‬
‫هبا رسوهلا األمم يوم القيامة‪.‬‬
‫أما ترى كيف يعجب السفراء املرتفون يف الصني بالصيين‬
‫النظيف البسيط فيقلدونه يف اللباس كما يقلدونه يف الرزانة‬
‫والسمت؟ وتقرأ فيما تقرأ من حديثهم عن الصني إعجاهبم‬
‫هبذه السروايل املرقعة‪ ،‬ببساطتها ونظافتها وباخلياطة الفنية حول‬
‫الرقعة! هذا تقلل مفروض وبه استطاع زعيم الصني أن يدمج‬
‫يف إيديولوجيته عقيدة أن الكثرة عدة وأن الكثرة ال تعوق تنمية‬
‫اإلنسان بل تيسرها‪.‬‬
‫اجلاهليون ينشدون تنمية اإلنسان ملا خاب أملهم يف التنمية‬
‫االقتصادية اليت استعبدت اإلنسان أكثر مما كان مستعبدا‪.‬وهم‬
‫يعلقون كل آماهلم على مستقبل حضارة اسرتواحية ‪Civilisation‬‬
‫‪ de loisir‬تقوم فيها اآلالت باخلدمة ويتفرغ اإلنسان للهوه‪ ،‬فتلك‬
‫تنميته إن لعب بفكره يف ميادين الثقافة والفن وجبسمه يف ميادين‬
‫الشهوة واملتعة‪.‬‬
‫وهيهات أن يقنع اإلنسان أبدا وأن يرضى بقيم أية حضارة ما‬
‫مل يطمئن إىل احلقيقة األوىل يف الوجود‪ .‬وسيبقى شقيا حبضارته‬
‫وأثاثه ومهه وخوفه من الناس وبأس العدو واملنافس ما مل يسلم‬

‫‪581‬‬
‫وجهه إىل اهلل‪ .‬فإن فعل فسريتفع عنه السأم وامللل وسيقبل على‬
‫شأنه يرعى اإلنسان متحررا من أنانيته وعبياته‪ ،‬وإمنا يعلمه ذلك‬
‫املؤمنون‪ ،‬غدا يف ضحى اإلسالم املشرق‪ .‬ويف أحضان اإلسالم‬
‫زينة ومتعة وفرح‪ ،‬فإن التقلل ال يعين التقشف املعطل‪ ،‬بل يكون‬
‫مع التقلل حسن السمت وإبداء النعمة يف حدود الشريعة‪ ،‬فال‬
‫قصور وال ذهب وال حرير لكن مأوى اجملاهدين وكسوة األبرار‬
‫وطعام الصحة والقوة‪ .‬ال يستأثر أحد على أحد بل نقلد اإلمام‬
‫صفا مرصوصا ونتبعة ويكون لنا قدوة كما كان رسول اهلل قدوة‬
‫ألصحابه يلبس مثلما يلبسون ويشاركهم الطاعم ويشاركهم فرحة‬
‫العيد ال يتميز عنهم إال مبا يوقرونه وحيبونه‪ .‬وياهلا من مجالية تلك‬
‫الوحدة اجلماعية يف التكافل والتجالس وتلك الفرحة يف ساحات‬
‫املصارعة والسباق والتدرب على السالح‪ .‬وهذه هي الوظائف‬
‫االسرتواحية لإلنسان النامي‪ ،‬اإلنسان املؤمن‪.‬‬

‫‪582‬‬
‫أمراض التكاثر‬
‫اجملتمعات اإلنسانية يف رحلتها األرضية تبدأ من القلة‪،‬‬
‫فيتكون اجملتمع حول مطالبة للمالكني‪ ،‬تتجمع قبيلة لتغزو جاراهتا‬
‫وتأخذ ما بيدها‪ ،‬وقد يتكرر الغزو ويتوسع وينتظم حىت تقوم دولة‬
‫غازية رباط قوهتا هو القلة اليت نشأ فيها أفرادها‪ .‬وقد حلل ابن‬
‫خلدون كيف يتطور اجليل الثاين ويتخذ عادات حضارية يسرتخي‬
‫معها جسمه وإرادته ويرتف عزمه يف أثاث احلضارة‪ ،‬وفصل كيف‬
‫يتفسخ اجليل الثالث إىل أن تدول الدولة وتذهب رحيها ليخلفها‬
‫من يسميهم طوينيب «الربولتاريا اخلارجية»‪ .‬فالقوة مرتبطة بالقلة‬
‫دائما‪ ،‬وهذه بديهة تشاهد مصداقها يف احلياة اليومية حيث يكون‬
‫ولد الفقراء أصلب عودا من رفيقه املنعم‪ .‬وهي حقيقة على مستوى‬
‫اجملتمعات وإن كان يسرتها عنا اليوم ما نراه من مواكبة احلضارة‬
‫للقوة‪ ،‬فيخيل إلينا أن أقوى الناس هم اجلاهليون أصحاب األثاث‬
‫واحلضارة ملا نرى من سالحهم وعنفهم‪ .‬ولو نفذنا فكرنا إىل عامل‬
‫اجلاهلية التكاثرية لوجدنا أن اجملتمعات املنعمة جمتمعات مريضة‬
‫تراكمت عليها أمراض التكاثر فما حتت الدرع احلديدية وما وراء‬
‫القنابل النووية إال أجسام خنرة وعزائم خائرة‪ ،‬ما حتتها يف احلقيقة‬
‫إال … منر من ورق!‬

‫‪583‬‬
‫ذكي هو فيلسوف اليهود مركوس! إنه عاشر اجلاهلية بعد أن‬
‫انتزع نفسه منها بفكر وراقبها‪ ،‬فوصفها أعظم الوصف وحكم‬
‫أهنا زائلة‪ ،‬والتفت فما رأى رجولة ترجتى إال مما مساه «الربولتاريا‬
‫اهلامشية»‪ .‬أولئك السود األمريكان وهذه الشعوب من العامل‬
‫الثالث كما يصفه جليسا مأدبة اللئام هم وحدهم القادرون على‬
‫اختاذ موقف يعارض جمرى اجلاهلية ويقطف مثرة حضارهتا ليحوهلا‬
‫إىل فحولة انعدمت عند اإلنسان احلضاري املرتهل الشائح‪.‬‬
‫هذه العقول التكنولوجية اجلبارة اليت تغزو املريخ وتبهر عيون‬
‫املتفرجني على الصواريخ وعلى معارض االخرتاع ماذا ختفي عنا‬
‫من حقائق اإلنسان اجلاهلي؟ وهذه األجسام الرياضية البديعة اليت‬
‫تضرب األرقام القياسية كل عام يف شىت أنواع الرياضة ويف الصراع‬
‫والسباق أي حقيقة بشرية وراءها؟‬
‫إن اهلل جل شأنه خاطبنا حنن اإلنسانية قائال ‪﴿ :‬أَل َْها ُك ُم‬
‫التَّ َكاثـُُر َحتَّى ُز ْرتُ ُم ال َْم َقابَِر﴾ فأخربنا أن التكاثر ملهاة لنا عن‬
‫األمر احملتوم يصدنا عن مصرينا إليه بعد مثوى أجسامنا يف القبور‪.‬‬
‫ونفهم من خطابه عز وجل مطلق اللهو بالتكاثر‪ ،‬نفهم منه أن‬
‫الكم والتسابق الكمي واالستعراض الكمي ظواهر سطحية حتتها‬
‫حقائق اإلنسان‪ ،‬فليست كثرة الطعام ووفرة اللباس تعين صحة‬
‫وعافية‪ ،‬وليست كثرة املال والعدد والسالم تعين أمنا‪ ،‬وليست‬

‫‪584‬‬
‫كثرة املدارس ونشر الثاقفة تعين هتذيبا لإلنسان‪ ،‬وليست األسلحة‬
‫املتنوعة اهلائلة تعين شجاعة‪ .‬ولو كان للجاهلي صحة وأمن ومناء‬
‫لإلنسان‪ ،‬وشجاعة كما يتصور املغفلون ملا أغناه ذلك شيئا بالنظر‬
‫ملصري ما بعد الوت‪ ،‬فاجلاهلية مغبونة مرتني‪ ،‬مغبونة يف دنياها ألن‬
‫تكاثرها خيفي أمراضا ستطيح هبا وجتتثها من جذورها‪ ،‬وألن وهم‬
‫السعادة األثاثية أهلاها عن طلب األخرة وأهلاها عن احلق الذي‬
‫من أجله خلق اإلنسان‪ .‬اجلاهلية أهلتها مظاهر القوة عن القوة‬
‫ومظاهر السرف والتبذير عن الغىن احلقيقي وأهلتها املخرتعات‬
‫واألثاث عن تنمية اإلنسان ولو تنمية أرضية نظيفة‪.‬‬
‫قد يرى املالحظ السطحي أن احلضارة العلمية رفعت مستوى‬
‫املعيشة مبا مل يسبق له مثيل ورفعت معدل عمر اإلنسان ورفعت‬
‫مستواه الثقايف ورفعت معنويته بتنظيم العامل ونشر معاين احلرية‬
‫واملساواة واحرتام حقوق اإلنسان‪ .‬ويؤيد كل هذا إحصاآت ناطقة‬
‫كما يليق بعامل تكاثري أن يكون أنطق شيء فيه أرقامه‪.‬‬
‫إن من مآسى اجلاهلية ما ال تسعه األرقام وال يقبل صيغة‬
‫العدد‪ ،‬خذ مثاال لذلك ضيق النفس وتعفن األسرة والفسق واحلقد‬
‫الطبقي واخللل العقلي الذي مل يبلغ حد اإلجرام وما إىل ذلك‪.‬‬
‫وهناك املآسي اليت تفصح عنها االحصاآت‪ ،‬وتعطيك اجلاهلية‬
‫كشفا عن عدد اجلرائم وتعطيك كشفا عن عدد املنتحرين وعن‬

‫‪585‬‬
‫عدد املدمنني واملخدرين كما تعطيك صورة عن مرض النقد وعن‬
‫التضخم املايل وعن املسابقة اجملنونة بني األجور واألمثان‪.‬‬
‫وأفصح ما تكون األرقام داللة يف ميدان الصحة النفسية‬
‫والبدينة‪ .‬فعلى مرآهتا تنعكس مضاعفات الطاعم الوفري ومدلول‬
‫املستشفيات للمجانني واملرضى‪ .‬هذا اجلاهلي يأكل من سبعة‬
‫أمعاء كما قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم وميرض على قدر‬
‫ذلك‪ .‬وال فخر لنا إن كانت مستشفياتنا ومن فيها أقل عددا‬
‫بالنسبة هلم‪ ،‬فلنحن أكثر مرضا يف فتنتنا وإمنا نتدبر اجلاهلية‬
‫املريضة بتكاثرها ملكان التقلل والقوة الذي نريده لغدنا‪.‬‬
‫نشرت جملة أمريكية‪ 1‬إحصاآت قالت فيها ‪ :‬إن ‪ 13%‬فقط‬
‫من سكان الواليات املتحدة ساملون من األمراض اجلسمية‪ ،‬وإن‬
‫تشريح ‪ 200‬جثة من جنود األمريكان الذين قتلوا يف كوريا أظهر‬
‫أن ‪ 80%‬منهم مرضى بالقلب‪ ،‬وإن ‪ 30%‬ممن عمرهم بني ‪55‬‬
‫و‪ 64‬سنة ميوتون بالسرطان وأن ‪ 80%‬من سكان أمريكا مصابون‬
‫بنوع من أنواع السرطان يعلمون ذلك أو ال يعلمونه‪ ،‬وإن واحدا‬
‫من كل عشرة أمركيني متخمني يقضي حياته يف ملجإ اجملانني‬
‫وتزداد النسبة كل يوم‪.‬‬
‫هذا مثن االستهالك احلضاري والتخمة والبطنة وهو باهظ‬

‫‪.Time magazine , march7,1967 1‬‬

‫‪586‬‬
‫تكفي فداحته لنا واعظا لنتخذ العدة حىت ال نسقط يف دورة‬
‫احلضارة التكاثرية‪.‬‬
‫ينفق األمريكيون أمواال قارونية يف صنع األدوية مثلما ينفقون‬
‫على صنع األطعمة املولدة للسرطان ومثلما ينفقون على صنع‬
‫األسلحة النووية‪ ،‬هذه يعدوهنا ليخربوا العامل وتلك يصنعوهنا‬
‫فيخربون هبا أجسامهم وعقلوهم‪ .‬إهنم عبيد لتقنيتهم مبا فيهم‬
‫حذاق االختصاصيني ومهرة األطباء‪ .‬كلهم يف أغالل الشهوة‬
‫وأطواقها املسماة رفاهية ولذة ومستوى معيشة‪ .‬فإذا برزوا مليدان‬
‫الرجولة افتضح جبنهم‪ ،‬وقد تفرج العامل على جنب املتخمني يف‬
‫فتنام فكانوا يفرون ويلتحقون باملالجىء السياسية كأمنا هم أبطال‬
‫ضامهم ظلم منافسيهم السياسيني‪.‬‬
‫إن قوة سالح األزرار قوة حقيقية ما يف ذلك من شك يصنعها‬
‫إنسان خرب متدهور لكنه متعلم حاذق‪ .1‬فهل تثبت قوة العقل‬
‫الصانع مع خراب اجلسم والنفس وخراب الذمة عند من يبيع‬
‫الشعب كله ليحصل على خمدر؟ كال ! فاملصري اجلاهلي مرسوم‪،‬‬
‫وهو أيضا مصرينا إن سلكنا طريق اجلاهلية التكاثري‪.‬‬
‫وما قوم الشيوعية اخلرشوفية منا ببعيد! فاللحاق اللحاق بركب‬

‫‪ 1‬وجاء اهلجمة الشرسة بقيادة الواليات املتحدة على املسلمني بالعراق ليكون املسلمون موضوعا‬
‫لتجربة حرب األزرار‪.‬‬

‫‪587‬‬
‫االستهالك! هذا شعار كل جاهلية ثائرة وإن كانت شعارات‬
‫الصني احلمراء اليوم ترتفع بنداء للرجولة واالستقالل وحترير العامل‬
‫فما هي إال مرحلة استثنائية يليها تصنيع شامل ويلي ذلك تراكم‬
‫رأس املال والصناعة اخلفيفة االستهاللكية ويبدأ خط املنحىن يف‬
‫اإلهواء إىل موضع الدودة اجلاهلية على الرغام‪.‬‬
‫إن عالقة املؤمنني باألرض عالقة حيددها شرع اهلل ومنهاجها‪.‬‬
‫إن لنا أمواال هي قيم وقيام وإن اهلل أخرج لنا زينة هي لنا خالصة‬
‫يوم القيامة‪ ،‬أي أهنا ال تأخذنا إليها بل حنن نأخذها متاعا إىل‬
‫حني‪ ،‬متاعا موقوتا مملوكا غري مالك‪ ،‬وخنلص بعد ذلك إىل ربنا‬
‫يوم القيامة‪.‬‬
‫لن يكون اإلقالع االقتصادي ممتنعا علينا غدا إن شاء اهلل‪،‬‬
‫لكن الذي يعسر علينا ويطلب جهاد الليل والنهار وهو أن حنافظ‬
‫على اخلط االسالمي يف السلوك‪ .‬فما من ثروة نضمها إلينا إال‬
‫وحتمل هتديدا ملصرينا مع ما حتمل لنا من قوة‪ .‬العلوم التكنولوجية‬
‫إن ملكناها قوة وخطر معا‪ ،‬قوة إن عرفنا كيف نسخرها لننافس‬
‫سالح اجلاهلية وابتكارها‪ ،‬وخطر إن خدم هذا التنافس وهذا‬
‫االبتكار غاية غري غاية السالم يف األرض ومحل الرسالة لتحرير‬
‫اجلاهلية من جهلها وجهالتها‪ .‬رأس املال الضروري إلقالعنا جنمعه‬
‫بالتعاون وإضمار البطون فهو لنا قوة إن ملكناه ومل ميلكنا‪،‬إن‬

‫‪588‬‬
‫ملكناه صرفناه يف تبليغ رسالة ربنا باإلحسان إىل اإلنسان عيال‬
‫اهلل يف األرض‪ ،‬وإن َملَ َكنا تكدس علينا فأردانا يف محأة االستهالك‬
‫والرتهل واملرض واإلجرام والعته‪ .‬وهذه األيدي العاملة اخلبرية‬
‫والسواعد املتطوعة والتخطيط العلمي إن اجتمعت قوهتا على‬
‫تغذية جائعنا وكسوة عراتنا وتربية عائلنا وتعليمه‪ ،‬وأدت اىل ختطيط‬
‫مجاعة فرحة برهبا حمبة للبشر الذين ستحمل إليهم الرسالة نظافة‬
‫يف مستها وقوة يف أجسامها ومجاال يف منهاج حياهتا ومتاسكا يف‬
‫فكرها ونورانية مطمئنة فهي لنا قوة‪ ،‬فإن محلت األيدي السالح‬
‫لتستبدل ظلما بظلم وشراهة بشارهة فذلك خرابنا‪.‬‬
‫إن اإلسالم يتألف القلوب على اإلسالم وإن تنميتنا االقتصادية‬
‫وقوتنا ال معىن هلما متاما إن مل ختدما الغاية اإلحسانية‪ ،‬فإن ائتالفنا‬
‫فيما بيننا يكون من أسبابه إطعام الطعام وجمالسة املؤمنني على‬
‫موائد القناعة الصحية‪ ،‬وإن تألفنا للناس على إسالمنا يريد أن‬
‫نطعمهم ونعلمهم وحنررهم ونضمن سالم العامل هلم‪ ،‬فإن تكدست‬
‫لنا أموال فسنصرفها يف مشروع ال ينتهي وهو حترير اإلنسانية‬
‫كافة‪ ،‬من قبل إسالمنا أحسنا إليه وزدناه إحسانا ليثبت‪ ،‬ومن‬
‫مل يستجب لدعوتنا أحسنا إليه وزدناه إحسانا حىت يستجيب‪.‬‬
‫وحنن هبذا يومئذ خلفاء اهلل على عياله حقا‪ .‬وإنه ال معىن لتنميتنا‬
‫االقتصادية وال لقيام اإلسالم إن مل نضرب للعامل مثال لإلنسانية‬

‫‪589‬‬
‫املؤمنة اليت متلك زمام أمرها وال متلكها عجلة احلضارة وال يصرعها‬
‫سلطان االستهالك‪ .‬إن أستاذية العامل اليت خلقنا من أجلها وبعث‬
‫اهلل هلا أنبياءه بعد رسله وأولياءه بعد أنبيائه مثنها رباطة اجلأش‬
‫وامتالك النفس أمام الطعام وأمام الزينة فال نأخذ منهما إال ما‬
‫يقيم صلبنا‪ .‬فإن أسرف اإلنسان يف طعام وزينة كان ذلك لصلبه‬
‫تقويضا ال إقامة‪ ،‬واستحق مقت اهلل الذي ال حيب املسرفني‪ ،‬فأىن‬
‫ملن ببغضه اهلل أن حيمل الرسالة أو يعلم اإلنسانية!‬
‫ما أهوى بصحة اجلاهليني وعقوهلم ورجولتهم إال االسرتخاء‬
‫احلضاري اإلسرايف‪ ،‬يإكلون كثريا ويبذرون كثريا ويفسقون فسق‬
‫الذبابة وخيرجون عن احلد بطلب سعادة خيالية يف املخدرات‪.‬‬
‫كل جمهودات اجلاهليني هتدف المتالك أكرب عدد ممكن وأكثر‬
‫األنواع املمكنة من البضاعات‪ ،‬وتتنظم جمتمعاهتم حول حمورين‬
‫اثنني مها اإلنتاج واالستهالك‪ .‬وينتجون وهم الهثون جريا مع‬
‫حركة الدوالب الصناعي آفتني أوالمها بضائع تفتك بالعقول‬
‫واجلسوم والذمم وثانيتهما فائض ربح يعاد فيوظف يف اإلنتاج‪.‬‬
‫وكلما كانت نسبة النماء عالية كان ذلك أدعى لفخر الدولة‬
‫وغبطة املستهليكن وعلى قدر نسبة مناء املال املوظف ومناء حجم‬
‫الصناعة ترتفع نسبة األوبئة االجتماعية ويرتفع شقاء اإلنسان‪.‬‬
‫هذا هو عامل التكاثر وينبغي أن يتجنبه اإلسالم املنبعث بأن‬

‫‪590‬‬
‫يكيف حاجاته حىت ال جيره تسلسلها إىل حتمية التقنية واإلنتاج‪.‬‬
‫كان ماركس يؤكد أن اجملتع ال ينتج إال ليستهلك وهذا منطق دوايب‬
‫ال غبار عليه قاعدته احلاجة وقضيته الكربى إرضاؤها‪ .‬واإلنسان‬
‫اجلاهلي الدوايب ال حميد له عن العلف وطلبه وطلب تنوعه وال عن‬
‫األثاث والزينة ومها غاية من ال يؤمن باآلخرة‪ .‬ويف نظر ماركس أن‬
‫التحرر من العوز يكون بالسيطرة على العمل وحتريره من ضرورة‬
‫احلاجة اخلارجية اليت جييب عنها اإلنتاج املادي‪ ،‬ويف نظره أن‬
‫هذا التحرر هو دولة احلرية املوعودة يف اجملتمع الشيوعي‪ .‬لكن‬
‫الفيلسوف اليهودي ال يقرتح على اإلنسان احلرية احلق‪ ،‬وأىن له‬
‫ذلك وهو امللحد الكافر‪ ،‬وما احلرية احلق إال أن ميلك اإلنسان زمام‬
‫نفسه ويقلص من كمية حاجاته ونوعيتها‪ .‬هذا املوقف اإلرادي‬
‫موقف االستعالء على احلاجة والقناعة بالضروري والتقلل من‬
‫الدنيا كمذهب اقتصادي مجاعي يبدو لنا سهال…نظريا‪ .‬لكنه‬
‫عند التطبيق أعوص من كل عويص‪ .‬يعرتض حتقيقه متنع الناس إن‬
‫أردت نقلهم من عادة االمتداد والذوبان يف املتع‪ ،‬ويعرتضه هذا‬
‫الغول اهلائل هذا الكائن املنفصل عن اإلنسان املتحكم فيه الذي‬
‫يسمى اقتصادا إنتاجيا‪ .‬يعين التقلل كمذهب اقتصادي ابتكار‬
‫نظام إنساين مناقض متاما لنظام االقتصاد اجلاهلي‪ .‬وإهنا ملغامرة‬
‫ال يقدر عليها إال القلوب املؤمنة الشجاعة املعتمدة على رهبا‪،‬‬

‫‪591‬‬
‫وقد يكون من الالزم أن يتدرج االقتصاد االسالمي غدا يف معارج‬
‫االستقالل عن االقتصاد اإلنتاجي ويتعلم عرب الطريق وبإرادة إميانية‬
‫إحسانية مسبقة كيف يكيف الطبيعة وفق حياة الكمال اإلنساين‬
‫بدل أن يتكيف هو عبدا لآللة الصانعة وضحية لألخطبوط‬
‫الصناعي الذي خلقه بيده‪ ،‬ولئن كانت مرحلة التصنيع على غرار‬
‫النموذج اجلاهلي ومعاناة اآللة والوقت واملردودية واملنافسية أمرا‬
‫ضروريا يف طريق اإلسالم فسيكون ردءا لبالء كل ذلك العدد‬
‫اإلسالمي واليقظة والتعاون وسطوة الروحانية اجملاهدة‪.‬‬
‫إن عالقة املؤمنني باألرض والرزق عالقة فطرية نابعة من‬
‫املوقف الفطري موقف الربانيني املعرتفني بربوبية خالقهم وخالق‬
‫الكون املسري له املتحكم فيه‪ .‬جهاد املؤمنني لبناء االقتصاد‬
‫وإلعداد القوة كجاهدهم لتبليغ الرسالة لن يكون جهادا منفردا‬
‫خمذوال بل سيكون جهادا يزكيه اهلل ويعينه اهلل رب اإلنسان ورب‬
‫السماء واألرض ورب النواميس الطبيعية اليت جعلها لنا فتنة‪ ،‬فإذا‬
‫آمنا به وعبدناه وقصدنا وجهه سخرها لنا وسخر لنا كل شيء‪.‬‬
‫هذه آيات ربنا البينات ختط لنا كنه عالقاتنا بربنا وخملوقاته‪،‬‬
‫ص ِّدقُو َن أَفـََرأَيـْتُم‬ ‫يقول عز من قائل ‪﴿ :‬نَ ْح ُن َخلَ ْقنَا ُك ْم فـَلَ ْوَل تُ َ‬
‫َّما تُ ْمنُو َن أَأَنتُ ْم تَ ْخلُ ُقونَهُ أ َْم نَ ْح ُن الْ َخالِ ُقو َن نَ ْح ُن قَ َّد ْرنَا بـَيـْنَ ُك ُم‬
‫نشئَ ُك ْم‬ ‫ِّل أَمثَالَ ُكم ونُ ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ين َعلَى أَن نـُّبَد َ ْ ْ َ‬ ‫ت َوَما نَ ْح ُن ب َم ْسبُوق َ‬ ‫ال َْم ْو َ‬

‫‪592‬‬
‫فِي َما َل تـَْعلَ ُمو َن َولََق ْد َعلِ ْمتُ ُم النَّ ْشأَةَ ْالُولَى فـَلَ ْوَل تَ َّ‬
‫ذك ُرو َن‬
‫شاء‬ ‫الزا ِرعُو َن لَ ْو نَ َ‬ ‫أَفـََرأَيـْتُم َّما تَ ْح ُرثُو َن أَأَنتُ ْم تـَْز َرعُونَهُ أ َْم نَ ْح ُن َّ‬
‫لَ َج َعلْنَاهُ ُحطَاماً فَظَلْتُ ْم تـََف َّك ُهو َن إِنَّا لَ ُمغْ َرُمو َن بَ ْل نَ ْح ُن َم ْح ُر ُ‬
‫ومو َن‬
‫َنزلْتُ ُموهُ ِم َن ال ُْم ْز ِن أ َْم نَ ْح ُن‬ ‫ِ‬
‫أَفـََرأَيـْتُ ُم ال َْماء الَّذي تَ ْش َربُو َن أَأَنتُ ْم أ َ‬
‫ُجاجاً فـَلَ ْوَل تَ ْش ُك ُرو َن أَفـََرأَيـْتُ ُم الن َ‬
‫َّار‬ ‫شاء َج َعلْنَاهُ أ َ‬ ‫ال ُْمن ِزلُو َن لَ ْو نَ َ‬
‫شأْتُم َشجرتـها أَم نَحن الْم ِ‬ ‫َِّ‬
‫نش ُؤو َن نَ ْح ُن‬ ‫ورو َن أَأَنتُ ْم أَن َ ْ َ َ ََ ْ ْ ُ ُ‬ ‫التي تُ ُ‬
‫جعلْنَاها تَذْكِرًة ومتاعاً لِّلْم ْق ِوين فَسبِّح بِاس ِم ربِّ َ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫ك ال َْعظ َِ‬ ‫ُ َ َ ْ ْ َ‬ ‫َ َ ََ‬ ‫ََ َ‬
‫أتدري من هم املقوون الذين جعل اهلل هلم شجرة النار تذكرة‬
‫ومتاعا ؟ إهنم املسافرون املقرورون احملتاجون لدفء‪ .‬وتلك صورة‬
‫املسلمني يف حالة ضعفهم اليوم وهواهنم على أنفسهم وعلى‬
‫الناس‪ .‬وإهنم أحوج ما يكونون إىل شجرة النار اليت يصهرون عليها‬
‫درع احلديد وسالح اجلهاد لغد اإلسالم املشرق على الدوام‪ .‬وما‬
‫لنا سبيل لرزق ربنا تدر علينا مساؤه وخترج بركاهتا أرضه إال أن‬
‫نسبح بامسه العظيم! فذلك هو املنهاج النبوي‪ ،‬أن نذكر اهلل يف‬
‫صحبة املؤمنني‪.‬‬

‫‪593‬‬
‫الفصل السادس‬

‫الرتبية والربانيون‬

‫‪594‬‬
‫الرتبية والتغيري‬
‫هل جتري أحداث التاريخ على دروب احلتمية السببية وهل‬
‫لإلنسان يد يف تغيري جمرى التاريخ ؟ إن املاركسية‪ ،‬وهي أكثر‬
‫الفلسفات اجلاهلية متاسكا يف منطقها الداخلي‪ ،‬تعرض التاريخ‬
‫وكأنه ضغط على اإلنسان وحتمية خارجة عن إرداته‪ .‬وتستفيد‬
‫الفلسفة املاركسية من الدراسات اجملتمعية ومن تصرف اجلماهري‬
‫على مدى التاريخ البشري لتطرح لنا صورة عن اإلنسان الفرد‬
‫املندمج يف نسيج اجتماعي يتحرك ويتغري حركة اجتماعية وتغريا‬
‫اجتماعيا حتت سلطان ماهيات كثيفة امسها عالقات اإلنتاج‪.‬‬
‫وهذه العالقات خملوقة تسعى وتتلون حسب تطور القوى اإلنتاجية‬
‫وبتلون أسلوب اإلنتاج‪.‬‬
‫وهبذه النظرة‪ ،‬فالعامل اخلارجي مبا يضعه رهن إشارة اإلنسان‬
‫من موارد ومبا يرثه اإلنسان عن األجيال السابقة من أدوات عمل‬
‫ومن تكنولوجيا‪ ،‬وهو املتحكم املطلق يف مصري اجملتمعات‪ .‬وتعاون‬
‫الناس إمنا يتم حسب تطور التنظيم اجملتمعي القائم على أسلوب‬
‫اإلنتاج‪ ،‬وكلما اكتشف اإلنسان أسلوبا جديدا لإلنتاج تغري تنظيم‬
‫جمتمعه وتغريت بذلك أشكال تعاون الناس وسط اجملتمع‪.‬‬
‫اإلنسان يف كل هذا موضوع ينفعل مع عوامل التغري‪ ،‬فهو‬

‫‪595‬‬
‫مفعول به وهو مرآة للعامل اخلارجي‪ .‬وتلخص الشيوعية قانون‬
‫التغيري هكذا‪« :‬ليس وجدان البشر هو ما حيدد كياهنم‪ ،‬بل على‬
‫العكس‪ ،‬كياهنم االجتماعي هو ما حيدد وجداهنم»‪ .‬وجتري‬
‫أحداث التاريخ مرتددة بني طرفني (دياليكتيكيني) ماديني مها‬
‫النقيضان الطبقيان اجملتمعيان السائران يف جمرى حتمية الصريورة‬
‫االجتماعية‪.‬‬
‫اإلنسان الفرد هبذه النظرة نواة اجتماعية‪ ،‬واجملتمع أيضا نواة‬
‫اجتماعية مصرية غري صائرة وإن كانت هي تصنع نفسها بنفسها‪،‬‬
‫وتكرر حياهتا بنشاط اإلنتاج‪ .‬تقول اجلدلية املاركسية أن اإلنسان‬
‫ذات وموضوع معا‪ ،‬فهو الفاعل واملفعول‪ ،‬لكن خصائصه كفاعل‬
‫منوطة مبوضوعيته ككم مصري يتحكم فيها التطور التارخيي الطبقي‪.‬‬
‫أخزاهم اهلل فما لنا حاجة جبدليتهم‪ ،‬وال يهمنا أن تكون‬
‫الفلسفة املاركسية ذريعة تربر العمل الثوري الشيوعي‪ .‬الذي‬
‫يعنينا أن هذه الفلسفة الذريعة هي روح السم الذي احتل منا‬
‫العقول واألفئدة‪ ،‬فأخزاها اهلل‪ ،‬والقنوت على الكافرين ليس من‬
‫قواعد احلجاج العقالين‪ ،‬لكننا ال حناجهم يف باطلهم ونقنت على‬
‫الكافرين ألن القنوت والدعاء قوة املؤمن وعتاده قبل أي قوة‪ ،‬وإنه‬
‫ال حول وال قوة إال باهلل لعلى العلي العظيم‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل أنبأنا بقانون التغيري‪ ،‬فبه نأخذ لنغري ما‬

‫‪596‬‬
‫بأنفسنا حىت يتغري ما بنا‪﴿ .‬إِ َّن اللّهَ الَ يـُغَيـُِّر َما بَِق ْوٍم َحتَّى يـُغَيـُِّرواْ‬
‫َما بِأَنـُْف ِس ِه ْم﴾ صدق اهلل العظيم‪ .‬وأخربنا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم بأن املرء يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه‬
‫أو ميجسانه‪ .‬ففرقان اهلل يدلنا على مصدر التغيري وهو سلطانه عز‬
‫وجل فهو املغري‪ ،‬وإنه جعل سببا للتغيري ما حندثه حنن يف أنفسنا‬
‫من حتول‪ .‬وإن رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم علمنا أن التحول‬
‫النفسي من اإلميان للكفر حيدث بعامل الرتبية فنفهم أن التحول‬
‫املعاكس حيدث أيضا بالرتبية‪.‬‬
‫التغيري االجتماعي حيكمه قانون اجلزاء اإلهلي‪ ،‬فالقوم‬
‫الكافرون‪ ،‬أهل القرية الظاملون‪ ،‬ميدهم مدا وميلي هلم إمالء مث‬
‫﴿لَ ْوَل‬ ‫يأخذهم أخذ عزيز مقتدر‪ .‬ويفتنهم عز وجل بزينة الدنيا‪َ :‬‬
‫الر ْح َم ِن لِبـُيُوتِ ِه ْم‬ ‫أَن ي ُكو َن النَّاس أ َُّمةً و ِ‬
‫اح َد ًة لَ َج َعلْنَا لِ َمن يَ ْك ُف ُر بِ َّ‬ ‫َ‬ ‫ُ‬ ‫َ‬
‫ِ‬ ‫ِ‬
‫ِج َعلَيـَْها يَظ َْه ُرو َن َولبـُيُوت ِه ْم أَبـَْواباً َو ُس ُرراً‬ ‫ٍ‬
‫ُس ُقفاً ِّمن فَضَّة َوَم َعار َ‬
‫ْحيَ ِاة ُّ‬
‫الدنـْيَا‬ ‫ك لَ َّما َمتَاعُ ال َ‬ ‫َّك ُؤو َن َوُز ْخ ُرفاً َوإِن ُك ُّل َذلِ َ‬ ‫َعلَيـها يـت ِ‬
‫َْ َ‬
‫ش َعن ِذ ْك ِر َّ‬ ‫ك لِل ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫ض‬‫الر ْح َم ِن نـَُقيِّ ْ‬ ‫ين َوَمن يـَْع ُ‬ ‫ْمتَّق َ‬‫َو ْالخ َرةُ عن َد َربِّ َ ُ‬
‫ين﴾‪ .‬أما أهل التقوى فإهنم يغريون ما‬ ‫لَهُ َش ْيطَاناً فـَُه َو لَهُ قَ ِر ٌ‬
‫بأنفسهم من فساد فيغري اهلل ما هبم وال ميتنع عن يده القوية أن‬
‫يرفعهم بعد ذل ويستخلفهم يف األرض وهم فيها مستضعفون‪.‬‬
‫وإن قانون التغيري اإلهلي قائم على الرتبية‪ ،‬تربية بشر لبشر تربية‬

‫‪597‬‬
‫تعيد الناس إىل الفطرة ويربيهم هبا ربانيون هم رسل اهلل مث أنبياؤه‬
‫بعد رسله مث أولياؤه بعد أنبيائه‪.‬‬
‫إن اهلل عز وجل قيض للغافلني عن ذكره شياطني تؤزهم أزا‬
‫وتقرتن هبم اقرتانا فيضلون عن السبيل‪ .‬ومن هذه الشياطني ومعها‬
‫يف عامل الظاهر شياطني العقالنية امللحدة اليت فتنت أجيالنا‪ ،‬فإن‬
‫هلا قوانني تفسر هبا التاريخ علمية منطقية‪ ،‬وإن هلا حكمة يف‬
‫جمال الرتبية البشرية ومعرفة بالنفس اإلنسانية العاطلة من اإلميان‪،‬‬
‫فتغلف احلكمة يف باطل اإليديولوجية وتربر العمل الثوري القومي‬
‫اجلاهلي باإليديولوجية واحلكمة ومن وراء كل ذلك تطلب تنمية‬
‫بضائعية ليزداد بطن الدابة امتالء وممكنات متعتها تنوعا‪.‬‬
‫وتتحدانا منجزات اإليديولوجية التربيرية على صعيد التغيري‬
‫كما تتحدانا احلكمة اجملتمعية املربية الساخرة على العامل من بر‬
‫الصني‪ .‬وال خمرج لنا من منطق اإليديولوجية إال بطرحها جزافا‪،‬‬
‫لكن نريد خمرجا إجيابيا حنن نلتمسه غدا بتغيري أنفسنا ليغري اهلل ما‬
‫بنا فنكون حنن نسخر منهم كما يسخرون‪.‬‬
‫إننا معشر األمة املتفتتة يف قومياهتا وعصبياهتا اجلاهلية جنهل‬
‫معاين الرتبية إال ما علمناه اجلاهليون‪ ،‬وننكر الربانية والربانيني‬
‫لكثرة ما عبث األدعياء بسمت املؤمنني ودسوا على الناس‬
‫بالزهادية واملظاهر املنافقة‪.‬‬

‫‪598‬‬
‫الرتبية يف مفهوم القرآن واحلديث تغيري باطين لنفس اإلنسان‪،‬‬
‫ومعناها يف اللغة تنمية وتقومي‪ .‬بيد أن نوعية الرتبية ختتلف‬
‫باختالف الغاية اليت نرجوها للذي نربيه‪ .‬فاجلاهلية تريب أبناءها‪،‬‬
‫تنمي جسمهم وعقلهم وآداهبم اجملتمعية‪ ،‬لغاية هي االندماج يف‬
‫اجملتمع وإغناؤه باملهارة املنتجة للبضاعة واالبتكار املنوع للبضاعة‬
‫واملشاركة املستهلكة للبضاعة‪ .‬وهي يف ذلك منطقية حمادية خلط‬
‫سريها الوحيد على درب الدوابية‪ .‬وإذا أرادت اجلاهلية تغيريا‬
‫بالدافع الثوري الطالب للقوة أو بالدافع احلضاري املساير لتطور‬
‫البيئة االخرتاعية فإهنا تريب اإلنسان تربية مغرية‪ ،‬فتخصصه يف‬
‫املهنة وختصصه يف العلوم وختصصه حىت بالنظر لظرف عمله فرتاها‬
‫مثال تدرب رواد الفضاء على حركات وعلى حياة وغذاء خاصة‪.‬‬
‫وال تتجاوز اجلاهلية مستوى االستهالك إال يف ظروف مرحلية‬
‫مثل ظروف الصني‪ ،‬مث ال تبلغ أبدا إال مطلب البطولية والتمييز‬
‫واالستقالل كرد فعل شجاع على حتدي اخلصوم‪.‬‬
‫أما الرتبية اإلسالمية‪ ،‬تربية الغد اإلسالمي‪ ،‬فلن تكون‬
‫مستحقة المسها إال إن تناولت اإلنسان فأودعت قلبه إميانا وعقله‬
‫حكمه وجسمه صالبة‪ .‬فباإلميان يكتسب حركية ختتلف يف كيفها‬
‫عن حركية اجلاهلية وترمي لغاية هي من وراء احلس ومن وراء‬
‫زمن الدنيا ومن خالهلا أيضا‪ ،‬وبالعقل احلكيم يكتسب املؤمن‬

‫‪599‬‬
‫جهازا مدبرا جمتهدا خيوض به الفتنة ويقتحم عقبتها ليكيف حلياة‬
‫االسالم وملدنية اإلميان هذه البيئة املوروثة املمسوخة‪ ،‬وليغالب تيار‬
‫اجلاهلية بالتمهيد لنورانية اإلسالم لتغزو دار الفكر ساطعة من‬
‫الثقافة اإلسالمية املستقلة ببوارق اإلميان واإلحسان‪ .‬وباألجسام‬
‫الصلبة املخشوشنة‪ ،‬أجسام الرجال‪ ،‬ينفذ املؤمنون خطة جهادهم‬
‫ال يسكنون لزينة الدنيا إال استجماما وإعدادا لرغبة جديدة‬
‫ونصب جديد يف طريقهم إىل دار الكرامة يف الدنيا وعند اهلل‪.‬‬
‫الرتبية تغيري لنفس اإلنسان‪ ،‬بعث إلرادته بتصفية رؤيته لنفسه‬
‫ومصريه وللعامل‪ ،‬وحترير لعقله ببث روح اإلميان بالغيب وبالرتبية‬
‫املتكاملة يصبح اإلنسان هو الفاعل التارخيي الذي يؤثر فيما‬
‫حوله‪ ،‬فمهما كانت درجة تقنيته ومهما كان الوسط الطبعي‬
‫الذي يعيش فيه ومهما كان جنسه وعرقه وبنية جمتمعه فإن الرتبية‬
‫حتول طاقته مبثل هذا‪ ،‬وقد آن للفلسفة اجلدلية املادية أن تعرتف‬
‫منذ ارتدت الفلسفة املادية من مواقعها كعامل مغري لتصبح فقط‬
‫مربرا لتغيري عملي جترييب ثوري‪ ،‬ومنذ برزت متفوقة على النماذج‬
‫األوىل شيوعية «ماو» املربية‪.‬‬
‫وإذا قلنا إن الرتبية تغيري لإلنسان استنادا لتعليم اهلل ربنا وآمنا‬
‫بأن النفس اليت هي جوهرة اإلنسان مقر التغيري وموضوع الرتبية‬
‫فإمنا نقول بلسان العصر ‪ :‬إن الكيان السيكولوجي لإلنسان‬

‫‪600‬‬
‫امللفوف يف الوسط يتصاعد على العاوئق البيئية ويؤثر يف العامل‬
‫بدافع باطين غري الدافع اخلارجي املتحدي له املسلط عليه‪.‬‬
‫وأول مكونات البيئة اليت يرىب فيها اإلنسان هو جمتمعه‬
‫ويف العبارة تكرار ألن الرتبية ال تتصور إال تفاعال بني أشخاص‬
‫بينهم عالقات اجتماعية‪ .‬املسلمون أعداد كثرية‪ ،‬ويزعم اليهودي‬
‫دركهامي أن كثرة العدد وتزاحم السكان يؤدي لتنافس بني الناس‬
‫ينتج عنه التقدم احلضاري‪ ،‬وما نتج عن تكاثر املسلمني تقدم‪،‬‬
‫حىت وال تقدم حضاري‪ ،‬وإمنا نتج من باعثهم‪ ،‬أو قل من كابتهم‪،‬‬
‫النفسي وهو الوهن غثائية خامدة‪ .‬فتكاثر عددنا حجر عثرة يف‬
‫سبيل هنضتنا ما دام يف جمتمعنا مرتع للعادة يف غياب العامل‬
‫الرتبوي اجملدد الباعث‪ .‬العادة هي ناتج ترسب السلوك الكسول‬
‫على مر األجيال‪ ،‬ويتلقى العادة مذهبا للسلوك جيل كسول بعد‬
‫جيل فإذا مجعت األعداد الكبرية من أصحاب السلوك العادي‬
‫مل يتحصل لك إال غثاء‪ .‬وكثرة عددنا عائق للرتبية بالنظر إىل أن‬
‫األجيال الشابة جتد أمامها سلفاً أثِراً جاهالً فتثور عليه إذ ال جتد‬
‫عنده أهلية لتتلقى منه الرتبية‪ .‬فكثرة الثائرين من الشباب وسوء‬
‫تنشئتهم وافتتاهنم بالنموذج الثوري االشرتاكي الذي يهفون إليه‬
‫ويعظمونه يف نفوسهم عقبة كؤود أمام الرتبية اإلسالمية غدا‪.‬‬
‫ومن مكونات البيئة درجة تطور الصناعة‪ ،‬فقد كان يكتب‬

‫‪601‬‬
‫ماركس ‪« :‬إن طاحون اليد يعطيك جمتمعا حيكمه سيد‪ ،‬والطاحون‬
‫البخاري يعطيك جمتمع الرأمسالية الصناعية» فلئن كان حتليل‬
‫اليهودي يبني عامال مهما من عوامل تطوير اجملتمعات وتغيريها‬
‫فإن الرتبية اإلسالمية ستلقى يف طريقها حتديا كبريا لتطور ميادين‬
‫العمل وتيسرها وتعمم الشغل‪ .‬إننا أمة ال صناعة لنا‪ ،‬ومن مث‬
‫فال عمل لأليدي العاطلة‪ ،‬وبالتايل فال أمل يف تربية وتغيري إن‬
‫مل يصحب عملية الرتبية‪ ،‬بل إن مل يكن من وسائلها‪ ،‬تشغيل‬
‫األيدي وإشباع البطون‪.‬‬
‫وثالثة العراقيل يف وجه الرتبية اإلسالمية االختالط الثقايف أو‬
‫قل املسخ الثقايف الناتج عن غزو النماذج اجلاهلية لعقولنا وقلوبنا‪.‬‬
‫قد يفرت عنا هم ما جنده أن نعزو فتنتنا لتألب اجلاهلية ضدنا‬
‫ولغزوها الفكري لنا‪ ،‬وتلك ملهاة تربيرية‪ ،‬فما دمت طعمة سائغة‬
‫ال متتنع على آكل وما دمت فريسة سهلة فمن الغباوة أن تنتطر‬
‫رمحة اجلاهلية‪ .‬إهنم يغزوننا فكريا وعمليا ألن الداء يف نفوسنا ولو‬
‫كان لنا استقالل فكري واستقالل نفسي الستطعنا أوال أن نتعاىل‬
‫على بضاعة اجلاهلية‪ ،‬فإهنا حاملة رسالة اجلاهلية إلينا‪ .‬لسنا‬
‫نقرأ كتب اجلاهلية ولسنا نتبىن مذاهبنا إال يف سياق هتافتنا على‬
‫البضاعة املغرية يف شكل سيارات ويف شكل ِشناقات لرقابنا من‬
‫شىت األحجام واملواد‪ .‬ولنحن أشد تفاهة مما نظن حني نربر هزائمنا‬

‫‪602‬‬
‫بأن اجلاهلية تتألب علينا وتغزونا‪ .‬أفما نرى أن أفخم ما تنتجه‬
‫مصانع اجلاهلية نستورده حنن قبل أن يتناولوه هم ؟ أفما نرى أن‬
‫دعايتهم ختلق عندنا حنن قبل غرينا حاجة ملا يدعون القتنائه‪ .‬فلو‬
‫كان بنا أثر من حياة أو حىت أثر من مروءة وشهامة الستعصينا‬
‫على البضاعة األجنبية ولكسبنا بذلك منعةعلى أفكارها وثقافتها‪.‬‬
‫ولو جاءتنا اجلاهلية حافية عارية أفَ ُكنا نتلفت إليها وإىل ثقافتها ؟‬
‫وهكذا نرى كيف تتداخل عراقيل الرتبية يف بيئتنا وتتضافر‬
‫فتكون لنا عقلية مطالبة ونفسية حرمان عاجز يشعرنا بأننا كثريون‬
‫كثرة فشل ال كثرة جناح فال استعدادا بيننا للتعاون‪ .‬وأثرتنا ختلق‬
‫طبقات متكارهة وأجياال متنافرة‪ .‬فمن أجل تسوية الطريق للرتبية‬
‫اإلسالمية ينبغي أن يسبق عدل إسالمي بوازع السلطان تنظيم‬
‫اجلماعة املتطوعة بوازع القرآن‪.‬‬
‫ونرى أن قلة ذات يدنا عامل مثبط للتغيري اإلسالمي ينافسه‬
‫بقوة منوذج التغيري االشرتاكي‪ ،‬فينبغي أن نزيل هذه العرقلة لتحقيق‬
‫الرتبية اإلميانية‪ ،‬بالتقلل يف مجاعة ال حيكمها سيد‪ ،‬وبرفع املظامل‬
‫لينمحي أثر اإلقطاع وتفاوت فرص العيش‪ ،‬وبالتعاون داخل قطر‬
‫االنبعاث اإلسالمي ومع سائر املسلمني‪ ،‬تعاونا جيمع طاقات‬
‫األيدي وطاقات الفكر وطاقات الدريهمات املتعاونة حىت تكون‬
‫لنا وفرة تعطي القوة‪.‬‬

‫‪603‬‬
‫ونرى أن اختالطنا الثقايف مرتتب عن عاملي الكثرة السكانية‬
‫والقلة االقتصادية‪ ،‬فينبغي أن نصحب اجلهاد العديل جبهاد حتويل‬
‫النفوس بوازع القرآن وتنوير األفكار بنوره‪.‬‬
‫هذا وإن أغلبية الناس يتأثرون بالعامل اخلارجي ويستجيبون‬
‫لداعي العدل والتساوي أكثر مما يستجيبون للدعوة النظرية‪ ،‬وهلذا‬
‫يؤلف اإلسالم القلوب بالعطاء املادي‪ .‬لكن من الناس من ينبعثون‬
‫حبافز باطين إمياين وهؤالء هم عامل الرتبية اإلجيايب‪ ،‬وهم الفاعل‬
‫التارخيي أصحاب اإلرادة واهلمة واإلميان‪ .‬إهنم الربانيون الذين يف‬
‫قلبوهم بذرة اإلميان واإلحسان‪ .‬فهم قادة الرتبية اإلسالمية غدا‪،‬‬
‫وهم مخرية احلياة وسط هذه الكثرة الغثائية‪ ،‬وهم جيب أن يسبقوا‬
‫لضرب املثل وبسط اليد باخلري وبسط الوجه بالبشاشة والرفق‬
‫وبسط جمالسهم لذكر اهلل وترتيل آياته‪.‬‬
‫وهكذا يكون أمامنا فاعل تربوي هم الربانيون‪ ،‬وبإزائهم سائر‬
‫األمة‪ .‬فلكي تنجح الرتبية ينبغي أن نعلم بأي جهاز علمي يتزود‬
‫الربانيون وحبثنا عن منهاجهم الرتبوي سيؤدينا إىل البحث عن‬
‫حقيقة الربانية وعن أصل الربانيني ومصدر احلركية اليت تسري هبم‬
‫لتحقيق الغاية اإلحسانية لألفراد وجلماعة املؤمنني‪.‬‬

‫‪604‬‬
‫الفقه املنهاجي‬
‫يف كل صفحات هذا الكتاب ذكر للمنهاج النبوي وتدليل‬
‫عليه بالنص الشرعي وبالربهان التارخيي‪ .‬ونعين بالفقه املنهاجي‬
‫البيان العلمي الذي يكون حافزا جمليا لرؤية األهداف والغايات‬
‫ولوعي املوقف وسلوك املنهاج املنقذ برغبة وطلب‪ .‬ولعل هذه‬
‫التعريف قريب من تعريف معىن اإليديولوجية عندما يستعملون‬
‫اللفظة استعماال إجيابيا ال عندما يرتاشقون هبا يتهمون بعضهم‬
‫بالتدليس الفكري لتربير العمل اإلرادي التعسفي‪ .‬وحنن هنجر‬
‫اجلاهلية ومفاهيمها بقدر ما يتناسب مع ضرورة خماطبة الناس‬
‫على قدر عقوهلم‪ .‬وحنن هناجر إىل اهلل ورسوله نلتمس اهلدى‪،‬‬
‫ونسنت من شرع اهلل منهاجا لعملنا االسالمي الطالع علينا يومه‬
‫غدا‪.‬‬
‫إن الربانيني أشخاص بأعياهنم يوجدون اليوم يف دار االسالم‬
‫حيث يعلمهم خالقهم الذي فطرهم ليستجيبوا لنداء دينه غدا‪،‬‬
‫إهنم قابلية اجتماعية هلذه األمة املسكينة املرحومة املستضعفة‬
‫الوارثة غدا‪ .‬إهنم ال يتعارفون‪ ،‬ويضغطهم الواقع املفتون فينكمش‬
‫بعضهم يف ركنه وبعضهم يقول ريب اهلل فيشنق أو يزج به يف‬
‫سجون الطاغوت القومي‪.‬‬

‫‪605‬‬
‫هذا النداء الذي آن له أن ينطلق والذي سيجمع أذانُه‬
‫الربانيني املستضعفني ليتحملوا عبء الرتبية بأي لغة خياطبون؟‬
‫ويف أي عامل وبأية وسيلة سيبلغهم النداء؟ ومب خياطبهم النداء من‬
‫مبادئ حيللون على ضوئها جمتمعهم املفتون ويرفقون مبقتضاها‬
‫ويبذلون؟ هذه أسئلة حتدد شكل الفقه املنهاجي ومضمونه‪ .‬وقد‬
‫كتبنا ما شاء اهلل إجابة عنها‪ ،‬ونعود هنا لننظر إىل املنهاج النبوي‬
‫يف اقتحام عقبة الرتبية ابتداء من تربية املربني الربانيني مث إىل‬
‫تربية سواد األمة‪ ،‬فمنهم احملسنون املؤمنون السابقون‪ ،‬ومنهم من‬
‫يدخلون يف دين اهلل أفواجا فنسبح عندئذ حبمد ربنا ونستغفرهإنه‬
‫كان توابا‪ ،‬وإنه بالتوبة ورفقها ينفتح باب الفقه املنهاجي‪.‬‬
‫املسلمون اليوم يف موقف احلرية ويف موقف اإلعجال من‬
‫ضرورة حل هذه املشاكل اليت يرتامون بني أمواجها ال حيلة هلم إال‬
‫اقتباس االشرتاكية ريثما تصعد موجة أخرى من الشباب أدركت‬
‫إخفاق االشرتاكية القومية يف دار اإلسالم فرتيد قومية شيوعية‬
‫ختلع العذار‪ .‬بعض الدول اإلسالمية أسرية يف عصبيتها القومية‬
‫حتسب إسارها موقفا ثوريا متحررا‪ ،‬وبعض الدول يف موقف ما‬
‫قبل الثورة أو قل ما قبل االنقالب‪ .‬وإذا قلنا «الدول اإلسالمية»‬
‫فإمنا نعين جهاز احلكم يف دار اإلسالم املمزقة‪ .‬يف جمموع البالد‬
‫اإلسالمية املسلمون يف موقف أمل وحسرة وغيظ تتواىل عليهم‬

‫‪606‬‬
‫الضربات فتزيدهم يأسا‪ ،‬فضربات من بني قومهم املرتفني وضربات‬
‫من عدوهم املاهر املاكر اآلكل لفريسته سائغة هينة‪.‬‬
‫املسلمون يف دار الفتنة تنحر عظامهم العنصرية القومية‪،‬‬
‫ويأكل قلوهبم غضب احملروم على الظامل‪ ،‬وخيرب جسمهم احلرص‬
‫على حياة أي حياة‪ ،‬وتعشش يف عقوهلم أفكار خمدرة‪ ،‬بعضها‬
‫يومههم بأحالم املتعة احلضارية واستمرارها جزاء ترفعهم على بين‬
‫جلدهتم وعيشهم على مستوى الرتف اجلاهلي‪ ،‬وهؤالء هم سادة‬
‫اجملتمع الكراهي القاعدين على كراسي العدوان‪ ،‬ال اختالف‬
‫بني عقلياهتم إال اختالفا يف لون القناع اإليديولوجي وشكله‪.‬‬
‫واملخدرات الفكرية يف حسبان طائفة املثقفني احملرومني من طلبة‬
‫وحمرتفني ثوريني هي هذه اإليديولوجية الشيوعية اليت يأخذون‬
‫قوالبها املنطقية فيستعمروهنا مبضمونات حقدهم العنصري أو‬
‫أملهم القاطع من مضاضة ظلم الظاملني‪ .‬وكل هؤالء مبعزل عن‬
‫جسم األمة املسلمة الرازحة حتت نري فتنتها هبم ونري فتنتها بالعوز‬
‫والفقر واملرض واجلهل‪.‬‬
‫وتتجمع الفتنة وتنصب روافدها يف مظهر بشري يشخص‬
‫حاضر املسلمني البغيض‪ ،‬إنه هذا املستوزر وهذا املوظف وهذا‬
‫احلاكم الذي يعيش يف عرصات قصره‪ ،‬فإن مل يكن له قصر فقصري‪.‬‬
‫وتكثر حاجاته ويكثر بذخه وتبذيره فيذهب اليتيم واألرملة بعد‬

‫‪607‬‬
‫أن ينهب مال املسلمني ويرتشي ويسرق ويكذب‪.‬‬
‫وللفتنة مع هذا املظهر حركية خمربة‪ ،‬إهنا حركية احلقد والغضب‬
‫العاجز‪ ،‬وينتج عن هذا العجز الغاضب شلل يف إرادة األمة‬
‫فهي عرضة جاهزة لكل دعوة‪ ،‬وهي مستعدة راغبة يف التغيري‬
‫أي تغيري‪ .‬إهنا ال متلك فسحة لالختيار فكل من دعاها وهي‬
‫منهمكة منهوكة لبت نداءه مبوقفها السليب العاجز والقلب ال‬
‫يستجيب أبدا‪ .‬والتغيري املقرتح دائما بل املفروض دائما تغيري‬
‫يستبدل أشخاصا بأشخاص وفق قانون الغاب املنبين على صراع‬
‫العنف والدهاء يف خدمة الغضب أو األنانية أو يف خدمتها معا‪.‬‬
‫هذ التغيري املفروض دائما‪ ،‬املتقبل بسلبية‪ ،‬يدخل يف دورة مفرغة‬
‫ال هناية هلا هي دورة االنقالبية‪ .‬واالنقالبية تغيري سطحي لواقع‬
‫سطحي‪ ،‬ال تريب أبدا ألهنا ال جتد مشدا متتلك به قلوب أمة‬
‫مسلمة ال حيب قلبها الشرك وال اجلاهلية‪ ،‬ويفتضح عندها مكر‬
‫القادة املرتفني إذ يلوحون هلا بشعارات ممسوخة متزج احلق بالباطل‬
‫وتدعو الشرتاكية قومية إسالمية‪.‬‬
‫واقعنا بغيض كريه وحنن جنهل إسالمنا‪ ،‬ومن بيده السلطان‬
‫ال يعلمنا اإلسالم ألنه جيهل اإلسالم‪ ،‬وال يربينا باإلسالم ألنه ال‬
‫يريب باإلسالم إال من كان ربانيا‪ .‬فإىل أين املفر من الوهن ومن‬
‫الظلم ومن الدورة املفرغة دورة العنف والكراهية؟‪.‬‬

‫‪608‬‬
‫هنا ينادي اإلسالم بالتوبة والرفق‪ ،‬وخياطب املسلمني بلغة‬
‫العقل أوال ريثما يتعلمون لغة القلب‪ .‬خياطبهم بلغة العقل أن‬
‫انتماءنا للجاهلية وذوباننا فيها أمر واقع ال تغطيه األمساء إال‬
‫عن عني اجلاهلني‪ .‬إننا ننتمي للجاهلية بفكرنا ألننا ننتمي إليها‬
‫بشهوة نفوسنا‪ .‬آية ذلك أننا أول املستجيبني لكل هيعة يف بالد‬
‫الكفر وأننا إذ ندعو لعصبية القوميات فإمنا نؤيد دعوتنا ونربرها‬
‫بأن أوربا ما تقدمت إال بعد أن تقلصت إىل جمتمعات عصيبة‬
‫قومية‪ .‬فتدخلنا اجلاهلية من جانبني‪ ،‬من عصبيتنا القومية نفسها‬
‫مث من تربيرنا هلا بواقع جاهلي كافر‪ .‬يدعونا داعي اإلسالم أن‬
‫ومهنا القومي وانتماءنا للجاهلية لن يتغري بتغيري األمساء والوجوه‬
‫والشعارات لكن يتغري بطرحنا للجاهلية ورفضنا لكل والية إال‬
‫والية اهلل ورسوله واملؤمنني‪.‬‬
‫داعي اإلسالم حيررنا من التبعية وحيررنا من اليأس إذ يفتح لنا‬
‫باب التوبة‪ ،‬لنرجع إىل ربنا برفق ولكي نتواله فيتوالنا‪ .‬إن اإلسالم‬
‫وحده يغري اهلل به ما بنا من مكروه حني نغري ما بأنفسنا من‬
‫أعراض وغفلة عن اهلل‪.‬‬
‫حنن اآلن ننتمي لعاملية مقلدة‪ ،‬مثلنا األعلى جاهلي‪ ،‬ودواعي‬
‫التقليد يف نفوسنا هي دواعي اإلعجاب بالسيد املتفوق‪ ،‬ومظهر‬
‫تقليدنا تبعية خانعة‪ .‬واإلسالم يرفعنا إىل عاملية املسؤولية عن‬

‫‪609‬‬
‫أنفسنا لريبطنا حنن األمة املمزقة بني القوميات رباط الوالية واحملبة‪،‬‬
‫مث يرفعنا إىل عاملية املسؤولية عن األرض ومن عليها‪ .‬فحركة‬
‫التوبة إىل اهلل حركة تغيري تربوي رائدها التطلع لقيادة العامل عرب‬
‫اجلهاد لالستقالل عن اجلاهلية استقالال يوحدنا بعد ما فرقتنا فتنة‬
‫التاريخ وقصرتنا يف القوميات‪.‬‬
‫والبد للتوبة أن تنقلنا من إسالمنا الفردي الذري إىل إسالم‬
‫مجاعي‪ ،‬ولكل مجاعة رباط تنظيمي ضروري‪ .‬فنحن اليوم ننتمي‬
‫لدول هلا قيادات بعضها يتنكر لإلسالم عالنية ويضطهد كل‬
‫حركة إسالمية‪ ،‬وبعضها خيدر اإلرادة اإلسالمية عند األمة بنصب‬
‫شعارات هي بديل املسخ لإلسالم احملرر من الطاغوت‪.‬‬
‫فإذا أردنا فقها منهاجيا لغدنا فال بد أن نعلم من نتوب على‬
‫يده كما نعلم كيف تكون التوبة ومم تكون التوبة‪.‬‬
‫وهنا عقدة الفقه املنهاجي بأكمله‪ ،‬فإذا أعطتنا البديهة أن‬
‫يف األمة يكمن الربانيون كقابلية اجتماعية ويكمنون يف املساجد‬
‫والسجون‪ ،‬فإن السؤال احملوري هو‪ ،‬من خيطو اخلطوة األوىل حنو‬
‫اإلسالم ؟ والسؤال يتضمن أننا رغم ما نسمعه ال نزال يف موقف‬
‫عداء أو موقف فتور جتاه اإلسالم يف كل دار االسالم‪.‬‬
‫من خيطو اخلطوة األوىل ؟ أهو االمام املهدي املنتظر كما‬
‫يتصوره العامة نازال من السماء بسيفه؟ كال! فإن اهلل عز وجل‬

‫‪610‬‬
‫أنبأنا بلسان نبيه أن سيحل بيننا عيسى بن مرمي رسول اهلل يعدل‬
‫بعدل اإلسالم‪ ،‬وحنن نؤمن بآيات ربنا وغيبه‪ .‬لكنه سبحانه‬
‫علمنا مبا وضعه من نواميس يف الكون ويف نفس اإلنسان أن‬
‫التغيري التارخيي إمنا يتم حبوافز بشرية ووسائل بشرية‪ .‬وحىت األنبياء‬
‫والرسل عليهم السالم كانوا رجاال يأكلون الطعام وميشون يف‬
‫األسواق ويقاتلون ويُقتلون‪ ،‬وجياهدون حياهتم لنصرة أمر اهلل‪.‬‬
‫فليس أكثر منا غباء إن انتظرنا أن ينبعث لنا نداء اإلسالم من‬
‫صور املالئكة يف مساء!‬ ‫ُ‬
‫ها حنن أوالء بشرنا باإلسالم وقرب ظهروه وحلول أوانه منذ‬
‫هذه الصفحات الكثرية‪ ،‬أفرتانا ندخل يف مساومات اإليدولوجية‬
‫ويوتوبيتها؟ كال فإن وعد اهلل ورسوله حق‪ ،‬وما حبثنا عن منطلق‬
‫احلركية اإلسالمية ضربا من الفضول‪ .‬وإن معرفتنا أن هلل ناموسا‬
‫سببيا يف الكون هي اليت هتدينا سبيل البحث والطلب‪ .‬لقد قامت‬
‫دعوات إسالمية جماهدة منذ هجم اجلاهليون املستعمرون على‬
‫دار اإلسالم يف هذا القرن الرابع عشر الذي ستشرق علينا مشس‬
‫اإلسالم من مغربه‪ .‬وكان قادة هذا اجلهاد اإلسالمي رجاال مؤمنني‬
‫ذاكرين كان منهم يف اهلند وكان منهم يف السودان ويف مشال‬
‫إفريقيا وكان للبنا رمحه اهلل جهاد متكامل‪ ،‬وجهاد تربوي برهن‬
‫للمسلمني جناحه أن الروحانية العليا يف شخص القائد هي موطن‬

‫‪611‬‬
‫القوة وموطن الرجولة ومنها تقتبس األفئدة املقبلة على الدعوة كل‬
‫طاقات العمل‪ .‬شهيدا اهلند ومهدي السودان ومشايخ السنوسية‬
‫والبنا رجال مثلنا رغبوا إىل رهبم بعد أن رباهم رجال ليسوا مثلنا إال‬
‫يف رأي العني‪ .‬إهنم خرجيو هذه املدرسة احملمدية مدرسة الصحبة‬
‫والذكر‪ .‬مث إن هؤالء اجملاهدين مل تعلن عن قيامهم أصوات‬
‫املالئكة‪ .‬وإمنا درجوا على األرض كما يدرج غريهم متمسكني‬
‫بأسباب السعي البشري‪ ،‬ومروا من األرض كما مر غريهم من أهل‬
‫اهلل الصاحلني يؤيدهم روح اهلل وتسطع على حمبيهم نوارنية ينكرها‬
‫معاصروهم ويعزون أثرها ملصدر يصوره هواهم وكيدهم‪ .‬فقد كان‬
‫املهدي يف نظرهم مشعوذا وكان البنا عميال‪ .‬هؤالء الرجال مل‬
‫ينزلوا من السماء كما يتصور الناس املعجزة‪ ،‬بل هم حققوا يف‬
‫أنفسهم معجزة فصعدوا لسماء الطهارة الروحية وخرقوا عادات‬
‫الغفلة وحجاب الرتف‪ .‬وهم بذلك معجزة تسعى بقدمني‪.‬‬
‫أننتظر معجزة تنقذنا من ورطتنا؟ نعم! ننتظرها بكل تأكيد؟‬
‫وإن مل نكن ممن يؤمنون بغيب اهلل ويرون إعجازه عز وجل يف‬
‫تدبري أسباب العامل كما يرونه يف كشف عامل الغيب لسكان عامل‬
‫الشهادة ملا صح أن ننتسب إلميان‪ .‬درجنا منذ حني نتأمل مصدر‬
‫الفاعل التارخيي نستعمل تصورا شائعا يفهمه معنا من ال ينظر إال‬
‫لألسباب‪ ،‬فوجدناه يف ذلك املؤمن املتحرر عقله حبرية روحه املريد‬

‫‪612‬‬
‫اجملاهد‪ .‬وهذا منطق مشروع غري مدفوع‪ ،‬بيد أن احلق املطلق هو‬
‫إطالق إرادة اهلل سبحانه إذ هو املهيمن القادر املريد وهو الفاعل‬
‫وحده ال شريك له‪ .‬فهو جل ذكره يغري ما بالناس ويده القوية‬
‫ماسكة بناصية كل شيء‪ .‬وخطابه التكليفي لنا بالعمل واجلهاد‬
‫نصيبنا من فضله إذ ينسب لنا عمال هو ميسره ومدبره‪.‬‬
‫على ضوء اإلميان واإلحسان يكون معىن انتظار املعجزة ومعىن‬
‫الرجاء انفتاح على عامل األسباب بكل ثقة وانطالق‪ ،‬ومع هذا‬
‫االنفتاح ومن خلفه اعتماد على اهلل ربنا يسهل معه الصعب‬
‫وتذوب معه العراقيل‪ .‬ومن يرى هذه النواصي الكاذبة اخلاطئة‬
‫اليت تسري كواكب م َذنّبة يف مدارها حول اجلاهلية وقيمها ال يرجو‬
‫منها خريا وال يأنس عندها مريا‪ .‬فإذا اعترب إىل ذلك أصابع الرمحن‬
‫اليت تقلب قلوب عباده وتذكر من أين خرج لإلسالم عمر بن‬
‫عبد العزيز وصالح الدين حىت عز هبم بعد أن عزوا به يسلم أن‬
‫انتظار املعجزة يف زمننا أشبه بانتظارها قبيل ظهور صالح الدين‪.‬‬
‫كانت يومئذ الفرقة الذرية وكان الناس يومئذ فتاتا إنسانيا خلفته‬
‫فتنة الفاطميني وكان العدو اإلسالمي الغازي يف أوج قوته واحتاده‬
‫وتألبه‪ .‬فلما أراد رب احلركة والسكون عز وجل أن مين على‬
‫عباده املستضعفني اليائسني ابتعث لأليويب رجال امسه رمز خالد‬
‫هو «قطب الدين» فجدد لألمري األيويب عقيدة وصحب األيويب‬

‫‪613‬‬
‫األخيار والصاحلني فصلُح وصلَح به الدين‪.‬‬
‫وإن حالة املسلمني اليوم حالة استيئاس‪ ،‬وقانون اهلل يف كونه‬
‫أن يأيت نصره لرسله وأتباعهم عند االستيئاس‪ ،‬وينجي اهلل من‬
‫يشاء وال يرد بأسه عن القوم اجملرمني‪ .‬فتنة اليوم ال ختتلف عن‬
‫سابقتها إال شكال‪ ،‬وهي هي واملسلمون اليوم كاملسلمني قبيل أن‬
‫جيمعهم اهلل على يد عبيده املماليك الذاكرين لرهبم‪ ،‬وقبيل أن‬
‫جيمعهم على يد عبده الصاحل األيويب الكردي لينصرهم على التتار‬
‫وعلى كفار أوربا الصليبيني‪.‬‬
‫قد حيلل لنا حملل تاريخ انبعاث املماليك واأليويب فينسب‬
‫انفجار الطاقة اإلسالمية لغري أسباهبا جهال وغفلة‪ ،‬وقد نبحث‬
‫حنن عن ظواهر األسباب احلالية لنحرر من أي وجهة يطلع علينا‬
‫وجه قائدنا اجملاهد املنتظر املرجو تأمال وترقبا ألمر اهلل‪ ،‬ويف‬
‫كلتا احلالتني ميتنع علينا أن ندرك تدبري اهلل تعاىل إال مبقدر ما‬
‫نتلقى آياته بالقلب الصادق والعقل الفطري املتعجب من كل‬
‫هذه املعجزات اليت نعيش معها‪ .‬فمعجزة كبرية أن نسمع صوت‬
‫البعيدين وأن نطري يف جو السماء كالطري‪ ،‬ومعجزة أعظم منها لو‬
‫كنا نعقل أن يكون على األرض سبعمائة مليون مسلم وتغلبهم‬
‫شرذمة من اليهود‪ .‬تقول إن من وراء اليهود الكفر كله يتألب‪،‬‬
‫فأجيبك أن املعجزة املعضلة أن قوميتنا اليت استبدلنا هبا أخوتنا‬

‫‪614‬‬
‫اإلسالمية عجزت حىت عن التألب نعرة ومحية أن أهني مسجد‬
‫اهلل األقصى‪.‬‬
‫عوامل استيئاس حتمل بشرى نصر اهلل الذي ال يرد بأسه عن‬
‫القوم اجملرمني‪ .‬وإنه اإلسالم أو الطوفان لوال أن سبقت كلمات‬
‫ربك‪ ،‬ومتت كلمات ربك صدقا وعدال‪ ،‬ال مبدل لكلماته وهو‬
‫السميع العليم‪ .‬وكلمة ربنا للمستضعفني أن مين عليهم ويورثهم‬
‫األرض فإن األرض هلل يورثنا من يشاء من عباده‪ ،‬وموعوده‬
‫للمستيئسني من املؤمنني أن ينصرهم ويهلك عدوهم بأمر من‬
‫عنده وبأيدينا‪.‬‬

‫‪615‬‬
‫الربانيون‬
‫إن وضعنا لسؤال بدء احلركة وقيادة اجلهاد حبث ملكان وازع‬
‫السلطان من العمل الرتبوي‪ .‬رأينا من أن عراقيل الرتبية جتتمع يف‬
‫أصول ثالثة‪ ،‬هي الكثرة العددية املشتغلة بالتنافر والتباغض والكيد‬
‫املتبادل ضحية للفئة املرتفة املستغلة‪ ،‬وهي القلة اليت يعيش املرتفون‬
‫مبقتضاها وسببا هلا يف البذخ‪ ،‬فيكون بذخهم وهنبهم العائق األول‬
‫لتدبري معاش كرمي حيرر الرقاب الكثرية من كفر الفقر‪ ،‬وهي آخر‬
‫األمر وأوله ووسطه اخللط الثقايف والفتنة العقدية اليت جيرها ذيال‬
‫من أذياله‪.‬‬
‫فأولئك مجيعا مسخ مثلث‪ ،‬مسخ قردي قوامه التقليد ومظهره‬
‫الطيش الالهي‪ ،‬ومسخ خنزيري قوامه الدوابية اليت احندر إليها‬
‫مرتفونا ومظهره بطون مكتظة باحلرام تلعنها بطون خاوية ماليني‪،‬‬
‫مث املسخ الطاغويت مبقتضاه يستعبد بعضنا بعضا ويلعن بعضنا‬
‫بعضا وبأسنا بيننا شديد‪ ،‬قلوبنا شىت فال تطلع علينا اإليديولوجية‬
‫جبديد‪.‬‬
‫ضغط احملرومني وثورة األجيال الشابة مناط الثورية احملررة‬
‫حسب ناموس اإليديولوجية‪ .‬وإن هذا الضغط وهذه الثورة ملظهر‬
‫من دفع اهلل الناس بعضهم ببعض‪ ،‬وهو دفع جديل كما تعرب‬

‫‪616‬‬
‫الفلسفة‪ ،‬ولواله لفسدت األرض‪ .‬ونرى أثر هذا الضغط مضافا‬
‫ألثر الضغط اخلارجي جيعل كثريا من قادتنا يلفظون باإلسالم‬
‫ويتابرون يف عرض شعاراته‪ .‬إهنم يفعلون ذلك إجابة عن الضغط‬
‫العام وتعبريا بالكتابة عن فشل االشرتاكية يف دار اإلسالم‪ .‬فهل‬
‫هؤالء هم الربانيون الذين نريدهم ليعيدوا اإلسالم للمسلمني‬
‫ويربوا أجياهلم على اإلميان واإلحسان؟‬
‫عراقيل الرتبية اإلسالمية تتلخص يف التدهور والتخلف‬
‫االقتصادي واملسخ الثقايف‪ ،‬وال تبدأ حركة التغيري إال إن أمسكت‬
‫دفة احلكم يد مؤمنة تستبد وال تعجز‪ .‬وهذا فرق ما بني السلطان‬
‫املغري والسلطان املتدهور‪ .‬قادتنا إن لفظوا باإلسالم وقرأوا على‬
‫الناس القرآن فكالم من كالمهم وجزء من خطاباهتم السياسية‪.‬‬
‫والسياسة مذهب جاهلي يف مسك السلطة وتصريفها واالحتيال‬
‫عليها بطشا أو كذبا يف غالب األحيان‪ .‬قادتنا هلم إرادة سياسية‬
‫وأساليب سياسية وأهداف سياسية كلها تنظر جلمهور الراضني‬
‫والساخطني ناخبني كانوا يف ظل الدميقراطية وزمهريرها أو راتعني‬
‫يف جنة االشرتاكية بل جحيمها‪ .‬والربانية إرادة مؤمنة تنظر إىل اهلل‬
‫بالقلب احملسن وإىل الناس بالرمحة واملودة والرفق املريب‪.‬‬
‫يريد اإلسالم النبعاثه ربانيني يبدأون احلركة‪ .‬إهنم رجال‬
‫ينتقلون من فتنتهم ملنهاج رهبم وينتقلون من ترفهم ليقتحموا‬

‫‪617‬‬
‫عقبة خالصهم‪ .‬ال ينربون حلمل شعارات اإلسالم خدعة سياسية‬
‫وال حىت بديال عن مذهب فاشل‪ ،‬ال يتحركون بوازع خارجي بل‬
‫يتحركون مبادأة بإميان باهلل متجدد‪ ،‬ويقطعون أسباب ماضيهم‬
‫تائبني إىل رهبم‪ .‬خيرجون من األثاث والقصور وجيلسون يف خيمة‬
‫اجلهاد ويف مساجد املسلمني شاهدين بوحدانيته‪ ،‬منسلخني‬
‫عن أنانيتهم‪ .‬أولئك إن بدأوا التغيري بأنفسهم كانوا خليقني أن‬
‫يلحقوا باألئمة اجملاهدين اجملددين أمثال عمر بن عبد العزيز ويل‬
‫اهلل وناصره وصالح الدين وابن تاشفني وحممد الفاتح وامللك‬
‫الصاحل عاملكري‪ .‬ذلك موكب الصاحلني اجملاهدين التائبني‪ ،‬وما‬
‫كانوا كذلك إال ألهنم صحبوا رجال الدعوة وذكروا اهلل حىت‬
‫خرجت الدنيا من نفوسهم‪ .‬فلما تغري ما بأنفسهم غري اهلل هبم‬
‫حال املسلمني ورىب هبم أجياال من املؤمنني‪.‬‬
‫رجال نفتقدهم‪ ،‬ال يعجز ربنا أن يربزهم من صفوف النواصي‬
‫اخلاطئة الكاذبة على كراسي احلكم أو يبتعثهم من سواد هذه‬
‫األمة اخلصبة غري العقيم‪.‬‬
‫فإذا برزوا وأعطوا برهان صدقهم بأن طرحوا ماضيهم وأمحاهلم‪،‬‬
‫مث أعطونا برهان كفايتهم القيادية طبعا مستقرا وفكرا وعلما وعزمية‬
‫ماضية وربانية رفيقة‪ ،‬حق لنا أن نسري يف ركاهبم وينبعث من األمة‬
‫ربانيوها باستبشار املنبعثني مث سائر املسلمني دخوال يف طاعة‬

‫‪618‬‬
‫اهلل ورسوله‪ .‬وعندئذ تؤول إليهم مقاليد األمر‪ ،‬فأول واجبهم أن‬
‫ميارسوا الربانية تربية رفيقة‪ ،‬وأول الرفق أن يضع احلقائق يف نصاهبا‬
‫فيكونوا أصحاب الرأي املستقل ال هتزمهم هيعة وال تضعفهم‬
‫ميعة‪.‬‬
‫ربانية القائد اجملاهد أن ميارس وظيفته مربيا لألمة‪ ،‬وال تربية‬
‫إال بإزاحة العراقيل‪ ،‬عرقلة الكثرة الفقرية بإفشاء العدل واخلري‪،‬‬
‫وعرقلة املسخ الثقايف بفرض وجهة مسلمة‪ .‬إن ربانيته لن تستطيع‬
‫اقتحام العقبة إىل قلوب الناس وعقوهلم إال إن أعطاهم اخلري‬
‫وأفشى العدل‪ ،‬وإنه لن يستطيع أن يفعل شيئا من ذلك إال أن‬
‫استبد بالتوجيه الرتبوي استبداد اخللفاء الراشدين‪.‬‬
‫االستبداد الرتبوي له مناذج يف الثورات‪ ،‬املعاصرة منها والغابرة‪،‬‬
‫نتائجه وأسبابه أن األمة منحلة سائبة يستحوذ فيها على اإلرادة‬
‫السلطانية رجل قوي فيحول األمة حتويال كامال‪ .‬كان ستالني‬
‫منوذجا لالستبداد القهري العنيف لرتبية من نوع خاص تربية زاجرة‬
‫قاتلة‪ ،‬لكنها فعالة من حيث النتيحة الصناعية ال اإلنسانية‪.‬‬
‫ومنوذج التسلط اإلرادي ال يصلح عليه حال يف دار اإلسالم‬
‫أبدا‪ ،‬وآية ذلك أن استبداد مصطفى كمال امللحد الكافر ما‬
‫أصلح أمة اجملاهدين يف تركيا بل عاث فيها فسادا‪ ،‬فساد كفره‬
‫وزندقته وإحلاده وفساد مبادئه احلركية وإديولوجيته السياسية اليت‬

‫‪619‬‬
‫عارضت عقيدة األمة فانكسرت على نصال املقاومة املؤمنة‪ ،‬وقد‬
‫آن أن يستأصل اهلل جذورها فينبعث اجملاهدون يف دار اإلسالم‬
‫برتكيا لفرحة اإلسالم غدا‪.‬‬
‫االستبداد الرتبوي الرباين ال يعين أن حيكم القائد اجملاهد‬
‫هبواه‪ ،‬ألن شريعة اهلل سنت لنا املنهاج وشرعت لنا الشورى بني‬
‫املسلمني وشرعت لنا االجتهاد واألخذ باإلمجاع فيما يعرضنا من‬
‫أمور األمن واخلوف‪ .‬ويعين هذا االستبداد صرفا عازما ماضيا‬
‫لسلطان احلكم يف إهناض الساقط وإقامة املعوج وحمق املخلفات‬
‫اجلاهلية‪ .‬وال يعين االستبداد الرتبوي كنس الناس وحماكمتهم بل‬
‫يعين فتح باب التوية املؤدي للطاعة تدرجييا مع رد املظامل وإفشاء‬
‫العدل‪.‬‬
‫هذا الرفق املالزم لالستبداد الرتبوي ضمانة للسري على املنهاج‬
‫يف بعث األمة من فتنتها‪ ،‬وهذه الربانية يف القائد اجملاهد ضمانة‬
‫أن ال يصبح البعث اإلسالمي قضية يناط حلها باإلجراء اإلداري‬
‫بل هبا يكون البعث قضية تربية أوال وقبل كل شيء‪ ،‬قضية يتضافر‬
‫على نصرها عامالن ‪ :‬مها وازع السلطان ووازع القرآن‪.‬‬
‫أمامنا مناذج التجديد الثوري الشيوعي‪ ،‬فبعد معارك لينني‬
‫النظرية منها والعملية التماس لصيغة تنظيمية متجددة تشخص‬
‫معىن الثورية املستفيدة على مر األحقاب من معارف اإلنسان‬

‫‪620‬‬
‫يف ممارسته ملشاكل الطبيعة ومشاكل اجملتمع‪ ،‬هبطت التنظيمات‬
‫يف روسيا وهي هابطة غدا يف الشيوعيات األخرى إىل استبداد‬
‫جهاز‪ .‬إهنا اآلن ثورية جهازية حدودها إرادة الطبقة احلاكمة‬
‫ومعيارها اجتهاد القيادة املركزية‪.‬‬
‫تطور احلركة اجملددة إىل جهاز مغلق على نفسه ظاهرة يف‬
‫تاريخ البشرية عامة‪ .‬ومن االنغالق اجلهازي يتحول االستبداد‬
‫املريب إىل استبداد مصلحي يف خدمة الطبقة احلاكمة‪ .‬على هذا‬
‫الدرب سارت كل الدول اليت دالت مهما كان صدق مؤسسها‬
‫ومهما كانت املنظومة الفكرية اليت سارت على هديها‪ .‬ما وصف‬
‫ابن خلدون وما وصف غريه من فالسفة االجتماع والتاريخ إال‬
‫هذا التطور اهلابط‪ .‬وإن ربنا عز وجل علمنا أن قانونه الكوين‬
‫احلاكم يف شؤون من يريد إهالكهم هو ظهور الطبقة املستكربة‬
‫املرتفة تفسق يف القرية فيحق عليها قول اهلل‪.‬‬
‫الربانية إن ذكرنا مقوماهتا قائمة على إخالص الوجهة للرب‬
‫العلي مث هي رفق يف الرتبية تريب بصغار العلم قبل كباره‪ .‬فمن‬
‫حيث إخالص الوجه هلل تعاىل يكون الرباين راعيا خللق اهلل خليفة‬
‫له مراقبا خائفا من سطوة مواله وسيده‪ ،‬ومن حيث الرتبية بالرفق‬
‫والعلم صغاره قبل كباره يكون الرباين مربيا يف كل حاالته‪ ،‬مربيا‬
‫مبثال سلوكه مربيا بكلمته مربيا بفكره‪.‬‬

‫‪621‬‬
‫سيأتينا يف طريق اإلسالم غدا الرباين‪ ،‬فال يكفي أن يستبد‬
‫بالتوجيه الرتبوي لتؤدي الربانية وظيفتها احليوية‪ ،‬بل ال بد أن‬
‫جيتهد ليشاركه يف األمر ثلة من الربانيني على مثال روحانيته‬
‫وخلقه وعلمه‪ .‬هؤالء هم رجال الدعوة وتعاوهنم مع القائد اجملاهد‬
‫نسميه ثنائية بني الدولة والدعوة‪ ،‬ثنائية وظيفية إذ يريب القائد‬
‫بوازع السلطان أكثر شيء ويؤسس على صولته تربيته‪ ،‬ويريب‬
‫رجال الدعوة بوازع القرآن أكثر شيء وبتعاوهنم مع القائد املريب‬
‫جيمعون سلطان الوازعني‪.‬‬
‫املؤمنون احملسنون رجال نبذوا الدنيا فال سلطان هلا عليهم‪،‬‬
‫األمر هكذا نظريا‪ ،‬أما عمليا فإننا أوال ال ميكن أن نعرف املؤمن‬
‫احملسن من كثرة صالة وقيام لكن نعرفه بربهان الصدق يثبته لنا كل‬
‫يوم وكل حلظة‪ ،‬وإننا ثانيا نعلم ضعف البشر فهم غري معصومني‪.‬‬
‫وليس مثة ما جيعلنا يف أمن من أن تتحول مجاعة الربانيني جهازا‬
‫مستبدا‪ ،‬هلذا يلزم أن ينظم هذا االستبداد الرتبوي وهذه الربانية‬
‫تنظيما يفتح عملهما على الغاية اإلحسانية بداية وهناية‪.‬‬
‫ففي البداية حنن تائبون من فتنة ومن مسخ‪ ،‬فمن احملسن منا‬
‫ومن الرباين ؟ وال شك أن التطوع سيكثر طالبه بالعقلية املوروثة‬
‫عقلية التسارع إىل النجعة ومظنة اجلاه واملال‪ .‬وهنا االمتحان‬
‫لنعرف الصادق والكاذب واحملسن يف بدايته! فال يكفي أن يعلن‬

‫‪622‬‬
‫املرء استعداده للتطوع لنصدقه ونقلده وسام الربانية‪ ،‬كال! بل ال‬
‫بد أن يتجرد لسلوك مجاعي قوامه احملبة والطاعة والبذل والصدق‪،‬‬
‫وهذا التجرد جيب أن نراه مستا يف شخصه وجيب أن نراه خدمة‬
‫دائمة للمؤمنني ولقضية املؤمنني‪ .‬مث هو بعد هذا ال يرث صفة‬
‫الربانية حقا مسرمدا‪ ،‬ومىت أحب أن خيدمه الناس أو كف عن‬
‫خدمة املسلمني فقد بدت آثار االستكبار وحيق عليه وحده القول‬
‫فتلك هنايته‪.‬‬
‫من أي اآلفاق جييئنا الربانيون ؟ أما الرباين األول فيأيت من عند‬
‫اهلل القادر القوي على طريق الطلب القليب ال على طريق التربير‬
‫السياسي لسعي فاشل‪ .‬ومن هذا املصدر نفسه يأيت الربانيون‪.‬‬
‫إن النخبة الظاهرة مبعايريها املفتونة هم هؤالء املثقفون الذين ميأل‬
‫بعضهم أرض اإلسالم فسقا واستكبارا وميألها اآلخرون صراخا‬
‫وغيظا ويرتوى اآلخرون يف تفاهة وظيف معبود أو يف مسجد‬
‫احلوقلة‪.‬‬
‫هؤالء جزء من األمة احلاملة جبنني الربانية‪ ،‬من أحشاء هذه‬
‫األمة خيرج اهلل عباده املصطفني‪ .‬والناس كما طبعهم اهلل ثالثة‪،‬‬
‫أما خامل منزو‪ ،‬وأما منبعث عن حافز باطين إما يطلب حقيقة‬
‫وجوده فيهديه اهلل لإلسالم أو طائش مع تيار اهليعة اجلاهلية‬
‫وثالث يتبع ويقلد ويدخل فيما يدخل فيه الناس‪.‬‬

‫‪623‬‬
‫شبيه هبذا ما فصله باحث اجتماعي أمريكي‪ 1‬يف سياق‬
‫تصنيفه للناس يف جمتمع اجلاهلية املتطورة‪ .‬فعنده طائفة املتحركني‬
‫حبافز احلفاظ التقليدي « ‪ ،»tradition-directed‬وطائفة‬
‫يتحركون حبافز باطين مرده للرتبية وهم اجملددون الدافعون للحركة‬
‫االجتماعية « ‪ ،»inner-directed‬وطائفة التابعني الذين يدخلون‬
‫فيما يدخل فيه الناس « ‪.»other-directed‬‬
‫إذا طابقنا هذا التصنيف مع واقع الطبقية املفتونة يف جمتمعنا‬
‫املوروث‪ .‬وجدنا أن السابقني القادرين على حركة مستقلة لن يأتوا‬
‫من طبقة السياسيني املثقفني فهؤالء أساتذهتم يهود أوربا وزعماء‬
‫الصني‪ ،‬ولن يأتوا من طبقة ديدان القراء املربرين «لإلقطاعية‬
‫اإلسالمية» أو «اإلسالم االشرتاكي»‪ .‬وال يبقى بعد هؤالء إال‬
‫صنفان من الناس‪ ،‬مستضعفون عاقهم الطاغوت عن تبليغ رسالة‬
‫رهبم وعاقهم فساد البيئة عن ممارسة دعوهتم خللو امليدان من‬
‫الوازع الثاين‪ ،‬وآخرون من شبابنا أعطوا ثقتهم لطبقة احملرتفني‬
‫للثورة فاغتاظوا بصدق وأحلدوا يف دين اهلل ملا علمهم احملرتفون أن‬
‫اإلسالم هو ظلم وأن السجن هو املصحف والعمامة‪.‬‬
‫املستضعفون يف األرض من عامة املسلمني رجال ونساء وقاهم‬
‫اهلل شر الفتنة فعاشوا يف القلة والفاقة ومل يرتفوا يف مال وجاه‪،‬‬

‫‪David Riesman la foule solitaire,Paris 1964. 1‬‬

‫‪624‬‬
‫ومن كان له منهم سيطلب جاه ومال وقاه اهلل بعزة يف نفسه أن‬
‫يكون مع األرذال‪ .‬هؤالء تكمن فيهم قابلية الربانية خاصة يف‬
‫أبنائهم من الشباب املثقف الذي ال ينتظر إال أن يزاح عنه طلسم‬
‫التقدمية الذي سحرهم به كهنة االحرتاف الثوري‪ .‬وسيكون من‬
‫املستضعفني ورثة ربانيون‪ ،‬ومن قلوهبم إن تطهروا بالتوبة والتزكية‬
‫وذكروا اسم اهلل وصلوا خمتبني تفيض نوراينة اإلسالم على الفضاء‬
‫اإلسالمي وعلى وجه األرض القامت جباهليته‪.‬‬
‫إن يف بالد املسلمني طائفة العلماء‪ ،‬مسوهم علماء الدين منذ‬
‫انفصل الناس عن الدين‪ .‬هؤالء العلماء خنبة األخيار خيتفي يف‬
‫صفوفهم فسقة فجرة كما خيتفي اخلبث يف احلديد قبل أن تصهره‬
‫النار‪ .‬ويف صفوفهم عقلية اإلسالم الفردي ويأس الزاهدين وانتظار‬
‫قيام الساعة لفساد الوقت‪ ،‬إهنم محلة العلم النبوي الذي هو العلم‬
‫احلق ألن به يدرك اإلنسان كماله ويعلو من دوابيته اليت ختدمها‬
‫العلوم التجريبية اليت نؤهلها ونعري هبا علماء امللة‪.‬‬
‫علماء املسلمني يكونون جهازا مغلقا حيمل يف طياته أسباب‬
‫عدم صالحيته حلمل رسالة الربانيني إال بشرط انفتاحه‪ .‬إنه جهاز‬
‫مغلق وراثة من عصور كان فيها طائفة العلماء طبقة اجتماعية‬
‫إدارية‪ ،‬وإنه ازداد انغالقا منذ طغت الفتنة وخلف أجيال املسلمني‬
‫رهط من عباد الدميقراطية واالشرتاكية‪.‬‬

‫‪625‬‬
‫كان يف دولة آل عثمان علماء موظفون يشكلون جهاز مغلقا‬
‫إن مل يكن حاكما فهو يف خدمة احلكم‪ .‬ومل يؤثر عنهم أثر يذكر‬
‫يف االجتهاد اجملدد وإمنا كانوا يتكيفون حباجات الدولة ويغريون‬
‫أشكال الفقه وال جيددون به حياة‪ .‬فلما تسلط املارق مصطفى‬
‫كمال على دولة اإلسالم عذب العلماء تعذيبا مرا وأهاهنم إهانة‬
‫اجلبابرة األجناس‪ .‬وكان ذلك اهلوان منبها للعلماء وعامال يف هدم‬
‫اجلهاز املغلق‪ .‬فعز العلم وسرت فيه احلياة وهو يف استخفائه‪،‬‬
‫وعز بالعلم اإلميان‪ ،‬وجتمع حول العلماء مستضعفو األمة وشباهبا‬
‫فارين من وجه الشرك الكاسح‪.‬‬
‫وعامة العلماء يف دار اإلسالم رجال أبرار إذا استثنينا من‬
‫ذكر وقد يكون االستثناء قاعدة االنتخاب غدا يف يوم اإلسالم‪.‬‬
‫لن نسأل علماءنا ما فعلوا باإلسالم يف اليوم الغابر‪ ،‬لكن نطلب‬
‫إليهم التوبة مع التائبني‪ ،‬ونسأهلم أن يضيفوا إىل ربانية العلم‬
‫بصغار الدين وكباره ربانية التقوى والرفق واخلدمة‪ ،‬ونسأهلم أن‬
‫يعطونا كل يوم برهان صدقهم حبيث نراهم علماء عاملني‪ ،‬علماء‬
‫عماال قائمني باخلدمة‪ .‬فإن فعلوا فهم الربانيون حبق ورثة األنبياء‬
‫وهم عماد األمر كله‪.‬‬

‫‪626‬‬
‫خصوم االسالم‬
‫شرطنا أن يكون العلماء عاملني وعماال ليستحقوا أن نعدهم‬
‫ربانيني‪ .‬واملفهوم العادي للعمل عند العلماء هو العمل العبادي‪،‬‬
‫فالعامل العامل رجل يتقي وخيشاه ويؤدي فرضه ويتقرب هلل بنفله‪.‬‬
‫هذا املفهوم ال يعدو اإلسالم الفردي‪ ،‬وال تستفيد اجلماعة من‬
‫تقوى املتقني ما مل يصلهم من املتقني خري‪ .‬مث إن العمل العبادي‬
‫أمانة فردية ومسؤولية أمام اهلل عز وجل‪ ،‬فاجلماعة ال تستطيع‬
‫معرفة إخالص العابد ودرجة تقواه‪ .‬احلد األدىن من العمل‬
‫العبادي الذي حتاسب عليه اجلماعة املؤمنة كل مسلم وكل فئة‬
‫من املسلمني هو الصالة واالجتماع عليها يف املسجد واآلذان هلا‬
‫والزكاة تؤدى لوقتها‪ .‬أما التقوى اليت موطنها القلب فال سبيل‬
‫لالطالع عليها‪ .‬ولئن كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقنع‬
‫مبظهر الطاعة ومظهر اإلسالم وخيربنا أنه مل يؤمر أن يشق صدور‬
‫الناس‪ ،‬فإن سريته عليه الصالة والسالم مع املنافقني كانت تتسم‬
‫بالرفق واحلذر معا‪ ،‬وكان عمر بن اخلطاب يعلم الناس أال يغرتوا‬
‫بصالة مصل وال مبظاهره إن مل يكن له يف العمل اجلماعي يد‪.‬‬
‫معىن هذا الكالم أن خلصوم اإلسالم صفات كوامن يف‬
‫الصدور تتجلى يف فئات من الناس يعادون اإلسالم عداء ظاهرا‬

