You are on page 1of 574

‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺷـﻔﺮة ﺳـﻮرة اﻻٕﺳـﺮاء‬


‫‪١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫األمير ‪ ،‬بھاء‬
‫شـفرة سـورة اإلسـراء‬
‫بنو إسرائيل والحركات السرية في القرآن‬
‫إسم المؤلف ‪ :‬د‪ .‬بھاء األمير‬
‫ط‪ .١‬القاھرة ‪ :‬مكتبة مدبولى‪٢٠١٥ ،‬م‪.‬‬
‫ص ‪ ٢٤ ×١٧‬سم‬
‫تدمك‪978- 977-767-005-0 :‬‬
‫‪ -١‬القرآن – أسرار‬
‫‪ -٢‬القرآن – سور وآيات‬
‫‪ -٣‬القرآن – الفاظ‬
‫‪ -٤‬االسالم والسياسة‬
‫‪ -٥‬القرآن ‪ -‬تفسير‬
‫أ – العنوان‬
‫ديوى ‪٢٢٩.٨ /‬‬
‫رقم اإليداع ‪٢٠١٤/٢٣٢٠٠ :‬م‬
‫مكتبة مدبولى‬
‫‪ ٦‬ميدان طلعت حرب – القاھرة‬
‫ت ‪ – ٢٥٧٥٦٤٢١ :‬فاكس ‪٢٥٧٥٢٨٥٤ :‬‬
‫الموقع اإللكترونى ‪www.madboulybooks.com :‬‬
‫البريد اإللكترونى ‪info@madboulybooks.com :‬‬

‫اآلراء الواردة فى ھذا الكتاب تعبر عن وجھة نظر المؤلف‬


‫وال تعبر بالضرورة عن وجھة نظر الناشر‬

‫جميع الحقوق محفوظة © لمكتبة مدبولي‬


‫يحظر طبع أو نشر أو تصوير أو تخزين‬
‫أي جزء من ھذا الكتاب بأية وسيلة إلكترونية أو ميكانيكية‬
‫أو بالتصوير أو خالف ذلك إال‪٢‬بإذن كتابي صريح من الناشر‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫دﻛﺘﻮر ﲠﺎء ا ٔﻻﻣﲑ‬

‫ﺷـﻔﺮة ﺳـﻮرة ا ٕﻻﺳـﺮاء‬


‫ﺑﻨﻮ ٕاﴎاﺋﻴﻞ واﳊﺮﰷت اﻟﴪﻳﺔ ﰲ اﻟﻘﺮآن‬
‫‬ ‫‬

‫ﻣﻜﺘﺒﺔ ﻣﺪﺑﻮﱃ‬
‫‪٢٠١٦‬‬

‫‪٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٕاﻫـــــــــﺪاء‬
‫ٕاﱃ‬
‫)• (‬
‫ﺳـﻠــﻄــــــﺎن وﻧـﺎﺻـــــــــــﺮ‬

‫•‬
‫( ﻫم اﻷﻓﺎﻀل اﻝذﻴن ذﻜرﻨﺎﻫم ﻓﻲ ﻤﻘدﻤﺔ اﻝﻜﺘﺎب‪.‬‬
‫‪٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺑﺴﻢ ﷲ اﻟﺮﲪﻦ اﻟﺮﺣﲓ‬

‫ﻣـﻘـﺪﻣــــــــــﺔ‬
‫الحمد " يصطفي من عبيده عبادَه‪ ،‬ويورث من اختاره ما شاء من كتابه‪،‬‬
‫ويمتن عليه ببيناته وفرقانه‪ ،‬ويؤتيه من علمه ويكشف له أسراره‪ ،‬والصالة‬
‫والسالم على من ال ينطق عن الھوى‪ ،‬والنور الذي بعثه ﷲ بالنور‪ ،‬فكان وما‬
‫زال نوراً على نور‪ ،‬وعلى آله وصحبه الھداة المھديين‪ ،‬ومن تبعھم على بصر‬
‫إلى يوم الدين‪.‬‬
‫وبعد‪،‬‬
‫في كل كتاب عبارة ھي مفتاحه‪ ،‬ويدور كل ما فيه من حولھا‪ ،‬وكتابته‬
‫وتأليفه كان من أجلھا‪.‬‬
‫والكتاب الذي بين يديك كله ھو فصله األخير‪ ،‬وكل ما سبق ھذا الفصل من‬
‫فصول ھو مقدمة له‪ ،‬وتمھيد لكي يُمكنك عندما تصل إليه استيعابه وفھمه‪،‬‬
‫والعبارة التي ھي مفتاح ھذا الكتاب ويدور من حولھا‪ ،‬والذي كتبناه كله من أجل‬
‫بيانھا‪ ،‬وھي عنوانه الحقيقي الذي كان ينبغي أن يوضع على غالفه‪ ،‬ھي قوله‬
‫تعالى‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪|{zyxwv‬‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.٤ :‬‬
‫‪٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في يوم من أيام ﷲ عز وجل قَ ِدم إلى بعض األفاضل ممن لھم حماسة لدين‬
‫ى في تجھيز برنامج وإعداد‬
‫ﷲ وغيرة على األخالق والفضائل‪ ،‬ورغبوا إل ﱠ‬
‫حلقات لبيان تاريخ الماسونية والحركات السرية وآثارھا في العالم‪ ،‬وصلتھا‬
‫بالصورة التي وصل إليھا وما شاع فيه من عدوان على الديانات وانحالل‬
‫لألخالق‪ ،‬وعالقتھا بالعلمانية والليبرالية والماركسية‪ ،‬والرابطة بينھا وبين‬
‫منظمات حقوق اإلنسان وحركات التحرير النسائية‪ ،‬وقبل ذلك كله السر في‬
‫ارتباط الماسونية والحركات السرية باليھود‪ ،‬ودورھا في صعودھم إلى رأس‬
‫العالم وسطوتھم على دوله وفي كل شعوبه‪.‬‬
‫ورأيت أن أبدأ من سيرة بني إسرائيل في القرآن‪ ،‬إذ ال يمكن فھم غايات‬
‫الحركات السرية وما تريد أن تصل بالعالم إليه‪ ،‬وال فھم أساليبھا ووسائلھا‬
‫الملتوية شديدة الدھاء والمراوغة للوصول إلى ھذه الغايات من غير إدراك‬
‫موقع اليھود منھا وآثارھم فيھا‪ ،‬وال يمكن إدراك المسألة اليھودية وال فھمھا‬
‫سوى بفھم ما الذي يريد القرآن أن يخبرنا به عن بني إسرائيل وموقعھم من‬
‫العالم وآثارھم في البشرية‪ ،‬وما يكشفه من خبئ نفوسھم وما تحويه من غايات‪،‬‬
‫ومن تكوينھم وما ينتجه من سلوك وأساليب‪.‬‬
‫وما أن بدأت في سيرة بني إسرائيل في القرآن‪ ،‬حتى جرفتني أمواج سورة‬
‫اإلسراء الھادرة‪ ،‬فتركت‪ ،‬ولم أكد أبحر‪ ،‬سواحل بني إسرائيل وسيرتھم‪،‬‬
‫وشواطئ الماسونية والحركات السرية‪ ،‬وغرقت في صدرھا‪.‬‬
‫وظللت أياما ً ثم أسابيع فشھوراً واألفاضل الذين يريدون الحلقات يسألونني‬
‫إلى أين وصلت وھل انتھيت من إعدادھا‪ ،‬وھم يستعجبون‪ ،‬حاالً ال مقاالً‪ ،‬إذ‬

‫‪٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يرون األمر يسيراً‪ ،‬وأكاد أسمعھم يقولون إن موضوع الحلقات ليس غريبا ً عنك‬
‫وال جديداً عليك‪ ،‬فقد كتبتَ فيه من قبل ما كتبت‪ ،‬وقدمتَ فيه من الحلقات ما‬
‫قدمت‪.‬‬
‫وھم ال يشعرون‪ ،‬وليس من عادتي أن أفسر‪ ،‬أني خارج العالم‪ ،‬سابح فوق‬
‫الزمان والمكان‪ ،‬وغارق في صدر سورة اإلسراء‪.‬‬
‫وفي ھاتيك األيام واألسابيع والشھور كنت أنام ألحلم بصدر سورة اإلسراء‪،‬‬
‫وأستيقظ ألدون لمحات وخطرات‪ ،‬وأرسم للتاريخ واألمم خرائط ومسارات‪،‬‬
‫ولدورتي اإلفساد والعباد رسوما ً بيانيات‪.‬‬
‫وفي كل مرة أصل فيھا إلى احتمال أو فرضية‪ ،‬أسجلھا وأرسم لھا خريطة‬
‫ورسما ً بيانياً‪ ،‬تبدو في النھار معقولة منطقية‪ ،‬ثم يمحوھا من رأسي عند نومي‬
‫ھامس في أذني فتصير نسيا ً منسياً‪ ،‬وال يبقى منھا إال ذكراھا في الرسم‬
‫والخريطة‪ ،‬ألعود في النھار التالي واآليات ما زالت في نفسي طلسما ً مطلسماً‪.‬‬
‫ثم وأنا خارج يوما ً من النوم‪ ،‬وعلى أعتاب اليقظة‪ ،‬وعيناي ما زالت بين‬
‫اإلغماض والفتح‪ ،‬أشرقت شمس اآليات في نفسي‪ ،‬وانبثق من شعاعھا ما ن ﱠور‬
‫عقلي وكشف سرھا‪ ،‬وانتشلني مما كنت غارقا ً فيه من لجج ظلماء‪ ،‬وأرساني‬
‫على ضياء وضاء‪.‬‬
‫ُ‬
‫وقعت فيه من أخطاء‪ ،‬وھي‬ ‫في ھذه اللحظة أدركت أين العقدة‪ ،‬ومصدر ما‬
‫نفسھا أخطاء كل من تعاملوا مع صدر سورة اإلسراء مذ أنزلت‪ ،‬وعبر كل‬
‫العصور‪ ،‬وھي األخطاء التي ستراھا بنفسك في الكتاب الذي بين يديك إذا شاء‬
‫ﷲ لك أن تتم رحلتك في بحاره‪.‬‬

‫‪٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫العقدة ومصدر كل األخطاء في تفسير ھذه اآليات وفھم ما الذي تريد أن‬
‫تخبر عنه القدوم عليھا من غير بابھا‪ ،‬وفتحھا بغير مفتاحھا‪ ،‬وتفسيرھا وفھمھا‬
‫من خارجھا وليس من داخلھا‪.‬‬
‫فكل من قَ ِدم على ھذه اآليات‪ ،‬ويستوي في ذلك من اقترب من حقيقتھا ومن‬
‫ابتعد‪ ،‬يقيدھا بما في ذھنه ھو‪ ،‬ويسلسلھا بمعارفه‪ ،‬أو بظروف زمانه ومكانه‪ ،‬أو‬
‫بما يريد أن ينطقھا به‪ ،‬ومن ثَم يقدم على اآليات‪ ،‬وبدالً من أن يفحصھا ھي بدقة‬
‫وفي أناة‪ ،‬يتأملھا إجماالً‪ ،‬وتتكون في ذھنه من ھذا النظر اإلجمالي صورة‪،‬‬
‫يترك من أجلھا اآليات ليبحث عما يطابقھا في ما يعرفه‪ ،‬أو ما يتمناه ويريده‪.‬‬
‫وكل الصور التي تكونت في أذھان كل من قدموا على صدر سورة اإلسراء‬
‫لتفسيرھا ال تطابق اآليات نفسھا‪ ،‬بل تختلط فيھا لمحات منھا بتفاصيل وزيادات‬
‫وقيود من خارجھا‪ ،‬وھو ما أفضى عبر العصور إلى طلسمة اآليات بتفسيراتھا‪،‬‬
‫وحجبھا بالصور الذھنية التي حلت محلھا‪.‬‬
‫ومن العجيب‪ ،‬وألمر ال أعلمه‪ ،‬أن البؤرة التي أشرق منھا الضياء الذي‬
‫أسفرت به آيات سورة اإلسراء أمام عيني نصف المغمضة‪ ،‬ھو كلمة‪:‬‬

‫‪ ،k‬في قوله تعالى عن العباد الذين يبعثھم على بني إسرائيل‪i :‬‬

‫‪.kj‬‬

‫ففي لمح البصر‪ ،‬وعقلي يصعد من قيعان النوم ويكاد يالمس سطح اليقظة‪،‬‬
‫توھجت الكلمة أمام عيني وانفتحت بوابتھا وخرج ما في اآليات كلھا منھا يتدافع‬
‫بعضه في إثر بعض‪ :‬الديار فقط‪ ،‬ال في األرض المقدسة وال في غيرھا‪ ،‬وال‬

‫‪١٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫منسوبة لبني إسرائيل‪ ،‬بنو إسرائيل في األرض المقدسة في الدورة الثانية دون‬
‫األولى‪ ،‬بين الدورتين فروق‪ ،‬اإلفساد في األرض كلھا ال في المقدسة فقط‪،‬‬
‫التحريف‪ ،‬بعث العباد إلزالة التحريف وإصالح اإلفساد في األرض كلھا ال‬
‫لعقاب بني إسرائيل وإخراجھم من ھذه األرض المقدسة‪.‬‬
‫وھا ھنا أبصرت بالشمس التي أشرقت من الكلمة وأضاءت اآليات كلھا أن‬
‫صدر سورة اإلسراء سبيكة بيانية‪ ،‬مفتاح تفسيرھا فيھا ھي نفسھا‪ ،‬وأنھا شفرة‬
‫لغوية حلھا في فحصھا بمجھر حساس يكشف دقائقھا ويجلي مكوناتھا وتسفر به‬
‫الروابط الناعمة بينھا‪ ،‬من غير إضافات وال زيادات وال قيود من خارجھا‪.‬‬
‫وتركت ما كنت غارقا ً فيه من التفاسير وما قاله المفسرون إلى اآليات‬
‫نفسھا‪ ،‬من أجل فحص نسيجھا اللغوي شديد الدقة واإلحكام‪ ،‬والتماسك‬
‫والترابط‪ ،‬والتركيب والتعقيد‪ ،‬ولم أعد إلى التفاسير إال بعد أن انتھيت من حل‬
‫شفرة اآليات من أجل نقدھا وبيان أخطائھا‪.‬‬
‫فكل ما ستراه في الفصل األخير من ھذا الكتاب‪ ،‬ھو بسط ما أشرق من‬

‫ضياء وانبثق من نور في ھذه اللحظة‪ ،‬وما فاض فيھا من كلمة‪ ،k :‬وكل‬

‫ما ستقرأه من فصول قبل ھذا الفصل األخير ھي جزء منه وتمھيد له‪ ،‬كتبناھا‬
‫لكي نؤھلك بھا لفھم ھذا الفصل األخير وما فاض في ھذه اللحظة المشرقة‪.‬‬
‫والحمد " أوالً وآخراً‬

‫دكتور بھاء األمير‬

‫القاھرة ‪ /‬ذو الحجة ‪١٤٣٤‬ھـ ‪ /‬أكتوبر ‪٢٠١٣‬م‬

‫‪١١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪١٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺑـ ـ ـﻴ ـ ـ ـ ـ ـ ــﺎن اﻹﻟـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ـ ــﻪ‬


‫‪vut‬‬
‫)آل ﻋﻤﺮان‪(١٣٨:‬‬

‫‪١٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪١٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﲢــﺮﻳــــﺮ اﻟـﻘــﺮآن‬
‫بـيــــــان‪:‬‬
‫لكي تعرف ما الذي يخبرنا به القرآن عن بني إسرائيل‪ ،‬وما الذي يريدنا أن‬
‫نعرفه عن موقعھم من التاريخ وآثارھم في البشرية‪ ،‬البد من تحريره أوالً من‬
‫الفھم التقليدي النمطي الذى شاع بين العوام وكثير من عموم المسلمين‪ ،‬وھو أنه‬
‫مجرد كتاب مقدس للعبادة ونوال البركة والحصول على الثواب‪.‬‬

‫وأھم من ذلك أنه البد من تحريره من الفھم والمنھج والطريقة التي تعامل‬
‫بھا كثير من العلماء ومن المفسرين‪ ،‬عبر التاريخ اإلسالمي كله‪ ،‬مع ما فيه من‬
‫قصص وأخبار عن قصة الخلق وسيرة البشرية األولى وعن األمم السابقة‬
‫عموماً‪ ،‬وعن بني إسرائيل خصوصاً‪ ،‬إذ أقاموا فھمھم وبنوا تفسيراتھم على أنھا‬
‫أخبار قديمة منقطعة عن الحاضر والمستقبل‪ ،‬وأن الغاية من إخبارنا بھا مجرد‬
‫العبرة والعظة وضرب األمثلة‪.‬‬

‫فالبشر قد يقدسون أي كتاب‪ ،‬أو أي شئ‪ ،‬نجماً‪ ،‬أو كوكباً‪ ،‬أو إنساناً‪ ،‬أو‬
‫حيواناً‪ ،‬كما يقدس الصابئة النجوم والكواكب‪ ،‬واليھود والمسيحيون الكتاب‬
‫المقدس‪ ،‬والبوذيون بوذا‪ ،‬والھندوس البقرة‪.‬‬

‫فالتقديس لكتاب‪ ،‬أو لشئ‪ ،‬ھو وصف لموقف اإلنسان منه وليس بيانا ً لحقيقته‬
‫في ذاته‪.‬‬

‫وأيضا ً لم ينزل ﷲ عز وجل كتابه على رسوله الخاتم‪ ،‬وقص عليه وعلى‬
‫أمته وعلى الناس جميعا ً إلى يوم القيامة أخبار بني إسرائيل‪ ،‬وفصل في سيرتھم‬
‫‪١٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫تفصيالً‪ ،‬وتعبدھم بما قص وفصل في كل صالة‪ ،‬لمجرد العظة والعبرة‪ ،‬وإال‬


‫الستوى أن تكون العظة والعبرة بھم أو بغيرھم‪ ،‬ولما تغير شئ في الفحوى‬
‫والغاية من اإلخبار لو أبدل غيرھم بھم‪.‬‬

‫القرآن كتاب حي‪ ،‬أنزله عز وجل لكي يتكون به وعي من يؤمنون به‪ ،‬ولكي‬
‫يك ﱢون عقولھم‪ ،‬ويصنع بناءھم الذھني والنفسي‪ ،‬الذي يدركون به ويفھمون ما‬
‫حولھم ويحكمون عليه‪.‬‬

‫القرآن كتاب الحياة والوجود‪ ،‬أنزله عز وجل رسالة خاتمة لكي نرى الحياة‬
‫ونفھمھا ونصنعھا به‪ ،‬ولكي نرى الوجود كله وندركه ونفھمه به ومن خالل‬
‫منظاره‪.‬‬

‫القرآن‪ ،‬كما أخبرك سبحانه وتعالى نفسه‪ ،‬ھو بيان اإلله عز وجل إلى خلقه‪،‬‬
‫وھو بيانه إليھم في كل زمان وفي كل مكان إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪zyxwvut‬‬

‫يخبرك ﷲ عز وجل أن القرآن ھدى وموعظة للمتقين‪ ،‬ولكنه يخبرك أنه قبل‬
‫ذلك بيان للناس‪ ،‬وللناس جميعاً‪ ،‬في كل زمان وكل مكان‪.‬‬

‫و" المثل األعلى‪ ،‬إذا فتحت التلفاز أو المذياع فوجدت الحاكم في بلدك‪،‬‬
‫رئيسا ً كان أو ملكا ً أو أميراً أو سلطاناً‪ ،‬يوجه خطابا ً أو بيانا ً لشعبه أو أمته‪،‬‬
‫فلست بحاجة إلى من يعرفك أو ينبھك أنه يلقيه إليك وأنك مخاطب به‪.‬‬

‫‪ ( ١‬آل عمران‪.١٣٨:‬‬
‫‪١٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكذلك إذا فتحت المصحف وقرأت‪ ،‬أو إذا سمعت القرآن يُتلى‪ ،‬ينبغي أن‬
‫تدرك أن ﷲ عز وجل يخاطبك أنت نفسك في اللحظة التي تقرأ أو تسمع فيھا‪،‬‬
‫وأن ھذا بيانه إليه أنت‪ ،‬ثم تحاول أن تفھم ما الذي يريد ھذا البيان أن يعرفك به‬
‫أو يرشدك إليه‪.‬‬

‫وھو ما يعرفك به الحسن البصري في قوله‪:‬‬

‫"من أراد أن يكلم ﷲ فليدخل في الصالة‪ ،‬ومن أراد أن يكلمه ﷲ فليقرأ‬


‫القرآن"‬

‫وھا ھنا ينبغي أن تعرف الفرق األساسي والفاصل بين القرآن وبين‬
‫النصوص المقدسة‪ ،‬كتابية كانت أو غير كتابية‪.‬‬

‫القرآن‪ ،‬بيان اإلله إلى إلى خلقه‪ ،‬ھو النص الوحيد الصادر عن الذات اإللھية‬
‫ويخاطب البشر مباشرة دون وسيط ينقل أو يترجم أو را ٍو يقص أو يروي‪.‬‬

‫أما الكتب األخرى‪ ،‬فغير الكتابية‪ ،‬وسترى نماذج منھا‪ ،‬فليست سوى تأمالت‬
‫أصحابھا وأفكار من كتبوھا عن اإلله والخلق والوجود‪ ،‬فھي ابتكارات عقولھم‬
‫ونتاج نفوسھم‪ ،‬وال ھم وال أتباعھم ينكرون ھذا أو ي ﱠدعون غيره‪.‬‬

‫وأما النصوص الكتابية‪ ،‬فھي رواية من كتبوھا عن اإلله وتعاليمه وأوامره‪،‬‬


‫ويختلط فيھا الوحي بسيرة البشر وأقوالھم وأفعالھم‪ ،‬وھي كالم من يروي لما‬
‫فھمه من تعاليم اإلله وأوامره‪ ،‬وليست نص كالم اإلله‪.‬‬

‫فإذا دفعت القرآن إلى أي أحد‪ ،‬وسألته‪ :‬ھذا النص َمن الذي يتكلم فيه‪ ،‬وبأي‬
‫صفة يخاطب البشر؟‬
‫‪١٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فستكون إجابته‪ :‬الذي يتكلم ھو اإلله أو بصفته اإلله‪ ،‬وبعد ذلك قد يؤمن أنه‬
‫حقا ً كالم اإلله‪ ،‬أو ال يؤمن فيقول لك‪ :‬من يتكلم ينتحل مقام األلوھية‪.‬‬

‫أما إذا دفعت إليه الكتاب المقدس‪ ،‬وسألته من الذي يتكلم في ھذا النص‪،‬‬
‫فستكون إجابته‪ :‬ال ريب ھو بشر‪ ،‬را ٍو يروي مذكراته أو ذكرياته عما رآه أو‬
‫سمعه أو أخبره به أحد آخر‪.‬‬

‫ولكي نقرب إليك المسألة‪ ،‬الفرق بين القرآن وبين الكتاب المقدس‪ ،‬ھو‬
‫بالضبط كالفرق بين أن تفتح التلفاز فترى الحاكم في بلدك يلقي بيانا ً وتسمعه‬
‫بنفسك‪ ،‬وبين أن تفتحه فتجد نشرة األخبار التي تروي ما قاله‪ ،‬مع ما فھمه من‬
‫يقرؤھا مما قاله‪ ،‬وتعلق عليه‪ ،‬ويختلط فيھا ما قاله بما يقوله غيره‪ ،‬ويل ﱢونھا من‬
‫يحررھا بأفكاره‪ ،‬ويحشو من يقرؤھا ما بين عباراتھا بأرائه‪.‬‬

‫فإذا كان القرآن بيان ﷲ عز وجل الخاتم إلى خلقه جميعاً‪ ،‬وھو بيان حي‬
‫غايته فھم الوجود وصناعة الحياة وتكوين الوعي وبناء األذھان والنفوس‪ ،‬فال‬
‫يستقيم أن يكون ما أخبرنا به من سيرة بني إسرائيل وأخبارھم‪ ،‬بل وما أخبرنا‬
‫به عن األمم السابقة‪ ،‬لمجرد الرواية واإلخبار بالغيب‪ ،‬وال لمحض العبرة‬
‫والعظة‪.‬‬

‫القرآن‪ ،‬الوحي الخاتم وبيان اإلله النھائي إلى خلقه‪ ،‬ال يأتي بحادثة من بطن‬
‫الغيب‪ ،‬وال يصحح واقعة‪ ،‬وإن بدت بسيطة موغلة في القدم‪ ،‬إال ألن لھا أثراً في‬
‫وعي البشر‪ ،‬وفي أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬في كل زمان‪ ،‬وفي فھمھم لما يرونه من‬

‫‪١٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫حوادث‪ ،‬وفي ما يتخذونه من مواقف تجاه ما يدور حولھم من أحداث في كل‬


‫مكان‪.‬‬

‫وفي سيرة بني إسرائيل تحديداً‪ ،‬ال يروي لك بيان اإلله عز وجل عنھم‬
‫رواية‪ ،‬وال يخبرك بقصة‪ ،‬وال يأتيك من غابر الزمان بطرف من ھذه السيرة إال‬
‫ليعرفك من خاللھا بصفة الصقة بأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬يورثھا كل جيل منھم للذي‬
‫يليه‪ ،‬ولينبھك في ثنايا القصة إلى أخالق وطباع‪ ،‬وسلوك وسجايا‪ ،‬وغايات‬
‫وأساليب‪ ،‬تنتقل معھم وال تنفك عنھم‪.‬‬

‫غاية بيان اإلله عز وجل من استخراج سيرة بني إسرائيل من بطن الغيب‪،‬‬
‫وإفراد ھذه المساحة الھائلة لھم فيه‪ ،‬أن يجعلك تعي عظم موقع بني إسرائيل من‬
‫التاريخ‪ ،‬وآثارھم الھائلة في البشر ومسيرة البشرية‪ ،‬ولكي تفھم من خالل ھذه‬
‫السيرة وما فيھا من قصص وأخبار غاياتھم وأساليبھم‪ ،‬وما في نفوسھم‪ ،‬وكيف‬
‫تعمل أذھانھم‪ ،‬ثم لكي تدرك أثر غاياتھم وما في نفوسھم في تكوين مسار‬
‫التاريخ وتوجيھه‪ ،‬وأثر أساليبھم وطريقة عمل أذھانھم في صناعة أحداثه‪ ،‬وأثر‬
‫ھذا وذاك في تكوين مجتمعات البشر والصبغة التي تصبغ اجتماعھم‪.‬‬

‫وكل نداء أو خطاب من ﷲ عز وجل إلى خلقه‪ ،‬أو إلى فئة منھم‪ ،‬ھو خطاب‬
‫ونداء لھم إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫فلم يختلف أحد من العلماء والمفسرين أنه إذا قال عز وجل‪":‬يا أيھا الناس"‪،‬‬
‫فھو ينادي الناس جميعاً‪ ،‬مؤمنھم وكافرھم‪ ،‬إلى يوم القيامة‪ ،‬وإذا قال عز وجل‪:‬‬
‫"يا أيھا الذين آمنوا"‪ ،‬فھو ينادي عباده المؤمنين به في كل زمان وكل مكان‪.‬‬

‫‪١٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ولھم في ذلك قاعدة‪ ،‬ھي أن‪:‬‬

‫"عموم اللفظ مقدم على خصوص السبب"‬

‫والمشكلة أنھم لم يطبقوا ھذا الفھم وھذه القاعدة على نداء ﷲ عز وجل‬
‫وخطابه لبني إسرائيل‪ ،‬وھم القوم والفئة والطائفة الوحيدة في البشرية التي‬
‫يوجه عز وجل نداءه وخطابه إليھا باسمھا ونسبھا‪.‬‬

‫فما فھمه العلماء والمفسرون وأقاموا تفسيراتھم عليه ھو أن نداء ﷲ عز‬


‫وجل في القرآن لبني إسرائيل وخطابه إليھم منحصر في قبائل اليھود في المدينة‬
‫زمن نزول القرآن‪.‬‬

‫أما إذا فھمت أن القرآن ھو بيان ﷲ عز وجل إلى كل زمان وكل مكان‪،‬‬
‫فيترتب على ذلك أنه ينبغي أن تدرك أن ﷲ عز وجل إذا نادى‪" :‬يا بني‬
‫إسرائيل"‪ ،‬أو‪" :‬يا أھل الكتاب"‪ ،‬أو‪" :‬يا أيھا الذين ھادوا"‪ ،‬فھو يخاطب بني‬
‫إسرائيل وأھل الكتاب والذين ھادوا في كل زمان وكل مكان إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫نداء ﷲ عز وجل في بيانه الخاتم لبني إسرائيل‪ ،‬وحده‪ ،‬ودون معرفة ما الذي‬
‫يتبع ھذا النداء‪ ،‬ھو في حقيقته إخبار لنا أنھم موجودون حاضرون في الزمان‬
‫وفاعلون في تاريخ البشر ومسيرة البشرية‪.‬‬

‫ولو لم يكن نداء ﷲ عز وجل في بيانه لبني إسرائيل في كل زمان ومكان‪،‬‬


‫وليس في زمان نزوله ومكانه فقط‪ ،‬لما كان لذلك إال أحد معنيين‪ ،‬إما أنه عز‬
‫وجل ينادي ويخاطب من ال وجود له‪ ،‬تعالى ﷲ عن ذلك علواً كبيراً‪ ،‬أو أن‬
‫القرآن ليس بيانه عز وجل إلى كل زمان ومكان‪.‬‬

‫‪٢٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫القول بأن نداءه عز وجل لبني إسرائيل والذين ھادوا وأھل الكتاب ھو لمن‬
‫كانوا يوجدون منھم في زمن نزول الوحي فقط‪ ،‬وأن ما يتبع ھذا النداء من بيان‬
‫سمات وصفات وسلوك ينحصر في قبائل المدينة أو جزيرة العرب‪ ،‬يفضي‬
‫تلقائيا ً إلى القول بتاريخانية نص القرآن‪.‬‬

‫وھو ما يعني أن ﷲ عز وجل أنزل وحيه لفئة معينة في زمان محدد ومكان‬
‫بعينه‪ ،‬وأن كل ما فيه من بيان إنما يتعلق بھذه الفئة أو الطبقة أو الجيل في ھذا‬
‫الزمان وھذا المكان‪ ،‬ال أنه بيانه عز وجل إلى خلقه كافة‪.‬‬

‫وھو ما يكون معناه الحقيقي وترجمته الفعلية الواقعية أن مكان القرآن ليس‬
‫حياة البشر وال حركتھم‪ ،‬وأن الغاية منه ليست تكوين أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وال‬
‫ضبط اجتماعھم‪ ،‬نور إبانة ومنھج ھداية‪ ،‬مكان القرآن الوحيد بھذا الفھم ھو‬
‫المتاحف‪.‬‬

‫أما إذا قلت إن نداء ﷲ عز وجل وخطابه لبني إسرائيل ھو لھم في بقاع‬
‫األرض وأصقاعھا كافة‪ ،‬وإلى يوم القيامة‪ ،‬وأن ما أخبرنا به من سلوكھم‬
‫وأساليبھم في التفكير والتدبير مطلقات يتوارثونھا عبر األجيال‪ ،‬ويتصفون بھا‬
‫في كل زمان‪ ،‬فكأنھم‪ ،‬في تكوينھم العقلي والذھني والنفسي‪ ،‬في كل أجيالھم‬
‫جيل واحد‪ ،‬وكأنھم‪ ،‬في غاياتھم ووسائلھم‪ ،‬في كل طبقاتھم طبقة واحدة‪ ،‬إذا قلت‬
‫ھذا تكون قد أحدثتَ بما تقول ثورتين‪.‬‬

‫فأما األولى‪ ،‬فھي ثورة في فھم ما الذي يريد عز وجل أن يخبرنا به عن بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وما الذي يريدنا أن نعرفه عنھم‪.‬‬

‫‪٢١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأما الثورة الثانية‪ ،‬فھي في فھم موقع بني إسرائيل من التاريخ‪ ،‬وعظم‬
‫دورھم في صناعة أحداثه وتكوين مساره‪ ،‬وفي إدراك جسامة آثارھم في وعي‬
‫البشر وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وفي حياتھم ومجتمعاتھم‪.‬‬

‫ما أفرده ﷲ عز وجل لبني إسرائيل في بيانه إلى خلقه‪ ،‬يخبرنا به وفي ثناياه‬
‫عن شئ أشد خطراً وأعظم أثراً في تكوين البشرية وتاريخھا ومسيرتھا من‬
‫مجرد ثالث قبائل كانت تستوطن ضواحي المدينة ثم أجليت عنھا وانتھى‬
‫أمرھا‪.‬‬

‫فإذا كان القرآن والوحي ھو بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه كافة‪ ،‬وإلى يوم‬
‫القيامة‪ ،‬وليس نصا ً تاريخيا ً ألھل الزمان الذي أنزل فيه والمكان الذي تنزل‬
‫عليه‪ ،‬فال معنى لما أفرده لبني إسرائيل من مساحة ھائلة إال أن بني إسرائيل‬
‫مسألة محورية في تاريخ البشر‪ ،‬وأن لھم دوراً عظيما ً في سيرتھم وأثراً ھائالً‬
‫في مجتمعاتھم‪.‬‬

‫إدراك أن نداء ﷲ عز وجل وخطابه لبني إسرائيل‪ ،‬وأن ما يخبرنا به عنھم‪،‬‬


‫ھو لھم وفيھم إلى يوم القيامة يفتح آيات القرآن ويفجر ينابيعھا‪ ،‬ويجعل ميدان‬
‫عملھا ومجال فھمھا وتفسيرھا العالم كله والتاريخ بطوله‪.‬‬

‫وتـبــيـــــــان‪:‬‬
‫ألن القرآن ھو بيان ﷲ عز وجل الخاتم إلى خلقه إلى يوم القيامة‪ ،‬فقد نبھك‬
‫عز وجل إلى أنه‪:‬‬

‫‪٢٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫_`‪(١)ihgfedcba‬‬

‫فا" عز وجل جعل بيانه تبيانا ً لكل شئ‪ ،‬وأودع فيه أصول العلوم‪ ،‬ومفاتيح‬
‫المعارف‪ ،‬لتكون نبعا ً تتفجر منه العلوم وتنفتح به أبواب المعارف‪ ،‬ولتكون‬
‫قواعد وضوابط تُفھم بھا ومن خاللھا كل المعارف والعلوم‪.‬‬

‫ومن ھذه العلوم والمعارف ما ال مصدر له أصالً سوى الوحي‪ ،‬وليس في‬
‫طاقة البشر إدراكه وال الوصول إليه بما يحوزونه وأودع فيھم من وسائل‬
‫اإلدراك وتحصيل المعرفة‪.‬‬

‫والقرآن كله ناطق بذلك في آياته ومنھجه وما يرشد إليه اإلنسان‪ ،‬وھو‬
‫صريح في ذلك في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪edcb a`_~}|{zyx‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪k jihgf‬‬

‫‪ ( ١‬النحل‪.٨٩:‬‬
‫‪ ( ٢‬إبراھيم‪.٩:‬‬
‫‪٢٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وﺳﺎﺋﻞ اﳌﻌﺮﻓﺔ‬
‫وسائل المعرفة‪ ،‬أي الوسائل التي يدرك بھا اإلنسان األشياء و يعرفھا‪،‬‬
‫ويحكم بھا عليھا‪ ،‬تنقسم إلى قسمين كبيرين‪:‬‬

‫القسم األول‪ :‬الوسائل اإلنسانية‬

‫ھو وسائل المعرفة الذاتية المركبة في اإلنسان والمودعة فيه‪ ،‬وھي جزء من‬
‫تكوينه‪ ،‬وتمكنه من أن يكتشف األشياء ويدركھا ويعرفھا بنفسه‪.‬‬

‫وھذه الوسائل الذاتية التي ھي جزء من تكوين اإلنسان تشمل‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬العقل‪:‬‬
‫وتفھم به البدائه والمسائل الرياضية والحساب‪ ،‬وھنا نشير لك إلى الفرق بين‬
‫موقع العقل في اإلسالم وحضارته وموقعه من الغرب وسيرته‪.‬‬

‫العقل في الغرب صيﱠرته مسيرته وتاريخه ميزانا ً ومعياراً‪ ،‬ألن الغرب ال‬
‫ميزان فيه وال معيار‪ ،‬الفتقاده الوحي‪ ،‬وھو مصدر الميزان والمعيار‪.‬‬

‫أما فى اإلسالم وحضارته وتاريخه‪ ،‬فالعقل أداة ووسيلة‪ ،‬وظيفتھا العمل في‬
‫المعيار والميزان‪ ،‬ومن داخله‪ ،‬لفھمه وتطبيقه‪.‬‬

‫ومما يثير االنتباه أن مادة‪ :‬عقل لم ترد في القرآن في الصيغة االسمية‬


‫الساكنة‪ :‬العقل‪ ،‬العقول‪ ،‬فال تاتي إال في الصيغة الفعلية المتحركة‪ :‬أفال تعقلون‪،‬‬
‫لعلكم تعقلون‪ ،‬من بعد ما عقلوه‪.‬‬

‫‪٢٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھذا بخالف وسائل المعرفة األخرى جميعھا التي تأتي في القرآن بصيغتيھا‬
‫االسمية والفعلية‪ :‬السمع‪ ،‬السميع‪ ،‬يسمع‪ ،‬تسمعون‪ ،‬البصر‪ ،‬األبصار‪،‬‬
‫يبصرون‪.‬‬

