You are on page 1of 224

‫سلسلة إبداعات سودانية‬

‫(‪)1‬‬

‫تيجـــــــــان احلـــــــــكي‬
‫قصص قصرية‬

‫تأليف مجموعة من الكتاب السودانيين‬

‫الهـ ـ ـ ـ ـ ـ ــادي ارض ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــي‬ ‫أحمـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد أبو حـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــازم‬

‫عم ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــر الص ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــايم‬ ‫جمال الدين علي الحـ ـ ـ ـ ـ ــاج‬

‫محاسـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــن الج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاك‬ ‫سـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــارة الج ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــاك‬

‫محم ـ ــد حسـ ـ ـ ـ ـ ــن النحـ ـ ـ ـ ــات‬ ‫محمـد الخ ـ ـ ـ ـ ــير حام ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــد‬

‫منصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــور الصـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــويم‬ ‫محمــد خلف هللا سل ـ ـ ـ ــيمان‬

‫جمع وتحرير‬

‫محمد اخلير حامد‬


‫يناير ‪9102‬م‬
‫سلسلة إبداعات سودانية‬

‫منشورات متسلسلة جملموعة من الكتاب السودانيني‬


‫في مجاالت‪ :‬القصة القصيرة‪ ،‬القصص القصيرة جداً‪،‬‬
‫الشعر العربي الفصيح‪ ،‬والشعر العامي‪.‬‬

‫مجع وحترير‪ :‬حممد اخلري حامد‬


‫‪E.MAIL:MEDO1199@HOTMAIL.COM‬‬
‫اسم الكتاب‪ :‬تيجان الحكي‬
‫نوع املؤلف‪ :‬قصص قصرية ‪ -‬السودان‬
‫تأليف‪ :‬مجموعة من الكتاب السودانيني‬
‫حجم الكتاب‪ ..12 * 5.12 :‬سم‬
‫عدد الصفحات‪ 55. :‬صفحة‬
‫الطبعة األوىل – يناير ‪51.2‬م‪1‬‬

‫جم لح مح للم‬
‫يع ا قوق فوةظ ؤلفين‬

‫اآلراء الواردة في هذه السلسـلة‪ ،‬والكتابات املنشــورة بها؛ ال تعبر بالضرورة عن‬
‫آراء احملرر‪ ،‬وال تتبنى رأي جهة ما‪ ،‬وإمنا هي آراء الكتاب الشخصية‪ ،‬وتعبر عن‬
‫رؤيتهم اخلاصة ويتحملون مسئوليتها األدبية والقانونية‪.‬‬
‫مجموعة من الكتاب السودانيني‬

‫تيجــــان احلــــكي‬
‫قصص قصيرة‬
‫المحتويات‬

‫‪11‬‬ ‫املقدمة‪.........................................................................‬‬ ‫‪0‬‬

‫‪15‬‬ ‫أحمد أبوحازم‪:‬‬ ‫‪9‬‬

‫‪17‬‬ ‫نثار الهواجس واجلنون‪....................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪23‬‬ ‫صفير اجلماجم اخلاوية ‪.................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪31‬‬ ‫عبث األصابع اآلبقة ‪......................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪37‬‬ ‫الهادي راضي‪:‬‬ ‫‪3‬‬

‫‪39‬‬ ‫عسف العسس‪............................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪45‬‬ ‫أدخنة متصاعدة‪..........................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪49‬‬ ‫كَتِب الغواية‪ ..‬محاية األبالسة ‪............................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪53‬‬ ‫جمال الدين علي احلاج‪:‬‬ ‫‪4‬‬

‫‪55‬‬ ‫وسقطت ورقة التوت‪.....................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪58‬‬ ‫فقاعة صمت‪.............................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪63‬‬ ‫رغوة االبتسامة البيضاء‪..................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪10‬‬ ‫عمر الصامي‪:‬‬ ‫‪5‬‬

‫‪13‬‬ ‫دار املنقوط‪...............................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪17‬‬ ‫بني راما واملقهى املنكفئ‪.................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪71‬‬ ‫رسالة إلى نورا‪...........................................................................‬‬ ‫‪-‬‬


‫‪23‬‬ ‫سارة اجلاك‪:‬‬ ‫‪6‬‬

‫‪25‬‬ ‫جرح‪......................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪27‬‬ ‫سخرية‪...................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪011‬‬ ‫النحات‪...................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪091‬‬ ‫محاسن اجلاك‪:‬‬ ‫‪1‬‬

‫‪092‬‬ ‫احذر خيالك‪..............................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪030‬‬ ‫الشبح‪.................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪033‬‬ ‫وتوقفت بداخله دارات الزمن‪.............................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪031‬‬ ‫محمد اخلير حامد‪:‬‬ ‫‪7‬‬

‫‪032‬‬ ‫طموح‪...................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪049‬‬ ‫هروب إلى الشارع اخللفي ‪...............................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪045‬‬ ‫السارقة األنيقة‪..........................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪053‬‬ ‫محمد حسن النحَّات‪:‬‬ ‫‪2‬‬

‫‪055‬‬ ‫فندق ‪................................................................................ 03‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪060‬‬ ‫زهرة اجليبسوفيال ‪......................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪066‬‬ ‫نافذة مائلة ‪..............................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪013‬‬ ‫محمد خلف الله سليمان‪:‬‬ ‫‪01‬‬

‫‪015‬‬ ‫حمّال نوبي‪...............................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-7-‬‬
‫‪071‬‬ ‫كرنولوجيا الولد‪.........................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪075‬‬ ‫أسراء البدوي ومعراجه‪..................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪072‬‬ ‫منصور الصومي‪:‬‬ ‫‪11‬‬

‫‪020‬‬ ‫حزين مثل دوالب خشبي قدمي‪............................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪023‬‬ ‫استحالب‪................................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪025‬‬ ‫لذة خاصة ألجل السلطان‪................................................................‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪910‬‬ ‫الكُتَّاب واملؤلفون ‪....................................................................‬‬ ‫‪12‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-2-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-01-‬‬
‫املقدمــــة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫في البدء؛ نحمد الله تعالى‪ ،‬ونشكر فضله الكبير‪ ،‬بعد أن وفقنا‪،‬‬
‫وكلل مجهودنا‪ ،‬بإجناز هذه اإلصدارة التي متثل الثمرة األولى من‬
‫املشروع الذي قررنا تنفيذه؛ وهو إصدار سلسلة من اإلبداعات‬
‫السودانية في مجاالت‪ :‬القصة القصيرة‪ ،‬القصص القصيرة جداً‪،‬‬
‫الشعر العربي الفصيح‪ ،‬والكتابات العامية السودانية‪.‬‬

‫بدأ املشروع بهذا الكتاب الذي جاء في مجال القصة القصيرة‪،‬‬


‫وضم بداخله ثالثني نصاً قصصياً لكُتاب سودانيني مختلفني‪،‬‬
‫متنوعي األساليب‪ ،‬ومن تيارات إبداعية مختلفة‪ .‬ومن املؤكد أننا‬
‫سنتبعه في الفترة القادمة ‪ -‬وبإذنه تعالى‪ -‬بالعديد من‬
‫اإلصدارات األخرى‪ ،‬لكُتاب سودانيني آخرين‪ ،‬وفي مجاالت‬
‫اإلبداع التي أشرنا إليها‪ ،‬وركزنا النشر في مجاالتها‪.‬‬

‫ننتهز هذه الفرصة كذلك لنؤكد؛ بأن ما ننشره ونقدمه في هذه‬


‫السلسلة من اإلبداعات؛ ليس املقصود منه الزعم بأن الكتابات‬
‫املنشورة بالداخل فقط؛ هي التي متثل اخملتارات من خالصة‬
‫اإلبداع السوداني‪ ،‬بقدر ما هي جهود لتوثيق التجارب السودانية‬
‫في اجملاالت املعنية‪ ،‬وتقدميها للجيل احلالي‪ ،‬الذي نظن أنه يتابع‬
‫ويقرأ الكتاب اإللكتروني أكثر مما ميسك بالورقي بني يديه‪ .‬وهي‬
‫أيضاً؛ محاوالت لإلستفادة من الطفرة التكنلوجية واإلنترنت‪،‬‬
‫وسيطرة التقنيات احلديثة على مجمل احلياة‪ ،‬بعد أن أصبحت من‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-00-‬‬
‫أجنح سُبل االنتشار‪ ،‬وساهمت في توزيع وتسويق عديد اإلبداعات‬
‫املنسوخة بالطرق اإللكترونية اجلديدة‪ ،‬خاصة طريقة الــــ ‪PDF‬‬
‫وأوصلتها إلى القراء‪ ،‬وبالتالي مكنتهم من سرعة اإلطالع على‬
‫املنجز املعرفي واألدبي واإلملام الكامل به‪ .‬ومن جانب آخر آثرنا أن‬
‫يأتي جهدنا بعميق الفائدة وشموليتها‪ ،‬كي ميثل اإلضافة النوعية‬
‫املرجوة للمكتبة الوطنية‪ ،‬ويكون مُحفزاً للنقد‪ ،‬وخدمةً للقراء‪،‬‬
‫ليبحثوا بعد ذلك عن مجمل التجربة للكاتب الذي يستهويهم‪ ،‬أو‬
‫يلفت نظرهم‪.‬‬

‫كان من الواجب علينا أن نشير هنا أيضاً؛ إلى أن كل األعمال‬


‫املنشورة بهذا الكتاب لم تتعرض ألية تعديالت أو إضافات‪ .‬ألنه؛‬
‫واستناداً على دعوتنا التي قدمناها للمبدعني املشاركني في أول‬
‫الكتب بهذه السلسلة؛ ما كان لنا احلق في فعل ذلك‪ .‬وكل ما قمنا به‬
‫عند القيام بتحرير ونشر هذا املؤلف؛ هو أننا عرضنا األعمال كما‬
‫هي على جلنة متخصصة‪ .‬لفرزها‪ ،‬وحتديد مدى صالحيتها‬
‫الفنية للنشر‪ ،‬وجمعها‪ ،‬ومراجعتها لغوياً‪ ،‬ومن ثم تصحيحها‪،‬‬
‫وتنسيقها‪ ،‬وتنضيدها طباعيا‪ ،‬ليتم بعد ذلك نشرها كما ظهر‬
‫بالكتاب في شكله النهائي‪ .‬ثم رتبنا الكُتاب وأعمالهم ترتيباً‬
‫أبجدياً‪ ،‬واخترنا للمجموعة عنواناً رأينا أنه يعبِّر عن احملتوى‬
‫املقدَّم بالنصوص الداخلية بفهم أن احلكي مُشاع للكل لكن تيجانه‬
‫هم القصاصون والسُراد‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-09-‬‬
‫بعد كل ذلك عزيزي القارئ؛ ال نريد أن نحول بينك وهذه‬
‫النصوص القصصية التي تُقدم نفسها بنفسها‪ ،‬وكل ما نرجوه‬
‫ونتمناه؛ أن نكون قد وفِقنا في مسعانا الذي رمينا إليه عند‬
‫تفكيرنا في هذا املشروع اإلبداعي‪ ،‬آملني أن تُحقق لك قراءتك‬
‫لهذا الكتاب الفائدة والتشويق معاً‪ ،‬فهما املتعتان األساسيتان‬
‫املنشودتان من كل قراءة‪.‬‬
‫محمد اخلير حامد‬
‫املُحــــــــرر‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-03-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-04-‬‬
‫أمحـــــــــد أبوحــــــــــــــــــــازم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫نثار الهواجس واجلنون‬

‫صفير اجلماجم اخلاوية‬

‫عبث األصابع اآلبقة‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-05-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-06-‬‬
‫نَثارُ اهلَوَاجِسِ والظنون‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫انحناءة رأسه بعمامته الضخمة‪ ،‬وانكبابه على آنيةِ الطعام أمامه‪،‬‬


‫ال يتيحان رؤية وجهه‪ ..‬يده تذهب وجتيء بني فمه واآلنية‪ ،‬مثل‬
‫رافعةٍ قدمية‪ ،‬انحنيتُ ووضعت طعامي باجلهةِ املقابلة له‪ ،‬على‬
‫الطاولةِ الوحيدةِ باملطعم‪ ،‬ثم خطوتُ نحو مغسلةِ األيدي‪ ،‬صَفَعَتْ‬
‫أذنيَّ عطسة مهولة‪ ،‬التفتُّ ناحيته‪ ،‬رأيته ينفض من جلبابه‬
‫الفضفاض نثار طعامٍ انتشر فوقه‪ ..‬غسلتُ يديَّ وعدتُ إلى‬
‫طعامي‪ ،‬جلستُ قبالته‪ ،‬فصرنا كقوسي كتابة‪ ،‬وجدتُ النثار‪ ،‬وقد‬
‫غطى برشاشه‪ ،‬جزءاً من سطح الطاولة‪ ،‬بالقرب من آنية طعامي‪،‬‬
‫رمقته بطرف عيني‪ ،‬تلقتني استدارة عمامته الضخمة‪ ،‬وقد اختبأ‬
‫وجهه حتتها‪ ،‬كان منكفئاً على آنيته يأكل بنهمٍ غريب‪ ،‬لكنني أعرف‬
‫أمثاله ونواياهم‪ ،‬أظنه كان يراهن على تقززي‪ ،‬وتعوُّفِي لطعامي‪،‬‬
‫فيسحبه عليه‪ ،‬ولكن هيهات‪ ،‬سحبتُ آنيتي‪ ،‬وطفقتُ أزدردُ ما قد‬
‫أرجم به نأمة اجلوع‪ ،‬علَّني أردم الهوة التي تتسع حثيثاً‪ ،‬بجوفي‬
‫اخلاوي منذ يومني‪ ،‬وسوستْ بخاطري ظنون عارمة‪ ،‬مألني الشك‬
‫بأن نثار عطسته اجمللجلة‪ ،‬رمبا أصاب طعامي‪ ،‬وكلما رفعتُ رأسي‬
‫ألمتلى وجهه‪ ،‬يصطدم وجهي باالستدارة اللولبية لعمامته‬
‫الضخمة‪ ،‬رغبة جامحة تدفعني ألرى تقاطيعه‪ ،‬رمبا تخبرني‬
‫مالمحه‪ ،‬ألية خارطةٍ من األمراضِ ينتمي‪ ،‬وعبر ذلك أعرف نوع‬
‫العدوى التي يحملها‪ ،‬والتي ميكن أن تغزو جسدي النحيل‪ ،‬وتفكَّ‬
‫عضده‪ ،‬وكيف ميكنني الوقاية منها‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-01-‬‬
‫متحايالً رجوته أن ميدَّ لي علبة امللح من جواره‪ ،‬قال‪ :‬إنها فارغة‪،‬‬
‫ولم يكلف نفسه‪ ،‬عناء رفع رأسه ناحيتي‪ ..‬غمغم بكلماتٍ مبهمة‪،‬‬
‫ثم ضاعف انكفاءه املريب‪ ،‬وزاد انكبابه على آنيته‪ ،‬ونشط ازدراده‬
‫لطعامه الذي أوشك على االنتهاء‬
‫بينما كنت أهم بازدراد آخر لقمةٍ من طعامي‪ ،‬وجدتُ ما يشي بأن‬
‫نثار تلك العطسة املهلكة‪ ،‬قد لوَّث وجبتي فعالً‪ ،‬فمنذ أن عطس‬
‫بصوتٍ مزلزل‪ ،‬أخبرني قلبي‪ ،‬بأن شيئاً ليس عادياً قد حدث‪،‬‬
‫حينها كان قد فرغ من طعامه‪ ،‬ثم نهض بطريقةٍ مباغتة‪ ،‬واستدار‬
‫بخفة العناكب‪ ،‬ليوليني ظهره‪ ،‬لم مينحني فرصة التمعُّن في‬
‫قسماتِ وجهِهِ‪ ،‬لقراءة مالمحه‪ ،‬والتعرف عليه عن قرب‪ ،‬مشى‬
‫صوب املغسلة‪ ،‬نهضتُ وتبعتُهُ‪ ،‬خمنتُ أنه أحسِّ بحركتي خلفه‪ ،‬وإال‬
‫ملاذا اتسعتْ خطواته جتاه حوض املغسلة ؟! قلت‪ ،‬لنفسي رمبا‬
‫تكون الفرصة مواتية‪ ،‬أمام املغسلة‪ ،‬لتحقيق ما أصبو إليه‪ ..‬لن‬
‫أحادثه‪ ،‬سأكتفي بتفرُّسِ وجههِ‪ ،‬والنظر داخل بؤبؤ عينيه‪ ،‬لعلِّي‬
‫أعرف إن كانت أمراض الرجل من النوع املزمن‪ ،‬أو من الصنف‬
‫الفتاك القاتل‪ ،‬واملميت من حيث سرعته‪ ،‬أو بطئه‪ ،‬أو مباغتته‪ .‬ال‬
‫أذكر متى قرأتُ كالماً كهذا‪ ،‬ولكنني قرأته على كل حال في مقالةٍ‬
‫في الطب‪ ،‬أو في الفلسفة‪ ،‬أو في الهندسةِ الوراثية‪ ،‬لستُ متأكداً‬
‫متاماً‪.‬‬
‫حني حاذيته في حوض املغسلة‪ ،‬كان مُكِباً على وجهه‪ ،‬قرب‬
‫احلنفية‪ ،‬مثلما كان يفعل قبل قليل على طاولة الطعام‪ ،‬كان منشغالً‬
‫مبضمضةٍ ال تنتهي‪ ،‬حاولتُ مضايقته بحيلٍ مختلفةٍ‪ ،‬فوطئت على‬
‫نعاله األفطح حتت املغسلة‪ ،‬اكتفى بسحب قدمه من النعال‪ ،‬فصار‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-07-‬‬
‫احلذاء مثل ضفدع نافق‪ ،‬رفعت صوتي بكلماتِ اعتذارٍ فخيمة‪ ،‬ولم‬
‫يعطِ اعتذاري املُفَخَّمْ ذاك‪ ،‬أية درجة من األهمية‪ ،‬استأذنته بأن‬
‫يناولني قطعة الصابون التي بني يديه‪ ،‬مدَّها من فوق عمامته‬
‫اللولبية‪ ،‬ممعناً في انكفائه‪ ،‬ومضى ميسح شيئاً كأنه وجهه‪ ،‬بيد أنه‬
‫لم يرفع رأسه عن حنفية املاء قط‪ ،‬تفاقمت احليرة بخاطري‪،‬‬
‫لكزته بكوعي احلاد‪ ،‬لكزةً موجعة‪ ،‬تزحزح قليالً‪ ،‬ثم الذ بزاوية‬
‫املغسلة‪ ،‬وفاقم انكفاءه هناك‪ ،‬مللم طرف جلبابه‪ ،‬وانطوى على‬
‫نفسه‪ ،‬ليغسله من لوث نثار الطعام عليه‪ ،‬بينما برزتْ حدبة كبيرة‬
‫على ظهره املقوَّس‪ ،‬كان مهجساً بإزالةِ ما علق بجلبابه الفضفاض‪،‬‬
‫من بقعٍ بألوانِ املُنْكِهَاتِ‪ ،‬ونثارٍ برائحةِ التوابل‪ ،‬كان يفرك اجللباب‬
‫ببعضه‪ ،‬ثم يبلّلهُ ليفركه من جديد‪ ،‬في عملية لولبية تشبه استدارة‬
‫عمامته الضخمة‪ ،‬أيقنت أن هذه املماحكة‪ ،‬ستستمر لوقتٍ ليس‬
‫بالقصير‪ ،‬لذلك ميكنني تناول كوب من الشاي‪ ،‬متربصاً بالرجل‪،‬‬
‫على املقعد اخلشبي العتيق مبساميره البارزة‪ ،‬في الرواق الوحيد‪،‬‬
‫الذي يُستخدم كممرٍ للدخول واخلروج معاً‪ .‬وبينما كنت أهمُّ‬
‫باحتساء اجلرعة الثالثة من الشاي‪ ،‬فإذا بذبابة طائشة‪ ،‬كان حظها‬
‫العاثر قد ساقها‪ ،‬فطاحت على الكوب‪ ،‬وفي اللحظة التي كنتُ‬
‫أعالج فيها أمر الذبابة مع الشاي‪ ،‬كان جلباب فضفاض‪ ،‬قد عبر‬
‫بالقرب مني‪ ،‬محدثاً هفهفةٌ عالية‪ ،‬مثل شراعٍ عريض في مهبِ‬
‫العاصفة‪.‬‬
‫وضعتُ كوب الشاي بذبابه الطائش‪ ،‬ونهضتُ مسرعاً خلف‬
‫الرجل‪ ،‬لكن بنطالي الوحيد‪ ،‬كان قد علق بأحد مسامير املقعد‪،‬‬
‫فعكفتُ على تخليصه من براثن الكرسي‪ .‬الدقائق تتساقط وأنا‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-02-‬‬
‫أحاول التخلص من ربقة املسمار‪ ،‬مما فاقم املسافة بيني والرجل‬
‫الذي ينطوي على سرٍ‪ ،‬حتمله مالمحه التي يخفيها حتت عمامته‬
‫الغريبة‪ ،‬وملا تعسر األمر و استطال‪ ،‬نزعتُ البنطال عنوةً من قبضة‬
‫املقعد‪ ،‬فأحدث فتقاً طولياً‪ ،‬ومُزُقَاً عرضياً‪ ،‬لم أكترث ملا حدث‪،‬‬
‫كان همِّي الوحيد‪ ،‬هو اللحاق بالرجل صاحب اجللباب الفضفاض‪،‬‬
‫والعمامة اللولبية‪.‬‬
‫مقتحماً اجلموع‪ ،‬أتلفتُ في اجلهات كلها‪ ،‬بحثاً عن وجهٍ مفقود‪،‬‬
‫حتت عمامةٍ لولبية ضخمة‪ ،‬غاص في اخلِضم‪ ،‬واندغم في‬
‫الغياب‪ ،‬ثم اختفى‪.‬‬
‫فالرجل قد مضى يدحرج رجليه‪ ،‬يعبر الزحام‪ ،‬يفاقم اختفاءه‪،‬‬
‫يبدأُ في الذوبان‪ ،‬وسط اجلموع مثل قطعة ملح في حساءٍ ساخن‪،‬‬
‫ثم يحمل ظله ويختفي‪ ،‬ما الذي يبتغيه الرجل الغريب من هذا‬
‫الغياب؟ هل انحنى على كتف الظل‪ ،‬ثم فتح جبته للريح وطار‪ ،‬أم‬
‫انشقَّتْ به األرض وابتلعته في جوفها النهم السحيق؟ ومَنْ منا‬
‫باغت اآلخر ثم اختفى‪ ،‬وصار وشماً ضئيالً في شبق األفول؟ أظلُّ‬
‫أبحثُ عن أجوبةٍ تهيض أجنحة الشك‪ ،‬ولكن شبكة من األسئلة‬
‫املعقدة‪ ،‬تلتف حولي‪ ،‬مثل التفافِ نباتات (السلعلع) املتسلقة‪ ،‬على‬
‫اجلذوع‪ ،‬وجتعلني كمن يسأل حرث البحر‪ ،‬حصاداً من رغوةٍ‬
‫ورذاذ‪ ..‬يعبر اخلوف قلبي‪ ..‬تبتلعني الظنون‪ ،‬وحتاصرني الرِّيَبُ‬
‫بأن ما حدث ليس حقيقياً البتَّة‪ ،‬أعدو في الشوارع كاملعتوه‪ ،‬أبحث‬
‫عن ضالتي بني املالمح املتباينة‪ ،‬ثمة جلباب يهفهف‪ ،‬وعمامةً‬
‫لولبية ضخمة‪ ،‬تخوض في الزحام‪ ،‬أشقُّ األمواج البشرية‬
‫املتالطمة‪ ،‬أتفرَّسُ الوجوه‪ ،‬لكن العمامة تختفي في منحدرات‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-91-‬‬
‫السيل البشري املتدفق‪ ،‬واجللباب الفضفاض يتضاءل بني التحام‬
‫األجساد‪ ،‬واحتكاكها‪ ،‬في حراكها الفوضوي العارم‪.‬‬
‫أعدو بال هدى في اجلهات كافَّة‪ ،‬أطرق أبواب الريح‪ ،‬لعلها‬
‫جتيب‪ ،‬لكن الصدى يعود بأجنحةٍ خاليةٍ‪ ،‬من ريش األجوبة‪ ،‬أبحثُ‬
‫عن قممٍ أصعدها‪ ،‬علَّني أستطيع رؤيته بوضوح‪ ،‬بني اجلموع‬
‫املنحدرة صوب أوهامها السرابية اخلادعة‪ ،‬ال شيء سوى كتل‬
‫الغبار املتصاعد‪ ،‬وضجيج الباعة اجلائلون‪ ،‬وهدير مولدات‬
‫الطاقة املستنفدة على الدوام‪ ،‬أتسلقُ أعمدة الكهرباء‪ ،‬تارةً‪ ،‬وتارةً‬
‫أخرى أصعد الدعامات اإلعالنية الضخمة‪ ،‬أحدِّقُ في املأل‬
‫املتحرك باضطراد‪ ،‬لعلي أظفر ببغيتي املنشودة‪ ..‬والناس مثل‬
‫أسراب منل مضطرب‪ ،‬في تداخلهم املذهل‪ ،‬وتقاطعاتهم العجولة‪.‬‬
‫يتجمهر املارة حتت الدعامة اإلعالنية‪ ،‬يشيرون نحوي‪،‬‬
‫ويتحاورون فيما بينهم‪ ،‬وثمة امرأةٌ عجوز تترجاني‪ ،‬أن ال أفعلها‪،‬‬
‫وأقفز منتحراً من هذا املكان العالي‪ ،‬ولكنني وفي حلظة خاطفة‪،‬‬
‫أملحُ بني اجلموع‪ ،‬الرجل ذاته بعمامته امللفوفة على رأسه‪ ،‬مثل حية‬
‫خاملة‪ ،‬وبجلبابه الفضفاض‪ ،‬مثل خيمةٍ بدويةٍ تقاوم رعونةِ‬
‫العواصف‪ ،‬وزحف الرمال املشاغب‪.‬‬
‫أهبط بسرعة جنونية‪ ،‬وبذات السرعة‪ ،‬يختفي الرجل‪ ..‬يذوب‪..‬‬
‫يتالشى‪ ..‬يتبدد‪ ..‬أرى اجلموع‪ ،‬وقد أحاطوا باملرأة العجوز‪،‬‬
‫يهنئونها على شيء ما‪ ،‬ال أدري ما كنهه‪ ،‬لكنني ال أعيرهم من‬
‫اهتمامي شيئاً يذكر‪ ،‬أركض كامللدوغ‪،‬‬
‫أجوب الشوارع كاجملنون‪ ،‬أهرف بكالمٍ مبهم‪ ،‬أسأل العابرين عن‬
‫شخص غامض‪ ،‬بجلبابٍ فضفاض‪ ،‬وعمامة لولبية ضخمة‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-90-‬‬
‫يشيعني البعض بلعنات مرة‪ ،‬وسباب جارح‪ ،‬والبعض اآلخر يتأسى‬
‫حلالي‪ ،‬ويشفق على شبابي املهدور في أروقة اجلنون‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-99-‬‬
‫صفريُ اجلماجمِ اخلاوية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بشعورٍ محايد فضضتُ الرسالة‪ ،‬كانت من زميلةٍ لنا‪ ،‬في أحد‬


‫مكاتبنا اإلقليمية‪ ،‬وقد عُرف عن رسائلها االستطراد والتطويل‪،‬‬
‫فضالً عن إيغالها في لغةٍ أدبيةٍ‪ ،‬ال تناسب املكاتبات الرسمية‪،‬‬
‫ولكن ال مناص من قراءتها‪ ،‬فثمة ما هو هام وعاجل‪ ،‬كما جاء في‬
‫ظهر املظروف‪.‬‬
‫السيد‪ /‬املسؤول اإلقليمي املوقر‪.‬‬
‫ها قد بعثتموني هذه املرة إلى موطني‪ ،‬للوقوف على األوضاع‬
‫املتفاقمة فيه‪ ،‬وأرجو ان يتسع صدركم لقراءة هذه الرسالةِ‪ ،‬والتي‬
‫حتوي في طياتها رسالة أخرى‪ ،‬أكثر أهمية‪ ،‬وأقوى مضموناً من‬
‫رسالتي إليكم‪.‬‬
‫ملحوظة‪ :‬رمبا لن أستطيع اإلتصال مرة أخرى‪.‬‬
‫سيدي‪:‬‬
‫وفق التكليف املناط بنا‪ ،‬وبرغم اخلرائط التي بحوزتنا‪ ،‬فقد‬
‫بذلنا مجهوداً كبيراً‪ ،‬لإلستدالل على املنطقة املنكوبة‪ ،‬وكانت‬
‫املفاجأة الداوية على األقل بالنسبةِ لي شخصياً أن تكون هذه‬
‫املنطقة‪ ،‬هي مسقط رأسي‪ ،‬ومراتع طفولتي‪ ،‬ومكامن بهجة‬
‫شبابي‪ ،‬قبل أن ألتحق مبنظومتكم املوقَّرة‪.‬‬
‫لم يعد ما يدل على أن ثمة حياة كانت تتشعَّب في مفاصل املكان‪،‬‬
‫تتخلل تالفيفه‪ ،‬وتدبّ في مكامن عصبه وشرايينه‪ ،‬سوى غارات‬
‫متباعدة‪ ،‬تبعثها ريحٌ تولولُ مثل أمٍ ثكلى‪ ،‬تالمس الصمت اخمليم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-93-‬‬
‫على األشياء‪ ،‬كشواهد خرساء على ما جرى‪ ..‬تشرخ جسد‬
‫السكون املوحش‪ ،‬وتفاقم من املهابة اخمليفة‪ ،‬التي ترزح حتتها‬
‫أرجاء املكان املبذورة للتلف واالندثار‬
‫عبرتُ غابات اجلماجم املشققة‪ ،‬واألضلع املكسرة‪ ،‬والهياكل‬
‫احملترقة‪ ،‬ونثار العظام اآلدمية املهشمة‪ ،‬باحثة عن دارنا بني ركام‬
‫الرماد‪ ،‬وأنقاض احلرائق‪ ،‬لم يكن األمر بهذه السهولة‪ .‬توقفت‬
‫برهة‪ ،‬أنقِّبُ في خبايا الذاكرة‪ ،‬عساني أستدل بعالمةٍ تقودني إلى‬
‫ما أريد‪ ،‬فأطلّت من شرفات الذكريات شجرة باسقة كانت تشمخ‬
‫بالقرب من دارنا‪ ،‬كنا ونحن في ليونة الطفولة ورعونتها‪ ،‬نلهو حتت‬
‫أفيائها‪ ،‬ونتسلّقُ فروعها السامقة‪ ،‬ونتأرجح على أغصانها امليَّادة‪.‬‬
‫هاهي بعدُ‪ ،‬لم تزل في مكانها‪ ،‬وقد أصابها لهب الفجيعة‪ ،‬بعد أن‬
‫التهم أوراقها بنهمٍ طاغٍ‪ ،‬وحلس جذعها بشراهة بيّنة‪ ،‬ها هي تقف‬
‫في مكانها مكتسيةً بسخامٍ قامت‪ ،‬وأوراقٍ محترقة‪ ،‬كشاهدٍ وحيد‬
‫على ما أصاب املكان‪.‬‬
‫طفقتُ أنبش في ردمي الرماد املاثل‪ ،‬جترحني شظايا األكواب‬
‫الزجاجية املهشَّمة‪ ،‬وعندما أخطو‪ ،‬تتعثرُ قدمايَ بكُتلِ األواني‬
‫املعدنية املنصهرة‪ ،‬ويعترضني ركام االعواد احملترقة‪ ،‬لكن ذلك‬
‫كله‪ ،‬لن يثنِ عزميتي في البحث عن أي أثرٍ‪ ،‬يدلني على عائلتي‬
‫املنكوبة‪.‬‬
‫وأخيراً‪ ،‬وبعد أن توشَّحَ جسدي بالرماد‪ ،‬وسخام احلرائق‪ ،‬عثرتُ‬
‫بني ركام حائطٍ متهدمٍ‪ ،‬لم تلعقه ألسنة النيران‪ ،‬على رسالةٍ بخط‬
‫اليد‪ ،‬هي التدوين الوحيد ملا حدث‪ ،‬وقد آثرت أن أبعثها إليكم‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-94-‬‬
‫شخصياً‪ ،‬بوصفكم املسؤول الوحيد‪ ،‬عن ملف هذا اإلقليم امللتهب‪،‬‬
‫ودونكم الرسالة التي وجدتها بني األنقاض‪.‬‬
‫ورجاءً ثم رجاءً‪ ،‬أن تتخلى عن عجالتك املعهودة‪ ،‬وتتحلى بالصبر‬
‫هذه املرة‪ ،‬لقراءةِ الرسالة التي أعتقد أنها مهمة‪ ..‬مع خالص‬
‫حتياتي‪.‬‬
‫إلى اإلخوة في الطرفني‪:‬‬
‫(التستغربوا فعلى الرغم من القهر‪ ،‬والظلم‪ ،‬والعسف‪ ،‬الذي‬
‫مسَّني‪ ،‬وعائلتي‪ ،‬وناب أهالي قريتي‪ ،‬من طرفيكما‪ ،‬فأنتم ما زلتم‬
‫إخوتي وأشهد الله أنكم كذلك ولكن صروف الدهر جعلتكم طرفي‬
‫نقيض‪.‬‬
‫واسمحوا لي هاهنا‪ ،‬أن أرمز على أحد طرفيكم باحلرف (أ)‬
‫وعلى اآلخر باحلرف (ب)‪ ،‬هذا ليس مواالة ألحد فيكما دون‬
‫اآلخر‪ ،‬وال لتقليل أو تضخيم أمر أحدكما‪ ،‬إمنا للترميز فقط‪،‬‬
‫إلبانة املواقف وإيضاحها‪ ،‬لذلك أرجو أن ال يثير هذا التصنيف‬
‫اشمئزازكما‪ ،‬فتختلفان بينكما على من يستحق التسمية باحلرف‬
‫األول‪ ،‬وما مزايا هذا احلرف عن ذاك‪ ،‬ويحتدم اخلالف بينكما‪ ،‬ثم‬
‫تقتتالن حتى تسيل الدماء إلى الرُكب‪ ،‬وحتلق أرواحٌ كثيرةٌ خارج‬
‫أطرها الطينية املهدمة‪.‬‬
‫أنا لست من سكان العاصمة‪ ،‬وال تستهويني السكنى‪ ،‬على هامة‬
‫الضجيج‪ ،‬وصناديق األسمنت‪ ،‬وال حتى تلك املزايا واإلمتيازات‪،‬‬
‫التي ينعم بها سكان هذه املدينة املعدنية املنعَّمة‪ ،‬على الرغم من‬
‫املغريات التي جتعلني من سكان املدينة بال منازع‪ .‬لذا آثرتُ البقاء‬
‫في مسقط رأسي‪ ..‬قرية كسائر القرى‪ ،‬صغيرة و نائية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-95-‬‬
‫ومن سوء أو حسن احلظ؛ وأنا لستُ متأكداً من ذلك متاماً‪ ،‬فإن‬
‫قريتنا تقع في منطقةٍ يتنازع فيها طرفيكما‪ ،‬وهي بذلك إما في‬
‫قبضة الطرف (أ)‪ ،‬أو حتت سيطرة الطرف (ب)‪.‬‬
‫إخوتي في الطرفني‪ ،‬صدقوني أنا ال أكرهكم‪ ،‬ولكني أكره‬
‫أفعالكم‪.‬‬
‫ففي تضاعيف ذلك الصباح الكالح‪ ،‬استفقنا على هدير زوبعةٍ‬
‫طاحنة‪ ،‬كمطارقِ اجلحيم‪ ،‬وفوق فضاء بلدتنا غبار أسود‪ ،‬يظلل‬
‫هامات البيوت في مثابرة غريبة‪ ،‬ثم تتكاثف ذراته‪ ،‬وتتمدد على‬
‫حلوقنا فتسد مجاريها‪ ،‬مثل امتداد الوجع املباغت‪.‬‬
‫في تالفيف ذلك الصباح املشؤوم‪ ،‬كان الرصاص يئزُّ فوق‬
‫رؤوسنا‪ ،‬والدويُّ الفظيع ينزع طني األسوارِ وآجرها ثم يقذفه‬
‫بعيداً‪ ،‬ويخلخلُ قواعد البيوت امللتحمة بجذور األرض‪ ،‬وكان ملك‬
‫املوت يتنزه في بلدتنا‪ ،‬بخطواتٍ مرفهةٍ ومطمئنةٍ‪ ،‬يأخذ ما أمره‬
‫الله بأخذه حتت هذا اجلحيم املستعر‪.‬‬
‫عفواً إخوتي في الطرفني‪ ،‬آمل أال تتضجروا من لغتي هذه‪،‬‬
‫وأرجو أن تثابروا على قراءة رسالتي لكم حتي نهايتها‪ ،‬فأنا أميل‬
‫كثيراً إلستعمال لغةٍ ال تُستخدم في الرسائل العادية‪ ،‬فقط ألنني‬
‫ميَّالٌ للتفاصيلِ الدقيقة‪ ،‬كيما يبني (الغث من الثمني) واُقُسِمُ بالله‬
‫العظيم‪ ،‬وكتابه الكرمي فإن اجلملة بني القوسني‪ ،‬التعني أحدكما‬
‫بأيةِ حالٍ من األحوال‪ ،‬وال أقصدُ بها اإلساءة لكما‪ ،‬لذلك أرجو أن‬
‫تفهم في سياقها فقط‪ ،‬من قِبلِ طرفيكما املوقرين هذا ما لزم‬
‫توضيحه‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-96-‬‬
‫آن ذاك انتصر أحد طرفيكما على اآلخر‪ ،‬وأحكم سيطرته على‬
‫القرية بعد حربٍ قاسية‪ ،‬ثم تدفقت شاحنات ضخمة جتوب‬
‫طرقات قريتنا جيئةً وذهاباً‪ ،‬تأمر األهالي بالتجمهر في الساحة‬
‫الرئيسة بالقرية‪ ،‬وإال فالويل والثبور ملن تخلّف‪.‬‬
‫حني احتشدنا في املكان‪ ،‬جيئ بشقيقي األكبر‪ ،‬مصفداً بأغاللٍ‬
‫غليظةٍ‪ ،‬وحُكِمَ عليه باإلعدام رمياً بالرصاص‪ ،‬أمام األهالي‪ ،‬ليكون‬
‫عبرةً ملن يعتبر‪ ،‬بحجة أنه ينتمي للطرف النقيض‪ ،‬ال لشيئ‪ ،‬سوى‬
‫أنه كان يعتمر قبعةً عسكرية استعارها من شقيقنا األصغر‪ ،‬ليواري‬
‫بها جرحاً غائرأً سببه رصاصةٌ طائشة‪ ،‬عندما كان أحد عناصر‬
‫طرفيكما ينظف بندقيته‪ ،‬دون مراعاتٍ ملن حوله‪.‬‬
‫تلك حلظات مرَّت على حلوقنا مثل اإلبر املسمومة‪ ،‬ولكنها ما تفتأ‬
‫تعود مجدداً‪ ،‬حني تنفُضُ عن أطرافها رماد السكون والبيات‬
‫املؤقَّت‪.‬‬
‫فها هو غبار حامض آخر‪ ،‬ورصاصٌ‪ ،‬ودويٌ‪ ،‬وموتٌ مجاني‪ ،‬ودمٌ‬
‫مهدورٌ للهباء‪ ،‬و كائنات حديدية ضخمة‪ ،‬تأكل كل شيء‪ ،‬ثم تغرس‬
‫أسنانها الصلبة‪ ،‬في جوف األرض املنكوبة‪ ،‬تبحث عن مكامنٍ‬
‫غامضةٍ في األغوار‪ ،‬ثم ما تفتأ تنفث في السماء‪ ،‬دخانها األسود‬
‫الذي يسد مسام الهواء‪ ،‬وجرافات جترف كل شيء يعترض‬
‫طريقها‪ ،‬ثم تغزو الدروب بضجيجها اجلنوني‪ ،‬لتدهس بال رحمةٍ‬
‫منها‪ ،‬شجيرات الصفصاف اخلجولة‪ ،‬التي إنطوت على حزنها‬
‫املتنامي‪ ،‬و تبدت أحطاباً جافَّة‪ ،‬وتسحقُ نباتات الطَرَفَةُ الرقيقة‪،‬‬
‫التي انحنتْ على جذوعها الرخوة‪ .‬في وجعٍ دامٍ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-91-‬‬
‫قتالٌ جديد‪ ،‬ومعركةٌ فتَّاكةٌ أخرى‪ ..‬طرف آخر يَكِ ُّر بعنفٍ‬
‫شيطاني‪ ،‬ويستعيد قبضته على القرية‪ .‬وكالعادة‪ ،‬أُمرنا‬
‫باالحتشاد‪ ،‬في الساحة الرئيسة‪،‬‬
‫و حني احتشدنا في املكان‪ ،‬هذه املرة‪ ،‬جيئ بشقيقي األصغر‪،‬‬
‫مصفداً بأغاللٍ غليظةٍ‪ ،‬وحُكِمَ عليه باإلعدام رمياً بالرصاص‪،‬‬
‫أمام األهالي‪ ،‬ليكون عبرةً ملن يعتبر‪ ،‬بتهمة أنه يوالي الطرف‬
‫اآلخر‪ ،‬فقط الرتدائه حذاءً عسكرياً‪ ،‬كان قد استعاره من شقيقنا‬
‫األكبر رحمه الله بعد أن أصابته شظيةً تائهةٌ ذات معركةٍ هوجاء‪.‬‬
‫أما أنا‪ ،‬فالقوات في الطرف (أ)‪ ،‬تُصِرُّ على القول بأنني رمادي‬
‫اللون‪ ،‬ولستُ من النوع الذي يرجم باحلجارةِ‪ ،‬وال حتي ذاك الذي‬
‫يجلبها ملن يرجمون بها‪ ،‬وبيتي من زجاجٍ هني التهشيم‪ ،‬لذا فال‬
‫خوف لهم مني‪.‬‬
‫وتوصمني قوات الطرف (ب)‪ ،‬بأنني مثل (كلب السُرّه) ال‬
‫أستطيع أن أفعل‪ ،‬وال أترك الكالب ألن تفعل‪ ،‬لذلك فال قيمة‬
‫ألفعالي‪ ،‬وال من جدوى لقتلي‪.‬‬
‫أما أهالي القرية‪ ،‬فيصفونني بـــ (شوكة احلوت‪ ..‬ال تنبلع وال‬
‫بتفوت) وبهذا التوصيف فإنهم يعتقدون بأنني سبب كل هذا‬
‫البالء‪ ،‬وجالبٌ لغضبِ طرفيكما‪.‬‬
‫إخوتي في الطرفني‪ ،‬أرجو أن تتسع صدوركم‪ ،‬ومتتد حبال‬
‫صبركم‪ ،‬لتقرأوا رسالتي حتى نهايتها‪ ،‬مع يقيني الكامل من أنكم ال‬
‫تنصتون ملثل هذه الرسائل‪.‬‬
‫إن شهوة الدم التي تعتصركما‪ ،‬وتتوكأ على مدارج الرحمة في‬
‫قلوبكم املتيبسة‪ ،‬جتعل من صدوركم الطافحة بالريب والشكوك‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-97-‬‬
‫واحملشوة بالغِلِّ والدمار‪ ،‬مكاناً اليعرف الرأفة‪ ،‬وال يتَّسع لذرةٍ من‬
‫العاطفة‪ ،‬فقد حولتما حياتنا إلى جحيمٍ ال يطاق‪ ،‬وجعلتما من‬
‫احلدَادِ صبغةً تلون مداراتنا‪ ،‬ومن نكهةِ الفرحِ اآلسرة‪ ،‬لثغةً قارسة‪،‬‬
‫تتناوب على أفئدتنا املكلومة‪.‬‬
‫إخوتي في الطرفني‪ ،‬ال نقول أن أرض الله واسعة‪ ،‬حتى تقتتلوا‬
‫في مكانٍ آخر‪ ،‬معاذ الله من ذلك‪ ،‬ولكنَّا نقول بأن أرض الله تسع‬
‫اجلميع‪( ،‬ألفهم) و(باءهم) وغيرهما من الكائنات‪ ،‬فكفوا عن قتال‬
‫بعضيكما‪ ،‬واوقِفوا عنا هذا الترويع البغيض‪ ،‬ولتستبدلوا‬
‫الرصاص بضحكاتٍ طرية وصادقة‪ ،‬تخرج من احلنايا‪ ،‬وأغنياتٌ‬
‫تغزل املسرّة للقلوب اليائسة‪ ،‬وتنسج احلنني للغد املأمول‪ ،‬وتفتح‬
‫كوةً للضوء ليغمر اجلميع‪ ،‬وإال ستتناثر اجلماجم في كل مكان‪،‬‬
‫ليتخلل جتاويفها اخلاوية‪،‬عويل الريح‪ ،‬وصفيرها الكئيب‪.‬‬
‫لكم أُخُوَّتِي اخلالصة ‪/‬م‪/‬ع‪ /‬إنابةً عن املكلومني بسعير قتالكم‪.)،‬‬
‫حني أكملتُ الرسالة التي وجدتها مندوبتنا بني الركام‪ ،‬انتابني‬
‫غثيان حاد‪ ،‬ومادت رأسي بدوار ماحق‪ ،‬وزاد على كل هذه األوجاع‪،‬‬
‫ذلك الرنني امللح واملتفاقم‪ ،‬للهاتف اخلاص مبهاتفات املسؤول‬
‫األول‪ ،‬على رأس املنظومة‪ ،‬وفي عجالةٍ من أمري تناولت الهاتف‪،‬‬
‫ألُصعق من جديد‪ ،‬بخبر إختفاء زميلةً لنا بأحد مكاتبنا اإلقليمية‪،‬‬
‫في ظروفٍ غامضة‪.‬‬
‫أعود للملحوظة التي ذيلت بها رسالتها‪ ،‬أقرأها من جديد‪،‬‬
‫بتمعُّنٍ فاحص‪ .‬ملعرفةِ ما خلف السطور‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-92-‬‬
‫تتمدد حشرجةٌ خانقة تقبض على حلقي اجلاف‪ ،‬وزحار مالح‬
‫يتواثب على صدري‪ ..‬تتطاول أسئلةٌ جارحة في احلنايا‪ ،‬لتسُدَّ‬
‫منافذ الهواء‪.‬‬
‫ما هي الظروف الغامضة التي أخفت هذه الزميلة املثابرة‪،‬؟؟! ما‬
‫هي مالبسات هذه االختفاء الغريب‪ ،‬؟؟!! وملاذا حتولت القرية‪ ،‬إلى‬
‫كومةٍ من رمادٍ تتالعب به صغار العواصف؟؟! ‪.‬‬
‫تعود أسئلتي خائبة‪ ،‬إلى صدري املتخشِّب‪ ،‬رماداً كاحلاً من آثام‬
‫احلريق‪ ،‬تذروه رياحٌ طفيفة‪ ،‬وزوبعة هامسة تدخل عبر جتاويف‬
‫اجلماجم اجلاثمة فوق الركام‪ .‬ثم تخرج في صفير حزين يصمّ‬
‫اآلذان وميأل املدى‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-31-‬‬
‫عبثُ األصابعِ اآلبقة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تزجي الساعات الطوال‪ ،‬وأنت تشاهد تطبيقات الفيديو‪ ،‬على‬