‫‪627‬‬
‫أو يندسون فيه ويكيدون له أو خيذلونه يف أشد املواقف حرجا‪.‬‬
‫خلصوم اإلسالم صفات نفسية تتجلى يف السلوك الفردي ويف‬
‫العقلية االجتماعية وتتشخص‪ .‬وإن منطق القرآن‪ ،‬وهو املنطق‬
‫الرباين الرتبوي حيارب الكفر والنفاق والظلم وهي صفات نفسية‬
‫دائمة وأمراض يصاب هبا اإلنسان‪ .‬أما اإلنسان املتصف بالظلم‬
‫والكفر والنفاق وسائر األمراض فهو حمط عناية اهلل يفسح له‬
‫فسحات الرمحة يف دعوة رسله ويدعوه ليغري ما بنفسه فيصبح بني‬
‫عشية وضحاها ويل االسالم ونصريه‪.‬‬
‫خصومها أفرادا بأعينهم وتناصب العداء‬‫َ‬ ‫اجلاهلية تتشخص‬
‫خصوم الثورة وتفتك هبم‪ ،‬أما اإلسالم يف زمن الفتنة فرييب برفق‬
‫الربانية وحيافظ على الناس وحيارب أدواء النفس‪ ،‬ويرجو دائما أن‬
‫ينصر اهلل اإلسالم غدا خبصومه اليوم‪ .‬سألوا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم ‪ :‬أي الناس أفضل ؟ فقال ‪« :‬خياركم في الجاهلية‬
‫خياركم في اإلسالم إذا فقهوا»‪ .‬فالناس يف املنطق الرباين أوان‬
‫أودع اهلل فيها خرية ومروءة‪ ،‬فمادة اإلسالم يوم انبعاثه هم أهل‬
‫املروءة والرجولة من املتنكرين إلسالمهم ضحايا الفتنة واجلهل‬
‫باهلل‪.‬‬
‫شرط واحد ليدخل أهل املروءة املفتونون يف مرتبة األخيار من‬
‫املؤمنني هو أن يفقهوا‪ .‬والفقه يف الدين ليس هو حفظ العقائد‬

‫‪628‬‬
‫والصفات وال دراسة الفرض والسنة دراسة فكرية أكادميية‪ .‬إمنا‬
‫الفقه أن يدخل اإلميان يف القلب وأن تنكسر األنانية الطبقية‬
‫وأن جتفى العادة املاسخة للنفس‪ .‬الفقه املنهاجي الذي به يصبح‬
‫ذوو املروءة من خصوم اإلسالم اليوم أنصارا له غدا يبدأ بالتعليم‬
‫ملا جنهله من حيوية اإلسالم مدخال ملن هلم االهتمام بالسياسة‪،‬‬
‫وينتهي بالنسبة هلم ولآلخرين بالوقوف على النبإ العظيم نبإ‬
‫البعث والنشور ونبإ اجلنة والنار ونبإ سر خلق اإلنسان ومصريه‬
‫وقيمته عند اهلل‪.‬‬
‫وإذا كنا قد كتبنا أن الربانيني لن يفدوا علينا تائبني من‬
‫صفوف الساسة احملرتفني الثوريني فذلك ألن نبأهم العظيم نبأ‬
‫البشارة املاركسية مسم عقوهلم ونفوسهم حىت ال مطمع فيهم‬
‫للطبيب النطاسي‪ .‬ونرجو أن يكون حكمنا هذا سوء ظن نستغفر‬
‫اهلل منه‪ .‬وإذا كنا كتبنا أن ديدان القراء لن يكون منهم ربانيون‬
‫فذلك ألن النبأ العظيم هم املخربون به على املنابر ويف احملافل‪،‬‬
‫فيعظون وما يتعظون ويفسقون‪ ،‬وإن أدوى الداء النفاق‪ ،‬وال‬
‫نفع لرجل الدعوة أن جيلس إىل امللحدين يلتمس هلم هداية من‬
‫أن حياول معاناة املنافقني‪ .‬ويوم يقول اإلسالم سيندس املنافقون‬
‫ستـَْعلَ ُمو َن َم ْن‬
‫صوا فَ َ‬
‫قابعني يرتبصون‪﴿ ،‬قُ ْل ُك ّل ُمتـََربّص فـَتـََربَّ ُ‬
‫وي َوَم ْن ْاهتَ َدى﴾‪ .‬وكما كان يف اإلسالم‬ ‫الس ّ‬
‫الص َراط َّ‬
‫َص َحاب ّ‬ ‫أ ْ‬

‫‪629‬‬
‫األول منافقون غطاهم رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم جبناح‬
‫السرت والرمحة فسيبقى هلؤالء اخلصوم وجود يف األمة أبد الدهر‪،‬‬
‫هم مخرية الفساد‪ ،‬وأشدهم نكاية باإلسالم ديدان القراء‪ ،‬حفظنا‬
‫اهلل ربنا من مسومهم‪.‬‬
‫خصوم داخليون جيب على الربانية املنبعثة أن حتافظ عليهم‬
‫وترفق هبم حىت تنكفيء الفتنة‪ ،‬وجيب أن تربيهم وال تيأس من‬
‫أن ينصر اهلل اإلسالم بأيب جهل بن هشام جالد الصحابة وعدو‬
‫اهلل ورسوله‪ .‬وخصوم خارجيون هم اليهود الصهاينة أهل املسخ‬
‫واخلزي وهم املستحوذون على الفكر اجلاهلي ومساربه اإلعالمية‬
‫وهم احملركون للدمى اجلاهلية بالكيد القدمي‪ ،‬وهو سحر ثقايف أبلغ‬
‫أثرا وشر عمال من سحرهم القدمي‪ ،‬وهو حتريف للقول ورثوه عن‬
‫جدودهم امللعونني الكافرين الذين اشرتوا بآيات اهلل مثنا قليال‪.‬ومع‬
‫الصهاينة خصوم لإلسالم كثري‪ ،‬وينبغي للمسلمني أن حيذروا العدو‬
‫ويتيقظوا لكيده‪ ،‬لكن اخلطر الشديد الذي خناف أن يعرقل إجيابية‬
‫الدعوة اإلسالمية غدا كما يعرقلها اليوم يكمن يف هذا النواح‬
‫املتواصل على مظامل املاضي واحلاضر دون أن يصحبه مبادرات‬
‫تكذبه وتبطل أثره‪ .‬إن كان رجال التبشري ورجال االستعمار خلفوا‬
‫لنا مسا ال يزالون يغذونه بضاعة حنن نشتهيها وثلبا لإلسالم وحنن‬
‫أكرب مثلبة لإلسالم‪ ،‬كنا قبل التبشري واالستعمار‪ ،‬فما يقاوم‬

‫‪630‬‬
‫هذا السم إال التشمري لدخول ميدان اجلهاد والتعبئة لصنع جهاز‬
‫صناعي بقلوب مؤمنة تصنع أيضا دعوة ومدارس ومربات تطعم‬
‫وتريب مثلما يطعم ويريب التبشري‪.‬‬
‫اخلصوم اخلارجيون هم العامل كله‪ ،‬فإن وعينا هذا العداء‬
‫بقلوب حية فلن يزيدنا عداء العامل إال مضاء واستشهادا يف سبيل‬
‫اهلل‪ ،‬أما إن صعدنا فيه النظر من موطن الذلة وبعقلية التبعية‬
‫فنظرنا فشل يهيء فشال‪ .‬نفوس ختاف املوت وحترص على حياة‬
‫أي حياة تستحلي املسخ القردي بل وحتكي توابث القردة يف عدم‬
‫استقرارها‪ ،‬وتفضل ذلك على حل الشهامة واالستقالل‪ .‬وما‬
‫رجولة الصيننني واستعالؤهم على العامل‪ ،‬مث ما أنتج هلم وعيهم‬
‫ذاك من قوة وتطاول ملركز القيادة العليا إال مثال نصبه اهلل لنا‬
‫عتابا‪ ،‬كما انتصب يف املسجد األقصى عدونا األلد أخزاه اهلل‬
‫حتديا يقتل من حيرصون على حياة‪ ،‬يقتلنا مدبرين مقهورين وكان‬
‫موعد اهلل لنا لو آمنا به وجاهدنا صفا مسلما كأنه بنيان مرصوص‬
‫إحدى احلسنيني‪ .‬وإن إحدى احلسنيني جزاء ما يذخره اهلل إال ملن‬
‫قاتل حتت لواء اإلسالم‪ ،‬إما من قاتل حتت لواء عصبية عمية فإن‬
‫هزائم دنياه عربون خلزيه بني يدي اهلل يوم الدين‪.‬‬
‫وهذا يرجعنا خلصومنا احلقيقيني وهم األنانية والعصبية‪ ،‬مث‬
‫الطاغوت العقالين الثقايف‪ ،‬مث العادة الدوابية‪ .‬وهكذا جند خط‬

‫‪631‬‬
‫البيان املنهاجي لتدهورنا يف العقبة اليت مل تقتحمها وهي عقبة‬
‫وصفناها ونعود لنتذكرها‪ .‬على مستوى الفرد يكون االستكبار‬
‫واألنانية حجابا مظلما وجدارا مسيكا مينعه من اقتحام العقبة‬
‫خلالصه‪ ،‬وخصلة الصحبة واجلماعة ترىب يف قلبه أسا سليما‬
‫الرتباطه باجلماعة‪ ،‬وهو أس اإلميان الذي هو حمبة‪ ،‬وباحملبة تنكسر‬
‫الكربياء‪ ،‬وتنكسر أيضا باجللوس على البساط يف جمالس اإلميان‬
‫وخدمة املؤمنني‪ .‬أما على مستوى اجملتمعات اإلسالمية فعقبة‬
‫األنانية واالستكبار مظهرها العصبية القومية‪ .‬هذه النتنة اخلبيثة‬
‫اليت مزقتنا وجعلتنا هنبا مقسما تقطعنا اجلاهلية مبخلب وناب‪.‬‬
‫فإذا قاتلنا العدو محلنا له راية القومية نعبدها الهنزامها‪ .‬فإذا فرغ‬
‫منا العدو فرغنا حنن إىل إخواننا املسلمني هنينهم من حيث نظن‬
‫أننا ننتصر ألنفسنا‪ .‬وإن أنفسنا خلبيثة عفنة خببث قوميتنا‪ ،‬ولن‬
‫يغري اهلل ما بنا حىت تنتسب إليه وإىل رسوله وإىل ملة إبراهيم‬
‫﴿وَم ْن يُ ْش ِر ْك بِاللَّ ِه فَ َكأَنَّ َما َخ َّر ِم َن‬
‫حنفاء هلل غري مشركني به‪َ ،‬‬
‫ان َس ِح ٍ‬‫الريح فِي م َك ٍ‬ ‫ِِ‬ ‫َّ ِ‬
‫يق﴾‬ ‫َ‬ ‫الس َماء فـَتَ ْخطَُفهُ الطَّيـُْر أ َْو تـَْه ِوي به ِّ ُ‬
‫صدق اهلل العظيم‪ ،‬وإن كلمته تنطبق علينا‪ ،‬وإن من الشرك شرك‬
‫ظاهر وآخر خفي‪ ،‬ومنه نوع جيمع الشر كله هو شركنا يوم ندعو‬
‫للقومية واالشرتاكية واإلسالم كتلة واحدة مشركة‪ ،‬أو نشرك وثنية‬
‫طاغوتنا يف شعار مع اهلل والوطن‪ .‬أال وإن التوحيد هو شهادة أن‬

‫‪632‬‬
‫ال إال إال اهلل وأن حممدا رسول اهلل‪ .‬ال إله إال اهلل وحده ال شريك‬
‫له‪ ،‬له امللك‪ ،‬وله احلمد‪ ،‬وهو على كل شيء قدير‪َ ﴿.‬ش ِه َد اللَّهُ‬
‫أَنَّهُ َل إِلَهَ إِ َّل ُه َو َوال َْم َلئِ َكةُ َوأ ُْولُوا ال ِْعل ِْم قَائِ ًما بِال ِْق ْسط‪،‬ال إِلَهَ‬
‫ال ْس َلم﴾‪.‬‬ ‫ِّين ِع ْن َد اللَّ ِه ِْ‬
‫ْحكيم‪،‬إِ َّن الد َ‬
‫إِ َّل هو الْع ِزيز ال ِ‬
‫َُ َ ُ َ‬
‫فمن وثنية الطاغوت وشرك العصبيات‪ ،‬ومن عجزنا عن‬
‫اقتحام الظلمة العقالنية الثقافية وعقبة العادة‪ ،‬نتوب إىل توحيد‬
‫ربنا باأللوهية والعزة ونشهد قائمني بالقسط مع اهلل ومالئكته‬
‫وأوىل العلم القائمني على احلق‪ .‬وإن الدين عند اهلل اإلسالم‪ ،‬وإن‬
‫اإلسالم تربية شاهد بالقسط‪ ،‬شاهد هلل بوحدانيته‪ ،‬عامل رباين‪.‬‬
‫ال نربح أول خطوة على املنهاج وأول خصلة من خصاله‬
‫العشر‪ ،‬فإن الصحبة واجلماعة إكسري احلياة وطريق النجاة‪ .‬وإن‬
‫اخلصم األول لإلسالم بل اخلصم الوحيد لإلنسان واإلسالم والذي‬
‫ال يتغري اإلنسان إال بتغريه هو النفس‪ .‬ففي النفس تستوطن‬
‫األمراض االجتماعية واألمراض الشخصية الباطنة‪ ،‬وعلى ساحة‬
‫العمل االجتماعي يتعامل الناس بالعقول واجلسوم والتدافع بقهر‬
‫القانون ونفوسهم مريضة يف ذاهتا متنافرة فيما بينها‪ ،‬ونتاج ذلك‬
‫جمتمع الكراهية جاهليا ومفتونا‪ .‬ويف النفس خصوم اإلسالم من‬
‫استكبار وعصبية وشهوة بضائعية ومسخ ثقايف‪.‬‬
‫والرتبية الربانية تضرب النفس األمارة بالسوء وتغسلها‬

‫‪633‬‬
‫وتسوطها حىت يزول ما علق هبا من شرك وجربوت‪.‬‬
‫الربانيون أولياء اإلسالم وأولياء اهلل وشهادهتم بالقسط‬
‫وتطبيبهم للنفوس املريضة هتزم اخلصوم النفسية فتتغري النفوس‬
‫ويتغري ما بنا‪ .‬وبصحبة الربانيني واالندماج يف مجاعتهم يربأ عليلنا‬
‫ويشفى غليلنا إن عرفنا من إليه نلجأ وإن تعلمنا أن نتعرف على‬
‫صدق الصادق من برهانه‪ .‬وبصحبة األمة كلها للجماعات الربانية‬
‫يتهيأ توحد املسلمني بعد الفرقة وجهادهم بعد قعود الفتنة‪ ،‬حول‬
‫الرباين اخلادم للمؤمنني العامل األجري القائد األمري‪.‬‬
‫سواد األمة اإلسالمية فالحون ساذجون وشباب متحفزون‪،‬‬
‫هم أقرب الناس لفطرة وأسلسهم قيادا وأنفعهم عتادا‪ .‬هم أسبق‬
‫الناس غداً هنضة لنصرة اإلسالم‪ ،‬وهم أول جند لوائه وهم البشرى‬
‫اخلافقة يف مسائه‪ .‬أصحاب املروءة منهم واهلمة ينبعثون باحلافز‬
‫الباطين انبعاثا ال حتسبه كربياء املتمكنني يف األرض الالصقني هبا‬
‫وال عادات الرتف القاتلة للرجولة وال هذه الغشاوة الثقافية اليت‬
‫يضلل هبا خصوم اإلسالم احملرتفون سذاجتهم‪ .‬وهم أمة كثرية‬
‫تتلقى القائد اجملاهد اإلمام ودعوته تلقيا عاطفيا صادقا إن جاء‬
‫حيمل معه برهان صدقه‪ .‬بيد أن هذا اللقاء يتم يف عرصات‬
‫القلوب ونرتات العقول ويوشك أن حترف تواصله ومواصالته‬
‫أمراض النفوس املزمنة عاهتهم‪ .‬يصول القائد اجملاهد بسلطان‬

‫‪634‬‬
‫احلكم ويسخره خلدمة اإلسالم‪ ،‬لكن هناك جهاز حكم قوامه‬
‫خلق اهلل الكثيف احلاجب للعواطف املستجيبة بكربيائه‪ .‬ويصول‬
‫القائد اجملاهد بنورانية قلبه وفكره‪ ،‬لكن حقائق األرض اليومية‬
‫وعالقات املستضعفني الوارثني غدا بدعاة اإلسالم وأدعيائه كثيفة‬
‫بكثافة قلوب خلق اهلل اجلالسني فوق الناس فتوشك أن تسد تيار‬
‫احملبة وتيار التعليم والرتبية بني اإلمام واملأمومني‪.‬‬
‫فهل ينطبق وازع السلطان بيد اإلمام وسطوة األمة املستضعفة‬
‫على طاغوت الكربياء يف أشخاص املرتفني كما تنطبق املكنة‬
‫الكابسة فتمحق كال على كل؟ كال! فقد علمتنا ربانية رسولنا‬
‫الرؤوف الرحيم أن نرجو اخلري من خصوم اليوم يف غد التوبة‬
‫ومستقبل األجيال‪ .‬أو ما رأيناه ملا جاءه ملك اجلبال يقرتح أن‬
‫يطبق األخشبني على كفار مكة الذين طردوه وآذوه يرد االقرتاح‬
‫برجاء أن خيرج اهلل مؤمنني من أصالب الكافرين؟‪.‬‬
‫رفق اإلسالم خبصومه ربانية مربية حتسب حساب الضعف‬
‫البشري وحساب الفتنة املاضية واحلاضرة وحساب الرتبية املفتونة‬
‫وحساب العادات املتجذرة منذ الصبا وحساب الفراغ اهلائل‬
‫والفوضى املظلمة املاضية واحلاضرة‪ .‬ومن كل ذلك تتعلم كيف‬
‫تنري املنهاج ليسلكه الناس عن طواعية وعن طاعة مدخلها رفق‬
‫التوبة‪ .‬وخيرج من كل ذلك اخلري املرجو ‪ -‬مبعىن املنتظر‪ -‬فإن‬

‫‪635‬‬
‫اهلل عز وجل خيرج من أصالب الكافرين أولياء اإلسالم أولياء‬
‫اهلل بالتناسل احليوي مثلما نسل الكافر األكرب السلطان «أكرب»‬
‫ويل اهلل تعاىل وويل اإلسالم امللك الصاحل عاملكري‪ ،‬أو باإلنسالخ‬
‫عن الكفر وبالتوبة مثلما أسلم عدو املسلمني باألمس عمر بن‬
‫اخلطاب وحبيب اهلل وحبيبنا أبد الدهر‪.‬‬
‫رفق اإلسالم خبصومه رفق الطبيب الذي جيس النبض ويأسو‬
‫اجلرح وينحين على املريض بالكلمة الطيبة‪ ،‬وينقذ إىل احلياة‬
‫مائتني ويرجع للصحة جسوم اهلالكني املتعفنني‪ .‬إذا فكرنا يف‬
‫أمهية التطبيب وصفات الرفق واحلنو والتفاؤل واإلخالص الضرورية‬
‫للطبيب‪ ،‬وإذا فكرنا يف عظمة الربانية وقداسة طهر الربانيني‬
‫ودورهم احليوي يف غد اإلسالم فسنجد يف أنفسنا رهبة وإكبارا‬
‫لألمر وسنبحث له عن مرشح عظيم‪ .‬هذا املرشح البديهي هم‬
‫علماء اإلسالم‪.‬‬
‫فنسأل املرشح أوال‪ ،‬أو األحق أن ننقذه حنن ليستعد للجواب‪،‬‬
‫يوم االمتحان غدا يف صف العاملني العمال ال جوابا جداليا‬
‫لفظيا‪ .‬نرى مواقع الفتنة يف تاج عز اإلسالم ودرة مفرقه علمائنا‬
‫األفاضل‪ .‬ونصرح هلم بالنصيحة بعد أن نلفظ من اعتبارنا ديدان‬
‫القراء الفسقة الذين محلوا القرآن مث مل حيملوه‪ .‬هؤالء خصوم‬
‫لإلسالم أشد خصومه وأكثرهم استعصاء على العالج‪.‬‬

‫‪636‬‬
‫أما سائر األفاضل املبجلني ورثة العلم النبوي املنقذ لإلنسانية‬
‫فنطرح عليهم أوال سؤال عتب‪ ،‬فنحن الرعية سواء ورعاتنا منهم‬
‫يف الفتنة‪ .‬نسأهلم عن العقبة واقتحامها‪ ،‬وعن الكربياء العلمية‬
‫ومهديتها‪ ،‬وعن اجلماعة أين ينبغي أن جيلس منها العامل ‪ :‬أعلى‬
‫منرب اخلشوع ومراقبة اهلل يوم الوعظ وحيث انتهى به اجمللس يوم‬
‫اخلدمة أم يف برج اجلمعة لتعيري األمة بفسادها وعلى أرائك املرتفني‬
‫يوم الزينة؟‪.‬‬
‫ونسأهلم عن األمانة العظمى اليت محلها اإلنسان إنه كان‬
‫ظلوما جهوال‪ ،‬نسأهلم هل األمر عندهم إسالم وإميان وإحسان‬
‫ولن جيادلوا يف ذلك‪ ،‬لكن نسأهلم كيف يدخل اإلميان يف القلوب‬
‫وما هي الصحبة وما هو الذكر فإن بعضهم ال يذكر اهلل إال قليال‪،‬‬
‫حوقلة يائسة أو رقية سياسية يدرأ هبا بأس غريه إذ مل يستطع إن‬
‫يدرأ بذكر اهلل الكثري وبصحبة األخيار بأس نفسه؟‬
‫ونسأهلم عن الصدق ما مطلعه وما برهانه‪ ،‬وعن الشح بالدرهم‬
‫والقنطار وعن الكنز لألموال وعن السمت والتؤدة‪ ،‬وعن االقتصاد‬
‫والتخمة‪ ،‬وعن القعود تعلة ال رجاء؟‬
‫نسأهلم ما حكم اهلل يف كل ذلك؟ مث نسأهلم السؤال العملي‬
‫سؤاال جييبون عنه غدا يوم ينشر اللواء وتذهب الألواء ‪ :‬ماذا‬
‫أعددمت حلمل الدعوة‪ ،‬وأين الربانية خترج للميدان باسطة يدها‬

‫‪637‬‬
‫ووجهها وقلبها للتائبني؟ أكانت لكم توبة تستأنفوهنا آناء الليل‬
‫وأطراف النهار؟ أجلنوبكم اليوم جتاف عن املضاجع تدعونه تضرعا‬
‫وخفية‪ ،‬تدعونه جبهادكم وتشكرون له بأداء حق األمانة اليت‬
‫طوقتم هبا ومبا أخذ عليكم امليثاق األنبياء ليصدقن من دعاهم‬
‫لصدق وليؤمنن به وليعزرونه؟‪.‬‬

‫‪638‬‬
‫القيام بالقسط‬
‫ نسأل علماءنا األخيار فإن أجابوا إعراضا عن اللغو‬
‫وفعال للزكاة باملعىن املنهاجي وبذال وصدقا وتؤدة وجهادا عرضنا‬
‫عليهم فهما للجهاد غري الفهم املوروث املنقرض بانقراض السيف‬
‫وحامله وباهنزام املدافع القومية وسدنة دباباهتا‪ .‬وعرضنا عليهم‬
‫أن يتجلببوا بلباس التقوى خشية يف القلب وعلما كيفيا ال كميا‬
‫عسى أن يتأهلوا لإلجتهاد بتأهلهم وتعلمهم للربانية لريبوا هبا‪.‬‬
‫إن أمر الرتبية ال يقتصر على وعظ منذر مبشر يف زمن الفتنة‬
‫وإن اإلنذار والتبشري وجهان لنطق الداعي إىل اهلل‪ ،‬لكن الدعوة‬
‫مالكها الرتبية‪ ،‬والرتبية منوذجية تسعى يراها الناس مستا مجيال‬
‫وجيدون عرفها أخالقا نبوية وروحانية عبقة مساوية وعلما يأسو‬
‫ويثلج الصدر وجيدد اإلميان‪.‬‬
‫الرتبية من الفتنة والرتبية من املسخ تأثري مفروض بسلطان‬
‫نوارنية الربانيني وليست تدخل يف رباط الطاعة وال يف بذل التطوع‪.‬‬
‫أغلبية الناس ال حيولون سلوكهم باحلافز الباطين مبادأة وتوبة من‬
‫سوء إىل خري‪ ،‬بعضهم حيتاج ملنبه وموقظ‪ ،‬وبعضهم حيتاج لصورة‬
‫أبوية يشكل سلوكه على مثاهلا‪ ،‬وكثري تفتت شخصياهتم فال قيام‬
‫هلا إال بتضافر النموذجية األبوية النوارنية وتأنيب الرباين الطاهر‬

‫‪639‬‬
‫الشاهد بطهارته على تلوث املتلوث وضعف املنحل‪ .‬إن الرتبية ما‬
‫هي عملية طاعة يؤتيها الناس قادهتم اطمئنانا إىل العدل وانتظارا‬
‫ملردود الطاعة يف استقرار احلال وحتميل املسؤولية أهلها‪ ،‬وما‬
‫هي تطوع من جانب أو من جانبني‪ .‬وإنك لن جتد أحدا يأتيك‬
‫يسألك أن تربيه أو يعرتف لك حباجته لرتبية‪ ،‬إال أن يكون من‬
‫أصحاب اهلمة من الذين يطلبون تربية خاصة هي تربية الروح‬
‫املستحيلة بدون شيخ عارف تسلمه نفسك‪.‬‬
‫وإن الرتبية من الفتنة ومن املسخ ما هي العملية احلَِرفية اليت‬
‫مبقتضاها يتوىل أستاذ مفتون حراسة أطفال أو شباب يف ساعات‬
‫التعليم‪ .‬والرتبية يف األسرة ليست أيضا هي الرتبية املغرية ألن‬
‫األسرة منغمسة يف تيار الفتنة فأىن هلا أن تنشىء أفرادا يفلتون من‬
‫الفتنة وهي ترتقبهم من خالل عادات األسرة مهما كانت متطهرة‬
‫ومن خالل اتصاالت الشارع واملدرسة والسوق‪.‬‬
‫الطاعة للسلطان السياسي وتأثري األستاذ املعلم وتأثري األسرة‬
‫يف اجملتمع املفتون روافد ثالث ومسارب تتمكن بفعلها العادة‬
‫وتتضافر جمهوداهتا لتُمركز ثقافة متكاملة ختاطب العاطفة والعقل‬
‫املكتشف والعقل االجتماعي فإن كان يف األسرة بقية من إميان أو‬
‫عند األستاذ أو احلاكم فإمنا يبقى خطاب اإلميان يف حيز جزئي‬
‫سرعان ما هتوي به عوامل التعرية االجتماعية يف مكان سحيق‪.‬‬

‫‪640‬‬
‫يف بالد أمريكا اجلنوبية سلطان حكم مستبد وهلا مدارس كثرية‬
‫وأسر حمافظة على أخالقية كاثوليكية‪ ،‬وهي أمم ال تتغري وإن كان‬
‫السلطان ميلي على الناس سلوكا معينا واملدرسة والكنيسة‪ .‬إهنم‬
‫بالطبع ال يتصورون فتنة وال مسخا كما نتصور‪ ،‬لكن نقارن بواقع‬
‫حنن سائرون على دربه إن مل جند منهاجا نسلك منه‪ .‬وبالد‬
‫أمريكا اجلنوبية هي بالد االنقالبية منذ قرن ونصف‪ ،‬تعيش يف‬
‫دورة أبدية معروفة ‪ :‬رجال القوة من اجليش يقلبون حكومة فاسدة‬
‫وينشؤون جمموعة جديدة متارس احلكم وتغري رجال اإلدارة‪ ،‬لكنها‬
‫ال تلبث أن يظهر عوارها ويفتضح فسادها فينهض لقلبها ضباط‬
‫يطمحون ملثل ما ناله إخواهنم‪ ،‬أو يسرع هؤالء لقلب احلكم‬
‫اغتناما لفرصة‪ .‬وتتعاقب االنقالبات على مدى قرن ونصف وال‬
‫حيدث تغيري‪ .‬وحنن بالد املسلمني سائرون على هذا الدرب وإن‬
‫كان خييل ملن حارب ظلم اإلقطاعية فانقلب عليها باشرتاكيته أن‬
‫األمر قد مت وأن التغيري قد بدأ‪.‬‬
‫مرد هذه الدورية االنقالبية إىل أن االستبداد االنقاليب استبداد‬
‫غري تربوي‪ ،‬إنه تسخري للسلطة يف خدمة طبقة اجتماعية‪ .‬يف تلك‬
‫البالد النائية كما يف بالدنا بني ظهرانينا عادات قدمية وطبقات‬
‫إقطاعية منط حياهتا ودرجة بذخها االجتماعي مها املعيار الذي به‬
‫تقاس الرجولةـ فأميا جهد يف السياسة أو التعليم أو االقتصاد فإمنا‬

‫‪641‬‬
‫يرمي إليصال من بيده القوة إىل منط احلياة والبذخ املثاليني‪ .‬وريثما‬
‫تصل فئة إىل ما تصبو إليه تزمحها فئة أخرى متطلعة يتسابق كل‬
‫إىل مكانه يف سلم الطاغوت الطبقي‪.‬‬
‫وللخروج من دورية التقليد واالستبداد الظامل البد من استبداد‬
‫تربوي جيمع عاملي السلطان والقرآن يف يده‪ ،‬وخياطب العقل‬
‫االجتماعي مبنطق الربح ويف استبدال الطاعة االجتماعية املفتونة‬
‫املسخرة بطاعة مجاعية مغرية‪ ،‬وخياطب العاطفة والعقل املتأمل يف‬
‫املصري مبعاين الرجولة والشهامة واإلميان الدافع للجهاد املنجي من‬
‫مسخ الكفر‪ .‬هذا االستبداد املريب مظهره أوال يف املوقف اإلرادي‬
‫للقائد اجملاهد القوي اآلمر بسلطان القوة تزكيه صولة النموذجية‬
‫النوارنية‪ ،‬ورمزية وثقة يستحقهما برباهني الصدق ونتائج العدل‬
‫املقدم عربونا على النية املستقبلة‪ .‬ومظهر االستبداد الرتبوي بعد‬
‫هذا يف موقف الربانيني إذ يعطون املثال بتطوعهم وجهادهم‬
‫واستقالهلم يف منط احلياة والفكر والسلوك الفردي واالجتماعي‪،‬‬
‫حلياة اإلميان واإلحسان‪.‬‬
‫إن الدورية االنقالبية حركة ومهية على خط التاريخ وهي يف‬
‫احلقيقة حركة مستديرة تتم دورهتا يف شهور أو سنني‪ ،‬لكنها يف‬
‫هناية دورهتا ال ختلف إال يأسا وجتربة ال تفيد لتشابه نتائجها‪ ،‬إن‬
‫الدورية االنقالبية تغيري ومهي مبا يصحبها من قعقعة سالح واستبدال‬

‫‪642‬‬
‫وجوه بوجوه وخطب خبطب ورمبا تشريع بتشريع‪ .‬وكل ذلك زبد‬
‫على السطح ال حيرك ساكن اجملتمع وال يتحمى مجوده ويأسه وال‬
‫خياطب منه إال واجب الطاعة حتت السيف وواجب الكدح حتت‬
‫السوط‪ .‬ومثل الدورية االنقالبية كل التغيريات السياسية يف بالدنا‬
‫ما دامت تدخل يف إطار التناوب الدميقراطي املوهم بتغيري أو يف‬
‫إطار األلعوبات االنتخابية أو املطاردات املذهبية‪.‬‬
‫إن التغيري ال حيدث إال بفعل اإلنسان اإلرادي‪ ،‬تقع إرادته‬
‫حتت ضغط التدافع الطبقي كما تصور املاركسية وحتت دافع‬
‫الطموح للبطولة الفردية الزعامية‪ ،‬أو بباعث أمسى من هذين هو‬
‫باعث القيام بالقسط ومحل رسالة احلياة‪.‬‬
‫قام يف أملانيا رجل واحد معتوه هو هتلري‪ .‬قام يف وقت تدهور‬
‫فيه اقتصاد بلده وتضاربت فيه االجتاهات واحتاج املوقف لتغيري‪،‬‬
‫وكان للرجل طموح بطويل ختدمه فكرة واحدة هي العنصرية وقدرة‬
‫على اخلطابة جتلب أهواء السامعني واحلاضرين‪ .‬فكرة واحدة‬
‫كونت دعوة إىل القوة والتفوق‪ ،‬محلها رجل واحد ضد التيار‬
‫العام‪ ،‬وطاردوه وقاتلوه حىت انتصر وحىت محل حبماسه شعبه كله‬
‫للقوة‪ ،‬هنا وقع تغيري ملكان اخلطاب الذي مس الكبري والصغري‬
‫والغين والفقري وعرب قشرة الطبقية‪ .‬وحيث تكون الدعوات جزئية‬
‫ال يفيد الطموح البطويل شيئا‪ ،‬وآية ذلك أبطال القومية يف بالدنا‬

‫‪643‬‬
‫خلفوا بعدهم رمادا ألن دعوهتم مل ختاطب األمة يف كياهنا وإمنا‬
‫خاطبت طبقة سطحية‪ ،‬وما عدا سعيهم غليانا على السطح‪.‬‬
‫وبعد احلرب العاملية الثانية هنضت أملانيا وتغري الشعب األملاين‬
‫بدافع صراع طبقي قومي مل حتلل حركيته اإليديولوجية‪ .‬بعد هزمية‬
‫أملانيا شعر كل أملاين وكل أملانية باخلزي الواقع على قومية كانت‬
‫باألمس متأهلة‪ ،‬وحتفز الكل وهنضوا ملنافسة العدو الطبقي القومي‪،‬‬
‫وكان هلم ما أرادوا‪ .‬ويف بالد املسلمني ال يتغري إال شكل هزائمنا‬
‫ألن وعينا ألنفسنا وعي متفتت ذري فردي ال نشعر بإطار جيمعنا‬
‫وال بآصرة تربط مصري بعضنا ببعض‪ .‬وما تعين القومية يف ذهننا‬
‫وشعورنا شيئا ألهنا عنصر دخيل اخرتعه املفتونون يف شكل جمدد‬
‫وأوقدوا جذوته بعد أن كاد االحتالل األجنيب يوحدنا يف أمة‬
‫مستعمرة يربطها مجيعا رباط اإلسالم‪.‬‬
‫رواد القومية وطالب البطولة طائفة على سطح هذه األمة‬
‫وعلى هامشه فهي ال تستجيب هلم وال لدوافعهم وإن كانت‬
‫تطأطيء الرؤوس طاعة مفروضة غري مقبولة‪ .‬والنداء الوحيد الذي‬
‫تسمعه كل اآلذان فتصغى وينفذ لكل القلوب فتهتز هو اإلسالم‪.‬‬
‫والذي ينادي باسم اإلسالم ويؤذن لقيام اإلسالم وينتصب ضد‬
‫التيار كله مثاال للدعوة اإلسالمية هو القائم بالقسط‪.‬‬
‫عرفنا الرباين بأنه املؤمن احملسن املتقي ربه الرفيق يف الرتبية‬

‫‪644‬‬
‫وظيفته أن يريب الناس تربية حتوهلم من الغفلة للذكر ومن التشعب‬
‫للجماعة ومن العادة للصدق‪ .‬وإنه ال ينهض هبذه الوظيفة إال‬
‫بقدر ما يقوم بالقسط شاهدا به شاهدا على الناس مغريا إياهم‬
‫بتفوق منط سلوكه أن يتبعوه وحيبوه ويسريوا بسريه ضد التيار‬
‫مقتحمني معه العقبة‪ ،‬شاهدا بدعوة قسط وعدل ال شاهدا طبقيا‪.‬‬
‫ال تزال يف أفئدة املسلمني أثارة من تعظيم الربانني وحمبتهم‪،‬‬
‫وللعامة من الناس تصور واضح للربانية‪.‬إنه تصور ينبين على املظاهر‬
‫واأللقاب‪ ،‬فكان اسم الشريف أو السيد موضعا للتعظيم وال يزال‬
‫ملكان أويل القرىب من قلوب املسلمني‪ ،‬وكان اسم عامل لقبا يعظمه‬
‫الناس ويكربونه‪ ،‬وكان اسم الشيخ والويل عنوانا للكمال والطهر‬
‫ومدعاة الحرتام املسلمني‪ .‬وأثناء فتنة املسلمني الطويلة احرتف‬
‫احملرتفون وظيفة العامل والشيخ وادعوا النسب الشريف‪ ،‬وصحب‬
‫كل هذا التدليس اعتناء باملظاهر‪ ،‬بطليسان العامل وعماماة الشيخ‬
‫ومرقعة الصويف‪ .‬وبني احرتاف املشعوذين وصدق املستضعفني من‬
‫أهل العلم والصالح ضاع اإلسالم واختلطت مفاهيمه‪ ،‬وحىت‬
‫املظاهر أصبحت مسخرة عند الناس منذ اكتشفت الناس أن‬
‫املخرب خراب عند كثري من األدعياء أصحاب الطيالسة واملرقعات‪.‬‬
‫فال ثقة اليوم حباكم جلالء طغيانه أو إحلاده وال ثقة مبن يدعي‬
‫الربانية لكثرة ما كذب املشعوذون‪ .‬وباعتبار أن سواد األمة بكوهنا‬

‫‪645‬‬
‫الشباب فال مطمع يف أن يغرت املسلمون باملظاهر‪ ،‬أو يغريهم‬
‫البس العمامة إن مل يأت بربهان صدقه أو احلاكم الداعي إىل‬
‫تغيري إن مل يأهتم خبري مما أتى به أبطال القومية‪ .‬نعم هنالك زبائن‬
‫أو قل ضحايا لتجار اإليديولوجية كما هنالك مثلهم من املغرتين‬
‫بالزي‪ ،‬لكن هؤالء قلة واحلاذقون هم الكثرة مييزون بني القائم‬
‫بالقسط صدقا وعدال وبني الذي حيكي الكرام بزيه ولغوه ويف‬
‫ثيابه ِصلٌّ وثعبان‪.‬‬
‫يف هذه السوق احلامية ببالدنا سوق املذهبيات‪ ،‬تعرض‬
‫اشرتاكيتها على كل األلوان ومتارس قوميتها كما شاءت أطواقا يف‬
‫األعناق أو حلفا مع الرفاق أو احنطاطا وما مث من راق‪ ،‬مسلمون‬
‫قائمون بالقسط‪ .‬إهنم رجال خرجوا من مدرسة االضطهاد القومي‬
‫مليالد جديد‪ .‬أناخ عليهم الكفر بكلكله أعواما طويلة‪ ،‬وصهرهتم‬
‫نار الفتنة حىت انكسرت قوقعة العلماء وتفتت جهازهم‪ ،‬وعذب‬
‫املشايخ حىت أصبح ال يرغب مشعوذ يف لبس العمامة‪ .‬وحول هؤالء‬
‫ترىب جيل قائم بالقسط شاهد بإسالمه على املسلمني مجيعا يف‬
‫بقاع األرض‪ .‬إهنم علماء تركيا ومشاخيها الربانيون وشباهبا الطاهر‬
‫املتطهر‪ .‬لقد كسر طاغوت الكافر الناقص وزبانيته من بعده كل‬
‫خبث الدعاية واالحرتاف وبقي صامدا يف امليدان الصادقون‪ .‬ويف‬
‫شوارع تركيا وحدها جتد القائمني بالقسط ينهون عن املنكر قتاال‬

‫‪646‬‬
‫إن اقتضى األمر رغم طاغوت احلكم اجلاهلي‪.‬‬
‫يف دار اإلسالم برتكيا وبؤرة فتنته رجال مؤمنون ونساء‪ ،‬واألمر‬
‫َث تربية مغرية صاعدة‪ ،‬ويف سائر األرض مسلمون ال يزالون ينتظرون‬
‫قائمني بالقسط منذ أمخد الطاغوت القومي العريب‪ ،‬إمخادا ظاهرا‪،‬‬
‫ذلك القبس الرباين املشخص يف تالميذ اجملدد العظيم حسن‬
‫البنا‪ .‬وبني اإلخوان املسلمني اليوم من مييل مع صبا جند وعقالنية‬
‫العلماء النجديني فهم يف حاجة ملن يقوم بينهم بالقسط قيام‬
‫الشيخ اجلليل رمحه اهلل ورضي عنه‪ ،‬يف حاجة ملن جيدد هلم وردا‬
‫ووظيفة ورابطة حىت ال ينسوا مأثورات شيخهم‪ .‬إهنم اختذوا قدوة‬
‫هلم شهيد اإلسالم سيد قطب‪ ،‬وبعضهم درج إىل مصاف املثقفني‬
‫احملتكني باإلسالم أمثال مالك بن نيب‪ .‬ومىت كان اإلسالم الفكري‬
‫قياما بالقسط وربانية؟ وإن اإلسالم الفكري كان جيري مع التيار‬
‫حني قام اجملاهد العظيم املهدي السوداين مقتحما العقبة ضد‬
‫التيار كله‪ ،‬فكان اإلسالم الفكري ينقل أخباره يف صحيفته كما‬
‫تنقل لنا األخبار وكاالت األنباء مبوضوعية باردة أو بلمزات خفية‬
‫حمرفة‪ .‬ذلك كان رجال قائما بالقسط ومن معه رمحهم اهلل‪.‬‬
‫وملا هجمت فرنسا على اجلزائر يف أواسط القرن الثالث عشر‪،‬‬
‫نكصت الدول اإلسالمية عن املقاومة وقام ضد التيار رجل صويف‬
‫عرفه الناس باسم األمري عبد القادر‪ .‬وهو رمز خالد للجهاد‬

‫‪647‬‬
‫والربانية‪ .‬ذلك هو العامل العامل وذلك هو الرباين الكامل قدس‬
‫اهلل روحه‪ .‬ولن جتد يف تاريخ اإلسالم قائما بالقسط إال من أرباب‬
‫القلوب من الذاكرين الصادقني العلماء العاملني الذين طرحوا‬
‫العادة وخاطبوا األمة بعمق ووجهوا هلا دعوة تعين جمموعهم ووقفوا‬
‫هم مصداقا ملا يدعون إليه ومنوذجا ورمزا‪.‬‬
‫عن عسعس بن سالمة أن النيب صلى اهلل عليه وسلم ‪ 1‬كان‬
‫يف سفر ففقد رجال من أصحابه فأيت به‪ ،‬فقال‪« :‬إين أردت أن‬
‫أخلو بعبادة ريب وأعتزل الناس‪ .‬فقال رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ :‬فال تفعله وال يفعله أحد منكم قط‪ :‬قاهلا ثالثا‪ .‬فلصبر‬
‫ساعة في مواطن المسلمين خير من عبادة أربعين سنة!»‪.‬‬
‫هذا فرق ما بني اإلسالم الفردي وإسالم الشهادة بالقسط‪،‬‬
‫وهي الصرب يف مواطن املسلمني والقيام أمامهم مثاال للصرب ومثاال‬
‫لإلميان‪ .‬وهلذا بعث اهلل أنبياءه ورسله‪ ،‬وهلذا يوفق اهلل أولياءه‬
‫الربانيني‪ .‬قال تعاىل‪﴿:‬لََق ْد أَرسلْنَا رسلَنَا بِالْبـيـِّنَ ِ‬
‫ات َوأَنـَْزلْنَا َم َع ُه ُم‬ ‫َ‬ ‫َْ ُُ‬
‫ْكتَاب وال ِْميزا َن لِيـ ُقوم النَّاس بِال ِْقس ِط وأَنـزلْنَا الْح ِدي َد فِيهِ‬ ‫ِ‬
‫َ‬ ‫ْ َ َْ‬ ‫ُ‬ ‫َ َ‬ ‫ال َ َ َ‬
‫ص ُرهُ َو ُر ُسلَهُ بِالْغَْي ِ‬ ‫بأْس َش ِدي ٌد ومنافِع لِلن ِ ِ‬
‫ب‬ ‫َّاس َوليـَْعلَ َم اللَّهُ َم ْن يـَْن ُ‬ ‫َ ََ ُ‬ ‫َ ٌ‬
‫إِ َّن اللَّهَ قَ ِو ٌّ‬
‫ي َع ِز ٌيز﴾‪.‬‬
‫والقسط عدل والقسط قسمة‪ ،‬وإن مرياث رسول اهلل خدمة‬

‫‪.1‬رواه أبو داوود‬

‫‪648‬‬
‫لإلسالم وبالء وغناء فكل من دعا لإلسالم خبدمته وبالئه وغنائه‬
‫فهو الرباين‪ .‬عن مالك بن أنس أنه قال‪ :1‬كان عمر حيلف على‬
‫أميان ثالث ‪ :‬واهلل ما أحد أحق هبذا املال من أحد‪ ،‬وما أنا أحق‬
‫به من أحد‪ .‬واهلل ما من املسلمني أحد إال وله يف هذا املال نصيب‬
‫إال عبدا مملوكا‪ .‬ولكنا على منازلنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وقسمنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬والرجل وغناؤه‬
‫يف اإلسالم والرجل وحاجته‪ .‬واهلل لو بقيت هلم ألوتني الراعي حببل‬
‫صنعاء حظه من هذا املال وهو يرعى مكانه!‬
‫فبنموذجية الربانيني القائمني بالقسط الذين هلم البالء والغناء‬
‫والقدم يف مناهضة التيار وفرض منط احلياة واألخالقية بسلطاهنم‬
‫املعنوي وبسلطاهنم احلكمي العادل عدل عمر يف رعاته كعدله يف‬
‫والته تتجدد الرتبية وتتعمم وتتجاوز نطاق احرتاف األستاذ املعلم‬
‫وعجز األسرة الساحبة وسط الفتنة‪.‬‬

‫‪.1‬رواه اإلمام أمحد‬

‫‪649‬‬
‫األم‬
‫مها أبوان حيافظان على الفطرة أو ميسخاهنا برتبية منحرفة‪.‬‬
‫أول ما يراه الطفل من أمناط السلوك سلوك أبويه‪ ،‬وأول منوذج‬
‫يعرتض آفاقه هو منوذج أمه‪ .‬فريجع صالح النموذج أو فساده‬
‫لصالح األم‪ ،‬وأول تأثري وأقواه تأثريها‪ .‬لذلك فإن كانت هذه‬
‫األم ضحية للفتنة ذاهبة مع التيار رضع اإلبن مبادئ الفتنة‬
‫وحمبة العادة املنحرفة إىل غفلة أو كفر عاطفة يف مهده وحنو‬
‫على صدر أمه وتوجيها إن رقد أو ركض أو تعلم حقيقة جوهر‬
‫وعرض‪.‬‬
‫إن املرأة شطر األمة األسلس قيادا األلني عريكة‪ .‬وهي أشد‬
‫الناس متسكا بعادة وحفاظا على موروث‪ .‬ذلك وتسلط الرجل‬
‫عليها جيعالهنا ضحية الفتنة األوىل وموطن الداء املزمن ألن منها‬
‫يتسلسل املرياث املوبوء لألجيال الناشئة‪ .‬كان للمرأة املسلمة‬
‫يف عصرنا منوذج سلوكي منحدر أخذته عن جدهتا وأمها‪ ،‬فلما‬
‫عششت اجلاهلية يف عقلية الرجل وذهبت مروءته واضمحلت‬
‫حىت خنوته وغريته عرض املرأة لبلواه ومحلها على االنسالخ من‬
‫عقليتها املوروثة‪ ،‬وأغراها بزينة اجلاهلية‪ ،‬وهي ضعيفة ال متتنع عن‬
‫داعي الزينة‪ ،‬برزت من خدرها وطاوعت الرجل املفتون لعبة يف‬

‫‪650‬‬
‫يده ممتهنة وأما ترضع أبناءها من لقاح ال تدري أهو من نكاح أو‬
‫سفاح فسولة مسرتخية‪.‬‬
‫وكانت املرأة زوجا وأما فتخطفتها الفتنة بإغراء الزينة املنكشفة‬
‫املكشوفة وبإغراء النموذج اجلاهلي للمرأة املساوية للرجل املطالبة‬
‫حبق خيرجها عن أنوثتها وال يضعها موضع الرجل‪ ،‬بل يتضع هبا‬
‫عاملة مكروبة أو موظفة مرهقة بني أعباء البيت ورهق الوقت‬
‫اإلداري‪ .‬وتضيع البيت وتنزع مسؤوليتها لتكون رجلة معصوصبة‬
‫متحزمة يف ظاهرها عرضة لألوباش وضحبة لطاحون الفساد‬
‫االجتماعي‪ .‬أما الزوج واألطفال فيتعلمون بالتقليد واملنافسة على‬
‫حياة اللهو أن يتخذوا ألنفسهم بديال عن الزوج واألم‪ .‬وهكذا‬
‫يسري االحنالل يف األسرة وينصرف كل إىل شأنه ويلتقي رجل‬
‫وامرأة يف بيت كئيب فارغ به صبية ضائعون‪ .‬أما األب واألم‬
‫فيتشاكيان أو يتشامتان إن كان بأحدمها رمق مما تبقيه الشؤون‬
‫اخلاصة وأما األطفال فتقع عليهم مناذج السلوك املنحلة ويرتكون‬
‫بال تربية يف البيت تؤصل هلم مروءة وإميانا‪ ،‬لُقطة يف الشارع لكل‬
‫ما هب ودب من قاذورات اجملتمع املتحضر بتقليد الرجل اجلاهلي‬
‫الدابة واملرأة اجلاهلية احمللِّسة الرضاء شهوة وحلمل أثقال‪.‬‬
‫هل نطلب إىل املرأة‪ ،‬وهي الضعيفة الضحية‪ ،‬أن تقوم ضد‬
‫التيار وتقوم بالقسط يف بيتها أمام أبنائها؟ أم تقتصر تربيتها على‬

‫‪651‬‬
‫إعداد خلادم تطبخ طبخا جيدا وتعلم كيف تغذي الطفل وتنظفه؟‬
‫كال! فإن مشكلة املرأة أبعد من ذلك‪ .‬إهنا أوال مسألة عدل‬
‫وتوزيع للرزق‪ .‬إن املرأة البدوية جتد توزانا بني عملها يف شؤون‬
‫العيش وبني حقوق أهلها وفق ما يسمح بذلك اجلهل والفقر‬
‫واملرض املتفشية فينا‪ .‬لكن املرأة احلضرية عاطل يف الطبقات املرتفة‬
‫ودمية وضحية حمالة بقالئدها‪ ،‬ويف الطبقات املسترتفة مطية لغواية‬
‫الرجل ولغواية التنافس اجملتمعي‪ ،‬ويف طبقات املستضعفني جائعة‬
‫عارية ال مكسب هلا إال أن متتهن وتنتزع من بيتها لتقذف عرضة‬
‫لعوادي األيدي القذرة‪.‬‬
‫ظلم واحتالل من جانب املرتفني احلاملني جلرثومة اجلاهلية‬
‫والفسق جيعل املرأة ضحية موافقة أحيانا عاجزة دائما‪ .‬ومنذ‬
‫أصبح الرجل ال يطلب منه بالء وال غناء وال قدم يف نفع األمة‪،‬‬
‫بل خيشى جانبه يتقى مكره وظلمه ودهاؤه ويقسم له من غنائم‬
‫الغارات نصيب ضاعت األسرة‪.‬‬
‫النصفة والعدل االجتماعيني مطلب أساسي ألي حتويل‪،‬‬
‫ونصفة املرأة من خصمها الكبري وهو الرجل شرط إلحداث جو‬
‫الطمأنينة واألمن على الرزق الضروريني لتعيش املرأة يف كنف حريز‬
‫ولكي تتفرغ الداء وظيفتها الكربى‪ ،‬أال وهي تربية الناشئة‪.‬‬
‫املرأة يف أسوة املرتفني أداة استهالك ودمية حمالة بقناطري‬

‫‪652‬‬
‫الذهب واحلجارة‪ .‬واحنراف املرأة يف هذه األسر أوضح داللة‬
‫على املهوى الذي تردت فيه املرأة املسلمة احملافظة باألمس ملا‬
‫غزاها وهي الضعيفة‪ ،‬منوذج صور السينما اليت قادها إليها الرجل‪،‬‬
‫وإحلاح هذا أن تكون له زوجة عصرية تكشف اجلسم‪ ،‬والتسابق‬
‫العام للظهور مبظهر احلضارة اجلاهلية‪ .‬ومع االنكشاف والتربج‬
‫اجلاهليني وما يتبع ذلك من تفسخ خمز تستهلك املرأة الغنية يف دار‬
‫اإلسالم ذهب العامل وجواهره قناطري مقنطرة‪ .‬يستورد هلا احلكام‬
‫ليهلوا هبا ويطيعوا رغبتها‪ ،‬ألهنا احلاكمة بأمرها كما هو الشأن‬
‫يف اجملتمعات املتفسخة‪ ،‬ذهب العامل وجواهره باستنزاف خزائن‬
‫الدولة‪ ،‬وتتكدس احللي يف بيوت أمة ليس هبا رجال يدخرون املال‬
‫ليصنعوا طائرة تقاتل العدو واقتصادا يطعم البائسني املاليني‪.‬‬
‫هذه املرأة املكللة املدللة نصفتها أن تعلم مع مثيالهتا وأمثاهلا‬
‫من أين يأيت اخلبز وكيف حترث األرض ومن أين يستعذب املاء يف‬
‫البادية ومن حيمل على ظهره وخيبز وحيلب البقرة‪.‬‬
‫ودون هذه متطلعة إىل موضعها امرأة فتحت عينها على الفتنة‬
‫فركبت احلافالت تزاحم فيها الرجل وغشيت السنما مع أبيها‬
‫وأخيها ورضعت لبان اهللكة فيما يقذف به الشارع أو يقذف به‬
‫املذياع والتلفاز‪ .‬هذه هي املرأة احلضرية املتعلمة املوظفة أو أختها‬
‫اجلارية يف موكبها‪ .‬جيتمع النساء يف جمالسهن يتناقلن فيما يتناقلن‪،‬‬

‫‪653‬‬
‫وأهم ما يتناقلن ما جد عند فالنة وفالنات من فساتني وحلي‪،‬‬
‫ولكل منهم يف كل يوم مطالب تأيت على راتب املوظفة ومثله‬
‫معه من رزق األسرة‪ ،‬وإذا أعجز إحداهن أن تنفق مما يف اليد‬
‫على عطور باريس وحرير إيطاليا فلها مندوحة فيما يثقل كاهل‬
‫األسرة ليشتت مشلها آخر األمر‪ .‬ومع كل هذا‪ ،‬ووقودا له‪ ،‬العرض‬
‫املهتوك بالليل والنهار‪ ،‬لكن من ختاطب وقد نسيت فسولة الرجل‬
‫معايل العرض مع نسيانه معاين اإلميان؟‪.‬‬
‫هذه هي املرأة املرتفة يف متعتها‪ ،‬إهنا قائمة قاعدة بشعار واحد‬
‫ومطلب واحد يستويل على فكرها وينهك حتقيقه املال والذمة‪،‬‬
‫إنه مطلب الزينة‪ .‬ومن وراء الزينة بيوت خربة وجيل حمروم‪ .‬إهنا‬
‫كارثة عظيمة!‪.‬‬
‫أما املرأة املسكينة ربيبة أسرة عدا عليها الزمن وفل منها‬
‫العائل‪ ،‬فهذه مضطرة لدخول معمعان التكسب‪ .‬إهنا ضحية‬
‫املدينة وضحية احلقول‪ ،‬وهي يف املدينة أشد إرهاقا‪ .‬تعيش أيامها‬
‫حتاذي الالهيات العابثات ال جتد عن عشرهتن حميدا‪ .‬ويف كل يوم‬
‫يتفتت من عزميتها على قدر ما تنوء به أنوثتها من دواعي املنافسة‬
‫يف معرض املكتب أو معرض املشغل‪ .‬إن املرأة يف معرض أبدا‬
‫وقد خلقها اهلل لتكون كذلك يف سياق املتاع والزينة اليت أخرجها‬
‫لعباده‪ .‬لكن اجملتمع الفاسد يتيح الفرصة للغرائز الدنيا أن تتفتح‬

‫‪654‬‬
‫يف جماالته‪ ،‬فيستحيل جمال العمل جماال لألمر الذي يستحوذ على‬
‫األذهان‪ .‬إن يف مكاتبنا حيث تكون املرأة مع املرأة والنساء مع‬
‫الرجال معارض للفتنة‪ ،‬فتنة متعددة اجلوانب مفسدة للذمم عائقة‬
‫لإلنتاج‪.‬‬
‫وإذا كانت إدارتنا معروفة بالكسل والعجز فذلك ألن وقت‬
‫الرئيس واملرؤوس ينقضي يف التربج لنساء اإلدارة والنظر يف معرض‬
‫الفتنة‪.‬‬
‫والنساء منذ خرجن من وظيفتهن الفطرية وعُلمن االستبداد‬
‫على الرجل ملا هان وماتت مروءته‪ ،‬ومنذ اختذن للزينة احملرمة ال‬
‫لألمومة‪،‬دخلن يف سوق باخسة حلقوقهن‪ ،‬وظلمهن الرجل من‬
‫حيث ظنن أنه أعطاهن املساواة معه‪ ،‬إهنن يف زمن الفتنة هذا‬
‫عنصر غري قار‪ ،‬إهنن رهن إشارة الرجل لعبة بني يديه أن مل أن‬
‫يكون هو‪ ،‬بفسولته أو بداعي ثقافته احملررة للمرأة‪ ،‬ثورا حترث هي‬
‫عليه يف حقول غوايتها‪.‬‬
‫وبينهما ينسل نسل ال شرقي وال غريب‪ ،‬األم تربجت تربج‬
‫اجلاهلية األوىل فال تقيم الصالة وال تنتهي عن فحشاء ومنكر‪،‬‬
‫وهي غشيت املنتديات واملالهي وجمالس العطالة وأخلت البيت‬
‫والرجل أعجبه جمتمع اجلاهلية يوم كان فيه ثاويا‪ ،‬فتعلم اخلالعة‬
‫ومحلها معه ألمثاله جرثومة فكرية يزاول حياته على ضوئها‬

‫‪655‬‬
‫وشخصا قائما هو وصاحبته اجلاهلية السيدة يقبل يدها تقليدا‬
‫للجاهلية وهو تقبيل مذلة يف الواقع ال تقبيل تقليد‪.‬‬
‫الزوج اجلاهلية‪ ،‬ونسميها زوجا لإلحتشام‪ ،‬منوذج هابط‬
‫النصف هبذه األمة مبا جين شبابنا الذي بعثناه ألوربا وأمريكا‬
‫يتعلم رذائلها من حيث كنا نرجو أن حيمل إلينا علما‪ .‬جاء هبا‬
‫أفعى رقطاء زرقاء ملكته كما ملكه الفكر اجلاهلي فسلمها قياده‬
‫وسلمناه حنن‪ ،‬عن طواعية املرتفني وغم أنف املستضعفني‪ ،‬زمام‬
‫أنفسنا فهو يقودنا برأي أساتذته ممتزجا برأي عقليته وهواها وما‬
‫«تبتكر» من «النصائح» حتملها إليه من «جمالسها» مع أبناء‬
‫عموهتا‪ .‬إهنا تكون ومثيالهتا الكثريات ببلدنا واجهة غازية تنفذ‬
‫فيما بني اللحم والعظم‪ .‬إهنن اجلاهليات يف بلدنا متضامنات‬
‫مدجنيهن بيد متمسكة بدوائر عواصمهن‪ .‬وتعطاهن أمسى‬ ‫يشددن َّ‬
‫الوظائف حمطات لتخريبهن وجاسوسيتهن ومكرهن املضاعف‬
‫بضعف األنوثة والدجانة ولو ترى إذ يعتلي بعض املتحلالت‬
‫منهن كراسي األستاذية يف معاهدنا! فتلك خمزاة أصبحنا ال نكاد‬
‫نتلفت إليها ألن اهلم ينسيك بعضه بعضا!‬
‫هذه «العقائل» ميتصصن املال والرجولة منا مصا‪ ،‬وهن مثال‬
‫مدجنيهن‪ .‬أما نسلهن فمسخ املسخ والكفر‬ ‫حيتدى ملن يف طبقة َّ‬
‫الصريح‪ .‬وهن هلم الناصحات الدليالت على مضان الزينة واملتاع‬

‫‪656‬‬
‫يف عواصم أوربا حيث يطري مرتفونا كل أسبوع بأسرع مما حتلق علينا‬
‫طائرات أخرى تقتل العناكب الغثائية وخترب‪ .‬وهن «العقائل»‬
‫يزدن على بنات احلي عتوا يف املطالب وإسرافا يكملن به نقصهن‬
‫يف عني أبناء العمومة إن اقرتن جبنس دون‪ ،‬فإذا برهنت إحداهن‬
‫خبدمة وطنها ومصاحله حىت تعترب كاجلندي يف بعثته فقد ذهبت‬
‫عنها لعنة النزول ملستوى املدجن‪.‬‬
‫أولئك هن التلميذات وهؤالء أستاذاهتن‪ ،‬وتسيل الدعارة من‬
‫أعلى كما يسيل القطران املشتعل حيرق ما يف طريقه‪ .‬وال يزلن‬
‫نساؤنا ينتظرن حمررا يعطيهن النصفة فهن رعية مستضعفة على‬
‫كل حال‪.‬‬
‫لكي تأمن املرأة على رزقها جعل اهلل هلا صداقا حقا هلا خملصا‬
‫وجعل هلا عند الطالق متاعا ومتتيعا باملعروف حقا على احملسنني‪.‬‬
‫وإمنا حياة األسرة ما بني النكاح والطالق فإن صينت املرأة بالعدل‬
‫اإلسالمي العام ووفرت لتقوم بوظيفتها قائمة بالقسط يف بيتها‪،‬‬
‫وإن ضمن هلا وزاع السلطان ما ميكن أن تغمطها نزوات الرجل‬
‫من حق فقد وضعت أسس األسرة القارة‪.‬‬
‫حق هلا أن ترث نصف ما يرثه الرجل اقتضاء الستقالهلن يف‬
‫التملك وقضاء لواجب الرجل يف القوامة‪ .‬وحق هلا أن يعطاها‬
‫صداقها ونفقتها باملعروف ما دامت زوجا أو مرضعة‪ ،‬وحق هلا‬

‫‪657‬‬
‫إن طلقها الرجل أن ميتعها متاعا مجيال‪ .‬وقد جيري بعض الفقهاء‬
‫املسلمني يف مهيع تقليدي فيعتربون املتاع عند الطالق أمرا مندوبا‬
‫إليه وال يعدونه واجبا‪ .‬ومبا أن اهلل جلت قدرته جعله حقا على‬
‫احملسنني أي واجبا عليهم‪ ،‬فهذا اإلجياب ينظر إىل عاقبة الطالق‬
‫فيكفل هلا رزقا حسنا إن انقضى صربمها على العشرة‪ ،‬وجيعل املتاع‬
‫باملعروف اعتبارا ماديا يدخله املطلق يف حسابه لكيال يطيش‬
‫ويظلم‪ .‬وحق للشريعة يف اإلسالم املنبعث أن تعترب املتاع يف سياق‬
‫التكافل وضمان احلقوق‪ ،‬وأن حتسبه مبا يكفي املرأة خزي الضياع‬
‫والتشريد من بيتها‪.‬‬
‫إن دعاة الكفر يزعمون املزاعم ويطعنون يف املقام املشرف‬
‫الذي خصصه اهلل رهبا للمرأة يف اإلسالم‪ ،‬يتكلمون يف الطالق‬
‫واحلجاب ويتكلمون يف املرياث املشطور‪ .‬وجييبهم املدافعون‬
‫باحلجج والبالغ اللفظي‪ ،‬وهم دعاة الكفر‪ ،‬يسمون اإلسالم‬
‫رجعية ويتمسكون مبزاعمهم خاصة يف التشريع اإلسالمي لألسرة‬
‫يتملقون بذلك أحالم الداعرين وأهواء املستعبدين للمرأة‪.‬‬
‫لقد وصفت يف هذه الصفحات حال املرأة يف بالدنا وصفا ال‬
‫يبلغ احلقيقة وال معاشرها‪ ،‬وما يب أن أثلب املرأة أو أنقص منها‪،‬‬
‫إمنا مهي أن اشري إىل موطن التخلي عن املسؤولية مسؤولية قوامة‬
‫الرجل على املرأة‪ .‬فإهنا أمانة بيده جعلها له رعية‪ ،‬فإن داستها‬

‫‪658‬‬
‫األقدام وامتهنتها األيدي واألعني حىت غاض حياؤها وذل مجاهلا‬
‫وتلوثت أمومتها فذلك الرجل ضيعها‪.‬‬
‫وصفت واقعا مكروها حقريا جيب أن نغريه‪ ،‬وفتنتنا بالنساء‬
‫السائبات يف شوارعنا جزء من فتنة صنعناها بأيد مرتفة مقلدة‬
‫مسخ‪ .‬إننا دفعنا املرأة املسلمة‪ ،‬وهي كانت ألجدادنا أما مقدسة‬
‫وزوجا مكرمة وأختا مرفوعة‪ ،‬إىل مسارح اللهو وعرضنا مفاتنها يف‬
‫صاالت الرقص العمومي وعلى السنما والتلفاز‪ .‬وإن قوامة الرجل‬
‫على املرأة تعين استبداد تربويا به يبدأ التغيري الرتبوي من داخل‬
‫األسرة‪ .‬وزاع السلطان يف اإلسالم املنبعث يفرض على الرجل‬
‫قوامة ال يهتدي إليها يف فتنته‪ .‬ولعلنا نضطر ألعمال املرأة خارج‬
‫بيتها زمانا ريثما نبتكر حياة مجاعية ال خترج فيه املرأة من خدر‬
‫عزها إال أداء لواجب من فروض الكفاية اليت ال يقوم هبا إال املرأة‪.‬‬
‫وشيئا فشيئا نتعلم كيف ننظم اقتصادا خيدم غاياتنا اإلحسانية‬
‫ويرفع املرأة إىل فطرهتا لتتحمل مسؤولية احلافظية لغيب الرجل‪.‬‬
‫وغيبه هو أسرته ونسله وعرضه وسكونه جلزئه احليوي وهو املرأة‪.‬‬
‫ظ‬ ‫ات لِ ْلغَْي ِ‬
‫ب بِ َما َح ِف َ‬ ‫ات َحافِظَ ٌ‬ ‫الصالِ َح ُ‬
‫ات قَانِتَ ٌ‬ ‫يقول ربنا‪﴿:‬فَ َّ‬
‫اللَّهُ ﴾ فال صالح للمرأة إال حبافظيتها‪ ،‬وماذا حتفظ إن ضيعت‬
‫البيت وضيعت النسل؟‬
‫كان نساء الصني قبل الثورة أمثولة للرخص‪ ،‬كن حلما على‬

‫‪659‬‬
‫وضم‪ ،‬وكن عابثات مهينات‪ .‬وتراهن اليوم عاد إليهن احلياء‬
‫وعادت إليهن العفة ونزعن ثياب الزينة وتساوين مع الرجل يف‬
‫الفقر كما تساوين معه يف اجلد‪ .‬وال درس لنا يف بالد اجلاهلية‬
‫عامل األنوثة الدوابية‪ .‬إن للمرأة يف كتاب اهلل وعدا باخللود يف‬
‫نعيمه كوعد الرجل‪ .‬وإن اهلل اقرتح عليهن منوذج نساء النيبء‬
‫اء‬ ‫ِ‬
‫سَ‬ ‫ليحذون حذوهن ويلحقن بالصاحلات قال عز وجل‪﴿ :‬يَا ن َ‬
‫ِّس ِاء إِ ِن اتـََّق ْيتُ َّن فَ َل تَ ْخ َ‬
‫ض ْع َن بِالْ َق ْو ِل‬ ‫النَّبِي لَست َّن َكأ ٍ ِ‬
‫َحد م َن الن َ‬ ‫َ‬ ‫ِّ ْ ُ‬
‫ِ‬
‫‪،‬وقـَْر َن في‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫فـَيَط َْم َع الَّذي في قـَْلبِه َم َر ٌ‬
‫ْن قـَْوالً َم ْع ُروفاً َ‬ ‫ض َوقـُل َ‬
‫الص َلةَ‬‫اهلِيَّ ِة ْالُولَى َوأَقِ ْم َن َّ‬ ‫بـيوتِ ُك َّن وَل تـبـ َّرجن تـبـ ُّرج الْج ِ‬
‫َ ََ ْ َ ََ َ َ‬ ‫ُُ‬
‫ِ‬
‫الزَكاةَ َوأَط ْع َن اللَّهَ َوَر ُسولَهَُ﴾‬ ‫ين َّ‬ ‫ِ‬
‫َوآَت َ‬

‫‪660‬‬
‫تربية من فشل‬
‫ يف تاريخ اإلسالم عصور فشل كما يف تاريخ كل أمة‪ ،‬بيد‬
‫أن فشل املسلمني يتخذ شكال تربويا فيه العربة ومن ورائه رمحة اهلل‬
‫الذي ال يهلك هذه األمة كما يهلك القرى بطشةً جبارة‪ .‬عندما‬
‫هتبط مهم املسلمني وينحدرون إىل أحط دركات الرتف خيافون‬
‫املوت وحيرصون على احلياة وينغمسون يف ملذاهتم غافلني عن‬
‫رهبم ال قدرة هلم على محل رسالة القسط والشهادة به بني الناس‬
‫وال إرادة‪ .‬وعند ذلك يبعث الرب عز وجل تربية هلذه األمة موقظا‬
‫ومنبها لتهب من غفلتها وختجل من فشلها‪.‬‬
‫إن فشل املسلمني يف عصرنا فشل ذريع يفضح الفرقة القومية‬
‫كما يفضح الغثائية الفردية‪ .‬إن هذه املاليني تنبض قلوهبا بوالء‬
‫هلل ورسوله ما يف ذلك شك‪ .‬والوالء اإلمياين يتجه باملؤمنني حنو‬
‫اقتحام العقبة وعبور دار الفتنة باجلأش الربيط والبأس والشدة‬
‫على الكافرين والرمحة بني املؤمنني‪ .‬هكذا يتجه الوالء اإلمياين إال‬
‫إن اعرتضه عائق يرتفه وحيبسه عن غايته مث يرده وحيبط جهده‪.‬‬
‫لو سألت كل مسلم على حدة لوجدت يف قلبه إسالما وإميانا ال‬
‫حيسن أن يعرب عنه حديثا على لسانه وال سلوكا يف حياته‪ .‬فالعائق‬
‫األول القتحام العقبة ولتحقيق القوة هو اجلهل باإلسالم كيف‬

‫‪661‬‬
‫خيرج من عامل القابليات إىل عامل الواقع‪ .‬وقد فشل دعاة اإلسالم‬
‫يف حماولتهم خلرق هذا العائق وإلخراج قابليات األمة‪ ،‬بعضهم‬
‫لبث يرتقب أن حتيي له الصحبة الفكرية واجلهاد الفكري أمة مفتتة‬
‫بني قوميات تعد باخلبز والزبد وبني خطيب اجلمعة ينذر بانقضاء‬
‫الزمان وقيام الساعة هلذا الفساد الغالب‪ ،‬وبعضهم كانت الفتنة‬
‫وطاغوت احلكم أضخم من جهاده ومقومات جهاده‪ ،‬فحارب‬
‫بالسيف أو استبطن الفتنة ليطهر البالد منها فما غلب رفقه عنف‬
‫اجلاهليني‪.‬‬
‫الشعور بالفشل يلون عقلية األمة يف حاهلا بلون قامت يائس‪،‬‬
‫وتوايل اهلزائم عليها وتوايل كذب القادة يف وعودها‪ ،‬وانغالق املنافذ‬
‫يزيد الشعور بالفشل تعمقا ويزيد اهلمم اتضاعا‪ .‬ويف هذا ينشغل‬
‫كل خبويصة نفسه‪ ،‬فعابد منزو وحموقل وموقد للفتنة راتع فيها‬
‫ومستضعفون خاضعون مقهورون‪ .‬وعلى سطح الفشل الساري‬
‫جمموعة من املهرجني املهيجني‪ ،‬ال يبدئون وال يعيدون‪ ،‬وخيبئون‬
‫الفشل املتسلسل يف خطب قومية أو بطوالت عاملية تلتهم ما‬
‫بيدنا من مال‪ ،‬ما أبقاه منه سرف القادة يف قصورهم وسفاراهتم‬
‫اخلارجية وأكثرنا لغطا يف جمالس األمم‪ .‬ماذا حتت الستار يا أيها‬
‫الغثائيون؟!‬
‫ورثنا حضارة إسالمية ال نزال نتنازع عليها‪ ،‬فهي حضارة‬

‫‪662‬‬
‫عربية يدعيها القوميون العرب‪ ،‬وخياصمهم عليها الفرس ألن‬
‫عقول الفرس كانت بانية احلضارة‪ ،‬وينازع الكل سيف اجلندي‬
‫الرتكي الذي دافع عن احلضارة‪ .‬وملا ذهبت القوة احلضارية ومل‬
‫يبق منها إال «فلكلور» نعرضه على األمم ومسة لفشلنا وإفالسنا‬
‫التارخيي من حيث نظن أنه وسام جملدنا الغابر‪ ،‬تقلصت األمة‬
‫الغثائية إىل مواقعها القومية وتفتتت وحدهتا الثقافية حىت ألغت‬
‫كل رباط يربطها باإلسالم‪ .‬قبل اخرتاع القومية العربية كان للعرب‬
‫انتماءات فرعونية وفينيقية وأشورية‪ .‬وكان االنتماء هلذه األثريات‬
‫لباسا اكتسته لربالية الربع األول من القرن العشرين امليالدي تقليدا‬
‫لرتكيب جمتمعات الغرب‪ .‬وفشلت هذه االنتماآت ألهنا إمنا كانت‬
‫تغطي نفس البضاعة وهي الغثاء التارخيي‪ ،‬عربةُ اهلل لنا إن كنا‬
‫نعقل‪.‬‬
‫مث اخرتعوا القومية العربية وانضوى املسلمون يف ركنهم حتت‬
‫لواء عصبياهتم فانقسم الفشل وتضاعف بانقسامه‪ ،‬مث اجتمع‬
‫الفشل الرعيب يف نداآت األبطال التائهني الفاسقني استعدادا‬
‫للضربة القاضية ضربة اليهود الثانية اليت من ورائها رمحة اهلل‪ .‬فلنا‬
‫معشر األمة املسلمة يف كل زاوية من زوايا األرض فشل نسرته‬
‫بالعويل أو اخلطب املزجمرة أو احلفالت الصاخبة‪ .‬لنا يف أندوسيا‬
‫فشل اقتصادي تغطيه بنايات الرأمسالية الدولية يف العاصمة‬

‫‪663‬‬
‫ويفضحه يف شوارعها وضواحيها العرايا اجلياع املشردون‪ .‬ولنا‬
‫يف بالد قومنا العرب فشل مطلق تغطيه آمال النفط ويفضحه‬
‫الصهيوين يف القدس الشريف ويف حرم أبينا إبراهيم عليه السالم‪.‬‬
‫ولنا يف باكستان فشل سياسي كان كذلك ألن أمة اإلسالم‬
‫بباكستان توحدت على أساس غري تربوي وغري قابل خللق القوة‬
‫اإلسالمية من الغثاء اإلسالمي‪ .‬ولنا بإيران فشل مذهيب ألن قومنا‬
‫العرب امتهنوا قوم موالنا سلمان على مدى الدهر وأنكروا على‬
‫من أحب آل البيت تشيعهم وانفصل املسلمون طائفتني لكل‬
‫منهما فشله وكفره‪ ،‬فال أمل أن يثق غثاؤنا السين بغثائنا الشيعي‬
‫إال برتبية من فشل‪ ،‬تربية منهاجية تعود بنا إىل منبع اإلميان يف‬
‫كتاب اهلل وسنة رسوله بقيادة الربانيني املعلمني شديدة ال ُقوى‬
‫ذوي املِرة‪.‬‬
‫جاءت هزائمنا مليقات معلوم هو ميقات الطاغوت القومي‬
‫املفرق جلماعة املسلمني‪ .‬كانت هذه اهلزائم وال تزال ولن يذهب‬
‫عنا احلزن حىت نفهم عن اهلل آياته وتربيته‪ .‬وهي فادحة فاضحة‬
‫جزاء وفاقا لرغبتنا عن العدل ولرغبتنا عن شرف محل الرسالة‬
‫والشهادة بالقسط بني الناس‪ .‬ملا استفحل الطاغوت القومي سلط‬
‫اهلل علينا بذنوبنا أخبث أعدائه يف أقدس بقعة لنا وعلى نسق‬
‫خنجل منه لو كان بنا رمق من مروءة إن مخدت جذوة اإلميان‪.‬‬

‫‪664‬‬
‫وهكذا وقع يف ماضينا املفتون‪ ،‬ويف ظروف تشبه ظروفنا شبها‬
‫شديدا‪ .‬كان ذلك يف عهد بلغ فيه بذخ الدولة العباسية وتبذيرها‬
‫وظلمها أوجه‪ .‬وبلغت فيه قصور بغداد أهبى زينة تكون للمرتفني‪.‬‬
‫وبلغ فيها تشتت األمة يف قوميتها شأوا بليغا‪ .‬يف هذا القرن‬
‫السابع اهلجري بعث اهلل عباده التتار على دار اإلسالم بعد أن‬
‫كانت اهلزمية األوىل على يد الصليبيني من قبل مث جهاد ويل اهلل‬
‫اجملاهد صالح الدين درسا غري كاف‪.‬‬
‫جاء جنكيزخان فوجد أمة فاشلة‪ .‬وغزا مائة ألف فارس‬
‫مهجي حضارة اإلسالم كلها فما وقف يف وجههم واقف‪ ،‬ودخلوا‬
‫عاصمة بغداد وهبا مليون ونيف نسمة ذحبوا منهما ‪ 800.000‬ذبح‬
‫الكباش‪ .‬وكانت املرأة الترتية تقاتل فتدخل بيتا ال ميتنع فيه عنها‬
‫ممتنع حىت حتز رؤوسهم مجيعا‪.‬‬
‫كان أخبث اهلمج يدوسون حرم اخلليفة املرتف وينتهكون‬
‫أعراض املسلمني‪ .‬وكان درسا إهليا قاسيا‪ ،‬خذل سبحانه أمة‬
‫خذلته وعصت أمره‪ .‬فما هنضت لفرقتها وأثرة حكامها وفساد‬
‫أخالق مرتفيها ملقاومة وال هزت رأسا جلهاد وأىن للفاشلني يف‬
‫اللذات أن جياهدوا!‪.‬‬
‫حىت مل يبق ببالد اإلسالم إال طائفة من املؤمنني كانوا عبادا‬
‫هلل ما هلم قومية يستعلون هبا على الناس وال هلم عصبية يأكلون هبا‬

‫‪665‬‬
‫اآلخرين‪ .‬إهنم هذه الفئة من املماليك ببالد مصر‪ .‬كان هلم جند‬
‫يسبحون اهلل حني كان قضاة بغداد وعلماؤها يتملقون اخلليفة‬
‫املزعوم املستأسد على خدم قصره ببغداد‪ .‬وكان جندا ريب على‬
‫القوة واإلميان فنهض للقاء عدوه وكانت هزمية علمنا اهلل هبا يف‬
‫ذلك اجليل ولكل األجيال أن اهلل امنا يتقبل من املتقني‪ .‬لكن‬
‫نسينا وعدنا فعاد اهلل علينا بسوط تأديبه‪.‬‬
‫فشلنا عود على بدء‪ ،‬وإسالمنا وحده ينقذنا ويربينا للقاء‬
‫عويصات مستقبل اإلنسانية بعد اقتحام عقبة حاضرنا‪.‬‬
‫كان بالط اخلليفة املزعوم وكرا للشهوات ومنبتا للرذيلة‪ ،‬ومن‬
‫حوله كان طاغوت القومية العربية قد أهنى عمله التخرييب يف تفريق‬
‫األمة‪ .‬وها حنن اليوم لنا بالطات تزري ببالط اهلررة املستأسدة‬
‫بذخا وفسادا‪ ،‬وحفنة قليلة من اليهود النجسني تدوس حرم اهلل‬
‫وحرم املسلمني‪ .‬وال حتدثنا أنفسنا جبهاد حنن العرب إال دعاية‬
‫فاشلة‪ ،‬وما ميسنا شيء إال عاديناه بفشلنا‪ ،‬فدميقراطيتنا فشل‬
‫وهي يف بالد اجلاهلية جناح‪ ،‬واشرتاكيتنا فشل وهي املذهبية املعبئة‬
‫لكل متخلفي العامل الثوريني على صراط اجلاهلية بال روغان وحىت‬
‫طائرات اشرتيناها متائم لنرقي هبا هزائمنا وما معها من دبابات‬
‫تفشل بني أيدينا ويسري إليها من غثائيتنا‪.‬‬
‫يعزو املفتونون منا‪ ،‬علنا جهرا أو خفية ونفاقا‪ ،‬فشل األمة‬

‫‪666‬‬
‫املسلمة إلسالمنا ذهابا مع ما هتمسه إليهم شياطني اجلاهلية أو ما‬
‫تصرح به وتكتبه ومتنطقه‪ .‬وهو كذلك واهلل! ما فشلنا إال بإسالمنا‬
‫حني ضيعناه‪ ،‬وحني اختذنا ألنفسنا شخصية قومية جاهلية وتلقينا‬
‫الدواء من العقول الصهيونية الدساسة كما تلقينا من طائراهتا‬
‫الوبال‪ .‬هذا منطره بالقوة وذلك نفغر له فأنا متهللني مسارعني‬
‫إليه غري معاجزين فيه‪ .‬يكفي أن نذكر باليهودي العاملي احلاذق‬
‫الداهية يف شخص أستاذ مرتفينا ومتنبئهم وصديقهم القومي‬
‫احلميم عدو اهلل ورسوله واملؤمنني املسمى رودنسون‪ .‬يتتلمذ له‬
‫مثقفونا الفاسقون قرناء الدمى األوربيات الزرقاوات‪ ،‬ويتيه إعجابا‬
‫بنفسه من حظي منه بأسطر يضعها مقدمة لثرثرته الفاسقة‪ .‬وهو‬
‫هو عدو اهلل كتب يف حياة رسولنا املعظم احلبيب حديثا أودعه‬
‫سم احلقد اليهودي وعصارة املكر والدهاء املتولن كاحلرباء‪ .‬وجاء‬
‫كتابه ذلك مبا مل تستطعه أوائل أعداء اهلل ورسوله من املستشرقني‬
‫وال أواخرهم‪ ،‬إذ سخر رصيد اليهودية اجملادلة على مر العصور‬
‫ليثبت أن حممدا كان صادقا يف إخباره عن الغيب غري كاذب‪،‬‬
‫لكن صدق مرضي يفسره علم النفس الفرويدي ويفسر ما لقي من‬
‫جناح علم االجتماع املاركسي‪ .‬وهكذا يتعلم أشباه الرجال أحالم‬
‫العصافري املدجنون من ذراينا كيف كان الفشل بذرة يف كيان هذه‬
‫األمة‪ ،‬يلقنون ذلك يف كل صفحة من صفحات كتب اليهودي‬

‫‪667‬‬
‫العبقري‪ ،‬وعبقر بالد من بالد الشياطني موطنها هذه األيام يف‬
‫أرض القدس الشريف‪ .‬حني يكتب عن الرسول الكرمي فإمنا يعلن‬
‫عن عالمات الفشل‪ ،‬وحني يكتب عن رأمسالية املسلمني فهو‬
‫يتسقط ضعف األمة يف فتنتها ليثبت أن املسلمني أمة مرابية‬
‫غشاشة فاشلة يف احلقل االقتصادي فشلها يف ميدان النبوءة وحني‬
‫يكتب القذر عن أصدقائه القوميني العرب على ضوء املاركسية‬
‫اليت يتبىن فلسفتها حني يصادف التحليل املاركسي هوى عنده‬
‫ويزعم أنه ينقدها إن كانت ال تساير مكره‪ ،‬يربت على أكتاف‬
‫األصدقاء برفق ويلوح هلم بالنماذج الشيوعية اللماعة وينصح‬
‫بالردة اجلماعية مشيدا مبثال ألبانيا الضائعة ومثال كافرها القائد‬
‫عدو اهلل‪ ،‬وما من صفحة إال تؤكد أن اإلسالم فشل وأن املسلمني‬
‫ال وزر هلم إال بضاعة اليهود العاملية الثقافية‪.‬‬
‫إن هزمية اإلمام املهدي السوداين ال تعد فشال ألن الرجل ومن‬
‫معه من املؤمنني ماتوا شهداء غري مدبرين وكانوا أعزاء بإسالمهم‪،‬‬
‫وال يعد فشال تغلب الكفر الطلياين على األمة املسلمة بقيادة‬
‫املشايخ السنوسية‪ ،‬وال يعد فشال تشريد اإلخوان املسلمني‪ ،‬وال‬
‫يعد فشال حىت اخليبة االنتخابية جلماعة اإلسالم بباكستان‪ ،‬ألن‬
‫كل هؤالء إسالمهم صحيح وإمياهنم‪ .‬لكن الفشل اإلسالمي‬
‫الذي رأيناه حىت حتت أقالم مثقفينا القالئل ممن ينتمون لإلسالم‬

‫‪668‬‬
‫ال يزال ينتظر بعثا ربانيا‪ .‬ففشل الساسة وفشل املثقفني‪ ،‬فشل‬
‫الفكر واإلرادة يرفضه شبابنا املتوثب الضائع يف الفوضى‪ .‬وإن‬
‫لنا ملنابع للقوة كفيلة أن تذهب عنا مرض الغثائية وجتمعنا أمة‬
‫واحدة حرة يكفي أن يقوم رجل واحد بيده السلطان وبقلبه إميان‬
‫وإحسان فينادي بالصالة اجلامعة‪ ،‬ويستبد غري عاجز‪ ،‬وإذا فشلنا‬
‫أضحى قوة وجناحا‪ ،‬وإذا حنن أهل لتحرير العامل بعد حترير أنفسنا‪.‬‬

‫‪669‬‬
‫احلرية واملسؤولية‬
‫ إن الرتبية تأثري يتشربه كيان الفرد واجلماعة تشربا من‬
‫رموزه ومناذجه‪ .‬وهذه أمتنا شعوب متفرقة وقبائل تشربت الفشل‬
‫وربيت عليه ابتداء من طفولة الطفل املطروح للعوادي يف غياب‬
‫األمومة واحلشمة وغياب األبوة القوية الناجحة‪ ،‬مث مرورا بالنماذج‬
‫اهلابطة يف الشارع واملدرسة‪ ،‬مث عندما يتيقظ املسلم الناشئ يف‬
‫الفتنة للحياة العامة تستقبله أشد النماذج نكرة وأحقها أن تقنعه‬
‫بأنه عضو أشل يف جسم خنر بظلمها يف حماكم القضاة املرتشني‬
‫وبفسولتها يف تلمذة املثقفني املسخ لسادهتم وعمومة وأمومة‬
‫زوجاهتم‪ ،‬مث بتقلبها احلربائي على ألوان اإليدولوجيات السياسية‪.‬‬
‫وآخر األمر جيد املسلم الناشىء نفسه نكرة عددية يف خضم‬
‫الغثاء له احلرية أن يتسكع يف مالهي اإلقطاعية اللربالية وسنمات‬
‫يفسق ويَطعم أو َيوع‬
‫االشرتاكية العتيدة‪ ،‬وله احلرية أن يك ُفر أو ُ‬
‫وميوت أو حيىي هبمة لقيطة‪ .‬وجيد نفسه عليه مسؤولية واحدة‪،‬‬
‫مسؤولية ضغط باهلراوة أن يسري مع الركب الغيا بشعاره أو ممجدا‬
‫لفجاره‪.‬‬
‫هبذا الوعي جيابه شبابنا احلياة‪ ،‬وهبذا الوعي يقادون يف‬
‫العتيمة‪ ،‬حىت إذا سنحت الفرصة واعتلى أحدهم‬ ‫مسارب الفوضى َ‬

‫‪670‬‬
‫على الرقاب كفر وفجر مقتديا برؤوس الفسق وتسلى عن ثوريته‬
‫واعرتاضه باألموال ينهبها رشوة من املساكني أو غنيمة من مال‬
‫املسلمني‪ ،‬وتسلى عنها بأعراض املسكينات تعلم صغريا أن يهينها‬
‫تشبها مبثال السنما فهو اليوم كبريا يقتنصها بسلطان احلضارة‬
‫املفلسفة احملررة للمرأة‪.‬‬
‫النماذج اهلابطة أولتنا تربية على الفشل‪ ،‬وأورثتنا ختاذال إغراء‬
‫اجلاهلية ثقافتها وأثاثها‪ ،‬فالنعي حريتنا اال هنبا لللذات ومسؤوليتنا‬
‫إال فرصة لإلثراء متواطئني مع طاغوتنا‪.‬‬
‫ولعمري إن تعفننا وامنساخنا وفشلنا بلغ من الرذالة ما أصبحت‬
‫تعافه حىت النفوس العادية‪ .‬وإن ببالدنا رأيا ممزقا بني أنصار‬
‫احلريات ‪ :‬هؤالء يدعون‪ ،‬قبل مرحلة االنقالب االشرتاكي‪ ،‬حلرية‬
‫اختيار ممثلة يف انتخابات هزلية‪ ،‬وملسؤولية قوامها اللعب على‬
‫حبل التوازن مع األحزاب السياسية على هامش األمة وسطحها‬
‫وعلى حساهبا كما يقولون‪ .‬أما اآلخرون ببالد االنقالبية فهم‬
‫زعماء حترير اإلنسان حتريرا واحدا هو عندهم الغاية والنهاية‪ ،‬حترير‬
‫االشرتاكية من والء اهلل لوالء الزعيم ومسؤولية التقليد لالشرتاكيات‬
‫الناجحة‪ 1‬بأصالة قومية خالقة!‪.‬‬

‫‪ 1‬جيادل اليوم تالمذة االشرتاكية العلمية يف زعمها‪،‬وبعد اهنيار صرح عامل الشيوعيةبأن ذلك االهنيار‬

‫‪671‬‬
‫وما تنتظر األمة إال قيادة طليعية تصدقها وتسلس هلا القياد‬
‫إن جاءت بربهان صدقها وعنوان رجولتها‪ .‬إن الفاشلني يكذبون‬
‫على األمة ومينوهنا األماين‪ ،‬وإهنم واهلل ال يرون أمامهم إال ظالما‬
‫يف ظالم‪ ،‬وما عهد ذلك الوعيد املوقوت إلسرائيل ببعيد! اعرضوا‬
‫على األمة وجها مؤمنا غري منافق مث قودوها حلرية الرجال ومسؤولية‬
‫الرجال‪ ،‬قودوها حلرية اقتحام العقبة ومسؤولية اقتحام العقبة‪.‬‬
‫إنكم يا قادتنا وهذه األمة من ورائكم تغررون هبا ال ترجون‬
‫هلل وقارا وال تستعدون للقائه إحلادا وبوارا‪ ،‬إنكم على رقابكم‬
‫طوق العبودية لشهواتكم فهي منبع فشلكم‪ .‬وإن برقابكم‬
‫ربقة ثانية أشد مسكا بزمامكم وأشد سلطانا على نفوسكم‬
‫املريضة‪ ،‬إهنا ربقة التبعية للفكر العاملي الناجح يف نظركم‪ .‬هذه‬
‫هي أمتنا الغثائية ختاف املوت وحترص على احلياة‪ .‬وإن رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم حني وصف غثائيتنا ما أنكر انتسابنا‬
‫إليه وال طرحنا من محاه‪ ،‬فال ختافون املوت الذي حيول بينكم‬
‫وبني شهواتكم وقصوركم فحسب بل ختشون أكثر من املوت أن‬
‫تضيع مسعتكم أمام املإل اجلاهلي‪ ،‬فبعضهم يتقرب آلهلة الشرك‬
‫اإليديولوجي حياذيهم بتسوله لسالح ال يعتم أن يفشل يف أيدينا‬
‫الغثائية‪ ،‬وبعضهم يتعبد آهلة الدوابية احلرة‪ ،‬يشعر مبسؤوليته عن‬
‫الدميوقراطية‪ ،‬مظاهرها وطقوسها النيتها العادلة‪ ،‬ويشعر مبسؤوليته‬

‫‪672‬‬
‫يف اتباع اخلط العاملي على األسلوب العاملي‪ ،‬فأنتم وامي اهلل ركاب‬
‫اجلاهلية بني ظهرانينا‪،‬وأنتم لنا بئس الرمز وبئس النموذج‪.‬‬
‫إن عليكم أمام اهلل مسؤولية يوم يكون املؤمنون أحرارا حتت‬
‫ظل اهلل‪ ،‬أفيزج بكم إىل جهنم وأنتم ال تشعرون‪ .‬وإن لكم من‬
‫ورطاتكم يف الدنيا وخزيكم أمام عدوكم لعذابا وهوانا فال جتعلوه‬
‫عربونا هلوانكم وخزيكم يوم يعرض الناس على رهبم‪ .‬ومن يسمع‬
‫منكم نبأ اآلخرة كما يسمع تالمذة رودنسون نقد أبيهم الروحي‬
‫مبنطق اإلسالم ال مبنطق اجلدال ويستهني بوعيد اهلل لكل متكرب‬
‫جبار فإن علينا مسؤولية النصيحة الرفيقة وله حرية أن يتحمل ما‬
‫ُحِّل حىت يقرع عليه الباب صاعقة من أمر اهلل أو أمر الناس‪ ،‬وما‬
‫هي من الظاملني ببعيد؟‪.‬‬
‫إنه ال معىن للحرية وال للمسؤولية يف جمتمع سائب فاشل‬
‫كمجتمعنا‪ ،‬إن كان للناس يف جاهليتهم احلضارية مفهوم للحرية‬
‫الفردية يف بالد الفوضى املنظمة ومفهوم للمسؤولية أمام اجلماعة‬
‫يف بالد اإليديولوجية‪ ،‬فنحن ما يصح أن يكون لنا مفهوم للحرية‬
‫واملسؤولية ألن فوضانا ال نظام معها يرجى وألن استبدادنا‬
‫اإليديولوجي حرباء هلا حربائيتها تلون ومن حريهتا وفشلها‬
‫تلونات‪ ،‬فتغدو علينا بشعار ميحوه شعار الليل‪ ،‬وبكالم بالليل‬
‫ميحوه كالم النهار‪.‬‬