‫وھي داللة على أن العقل في الحقيقة ما ھو إال وظيفته‪ ،‬وانه ال يكون اداة‬
‫للفھم والعلم إال إذا كان متحركا ً يجول في الشئ الذي توجه لفھمه وعلمه‪.‬‬

‫وثمة شئ آخر‪ ،‬وھو أن العقل‪ ،‬بخالف الحواس‪ ،‬ال يكون وسيلة للمعرفة‬
‫وحده ابتدا ًءا‪ ،‬بل ھو وسيلة تبدأ من معطيات سابقة تقدمھا له وسائل أخرى‪،‬‬
‫ليتحرك فيھا ويجول‪ ،‬كي يصل إلى المعرفة‪.‬‬

‫وقد تاتي ھذه المعطيات األولية التي يبدأ منھا العقل الحركة من الحواس‪،‬‬
‫ولذا نبھك بيان اإلله إلى أنه إذا فقد اإلنسان الحواس تماماً‪ ،‬انعدمت المعارف‬
‫األولية التي يبدأ العقل منھا وفيھا العمل‪ ،‬فيصبح وكأنه ال وجود له‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ lkjihgf‬‬

‫وقد تكون المعطيات األولية التي يبدأ العقل منھا وفيھا الحركة واردة إليه من‬
‫الوحي‪.‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪~}|{zy‬‬

‫فإذا فقد العقل الوحي في المعارف والعلوم التي ال مصدر لھا إال الوحي‪،‬‬
‫انعدم ولم يعد له وجود‪ ،‬وصارت حركته ضالالً وخبطا ً في عشواء‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.١٧١:‬‬
‫‪ ( ٢‬يوسف‪.٢:‬‬
‫‪٢٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثانياً‪ :‬الحواس‪:‬‬
‫والحواس تشمل تلك المجردة‪ ،‬كالسمع والبصر واللمس والشم والذوق‪،‬‬
‫والحواس المدعومة باآلالت‪ ،‬كالتلسكوب أو الميكروسكوب‪.‬‬

‫ويدخل في الحواس كوسيلة للمعرفة المنھج التجريبي القائم على المالحظة‬


‫والرصد وجمع الشواھد واألدلة‪ ،‬ثم تحليلھا‪ ،‬وھو المنھج األساسي في دراسة‬
‫الطبيعة وفھم حقائق الكون‪.‬‬

‫وبيان ﷲ عز وجل يرشدك إلى أن الحواس وسيلة لمعرفة حقة وعلم حقيقي‪،‬‬
‫وأنھا الوسيلة االولى في التعامل مع الطبيعة وإدراك حقائق الكون‪.‬‬

‫ ‪§¦¥ ¤£¢¡~}|{zyx‬‬
‫)‪(١‬‬
‫¨©‪¯®¬«ª‬‬

‫وأن الحواس ھي التي تقدم للعقل المادة األولية والمعارف األولى‪ ،‬التي‬
‫يتحرك فيھا ويك ﱢون العلم‪.‬‬

‫ ‪ÁÀ¿¾½¼»º¹¸¶µ‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪ÆÅÄÃ Â‬‬

‫وما اخبرك به الوحي حقيقة لم يدركھا ويصل إليھا أحد خارج عالم الوحي‬
‫إال بعد نزول القرآن بتسعة قرون‪ ،‬حين صاغ المفكر والفيلسوف اإلنجليزي‬

‫‪ ( ١‬الغاشية‪.٢٠-١٧ :‬‬
‫‪ ( ٢‬النحل‪.٧٨ :‬‬
‫‪٢٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫جون لوك ‪ John Locke‬مصطلحا ً طبلوا له وزمروا‪ ،‬وأنشدوا األناشيد في‬


‫كيف وصل إلى مبدأ ھو فتح في فھم العقل اإلنساني والنفس البشرية‪.‬‬

‫والمصطلح الذي صكه لوك وصاغه ھو‪ ،Tabula Rasa :‬ويعني ان‬
‫اإلنسان يولد صفحة بيضاء ليس في عقله وال نفسه وال وجدانه علم وال معارف‬
‫وال مدركات‪ ،‬ثم تتكون ھذه مما يرد إليه ويدخل فيھا مما تجلبه الحواس أو‬
‫التعاليم والخبرات‪.‬‬

‫وكما ترى‪ ،‬التابيوال رازا التي كتبوا فيھا األشعار وغنوا لھا االغاني ليست‬
‫سوى ما أخبرك به عز وجل في بيانه قبل ان يولد جون لوك بتسعة قرون‪.‬‬

‫وقد تتوھم أيضا ً ألول وھلة‪ ،‬أن ما ع ﱠرفك به عز وجل في بيانه من أن‬
‫الحواس وسيلة لمعرفة وعلم حقيقي مسألة ھينة أو بديھية وال تحتاج إلى إرشاد‬
‫وتنبيه‪.‬‬

‫ولكي تقدر ما أخبرك به اإلله في بيانه حق قدره ينبغي أن تعلم أنه قبل نزول‬
‫القرآن كان للبشر عيون وآذان‪ ،‬ولكن كان استخدامھا عشوائياً‪ ،‬وفي حدود‬
‫ضرورة التعامل اليومي‪ ،‬ولم يكن في العالم منھج ي ُعد الحواس من وسائل‬
‫تحصيل المعرفة والوصول إلى علم حقيقي‪.‬‬

‫واإلغريق‪ ،‬وحضارتھم أكثر الحضارات أثراً وبريقا ً قبل نزول القرآن‪،‬‬


‫كانوا يقدسون العقل ويرونه الوسيلة الوحيدة للمعرفة والعلم الحقيقي‪ ،‬ولذا كانوا‬
‫يحتقرون الحواس‪ ،‬وھي عنھم خداعة‪ ،‬وما تجلبه من معارف وھم وال يصلح‬
‫أن يكون علماً‪.‬‬

‫‪٢٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن ثَم كان المثل األعلى للعالم عند اإلغريق ھو‪:‬‬

‫"المفكر النظري الذي يستخلص الحقائق كلھا بالتأمل النظري‪ ،‬أما‬


‫محاوالت تدعيم ھذه الحقائق بمشاھدات أو مال حظات أو تجارب فكانت في‬
‫نظرھم خارجة عن العلم‪ ،‬بل إنھا تحط من قدر العلم وتجعله مجرد ظن أو‬
‫)‪(١‬‬
‫تخمين"‬

‫ولم يتقدم اإلغريق في أي علم سوى الھندسة‪ ،‬ألنھا العلم الذي أداته الوحيدة‬
‫العقل ووسيلته التصور الذھني‪.‬‬

‫وحتى الحساب كان اإلغريق يحتقرونه ويتعاملون مع أعداده على أنھا‬


‫وسيلة للعب واللھو والتسلية‪ ،‬وھو المعنى األصلي الذي تحمله كلمة‪ :‬حساب‬
‫‪ Arithmatic‬الغربية‪ ،‬اإلغريقية األصل‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬التعليم وتوارث الخبرات‪:‬‬


‫وھي الوسائل التي يدرك بھا اإلنسان العادات واألعراف‪ ،‬وينتقل عبرھا ما‬
‫يحصله من مصادر المعرفة األخرى من جيل إلى جيل‪ ،‬ليتكون بتراكمھا وعي‬
‫المجتمع أو القوم أو األمة أو البشرية كلھا‪.‬‬

‫القسم الثانى‪ :‬الوحي‪:‬‬

‫الوحي ھو النور الذي يُرى به كل شئ‪ ،‬وتسفر به حقيقته‪ ،‬وتستبين مالمحه‪،‬‬


‫ومن غيره تظلم األشياء واألفكار واألحداث والتاريخ والوجود وتفقد مالمحھا‪،‬‬

‫‪ ( ١‬دكتور فؤاد زكريا‪ :‬التفكير العلمي‪ ،‬ص‪.١٣٧‬‬


‫‪٢٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وتنطفئ وسائل المعرفة األخرى كلھا‪ ،‬وتفقد قدرتھا على التمييز‪ ،‬وتتوھم أي‬
‫شئ في أي شئ‪ ،‬وترى الحق باطالً والباطل حقاً‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪½¼»º¹¸¶µ´³²±‬‬

‫الوحي ھو مصدر المعرفة المطلق المرتفع عن الزمان والمكان‪ ،‬والمھيمن‬


‫على كل المعارف‪ ،‬وھوسقف المعرفة األعلى الذى ال تخرج أي معرفة عن‬
‫حقائقه‪ ،‬بما في ذلك علوم الطبيعة والكون‪.‬‬

‫فإليك الدليل من أھله‪ ،‬يقول يوشيودي كوزان‪ ،‬رئيس مرصد طوكيو‪ ،‬وھو‬
‫أستاذ في جامعة طوكيو‪ ،‬يصف ما جاء في آيات القرآن من معارف وإشارات‬
‫تتعلق بالكون وتكوينه وشكله وحركته والعالقات بين أجرامه‪:‬‬

‫"إن ھذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة في الوجود‪ ،‬فكل شئ‬
‫مكشوف أمامه‪ ،‬إن الذي قال ھذا القرآن يرى كل شئ في ھذا الكون‪ ،‬فليس‬
‫)‪(٢‬‬
‫ھناك شئ قد خفي عليه"‬

‫وما فطن إليه يوشيودي كوزان ھو السبب الذي من أجله حجب بنو إسرائيل‬
‫الوحي عن البشر وكتموه‪ ،‬ألن من يحوز الوحي يملك مفاتيح المعرفة المطلقة‪،‬‬
‫ويرى كل شئ في الوجود مكشوفا ً دون حواجز من الزمان أو من المكان‪،‬‬
‫فضنوا بھذه المعرفة المطلقة أن يصل إليھا أو تكون في حوزة أحد غيرھم‪.‬‬

‫‪ ( ١‬النساء‪.١٧٤ :‬‬
‫‪ ( ٢‬نقالً عن كتاب‪ :‬أنه الحق‪ ،‬للشيخ عبد المجيد الزنداني‪ ،‬ص‪.٦٨‬‬
‫‪٢٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھنا موض ٌع ألن نذكرك أنك ال يمكن أن تدرك ما الذي يريد الوحي أن‬
‫يخبرك به عن بني إسرائيل‪ ،‬عقائدھم وأخالقھم وسماتھم العقلية والنفسية‬
‫وأساليبھم في التفكير والتدبير‪ ،‬إال إذا تعاملت مع القرآن على أنه مصدر حي‬
‫ومطلق للمعرفة‪ ،‬ثم تحاول أن تستخرج ما ھو مبثوث في آياته ويسري في‬
‫نسيجه من معارف‪ ،‬ال أن تتعامل معه بطريقة جامدة ساكنة على أنه كتاب‬
‫للتقديس‪ ،‬أو أن ما فيه من قصص وأخبار وسير لمجرد العظة‪ ،‬أو لمحض نوال‬
‫الثواب والبركة‪.‬‬

‫وظيفة الوحي‪:‬‬

‫وظيفة الوحي الرئيسة‪ ،‬كمصدر للمعرفة‪ ،‬صناعة وعي اإلنسان‪ ،‬وتكوين‬


‫بنائه الذھني والنفسي الذي يدرك به األشياء ويفھمھا‪ ،‬وضبط معاييره وموازينه‬
‫التي يحكم بھا عليھا‪ ،‬لكي يكون كل ما يتكون في وعيه‪ ،‬وما ينتجه ويخرجه‬
‫عقله من أفكار ورؤى وفھم ونظريات مصبوغا ً بھذا البناء الذھني والنفسي‬
‫ومحكوما ً ومضبوطا ً بھذه المعايير والموازين‪.‬‬

‫وذلك عبر إمداد اإلنسان بالمعارف المحورية التي تك ﱢون ھذا الوعي وتصنع‬
‫ھذا البناء‪ ،‬والتي ال مصدر لھا إال الوحي‪ ،‬وال يستطيع اإلنسان أن يدركھا وال‬
‫أن يصل إليھا وحده بما يحوزه وما أودع فيه من وسائل لتحصيل المعرفة‪.‬‬

‫وھذا النوع من المعارف التي ال مصدر لھا إال الوحي‪ ،‬ف ْقده يؤدي إلى خلل‬
‫في تكوين اإلنسان‪ ،‬واضطراب في وعيه‪ ،‬وعدم قدرته على فھم أي شئ في‬
‫الوجود فھما ً صحيحا ً وعلى حقيقته‪ ،‬بما في ذلك فھم اإلنسان نفسه وماذا يكون‪.‬‬

‫‪٣٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ولذا ال يُفصﱢ ل القرآن في معرفة وال مسألة إال إذا كانت عصية على اإلنسان‬
‫أن يصل إليھا بنفسه‪ ،‬وفوق طاقة وسائل معرفته الذاتية المركبة فيه أن يدركھا‪.‬‬

‫أما المعارف التي يمكن لإلنسان أن يصل إليھا وحده بعقله‪ ،‬أو بحواسه‪ ،‬أو‬
‫بالتجربة والخطأ والتصويب‪ ،‬فإن منھج القرآن أن يضع لإلنسان اإلرشادات إلى‬
‫الطريق الصحيح‪ ،‬ويدله على المسار الحق لكي ال يضل‪ ،‬ثم يتركه ليحوزھا‬
‫ويحصلھا بنفسه‪.‬‬

‫والوظيفة الثانية الرئيسة للوحي‪ ،‬كمصدر للمعرفة‪ ،‬ھي تنظيم العالقة بين‬
‫وسائل المعرفة جميعاً‪ ،‬وبيان المجال المناسب لعمل كل وسيلة من وسائل‬
‫المعرفة‪ ،‬والذي إن وضعت واستخدمت فيه أثمرت وفتحت مغاليقه‪ ،‬وإن‬
‫وضعت في غيره انغلق أمامھا ولم تصل إلى شئ ‪.‬‬

‫وربما توجد معارف تحتاج في إدراكھا إلى اجتماع وسائل معرفة متعددة‪،‬‬
‫فالوحي ھنا يدلك على الموضع أو المجال الذي تتقدم فيه وسيلة وتتبعھا‬
‫الباقيات‪ ،‬وربما تقدمت وسيلة من وسائل المعرفة في مجال‪ ،‬وربما تأخرت‬
‫لتتقدم عليھا أخرى فى مجال آخر‪.‬‬
‫وثمة مثال صيني شھير يعرفك أنك إذا أعطيت الفقير سمكة فقد أطعمته يوما ً‬
‫واحداً‪ ،‬أما إذا علمته الصيد فقد أطعمته طوال حياته‪.‬‬

‫وھكذا الوحي‪ ،‬فليست وظيفته أن يعطي اإلنسان معلومات أو معارف منفردة‬


‫أو متناثرة أو متراكمة عن أي شئ أو عن كل شئ‪ ،‬بل أن يعلم اإلنسان الصيد‪،‬‬
‫بتكوين وعيه وبناء ذھنه الذي يصل به إلى المعرفة ويحكم به على كل شيء‪،‬‬

‫‪٣١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وبإعطائه المعارف التي ال مصدر لھا غيره‪ ،‬وبھدايته إلى الوسيلة المناسبة لكل‬
‫مجال من مجاالت المعرفة‪ ،‬وبتنسيق العالقة بينھا وبيان أيھا تتقدم وأيھا تتأخر‪.‬‬

‫‪٣٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺿــــﻮاﺑــــــــــﻄـ‬
‫ألن الكتاب الذي بين يديك يرى القرآن على أنه بيان اإلله وتبيانه‪ ،‬وأنه‬
‫مصدر مطلق للمعرفة‪ ،‬ال أنه مجرد كتاب للتقديس والبركة‪ ،‬وألنه سيتعامل مع‬
‫ما فيه بخصوص بني إسرائيل بطريقة غير تقليدية وال مألوفة‪ ،‬وتتجاوز حدود‬
‫البحث عن معنى الكلمة أو اآلية إلى فھم ما الذي تريد أن تخبر عنه‪ ،‬واستخراج‬
‫الرسائل التي تحملھا في نسيجھا‪ ،‬وألن ما تنتجه ھذه الطريقة غير التقليدية وال‬
‫المألوفة‪ ،‬وما تُخرجه وما يترتب عليه‪ ،‬ال سابقة له من قبل‪ ،‬بل ويخالف في‬
‫بعضه كل ما قاله المفسرون وما ذھب إليه المحققون‪ ،‬فالبد أوالً من كلمة عن‬
‫ضوابط فھم القرآن واستخراج معانيه‪.‬‬

‫فھم آيات القرآن‪ ،‬وتفسير معانيھا واستخراج ما تخبر به ال قيد عليه‪ ،‬عندنا‬
‫على األقل‪ ،‬سوى أمر من اثنين‪ ،‬ھما الضابطان للفھم‪.‬‬

‫القيد أو الضابط األول‪:‬‬

‫أن يكون قد ورد عن النبي عليه الصالة والسالم حديث صحيح في تفسير‬
‫اآلية أو الكلمة‪ ،‬ألنه عليه الصالة والسالم ال ينطق عن الھوى‪ ،‬وتفسيره وحي‬
‫تتوقف أمامه كل وسائل المعرفة األخرى‪ ،‬عقالً وحواساً‪ ،‬وليس لھا أن تتقدم‬
‫عنه أو تتأخر‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪UTSRQPONMLK‬‬

‫‪ ( ١‬النجم‪.٤-٣:‬‬
‫‪٣٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن حكمة ﷲ عز وجل‪ ،‬ومن مراده‪ ،‬أن النبي عليه الصالة والسالم لم‬
‫يفسر من القرآن وآياته إال ما يتعلق بالعقائد والعبادات واألحكام‪ ،‬ليبين ألمته‬
‫كيف تكون‪ ،‬وليزيل االلتباس في فھم ما يقوم عليه الدين وتشاد به الملة‪.‬‬

‫وأما أغلب آيات القرآن‪ ،‬فلم يتعرض لھا عليه الصالة والسالم بالتفسير‪،‬‬
‫وھي حكمة وإرادة إلھية‪ ،‬من أجل أن يظل القرآن ينبوعا ً يتدفق بالمعاني‬
‫والكشف واإلبانة‪ ،‬ويفھم منه كل جيل وعصر ما لم يفھمه سابقه‪ ،‬فيظل القرآن‬
‫نوراً يضئ سيرة البشرية كلھا‪ ،‬ويظل حيا ً يصنع أذھان البشر ويتفاعل مع‬
‫عالمھم وما يشھده من أحداث عبر الزمان كله‪.‬‬

‫والقيد أو الضابط الثاني‪:‬‬

‫أن يكون الفھم والتفسير وما ينتجه مقيداً باللغة العربية‪ ،‬وما تجيزه قواعدھا‬
‫ونحوھا وتراكيبھا وصياغاتھا من فھم‪ ،‬وما تحمله وتحتمله كلماتھا وألفاظھا من‬
‫معان‪ ،‬ألن ﷲ عز وجل أخبرنا ھو ذاته أن ھذا ھو القيد والضابط الوحيد في‬
‫فھم كتابه‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪~}|{zy‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪{zyxwvu‬‬

‫‪ ( ١‬يوسف‪.٢:‬‬
‫‪ ( ٢‬الزخرف‪.٣:‬‬
‫‪٣٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وبخالف تفسير النبي عليه والصالة‪ ،‬وقواعد اللغة ومعانيھا‪ ،‬فال قيد على‬
‫فھم آيات القرآن وتفسيرھا‪ ،‬ال من فھم آخر‪ ،‬وال من معرفة شائعة‪ ،‬وال من‬
‫أقوال قيلت وألفت دون أن ترفع إلى من يوحى إليه عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫فھذه الضوابط ھي تقييد وإطالق في الوقت نفسه‪ ،‬ھي إطالق لألفھام‬


‫والعقول في فھم القرآن‪ ،‬وتحرير لھا من التقيد بأقوال قيلت‪ ،‬أو أشياء ألفت‬
‫واكتسبت رسوخھا من اعتياد العقول والنفوس لھا‪ ،‬ومن أن تقيدھا أفھام أخرى‪.‬‬

‫فكل ما يفھمه اإلنسان من إعمال العقل في آيات القرآن صحيح‪ ،‬بشرط أن‬
‫يكون الفھم مقيداً بما تحتمله معاني األلفاظ والكلمات‪ ،‬وما تجيزه الصياغات‬
‫والتراكيب‪ ،‬وبشرط أال يكون للنبي عليه الصالة والسالم في اآلية تفسير‪،‬‬
‫فحينئذ ليس ألحد بأي ذريعة أن يتقدم أو يتأخر عن تفسيره عليه الصالة‬
‫والسالم‪.‬‬

‫وھذه الضوابط ھي أيضا ً تقييد‪ ،‬للتفرقة بين الفھم وإعمال العقول وبين‬
‫الھوى‪ ،‬وبين التفسير بمعنى محاولة الوصول إلى ما يريد النص أن يخبرنا به‬
‫وبين التأويل الذي يلوي عنق النص ليخرج منه ما ليس فيه‪.‬‬
‫وھو ما يفعله بعض الضالة من العلمانيين‪ ،‬لكي يجعلوا القرآن موافقا ً‬
‫ألھوائھم‪ ،‬فيبدأ أحدھم من نص القرآن‪ ،‬ثم ينفلت خارجه‪ ،‬ليقول باسم أنه يفسر‬
‫ويستنبط ما ال عالقة له بالكلمات واأللفاظ ومعانيھا‪ ،‬وال تحتمله صياغة اآليات‬
‫وتراكيب العبارات من أي وجه‪.‬‬

‫‪٣٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھم في ذلك إنما ھم قردة مقلدة‪ ،‬وببغاوات مرددة‪ ،‬تحاكي‪ ،‬دون وعي أو‬
‫عقل‪ ،‬مذھب التأويل الغربي أو الھرمنيوتيكا ‪ ،Hermeneutics‬الذي اضطر‬
‫بعض فالسفة الغرب وأدبائه البتكاره‪ ،‬من أجل تفسير الغرائب التي يمتأل بھا‬
‫الكتاب المقدس‪ ،‬وتتصادم مع العقل‪ ،‬ومع حقائق الكون وعلوم الطبيعية‪ ،‬وھو‬
‫المذھب الذي اكتمل على يد الفيلسوف األلماني مارتن ھيدجر ‪Martin‬‬
‫‪ Heidegger‬وتلميذه ھانز جورج جادامر ‪. Hans Georg Gadamer‬‬

‫والفرق بيننا وبين ھؤالء الببغاوات والقردة أننا نمثل بين يدي النص‪ ،‬لنسأله‬
‫السؤال التالي‪ :‬ما الذي تريد ان تخبرنا به؟‬

‫أما ھؤالء الضالة فينكرون النص ويريدون اقتحامه ولوي عنق آياته‪ ،‬ليوافق‬
‫أھواءھم وما في رؤوسھم من ضالالت‪ ،‬وما يعتنقونه من مذاھب فلسفية أو‬
‫اجتماعية‪ ،‬أو ما يتبعونه من اتجاھات سياسية‪.‬‬

‫الفرق بيننا وبينھم أن النص يحكمنا‪ ،‬وھم يتوھمون أنھم يحكمونه‪.‬‬

‫‪٣٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻋــــﻮاﺋــــــــــﻖ‬
‫القرآن‪ ،‬كما علمت‪ ،‬بيان ﷲ عز وجل إلى الناس كافة‪ ،‬وھو تبيانه سبحانه‬
‫لكل شئ‪ ،‬وھو مصدر المعرفة المطلق وحدھا األعلى‪ ،‬وفيه أصول كل العلوم‬
‫ومفاتيح لكل المعارف‪.‬‬

‫وھذه المفاتيح والمعارف قد تكون صريحة ظاھرة أمام النظر‪ ،‬وقريبة من‬
‫العقل‪ ،‬فيدركھا اإلنسان دون كبير جھد أو عميق تدبر‪.‬‬

‫غير أن أغلب ھذه المفاتيح عميق داخل النص‪ ،‬وملفوف في نسيج كلماته‬
‫وآياته‪ ،‬ومخبوء بين تراكيبھا وفي ثنايا صياغاتھا‪ ،‬ومن ثَم يحتاج كشفھا‬
‫والوصول إليھا إلى تدبر وتفكر‪ ،‬وإلى غوص عميق‪ ،‬والبد إلدراكھا وفھمھا من‬
‫أساليب وطرائق تتجاوز مجرد معرفة معنى الكلمة أو العبارة أو اآلية‪.‬‬

‫وليس المقصود بالمعارف المخبوءة في آيات القرآن والملفوفة في نسيجه‬


‫وبين تراكيبه بعيداً عن النظر العابر والفھم القريب وجود خفايا وخبايا أو‬
‫إشارات ورموز بالمعنى الباطني‪ ،‬وال أن كشف ھذه المعارف باإللھامات‬
‫النفسية والوجدانية أو بالشطحات العقلية والذھنية‪.‬‬

‫فالقرآن‪ ،‬نعم‪ ،‬به خفايا وخبايا‪ ،‬بل وفيه‪ ،‬كما سترى‪ ،‬شفرات ورموز‪ ،‬ولكنھا‬
‫خفايا وشفرات لغوية‪ ،‬وحلھا‪ ،‬كما ستعلم‪ ،‬بالعقل‪ ،‬ووسائل ھذا الحل في اللغة‪،‬‬
‫وليس باإللھامات والشطحات التي ليس لھا قواعد وال دليل عليھا‪.‬‬

‫‪٣٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫القرآن‪ ،‬كالبحر‪ ،‬شاسع عميق‪ ،‬وكل مستوى من العمق يصل إليه فھم تنفتح‬
‫معه معارف بقدر قدرة ھذا الفھم على الغوص‪ ،‬فما يفھمه ويدركه الواقف على‬
‫شاطئ القرآن يراه وينظر إليه‪ ،‬يختلف عما يدركه ويفطن إليه من يبحر فيه‬
‫ويمخر ُعبابه‪ ،‬وھذا وذاك يختلف عن األعماق التي يراھا من يغوص فيه‪ ،‬وعن‬
‫اآلفاق التي يدركھا‪ ،‬والعوالم التي تنفتح له‪ ،‬واألعجايب التي يستخرجھا‪.‬‬

‫وربما تساءلت‪ :‬إذا كانت المفاتيح والشفرات التي في القرآن لغوية‪ ،‬وحلھا‬
‫في معانيھا وقواعدھا وبالعقل‪ ،‬فلماذا ال تدركھا كل العقول‪ ،‬بل وقد ال تراھا‬
‫أصالً‪ ،‬ولماذا ال تنتبه األفھام إلى المعارف التي تحويھا وھي مخزونة فيھا؟‬

‫واإلجابة في المثال الذي أمامك‪ ،‬فليس كل واقف أمام البحر يتأمله وتُسر‬
‫نفسه برؤيته بقادر على السباحة فيه‪ ،‬وليس كل سباح بغواص‪.‬‬

‫وثمة عوائق تحول دون أن ترى كل األنظار ھذه الشفرات اللغوية‪ ،‬ودون أن‬
‫تدرك جل األفھام ما فيھا من معارف‪ ،‬وھذه العوائق ليست‪ ،‬كما قد يتبادر إلى‬
‫ذھنك‪ ،‬العوائق التقليدية المفھومة بداھة‪ ،‬كالجھل بالعربية وقواعدھا‪ ،‬وما تعنيه‬
‫صياغات عباراتھا وتراكيبھا‪ ،‬وما تحمله ألفاظھا وكلماتھا من معان‪.‬‬

‫فإليك بعضا ً من ھذه العوائق التي قد تحجب العقول عن رؤية ينابيع المعرفة‬
‫في القرآن‪ ،‬وتصرفھا عن تفجيرھا‪.‬‬

‫‪٣٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫أوالً‪ :‬المعارف المجھولة‪:‬‬

‫فقد تكون المعرفة أو الشئ موجوداً أمامنا وال نراه أصالً‪ ،‬ألننا ال نعرف‬
‫وجوده‪ ،‬أو ألنه ليس موجوداً في وعينا‪ ،‬فالعين ال ترى إال ما يعرفه العقل وما‬
‫ھو موجود في الوعي‪ ،‬فإذا لم يكن‪ ،‬فلن نراه ولن نفطن إلى وجوده‪.‬‬

‫فثمة معارف في اآليات قد ال تُفھم وال تدرك بالبداھة والنظر العام أو‬
‫المباشر‪ ،‬ألنھا تحتاج إلى معارف أخرى من خارج القرآن لرؤيتھا وإدراكھا‬
‫بھا‪.‬‬

‫فآيات القرآن التي تصف الكون واألفالك والنجوم‪ ،‬وتلك التي تخبر عن‬
‫الطبيعة‪ ،‬اجتھد أئمتنا من المفسرين القدامى‪ ،‬رحمھم ﷲ‪ ،‬في تفسيرھا في حدود‬
‫معارفھم‪ ،‬لكنھم لم يستطيعوا فھم فحواھا وما تصفه وما تعنيه حقاً‪ ،‬ألنه يحتاج‬
‫إلى معارف وعلوم لم تكن في حوزتھم وال يعرفھا زمانھم‪.‬‬

‫وھم أنفسھم كانوا يدركون أن ما يقولونه في تفسير ھذه اآليات ال يفي‬


‫بحقيقتھا‪ ،‬وال يستطيع الوصول إلى تحرير ما تصفه‪.‬‬

‫ولإلمام الطبري‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬عبارة بديعة‪ ،‬قالھا عند تفسير معنى الفلك في‬
‫قوله تعالى فى سورة األنبياء‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪¿¾½¼»º ¹¸¶µ´³²‬‬

‫فبعد أن نقل اإلمام الطبري ما وصل إليه من أقوال ومعارف في تفسير ھذه‬
‫اآلية وما سبقھا من آيات تصف الكون والسماء وأجرامھا‪ ،‬على منھجه في‬

‫‪ ( ١‬األنبياء‪.٣٣:‬‬
‫‪٣٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫التفسير‪ ،‬أحس بقصور كل ما نقله عن بيانھا وكشف ما فيھا‪ ،‬وليس عن النبي‬


‫عليه الصالة والسالم خبر يفسر معناھا‪ ،‬فختم نُقوله ورأيه بقوله‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"ونسكت عما ال علم لنا به"‬

‫ثانياً‪ :‬طبقات المعاني‪:‬‬

‫فالكلمة أو اآلية قد تحمل معانى متعددة‪ ،‬أو طبقات من المعارف‪ ،‬ينصرف‬


‫الذھن بالقريب بھا عن البعيد‪ ،‬أو بالطبقة الظاھرة عن الطبقة العميقة‪.‬‬

‫فقد يكون الشئ‪ ،‬أو المعرفة والتعريف بشئ ما‪ ،‬موجوداً في اآلية أو اآليات‬
‫ويذھل الناظر عن المراد النصراف ذھنه في تفسير اآليات إلى معنى آخر غير‬
‫المقصود‪ ،‬أو الكتفائه بمعنى موجود فعالً وعدم انتباھه إلى غيره من المعاني‪.‬‬

‫ففي قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪onmlk‬‬

‫فسر األئمة من المفسرين الدحو ھنا على أنه البسط والسعة‪ ،‬وھو معنى‬
‫صحيح للكلمة‪ ،‬واإلمام ابن فارس يقول في معجم مقاييس اللغة‪:‬‬

‫"الدال والحاء أصل واحد يدل على اتساع وتبسط ‪ ...‬والدال والحاء والواو‬
‫)‪(٣‬‬
‫أصل واحد يدل على بسط وتمھيد "‬

‫‪ ( ١‬اإلمام الطبري‪ :‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ :‬ج‪ ،١٦‬ص‪. ٢٦٧‬‬


‫‪ ( ٢‬النازعات‪.٣٠ :‬‬
‫‪ ( ٣‬اإلمام ابن فارس‪:‬معجم مقاييس اللغة‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.٢٦٥‬‬
‫‪٤٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وفھم المفسرون من ھذا المعنى أن المراد بالدحو استواء األرض‬


‫وتسطيحھا‪ ،‬ولكن الكلمة لھا معنى آخر‪ ،‬أو معنى مكمل‪ ،‬ھو البسط واالتساع‬
‫بمعنى االمتداد بال نھاية‪ ،‬وھو ما يعنى أن األرض على شكل دائرة‪ ،‬أو كرة‪ ،‬أو‬
‫شكل شبيه بھما أو قريب لھما‪ ،‬ألن الدائرة أو الكرة ھي الشكل الوحيد الذي ليس‬
‫له أول وال آخر‪ ،‬ومن ثَم فھو الشكل الذي يتحقق به االمتداد بال بداية وال نھاية‪،‬‬
‫أو البسط الدائم‪.‬‬

‫واإلعجاز حقا ً في كلمة‪ n :‬أنھا تحتمل ھذه المعاني كلھا‪ ،‬فإذا اعتقدت‬
‫أن األرض مسطحة منبسطة ألنك تراھا وتدركھا في حدود حواسك ھكذا‪ ،‬فھي‪:‬‬
‫ ‪ ، n‬وإذا استدل أحد أو اكتشف مع تقدم آالت الرصد أنھا ِجرم سابح في‬

‫الفضاء‪ ،‬وأنھا كروية أو بيضاوية‪ ،‬فھي أيضاً‪.n :‬‬

‫وجه اإلعجاز الحقيقي‪ ،‬أن اللفظ أو الكلمة في القرآن تحيط بالمعرفة‬


‫اإلنسانية‪ ،‬فكانھا سوار ال يمكنھا أن تخرج عنه في أي زمان‪ ،‬وعند أي طبقة‬
‫من المعرفة‪.‬‬

‫ومن الطريف ھنا أن تعلم أنه إلى اآلن يوجد في الغرب‪ ،‬وليس في الشرق‪،‬‬
‫من يعتقد أن األرض مسطحة أو منبسطة ولھا حواف وبداية ونھاية‪.‬‬

‫وفي بريطانيا جمعية اسمھا‪ :‬جمعية األرض المسطحة الدولية‬


‫‪ ،International Flat Earth Society‬أسسھا اإلنجليزي صمويل‬
‫شينتون ‪ Samuel Shinton‬سنة ‪١٩٥٦‬م‪ ،‬وتعتقد الجمعية‪ ،‬التي يبلغ عدد‬

‫‪٤١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أعضائھا بضعة آالف في أوروبا وأمريكا الشمالية‪ ،‬أن األرض مسطحة‪ ،‬وعلى‬
‫شكل قرص‪ ،‬وان القارات توجد على السطح األعلى لھذا القرص!‬

‫واألطرف أن من بين أعضاء الجمعية‪ ،‬بل وبعض من ترأسوھا‪ ،‬ھم من‬


‫علماء الفلك والطبيعة‪ ،‬وأول رئيس لھا ھو إليس ھيلمان ‪Ellis Hillman‬‬
‫وكان أستاذاً في أحد أرقى معاھد العلوم والتقنية في العالم‪ ،‬وھو معھد البولي‬
‫تكنيك ‪ Polytechnic‬في زيورخ!‬

‫ثالثاً‪ :‬اآليات المتشابھة‪:‬‬

‫قد تبدو آيتان‪ ،‬أو مجموعة آيات‪ ،‬متشابھة في كلماتھا أو في صياغاتھا‪،‬‬


‫فتتقيد األذھان في فھم آية أو آيات‪ ،‬ومعرفة ما الذي تخبر عنه‪ ،‬بما فھمته من‬
‫اآلية أو اآليات األخرى‪ ،‬وتذھل عن الفروق الدقيقة بين اآليات‪ ،‬وما تزيده آية‬
‫عن أخرى من حرف أو كلمة‪ ،‬أو ما تقله عنھا‪ ،‬وما قُدم في موضع وأُخر في‬
‫آخر‪ ،‬وما حذف وما أثبت‪ ،‬وما تؤدي إليه ھذه الفروق من اختالف ما تخبر به‬
‫كل منھما عن األخرى‪.‬‬

‫فاآليات التي تبدو متشابھة‪ ،‬وربما يتوھم الذھن أنھا تتكلم أو تخبر عن شئ‬
‫واحد‪ ،‬ھي في حقيقتھا وعند الغوص فيھا غير متشابھة‪ ،‬والفروق الدقيقة بينھا‬
‫في الصياغة تنتج اختالفا ً كبيراً وآثاراً متباينة في المعنى‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬جمع اآليات‪:‬‬

‫قد تبدو اآلية‪ ،‬في ظاھرھا‪ ،‬صامتة أو وحيدة المعنى‪ ،‬ولكن جمع اآليات‬
‫المختلفة في الموضوع الواحد معا ً يحولھا إلى ينبوع يتدفق بالمعارف‪ ،‬وينكشف‬

‫‪٤٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بھذا الجمع ما ال ينكشف برؤية اآليات وفھمھا منفردة منفصلة معزولة عن‬
‫بعضھا‪.‬‬

‫فثمة من المعارف ما اليمكن رؤيته‪ ،‬وال االنتباه إليه‪ ،‬وال فھم معناه إال بجمع‬
‫اآليات المختلفة في الموضوع الواحد معاً‪.‬‬

‫‪٤٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻧـﻤـــــــــــــﺎذج‬
‫فإليك ھذه النماذج على ما تحويه آيات القرآن من معارف ال يمكن رؤيتھا‬
‫وال إدراكھا باالقتصار على األساليب التقليدية التي تتوقف عند فھم معنى الكلمة‬
‫أو العبارة أو اآلية‪ ،‬دون االنتباه إلى سؤال والبحث عن إجابته‪ ،‬وھذا السؤال‬
‫ھو‪ :‬ما الذي تريد اآلية أو اآليات أن تخبرنا عنه؟‬