‫هاتفك الذكي‪ ،‬لتتابعَ إنثناءاتِ أصابعَ عازف الكمان‪ ،‬وهي تنقر‬
‫األوتار لِتَستَلَّ منها األنغام ناعمةً وشجية‪ ،‬تُقلِّدُ احلركات السريعة‬
‫ألناملِ ضارب اإليقاع‪ ،‬حني تتقافز برشاقةٍ مدهشة على السطحِ‬
‫اجللدي املشدود‪ ،‬ال تشدُّك اإليقاعات برزميها املنتظم‪ ،‬وال جتذبك‬
‫املوسيقى بدفقها األخّاذ‪ ،‬إمنا حتاكيها لتدرّب أصابعك على اخلفة‬
‫واملرونة‪ ،‬فتستطيل وتتلدَّن مع الزمن‪.‬‬
‫قبل ذلك كنت تركن لسوانح األوهام‪ ،‬وجنون الفراغ املقيت‪،‬‬
‫متارس عاداتك الغريبة مثل جنِّيٍ منبوذ‪.‬‬
‫وحدك اآلن‪ ،‬ترتشّف صمتك املستبد‪ ،‬ثم تغوص في سدمي‬
‫أمنيةٍ تأبى أن تتجسَّد في طفلٍ يحمل اسمك‪ ،‬ليغسله من غبار‬
‫الزمن‪ ،‬ودرن الذكريات البغيضة‪ ،‬فتختار له اسماً بعنايةٍ مموسقة‪،‬‬
‫لكيما يقترن باسمك املنسي‪ ،‬ثم وحدك تصطفيك قتامة األشياء‪،‬‬
‫فترجتي نهارك املضموم بقبضة السراب‪.‬‬
‫ها أنتذا ترتب عنادك النحاسي األجوف‪ ،‬حني تنفض املدينة‬
‫نعاسها الفضي‪ ،‬وتنفث ضجيجها اليومي في مسام األرجاء‪ ،‬تترك‬
‫ضميرك خلفك‪ ،‬وتخرج‪ ..‬تصعد احلافلة‪ ،‬ثم تهبط في احملطة‬
‫األخيرة‪ ..‬تلج املطعم املكتظ بالزبائن‪ ..‬تخرج وأنت متسح فمك من‬
‫بقايا طعام‪ ..‬تنحشر في الزحام الصباحي العجول‪ ..‬تعبث‬
‫أصابعك تنقب مبحتويات اجليوب‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-30-‬‬
‫عند القيلولة تنحسر اخلطى نحو خوائها‪ ،‬فيخرج الزحام‬
‫من الناس‪ ،‬بينما تخرج أنت من الزحام‪ ،‬بجيوب مألى بعبثِ‬
‫األصابع اآلبقة‪.‬‬
‫عند تخوم الليل تخطّ على األزقةِ خطوات متتد في عجالةٍ‬
‫جلوجةٍ‪ ،‬تنقضُّ بقدميك على الطرقاتِ بنهم ماحق‪ ،‬كأنّك مُطَارَد‪،‬‬
‫تعود باحثاً عن مُستقرٍّ لك في وكر الضياع والتيه‪ ،‬تبعثر ما جادت‬
‫به الغفلةِ على طاولةٍ عرجاء‪ ..‬أوراقٌ نقديةٌ بأرقامٍ مختلفة‪..‬‬
‫مذكرات صغيرة بخطوطٍ متعرِّجة‪ ..‬عناوين وأرقام هواتف‪..‬‬
‫صكوك مصارف‪ ..‬بطاقاتٍ شخصية‪ ،‬وقوائم ملطلوباتٍ يوميةٍ‬
‫مختلفة‪ ،‬تعزل العمالت النقدية عن كل هذا اللميم املتنافر‪،‬‬
‫تُحصيها بدقَّةٍ متناهية‪ ،‬ثم تضرم‪ ،‬ناراً تطعمها عناوين‪ ،‬وأرقام‪،‬‬
‫وأسماء ألشخاصٍ ال تعنيك مصائرهم‪ ،‬هكذا أنت دائماً‪ ،‬فالصحو‬
‫ال يطرق أبواب ضميرك املغلقة أبداً‪.‬‬
‫تنهضُ متثاقالً مُتّكِئا على انزالقات روحك املتطحلبة‪ ،‬يدفعك‬
‫وجدانٌ خالٍ إال من نداء الفراغ‪ ،‬لتكدس األوراق النقدية فوق‬
‫حصيلة اليوم الفائت‪.‬‬
‫سنوات وأنت تراكم وهمك األسود دائماً‪ ،‬ال يكبح جماح تصدٌّعك‬
‫الوجداني‪ ،‬إحساس بالشفقة على من تفتك أصابعك بجيوبهم‪ ،‬وال‬
‫يرتِّق دواخلك املهرَّأة‪ ،‬شعور بالعطفِ حيال املنكوبني بخِسَّتِكَ‬
‫املفرِطة‪ ،‬ونزالةِ فعلك املذموم‪.‬‬
‫كان اجلو خانقاً حني عدت إلى وكرك املتهالك‪ ،‬لتشعل شمعتك‬
‫املتقاصرة إلى زوالها‪ ،‬فتتراقص الظالل مثل أشباحٍ هاربة‪ ،‬لم يكن‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-39-‬‬
‫يدور بخلدك قط‪ ،‬أن وجاهة الغبطة املستفيضة على جوانحك‪،‬‬
‫ستتالشى في الهباء والعدم‪ ،‬مثل غبارٍ أملس‪.‬‬
‫ها أنتذا حتوز على ثالثة محافظ جلدية‪ ،‬كلها بالية وخفيفة‬
‫وعتيقة‪ ،‬هي ثمرة جهدك اخملاتل لهذا اليوم‪ ،‬تزمّ شفتيك متسائالً‪:‬‬
‫ـ كم تساوي حصيلة هذه احلافظات القدمية الهالكة الكاحلة؟؟‪.‬‬
‫تلقيها على الطاولة بامتعاضٍ بالغ‪ ،‬تدعها برهة ريثما تخلع‬
‫ثيابك‪ ،‬ثم تعود لتمارس عاداتك املكرورة‪ ..‬تبعثر حصيلة أصابعك‬
‫اللئيمة على الطاولة العرجاء‪ ،‬مثل كل مرة‪ ،‬تعزل العمالت النقدية‬
‫على جانب من الطاولة‪ ،‬وعلى اجلانبِ اآلخر منها تضع بطاقات‬
‫الهوية‪ ،‬واألوراق األخرى‪ ،‬وكعادتك دائماً تقرأها برويةٍ‪ ،‬وأنت‬
‫تضحك في سرِّك على غفلةِ أصحابها‪ ،‬قبل أن تُلقِمُها أللسنةِ‬
‫النيران‪.‬‬
‫باستياءٍ أصم تفضُّ احلافظة األخيرة‪ ،‬كانت ممزقة احلواف‪،‬‬
‫خِفّتُهَا تنم عن ضآلة ما حتتويه‪ ،‬توشك أن تصرف النظر‪ ،‬ولكن‬
‫فضولك األرعن‪ ،‬يحثُّك على الفعل‪ ..‬تُقرّبٌ جوفها املُسطَّح‬
‫املستطيل أمام عينيك‪ ،‬ال شيء سوى ورقة بالية‪ ،‬حائلة اللون‪..‬‬
‫تنزعها عن بطنِ احلافظة بال مباالة‪ ،‬لتجد على سطح الورقة ثمة‬
‫رسم تخطيطي‪ ،‬وخارطة توضيحية ملوقع منزلٍ ما من هذه املدينة‪،‬‬
‫حتدِّثُك نفسك بأنك تعرف هذا املكان جيداً‪ ،‬وثمة ورقة أخرى‬
‫ملفوفةٌ بعناية‪ ..‬تفضُّ طياتها العديدة‪ ..‬جتد مبلغاً مالياً ضئيالً‪..‬‬
‫تكتشف أن الورقة ذاتها كانت عبارة عن وصفةٍ طبيةٍ ملريضٍ ما‪..‬‬
‫في الزاوية العليا من الورقة‪ ،‬حتوز ببياناتٍ إضافية‪ ،‬عن اسم‪،‬‬
‫وعنوان‪ ،‬وسكن املريض‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-33-‬‬
‫ويا للمصادفة‪ ،‬فقد كان اإلسم املدون على الورقة لطفلٍ‪ ،‬يتطابق‬
‫متاماً‪ ،‬مع اسم الطفل الذي ينغرس في جذور أحالمك‪ ،‬مثل‬
‫أقباس ضوءٍ في ليلٍ صحراويٍ بهيم‪ ..‬تلك األمنية العصية التي‬
‫تأبى على التجسَّد‪ ،‬في طفلٍ يحمل اسمك‪ ،‬ليغسله من غبار‬
‫الزمن‪ ،‬ودرن الذكريات البغيضة‪ ..‬متعن النظر مجدداً قي الورقة‪،‬‬
‫لتقرأ ما تبقى من اإلسم‪ ،‬فتجده يتطابق هو اآلخر مع إسمك حتى‬
‫اجلد الثالث‪ ،‬فتدرك أن احلافظة كانت لوالد هذا الطفل املريض‪.‬‬
‫مصادفة غريبة‪ ،‬تلك التي جتد فيها إسمك ذاته‪ ،‬بأجياله الثالث‪،‬‬
‫يحمله شخصٌ آخر‪ ،‬واألغرب من ذلك كله‪ ،‬اسم الطفل!! ذلك‬
‫األمل الذي يعشعش في خاطرك دون حتقق‪ ..‬ترى ماذا يريد منك‬
‫القدر!!‪.‬‬
‫اليوم فقط‪ ،‬تشعر باضمحاللٍ يوخز صميم روحك العليلة‪ ،‬حتس‬
‫بقحطٍ يحزّ وجدانك الصدئ‪ ،‬تتآكل دواخلك من مرارة نزقها‬
‫القدمي‪ ،‬تدرك أن لعنة املاضي تالحق أيام عمرك‪ ،‬يوماً بعد اآلخر‪،‬‬
‫يغمرك شعور ملتبس‪ ،‬حتس بأن قشور ضميرك املشروخ‪ ،‬تتعارض‬
‫على حلقك كغُصَةٍ نابية‪ ،‬تضجُّ مواكب الفراغ في أضلعك‪ ،‬توشك‬
‫على البكاء‪ ..‬تنبجس في أفنية خاطرك ظالل ذكريات بعيدة‪،‬‬
‫فيرجتُّ جدار املاضي بذاكرتك التعيسة إلى التاسعة من عمرك‪،‬‬
‫حيث كان شقيقك األصغر‪ ،‬يرزح حتت وطأةِ داء غريب‪ ،‬يتطلب‬
‫األمر‪ ،‬ترياقاً يستمر ملددٍ طويلة‪ ،‬ال ميكن تفويت جرعةٍ واحدةٍ منه‪،‬‬
‫وإال فالكارثة املاحقة ستفتك بالصغير‪ ..‬ينقدك والدكما ثمن‬
‫الدواء من الصيدلية‪ ،‬ويحثُّك على اإلسراع‪ ..‬تعبر الشارع الثالث‪،‬‬
‫بإجتاه الساحة الرئيسة في احلي‪ ،‬حيث تنتصب املزالق‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-34-‬‬
‫واألراجيح‪ ،‬والكراسي الدَّوارة‪ ،‬ولُعبة املراكب املتأرجحة‪ ،‬والساقية‬
‫التي ال تَكِفُّ عن الدوران‪ ..‬كل لعبةٍ ولها ثمنها‪ ..‬رحت جتاري لهو‬
‫الطفولةِ ونزقها‪ ،‬فتنخرط في متعك الصغيرة‪ ،‬وقتاً طويالً‪ ،‬تنسى‬
‫فيه محنة شقيقك األصغر‪ ،‬وبينما كنت تتأهب لركوب لعبةٍ أخرى‪،‬‬
‫ترى والدكما وهو يحثُّ اخلطى صوب الصيدلية‪ ،‬ثم يعود مسرعاً‬
‫وهو يحمل علبة الدواء‪ ،‬تدرك أن تكليفك العائلي‪ ،‬قد أضحى في‬
‫طور النسيان‪ ،‬يراك وأنت تلهو مع الصبية‪ ،‬يتوقف برهة ضئيلة‬
‫قرب املزالق واألراجيح‪ ،‬يرميك بنظرةٍ حارقة كشُواظ اجلمر‪ ،‬ثم‬
‫يواصل مسيره العجول‪.‬‬
‫تهدأُ عاصفة نزقك املوّار‪ ،‬ويلوذ طّقس لهوك األهوج‬
‫بالسكون‪ ،‬فتعود إلى الدار‪ ،‬وقد خال جيبك من ثمن الدواء‪ ،‬لترى‬
‫رهط من الرجال يحملون لفافةً بيضاء‪ ،‬يتبعهم نواح والدتكما الذي‬
‫يؤكد بأن ضميم هذه اللفافة‪ ،‬هو جثمان شقيقك األصغر‪.‬‬
‫عمَّ الصدى في خواء وكرك املتآكل اجلدران‪ ،‬أنت لم تتدرّب على‬
‫األحزان كما ينبغي‪ ،‬لذلك كان األمر صادماٍ حني لطمتك زوابع‬
‫اللحظة الفاجعة‪ ..‬يتآزر عليك األسف‪ ،‬ووميض الروح الشاردةِ‬
‫لتوها إلى موطنها األبدي‪ ،‬فتتجعَّد دواخلك‪ ،‬وتغدو مثل حذاءٍ‬
‫أرهقه الترحال‪.‬‬
‫وحشةٌ قامتة هبَّتْ عليك‪ ،‬مثل شآبيب ظالمٍ كاسرة‪ ،‬تدعوك بأن‬
‫ال يتكرر األمر ثانيةً‪ ،‬وتدفعك دفعاً نحو فعلٍ تظنه سيكفِّر لك إثمك‬
‫القدمي‪ ،‬فتزمع تنفيذه على الفور‪.‬‬
‫تنهض‪ ،‬ترتدي ثيابك سريعاً‪ ،‬تهرول لشراء الدواء‪ ،‬ثم تتجه لعنوان‬
‫سكن الطفل‪ ،‬وحينما تصل املكان متاماً‪ ،‬وتتأكد من صحة العنوان‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-35-‬‬
‫ترى رهط من الرجال يحملون لفافةً بيضاء‪ ،‬يتبعهم نواح المرأةٍ‬
‫ثكلى‪ ،‬يؤكد بأن ضميم هذه اللفافة‪ ،‬هو جثمان ذلك الطفل صاحب‬
‫الوصفة الطبية‪ ،‬وجعٌ لئيم‪ ،‬يتالعب مبكانٍ ما‪ ،‬من دواخلك‬
‫املهشَّمة‪ ،‬يتجلى عريك‪ ،‬وتزداد غربتك‪ ،‬فتسرج جياد دمعك‬
‫املطهمة‪ ..‬تتحوصل عبرة ماحلة على حلقك اجلاف‪ ،‬كنت تريد أن‬
‫تَلُفّكَ السكينة مثل كل األسوياء‪ ،‬ولكن‪ ..‬ها هي مراميك تخيب‬
‫وتتبدد‪ ،‬تتراكم طبقات الصدأ على وجدانك الكسير‪ ،‬وعلى‬
‫صدرك يتحشرج بكاء صامت‪ ،‬وينزُّ وهنٌ حامض على مفاصلك‪،‬‬
‫جتدِّف في الهواء بقبضتيك تلعن القدر‪ ،‬ولكن شيئاً حارقاً يتدفق‬
‫على كفيك‪ ،‬تفتحهما‪ ،‬ومتعن فيهما بنظرة مرتعشةٍ‪ ،‬ترى رؤوس‬
‫أصابعك‪ ،‬تنطف بالدمِ نُطُفاً تتوالى‪ ،‬مثل بهيمةٍ منحورة‪ ،‬تورق في‬
‫خاطرك حلظة حرّاقة‪ ،‬تشي بأن سقمك الذي تعاني منه اآلن‪ ،‬ال‬
‫يدانيه اجنرافك القدمي‪ ،‬وال هذا النواح املستبد‪ ،‬الذي ينحر‬
‫وجدانك اخلاوي إال من رمل األوهام‪ ،‬والرغبة املستعرة لعويل‬
‫الفراغ‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-36-‬‬
‫اهلـــــــادي راضـــــــي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫عسف العسس‬

‫أدخنة متصاعدة‬

‫كَتِب الغواية‪ ..‬محاية األبالسة‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-31-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-37-‬‬
‫عَسَفُ العَسَسْ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫‪TO: ZOAL@HILA.SD.COM‬‬
‫‪FROM:FREEBOY@FREEDOM.COM‬‬
‫‪ ...‬وتسألني كيف حدث ذلك؟‬
‫‪ OK‬يا صديقي سأخبرك مبا جرى‪:‬‬
‫كان القدر وحده ما جعلني أخرج ألجل شراء سيجار من البقال‬
‫اجملاور ملكان االجتماع‪ ..‬وفي الطريق‪ ،‬حدسي أدار نظري صوب‬
‫الشرق‪ ،‬فرأيتهم قادمني‪ ،‬ولم يكن أمامي غير أن أعبر النهر سباحة‬
‫إلى الضفة األخرى هرباً منهم‪.‬‬
‫كان الوقت شتاء‪ ،‬والكون يزف الشمس إلى مخدعها الليلي‪.‬‬
‫وعند الشاطئ اآلخر‪ ،‬كان احلال‪:‬‬
‫مسغبةٌ تنهشُ األحشاء‪..‬‬
‫زمهريرٌ يسدُ مسامات الدفء‪.‬‬
‫أبوابٌ موصدة‪.‬‬
‫خوفٌ وضياع‪.‬‬
‫واكتملت دائرة البؤس بهطول املطر‪.‬‬
‫كنت مبلالً‪ ،‬جائعاً وبال مأوى‪ .‬البناياتُ الشاهقة في ذاك احلي‬
‫الرابض على الضفة األخرى‪ ،‬تنسف فرضية إطعام جائع‪ ،‬أو إيواء‬
‫ضيف‪ .‬األبواب موصدة مبزاليج ضخمة‪ ،‬وأسيجة حديدية حول‬
‫املباني تكبت رغبة االقتراب منها‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-32-‬‬
‫ومن شدة اجلوع يا رفيقي خلتُ حُبيبات املطر حليباً سماوياً‬
‫أرسله الرب لي‪ ،‬وكان طعم املاء املتساقط من السماء كما احلليب‬
‫متاماً‪ ،‬فاجلوع كافر يا صديقي‪.‬‬
‫رهق عجيب سرى في بدني‪ .‬خطواتي واهنة ورأسي دوار‪.‬‬
‫استدعاني النوم فلبَّى جسدي املنهك النداء قرب إحدى تلك‬
‫البنايات الشاهقة‪.‬‬
‫توسدتُ شقائي ومنت‪.‬‬
‫وجدني رجل رحيم على تلك احلال‪ ..‬مهمل‪ ،‬قذر‪ ،‬جائع ومستاء‪.‬‬
‫ال أذكر كم مرَّ عليَّ من الوقت قبل أن يوقظني الرجل الرحيم‪.‬‬
‫أووه‪ ..‬تذكرت يا صديقي‪ ،‬كان اآلذان يعلن ميقات صالة‪ .‬الرجل‬
‫في طريقه إلى املسجد‪ ،‬ولكَم تعجبتُ حني ناداني بـــ(الشيخ)‪ .‬لكن‬
‫دهشتي زالت عندما نظرت إلى جلبابي املزركش وحتسستُ شعري‬
‫اجملدول‪ -‬هو ال يدري أنني ما زركشتُ ثيابي وجدلتُ شعري إال‬
‫لتضليل العسس‪ -‬وللعسس دوماً أخبار فاجعة‪ ،‬هل سمعت يوما أو‬
‫رأيت عسساً مساملني؟‪.‬‬
‫باختصار‪ :‬هَيّأ لي الرجل الرحيم مكاناً في املسجد القريب من‬
‫تلك البناية الشاهقة‪ ،‬مكثتُ فيه حتى غادرت إلى حيث أنا اآلن‪...‬‬
‫واآلن‪:‬‬
‫أخبرني‪ ..‬ما الذي جرى ويجري في البلدة بعد مغادرتي لها؟‬
‫‪TO: FREEBOY@FREEDOM.COM‬‬
‫‪ZOAL@HILA.SD.COFROM:‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-41-‬‬
‫بعد خروجك انقلبت البلدة إلى ثكنة عسكرية‪ .‬كأمنا البالد‬
‫خلت من كل املشاكل إال أنت ومن كانوا قربك‪ .‬مت اعتقالي مع‬
‫يوسف التمرجي وأستاذ منير ومحمد اخلامت ابن العمدة‪ .‬أما‬
‫اخلواجية أوجلا ‪ -‬ست املنظمة كما يناديها األهالي‪ -‬فقد مت‬
‫طردها من احللة ومن البلد كلها‪ .‬خرجتُ من املعتقل صباح اليوم‪،‬‬
‫وابن العمدة والتمرجي مت ترحيلهما إلى العاصمة‪ .‬حدث ذلك بعد‬
‫اختفائك بيوم واحد‪ ،‬ففي صباح اليوم الذي تال خروجك‬
‫األسطوري‪ ،‬جاء أناس مريبني‪ ،‬ليسوا بعسس‪ ،‬لكنهم يقومون‬
‫بأعمال العسس‪ .‬داهموا مقر أوجلا وفتشوه شبراً شبرا‪ ،‬عثروا‬
‫على دفترك األحمر‪ -‬لم أفهم سر وجوده بني أشياء أوجلا!! بعد‬
‫ذلك انبرى رجل من أشباه العسس‪ ،‬وارتدى هذه املرة عباءة الفقيه‪،‬‬
‫جمع أهل القرية حتت ظل الشجرة املنتصبة أمام منزل العمدة‪.‬‬
‫وقف أمامهم كما الواعظ‪ .‬بعض القوم تابعوه بانتباه‪ ،‬والبعض‬
‫اآلخر‪ ..‬ال‪ .‬لكن اجلميع حدقوا فيه عندما رفع يده حامالً دفترك‬
‫األحمر‪ .‬قال الرجل‪ :‬هاهنا ما يؤكد مروق الولد من ألــ‪ ،.......‬ثم‬
‫قرأ عليهم‪:‬‬
‫"اجملد للشيطان‪ ..‬معبود الرياح‬
‫من قال (ال) في وجه من قالوا (نعم)‬
‫من علم اإلنسان متزيق العدم‬
‫من قال (ال)‪ ..‬فلم ميت‪،‬‬
‫وظل روحاً أبدية األلم!‬
‫قال الرجل‪ :‬ال يكتب مثل هذا الكالم إال مارق‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-40-‬‬
‫لم تعد القرية كما كانت‪ ،‬ولم يعد الناس هم الناس‪ .‬غادر معظم‬
‫الشباب إلى املدينة بحثاً عن رزق أفضل بعد أن فشل املوسم‬
‫الزراعي‪ ،‬وصديقنا عادل تزوَّج بنت رجل مهم في الدولة‪ ،‬وحصل‬
‫على وظيفة مرموقة‪.‬‬
‫صدق قولك بأنه انتهازي‪ ،‬متسلق وتافه‪.‬‬

‫‪TO: ZOAL@HILA.SD.CO‬‬
‫‪FROM:FREEBOY@FREEDOM.COM‬‬
‫يـاه‪ ..‬الدفتر األحمر!!! كم افتقده اآلن‪ .‬أولى صفحاته كتبت فيها‬
‫شعراً ألمل دنقل – الرجل اختار ذلك املقطع بخبث مدهش – وسر‬
‫وجود الدفتر بني طيات أوجلا سأخبرك عنه‪ ،‬ولكن قبل ذلك‬
‫نسيت أن أذكر لك بأني غادرت املسجد ذات ليلة في ثياب أنثى ‪-‬‬
‫املالبس أحضرها لي (مجدي كوارث) ‪ -‬وهذا الولد أمره عجيب‪.‬‬
‫ال أدري كيف وجد مكاني‪ ،‬ولكني تفاجأت به يقتحم املسجد ذات‬
‫صالة‪ ،‬ببنطاله املرتخي وتي شيرته األزرق‪ ،‬خفتُ أن يفضح أمري‬
‫أمام سكان احلي الذين يؤدون صلواتهم في املسجد‪ ،‬ونَمَتْ بيني‬
‫وبينهم عالقة جيدة‪ ،‬ولكنه كان ذكياً وملاحاً كعادته‪ ،‬فما إن رآني‬
‫حتى صار يصيح (مَدَد يا مان‪ ..‬مَدَد يا مان)‪ ،‬وانكفأ يُقبّلُ ظهر‬
‫كفي‪ ..‬بعدها‪ ،‬جلسنا طويال ندبر أمر خروجي من البلد ساملاً‪.‬‬
‫أما حكاية وجود دفتري األحمر وسط أشياء أوجلا‪ ..‬ببساطة إني‬
‫قضيت بعض الوقت ‪ -‬قبل خروجي‪ -‬معها‪ ،‬فهي زوجتي‪ .‬لم‬
‫أخبرك بذلك من قبل – أتخيلك اآلن مرتبكا كطفل ضُبط متلبساً‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-49-‬‬
‫بفعل محظور – فقد كنت تسميها (باربي)‪ ،‬ال عليك يا صديقي‪،‬‬
‫فأنا لم أخبرك ولم أٌخبر أحداً آخر‪ ،‬ألننا تواثقنا – أوجلا وأنا‪-‬‬
‫على الكتمان العتبارات منطقية‪ .‬فمن الطبيعي أن توجد أشيائي‬
‫بني أشيائها‪ ،‬والدفتر نسيته مثلما نسيت أن أزيل بقايا تلك الليلة‬
‫عن وجهي وقميصي‪.‬‬

‫‪TO: FREEBOY@FREEDOM.COM‬‬
‫‪ZOAL@HILA.SD.COFROM:‬‬
‫قمة االرتباك يا صديقي‪ ،‬أو باألحرى هو مزيج من الغضب‬
‫واحلرج‪ ،‬غضب منك لعدم إخباري بأمر زواجك‪ ،‬وحرج ألني‬
‫سميتها على دمية وهي زوجتك‪ ..‬على أية حال‪ ،‬معذرة يا صديق‪.‬‬
‫حتى اآلن لم يُفرج عن ابن العمدة والتمرجي‪ ،‬و‪...‬‬
‫من الطارق؟؟‬
‫‪....................‬‬
‫من أنتم؟‬
‫‪....................‬‬
‫ماذا تريدون؟‬
‫‪.....................‬‬
‫إلى أين؟‬
‫‪...................................................................‬‬
‫‪....................................................................‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-43-‬‬
‫‪....................................................................‬‬
‫‪....................................................................‬‬

‫‪TO: ZOAL@HILA.SD.CO‬‬
‫‪FROM:FREEBOY@FREEDOM.COM‬‬
‫ما األخبار؟‬
‫ملاذا ال ترد على رسائلي؟‬
‫‪TO: FREEBOY@FREEDOM.COM‬‬
‫‪ASASFROM :‬‬
‫لن يرد في القريب العاجل‪ ،‬ورمبا لن يرد إلى األبد‪ .‬فهو مارق‬
‫مثلك‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-44-‬‬
‫َأدْخِنَةٌ مُتَصَاعِدَة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عَصِيرُ األَدْخِنَة‪:‬‬
‫وإذ رأيتُه ‪-‬صباحاً‪ -‬بجانبِ السورِ املتهالكِ متكئاً‪ ،‬شاخصاً نحو‬
‫الالشيء‪ ،‬باسماً بال معنى‪ ،‬أدركتُ متاماً أنه قد أعلنَ انفصاله‬
‫عنّا‪ ،‬وأنه اآلن يتسكعُ في حواري بلدةٍ شوارعها من زجاجٍ‪ ،‬وماءها‬
‫حليب‪ ،‬نساءها عاريات إال من قبعةٍ صغيرةٍ بيضاء تغطي أحد‬
‫النهدين‪ ،‬رجالها طوال‪ ،‬ضخام‪ ،‬يرتدون السواد من قمةِ الرأس‬
‫حتى أخمص القدمني‪ ،‬يطاردون النساء العاريات‪ ،‬يطاردهم‬
‫شرطي يحمل هراوة‪.‬‬
‫دُخَانُ احلَشِيشْ‪:‬‬
‫حني مدّها إليَّ مشتعلةً‪ ،‬كان يحفها اجلنون‪ ،‬ويختبئ في جوفِها‬
‫املفتت بذور االنفصال والشرود‪ ،‬قال إنها أتت من غرب البالد ‪-‬‬
‫والغربُ خصيب‪ -‬وأنها سُقيتْ مبياهِ غديرٍ‪ ..‬حيث نساء مجنبات‪،‬‬
‫وصبايا مراهقات‪ ،‬حائضات‪ ..‬غسلن دنسهن‪ .‬معتقة بعبق النساءِ‬
‫املتزوجات ورائحة دنس الصبايا املراهقات‪ .‬قال خذ‪ ،‬أيها الصديق‬
‫اندفن فيها وأنس مرارات السنني التي ضاعت في جحيم‬
‫االنتظار‪ ..‬خذ‪ ،‬جرِّب أن متص شذاها وتنفث شياطينها هكذا‪...‬‬
‫(دخانٌ كثيفٌ يَتَصَاعَدَ إِلَى أَعْلَى‪ ،‬مُشَكِّالً حَلَقَاتٌ حَلَزَونِيَة بَيْضَاء‬
‫تَتَلَوّي كَأَفْعَى ِفي فَضَاِء الغُرْفَةِ)‪.‬‬
‫كان يبحلق في تلك احللقات احللزونية ويتعوذ من الشيطان‬
‫الرجيم ‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-45-‬‬
‫دُخَانُ النّدْ‪:‬‬
‫قالت رفيقته‪ :‬خذها منه أيها احلزين‪ ،‬ادخل رحيقها في جوفِك‬
‫وأطرد شياطينهاخارجاً‪ .‬وخذ مني هذا احملشو بالتعاويذ‬
‫والرضاب املقدس ـ عود الند سواك األولياء ـ كانت تقول أمي‪.‬‬
‫اشعِله‪ ،‬دعه بدخانه املقدس يكبل شياطني تبغك‪ ،‬يخاصرها‪،‬‬
‫يراقصها‪ ،‬يشملها بجبورته وسطوته‪ ،‬دعه يسكب فيها شيئاً من‬
‫تعاويذ‪ ..‬رمبا تنجيك من اجلنون‪ .‬اشعِله‪ ،‬عله يضلل بسلطانه‬
‫العطِر هذا الشرطي املتربص‪.‬‬
‫سَفَرُ األَدْخِنَة‪:‬‬
‫كاألرجوحة تتحرك اللفافة بني شفتي ويدي‪ ،‬أمص شذاها‬
‫وألفظ خارجاً شياطينها‪ ،‬وعود الند في احتراقه يعبق فضاء‬
‫الغرفة بدخانه العطر‪.‬‬
‫األدخنة تتحد وتصعد إلى أعلى‪.‬‬
‫أتابع رحلة الصعود مبهوراً بالتشكالت السريالية‪ ،‬والتكونات‬
‫الغرائبية املتحورة واملتخلقة عن التداخل املثير‪ .‬فجأة ينبجس لي‬
‫من بني طيات األدخنة املتصاعدة – املتحورة – جوادٌ أصهبٌ‬
‫جميل‪ ،‬أُسرجه‪ ،‬أمتطي صهوته وأنطلق‪ ..‬ملتحمان نغادر فضاء‬
‫الغرفة احملدود إلى الفضاء اخلارجي الال متناهي‪ .‬كالبراق يسبح‬
‫جوادي اآلن في السماء‪ ،‬أعبرُ سُحباً بيضاء وأخرى زرقاء‪ ،‬مررتُ‬
‫بكتلة سحابية غطت الرؤية أمامي‪ ،‬جتاوزتها مبهارة ألجد نفسي‬
‫أمام سحابة عابرة‪ ..‬جوادي يتعثر‪ ،‬يكبو‪ ،‬أسقط‪ ،‬جتذبني األرض‪،‬‬
‫أهوى بسرعة ينخلع على إثرها ذراعي األمين‪ ،‬أواصل السقوط‬
‫بانحراف‪ ،‬ينخلع ذراعي األيسر‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-46-‬‬
‫ذراعاي انفصال ونَبَتَ مكانهما جناحان‪.‬‬
‫منتشياً أحلق في الفضاء الفسيح وفمي منقار‪.‬‬
‫بعيداً‪ ..‬أرى حبيبتي ترقد على صدر غيمة‪ ،‬ميألني غضب‪ .‬أطير‬
‫نحوهما وأحط على نهدها املتكور‪ ،‬ألثم شفتيها مبنقاري‪ ،‬الشفتان‬
‫تدميان‪ ،‬يغطيني لون الدم‪ ،‬لون الدم يغطي السحاب‪ .‬الدم ساخن‬
‫ومذيب‪ ،‬يذيبني‪ ،‬حبيبتي والغيمة ينصهرا‪ ،‬جميعنا يحملنا ريح‪ .‬مَ‪..‬‬
‫طَ‪ ..‬رٌ ‪..‬‬
‫نَ‬
‫‪:‬‬
‫هـْ‬
‫‪:‬‬
‫طِ‬
‫‪:‬‬
‫لْ‬
‫أنزلُ ببلدة شوارعها من زجاج وماءها‪ ،‬حليب‪ ،‬نساءها عاريات إال‬
‫من قبعة صغيرة بيضاء تغطي أحد النهدين‪ ،‬رجالها طوال‪ ،‬ضخام‪،‬‬
‫يرتدون السواد من قمة الرأس حتى أخمص القدمني‪ ،‬يطاردون‬
‫النساء العاريات‪ ،‬يطاردهم شرطي يحمل هراوة‪ ،‬انحشر وسطهم‪،‬‬
‫اجلميع يدخلون صومعة وكل امرأة تأخذ رجلها وتصفعه‪.‬‬
‫عَــــوْدَةٌ‪:‬‬
‫صفعتني رفيقته وقالت‪ :‬عذراً أيها احلزين‪ ،‬صفعتك ألني رأيتك‬
‫تدق بوابة اجلنون‪ ،‬عُد اآلن ودع عنك امتصاص الشذى‪ ،‬وال تنظر‬
‫إلى هذا املتصاعد أبداً في رحلته اجملنونة‪ .‬هاتها وأشدو لنا‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-41-‬‬
‫لم أشدُ‪ .‬أردتُ أن أبكي‪ ..‬انسللتُ خارجاً وبكيت‪.‬‬
‫سمعته يقول‪ :‬خذي يا حبيبة‪ ،‬كسِّريه‪ ،‬اجعليه فتاتاً‪ ،‬ثم على هذا‬
‫الورق الشفيف أنثريه وأطويه‪ ..‬اصنعي لنا لفافة أخرى‪ ،‬افركيها‬
‫على فخذك الرخامي لتتضمخ بشذاك يا حبيبة‪ .‬فإنها أتت من‬
‫الغرب‪ ..‬والغرب حبيب‪.‬‬
‫‪ ..‬وملا رأيته عند الصباح بجانب السور املتهالك متكئاً‪ ،‬شاخصاً‬
‫نحو الال شيء‪ ،‬باسماً بال معنى‪ ،‬أدركت متاماً أنه قد أعلن‬
‫انفصاله عنا‪ ،‬وأنه رمبا يتسكع في حواري بلدة شوارعها من زجاج‪،‬‬
‫وماءها حليب‪ ،‬نساءها عاريات‪ ،‬إال من قبعة صغيرة بيضاء تغطي‬
‫أحد النهدين‪ ،‬رجالها طوال‪ ،‬ضخام‪ ،‬يرتدون السواد من قمة‬
‫الرأس حتى أخمص القدمني‪ ،‬يطاردهم شرطي يحمل هراوة‪..‬‬
‫ولكن ليس هنالك ثمة أنثى تصفع‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-47-‬‬
‫كَتِبْ الغِوَايَة‪ ..‬مِحَايَة األَبَالسَة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هَذَا الفَتَى قَدْ شَرِبَ مِحَايةً ال تَخُصّه(‪.)1‬‬

‫‪ .1‬املِحَايَة التي تَخُص الوَلَد حَمْدان – ولم يِتَسن له شُربها ‪ -‬كانت لعالجهِ من داءٍ‬
‫التقط عدواه من ود احللب‪ ،‬كما زعمت أمه‪ ،‬بيد أن والده اعتقد أن شيطاناً أصلع قد تبول‬
‫على رأس الصبي‪ .‬عقد العزم على أخذه إلى شيخ حسان في خلوته الرابضة عند طرف‬
‫البلدة‪.‬‬
‫اخللوة تضج بالصبيان األشقياء‪ ،‬يتلون القرآن في حضرة العِرِّيفْ‪ ،‬وإذا ما الحقته‬
‫نداءات الشيخ املتكررة‪ ..‬وغاب عن عيونهم؛ فإنهم يلعبون‪ ،‬يتشاجرون‪ ،‬يتنابذون‪،‬‬
‫ويضربون بعضهم بعضا‪.‬‬
‫اخللوة في نهارات البلدة املتعاقبة؛ وعندما يغيب الرجال‪ ،‬تعج بالنساء طالبات‬
‫العمل‪ ،‬بالصبايا احلائرات‪ ،‬وباجملانني‪.‬‬
‫حني حط رحل الوالد وابنه حمدان؛ كانت البِتْ فِطَيْن تغادر اخللوة وعلى وجهها‬
‫يعربد احلبور‪ .‬حكى الوالد للشيخ‪ ،‬أن شيطاناً أصلع‪ ،‬حسد ابنه على شعره املسترسل‪،‬‬
‫فبال على رأسه‪ .‬وترك موضع البول ورذاذه‪ ،‬فجوات في رأس الولد وصفها الوالد؛ بأنها‬
‫تشبه صلعة إبليس‪ .‬قال األب للشيخ‪ :‬أكتب له محاية حرق األبالسة‪.‬‬
‫استبقى الشيخ الولد إلى حني‪ .‬كتب له على لوح نُحت من جذع شجرة سدر عمرها‬
‫خمسون عاماً‪" ،‬سورة الفاحتة‪ ،‬آيةالكرسي‪ ،‬خواتيم البقرة‪ ،‬اإلخالص واملعوذتني‪ ،‬ومحا‬
‫ما كتبه مباء الورد على آنية من فخار‪ ،‬ثم كتب‪:‬‬
‫"بسم الله أرقيكم من كل شيء يؤذيكم‪ ،‬من شر كل نفس‪ ،‬أو عني حاسد‪ ،‬الله يشفيكم‪،‬‬
‫بسم الله أرقيكم والله يشفيكم ( ‪ 3‬مرات )" ومحاها أيضاً‪ ،‬ليكتب على اللوح‪:‬‬
‫"أعيذكم بكلمات الله التامة‪ ،‬من كل شيطان وهامة‪ ،‬ومن كل عني آلمة ( ‪3‬مرات )"ثم‬
‫ختم بــ"اللهم صل على محمد‪ ،‬وعلى آل محمد‪ ،‬كما صليت على إبراهيم‪ ،‬وعلى آل‬
‫إبراهيم‪ ،‬انك حميد مجيد‪ ،‬وبارك على محمد‪ ،‬وعلى آل محمد‪ ،‬كما باركت على إبراهيم‪،‬‬
‫وعلى آل إبراهيم في العاملني‪ ،‬إنك حميد مجيد"‪.‬‬
‫ولكن‪ ،‬ما حدث‪ ،‬أن حمدان ابن السابعة لم يشرب تلك احملاية‪ ،‬إمنا شرب من‬
‫آنية أخرى جتاور آنية عالجه‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-42-‬‬
‫مَرْيَمْ(‪ ،)2‬وَدَ اجلنَّة(‪ ،)3‬البَقِيعْ(‪ ،)4‬نَوّاي سائِق اللّوري(‪ ،)5‬الفَكِي أبُو‬
‫شَامَة(‪ )6‬وشَيْخ حَسَّان(‪)7‬؛ شَهِدوا علَى انفِالتْ الوَلَدْ حَمْدَان مِنَ قَيدِ‬

‫بعد سبع سنني من تلك الشربة‪ ،‬وبعد أن نبت شاربه‪ ،‬صار يأتي بتصرفات باتت‬
‫حديث أهل البلدة‪.‬‬
‫‪.2‬مَرْيِم‪ ،‬جارة لألُسرة‪ ،‬ذات قهوة‪ ،‬أَسَرَّتْ ألُمّه‪ ،‬أن الفتى أتاها خلسة بِلَيْل‪ ،‬أراد‬
‫أشياء ال تخص الرجال‪ ،‬وجَهَرت بأن الفتى رمبا تاهت عنه رجولته‪ ،‬فقد طلب منها‬
‫خُمْرة ودِلْكَة وقليل من الكَبَرَيْت‪ .‬حني سمعت األم ذلك احلديث‪ ،‬غابت عن الوعي‪ ،‬وملا‬
‫استفاقت‪ ،‬وجدته جالساً قرب رأسها‪ ،‬يلوك لبانة‪ ،‬يلقط حاجبيه‪ ،‬ويبتسم للمرآة‪..‬‬
‫فغابت إلى األبد‪.‬‬
‫‪ .3‬وَدْ اجلَنَّة‪ ،‬رفيقه‪ ،‬كانا يغنيان ألصدقائهما في جلسات األنس‪ .‬يقلدان مطربي‬
‫جيلهم‪ ،‬محمود‪ ،‬عصام‪ ،‬أحمد‪ ،‬وليد‪ ،‬نادر‪ ،‬اجلزار‪ ،‬وشكر الله‪ .‬ذات أُنس لم يكن‬
‫حمدان بينهم‪ ،‬قال ألترابه‪ :‬أن حمدان صار يترمن بأغاني البنات‪ ،‬وامتألت ذاكرة‬
‫هاتفه بأغنيات نانسي‪ ،‬هيفاء‪ ،‬جواهر‪ ،‬عوضية عذاب‪ ،‬حنان بلوبلو‪ ،‬ستونا اجملروس‪،‬‬
‫وبت الدَّميْ‪ ،‬وبات يتغنج حينما يؤدي تلك األحلان البناتية‪ ،‬ويضع يديه على خاصرته‬
‫عندما يتحدث مع اآلخرين‪ ،‬وصار ناعماً‪ ،‬وقد ‪..........‬‬
‫‪ .4‬البَقِيع‪ ،‬أُخته الكبرى‪ .‬فقدت اآلتي‪ :‬روج‪ ،‬فير آند لفلي‪ ،‬قلم حواجب‪ ،‬صابون‬
‫لنضارة الوجه‪ ،‬مونكير‪ ،‬كرمي مرطب للجسم‪ ،‬عطر ماركة مهند ونور‪ ،‬ومشد للصدر‪.‬‬
‫‪ .5‬نَوّاي سائِقْ اللّوري‪ ،‬زجره ذات ليلة‪ ،‬وطرده من أمام باب منزله‪ .‬قال لنفسه‬
‫بعد أن شيع الفتى الذي اندس في ظالم األزقة خجِالً‪( ،‬الوَدْ دا ما ‪..............‬وال‬
‫شنو؟)‪.‬‬
‫‪ .6‬الفَكي أبو شَامة‪ ،‬إن ما يأتي به حمدان من تصرفات‪ ،‬أمرغيرطبيعي‪ ،‬هو من‬
‫نتاج الشيطان‪ ،‬وتأثير إبليس اللعني‪ ،‬وأعوانه شياطني اإلنس واجلن‪.‬‬
‫‪ .7‬الشَيخ حسّان‪ ،‬فليغفر لي الله‪ ،‬لم يكن خطأي أن يشرب هذا الفتى قبل سبع‬
‫سنني محاية البت فطني بت جار النبي؛ يوم أرادت أن تغوي نوّاي سائق اللوري‬
‫بالكَتِبْ‪ ،‬جاءت حتمل همَّها‪ ،‬وأخبَرتَها أن كتابة الغواية ال تكتب إال بقلم من شجر‬
‫األراك‪ ،‬على لوح منحوت من فرع شجرة اللوب أكملت العام من عمرها‪ ،‬ومتحى مباء‬
‫الزعفران مخلوطاً ببذر سيسبان‪ ،‬وعرق زجنبيل‪ .‬جذر لعوت جاف‪ ،‬وصَفَقة سَنَمَكّة‪.‬‬
‫وتضاف إليها بعد سبعة أيام‪ ،‬نقع الهرقلية والكمأة والقصعني‪ .‬وبعد أحد عشرة يوماً‪،‬‬
‫يضاف إليها مسحوق لسـان الغزال والداميانا‪ .‬وأخبرتها أن األراك والاللوب قرب‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-51-‬‬
‫(احلفير)‪ ،‬بيد أن تلك األعشاب والعطور ال توجد إال عند العطارين باملدينة‪ .‬فقالت‪:‬‬
‫أكتب لي تلك األشياء في ورقة‪ .‬كتبتها‪ ،‬وبعد يومني‪ ،‬كانت العطور واألعشاب أمامي‪.‬‬
‫قالت أن نوّاي سائق اللوري هو من أحضرها‪ ،‬بعد أن طلبت منه ذلك‪ .‬أحضرها ولم‬
‫يكن يدري بأنه كان يحمل طقس غوايته‪.‬‬
‫كتبتُ الغواية‪ ،‬ومحوتها على آنية شاء لها أن توضع بالقرب من إناء الصبي‬
‫حمدان‪ .‬وملا رأيته صدفة‪ ،‬ذات نهار خريفي؛ يشرب كَتِبْ الغواية دون أن يدري‪ ،‬أدركت‬
‫منذ ذلك الزمان‪ ،‬أن ما يحدث اآلن‪ ..‬البد أن يحدث‪.‬‬
‫توضيح‪:‬‬
‫كَتِبْ الغواية إذا شربه الرجل البالغ‪ ،‬أو املرأة البالغة‪ ،‬فكل منهما يغوي اآلخر‪ ،‬أما‬
‫إذا شربه غير البالغ‪ ،‬فإن البنت تتذكّر بعد احليضة األولى‪ ،‬والولد يتأنّثْ عندما ينبت‬
‫شاربه‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-50-‬‬
‫السَّوَية‪ .‬وشَيْخ حَسّان هُوَ مَنْ حدّثَ عَنْ وجُود التِبَاس‪ ،‬غيَّر مَجْرى‬
‫حَيَاة الوَلَدَ عِنْدَمَا تَنَاول‪ ،‬ذَات يَوْم‪ ،‬كَتِباً ال يَخصّه‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-59-‬‬
‫مجال الدين علي احلاج‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫وسقطت ورقة التوت‬

‫فقاعة صمت‬

‫رغوة االبتسامة البيضاء‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-53-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-54-‬‬
‫وسقطت ورقة التوت‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كان منفصما عن ذاته وهو يصلِّي بالناس استسقاء؛ وكنت خلفه‬