‫‪673‬‬
‫إن احلرية سلوك وإن املسؤولية سلوك‪ ،‬وما دمنا حنن ال سلوك‬
‫لنا إال يف حلبة الكالم إذ حنن أبطاهلا‪ ،‬فال حرية لنا إال أن نسبح‬
‫حبمد الزعماء واألمراء وال مسؤولية علينا إال أن نستمع خلطاباهتم‬
‫عن احلرية واملسؤولية‪.‬‬
‫ال سلوك للفرد منا وال للجماعة بل ختبط عشوائي‪ ،‬فال‬
‫حرية لنا ترجى وال عبء ينتظر من الفاشلني أن يتحملوه‪ .‬خلقنا‬
‫اهلل عز وجل ملشروع عظيم وسلوك يصلنا إىل احلرية من سلطان‬
‫العامل وسلطان نفسنا الساقطة بنظرها للعامل‪ ،‬ويصلنا الستحقاق‬
‫مسؤولية خالفته تعاىل يف األرض‪ ،‬فجاء حكامنا وبدلوا نعمة اهلل‬
‫علينا كفرا‪ ،‬ووعده لنا بوعود كاذبة خاطئة‪.‬‬
‫احلرية واملسؤولية تلخصها كلمة التوحيد ال إله إال اهلل‪ .‬إهنا‬
‫برنامج احلرية من طاغوت املتأهلني وإهنا مسؤولية أمام من نوحده‬
‫عن قيامنا بأمره واتقائنا لوجهه الكرمي‪ .‬وحرية قادتنا يلخصها‬
‫شعار القومية االشرتاكية املنافقة بادعائها اإلسالم‪ .‬فلنا حرية‬
‫القتال القومي بني الكردي املسلم والعريب املسلم‪ ،‬ولنا حرية‬
‫التناحر بني البنجايب املسلم والبنغايل املسلم‪ .‬ومينعنا من اجلدوى‬
‫أننا اشرتاكيون ومن الفاعلية أننا مسملون ومن مث فنحن أمة‬
‫فاشلة‪.‬‬
‫ال يقرتح القادة على األمة اليت عافتهم مبا عافت احنالل‬

‫‪674‬‬
‫األخالقية وتفسخ الذمم وعار اهلزمية إال ناموسا مشركا جبارا‬
‫خيلط علينا معامل إنسانيتنا وعزنا من حيث يومهنا أنه يكمل لنا‬
‫مقومات النهضة والقوة‪ .‬اعترب مثال الربنامج اإليديولوجي الذي‬
‫اقرتحه معتوه من قادتنا ذهب اهلل جبسمه بعد أن ذهب بنوره هذا‬
‫الفيلسوف الزعيم ببالدنا أندونسيا وضع برنامج التحرر شركا باهلل‬
‫على شكل عقيدة مخاسية مساها ‪« :‬بانتجا سيال»‪ .‬ما وسعه أن‬
‫جيهر بالكفر يف دار اإلسالم فأخفى ذلك إذ دمج يف عقيدته‬
‫األلوهية‪ .‬عقيدته مخسة ال واحد‪ ،‬هي ‪ :‬اإلله‪ ،‬واإلنسية والقومية‪،‬‬
‫والدميقراطية‪ ،‬والعدالة االجتماعية‪.‬‬
‫مخسة أكثر من واحد ! والشرك له اجملد يف عامل اجلاهلية ويف‬
‫عامل رؤوسنا! ورؤوسنا ال جيرؤون أن جيعلوها «بروميثية» جاهرة‬
‫كما فعل عدو اهلل برتكيا فلذلك يضيفون اإلنسية وما بعدها إىل‬
‫األلوهية إشارة إىل حتررهم من عقيدة التوحيد وإضاعتهم ملسؤولية‬
‫ختطفوها بزعامتهم املهيجة البطولية‪.‬‬
‫ومثل هذا الشرك وأشباهه لغة شعاراتنا اليت سيستبدلنا اهلل‬
‫مبخازيها عزا حتت ظل ألوهيته‪ ،‬غدا القريب حبوله وإرادته ال‬
‫حبولنا‪.‬‬
‫إن احلرية اإلباحية ما تتمناه النفوس اخلبيثة‪ ،‬وإهنا أيضا أقصى‬
‫ما تكونه احلرية يف بالد الفوضى االنتهازية‪ .‬ذلك ألن املسؤولني‬

‫‪675‬‬
‫ال إرادة هلم يستقلون هبا‪ ،‬فالهم يستبدون على أنفسهم ليخلقوا‬
‫رجولة يستبدون هبا على رعيتهم استبدادا تربويا ربانيا‪ ،‬وال هم‬
‫يطلبون إن كانت هلم إرادة إال بطولة قومية إشرتاكية يتوراثوهنا‬
‫طالبا وغالبا‪.‬‬
‫فشل لن يربينا منه إال إرادة قائد مؤمن قوي‪ ،‬وعبودية ما‬
‫أخرجنا منها إال سلوك قيادي مستقل يرسم اهلدف فيسبق إليه‬
‫ويلفت األنظار بصدقه ويلفت القلوب بصفائه‪ ،‬مث يستبد مربيا‬
‫حرا مسؤوال‪.‬‬
‫يف غياب الرمز اإلسالمي الضائع منذ اإلمام علي ويف ضآلة‬
‫النموذج العام للمسلمني الراسب يف بالدنا من بقايا امللكية‬
‫العاضة رسوبا شاهدا بفتنتنا اإلسالمية األوىل فتنة التسلط على‬
‫احلكم‪ ،‬هذا الفراغ ميأله مناذج احلرية اجلاهلية والبطولة اجلاهلية‪.‬‬
‫مدراسنا معاطن للفتنة تطبع على قلوب أبنائنا صور البطوالت يف‬
‫أي مدرسة لنا إال إن درست‬ ‫تاريخ اجلاهلية‪ ،‬وال تسمى جامعةً ُّ‬
‫فلسفة اليونان وحضارة ترومان‪ .‬فالنموذج األعلى يف أدمغتنا هو‬
‫اجلاهلي البطل نرتجم من موقع فشلنا بطولته املوروثة استخداء‬
‫أمام كل صعلوك تقذف إلينا به اجلاهلية أستاذا يف جامعاتنا أو‬
‫مستشارا خبريا لقادتنا‪ .‬وأحيانا نكون حنن أبطاال لنا من البطولة‬
‫كفرها‪ ،‬ولنا من استقالهلا التحرر اإلباحي‪ ،‬ولنا من رجولتها‬

‫‪676‬‬
‫ومروءهتا البهلوانية العاملية العبني على احلبال لنوهم قومنا بأن‬
‫حركتنا حرة مستقلة‪.‬‬
‫وعلى قلوبنا تنطبع مناذج النجاح اجلاهلي‪ ،‬فأكثر ما يسلك‬
‫على ضوئه قاضينا أن يتفقه يف قانون الكفر ليتسنم املناصب‬
‫فتكون له حرية االرتشاء ومسؤولية الردع للمظلومني كيال ينتصروا‬
‫على اخلصم املرتف‪ .‬وأكثر ما يسلك اآلباء واألمهات تقليدهم‬
‫احلر للنموذج اجلاهلي وتعبدهم للرمز اجلاهلي اهنماكا يف العبث‬
‫بل اخلالعة والدعارة كمذهب اجتماعي منسق‪ .‬وعلى اهلامش قوم‬
‫فاشلون فشل املظلومني املستضعفني‪ ،‬ما نالوا نصيبا من الثقافة‬
‫املسمومة وقاهم اهلل شرها‪ ،‬أو قاوموا التيار فكانوا من األخيار‪.‬‬
‫وهؤالء هم الوارثون‪ ،‬ينشؤون غدا إن شاء اهلل يف ضحى‬
‫اإلسالم املشرق منوذجا للتحرر واملسؤولية يستبدون استبدادا‬
‫تربويا‪ 1‬ال يتصاحل قيد شعرة على االجتاه يستبدون استبدادا ال‬
‫معىن بغريه للحرية وال للمسؤولية‪ .‬سيكونون قائمني بالقسط إذ‬
‫يردعون الفتنة وأوكارها ردعا مربيا غايته االستتابة واحلد‪ ،‬إن أعيت‬
‫احليلة‪ ،‬وإن أضحى لإلسالم متكن يف األرض جيعل ذلك حكمة‬
‫وموعظة حسنة‪ .‬وسيقومون بالقسط يقظني متعاونني حىت تسري‬

‫‪ 1‬حيثما حتدثت عن «االستبداد الرتبوي» فإمنا أعين به السلطة األخالقية اليت تفرض حضورها‬
‫واجتاهها بالسلطان املعنوي والسلوك النموذجي‪،‬يكون سلطان احلكم يف خدمة احلق واألخالق والعدل‬
‫سائرا يف ركاب الشورى‪،‬ال االستبداد السلطوي القهري احلاكم هبواه‪.‬‬

‫‪677‬‬
‫إىل األفئدة كلها رمحة الربانية ورفق الرتبية وحمبة احلرية اإلسالمية‬
‫واملسؤولية اإلسالمية‪ .‬يف البيت يفرض الربانيون منوذجا‪ ،‬ويف‬
‫احملكمة وكرسي السلطان وأبوة األستاذ‪ ،‬يستبدون بصالحهم‬
‫ويستبدون حبصارهم الثقايف يصدون أعالم اجلاهلية ويطردون‬
‫إعالمها من األمساع والعقول‪.‬‬
‫إن حرية اإلسالم ومسؤوليته هلا معىن واحد‪ ،‬هو أن نسري إىل‬
‫األمام بيقظة ومضاء تقتحم كل عقبة ونستحلي كل مر ونقوى على‬
‫كل مكروه‪ .‬إذا اجتمع لنا اثنا عشر ألف مؤمن اقتحمنا القدس‬
‫ولو هبروات ال حنسن صنع خري منها لنلقى إحدى احلسنيني‪ ،‬ولن‬
‫يغلب اثنا عشر ألف مؤمن من قلة‪ ،‬وعدا من نبينا غري مكذوب‪.‬‬
‫وإن قل الزاد حفرنا أرضنا ولو باألظافر لنستنبت طعام احلرية هنيا‬
‫مريا بديال لطعام اخلزي واملذلة املتمثل يف قمح أمريكا‪.‬‬
‫وإن أعوز الدرهم طرحت لنا الفالحة خامتها الفضة بعد‬
‫أن تطرح أختها املفتونة باألمس قناطريها من األحجار واملتاع‬
‫األصفر‪.‬‬
‫تلك هي احلرية وتلك هي املسؤولية‪ ،‬وهو تصور ما يعرفه‬
‫اجلاهليون سواء من ينصبون وثن احلرية حجراً مشرفاً على برهم‬
‫وإباحية يف أخالقهم وفوضى متحدية لنظامهم‪ ،‬أو اآلخرون‬
‫املستعبدون للدابة اإلنسانية حتت نري االقتصاد جتره جراً وتلهث‬

‫‪678‬‬
‫طالبة احلرية فيجيب عن هلاثها جهاز القمع اإليديولوجي‪.‬‬
‫إن احلرية واملسؤولية أول اجلهاد اإلسالمي وأول شرط القتحام‬
‫العقبة‪ .‬إن اهلل عز شأنه ملا سألنا عن كنه اقتحام العقبة‪ ،‬وعجزنا‬
‫جبعل عبوديتنا له واسرتمحناه دلنا أن اقتحام العقبة هو أوال فك‬
‫الرقبة‪ .‬ولنرتك الفقيه الشرعي جيتهد لنا يف تفسري استعباد أسرى‬
‫احملاربني اجلاهليني اجتهادا حرا ينسينا تفاهة جيل اإلسالم الفكري‬
‫الذي خاض حبرية!‪ ،‬معارك مع املستشرقني ليثبت أن العبودية يف‬
‫حق الكافر كذا وكذا‪ ،‬وأنه ال عبودية يف اإلسالم وما أشبه هذا‬
‫من الرتهات‪ .‬إهنم مسخوا اإلسالم إذ برتوه من املغزى العظيم‬
‫اخلالد الستعباد الكافر األسري كما مسخته الفتنة إذ استعبدت‬
‫أحرارا وباعتهم يف سوق النخاسة كما باعتهم اجلاهلية باألمس‬
‫مسروقني من إفريقا‪ ،‬وتبيعهم اليوم جزافا وحنن يف مجلتهم منذ مل‬
‫يبق لنا إميان حمسن يفك الرقاب تقربا لربه‪ ،‬وشوكة جمتهدة حتب‬
‫املوت كما حيبون احلياة‪ ،‬وتأسر الكافر وتستعبده بقيد اهلل لرتبيه‬
‫وتضع حكم اهلل عليه موضعه‪ ،‬حكمه اخلالد تبارك امسه‪ ،‬وخاب‬
‫دعاة الوهن والتربير‪.‬‬
‫لريد فقيهنا الشرعي على هبتان جيل اإلسالم الفكري وما‬
‫واكبه من ضالل ريثما نفرغ حنن من تدبر آيات ربنا ننقب عن‬
‫منهاج أنبيائنا‪.‬‬

‫‪679‬‬
‫فك الرقبة عمل عظيم يتم بني فاعل ومفعول‪ ،‬بني الباذل‬
‫العامل الرباين وبني من حيس بالعبودية وآالمها ويرتقب احملرر‪.‬‬
‫وما األمة إال رقبة مرهوقة يف عبودية العادة والغفلة واألنانية‪ ،‬وما‬
‫حتريرها ميكن إال باملنهاج النبوي‪ ،‬منهاج اقتحام عقبة األنانية‬
‫املشققة وعقبة الغفلة احلاطة لإلنسان يف حمط البهائم عن مقام‬
‫حريته يف رضى ربه وعقبة العادة املقلدة‪.‬‬
‫فك رقبة األمة تربية مشولية تتناول الروح فتبعثها حية من‬
‫موات‪ ،‬وتتناول الفكر فتنفي عنه السم بإكسري القرآن واجلسم‬
‫الفاشل بفشل روحه وعقله فتسرتجله وتستخشنه‪ .‬وإنه ال إسالم‬
‫بال تربية‪ ،‬وإنه ال تربية إال ببث روح االستقالل وضبط النفس‬
‫والثقة مبوعود اهلل ورسوله‪ .‬ومن يبث ذلك إن مل يكن وجه القائد‬
‫اجملاهد يقف أمام الصف للصالة‪ ،‬وأمام اجليل رمزا ومنوذجا ملعاين‬
‫االستقالل واالنضباط والثقة باهلل حىت يكون موضع ثقة املسلمني‬
‫املشتتني يف قومياهتم‪ .‬وإن هذه النواصي الكاذبة اخلاطئة ال تقدر‬
‫على ذلك إال بإعجاز من اهلل‪ .‬وحنن املعجزة تنتظر‪ ،‬فمن املعجزات‬
‫ما يفك رقبة عن جثتها ومنها ما يهدي باحلق إىل احلق على يد‬
‫أهل احلق أحباب اهلل‪.‬‬

‫‪680‬‬
‫الفصل السابع‬

‫التعليم والتعلم‬

‫‪681‬‬
‫الرتبية والتعلم‬
‫أتى املنافقون رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بعد افتقام‬
‫نفاقهم فعلمه اهلل كيف يعاملهم وتعلمنا حنن كيف نقتفي أثر‬
‫نبينا‪ .‬جاءوا رسول اهلل حيلفون على صدقهم كما حيلف قادتنا‪،‬‬
‫ت أَيْ ِدي ِه ْم ثُ َّم‬ ‫ف إِ َذا أَصابـتـْ ُهم م ِ‬
‫صيبَةٌ بِ َما قَ َّد َم ْ‬ ‫َ َ ْ ُ‬ ‫فقال اهلل‪﴿ :‬فَ َك ْي َ‬
‫ين‬ ‫وك يحلِ ُفو َن بِاللَّ ِه إِ ْن أَر ْدنَا إِ َّل إِحساناً وتـوفِيقاً أُولَئِ َ َّ ِ‬
‫ك ا لذ َ‬ ‫ْ َ َ َْ‬ ‫َ‬ ‫َجاءُ َ َ ْ‬
‫ض َعنـْ ُه ْم َو ِعظ ُْه ْم َوقُ ْل لَ ُه ْم فِي‬ ‫يـَْعلَ ُم اللَّهُ َما فِي قـُلُوبِ ِه ْم فَأَ ْع ِر ْ‬
‫أَنـُْف ِس ِه ْم قـَْوالً بَلِيغاً﴾‪ .‬وقد أصابتنا مصائب مبا قدمت أيدينا‬
‫وكان جديرا هبا أن تربينا ونتعلم منها لنستأنف عمال من خوضنا‬
‫القومي واضطرابنا السياسي على درب اجلاهلية‪.‬‬
‫كل من ينشدون تغيريا لواقعنا يقلدون اإليديوجليات يف‬
‫حركيتها‪ ،‬وإن لسوقها لرواجا وإهنا ألشكال وألوان‪ .‬وكل من ييأس‬
‫مما يراه من فشلنا يعرض إعراض املمتعض أو إعراض احملوقول‪ ،‬أو‬
‫يعظ وعظ الزاجر‪ .‬قوم منا هلم عنف الثوريني واحتقاهنم وكفرهم‪،‬‬
‫وقوم يرتاشقون بشديد القول وخفي املكر‪ ،‬وقوم ينتظرون فرج‬
‫اهلل ال جيدون خمرجا‪ ،‬ويعافون واقعنا لكن ال يهتدون إىل منهاج‬
‫يعرضون به عن اجلاهلية يعوهنا مسخا‪ ،‬ويقبلون على الفتنة‬
‫واملفتونني ليعظوهم وعظ املريب املعلم وليقولوا هلم قوال بليغا‪.‬‬
‫‪682‬‬
‫املنافق له يف أسلوب الفكر والعمل وجهان كما لنافِ َق ِاء الريبوع‬
‫واجلرذ ثقبان‪ .‬ونفاق يف اإلميان يصحبه نفاق من نوع آخر نفاق‬
‫سياسي ال يثبت معه هلم قول وال وعد‪ ،‬ويضاف إىل النفاق ُجرذية‬
‫اجلنب والسقوط اخللقي‪ ،‬فال يستحق من مجع الثالثة منك إال‬
‫إعراض املعادات أو إعراض االحتقار أو إعراض اهلجر‪ .‬ذلك إن‬
‫مل تكن على املنهاج الرتبوي النبوي‪ .‬ولقد كان املنافقون يف زمن‬
‫النيب واإلسالم يف أوج عزه وجوها معروفة وذمما ساقطة يفضحها‬
‫اخنذاهلا عن املسلمني كلما حزب األمر‪ .‬فما قتلهم رسول اهلل‬
‫إبقاء راجيا لتوبتهم وسلوكا تعليميا لكيال يقال أن حممدا يقتل‬
‫أصحابه‪ ،‬فإهنم كانوا ينتسبون إليه‪.‬‬
‫أال وإن منافقينا منا كاجللد األجرب ال حميد لنا عنهم‪ .‬وهم‬
‫أشد الناس استكبارا وأكثرهم امتناعا عن التعلم‪ .‬فنحن اليوم يف‬
‫وقت الدعوة نعرض عنهم إعراض املستقذر لبلواهم لكن الرحيم‬
‫هبم الواعظ هلم‪ ،‬ونقول هلم يف أنفسهم القول البليغ ال نريده‬
‫هتييجا وسبا‪ ،‬لكن نريد أن يبلغ منهم مبلغا عسى أن يلتفت منهم‬
‫ملتفت إىل نفسه يستنقصها وينتقدها ويكرهها‪ ،‬ليبحث هلا عن‬
‫بديل‪ ،‬ويربيها من رذيل‪ ،‬ويتعلم من القول البليغ‪ .‬وغدا يف يوم‬
‫اإلسالم سنتناول منافقينا باليد لنزج هبم يف ميدان الشغل عسى‬
‫أن خنلق فيهم احلاجة إىل التعلم ومن مث إىل تغيري العقلية واالجتاه‬

‫‪683‬‬
‫واملوقف‪.‬‬
‫دعوة اإلسالم تربية وتعليم‪ ،‬وبالغ وتبليغ‪ ،‬تبشري وإنذار‪.‬‬
‫فالرتبية فعل فاعل بسلطان منوذجيته وسلطان بالغه وصولة دعوته‪.‬‬
‫الرتبية تأثري يفرض نفسه على الناس يعلم عاطفتهم ويعلم عقلهم‬
‫مث يتناوهلا من جمرى العادة إىل مساق الوعي اإلرادي والسلوك‬
‫اإلرادي طاعة منتزعة لسلطان الرمز والنموذج‪ .‬والرتبية هبذا ال‬
‫تنفك عن املريب بل هي إشعاع منه يتشربه املتعرضون له طواعية‬
‫أو رغما‪ .‬الفاعل املريب يف فتنتنا الغالب على عواطفنا وعقولنا هو‬
‫النموذج اجلاهلي‪ ،‬إنه هذا القائد املنفتح على املذهبية اجلاهلية‬
‫وهذا األب وهذا األستاذ وهذه األم الغارقون يف تيار النفايات‬
‫احلضارية األثاثية والسموم املستوردة كتبا وصحفا وسينما‪ .‬كلما‬
‫درجنا من البيت أو إليه تلقانا صوت الفاعل املريب وصوره‬
‫وحتريضه‪ ،‬وكلما مسعنا إذاعة أو حماضرة أو درسا‪ ،‬وكلما حتدث‬
‫بعضنا إىل بعض أو جلس إليه‪ ،‬وكلما حترك منا متحرك أو سكن‬
‫ساكن وقع علينا فعل الرتبية‪ .‬ونستعمل يف كل هذا كلمة الرتبية‬
‫مبعىن سليب يف نظر األخالق‪.‬‬
‫أخذ املفتونون من أجيالنا األوىل اجتاها منحرفا بتأثري اجلاهلية‬
‫الراجعة بطبعها وطبعنا وفشت منهم إلينا تربية متسلسلة‪ .‬فاإلباحي‬
‫يسقط علينا وباء مثاله املنحل فيجد يف نفسنا استجابة ألهنا عبدة‬

‫‪684‬‬
‫للشهوة‪ ،‬والظامل يسقط علينا ظلمه فيجد يف نفسنا من يقلده‬
‫تقليدا لالستكبار‪ ،‬ومن حيقد ردا على األنانية مبثلها‪ ،‬والزنديق‬
‫يسقط علينا كفره فتتلقاه عقولنا فلسفة وعقالنية ملحدة‪ ،‬وليس‬
‫لألمة منوذج موحد يعرفونه مجيعا وال ينكرونه‪ ،‬ويعظمونه وحيبونه‪،‬‬
‫ويسريون معه من دار الفشل إىل دار احلياة والقوة‪ .‬الفاعل الرتبوي‬
‫يف فتنتنا فاعل حمرف‪ ،‬هو املرآة اإلنسانية املتعددة األمساء واألدوار‬
‫العاكسة لقيم اجلاهلية وحياهتا‪ .‬ولقوة اجلاهليني وكثرة أثاثهم‬
‫ومعرفتنا بتارخيهم ورجاالهتم‪ ،‬ولفراغ يف أفئدتنا وعقولنا ننفعل‬
‫للنموذج اجلاهلي‪ ،‬بل وحنبه ونكربه ونتشبه به ونفىن يف ذاتيته‬
‫ونذوب‪.‬‬
‫فبهذا حنن قوم مسخ وقوم فاشلون‪ ،‬وقوم يظلم بعضنا بعضا‬
‫ويستعبده وحيتقره‪ .‬على رأسنا أشخاص بعقول ملفقة ونفوس يف‬
‫ترفها مغرقة‪ ،‬ربتها اجلاهلية مبعىن حرفتهم‪ ،‬فهم يدوسوننا باألقدام‬
‫اقتداء مبا كان يفعل بنا املستعمرون‪ .‬وحنن املستضعفون الوارثون‬
‫مضى علينا زمن كنا نعجب بقدرتنا‪ ،‬ونفخر أن لنا رجاال دكاترة‪،‬‬
‫حىت بان لنا أهنم جبابرة‪ .‬وأحسوا هم أن دنياهم املرتفة سطح‬
‫عائم على حبر هذه األمة‪ ،‬فلذلك عادوا يتشبهون بقومهم نفاقا‬
‫ويزعمون أهنم تغريوا منذ باتوا قوميني‪ .‬وننظر حنن فندرك أن لباس‬
‫القومية مسخ ثان ونفاق مضاعف‪ .‬ألن هذه القومية ال تنهى عن‬

‫‪685‬‬
‫فحشاء وال منكر‪ ،‬وال حتد ظلما وال تسلح يدا وال تريب يدا حتمل‬
‫السالح‪ .‬وحنن أمة لنا قيم مساوية نشمئز من الفحشاء وننكر‬
‫املنكر مبعايري متأصلة يف قلوبنا إميانا وعزة باهلل ونسبتنا لرسوله‬
‫صلى اهلل عليه وسلم‪.‬‬
‫فنحن وهم يف منعرج الطريق‪ ،‬واألمر بيننا نزاع‪ ،‬فمن جانبهم‬
‫السيادة اجلاهلية اليت خيدموهنا وهذا األثاث وهذه التكنولوجيا اليت‬
‫يتيهون هبا علينا‪ .‬ومن جانبنا قلوب األمة كلها مل متتها الغثائية‬
‫وإمنا أمرضتها‪ ،‬ومن جانبنا قلوب املستضعفني وحنني الشباب إىل‬
‫طهارة ال جيدوهنا يف جرذية املرتفني‪ ،‬ومن جانبنا أيضا حرية هؤالء‬
‫بدماهم‬‫وقرفُهم من فراغ حياهتم‪ ،‬وإن كانوا يتلهون عن ذلك ُ‬
‫األوروبية وأموالنا املسلوبة ومتاعهم القذر‪.‬‬
‫الوضع يقتضي تربية من احنراف‪ ،‬تربية حنو الربانية‪ ،‬حنو تكوين‬
‫املؤمن الرباين‪ .‬والرتبية استبداد يف جوهرها‪ ،‬استبداد روحي فكري‬
‫منوذجي‪ .‬املسلمون حائرون مشتتة مهمهم وليس يف امليدان إال‬
‫تالمذة اجلاهلية ما يف جعبتهم مهما ارتقوا عن مرتبة اإلقطاعيني‬
‫إال فكرة واحدة وعقيدة واحدة هي التنمية االقتصادية وإن هم‬
‫دعوا لتنمية اإلنسان فإمنا يدعون إلنسية مثل دعوة سوكارنو‪،‬‬
‫وهلا بديل «إسالمي» عتيد عند بعضهم! واألقوال اليت يسمعها‬
‫املسلمون ال تَبلغ وال تُبلِّغ ألهنا صخب منكر وشعارات خلقة‬

‫‪686‬‬
‫جوفاء‪ .‬ووسط الصخب يتسرب صوت اإلسالم من خالل الطبقة‬
‫احلاكمة ليستقر يف آذان املستضعفني وأفئدهتم يذكر بالكرامة‬
‫الضائعة‪.‬‬
‫إن القول ال يستبد مهما كان بليغا إال إن استند إىل سلطان‬
‫وازع‪ ،‬وما كان قول الرسول للمنافقني بليغا إال ألنه صوت صاحب‬
‫السلطان بعد كونه صاحب الربهان‪.‬‬
‫فالصوت املعلم املريب باالستبداد‪ ،‬املريب بوازع السلطان هو‬
‫الكفء الوحيد لقوة النموذج اجلاهلي املائل بنا‪ .‬لذا فالدعوة إىل‬
‫اإلسالم بالكلمة البليغة وسلطان الفكر والروح قبل قيام هذا‬
‫األمر تبقى يف دائرة حمدودة‪ ،‬وال تعم الرتبية اإلسالمية إال حتت‬
‫ظل اللواء املنشور‪ .‬إن قرآننا هو القول البليغ وهو العلم وتبليغه‬
‫هو التعليم‪ .‬وقد نفذ إىل قلوب املسلمني األولني بنورانية النبوة‬
‫وبقاصم املعجزات النبوية‪ .‬لكن اإلسالم بقي يف دائرة حمدودة‪،‬‬
‫ولبث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يبحث عن قوم حيملونه‬
‫إليهم حىت يبلغ رسالة ربه‪ .‬حىت إذا بايعه األنصار على الطاعة‬
‫والنصرة واجتمع يف يده الوازعان استبد استبدادا مربيا وقوم من‬
‫احنراف وطهر من رجس‪.‬‬
‫كذلك يعود األمر وبذلك يصلح كما صلح أوله‪ .‬إن اإلنذار‬
‫والتبشري والبالغ والتبليغ تعليم يسنده صدق الداعي ونواريته لكن‬

‫‪687‬‬
‫ال تقوم قائمة الدعوة إال بسلطان وازع‪ .‬وقد عرب عن هذا ابن‬
‫خلدون تعبريا غري ّبي إذ ذكر أن األديان ال تقوم إال بعصبية‪،‬‬
‫وعدم البيان يف كتابته لكلمة «العصبية» ألن اإلسالم دين اهلل‬
‫احلق ال يقوم إال على كسر العصبيات وإبداهلا بوالية اإلميان وحمبته‬
‫وطاعته ونصيحته‪.‬‬
‫إن الرتبية يقوى مفعوهلا بقوة موقف املريب وبقوة اهليبة اليت‬
‫يف قلوب الناس له‪ .‬وإن يف بعض بالد اإلسالم‪ ،‬مثل تركيا‪،‬‬
‫هليبة عظيمة لرجال الدعوة اإلسالمية‪ ،‬ذلك ملكان هذه املشانق‬
‫املنصوبة وهذا التكفري القاتل الذي طهر الصفوف وأيقظ يف‬
‫الناس حمبة إسالم كان عاديا يوم كان مباحا فأصبح عزيزا مطلوبا‬
‫باملهج ملا اقرتن إعالنه باملوت‪ .‬أما يف باقي ديار املسلمني فرجال‬
‫الدعوة والبالغ يف موقف ضعيف جدا إما بقلة حكمتهم يف‬
‫الرتبية أو بانسدال ستار احلديد عليهم واملشانق أو بقعودهم أن‬
‫صح أن نسمي رجال دعوة من هلم قابليات معطلة يائسة‪.‬‬
‫مفهوم الرتبية والتعليم السائد حتت نظام القوميات هو السري‬
‫مع ركاب العصر ومسايرة التقدم‪ ،‬وأعاله مسايرة التقدمية‪ .‬وال‬
‫أثر للوعي باحنرافنا إال مبعيار القومية‪ .‬فإن كانوا يريدون من‬
‫الرتبية والتعليم أن حتول الناس فإمنا يريدون التلفيق بني األصالة‬
‫القومية ومسايرة العصر‪ .‬وإن هلم السلطان يف األرض يعلمون‬

‫‪688‬‬
‫الناس فيتعلمون‪ ،‬ويسقطون عليهم مناذج السلوك فيهيمنون على‬
‫األفكار واآلمال‪ ،‬فأىن وليت ال تسمع وال تبصر إال ما يرغمك‬
‫على مسرية واحدة هي املسرية القومية‪ .‬ومن القوميات ما يتطهر‬
‫بدعوى اإلسالم لكننا ال نثق أبدا بإسالم يبدأ شعاره بالقومية‬
‫واالشرتاكية ويكون اإلسالم شركا هلما‪.‬‬
‫إن تعليم القوميات املنظم تعليم فاشل باإلضافة إىل كونه‬
‫تعليما ممسوخا ضاال‪ .‬التعليم املكفر الناجح هو التعليم العفوي‬
‫أو املقصود الذي يصاغ مصاغ التسلية‪ ،‬إنه تعليم السينما والتلفزة‬
‫واملذياع واجلريدة والكتاب اخلليع‪ .‬أما التعليم املدرسي ففاشل‬
‫فشال ذريعا‪ ،‬إنه تسلط على الناشئة مبناهج ليست مسلية فتكون‬
‫للناس املفتونني هبا رغبة فيتعلموا منها‪ ،‬وال للناس حافز قوي‬
‫يدفعهم للتعلم‪ .‬إمنا األمر أكداس تقرتح للحفظ األكادميي بتهديد‬
‫االمتحان ليس غري‪.‬‬
‫وأيا ما كان األمر فاإلسالم يرزح حتت ثقل هذه املؤثرات‬
‫احملرفة وفتنتها‪ .‬عند أبنائنا رغبة يف بضاعة السينما واجملالت‬
‫الداعرة فهم منها يتعلمون وعلى منوذجها يسلكون‪ .‬وهلم رغبة إن‬
‫عقلوا يف نشاط وحركة فال جيدون إال منوذج العنف اجلاهلي حيذون‬
‫حذوه فيثورون ويعرتضون‪ ،‬وتضيع أخالق األولني وجهود اآلخرين‬
‫وأخالقهم معا‪ ،‬ألن املطالبة املعارضة يف صفوف الشباب تتضمن‬

‫‪689‬‬
‫الثورة الشمولية على جمتمع ولد الظلم‪.‬‬
‫والقوميات ال تستبد استبدادا مربيا إمنا تستبد استبدادا رادعا‬
‫ال يعنيها من التغيري إال مظهره‪ ،‬أو ال تعرف منه إال ذلك‪ ،‬أو كل‬
‫ذلك وكوهنا ال تقدر على تغيري‪ .‬وكيف تقدر وشعار الدميقراطية ال‬
‫يطرح أبدا ولو يف ظل االنقالبية‪ .‬إمنا الفرق أن ميوعة الدميقراطية‬
‫اإلقطاعية الشاملة تتحول إقطاعا اشرتاكيا تعييه مناوشة الضمائر‬
‫لتقبل بضاعة اإليديولوجية‪ ،‬وهي ترفضها يف شكلها وحمتواها‪.‬‬
‫الرتبية تعليم وتعلم‪ ،‬فهي تعليم بالنظر إلرادة الفاعل املستبد‬
‫القاصد إىل تغيري‪ ،‬فإن وجد تعليمه رغبة من جانب الناس تقبلت‬
‫العواطف واألفكار واملثل العليا ووقع التغيري‪ .‬وإن رفض الناس‬
‫دعوة املريب فال تكون استجابتهم له إال رضوخا‪ .‬وهنا تكمن‬
‫مأساة جيلنا وحريته‪ .‬فاألمة يف جمموعها ال ترغب يف كفر وإمنا‬
‫ترغب يف إسالم‪ ،‬متارسه على شكل من األشكال‪ ،‬أو حتن إليه‬
‫بعقيدة‪ ،‬أو هي يف حرية ومتزق بني عامل وعامل‪ ،‬ال يتلقيان يف‬
‫ضمريها‪ ،‬وتريد أن يتصاحلا لكيال تضيع قيم احلضارة القومية وقيم‬
‫الكمال اإلنساين املبهم يف صورة مشوق إىل ذاتية أصيلة أو انتماء‬
‫أحق بالتقدير من االنتماء القومي‪.‬‬
‫متزق األمة بني أجياهلا وبني طبقاهتا يرجع لعوامل الفتنة وأمهها‬
‫الظلم واألثرة‪ ،‬من هلم السلطان ال حيققون عدال‪ ،‬ومن يعيشون يف‬

‫‪690‬‬
‫احلرمان حينون إىل عدل‪ .‬ومنهاجية االنبعاث اإلسالمي أن تبسط‬
‫قاعدة العدل لتبين عليها تربية ولتخلق يف الناس رغبة يف التلقي‬
‫والتعلم من القائد العادل‪.‬‬
‫إهنا أزمة ظلم ومن مث أزمة ثقة‪ ،‬أما هذه العوائق من املغريات‬
‫املسمومة مما حتمله وسائل اإلعالم‪ ،‬ففيها قابليات ال هناية هلا‬
‫لبت القول البليغ الرتبوي يف األمة يوم يصبح السلطان لإلسالم‪.‬‬
‫إهنا اليوم أدوات لإلعالم والتعليم احملرفني‪ ،‬إذ ال يقف األمر عند‬
‫اإلطالع اجملرد‪ ،‬بل يتلقى الناس ما جاءهم من دار الكفر بإجالل‬
‫ويعتقدونه كمال احلضارة وكمال الثقافة‪ ،‬وهي غدا كتب وإذاعة‬
‫ومسرح وتلفاز يف خدمة اإلسالم‪ .‬العامل من حولنا يبعث كلماته‬
‫وصوره وإعالمه تتبارى يف مساومة اإليديولوجيات والثقافات‬
‫اخلليعة‪ ،‬وال بد لنا غدا من حصار يعزلنا عن التيار احملرف‪.‬‬
‫كان للنيب صلى اهلل عليه وسلم عزلة قبل بعثته‪ ،‬ولكل‬
‫الذاكرين خلوة إىل رهبم ينتزعون هبا أنفسهم من مغريات الدنيا‬
‫لريبطوا برهبم رباط التقوى‪ .‬ويتحدث سيد قطب عن «العزلة‬
‫الشعورية» الضرورية للمسلمني‪ .‬فأما عزلة الفرد الطالب للكمال‬
‫اإلنساين الراغب يف التعلم حبافز عال فهي عزلة خاصة تدخل يف‬
‫نطاق الرتبية الفردية‪ .‬وأما عزلة أمة بكاملها فلن متكن بعزل آيل‬
‫من الظاهر‪ ،‬إذ كل ممتنع عزيز‪ .‬وإمنا متكن بنفث روح جديد قوي‬

‫‪691‬‬
‫يف األمة يأتيها من جانب الربانية القائدة‪ ،‬من جانب مناذجها‬
‫املقرتحة باملثال واملقرتحة بالتخطيط‪ .‬وبقوة هذا الروح ترغب األمة‬
‫يف املصري الرفيع حتت ظل اإلسالم وتتعلم كيف تصري إليه معاكسة‬
‫تيار اجلاهلية كله ما ترسب منه فينا وما يبلغنا من إغرائه عن طريق‬
‫موجات اإلذاعة بعد حماصرة موجات البضاعة‪ .‬وبقوة هذا الروح‬
‫تُغري املدرسة ومناهجها واجلامعة وعقليتها واألمة ولغتها يف سياق‬
‫واحد قوي بقوة اإلرادة املستبدة بسيفها ومصحفها ونورانيتها‬
‫وربانيتها‪ .‬طاعة وتطوع وتعليم يستمد جناعته من العدل كما‬
‫يستمدها من الرغبة يف التعلم‪.‬‬

‫‪692‬‬
‫لغة القرآن‬
‫لغة الرتبية اإلسالمية لغة يفهمها األمي والقارئ‪ ،‬هي لغة‬
‫الرمز واملثال‪ ،‬لغة العدل والنوال‪ .‬أما لغة التعليم ومطلب التعلم‬
‫فهو القرآن ولغته‪ ،‬وبالغته ونربته‪ .‬إن هذا الدين هو قرآن اهلل‪،‬‬
‫وإن تاريخ هذا الدين يف قرآن اهلل‪ ،‬وإن حكم هذا الدين يعرضه‬
‫كتاب اهلل‪ .‬إنه خطاب الرب لعبده‪ ،‬خطاب جاء بلسان عريب‬
‫مبني ال ينفصل إمياننا عن بيانه‪ ،‬وال يتميز تارخينا إال مبمارسة على‬
‫األسوة ألبينا إبراهيم ومن معه وحملمد صلى اهلل عليه وسلم ومن‬
‫معه‪ ،‬وال تشريع ميكن إلسالم الغد إال بإحكام لسان البيان‪.‬‬
‫إن أول اإلسالم قول بليغ‪ ،‬وأول اإلميان حمبة للداعي‪ ،‬وآخره‬
‫ذكر وصدق‪ .‬فالذكر هو كتاب اهلل يتلى بلسانه ويستضاء بفرقانه‬
‫والصدق هجر لعادة‪ ،‬والعادة قعود ينهض منه القرآن‪.‬‬
‫نزل اهلل أول آية من كتابه املبني أمرا بالقراءة‪ ،‬والقراءة مجع‬
‫من شتات وإحياء من موات‪ .‬إهنا جهاد يرجعك من العادة إىل‬
‫الفطرة‪ .‬إذ تقرأ باسم ربك الذي خلق‪ ،‬خلق اإلنسان من علق‪.‬‬
‫فإذا كنت ال تعلم اللسان العريب املبني‪ ،‬اللسان الشريف باختيار‬
‫اهلل له حامال خلطابه‪ ،‬أو كنت أميا غري قارئ فإن لك حظا من‬
‫عادة القعود‪ ،‬وحاجة جلهاد وتعلم حىت يصبح اللسان العريب‬

‫‪693‬‬
‫لسان اإلسالم وجامع األمة القارئة الراقية إىل فطرهتا‪.‬‬
‫لنا معشر العرب ولوع بلساننا العريب وهو لنا خزانة الثقافة‬
‫وصيغة اجلد والطرافة‪ .‬وهو لنا أدب منقول وشعر مكرر غري‬
‫مملول‪ .‬العربية لغتنا القومية ومفخرتنا‪ ،‬وغايتنا الثقافية ومعجزتنا‬
‫نرمي بالبهتان من اهتمها بالعقم‪ ،‬ونتصفح آثارها يف حرب وسلم‬
‫وحق لنا أن هنتم بلغة قومية ونستهدف هلا جتديدا تساير به‬
‫العصر‪.‬‬
‫لكن هذه اللغة القومية عقيم من كوهنا قومية‪ .‬إننا معشر‬
‫العرب ننسبها إىل أنفسنا فنغلق علينا آفاق اإلسالم‪ ،‬وال ننتسب‬
‫حنن إليها لكي نعز بعز اإلسالم‪ .‬إهنا لغة كان يتكلمها جاهليون‬
‫جبزيرة العرب فلما شرفهم اهلل باإلسالم وشرف لغتهم بتحميل‬
‫خطابه أصبحت إعرابا إهليا وبيانا‪ .‬ولوال ذلك ال انقرضت يف‬
‫الغابرين‪.‬‬
‫إن العربية إمنا حييت واستعصت على الدهر حبياة القرآن‪.‬‬
‫وعلى قومنا إن أرادوا احلياة أن ينتسبوا للقرآن ولللسان العريب‬
‫باعتباره لغة القرآن‪ ،‬ففي ذلك عزهم وبالقومية مذلتهم‪.‬‬
‫القرآن لغة حياة ولغة جهاد ال يفهم خطابه العريب بفصاحة‬
‫لسانه إن كان القلب منه أعجم‪ ،‬وإمنا يفهمه أن أضاف إىل‬
‫فصاحة اللسان فصاحة اإلميان‪ .‬وقد أخربنا الصحابة الكرام أهنم‬

‫‪694‬‬
‫أوتوا اإلميان قبل القرآن‪ .‬فسمعوا آياته باكني خاشعني قارئني‬
‫جمتمعني‪ ،‬ومسعه قومهم اجلاهليون وهم يف مثل فصاحتهم اللسانية‬
‫فشهدوا بإعجازه وبالغة كالمه وعجبوا لكنهم ما بكوا من خشية‬
‫وال اجتمعوا من فرقة‪.‬‬
‫القرآن لغة قراءة أي لغة مجع‪ ،‬فهو للفرد مجع للهمة من‬
‫طغيان الذي ال يتعلم وال مييز ما خيطه القلم اإلهلي املعلم‪ ،‬وهو‬
‫لألمة مجع مستقرئ ال مجع حاشر‪ .‬وإن معظم األمة يف عددها‬
‫وأعظمهم إميانا ذوو قلوب فصيحة قارئة قبلتها بيت اهلل تتوجه‬
‫إليه األجسام وقبلتها الكلية كتاب اهلل‪ .‬وإن كانت ألسنتهم ال‬
‫تفصح بالعربية فإن هلم على القرآن غدوا ورواحا يتلونه ويستعذبون‬
‫خطابه ويناجون به رهبم يف الصالة والذكر‪.‬‬
‫استغلق القرآن علينا معشر العرب على فصاحة ألسننا النغالق‬
‫قلوبنا عن اإلميان‪ ،‬وعرتنا خنوة اجلاهلية وتعاظمها باآلباء فادعينا‬
‫الصالحية اليت ال تكون إال للمتقني‪ .‬ادعينا الكرامة العربية وال‬
‫كرامة إال للمتقني‪ ،‬وادعينا العلم ببضاعتنا اللفظية وال علم إال‬
‫للمحسنني‪ .‬والتقوى واإلحسان ال تعرف حواجز اللغة فتكون‬
‫وقفا على وارثي لغة العرب إمنا تقف عند حواجز القلوب‪ .‬وحنن‬
‫قلوبنا قومية ما تنتسب للقرآن‪ .‬وما يعري العرب بكل هذا إال عريب‬
‫من ذروة سنامها لو كانت تغين عروبة‪ .‬فما ننطق عن حتامل قومي‬

‫‪695‬‬
‫لكن عن غرية إسالمية‪.‬‬
‫األمة اإلسالمية متفرقة واهنة وال جيمعها إال القرآن العريب‬
‫املبني‪ ،‬قرآن القراءة والفطرة والتعلم من اجلهل والطغيان‪ .‬إننا أمة‬
‫الرجعى قبل أن نرجع إليه‬
‫العز لو جعلنا منا اختيارا وعزما إىل ربنا ُّ‬
‫خزايا من فرقتنا‪ .‬ولقد حدنا عن اجلماعة اإلسالمية جلماعات‬
‫القومية فحق علينا وعيد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أن من‬
‫حاد عن اجلماعة قيد شرب مات ميتة جاهلية‪ ،‬إال أن يعفو اهلل‬
‫الغفور الرحيم‪.‬‬
‫جتمعنا يف قوميتنا على قواعد العرق واللغة‪ ،‬ومل يعد يربطنا‬
‫باإلسالم إال إميان مكنون يف القلوب يعلمه اهلل عز وجل وحياسب‬
‫عليه‪ ،‬ونعلمه حنن من انعدام آثاره‪ ،‬ألن رسول اهلل علمنا أن‬
‫اإلميان حمبة وعلمنا القرآن أن جزاءه وراثة األرض واالستخالف‬
‫فيها‪ .‬ويربطنا باإلسالم حمبة للقرآن تظهر عندكم إخواننا الناطقني‬
‫بلغاتكم إخباتا وخشوعا‪ ،‬ونتجرأ حنن العرب على قرآننا يؤوله‬
‫كفارنا ويلعبون به‪ ،‬ويغنيه اآلخرون بأصوات مرتهلة فيها رنة‬
‫الفشل واألنوثة‪.‬‬
‫فإذا دعونا لالجتماع حول القرآن ولغته‪ ،‬فإمنا ندعو للجماعة‬
‫الشمولية اليت أساسها اإلميان السابق للقرآن مث القراءة مبعىن‬
‫االجتماع على الفطرة من الطاغوت مث القراءة للغة واحدة هي‬

‫‪696‬‬
‫لغة اإلسالم‪ ،‬وهي العربية اليت فنت هبا قومنا أدبا وشعرا وعجزا‬
‫وفقرا‪ .‬فإذا أصبحت لغة اإلسالم نطقت بلغته وهي لغة القوة‬
‫والعزة‪ ،‬والغىن والقدرة‪.‬‬
‫العربية بال قرآن تعطيك العروبة بكل أمراضها املعروضة على‬
‫العامل‪ .‬إهنا لغة الفرقة والكراهية‪ ،‬وما على األرض اليوم قوم‬
‫ينطقون بلغة واحدة أشد تباغضا وتباعدا وتقاتال من قوم العروبة‪.‬‬
‫يتواثبون على الزعامات القطرية وختدمهم الفصاحة العربية حني‬
‫يتنابزون باأللقاب وحني يلعن بعضهم بعضا‪ .‬لغتهم ال تتسع‬
‫ملعرفة وال تسعفهم يف مشروعهم الذليل مشروع مسايرة الركب‪.‬‬
‫ال تتسع لذلك وال تقدر عليه كما ال تقدر أيديهم على صنع‬
‫إبرة يرشقوهنا يف جسم العدو اجلامث يف القدس‪ ،‬وإن كانت العروبة‬
‫البطلة قد صنعت صواريخ يف عامل اخليال وهددت بأحالمها قوما‬
‫أوىل بأس شديد‪.‬‬
‫دعوها يا قومنا فإهنا منثنة‪ ،‬ولئن فعلتم ليدعن إخواننا يف‬
‫األرض قومياهتم‪ ،‬ولننطقن بلغة واحدة موحدة هي لغة القرآن لغة‬
‫اجلهاد واجلماعة والعزة‪ ،‬ولغة التقوى واملعية مع اهلل‪ .‬ولئن لبثتم يف‬
‫معيتكم مع عروبتكم ليبعثن اهلل عليكم عدوا أشد بأسا الصهيونية‬
‫لرتجعوا عن الطغيان‪.‬‬
‫اللسان العريب إن نطق بلغة القرآن لسان مجيل بديع يزينه‬

‫‪697‬‬
‫شرف اخلطاب اإلهلي وينري له السبيل إميان سبعمائة مليون مسلم‬
‫يتوحدون عليه فيجعلونه لسان حضارة وعمل‪ .‬وإن يف اللسان‬
‫العريب لثروات وإن له إلمكانات عز أن توجد يف لسان غريه‪.‬‬
‫لغات املسلمني القومية لغات ذليلة على صورة الغثاء‬
‫البشري‪ ،‬إهنا لغات متخلفة تتسكع على موائد الثقافات األجنبية‬
‫ولغاهتا‪ ،‬ولكل منا ثقافته احلضارية‪ ،‬فإذا اجتمع املفتونون منا‬
‫فبلغة اجلاهليني يتفامهون‪ ،‬وإن اجتمع املسلم الصادق بأخيه كان‬
‫اللقاء لقاء جسميا وعاقتهما عن التواصل فرقة اللسان‪ ،‬إال أن‬
‫يرطن أحدمها لصاحبه بلسان ثقافته العاملي‪ .‬وما جاءنا هذا الذل‬
‫إال من فرقتنا‪.‬‬
‫وإذا دعونا لالجتماع فلسنا ندعو إىل اجتماع ثقايف على‬
‫لسان موحد فقط‪ .‬لكن ندعو الجتماع على القرآن وجهاده‬
‫وأخوته بني املؤمنني وطاعته وشريعته‪ .‬فإن االنتماء للقومية مرتكز‬
‫يف النفوس وللعربية من ختلفها احلضاري ما ال يؤهلها لتكون لغة‬
‫ثقافة للعامل اإلسالمي‪ .‬فإذا كانت اخلالفة اإلميانية الباعثة ونادى‬
‫املنادي فما يؤهل العربية للتوحيد الثقايف إال إرادة املسلمني يف‬
‫األرض للحياة والعزة يصوغون من لسان القرآن أداة لغوية تتضمن‬
‫ثقافة املؤمنني‪ .‬يصوغوهنا باهلمة اجلمعية واجملهودات املتعاونة‪.‬‬
‫إن اللغة هي الفكر وإهنا هي الرمز احلامل للمعرفة‪ .‬فرتسبت يف‬

‫‪698‬‬
‫تارخينا أحقاد بني قوميات كانت عامل الفرقة التارخيي‪ ،‬وانقسمت‬
‫الوحدة اإلسالمية دويالت مث اشتدت أسباب العداوة فأعرض‬
‫عن اللغة العربية من كان تبناها إذ كانت لغة وحدة حضارية‪.‬‬
‫ومع تقلص اإلسالم من احلياة العامة وتشعب الفكر بتشعب‬
‫مصادر املعرفة ذهب الرمز املوحد وحوربت لغة القرآن حىت طردت‬
‫احلروف العربية من دولة املارق الرتكي‪ ،‬إجهازا على أثر اإلسالم‬
‫يف احلياة العامة وحماولة حملق اإلسالم من القلوب بطمس العقول‬
‫وفصلها عن مصدر اهلداية واملعرفة اإلميانية‪.‬‬
‫والتفتت احلضاري بعد التفتت اإلسالمي صحبة اللغة العربية‬
‫من كماهلا القرآين إىل هلجات عامية ليس سببا هلا عجمة األلسنة‬
‫فحسب لكن هبوط املستوى الفكري العام بني املسلمني‪ .‬وتسارع‬
‫تدهور املسلمني الثقايف ملا ضعف الرابط اإلمياين وعادت اجلاهلية‬
‫غازية منتصرة فانسحبت اللغة العربية من ميادين العمل‪ ،‬وانزوت‬
‫يف مكتبات العلماء بأدهبا البديع وبالغتها املعجزة يف القرآن‬
‫واحلديث‪ ،‬وانزوت يف دواوين السلطان أداة طيعة وموضوعا‬
‫للتحريف العامي بعد أيام الوزراء أصحاب األقالم‪.‬‬
‫كانت لغة العرب يف اجلزيرة قبل اإلسالم لغة خطابة وشعر‪،‬‬
‫لغة العاطفة الرقيقة ولغة الفخر والعصبية واألجماد‪ .‬فلما اصطفاها‬
‫اهلل جل شأنه وأودعها خطابه للخلق‪ ،‬وملا حدث هبا النيب صلى‬

‫‪699‬‬
‫اهلل عليه وسلم وأصحابه وأجيال املؤمنني من بعده‪ ،‬اكتسبت‬
‫قداسة وتبلورت يف البيان القرآين املعجز‪ .‬فكانت يف الصدر األول‬
‫من اإلسالم لغة قوة وإميان‪ ،‬مث يف العصور التابعة لغة حساب‬
‫وديوان ولغة علم وعرفان‪ .‬وما عجزت قط عن التصرف املنطلق يف‬
‫حاجات التنظيم احليايت وال عن التصرف احمللق يف أجواء العاطفة‬
‫والشعر‪ .‬وتفتت اجملتمع اإلسالمي‪ ،‬وهو نفسه فُتات اجلماعة‬
‫اإلميانية يف عهد اخلالفة الرشيدة‪ ،‬وجلس على أرائك القصر عرب‬
‫أجماد سيقت إليهم قصائد املدح‪ ،‬وجلس على كرسي احلكم رجال‬
‫ال ينطقون بالعربية إال قليال وال ينتسبون إليها إال من كوهنا لسان‬
‫القرآن‪ ،‬فسيقت إليهم قصائد العربية يف ساعات األنس ومتكنت‬
‫عندهم اللهجات القومية‪ ،‬ومن هذه اللهجات تسربت العجمة‬
‫إىل العربية فأصبحت عامية هلا مساس حبياة الواقع‪ ،‬بينما انقطعت‬
‫العربية وبقيت حملقة يف الفراغ هجرها حكام قطريون قوميون‬
‫وهجرها العلم بعد ذلك اللمعان األخاذ‪.‬‬
‫وبقي املسلمون يرتلون قرآهنم‪ ،‬والعرب الذين هجنت ألسنتهم‬
‫وجرسها البديع‪ ،‬واحتفظوا منها على اللفظ‬ ‫حينون إىل فُصحاهم ْ‬
‫وأخذوا به أخذا شديدا‪ ،‬كما يؤخذ املرء بتحفة يرفعها على الرف‬
‫وال وظيفة هلا إال أن تكون مجيلة ملاعة‪ .‬وعلى مر القرون َنَت‬
‫إلينا لغة العرب باستعارهتا اخلالبة وتراثها اللفظي الضخم‪ .‬وكانت‬

‫‪700‬‬
‫الفجوة عظيمة بني معاين احلياة الواقعية وبني الواقع اللفظي التارخيي‬
‫الذي حتمله ألفاظ متبلورة ال تتطور إال بتعاقب أصباغها البديعة‪.‬‬
‫فإذا كتب العامل بعد عصر التوسع العلمي خاطب معاصريه بلغة‬
‫القرون السابقة‪ ،‬وإذا فكر املفكر عاقه النطق عن أداء معانيه أداء‬
‫حيا ومل تسعفه العربية املبلورة‪.‬‬
‫مرضت العربية مبرض املسلمني وزالت عن مقامها‪ ،‬وملا‬
‫استيقظت القومية العربية من سبات اإلسالم عاجلت أوال لغتها‬
‫لتعرب عن املعاين العصرية‪ ،‬وتقدم الركب موارنة الشام‪ ،‬مث أعقب‬
‫حتوٍل‬
‫حماوالهتم اجلم الغفري من العرب‪ ،‬املروضني لللغة العربية على ّ‬
‫أديب يعلن حتوال حضاريا‪ .‬كان أبرزهم أكمه العرب‪ ،‬ما نطق‬
‫بالفصحى إال ليحارب القرآن ويهتف حبضارة اليونان الوثنية‪.‬‬
‫ومنذ ذلك أريدت العربية على مهنة مهينة هي خدمة القومية‬
‫العربية‪ ،‬فجاءت عجفاء جرداء يف جرائدها‪ ،‬وجاءت عجماء غري‬
‫مبنية على لسان الساسة ويف كتب املرتمجني‪.‬‬
‫وال تزال العربية تبحث عن طريقها كما نبحث حنن املسلمني‪.‬‬
‫ال تزال الكلمة العربية واجلملة العربية حتدث يف أذن السامع‬
‫إيقاعا مجيال‪ ،‬وال تزال الصيغ العربية واألشكال اللفظية تسري‬
‫يف تسلسلها اللفظي بيانا يف شعر الفحول وحتت أقالم الكتاب‬
‫الفصحاء‪ .‬وإذا قرأهتا خربا يف صحيفة أو علما منقوال قرأت لغة‬

‫‪701‬‬
‫هجينة يشم منه نفح الرتمجة وريح اجلسم الدخيل‪.‬‬
‫ثقافة قومنا العرب اليوم ثقافة لفظية كما كانت يف عهد‬
‫جاهليتها األوىل‪ .‬ويف كل جاهلية تتهجن األفكار وتنحط الثقافة‪،‬‬
‫ففي العهد الغابر عهد الغارات واملعلقات والعصبية املفاخرة كان‬
‫فكر اجلاهلي‪ ،‬مجوحا عاطفيا صاغ أداة تعرب عنه‪ ،‬وكانت أداة‬
‫مجيلة لكن مجاهلا ال ينسينا احنطاط العرب ومهجيتهم قبل اإلسالم‪.‬‬
‫ويف جاهليتنا احلاضرة محلنا لغة القرآن شاهدا على احنطاطنا‬
‫ألننا هبطنا هبا من عز اخلطاب اإلهلي وعز اجلهاد اإلمياين الرامي‬
‫لوحدة اإلنسانية يف حرية اإلسالم‪ ،‬إىل لفظية عاطفية أبلغ ما‬
‫نسمعها هتاجيا وتفاخرا وحنقا وكراهية‪ .‬كان للجاهليني األولني‬
‫معلقات تقرأ مث ترفع‪ ،‬أما اليوم فلنا معشر العرب يف كل يوم سيل‬
‫من األلفاظ يف جرائدنا وإذاعاتنا ختاصم فتفجر شأن املنافقني‪.‬‬
‫ونفتقر لفكرة واحدة من ذاتنا ال تكون عاطفة كراهية وتبعية‬
‫للسيد اجلاهلي فال جندها‪ .‬نعم إن لنا ألدبا كثريا يدعي األصالة‬
‫ويدعو إليها‪ ،‬ولنا «مقامات» إيديولوجية يسب فيها أبو زيدها‬
‫عدو العرب‪ ،‬ولو كشفت عن وجه أيب زيد ملا طلع عليك إال‬
‫وجه مفتون على قلب غافل أو جمنون‪ .‬ولو تدبرت حديثه لوجدته‬
‫مسخا مرتمجا أو دعوة ممسوخة‪ .‬وإن من الرتمجة ما يتناول العقول‬
‫بكاملها‪ ،‬فال خيرج من عقل مرتجم إال فكر مرتجم‪.‬‬

‫‪702‬‬
‫إن اللغة العربية لغة اإلسالم املنبعث‪ ،‬وإهنا ألمجل اللغات‬
‫وأقواها‪ ،‬وإهنا لللغة الوحيدة اخلالدة‪ ،‬ولن ينال منها أعداؤها من‬
‫القوميني العرب‪ ،‬فهي حمفوظة حبفظ الذكر‪ .‬وأنك لرتى فتنتهم يف‬
‫أنفسهم‪ ،‬يفتضح انقسامهم اجلوهري بتنافر مصطلحاهتم وإخفاق‬
‫حماوالهتم إلحياء اللغة يف جمال العلم‪ .‬ويوم يكون للمسلمني عمل‬
‫إسالمي تتجند قرائح مؤمنة مزودة بفكر مؤمن حر مستظل بتقوى‬
‫اهلل وهبدي كتاب اهلل‪ ،‬وستفصح اللغة القرآنية عن وحدة القلوب‬
‫ووحدة الفكر والعمل بوحدة اللغة‪ .‬وإن كانت تبدو لنا عقبات‬
‫أمام توحيد اللغة بني كل املسلمني‪ ،‬فإمنا اإلميان اقتحام للعقبة وما‬
‫للمسلمني لغة إال لغة القرآن‪ ،‬وإهنم ألغراب يف هلجاهتم كغربتهم‬
‫املفروضة عليهم يف القوميات اجلاهلية‪.‬‬

‫‪703‬‬
‫الثقافة والتنمية‬
‫أما بعد أن وضعنا شرط احلافز املتلقي للرتبية املرغب يف‬
‫التعلم‪ ،‬ووضعنا شرط األداة فسننظر يف حال تعليمنا ونقصه‬
‫ووسائل النهوض به يف سياق التعبئة اإلسالمية‪ .‬ولعل النهوض‬
‫بالتعليم ال يكون نتيجة للتعبئة فقط بل يساهم أيضا يف تقدمي‬
‫هذه التعبئة وريادة اآلفاق للنشاط املتجدد‪ .‬ولعل النهوض بالتعليم‬
‫على يد الربانيني املربني هو الذي حيرر األداة اللغوية من أوشاهبا‬
‫وهو الذي يكمل نقصها ويفسح هلا اجملال العملي‪.‬‬
‫إن رجال التعليم هم النخبة الثقافية‪ ،‬إهنم أساتذة اجلامعة‬
‫وطالهبا ومديرو املدارس ومعلموها‪ .‬وكل هؤالء موظفون يتحركون‬
‫بعقلية املوظف‪ ،‬ونعرف أن عقلية املوظف عقلية أجري تقيس هي‬
‫إنتاجها ويقيسه املراقبون قياسا كميا‪ .‬ويف آداب الوظيفة على‬
‫شكلها املنقول من اجلاهلية ونظامها نداء متواصل للضمري املهين‬
‫ومراقبته‪ ،‬فإذا كان نداء الضمري املهين ينبعث من مصدر يربهن‬
‫على عدم كفايته وينتمي جلهاز عرف خبيانته‪ ،‬فإن املوظف‪ ،‬حىت‬
‫ولو كان عايل الثقافة‪ ،‬ينحط إىل سلوك مريض بعد أن تصاحل‬
‫مع نفسه بأن جو الفشل العام ال تصلح معه حركة وال تؤثر فيه‬
‫النصيحة‪.‬‬

‫‪704‬‬
‫وهبذه العقلية أيضا يفكر اجلهاز التعليمي ببالدنا‪ ،‬فالوصولية‬
‫والرشوة قاعدتان ال يشذ عنهما إال املستثنون من الرجال‪ ،‬ويزكي‬
‫وجودهم يف جو التفسخ العام األمل الواسع بأن نواة الربانيني‬
‫هلا بيننا وجود‪ ،‬وما ننتظر إال أن متطر مبطر اإلميان‪ .‬إهنا بذرة‬
‫مندسة حتت األرض‪ ،‬فإذا أمطرت السماء خريها زكت البذرة‬
‫ومنت وشقت األرض على صالبتها‪ ،‬وترعرعت وأينعت مث أمثرت‬
‫بإذن رهبا‪.‬‬
‫فكذلك أخيار مثقفينا غدا يوم تزول الألواء‪ .‬إهنم اليوم‬
‫مستضعفون يسخر منهم‪ ،‬وهم يف احلق شهداء بالقسط‬
‫وسيوحدهم الوعي الصادق‪ ،‬وسيتحررون من جنب النفاق السائد‬
‫الغالب‪.‬‬
‫تعليمنا املفتون كم وحسابات وأعداد تتكاثر‪ .‬ويف مدارسنا‬
‫ماليني الشبان واألطفال يوكل أمر تنشئتهم جلسم تنخر فيه‬
‫االرتزاقية وتقلبه كما تشاء أيد جنسة وعقول رباها الرجس‪ ،‬هي‬
‫أيدي اخلرباء الزرق وأفكارهم‪ ،‬وأمثاهلم وتالمذهتم الفاسقني‪.‬‬
‫تعليمنا كم وعدد ورجال احلكم يتحكمون يف العدد فيوظفون‬
‫على قدر ما عندهم من أجور‪ ،‬لكنهم ال يتحكمون يف الرتبية‬
‫ألهنم ال يتحكمون يف نفوسهم‪ .‬ويف جامعتنا ومدارسنا انفصلت‬
‫كل صلة بني التعليم‪ ،‬الذي تشهد على حتصيله االمتحانات‬

‫‪705‬‬
‫شهادة مزورة بتزوير الضمائر‪ ،‬وبني الرتبية والقيمة اخللقية‪ .‬بل‬
‫أصبح تعليمنا ميتاز باإلحناللية جريا على منط الشباب اجلاهلي‬
‫املعرتض الثائر‪ .‬وهو تيار ال حيصر ألن لنا به صلة دائمة متجددة‬
‫يفد علينا زعماؤهُ الزرق أو سفراء الفسق من أبنائنا‪.‬‬
‫ومبا أن املطلب الوحيد يف ذهن شبابنا هو التحرر من الظلم‬
‫بالثورة للتفرغ بعد ذلك إىل تنمية ثورية‪ ،‬فإن من معاين الثقافة‬
‫وشروطها كسر التقاليد كلها‪ ،‬خاصة األخالقية‪ .‬الثقافة من‬
‫أجل التنمية مبدأ النظام التعليمي وهدفه‪ ،‬يقصده احلكام خطة‬
‫كمية حياولون الرتويض عليها بالوعد والوعيد‪ ،‬ويقصده املوظفون‬
‫الثقافيون رسالة حيملوهنا جيال بطوليا عارفا ثوريا بالكالم والفسق‬
‫الذي ليس هلم منه فطام‪ .‬أما املوضوع املسخر‪ ،‬الطلبة والتالميذ‪،‬‬
‫فهم يقصدون عدال ال يتسع له املستقبل الذي ينتظرهم‪ .‬لذلك‬
‫يثورون‪ ،‬ويسري عنفهم يف خط اجلاهلية‪ ،‬فإن هلا الغلبة على‬
‫العقول‪ .‬واألغلبية من ضحايا الثقافة اهلجينة املاردة شبان أغرار‬
‫تنفتح فيهم رياح التمرد من ثعابينها اجلامعيني فيطربون لللحن‬
‫ويهتفون بالنشيد‪ ،‬إىل يوم يكتشفون أن الزمار كذاب مزور وأن‬
‫ثوريته تنتهي حني يرضى مبنصب يف اجلهاز املثلوب‪.‬‬
‫وعند ذلك يقف الشبان موقف احلرية وينضمون للحركة‬
‫العامة اليت ال تزال‪ ،‬وهي حركة املطالبة بالرزق‪ .‬ويف كل سنة‬

‫‪706‬‬
‫يتكاثر اجلمهور املظلوم الواعي بالظلم الواقع عليه بربكة الثقافة‬
‫املنمية الفاشلة‪ ،‬وذلك أمل اإلسالم بعد أن تقر األنظمة بفشلها‬
‫لرباليتها أو اشرتاكيتها‪.‬‬
‫هذا اجلمهور احملتك بالثقافة ما له من مقومات العمل إال‬
‫علم ضئيل ينوء حتت حرية تتناول الكائن بأمجعه‪ .‬مثقفونا ادعاءً‬
‫وأنصاف مثقفينا واحملتكون قوم كسحتهم األفكار اخلليطة‪،‬‬
‫وأقعدهتم عن الرجولة مبا بثت فيهم من شك يف أنفسهم يغطونه‬
‫بالتنكر لألجنيب‪ ،‬وهم يف احلقيقة معجبون ذائبون يف النموذج‬
‫الغالب‪ .‬شخصيات منشقة تائهة مع التيار العنفي اهلدام‪ .‬وترتع‬
‫يف األذهان وعود اشرتاكية غامضة‪ ،‬وكلما برهنت انقالبياتنا‬
‫االشرتاكية عن فشلها ازداد تقرب املثقفني احملرومني من الوعد‬
‫الشيوعي‪ .‬فلتلك الشخصيات انشقاقان أحدمها يف الرؤية‬
‫للمستقبل ال يبني هلم على ضوء احلاضر احلالك وال على ضوء‬
‫إيديولوجية غري قارة‪ .‬واالنشقاق الثاين مصدره انفصال هذا الرهط‬
‫عن جسم األمة انفصاال فكريا وعاطفيا معا‪ ،‬ألن عاطفة األمة‬
‫يف غضبها على الظلم عاطفة إسالمية ال تدين بالوالء لوعود‬
‫اإليديوجلية اليهودية‪.‬‬
‫املثقفون األغراب بيننا حنن األمة املستضعفة منهم قادتنا‬
‫احلاكمون ومنهم اخلرباء املنظمون بتقليد الزرق‪ ،‬ومنهم املعلمون‬

‫‪707‬‬
‫واألساتذة اجلهابذة‪ .‬ويف شخصياهتم متزق ويف عقوهلم وهن‬
‫الدخالء‪ ،‬وسلوكهم بني املسلمني سلوك منافق إال من جرؤ على‬
‫حتدي اإلسالم‪ ،‬وكثري ماهم‪ .‬هذا حالنا اليوم‪ ،‬وغدا يأخذ األمر‬
‫رجال اإلسالم املؤمنون الربانيون‪ .‬والرباين رجل كامل متكامل ال‬
‫ينفصل علمه عن عمله‪ ،‬وال عقيدته وتقواه عن سلوكه‪ ،‬فهو منوذج‬
‫قائم بالقسط مرب يف كل حاالته معلم بصغار العلم وكباره رفيق‬
‫يعاجل لنا األمراض النفسية والعلل الثقافية اليت تشل حركتنا‪.‬‬
‫ومن هذه العلل فشل تعليمنا‪.‬فمن بالدنا ما جتد فيه محلة‬
‫الشهادات العليا يتسكعون يف الشوارع‪ ،‬وال مؤهل هلم إال تلك‬
‫الورقة‪ ،‬فإن دخلوا مليدان اإلجناز العملي عجزوا وبدا عوارهم‪.‬‬
‫ومن بالدنا ما يفتقر ملتعلمني فإن استورد املتسكعني من جريانه‬
‫اكتشف أن نتاج القومية يف ميدان الثقافة أشد فشال من نتاجها‬
‫يف ميدان احلرب‪ ،‬ويدفعه تسرعه الستقالله بتعليم قومي ضعيف‬
‫أو يرمتي يف أحضان اخلرباء الزرق‪.‬‬
‫إن التنمية اإلنسانية الربانية من مجلة وسائلها وأهدافها التنمية‬
‫االقتصادية‪ .‬وهذه االقتصاديات علم دقيق وتكنولوجيا وضبط‪،‬‬
‫ويتعقد ويغمض علم التنمية االقتصادية حىت لتخاله سحرا جداوله‬
‫أرقام ورموزه إحصاآت ومؤهالته يقظة فكرية منظمة‪ ،‬وإفشاء‬
‫للتعليم خاصة التعليم التقين‪.‬‬

‫‪708‬‬
‫ولقد تغريت نظرة الناس إىل التعليم بني العهد الذي كان التعليم‬
‫فيه وسيلة ثقافية لتهذيب اإلنسان وعهد التنمية االقتصادية الذي‬
‫يعد التعليم توظيفا للجهود االجتماعية يف مقابل مردود منتج يف‬
‫شخص مهندسني يصنعون املكنات‪ ،‬وأطباء حيافظون على صحة‬
‫األجسام‪ ،‬وأساتذتة يكررون العملية ويضاعفوهنا‪.‬‬
‫وتوضع يف نقطة االنطالق مشكلة بالنسبة للبالد املتخلفة‪،‬‬
‫بأي اإلمناء جيب أن نبدأ ؟ أنبدأ حبفر الطرق والسدود وما يسمى‬
‫بالبنية التحتية لالقتصاد ؟ أم نبدأ بتهييء اإلنسان وتعليمه؟ وإذا‬
‫كان لنا مال فلِ َم نكرسه ؟ أننفقه على املدارس واجلامعات أم‬
‫خنصصه لبناء املعامل وجنمعه يف رأس املال؟‬
‫إنه مشكل يوضع يف خط النظر الرأمسايل لالقتصاد املبين‬
‫على التوظيف الرأمسايل‪ .‬أما يف بالد الثورة والتعبئة‪ ،‬فإما يكون‬
‫األمر كرها وحتكما يف املال واجلهد‪ ،‬وأما يتطوع الناس جبهدهم‬
‫ودرمههم كما حيدث يف بالد الشيوعية التعليمية‪.‬‬
‫إنه ال بد من بنية حتتية لالقتصاد تسبق التنمية ومتهد هلا لكن‬
‫األهم هو تغيري العقلية وتطويرها لتتصرف يف عملها تصرفا منتجا‪.‬‬
‫وحيصي احملصون أن القدر املتماثل من املال يزيد يف إنتاجية‬
‫اجملتمع إن وظف يف التعليم أكثر مما يزيد فيه إن أنفق على الطرق‬
‫واآلالت واملصانع‪.‬‬

‫‪709‬‬
‫ونعلم من جتربة بالدنا اإلسالمية أن التعليم موكول إىل املوظفني‬
‫املكونني تكوينا أجنبيا‪ ،‬وكان من املنتظر أن يغريوا عقلية جمموعاتنا‬
‫الناعسة‪ .‬لكن الذي حيدث أن العلم اجمللوب من بالد اجلاهلية‬
‫يغري عقلية املعلم واملتعلم يف اجتاه واحد هو اجتاه حنو االستهالك‬
‫ومن هنا حنو املطالبة‪ .‬وإمنا يأتينا ذلك من الفشل العام الناتج‬
‫عن بنيتنا االجتماعية وفساد الضمائر واالضطراب يف املبادئ‬
‫واالجتاه‪ .‬فاملثقف ال حيصل على ثقافته إال بالتكفيء معرضا عن‬
‫قيم أمته األخالقية‪ ،‬وما حيتك به من نشاط اجلاهليني وجديتهم‬
‫سرعان ما يتبخر عنه تأثريه إن انغمس يف وسط جمتمعه بعقلية‬
‫مستعلية حمتقرة‪ .‬فبضعفه العقدي أو بتقززه من اجلمهور املتأخر‬
‫اجلوعان اجلاهل‪ ،‬ومبا حيسه اجلمهور ويكرهه من استعالئه وغربته‪،‬‬
‫ال يستطيع املعلم العصري أن يفعل يف تغيري عقلية األمة إال تغيريا‬
‫سلبيا‪ .‬يرونه طاعما كاسيا يفضل عليهم يف الرزق والسكن مبا ال‬
‫يقارن‪ ،‬ويشاهدون كسله وعدم جدواه‪ ،‬فما منهم إال من يتطلع‬
‫لشهادة مثل شهادته تؤهلهم لكسل أنظف من كسل العامة‪.‬‬
‫واملال الذي خنصصه للتعليم ينفق على مثل هؤالء املوظفني‪،‬‬
‫وهم زمرة من املستهلكني غري املنتجني‪ .‬وبينهم يف كثري من بالدنا‬
‫خرباء أجانب ميثلون بالنسبة إليهم ما ميثلونه هم بالنسبة لألمة‪.‬‬
‫هؤالء اخلرباء يأخذون أجورا أعلى ويعيشون رخاء أوسع‪ .‬وبذلك‬

‫‪710‬‬
‫جيتمع على املعلم املوظف عامال الكسل املتكرب والغنب الالحق‬
‫به‪ .‬وجترى مطالبته للمساواة مع األجنيب يف خط الوجهة العامة‪،‬‬
‫فكل يطالب بتغيري‪ ،‬وكل يتصور التغيري تصوره اخلاص‪.‬‬
‫ويرتقب الناس التنمية االقتصادية وتأثري هذه األعداد املتعلمة‬
‫يف مدارسنا على الفقر واجلهل واملرض بيننا‪ ،‬فإذا الذي يرونه‬
‫هي مشاريع البناء العمراين املاثلة من عدم‪ .‬هذه سدود عظيمة‬
‫صممها مهندس اشرتاكي أو مهندس غريه وأنفق عليها مال‬
‫أجنيب‪ ،‬وسهرت على تشييدها عقول أجنبية‪ ،‬وذلك طبعا مبسامهة‬
‫مهندسينا‪ .‬فنحن طرف مساهم ما لنا مبادرة إال مبادرة طلب‬
‫العون وتلقيه‪ .‬فلذلك ال نستطيع تغيري عقلية أمتنا ما دام ليس لنا‬
‫بشؤوننا استقالل‪.‬‬
‫ولكي نغري ما بنا من ختلف اقتصادي جيب أن نغري ما حيكم‬
‫أنفسنا من مبادئ وما يوجهها من حوافر يف إطار تغيري جذري‪.‬‬
‫فليس األستاذ املعلم وال الطبيب املعاجل وال املهندس الفين إال‬
‫آحادا يف جمتمعنا املتفكك‪ .‬فبتفككنا ال جيدون حافزا وال مشجعا‬
‫على العمل‪ .‬من كان منهم ذا صرب ورجولة قاوم التيار وأىن له‬
‫وحده ! ومن كان يبلغ به احلنق أشده فهو ثائر حمرك للثورة‪ ،‬أو‬
‫حيمل بضاعته إىل األرض تأجره عليه وتعرف مكانه‪ .‬ومن العجب‬
‫أن جتد بأمريكا املستنزفة لعقول العامل علماء مسلمني يصنعون‬

‫‪711‬‬
‫الذرة ويرسلون الصواريخ بينما أمتهم تفتقر ملن يصنع هلا إبرة‬
‫حرة غري هجينة‪ .‬ما هلم ذنب إذ هم آحاد منفصلون عن األمة‬
‫بثقافتهم أغراب عنها ال يفهموهنا وال تفهمهم‪ ،‬إمنا الذنب للنظام‬
‫الفاشل‪ ،‬والعقلية الفاشلة اليت تسودنا‪.‬‬
‫ينبغي للبعث اإلسالمي أن يقتصد‪ ،‬مبا لديه من وسائل مالية‬
‫وبشرية‪ ،‬اقتصادا منهاجيا‪ ،‬فيعبئ العقول بتعبئة اإلرادات املتحررة‬
‫اهلادفة لقوة‪ .‬فإذا عرف األستاذ املعلم والطبيب والفين هدف‬
‫العمل ومقصده وغايته فرض كل منهم سلوكا نافعا يف حقله‬
‫فاملعلم يعي وعيا صافيا دوره اإلنساين اجلهادي وعيا خمتلفا عن‬
‫وعي املوظف األجري‪ ،‬فهو يتناول رزقه جزاء عمله لكنه ينصح‬
‫ويضاعف عمله بالتطوع‪ ،‬ويأخذ على نفسه أن ينفع كل تلميذ‬
‫وطالب ويصنع منه رجال‪ .‬يصبح ذلك عنده رسالة شخصية كأمنا‬
‫يتوقف جناح األمة على جمهوده وحده‪ ،‬وكأن كل طالب وتلميذ‬
‫عنصر أساسي وقيمة وحيدة ال بديل هلا‪ .‬وهكذا يفعل الطبيب‬
‫مبرضاه وأصحائه والفين مبن يواصلهم من مساعديه ومن الناس‬
‫أمجعني‪.‬‬
‫الفالح يف بالدنا ميتنع عن التغيري وال حيب بديال عن أسلوب‬
‫زراعته‪ ،‬ومثله احملرتف باحلرف اليدوية أو العقلية‪ .‬وإن تلعم الفالح‬
‫وقرأ كان أقرب أن يغري أسلوبه ويرفع من إنتاجيته‪ ،‬وكذلك احملرتف‬

‫‪712‬‬
‫باليد‪ .‬أم املثقفون فهم حمرتفو الفكر‪ ،‬وهم بعقليتهم الطبقية‬
‫وتقاليدهم اجلامعية‪ ،‬بل تقوقعهم اجلامعي‪ ،‬أكثر استعصاء على‬
‫تغيري عملي وإن كانوا دعاة التغيري املنظرين لالشرتاكية‪ .‬إن للجامعة‬
‫جهازا يتناظر فيه األقران واألجيال كل بباهي بأوراقه ووراقته‪،‬‬
‫وحببال الوصل اليت نشهده باجلامعة األم يف أوربا وأمريكا‪ .‬وهم‬
‫يف برجهم العاجي منقطعون عن سواد األمة بعاداهتم االستهالكية‬
‫الباهضة‪ ،‬وبسلطتهم احلاكمة بأمرها يف مصائر الطلبة‪ .‬هؤالء‬
‫الطلبة رعيتهم ينظرون إليها من أعلى ويف ساعات اخلطب املنربية‪،‬‬
‫على أعواد الفتنة ال على أعواد املسجد‪ ،‬واحلظي منهم من يلتفت‬
‫إليه حضرة األستاذ ويكلمه‪.‬‬
‫فأول ما جيب أن نغريه حنو تنمية اإلنسان واستقالل املسلمني‬
‫بعقوهلم إعادة تربية اجلامعة‪ .‬ويتصور العقل أنه كما يغري سلوك‬
‫الفالح بإقرائه‪ ،‬ميكن أن يتغري سلوك املثقف برده إىل صف‬
‫الفالحني ليذوق حياهتم وبداوهتم وفقرهم‪ ،‬وليتعلم من صربهم‬
‫على العمل وتعاوهنم ورقة قلوهبم‪ .‬من املمكن تصور هذا جمرد‬
‫تصور‪ ،‬أما وقد أصبح مذهبا تربويا برهن عن جناحه بشهادة‬
‫املثقفني «املستهلكني» لفضائل الثورة الثقافية بالصني‪ ،‬فإنه الرفق‬
‫الذي حيبه املؤمنون‪.‬‬
‫إننا يف غدنا الناجح حنتاج ملثقفينا وحنتفظ هبم ونعتمد عليهم‪،‬‬

‫‪713‬‬
‫ومن استعصى علينا سقناه سوقا رفيقا للعمل املنتج حقا‪ ،‬ألننا‬
‫نتغذى حبب الشعري فينمي أجسامنا‪ ،‬ويفرز لنا املثقفون اللفظيون‬
‫أو املثقفون احملرتفون غذاء عقليا يسمم نفوسنا‪.‬‬
‫هلذا فالثقافة الباعثة لن تتحقق ازدهارا يف االقتصاد وقوة‬
‫وبأسا إال باالستقالل الشمويل‪ ،‬بتغيري ما بالنفس‪ .‬وتتذكر أسبقية‬
‫السياسة يف بر الصني‪ ،‬السياسة مبعىن التضحية وخدمة اجلماهري‪.‬‬
‫نعلم من حنن يف خدمته‪ ،‬وما حظنا من‬ ‫فال شأن لنا غدا أو َ‬
‫املسامهة يف اخلدمة‪ .‬وأن األيدي الرخوة الناعمة ال يعلوها إال فكر‬
‫رخو منحل أما األيدي اخلشنة فهي تعلم الفكر رجولة وشدة‪،‬‬
‫وهي تصنع االقتصاد وتصنع العقول وتغري النفوس‪ .‬وكفى باهلل‬
‫وليا وكفى باهلل شهيدا‪.‬‬

‫‪714‬‬
‫التعليم املتخلف‬
‫أزمة التعليم أزمة عاملية‪ ،‬تعرفها البالد املصنعة على شكل‬
‫احتجاج الطلبة واعرتاضهم‪ ،‬وتعرفها بالدنا املتخلفة على شكل‬
‫نقص يف األطر وعدم جدوى‪ .‬وأزمة التعليم هذه أزمة كم وكيف‬
‫معا عندنا‪ ،‬فمنذ تيقظ الناس للمصاحل املرتتبة على التعليم وما‬
‫يعطيه من شهادات أقبلوا على املدارس يبغون شهادات‪ ،‬وفتحت‬
‫حكوماتنا مدارس بسرعة حتت ضغط اإلقبال وبداعي التنمية‬
‫البشرية مللء الوظائف وتزويد اجلهاز بعاملني متعلمني‪ .‬العدد‬
‫الكبري من الناس يطلبون التعليم املدرسي يف البالد املتخلفة‪،‬‬
‫ولذلك تطالعنا ظاهرة عامة هي ظاهرة ارتفاع عدد األطفال‬
‫يف املدارس منذ استقالل البالد املتخلفة ارتفاعا هائال‪ .‬وهكذا‬
‫ظهرت يف هذه البالد املدرسة القومية يسندها طموح القومية يف‬
‫االستقالل الثقايف بعد االستقالل السياسي‪.‬‬
‫لكن عائقني اثنني يعرقالن سري املدرسة القومية‪ ،‬مها قلة املال‬
‫والرجال‪ ،‬فأما املال فال جتد احلكومات القومية حميدا عن رصده‬
‫للتعليم بكميات تتكاثر بتغري نظرة اجملتمعات التقليدية للمدرسة‪،‬‬
‫كانت هلم منها وحشة حىت شاهدوا أن املتخرجني منها هلم القدم‬
‫واحلظوة‪ ،‬فتزامحوا عليها واحتجوا إن أعوزهتم املدرسة‪ .‬وأما الرجال‬

‫‪715‬‬
‫فما كانت القومية وعاطفيتها وعصبيتها كافية لتخلق يف املعلم‬
‫حافزا يضاعف عمله ويضاعف إنتاجه مضاعفة كيفية‪ .‬فابتاعت‬
‫باملال وقت املوظفني وما يبتاع املال يف هذا اجملال إال قليال‪.‬‬
‫وكان لالستقالل السياسي نشوة دعت دوال حديثة العهد‬
‫باإلدارة والتنظيم‪ ،‬قليلة اخلربة مبنطق احلركة االجتماعية‪ ،‬ال متيز‬
‫بني الوسائل واألهداف‪ ،‬أن تشرع يف دساتريها إجبارية التعليم‬
‫وتعميمه‪ ،‬وترمجته إىل اللغة القومية يف بعض األحيان‪ ،‬أقول ترمجته‬
‫ألن القوميات املتخلفة ال تطلب عند اللغة القومية ما نطلبه حنن‬
‫عند لغتنا القرآنية‪ .‬وبرز للوجود مشروع التعليم واإلجبار والرتمجة‬
‫مرتحنا بني أهداف غري واضحة ووسائل مبعثرة تتسرب بني األيدي‬
‫اليت ال خشونة هبا والضمائر اليت ال أمانة هلا‪ .‬وعرفت كل الشعوب‬
‫حديثة العهد باالستقالل السياسي محاسا شديدا للمدرسة‬
‫يتقدم أو يتأخر حسب درجة الوعي القومي‪ .‬وتطوع الناس لبناء‬
‫املدارس‪ ،‬وأزهرت املدن والبوادي حجرا تعليمية أو مدارس كاملة‬
‫جاهزة‪ .‬والتطوع القومي يستطيع أن يبين باحلجر بيوتا لكن ال‬
‫يستطيع محاسه مهما بلغ‪ ،‬ولو كان محاسا قوميا اشرتاكيا‪ ،‬أن يبين‬
‫رجاال يعلمون يف املدارس القائمة حيطانا‪ .‬وكان املوقف السياسي‬
‫يقتضي تأثيت املدارس احلماسية بأشخاص ميثلون دور املعلم كما‬
‫اقتضت ضرورة التنظيم املادي املقلد لنماذج املستعمر أن تؤثث‬

‫‪716‬‬
‫احلجرات بأثاث خشيب تعليمي يستورد باملال الباهظ أو تستورد‬
‫األيدي اليت تصنعه‪ ،‬لكيال يتغري شكل املنضدة وما إليها ولو قيد‬
‫أمنلة‪ ،‬ألن كل ذلك أتقن صنعا ودرس دراسة علمية ال ينبغي لنا‬
‫إال أن جنتين مثرة جهودها سهلة هنية‪.‬‬
‫فلما جتهزت املدارس بأثاثها البشري وأثاثها التقين الصنمي‪،‬‬
‫دخلت يف نظام اجلهاز التعليمي دخوال مشهودا‪ .‬واحتفل الناس‬
‫مبدارسهم اليت أنفقوا عليها املال من قلة واجلهد من شغل‪ ،‬وهتفوا‬
‫بالسيد الذي «دشنها» وساقوا بعد ذلك بنيهم ليصبحوا رعية‬
‫للجهاز التعليمي‪ ،‬يرقون درجة اجتماعية مبجرد جلوسهم على‬
‫ذلك اآلثاث الغريب عن بيئتهم‪ ،‬ودرجة مث درجات بربكة اجلهاز‬
‫وبركة املعلم الذي ورد من املدينة حيث جرت أحداث جسام‬
‫جاءت باالستقالل‪ ،‬وكان املعلم ممثل العصرية والبطولية القومية‪،‬‬
‫أحد رجاهلا‪.‬‬
‫يدرك الفالح ببديهته أن ما يف اليد خري مما يف الغد خصوصا‬
‫إذا كان الغد جمرد وعد ال تدري صدق صاحبه وما بلوته‪ .‬فدفع‬
‫ابنه للمدرسة وحرم نفسه وأسرته من يد عاملة تسعى مع الساعني‬
‫جلمع السنابل ورعي البقرة‪ .‬وما كان له أن يفعل غري هذا‪ ،‬ألن‬
‫احلماس اجلماعي للمدرسة يعضده سلطان احلاكم الساهر لتكون‬
‫املدرسة عامرة‪ .‬وسرعان ما انتقض البناء من قاعدته‪ .‬لقد كانت‬

‫‪717‬‬
‫هذه اجلدران مسيكة‪ ،‬وكان األثاث املستورد جيدا‪ ،‬لكن العامل‬
‫البشري هوى ومل يصدق على حمك املزاولة اليومية ألمانة عظيمة‪،‬‬
‫فال احلكم سهر ليحضر املعلم يف مدرسته حضورا جسميا‪ ،‬وال‬
‫اجلهاز استطاع أن يراقب املعلم ومردوديته‪ .‬وما كان لذينك أن‬
‫يستطيعا وهلما من شؤوهنما اخلاصة شاغل‪.‬‬
‫وضج الناس أول األمر واحتجوا وانتظروا‪ ،‬ضجوا من ضياع‬
‫أبنائهم اجملندين على أثاث اخلشب طول اليوم يف انتظار األثاث‬
‫اآلخر‪ ،‬وضجوا من أخالقية البطل العصري احملزم يف سراويله‬
‫األفرجنية‪ .‬فلقد أعدى القرية وأخزى املهنة‪ .‬وبعد الضجيج اململ‬
‫أرخى احلاكم وأرخى اجلهاز زمام اإلجبارية والتعميم‪ ،‬ونقل‬
‫كل ذلك إىل ميدان املماحكات السياسية اللفظية‪ .‬أما الفالح‬
‫فاسرتجع ابنه لريعى البقرة وجيمع السنابل‪ ،‬فأىب هذا وجاول‬
‫والده بعادة تعلمها من مثال معلمه‪ ،‬وأرهقه مطالبة ليكون البيت‬
‫املسكني الطيين يف نظافة حجرة الدرس وشهاقتها ومجال أثاثها‪.‬‬
‫وهكذا كان نتاج املدرسة مشكلة اجتماعية عويصة‪.‬‬
‫وعلى مدارج السنوات‪ ،‬وبني القرية واملدينة‪ ،‬أفلتت أفواج‬
‫من األطفال بصدفة معلم خملص أو مدير جاد‪ ،‬وصعدت مراقي‬
‫التعليم‪ .‬وما من فوج إال ويف جنبه آثار املرض اجلهازي‪ ،‬تستفحل‬
‫كلما صعد يف سلم الدرس‪ ،‬بلقاء أساتذة أشد احتكاكا باجلاهلية‪،‬‬

‫‪718‬‬
‫وأشد تفسخا يف األخالق‪ .‬وهكذا صنع جيل التعميم‪ .‬أما الرتمجة‬
‫إىل اللغة القومية فال حديث لنا عنها بغري ما خيجل القومية‬
‫ويفضح عجزها‪.‬‬
‫وأما اجلهاز التعليمي فهو املرآة الصادقة لفساد اجملتمعات‬
‫القومية‪ .‬أحتدث عن هذا اجلهاز وحق يل أن أحتدث‪ ،‬فقد كنت‬
‫جزءا من أجزائه وعاصرته وخربته عن كثب‪ ،‬وبلوت عجائبه‪ .‬فإذا‬
‫نطقت فما أنطق عن تطلع ثقايف وال عن رواية بلغتين لكن عن‬
‫جتربة مباشرة‪.‬‬
‫اجلهاز التعليمي فاسد ببلدنا‪ ،‬ولست ادري ما حاله بدار‬
‫اإلسالم كافة‪ ،‬لكن أحرر وأقرأ ما ينبئين أن الداء الغثائي ال‬
‫خيص قطرا دون قطر‪ .‬أعرف من مديري املدارس من يعطي‬
‫العطلة الدائمة ملعلميه‪ ،‬ويقامسهم الراتب آخر الشهر‪ ،‬وآخرين‬
‫يأخذون نصيبا مفروضا من كل معلم لقاء التغاضى أو ضريبة‬
‫حالة‪ .‬وأعرف مراقبني تربويني يوظفون بالرشوة‪ ،‬ويعطون رتب‬
‫االستحقاق بالرشوة‪ .‬وأعرف من جنح يف مدارس املعلمني وجنح‬
‫يف االمتحان املهين‪ ،‬ورجاله مل تطا قط مدرسة املعلمني وال جملس‬
‫االمتحان‪ .‬وال تسع األوراق قصة فساد جهازنا التعليمي وهو جزء‬
‫ضئيل جدا من الداء العياء الذي ينخر جسمنا‪ .‬وكيف ال يزداد‬
‫اجلهاز فسادا واحملاكم ال تعدل وترتشي‪ ،‬وهكذا دواليك‪.‬‬

‫‪719‬‬
‫إن لنا عادة يومية نسميها مدرسة ونسميها تعليما‪ ،‬ومن يغدو‬
‫للمدرسة ويروح فال يغدو إال هبمة فاترة وعزم خائر‪ ،‬سواء يف ذلك‬
‫الطلبة واملعلمون‪ .‬فمن املعلمني رجال هلم شهامة ونظافة‪ ،‬يتأملون‬
‫ملا يرون ويسمعون‪ .‬ومن حسن العربة أن الطلبة هلم حساسية‬
‫دقيقة‪ ،‬فمهما بلغ هبم إغراء الفتنة وإغراء النموذج املتفوق بثقافته‬
‫اللفظية‪ ،‬فهم ال ينسون أبدا املعلم النظيف الصادق‪ ،‬وهم يكنون‬
‫له أكرب االحرتام‪ ،‬فإذا كان هلذا املعلم قدم يف العلم واتساع يف‬
‫األفق‪ ،‬فإنه كثريا ما يلد ضمائر شابة تقاوم التيار وحتن حلياة‬
‫الطهارة‪.‬‬
‫وهنا بذرة الربانية يف شخص املعلم املؤمن وشخص الطالب‬
‫احلامل للقابليات الطيبة ال مييتها التسمم اإليديولوجي‪ ،‬وتتيقظ‬
‫غدا للجهاد اإلسالمي إن شاء اهلل‪.‬‬
‫يف عقول مرتفة بقيادهتا وأخرى تذهب ضحية التزوير ختتلط‬
‫الوسائل باألهداف‪ ،‬وتصبح الوسائل مقصودة لذاهتا‪ ،‬أو ختون‬
‫فيتهدم البناء كله‪ .‬إن املدرسة يقصد من بنائها إيواء التعليم‪،‬‬
‫فتعود عند اخللط بناء مشيدا باهظ التكاليف‪ ،‬وعامال اجتماعيا‬
‫مهما جدا يف بث احلرمان والشعور باحلرمان‪ ،‬فهذا أكثر جوانبها‬
‫إجيابية يف منطق التغيري‪ .‬واملدرسة مفهومها أن تكون مؤسسة‬
‫للرتبية والتنمية الشمولية للطفل واليافع‪ ،‬فتعود مع اخللط مؤسسة‬