‫وھي نماذج ليس المقصود منھا التعرف على ما تحويه اآليات من معارف‪،‬‬
‫ولكن بيان كيف يكون منھج التعامل مع اآليات الذي يُنطقھا ويجعلھا ينبوعا ً‬
‫متدفقا ً بالمعاني والمعارف‪ ،‬لكي يكون ذلك نموذجا ً للمنھج الذي سنتعامل به مع‬
‫آيات بني إسرائيل‪ ،‬لمحاولة فھم ماذا يريد ﷲ عز وجل أن يخبرنا به عنھم‪.‬‬

‫وھي نماذج تعمدنا في اختيارھا أن تكون في مجاالت مادية‪ ،‬وبعيداً عن‬


‫سيرة بني إسرائيل‪ ،‬لكي يكون الفھم أيسر والخالف أقل‪.‬‬

‫وفي كل مثال قاعدة‪ ،‬سوف نحتاج إليھا ونحن نحل شفرة سورة اإلسراء‪،‬‬
‫ونحاول أن نفھم ما الذي تريد أن تخبرنا به آياتھا عن بني إسرائيل‪.‬‬

‫‪٤٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻟﺆﻟﺆ وﻣﺮﺟﺎن‬
‫فھذا مثال على أن اآليات التي تبدو متشابھة‪ ،‬وربما تتوھم أنھا تتكلم أو تخبر‬
‫عن شئ واحد‪ ،‬ھي في حقيقتھا وعند الغوص فيھا غير متشابھة‪ ،‬والفروق‬
‫الدقيقة بين ألفاظھا وكلماتھا تنتج اختالفات شاسعة البون في معانيھا وما فيھا‪.‬‬

‫يقول عز وجل في سورة الفرقان‪:‬‬

‫ ¬ ®¯ ‪» º ¹ ¸ ¶ µ ´ ³ ² ± °‬‬


‫)‪(١‬‬
‫¼½‬

‫ويقول سبحانه وتعالى في سورة الرحمن‪:‬‬

‫‪ZYXWVUTSRQPONMLK‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫[\]‬

‫كما ترى‪ ،‬اآليات تبدو متشابھة وتخبر عن شئ واحد‪ ،‬لكن بينھا في الحقيقة‬
‫فروق‪ ،‬وھذه الفروق‪ ،‬التي تبدو دقيقة‪ ،‬تجعل ما تتكلم عنه كل منھما ال عالقة له‬
‫بما تخبر عنه األخرى‪.‬‬

‫في السورتين أن ﷲ عز وجل مرج البحرين‪ ،‬وفي لسان العرب البن‬


‫منظور‪:‬‬

‫‪ ( ١‬الفرقان‪.٥٣:‬‬
‫‪ ( ٢‬الرحمن‪.٢٢-٢٠:‬‬
‫‪٤٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"مرج األمر مرجاً‪ ،‬فھو مارج ومريج‪ :‬التبس واختلط ‪ ...‬ومرج ﷲ‬


‫البحرين العذب والملح‪ :‬خلطھما حتى التقيا‪ ،‬قال الفراء في قوله تعالى‪" :‬مرج‬
‫البحرين يلتقيان"‪ :‬أرسلھما ثم يلتقيان بعد‪ ،‬وقيل‪ :‬خالھما ثم جعل ال يلتبس ذا‬
‫بذا‪ ،‬وقال الزجاج مرج‪ :‬خلط‪ ،‬يعني‪ :‬البحر الملح والبحر العذب‪ ،‬ومعنى‪" :‬ال‬
‫)‪(١‬‬
‫يبغيان"‪ ،‬أي‪ :‬ال يبغي الملح على العذب فيختلط"‬

‫وفي المعجم الوسيط‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫"أمر مريج‪ :‬مضطرب قلق‪ ،‬وفي التنزيل العزيز‪" :‬فھم في أمر مريج"‬
‫فمرج البحرين معناھا أنه عز وجل أرسل الماءين وأطلقھما‪ ،‬فيلتقيان معا ً‬
‫ويتقابالن‪ ،‬ويتحرك كل منھما نحو اآلخر في اضطراب‪.‬‬

‫والبحر عند العرب ھو‪:‬‬


‫)‪(٣‬‬
‫"الماء الكثير‪ ،‬ملحا ً كان أو عذباً‪ ،‬سمي بذلك لعمقه واتساعه"‬

‫وفي السورتين أن الماءين أو البحرين بينھما برزخ‪ ،‬والبرزخ ھو‪:‬‬


‫)‪(٤‬‬
‫"ما بين كل شيئين‪ ،‬وفي الصحاح‪ :‬الحاجز بين الشيئين"‬

‫فالماءان أو البحران يتجه كل منھما نحو اآلخر ويلتقيان‪ ،‬ولكن بينھما برزخ‬
‫أو حاجز يمنعھما من االمتزاج واالختالط‪.‬‬

‫فإليك نماذج مما قاله أئمة المفسرين في بيان المقصود من آية سورة الفرقان‪.‬‬

‫‪ ( ١‬اإلمام ابن منظور‪ :‬لسان العرب‪:‬ج‪ ،٢‬ص‪.٣٦٥‬‬


‫‪ ( ٢‬مجمع اللغة العربية‪ :‬المعجم الوسيط‪ ،‬ص‪.٨٦١‬‬
‫‪ ( ٣‬لسان العرب‪ :‬ج‪ ،٤‬ص‪.٤١‬‬
‫‪ ( ٤‬لسان العرب‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪.٨‬‬
‫‪٤٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫قال اإلمام القرطبي واإلمام أبو حيان التوحيدي رحمھما ﷲ‪:‬‬

‫" قال الحسن‪ :‬يعني بحر فارس وبحر الروم‪ ،‬وقال ابن عباس وابن جبير‪:‬‬
‫يعني بحر السماء وبحر األرض‪ ،‬قال ابن عباس يلتقيان في كل عام وبينھما‬
‫")‪(١‬‬
‫برزخ قضاء من قضائه‬

‫وتفسير الشيخ الشعراوي قريب من ھذا‪ ،‬إذ يقول رحمه ﷲ‪:‬‬

‫"البحر أعده ﷲ ليكون مخزن الماء في الكون‪ ...‬وجعل بينه وبين الماء‬
‫العذب تعايشا ً سلمياً‪ ،‬ال يبغي أحدھما على اآلخر رغم تجاورھما ‪ ...‬وأصل‬
‫)‪(٢‬‬
‫كلمة برزخ اليابسة التي تفصل بين ماءين"‬

‫وأما اإلمام الطبري‪ ،‬فبعد ان نقل‪ ،‬في تفسيره‪ ،‬ما وصله من آثار في تفسير‬
‫البحرين والبرزخ والحجر المحجور‪ ،‬اختار قول ابن جريج‪:‬‬

‫"فلم أجد بحراً عذبا ً سوى األنھار العذاب‪ ،‬فإن دجلة تقع في البحر‪،‬‬
‫فأخبرني الخبير بھا أنھا تقع في البحر فال تمور فيه‪ ،‬بينھما مثل الخيط األول‬
‫)‪(٣‬‬
‫‪ ...‬والنيل يصب في البحر"‬

‫وفسر اإلمام الطبري اختياره بأن‪:‬‬

‫"ﷲ تعالى ذكره أخبر في أول اآلية أنه مرج البحرين‪ ،‬والمرج الخلط في‬
‫كالم العرب‪ ،‬فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين والملح‬

‫‪ ( ١‬اإلمام القرطبي‪ :‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٣‬ص‪ ،٥٩‬اإلمام أبو حيان التوحيدي‪ :‬تفسير البحر المحيط‬
‫ج‪ ،٦‬ص‪.٤٦٤‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،٢٦‬ص‪.١٠٤٧٠‬‬
‫‪ ( ٣‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٧‬ص‪.٤٧٤‬‬
‫‪٤٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫األجاج لم يكن ھناك مرج للبحرين‪ ...‬وال ھناك من األعجوبة ما ينبه إليه أھل‬
‫الجھل من الناس ويذكرون به")‪.(١‬‬

‫وأما الذي اتاح له زمنه وما ظھر فيه من معارف أن يقترب من الذي تخبر‬
‫عنه آية سورة الفرقان فعالً‪ ،‬فھو فضيلة الشيخ محمد الطاھر بن عاشور‪ ،‬فذكر‬
‫في تفسيره‪ :‬التحرير والتنوير أن‪:‬‬

‫"المراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء‬
‫العذب فيه‪ ،‬بحيث ال يختلط أحدھما باآلخر‪ ،‬ويبقى كالھما حافظا ً لطعمه عند‬
‫)‪(٢‬‬
‫المصب"‬

‫فاھتدى الطاھر بن عاشور بذلك إلى أن ما تخبر عنه آية الفرقان ھو‬
‫مصبات األنھار العذبة في البحار الملح‪ ،‬بل وحدد موضعا ً معينا ً فسر به اآلية‪،‬‬
‫وھو‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫"ملتقى ماء نھري الفرات ودجلة مع ماء بحر خليج العجم"‬

‫ما تخبر عنه آية سورة الفرقان ھو مصبات األنھار في البحار والمحيطات‪،‬‬
‫حيث يلتقي ماء النھر العذب بماء البحر أو المحيط شديد الملوحة دون أن‬
‫يمتزجا‪ ،‬والبرزخ ھو اختالف خواص كل منھما عن اآلخر‪ ،‬كالكثافة ودرجة‬
‫الحرارة وسرعة الجريان‪.‬‬

‫وأصل الحجر في اللغة‪ ،‬كما يقول ابن فارس‪ ،‬في معجم مقاييس اللغة‪:‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٧‬ص‪.٤٧٦-٤٧٥‬‬


‫‪ ( ٢‬الشيخ الطاھر بن عاشور‪ :‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٩‬ص‪.٥٤‬‬
‫‪ ( ٣‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٩‬ص‪.٥٤‬‬
‫‪٤٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"الحاء والجيم والراء أصل واحد مطرد‪ ،‬وھو المنع واإلحاطة على الشئ‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ ...‬والعقل يسمى حجراً ألنه يمنع من إتيان ما ال ينبغي"‬

‫فالحجر المحجور تعني في اللغة‪ :‬منطقة ممنوعة أو محرمة‪ ،‬وتفسيرھا‪ ،‬كما‬


‫نقل الشيخ عبد المجيد الزنداني في بحثه‪ :‬منطقة المصبات والحواجز بين‬
‫البحار‪ ،‬عن دراسة للدكتور محمد إبراھيم السمرة‪ ،‬أستاذ علوم البحار بجامعة‬
‫قطر‪ ،‬أن‪:‬‬

‫"منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيھا‪،‬‬
‫ألن ھذه الكائنات ال تستطيع أن تعيش إال في نفس الوسط المائي المتناسب في‬
‫ملوحته وعذوبته مع درجة الضغط األسموزي ٍفي تلك الكائنات ‪ ...‬وھي في‬
‫نفس الوقت منطقة محجورة على معظم الكائنات الحية في البحر والنھر‪ ،‬ألن‬
‫)‪(٢‬‬
‫ھذه الكائنات تموت إذا دخلتھا‪ ،‬الختالف الضغط األسموزي أيضاً"‬

‫والتقاء الماء الملح بالعذب‪ ،‬ووجود برزخ من اختالف خواصھما يمنع‬


‫امتزاجھما‪ ،‬ومنطقة محرمة بينھما‪ ،‬ظاھرة توجد في كل مكان يصب فيه نھر‬
‫في بحر‪ ،‬كالفرات في الخليج‪ ،‬والنيل في البحر المتوسط‪ ،‬غير أن أكبر مكان‬
‫توجد فيه ھذه الظاھرة وأشدھا‪ ،‬وضوحا ً فيه‪ ،‬مصب نھر األمازون في المحيط‬
‫)•(‬
‫األطلنطي‬

‫‪ ( ١‬معجم مقاييس اللغة‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪١٣٨‬‬


‫‪ (٢‬الشيخ عبد المجيد الزنداني‪ :‬منطقة المصب والحواجز بين البحار‪ ،‬ص‪ ،٧‬بحث منشور بموقع موسوعة‬
‫اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪.‬‬
‫• ( انظر صورة لمصب نھر األمازون في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪٤٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فنھر األمازون أعرض أنھار الدنيا‪ ،‬وأعمقھا‪ ،‬وأغزرھا‪ ،‬وأطولھا بعد النيل‪،‬‬
‫ومتوسط عرضه ‪ ١٩٠‬كم‪ ،‬وفمه أو مخرجه إلى المحيط يصل إلى ‪ ٢٤٠‬كم‪،‬‬
‫فيتدفق منه الماء في المحيط بغزارة‪ ،‬ويصنع دائرة من الماء العذب يبلغ‬
‫اتساعھا مائتي كم داخل ماء المحيط الملح‪ ،‬ودون أن يختلط أحدھما باآلخر‪.‬‬

‫واآلن إلى سورة الرحمن‪.‬‬

‫للتشابه الشديد بين آية سورة الفرقان وآيات سورة الرحمن‪ ،‬ذھب جل‬
‫المفسرين‪ ،‬وإن لم ينصوا على ذلك‪ ،‬إلى أن آيات سورة الرحمن ليست سوى‬
‫تكرار آلية سورة الفرقان‪ ،‬وأنھما تتكلمان عن شئ واحد‪ ،‬ومن ثَم فسروا ھذه‬
‫بالتفسير نفسه الذي فسروا به تلك‪.‬‬

‫واإلمام الطبري نقل في موضع سورة الرحمن نُقوالً ال تختلف عن تلك التي‬
‫نقلھا في موضع سورة الفرقان‪ ،‬ولكنه‪ ،‬للغرابة‪ ،‬اختار منھا ھنا قوالً غير الذي‬
‫اختاره ھناك‪:‬‬

‫"وأولى األقوال عندي بالصواب قول من قال‪ :‬عني به بحر السماء وبحر‬
‫األرض‪ ،‬وذلك ألن اللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر األرض عن‬
‫)‪(١‬‬
‫قطر ماء السماء‪ ،‬فمعلوم أن ذلك بحر األرض وبحر السماء"‬

‫وأما الشيخ الطاھر بن عاشور‪ ،‬فقد فسر المقصود بالبحرين في سورة‬


‫الرحمن بقولين‪ ،‬أحدھما تابع فيه غيره من المفسرين‪ ،‬وخالف فيه تفسيره آلية‬
‫سورة الفرقان‪ ،‬فقال رحمه ﷲ‪:‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٢٢‬ص‪.٢٠١‬‬


‫‪٥٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"يجوز أن تكون التثنية تثنية بحرين ملحين معينين‪ ...‬فالمراد‪ :‬بحران‬


‫معروفان للعرب‪ ،‬فاألظھر أن المراد البحر األحمر الذي عليه شطوط تھامة‪،‬‬
‫وبحر عمان‪ ،‬وھو بحر العرب الذي عليه حضرموت وعدن من بالد اليمن‪،‬‬
‫)‪(١‬‬
‫والبرزخ الذي بين ھذين البحرين ھو مضيق باب المندب"‬

‫وفي قوله اآلخر‪ ،‬فسر الطاھر بن عاشور بحري آيات سورة الرحمن‬
‫بالتفسير نفسه الذي فسر به آية سورة الفرقان‪:‬‬

‫"ھما نھر الفرات وبحر العجم‪ ،‬والتقاؤھما انصباب ماء الفرات في الخليج‬
‫الفارسي‪ ،‬والمراد بالبرزخ الذي بينھما الفاصل بين الماءين الحلو والملح‪،‬‬
‫بحيث ال يغير أحد البحرين طعم اآلخر بجواره‪ ،‬وذلك بما في كل ماء منھما من‬
‫)‪(٢‬‬
‫خصائص تدفع عنه اختالط اآلخر به"‬

‫فإليك ما بين آيات سورة الرحمن وآية سورة الفرقان من دقائق الفروق في‬
‫األلفاظ والصياغة‪ ،‬وما يترتب عليھا من عظيم اآلثار في المعنى‪ ،‬ومن اختالف‬
‫ما تتكلم عنه كل منھما‪.‬‬

‫سورة الفرقان تزيد عن سورة الرحمن شيئاً‪ ،‬وتقل عنھا آخر‪ ،‬وما قل ھنا‬
‫وزاد ھناك يخرجك من ظاھرة ليدخل بك في أخرى‪.‬‬

‫في سورة الفرقان أن الماءين بينھما‪ ،‬مع البرزخ‪ ،‬حجر محجور‪ ،‬أما سورة‬
‫الرحمن فليس بين البحرين فيھا ھذا الحجر المحجور‪ ،‬فھما يلتقيان‪ ،‬وبينھما‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٢٧‬ص‪.٢٥٠‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٢٧‬ص‪.٢٤٩-٢٤٨‬‬
‫‪٥١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫برزخ يحول دون امتزاجھما‪ ،‬أو أن يبغي أحدھما على اآلخر‪ ،‬ولكن ليس بين‬
‫البحرين منطقة حرام أو ممنوعة‪ ،‬كالتي في موضع الفرقان‪.‬‬

‫فھذا الذي تقله سورة الرحمن عن سورة الفرقان‪ ،‬وأما ما تزيده عليھا‪ ،‬فھو‬
‫أن موضع التقاء البحرين يخرج منه اللؤلؤ والمرجان‪ ،‬والمرجان ھو‪ :‬صغار‬
‫اللؤلؤ أو نوع من الكائنات البحرية تعيش في المياه الملح وينتج صنفا ً من‬
‫األحجار الكريمة‪.‬‬

‫‪ Y‬في آية سورة الرحمن‪ ،‬ھكذا‪ ،‬بفتح الياء وضم الراء‪ ،‬ھي‬
‫وكلمة‪ Y  :‬‬
‫قراءة ابن كثير المكي‪ ،‬والكوفيين‪ :‬عاصم وحمزة والكسائي‪ ،‬وخلف العاشر‪.‬‬
‫وأما قراءة المدنييْن‪ :‬نافع وأبي جعفر‪ ،‬وأبي عمرو البصري‪ ،‬ويعقوب‬
‫الحضرمي‪ ،‬فبضم الياء وفتح الراء‪ ،‬على بناء الفعل للمفعول‪ ،‬ھكذا‪ُ  :‬ﳜ َﺮ ُج‪،‬‬
‫)•()‪(١‬‬
‫ووافقھم اليزيدي من الشواذ‬
‫والكلمة التي زادتھا سورة الرحمن على سورة الفرقان‪ ،‬واألخرى التي قلتھا‬
‫عنھا‪ ،‬تطير بك من مصبات األنھار‪ ،‬لتغوص بك في قاع الخليج!‬

‫ولكن إليك أوالً تفسير الدكتور محمد إبراھيم السمرة لما تصفه آيات سورة‬
‫الرحمن‪:‬‬

‫"أسفرت الدراسات الواسعة لخصائص البحار عن وجود خواص مائية‬


‫تفصل بين البحار الملتقية‪ ،‬وتحافظ على الخصائص المميزة لكل بحر من حيث‬

‫•( القراءات الشاذة‪ ،‬ھي قراءات صحيحة‪ ،‬ولكنھا لم تبلغ حد التواتر في السند‪ ،‬ويستنبط منھا وال يُتعبد بھا‪،‬‬
‫وسميت شاذة لخروجھا عن رسم المصحف العثماني‪.‬‬
‫‪ (١‬اإلمام ابن الجزري‪ :‬النشر في القراءات العشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٣٨١‬اإلمام أحمد بن محمد البنا‪ :‬اتحاف فضالء‬
‫البشر بالقراءات األربعة عشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.٥١٠‬‬
‫‪٥٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الكثافة والملوحة‪ ،‬واألحياء المائية‪ ،‬والحرارة‪ ،‬وقابلية ذوبان األوكسجين في‬


‫الماء‪ ،‬وھكذا يحدث االختالط بين البحار المالحة‪ ،‬مع محافظة كل بحر على‬
‫خصائصه وحدوده المحددة بوجود تلك الحواجز المائية بين البحار‪ ...‬ومن‬
‫المھم جدًا أن نجد ذك ًرا للؤلؤ والمرجان في ھذه المنطقة من البحار‪ ،‬وأن ال‬
‫نجد مثل ذلك عند بحث التقاء المياه العذبة مع المياه المالحة‪ ،‬ويدل ذلك على‬
‫أن اللؤلؤ والمرجان يتكونان في المناطق البحرية النقية وال يتكونان في‬
‫)‪(١‬‬
‫مناطق امتزاج المياه العذبة مع مياه البحر"‬

‫وثَمة ما يفسر آيات سورة الرحمن غير ھذا الذي فسرھا به الدكتور السمرة‬
‫وأقرب إليه من المثال الذي ضربه‪ ،‬وھو التقاء البحر المتوسط بالمحيط‬
‫االطلنطي‪.‬‬

‫فالدكتور السمرة اضطر أن يبحث عن تفسير اآليات في التقاء الماء الملح‬


‫بالماء الملح‪ ،‬ألنه نفى نفيا ً باتا ً وجود اللؤلؤ والمرجان في مناطق التقاء الماء‬
‫العذب بالملح‪ ،‬مع أنه توجد منطقة من العالم يوجد فيھا ويخرج منھا اللؤلؤ‬
‫والمرجان‪ ،‬ليس من منطقة التقاء الماء العذب بالملح‪ ،‬بل من موضع اللقاء‬
‫والتماس بين الماءين‪ ،‬حرفيا ً كما تقول اآليات‪.‬‬

‫أما الطريف حقاً‪ ،‬فھو أن ھذه المنطقة أمام بصر الدكتور السمرة‪ ،‬وھو أستاذ‬
‫علوم البحار في جامعة قطر‪ ،‬وعلى مرمى حجر منه!‬

‫‪ ( ١‬نقالً عن الشيخ عبد المجيد الزنداني‪ :‬منطقة المصب والحواجز بين البحار‪ ،‬ص‪.١٣-١٢‬‬
‫‪٥٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫مع اكتشاف البترول وشيوع الصناعات القائمة على استخراجه وتكريره‬


‫والح َرف التقليدية التي كانت شائعة في الخليج العربي‬
‫ِ‬ ‫اندثر كثير من الصناعات‬
‫وجزره عبر السنين‪.‬‬

‫وإحدى ھذه الحرف أو المھن حرفة الغوص في قاع الخليج للبحث عن اللؤلؤ‬
‫واستخراجه‪ ،‬وكانت رحلة الغوص على اللؤلؤ واستخراجه تستغرق شھوراً‪،‬‬
‫تنطلق فيھا السفن وتتنقل بين مغاصات في قاع الخليج‪ ،‬يعرف الغواصون‬
‫) •(‬
‫مواضعھا ومواقعھا‬

‫وحين ينفد الماء‪ ،‬كانت السفن تضطر لترك الغوص واإلبحار إلى أقرب‬
‫شاطئ للتزود بالماء‪ ،‬وفي مناطق معينة للغوص كانت توجد عيون تتفجر منھا‬
‫مياه عذبة في قاع الخليج‪ ،‬ويتدفق منھا الماء لعشرات األمتار صانعا ً أنھاراً من‬
‫الماء العذب وسط ماء الخليج شديد الملوحة دون أن يمتزج به‪.‬‬

‫وألن الخليج قليل العمق نسبياً‪ ،‬ويتراوح عمقه بين ‪ ٥٠‬متراً و ‪ ٩٠‬متراً)••(‪،‬‬
‫كان الغواصون يغلقون أفواه القرب على السفينة‪ ،‬ثم يغوصون إلى بطن الخليج‪،‬‬
‫إلى أن يصلوا إلى الماء العذب المتدفق منه‪ ،‬فيفتحون القرب ويملؤونھا بالماء‪،‬‬
‫ثم يغلقونھا مرة أخرى ويصعدون إلى السفن‪.‬‬

‫• ( انظر صورة ألشھر مغاصات اللؤلؤ في الخليج في ملحق الصور‪.‬‬


‫•• ( ھذا دليل آخر على خطأ تفسير دكتور محمد إبراھيم السمرة‪ ،‬فاللؤلؤ يوجد ويستخرج من البحار قليلة‬
‫العمق نسبياً‪ ،‬كالخليج‪ ،‬والمناطق القريبة من الجزر وشواطئ المحيطات والبحار‪ ،‬وال يوجد في أعماق البحار‬
‫والمحيطات السحيقة‪ ،‬كالمثال الذي ضربه دكتور السمرة‪ ،‬والدليل الثالث قوله تعالى‪ ،Y :‬على القراءة‬
‫بفتح الياء وضم الراء‪ ،‬التي تدل على أنه قريب سھل المنال ويخرج للناس وحده أو دون كبير عناء‪ ،‬وھو ما‬
‫ينطبق على مغاصات اللؤلؤ في الخليج القريبة من الشواطئ والجزر‪ ،‬ويتنافى مع تفسير الدكتور السمرة‪،‬‬
‫ألن مناطق التقاء البحار بالمحيطات يحتاج التنقيب فيھا واستخراج أي شئ من أعماقھا الكبيرة إلى جھود‬
‫فادحة وإمكانات تقنية فائقة‪.‬‬
‫‪٥٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأشھر ھذه العيون المتفجرة بالماء العذب وسط ماء الخليج الملح‪ :‬عين‬
‫إغمسة قرب الكويت‪ ،‬ومجموعة عيون الكواكب أو الكويكبات حول جزيرة‬
‫) •(‬
‫البحرين‪ ،‬وأھل الخليج ينطقونھا‪ :‬الجواجب‪ ،‬باللھجة المحلية‬

‫فھذه العيون وتيارات الماء العذب المتفجر منھا‪ ،‬والمتدفق بغزارة ليلتقي‬
‫بماء الخليج الملح‪ ،‬دون أن يختلط أو يمتزج به‪ ،‬واللؤلؤ‪ ،‬كباره وصغاره‪ ،‬الذي‬
‫يوجد ويستخرج من موضع التقاء الماءين والتماس بينھما‪ ،‬ھو ما تصفه آيات‬
‫سورة الرحمن‪.‬‬

‫ومن ھذا المثال او النموذج تعرف قاعدة‪ ،‬وھي أنه عند النظر العابر أو‬
‫المتسرع‪ ،‬أو عند عدم االنتباه وافتقاد الدقة‪ ،‬قد تتوھم أن اآلية أو اآليات في‬
‫القرآن يمكن تفسيرھا بأشياء متعددة‪ ،‬تبدو متشابھة‪ ،‬أو أنھا تنطبق كلھا على ما‬
‫تخبر به اآليات‪ ،‬إال أنه عند التمھل والتأمل والتعامل بميزان حساس مع األلفاظ‬
‫والكلمات‪ ،‬يستبين أنھا تعني شيئا ً محدداً له مواصفات خاصة وسمات محددة‪،‬‬
‫وال تنطبق إال عليه وحده‪.‬‬

‫وھي قاعدة ينبغي أن تحتفظ بھا‪ ،‬لكي تستحضرھا وتتذكرھا وأنت تعرف‬
‫المعنى المخصوص إلفساد بني إسرائيل في آيات سورة اإلسراء‪.‬‬

‫• ( انظر صورة لموقع مجموعة الكواكب أو الكويكبات في ملحق الصور‪.‬‬


‫‪٥٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاﳝﻦ وﻏﺮﰊ‬
‫وإليك نموذجا ً آخر ترى به كيف تبدو اآلية صامتة أو وحيدة المعنى‪ ،‬ثم حين‬
‫يضم إليھا غيرھا‪ ،‬وتراھا معاً‪ ،‬تُفجر التساؤالت وتتدفق منھا المعاني‬
‫والمعارف‪.‬‬

‫يقول عز وجل في سورة مريم‪:‬‬

‫ ‪E D C B A  é è ç æ å ä ã â á à ß Þ‬‬

‫‪HGF‬‬
‫)‪( ١‬‬

‫حار المفسرون في تفسير المقصود بالجانب األيمن في ھذه اآليات‪ ،‬ألن‬


‫الجبل‪ ،‬أي جبل‪ ،‬كما البد تعلم‪ ،‬ليس له يمين وال يسار‪.‬‬

‫وقد حاول اإلمام أبو حيان التوحيدي‪ ،‬في تفسيره‪ :‬البحر المحيط‪ ،‬حل ھذه‬
‫المشكلة‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫"والجبل نفسه ال يمنة له وال يسرة‪ ،‬ولكن على يمين موسى بحسب وقوفه‬
‫)‪(٢‬‬
‫فيه"‬

‫وھو نفسه حل اإلمام القرطبي‪ ،‬إذ قال إن جانب الطور األيمن ھو‪:‬‬

‫"يمين موسى")‪(٣‬‬

‫‪ ( ١‬مريم‪.٥٢-٥١:‬‬
‫‪ ( ٢‬اإلمام أبو حيان التوحيدي‪ :‬تفسير البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.١٨٨‬‬
‫‪ ( ٣‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ١١‬و ص‪.١١٤‬‬
‫‪٥٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأما غير القرطبي وأبي حيان من المفسرين‪ ،‬فقد ذھبوا إلى البحث عن نقطة‬
‫مرجعية أو مركز لتحديد االتجاھات بنا ًءا عليه أو بالنسبة إليه‪ ،‬ألنه إذا لم يوجد‬
‫ھذا المركز فال معنى ليمين وال يسار‪.‬‬

‫فذھب اإلمام الطبري إلى أن ھذه النقطة المركزية التي تتحدد االتجاھات‬
‫بموقعھا منھا ھي القبلة‪ ،‬فقال‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"وإنما ذلك كما يقال‪ :‬قام عن يمين القبلة وعن شمالھا"‬

‫وعلى ذلك فالجانب األيمن لجبل الطور المقصود في اآلية ھو الذي يقع يمين‬
‫مستقبل القبلة‪ ،‬وھي مكة‪ ،‬فيكون جانب الطور األيمن ھو جانبه الغربي‪.‬‬

‫ولكن الطاھر بن عاشور في تفسيره‪ :‬التحرير والتنوير قال إن المركز الذي‬


‫تتحدد بموقعھا منه االتجاھات ھو‪:‬‬

‫"مشرق الشمس‪ ،‬جھة مشرق الشمس ھي الجھة التي يضبط بھا البشر‬
‫)‪(٢‬‬
‫النواحي"‬

‫وبنا ًءا على ذلك‪ ،‬ذھب الطاھر بن عاشور إلى أن جانب الطور األيمن‬
‫المذكور في اآلية ھو جانبه السفلي أو الجنوبي‪.‬‬

‫ولكنه‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬اضطر إلى الرجوع عن تفسيره حين وصل إلى قوله‬
‫تعالى في سورة القصص‪:‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٥٥٩‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٦‬ص‪.١٢٨‬‬
‫‪٥٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫^_`‪kj ihgfe dcba‬‬


‫)‪( ١‬‬
‫‪qponml‬‬

‫فقال إن وصف الشاطئ باأليمن ألنه‪:‬‬

‫"أيمن باعتبار أنه واقع يمين مستقبل القبلة‪ ،‬على طريقة العرب من جعل‬
‫)‪(٢‬‬
‫القبلة ھي الجھة األصلية لضبط الواقع"‬

‫واضطر الشيخ الطاھر بن عاشور إلى الرجوع عما قاله في موضع سورة‬
‫مريم‪ ،‬ألنه وجد نفسه قريبا ً من قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪NMLKJIHGFEDCBA‬‬

‫فاآلية تنص نصا ً على أن جانب الطور الذي كان به الوعد وعنده اللقاء ھو‬
‫الجانب الغربي‪ ،‬فجانب الطور األيمن ھو جانبه الغربي نصاً‪.‬‬

‫اآلن سترى كيف يغير جمع اآليات الفھم والمعنى‪ ،‬ويفتح آفاقا ً ما كانت لتفتح‬
‫عند النظر لكل آية وفھمھا بمعزل عن األخرى‪.‬‬

‫المفسرون افترضوا أن مركز تحديد االتجاھات القبلة‪ ،‬ثم جعلوا ھذه القبلة‬
‫مكة أو البيت الحرام الذي يقع في الجنوب من جبل الطور‪ ،‬وما قالوه خطأ بنص‬
‫القرآن‪ ،‬ألن ﷲ عز وجل أخبرك في آية أخرى أن قبلة موسى وبني إسرائيل‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٣٠:‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٢٠‬ص ‪.١١٢‬‬
‫‪ ( ٣‬القصص‪.٤٤:‬‬
‫‪٥٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫التي أمرھم باتخاذھا ھي بيوتھم‪ ،‬وبيوتھم في مصر‪ ،‬في غرب جبل الطور‪،‬‬
‫وليس في جنوبه‪ ،‬وذلك في قوله تعالى في سورة يونس‪:‬‬

‫ ¦ § ¨ © ‪³ ² ±°¯ ® ¬ « ª‬‬


‫)‪(١‬‬
‫´‬

‫ثم إنه عز وجل أخبرك في آية ثالثة أنه واعد نقباء بني إسرائيل عند جانب‬
‫الطور‪ ،‬وأخبرھم أن اللقاء عند جانبه األيمن‪ ،‬وذلك قوله في سورة طه‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪lkjihgfedc‬‬

‫إذاً فجانب الطور تم تحديده من ﷲ عز وجل بأنه األيمن في عھد الموعد‬


‫واللقاء‪ ،‬وبنوا إسرائيل‪ ،‬أو النقباء منھم‪ ،‬كما أخبرك عز وجل في سورة المائدة‪،‬‬
‫كانوا يعرفون ماذا يعني وصف جانب الجبل بأنه أيمن وذھبوا إليه في الموعد‪،‬‬
‫وفي زمن بني إسرائيل والموعد واللقاء لم تكن القبلة مكة‪ ،‬بل بيوت بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وبيوت بني إسرائيل في مصر غرب جبل الطور‪.‬‬

‫فلو كانت القبلة ھي مركز تحديد االتجاھات‪ ،‬لكان الجانب األيمن للطور ھو‬
‫جانبه الشمالي وليس الغربي‪ ،‬والقرآن ينص على أن جانب الطور الذي كان‬
‫عنده النداء واللقاء ھو جانبه الغربي‪.‬‬

‫والذي أحدث المشكلة‪ ،‬وجلب الحيرة للمفسرين في تحديد المقصود بجانب‬


‫الطور األيمن‪ ،‬كما البد الحظت‪ ،‬ھو النظر في كل آية وفھمھا وحدھا معزولة‬

‫‪ ( ١‬يونس‪.٨٧:‬‬
‫‪ ( ٢‬طه‪.٨٠:‬‬
‫‪٥٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫عن غيرھا من اآليات‪ ،‬ولو جمعت آية سورة القصص مع آية سورة مريم‪ ،‬لما‬
‫كان ثَمة حاجة إلى البحث عن مركز أو نقطة مرجعية لتحديد االتجاھات وتمييز‬
‫اليمين من اليسار‪ ،‬للوصول إلى الجانب المقصود‪.‬‬

‫فالجانب األيمن للطور في سورة مريم ھو جانبه الغربي في سورة القصص‬


‫دون حاجة للبحث عن مركز لتحديد اليمين واليسار‪.‬‬

‫ولكن ثَمة سؤال ينفلق عنه الجمع بين اآليتين‪ ،‬وھو‪ :‬إذا كان جانب الجبل‬
‫الموصوف باأليمن عرفناه نصا ً من وصفه سبحانه وتعالى بأنه الغربي‪ ،‬فما‬
‫فائدة وصف جانب جبل الطور بأنه أيمن أصالً‪ ،‬ولماذا لم يخبرنا عز وجل بأنه‬
‫الجانب الغربي مباشرة دون حاجة لوصفه بأنه أيمن؟‬

‫ألنه لو أخبرنا عز وجل أن جانب الطور الذي واعد عنده موسى والتقاه ھو‬
‫الغربي فقط‪ ،‬النغلقت اآليات وأُصمتت‪ ،‬وضاع ما ھو مخبوء فيھا ‪.‬‬

‫فا" عز وجل في اآليتين معا ً ال يخبرنا بالجانب الذي التقى فيه موسى‬
‫وواعد فيه بني إسرائيل فقط‪ ،‬بل يعرفنا االتجاه الذي سار فيه موسى أو خط‬
‫سيره‪ ،‬ألنه ال يمكن أن يكون جانب الطور ھو األيمن والغربي في الوقت نفسه‬
‫إال في حالة واحدة‪ ،‬ھي أنه عليه السالم جاء إلى الطور قادما ً من الشمال في‬
‫اتجاه الجنوب‪ ،‬فھذه ھي الكيفية الوحيدة التي يكون بھا الجانب الغربي للطور‬
‫عن يمين موسى‪.‬‬

‫ولو أنه عليه السالم قدم إلى الطور من الجنوب إلى الشمال‪ ،‬مثالً‪ ،‬لكان‬
‫غرب الجبل عن شماله ال عن يمينه‪.‬‬

‫‪٦٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وصفه عز وجل لجانب الجبل بأنه أيمن وأنه غربي ھو إيجاز معجز لخط‬
‫)•(‬
‫سير موسى عليه السالم ولخريطته المفصلة في سفر الخروج في التوراة‬

‫فلو قال عز وجل األيمن فقط لما عرفت وال فھمت شيئاّ‪ ،‬ألن الجبل ال يمين‬
‫له وال يسار‪ ،‬ولو قال الغربي فقط لفقدت اتجاه حركة موسى عليه السالم وخط‬
‫سيره‪.‬‬

‫بقي أنه حين تجتمع اآليات معا ً تشع بطبقة من المعرفة أعمق وأشد بريقاً‪،‬‬
‫ولكن رؤيتھا واالنتباه إليھا وإدراكھا يحتاج إلى معارف من خارج القرآن‪.‬‬

‫عرفت من آية سورة طه أن جانب الطور تم تحديده من ﷲ عز وجل أنه‬


‫أيمن في عھد الموعد واللقاء‪ ،‬وبنوا إسرائيل‪ ،‬أو النقباء منھم‪ ،‬كانوا يعرفون‬
‫ماذا يعني وصف جانب الجبل بأنه أيمن قبل أن يتحركوا ويذھبوا إليه في‬
‫الموعد‪ ،‬فكيف عرف موسى عليه السالم‪ ،‬وكيف عرف النقباء الجانب المقصود‬
‫وھم في موضعھم قبل التوجه نحو الجبل؟‬