‫متحداً مع روحها أتلو صلواتي‪ ،‬وقلبي غارق في وحل األسى‪.‬‬
‫روحها التي اشتعلت كألعاب نارية مبهرة قبل أن تتالشى في‬
‫الفضاء؛ تاركة جسدي يتمرَّغ في رماد الكآبة؛ باتت تسكنني‪ .‬قالوا‬
‫إن النار ستطهِّر جسدها؛ وكانت في قمة تلظيها تضحك وهي‬
‫متسك بيدي وتسحبني لنرقص حتت زخات املطر كما كنا نفعل في‬
‫طفولتنا الباكرة‪ .‬أبنوسة صقلتها أشعة شمس إستوائية‪ .‬تعرف‬
‫كيف جتلي غيوم اجلمال املسكون بروح األسالف‪ .‬أياد سماوية‬
‫سكبت حبها قطرة؛ قطرة‪ ....‬في فؤادي العطش وأنبتت األحالم‬
‫وقبل أن تزهر قطفتها يقظة‪ .‬داهمني طيفها مبجرد دخولي في‬
‫الصالة وال أدري هل كان الشيطان يتالعب بي أم أنني رأيتها‬
‫بالفعل واقفة بجواري في صف الصالة؟‬
‫لم أستعذ منه تركته يغويني حتى أخرجني من نسكي؛ البد أنني‬
‫قطعت صالتي؛ والتفت ناحيتها وفضلت أحدق فيها وهي خاشعة‬
‫تتلو صلواتها بسكينة؛ وخيل إليّ أنني رأيتها تبتسم لي ثم تصعد‬
‫ابتسامتها كدعوات صادقة‪ .‬حتى قبل دخولي في الصالة‬
‫بلحظات؛ كانت بدفتر الذهن مجرد قصاصات ذكرى ملن ودعوا‬
‫أرصفة احلياة الباردة املتسخة بال دموع؛ وال أدري ملاذا عدت أقلب‬
‫دفاتر املاضي في هذا اليوم بالذات‪ .‬رمبا كان اجلو العكر هو‬
‫السبب وليس الشيطان القابع بداخلي‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-55-‬‬
‫ذلك الصباح؛ والريح متشط ضفائر الغيوم بأصابع أفريقية‬
‫خشنة؛ والرذاذ يتقاطر خيوط من جبني السماء‪ .‬والقدر املستل من‬
‫جعبة اللوح املسطور مشدود على وتر الزمن يتأهب لإلنطالق؛ في‬
‫ذلك الصباح بعد أن تعبنا من الرقص حتت املطر الذي بدأت‬
‫زخاته تشتد؛ احتمينا بشجرة التوت املعمرة عند البئر القدمي؛‬
‫يومها أخبرتني بحقيقة الشيطان الذي أتعبد اإلله خلفه من قبل أن‬
‫تعرف بنات إبليس طريقها إلى فراشي‪ .‬قالت أن الشيخ أتاها في‬
‫ليلة شتوية كهذه؛ وكان حسب ما فهمت منها يتوكأ نزق الصبا‬
‫وعيناه تومضان مثل جمرتني مهملتني وقد أطلقت شرارتها فسوة‬
‫شيطانية عابرة‪ .‬نظر إليها بعينني غائرتني تشتهيان الطفو فوق‬
‫طبقات الشوق املكبوت‪ .‬قال لها الهثا وقد سالت من محجريه‬
‫خياالت فاحشة (نتزوج عرفي في السر وأطهرك من كل الذنوب)‪.‬‬
‫سكتت وقد فهم سكوتها وأحسه بقلبه اخلاشع إلله الرغبة وقتها؛‬
‫بلع ريقه وبلل شفتيه بلسان ثعبان يتحسس مواطن اللدغ (ميكنني‬
‫تدبر أمر زواج مسيار‪ ...‬عفوا أقصد مسفار)‪ .‬كاد يسقط عندما‬
‫ضحكت؛ مللم بقايا هيبته املتناثرة وتسند على جدار الباب املوارب؛‬
‫أقسمت لي أنها رأت ذئبا عندما ابتسم وقال‪( :‬سمه ما شئت؛ املهم‬
‫أن يجمعنا سقف واحد)‪ .‬موظف البنك كان مرابيا ومرتشيا؛‬
‫خيَّرها بني أمرين قال ميكنه تدبر أمر القرض ولكن عليها أن‬
‫ترهن جسدها عنده ومع كل شيك قابل للسداد سيأخذ نصيبه من‬
‫حلمها نيئا‪ .‬وحتى يقنعها بعرضه السخي قال وابتسامة سمجة‬
‫ترتسم على زواية فمه‪( :‬ميكنني متديد فترة العقد لعشر سنوات‬
‫وبدون فوائد حتى)‪ .‬اجلزار كان حاسما كمدية‪ .‬قطع من حلم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-56-‬‬
‫الفخذ املعلق أمامه ورماها لها ونظره سكني حاد يغوص في‬
‫خياالت فاحشة‪( :‬سأبني لك دارا في املدينة بعيدا عن أهل القرية‬
‫ولسانهم الزفر‪ .‬أزورك في األسبوع مرة واحدة ومن يتفوه منهم‬
‫بكلمه أقسم لك سأقطع لسانه)‪.‬‬
‫كانوا يرغبون فيها باحلرام الذي أحلونه‪ ،‬أما هي فقد أدمنت‬
‫العشق احلالل الذي حرمه اجملتمع‪ .‬كانت تعشقه بجنون وتعلم أن‬
‫لونها األبنوسي لن يكون منسجماً مع ألوان اللوحة الزيتية التي‬
‫رسمها اجملتمع بريشة النقاء العرقي املغموسة في وعاء الدم‬
‫الواحد‪ .‬قالوا أن سلوكها املعوج خرب شبان القرية ولن يقفوا‬
‫مكتوفي األيدي حتى تنتقل العدوى للفتيات‪ .‬النساء استشعرن‬
‫خطرا ما؛ نبتت لهن شوارب؛ حتدثن بصوت ذكوري رمبا كن‬
‫يخبيئنه في جيناتهن‪ .‬قالن نطردها من القرية في احلال‪ .‬ثالث‬
‫نسوة وقفن وأشعلن النار‪ .‬قالن بصوت جهوري مستلف‪( :‬ال‪.‬‬
‫سيالحقونها إلى حيث تذهب‪ .‬نعرف أساليب الرجال)‪ .‬كُن‬
‫مصممات على حرق الفتنة وليس نفيها أو وأدها‪.‬‬
‫وكانت تسمع كل ذلك وتبتسم وهي تنظر لي أن أتفوه‪ .‬أن أعبر‬
‫بامياءةِ حتى‪ .‬وأنا صنم ينظر للفراغ مرة ومرة ألبي الشيخ الذي‬
‫حملته في تلك الليلة الشتوية يتسلل خلسة إلى دارها‪.‬‬
‫سلم أبي منهيا صالته ورفع يديه إلى السماء وأخذ يدعو‬
‫ويتضرع‪ .‬خلتها تسقط على األرض وتستلقي على قفاها من‬
‫الضحك‪ .‬برهة وانطلقت العاصفة الرملية ودفنتنا باحلياة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-51-‬‬
‫فقاعة صمت‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫(ال أحد غيرك يرتب هذه الفوضى)‪ .‬قال وهو يرمي بامللف على‬
‫طاولة مكتبي؛ رفع السبابة وأضاف‪( :‬ال تنس أنك من طلب عمالً‬
‫إضافياً)‪.‬‬
‫آه لو عرف ماذا فعل بي؟‬
‫لقد هز أركان روحي وهدم ذاتي‪.‬‬
‫بعد خروجه مباشرة؛ انهمكت أقلب أوراق امللف الصفراء الباهتة‪.‬‬
‫ثمة رسومات مبهمة وخطوط كنتورية لتضاريس مخيلة مجنونة‪.‬‬
‫يقتضي عملي متابعة أمر ازالة تلك البيوت التي قررت اللجنة‬
‫بجرة قلم محوها من على اخلارطة‪ .‬مباني عتيقة هزت كيانها‬
‫حركة العمران املتسارعة؛ فبدت مثل رجل فقير معدم وجد نفسه‬
‫فجأة وسط صالة بورصة عاملية تعج بالثروة الصاخبة‪( .‬تلك‬
‫البيوت القدمية عار على النهضة العمرانية‪ .‬لقد شوهت وجه‬
‫املدينة متاما)‪ .‬هكذا رد املهندس رئيس جلنة التخطيط على‬
‫سؤال املذيعة املتأنقة عن القيمة التراثية لهذه البيوت؛ وعينه‬
‫تستقرأ أفكارا فاحشة‪.‬‬
‫كنت أرى البنايات الزجاجية تقف بخيالء على قارعة الطريق؛‬
‫وتنظر إلى بيوت البلدة القدمية من عل بإشمئزاز‪ .‬وأسأل نفسي‬
‫من أين لهم كل هذه األموال؟‬
‫في زيارتي األولى للحي احملكوم بالفناء؛ أمر على البيوت؛ أتلو‬
‫قرار اللجنة عليها ككاهن أو مفتي وهي تقف صامتة حتضن‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-57-‬‬
‫بعضها؛ وترمقني النوافذ بغنب العاجز أو احملكوم عليه باإلعدام‬
‫في جرمية لم يرتكبها؛ وكانت كل األدلة املادية والظرفية ضده‪.‬‬
‫برتابة أضع سهما باللون األحمر على صدرها ثم أعود بعد مدة؛‬
‫بعد انقضاء املهلة؛ ومعي كتيبة االعدام؛ أتكئ على جدار الالمباالة‬
‫وأرقب اآلالت املفترسة وهي تقضم أوصال البيوت كقطع‬
‫البسكوت بتلذذ‪ .‬أقراص من الذكريات الهشة احملشوة بطبقة من‬
‫األصوات الناعمة؛ وطبقات من احلنني تلتهمها اآللة النهمة‬
‫املفجوعة في قضمة واحدة؛ تذوب األلفة بني فكيها في حلظة هي‬
‫مبقدار بلع الريق ومد اللسان لتذوق طعم الفاجعة في شفتي‬
‫صاحب الدار اليابستني املشققتني‪ .‬حلظة بطول احلياة وعرضها؛‬
‫تستحيل فيها ذكرياته إلى ركام وتراب وغبار؛ وال تكتفي اآللة‬
‫القاسية بذلك وحسب؛ جتمعها في كومة كبيرة؛ كومة من احلجارة‬
‫املصبوغة باألحالم واآلمال والدموع ورسومات طفولية؛ حتملها‬
‫الشاحنات إلى مقبرة التاريخ حيث تتحلل وتذوب في تربة‬
‫النسيان‪.‬‬
‫كنت أضع السهم األحمر من جدار إلى جدار وكأنني أرقم بضاعة‬
‫رخيصة تالفة؛ وأخبئ عيني من النظرات خلف نظارة شمسية‬
‫سوداء‪ .‬نظارة قامتة علها حتجب مالمح اإلنكسار والصدوع التي‬
‫كنت أراها في تلك البيوت قبل وجوه أصحابها‪ .‬تلك الوجوه‬
‫البائسة كانت ترمقني بنظرات حزينة؛ وهي ترى حيواتها تتهاوى‬
‫حتت أقدامها وكأنها لم تكن؛ وتظل احلسرة محبوسة بفقاعة‬
‫الصمت التتفجر بهمسة‪ .‬ما بال هؤالء الناس؛ ملاذا ال يصرخون؛‬
‫يسبون أو يستعطفون؟‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-52-‬‬
‫لو رفعت كفي وأنزلتها لتهاوت ذكرياتهم حتت قدمي ولو تركتها‬
‫مرفوعة في الهواء ينمو حاضرهم ويزهر ؛ ولكنهم ال يفعلون‪.‬‬
‫هل الكبرياء مينعهم أم أن قلة احليلة غطت قلوبهم وفاضت‬
‫وتدفقت كما مياه الصرف التي حتاوط بيوتهم من كل األركان؟‬
‫عندما فتحت امللف وظهر اسم احلي بحروفه املموّهة باخلط‬
‫األحمر؛ شعرت بنقزة في كبدي؛ رحت أقرأ األوراق؛ أنقر بطرف‬
‫عيني أسماء الشوارع واألزقة كما غراب حط على الشاطئ في‬
‫شباك ممتلئة باألسماك وكان الصياد غافال في بطن القارب‪.‬‬
‫الكلمات نبتت بيوت واألسطر متددت أزقة والفواصل استراحت‬
‫لنواصِ‪ .‬أحاول أن أخبئ عيني بني األزقة وال أقدر؛ أنفاسي الهثة‬
‫وقلبي يدق‪ .‬زقاق البحر؛ السوق؛ أبوعالمة صارت بذهني طبقة‬
‫شفافة من الثلج سرعان ما تذوب عندما تسطع عليها شمس‬
‫الصباح؛ توقفت عيناي عند اخملبز البلدي الذي يسد الزقاق‬
‫كقاطع طريق كرمي؛ خارت قواها؛ أسبلت جفنيها؛ أصابتها رجفة‬
‫متقطعة والدموع كما العرق تسيل‪ .‬أراد املدير مكافأتي ولكنه‬
‫يعاقبني بهذا العمل‪ .‬مسحت دموعي؛ أغلقت امللف وخرجت‬
‫مسرعاً‪.‬‬
‫وأنا أجتول في احلي القابع في فؤاد البلدة القدمية؛ أتطلع إلى‬
‫الشقوق والصدوع ليخرج منها صوت صديق طفولة يناكف أمه قبل‬
‫االستحمام‪ .‬وتلك النوافذ السليمة واملكسرة رمبا يطل منها شبح‬
‫حب قدمي‪ .‬وأتساءل‪:‬‬
‫كيف ميكنك أن تنحي شهوة اجترار املاضي وأنت أمام طبق مآلن‬
‫لشفتيه بخبز الذكريات الشهي الساخن؟‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-61-‬‬
‫كيف ستقنع نفسك أنك متضغ بخيالك أحداثا طفولية مضحكة؟‬
‫وهل ستترك لك قوانني لعبة احلياة مكانا لتمارس فيه مراهقتك‬
‫أم سيأخذك قلبك وسط كل هذا الضجيج إلى عوالم من السحر‬
‫الالمتناهي؟‪.‬‬
‫يندلق فوق رأسي الصوت العذب من الشرفة كماء بارد (حبيتك‬
‫بالصيف حبيتك بالشتي)‪ .‬أتلكأ في عبور الطريق؛ تتجمد حواسي‬
‫كلياً‪ .‬وأنا أتتطلع إلى وجه البدر من ثقوب الشرفة؛ أخاله يبتسم‬
‫لي؛ يضيء فلوات بقلبي التي ظلت معتمة لفترة طويلة؛ أبلع ريقي‬
‫اجلاف ويخفق قلبي كحلق ضفدع أفاق من بيات شتوي ليجد‬
‫الشمس ساطعة‪ .‬وددت لو أسألها؛ هل أنا ذلك احلبيب الذي‬
‫تتغنني بحبه من الشرفة املطلة على البحر في كل الفصول؟‬
‫ومع علمي أنها كانت ستحرجني لو قالت نعم وجترحني لو قالت‬
‫ال‪ ،‬ولكنني لم أكن الكترث‪ .‬أكتفي باالجابة الرمادية لعل؛ أضع كفيَّ‬
‫املتعرقتني في جيوب بنطالي الوحيد وأمضي نشوان وأنا أدندن‬
‫بالنغمة احللوة؛ وأستلف سحر فيروز؛ فيخرج صوتي كالتيس‬
‫الصغير؛ يغازل معزة تفوقه في الطول‪.‬‬
‫أخيرا وصلت إلى الدار الذي ولد فيه جدي الرابع‪ .‬دخلت من‬
‫الباب املشرع؛ أبي طامح فوق أريكته في الصالة وبجواره براد‬
‫الشاي؛ أنفاس طبخ أمي عابقة من املطبخ؛ احتضنني بشوق‬
‫وأجلسني بجواره وصب لي الشاي؛ قلب األم حدسها؛ فأتت‬
‫مهرولة حتمل سنواتها الستني وقرونا من اللهفة‪ .‬قبلتني واشتمت‬
‫عنقي وحتسست وجهي وصدري وساعدي وصرخت‪( :‬ملاذا أنت‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-60-‬‬
‫هزيل أال تصنع لك ابنة جنار املراكب الطعام؟)‪ .‬وهرولت مهمهة‬
‫إلى املطبخ‪ .‬قلت‪.‬‬
‫‪ -‬أبي‪..‬‬
‫‪ -‬ال تقل شيئا لن أترك داري‪.‬‬
‫ولكن يا أبي‪..‬‬
‫قاطعني بكفه املرفوعة‪.‬‬
‫‪ -‬يا ولدي؛ قم بعملك واياك أن تتراجع؛ ونحن في احلي لنا‬
‫كالم ثان‪.‬‬
‫بعد مدة حضرت ومعي كتيبة االعدام وكانت الصحافة وقنوات‬
‫التلفزة حاضرة؛ والشمس في رابعة النهار وقفنا كجيشني متقابلني‬
‫في ساحة سوق النسوان وكان الترقب سيدنا القاسي الذي ال‬
‫يغمض له جفن؛ أبي يتوكأ حفيده ابن شقيقي ويتقدم احلشد؛‬
‫النساء أطلن من فوق الشرفات وأطلقن الزغاريد‪.‬‬
‫و كان ذلك آخر صوت نقلته القنوات الفضائية قبل أن ينقطع‬
‫البث املباشر لنقل وقائع جلسة البرملان‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-69-‬‬
‫رغوة االبتسامة البيضاء‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كان الوقت هزيع ليل وقد طوى الظالم القرية حتت جناحه‪ .‬وكان‬
‫السكون الواقف على أهبة يصب مزيدا من العتمة كلما تناهي إلى‬
‫مسامعه شخيب الطلمبات وهي تشفط مياه النيل بتواطؤ تام مع‬
‫القمر الذي غاب عن احلضور متحججاً بسوء األحوال اجلوية‪ .‬في‬
‫هذا اجلو الكئيب املنذر بقدوم العاصفة كان حميدة يقاتل وحده‬
‫نواميس الكون‪ .‬يشد العنان ويرفع سوطه ألعلى يسوط به ظهر‬
‫احلمار كلما أحس بأنه يتراخى في سحب العربة‪ .‬احلمار املسكني‬
‫بدأ وكأنه يشاور عقله بأي طريق سيسحب العربة اللعينة والى أين‬
‫سوف يجرها؟ كما أن خروجه من الدار في هذا الوقت املتأخر من‬
‫الليل واخملالف ألوقات دوامه املتعارف عليها قد سبب له نوعا من‬
‫االرباك فأخذ يلف ويدور حول نفسه‪ .‬يرفع رجله األمامية وقبل أن‬
‫يدقها ألسفل يحفر بها الطريق متقدما لألمام تتقهقر الرجل‬
‫اخللفية وتندق كوتد تثبّت جسمه في مكانه‪ .‬هذا ما أثار حفيظة‬
‫حميدة وسبب له احلنق والغيظ (عر‪ ..‬عر‪ .‬الله يقطع طاريك‪.‬‬
‫املرض الـــ‪ .)...‬انطلق احلمار يجر العربة بعد أن تلقى ضربة‬
‫موجعة وصل فيها رأس السوط الى خصيتيه املدلدلتني‪ .‬احلمار‬
‫يعلم أن صاحبه ميلك قلباً عطوفاً ولكن في حاالت هياجه فهو ديك‬
‫أحمق‪ .‬حميدة يشد العنان بيد ويرفع السوط في عني احلمار بيده‬
‫األخرى محذّرا ومتوعدا‪ .‬وحني يطمئن أن خطته جنحت؛ فها هو‬
‫احلمار يركض بأقصى سرعة ساحبا معه العربة‪ .‬كان حميدة يضع‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-63-‬‬
‫السوط جانبا ويضم ابنته التي كانت جتلس بجواره الى حضنه‪.‬‬
‫(ها‪ ..‬يا ست أبوها‪ .‬ما أحسن؟)‪ .‬ترفع الطفلة عينيها الذابلتني‬
‫بصعوبة فيطير قلب حميدة من الفرح (احلمد لله ما زالت حية)‪.‬‬
‫يقول في نفسه ثم يشاركنا فرحته بصوت مسموع ويضيف (تعرفي‬
‫يا فطني(‪ )8‬يا بنتي العقارب لدغتها هينة‪ .‬اخلوف من لدغات‬
‫البشر)‪ .‬يبتسم بسخرية ويقول‪( :‬البشر لدغتهم والقبر أسأليني‬
‫أنا‪ .‬أنا أبوك املسكني دا يا ما تعرضت للدغاتهم السامة)‪ .‬فطني‬
‫املسكينة تتمايل على حسب مزاج احلمار وخياراته في انتقاء‬
‫احلفر واملطبات التي كانت منتشرة بكثرة في الطريق‪ .‬وفجأة‬
‫شعرت فطني بنوبات الغثيان ثم ما لبث أن مالت على جانب مثل‬
‫قلة صغيرة تدور بها تروس الساقية‪ .‬حميدة ترك العنان على ظهر‬
‫احلمار ومال بجسمه وهو يحمل طفلته ذات العشر سنوات ومثلما‬
‫يفرغ قربة بطرف احلوض جعل ابنته فطني تفرغ وجعها بحرقة‬
‫فوق الرمال‪ .‬حركة العربة املتمائلة وارجتاجها جراء سقوطها في‬
‫املطبات واحلفر تكفال بافراغ الباقي من قعر القلة‪ .‬حني أفرغت‬
‫فطني وجعها شعر حميدة أنها أفرغت عمرها القصير للتو‪.‬‬
‫فاندلقت روحه وسالت من جميع أعضائه‪ .‬دموعها وبقايا اخلوف‬
‫التي سالت من عينيها مسحها حميدة ببصره ولعن الزمن‪.‬‬
‫(استغفر الله العظيم)‪ .‬مدد جسم الطفلة النحيل فوق العربة‬
‫وجعل رأسها يستند على حجره (هانت يا فطني كلها ساعة زمن‬

‫‪8‬فطني‪ .‬بكسر الفاء وفتح الطاء مع تسكني الياء‪ .‬تصغير متليح بالدارجة‬
‫السودانية السم فاطمة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-64-‬‬
‫ونصل املركز الصحي‪ .‬عر‪ .‬عر‪ .‬املرض الــــ‪ .)..‬شد العنان وساط‬
‫ظهر احلمار برشقة من الضربات املوجعة فقفز احلمار ألعلى‬
‫كحصان جامح قبل أن يجر العربة وينطلق بها‪.‬‬
‫كانت البروق التي ظلت تضحك عليه منذ حلظة اسراجه للحمار‬
‫وتعليقه للعربة وخروجه من البيت وحتى هذه اللحظة قد دبّرت‬
‫أمرها متاما‪ .‬وبدأ ريح أهوج يهب من جهة اجلنوب ورعد يدوي من‬
‫جهة القبلة‪ .‬ثم ما لبث أن احترقت السماء‪ .‬كأن البرق الالهب‬
‫سوطا من نار يبدأ من جهة القبلة ويلتف من خصر السماء نازال‬
‫ألسفل األفق كحزام من نار؛ فتسيل دموع السحب بغزارة‪ .‬وما أن‬
‫تسكب غيمة مياهها وترحل؛ البرق الالهب ال يرحم السماء أبدا؛‬
‫يكر سحبا أخرى بسوطه الناري من مجاهل األفق البعيد كما‬
‫يسوق الراعي قطيع من االبل اجلهم من تخوم الصحراء ملورد املاء‪.‬‬
‫حني اشتد املطر العاصف بالبرق والرعد؛ خلع حميدة شاله من‬
‫رأسه؛ ولفه علي جسد طفلته املرجتف من البرد ورفع يديه ألعلى‬
‫مقوسا ظهره فانتفخ الصديري بسبب الهواء‪ .‬ظهر حميدة احملني‬
‫والصديري املنفوخ شكال مظلة جلسم الطفلة‪( .‬تعرفي يا فطني‬
‫من أول لم نكن نعرف مثل هذه األمطار الغزيرة وفي موسم حش‬
‫التمر! املطر رحمة من الله ولكن املطر في موسم حش التمر‬
‫عذاب‪ .‬أستغفر الله العظيم)‪ .‬وكأنه تذكر شيئا (كله من جراء هذا‬
‫السد اللعني‪ .‬املطر رحمة من الله‪ .‬ولكن السد من أفعال البشر‬
‫وبعض البشر عقارب‪ .‬أهلنا زمان قالوا يا ما حتت السواهي‬
‫دواهي‪ .‬ونحن يا فطني يبدو أننا رفعنا ساهية كبيرة خرجت من‬
‫حتتها عقارب اجلبال السوداء وانتشرت في البالد)‪ .‬ميسح املاء‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-65-‬‬
‫عن وجهه وينظر البنته‪ .‬وجهها شاحب وابتسامة بريئه ترتسم على‬
‫شفتيها‪( .‬آآه يا فطني لو تعرفي مفعول هذه االبتسامة‪ .‬كنت أعود‬
‫للبيت منهكا وجائعا آخر النهار وحني أرى االبتسامة البيضاء‬
‫طافية كرغوة احلليب فوق شفتيك أشعر بالشبع ويزول عني‬
‫التعب)‪ .‬ابتسم وقال‪( :‬حتى احلمار كان مغرما بتلك االبتسامة‪.‬‬
‫فكنت أسمع ضحكاته تأتي من الزريبة وهو ميضع عليقته بتلذذ)‪.‬‬
‫انحنى لألمام كانه يهمس باذن احلمار (أليس كذلك يا رفيقي‬
‫العزيز؟)‪ .‬احلمار رفع أذنيه موافقا كالمه وسار مترنحا وهو يجر‬
‫العربة بالطني والوحل‪( .‬ملا قلنا الناس بحاجة للصحة والتعليم‪.‬‬
‫قالوا السد الرد‪ .‬قلنا الهدام أكل الطني‪ .‬قالوا الرد بالسد‪ .‬قلنا‬
‫السرطان والهجرة أفرغت املدن والقرى‪ .‬جمعوا خلقا كثير‪.‬‬
‫باللواري والبصات والقطارات والطائرات والدواب هتفوا فوق‬
‫رأسنا الليل بطوله السد‪ ...‬السد‪ .‬الرد‪ ...‬الرد‪ .‬أبوك يا فطني كان‬
‫الشعبة املزالفة وقفت في وجه املاكينة وقلت احلق‪ .).‬يبتسم بأسى‬
‫ويقول (األرض والنخيل جرفتهم املياه‪ .‬والتعويض املادي اشتريت‬
‫منه هذا احلمار والعربة وغرست الشقاء بالدروب)‪ .‬كان البرق قد‬
‫أوقف الضرب فتوقفت السحب عن البكاء والنحيب وبدأ نسيم‬
‫عليل محمّل بعبق زهور السنط وثمار اجلوافة يهب من جهة‬
‫الوادي‪ .‬وظهر على وجه حميدة االرتياح ألول مرة فابنته مستلقية‬
‫بجواره فوق العربة بسكينة مثل حورية صغيرة بعد أن غسلتها املياه‬
‫الربانية القادمة من السماء‪ .‬احلمار أيضا بدأ نشيطا وهو يسحب‬
‫العربة في طريق مكسو باحلصى والرمل الذي غسلته مياه املطر‬
‫فبدأ المعا كبساط مذهب (جدك يا فطني قال ألمي ملا ذهبت اليه‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-66-‬‬
‫خلطبة أمك‪ .‬حميدة رجل فحل اال عيبه حاجتني أثنني‪ .‬متلقي‬
‫حجج ومباري الغناء‪ .‬الغناء ما بيأكل عيش ومتلقي احلجج برمي‬
‫نفسه في املصائب)‪ .‬يضحك ساخرا (الله يرحمك يا عمي في‬
‫مصيبة أكبر من هذا السد اللعني)‪ .‬التفت الى ابنته التي كان‬
‫جسدها امللفوف بالشال يتمايل كلحاف على الرحل‪( .‬ها يا ست‬
‫أبوها كأنك غير مصدقة أن أبوك كان فنانا في يوم من األيام‪ .‬ليك‬
‫حق يا بنتي ألنك لم تستمعي ليّ في عز شبابي‪ .‬لكن وال يهمك)‪.‬‬
‫تنحنح وصدح بصوت مشبع باحلنني (سوقني معاك يا حمام‬
‫سوقني محل ما احلبيبة قريبة تراعي الغرام‪ .‬فقارى ولكن غنايا‪.‬‬
‫غنايا بهذا الغمام)‪.‬‬
‫و بعد قليل ملع نور شاحب مثل كشاف ضعفت بطاريته توقف‬
‫حميدة عن الغناء وقال مخاطبا ابنته فطني ودون أن يلتفت اليها‬
‫(آها‪ .‬نحمد الله وصلنا املركز الصحي‪ .‬قد يصرخ احلكيم بوجه‬
‫أبيك أو رمبا سبنا ولعن اليوم الذي رآنا فيه‪ .‬ال تستغربي فعله يا‬
‫فطني‪ .‬وأنا سوف أكون واجما ومنكسا رأسي وحينما أتكلم‬
‫سأتوسل اليه قائال هيا يا دكتور هيا أسرع‪ .‬فطني بنتي قرصتها‬
‫عقرب‪ .‬عليك أن تأتي باحلقنة بأسرع وقت وسبنا وألعن أهلنا‬
‫واليوم الذي رأيتنا فيه الحقا فسوف يثور بشدة ويسبني بأقذع‬
‫األلفاظ ويتهمني بأنني تدخلت في شغله‪ .‬حني ترين كل ذلك‬
‫يحدث أمامك يا بنتي ال تفكري أن أباك رجال جبانا‪ .‬كال يا بنتي‬
‫ليس جبنا مني‪ .‬سهل جدا أن أستل سكيني التي ال تفارق ذراعي‬
‫وجخ أذبحه عند عتبة املكتب‪ .‬ولكن يا بنتي هذا لن يفيد ولن يحل‬
‫املشكلة‪ .‬املشكلة في النظام الصحي الذي بعثه الينا بال أجهزة وال‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-61-‬‬
‫أدوية‪ .‬كأنهم قالوا له أذهب الى أولئك البائسني وتدرّب على رؤية‬
‫الروح وهي تغادر اجلسد املنهك حتي تعود مختصا في كيفية‬
‫خروج الروح‪ .‬هذا الدكتور املسكني امنا يفعل ذلك ليفش قهره‬
‫وعجزه فينا‪ .‬اذن يا بنتي هو ضحية مثلنا لذا فان ذبحه ال يفيد‬
‫ورمبا فاقم املشكلة)‪ .‬وكانت العربة وهي مندفعة قد ارتطمدت‬
‫بالباب اخلارجي للمركز الصحي فسقط بدوره على األرض وتعلق‬
‫بالعربة من أسفل فسحبه احلمار على األرض احلجرية ملسافة‬
‫مسببا صوتا مزعجا كان كافيا ليهب الطبيب ومساعديه مذعورين‬
‫من النوم‪ .‬وقفوا أمام الصوت املزعج‪ .‬حمار يقف بالفناء منكس‬
‫أذنيه ومرخي عضوه وبوله يسيل جدول يسقي شجرة النيم الواقفة‬
‫باجلوار‪ .‬رجل خمسيني مكسور اخلاطر يحاول أن يقول شيئا‬
‫ولكن لسانه وأنفاسه املتسارعة ال تساعده على نطق احلروف‬
‫والكلمات بصورة سليمة فبدا وكأنه أخرس يتمتم ويحاول أن يتكلم‬
‫ويعبّر بعينيه وشفتيه ويديه ورجليه‪ .‬هرول الطبيب نحوه‪ .‬كشف‬
‫حميدة الشال عن وجه طفلته وحني سقط الشال عن جسم الطفلة‬
‫كاشفا بال شفقة ما فعله القدر‪ .‬ابتلع الطبيب سبابه ولعناته التي‬
‫كانت واقفة في طرف لسانه؛ ورفع كفيه املفتوحني ألعلى قلّده‬
‫مساعداه كما يفعل املصلون خلف االمام في الدعاء‪ .‬حميدة‬
‫ممسك برأس احلمار وعيونه منفوخة بالبكاء‪ .‬احلمار ظل واقفا‬
‫منكسا أذنيه وعضوه مرتخ بعد أن أفرغ مثانته وشعر باالرتياح‪.‬‬
‫قال الطبيب مواسيا (لألسف االسعاف متعطل واال كنا أوصلناك‬
‫واجلثمان للبيت)‪ .‬أدار حميدة عنق احلمار وصعد على العربة‬
‫وترك العنان للحمار؛ فهو يعرف طريق العودة جيدا‪ .‬واستلقى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-67-‬‬
‫بجوار طفلته وهمس في أذنها‪( :‬ها‪ .‬يا فطني ما رأيك لو أغني لك‬
‫أغنية حتى الطيف رحل خالني ما طيب لي خاطر)‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-62-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-11-‬‬
‫عمر الصـــــــــــــــــــامي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫دار املنقوط‬

‫بني راما واملقهى املنكفئ‬

‫رسالة إلى نورا‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-10-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-19-‬‬
‫دار املنقوط‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫في مسكني سدرة‪ ،‬نخلة شمطاء‪ ،‬وليمونة ضالة‪ .‬تنسج العناكب‬


‫حبائلها بني األشجار‪ ،‬أمزقها كل يوم بوجهي املتجول في‬
‫الفضاءات‪ .‬لي كائنات استأنسها جدي األول الذي لم يكن في أي‬
‫وقت من األزمان قردا ساذجا‪ .‬حلمت به ذات غفوة يحدثني‪ ،‬وهو‬
‫يحك فراءه املهترئ بأظافره املنغلقة بالطني‪ ،‬له وجنتان تنغرسان‬
‫في صوف خديه عندما يتحدث‪ ( :‬تعلم لغة الكائنات من حولك‪،‬‬
‫العالم لن ينكشف لك؛ لو أوقفت عقلك على لغة اإلنسان) قال لي!‬
‫قمت من نومي وسروالي منكمش على جثتي املغسولة ببول كريه‬
‫إلنسان متمدن‪.‬‬
‫على حوائطي سحالي‪ ،‬جنادب‪ ،‬وضباب جبارون‪ .‬تنشب معارك‬
‫على املوارد الشحيحة‪ ،‬في اخلريف تكثر احلشرات املتعاركة‪.‬‬
‫تعودت مراقبة كائناتي منذ أن جئت إلى بيتي من مكان ما‪ ،‬وأنا‬
‫طفل صغير جلدتي التي تعشق قردنتي‪ ،‬تستنشقني بأنف معزة‬
‫يافعة‪ ،‬تلعق مخاط أنفي بلسان بقرة هرمة‪ .‬خرجت من حلمي‬
‫ألحدث الكائنات؛ صرت أعتقد أنها تفهمني‪ ،‬وتبادلني الرد‪،‬‬
‫أغازلها؛ فتطرب‪ ،‬أدللها؛ فتشغب‪ .‬أضع مسبحتي على السدرة‬
‫وأحدثها عن قدها املمشوق‪ ،‬أشواكها اليانعة‪ ،‬وطلعها األحلى من‬
‫التفاح‪ ،‬أحرك حبات مسبحتي على أغصانها مستمطرا عليها‬
‫بركات شيخ يتجول بني أضالعي؛ أحلظ استجابتها‪ ،‬تتمايل في‬
‫غنج‪ ،‬تستطيل‪ ،‬ثم تزهر في غير أوانها‪ .‬حتى النخلة أعجزت‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-13-‬‬
‫رصيفاتها وأثمرت في خريف قاس‪ ،‬حبلت بعراجني من البلح‬
‫اخلالي من النوى‪.‬‬
‫وألن نوافذي مشرعة؛ قفزت إلى الداخل قطة رحمها مملوء‬
‫باألجنة‪ .‬رقدت حتت سريري‪ ،‬وأفرغت ثلة من أفراخها‪ .‬تأملت في‬
‫والدتها‪ ،‬أبدت تذمرا وعدوانية‪ .‬في ذهابي عن الغرفة‪ ،‬وإيابي من‬
‫شجيراتي حملتها تفكر في التهام صغارها‪ ،‬شعرت بالفكرة تبرق‬
‫من حتت سريري‪ ،‬تتدحرج كرة من اللهب من عينيها وتستقر بني‬
‫مخالبها‪ .‬القطط الصغيرة تصطك أجنحتها‪ ،‬حتاول أن حتلق‬
‫فزعة‪ ،‬مخالب األم تتنمر‪ .‬بدأت أحدثها؛ ألردعها عن فعلها غير‬
‫احليواني (توقفي؛ لست بحاجة ألكلهم‪ ،‬سأحضر لك حلما‬
‫وعظما‪ ،‬سأحضر لك حماما وسمكا‪ )..‬لم ترتدع‪ ،‬لم حتول عينيها‬
‫عن كومة اللحم املتقطقط في براءة‪ .‬لم تسعفني لغتي في إقناعها‪،‬‬
‫أو أنها قطة صماء‪ ،‬إذ ذاك انسلت عقرب زرقاء ذات شوكة‬
‫معقوفة‪ ،‬خرجت مسرعة؛ لتلدغ القطة في ردفها املكتنز‪ ،‬هربت‬
‫كبرق خاطف‪ .‬انتبذت ركنا أسفل سريري‪ ،‬ثم رأيت ظهرها ينفتق‬
‫عن قبيلة من العقارب الزرق‪ .‬صرت أنقل عيني بني القطة وقد‬
‫تخطفتها األبدية‪ ،‬وبني العقرب وقد أسلمت جسدها لتأكله‬
‫صغريات العقارب بشراهة‪ .‬تركت لي القطة أربعة من العصافير‬
‫ذوات اخملالب‪ ،‬لم أواجه مشكلة في إرضاعهم؛ عنزتي السوداء‬
‫جتشمت املهمة حتى شبوا عن احلفرة‪ .‬العنزة الرقطاء حتولت إلى‬
‫تيس ذات مساء‪ ،‬لم يرتبك العالم؛ بيتي متوازن منذ األزل‪ ،‬وأنا‬
‫أنتظم في مساراته‪ ،‬أحدث كائناته عني كبشري منقوط بألوان‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-14-‬‬
‫مختلفة‪ ،‬أمدد لها أطرافي املبرقعة لتراني كما أنا‪ ،‬وأحيانا أحدثها‬
‫بألسنة قرد‪ ،‬قرادة دبر‪ ،‬قملة ثياب ضالة‪.‬‬
‫ال أقر بتجمد شيء ما‪ ،‬اجلمادات كائنات حية بطريقة مغايرة‪،‬‬
‫حتى باب الغرفة حي يقبع في جسد الغرفة الكبير‪ ،‬والغرفة حية‬
‫في جسد البيت الواسع‪ ،‬والبيت في املدينة‪ .‬الكون يحيا متداخال‪،‬‬
‫يتجاذب أطراف احلياة‪ .‬الشئ الوحيد الذي لم يدخل بيتي هو‬
‫املرآة‪ .‬لم أفكر إذا ما كانت حية أم ال! لم تعوزني أبدا؛ ألنني أري‬
‫وجهي في بؤبؤ الطيور‪ ،‬وملعان أغطية الصراصير‪ .‬أرى نفسي‬
‫مبتسما‪ ،‬خفيف الروح‪ ،‬عاشق بال أنثى‪ ،‬أب وأم‪ ،‬صياد وطريدة‬
‫جمعهما دغل موحش‪ .‬وأنا أعبر في مملكتي رأيت بيت عنكبوت‬
‫بني السدرة والنخلة‪ ،‬يلمع كأنه صيغ للتو من أحالم عنكبوت زاجل‪.‬‬
‫استوقفني وجهي املرسوم في مرآة العناكب‪ ،‬لم أره منذ قرن ونيف!‬
‫للتو اكتشفت نفسي فهتفت لها‪ :‬لقد هرمت يا صاح!‬
‫حتسست التجاعيد‪ ،‬شيبي املتهالك‪ ،‬بضع أسنان متناثرة على‬
‫حواف ابتسامتي‪ .‬هل ستموت قريبا يا صاحبي؟ تنتقل إلى الطرف‬
‫اآلخر من التجاذب؟ وملن تؤول مملكتي املتوازنة؟ من للضب‬
‫العجوز‪ ،‬احلرباء اجلرباء‪ ،‬والنخلة الشمطاء؟ من ألوراق السدر‬
‫املتعطنة أللف خريف مضى؟! فزعت‪ ،‬التاع قلبي؛ فهربت إلى‬
‫مخدعي أرجتف من برد الصيف غير املنضبط بالفصول‪.‬‬
‫منت‪ ،‬لبست مخدعي وكوني وغططت في شخير هادر‪ ..‬عادني‬
‫جدي‪ ،‬فراؤه ناعم‪ ،‬خلته مصالة ألبكار املؤمنني‪ ،‬في يده عصا‬
‫أعلى قبضتها شكل هندسي يشبه املفتاح‪ ،‬لطاملا رأيت ما يشبهه‬
‫في رسومات األسالف‪ .‬غمزني بعصاه‪ ،‬وقال لي (هل أفزعك‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-15-‬‬
‫مرأى نفسك من اخلارج؛ ماذا لو رأيتها من الداخل؟ هل سيرتاح‬
‫قلبك؟ ملاذا لم حتدث كائنات دواخلك‪ ،‬كما فعلت للعالم من حولك؟‬
‫رمبا حظيت باخللود والتمجيد!)‪ .‬سكت يرمقني من مفتاح العصا‪،‬‬
‫ثم يحك بها أنفه املنبطحة بكبرياء (لم تخبرني أن بداخلي كائنات‬
‫يقتلها الصمت‪ ،‬لم حتطني علما أن الضب على اجلدار ليس هو‬
‫الضب نفسه قبل عشرين سنة) قبل أن أكمل حديثي قاطعني‬
‫(وملاذا أخبرك أين كشوفاتك يا قردي األغلف؟ أين روحك التي‬
‫استلبتها من بني ساقيك؟) بدأ يسمعني ألفاظ خادشة حلياء‬
‫كائناتي‪ ،‬ألفاظ أعياها االنتظام في موسيقى مملكتي‪ .‬فتحت‬
‫عيني ألبصره؛ ألريه أي قرد أنا! لم أجده‪ .‬كنت مستلقيا على‬
‫ظهري‪ .‬بطني وصدري منفتحان‪ ،‬بوابتهما صدئة‪ ،‬تصدر أزيزا‬
‫حلظة جرجرتها لالنفتاح‪.‬‬
‫رفعت رأسي؛ ألرى أحشائي احلبيسة منذ فجر التاريخ‪ ،‬هالني‬
‫أنها غير منقوطة كسائر جسدي من اخلارج! قلبي قمرية علقت‬
‫في شراك‪ ،‬واهن الدقات ينبض‪ ،‬متجعد وحوله شحمة صفراء‪.‬‬
‫رئتاي منفرجتان بال مباالة‪ ،‬أبصرتهما رئتي نعجة معلقتني في‬
‫جزارة‪ .‬كبدي‪ ..‬آه من كبدي! تتخلله خطوط داكنة ودمامل‬
‫متحجرة‪ .‬ظلت عيناي جتوالن في داخلي‪ ،‬ظللت أشهد كائناته‬
‫مسيجة بالصمت‪ ،‬تدور حول نفسها‪ .‬رفعت بصري نحو نافذة‬
‫اجلدار‪ ،‬رأيت شجيراتي تتقافز من أمكنتها‪ ،‬تصفق بأجنحتها‪،‬‬
‫حاملة حشراتها‪ ،‬واألعشاش‪ .‬أجلت بصري في اجلدار‪ ،‬عنكبوت‬
‫وضب ميرحان‪ ،‬أغمضت عيني ألرى نفسي بنقاطي‪ ،‬بشرتي‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-16-‬‬
‫وأحشائي املفتوحة لسقف السماء‪ ،‬وجهي لم يزل مبتسما‪،‬‬
‫ومملكتي تزفني لعمق توازنها‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-11-‬‬
‫بني راما واملقهى املنكفئ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫سبعةٌ كُنَّا مهووسني بالدُّخانِ وراما! نحقنُ الذاكرة بالترهات‬


‫واألورام العاطفية؛ فيما كُنَّا نحاولُ استعدالها وسط حالة مِن‬
‫االنكفاء العام‪ .‬نشبَ بيننا حديثٌ‪ ،‬ونحن نَعُضُّ على أثداءِ‬
‫النَّارجيالتِ األمهاتِ‪ ،‬ثُمَّ ننفثُ دخانَها كطفلٍ سَئِمَ اللنب‪.‬‬
‫قالَ قاسم ــ غفلَ الغبشُ عنِ املدينة؛ فتوغل االسمنت فِي‬
‫السَّماءِ‪.‬‬
‫ضحك موسى الذي كان يرى األسمنت أجمل مِن السماء وقال‪:‬‬
‫ــ كوستي أنشاها اإلجنليز‪ ،‬خواجة كوستا كان صاحب الفضل فِي‬
‫اكتشاف األراضي اجلديدة!‬
‫ــ ولكن من بعده سكنها عرب البادية‪ ،‬وزرعوا البحر‪.‬‬
‫قال أحمد‬
‫ـ أكرهُ املدن التي أحس فيها بنادق األتراك واإلجنليز‪.‬‬
‫ــ هذا يعني أَنَّك تُحِبُّ أمدرمان‪.‬‬
‫ــ وهل ينفعُ أهل أمبدة حبك؟‬
‫غرغر‪ ..‬أوف‪ ..‬أوف! نفثتُ دخان الشيشة‪ ،‬هذا الذي يسكنُ‬
‫غُرَفَ قلبي األربعة‪ .‬خرجَ ليرسمَ راما طفلة! تَشَكَّلَتْ راما وَهِيَ‬
‫طفلة تهرولُ فِي أَزِقَّةِ القاهرة خلف بائع الفجلِ‪ ،‬والترمس‪ .‬عادتْ‬
‫مِن احلضانة لبيتِهم فِي الست زينب‪ ،‬فوجدتْ أباها يضربُ أُمَّها‬
‫ويشدُّها مِن شَعْرِها للخارج‪ ،‬بعدها لَمْ تعرف شيئاً سوى فرحتها‬
‫بركوب الطائرة‪ .‬هبطتْ على مقربة مِن خط االستواء‪ .‬احتوتها‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-17-‬‬
‫أمدرمان‪ ،‬حملتها فِي (أبوروف‪ ،‬وبيت املال)‪ .‬يرى األمدرمانيون‬
‫راما قادمة مِن النيل مغسولةَ اجلدائلِ‪ .‬تفرشُ جدائلها مِن النيل‬
‫حَتَّى سوق الشجرة‪ .‬يلهو األطفالُ فوق ضفائرها‪ ،‬يأكلون حالوة‬
‫قطن‪ ،‬يلعبون ِعرِس عِرِس‪ ،‬ويندسون بَيْنَ خصالتِها باحثني عَنِ‬
‫التَّمْرِ ‪،‬القمرِ ‪،‬والبحرِ‪ .‬تخلقُ أسواراً مِن الطمأنينةِ حَوْل األطفال؛‬
‫فينامون على وعدٍ مِن أحالمِها الرائعة‪ ،‬معها يعيشون أسطورة‬
‫الطفولة‪ ،‬وفاطمة السمحة‪ .‬ال يعرفون أنَّ راما كائن احلزن‬
‫حتتضنُ الرِّجال فِي الشَّوارع بحثاً عن أبيها‪ ،‬وحيناً مِن اإلعياءِ‬
‫حتملُ جدائلها‪ ،‬تبتسمُ لألطفالِ‪ ،‬ثُمَّ تلوذُ إِلى النيلِ باكيةً‪.‬‬
‫قال قاسم‬
‫ــ ضَعْ جمرة على الشيشة‪.‬‬
‫وسط دهشة احلضور حملتُ اجلمرة بيدي‪ ،‬ووضعتُها ملزيدٍ مِن‬
‫الدُّخانِ؛ مَزيداً مِن راما‪.‬‬
‫للمقهى رائحةٌ نَفَّاذة‪ ،‬خليطٌ مِن التباكو والزجنبيل‪ ،‬ولنا حّقُّ‬
‫إهدار النهار بني رِكَامِه‪ ،‬التراشقُ بالثقافةِ‪ ،‬عليه نُحاولُ رَسْمَ‬
‫مالمح اجلانب اآلخر للعالمِ‪ .‬طالءُ املناضد نكتبُ عليه أسماء مَنْ‬
‫نُجَازِفُ مِن احملبوبات‪ ،‬رقية‪ ،‬آمنة بائعة الشاي‪ .‬إعياءٌ ما أصابنا؛‬
‫فجلسنا على أثاثه املنكفئ لنكتبَ في حلظة واحدة (راما)‪ .‬كنا‬
‫جميعاً نُحِبُّها! هِي مَنْ وَظَفَّتْ أجهزة العشق املعطوبة‪ .‬ألقتْ بِها‬
‫إلينا ليلة شاتية كيما ال نعرفُ محبوبة سواها‪ .‬ال نعرفُ مِن أين‬
‫تأتى‪ ،‬وال فِي أي املُدُن تغيبُ‪ ،‬حتّامَ نلقاها تكون فِي دواخلنا ثاوية‪.‬‬
‫كنتُ أفهمُ احتياجها لألب؛ فوهبتُها هذا اإلحساس‪ .‬وحدي كنتُ‬
‫أحسبها حتبني‪ .‬وحدها كانتْ تعلم أَنَّها حتبُّ اجلميع! ابتلعَ موسى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-12-‬‬
‫نَفَسَاً طويالً مِن النارجيلة‪ ،‬رَشَفَ مِخَاطَاً دَنَا مِن شاربهِ؛ فَتَنَحينا‬
‫لصوتِهِ الذي يُداهمنا كاملقذوفات‪.‬‬
‫قال ــ لي الله مِن ساقَي راما! سأدعوها يوماً لهذا املقهى املنكفئ‪،‬‬
‫حَتَّى إِذا جلستْ منكفئةً؛ اعتدلتُ ألَرى قَوس حبها‪.‬‬
‫موسى محسوبٌ علينا؛ رغم أَنَّه ال يشبهنا‪ ،‬يحيا بعاقلة التُّركيّة‬
‫السابقة‪ ،‬يستلذُّ بإدخال الكلمات اإلجنليزية في حواره‪ ،‬كان ورماً‬
‫فِي املقهى لم نستطع استئصاله‪ ،‬يتحركُ مِن منضدة إلى أخرى‪،‬‬
‫يُعلنُ على رؤوس النارجيالت أنّه مثقفٌ ومفكرٌ بالغ الوعورة‪ .‬كُلُّ‬
‫األمكنة عنده خانة؛ مدرسخانة‪ ،‬إجزخانة‪ ،‬وسلخانة‪ ،‬فأطلقنا‬
‫عليه األديبخانة‪ ،‬ذبابةٌ خضراء عنيدة لم تكن مثله فِي التصاقِهِ بِنا‪،‬‬
‫وما أغظانا شئ كفهمه املَغْلُوط لراما‪ ،‬يُقسِّمُها كالقَصَّاب‪ ،‬أفخاذ‪،‬‬
‫ساقني‪ ،‬وصدر‪ ،‬ويُجزّئ جمالها الذي كُنَّا ال نبصرُه مُجَزَّأً‪ ،‬سكتنا‬
‫على حديثه الننت‪ ،‬حَتَّى قَاَل قاسم‬
‫ــ كارثة أنْ يكونَ املثقف أديبخانة‪ ،‬ممتلئ بقذارة ما أفرزته‬
‫اإلنسانية؛ أزمة فكر حقيقي!‬
‫قال عارف‬
‫ــ ياه‪ ..‬ما أصدق الفيتوري!‬
‫(أدنى ما فينا قد يعلونا‬
‫يا ياقوت فكُن األدنى تَكُنْ األعلى فينا)‬
‫لم يعبأ األدبيخانة بكالمنا؛ وقال‬
‫ــ سأصدر قصيدخانة أُعَبِّئُ فيها غرائزي احلسية‪ ،‬واستنفرُ‬
‫مقدراتي األورقازمية‬
‫غرغر‪ ...‬أوف ‪ ..‬أوف‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-71-‬‬
‫نفثتُ دخان الشيشة واكتفيتُ بجزء منه لألورطة‪ ،‬خرج مِن‬
‫صدرِي مُشَكِّلَاً راما‪ ،‬اآلن تبلغ سن الفتيات رأيتُها ترحلُ مِن‬
‫أمدرمان إِلى كوستي مع زوج أمها‪ .‬فِي احللة اجلديدة بدأتْ حلمة‬
‫صدرها تتحجرُ‪ ،‬ثُمَّ تَكَوَّر النهدُ مُعْلِنَاً سُموق حسناء‪ .‬يجمعُ ساكنو‬
‫احللة اجلديدة على أَنَّ والدها مصريّ‪ ،‬وأمها مينيّة‪ ،‬وتارة يقولون‬
‫بأنها أرترية مِن العفر‪ .‬حني كانتْ تخرجُ إِلى املدرسة تعوي أبواق‬
‫القذرين مِن أصحاب السيارات‪ ،‬يحاولون اصطيادها رغبةً فِي‬
‫طمس معاملها الناتئة؛ لتكونَ مستويةً‪ ،‬أو رخوةً؛ توطئة لزرعها في‬
‫بيوت الليل شجرةً تثمرُ كُلّ يومٍ جنيهات‪ ،‬لم تكن القذارة كافية‬
‫لتلويثِ راما‪ ،‬وسحق البراءة السماويّة فيها؛ يئسوا منها ملا وجدوها‬
‫على قلوبنا مستوية‪ .‬في الصباح حني يغسل املطر شوارع كوستي‬
‫تخرج راما ناشرةً شذاها على بائعات الفسيخ‪ ،‬مرتسمةً على‬
‫اجلدران العارية مِن الطالء‪ .‬يلقاها األطفالُ بالطني فتبني معهم‬
‫املدن التي ال تبكي‪ ،‬عرائس وزوجات ال ينتظرن األزواج املرهقني‪.‬‬
‫لم تزل راما مبتسمة حني سمعتُ صياح موسى‬
‫ــ هات جمرة؛ النار خمدت‪.‬‬
‫صوتُهُ املقذوف هَزَّ مقعدي املنكفئ (يا راما أيُّ إعصار ألقى بك‬
‫خارج مقياس الرسم‪ ،‬عبأك بالفجيعة‪ ،‬ثم دسني بني خصالتك آآه)‬
‫قلت ‪ .‬فلم يقل أحد بعدي‪.‬‬
‫ذات يوم قالت بأنها مستهدفة‪ .‬وبأنَّ ثَمَّة قوة غيبية جتعلها‬
‫دائماً مُسَيَّرَة‪ .‬ودَدْتُ لو احتضنها فتستكني إلى صدري‪ ،‬وتبلل‬
‫قميصي بدموعها‪ .‬قلتُ ذلك في املنضدة‪ ،‬فقالوا بصوتٍ واحد‬
‫(مزيداً مِن النار‪ ..‬مزيداً مِن الدخان ) نظرتُ إِلى املناضد فوجدتُ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-70-‬‬
‫رواد املقهى قد خرجوا‪ ،‬إِالّ مِن رجلٍ ضاعتْ عليه نَوْمَة فِي البيت؛‬
‫فنام وشخيره أعلى مِن أزيزِ النارجيالت‪.‬‬
‫قال عاطف‬
‫ــ لنا الله نحن جيل ثقافة الهامش‪.‬‬
‫فأتَمَّ عَلِيٌ‬
‫ــ جيل احملرقة‪( ..‬كح كح كح) وهل نعيش هكذا طويالً؟‬
‫‪ -‬األعمار بيد الله‪ ،‬ليس ثمة مناص‪.‬‬
‫‪ -‬أعني إمكانية احلياة احلقيقة‪.‬‬
‫‪ -‬كيف؛ وأنت ثاوٍ فِي مقهى مقلوب؟‬
‫‪ -‬صحيح اآلن نحن بني راما واملقهى واملنكفئ‪ ..‬أووف‪..‬‬
‫قال األديبخانة‬
‫‪ -‬أنتم حترثون السَّماء‪ ،‬الواقع يحتاج إلى بعضِ احلركيّة‪ .‬أنا‬
‫أحبُّ االنكفاء وكل قصائدي منكفئة على ذاتي‪.‬‬
‫(إنْ لم تكن ذئباً أكلتك اخلراف؛ أنظر ميكافيليّة األشياء‬
‫واللحظة ) حينما بلغ بها السأم حد االنعزال‪ ،‬ويئستْ مِنَّا قالتْ‬
‫ذلك‪ .‬استفزَّنِي األديبخانة‪ ،‬مُنَظِّر االنتهازية‪ .‬قررْتُ الدخول في‬
‫املعركة؛ حتديد هوية املكان واللحظة‪ .‬هذا األديبخانة يجلسُ معنا‬
‫بإيعاز من كل إحباط التاريخ وانزالقاته‪ ،‬لهذا نراه حلزونياً يَتَشَكَّلُ‬
‫حسب املقاعد‪.‬‬
‫قلتُ ــ ال لن نستكني لهذا الشكل علينا تغييره‪.‬‬
‫هتف اخلمسةُ‪ ،‬عَدَا موسى‬
‫ــ كيف؟‬
‫‪ -‬نبدأ من هنا!‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-79-‬‬
‫‪ -‬من أين؟‬
‫‪ -‬مِن هذا املقهى‪ ،‬علينا وضعه فِي صورتِهِ الصحيحة‪ ،‬استعدال‬
‫األثاث املنكفئ؛ لنجلسَ كما البشر‪ .‬العرقُ يصبُّ علينا مِن الفضاء‪،‬‬
‫الصمتُ يستكنيُ فِي حواشي النارجيالت‪ ،‬غرغرة نارجيلة‬
‫األديبخانة تَحَوَّلَتْ إِلى عويل‪ .‬اتفقنا على ترتيب املقهى؛ لنخرجَ منه‬
‫إِلى راما رافعي الرؤوس غير منكفئني‪ ،‬ولسوف تلقانا باجلدائلِ‬
‫السُّود‪ ،‬نتمددُ عليها وننامُ كما األطفال؛ فتضحكُ الفتاة‪ ،‬وتضحكُ‬
‫األشجار اليابسة‪ ،‬تضحكُ الشوارعُ اخملبأةُ بَيْنَ اجلُدُرِ الهزيلة‪،‬‬
‫ونضحكُ نحنُ حَتَّى تغادر الكُتبُ الصفراء رفوف املكتبات‪.‬‬
‫قمتُ على شَكْلِ االعتدال‪ ،‬وقفتُ على رجلني ــ فقط ــ ! قاموا‬
‫جميعاً معتدلني عدا األديبخانة نهضَ مُنْكَفِئاً تاركاً مقعده منكفئاً‪.‬‬
‫حني خرج كنا قد جعلنا املقهى معتدالً‪ ،‬وقفنا رافعي الرؤوس‬
‫نضحك‪ ..‬ونضحك‪ ،‬بعدها حتركنا إلى الباب املنكفئ‪ ،‬وقبل أنْ‬
‫نصلحه دخل األديبخانة ومعه رجال غريبو السحنة‪ ،‬يحملون‬
‫هراوات مِن عظام الديناصورات‪ ،‬على وجوهم أقنعة مِن جلود‬
‫األفاعي‪ .‬كانوا كُثُر وجاهزين خلوض أية معركة‪ .‬ضحك موسى‬
‫حتى اختلطت شفتاه بعينيه‪ .‬فاجأنا الرجالُ بِالهراوات‪ ،‬هجموا‬
‫علينا‪ ،‬ضَرَبُونَا‪ ،‬وقَيَّدُونَا‪ ،‬سألتُ أحدهم‬
‫‪ -‬ما التهمة املوجهة إلينا؟‬
‫ضَحِكَ ال كما الضحك الذي نُؤَدِّيه‪ ،‬ضَحْكَة مِن عهد قدمي‪ ،‬عليها‬
‫غبار األزمنة السابقة‪ ،‬وأتربة الصحارى‪ ،‬وقال‬
‫‪ -‬أنتم متهمون بحب راما وتغيير االنكفاء مع سبق اإلصرار‬
‫والترصد‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-73-‬‬
‫عصبوا أَعْيُنَنَا‪ ،‬واقتادونا‪ ،‬صحنا فيهم‬
‫ـ إلى أين؟‬
‫ردَّ الرجل ذو الصوت الغباريّ‬
‫‪ -‬إلى السلخانة‪.‬‬
‫فعلها األديبخانة (الوغد) وزَجَّ بِنَا إِلى السلخانة فِي محاولةٍ‬
‫للظفرِ براما‪.‬‬
‫(هل نستعيدك رغم تداخل التاريخ؟ نسافر عبر ضفائرك‪ ،‬ونعرجُ‬
‫إِلى حيثُ نلقى األمان؟ اآلن نحتاجُك يا راما‪ ..‬اللحظة يا راما‬
‫نحتاجُك )‬
‫كنتُ أُحَدِّثُ نفسي‪ ،‬وحني فتحتُ عيني رأيتُ السلخانة مستوية‬
‫فِي مكان ما‪ ،‬أسفل السماء وأعلى األرض‪ ،‬لكنه يأخذ مناخ‬
‫الصحراء‪ ،‬غرفة مستطيلة وعريضة مسقوفة باألسمنت‪ ،‬مِن‬
‫سقفها تتدلى املشانق ذوات الغلظة‪ ،‬وعلى اجلدار تذكارات لبعض‬
‫الذين زاروا السلخانة‪ ،‬عمرو بن عبيد‪ ،‬عباس بن فرناس‪ .‬اجلاحظ‬
‫رسم صورته على اجلدار ونَحَتَ عينيه بِشَكْلٍ مخيفٍ! تلفتُ فرأيتُ‬
‫خزانة كبيرة كُتِبَ عليها خَزَانة رؤوس العُصَاة‪ .‬أوّل رأس كان‬
‫لواصل بن عطاء‪ ،‬كيف حتصلوا عليه؟ رأس احلالج أيضاً! لم‬
‫أُصَدِّق نفسي حني رأيت رأس (‪ )........‬أعرفه جَيِّداً‪ .‬ثَمَّة رؤوس‬
‫لرجالٍ ال أعرف أسماءَهم تَمَّ سلخهم قبل آالف السنني في سلخانة‬
‫قدمية‪ ،‬سدنتها مِن كُلِّ األجيال‪ .‬حتركنا نحو اخلزانة وحجزنا رف‬
‫لرؤوسنا‪ ،‬طلبنا مِن السدنة أنْ يضعوا النارجيلة أمام رأس كُلٍّ مِنَّا‪،‬‬
‫تهيأنا للمصير احملتوم‪ ،‬فقط كنتُ أحب معرفة الطريقة التي تعمل‬
‫بها السلخانة؛ فسألتُ سادناً يبدو أنَّه مُسَخَّرٌ لسذاجته‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-74-‬‬
‫‪ -‬كيف يتم الذبح والسلخ عندكم ؟‬
‫أجابني‬
‫‪ -‬حسب جيل املذبوحني‪ ،‬فمثال هناك أجيال بدائية استعملنا‬
‫معها السكاكني واألشواك‪.‬‬
‫‪ -‬جيلنا في زمن اإللكترونيات‪.‬‬
‫‪ -‬أعتقد أنّه سيتم ذبحكم وسلخكم عن طريق الصّعق االلكتروني‪.‬‬
‫اطمأنّ قلبي عن طريق الصّعق لن يطول األلم‪ .‬غداً سينفذون‬
‫ذبحنا‪ ،‬والوقت في السلخانة يُحدد بعدد املذبوحني‪ .‬ترجلنا عن‬
‫ذاكرة احلياة‪ ،‬إِالّهَا صمدتْ على جدار الذاكرة‪ ،‬بها نقاوم رائحة‬
‫املوت‪ ،‬نتأكدُ مِن أَنَّنَا أحياء‪ ،‬ولكن حتاصرنا دماء تاريخية وسلخانة‬
‫مُتَجَذِّرَة (يا كم تبعدين يا راما ونحنُ محاصرون بانتظار الرحيل‬
‫األبدي! تُرَى هل يظفر بك األديبخانة؛ فيصاب األطفال بالشيب‪،‬‬
‫الرجال بالعنة‪ ،‬وتصاب الكالب بالعته؟ أم تبحثني عَن أبيك فِي‬
‫هياكل الرجال على األرصفة؟ أيُّ حزنٍ ينتظرنا جميعاً؟ ) مِن‬
‫استيائي ضربتُ اجلدار برأسي‪ .‬تلفتُ ألرى سدنة السلخانة وقد‬
‫ناموا‪ .‬اهتزَّ السقف فالتفتنا جميعا نحوه‪ ،‬ثَمَّة قوة ترفعُ السقفَ‪،‬‬
‫وتهدُّ جدار السلخانة‪ .‬شعرنا ببريق احلياة؛ فهناك من يحاول‬
‫إنقاذنا! تهدَّم السقفُ وبعد برهة خرجنا؛ لنرى راما‪ ..‬راما‬
‫اخمللصة! رأسها في السماء وجدائلها في األرض‪ ،‬عيناها‬
‫سحابتان‪ ،‬صدرها عالٍ متر السحابات بني نهديها‪ .‬بينما كان‬
‫السدنة يتساقطون أمسكنا بجدائلها وانزلقنا‪ ،‬انزلقنا حتى وصلنا‬
‫األرض‪ .‬أخذت ضفائر راما في االنسحاب عَنَّا رويداً رويداً‪ ،‬تاركة‬
‫شعيرات في الشوارع لألديبخانة يلهثُ خلفها‪ .‬كوستي وجدناها‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-75-‬‬
‫مغسولة باملطر ودموع أهالينا‪ .‬األطفال يلعبون بالطني‪ ،‬بائع‬
‫الترمس ينفخ صافرته؛ يغازل جيوب اآلباء املفلسني‪ .‬بعد شهور‬
‫صدّقنا حكاية النجاة‪ ،‬جناتنا مِن السلخانة‪ .‬حملنا معنا رؤوس‬
‫املذبوحني إلي املدينة ليصدّق أهلها أسطورتنا بني راما واملقهى‬
‫واملنكفئ‪ .‬صرنا ندير احلديث عن راما مِن منازلنا ـ إنْ وُجِدَتْ‪-‬‬
‫وبحثنا عن اخمللصة بني األزقة الواهنة والشوارع اخلربة فلم‬
‫جندها‪ .‬قمنا بتجنيد كل األطفال للبحث عنها بأوصافها املعروفة‬
‫لألشجار والبحار‪ .‬فشلنا في العثور على أثر ضفائرها‪ .‬كانتْ قد‬
‫غادرتنا إِلى املدن األخرى ذوات الرشح الدموي‪ .‬بعض العرب‬
‫الرحل قالوا أنهم رأوها في صحراء العتمور غائصة في الرمال‪،‬‬
‫واملسافرين إلي احلج قالوا برؤيتها في صحراء جند‪ .‬حينما كُنَّا‬
‫نبحثُ عنها كانتْ الصحارى حتتويها واألنهار تغسلُ جدائلها‪.‬‬
‫يسألُنا عنها األطفال نقولُ عنها‪ :‬عائدة! هكذا حدثتنا قبل رحيلها‪،‬‬
‫عائدة! فقط حني يحلم األطفال‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-76-‬‬
‫رسالة إىل نورا‬
‫ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أهذه صورتك؟! ال متنح البروفايل سوى مزيد من البؤس‪ .‬تغيّب‬