‫‪720‬‬
‫للرتويض والتدجني وتغذية الطموح الفردي املستأثر املستعلي يف‬
‫خدمة اجلهاز‪ ،‬وعوض أن خترج جيال خيدمون األمة خترج أجياال‬
‫هلا بينها تناسب وتوالد يف حلقة مفرغة مدرسية تدور حياة أفرادها‬
‫حول املدرسة والثقافة األكادميية‪ ،‬وال يصل منها خري لألمة يف‬
‫أسفل‪ .‬ومبثل هذه املدرسة وما تلده من جمتمع سطحي تنبت‬
‫عقلية االنقالبية الدائرة املفصولة عن األمة‪.‬‬
‫ووسيلة املال تصبح مع اخللط هدفا‪ ،‬ويتبارى احلكام يف أيهم‬
‫ينفق على التعليم أكرب نصيب من ميزانيته‪ .‬ويقارنون نفقاهتم‬
‫بنفقات اجملتمعات املنظمة‪ ،‬وال تصح هلم مقارنة‪ .‬يف جمتمع‬
‫متحضر منظم قوانني هلا القداسة‪ ،‬ورجال نشأوا يف ظل القانون‪،‬‬
‫وحتت ضغط اجتماعي يقظ ومراقبة لإلنتاج وتنافس على اجملد‬
‫والشرف‪ .‬فأميا مال أنفقوه على التعليم صرفوه حبكمة هلم تليدة‪،‬‬
‫ونسقوا العمل‬
‫ووضعوه حيث يكون أعظم إنتاجية وأوفر مردودا‪َّ ،‬‬
‫حبيث ال يتسرب هلم جمهود وال يضيع‪ .‬أما يف بالد القوميات‬
‫املتخلفة‪ ،‬فاملال يتسرب بني األيدي بأسرع مما تتسرب مياه الطل‬
‫يف صحرائها‪ .‬وما تناوله منها اإلجراء فإنه يف عينهم نفحة الغنب‬
‫وحظ احملروم‪ .‬ومن يعمل بعقلية املغبون ال يأت إنتاجه إال شهادة‬
‫الحتجاجه‪ ،‬وال يشارك يف العمل إال خداعا ومماطلة‪.‬‬
‫إن إحصاآت التعليم ببلدنا غرور وتغرير‪ ،‬ولسنا نرجو حتسنا‬

‫‪721‬‬
‫جلهاز التعليم وال رفعا إلنتاجيته بغري التحويل اجلذري الذي يقلع‬
‫البالء من أصله‪ ،‬فليس التعليم دولة وحده مستقلة‪ ،‬وال ميكن أن‬
‫خيتص التعليم بوظيفة التغري عن العوامل الشمولية‪ ،‬أعين عوامل‬
‫العقيدة والتفقيه املنهاجي والقيادة اجلهادية‪.‬‬
‫تقول إحصاآتنا إن كذا وكذا باملائة من األطفال يلتحقون‬
‫باملدرسة‪ ،‬وليكن ‪ 70%‬مثال ممن هم يف سن الدراسة‪ .‬فإذا‬
‫قورنت األعداد باألعداد القدمية زمن االستعمار بدا كأمنا رحبنا‬
‫رحبا عظيما‪ ،‬لكن وراء األعداد اإلحصائية ما ميكن أن يرتجم‬
‫عنه اإلحصاء وما ال ميكن‪ .‬فاإلفساد اخللقي والتلحيد وطمس‬
‫الذاتية آثار كيفية ال يعرب عنه الرقم‪ .‬وبعد ذلك تبذير يف املال‬
‫واجلهد مرده مجيعا لعدم كفاية أنظمتنا القومية وعجزها عن تطهري‬
‫الضمائر واأليدي فمن التبذير ما أشرنا إليه من بناءات شاهقة‬
‫ينصبوهنا وسط الفالحني املساكني سبة لفقرهم وبضاعة حضرية‬
‫تسلب ألباب أبنائهم فيحتقرون الكوخ والبقرة وثوب الصوف‬
‫ألهنم احتكوا بريح احلضارة وأثاث احلضارة‪ .‬وتقول األرقام إن‬
‫يف بالدنا املتخلفة على تفاوت يف مراتبها يتسرب عدد هائل من‬
‫التالميذ أو يكررون السنوات الدراسية‪ ،‬وذلك جيعل تكاليف‬
‫التعليم باهظة جدا‪.‬‬
‫ وكما تنتج معامل األمم بضائع رخيصة تغزو أسواقنا ألننا‬

‫‪722‬‬
‫إن بنينا مصنعا أنفقنا عليه بسخاء سلف القوميات هرون الرشيد‪،‬‬
‫فيفشل عن املنافسة وتدور دواليبه تأكل من رأس املال ال مردودية‬
‫هلا بتاتا‪ .‬كذلك تعليمنا إذا قارنا مردوديته مبثيالهتا يف العامل‬
‫املتقدم‪ .‬من كل ‪ 1000‬تلميذ يدخلون املدرسة االبتدائية يف أحد‬
‫أقطارنا يتبخر ‪ 904‬قبل هناية السنة السادسة‪ ،‬فال يكمل الدراسة‬
‫يف ست سنوات إال ‪ 96‬من ألف‪ .‬أما الباقون فمنهم من هجر‬
‫املدرسة هجرا هنائيا‪ ،‬ومنهم من تعثر وراء الركب يكرر مرة ومرتني‬
‫وثالثا‪ .‬ومن تدبرينا وحكمتنا أننا نساعد الدوالب فتقرر أجهزتنا‬
‫التعليمية طرد كل تلميذ كرر مرتني وفشل يف االمتحان‪ ،‬كأمنا‬
‫األطفال هم مصدر الفشل‪.‬‬
‫وهكذا فإن الدولة يف القطر املذكور تنفق نفقات تبلغ ‪ 13‬سنة‬
‫تعليمية عن كل ستة أطفال‪ .‬أو بعبارة أخرى فإن نسبة التوظيف‬
‫إىل اإلنتاج (‪ )input/output‬يف هذا القطر ‪ .2,2‬وهذه النسبة يف‬
‫بلد ميلك عقوال ورجاال ونظاما هتبط إىل ‪( 1,003‬اليابان)‪.‬‬
‫واألدهى من هذا أن من يتم تعليمه من األطفال يف ست‬
‫سنوات يرجع فينغمس يف وسط راكد أمي فال يستطيع أن حيرك‬
‫هو ساكن ذويه بل يرتدى فينقلب أميا بعد سنوات أو شهور‪،‬‬
‫وهذا بعض جهودنا الضائعة‪ ،‬ولنا جهود ما أشبهها مبن حيرث يف‬
‫البحر يتوهم ويوهم الناس أنه يشتغل فيما يفيد‪.‬‬

‫‪723‬‬
‫هذا التعليم املتخلف تعليم أجنيب ال يندمج أبدا يف األمة وال‬
‫حيرك ساكنها‪ .‬إنه تعليم خنبة غريبة عن األمة‪ ،‬هي نقلت شكله‬
‫وحمتواه من أرض اجلاهلية وجعلته سلما أفقيا شاق املراس سريع‬
‫التزليق حتديا للطالبني‪ .‬فينربي اجلمهور الغفري يطلبون الشهادة‬
‫النهائية اليت ختوهلم أن ينتموا للطبقة املثقفة احلاكمة‪ ،‬فأغلبيتهم‬
‫الساحقة جترفهم عوامل التسقيط على كل املستويات ويلفظهم‬
‫اجلهاز‪ ،‬ومن وصل منهم القمة بعد أن بذروا عليه أموال املسلمني‪،‬‬
‫فإمنا يصل كسيحا ممسوخا‪ ،‬تؤهله تلك اخلصلتان ليعد يف تلك‬
‫النخبة العتيدة‪.‬‬
‫جهاز التعليم يف بالدنا جسم غريب مستورد وآلة لتفقري‬
‫البالد ومسخ العباد‪ .‬وهو يف نفس الوقت آلة لصنع الوعي الثوري‬
‫اجلارف‪ ،‬ألنه ظلم مركب‪ ،‬ظلم يف املبدإ إذ حيمل إلينا قسرا‬
‫كفر اجلاهلية يف صيغ مناهجه ويف شخص معلميه اجلاهليني‬
‫وتالمذهتم‪ ،‬وظلم يف املعاملة ألنه وقف على من ميلكون الوسائل‬
‫ليغشوا مدارس خاصة باملرتفني أو يتلقوا دروسا خاصة‪ .‬الصدفة‬
‫وحدها واملال تؤهل األطفال ليتعلموا ويبقى على اهلامش عناصر‬
‫بشرية ذكية يف البادية واملدينة يعرض عنها اجلهاز‪ .‬ويزيد الطني‬
‫بلة أن املدرسة منعزلة بشكلها وحمتواها عن األمة ومنعزلة أيضا عن‬
‫األجهزة اإلعالمية‪ ،‬فهذه يف شغل لبث الوسوسة السياسية واللهو‬

‫‪724‬‬
‫اجملوين‪ .‬هي يف شغل عن تتبع املطرودين من املدرسة واألميني‬
‫تعلمهم وترقي مداركهم‪ .‬وكيف هلا أن تفعل وحمركها هو الطارد‪،‬‬
‫وكيف هلا أن تفعل والناس ال يرغبون يف تعلّم‪ .‬وقد قال احلديث‬
‫الشريف ‪ :‬ال علم إال بتعلّم‪ ،‬وال حلم إال بتحلّم‪ .‬وللعلم حدود‪،‬‬
‫كما للحلم حدود‪ ،‬تلك يصنعوها من حيث يصنعون هذه‪.‬‬

‫‪725‬‬
‫وسائل اإلعالم‬
‫وسائل اإلعالم حبل يصلنا ببعضنا كما يصلنا باجلاهلية وصال‬
‫حمكما مستمرا‪ .‬فبالفكر يبدأ التغيري وبه تتوطد العقائد‪ ،‬وهو‬
‫احلَ َك َمةُ املعنوية واآللة الفعالة اليت هبا يتحارب أرباب املذاهب‬
‫واالجتهات‪ .‬اإلعالم كلمة حيملها إليك املذياع وصورة ناطقة يف‬
‫التلفاز وصفحة من صفحات اجلريدة واجمللة والكتاب‪ .‬ودنيا‬
‫اإلعالم زاخرة باألخبار السياسية واالقتصادية واالجتماعية‪ ،‬هلا‬
‫سوق ال تبور‪ ،‬وهلا أذواق ترضي كل غرور‪ .‬إهنا مجاع الثقافة‬
‫وجممع مناذجها‪.‬‬
‫يف املدرسة تعليم منظم تكرهه للنفوس رتابته وتقنياته وحمتواه‪،‬‬
‫أما وسائل اإلعالم احلرة فتتلقفها الناس وتتعلم منها‪ .‬فهي التعليم‬
‫املستمر وهي الرتبية بالنسبة لعامة الناس صغريهم وكبريهم معا‪.‬‬
‫كنا حنن األمة املتدهورة حنو الغثائية ال نعلم من هذه الوسائل‬
‫إال الكتاب‪ .‬وكان للكتاب قداسة وحرمة‪ ،‬ألن الكتاب أوال هو‬
‫كتاب اهلل حيمل بني دفتيه اهلدى والرشاد‪ .‬وكان للكتاب قداسة‬
‫ألن العلماء الربانيني ما كانوا خيطون إال قرآنا من قرآن اهلل وحديثا‬
‫من خرب رسوله‪ .‬وملا غزتنا الفلسفة اإلغريقية بعد الصدر األول‬
‫خط كل يف كتبه باطال أو حقا ال يتميز املبطلون يف تفعلهم‬

‫‪726‬‬
‫للصيغ الكهنوتية عن باقي الفالسفة اجلاهليني‪ .‬وكان لكل جديد‬
‫لذة وانصرف الناس عن الكتاب والسنة والفروع الشرعية الضرورية‬
‫إىل اخلوض يف العقيدة‪ ،‬وبذلك اختلطت على املسلمني منابع‬
‫اهلداية وتكدرت ثقافتنا كدرا حاول تصفيته أمثال الغزايل واإلمام‬
‫األشعري‪.‬‬
‫وورثنا مع ما ورثنا هذه الثقافة املخلوطة‪ ،‬وكانت جزءا من‬
‫فتنتنا ألن علماءنا الربانيني يف كل جيل حافظوا على الصفاء‬
‫األول‪ ،‬وقاموا على احلق ال يضرهم من خافلهم‪ .‬أما اليوم فبلوانا‬
‫يف عقولنا أشد البلوى‪ .‬وقد انضاف إىل الكتاب صحف وجمالت‬
‫وأصوات وصور يرفعها إلينا اهلواء‪ .‬وإن ما حتمله كل هذه من ثرثرة‬
‫وعلم خلليط مغر متقن الصنع‪ ،‬يستهوي بالتنوع واالنتقال من‬
‫جد هلزل ومن لون للون‪ .‬وال تزال التكنولوجيا اجلبارة حتسن اآللة‬
‫ومضمومنها‪ ،‬فهاك التلفاز امللون‪ ،‬وهاك األقمار الصناعية اليت‬
‫تصلك ببث احملطات العاملية‪ ،‬وهاك املهارة الفنية عند الصحافيني‬
‫واملذيعني واملتربجات واملتربجني على الشاشات‪.‬‬
‫السينما مدرسة الفتنة الكربى‪ ،‬وخلفها ومن حواليها رسل‬
‫الشيطان إىل عقولنا‪ .‬وما كانت رسل الشيطان إال ألن وسائل‬
‫اإلعالم يف أيدي شياطني اجلاهلية وشياطني الفتنة‪ .‬يذهب الناس‬
‫لالسرتواح واللهو فتعجبهم احلياة اليت تعج هبا األفالم‪ ،‬وهي‬

‫‪727‬‬
‫حياة أول مساهتا االحنالل الدوايب ألهنا تدور مجيعا على الفسق‬
‫وهو ما يسمونه ثقافة جنسية وأدبا ومتثيال‪ .‬وباإلعجاب باحلياة‬
‫احليوانية والتمرس هبا تسري عدوى اجلاهلية يف عمق أعماقنا‪.‬‬
‫ولئن كان اجلاهليون أنفسهم يشكون من عنف أحداثهم ألن‬
‫السينما تعرض عليهم مناذج عنيفة‪ ،‬فإهنم ال يرون الشر إال يف‬
‫اجلرائم عند األحداث‪ ،‬أما الوباء اخللقي فقد اندمج يف السلوك‬
‫العام‪ ،‬أما حنن فوقع السينما وما يواكبها من اإلفرازات «الثقافية»‬
‫احلضارية وقع حنسه يف مشوليته املفسدة‪ .‬فعامل السينما عامل أنيق‬
‫ثري يقلع من قلب أحداثنا كل حمبة وانتماء لعاملهم الفقري يف‬
‫أمساله‪ .‬وحياة السينما يف األضواء والنوادي واملتربجات والعصابات‬
‫اإلجرامية تستلب األحداث من حياهتم الواقعية الكئيبة فيعيشون‬
‫يف األحالم‪ .‬وما كان من السينما يف نظر اجلاهلية ثقافيا اجتماعيا‬
‫ناقدا‪ ،‬فتعوق صياغته وشكله وغرابة دنياه عن بيئتنا ومشاكله عن‬
‫مشاكلنا أن يتعلم منه أحداثنا غري املضمون السليب‪.‬‬
‫يف املدرسة تعليم متلف كئيب‪ ،‬ويف اجملالت والسينما إغراء‪،‬‬
‫يف املدرسة نظام ورقابة‪ ،‬ويف وسائل اإلعالم احلرة عفوية واختيار‬
‫حر‪ .‬ولعناوين الصحف املختصة صحف اجلرائم والفسق‪ ،‬جاذبية‬
‫مثلما إلعالنات األفالم‪ .‬فلكل هذا اإلغراء يقبل أحداثنا بلهفة‬
‫على التعلم من حيث يتعرضون للمسخ تعرضا اختياريا وهو‬

‫‪728‬‬
‫مسخ ال خيتلف عن مسخ الربامج املدرسية املشحونة بالبطوالت‬
‫اجلاهلية‪ ،‬والفلسفة امللحدة يف طبيعته‪ ،‬وإن كان هذا يتخذ أسلوبا‬
‫بيداغوجيا ذلك يعرض بضاعته عرضا صرحيا‪ .‬وبني املسخني تعلم‬
‫جيل مفتون من بعده أجيال أشد فتنة الوقاحة قبل الغضب‬
‫اإلعرتاضي‪ ،‬والفساد اخللقي قبل الفساد الثوري‪.‬‬
‫عندما يدرس خرباء جهازنا التعليمي‪ ،‬حبضور أساتذهتم الزرق‬
‫أو فيما بينهم فهم لذلك كفاء‪ ،‬مناهج التعليم ليجعلوها مالئمة‬
‫للقومية مرتمجة أصيلة‪ ،‬يرصفون أمساء فالسفة اجلاهلية ليكون‬
‫فكرهم قاعدة للتكوين العام‪ ،‬مث يضيفون إىل الالئحة اسم الغزايل‬
‫وطه حسني متجاورين ليمكن مقارنة الفلسفة األم بفلسفتنا‬
‫القومية ويلعن اسم الغزايل اسم اجلاهليني واسم جاره يف املنهاج‬
‫املدرسي لعنا ال تدركه العقول املطموسة‪ .‬فهذا مسامهتنا القومية‬
‫يف ميدان املدرسة والكتاب‪ .‬أما يف السينما فلخالعتنا القدح‬
‫املعلى على خالعتهم مهما كانت منمقة‪ ،‬وحنن نصدر نساءنا‬
‫لريقصن هلم رقصة الداعرات‪ ،‬أجسادا يف سوق الرقيق العاملي‪،‬‬
‫وصورا ملونة على أفالمنا القومية الشهرية‪.‬‬
‫نالحظ وحنن على أبواب عهد احلياة اإلسالمية أن نظامنا‬
‫التعليمي ومناهجه ومدارسه رخيصة من حيث إنتاجها باهظة‬
‫التكاليف عند النفقة‪ .‬ونالحظ أن اإلمكانات التكنولوجية اليت‬

‫‪729‬‬
‫يتيحها االكتشاف العلمي تطور التعليم املدرسي يف بالد اجلاهلية‬
‫وتعطيه جناعة أكثر فتجتمع عندهم الوسائل التقليدية بالوسائل‬
‫التقنية فرتتفع مردودية التعليم املدرسي ارتفاعا عظيما حىت ال‬
‫يقصَر عن كل ألف تلميذ إال ثالثة ال يتممون تعليمهم االبتدائي‪.‬‬‫ُ‬
‫أما عندنا فضعف املعلم وفساد اإلدارة ال تستقيم معهما تقنية وال‬
‫ترتفع معها فاعلية‪ ،‬فيضيع من كل ألف طفل أكثر من مخسمائة‬
‫ومخسني قبل الشهادة االبتدائية‪ .‬وإن استعنا يف مدارسنا بوسائل‬
‫اإلعالم‪ ،‬فهي آالت مستوردة باهظة األمثان تناقض تناقضا صارخا‬
‫جهل الذين يستعملوهنا وفقر الذين تستعمل من أجلهم بعد أن‬
‫دفع ذووهم مثنها‪.‬‬
‫أصبح العامل املتطور يضاعف جمهود البشر بطاقة اآللة‪ ،‬ويف‬
‫ميدان التعليم يستعملون الوسائل السمعية البصرية للتوضيح‬
‫وإنشاء حركية جديدة يف جمموعة األطفال والطلبة أكثر تفتحا‬
‫على الواقع العملي من حركيات األسلوب التقليدي املرتكزة‬
‫على شخص األستاذ وكلمته ومبادرته‪ .‬ويف عاملنا السريع عامل‬
‫التخصص واحلاجة املتواصلة للمخرتعني‪ ،‬تتيح الوسائل املكنية يف‬
‫املدرسة اطالعا أوسع على العامل وعلى جتاريبه‪ ،‬وختاطب اخليال‬
‫والذاكرة معا‪ .‬فبذلك تنبه ملكات الناشئني‪ ،‬وتوجه فكره حنو‬
‫إدراك للمعلومات مشويل يسرع هبم للنضج أكثر مما تفعل املنهجية‬

‫‪730‬‬
‫التعليمية التقليدية‪ ،‬والتفكر املنطقي املدرسي‪.‬‬
‫فيظهر ملن يهتم بتغيري العقلية الراكدة تنوع االستعمال املمكن‬
‫ملنتجات العلم يف ميدان التعليم‪ .‬وقد وصل التطور عند اجلاهليات‬
‫أن صاروا يكلون إىل العقول احلاسبة بعض مهمات التعليم‪ .‬وما‬
‫ذلك إال مظهر من مظاهر األتوماتية العشوائية الباحثة عن طريقها‬
‫يف أرض الفوضى املنظمة‪ .‬ولعل مشكلة تطويرية مماثلة تعرتض‬
‫طريقنا يوما ما‪ .‬أما اآلن فمعركتنا مع وسائل اإلعالم‪ ،‬كيف‬
‫ندمج يف النظام املدرسي منها ما ندمج‪ ،‬وكيف نروض الباقية‬
‫خلدمة أهدافنا وغاياتنا؟‬
‫إن أحوج ما حنتاجه هو النموذج اإلسالمي النابض باحلياة‪،‬‬
‫إنه الرمز الذي يشخصه يف احلياة اليومية مناذج إنسانية وتعبريات‬
‫فنية وقيم ثقافية‪ .‬فالرمز والنموذج الرباين اجلامع هلمة األمة عند‬
‫إرداهتا للنهضة به هو الرجل الذي ينفصل عن قافلة الفتنة فيقول‬
‫ريب اهلل‪ ،‬وينطق بقوة ويريد بقوة من موقف قوة يكتسبه من صدقه‬
‫بربهان صدقه‪ .‬لكن وسيلة الرتبية والتعليم هي االتصال اإلنساين‬
‫بني النموذج وموضوع التغيري‪ .‬وال يكفي يف االتصال مثول مجاعة‬
‫الربانيني وشهادهتم بالقسط‪ ،‬بل ال بد من هيمنة الرمز والنموذج‬
‫على حياة الناس اليومية‪ ،‬حبيث ال يسمعون إال ما يذكرهم باهلل‬
‫واجلهاد يف سبيله‪ ،‬وال يرون إال ما حيرضهم على احملبة والطاعة‬

‫‪731‬‬
‫والنصيحة‪ .‬وحبيث تكون هلم حياة منوذجية رائدة يف كل امليادين‬
‫تعلم حياهتم العادية وتوقظها وتدفعها لتحقيق املستحيل‪.‬‬
‫وهنا يتبني لنا الدور احلاسم الذي ميكن وجيب أن تلعبه وسائل‬
‫اإلعالم‪ .‬إهنا تضاعف الطاقة الرتبوية للربانيني وتيسر االتصال‬
‫وتعممه‪ ،‬وتسرع باحلركة‪ .‬فخطبة اإلمام اخلليفة يوم اجلمعة بالغ‬
‫عام وموعد للقاء يتلقى فيه جند اهلل العاملون اجملاهدون األمر‬
‫اجلهادي‪ .‬وإن كان هذا اإلمام اخلليفة رجال ربانيا وارثا فإن خطبته‬
‫ستكون على سورة ومضمون خطب رسول اهلل صلى اهلل عليه‬
‫وسلم وكانت هذه اخلطب أحداثا مشهودة‪ ،‬تأخذ الناس ببالغتها‬
‫كما تأخذهم بصدق اخلطيب‪ .‬فقد كان صلى اهلل عليه وسلم‬
‫خيطب حىت حيمر وجهه ويغضب وينظر كأمنا حيذر من عدو يراه‬
‫ويسمعه‪ ،‬لنسم هذا الصدق وهذا الغضب املروي عنه صلى اهلل‬
‫عليه وسلم انفعاال مؤثرا‪ ،‬ولنتدبر أي وسيلة لإلقناع وتعبئة اجلهود‬
‫متثلها االتصاالت احلديثة بالتلفاز واملذياع والتمثيل‪.‬‬
‫إذا صفا لنا وجه األيام وأمطرنا اهلل برمحته‪ ،‬فإن كنا ال نستطيع‬
‫لتّونا أن نصنع بأنفسنا آالت إعالمية‪ ،‬فال بأس أن نستوردها باملال‬
‫ريثما نتعلم ونصنع‪ .‬وعندئذ لن نستورد أفالما مسمومة وال وسائل‬
‫مسعية‪-‬بصرية مربجمة معها متاعها اجلاهلي‪ ،‬وإمنا نشرتي اآللة حنن‬
‫نُعلّمها اإلسالم ونودعها نتاج القلوب الطاهرة والعقول املؤمنة‪.‬‬

‫‪732‬‬
‫سنطرد من وسائل إعالمنا شياطني الوسواس اخلناس‪،‬‬
‫وسنحملها رسالة القلوب الربانية احملبة ألمتنا وللعامل أمجع‪ .‬إن‬
‫لنا ممثلني حمنكني تعلموا فن القول وصناعة اإلنفعال‪ ،‬فإن تناولت‬
‫قلوهبم رمحة اهلداية ورقة اخلشوع وتبتلوا هلل حىت صفت مرآهتم‪ ،‬فإن‬
‫متثيلهم سيتحول صدقا‪ ،‬وسيبعثون هلذه األمة الغثائية مرياثها من‬
‫النموذج اخلالد ومستقبلها من الغيب املوعود‪ .‬وسيكون بصحفنا‬
‫وجمالتنا ذكر اهلل املشيد بقيمة اإلنسان بقيمة اإلنسان اخلالد‬
‫بدل التهافت السياسي‪ ،‬وسيكون هبا املتانة والتقوى بدل اخلالعة‬
‫والغثاثة‪.‬‬
‫إن بالد اهلل الثورية تنتزع أمتها من فوضى اإلعالم االسرتواحي‪،‬‬
‫وجتند كل صوت وكل ملكة وكل قدرة خلدمة اهلدف الثوري‪ .‬هناك‬
‫ثقافة ملتزمة باخلط الثوري‪ ،‬مبقتضاها يعاد النظر يف التاريخ ويعاد‬
‫النظر يف اإلنسان وعالقته بالكون وعالقة بعضه ببعض‪ ،‬وطرق‬
‫تفكريه وتعبريه‪ ،‬فما تنبس نابسة وال تتحرك رطبة ويابسة إال ِوفْ َق‬
‫اخلط املفروض‪ .‬هذا االلتزام الثقايف حصار للعقل والعاطفة تلهبه‬
‫وسائل اإلعالم استبدادا لكيال حييد عن الوجهة‪ .‬وهبذا تصبح‬
‫وسائل اإلعالم وسائل تكوين وتطوير‪.‬‬
‫لروسيا فنها الواقعي الستاليين الذي يرفض مغامرات الفنانني‬
‫الفوضويني‪ .‬وهذا الرفض مظهر دقيق للخالف اجلوهري بني‬

‫‪733‬‬
‫التصور التقليدي للفن والتصور الثوري املغري‪ .‬وال تزال روسيا‬
‫متخلفة يف التعبري الفىن باهتام زبنائها اجلاهليني‪ ،‬لكن اهتامهم ال‬
‫مينعهم من اإلعجاب باألفالم الرائعة اليت أنتجتها اجلمالية الواقعية‬
‫الفنية‪.‬‬
‫ويزور الزائرون بالد الثورة الثقافية فيهوهلم االنطالق املتموج‬
‫اهلائل الذي أسفرت عنه حركة احلرس األمحر‪ ،‬إهنا شعارات على‬
‫كل اجلدران‪ ،‬وسيل من الكتابة والتعبري الفين‪ .‬ويصف الواصفون‬
‫أفالم الصني امللتزمة وآداب صحافتها ومست اجتماعاهتا اجلماهريية‬
‫بأهنا صبيانية مبنية على االنفعالية البدائية‪ .‬إن األدب امللتزم يف‬
‫بالد اجلاهلية الثائرة أدب بدائي يف معايريهم الثقافية املرتفة‪ ،‬لكنه‬
‫أدب رجولة وفاعلية‪ ،‬لذلك فإهنم ال يقاومون تأثريه وال يفسرون‬
‫كيف يَأْ ُسُرُهم التعبري البدائي بقوته وبساطته‪ ،‬ألهنم ال مييزون بني‬
‫التمثيل الفين الصناعي وبني التمثيل الصادق حلياة منبعثة‪.‬‬
‫تلك اجلاهلية نصبها اهلل يف ثورهتا تعليما لنا بضرب األمثال‪.‬‬
‫وإن لنا آلدابا قومية وعقوال وفنانني قوميني لن حتوهلم الثورة‬
‫رجاال‪ ،‬وإمنا يبعثهم اإلسالم ليشرفوا باألذان لصالته على املنارات‬
‫وبالتكبري والتهليل‪ ،‬وعلى أعواد املسرح والشاشة ويف املذياع‬
‫والصحف باملوعظة احلسنة واجلدل اجلميل‪.‬‬
‫ويذكرنا تقدم وسائل االتصال واإلعالم يف عصرنا بتخلف‬

‫‪734‬‬
‫عقليتنا وقصور فهمنا لإلسالم‪ ،‬وال يزال من علمائنا األماجد‬
‫من يكر ويفر حيرم وحيلل باحلجة الغامضة والقرحية الراكضة مع‬
‫األلفاظ‪.‬‬
‫ومل ينتظر اإلسالم يوم انبعاثه أن تأيت اإلشارة من مجود بعض‬
‫الفقهاء‪ .‬فإهنم إن كانوا يظنون بأنفسهم الصدق‪ ،‬فخليق هبم أن‬
‫يضعوا أنفسهم يف مظنة الفحولة اليت ال تأيت األمور من أطرافها‬
‫بل متسك هبا مسكا قويا‪ ،‬يا حيىي خذ الكتاب بقوة‪ .‬وما عقلية‬
‫التحرمي والتكفري على غري حجة إال سالح دفاعي عن مواقع‬
‫العجز واحلرية‪.‬‬
‫وسائل اإلعالم أداة حركية هائلة سائبة اليوم بني ظهرانينا‬
‫مرتوكة لفوضي اإلدارة املرتفة ومبادرات االبتداع الفين املمسوخ‪.‬‬
‫وإنك لتخجل مما تفرزه اشرتاكيتنا القومية يف أفالمها وإذاعتها‬
‫وجمالهتا خجال فيه مرارة الشعور بفسولة قوميتها وحياء من‬
‫السقوط اخللقي والعري املعروض وما بني السطور والصور والسرد‬
‫القصصي من عالمات تفسر اهنزامنا وضياعنا‪.‬‬
‫وسائل اإلعالم أداة للرتبية الشمولية والتعليم املستمر املتكامل‪،‬‬
‫وإن أدجمنا وسائل اإلعالم العامة يف اجلهاز التعليمي املدرسي‬
‫حىت يصبح يف يدنا أداة موحدة للرتبية لنحصل على مقاليد‬
‫العقول واألفئدة‪ .‬تلك تعلمها احلكم الصائب املميز للجاهلية من‬

‫‪735‬‬
‫اإلسالم‪ ،‬والنظرة الناقدة اليت تستخلص احلق من الباطل‪ ،‬والقوة‬
‫والرجولة من الغثاثة واالحنطاط‪ ،‬وهذه نلقنها اإلميان بالنموذج‬
‫احلي الواصل بني املؤمنني‪ ،‬ونلقنها القرآن حياة جمسمة ال جمرد‬
‫سرد متغنج‪.‬‬

‫‪736‬‬
‫تطوير التعليم‬
‫من حاجات النهضة اإلسالمية دمج وسائل اإلعالم يف اجلهاز‬
‫التعليمي‪ .‬وهو مطلب هتدف إليه اجلاهلية الفوضوية فال تصل إليه‪،‬‬
‫وال ميكن حتقيقه يف واقع األمر إال يف سياق مغري‪ .‬ورثت اجلاهلية‬
‫اجلامعية نظاما تعليميا من القرون األوىل الناهضة‪ ،‬من أعالمه‬
‫روسو وديوي وأقراهنما‪ .‬وكان هلؤالء األعالم باع طويل يف تطوير‬
‫التعليم وتقنيته‪ ،‬ويف معاملة األطفال ومعاناهتم‪ .‬وعندما ابتدع‬
‫العقل اليهودي العبقري علم النفس‪ ،‬ج ّد يف عامل الرتبية والتعليم‬
‫اهتمام بنفسية املعلم واملتعلم‪ ،‬وجدت حماوالت ملالءمة الكيانات‬
‫البشرية املتغرية باألهداف التعليمية املتنوعة‪ .‬ودرس علم النفس‬
‫الرتبوي مشاكل منو الطفل يف حلقات عمره‪ ،‬ومشاكل اليفاعة‬
‫والشباب وحوافز التعلم ودواعيه وعوائقه اخلارجية والنفسية‪.‬‬
‫ ولعل أيامنا هذه أكثر األزمان حرية أمام احنراف األحداث‬
‫وأكثرها اهتماما بتطوير الرتبية والتعليم‪ .‬وإن كان االهتمام‬
‫بالتطوير منصرفا إىل التعليم أكثر من انصرافه إلصالح االحنراف‪.‬‬
‫وإذا استثنينا الشيوعية املربية اخلبرية بالصني فال نكاد نسمع‬
‫شكوى اجلاهلية األخرى من احنرافها إال إحصاءً وإصالحا إداريا‬
‫رادعا‪ ،‬أما التعليم ومشاكله فيحتل الصف األول يف العناية‪.‬‬

‫‪737‬‬
‫ذلك التصال التعليم بالصناعة ورفع مستوى العيش‪ ،‬وألن العقول‬
‫املبتدعة اجملددة لنوعية البضاعة ضرورية للمجتمع االستهالكي‬
‫وللعقلية املتصارعة يف حلبة التوازن النووي‪.‬‬
‫ينفق على التعليم يف بالد اهلل ما بني ‪ 20‬و ‪ 30‬باملائة من جمموع‬
‫النفقات العامة‪ .‬وكأمنا يكون ارتفاع النفقات العامة على التعليم‬
‫معيارا للجهد املبذول لتحسينه وتطويره‪ .‬وذلك ميشي يف نسق مع‬
‫املنطق الكمي‪ .‬أما يف بالد الرتبية املغرية‪ ،‬فإن االهتمام بالناشئة‬
‫ال ينفصل عن االهتمام الكلي باإلنسان كما ال تنفصل الرتبية‬
‫املغرية للنفوس عن التعليم املغري للعقلية‪ .‬تلك تنشل العادات‬
‫السيكولوجية من مربضها‪ ،‬وهذه تنشل العقل من عاداته‪ .‬ويف‬
‫بالد الرتبية املغرية‪ ،‬بالد اإلسالم غدا يوم الفرحة إن شاء اهلل‪ ،‬لن‬
‫تكون النفقات العامة إال جزءا من اجملهود املبذول لتطوير التعليم‬
‫وإصالح االحنراف‪ .‬إن مع الطاعة تطوعا ومع النفقة املفروضة‬
‫بذال زائدا ال حد له إال مهارتنا يف استثمار ما لدينا من خربة‬
‫وإرادتنا للمسامهة يف اجلهاد‪ .‬إذا ذكرنا هبذا‪ ،‬وفرغنا من االقتناع‬
‫بضرورة دمج كل الوسائل لصنع آلة واحدة موحدة للتغيري الرتبوي‬
‫التعليمي‪ ،‬فلننظر من ماذا نغري التعليم ونطوره ويف أي اجتاه‪.‬‬
‫أول ما جيب أن نطوره ونغريه هو عالقة املعلم بالطفل واألستاذ‬
‫بالطالب‪ .‬العالقة احلالية عالقة هلا عيبان‪ ،‬أوهلما يف نفس املعلم‬

‫‪738‬‬
‫وعقليته اليت يؤدي هبا وظيفته‪ ،‬إنه موظف مأجور ال يشعر أن له‬
‫يف العملية كلها مسؤولية‪ ،‬إال املسؤولية اإلدارية املتآكلة‪ .‬والثاين‬
‫عيب ناشىء عن األول وهو اجلفوة العاطفية بني املعلم والتلميذ‪.‬‬
‫فجو املدرسة جو بارد ثقيل مرهق‪ ،‬وقليل من املعلمني من حيب‬
‫مهنته ليحب هبا الطفل‪ .‬أو من حيب الطفل ليحب حببه مهنته‪.‬‬
‫ويعرب الطلبة املهتزون املعارضون عن هذه اجلفوة وعن العقلية‬
‫املأجورة وما يصحبها من فشل بنفورهم من استعالء األستاذ‬
‫وبعنفهم عليه‪ ،‬حىت يرغموه على سلوك إنساين حيرتم كرامتهم‪.‬‬
‫ومن العقلية املأجورة واجلمود العاطفي يرتكب مجود أكادميي‬
‫حاربه طلبة اجلاهلية املعرتضون‪ .‬فلما جنحوا عوضوه بعالقات‬
‫جديدة بني األستاذ والطالب‪ ،‬فمن جانبه اخلنوع لإلرادة اجلماعية‬
‫«الدميقراطية» ومن جانبهم التحلل اخللقي‪ ،‬والتحدي لألخالق‬
‫والذوق السليم واألدب العام يف قاعة الدرس‪ .‬وقد نقل طالبنا‬
‫سلوك زمالئهم ومناذجهم اجلاهليني‪ ،‬فأساتذهتم أشد خنوعا‪ ،‬ومن‬
‫تأىب منهم استعدوا عليه بزمالئه من الكافرين الزرق‪ ،‬وحاربوه حىت‬
‫ينقاد للفتنة إذ مل يكن من قادهتا‪ .‬وهكذا يتسابق األساتذة أيهم‬
‫أكثر مروقا وأسبق ملوبق‪.‬‬
‫والتغيري الصيين يف الثورة الثقافية بدأ بتمرد الطلبة استجابة لنداء‬
‫الزعيم‪ ،‬وكسر احلماس الطاليب عقلية اجلمود األكادميي ونفسية‬

‫‪739‬‬
‫االستعالء الطبقي يف صفوف املثقفني‪ .‬بيد أن الوقاحة الفوضوية‬
‫حل مكاهنا االنضباط الثوري واآلن أخذت تبدو عالمات تنذر‬
‫بأن ذلك االنضباط مل يكن وازعا كافيا لصد الشباب عن أسباب‬
‫الفوضى‪.‬‬
‫وغدا يف ظل اإلسالم لن يكون للطالب وال للمعلم مكان غري‬
‫املكان الذي شرعه اهلل وال مبادرة غري اجلهاد املنضبط يف موقف‬
‫كل واحد من الصف‪ .‬إن اهلل عز وجل علمنا يف قصة موسى عليه‬
‫السالم كيف ينبغي للمتعلم أن يتبع معلمه ويصرب معه‪ ،‬وأمرنا‬
‫أن نعزر الرسول ونوقره وحنبه‪ .‬وقد كان حممد رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم معلما‪ ،‬ما بعث إال لذلك‪ ،‬وكان منوذجا كامال وأهال‬
‫للتوقري والتعزير واحملبة‪ .‬فمن هذه النموذجية ينزل الوقار وتنزل‬
‫السكينة على املتعملني واحلشمة‪ .‬فاملعلم املؤمن اجملاهد ينبغي أن‬
‫يكون منوذجا حيا باسطا ذراعي احملبة ملن اسرتعاه اهلل من أطفال‬
‫املسلمني وشباهبم‪ ،‬باسطا وجه احلياء والوقار‪ ،‬وعلم الربانيني‬
‫ورفقهم‪ .‬وعلى اجلانبني بعد ذلك‪ ،‬بل هلما حقا ورمحة‪ ،‬أن يرتفقا‬
‫برفق اإلسالم فيوقر الصغري الكبري ويرحم الكبري الصغري‪.‬‬
‫ال بد من تربية املربني وتعليم املعلمني أوال‪ ،‬وعلينا أن حندث‬
‫على مرتفينا ضغطا ينزهلم من األبراج العاجية دون أن خنل باملبادئ‬
‫اخللقية وسيلة وغاية‪ .‬إعادة الرتبية كما مارسها الصينيون ابتكار‬

‫‪740‬‬
‫عظيم‪ ،‬وعلينا أن نسلك منهاج الرفق لنغري بنية اجملتمع الراكد‬
‫الغثائي مبا يشبه موجة البشرى ال موجة الثورة الثقافية‪ ،‬ومن‬
‫البشرى ما يزفه شديدو القوى ذوو املرة فيعلمون ويربون وال‬
‫ينتكس تعليمهم وتربيتهم لفوضى عنيفة‪.‬‬
‫مث إن تنظيم مدارسنا وإدارهتا وبراجمها حباجة لتغيري وتطوير‪.‬‬
‫فالعقول الكليلة ال تستطيع جتديدا يف أسلوب العمل لعدم ارتباطها‬
‫بغايات واضحة وأهداف معلومة خمطوطة‪ .‬فتتخذ الشكليات‬
‫والتقاليد مكان اللب واملقصود‪ .‬واملعلم نفسه يف هذا التعليم‬
‫املتخلف شكل وأثاث‪ ،‬مؤهالته أشكال لالمتحانات وامللكات‬
‫حمكية عن النموذج املرتجم‪ ،‬وينتظر منه اجلهاز التعليمي أن حيكي‬
‫صورة رجل بلباسه ويوخبه الرئيس إن دخل املدرسة بال شناق‬
‫يف عنقه أو أخل بطقس من الطقوس البيداغوجية العتيقة‪ .‬ألن‬
‫اإلخالل هبا وطرح الشناق أخطر األخطار يف نظر اجلهاز‪ ،‬أما‬
‫الفاعلية واإلنتاج‪ ،‬وأما إفادة التالميذ فحساهبا عند اإلحصاآت‬
‫الناطقة الفصيحة‪.‬‬
‫يف دنيا العقلية املأجورة واحملسوبية والشكل الفارغ ينتخب‬
‫لإلشراف على املدارس وإدارهتا من هلم العتاقة والبلى ال من هلم‬
‫الكفاية والبالء‪ .‬ومىت أحرز املوظف التعليمي علة منصب إداري‬
‫ايف أصبح له حق يف احتالل مركزه كما حيتل اجليش الغازي‬ ‫إشر ٍّ‬

‫‪741‬‬
‫أرض العدو‪ .‬فله أن يعمل جبد فيرتسب جده يف اهلزل العام‬
‫والعبث العام إىل أن يُعيىي خبذالن أهل املهنة‪ ،‬وله إن كان من‬
‫نوع آخر أن يعيث يف األرض فسادا على غرار طبقته من املرتفني‪.‬‬
‫ويعلمنا التنظيم اجلاهلي‪ ،‬حىت الفوضوي منه‪ ،‬أن املستهلك‬
‫للخدمات أوىل بانتخاب من خيدمه‪ .‬وتعلمنا الشيوعية املربية‬
‫أسبقية «السياسة» مبعىن التضحية واخلدمة‪ .‬لذلك ففي ظل‬
‫اإلسالم ينبغي أن يكون للوظيفة معىن غري الذي تعرفه اجلاهلية‪.‬‬
‫فاملوظف محل على األمة ضربة الزب إىل أن ترتشي أعضاؤه هرما‪،‬‬
‫وتبلى مهته وذمته‪ ،‬واخلادم األجري ينبغي أن يعطي حساب عمله‬
‫وبرهان صالحيته يف كل يوم يشهد به من خيدمهم‪.‬‬
‫هؤالء املديرون املوظفون‪ ،‬ويصحف أهل العربية القومية‬
‫املريضة فيسموهنم «مدراء» وذلك أشبه بانتمائهم لطبقة السفراء‬
‫واألمراء‪ ،‬أصحاب إقطاع جيب أن يعاد النظر يف ترشيحهم للرئاسة‬
‫ويف كفايتهم وخدمتهم‪ ،‬يف إطار مراجعة عامة للنظام اإلداري‬
‫الفاسد‪ .‬وليس عند اجلاهلية درس نستفيده‪ ،‬فهي تشكو من عدم‬
‫جدوى أجهزهتا اإلدارية مثلما نشكو‪ ،‬وإن كان الفساد يبدو أكثر‬
‫وضوحا جبسمنا اهلزيل‪.‬‬
‫مناهج التعليم املرتمجة ختدم قضية التغريب والتكفري مع قصورها‬
‫عن حتقيق األهداف التعليمة‪ .‬وهي مناهج ثقيلة عشوائية وضعها‬

‫‪742‬‬
‫الواضعون من خربائنا الداجنني يف خط النظر الكمي‪ ،‬فكأمنا‬
‫يتوقف جناح تعليمنا على كثرة وتنوع املواد اليت ندرسها‪ ،‬أو كأمنا‬
‫يقصد من ذلك تعجيز املتعلمني وإرهاقهم‪ .‬ويف كثري من احلاالت‬
‫يعجز املعلم نفسه عن فهم املنهاج املدرسي فكيف بالتالميذ‪.‬‬
‫إن ميدان التنظيم املدرسي والتقنية التعليمية ككل ميادين‬
‫التكنولوجية جمال فسيح جلهادنا البنائي‪ .‬علينا أن هنجم بشجاعة‬
‫على املهمات العويصة فال يثبطنا وهم امتناع التكنولوجيا عنا‪.‬‬
‫وحينئذ ميكننا أن نتعلم كيف نبتكر ألنفسنا نظاما وتعليما بدراسة‬
‫جناح اجلاهليات وفشلها‪ .‬ال حيد ابتكارنا عائق إن استقلت إرداتنا‬
‫وعقولنا وجعلنا االقتصاد إىل الغاية مبدأنا‪ .‬فللجاهلية املؤثثة‬
‫جتاريب غنية يف حقل التعليم لن ننقلها ونرتمجها ألن وسائلها من‬
‫آالت ومتاع ينتجونه وال ننتجه‪ ،‬ولكن التعليم اآليل املربمج يتناول‬
‫الذاكرة والفكر وال خياطب اإلرادة‪ ،‬وال يوقظ الفكر الناقد‪ .‬فال‬
‫نكون أتباعا آلليتهم وال لعقلنتهم عالقات املدرسة إىل حد يفقد‬
‫معه الناشئة معاين الصلة اإلنسانية والرتاحم واحلشمة‪.‬‬
‫يرفع الصينيون شعارات االعتماد على النفس وشعارات‬
‫التطوع القتحام معاقل التكنولوجيا‪ .‬ولنحن أحق بشجاعة ورجولة‪،‬‬
‫فلذلك ننتزع أنفسنا من سلطان الثقافة األجنبية ونبتكر جهادا‬
‫تعليميا مربيا ميارس معه املعلم أبوته وحينو على أبنائه‪ ،‬وحيمل‬

‫‪743‬‬
‫إليهم يف املدرسة ما حتمله إليهم وسائل اإلعالم غدوا وعشيا من‬
‫بشائر احلياة وإشارات العمل واجلد واملثابرة‪.‬‬
‫املعلم ضحية لدوالب الفتنة‪ ،‬واملدير وكل اجلهاز التعليمي‪،‬‬
‫كما حنن ضحايا رئيسنا ومرؤوسنا‪ .‬هكذا ننظر إىل املستقبل يف‬
‫خط نظر التوبة العامة اليت ترفع املظامل وجتب ما عداها بتجديد‬
‫النية والعقد واملبايعة‪.‬‬
‫املعلم‪ ،‬ورجل التعليم بصفة عامة‪ ،‬ال يتصل باحلياة إال اتصاال‬
‫مهنيا حمدودا‪ ،‬وأحيانا يسكن بادية هو فيها غريب‪ ،‬دفع إليها‬
‫وهو يتأفف وسكنها وهو يتقزز من خشونة العيش وجفاء الناس‪.‬‬
‫الناس ال حيبونه لسوأة محلها إليهم‪ ،‬وال يثقون به إال مثلما يثقون‬
‫بأمثاله مراوغة ومداراة‪ .‬إنه ال صلة تربط املعلم ببيئته‪ ،‬وهو ال حيس‬
‫بانتمائه للمستضعفني من الفالحني‪ .‬فإذا تغريت العقلية العامة‪،‬‬
‫وأصبح سكن البادية وخشونتها ورجولة املستضعفني وصربهم وهو‬
‫سبيل اخلالص العام‪ ،‬لزم أن يتعلم رجال التعليم كيف ينزلون إىل‬
‫مستوى أخوهتم‪ ،‬وكيف يعملون باليد وكيف حيملون على الظهر‬
‫سابقني ليضربوا املثل‪ ،‬وميحوا عار الفتنة اإلقطاعية اليت هلم فيها‬
‫أصبع أو ظفر بوجه من الوجوه‪.‬‬
‫هذا تكوينهم العام‪ ،‬أما التكوين العقلي فتتيح لنا التقنية‬
‫التلفازية مضاعفة اخلربة النادرة عندنا‪ .‬إن لنا أجهزة ابتعناها‬

‫‪744‬‬
‫للمتعة واللهو‪ ،‬فلتنطق هذه األجهزة باحلكمة حاملة ملعلمينا يف‬
‫مدارسهم مع تالمذهتم ومع الناس إرشادا عاما‪ .‬ولتحمل إليهم‬
‫خاصة تعليما مهنيا ودروسا يسمعوهنا ويروهنا مع التالميذ ليحيكوا‬
‫حوهلا نشاطهم‪.‬‬
‫كان تكوين املعلمني والتالميذ عملية حرفية تريب كل فرد‬
‫على حدة داخل جمموعة من املتعلمني‪ .‬فيكون لكل منهم صلته‬
‫باألستاذ وخط سريه على قدر ذكائه ودوافعه‪ .‬فلما استعملوا‬
‫التلفاز أصبح األمر كأنه إنتاج عمومي للثقافة وتكوين جمموعي‪.‬‬
‫يف العامل اليوم حماوالت عديدة متنوعة لإلستفادة من التلفزة يف‬
‫ميدان التعليم دون التعرض ألخطار تعليم آيل ال شخصي‪ .‬وال‬
‫يزالون يبحثون عن وسيلة لتحقيق هدفني متناقضني كانت املدرسة‬
‫بال تلفاز حتققهما حبرفيتها‪ ،‬مها التعميم ليأخذ كل طفل نصيبه‬
‫من التعليم‪ ،‬مث الرتبية الفردية والعناية بكل شخصية على حدة‪.‬‬
‫وحيصي احملصون أن تعميم التلفزة يف مدارس جهاز تعليمي‬
‫ما يكلف زيادة يف النفقات التعليمية تقارب سبعة باملائة بني ما‬
‫يبلغ إنتاجها زيادة يف التحصيل تقارب مخسني باملائة‪ .‬بيد أن‬
‫العقبة يف وجه تطوير التعليم تكمن يف املعلمني أنفسهم‪ ،‬ألهنم‬
‫يقاومون كل جديد يغري ما ألفوه‪ ،‬كما يقاوم املشرفون على‬
‫اجلهاز هذا التجديد بنفس العقلية‪ .‬إن التجديد يريد جتددا يف‬

‫‪745‬‬
‫أسلوب التفكري وأسلوب العمل‪ ،‬ولكل طريقة جديدة يف التعليم‬
‫تقنية يكسل املعلمون عن تعلمها وخياف املشرفون منافسة خبري‬
‫حيل مكاهنم ليسهر على تطبيقها‪ .‬وهكذا نرجع إىل ضرورة النظر‬
‫يف كل مشكلة من مشاكلنا يف سياق تغيري عام جيرف الغثاء بعد‬
‫اليأس من عالجه‪ ،‬ويبعث حياتا يف جسم األمة وعافية‪.‬‬
‫لقادتنا اليوم مشاريع «عظيمة» إلصالح التعليم كما هلم‬
‫مشاريع إصالحية أخرى يف مثل العظمة وكل ذلك آئل إىل فشل‬
‫ما دمنا نفكر بعقلية ذرية ال تصل األسباب باملسببات يف حركية‬
‫البنية العامة‪ .‬وما هلذه األمة إال مشروع واحد منقذ هو مشروع‬
‫احلرية والتحرر من التقليد وسلطان العادة مث اقتحام عقبة االبتكار‬
‫والتجديد الشاملني العامني‪.‬‬

‫‪746‬‬
‫التعليم املستمر‬
‫ يتقدم منط احلياة االجتماعية يف عصرنا ويتطور تطورا‬
‫سريعا‪ .‬والتعليم ال يساير هذه السرعة‪ ،‬بل يتخلف وحياول‬
‫اللحاق مستعريا أجهزة الكشوف العلمية‪ ،‬فإن أرضى حاجة‬
‫االقتصاد باجلهد املتواصل‪ ،‬فإنه ال يرضي حاجة الفرد وال حاجة‬
‫اجلماعة‪ .‬هناك يف العامل تعليمان أحدمها مدرسي متخلف رغم‬
‫اإلصالحات املتواصلة‪ ،‬واآلخر حر سهل املتناول مغر وإن كان‬
‫غري وظيفي وال منتج وهو التعليم اإلعالمي‪.‬‬
‫مشاكل الثقافة والتعلم الثقايف واملهين فرضت على ناس‬
‫اجلاهلية أن يبحثوا عن تعليم مستمر‪ .‬وقد رأينا منوذج الثورة‬
‫الثقافية املستمرة وكتيبها األمحر وفاعلية أسبقية السياسة يف بالد‬
‫الصني أرض العلم والتعليم‪ .‬وهنا نستعرض ما عند اجلاهلية املؤثثة‬
‫لتتم لنا االستفادة من عطاء اهلل غري احملظور‪.‬‬
‫يف بالد الثورة الصناعية ويف مقدمتها أرض «ما بعد الصناعة»‬
‫تتقدم التقنيات وتتعقد استعماالهتا فتزداد حاجة االقتصاد إىل‬
‫تعليم العمال وحتسني تعليمهم وتطويره‪ .‬وبتقدم التقنيات يتوجب‬
‫على العامل أن يتكيف حبركية التغيري املخرتع وما يتبعه من تغري يف‬
‫التنظيم االجتماعي‪ .‬ويف اجملتمعات السكونية الراكدة يتعلم املرء‬

‫‪747‬‬
‫صناعة ما فيكسب جتربة وخربة تغنيه مدى حياته عن جتديد ما‬
‫تعلمه ألن التقنية ال تتغري‪ ،‬أما يف عاملنا املتحرك فإن ضرورة التعليم‬
‫املستمر تواكب ضرورة التجديد املستمر يف أساليب االنتاج‪ ،‬وهذه‬
‫ختدم حاجة اإلنسان اجلاهلي االستهالكي لتجديد أثاثه‪.‬‬
‫يف مجاعة اإلسالم وحركية التطور حنو إسالم القوة والتقلل ومحل‬
‫الرسالة لتكون حاجتنا للتجدد واالبتكار أشد من حاجتهم‪ ،‬لكن‬
‫يف اجتاه مغاير‪ ،‬وحنو غاية ال تدخل هلم يف حسبان‪ .‬لنضع هذا‬
‫نصب عيننا حىت نعلم موضع العربة يف مراقبتنا لتعليمهم املستمر‪،‬‬
‫غري وامهني حنسب الشحم فيمن شحمه ورم‪.‬‬
‫يف أرض ما بعد الصناعة أرض أمريكا بالد األثاث والرئي‬
‫تغري يف طبيعة املنتوجات وأشكاهلا‪ ،‬ففي سنة ‪ 1968‬كان أربعون‬
‫باملائة من جمموع البضائع املعروضة يف األسواق قد اخرتع منذ‬
‫أقل من مخس عشرة سنة‪ .‬والنسبة يف تزايد سريع‪ .‬وكل هذه‬
‫البضائع أو جلها يصنع اليوم يف معامل تتحكم السربانية يف‬
‫إنتاجها كما تتحكم يف حساباهتا بعضا أو كال‪ .‬ويف موازاة هذا‬
‫التغيري حتول سريع يف نفس اجلاهلي املؤثث‪ ،‬إنه قلق على مستقبله‬
‫املهدد باألوتوماتية السربانية وبالقلق االجتماعي وصراع األجيال‬
‫واألجناس وعنف الشارع والصواريخ‪ .‬أخالقيته تتغري وتتواىل عليها‬
‫«مودات» السلوك من خنافسية إىل هبية‪ ،‬تنوعات دوابية هي‬

‫‪748‬‬
‫لنا من آيات اهلل اآلذنة خبراب اجلاهلية وحضارهتا‪ .‬ويف ميدان‬
‫اجلماليات تغري سريع مماثل بل إن عقلية أولئك باتت خاضعة‬
‫للتيار املتماوج تعطي للتجديد قيمة جملرد أنه جتديد‪ ،‬فكل من لطخ‬
‫القماش باأللوان تلطيخا أشد نكرا من سابقه رسام‪ ،‬وكل من جن‬
‫يف ضرب القيثارة جنونا أعمق من صاحبه عبقري‪ .‬وهكذا غليان‬
‫التجديد‪ ،‬ومصدر احلاجة إىل التعليم املستمر‪ ،‬لكيال يتخلف‬
‫اإلنسان عن آالته يف هذه املسابقة اجملنونة‪.‬‬
‫لكل جتديد يف بالد اجلدة وقعه على احلياة اليومية‪ ،‬فال بد‬
‫لكل إنسان أن يساير حركة االخرتاع ليغري على ضوئها أسلوب‬
‫حياته داخل األسرة ويف ميدان العمل‪ .‬وكان ذلك خاصا فيما‬
‫مضى باملختصني‪ ،‬أما اآلن فكل من مل يتكيف بسرعة مع اجلديد‬
‫ينطرح بعيدا من وراء اجملتمع املتحرك متخلفا عن الركب وعرضة‬
‫لألحداث املتسارعة ال يعرف كيف يتقيها‪.‬‬
‫وإذا أضفنا إىل االعتبارات السابقة أن بالد األثاث املتجدد‬
‫حيكمها طاغوت اإلعالم املتضارب املصارع يف الفوضى املنظمة‪،‬‬
‫وإن كل ذي فكرة أو مذهب أو قضية من القضايا حتميه الدميقراطية‬
‫العتيدة وتعطيه ليقول ما يريد حبرية يف الصحف والتلفزة‪ ،‬كما‬
‫حتمي كل ذي بضاعة حىت يعرض بضاعته سواء كانت البضاعة‬
‫أثاثا يرضي حاجة اجلدة‪ ،‬أو أخالقية من أخالقيات مسارح العُْري‬

‫‪749‬‬
‫مثال‪ .‬وأجهزة اإلعالم يف اجلاهلية املتفسخة أدوات اسرتواح كما‬
‫هي يف بالدنا‪ ،‬مماثلة الرتمجة بنسختها‪ ،‬أو ترمجة منقحة تضع النقط‬
‫على احلروف مشرية ملكان الفحش والرذيلة‪ ،‬ليفهمها املتخلفون‬
‫عن موكب التجديد االحنطاطي‪.‬‬
‫وال تستطيع جمتمعات اجلاهلية املنحطة أن تصوغ من أجهزة‬
‫إعالمها آلة موحدة للرتبية ألن هذه الدميقراطية كالتنني هلا رؤوس‬
‫متعددة ال تتعايش وال تتصاحل إال على مبدإ «اترك الناس يعملون»‬
‫ال تستطيع ذلك مثلما تفعل جاهلية الثقافة امللتزمة وجاهلية‬
‫الشيوعية املربية األكثر التزاما‪ .‬لكن هنالك عقالنية منظمة‬
‫وفاعلية وإنتاجا عرفت هبا أمريكا‪ ،‬وهنالك تطلعات وتقنيات‬
‫تعليمية حتاول إحلاق الرجال والنساء مبستوى الثقافة وإعطائهم‬
‫مواقف أمام تطورات السياسة والفن وفرص االسرتواح والعطلة‪.‬‬
‫هي تقنيات ختدمها وسائل بشرية ليس لدينا منها إال القليل‬
‫ووسائل مادية حنن إليها فقراء لفقرنا من الرجال‪.‬‬
‫وسائل اإلعالم األمريكية تعطي عن العامل صورة مربقشة حائرة‬
‫مضطربة‪ ،‬وتفرض نفسها على الفرد فال يستطيع مقاومة‪ ،‬ففي‬
‫الشارع أضواء اإلشهار بالليل والنهار‪ ،‬ويف البيت قعيدة مرتبصة‬
‫هي زجاجة التلفاز‪ .‬ومع الليل كل ذلك وحواليه صخب وتعب‪.‬‬
‫ويف هذا اجلو تتفجر إرادة الفرد لتحسني مستواه باجملهود الفردي‪،‬‬

‫‪750‬‬
‫إال أن عقالنية صنعت الصخب متلك من احلكمة أيضا ما تصنع‬
‫به وسيلة تعليمية اجتماعية‪.‬‬
‫وقد درس أصحاب التعليم املستمر مشاكل تعليم الكبار‬
‫تعليما يصلحهم مبستوى اخلربات املتجددة يف عامل الثقافة والصناعة‬
‫واحلياة االجتماعية‪ ،‬فوضعوا أسئلة ثالثة‪ 1‬تلخص اهتماماهتم‪،‬‬
‫أوال ‪ :‬كيف حيدث اتصال مستمر وحقيقي ومتبادل بني رجال‬
‫الفكر واالبتكار والقيادة وبني اجلماهري ؟ وهذا شرط أساسي يف‬
‫إفشاء العلم والثقافة‪.‬‬
‫ثانيا ‪ :‬كيف يوازن بني نفقات تعليم الكبار وبني نفقات‬
‫اإلعالم العامة؟ وقد حسبوا أن نفقات اإلشهار بأمريكا تساوي‬
‫نفقات التعليم االبتدائي والثانوي جمموعة‪.‬‬
‫ثالثا ‪ :‬كيف يوازن يف عامل العطلة واالسرتواح بني وقت‬
‫التكوين اجلاد ووقت اللهو والراحة‪.‬‬
‫ندع اجلاهلية املؤثثة تبحث عن خمرج هلا من صخبها وتعاين‬
‫تعليمها يف حل موازناهتا‪ ،‬ولنتعلم حنن كيف يقف اإلنسان أبدا‬
‫عاجزا أمام العقبة‪ ،‬فال هو يستطيع اقتحامها جلهله وجهالته‪ ،‬وال‬
‫هو يستطيع جتنبها ألهنا يف نفسه ال يف العامل اخلارجي‪ .‬والعقبة‬
‫هي هي ال ينال من طبيعتها وال من مشوخها على اإلرادة غري‬

‫‪Le Monde Diplomatique , Mai 1970 .1‬‬

‫‪751‬‬
‫املؤمنة التقدم احلضاري وال الثقافة الفاحتة ألجواء السماء‪.‬‬
‫يضع السؤال األول من أسئلة اخلرباء مشكلة احلواجز بني‬
‫الناس وعسر االتصال بينهم‪ .‬يرى اخلرباء األمريكان املشكل نظرة‬
‫جتريبية جزئية تالئم بيداغوجية وليم جيمس وديوي‪ .‬إهنم يعتربون‬
‫العقدة يف ابتعاد رجال الفكر واإلبداع عن اجلماهري‪ ،‬واحلل يف‬
‫االتصال الفكري ليطلع الناس على ما يبدعه الفنان والكاتب‬
‫فيمكنهم أن يستهلكوا خمرتعاته ويتمتعوا برفاهيتها ويتزودوا بزوائد‬
‫خربته‪ .‬فاالختالف بني أصناف الناس اختالف كمي يدخل يف‬
‫نطاق التفاوت العقلي‪ ،‬واحللول املقرتحة حلول استهالكية ال‬
‫تروم تغيري اإلنسان‪ ،‬بل تريد تكييفه لكيال حتول خمرتعاته وما‬
‫ت‬‫فرضته من ضغط على الوقت بني الثقافة ومستهلكيها‪ .‬وَث َ‬
‫بيداغوجية مغرية‪ ،‬كتلك اليت يف فكر روسو ولينني وماو‪ ،‬تصنف‬
‫الناس تصنيفا طبقيا لتعرب عن املشكل ذاته تعبريا يرمي إىل التغيري‪.‬‬
‫فاألول يقول يف اجملتمع الرفاهي ‪ :‬نعلم الكبار لكي يلتحقوا‬
‫بركب االخرتاع ويكسبوا كل خربة جديدة‪ ،‬وذلك بتيسري اتصاهلم‬
‫الفكري مع أهل االبتكار‪ .‬وتقول الثانية ‪ :‬نغري البنية االجتماعية‬
‫لنمحو الطبقية بني الناس وذلك بثورة الصعاليك على املستغلني‪،‬‬
‫نعلمهم الثورة ومبادئها حىت يثوروا‪.‬‬
‫وسواء ثورية التعليم املستمر الشيوعي والتعليم املستمر القمعي‬

‫‪752‬‬
‫الرفاهي يف جهل عقدة العقد يف اإلنسان‪ .‬أال وهي األنانية وما‬
‫يتبعها من عالقات جمتمعية متفاقمة أبدا مادام اإلنسان يعي نفسه‬
‫وسط اجملتمع قطعة حيوانية تدب إىل املوت وتنتهي عنده‪.‬‬
‫لكي يتعلم اإلنسان تعلما مستمرا ال يكفي أن نتيح له‬
‫فرص التعلم‪ ،‬بل جيب أن خنلق فيه حافزا قويا حيركه من داخل‪.‬‬
‫ويف اجملتمعات الراكدة يتجمد الناس على جهلهم فال حيبون‬
‫أن يتعلموا ألهنم ال يطيقون أن يقروا جبهلهم وحاجتهم للتعلم‬
‫‪ .‬متنعهم األنانية من ذلك كما متنع من هلم اخلربة والدراية من‬
‫إشراك إخواهنم يف عملهم‪ .‬وإن الفقه املنهاجي يدلنا على أن‬
‫اقتحام العقبة يبدأ بتحطيم حاجز االستكبار والتفرد األناين‪.‬‬
‫وأول خصاله الصحبة تفرض يف املريد أن جيلس جملس املتعلم‬
‫برغبة يف التعلم قوية ومستمرة‪.‬‬
‫يف الصني كان الفالح أشد الناس مجودا‪ ،‬إىل أن نشأ يف نفسه‬
‫حافز تعلم «الفلسفة» «والسياسية»‪ ،‬وحطم أنانية املستكربين‬
‫كما حطم أنانية حمتكري التكنولوجيا‪ .‬ويف ظل اإلسالم ينزل كل‬
‫عن أنانيته طوعا أو كرها ليقتسم مع اجلماعة خربته ويساهم يف‬
‫التغيري متعلما من األيدي املتواضعة خادما هلا‪ .‬وإن كان أصحاب‬
‫األثاث يفشون الثقافة الغاوية والعلم الطاغوت بوسائل ال منلكها‪،‬‬
‫فنحن بسرينا يف صف املستضعفني سنضاعف باحملبة علمنا القليل‬

‫‪753‬‬
‫ووسائلنا الضئيلة وسنخلق وسنجدد ثقافة ترفعنا وال تنحط بنا‪.‬‬
‫جيب علينا يومئذ أن ننظر إىل الغاية اإلحسانية أبدا لكيال ينحرف‬
‫علمنا وثقافتنا إىل األهداف التكاثرية االستهالكية‪ ،‬ولكي يستمر‬
‫تعليمنا ويتعمم عرب احلواجز االستكبارية اليت خلقها الظلم والنكاد‬
‫البشري‪ .‬إن لنا عقوال خامة مهجورة لفقر يدها‪ ،‬فيستبد املرتفون‬
‫باملال لينفقوه على أبنائهم ويشرتوا هلم به علما ومكانة اجتماعية‪،‬‬
‫حىت ولو كانوا أغبياء‪ ،‬ويضيع العلم بضياع أوالد الفقراء ‪..‬وإن‬
‫العلم املشرتى ال حييي أمة أبدا بل حيييها علم مبذول بعناية ملتعلم‬
‫راغب بقوة‪.‬‬
‫وهنا نلتقي بالسؤال الثاين من أسئلة اخلرباء‪ ،‬وهو الذي يضع‬
‫مشكل التوازن بني نفقات التعليم ونفقات البذخ‪ .‬ويرجع بنا هذا‬
‫ملنهاج اقتحام العقبة يف شكلها العادي وطبيعة عالقتنا باملال‬
‫واملتاع‪ .‬إهنا عقبة الشح وااللتفات يف العادة القاعدة باإلنسان يف‬
‫أنانية شهوته‪ .‬ونتعلم من جاهلية اجلاهليات بالد االستهالك‪ ،‬أن‬
‫اإلنسان عندما تغريه حياة النعيم يضحي يف سبيلها بذاتيته‪ ،‬فال‬
‫هناية ترجى لعبوديته للشهوة واحلاجة املتجددة واآللة اليت تسريها‬
‫بسري الدواليب واملسارب اإللكرتونية‪.‬‬
‫خصلة الصدق خصلة عملية تنيبء عن حقيقة اإلنسان‬
‫بصدق‪ ،‬إن املؤمن الصادق إنسان أصيل حر‪ ،‬وإنسان االستهالك‬

‫‪754‬‬
‫كاذب تنىبء عنه كميات البضاعة ونوعيتها وال ينبئ هو عن‬
‫شيء‪ .‬ويف جاهلية االستهالك تتساوى نفقات اإلشهار ونفقات‬
‫التعليم اليوم‪ ،‬ومنطق احلياة االستهالكية يفرض عليها أن تفوق‬
‫نفقات اإلشهار النفقات التعليمية بإطراد لغلبة البضاعة وأسبقيتها‬
‫يف كل االعتبارات‪.‬‬
‫واجلواب اإلسالمي عن مشكل استالب اإلنسان وذوبانه يف‬
‫البضاعة ومغرياهتا يف خصليت البذل واالقتصاد‪ ،‬وبينهما العلم‬
‫والتعلم واحللم والتحلم‪ .‬واجلماعة املؤمنة مجاعة نصيحة وحمبة‬
‫وطاعة‪ ،‬إهنا ركب إمياين وموكب إحساين سائر إىل غاية يؤمن هبا‪،‬‬
‫ويعرفها ببالئه للغيب ورجائه ملوعود اهلل وانتظاره‪ .‬فما يف يدها‬
‫من مال تعتربه قياما هلا وقيما فال تبذره‪ ،‬ولكي تبين أمة اإلسالم‬
‫ترصده ملا يعطي القوة وتتعلم احللم بالتحلم لتصرب على اإلغراء‬
‫وتقاومه‪ .‬ومع ما يف يدنا من وسائل مهما كانت قليلة يكتمل لنا‬
‫سبب االستمرار يف التعليم بصدق املعلم واملتعلم‪ ،‬ذاك ال يكذب‬
‫يف بذل وقته وعنايته‪ ،‬وهذا ال يكذب يف رغبته ومثابرته‪ .‬وإن هي‬
‫إال جولة أو جولتان حىت تنشأ حركية مغرية يزداد معها الصادقون‬
‫صدقا ويهون النقص الذي نعانيه يف وسائلنا‪.‬‬
‫أما السؤال الثالث من أسئلة اخلباء فيعرب عن جهل اجلاهلية‬
‫وغفلتها عن مصريها‪ .‬إن هذه اجلاهلية فرغت منذ ردهتا عن‬

‫‪755‬‬
‫دينها النصراين من اعتبار أي مصري لإلنسان خارج عن مصريه‬
‫األرضي الرتايب‪ ،‬كما رسخت عقيدته الفلسفة الوضعية وأكدته‬
‫اجلدلية املادية القابعة يف ركن اجلاهلية اآلخر‪ .‬إهنم ال يرجون هلل‬
‫وقارا‪ ،‬وال يعيشون إال لللهو واالسرتواح‪ ،‬مشكلتهم أن يوازنوا بني‬
‫وقت اللهو ووقت التكوين‪ ،‬فوقت يزيدهم انغماسا يف دوابيتهم‬
‫من حيث كوهنم حيوانات خلقت للرتاب فهي تنهب اللذات قبل‬
‫فوات األوان ال تذكر اهلل وال تعرفه‪ .‬ووقت يتكونون فيه فيزدادون‬
‫استالبا ومسخا من حيث تأهلهم ليجروا عربة احلضارة ويندرجوا‬
‫بني عجالهتا كما جير محار الرحى ويندرج يف دائرة سريه مغمض‬
‫العينني أعمى‪.‬‬
‫إن هذا العلم الذي كسبه املرتفون منا مظلمة من املظامل‬
‫تطلب اسرتدادها لتكون حقا لألمة‪ .‬وفداء كل متعلم أن يفشي‬
‫علمه ويبذله حقا مسرتدا أن أىب أن يبذله تطوعا مشكورا‪ .‬يفتدي‬
‫نفسه كما افتدى أسراء بدر أنفسهم بتعليم صبية املسلمني‪ .‬وإن‬
‫هذا العلم احملتكر القليل ببالدنا ذخرية وكنز تطلب أن تزكى‬
‫ويعطي ركازها لعامة الطالبني‪ .‬وبذلك يكون لنا تعليم مستمر‬
‫مجاعي صادق مع الصادقني‪.‬‬

‫‪756‬‬
‫تعليم للتغيري‬
‫ البيداغوجية املغرية‪ ،‬كما نراها تطبق يف الصني ونقرأها‬
‫عند لينني بني سطور اإليديولوجية‪ ،‬بيداغوجية جدلية متسك‬
‫باإلنسان من عاطفته لتستدعي استجابة العقل حلافز التغيري‪.‬‬
‫وعند الرأمساليني اليوم حافز خارجي يفرض عليهم البحث عن‬
‫بيداغوجية مغرية حتت ضغط الفورة الطالبية‪ .‬ملا ثار الطلبة ثورهتم‬
‫على التقليد األكادميي ولفحت نارهم جهاز احلكم‪ ،‬أخذ املفكرون‬
‫والسياسيون يلتمسون طريقا إىل التغيري ليدرءوا عن أنفسهم بأس‬
‫حرسهم األمحر الذي يتعبد البطل الصيين ومثاليته الشيوعية‪ ،‬أو‬
‫قل شيوعيته املثالية املربية‪.‬‬
‫واكتشفوا أن ظروف جمتمعاهتم كانت مناسبة للثورة‪ ،‬وأن‬
‫التحجر األكادميي الذي فضحته الثورة الثقافية وجناحها يف إعادة‬
‫تربية األساتذة‪ ،‬إمنا يعكس حتجرا اجتماعيا حيمل يف أحشائه‬
‫جنني الثورة ال ينفس من دفعها إال العنف املنظم يف إضرابات‬
‫املضربني وانفجار الغضب الطاليب‪.‬‬
‫اجلاهلية املؤثثة يف أوربا وأمريكا حتملت تغيريا وقع عليها من‬
‫جراء تقدمها العلمي‪ .‬وحركية التقدم العلمي حركية تسارع تارخيي‬
‫الهث‪ ،‬تفوت اآللة فيه اإلنسان وتسبقه‪ ،‬فتحدث له أزمة يف‬

‫‪757‬‬
‫التعليم مبا أحدثت من أزمات يف كيانه وكل نواحي حياته‪ .‬حتملت‬
‫اجلاهلية ثورات يف التكنولوجيا والنظام االجتماعي واالقتصادي‬
‫والسكاين‪ ،‬وتلقت معها حاجات متزايدة للمهارات واخلربات‬
‫املسرية‪ .‬فسألت النظام التعليمي أن يتحرك ليجيب احلاجة وحيقق‬
‫املطلب‪ .‬وكان اجلهاز التعليمي أثقل من أن يستجيب ملا ورثه من‬
‫جمد أكادميي وعادات ثقيلة تدور حول أنانية األستاذية‪.‬‬
‫نعلم إن اجلاهلية ال هتتدي لتوازن أبدا‪ ،‬فهي قلقة تتقلب‪،‬‬
‫ولن نضيع وقتنا حبثا عن مصري اجلاهلية‪ ،‬األنانية منها والسائرة‬
‫إىل الثأثيت‪ .‬أهي تقنع غدا بإصالحية تتفادى هبا الثورة‪ ،‬أم‬
‫ختفق حماوالت اإلصالح وحماوالت الثورة املتجددة يف كل جيل‬
‫كما يفهما ماو؟‪ .‬املهم لدينا أن نؤكد أن تغيري التعليم ونظامه ما‬
‫هو بالعامل الكايف لتغيري طبيعة اإلنسان يف نفسه وال يف عالقته‬
‫بالناس والعامل‪.‬‬
‫والتعليم ببالد اجلاهلية املؤثثة حيصى نتاجه إحصاء كميا‪،‬‬
‫ألن اجلهد املطلوب للتغيري يتوجه إىل عامل الكم وهو عامل األفكار‬
‫وما تفرزه من مهارات وخمرتعات‪ .‬وهو تعليم يغري سطح األشياء‬
‫وسطح اإلنسان بتغيري عقليته يف إطار عقالنية رأمسالية‪ .‬والتعليم‬
‫الصيين مفعم بالعاطفة الثورية داخل يف سياقها متأجج بوهجها‪،‬‬
‫فيحدث تغيريا كيفيا يف اإلنسان بذلك‪.‬‬

‫‪758‬‬
‫وطلبتنا‪ ،‬أمة اإلسالم‪ ،‬أن نؤسس تعليما يعطينا العقالنية‬ ‫ِ‬
‫اإلميانية‪ ،‬أي طاقة العقل ودرايته اخلادمتني للغاية اإلميانية‬
‫اإلحسانية‪ ،‬ويساهم يف تغيري أنفسنا تغيريا كيفيا ليس كتغيري‬
‫الشيوعية املربية‪ ،‬ألن هذه الشيوعية مهما تألقت وتفوقت على‬
‫غرميتها ال تنفك عن كوهنا جاهلية دوابية‪ ،‬وألن إنسيتها املثالية ال‬
‫ختتلف عن إنسية اجلاهلية األخرى الوضعية إال اختالفا شكليا‪،‬‬
‫أما احملتوى فهو الكفر واإلحلاد واجلهل املطبق بقيمة اإلنسان‪.‬‬
‫ولعل من إنسية اجلاهلية املؤثثة ما ينتسب إىل النصرانية فيشم منه‬
‫رائحة السماء وذاك من بقايا دين النصرانية املضطرب يف مشاكله‬
‫الذي أرغم أن يتعلم من األحداث ويلتمس طريقا إىل التغيري‪.‬‬
‫إن آالت احلضارة األثاثية وبضائعها محلت اجلاهلية ثورات‬
‫وهي حتملنا مثل ذلك وإن كان ما لدينا من آالت بنات كفر‬
‫غريبة عنا‪ ،‬ال تربطنا هبا إال عالقات التلهف والنهم املستهلك‬
‫املستحوذ علينا‪ .‬وإن تعليمهم اآلن تعليم يغري العقالنية لتساير‬
‫تغري نتاجها‪ ،‬أما حاجتنا حنن فهي تعليم يغري عقلنا لنستطيع صنع‬
‫حضارة على قدر اإلنسان املؤمن بربه ومبصريه إليه‪.‬‬
‫وهنا تبدو لنا ضرورة االبتكار والسري على هدي اإلميان لئال‬
‫نقع يف خط اجلاهلية‪ ،‬ولكي نقتحم العقبة على جادة اجلهاد‪.‬‬
‫العلم والتعلم يف نطاق احلضارة اإلنسية العقالنية هو ما يعطيك‬

‫‪759‬‬
‫فكرا ناقدا يبين حكمه على الواقع‪ ،‬ومهارة متهد لك السيطرة على‬
‫الطبيعة وتضع رهن إشارتك أرزاق األرض‪ .‬وليس شيء ينقصنا‬
‫مثلما ينقصنا العقل النقدي العلمي‪ .‬فلذلك حنتاج لصياغة‬
‫بيداغوجيتنا يف نطاق حضارة إميانية غيبية حبيث ال يتعارض عندنا‬
‫داعي اإلميان بالغيب وداعي العقالنية والنقد العلمي والسيطرة‬
‫على الطبيعة وموارد الرزق‪.‬‬
‫تعليمنا وفلسفته يف ظل اإلسالم لن يكون نقال وترمجة لفلسفة‬
‫التعليم اجلاهلي‪ ،‬وإال خرج لنا من املدرسة واجلامعة أعداء لإلسالم‬
‫مثل الذين خيرجون‪ .‬وإن هؤالء يزعمون برتديدهم لضالل أساتذهتم‬
‫اجلاهليني أن العقل املؤمن بالغيب اخلاضع ألحكامه ال يقدر على‬
‫ابتكار ألنه عاجز عن املوقف أمام األشياء واألحداث موقف‬
‫الناقد املستخرب‪ .‬ويكذهبم جناح التعليم اإلسالمي واكتشاف‬
‫العلماء املسلمني يف عصور االزدهار رغم نقص احلياة اإلسالمية‬
‫وبرتها بعد استيالء امللكية العاضة على السلطان‪.‬‬
‫فلما ازداد ُهوي املسلمني بعد طفرهتم األوىل هوى معهم‬
‫الفكر‪ ،‬واختلط عليه الغيب بالشهادة وبات ناعسا يف أحالمه‬
‫وخرافاته طوال قرون االحنطاط‪ .‬وقد كررنا يف الصفحات املاضية‬
‫ونكرر ليقع اخلرب موقع اإلخبار وموقع التحدي معا أن اإلميان‬
‫والغيب واإلحسان مقوالت علمية جتريبية‪ ،‬وأن التجربة الصوفية‬

‫‪760‬‬
‫وما تتضمنه من اكتشاف لعوامل املثال ولواقح األنوار برهان‬
‫ساطع مستمر‪ ،‬يتحدى باستمراره العقالنية الكافرة‪ ،‬ويعرض على‬
‫من يريد أن يسمع كلمة احلق يقوهلا بني يدي عارف باهلل ويصحبه‬
‫حىت يزول عنه حجاب الغفلة‪ .‬ذلك إن كان مريدا يطلب احلق ال‬
‫مكابرا يبغي جدال‪.‬‬
‫إن التعليم املرتجم حىت إن أسكناه اللغة القومية ال يكون إال‬
‫ساكنا متقلقال وعامل سكون ومجود مقلد ال عامل تغيري وترقية‪.‬‬
‫مث إنه ينطق بالكفر من خالل صيغته اجلاهلية‪ ،‬وينطق بتفوق‬
‫اجلاهلية حني يعرض علينا أعالم املخرتعني الكافرين‪ ،‬ويسرد قصة‬
‫عبقريتهم‪ .‬وبذلك يلبسنا رداء املذلة واخلنوع ألننا مل نرتب على‬
‫االستقالل الفطري ومل نرتب على الفطرة املتعلمة لنتعلم من آيات‬
‫اهلل وحنن يف عز إسالمنا‪ ،‬فيبدو لنا اجلاهليون خلقا من خلق اهلل‬
‫سخرهم اهلل ليمهدوا لنا الصعب‪ ،‬ونأخذ العلم منهم دون أن نأخذ‬
‫الكفر‪ .‬وإن عقليتنا اجلامدة املوروثة تدرك الظواهر إدراكا ذريا ال‬
‫تستطيع ربط األسباب مبسبباهتا‪ ،‬وال تستطيع أن حتيل كل ظاهرة‬
‫إىل تطور األحداث العام فتدخلها يف نسبتها‪ .‬ال يفعل ذلك إال‬
‫العقل الناقد‪ ،‬وحنن املسلمني الغثائيني‪ ،‬خاصة حنن العرب‪ ،‬قوم‬
‫عاطفيون مندفعون سواء اخلرافيون منا واملتحذلقون‪ .‬فإذا أعجبنا‬
‫باحلضارة الغربية أعطيناها والءنا واعتربناها احلق املطلق وتفسخنا‬

‫‪761‬‬
‫من أخالقنا وتتلمذنا للجاهلية‪.‬‬
‫واإلسالم املنبعث إسالم متعلم‪ ،‬لكنه يتعلم من ظواهر الكون‬
‫نظرا ملصدرها اإلهلي ويدخلها يف نسبيتها وخملوقيتها‪ ،‬فإذا نقل‬
‫العلم من اجلاهليني نقل احلكمة وتعلم املهارة دون أن ينقل معها‬
‫الفلسفة وتصور العامل واإلنسان‪ .‬ذلك ألن املؤمنني يذكرون رهبم‬
‫فيزيل عنهم الغفلة وينري هلم بنور اإلميان السبيل‪.‬‬
‫للجاهلية ذات الرأسني جناح الفوضى ببيداغوجيته الالهثة‬
‫لتلحق اآللة‪ ،‬وجناح له بيداغوجية انتهت من التغيري يف روسيا‬
‫وهي ال تزال تغري يف الصني‪ .‬وكال املذهبني يف التعليم خيدم‬
‫فلسفة للحياة وسياسة لتسيري اإلنسان وتسخريه‪ .‬فإن اقتبسنا‬
‫شظايا من هنا وههنا ولفقنا لنا بيداغوجية تأخذ ما يستحسن من‬
‫كل شيء‪ ،‬كما يفعل القوميون اإلداريون‪ ،‬حكمنا على تعليمنا‬
‫هاب منا‬
‫بالفشل‪ ،‬وعدنا إىل ذريتنا القرونية يف انتظار أن يهب ّ‬
‫لينادي بالكفر نداء ثانيا وثالثا مع نداء قادتنا الكفار السابقني‬
‫منهم والالحقني …إىل سقر‪ .‬أما إن ابتكرنا لنا عمال تعليميا يف‬
‫ضوء منهاج اإلسالم ويف تناسق مع حركة التغيري اإلسالمية العامة‬
‫فسيكون لنا مذهب تعليمي يكون صورة لنفسه ال مسخا ملذاهب‬
‫الناس‪ ،‬وسيكون مذهبا لتحرير اإلنسان ال لتسخريه‪.‬‬
‫فإن االقتباس غري التعلم‪ ،‬والتلفيق واالختيار غري احلياة‬

‫‪762‬‬
‫الصادقة‪ .‬إذا كان يعجبنا النموذج الصيين ونعجب بعبقرية‬
‫الشيوعية املربية املعلمة‪ ،‬وحنب أن نتعلم من الصني كما حنب أن‬
‫نتعلم من خلق اهلل أمجع‪ ،‬فال اإلعجاب وال حب التعلم ينسينا‬
‫أن التغيري ال يأيت من خارج بل يأيت من تغيري النفس وما هبا‪ .‬وكل‬
‫ما حتدثه من حتوير يف اإلطار البشري أو املؤسسي مع االحتفاظ‬
‫بالنفسية والعقلية العتيقني لن يكون إال اقتباسا ماسخا ال عامال‬
‫للتغيري ‪.‬‬
‫إذا كان التعليم يرمي لتغيري العقلية وإيقاظ العقل العلمي الناقد‬
‫ليعوض العقل اخلرايف‪ ،‬فإن املذهب التعليمي املغري ال تبدعه إال‬
‫العاطفة الصادقة الراغبة يف التغيري‪ .‬فنعود إىل جناح التعليم الصيين‬
‫لنقارنه بالتعليم احلضاري اآلخر الباحث عن توازنه‪ .‬ذاك سبقته‬
‫ومهدت له «أسبقية السياسة والفسفة»‪ ،‬وهذا دعا إىل تطويره‬
‫حافز االتباع والتكيف مع العوامل االجتماعية والتكنولوجية‪.‬‬
‫كثريا ما نسمع ببالدنا اإلسالمية ساسة يزعمون أن التعليم‬
‫وتغيري مناهجه وحمتواه هو وسيلة التغيري‪ ،‬والثوريون امللفقون منهم‬
‫يزعمون أن املسلمني بعد الثورة سيتعلمون الشيوعية بفضائل‬
‫فلسفتها وما حتدثه من حتسن يف مستوى معاشهم‪ .‬فهم حائرون‬
‫يف تلفيقهم حرية ال يعرتفون هبا‪ ،‬ألن تغيري العقلية العامة لألمة‬
‫استعصى عليهم قبل الثورة وبعدها‪ ،‬ونسمي االنقالبية ثورة‬

‫‪763‬‬
‫للتجوز والسخرية‪ .‬العقل الثوري املتعلم عائم على سطح العاطفة‬
‫منفصم عنها‪ ،‬وغاية ما يتأتى له هو أن ينفث مسومه يف عقول‬
‫الناشئة وشكوكه‪ .‬فمثقفونا وشيوعيونا عربة ملن اعترب‪ ،‬وثوريتهم‬
‫الفكرية تعبري عن عصاب جيل عجز عن إجياد رتق لتمزقه‪ .‬غريهم‬
‫التعليم اجلاهلي تغيريا مرضيا حني مسم عقوهلم وحقنها باقتناع‬
‫أبدي أن اجلاهلية األستاذة هي املعيار‪ ،‬وأن منهج حياهتا هو‬
‫احلياة‪ .‬فلهم عقلية مقلدة على قاعدة عاطفة جمتثة من أرضها‪.‬‬
‫يتلفتون إىل أنفسهم فينكروهنا ألهنم مسخ صارخ ولعنة على‬
‫أنفسهم‪ ،‬مث يعودون يف عقليتهم املسممة فيستوحون منها مربرات‬
‫لغربتهم وغرابتهم بني أمتهم وبني أساتذهتم‪ ،‬فإذا هم رواد وقادة‬
‫لألصالة الثائرة يومهون األجانب بذلك أهنم من أمتهم يعتزون هبا‪،‬‬
‫وينافقون بذلك أمتهم إذ يتملقوهنا بشعار القومية‪ .‬وإذا هم أمام‬
‫فشل حماوالهتم يتلونون يف اشرتاكياهتم كما تـَلَ َّو ُن يف أثواهبا الغول‪.‬‬
‫غالتهم األيام‪ ،‬فما أكثر جدهلم! وليتهم حيلمون ولو مرة‬
‫باالستقالل الفكري إذ ال يتصورون استقالال مشوليا يكونون به‬
‫أساتذة العامل‪ .‬وما كان حيلم سيد قطب رمحه اهلل حني بشرنا‬
‫بأن املستقبل لإلسالم‪ ،‬وأن املسلمني هم أساتذة العامل غدا‪.‬‬
‫وتزرى الفحولة اإلميانية بنذالة أذيال اجلاهلية‪ ،‬ويرحم اهلل شهداءنا‬
‫األبرار‪.‬‬

‫‪764‬‬
‫التعليم املغري غري التعليم امللفق‪ ،‬كما أن الرجولة القائدة هي‬
‫غري الزعامة املنقلبة‪ .‬القيادة اإلميانية اإلحسانية وظيفة عاطفة‬
‫حية متماسكة بعقل حر‪ ،‬والزعامة متسك العصا بيدها وتتلعثم‬
‫يف شعورها وفكرها كما يتلعثم الظنني‪ .‬فلهذه تعليم متعثر متلعثم‬
‫على صورهتا‪ ،‬ويوم ميسك الزمام قائد اإلسالم وإمامه فإن مذاهب‬
‫تعليمنا وأنظمته حتلها روح التغيري‪ ،‬بل حتتلها أيضا‪ ،‬بني وازعي‬
‫القرآن والسلطان‪ .‬ويتغري التعليم ونظامه ليساهم يف التحويل‬
‫اإلسالمي لألمة من غثائيتها أساتذة العامل خلفاء هلل يف أرضه‬
‫مقتصدين إىل غايته مقتحمني إليها العقبة‪.‬‬
‫حيل التغيري مذهبنا التعلمي وحيتله فننتقل من مذهب األيدي‬
‫الناعمة والعقول املرتفة واألجسام امللفوفة باحلرير إىل مذهب‬
‫االخشيشان والرجولة‪ .‬املذهب التعليمي القاعد يعلم الطفل أن‬
‫البقرة تعطي حليباً ويعرض عليه صورا أو يُزيره مزرعة منوذجية‪،‬‬
‫ويشب ال يعلم من أين يكتسب القوت إال علما نظريا كما ال يعلم‬
‫من البقرة ووظيفتها إال مجال وألفاظا‪ .‬واملذهب التعليمي اجملاهد‬
‫املغري يسوق األمة كلها ليحلب كل البقرة ويقطع هلا احلشيش‬
‫وحيمله على ظهره كما كان حيمل عمر بن اخلطاب وعلي بن أيب‬
‫طالب متاعهما على ظهريهما‪.‬‬
‫واملذهب التعليمي املتغري الذي يعلم باليد والقلم‪ ،‬ويعلم‬

‫‪765‬‬
‫أسَر هذه األمة مجيعها يصطاد‬‫بالقلم بعد أن يعلم باليد‪ ،‬سيمسح َ‬
‫الكفايات املقبورة والعبقريات املهجورة‪ ،‬وال يرتك جمال العمل‬
‫طعمة ملغتنم بل جيعله ميدانا للمتطوعني اخلادمني‪.‬‬
‫ويف أمتنا مؤهالت إنسانية يزكيها ربنا الذي يبعثنا غدا للعز‬
‫ومحل الرسالة‪ ،‬فيجمعها رابط احملبة والطاعة والنصيحة‪ ،‬وترقى بنا‬
‫تتجاوز األهداف اإلسالمية ومقاصد الوحدة لألمة مجيعا ليحمل‬
‫جيل آت قريب رسالة النور واحلرية للبشرية املعذبة بعقلها وعلمها‪.‬‬
‫ولن يعجزنا العلم والبحث عنه ألننا سننزل عن احلاجة‬
‫املوهومة وسننتقل ونقتصد كما ننزل إىل ِحَرفية مبدعة كما نزلت‬
‫الصني الشيوعية‪ ،‬فيضع عمالنا ما ال يقدر عليه إال عمالنا كما‬
‫صنع الصينيون ويبتكرون وخيرتعون‪ .‬نتلعم اإلميان والقرآن فتتفتح‬
‫لنا أبواب السماء وفتوق األرض‪ ،‬وينبهر اإلحتكاريون املستأثرون‬
‫بالتكنولوجيا‪ ،‬يبيعوهنا لنا قطرات‪ ،‬برباعة املسلم الطاهر كما‬
‫ينبهرون اليوم من ذكاء الصيين وعبقريته ومرونته‪.‬‬

‫‪766‬‬
‫الفصل الثامن‬

‫الدعـــوة‬

‫‪767‬‬
‫احملجة البيضاء‬
‫يف الصفحات الفائتة من هذا الكتاب نثرنا نقدا للعقلية‬
‫والنفسية العائقتني لتغيري ما بنا‪ .‬وقلنا يف شأن سادتنا العلماء‬
‫وسادتنا الصوفية قوال أردناه ليكون بليغا يثري االنتباه ويثري الغرية‬
‫اإلسالمية‪ .‬والقول البليغ أسلوب القرآن حنذو حذوه‪ ،‬يبشر وينذر‬
‫خياطب العاطفة والعقل معا‪ .‬وقد آن‪ ،‬وحنن ننظر يف الدعوة‬
‫اإلسالمية والتنظيم اجلهادي‪ ،‬أن جنمع ما كنا نثرناه مجعا يريد‬
‫اإلبالغ والبالغ‪.‬‬
‫كنا استعرضنا بعض رجال الدعوة اإلسالمية املعاصرين‪،‬‬
‫وتعلمنا من عملهم مواطن الضعف وأسباب القوة يف الدعوة‬
‫اإلسالمية املعاصرة‪ .‬وهنا نعمم البحث وحناول تعميقه استكشافا‬
‫على مدى خطوط القوة يف الدعوة اإلسالمية بني رجال العقل‬
‫والعاطفة من العلماء العاملني‪ ،‬بني علماء الشريعة ورثة األنبياء‬
‫وبني علماء احلقيقة ورثة األنبياء‪.‬‬
‫هؤالء هم الربانيون‪ ،‬وهؤالء هم احلاملون ألمانة اإلسالم ورسالته‪،‬‬
‫وهم املسؤولون عن حياته يوم حيىي وعن خفوته حني خيفت‪.‬‬
‫أخربنا الرسول الكرمي صلى اهلل عليه وسلم قبيل وفاته أنه‬
‫تركنا على احملجبة البيضاء اليت ال يزيغ عنها إال هالك‪ ،‬وأوصانا‬