‫ال معنى إلدراك بني إسرائيل‪ ،‬حين أخبرھم موسى عليه السالم بالموعد‪ ،‬أن‬
‫جانب الطور األيمن ھو الغربي‪ ،‬إال أن األيمن ھو الغربي مطلقاً‪ ،‬وبصرف‬
‫النظر عن اتجاه الحركة‪ ،‬فكيف يكون ذلك؟‬

‫لكي تدرك ذلك وتفھمه البد أن تتذكر أوالً أن موسى عليه السالم ولد في‬
‫مصر‪ ،‬وربي أميراً مصريا ً في قصر فرعون‪ ،‬حاكمھا‪ ،‬فثقافته وعلومه‪ ،‬قبل أن‬
‫يمتن ﷲ عز وجل عليه باصطفائه‪ ،‬مصرية‪ ،‬وكذلك بنو إسرائيل‪ ،‬فقد كانوا‬

‫• ( انظر خريطة لخط سير موسى عليه السالم وبني إسرائيل في اتجاه جبل الطور‪ ،‬في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪٦١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يعيشون بين المصريين وأخذوا عنھم علومھم ومعارفھم‪ ،‬وحين قدم موسى عليه‬
‫السالم إلى الطور وحين قدموا ھم إليه بعد ذلك مع موسى‪ ،‬لم تكن التوراة‬
‫أنزلت عليھم وال صاروا أھل كتاب‪ ،‬فحتى ھذه اللحظة كانت معارفھم ھي‬
‫معارف المصريين‪.‬‬

‫وعند المصريين القدماء اليمين ھو الغرب مطلقاً‪ ،‬ألن المصري القديم كان‬
‫يحدد االتجاھات بأن يستقبل النيل اآلتي من الجنوب‪ ،‬وھو عنده واھب الحياة‪،‬‬
‫فيكون ما على يمينه ھو الغرب وما على يساره ھو الشرق‪.‬‬

‫ولذلك في مصر القديمة كان المصري يعُد كل ما يقع عن يمينه غرباً‪ ،‬ويعبر‬
‫عن اليمين والغرب بكلمة واحدة في النطق وعالمة واحدة في الكتابة‪ ،‬وكذلك‬
‫كل ما على شماله ھو عنده شرق‪ ،‬ويعبر عن اليسار والشرق بكلمة واحدة‬
‫وعالمة واحدة‪.‬‬

‫والكلمة الواحدة التي تعبر عن اليمين والغرب في مصر القديمة تنطق‪ ،‬كما‬
‫ضبطھا السير آالن جاردنر ‪ ،Alan Gardiner‬في كتابه‪ :‬فقه اللغة المصرية‬
‫القديمة ‪:Egyptian Grammar‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"إمنت ‪ ،Imnt‬والعالمة التي تدل عليھا في الكتابة صقر يمسك ريشة"‬

‫والكلمة الواحدة التي تعبر عن اليسار والشرق تنطق‪:‬‬

‫"يابت ‪ ،Iabt‬والرمز الذي يدل عليھا في الكتابة حربة ‪ Spear‬مشرعة‬


‫وبنھايتھا راية كالعلم"‬

‫‪1) Alan Gardiner:Egyptian Grammar,P502.‬‬


‫‪٦٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فكما ترى‪ ،‬إمنت في المصرية القديمة ھي الغرب‪ ،‬واليد اليمنى‪ ،‬والجانب‬


‫األيمن من اإلنسان‪ ،‬وكل ما يقع على يمينه‪ ،‬ويابت ھي الشرق‪ ،‬واليد اليسرى‪،‬‬
‫)• (‬
‫وجانبه األيسر‪ ،‬وكل ما كان على شماله‬

‫ومن ھذا النموذج تعرف قاعدة أخرى سوف تراھا في صدر سورة اإلسراء‪،‬‬
‫وھي أن القرآن يسمي األعالم واألماكن والمواقع والجھات بأسمائھا التي تُعرف‬
‫وتسمى بھا عند أھلھا في زمانھم الذي يتكلم عنھا فيه‪.‬‬

‫• ( انظر صورة للعالمة التي تدل على الغرب واليمين‪ ،‬وأخرى للتي تدل على الشرق واليسار في ملحق‬
‫الصور‪.‬‬
‫‪٦٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٦٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺧﺮﻳﻄﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻹﻟﻬﻴﺔ‬


‫`‪cba‬‬
‫)اﻟﺒﻘﺮة‪(٣١:‬‬

‫‪٦٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٦٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻗﺼﺔ اﳋﻠﻖ ﺧﺮﻳﻄﺔ اﻟﻮﺟﻮد‬


‫مما ال يدركه كثير من الناس أن الغيوب التي يخبرنا بھا القرآن‪ ،‬وما أخرجه‬
‫لنا من أغوار التاريخ وتالفيف الزمان من قصص وأخبار‪ ،‬وما تحويه من‬
‫معارف‪ ،‬وما تبينه من حقائق‪ ،‬ھدفه الحقيقي تكوين وعي البشر وبناء أذھانھم‬
‫ونفوسھم التي يرون بھا ويفھمون الحياة وكل شئ في الوجود‪ ،‬وليس مجرد‬
‫القص واإلخبار‪ ،‬وال حتى العبرة والعظة‪.‬‬

‫فھذه كلھا أھداف ساكنة وغايات جامدة‪ ،‬وتجعل مكان القرآن المتاحف ال‬
‫حياة البشر‪ ،‬وال فرق حينئذ بينه وبين برديات المصريين القدماء وآثارھم وما‬
‫فيھا من أخبار وحقائق عنھم وعن زمانھم‪.‬‬

‫القرآن بيان اإلله الحي إلى خلقه‪ ،‬وھو نص لفھم الوجود ولصناعة الحياة‬
‫بھذه المعارف واألخبار‪.‬‬

‫ولو لم يأت القرآن بھذه الغيوب ويُعرف اإلنسان بحقائقھا الختل تكوينه‬
‫ووعيه‪ ،‬ولتقلقل بناء ذھنه ونفسه‪ ،‬والضطرب فھمه لألشياء واألحداث والزمان‬
‫والتاريخ‪ ،‬بل والختل واضطرب فھمه لذاته وفقد كينونته‪.‬‬

‫ومما يغفل عنه كثير من الناس أن الصورة التي يعرف بھا اإلنسان الماضي‬
‫تتحكم في فھمه لحاضره وإدراكه لمستقبله‪ ،‬فإذا عرف اإلنسن الماضي مشوھا ً‬
‫أو محرفا ً تشوه إدراكه للحاضر والمستقبل‪.‬‬

‫‪٦٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫منھج القرآن‪ ،‬وما يريد ترسيخه في وعي البشر وأذھانھم‪ ،‬من خالل ما‬
‫أورده من قصص وأخبار‪ ،‬أنه ال يمكنك أن تفھم ما يحدث في الحياة فھما ً‬
‫صحيحا ً إال إذا عرفت ما حدث على وجھه الحقيقي والصحيح‪.‬‬

‫ولذا إذا أخبرك القرآن بقصة وكررھا وألح في إخبارك بھا فھذا يعني أن ھذه‬
‫القصة وما تحويه من حقائق لھا موقع محوري في تكوين وعي اإلنسان الذي‬
‫يرى ويفھم به كل شئ‪ ،‬وأن افتقادھا أو إخفاءھا أو تحريفھا والعبث بمكوناتھا‬
‫يؤدي إلى خلل في تكوين اإلنسان وفي فھمه لكل شئ في الوجود والحياة‪.‬‬

‫ولم يخبرك القرآن بقصة‪ ،‬ويكررھا ويلح في إخبارك بھا وبتفاصيلھا‪ ،‬قدر‬
‫تكراره لقصة الخلق‪ ،‬وقدر إلحاحه على تعريفك بتفاصيلھا‪ ،‬وال يضارعھا في‬
‫ذلك سوى سيرة بني إسرائيل!‬

‫وبين القصتين رباط وثيق‪.‬‬

‫قصة الخلق‪ ،‬ومن خالل ما ترويه عما حدث لإلنسان في المأل األعلى‪ ،‬وما‬
‫واكب ھبوطه منه إلى األرض وبدء مسيرته عليھا‪ ،‬ھي التي تعرف اإلنسان‬
‫أصله وحقيقته‪ :‬ماذا يكون‪ ،‬ومن أين أتى‪ ،‬وكيف أتى إلى األرض‪ ،‬ولماذا‪ ،‬وما‬
‫سبب وجوده عليھا‪ ،‬وما مھمته فيھا‪ ،‬وإلى أين يذھب بعد أن يودعھا‪ ،‬وھي التي‬
‫تعرفه باإلله الذي خلقه‪ ،‬ووھبه العلم والمعرفة‪ ،‬ومنحه ملكاته وقدراته‪ ،‬وتعرفه‬
‫بالشيطان عدوه وتربصه به‪ ،‬وبالكون والطبيعة والمخلوقات وموقفه منھا‪،‬‬
‫والعالقة التي يجب أن تكون بينه وبينھا‪.‬‬

‫‪٦٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫قصة الخلق ھي خريطة الوجود والبوصلة التي يعرف بھا اإلنسان البداية‬
‫والنھاية وأين موقعه من الزمان وما عالقته بالوجود‪ ،‬ومن غير ھذه الخريطة‬
‫والبوصلة‪ ،‬اإلنسان بالضبط كتائه في صحراء الزمان‪ ،‬وجد نفسه في قلبھا وال‬
‫يعلم االتجاھات‪ ،‬وال بدايتھا وال نھايتھا‪ ،‬وال فى أي بقعة ھو منھا‪ ،‬وال أين ھي‬
‫كلھا من العالم‪ ،‬فكل األشياء فيھا متشابھة‪.‬‬

‫وحينئذ إذا ظھر له أحد داخل ھذه المتاھة التي ال يعلم كيف دخلھا‪ ،‬وكيف‬
‫وإلى أين سيخرج منھا‪ ،‬وأعطاه أي خريطة‪ ،‬وأشار إلى أي مسار فيھا‪ ،‬فسيتبعه‬
‫طائعا ً مختاراً‪ ،‬وھو في الحقيقة مجبر ال اختيار له‪.‬‬

‫فإذا كانت الخريطة التي يمنحھا له ھذا الذي ظھر له مزورة‪ ،‬فقد أضله‬
‫وزاده تيھا ً وھو ال يدري‪ ،‬وحينئذ ال يكون أمامه إال أن يحصر وعيه وذھنه في‬
‫اللحظة التي ھو فيھا وال يشغلھما بما قبلھا وال بما بعدھا‪ ،‬وفي البقعة التي ھو‬
‫فيھا فال يرنو إلى ما خلفھا‪.‬‬

‫من غير قصة الخلق يفقد اإلنسان كينونته ومعنى وجوده‪ ،‬ويختل تكوينه‬
‫الذھني والنفسي‪ ،‬ويصبح حائراً يساءل كل شئ حوله وال شئ يجيبه‪ ،‬كما يقول‬
‫لبيد بن ربيعة‪:‬‬

‫وتبقى الجبال بعدنا والمصان ُع‬ ‫بلينا وما تبلى النجوم الطوالع‬
‫يحور رماداً بعد إذ ھو ساط ُع‬ ‫وما المرء إال كالشھاب وضوئه‬

‫‪٦٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فال يجد أمامه وحوله إال أن يسأل النجوم في السماء‪ ،‬والجبال والتالل في‬
‫الصحراء‪ ،‬والنخيل في القرى والواحات‪ ،‬فإذا لم يجد منھا إجابة قال حزينا ً‬
‫آيساً‪:‬‬

‫صما ً خوالد ما يبين كالمھا‬ ‫فوقفت أسائلھا وكيف سؤالنا‬

‫وربما قلت‪ :‬لبيد بن ربيعة ھذا كان يعيش في صحراء بيداء قفر خالء من‬
‫الحضارة‪ ،‬فمن الطبيعي أن يكون تائھا ً حائراً يساءل الصم الخوالد وال يجد‬
‫إجابة لتساؤالته‪.‬‬

‫ونقول لك‪ :‬بل وفي القرن العشرين فشلت الحضارة والمدنية بزينتھا‬
‫وزخرفھا وتقنياتھا أن تحل محل خريطة الوجود في قصة الخلق‪ ،‬وفي أن تحقق‬
‫لإلنسان كينونته ومعنى وجوده‪ ،‬فما زال اإلنسان في زمن الصعود إلى القمر‬
‫يسأل ما كان يسأله في الزمن الذى كان فيه يعبد القمر‪.‬‬

‫يقول الشاعر إيليا أبو ماضي في طالسمه‪:‬‬

‫جئتُ ‪ ،‬ال أعلم من أينَ ‪ ،‬ولكنّي أتيتُ‬


‫ولقد أبصرت قُدّامي طريقا ً فمشيتُ‬
‫وسأبقى ماشيا ً إن شئتُ ھذا أم أبيتُ‬
‫كيف جئتُ ؟ كيف أبصرت طريقي؟‬
‫لست أدري!‬

‫أجدي ٌد أم قدي ٌم أنا في ھذا الوجو ْد‬


‫ق أم أسي ٌر في قيو ْد‬
‫حر طلي ٌ‬
‫ھل أنا ﱞ‬
‫‪٧٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھل أنا قائ ُد نفسي في حياتي أم مقو ْد‬


‫أتمنّى أنّني أدري ولكن ‪...‬‬
‫لست أدري!‬

‫قصير؟‬
‫ْ‬ ‫وطريقي‪ ،‬ما طريقي؟ أطوي ٌل أم‬
‫وأغور‬
‫ْ‬ ‫ھل أنا أصع ُد أم أھبِط فيه‬
‫يسير‬
‫ْ‬ ‫ّرب‬
‫ب أم الد ُ‬
‫سائر في الدّر ِ‬
‫أأنا ال ّ‬
‫أم كالّنا واقفٌ والدّھر يجري؟‬
‫لست أدري!‬

‫ليت شعري وأنا عالم الغيب األمينْ‬


‫أتُراني كنت أدري أنّني في ِه دفينْ‬
‫وبأنّي سوف أبدو وبأنّي سأكونْ‬
‫أم تُراني كنت ال أدرك شيئاً؟‬
‫لست أدري !‬

‫أتراني قبلما أصبحت إنسانا ً سويّا ً‬


‫أتُراني كنت محواً أم تراني كنت شيّا ً‬
‫ألھذا اللّغز ح ﱞل أم سيبقى أبديّا ً‬
‫لست أدري‪ ...‬ولماذا لست أدري؟‬
‫لست أدري!‬

‫قيل لي في الدّير قو ٌم أدركوا س ّر الحيا ْة‬

‫‪٧١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫عقول آسناتْ‬
‫ٍ‬ ‫غير أنّي لم أجد َ‬
‫غير‬
‫وقلوب بليت فيھا المنى فھي رفاتْ‬
‫غيري أعمى؟‬
‫َ‬ ‫ما أنا أعمى فھل‬
‫لست أدري!‬

‫قد دخلت الدّير عند الفج ِر كالفج ِر الطّ ْ‬


‫روب‬
‫الغضوب‬
‫ْ‬ ‫وتركت الدّير عند اللّيل كاللّيل‬
‫كروب‬
‫ْ‬ ‫كرب‪ ،‬صار في نفسي‬
‫ٌ‬ ‫كان في نفسي‬
‫أمن الدّير أم اللّ ِ‬
‫يل اكتئابي؟‬
‫لست أدري!‬

‫ق فيه الناسكينا‬
‫ّير استنط ُ‬
‫قد دخلت الد َ‬
‫فإذا القوم من الحيرة مثلي باھتونا‬
‫اليأس عليھم‪ ،‬فھم مستسلمونا‬
‫ُ‬ ‫غلب‬
‫وإذا بالباب مكتوب عليه ‪...‬‬
‫لست أدري!‬

‫المقابر‬
‫ْ‬ ‫ولقد قلتُ لنفسي‪ ،‬وأنا بين‬
‫الحفائر؟‬
‫ْ‬ ‫ت األمنَ وال ّراحةَ إالّ في‬
‫ھل رأي ِ‬
‫المحاجر‬
‫ْ‬ ‫فأشارتْ ‪ ،‬فإذا للدّود ع ٌ‬
‫َيث في‬
‫سائل إني ‪...‬‬
‫ثم قالت‪ :‬أيّھا ال ّ‬
‫لست أدري!‬

‫‪٧٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أيّھا القب ُر تكلّ ْم‪ ،‬وأخبريني يا ِرما ْم‬


‫ھل طوى أحال َمك الموتُ وھل مات الغرا ْم‬
‫مليون عا ْم‬
‫ِ‬ ‫عام ومن‬
‫من ھو المائتُ من ٍ‬
‫س محواً؟‬
‫أيصي ُر الوقت في األرما ِ‬
‫لست أدري!‬

‫ونشور‬
‫ْ‬ ‫أوراء القبر بعد الموت ٌ‬
‫بعث‬
‫فحياةٌ فخلو ٌد أم فنا ٌء ود ْ‬
‫ثور‬
‫أكالم النّاس صدق أم كالم الناس ْ‬
‫زور‬
‫أصحيح أنّ بعض الناس يدري؟ ‪...‬‬
‫لست أدري!‬

‫إنّني أشھد في نفسي صراعا ً وعراكا‬


‫ذاتي شيطانا ً وأحيانا ً مالكا‬
‫َ‬ ‫وأرى‬
‫ھل أنا شخصان يأبى ھذا م ْع ذاك اشتراكا‬
‫أم تُراني واھما ً فيما أراهُ؟‬
‫لست أدري!‬

‫كلّما أيقنت أني قد أمطت ال ّ‬


‫ستر عني‬
‫سر س ّري ضحكت نفسي مني‬
‫وبلغت ال ّ‬
‫قد وجدت اليأس والحيرة لكن لم أجدني‬
‫فھل الجھل نعيم أم جحيم؟‬

‫‪٧٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫لست أدري!‬

‫أنا ال أذكر شيئا ً من حياتي الماضي ْة‬


‫أنا ال أعرف شيئا ً من حياتي اآلتي ْة‬
‫لي ذات غير أني لست أدري ماھيه‬
‫َ‬
‫فمتى تعرف ذاتي كنهَ ذاتي؟‬
‫)‪(١‬‬
‫لست أدري!‬

‫وإيليا أبو ماضي يخبرك في قصيدته أنه سأل البحر والدير والمقابر وكل ما‬
‫رآه حوله‪ ،‬ولو أنه ولﱠى وجھه شطر بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه‪ ،‬وسأل خريطة‬
‫الوجود اإللھية‪ ،‬لوجد ما يُذھب حيرته وما يجيب على تساؤالته‪ ،‬كما وجد لبيد‬
‫بن ربيعة ما خرج به من التيه وھداه‪.‬‬
‫قصة الخلق‪ ،‬على أي صورة كانت‪ ،‬ھي المصدر األول لتكوين وعي اإلنسان‬
‫ونفسه وذھنه‪ ،‬وھي التي تتحكم في كل ما يتكون فيھا‪ ،‬وفي كل ما تنتجه‬
‫ويخرج منھا‪.‬‬

‫وإذا أخفى أحد خريطة الوجود الحقيقية التي تجيب على ھذه األسئلة إجابة‬
‫صحيحة‪ ،‬فقد حول الوجود إلى متاھة يضل فيھا البشر في كل اتجاه‪ ،‬ويدورون‬
‫حول أنفسھم بال نھاية‪ ،‬ودون أن يصلوا إلى إجابة‪ ،‬ألن اإلجابة فوق قدرات‬
‫اإلنسان وما يمتلكه من وسائل للمعرفة‪.‬‬

‫‪ ( ١‬ديوان إيليا أبي ماضي‪ ،‬ص‪.١٩١‬‬


‫‪٧٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وإذا حجب أحد خريطة الوجود الحقيقية وأخرج للبشر خريطة مزورة‪،‬‬
‫وتعمد أن يعبث بھا وبمكوناتھا لكي يضللھم فيھا عن اإلجابات الصحيحة‪ ،‬يكون‬
‫بذلك قد أفسد وعيھم وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وأفسد كل ما يتكون فيھا وكل ما تنتجه‬
‫ويخرج منھا من أفكار ونظريات وفلسفات‪ ،‬ومن آداب وعلوم وفنون‪ ،‬وھو في‬
‫الحقيقة الذي يحكم وعي البشر ويتحكم في كل ما ينتجونه‪.‬‬

‫وكل ما أنتجته البشرية في كل عصورھا من ضالالت وأباطيل وأساطير‬


‫وخرافات ھو من آثار افتقاد قصة الخلق الحقيقية وخريطة الوجود اإللھية‪ ،‬أو‬
‫تحريفھا‪ ،‬ومن إفرازات الوعي واألذھان والنفوس المختلة التي تكونت بھذا‬
‫االفتقاد أو التحريف‪.‬‬

‫وھذا ھو إفساد بني إسرائيل المقصود في سورة اإلسراء كما ستعلم‪.‬‬

‫وھا ھنا بداية أن تعرف صلة بني إسرائيل بقصة الخلق وخريطة الوجود‪.‬‬

‫ما أفرده ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه لبني إسرائيل من مساحة ھائلة‪ ،‬وما‬
‫أواله من عناية لسيرتھم لم يولھا ألحد غيرھم‪ ،‬ألن إخفاء خريطة الوجود‬
‫اإللھية الحقيقية‪ ،‬وكتمھا وتحريفھا‪ ،‬وإخراج ھذا التحريف للبشر‪ ،‬وبثه في‬
‫وعيھم‪ ،‬وصناعة حياتھم به ھو عمل بني إسرائيل الرئيسي في التاريخ‪ ،‬وھو‬
‫دورھم وموقعھم المحوري من سيرة البشر‪.‬‬

‫لذا سيرة بني إسرائيل في القرآن‪ ،‬وفھم موقعھم من البشرية ودورھم في‬
‫التاريخ وآثارھم في األمم يبدأ من عند قصة الخلق‪ ،‬وبفھم خريطة الوجود‪.‬‬

‫‪٧٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫) •(‬
‫المبثوثة‬ ‫والقرآن نفسه يدلنا على ذلك بأسلوبه المعجز والرسائل المشفرة‬
‫في صياغات آياته‪.‬‬

‫وخريطة الوجود وسيرة البشر في القرآن تبدأ من قبل وجودھم على‬


‫األرض‪ ،‬تبدأ من المأل األعلى‪.‬‬

‫• ( لمنع االلتباس‪ ،‬المراد بالتشفير ھنا التشفير اللغوي وليس الرموز وال اإلشارات الباطنية‪.‬‬
‫‪٧٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﰲ اﳌ ٔﻼ ا ٔﻻﻋﲆ‬
‫يقول عز وجل في بيانه إلى خلقه‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫¬®¯‪½¼»º¹¸¶ µ´³²±°‬‬

‫اإلنسان في الوحي‪ ،‬مصدر المعرفة المطلقة‪ ،‬كائن علوي ومخلوق مشرف‪،‬‬


‫خلقه ﷲ عز وجل بيديه‪ ،‬وخلقه سبحانه وتعالى خلقا ً مباشراً مستقالً من غير‬
‫مخلوق أدنى منه سبقه فخرج منه‪ ،‬وإنما خلقه عز وجل على صورته وأنشأه‬
‫إنشا ًءا كامالً تاما ً في أبھى صورة وأحسن تقويم‪ ،‬من غير مراحل سابقة في‬
‫خلقه أدنى مرتبة أو أحط منزلة‪.‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪QPONMLK‬‬

‫ويقول عز وجل‪:‬‬

‫‪| { z y x w v u t s r q p o n m l k‬‬

‫}~‬
‫)‪( ٣‬‬

‫وجعل ﷲ عز وجل فى خلق اإلنسان نفحة قدسية من روحه‪ ،‬وھو عز وجل‬


‫رفع قدر ھذا المخلوق الذي خلقه بيديه ونفخ فيه من روحه وشرفه‪ ،‬فأسجد له‬
‫مالئكته التي ھى أشرف مخلوقاته عز وجل وأقربھا إليه والذين ھم‪:‬‬

‫‪ ( ١‬ص‪.٧٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬التين‪.٤:‬‬
‫‪ ( ٣‬ص‪.٧٢-٧١:‬‬
‫‪٧٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫»¼½¾¿‪ÃÂÁÀ‬‬

‫يقول عز وجل‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪zyxwv‬‬

‫وما أخبرك به عز وجل في بيانه إلى خلقه من حقائق ال مصدر لھا إال‬
‫الوحي ينسف الداروينية ونظرية التطور‪ ،‬ويطيح بأصولھا وما قامت عليه وما‬
‫قامت ألجله‪ ،‬فمنبع الداروينية وھدفھا الحقيقي نفي الخلق‪ ،‬ومن ثَم إزاحة‬
‫الوجود اإللھي من وعي البشر ومن أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وإزالة الوحي وآثاره من‬
‫حياتھم ومجتمعاتھم‪.‬‬

‫الداروينية التي تجيب على األسئلة التي ال إجابة عليھا إال من الوحي‪،‬‬
‫وغايتھا الحقيقية أن تحل محله‪ ،‬ليست نظرية علمية‪ ،‬بل ھي عقيدة أو ديانة‪،‬‬
‫وھي ديانة باطلة وإحدى ثمار تحريف الوحي‪ ،‬ومن ابتكروھا ويؤمنون بھا‬
‫يعلمون أنھا ليست سوى بديل لإلله والخلق اإللھي‪.‬‬

‫يقول آرثر كيث‪ ،‬وھو من كبار التطوريين‪:‬‬

‫"إن نظرية النشوء واالرتقاء غير ثابتة علميا ً وال سبيل إلى إثباتھا‬
‫بالبراھين‪ ،‬ونحن نؤمن بھا ألن البديل الوحيد لھا ھو التسليم بوجود خالق‬
‫والخلق المباشر‪ ،‬وھو ما ال يمكن حتى مجرد التفكير فيه"!‬

‫‪ ( ١‬التحريم‪.٦:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٣٤:‬‬
‫‪٧٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأما العجيب فھو أنه في الوقت الذي كان يقر فيه أصحاب النظرية وأھلھا‬
‫أنھا مليئة بالفجوات التي ال تستطيع اإلجابة عليھا‪ ،‬كان نفر من الحمقى في بالد‬
‫العرب‪ ،‬من أمثال أحمد لطفي السيد وإسماعيل مظھر وسالمة موسى‪،‬‬
‫يعتبرونھا مقدسا ً ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه‪ ،‬ومن يعارضھا وال‬
‫يؤمن بھا ويعتنقھا عندھم رجعي ومتخلف!‬

‫اﻟﺸﻴﻄﺎن ﻋﺪو اﻹﻧﺴﺎن‪:‬‬

‫وأما الشيطان في خريطة الوجود اإللھية وقصة الخلق الحقيقية‪ ،‬فھو عدو‬
‫اإلنسان الذي حسده على مكانه من اإلله ومكانته عنده وموقعه من الوجود‬
‫ومھمته التي خلقه عز وجل وشرفه من أجلھا‪ ،‬فعصى‪ ،‬لعنه ﷲ‪ ،‬أمر اإلله عز‬
‫وجل وأبى السجود آلدم استكباراً وتمرداً‪ ،‬فطرده عز وجل من رحمته وجعله‬
‫ملعونا ً إلى يوم الدين‪.‬‬

‫ ‪Y X WV UT S R Q P O N M L KJ‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ba`_^]\[Z‬‬

‫وھو لعنه ﷲ إذ طرد من رحمة ﷲ عز وجل وأبلس منھا وعلم مصيره‪ ،‬نذر‬
‫نفسه لغواية اإلنسان وإضالله‪ ،‬كي يثبت خطأ ﷲ‪ ،‬عز وجل وتعالى عن ذلك‪،‬‬
‫في اختياره‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الحجر‪.٣٥-٣٣:‬‬
‫‪٧٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ ‪o n m l k j i h g f ed c‬‬


‫)‪( ١‬‬
‫‪ rqp‬‬

‫وجعل مھمته في الوجود إخراج ھذا الكائن المشرف المفضل عليه عن‬
‫مھمته وتضليله عنھا حتى يكونا سوا ًءا بسواء‪.‬‬

‫ ‪| { z y x w v u t s r q p o n m‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫}~_ `‪ edcba‬‬

‫واآلن بعد إذ علمت ماذا يكون الشيطان في خريطة الوجود اإللھية الحقيقية‪،‬‬
‫إليك نموذجا ً تعرف منه ماذا يكون الشيطان في وعي النخب األدبية والثقافية في‬
‫بالد العرب‪ ،‬لتدرك أي خريطة وجود تلك التي كونت نفوس ھذه النخب‬
‫وصنعت أذھانھم في عصرھم الحديث‪.‬‬

‫يقول الشاعر الشھير أمل دنقل في المقطع األول من قصيدته‪ :‬كلمات‬


‫سبارتكوس األخيرة‪:‬‬

‫الرياح‬
‫ْ‬ ‫للشيطان ‪ .....‬معبود‬
‫ِ‬ ‫المجد‬
‫من قال ال في وجه من قالوا نع ْم‬
‫العدم‬
‫ْ‬ ‫من علم اإلنسان تمزيق‬
‫من قال ال ‪ ...‬فلم يمتْ‬
‫)‪(٣‬‬
‫وظل روحا أبدية األل ْم‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.٦٢:‬‬
‫‪( ٢‬األعراف‪.١٧-١٦:‬‬
‫‪ ( ٣‬الشاعر أمل دنقل‪ :‬األعمال الكاملة‪ ،‬ص‪.١١٠‬‬
‫‪٨٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الشيطان ھو الذي علم اإلنسان تمزيق العدم وحقق له وجوده وكينونته !!‬

‫فھل أدركت اآلن لماذا ھو مشوه وعي ھذه النخب‪ ،‬ولماذا ھي مختلة أذھانھم‬
‫ونفوسھم‪ ،‬ألن ما تكونت به ويحكمھا ويتحكم في كل ما يتكون فيھا وتنتجه ليس‬
‫سوى خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬ووصول ھذه الخريطة إلى بالد العرب‬
‫وإزاحتھا لخريطة الوجود اإللھية من وعي أھلھا وحلولھا محلھا ھو إفساد بني‬
‫إسرائيل وعلوھم في األرض الكبير‪.‬‬

‫‪٨١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣﻦ اﳌ ٔﻼ ا ٔﻻﻋﲆ إﱃ ﻣﻘﺮ اﳋﻼﻓﺔ‬


‫كان اإلنسان ھذا المخلوق المشرف المكرم في الملكوت والمأل األعلى‪،‬‬
‫فلماذا تركه وھبط إلى األرض؟‬

‫كيف ظھر اإلنسان على األرض‪ ،‬ھل كان وجوده على ھذا الكوكب الذي‬
‫يبدو كل شئ فيه معداً الستقباله مصادفة عشواء؟!‬

‫وإذا كان اإلنسان في مأل أعلى‪ ،‬فما الذى حدث لھذا إلنسان في المأل األعلى‬
‫فأُھبط إلى األرض‪ ،‬ھل كان وجوده على األرض عقابا ً له‪ ،‬ھل كان قدره‬
‫ومصيره المحتوم من غير غاية له على األرض وال ھدف؟‬

‫ھل اإلنسان جاء إلى األرض ليكون قائداً وخليفة أم لعقابه وتعذيبه‪ ،‬وھل‬
‫األرض مقر اإلنسان ومركز قيادته ومحل عرشه أم ھي ملعونة وھي سجنه‬
‫ومعتقله؟‬

‫ھذه الفترة بين وجود اإلنسان في المأل األعلى وبين بداية مسيرته على‬
‫األرض ھي فجوة في كل العقائد والفلسفات والحضارات والديانات والكتب عدا‬
‫القرآن‪ ،‬بيان ﷲ عز وجل وتبيانه لخلقه‪.‬‬

‫ھذه الفجوة بين وجود اإلنسان في المأل األعلى وبين وجوده على األرض‬
‫ھي تاريخ العالم كله‪ ،‬وھي كل مشاكله‪ ،‬وكل عقائده‪ ،‬وكل فلسفاته‪ ،‬وكل إيمانه‪،‬‬
‫وكل إلحاده‪.‬‬

‫‪٨٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فكما يخرج المولود من بطن أمه‪ ،‬من بطن ھذه الفجوة بين ظھور اإلنسان‬
‫على األرض وما سبق ھذا الظھور‪ ،‬ومن الضرب أخماسا ً فى أسداس من أجل‬
‫تفسيرھا وملئھا‪ ،‬خرجت كل ضالالت الغرب ونظرياته وفلسفاته وفھمه‬
‫للوجود‪ ،‬قبل نھضته وبعدھا‪ ،‬ومنھا خرجت كل أساطير الشرق وخرافاته‪.‬‬

‫ماذا حدث حقا ً بين وجود اإلنسان في المأل األعلى وبين الھبوط منه إلى‬
‫األرض؟‬

‫يقول عز وجل‪:‬‬

‫‪´ ³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª © ¨ § ¦ ¥‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ ¹¸¶µ‬‬
‫أمر ﷲ عز وجل آدم أن يأكل من ثمار الجنة ونعيمھا‪ ،‬ونھاه ابتال ًءا واختباراً‬
‫له أن يقرب شجرة لم يعين القرآن اسمھا وال نوعھا وال ما تثمره‪.‬‬

‫ھي شجرة فقط ونوعھا ال عالقة له بما حدث‪ ،‬وال يغير معرفته أو جھله من‬
‫فھمه شيئاً‪.‬‬

‫واإلمام الطبري نقل أقواالً عديدة في تفسيره تعين نوع الشجرة‪ ،‬بعضھا‬
‫يقول إنھا سنبلة‪ ،‬أو أنھا شجرة تين‪ ،‬أو أنھا كرمة‪ ،‬أو شجرة عنب‪ ،‬أو شجرة‬
‫بُر‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٣٥:‬‬
‫‪٨٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكل ما نقله الطبري في تعيين نوع الشجرة تخمينات ال أصل لھا‪ ،‬عقب‬
‫عليھا ھو رحمه ﷲ بقوله‪:‬‬

‫"وذلك علم إذا عُلم لم ينفع العال َم به عل ُمه‪ ،‬وإن جھله جاھل لم يضره‬
‫)‪(١‬‬
‫جھله به"‬

‫وأما اإلمام القرطبي فقد حسم المسألة‪ ،‬فقال في تفسيره‪:‬‬


‫)‪( ٢‬‬
‫"وليس في شئ من تعيين الشجرة ما يعضده خبر"‬

‫وما ال يعضده خبر ليس له حكم‪.‬‬

‫ﺿﺤﻚ ﻛﺎﻟﺒﻜﺎ‪:‬‬

‫سوف تعرف عندما تصل إلى قصة الخلق البني إسرائيلية المحرفة أن تحديد‬
‫نوع الشجرة في خريطة الوجود المزورة التي أخرجھا بنو إسرائيل للناس كان‬
‫أحد األركان الرئيسية في التحريف والتزوير‪ ،‬وھو التحريف الذي صنع وعي‬
‫الغرب وكونه ويحكم كل ما يتكون فيه وما ينتجه عبر عصوره كلھا‪.‬‬

‫ولكن ما نتوقف عنده ھاھنا لطرافته ھو أنه مما شاع في القصص والروايات‬
‫واألفالم والمسلسالت‪ ،‬وفي الصحف والمجالت‪ ،‬حتى صار من الثقافة العامة‬
‫أن الشجرة التي أكل منھا آدم وكانت سببا ً في إخراجه من الجنة كانت شجرة‬
‫تفاح‪.‬‬

‫‪ (١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٥٥٧‬‬


‫‪ (٢‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٣٠٥‬‬
‫‪٨٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإليك مثاالن‪ ،‬أحدھما ألديب كبير في بدايات القرن العشرين‪ ،‬والثاني ألستاذ‬
‫جامعي وناقد أكاديمي من بدايات القرن الحادي والعشرين‪ ،‬لكي تعرف من ھذه‬
‫األمثلة أن التوراة وثقافتھا ھي الرافد الذي تكون به العقل العربي والبناء الذھني‬
‫والنفسي لبالد العرب في العصر الحديث‪ ،‬عبر تسربھا في اآلداب والفنون‬
‫ووسائل اإلعالم والثقافة الشعبية‪ ،‬بل وعبر تسربھا في الدراسات العلمية‬
‫واألكاديمية‪.‬‬

‫فإليك المثال األول‪:‬‬

‫في كتابه الشھير‪ :‬صندوق الدنيا‪ ،‬كتب األديب إبراھيم عبد القادر المازني‬
‫قصة قصيرة عنوانھا‪ :‬من مذكرات حواء‪ ،‬قال إنه يحاكي فيھا قصة‪ :‬من‬
‫مذكرات آدم لألديب األمريكي مارك توين‪ ،‬فإليك ھذه العبارة لتعرف أي حواء‬
‫تلك التي دون أديب بالد العرب مذكراتھا‪:‬‬

‫"بعد أربعة أيام طوال وجدت آدم فألقيت عند قدميه الغصن الذي قطعته من‬
‫الشجرة المحرمة مثقالً بالتفاح الشھي‪ ،‬فنظر َ‬
‫إلي نظرة استغراب وسألني عن‬
‫ھذا الورق الذي أستر به جسدي‪ ،‬فقلت ستعرف ھذا متى أكلت من التفاح‪،‬‬
‫فانتزعه مني فعراني فخجلت‪ ،‬فقال لقد علمت أنك اكلت منه فھاجت الوحوش‬
‫وھمت بأكلي")‪!(١‬‬