‫صورتك احلقيقية من الذاكرة‪ ،‬أين ذاك البريق في عينيك؟! كيف‬
‫يا ذات النونات امتألْتْ أشداقُك شَحْمَاً واختفتْ وجنتاك؟ يا كم‬
‫أرقْتُ زَهْوِي عند قدميك! أنا ال أُعاتبُك يا نورا‪ ،‬كيف وقد‬
‫انصرمتِ األعوامُ على حُبِّنا؟! خمسة عشر عاماً‪ ،‬خاطت فَمِي‬
‫ومسام جلدي‪ ،‬أوسعتني تبريحاً‪ ،‬وأغرقتني بكاءً‪ .‬سأحكي لكِ عَمَّا‬
‫أراه اآلن‪ ،‬فأنتِ عاجزة عَنْ شَحْنِ أوردتي بالشبق‪ ،‬عاجزة عن‬
‫إهدار كرامتي بنظرةٍ من عينيك‪ ،‬سأَمُدُّ ساقيّ مِنْ هنا إلى السَّمَاءِ‪،‬‬
‫وأمص قهوتي كما تعلمني عن اندياح مَصَّاتِي‪ ،‬قلتُ إنَّني لن أغرقَ‬
‫في مفازةِ مُرَاوغَاتِك؛ إذن سأفسر لكِ ما حدث‪.‬‬
‫كنت وفياً لصداقتي بتجاني الذي تُسَمِّينَه آنذاك حبيباً‪ ،‬التقينا‬
‫في هموم مشتركة‪ ،‬عَرَّفَنِي بك‪ ،‬امتدحني ببروده املقتضب‪ ،‬صرنا‬
‫نلتقي كالعادة وأنت تبسمني لي ابتسامة ملئها احلفز واإلغواء‪.‬‬
‫أعرف أنه زكي أيضاً‪ ،‬وهذه تأكدت منها حني غادر محرقتك‬
‫بلطفٍ‪ .‬حتكني لي كل يوم عن مشاكلك الهامشية معه‪ ،‬تستفتينني‬
‫في صغائر الشجارات‪ ،‬وأنا يا مصدق! أقدم لك االستشارات‪ .‬ثم‬
‫اكتشفتُ تدريجياً أَنَّ فِي عينيك لغة خفية‪ ،‬شيفرة تسوقني إليها‬
‫مكبالً‪ ،‬نظراتك نحو جتاني خاوية من قوي اجلذب السرية‪،‬‬
‫أحكمتِ نسج الفخ‪ ،‬وأمعنتِ في الغواية‪ ،‬كل يوم أسقط؛ وأسقط‪،‬‬
‫ونظرات عينيك تطبقان على قلبي‪ ،‬حتى جاء يوم البوح العظيم‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-71-‬‬
‫وأنت تلوحني لي مبؤخرتك على درج املكتبة‪ ،‬ترفرفُ طرحتُك كعلمٍ‬
‫للحريةِ‪ ،‬ثم تتكئني كملكة تنظر إلى شعبها اجلائع‪ ،‬في خوف وجوع‬
‫قلت لك‪:‬‬
‫– أحبك ‪ ..‬أحبك يا نورا ‪.‬‬
‫ألقمتيني خجالً وقلت‪:‬‬
‫– جتاني ‪ ..‬جتاني ‪ ..‬وووب يا مهيد!‬
‫لو كان احلب جبالً في تلك اللحظة لوزعته على املارة‪ ،‬ألعطيتُ‬
‫سُعَاة اجلامعة وخفراءها ما يسد شبق زوجاتهم املسنات‪ .‬وخزني‬
‫لفظُ جتاني‪ ،‬صديقي البارد التليد‪ ،‬وفرحتُ بأنك معي‪ ،‬أمسكتُ‬
‫بيديك‪ ،‬كانتا غير متعرقتني مثلما قرأتُ عن احلب‪ ،‬قلتُ أنَّك يوماً‬
‫ما ستتعرقني‪ ،‬وقد فعلتِ مشكورة‪ ،‬هبطنا سلم املكتبة‪ ،‬وجتاني في‬
‫األسفل عارف مبا يحدثُ‪ ،‬مُتَكَهِّنٌ مبا سيحدثُ‪.‬‬
‫أجلستُه في الكافتيريا نرتشفُ الشاي السادة‪ ،‬وانسحبتِ‪ -‬أنت‪-‬‬
‫في حياء‪ ،‬تاركةً شابني يصطرعان على صحنك الدافئ‪ ،‬شرحتُ‬
‫لتجاني ما حَدَثَ‪ ،‬حَدَّثْتُه عن مشاعري جتاهك‪ ،‬وأَنَّكُما غير‬
‫متناسبني‪ .‬أدهشني أنه ابتسم في وجهي‪ ،‬غلّفك في مزحةٍ‪،‬‬
‫ومنحك لِي‪ ،‬ألم أقل لك أنه ذكي؟! تركنا احلب يفعل بنا أفاعليه‪،‬‬
‫وأنزلنا جثاميننا للحياة لتسكب عليها ماء صاخباً‪ ،‬أنت جمرة‬
‫حصنها املاء‪ ،‬وأنا فرس مضماره الريح‪ ،‬أريتُك مِنِّى الشغف‬
‫واجلنون‪ ،‬وأريتيني هوسك الداخلي‪.‬‬
‫عرفتُ أَنَّنِي أُحِبُّكِ في خالء‪ ،‬من خالل وقائع انتحار صديق شول‪.‬‬
‫احملب األطول قامة‪ ،‬ذي البشرة الفاقعة‪ ،‬أشهب إال قليالً‪ ،‬علمنا‬
‫برسالته التي تركها بعد انتحاره‪ ،‬أوقع باملسئولية على أهل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-77-‬‬
‫محبوبته‪ ،‬ألنهم اعترضوا زواجه منها‪ ،‬تلك القصيرة متواضعة‬
‫اجلمال‪ ،‬قالوا إنَّ أصولَه العرقية ال تؤهله لذلك‪ ،‬أبوه جنوبي مسلم‬
‫يعمل محاضراً في جامعة غربية‪ ،‬وأمه من يوغسالفيا‪ .‬عَلَّقَ رقبته‬
‫على حبل‪ ،‬مخلفاً رسالة ال تشبه رسالتي هذه‪ .‬فور سماعك خبر‬
‫موته نظرتِ إلى وجهي كأَنَّك تُعيدِين اكتشافي وبعد يومني قلت لي‪:‬‬
‫‪ -‬ناس بيتنا يا مهيد سمعوا بخبر عالقتنا‪.‬‬
‫‪ -‬جميلّ كدا قَصَّرُوا علينا املشوار‪.‬‬
‫‪ -‬أنت ما عارف حاجة‪ ،‬ديل ما بيخلونا نتزوج خاآلص‪.‬‬
‫بدهشة سألتك‬
‫‪ -‬ليه؟!‬
‫ولم يفتح احلُبُّ عليك بكلمةٍ‪ ،‬األيام قالت كل شيء أعدتُ اكتشاف‬
‫ذاتي‪ ،‬ما كنتُ أحتاج إلى حفريات‪.‬‬
‫أنا مهيد حيدر‪ ،‬أجعد الشعر‪ ،‬داكن البشرة‪ ،‬عسلي العينني‪،‬‬
‫أرتدي تاريخاً حفّه الصراع‪ ،‬جدي ألبي جاء من اجلبال القصية‬
‫جندياً في قوة دفاع السودان‪ ،‬حارب الطليان في أسمرا‪ ،‬وليبيا‬
‫أجدادي ألمي جنود تاريخيني في مملكة الفوجن‪ ،‬استقر بهم‬
‫التجوال في أربجي‪ ،‬بذل جدي العسكري جهداً في تعليم أبي حتى‬
‫تخصص في طب األطفال‪ ،‬تخرجتُ أمي من القانون وهي اآلن من‬
‫أشهر املدافعات عن حقوق اإلنسان‪ ،‬شكلي غير مستقبح إن لم أكن‬
‫وسيماً‪ ،‬إذن كيف يرفضني أهلُكِ؟ وكيف جتيبينني أنت؟!‪ .‬الفرق‬
‫بيني وبينك غير مرئي حتى في الدرجة اللونية‪ ،‬وقياساً على‬
‫واقعك فاألجدر أن يرفضك أهلي فمن أنت؟‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-72-‬‬
‫نورا حسب الرسول‪ ،‬تسكن قرية نائية على النيل‪ ،‬أبوها مزارع‬
‫بسيط‪ ،‬وفي أوقات أخرى مُرَبِّي غنم‪ ،‬أُمُّها قعيدة املنزل‪ ،‬لم تنل‬
‫حظاً من التعليم‪ ،‬أشقاؤها سائقو لواري‪ ،‬لستِ بيضاء وال بضة‪ ،‬إن‬
‫لم تكوني بطة متاماً‪ ،‬ترتدين نعالً من الرتابة والضَّجَرِ‪ ،‬خرجتِ عن‬
‫جَرْسِكِ وما عدتِ حتى اآلن‪.‬‬
‫أعترفُ أَنَّ األلمَ سحقني‪ ،‬وأحالني بدره على وجهك‪ .‬أترين لو أن‬
‫الزوج املرتقب كان جتاني‪ ،‬أسيواجهه ذووك بذات الرفض؟ قبل‬
‫دخول اجلامعة ما كنت اعرف أني مختلف‪ ،‬وال كيف يراني اآلخر‪.‬‬
‫قبل أَنْ تنصبي لِي الفِخَاخ كُنْتُ وديعاً ال أفهم أن ثمة شيء مسكوت‬
‫عنه‪ ،‬شيء يخصني يتعاطاه اآلخرون خلف ظهري‪ ،‬عرفتُ كُلَّ ذلك‬
‫وأنا بني يديك‪ ،‬وصدمتني املعرفة لم تكتفِ بِأَنْ تكوني صنمي‬
‫لشهر أو شهرين‪ ،‬نصبتِ علىّ سُرادق العزاء أعواماً حسوماً‪،‬‬
‫سنوات خمس وأنا أتضور جوعاً‪ ،‬أفتش عن قبول محتمل‪ ،‬وأنت‬
‫تتالعبني بيّ كدمية من قصب صنعها أبوك ثم قذف بها إلى‬
‫املرعي‪.‬‬
‫نعم ‪ ..‬كنت أضربك أحياناً‪ ،‬وأبكي عند قدميك مرات كثيرة‪ ،‬في‬
‫حلظات متنيت الهروب بك إلى غابة أو صحراء بعيدة‪ .‬بكاؤك‬
‫وإستنطاق نهديك لهما نفس املتعة‪ ،‬قُبالتك وصفع وجهك لهما‬
‫ذات املذاق‪ ،‬حدث كل هذا ألنني أحببتك بصدق‪ ،‬وأنت جردتينى‬
‫من ذاتي التي تسكنني‪ .‬لست مندهشاً لعودتك إلى صفعاتي‬
‫وبكائي غِب كل شجار وأنت مملوءة بالشبق‪ ،‬باحثة عن لعبتك‬
‫املمتعة‪ ،‬إذا أخشنتُ عليك أنعمتِ عليّ‪ ،‬وإذا تلطفتُ بك ركبتِ‬
‫هامتي‪ ،‬سنوات خمس أرهقنا فيها البكاء‪ ،‬وأمتعنا البيوت النائية‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-21-‬‬
‫حرضني صديقي العارف بتاكتيك البنات‪ ،‬أن أفعل بك ما يجعلك‬
‫في زمرة النساء‪ ،‬وسوس لي أنه في حال فقدك للبكارة ستكونني‬
‫لي ال محالة‪ .‬طرحت عليك الفكرة‪ ،‬وال أعرف اآلن ملاذا وافقت‬
‫دون تردد‪ ،‬ولم أسألك ساعتها‪ ،‬خرجنا لنفعلها‪ ،‬وعدنا كما ذهبنا‪.‬‬
‫لم استطع إجلامك‪ ،‬كبح جماحي كان أهون‪ ،‬أعلم لو أنني فعلتها‬
‫فستكونني لي بالتدليس اإلجتماعي‪ ،‬ولكن لن تكون لي نفسي‪،‬‬
‫سأبحث عن مهيد حيدر فال أجده‪ ،‬وسأقذف بحبي إلى معركة ال‬
‫عالقة له بها وال قُبلة‪ .‬فكرت أن أحلق بالشجاع صديق شول‪ ،‬ولكن‬
‫أوتادي في احلياة كانت أعمق‪ ،‬كتبت لك رسالة لتقرئيها بعد موتي‬
‫أسميتها وثيقة املوت‪ ،‬ثم أحرقتها أمامك‪ ،‬لطمتك على خدك‪،‬‬
‫وجثوت أقُبل قدميك‪.‬‬
‫صرت خليطاً من الدموع والفشل‪ ،‬لم أعر الدارسة قلبي وعقلي‪،‬‬
‫فأعدتُ العام‪ ،‬والعام الذي يليه‪ ،‬لم تدخلي معي في حالة‬
‫اإلختالل‪ ،‬حافظتِ على نقاء وجهك ونتيجتك‪ ،‬فتركتي اجلامعة‬
‫قبلي‪ ،‬وتركتيني أرشف دناني احملطمة‪ ،‬تعرفني بقية القصة‪،‬‬
‫زواجك الفجائي‪ ،‬نزوالً عند رغبة األسرة – كما أعلنت‪ -‬وجنوني‬
‫العارم حتت ضربات العذاب‪ .‬لن أحكي لكِ كيف مضت بي احلياة‪،‬‬
‫فهذا سرد ال يعنيك‪ ،‬فقط أنظري لي من هنا‪ ،‬من ذاتي‪ ،‬لتبصري‬
‫هل كان قلبي مخادعاً؟ وهل كنت أستحق زراية احلياة؟ وأين؟ في‬
‫احلب! اآلن وقد علمت أن احلياة بدونك ممكنة‪ ،‬األرض أكثر‬
‫اتساعاً‪ ،‬والسماء ال تسقط على رأسي‪ ،‬اآلن أكتب لك هذه الرسالة‬
‫بعد أن رأيت صدفة صورتك الشاحبة‪ ،‬فإذا ضغطت على أرسل‪،‬‬
‫وجاءتك رسالتي إذهبي فأنا الطليق‪ ....‬آه! عفواً نسيت أن أكتب‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-20-‬‬
‫لكل أسمي للمرة األخيرة‪ ،‬فلرمبا اعتراك الزهامير‪ ،‬فصورتك ال‬
‫توحي بشيء أعرفه‪.‬‬

‫احملب سابقاً احلر دوماً‪.‬‬


‫مهيد حيدر‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-29-‬‬
‫سارة اجلــــــــــــــــــــــــاك‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫جرح‬

‫سخرية‬

‫النحات‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-23-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-24-‬‬
‫جرح‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أمٌ مكلومة حتمل قلبها النازف بني كفيها‪ ،‬تبحث عن أبنائها‪،‬‬


‫خطاها مثقلة‪ ،‬مالمحها باهتة‪ ،‬وقفت أمام شيخ كبير‪ ،‬بادرته‬
‫بالتحية ردها‪ ،‬أعادته نبرة صوتها لزمان سحيق‪ ،‬فرفع رأسه‬
‫بعد أن كان مطرقاً‪ ،‬تفرس في قسماتها‪ ،‬جبهة أبية‪ ،‬عينان‬
‫نافذتان‪ ،‬أنف أشم‪ ،‬وشفاة ممتلئة باحلياة واحلياء‪ ،‬انتبه ثم‪،‬‬
‫باغتها بسؤاله‪:‬‬
‫‪ -‬أنت أم رماة احلدق؟‬
‫قالت‪:‬‬
‫‪ -‬نعم‬
‫‪ -‬أين بنيك‬
‫‪ -‬بني نحروا قلبي كما ترى ثم تفرقوا في األنحاء‪.‬‬
‫‪ -‬ملاذا حدث ذلك‬
‫‪ -‬ألنهم ضيعوا احلكمة في صيغة اجلمع نفعل‪ ،‬وعبدوا‬
‫ضاللة الفرد بصيغة افعل‪ ،‬فصار كل منهم أشجع من‬
‫أخيه وأفهم منه‪ ،‬بحق كان أو بباطل‬
‫‪ -‬ماذا تفعلني األن؟‬
‫‪ -‬أبحث عنهم ألجمعهم على قلبي الذي يحمل صيغة‬
‫جمعهم‪ ،‬فأحقن دماءهم‪ ،‬ويواصلوا مسيرة اجدادهم في‬
‫احلب واحلياة بالتعمير‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-25-‬‬
‫ابتسم الرجل بخبث ومضى‪ ،‬يخبر السلطان بأن امراة خرفة‬
‫تريد جمع أبنائها‪ ،‬بعد أن بذلنا اجلهد لتفريقهم‪ ،‬في طريقه‬
‫قابل أخرى‪ .‬نظرت إليه بصقت بإزدراء في وجهه وقالت‪:‬‬
‫‪ -‬سب عليك الشوم‪ ،‬البوم‬
‫مسح بصاقها بيده غسلها من ماء السبيل‪ ،‬ضحك عليه النبي‬
‫اخلدر وقال له ‪:‬‬
‫‪ -‬ياحافر حفرة السوء وسع مراقدك فيها‪.‬‬
‫لسعته كلمات اخلدر ومضى مهروالً‪ ،‬وصل إلى السلطان‬
‫دخل عليه دون استئذان‪ ،‬أخبرة بخير أم رماة احلدق التي أتت‬
‫لتجمع ابناءها الذين فرقوهم‪ ،‬ابتسم الشيطان‪.‬‬
‫أقيمت حفلة كبيرة في وسط املدينة‪ ،‬اجتمع كل الناس‪،‬‬
‫وبالطبع أتت األم التي تبحث عن أبنائها حتمل قلبها النازف بني‬
‫كفيها‪ ،‬لم جتدهم لكن وجدت مسوخهم‪ ،‬يلبسون الصديريات‬
‫ويحملون السيوف‪ ،‬تراقصهم فتياتهم املتلفحات بالفراد‬
‫والقرمصيص‪ ،‬يتبادلون حركة اإلبل مع إخوانهم من الغرب‬
‫برقصة تعتمد في إيقاعها علي سير البقر‪ ،‬ال يختلفون عنهم في‬
‫األزياء كثيراُ وال املالمح تتراوح بينهم راقصات بجرجارهن‬
‫األسود الزاهي وراقصني باجللباب األبيض‪ ،‬تداخلت عليها‬
‫مالمحهم مالبسهم سيوفهم ورقصاتهم‪ ،‬لم يخفق قلب أحدهم‬
‫ملا مرت من أمامهم‪ ،‬فصاحت أوقفوا الطبول والرقص‪ ،‬سكن كل‬
‫متحرك في ذاك املكان الفسيح‪ ،‬أراد أن يهجم عليها القواد‬
‫الذي وجدها في مدخل املدينة‪ ،‬نهره شيطانه أن قف‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-26-‬‬
‫قلبها ينزف وخطواتها ثقيلة وقفت أمام البجاوي صاحب‬
‫الدرقة والسيف نظرت في عينيه مليا وقالت‪ -:‬ألم أرضعك‬
‫ضوء شمس التاكا مع احلليب؟‬
‫ثم التفتت إلى صاحبات اجلرجار األسود‪ :‬ألم أحفظكن‬
‫تاريخ أماني شيختو واننت حتبون في معابدها‪ ،‬وانت ياحمي‬
‫ظهري من وحوش الصحراء اضارية إلم أعيذك بتعاويذ اجلبال‬
‫التسع وتسعون‪.‬‬
‫أين بقية إخوتكم وملاذا ترقصون ؟ هل حلصاد ؟ أم لتنصيب‬
‫ملك عادل‪ ،‬ضحكت التي بصقت في وجه القواد‬
‫وقالت له‪:‬‬
‫‪ -‬الليلة جاتكم‬
‫مر نبي الله اخلدر علي اجلمع وقال لهم اجمعوا إخوتكم‪،‬‬
‫عاجلوا جرح أمكم واطردوا الشيطان‪ .‬أقصد السلطان من‬
‫بينكم‪ ،‬أعيدوا صيغة اجلمع أو احيوها‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-21-‬‬
‫سخرية‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫لسان و شفتان يرددون حلن اجلحيم بصوت فحيحي‪.‬‬


‫أذنان ترقصان رقصة األلم‪ ،‬على اللحن الفحيحي‪ ،‬الذي‬
‫يتردد على اللسان والشفتان‪.‬‬
‫أنف يسنشق عطن جثث املوتى ورائحة الدم‪.‬‬
‫عينان جاحظتان ترسالن دمعاً أحمر‪ ،‬أسفاً وندماً متسحه‬
‫يدان‪.‬‬
‫يحيطهم وجه جنمي‪.‬‬
‫اليدان مغموستان في بحر دماء‪.‬‬
‫كلهم داخل النقطة التي تتقاطع فيها أقطار مثلث برمودة‪.‬‬
‫جميعهم يتالومون ويسبون التابوت‪ ،‬التابوت على الشاطئ‬
‫ضحك ضحكته األخيرة‪ ،‬قبل أن تتفكك أجزاؤه‪،‬راسمة جنمة‬
‫خماسية بريئة من جنمتهم‪ ،‬سخرت منهم النجمة قبل صعودها‬
‫إلى السماء‪ ،‬وأختارت مكاناً ميكنها من مراقبتهم‪ ،‬أصبحت كل‬
‫مساء تأتي وتضحك على ما آلوا إليه ناقمة عليهم‪...‬‬
‫سألتها صديقاتها النجمات خماسيات الروؤس‪ ،‬الالئي‬
‫رحنب بها وأحطنها برعايتهن‪ ،‬عن تاريخ مولدها ومكانه‪ ،‬وعن‬
‫إختيارها لهذا البرج بالذات‪ ،‬دوناً عن بقية بروج السماء لتسكن‬
‫فيه‪ ،‬حكت لهم حكايتها وعن مكان وتاريخ ميالدها قالت‪:‬‬
‫‪ -‬كنت الشجرة التي قُطعت ألجل أخذ أخشابي لصناعة‬
‫تابوت‪ ،‬حزنت ملآلي بني يديه‪ ،‬فأنا أعرف كل أسراره‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-27-‬‬
‫وأحالمه وأشواقه الشريرة‪ ،‬التي ينوي القيام بها‪ ،‬أنا‬
‫التي ظللت والده وصديقي‪ ،‬الذي زرعني ورعاني ورباني‬
‫مذ كان يافعاً‪ ،‬وكنت ما أزال نبتة ‪...‬‬
‫أهداه إياي معلمه النجار العجوز‪ ،‬قال له حينها‪:‬‬
‫‪ -‬األشجار كرمية متنحنا أخشابها لننتفع بها‪ ،‬لكنها متسك‬
‫روحها‪ ،‬وال تهبك إياها‪ ،‬فكن رحيماً على األخشاب حتى‬
‫ال تؤذِ روح األشجار‪...‬‬
‫وجوه جنمية سداسية‪ ،‬ذات مالمح باهتة؛ تؤدي حركات‬
‫غريبة؛ يتتابع ظهورها برتابة؛ علي إيقاع فحيحي كئيب‪...‬‬
‫مات النجار العجوز؛ عكف هو على شجرته؛ يرعاها بالسقيا‬
‫والنظافة والتشذيب؛ ويرعى مهنته بالتطوير والتعلم واملمارسة‪،‬‬
‫حتي اشتد عوده وعودها‪ ،‬علّم حتت ظلها كثير من النجاريني‬
‫حديثي اخلبرة‪ ،‬كان ابنه من أمهر تالمذته‪ ،‬لكنه قليل الكالم؛‬
‫ثاقب النظرات‪ ،‬قائم األنف‪ ،‬يحب الوحدة؛ وقلما يخالط‬
‫زمالئه‪...‬‬
‫في يوم من األيام؛ وعندما كان األب يعلمهم؛ بعض‬
‫اخلطوات للتعامل مع األخشاب‪ ،‬حكى لهم عن العناية بها قبل‬
‫العمل عليها‪ ،‬ابتسمت الشجرة من وفاء صديقها‪ ،‬وتذكرت‬
‫العجوز الذي أهداها للنجار األب‪ ،‬تواصلت عملية التعلم‪ ،‬إال أن‬
‫الولد كان يتعامل بصلف مع األخشاب‪ ،‬و يعتبرها من اجلمادات‬
‫الصلدة‪ ،‬ويتحكم في تشكيلها كما يحب‪ ،‬لكن رغم كل الذي‬
‫تعلمه من والده؛ إال أن بعض التشكيالت استعصت عليه‪ ،‬فسال‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-22-‬‬
‫والده وهو مكفهر الوجه‪ ،‬عن معاندة األخشاب له‪ ،‬وعدم‬
‫انصياعها ألدواته ليشكلها كما يتمنى‪...‬‬
‫كانت الشمس قد جلست على عرشها في كبد السماء‪،‬‬
‫واشتد احلر على النجار وتالمذته‪ ،‬فوهبهم فسحة من الوقت‪،‬‬
‫ليتسامروا مع بعضهم‪ ،‬ويشربوا كوباً من الشاي‪ ،‬وليعودوا الى‬
‫العمل مرة أخرى عند العصر‪ ،‬طلب النجار من ابنه أن يعد لهم‬
‫الشاي‪ ،‬لكن االبن تظاهر بعدم سماعه لوالده‪ ،‬الذي قام بطلب‬
‫إعداد الشاي من تلميذٍ آخر؛ هب مسرعاً لتلبية طلب معلمه‪،‬‬
‫انتبذ اإلبن مكاناً قصياً حتت ظل الشجرة‪ ،‬بعيداً عن أبيه‬
‫وتالمذته‪ ،‬إال أن األب حمل كوبه وكوب ابنه وقصده في مكانه‬
‫القصي‪...‬‬
‫ابتسم قبل أن يلقي عليه السالم‪.‬‬
‫رد الولد بتأفف‪.‬‬
‫ابتسم األب وقال له سألتني قبل قليل عن معاندة األخشاب‬
‫لك‪ ،‬وعدم انصياعها ألدواتك‬
‫أجاب الولد بتذمر نعم‬
‫األب سأسالك وعليك أن جتيبني قبل أن أخبرك مبا تريد‬
‫زاد الولد من تذمره وهو ينظر الى أبيه بنفاد صبر‬
‫‪ -‬هل ابتسمت حني وصلت إلى مكان عملك‬
‫قال‪ :‬الولد ال‬
‫‪ -‬هل مسحت على القطعة اخلشبية‪ ،‬قبل أن تضعها على‬
‫منضدة العمل ‪.‬‬
‫قال‪ :‬ال‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-011-‬‬
‫‪ -‬هل استأذنتها قبل أن تعمل أدواتك عليها‬
‫قال‪ :‬ال‬
‫‪ -‬إذن لن تستجيب لك وستستعصي عليك‬
‫وأخبره بحكمة معلمه العجوز‪:‬‬
‫‪ -‬األشجار كرمية متنحنا أخشابها لننتفع بها‪ ،‬لكنها متسك‬
‫روحها‪ ،‬وال تهبك إياها‪ ،‬فكن رحيماً على األخشاب حتى‬
‫ال تؤذي روح األشجار‪...‬‬
‫فهم الولد سر جناح والده‪ ،‬لكنه استثقل نصيحته‪ ،‬ولكن ال‬
‫مفر له من العمل بها‪ ،‬ومن يومها صار يبتسم عندما يصل الى‬
‫مكان عمله‪ ،‬يسلم على األخشاب‪ ،‬ميسح بحنو على القطعة‬
‫اخلشبية التي يريد تشكيلها‪ ،‬يستأذنها قبل إعمال أدواته عليها‪،‬‬
‫أطاعته األخشاب‪ ،‬صار ماهراً‪ ،‬يقصده الزبائن من الفيافي‬
‫البعيدة‪ ،‬صار له أتباع وعُمال يأمترون بأمره وينتهون بنواهيه‪،‬‬
‫زاده ذلك تيهاً وغروراً‪...‬‬
‫وجوه جنمية سداسية الروؤس‪ ،‬ذات مالمح باهتة؛ تؤدي‬
‫حركات غريبة‪ ،‬يتتابع ظهورها برتابة؛ على إيقاع فحيحي‬
‫كئيب‪...‬‬
‫في صباح يوم من األيام‪ ،‬سمعوا صوت صهيل خيول‪،‬‬
‫جلبة كبيرة وخطوات تئن األرض حتتها من قوتها‪ ،‬سحابة من‬
‫الضباب والتراب حالت دون تبينهم ملا خلفها‪ ،‬محتارين ينظرون‬
‫إلى اجملهول الذي يريدهم‪ ،‬حتى غطاهم ترابها كحوا جميعاً‬
‫وعطسوا‪ ،‬قبل أن يبصروا حاشية ملكية تقف أمامهم بكل‬
‫هيبتها وجاللها‪ ،‬فتح باب العربة التي جترها األحصنة‪ ،‬نزل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-010-‬‬
‫منها وزير ملك مملكتهم‪ ،‬كان له كرش كبيرة يرتدي مالبس‬
‫ملونة بالذهب والفضة‪ ،‬بدا كمهرج في سيرك كبير‪ ،‬ميشي‬
‫بزهو وصلف‪ ،‬سلم عليهم بصوت جهور‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ -‬امللك يريد تعني جنار للقصر‪ ،‬وله شرطٌ واحد‪ ،‬أال يكن له‬
‫مثيل في املهارة‪ ،‬علي إمتداد أرض اململكة واملمالك اجملاورة‬
‫قال الولد للوزير ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أمهر جنار في اململكة وال مثيل لي‬
‫الوزير‪:‬‬
‫‪ -‬لو وجد لك امللك مثيال سيقتلك‪.‬‬
‫النجار املاهر‪:‬‬
‫‪ -‬لن يجد لي مثيل‪.‬‬
‫الوزير‪:‬‬
‫‪ -‬إذن فسأكتب اسمك في القائمة‪ ،‬وهمس له في أذنه‬
‫ميكنني مساعدتك‪.‬‬
‫النجار املاهر‪:‬‬
‫‪ -‬كيف ؟‬
‫الوزير‪:‬‬
‫‪ -‬سأعطيك قائمة كل النجاريني املسجلني لدي في القائمة‪،‬‬
‫توأمت كيمياء الوزير وكيمياء النجار املاهر‪ ،‬بينما نفرت منهما‬
‫كيمياء النجار األب وصديقته الشجرة التي سمعت همس الوزير‬
‫النجار االبن ‪...‬‬
‫النجار املاهر‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-019-‬‬
‫‪ -‬ماذا أفعل بهم‬
‫الوزير‪:‬‬
‫‪ -‬اقتلهم وتعال لتكون ذراعي اليمني في القصر‪ ،‬لكن دون أن‬
‫تتلطخ يديك بدمائهم‪ ،‬قال ذلك هامساً‪ ،‬ثم عوى بصوت عال‬
‫ملفتا اجلميع‪ ،‬سانتظرك العام القادم في مثل هذا الوقت‪...‬‬
‫أخذت القائمة قرأت أسماء النجارين املهرة‪ ،‬حفظتهم عن‬
‫ظهر قلب‪ ،‬في مرة من املرات قبل أن يكتمل العام‪ ،‬كان أبي على‬
‫فراش املوت‪ ،‬طلب مني أن أخذه الى مكان عملنا حتت الشجرة‪،‬‬
‫رفضت طلبه عدة مرات‪ ،‬ولكنه ألح كثيراُ هذة املرة‪ ،‬أخذته معي‪،‬‬
‫عانقته الشجرة بأغصانها وعانقها بنظرة عينيه احلانية‪ ،‬عيناه‬
‫اللتان حاول بهما لفت نظري لكثير من األشياء‪ ،‬لكني‬
‫جتاهلتهما عامدا‪ ،‬انتهى من حتيته للشجرة‪ ،‬جلس مبكاني‬
‫القصي الذي انتبذته سابقاً‪ ،‬اغمض عينيه‪ ،‬وتال عليّ القائمة‬
‫التي أعطاني إياها وزير امللك‪ ،‬وجمت ورجفت‪ ،‬وسألت نفسي‬
‫سراً‪ ،‬كيف علم أبي بأمرها‪ ،‬لم يطل احلديث عنهم‪ ،‬فقط‬
‫أوصاني بأن أعتني بهم‪ ،‬وأن أصل ودهم ألنهم أصدقاءه وزمالء‬
‫مهنته‪ ،‬وأخبرني بأن املعلم العجوز‪ ،‬هو من جمعهم ذات يوم‪،‬‬
‫وأورثهم جميعا مهارته في مهنة النجارة‪ ،‬كانت كلماته‪( :‬عليك‬
‫أن حتفظ ودهم وتصلهم)‪ ،‬ملكني عناوينهم عنوانا عنوانا‪ ،‬وهذا‬
‫ما قفل عنه الوزير‪ ،‬مضيت بأبي إلى املنزل‪ ،‬بعد أن ودع شجرته‬
‫ومكان عمله؛ تالمذته وحياته‪ ،‬تركني لشيطاني املبتسم داخلي‪،‬‬
‫فقد مات من كان يحميني منه ومن أهوائي‪...‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-013-‬‬
‫اآلن فقط سأبدا في تنفيذ وصية الوزير‪ ،‬نظر ملياً إلى‬
‫القائمة اختار التوائم‪ ،‬قابيل وهابيل هكذا أسماهما أباهما‬
‫ظاناً من أنه سيكون آدم النجاريني‪ ،‬لم يأخذ منه األمر وقتاً‬
‫طويال‪ ً،‬مشى بينهما بذات فتنة احلسناء‪ ،‬قتل هابيل قابيل‪،‬‬
‫ومضى لزوجته بأن اقتليه فقد قتل زوجك‪ ،‬هكذا تخلص من‬
‫أول اسمني وأقرب أصدقاء ألبيه في القائمة‪ ،‬بكى حتت ظل‬
‫الشجرة كل الليل‪ ،‬كاد الندم يفتك بقلبه‪ ،‬عندما تراءت له صورة‬
‫والده وتردد على مسامعه صوته وهو يقول له صل ودهم‪ ،‬تداخل‬
‫له مع صوت الوزير بخيالئه‪ ،‬اقتلهم وسأنتظرك في القصر‪،‬‬
‫ابتسم وهو يتخيل القصر وما يحوي‪ ،‬مسح دموعه حدد هدفه‬
‫القادم‪ ،‬نفست فيه أنا كل ثاني أكسيد الكربون احملتقن داخلي‪،‬‬
‫اختنق وفر هارباً من حتتي ‪...‬‬
‫علمّ الوزير بأن النجار املاهر بدأ في تنفيذ مهمته التي كلفه‬
‫بها‪ ،‬ابتسم وتذكر وقفته املهينة وهو مطأطأ الرأس‪ ،‬أمام‬
‫العجوز معلم النجاريني‪ ،‬عندما طرده من رهطهم؛ فقد كان‬
‫ميشي بينهم بالفتنة‪ ،‬ومنذها وهو حاقد عليهم جميعاً‪ ،‬مللم‬
‫ابتسامته الفاضحة حلقده‪ ،‬وبخبث بعث له رسالة عزاء في‬
‫والده مع رسوالَ من رجاله‪ ،‬وصرة من املال‪ ،‬وتهنئة ببداية‬
‫شروعه في مهامه‪ ،‬قبل الصرة‪ ،‬وأخبر الرسول بأن النجار‬
‫يوسف؛ في طرف اململكة يدين بغير دين امللك‪ ،‬أخبر الرسول‬
‫الوزير‪ ،‬أخبر الوزير امللك‪ ،‬الذي زج بيوسف في اجلب‪ ،‬فمات‬
‫حلظة ارتطامه بسطح مائه غريقاً‪ ،‬وصلت النجار صرة مال‬
‫أخرى بعد أن ارتسمت اإلبتسامة الفاضحة على وجه الوزير‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-014-‬‬
‫بكى حتت ظل الشجرة كل الليل‪ ،‬كاد الندم يفتك بقلبه‪ ،‬عندما‬
‫تراءت له صورة والده وتردد على مسامعه صوته وهو يقول له‬
‫صل ودهم‪ ،‬تداخل له مع صوت الوزير بخيالئه‪ ،‬اقتلهم‬
‫وسأنتظرك في القصر‪ ،‬ابتسم وهو يتخيل القصر وما يحوي‪،‬‬
‫مسح دموعه حدد هدفه القادم‪ ،‬نفست فيه أنا كل ثاني أكسيد‬
‫الكربون احملتقن داخلي‪ ،‬اختنق وفر هارباً من حتتي ‪..‬‬
‫بعث بخطاب لألخير‪ ،‬مفاده أن الوزير وهبك األرض التي‬
‫جتاور أرضك‪ ،‬حمل األخير اخلطاب وذهب لصاحب األرض‪،‬‬
‫يطلب منه إخالءها‪ ،‬استغرب صاحب األرض‪ .‬غضب وقتله‪،‬‬
‫استلم الصرة وأمره الوزير بصنع تابوت‪ ،‬ليجمع فيه اجلثث‬
‫األربعة‪ ،‬قبل أن ميارس طقس جلد الذات الذي اعتاد عليه‪ ،‬فقد‬
‫صرت جثته اخلامسة‪ ،‬لم يسلم ولم ميسح جزعي‪ ،‬ولم‬
‫يستأذنني قبل أن يعمل علي ّ فأسه‪ ،‬قطعني قسراً وصنع منِّي‬
‫تابوتاً‪ ،‬أرسله إلى الوزير‪ ،‬جمع الوزير اجلثث األربعة داخلي‬
‫وقبل أن يغلقني‪ ،‬أضاف اليّ جثة النجار املاهر‪...‬‬
‫وجوه جنمية سداسية‪ ،‬ذات مالمح باهتة؛ تؤدي حركات‬
‫غريبة‪ ،‬يتتابع ظهورها برتابة‪ ،‬أمام ناظري الوزير؛ على إيقاع‬
‫فحيحي كئيب‪ ،‬وضعهم في قبو يؤدي إلى املمر الكبير املؤدي إلى‬
‫بحر القلزم‪ ،‬متوقعاً هجمة امللك وعيونه للمكان واكتشافهم‬
‫ألمره‪ ،‬فمن هناك يسهل التخلص من التابوت وما يحوي إلى‬
‫البحر‪ ،‬أحاطوا به إحاطة السوار باملعصم‪ ،‬أقلقوا منامه ونغصوا‬
‫صحوه‪ ،‬زارهم مرة في القبو‪ ،‬فتح التابوت نظر ملياً داخله حتى‬
‫وقع فيه ثم انغلق عليه‪ ،‬أتى حرس امللك تخلصوا من كل ما خُزن‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-015-‬‬
‫في القبو رموا بهم إلى البحر‪ ،‬عند ارتطامهم باملاء خرجوا‬
‫جميعا من التابوت إال الوزير‪ ،‬حيث تولى التابوت مهمة إيصاله‬
‫إلى مثلث برمودا‪..‬‬
‫لسان و شفتان يرددون حلن اجلحيم بصوت فحيحي‪..‬‬
‫أذنان ترقصان رقصة األلم‪ ،‬على اللحن الفحيحي‪ ،‬الذي‬
‫يتردد على اللسان والشفتان‪.‬‬
‫أنف يستنشق عطن جثث املوتى ورائحة الدم‪.‬‬
‫عينان جاحظتان ترسالن دمعاً أحمر‪ ،‬أسفاً وندماً متسحه‬
‫يدان‪.‬‬
‫يحيطهم وجه جنمي سداسي‪..‬‬
‫اليدان مغموستان في بحر دماء‪..‬‬
‫كلهم داخل النقطة التي تتقاطع فيها أقطار مثلث برمودة‪.‬‬
‫جميعهم يتالومون ويسبون التابوت‪ ،‬التابوت على الشاطئ‬
‫يضحك ضحكته األخيرة‪ ،‬قبل أن تتفكك أجزاؤه‪ ،‬راسمة جنمة‬
‫خماسية بريئة من جنمتهم‪ ،‬سخرت منهم النجمة قبل صعودها‬
‫إلى السماء‪ ،‬وأصبحت كل مساء تأتي وتضحك على ما آلوا إليه‬
‫ناقمة عليهم‪...‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-016-‬‬
‫النحات‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ترجتف خوفاً‪ ،‬عند تذكرها ملا تعرضت له‪ ،‬تبكي فرحاً‬