‫‪768‬‬
‫بالثقلني كتاب اهلل وسنته كما أوصانا بآل البيت وذكر أن أوىل‬
‫الناس به املتقون‪.‬‬
‫فبذلك أشار إىل أن آل البيت هم املتقون كما أشار‬
‫بالتخصيص والتمثيل إذ أعلمنا أن سلمان من آل البيت‪ .‬وما‬
‫عتم القرن األول من اهلجرة حىت اختلف الناس يف ماهية احملجة‬
‫البيضاء‪ ،‬وتنازع أشبه الناس أن ال يتنازعوا على السلطان‪ ،‬وهم‬
‫الصحابة األبرار‪ .‬واقتتل الربانيون بصدق كل يوقن أن احلق جبانبه‪،‬‬
‫وجاهد كل جهاده‪ ،‬كما اجتهد من بعدهم اجتهاده‪ ،‬فضاعت‬
‫معامل تلك احملجة بني فتنة الصحابة ومن تبعهم وبني نزاع العلماء‬
‫ومن تبعهم‪.‬‬
‫فكل يدعو جلماعته ولتصور إسالمه ووحدته‪ ،‬وباتساع‬
‫رقعة اإلسالم وسرعة اتساعها انتشر رجال الدعوة اإلسالمية يف‬
‫األقطار كل محل معه تصوره للمحجة البيضاء ومحلها من صحبوه‬
‫وتعلموا منه العلم واقتدوا به يف الدين‪ .‬وهكذا أثلوا لنا اختالفا يف‬
‫املذاهب وأثلوا لنا نفورا نشأ من الفتنة والقتال بني املسلمني على‬
‫مدى أربعة عشر قرنا حنن يف آخر عقد من آخرها‪ .‬فلكي تكون‬
‫لنا دعوة جتمع وال تفرق وتوحد الشتيت وتلم الشعت‪ ،‬يلزم أن‬
‫نقتحم عقبة الفتنة التارخيية اليت استدبرناها كما يلزم أن نقتحم‬
‫الفتنة اليت نستقبلها‪ .‬بل إن دعوة املسلمني لن تنجح يف توحيد‬

‫‪769‬‬
‫األمة إال إن قلعت الفتنة من جذورها التارخيية‪ ،‬بأن يكشف الفقه‬
‫املنهاجي عن منابع الفتنة وحيلل أسباهبا ونتائجها‪ ،‬حىت يتعلم كل‬
‫مسلم من أين أويت املسلمون ويستعد استعدادا عاطفيا وعقليا معا‬
‫ليطوي سجل األحقاد واملنافسات‪ ،‬وليوبخ نفسه ويزجرها لرتجع‬
‫إىل احملجة البيضاء من تشعب القوميات وبلوى الوطنيات‪.‬‬
‫قربت بني عقليات املسلمني وطرق تفكريهم هذه الثقافة‬
‫اجلاهلية تقريبا على بساط الشك واإلحلاد واملسخ‪ ،‬وعقلنت‬
‫احلضارة املستعمرة حياهتم اليومية وعاداهتم ووقتهم إىل حد ما‪.‬‬
‫فهم اليوم يتعارفون على صعيد الدعوة اجلاهلية البضائعية‪ ،‬مرتفوهم‬
‫الظاملون يركبون مجيعا سيارات أمريكا الفخمة‪ ،‬وفقراؤهم يتغذون‬
‫بصدقات القمح األمريكي وأفالم الدعوة الدوابية‪.‬‬
‫ومن هب ليدعو إىل اإلسالم بوخزة من ضمريه‪ ،‬سلحتها‬
‫ومضة من ومضات اهلداية اإلهلية‪ ،‬شغله عن احملجة البيضاء‬
‫وتدبرها شاغل من عاطفته املذهبية أو شاغل من عقليته املوروثة‪،‬‬
‫فدعا مبا يعرفه وما نشأ عليه‪ .‬وكانت احتكاكات رجال الدعوة‬
‫اإلسالمية بالعقالنية العلمية حمرضا على االجتهاد من أجل توحيد‬
‫الدعوة اإلسالمية‪ ،‬بيد أهنا كانت بكل أسف باعثا أيضا على‬
‫عقلنة اإلسالم وإفراغه من معناه اإلمياين‪ .‬وقد بزغ قرن العقلنة مع‬
‫الشيخ حممد عبده رمحه اهلل فجدد نزاعا مزمنا بني علماء الشريعة‬

‫‪770‬‬
‫وعلماء احلقيقة‪ ،‬ونشر تصورا متقلقال عن الغيب وعامله ملا بدأ‬
‫يقارن اجلن باملكروبات وينبذ يف املوضوع كالما ال يبني‪.‬‬
‫إن العقل نور عظيم‪ ،‬وهو الذي جيلو الشرعة واحملجة ويسهر‬
‫على سلوكها‪ ،‬لكن احملجة البيضاء باهبا مغلق ال ينفتح إال‬
‫باإلميان‪ ،‬واإلميان عمل القلب والعاطفة خيدمه العقل بعد احنساره‬
‫وتعجبه من آيات اهلل وخوفه من املوت واملصري الذي أخربه به‬
‫الرسل عليهم السالم‪ .‬إن هذه العقالنية اجلاهلية ما كانت وثاقا‬
‫لإلنسان إال النغالقها على منطقها وإفرازاهتا احلضارية‪ .‬فإن‬
‫فتحنا املنطق العقالين بنور اإلميان القار يف القلب كنا اليوم أقدر‬
‫منا يف أي وقت مضى على استكشاف احملجة البيضاء‪ .‬يكفي‬
‫لذلك أن نتسلح بعقل ناقد ونقبل املنهج العلمي املؤسس على‬
‫التجربة‪ .‬وبالعلم املنهاجي القائم على التجربة الشخصية ميكن‬
‫فقط أن نرقى إىل منابع تارخينا‪ ،‬وأن ننحدر معه فال نستغرب‬
‫النزاع والقتال يف الفتنة كما ال نستغرب النزاع املذهيب الذي يقعد‬
‫بالدعوة اإلسالمية أن تتوحد‪.‬‬
‫يف كل قطر من أقطارنا وبني القطر والقطر اختالف شديد‬
‫يف فهم احملجة البيضاء‪ ،‬يبلغ االختالف حد العداء اجلاهر بني‬
‫شيعة وسنة وبني وهابية وتصوف‪ ،‬ويكمن فيما بني ذلك‪ ،‬كمون‬
‫الرتبص ال كمون الغيبة‪ ،‬أرباب العقول من جانب وهم طوائف‬

‫‪771‬‬
‫وأمم‪ ،‬وأرباب القلوب من جانب وهم أشد نُ ْكرا وتبديال‪.‬‬
‫رأينا فيما مضى توزان الصحابة وكماهلم‪ ،‬ورأينا كيف صحبوا‬
‫الرسول صلى اهلل عليه وسلم صحبة مبايعة وحمبة وجهاد‪ ،‬وكيف‬
‫قرأوا القرآن قراءة جهادية‪ ،‬كل ذلك مع اإلميان وباإلميان‪ ،‬ومع‬
‫الغيب وباإلميان بالغيب ومعايشة الغيب‪ .‬مسينا مجاعتهم منوذجا‬
‫خالدا تبشريا بتجدده وإمكان جتدده‪ ،‬لكن الفتنة الطاغية منذ‬
‫قتل اإلمام سيدنا عثمان تكون حجابا كثيفا حيول بيننا وبينهم‪،‬‬
‫فطائفة من املسلمني متزقوا بني الوالء آلل البيت كما وصى الرسول‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وبني الثقلني كما وصى‪ ،‬فحاروا يف فهم شيعة‬
‫اإلمام علي‪ .‬وهؤالء متزقوا من صدمات الفتنة ومآسيها الدموية‬
‫فتأولوا الثقلني ونبذوا مجلة من الصحابة‪ .‬وكل يكفر صاحبه‪،‬‬
‫فيربهنون بذلك على عجز علمائنا يف ضبط احملجة البيضاء ومعرفة‬
‫أصوهلا‪ ،‬ويربهنون على أن الصدع بني القلب والعقل صدع ال‬
‫يرتئب مع األيام بل يزداد ِش ّقاه ابتعادا‪.‬‬
‫وليس أعجز عن االحتاد والتوحد على مثال النموذج اخلالد‬
‫من املختلفني يف حضن السنة أو الشيعة‪ ،‬بني شيعة صوفية هم‬
‫أعمق عاطفة من عاطفية عامة الشيعة‪ ،‬وشيعة سنية يتهمهم‬
‫علماء الشرع من كل جانب بامليل إىل املعسكر اآلخر‪ .‬فإن األمر‬
‫آل‪ ،‬وياخلجلتنا‪ ،‬إىل اهتام ومعسكرات!‬

‫‪772‬‬
‫أال إن اكتشاف منوذجية الرسول صلى اهلل عليه وسلم وصحبه‪،‬‬
‫واكتشاف احملجة البيضاء ما اختلف فيه وعجز عنه املسلمون إال‬
‫لقصورهم يف آلة البحث واالستكشاف‪ .‬أرباب العقول يدخلون‬
‫عليه من روايات القول وصفحات الكراريس يقارنون ويستدلون‪،‬‬
‫وأرباب القلوب أمطرهتم سحائب الرمحة املهداة فذاقوا اإلميان‬
‫حالوة يف قلوهبم ونورا يف بصريهتم عجزوا عن التعبري عنه بلسان‬
‫يفهمه أهل العقل‪ .‬وتنوعت املصطلحات وتكاثرت وتثاقلت‪،‬‬
‫وكل زيادة فيها ُتعن يف اخلالف وتزيده كثافة‪.‬‬
‫إن الثقلني مفتاحهما مفتاح عاطفي‪ ،‬إنه اإلميان بالغيب كما‬
‫جاء يف مقدمة القرآن يف أول سورة البقرة لكيال يقتحم القرآن‬
‫عقل مل يتطهر مباء الغيب‪ .‬فإن فتح الباب ملن أويت اإلميان فسيجد‬
‫طوع لإلميان عقال حكيما خبريا‪.‬‬ ‫يف القرآن وحدة وانسجاما إن ّ‬
‫أما من مل جيمع اآللتني فلن خيرج عن َذ ِّريَّته‪ ،‬يرى أن شظية من‬
‫شظايا املذهبية اإلسالمية هو احلق املطلق فيتقوقع يف مذهبيته‪،‬‬
‫ولن يعجزه التعصب من تأويل آيات اهلل بغري علم‪.‬‬
‫الطريق الكتشاف اإلسالم ووحدته هو التجربة الشخصية‬
‫اليت تعطيك إميانا قبل القرآن‪ ،‬ومعها الكفاية الفكرية الواسعة‬
‫اليت تتيح لنور العقل أن يسلك بك املعميات على هدى نور‬
‫البصرية‪ .‬واستكشاف القرآن والسنة باآللتني هو التفقه املنهاجي‪،‬‬

‫‪773‬‬
‫وعصارته فقه منهاجي جيمع بني احلقيقة والشريعة يف خط الحب‬
‫هو خط اجلهاد‪ .‬فعلى ضوء الفقه املنهاجي ينظر املؤمن أن احلق‬
‫مع الشيعة‪ ،‬وأن احلق مع السنيني معا‪ ،‬وينظر أن علماء الشريعة‬
‫أرباب العقل والنقل هم أهل احلق ومحاة الدين وأن الصوفية أهل‬
‫كل صاحلُُ إن طرحنا غالة‬
‫القلوب هم أهل التقوى واإلحسان‪ُُّ .‬‬
‫الضاللة من الباطنية وديدان القراء املنافقني‪ ،‬ولكل ينفتح فضل‬
‫اهلل عز وجل وتنفتح أبواب السماء‪ .‬إهنم مسلمون مؤمنون أولياء‬
‫هلل‪.‬‬
‫إن صدق ابن تيمية ونصحه للمسلمني وصدق ابن عبد‬
‫الوهاب ونصحه للمسلمني ال ينايف صدق ابن عريب وال ينايف‬
‫صدق من بنوا على الرسول صلى اهلل عليه وسلم وأولياء هذه‬
‫األمة قببا‪ .‬ومع صدق كل هؤالء ورغم اختالفهم وتنافرهم وتكفري‬
‫بعضهم لبعض هداية مبعثرة ينكرها كل فريق ألنه ال يتفاهم مع‬
‫غرميه‪ .‬فابن تيمية ال ينكر اإلميان والقلب العارف والورد‪ ،‬ويذكر‬
‫من ذلك يف كتاب اإلميان وسائر كتبه ما يثلج الصدر‪ ،‬ويعرتف‬
‫مبوالنا عبد القادر اجليالين بعد أن قرأ عقيدته‪ ،‬بينما ال يرى عند‬
‫ابن عريب إال كفرا‪ .‬ويفهم اخلبري من أحكامه أن تكفري شخص‬
‫يتحدث حبديث مل يعرفه األولون أهون على األمة من نظره من‬
‫مسارب الضالل اليت ميكن أن يتذرع إليها الناس حبقائق الشيخ‬

‫‪774‬‬
‫األكرب‪.‬‬
‫والشيخ األكرب كان رجل عاطفة وقلب طاوعه املنطق ما مل‬
‫يطاوع غريه فنطق باحلقيقة نطقا ما هو بأفصح وال أمجل وال أمجع‬
‫من حديث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم املتحدث عن ربه‬
‫حني أخرب أن اهلل عز وجل حيب عبده فيكون له مسعا وبصرا ويدا‬
‫ورجال‪ .‬وقد كنا ذكرنا أن هذا احلديث القدسي العظيم هو صلب‬
‫الفقه املنهاجي وحموره‪ .‬ولو آمن املسلمون مجيعا مبا جاءهم من‬
‫بشارة اهلل فيه اميان الفطرة ال يؤولونه تأويال المنحت اخلالفات‪،‬‬
‫لكن حيول بني الناس والفطرة عقبة األنانية والعقل املتأله والعادة‬
‫املوروثة أو املستحدثة‪ ،‬فما بد مع ذلك من الدخول إىل اإلسالم‬
‫من املدخل املنهاجي وهو الصحبة‪.‬‬
‫الشيعة الكرام يغمر قلبهم حمبة آل بيت النيب صلى اهلل عليه‬
‫وسلم‪ ،‬فتلك صحبتهم ونعم الصحبة‪ ،‬ومن أحب قوما واهلل حشر‬
‫معهم‪ ،‬قال ذلك رسول اهلل عليه الصالة والسالم‪ ،‬فما يكف عن‬
‫ضالله من جهل فضل الشيعة وأعماه التعصب املذهيب عن احلق!‬
‫إهنم أحبوا األئمة اهلداة أولياء اهلل املصطفني‪ ،‬ونقلوا عنهم شعائر‬
‫الدين‪ ،‬فنعم األئمة ونعم النقل‪ .‬وال مينعنا من االعرتاف باحلق إال‬
‫الضاللة األخرى‪ ،‬ضاللة القومية اليت تربض مع صاحبتها املذهبية‬
‫على خط احلدود الوطنية‪ .‬وكل خالف زائف‪ ،‬وكل ضاللة يف‬

‫‪775‬‬
‫النار‪.‬‬
‫ولعلماء الشريعة صحبتهم وإسنادهم‪ ،‬وهو إسناد عقلي‬
‫علمي يروي مبقتضاه فالن عن فالن العلم النبوي‪ ،‬فبذلك اإلسناد‬
‫متتد إليهم الوراثة النبوية‪ ،‬ونعم الوراثة إن كان معها التقوى‪،‬‬
‫وإال فهي شاهد احلق على زور حامل األسفار‪ .‬وحىت إن كان‬
‫ورَهقهم بالعبء الرتاثي املتكدس‬ ‫لعلماء الشريعة من حرفيتهم َ‬
‫باعث للتطرف‪ ،‬ومن ابتداعات املتصوفة باعث أقوى منه‪ ،‬فإن‬
‫هذا التطرف «السلفي» أو الوهايب هلو رمحة للمسلمني ينكرها‬
‫العاجزون عن اكتناه سر اهلل يف خلقه وإتقانه سبحانه لصنعته يف‬
‫الكون‪ .‬إن الدين دينه عز وجل واحلرم حرمه‪ ،‬وما انربى ابن عبد‬
‫الوهاب والتيميون اجلدد هلدم القبب وقطع رقاب املتصوفة أينما‬
‫قدروا إال ليظهر بإحلاح عجز كل فريق عن جتاوز اخلالفات‪ ،‬وعن‬
‫االهتداء للمحجة البيضاء‪.‬‬
‫وهكذا حيمل كل فريق إسالمه عبئا ثقيال‪ ،‬وال حيرره إسالمه‬
‫ليخف للجهاد‪ .‬الشيعة حيملون عبء الظلم القومي والغضبة‬
‫املستمرة ملصرع آل البيت الكرام‪ ،‬يتشخص ذلك احلمل يف الرفض‬
‫عند الروافض‪ ،‬والزيغ والباطنية عند اآلخرين‪ ،‬أما معظم األمة من‬
‫الشيعة فهم أبرار أطهار‪ ،‬وهم أيضا عاجزون عن ختطي العراقيل‬
‫اليت تفصلهم عن السنيني‪ .‬وهم ال خيتصون بالعجز وإمنا يرجع‬

‫‪776‬‬
‫النصيب األكرب منه ألهل السنة‪ .‬فهؤالء حيملون عبئا ال يقل‬
‫كثافة وثقال‪ ،‬ينكرون صوفيتهم ويكفرون غريهم‪ .‬ويبقى عبء‬
‫الصوفية الذي حيملونه‪ ،‬إهنم مظطهدون مشكوك يف إسالمهم‬
‫حيث ال يصرح بكفرهم وحيث ال يستتابون ويقتلون‪ .‬إهنم قلة‬
‫يف هذه األمة‪ ،‬وإهنم العنصر احلي النابض باحلياة كلما قيض اهلل‬
‫مربيا يطيح بالعادات واإلبداعات‪ ،‬وخيرج من زاوية اخلمول إىل‬
‫رباط اجلهاد‪.‬‬
‫والصوفية كانوا على مر التاريخ أعجز الطوائف عن خماطبة‬
‫الناس مجيعا مبا يفهمه املسلمون مجيعهم‪ .‬رقدوا على تلك الصحبة‬
‫واحملبة وغلَّفوا احملجة البيضاء باملصطلحات‪ ،‬فإن كتب اهلل لعلماء‬
‫الشريعة خريا بعث هلم الشك يف نفوسهم وطلبوا احلقيقة فما‬
‫جيدوهنا إال عند الصوفية‪ ،‬فيتتلمذون هلم كما تتلمذ الغزايل وعز‬
‫الدين بن عبد السالم والشعراين وأخيار هذه األمة‪.1‬‬
‫فاللقاء على احملجة البيضاء دائما بشروط الصوفية‪ ،‬واالنبعاث‬
‫وتذكر عمر بن عبد العزيز‬
‫ْ‬ ‫اإلسالمي يتم دائما على يد الصوفية‪،‬‬
‫وابن تاشفني وكل اجملددين اجملاهدين‪ ،‬واستقريء تاريخ اإلسالم‬
‫فإنك لن جتد يف صفوف اجلهاد إال الذاكرين‪ ،‬وما عهد املهدي‬
‫السوداين وعبد القادر اجلزائري وابن عبد الكرمي اخلطايب ببعيد‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر كتابنا اإلحسان‬

‫‪777‬‬
‫بيد أن مطلب املنهاج النبوي هو توحيد كل طوائف املسلمني‬
‫على احملجة النبوية‪ ،‬ليتعلم كل فريق أن احلق الذي نتنازع عليه ليس‬
‫مقصورا على أحد‪ ،‬وأن حق الشيعة الذي هو الصحبة واحملبة وحق‬
‫الذكر الذي يلهج به الصوفية وحق الصدق يف االتباع للسنة‪ ،‬ما‬
‫هو إال احلق الواحد‪ ،‬حق اهلل احلق املبني‪ .‬ومىت مجعنا صدق علماء‬
‫الشريعة العاملني وعاطفة الشيعة احملبني وكمال الصوفية احملسنني‪،‬‬
‫وكونا من ذلك ربانية جماهدة تربينا على جتاوز اخلالفات فقد جنح‬
‫اإلسالم ورضي ساكن األرض وساكن السماء‪.‬‬

‫‪778‬‬
‫الداعي إىل اهلل‬
‫يعج تاريخ اإلسالم برجال الدعوة‪ ،‬وكل من هنض لدعوة‬
‫ادعى أنه أهدى سبيال من غرميه‪ .‬فإن كان طالب دنيا وسلطان‬
‫أظهر أنه ناصر اإلسالم ومثبت أركانه‪ ،‬وإن كان من علماء الشرع‬
‫قارع خصومه بالنصوص واحلجة ليظهر حقه على باطل خصومه‪،‬‬
‫وإن كان صوفيا أو شيعيا عرض حقه مرتبطا بقضية وراثة وتبعية‪.‬‬
‫وقد لعبت الفتنة التارخيية املشجعة للفوضى دورا مهما يف‬
‫تكثيف الفتنة املرتبطة باإلنسان وسلوكه يف العامل‪ ،‬فال يزداد‬
‫اإلسالم يف عني الناس إال استغالقا وقتامة‪ .‬ومن يفكر لإلسالم‬
‫اليوم يعرض قرآن اهلل على تاريخ األمة‪ ،‬مث يعرض تاريخ األمة على‬
‫منوذج اإلسالم اخلالد فال يتبني شيئا‪.‬‬
‫والناس أتباع لنخبة متلك صولة امللك وبرهان العقل وهيبة‬
‫التقوى‪ ،‬فإن حنن حاولنا حتليل عقلية القادة والعلماء والصوفية‬
‫على ضوء املنهاج النبوي فإننا نقرتب من فهم إسالمنا والتعرف‬
‫على شظاياه‪ ،‬ويف نفس الوقت منلك ثقة باإلسالم متكننا من مجع‬
‫تلك الشظايا‪ .‬وقد ذكرنا يف الفقرة السابقة حق أرباب القلوب‬
‫وحق أرباب العقول‪ ،‬فلنقرهنم هنا بأرباب السلطة لنرى أين احلق‬
‫أن تسرب‪ ،‬وكيف صدت الفتنة املسلمني عن اقتحام العقبة‪،‬‬ ‫وّ‬

‫‪779‬‬
‫لكي جندد لنا علما منهاجيا وإرادة إميانية إحسانية‪.‬‬
‫دعوة أصحاب السلطان يف اإلسالم كانت تقوم على مهدية‬
‫ترجع احلق إىل نصابه‪ .‬هذا معاوية بن أيب سفيان طلب حق‬
‫القصاص للخليفة املقتول‪ ،‬والعباسيون طلبوا حقهم يف قيادة األمة‬
‫لقرابتهم من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ومثلهم الفاطميون‬
‫وهلم جرا‪ .‬وبعد االنتصار العسكري تقوم الدولة العاضة وتتبخر‬
‫الدعوة وتتالشى مع األجيال‪ ،‬حىت تدول الدولة وتذهب رحيها‪.‬‬
‫وحىت الدعوات اجلهادية كدعوة يوسف بن تاشفني ال ختلف إال‬
‫دولة دائلة‪ ،‬ألن عوامل التفتيت النفسي خترب رجال السلطان‬
‫وتورثهم مع األجيال رخاوة يف اجلسم واحنالال يف اخللق‪ ،‬يرث‬
‫ذلك منهم صاغر عن كابر‪.‬‬
‫ودعوة علماء الشريعة دعوة ال تتصل باملدعوين إال من خالل‬
‫األوراق أو من على أعواد املنابر‪ .‬فلهم مهديتهم يتوارثوهنا‪ ،‬وهلم‬
‫«كربياء العلم»‪ ،‬والعبارة شاهدة بتناقض شطريها على أن عقبة‬
‫الفتنة يقف العلماء من ذوي الطيالسة والكربياء العلمي عند‬
‫أول خطوة فيها‪ ،‬فهم عند أنانيتهم ال يربحون‪ .‬وإن عممت فما‬
‫قصدت االستقراء‪ ،‬لكن قصدت وصف ظاهرة بينة جدا‪.‬‬
‫أما دعوة الصوفية فهي دعوة الرباين املتواضع الذاكر اخلاشع‪،‬‬
‫لكنها دعوة تورث كما يورث امللك‪ .‬وكما يكون من رجولة‬

‫‪780‬‬
‫مؤسسي الدولة شاهد على فسولة خلفهم املرىب يف احلرير فكذلك‬
‫يكون كمال مؤسسي الطرق الصوفية شاهد على قصور أخالفهم‬
‫لنفس السبب‪ ،‬وهو أن املال واجلاه يستغين هبما املرء فيطغى‪،‬‬
‫ويهيئان له حياة الدعة واالسرتخاء‪ .‬فرجل السلطة الوارث لدولته‬
‫ينهب اللذات ويتأله يف األرض‪ ،‬ورجل الزاوية ينوء حبمل العطاء‬
‫الوارد ويسرتخي مع عاداته إن استطاع اقتحام عقبة أنانيته وغفلته‪.‬‬
‫وغالبا ما جتتمع الثالثة فيقعد املتصوف الدعي مبكان أخزى من‬
‫موقع العامل املتكرب‪.‬‬
‫وميسخ العامل املتكرب دودة قارئة متملقة بنفس السهولة اليت‬
‫يتحول هبا وارث التصوف بالوراثة النسلية اجلسمية عن سنة أبيه‬
‫أو جده إىل مذهب من يبتزون املال ويبيعون احملال‪.‬‬
‫ولعل علماء الشريعة أجنى الفرق وأقرهبا للسالمة‪ ،‬وذلك‬
‫لسببني أحدمها نفسي واآلخر سلوكي‪ .‬فأما السبب السلوكي فهو‬
‫أن عالقة عامل الشريعة باجملتمع هي عالقة مصلحة متبادلة قبل‬
‫كل شيء‪ ،‬فهو القاضي وهو املفيت وهو الواعظ وإمام اجلمعة‪.‬‬
‫ويبقى بعد ذلك منفردا ال جيمع مجاعة‪ ،‬وال يأخذ من الناس أتاوة‪،‬‬
‫إال ما جاء عفوا من حتلق طالب العلم يف داره بعد حتلقهم عليه‬
‫يف املدرسة مأجورا أو متطوعا‪ ،‬وإال ما ينفحه من يعظمون العلم‬
‫والعلماء‪ .‬وللعلماء يف عني املسلمني جالل وهيبة‪ ،‬إال أن من‬

‫‪781‬‬
‫يغشون بابه قليل ألنه ال يهب شيئا غري علمه وال يعرض بضاعة‬
‫غري وعظه‪ ،‬فهو ال خيوض يف احلقائق وال كرامة له أو بركة يدعيها‪،‬‬
‫فذلك السبب النفسي لنجاته‪ .‬بضاعته تـَُقيَّ ُم على وجها وال تـَُقيَّ ُم‬
‫حظوة الدنيا وبركة الروح‪ ،‬بل تقدران تقديرا فيعرض ذلك للغنب‪.‬‬
‫أما رجل الدولة‪ ،‬وأما املتصوف بعد الصويف‪ ،‬فهما جيمعان‬
‫الناس‪ ،‬ومها يأخذان األتاوة‪ .‬ذلك يصلت سيف القمع ويلوح‬
‫باجلزاء والغنائم واملراتب فيقبل عليه الناس رغبا ورهبا‪ .‬وهذا كان‬
‫أبوه داعيا إىل اهلل له نور وصدق يصيب اهلل هبما من أحبه وصحبه‬
‫ملكانه من اهلل الذي تواله‪ .‬وكان جيتمع عليه الزائرون‪ ،‬وكان يقطن‬
‫يف زاويته ورباطه املريدون وال بد لكل مجع عابر أو ثاو من مبيت‬
‫وطعام‪ ،‬فيأيت الناس بدريهماهتم ينثروهنا يف صدقة املسلمني‪ ،‬ويرث‬
‫اإلبن واحلفيد الزاوية وقد نشأت فيها عادات‪ ،‬فمهما كان ابن‬
‫الشيخ وحفيده رجل صدق وروحانية فإنه ضحية تربيته مثل األمري‬
‫سواء بسواء‪.‬‬
‫إن األمري كلف ن ْفسه عناء اخلروج من بطن أمه كما يعربون‪،‬‬
‫فهو من املهد يُوطأ هلم الفراش وتتهافت حوله األماين كتهافت‬
‫اخلدم واحلشم‪ ،‬وتقبل يده ورجله‪ ،‬ويتملقه ديدان القراء ومن‬
‫يشبههم فيغذون أنانيته‪ ،‬ويرتفونه يف الغفلة واللهو‪ .‬وماذا يكون‬
‫من تلقى مثل هذه الرتبية ؟ إنه ضحية مثل أمري الزاوية‪ ،‬بل إن‬

‫‪782‬‬
‫هذا أجدر أن يُ ِسف أكثر من صاحبه لوال صحبة املريدين‪.‬أمري‬
‫الدولة ختدمه أيد أجرية وحتوم حوله أحالم معلولة بعلة تقبل‬
‫النفاق‪ .‬أما أمري الزاوية فتخدمه أيد صادقة وتعظمه وحتبه قلوب‬
‫تعرف قدر الربكة ألهنا أصابتها وأخرى مسعت بالربكة وكرامات‬
‫الويل فصدقت بالسمع وقبلت رجل الصيب ويده‪.‬‬
‫األمريان يرزحان حتت عبء اجلاه واملال‪ ،‬واجلاه واملال مها‬
‫رافدا السلطان‪ ،‬فيتنكر أمري القصر للقرآن ووازعه‪ ،‬ويضل أمري‬
‫الزاوية عن قرآنه بني هلوه إن انقلب العبا أو بدأ مشعوذا وبني‬
‫أمواله جيمعها لبدا‪ .‬فإن مل يضل هذا عن قرآنه قرأه قراءة تعبد‬
‫وانعزال‪ ،‬وإن مل يتنكر ذاك وحصلت املعجزة‪ ،‬فما حديثه عن‬
‫القرآن إال حديث هاو غاو‪.‬‬
‫فمن هذا التحليل نتعرف على االنشقاق الثالثي‪ ،‬ومنه نلمح‬
‫طبع العقبة وشكلها وطريق اقتحامها ليجتمع لنا وازعا القرآن‬
‫والسلطان يف قيادة جهادية جتدد أمر هذه األمة غدا‪ .‬وقد نظرنا‬
‫إىل منحدر التدهور التارخيي يف قادته من أسفل‪ ،‬فلننظر إليها‬
‫اآلن من أعلى‪ ،‬من رأس األمر ومنبعه لنجلو الرؤية‪ ،‬وخنرج مبعيار‬
‫إنساين لرجل الدعوة‪ ،‬للداعي إىل اهلل السليم من وباء األنانية‬
‫ورهق الوراثة الشكلية وما يتبعها من املعوقات النفسية‪.‬‬
‫الداعي إىل اهلل‪ ،‬قبل أن تستحدث املصطلحات‪ ،‬وقبل أن‬

‫‪783‬‬
‫تعمل عوامل التعرية التارخيية عملها يف فتنة الصحبة والذكر‬
‫والصدق‪ ،‬هو النيب والرسول‪ ،‬أو هو الوراث الكامل من هذه‬
‫األمة اليت ختمت عليها النبوة والرسالة‪.‬‬
‫احملجة البيضاء دلنا عليها صاحبها صلى اهلل عليه وسلم‬
‫بسلوكه‪ ،‬ودلنا عليها ربنا حبكاية هذا السلوك النبوي املنهاجي‪،‬‬
‫وبالتعلم واهلداية لألسوة احلسنة‪ .‬قال اهلل عز وجل لرسوله حممد‬
‫صلى اهلل عليه وسلم ﴿قُل َه ِذ ِه سبِيلِي أَ ْدعُو إِلَى اللَّ ِه َعلَى ب ِ‬
‫ص َيرٍة‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫ْ‬
‫أَنَا َوَم ِن اتـَّبـََعنِي﴾ فهذا يهدينا إىل أن الداعني إىل اهلل من هذه‬
‫األمة أشخاص يبتعثهم اهلل بعد نبيه فيتبعون النيب حىت يعطيهم‬
‫اإلتباع نورانية وبصرية هبا وعليها يدعون الناس إىل اهلل‪ .‬وهذا‬
‫أيضا يهدينا لنعلم طبيعة الدعوة الصادقة وغايتها‪ ،‬ألهنا دعوة إىل‬
‫اهلل وليست دعوة لعصبية وال لطائفية‪ .‬إهنا دعوة موحدة جتمع‬
‫املسلمني على اهلل يطلبون رضاه وجنته‪ .‬وطلب اهلل وجنته طلب‬
‫للغيب‪ ،‬فإن اهلل غيب وجنته غيب‪ .‬والغيب ال يدرك إال بالبصرية‪،‬‬
‫فلذلك نعرف صدق الدعوة من وجود البصرية وآثارها يف هذه‬
‫الكرامات اليت حتكي معجزات األنبياء‪ ،‬ويف هذا اإلميان الذي‬
‫حيمل صاحبه فيتجرد من الدنيا تعرضا لرضى اهلل وجنته‪ .‬وهذا‬
‫يشري للصوفية وصحبتهم‪ ،‬لشيخهم وكراماته‪ ،‬ونورانيته وزكاته‪.‬‬
‫وال بد للمصحوب الداعي إىل اهلل على بصرية أن يكون له‬

‫‪784‬‬
‫من رسوله مرياث يؤهله ليكون تعبريا بشريا للثقلني كتاب اهلل وسنة‬
‫نبيه‪ .‬فكمال مرياثه أن يكون من آل البيت الذين أمرنا أن حنبهم‬
‫ونتبعهم‪ .‬وقد رأى الشيعة أن آل البيت هم اإلمام موالنا علي‬
‫عليه السالم وبنوه‪ ،‬وال يشك يف هذا مسلم‪ ،‬وال يقصر عن حمبتهم‬
‫إال حمروم‪ .‬بيد أن سنة اهلل يف الكون أن تسري اهلداية باملرياث‬
‫الروحي كما تسري خصائص اجلسم بالتناسل البيولوجي‪ .‬ويسرى‬
‫من املصحوب املقبور لتابعه نوارنية وال شك‪ ،‬إال أهنا ال تبلغ أبدا‬
‫أن تعطيه امليالد الروحي الذي يوجدك يف عامل ال تولد فيه إن مل‬
‫تكن لك أبوة‪ ،‬وإن مل تزرع يف أرض نفسك فحولة األب الروحي‬
‫بذرة احلياة‪.‬‬
‫فآل البيت الداعون إىل اهلل الضروريون لتجديد اإلميان هم‬
‫ورثة الكمال الروحي‪ ،‬ال يغين عن وجودهم أصحاب القبور أبدا‪،‬‬
‫وال يتأهل لوظيفتهم من انتسب باجلسم دون الروح‪ .‬وترىب الروح‬
‫فتدل بنورانيتها على أهليتها حلمل الرسالة ومرياثها من رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم أكثر مما تدل بإسناد مشاخيها‪ .‬أما النسبة‬
‫اجلسمية فسلسلة اآلباء واألجداد الطاهرين ذكر حسن ومغرس‬
‫طيب‪ ،‬لكنها ال خترج بصاحبها عن مرتبة العوام أو يصحب كامال‬
‫حيييه من موات‪.‬‬
‫آل البيت هم أهل القرىب الذين سألنا اهلل ورسوله أن نوادهم‬

‫‪785‬‬
‫وحنبهم‪ ،‬وهم من بلغ مرتبة سلمان بروحانيته فانتسب لرسول اهلل‬
‫بالروح نسبة كاملة أو مجع إىل ذلك نسب اجلسد فأضاف طهرا‬
‫إىل طهر‪ .‬وهذا يشري إىل الصحبة‪ ،‬واستمرارها‪ ،‬وإىل احملبة‪ ،‬وكل‬
‫ذلك عند الصوفية الصادقني‪.‬‬
‫وطريق الرتبية الروحية هو احملجة البيضاء‪ ،‬يف أول عتبتها‬
‫صحبة ويف العتبة الثانية ذكر وتسبيح‪ .‬وما بعث اهلل النبيئني‬
‫وت َو ُه َو‬‫ْح ُ‬ ‫والرسل إال وهم مسبحون‪ .‬فسيدنا يونس ﴿فَالْتـََق َمهُ ال ُ‬
‫ث فِي بَطْنِ ِه إِلَى يـَْوِم‬ ‫ين‪ ،‬لَلَبِ َ‬ ‫ملِيم‪ ،‬فـلَوَل أَنَّهُ َكا َن ِمن الْم ِ‬
‫سبِّح َ‬
‫ْ َُ‬ ‫ُ ٌ َْ‬
‫يـُبـَْعثُو َن﴾‪ .‬وسيدنا حممد رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمره اهلل‬
‫ك‬ ‫اس َم َربِّ َ‬
‫تعاىل﴿سبِّ ْح ْ‬
‫َ‬ ‫أن يسبح وأمرنا معه مامل يأمر بغريه‪ .‬قال‬
‫ْالَ ْعلَى﴾‪ .‬وحنن نتأسى بالرسل كما أمرنا اهلل‪ .‬فيخربنا القرآن أن‬
‫التأسي واإلتباع ال يتأتى إال ملن ذكر اهلل كثريا ﴿لََق ْد َكا َن لَ ُك ْم‬
‫ول اللَّ ِه أُسوةٌ حسنةٌ لِمن َكا َن يـرجو اللَّه والْيـوم ْال ِ‬
‫َخ َر‬ ‫فِي ر ُس ِ‬
‫َْ ُ َ َ َْ َ‬ ‫ْ َ َ ََ َ ْ‬ ‫َ‬
‫َوذَ َك َر اللَّهَ َكثِيراً﴾‪.‬‬
‫والذاكرون اهلل كثريا هم مجاعة الصوفية خاصة‪ ،‬أما اآلخرون‬
‫فمنهم من يزعم أن الذكر ذكر بالقلب ال باللسان‪ ،‬وماذا نفعل‬
‫بأمر اهلل لنا أن نسبح؟ مث إن ختصيص القرآن للذكر والتسبيح‬
‫باإلسم دليل على منهاج الرتبية الصوفية كأن املنكرين ال يقرأون‬
‫القرآن‪ ،‬وخليق مبن جيهل الغيب وال يرجو الدار اآلخرة انتظارا أن‬

‫‪786‬‬
‫يعرض عنه القرآن بإعراضه عن ذكر ربه‪.‬‬
‫الصحبة والذكر هلما مؤهالت تتألق يف صفائها عند الشيخ‬
‫الصويف الكامل‪ ،‬ويشرق نورمها على األتباع فينم عن حق حمري‬
‫ضائع بني رجال الطروس وأصحاب الذوق والكؤوس‪ .‬فهما‬
‫احلزبان املتالزمان املتشاكيان املتعاديان‪ .‬وبينهما انفرط العقد‬
‫ودبت الوحشة‪ .‬علماء الشريعة يريدون سلوكا شرعيا على ظاهر‬
‫الكتاب والسنة‪ ،‬فهم محاة اإلسالم‪ .‬وجييء أصحاب الذوق‬
‫فيتحدثون عما وراء اإلسالم‪ ،‬يتحدثون عن حالوة اإلميان وعن‬
‫كمال اإلحسان‪ ،‬ومها ماهيتان جيهلهما رجل األوراق جهال وإن‬
‫كان يقرأ القرآن وينطح يف تالوته ألفاظا ال مدلول هلا يف قاموسه‬
‫إال مدلوال منقوال وشكال مقبوال‪.‬‬
‫إن ظاهر اإلسالم هو شاطيء األمان‪ .‬وإن مواجيد الصوفية‬
‫وغلبة عاطفتهم امل ِحبة الذائقة لإلميان واإلحسان ألمر تفزع منه‬
‫ُ‬
‫قلوب العامة حىت ولو كانوا مفتني وُكرباء‪ .‬وال حق للصوفية يف‬
‫إفشاء ما يفشونه لوال أن اجلذب واحلال‪ ،‬وهذه القشعريرة ولني‬
‫اجللود شؤون ال يستجلبها املريد الصادق‪ ،‬وإمنا ترد فتغلب‪.‬‬
‫ويشمئز منها علماء الشرع ويشهرون الرقص الصويف‪1‬ويشنعونه‪،‬‬
‫وهلم احلق إذ ال يعرفون احلال إال عيونا جاحظة وهيئة مزرية ال‬

‫‪ 1‬كما نشهر به وال نقول به‬

‫‪787‬‬
‫تدري أجنون هو أم فنون للنصب والكذب‪ .‬اترك الصادق يغالب‬
‫حاله وتعال أنبئك مبا أنبأك به من قبلي أمثال الغزايل الفحل رضي‬
‫اهلل عنه‪.‬‬
‫إن ابتداعات املتصوفة اليت أخفت عنك صدق الصادقني‪،‬‬
‫وإن اصطالحات الصوفية املرتاكمة على األيام ختفي وراءها حقيقة‬
‫احلياة األبدية‪ .‬وضروري للمسلمني يف يوم انبعاثهم أن يرقوا من‬
‫املصطلحات وكل املظاهر املوروثة إىل مست الصحابة واقتصادهم‬
‫وتؤدهتم لكي يفتحوا بابا كان مغلقا شديدة مسالكه وعرة عطابه‪.‬‬
‫إنه باب الوصول إىل اهلل رب الرمحة واحملبة‪ .‬إنك أخي واهلل إن‬
‫عربت هذه الدنيا ومل تطلب كمالك لَرجل مغبون غبنا ال يقاس‪.‬‬
‫وإنك إن طغت عليك أنانيتك وعقالنيتك وعادتك فما تعلم أي‬
‫جحيم تعيش فيه يف الدنيا قبل اآلخرة‪ ،‬ولن تعلمه حىت تصحب‬
‫كامال كما صحبنا‪ ،‬وهلل املنة وله احلمد‪.‬‬
‫إن مرياث رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم والنبيئني حق مقسم‬
‫لك منه نصيب إن تعرضت‪ .‬وما تتعرض بعبادتك وحدها وعلمك‬
‫إال ملقام اإلسالم واإلميان‪ ،‬أما اإلحسان فاطلبه عند داع إىل‬
‫اهلل صاحب بصرية‪ .‬فمن هذا الداعي ومنك نفسك يبدأ بعث‬
‫اإلسالم‪ .‬فإن كان الداعي وارث نبوة دلك على خالصك الفردي‬
‫وأوصلك إىل مقام الرجال‪ ،‬وإن كان وارث رسالة ونبوة معا أهاب‬

‫‪788‬‬
‫بك إىل الرباط لتجاهد يف سبيل اهلل ومتوت موتة معنوية حتررك‬
‫لتكون يف الدنيا حامل رسالة رسولك صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫ولتكون يف اآلخرة عند ربك يف مقعد الصدق بعد أن تقربت إليه‬
‫يف الدنيا بالفرض والنفل حىت أحبك‪ ،‬فكان مسعك وبصرك‪ ،‬ويدك‬
‫ورجلك‪ .‬وما يدلك دعاة اإلسالم إال على عمل هل يوصلك‬
‫إىل غاية حىت؟ ألن من ليس داعيا إىل اهلل على بصرية ووراثة ال‬
‫يعرف حمبة اهلل لعبده وكمال العبد بالسلوك إىل سيده والعبودية‬
‫بني يديه‪ .‬ال يعرف ذلك ولو كان يدعو لفرض ونفل مع دعوته‬
‫إلسالمه الفكري‪ .‬ولن يتم بعث اإلسالم إال باكتمال الدعوة‬
‫إسالما وإميانا وإحسانا‪ .‬وذلك هو املنهاج النبوي الذي نسيه‬
‫الناس‪ ،‬وحفظه لك الصوفية بشرى من رسولك خالدة‪.‬‬

‫‪789‬‬
‫التنظيم اجلهادي‬
‫أمر اهلل رسوله حممدا صلى اهلل عليه وسلم أول ما جاءه الوحي‬
‫أن يقرأ باسم ربه‪ ،‬كما أمره بعد ذلك أن يسبح اسم ربه ليكون‬
‫من املسبحني الناجني املنجني‪ .‬فبالذكر والتسبيح تكمل الروح‬
‫وتتأهل حلمل األمانة اليت عرضها اهلل على السماوات واألرض‬
‫فأبينها وأشفقن منها‪ .‬وبالقراءة وهي اجلمع تتعني الوظيفة اجلهادية‬
‫لصاحب الرسالة املبلغ عن ربه‪.‬‬
‫فالداعي إىل اهلل على بصرية إما أن يكون رجل مسبحة يسبح‬
‫اسم ربه ويتزكى ويصيب الناس منه صدق وعبري ومسك ذفري‪،‬‬
‫وإما أن يضيف إىل الذكر والتسبيح والتقرب بالفرض والنفل علما‬
‫وقراءة فيتأهل لعمارة الرباط وتنظيم اجلهاد‪ .‬وذلك هو الوارث‬
‫الكامل بكمالني‪ ،‬أحدمها روحي مبا ورث عن املسبحني‪ ،‬والثاين‬
‫ورثه عن أويل العزم من الرسل‪ ،‬وأويل املرياث شديدي القوى من‬
‫اجملاهدين‪ ،‬الذين كانوا رمحة للعاملني‪ .‬وذلك مقام القارئ اجلامع‬
‫باسم ربه وإذنه‪.‬‬
‫اجلذب قد يؤدي لروحانية إن كان جذبا إهليا‪ ،‬فإن صحبه‬
‫سلوك على يد شيخ كان املريد بني سلوك وجذب‪ ،‬أي بني عقل‬
‫قابض للزمام يروم خدمة عاطفية هياجة‪ .‬وذلك لعمري صعب‬

‫‪790‬‬
‫املنال وعر املرتقى‪ ،‬ألن العقل يتأله وينكسر ويستبد‪ ،‬ذلك ديدنه‬
‫سيما إن لطخته العقالنية القلمية بشكوكها‪ ،‬وألن العاطفة هوجاء‬
‫ال حد لطاقتها‪ .‬فيظن صاحب األوراق أن األمر كله عقل ونقل‬
‫ألنه مل يكتشف عامله القليب‪ ،‬ويطرب الذائق ويتيه يف حمبته حىت ال‬
‫ميلك العقل من أمره قليال وال كثريا‪ ،‬وخيلع العذار ويبوح باألسرار‪.‬‬
‫وعلماء الشرع يقتلونه كما يقتلون الفجار‪.‬‬
‫على طريق اجلهاد عائق يف نفوس املسلمني وعقوهلم‪ ،‬إهنم‬
‫مجيعا بني عاطفة وعقل‪ ،‬فأما أهل النور فعاطفتهم جذب إهلي‪،‬‬
‫وأما أهل النقل فعقلهم شرعي‪ .‬ومع ذلك فوضى‪ ،‬ومع هذا مجود‬
‫وال ميكن أي جهاد مع الفوضى واجلمود‪.‬‬
‫فلكي يكون لنا دعوة جهادية ال بد من تنظيم جهادي‪،‬‬
‫وليكون التنظيم ال بد من حترير العقلية اجلامدة وضبط العاطفة‬
‫اجلاحمة‪ .‬ويف تاريخ اإلسالم املعاصر جتربة تنظيمية غنية جدا مفيدة‬
‫جدا بسلبياهتا وإجيابيتها‪ ،‬إهنا جهاد ويل اهلل تعاىل سيدي حسن‬
‫البنا‪.‬‬
‫ترىب البنَّا يف حجر الصوفية على منط الرتبية الفردية‪ ،‬وكان‬
‫شيخه احلصايف رجال صادقا قويا ال خياف يف اهلل لومة الئم‪،‬‬
‫يدخل على األمراء ويقرعهم بالقول‪ ،‬يأمرهم باملعروف وينهاهم‬
‫عن املنكر‪ .‬وهذا ال مينع أن تصنف الطريقة احلصافية مع أصحاب‬

‫‪791‬‬
‫القضية الفردية واخلالص الفردي‪ .‬وإن بني األمر باملعروف والنهي‬
‫عن املنكر على تنسيق الشيخ احلصايف وكل علماء املسلمني‬
‫الصادقني وبني اجلهاد واملرابطة لفرقا كبريا وفجوة بعيدة‪ ،‬ويزيدها‬
‫متايزا عادات الزاوية يف اخلمول والدعة واحلرص على اخللوة لكيال‬
‫يتصل املريد بإخوانه إال يف ساعات خمصوصة‪ .‬أما العامل فإن‬
‫اتصاله به يقتصر على احلد األدىن خمافة أن يلوث العامل مريد اهلل‪.‬‬
‫فلما أراد البنا سلوكا جهاديا اضطر أن يغادر زاوية ابن شيخه‪،‬‬
‫وبدأ عمله يف املساجد يعلم الناس الوضوء والصالة‪ ،‬ويعظهم يف‬
‫املقاهي والشوارع‪ .‬وتكاثر األتباع فتدرجت الدعوة شيئا فشيئا حنو‬
‫التنظيم ملا أحس البنا بضرورته‪ .‬لكن العفوية اليت كانت أساسا‬
‫لبناء اجلماعة‪ ،‬وتسارع احلركة وعدم وضوح اهلدف الرتبوي واملبدإ‬
‫املنهاجي جعلت التنظيم اإلخواين عرضة لألغراض‪ ،‬وكان ما كان‬
‫مما جعله اهلل لنا درسا وعربة ومثاال للرجولة والربانية‪.‬‬
‫ال نرجم بالغيب وال نعلم إىل أي مرتبة روحية انتهى الشيخ‬
‫البنا رمحه اهلل‪ .‬هل كان صاحب إذن وصاحب سر؟ هل كان شيخا‬
‫واصال موصال؟ هل اكتمل كيانه الروحي وهو حيمل أعباء الدعوة؟‬
‫تلك أسئلة ال ميكن أن جند هلا جوابا ألهنا من غيب اهلل‪ ،‬ال نعلم‬
‫منها إال ما يتحدث به املشايخ من نعم اهلل عليهم‪ .‬وال حتسب‬
‫هذه األمور وال تقاس كما تقاس الكفاية الفكرية بآثارها‪ .‬بيد أن‬

‫‪792‬‬
‫وجود الوظيفة والورد والرابطة‪ ،‬وروعة ذلك السيد اجلليل املهيب‬
‫احملبوب الساطع األنوار برهان واضح للوالية واإلرث النبوي‪ .‬لكن‬
‫الذي حيري هو أن مجاعة اإلخوان املسلمني‪ ،‬بعد وفاة السيد الكرمي‬
‫نسوا‪ ،‬كثري منهم‪ ،‬انتماءهم الصويف للشيخ‪ ،‬واحتفظوا بالفكر‬
‫واملبدإ السياسي الذي عمى عليهم املبدأ الرتبوي‪ .‬وفكر الشيخ‬
‫رمحه اهلل ضئيل إذا قسناه بفكر األستاذ املودودي مثال‪ ،‬أو بفكر‬
‫الشهيد سيد قطب رمحه اهلل‪ .‬ال جرم أن يصبح تنظيم اإلخوان‬
‫بعد الشيخ تنظيما فكريا أول شيء‪ ،‬وال جرم أن متيل اجلماعة‬
‫وتتنكر للصحبة‪ ،‬فتلك ثغرة كبرية يف تربية الشيخ رمحه اهلل‪ ،‬مردها‬
‫إىل أنه عرف اجلماعة بأهنا مجعية ثقافية‪ ،‬وتنظيم سياسي وفرقة‬
‫رياضية ومجاعة صوفية‪ .‬فكأنه دس الصحبة والذكر دسا خياف أن‬
‫ينفض من حوله الناس لعدم ثقتهم بالصوفية‪ .‬ويف كتاباته رمحه‬
‫أثرا لذكر معرفة اهلل وحمبته املوصلة‬
‫اهلل إسالم وإميان‪ ،‬لكنك ال جتد ً‬
‫لرضوانه ووصله‪ .‬وكل تنظيم إسالمي ال تكتمل فيه الدرجات‬
‫الثالث ومؤهالهتا ال جيمع إال خنبة وسطا‪ .‬ذلك ألن ذوي اهلمة‬
‫العليا الذين ال حيرصون على حياة هم طالبو احلق الطاحمون مع‬
‫اجلنة إىل رب اجلنة‪ .‬فمن دهلم على طلبتهم اتبعوه ولو فرض‬
‫عليهم اإلنزواء واخللوة‪.‬‬
‫قلنا من قبل أن العمل اإلسالمي يف نظر رجال الدعوة ال‬

‫‪793‬‬
‫يزال يف نطاق عاطفية حتب الغموض وال جتسر على استجالء‬
‫احلقائق بعقل ناقد‪ .‬وحنن ال مينعنا حب البنّا واللهج بذكره أن‬
‫حنلل دعوته بقدر ما ينفعنا يف حبثنا عن إسالمنا‪ .‬والذين ال تسمو‬
‫مهتهم للحق واملعرفة والسلوك إىل املوىل عز وجل حىت حيبنا ويكون‬
‫مسعنا وبصرنا‪ ،‬هلم أن جياهدوا جهادهم فهم إخواننا‪ ،‬وإن كانوا‬
‫وهابية مع علماء الشريعة على شاطئ اإلسالم‪ ،‬فنحن نعذرهم يف‬
‫إحجامهم عن الطلب‪ ،‬لكن خنربهم أن صلب اإلسالم يف الصدر‬
‫األول كانوا رجاال مثل أيب بكر وعمر‪ ،‬أحبوا رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم وفنوا عن أنفسهم وماتوا يف اهلل فعرفوا اهلل باهلل‪ ،‬فلذلك‬
‫كانوا ما كانوا‪.‬‬
‫وإن التجديد الذي ننتظره هو جتديد يصل علماء الشريعة‬
‫أرباب العقول بالذاكرين احملبني أصحاب القلوب‪ ،‬وينقل هؤالء‬
‫وأولئك من القضية الفردية إىل القضية اجلهادية‪ .‬وقد كان عمل‬
‫البنا رمحه اهلل وجهاده خطوة مهمة جدا يف هذا السبيل‪ ،‬فلو‬
‫قيض اهلل أن يعلم الناس تعليما ال ينسونه ما أتاهم به النبيئون‬
‫والصديقون من ترغيب يف اهلل وداللة على ملكوت القلب وعلى‬
‫الكنز الدفني يف كل آدمي‪ ،‬لكان جهاده جهادا حامسا‪ .‬لكن‬
‫األمر أمر اهلل تعاىل والتوفيق توفيقه‪ ،‬وما ترك من اجلهل شيئا من‬
‫أراد أن يظهر يف الكون غري ما أظهره اهلل كما يقول الصويف‪.‬‬

‫‪794‬‬
‫كان عند الصوفية املنزوون وال يزال‪ ،‬إعراض كلي عن الدنيا‬
‫وأهلها‪ ،‬فكان مرياثهم نبويا مل يكلفوا جبهاد كما مل يكلف به‬
‫معظم األنبياء‪ .‬وترى رسول اهلل سيدنا نوحا عليه السالم ملا دعاهم‬
‫فأعرضوا دعا عليهم مث أعرض عنهم كما دعا أنبياء آخرون على‬
‫أممهم ملا كذبتهم وتأبت على هدايتهم‪ .‬وهؤالء املشايخ الصوفية‬
‫هلم من قلوهبم ملكوت يتعهدونه بالذكر والعمل الصاحل حىت‬
‫ينكشف هلم عنه احلجاب‪ ،‬ويُفتح عليهم فيعرفوا اهلل‪ .‬ويربز من‬
‫الصوفية أفذاذ عليهم يدور تاريخ اجلهاد اإلسالمي كله‪ ،‬فيطلبون‬
‫مرياث رسل اهلل أوىل العزم اجملاهدين‪ ،‬فأولئك هم املرابطون‪ ،‬وكان‬
‫أحدهم ويل اهلل البنا رمحه اهلل‪ ،‬غري أنك لو غشيت جمالس صوفية‬
‫أهل احلقيقة وسألت عن البنا ملا وجدت له عندهم خربا‪ ،‬ولو‬
‫سألتهم عن ويل هلل اآلخر ابن عريب لوجدهتم فيه حائرين وعليه‬
‫وعلى كتبه عاكفني‪ .‬ذلك ألن البنا دعا جلهاد جامع قارئ‪ ،‬وابن‬
‫عريب دعا لقراءة من نوع آلخر‪ ،‬إليها يهفو الرجال‪ ،‬وحوهلا أيضا‬
‫يتجمع الكساىل والعاطلون‪.‬‬
‫تقلصت الدعوة اإلسالمية من ميادين احلياة العامة شيئا‬
‫فشيئا‪ ،‬ومل يبق منها إال مطالبة أصحاب الدنيا املغلفة بالدعوة‪،‬‬
‫وإال األمر باملعروف والنهي عن املنكر يقوم به العلماء العاملون‬
‫وظيفة فردية‪ ،‬أما الصوفية فانعزلوا عن الناس فآتاهم اهلل من فضله‬

‫‪795‬‬
‫كما آتى إبراهيم ملا اعتزل وأصحاب الكهف ملا انزووا ولبثوا يف‬
‫كهفهم ناعسني عن الدنيا وأهلها‪ .‬فدعوة علماء الشريعة دعوة‬
‫لتويل اهلل تعاىل بالعمل الصاحل‪ ،‬ودعوة الصوفية دعوة لكي يتوالك‬
‫اهلل عز وجل بالفضل‪ .‬وينضم عامة الناس للصوفية كما ينضم‬
‫إليهم خاصة اخلاصة‪ ،‬أما الوسط فمع علماء الشرع‪ .‬وكان البنا‬
‫رمحه اهلل رأى أن سواد املتعلمني يلبون دعوة ال تكتم بروحانيتها‪،‬‬
‫فلذلك يبقى احلديث عن الوالية والكمال الروحي حديثا غريبا‬
‫عند اإلخوان املسلمني احملدثني‪.1‬‬
‫إن الدعوة الصوفية املنزوية بؤرة للعاطفية ومدعاة للكسل‪ ،‬إن‬
‫هؤالء األولياء مسبحون من املسبحني‪ ،‬ويستطيع كل الناس أن‬
‫يسبح ال يعوقه عن ذلك جهد يبذله‪ ،‬بل يكفيه أن حيب ويصدق‪.‬‬
‫إما القراءة واجلمع فال يطيقهما إال من ملك زمامه عقله ميشي به‬
‫يف أنوار الغيب وأسراره‪ ،‬كما ميشي العقل باجلاهليني يف ظلمات‬
‫الكفر وبواره‪ .‬السالك الذي اختفى جذبه وانضبطت عاطفته‬
‫يستطيع أن ينتظم للجهاد‪ ،‬أما اجملذوب واملتواجد الكاسل فعناصر‬
‫نورانية تسبح حبمد رهبا كما يسبح الضفدع واحلجر‪ .‬وأمرها إىل‬
‫اهلل عز وجل‪ ،‬جيتيب إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب‪.‬‬
‫أمامنا اذن مثال البنا ومجاعته‪ ،‬كانت تربيته مبدئيا تربية‬

‫‪ 1‬إال ما ظهر أخريا من كتابات الشيخ سعيد حوى رمحه اهلل وأجزل له املثوبة‪.‬‬

‫‪796‬‬
‫ثالثية تشمل الروح والعقل واجلسم‪ ،‬فأما العقل فقد أتى أكله‬
‫يف جناح اإلخوان االقتصادي والثقايف‪ ،‬وأما اجلسم فقد برزوا فيه‬
‫فكانوا أنظف الناس وأقوى الناس‪ ،‬وأما الروحانية فهي كانت‬
‫أساسا الجتماعهم حني تفرق الناس‪ ،‬وألفتهم حني تباغضت‬
‫األحزاب‪ ،‬ووحدهتم وسط شعب مشعب التنظيم كان يف صبغته‬
‫العامة تنظيما فكريا‪ ،‬والتنظيم ال يكون إال كذلك‪ ،‬فإن العاطفة‬
‫حتفز للعمل وال تضبط العمل‪ .‬غري أن كل تنظيم اسالمي ال يبلغ‬
‫من قوة روحانيته أن يرضي النخبة العليا من طالب احلق ذوي‬
‫اهلمم العليا كما يرضي اآلخرين‪ ،‬يوشك أن ينحدر إىل التنظيم‬
‫الفكري احلامل الذي ال يستطيع مقاومة التنظيمات الشيوعية‬
‫املغرية بيوتوبيتها ومناذجها الناجحة املساندة الدساسة‪.‬‬
‫بعد التنظيمات الثورية اليت جيب أن نتعلم من ممارستها‬
‫فأمامنا ُ‬
‫ونظامها كما تعلمنا من كتاب العامل وهو كتاب اهلل احملس وعطاؤه‬
‫غري احملظور‪.‬‬
‫النظرية الثورية كانت حربا على ورق‪ ،‬وفلسفة شاعر عامل‪،‬‬
‫قبل أن تدخل عامل الواقع واملمارسة‪ .‬كان روسو وفولتري شعراء‬
‫وفالسفة‪ ،‬فأصبحت حقيقة على يد دانتون وربسبري‪ ،‬وكانت ثورة‬
‫صنعها الشيوعيون يف سلم طبقياهتم وتعلموا منها‪ .‬وبتعلمهم‬
‫من التاريخ العملي احلاضر‪ ،‬مثل تعلمهم من حتليله النظري عرب‬

‫‪797‬‬
‫األجيال اهتدى زعيمهم لينني لوصف اآللة التنظيمية احلزبية مث‬
‫بنائها لتؤدي وظيفتها وسط اجلماهري‪ .‬تعلمت املاركسية النظرية‬
‫كيف تتناول الناس وكيف تسوقهم إن مل ينقادوا‪ ،‬وكيف حتل‬
‫مشاكل النضال اليومي‪ ،‬من يقظة لينني ومراقبته لألحداث والناس‬
‫بعقل ناقد ذكي واسع االطالع مسلح بالنظرية ومنهجيتها‪ ،‬وأعز‬
‫العلم أن تتعلم كيف تتعلم‪.‬‬
‫وتراكمت اخلربة الثورية يف دنيا الشيوعية‪ ،‬واستغنت استغناء‬
‫كبريا باملمارسة الصينية‪ .‬فهذه كانت أطول تارخيا وأوسع مدى‬
‫وأمشل‪.‬‬
‫لنا يف تنظيماهتم جمال للتأمل والتدبر والتعلم‪ ،‬فإن تنظيم‬
‫اخلاليا السرية قبل ثورة روسيا‪ ،‬وتنظيم اجليش األمحر الصيين‬
‫املناضل‪ ،‬وما تبع ذلك من تنظيمات احلزب املطالب بالسلطة‬
‫دروس للدعوة اإلسالمية قبيل البعث اإلسالمي بشرط واحد‪.‬‬
‫ذلك الشرط هو أن تتعلم الدعوة اإلسالمية أن جتهر بأمرها ال‬
‫تتسرت وال تعنف‪ ،‬فرفق ومست إسالميان ينافيان احلقد الطبقي‬
‫واجلهامة الثورية‪.‬‬
‫مث إن التنظيم الثوري لن تنفعنا دراسته إال إن كانت لنا‬
‫ممارسة‪ ،‬ولن يكون للفقه املنهاجي معىن إن زعم أنه الصيغة‬
‫النهائية للنظرية اإلسالمية‪ .‬كال فإن العلم بالتعلم كما أن احللم‬

‫‪798‬‬
‫بالتحلم‪ ،‬ومبا أن العلم النظري يبقى مشلوال إن دار يف هواء‬
‫األفكار كما يكون احللم تصورا فارغا إن مل منارسه بني اجلماعة‪،‬‬
‫فإن فقهنا املنهاجي ختطيط ال قيمة له إال إن ترتب عليه تنظيم‬
‫قبيل وبعد‪ ،‬فيه تعلم وحتلم‪.‬‬
‫للتنظيمات الثورية اجلاهلية مراتب ثالث ‪ :‬النظرية واحلزب‬
‫والطبقة‪ ،‬فقاعدهتم فكرية حمض تستغل الغضب الطبقي وآلتهم‬
‫حتزب على الفكرة والوعد الفكري ووسطهم مجاهري وشعوب‪.‬‬
‫وقاعدتنا حنن عاطفية اميانية وعقل منهاجي يضبط العاطفة‪،‬‬
‫وختتلف طبيعة الدعوة املنظمة عن معاين احلزب كما ختتلف معاين‬
‫األمة واجلماعة عن مدلول الشعب واجلماهري‪.‬‬

‫‪799‬‬
‫عضو اجلماعة‬
‫يف حقل العمل اإلسالمي تنظيمات متفرقات بعضها يف أسر‬
‫الطاغوت يف مدرسة الصرب والرجولة‪ ،‬واألخرى طليقة‪ .‬فواحد‬
‫يستحق الذكر‪ ،‬وشبه تنظيم يستحق اإلعجاب والتنويه‪ .‬أوهلما‬
‫تنظيم مجاعة املودودي وهو تنظيم حائر ملكان الفجوة الروحية‬
‫فيه‪ .‬وأما الذي يستحق إعجابنا فهي حركة رجال التبليغ‪ ،‬هؤالء‬
‫املساكني السائحون يف األرض احلاملون إسالمهم على أكف‬
‫طاهرة وقلوب عامرة باإلميان‪ .‬إنه شبه تنظيم وحلمته أقوى الوشائج‬
‫وأعظمها وهي حلمة االنتماء إىل الرسول صلى اهلل عليه وسلم‬
‫وصحابته‪ .‬فكتاهبم القائد هو كتاب «حياة الصحابة» وحديثهم‬
‫يف اجملالس يدور حول حياة الصحابة‪ ،‬وكل حركاهتم وأعماهلم‬
‫حتكي حياة الصحابة‪ .‬فهم أهل السنة واجلماعة‪ .‬بقي هلم من‬
‫أصلهم الصويف إخبات إىل اهلل وذكر يستغرق األوقات وتعظيم‬
‫للمؤمنني‪ ،‬يزورون األحياء ويلتمسون الدعاء‪.‬‬
‫وبينما تنظم اجلمعيات اإلسالمية املنتشرة يف دار اإلسالم‬
‫حماضراهتا وتأمالهتا‪ ،‬ترى رجال التبليغ يهاجرون هجرة مستمرة‬
‫حيملون الدعوة لكل البقاع‪ .‬فلهم من هجرهتم برهان‪ ،‬وهلم من‬
‫تقللهم وصربهم الربهان على أن اتباع السنة‪ ،‬ولو تقمصا من‬

‫‪800‬‬
‫خارج‪ ،‬يشحذ العزمية وينور البصرية‪ .‬وليس للجماعة فكر وثقافة‬
‫فهم مساكني جماهدون‪ ،‬خريهم بينهم وقيادهتم ال تنبين على‬
‫صحبة معينة أو فكرة رائدة غري هذه الفكرة الرئيسية‪ ،‬أن مرياث‬
‫األنبياء يف محل الرسالة فرصة متاحة لكل من يرجو لقاء اهلل‪ ،‬وأن‬
‫وسيلة ذلك هو التشبه بالصحابة ومعاشرة املؤمنني على قواعد‬
‫السلوك الصحايب‪ ،‬وأوله اهلجرة وترك العادة‪.‬‬
‫لرجال التبليغ فاعلية أكرب مما تتيحه وسائلهم البسيطة‪ ،‬وذلك‬
‫دليل على مكان توفيق اهلل جلهاد املساكني املهاجرين‪ .‬ومن عناصر‬
‫فاعليتهم جتاوزهم لإلقليمة وعموم دعوهتم‪ .‬ففي مساجدهم جيتمع‬
‫املسلمون من كل األقطار‪ ،‬وجيتمعون يف الرحالت الطويلة ويف‬
‫أرض الغربة‪ ،‬فيتعلمون اخلشونة والرجولة كما يتعلمون أهنم إخوة‪.‬‬
‫ليس عجيبا أن تقوى الدعوة اإلسالمية يف أرض اهلند ألن‬
‫االضطهاد الواقع على املسلمني يوحد الصف ويعني على طلب‬
‫احلق املقهور‪ .‬ويف تركيا تنظيمات إسالمية عظيمة تتحفز للعمل‬
‫ولعلها اليوم أصفى وأقوى احلركات اإلسالمية ألن إحلاد املارد‬
‫مصطفى كمال وأتباعه يكون ظالما قامتا ال ينهض له إال نور‬
‫اإلسالم يف أكمل صفائه‪ .‬وقد قتلوا املسلمني وشردوهم حىت مل‬
‫يبق يف امليدان إال الصادقون الذين ال حيرصون على حياة‪.‬‬
‫وهذا يصلنا إىل طريقة االنتساب والعضوية‪ ،‬وما يطرحه ذلك‬

‫‪801‬‬
‫من مشاكل يف يوم اإلسالم وغده‪ .‬وقد حملنا فيما مضى إىل أن يسر‬
‫االنتساب جلماعة اإلخوان املسلمني كان عامال مهما يف أن توغل‬
‫يف الصفوف من محلوا الشارة ورققوا العبارة لغاية غري غاية اإلخوان‪.‬‬
‫وعند املودودي حرص شديد على أن يبدأ االنتساب باملبايعة‪،‬‬
‫وعنده شكوى ال جتد جوابا من الفراغ الروحي‪ .‬فاألعضاء يبايعون‬
‫على الطاعة‪ ،‬لكن الطاعة تثقل إن مل تسبقها حمبة متهد هلا‪ .‬ففي‬
‫هذه التنظيمات وما يشاهبها يقبل الناس لينتسبوا للجماعة رغبة‬
‫يف الدعوة‪ ،‬بينما تقوى هذه الرغبة يف أرض االضطهاد رغبة عن‬
‫الرجس احمليط‪ .‬فرباط العضو باجلماعة هو شعوره باحلاجة لتغيري‬
‫ما به‪ ،‬وثقته بأن الدعوة متأل فراغ نفسه وتُربح جهاده وتوظيفه‬
‫حلياته‪ .‬وهو أقوى ما يكون إن دلته الدعوة على الطلبة العظمى‬
‫يف حياة الروح‪ ،‬وأعطته وعيا لذاته كشخص مفرد يف خصائصه‬
‫عزيز على خالقه‪ ،‬حيمل قابليات الكمال بني جنبيه‪ ،‬وميكنه أن‬
‫حيققها سالكا إىل ربه مع مجاعته‪.‬‬
‫وكلما ارتفع اهلدف املقرتح على طالب االنتساب وخوطبت‬
‫فيه روح التضحية والبطولة كان أدعى أن يلتصق باجلماعة ويتفاىن‬
‫فيها‪ .‬فاملناضل الشيوعي يقوم ضد العامل كله ليحرر اإلنسانية‬
‫كلها‪ ،‬فشعوره ذاك حيرره من عادته ويبعثه لطلب البطولة‪ .‬ويقوى‬
‫هذا الشعور بالثقة اليت توحي هبا القيادة‪ ،‬وبالنجاح يف العمل‪.‬‬

‫‪802‬‬
‫فلهذا جتد املنتسبني لألحزاب الثورية يف بالدنا اإلسالمية قوما‬
‫خاوية أفئدهتم‪ ،‬ال جيمع بينهم إال قشرة تافهة من النظرية الثورية‬
‫من ورائها حرية عقلية وعاطفية‪ .‬فال ثقة هلم بشيء‪ ،‬وال جناح‬
‫يرغبهم يف تضحية‪.‬‬
‫نظرنا يف احلافز لإلنتساب‪ ،‬فلننظر اآلن إىل وظيفة املنتسب‬
‫وعمله يف اجلماعة‪ ،‬واحلركية يف اجلسم كله‪ .‬قد يكون احلافز قويا‬
‫جدا مع وجود قيادة توحي بالثقة وتدعو للرجولة‪ ،‬لكن املنتسب‬
‫يستحيل آلة جامدة أو آلة مسخرة إن كان يف الدعوة غموض‬
‫يشل العقل الناقد‪ ،‬أو يشرتط االتباع األعمى‪ .‬فنتذكر «شيخ‬
‫اجلبل» الصباح الذي كان ميين أتباعه األماين‪ ،‬ويغرهم مبخذراته‪،‬‬
‫فيضحون حبياهتم من أجل مكره وباطله‪ .‬ويف الدعوات املوجودة‬
‫بدار اإلسالم أصحاب خمدرات من هذا النوع أو ذاك‪ ،‬ومنهم‬
‫أصحاب غموض وغبش يف الفكر‪.‬‬
‫وأجلى مثال للغموض يف الدعوة املؤدي للشلل وركود‬
‫املنتسب‪ ،‬هو مثال االنتساب الصويف حني يعتمد على التقليد‪.‬‬
‫ال أحتدث عن املشعوذين الكاذبني‪ ،‬فأولئك ال يستحقون كل هذا‬
‫االهتمام‪ ،‬وإمنا أحتدث عن الصادقني وهم أكثرية الذاكرين أولياء‬
‫اهلل‪ .‬فنحن الصوفية ورثنا مرياثا ثقيال مثلما ورث أصحاب النقل‪.‬‬
‫أقول حنن الصوفية أنتسب للكرام ألن اهلل ال يطرد من بابه من‬

‫‪803‬‬
‫انتسب جلنابه‪ ،‬فحيثما وجدت منا شيخا مربيا وارثا نبويا غطت‬
‫نورانيته على ما هنالك وفتح لك إىل ربك املسالك‪ ،‬أما إن مل‬
‫تعثر إال على أمري الزاوية وقارئي املناقب فستقرأ من الكرامات‬
‫حىت يغمى على فكرك‪ ،‬وستمىن بالفتح تشل إرادتك انتظارا ملا ال‬
‫يكون‪ ،‬وصربا يف غري موطن للصرب‪ .‬إن هذه الكرامات حق‪ ،‬وإن‬
‫الغيب حق‪ ،‬لكنها تصبح غاية من حيث نوى كتاب املناقب أن‬
‫تكون تذكرة‪ ،‬مث إن هذه الكرامات حتيط هبا ظروف ومالبسات‬
‫هي من قبيل العادة‪ ،‬فيقرأها الغري وخيتلط عليه األمر فينغمس يف‬
‫البدع والضالالت‪ .‬إن املريد ينتسب للشيخ يطلب الوصول إىل‬
‫اهلل ويطلب الفتح‪ ،‬هذا مطلب مشروع مقبول يف حق املبتدئ‪.‬‬
‫وهو مطلب شامخ هتون معه كل تضحية وكل ختل عن الذات‪.‬‬
‫لكن الشرط الغامض هو أن يكون بني يدي الشيخ كامليت بني‬
‫يدي غاسله‪.‬‬
‫وهنا تتلقفه العوادي‪ ،‬فالشيخ احلق ال ميكن أن تعرفه من حليته‬
‫أو مسته أو عمله الظاهر‪ ،‬وليس لك قوة روحانية متيز هبا بني الغث‬
‫والسمني‪ ،‬بني اخلالء واملالء‪ .‬مهما أعطتك الكتب من مواصفات‬
‫للشيخ املريب فلن تعرف هبا الرجل إذ ما معك املعيار الروحي‪.‬‬
‫فينتسب املريد للطريقة على حسن الظن‪ ،‬فإذا كان من‬
‫خاصة اخلاصة‪ ،‬وأعين هبم ذوي الطموح الذي ال ينتهي الصادقني‬

‫‪804‬‬
‫املصدقني بالكمال وإمكانه‪ ،‬فإن له من إقباله على اهلل أو من‬
‫علمه ما ميكنه من عبور حواجز النورانية وحواجز العادة‪ .‬أما إن‬
‫كان من عامة املسلمني فالزاوية تقربه قربا وتشل فكره وإرادته‪،‬‬
‫فال ينهض جلهاد أبدا‪ ،‬ويستحلي اخلمول النوراين‪ ،‬ويلوك تلك‬
‫العبارات حىت يتوفاه ملك املوت الذي وكل به‪ ،‬ويهبه اهلل إن شاء‬
‫ما شاء فإنه صرب وصدق‪ ،‬وإن هلل يف خلقه شؤونا يقصر العقل‬
‫عن حملها فكيف بتحليلها‪.‬‬
‫إن الدعوة اإلسالمية حتت ظل االنبعاث اإلسالمي هي األداة‬
‫الفاعلة يف بث الوعي وإهناض اهلمم واكتشافها‪ ،‬ويف ضبط العمل‬
‫وقيادة اجلهاد‪ .‬والدعوة اإلسالمية اآلن دعوة مبعثرة‪ ،‬فكل طائفة‬
‫من املؤمنني تدعو إىل اخلري وتأمر باملعروف وتنهى عن املنكر يف‬
‫ركنها ال تربطها رابطة‪ .‬وحني ينبعث اإلسالم ستكون الدعوة‬
‫املنظمة يف قطر االنبعاث نواة التوحيد ومنوذجه‪ .‬ونعين بالدعوة‬
‫املنظمة جسما واحدا ينتمي أعضاؤه للجهاد اإلسالمي حتت‬
‫قيادة واحدة‪ .‬ولكل عضو احلرية أن ينتمي للطريقة أو ال ينتمي‪،‬‬
‫وأن يصحب من يشاء صحبته شريطة أن يسبق واجبه اجلهادي‬
‫حنو التنظيم‪ ،‬وأن يسبق يف وقته وماله ونفسه حقوق التنظيم على‬
‫ما سواها‪ .‬نرى يف مجاعة التبليغ أخوة جهادية جتمع بني الصويف‬
‫وغريه وحتاول بإلغاء املصطلحات والرجوع للمنبع الصايف جتاوز‬

‫‪805‬‬
‫اخلالفات‪ .‬فذلك لنا درس عظيم‪.‬‬
‫صياغة األداة العملية اجلهادية تبدأ بتحديد شروط العضوية‪.‬‬
‫فالتنظيم احلزيب الثوري يفرض على املنتسب واجبات ويعني له‬
‫حقوقا‪ .‬وقد كان للشيوعيني خصام طويل ونقاش‪ ،‬على عهد لينني‬
‫وبزعامته‪ ،‬ملعرفة من يقبل عضوا يف التنظيم ومن ال يقبل‪ .‬وكان‬
‫يف روسيا قبل توحيد احلزب البلشفي جتمعات كثرية متوزعة بني‬
‫التيارات الفكرية‪ .‬وهو وضع يشبه وضع الدعوة اإلسالمية احلايل‪،‬‬
‫بل إن هذا أشد تعقدا لتمكن العنصر اإلنفعايل العقدي من زمام‬
‫القلوب‪ ،‬وإن ببالدنا اإلسالمية أقواما ال يزالون يف تراشق بالتهم‬
‫وتكفري للناس‪ ،‬يطعنون بالرماح العالية‪ ،‬يف عناوين منشوراهتم‪،‬‬
‫صدور إخواهنم خلالف جزئي تافه‪ .‬وأولئك قوم فاهتم الركب‪ ،‬فما‬
‫حديثنا عن الغابرين!‬
‫إن التنظيم أمر حيكمه العقل الناقد أساسا‪ ،‬فالتنظيم اجلاهلي‬
‫يطرد العاطفة طردا ويعتمد على العقالنية العملية يف إثارة احلماس‪،‬‬
‫وعلى اليوتوبيا يف إبعاد املطمح‪ .‬وعلى اإلسالم املنبعث أن يؤسس‬
‫اجلهاد على العقل الراسخ بالعلم النبوي املنهاجي‪ ،‬ويتعلم كيف‬
‫وأين خيصص للعاطفة جماهلا‪ ،‬وكيف يصلح بني اجتاهات املنتسبني‬
‫العاطفية يف خط جهادي واحد‪ .‬وما يتيسر ذلك إال باخللوص إىل‬
‫اللب من وراء القشر اللفظي‪ ،‬ومبحاذاة النموذج اخلالد عرب الرتاث‬

‫‪806‬‬
‫والعادة‪ .‬ونعين هبذا عكس ما يفعله اإلسالم الفكري‪ ،‬فالدعوة‬
‫الكاملة تنظيم جلهاد املسلمني بقيادة النخبة اإلميانية اإلحسانية‪،‬‬
‫على مراتب األهداف واملقاصد والغايات‪ .‬وإن إسالم من يقفون‬
‫عند اهلدف قانعني بإبداء تفوق الشريعة ونظامها اإلهلي على‬
‫أنظمة الوضع إلسالم مبتور‪ .‬مبتور ألنه ال حيدث اإلنسان عن‬
‫كماله وعن رضى ربه ليجعل منه عضوا يف اجلماعة حرا ينشد‬
‫الشهادة يف سبيل اهلل وال خياف املوت‪.‬‬
‫الغاية اإلحسانية وطلبها هو ما يفرقنا عن التنظيمات املعهودة‬
‫يف الدعوات اإلسالمية احلالية‪ .‬واجلهاد املنظم هو ما مييزنا عن‬
‫صوفية الزوايا حيث يفهم اجلهاد فهما خاصا وينكر التنظيم‪.‬‬
‫وحيث يعطي امليثاق الشيوعي للعضو يف احلزب حقوقا تقابل‬
‫واجبات فإن اجلهاد اإلسالمي املنظم يقتضي أن يسبق الواجب‬
‫احلق‪ ،‬فإن اجملاهد رجل يبذل ما اشرتاه اهلل منه ليجزى به يوم‬
‫القيامة وحىت إقامة العدل بني املسلمني قاعدة للجماعة اإلسالمية‬
‫يسبقها بذل النخبة املنظمة اجلهادية‪.‬‬
‫يقول نظام احلزب السوفيايت لسنة ‪« : 1961‬من واجب عضو‬
‫احلزب أن يناضل إلنشاء القاعدة املادية والتقنية للشيوعية‪ ،‬وأن‬
‫يعطي مثال موقف شيوعي يف العمل‪ ،‬وأن يرفع إنتاجية العمل‪،‬‬
‫وأن يكون احملرك األول لكل ما هو جديد وتقدمي‪ ،‬وأن يدعم‬

‫‪807‬‬
‫وينشر جتربة الطليعة‪ ،‬وأن يتمثل التقنية‪ ،‬وأن حيسن مستواه املهين‪،‬‬
‫وأن يسهر على امللكية االجتماعية االشرتاكية أساس قوة وازدهار‬
‫الوطن السوفيايت‪ ،‬وأن يوسع هذه امللكية‪».‬‬
‫فذلك أول واجب العضو‪ ،‬ونراه يدور حول القاعدة املادية‬
‫كما نقرأ يف كل الواجبات ما يوجه للهدف االقتصادي وخدمة‬
‫الشعب لتحقيقه‪.‬‬
‫وهو واجب عطاء وتضحية وخدمة يف مقابل حقوق‪ :‬أن‬
‫ينتخب يف هيآت احلزب وأن يناقش وميارس النقد‪ .‬ويزيد امليثاق‬
‫الصيين لسنة ‪ 1969‬واجب العضو وحقه يف النقد الذايت‪ .‬فكل‬
‫هذا مييز لنا باعث التنظيم اإلسالمي اإلمياين اإلحساين عن بواعث‬
‫البطولية والتضحية يف مقابل إرضاء أنانية الفرد وحبه للظهور يف‬
‫اهليآت‪ .‬ولكم تكبت الشيوعية املربية يف الصني باعث األنانية‬
‫وتلح يف دستورها ويف ممارستها على ضرورة خدمة الشعب والتفاين‬
‫فيه والتضحية من أجله‪ ،‬لكن ذلك لن ميحق األنانيات‪ ،‬ولن‬
‫ميحقها اجلهاد اإلسالمي إن انفصل عن الغاية اإلحسانية وطلبها‪.‬‬
‫وظيفة العضو يف التنظيم اإلسالمي الكامل أن يلتحم‬
‫باجلماعة قلبا وقالبا‪ ،‬وأن يعطيها والءه‪ ،‬ويندمج فيها رغبا ال‬
‫رهبا‪ ،‬حىت تصبح اجلماعة وسيلة لتحقيق اهلدف القاعدي وهو‬
‫العدل واالستقرار‪ .‬ويف اندماجه مع اجلماعة وحمبته إلخوانه‬

‫‪808‬‬
‫خالصه أيضا‪ ،‬ألنه باحملبة والبذل يقوى إميانه وتقوى عالقته بربه‪.‬‬
‫فاملقصد اإلمياين يرجع قوة اجلماعة خلدمة اهلدف‪ ،‬بينما يرقى‬
‫بالعضو حنو آفاق احملبة‪ ،‬واحملبة إميان‪ ،‬واإلميان درجة حنو الكمال‬
‫الروحي واخللود يف رضى اهلل عز وجل‪.‬‬
‫التنظيم اجلاهلي يؤلف اجلماعة بأخوة الفلسفة واإليديولوجية‬
‫وأخوة اهلدف السامي‪ .‬وهو تنظيم ينجح جناحا باهرا يف الصني‪.‬‬
‫ومن ألفة العمل الثوري وأسبقية السياسة والفلسفة تتولد يف‬
‫العاطفة موجات من احلماس البطويل تكهرب اجلماعة وتلهب‬
‫تشوفاهتا‪ .‬واحلماس رغوة العاطفة وفيضها غري املستقر‪ .‬وحياول‬
‫التنظيم الشيوعي أن يدخل عنصر العاطفة يف حسابه‪ ،‬بتشجيع‬
‫الوالء لشخصية القائد‪ ،‬لكن القاعدة تبقى هي الفكر وال يكون‬
‫الوالء للقائد إال إعجابا ومحاسا‪ .‬يقول دستور احلزب الشيوعي‬
‫الصيين لسنة ‪« : 1969‬جيب على أعضاء احلزب الشيوعي الصيين‬
‫أوال ‪ :‬أن يدرسوا ويطبقوا املاركسية – اللينية – أفكار ماوتسي‬
‫تونغ بصورة حية»‪ ،‬فأول واجب العضو واجب فكري محاسي‬
‫خالق للوالء البطويل‪.‬‬
‫وما هكذا يكون عضو اجلماعة اإلسالمية‪ ،‬إن عاطفته أساس‬
‫إميانه وجممع كيانه‪ ،‬تلك حقيقته يف ذاته‪ .‬أما حقيقته اجلهادية‬
‫فهي االنضباط وإحكام الوقت واجلهد‪ .‬وحيافظ التنظيم على‬

‫‪809‬‬
‫احلقيقة اإلميانية دون أن يزول عن املنطلق التنظيمي‪ ،‬وميارس‬
‫اجلهاد املنظم دون أن يضيع احلقيقة العاطفية‪ .‬وبعبارة أخرى‬
‫يكون العضو سالكا بعقله يف عمله مع اجلماعة يف الوقت نفسه‬
‫الذي يكون منهمكا يف مناجاة ربه والتقرب إليه‪ ،‬وبنفس احلركة‪.‬‬
‫فإذا كان الصويف وظيفته التسبيح الفردى‪ ،‬ويرتك سائر عمله عرضة‬
‫لدواعي اجلذب والغموض‪ ،‬فإن عضو اجلماعة اجملاهدة ينبغي أن‬
‫يتخذ التسبيح والفرض والنفل وشيجه بينه وبني اهلل‪ ،‬من حيث‬
‫كونه يسبح مع مجاعته‪ ،‬ويؤدي معها فرضه‪ ،‬وجيعل أعظم نفله‬
‫حمبتها وخدمتها والتفاين يف نفع املسلمني ورعاية اخللق أمجعني‪.‬‬
‫وال يزال داعي التفقه املنهاجي يسري بنا يف طريق اكتشاق اإلنسان‬
‫املضطرب‪ ،‬نبحث عن االستقرار والعدل‪ ،‬وعن اجلماعة اليت تغري‬
‫معاين اجملتمع‪ ،‬ونبحث عن اهلل عز وحل ومرضاته‪.‬‬

‫‪810‬‬
‫مركزية الطاعة‬
‫على خط اخلصال العشر املنهاجية حددنا واجبات السالك‬
‫وحقوقه‪ .‬وخيتفي احلق يف ثنايا الواجب‪ ،‬ألن احلقوق املبذولة عطاء‬
‫متبادل ضمىن يف ظل الطاعة لصاحب األمر‪ ،‬واحلق املكتسب‬
‫باجلهاد حق عند اهلل يتجاوز عامل الفتنة وجهادها ويتسامى على‬
‫كل مطمح ويقتحم كل عقبة‪.‬‬
‫العضو العامل مطالبةً باحلق ليس له من العضوية إال امسها‪،‬‬
‫وجتد يف التنظيمات احلزبية متفرجني ممن ينتمون للحزب ال يشاركون‬
‫إال بالضجيج وانتظار املغنم‪ .‬أما العضو العامل فهو من يسأل‬
‫قبل كل شيء‪ :‬ما هو العمل؟ وما ميكنين أن أساهم به؟ وإذا كان‬
‫احلق ال ينفصل عن الواجب يف التنظيم اجلهادي انفصاال‪ ،‬وإمنا‬
‫ينسحب من الواجهة وينسحب من العقلية قليال أو كثريا حسب‬
‫مسو احلافز وقوة دواعي البذل واإليثار‪ ،‬فإن التطوع ألداء الواجب‬
‫ال يكون نشاطا خالقا إال إن حاطته طاعة وصانه انضباط‪.‬‬
‫قبل قيام األمر اإلسالمي توجد تنظيمات نلحظ منها مجاعة‬
‫اإلخوان املسلمني ومجاعة باكستان ومجاعة التبليغ‪ ،‬وغريها الكثري‬
‫املبارك بإذن اهلل‪ ،‬ويرجع جناح من جنح من هذه اجلماعات فيما‬
‫يرجع إىل مكان الطاعة واالنضباط‪ .‬فأي عضو ال يتم اندماجه‬

‫‪811‬‬
‫يف التنظيم إال بإعطائه القياد ألمري يطيعه‪ ،‬وخيط له سياجا للعمل‬
‫يتقدم فيه بكل شخصيته ويتفاعل على خطه مع إرداة اجلماعة‬
‫املمثلة يف القائد‪ .‬وبعد قيام األمر اإلسالمي توحد الدعوة املنظمة‬
‫مجاعات الدعوة يف تنظيم واحد يدين بالطاعة لقيادة واحدة‪،‬‬
‫أو يف جبهة إسالمية قطرية تقوم يف وجه الطبقة الالئيكية حىت‬
‫تستخلص منها مقاليد احلكم‪.‬‬
‫القائد اجملاهد هو الرجل الذي يبادر إلعالن توبته ويتقدم‬
‫ليتقمص الدور الرباين متعرضا ملوعود اهلل‪ .‬له من مبادرته أسبقية‪،‬‬
‫وميكن أن يكون هذا القائد قاصرا عن الربانية الكاملة اليت تؤهله‬
‫حلمل الدعوة‪ ،‬واستجالب اهلم واإلرادات للتطوع‪ .‬وهذا ال مينع‬
‫من أن تكون له الطاعة العامة كما تكون له طاعة الدعوة‪ ،‬ألن‬
‫علماءنا أفاضوا يف البحث عن جواز إمامة املفضول يف حال‬
‫وجود الفاضل أو غيابه‪ .‬وإذن فالقائد اإلمام صاحب األمر العام‬
‫والطاعة العامة هو نفسه قائد التنظيم وصاحب الطاعة اليت‬
‫مينحها املتطوعون للجهاد‪.‬‬
‫وقد تعثر التنظيم الشيوعي منذ عهد لينني يف التعارض الذي‬
‫وقع بني ضرورة املركزية الدميقراطية نظريا‪ ،‬ومعىن ذلك أن تكون‬
‫للتنظيم قيادة قوية منبثقة من إرادة اجلماهري‪ ،‬وبني واقع املركزية‬
‫االستبدادية الذي مثله ستالني‪ ،‬وقلده كل زعيم صنع عمال مذكورا‬

‫‪812‬‬
‫يف أرض الشيوعيات‪ .‬تتعثر النظرية الثورية واملمارسة الثورية يف‬
‫البحث عن القيادة القوية فال جتدها إال يف االستبداد الفردي‬
‫الزائغ عن النظرية الدميقراطية املركزية‪ .‬ويدل الواقع الشيوعي على‬
‫أن قوة القيادة واستبداد القيادة بالتوجيه عامل حاسم يف جناح‬
‫الثورة‪.‬‬
‫واإلسالم يركز اجلهاد يف يد قائد يبايعه الناس ويطيعون له‪،‬‬
‫وقد كان رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم إذا بعث اثنني فما فوق‬
‫أمر أحدهم على األخرين وأمرهم بطاعته‪ .‬فال تردد يف الفقه‬
‫املنهاجي فيما يرجع ملركزية الطاعة وضرورهتا‪ ،‬وإمنا حتدد الطاعة‬
‫وحتدد املركزية بشرطني؛ أوهلما أن يكون القائد رضى للجماعة‪،‬‬
‫اختارته عن طواعية وبايعته على غري كره‪ ،‬وثانيهما أن يطيع اهلل‬
‫ورسوله فإن زاغ خلعوه حقا هلم وواجبا عليهم‪.‬‬
‫وحنب أن منيز بني قيادتني‪ ،‬جيب أن تبقى وظيفتهما متميزة‬
‫يف ظل احلكم اإلسالمي؛ مها قيادة الدعوة وقيادة الدولة‪ .‬عند‬
‫الشيوعية يبدأ الزعيم قبل االستيالء على السلطان قائدا للحزب‪،‬‬
‫وبعد ذلك يتطابق جهاز احلزب مع جهاز احلكم‪ ،‬ويرتكب احلكم‬
‫مع احلزب فيكونان جهازا واحدا منه يصدر األمر وإليه ينتهي‪.‬‬
‫وأمامنا ختبط الشيوعية بعد الزعامة املستبدة يف حبثها عن صيغة‬
‫للحكم اجلماعي‪ ،‬يرتمجها التنظيم املؤسسي الذي يفصل ظاهرا‬

‫‪813‬‬
‫احلزب عن احلكم‪ ،‬ويضع جبانبها رئيسا للدولة‪ .‬غري أن ذلك ال‬
‫مينع أن تكون اهليمنة جلهاز احلزب يف كل ميدان‪ .‬وليس للشيوعية‬
‫أن هتتدي إىل غري ذلك‪ ،‬ألن احلزب والدولة يعمالن هلدف واحد‬
‫هو اهلدف االقتصادي‪ ،‬وال جيد احلزب أفقا غريه ليشتغل به‪،‬‬
‫فيزاحم اإلدارة البريوقراطية‪ ،‬وال يقتصر على مراقبتها‪ ،‬بل يهيمن‬
‫وينشىء احلركة وخيطط هلا وينفذها‪ .‬بل يصبح هو البريوقراطية‪.‬‬
‫أما يف اإلسالم فإن الدعوة ال معىن هلا إال إن جتاوزت باإلنسان‬
‫وعيه االقتصادي‪ ،‬وبعثت فيه رغبة اإلميان ورغبة الكمال‪ ،‬فلذلك‬
‫بعث اهلل رسله وأنبياءه وأورث أولياءه دعوهتم‪ .‬وليس معىن هذا أن‬
‫الدعوة ورجاهلا يف ظل اإلسالم ال يهتمون باهلدف االقتصادي‪.‬‬
‫كال! فإن قاعدة العدل وإقامتها هدف ال يقدر على حتقيقه إال‬
‫من أتاه من أعلى‪ .‬لكن الدعوة ورجاهلا ال ينهمكون وال ترتكز كل‬
‫جهودهم يف إقامة العدل‪ ،‬بل هم أساسا منوذج للمؤمن املقبل‬
‫على ربه بنفس احلركة اليت يقبل هبا على استصالح األرض وتكثري‬
‫اخلري وتعميمه على الناس‪ .‬فاإلقبال على اهلل والسعي حنو املقصد‬
‫والغاية وظيفة رجال الدعوة‪ ،‬وهلم غريها وظيفة أخرى بصفتهم‬
‫أعضاء يف مجاعة املسلمني عليهم واجب الطاعة العامة كما على‬
‫الناس‪.‬‬
‫وهكذا فينبغي للدعوة املنظمة أن تكون اليد اليمىن للحاكم‬