‫‪ ( ١‬األستاذ إبراھيم عبد القادر المازني‪ :‬صندوق الدنيا‪ ،‬ص‪.١١٣‬‬


‫‪٨٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فحواء التي يعرفھا األديب العربي وتكون بھا رأسه ويكتب مذكراتھا‪ ،‬ھي‬
‫حواء التحريف البني إسرائيلي‪ ،‬التي أكلت من شجرة التفاح وأغوت آدم ليأكل‪،‬‬
‫ال حواء الوحي وخريطة الوجود اإللھية‪.‬‬

‫فربما قلت لنفسك‪ :‬ھذا أديب واسع الخيال ال يؤاخذ على ما تبدعه قريحته‪،‬‬
‫واألدب تتالقى مياھه وتختلط أمواجه‪.‬‬

‫يكون‬
‫فإليك النموذج الثاني‪ :‬الناقد األدبي واألكاديمي واألستاذ الجامعي الذي ﱢ‬
‫عقول الناشئة ونفوسھم في إحدى الجامعات‪ ،‬في البالد التي أنزل عليه الوحي‬
‫وتكونت بخريطة الوجود اإللھية‪ ،‬ومن غيره وغيرھا ما كان لھا وجود‪.‬‬

‫يقول دكتور عبد ﷲ الغذامي في كتابه‪ :‬الخطيئة والتكفير‪:‬‬

‫"‪...‬وھي صورة ال يملك القارئ وھو يتأملھا إال أن يتذكر تاريخ البشر‬
‫األزلي في قصة الوجود األولى كما رسمھا القرآن الكريم ممثلة في حادثة أبينا‬
‫آدم مع حواء ‪ ...‬فحواء كانت ھي اللحظة الحساسة في تاريخ البشر منذ‬
‫تواجه معھا آدم على مشھد التفاحة وھي تقدمھا له ليأكل منھا وھو يضعف‬
‫أمامھا ناسيا ً تحذير ﷲ سبحانه وتعالى له من الفاكھة المحرمة‪ ،‬وأخيراً ينسى‬
‫نفسه فيأكل من الحرام ويأثم‪ ،‬وعندئذ يحكم ﷲ عليه بالھبوط إلى المنفي‬
‫)األرض(")‪!!(١‬‬

‫فاضحك ضحكا ً كالبكا!‬

‫‪ ( ١‬دكتور عبد ﷲ الغذامي‪ :‬الخطيئة والتكفير‪ ،‬ص‪.١١٣‬‬


‫‪٨٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھل في قصة الوجود األولى كما رسمھا القرآن الكريم تفاحة‪ ،‬وفي أي سورة‬
‫أو موضع فيه وجد أن حواء ھي التي أكلت ثم قدمت الفاكھة المحرمة آلدم‬
‫وأغوته باألكل منھا‪ ،‬ھل قال ﷲ عز وجل لنا في خريطة الوجود التي أنزلھا في‬
‫بيانه وحفظھا بحفظه أن األرض لإلنسان منفى‪ ،‬ووجوده فيھا عقوبة؟!‬

‫فإذا أخفينا عنك اسم ھذا الذي قرأت ما كتبه‪ ،‬وحجبناه عنك ولم نعرفك به‪،‬‬
‫وطلبنا منك ان تخمن ماذا يكون‪ ،‬فاختر إجابة للسؤال التالي‪:‬‬

‫ھل ھو‪:‬‬

‫‪ -٢‬يھودي ‪ -٣‬مسيحي ‪ -٤‬مسلم عقله توراتي‬ ‫‪ -١‬مسلم‬

‫ثم قل لنفسك بعد ذلك‪ :‬فليكن ما يكون‪ ،‬ولكن كيف صار أستاذا جامعيا ً في‬
‫علم نقد النصوص‪ ،‬بل كيف حصل على الدكتوراة في النقد‪ ،‬ومن الذي منحه‬
‫إياھا وھو اليعرف الفرق بين قصة الخلق في القرآن وقصة الخلق في التوراة؟!‬

‫واآلن نعرفك من أين أتت التفاحة التي تمتلئ بھا ھذه األدمغة المختلة‪.‬‬

‫كوْ ن الشجرة التي ُمنع آدم من األكل منھا في الجنة كانت شجرة تفاح معلومة‬
‫ال أصل لھا‪ ،‬وال وجود لھا ال في سفر التكوين في التوراة العبرية‪ ،‬وال في أي‬
‫ترجمة معتمدة لھا‪ ،‬وإنما مصدرھا يھودي إغريقي اسمه أكويال بونتيكس‬
‫‪ ،Aquila Ponticus‬كان يعيش في القرن الثاني الميالدي‪ ،‬وقام بترجمة العھد‬
‫القديم ترجمة روائية أدبية لم يلتزم فيھا بالنص العبري‪ ،‬وإنما أدخل فيھا خياله‬
‫وحول الترجمة إلى قصص وحكايات‪ ،‬فكان مما أدخله في الترجمة من خياله أن‬
‫الشجرة المحرمة في الجنة كانت شجرة تفاح‪.‬‬

‫‪٨٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أما الحق‪ ،‬فھي شجرة فقط‪ ،‬وال يفرق نوعھا في قصة الخلق‪ ،‬وال عالقة له‬
‫بما حدث‪.‬‬

‫ثم ماذا بعد أن أكل آدم من الشجرة؟‬

‫وسوس الشيطان إلى آدم‪.‬‬

‫¦§¨©‪¶µ´³²±°¯®¬«ª‬‬
‫)‪(١‬‬
‫¸‪ÁÀ¿¾½¼»º¹‬‬

‫والشجرة لم تكن شجرة خلد في الحقيقة‪ ،‬وإنما كان وصفھا بذلك من وسوسة‬
‫الشيطان آلدم وإغوائه له‪ ،‬كما أخبرك عزوجل‪:‬‬

‫‪srqponmlkjihg‬‬

‫‪t‬‬
‫)‪(٢‬‬

‫والقرآن ينسب وسوسة الشيطان آلدم وليس لحواء‪ ،‬ثم إنھما أكال منھا معا ً‬
‫ودون إغواء أحدھما لآلخر‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪~}|{zyxwvu‬‬

‫فآدم وزوجة أكال معا ً ولم تكن امرأته ھي المسؤولة وحدھا‪ ،‬وال ھي التي‬
‫أغوت آدم ليأكل‪.‬‬

‫‪ (١‬األعراف‪.٢٠:‬‬
‫‪ ( ٢‬طه‪.١٢٠:‬‬
‫‪ ( ٣‬طه‪.١٢١:‬‬
‫‪٨٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وتحريف ھذه الحقيقة ھو البذرة التي نمت منھا شجرة أن المرأة سبب شقاء‬
‫الرجل بإخراجه من الجنة‪ ،‬وأن مھمتھا في الوجود الغواية‪ ،‬وأنھا رسول‬
‫الشيطان إلى الرجل‪ ،‬وھي البذرة التي رواھا ونماھا عبر التاريخ وبثھا في‬
‫العقائد واألفكار من بذروھا في خريطة الوجود المحرفة‪ ،‬ليرسخوا في أذھان‬
‫البشر أن الرجل والمرأة في صراع دائم وأن كالً منھما في مواجھة اآلخر‪ ،‬ثم‬
‫وفروا لھما معا ً الحطب والوقود الذي يجعل الصراع أبدياً‪ ،‬عبر النظريات‬
‫والفلسفات والقصص والروايات واألفالم والمسلسالت‪.‬‬

‫فإليك نموذجا ً آخر من بالد العرب على الوعي المختل والتكوين المشوه‪،‬‬
‫تعرف منه أصل مسألة تحرير المرأة‪ ،‬وعلى أي أسس وبأي شئ تكونت‬
‫حركاتھا‪ ،‬وتدرك به أن خريطة الوجود المحرفة‪ ،‬الجرثومة التي أطلقھا بنو‬
‫إسرائيل في وعي البشر ومجتمعاتھم بعد ان حجبوا خريطة الوحي الحقيقية‪،‬‬
‫ھي النبع الذي يتدفق منه الفساد عبر العصور‪ ،‬وفي كل األمم والشعوب‪.‬‬

‫أشھر داعية لتحرير المراة ومساواتھا التامة بالرجل‪ ،‬وأشدھن شططا ً في‬
‫زمانك ھذا دكتورة نوال السعداوي‪ ،‬وكل كتب نوال السعداوي ونظرياتھا‬
‫وأفكارھا عن تحرير المرأة قائمة على خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وليست‬
‫سوى بناء عليھا‪ ،‬أو امتدادات لھا‪ ،‬أو فروع منھا‪.‬‬

‫ففي كل كتبھا بال استثناء تبدأ بسرد قصة الخلق البني إسرائيلية وما فيھا من‬
‫إغراء حواء آلدم باالكل من الشجرة وتحميلھا وزر إخراجه من الجنة إلى منفاه‬
‫ومحل عقوبته في األرض‪ ،‬ثم تشرع في سب األديان جميعاً‪ ،‬والتنظير لطرحھا‬
‫والتخلص منھا وإحالل نظرية التطور محلھا‪ ،‬ألنھا بما نسبته لحواء كانت‬
‫‪٨٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫السبب في جعل المراة في مرتبة أدنى من الرجل وفي ازدرائھا عبر التاريخ‬
‫كله‪ ،‬بل وتتطاول على الذات اإللھية‪ ،‬ألن الجرثومة البني إسرائيلية بالت في‬
‫رأسھا أن اإلله تجنى على االنثى ونسب الشر لھا ولم ينسبه للذكر‪.‬‬

‫فإليك من كتابھا‪ :‬الرجل والجنس ھذا الحوار الذي دار بينھا وبين أبيھا‪ ،‬وھي‬
‫في السنة األولى من المرحلة الثانوية حول ضمير المذكر وضمير المؤنث‪ ،‬لكي‬
‫تعرف منه أن إلحادھا وتشوه وعيھا والخلل في تكوينھا‪ ،‬وشطط كل ما يدركه‬
‫وما ينتجه ھذا الوعي المشوه والتكوين المختل ليس سوى بعض من آثار سريان‬
‫الجرثومة البني إسرائيلية في بالد العرب وضربھا لعقول أھلھا ونفوسھم‪.‬‬

‫"وقال أبي‪ ...:‬وآدم كان أكثر سمواً من حواء ألنه كان االصل‪ ،‬أما حواء‬
‫فلم تكن إال أحد أضالعه‪ ،‬وھي التي أغرته أن يأكل من الشجرة المحرمة‪.‬‬

‫قلت بدھشة‪ :‬فكيف تكون حواء جز ًءا صغيراً من آدم وھي األضعف ومع‬
‫ذلك تصبح ھي األقوى فجأة فتقنعه بأن يخالف ﷲ ويسمع آدم كالمھا‪ ،‬حواء‬
‫ليست ھنا ضعيفة بل إنھا قوية وأقوى من آدم‪ ،‬وھي الطرف اإليجابي وآدم‬
‫ھو السلبي‪.‬‬

‫وقال أبي‪ :‬نعم ولكن إيجابية حواء كانت في الشر فقط‪ ...‬لوال حواء لبقي‬
‫آدم في الجنة‪ ،‬وقد نسب الشر إلى حواء ونسب الخير إلى آدم‪ ،‬وھذا ھو‬
‫السبب في مخاطبة ﷲ بضمير المذكر‪ :‬ھو‪.‬‬

‫قلت ألبي‪ :‬ولكن حواء لم تكن السبب في الشر‪ ،‬ألن إبليس ھو الذي أشار‬
‫عليھا أن تغوي آدم باألكل من الشجرة المحرمة‪ ،‬أي إن إبليس ھو سبب الشر‬

‫‪٩٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في العالم‪ ،‬وإبليس مذكر ‪ ...‬فلماذا ألصقت تھمة الشر والشيطنة وإغراء آدم‬
‫لحواء؟‬

‫قال أبي‪ :‬ألن حواء ھي التي أغرت آدم")‪!! (١‬‬

‫بعد ان قرأت ھذا الحوار الطريف‪ ،‬الذي يشخص لك حقيقة مرض نوال‬
‫السعداوي‪ ،‬ويعرفك بالفيروس الذي شوه عقلھا ونفسھا ووجدانھا‪ ،‬فال ينبغي أن‬
‫يكون قد فاتك أن أباھا‪ ،‬الذي يبدو لك أنه يحامي عن اإلله‪ ،‬ال يفرق عنھا في‬
‫شئ‪ ،‬فھي تتھم وھو يبرر ويفسر‪ ،‬وكالھما عقله وتكوينه محصور داخل‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية وما فيھا من جراثيم وليس في وعيه غيرھا‪.‬‬

‫إذاً أكل آدم وزوجه من الشجرة معاً‪ ،‬فماذا حدث؟‬

‫ھاھنا وقفة حاسمة فاصلة بين القرآن وبين الغرب وكل ما أنتجه وأنتجته‬
‫األمم والشعوب والحضارات من أساطير ومن نظريات ومن فلسفات‪ ،‬بعد أن‬
‫غابت الحقيقة التي ال مصدر لھا إال اإلله وحده‪.‬‬

‫أكل آدم من الشجرة فأخطأ‪ ،‬لكنه لم ينزل إلى األرض مباشرة بعد خطئه‪ ،‬بل‬
‫ھناك حدث بين عصيانه ألمر ربه وبين نزوله إلى األرض‪.‬‬

‫وھذا الحدث الذي أتى به اإلله عز وجل في بيانه إلى خلقه‪ ،‬ليضئ عقولھم‪،‬‬
‫وليكون بناء أذھانھم وتكوين نفوسھم ومصدر وعيھم‪ ،‬تنھار به كل األساطير‬
‫والخرافات والنظريات والفلسفات التي أنتجھا الغرب والشرق‪ ،‬ماذا حدث؟‬

‫تاب آدم!‬

‫‪ ( ١‬دكتورة نوال السعداوي‪ :‬الرجل والجنس‪ ،‬ص‪.٢١‬‬


‫‪٩١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ ÜÛÚÙØ× ÖÕÔÓÒÑÐ‬‬

‫إذاً تاب آدم وزوجة وأنابا إلى ﷲ‪ ،‬واعترفا بجھلھما وذنبھما‪ ،‬وطلبا منه عز‬
‫وجل الرحمة والمغفرة‪.‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫ ‪MLKJIHGFEDCBA‬‬

‫واألمر بالھبوط إلى األرض لإلنسان األول كان بعد ھذه التوبة‪ ،‬وبعد قبولھا‪،‬‬
‫وبعد أن صار بتوبته في ھداية ﷲ عز وجل ونوره ‪.‬‬

‫ومن المثير لالنتباه أن القرآن ال يذكر األمر آلدم عليه السالم وزوجه‬
‫بالھبوط إلى األرض إال بعد ذكر توبته وقبولھا‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪DCBAÜÛÚÙØ× ÖÕÔÓÒÑÐ‬‬

‫وفي سورة طه‪:‬‬

‫)‪(٤‬‬
‫§¨©‪³ ²±°¯®¬«ª‬‬

‫فإليك نموذج آخر على ما يضحك ويبكي يعرفك الماء الذي يسري في عقول‬
‫الساسة ومن يكتبون في السياسة في بالد العرب‪ ،‬من أين ينبع وما الذي يلوثه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٣٧:‬‬
‫‪ ( ٢‬األعراف‪.٢٣:‬‬
‫‪ ( ٣‬البقرة‪.٣٨-٣٧:‬‬
‫‪ ( ٤‬طه‪.١٢٣-١٢٢:‬‬
‫‪٩٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في يوم الثالث والعشرين من أغسطس سنة ‪٢٠١١‬م نشرت صحيفة األھرام‬
‫المصرية مقاالً سياسيا ً للخبير االستراتيجي والمفكر السياسي دكتور عبد المنعم‬
‫سعيد عنوانه‪ :‬الخطيئة األصلية‪ ،‬افتتحه بھذه العبارة‪:‬‬

‫"عندما قضم آدم التفاحة ارتكب الخطيئة االولى التي بعدھا بات على‬
‫اإلنسان أن يدير حياته على األرض‪ ،‬ومع اإلدارة جاءت السياسة")‪!(١‬‬

‫ألم يفتح ھذا المصحف ولو مرة واحدة في حياته‪ ،‬ألم يمر في مراحل تعليمه‬
‫كلھا بأحد يُعرفه أن آدم تاب قبل ان يھبط إلى األرض‪ ،‬وأن ﷲ عز وجل ھو‬
‫الذي وھبه العلم والمعرفة؟!‬

‫الذي يسري في عقول الساسة ومن يشتغلون بالسياسة في بالد العرب‪ ،‬وما‬
‫يحكم وعيھم وما ينتجه ليس سوى ماء خريطة الوجود المحرفة‪.‬‬

‫فإذا ما تساءلت‪ :‬من أين‪ ،‬وكيف تلوث عقل ھذا وأمثاله بالتحريف‪ ،‬فمما دلنا‬
‫ھو عليه دون أن يدري‪ ،‬من علوم السياسة واإلدارة‪ ،‬وكلھا نبتت من التحريف‬
‫وخريطة الوجود المزورة‪ ،‬وھي مروية بھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬دكتور عبد المنعم سعيد‪ :‬الخطيئة االصلية‪ ،‬االھرام ‪ ٢٣‬أغسطس ‪٢٠١١‬م‪.‬‬


‫‪٩٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﰲ ﻣﻘﺮ اﳋﻼﻓﺔ‬
‫آدم‪ ،‬اإلنسان األول خلقه ﷲ عز وجل شريفا ً عزيزاً مكرماً‪ ،‬وابتاله‬
‫اختباراً بالشجرة فنسي وأخطأ وأكل منھا‪ ،‬ثم تاب وأناب إلى خالقه عز‬
‫وجل فقبل توبته‪.‬‬

‫والسؤال اآلن‪:‬‬

‫إذا لم يكن ھبوط آدم إلى األرض عقابا ً له وال نفيا ً فلماذا إذاً أھبطه عز‬
‫وجل إلى األرض؟‬

‫ھل اإلنسان جاء إلى األرض ليكون قائداً وخليفة أم لعقابه وتعذيبه‪،‬‬
‫وھل األرض مقر اإلنسان ومركز قيادته ومحل عرشه‪ ،‬أم ھي ملعونة‬
‫وھي سجنه ومعتقله ومنفاه؟‬

‫يقول ﷲ عز وجل في بداية أول عرض لقصة الخلق في القرآن في‬


‫سورة البقرة‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪IHGFEDCBA‬‬

‫يخبرك ﷲ عز وجل أنه أھبط آدم من المأل األعلى إلى األرض من أجل‬
‫مھمة محددة‪ ،‬ھي أن يكون خليفتة عز وجل فيھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٣٠:‬‬
‫‪٩٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إال أن في اآلية حقيقة أخرى كامنة‪ ،‬وھي أن وجود آدم على األرض‬
‫وھبوطه إليھا من المأل األعلى واستقراره فيھا إرادة إلھية وأمر مقرر عليه قبل‬
‫أن يوجد وقبل أن يخلق‪ ،‬ففي ھذا الحوار في المأل األعلى بين ﷲ عز وجل‬
‫ومالئكته لم يكن آدم موجوداً‪ ،‬ولم يكن قد خلق بعد‪ ،‬ولم يكن قد أدخل الجنة‪ ،‬وال‬
‫نھي عن األكل من الشجرة‪ ،‬وال ھو أكل منھا‪.‬‬

‫إذاً ھبوط آدم ووجوده في األرض واستقراره فيھا إرادة ﷲ عز وجل التي لم‬
‫يخلق آدم أصالً إال من أجلھا‪ ،‬بل إنه عز وجل لم يعرف المالئكة بالمخلوق‬
‫الذي سوف يخلقه إال من خالل مھمته التي سوف يخلقه من أجلھا‪ ،‬وھي الوجود‬
‫في األرض وخالفته عز وجل فيھا‪.‬‬

‫فآدم مكانه األرض ومستقره األرض وھبوطه إليھا مقرر مراد قبل خلقه‬
‫وھو المقصود من خلقه‪.‬‬

‫‪٩٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣﻌﲎ اﳋﻼﻓﺔ‬
‫ما ھو بالضبط معنى الخالفة‪ ،‬المھمة التي خلق ﷲ عز وجل آدم وأبناءه من‬
‫أجلھا وأسكنھم األرض للقيام بھا؟‬

‫الخالفة‪ ،‬كما يقول اإلمام القرطبي‪ ،‬معناھا أن اإلنسان‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫" خليفة ﷲ فى إمضاء أحكامه وأوامره"‬

‫إذاً المقصود من الخالفة ھو نيابة اإلنسان عن ﷲ عز وجل في الكون ألن‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫"الخالفة ھى النيابة عن الغير"‬

‫ھذه ھي المھمة التي خلق اإلنسان من أجلھا‪ ،‬ومن أجلھا أھبط من المأل‬
‫األعلى‪ ،‬أن يكون خليفة ﷲ عز وجل في إمضاء أحكامه وأوامره‪.‬‬

‫ھذه المھمة التي خلق اإلنسان من أجلھا‪ ،‬وھي الخالفة عن ﷲ عز وجل في‬
‫الكون‪ ،‬تضع لإلنسان اإلطار الذي ينبغي له أن يتحرك فيه‪ ،‬والفھم الذي يجب‬
‫أن يعيه لنفسه ولعالقته بالكون وبا" عز وجل‪ ،‬كما توضح له خريطة مسيرته‬
‫في الحياة وتضع له العالمات اإلرشادية فيھا‪.‬‬

‫فالخالفة أو النيابة ھي عن ﷲ عز وجل الخالق الواحد‪ ،‬المطلق القدرة‪ ،‬التام‬


‫العلم‪ ،‬المحيط بكل شئ‪ ،‬فإذاً ھذا تشريف لإلنسان ومرتبة له في الوجود لم ينلھا‬
‫مخلوق آخر غيره حتى المالئكة المقربون‪.‬‬

‫)‪ (١‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٢٦٣‬‬


‫)‪ (٢‬الراغب األصفھانى‪ :‬المفردات فى غريب القرآن‪ ،‬ص ‪.١٥٦‬‬
‫‪٩٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فاإلنسان ھو الكائن المشرف الذي خلقه خالق الوجود واختاره‪ ،‬ليكون خليفة‬
‫له في األرض والكون كله‪.‬‬

‫وجعل ﷲ عز وجل عالمة لباقي مخلوقاته على اختيار ھذا المخلوق للخالفة‬
‫وتكليفه بھا وتشريفه على من سواه‪ ،‬وھي أمره عز وجل المالئكة بالسجود له‪،‬‬
‫ال سجود العبادة‪ ،‬ولكن سجود إعالن الخضوع ألمر ﷲ عز وجل في إرادته‬
‫واختياره‪ ،‬وإعالن التسليم للمختار بالخالفة والتشريف والطاعة له في إمضاء‬
‫أحكام ﷲ عز وجل وأوامره‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪{zyxwv‬‬

‫والمالئكة ھم أطھر خلق ﷲ عز وجل وأقربھا له‪ ،‬وھم منفذوا أمره وحكمه‪،‬‬
‫فاألمر لھم بالسجود ھو أمر لكل من سواھم بالسجود والطاعة‪.‬‬

‫فما ھي مھام اإلنسان‪ ،‬وما ھو المطلوب منه ليكون خليفة ويحقق إرادة‬
‫المستخلف منه وال يخرج عن إطار مھمة الخالفة الموكولة إليه؟‬

‫يقول عز وجل مخاطبا ً خلقه‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪FEDCBA‬‬

‫فمھمة اإلنسان التي خلق من أجلھا وأھبط إلى األرض للقيام بھا أن يكون‬
‫خليفة ﷲ عز وجل‪.‬‬

‫ويقول عز وجل‪:‬‬
‫‪ ( ١‬البقرة‪.٣٤:‬‬
‫‪ ( ٢‬فاطر‪.٣٩:‬‬
‫‪٩٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ihgfedc‬‬

‫فاإلنسان لم يخلق إال لعبادة ﷲ عز وجل‪.‬‬

‫إذاً كيف يمكن حل ھذا اإلشكال‪ ،‬ھل خلق اإلنسان للعبادة أم للخالفة؟‬

‫ال يمكن حل ھذا اإلشكال إال بأن تكون عبادة ﷲ عز وجل ھي الخالفة في‬
‫األرض‪ ،‬وخالفة ﷲ عز وجل في األرض ھي العبادة‪ ،‬والعبادة والخالفة‪ ،‬معاً‪،‬‬
‫ھي مھمة اإلنسان التي من أجلھا خلق وأھبط إلى األرض‪.‬‬

‫إذاً فلكي تفھم معنى خالفة اإلنسان " عز وجل وطبيعة المھمة الموكولة‬
‫إليه‪ ،‬فالبد أن تفھمھا في إطار أنھا العبادة‪ ،‬ولكي تفھم معنى العبادة " عز وجل‬
‫حق فھمھا البد أن تفھمھا في ضؤ الخالفة‪ ،‬ألن القرآن يقرر أنھما شئ واحد‪.‬‬

‫فما معنى عبادة ﷲ عز وجل في ضوء أنھا ھي خالفة اإلنسان في األرض؟‬

‫ھل المعنى أن تكون مھمة اإلنسان األولى والوحيدة على األرض أن يصلي‬
‫ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة ويسبح ويستغفر؟‬

‫ھذا ما ال يمكن تصوره‪ ،‬ألنه لو كان ھو المقصود لما كان لوجود اإلنسان‬
‫على األرض معنى‪ ،‬ولما استطاع أن يعيش على األرض أو يتم مسيرته عليھا‪،‬‬
‫ألن سعيه في ھذه الحالة وعلمه وعمله وبحثه عن الرزق والضرب في األرض‬
‫كلھا تكون خارجة عن مفھوم العبادة‪ ،‬ومن ثَم عن المراد من الخالفة‪ ،‬فيكون‬
‫اإلنسان بذلك قد خرج عن إطار المھمة التي خلق للقيام بھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الذاريات‪.٥٦:‬‬
‫‪٩٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إذاً فال يمكن أن يكون معنى العبادة " عز وجل‪ ،‬في إطار أنھا الخالفة في‬
‫األرض والكون‪ ،‬ھو الفروض والشعائر فقط‪.‬‬

‫فماذا يكون معنى العبادة في ضوء أنھا الخالفة ومھمة اإلنسان والغاية التي‬
‫خلق من أجلھا‪ ،‬كما يقرر القرآن؟‬

‫ال يمكن اإلجابة‪ ،‬بل تصبح مستحيلة في ضوء ما قرره القرآن‪ ،‬إال بتوسيع‬
‫معنى العبادة‪ ،‬ليشمل كل ما يمكن أن يقوم به اإلنسان على األرض‪ ،‬وإال كانت‬
‫كل نشاطاته وحركته خروجا ً على المھمة وتجاوزاً للتكليف‪.‬‬

‫يقول الراغب األصفھاني‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫"العبودية ھي إظھار التذلل والعبادة غاية التذلل"‬

‫فالعبادة ليست ھي الفروض والشعائر فقط‪ ،‬وإنما ھي التذلل والخضوع "‬


‫عز وجل‪.‬‬

‫فمعنى العبادة أن يخضع اإلنسان " عز وجل‪:‬‬

‫"فيحقق فى الكون مظھراً من الخضوع والتسليم له صادر عن إرادة حرة‬


‫)‪(٢‬‬
‫بعد أن تحقق الخضوع والتسليم من كافة المخلوقات بصفة قسرية‬

‫أو بتعبير الراغب األصفھاني‪:‬‬


‫)‪(٣‬‬
‫"أن تتحقق عبادة ﷲ باالختيار كما تحققت بالتسخير"‬

‫)‪ (١‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬ص ‪.٣١٩‬‬


‫)‪ (٢‬دكتور عبد المجيد النجار‪ :‬خالقة اإلنسان بين الوحي والعقل‪ ،‬ص ‪.٦٣‬‬
‫)‪ (٣‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬ص ‪.٣١٩‬‬
‫‪٩٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالعبادة ھي فھم الوجود والحياة بخريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وصنع الحياة بھا‪،‬‬
‫وتكوين القيم واألخالق والعالقات بھديھا‪ ،‬وضبط كل ما يصدر عن اإلنسان‬
‫بمنھج ﷲ عز وجل وأوامره‪ ،‬أفكاره وسلوكه‪ ،‬علمه وعمله‪ ،‬نشاطه وأخالقه‪.‬‬

‫العبادة إذاً ھى الحياة اإلنسانية كلھا حين تسير بأمر ﷲ عز وجل وفي نور‬
‫منھجه‪.‬‬

‫وقد تقول‪ :‬في ھذه الحالة التي تكون فيھا العبادة ھي ضبط كل ما يصدر عن‬
‫اإلنسان من قول أو فعل أو حركة بما أراد ﷲ عز وجل منه فيھا‪ ،‬ماذا تكون‬
‫الفروض والشعائر؟‬

‫ھي الخط الساخن بين الخليفة وبين ﷲ عز وجل الذي استخلفه‪ ،‬وبينه وبين‬
‫المأل األعلى الذي قدم منه‪ ،‬يصله به ويذكره بنفسه‪ ،‬من ھو‪ ،‬وما ھي ماھيته‪،‬‬
‫وما ھو سبب وجوده‪ ،‬وينبھه إلى المھمة التي قدم من أجلھا إلى األرض ليكون‬
‫دائم الوعي بھا واإلدراك لھا‪ ،‬إذا غفل عنھا تذكر‪ ،‬وإذا أخطأ عاد ورجع‪ ،‬وإذا‬
‫تكاسل تنبه‪.‬‬

‫‪١٠٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺳﻠﻄﺎن اﻻٕﻧﺴﺎن‬
‫أول آثار الخالفة من ﷲ عز وجل في الكون ومقتضياتھا ھي أن اإلنسان‬
‫مخلوق مشرف مختار على الخالئق‪.‬‬

‫فإذا كان اإلنسان ھو خليفة ﷲ عز وجل في الكون المشرف‪ ،‬فقد ترتب على‬
‫ذلك أن ﷲ عز وجل الذي اختاره لخالفته منحه سلطانا ً على الوجود‪ ،‬وھيمنة‬
‫عليه‪ ،‬وقدره على تسييره وإدارته‪ ،‬حتى يتمكن من أداء مھام الخالفة التي خلق‬
‫وشرف على الخالئق من أجلھا‪.‬‬

‫وتوطيداً لھذا السلطان من المستخلِف لمن استخلفه‪ ،‬وتذليالً ألداء مھمته‪،‬‬


‫وإعانة له عليھا‪ ،‬أمر عز وجل الكون كله أن يكون مسخراً لھذا الخليفة المختار‪.‬‬

‫« ¬ ®¯ ‪¹ ¸ ¶ µ ´ ³ ² ± °‬‬

‫‪ÉÈÇÆÅÄÃÂÁÀ¿¾½¼»º‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ÓÒÑÐÏÎ ÍÌËÊ‬‬

‫إذاً فالكون والطبيعة ليست نداً لإلنسان وال عاصية له‪ ،‬بل ھي مذللة له‪،‬‬
‫أوجدت ورتبت بأمر ﷲ عز وجل في ھذه الصورة‪ ،‬لتمكنه من أداء مھمته التي‬
‫خلقه ﷲ عز وجل واختاره لھا‪ ،‬وليس الكون شراً يفر منه‪ ،‬وال الطبيعة في حالة‬
‫صراع دائم معه‪ ،‬بل ھي موجود مخلوق ليسيره اإلنسان في إطار المھمة‬

‫‪ ( ١‬إبراھيم‪.٣٣-٣٢ :‬‬
‫‪١٠١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المحددة التي خلق من أجلھا‪ ،‬والوجود كله يدعوه لذلك بما ھو مبثوث فيه ويعينه‬
‫عليه‪.‬‬

‫فإليك مرة أخرى نموذجا ً على أدمغة العرب المختلة وتكوينھم الذي لوثته‬
‫وشوھته خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وال أثر فيه للوحي‪ ،‬وكأن الرسول‬
‫الخاتم ما بعث والبيان اإللھي ما أنزل‪.‬‬

‫إليك ھذه العبارة من كتاب‪ :‬اإلنسان يعصي لھذا يصنع الحضارات الذي يدل‬
‫اسمه على فحواه‪ ،‬والذي بناه مؤلفه الكاتب والدبلوماسي عبد ﷲ القصيمي على‬
‫أن اإلنسان يصنع الحضارة والعلوم واآلداب والفنون بالعصيان والتمرد على‬
‫كل شئ‪ :‬اإلله والمجتمع والطبيعة‪ ،‬بل وعلى نفسه‪:‬‬

‫"إن عبقرية أي إنسان ومزاياه ال تساوي أكثر من قدرته على العصيان‬


‫ومن إرادته وممارسته له‪ ،‬إن إبداع أي مجتمع في ألف عام ال يساوي أكثر‬
‫من عصيان ھذا المجتمع في نفس ھذه المدة‪ ،‬إن أي إبداع ليس إال عصيانا ً‬
‫ما‪ ،‬إن عصيان اإلنسان ھو تخطي ما كان‪ ،‬ھو تخطي قدرة الطبيعة ‪...‬إن‬
‫اإلنسان وحده ھو الذي يعصي في ھذا الكون ألنه ھو وحده الذي يتجاوز قدرة‬
‫الطبيعة وأشواطھا ويخرج عليھا ويرفضھا‪ ،‬وھو وحده الذي يتجاوز نفسه‬
‫)‪(١‬‬
‫ويخرج عليھا ويرفضھا"‬

‫الھذيان الذي أتحفك به المفكر والروائي والدبلوماسي ليس سوى أحد آثار‬
‫سريان التحريف البني إسرائيلي في عقول العرب‪.‬‬

‫‪ ( ١‬دكتورعبد ﷲ القصيمي‪ :‬اإلنسان يعصي لھذا يصنع الحضارات‪ ،‬ص‪.٣٧٧‬‬


‫‪١٠٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإذا تجاوزت ھذا الھذيان‪ ،‬تعلم من بيان اإلله إلى خلقه أن السلطان والھيمنة‬
‫التي لإلنسان على األرض والكون وكل ما يحيط به من مخلوقات‪ ،‬ھذه الھيمنة‬
‫وھذا السلطان ُمنحا من المستخلف للخليفة إلعانته في مھمته التي خلق من‬
‫أجلھا‪ ،‬وإذاً سلطان اإلنسان على الكون والطبيعة والخالئق ليس أصيالً فيه‪ ،‬وال‬
‫ھو حازه بقدراته الذاتية‪ ،‬بل ھو موھوب له في إطار مھمته المحددة‪ ،‬أال وھي‬
‫الخالفة‪.‬‬

‫فليس لإلنسان أن يستخدم ھذا السلطان وھذه الھيمنة إال في إطار مھمة‬
‫الخالفة عن ﷲ عز وجل‪ ،‬وفي حدود أدائھا‪ ،‬وكل استخدام لھذا السلطان خارج‬
‫حدود مھمته في الكون ھو خروج على إرادة المستخلف عز وجل وعقد‬
‫الخالفة‪ ،‬ألن ھذا السلطان وھذه الھيمنة لم تمنح له إال ألداء ھذه المھمة‪.‬‬

‫وكل استخدام لھذا السلطان خارج حدود مھمة الخالفة ھو افتئات وتمرد من‬
‫اإلنسان على الذي استخلفه عز وجل‪ ،‬ألن الخليفة ليس حراً حرية مطلقة في‬
‫التصرف في الكون والخلق‪ ،‬فھو حر داخل الحدود التي وضعھا له من‬
‫استخلفه‪ ،‬وھو حر في استخدام ما منح من سلطان بحيث ال يخرج عن إرادة من‬
‫منحه ھذا السلطان‪.‬‬

‫وكل تعد لھذه الحدود وھذا اإلطار ھو تعد من اإلنسان لمقامه ومكانه‪ ،‬مقام‬
‫الخليفة‪ ،‬إلى مقام ليس له وال يملك قدراته وال سلطانه‪ ،‬مقام اإلله‪ ،‬ذلك أن‬
‫السلطان الذي منح له سلطان جزئي محدود بحدود المھمة التي وكل بھا‪،‬‬
‫فسلطان اإلنسان على الكون ھو سلطان الخليفة الممنوح الجزئي‪ ،‬ال سلطان‬
‫اإلله الكامل المطلق‪.‬‬
‫‪١٠٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ووضع ھذا السلطان في غير إطار الخالفة ھو إفساد للكون والخالئق‪،‬‬


‫وإيذان بخروجھا عليه‪ ،‬وعدم قدرته على السيطرة عليھا وتسييرھا بالتناسق‬
‫واإلحكام التي ھي فيه‪ ،‬ألن سلطانه غير مؤھل لھذا‪ ،‬وال ھو يملك القدرات التي‬
‫تمكنه منه‪.‬‬

‫‪Ý Ü Û Ú Ù Ø × Ö Õ Ô Ó Ò Ñ Ð‬‬
‫)‪( ١‬‬
‫‪ßÞ‬‬

‫‪\ [ Z Y X W V U T S R Q P‬‬
‫)‪( ٢‬‬
‫]^_`‪dcba‬‬

‫فالكون كله سما ًءا وأرضا ً‪ ،‬براً وبحراً‪ ،‬المسخر لإلنسان المذلل له ھو نفسه‬
‫الذي يخرج عن سلطانه الممنوح له إذا وضعه في غير ما منح له بسببه‪،‬‬
‫ويصير ھو عين ھالكه وتدميره‪.‬‬