‫عندما تنظر إليه بجوارها‪ ،‬تبتسم لوالدتها‪ ،‬وتلمع سنها‬
‫الذهبية‪...‬‬
‫يقف العروسان وجميع احلاضرين‪ ،‬يخاطب القسيس‬
‫العروسني‪ ،‬في باحة كنيسة التوحيد‪ ،‬أعرق الكنائس‪.‬‬
‫أيها العزيزان‪ ،‬لقد جئتما إلى بيت الله‪ ،‬كي يعطي الرب‬
‫زواجكما أمام القسيس أمام الكنيسة طابعا مقدسا‪...‬‬
‫إن املسيح يبارك احلب الزوجي‪ ،‬ويُغني املعمدين‪ ،‬ويقويهم‬
‫بسر مقدس خاص‪ ،‬يحفظون به دوماً‪ ،‬األمانة املتبادلة‪،‬‬
‫ويقومون مبا ميليه الزواج من واجبات‪...‬‬
‫لذلك إني أطلب األن منكما أن جتيبا صراحة‪ ،‬أمام جماعة‬
‫املؤمنني على األسئلة التالية‪.‬‬
‫يسأل القس العروسني‪:‬‬
‫‪ -‬يا أركماني ويا حورية‪ ،‬هل جئتما هنا لتعقدا الزواج‪،‬‬
‫بحرية تامة ورضى أكيد وبال إكراه؟‬
‫العروسان‪ :‬نعم‬
‫القس‪ :‬هل أنتما مستعدان آلن يبادل كل منكما اآلخر احملبة‬
‫واإلحترام طول أيام حياته؟‬
‫العروسان‪ :‬نعم‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-011-‬‬
‫القس‪ :‬هل أنتما مستعدان ألن تقبال البنني‪ ،‬بحب من يد الله‪،‬‬
‫وأن تربياهما مبوجب شريعة املسيح والكنيسة ؟‬
‫العروسان‪ :‬نعم‬
‫هنا يوعز القس للعروسني باإلعراب عن رضاهما‬
‫القس‪ :‬فبما إنكما عازمان أن ترتبطا بعهد الزواج املقدس‪،‬‬
‫ليمسك كل منكما يد األخر‬
‫مسك كل منهما بيمني اآلخر‪.‬‬
‫فيسأل القس العريس‪:‬‬
‫‪ -‬يا أركماني‪ ،‬هل تريد أن تَتَّخذ حورية زوجةً لك‪ ،‬وهل تَعِدُ‬
‫أن تكون لها أميناً في الضيق والرخاء‪ ،‬في املرض‬
‫والصحة‪ ،‬فتحبَّها وتُكرِمها طول أيام حياتك؟‬
‫فيجيب العريس‪ :‬نعم أريد‪.‬‬
‫ثم يسأل العروس‪:‬‬
‫‪ -‬يا حورية‪ ،‬هل تريدين أن تتخذي أركماني زوجاً لك‪ ،‬وهل‬
‫تعدين أن تكوني له أمينة في الضيق والرخاء‪ ،‬في املرض‬
‫والصحّة‪ ،‬فتُحبيه وتُكرميه‪ ،‬طول أيام حياتك؟‬
‫فتجيب العروس‪ :‬نعم أريد‬
‫العريس‪ :‬أنا أركماني‪ ،‬أقبلك‪ ،‬يا حورية‪ ،‬زوجةً لي‪ ،‬وأُعدك أن‬
‫أكون لك أميناً في الضيق والرخاء‪ ،‬في املرض والصحة‪ ،‬فأحبك‬
‫وأكرمك طول أيام حياتي‪.‬‬
‫العروس‪ :‬ياسيدي القس لقد أكرمني قبل أن يعرفني‪ ،‬أال‬
‫يكرمني وأنا زوجته!!‪ ،‬تنظر إليه وتنهمر دموعها بغزارة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-017-‬‬
‫أنا حورية أقبلك يا أركماني‪ ،‬زوجاً لي‪ ،‬وأعدك أن أكون لك‬
‫أمينةً في الضيق والرخاء‪ ،‬في املرض والصحة‪ ،‬فأحبك‬
‫وأكرمك طول أيام حياتي‪.‬‬
‫بعد أن يتحقق القس من رضى العروسني‪ ،‬ميد يده عليهما‬
‫يقول القس‪:‬‬
‫‪ -‬فليؤيد الربُّ العطوف رضاكما هذا‪ ،‬الذي أعلنتُماه أمام‬
‫الكنيسة‪ ،‬ولْيُفِض بركته عليكما‪ .‬وال يُفَرِقَنَّ اإلنسان ‪.‬‬
‫احلاضرون‪ :‬آميني‬
‫***‬
‫انتقلت مراسم الزواج من كنيسة التوحيد في فن فينة‬
‫بالقرب من بع قيشون‪ ،‬إلى معبد املصورات شرق الروح‪...‬‬
‫موسيقى هادئة تنساب‪ ،‬في بهو معبد املصورات الصفراء‪،‬‬
‫بعض املدعوين من أصدقائهما‪ ،‬أمها ورهطها‪...‬‬
‫ينظر في عينيها‪ ،‬يتيه في جمالهما‪ ،‬ميضي بعيداً‪ ،‬ومتضي‪.‬‬
‫***‬
‫ترجتف خوفاً‪ ،‬تستحم بعرقها‪ ،‬املدبوغ برائحة الزجنبيل‪،‬‬
‫فُطمت على شرب القهوة الداكنة السمرة‪ ،‬املنكهة بالزجنبيل‬
‫احلار‪ ،‬صار عرقها زجنبيلي‪ ،‬تشتم رائحته؛ تعرج بها كبساط‬
‫ريح إلى ذاكرتها؛ حتج إلى منزلها في فن فينة‪...‬‬
‫جتد والدتها في املنزل‪ ،‬حتت عريشة العنب‪ ،‬املتوسطة‬
‫لدارهم في سفح اجلبل األخضر بادرته بالتحية قائلة‪:‬‬
‫‪ -‬صباح اخلير‬
‫رد اجلبل مبتسما‪:‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-012-‬‬
‫‪ -‬صباح الصحة والعافية‬
‫أشرقت عليه الشمس؛ أضفت على خضرته غاللة ذهبية‪،‬‬
‫أوصاها كوني بردا وسالما عليهم‪.‬‬
‫راشقته مياه الوديان تعكس زرقة سمائها؛ ضمها على‬
‫خضرته بحنو‪ .‬كونت ألوان طيف أبرزها البنفسجي‪ .‬وقال‪:‬‬
‫كوني مغتسال باردا وشراب‪.‬‬
‫أتته الريح حتمل أشواق جبل البركل واإلهرامات‪ ،‬قال لها‪:‬‬
‫اقرئيهم مني السالم ولتأت ببذور احلب واخلير ‪.‬‬
‫إما ذرات ترابه املتفتتة من صخره بلون أدم فقال لها‪ :‬أنا‬
‫أتعهدك بالعناية واخلصوبة‪...‬‬
‫أودعها ورهطها إلى أمهم‪ ،‬وظل يراقبهم جميعا عن كثب‪.‬‬
‫تتطابق مالمحها وأمها‪ ،‬ترتديان الزوريا البيضاء الباردة‬
‫صيفاً والدافئة شتاءاً‪ ،‬خاطت األم من ذات القماش غطاء شعر‪،‬‬
‫تلبسه دائما‪ ،‬اجلو هنا معتدل‪...‬‬
‫جاهلة بالوقت‪ ،‬تصحو على رائحة حتميص النب‪ ،‬استيقظت‬
‫أمها باكرا‪ ،‬أنهت مهامها اليومية الصباحية‪ ،‬وهاهي تُروِّح عن‬
‫نفسها بشرب النب‪ ،‬انضمت إلى امها ورهطها في العريشة؛‬
‫يشربون القهوة‪ ،‬يضحكون؛ تبتسم األم؛ تلمع سنها الذهبية‪،‬‬
‫تتأكد من سالمتهم؛ واستعدادهم إلستقبال اليوم اجلديد‪،‬‬
‫ميضون على مباركتها‪ ،‬قهوة أمها ذات نكهة مميزة‪ ،‬وطقوس‬
‫مختلفة‪ ،‬لسفح اجلبل فنجان محدد‪ ،‬يوضع بني الفناجني؛‬
‫تصب له من القهوة البكر‪ ،‬يظل في مكانه حتى يستقيم مزاجهم‬
‫ومزاجه‪ ،‬فهو يشارككهم حياتهم‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-001-‬‬
‫***‬
‫داكنةُ السمرة؛ تبعد شعرها الغزير املبعثر‪ ،‬املتناثر عن وجهها‪،‬‬
‫لم متشطه منذ اختطافها‪ ،‬زادها ذلك شراسة على شراستها‪ ،‬التي‬
‫زادت بها عن نفسها‪ ،‬ملا هوجمت في أثينا وقبيل اختطافها‪ ،‬تبعهم‬
‫من هناك‪ ،‬مؤانهم اجلوية والبحرية والبرية‪...‬‬
‫تنظر إليه‪ ،‬تتوقع هجومه في هذه اللحظة‪ ،‬تفصل بينهما‬
‫مسافة سنتمترية‪ ،‬جتلس على األرض‪ ،‬متكورة ضامة ركبتيها‪،‬‬
‫يخفي الورم عينيها الواسعتني العسليتني‪ ،‬يسيل اخملاط من‬
‫أنفها األشم‪ ،‬تزكمه رائحة األرض بعفونتها‪ ،‬تردد كلمات مبهمة‪،‬‬
‫تتحرك شفتاها القرنفليتني‪ ،‬إذ ال صوت يخرج من حنجرتها‪،‬‬
‫تغلبها بعض هنهنات البكاء‪...‬‬
‫يسمعها وال يلق لها باالً‪ ،‬يرقد مستقيماً؛ ساقاه أمامه‪،‬‬
‫عيناه صغيرتان‪ ،‬يحك أنفه بطرفه األمامي‪ ،‬حكات متتاليات‬
‫متوترات‪ ،‬يشتم رائحة خوفها؛ مختلطة برائحة عرينه العطنة‪،‬‬
‫يحول حاجز ما بينه وبينها‪ ،‬يحس إجتاهها باإللفة‪ ،‬أكل كل‬
‫اللواتي أهدين له في أوقات الوجبات‪ ،‬؛ قطع حلمهن؛ رمى‬
‫عظامهن؛ لعق دمهن بلسانه؛ منظفا فمه وأسنانه‪ ،‬الطقس هنا‬
‫إستوائيٌ حار‪...‬‬
‫تثاءبت عظام نائمة بجوارها‪ ،‬أزعجتها رجفة الوافدة‬
‫اجلديدة؛ متلملت؛ دغدغها شعر الضحية السابقة املعجون‬
‫بالدم‪.‬‬
‫فسألته‪ :‬أما زلت هنا‪ ،‬ألم تعدك األرض إلى مكوناتك؟‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-000-‬‬
‫قالت األرض بصوت فخيم‪ :‬هو ليس مني‪ ،‬يحتاج لبعض‬
‫الوقت إلعادته‪.‬‬
‫العظام املتراكمة املتراكبة‪ :‬كم نحن لألوبة‪.‬‬
‫تبتسم األرض إبتسامة رزينة وتقول‪ :‬ستعودون بال شك‪.‬‬
‫قالت عظمة مشاكسة‪ :‬ميضي العالم إلى األمام وأننت تردن‬
‫األوبة‪ ،‬إننت عظمات خرفات‪.‬‬
‫ردت األرض بذات إبتسامتها‪ :‬وإن تقدمن إلى االمام فهن‬
‫عائدات‪.‬‬
‫ينتظر مختطفوها حلظة انقضاضه عليها‪ ،‬هم قوم يبحثون‬
‫عن رسولتهم التي بعثها إالههم‪ ،‬في الهضبة األولى البعيدة‪،‬‬
‫ووصفها كاالتي‪ :‬عمرها ثمانية عشر عاماً‪ ،‬ال تزيد يوما وال‬
‫تنقص‪ ،‬عذراء لم ميسسها رجل‪ ،‬منحوت على رسغها األيسر؛‬
‫رمز العنخ منذ الوالدة‪ ،‬عند لقائهم بها‪ ،‬أمرهم أن تُمتحن‬
‫أصعب اإلمتحانات‪ ،‬عندما تتجاوزتها؛ يقلوها الي هضبتهم‬
‫الثانية؛ يدخلوها معه؛ فإن لم يلتهمها؛ يخرجوها؛ ينصبوها‬
‫ملكة عليهم؛ إنطبقت عليها جميع مواصفات الرسولة‪ ،‬لم يبق‬
‫إال الشرط األخير‪....‬‬
‫***‬
‫حتيط بصحن معبد اخلراف‪ ،‬حجرات كثيرة ومتسعة‪ ،‬يقيم‬
‫كل كاهن في مكانه احملدد‪ ،‬حسب ترتيبه العقائدي ووظيفته‬
‫التي يؤديها‪ ،‬من أكبرهم حتي أصغرهم‪ ،‬شربت أرض أمون رع؛‬
‫من دم القربان؛ املقدم له ما شربت‪ ،‬كان الناذرون التائبون؛‬
‫يقدمون له القرابني في املعبد‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-009-‬‬
‫دعا كبير الكهنة؛ إلى لقاء عاجل‪ ،‬حتادرت اخلطى؛ تقصد‬
‫قاعة اإلجتماعات‪ ،‬قطعت أجسام معتمة؛ رحلة أنوار القمر‬
‫املمتدة؛ مما لفت انتباهه‪ ،‬فسأل الروح عما يجري قائال‪:‬‬
‫القمر‪ :‬نعمت مساءا ياصديق‪.‬‬
‫الروح‪ :‬نعمت مساءا ال أدري عَمَ تسأل‪.‬‬
‫القمر‪ :‬هناك حركة مريبة بجوارك‪.‬‬
‫الروح‪ :‬لنسال أرض املعبد‪.‬‬
‫القمر والروح ألرض املعبد‪ :‬نعمت مساءاً‪.‬‬
‫أرض املعبد‪:‬نعمتما مساءا‪.‬‬
‫القمر والروح ‪ :‬ما الذي يجري بأرضك‪.‬‬
‫أرض املعبد‪:‬ال شيء بعض خطوات حادرة‪ ،‬تتجه إلى قاعة‬
‫االجتماعات‪.‬‬
‫تقدمهم كبيرهم‪ ،‬كان وجهه شاحباً ومتغضن‪ ،‬جنح في‬
‫إرتداء قناع احلزن‪ ،‬له عدة أقنعة يرتدي منهم ما يناسب مهمته‬
‫املُقدم عليها‪ ،‬عيناه ثعلبيتان‪ ،‬أنفه عريض‪ ،‬وشفتاه سميكتان‪،‬‬
‫أمرد‪.‬‬
‫تسلل الهواء البارد إلى القاعة؛ راقص شمعات حوائطها‪،‬‬
‫أضافت بظاللها حملة أسى؛ على وجه كبيرهم‪ ،‬توجس البقية‪،‬‬
‫يترقبون أمرا جلال‪ ،‬حملت النسمات بنات الهواء‪ ،‬عطر بخور‬
‫القاعة إليه‪...‬‬
‫***‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-003-‬‬
‫أقرأ آخر كتاب صدر في أثينا‪ ،‬وصلني لتوه عصر اليوم‪،‬‬
‫أدوِّن بعض مالحظاتي على ورقة واحتفظ بها داخل الكتاب‪،‬‬
‫الكتاب الذي بني يدي شيق وجميل وكتب بلغة جزلة‪...‬‬
‫أتخفف من كل أحمالي عندما أقرأ‪ ،‬الزي امللكي‪ ،‬التاج‬
‫والصوجلان‪ ،‬عندما تقرأ يجب أن تكون تلميذاً تطلب العلم‬
‫واملعرفة‪ ،‬القصة التي بني يدي تروي حكاية عروس البحر‪...‬‬
‫***‬
‫علمت مبروري مبعبد اخلراف‪ ،‬بحياكة خيانة ما‪ ،‬لم أتبني‬
‫ماهيتها‪ ،‬حملت عطر البخور املميز‪ ،‬دخلت عليه‪ ،‬لم أجد امللك‬
‫أركماني‪ ،‬وجدت فيلسوفا ومثقفا‪ ،‬يعكف على قصة‪ ،‬يقرأها‬
‫ويحللها‪ ،‬استنشقني اشتم عطري‪ ،‬شاغلت حدسه‪ ،‬أغلق‬
‫الكتاب‪ ،‬خرج إلى مجلسه؛ نادى احلاجب‪ ،‬أمره بأن ينادي‬
‫أحدهم؛ ليتقصى أمر املعبد‪ ،‬جنحت في مهمتي‪ ،‬لفت إنتباهه‬
‫ملا يدور بعيداً‪ ،‬وددت لو أكملت معه‪ ،‬قصته الشيقة‪ ،‬أسطورة‬
‫عروس البحر‪...‬‬
‫سمعت القصة من جدتي ذات ليل‪ ،‬كنت في املهد‪ ،‬أنام على‬
‫حكاياتها‪ ،‬وها أنذا أجدها عند آخرون باختالف طفيف في‬
‫التفاصيل‪ ،‬عروسهم بيضاء كقطعة ثلج‪ ،‬ذات شعر أشقر طويل‬
‫تسرحه وهي جتلس على الشاطئ‪ ،‬عروسنا سوداء كلؤلؤة نادرة‪،‬‬
‫ذات شعر قوي كثيف ومبعثر‪ ،‬جتلس في صخور الشالالت‪ ،‬هي‬
‫صعبة املنال‪ ،‬عروساتهن غضبت عليهن أمهاتهن فأهدوهن‬
‫للبحر‪ ،‬عروساتنا رضيت عليهن آلهتهن وأهدين للروح‪ ،‬أمتنى لو‬
‫أحظى بإحداهن‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-004-‬‬
‫***‬
‫علم مبا يحاك باملعبد‪ ،‬تغاضى وفي نفسه أمر‪ ،‬يجلس على‬
‫عرشه بني حاشيته‪ ،‬أتته الرسالة الكهنوتية التي تنص على‪:‬‬
‫(أنا اإلله أمون رع‪ .‬آمرك بأن تقدم روحك قربانا لي‪ ،‬عبر‬
‫تقليد االغتيال الطقوسي‪ ،‬فان أجدادك يحتاجونك‪ ،‬لفض‬
‫بعض األمور الشائكات هناك‪ ،‬وقد رأينا أن صالح مملكتنا في‬
‫أن تكون بينهم‪ .‬دمت ذخراً لنا وللمملكتك في احلياة وبعدها)‬
‫رسم مالمح التوتر؛ على وجهه بإتقان‪ ،‬التقليد انتحار‬
‫محض‪ ،‬بتجرع سم معني‪ ،‬يقوم كبيرهم بتحضيره‪ ،‬يُخلط بقهوة‬
‫الزجنبيل داكنة السمرة‪ ،‬تعدها القربانة املنتظرة‪ ،‬وعلى امللك‬
‫اإلستسالم التام‪ ،‬ألمر رع وسم كهنته وقهوة قربانتهم‪...‬‬
‫***‬
‫ترجتف خوفاً‪ ،‬تستحم بعرقها‪ ،‬املدبوغ برائحة الزجنبيل‪،‬‬
‫فُطمت على شرب القهوة‪ ،‬املنكهة بالزجنبيل احلار‪ ،‬صار عرقها‬
‫زجنبيلي‪ ،‬تشتم رائحته؛ تعرج بها كبساط ريح إلى ذاكرتها؛ حتج‬
‫إلى املعبد‪...‬‬
‫جتد كبيرهم في غرفة االغتيال الطقوسي‪ ،‬املتوسطة للمعبد‬
‫أعلى جبل البركل‬
‫بادرته بالتحية قائلة‪ :‬مساء اخلير‬
‫الكاهن‪ :‬هذه أخر ليلة لك في احلياة‬
‫القربانة‪ :‬أعلم يا سيدي‪ ،‬علمت أن آخر واجباتي‪ ،‬إعداد قهوة‬
‫موت امللك‪.‬‬
‫***‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-005-‬‬
‫يقتلني حزني عليها فهي في ريعان شبابها‪ ،‬غدا ستكمل‬
‫الثامنة عشرة عاما‪ ،‬وهي مباركة مولودة ورمز بيا العظيم‬
‫منحوت على رسغها‪ ،‬متنيت تزويجها بأحد نبالء اململكة‪ ،‬متنيت‬
‫حمل أحفادي أالعبهم وأسهم في تربيتهم‪ ،‬لكن الكهنة‬
‫سيقدموها غدا قربانة وعروس بحر ألمون رع‪...‬‬
‫غلبها النعاس؛ قلبها مفطور على ابنتها‪ ،‬تختلف املسميات‬
‫واملوت واحد‪ ،‬رأته في منامها يقف بكل شموخه وعزته‪ ،‬ورأت‬
‫رهطها معها‪ ،‬في غابة كثيفة‪ ،‬بجانب منابع الروح‪ ،‬والشمس‬
‫حتي األرض معلنة حضورها‪ ،‬كانوا يرتدون الزوريا البيضاء‪،‬‬
‫الدافئة شتاءا‪ ،‬الباردة صيفاً‪ ،‬يرقصون رقصة طقوسية‪ ،‬لم‬
‫تعرفها من قبل‪ ،‬كانوا صفاً‪ ،‬مكون من خمسة نساء ورجلني‪،‬‬
‫ابنتها في منتصف الصف‪ ،‬ترقص وتضحك وترمي الشبال‪،‬‬
‫بشعرها مينة ويسري‪ ،‬كانوا ميدون أياديهم أمامهم‪ ،‬يالقون بها‬
‫سيقانهم‪ ،‬كمن يركض‪ ،‬يعيدونها مرتني وفي الثالثة يرفقون‬
‫الشبال‪ ،‬ويبرز نحت بيا العظيم في رسخ ابنتها عروس البحر‪،‬‬
‫يرددون نشيده بكلماته القوية‪...‬‬
‫خلقنا الله فسجدنا له وجعل العالم ليهتف لنا‬
‫فنحن االوائل في كونه وكل البشر أتوا بعدنا‬
‫فيا مجد كوش العظيم المجيد فمن فى الورى يك مثلنا‬
‫وكنداكة تنسج ثوب المهابة عزا وفخرا ليبقى لنا‬
‫يرقصون بالقوة ذاتها‪ ،‬استيقظت وهي تدعوه بأن يحفظ‬
‫عروس البحر‪ ،‬وأن يختار فدية تقدمها له بدال عن ابنتها‪ ،‬تيقنت‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-006-‬‬
‫من حدوث ذلك‪ ،‬بعثت في قلبها األمل‪ ،‬ابتسمت ملعت سنها‬
‫الذهبية‪...‬‬
‫***‬
‫منكب على منحوتتي‪ ،‬علي ان أكملها فيما تبقي من اليوم‪،‬‬
‫أزيل بعض الزوائد بحوافها‪ ،‬ابتعد عنها أنظر إليها أفخر بها‪،‬‬
‫متثالي يحاكي التمثال األصلي ألبادماك‪ ،‬مستأنس به كمن نحته‬
‫قبل اليوم‪...‬‬
‫أتخفف من كل أحمالي عندما أنحت‪ ،‬الزي امللكي‪ ،‬التاج‬
‫والصوجلان‪ ،‬عندما تبدع يجب أن تكون ناسكا ينتظر الوحي‬
‫واإللهام‪ ،‬التمثال الذي بني يدي يحكي مجد أمة‪...‬‬
‫علمت مبتابعتي لهم في شوارع أثينا‪ ،‬بأن جرمية ما تتم‪،‬‬
‫ضحيتها الفتاة داكنة السمرة‪ ،‬حملت رائحة عرقها الزجنبيلي‬
‫املميز‪ ،‬دخلت عليه في أستديو النحت‪ ،‬لم أجد النحات العاملي‬
‫املشهور‪ ،‬وجدت فيلسوفا ومثقفا‪ ،‬يعكف على منحوتته‪ ،‬يعمل‬
‫إزميله عليها ويزيل الشوائب‪ ،‬استنشقني اشتم عطرها‪ ،‬شاغلت‬
‫حدسه‪ ،‬وضع اإلزميل‪ ،‬خرج إلى باحة املعمل؛ نادى أحدهم‪،‬‬
‫طلب منه ترتيب شأن غيابه‪ ،‬جنحت في مهمتي‪ ،‬لفت انتباهه ملا‬
‫يدور بعيداً‪ ،‬وددت لو أكملت معه‪ ،‬نحت حتفته الفنية‪ ،‬حتفته‬
‫األسطورية‪..‬‬
‫***‬
‫تهيأ معبد اخلراف‪ ،‬إلستقبال أركماني امللك‪ ،‬الذي سيأتي‬
‫لتنفيذ أمر أمون رع‪ ،‬الناص علي أن يقتل نفسه بتجرع السم‪،‬‬
‫اخمللوط بقهوة الزجنبيل‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-001-‬‬
‫تهيأ قصر املصورات اجلديد‪ ،‬لوداع أركماني امللك‪ ،‬الذي‬
‫سيذهب لينهي أمر أمون رع‪ ،‬الناص على أن يقتل نفسه‪ ،‬بتجرع‬
‫السم اخمللوط بقهوة الزجنبيل‪...،‬‬
‫تهيأت ألن تُرمي بقلب الروح قربانة وعروس بحر ألمون رع‪،‬‬
‫وأنه سيأكلها بعد أن يجوع ‪...‬‬
‫تهيأوا للبحث عن آلهة أخرى‪ ،‬إذا ما التهم هذه التي في‬
‫عرينه‪ ،‬كما تهيأوا لتنصيبها ملكة أيضاً إذا لم يفعل‪...‬‬
‫تهيأت األم إلستقبال ابنتها‪ ،‬املرهقة مما عانته‪ ،‬ثم تراءت‬
‫لها‪...‬‬
‫جاهلة بالوقت‪ ،‬تصحو على رائحة حتميص النب‪ ،‬استيقظت‬
‫أمها باكرا‪ ،‬أنهت مهامها اليومية الصباحية‪ ،‬وها هي تُروِّح عن‬
‫نفسها بشرب النب‪ ،‬انضمت إلى أمها ورهطها في العريشة؛‬
‫يشربون القهوة‪ ،‬يضحكون؛ تبتسم األم؛ تلمع سنها الذهيبة‪،‬‬
‫تتأكد من سالمتهم؛ إستعدادهم إلستقبال اليوم اجلديد‪،‬‬
‫ميضون على مباركتها‪ ،‬قهوة أمها ذات نكهة مميزة‪ ،‬وطقوس‬
‫مختلفة‪ ،‬لسفح اجلبل فنجان محدد‪ ،‬يوضع بني الفناجني؛‬
‫تصب له من القهوة البكر‪ ،‬يظل في مكانه حتي يستقيم مزاجهم‬
‫ومزاجه‪ ،‬فهو يشارككهم حياتهم‪...‬‬
‫أشرقت عليه الشمس؛ أضفت على خضرته غاللة ذهبية‪،‬‬
‫أوصاها كوني بردا وسالما عليهم‪.‬‬
‫راشقته مياه الوديان تعكس زرقة سمائها؛ ضمها على‬
‫خضرته بحنو‪ ،‬كونت ألوان طيف أبرزها البنفسجي‪ .‬وقال‪:‬‬
‫كوني مغتسال باردا وشراب‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-007-‬‬
‫أتته الريح حتمل أشواق جبل البركل واإلهرامات‪ ،‬قال لها‪:‬‬
‫اقرئيهم مني السالم ولتأتي ببذور احلب واخلير‪.‬‬
‫أما ذرات ترابه املتفتتة من صخره بلون أدم فقال لها‪ :‬أنا‬
‫أتعهدك بالعناية واخلصوبة ‪...‬‬
‫أودعها ورهطها إلى أمهم‪ ،‬وظل يراقبهم جميعا عن كثب‬
‫***‬
‫حترك جيش أركماني العظيم من املصورات الصفراء‬
‫قاصداً معبد اخلراف في قمة جبل البركل املنحدر على الروح‪،‬‬
‫لينهي أمر أمون رع القاضي مبوته‪ ،‬كان ذلك قبل بزوغ الفجر‬
‫بقليل‪...‬‬
‫الطبول تدق‪ ،‬تقدمته فرقة موسيقى اجليش‪ ،‬أوقفهم ليردد‬
‫نشيد بعانخي العظيم‬
‫إنني ال أكذب‬
‫ال أعتدي على ملكية غيري‬
‫ال أرتكب اخلطيئة‬
‫قلبي ينفطر ملعاناة الفقراء‬
‫ال أقتل شخصا دون جرم يستحق القتل‬
‫ال أقبل الرشوة ألداء عملٍ غير شرعي‬
‫ال أدفع بخادم استجار بي إلى صاحبه‬
‫ال أعاشر إمراة متزوجة‬
‫ال أنطق بحكم دون سند‬
‫ال أنصب الشراك للطيور املقدسة‬
‫أقدم اخلبز للجياع‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-002-‬‬
‫املاء للعطشى‬
‫امللبس للعري‬
‫أفعل هذا في احلياة الدنيا‬
‫أسير في طريق اخلالق‬
‫مبتعدا عن كل ما يغضب املعبود‬
‫لكي أرسم الطريق لألحفاد الذين يأتون بعدي‬
‫في هذه الدنيا والذين يخلفونهم وإلى األبد‬
‫سمعت والدتها كلمات في صحوها‪ ،‬متاثل ذلك النشيد في‬
‫منامها‪ ،‬قامت ورهطها تقدموا اجليش راقصني رقصة الهايبو‪،‬‬
‫تلك الرقصه التي رأتها في منامها‪ ،‬لكن عروس البحر لم تكن‬
‫بينهم‪ ،‬كانوا كاملنومني متاما‪...‬‬
‫***‬
‫كان جسيما ذو هيبة تعلم فنون القتال منذ صغره في الغابة‪،‬‬
‫هناك التقاه‪ ،‬كان متأملا وجريحا‪ ،‬لم يتوقع أن ينقذه‪ ،‬توقع أن‬
‫يجهز عليه ويقتله خوفا ورهبة‪ ،‬أو أن يذهب إلى شأنه‬
‫استصغارا واستضعافا‪..‬‬
‫لم ألبِ توقعاته‪ ،‬ولبيت ندائي الداخلي‪ ،‬بأن كل روح يجب‬
‫أن حتيا‪ ،‬كان شبال عندها‪ ،‬انغرز سهم صياد ماهر أسفل عنقه‪،‬‬
‫كان جرحه غائرا ودمه فائرا‪ ،‬كان علي أن أحتلى بالقوة اجللد‬
‫والقسوة إلخراج السهم‪ ،‬كان أنينه خافتاً يغالب أمله‪...‬‬
‫حملني رغم ثقل وزني‪ ،‬فهو فتى وقوي‪ ،‬أسند رأسي على دبة‬
‫من األرض‪ ،‬رفع رأسي ازداد األلم‪ ،‬تأوهت بصوتٍ عال‪...‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-091-‬‬
‫استجمعت ما أوتيت من قوة‪ ،‬أمسكت بالسهم بكلتا يدي‪،‬‬
‫سحبته خرج من أسفل عنقه مسبباً جرحاً غائراً‪ ،‬اندفع الدم‬
‫وغاب عن الوعي‪...‬‬
‫لم يكتفِ بذلك‪ ،‬بل أخذ من ثمرة شجرة القرض‪ ،‬التي ترميها‬
‫القرود على مرتادي الغابة ملالعبتهم‪...‬‬
‫طحنتها كما حكت لي جدتي في إحدى قصصها التي أنام‬
‫عليها‪ ،‬أن ثمرة القرض الصغيرة املرة تبرئ اجلرح‪ ،‬ولها فوائد‬
‫أخرى صنعت منها عجينة بأن صببت فيها قطرات من ماء‬
‫الروح‪ ،‬ووضعتها على جرحه الغائر‪...‬‬
‫كان يعيد تطبيبي يوميا قبل أن يبدأ تدريبه‪ ،‬وبعد أن ينهيه‪،‬‬
‫استمر ذلك ألسبوعٍ كامل‪...‬‬
‫بعدها مضى إلي قلب الغابة وكنا نتقابل ملاما‬
‫***‬
‫كان جسيما ذو حظوة‪ ،‬المع السواد‪ ،‬أنفه عريض‪ ،‬عيناه‬
‫حادتان‪ ،‬شفتاه ممتلئتان‪ ،‬شعره كثيف‪ ،‬قوي خشن‪ ،‬رأسه كبير‪،‬‬
‫يتناسب وقامته‪ ،‬يضع عليه تاج الذهب املطعم بالاللئ السوداء‬
‫النادرة‪ ،‬يحمل صوجلانه بذات اليد التي طبب بها األسد‪ ،‬يغطي‬
‫صدره العريض‪ ،‬درع احلرب املوروث عن بيا العظيم‪ ،‬سيفه في‬
‫غمده‪ ،‬وقوسه وسهامه في كنانتها‪ ،‬يركب حصانه القوي املتني‪،‬‬
‫الذي يحبه ويخلص له‪...‬‬
‫موكبه مهيب‪ ،‬مؤيدوه ومحبوه على جانبي الطريق‪ ،‬األم‬
‫ورهطها يرقصون أمامه‪ ،‬رقصة حتاكي ركض صديقه احلميم‪،‬‬
‫عندما يريد اصطياد فريسته‪ ،‬جيشه خلفه‪ ،‬تصحبه دعوات‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-090-‬‬
‫جدته التي ال حتب اخلراف‪ ،‬هو من عل يتراءي في األفق كلوحة‬
‫مرسومة من خطوط نور ذهبية‪ ،‬مضى علي بركة كل هؤالء‪،‬‬
‫تنتظره عروس البحر‪...‬‬
‫وصل نبأ املوكب إلى الكهنة‪ ،‬في معبد اخلراف‪ ،‬لم يعلموا أن‬
‫للملك‪ ،‬نية غير التي عرفوها‪ ،‬أعدت عروس البحر قهوة‬
‫بالزجنيبل‪ ،‬حتى تخلط مع السم‪..‬‬
‫صهل حصانه وصلهم صوته زئيراً‪ ،‬تداخلت أحاسيس من‬
‫كانوا في املعبد‪ ،‬سمعت القربانة صوت غناء أمها من بني‬
‫اجلموع‪ ،‬ابتسمت‪ .‬ملع سن والدتها الذهبية‪ ،‬خطفت خطوط‬
‫الشمس تلك اللمعة ظناً من أنها جزءا منها‪ ،‬رسمت اخلطوط‬
‫صورته في أفق جبل البركل‪ ،‬ظل يتراءى له‪ ،‬يتبعه وكلما اقترب‬
‫منه صهل حصانه وعال صوته زئيراً مجلجالً‪ ،‬هز أرجاء املعبد‬
‫وزلزلها على من فيها‪.‬‬
‫قالت اقترب خالصي‬
‫***‬
‫يسمعها وال يلق لها باالً‪ ،‬يرقد مستقيماً؛ ساقاه أمامه‪ ،‬عيناه‬
‫صغيرتان‪ ،‬يحك أنفه بطرفه األمامي‪ ،‬حكات متتاليات‬
‫متوترات‪ ،‬يشتم رائحة خوفها؛ مختلطة برائحة عرينه العطنة‪،‬‬
‫يحول حاجز ما بينه وبينها‪ ،‬يحس اجتاهها باإللفة‪ ،‬يترك لها‬
‫عرينه ويخرج‪...‬‬
‫يصفق الشعب البدائي الذي كان ينتظر انقضاضه عليها‪،‬‬
‫يبكون يهنئون بعضهم‪ ،‬فعناؤهم لم يذهب هباءاً‪ ،‬وفقهم آلههم‬
‫في العثور على رسولتهم ومليكتهم‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-099-‬‬
‫هو مندس بينهم لم يلقوا له باالً في غمرة فرحهم‪...‬‬
‫***‬
‫كان جسيما ذو حظوة‪ ،‬المع السواد‪ ،‬أنفه عريض‪ ،‬عيناه‬
‫حادتان‪ ،‬شفتاه ممتلئتان‪ ،‬شعره كثيف‪ ،‬قوي خشن‪ ،‬رأسه كبير‪،‬‬
‫يتناسب وقامته‪...‬‬
‫ترجتف خوفاً من تلك العجوز الشمطاء‪ ،‬التي أتت‬
‫إلصطحابها‪ ،‬إلكمال مراسم تنصيبها كملكة ‪...‬‬
‫أنا ال أعرف لغتهم وماذا سيفعلون بي؟‬
‫من هم؟ ماذا يريدون مني؟‬
‫كنت في طريقي إلكمال دراسة الفنون اجلميلة في أثينا‪،‬‬
‫لكنهم اختطفوني‪ ،‬قطعنا املطارات واملوانئ‪ .‬سرنا راجلني أليام‬
‫عدة‪ ،‬لم يقدموا لي فيها الطعام فقط بعض املاء‪ ،‬في هذة الغابة‬
‫الكثيفة األشجار‪ ،‬وعرة املسالك‪ ،‬أتوا بي إلى قلبها‪ ،‬أدخولني‬
‫معه في عرينه وعلمت من حديث العظمات واألرض‪ ،‬أنهم‬
‫قدموا له الكثير من الفتيات قبلي‪ ،‬أكلهن بال تردد‪ ،‬لم يأكلني‬
‫تركني وذهب‪ ،‬أتتني هذه العجوز وخوفي منها أكبر من خوفي‬
‫منه‪...‬‬
‫سأخلصها من بني يدي هؤالء اجلهلة‪ ،‬وسأخطفها كما فعلوا‪،‬‬
‫سأعيدها إلى ديارها‪ ،‬ثم أعرف منها حقيقة ما تعرضت إليه‪،‬‬
‫هي تشبه منحوتتي التي تركتها في املتحف‪..‬‬
‫لكن ملاذا تركها ومضى خارج عرينه؟‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-093-‬‬
‫ال يعنيني أمره‪ ،‬مايهمني األن هو تخليصها من حارستها‬
‫العجوز الشمطاء‪ ،‬التي تدخن باستمرار وتضع عالمة حمراء‬
‫على جبينها‪...‬‬
‫سمعت من أحدهم القصة‪ ،‬عن امللكة وكانوا يعنونها‪ ،‬تكلم‬
‫ذلك الرجل إجنليزية فقيرة عبر هاتفه النقال‪ ،‬كان يشرح‬
‫حملدثه أهمية احلدث بالنسبة لشعبهم‪ ،‬وضرورة أن تأتي‬
‫القنوات التلفزيونية‪ ،‬اإلذاعات والصحف لتغطيته‪ ،‬لم يكن يعلم‬
‫أنني خطفتها‪ ،‬وأنهم الميلكون مليكة وال رسولة لتنصيبها‪...‬‬
‫***‬
‫دكت خيول امللك أركماني‪ ،‬جبل البركل‪ ،‬زلزلت أرض معبد‬
‫اخلراف‪ ،‬الكهنة اخلراف ركضوا إلى الروح ارمتوا بني موجاته‬
‫هربا من بطشه‪ ،‬أغرقتهم موجاته‪ ،‬جزاءا لغدرهم مبليكهم‬
‫احملبوب‪ ،‬زغردت عروس البحر‪ ،‬احتضنتها والدتها وقفت في‬
‫منتصف صف الراقصني‪ ،‬واستانفوا الرقصة مكتملي العدد‪،‬‬
‫حتقق حلم األم‪...‬‬
‫رأها أركماني خلبت لبه‪ ،‬رمبا حتقق حلمه بالزواج من حورية‬
‫من حوريات البحر‪ ،‬منحوت على رسغها األيسر مفتاح احلياة‪،‬‬
‫لها وألحفادها القادمني‪...‬‬
‫انتهى عهد آمون رع وبدأ عهد أبا دماك‪ ،‬رسمه لهم بخطوط‬
‫ذهبية كما رآه‪ ،‬نحتوه بقلوب حتيا بحب أركماني وحب أبادماك‪،‬‬
‫كتب الشعر في حبه تال هذا النشيد في مدخل املصورات رحا‬
‫بنصره‪...‬‬
‫لك الشكر يا أبا دماك‪ ...‬رب النقعة ‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-094-‬‬
‫اإلله العظيم ‪ ...‬رب املصورات‬
‫اإلله الضخم ‪ ...‬أسد اجلنوب القوي اليد‬
‫اإلله العظيم‪ ...‬اإلله الذي يأتي ملن يستدعيه‬
‫اإلله العظيم الذي يحمل السر اخلفي في وجوده‬
‫السر الذي ال تراه العيون‬
‫هو رفيق الرجال والنساء‬
‫ال يعوقه معوق في السماء أو على األرض‬
‫في اسمه ميكن اإلزدهار للبشر‬
‫ينفث اللهيب على أعدائه بإسمه العظيم ذي القوة يقتل‬
‫العدو‬
‫هو اإلله الذي يعاقب من أجرم في ذاته‬
‫ويهيئ مكانا عليا للذين يهبون أنفسهم خلدمته‬
‫ويعطي من ينادي في حضرته باإلله السيد العظيم‬
‫ويرد عليه قائالً‬
‫إني أعطيكم كل شيء يخرج بالليل وكل شيء يحدث بالنهار‬
‫أعطيكم بسرور سنوات الشمس واألشهر القمرية‬
‫هكذا يقول رب املصورات الصفراء‪ ،‬الذي يعطي احلياة كإله‬
‫الشمس إلى األبد‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-095-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-096-‬‬
‫حماســــــن اجلـــــــــاك‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫احذر خيالك‬

‫الشبح‬

‫وتوقفت بداخله دارات الزمن‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-091-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-097-‬‬
‫احذر خيالك‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بعد أن جلست على دخان خشبات الطلح احملترقة؛ فركت‬


‫جسدها بتلك العجينة الناعمة املعطرة فغدا لونها كأنه سنبالت‬
‫قمح دانية القطاف حتت أشعة الشمس الذهبية‪ ،‬أما رائحتها‬
‫فصارت مثل عطر حدائق الورود في منتصف الربيع ‪ ...‬خرجت‬
‫لقضاء بعض شأنها وكان الوقت صباحا‪ ..‬هو كان يجلس عند‬
‫زاوية الشارع‪ ،‬أذهله ما رأى وما استنشق فالتفت نحوها يتابعها‬
‫بنظراته حتى غابت في انحناءة الطريق‪.‬‬
‫سناء ذات اخلمسة وعشرين ربيعًا متزوجة منذ أكثر من‬
‫عامني من ابن خالتها املغترب بدول اخلليج‪ ،‬أما عاطف فقد‬
‫عاد من بالد العم سام بعد غيبة امتدت لعشر سنوات‪ .‬ذهب في‬
‫أولها وهو ابن عشرين ربيعاً لدراسة الهندسة فقد كان والده‬
‫ميسور احلال ولكنه عاد ولم يكون بحوزته غير بعض األلوان‬
‫ومجموعة فرش للرسم وتلك االسطوانات املعدنية ذات‬
‫احلوامل احملكمة اإلغالق وقد احتار أهل البلدة كثيراً ماذا‬
‫حتتوي!!‪ .‬إلى أن فتح إحداها ذات يوم أمام والده وملّا رأى الوالد‬
‫اللوحة التي كانت بداخلها نعتها بأنها (خربشة أوالد) ‪.‬‬
‫ظل عاطف يراقب سناء من بعد وهي غير منتبهه وهو يزداد‬
‫كل يومٍ شغفًا بها وحبًا لها‪ ،‬وكان بعد أن يراها في جولتها‬
‫الصباحية تلك يذهب إلى غرفته ويغلقها عليه طوال النهار غير‬
‫مستجيب لنداء أمه املتكرر بأن يخرج ويتناول طعامه‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-092-‬‬
‫في أحد األيام وصلته رسالة من أحد أصدقائه بأن هناك‬
‫معرضًا للتشكيل سيقام في العاصمة وعليه أن يجلب لوحتني أو‬
‫ثالث للمشاركة في املعرض‪ .‬شدَّ عاطف الرحال للعاصمة‬
‫وبحوزته عدد من لوحاته اجلميلة‪ .‬وعند دخول املنافسة فازت‬
‫أحداهن بالعرض في صدر القاعة كلوحة أساسية في املعرض ‪.‬‬
‫أمَّ املعرض عدد غفير من الشباب كان من ضمنهم شابٌ اهتم‬
‫جدا بلوحة عاطف‪ ،‬فقد كانت حتمل وجه شابة في غاية‬
‫اجلمال‪ .‬ظهر نصف صدرها األعلى من خالل ردائها الوردي‬
‫اجلميل الشفاف ‪ .‬سأل الشاب عاطف عن ثمن اللوحة فرد إنها‬
‫ليست للبيع فهي لشخصٍ عزيزُ على قلبه ‪.‬‬
‫رجع عاطف البلدة وهو متلهف جدا لرؤية سناء كعادته كل‬
‫يوم ولكنها لم تظهر وعندما سأل والدته عنها أخبرته بأن أهلها‬
‫جهزوها على جناح السرعة واحلقوها بزوجها في املهجر ‪.‬‬
‫حزن عاطف حزنًا شديدًا‪ ،‬وعافت نفسه األكل والشرب‬
‫وحتى النوم‪ .‬وكان يجلس كل يوم في كرسيه ذلك حتى ساعة‬
‫متأخرة من الليل‪ ،‬ولكن بعد عدة أيام اقترب منه أحدهم محييًا‬
‫فتبني له أنه الشاب الذي أراد شراء اللوحة في املعرض‪.‬‬
‫وقف عاطف لتحية الشاب فعرّفَ اآلخر عن نفسه بأنه خالد‬
‫شقيق سناء‪ ،‬وعندما احتضنه عاطف غرس خالد سكيناً حادة‬
‫النصل في صدره حتى قلبه وهمس في أذنه بأن أعراض الناس‬
‫ليست لعبة‪.‬‬
‫نظر إليه عاطف والدموع بعينيه وقال‪ :‬ولكنه مجرد خيال‬
‫فأنا لم أحتدث معها ابدًا‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-031-‬‬
‫الشبح‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــ‬

‫املقهى الذي يتوسط ساحة القرية يعج بالناس عند‬


‫األمسيات ‪.‬‬
‫يؤمه كل رجال وشباب القرية‪.‬‬
‫تعلو أصواتهم بالنقاش تارة وباخلالفات تاراتٍ أُخر‪.‬‬
‫يتحلق الزبائن في حلقات كل ميارس هوايته احملببة ‪.‬‬
‫منهم من يلعب الطاولة أو الكوتشينة وفي ركنها البعيد طاولة‬
‫للعب التنس‪..‬‬
‫تدور املناقشات في أحوال البلد‪ ،‬وارتفاع األسعار‪ ،‬وغالء‬
‫املعيشة‪ .‬وغالبا يتفقون على أن علتهم هي حكومتهم ولكن األمر‬
‫ال يعدو أن يكون نقاشا مُعادا ومكررا لقتل الوقت فقط‪.‬‬
‫في بعض األيام يجنحون للنقاش في أمر كرة القدم عندما‬
‫تكون هنالك مباريات مهمة‪ ،‬محلية أو عاملية‪...‬‬
‫قلة منهم يتجمهرون أمام شاشة التلفاز التي تتوسط املكان‬
‫في متابعة ملسلسل تركي أو هندي متتد حلقاته لشهور متعاقبة‬
‫حاجبا إياهم عن كل حراك في القرية في مثل هذا الوقت‪...‬‬
‫يرتفع صياحهم بني الفينة واألخرى منتقدين البطل أو‬
‫البطلة أو أحد شخوص املسلسل وقد يصل االنتقاد حد الشتم‪.‬‬
‫منذ وقت ليس بالقليل بدأت تلك الطفلة ذات اجلدائل‬
‫الطويلة بارتياد املكان‪..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-030-‬‬
‫كانت جتلس وحيدة منزوية تراقب الزبائن في هيجانهم‬
‫ودخولهم وخروجهم بعني فاحصة حتى تقع عينها على ذلك‬
‫الرجل اخلمسيني وسيم الطلعة فارع الطول‪.‬‬
‫تظل طول الوقت تراقبه بال كلل وال ملل‪ ،‬تتجه ببصرها أينما‬
‫ذهب‪...‬‬
‫يعبرها الرجال ذهابا وإيابا ولكنهم ال ينتبهون لوجودها‪.‬‬
‫تظل هي في مكانها ال تبرحه حتى يغادرون ‪...‬‬
‫استمر احلال على هذا املنوال أياما وشهورا‪...‬‬
‫وفي يوم ماطر كئيب أعلن املؤذن عن موت أحدهم داعيا‬
‫الناس لتجهيز امليت ومواراته الثرى‪...‬‬
‫انفض سامر املقهى مبكرا وذهبوا ألداء الواجب وظلت‬
‫الطفلة وحيدة في الظالم وابتسامة تعلو وجهها‬
‫في مساء اليوم التالي جاءت الصغيرة كعادتها تبحث عن‬
‫الرجل !!‪..‬‬
‫وما إن ظهرت في ركن املقهى حتى سارع إليها واحتضنها‬
‫فحدثته معاتبة‪:‬‬
‫ملاذا تأخرت عليَّ يا أبي؟‬
‫فرد عليها‪ :‬لكل أجل كتاب يابنيتي‪.‬‬
‫ثم أخذها من يدها وغادرا‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-039-‬‬
‫وتوقفت بداخله دارات الزمن‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫تعودت فتيات احلارة مشاكسته ضاحكات‪( ..‬تعرسني يا‬


‫اخلزين)‪ ...‬فيهز رأسه بشدة مجيبًا‪ :‬الااا لع أنا بعرس إخالص‬
‫أم عيونن كباااار ‪ ...‬فيضحكن ملء أشداقهن وينصرفن عنه ‪...‬‬
‫اخلزين شاب في األربعني من عمره‪ ..‬متوسط احلجم مربوع‬
‫القامة‪ ،‬وسيم جدًا‪ ،‬وإن أخذت منه األيام كثيرًا من نضارة وجههِ‬
‫واشتعل رأسه شيبًا بكثافةِ ال تناسب عمره‪...‬‬
‫حتكي لي والدتي حكايته مع إخالص بنت رحمة الله الشابة‬
‫فائقة اجلمال‪ ،‬ذات العيون الواسعة كأنهما بركتا ماء صافٍ‬
‫زينتا وجهها املستدير املزهر اخلدين كفلق الصبح الوضاح ‪...‬‬
‫تقول والدتي إنَّ اخلزين ومنذ فجر صباه األول كان معلق‬
‫القلب بإخالص رغم الفارق االجتماعي الواضح بينهما‪ ،‬فهي‬
‫من أسرة غنية أما هو فقد كان من أسرة متواضعة جدا‪ ،‬ولكن‬
‫ذلك لم مينع اخلزين من التعلق بها ورصد حركاتها ومراقبتها‬
‫أينما ذهبت‪...‬‬
‫انتبهت إخالص لهذا العشق املبكر اجملنون‪ ،‬وحذرت اخلزين‬
‫في أكثر من مناسبة وهي تزجره بشدة‪ ،‬ألنها تعرف متامًا‬
‫استحالة األمر‪ ،‬فلم متني نفسها بتتويج هذا احلب الصارخ‬
‫القوي‪ ،‬وإن كانت ترتاح لهذه املشاعر ولكن فيما بينها وبني‬
‫نفسها فقط‪..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-033-‬‬
‫مرت األيام وكبر الصبي‪ ،‬وكبر معه عشقه إلخالص‪ ،‬فلم‬
‫يحدث نفسه بسواها أبدًا‪ .‬وكان كل همّهُ أن ينال رضاها فعمل‬
‫جاهدًا ليل نهار في املزارع اجملاورة للبلدة وصار يكسب مبلغا‬
‫محترما من املال‪ ...‬أصلح من شأن أسرته ونفسه فظهرت‬
‫وسامته بادية للعيان فالتفَّت حوله فتيات البلدة يطلنب ودّه ولكنه‬
‫كان في شغلٍ شاغل عنهن ال يرى سوى محبوبته إخالص ‪...‬‬
‫في مساء أحد األيام وصلت البلدة عربةٌ فارهةٌ لم تلج مثلها‬
‫البلدة قبل ذلك وكان خلف مقودها شابٌ جميل الهيئة حسن‬
‫املظهر تبدو عليه آثار الثراء الفاحش‪ ...‬لم يكن هذا الشاب‬
‫سوى ابن عم إخالص الذي عاد من بالد الغربة منذ أيام ولم‬
‫يكن قدومه للقرية إال بغرض إمتام زواجه من إخالص ‪...‬‬
‫عاشت القرية أجمل لياليها في فرح وحبور وسرور ومغنى‬
‫وطرب‪ ..‬لم يكن هناك حزين وال معذَّب سوى شخص واحد هو‬
‫اخلزين‪ ...‬انتبذ أقصى مكان في البلدة‪ ..‬مقابرها ورافق‬
‫األموات تلك الليلة والليالي التالية حتى انتهت أيام الزواج ‪..‬‬
‫عندما عاد من املقابر كانت قد تبدلت مالمحه كثيرا واتسخت‬
‫مالبسه وجتعَّد شعر رأسه وصار هائما في طرقات البلدة ال‬
‫ينتبه لشيءٍ وال يستوقفه أمر ‪ ...‬ظل على هذه احلال طوال عقد‬
‫ونصف من الزمان تداعبه الفتيات بتلك العبارة الشهيرة‬
‫(تعرسني يا اخلزين)‪ ...‬فينفي األمر بشدة بهزةٍ عنيفة من‬
‫رأسه‪...‬‬
‫حتى كان ذلك اليوم الذي رجعت فيه إخالص وأسرتها من‬
‫بلد الغربة لتأدية واجب العزاء في وفاة أحد أعمامها‪ ...‬رأى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-034-‬‬
‫اخلزين تلك الصبية ذات اخلمسة عشر ربيعًا وكأن عيناها‬
‫بركتا ماء زينة ذلك الوجه البدري املنير فاقترب منها ضاحكًا‬
‫وقال‪ :‬إنتي رجعتي يا إخالص‪ ..‬كنت عارفك بترجعي‪...‬‬
‫فنظرت اليه الفتاة ضاحكة بصوت كأنه رجع ناي رخيم وردت‬
‫عليه قائله‪ :‬معقول أنا بشبه أُمي للدرجة دي يا عمو‪...‬؟؟؟‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-035-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-036-‬‬
‫حممد اخلري حامد‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫طموح‬

‫هروب إلى الشارع اخللفي‬

‫السارقة األنيقة‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-031-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-037-‬‬
‫طموح‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫قالت‪:‬‬
‫ـ ال أستطيع أن أحيا بدونك‪ ،‬فأنت كل شيء في حياتي!‪ .‬تودعني‬
‫كل ليلة‪ ،‬وتصبّحني بابتسامتك اجلميلة‪.‬‬
‫كلمات جوفاء‪ ،‬فارغة من أي معنى‪ .‬كلمات ال تروي ظمئي‪،‬‬
‫واشتهائي‪ .‬تقول ذلك وتستعملني أداةً ألهدافها‪ ،‬أنا وأوراقها‬
‫املكدسة على مناضد غرفتها‪ .‬نحن جميعاً منثل محور حياتها‬
‫ومصدر اهتمامها أو هكذا نبدو للعيان‪.‬‬
‫تغمرنا بحنانها الفياض؛ ورِقَّتها الكاذبة‪ ،‬حينما حتتاج إلينا‪،‬‬
‫وتنسانا وقتما جتد أنيساً سوانا‪ ،‬تلجأ إلينا دائماً في مساءاتها‬
‫احلزينة والدموع تطفح من عينيها‪ .‬ال جتد لنفسها متنفساً غيرنا‬
‫في مثل تلك اللحظات العصيبة‪.‬‬
‫تأتي إلينا بكبريائها املكسورة‪ ،‬وقلبها املسكني املهزوم مستأنسةً‬
‫بنا‪ .‬تستأذنني في قضاء بعض الساعات من الليل‪ ،‬جتدني لم أمن‬
‫وأنتظرها بلهفة‪ ،‬هطولها يطرد النوم من جفوني‪ ،‬أساعدها في‬
‫غمرة احتياجها لي‪ ..‬تلمس أوراقها‪ ..‬دفترها جتده يغالب النعاس‬
‫ويحاول أن يهزمه ليصمد مثلي‪ .‬أقول لنفسي معزِّياً‪ :‬رمبا عليَّ أن‬
‫أفرح ألن هناك من يساهر مثلي في هذا الوقت ويتفانى‪ ..‬رمبا كنا‪،‬‬
‫أنا‪ ،‬وهو الوحيدان الّلذان يعرفان أسرارها ويكتمانها بدافع احلب‬
‫واإلحساس والتقرب منها‪ ،‬حتى ال تستبدلنا بغيرنا‪ ،‬فأمثالي كُثر‪،‬‬
‫وأمثاله موجودون أيضاً‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-032-‬‬
‫أراها تفعل بي أشياء عجيبة‪ ،‬متحوِّرة ومتكوِّرة‪ ،‬تسرع‪ ،‬وتبطىء‪،‬‬
‫ولكنها تبدأ دائماً من األعلى فتنزل بعد مسارٍ طويل إلى األسفل‬
‫قليالً قليالً‪..‬‬
‫بعض أصدقائي حتدثوا معي‪ ،‬ووصفوا ما تفعله فقالوا‪ :‬أنها‬
‫أشكال من الرسومات والفن التشكيلي‪ .‬تسكبني حروفاً وأشكاالً‬
‫متناسقة‪ ،‬عميقة الداللة‪ ،‬بعضهم قال لي إنها تبدو كاللغات‬
‫القدمية‪ ..‬هي لغة ال أفهمها‪ ،‬لكنها جتد اإلعجاب من قبل‬
‫الكثيرين حولها‪ .‬عرفت أنها تسميهم النُقاد واملعجبني‪..‬‬
‫البد أن هناك شيئاً ما يجعلها تتقرَّب إليَّ هكذا‪ !!.‬ولكن أين أنا‬
‫منها؟! فبالرغم من تقرُّبها إليّ‪ ،‬وتقرُّبي إليها‪ ،‬فإننا لم نزل كما‬
‫نحن‪ ،‬هي‪ ،‬بعيدة عنِّي‪ ،‬ولم أستطع أن أنال منها شيئاً‪.‬‬
‫كانت قاسية عليَّ كثيراً وال زالت‪ ،‬لكن البد أن هناك وسيلة‬
‫للوصول إليها‪ .‬إن لم يكن الوصول إلى قلبها؛ فألشياء أخرى إذن‬
‫عليّ أن أسعى‪.‬‬
‫هل يا ترى‪ ،‬ستمنحني فرصة للتمتع بالنظر إلى عينيها‪ ،‬أم سأظل‬
‫هكذا دائماً‪ ،‬وجهي ووجهها مُبعدان قصداً عن بعضهما البعض؟!‪.‬‬
‫أو رمبا‪ ،‬سأستمتع مبالمسة خديها؟! أميكنني لثمها وتقبيلها؟‬
‫أيحدث ذلك مثلما كنا قدمياً‪ ،‬في السابق؟! أيام دراستها‪ ،‬كانت‬
‫متنحني أجمل حلظات عمري‪ ،‬فعندما تستعصي عليها مسألة ما‬
‫في االمتحان‪ ،‬كانت تسرح بعيداً وتتنهد ويرجتف قلبها‪ ،‬وقلبي‬
‫أيضاً‪ .‬ترجتف هي خائفة‪ ،‬بينما يرجتف قلبي القتراب حلظة‬
‫نشوته عندما تُقَربه من شفتيها‪ ،‬وهي تفكِّر في حل املسألة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-041-‬‬
‫فتدغدغني دون وعْيٍّ منها‪ ،‬وتضغط عليَّ بأسنانها بلطف‪ ،‬وأنا‬
‫أتلذذ بذلك أميا تلذذ‪ .‬حتركني على شفتيها وأنا أتلذذ أكثر‪ ،‬وأكثر‪.‬‬
‫لطاملا متنيت أن أظل بتلك اجلنان العذبة طويالً‪ .‬متر اللحظة‬
‫كاحللم‪ .‬أستعيد وعيي‪ ،‬أعتذر لنفسي‪ ،‬هي ترجع إلى صوابها‪،‬‬
‫وسرعان ما تهتدي إلى حل مسألتها‪ ،‬فأطيعها على الورق‬
‫بانصياع‪.‬‬
‫تقول لغيري‪ :‬أنها حتبني‪ ،‬وال تتحمل ابتعادي عنها‪ .‬تصرِّح بذلك‬
‫عند حلظات انفعالها‪ ،‬وفي التلفاز‪ ،‬والصحف‪ ،‬واإلذاعة‪.‬‬
‫هي تقول كل ذلك‪ ،‬بينما حتول بني وصالنا‪ .‬لكنني لم‪ ..‬ولن ‪..‬‬
‫يتملكني اليأس‪ ،‬وسأمضي في طريقي للوفاء بعهدي لنفسي‬
‫وأصدقائي‪ .‬وأجعلها تعترف بفضلي عليها‪..‬‬
‫ال زلت أسكب رحيقي إلعالء شأنها‪ ،‬أمنحها روحي‪،‬‬
‫إحساسي‪ ،‬وزمني‪ ،‬فتسكبني كما تريد‪ ،‬وكيف تشاء‪ .‬تخرجني‬
‫حرفاً‪ ،‬وقصيدة‪ ،‬ومقاالً‪ ،‬ورواية‪ ،‬وقصة وخاطرة‪.‬‬
‫أحترَّك بأناملها كما تريد‪ ،‬وكيفما تشاء‪ ،‬وأنا متلذذٌ بذلك‪.‬‬
‫أال يستحق ما فعلته لها؛ أن تعترف‪ ،‬وبصدقٍ‪ ،‬أمام اجلميع بأنني‬
‫كنت السبب األول واألخير في شهرتها؟! ‪..‬وخلودها؟!‪.‬‬
‫وأنني السبب في جمع كل هذا الكم الهائل من املعجبني‬
‫واملعجبات‪ ..‬واجلوائز؟؟‪..‬‬
‫رمبا يرضي ذلك االعتراف طموحي!!‬
‫رمبا‪!! ..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-040-‬‬
‫هروب إىل الشارع اخللفي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫حان الوقت الذي كنت تنتظره لتتوه من جديد في غمرة الهوى‬


‫واللهو حتى فجر اليوم التالي‪ .‬مرت فترة وأنت متارس طقوسك‬
‫اجلديدة وال تعترف مبا ظل رفاقك وأخوانك يفعلونه منذ بدء‬
‫اخلليقة‪.‬‬
‫قمت متثاقالً بسبب النعاس والظالم وهدوء الليل‪ ،‬وفرحاً‬
‫متلهفاً للبرنامج الذي ستذهب إليه‪ ..‬خرجت من الفتحة الصغيرة‬
‫املعتادة‪ ،‬قاصداً حبيبتك املرهفة‪ ،‬التي تسكن في الشارع اخللفي‬
‫من مسكنك‪..‬‬
‫أخذت بعض األشياء معك‪ ،‬كأس اخلمر املستورد‪ ،‬حلويات‪،‬‬
‫متبالت‪ ،‬فياغرا‪ ،‬وبعض القمح والذُرة لزوم السهر والصياعة‬
‫واالرتواء من مناهل اجلنة اجلديدة‪ .‬لم تنس عند حلظة خروجك‬
‫أن تسحب بخلسة جهاز املوبايل من الشاحن‪ ،‬وتتهيأ الستعماله في‬
‫تنبيهها برنَّـة واحدة بعد وصولك منزلها‪ ،‬لتفتح لك الباب دون أن‬
‫يحس بكما الباقون حسب االتفاق والطريقة املتبعة‪..‬‬
‫منذ سنوات قليلة؛ بدأت تعيش هذا الضياع الذي تسميه املوت‬
‫البطيء‪ ..‬تعلم بأن احلياة كانت جميلة‪ ،‬وذات قيمة عظيمة بالنسبة‬
‫لك‪ ،‬لكنها أصبحت في الفترة األخيرة ال تعنيك كثيراً‪..‬‬
‫كنت تقدِّم الكثير من الفوائد لآلخرين‪ ،‬حتى أطلقوا عليك‬
‫أسماءهم الرنانة‪ ،‬ورسموك في لوحاتهم‪ .‬كنت رمزاً للعنفوان‬
‫والقوة والنشاط‪ ،‬أما اآلن فقد صرت بال قيمة‪ ،‬أصبحت كما‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-049-‬‬
‫األشياء البالية التي جتاوزها الزمن‪ ،‬صرت عالـةً على اجملتمع‪..‬‬
‫هكذا يبدو إحساسك‪ ..‬كنت أكثر حبوراً‪ ،‬وأصبحت أشد‬
‫اضطراباً‪..‬‬
‫لم يكن غريباً وال مستغرباً أن تتجه للسهر والسُكر والعربدة مع‬
‫تلك الفاتنة‪ ،‬أو جارتك املثيرة‪ ،‬التي تدرك بأنها أضحت فاجرةً‬
‫مثلك‪ ،‬وكفرت بنواميس وطبيعة احلياة‪ ..‬وها أنت ذا تهرع إليها من‬
‫جديد‪ ،‬وكما تعودت دائماً‪ ،‬للهروب من واقعك األليم الذي يفتح‬
‫عليك قبو مأساتك احلالية‪.‬‬
‫مَنْ كان ال يعرفك في هذه البلدة؟!! ‪..‬‬
‫أنت الذي كنت مثاالً للحيوية والقوة والنشاط‪ ،‬لم تكن كسالناً‬
‫كغيرك من اآلخرين‪ ..‬يصحون على راحتهم ومزاجهم ألنهم من‬
‫دون هم‪ ،‬أما أنت فقد كنت السبب األساسي في التزام وجناح‬
‫كثيرين منهم‪..‬‬
‫وعندما كنت ترفْـرف بجناحيك وتصيح مع كل صباح بصوتك‬
‫الرنان اجلميل‪ ،‬تسمعك كل القرية‪ ،‬وتصحو لصياحك الصباحي‬
‫اليومي املعهود فتحس أنت؛ وهم؛ مبعنى ورونق احلياة‪ ..‬يزدهر‬
‫احلب داخلك‪ ،‬وتنمو شجيرات األمل فيهم‪ .‬لكن‪ ..‬ومنذ أن ظهر‬
‫ذاك االختراع الذكي الذي أصبح ينبِّه اآلخرين‪ ،‬ومينحهم الصحو‬
‫في كل األوقات التي يحبونها‪ ،‬صباحاً ومساءاَ‪ ..‬تدهورت صحتك‬
‫وأحسست بأن نهايتك قد أوشكت‪ ،‬ولم يعد هناك أي معنًى‬
‫لوجودك بعد اآلن في هذه احلياة ‪..‬‬
‫وقلت لنفسك منذ تلك اللحظة‪ " :‬فلتسكر‪ ..‬وتسهر‪ ..‬ومترح‬
‫إذن‪ ..‬ال أمل بعد اليوم في مَن أصبح بال قيمة ‪"....‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-043-‬‬
‫ورحت تتخيل نفسك‪ ،‬عندما كنت تعتلي سطوح املنازل في‬
‫السابق؛ وتؤذِّن في الصباحات اجلميلة الهادئة‪ ،‬لم تدر حلظتها‬
‫أتضحك أم تبكي‪!!..‬‬
‫وصلت منزلها‪ ..‬ضغطت بأرقام اتصالها على أزرار املوبايل الذي‬
‫حتمله‪ .‬جاءتك مسرعة بقميصها الليلي اخلرافي البديع‪ ..‬منحتْك‬
‫قُبلتها الرقيقة‪ ،‬فكادتْ أن تقتل دهشة السُّكْر بك‪ ..‬أمسكت أنت‬
‫بجناحيها وفردتهما بعيداً عن جسمها وضممتها إليك بحنان‪..‬‬
‫تعمدمتا الصمت في حركاتكما احلميمية وقبالتكما قبل أن‬
‫تدخال معاً فيحتويكما القفص احلديدي القابع بفناء الدار‬
‫الفسيح‪..‬‬
‫فعلت كل شيء معها ثم خرجت‪ ..‬ولم يشعر بك الدجاج والديوك‪،‬‬
‫فقد كانوا جميعاً يغطون كالعادةِ في نومهم العميق‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-044-‬‬
‫السارقة األنيقة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بهدوءِ هرةٍ ألِفتْ مكانها املعتاد؛ جلستُ أنا على طاولةٍ بعيدةٍ‬
‫ومنزوية باملقهى الشعبي العتيق الذي أصبحت أزوره كثيراً هذه‬
‫األيام حتى كدت أصبح معلماً من معامله البارزة‪ .‬بل صِرتُ متيقناً‬
‫من أن رواده املعتادين؛ متى ما جاؤوا إليه ولم يجدونني الستفسروا‬
‫صاحبه عنِّي‪ ..‬جلست ووضعت رجلي اليمنى على اليسرى وطلبت‬
‫عصيراً مثلجاً‪ .‬تعمدت أن أكون بعيداً عن بقية اجلالسني باملكان‪،‬‬
‫وفي نيتي أن أستجمع ما بذهني من أفكار وأطرحها على الدفتر‬
‫املفتوح أمامي‪ ،‬فالقصة التي تدور تفاصيلها بذهني أرهقت روحي‪،‬‬
‫وعذّبت سريرتي‪ ،‬جنَّنتْني فأصبحت هائماً بسببها كالدرويش‪.‬‬
‫أعرف أن والدة الوحي واإللهام وكتابة القصة أمراً مزعجاً‪،‬‬
‫هذا ما يقوله الشعراء والكتاب في كل احلوارات واملقابالت‪ ،‬ألن‬
‫األفكار قد تتمرد كما يزعمون‪ ،‬وأنا أخشى مترُّد فكرتي عليَّ‪..‬‬
‫فهل يا ترى تفعلها وحترجني فيهرب الوحي بسببها‪ ،‬وال أجنح في‬
‫شيءٍ سوى أن أمنح صاحب املقهى الذي يحتويني اآلن قيمة‬
‫مشروبه الذي قدمه لي‪!!..‬‬
‫ومن موقعي البعيد عن بقية اجلالسني باملقهى؛ تأملتُ السماء‬
‫الصافية علَّها تلهمني افتتاحيةً جميلةً لقصتي التي أنوى كتابتها‪،‬‬
‫أو تطلق يراعي فيستمر انفجاره إلى ما ال نهاية‪ ..‬كان اجلو بديعاً‪،‬‬
‫وكل األشياء تتداعى أمامي‪ ،‬الباعة اجلائلون‪ ،‬املارة‪ ،‬الشحاذون‪،‬‬
‫غاسلو السيارات‪ ،‬كلهم كانوا ميرون من أمامي وأنا أُفكِّر في‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-045-‬‬
‫ماستخرجه دواخلي من حروف‪ ،‬وأسأل نفسي ‪ ..‬ماذا سوف أكتب‬
‫ياتُرى ‪.‬؟؟‬
‫بدأت في شرب عصير الليمون‪ ،‬حاولت أن أتذوَّقه وأحسّه‬
‫بطعم مختلف غير بقية شاربيه‪ ،‬أو أن أصنع له في خيالي طعماً‬
‫آخراً‪ ،‬أو وحياً مُلهماً فلم أستطع‪ ..‬دندنت ببعض األغنيات‬
‫والقصائد احلبيبة إلى نفسي‪ ،‬ولكني لم أُفلح في إخراج حرفٍ‬
‫واحدٍ يريحني من وجع ومعاناة األفكار املزعجة تلك ‪ ..‬وفجأة‪...‬‬
‫حملتها‪ ،‬حملتها بعد أن كاد احللم أن يتبعثر‪ ،‬وقاربت خطاي أن تبحر‬
‫في التوهان األبدي املريع‪ ،‬وصحت في نفسي من املفاجأة احللوة‬
‫‪..‬وجدتها‪ ..‬وجدتها ‪..‬‬
‫كانت شابة ثالثينية‪ ،‬جميلة‪ ،‬أنيقة الهندام واملظهر‪ ،‬تبدو على‬
‫مالمحها آثار نعمة ورفاهية‪ .‬ليس هذا هو املهم في القصة لكن‬
‫األهم من ذلك كله هو ما فعلته تلك الشقية وحوَّلت الدنيا واملكان‬
‫أمامي الى مسرحٍ عجيب‪ ..‬فقد رأيتها وهي بكامل جمالها وأناقتها‬
‫تسرع اخلطى خلف رجلٍ عجوزٍ وبحرفيَّةٍ متثيليةٍ نادرة حتتَك‬
‫بجسمه وتسرق من كيسٍ يحمله حزمةً من األوراق املالية التي يبدو‬
‫أنه قد صرفها تواً من البنك‪ .‬فعلتْ ذلك دون أن يحس هو بأي‬
‫شيء‪ ..‬رأيتها من مكاني تفعل ما فعلته ومتر من أمامه مبتسمة‬
‫الوجه‪ ،‬مدعيةً براءة خجولة‪ ،‬وسذاجة أنثى تنتظر املغازلة من رجل‬
‫ستيني مراهق‪ ،‬ثم ألقت عليه التحية ومضت بسرعة غريبة وكأن‬
‫شيئاً لم يحدث !!!‬
‫ووجدتني مندهشاً وعاجزاً عن فعل أي شيء‪ ،‬فاقداً لقدرتي‬
‫على التصرف السريع‪ ،‬متلكتني احليرة‪ ،‬ما بني الصراخ؛ وتنبيه‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-046-‬‬
‫الرجل للحاق بالفتاة‪ ،‬والقبض عليها‪ ،‬وزجرها‪ ،‬ثم جرِّها إلى قسم‬
‫الشرطة وحبسها‪ ،‬أم االكتفاء باملشاهدة وتشجيع اللعبة‬
‫احللوة!!؟؟‪.‬‬
‫واحترت في أمري ‪..‬‬
‫مرت عدة ثوان لم أفعل فيها أي تصرف بل ظللت مندهشاً مبا‬
‫حدث‪...‬‬
‫رمبا كان بحثي عن قصةٍ أكتبها‪ ،‬خاطرةٍ هاربة التقطها‪ ،‬أو فكرة‬
‫عتيقة بوجداني‪ ،‬أو حكاية من رحم خيالي‪ ،‬أجنح في إخراجها؛ هو‬
‫ما قادني لفعل ما فعلت‪ .‬فقد وجدتُ أقدامي دومنا تردد تقودني‬
‫خلفها بنفس سرعة خطواتها حتى ال تتوه عنِّي بني الزحام‪ ،‬وجريت‬
‫خلفها مسرعاً‪ .‬فالسوق العربي عند هذه الساعة يبدو مزدحماً‬
‫لدرجة يصعب فيها السير سريعاً دون االصطدام بشخصٍ واقفٍ‬
‫أو معاكسٍ في االجتاه‪ .‬أما هي؛ فقد كانت سريعةً ومحترفة في كل‬
‫شيء‪ ،‬حتى في طريقة اختراقها للممرات‪ ،‬والزُقاقات‪ ،‬واملضائق‬
‫احلرجة‪ ،‬كانت بارعة في اللف والدوران‪.‬‬
‫فكَّرتُ أن أوقِّف عبثي الذي أقوم به‪ ..‬وقلت لنفسي لم ال جتر‬
‫خلفها بسرعة‪ .‬تلحق بها وتعنِّفها‪ ،‬وتقوم بأخذ ما سرقت من‬
‫جنيهات وإرجاع املبلغ لصاحبه وإنهاء املغامرة‪ ..‬لكنني رفضت‬
‫الفكرة بعد أن انتبهت وتذكرت موقفي الذي أنا فيه االن‪ ..‬فمن‬
‫سيصدق أنني لست اللص احلقيقي‪ ،‬ومن سيشهد لصاحلي؟‬
‫ورمبا رجعت باملبلغ فوجدت الشخص املسروق قد حشد رجال‬
‫الشرطة وقاموا مبا عليهم من واجب‪ ،‬وبعد فتح البالغ وبداية‬
‫التحرِّي عن احلادثة سيتعقد املوقف أكثر‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-041-‬‬
‫إذن علي أن أفكر في مشكلتي فقط‪ ،‬ووجدتني أهمس وأحاور‬
‫أفكاري ودواخلي من جديد‪:‬‬
‫"إن انهيت املغامرة فمن أين ستأتي اخلاطرة ؟ ومن الذي سيكتب‬
‫القصة‪!!..‬؟؟"‪..‬‬
‫مشيت خلفها من شارع القصر جنوباً‪ ،‬مروراً بشارع السيد عبد‬
‫الرحمن‪ ،‬حتى دخلتْ شارع احلرية متجهةً الى موقف املواصالت‬
‫بالقرب من كُبري احلرية‪ .‬وسرعان ما تنبهتُ للزحام الذي ستدخل‬
‫عليه بعد أمتار قادمة‪ ،‬وهنا شعرتُ باخلطر‪ ..‬فاذا هربتْ منِّي‬
‫ودخلت ضمن هذا العدد الكبير من الناس؛ وأنا ال أعرف البص‬
‫الذي تنوي االجتاه نحوه؛ ستفلتْ منِّي بالتأكيد ويكون كل شيء قد‬
‫ضاع وانتهى‪ ..‬وقلت لنفسي مهدداً‪"..‬هنا يجب أن تنه املغامرة‪..‬‬
‫تقبض عليها‪ ..‬وتختم قصتك‪ ،‬فاألمر بعد هذا احلدَّ قد يخرج عن‬
‫السيطرة‪..‬‬
‫وكأنها كانت تسمعني وتقرأ أفكاري‪ ،‬أو رمبا تشعر بخوفي‬
‫وخشيتي من هروبها‪ ،‬فسرعان ما أشارت لصاحب مركبةٍ كان مير‬
‫بالقرب من مكانها مسرعاً قبل أن يتوقف وينزل عنها مساعده‬
‫الصغير وهو يتصايح بواحدة من عباراتهم املتكررة السريعة التي‬
‫حتدد وجهة العربة‪ ..‬تأكدتُ من صحة سماعي للعبارة بعد أن‬
‫حملتُ املكتوب بظهر العربة "اخلرطوم‪ -‬الفردوس" لكنها لم جتد‬
‫مكاناً وواصلت مسيرها نحو سيارات أخرى داخل الزحام‪..‬‬
‫طمأنني ذلك‪ ،‬وتأكدتُ من استمرار مغامرتي االختيارية وبصورةٍ‬
‫سلسة‪ ..‬فهي تسكن إذن في نفس اجتاهي الذي أقصده‪ ،‬وال خوف‬
‫بعد ذلك من هروبها خاصةً وأن املركبات املتجهة إلى االجتاه‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-047-‬‬
‫املقصود متوفرة في هذا املوقف وليست مزدحمة‪ ،‬ومتى ما هي‬
‫اختارت واحدة وركبت سأكون خلفها‪ ،‬وأجلس بجوارها‪ ،‬أو على‬
‫األقل؛ سأجنح في حجز موقعي باملقعد اخللفي ملكان جلوسها‬
‫وأراقبها حتى النهاية‪..‬‬
‫لكن؛ ما الذي يحدث أمامي؟!‪...‬‬
‫يتعالى الصراخ‪ ..‬يشتبك أمامي اثنان من الواقفني في انتظار‬
‫البص القادم‪ ،‬وأجدني في وسط هذا املعترك الغريب مدافعاً عن‬
‫نفسي‪ ..‬أنسى مهمتي األساسية التي أوصلتني إلى هذا املكان‪،‬‬
‫وأغرق في تفاصيل املعركة التي لست طرفاً فيها‪ ،‬وأنتبه بعد ذلك‬
‫للسارقة فأبحث عنها وال أجدها ‪...‬‬
‫أين هي اآلن ؟ وكيف ذهبت دون أن أراها ‪.‬؟‪ .‬ومتى ذهبت؟ وإلى‬
‫أين؟‬
‫‪ ..‬أخذتني احليرة‪..‬‬
‫ورُحتُ أجري هنا وهناك‪ ،‬أدور حول املركبات التي كانت تقف‬
‫بالقرب منها قبل حلظات‪ ،‬بل خُيِّل إليَّ‪ ،‬وظننت أنها كادت أن تركب‬
‫بها وتذهب‪ ..‬خاجلتني كثير من األحاسيس‪ ..‬لقد رأيتها بأم أعيني‬
‫تشير إلى واحدةٍ من هذه املركبات‪ .‬أين ذهبت يا تُرى؟!‪ ..‬ووجدتني‬
‫أبحث من غير جدوى‪ ،‬ألنني لم أجد لها أثراً‪ ،‬أو خيطاً في املكان‪،‬‬
‫"كأنها فص ملح وذاب"‪..‬‬
‫واحترت في أمري‪ ..‬وأمرها‪ ..‬وباغتتني التساؤالت‪ ..‬ماذا أفعل‬
‫حيال صاحب املبلغ املسروق!! من املؤكد أنه اآلن قد انتبه لسرقة‬
‫املبلغ‪ ،‬وسيكون قد أبلغ الشرطة و بدأ بحثه عن اللص‪!!...‬‬
‫ماذا أفعل إذن؟؟ ‪..‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-042-‬‬
‫وقبل أن تهزمني هذه األفكار والتخيالت رُحت بال وَعْيٍ منِّي‬
‫أدافع عن نفسي وأطيِّب خاطرها‪..‬‬
‫"قد أكون مذنباً‪ .‬لكن نيتي لم تكن قطعاً الدفاع عن عملية‬
‫السرقة‪ ..‬كنت أُمنِّي نفسي بركوب املغامرة ثم القبض عليها بكل‬
‫هدوء‪ ،‬وإرجاع املبلغ إلى صاحبه‪ ..‬كنت أظنني "أرسني لوبني"‪،‬‬
‫"احملقق كونن"‪ ..‬رمبا شخصية أخرى جديدة ال أدري‪..‬‬
‫وأخذني التفكير والتأرجح‪ ،‬بل التهافت هنا وهناك‪ ..‬جرى ذهني‬
‫كثيراً وبحث عن حل للمعضلة‪ ..‬تيقنتُ من فشلي حتى ضحكتُ‬
‫على نفسي وقررت شيئاً ملواساتها‪ ..‬قلتُ‪ :‬على العموم‪ .‬هي هربت‬
‫ولن أجدها مرةً أخرى‪ ،‬لكن ما أثق فيه أنني الوحيد الذي يعرف‬
‫سر هذه السرقة‪ ..‬أعرف ما جنته الفتاة‪ ..‬وما جنيته أنا‪ ،‬وحدي‬
‫كنت من ميلك السرّ‪ ،‬وليس هناك من أحد غيري يعرف شيئاً عن‬
‫ما حدث‪ ..‬فلترجع إلى القصة فإنها لم تنته بعد‪.‬‬
‫وعادت أفكاري اجملنونة من جديد‪..‬‬
‫أخذتْ نفسي حتفزني هذه املَرَّة للبحث عنها بقوة‪ ،‬وقلتُ بإصرار‬
‫داخلي يجب أن أجدها‪ ..‬تلك السارقة األنيقة يجب القبض‬
‫عليها‪ ..‬فهي مفتاح القصة كلها‪ ..‬لكن كيف؟ وأين ؟ ومتى ؟؟‪ .‬هذا‬
‫هو السؤال؟‪..‬‬
‫خطرتْ لي فكرة‪ ،‬وصحتُ بغيظ ولوم داخلي‪ :‬فلتذهب وجتلس‬
‫جوار واحدة من ستات الشاي القابعات باملوقف وتطلب منها كوباً‬
‫من الشاي املنعنع‪ ،‬وبدون سكر‪ ،‬ليشتغل املخ ويبرق ذهنك بحلٍ‬
‫جديد‪..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-051-‬‬
‫جلستُ على (بنْبَّرٍ) صغيرٍ تدَّلتْ حباله من األسفل‪ ،‬وضعت يدي‬
‫على جبهتي معلناً فشلي للكل‪ ،‬ومعبِّراً عن حالتي اليائسة‪ .‬وفي‬
‫غمرة هذا الضجيج والزحام قررت أن أواصل كتابة القصة‪..‬‬
‫أخرجت القلم والورقة من جيب قميصي وبدأت في استدرار‬
‫احلكاية واسترجاع أفكاري التي تصحرتْ وذابت وقستْ عليَّ‪..‬‬
‫شعرتُ بأن ذهني بات مجهداً وراء هذه املغامرة العجيبة‪ ،‬بل أن‬
‫عقلي املرهق تعب حد اجلنون‪ ..‬وأنا أتفرَّسُ في وجوه العابرين‬
‫أمامي‪ ،‬أحسستُ بحالتي التي أصبحت درجةً ما بني الوعي‬
‫واجلنون‪ ،‬شيئاً بني احلقيقة واخليال‪ ..‬صرتُ مثل كائنٍ ال وجود‬
‫له‪ ،‬ضقتُ من نفسي‪ ،‬وتصرفاتي‪ ،‬وأفعالي‪ ،‬وتصحر أفكاري‬
‫وإبداعي ‪...‬‬
‫كنت في مرحلة أقرب لليأس من احلياة‪ ،‬ولم أنتبه للقلم الذي‬
‫مترَّد عليَّ‪ ،‬وتسلل بهدوء حتى أفلت نفسه من بني أصابعي‪،‬‬
‫ولطمني على خدي غاضباً وثائراً‪..‬‬
‫أصابتني الدهشة‪ ،‬وأجلمت احلاضرين مباغتته لي‪ .‬لدرجة أن‬
‫جعلت (ست الشاي) نفسها تصرخ وتولول هاربة‪ ..‬ضج املكان‬
‫بالهرج‪ .‬ورأيت في وسط هذه الفوضى‪ ،‬قلمي هنالك؛ ميسك‬
‫بورقتي ويكتب عليها نهايةً للقصة التي عذَّبتني‪ ،‬ويصرخ في‬
‫وجهي‪:‬‬
‫"أنت كاتبٌ فاشل‪ ،‬ومحقق غبي‪ ،‬وال تستحق أية مكافآت‪..‬‬
‫وواصل حديثه‪" ،‬ولكن رغم ذلك سأحلها وأختمها لك"‪..‬‬
‫‪ -‬استلِم ‪..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-050-‬‬
‫قالها ورمى بحزمة النقود املسروقة أمامي‪ ..‬ثم مَزَّق الورقة‬
‫وغاب ‪..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-059-‬‬
‫حممد حسن النحَّات‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫فندق ‪03‬‬

‫زهرة اجليبسوفيال‬

‫نافذة مائلة‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-053-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-054-‬‬
‫فندق ‪03‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عندما طالعت ظهره وهو مسجى على بطنه بطاولة الفحص‪،‬‬


‫هالني ما رأيت؛ خطوط عرضية وأخرى شبه طولية تتقاطع مع‬
‫األولى في غير ما انتظام‪ ،‬بعض اجلروح دامية والبعض تخثر‪ ،‬ولم‬
‫يحتج األمر لكثير ذكاء ألستنتج أنها آثار سياط‪ ،‬كان الصبي يئن‬
‫بصوت خفيض‪ ،‬عدلت نظارتي الطبية‪ ،‬وبدأت أطببها‪ .‬سألت‬
‫الرجل األربعيني عمن آذى الصبي‪ ،‬تنحنح مطلقاً سعاالً مفتعالً‬
‫دون أن يجيب‪ ،‬فواصلت عملي وأنا أرجئ تساؤالتي ‪.‬‬
‫لسبب ال أدريه كان هذا املشفى غير معروف‪ ،‬فعندما تسلمت‬
‫ورقة توزيعي به جتمدت للحظة أمام املوظف املتجهم وأنا أطالع‬
‫اإلسم‪ ،‬اسم عادي من شاكلة ما يطلق على املشافي‪ ،‬اعتصرت‬
‫ذهني وأنا أبحث بذاكرتي اخلربة دون جدوى‪ ،‬سألت املوظف‬
‫فألقى علي بنفاد صبر وصفاً سريعاً ملوقعه حاثاً إياي باالختفاء من‬
‫أمامه‪ .‬ذوّبت من حضرته وتهت في الشوارع اجلانبية حتى عثرت‬
‫على املشفى بعد جهد‪ ،‬وقفت أمام البوابة أتأملها‪ ...‬مبنى أبيض‬
‫من طابق واحد تكلس طالؤه‪ ،‬حديقة صغيرة ذبلت ورودها‬
‫وشجيراتها‪ ،‬ولوحة معدنية مائلة على احدى قائمتيها كرجلٍ أعرج‬
‫وانطمست حروفها إال من سهمٍ يشير إلى البوابة‪ ،‬وجلت إلى‬
‫الداخل فلفحني هواءٌ بارد اقشعر له بدني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-055-‬‬
‫جلس الصبي قُبالتي وأنا أخط بخط مرهق وصفته الطبية‪،‬‬
‫كانت الساعة قد جتاوزت الواحدة صباحاً‪ ،‬أطرقت برأسي‬
‫مفكِّراً‪ ...‬الصبي ومن معه لم يفصحا عن سبب اجلروح‪ ،‬التزما‬
‫الصمت والصغير لم يستجب إلحلاحي حتى بعد أن انفردت به‪.‬‬
‫كان هادئاً ولم يبد أي هلع‪ ،‬مددت الوصفة لألربعيني وأنا أملي‬
‫عليه كيفية استخدامها‪ ،‬شكراني وشد الصبي على يدي‪ ،‬عندما‬
‫استدارا التمع بذهني سؤاالً لم أدر كيف فات عليّ طرحه هتفت‪:‬‬
‫"هل أنت والده ؟ "‪.‬‬
‫ابتسم الصبي ابتسامة واهنة فيما أطلق الرجل ضحكة قصيرة‬
‫قائالً‪ " :‬ال‪ ...‬هو أعز من ذلك‪...‬إنه زميل الكفاح "‬
‫خرجا وكفيهما متعانقني‪.‬‬
‫ليالً كنت أنام بغرفة استراحة الطبيب لوحدي فكما تعلم ال‬
‫طبيب غيري هنا‪ ،‬فيما ينام الصيدلي واملمرض في غرفة أخرى‪،‬‬
‫ويتوسد احلارس العجوز بساطاً بالقرب من البوابة‪ .‬ورديتي تنتهي‬
‫في الثامنة صباحاً فتتسلمها مني طبيبة وهكذا أعود ليالً للمشفى‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ما كان يجعلني أحسد زميلتي أن عدد املرضى نهاراً‬
‫يعد على أصابع الكف فيما يتضاعف عددهم بورديتي بصورة‬
‫موجعة جتعلني أسهر حتى الصباح في معظم األيام‪ ،‬وحتى عندما‬
‫أهجع مبكراً يقلق منامي صوت ضحكات خافتة‪ ،‬همهمات‬
‫مكتومة‪ ،‬أنات ضعيفة‪ ،‬وهسيس خطوات تتجول في املمر أمام‬
‫غرفتي‪ ،‬كنت ال آبه بكل ذلك ما دام بابي لم يطرق إيذاناً بوجود‬
‫مريض‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-056-‬‬
‫عندما قابلت مدير املشفى يومذاك استقبلني بترحاب كبير‬
‫بسعة الفرجة بني سنتيه األماميتني‪ ،‬طالع أوراقي باهتمام وجال‬
‫بي في األنحاء معرفاً إياي باملكان واملكان بي وحتدث عن طبيعة‬
‫العمل وأمور أخرى‪ ،‬وعند البوابة ربت على كتفي وقرب عيناه من‬
‫وجهي قائالً بجفنني يرفان كجناحيّ عصفور‪ " :‬ستسمع أصواتاً‪...‬‬
‫ستقابل أناساً‪ ...‬ال تأبه لشئ مهما كان غريباً‪ ...‬ستمر فترتك هنا‬
‫بسالم "‪ .‬وقتها لم أفهم ولكنني اكتشفت أن احدى عينيه حوالء !‪.‬‬
‫تزايد عدد مرضاي مع األيام‪ ...‬وكان ذلك مزعجاً لعدة أسباب‪،‬‬
‫أوالً؛ ال يأتون إال بعد منتصف الليل‪ ،‬ثانياً معظم شكواهم عن‬
‫ضربات سياط وجروح مجهولة املصدر‪ ،‬حروق وصعقات كهربائية‬
‫في جميع أنحاء أجسادهم‪ ،‬ثالثاً صباحاً ينكر الصيدلي أن أحدهم‬
‫قد صرف دواءً بعد منتصف الليل‪ ،‬فإذن من أين يجلبون الدواء‬
‫الذي أراهم خارجني به وغرفة الفحص قبالة البوابة ؟!‪ .‬لم أشك‬
‫في قواي العقلية وشككت بعقلية الرجل‪ ،‬فإما أن يكون مخبوالً أو‬
‫لصاً غبياً ‪.‬‬
‫أيقظتني مثانتي طالبةَ إفراغها‪ ،‬خرجت إلى احلمام وأنا أتخبط‬
‫في ظلمات النوم والليل واملمر أمامي يبدو بال نهاية‪ ،‬اصطدمت‬
‫برجلٍ منحنٍ لم أره في الظالم‪ ،‬اعتذر واعتذرت‪ ...‬قال لي أنه‬
‫يبحث عن حذائه الضائع‪ ،‬كان يرتدي حذاءً واحداً مهترئاَ ويحمل‬
‫حتت إبطه كرة لم أتبينها‪ ،‬واصلت سيري وأنا أنف أية صلةٍ لي‬
‫بحذائه‪ .‬أفرغت مثانتي وعندما عدت شاهدته يواصل بحثه ومع‬
‫ضوء الشارع الواهن رأيته بوضوح أكثر‪ ،‬ضخم اجلثة وطويل كنخلة‬
‫معمرة‪ ،‬فركت عينيٍّ‪ ،‬صحيح أني ال أرتدي نظاراتي لكن بصري‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-051-‬‬
‫ليس بهذا السوء‪ ،‬هل الرجل بال رأس ؟! وهل الكرة حتت إبطه‬
‫لديها شفتني وصفي أسنان ناصعة البياض؟! أعدت فرك عينيّ‬
‫ألفتحهما على اختفاء العمالق‪.‬‬
‫تزايدت األحداث التي تطير العقل‪ ،‬زمالئي ينفون ما أحتدث عنه‬
‫ويؤكدون أنها الهواجس التي أخافت األطباء من قبلي فتركوا‬
‫العمل ويبدو أنني أسير في الطريق نفسه واملدير ذو اجلفنني‬
‫اللذان يرفان كجناحيّ عصفور ال ينفك من ترديد جملة غبية‬
‫خاوية‪ " :‬ال تخف‪ ...‬فقط ال تأبه لشئ"‪.‬‬
‫واحلارس العجوز الذي أحس أنه يداري سراً ما يقول وهو يخلع‬
‫طقم أسنانه‪ " :‬ميكنك أن تذهب‪ ...‬لكني أؤكد لك أن املرضى قد‬
‫أحبوك‪ ...‬أنت طبيب طيب ‪ ...‬ال تخذلهم !"‪.‬‬
‫في تلك الليلة الباردة قررت ترك العمل‪ ،‬سأخلد للنوم وفي‬
‫الصباح سأعلن قراري للمدير وليضرب رأسه باحلائط‪ .‬أيقظتني‬
‫طرقات ببابي وصوت أحدهم يعلمني بوجود مريض‪ ،‬ارتديت‬
‫البالطو فوق مالبسي وحملت سماعتي وخرجت‪ .‬عند غرفة‬
‫الفحص هالني عددهم‪ ،‬كانوا بالعشرات ورمبا املئات!‪ ...‬وكأنني‬
‫لست أنا‪ ...‬خطوت بهدوء حتى جلست خلف الطاولة‪ ...‬جلت‬
‫بنظري فيهم‪ ...‬ذاك الصبي والرجل األربعيني‪ ...‬وهذا املسن‬
‫صاحب املرض العضال واملصعوق كهربائياً‪ ...‬وبجواره شاب‬
‫جبرت كسر يده قبل أيام و اآلن يده مِعوجَة كما رأيتها أول مرة‪...‬‬
‫وهنالك الرجل النخلة الذي يبحث عن فردة حذائه‪ ،‬حقاً كان يحمل‬
‫رأسه املقطوعة حتت ابطه‪ ...‬لم أكن خائفاً بل هادئاً كجبل‪...‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-057-‬‬
‫معظمهم كانوا مرضى ما بعد منتصف الليل وأخرين أشاهدهم‬
‫ألول مرة‪ ...‬شبكت أصابعي وقلت‪ " :‬هه‪ ..‬وماذا بعد؟!"‬
‫اختلطت أصواتهم وعال ضجيجهم‪ ،‬كانوا يتحدثون في نفس‬
‫الوقت لكني كنت أسمع كل واحد منهم على حدة كما قلت لك لم‬
‫أكن أنا إذن هذا املبني كان قدمياً معتقالً لتهذيب من قالوا ال في‬
‫وجه من ال يرضى إال بنعم‪ ،‬أخبرني بذلك الشاب ذو اليد املِعوجَة‪،‬‬
‫مقطوع الرأس أجابني بأن اجلالدين أطلقوا على املكان " فندق‬
‫الشيطان" ومن يلجه ال يخرج‪ ...‬الصبي حدثني عن أم مكلومة‬
‫مازالت تنتظر عودته‪ ...‬أخر جال بي في زمان الشعر الكثيف‬
‫والبناطيل الواسعة وموسيقى الروك‪ ...‬رأيت وقفات احتجاجية‬
‫ومظاهرات واعتقاالت ليلية وعريس انتزع من أحضان عروسه في‬
‫ليلة الدخلة‪ .‬ثقل رأسي بحكاياتهم وآالمهم فأسندته بيدي‪...‬‬
‫وساد صمت كثيف‪ ،‬وفجأة بدأت تتعالى أصواتهم‪ ،‬ببطء وايقاع‬
‫رتيب من الصمت إلى الهتاف ثم الصراخ احلاد‪...‬‬
‫ساعدنا ‪...‬ساعدنا‪ ...‬ساعدنا‬
‫دسست أصبعي في أذني‬
‫" كيف أساعدكم ؟! "‬
‫وضع أحدهم أمامي دفتراً ضخماً‪ ،‬أسود الغالف‪ ،‬معنون بخطٍ‬
‫دامِ " فندق ‪ ..03‬القصة الكاملة "‬
‫" أكتبنا أيها الطيب‪ ..‬أكتب قصصنا لتمسح أحزان أحبابنا ويكفوا‬
‫عن انتظارنا‪ ،‬أكتبنا لتطارد الكوابيس جالدينا‪ ،‬أكتبنا لتفك أسرنا‬
‫من هذا املكان اللعني ولنبدأ رحلتنا األبدية "‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-052-‬‬
‫وجدت نفسي أفتح الدفتر وبدأت أخط حكاويهم‪ .‬ما أن ينتهي‬
‫أحدهم من إمالئي حكايته حتى يتحوَّل إلى فراشةٍ زاهية األلوان‬
‫ترفرف في سعادة‪ ،‬ثم تتحول إلى نقطةِ ضوء مرحة تطوف فوق‬
‫رؤوسنا ثم تخترق السقف مسافرة إلى األعلى‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-061-‬‬
‫زهرة اجليبسوفيال‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كنت جالساً أتصفح صحيفة املدينة متقصياً أخبار الكساد‬


‫عندما سمعت صراخها بالطابق العلوي‪ ،‬شق عويلها جدار الصمت‬
‫إال من خشخشة الورق بيديّ‪ ،‬هرعت قافزاً على الدرج وفي البهو‬
‫شاهدت اخلادمتني وهما تسبقاني إلى الغرفة التي يصدر منها‬
‫البكاء‪ .‬حلقت بهما وساقاي ترجتفان‪ ،‬هذا دأبهما منذ الصغر‪،‬‬
‫كلما وضعت في موقف مشابه تضطربان كعودي ذرة تتالعب بهما‬
‫ريح وتصطك أسناني وغالباً ما ينساب بولي‪ ،‬احلمدلله فأنا األن‬
‫أستطيع التحكم في مثانتي وأسناني أما ساقاي فهما متمردتان‬
‫دوماً‪.‬‬