‫‪814‬‬
‫اإلسالمي دون أن تتحول أداة تنهمك يف شؤون اهلدف فتضيع‬
‫املقصد والغاية‪ .‬وهذا مطمح صعب جدا‪ .‬فإن مل جنتهد غدا يف‬
‫مجع الطاعة وتركزها بال خلط‪ ،‬فإن مصري الدول الدائلة يتهددنا‪.‬‬
‫وما من دولة إال بدأت بدعوة‪ ،‬ويأيت السلطان فيلتهم رجال‬
‫الدعوة ويستهلك جهودهم يف األرض فينسون تربية األجيال‬
‫واجلهاد املتفتح على العامل احلامل للرسالة‪.‬‬
‫هلذا نلح على ما نسميه بثنائية الدعوة والدولة‪ ،‬وهو نظر‬
‫ال نرى له يف واقع الناس إال أمثلة متفرقة‪ ،‬لصعوبة اجلمع بني‬
‫وظيفتني يف يد واحدة‪ .‬فقد كان الرسل عليهم الصالة والسالم‬
‫رجال دعوة قبل كل شيء‪ ،‬هلم الطاعة من املؤمنني بدافع احملبة‬
‫والثقة والتقرب إىل اهلل‪ .‬وقد ينزع الناس اليد من الرسول فيقول‬
‫ك فـََقاتَِل‬ ‫ب أَنْ َ‬
‫ت َوَربُّ َ‬ ‫بنو اسرائيل مثال لسيدنا موسى‪﴿ :‬فَا ْذ َه ْ‬
‫اع ُدو َن﴾ٍ‪.‬وبنزعهم اليد من نبيهم أعرضوا عن الدعوة‬ ‫إِنَّا هاهنا قَ ِ‬
‫َ َُ‬
‫وكانوا قوما فاسقني‪ .‬وكان رسوالن مجعا بني الدعوة وتطوعها‬
‫وطاعتها وبني احلكم وطاعته مها سيدنا موسى وسيدنا حممد‬
‫عليهما الصالة والسالم‪ .‬فكان معصومني تركزت يف أيديهما‬
‫الطاعة الشاملة فصرفا أمر الناس صرفا موفقا‪ .‬وجاءنا خرب نبيني‬
‫خليفتني آتامها اهلل الدعوة وامللك معا ومها داوود وسليمان عليهما‬
‫أفضل الصالة والسالم‪.‬‬

‫‪815‬‬
‫فاملعصومون محلوا العبئني معا هبمة مقتدرة وبصرية مدبرة‪،‬‬
‫وداوود قبل نبوته وملكه قاتل حتت إمرة طالوت‪ ،‬ومل يك طالوت‬
‫نبيا وإمنا كان ملكا‪ ،‬بعث اهلل نبيا له يف بين إسرائيل‪ ،‬فطلبوا إىل‬
‫رهبم أن يبعث هلم ملكا ليجاهدوا حتت قيادته‪ .‬فربز طالوت‬
‫جبنده ومعه نيب اهلل‪ ،‬وكان طالوت مؤمنا حمسنا مطيعا لنبيه‪ .‬فهذه‬
‫مناذج لثنائية الدعوة والدولة‪ ،‬أحيانا جياهد رجل الدعوة حىت يتم‬
‫له النصر فترتكز عنده طاعة التطوع اجلهادي وطاعة األمر العام‪.‬‬
‫وتارة جيتمع للرجل الواحد حكمة وملك فيدعو إىل ربه بسطوة‬
‫النورانية وصولة السلطان‪ .‬وتارة يصحب رجل الدولة رجل الدعوة‬
‫ويقود اجلهاد‪ ،‬فللنيب طاعة الدعوة من حيث كونه نبيا وله الطاعة‬
‫اجلهادية العامة من حيث أن طالوت كان يطيعه‪ .‬فكان طالوت‬
‫صاحب أمره‪ ،‬وكانت الطاعة مرتكزة يف يد النيب‪.‬‬
‫هذا وإن أنبياء اهلل ورسله هلم من اهلل توفيق وعصمة فال‬
‫يضعون األمور يف غري مواضعها‪ .‬وقد جاءتنا حياة رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وصحبه بالنموذج الكامل للجمع بني الدعوة‬
‫اجملاهدة واملعايشة املتساعدة‪ ،‬ورأينا كيف كانت الطاعة لرسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم مبنية على احملبة والبذل واإليثار‪ .‬وكذلك‬
‫كان أبو بكر وعمر رضي اهلل عنهما‪ .‬ومنذ سيدنا عثمان رضي‬
‫اهلل عنه توسعت الرقعة‪ ،‬وغلبت الفتنة بعد ذهاب يد كانت حتمل‬

‫‪816‬‬
‫الدرة فتزجر هبا من ال يسمع الكلم‪.‬‬
‫إن غد اإلسالم هو غد اخلالفة على منهاج النبوة‪ ،‬وسيكون‬
‫األمر دولة تدول إن مل يفتح الفكر النظري والتنظيم املرن املتعلم‬
‫اجتهادا يعضد إميان القائد اجملاهد ويكمل النقص البشري‪ ،‬يرفع‬
‫الدعوة مستوية على عروشها‪ ،‬مشرفة على الساحة مراقبة غري‬
‫منهمكة وال مستهلكة‪.‬‬
‫إن رجل الدعوة رجل هتفو إليه األفئدة‪ ،‬فهو مناط احملبة‬
‫ومناط الرجاء للكمال واإلحسان‪ ،‬فباحملبة جيمع القلوب‪ ،‬وعلى‬
‫احملبة ينسج تطوع املتطوعني للجهاد على منوال الطاعة‪ .‬وأيا ما‬
‫كان فهو غري معصوم‪ ،‬فإن مجع إىل هذه احملبة وجالهلا الطاعة‬
‫العامة فبم حتدثه نفسه إن مل يكن عبدا مطهرا كامال؟‪.‬‬
‫مركزية الطاعة يف اإلسالم حيدها اختيار أويل احلل والعقد‪،‬‬
‫وحرية اخللع وواجبه إن زاغ‪ .‬واإلمام بني هذين احلدين مرتوك‬
‫لنفسه يلجمها ويزجرها ويربيها ويروضها على الصرب والصدق‪.‬‬
‫وقد رأينا كيف خطب عمر بن اخلطاب‪ ،‬ليخرب الناس أنه كان‬
‫يف صباه يرعى على خاالته بقبضة من متر‪ ،‬حيسب ذلك اليوم‬
‫أي يوم! كان يريب بذلك نفسه لكيال تطغى‪ ،‬ويهينها لرتتد عن‬
‫غلوائها‪.‬‬
‫ومن يقدر على ما يقدر عليه عمر؟‬

‫‪817‬‬
‫مركزية الطاعة ضرورة نظامية إنسانية سيكولوجية تربوية؛ إن‬
‫النموذج العايل الذي يصبح يف عني الناس رمزا ومثال أكرب حافز‬
‫للجهاد‪ .‬تسمع كلمته فتكون هلا صولة هائلة وينظر إىل وجهه‬
‫فيوحي إىل الناس معاين النبل ويوقظ فيهم داعي احملبة والبذل‬
‫واإلقدام‪ .‬ال شك أن كل قائد ينصرف على منطه وحسب كفاياته‬
‫وقدرته على االستقالل بالرأي والعزم‪ .‬بيد أن املبادئ الدستورية‬
‫يف انتخاب الشخص املركزي وخلعه ال تكفي لتحديد وظيفة‬
‫اإلمام‪ ،‬بل ال بد من اجتهاد لتستقر ثنائية الدعوة والدولة على‬
‫نسق معلوم‪.‬‬
‫لكي نعرب عن خطر االحنراف عن معاين اخلالفة إىل معاين‬
‫الدولة‪ ،‬نضرب مثال بعبادة الشخصية وهي وباء الشيوعيات‬
‫بل هو وباء أكثر استحكاما عند حكام العض واجلرب يف بالد‬
‫املسلمني‪ .‬إن الزعيم يتأله أمام جناح قيادته‪ ،‬واألدهى من ذلك أن‬
‫طبع اجلماهري أن تلتمس األمن يف ظل صنم تتخيل له قدرة فائقة‬
‫وتتوهم له كماال‪ ،‬فهي تعبد ذلك املتأله وتنصب وجهها إليه‪،‬‬
‫ذلك يقع عند امللحدين‪ ،‬فيكيف لو اجتمعت شخصية ستالني‬
‫وجناحه االقتصادي بقدسية البابا مثال ؟ إن إمام املسلمني رجل‬
‫رباين ورجل دعوة قبل كل شيء‪ ،‬فله يف القلوب حمبة وإجالل‬
‫وتعظيم‪ .‬وقليل جدا من الرجال من ال يطغيه تعظيم الناس له‬

‫‪818‬‬
‫سيما إن أضيفت إىل ذلك سلطة السلطان‪.‬‬
‫إمام الدعوة قبلة للقلوب‪ ،‬فإن كان كامال الكمال الروحي‬
‫فهو الطود الشامخ‪ ،‬ال تزعزعه املظاهر‪ .‬فقد مات عن الدنيا‬
‫وحيي بروح اهلل‪ .‬وطاعته عندئذ تنفع مثلما تنفع حمبته‪ ،‬وهو‬
‫ال يضره من ذلك شيء‪ .‬إنه عندئذ مثال لألبوة الروحية جلميع‬
‫املسلمني‪ .‬وإن كان من الذين إذا رؤوا ذكر اهلل‪ ،‬فإن حمبته قربة‬
‫ومن ال يعلم كيف يذكر اهلل فقد علم اهلل حيث قال‪ ﴿:‬فَِإ َذا‬
‫َش َّد ِذ ْكراً﴾‪.1‬‬ ‫ِ‬ ‫قَضيتُم منَ ِ‬
‫اس َك ُك ْم فَاذْ ُكُروا اللَّهَ َكذ ْك ِرُك ْم آَبَاءَ ُك ْم أ َْو أ َ‬ ‫َْ ْ َ‬
‫فذلك اإلمام تسطع نورانيته ويراه املؤمنون ويتذكرونه ويذكرون اهلل‬
‫بذكره‪ .‬وليس من اهليبة أبعد من هذا‪ .‬فتصور أن الناس نشأوا على‬
‫هذا التعظيم وهذه احملبة‪ ،‬مث ويل األمر من ليس له كمال‪ .‬فما‬
‫يكون وقع ذلك يف نفسه؟ وما يكون أثره عليه؟ أو ليس يتملقه‬
‫املتلقون فيتهاوى‪ ،‬ويدب إليه ديدان القراء فيفتنونه عن أمره؟‬
‫جيب أن تنتظم اخلالفة على منهاج النبوة حبيث تيسر لإلمام‬
‫اخلليفة القيام بوظيفتيه دون أن تطغى إحدامها على األخرى‪ ،‬ودون‬
‫أن يرهقه السلطان وطاعة الرقاب فيتأله أو ينحرف‪ .‬وال يستطيع‬
‫التنظيم الدستوري أن يهيء ذلك إال إن أدخل يف حسابه مرونة‬
‫ال ختلع وتنصب بتسرع فتضيع املثال وتكسر عاطفة املسلمني‪،‬‬

‫‪ 1‬البقرة ‪.199‬‬

‫‪819‬‬
‫وال تلني حىت تقبل خطأ ال يستقيم مع األسوة احلسنة يف إبراهيم‬
‫والذين معه وحممد صلى اهلل عليه وسلم والذين معه‪.‬‬
‫واإلمام اخلليفة رجل دعوة قبل كل شيء‪ ،‬وإن كان يف فرتة‬
‫القيادة اجلهادية ال بد أن يأخذ األمر كله بقوة حىت يصفو‬
‫االجتاه‪ ،‬فإنه بعد استقرار األمر اإلسالمي ينبغي أن يشرف على‬
‫أمر املسلمني‪ ،‬وأمرهم شورى بينهم‪ .‬فهم يتخاصمون ويتشاورون‬
‫على مصاحلهم االقتصادية‪ ،‬وهو يشرف ويوجه‪ ،‬وحيسم إن اقتضى‬
‫احلال‪ .‬وبعد أمر املسلمني بل قبله أمر اهلل تعاىل وهو الدعوة‬
‫واجلهاد‪.‬‬
‫اإلمام اخلليفة بني األمرين‪ ،‬أمر اهلل وأمر املسلمني‪ ،‬إنه مع‬
‫املسلمني يف جمالسهم ومساجدهم‪ ،‬على املنرب ويف احملراب ليبلغهم‬
‫أمر اهلل وحيثهم عليه وحييي قلوهبم مبواساته ومثاله‪ .‬وهو مع اهلل يف‬
‫كل وقت ويف خدمة أمر املسلمني‪.‬‬
‫بني األمرين جمال الجتهاد الفقهاء الدستوريني‪ ،‬وجمال‬
‫لتوفيق اهلل عبده اإلمام حىت تستوي لنا غدا خالفة على منهاج‬
‫النبوة‪ .‬وأمامنا للدرس والتعلم يف ملكوت اهلل عبادة الشخصية‬
‫عند الشيوعيني‪ ،‬هي هلم ضرورة ال يعرتفون هبا‪ ،‬وبإزائها خبط‬
‫الدميقراطيات وغلياهنا الدميقراطي الذي ال يستقر بني انتخاب‬
‫رئيس ال سلطة له‪ ،‬أو رئيس له سلطة ال ينفك يتجاذهبا مع‬

‫‪820‬‬
‫منتخبيه وممثليهم‪ .‬أولئك اجلاهليون ال دعوة هلم‪ ،‬والدعوة الثورية‬
‫ال نسميها دعوة ألهنا عند اهلدف االقتصادي قاعدة‪ .‬ومع قصور‬
‫أمرهم على اهلدف الواحد املوحد‪ ،‬منذ انتهوا من كنيستهم‪ ،‬فهم‬
‫يشعرون حباجة أجهزهتم ملركزية تعطى القوة وتفرض االجتاه‪ .‬وقد‬
‫عرب عن ذلك أحد قادهتم املعجب بالنموذج الرئاسي األمريكي‬
‫حيث قال بأن الرئيس له الدفع واالستمرار ‪implusion et‬‬

‫‪ continuité‬وجلهاز احلكم إعداد اخلطة وتنفيذها ‪prévision‬‬


‫‪. et action‬‬
‫إن املبايعة لإلمام عملية بواسطتها تأخذ املؤمن من عروته‬
‫اليت هبا ميسك‪ ،‬وهي ذمته‪ .‬فبطاعته وتطوعه للجهاد تكون مركزية‬
‫الطاعة هي الدفع واالستقرار والعمل معا‪.‬‬

‫‪821‬‬
‫ا لنصيحة‬
‫احملبة ثوب رضى خيلعه اهلل على من يشاء من عباده‪ .‬فقد‬
‫ك َم َحبَّةً ِمنِّي﴾‪.‬‬ ‫﴿وأَلْ َق ْي ُ‬
‫ت َعلَْي َ‬ ‫امنت على عبده موسى قال‪َ :‬‬
‫فاملسلمون حيبون رجل الدعوة حبا خالصا ملا أعطاه ربه من نورانية‬
‫وبصرية يدعو عليهما إىل ربه‪ .‬وإمام املسلمني وخليفتهم غدا لن‬
‫يصنع له احملبة صانع خارجي ولن خيلعها عليه إال ربه إن صدقه‬
‫الوجهة وأخلص له النية‪ ،‬فإذا كانت طاعة رجل الدعوة طاعة حمبة‬
‫متصلة بطاعة اهلل ورسوله‪ ،‬فصاحب األمر العام ينبغي أن يستحق‬
‫هذه احملبة قبل أن تعطاه مقاليد األمور‪ ،‬أو نقول بلسان دارج ‪:‬‬
‫ينغي أن يستوي على عرش القلوب قبل أن يستوي إماما لألمر‬
‫العام‪ .‬أمرنا اهلل عز وجل أن نطيع اهلل والرسول وأويل األمر‪ ،‬فهي‬
‫سلسلة متصلة تتدرج من ربويية اهلل إىل ناسوت اإلمام عرب األسوة‬
‫احلسنة والنموذج اخلالد‪ .‬وينبغي أن يكون اإلمام حكما مرضيا‬
‫وأن يكون أمره مقضيا‪ ،‬فهو خليفة الرسول الشاهد على األمة‬
‫بالقسط‪.‬‬
‫طاعة الدنيا طاعة ظاهرة ال حتاسب على القبول العاطفي‪،‬‬
‫أما طاعة اهلل املمثلة يف طاعة اخلليفة فهي شرط اإلميان‪ ،‬وكماهلا‬
‫أن يصحبها قبول يف القلب وتسليم كامل‪ .‬إهنا عطاء غري مشروط‬

‫‪822‬‬
‫يما‬ ‫ك َل يـ ْؤِمنُو َن حتَّى يح ِّكم َ ِ‬
‫وك ف َ‬ ‫َ َُ ُ‬ ‫وال حمدود‪ .‬قال اهلل‪﴿:‬فَ َل َوَربِّ َ ُ‬
‫ت‬ ‫َش َج َر بـَيـْنـَُه ْم ثُ َّم َل يَ ِج ُدوا فِي أَنـُْف ِس ِه ْم َح َرجاً ِم َّما قَ َ‬
‫ض ْي َ‬
‫سلِّ ُموا تَ ْسلِيماً﴾‪ .‬واخلليفة له مثل ذلك من أمته‪ .‬فهي طاعة‬ ‫َويُ َ‬
‫كاملة ختتلف عن طاعة اجلاهليات اختالفا جوهريا كما خيتلف‬
‫انضباط املؤمن بإميانه وطاعة ذمته اختالفا جوهريا‪.‬‬
‫فهاتان قائمتان من قوائم اجلماعة املؤمنة‪ ،‬احملبة والطاعة‪،‬‬
‫وبينهما تضامن وتساند‪ ،‬احملبة بال طاعة عاطفية مائعة‪ ،‬والطاعة‬
‫بال حمبة ضبط عسكري تسمع منه قعقعة العنف اجلاهلي‪ .‬بيد أن‬
‫اجلماعة ال تقوم على قائمتني حىت تكمل الثالثة وهي النصيحة‪.‬‬
‫ليست اجلماعة قطيعا أعمى يساق بالعصا‪ ،‬وال كوكبة من املالئكة‬
‫ترفرف يف أنوار امللكوت متحابة متعاطفة‪ .‬حقائق األرض ومصاحل‬
‫الدنيا تفرق وتكدر‪ ،‬وتنسي حلظة من التظامل حلظات الصفو‬
‫وحلظات التسليم احملب‪.‬‬
‫فال بد لألمة يف جمموعها من خصام‪ ،‬لذلك شرع اهلل احملاكمة‬
‫وشرع احلدود‪ ،‬ولذلك ينظم القضاء اإلسالمي العطاء واألخذ‪.‬‬
‫وال بد من اختالف ينشأ يف صف الدعوة وصف األمة مجعاء‪،‬‬
‫لذلك فحيوية الدعوة يف تنظيمها الداخلي وحيويتها يف نشاطها‬
‫بني املسلمني تتوقف على فسح آفاق النصيحة وتنظيمها وضبطها‬
‫بضوابط حرية االجتهاد وواجب الصدق‪.‬‬

‫‪823‬‬
‫إن التنظيم معناه الضبط واالنضباط‪ ،‬فال بد من قيادة ضابطة‬
‫وطاعة منضبطة‪ .‬ومن طبع اإلنسان أن يتمرد بأنانيته على الطاعة‬
‫أو يراوغها إن كانت تشوش عادته أو متنعه شهوة وارتفاقا وكسال‪.‬‬
‫ففي التنظيمات اجلاهلية تُعد النظرية مكانا بارزا ملركزية القيادة‬
‫واالنضباط حتت لوائها وتعقد فاعلية احلركة على قوة القيادة‪،‬‬
‫وتربهن املمارسة على صحة ذلك وتؤكده‪ .‬لكن موطن اخللل هو‬
‫صعوبة املصاحلة بني مركزية القيادة وبني ضرورة التزام األعضاء‬
‫عن تراض وتشاور‪ .‬ففي النظرية يسمى لقاء املركزية بالرتاضي‬
‫«مركزية دميقراطية»‪ ،‬وينتظر مبقتضى هذا أن تنبثق القيادة من‬
‫إرادة القاعدة‪ .‬وعندما ينزل التنظيم مليدان العمل يتبني أن القاعدة‬
‫تتكون من ذرات بشرية شديدة االختالف مائلة للتنافر والتحزب‬
‫والتعصب‪ ،‬وذلك يشل احلركة‪ ،‬فيضطرون أن يأيت التوجيه من‬
‫أعلى‪ .‬وهكذا تعلو طبقة من ذوي الشكيمة على مراتب التنظيم‪،‬‬
‫ويطول بينهم النزاع أو يقصر حىت ميسك األقوى أو األدهى زمام‬
‫األمر‪ ،‬وتتحول مركزية القيادة إىل عبادة الشخصية‪.‬‬
‫اجلهاز القيادي اجلاهلي الثوري يفتقد داعي الثقة واالنضباط‬
‫الذي جيمع إرادات حرة تدعم القيادة وتطيعها وال تبدد اجلهود‬
‫يف النقاش الفارغ والتكتل املفرق‪ .‬وإن عالقات األعضاء فيما‬
‫السوق‬
‫بينهم وعالقاهتم بالقيادة ال تزال ولن تزال مؤسسة على ْ‬

‫‪824‬‬
‫االستبدادي ودمية تسريها أيد ماهرة قاهرة‪ .‬وإن أصحاب‬
‫اجلدلية الثورية يدركون جيدا التناقض بني طريف العبارة‪ « :‬املركزية‬
‫الدميقراطية» ويدركون جيدا أن اجلماعات بال راع وقائد قطيع ال‬
‫وحدة بينه وال فاعلية له‪ ،‬لكنهم ال حيسنون أن ميهدوا ملشاركة‬
‫أعضاء التنظيم يف العمل‪ ،‬ويبقى عندهم طرف «الدميوقراطية» يف‬
‫عبارة التنظيم تعويذة مربرة‪ .‬وما أشبه دميقراطية الشيوعية بدميقراطية‬
‫االنتخابات يف بالدنا‪ ،‬سواء منها الثورية االشرتاكية وصاحبتها‪.‬‬
‫ففي بالدنا وبالدهم تبلغ نسبة املوافقني بضعا وتسعني ونيفا يف‬
‫املائة ال تتخلف‪ ،‬وتدل داللة واضحة على أن املوافقة ما كانت‬
‫مشاركة إال حبركة السعي إىل خمادع التصويت‪.‬‬
‫وعند الشيوعية املربية يهتف شعار «خط اجلماهري» أن‬
‫االنطالق ينبغي أن يكون من اجلماهري ليعود األمر إىل اجلماهري‪،‬‬
‫بعد متحيص الرأي وغربلته وإغنائه‪ .‬وال تزال هذه الشيوعية تتمخض‬
‫ولن تلد إال طاغوتا كما ولدت سابقاهتا‪ .‬وجند يف تشوفات‬
‫القادة الصينيني وتطلعاهتم وصفا لأللفة واخلدمة كما يتصوروهنا‪.‬‬
‫يقول قائلهم يف املؤمتر الثامن سنة ‪« 1:1956‬إن واجب قيادة‬
‫احلزب أن تعرف‪ ،‬عرب عملية ‘‘االنطالق من اجلماهري للعودة إىل‬
‫اجلماهري’’ وتكرارها الالمتناهي‪ ،‬كيف ترفع بصورة دائمة معرفة‬

‫‪« 1‬يف التنظيم الثوري»‪.‬جورج طرابيشي ص ‪244‬‬

‫‪825‬‬
‫احلزب واجلماهري‪ ،‬وكيف تتقدم بعمل احلزب والشعب بصورة‬
‫دائمة‪ .‬وإن من واجب احلزب وأعضائه‪ ،‬يف سبيل هذا اهلدف‪ ،‬أن‬
‫يقيموا صالت كثرية ووثيقة مع العمال والفالحني واملثقفني وسائر‬
‫املواطنني‪ ،‬مع اهتمامهم الدائم بتوسيع هذه الصالت وتدعيمها‪.‬‬
‫إن من واجب كل عضو أن يفهم التناغم القائم بني مصلحة‬
‫احلزب ومصلحة الشعب‪ ،‬بني أن يكون مسؤوال أمام احلزب وبني‬
‫أن يكون مسؤوال أمام الشعب من واجبه أن يضع نفسه من كل‬
‫قلبه يف خدمة اجلماهري الشعبية وأن يستشريها باستمرار‪ ،‬وأن‬
‫يصغي إىل صوهتا‪ ،‬وأن يطلع على مشاقها وآالمها‪ ،‬وأن يساعدها‬
‫بكل ما يف وسعه على حتقيق رغائبها‪ .‬إن احلزب الشيوعي الصيين‬
‫هو حزب يف السلطة‪ .‬لذا فمن األمهية مبكان بالنسبة إليه أن‬
‫يكون متواضعا وفطنا‪ ،‬وأن حيذر العجرفة وقلة الصرب‪ ،‬وأن يناضل‬
‫بقوة ضد النزعة البريوقراطية اليت تبتعد عن اجلماهري وواقع احلياة‬
‫يف كل منظمة من منظمات احلزب ويف كل إدارة حكومية أو‬
‫منظمة اقتصادية»‪.‬‬
‫أوردنا هذا النص ملا فيه من مثالية وملا يرتجم عنه من صعوبات‬
‫نبعت من املمارسة الثورية الغنية الناجحة املتحدية للعامل‪ .‬فمن‬
‫فطنة الشيوعية املربية ودهائها أن نفهم «خط اجلماهري» فهما‬
‫أكثر مرونة من مفهوم املركزية الدميقراطية‪ ،‬وإن كانت العاطفية‬

‫‪826‬‬
‫الصينية تتسلل بني السطور يف خجل واستحياء‪ ،‬وتغطي عليها‬
‫اعتبارات املصلحة وضرورة الفهم والعقل وواقع احلياة‪.‬‬
‫إن اإلسالم ينطق باحلق ال يعلق بوضوحه شوائب بشرية‬
‫تُرنق صفوه‪ ،‬فالعالقات بني أعضاء مجاعة املؤمنني هي عالقات‬
‫والية‪ ،‬احملبة أبرز صفاهتا وأوالها؛ فال خيجل املؤمن أن ميارس‬
‫حمبته كما ال خيجل الشيوعي أن ميارس دميقراطيته الثورية‪ ،‬إال أن‬
‫هذه وهم وراءه عنجهية احلاكم املتسلط‪ ،‬وتلك صادقة‪ .‬والتنظيم‬
‫الشيوعي يسمي استبداد القيادة وتأله القائد مركزية دميوقراطية‬
‫نفاقا إيديولوجيا مربرا‪ ،‬ويسمي تناحر األنانيات خطا مجاهريا‬
‫وما سوى ذلك‪ ،‬أما اإلسالم فيقبل بوضوح بل يفرض بوضوح‬
‫الطاعة على الرعية‪ ،‬ويسمي الرعية باسم واضح يدل على ثقة‬
‫املرعي ورفق الراعي‪ .‬ومع احملبة والطاعة النصيحة‪ ،‬وهي مسامهة‬
‫كل مؤمن يف الفكر والتخطيط والعمل‪.‬‬
‫إن للمنظمات صريرا منكرا وصريفا ينجلي بني آونة وآونة عن‬
‫تصفيات يُلفظ فيها أشخاص على هامش التنظيم أو تقلع فيها‬
‫رؤوس من على أجسادها‪ ،‬وما دام األمر مصلحة اقتصادية وزعامة‬
‫ودغدغة لألنانيات فما األفراد إال أرقام جيب أن يصطفوا طوع‬
‫األمر مبقتضى الفاعلية العقالنية املؤسسة للنظام‪ .‬ويف اإلسالم‬
‫ترتبط األهداف الدنيوية باملقصد والغاية‪ ،‬فينطق ناطق احلق‪:‬‬

‫‪827‬‬
‫«لن تدخلوا اجلنة حىت تؤمنوا ولن تؤمنوا حىت حتابوا»‪ ،‬وينطق‬
‫لسان احلق بأن اقتحام العقبة هو التواصي بالصرب واملرمحة‪ ،‬وإن‬
‫اإلنسان يف خسر ما مل يتواص الناس باحلق ويتواصوا بالصرب‪.‬‬
‫ويلح القرآن على وجوب الطاعة لدوي األمر فإن طاعتهم من‬
‫طاعة اهلل ورسوله‪.‬‬
‫فالعضو املؤمن يف اجلماعة اإلميانية ينبعث حبافز سعيه للخالص‬
‫والسلوك إىل ربه‪ ،‬وهو يف التنظيم اجلهادي يزداد رغبة يف جزاء‬
‫اهلل وحمبته‪ ،‬فإخوانه حيبهم وال يرى منجاة له وال مصريا حممودا إال‬
‫مبحبتهم‪ ،‬وهو يطيع القائد اإلمام طاعة هلل ربه‪ ،‬وال مينعه احلب‬
‫والطاعة من املسامهة يف النصيحة والتواصي باحلق والصرب‪.‬‬
‫بني خطي احلق والواجب يرتدد اجلهد اجلاهلي غدوا ورواحا‪،‬‬
‫وجهد املؤمن دفع لواجب فرضه اهلل عليه‪ .‬ويف أحسن صورة‬
‫للعمل اجلاهلي‪ ،‬وهو النضال الثوري‪ ،‬يتصور املناضل حقه خريا‬
‫مغصوبا وواجبه غضبا ثائرا‪ ،‬فيكون له من غضبه وطلبه جمال‬
‫إلرضاء نزعته للبطولة والزعامة املأسوية‪ .‬أما املؤمن فقد أمره اهلل‬
‫بالتواصي باحلق والصرب‪ ،‬وبني له يف اآلية األخرى أن احلق هو‬
‫املرمحة أي احملبة والتعرض لرمحة اهلل من خالهلا‪.‬‬
‫احلق الذي يتواصى عليه املؤمنون ويتناصحون به هو التفاين يف‬
‫خدمة اجلماعة مقتحمني عقبة األنانية‪ ،‬حيبون إخواهنم ويواسون‪،‬‬

‫‪828‬‬
‫وبذلك يستحقون اجلنة الهنم أحبوا فآمنوا‪ ،‬ومن ال حيب ال يؤمن‪.‬‬
‫والطرف الثاين من التواصي والنصيحة هو الصرب والصرب خدمة‬
‫وبذل ومواصلة للجهاد‪ .‬فإنك إن عاشرت إخوانك يف حضن‬
‫الوالية اليت بني املؤمنني‪ ،‬فمهما وصلت بك عاطفة احملبة والغريية‬
‫ال بد أن تتعارض مصلحتك مع مصلحة غريك‪ ،‬فماذا أنت‬
‫فاعل؟ إنك تصرب فتتنازل عن بعض حقك وتتسامح‪ ،‬وتصرب على‬
‫ماعناة أخيك والرتفق به حىت يرجع إىل احلق والصرب ويشاركك يف‬
‫النصيحة‪.‬‬
‫تتمزع وشائج اجلماعة أو تلتئم‪ .‬فجماعة‬‫بني احلق والواجب ّ‬
‫من رعاة الوهم أو من الفارين بدينهم يطلبون احلق وال يبذلون‬
‫الواجب‪ .‬خذ مثال هلم املتصوفة األدعياء‪ ،‬أو الصادقني املنزويني‪.‬‬
‫إهنم يفهمون احملبة فهما جيدا ويقصرون الطاعة يف نطاقهم‬
‫فيطبقوهنا تطبيقا ما‪ ،‬لكنهم ال يعرفون النصيحة وإمنا يستبدلوهنا‬
‫مبفهوم غامض هو التسليم‪ .‬فالتسليم ألولياء اهلل أصحاب‬
‫الكرامات أمر ال حميد لذى قلب وعقل عنه‪ ،‬وإن هلل مع أوليائه‬
‫معاملة ال يعرتض عليها إال هالك‪ .‬لكن مفهوم التسليم ينسحب‬
‫على كل نشاط املتصوفة‪ ،‬فكل حر يف تصرفه ال يُعرتض عليه‬
‫خمافة دعوة نافذة أو حرمان‪ .‬بدل النصيحة يتميع بني املتصوفة‬
‫السلوك اإلسالمي وتفشو البدع‪ ،‬حىت إن اجلذب املزعوم ال يغطي‬

‫‪829‬‬
‫أكثر األحيان إال خباال يتنكر حتت املرقعات أو كسال وهباال‪.‬‬
‫قال موالنا جعفر الصادق عليه السالم ‪« :‬اشتغلنا مبا أريد بنا‬
‫عما أريد منا»‪ ،‬وهذا أمجل تعبري وأدقه عن حال من يرتك الواجب‬
‫متعلقا بوهم احلق‪ .‬يف عقلية املسلمني عامة رواسب خرافية ختلفت‬
‫عن اخلبط العقدي فيما مل يكلفنا اهلل به‪ ،‬هو القدر‪ .‬فالعقيدة‬
‫اجلربية تشل احلركة حنو الواجب وأدائه‪ ،‬ويلزم أن يقبل الناس كل‬
‫ما يرد عليهم دون اعرتاض‪ ،‬ألن املشيئة مشيئة اهلل‪ ،‬وألن العبد‬
‫مسري‪ .‬وهذا تعطيل للواجب والنصيحة والتواصي باحلق والصرب‪.‬‬
‫ويف عقلية الصوفية اشتغال مبا يراد باملريد عما يراد منه‪ .‬فالفتح‬
‫الرباين وترقبه حق مشروع للمبتدئ لكنه إن أصبح مشغلة له عاقه‬
‫عن أداء الواجب وعاقه عن التمييز والنقد والنصيحة‪ .‬وحنن نشكر‬
‫اهلل أن جعل من رجال الطريق شهداء يفضح صحوهم وغناؤهم‬
‫يف اإلسالم كسل املشتغلني بالرتهات املشلولني‪ .‬مييز بني الفريقني‬
‫بعضهم إذ يذكر «صوفية األخالق» و«صوفية احلقائق»‪ ،‬وهو‬
‫تقسيم سطحي أعمى؛ ألنه ال حقائق إال بأخالق‪ ،‬وإن أهل‬
‫احلقائق هم أهل األخالق لكن نقسم الفريقني إىل «صوفية رباط»‬
‫وهم أهل الواجب والنصيحة‪ ،‬أروع مثال هلم يف عصرنا اإلخوان‬
‫املسلمون األولون‪ ،‬وإىل «صوفية زاوية» وهم أهل التسليم‪ ،‬ومن‬
‫بينهم الصادقون املعذورون يف فرارهم بدينهم‪ ،‬وآخرون يشتغلون‬

‫‪830‬‬
‫باحملال يبغونه بكسلهم وأحالمهم‪.‬‬
‫ما خرجنا عن موضوعنا‪ ،‬بل عمقناه إذ حبثنا عن مصادر‬
‫تعطيل النصيحة واالنشغال عنها عند الصوفية‪.‬‬
‫للتنظيم واحلياة اجلماعية مشاكل ترتكز حول القيادة واالتصال‬
‫بني األعضاء والتعاون‪ .‬فيعطي اإلسالم للمؤمن عضو اجلماعة‬
‫حق الفالح عند اهلل لقاء واجباته يف الطاعة بعد احملبة ويف‬
‫النصيحة املبذولة‪ .‬وعلى كل عضو واجب النصيحة كما عليه‬
‫واجب الطاعة‪ .‬فالطاعة للقائد تفرتض منـََعتَه يف احلق وكماله يف‬
‫الرأي‪ ،‬والنصيحة تفرتض نقص اإلنسان وحاجته لتكميل نقصه‬
‫برأي أخيه وحكمته‪.‬‬
‫واجب النصيحة والتواصي املعممني اعرتاف بالنقص البشري‬
‫وواقعية‪ ،‬كما أن واجب الطاعة اعرتاف مبثل ذلك‪ .‬الرعية يف‬
‫ضعفها حتتاج لسند قوي معنوي يكسبها الثقة فلذلك يوجب‬
‫اإلسالم أن ترتكز اهلمم حول اإلمام فتطيعه وتسري بسريه‪ .‬والراعي‬
‫عرضة يف كل وقت للخطإ‪ ،‬وعرضة لطغيان النفس‪ ،‬لذلك ففرض‬
‫عليه أن يتناصح مع املؤمنني وأن يقبل نصيحتهم‪.‬‬
‫ولن جتد من القادة والزعماء أبدا من يقبل النصيحة مثلما‬
‫قبلها أبو بكر وعمر إال أن يكون مثلهما‪ .‬فقد خطب أبو بكر‬
‫خطبته األوىل فأعلم الناس أن يعينوه إن أصاب وأن يقوموه إن‬

‫‪831‬‬
‫أخطأ‪ .‬فاعرتف باخلطأ وإمكانه‪ ،‬واستعد لقبول النصيحة بل هو‬
‫استجلبها‪ .‬وكان عمر تعرتض عليه العجوز تنصحه فيقبل حقها‬
‫وحق كل ناصح‪.‬‬
‫يف كتاب اهلل وعيد شديد ملن ال يقبل حق الناصحني‪ ،‬قال‬
‫َّم‬ ‫تعاىل‪﴿:‬وإِ َذا قِيل لَهُ اتَّ ِق اللَّهَ أَ َخ َذتْهُ ال ِْع َّزةُ بِ ِْ‬
‫الثْ ِم فَ َح ْسبُهُ َج َهن ُ‬ ‫َ‬
‫َ‬
‫اد﴾‪ .‬وهكذا يكون بذل النصيحة واجبا يتعلق بالذمم‬ ‫س ال ِْم َه ُ‬ ‫ِ‬
‫َولَب ْئ َ‬
‫والضمائر‪ ،‬ويرتبط بالغاية واملصري الفردي‪ .‬فلذلك يكون اإلسالم‬
‫أقدر على حل مشاكل النقد والنقد الذايت وتعدد التيارات يف‬
‫التنظيم اجلهادي‪.‬‬

‫‪832‬‬
‫دعوة إىل اخلري‬
‫لعل من ورثة اجلمود القروين من يعرتضون أساسا على وجود‬
‫تنظيم جهادي داخل األمة‪ ،‬أو ال يتصورون أن تكون الدعوة‬
‫منظمة‪ ،‬ألن التنظيم اقرتن يف األذهان باملباديء احلزبية ومنهج‬
‫االضطراب السياسي‪ .‬فلمن يسأل عن مشروعية التنظيم يف‬
‫اإلسالم جنيب بالضرورة العملية وجنيب بالنص القرآين‪ .‬فأما من‬
‫جهة الضرورة العملية فإن األمة تشمل أفرادا يشكلون ذرات‬
‫بعد غثاء ال‬‫تتلقفها تيارات الفتنة هتيجها وتسخرها‪ ،‬وهي ُ‬
‫يتماسك‪ .‬وإن إسالم هذه اجلماهري إسالم فردي متفتت تسبح‬
‫فيه خنبة مؤمنة جتهل نفسها وال تتعرف على الطريق‪ .‬فأي دعوة‬
‫تقوم قبل اجتماع الوازعني يف القيادة املؤمنة تتشعت وتتسرب إن‬
‫مل ينظمها سلك ويوحدها منهاج ضابط‪ .‬وأي انبعاث إسالمي‬
‫ال يسنده تنظيم للنخبة املؤمنة لن يكون إال اضطرابا‪ ،‬ولن تتاح‬
‫له ظروف االستبداد الرتبوي ووسائله‪ .‬وإن كان يف بالدنا ال‬
‫ينجح دعاة احلزب الواحد االشرتاكي إال كمثل جناح األحزاب‬
‫املتعددة‪ ،‬فال يرجع ذلك لعدم فهم التنظيم وأمهيته‪ ،‬بل يرجع لعدم‬
‫استجابة الناس ألمر ال يثقون به وال خياطب شعورهم اإلمياين‪.‬‬
‫فالتنظيم اإلسالمي للدعوة ضرورة وشرط أساسي للجهاد والعمل‬

‫‪833‬‬
‫والتجديد‪ .‬وبالتنظيم جتتمع الطاقات املبعثرة وينتقل اإلميان من‬
‫كونه شعورا يتفاوت يقظة وخبوا إىل كونه حركة تتناول الواقع‬
‫وتغريه‪.‬‬
‫ص ُموا بِ َح ْب ِل‬ ‫أما النص القرآين فهو قوله عز وجل‪﴿:‬وا ْعتَ ِ‬
‫َ‬
‫ت اللَّ ِه َعلَْي ُك ْم إِ ْذ ُكنتُ ْم‬ ‫اللَّ ِه َج ِم ًيعا َوَل تـََف َّرقُوا َواذْ ُك ُروا نِ ْع َم َ‬
‫َصبَ ْحتُم بِنِ ْع َمتِ ِه إِ ْخ َوانًا َوُكنتُ ْم َعلَ ٰى‬‫ف بـَْي َن قـُلُوبِ ُك ْم فَأ ْ‬ ‫اء فَأَلَّ َ‬
‫أَ ْع َد ً‬
‫َش َفا ُح ْف َرٍة ِّم َن النَّا ِر فَأَن َق َذ ُكم ِّمنـَْها َك َٰذلِ َ‬
‫ك يـُبـَيِّ ُن اللَّهُ لَ ُك ْم آيَاتِِه‬
‫لَ َعلَّ ُك ْم تـَْهتَ ُدو َن َولْتَ ُكن ِّمن ُك ْم أ َُّمةٌ يَ ْدعُو َن إِلَى الْ َخ ْي ِر َويَأ ُْم ُرو َن‬
‫ك ُه ُم ال ُْم ْفلِ ُحو َن﴾‬ ‫وف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْمن َك ِر َوأُوٰلَئِ َ‬ ‫بِالْمعر ِ‬
‫‪.‬‬
‫َ ُْ‬
‫فاالجتماع من التفرق ووحدة االعتصام حببل اهلل‪ ،‬يرجع إىل‬
‫رباط األلفة بني القلوب‪ ،‬وهو احملبة‪ ،‬وهو نور اإلميان مين اهلل علينا‬
‫به وجيعلنا إخوانا‪ .‬فلكي تستمر األلفة ولكي يستمر االجتماع‬
‫ينبغي أن يكون منا أمة يدعون إىل اخلري ويسهرون على النظام‪.‬‬
‫إن حبل اهلل يربط األمة مجيعا باحملبة والذمة والطاعة‪ ،‬لكن جيب‬
‫أن تكون أمة من األمة‪ ،‬أي طائفة خاصة هم أهل الدعوة‪،‬‬
‫حيافظون على احلبل املتني وعلى األلفة واألخوة والنظام‪ .‬أمة‬
‫خاصة من األمة العامة هم النخبة‪ ،‬وهم أهل التطوع واإلحسان‪.‬‬
‫ت‬ ‫يف آية أخرى خطاب لألمة مجيعا‪ُ ﴿:‬ك ْنتُ ْم َخيـَْر أ َُّم ٍة أُ ْخ ِر َج ْ‬
‫َّاس تَأْمرو َن بِالْمعر ِ‬ ‫ِ‬
‫وف َوتـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْم ْن َكرِ﴾‪ ،‬فلم تذكر‬ ‫َ ُْ‬ ‫للن ِ ُ ُ‬

‫‪834‬‬
‫فيها الدعوة‪ ،‬وإمنا ذكرت النصيحة والتواصي باملعروف وبالصرب‪.‬‬
‫ذلك ألن الدعوة إىل اخلري ال يتأتى إال ملن كان على بصرية متبعا‬
‫لرسوله عارفا السبيل‪ .‬فالنصيحة يشارك فيها كل مسلم على قدر‬
‫علمه وحلمه‪ ،‬وحسب قدرته على البذل والتطوع‪ ،‬أما الدعوة‬
‫للخري فتقتضي أن يعرف الداعي اخلري قبل أن يدعو إليه‪ .‬واخلري‬
‫درجات‪ ،‬لكن الكلمة حتمل معىن التفضيل‪ ،‬فلعل الداعي يدعو‬
‫إىل خري ما يعلمه حيسب ذلك غاية الغايات‪ ،‬وهو ما خرب إال‬
‫نصف الطريق أو دون ذلك‪ .‬يدعوك داع إىل اإلسالم وآخر إلميان‬
‫وإحسان‪ ،‬فصاحب املرتبة اإلسالمية دعاك إىل خري حسبه مجاع‬
‫األمر‪ ،‬وما عنده خرب مبا متتد إليه طريق السلوك‪ ،‬وهو التماس‬
‫الزلفى إىل اهلل واقتباس النور من قلب املؤمن العارف باهلل‪.‬‬
‫مث إن الدعاة إىل اخلري إن مل ينتظموا يف سلك تبددت جهودهم‬
‫وتنافروا وتدابروا‪ ،‬وهو حال املسلمني على مدى القرون‪ .‬فمن‬
‫كان منهم ال يعلم من اخلري إال شرعة احلق والطاعة والعبادة‬
‫أنكر ما يدعو إليه أصحاب القلوب من رقائق املعامالت مع اهلل‬
‫تبارك وتعاىل‪ .‬وهكذا تفرتق طريق الصويف عن طريق العامي‪ ،‬هذا‬
‫يتجهم بدعوته وهلا‪ ،‬وذلك يبشر وال ينفر‪ ،‬وخيرب عن فضل اهلل‬
‫الواسع ورمحته وعطائه لعبده إذا امنت عليه فأصبح مسعه وبصره‬
‫ويده ورجله‪ .‬والدعوة إخبار وحتديث‪ ،‬فما ينتهي تشعب التعابري‪،‬‬

‫‪835‬‬
‫وما ينتهي تكفري الناس للصويف حني تفجأه األنوار واألسرار‪،‬‬
‫فيتلعثم لسانه وينطق مبا ال يقبله نقل الناقلني‪.‬‬
‫فالدعوة إىل اخلري ختتلف يف سلم املراتب على درجات‬
‫اإلسالم واإلميان واإلحسان‪ ،‬وختتلف اختالفا أفقيا بني دعاة‬
‫الطائفة الواحدة‪ .‬ويبدو لك جليا أية صعوبات تعرتض تنظيم‬
‫الدعوة‪ ،‬وقد كان الشيخ البنا رمحه اهلل رائد التنظيم اإلسالمي‪،‬‬
‫فقد ألغى الطائفية ودعا ليجتمع املسلمون على ما يقرب بينهم‬
‫ويرتكوا اخلالفات املذهبية‪ ،‬يسلم كل لصاحبه ما ال يضريه من‬
‫اخلالفات اجلزئية‪ .‬وما مت له شيء مما أراد إال بإغماضه مراتب‬
‫اإلسالم الضائعة يف املصطلحات‪ ،‬فجعل طلب احلقيقة الصوفية‬
‫جزءا وفرعا من نشاط األخ املسلم‪ ،‬وتفرغ لالنتشار األفقي على‬
‫صعيد اإلسالم العام‪ .‬واآلية الكرمية مطلقة يف الداللة على أن خنبة‬
‫األمة جيب أن تدعو إىل اخلري‪ ،‬واخلري يف احلديث النبوي هو خري‬
‫اآلخرة‪ ،‬فذلك اإلميان‪ ،‬أما نص القرآن فال يذكر اخلري إال مقرونا‬
‫باالصطفاء‪ ،‬فاملصطفون األخيار هم الرسل واألنبياء‪ ،‬واخلري الذي‬
‫أوتوه هو اإلحسان والكمال‪.‬‬
‫التنظيمات ميتد نشاطها يف جمال أفقي عقالين‪ ،‬إنه جمال جيدده‬
‫من مجيع جوانبه الكم‪ ،‬وال تقبل اإليديولوجية احنرافا عن اخلط‬
‫العقالين املذهيب بل تشجب عاطفية الصني وشاعرية كاسرتو‪.‬‬

‫‪836‬‬
‫فبعد أن نكرر أن الدعوة اإلسالمية إن نُظمت على أساس إسالم‬
‫ال يرقى إلميان وإحسان دعوة مبتورة‪ ،‬ننظر إىل ما جيب أن يتحمله‬
‫التنظيم اإلسالمي اإلمياين اإلحساين من اختالفات هي من طبيعة‬
‫احلركة والعمل‪.‬‬
‫مارست املنظمات الثورية ثوريتها‪ ،‬وباحتكاك اآلراء واإلرادات‬
‫قبل انتصار الشيوعيات وبعده‪ ،‬دققت النظرية الثورية مباديء‬
‫التنظيم ومناهجه‪ ،‬وأعدت ملفاهيم النقد والنقد الذايت مكاهنا يف‬
‫حركية اجلماعة‪ .‬فلألعضاء حق االعرتاض على القيادة بالنقد‪،‬‬
‫وعلى القيادة واجب االنصياع للحق‪ .‬وولدت املمارسة الثورية‬
‫ألصحاهبا خالفات على مناهج التنفيذ وحىت على مباديء العمل‪،‬‬
‫فنشأ ميل إىل إحياء التيارات اليت تكون بني الثوريني قبل التنظيم‬
‫املوحد‪ .‬وتعارضت ضرورة الوحدة واملركزية الضامنة للفاعلية واملضاء‬
‫حبق املسامهة والتعبري الدميقراطي عن الرأي وحق اختيار القيادة‪.‬‬
‫وال يزال النظام الشيوعي يتخبط مثل ختبط األنظمة الدميقراطية أو‬
‫أشد يف مشاكل تقسيم السلط وحرية الفكر واالنتخاب‪ .‬ويتحمل‬
‫التنظيم اإلسالمي بواجب احملبة والطاعة والنصيحة ما ال تتحمله‬
‫األنظمة اجلاهلية‪ ،‬يتحمله لطبع فيه وفطرة فطرها اخلالق ربنا‪،‬‬
‫ويتحمله النفتاح باب االجتهاد والرتاضي والتشاور‪ .‬ويتحمله بعد‬
‫ذلك لتعلق التنظيم كله باملصري‪ ،‬وألن هذا املصري وخط السري إليه‬

‫‪837‬‬
‫حتكمه أوامر احلق‪ ،‬فال يؤذن فيه ملن أخل بشروط اإلميان‪ .‬ومن‬
‫شروط اإلميان أن حيسم النزاع باحملاكمة إىل احلكم املطلق النهائي‪،‬‬
‫وهو اهلل عز وجل‪ ،‬حيكم بشرعه رسوله أو خليفة رسوله‪ .‬كل نزاع‬
‫على التنفيذ واملنهاج داخل التنظيم اإلسالمي لن يؤول إىل فوضى‬
‫از ْعتُ ْم فِي‬ ‫وتباغض لوجود احلكم‪ ،‬قال اهلل عز وجل‪﴿:‬فَِإ ْن تـَنَ َ‬
‫ول إِ ْن ُكنتُ ْم تـُْؤِمنُو َن بِاللَّ ِه َوالْيـَْوِم‬ ‫َش ْي ٍء فـَُردُّوهُ إِلَى اللَّ ِه َو َّ‬
‫الر ُس ِ‬
‫ْال ِخر﴾‪.‬‬
‫يدلنا تاريخ اإلسالم على أن ما نشب من خالفات بني‬
‫املسلمني مل تقفه كل هذه االعتبارات‪ .‬وكان الصدر األول زمان‬
‫الرجال األفذاذ من الصحابة والتابعني‪ ،‬وكانوا أعلم الناس باخلري‬
‫وأقرهبم للمعروف‪ ،‬وأبعدهم عن املنكر‪ .‬ومع ذلك تنازعوا ومل‬
‫يرتاضوا باملعروف‪ ،‬بل احتكموا للسيف‪ .‬وهكذا فيما بعد‪ ،‬فكيف‬
‫ننظم حنن بعد كل ذلك الكدر أمرنا نزعم أن اإلسالم يتيح لنا ما‬
‫ال تتيحه األنظمة اجلاهلية؟‬
‫إن الصحابة اختلفوا يف احلَ َكم من يكون‪ ،‬اختلفوا على‬
‫اخلالفة فلم يعرتف بعضهم ببعض‪ .‬وزمحهم من تكاثر الداخلني‬
‫يف اإلسالم وعنفهم ما أعجلهم عن التشاور والتصاحل‪ .‬ودالت‬
‫من بعدهم دول كان خالفها يدور حول احلكم ومبدإ احلكم‪ ،‬أما‬
‫يف غد اإلسالم فإن اخلالفة على منهاج النبوة ستكون لنا اختيارا‬

‫‪838‬‬
‫نستبدل به واقعنا الغث املهني‪ .‬من بعد جهلنا باخلري وإنكارنا‬
‫للمعروف نقبل على خرينا الضائع‪ ،‬ونتعارف على طريق ٍ‬
‫وعد قوي‬
‫يدل عليه منهاجه‪ .‬فلنا من ماضينا املفتون العريق يف الفتنة درس‪،‬‬
‫ولنا من واقعنا حافز‪ ،‬ويف جتاريب اإلنسانية ُمتعلَّم‪.‬‬
‫ما هو اخلري‪ ،‬وماهو املعروف‪ ،‬وما هو املنكر؟ على هذا اختلف‬
‫املسلمون وبلغ اختالفهم اليوم درجة ال رجاء معها لإللتئام‪ .‬أو‬
‫ليس من حكام املسلمني اليوم رهط من الكفرة الفجرة! إن األمة‬
‫جهلت اخلري واملعروف‪ ،‬وما كان منكرا يف شرع اهلل أصبح لدينا‬
‫معروفا مطلوبا‪ .‬يف بالد املسلمني نصارى وأهل ذمة‪ ،‬فأولئك‬
‫حنسن إليهم كما أمرنا اهلل‪ .‬لكن تدهور اإلسالم أدى بنا إىل‬
‫تصور غري إسالمي لعالقة الناس بعضهم ببعض يف أرض اإلسالم‪.‬‬
‫وردت علينا الفلسفات السياسية واإلنسيات اجلاهلية‪ ،‬فعلمتنا أن‬
‫قيمة القيم هي احلرية واملساواة‪ ،‬وأن املواطنة هي القاسم املشرتك‬
‫بني السكان‪ .‬وحلت عالقة املواطنة حمل اخلالف املذهيب الذي‬
‫كان عامال من عوامل التفتيت‪ ،‬لكن بأي شيء أتانا التعارف‬
‫على املواطنة؟‬
‫برز مليدان السياسة مواطنون دعوا خلريهم‪ ،‬وخريهم ضالل‬
‫مبني وكفر وإحلاد ال يتكتم وال يتسرت‪ .‬زعماء السياسة يقودوننا‬
‫من اخلطم ذلال ومنهم مالحدة النصارى‪ .‬ومبقتضى الزعامة‬

‫‪839‬‬
‫املواطنة حيكمنا أجالف الناس ألهنم كانوا رائدي الدعوة القومية‬
‫أو رائدي الطاغوت االشرتاكي‪ .‬وقد اختلطت مساؤنا اإلسالمية‬
‫بأرض الكفر والفسوق فال نعرف معروفا وال ننكر منكرا‪.‬‬
‫هلذا فبدل أن نسأل ‪ :‬ما هو اخلري وما هو املعروف واملنكر؟‬
‫ينبغي أن نبحث عن رأس احلكمة ومالكها ونسأل‪ :‬من األجدر‬
‫أن يدعونا إىل خري ويعرفنا مبعروف وينهانا عن منكر؟ هبذا السؤال‬
‫نضع مسألة الثقة ومسألة الفراغ القيادي‪ ،‬ومسألة الفجوة بني‬
‫القادة امللحدين والفاسقني وبني األمة املسلمة‪ .‬ونضع أيضا‬
‫مسألة االستبداد الرتبوي‪.‬‬
‫إن اإلسالم سيكون اختيار األمة غدا ومالذها من الفوضى‬
‫املذهبية‪ ،‬ومن التسلسل االنقاليب والسطحية‪ .‬وسيجد القائد‬
‫أمامه تصدعا يف الرأي وتشتتا يف اإلرادات ووهنا‪ ،‬سيما عند‬
‫الطبقة املثقفة أو دعية الثقافة‪ .‬وما يرمي إليه جهاد اإلمام هو‬
‫بناء مجاعة مؤمنة ختلف اجملتمع الغثائي احلايل‪ ،‬فاالنتقال من البنية‬
‫اجملتمعية إىل البنية اجلماعية خري يف حد ذاته كل اخلري يف حق‬
‫األمة مجعاء‪ .‬وهو املقصد‪ ،‬وببلوغه يتحقق اهلدف وتتأهل األمة‬
‫حلمل الرسالة كي تؤدي دورها الوجودي‪.‬‬
‫وهذا اخلري ال سبيل له إال عن طريق اخلري امللموس لألمة كافة‪،‬‬
‫ولكل فرد منها على حدة‪ .‬فاألمة كافة حتتاج لعدل‪ ،‬والفرد حيتاج‬

‫‪840‬‬
‫الستقرار يف حق يقيم عليه وغاية يصمد إليها‪ .‬وكل ذلك موضع‬
‫خالف وإهبام للجهل الفاشي والتميع الفكري واإلرادي‪.‬‬
‫وهنا يربهن القائد اإلمام على مضاء العزم‪ ،‬فتكون دعوته‬
‫إىل اخلري وأمره باملعروف وهنيه عن املنكر مبادرة مستبدة مربية‪.1‬‬
‫حبق الطاعة العامة يعبئ القوى ويصرف الوجهة الضالة صوب‬
‫ُهداها‪ .‬ومن حوله تتوافق النخبة اإلميانية مليعاد اجلهاد‪ ،‬يأيت هبا‬
‫احملبة والتطوع‪ ،‬فتتكون قيادة مجاعية حتضن التنظيم اجلهادي بعد‬
‫ميالده‪ ،‬وتربيه لكي يرشد وميارس النصيحة‪.‬‬
‫إن حبل اهلل الذي جيب أن نعتصم به مجيعا يوم جنتمع من‬
‫فرقة هو طاعة اإلمام الذي وثقنا به‪ .‬طاعة مشروطة ببيعة مشروطة‬
‫وشورى ملزمة‪ .‬وعلى هذا احلبل حنسم نزاعاتنا السابقة‪ ،‬وحيسمها‬
‫لنا هو باستبداده الرتبوي ريثما تنشأ لنا عالقات أخوة وينشأ‬
‫لنا رشد‪ .‬واملذهب الغوغائي‪ ،‬وهو الصورة الوحيدة اليت نستطيع‬
‫حتت أنظمة العض واجلرب نقلها من أشكال الدميقراطية‪ ،‬ال حتب‬
‫الوصاية على الشعب كما تعرب‪ ،‬وتطلب ضمانات للحرية‪ ،‬وتندد‬
‫بأبوية كل قائد يروم االستبداد بالتوجيه‪.‬‬
‫احلرية يف دار اإلسالم املفتونة اليوم غوغائية ال أكثر وال‬

‫‪ 1‬أكرر أن ما أقصده باالستبداد الرتبوي هو الطائلة املعنوية والسلطة األخالقية ال استبداد القمع‬
‫والقهر‪ .‬اإلقناع ال حشر الناس يف األقماع‪.‬‬

‫‪841‬‬
‫أقل‪ ،‬فاحلرية السياسية فوضى حزبية حيسمها االنقالب االشرتاكي‬
‫فيستبد استبدادا منحرفا عن القصد حسب ضالل قائده وحسب‬
‫أوهامه‪ .‬واحلرية الفكرية احنالل يف الرأي وفوضى ال يعوضها‬
‫االلتزام االشرتاكي داخل احلزب الوحيد إال هبزال ببغائي يرثى له‪.‬‬
‫واحلريات العامة كما لقنتها لنا اجلاهلية فساد يف اخللق‬
‫وتلويث للناشئة ومتيع برهنت التجارب على أن االنقالبية ال تغري‬
‫منه قليال وال كثريا‪ .‬ولن تستطيع االنقالبية أبدا أن تريب أمة فقرية‬
‫عفيفة نظيفة‪ .‬وذلك ألن االنقالبية جسم طاف فوق خضم األمة‬
‫الساكن‪.‬‬
‫فمن شر احلريات وسوء فهم احلريات وشر اغتيال احلريات‪،‬‬
‫يدعونا اإلسالم إىل خري ال نعرفه اليوم وسنعرفه غدا بعد أن ميسك‬
‫اإلسالم بيدنا خيطو بنا حنو اخلالص خطوة خطوة‪ ،‬فنتعلم كيف‬
‫نطيع‪ ،‬مث نتعلم كيف حنب صاحب طاعتنا وربانيينا‪ ،‬مث نتفسح يف‬
‫واجب النصيحة فإذا أمرنا باملعروف أو هنينا عن املنكر كان لنا‬
‫تصور واضح ملا نأمر وننهي‪ ،‬وكان لنا سلوك يدعو بلسان احلال‬
‫قبل أن تدعو األلسنة بلغة الكالم‪.‬‬
‫التنظيم الثوري يتطابق ويرتاكب مع اجلهاز التنفيذي‪ ،‬مييل‬
‫إىل ذلك ميال من طبيعته‪ ،‬ويرتاكم السلطان يف نفس األيدي فإذا‬
‫اجملتمعات الشيوعية استبدادية طبقية وإذا احلزب والدولة جهاز‬

‫‪842‬‬
‫واحد حاكم بأمره خينق كل فكر وكل ضمري‪ ،‬ويطوق الرقاب‬
‫تطويقا من شأنه أن يبدأ جلدلية العنف الثوري حلقة تفضي‬
‫حللقة لكي يلبث اجلاهلي يف جهالته يعاين احلياة نكدا شقيا‪.‬‬
‫والتنظيم اإلسالمي غدا لن حتدد وظيفته النظرية املنهاجية‪ ،‬وإمنا‬
‫ستحددها املمارسة‪ .‬فهل يكون للتنظيم واجب اليقظة واملراقبة‬
‫دون الناس؟ وكيف يراقب ويساهم يف الرتبية العامة والنصيحة؟‬
‫وهل ينتخب أهل الشورى من صفوفه وحده أهل احلل والعقد؟‬
‫وأسئلة تنظيمية دستورية كثرية ال جمال لطرحها هنا وال ملناقشتها‬
‫يف اهلواء‪ .1‬واحلاصل لدينا أن قابليات احملبة والطاعة والنصيحة‬
‫يف إحكام التنظيم وتعزيز فاعليته كبرية جدا مبشرة باخلري املوعود‪.‬‬

‫‪ 1‬انظر كتابنا «دولة القرآن» وكتابنا «اإلسالميون واحلكم»‪.‬‬

‫‪843‬‬
‫املستضعفون الوارثون‬
‫ال نطرح من كل تلك األسئلة إال سؤاال واحدا هو‪ :‬كيف يعمل‬
‫التنظيم لكي ينصب جهاده على خدمة املستضعفني الوارثني‪ ،‬على‬
‫خدمة ضعفهم ليصحبوا أقوياء‪ ،‬وعلى خدمة وراثتهم يف اتصال‬
‫شامل دائم بني املقصد والغاية؟ أو بعبارة أخرى ينبغي أن يكون‬
‫التنظيم خنبةَ خدمة ال خنبةَ استعالء‪ .‬واملمارسة الثورية عجمت‬
‫عود الثوريني فوجدهتم ال يقوون على مقاومة إغراء اجلاه واملال‪،‬‬
‫وإغراء السيارات اخلاصة والقصور واألسواق الثرية وسط احلرمان‬
‫العام‪ .‬وال نشك أن وازع القرآن وحده لن يكون رادعا للمؤمنني‬
‫من أصحاب التطوع عن االستيثار واالستعالء‪ ،‬فما تعصمهم‬
‫ربانيتهم من اخلطإ‪ .‬إذن فال بد أن يتدخل وازع السلطان لريسم‬
‫الوجهة وخيصص يف مباديء التنظيم املسؤوليات ختصيصا دقيقا‪.‬‬
‫ويف هذه النقطة يلتقي مجهور األمة بالنخبة القيادية وجند‬
‫الدعوة اجلهادي املنظم‪ .‬إن املستضعفني الوارثني هم املدعوون‬
‫للخري وهم امللبون‪ .‬وهم وحدهم الذين ميكنهم عددهم وضعفهم‬
‫وحضورهم يف كل ميادين العمل من التعرف على خري األخيار‬
‫وفضح نفاق املندسني‪ .‬إن املستضعفني الوارثني هم «املستهلكون»‬
‫لنتاج التطوع والبذل‪ ،‬وهم ضحايا الظلم الفائت واخللط البائت‪،‬‬

‫‪844‬‬
‫فيعرفون اخلري إن رأوا اخلري‪ ،‬وال يلتبس عليهم الباطل يف شخص‬
‫يغادونه ومياسونه‪ ،‬و يلتبس على زمالئه يف التنظيم ال يرونه إال يف‬
‫معرض التأكيد اللفظي على حسن النية وخلوص الوجهة‪ .‬مجاعة‬
‫املسلمني أينما كانوا هم احلارس اليقظ على اإلسالم وعدله‪،‬‬
‫الدالون على داعي اخلري وفضله‪ .‬فذلك نصيبهم من النصيحة من‬
‫كان منهم ال يتجاوز نطاق الطاعة العامة جلهاد التطوع‪.‬‬
‫فمن هم أوال املستضعفون الوارثون ؟‬
‫االستضعاف فعل واقع على املستضعفني‪ ،‬إنه ظلم الغين‬
‫باجلاه أو املال ملن ال سند له يف جمتمعاتنا الغثائية اليت ال تقيم‬
‫وزنا للمسكني وال تعرف له قيمة وال ترعى فيه ذمة‪ .‬وإنه استهزاء‬
‫املستهزئني من املالحدة الساخرين بكل ما هو إسالم وإميان‬
‫وغيب‪ .‬فبهذا يلتقي على صعيد االستضعاف املسكني املظلوم‬
‫على قلة ماله وجاهه واملؤمن املستهزأ به على إسالمه‪ .‬وهبذا‬
‫االعتبار فليس التقسيم بني ظامل ومظلوم وساخر ومسخور منه‬
‫تقسيما طبقيا باملعىن االقتصادي االجتماعي على خط العمل‬
‫وتوزيع نتاج العمل وما يلي ذلك يف منطق اجلدلية املاركسية‪.‬‬
‫إنه تقسيم مذهيب بني املسلمني على إسالمهم وبني الغاوين من‬
‫ضحايا الفتنة اجلاهلية‪ .‬وإن كان هذا التقسيم ميشي إىل حد‬
‫كبري على خط التمايز الطبقي املاركسي‪ ،‬نظرا ألن املرتفني منا‬

‫‪845‬‬
‫وامللحدين هم الذين خوهلم جاههم وماهلم أن حيتكوا بالكفار‬
‫ويعايشوهم‪ ،‬ويتعلموا يف مدارسهم الفكر الذي ميسخ قلوهبم‬
‫والتقنية اليت هبا يستعبدون املساكني‪.‬‬
‫أما الوراثة فهي وراثة بالقوة ال بالفعل كما يقول املتكلمون‪.‬‬
‫إن هذه الوراثة موعود اهلل املدخور ملن آمنوا وعملوا الصاحلات‪.‬‬
‫فما يكون املستضعفون وارثني من كوهنم مظلومني حمقورين؛ لكن‬
‫جتيئهم الوراثة جزاء لقيامهم بأمر اهلل وتنفيذهم إلرادته‪ .‬وإن اهلل‬
‫جعل حكمة قدره معلقة بأسباب هذا العامل وبسعي اإلنسان‪،‬‬
‫فهو سبحانه حمرك كل ساكن‪ ،‬لكن للحركة أسبابا يدركها املنطق‬
‫وتتسلسل عليها األحداث يف نسق منطقي‪ .‬وهذا ما تفسره‬
‫اجلدلية املاركسية يف حركة التاريخ باالستقراء والتعليل‪ .‬فقد رأى‬
‫ماركس الداهية أن اإلنسان مينع اخلري عن غريه ويستأثر بأنانيته‬
‫ويظلم‪ ،‬ومع كل ظلم حقد جييب عنه ويرتبص به‪ .‬ويكمل التحليل‬
‫املاركسي لتولد الطبقية ودواعي الصراع الطبقي التفوق امللحوظ‬
‫للفقراء الناشئني نشأة الكد على املرتفني يف النعيم العاطلني يف‬
‫احللية واحلرير‪ .‬تفوق يف قوة اجلسم وصالبة العزمية وشدة املراس‬
‫صفات نوه هبا فالسفة التاريخ يف كل عصر‪.‬‬
‫وكل أولئك أسباب ظاهرة تؤهل املساكني العاملني أن خيلفوا‬
‫املرتفني يف النعيم الذين أفسدهتم الزينة والفسق‪ ،‬أثقل كاهلهم‬

‫‪846‬‬
‫املال والبذخ احلضاري‪ .‬لكنا نرجع إىل الفقه املنهاجي فنجد أن‬
‫املستضعف أقل الناس أنانية فهو يستجيب لداعي اهلل أسرع من‬
‫غريه بذمة مل تفسدها معاجلة النفاق احلضاري‪ .‬وجند أن حظ‬
‫املستضعف من العقالنية املطغية ومن األثاث املوطد للعادة ِّ‬
‫املمكن‬
‫من اإلغراق يف الشهوات أقل من حظ اآلخر‪ .‬فاملستضعف أقل‬
‫فتنة من صاحبه وأقدر أن يتوب ويبذل مهجته يف سبيل احلق‪،‬‬
‫وكذلك يفعل املستضعفون اجلاهليون حتت شعار الثورة وضرورة‬
‫«الدكتاتورية الربولتارية» النتزاع حق العدل واملساواة من الطبقة‬
‫الظاملة‪ .‬أما يف منطق احلركية املنهاجية‪ ،‬فاملستضعفون يطلبون حق‬
‫العدل ضمنيا‪ ،‬لكنهم ال يهبون للعمل الكلي إال جهادا لنصرة‬
‫دينهم الذي ارتضوه وغصبه من حياهتم املرتفون‪.‬‬
‫يف جمتمعنا اإلسالمي املفتون طوائف من املثقفني أدعياء الثقافة‬
‫يعومون على سطح األمة‪ ،‬هم بثور الوباء وأحالس الكفر‪ ،‬ومنهم‬
‫استثماره‪.‬‬
‫ُ‬ ‫أيضا الرصيد العقالين الضروري لالنبعاث اإلسالمي‬
‫املنحلون منهم املخنثون يطأون األمة بكربياء وقسوة‪ ،‬وأكثرهم‬
‫مروءة ثوريون أو يروحون ريح اإلديولوجية الكافرة‪ .‬واملستضعفون‬
‫من األمة هم سوادها من الفالحني وسائر املساكني‪ .‬وهم األقوياء‬
‫على احلق مثفقون ظلوا على إمياهنم رغم انتمائهم االجتماعي‬
‫للطبقة املخنثة أو امللحدة‪ .‬فهل يلتقي املستضعفون على اإلميان‬

‫‪847‬‬
‫وحده ؟ وهل يستطيع املؤمنون من ذوي املتاع أن يضربوا املثال‬
‫ببذهلم وجهادهم يف الصف إلخواهنم الفاسقني والكافرين؟‬
‫أم هل يكون العنف وحتزب املساكني لنزع السلطان من يد‬
‫الطوائف املرتفة وسيلة اإلسالم كما هو وسيلة الثورة؟ هل يرث‬
‫املستضعفون األرض بقوة السالح يف دار اإلسالم كما ورثوها به‬
‫يف أرض اجلاهلية؟‬
‫نرجع إىل بالد اإلقطاعات «الالتفندية» يف أمريكا اجلنوبية‪.‬‬
‫إن من حسن صنع اهلل لنا أن الشيوعية ودعوهتا يف بالد اإلسالم‬
‫ال تنبت وال يقوم هلا قائم‪ .‬فذلك يدل على أن مستضعفي‬
‫املسلمني ال يزالون متمسكني بدينهم ال تزحزحهم عنه مغريات‬
‫النضال اليساري الكافر‪ .‬ويدل على أن بني املثقفني امللحدين‬
‫فجوة عظيمة وبني املستضعفني‪ ،‬ال يستطيعون عبورها ولو لبسوا‬
‫لألمة لباس الثعالب‪ ،‬ولو يقوم الشيوعي األمحر الكافر خيطب يف‬
‫الناس فيبدأ خطابه بالبسملة خيدع بذلك سامعيه وما ينخدعون‪.‬‬
‫فحالنا بوجود الفجوة السحيقة وببؤس املساكني وانقطاع املرتفني‬
‫يف دوائرهم املفرغة على نزاعاهتم أشبه حبال اإلقطاع األمريكي‬
‫اجلنويب‪ ،‬ويف مثل هذه احلالة يستحيل التنظيم الثوري‪ .‬وإذا محل‬
‫السالح فإمنا حيدث استعماله انقالبا يف سلسلة االنقالبات‬
‫وظاهرة ملرض االنقالبية املزمن‪.‬‬

‫‪848‬‬
‫لذا‪ ،‬ولعهد رسول اهلل لنا أال حنمل السالح على بعضنا‪،‬‬
‫فوراثة املستضعفني ألرض اهلل لن تأيت عن طريق العنف‪ .‬وخيتلف‬
‫االنتقال من حال اجلاهلية عن االنتقال من حال الفتنة‪ .‬فجاهلية‬
‫فرعون وجاهلية قريش واجهها املسلمون مع سيدنا موسى وسيدنا‬
‫حممد عليهما الصالة والسالم‪ ،‬بقوة السالح أما جاهلية الفتنة‬
‫املعاصرة فالدعوة إىل تغيريها‪ ،‬كالدعوة يف كل فتنة‪ ،‬جيب أن‬
‫تكون إقناعا وجهادا مستشهدا وقياما بالقسط إىل أن يبتعث اهلل‬
‫املنقذ‪ .‬وليخسأ املنطق اجلديل وكل منطق سواه! فإننا أمة تؤمن‬
‫بالغيب ومبا عند اهلل مما وراء األسباب‪ .‬ونكرر أننا ننتظر املعجزة‬
‫ونرجوها رجاء الداعني اجملاهدين ال انتظار احلاملني‪ .‬معجزة ترتتب‬
‫على أسباب‪ ،‬وقومة‪ ،‬وتربية‪ ،‬وتنظيم‪ ،‬وزحف‪ ،‬ومصانعة للواقع‪.‬‬
‫رؤوس الفتنة يف دار اإلسالم هم أصحاب السلطان املهيمنون‬
‫على مصادر الرزق ومصادر الفكر ومصادر احلركة‪ .‬وهبذه اهليمنة‬
‫تطحن رحاهم طائفة من املستضعفني هم مناط الرجاء ومعقد‬
‫اخلري لغد اإلسالم‪ .‬إهنم شبابنا الذين نشأوا أيتاما منقطعني عن‬
‫األب واجلد منذ دخلوا تلك املدرسة الشاهق بنياهتا بني األكواخ‪،‬‬
‫املزرية بنظافتها وغرابة أثاثها وكتبها بالبيئة احمليطة وباألسرة اجلاهلة‬
‫املريضة‪ .‬إن شبابنا نشؤوهم على احتقار دينهم واحتقار أهلهم‪،‬‬
‫فهم الضحية الكربى‪ ،‬وهم عصب هذه األمة ورجاهلا غدا‪.‬‬

‫‪849‬‬
‫إهنم أغرار ورطهم أساتذهم امللحدون يف محأة الفساد اخللقي‬
‫والضياع الفكري والعاطفي‪ ،‬وورطهم احلكم الفاسد يف مطالبة‬
‫ومترد وعنف‪ ،‬ينفسون بذلك عن شعورهم بالظلم ويشكو لسان‬
‫حاهلم بؤس ضمائر جديدة ملطخة ملوثة تائهة‪ .‬ورطهم هؤالء من‬
‫حيث ال يشعرون‪ ،‬وورطهم أولئك بالقصد والكيد‪ ،‬فطرحوهم يف‬
‫الشوارع يف نصب ولغوب‪ ،‬وجلسوا من خلفهم على أرائك الرتف‬
‫ومناضد العبث ينتظرون أن تؤسس هلم تعاسة الشباب وضياعهم‬
‫جمدا يتسلقون إليه متلصصني‪ .‬وما شعر رجال احلكم بالورطة‬
‫ألهنم خانوا عهد اهلل وميثاقه فخذهلم اهلل‪ ،‬وال استحىي املثقفون‬
‫امللحدون من عرض بضاعتهم النتنة على األغرار‪ ،‬وهم يعلمون‬
‫أن قلوهبم أنفسهم هواء‪ ،‬وأن أحالمهم شعاع‪.‬‬
‫إن البذرة تطرحها يف األرض ويسقيها الغمام ألمل حصاد‬
‫غين‪ .‬ولو أطللت على البذرة قبل نباهتا لرأيت ما يقطع عليك‬
‫الرجاء‪ .‬إهنا تعفنت بعد أن أصاهبا املاء وتغري لوهنا وطعمها‪ ،‬وهي‬
‫بعد حاملة ألمل الغد‪ ،‬وإمنا غذاها تعفنها بأمزاج تتصفى من بعد‪،‬‬ ‫ُ‬
‫وتربز ساقا نظيفا قويا وورقا أخضر ُمعجبا‪ .‬كذلك واقع الفتنة يف‬
‫أرض اإلسالم‪ ،‬وما هذا اهلزال وما هذه اهلزائم العامة املتوالية وما‬
‫هذا العنف العاجز إال أمزاج وأمشاج تغذي جنني اإلسالم احملمول‬
‫يف أحشاء هذه األمة املستضعفة يف كل ميدان‪ ،‬وهذا يوحدنا على‬

‫‪850‬‬
‫إسالمنا جتاه العامل املتألب‪.‬‬
‫إن مرتفينا ورواد اجلاهلية فينا قوم منا وإلينا‪ ،‬وإن اإلسالم‬
‫سالم وخري‪ ،‬ولن يكون كذلك إن تأسس على صراع الطبقات‬
‫قبل نشأته وبعدها‪ .‬وإن كثريا من بني زعماء الفتنة بني ظهرانينا‬
‫خرجوا من حجر املساكني ودرجوا من عشهم إىل بطولة اخلزي‬
‫وقيادة ركب الفساد‪ .‬تنكروا لتعليم األسرة املسكينة وناطحوا‬
‫السحاب ملا ملكوا لسانا ينطق وقلما إىل العتاهة يسبق‪ .‬حتللوا من‬
‫واجب الدين إىل حرية املواطنة اليت أتاحتها األنظمة الطاغوت‪،‬‬
‫فكان منهم املواطن طه حسني واملواطن سالمة موسى واملواطن‬
‫ابن البوسطجي بطل القومية‪ ،‬يفخر بانتمائه ألسرة مسكينة كأمنا‬
‫يغطي ذلك غطرسة الذئب وشراسته‪.‬‬
‫وعلى ساحة احلكم والثقافة‪ ،‬ومها شران متالزمان يف بالدنا‬
‫أحدمها طليب اآلخر‪ ،‬قادة وأساتذة وزعماء يُصر أحدهم على‬
‫أن يُعرف أنه من أسرة فالحني ومساكني‪ .‬وكأمنا يعترب ذلك مأثرة‬
‫يربر هبا ترفه احلاضر واستكباره يف األرض بغري احلق‪ .‬وال يرث‬
‫هؤالء من ماضي غريهم املستضعف إال خزيا وعارا يوم يذل كل‬
‫جبار عنيد وخييب‪.‬‬
‫التوبة اإلسالمية العامة غداة جيتمع يف يدي اإلمام وازعا‬
‫السلطان والقرآن هي وحدها الكفيلة حبل تناقضاتنا وتعقداتنا‪ .‬ما‬

‫‪851‬‬
‫أحوج املسلمني يومها إىل وعي ُم َوحد يربط بني القلوب يف احلضن‬
‫الدايفء الرحيم! وعي يقلم أظافر البغي والتظامل بيننا‪ ،‬ويضع يف‬
‫الصف األول للجهاد أويل الكفاية والغناء بورقة تعريف جديدة ال‬
‫رصيده‬
‫تسأل عن املاضي وأتعابه‪ ،‬بل تفتح حسابا جديدا يصنف ُ‬
‫تباعا كل جماهد وكل باذل حبسب استحقاقه للوراثة مبا كسبت‬
‫يداه‪.‬‬
‫ومن التوبة يبدأ التنظيم‪ ،‬فتنظيم حماسبة على املظامل يصفي‬
‫احلقوق املسلوبة‪ ،‬وتنظيم حلساب الغد لتعرف األمة رجاهلا؛ فإمنا‬
‫الرجل وبالؤه وغناؤه وقدمه يف اإلسالم كما كان يقول موالنا‬
‫عمر بن اخلطاب رضي اهلل عنه‪ .‬ففي كل وراثة حماسبة وحساب‪.‬‬
‫وينبغي أن ال تفهم وراثة املستضعفني فهما أعوج‪ ،‬ينبغي أن نعلم‬
‫أن دعوة اخلري واألمر باملعروف والنهي عن املنكر ال تعين الفوضى‬
‫واملطالبة اجلاحمة والطفرة احلمقى‪ .‬لن يفرغ مرتفوا األمس ديارهم‬
‫احملصنة املؤثثة ليحتلها مساكني الفالحني‪ ،‬ولن تنزع من ظامل‬
‫األمس رأسه‪ .‬وإمنا ينزع من كل حق معلوم كان سلبه‪ ،‬أو حق‬
‫باملعروف يوخذ من الكاسني باحلرير حىت يستوي الناس مجيعا يف‬
‫الكساء‪ ،‬ومن الطاعم يف سبعة أمعاء حىت تسد جوعه كل طاو‬
‫وتعاجل أمراض كل بائس‪ .‬فاحملاسبة ورد املظامل شأن من شؤون‬
‫الطاعة العامة تسندها اليقظة العامة‪ ،‬واحلساب اجلديد حساب‬

‫‪852‬‬
‫تطوع تنظمه النصيحة العامة‪ .‬واملسرية إىل ذلك طويلة شاقة‪.‬‬
‫عندما ينشر لواء اإلسالم ملوعود اهلل ورسوله وللخالفة على‬
‫منهاج النبوة‪ ،‬سيجد قطر االنبعاث نفسه أمة غريبة يف األرض‪،‬‬
‫أمة مستضعفة حييط الريب حبركاهتا ونواياها‪ ،‬وتستقطب أنظار‬
‫العامل‪ .‬فهذا من شأنه أن يساهم مسامهة قوية يف توحيد الصف‬
‫الداخلي وتقوية الدعوة والتنظيم‪ .‬ها حنن أوالء على املسرح حتدق‬
‫فينا األعني وترتقبنا األطماع واألحقاد‪ .‬فهنا تبدو ضرورة االستبداد‬
‫الرتبوي وضرورة صرف النقد مصرفا بناء‪.‬‬
‫إن النصيحة غري حرية النقد وحرية الصحافة واإلعالم كما‬
‫يفهم احلرية «املواطنون» الذين حطموا سياج األخالق والقيم‪.‬‬
‫النصيحة التزام باخلدمة والتزام بالوضوح يف معاجلة قضية اإلسالم‪.‬‬
‫وهي أيضا دعوة جامعة ال دعوة مفرقة‪ .‬التنابز باأللقاب والنزاع‬
‫النظري واملذهيب ِشَّرة تعلمها مرتفونا من اجلاهلية وعنف‪ .‬أما‬
‫أمة املستضعفني حني يتسلمون إرثهم فالنصيحة تعليم من جهل‬
‫وتشجيع على املعروف وفضح للداء الساكن ولظواهر االنتكاس‬
‫إىل األساليب املفتونة‪.‬‬
‫النصيحة خدمة للمستضعفني والتزام‪ ،‬فمن بذل النصيحة يف‬
‫جالء وشارك يف اليقظة العامة واجلهاد العام انتمى إىل املستضعفني‬
‫ورقم له يف حسابه نصيب‪ .‬ومن عبارة «بذل النصيحة» تظهر لك‬

‫‪853‬‬
‫معاين الواجب والعطاء كما تظهر من عبارة النقد معاين املطالبة‬
‫والتصلب يف اجلدال‪.‬‬
‫جتمع الوراثة وواجب محل أعباء اخلالفة يف األرض وواجب‬
‫أستاذية العامل كل األمة على صعيد املسكنة واإلخوة والتعاون‪.‬‬
‫وإن دعوة اإلسالم املنظمة جمال مفتوح لكل من تاب‪ ،‬ختوله‬
‫التوبة ونصاحتُها أن يبغي عند اهلل مقاما يسلك إليه عن طريق‬
‫اخلدمة للجماعة واحملبة هلا والطاعة‪ .‬ومن ال يكن له توبة نصوح‬
‫فاملستضعفون اليقظون لن تعوزهم قيادة من ذاهتم حتتضنه لكيال‬
‫يدس فكرا مفرقا ورأيا معوقا‪ .‬وسيعمل رجال الدعوة يف وضح‬
‫النهار ونصاحته كما يعمل فالحونا يف وضح الشمس احملرقة‪،‬‬
‫على الصرب واملثابرة واجلد‪.‬‬

‫‪854‬‬
‫الفصل التاسع‬

‫اخلـالفـة‬

‫‪855‬‬
‫ا خلليفـة‬
‫إن فشل القادة يف دار اإلسالم وتعقد املشاكل املتعرضة‬
‫لرجال احلكم‪ ،‬يدفع بدفة السفينة يف مسار مطرد حنو التغيري‪.‬‬
‫وهناك عوامل متنوعة تساهم كلها يف فرض الوجهة اإلسالمية‪،‬‬
‫فكلما اداركت موجة من موجات االنقالبية يف هاوية الفوضى‬
‫وتلتها موجة أخرى‪ ،‬حتمل نذير االهنيار كما محلته سابقتها‪،‬‬
‫قربنا ذلك إىل احلل اإلسالمي‪ .‬تنوء كواهل احلكام بعظم احلمل‬
‫الذي حتملوه‪ ،‬وهم يدركون جيدا أن ما تنتظره منهم األمة من‬
‫حكمة وقيادة قوية حمال ملا يكتنف عقوهلم وإرادهتم من ظالم يف‬
‫الرؤية وجنب أمام األهوال اهلادرة‪ ،‬فما يف آفاقهم إال خمرج املزايدة‬
‫والتسخري‪.‬‬
‫األمر أعظم من أن ينهض له اخلاوية قلوهبم‪ ،‬وينظرون حواليهم‬
‫باحثني عن إهلام فال يرتاءى هلم إال الروغة احلامسة اجلريئة حنو‬
‫الكفر والشيوعية الصرحية‪ ،‬وهذا ال تتبعه عليهم األمة أبدا وال‬
‫على املساومة اخلبيثة باسم اإلسالم‪ .‬وكل ذلك مما يصنع ربك‬
‫ملستقبل األمة املشرق‪ ،‬القريب غري البعيد‪.‬‬
‫وقد فضح اهلل قومنا العرب فضيحة نكراء ليميز اهلل اخلبيث‬
‫من الطيب فيجعل اخلبيث بعضه على بعض فريكمه مجيعا فيجعله‬

‫‪856‬‬
‫يف جهنم‪ ،‬أولئك هو اخلاسرون‪ .‬ذلك حني نبغ منا بطل العروبة‬
‫وعدو اإلسالم ففكر وقدر‪ ،‬فقتل كيف قدر! وزعمت له شياطينه‬
‫أن على مسرح العامل دورا لقيادة القومية العربية ينتظر من‬
‫يتقمصه‪ ،‬وذلك ما فعله وكتبه يف هرائه املسمى «فلسفة الثورة»‪.‬‬
‫وكان الدور حقا معرض الفضيحة‪ ،‬رفع اهلل عليه هذه النتنة املفرقة‬
‫الرغام‪ .‬وحنن العرب ال نزال جنر خزي‬ ‫جلماعة املسلمني ليخبط هبا َّ‬
‫قوميتنا يف خرائبنا على مسمع ومرأى من العامل‪ ،‬ال حنسن إال‬
‫األنني… والغناء واألناشيد البطولية بعد اهلزمية‪.‬‬
‫يتأخر فهم الناس لألحداث فال يدركون ما دهاهم إال بعد‬
‫ابتعاد الداهية أو بعد أن يألفوها‪ ،‬وقد جلبت علينا القوميات‬
‫يف دار اإلسالم دواهي ذوات العدد‪ ،‬دمهتنا وفاجأتنا فجزعنا من‬
‫عجزنا وقلة َغنائنا‪ .‬واآلن بعد سنة من داهية انشطار باكستان‬
‫وبعد ست سنوات من هزمية العرب النكراء‪ ،‬أخذت هذه األمة‬
‫تدرك ما هنالك‪ ،‬وحيلل العقل ويرفض الضمري ويعاف كل هذه‬
‫التصرحيات املكررة وكل هذا التدليس السياسي الذي ال خيفي عن‬
‫أعيننا حرية القادة وسخافتهم‪.‬‬
‫وهكذا تعلن األحداث‪ ،‬ويعلن الوعي يف صفوف األمة وتعلن‬
‫آيات اهلل الفصيحة يف الكتاب ويف اآلفاق‪ ،‬أن مثت دورا كونيا‬
‫تعرضه يد القدرة اإلهلية على الطالبني‪ ،‬وتستعرض له املرشحني‪،‬‬

‫‪857‬‬
‫وقد أتى أمر اهلل وحق احلق لتعود األمة إىل عزها يف حضن خالفة‬
‫على منهاج النبوة‪.‬‬
‫إن السلطة يف يد احلاكمني املرتفني العاضني كانت لعنة على‬
‫أصحاهبا يف تاريخ هذه األمة املفتون‪ .‬وهي اليوم لعنة على قادتنا‬
‫صارخة تلهبهم عليها سياط اهلل الذي يبعث من عباده من يشاء‬
‫ملا يشاء‪ .‬ومن يتدبر واقعنا املعاصر ببصرية وإميان يتبني له كيف‬
‫تتجه عوامل التاريخ العاملي وعوامل احلركة واالضطراب بني األمة‬
‫املسلمة وعوامل الشعور بالفراغ والتفاهة والفشل العام واالهنيار‬
‫االقتصادي على كل مستوياتنا حنو النقطة املركزية‪ ،‬نقطة انتهاء‬
‫عهد فاشل باالعرتاف املتبادل‪ ،‬واالنطالق على أساس جديد‬
‫يبعث الثقة من مواهتا والرجولة من احنالل املرتفني ورهق املساكني‪.‬‬
‫وما مث إال اإلسالم‪ ،‬إسالم صدق ال إسالم شعار ومساومة‪.‬‬
‫تعرض يد القدر اإلهلي دور القيادة اإلسالمية للطالبني‬
‫الصادقني‪ .‬ومن قادتنا اليوم صادقون يف طلبهم لإلسالم‪ ،‬ال‬
‫نشك يف ذلك‪ .‬لكن الذي جيب أن نفهمه هو أن إسالم هؤالء‬
‫إسالم من وراء ثالثة حجب ! انه إسالم ال يقتحم العقبة بل‬
‫حيوم حوهلا ال يدري ما هي وال كيف تُعا َل إليها األسباب‪.‬‬
‫حجاب األنانية خيلط يف إرادهتم داعي تذلل النفس يف اجلهاد‬
‫هلل مع دواعي الزعامة والرئاسة‪ .‬وقد خلف لنا بطل العروبة من‬

‫‪858‬‬
‫الكربياء البطولية أمحاال لو وزعت على مجاعة ملا وسع أحدهم‬
‫آفاق السماء واألرض استكبارا‪ .‬واإلسالم ال يقبل خبث الكربياء‪،‬‬
‫سيما يف قائد اجلهاد اإلسالمي‪ .‬فمن هنا ال نزال ننتظر عبدا‬
‫خاضعا هلل مسكينا هينا‪ ،‬إن كان مل يرع الغنم على خاالته فيتذكر‬
‫ذلك ليقمع نفسه‪ ،‬فليكن عمر بن عبد العزيز ينزع ديباج الرتف‬
‫ليلبس قطن املساكني‪.‬‬
‫وحجاب العقالنية والغفلة حيول بني طاليب اإلسالم وبني ما‬
‫يبغون‪ ،‬إهنم قوميون اشرتاكيون أوال‪ ،‬أو هم أباطرة محاة لإلسالم‬
‫يف دائرة اإلسالم اإلمسي خيالفون القول عمال‪ .‬وهم مجيعا ال‬
‫يذكرون اهلل إال قليال مذبذبني بني ذلك ال إىل هؤالء وال إىل‬
‫هؤالء‪ ،‬ومن يضلل اهلل فلن جتد له سبيال‪.‬‬
‫وحجاب العادة حيول بينهم وبني الفحولة‪ ،‬فمن نشأ منهم‬
‫يف الرتف والبذخ فشهواته أقوى من أن تسمح له بطهارة‪ ،‬وأمواله‬
‫لعنة تثقله وهو حيملها الهثا حائرا‪ .‬ومن نشأ يف غري ذلك فما‬
‫يعرف شجاعة الصادقني املتئدة لكن تعصف به محى االشرتاكية‬
‫وطيش الذي ال حيب أن يتعلم وال يشعر حباجة ألن يتعلم‪.‬‬
‫سيأيت اهلل ربنا بقائد جماهد ترشحه يد العزة والقدرة خلالفة‬
‫رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬لن يهبط علينا من مساء األرض‪،‬‬
‫بل سينبت من بيننا كما فطر اهلل أنبياءه الوارثني‪ ،‬فكل شيء من‬

‫‪859‬‬
‫حالنا يناديه‪ ،‬وكل عويصة من أمراضنا تنتظره‪ .‬ولتشتت األمة يف‬
‫أقطار قومياهتا فسيمضي وقت قبل أن حيق للقائد اجملاهد صدارة‬
‫األمة بكاملها واحتالل جملس اخلالفة‪ .‬إنه يف قطر اإلنبعاث صوت‬
‫يؤذن وفكر رائد جمدد‪ ،‬وروحانية متطهرة ويد تنتظم حركتها على‬
‫املقود على إيقاع االجتهاد وعلى إيقاع التوفيق الغييب اإلهلي الذي‬
‫خيص اهلل به من أخلص له الوجهة‪.‬‬
‫ال بد من فرتة يربهن فيها القائد اجملاهد يف قطره على كفاياته‬
‫بالنجاح امللموس الساطع قبل أن تنفتح له يف أرجاء دار اإلسالم‬
‫قلوب األمة وتنضوي حتت لوائه‪ .‬فهو قائد وإمام يف بلده حىت‬
‫يظهر غناؤه يف التقدم حنو اهلدف االقتصادي ويف حتويل اجملتمع‬
‫الغثائي مجاعة حية‪ .‬ومىت اجتمع يف يده قطران من أقطار الفتنة‬
‫حق له أن يعلن اخلالقة على منهاج النبوة‪ ،‬فإن أعوص شيء علينا‬
‫بشهادة األمس واليوم أن نتجاوز قماءة القطرية‪ ،‬وجربوت احلدود‬
‫اجلغرافية والعرقية‪.‬‬
‫لعل شاكا يشك وسائال يسأل‪ :‬فيم هذه اجلمل الشعرية‬
‫احلاملة وأين حنن من اخلالفة ومقوماهتا؟ ال نكتفي باإلجابة أن‬
‫نؤكد أن كلمة واحدة تقال بقوة لقوم فارغي األفئدة تعد إجيابية‬
‫عظيمة وأن ما وصف وكتب فقد خطا خطوة حنو الواقع‪ ،‬لكن‬
‫نلقن الغافل أن اهلل ربنا موجود‪ ،‬وأنه وعدنا ورسوله وعدا ما هو‬