‫وإذا كانت خالفة اإلنسان في األرض والكون تشريفا ً وتكريما ً له‪ ،‬واقتضت‬
‫أن يُمنح سلطانا ً يمكنه من أداء ھذه المھمة على األرض‪ ،‬فإن ھذه الخالفة نفسھا‬
‫ھي تكليف لإلنسان ومھمة موكولة إليه محاسب عليھا‪ ،‬وليس له أن يتنصل منھا‬
‫وال أن يأبى حمل تبعاتھا‪ ،‬مثلما أنه ليس له أن يستخدم السلطان الذي منح له بھا‬
‫في غيرھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الروم‪.٤١:‬‬
‫‪ ( ٢‬العنكبوت‪.٤٠:‬‬
‫‪١٠٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالخالفة تكليف يعني أن على اإلنسان مھمة محددة‪ ،‬ھو مسؤول أمام من‬
‫استخلفه عن أدائھا وتنفيذھا على الوجه الذي أراده‪ ،‬وھذا التكليف ھو المھمة‬
‫األولى واألصلية لإلنسان على األرض‪ ،‬ألنه ما أوجد وال أھبط إليھا إال ألدائھا‪.‬‬

‫وھذه المھمة المسؤولية التي كلف بھا لھا أجل مسمى محدد عيﱠنه المستخلف‪،‬‬
‫ھو يوم القيامة لإلنسانية كلھا‪ ،‬والموت لكل إنسان وحده‪.‬‬

‫بعدھا تنتھي المھمة ويُستدعي اإلنسان الخليفة إلى مستخلفه‪ ،‬لتنشر صحائف‬
‫األعمال وتبسط التقارير‪ ،‬ويحاسب الخليفة على كيفية أدائه وإنجازه للمھمة‪ ،‬ھل‬
‫أداھا كما أراد منه ﷲ عز وجل الذي استخلفه‪ ،‬ھل قصر فيھا‪ ،‬ھل تجاھل‬
‫المھمة التي خلق من أجلھا وخرج عن إرادة المستخلف؟‬

‫ھل استخدم اإلنسان السلطان الممنوح له فيما منح له من أجله أم أساء‬


‫استخدامه وخرج به عن حدود المھمة المكلف بھا والموكولة إليه‪ ،‬وإذا كان قد‬
‫قصر فھل تقصيره مما يغتفر ألنه من طبيعة النقص الطينية التي خلق بھا‪ ،‬وھذا‬
‫التقصير لم يخل بإطار المھمة والتكليف‪ ،‬أم أن ھذا التقصير كان عبثا ً خارج‬
‫حدود الضعف المركب فيه يستوجب العقاب‪ ،‬أم أن األمر كان إطاحة بالمھمة‬
‫كلھا وتمرداً عليھا وعلى المستخلف ومناطحة له عز وجل‪ ،‬التمرد الذي ليس له‬
‫جزاء إال ما يكافئه‪ ،‬اللعنة والعذاب األبدي؟‬

‫يقول عز وجل‪:‬‬

‫‪١٠٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪½ ¼ » º ¹ ¸ ¶ µ ´ ³ ² ± °‬‬
‫)‪( ١‬‬
‫¾‬

‫يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره‪ ،‬بعد أن نقل ما وصله من أقوال الصحابة‬
‫والتابعين في معنى األمانة‪:‬‬

‫"وكل ھذه األقوال ال تناقض بينھا‪ ،‬بل ھي متفقة وراجعة إلى أنھا‬
‫)‪(٢‬‬
‫التكليف"‬

‫فاألمانة التي يحملھا اإلنسان معه ھي التكليف بالمھمة التي يجب إنجازھا‬
‫على األرض‪ ،‬والتي ما خلق إال من أجلھا وما أھبط من المأل األعلى إال‬
‫ألدائھا‪ ،‬وھي األمانة التي ليس له أن يتنصل من أدائھا ألن وجوده ما كان إال‬
‫من أجلھا‪.‬‬

‫وال يخلو األمر من سفسطة‪ ،‬فرب قائل‪ :‬أنا ال أريد ھذه المھمة وال أرغب‬
‫في ھذا التكليف‪.‬‬

‫فقل له‪ :‬إن ھذا التكليف ھو سبب وجود اإلنسان في األرض‪ ،‬ورفضه يعني‬
‫رفض اإلنسان لسبب وجوده‪ ،‬فإذا كان يمكن إلنسان أن يرفض وجوده فيمكنه‬
‫أن يرفض التكليف‪.‬‬

‫وھذه المھمة التي خلق اإلنسان ألدائھا ھي ماھيته التي عرف ﷲ عز وجل‬
‫المالئكة به عن طريقھا‪ ،‬فرفض اإلنسان المھمة ھو إنكار منه لماھيته‪.‬‬

‫‪ ( ١‬األحزاب‪.٧٢:‬‬
‫)‪ (٢‬الحافظ ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم‪ ،‬ج‪ ،٦‬ص‪.٦٨٩‬‬
‫‪١٠٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھذه المھمة وھذا التكليف ھو الذي منح اإلنسان سلطانه على المخلوقات‪،‬‬
‫وسخر له الكون لكي يستطيع إنجازھا والقيام بھا‪ ،‬فإذا أراد رفض المھمة كان‬
‫عليه أن يتنازل عن سلطانه على الخالئق ويترك التعامل مع ما سخر له من‬
‫األرض والكون‪ ،‬فال يأكل من األرض التي سخرت لتنبت له‪ ،‬وال يشرب الماء‬
‫الذى سخرت السماء والسحاب والشمس والبحار إلسقاطه له‪ ،‬وال يتنفس‬
‫الھواء‪ ،‬وال ‪ ..‬وال‪ ..‬وال‪ ..‬وال يكون‪.‬‬

‫فمن أراد رفض المھمة وترك التكليف عليه في الوقت نفسه‪ ،‬الرتباط المھمة‬
‫بمقتضياتھا وما منح له إلنجازھا‪ ،‬عليه أن يتنازل عن سلطانه وعلمه وعقله‪،‬‬
‫وعن وجوده وماھيته‪ ،‬وعليه أال يكون‪.‬‬

‫‪١٠٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻌﲅ واﳌﻌﺮﻓﺔ‬
‫لماذا منح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم بالكون والطبيعة والمخلوقات‪ ،‬ولماذا‬
‫انفرد اإلنسان بھذا العلم واختص به دون باقي المخلوقات؟‬

‫ألن ﷲ عز وجل خلق اإلنسان لمھمة‪ ،‬ھي أن يكون خليفته في الكون‬


‫والخلق‪ ،‬وھذه الخالفة تعني تسيير كل شئ في الوجود بأمر ﷲ عز وجل‬
‫ومنھجه وحسب ما يريده عز وجل منه‪.‬‬

‫ولكي يتمكن اإلنسان من أداء مھمته وتحقيق الخالفة في األرض منحه ﷲ‬


‫عز وجل من القدرات وزوده من الوسائل ما يعينه ويمكنه من أداء مھمته‪،‬‬
‫فوھبه سبحانه تعالى العلم وزوده بوسائل تحصيله لكي يتعرف على الكون الذي‬
‫ھو مستخلف فيه‪ :‬ما ھو‪ ،‬وما يحكمه من قانون ونظام‪ ،‬وما ھو مخبوء فيه‬
‫ومركوز من إمكانات لتكون عونا ً له في مھمته‪ ،‬ولكي يعرف المخلوقات التي‬
‫ھو مستخلف عليھا ومسؤول عنھا‪ :‬ما ھي‪ ،‬وما ھي وظائفھا وما تفعله في‬
‫األرض‪ ،‬وكيف ھي مسخرة له‪ ،‬وما الذي يمكنه أن يستخدمھا فيه‪.‬‬

‫ ‪§¦¥ ¤£¢¡~}|{zyx‬‬
‫)‪(١‬‬
‫¨©‪¯®¬«ª‬‬

‫ومنح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم والمعرفة‪ ،‬لكي يكون سلطانا ً يتمكن به من‬
‫السيطرة على المخلوقات واستخدامھا واالنتفاع بھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الغاشية‪.٢٠-١٧:‬‬
‫‪١٠٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫© ‪µ ´ ³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª‬‬

‫¶¸‪HGFEDCBA ¼»º¹‬‬

‫‪V U T S R Q P O N M L K J I‬‬
‫)‪( ١‬‬
‫‪[ZYXW‬‬

‫ومنح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم والمعرفة ليعرف نفسه وما أُودع فيه من‬
‫قدرات ووسائل سيادة وسلطان‪ ،‬ومن وسائل علم وكشف ليستخدمھا في مھمته‬
‫االستخالفية‪ ،‬ولكي يطورھا ويورثھا من جيل إلى جيل في البشرية حتى تتحقق‬
‫وتكتمل المھمة التي وجدت من أجلھا‪.‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪WVUTS‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪wvutsr‬‬
‫وقبل ذلك منح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم والمعرفة ليكون مرشداً له وھاديا ً‬
‫حين ينظر في الكون والطبيعة والخلق ويرى دقة النظام وكمال اإلحكام إلى‬
‫الخالق‪ :‬وحدانيته‪ ،‬وطالقة قدرته‪ ،‬وكمال صفاته‪ ،‬لكي يظل على اتصال بالمأل‬
‫األعلى‪ ،‬حتى ال ينحرف عن مھمته‪ ،‬أو يسئ فھم المراد منه إلتمامھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬النحل‪.٨-٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬الطارق‪.٥:‬‬
‫‪ ( ٣‬الذاريات‪.٢١:‬‬
‫‪١٠٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪dcba`_~}|{zy‬‬

‫ُمنح اإلنسان العلم والمعرفة‪ ،‬ألنه وسيلته في التعرف على محل مھمته‪ ،‬وھو‬
‫قدراته الممنوحة له إلنجازھا‪ ،‬وھو سلطانه في تسخير المخلوقات واالنتفاع بھا‪،‬‬
‫وھو طريقه لمعرفة نفسه وما أُودع فيه من قدرات إلنجاز مھمته‪ ،‬وھو النجم‬
‫الذي يھديه في أثناء مسيرته إلى الخالق ويذكره بوحدانيته‪.‬‬

‫وﻋﻠﻢ آدم اﻷﺳﻤﺎء ﻛﻠﻬﺎ‪:‬‬

‫يقول عز وجل في خريطة الوجود الحقيقية التي حفظھا سبحانه وتعالى في‬
‫بيانه إلى خلقه‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫`‪cba‬‬

‫واالسم وعاء المسمى‪ ،‬وھو تكثيفه واستحضاره في الوعي‪ ،‬فإذا قلت‪:‬‬


‫شجاع‪ ،‬فسوف يثب إلى أذھاننا مئات الشجعان في عرض الدنيا وطول التاريخ‪،‬‬
‫فإذا أضفت إليھا‪ :‬كريم‪ ،‬ضاق النطاق وما استطعنا تحديداً ألحد‪ ،‬فإذا قلت‪:‬‬
‫فارس عاش في الجاھلية‪ ،‬قلنا‪ :‬ھذا في الغالب عنترة‪.‬‬

‫أما إذا نطقت باسم عنترة فسوف نراه ماثالً أمام أعيننا‪ ،‬وفي وعينا كل ما‬
‫يتعلق به ونعرفه عنه‪ ،‬ألن االسم ھو كل المسمى‪ ،‬وھو جمع لكل ما تعلق به‬
‫واستحضار لكل سماته معاً‪.‬‬

‫‪ ( ١‬آل عمران‪.١٩٠:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٣١:‬‬
‫‪١١٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فا" عز وجل عرف اإلنسان بأسماء األشياء‪ ،‬أي بھا وبكل خصائصھا‬
‫وصفاتھا ومنافعھا‪ ،‬المادية والمعنوية‪ ،‬األسماء‪ ،‬كما يقول اإلمام القرطبي ھي‪:‬‬

‫"أسماء خلقه‪ ،‬وسمى كل شئ باسمه‪ ،‬وأنحى منفعة كل شئ إلى جنسه‪،‬‬


‫)‪(١‬‬
‫والمعنى علمه األجناس وعرفه منافعھا"‬

‫وأسماء القيم واألخالق ھي معناھا وضوابطھا‪ ،‬فا" عز وجل مصدر القيم‬


‫واألخالق‪ ،‬وھو عز وجل الذي منحھا معناھا‪ ،‬ووحيه ضابطھا‪ ،‬ومن ثَم فإزاحة‬
‫مسألة األلوھية أو نفي الوحي ھو محو للمرجعية والمعايير والموازين‪ ،‬وتفريغ‬
‫ألسماء األخالق والقيم من معانيھا‪ ،‬ليمألھا من شاء بما شاء‪.‬‬

‫فالحرية واألمانة والعفة والعدل والمساواة ألفاظ وكلمات كاألوعية الفارغة‪،‬‬


‫والمعاني التي تملؤھا مصدرھا اإلله وحده‪ ،‬ووحيه عز وجل وبيانه ھو ضابط‬
‫ھذه المعاني‪ ،‬فإذا حدد أحد للبشر معاني القيم واألخالق وضوابطھا وحدودھا‬
‫من عنده فقد أحل نفسه في وعي البشر ونفوسھم محل اإلله‪.‬‬

‫وأسماء العالقات االجتماعية ھي ضوابطھا وقواعدھا‪ ،‬وﷲ عز وجل ھو‬


‫مصدر ھذه الضوابط والقواعد‪ ،‬ووحيه سبحانه وتعالى ھو بيانھا‪ ،‬والفرق بين‬
‫الشرع وبين تركه في أي عالقة ھو مجموعة من الضوابط والقواعد‪.‬‬

‫فالفرق بين الزواج والزنا ضوابط وقواعد‪ ،‬مصدرھا اإلله وبيانھا في وحيه‪،‬‬
‫إن ُوجدت فھو زواج‪ ،‬وإن فقدت فھو زنا‪ ،‬وكذلك الفرق بين البيع والربا‪ ،‬وبين‬
‫والرشا‪.‬‬
‫ِ‬ ‫الھدايا‬

‫‪ ( ١‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٢٨٢‬‬


‫‪١١١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وخريطة الوجود البني إسرائيلية المحرفة‪ ،‬كما ستعلم‪ ،‬ليست سوى تفريغ‬
‫ألسماء القيم واألخالق من المعاني‪ ،‬ونسف لقواعد العالقات االجتماعية‬
‫وضوابطھا‪ ،‬وعمل بني إسرائيل عبر التاريخ ليس سوى بث مكونات ھذه‬
‫الخريطة المحرفة في وعي البشر وتكوين مجتمعاتھم بھا‪ ،‬عبر إعادة ملء‬
‫أسماء القيم واألخالق بعد تفريغھا‪ ،‬وشحنھا بالمعاني التي يريدونھا ويستوطنون‬
‫بھا عقول البشر‪ ،‬وعبر وضع قواعد وضوابط للعالقات االجتماعية بديلة‬
‫لقواعد الوحي وضوابطه يمتطون بھا كل األمم والشعوب‪.‬‬

‫ويقول عز وجل في بيانه‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪qponmlkjihg‬‬

‫يخبرك بيان اإلله أنه عز وجل الذي علم اإلنسان البيان‪ ،‬ومادة بان‪ ،‬وكل ما‬
‫يتفرع منھا‪ ،‬يدل على الكشف والوضوح والظھور‪:‬‬

‫"بان الشئ‪ :‬ظھر واتضح‪ ،‬وأبان فالن‪ :‬أفصح عما يريد‪ ،‬وأبان الشئ‪:‬‬
‫أظھره ووضحه‪ ،‬وتبين الشئ‪ :‬تأمله حتى اتضح‪ ،‬والبيان‪ :‬الحجة والمنطق‬
‫)‪(٢‬‬
‫الفصيح"‬

‫وسمي الكالم بيانا ً ألن اإلنسان يظھر به ما في نفسه ويوضح ما يفكر فيه‪،‬‬
‫فالبيان ھو اللغة‪ ،‬واللغة ھي أداة التفكير ووعاء األفكار‪ ،‬فال فكرة من غير لغة‬

‫‪ ( ١‬الرحمن‪.٤-١ :‬‬
‫‪ ( ٢‬المعجم الوجيز‪ ،‬ص‪.٧٠‬‬
‫‪١١٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫تُصب فيھا‪ ،‬منطوقة أو مكتوبة‪ ،‬واإلنسان المخلوق الذي له لغة‪ ،‬ألنه المخلوق‬
‫المفكر‪ ،‬واللغة أداة نقل المعرفة وتوارثھا‪.‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"والبيان ھو الكشف عن الشئ"‬

‫فالبيان ھو أيضا ً الكشف واإلبانة عن حقائق الكون والطبيعة ومعرفة ما‬


‫فيھا‪ ،‬ولذا كانت اآليات التالية كلھا في الكون والطبيعة‪ ،‬لكي توجه اإلنسان إلى‬
‫المجاالت التي ينبغي أن يضع فيھا ما وھب له من علم وقدرات‪:‬‬

‫ ‪r q p o n m l k j i h g‬‬

‫‪_~ }|{zyxwvu ts‬‬

‫`‪lk jihgfed] cba‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫‪yxwvutsrqponm‬‬

‫إذاً فا" عز وجل ھو الذي منح اإلنسان العلم والمعرفة‪ ،‬وأمره سبحانه‬
‫وتعالى بھما‪ ،‬وھو الذي وھبه التفكير وأودعه أدواته‪ ،‬وھو عز جل الذي علمه‬
‫اللغة ووھبھا له لكي يتمكن من الكشف واإلبانة عن علمه وأفكاره‪ ،‬ومن نقلھا‬
‫وتوارثھا ومراكمة آثارھا‪.‬‬

‫أما في خريطة التحريف البني إسرائيلية‪ ،‬فاإلله منع اإلنسان من العلم‬


‫وحرمه من المعرفة‪ ،‬وحازھما اإلنسان بإرشاد الشيطان‪ ،‬وبالتمرد على اإلله‬
‫وعصيانه‪ ،‬وعلى غير إرادته‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الراغب األصفھاني‪ :‬المفردات في غريب القرآن‪ ،‬ص‪.٦٩‬‬


‫‪ ( ٢‬الرحمن‪.١٢-١ :‬‬
‫‪١١٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإليك ما تعرف به أي خريطة وجود تلك التي كونت الوعي في بالد العرب‬
‫وتحكمه وتتحكم في ما يدركه وما ينتجه‪.‬‬

‫يقول عميد األدب العربي طه حسين في كتابه‪ :‬من بعيد‪:‬‬

‫"والحق أن ھذه الخصومة بين العلم والدين‪ ،‬كما قلت في غير ھذا‬
‫الموضع‪ ،‬قديمة يرجع عھدھا إلى أول الحياة العقلية الفلسفية‪ ،‬والحق أيضا ً‬
‫أن ھذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قائمة متصلة ما قام العلم وما قام‬
‫الدين ألن الخالف بينھما أساسي جوھري ال سبيل إلى إزالته أو تخفيفه إال إذا‬
‫)‪(١‬‬
‫استطاع كل منھما ان ينسى اآلخر نسيانا ً تاما ً ويعرض عنه إعراضا ً مطلقاً"‬

‫ابن األزھر الذي يلقبونه بعميد األدب في بالد العرب يؤمن أن العلم والدين‬
‫نقيضان ال يجتمعان‪ ،‬ألم يحفظ القرآن أو يقرأه يوماً‪ ،‬ومن أين أتته الجراثيم التي‬
‫كونت عقله ولوثته؟‬

‫فإليك من كتابه‪ :‬مستقبل الثقافة في مصر ما يعرفك بھا وبمصدرھا وكيف‬


‫صبت في عقله‪:‬‬

‫"الكاتب الفرنسي المعروف بول فاليري شخص العقل األوروبي فرده إلى‬
‫عناصر ثالثة‪ :‬حضارة اليونان وما فيھا من أدب وثقافة وفن‪ ،‬وحضارة‬
‫الرومان وما فيھا من سياسة وفقه‪ ،‬والمسيحية وما فيھا من خير وحث على‬
‫اإلحسان‪ ،‬فلو أردنا أن نحلل العقل اإلسالمي في مصر والشرق القريب أفتراه‬
‫ينحل إلى شئ آخر غير ھذه العناصر؟‬

‫‪ ( ١‬دكتور طه حسين‪ :‬من بعيد‪ ،‬ص‪.٢٠٢‬‬


‫‪١١٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫خذ نتائج العقل اإلسالمي كلھا‪ ،‬فستراھا تنحل إلى ھذه اآلثار األدبية‬
‫والفلسفية والفنية التي ھي متصلة بحضارة اليونان وما فيھا من أدب وفلسفة‬
‫وفن‪ ،‬وإلى ھذه السياسة والفقه اللذين ھما متصالن أشد االتصال بما كان‬
‫للرومان من سياسة وفقه‪ ،‬وإلى ھذا الدين اإلسالمي الكريم وما يحث عليه من‬
‫إحسان‪ ،‬ومھما يقل القائلون فلن يستطيعوا أن ينكروا أن اإلسالم قد جاء‬
‫متمما ً ومصدقا ً التوراة واإلنجيل‪ ،‬وإذاً فمھما نبحث ومھما نستقص فن نجد ما‬
‫)‪(١‬‬
‫يحملنا على أن نقبل أن بين العقل االوروبي والعقل المصري فرقا ً جوھرياً"‬

‫واإلسالم الذي يفھمه السيد العميد وتكلم عنه في كتابه ليس سوى صورة من‬
‫المسيحية‪ ،‬وفحواه عنده ھي فحواھا‪ ،‬فالذي كون العقل المصري الحديث‪ ،‬أو‬
‫عقله ھو في الحقيقة‪ ،‬ثالثة روافد ھي‪ :‬الثقافة اإلغريقية‪ ،‬والحضارة الرومانية‪،‬‬
‫والمسيحية التي يتوھمھا إسالما ً‪ ،‬أو يموھھا فيه‪.‬‬

‫والمسيحية كلھا ليست سوى امتداد أو فرع تفرع من خريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية في سفر التكوين‪ ،‬فالتجسد الذي يحكم الوعي المسيحي‪ ،‬شجرة بذرتھا‬
‫في سفر التكوين‪ ،‬وعقيدة الصلب التي ھي لب المسيحية‪ ،‬أصلھا وجذرھا‬
‫خطيئة اإلنسان األول والعقوبة المفروضة عليه في األرض في الخريطة البني‬
‫إسرائيلية‪.‬‬

‫واإلغريق والرومان حضارات أقيمت على افتقاد الوحي والجھل به‪ ،‬فھي‬
‫من ثمار حجب الوحي ومن إفرازاته في دورة اإلفساد األولى‪ ،‬كما ستعلم‬
‫تفصيالً في أثناء رحلتك معنا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬دكتور طه حسين‪ :‬مستقبل الثقافة في مصر‪ ،‬ص‪.٣٠‬‬


‫‪١١٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالروافد التي كونت ذھن عميد األدب العربي ونخب مصر الضالة‪ ،‬كلُھا‬
‫نبعت من التحريف‪ ،‬وتدفقت في عقولھم من خريطة الوجود البني إسرائيلية‬
‫وآثارھا‪.‬‬

‫فال تعجب إذا علمت أنه في النصف األول من القرن العشرين نسف الرواد‬
‫بوعيھم المشوه كل قواعد المجتمع‪ ،‬وھتكوا نسيجه‪ ،‬وأذابوا قيمه‪ ،‬ومحوا‬
‫أخالقه‪ ،‬وشوھوا وعي أھله جميعاً‪.‬‬

‫وقد كان تشويه وعي ھذه النخب وتكوينھا مقصوداً‪ ،‬ليكون إفسادھم لبالد‬
‫العرب وسيلة إلقامة دولة اليھود‪ ،‬فكل تخريب في بالد العرب كان يقابله وضع‬
‫لبنة في دولة اليھود‪ ،‬فتفكيك بالد العرب باألفكار الوطنية والقومية والنخب التي‬
‫تكونت بھا كان يقابله اجتماع اليھود‪ ،‬وإقامة إسرائيل لم يكن ممكنا ً من غير‬
‫إسقاط دولة اإلسالم الموحدة‪ ،‬وفي الوقت الذي كان فيه الضالون في بالد‬
‫العرب يميتون العربية كان اليھود يعيدون إحياء العبرية‪ ،‬وحين كانوا يھجرون‬
‫القرآن ويخرجونه من وعي العرب وعقولھم ونفوسھم كان اليھود يصنعون‬
‫دولتھم ويقيمونھا بالتوراة‪.‬‬

‫فإذا ما تساءلت‪ :‬كيف تشوه وعي ھذه النخب ومن أين؟‬

‫فاإلجابة‪ :‬عبر نظم التعليم التي أقامھا الفرنسيس والبريطان‪ ،‬والبعثات التي‬
‫أرسلوھا إلى بالدھم ليصنعوا رؤوس ھذه النخب في معاملھا‪ ،‬وعبر المحافل‬
‫الماسونية التي نشروھا في مصر ليربوھم فيھا‪ ،‬وعبر القوانين التي شرعوھا‬

‫‪١١٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأحلوھا بقوة المدافع محل الشريعة‪ ،‬وعبر سياساتھم اإلدارية واإلعالمية‪،‬‬


‫وعبر الحكومات العميلة لھم‪.‬‬

‫والبريطان والفرنسيس واألمريكان‪ ،‬وكل من جاءوا إلى بالد العرب منھم‪،‬‬


‫عسكريين وساسة ورجال فكر وأدب وأصحاب علم وإدارة‪ ،‬منذ نابليون وحتى‬
‫زمانك ھذا‪ ،‬ھم أنفسھم من الماسون الذين كونت وعيھم وصنعت عقولھم‬
‫ونفوسھم وتتحكم فيھا خريطة الوجود البني إسرائيلية‪.‬‬

‫فإليك مثاالً واحداً‪ ،‬والباقي على شاكلته‪.‬‬

‫أشھر رجال بريطانيا في تاريخ مصر وأشدھم أثراً فيه‪ ،‬والذي وضع في‬
‫عھده ھيكل تعليمھا الذي ما زال ساريا ً إلى اليوم‪ ،‬والذي أزاح بسطوته الشريعة‬
‫وأحل محلھا القانون الوضعي‪ ،‬والذي تربى على يديه جل نخبة مصر الحديثة‬
‫الذين حددوا مالمحھا ومنحوھا سماتھا‪ :‬اللورد كرومر‪.‬‬

‫واللورد كرومر اسمه األصلي‪ :‬إيفلين بيرنج إيرل أوف كرومر ‪Evelyn‬‬
‫‪Baring Earl of Cromer‬‬

‫واللورد كرومر ماسوني‪ ،‬وأسرته‪ ،‬أسرة بيرنج‪ ،‬إحدى أعرق األسر‬


‫الماسونية في بريطانيا‪ ،‬وثمة محفل باسمھا ما زال عامالً إلى اليوم‪ ،‬وھو محفل‬
‫بيرنج ‪ ،Baring Lodge‬وأسرة بيرنج كانت تمتلك أيضا ً بنكا ً باسمھا ‪Baring‬‬
‫‪ ،Bank‬وكانت حليفة عبر بنكھا ألسرة روتشيلد في بريطانيا وأحد وكالئھا‪.‬‬

‫‪١١٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻗﺮأ ﺑﺎﺳﻢ رﺑﻚ اﻟﺬي ﺧﻠﻖ‪:‬‬


‫يقول عز وجل في بيانه وخريطة الوجود الحقيقية المحفوظة‪:‬‬

‫‪}|{zyxwvutsrqponmlk‬‬
‫)‪(١‬‬
‫~_`‪cba‬‬

‫فا" عز وجل ھو الذي يدل اإلنسان على القراءة ويأمره بھا‪ ،‬ولكنه يرشده‬
‫إلى أن القراءة الحقيقية والصحيحة ال تكون إال باسم ﷲ الذي خلق وفي نور‬
‫وحقيقة أنه سبحانه وتعالى الذي خلق ‪.‬‬

‫وھو ما يرشدك به سبحانه وتعالى إلى أن البداية الصحيحة لكل العلوم‬


‫والمعارف ھي الخلق اإللھي‪ ،‬وأنھا ال تكون نقية من األباطيل والضالالت إال‬
‫إذا كانت قائمة على ھذه الحقيقة ومحكومة بھا‪.‬‬

‫أما ما أنتجه التحريف وخريطته من معارف وعلوم وآداب وفنون‪ ،‬فھو كله‬
‫قائم على إزاحة الوجود اإللھي من وعي البشر الذي ينتجھا‪ ،‬وھدفه ترسيخ ھذه‬
‫اإلزاحة فيه وفي وعي البشر جميعاً‪.‬‬

‫‪ ( ١‬العلق‪.٥-١:‬‬
‫‪١١٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣﳯﺞ اﳊﻴﺎة وﻗﻮاﻋﺪ الاﺟامتع‬


‫اإلنسان اآلن خليفة ﷲ عز وجل على أرضه وفي كونه‪ ،‬وھو في مقر‬
‫خالفته‪ ،‬وقد ُشرف بھذه الخالفة‪ ،‬و ُمنح من أجلھا سلطانا ً على الكون والخالئق‪،‬‬
‫وھذه الخالفة مھمة وتكليف يجب أداؤه والقيام به‪.‬‬

‫ومن أجل القيام بھذه المھمة سخر ﷲ عز وجل كل شئ في الكون‪ ،‬سما ًءا‬
‫وأرضا ً ومخلوقات‪ ،‬بما يعنيه على أداء مھمته‪ ،‬وزود عز وجل اإلنسان نفسه‬
‫من القدرات والطاقات والسلطان ما يمكنه من أداء ھذه المھمة والقيام بتبعاتھا‪.‬‬

‫ومن أجل أن يتمكن آدم من أداء وظيفته ورسالته زوده عز وجل بالعلم‬
‫والمعرفة وأدوات تحصيلھا‪.‬‬

‫وبدأت البشرية مسيرتھا على األرض بآدم عليه السالم وزوجه عارفا ً با"‬
‫عز وجل تائبا ً إليه مھتدياً‪ ،‬ووھبه المنھج الذي يسير عليه والقواعد التي يُك ﱢون‬
‫بھا عالمه ويقود بھا الكون والمخلوقات من مقر عمله في األرض‪.‬‬

‫فالبشرية بدأت رحلتھا تائبة مھتدية راشدة على الحق ومعھا منھج إلھي تتبعه‬
‫وقواعد ربانية تسير عليھا‪.‬‬

‫يقول عز وجل في بيانه إلى خلقه‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪qponm lkjihgfed‬‬

‫‪ ( ١‬األعراف‪.٢٦:‬‬
‫‪١١٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بيان ﷲ عز وجل يعرفك أنه سبحانه علم اإلنسان األول كيف يتعامل مع‬
‫الطبيعة‪ ،‬وكيف ومن أين يأكل‪ ،‬وكيف يصنع ما يستر به عورته‪.‬‬

‫وقراءة عاصم ومن وافقه‪ ،‬كابن كثير المكي وأبي عمرو البصري وحمزة‬
‫الكوفي ويعقوب الحضرمي وخلف العاشر‪ ،‬برفع كلمة‪ ، n :‬على انھا‬
‫مبتدأ‪.‬‬
‫وأما نافع المدني من وافقه‪ ،‬كابن عامر الدمشقي والكسائي الكوفي وأبي‬
‫جعفر المدني‪ ،‬فقرءوا بنصبھا عطفا ً على كلمة‪ i  :‬األولى‪ ،‬ووافقھم‬
‫)‪(١‬‬
‫الحسن وابن شنبوذ من الشواذ‬
‫فيكون المعنى أنه عز وجل أنزل على بني آدم لباس التقوى مع لباس‬
‫أجسامھم‪ ،‬أي إنه عز وجل أنزل مع آدم التائب المھتدي الذي يعرف اإلله‬
‫ويوحده منھجا ً يطيعه ويھتدي به‪ ،‬ويعرف منه القيم واألخالق والعالقات‬
‫االجتماعية‪ ،‬ما معناھا وما قواعدھا وضوابطھا وكيف تكون‪.‬‬

‫وھذه الحقيقة اإللھية التي كشفھا لك عز وجل في بيانه إلى خلقه‪ ،‬تخالف‬
‫سيرة البشر األولى في كل النظريات والفلسفات والعلوم التي كونھا وأنتجھا‬
‫سريان تحريف الوحي فى أذھان من أنتجوھا وعقولھم كما سترى‪.‬‬

‫األجناس‪،‬‬ ‫علم‬ ‫واألنثروبولوجي‬ ‫اإلجتماع‪،‬‬ ‫علم‬ ‫فالسيوسيولوجي‬


‫والسيكولوجي علم النفس‪ ،‬ونظرية التطور‪ ،‬والماركسية‪ ،‬والليبرالية والعقد‬
‫االجتماعي‪ ،‬والعلوم السياسية واالقتصادية‪ ،‬واآلداب والفنون‪ ،‬كلھا قامت‬

‫‪ ( ١‬اإلمام ابن الجزري‪ :‬النشر في القراءات العشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٢٦٨‬اإلمام أحمد بن محمد البنا‪ :‬اتحاف‬
‫فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.٤٦‬‬
‫‪١٢٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وارتفعت صروحھا الكاذبة على فرضية أن اإلنسان بدأ مسيرته على األرض‬
‫تائھا ً يخبط في عماء المجھول‪ ،‬وأنه كون معارفه وعلومه وعالقاته ونظام‬
‫حياته‪ ،‬وكون أخالقه وقيمه‪ ،‬بل وكون عقائده وأفكاره عن اإلله‪ ،‬من سيرة‬
‫خبطه العشواء ھذه وما صاحبھا من تجارب‪ ،‬ألنھا كلھا نبتت ورُويت بخريطة‬
‫التحريف البني إسرائيلية التي أوجدت اإلنسان على األرض تائھا ً آبقا ً مطروداً‬
‫من اإلله‪ ،‬وجعلت األرض منفاه التي يقضي فيھا عقوبته ويصنع عالمه ضاربا ً‬
‫فيھا بنفسه بمعزل عن اإلله‪.‬‬

‫فإليك مثاالً واضحا ً ال لبس فيه تدرك به الفرق بين ما تثمره سيرة اإلنسان‬
‫األول في خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وما تفرزه سيرته المحرفة في خريطة‬
‫الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وتعرف منه أيھما التي نبتت منھا المعارف والعلوم‪،‬‬
‫ورويت به اآلداب والفنون‪ ،‬وأقيمت عليه العالقات‪ ،‬وصنعت به المجتمعات‪.‬‬

‫ھل األسرة والزواج إرشاد إلھي أم اكتشاف وابتكار بشري؟‬

‫إذا كان الزواج إرشاداً واألسرة وضعا ً إلھياً‪ ،‬فيكون ھو وھي العالقة الوحيدة‬
‫الصحيحة بين الرجل والمرأة‪ ،‬وأي صورة أخرى لھذه العالقة خطأ أو خطيئة‪.‬‬

‫وأما إذا كان الزواج واألسرة ابتكاراً واختراعا ً إنسانياً‪ ،‬فال غضاضة وال‬
‫وزر في أن يبتكر من شاء غيره وغيرھا‪ ،‬وحينئذ تكون العالقات الحرة‬
‫والشيوع الجنسي‪ ،‬بل والشذوذ ال غبار عليھا‪.‬‬

‫فإليك ما الذي يخبرنا به الوحي وخريطة الوجود اإللھية‪:‬‬

‫‪١٢١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ ‪R Q PO N M L KJ I H GF E D C B A‬‬


‫)‪(١‬‬
‫_‬

‫ثم إليك أشھر فاسق وعربيد في التاريخ يخبرك ھو نفسه أن انحالله وشذوذه‬
‫ليس سوى نظرية وفلسفة منطقية أفرزتھا تلقائيا ً سيرة اإلنسان الضال اآلبق‬
‫وانفصاله عن اإلله ووحيه وإرشاده في خريطة الوجود البني إسرائيلية‪.‬‬

‫يقول الكونت دي صاد‪:‬‬

‫"ما دام اإلله غير موجود فإن العاقل ھو من يسعى إلى إشباع رغباته ما‬
‫استطاع إلى ذلك سبيالً دون أن يجر على نفسه عقوبة أرضية‪ ،‬وكل الرغبات‬
‫خير‪ ،‬واألخالق أوھام‪ ،‬والعالقات الجنسية بكل صورھا جيدة‪ ،‬وال يوجد شئ‬
‫اسمه شذوذ‪ ،‬ألنه ليس ھناك من يستطيع أن يقول ما ھو الشذوذ وما الذي‬
‫)‪(٢‬‬
‫يكون شاذاً وما الذي ال يكون"‬

‫واآلن تأمل على بصيرة في كل شئ حولك‪ ،‬القصص والروايات‪ ،‬واألفالم‬


‫والمسلسالت‪ ،‬والمدارس والجامعات‪ ،‬والنوادي والبالجات‪ ،‬والشوارع‬
‫والمواصالت‪ ،‬وسوف تفطن وحدك إلى أن الحياة كلھا تم صنعھا وإقامتھا‬
‫بالتحريف وعليه‪ ،‬فصار الزنى ممارسة للحب وبديالً عن الزواج‪ ،‬والعالقات‬
‫الحرة نسفت بھا األسرة‪ ،‬والشذوذ أصبح يحتفى به ويدافع عنه كالفطرة‪.‬‬

‫‪ ( ١‬النساء‪.١:‬‬
‫‪ ( ٢‬ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٤٢‬ص‪.٤٠٠‬‬
‫‪١٢٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكل العلوم اإلنسانية‪ ،‬ومناھج التعليم‪ ،‬وجماعات حقوق اإلنسان‪ ،‬وحركات‬


‫تحرير المراة‪ ،‬واتفاقيات األمم المتحدة ومواثيقھا‪ ،‬قائمة على فرضية التحريف‪،‬‬
‫وھدفھا ترسيخھا‪.‬‬