‫في الداخل كانت إحدى اخلادمتني حتتضن السيدة وحتاول‬


‫إبعادها عن الفراش‪ ،‬واألخرى جتذب الغطاء على وجهه‪ ،‬حملت‬
‫شعره الفاحم ويده املتدلية على حافة السرير‪ ،‬مرتبكاً وقفت ال‬
‫أتقدم وال أتراجع وساقاي ال تكفان عن التخبط‪ ،‬عندما رأتني‬
‫"الزارا" تركت اخلادمة وهرعت نحوي باكية‪ ،‬احتضنتني بقوة‬
‫واهتزازات نشيجها ترجني‪ ،‬رفعت عيناها احملمرتان وهى تقول‪:‬‬
‫أنا آسفة‪ ..‬أنا آسفة ‪.‬‬
‫فيما خرجت اخلادمتان بعد أن قالتا بحزن‪ :‬تعازينا سيدي‪.‬‬
‫عدت جالساً باألسفل بعد أن أبدلت مالبسي الصيفية ببدلة‬
‫سوداء خانقة‪ ،‬وارتدت " الزارا " ثوباً قامتاً عاري الصدر وقصيراً‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-060-‬‬
‫حتى فخذيها البضني‪ ،‬انتعلت حذاءً إغريقيا المعاً بخيوط مذهبة‬
‫تلتف حول ساقيها الناعمتني حتى منتصفهما‪ ،‬وخال وجهها من‬
‫املساحيق فبدت أجمل ما يكون‪ ،‬وأمسكت منديالً أبيضاً تكفكف به‬
‫أدمعها‪ .‬أحضرت لها الهاتف كما طلبت من طرف الصالة الى‬
‫وسطها حيث جتلس‪ ،‬بينما قلبت صفحات نوتة صغيرة وبدأت‬
‫تتصل على أهلنا ومعارفنا مخبرة إياهم بالوفاة املفاجئة‪ .‬اتصلت‬
‫أوالً على " صمويل " صديق األسرة املقرب الذى حضر في ملح‬
‫البصر‪ .‬دخل علينا وهو يربط ربطة عنقه‪ ،‬احتضنني سريعاً وهو‬
‫يهمس بتعازيه احلارة التي بدت لي مفتعلة ثم غاب في أحضان‬
‫"الزارا " لدقائق جعلت الغيرة تتصاعد داخلي‪ ..‬وجتاهالني متاماً‪.‬‬
‫صمويل‪ :‬تعازيّ عزيزتي‪ ..‬فجعني اخلبر حقيقة‪.‬‬
‫الزارا وهى تنهنه‪ :‬كان بصحة جيدة‪ ،‬عندما حاولت ايقاظه لم‬
‫يستجب‪.‬‬
‫صمويل ضاغطاً على كفها‪ :‬أنا هنا وأيام احلزن هذه ستنتهي‪.‬‬
‫وسحبها إلى صدره‪.‬‬
‫توافد األهل واألصدقاء أفراداً وأزواجاً‪ ..‬حضر العم "كارلوس"‬
‫وزوجته اجلميلة املراهقة‪ ،‬اخلالة "أماديس" التي لم أتوقع‬
‫حضورها‪ ،‬ورب العمل السيد "مكسيمو غوميث"‪ ،‬وعدد من‬
‫األصدقاء‪ ،‬كما حضر القس "خوسيه" الذي يبدو أنه أوقظ من نوم‬
‫عميق فقد كان يتثاءب دون احترام في وجوهنا وبصحبته رجل‬
‫غليظ املالمح نعته مبندوب مؤسسة دفن املوتى وقادتهما اخلادمة‬
‫إلى غرفة امليت‪ .‬شد اجلميع على يدي معزياً ثم أسرعوا إلى‬
‫"الزارا" متحلقني حولها معددين مناقب املتوفي في أسىً‪ ،‬كنت أرى‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-069-‬‬
‫أن جل اهتمامهم ليس مسلطاً على احلديث عن املرحوم وإمنا على‬
‫صدرها ! ما عدا العم "كارلوس" الذي كان مشغوالً بفتاته ملتصقاً‬
‫بها كأنها ستهرب‪ .‬كان يسود جوٌ من عدم االحترام للفاجعة‬
‫ويتجاهلني اجلميع دون استثناء وأنا سيد الدار ‪.‬‬
‫نفد صبري وتوسعت حيرتي فانتزعت "الزارا" من وسطهم‬
‫فتأوهوا جميعاً كأمنا أغلقت تلفازاً يبث مسلسالً محبباً_‬
‫وجررتها خلفي إلى غرفة املكتب‪.‬‬
‫‪" -‬ما الذي يحدث هنا يا الزارا"‬
‫متخطت في منديلها ومسحت دمعاً لم أره‬
‫‪" -‬أخبريني بالله عليك ما هذا اجلنون‪ ..‬وملن هذه التعازي؟!"‬
‫تبدل حالها إلى كلبة تنبح بوجهي‪ " :‬أال تعلم ؟! كلهم يعلمون وأنت‬
‫تتظاهر بالبالدة "‬
‫عضضت على أسناني‪" :‬ال أتظاهر بشئ‪ ..‬جدياً ال أعرف ملاذا‬
‫أتوا معزيني ومن هذا املرحوم باألعلى"‬
‫تصايحنا كأصمني ثم فتح الباب ليظهر "صمويل" قائالً‪ " :‬كفا‪..‬‬
‫ماذا هنالك‪ ..‬شجاركما يصل إلى الضيوف وستكثر األقاويل"‬
‫دفعته بعيدا عنها‪" :‬صمويل أنت أقرب أصدقائي لكني ال‬
‫أفهمك‪ ..‬أنت تتجاهلني وتلتصق بزوجتي في حضوري‪ ..‬ماذا‬
‫هنالك ؟! "‬
‫حك صمويل رأسه ثم رفع عينيه إليها‪" :‬حقا ال يعلم؟"‬
‫هزت رأسها باإليجاب‬
‫قال‪" :‬إذن يجب أن نخبره‪ ..‬البد أن يعرف"‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-063-‬‬
‫سحباني من يديّ كطفل تائه وصعدا بي الدرج والزارا متسِّد كف‬
‫راحتي‪.‬‬
‫وقفا بي أمام الباب وقالت‪" :‬ال تخف‪ ..‬أريدك شجاعاً‪ ..‬يجب أن‬
‫تواجه األمر"‬
‫و دخال بي‬
‫عادت ساقاي إلى عادتهما السيئة ومن حيث ال أعلم صدحت‬
‫موسيقى جنائزية‪ ،‬دفعاني إلى األمام‪ ،‬والقس الذي كف عن‬
‫التثاؤب‪ ،‬كف أيضاً عن تالوة اإلجنيل وأفسح لي الطريق‪ ..‬غرفتي‬
‫كما هى إال من تابوت قبيح أضيف بالقرب من النافذة املطلة على‬
‫الشارع‪ ..‬تقدمت ببطء‪ ..‬ورأيته ممدداً في التابوت وراحتاه على‬
‫صدره ومرتدياً البدلة الزرقاء التي ابتعتها من رحلتي األخيرة إلى‬
‫جنيف‪ ..‬وجهه هادئ وشاحب إلى حد ما‪ ،‬وشفتاه انفرجتا قليالً‬
‫عن نصف ابتسامة‪ ..‬كان أنا‪ ..‬أنا ميت ممدد في تابوت‪.‬‬
‫وانساب بولي‬
‫" أسف يا عزيزي‪ ،‬كان يجب أن تعلم‪ ،‬البد أن تذهب‪ ..‬أنت مت‬
‫واألموات ال يبقون‪ ..‬لقد كنا كرميني معك‪ ،‬ولم نتضجر من بقائك‬
‫حتى األن لكن حاملا يقبر هذا التابوت يجب أن تذهب دون رجعة "‬
‫كان هذا صمويل ممسكاً كتفاي براحتيه وضاغطاً عليهما بقوة‪،‬‬
‫نفرت أدمعي‪ ،‬هل هذا حلم ؟! هل أنا أهذئ ؟!‪ ..‬ال‪ ..‬أنت ال حتلم‪..‬‬
‫أنت تتذوق ملح دموعك وتتألم من قبضة صديقك‪ .‬عاد القس إلى‬
‫تالوته متمنياً لى حظاً أفضل في الضفة األخرى‪ ..‬وعادت زوجتي‬
‫إلى ضيوفها باألسفل‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-064-‬‬
‫باألسفل بدأ احلديث ينحرف عن املرحوم‪ ،‬نقاشات ال معنى لها‬
‫وال متت للمناسبة بصلة‪ ،‬ثم متادى السيد "مكسيمو غوميث"‬
‫وأطلق نكتة بذيئة تعالت لها ضحكاتهم التي سرعان ما ابتلعوها‬
‫عندما حدجتهم خالتي بنظرات نارية‪ .‬في هذا املنزل شخصان‬
‫يبكياني بصدق‪ ..‬خالتي وأنا !‬
‫حملوا التابوت وزجُّوا به في عربة يجرها حصانان عجوزان‪،‬‬
‫القس تهفف بكتابه حاثاً إياهم على اإلسراع فالغيظ شديد‪ .‬ساروا‬
‫خلف العربة التي سارت ببطء مقيت إلى املقبرة القريبة‪ ،‬صمويل‬
‫ميسك بيد الزارا وال يكف عن الهمس بأذنها وهي تكفكف دمعاً‬
‫أصر أنني ال أراه‪ ..‬ثم من خلفهم اجلمع الصغير وأنا في املؤخرة‬
‫متاماً‪ .‬اختاروا لي قبراً شنيعاً بالقرب من بركة ماء آسن‪ ..‬أنزلوا‬
‫التابوب‪ ..‬ألقى القس موعظته على عجل‪ ..‬أهالوا علىٍّ التراب‪..‬‬
‫وضع كل ضيف وردا على قبري‪ ،‬ورد اجليبسوفيال الذى ال أحبه‪..‬‬
‫جتاهلوني متاماً وصافحوا الزارا وغادروا سعداء بنهاية هذا‬
‫الواجب الثقيل‪ .‬خال املكان إال مني وزوجتي وصديقي املقرب‪.‬‬
‫تأبطا ذراعا بعض‬
‫قال لي‪ " :‬صديقي ال تقلق على الزارا‪ ..‬هى في عينيّ "‬
‫ابتسمت في غنج ثم كشرت في وجهي‪" :‬عزيزي أنا أسفة‪ ،‬كل شئ‬
‫انتهى‪ ،‬إياك أن تلحق بنا‪ ..‬الوداع "‬
‫ثم أرسلت قبلة في الهواء نحوي‪ ،‬وأدارا ظهريهما لي‬
‫وقفت حائراً مكتئباً حتى غابا عن نظري وصمويل ال يكف عن‬
‫الهمس اللعني في أذنها‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-065-‬‬
‫نافذة مائلة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫بدتْ لي هيئته مِن خلف نافذتي كسيدنا سليمان‪ ،‬اتكاءته على‬


‫العصا‪ ،‬ظل العمامة الذي حجب مالمح وجهه‪ ،‬وجلسته الوقورة‬
‫كملك يشرف على ألوف مِن اجلن الضجرة‪ .‬قُبيل ساعة كنتُ آيباً‬
‫مِن وقفة احتجاجية لضحايا حرب الكويت‪ ،‬تقافزتُ متخطياً بِرَك‬
‫املياه الراكدة‪ ،‬وعندما حاذيت العجوز‪ ،‬رفعتُ صوتي بالتحية؛ فَرَّدَ‬
‫علي بحشرجة غامضة‪ ،‬وأشاح بوجهه بعيدا عني‪ .‬كنتُ معتاداً على‬
‫تقلباته الدائمة إال أنَّني متنيته اليوم معتدل املزاج؛ فإحباط ما بعد‬
‫الوقفة يدفعني لتجاذب أطراف احلديث معه‪ .‬أكملتُ بقية الطريق‬
‫هرولة وأنا أحتمي بصحيفة أحملها مِن هجير الشمس الالذع‪.‬‬
‫حتت الدش أغلقتُ عيني‪ ،‬تركتُ برودة املاء تدغدغني‪ ،‬وشعرتُ‬
‫بها حتتضنني مِن اخللف‪ ،‬حتسستْ عنقي وانزلقتْ راحتاها‬
‫لتتمشى على عشب صدري ونهداها العاريان يضغطان على‬
‫ظهري‪ ،‬فتحتُ عيني؛ فانسحب كل شئ إال مِن برودة املاء‪ .‬أعددتُ‬
‫كوباً مِن القهوة‪ ،‬وحملته إلى مكاني املفضل خلف نافذتي التي‬
‫تكشف شارعنا بأكمله؛ فمنزلي ذو الطابق اليتيم عند أخر ناصية‬
‫إذا ما وجلتَ الشارع مِن الشرق‪ ،‬وعند أوله إذا ما أتيتَ مِن الغرب‪.‬‬
‫أخذتُ رشفة وأنا أضع الصحيفة على فخذيّ‪ ،‬ثم تناولت املرقاب‬
‫ووضعته أمام عينيّ‪ ،‬كان الشارع خالياً إال مِن سيدنا سليمان‬
‫املتلفح بثياب العجوز‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-066-‬‬
‫عندما ابتعتُ هذا املنزل لم أضف إليه إال هذه النافذة‪ ،‬طلبتُ‬
‫مِن البناء اختالق نافذة معتمة على اجلدار املقابل للطريق على أنْ‬
‫تكون مائلة! نظر إليَّ متعجباً إال أنَّه رضخ ملشيئتي‪ ،‬بينما زُيِّنت‬
‫احلوائط األخرى بصور شاطئ املسيلة وجزيرة فيلكا اخلالبة‪،‬‬
‫وبيت السدو التراثي‪ ،‬وأبراج الكويت الثالثة‪ .‬هذه الغرفة هي‬
‫الوحيدة التي أشغلها‪ .‬هنا أجد نفسي أقرب ما أكون إلى زوجتي‬
‫التي تركتها هنالك حتت أنقاض املدينة اجلامعية‪ .‬مِن هنا أراقب‬
‫الطريق‪ ،‬العالم مِن خلف نافذتي يبدو مختلفاً كليةً‪ ،‬مِن هنا يتعرَّى‬
‫اجلميع أمامي‪ ،‬قد أبدو مختالً وأنا أقضي ساعات طوال أتلصص‬
‫على جيراني‪ ،‬لكن ماذا ستفعل لو كنتَ تعاني مِن الوحدة مثلي؟!‪.‬‬
‫قلبتُ الصحيفة فلم أجد خبراً ولو صغيراً عن وقفاتنا املتكررة‪،‬‬
‫نرفعُ شعاراتنا وتبح أصواتنا وتغلي أدمغتنا كاملراجل حتت لهيب‬
‫الشمس‪ ،‬وال جند صدى‪ ،‬املركبات مترق مِن خلفنا مُخَلِّفة بعض‬
‫النظرات الفضولية فقط‪ ،‬هي لعبة وقت كما قال العجوز‪:‬‬
‫ينتظرونكم أنْ تكلوا ومتلوا‪.‬‬
‫العجوز هو الوحيد الذي حاز على اهتمامي مِن كل أهل احلي‪،‬‬
‫سكنتُ قبله بفترة وجيزة‪ ،‬ظهر ذات ليل شاتٍ‪ ،‬كان راجالً ويتلفح‬
‫عباءة حجازية باهتة‪ ،‬يتوكأ على عصا أبنوسية‪ ،‬وتتبعه عربة نقل‬
‫تُقل زوجه العجوز وابنه وبناته الثالث وعدد من األحفاد الصغار‪،‬‬
‫في هدوء سكنوا منزالً متهالكاً بني بنايتني فخمتني‪ .‬أخبرني فيما‬
‫بعد أنَّ صاحب البيت تعاطف مع حاله؛ فمنحه السكنى إلى حني‪.‬‬
‫عَدَّلتُ جلستي وأنا أتابع جاري الشاب الذي ظهر أمام منزله‪،‬‬
‫مرتدياً بنطال جينز قصير حتى منتصف الساق وفانيلة ذات‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-061-‬‬
‫حمَّاالت حمراء مُبْرِزَة عضالت ال بأس بها وخلف أذنه سيجار‪،‬‬
‫راوح بني قدميه‪ ،‬فرك يديه‪ ،‬ونظر بحقد إلى العجوز‪ ،‬دعك أنفه‬
‫األفطس وأطلق سباباً بذيئاً قرأته على شفتيه ثم اختفى‪ .‬وضعت‬
‫املرقاب جانبا وأنا أطلق ضحكة جذلة‪ .‬العجوز ال يدري شيئاً لكنه‬
‫حجر عثرة أمام نزوات الشاب وجارتنا الفاتنة‪ .‬عندما وضعتْ‬
‫طفلها الثاني ذهبتُ مهنئاً زوجها ذا األنف الدقيق‪ ،‬ولم أندهش‬
‫عندما حملتُ الطفل وشاهدتُ أنفه األفطس‪.‬‬
‫رفع العجوز رأسه نحو نافذتي‪ ،‬تراجعتُ بظهري على املقعد‪.‬‬
‫نظراته هذه دوماً تربكني‪ ،‬بالرغم مِن أنَّ الزجاج معتم ويستحيل أنْ‬
‫يراني إال أنَّ نظراته تخترق العتمة وتخترقني‪ ،‬وأشعر أنَّه يعلم أنَّني‬
‫خلف النافذة أرقبه‪ .‬عاد إلى جلسته األولى‪ ،‬كان كما رأيته أول‬
‫مرة‪ ،‬عباءة حجازية بالية والعصا وعمامة ضخمة تنتحب على‬
‫ماض زاهر‪.‬‬
‫صرتُ خبيراً بتقلبات العجوز النفسية‪ ،‬يستلطفني أحياناً‬
‫ويدعوني جملالسته‪ ،‬وحيناً يطردني ككلب أجرب‪ .‬ذات صفو ومِن‬
‫بني ضحكاته أخبرتُه أنَّنِي أعلم أنهم ميرون بضائقة مالية؛ فابنه‬
‫على باب الله‪ ،‬وبناته ال يعملن وأحفاده موزعون على املدارس‪،‬‬
‫أنهيتُ مقدمتي مُبْرِزَاً حِزْمَة نقود‪ .‬تبدَّلت مالمحه واحتقنت عيناه‬
‫بالدم‪ ،‬هزَّ عصاه في وجهي ثم أشار إلى منزلي وزأر كأسد داسه‬
‫الزمن‪ " :‬اذهب "‪.‬انسحبت خجالً ولم يحادثني ألسبوع‪ ،‬وتعلَّمت‬
‫دسَّ النقود في يد ابنه‪.‬‬
‫ذات يوم سألني‪( :‬هل تريد تعويضاً ملقتل زوجتك)؟ تلعثمت‬
‫نافضاً االتهام عني‪( :‬زوجتي ال تُعَوَّض مبال‪ ،‬هنالك فقدتُ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-067-‬‬
‫مدخراتي وفقدتُ حياتي مبوت حبيبتي‪ ،‬أنا أساند الضحايا‬
‫أمثالي‪ ،‬أريدُ اعترافاً منهم بأنهم تركونا في العراء تتناوشنا‬
‫الذئاب‪ ،‬أريدُ اعتذاراً رسمياً عن تقصيرهم مبواطنيهم باملهجر)‪.‬‬
‫قهقه العجوز‪( :‬اعتذار ورسمي)‪.‬‬
‫بانَ ضيقي مبالمحي‪( :‬لِمَ السخرية؟‪ .‬يبدو أنَّني سأندم على‬
‫مسامرتك)‪.‬‬
‫هممتُ باملغادرة عندما جذبني مِن يدي ثم ربَّت على فخذيَّ‬
‫مهدئاً‪( :‬ال تكن غضوباً‪ .‬إنني ال أسخر منك بل مِن حالنا جميعاً‪،‬‬
‫وضعنا كنافذتك مائل‪ ،‬امنحني أذنيك؛ وستنسى ترهات االعتذار‬
‫هذه)‪.‬‬
‫شبكَ يديه على عصاه‪ ،‬ووضع ذقنه عليهما ودون أنْ ينظر إليَّ‬
‫حتدَّث‪:‬‬
‫(يا بني‪ .‬خسائرك كانت بأرض غريبة‪ ،‬ومِن أناس أغراب قذفوا‬
‫قنابلهم مينة ويسرة دون متييز‪ ،‬ماذا لو مقتلعوك مِن أرضك‬
‫وقاتلوك هم بنو جلدتك؟ في زمان ما لم أكن العجوز الذي تراه‪،‬‬
‫كنتُ هنالك‪ .‬بأرض الفردوس‪ ،‬زرعها أخضر ال يصفرُّ‪ ،‬وماؤها‬
‫عذب صاف‪ ،‬وعشيرة طيبة مساملة‪ ،‬كنتُ حينذاك كبيراً للبلدة‪ ،‬لم‬
‫أكن خيال املآته الذي تراه اآلن‪ ،‬أفقر رجالنا كان غنياً بحسابات‬
‫هذا الزمان‪ ،‬اآلن ال ضيف يزورني وذاك مِن لطف الله؛ فلو جاء لن‬
‫أجد ما أجود به عليه‪ .‬اليوم أنا مُتَعَطِّل كشابٍ أخرق مِن مدينتكم‪،‬‬
‫خرطومكم التي ال أجد بها راحة‪ ،‬مدينة تعيش لنفسها‪ ،‬وال تستقبل‬
‫غريباً حتى تتالعب بأخالقه وماضيه‪ ،‬عندما ألقي السالم على‬
‫هذه املأفونة وأشار إلى منزل جارتنا ذي الطوابق الثالث والتي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-062-‬‬
‫كانت من كبار كارهي أسرة العجوز ألنهم وببيتهم الطيني يقللون‬
‫مِن " برستيج " احلي!‪ ..‬ال ترد وتشتم أحفادي كلما وجدتهم يلعبون‬
‫في ظل منزلها‪.‬‬
‫آيييه! كُنَّا في اجلنة عندما داهمنا الشيطان‪ ،‬نتصيد أخبار‬
‫احلرب الدائرة في حذر‪ ،‬ولكننا لم نحسب أنَّ لهيبها سيمسنا‪ .‬ذات‬
‫صيف والكل في مقيل‪ ،‬أو يعمل في احلقول باغتونا ـ متخط في كم‬
‫جلبابه ـ باغتونا كضباع اجلبل‪ ،‬نهشونا كجيفة‪ ،‬وعندما وصلوا إلى‬
‫داري لم أجد أنا الشيخ العجوز إال عصاي ملواجهتهم بها‪ ،‬تقاذفوني‬
‫ككرة‪ ،‬صفعوا زوجتي وربطوها كنعجة‪ ،‬وجروا ابنتي ـ تساقطت‬
‫دموعه بينما احتقن وجهي ـ تناوب على اغتصابها خمسة منهم وأنا‬
‫األب مرمياً كخرقة بالية مشجوج الرأس انتحب كالنساء‪ ،‬ابني‬
‫األكبر ظهر كبطل مِن رمل؛ فأردوه بالرصاص دون أنْ يطرف لهم‬
‫جفن‪ ،‬وقتها حمدت الله أنَّ ابني اآلخر باحلقل‪.‬‬
‫نشج وهو يحاول كبت أحزانه‪.‬‬
‫(تركونا وليتهم لم يفعلوا‪ ،‬وجدت فمي مختلطاً بلعابي وملح‬
‫دموعي ودمي‪ ،‬هل كان دم أسناني اخمللوعة أم دماء ابنتي‬
‫املسفوكة؟! وهربنا تاركني كل شي خلفنا‪ ،‬وتشرَّدتْ عشيرتي‪ ،‬جُلّهم‬
‫"باركسوني" و"فرشنا " بتشاد‪ ،‬وقلة في "اجلنينة" و"الفاشر"‪ .‬طوال‬
‫فترة هروبنا ظَلَّت ابنتي املذبوحة مكتئبة وترميني بنظرات الئمة‬
‫كأنَّني أخطأتُ ولم أمت كأخيها األكبر! نزلنا عند قريب لنا‬
‫"باألبيض" وبعد يومني مِن إقامتنا وجدنا ابنتي تلفظ أنفاسها‬
‫األخيرة بعد ابتالعها الصبغة‪ ،‬وحتى وهى تتحشرج حدجتْنِي‬
‫بنظراتها الالئمة)‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-011-‬‬
‫ـ أيها الغضوب هل ستنتظر اعتذاراً؟!‬
‫وجدتُ دموعي تزرف بغزارة وتختلط بدموعه وأنا أعانقه‪.‬‬
‫تفقدتُ هاتفي‪ ،‬وأنا أشدو بشعر طريف حفظته عن العجوز‪:‬‬
‫دا وادي ولد الدندول الله يبارك فيه‪.‬‬
‫كساني لي توب وجبه وسروال‪.‬‬
‫وعمة توتال وملف شنشال‪.‬‬
‫أنا ضنيب القط‪ ،‬قبيل ما بعرف املشي حسا بقيت قدال‪.‬‬
‫أعدتُ الهاتف إلى الشحن‪ ،‬وعدتُ إلى مقعدي أمام النافذة‪،‬‬
‫وكنتُ الشاهد الوحيد‪ .‬لم يحتج األمر إلى دابة األرض كما حدث‬
‫مع سليمان‪ ،‬تكفلت اجلاذبية بإسقاط العجوز على وجهه في بركة‬
‫آسنة أمامه‪ .‬اختلط بياض عمامته بسواد الطني‪ .‬ألصقتُ وجهي‬
‫بزجاج النافذة متسمراً مِن هول املوقف عندما توقفتْ دراجة نارية‬
‫عليها شابان لم أرهما مِن قبل‪ .‬أسرع أحدهما وانحنى على‬
‫العجوز‪ .‬فتش جيوبه وعندما لم يعثر على شئ اقتلع العصا مِن يده‬
‫ثم ركله في بطنه في حنق وقفز خلف السائق‪ .‬وفرَّا‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-010-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-019-‬‬
‫حممد خلف اهلل سليمان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫حمّال نوبي‬

‫إسراء البدوي ومعراجه‬

‫كرنولوجيا الولد‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-013-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-014-‬‬
‫محال نويب‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫كُنت حمّاالً في مرفأ نوبي‪ .‬أنقُل األمتعة والسالحف والعاج‬


‫وقرون اخلرتيت والعطور والذهب‪ ،‬وأبيع عقاقير جنسية للبحارة‬
‫والسواح البيزنطيني‪ ،‬وحينما سقطتُ مرة وبان فخذي تعلقت بي‬
‫امرأةٌ كانت تعرفُني عندما كُنت أميراً إغريقياً في أثينا وهي إحدى‬
‫وصيفات أمي‪ ،‬فنادتني باسمي القدمي تذكرتُ ونفضتُ التراب عن‬
‫جُبتي‪ ،‬مترّ البارجاتِ والعرباتِ التي جترها اخلِيولْ‪ ،‬أسمعُ‬
‫الدمدماتِ الهائلةِ لصهرِ احلديدْ‪ ،‬وفي األمسيات أقودُ حنطوراً‬
‫فرعونياً في شوارع ممفيس أحملُ في الليلِ سبابَ اخملمورين‬
‫وعناءَ الراقصاتِ وهَمساتِ العشاقِ املمسوسني‪ ،‬وأتقاسم األجر‬
‫مع صاحب احلنطور أجِلسُ هناك وتتراص أكوابُ املاء املقدس‪،‬‬
‫أعلقُ سيفي امللكي وصورةَ األب من فوقي مُزدانةً بالزمرد‪ ،‬تسللتُ‬
‫إلى غرفتي‪ ،‬حلقتْ بي وصيفةُ أمي بعد أن غافلت احملظياتِ‪،‬‬
‫حتسست جبهتي‪ ،‬ثم وضعَتْ كفَّها على صدري واستلقتْ بقربي‪.‬‬
‫كُنت حماالً في مرفأٍ نوبي‪ ،‬أحمل األمتعة والسالحف والعاج‬
‫وقرون اخلرتيتِ والعطورَ والذهبَ والنبيذ وأبيعُ عقاقير جنسية‬
‫للبحارة والسواح البيزنطيني‪ ،‬وحينما سقطتُ مرة وبان فخذي‬
‫تعلقت بي امرأةٌ كانت تعرفُني عندما كُنت أميراً إغريقياً في أثينا‬
‫كان معلمي بالقصر يحذرني من اإلفراط في املضاجعة ألنَّها‬
‫تُضعِفُ العقل وتشوشُ الفكر‪ ،‬صار معلمي جناراً لتوابيتِ املوتى‬
‫وقد شهِد املذبحة التي ارتكبها هانيبال في حق ألفي شخص من‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-015-‬‬
‫مناوئيه على شاطئ كروتون‪ .‬تعبُرُ قوافلُ األعراب إلى األمصار‬
‫البعيدة‪ ،‬تظهرُ جنمةُ الشعري اليمانية صباحاً إيذاناً بانطالقِ‬
‫موسمِ اخلصوبةِ‪.‬‬
‫كُنا في ميدان الشهداء بأم درمان غبَّ أن بانت في السماء جنمةٌ‬
‫تتألأل‬
‫عشت ملَّا كانَ الكالمُ ميوت حني يُقال‪...‬‬
‫رأيتُهم كيف يوارونَ العصور حتتَ الترابِ‪ ،‬ويدعونني باسمٍ من‬
‫وحل‪.‬‬
‫وفي األمسيات أقودُ حنطوراً فرعونياً في شوارع ممفيس‪ ،‬أحملُ‬
‫في الليل سبابَ اخملمورين وعناءُ الراقصاتِ وهمساتِ العشاقِ‬
‫املمسوسني وأتقاسمُ األجرَ مع صاحب احلنطور‪.‬‬
‫يقول أبي ‪ :‬إن النكاح يُطيلُ العمر‪ ،‬ويُكثِر النسل‪.‬‬
‫كُنت حمَّاالً في مرفأ نوبي ‪ ...‬وفي الليلِ أغشى األماكن التي تثير‬
‫عواطفي‪ ،‬وأسعدُ بأولئك الذين يخاطرون بحياتِهم من أجل‬
‫القضاءِ على مليكٍ جائر‪.‬‬
‫أقودُ حنطوراً فرعونياً في أماسي ممفيس‪.‬‬
‫سكير‪...‬‬
‫رجل وامرأة‪...‬‬
‫امرأة وطفلةُ تسعل‪...‬‬
‫قال السكيرُ للمرأةِ التي تقودُ الطفلة‪ :‬الطقس!‬
‫وتسرب القولُ‪ :‬خُذي الطفلة للكاهنة نيتو كريس لتتوسل إللهِ‬
‫طيبة كي تتعافى البنتُ‪ ،‬هبط السكيرُ ونامت البنتُ‪ ،‬وتشاغلتِ‬
‫املرأةُ بالفضاء‪ ،‬كانت الهمساتُ تتحشرجُ بني الرجلِ واملرأة‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-016-‬‬
‫وحينما سقطتُ مرةً وبان فخذي تعلَّقت بي امرأة كانت تعرفني‬
‫عندما كُنت أميراً إغريقياً في أثينا‪...‬‬
‫وحول موقد النار أسموني باسم جدي ألبي‪.‬‬
‫تطوف في رأسي حكمة هندية‪:‬‬
‫‪ -‬يا معلمي كيف ينبغي لي أن أسلُك إِزاءَ النساء؟‬
‫‪ -‬كما لو لم تكن قد رأيتهن أبدأ‬
‫‪ -‬لكن ماذا أفعل لو حتتَّم على رؤيتهن ؟‬
‫‪ -‬ال تتحدثْ إليهِنَّ‬
‫‪ -‬لكن ماذا أفعل إذا ما حتدثن إليَّ ؟‬
‫‪ -‬كُن مِنهُن على حذرِ فحسب إالَّ أنَّ فكاهاتِ وصيفةِ أمي املرحة‬
‫أبعدتني عن احلذر‪ ،‬وعن احلكمةِ‪ ،‬لقد صارت تصبغُ شعرها‬
‫بشُقرةٍ محببةٍ خاصة لفتى في السادسة عشر من عمره‪.‬‬
‫كنت حمَّاالً في مرفأ نوبي‪ ..‬وفي الليل أقود حنطوراً فرعونياً‬
‫يجوب شوارع ممفيس‪ ،‬يلتقطُ أحشاء املدينة امللفوظة‪ ،‬ويحملُ‬
‫سباب اخملمورين وعناء الراقصات وهمس العشاق املمسوسني‪.‬‬
‫قال أبي‪ :‬إن وجدت األنثى فال تضيعَنَّ الفرصة‪.‬‬
‫متتلئ شوارع ممفيس بالعاهرات اللواتي يستوقفّنَ احلناطير‬
‫العابرة‪ ،‬ويركبْن دون أن يدفعن‪ ،‬ومينحن أجسادهن بسخاءٍ نظير‬
‫هذه النزهة اجلليلة‪ ،‬ويعاشرن السواح مقابل سسترسات رومانية‬
‫أو مراهم للوجه‪ ،‬تزدانُ وجوهُ اخلُالسيات نعومة في املرافئ وتفوحُ‬
‫أجسامُهُنَّ برائحة الصابون املعطر‪.‬‬
‫أمام املرايا الكبيرة سأل احلالقُ امللك عن كيف يجب أن يقصَّ‬
‫شعره؟‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-011-‬‬
‫قال امللك‪ :‬أن يتم ذلك في صمت‪.‬‬
‫صمت احلالقُ وصمتتِ العصافيرُ عن الزقزقة في األقفاصِ‪،‬‬
‫وصمت املُغني وران الصمتُ في املكانِ‪ ،‬وظل السيفُ الذهبي‬
‫صامتاً‬
‫كُنا في ميدان الشهداء بأم درمان‪ ،‬غِبّ أن بانت في السماء جنمة‬
‫تتألأل‬
‫جلس زهير قواد العهد القدمي‪.‬‬
‫وجهاد مومس ذلك العهد‪.‬‬
‫أبابا التي صارت بغيا لكل العهود‪ ،‬كان وشم الصليب على جباه‬
‫األكسوميات مفزعاً‪.‬‬
‫يضعون أواني الشاي املعد للبيع في فرندة دكان قرب محطة‬
‫الشهداء التي أنشئت بعد غياب تلك املؤسسة الضخمة بقرار من‬
‫ذلك احملافظ يقضي بحظر البغاء‪ .‬لقد مضت قافلة الشهداء‪،‬‬
‫ورائحة البخور الزجنباري حتوم في املكان وتطايرت أصوات‬
‫منادي السيارات‪ ...‬وتبعثر الباعة اجلوالون وماسحو األحذية‬
‫وحالقو ظالل األشجار وأنا ‪ -‬اآلن ‪ -‬أكتب القصص وأقرض‬
‫الشعر‪ ،‬وأمارس النقد‪ ،‬وأعمل مبهنة ال متت إلى الكتابة بصلة‪.‬‬
‫أودع أصدقائي في احملطة وأمضي‪...‬‬
‫كنت حماالً في مرفأ نوبي أنقل األمتعة والعاج وقرون اخلرتيت‬
‫والعطور والذهب والنبيذ وأبيع عقاقير جنسية للبحارة والسواح‬
‫البيزنطيني‪ .‬وحينما سقطت مرة وبان فخذي جتلت في روح كنت‬
‫حماال في مرفأ نوبي‪.‬‬
‫كنت أميرا إغريقيا‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-017-‬‬
‫كنت ‪ ...‬و كنت ‪ ...‬وكنت‪..‬‬
‫وأصبحت كاتباً مغموراً جداً في أم درمان‪.‬‬
‫وها أنا أهيئ روحي لرحلة جديدة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-012-‬‬
‫كرنولوجيا الولد‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫يحكى أن ولداً كان يرحتل يومياً‪.‬‬


‫وكان ذلك الولد يتحول إلى أول شيء تقع عليه عيناه‪.‬‬
‫وكان ذلك الشيء يصبح جزءاً منه طيلة اليوم‪.‬‬
‫أو جزءاً من اليوم أو لسنوات عديدة أو عصور ممتدة‪.‬‬
‫(والت وايتمان)‪.‬‬

‫(أ)‬

‫كـان احلديـد نفـط ذلك الزمــان ‪...‬‬


‫يقال‪ :‬إنه في هزيع القرن اخلامس قبل امليالدي كانت مروي‬
‫مدينة يسكنها الناس وحتيط بها احلجارة‪ ،‬تتطاول فيها قلعات‬
‫احلي امللكي وقصوره وحماماته ونوافيره امللونة ومعابد آمون‬
‫وإيزيس والشمس واألسد ثم األهرامات ومقابر امللوك والعامة‬
‫وأطالل معبدين خرج أتباعهما الفقراء من مِلة امللوك‬
‫تنتشر في املدينة متاجر احلُلي واجملوهرات ومحالت صناعة‬
‫الفخار املزخرف بضفادع خضراء ومدن أخرى روحانية تقيم‬
‫األمسيات الصاخبة‪.‬‬
‫ومتتد بيوت العامة على األطراف‬
‫يسومون األطعمة‪ ...‬والشراب‪...‬‬
‫يرابون‪ ،‬ويتنابذون باأللقاب‬
‫يقرأون فرمانات امللك‪...‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-071-‬‬
‫يتبارون بالشعر‪ ...‬ويتنادمون‬
‫يبارحون األمكنة إلى منافٍ بعيدةٍ‬

‫(ب )‬

‫رأى الولد في هذا الصباح عشبة احلديقة وغدت العشبة تطوف‬


‫في احلدائق وامليادين العامة يجلس عليها العشاق‪...‬‬
‫تسمع همسات عاشقني شفيفني يتحدثان عن ساعة اكتمال‬
‫القمر‪ ،‬ويبحثان عن املناطق املتوهجة الغامضة في روحيهما‪...‬‬
‫والعشبـة ساكنةٌ ومتوحدةٌ تطؤها األقـدام‪.‬‬

‫(ت )‬

‫ارتكب الولد في هذا الصباح حماقة صغيرة بعد أن نهض مبكراً‬


‫رأى كتاب تفسير األحالم‪ ...‬الذي صارت تتلقفه األيدي في‬
‫املدارس واملكتبات واملتاهات‪ ،‬ويجذبه الناهضون لتوهم من النوم‬
‫ويستنسخه التالميذ والباحثون‪.‬‬
‫ملا عاد منهكاً آخر اليوم متزقت أطرافه وتبعثرت األحالم‪.‬‬
‫حكى في زمن الحق أن رجالً أتى ابن سيرين وقال‪ :‬رأيت امرأة‬
‫مختونة وسط بيتها‪ ،‬تضطرب على فراشها فقال ابن سيرين ينبغي‬
‫أن تكون هذه املرأة قد نُكحت على فراشها في هذه الليلة وكان‬
‫الرجل أخاً للمرأة وكان زوجها غائباً فقام الرجل من عند ابن‬
‫سيرين وهو مغضب على أخته مضمر لها الشر فأتى بيته فإذا‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-070-‬‬
‫بجارية أخته قد أتته بهدية وقالت‪ :‬إن سيدي قدم البارحة من‬
‫السفر‪.‬‬
‫ضرب الولد رأسه على احلائط‪ ...‬وأفاق‪ ...‬واتخذ كتاب‬
‫(الكاماسوترا) أوضاعاً مختلفة فصارت املرأة غزاالً وبقرة سماوية‬
‫وكوبرا ومحارة تكسو نفسها بخالصات الورد والطيب والزعفران‪.‬‬

‫(ث )‬

‫الولد الذي ركل امللك برجله في منامه‪ ،‬ركل ديناراً عليه صورته‬
‫في صحوه‪...‬‬

‫(ج)‬

‫أرسلته أمه لبيت ناس التاية بنت الفضل‪ ،‬دخل‪ ،‬ووجدها جتلس‬
‫في (بنبر) الصطياد الشمس‪ ،‬وكأمنا تراه ألول مرة‪...‬‬
‫رددت هامسة‬
‫أهو الولد‪...‬‬
‫أم امللك ؟‬
‫امللك‪...‬‬
‫أم الولد ؟‬
‫الـ‪ ...‬وحتول (بنبر) التاية بنت الفضل إلى عرش عظيم‪.‬‬
‫لم تكن التاية بنت الفضل ترى طشاشاً‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-079-‬‬
‫مسحت وجهها بطرف ثوبها‪ ،‬وسقطت املرآة على األرض‬
‫وتهشمت‪ ،‬فتطيرت احلاجة من شر هذا اليوم وشر ما بعده وتناثر‬
‫وجه الولد شظايا‪.‬‬

‫(ح)‬

‫ما جاء في اخلبر أن الولد الذي شرب سيجارة (بنقو) قبل ثالثني‬
‫عاماً صمت منذ ذلك احلني ولم يكلم بعدها إنسياً‪...‬‬
‫رمبا يتراءى له اآلن شبح صديقه الذي اختطفه النهر وظل‬
‫غائصاً في قيعانه املزركشة‪...‬‬
‫لقد تبدى له الصمت في صورة غريق‪ ،‬وغدا يلتقط األصوات‬
‫التي حتوم في الفضاء منذ قرون‪ ،‬وال تستقر‪...‬‬
‫أصوات ديانا في الغابة‪...‬‬
‫وصوت اخلليل (إتلم خيل الضل على األريل في مشارعه الصيد‬
‫ورد وقيل)‪.‬‬
‫أصوات امللوك وهم يوبخون الوزراء‪ ،‬يولون ويعزلون وينهون‬
‫ويأمرون أصوات الكهنة وهم يرددون التراتيل الدينية القدمية‪...‬‬
‫أصوات السحرة واملشعوذين والعرافني‪...‬‬
‫وصوت يونس إمرة القائل (طلعت على شجرة البرقوق وأكلت‬
‫منها العنب فنهرني صاحب البستان وقال لي‪ :‬لِم تأكل جوزي ؟)‬
‫أصوات املؤذنني‪...‬‬
‫أصوات لغات سندية وبنجابية وأوردية وآرامية وفارسية والتينية‬
‫صوت النداءات في األسواق‪..‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-073-‬‬
‫صوت شهرزاد‪...‬‬
‫وأحاديث معروف االسكافي وهو يسرد ألهل مدينة اختيان خنت‬
‫حكايته اجلديدة‪...‬‬
‫أصوات كازنتزاكي وكافكا ولوتريامون‪...‬‬
‫أصوات املمرورين واملتنبئني واجملانني‪...‬‬
‫أصوات املغنيني‪...‬‬
‫أصوات املشاجرات والشتائم‪...‬‬
‫صوت املرأة وهي تضطرب في فراشها‪...‬‬
‫صوت التاية بنت الفضل‪...‬‬
‫صفير الناس في السينما‪...‬‬
‫صراخات الكرة‪...‬‬
‫هسيس األرواح التي تسكن األشجار‪...‬‬
‫ومازال الولد يجمع األصوات بحثاً عن صوته الذي راح مع النهر‬
‫متتبعا املوجة‪...‬‬
‫كان احلديد نفط ذلك الزمان‪...‬‬
‫والولد جاء من بالد بعيدة‪...‬‬

‫(خ)‬

‫في اليوم السابع‪ ،‬استراح الولد الذي تشوشت حواسه وما فتئ‬
‫يفتش صوته اخلاص‪ ،‬وهو يتجول بني مدينة وأخرى وزمن وآخر‪...‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-074-‬‬
‫إسراء البدوي ومعراجه‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫أمام احملطة يقف بائع احللوى الضرير اليوم بأكمله ميدّ صندوقاً‬
‫من احللوى للسابلة‪ ،‬أدخل شخص يده فى جيبه‪ ،‬وأخرج نقوداً‬
‫وضعها فى كف الضرير دون أن يأخذ احللوى‪ ،‬ركض البائع خلفه‪،‬‬
‫وهو يتحسس فراغاً وهمياً‪ ،‬تناثرت محتويات الصندوق‪ ،‬دهستها‬
‫السيارات املارة سريعاً‪ ،‬اندفع البائع مهروالً‪ ،‬تواصلت أبواق‬
‫العربات وهديرها املرعب‪ ،‬تدحرج البائع الضرير حتت عجالتها‪،‬‬
‫نطفة فعلقة‪ ،‬فمضغة‪ ،‬والساعة تضج بعويل قاسٍ‪ ،‬يرتفع‪ ،‬ثم ينزرع‬
‫الصمت على األبعاد الالمحدودة من الطريق‪ ،‬استلقى اجلسد‬
‫الطازج والدم الهادر يلون األسفلت‪ ...‬مات‪.‬‬
‫واملدينة‪ ،‬التنني االسمنتى الهائل تعيش حياتها االعتيادية‪ ،‬يخرج‬
‫العمال واملوظفون فى متام السابعة صباحاً‪ ،‬حركة املرور سالكة‪،‬‬
‫احلوانيت تفتح أبوابها للريح‪ ،‬والزبائن‪ ،‬وتالميذ املدارس‪ ،‬السواح‬
‫املبكرون يلتقطون الصور و(سلمان البدوى) يرى عامله أكثر عمقاً‪،‬‬
‫واتساعاً‪ ،‬يبصره بكلتا عينيه بوضوح مشرق منذ بدء التكوين حتى‬
‫حلظة اكتمال اخلليقة‪ ،‬وإبداعات اخلالق فى يوم مقداره خمسون‬
‫ألف سنة‪ ،‬يتسع فضاء (البدوي)‪ ،‬ويستوعب بعداً ميتافيزيقياً ال‬
‫حد له‪ ،‬يحلق كنورس بحري‪ ،‬بوصلة للبحارة والصعاليك‪ ،‬ليشكل‬
‫عوامله من الناس‪ ،‬واحملطة ممثل يدمر احليطان الزائدة على رؤس‬
‫األشهاد‪ ،‬ويعيد البناء ميارس عادته املتجذرة فى جتريد اخللق‪،‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-075-‬‬
‫وتشريحهم‪ ،‬يحاورهم حواراً داخلياً مضنيا‪ ،‬ويكشف أزماتهم دون‬
‫أن يخاطبهم‪ ،‬يسافر‪ ،‬تكثر مشاهداته‪ ،‬رغم إنه لم يفارق املكان‪.‬‬
‫الوقت الساعة السابعة صباحاً‪ ،‬وموظف يسرع اخلطى‪ ،‬تفتح‬
‫احملال التجارية أبوابها للريح والزبائن وتالميذ املدارس‪ ،‬والنيل ال‬
‫يغضب اال نادراً‪ ،‬كالـ‪ ..‬ومتاماً يجيء النيل سكراناً مترعة كؤوسه‬
‫باخلمر واألسى‪ ،‬لم متر الفتاة التي تبتسم له أحياناً‪ ،‬توارى األوالد‬
‫خلف كتبهم املدرسية‪.‬‬
‫يأتي (الباص) الذي يستقله‪ ،‬وألنه رأى وبكل تأكيد شيئاً غريباً‬
‫فى هذا اليوم‪ ،‬لم يدرك (الباص) (نخلة راحت للنبي محمد‪،‬‬
‫وشكت العباد الذين حاولوا اقتالعها ألنها تعوق مسيرتهم‪ ،‬مسح‬
‫النبي عليها بيده فاستقامت‪ ،‬وصارت مزاراً)‪.‬‬
‫حتى النخيل يعرف كيف يطرح أحزانه‪ ،‬هزى إليك بجذع النخلة‬
‫تساقط أفراحاً‪ ،‬وأشواقاه إلى أفراحي التي ملا تأت بعد‪ ،‬وأنا‬
‫(سلمان البدوي) الواقف هنا من زمن لم تشر إليه الساعة املعلقة‬
‫فى كل مكان‪ ،‬وغير املسؤول عن تناقضات هذا العالم‪ ،‬واملسؤول‬
‫عنها فى نفس الوقت‪ ،‬ال ألني أنتظر (الباص)‪ ،‬بل ألني أشارك‬
‫آخرين فى انتظاره‪ ،‬وأنا بهذا كله لم أخسر أي شيء‪ ،‬ألني لم‬
‫اكتسب شيئاً بالفعل‪ ،‬لكني رأيت أمراً عجباً‪ ،‬فهل أواصل مسيرتي‬
‫العرجاء‪ ،‬أم أنتظر (الباص) الذي قد ال يأتي مطلقاً؟‬
‫أهاجر إلى جذوع األشجار‪ ،‬وزرقة النهر‪ ،‬أصفر إلى أسراب‬
‫العصافير‪ ،‬أعانق القباب‪ ،‬واألضرحة‪ ،‬أرحل إلى وادٍ غير ذي زرع‪،‬‬
‫الصباحات البهيجة‪ ،‬وممالك العهد القادم‪ ،‬رسومات األطفال‪،‬‬
‫فوضى األشياء اجلميلة‪ ،‬أتخطى تواريخ الالهوت‪ ،‬األزمنة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-076-‬‬
‫السحيقة الغارقة فى الطوفان الدموي‪ ،‬املتجرعة ألنخاب احلزن‬
‫اإلنساني منذ العصر النيوليثى‪ ،‬الساكنة فى جوف احلوت اإللهي‪،‬‬
‫واملدينة السدميية غير اخملططة جغرافياً‪ ،‬إذ جعل عاليها أسفلها‪،‬‬
‫وأسفلها عاليها‪ ،‬وحق عليها العذاب‪ ،‬ودمرت تدميراً‪ ،‬ترتفع فيها‬
‫البنايات‪ ،‬والنخيل واألبنوس‪ ،‬والسدر‪ ،‬ألشجارها رؤوس أطفال‬
‫مقطعة‪ ،‬وحلواريها رائحة اللحم البشري املشوي‪ ،‬تنتحر فيها‬
‫العصافير انتحاراً جماعيا وسط طبول املوت ويتالشى الصوت‬
‫إلى األبد‪ ،‬واحلنطة تلعن الشمس‪ ،‬والورود يقتلها الظمأ في‬
‫صناديق مغلقة عليها (خطر)‪ ،‬مرسومة عليها جمجمة بعظمني‬
‫متناحرين‪ ،‬أين يذهب البدوي والساعة‪ ،‬اإليقاع ينبض فى شرايني‬
‫التوجس‪ ،‬واحلرائق تلتهم الشرف اجلديدة‪ ،‬واملالبس املنشورة‬
‫على حبل الغسيل‪ ،‬وحتط فراشة جناحيها املتعبني على كم قميص‬
‫أبيض‪ ،‬فتشتعل الفراشة‪ ،‬والقميص‪ ،‬وتسري النيران‪ ،‬تتدافع‬
‫اجلموع‪ ،‬يصطف صفوفا تلتهب حناجرهم‪ ،‬تنتفض حلاهم‪،‬‬
‫وتسمع الصراخ‪ ،‬العنف يكتب اسمه على اجلدران‪ ،‬ولوحات‬
‫املدارس‪ ،‬حتترق الصحف الصفراء ويصمت املذياع‪.‬‬
‫تعوي كالب احلارة العجفاء‪ ،‬الذعر يسكن احليطان‪ ،‬األطفال‬
‫والنساء والشيوخ يركضون‪ ،‬يسقط طفل على حلية شيخ‪ ،‬وشيخ‬
‫ثمل على ثدي عجوز‪ ،‬وشجرة صلبة‪ ،‬وعاتية ضاربة جذورها في‬
‫األرض‪ ،‬وفرعها في السماء‪.‬‬
‫قادتنى قدماي إلى إسراء في األرض‪ ،‬ومعراج فى صباح يوم أكثر‬
‫اخضراراً‪ ،‬إلى أن بلغت سدرة املنتهى‪ ،‬أعد اخلطو‪ ،‬أمتلك العالم‬
‫واألشياء‪ ،‬أكلم الطير‪ ،‬أضاحك النمل‪ ،‬تنكشف الرؤية‪ ،‬أتوحد‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-071-‬‬
‫أبصر أطفاالً يأتون‪ ،‬ويرتدون ثياباً بهية‪ ،‬ويأتي الرجال بنضارتهم‪،‬‬
‫وبشارتهم‪ ،‬سقطوا على األرض‪ ،‬وتشبثوا بذراتها املتناهية‪ ،‬كانت‬
‫األجساد تشتعل‪ ،‬والقلوب تشع ملعانا‪ ،‬و(البدوي) داخل الزمان‪،‬‬
‫واملكان يرفع ساقه اليسرى ليركب (الباص) القادم لتوه‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-077-‬‬
‫منصور الصويـــــم‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫نصوص‪:‬‬
‫حزين مثل دوالب خشبي قدمي‬

‫استحـــــــالب‬

‫لذة خاصة ألجل السلطان‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-072-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-021-‬‬
‫حزين مثل دوالب خشيب قدمي‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫هذا الرجل حزين فعالً‪ ،‬حزين جداً‪ ،‬حزن مسكني‪ ،‬متوارٍ‪ ،‬ال‬
‫يالحظ‪ ،‬متالشٍ‪ ،‬في الظل‪ ،‬مثل دوالب خشبي قدمي؛ منسي في‬
‫الظلمة‪ ،‬داخل مخزن قدمي‪ ،‬ممتلئ باألشياء واألدوات اخلربة‪،‬‬
‫مستنفدة الفائدة‪ ،‬ضائعة الزمن‪ .‬يقف على قوائم ثالث فقط‪ ،‬كأنه‬
‫سينكفئ على وجهه لوال انفتاح بابيه وتساندهما على األرض اتقاءً‬
‫للسقوط‪ .‬أرففه الداخلية متساقطة‪ ،‬مائلة‪ ،‬مثقوبة ونخرة‪ .‬ضوء‬
‫من غبار يتسلل عبر ثقب في اجلدار يضربه في القلب املنبعج ثم‬
‫يرتد منكسرا إلى اخلارج في شريط طويل يقرأ األشياء القدمية‬
‫املتراكمة فوق بعضها حتى السقف‪ .‬مثل الرجل احلزين جداً يحدق‬
‫الدوالب باألرض‪ ،‬أرضه بالذات‪ ،‬وكأن رأسه مشدودة إليها‬
‫بسالسل من حديد‪.‬‬
‫الرجل احلزين‪ ،‬مثل الدوالب اخلشبي القدمي‪ ،‬كان ممسكاً‬
‫بفنجان قهوة‪ ،‬في احلقيقة كوب قهوة‪ ،‬كوب من تلك األكواب‬
‫الزجاجية الرخيصة املستخدمة بكثافة لدى بائعات الشاي‬
‫املنتشرات هناك وهنا‪ ،‬وهو كان يجلس هناك؛ حتت ظل شجرة لبخ‬
‫ضخمة‪ ،‬على تكوين أسمنتي شائه‪ ،‬كان أثراً على بناية ما؛ بني‬
‫أصابعه كوب القهوة السوداء‪ ،‬ارتشف منه رشفات صغيرة وتركه‬
‫جامداً هكذا بينما أسلم عينيه لسالسل األرض جتذبه إلى‬
‫التحديق نحو نقطة ما‪ .‬املكان حوله ضاجاً باحلركة والكالم‬
‫وصدى ارتطام األكواب باملالعق ورشفات الشاي والقهوة‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-020-‬‬
‫وضحكات بائعة الشاي اجملاملة ودوي نفير سيارات بعيدة؛ لكنه‬
‫مثل الدوالب اخلشبي القدمي كان غارقاً في غربته‪ ،‬منكفئا على‬
‫وجهه يكاد يسقط لوال يده الغائصة في التراب املبتل باملاء‪.‬‬
‫لم يتذكر أحد قط الدوالب القدمي بعد رميه في مخزن األشياء‬
‫البالية‪ .‬لم ينتبه أحد قط للرجل احلزين اجلالس ممسكاً بكوب‬
‫القهوة السوداء ويده مغروسة في التراب‪ .‬رمبا كان الدوالب هدية‬
‫عروس ‪ -‬ماتت منذ وقت طويل ‪ -‬في يوم زفافها‪ ،‬وال شك أن‬
‫رفوفه املتشققة تضمخت في أزمانه القدمية بعبق العطور‬
‫والصندل‪ ،‬وضمّت في حنان ثياباً حريرية ونقوداً وذكريات ثمينة‪.‬‬
‫ورمبا كانت للرجل احلزين جداً‪ ،‬حياة تسبق هذه اللحظة الضائعة‬
‫املتقشرة كطالء فورمايكا الدوالب القدمي‪ .‬رمبا كان حزيناً ولكن‬
‫ليس إلى هذه الدرجة‪ ،‬أو لم يكن حزينا حتى‪ ،‬ال توجد أمام عينيه‬
‫سالسل غبارية من ضوء تشده إلى األرض ليحدق في حفرة حزنه‬
‫اآلخذة في االتساع مع كل رشفة من قهوته السوداء الباردة‪.‬‬
‫رمبا ما كان هناك قط رجل حزين إلى هذه الدرجة من احلزن‬
‫القدمي اللئيم الذي ال ينتهي‪ ،‬مثل دوالب خشبي قدمي يكاد ينتهي‬
‫بني ركام األدوات الصدئة املنسية في مخزن متداعي احلوائط‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-029-‬‬
‫استحـــــــالب‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫عينان صغيرتان‪ ،‬أو موضعهما صغير‪ ،‬مساحتهما صغيرة‪.‬‬