‫‪860‬‬
‫مبخلفه‪ ،‬وأن الكدر سيزول ليصفو لنا اخلري‪ ،‬ولنعز بعد ذل‪.‬‬
‫ومن يقرأ القرآن ويفهم إشارته‪ ،‬فقد تدبر آية اهلل يف وعد اآلخرة‬
‫واقرتاهنا بالرمحة هلذه األمة‪ .‬ومن ال تقرع مسعه نذر اهلل قستقرعه‬
‫قارعة ليزول عن طريق اإلسالم‪ .‬ولتعلمن نبأه بعد حني‪ ،‬وقد أتى‬
‫أمر اهلل وخرت األوثان على األذقان‪.‬‬
‫نعطي عن اخلليفة املرتقب صورة مثالية لطبيعة الغيبية احمليطة‬
‫مببعثه‪ ،‬فما هو إال رجل يأكل الطعام وميشي يف األسواق‪ ،‬لكنه‬
‫يومها فاتح لعهد جديد يستمر بعد موت األشخاص دورا خالدا‬
‫إىل يوم الدين‪ .‬هلذا فلنمض يف تفقهنا املنهاجي لننظر يف التشريع‬
‫الدستوري املنظم للخالفة النبوية املوجه هلا‪ .‬وقد كتب يف املوضوع‬
‫أحباث ال بأس هبا غداة تأسيس باكستان‪ ،‬يف مرحلة من أحالم‬
‫هذه األمة؛ إذ ظنت أن اإلرادة الشعبية وما يصحبها من محاس‬
‫يكفيان لفرض نظام إسالمي يعزف عنه املثقفون ويتجاهلونه‬
‫ويتنكرون له‪ ،‬كما جتهله العامة من أصحاب احلماس وجتهل‬
‫مقوماته ومقدماته الرتبوية‪ .‬وقد ورثنا أيضا عن مؤرخي النظم‬
‫اإلسالمية سردا الجتهادات فقهائنا يف تنظيم احلكم بعد فتنة‬
‫احلكم وذهاب معاين اخلالفة مع بقاء شكلها‪ .‬فلنستعرض قليال‬
‫من اجتهاداهتم‪.‬‬
‫يذكر الغزايل يف كتابه «فضائح الباطنية» أن علماء اإلسالم‬

‫‪861‬‬
‫على عهده عدوا من صفات اإلمامة عشر صفات هي‪ :‬البلوغ‪،‬‬
‫والعقل واحلرية‪ ،‬والذكورية ونسب قريش‪ ،‬وسالمة حاسة السمع‬
‫والبصر‪ ،‬والنجدة‪ ،‬والكفاية‪ ،‬والورع‪ ،‬والعلم‪.‬‬
‫وال إشكال يف أن هذه الشروط العشرة شروط فقهية مؤسسة‬
‫على الكتاب والسنة‪ ،‬وجيمعها الكفايات الثالث ‪ :‬الكفاية الروحية‬
‫والفكرية والعملية‪ .‬باستثناء شرطني أحدمها تشريع إسالمي حمض‬
‫ال تعرفه اجلاهلية وهو املتعلق بالذكورية‪ ،‬والثاين شرط طاملا وقف‬
‫عنده علماؤنا وداروا من حواليه واستنطقوه فاستعجم عليهم‪،‬‬
‫وهو شرط النسب القريشي‪ .‬فأما مكان املرأة يف ظل اإلسالم‬
‫ووظيفتها فقد حدده القرآن‪ ،‬وجعلهن موطنا لسكن الرجل‬
‫واستقرار األسرة وما يليه من استقرار اجلماعة‪ .‬فما ينبغي للمرأة‬
‫أن تكون العنصر الفاتن املتقلقل بوظيفتها االجتماعية فتضاعف‬
‫ما هلا من فتنة وتقلقل بطبيعة نشأهتا‪ .‬وإمنا عليهن أن يقرن يف‬
‫بيوهتن ليكن مربيات ولتكون اجلنة حتت أقدامهن إن أنشأن األمة‬
‫وكألهنا وحطنها بالعناية‪ .‬وصرح احلديث الشريف بأن األمر العام‬
‫من أمور املسلمني عرضة للخسران إن وليته املرأة‪ .‬وهذا ال يعين‬
‫بالطبع أن حتصر املرأة يف بيتها يف غري معروف‪ ،‬وإن منهن من‬
‫ينفعن األمة بعلمهن وعملهن‪ ،‬فما علينا إال أن ننكر املنكر‬
‫وندعو للخري ونعرف املعروف‪.‬‬

‫‪862‬‬
‫وأما النسب إىل قريش واألحاديث املخربة بأن األئمة من قريش‬
‫واردة يف الصحيح‪ ،‬فقد وقف العلماء أمام األحاديث الواردة فيه‪،‬‬
‫وطعن من طعن‪ ،‬وضعف من ضعف‪ .‬وكانت الغلبة يف عصور‬
‫طويلة لقريش على أمر األمة فرتسب من كل ذلك هذا الشرط‬
‫القبلي لغزا معمى إال على املبصرين‪ .‬إن اهلل خص آل البيت‬
‫الكرام بالفضل وسعة العلم والبسطة يف النورانية‪ .‬ومىت عرضت‬
‫العارضات وكان من بيننا أبو حسن يف مثل علم اإلمام األعظم‬
‫وحلمه وفحولته‪ ،‬فال أحق هبا منه‪ .‬لكن النسب القبلي ال مزية‬
‫له من نفسه‪ ،‬بل هو العصبية بعينها والرجعية والتنكر لإلسالم‪.‬‬
‫ولبيس نظام يقيس كفاية الناس بانتمائهم العرقي‪ .‬كيف ورسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم أمرنا أمرا صرحيا غري مطعون فيه أن‬
‫نسمع ونطيع ولو ويل علينا عبد حبشي كأن رأسه زبيبة ! ال‬
‫يعنينا هنا إن استغل اجلامدون مثل هذا احلديث لتربير املنكر يف‬
‫زمان الفتنة‪ ،‬وإمنا يعنينا أن إمام األمة وخليفة رسوهلا ينبغي أن‬
‫يكون أكرم الناس على اهلل وعلى الناس‪ ،‬والقرآن الكرمي يعلمنا أن‬
‫أكرمنا عند اهلل أتقانا‪ ،‬ورسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم يقول‪: 1‬‬
‫«ال فضل لعربي على عجمي إال بالتقوى!»‪.‬‬
‫ومن خيض يف أهنار فقهائنا ومن تبعهم‪ ،‬وإن كان الغزايل‪ ،‬ال‬

‫‪ 1‬رواه اإلمام أمحد والبيهقي وأبو نعيم من حديث جابر بن عبد اهلل‬

‫‪863‬‬
‫يعثر على الآللئ‪ ،‬ألن الآليلء ال توجد إال يف البحر‪ .‬أال وان‬
‫البحارين املهرة والغواصني على بصرية من أهل اهلل أوليائه وأحبائه‬
‫هم من خيرجون األمة من ورطاهتا‪ .‬وقد فسر أحد الصوفية كون‬
‫األئمة من قريش بأن قريشا اليت منها يكون األئمة ليست القبيلة‪،‬‬
‫بل هي أمة الداعني إىل اهلل اجلامعني القارشني‪ ،1‬وال يكون إماما‬
‫يش ال َق ْر ِش علم‬
‫إال من مجع األمة ومجع احلكمة والروحانية‪ .‬ف ُقَر ُ‬
‫وهبته احلكمة ومل يهبه التأويل‪ ،‬ومن يتصدى ملرياث رسول اهلل‬
‫صلى اهلل عليه وسلم وخالفته يف أمته فلن يكونه إال إن عد يف‬
‫املسبحني يف القارشني‪ ،‬الذين يسبحون اسم رهبم ويقرأون بامسه‪،‬‬
‫عد‬
‫جيمعون ما ال يقدر على مجعه إال أهل الكمال‪ .‬واحلديث بَ ُ‬
‫إخبار بالغيب ألن أهل الكمال القارشني اجلامعني بعده صلى اهلل‬
‫عليه وسلم هم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي‪ ،‬وهم من قبيلة النيب‪.‬‬
‫ذكر أبو يعلى أحاديث يف إمامة قريش وما منها إال ما يؤيد‬
‫أن النص على قريش إخبار بواقع زمين ال تكليف وتشريع‪ .‬وأظهر‬
‫هذه األحاديث ما رواه عن أيب املثىن احلمصي قال‪ :‬قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :2‬الخالفة في قريش‪ ،‬والحكمة في‬
‫األنصار‪ ،‬واألذان في الحبشة»‪ .‬فهذا يشري إىل أحداث مفردة‪،‬‬

‫‪ 1‬قال يف اللسان‪ :‬القرش‪ :‬اجلمع والكسب و الضم من هنا وهنا‪.‬‬


‫‪ 2‬رواه اإلمام أمحد والرتمذي من حديث أيب هريرة‬

‫‪864‬‬
‫وما حيتكر القريشيون اخلالفة باستناد على مثل هذه األحاديث‬
‫إال حبق يشبه حق كل أنصاري يزعم أن احلكمة موقوفة عليه‪ ،‬أو‬
‫حق حبشي يلزم الناس أن يقفوا عن اآلذان حىت يكون هو املؤذن!‬
‫وخري من شروط الغزايل وعلمائه اجتهاد شيخ اإلسالم ابن‬
‫تيمية رمحه اهلل يف سياسته الشرعية؛ فقد عقد الفصل الثالث من‬
‫كتابه للبحث عن الشرطني القرآنيني يف من يلي األمر العام‪ .‬يف‬
‫ت إِ ْح َد ُ‬
‫اه َما يَا‬ ‫القرآن اقرتاح ابنة سيدنا شعيب على أبيها‪﴿ :‬قَالَ ْ‬
‫ي ْال َِمين﴾‪،‬فالقوة‬ ‫ت الْ َق ِو ُّ‬
‫ْج ْر َ‬
‫استَأ َ‬
‫استَأ ِ‬
‫ْج ْرهُ إِ َّن َخيـَْر َم ِن ْ‬ ‫ت ْ‬ ‫أَب ِ‬
‫َ‬
‫واألمانة مؤهالن للوفاء بالذمة‪ .‬واقرتح سيدنا يوسف على عزيز‬
‫ض إِنِّي َح ِفي ٌ‬
‫ظ‬ ‫قال‪﴿:‬اج َعلْنِي َعلَى َخ َزائِ ِن ْال َْر ِ‬
‫ْ‬ ‫مصر أن يعلمه‪،‬‬
‫يم﴾‪ .‬فلما كان حفظ اخلزائن يبغي األمانة‪ ،‬كان األمني احلافظ‬ ‫ِ‬
‫َعل ٌ‬
‫واألمني العليم باحلساب هو األقوى على الوظيفة‪ .‬وملا بعث اهلل‬
‫اصطََفاهُ‬‫طالوت ملكا لبين اسرائيل أخربهم النيب قائال‪﴿ :‬إن اللَّهَ ْ‬
‫ْج ْسم﴾‪ .‬فاجتمعت خصلتا‬ ‫ادهُ بسطَةً فِي ال ِْعل ِْم وال ِ‬
‫َ‬ ‫َعلَْي ُك ْم َوَز َ َ ْ‬
‫األمانة والقوة يف املوقف اجلهادي عند كفاية العقل وكفاية القوة‬
‫البدنية‪ .‬مل يذكر ابن تيمية كل هذا‪ ،‬وإمنا جعلناه مقدمة لنتأمل‬
‫مقارنة ابن تيمية بني قوة خالد وأمانة أيب ذر‪ ،‬وإحلاحه على أن‬
‫اخلصلتني قلما جتتمعان يف شخص واحد‪ ،‬مث تقسيمه الشرطني‬
‫والوفاء هبما حسب طبيعة الوظيفة‪ ،‬فيكتفى عنده باألمانة يف مجع‬

‫‪865‬‬
‫املال وحفظه‪ ،‬وبالقوة يف إمارة اجلند‪ ،‬والورع يف القضاء وهكذا‪.‬‬
‫ويذكر ابن تيمية رمحه اهلل أن الضرورة تبيح تولية حىت من ليس‬
‫أهال للوالية العامة‪ ،‬يذكر كالمه ما اختصم فيه علماء الشيعة يف‬
‫جواز إمامة املفضول‪.‬‬
‫وإن كنا وجدنا عند الغزايل شرطا قبليا لوجود نص صحيح‬
‫حمري ال يهتدي لكشفه إال فحول الرجال‪ ،‬فإن عند ابن تيمية على‬
‫فضله وجهاده عقلية تربر وال تغري‪ ،‬ولعله كان يف قبضة املماليك‬
‫أعجز من أن يقرتح جتديد اخلالفة‪ ،‬وإمنا أحل يف كتبه إحلاحا كبريا‬
‫على أن أويل األمر املقصودين يف القرآن الواجبة طاعتهم على‬
‫األمة هم األمراء والعلماء‪ .‬وكأمنا كان يرى رمحه اهلل أن قد ُح ّم‬
‫القضاء فال يلي األمر العام إال حامل سيف الغصب ميشي يف‬
‫ركابه علماء جزئيون نسبيون مربرون‪ .‬أما حنن فقد وسع اهلل علينا‬
‫من حرية طواغيتنا لنقول بوضوح‪ :‬إن اخلالفة على املنهاج النبوي‬
‫حتدد الكفايات باهلدف واملقصد والغاية‪ ،‬ولن يطابق هذا املعيار‬
‫أمراؤنا وقادتنا ببأس ومراوغة لكن بالسعي إىل االكتمال‪ ،‬باقتحام‬
‫العقبة صادقني على السمت والتؤدة واالقتصاد‪.‬‬

‫‪866‬‬
‫حنن والفوضى الدميقراطية‬
‫لنقل أوال إن ما نسميه بالفوضى الدميقراطية هو النظام اللربايل‪،‬‬
‫فهو يف بالد اجلاهلية دميقراطية أكثر مما هو فوضى وعندما ننقله‬
‫حنن ونرتمجه لننظم جمتمعاتنا على سننه يكون فوضى أكثر مما‬
‫يكون دميقراطية‪.‬‬
‫األنظمة اللربالية عاشت عليها أمم أوربا وأمريكا وال تزال‪،‬‬
‫وهي يف دار اإلسالم توشك أن تصبح أثرا بعد عني‪ ،‬أو قل أثرا‬
‫بعد وهم‪ .‬فإن أمتنا املسكينة تتغري عليها األمساء‪ ،‬وتسمى هلا‬
‫األنظمة املستوردة باألسامي‪ ،‬وهي يف احلقيقة حتت نري استعمار‬
‫بوليسي خيلف عليه احلاكم املواطن حاكما أجنبيا‪ ،‬وذلك معىن‬
‫امللكية العاضة‪ ،‬وذلك معىن ما جاء يف حديث نبوي أن احلكام‬
‫بعد امللكية العاضة يف دار اإلسالم يتهارشون على احلكم هتارش‬
‫األمحرة‪ .‬وقد برهنت األنظمة املستوردة على فشلها مجيعا‪ .‬فأمامنا‬
‫اخلالفة على منهاج النبوة غدا‪ ،‬وستجد يف مقابلتها يف العامل‬
‫نوعني من النظام السياسي مها اللربايل واملاركسي‪ .‬وليس أسهل‬
‫من التلفظ باسم اخلالفة وال أيسر من النظر العام يف املنهاج‬
‫النبوي وحركيته‪ .‬لكن قيام اخلالفة وإن طابت هبا األنفس ورغب‬
‫فيها املسلمون دوهنا عراقيل كاجلبال‪ .‬من اليسري أن نؤكد أن‬

‫‪867‬‬
‫اخلالفة نظام مستقل ال ينبثق عما تعرفه األنظمة اجلاهلية‪ ،‬ومن‬
‫اليسري أن تقرأ تاريخ اخللفاء الراشدين ونستلهمه احلكمة‪ .‬لكن‬
‫عاملنا املعقد غري عامل عمر بن اخلطاب‪ ،‬وتاريخ األنظمة اجلاهلية‬
‫تاريخ ثري غين بالتجاريب‪.‬‬
‫فكما دون عمر بن اخلطاب الدواويني واسرتشد حبكمة‬
‫األمم اجلاهلية دون أن خيط يف ديوان املسلمني كفرا أو يزيغ عن‬
‫روح اإلسالم‪ ،‬وكما قال عمر للعامل سالما وخريا وأمنا‪ ،‬فنحن‬
‫أحوج لتقصي األنظمة السياسية اجلاهلية ندرسها لنتعلم مبنهاجنا‬
‫املستقل‪.‬‬
‫فأول ما نطرحه من أسئلة على النظامني املعاصرين هو كيف‬
‫نصل نظام الدولة بالقاعدة اجلماعية؟ كيف نقاوم االستبداد اجلامث‪،‬‬
‫وكيف نقطع الطريق على انقالبية متسلسلة جتدد االستبداد؟ قال‬
‫املثقف الآلييكي‪ :‬ما هي إال الدميقراطية!‬
‫األمة يف أمسها ويومها مفصولة عن جهاز احلكم فصال طبقيا‬
‫واضحا‪ .‬إن الذين يشكلون اجلهاز احلاكم من بين جلدتنا لكنهم‬
‫أغراب عن األمة‪ ،‬الييكيون مغربون‪ ،‬وامليل الطبيعي لكل الناس‬
‫أن يسريوا يف ركاب احلاكم‪ ،‬فما يتعلم متعلم إال لينضم إىل‬
‫الطبقة احلاكمة‪ ،‬وال جيتهد جمتهد يف ميادين الثقافة والعلم إال‬
‫لينال احلظوة من تلك الطبقة‪ .‬فحكمها على األشياء هو املعيار‪،‬‬

‫‪868‬‬
‫وإرادهتا نافذة‪ .‬وملكان هذا الفصل متثل الدولة طائفة متحكمة‬
‫بالسلطان البوليسي وبالدهاء املسخر‪ .‬فمن كان من دولنا ال يزال‬
‫يف فرتة ما قبل االنقالب االشرتاكي يعمي الواقع التحكمي بطالء‬
‫الدميقراطية‪ ،‬ويوهم بتعدد األحزاب وحرية الرأي أن األمة حتكم‬
‫نفسها بنفسها‪.‬‬
‫إن مصادرة احلكم واالستبداد به جيعل عالقة القاعدة احملكومة‬
‫باحلاكمني عالقة غري منطقية وغري قارة‪ ،‬ألن احلاكم يتوهم أنه‬
‫ال خيطىء أبدا وأن بوسعه أن ميلي اإلرادة من أعلى فريبح بذلك‬
‫الوقت ويتجنب ضياع اجلهد يف تبصري قوم ال يستطيعون أن‬
‫يبصروا‪ .‬وبالفعل فتناقضات احلاكم مع نفسه‪ ،‬وثعلبية رجال‬
‫السياسة وتقلبهم وتلوهنم‪ ،‬جيعل من املستحيل أن يبصر الناس‬
‫حاضرهم ومستقبلهم‪ ،‬ومن املؤكد على الدعوة حماولة إشراكهم يف‬
‫التفكري والتدبري‪ ،‬وحماولة كسب ثقتهم بعد أن أصبحوا ال يثقون‬
‫بشيء‪ ،‬وبعد الذي بلوه من املستكربين‪.‬‬
‫فاخلالفة على املنهاج النبوي ترث يف أرض ما قبل االنقالب‬
‫االشرتاكي وما بعده وحدة يف القاعدة ومتزقا بني طبقة املثقفني‬
‫املنفصلة الطافية‪ .‬وقبل احلكم اإلسالمي قد يوهم املتمزقون‬
‫بصراخهم واحتجاجهم أن تعدد أشالئهم ما هو إال تعبري عن‬
‫حرية الرأي ودميقراطية املطالبة‪ .‬وهم يزعمون اليوم أهنم خيدمون‬

‫‪869‬‬
‫األمة ويناضلون بامسها دفاعا عن حقوقها يف صف املعارضة‪ ،‬كما‬
‫يزعم منافسوهم يف سوق النخاسة السياسية أن االستبداد بالرأي‬
‫خدمة لألمة وتوجيه‪.‬‬
‫هذا التمزق املوروث يرأبه غداة اإلسالم رجوع من خيتار ذلك‬
‫إىل صف العاملني املساكني مندجما يف الصف‪ ،‬فإن أىب فمرغما‬
‫ب من داء كلبه‪ .‬فإنه مجيل جدا أن يعيش‬ ‫حمنوا عليه ُيََّرض ويُطَ ُّ‬
‫الناس أحرارا‪ ،‬ووقت اجلاهلية ميأله صراخ األسواق السياسية‬
‫وخصامها‪ ،‬لكن من يزعم أن احلرية هي استبدال جهاز العنف‬
‫البوليسي بتسخري يعنف على الضمائر ويسخرها إضافة إىل‬
‫جهاز قمعي أعنف فإمنا ميين الناس بالكذب والبهتان‪ .‬وال يرضى‬
‫بدميقراطية املساومات وشراء األصوات واآلراء بسلطان املاليني‬
‫إال جاهليون مكتظون‪ ،‬وقتهم فراغ وحياهتم فراغ‪ ،‬إن مل ميألوها‬
‫بالضجيج واالضطراب الذي يومههم أن هلم يف احلياة وظيفا غري‬
‫وظيف اآللة املنتجة املستهلكة الكانزة!‬
‫هتارش السياسيني يف أسواق الدميقراطية احملتضرة ببالدنا ال‬
‫يعين األمة يف شيء‪ ،‬وإمنا يزعجها جبعجعة الرحى الدائبة‪ .‬وهي‬
‫عن ذلك الشأن يف شغل بالبحث عن الكسرة والدرهم‪ .‬فوحدة‬
‫األمة املوروثة وحدة يف الفقر ووحدة يف اخلوف ووحدة يف عدم‬
‫الثقة بشيء‪ .‬إن كان للمتهارشني مزية على األمة وفضل فذلك‬

‫‪870‬‬
‫أهنم مبثال حياهتم املرتفة الباذخة وبتفاهة أحالمهم وفضحهم‬
‫بعضهم بعضا يفتحون أعني األمة على هذه احلقيقة املركزية‪ :‬وهي‬
‫أهنم ومنافسوهم ليسوا أهال للثقة وال لالحرتام‪ .‬وما رأيك بزعماء‬
‫املع ِول على‬
‫العدل واملساواة يتحولون من سوق النزاع الالئم‪ْ ،‬‬
‫صفحات اجلرائد بأن خصومهم احتجنوا املال وشيدوا القصور‪،‬‬
‫إىل سوق هلوهم وعبثهم يف قصور جتاور قصور اآلخرين وبتبذير‬
‫مثل تبذيرهم؟‬
‫ذلك التمزق وهذه الوحدة على الشك واخلوف وعدم الثقة‬
‫يشكالن تعفنا عاما ووعيا عاما بأن الطبقة املستبدة املتهارشة‬
‫طبقة من األغيار ال ستحقون أن يتبعوا وال يستحقون أن حيرتموا‪.‬‬
‫وهذا الوعي بالتعفن وكراهيته تسرع بتحويل القاعدة املسكينة من‬
‫كوهنا مفعوال سلبيا عانيا إىل فاعلية االستجابة لداعي اإلسالم‬
‫وااللتحام به والثقة‪.‬‬
‫خيتلف وضعنا عن وضع الدميقراطيات املتعددة األحزاب يف‬
‫شكل العالقات بني القاعدة والدولة ويف نوع هذه العالقات‪ ،‬فمن‬
‫حيث الشكل ينتخب الناس مجيعا مبا يسمى االقرتاع العام املرشح‬
‫للمنصب يف الدولة‪ .‬فاملرشح ينشر طلبه ويعرض نواياه‪ ،‬ويقدح‬
‫فيه اخلصوم‪ .‬وتتضارب األحزاب على توجيه الرأي العام حىت تنتج‬
‫االنتخابات نتاجها‪ .‬فإذا نقلنا حنن الشكل االنتخايب يف تقليدنا‬

‫‪871‬‬
‫القردي عاجلناه بعقلية متسخه مسخا زائدا على مسخه األول‪ ،‬وإذا‬
‫باالنتخابات مهرجان هزيل ال متارسه األمة إال كما متارس الطقوس‬
‫السحرية ومعها عنت السخرة والتكليف‪ .‬وهنا يظهر االختالف‬
‫النوعي يف عالقتنا املفتونة بالدولة‪ ،‬فحيث يكون التصويت عملية‬
‫حرة ال يكره عليها الناس إال اإلكراه املعنوي بعويل الدعاية‬
‫اإلعالمية‪ ،‬جيند قادتنا املسلمني املساكني ليزاولوا وثنية االنتخاب‬
‫إكراها شديدا‪ .‬وحيث يقنع الناس يف أرض اجلاهلية أن مصاحلهم‬
‫تقضى إن صوتوا لفالن‪ ،‬يقال للمسلم‪ ،‬وهو البليد العقيم يف نظر‬
‫الطاغوت‪ ،‬ضع يف غالفك الورقة البيضاء‪ .‬وال يكفي ذلك حىت‬
‫يُعوذوه بتعويذة سحرية فيخربونه أن اللون األبيض لون الطهارة‬
‫والسعد‪ .‬وستنتهي شعوذة السياسيني إىل قرار‪ ،‬وبيس القرار‪.‬‬
‫يف أرض اللربالية اجلاهلية وحدة يف جهاز الدولة يتصاحلون‬
‫عليها‪ ،‬ويف الواجهة األخرى تعدد يف صفوف الشعب متثله األحزاب‬
‫واحلركات‪ .‬أما عندنا فالعكس هو الصحيح‪ ،‬من جهة احلق أمة‬
‫يوحدها الفقر والشك والريبة‪ ،‬ومن جهة الباطل املتهارشون على‬
‫احلكم املتعددو الصبغات والوجهات‪ .‬يتخاطبون بلغة مشرتكة‬
‫بينهم ال تفهمها األمة‪ ،‬يعيشون يف نفس القصور ويركبون نفس‬
‫السيارات وحيتقورن األمة نفس االحتقار‪ .‬وأعالهم ادعاء أنه‬
‫نصري الطبقة الكادحة أمعنهم يف البذخ والكذب‪.‬‬

‫‪872‬‬
‫اإلسالم املشرق غدا ينزع النبتة الشيطانية من جذورها‪،‬‬
‫واإلمام القائد‪ ،‬خليفة رسول اهلل وأمري املؤمنني‪ ،‬يبدأ بفضح الدس‬
‫السياسي ويتوب إىل اهلل منه ويستتيب املتهارشني الغرباء عن‬
‫الفالح خلف حمراثه اخلشيب العتيق مع أمة الفالحني‪ ،‬ال يعرفون‬
‫كيف يستنبت الطعام إذ عجزوا أن يستنبتوا قرائحهم اجلدباء‬
‫وعزائمهم الغارقة يف الشهوات كلمة صدق وحق تضرب هلم‬
‫بنصيب يف حياة العز اإلسالمي‪.‬‬
‫ال بد أن تنتزع النبتة الشيطانية من أصلها لكي توحد األمة حىت‬
‫تصبح جسما متضامنا‪ .‬ولكل جسم أعضاء تشرتك يف اإلحساس‬
‫وتشرتك يف العمل‪ .‬لذلك فلن يكون مستويان يف األمة بل ختصص‬
‫عضوي ضروري‪ .‬وإن تأليف القاعدة اجلماعية بالقيادة احلاكمة‬
‫يتوقف على كسب الثقة وتبادل الثقة‪ .‬والثقة تـََع ُّو ُُد على الصدق‪،‬‬
‫ف أنه صدق من مصدره‪ ،‬ألنه كان كذلك باإلخبار املتواتر‪.‬‬ ‫يـُْعَر ُ‬
‫ولقد قال العريب األول ‪« :‬إن كذبة املنرب بلقاء»‪ .‬وكثريا ما يكذب‬
‫رجال السياسة وال يصدقون حبكم سوقية املهارشة وتـََقلُّب العقول‬
‫الفارغة والقلوب اخلافقة خوفاً وهلعاً‪.‬‬
‫اإلمام القائد ذو الروحانية والذمة والربانية ال يكذب إذا‬
‫وعد‪ ،‬كما ال يكذب السيف اهلندواين إذا ضرب‪ .‬فبعزم الصدق‬
‫والوفاء بالوعد يصفي القائد اإلمام أول ما يصفى هذه النبتة‬

‫‪873‬‬
‫السياسية املوبوءة‪ ،‬وينزل خليمة اجلهاد من قصر كان فيه الهيا أو‬
‫من حيث يأيت به اهلل من اآلفاق‪ ،‬فرياه الناس مجيعا قسيمهم يف‬
‫املسكنة وأسوة يف اجلد‪ .‬فعليه جيتمعون وعلى منوذجه يتوحدون‪.‬‬
‫إنه سيكون «املرَّكب» الكيماوي الذي ينشىء تفاعال يقرب‬
‫الذرات بعضها من بعض ويستخرج ما فيها من الطاقة ومتنوع‬
‫اخلصائص‪ .‬مرتفو األمس بثقافتهم يرتفعون من محأة الشك العقدي‬
‫وبالء التمزق الذايت إىل كمال يرونه ماثال يف اإلمام رجل الصفاء‬
‫الفكري والنورانية الروحية‪ .‬واملستضعفون يرقون من مواطئ األقدام‬
‫إىل جملس اخلليفة حقهم فيه سواء وحق سائر املسلمني‪ .‬فعدل‬
‫يبدأ فيه اإلمام بنفسه ويضرب املثل عدل يسري بقوة يف كل‬
‫العقول إغراؤه ويف كل القلوب سكينته‪ .‬وبعد العدل ثقة باحلق‬
‫والصدق من مضاء عزم اإلمام‪ .‬وعلى الثقة بالعدل ينبين صرح‬
‫اإلسالم‪ .‬فإذا كان املسلمون يف فتنتهم ال ينتهي هبم اضطراب‬
‫لربايل إال ِلضطراب انقاليب أحدمها أشد نكرا من صاحبه‪ ،‬فذلك‬
‫ألن العدل لديهم عدالن‪ ،‬أحدمها تسلط على حق املسكني باسم‬
‫القانون‪ ،‬والثاين تربير لظلم احلاكمني باسم القانون‪.‬‬
‫وقد كان موالنا اخلليفة أبو بكر أعلم الناس غداة توليته أن‬
‫الضعيف عنده قوي وأن القوي عنده ضعيف حىت يأخذ لذلك‬
‫احلق من هذا‪ .‬وكذلك كان يفعل اخللفاء الراشدون‪ ،‬ومبثله حيكم‬

‫‪874‬‬
‫إمامنا غدا‪.‬‬
‫فبالعدل والوعد الصادق‪ ،‬والثقة اليت تعطيها جتربة األيام يتأهل‬
‫اإلمام اخلليفة ليكون من جسم األمة مبثابة الرأس من اجلسد‪ .‬إنه‬
‫املدبر املستبد بالوجهة والرتبية‪ .‬وال يعين هذا أن يسكت املسلمون‬
‫من حتته‪ ،‬ألنه غري معصوم وألنه إن زعم لنفسه مكانا فوق األمة‬
‫فقد أتى على الثقة من أساسها‪.‬‬
‫بعد فرتة التطهري من جذور الشر‪ ،‬وهي فرتة ضرورية تطول‬
‫أو تقصر‪ ،‬تنظم املبايعة العامة مع التوبة املعلنة الواضحة‪ .‬وهذه‬
‫عملية ال تتسع الدميقراطية لتصورها‪ .‬فبعد املبايعة العامة تنظم‬
‫النصيحة مع تنظيم الدعوة‪ .‬هل تتخذ هذه النصيحة مكان‬
‫األحزاب السياسية املتعددة؟ وهل تقوم بوظيفتها؟ اجلواب بالقطع‬
‫جواب نفي! وذلك ألن عالقة األحزاب بقياداهتا وعالقة القيادات‬
‫باحلكم عالقات مطالبة وانتجاع للرتب والغىن واجلاه‪ .‬والنصيحة‬
‫تواص باحلق والصرب‪ ،‬فتنظيمها تنظيم جند معبإ مرابط‪ .‬مث إن‬
‫األحزاب السياسية تنظيمات تنتسب لألمة وليست منها لكي‬
‫ترشح للحكم نصراءها‪ ،‬ويف اخلالفة اإلسالمية ال يعطى هذا األمر‬
‫من طلبه باملخادعة والوصولية أبدا إال أن يكون يف مقام يوسف‬
‫﴿اج َعلْنِي َعلَى‬
‫بن يعقوب عليهما السالم حيث قال للعزيز‪ْ :‬‬
‫ظ َعلِيم﴾‪.‬‬
‫ض إِنِّي َح ِفي ٌ‬
‫َخ َزائِ ِن ْال َْر ِ‬

‫‪875‬‬
‫سرتى األحزاب املتنكرة باألمس لإلسالم تدخل سوق املزايدة‬
‫وتدعو إىل عروبة وإسالم‪ .‬فما قبل منها االعرتاف بالشرع احلنيف‬
‫مصدرا وقانونا فله بني اجلماعات اإلسالمية مكانه‪ .‬وله يف الدولة‬
‫ما تكسبه إياه ثقة األمة وتصويتها يف انتخابات حرة نزيهة‪.‬‬
‫يف ظل اإلسالم‪ ،‬بعد فرتة التصفية الرتبوية‪ ،‬يهيمن على‬
‫جمال الرأي ويفرض اجلهر باحلق قول أيب علي الدقاق «الساكت‬
‫عن احلق شيطان اخرس»‪ .‬وقد رأينا أن الدعوة إىل اخلري هي‬
‫وظيفة أهل النصيحة واألمر باملعروف والنهي عن املنكر‪ .‬فالنطق‬
‫باحلق وإعالنه وتغيري املنكر واجب كل مؤمن دخل يف الوالية‬
‫اإلميانية‪ .‬وهي والية خاصة ال تشمل املسلمني مجيعا‪ .‬إهنا والية‬
‫بني املهاجرين أهل البالء واحملبة والقدم يف اإلسالم‪ .‬قال اهلل عز‬
‫اه ُدوا بِأ َْم َوالِ ِه ْم َوأَنـُْف ِس ِه ْم‬‫اج ُروا َو َج َ‬ ‫ين آ ََمنُوا َو َه َ‬
‫َّ ِ‬
‫وجل‪﴿ :‬إِ َّن الذ َ‬
‫ض‬ ‫ض ُه ْم أ َْولِيَاءُ بـَْع ٍ‬ ‫ك بـَْع ُ‬ ‫ص ُروا أُولَئِ َ‬‫ين آ ََوْوا َونَ َ‬
‫فِي سبِ ِ ِ َّ ِ‬
‫يل اللَّه َوالذ َ‬ ‫َ‬
‫ٍ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫اج ُروا َما لَ ُك ْم م ْن َوَليَتِ ِه ْم م ْن َش ْيء َحتَّى‬ ‫والَّ ِذين آَمنُوا ولَم يـ َه ِ‬
‫َ َ َ َ ْ ُ‬
‫ض‬ ‫ِ‬
‫ض ُه ْم أ َْوليَاءُ بـَْع ٍ‬ ‫ات بـَْع ُ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫﴿وال ُْم ْؤمنُو َن َوال ُْم ْؤمنَ ُ‬ ‫ِ‬
‫يـَُهاج ُروا﴾ ‪َ ،‬‬
‫‪1‬‬

‫وف َويـَنـَْه ْو َن َع ِن ال ُْم ْن َكر﴾‪.‬‬ ‫يأْمرو َن بِالْمعر ِ‬


‫َ ُْ‬ ‫َ ُُ‬
‫هؤالء املؤمنون الذين قطعوا حبال اجلاهلية وتطوعوا‪ ،‬وأعطوا‬
‫برهان صدقهم داخل الدعوة املنظمة هم قاعدة العمل اإلسالمي‪.‬‬

‫‪ 1‬األنفال ‪73‬‬

‫‪876‬‬
‫وال يكونون طبقة حاكمة بوجه من الوجوه ألهنم مع األمة يف كل‬
‫ميدان‪ ،‬بل هم أكثر الناس صربا وأسبقهم لبذل‪ .‬فإذا ثبت لنا‬
‫صدقهم بالربهان كما يثبت لنا ضرورة االستبداد الرتبوي الدائم‬
‫املستمر للخليفة من حيث كونه احلكم ومن حيث كونه خليفة‬
‫رسول اهلل احلاسم لكل نزاع‪ ،‬فال تردد يف أن النطق باحلق جمال‬
‫واجب النصيحة واالجتهاد والتعبري بصراحة ووضوح عن مشاكل‬
‫احلاضر ونوايا املستقبل يف حق املهاجرين اجملاهدين املنتظمني يف‬
‫الدعوة‪ .‬ولكيال ال يكون أحدهم شيطانا أخرس فال مندوحة‬
‫عن قبول تعدد وجهات النظر ونقد كل عامل يف احلقل العام‬
‫واخلاص مبا يف ذلك اخلليفة نفسه‪ .‬ذلك واجب إسالمي يف حدود‬
‫السيادة الكاملة للشرع ومؤسسات الشورى‪ .‬ولن يكون رجال‬
‫احلكم اإلسالمي أولئك الرجال إن مل يكونوا كعمر يقول‪« :‬رحم‬
‫اهلل من أهدى إلينا عيوبنا»‪ ،‬ويوبخ نفسه أمام مإل حني أصابت‬
‫عجوز وأخطأ عمر‪.‬‬
‫من حيث املبدإ نتعلم من جاهلية الفوضى املنظمة أن الفوضى‬
‫املتعددة الوجوه املسماة أحزابا داء وبيل َوّرثوه لنا‪ .‬وعلينا أن خنرتع‬
‫تعددية شورية تعاجل اخلالف وحترتم رأي الغري يف حدود الشرع‪،‬‬
‫وتقرتحها بديال للتعددية الدميقراطية اليت تفنت عقول املثقفني‬
‫حيسبوهنا العالج الشايف لكل داء‪ .‬ونتعلم من كوهنا تنظيما كيف‬

‫‪877‬‬
‫يعطي التنظيم منعة للجهاز ضد التفتت رغم أسباب الفرقة‬
‫واخلالف‪ .‬فلذلك ينبغي أن نستقرئ أنظمة املؤسسات اإلدارية‬
‫لنشكل نصيحتنا شكال عقالنيا مع االحتفاظ باملضمون اإلمياين‬
‫اإلحساين الذي ال تعرفه اجلاهلية وال تقدر أن تتصوره‪ .‬الفوضى‬
‫املنظمة تتصور اجملتمع تيارات متفارقة أو متوازية أو متصراعة‪ ،‬وهي‬
‫تتمنع من االعرتاف بالتحليل املاركسي الذي يفضح االستغالل‬
‫الطبقي وتزعم أن حرية التعبري واملمارسة السياسية والنقابية متحو‬
‫الطبقات‪ .‬وال ناقة لنا يف ذلك وال مجل‪ ،‬وال غىن لنا أيضا عن‬
‫وعي وضعنا املتعفن لنعاجل فتنتنا بالطب اإلسالمي ونقلع نبتة‬
‫الشر بالرفق اإلسالمي‪.‬‬

‫‪878‬‬
‫‪1‬‬
‫حنن واالستبدادية املذهبية‬
‫النظامان السائدان يف العامل ينتسبان إىل الدميقراطية‪ ،‬وكالمها‬
‫حريص أن يوهم احملكومني أن الدولة تستمد سلطاهنا من القاعدة‬
‫الشعبية‪ .‬وهكذا تزعم الشيوعيات أهنا دميقراطية‪ ،‬وللكلمة يف حد‬
‫ذاهتا سحر وجاذبية‪ .‬ففي النظر تفيد الكلمة حكم الشعب نفسه‬
‫بنفسه‪ ،‬ويف التنظيم الدستوري يشرع التصويت العام واالنتخاب‪.‬‬
‫أما يف الواقع فال ختتلف دميقراطية الشيوعيات عن دميقراطية‬
‫اجلانب املقابل يف جوهرها‪ ،‬وإن كانت ختتلف يف لون التدليس‪.‬‬
‫وقد رأينا أن جهاز الدولة يف بالد الفوضى الدميقراطية يعتمد على‬
‫مؤسسات تسمى دميقراطية‪ ،‬فتوهم بذلك أهنا مؤسسات الشعب‪،‬‬
‫وهي يف الواقع مؤسسات يف قبضة احملرتفني السياسيني‪ ،‬وأصحاب‬
‫االحرتاف السياسي‪ ،‬خرباء يف التمويه واختالس األصوات وغصبها‬
‫بقوة املال والدعاية‪.‬‬
‫أما دميقراطية الشيوعيات فهي أقل نفاقا من صاحبتها‪ ،‬ألهنا‬
‫تعلن يف أول حركتها أن األمر دكتاتورية طبقية‪ ،‬فكل من ال‬
‫ينتمي للعمال والفالحني حمروم من حقه يف التسابق للمناصب‪.‬‬

‫‪ 1‬هل بقي جمال ملناقشة الشيوعية بعد اهنيارها الكئيب؟ أم أن النظرة إىل خلف ال ختلو من فائدة‪،‬ال‬
‫سيما يف جمتمعاتنا احلافلة برواسب الفكر الشيوعي؟‬

‫‪879‬‬
‫وتزعم النظرية أن الربولتارية متارس استبدادها على سائر الطبقات‬
‫بدميقراطية داخلية تنتخب فيها اخلاليا جمالس املقاطعات ويصعد‬
‫االنتخاب الدميقراطي إىل القمة‪ .‬والواقع عكس ذلك متاما‪ ،‬فإمنا‬
‫هي دميقراطية امسية‪ ،‬وما قامت شيوعية قط إال باستبداد قوي ال‬
‫يقبل النقاش يف املبادئ املذهبية وال مساومة على املرشحني الذين‬
‫تقرتحهم القيادة‪ .‬وكما أن لألنظمة اللربالية أزماهتا عندما يتعسر‬
‫عليها أن تتصاحل على رأي ومصلحة وأشخاص‪ ،‬فالشيوعيات‬
‫تتجدد فيها اإلعصارات التطهريية‪ .‬ومن حاولت منهن املناقشة‬
‫احلرة واالنتخاب احلر فسرعان ما تقتحم أرضه دبابات األم الروسية‬
‫الوصية‪ ،‬أو خيتل صفه كما وقع لتشكوسلوفكيا ويوغسالفيا‪.‬‬
‫إن السلطان إذا كان ال يستمد من إرادة الشعب فهو نوع‬
‫من الضغط واالستبداد‪ .‬وإرادة الشعب يف حياته االجتماعية‬
‫املتضاربة أمواجها باألهواء واخلالفات ال ميكن معرفتها بالضبط‬
‫وال بالتقريب‪ .‬فاالنتخاب الدميقراطي عبارة عن خمض لآلراء بعد‬
‫هتييجها بالدعايات املتناقضة‪ ،‬فال خيرج منها إال زبد يعتمده‬
‫احملرتفون ويبنون عليه تآمرهم الطبقي‪ .‬ويبلغ التهييج واالحرتاف‬
‫صيغته القصوى بالواليات املتحدة األمريكية حيث األموال‬
‫والتقنيات الدعائية‪ ،‬وموسم االنتخابات الرئاسية موسم هيجان‬
‫كبري‪ ،‬يفيض على العامل كله‪ ،‬فيتحمس الناس ألفراس السباق‬

‫‪880‬‬
‫تلهبهم أصوات الدعاية وصورها‪ .‬ونظريا ميكن لكل أمريكي أن‬
‫يرقى لدرجة الرئاسة‪ ،‬أما عمليا فيستبد باألمر جهاز األحزاب‬
‫استبدادا مطلقا‪ ،‬ويفرض الفرس األمثل أن يغري اجلمهور بصورته‬
‫ونربة صوته وقدرته على اجلدال فرضا مطلقا‪.‬‬
‫واالستبدادية املذهبية تسمي تسلطها مركزية دميقراطية‪ .‬ويقول‬
‫املذهب‪ :‬إن احلزب حمضن للربولتاريا يربيها ويوحدها ويؤهلها‬
‫ملمارسة الدميقراطية‪ .‬ويقول تاريخ الشيوعيات بأن االستبداد‬
‫واملركزية املذهبية الضيقة كانت وال تزال قوة احلركة الشيوعية‬
‫األوىل‪ .‬فمنذ سنة ‪ 1903‬اختصم شيوعيو روسيا على التنظيم‬
‫واملركزية القيادية‪ ،‬وانتصر مذهب لينني الداعي إىل احلكم «من‬
‫أجل الشعب» وليس احلكم بالشعب‪ .‬ومعىن قوله أن النخبة من‬
‫البورجوازية الصغرية الذكية الواعية املتمذهبة املناضلة حيق هلا أن‬
‫تستبد وجيب أن تستبد لرتيب الشعب‪ .‬وذلك هو اخلط البلشفي‬
‫وهو الذي انتصر وال يزال ينتصر‪ .‬ومن أصبح يذكر األقلية‬
‫املنشفكية احلاملة اليت كانت تظن أن التسامح املذهيب والرباط احلر‬
‫بني تيارات احلزب ميكن أن حتقق هدف الثورة واالستيالء على‬
‫احلكم وبناء االشرتاكية؟‬
‫وال خيتلف خط اجلماهري الصيين عن اخلط البلشفي إال يف‬
‫كون االستبداد الصيين املريب يعيد لإلنسان اعتباره واحرتامه لنفسه‬

‫‪881‬‬
‫يف ظروف االمتثال املطلق لألوامر العليا‪ ،‬مبا خيوله من حرية يف‬
‫اقرتاح ما يقرتح‪ ،‬وما يعطيه من تشريف حني يكلف اجلماهري‬
‫احملرومة الكادحة بإعادة تربية املنحرفني‪ .‬أما االستبداد املطلق فال‬
‫خيفيه شعار‪ « .‬من اجلماهري مث إليها»‪ .‬ومن االستبداد الشيوعي‬
‫ما هو ذكي دقيق احلس كلما نسي التصلب اإلديولوجي‪ .‬ومثال‬
‫له جنده يف حماكمة رجال اإلدارة إىل الشعب املستهلك خلدماهتم‬
‫يف النظام الصيين‪.‬‬
‫إن األمم املنحلة ال تكون منحلة إال من تشعب إراداهتا على‬
‫مسارب التعصب املذهيب واالنفعال العاطفي والتأله اجملادل‪ .‬وال‬
‫خترج من احنالهلا إال باستبداد جيمع اإلرادة ويستأثر بالسلطان‪.‬‬
‫وإن سر جناح الثورات يف عصرنا ال يرجع خلاصية يف املذهب‬
‫االشرتاكي والعقيدة املاركسية‪ .‬وإمنا املذهب والعقيدة ذريعة‬
‫ووسيلة جلمع اآلراء حنو هدف‪ ،‬إىل أن تتمكن القيادة الثورية من‬
‫الزمام وتستبد‪ ،‬وباستبدادها تبدأ الثورة حقا‪ .‬واقرأ تاريخ املذهب‬
‫املاركسي قبل ثورة روسيا وجناح ستالني اخلارق يف كل امليادين‪،‬‬
‫إهنا كانت حركة دولية ككل احلركات‪ ،‬وكان مذهبا يقارع املذاهب‬
‫األخرى وتغلبه كما غلبته يف أملانيا حىت بعد قيام ثورة روسيا‪.‬‬
‫ولو جتددت يف أملانيا بعد استبداد ستالني وجناحه فرصة مثل اليت‬
‫كانت على عهد لينني لتكهربت إرادات املاركسيني وجلرفت معها‬

‫‪882‬‬
‫إرادة الطبقة العاملة األملانية‪.‬‬
‫هذا االستبداد هو سر التعبئة اهلائلة يف روسيا والصني وحيثما‬
‫قبض السلطان أيد شيوعية‪ .‬وما يفرق بني االستبداد اإلقطاعي‬
‫أو االستبداد االنقاليب عن االستبداد املعبئ الناجح إال حرية‬
‫املنقلب؛ ال خطة معه وال فكر وال مذهب‪ ،‬وإال فساد اإلقطاعي‬
‫وقصور جهده على إرضاء مصاحله ومصاحل حاشيته‪ .‬وعندما‬
‫جيتمع النظر الواضح واإلرادة املطلقة تسري الشعوب راضية فرحة‬
‫واثقة كسري الصينيني يف هذه اللحظة من تاريخ البشر‪ ،‬أو تسري‬
‫مقموعة كما سار الروس حتت هراوة ستالني‪.‬‬
‫إن نظرة الناس إىل السلطان وصاحب السلطان نظرة تصحبها‬
‫الرهبة والتقديس‪ .‬كان ذلك هو القاعدة يف تاريخ البشر‪ .‬ويظن‬
‫املفكرون اليوم أن اإلنسانية تقدمت وأن هلا من علمها وثقافتها ما‬
‫يزيل عن عينها وهم القدسية والرهبة من صاحب السلطان‪ .‬وليس‬
‫األمر كذلك اليوم ولن يكونه غدا‪ ،‬ألن حاجة كل إنسان وحاجة‬
‫اجلماهري إىل السند القوي والصورة األبوية الواثقة بنفسها احلامية ملن‬
‫يتعلق هبا فراغ يف العاطفة ال يف العقل‪ .‬هلذا فالشخص اهلادئ الرزين‬
‫الذي يتكلم بثقة‪ ،‬ويتصرف بثبات وشجاعة يفرض سلطته وهيبته‬
‫حىت ولو كان حياضر العلماء‪ .‬وإن تاريخ العامل املعاصر والقريب‬
‫يربهن على أن القائد ذا اجلاذبية الغالبة «‪»chef charismatique‬‬

‫‪883‬‬
‫يسوق أمته أين أراد‪ ،‬وتضاعف ثقتهم به وتعلقهم كفايات كل يف‬
‫فرد وفاعلية اجملموع‪.‬‬
‫كان هتلر أقرب مثال من التاريخ البائد‪ ،‬وماو نصب أعيننا‬
‫اليوم‪ .‬فإذا أعوزت الشخصية اجلاذبة القوية صنعتها الشيوعية‬
‫صنعا بكل وسائل التمويه واإلعالم كما تصنعها الدميقراطيات‬
‫اليت أصبحت تدين «للدولة املشهد» ‪ . Etat spectacle‬وكما‬
‫حتوم حياة األمريكان حول الرئاسة وانتخاهبا وعبادة شخصية‬
‫الرئيس‪ ،‬فحياة الشيوعيني تدور حول عبادة الشخصية القيادية‪،‬‬
‫وال حنسب فرتة القيادة اجلماعية يف روسيا بعد فضح ستالني وبعد‬
‫مظاهرات خرشوف إال قنطرة إىل استبداد يفرضه التأزم املذهيب‬
‫واستفحال االعرتاض يف روسيا‪.‬‬
‫انظر إىل فرنسا وإىل املفعول السحري الستبداد بطلها‬
‫ديغول؛إهنا كانت على شفا اهلاوية‪ ،‬فلما خاطبها رجل قوي‬
‫ونفخ فيها خنوة القومية انساقت له وعبدته إىل حني‪ .‬وينافق أهل‬
‫الدميقراطيات يف ادعائهم أن السلطان الرئيسي يف الدولة دور‬
‫يتقمصه شخص أي شخص فال يتأثر سري الدولة ألن املؤسسات‬
‫واملذهب هي سر النجاح‪ ،‬لكن تفضحهم األحداث‪.‬‬
‫لنأخذ مثال كوريا بعد انقسامها‪ .‬جنحت كوريا اجلنوبية‬
‫جناحا اقتصاديا كبريا بفضل عطاء حليفتها العظمى‪ .‬لكن كوريا‬

‫‪884‬‬
‫الشمالية جنحت جناحا أضخم بفضل االستبداد املستقر املتكىء‬
‫على عبادة الشخصية‪.1‬‬
‫قائد كوريا الشمالية رجل نكرة امسه «كيم إيل سونغ»‪ ،‬له‬
‫«مؤلفات» هزيلة أشد اهلزال‪ ،‬ومع ذلك تطبعها الدولة طبعا‬
‫فاخرا وتوزعها يف أحناء العامل ليتاح هلا أن متأل وسائل اإلعالم‬
‫بأخبار النجاح اإلديولوجي لفكر الزعيم‪ .‬ويف بالد كوريا الشمالية‬
‫ال تظهر على احليطان وال على الصحف والتلفزة إال صور‬
‫الرفيق الزعيم‪ ،‬ويهتف بامسه الطلبة والكشافة واخلطباء يف كل‬
‫املهرجانات‪ .‬ويؤهلونه ويعبدونه يف غري التواء‪ .‬وقد خطب كاتب‬
‫اللجنة املركزية للحزب «يانغ هيونغ» مدة ثالث ساعات يف أحد‬
‫املؤمترات العلمية خصصها كلها لتمجيد الرفيق الزعيم‪ .‬فمن‬
‫كالمه‪« :2‬رئيسنا احملرتم احملبوب جدا‪ ،‬الرفيق «كيم إيل سونغ»‬
‫عبقري الثورة أحد عظماء رؤساء احلركات الشيوعية الدولية وطبقة‬
‫العمال‪ .‬ماركسي لينيين عظيم يف زماننا … الرفيق كيم إيل سونغ‬
‫القائد الفكري العظيم‪ ،‬واألب ذو القلب الرحيم لالختصاصيني‬
‫يف العلوم االجتماعية مثلنا …الرفيق كيم إيل سونغ قائد مظفر‬
‫دائما‪ ،‬ذو اإلرادة احلديدية واجملد املتألق…شعبنا ال يعرف سعادة‬

‫‪1‬كان ذلك يبدو قبل انكشاف العامل الشيوعي عن كوارثه‬


‫‪LE Monde Diplomatique , Juillet 1972:2‬‬

‫‪885‬‬
‫أعظم من العيش والعمل والكفاح الثوري إىل جانبه‪ ،‬مؤيدا التوجيه‬
‫املصيب للرفيق كيم إيل سونغ الزعيم احملرتم احملبوب جدا‪».‬‬
‫يف املعسكرين اجلاهليني يكون جهاز الدولة آلة يف يد أقلية‬
‫بل تذوب هذه األقلية عند الشيوعيني يف إرادة شخص واحد‪،‬‬
‫وكالمها يؤكد أن احلكم لألغلبية وإن إرادة اجلماهري هي السائدة‪.‬‬
‫ويفسر املذهبان استبداد الدولة بضرورة قمع األقلية وإلزامها أو‬
‫حماربة أعداء الطبقة لئال ينتكسوا بالثورة‪.‬‬
‫وقد كانت اإليديولوجية اليوتوبية تبشر أن الدولة واستبدادها‬
‫يزوالن بزوال سببهما وهو العدو الطبقي والقلة‪ .‬فلما قتل ستالني‬
‫أعداء الربولتاريا مل يكفه ذلك وما أحرزه من جناح عن اإلمعان يف‬
‫االستبداد‪ ،‬بل وتنظري هذا االستبداد وتربيره بأن العدو الطبقي حىت‬
‫بعد تصفيته بالقتل واإلزاحة يستمر يف امليدان بوجود إيديولوجيته‪.‬‬
‫فمن هنا جيب أن يستمر االستبداد‪.‬‬
‫ال علينا يف متويه الدميقراطيات الستبدادها‪ ،‬فإن اإلسالم ال‬
‫يستعري مبادئه من اجلاهلية‪ ،‬لكنه يتدبر التاريخ ليتبني كيف يتحرك‬
‫الناس يف جمتماعتهم تصديقا لعلم اإلنسان املضمن يف القرآن ‪ :‬إن‬
‫اإلنسان هلوع متقلب ضعيف‪ ،‬فإذا مل يعط وجهه لقبلة واحدة‪،‬‬
‫وإذا تركت له حرية االختيار‪ ،‬فإمنا تتلقفه التيارات ويضيع جهدا‬
‫كبريا يف معاناة اخلواطر والنزعات‪.‬‬

‫‪886‬‬
‫وال علينا يف الفوضى املنظمة وال يف االستبداد املقنع إن‬
‫تعبدا لوثن الدميقراطية ووهم حرية االختيار واستقالل الشعوب‬
‫بأمورها‪ .‬اإلسالم مذهب الواجب قبل املطالبة‪ ،‬ومذهب واجب‬
‫بال مطالبة‪ ،‬ومذهب الشورى السابقة لكل اعتبار‪ .‬لننس هذه‬
‫اللفظة امللعونة املشحونة بإمكانيات الكذب والغش ولننس مدلول‬
‫الدميقراطية‪ .‬فما دام اإلنسان وحيدا مع أخيه اإلنسان ال يرعى‬
‫فيه ذمة اهلل ومراقبة الفاطر الذي يبعث اخللق لدار اجلزاء فإمنا مها‬
‫ذئبان‪ .‬ومتارس اإلنسانية ذئبيتها بشكل التنظيم املغري على غريه‬
‫يف جمتمعات ما قبل التاريخ‪ ،‬وهي جمتمعات عصرنا اجلامعة هلول‬
‫الصناعة املخربة ودهاء علوم االجتماع والسياسة والدعاية‪ .‬وما‬
‫تكتسيه هذه املمارسة من أشكال التهذيب واإلنسية الرحيمة‬
‫غاللة شفافة تبدو من خلفها األنانيات مكشرة أنياب الطمع‬
‫واملغالبة‪.‬‬
‫تاريخ اإلنسان يبدأ باإلسالم‪ ،‬وخيتفي يف التاريخ الذئيب‬
‫باختفاء اإلسالم من ميدان السلطان‪ .‬واإلسالم يعلن مبدأ الطاعة‬
‫املطلقة لصاحب األمر ولزوم اجلماعة ويوعد على ذلك باملوتة‬
‫اجلاهلية‪ .‬فبهذا االعتبار يكون من خرج عن اجلماعة وهي طاعة‬
‫أمري املؤمنني خرج إىل اجلاهلية وذئبيتها‪ .‬وال ينصب هذا على‬
‫حاضرنا املفتون ألنه ليس للمؤمنني أمري جتب طاعته هبذا املعىن‪،‬‬

‫‪887‬‬
‫إمنا هم ملوك عاضون حيذرنا الشرع أن حنمل السيف على بعضنا‬
‫إل زالتهم‪.‬‬
‫فاخلليفة رجل الرأي والوجهة واالستبداد الرتبوي‪ .‬مبعىن أنه‬
‫احلَكم النهائي الذي ال ينقض حكمه يف خالف يقع ونزاع ينشب‬
‫بني املسلمني بعد أن تأخذ الشورى جمراها‪ .‬إنه خليفة اهلل ورسوله‪،‬‬
‫وإنه الوجه اإلنساين الذي يضعه اهلل للمحبة والقدوة‪ ،‬وجيمع له‬
‫قدسية واليته ونفاسته على املؤمنني املتحابني املتآخني‪.‬‬
‫إرادات اجلماهري إرادات متقلبة متضاربة واهنة‪ ،‬وال مضاء‬
‫هلا أبدا ألن العمر ينقضي يف نقاش وقتال‪ .‬وغدا يف يوم اإلسالم‬
‫األغر لن يرتفع لنا لواء إن مل نبدأ مببايعة اإلمام بذممنا وخنلص له‬
‫إخالصا ونعضده ونؤزره‪ .‬وإال فستمضي علينا قرون نتساءل ما‬
‫بالنا ومن أين نبدأ؟ ال بداية لنا صحيحة يف ميدان احلكم إن مل‬
‫جنعل أمرنا بيننا شورى‪.‬‬
‫إرادة مستبدة حمبوبة مطاعة يساندها النصح‪ .‬وفرق ما بني‬
‫وثنية عبادة الشخصية ووحدة الطاعة والنصيحة لإلمام اخلليفة‬
‫أن الطاغوت املستبد ال يقبل رأيا غري رأيه‪ ،‬ويصنع لنفسه أهبة‬
‫مستعلية ويصنعها له السدنة‪ .‬أما اإلمام فواجب كل مؤمن أن‬
‫ينصحه إن غلط‪ ،‬فهو مثلنا خطاء‪ ،‬لكنه أفضلنا ألنه تواب يرجع‬
‫للحق‪ .‬وإن مع مركزية الطاعة للخليفة ومع النصيحة تتمكن‬

‫‪888‬‬
‫األخوة من القلوب بتوايل النجاح يف كل عمل مجاعي‪ .‬وقد خابت‬
‫احلضارة اجلاهلية وخسرت‪ ،‬ومثلها املؤرخ طوينيب بسفينة مشرفة‬
‫على صخور األهوال‪ ،‬وقال بأن أفق اإلنسانية ال يبدو فيه أمل‬
‫لظهور مالح جينب السفينة البشرية من اهلالك إال من جانب‬
‫األخوة اإلسالمية‪ .‬ويتمىن قبحه اهلل وكذبه أن ال يكون لإلسالم‬
‫بعث‪ .‬وخاب فأل الكافرين وصدق وعد اهلل لعباده املستضعفني‬
‫الوارثني‪ ،‬وكأين واهلل بوجه إمامنا يتألق يف هذا اجلو املكفهر الذي‬
‫يبشر غمامه بالغيث والرمحة!‬

‫‪889‬‬
‫سوق السياسة‬
‫وقائل يشك‪ :‬من أين يربز للمسلمني إمام وخليفة وسوق‬ ‫ٍ‬
‫اإلسالم بائرة‪ ،‬وأهل اإلسالم يف نزاع على إسالمهم‪ ،‬ويكفر‬
‫«علماؤهم» من خالفهم يف املذهب‪ ،‬وأهل الدعوة يكبسهم‬
‫الطاغوت كبسا ويشرد ويقتل‪ ،‬وبيت اهلل احلرام يف القدس يطأه‬
‫اليهود األجناس؟ فكيف يقدر املسلمون على مبايعة خليفة يوحد‬
‫صفوفهم وهم ال يقدرون حىت على توحيد مدافع وطيارات‬
‫يستخلصون هبا البيت املقدس من عدوهم ؟!‬
‫وخاله ذم ذلك الشاك إن كان يف قلبه حنني وأنني! ورغم أنفه‬
‫إن كان من الضالني املشككني !‬
‫ما كان حظ حممد بن عبد اهلل يتيم مكة من حظوظ النجاح‬
‫حبساب املنطق البشري يوم تآمروا ليقتلوه ويوم فر هاربا بدينه من‬
‫مكة؟ ومن كان حيسب أنه تدين له اجلزيرة العربية بعد عشر سنوات‬
‫من هجرته؟ ومن كان حيسب أن اإلسالم سيتمكن يف األرض بعد‬
‫أقل من مخسني سنة؟ إن املسلمني اليوم يئنون حتت وطأة طواغيتهم‬
‫املفتونني‪ ،‬وإن هؤالء خيزيهم اهلل تباعا ويضيق عليهم املسالك‪ .‬وإهنم‬
‫ال يرون أمامهم إال ظالما ويأسا‪ .‬واألمر عند اهلل ربنا كذلك فقد‬
‫آن أن جتتث من أرض اإلسالم نبتتهم اخلبيثة‪.‬‬

‫‪890‬‬
‫فتية املسلمني تتوزعهم أسواق السياسة واإليديولوجيات‪ ،‬وهم‬
‫يف هوسهم قد بدأوا يعافون قذارة ما هم فيه‪ .‬ويوم تغابنهم يف‬
‫الدنيا قريب‪ ،‬ساعة يكتشفون قماءة تقليدهم القردي للحيوان‬
‫العمودي اجلاهلي‪ ،‬ويكتشفون أن بضائع اجلاهلية الفكرية بضاعة‬
‫غنب كالبضائع األخرى‪ .‬وسواد األمة على عهده مل يتحول وإن‬
‫وجهله من جهل‪ .‬فبحساب التخمني البشري‬ ‫ظلمه من ظلم َّ‬
‫تكون حظوظ اإلسالم اليوم أوهى منها يف أي زمان‪ .‬لكن حكمة‬
‫اهلل هلا سبل معجزة‪ .‬وعسى ربنا أن يرمحنا‪ ،‬وال تدل كلمة عسى‬
‫يف القول احلق على ترجئة بل هي رجاء مبعىن االنتظار‪ .‬وستعلن‬
‫كلمة التوحيد يف كل سوق‪ ،‬وسيأسو بـَْل َس ُم َها جروح اإلنسانية‬
‫املكلومة اهلالكة إن شاء اهلل‪ ،‬ربنا وهو امللك الوهاب‪.‬‬
‫غزتنا اجلاهلية يف عقر دارنا بالسالح واالحتالل اجلسدي‬
‫وروضتنا على الطاعة واخلضوع فما خنعنا هلا‪ .‬بل حاربناها ما‬
‫دامت حمتلة ديارنا حىت أجليناها‪ .‬وكان مع الغزو العنيف غزو مواز‬
‫عمد إىل الفكر وخاطب الشهوات وداعب األنانيات‪ .‬وكان غزوا‬
‫ماكرا دقيقا متلبسا علينا مغريا لنا‪ ،‬فكنا أثناءه زبائن نبتاع السم‬
‫من سوق اجلاهليني ومنتسخ رويدا رويدا‪ .‬اتبعنا الثقافة امللحدة‬
‫ونقلنا عن اجلاهلي غطرسته وتأهله على املساكني‪ .‬وكان ألعن‬
‫ما أخذناه عنه هو هذه البضاعة العفنة املسماة سياسة الييكية‪،‬‬

‫‪891‬‬
‫سياسة تنبذ الدين ظهريا‪.‬‬
‫كنا قبل االستعمار قبائل وشيعا وكان بعضنا يقتل بعضا‬
‫فسقطنا طعمة للمستعمر هينة‪ .‬لكننا مل نكن نعرف أنفسنا‬
‫إال بأننا مسلمون‪ .‬فعلمنا اجلاهليون القومية وجتهزنا من ترسانة‬
‫سياستها بالوعي القومي الوطين‪ .‬كنا نقتل بعضنا بعضا لكنا كنا‬
‫ال نكذب كذب احملرتفني‪ ،‬فاختذنا من سوق السياسة اجلاهلية‬
‫ضمائر مزورة وألسنة وأقالما تزوق الكالم‪.‬‬
‫كنا خمدرين بأفيون الشعوب‪ ،‬كما مسى ماركس الدين‬
‫الكنسي وكان لنا وال يزال من ديدان القراء وأمراء الزوايا ما يشبه‬
‫الطبقة الكنسية والعبث باسم الدين‪ .‬وقبل أن يكتشف زعماؤنا‬
‫السياسيون ماركس وحتليله قلدوا اجلاهلي يف تصوره لإلنسان‬
‫والعامل‪ ،‬وانتقلوا من شعار الوطنية اإلسالمية إىل الوطنية املناضلة‬
‫القومية‪ .‬مث هم اآلن يهتفون باسم اإلسالم يلفقون بعد أن بارت‬
‫جتارهتم يف سوق السياسة‪.‬‬
‫يف العامل محالت منظمة لتخريب عقول املسلمني وختريب‬
‫رجولتهم وإغواء شباهبم وإفساده‪ .‬وما من زعيم يف بالد املسلمني‬
‫فاشل‪ ،‬وكلهم فاشلون واحلمد هلل العلي الكبري‪ ،‬إال ويشكو من‬
‫هذه احلمالت املنظمة‪ .‬ولو مجعنا أذى رجال التبشري وأذى رجال‬
‫الثقافة واإلعالم وأذى الصهيونية العاملية يف حساب لنقرنه باألذى‬

‫‪892‬‬
‫الذي جنلبه حنن باختيارنا من سوق السياسة اجلاهلية ملا كان‬
‫احلساب األول يف وجه البضاعة املطلوبة إال مناوشات سطحية‪.‬‬
‫وإن كان منا من يتتلمذ للصهاينة يف حقل الثقافة ومن يستهلك‬
‫بضائع البذخ اجلاهلي فيجلب ألمته خسارا وبوارا‪ ،‬فإن زبائن‬
‫األساليب السياسية اجلاهلية حيملون إلينا الغول الفاتك إىل عقر‬
‫دارنا من حيث ال جيلب اآلخرون إىل خربه وصداه‪.‬‬
‫عقول قادتنا مطموسة فال يقدرون على توليد فكرة واحدة‬
‫مسلمة‪ ،‬وإن كنت ال تسمع منهم إال حديث السياسات العاملية‬
‫املتصارعة فما ذلك ألهنم يتعلمون من مصائب الناس ومن حكمة‬
‫الناس‪ ،‬بل ألهنم يصدرون عن رأي اخلرباء اجلاهليني والنصراء‪.‬‬
‫ويقدر اخلبري سياسة احلكم لتلميذه فيرتمجها التلميذ النبيه إىل‬
‫اللغة القومية ويغمر األفيون السياسي يف فيض من االنفعال‬
‫القومي املتأجج‪.‬‬
‫يف سوق العامل مضاربات ومقامرات‪ ،‬ومن حتتها الغزو‬
‫الضاري املاكر الذي يرمي حملق العدو بكل الوسائل‪ .‬وقانون‬
‫العرض والطلب حيكم سوق السياسة العاملية كما حيكمها الدهاء‬
‫الصهيوين املكر ال ُكبّار‪ .‬وندخل حنن املسلمني السوق السياسية‬
‫فتنبهر أنفاسنا مما نرى من علم ورأي وفلسفة‪ ،‬ونبتاع بأموال‬
‫النفط خرباء زرقا ومحرا‪ ،‬أو نتلقاهم هدية مسمومة مع ما نتلقى‬

‫‪893‬‬
‫من متاع حنسبه سالحا‪ ،‬وهو وثاق يقيدنا إىل عجلة السيد املتكرم‬
‫بقمحه أو صوارخيه‪.‬‬
‫يدخل كل سوق من له حاجة‪ ،‬وإن لنا حلاجات ال تنتهي‪،‬‬
‫فلذلك ندخل السوق فنبتاع على غري هدى‪ ،‬وإن ترددنا خلق لنا‬
‫العدو حاجات لنبتاع‪ .‬ونبعث بأبنائنا يتعلمون يف بالد الكفار‬
‫فيعودون إلينا وقد شحنوهم أفيونا ومسا كما يشحن األمريكيون‬
‫جثث موتاهم باألفيون الصيين‪.‬‬
‫وهاك قصة ذلك فهي واقع يدل على طبيعة السوق السياسة‬
‫العاملية‪ ،‬ويرمز الخنداعنا بل الهنماكنا على بضاعة اجلاهلية‪ ،‬سيما‬
‫السياسة منها‪.‬‬
‫يف القرن املاضي دبر اإلجنليز احتالل الصني‪ ،‬فمهدوا لذلك‬
‫بأن علموا الصينيني تعاطي األفيون مث فرضوا عليهم ابتياعه‬
‫فرضا‪ .‬فخلقوا احلاجة يف الشعب لتعاطي املخدرات‪ ،‬مث ألزموا‬
‫احلكومة بإباحة البضاعة اإلجنليزية يف السوق‪ .‬ويف أيامنا هذه‬
‫جنح األمريكيون جناحا اقتصاديا هائال‪ ،‬وأعجبتهم رخاوة جمتمعهم‬
‫االستهالكي مث أملتهم فطلبوا التغيري‪ .‬وما كان هلم يلتمسوا تغيريا‬
‫سياسيا ألن استقرارهم الدميقراطي وحده يضمن هلم مستوى‬
‫العيش‪ ،‬وألن الثائرين من شباهبم ومن طوائفهم احملرومة‪ ،‬وإن‬
‫كانوا يلعنون النظام‪ ،‬ال حيلمون بنظام أفضل منه‪ .‬فطلبوا الفرار‬

‫‪894‬‬
‫من واقعهم بتعاطي املخدرات‪ .‬وتكونت هلم حاجة إليها شديدة‬
‫فهي هلم ألزم من الغذاء والكساء‪ .‬ولنمر على الداللة املصريية‬
‫هلذه الظاهرة لنصل إىل اجلثث احملشوة باألفيون كما حشيت جثث‬
‫مثقفينا بالفكر املسمم‪.‬‬
‫صرح رئيس وزراء الصني أن أفضل أنواع األفيون تصنع‬
‫بالصني‪ ،‬وإهنا تباع للجنود األمريكان باهلند الصينية‪ .‬ونقلت‬
‫األنباء أن الشرطة األمريكية اكتشفت أن جثث األمريكني املنقولة‬
‫من معارك اهلند الصينية منذ أول احلرب كانت حتشى باألفيون‬
‫يهرب فيها إىل أمريكا‪.‬‬
‫ما أشبه اجلثث بعضها ببعض‪ ،‬وإن كانت تلك تصدع مث ال‬
‫حتمل إىل بالدها إال مادة خترب األجسام والعقول‪ ،‬وجثثنا أجسام‬
‫تسعى بنفوس ممسوخة حتكمنا بالرأي األفن والضمري العفن‪.‬‬
‫إن املنصب احلكومي يف بالدنا هنب مقسم لكل ثعلب وذئب‪،‬‬
‫وإن يف صدورنا معشر املستضعفني لضيق مما ميكرون‪ ،‬وإن اهلل‬
‫مع الذين اتقوا والذين هم حمسنون‪ .‬يف أقطار االنقالبية زمرة من‬
‫القوميني يشكلون نديا جيثم على األمة بكلكله‪ ،‬ومن نقل من‬
‫سوق الكافرين نظاما إقطاعيا فهي عصابات فاشية على شكل‬
‫املكروبات العمودية املستطيلة‪ .‬فقد كتبنا كلمة «فاشية» مبعناها‬
‫السياسي اجلاهلي‪ ،‬وهي حتدد نظام التآلف العمودي لألجسام‬

‫‪895‬‬
‫الوسطى يف اجملتمع كما يقولون‪ .‬واملقلدون للنظام اللربايل يكونون‬
‫شرذمة متقلبة مفتونة ال يقر هلا قرار‪ ،‬فلها يف كل يوم خصام وهلا‬
‫يف كل شهر حتالف وتشكيل‪ ،‬وهلا مع كل هيعة فزع وبلبلة ريثما‬
‫يسويها االنقالب بالرغام‪.‬‬
‫لكل هذه الزمر والشرذمات عاملها املنفرد عن األمة‪ ،‬ويف جنب‬
‫كل حركة من حركاهتا‪ .‬ومن حتتها زمر تدس وتعد العدة لتثب‬
‫على الفريسة‪ ،‬وما الفريسة إال هذه األمة‪ ،‬يتعلمون يف مقدساهتا‬
‫كيف يصعدون لقمم البطوالت‪ ،‬وكيف يروجون ألنفسهم أسواقا‬
‫يف صحف اجلاهلية ومنتديات العامل‪ .‬وإن يف أيديهم إال بضاعة‬
‫مزيفة‪ ،‬وإن يف جثثهم إال حشو من األفيون السياسي ابتاعوه‬
‫بطواعية ممن ينتجون أفضل األنواع االشرتاكية‪.‬‬
‫ولكثرة ما ورد على بالدنا من بضائع تلك السوق نشأ لنا‬
‫لغط‪ ،‬وفشت فينا حرفة املساومات والسمسرة‪ .‬ولو قدر حلساب‬
‫ماهر طويل الصرب أن حيصى موجات اإلغراء اليت يتعرض ملدها‬
‫شبابنا كل يوم خلرج لنا خبط بياين فريد‪ .‬يف اخلفاء حتت االنقالبية‬
‫ويف شبه اخلفاء دون ذلك عروض سياسية تساوم عليها ضمائر‬
‫شبابنا‪ ،‬ال تشتمل يف جزء منها على دعوة للرجولة والتضحية‪،‬‬
‫وإمنا هي حقد وتغن باحلرية املسلوبة وتشجيع على ممارسة هذه‬
‫احلرية ممارسة كاملة‪ .‬واملراهق ذو نفس كبرية ال ميألها إال أمل كبري‬

‫‪896‬‬
‫أو مشروع كبري‪ .‬فعندما تتواىل عليه العروض وختتلط ويتمزق بني‬
‫ذاتيته املنبعثة من أرضية األمة املسلمة وبني احلرية الدوابية‪ ،‬خيتار‬
‫هذه لرواجها ويطرح األخرى هلواهنا يف حساب مساسرة السوق‪.‬‬
‫وهكذا ميارس خالعته ودوابيته وال جيد من يعرض عليه إنسانيته‬
‫وقيمته‪.‬‬
‫قادتنا املفتونون ومنافسوهم يف اخلفاء والعالنية‪ ،‬وأعداؤهم‬
‫املذهبيون من أقراهنم‪ ،‬يشغلهم ضجيج السوق السياسية عن‬
‫شؤون املسلمني‪ .‬لنتصور رئيس دولة أو وزيرا خطريا وسط احلمى‬
‫السياسية‪ .‬إنه طليب خصومه السياسيني يف بلده؛ فكل جهده‬
‫منصرف ليحمي نفسه من كيدهم‪ .‬وإنه منقطع عن األمة يف‬
‫عقيدته وفكره‪ .‬فما بقي له من جهد يوظفه يف الدعاية الكاذبة‬
‫ليوهم الناس أنه هو منهم أو ليومههم أهنم منه‪ .‬فمن حاول أن‬
‫يوهم األمة أنه منها صلى يف املسجد أو ذهب إىل أبعد من ذلك‬
‫فتخلى عن القصر ومظاهر الرئاسة‪ .‬حىت إذا نطق قال كفرا ومزج‬
‫اإلسالم بعقيدته االشرتاكية‪ .‬وكل أتعابه ليكسب الشعبية تطيح‬
‫هبا الرياح يف يومنا العاصف‪ .‬ومن عمد ليوهم األمة أهنا منه‬
‫فرمبا يثري محاسا مصدره اجلهل والغرور‪ ،‬لكن سرعان ما يفتضح‬
‫وينمسخ وذلك مثل أبطال القوميات‪ .‬فقد كان املسلمون يف بالد‬
‫العرب نائمني إىل أن هب البطل القومي وصرخ وصاح وأرعد‬

‫‪897‬‬
‫وأزبد‪ ،‬فخيل للعرب أن القومية طلسم عجيب انفتحت به قناة‬
‫السويز وغلبت به إجنلرتا‪ .‬إىل أن كان حزيران وخر البطل القومي‬
‫وتعلم املسلمون أن القومية هي الفشل والذل واهلوان‪ .‬وقد بارت‬
‫سوق القومية يف أرض املسلمني‪ ،‬لكن السماسرة ال يزالون يهتفون‬
‫عليها وينادون‪ ،‬ولكن املنافقني ال يفقهون‪.‬‬
‫كل أمريكي يولد تعلمه أمه أن كرسي الرئاسة يف متناول يده‬
‫إن جد واجتهد‪ ،‬وكل روسي أو صيين تعلمه أنه عامل جيب أن‬
‫يكدح ليخدم أمته‪ .‬وأن كل مولود فينا هتيئه أدوات اإلعالم ليكون‬
‫زبون بضاعتها البخسة املرذولة‪ ،‬وتعلمه أن ال يعمل شيئا ألنه إن‬
‫حترك مينة أو يسرة يفتضح عجزه‪ .‬فاألمريكيون واألوروبيون يغشون‬
‫احلياة بعقلية مغامر يأكلونه إن مل يأكلهم‪ .‬والروسي أو الصيين‬
‫يدخل احلياة فخورا حباضر رفعه من ماضي الذلة واالسرتقاق‬
‫فيكون منتجا فاعال‪ .‬أما املسلم فيفتح عينيه على قادة خيطبون‬
‫السنني الطويلة يتوعدون عدوهم الصهيوين ويقتلونه بالكلمات‬
‫احلادة واجلمل املتفرقعة‪ .‬وقد آن أن يتعلم املسلمون أن األدمغة‬
‫احملشوة بأفيون اإلديولوجية‪ ،‬واأليدي املسلحة ببضاعة اجلاهلية‬
‫بار سوقها وأفل جنمها‪ .‬وهاهو اإلسالم وخالفته يف األفق القريب‪.‬‬
‫يضع اإلسالم حدا هنائيا للسوق السياسية ومساوماهتا؛ «إننا‬
‫واهلل ال نعطي هذا األمر من طلبه»‪ .‬هذا قانون اإلسالم‪ ،‬هو‬

‫‪898‬‬
‫احلكمة‪ ،‬وهو القوة واالستقرار‪ .‬لن يكون يف اخلالفة هتافت على‬
‫املناصب‪ ،‬ولن يكون للمنصب الواحد مرشح وال مرشحون‪ ،‬كما‬
‫لن تنظم الغزوات احلربية املسمات محالت انتخابية‪ .‬املنصب‬
‫مبنطق السياسة اجلاهلية بضاعة مطلوبة وغنيمة مشتهاة‪ ،‬فلذلك‬
‫يبذل املرشح نفسه وكل ما يف وسعه ليقنع الناس باملنطق ويغريهم‬
‫بالعطاء وخيدعهم بالكذب والتزوير‪ ،‬لكي يبيعوه بضاعة أصواهتم‪.‬‬
‫ال خيتلف الرتشيح يف أرض االشرتاكيات القومية عن معىن السوق‬
‫كما وصفناه إال من كون املساومات تتم يف خاليا احلزب الواحد‪،‬‬
‫ويتم الرتاضي قبل إعالن الالئحة الوحيدة لطقوس االنتخاب‪.‬‬
‫وال ختتلف سوقية االنتخاب يف بالد اإلسالم اللربالية عن مثيلتها‬
‫اجلاهلية إال باحتكار املنصب واألصوات يف يد احلاكم املستبد‪.‬‬
‫فهو يرشح وهو يفرض الطقوس ونتائجها وهو ينصب ويعزل‪.‬‬
‫الوالية بني املؤمنني يف ظل اخلالفة اإلسالمية تؤسس تعايشا‬
‫على احملبة وتالزما بني املؤمنني حىت تعرف اجلماعة أيهم األتقى‬
‫وأيهم األقدر على األمر واألجدر به‪ .‬وإن تواصيهم باحلق والصرب‬
‫يتضمن أن ميسك بعضهم بعضا عن إغراء املنصب‪ ،‬وأن يتالوموا‬
‫إن ضعف أحدهم ونسي اآلخرة واشرأبت عنقه للمنصب‪ .‬هذا‬
‫خط وازع القرآن‪ .‬أما وازع السلطان فيجب أن ينظم الشورى‬
‫على كيفية ختالف متاما االنتخاب الدميقراطي ونظام املركزية‬

‫‪899‬‬
‫الدميقراطية‪ ،‬وتستبدل معاين السوق مبعاين السمت اإلسالمي‬
‫ووقار العقود املمضاة يف املسجد‪ ،‬يف بيت اهلل‪.‬‬
‫واملؤمنون حباجة لوزاع السلطان فهم غري معصومني‪ .‬والنفس‬
‫حتب الرئاسة إن مل تزجر‪ .‬وقد وصى أبو بكر عمر بن اخلطاب‬
‫ملا عهد إليه قال ‪« :‬أول ما أحذرك يا عمر نفسك؛ إن لكل‬
‫نفس شهوة‪ ،‬فإذا أعطيتها متادت يف غريها‪ .‬واحذر هؤالء النفر‬
‫من أصحاب رسول اهلل‪ ،‬فإهنم قد طمحت أبصارهم‪ ،‬وانتفخت‬
‫أجوافهم‪ ،‬وأحب كل امريء منهم نفسه»‪.‬‬
‫إن املؤمنني مىت تعلقت مهتهم بالغاية اإلحسانية‪ ،‬ونبهت‬
‫روحانيتهم من غفلتها‪ ،‬أوىل أن يتدافعوا الرئاسة من أن يتنافسوها‬
‫كما يفعل املغبونون‪.‬‬

‫‪900‬‬
‫الشورى‬
‫االعتبارات املؤثرة على التحركات السياسية والقرارات يف‬
‫جمتمعنا املفتون اعتبارات اقتصادية جمتمعية تقع حتت ضغط‬
‫التنافس السياسي يف الداخل واخلارج‪ ،‬فهي مكتوفة حمدودة‪.‬‬
‫وإرادة أرباب السلطان مرهونة بعقليتهم األجنبية عاكفة على‬
‫إرادات احللفاء اجلاهليني ترقبها وتالعبها‪ .‬وما خييل إلينا من‬
‫استقالل يف الرأي وسبق للمبادرة ما هو إال تعمية للرق والعبودية‬
‫واألسر يف أغالل اخلوف من الناس واخلوف من املوت واخلوف‬
‫من اخلروج عن املألوف‪ .‬فليس على ساحة قراراتنا وحركاتنا عزمة‬
‫واحدة حرة تبعثها احلكمة والثقة باهلل‪ ،‬وخترج للعامل تسعى وتفعل‬
‫وتبلغ مداها‪ .‬دعنا من مظاهرات األبطال القوميني‪ ،‬فإن نتائج‬
‫خبطهم كانت وباال وتكون‪ ،‬ويعرف الرأي الفاشل من وجهه؛‬
‫ينم عنه اخلطل والعجلة الطائشة‪ ،‬كما تعرف املبادرات احلمقاء‬
‫من نتائجها‪.‬‬
‫حكامنا يفتاتون على األمة يف رأيهم وسعيهم‪ ،‬واجملالس القومية‬
‫ما هي شورى لسببني‪ ،‬أوهلما أهنا جمالس اسرتاحة واسرتواح بني‬
‫دورتني من دورات السوق السياسية‪ .‬فأفرادها‪ ،‬وال أقول أعضاؤها‬
‫ألن القوم أنكار أشتات‪ ،‬ابتاعوا املنصب وطلبوه ورغبوا فيه رغبة‬

‫‪901‬‬
‫املؤمن يف رمحة اهلل‪ .‬وهم يعتربون تسلقهم للنيابة الربملانية جناحا‬
‫ملسعاهم يف احلياة‪ .‬فمن كانت مهته صغرية حقرية فكيف يستشار‬
‫يف أمر املسلمني يف أمر املسلمني؟ وكيف يستشار يف أمر اإلمامة‬
‫واخلالفة وهي أمر اهلل األقدس؟‬
‫والسبب الثاين أن اجملالس النيابية يف بالدنا ترهات مستوردة‬
‫بأشكاهلا وأساليبها ومضموهنا من اجلاهلية مرتمجة عنها‪ .‬فهي‬
‫برملان‪ ،‬والكلمة يف لغة اجلاهليني تعين اهلذر والثرثرة‪ .‬إن هذه‬
‫اجملالس معارض للطواويس البشرية يُزكم األنوف ريح األنانيات‬
‫إن تكلمت وإن انتفخت أوداجها لتخاطب الوزير اخلطري وتلومه‬
‫وتوخبه‪ .‬إهنا سوق سياسية لطبقة جتمع بني االرتزاق وذئبية‬
‫السياسيني‪ .‬وإن هذه األسواق اهلذرية أماكن تباع فيها ذمم‬
‫املستضعفني وتغتال فيها حقوقهم‪..‬‬
‫كيف يعقل يف بالد املساكني‪ ،‬وهي كل بالد اإلسالم‪ ،‬أن‬
‫مينح من مال املسلمني لكسول يغشى سوق الثرثرة شهرين يف‬
‫السنة‪ ،‬اخلمسمائة دينار يف مطلع كل شهر‪ ،‬ومينحه اجلاه الذي‬
‫به يبتز األموال واحلصانة اليت هبا خيرق حرمة القوانني‪ ،‬وببالد‬
‫املسلمني معلمون أجرهم الشهري ال يتجاوز ثالثة دنانري‪ ،‬وأساتذة‬
‫جامعيون ال يبلغ أجرهم ثالثني دينارا؟‬
‫لكن حكامنا يعبدون األشكال كما يعبدها كل فارغ القلب‪.‬‬

‫‪902‬‬
‫وإهنا ملفخرة أن يكون لنا برملان وأن يكون فيه ضجيج قائم لنربهن‬
‫للناس أننا أمة دميقراطية‪ .‬ولتخسأ الدميقراطية إن كانت واجهة‬
‫يقتات من خلفها املأفونون باألفن املطلق واألفيون السياسي!‬
‫شورانا يف غد اإلسالم الطاهر تكليف وخدمة‪ .‬وقد كررنا أن‬
‫أصحاب اخلدمة من النخبة اإلميانية اإلحسانية‪ ،‬رجال الدعوة‬
‫ورجال األمة‪ ،‬ينبغي أن يعملوا على مثل أجر اإلمام اخلليفة لكيال‬
‫يكون أي منصب يف احلكم مغنما ماليا‪ ،‬ولن تدع النصيحة ويقظة‬
‫األمة مجعاء لطالب املناصب ووالهتا فرصة الستغالل النفوذ‪.‬‬
‫وقلنا إن اإلمام اخلليفة لن يكونه أبدا إن مل ينزع أهبة اجلبارين‬
‫وجيالس املساكني على احلصري والشعري‪ .‬ما ينبغي أن يكون حكم‬
‫املسلمني وشورى املسلمني عمال مأجورا وغُنما مشهورا‪ ،‬بل يكون‬
‫التقلل والقدرة عليه والصرب وضرب املثل يف ذلك شرطا نستدل به‬
‫على الذمة وخلوصها‪ ،‬وإن احلكم تكليف وإن الشورى تكليف‪.‬‬
‫وهكذا طرحنا أقوى أسباب السوقية السياسية‪ ،‬وإن هذه الذئاب‬
‫هتجر مكانا ال تظن به فريسة‪.‬‬
‫أما هذه االنتخابات اهلرجية وطقوسها والدسائس والتسخري‬
‫فهي املظهر الشكلي للدميقراطية‪ ،‬وهي التعويذة السحرية اليت هبا‬
‫يغشون أبصار األمة ويومهوهنا لوال بدائية أساليبهم ولوال ظهور‬
‫لعبهم على األمة اليت حيتقروهنا‪.‬‬

‫‪903‬‬
‫فيجدر باخلالفة اإلسالمية أن جتدد يف العامل أسلوبا الختيار‬
‫أهل الشورى‪ ،‬تفتقر إليه اإلنسانية وال هتتدي إليه‪ .‬جيب أن‬
‫تبتكر اخلالفة أسلوبا لالختيار يتوفر على شرط الوضوح وشرط‬
‫املسامهة احملدودة يف النخبة اإلميانية ذات الوالية واحملبة اجلماعية‬
‫دون أن يستحيل األمر إىل استبداد طبقة على طبقة أو مصلحة‬
‫على مصلحة إال استبدادا تربويا على مستوى الوجهة واملبدإ‬
‫والغاية‪ .‬والشرطان مها النصيحة‪ ،‬فما هي نصيحة إال لنصاحتها‬
‫ووضوحها‪ ،‬وما أمر بالتواصي باحلق والصرب إال املؤمنون ال سائر‬
‫املسلمني‪.‬‬
‫غوغائية التصويت العام جاءته من ذئبية احملرتفني‪ ،‬وهو سوق‬
‫الغنب لألمة ألن هذه األمة ال تعرف للتصويت معىن إال أنه‬
‫كلفة غريبة من هذه الكلف اليت يصدر هبا أمر السادة احلكام‪.‬‬
‫ولو قد تعلم الناس معىن االنتخاب‪ ،‬ولو قد توفرت فيه شروط‬
‫األمانة‪ ،‬وذلك مستحيل يف يد قادتنا‪ ،‬ملا صح أن يكون االقرتاع‬
‫العام أسلوبا إسالميا الختيار أهل الشورى‪ .‬إننا واهلل ال نعطي‬
‫هذا األمر من طلبه‪ ،‬فتلك واحدة‪ .‬وأخرى ناجتة عنها وهي أن‬
‫املال والرشوة يفتحان أبواب احلكام الفاسدين ويصنعان الدعاية‬
‫ويصنعان التزوير‪.‬‬
‫لنا موعد فيه نضبط أمورنا غداة اإلسالم‪ ،‬إنه املسجد‬

‫‪904‬‬
‫وإن العقدة مبايعة بني ذوي الذمم وميثاق‪ .‬فالندي اإلحساين‬
‫واجمللس اإلمياين يف املسجد يبدأ منهما التعارف بني املؤمنني‪،‬‬
‫ويتم التعارف يف ميدان العمل واجلهاد والنصيحة‪ .‬فلكي نكتشف‬
‫الرجال على قانون «الرجل وبالؤه والرجل وغناؤه والرجل وقدمه‬
‫يف اإلسالم» نقبل يف صف التطوع املنظم كل طالب شهد على‬
‫صالحه املسلمون يف قريته أو معمله‪ .‬وعلى كل رجل منذئذ أن‬
‫يعطي برهان الصدق والكفاية والبالء والغناء كل صباح وكل‬
‫مساء‪ .‬وهكذا نعرف الرجال بانتخاب مستمر يومي يشمل كل‬
‫الوقت‪ ،‬وال ينحصر يف مواسم التهييج والتهريج‪ .‬إنه انتخاب‬
‫دائم وامتحان عسري‪ .‬ولن ميكن فيه التدليس‪ ،‬ألن رجال الدعوة‬
‫املنظمة رعاة كلهم ورعية‪ ،‬فإن على كل طائفة شهيداً له الطاعة‬
‫فكلهم شهداء على احلق‪ .‬وإن للمؤمنني لذمة نعرفها من بالئهم‪،‬‬
‫ومن كانت له ذمة وعهد وميثاق ال يسكت عن احلق أبدا‪ ،‬ألن‬
‫الساكت عن احلق شيطان أخرس‪.‬‬
‫يف هذه املواسم االنتخابية التهييجية يكثر التجريح واالنتقاد‬
‫والشتم والتنابز باأللقاب‪ .‬وتلك سوقية حيسمها اإلسالم حسما‬
‫ليحل حملها مست املؤمنني ووقار املصلني يف بيوت اهلل املسبحني‬
‫حبمده يف عرصات اهلل‪ ،‬يف أرجاء األرض‪ .‬لن يكون يف صحفنا‬
‫املسلمة دعاية بل تكون هبا دعوة‪ ،‬لن يكون الكذب املموه بل‬

‫‪905‬‬
‫الصدق الناصح‪ .‬ومىت رشحت طائفة املؤمنني رجال وفرضت عليه‬
‫أن يقوم بكلفة من الكلف يف منظمات الشورى‪ ،‬فلكل مؤمن‬
‫متسع يف الصحافة واجملالس‪ ،‬وعليه الواجب أن ينصح للمسلمني‬
‫إن ثبتت له احلجة على أن املرشح فاسق‪ .‬وإن لكالم املسلمني‬
‫لرزانة وتثبتا يفرضهما وازع احلد يف حق من يتهم الناس بالظلم‬
‫وال يأيت ببينته‪.‬‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :1‬خياركم في الجاهلية‬
‫خياركم في اإلسالم إذا فقهوا» هذا احلديث ال يغلق باب العمل‬
‫يف وجه من كانوا باألمس مفتونني‪ .‬ولعل منهم من يتوب فتحسن‬
‫توبته وحيسن إسالمه حىت يبلغ مرتبة اإلميان واإلحسان‪ .‬والناس‬
‫أعداء ملا جهلوا‪ ،‬فلعل جلساء اهلذر يف أمس الفتنة يتعلمون‬
‫اإلسالم وحيبون اإلسالم فنُعلمهم ونستفيد من خربهتم‪ .‬هذا‬
‫حظ الرفق وحظ الرجاء‪ .‬أما حظ احليطة والتدبري فهو أن من‬
‫شب على شيء وألفه ال جيد من نفسه قوة جملافاته‪ .‬وإن هؤالء‬
‫احملرتفة املرتزقة منتفخة أجوافهم كما يعرب الصديق رضي اهلل عنه يف‬
‫زمان جاهليتهم فما خيليها من كربيائها وما جيلسها على احلصري‬
‫والشعري!‬
‫نعم‪ ،‬لن ينزل نظام اخلالفة مكموال من يومه األول قد سطرته‬