‫واآلن إليك أشھر نموذج على وعي العرب المشوه الذي كونه التحريف وحل‬
‫فيه محل الوحي‪ ،‬فھذه ھي مسيرة البشر كيف بدأت وكيف سارت عند قاسم‬
‫أمين‪ ،‬وھي نفسھا الفرضية التي فرع منھا وأقام عليھا دعوته لتحرير المرأة‪.‬‬

‫يقول قاسم أمين إن عالقة الرجل بالمرأة عبر التاريخ مرت بأربعة مراحل‪،‬‬
‫كل مرحلة منھا تواكب طوراً من األطوار التي مر بھا المجتمع البشري‪ ،‬ففي‬
‫المرحلة األولى‪:‬‬

‫"كانت عالقة الرجل بالمرأة متروكة إلى الصدفة وال تفترق عما يشاھد‬
‫بين األنعام‪ ،‬وكان الشأن إذا ولدت المرأة ولداً أن يجتمع القوم متى وصل الولد‬
‫)‪( ١‬‬
‫إلى سن البلوغ وينسبوه إلى أشبه الناس به"‬

‫فالذي يعرفه قاسم أمين المصري العربي المسلم عن البشرية ويؤمن به أنھا‬
‫بدأت باالنحالل واإلباحية المطلقة والشيوعية الجنسية‪ ،‬بال إرشاد وال منھج وال‬
‫قواعد وال قيم وال أخالق‪ ،‬والمرأة في ھذه المرحلة‪ ،‬والتي وصفھا بما قرأت‪،‬‬
‫ھي المرأة الحرة‪.‬‬

‫وفي المرحلة الثانية‪:‬‬

‫‪ ( ١‬قاسم أمين‪ :‬المرأة الجديدة‪ ،‬ص‪.١‬‬


‫‪١٢٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"لما ودع اإلنسان بداوته واتخذ وطنا ً قاراً واشتغل بالزراعة وجد نظام‬
‫البيت‪ ،‬ومن أھم ما ساعد على تشكيل العائلة أنه كان لكل عائلة معبود خاص‬
‫بھا تختاره من بين أسالفھا‪ ...‬وترتب على دخول المرأة في العائلة حرمانھا‬
‫)‪(١‬‬
‫من استقاللھا"‬

‫فالزواج وتكوين األسر لم يكن سوى ابتكار من اإلنسان اضطره إليه اشتغاله‬
‫بالزراعة وما واكب مرحلة حياته ھذه من ظروف ومالبسات‪ ،‬وانتقال المرأة‬
‫من اإلباحية وامتطاء الرائح والغادي لھا إلى الزواج والوجود في أسرة داخل‬
‫بيتھا وبين أبنائھا كان استعباداً لھا!!‬

‫ومما قاله الرائد المعتوه تعلم أنه ال يعتقد أن البشرية بدأت باإلباحية والشيوع‬
‫الجنسي فقط‪ ،‬بل وأنھا بدأت بالوثنية والشرك‪ ،‬ثم كان أن اخترعت من بين ما‬
‫اخترعت األلوھية والوحدانية!!‬

‫ثم يوجز المختل عقليا ً ونفسيا ً المراحل األربع التي مرت بھا البشرية في‬
‫كلمتين‪ ،‬كما يقول‪ ،‬ھكذا‪:‬‬

‫"عاشت المرأة حرة في العصور األولى حيث كانت اإلنسانية لم تزل في‬
‫مھدھا‪ ،‬ثم بعد تشكيل العائلة وقعت في االستعباد الحقيقي‪ ،‬ثم لما قامت‬
‫اإلنسانية على طريق المدنية تغيرت صورة ھذا الرق واعترف للمرأة بشئ‬

‫‪ ( ١‬األستاذ قاسم أمين‪ :‬المرأة الجديدة‪ ،‬ص‪.٣‬‬


‫‪١٢٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫من الحق‪ ،‬ولكن خضعت الستبداد الرجل‪ ،‬ثم لما بلغت اإلنسانية مبلغھا من‬
‫)‪(١‬‬
‫المدنية نالت المرأة حريتھا التامة"‬

‫فھل ھذا الذي يفھم ويوقن أن الزواج ابتكار واختراع إنساني‪ ،‬وھو استعباد‬
‫للمرأة‪ ،‬وأن البشرية بدأت مسيرتھا باإلباحية واالنحالل‪ ،‬وھي حرية المرأة التي‬
‫يريد بتحريرھا إعادتھا إليھا‪ ،‬ھل قرأ أو سمع أو أخبره أحد يوما ً أن ثمة وحيا ً‬
‫أنزل وفيه يُعرف ﷲ عز وجل البشر أنه‪:‬‬

‫‪edcba`_~}|{zy‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪nmlkjihg f‬‬

‫وأن الزواج وضع وإرشاد إلھي من قبل أن يوجد آدم على األرض وتبدأ‬
‫البشرية مسيرتھا‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪xwvut‬‬

‫فمن أين جاء ھذا األحمق بھذه النظرية التي قدمھا على أنھا حقيقة علمية‬
‫مطلقة؟‬

‫كل ما قاله المحرر األحمق وصار به رائداً عن المراحل األربعة التي مرت‬
‫بھا البشرية‪ ،‬واستعباد المرأة مع تكوين األسرة وابتكار مؤسسة الزواج‪ ،‬وما‬
‫دعا إليه من تحريرھا‪ ،‬سرقه من كتاب فريدريك إنجلز‪ :‬أصل العائلة والملكية‬

‫‪ ( ١‬المرأة الجديدة‪ :‬ص‪.٢١-٢٠‬‬


‫‪ ( ٢‬الروم‪.٢١ :‬‬
‫‪ ( ٣‬األعراف‪.١٩ :‬‬
‫‪١٢٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الخاصة والدولة ‪ Origin of family, private property and state‬الذي‬


‫صدرت طبعته األولى باأللمانية‪١٨٨٤‬م‪ ،‬قبل صدور كتاب‪ :‬المرأة الجديدة‬
‫بست عشرة سنة‪ ،‬وعند صدور كتاب‪ :‬المرأة الجديدة سنة ‪١٩٠٠‬م كان قد طبع‬
‫في أربع لغات‪ ،‬منھا اإلنجليزية والفرنسية‪.‬‬

‫وربما تتعجب سائالً‪ :‬ما الذي جمع قاسم أمين الليبرالي بإنجلز الشيوعي‪،‬‬
‫وكيف وأين تعرف به؟‬

‫وسيزول عجبك وتعرف من الذي عرﱠف قاسم أمين بفريدريك إنجلز‪،‬‬


‫وغرس أفكار ھذا في رأس ذاك‪ ،‬حين تعلم أن قاسم أمين كان عضواً في محفل‬
‫كوكب الشرق الماسوني في القاھرة‪ ،‬وأن فريدريك إنجلز كان ماسونيا ً من‬
‫الدرجة الحادية والثالثين في محفل إنجلترا األعظم!‬

‫ثم إليك المثال األفدح‪ ،‬توقن به أن الغرب وعلومه وآدابه وفنونه لم تكن‬
‫سوى قنوات سرت من خاللھا خريطة الوجود البني إسرائيلية لتستوطن وعي‬
‫العرب ويختل بھا تكوينھم‪ ،‬ولتروي كل ما ينتجونه‪ ،‬لتتم بھذا االستيطان‬
‫واالختالل وبھذا النتاج دورة اإلفساد الثانية‪.‬‬

‫يقول توفيق الحكيم في كتابه‪ :‬زھرة العمر‪ ،‬وھو جمع لرسائله التي أرسلھا‬
‫بعد أن عاد إلى مصر إلى صديقه في فرنسا أندريه‪ ،‬ولم يكن في حسبانه‪ ،‬كما‬
‫يقول ھو‪ ،‬أنھا ستنشر يوما ً ما‪:‬‬

‫"إذا كانت األديان السماوية ھي الحق‪ ،‬فالبد أن تكون قديمة قدم الحق‪ ،‬أو‬
‫على األقل قدم اإلنسان‪ ،‬األنبياء إذن لم يخلقوا الحق خلقا ً بظھورھم‪ ،‬ولكنھم‬

‫‪١٢٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫كشفوا عن ظھوره األزلي‪ ،‬فال غرابة إذن في البحث عن منابع األديان‬


‫السماوية فيما كان قبلھا من وثنية‪ ،‬والبحث عن منابع الوثنية في قلب‬
‫)‪( ١‬‬
‫اإلنسان من يوم ظھوره على األرض"‬

‫وكما ترى‪ ،‬األديان السماوية عند توفيق الحكيم المصري العربي المسلم‪،‬‬
‫منابعھا في الوثنية‪ ،‬وھذه الوثنية نفسھا تفجرت ينابيعھا من تلقاء نفسھا في قلب‬
‫اإلنسان األول منذ وجد نفسه على األرض تائھا ً ھائماً‪ ،‬فالوثنية ھي األصل‬
‫والبداية‪ ،‬واإلنسان ھو الذي كون بنفسه عقائده وأفكاره عن اإلله ومسألة‬
‫األلوھية‪ ،‬وھو الذي ابتكر التوحيد والوحدانية!‬

‫فھل فھمت اآلن كيف وبأي وسائل أزيحت خريطة الوجود اإللھية من وعي‬
‫العرب‪ ،‬وعبر أي قنوات تسربت إليه خريطة التحريف البني إسرائيلية‪ ،‬ثم‬
‫استوطنته وشوھته‪ ،‬وصارت ھي التي تحكمه وتتحكم في كل ما يتكون فيه‪،‬‬
‫وتسري في كل ما ينتجه؟!‬

‫‪ ( ١‬توفيق الحكيم‪ :‬زھرة العمر‪ ،‬ص‪.٢٩١‬‬


‫‪١٢٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪١٢٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺑﻨ ــﻮ إﺳﺮاﺋـ ـﻴ ـ ــﻞ‬


‫}~¡‪¤£¢‬‬
‫)اﻟﺪﺧﺎن‪(٣٢:‬‬

‫‪١٢٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪١٣٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﰱ ﺑﻴﺎن ا ٕﻻهل‬
‫القرآن‪ ،‬كما علمت‪ ،‬ھو بيان اإلله عز وجل إلى خلقه جميعا ً ودليل ھدايتھم‬
‫إلى يوم القيامة‪ ،‬ولكي نقرب لك مسألة بني إسرائيل فيه‪ ،‬نعود بك إلى المثال‬
‫الذي رأيته في‪ :‬بيان اإلله‪.‬‬

‫إذا أدرت مفتاح التلفاز فوجدت الحاكم في بالدك‪ ،‬رئيساً‪ ،‬أو ملكاً‪ ،‬أو‬
‫سلطاناً‪ ،‬أو أميراً‪ ،‬يلقى بيانا ً إلى األمة‪ ،‬ثم إذا بك تجد الرئيس أو الملك أو‬
‫السلطان يفرد مساحة في بيانه لفئة معينة أو طائفة أو جماعة‪ ،‬ال يفردھا ألحد‬
‫غيرھم‪ ،‬فيتعقبھم‪ ،‬ويخاطبھم‪ ،‬ويتركھم ثم يعود إليھم‪ ،‬فالبد أن ھذه الفئة أو‬
‫الجماعة بالبديھة لھا أھمية خاصة وأثر كبير ودور محوري في بالدك‪ ،‬بقدر ما‬
‫أفرد الحاكم لھم‪.‬‬

‫فإذا تأملت القرآن‪ ،‬بيان ﷲ عز وجل الخاتم للناس‪ ،‬وخطابه األخير لھم‪،‬‬
‫وجدته أفرد مساحة ھائلة لبني إسرائيل واليھود لم يفرد مثلھا ألحد في العالمين‬
‫غيرھم‪.‬‬

‫ذلك وما بنو إسرائيل واليھود بأكثر البشرية عدداً‪ ،‬وال أشدھا مراساً‪ ،‬وال‬
‫أعظمھا عمرانا ً وبنا ًءا‪ ،‬والنصارى وھم أكثر البشرية عدداً وأشدھا مراسا ً‬
‫وأكثرھا حروبا ً وأعظمھا عمرانا ً وبنا ًءا لم يفرد لھم ﷲ عز وجل في بيانه‬
‫النھائي إلى خلقه عشر معشار ما أفرده وخص به بنى إسرائيل‪.‬‬

‫‪١٣١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإذا سرت في القرآن من أوله تقابلك سور طوال‪ ،‬كالبقرة وآل عمران‬
‫والنساء والمائدة واألنعام واألعراف‪ ،‬محورھا وموضوعھا الرئيسي بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬سيرتھم وأقوالھم وأفعالھم وأخالقھم‪ ،‬بل إنه عز وجل يخبرك وينبھك‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫×‪ãâáàßÞÝÜÛÚÙØ‬‬

‫فلماذا تعقب ﷲ عز وجل بني إسرائيل واليھود فى بيانه وكتابه ونوره‬


‫المبين‪ ،‬ولماذا أفرد لھم ما لم يفرده ألعتى اإلمبراطوريات وأعرق الممالك‬
‫والملكيات‪ ،‬ولماذا يقص على بني إسرائيل وحدھم من بين البشرية كلھا أكثر‬
‫الذي ھم فيه يختلفون؟‬

‫ما أفرده ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه لبني إسرائيل يعني ثالثة أشياء‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن بني إسرائيل مسألة كبيرة ومحورية في التاريخ‪ ،‬وفي تكوين‬
‫العالم‪ ،‬وفي سيرة البشر‪ ،‬فموقع بني إسرائيل من البشرية وأثرھم فيھا وفي‬
‫تاريخھا ھو بقدر ما أفرد ﷲ عز وجل لھم في بيانه إلى خلقه‪.‬‬

‫ومن العجيب أنه لم يرد في كتاب ﷲ عز وجل إلى خلقه ذكر لإلمبراطورية‬
‫اإلغريقية على ما يبدو من عظم أثرھا فى ثقافة العالم وآدابه وفنونه‪ ،‬وال‬
‫لإلمبراطورية الرومانية على اتساع دولتھا وعظم جيوشھا وأثرھا في شكل‬
‫العالم وقوانينه‪ ،‬ولم يرد ذكر وال إشارة لدولة عظمى‪ ،‬ال بريطانيا حين كانت‬
‫إمبراطورية ال تغرب عنھا الشمس‪ ،‬وال الواليات المتحدة األمريكية بقوتھا‬
‫النووية وغطرستھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬النمل‪.٧٦ :‬‬
‫‪١٣٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫لم يرد في القرآن من ذكر اإلمبراطوريات العظمى والممالك الكبرى سوى‬


‫جانب من تاريخ مصر القديمة‪ ،‬وھو الجانب من تاريخھا الذي يتصل بسيرة بني‬
‫إسرائيل ويلتقي بھا!‬

‫فتفھم من ذلك أن بني إسرائيل أشد خطراً وأبعد وأعمق أثراً في تكوين العالم‬
‫وفي خط مساره‪ ،‬وفي صناعة تاريخه‪ ،‬وفي مسيرة أممه وشعوبه‪ ،‬من أعتى‬
‫اإلمبراطوريات ومن أعرق الممالك وأعظمھا‪.‬‬

‫الثاني‪ :‬أن ھذا األثر والدور لبني إسرائيل في سيرة البشر‪ ،‬وفي صنع‬
‫عالمھم وتاريخھم‪ ،‬مسألة حية في كل زمان ومتدفقة مع مسار البشر وتاريخھم‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫فما أخبرك به عز وجل عن بني إسرائيل في كتابه وبيانه ليس الھدف منه‬
‫مجرد القص واإلخبار‪ ،‬وال محض العبرة والعطة بسيرة بني إسرائيل‪ ،‬فھذا‬
‫الفھم يحول القرآن إلى كتاب ساكن ال عالقة له بواقع البشر ومعزول عن‬
‫حياتھم‪ ،‬ويجعل ما يقصه من أخبار عن ماض حدث وانتھى وانقطعت آثاره‪،‬‬
‫وحينئذ ال يكون ثَمة فرق بينه وبين برديات المصريين القدماء‪.‬‬

‫ھذا الفھم‪ ،‬كما أخبرناك من قبل‪ ،‬يجعل بيان ﷲ إلى خلقه مكانه المتاحف‪،‬‬
‫وليس وعي البشر وحياتھم‪.‬‬

‫القرآن كتاب حي‪ ،‬أنزله عز وجل بيانا ً إلى خلقه ليصنع به وعيھم‪ ،‬ويُ ﱢ‬
‫كون‬
‫أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬ويَ ُكون نوراً يرون به كل شئ‪ ،‬ويحكمون به على كل شئ‪،‬‬

‫‪١٣٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن غيره يصيرون عميانا ً في ظالم دامس ال يرون أي شيء وال يفھمونه على‬
‫حقيقته‪ ،‬كما أخبرك ھو ذاته عز وجل‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪½¼»º¹¸¶µ´³²±‬‬

‫ما أفرده ﷲ عز وجل في كتابه لبني إسرائيل يعني أن ما يخبرنا به عز وجل‬


‫به من سيرتھم‪ ،‬ومما فعلوه وقالوه‪ ،‬آثاره حية سائرة مع الزمان وفاعلة في‬
‫التاريخ تصارع الوحي وآثاره في مجال عمله‪ ،‬أال وھو وعي البشر وأذھانھم‬
‫ونفوسھم‪ ،‬على ملئھا وتكوينھا وبنائھا وصناعتھا‪.‬‬

‫بل إن القرآن يخبرك أن بني إسرائيل أنفسھم موجودون في الزمان‬


‫حاضرون في التاريخ فاعلون فيه‪.‬‬

‫تعرف ذلك من أن بني إسرائيل ھم الفئة الوحيدة في بيان ﷲ عز وجل التي‬


‫يقص سيرتھم وأخبارھم‪ ،‬ثم يخلط قصه وروايته عنھم فى صيغة الغيب بتوجيه‬
‫النداء والخطاب إليھم في صيغة الحضور‪.‬‬

‫‪ÁÀ¿¾½¼»º¹¸¶µ‬‬
‫)‪(٢‬‬

‫وخطاب ﷲ عز وجل إلى بني إسرائيل ونداؤه لھم في بيانه يعني أنھم‬
‫موجودون حاضرون‪ ،‬وأنھم يعرفون أنھم بنو إسرائيل‪ ،‬وإال لما كان لتوجيه‬
‫الخطاب إليھم معنى‪.‬‬

‫فبنو إسرائيل سائرون مذ وجدوا في الزمان‪ ،‬وفاعلون في التاريخ‪.‬‬

‫‪ ( ١‬النساء‪.١٧٤:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٤٧:‬‬
‫‪١٣٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫األمر الثالث‪ :‬الذي يعنيه ما أفرده عز وجل لبني إسرائيل في بيانه إلى خلقه‪،‬‬
‫أن بني إسرائيل مسألة‪ ،‬على عظمھا وعظم أثرھا في البشر وعالمھم‪ ،‬ومع‬
‫كونھا مسألة حية وآثارھا باقية‪ ،‬ومع كون بني إسرائيل أنفسھم باقين فاعلين في‬
‫الزمان‪ ،‬ھى مسالة خفية عصية على األذھان أن تدركھا‪ ،‬أو أن تفطن إلى‬
‫أھميتھا وآثارھا إال بإرشاد من اإلله إليھا‪.‬‬

‫فمنھج القرآن أنه ال يفصل في أي مسألة يمكن لإلنسان أن يصل فيھا إلى‬
‫الحق ووجه الصواب بما أودعه ﷲ عز وجل فيه من وسائل اإلدراك والمعرفة‬
‫وبالتجربة والخطأ والتصويب‪ ،‬بل يشير إشارات ھادية فقط‪.‬‬

‫ومثال ذلك اآليات الكونية في القرآن‪ ،‬ففيھا إشارات موجزة إلى حقائق‬
‫الكون والطبيعة دون تفصيل وال إسھاب‪ ،‬ألن اإلنسان مؤھل بما خلق عليه‬
‫وأودع فيه مع ھذه اإلرشادات اليسيرة أن يصل إلى وجه الصواب‪ ،‬وأن يصحح‬
‫خطأه إذا أخطأ‪.‬‬

‫تفصيل ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه في سيرة بني إسرائيل‪ ،‬وتعقبه عز‬
‫وجل لھم‪ ،‬يعني أن آثار بني إسرائيل في البشر والتاريخ آثار غير مرئية‪ ،‬وفوق‬
‫طاقة اإلنسان بوسائل معرفته وإدراكه أن يعيھا ويدركھا أو يفھمھا من غير‬
‫اإلرشاد اإللھي‪.‬‬

‫فاآلن ماذا يقول لك ﷲ عز وجل في بيانه عن بني إسرائيل‪ ،‬وما الذى يكشفه‬
‫من خفايا سيرتھم وآثارھم‪ ،‬ليكون بناء األذھان والنفوس ونوراً ترى به وتفھم‬
‫الحياة وما يحدث فيھا‪ ،‬والتاريخ وكيف يسير؟‬

‫‪١٣٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﺻﻄﻔﺎء ﻣﴩوط‬
‫اليمكنك ان تفھم سيرة بني إسرائيل في القرآن‪ ،‬وال ما يريد ﷲ عز وجل أن‬
‫يخبرك به عنھم إال بعد فھم سيرة البشر على األرض كما يعرفك بھا القرآن‪.‬‬

‫بدأت البشرية مسيرتھا على األرض بآدم عليه السالم وزوجه‪ ،‬كما علمت‪،‬‬
‫عارفا ً با" عز وجل‪ ،‬تائبا ً إليه مھتدياً‪ ،‬من أجل أن يبدأ في ممارسة مھام‬
‫وظيفته التي خلقه عز وجل من أجلھا‪ ،‬أال وھي خالفته عز وجل‪ ،‬وھي قيادة‬
‫نفسه ونسله وقيادة الوجود كله بمنھج ﷲ عز وجل‪.‬‬

‫ومن أجل أن يتمكن آدم من أداء وظيفته ورسالته زوده عز وجل بالعلم‬
‫والمعرفة وأدوات تحصيلھا‪ ،‬ووھبه المنھج الذي يسير عليه‪ ،‬والقواعد التي‬
‫يكون بھا عالمه‪ ،‬ويقود بھا الكون والمخلوقات من مقر عمله في األرض‪.‬‬

‫فالبشرية بدأت تائبة مھتدية راشدة على الحق معھا منھج إلھي تتبعه وقواعد‬
‫ربانية تسير عليھا‪.‬‬

‫وھذه الحقيقة اإللھية التي كشفھا عز وجل في بيانه إلى خلقه تخالف سيرة‬
‫البشر األولى في كل النظريات والفلسفات والعلوم التي كونھا وأنتجھا سريان‬
‫تحريف الوحي وخريطة الوجود المزورة فى أذھان من أنتجوھا وعقولھم‪ ،‬كما‬
‫سترى‪.‬‬

‫يخبرك عز وجل في بيانه إلى خلقه أنه‪:‬‬

‫‪١٣٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪zyxwvutsrqpon‬‬
‫)‪( ١‬‬
‫{|}~_`‬

‫فالبشرية بدأت أمة واحدة‪ ،‬على دين واحد وملة واحدة‪ ،‬ھي الحق‪ ،‬وتھتدي‬
‫بمنھج اإلله الحق‪ ،‬وتسير بنوره وإرشاده‪.‬‬

‫وفي تفسير ھذه اآلية أخرج الحاكم في مستدركه واإلمام البزار في مسنده‬
‫البحر الزخار‪ ،‬بسنده عن عبد ﷲ بن عباس رضي ﷲ عنھما‪ ،‬أنه قال‪:‬‬

‫"كان بين نوح وآدم عشرة قرون‪ ،‬كلھم على شريعة من الحق‪ ،‬فاختلفوا‬
‫)‪( ٢‬‬
‫فبعث ﷲ النبيين مبشرين ومنذرين"‬

‫وإبان مسيرة البشرية‪ ،‬وبعد أن زاد عددھا وانشعبت وتفرقت وابتعدت عن‬
‫أحداث الخلق األولى‪ ،‬انحرفت عن أصلھا بأھواء النفس والشھوات‪ ،‬وبضالالت‬
‫العقل وأوھام الذھن‪ ،‬وبنسيان سيرتھا األولى‪ ،‬وبوسوسة الشيطان الذي جعل‬
‫وظيفته في الوجود إضالل ھذا المخلوق الذي شرفه عز وجل عليه واصطفاه‬
‫فأوكل إليه مھمة خالفته والنيابة عنه في تسيير الخلق والخالئق‪ ،‬كما أخبرك‬
‫عز وجل‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪ñðïîíìëêéè‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٢١٣:‬‬
‫‪ ( ٢‬أخرجه الحاكم في المستدرك‪ ،‬واإلمام البزار في مسنده‪ ،‬وابن أبي حاتم في تفسيره‪ ،‬وعزاه السيوطي في‬
‫الدر المنثور إلى ابن المنذر‪.‬‬
‫‪ ( ٣‬ص‪.٨٣-٨٢:‬‬
‫‪١٣٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وإذ ينحرف قوم من البشر أو يضلون يصطفي ﷲ عز وجل رجالً منھم‪ ،‬فيه‬
‫نقاوة الفطرة والخلق األول‪ ،‬ويعرفه بما ضل عنه قومه‪ ،‬ويكلفه تعريفھم به‬
‫وإعادتھم إليه‪.‬‬

‫فنوح عليه الصالة والسالم‪ ،‬أو آدم الثاني‪ ،‬عرﱠف قومه بأحداث الخلق األولى‬
‫وكيف كان الخلق أطواراً‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ZYXWVUTSRQP‬‬

‫وأن ھذه االطوار بدأت من األرض‪ ،‬وأنه عز وجل ھو الذي بسطھا لھم‪ ،‬ثم‬
‫يبعثھم منھا بعد أن يعودوا إليھا‪:‬‬

‫‪{zyxwvutsrqponml‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫|}~_`‪ ba‬‬

‫وأخبرك عز وجل في نھاية سورة األعلى أن ما فيھا ھو ما كان في صحف‬


‫إبراھيم من قبل موسى عليھما الصالة والسالم‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪SRQPONMLKJ‬‬

‫وما في سورة األعلى أنه عز وجل ھو الذي خلق اإلنسان وسواه‪ ،‬وقدر لكل‬
‫شئ منافعه وھدى اإلنسان إليھا‪:‬‬

‫‪ ( ١‬نوح‪.١٤-١٣ :‬‬
‫‪ ( ٢‬نوح‪.٢٠-١٧:‬‬
‫‪ ( ٣‬األعلى‪.١٩-١٨ :‬‬
‫‪١٣٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪{zyxwvutsrqpo‬‬

‫وھود عليه الصالة والسالم عرﱠف قومه بسيرة البشر األولى‪ ،‬وما تالھا من‬
‫زيغ إلى أن اصطفى عز وجل نوحا ً إلعادة البشرية إلى الحق األول‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪_^]\[ZYXWVUT‬‬

‫وصالح عليه الصالة والسالم أخبر قومه بأن ﷲ عز وجل خلقھم من‬
‫األرض‪ ،‬وألجل غاية ومھمة‪ ،‬ھي أن يعمرھم فيھا‪:‬‬

‫ ¾ ¿ ‪Ð Ï Î Í Ì Ë Ê É È Ç Æ Å Ä Ã Â ÁÀ‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫‪ÖÕÔÓÒÑ‬‬

‫والرسل واألنبياء جميعا ً أخبروا أقوامھم أن الذي خلقھم إله واحد‪ ،‬وأمروھم‬
‫بعبادته سبحانه وتعالى وحده‪:‬‬

‫)‪(٤‬‬
‫‪PONMLKJIHGFEDCBA‬‬

‫فلما اتسعت البشرية وصارت أمما ً وشعوباً‪ ،‬شاءت إرادته عز وجل أن‬
‫يصطفي أمة كاملة‪ ،‬ال رجالً واحداً‪ ،‬ينزل على رجل منھم وحيه ويؤتيه رسالة‬
‫إلى البشر‪ ،‬في كتاب يودع فيه عز وجل قصة الخلق الحقيقية وسيرة اإلنسان‬

‫‪ ( ١‬األعلى‪.٣-١ :‬‬
‫‪ ( ٢‬األعراف‪.٦٩ :‬‬
‫‪ ( ٣‬ھود‪.٦١ :‬‬
‫‪ ( ٤‬األنبياء‪.٢٥ :‬‬
‫‪١٣٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫األول ومفتاح تصنيف البشر اإللھي ومنھج قيادة البشر وسبل ھدايتھم‪ ،‬فى خطة‬
‫شاملة إلصالح مسيرة البشرية‪ ،‬عقائديا ً وأخالقيا ً واجتماعيا ً وسياسيا ً واقتصادياً‪.‬‬

‫ومن أجل إصالح مسيرة البشرية اصطفى عز وجل بني إسرائيل واستأمنھم‬
‫على رسالته وكتابه‪ ،‬لكي يحفظوه ويقوموا به ويكونوا مرآة له‪ ،‬فتصير رسالة‬
‫اإلله ومنھجه حياة حية‪ ،‬تراھا األقوام واألمم األخرى‪ ،‬فتعرف اإلله ووحيه من‬
‫آثاره في بني إسرائيل فتھتدي بھم وتقتدي‪.‬‬
‫والسؤال الذي ربما تسأله ھاھنا‪ :‬لماذا اصطفى عز وجل بني إسرائيل تحديداً‬
‫من بين باقي األقوام واألمم؟‬

‫اصطفاھم عز وجل‪ ،‬ال لميزة عرق‪ ،‬وال فضيلة جنس‪ ،‬وال لتقديس عنصر‬
‫أو دم‪ ،‬بل اصطفاھم عز وجل ألنھم حينئذ أقرب األمم إلى الھدى والرشد بوجود‬
‫ميراث األنبياء بينھم‪ ،‬وبقاء آثار النبوة فيھم بانحدارھم من إبراھيم أبي األنبياء‪،‬‬
‫ومن ذريته إسحق ويعقوب عليھم جميعا ً الصالة والسالم‪.‬‬

‫اصطفاھم عز وجل بعلمه لكونھم األقرب إلى العلم بالحق وميراث الھدى‬
‫كما قال عز وجل‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫}~¡‪¤£¢‬‬

‫والسؤال الثاني الذي قد تسأله‪ :‬ھل كان ھذا االصطفاء مطلقاً‪ ،‬ودون قيد وال‬
‫شرط؟‬

‫‪ ( ١‬الدخان‪.٣٢:‬‬
‫‪١٤٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ابﻻٕﳝﺎن واﻟﻄﺎﻋﺔ ﻻ ابدلم واﻟﺴﻼةل‬


‫والبد أن نتوقف بك ھنا قبل اإلجابة على ھذا السؤال‪ ،‬لنزيل لبسا ً في أذھان‬
‫كثير من الناس‪ ،‬خاصة في زماننا ھذا الذي اختلت فيه الموازين والتبس فيه‬
‫الحق بالباطل‪ ،‬وأحدثت وسائل اإلعالم واألفالم والمسلسالت خلطا ً وفوضى في‬
‫أذھان الناس‪.‬‬

‫فھناك سؤال يردده كثير من الناس‪ ،‬خاصة الشباب وھم في حيرة‪ ،‬يقولون‪:‬‬
‫أليس ﷲ عز وجل اختار بني إسرائيل وأخبرنا بذلك في القرآن‪ ،‬فلماذا ننكر أنھم‬
‫شعب ﷲ المختار؟‬

‫ومنھم من يُتبع السؤال سؤاالً آخر‪ :‬إذا كان ﷲ أخبرنا في القرآن أنه ھو الذي‬
‫منح األرض المقدسة لبني إسرائيل‪ ،‬إذاً فھي أرضھم ومن حقھم؟!‬

‫ونزيل ھذا االلتباس من ذھنك وأذھانھم فنقول‪ :‬إن ﷲ عز وجل ال يصطفي‬


‫احداً وال يفضله بدمه أو عرقه أو ساللته أو جنسيته أو قوميته أو لونه‪ ،‬فليس‬
‫بين ﷲ وبين أحد من خلقه سبب وال نسب إال اإليمان به وطاعته‪ ،‬فإذا عصى‬
‫أحد‪ ،‬فرداً أو جماعة أو قوما ً أو شعبا ً‪ ،‬أمر ﷲ‪ ،‬فقد انفصم تلقائيا ً ما بينه وبين‬
‫ﷲ عز وجل‪.‬‬

‫وقد نبھك ﷲ عز وجل في كتابه وبيانه إلى ھذا بقوله تعالى‪:‬‬

‫‪١٤١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪½ ¼»º¹¸¶µ´³²‬‬

‫فا" عز وجل يخبرك أن وراثة النبوة باالتباع واإليمان والطاعة‪ ،‬وليس‬


‫بالدم والعرق والساللة‪ ،‬فأولى الناس بأبي األنبياء من آمنوا واتبعوه‪ ،‬وليس‬
‫أبناءه وساللته‪.‬‬

‫بل إن ﷲ عز وجل يخبرك أنه بتر نسب ابن إلى أبيه النبي ألنه عصاه‬
‫وكفر‪ ،‬فحين رأى نوح عليه السالم ابنه يغرق أمام عينيه أخذته به شفقة األبوة‬
‫وأن يكون مصيره إلى النار‪ ،‬فنادى ربه‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪ÞÝÜÛÚÙØ×ÖÕÔÓ‬‬

‫فرد عليه عز وجل ليعلمه ويعلمك ويعلمنا قائالً‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪KJIHG FEDCBA‬‬

‫وقراءة الكسائي الكوفي ويعقوب الحضرمي)‪:( ٤‬‬

‫ﻫكل إﻧﻪ َ ِﲻ َﻞ ﻏَ ْ َﲑ ﺻﺎ ِﻟ ٍﺢ‬


‫ﻟﻴﺲ ْﻣﻦ ٔا َ‬ ‫ﻗﺎل اي ُ‬
‫ﻧﻮح إﻧﻪ َ‬
‫فكون ابن النبي عصى ﷲ عز وجل و َع ِم َل َغي َْر صالح‪ ،‬بتر صلته بأبيه ولم‬
‫يشفع له عند ﷲ عز وجل‪.‬‬

‫‪ ( ١‬آل عمران‪.٦٨:‬‬
‫‪ ( ٢‬ھود‪.٤٥:‬‬
‫‪ ( ٣‬ھود‪.٤٦:‬‬
‫‪ ( ٤‬اإلمام ابن الجزري‪ :‬النشر في القراءات العشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٢٨٩‬اإلمام أحمد بن محمد البنا‪ :‬اتحاف‬
‫فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.١٢٧‬‬
‫‪١٤٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فاآلن نعود إلى السؤال وقد صارت اإلجابة واضحة ومفھومة‪ :‬ھل كان ھذا‬
‫اصطفاء ﷲ عز وجل لبني إسرائيل ٍاصطفاءاً مطلقا ً ودون قيد وال شرط؟‬

‫والجواب‪ :‬ال‪ ،‬ألنه عز وجل أخبرك في بيانه الكاشف أنه عز وجل‬


‫اصطفاھم اصطفا ًءا مشروطا ً بأمرين‪:‬‬

‫الشرط األول‪ :‬اإليمان والطاعة‪ ،‬وأن يقيموا وحى ﷲ عز وجل ورسالته‬


‫فيھم‪ ،‬وأن يترجموا ھذه الرسالة في أخالقھم‪ ،‬وفي سلوكھم وعالقاتھم‪ ،‬وفي‬
‫حياتھم وسيرتھم‪ ،‬يقودھم ويرشدھم ويقيم الرسالة فيھم أنبياؤھم‪ ،‬فتصير بھم‬
‫حياة حية وواقعا ً يعيشونه‪.‬‬

‫فيقول عز وجل‪:‬‬

‫‪~}|{zyxw vutsrq‬‬
‫)‪(١‬‬
‫_`‪hgfedcba‬‬

‫والشرط الثاني‪ :‬لھذا االصطفاء أن يبينوا الكتاب الذي أُنزل عليھم للناس‪،‬‬
‫وأن يدعوھم إليه ويقيموھم عليه‪ ،‬بأن يكونوا ھم تطبيقا ً له ونموذجا ً تراه األمم‬
‫فتعرف اإلله ووحيه من آثاره فيھم‪.‬‬

‫يقول عز وجل‪:‬‬

‫)‪( ٢‬‬
‫‪KJIHGFEDCBA‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.٤٤:‬‬
‫‪ ( ٢‬آل عمران‪١٨٧:‬‬
‫‪١٤٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻛﺘﺎب ﻟﻠﻨﺎس ﻻ ﻟﺒﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬


‫ھذا الكتاب‪ ،‬خطة اإلصالح اإللھية الشاملة‪ ،‬الذي جعل ﷲ عز وجل فيه‬
‫تفصيالً لكل شئ‪ ،‬ھل أنزل على موسى عليه السالم من أجل بني إسرائيل فقط‬
‫أم للناس جميعاً؟‬

‫يقول عز وجل‪:‬‬

‫ ‪Á À ¿ ¾ ½ ¼ » º ¹ ¸ ¶ µ‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ÆÅÄÃÂ‬‬

‫فا" عز وجل يخبرك أنه أنزل الكتاب على موسى بصائر وھدى ورحمة‬
‫للناس جميعاً‪ ،‬ال لبني إسرائيل وحدھم‪.‬‬