‫العينان صفراوان‪ ،‬خفيفتا الصفرة‪ .‬صفرة ليست كصفار البيض‪.‬‬
‫صفرة باهتة رقيقة متعثرة االنتشار‪ .‬العينان صغيرتان‪ ،‬مُسبلتان‪،‬‬
‫أو ناعستان‪ ،‬جفناهما مرتخيان‪ ،‬يبدوان أسودين‪ .‬احلدقتان‬
‫حتدقان‪ ،‬أو ال حتدقان‪ .‬تريان ما تريانه‪ ،‬أو تريان ما ال يُرى‪ .‬العيون‬
‫ساكنة في حركتها‪ ،‬أو هي متحركة في سكونها‪ ،‬لكنّ الشفتني‬
‫تتحركان ببطء‪ ،‬برقة‪ .‬السفلى ال تلحظ حركتها‪ ،‬تضم وترتخي في‬
‫تتابع رتيب متواصل‪ .‬العليا متد وتضم‪ .‬الشفتان غليظتان‪،‬‬
‫رقيقتان‪ ،‬حتوطان خرقة القماش‪ .‬اخلرقة لونها مبهم‪ ،‬أو لونها‬
‫واضح‪ ،‬أو هو إعصاري‪ .‬األعاصير التي تبدأ نحيلة ثم تكبر‬
‫حلزونياً‪ ،‬وتصير كاألهرام املقلوب‪ .‬اخلرقة لونها من األعاصير‪،‬‬
‫لونها منها‪ .‬الشفتان تضمان اخلرقة بحنوٍّ‪ ،‬برقة‪ ،‬ثم تطلقانها‪.‬‬
‫وهكذا تبدوان‪ :‬شفتان غليظتان منفرجتان تنتظران شيئا‪ .‬اليدان‬
‫أصابعهما تتحرك‪ .‬أصابع ناحلة تتراجف‪ .‬األصابع متسك‬
‫بالصباع‪ ،‬تستحلب‪ .‬السائل يتدفق بتكاسل متدليا‪ ،‬السائل‬
‫األبيض؛ أبيض في بدايات استيالده أللوان شتى‪ .‬السائل مرن‬
‫لزج‪ .‬السائل متماسك يتثنى كما العسل‪ ،‬العسل لذيذ‪ ،‬والسائل‬
‫أيضا لذيذ‪ .‬السائل متمايال يالمس اخلرقة‪ ،‬حتتضنه ومتتصه ثم‬
‫ترتفع – اخلرقة – تالمس الشفتني النشطتني الرقيقتني‪ ،‬متأل‬
‫الفراغ وتسده‪ .‬الصدر يبدو كصدر به نهدان صغيران متبرعمان‪،‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-023-‬‬
‫أو هو صدر أملس عادى‪ ،‬يعلو ويهبط‪ .‬أضالعه اليمنى تبدو‬
‫واضحة‪ ،‬واليسرى ال ترى‪ ،‬مخفية‪ .‬الصدر متراكم األوساخ‪ ،‬ما‬
‫حتته – البطن‪ -‬ال تظهر‪ ،‬أو هي غائبة‪ .‬لكنّ القدمني واضحتني‪،‬‬
‫متاما ظاهرتان‪ ،‬حاضرتان‪ .‬قدمان مدهشتان محيرتان‪ ،‬بعيدتان‬
‫عن التراب‪ ،‬لكن التراب قريب منهما‪ ،‬ذراته تغلفهما تغطيهما‪.‬‬
‫القدمان جميلتان‪ ،‬أجمل قدمني بترابهما واهتزازهما البطيء‪،‬‬
‫مسترخيتان مستمتعتان‪ .‬لكنّ الشفتني تنقبضان وترتخيان‪،‬‬
‫والصدر يعلو ويهبط‪ ،‬والبطن غائب‪ ،‬والعينان تريان ما تريانه‪..‬‬
‫لكن – إنه‪ -‬انتهى‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-024-‬‬
‫لذة خاصة ألجل السلطان‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫* املعانقة‪:‬‬
‫في اللحظة التي أحس فيها الرجل بارتفاع يد السياف عالياً‪،‬‬
‫غمره إحساس مشرق بهي أضاء أمامه شريط حياته بأكمله‪،‬‬
‫وجعله يحس بسعادة ولذة لم يجربهما طول عمره‪ .‬فتح عينيه‬
‫املسبلتني لبرهة خاطفة تابع خاللها وبانبهار تام غرابة ما يحيط‬
‫به؛ الرجال الواجمني‪ ،‬النساء الباكيات في ألم وصمت‪ ،‬واألعداد‬
‫الهائلة لعساكر السلطان‪ ،‬ثم السلطان في بهرجته وزينته‪ ،‬ووهمه‬
‫الكبير‪.‬‬
‫كم كان يخاف هذه اللحظة الفاصلة بني وجوده وفنائه‪ ،‬حتى إنه‬
‫وقبل قليل حني قيدوا يديه وقدميه‪ ،‬ورتبوا لعنقه موضع الفصل‬
‫كان يرتعش ويحس بالدمع بارداً يلتصق بحدقتيه‪ ،‬لكنه اآلن في‬
‫هذه البرهة املمتدة لسنوات يحس بالراحة واملعنى‪".‬لم يكن هباءً"‬
‫قال لنفسه‪ ،‬ثم أغمض عينيه وابتسم وهو يبصر املوت؛ أنيقاً‬
‫وجميالً يتقدم ويقترب منه‪ ،‬يربت على خده ثم يعانقه‪ ،‬ويحتضنه‪.‬‬
‫كالبرق ملع نصل السيف‪ ،‬وهو يقطع سريعاً العنق ويفصل الرأس‬
‫األصلع عن اجلسد‪ ،‬ليتدحرج ويقع بني قدمي السلطان بالذات‪.‬‬
‫النسوة املتشحات بالسواد أطلقن زغاريد حزينة متقطعة‪ ،‬مفعمة‬
‫باأللم واحلسرة للفقد األبدي‪ .‬الرجال األكثر صالبة من الوهم‪،‬‬
‫أطلقوا صيحات عنيفة‪ ،‬مرعدة متجِّد امليت واحلياة واملطر‪.‬‬
‫الرجال الغارقون في جلة فزعهم اخلاص رددوا بقوة طبل‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-025-‬‬
‫أبكم‪":‬عاش السلطان‪ ..‬عاش السلطان"‪ .‬السلطان البهرجي‬
‫املنتفخ‪ ،‬أخذ يبحلق بحسرة في الرأس املقطوع املرمي بني قدميه‪،‬‬
‫وعلى شفتي الرأس ابتسامة رضا‪ .‬هربت كل األلوان من وجه‬
‫السلطان‪ ،‬وتركته أبيض كالورق‪ .‬بقدمه ركل الرأس املقطوع وقال‬
‫همساً‪" :‬كم هو سعيد‪ ..‬كم أنا تعيس"‪ ،‬ثم تدحرجت دمعتان على‬
‫وجنتي السلطان السمينتني‪.‬‬
‫*املوت يهمس بالسر في أذن السياف‪:‬‬
‫في آخر الليل انزوى السياف وحيداً في ركن حجرته‪ ،‬حزيناً‬
‫وكئيباً‪ .‬أمسك كفه بيده‪ ،‬وألم خفيف آخذ في وخزه‪ .‬ألم ظل يحسه‬
‫طوال سبعة وثالثني عاماً‪ ،‬قطع فيها مئات الرؤوس واأليدي‬
‫واألقدام‪ .‬ألم خفيف بطرف إصبعه السبابة‪ ،‬يتفاقم عقب كل حكم‬
‫ينفذه ثم ال شيء‪ .‬سبعة وثالثون عاماً لم يقرب فيها اخلمر‪ ،‬لم‬
‫تزره أشباح موتاه‪ .‬في كل ليلة طيلة هذه السنوات كان يضع رأسه‬
‫فقط ليسافر في سبات عميق ممزوج باألحالم السلطانية‬
‫املتوردة‪ ،‬لكن هذه الليلة كم يحس باالنقباض واالحتراق‪ ،‬منذ أن‬
‫أطاح برأس الصباح وملح ‪ -‬في برهة خاطفة ‪ -‬وجه السلطان‬
‫امللطخ بعبط السنني‪ ،‬برهة كانت كافية لتكشف أمامه فداحة ما‬
‫ظل يعانيه بقرب هذا الرجل البرميل‪ .‬زفر بعمق وقال‪" :‬كم هو‬
‫كريه"‪.‬‬
‫أغمض عينيه‪ ،‬وهو يحس بالهواء الرطب املنعش يدغدغ وجهه‬
‫ويرطب جلده‪ .‬تنفس بعمق وأحس ببعض الراحة ملقدم رفيقه‬
‫ومؤانسه طوال السنوات املاضية؛ املوت ‪ -‬صديقه األثير ‪ -‬يقترب‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-026-‬‬
‫منه ويجلس بقربه ويربت بيده الثلجية على كتفه‪ .‬ابتسم املوت في‬
‫طيبة وحب حقيقيني وقال له‪":‬صديقي‪ ،‬يجب أن تهاجر"‪.‬‬
‫نظر إلى املوت بعينني متحجرتني وآالم إصبعه السبابة تتفاقم‪.‬‬
‫أضاف املوت‪" :‬يجب أن تهاجر‪ ..‬إذا بقيت حتى الغد سيورطك‬
‫السلطان في آخر نزوات عبطه األبدي‪ ،‬وحينها لن جتد من‬
‫ينقذك‪ ،‬حتى أنا ستجدني متورطاً في لف احلبل حول عنقك"‪.‬‬
‫هزّ السياف رأسه ببطء وسأل صديقه املوت‪" :‬أهاجر إلى أين؟‬
‫أنا ال أعرف بالداً غير هذه"‪.‬‬
‫أجابه املوت سريعاً وصوته مشحون بالفرح واللذة‪" :‬إلى الشمال‬
‫اذهب‪ ..‬إلى البعيد‪ ،‬هناك ستجد لك مكاناً رحباً لتمارس جتهمك‬
‫اجلميل‪ ،‬وستجدني هناك الستقبالك‪ ..‬أعدك"‪.‬‬
‫ضغط املوت بيده الباردة الثلجية على فخذ السياف‪ ،‬ودّعه‬
‫وذهب‪ .‬فيفجر تلك الليلة اعتلى السياف أوراق هويته ورحل‪ .‬حدق‬
‫في القصر السلطاني وهو مير من فوقه‪ ،‬أحنى هامته قليالً ولوح‬
‫بيده ألنوار القصر الباهرة وقال‪" :‬باي‪ ..‬باي سلطان"‪.‬‬
‫* السلطان يطلق سراح أشجانه‪:‬‬
‫بعد أن ركل بقدمه الرأس املبتسم لم يلتفت إلى أحد‪ ،‬لم يصافح‬
‫األيدي املمدودة لتهنئه بالقضاء على املارق‪ ،‬لم يستمع لزغاريد‬
‫النسوة املستفزة‪ ،‬وال لصيحات الرجال املتحدية‪ ،‬ملح فقط‪ ،‬ولبرهة‬
‫خاطفة‪ ،‬عيني السياف البراقتني‪ ،‬وبهما وجد كل اإلجابات على‬
‫أسئلة سنينه املنقضية الهالكة املتسربلة بالوهم والعبط األبديني‪.‬‬
‫مللم عباءته ومضى إلى غرفته‪ ،‬أغلقها عليه وأخذ ينشج في صمت‬
‫ونبل جديدين عليه‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-021-‬‬
‫عند أول الليل مسح بكم جلبابه دموعه وأخذ يحدق في وجهه‬
‫املنعكس من املرآة أمامه‪":‬إذن أخيراً تكشفت لك األشياء‪ ،‬ما تبحث‬
‫عنه‪ ،‬ما قضيت عمرك تفتش عليه وتنقب التراب واألنفس بحثاً‬
‫عنه‪ ..‬قطعت الرؤوس ألجله‪ ،‬وأحرقت املدن لتظفر به‪ ،‬وهو قربك‬
‫يرافقك صباح مساء‪ ،‬وأنت أعمى ال تراه‪ .‬كم من رؤوس تأوهت‬
‫قدامك ورسمت بأهازيجها املعنى؟ كم من وجوه في اللحظات‬
‫احلاسمة النادرة أهدتك احلقيقة لكنك لم تفهم؟ ولوال هذا الرجل‬
‫وارتطام رأسه بقدميك‪ ،‬واكتشافك املباغت للعالقة املدهشة بني‬
‫ألق وجهه والبريق الشجني لعيني السياف؛ لوال هذه اللحظة‬
‫اخلاطفة الباهرة لظللت أبداً ترفل في عباءات غبائك"‪.‬‬
‫قال هذا ومسح بكم جلبابه دمعه أخرى حتدرت على خده‪ .‬هز‬
‫رأسه بعنف وهمس بنشوة االكتشاف‪" :‬املوت ما تبحث عنه يا‬
‫سلطان الغفلة"‪.‬‬
‫سمعه املوت ‪ -‬الذي كان مستلقياً على الفراش السلطاني يتابع كل‬
‫شيء ‪ -‬فأجفل وأحس بخوف غريزي على صديقه السياف‪ .‬تسلل‬
‫بهدوء وترك السلطان يسبح منتشياً في بحيرة اكتشافه‪.‬‬

‫* ليلة السلطان األخيرة برفقة املوت‪:‬‬


‫في الصباح افتقد السلطان سيافه األثير‪ ،‬أرسل مندوبيه ليأتوا‬
‫به‪ .‬بعد البحث عادوا وأخبروه بأن السياف مفقود‪ ،‬أمرهم بالبحث‬
‫ثانية وأخذ يبحلق بقلب راعش في مصيره الباهت‪.‬‬
‫عند املساء دخل على السلطان رجاله وأخبروه بأن أجهزتهم‬
‫رصدت رائحة السياف تنساق بعيداً‪" .‬هاجر السياف"‪ ،‬هرب‪ ،‬قرأ‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-027-‬‬
‫الرسالة‪ ،‬علم باألمر‪ ،‬اللعنة عليه‪ ..‬جرجر السلطان جسده الضخم‬
‫وذهب‪ .‬ترك رجاله واجمني ومضى‪ .‬أغلق باب احلجرة عليه‪ ،‬رمى‬
‫عنه العباءة واقترب من املرآة وتأمل منظره البشع‪":‬إذن اخلائن‬
‫تركك وحيداً وهرب‪ .‬لكنك لن تتراجع‪ .‬لن تدعهم وحدهم يظفرون‬
‫بلذة االكتشاف"‪ .‬تأمل جسده املنتفخ بفعل األوهام‪ ،‬ابتسم‬
‫وأضاف‪" :‬األوباش طوال هذه السنني يستمتعون ويتلذذون‪ ،‬وأنت‬
‫السلطان سيدهم وسيد األشياء محروم"‪ .‬حترك بخفة تتناقض مع‬
‫بدانته الفاحشة‪ .‬فتح أحد دواليبه وأخذ يبحلق فيه‪ .‬اقترب منه‬
‫املوت – الشاهد الوحيد – وأخذ يبحلق معه‪ .‬مد يده وتناول‬
‫زجاجة مزركشة بنساء عاريات قربها من أنفه فشم املوت الرائحة‬
‫املنتظرة‪ ،‬فابتسم في حكمة اخلالدين‪.‬‬
‫في حلظة خاطفة باغتت املوت نفسه جترع السلطان السائل حتى‬
‫آخر قطرة‪ ،‬وبقي منتظراً اللحظة احلاسمة‪ ،‬العبور‪ ،‬اللذة والنشوة‪.‬‬
‫لكن املوت األكثر حكمة قرر معاقبة السلطان على حتديه‬
‫ومباغتته‪ ،‬وعلى سنواته املاضية‪ ،‬فابتعد قليالً عنه وتركه يتلوى‬
‫ويتوجع ويتقيأ صديد أيامه الغابرة‪ .‬ثم اقترب منه وعصب بيديه‬
‫الثلجيتني عينيه ثم دفعه ليغوص في بئر العذاب األزلي للواهمني‪،‬‬
‫ثم تركه يترنح ويتخبط بني دماء وأشالء ضحاياه عبر السنني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-022-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-911-‬‬
‫املؤلفون وكتاب القصص‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-910-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-919-‬‬
‫أمحد اجلايل أمحد أبوحازم‪:‬‬
‫‪ -‬اللقب ‪ :‬أحمد ابو حازم‬
‫‪ -‬امليالد ‪ 0 :‬يناير ‪0261‬م‬
‫‪ -‬دبلوم هندسة ديكور التصميم الداخلي املعهد االستشاري‬
‫الهندسي اخلرطوم‪.‬‬
‫‪ -‬روائي وقاص وإعالمي‪.‬‬
‫‪ -‬معد ومقدم برامج ثقافية بإذاعة البيت السوداني وإذاعة‬
‫الشباب و الرياضة‪.‬‬
‫‪ -‬عمل صحفياً بعدد من الصحف احمللية ‪.‬‬
‫‪ -‬أحد مؤسسي نادي القصة السوداني ‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس لرابطة الكتّاب السودانيني ‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس لنادي التراث والثقافة الوطنية‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس ملنتدى (ضي القمر)‪.‬‬
‫‪ -‬األمني العام السابق ملنتدى السرد‪.‬‬
‫‪ -‬باحث وناشط في مجال العمل الثقافي‪.‬‬
‫‪ -‬شارك في عدد من الورش املتخصصة في الكتابة‬
‫السردية‪.‬‬
‫‪ -‬مُحَكِّم في عدد من مسابقات القصة القصيرة بالسودان‪.‬‬
‫‪ -‬قدم العديد من األوراق املتخصصة في مجال القصة‬
‫القصيرة والسرد عموماً‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-913-‬‬
‫‪ ‬اإلصدارات‪:‬‬
‫‪ -‬مجموعة قصصية مشتركة مع أعضاء نادي القصة‬
‫السوداني "كتاب دروب جديدة – أفق أول" ‪.‬‬
‫‪ -‬ترجمت قصته "خدر النهارات النائمة" إلى اللغة الفرنسية‬
‫(من كتيبات املركز الثقافي الفرنسي باخلرطوم)‪.‬‬
‫‪ ‬اجلوائز‪:‬‬
‫‪ -‬اجلائزة الثالثة في مسابقة علي املك للقصة القصيرة التي‬
‫نظمها املركز الثقافي الفرنسي باخلرطوم ‪.‬‬
‫‪ -‬اجلائزة األولى للقصة القصيرة التي نظمتها إذاعة ملتقى‬
‫النيلني ‪.‬‬
‫‪ -‬اجلائزة األولى للقصة القصيرة جلائزة الطيب صالح‬
‫العاملية لإلبداع الكتابي الدورة األولى‪ ،‬التي تنظمها شركة زين‬
‫للهاتف السيار‪ ،‬عن مجموعته القصصية (يناير بيت الشتاء)‪.‬‬
‫‪ -‬اجلائزة التقديرية في مسابقة الطيب صالح للكتابة‬
‫الروائية مركز عبد الكرمي ميرغني الثقافي بأمدرمان‪.‬‬
‫‪ -‬يعمل األن مُعد ومُقدم برامج ثقافية في إذاعتي‪ :‬أم درمان‬
‫‪ ،FM93‬وإذاعة البيت السوداني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-914-‬‬
‫اهلادي علي راضي‪:‬‬
‫كاتب وصحافي يعمل بالتعليم العام ‪ -‬والية اخلرطوم‪.‬‬
‫‪ -‬رئيس منتدى السرد والنقد ‪.9109 – 9100‬‬
‫‪ -‬نائب رئيس منتدى السرد والنقد ‪.9103 – 9109‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس ‪ -‬جماعة الغاليري الثقافية‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس ‪ -‬املركز السوداني للثقافة والتوثيق‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس ‪ -‬منتدى نياال الثقافي‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مؤسس ‪ -‬فرقة جبل مرة املسرحية‪.‬‬
‫‪ -‬عضو مجلس عمادة مركز الدراسات الثقافية‪.‬‬
‫‪ -‬عضو رابطة الكتاب السودانيني‪.‬‬
‫‪ -‬عضو حتالف منظمات من أجل دارفور‪.‬‬
‫‪ -‬عمل محرراً بالقسم الثقافي – صحيفة الوطن ‪-9111‬‬
‫‪.9112‬‬
‫‪ -‬محرر بجريدة القصة السودانية الشهرية ‪.9112‬‬
‫‪ -‬شارك في حترير كتاب قصص شعبية لألطفال‪.‬‬
‫‪ -‬شارك في تنظيم عدد من املسابقات والورش واملهرجانات‪.‬‬
‫‪ ‬اجلوائز‪:‬‬
‫‪ -0‬املركز األول جلائزة الطيب صالح العاملية لإلبداع الكتابي‬
‫‪ .9106‬عن مجموعة (فانتازيا أُنثى الشط)‪.‬‬
‫‪ -9‬املركز األول في مسابقة أفضل قصة إنسانية على مستوى‬
‫الشرق األوسط وشمال إفريقيا‪ ،‬من اللجنة الدولية للصليب‬
‫األحمر‪ .9117 ،‬عن قصة (الطائر املعدني)‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-915-‬‬
‫‪ -3‬اجلائزة التقديرية جلائزة الطيب صالح لإلبداع الروائي‬
‫‪ ،9107‬عن راوية (فريق الناظر)‪.‬‬
‫‪ -4‬جائزة محلية اخلرطوم للقصة القصيرة‪.9101‬‬
‫‪ -5‬جائزة منتدى السرد والنقد في القصة القصيرة ‪.9112‬‬
‫‪ -6‬جائزة مسابقة القصة القصيرة – كلية اإلمام الهادي‬
‫‪.9115‬‬
‫‪ ‬الورش واحملاضرات‪-:‬‬
‫‪ -‬ورشة الكتابة اإلبداعية ‪ -‬اجمللس الثقافي البريطاني‪.‬‬
‫‪ -‬الورشة املستمرة للقصة القصيرة ‪ -‬نادي القصة السوداني‪.‬‬
‫‪ -‬ورشة الكتابة اإلبداعية ‪ -‬منتدى السرد والنقد‪.‬‬
‫‪ -‬ورشة اإلبداع في خدمة األيتام‪.‬‬
‫‪ -‬الدورة التدريبية لألسس العامة لكتابة القصة والسيناريو ‪-‬‬
‫املستشارية الثقافية اإليرانية بالتعاون مع كلية اإلمام الهادي‬
‫اجلامعية‪.‬‬
‫‪ -‬ورشة الكتابة اإلبداعية ‪ -‬مجموعة ملتنا كتاب‪.‬‬
‫‪ -‬ورشة أسس فن القصة القصيرة ‪ -‬النادي األدبي كلية الطب‬
‫جامعة اخلرطوم‪.‬‬
‫‪ -‬محاضرة فن القصة القصيرة احلديثة ‪ -‬كلية الوسيلة للعلوم‬
‫والتكنولوجيا‪.‬‬
‫‪ -‬محاضرة فن القصة القصيرة وأفق التجريب ‪ -‬مركز ري‬
‫ووردينق للتدريب‪.‬‬
‫‪ ‬اإلصدارات‪:‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-916-‬‬
‫(عسف العسس)‪ ،‬مجموعة قصص قصيرة‪ -‬دار كلمات للنشر –‬
‫ط‪.9101 0‬‬
‫(فانتازيا أنثى الشط) مجموعة قصص قصيرة‪ -‬حائزة على‬
‫جائزة الطيب صالح العاملية لإلبداع الكتابي ‪.9106‬‬
‫البريد اإللكتروني‪HADIRADI2@GMAIL.COM:‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-911-‬‬
‫مجال الدين علي احلاج‪:‬‬
‫امليالد اخلرطوم بحري‪ ،‬السودان‪ .‬يحمل بكالريوس العلوم‬
‫البيطرية‪ .‬وماجستير األحياء الدقيقة‪ ،‬كلية الدراسات العليا‬
‫جامعة اخلرطوم‪ .‬ويعمل حالياً استشاري ضبط اجلودة مبدينة‬
‫الدمام باململكة العربية السعودية‪.‬‬
‫‪ ‬النشاطات األدبية‪:‬‬
‫‪ -‬عضو مجلس قطاع الثقافة واحلضارة مسئول عن محور‬
‫تطوير التعليم بالسودان مبجلس اخلبراء للسودانيني العاملني‬
‫باخلارج‪.‬‬
‫‪ -‬عضو املكتب الثقافي بتجمع خريجي جامعة اخلرطوم‪.‬‬
‫مسئول عن خريجي املهجر‪.‬‬
‫‪ -‬عضو في كثير من اجلمعيات واملنتديات الثقافية املهتمة‬
‫بقضايا الفكر والثقافة واألدب في السودان والوطن العربي‪.‬‬
‫‪ ‬اإلصدارات واملنشورات األدبية‪:‬‬
‫‪( -‬جنوكورو)‪ ،‬رواية‪ ،‬مكتبة جزيرة الورد‪ -‬القاهرة‪ .‬طبعة ثانية‬
‫‪.9106‬‬
‫‪( -‬فلني جذور الصفصاف)‪ ،‬رواية‪ ،‬حائزة على جائزة الطيب‬
‫صالح التقديرية لالبداع الروائي (مركز عبد الكرمي ميرغني)‬
‫‪ ،9106‬صادرة عن مداد للنشر‪ -‬دبي‪.‬‬
‫‪( -‬الباترا مخاوي الطير)‪ ،‬رواية‪ ،‬حائزة على جائزة الطيب صالح‬
‫التقديرية لإلبداع الروائي (مركز عبد الكرمي ميرغني) ‪9101‬‬
‫صادرة عن دار األدب العربي‪ -‬الدمام‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-917-‬‬
‫‪ -‬قصة (سواد النهار) نشرت ضمن مجموعة قصصية (آن لنا‬
‫أن نروي) عن دار بال أقنعة بيروت مع مجموعة من القاصني‬
‫العرب‪.‬‬
‫‪ -‬قصص منشورة في كتاب (ضفاف السرد) الصادر عن منتدى‬
‫النورس الدولي الثقافي وضم نخبة من القاصني العرب‪.‬‬
‫‪ -‬له عدد من القصص القصيرة املنشورة بالصحف واملواقع‬
‫االلكترونية املهتمة‪( .‬موقع القصة العربية‪ ،‬أنطلوجيا السرد‬
‫العربي‪ ،‬صحيفة الراكوبة األلكترونية ومدونة من باريس‬
‫وغيرها‪.)..‬‬
‫‪ -‬شارك في معارض كتب دولية‪ .‬وأستُضيف باألجهزة اإلعالمية‪.‬‬
‫كما قُدِّمت حول كتاباته دراسات نقدية‪ ،‬وكُرِّم بواسطة اجلالية‬
‫السودانية بالسعودية‪ ،‬املنطقة الشرقية مبناسبة الفوز باجلائزة‬
‫التقديرية ملسابقة الطيب صالح لإلبداع الروائي (مركز عبد‬
‫الكرمي ميرغني) للمرة الثانية على التوالي‪.‬‬
‫‪ -‬مهتم بقضايا الثقافة السودانية والتراث السوداني واألدب‬
‫الشعبي‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-912-‬‬
‫عمر الصامي‪:‬‬
‫‪ -‬مواليد كوستي حي النصر في ‪0219/9/92‬‬
‫‪ -‬تخرج في كلية اآلداب جامعة اخلرطوم‪.‬‬
‫‪ -‬ساهم في تأسيس وقيادة عديد من الكيانات األدبية‬
‫واالجتماعية‪.‬‬
‫‪ -‬أسس مع آخرين نادي القصة السوداني وترأس مكتبه التنفيذي‬
‫لدورة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬نشر عديد من املقاالت والقصص والنصوص الشعرية في‬
‫الصحف واجملالت احمللية والعربية‪.‬‬
‫‪ ‬صدر له حتى اآلن‪:‬‬
‫‪ -‬مارخدر‪ :‬رواية‬
‫‪ -‬اإليقاع األخير لسيدنا الزغرات‪ :‬مجموعة قصص‬
‫‪ -‬العجكو مرة أخرى‪ :‬مجموعة قصص‬
‫‪ -‬أوان وردة األبنوس‪ :‬مجموعة أقاصيص‬
‫‪ -‬له عدد من الكتب حتت الطبع‬
‫‪E.MAIL:OMARALSAIEM@YAHOO.COM‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-901-‬‬
‫سارة محزة اجلاك عبد اهلل‪:‬‬
‫من مواليد اخلرطوم في العام‪0891‬م‪ ،‬شهر فبراير يوم‬
‫األربعاء املوافق الثالث عشر منه‪.‬‬
‫متتهن الهندسة املعمارية‪ ،‬والكتابة‪.‬‬
‫تعاونت في إصدار ملف صحيفة األحداث الغراء‪ ،‬ومجلة أيام‬
‫وليالي‪ ،‬وصحيفة األيام امليمونة ‪...‬‬
‫رشحت لنيل جائزة الطيب صالح للرواية في العام ‪5112‬‬
‫عن رواية بعنوان (املعتقة)‪.‬‬
‫نشرت العديد من النصوص في الصحف السيارة وبعض‬
‫املواقع اإللكترونية كمجلة املنخل واحملالج وفوبيا‪.‬‬
‫اجلوائز‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫نالت عدداً من اجلوائز في البرامج اإلذاعية‪ ،‬املعنية‬ ‫‪-‬‬
‫بالقصة القصيرة مثل حوارية احلنني وقاطرة وظالل‬
‫وغيرها ‪...‬‬
‫اجلائزة األولى في مسابقة منتدى السرد والنقد للقصة‬ ‫‪-‬‬
‫القصيرة في العام ‪ 5118‬عن نص بعنوان (إهتزاز في‬
‫شبكية البصيرة)‪.‬‬
‫اجلائزة الثانية في مسابقة الطيب صالح للقصة‬ ‫‪-‬‬
‫القصيرة في العام ‪ 5118‬عن نص بعنوان (تأكل)‪،‬‬
‫مركز عبد الكرمي ميرغني‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-900-‬‬
‫‪ -‬اجلائزة األولى في مسابقة الطيب صالح للرواية‪ ،‬مركز‬
‫عبد الكرمي ميرغني‪ ،‬في دورتها العاشرة في اكتوبر عام‬
‫‪ 5105‬برواية تنضوي حتت اسم (خيانتئذ)‪.‬‬
‫‪ -‬حازت على جائزة الكتابة املسرحية عن نص الزغرودة‬
‫األخيرة عام ‪5102‬‬
‫‪ ‬اإلصدارات‪:‬‬
‫أصدرت في العام ‪ 5118‬باكورة إنتاجها في مجال القصة‬
‫القصيرة‪ ،‬كانت بعنوان (صلوات خالسية) ونشرتها دار‬
‫احلضارة بالقاهرة‪ .‬كما صدرت الرواية الفائزة (خيانتئذ)‬
‫مطلع مارس من العام‪ .5102‬ومت إعادة طباعة كل من (صلوات‬
‫خالسية) و(خيانتئذ) في العام ‪5102‬م‪ ،‬كما طبعت اجملموعة‬
‫القصصية الثالثة (كمبا) في ‪5102‬م‪ .‬واجملموعة القصصية‬
‫الثالثة (بروباقاندا) في‪5102‬‬
‫أصدرت الطبعة األولى من رواية السوس ‪ -‬عن دار روافد‬
‫للنشر ‪ -‬مصر – ‪5102‬م‪.‬‬
‫‪ ‬املشاركات‪:‬‬
‫‪ -‬شاركت في ورشة كتابة احلنني في السرد ‪ -‬املركز‬
‫الثقافي األملاني ‪ -‬اخلرطوم ‪ -‬بحضور الكاتبة األملانية‬
‫رشا خياط ‪ -‬اكتوبر ‪ 5102‬م‪.‬‬
‫‪ -‬شاركت في مؤمتر الكاتبات السودانيات واجلنوب‬
‫سودانيات بجامعة إكسفورد في يونيو ‪5102‬م‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-909-‬‬
‫حماسن الطيب اجلاك‪:‬‬
‫كاتبة تسكن مبدينة عطبرة‪ .‬وتعمل في مجال التدريب‬ ‫‪-‬‬
‫والتنمية البشرية‪.‬‬
‫درست بجامعة السودان كلية علوم احلاسوب‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫تكتب القصة القصيرة والقصيرة جداً‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عضو إحتاد األدباء والكتاب السودانني‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫عضو جمعية وهج الثقافية‪.‬‬ ‫‪-‬‬
‫لها نشاط كبير وإسهامات ثقافية في مجال الكتابة‬ ‫‪-‬‬
‫ورعاية الشباب وقامت بتأسيس جمعية معني القصة‬
‫الثقافية‪.‬‬
‫عضو في مجموعات عديدة على مواقع التواصل‬ ‫‪-‬‬
‫العربية‪.‬‬
‫عضو خمسة جلان حتكيم دائمة للقصة القصيرة جدا‬ ‫‪-‬‬
‫على مستوى العالم العربي‪.‬‬
‫متتلك مجموعة مقدرة من القصص‪ ،‬بعضها منشور‬ ‫‪-‬‬
‫باملنتديات ومواقع التواصل االجتماعي واملواقع‬
‫اإللكترونية والبعض اآلخر لم يُنشر بعد‪.‬‬
‫لم تُنشر لها كتب منفردة لكنها شاركت في تأليف عديد‬ ‫‪-‬‬
‫الكتب املشتركة في مجال القصة مع كُتاب من العالم‬
‫العربي‪.‬‬
‫ربة منزل وأم خلمسة شباب‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-903-‬‬
‫حممد اخلري حامد‪:‬‬
‫كاتب وباحث وإعالمي‪ .‬كتب عموداً ثابتاً بصحف سودانية‬
‫مختلفة‪ ،‬كما نشرت له مجالت عربية معروفة كالفيصل السعودية‪،‬‬
‫والرافد اإلماراتية‪ ،‬ونزوى العمانية‪ ،‬واملثقف‪ ،‬وديوان العرب‪.‬‬
‫يحمل درجة الدبلوم العالي في اإلدارة (جامعة اخلرطوم)‪.‬‬
‫بكالوريوس االقتصاد القياسي واالحصاء االجتماعي (جامعة‬
‫اخلرطوم)‪ ،‬بكالوريوس التأمني (جامعة النيلني)‪.‬‬
‫عمل موظفاً بالقطاع اخلاص في مجاالت‪ :‬التأمني والدعاية‬
‫واإلعالن والصحافة‪ .‬واشتغل مُعدَّاً ومقدِّماً للبرامج بإذاعات‪:‬‬
‫(الرياضية ‪ ،FM 014‬الصحة واحلياة ‪ ،FM 016‬وإذاعة نور‬
‫‪ )FM 01503‬بالسودان‪.‬‬
‫باحث في مجال السياسة والعالقات الدولية واالستراتيجية‪.‬‬
‫نّشرت له أبحاث‪ ،‬وقدَّم العديد من الدراسات واألوراق العلمية‬
‫مبؤمترات دولية‪.‬‬
‫شارك في فعاليات ومهرجانات ثقافية دولية عديدة منها‪ :‬مؤمتر‬
‫الدبلوماسية الثقافية بأملانيا‪ ،‬وامللتقى األدبي األول لشباب‬
‫اجلامعات العربية بدولة اإلمارات العربية املتحدة‪ ،‬ومؤمتر املركز‬
‫العربي لألبحاث بالدوحة (قطر)‪ ،‬ومهرجان الشباب العربي‬
‫العاشر‪ ،‬وبفعاليات دولية مختلفة بكل من اإلمارات ولبنان ومصر‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-904-‬‬
‫‪ ‬حائز على عدد من اجلوائز في مجاالت التأليف‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ -‬جائزة مركز الفكر اإلستراتيجي (لبنان) ألفضل الباحثني‬
‫العرب للعام ‪9107-9101‬م‪ ،‬عن بحث بعنوان‪ :‬مستقبل املنطقة‬
‫العربية‪ ،‬بعد الربيع العربي‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة القصة القصيرة للكتاب السودانيني الشباب‪.‬‬
‫‪ -‬فازت مجموعته "لعنة الساعة التاسعة القصصية"‬
‫باجلائزة الثانية ملسابقة نادي القصة السوداني‪.‬‬
‫‪ -‬فاز باملركز األول في مجال القصة القصيرة بجامعة‬
‫اخلرطوم‪ ،‬ومثَّل اجلامعة في امللتقى األدبي األول لشباب‬
‫اجلامعات العربية (جامعة اإلمارات‪ -‬مدينة العني)‪.‬‬
‫‪ -‬أُختيرت نصوصه ضمن ثالثة كُتاب للقصة القصيرة‪،‬‬
‫وخمسة شعراء سودانيني شباب لتمثيل وفد السودان مبهرجان‬
‫الشباب العربي العاشر‪.‬‬
‫‪ -‬اجلائزة الثانية في الشعر الفصيح مبسابقة االحتاد‬
‫الوطني للشباب السوداني في املوسم الشبابي السادس‪.‬‬
‫‪ -‬نال املركز األول في مسابقة احتاد طالب والية اخلرطوم‬
‫جلامعات الوالية في مجال الشعر‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة مسابقة السيف الذهبي األدبية بجامعة اخلرطوم‪.‬‬
‫‪ ‬مؤلفاته املنشورة حتى اآلن‪ :‬لعنة الساعة التاسعة‬
‫(قصص)‪ ،‬تراتيل على رصيف الشجن (شعر)‪ ،‬وابتسم‬
‫الشيطان (قصص)‪ ،‬مستقبل املنطقة العربية بعد الربيع‬
‫العربي‪ ،‬إسرائيل والقرن اإلفريقي‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-905-‬‬
‫حممد حسن النحات‪:‬‬
‫طبيب وكاتب قصة قصيرة‪ ،‬وُلد في عام ‪0221‬م مبدينة األبيض‪،‬‬
‫ودرس مرحلة األساس مبدرستي‪ :‬كتاب األبيض‪ ،‬واحلارة‬
‫اخلامسة بأمدرمان‪ .‬والثانوي مبدرسة الشيخ يوسف الدقير‪.‬‬
‫وتخرَّج في كلية الطب واجلراحة بجامعة النيل عام ‪9105‬م‪.‬‬
‫نُشرت له عدد من النصوص والقصص بامللفات الثقافية‬
‫للصحف السودانية‪.‬‬
‫‪ ‬حاصل على عدد من اجلوائز في مجال القصة القصيرة‬
‫منها‪:‬‬
‫‪ -‬املركز األول بجائزة صحيفة الوسط البحرينية للقصة‬
‫‪9106‬م‪.‬‬
‫‪ -‬فائز بجائزة عصير الكتب للقصة القصيرة بجمهورية‬
‫مصر العربية ‪9107‬م‪.‬‬
‫‪ -‬املركز الثاني في مسابقة صالون جنيب للقصة القصيرة‬
‫بجمهورية مصر العربية ‪9106‬م‪.‬‬
‫‪ -‬املركز الثالث في مسابقة الطيب صالح للقصة القصيرة‬
‫للكتاب السودانيني الشباب (مركز عبد الكرمي ميرغني) ‪9101‬م‪.‬‬
‫‪ ‬نُشر له حتى اآلن‪:‬‬
‫‪ -‬نص (نافذة مائلة)‪ ،‬بكتاب عصير الكُتب لألعمال‬
‫القصصية الفائزة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-906-‬‬
‫‪ -‬نص (زهرة اجليبسوفيال)‪ ،‬بكتاب "الضائعان وقصص‬
‫أخرى"‪ ،‬الذي نشر عن مركز عبد الكرمي ميرغني لألعمال‬
‫القصصية الفائزة في عام ‪9106‬م‪.‬‬
‫‪ -‬نص (فندق ‪ ،)03‬ضمن كتاب األعمال الفائزة بجائزة‬
‫صالون جنيب‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-901-‬‬
‫حممد خلف اهلل سليمان‪:‬‬
‫قاص وروائي وناقد‪.‬‬
‫مواليد ‪ 05‬مارس ‪0255‬م‪.‬‬
‫نشر في العديد من الصحف واجملالت والدوريات‪ .‬وله‬
‫مشاركات في عدد من امللتقيات األدبية‪.‬‬
‫‪ ‬اجلوائز‪:‬‬
‫‪ -‬حائز على املرتبة الثالثة جلائزة الشارقة لالبداع األدبي‬
‫في عام ‪0221‬م عن مجموعته القصصية (هوامش من‬
‫سيرة حمال نوبي)‪.‬‬
‫‪ -‬حائز على اجلائزة التقديرية في مسابقة الطيب صالح‬
‫لالبداع الروائي ‪9116‬م‪ ،‬مركز عبد الكرمي ميرغني‪.‬‬
‫عن روايته (في تأويل مقام الورد)‪.‬‬
‫‪ ‬صدر له‪:‬‬
‫‪( -‬في تأويل مقام الورد)‪ ،‬الرواية الفائزة باجلائزة التقديرية‬
‫ملسابقة الطيب صالح لإلبداع الروائي مركز عبد الكرمي ميرغني‬
‫عام ‪9111‬م‪ .‬الطبعة األولى دار جدار باإلسكندرية ‪9101‬م‪،‬‬
‫الطبعة الثانية عن دار املصورات باخلرطوم ‪9106‬م‪.‬‬
‫‪( -‬املغني واجلوقة)‪ ،‬قصص‪ ،‬مكتبة مدبولي بالقاهرة‬
‫‪0221‬م‪.‬‬
‫‪( -‬هوامش من سيرة حمال نوبي)‪ ،‬قصص‪9119 ،‬م‪ ،‬بعد‬
‫فوزها بجائزة الشارقة‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-907-‬‬
‫منصور إدريس حسن الصُويّم‪:‬‬
‫‪ -‬االسم األدبي (منصور الصُويّم)‪.‬‬
‫‪ -‬امليالد‪ :‬والية جنوب دارفور – مدينة نياال‬
‫‪ -‬درس الدراسات النقدية كلية املوسيقى والدراما – جامعة‬
‫السودان للعلوم والتكنولوجيا‪.‬‬
‫‪ -‬عمل محرراً وكاتباً صحفياً بصحيفة "األخبار" اليومية‪،‬‬
‫ومحرراً عاماً مبجلة "احلداثة السودانية"‬
‫اخلبرات السابقة‪:‬‬
‫‪ -‬عمل صحفياً بصحف السودان‪" :‬األهرام اليوم‪ ،‬اليوم‬
‫التالي‪ ،‬الوطن"‪ ،‬ومحررا عاما بصحيفة "تواصل اإللكترونية"‬
‫باململكة العربية السعودية‬
‫‪ ‬اإلصدارات‪:‬‬
‫له خمس روايات‪:‬‬
‫– "تخوم الرماد ‪.9110‬‬
‫– ذاكرة شرير ‪.9116‬‬
‫– أشباح فرنساوي ‪.9104‬‬
‫– آخر السالطني ‪."9104‬‬
‫– "عربة األموات" ‪.9106‬‬
‫– ثالثة كتب باملشاركة مع كتاب عرب وسودانيني‬
‫‪ ‬األعمال املترجمة‪:‬‬
‫‪ -‬تُرجمت روايته ذاكرة شرير إلى اللغة الفرنسية‪ ،‬تَرجمة‬
‫فرانس ميير‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-902-‬‬
‫‪ -‬تُرجمت روايته تخوم الرماد إلى اللغة اإلجنليزية ‪،‬تَرجمة‬
‫ناصر السيد النور‪.‬‬
‫‪ -‬تُرجمت له قصص قصيرة إلى عدة لغات منها اإلجنليزية‬
‫والفرنسية والسويدية‪.‬‬
‫‪ ‬اجلوائز‪:‬‬
‫‪ -‬جــائزة الطيب صالح لإلبداع الروائي ‪9115‬م‪ .‬عن رواية‬
‫ذاكرة شرير – اخلرطوم السودان‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة هاي فستيفال ألفضل ‪ 32‬كاتبا عربيا دون األربعني‬
‫عن مجمل أعماله‪.‬‬
‫‪ -‬جائزة الطيب صالح لإلبداع الكتابي – شركة زين في حقل‬
‫الترجمة (اجلائزة األولى) عن رواية (تخوم الرماد) للمترجم ناصر‬
‫السيدالنور‪.9109‬‬
‫‪ -‬مِنحة الصندوق العربي للثقافة والفنون (آفاق) عن رواية‬
‫(آخر السالطني) – سيرة تاريخية عن السلطان علي دينار آخر‬
‫سالطني دارفور – ‪.9100‬‬
‫‪ ‬املشاركات اخلارجية‪:‬‬
‫‪ -‬شارك في ملتقى الرواية العاملي في مدينة ليون الفرنسية‬
‫في العام ‪.9109‬‬
‫‪ -‬شارك في ملتقى السرد العربي في مملكة املغرب ‪9107‬‬
‫‪ -‬شارك في املهرجان األدبي املصاحب لفعاليات املسرح‬
‫اجلزائري في اجلزائر ‪9109‬م‪.‬‬
‫‪ -‬شارك في مهرجان هايفيستفال بيروت ‪ 32‬في‬
‫لبنان‪9101‬م‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-991-‬‬
‫‪ -‬شارك في ورشة اجلائزة العاملية للرواية العربية "البوكر"‬
‫بإمارة أبو ظبي ‪9112‬‬
‫‪ -‬شارك في مهرجان طيران اإلمارات لآلداب ‪9112‬‬
‫‪ -‬أُختير ضمن ثمانية كتاب عرب شباب في أول ورشة للسرد‬
‫"الندوة" التابعة جلائزة البوكر العربية في العام ‪ 9112‬بإمارة دبي‪،‬‬
‫وصدر عن هذه الورشة كتاب باللغتني العربية واإلجنليزية للكتاب‬
‫الثمانية عن دار الساقي‪.‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-990-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-999-‬‬
‫حول سلسلة إبداعات سودانية‬

‫يهدف مشروع سلسلة إبداعات سودانية إلى نشر اإلبداع السوداني‬


‫املكتوب في مجاالت‪ :‬القصة القصيرة‪ ،‬والقصص القصيرة جداً‪ ،‬والشعر‬
‫العامي والفصيح‪ ،‬على نطاق واسع‪ .‬ويسعى إلى حتقيق فكرة التوسع‬
‫واالنتشار اإللكتروني‪ ،‬والوصول إلى القارئ اجلديد واملواكب الذي ارتبط‬
‫بالكتاب اإللكتروني أكثر من الكتاب الورقي‪ ،‬من خالل النشر والتواجد عبر‬
‫كل املنصات اإللكترونية املمكنة‪.‬‬
‫ونرجو من الكتاب السودانيني الذين لديهم الرغبة في املشاركة‬
‫واإلنضمام إلى هذا املشروع اجلديد؛ إرسال النصوص املراد نشرها وفقا‬
‫للتفصيالت اآلتية‪ ،‬والعدد املشار إليه في كل بند‪:‬‬
‫‪ -‬القصص القصيرة‪ :‬يرسل الكاتب عدد ثالثة نصوص قصصية‪.‬‬
‫‪ -‬القصص القصيرة جداً‪ :‬يرسل الكاتب عدد خمسة نصوص قصيرة جداً‪.‬‬
‫‪ -‬القصائد باللغة العربية الفصحى‪ :‬يرسل عدد ثالث قصائد‪.‬‬
‫‪ -‬القصائد العامية‪ :‬يرسل الكاتب ثالث قصائد‪.‬‬
‫مع سيرة أدبية في حدود ‪ 051‬كلمة باللغة العربية‪.‬‬
‫شروط مهمة يجب مراعاتها عند إرسال املواد املراد نشرها‪:‬‬
‫‪ -‬هناك جلنة قراءة لكل جنس أدبي‪ ،‬وهي من يحدد صالحية‪ /‬أو عدم‬
‫صالحية املواد األدبية للنشر‪.‬‬
‫‪ -‬للجنة رؤيتها عند نشر كل كتاب‪ .‬وقد يتم التحرير وفقاً للترتيب األسبقي‪،‬‬
‫أو األبجدي‪ ،‬أو بناءاً على التيارات وطريقة وأسلوب الكتابة‪ ،‬أو استناداً على‬
‫بناء الكتاب حول موضوع معني‪ ،‬أو ترتيب الكتاب عمرياً‪ .‬أو ما تراه مناسباً‪.‬‬
‫وبالتالي فالكاتب ليس مسؤوال عن طريقة اإلخراج والنشر‪.‬‬
‫يكتب عند اإلرسال‪:‬‬
‫(قصص قصيرة‪ /‬قصص قصيرة جدا‪ /‬قصائد فصيحة‪ /‬قصائد عامية‪/‬‬
‫للنشر في سلسلة إبداعات سودانية)‪.‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-993-‬‬
‫ويجب أن يرفق الكاتب مع األعمال وسيرته الذاتية صورة شخصية‪،‬‬
‫باإلضافة إلى بريده اإللكتروني ورقم للتواصل‪.‬‬
‫‪ -‬يشترط أن يكون الكاتب سوداني اجلنسية وتتوفر في مادته الشروط‬
‫الفنية للمؤلَف املعني‪.‬‬
‫‪ -‬ليست هنالك اشتراطات على طول‪ ،‬أو شكل كتابة النصوص شعراً وقصة‪.‬‬
‫وإمنا للكاتب احلرية في اختيار النصوص التي تعبِّر عن جتربته‪ ،‬ما لم يكن‬
‫هناك استكتاب‪ ،‬أو طلب مقصود بذلك‪.‬‬
‫‪ -‬يعتبر إرسال املواد للنشر موافقة مبدئية من قبل كل كاتب‪ ،‬ويتحمل املرسل‬
‫مسئوليتها األدبية والقانونية‪ .‬وفي حال النشر؛ سيتم إطالع املؤلفني‪.‬‬

‫ترسل األعمال إلى البريد التالي‪:‬‬


‫‪MEDO1199@HOTMAIL.COM‬‬

‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-994-‬‬
‫ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ‬
‫تيج ـ ـ ــان الحكي ‪ -‬قصص قص ـ ـ ـ ـ ـ ــيرة لمجمـ ــوعة من الكتاب السـ ـ ـ ـ ـ ــودانيين‬
‫‪-995-‬‬

You might also like