‫‪1‬رواه البخاري من حديث عبد الرمحان بن صخر‬

‫‪906‬‬
‫املالئكة‪ ،‬بل إنه اجتهاد وتعلم‪ .‬وليس نظام اخلالفة بأمر يتوقف‬
‫على مؤسسات قانونية دستورية توضع ألول وهلة قالبا للعمل‪،‬‬
‫إمنا هو ممارسة واختبار‪ .‬وسريث اإلمام اخلليفة مؤسسات ورجاال‬
‫وحمرتفة‪ ،‬فليس من احلكمة أن يهدم قبل أن خيطط لبناء‪ ،‬وال أن‬
‫يتخذ اهلدم مبدأ‪.‬‬
‫إن إمامنا غدا رجل اهلمة واملضاء والعزم الشجاع‪ ،‬لكنه أيضا‬
‫رجل احلكمة ورجل البصرية‪ ،‬وفوق ذلك كله رجل التوفيق اإلهلي‬
‫معه نور اهلل به يسعى‪ ،‬ومعه يد اهلل هبا يصول وجيول‪ .‬إن أول‬
‫موجه الختيار الرجال ليس االعتبار السياسي القائم على ضرورة‬
‫ربط القاعدة الشعبية باحلكم‪ ،‬بل هو اعتبار ثوري‪ ،‬ونستعمل‬
‫هذه العبارة اجلاهلية ومثلها تقريبا للمعىن وإقرارا بقصور الفقه‬
‫املنهاجي عن التعبري الكامل‪ .‬إنه عداء بني املستضعفني الوارثني‬
‫اجلاهرين بفرحتهم لإلسالم وبني املنكوبني من احملرتفة واملرتفني‬
‫أمجعني‪ .‬فأول خطوات العمل وأوسطها وآخرها استبداد تربوي‪،‬‬
‫فال مندوحة لإلمام من اختيار بطانة له بنفسه‪ ،‬فأولئك أصحاب‬
‫شوراه األسبقون‪ .‬وبعد ذلك يف مرحلة التنظيم الوسطى واألخرية‬
‫حيث تدبر املؤسسات وتوضع لالختبار والتمحيص والتحسني‬
‫املستمر املفتوح على الدوام‪ ،‬حىت تذوب العداوة ويستوي تنظيم‬
‫الدعوة وتستوي النصيحة ويرشد املؤمنون‪.‬‬

‫‪907‬‬
‫استعملت عبارة البطانة‪ ،‬وكثريا ما تستعمل للداللة على‬
‫التعفن واحتكار السلطان واحتجان األموال‪ .‬واحلق أن الناس‬
‫أسرع إىل صاحب السلطان من الذباب إىل قاذوراته‪ .‬فمىت كان‬
‫صاحب السلطان حشوه الشهوات وحشوه األفيون اإليديولوجي‬
‫فلبطانة السوء مرتع‪ ،‬وهلا عند بابه أسواق‪ .‬لكن من يوفقه اهلل ربه‬
‫ووليه ويعصمه من هواه يكشف الزيف من احلق‪ .‬وقد قال رسول‬
‫اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪« :1‬ما بعث اهلل من نبي وال استخلف‬
‫من خليفة إال كانت له بطانتان‪ ،‬بطانة تأمره بالمعروف وتحضه‬
‫عليه‪ ،‬وبطانة تأمره بالشر وتحضه عليه‪ ،‬المعصوم من عصمه‬
‫اهلل تعالى»‪.‬‬
‫ينبثق االختيار من أعلى إذا كما حتدد املعايري إىل وقت ترشد‬
‫فيه األمة‪ ،‬ويسمي الفكر السوقي هذا مصادرة للحريات ووصاية‬
‫على الشعوب‪ ،‬والشيوعية تنافق أيضا‪ .‬وما كان على وجه األرض‬
‫جتديد وال تعبئة إنسانية إال بالوصاية الرشيدة اجلادة‪ .‬إمنا ختتلف‬
‫وصاية اخلالفة اإلسالمية عن استبداد الطاغوت القومي اختالف‬
‫النهار عن الليل‪ ،‬ألن البطولة القومية تكذب ومتوه وتسطو سطوة‬
‫اجلبارين‪ .‬أما اخلالفة اإلسالمية فهي قوية بقوة املصحف قبل‬
‫كل قوة‪ ،‬وهي تعلم أن احلرب خدعة‪ ،‬وأن أعظم احلرب هو‬

‫‪ 1‬البخاري عن أيب سعيد اخلدري رضي اهلل عنه‬

‫‪908‬‬
‫مصانعة أعداء يف حجرك تريد هبم خريا وتريد هلم نصحا وتكفهم‬
‫باليد لتعقلهم عن الفساد‪ .‬لكن عملها صدق وإخالص‪ ،‬وجمال‬
‫عملها تعمه معاين املسجد ال معاين السوق‪ .‬واملاء ينفي اخلبث‬
‫عن نفسه كما يقول الفقهاء‪ .‬وإن املاء حياة‪ ،‬وإن انبعاثنا حياة‬
‫من موت القرون‪ .‬فلن جيد الكذابون يف جملس من يستخلفه اهلل‬
‫فيحفظه ويوفقه أذنا صاغية كما مل جيدوا يف جملس من بعثه اهلل‬
‫نبيا فعصمه‪.‬‬
‫ستَنفي الكذابني طهارةُ اإلمام ونورانيته‪ ،‬ولن تنفق عنده إال‬
‫الرجولة الكاملة‪ ،‬رجولة املسبحني القارئني‪ .‬قال سيدنا موسى يف‬
‫َخي‪ ،‬ا ْش ُد ْد بِ ِه‬ ‫دعائه‪﴿ :‬واجعل لِي و ِزيراً ِمن أ َْهلِي‪ ،‬هارو َن أ ِ‬
‫َُ‬ ‫ْ‬ ‫َ‬ ‫َ َْ ْ‬
‫ك َكثِيراً‪َ ،‬ونَ ْذ ُك َر َك َكثِيراً‪،‬‬ ‫ِ‬
‫أَ ْز ِري‪َ ،‬وأَ ْش ِرْكهُ في أ َْم ِري‪َ ،‬ك ْي نُ َ‬
‫سبِّ َح َ‬
‫صيراً﴾‪ .‬فها قد رأينا األسوة يف ثالثة أمور؛ يف‬ ‫ت بِنَا ب ِ‬ ‫إِنَّ َ‬
‫ك ُك ْن َ َ‬
‫طلب عون اهلل تعاىل على االختيار‪ ،‬ويف وظيفة الوزير املشري يشد‬
‫األزر وحيمي الظهر ويشرتك يف األمر‪ ،‬مث يف الرباط العلوي املقدس‬
‫بني اإلمام وبطانته‪ ،‬ألهنم جيتهدون يف األمر العام ليزدادوا قربا من‬
‫اهلل ويسبحون ويذكروه كثريا‪.‬‬
‫إن أهم وظيفة من وظائف املؤسسات الشورية يف اإلسالم‬
‫ستكون مثل الوظيفة الكربى للمؤسسات الدميقراطية اجلاهلية‪،‬‬
‫وهي اختيار رئيس الدولة وإقراره ومؤازرته‪ .‬وميكن أن نتبني من اآلن‬

‫‪909‬‬
‫نقطيت اجتهاد لتكون شورانا غدا إسالمية ال ترمجة للدميقراطيات‪.‬‬
‫النقطة األوىل هي أن اختيار اإلمام إما أن يكون يف عنق أهل‬
‫الشورى عامة كمثل انتخاب الصديق أيب بكر‪ ،‬أو يكون عهدا‬
‫من اخلليفة املائت كما كان عهد الصديق للفاروق‪ ،‬أو يوكل‬
‫االختيار إىل فئة من أهل احلل والعقد دون اآلخرين‪ ،‬وذلك فعله‬
‫الفاروق رضي اهلل عنه‪ .‬فكل ذلك سنة‪ .‬وأهم ما يف هذه السنن‬
‫وأكثرها إخبارا عن طبيعة الروابط الروحانية بني أجيال املسلمني‪،‬‬
‫أن اخلليفة املائت‪ ،‬الرجل الكامل النوراين على بصرية‪ ،‬ميكن أن‬
‫خيتار خليفة من بعده يقبله املسلمون فيبايعونه باستفتاء‪ ،‬أو‬
‫يردون أمرهم إىل الشورى فهي أسبق‪.‬‬
‫والنقطة الثانية يف مزاولة الشورى لوظيفتها الكربى ولسائر‬
‫وظائفها اليت يتميز هبا اإلسالم هو التحرر من العقدة املوقوتة‪.‬‬
‫فإن كل عهدة تعهدها لعامل مؤمن يف احلكم أو الشورى‪ ،‬ويف‬
‫النشاط العام أيضا إمنا هي ميثاق جار حيده يف كل حلظة طوارىء‬
‫اإلخالل بالواجب أو العجز الوظيفي‪ .‬ومسألة التعاقب على‬
‫احلكم درس نستفيده من العقد الدميقراطي دومنا حرج‪.‬‬
‫العقلية اجلاهلية تبين أنظمتها على املالحظة العلمية‪ ،‬فهي‬
‫تعرف أن االستمرار يف احلكم مفسدة‪ ،‬ألن من طال به األمد يف‬
‫السلطان كان أميل للتجرب والظلم‪ ،‬فلذلك توقت والية احلكام‬

‫‪910‬‬
‫واملنتخبني‪ .‬ويرتتب على ذلك أن احلاكم واملستشار ال يتفرغ‬
‫ملزاولة عمله أبدا بل هو يرتقب ميعاد االنتخاب‪ ،‬ويشل إرداته هم‬
‫إرضاء املنتخبني لكي يعطوه ثقتهم املرة بعد األخرى‪ .‬وجيب أن‬
‫يلغي اإلسالم هذا‪ ،‬وأن جيعل كل والية ابتداء من اخلالفة العظمى‬
‫والية قابلة لإللغاء يف كل حلظة بشروط نكلها للفقه الدستوري‬
‫تضمن االستقرار وال تربر األهواء املتالعبة‪ .‬ومثل هذا‪ ،‬الوظائف‬
‫العامة اليت تنظمها اجلاهلية حبيث تكون غري موقوتة وال مضبوطة‪،‬‬
‫فكل من وظف يف أمر من أمور املسلمني جيب أن يكون التوظيف‬
‫عقدة مبايعة تبطل إن أخل املوظف بشرط من شروطه دون ارتباط‬
‫بزمنية فرتات االنتخاب‪.‬‬

‫‪911‬‬
‫السلطان‬
‫يصرخ احملرتفون بأن للشعب حق كذا وكذا‪ ،‬ويزعمون أهنم‬
‫بامسه يتكلمون‪ ،‬وهم واهلل كاذبون‪ ،‬فقد تقايأهم املسلمون منذ‬
‫خربوا فسولتهم وذئبيتهم‪ .‬ويصرخون بأن عصرهم عصر حرية‬
‫واستخالص للحقوق فهم ال يقبلون شورى ممنوحة‪ .‬وقد أفل‬
‫جنمهم ورب الكعبة وذهب اهلل بنورهم‪.‬‬
‫إن القوة والشورى كرامة اهلل للحكم اإلسالمي‪ .‬إنه ميسك‬
‫الزمام بقوة ليخاطب املرتفني بقوة السلطان اليت حيرتموهنا حىت‬
‫يطأطئوا الرأس ويسمعوا للقول احلسن ودعوة اخلري‪ ،‬إنه يرث فتنة‬
‫مزمنة ويرث صراعات وقودها األمة املستضعفة‪ ،‬ودهاقينها من‬
‫بيدهم القوة من هذه «النخبة» املثقفة احملتكرة للحكم واحملتكرة‬
‫للمال واجلاه‪ .‬وبني األمة وبنيها املتنكرين لإلسالم نفور شديد‪،‬‬
‫وبني هؤالء ومنافسيهم يف الرأي والغنائم حقد‪ .‬فال يتصور أن‬
‫يستجيب املرتفون لدعوة اإلسالم وال أن يقبلوها كما تستجيب‬
‫األمة‪ ،‬وال يتصور أن يتضامنوا مع حكم يأتيهم مبا ال يعلمون‬
‫وبشجاعة ال يعهدوهنا‪ .‬أليس أهنم فرغوا يف أنفسهم أن اإلسالم‬
‫خرافة بائدة‪ ،‬وأن شعارات اإلسالم ما تصلح إال ملهاة تنبذ‬
‫للشعب اجلاهل املتخلف؟‬

‫‪912‬‬
‫قوة السلطان ووازعه هو اجلامع هلذا الشتات‪ .‬واحلزم يف ضرب‬
‫الالعبني وزجر املخربني ضرورة لصاحب العزمية املاضية‪.‬‬
‫لن يكون قطر االنبعاث غداة اإلسالم صفحة بيضاء كما‬
‫يقول ماو عن صينه‪ .‬بل إن بني الناس خالفات مذهبية وعادات‬
‫متصلة بالعقائد الضالة املتأصلة يف جسم األمة‪ .‬وإن من الناس‬
‫راقدين كساىل ال ترجى منهم حركة‪ ،‬وآخرين تعفنت ضمائرهم‬
‫حىت خييل أن البرت الكامل هو وسيلة تطبيب األمة وإعداد الصفحة‬
‫البيضاء اليت تستأنف إسالما بني قوم طهروا من عدوى الشلل‬
‫وعدوى الكفر‪ .‬لكن اإلسالم رفق ال عنف‪ ،‬والقوة العازمة املاضية‬
‫ينبغي أن تكون مشرط الطبيب ال يبرت كلما أمكن اإلبقاء‪.‬‬
‫إن قوة السلطان حتمي القوانني وتنمع من ختريب األعداء‪.‬‬
‫فالقانون هو األساس وقبول األمة له شرط سابق إلمكان تطبيق‬
‫القوة لتكون نظاما ومجعا‪ .‬وبعبارة أخرى فالدعوة اإلسالمية حني‬
‫تصل إىل احلكم تدعمها استجابة املؤمنني من بني هذا اخلليط‬
‫املفتون يتبعها بالتدرج املتئد الثابت اخلطى ال بالقفز فرض الشريعة‬
‫ومحايتها بقوة الوازع السلطاين‪ .‬ومبا أن األمة يف جمموعها أمة‬
‫صدقها الدعوة وبرهن عن ِصدقه‪ ،‬فلن يكون‬ ‫مسلمة تليب َمن َ‬
‫استعمال القوة نوعا من اإلكراه االنقاليب‪ .‬اإللزام اإلسالمي يتشكل‬
‫يف طائفة من رجال احلسبة ويف اجلند املتطوع لليقظة العامة‪.‬‬

‫‪913‬‬
‫ووراء كل هؤالء‪ ،‬يسندهم ويعضدهم‪ ،‬مشاركا يف النصيحة‪ ،‬كل‬
‫املسلمني املتضامنني على إسالمهم‪ .‬وسيبقى على اهلامش هذا‬
‫الزبد الغثائي املثقف بثقافة اإلحلاد بعد أن تنتزع منه زبدة األخيار‬
‫من رجال العلم والثقافة واحلكم‪ .‬يف االنقالبية تتعاور السلطان‬
‫فتية ال صلة هلم باألمة مطلقا وإن كانوا من بين جلدتنا ألهنم ال‬
‫يدعون إلسالم‪ ،‬وإن دعوا فدعوهتم ظالم ال يبني‪ .‬وأما استبداد‬
‫ك للسلطان باأليدي املؤمنة يف خدمة‬ ‫اإلسالم الرتبوي فهو َم ْس ُُ‬
‫هدف واضح ومقصد وغاية يعرفها املؤمنون وهتفو إليها قلوهبم‬
‫وينكرها الذين يف قلوهبم مرض‪.‬‬
‫ذكرت احلسبة ورجاهلا ألشري إىل االختالف اجلذري بني النظام‬
‫البوليسي والنظام اإلسالمي‪ .‬احملتسب وأعوان احلسبة ينتمون‬
‫ملؤسسة إسالمية صرف‪ ،‬فهي حماسبة عامة على السلوك اإلسالمي‬
‫يف كل امليادين‪ ،‬إهنا النصيحة املنظمة‪ ،‬وإهنا اليقظة السلطانية اليت‬
‫ينبغي أن ختدمها وتؤيدها اليقظة العامة‪ .‬النظام البوليسي حيارب‬
‫الرأي املخالف ويقتفي أثر املنافسني السياسيني ليقطع دابرهم‪،‬‬
‫ويتجسس على كل حركة ال تسري يف ركاب االستبداد‪ .‬أما احلسبة‬
‫فوظيفتها أمشل وأعم‪ ،‬وهي أنظف أيضا‪ ،‬بعد املرحلة االنتقالية‪،‬‬
‫حني يتعلم املسلمون جمافاة األساليب البوليسية الفظة وممارسة‬
‫النصيحة بيقظة أكثر وحزم ورفق معا‪.‬‬

‫‪914‬‬
‫إن األمر العام والنظام العام‪ ،‬سيما إن كان نقلة بعيدة كنُقلتنا‬
‫من الفتنة اجلاهلية إىل احلكم اإلسالمي‪ ،‬لن يقوم إال على السلطان‬
‫اليقظ الشديد ال يتساهل يف ذرة‪ .‬وهنا تكمن أخطار االحنراف‬
‫العديدة الالصقة بطبيعة اإلنسان‪ .‬هناك التجهم الثوري والعنف‬
‫الثوري الذي يتبع كل تغيري جذري‪ .‬فقد كانت اجلهامة والعنف‬
‫بعد ثورة روسيا أقوى من أن تعدهلما حكمة لينني ودهاؤه‪ .‬وقد‬
‫تصرف التنظيم بعد انتصار الثورة تصرفا وحشيا أدى سريعا إىل‬
‫االنقطاع بني العمال يف القاعدة وبني رجال احلزب‪ .‬وما مضت‬
‫سنتان بعد الثورة حىت كانت روسيا قد خربت خرابا شامال‪ .‬كان‬
‫من عوامله احلرب واحلرب الداخلية‪ ،‬لكن أهم عامل‪ ،‬بل والسبب‬
‫األول يف احلرب الداخلية هو التسرع والعنف الفظ‪ .‬واخلراب‬
‫الذي حلق بروسيا نوع من جرد األخطاء ومتهيد الطريق الستئناف‬
‫الكتابة على الصحيفة البيضاء‪ .‬لكنه بيس األسلوب‪ ،‬وقد كانت‬
‫روسيا يف سنوات ‪ 1921‬و‪ 1922‬متاهة ميوت الناس فيها جوعا‬
‫ويسعى يف شوارعها األطفال املشردون «‪ »bezprisonie‬ويوزَّع فيها‬
‫حساء اإلحسان…األمريكي‪.‬‬
‫وما نسيت اإلنسانية تلك املاليني اليت سفك دماءها ستالني‬
‫اجلبار‪ ،‬وال الفوضى واجملاعات املطردة يف بداية كل الثورات‬
‫الشيوعية‪ ،‬حىت يف بر الصني بعد إخفاق «القفزة الكربى»‪ .‬وال‬

‫‪915‬‬
‫يزال النظام الروسي وغريه من األنظمة الشيوعية نظاما يستند على‬
‫البوليس السري‪ .‬ويذكر الناس أن تربية الثورى الصغري من األجيال‬
‫وليدة الثورة يبدأ بتعليمه كيف يتجسس على ذويه ليفضح كل‬
‫احنراف عن خط الثورة‪ .‬ومل يكن ذلك خاصا بالعهد الستاليين‪،‬‬
‫وإن حكماء الصني الثوريني ينفون أن يكون يف بالدهم بوليس‬
‫سري‪ ،‬لكن من يدري لعل هذه اليقظة العامة ما أساسها إال‬
‫تعميم للتجسس وتصعيد إديولوجي للتضاغط االجتماعي؟‬
‫يصحب الثورات الشيوعية إعصار اجتماعي شديد‪ ،‬ألن‬
‫رجال الثورة يستعجلون أمرهم‪ ،‬وثورهتم أساسها نزع امللكية‪،‬‬
‫فيلقون متنعا شديدا ومعاكسة وختريبا‪ ،‬وتقل األقوات وتستأصل‬
‫تعب الثورات أهوال البداية إال باملضاء‬
‫طوائف من الناس‪ .‬وما ُ‬
‫والعزم الذي ال يرتد أبدا‪ ،‬فإن ارتد فإمنا هي مراوغة‪ .‬وكانت‬
‫حكمة الصينني هونت من هول اإلعصار كما هون منه حجم‬
‫احملرومني وضآلة عدد املالك وفداحة ظلمهم املاضي‪.‬‬
‫أما اإلسالم فال ينزع ملكية‪ ،‬لكنه ينزع اإلنسان بنفسه ويهيئه‬
‫بالرتبية أساسا‪ ،‬لسلوك يتعارض متاما مع سلوكه املألوف يف زمن‬
‫الفتنة‪ .‬فاإلسالم يطلب من الناس أكثر مما تطلبه الثورة‪ ،‬بيد أن‬
‫لب السلوك اإلسالمي ناحية ال تصل إليها يد السلطان‪ ،‬إمنا‬
‫تصل لربهان الصدق العملي‪ .‬فهل يقتصر السلطان اإلسالمي‬

‫‪916‬‬
‫على مراقبة السلوك الفكري االقتصادي أم يتسلط على الضمائر‬
‫وحياول أن يسرب أغوارها ليعرف إخالصها للقضية اإلسالمية؟‬
‫وبعبارة أخرى ما الفرق بني احلسبة الناصحة الواضحة اليت‬
‫تسندها اليقظة العامة وبني اجلاسوسية البوليسية؟ وهل يستغين‬
‫اإلسالم املنبعث عن شبكة جتسس؟ ال شك أن من األخطار اليت‬
‫يتعرض هلا النظام اإلسالمي خطر املغاالة يف الدين حىت يشبه‬
‫األمر ما كان يف زمن التفتيش الكنسي‪ .‬وما أمر اهلل بالتجسس‬
‫بل هنى عنه وهنى عن النميمة والغيبة‪ ،‬وزجر رسول اهلل صلى اهلل‬
‫عليه وسلم سيدنا أسامة ملا قتل رجال تلفظ بالشهادة وغضب‬
‫عليه أن قتل رجال مسلما‪ .‬فلما أبدى اسامة ظنه أن الرجل‬
‫قاهلا نفاقا قال املعصوم صلى اهلل عليه وسلم ‪« :‬هال شققت‬
‫على صدره !»‪ .‬فال جمال وال إمكان للتجسس على الصدق‬
‫إال من مراقبة براهينه العملية‪ .‬فكل من صلى يف املسجد مع‬
‫اجلماعة وأدى زكاته وصام رمضانه‪ ،‬واحرتم السلوك اإلسالمي‬
‫العام يف ظاهره فال سبيل عليه‪ .‬وتبقى النصيحة تضامنا عاما‬
‫لفضح كل احنراف وزجره وقتاله‪ ،‬بشرط أساسي هو أن ال تعترب‬
‫املذهبية وممارستها احنرافا وإمنا االحنراف حماربة املذهب اآلخر‪.‬‬
‫وأعين بالطبع املذاهب اإلسالمية الطاهرة من الشرك والباطنية‪،‬‬
‫كاملذاهب الفقهية والشيعة غري الرافضة وال املبهمة‪ ،‬والصوفية‬

‫‪917‬‬
‫تنزع عن قتاهلا للوهابية‪ ،‬وهذه تكف عن تكفريها للناس‪.‬‬
‫وقد كانت الثورة الوهابية درسا سلبيا لكل عمل إسالمي‬
‫يأيت بعدها‪ .‬احندر علماء جند بأفكارهم احلرجة املكفرة واهنالوا‬
‫على مساكني هتامة كما اهنالوا على املبتدعة يف احلرمني الشريفني‪.‬‬
‫وكان سلطان الوهابية دواء ناجعا للفوضى وقطع الطريق‪ ،‬لكنه‬
‫كان أيضا احتالال دينيا ضيق العطن قصري النفس‪ .‬فمن محالت‬
‫األمر باملعروف والنهي عن املنكر الوهابية‪ ،‬ومن كسر الطنابري‬
‫واملذياعات‪ ،‬مل يبق اليوم إال أسى وحسرة وإال سوق فاضحة‬
‫مفضوحة لبضائع اجلاهلية الباذخة تباع يف جوار بيت اهلل ومسجد‬
‫رسوله صلى اهلل عليه وسلم‪ .‬فإن كانت الطنابري منكرا يف احلرمني‬
‫فهو كان وال يزال منكرا خاصا‪ ،‬واملنكر االقتصادي املخرب لألمة‬
‫ال تبصره أعني املتشددين يف الدين‪.‬‬
‫كان سيدنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم شديد احلذر كثري‬
‫السؤال عن الناس‪ ،‬وكان عمر بن اخلطاب أعلم الناس مبا يف‬
‫الناس ال ختفى عنه من أمور أمته خافية‪ .‬فكذلك ينبغي أن يكون‬
‫احلكم اإلسالمي املريب‪ ،‬وكذلك ينبغي أن تبقى اخلالفة على مدى‬
‫األيام‪ .‬لكن جيب أن ال ينحدر اإلطالع على الناس وأحواهلم إىل‬
‫تشاؤم جيعل من مبادئه االعتماد على األرغام وسيلة لتغيري األمة‬
‫وأخالقيتها وعقليتها‪ .‬فليست الرتبية هي الردع‪ ،‬بل إن الردع مييت‬

‫‪918‬‬
‫وال حيىي إن كان وحده الوسيلة‪ ،‬ويثبط وال ينمى‪.‬‬
‫اإلطالع على الناس وأحواهلم يكشف حقيقة ذئبية الناس‬
‫وقلة الصاحلني‪ .‬وإن «الناس كإبل مائة ال جتد فيها راحلة» كما‬
‫قال رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم‪ ،‬ونظرة التشاؤم هذه قد تستبد‬
‫باحلاكم فيزاول سلطانه إرهابا وقمعا‪ .‬لكن من ينصبه املسلمون‬
‫حاكما لن يرعيه اهلل رعية إن مل يكن هبا رفيقا‪ .‬وقد كان رسول‬
‫اهلل يقول ‪« :‬أنا نيب الرمحة‪ ،‬أنا نيب امللحمة» وكان يقول ‪« :‬أنا‬
‫الضحوك القتال»‪ .1‬فكان عليه الصالة والسالم جامعا باسم ربه‬
‫مسبحا له نور وبصرية وله رفق وتؤدة ومست‪ .‬فكان يعلم من وحي‬
‫اهلل إليه من هم املنافقون فال يفضحهم‪ ،‬وإن افتضحوا بأعماهلم‬
‫سرتهم وعفا عنهم‪ .‬وال متنعه هذه الرمحة وهذا الرفق من املضاء يف‬
‫قتال عدوه‪ ،‬ويضرب كل من أبدى له صفحة وجهه‪.‬‬
‫سيطلع علينا احلكم اإلسالمي‪ ،‬فهل يلزم الناس بالطاعة‬
‫وحدها‪ ،‬أم يفرض التطوع إن مل يتطوع من الناس من يقومون‬
‫بفرض الكفاية ؟ وما حد الطاعة؟ وما حد التطوع؟ لقد تركت‬
‫لنا الفتنة األوىل درسا خالدا يف معقد االحتالل‪ ،‬بل قل يف سر‬
‫االحنالل‪ ،‬حني تفاقم اضطراب الذئاب اإلنسانية وألن مقبض‬
‫العصا السلطانية يف يد خليفة رسول اهلل سيدنا عثمان‪ .‬فقد لبث‬

‫‪ 1‬احلديثان ذكرمها ابن تيمية يف‪« :‬السياسة الشرعية»‬

‫‪919‬‬
‫رضي اهلل عنه مرتددا بني حدود الدعوة ووازعها وبني حدود القسر‬
‫السلطاين حىت قال قولته بعد أن الت حني مناص ‪« :‬ملا يزع اهلل‬
‫بالسلطان أكثر مما ال يزع بالقرآن»‪.‬‬
‫وما متاسكت عصا التأديب يف اليد الكرمية‪ ،‬فتداعت الدعوة‪،‬‬
‫وما تعلم املؤمنون يومها أن يرتكوا لألمة أمر املال شورى بينهم‬
‫ليستبد اإلمام بأمر اهلل‪ .‬وقد كان اختلط أمر اهلل بأمر الناس‪،‬‬
‫وكان ظهر االجتهاد واختالف الرأي بني الصحابة دون أن يكونوا‬
‫استعدوا لتنظيم خالفهم على إثر صاحب الدرة والعزمية احلادة‬
‫القوية سيدنا عمر بن اخلطاب‪ .‬هل هذا املال الذي جيب أن‬
‫يساس لصاحل املسلمني هو مال اهلل أو مال الناس ؟ وهل يدود‬
‫الناس عن حظرية الغنائم العامة قولة اخلري أو سيف السلطان‪.‬‬
‫وبعبارة أخرى هل يكون اإللزام يوما ما خربا بعد عني إن ترىب‬
‫الناس والتزموا خط العدل؟ وهل ينفصل حامل العصا املؤدبة عن‬
‫قضايا املال فيتعاىل عن التهمة ويتمكن من ضبط األمر وإحكامه‪،‬‬
‫أم تفرض طبيعة احلكم أن يلصق الناس مطالباهتم وأسباهبا باحلاكم‬
‫صاحب العصا ؟‬
‫كل هذه األسئلة كانت تطرحها منطقية الفتنة الكربى كما‬
‫يطرح اليوم السؤال الومهي ‪ :‬هل ميكن يوما أن ختتفي الدولة‬
‫من حيث كوهنا أداة قسر ؟ وإن الفقه القانوين الدستوري الغين‬

‫‪920‬‬
‫بتجاريب األمم وحكمة التاريخ يفتح لنا أبوابا لالجتهاد كي‬
‫يكون «االستبداد الرتبوي» مستندا على الوازعني دون أن يكون‬
‫اإلمام رجل اخلطة االقتصادية‪ ،‬ودون أن ينقص ذلك من هيمنته‬
‫على كل صغرية وكبرية من حيث التوجيه واحلكم الفاصل عند‬
‫النزاع‪ .‬فما كان يدري موالنا عثمان أين تنتهي صالحياته‪ ،‬فلذلك‬
‫ضعف‪ .‬وكان عمر خليفة هلل ال حد لسلطانه‪ ،‬فنجح وكذلك‬
‫يكون إمامنا غدا‪ .‬حاور موالنا عثمان أبا ذر حني نازعه‪ ،‬قال‬
‫أبو ذر ‪« :‬إنه ال ينبغي أن يقال مال اهلل‪ ،‬وال ينبغي لألغنياء أن‬
‫يقتنوا ماال» فقال ‪« :‬يا أبا ذر‪ ،‬علي أن أقضي ما علي وآخذ‬
‫ما على الرعية وال أجربهم على الزهد‪ .‬وأن أدعوهم إىل االجتهاد‬
‫واالقتصاد» ‪.1‬‬
‫ماذا على اإلمام وماذا على الرعية ؟ هذا ما كان فقهنا‬
‫املنهاجي يبحثه‪ ،‬ومبقتضى حمو عقلية املطالبة وإبداهلا بالتطوع‬
‫والطاعة اجلهادية يفرض اإلمام بالقرآن والسلطان االقتصاد‬
‫واجلهاد فرضا‪.‬‬

‫‪ 1‬الطربي‬

‫‪921‬‬
‫توحيد املسلمني‬
‫«إمنا يستجيب الذين يسمعون‪ ،‬واملوتى يبعثهم اهلل مث إليه‬
‫يرجعون»‪ .‬إن األمة ال تسمع مكاء القوميني وال تصدية احملرتفني‬
‫فلذلك ال تستجيب وإمنا ختضع للطاغوت‪ .‬وكل األنظمة القائمة‬
‫يف دار اإلسالم اليوم أنظمة إرهاب وقمع ال استثناء من ذلك‬
‫البتة‪ 1.‬وعلى سطح األمة يطفو الزبد الغثائي جمتثا غدا إن شاء‬
‫اهلل من فوق األرض ما له من قرار‪ .‬فعندما تنبعث الكلمة الطيبة‬
‫وينشر لواء اإلسالم وتنصب خيمة اجلهاد ويصلت سيف سلطانه‪،‬‬
‫ستفرح قلوب املؤمنني وستكون مشاركتهم يف ممارسة اإللزام‬
‫والنصيحة مشاركة من انبعث من موت‪ ،‬فهو على ما فاته حزين‬
‫وعلى الفرصة الثمينة اليت بيده حريص‪ .‬إن احلاكم اإلسالمي أخ‬
‫حمبوب ألن قلبه فيه التوحيد وفيه اإلميان فهو يتجاوب مع قلوب‬
‫السبعمائة مليون مسلم ويتناغى معها‪ .‬وإن سيف العدل سالح‬
‫حتركه يد الرمحة ودعوته الصادقة الالحقة شعت القطر اإلنبعاثي‪،‬‬
‫وسيعطي اهلل أحبته وأولياءه الذين انربوا حلمل رسالته رفقا وتؤدة‬
‫كما يعطيهم مضاء وقوة وعزما ال يلني وال يتصاحل على أنصاف‬
‫احللول‪.‬‬

‫‪ 1‬مث جاءت الثورة اإلرانية اإلسالمية‪ .‬هي اآلن خترج من خماضاهتا امليالدية الصعبة‪.‬‬

‫‪922‬‬
‫وإن لنا من رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم بشرى أن اخلالفة‬
‫على منهاج النبوة سريضى عنها ساكن األرض وساكن السماء‪،‬‬
‫وستمطرها السماء وتنبت هلا األرض وخترج هلا من بركاهتا‪ .‬ذلك‬
‫من تزكية اهلل القوى العزيز للجهاد املشمر الدائب الذي يقوده‬
‫املؤمنون يف كل ميدان‪ ،‬يبدأون يف كل يوم عند الفجر يف صف‬
‫للصالة‪ ،‬فيبكر العاملون اجملاهدون ألرضهم خياطبوهنا باجلد‬
‫فتستجيب هلم بأمر رهبا حىت يعمهم اخلري‪.‬‬
‫األمة اإلسالمية متخلفة يف اقتصادها فذلك ما يهيمن على‬
‫وعيها‪ ،‬وإهنا مجيعا عند إعالن الدولة اإلسالمية سترتحك حتركا‬
‫عاطفيا على سطحه شك القادة املنحرفني والضالني ويف أعماقه‬
‫فرحة كل مسلم مستضعف‪ .‬لكن هذه احلركة العاطفية تتحول‬
‫اهتماما جادا يعقبه وشيكا حرية املفتونني الضالني وهتاويهم‬
‫وخزيهم عندما تبدو طالئع النصر اإلسالمي يف كل ميدان‪ ،‬خاصة‬
‫يف البناء االقتصادي اجملدد املبتكر الذي يتعلم من عطاء اهلل غري‬
‫احملظور لكن يسري على غري مثال سابق وينسج على منوال إسالم‬
‫منهاجي متكامل‪ ،‬يومئذ فقط ميكن لكل قطر حترر وقامت فيه‬
‫دولة القرآن أن يدعو لتوحيد املسلمني‪ ،‬وميكن أن يطرح للنقاش‬
‫واإلعجاب حجج صدق اهلل يف عطائه ملن صدقه عز وجل يف‬
‫التعرض ملوعوده‪.‬‬

‫‪923‬‬
‫من زعمائنا اآلن من يقيم دنيا اهلتافات ويقعدها يريد وحدة‬
‫بني دول اإلسالم القومي االشرتاكي‪ .‬وجيتمع رجال احلكم‬
‫والسياسة يف مؤمتراهتم ليتدارسوا وسائل توحيد املسلمني‪ .‬وهم‬
‫جيهلون اإلسالم ويتصورونه رباطا قوميا وعصبية يكاثرون هبا أهل‬
‫الغلبة من أعدائهم‪ .‬إهنم رجال العقالنية السياسية وأصحاب‬
‫االحرتاف واملماطلة واملراوغة من ال ييكيني قوميني وعشائريني‬
‫تقليديني‪ .‬بعد أن ينتهوا من تنازعهم على الزعامة والرئاسة يلدون‬
‫أفكارا اقتصادية تبقى دائما يف حيز األحالم‪ ،‬ويتعاهدونا على‬
‫النصرة والوحدة‪ ،‬مث ال يكون من مؤمتراهتم طائل‪ .‬وكيف يتآلف‬
‫اإلسالم مع النيات القومية والنوايا املخادعة؟ واقرأ فشل اجلامعة‬
‫العربية يف مذكرات القشريي ففيها البالغ!‬
‫ولعلمائنا األفاضل مؤمترات يسعون فيها لتوحيد املسلمني‬
‫ال سيما بعد أن غُ ِزي املسجد احلرام بالقدس واحتل وامتنهت‬
‫حرماته‪ .‬ولعلمائنا غرية شديدة على اإلسالم تسهل عليهم إن‬
‫شاء اهلل نبذ اخلالفات املذهبية‪ .‬وإهنا خلطوة ال يستهان هبا‪ .‬جيتمع‬
‫علماؤنا الكرام فال يعتمون أن يتفقوا على وجوب جهاد العدو‬
‫الصهيوين وتوحيد املسلمني لتعبئة اجلهاد‪ ،‬ويرفعون توصياهتم‬
‫للقادة املراوغني املتخاذلني‪ ،‬فرتمى تلك التوصيات ويرجع العلماء‬
‫ألمتهم باألفئدة الكئيبة يشكون بثهم وحزهنم إىل اهلل‪ .‬ومن خلفهم‬

‫‪924‬‬
‫ديدان القراء يبصبصون للزعماء والطواغيت ويكذبون على األمة‬
‫باخلطب املدنسة بنياهتم الدودية‪.‬‬
‫القادة على رقاب األمة ال يستطيعون مجع األمة ألن أفئدهتم‬
‫هواء ال إميان هلم‪ ،‬وألن وعيهم املمسوخ املصنوع املرتجم ال يرى‬
‫يف البالد إال قوما يسخرون ويعتسف هبم‪ .‬هم الدخالء يف األمة‬
‫وبيدهم قوة العقل وقوة البطش‪ ،‬واألمة املمثلة يف علمائها أمة‬
‫عاطفية تتكلم بلسان العاطفة واإلميان‪ ،‬فال حيسن الزعماء إال‬
‫تقليدا قرديا للشعارات‪ ،‬وإن بكى العلماء وبكى معهم املسلمون‬
‫لضياع األمة وفتور اإلميان‪ ،‬هتف الزعماء بشعار اإلسالم واإلميان‬
‫وعموا على األمة اجلاهلة احملرومة كل معلم حنو استعادة شخصيتهم‬
‫وعزهم بإمياهنم‪.‬‬
‫فإذا يئس علماؤنا من الزعماء‪ ،‬كما كان يئس منهم حممد‬
‫عبده بعد أن قضى عمره يف مداراهتم‪ ،‬فكروا كما فكر يف إنشاء‬
‫جامعة إسالمية تريب لألمة أجياال صاحلة‪ ،‬وعولوا على سلوك‬
‫الطريق الوعر الطويل بادئني من البداية‪ .‬ففي ظل الكفر اجملوسي‬
‫باهلند تزدهر املدارس اإلسالمية وتؤدي مهمتها يف تربية املسلمني‬
‫ومل شتاهتم وإيقاظ روح اإلميان فيهم ما وسعها ذلك‪ ،‬وما تركها‬
‫الفاتن اجملوسي‪ .‬أما يف بالد اإلسالم القومي فجامعاتنا اإلسالمية‬
‫حتتضن علماء خملصني ومن بينهم آخرون أدعياء منافقون خيادعون‬

‫‪925‬‬
‫اهلل واملسلمني ويربرون القومية ويعبدون الطاغوت‪ .‬ويا حسرتا‬
‫على األزهر الشريف‪ ،‬معقل اإلسالم‪ ،‬تربز منه رؤوس الشياطني‬
‫من أمثال الذين عبدوا البطل القومي ومتسحوا حبذائه‪« .‬فويل‬
‫للذين يكتبون الكتاب بأيديهم مث يقولون هذا من عند اهلل ليشرتوا‬
‫به مثنا قليال‪ ،‬فويل مما كتبت أيديهم وويل هلم مما يكسبون !»‬
‫ويف العامل اإلسالمي اليوم مشروعات تدرس لتأسيس جامعة‬
‫اسالمية توحد الفكر اإلسالمي‪ .‬وما من زعيم حامل لشعار‬
‫اإلسالم كما حيمل األفاكون شهادة الزور مسخا ظاهرا على‬
‫وجوههم‪ ،‬إال ولديه مشروعه لتأسيس جامعته اإلسالمية‪ .‬ما منهم‬
‫إال من يطلب الرئاسة ويسابق منافسيه لتزعم الوحدة اإلسالمية‬
‫ولو يف صورة جامعة‪ .‬وإن جامعة اسالمية ينفق عليها ويوجهها‬
‫الطاغوت القومي ملؤسسة مدجنة‪ ،‬اغرت هبا علماء املسلمني‬
‫وشكلتهم حبائلها فسرعان ما سيكتشفون أن الطبقة املرتفة يفسد‬
‫يف يدها كل شيء‪ ،‬فما بالك باملشروع اجلليل الذي هو مجع‬
‫املسلمني وتوحيدهم‪.‬‬
‫وعلى هامش لعب القادة وسذاجة العلماء الصادقني تتم‬
‫لقاآت شعبية بني املسلمني‪ ،‬جيتمعون; أبيضهم وأمحرهم‪ ،‬مرة يف‬
‫السنة حول بيت اهلل احلرام‪ .‬جيتمعون على اإلميان بالغيب‪ ،‬يلثمون‬
‫احلجر األسعد ويطوفون بالبيت احلرام ويهرولون بني الصفا واملروة‪.‬‬

‫‪926‬‬
‫فاإلميان بالغيب جيمعهم ويفرقهم العقل‪ .‬لكن هذا اجلمع حول‬
‫الغيب وهذا اإلميان بامليقات واإلحرام والوقوف ورمي اجلمرات‬
‫اجتماع شكلي ذري‪ .‬ويف وسط مليون ونيف من الناس يقف كل‬
‫حاج بعرفات يطلب خالص نفسه وأهله‪ ،‬فإن دعا للمسلمني فإهنا‬
‫دعوة عابرة ال ترتجم وعيا مجاعيا وال نية جهاد مجاعي‪ .‬وجيتمع‬
‫احلجاج يف بيت اهلل احلرام فال مينعهم ذلك من اإلفرتاق عند‬
‫الصالة‪ ،‬فإن من الطوائف الضالة من ال يصلي بصالةاجلماعة‪.‬‬
‫ويفرتقون الفرقة الكربى حول قرب النيب صلى اهلل عليه وسلم‪،‬‬
‫فاألمة يف جمموعها حتبه وتعظمه وتوقره وتعزره وتتوسل إىل اهلل به‬
‫وتتشفع كما أمرها اهلل‪ ،‬وطائفة يكفرون أحباب رسول اهلل وال‬
‫يرون يف الوجود مهمة غري التكفري واالهتام بالشرك‪.‬‬
‫كل هذا ألن االجتماع على الغيب يف املستوى الشعيب‪ ،‬إن‬
‫كان إميانا يقبله اهلل‪ ،‬فإنه ال يكفي ليكون آصرة مجع وتوحيد حىت‬
‫يفضى اإلميان بالغيب إىل االهتداء بالقرآن‪.‬‬
‫وجيتمع املسلمون‪ ،‬خواصهم من أهل العزم واهلمة‪ ،‬يف مساجد‬
‫دعوة رجال التبليغ وأمثاهلم‪ .‬إنه اجتماع على اإلميان واهلجرة والسنة‬
‫واالقتصاد والتعارف‪ .‬لكنه اجتماع تظاهر وجهر باإلميان ودعوة‬
‫فردية لغياب الفكر والتخطيط واملنهاج العملي‪ .‬وما كان األمر‬
‫ليكون غري ذلك‪ ،‬فإن اهلند مهد دعوة التبليغ هي بالد اجملوس‪،‬‬

‫‪927‬‬
‫وكل حماولة للتفكري اإلسالمي يعده الكافر سياسة ويضطهد عليه‪.‬‬
‫الوحدة يف مساجد التبليغ وحدة حتضر آحاد املسلمني من شىت‬
‫اآلفاق‪ ،‬ويتظاهرون بإسالمهم وإمياهنم‪ ،‬وينفع اهلل هبم األمة‪.‬‬
‫وعندهم مبدأ أساسي هو ترك ما ال يعنيك‪ .‬وهذا الرتك قد خيفي‬
‫ما ال يعلمه إال اهلل من عدم اإلهتمام بأمور املسلمني‪ ،‬كما قد‬
‫يكون اقتصادا وصمودا حنو اهلدف واملقصد والغاية‪ .‬وال نعتب‬
‫على رجال التبليغ إن كانوا يصرحون بأهنم ال حيبون التخطيط وال‬
‫الفكر املخطط اعتمادا على ما حيدثه اهلل هلم; تلك عفوية وتواكل‬
‫قدميان فينا موروثان‪ .‬وإن رجال التبليغ بصراحتهم وصدقهم ال‬
‫يدعون ما يدعيه القادة الكاذبون من مشولية دعوهتم ومن اخالص‬
‫لقضية اإلسالم واملسلمني‪.‬‬
‫هذه الوحدة الشعبية يف احلج ومسجد التبليغ‪ ،‬وتلك احملاوالت‬
‫املؤمترية نبضات غائضة للشعور اإلسالمي النائم الضبايب‪ .‬ولن‬
‫تكون لنا وحدة إال بقيادة دعوة منظمة تؤمن بالغيب وتعبد‬
‫اهلل وتسبحه ويقرأ باسم رهبا جامعة الربانية من أطرافها‪ ،‬عاملة‬
‫مربية رفيقة‪ ،‬ليس مطية العاطفية الساذجة وال ضحية العقالنية‬
‫واالحرتاف‪.‬‬
‫قلنا يف فقرة مضت إن احلاكم اإلسالمي ينبغي أن ال يكون‬
‫رجل اخلطة االقتصادية‪ .‬قلنا ذلك لسببني اثنني; أوهلما أن ثنائية‬

‫‪928‬‬
‫الدعوة والدولة‪ ،‬وضرورة مجع الوازع السلطاين مع الوازع القرآين يف‬
‫يد واحدة قوية‪ ،‬تقتضي أن يرتك اإلمام اهلدف االقتصادي ومال‬
‫املسلمني شورى بني املسلمني‪ ،‬وأن يبقى هو مشرفا من أعلى على‬
‫احلركة كلها‪ ،‬مبكان احلَكم اليقظ الذي تفزع إليه كل اخلصوم‪،‬‬
‫ذلك أدعى أال يضطرب السلطان يف يده إن أصبح خصما يف‬
‫النزاعات اليومية‪ .‬والسبب الثاين هو أن احلاكم اإلسالمي جيب‬
‫أن يتفرغ للمقصد اإلمياين والغاية االحسانية‪ ،‬واملقصد اإلمياين هو‬
‫تربية مجاعة مؤمنة تربط بني أعضائها والية املؤمنني‪ ،‬حتمل مشروع‬
‫توحيد األمة عرب أقطارها‪ .‬معىن هذا أن يتفرغ للدعوة وتنظيمها‬
‫وإشعاعها على األمة قاطبة‪ .‬والغاية اإلحسانية هي مرياث الدعوة‬
‫احملمدية الكاملة‪ ،‬فاإلمام يدل املسلمني على ما دهلم عليه اخللفاء‬
‫الراشدون من حمبة اهلل والتقرب إليه والتماس الزلفى لديه‪ ،‬وحمبة‬
‫اخللق أمجعني وتبليغهم رسالة رهبم‪.‬‬
‫اإلمام إذن جامع األمة وقارشها بإذن ربه‪ ،‬إنه ال يرتنح على‬
‫تلك املقاعد الزعامية يف املؤمترات يفتات على املسلمني‪ ،‬بل هو‬
‫جليسهم كل يوم يف مسجد جامعته; إذ جيب أن يكون له جامعة‬
‫تعلم وتريب ويفد إليها كل مؤمن يؤهله اإلميان والفكر واالستعداد‬
‫حلمل دعوة التوحيد وتنفيذها‪ .‬وإن اإلمام يبلغ املسلمني عامة صوته‬
‫إذا خطب وأثر سلوكه يف العدل والنصيحة هلل ورسوله واملسلمني‪،‬‬

‫‪929‬‬
‫وأثر فضل اهلل على أمته به‪ ،‬فيحبونه وتنفتح قلوهبم وعقوهلم ملعاين‬
‫الوحدة‪ ،‬فيشتاقون إليها ويفهمون شروطها ويتأهبون هلا جبد‪،‬‬
‫ألن الوحدة ال ترجتل وال ميكن أن نطوي قرون الفتنة بني عشية‬
‫وضحاها‪.‬‬
‫حول شخص اإلمام سيتم مجع املسلمني من فتنة كما اجتمع‬
‫اإلسالم األول حول شخص الداعي إىل اهلل الرسول من جاهلية‪.‬‬
‫إهنا وحدة عاطفة وثقة باإلسالم جمسمة يف الثقة برجل اإلسالم‪.‬‬
‫وعلى أساس الثقة واحملبة تتكون وحدة فكرية ودستورية وجغرافية‬
‫يف إباهنا‪ .‬ذلك بعد توحيد األجيال‪ ،‬وتوحيد العقليات وتوحيد‬
‫الوجهة وتوحيد االجتهاد‪ ،‬وتوحيد حرية املذهبية مبا ال ينايف صريح‬
‫النص ومبا ال يتناىف واهلدي القرآين وحمبة الرسول الكرمي وآل بيته‪.‬‬
‫أال وأن أعظم عرقلة يف وجه الوحدة هي هذه القومية النتنة‬
‫هي كانت فرقتنا وأوهنتنا وال تزال‪ .‬وإن يف دار اإلسالم رجاال‬
‫ألواهنم خمتلفة‪ ،‬هم ذخرية اإلسالم غدا وعماده‪ ،‬جيب أن يهاجروا‪،‬‬
‫من كان له منهم غناء‪ ،‬إىل اإلمام يعزرونه وينصرونه‪ .‬وكما كان‬
‫زعماء القوميات يف أوائل الفتنة يكرهون «املوىل» الذي مساه‬
‫رسول اهلل بسم احملبة املتبادلة واملناصرة‪ ،‬فأحالوها حقدا ومعرة‪،‬‬
‫فنحن غدا نبتهج ومنرح ونفرح إن اجتمع اخواننا املؤمنون على‬
‫صعيد الوالية‪ ،‬كلهم موىل لصاحبه وموىل للمسلمني‪ .‬وقد وصفوا‬

‫‪930‬‬
‫لنا داءهم القومي القدمي‪ ،‬فإن ذكرناه اليوم فضحنا الوباء الذي‬
‫ال يزال على حاله‪ ،‬وكرهناه لنتقاياه ونبغضه‪ .‬روى صاحب العقد‬
‫الفريد ما يلي‪ ،‬كما روى غريه مثل ذلك عن هشام بن عبد امللك‪.‬‬
‫وهي روايات تنتشر خزي الشعوبية القدمية‪ ،‬وننشرها حنن لنخزي‬
‫الشعوبية املعاصرة‪ .‬ومن أحب أن يعرف خمازي القومية احلديثة‬
‫فعليه مبذكرات أحد أبطاهلا ‪ :‬الشقريي‪ .‬قال ابن عبد ربه‪.‬‬
‫«قال يل ابن أيب ليلى ‪ :‬كان عيسى بن موسى شديد العصبية‬
‫فقال يل ‪ :‬من كان فقيه العراق ؟ قلت ‪ :‬احلسن بن أىب احلسن‪.‬‬
‫قال ‪ :‬مث من ؟ قلت ‪ :‬حممد بن سريين‪ .‬قال ‪ :‬فما مها ؟ قلت ‪:‬‬
‫موليان‪ .‬قال ‪ :‬فمن كان فقيه مكة ؟ قلت ‪ :‬عطاء بن ايب رباح‪،‬‬
‫وجماهد‪ ،‬وسعيد بن جبري وسلمان بن يسار‪ .‬قال ‪ :‬فما هؤالء ؟‬
‫قلت‪ :‬موال‪ .‬قال ‪ :‬فمن فقهاء املدينة ؟ فقلت ‪ :‬زيد بن اسلم‪،‬‬
‫وحممد بن املنكدر‪ ،‬ونافع بن أيب جنيح‪ .‬قال ‪ :‬فمن هؤالء؟ قلت‬
‫‪ :‬موال‪ .‬فتغري لونه مث قال ‪ :‬فمن افقه أهل قباء ؟ قلت ‪ :‬ربيعة‬
‫الرأي‪ ،‬وابن أىب الزناد‪ .‬قال ‪ :‬فما كانا ؟ قلت ‪ :‬من املواىل‪ ،‬فاربد‬
‫وجهه ! مث قال ‪ :‬فمن فقيه اليمن ؟ قلت‪ :‬طاووس وابنه وابن‬
‫منبه‪ .‬قال ‪ :‬ومن هؤالء ؟ قلت ‪ :‬من املواىل‪ .‬فانتفخت أوداجه‬
‫وانتصب قائما! قال ‪ :‬فمن كان فقيه خراسان ؟ قلت ‪ :‬عطاء‬
‫بن عبد اهلل اخلراساين‪ .‬قال ‪ :‬فمن كان عطاء هذا ؟ قلت ‪ :‬موىل‬

‫‪931‬‬
‫فازداد وجهه تربدا‪ ،‬وأسود اسودادا حىت خشيته ! مث قال فمن‬
‫فقيه الشام ؟ قلت مكحول‪ .‬قال ‪ :‬فما كان مكحول هذا ؟ قلت‬
‫‪ :‬موىل‪ .‬فتنفس الصعداء‪ .‬مث قال ‪ :‬فمن فقيه الكوفة ؟ فو اهلل لوال‬
‫خوفه لقلت احلكم بن عتبة ومحاد بن أيب سليمان‪ ،‬ولكين رأيت‬
‫فيه الشر فقلت ‪ :‬ابراهيم النخعي والشعيب‪ .‬قال ‪ :‬فما مها ؟ فقلت‬
‫عربيان‪ .‬فقال ‪ :‬اهلل أكرب ! وسكن جأشه»‪.‬‬
‫لقد حررنا رسول اهلل صلى اهلل عليه وسلم من رق اجلاهلية‬
‫وخنوهتا وعصبياهتا‪ ،‬وأوصانا بأن نرتك هذه املنتنة ‪ .‬واهلل أولئك‬
‫الرجال املوايل الفقهاء املؤمنون كم قاسوا من طاغوت الشعوبية‬
‫العربية‪ .‬وما تطأنا أقدام اجلاهلية إال لتمكن العصبيات من قلوبنا‪،‬‬
‫وسيمحوها اهلل عز وجل ويرفعها‪ .‬لقد ضيعنا معاشر العرب‬
‫استحقاقنا حملبة املؤمنني امجعني بضيق قلوبنا وتفاهة أحالمنا‪ ،‬وإن‬
‫مل تنبدوها ويلكم! فإن موعدكم الصبح أليس الصبح بقريب ؟!!‬

‫‪932‬‬
‫الرمحة يف العاملني‬
‫س‬ ‫ي‬ ‫ل‬
‫َ‬ ‫َ‬
‫أ‬ ‫ح‬ ‫ب‬ ‫الص‬
‫ُّ‬ ‫م‬ ‫ه‬ ‫د‬
‫َ‬ ‫قال اهلل عز وجل للمنذرين ‪﴿:‬إِ َّن مو ِ‬
‫ع‬
‫َ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ْ‬ ‫ُ‬ ‫ُ‬ ‫َْ‬
‫ِ‬
‫يب فـَلَ َّما َجاء أ َْم ُرنَا َج َعلْنَا َعاليـََها َسافِلَ َها َوأ َْمطَ ْرنَا‬
‫الص ْب ُح بَِق ِر ٍ‬
‫ُّ‬
‫ك َوَما ِه َي ِم َن‬ ‫س َّوَمةً ِعن َد َربِّ َ‬
‫ضود ُّم َ‬ ‫ارةً ِّمن ِس ِّج ٍ‬
‫يل َّمن ُ ٍ‬ ‫ِ‬
‫َعلَيـَْها ح َج َ‬
‫يد﴾ اللهم اجعله صبح الرمحة مطر الرمحة يغسلنا‬ ‫الظَّالِ ِمين بِب ِع ٍ‬
‫َ َ‬
‫من أدراننا وجيدد يف هذه البذور الغثائية العفنة حياة وقوة‪ ،‬وتبعثنا‬
‫ربنا رمحة يف العاملني‪ .‬إن أمرك يا قوي يا عزيز إذا جاءنا بالبشرى‬
‫كفيل أن يذل القوميات ويعلي كلمتك احلق‪ ،‬أنت احلق وأنت‬
‫الرمحن الرحيم‪.‬‬
‫بعث اهلل رسوله حممدا صلى اهلل عليه وسلم رمحة للعاملني‪،‬‬
‫وكل من سار على منهاجه وعرج لسماء الروح مبعراجه‪ ،‬فهو‬
‫للعاملني رمحة‪ ،‬وإىل املرمحة يدعو والصرب واجلهاد‪ .‬الرمحة يف العاملني‬
‫وظيفة معطلة‪ ،‬مل يبق من خريها إال رأفة الرهبان املتبتلني الذين‬
‫ابتدعوها ابتغاء رضوان اهلل‪ ،‬كانوا متبعني روح اهلل‪ ،‬فلما تأله‬
‫من بينهم القساوسة وحرفوا هلم دينهم ترسب رغم ذلك الرمحة‬
‫والرأفة‪ .‬وهم ال يزالون يقولون إنا نصارى‪ ،‬فنأمتر بأمر اهلل ونفهم‬
‫إشارة اهلل‪ ،‬فهم أقرب الناس مودة لنا‪ .‬لكن رأفتهم ورمحتهم ختتلط‬
‫بالشرك املثلث وال تنجح دعوهتم يف داللة العاملني على الفطرة اليت‬

‫‪933‬‬
‫فقدوها‪ ،‬رغم قوة التنظيم الكنيسي وغناه‪ ،‬ورغم وسائله اهلائلة‬
‫ورجاله األذكياء العلماء‪ .‬والكنيسة اليوم يف أزمة شديدة‪ ،‬وعملها‬
‫يف نفس الوقت حيظى باهتمام متزايد من جانب العاملني‪.‬‬
‫دعوة الكنيسة واحدة من الدعوات اليت تصدع بدعايتها يف‬
‫هذا العامل املخبول‪ .‬الدعوات الشيطانية السحرية‪ ،‬والشعوذات من‬
‫كل فن ولون‪ ،‬والتنجيم والتزليم‪ .‬وحىت راكبوا الصورايخ حيملقون‬
‫يف األجواء الفضائية يبحثون عن اهلل‪ ،‬ويصرخ امللحد منهم من‬
‫على منربه الفضائي أنه عرب اآلفاق العليا فما وجد هلل أثرا‪.‬‬
‫إن هذه اإلنسانية معذبة شقية بدوابيتها‪ ،‬فهي تنتظر الرمحة‪،‬‬
‫وال رمحة إال من اهلل جاء هبا حممد بن عبد اهلل عليه صلوات‬
‫اهلل وسالمه‪ .‬وإن اإلسالم هو دين املغلوبني املستعمرين‪ .‬وإنه‬
‫كان وال يزال الغرض املنصوب الفرتاء املستشرقني وكيد املنصرين‪.‬‬
‫ورغم ذلك كله‪ ،‬ورغم أن أهل اإلسالم ال ميثلون اإلسالم‪ ،‬بل‬
‫يعاكسون وجهته ويهتكون حرمته‪ ،‬فإن اجلاهليني يرتقبون رمحة‬
‫إسالمية تفتح القلوب احلرجة لرجاء مشرق‪ .‬علمائهم واملؤرخون‬
‫يرتقبون أخوة إسالمية ورمحة اسالمية تعوض جهامة اجملتمعات‬
‫الكافرة‪ ،‬كان منهم اشبنجلر وطوينيب وبرناردشو وكثريون‪ .‬ومن‬
‫علمائهم وعامتهم من يعتنقون اإلسالم طالبني راغبني بأهون‬
‫اجلهد‪ .‬قد أسلم منهم على يد رجال التبليغ خلق كثري‪ .‬ويكتب‬

‫‪934‬‬
‫‪America‬‬ ‫إيل أحد املهتدين بأن أمريكا بالد ضياع روحي واسعة‬
‫‪ .is a vast spiritual wastland‬نعلم ذلك من حركة اإلسالم بني‬
‫السود األمرييكيني‪ ،‬وهو اسالم مشوه يتخذ شكل التنظيم القومي‬
‫املعارض‪ .‬وملا زار حممد خباز أحد مسلمي السود األمريكيني‬
‫دار اإلسالم وحج مع املسلمني‪ ،‬اكتشف اإلسالم احلق‪ ،‬وألغى‬
‫امسه النضايل يف صفوف اإلسالم املشوه «مالكوم إكس»‪ ،‬ورجع‬
‫لبالده يبشره برمحة اإلسالم‪ ،‬وخيرب قومه أن اإلسالم ال يفضل‬
‫األبيض على األسود‪ ،‬وأن املسلمني يتعايشون ويواكل أبيضهم‬
‫األمحر ويصاهره وحيبه‪ ،‬بل ويؤمره عليه ويطيعه‪ ،‬حىت قتلوه‪.‬‬
‫وبقيت مذكراته كتابا جيب أن يتأمله رجال الدعوة اإلسالمية‬
‫طويال‪ ،‬ليدركوا معىن الضياع الروحي الذي يعيشه العامل‪.‬‬
‫اغرت حممد خباز مبظاهر األلفة واإلخوة بني املسلمني التقليديني‬
‫ولعله أدرك أبعاد هذه األلفة وحدودها‪ ،‬ومع ذلك ورغم ذلك قنع‬
‫هبذه األخوة النسبية املظهرية بديال جلحيم امليز العنصري وغابوية‬
‫اجملتمعات املستهلكة‪.‬‬
‫تصور ما يكون عليه األمر يوم تقوم يف األرض دولة اسالمية‬
‫حقا‪ ،‬ويوم جتمع املسلمني على كلمة احلق‪ ،‬ويوم تكون لنا‬
‫أخوة غري حمدودة وال مظهرية‪ .‬تصور أن لنا معشار الوسائل‬
‫اليت مجعتها الكنيسة وجندهتا لدعايتها‪ ،‬وأن لنا عشر معشار‬

‫‪935‬‬
‫علمائها وجديتهم أن العاملني يروحون منا روح الرمحة ويقبلون‬
‫علينا ليتعلموا سالم اإلسالم ورفق اإلسالم‪ .‬إن سفينتهم احلضارية‬
‫تتحطم على صخور اجلهل واجلهالة‪ ،‬وإن حضارهتم لفي النزع‪،‬‬
‫يدركون ذلك على مراتبهم وينذر به عقالؤهم‪ .‬فدعنا من التخيل‬
‫وهلموا يا مسلمني نتعلم كيف نصبح أساتذة العامل‪.‬‬
‫األرزاق حنن أقل العاملني نصيبا منها‪ ،‬والسالح حنن نشرتيه به‬
‫بثمن الغنب مث ال حنسن مسكه بأيدينا‪ ،‬والعلوم العقالنية لن ننتهي‬
‫من تعلمها يف مدارسهم ليوم قريب‪ .‬فما بقي لنا إال روحانية‬
‫املؤمنني‪ ،‬وقد استأثرنا باللب والصميم إن اكتشفناها ومارسناها‪.‬‬
‫أما ترى أن اجلاهليني يرتدون إىل البهيمية القذرة املتحللة هروبا‬
‫من نظامهم احلضاري القامت‪ ،‬وسعيا وراء خيال جمنح يف املخدرات‬
‫وما إليها‪ ،‬ال جتتمع هلم راحة الضمري وكرامة اإلنسان‪ ،‬فيهينون‬
‫هذه الدابة اإلنسانية املستهلكة يف عاداهتا ويرذلوهنا ليشرتوا وهم‬
‫الراحة ووهم احلرية‪.‬‬
‫عندما نكتشف امياننا ومنارسه يف الشارع والبيت والديوان‬
‫واملعمل‪ ،‬ومنارسه حيث يرانا الناس مجيعا‪ ،‬فلن حنتاج حنن أن‬
‫حنمل إىل العاملني اسالمنا بل هم يهرعون إلينا ليتعلموه ويقتبسوه‪.‬‬
‫الرهبانية الكنسية‪ ،‬وأختها اهلندوسية وما يسري يف الركب الظلماين‬
‫من ترهات‪ ،‬تقرتح على العامل روحية تقتضي انزواء عن العامل أو‬

‫‪936‬‬
‫طقوسا مبهرجة تغر وال تسر‪ .‬وكل ذلك كان وال يزال نشاطا‬
‫هامشيا ظنينا ال صلة له باحلياة‪.‬‬
‫وإن اسالمنا حياة‪ ،‬وإن امياننا رمحة‪ ،‬وإن إحساننا حقيقة‬
‫ترتفع باإلنسان لكماله‪.‬‬
‫لعل ما سردناه من قصورنا يف األرزاق والعلم والقوة يومهك‬
‫أن اكتشافنا للب اإلميان ومثرة اإلحسان قد يكون مبعزل عن‬
‫الفاعلية يف مزمحة العامل‪ .‬وما قتله هو أن منافستنا للجاهلية يف‬
‫تلك امليادين لن تكون احلافز هلم على قبول دعوتنا‪ ،‬بل احلافز هو‬
‫تغرينا الكيفي الذي ال يتناىف مع إعدادنا للقوة وغزونا لدينا الكم‬
‫مبا يتناسب واملبدأ املنهاجي يف االقتصاد‪.‬‬
‫تعشش يف عقول املسلمني املفتونني آمال لدخول األمة يف‬
‫عاملية تعيد لنا اجملد احلضاري‪ ،‬وخنوة اآلباء واألجداد‪ ،‬عاملية منتهى‬
‫طموحها أن ندخل العصر ونلحق بركب احلضارة املادية‪ .‬ولنا حنن‬
‫رجاء وانتظار ليوم اإلسالم األغر‪ ،‬يوم نتسلم مرياثنا للخالفة يف‬
‫األرض‪ ،‬ونرتفع عن األماين القومية إىل اهلمة القعساء‪ ،‬وجمايل‬
‫الرمحة العامة اإلجيابية املتعدية‪ .‬إن هذا العامل لنا‪ ،‬ومن أجلنا خلقه‬
‫اهلل بأرضه ومساواته‪ .‬فإن وعينا أنفسنا وعيا قوميا ضيقا فما لنا‬
‫مرياث إال اخلزي واهلزائم‪ .‬أما إن وسعت تطلعاتنا العاملني‪ ،‬وفسحنا‬
‫لإلنسان مكانه يف مرياثه‪ ،‬أىن تكن جنسيته ولسانه وماضيه بشرط‬

‫‪937‬‬
‫واحد هو أن يؤمن مبحمد ورسالته وبأنبياء اهلل مجيعا ويسلك على‬
‫شريعته‪ ،‬فستخلع أنانية كلمة «حنن» رجسها‪ ،‬وستجمع خلق اهلل‬
‫وعياله كفالة اإلميان ورمحة اإلحسان‪.‬‬
‫قادتنا املضطربون مههم بالليل والنهار أن يفسح هلم جملس‬
‫على مائدة اللئام‪ .‬إهنم يبغون املشاركة يف عاملية حقيقتها التقليد‬
‫والتبعية والتلمذة اخلانعة‪ ،‬وعليها غاللة صفيقة من نفاق األصالة‬
‫ومنكر القومية‪ .‬إهنا عاملية استهالك ومطالبة ومسخ‪ .‬ال يضريها‬
‫أن تكون مطالبة حبق مهضوم وإمنا يضريها املسخ القردي املتنكر‬
‫لقيمة اإلنسان وكوهنا ذنبا للجاهلية‪ ،‬وزمنة لروسيا وأمريكا‪.‬‬
‫وإذا اجتمع املسلمون مبكة واملدينة يف حلظة اخبات وتوبة‬
‫تعلموا من زيارهتم لتلك البقاع الشريفة عاملية اإلستهالك وتقبلوها‬
‫على أهنا احلق واهلدى‪ ،‬ألن اللعب اإللكرتونية الواردة من اليابان‬
‫وأمريكا متوفرة بباب احلرمني املقدسني‪ ،‬واملسلمون بني بائع ومشرت‬
‫هلنات احلضارة العفنة باملال الذي نبذره تبذير السفهاء‪ ،‬فال نقوم‬
‫به وال نعز‪.‬‬
‫عاملية التقليد املسخ وعاملية االستهالك تتموج على خطوطها‬
‫عقلية املسلمني وعاطفتهم على كل مستوياهتم‪ .‬وإن كانت مائدة‬
‫األرزاق يف العامل حيتكرها اللئام‪ ،‬ومتلى علينا ضرورة العيش أن‬
‫نقاتلهم بسالحهم السياسي لنأخذ نصيبنا‪ ،‬فإن هتالكنا على‬

‫‪938‬‬
‫البضائع العاملية مهانة وبرهان على سفاهتنا وعدم أهليتنا حلمل‬
‫الرسالة الرحيمة‪.‬‬
‫العامل اجلاهلي يغزونا بفكره ويغزونا بنتائج علمه‪ ،‬فما من‬
‫كتاب هلم نقرأه وما من مسمار ولعبة نستهلكهما من متاع‬
‫اجلاهلية وأثاثها‪ ،‬حنتاج إليه وال نقدر على صنعه‪ ،‬إال حيمل معه‬
‫مسا ناقعا يبعدنا عن معاين وراثتنا ورجولة تلقيها‪ .‬فهل نغلق علينا‬
‫األبواب بستار من طني‪ ،‬إذ يعوزنا حديد نسدله علينا كما أسدلته‬
‫روسيا مدة خماضها بالعاملية الشيوعية؟ وهل نتنكر للعامل وننابذه‬
‫حىت يستوي لنا نظام اخلالفة وركائز قوته؟‬
‫هنا نصل إىل اسرتاتيجية رجال الدعوة اإلسالميني اخواننا‪ .‬إهنا‬
‫أسلوب احلرب الطويلة البعيدة ‪ :‬أسلوب حفر اخلنادق والرتبص‬
‫بالعدو يف غبش املؤامرات العاملية الصهيونية‪ .‬وأسلوب املطاولة‬
‫ومعاداة العامل‪ .‬يستعمل اإلسالميون اخواننا عبارة املواجهة‪،‬‬
‫ولعلها عدوى لفظية سرت لصفوفنا من البهلوانية القومية اليت‬
‫تظل على املواجهة وتبيت‪ ،‬وهي مواجهة خاصة مبجتمع الكراهية‬
‫دالة على طبيعته‪ ،‬ومبقتضاها يواجه القومي شركاءه يف اجلرمية‪.‬‬
‫يواجهه سرا وجهرا‪ ،‬على صفحات املذكرات واجلرائد أو على أمواج‬
‫اإلذاعة‪ .‬ويلعن بعضهم بعضا ويفضح‪ .‬ويدعون أهنم يواجهون‬
‫عدوا مشرتكا‪ .‬واحلق أن أعدى أعدائهم يكمن يف قلوهبم الكارهة‬

‫‪939‬‬
‫الضيقة‪ .‬فلو غلبوه لطار قلب الصهاينة الراتعني فينا شعاعا وفرقا‬
‫من الظاهرة املستحيلة‪.‬‬
‫عاملية املواجهة عند رجال الدعوة اإلسالميني عاملية شريفة‬
‫نظيفة‪ ،‬إهنا عاملية الرجولة اجملاهدة املتحفزة للقاء العدو‪ ،‬بيد‬
‫أن عداء العامل لوجود الصهيونية والتنصري ومائدة اللئام‪ ،‬موقف‬
‫انكماشي ذو أهداف قريبة جزئية‪ .‬فهال عاملية الدعوة إىل اهلل‪،‬‬
‫تعرف مواقع الصهيونية وال تستهني هبا وتتجاوز كيد املنصرين‪،‬‬
‫عاملية أن من طبيعة العقرب أن تلدغ‪ ،‬وأن الرجل ينبغي أن ال‬
‫يركز مهته يف النعل اليت أعدها للعقرب‪ .‬فإن فعل فغاية أمره أن‬
‫مياحك العقرب وتراوغه‪ ،‬وميضى العمر يف تقليب األحجار ليبعثها‬
‫من أحجارها‪.‬‬
‫ينبغي لرجال الدعوة إخواننا أن يوسعوا الدائرة وأن ينظروا‬
‫بعيدا‪ ،‬وينظروا واسعا‪ ،‬وينظروا رحيما‪ ،‬ويرفعوا الرأس عاليا واهلمة‬
‫شاخمة يف تواضع احلامدين لنعمة اهلل علينا إذ ندعو لدينه يف زمن‬
‫الغربة والكفر والردة‪ .‬وإهنم مجيعا سريجعون إلينا فارين من رهق‬
‫احلضارة املادية املنقطعة عن اهلل‪ ،‬فارين من العنف الطاحن‪ ،‬ومن‬
‫الدماء املراقة والذمم اخلوانة‪ .‬إن هذا العامل أصبح جحيما ال‬
‫يطاق‪ ،‬وكل انسان ميلك حظا من التمييز على ظهرها يئن وحين‬
‫ويقلب وجهه وقلبه لومضة اشراق تنريه من ظلمة‪ ،‬أو ملسة رمحة‬

‫‪940‬‬
‫تسقيه من جفاف‪.‬‬
‫إن خالفتنا اإلسالمية اليت بدت طالئع فجرها لن تكون‬
‫مبعزل عن العامل‪ ،‬ولن متنعها كراهية التقليد والتقاط الفتات من‬
‫التفتح على العامل باسطة ذراع الرمحة والسالم واإلخوة بني بين‬
‫اإلنسان‪ .‬إهنا ستكون رمحة يف العاملني مجيعا‪ ،‬ولن يزكيها اهلل إن‬
‫احنرفت عن غاية محل الرسالة ونشر الرمحة لتكون فقط ثارا من‬
‫اجلاهلية وماضي ظلمها‪ .‬إن اهلل عز وجل يبعث رسله وأنبياءه‪،‬‬
‫وخلفاءه أولياءه ليقوموا يف الناس بالقسط‪ .‬وحنن ال غاية إلنبعاثنا‬
‫اجلماعي إال أن نشهد على العامل بالقسط بشهادة نبينا فينا‪ .‬وال‬
‫تقوم مجاعة بشهادة القسط إن مل حتقق إمياهنا بعد إسالمها‪ ،‬وإن‬
‫مل يكن عمادها حمسنون بلغوا قمة الكمال‪ ،‬فكانوا هم املرجع‬
‫واملآل‪.‬‬
‫إن حمبة الرسول وآل بيته‪ ،‬والفناء يف روحانيته‪ ،‬وما يواكب‬
‫ذلك السلوك الشريف‪ ،‬واملشروع املنيف من أنوار الغيب وأسرار‬
‫امللكوت‪ ،‬هي الكنز الذي آن أن يكشف للعاملني‪ .‬إن منا معشر‬
‫املسلمني من جيهل احملبة ويناصب أهلها العداء‪ ،‬وحيج املسلمون‬
‫وكلهم صوفية حمبون واهلون يف شخص رسولنا الكرمي فيسمعون‬
‫بعرفات شتم األولياء وحتقري األنبياء‪ .‬ال جرم أن تكون دعوة‬
‫التكفري وكراهية الصويف الفقري مطية لعاملية االستهالك‪ ،‬وما مث من‬

‫‪941‬‬
‫أنواع الثبور واهلالك‪ .‬وإمنا شرع اهلل احلج لشهود املنافع ولذكر اهلل‬
‫يف تلك األيام املعلومات أيام احملبة والفرح باهلل وبأخوة اإلسالم‪.‬‬
‫إن خالفة الرسول على منهاجه ستطلع مشسها وتنري السبيل‬
‫وتربيء العليل‪ ،‬وهي عطاء للعاملني مجيعا‪ .‬يتوىل حضانتها‬
‫املسلمون‪ ،‬وتتوىل هي تربيتهم وترقيتهم إىل اميان واحسان‪ .‬إىل‬
‫أخوة متعاونة وبر بالعامل موصول‪ .‬وإىل ربانية مترض العامل وتعطف‬
‫عليه وترأف‪ ،‬وتنشر السلوك اإلمياين اإلحساين باحلق ليدحض‬
‫باطل الروحية الشيطانية اجلامثة على العامل‪.‬‬
‫وهذه آخر الدعوة وأوهلا‪ .‬يأيها اإلنسان‪ ،‬سل نفسك مل هذه‬
‫األرض والسماء‪ ،‬ومل األمل والبغضاء‪ ،‬وفيم احلياة واملوت‪ ،‬ومل‬
‫يضيق صدرك بفوت الفوت ؟ إنك خلقت للخلود وإن اإلسالم‬
‫ما هو فقط نظام احلياة اليومية واالقتصادية‪ ،‬وما هو فقط أخالقية‬
‫إميانية وحمبة واخوة‪ ،‬بل هو بعد اإلسالم واإلميان إحسان يقربك‬
‫من ربك‪ ،‬ويصلك جبنابه إن وقفت ببابه‪ .‬إنك يا إنسان غرة‬
‫الزمان ومعقد احلدثان‪ ،‬وقد جاءك الرسول بأخبار ربك أنه حيب‬
‫من احبه ويصطفيه‪ ،‬وأخربك العارفون باهلل أولياء اهلل بتجربتهم‬
‫الشخصية واكتشافهم ملا وراء حسك املغلق وعقلك الذي أنت‬
‫سجينه‪ .‬امسعها واضحة بليغة مؤثرة تبكي شكرا وغبطة بنعمة‬
‫اإلسالم‪ ،‬وبلغها يوم يسطع نورك بأقصى ما تقدر من بالغ‬

‫‪942‬‬
‫للعاملني رمحة وبشرى ‪ :‬إن اهلل عز وجل يتقرب إليه العبد بالفرض‬
‫والنفل حىت حيبه ربه‪ ،‬فإذا أحبه كان له مسعا وبصرا ويدا ورجال‪.‬‬
‫فذلك هو اإلنسان ال تلك الدودة العاملية‪ .‬وذلك هو املرشح‬
‫للكمال واللحاق بركب النور مع النبيئني والصديقني والشهداء‬
‫والصاحلني‪ .‬وال بد لك من صحبة فهي أول املنهاج وآخره‪،‬‬
‫والصحبة دعوتنا للعامل‪.‬‬

‫‪943‬‬
‫اخلامتة‬
‫بسم اهلل الرمحن الرحيم‬

‫بلغ هذا الكتاب إىل ختامه‪ ،‬وطلع بدر متامه‪ ،‬وقد بدا فجر‬
‫اإلسالم وانتشرت تباشريه‪ ،‬فحىي على الصالة ! حىي على الفالح‬
‫أخي القارئ وأخيت القارئة‪ ،‬كنت صربت على ما يف‬
‫الصفحات الطويلة من اإلغزار والنجود‪ ،‬ومزجمرات الرعود‪ ،‬فاعذر‬
‫نصيحا أراد أن يقول للهالكني يف أنفسهم قوال بليغا‪ ،‬فلعله غلظ‬
‫عليهم‪ ،‬ولنا أسوة برسولنا احملبوب‪ ،‬بلسم كل مكروب‪ ،‬فانه أمر‬
‫وامرنا أن نغلظ ونقول للمنافق يف نفسه قوال بليغا‪ ،‬حىت ميقت‬
‫نفسه وميجها‪ ،‬ويزيل قذى افكه‪ ،‬ويرجع عن شركه ‪.‬‬
‫و لعلنا عممنا كثريا ويف الناس أفاضل كراما‪ ،‬فاللهم غفرا‬
‫وسرتا‪ .‬وإمنا يبلغ السمع املختوم بالوهم املركوم‪ ،‬كالم ذو زوايا‬
‫حادة جيرح ويؤمل ‪ .‬وإىل ذلك قصدنا وعلى اهلل اعتمدنا ‪.‬‬
‫وقد أكثرنا من احلث على ضرورة التعلم من عطاء اهلل غري‬
‫احملظور‪ ،‬وال ننتظر أن يفهم عنا بساط األحالم كيف يعري مسلم‬
‫إخوانه بالصني وجتربتها وإخصاب تربتها ‪ .‬إننا أردناها كلمات‬
‫منبهة تقرع يف آذان الغافلني قرع اجلرس‪ ،‬بعد أن قل من ينتبهون‬
‫‪944‬‬
‫آلذان الصبح ‪.‬‬
‫أما املنهاج فقد كتبناه بسطة من ربنا‪ ،‬ووسيلة ملأربنا ‪.‬ومن‬
‫العبد القصور سيما يف عظائم األمور ‪ .‬ولوال فضل اهلل ورمحته لكنا‬
‫كالقردة املقلدين ‪ .‬وال نزال ننتظر أن يأتونا بفكرة واحدة‪ ،‬مؤمنة‬
‫غري جاحدة ‪ .‬وإن هلم العقم ولإلسالم مستقبل األيام ‪.‬‬
‫أما بعد فلعل من يستعجم دعوتنا من أهل الفضل والدعاء‬
‫على إعراهبا‪ ،‬فما مثلنا ومثله إال كموسى وصاحبه ‪ .‬وكل موسى‬
‫يقف عند جممع البحرين‪ ،‬ويعاين األمرين ‪ .‬يطلب العلم واحلقيقة‬
‫حىت يلقى العبد املرحوم ‪ .‬فال يرهقه متبوعة من أمره عسرا‪ ،‬وإمنا‬
‫يعجل موسى مبا عنده من العلم فال يستطيع صربا ‪ .‬ويأخذ‬
‫موسى يرتق ويفري‪ ،‬إىل أن يهتف به هاتف احلق بلسان صاحبه‬
‫‪ « :‬ما فعلته عن أمري «‪ .‬وعندها يثبت الربهان ويصح التأويل‪،‬‬
‫فيذعن موسى للسبيل ‪ .‬يتعلم طريق كماله‪ ،‬واجلهاد لبلوغ رضى‬
‫اهلل ونواله ‪ .‬خيرق سفينة عادية‪ ،‬ويقتل غلمة شهوته‪ ،‬ويقيم على‬
‫ذكر ربه حىت يناديه احلق من جانب الطور ‪ .‬فذلك مشروع طالب‬
‫احلق واحلقيقة‪ ،‬يعتصم بالرفيق ويسلك طريقه ‪ .‬سقته الغوادي‬
‫الثرة‪ ،‬وحلت قلبه املسرية ‪.‬‬
‫وما مثلنا ومثل اهلائمني احلائرين‪ ،‬يف آفاقنا اإلسالمية ويف‬
‫العاملني‪ ،‬إال كمن يستفتون يف بقراهتم العجاف‪ ،‬حىت بشرهم‬

‫‪945‬‬
‫يوسف احلسن واإلحسان برمحة اهلل واأللطاف‪ ،‬باإلشارات اللطاف‬
‫‪.‬يبشرهم باألذن الصحيح‪ ،‬واألمر النجيح ‪.‬‬
‫ويلمح املستفتون عنقاءهم املغرب‪ ،‬فتلتفت إليها األعناق‪،‬‬
‫ويتم التالق ‪ .‬مث يتحول املسلمون من غثائية العناكب‪ ،‬يزامحون‬
‫الناس باملناكب ‪ .‬يبلغوهنم رسالة اهلل‪ ،‬حيبون املوت يف سبيله‬
‫ويلتمسون رضاه ‪.‬أما املغبون فقرأ ما نكتب وقال ‪ :‬إسالم فلسفي!‬
‫وما درى أن اهلل يعد ويفي ‪.‬‬
‫اللهم ملكنا نفوسنا لنتبعها اهلدى‪ ،‬ونسلك إليك طريق‬
‫اجلهاد البعيد املدى‪ ،‬وامت علينا نعمتك حىت ندعوك بدعوة احلفيظ‬
‫ب قَ ْد آتـ ْيتَنِي ِمن الْمل ِ‬
‫ْك َو َعلَّ ْمتَنِي‬ ‫﴿ر ِّ‬
‫َ ُ‬ ‫َ‬ ‫العليم‪ ،‬الرسول األمني ‪َ :‬‬
‫َنت َولِيِّي فِي‬ ‫ضأ َ‬ ‫السماو ِ‬
‫ات َواأل َْر ِ‬ ‫يل األ ِ ِ ِ‬
‫َحاديث فَاط َر َّ َ َ‬ ‫من تَأْ ِو ِ َ‬
‫ِ‬
‫ين﴾ ‪.‬‬ ‫ْح ْقنِي بِ َّ ِ ِ‬ ‫ِ‬
‫اآلخرِة تـوفَّنِي مسلِماً وأَل ِ‬ ‫ُّ‬
‫الصالح َ‬ ‫الدنـُيَا َو َ ََ ُ ْ َ‬
‫أعوذ باهلل من خطل الرأي والزلل‪ ،‬وأعوذ بوجهه الكرمي من‬
‫اللغو والكسل ‪ .‬واستغفره مما جرى به اللسان وليس له رضى‪ ،‬فهو‬
‫ولينا غافر الذنب وقابل التوب ‪.‬‬
‫اللهم هؤالء جنودك من طالئع الكالم‪ ،‬سقناهم بتوفيقك هذا‬
‫املساق‪ ،‬باملعاين الرقاق ‪ .‬فأعملهم اللهم يف خدمة أمة رسولك‬
‫حممد احلبيب‪ ،‬ليوم اإلسالم القريب‪ ،‬وبعد ذلك إىل يوم الدين‬
‫‪.‬فقد جعلت علينا إرثا له البالغ‪ ،‬وعليك موالنا احلساب ‪.‬‬

‫‪946‬‬
‫اللهم فبجاهه العلي‪ ،‬ومقامه السين‪ ،‬وحبق كل مصطفى نيب‪،‬‬
‫وكل مطهر ويل‪ ،‬آتنا من لدنك رمحة وهيئ لنا من امرنا رشدا‪،‬‬
‫ورقنا يف مقعد الصدق عندك أبدا‪ ،‬ويسر لنا من نورك ومن قلوب‬
‫خلقك مددا‪ « ,‬من يهد اهلل فهو املهتدي‪ ،‬و من يضلل فلن‬
‫جتد له وليا مرشدا « ‪ .‬واجعل اللهم وجهك الكرمي وعز اإلسالم‬
‫لنا غاية ومقصدا ‪ .‬وارحم اللهم من قرأ ووعى ‪،‬مث ترحم ودعا‪،‬‬
‫للسابقني بإميان‪ ،‬والالحقني بإحسان‪ ،‬يا رحيم يا رمحان‪.‬‬
‫اللهم نصرك الذي وعدت املستضعفني‪ ،‬من عليهم سيدي‬
‫واجعلهم أئمة واجعلهم الوارثني ‪.‬‬
‫دعتك موالنا كلمات هذا الكتاب حبال املسلمني ‪ .‬وندعوك‬
‫بلسان من عصى فتاب‪ ،‬فجعلته ردء للصواب وآتيته احلكمة‬
‫وفصل اخلطاب‪ ،‬أن تغفر لنا خطايانا‪ ،‬وأن جتعل لنا من عبادك‬
‫الصاحلني فرطا ومثال لآلخرين‪.‬‬
‫اللهم صل على سيدنا حممد وعلى آل سيدنا حممد‪ ،‬كما‬
‫صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم‪ ،‬إنك محيد‬
‫جميد‪ ،‬وبارك على سيدنا حممد وعلى آل سيدنا حممد كما باركت‬
‫على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم يف العاملني إنك محيد‬
‫جميد‪.‬‬

‫‪947‬‬
‫نشر هذا الكتاب مجلة منذ زهاء عشرين سنة‪ ،‬ونعيد طبعه‬
‫بعد تنقيحه‪.‬‬
‫فيه بضعة أفكار تسبح حبمد رهبا يف كل صفحة من صفحاته‪،‬‬
‫مستبشرة ببشرى رهبا أن بعثها رائدة لإلسالم‪ ،‬مؤذنة مليقاته‪،‬‬
‫ليسمعها قلب مؤمن سعيد‪ ،‬يلقى السمع وهو شهيد‪.‬‬
‫إنه من قلب مؤمن‪ ،‬إن شاء اهلل‪ ،‬وقد شاء ثناؤه فمن‪ ،‬وهنج‬
‫لعباده وسن‪ .‬فله احلمد ما ترمن شاد وحن‪.‬‬
‫َنزلْنَا إِلَْي ُك ْم‬
‫َّاس قَ ْد َجاء ُكم بـُْر َها ٌن ِّمن َّربِّ ُك ْم َوأ َ‬ ‫﴿يَا أَيـَُّها الن ُ‬
‫سيُ ْد ِخلُ ُه ْم فِي‬ ‫ِِ‬
‫ص ُمواْ به فَ َ‬
‫ِ‬
‫آمنُواْ بِاللّه َوا ْعتَ َ‬ ‫ين َ‬
‫َّ ِ‬ ‫ِ‬
‫نُوراً ُّمبيناً فَأ ََّما الذ َ‬
‫ص َراطاً ُّم ْستَ ِقيماً‪.‬‬‫ض ٍل ويـ ْه ِدي ِهم إِلَْي ِه ِ‬
‫َر ْح َمة ِّم ْنهُ َوفَ ْ َ َ ْ‬
‫ٍ‬
‫﴿قَ ْد َجاء ُك ْم َر ُسولُنَا يـُبـَيِّ ُن لَ ُك ْم َكثِيراً ِّم َّما ُكنتُ ْم تُ ْخ ُفو َن ِم َن‬
‫اب ويـع ُفو َعن َكثِي ٍر قَ ْد جاء ُكم ِّمن اللّ ِه نُ ِ‬ ‫ِ‬
‫اب ُّمبِ ٌ‬
‫ين‬ ‫ور َوكتَ ٌ‬ ‫ٌ‬ ‫َ‬ ‫َ‬ ‫الْكتَ ِ َ َْ‬
‫السالَِم َويُ ْخ ِر ُج ُهم ِّم ِن‬ ‫ض َوانَهُ ُسبُ َل َّ‬ ‫يـَْه ِدي بِ ِه اللّهُ َم ِن اتـَّبَ َع ِر ْ‬
‫صر ٍ‬
‫اط ُّم ْستَ ِق ٍ‬ ‫ِِ ِِ ِ ِ ِ‬ ‫ُّ ِ ِ‬
‫يم﴾‪.‬‬ ‫الظلُ َمات إلَى النُّو ِر بإ ْذنه َويـَْهدي ِه ْم إلَى َ‬
‫صدق اهلل العظيم‬

‫‪948‬‬
‫حمتويات الكتاب‬
‫الفصل األول‪ :‬المنهاج النبوي وحركيته‬
‫املنهاج‪15..........................................‬‬
‫اقتحام العقبة‪21....................................‬‬
‫اخلصال العشر‪35...................................‬‬
‫الصحبة واجلماعة‪47................................‬‬
‫الذكر‪57...........................................‬‬
‫الصدق‪67.........................................‬‬
‫البذل‪76...........................................‬‬
‫العلم‪85...........................................‬‬
‫العمل‪95..........................................‬‬
‫السمت‪105........................................‬‬
‫التؤدة‪114..........................................‬‬
‫االقتصاد‪123.......................................‬‬
‫اجلهاد‪133.........................................‬‬
‫الفصل الثاني‪ :‬النموذج الخالد‬
‫املسلمون والتاريخ‪147...............................‬‬
‫موكب النبوءة‪159...................................‬‬
‫‪949‬‬
‫حممد رسول اهلل‪170 ..................................‬‬
‫اإلسوة‪180...........................................‬‬
‫الصحبة‪190..........................................‬‬
‫اجلماعة‪200..........................................‬‬
‫الذكر‪210............................................‬‬
‫الصدق‪223 .........................................‬‬
‫البذل‪236............................................‬‬
‫العلم‪248............................................‬‬
‫العمل‪260...........................................‬‬
‫السمت‪270..........................................‬‬
‫التؤدة‪281............................................‬‬
‫االقتصاد‪293.........................................‬‬
‫اجلهاد‪305...........................................‬‬

‫الفصل الثالث‪ :‬كتاب العالم‬


‫منها قائم وحصيد‪319 ................................‬‬
‫يف مأدبة اللئام‪331....................................‬‬
‫قائد ثورة‪342........................................‬‬
‫الثورة الثقافية‪354....................................‬‬

‫‪950‬‬
‫تربية من القاعدة‪365.................................‬‬
‫خبري وأمحر‪379......................................‬‬
‫القوة‪390 ...........................................‬‬
‫الفقر والعفة‪401.....................................‬‬

‫الفصل الرابع‪ :‬طريق إلى التجديد‬


‫هتافت الفالسفة‪414..................................‬‬
‫كلمات خترق السكون‪425............................‬‬
‫من جيدد؟ ‪436 ......................................‬‬
‫اإلمام البنا ‪448......................................‬‬
‫غضبة القطب‪460 ...................................‬‬
‫االجتهاد‪472.........................................‬‬
‫التنظري‪483...........................................‬‬
‫التنظيم ‪494.........................................‬‬

‫الفصل الخامس‪ :‬من القلة إلى التقلل‬


‫العدل ‪506..........................................‬‬
‫اليقظة واالنضباط‪517.................................‬‬
‫سلم القيم‪528.......................................‬‬

‫‪951‬‬
‫التحويل الثقايف‪539...................................‬‬
‫التعاون اجلماعي‪550..................................‬‬
‫اقتصاد القوة‪561.....................................‬‬
‫تنمية اإلنسان‪572....................................‬‬
‫أمراض التكاثر‪583....................................‬‬

‫الفصل السادس‪ :‬الربانية والربانيون‬


‫الرتبية والتغيري‪595.....................................‬‬
‫الفقه املنهاجي‪605...................................‬‬
‫الربانيون‪616.........................................‬‬
‫خصوم اإلسالم‪627...................................‬‬
‫القيام بالقسط‪639....................................‬‬
‫األم‪650.............................................‬‬
‫تربية من فشل‪661....................................‬‬
‫احلرية واملسؤولية‪670..................................‬‬

‫الفصل السابع‪ :‬التعليم والتعلم‬


‫الرتبية والتعلم‪682....................................‬‬
‫لغة القرآن‪693.......................................‬‬

‫‪952‬‬
‫الثقافة والتنمية‪704..................................‬‬
‫التعليم املتخلف‪719.................................‬‬
‫وسائل اإلعالم‪726..................................‬‬
‫تطوير التعليم‪737...................................‬‬
‫التعليم املستمر‪747.................................‬‬
‫تعليم للتغيري‪757....................................‬‬

‫الفصل الثامن‪ :‬الدعوة‬


‫احملجة البيضاء‪768..................................‬‬
‫الداعي إىل اهلل‪779..................................‬‬
‫التنظيم اجلهادي‪790................................‬‬
‫عضو اجلماعة‪800...................................‬‬
‫مركزية الطاعة‪811...................................‬‬
‫النصيحة‪822.......................................‬‬
‫دعوة إىل اخلري‪833..................................‬‬
‫املستضعفون الوارثون‪844............................‬‬

‫الفصل التاسع‪ :‬الخالفة‬


‫اخلليفة‪856.........................................‬‬

‫‪953‬‬
‫حنن والفوضى الدميقراطية‪867.........................‬‬
‫حنن واالستبدادية املذهبية‪879........................‬‬
‫سوق السياسة‪890..................................‬‬
‫الشورى‪901........................................‬‬
‫السلطان‪912.......................................‬‬
‫توحيد املسلمني‪922.................................‬‬
‫الرمحة يف العاملني‪933................................‬‬
‫خامتة الكتاب‪944..................................‬‬

‫‪954‬‬

You might also like