‫وقد ذھب كل المفسرين تقريبا ً إلى أن كلمة‪ Á  :‬ھنا المقصود بھا بنو‬

‫إسرائيل‪ ،‬فمنھم من لم يتوقف في تفسيره عند كلمة الناس أصالً‪ ،‬وإن كان يفھم‬
‫من تفسيرھم ضمنا ً أنه كله قائم على أن الناس ھنا ھم بنو إسرائيل‪ ،‬ومن أمثلة‬
‫ھؤالء اإلمام ابن كثير في تفسيره‪ ،‬واإلمام القرطبي في تفسيره‪ :‬الجامع ألحكام‬
‫القرآن‪ ،‬واإلمام أبى حيان التوحيدي في تفسيره‪ :‬البحر المحيط‪ ،‬والشيخ‬
‫الشعراوي في تفسيره‪.‬‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٤٣:‬‬
‫‪١٤٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن توقف من المفسرين عند كلمة‪ ،Á  :‬صرح أن المقصود بھا بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬فيقول اإلمام الطبري في‪ :‬جامع البيان في معنى اآلية‪:‬‬
‫"ولقد آتينا موسى التوراة من بعد أن أھلكنا األمم التي كانت قبله‪ ،‬كقوم‬
‫نوح‪ ،‬وعاد‪ ،‬وثمود‪ ،‬وقوم لوط‪ ،‬وأصحاب مدين‪ ،‬بصائر للناس‪ ،‬يقول‪ :‬ضيا ًءا‬
‫)‪(١‬‬
‫لبني إسرائيل فيما بھم إليه الحاجة من أمر دينھم"‬

‫وانفرد الشيخ الطاھر بن عاشور في تفسيره‪ :‬التحرير والتنوير بأن أضاف‬

‫إلى بني إسرائيل في تفسير كلمة‪  Á  :‬بعض من عاصرھم‪ ،‬كقوم فرعون‬

‫ومن تھود من عرب اليمن‪ ،‬ومن يريد أن يقتدي بھم‪ ،‬فقال رحمه ﷲ‪:‬‬

‫"والناس ھم الذين أرسل إليھم موسى من بني إسرائيل‪ ،‬وقو ُم فرعون‪،‬‬


‫ولمن يريد أن يھتدي بھديه‪ ،‬مثل الذين تھودوا من عرب اليمن‪ ،‬وھدى‬
‫)‪(٢‬‬
‫ورحمة لھم‪ ،‬ولمن يقتبس منھم"‬

‫ومما يثير االنتباه أن الطاھر بن عاشور ضبط كلمة‪ " :‬قو ُم فرعون" في‬
‫تفسيره المطبوع بالرفع‪ ،‬عطفا ً على الضمير‪" :‬ھم"‪ ،‬وليس بالجر عطفا ً على‪:‬‬
‫"بني إسرائيل"‪ ،‬فكأنه فرق بين الرسول والرسالة وبين البصائر والھدى‬
‫والرحمة التي فيھا‪ ،‬فجعل موسى ورسالته لبني إسرائيل خاصة‪ ،‬وما فيھا من‬
‫بصائر وھدى ورحمة عامة لبني إسرائيل ولغيرھم ممن عاصرھم واھتدى بھم‪.‬‬

‫‪ ( ١‬اإلمام الطبري‪ :‬جامع البيان‪:‬ج‪ ،١٨‬ص‪.٢٥٩‬‬


‫‪ ( ٢‬الشيخ الطاھر بن عاشور‪ :‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٢٠‬ص‪.١٢٩‬‬
‫‪١٤٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ونقول لك‪ :‬القرآن ترد فيه الكلمات واأللفاظ في مواضعھا بدقة متناھية‬
‫وميزان حساس‪ ،‬فإذا قال عز وجل‪ ª :‬مطلقة دون تقييد‪ ،‬فھو للناس‬
‫جميعاً‪ ،‬ولو كان المقصود أن الكتاب لبني إسرائيل فقط لنص عليھم‪ ،‬أو لقيد‬
‫كلمة الناس بما يحصر معناھا فيھم‪.‬‬
‫وتفھم أن إنزال ﷲ عز وجل للتوراة كان للناس جميعاً‪ ،‬ال لبني إسرائيل‬
‫وحدھم‪ ،‬ويؤكده لك‪ ،‬أن وصفه سبحانه وتعالى للتوراة ھو نفسه وصفه للقرآن‬
‫في قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫¡‪¨§¦¥¤£¢‬‬

‫وفي قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫¨©‪°¯®¬«ª‬‬

‫فالتوراة والقرآن‪ ،‬كالھما أنزل ھداية للناس أجمعين‪ ،‬ال للقوم الذين أنزل‬
‫فيھم وعليھم وحدھم‪ ،‬وكالھما أنزله عز وجل فرقانا ً بين الحق والباطل‪.‬‬

‫فيقول عز وجل في وصف التوراة وسبب إنزالھا‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪yxwvutsrq‬‬

‫وھي نفسھا صفة القرآن وسبب نزوله‪:‬‬

‫‪ ( ١‬األعراف‪.٢٠٣ :‬‬
‫‪ ( ٢‬الجاثية‪.٢٠:‬‬
‫‪ ( ٣‬األنبياء‪.٤٨:‬‬
‫‪١٤٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪®¬«ª©¨§¦¥¤‬‬

‫وإليك الدليل الصريح على أن ﷲ عز وجل أنزل التوراة للناس جميعاً‪ ،‬ال‬
‫لبني إسرائيل فقط‪ ،‬في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪VUTSRQPONMLKJIHGFEDCBA‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪a `_^]\[ ZYXW‬‬

‫والقراءة بتاء الخطاب في اآلية‪:‬‬

‫ \]^_`‬
‫)‪(٣‬‬
‫ھي قراءة القراء العشر‪ ،‬عدا ابن كثير المكي‪ ،‬وأبي عمرو البصري‬

‫وأما قراءة المكي والبصري‪ ،‬ومعھم ابن محيصن واليزيدي من الشواذ‪،‬‬


‫فبياء الغيبة‪ ،‬ھكذا‪:‬‬

‫ﻔﻮن ﻛﺜﲑاً‬ ‫ َ ْﳚﻌﻠﻮﻧ َﻪ ﻗَﺮ َ‬


‫اﻃﻴﺲ ﻳ ُ ْﺒﺪوﳖَ ﺎ ُوﳜ َ‬
‫وألن المفسرين تعاملوا مع ما جاء في القرآن عن بني إسرائيل‪ ،‬وإنزال‬
‫الكتاب عليھم‪ ،‬وتحريفھم له‪ ،‬على أنه ماض انتھى وانقطعت آثاره‪ ،‬وذكره فقط‬
‫لإلخبار أو للعظة والعبرة‪ ،‬وألنھم تعاملوا مع القرآن كله‪ ،‬في غير العقائد‬
‫واألحكام‪ ،‬على أنه خطاب محلي ألھل مكان نزوله فقط‪ ،‬وحصروا ما يتكلم عنه‬
‫‪ ( ١‬الفرقان‪.١:‬‬
‫‪ ( ٢‬األنعام‪.٩١ :‬‬
‫‪ ( ٣‬النشر في القراءات العشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٢٦٠‬اتحاف فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.٢٢‬‬
‫‪١٤٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فيه وفيھم‪ ،‬فقد حار من انتبه منھم في تفسير َم ْن يكون المخاطب في اآلية على‬
‫القراءة بتاء الخطاب‪.‬‬

‫وقد حاول اإلمام القرطبي واإلمام أبو حيان التوحيدي حل مشكلة كيف يكون‬
‫الخطاب في صيغة الحضور لبني إسرائيل الذين جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا‬
‫بعضھا وأخفوا جلھا‪ ،‬وبنوا إسرائيل الذين فعلوا ھذا‪ ،‬كما فھموا‪ ،‬فعلوه قديما ً‬
‫وھم غائبون ال حضور لھم‪ ،‬فجاءت عباراتھم أقرب لإلبھام منھا لإلبانة‪.‬‬

‫فإليك النموذج المبين على ھذه الحيرة التي ما كانت لتكون لو فطن‬
‫المفسرون إلى أن ﷲ عز وجل يخاطب بني إسرائيل لكي ينبھنا أنھم موجودون‪،‬‬
‫وأن ما يخبرنا به عنھم في صورة الخطاب لھم ھو حقائق سارية متجددة‬
‫وآثارھا ال تنقطع عبر الزمان‪ ،‬ال ماض حدث وانتھى وغابت آثاره‪.‬‬

‫يقول الشيخ الطاھر بن عاشور‪:‬‬

‫"إما أن يكون الخطاب لغير المشركين‪ ،‬إذ الظاھر أن ليس لھم عمل في‬
‫الكتاب الذي أنزل على موسى وال باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه‪ ،‬فتعين‬
‫أن يكون خطابا ً لليھود على طريقة اإلدماج‪ ،‬أي الخروج من خطاب إلى غيره‪،‬‬
‫تعريضا ً باليھود وإسماعا ً لھم وإن لم يكونوا حاضرين‪ ،‬وإما أن يكون خطابا ً‬
‫للمشركين‪ ،‬ومعنى كونھم يجعلون كتاب موسى قراطيس يبدون بعضھا‬
‫ويخفون بعضھا أنھم سألوا اليھود عن نبوة محمد صلى ﷲ عليه وسلم‪،‬‬
‫فقرأوا لھم ما في التوراة من التمسك بالسبت‪ ،‬أي دين اليھود‪ ،‬وكتموا ذكر‬

‫‪١٤٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الرسول الذي يأتي من بعد‪ ،‬فأسند اإلخفاء واإلبداء إلى المشركين مجازاً‪،‬‬
‫)‪(١‬‬
‫ألنھم كانوا مظھراً من مظاھر ھذا اإلخفاء"‬

‫وأما اإلمام الطبري فقد حل المسألة بأن رجح القراءة بياء الغيبة‪ ،‬وھي قراءة‬
‫المكي والبصري‪ ،‬على القراءة بتاء الخطاب‪ ،‬وھي قراءة جمھور القراء‪ ،‬فقال‬
‫رحمه ﷲ‪:‬‬

‫"واألصوب أن تكون القراءة بالياء ال بالتاء‪ ،‬على معنى ان اليھود‬


‫يجعلونه قراطيس يبدونھا ويخفون كثيراً‪ ،‬ويكون الخطاب بقوله‪RQ PO" :‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪ S‬لمشركي قريش"‬

‫فاإلمام الطبري اختار القراءة في نھاية اآلية بالياء‪ ،‬وفسرھا باإلخبار عما‬
‫فعله بنو إسرائيل بالكتاب الذي أنزل عليھم قديماً‪ ،‬ال في زمن بعثة النبي عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬وجعل ذلك من باب ضرب المثال لمشركي العرب بعد أن‬
‫جعل الخطاب في صدر اآلية لھم‪.‬‬

‫وحل المشكلة في فھم اآليات فھما ً آخر يجعل ما فيھا متجانساً‪ ،‬ومترابطا ً مع‬
‫ما كل أخبرنا به عز وجل عن بني إسرائيل في بيانه إلى خلقه‪.‬‬

‫فا" عز وجل يخاطب فعالً بني إسرائيل الذين أنكروا إنزال الرسالة على‬
‫النبي الخاتم وقالوا‪ ،NMLKJIH :‬فيوبخھم بأنه ليس أول إنكار لھم‪،‬‬
‫فقد جعلوا الكتاب الذي أنزل على موسى قراطيس وأخفوھا عن الناس‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٧‬ص‪.٣٦١‬‬


‫‪ ( ٢‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٩‬ص‪.٣٩٨‬‬
‫‪١٤٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فمفتاح فھم اآلية وفك شفرتھا‪ ،‬في إدراك أنه عز وجل يريد أن يخبرنا أن‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬الذين أنزل عليھم التوراة فأبدوا منھا قليالً وأخفوا ما ال يوافق‬
‫ھواھم‪ ،‬موجودون مستمرون في الزمان‪ ،‬يتوارثون تكوينھم الذھني والنفسي‪،‬‬
‫ويتوارثون غاياتھم وأھدافھم‪ ،‬ويتوارثون سلوكھم وعملھم‪ ،‬ويتوارثون التوراة‬
‫ويتوارثون معھا كتمھا وإخفاء ما فيھا‪ ،‬وأنھم ھم أنفسھم من ينكرون الوحي‬
‫وإنزال الرسالة على النبي الخاتم‪.‬‬

‫فمن ِح َكم تعدد القراءات إتمام المعنى واستكماله‪ ،‬واإلتيان بالمعاني المختلفة‬
‫التى ال يحيط بھا وجه قراءة واحد‪.‬‬

‫فاإلخبار في القراءة بصيغة الغيب عن بني إسرائيل الذين أخفوا الكتاب‪،‬‬


‫والخطاب في القراءة بصيغة الحضور ھو لھم أيضاً‪ ،‬والقراءتان معا ً ينبھك بھما‬
‫عز وجل إلى أن ھؤالء ھم أنفسھم أولئك في تكوينھم الذھني والنفسي‪ ،‬وفي‬
‫وراثتھم للكتاب الذي أنزل عليھم‪ ،‬وفي توارثھم إلخفائه وكتمانه‪.‬‬

‫فإذا كنت ذاكراً أن القرآن ھو بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫فستفھم أنه يخبرك ويخبرنا أن الطائفة من بني إسرائيل التي أخفت الوحي‬
‫وكتمته في زمن نزول التوراة‪ ،‬والتي كانت تتوارث كتمانه وإخفاءه إلى زمن‬
‫نزول القرآن‪ ،‬مازالت موجودة وتخفي الوحي وتكتمه إلى زماننا ھذا‪ ،‬وستظل‬
‫موجودة وتتوارث إخفاءه إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫وكلمة‪ ،Z  :‬التي لم يتوقف عندھا أحد من المفسرين في ھذا الموضع‬

‫من سورة األنعام‪ ،‬ھم الناس جميعاً‪ ،‬وال يمكن أن يكون المقصود بالناس ھنا‬
‫‪١٥٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بني إسرائيل فقط ألنه عز وجل يخاطبھم‪ ،‬فلو كان الكتاب لبني إسرائيل فقط‬
‫لقال لھم‪ :‬قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وھدى لكم‪.‬‬

‫ويزيدك تأكداً أن كلمة‪ ،Z :‬في كل ما ورد من آيات تخبرك عمن أنزل‬

‫ﷲ عز وجل الكتاب والتوراة على موسى عليه الصالة والسالم بصائر وھدى‬
‫لھم‪ ،‬ھم الناس جميعاً‪ ،‬ال بنو إسرائيل وحدھم كما قال المفسرون‪ ،‬قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪KJIHGFEDCBA‬‬

‫فصريح اآلية يخبرك أنه عز وجل أنزل الكتاب على بني إسرائيل‪ ،‬وھي‬
‫تخبرك في الوقت نفسه أنه سبحانه وتعالى حين أنزله أخذ عليھم العھد والميثاق‬
‫أن يبينوه للناس جميعاً‪ ،‬وأال يكتموا ما فيه من ھدى ونور عن أحد منھم‪ ،‬ال بني‬
‫إسرئيل وال غير بني إسرائيل‪.‬‬

‫ومن الغريب أن من توقف من المفسرين عند كلمة‪ I  :‬في ھذا‬


‫الموضع من سورة المائدة‪ ،‬جعل معناھا الناس جميعاً‪ ،‬خالفا ً لما قالوه في غيرھا‬
‫من المواضع‪ ،‬ولكنھم جعلوا الضمير في قوله تعالى‪KJIH:‬‬
‫راجعا ً إلى النبي‪ ،‬مع أنه ال ذكر له عليه الصالة والسالم في اآلية وال في اآليات‬
‫التي قبلھا‪ ،‬فقال اإلمام الطبري في معنى اآلية‪:‬‬

‫‪ (١‬آل عمران‪.١٨٧ :‬‬


‫‪١٥١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"واذكر من ھؤالء اليھود وغيرھم من أھل الكتاب منھم يا محمد‪ ،‬إذ أخذ‬
‫ﷲ ميثاقھم ليبينن للناس أمرك الذي أخذ ميثاقھم على بيانه للناس‪ ،‬في كتابھم‬
‫)‪(١‬‬
‫الذي في أيديھم‪ ،‬وھو التوراة واإلنجيل"‬

‫والذي دفع المفسرين‪ ،‬ممن قصر الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل بالبيان‬
‫وعدم الكتمان على النبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬إلى ذلك‪ ،‬ھو ھذه القراءة بتاء‬
‫الخطاب‪ ،‬وھي قراءة جمھور القراء‪ ،‬عدا ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري‬
‫وشعبة عن عاصم الكوفي)‪ ،(٢‬الذين قرأوا بياء الغيبة‪ ،‬ھكذا‪:‬‬

‫ﻟ َ ُﻴ َﺒ ِﻴّﻨُﻨَّﻪ ﻟﻠﻨَّ ِﺎس وﻻ ﻳَ ْﻜ ُﺘﻤﻮﻧ َﻪ‬


‫وأما الطاھر بن عاشور فقد نحا نحواً آخر‪ ،‬فجعل الضمير في اآلية راجعا ً‬
‫إلى الكتاب‪ ،‬ال إلى النبي عليه الصالة والسالم فقال‪:‬‬

‫"وقد أخذ عليھم الميثاق بأمرين‪ ،‬ھما بيان الكتاب‪ ،‬أي عدم إجمال معانيه‬
‫)‪(٣‬‬
‫أو تحريف تأويله‪ ،‬وعدم كتمانه‪ ،‬أي إخفاء شئ منه"‬

‫ولكنه فھم أن اآلية إخبار عن بني إسرائيل الذين أُخذ عليھم الميثاق ببيان‬
‫الكتاب كله في عھد موسى عليه السالم فقط ولم يعد لھم حضور‪ ،‬فقال في تفسير‬
‫القراءة بالخطاب إنھا‪:‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.٢٩٣‬‬


‫‪ (٢‬النشر في القراءات العشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٢٤٦‬اتحاف فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٤٩٧‬‬
‫‪ ( ٣‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٤‬ص‪.١٩١‬‬
‫‪١٥٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"على طريقة الحكاية بالمعنى‪ ،‬حيث كان المأخوذ عليھم ذلك العھد غائبين‬
‫)‪(١‬‬
‫في وقت اإلخبار عنھم"‬

‫والذي جمع بين أن الضمير في اآلية يعود على الكتاب‪ ،‬وما فيه من بينات‪،‬‬
‫وإن كان قد خص نعت النبي عليه الصالة والسالم من بين ھذه البينات بالذكر‪،‬‬
‫وبين أنه في الوقت نفسه خطاب لبني إسرائيل في زمن النبي عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬ھو الشيخ الشعراوي في تفسيره‪ ،‬فقال رحمه ﷲ‪ ،‬في معنى اآلية‪:‬‬

‫"لتبينن أمر الرسول صلى ﷲ عليه وسلم كما ھو موجود عندكم دون‬
‫تغيير وال تحريف‪ ،‬وعنما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فھم يبينون‬
‫الذي جاء حقا ً في الكتاب الذي جاءھم من عند ﷲ‪ ،‬وھكذا نجد أن معنى تبيين‬
‫)‪( ٢‬‬
‫الكتاب وتبيين نعت رسول ﷲ أمران ملتقيان"‬

‫ونقول لك‪ :‬الضمير في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪KJIH‬‬

‫ﻴﻌود ﻋﻠﻰ اﻝﻜﺘﺎب اﻝﻤذﻜور ﻓﻲ اﻵﻴﺔ‪ ،‬ﻻ ﻋﻠﻰ اﻝﻨﺒﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻝﺼﻼة واﻝﺴﻼم‬
‫اﻝذي ﻻ ذﻜر ﻝﻪ ﻓﻴﻬﺎ‪ ،‬واﻝذي أﺨذ اﷲ ﻋز وﺠل ﻤﻨﻬم اﻝﻤﻴﺜﺎق ﻋﻠﻰ ﺒﻴﺎﻨﻪ ﻝﻠﻨﺎس‬
‫ﺠﻤﻴﻌﺎً وﻋدم ﻜﺘﻤﺎﻨﻪ ﻫو ﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻤن اﻝﺒﺼﺎﺌر واﻝﻬدى واﻝرﺤﻤﺔ اﻝﺘﻲ أﺨﺒرك ﺒﻬﺎ‬
‫ﻋز وﺠل ﻓﻲ ﻤوﻀﻊ ﺴورة اﻝﻘﺼص‪ ،‬وﻤﻨﻪ ﻨﺒﺄ اﻝﻨﺒﻲ اﻝﺨﺎﺘم‪ ،‬ﻴدﻝك ﻋﻠﻰ ذﻝك‬
‫ﺨﺘﺎم اﻵﻴﺔ‪ ،‬وﻫو ﻗوﻝﻪ ﺘﻌﺎﻝﻰ‪:‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٤‬ص‪.١٩١‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير الشعراوي‪ ،‬ص‪.١٩٣٥‬‬
‫‪١٥٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪WVUTS RQPONML‬‬

‫فما نبذوه وراء ظھورھم واشتروا به ثمنا ً قليالً الكتاب الذي أنزل إليھم‪،‬‬
‫وليس النبي الخاتم الذي بعث للناس كافة‪.‬‬

‫والذي يريد القرآن إخبارك به عن بني إسرائيل والكتاب الذي أنزل عليھم‪،‬‬
‫بالجمع بين اإلخبار بياء الغيبة والقراءة بتاء الخطاب‪ ،‬ھو ما فتح ﷲ عز وجل‬
‫على الشيخ الطاھر بن عاشور‪ ،‬فقاله في ھذا الموضع من سورة آل عمران‪،‬‬
‫وإن يكن في عبارة خاطفة عابرة‪:‬‬

‫"الذين أوتوا الكتاب ھم اليھود‪ ،‬وھذا الميثاق أُخذ على سلفھم من عھد‬
‫رسولھم وأنبيائھم‪ ،‬وكان فيه ما يدل على عمومه لعلماء أمتھم في سائر‬
‫)‪(٢‬‬
‫أجيالھم‪ ،‬إلى أن يجئ رسول"‬

‫الذي يريد بيان ﷲ عز وجل تنبيھك إليه وإخبارك به‪ ،‬أن ثَمة طائفة من بني‬
‫إسرائيل تحوز التوراة‪ ،‬كتاب ﷲ المنزل‪ ،‬وتعلم ما فيه من ھدى ونور‪،‬‬
‫وتتوارثه عبر الزمان‪ ،‬وتتوارث معه كتمانه وتحريفه وبث ھذا التحريف في‬
‫البشر‪.‬‬

‫‪ ( ١‬آل عمران‪.١٨٧:‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪:‬ج‪ ،٤‬ص‪.١٩١‬‬
‫‪١٥٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻔﺮق ﺑﲔ اﻟﺘﻮراة واﻟﻘﺮآن‬


‫إذا كانت التوراة كالقرآن‪ ،‬أنزلھا عز وجل بصائر وھدى ورحمة‪ ،‬ولتكون‬
‫نوراً للناس جميعا ً ال لبني إسرائيل وحدھم‪ ،‬فما الفرق بين التوراة والقرآن؟‬

‫الفرق بينھما ھو الحفظ‪.‬‬

‫فا" عز وجل عھد إلى بني إسرائيل‪ ،‬القوم الذين أنزل عليھم كتابه ورسالته‪،‬‬
‫واستأمنھم أن يحفظوھا ويحافظوا عليھا‪ ،‬كما أخبرك عز وجل‪:‬‬

‫‪~ } | { z y x w v u  t s r q‬‬
‫)‪(١‬‬
‫_`‪hgfedcba‬‬

‫أما القرآن‪ ،‬بيان ﷲ الخاتم إلى خلقه ورسالته األخيرة إليھم‪ ،‬فقد عصمه ﷲ‬
‫عز وجل‪ ،‬بأن أوكل مھمة حفظه والحفاظ عليه إلى ذاته عز وجل‪.‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪nmlkjihg‬‬
‫وبحفظ القرآن وعصمته‪ ،‬صار كتاب ﷲ وبيانه ورسالته إلى خلقه مشاعا ً‬
‫بين البشر‪ ،‬وخطابا ً لھم جميعا ً باقيا ً إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫الفرق بين التوراة والقرآن أن ﷲ عز وجل استودع بني إسرائيل التوراة‪،‬‬


‫وجعل معرفة الناس بھا‪ ،‬وبما أنزل سبحانه وتعالى فيھا من بصائر وھدى‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.٤٤:‬‬
‫‪ ( ٢‬الحجر‪.٩:‬‬
‫‪١٥٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ورحمة من خاللھم‪ ،‬فال تظھر في العالم إال بھم‪ ،‬وال تتجلى على البشر إال فيھم‪،‬‬
‫أما القرآن فقد أراده عز وجل بائنا ً ظاھراً يتجلى على البشر بنفسه‪ ،‬غير قابل‬
‫للكتم وال اإلخفاء وال التحريف‪ ،‬التزمه البشر أو أعرضوا عنه‪ ،‬وسواء وجدت‬
‫األمة التي تقيمه وتترجمه فيھا واقعا ً وحياة حية أو لم توجد‪.‬‬

‫‪١٥٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاﺋـﻤـﺔ ﻟـﻤــــﻦ؟‬
‫كيف يكون الكتاب الذي أنزل على موسى عليه الصالة والسالم لبني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وﷲ عز وجل اصطفاھم لحمله وحفظه‪ ،‬وھو في الوقت نفسه بصائر‬
‫وھدى ورحمة للناس جميعاً؟‬

‫اإلجابة في قوله تعالى في بيانه إلى خلقه في سورة القصص عن بني‬


‫إسرائيل‪:‬‬

‫‪À ¿ ¾ ½ ¼ » º ¹ ¸ ¶ µ‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ÂÁ‬‬

‫ويقول عز وجل في سورة السجدة‪:‬‬

‫‪hgfedcba`_^]\[Z‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪utsrq ponmlkji‬‬

‫أغلب المفسرين فرقوا بين معنى أئمة في اآليتين‪ ،‬ففي سورة القصص نقل‬
‫اإلمام الطبري واإلمام أبو حيان التوحيدي عن فتادة المفسر قوله‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫"ونجعلھم أئمة‪ ،‬أي‪ :‬ونجعلھم والة األمر وملوكاً"‬

‫وھو القول الذي اختاره ورجحه أيضا ً اإلمام القرطبي‪ ،‬مفسراً ترجيحه بأن‪:‬‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬السجدة‪.٢٤-٢٣:‬‬
‫‪ ( ٣‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٨‬ص‪ ،١٣٥‬والبحر المحيط‪ :‬ج‪،٧‬ص‪١٠٠‬‬
‫‪١٥٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫)‪(١‬‬
‫" ال َملِك إمام يؤتم به ويقتدى به"‬

‫فھؤالء المفسرين فھموا‪" :‬أئمة" في آية القصص على أن المقصود بھا أن‬
‫يكون بنو إسرائيل حكاما ً وملوكاً‪.‬‬

‫ونقل القرطبي قوالً آخر في معنى‪ ¿  :‬عن ابن عباس رضي ﷲ عنه‪،‬‬
‫وھو أن يكون بنوا إسرائيل‪:‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫"قادة في الخير"‬

‫أما الشيخ الشعراوي فقد جمع في معنى‪ ¿  :‬بين اإلمامة بمعنى ال ُملك‪،‬‬
‫واإلمامة بمعنى الھداية إلى الحق‪ ،‬فقال رحمه ﷲ إن معنى أئمة‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫"أئمة في الدين وفي القيم‪ ،‬وأئمة في سياسة األمور والملك"‬

‫وكذلك الشيخ الطاھر بن عاشور‪ ،‬فيقول رحمه ﷲ إن ﷲ عز وجل جعلھم‬


‫أئمة‪:‬‬

‫"بأن أخرجھم من ذل العبودية وجعلھم أمة حرة مالكة أمر نفسھا‪ ،‬لھا‬
‫شريعة عادلة وقوانين معامالتھا‪ ،‬وقوة تدفع بھا أعداءھا‪ ،‬ومملكة خالصة‬
‫لھا‪ ،‬وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرانھا‪ ،‬بحيث تصير قدوة لألمم في‬
‫شؤون الكمال وطلب الھناء‪ ،‬فھذا معنى جعلھم أئمة‪ ،‬أي يقتدي بھم غيرھم‬
‫)‪(٤‬‬
‫ويدعون إلى الخير"‬

‫‪ ( ١‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٣‬ص‪.٢٤٩‬‬


‫‪ ( ٢‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٣‬ص‪.٢٤٩‬‬
‫‪ ( ٣‬تفسير الشعراوي‪:‬ج‪ ،١٧‬ص‪١٠٨٧٦‬‬
‫‪ ( ٤‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪،٢٠‬ص‪٧١‬‬
‫‪١٥٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فابن عاشور جعل إمامة بني إسرائيل بمعنى إقامة حضارة متكاملة أو‬
‫نموذجية‪ ،‬تكون قدوة لألمم في الخير‪ ،‬وفي الشريعة والعدل‪ ،‬وفي القوة والبأس‪،‬‬
‫فتراھا األمم وبھا تقتدي‪ ،‬فوضع رحمه ﷲ يده على المعنى الصحيح‪ ،‬وإن كان‬
‫فاته تجلية صلة ھذه الحضارة المتكاملة ونصبھا نموذجا ً لألمم بالكتاب الذي‬
‫أنزل على بني إسرائيل‪ ،‬وأن الغاية منھا أن تكون ترجمة حية للكتاب‪ ،‬وتطبيقا ً‬
‫واقعيا ً للرسالة‪ ،‬والوسيلة التي ترى بھا األمم كيف يتجلى الوحي في البشر‪.‬‬

‫وأما الذي اتفق فيه المفسرون جميعا ً في ھذا الموضع من سورة القصص‪،‬‬
‫فھو أنھم فسروا قوله تعالى بعدھا‪:‬‬

‫‪ÁÀ‬‬

‫على أن المقصود بھا وراثة األرض وحكمھا‪ ،‬فيقول اإلمام الطبري‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫"ونجعلھم وارث آل فرعون‪ ،‬يرثون األرض من بعد مھلكھم"‬

‫ويقول ابن عاشور‪:‬‬

‫"وأما جعلھم الوارثين‪ ،‬فھو أن يعطيھم ﷲ ديار قوم آخرين ويحكمھم‬


‫)‪(٢‬‬
‫فيھم"‬

‫ھذا مع أن اآلية التي بعدھا تبدأ بقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪DCBA‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٨‬ص‪.١٣٥‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٢٠‬ص‪.٧١‬‬
‫‪١٥٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فلو كانت الوراثة المقصودة وراثة األرض لكانت اآلية التي بعدھا تكراراً ال‬
‫لزوم له‪.‬‬

‫أما في آية سورة السجدة‪ ،‬فقد ذھب المفسرون في تفسير كلمة‪¿  :‬‬

‫نحواً آخر‪ ،‬فذھبوا جميعا ً إلى أن‪ ¿ :‬فيھا بمعنى من يُقتدى بھم‪.‬‬

‫فاتفق القرطبي وأبو حيان في معنى‪ ¿  :‬في سورة السجدة على عبارة‬
‫واحدة‪ ،‬وھي أن معناھا‪:‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫"قادة وقدوة يھتدى بھم في دينھم"‬

‫وقال الطبري‪:‬‬

‫"وجعلنا من بني إسرائيل أئمة‪ ،‬وھي جمع إمام‪ ،‬واإلمام يؤتم به في خير‬
‫أو شر‪ ،‬وأريد بذلك في ھذا الموضع أنه جعل منھم قادة في الخير‪ ،‬يؤتم بھم‬
‫)‪(٣‬‬
‫ويھتدى بھديھم"‬

‫وقال الشعراوي‪:‬‬

‫"ليس المقصود باإلمامة ھنا السلطة الزمنية‪ ،‬إنما إمامة القدوة بأمر‬
‫)‪(٤‬‬
‫ﷲ"‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٦:‬‬
‫‪ ( ٢‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪ ،١٠٩‬والبحر المحيط‪:‬ج‪ ،٧‬ص‪.٢٠٠‬‬
‫‪ ( ٣‬جامع البيان‪:‬ج‪ ،١٨‬ص‪.٦٣٧‬‬
‫‪ ( ٤‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٩‬ص‪.١١٨٥١‬‬
‫‪١٦٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھدى ﷲ عز وجل الطاھر بن عاشور إلى ارتباط إمامة بني إسرائيل‬


‫بالوحي الذي أنزل عليھم‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫"‪ ،nmlkj‬األمر ھو الوحي والشريعة ألنھما من‬


‫)‪(١‬‬
‫أمر ﷲ بھا‪ ،‬ويشمل االنتصاب لإلرشاد"‬
‫فجعل ابن عاشور معنى اإلمامة إرشاد الناس إلى الوحي وھدايتھم إليه‪ ،‬فبنو‬
‫إسرائيل صاروا أئمة بالوحي والرسالة‪ ،‬والوحي والرسالة صارت بترجمتھا‬
‫فيھم بصائر للناس وھدى ورحمة‪.‬‬

‫ونقول لك‪ :‬المعنى يكون أوضح وأبين بجمع آية القصص وآية السجدة معاً‪،‬‬
‫فمعنى أئمة في سورة القصص ھو نفسه معناھا في سورة السجدة‪.‬‬

‫فاألصل في كلمة إمام لغويا ً أنه الطريق الذي يتبعه الناس ويسيرون فيه‪ ،‬وقد‬
‫جاءت كلمة إمام‪ ،‬بمعناھا اللغوي ھذا‪ ،‬في القرآن في قوله تعالى في سورة‬
‫الحجر عن قرى قوم لوط وأصحاب األيكة‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪vuts‬‬

‫أي بطريق واضح ظاھر بيﱢن‪ ،‬ھو طريق القوافل‪.‬‬

‫و ُسمي اإلمام إماما ً ألن الناس يتبعونه ويسيرون خلفه‪ ،‬كما يتبعون الطريق‬
‫ويسيرون فيه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٢١‬ص‪.٢٣٧‬‬


‫‪ ( ٢‬الحجر‪.٧٩:‬‬
‫‪١٦١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكلمة‪ :‬أئمة‪ ،‬ھكذا جمعاً‪ ،‬لم ترد في القرآن إال بمعنى القدوة والمثل المتبع‪،‬‬
‫فمنھا قوله تعالى عن إبراھيم وإسحق ويعقوب عليھم السالم‪:‬‬

‫‪KJIHGFEDCBA‬‬

‫‪QPONM L‬‬
‫)‪( ١‬‬

‫وقد وردت كلمة‪ :‬أئمة‪ ،‬في كل مواضعھا في القرآن‪ ،‬بمعنى اإلمامة في‬
‫الھدى والداللة على الحق والخيرات‪ ،‬إال في موضع واحد جاءت فيه على معنى‬
‫اإلمامة في الضالل‪ ،‬وھى قوله تعالى في سورة القصص في فرعون وقومه‪:‬‬

‫|}~¡ ‪§¦¥¤£¢‬‬
‫)‪(٢‬‬

‫وقوله ﷲ عز وجل في سورة السجدة‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪nmlkj‬‬

‫قد تكون‪ِ " :‬من" فيه للتبعيض‪ ،‬فيكون المعنى‪ :‬وجعلنا من بعضھم أئمة‪،‬‬
‫ويحتمل حينئذ أن يكون المقصود أن ھؤالء البعض أئمة لباقي بني إسرائيل‪،‬‬
‫فمعنى اآلية يحتمل أن يكون أنه عز وجل جعل بعض بني إسرائيل أئمة لباقيھم‪.‬‬

‫ولكن آية سورة القصص يقول فيھا عز وجل‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫¾¿‪ÁÀ‬‬

‫‪ ( ١‬األنبياء‪.٧٣:‬‬
‫‪ ( ٢‬القصص‪.٤١:‬‬
‫‪ ( ٣‬السجدة‪.٢٤:‬‬
‫‪١٦٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالمعنى ھنا ال لبس فيه أنه عز وجل جعل بني إسرائيل جميعا ً أئمة‪ ،‬فأئمة‬
‫في الموضعين‪ ،‬موضع القصص وموضع السجدة‪ ،‬معناھا أن ﷲ عز وجل أنزل‬
‫الوحي على موسى عليه السالم ليصنع به بني إسرائيل‪ ،‬ليكونوا أمة الوحي‬
‫والرسالة‪ ،‬تراھم األمم فتعرف ﷲ عز وجل من آثار وحيه فيھم‪ ،‬فتھتدي بھم‬
‫وتقتدي‪.‬‬

‫وأما قوله تعالى‪:‬‬

‫‪ÁÀ‬‬

‫فقد فسره لنا ﷲ عز وجل ذاته في قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪utsrqponm‬‬

‫فا" عز وجل جعل بني إسرائيل جميعا ً أئمة‪ ،‬بأن أورثھم ميراث األنبياء‬
‫قبلھم وما أُنزل معھم من ھدى ورشاد‪ ،‬ال األرض‪ ،‬أو مجرد الحكم والملك‪.‬‬

‫وھو نحو قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪YXWVUTS‬‬

‫مرة أخرى‪ ،‬إذا كان بنو إسرائيل كما أخبرنا عز وجل أئمة‪ ،‬أي يُقتدى بھم‬
‫ويھتدى بھديھم‪ ،‬فالسؤال‪ :‬أئمة لمن‪ ،‬وكيف؟‬

‫فأما أئمة لمن‪ ،‬فلألقوام واألمم والناس جميعاً‪.‬‬


‫‪ ( ١‬القصص‪.٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬غافر‪.٥٣:‬‬
‫‪ ( ٣‬فاطر‪.٣٢:‬‬
‫‪١٦٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأما كيف‪ ،‬فكما يخبرك بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه في ثنايا ما يرويه وما‬
‫يقصه من سيرتھم‪ ،‬بأن يقيموا رسالة ﷲ فيھم‪ ،‬ويتحول وحيه عز وجل ومنھجه‬
‫وشريعته بھم وبإقامتھم لھا إلى حياة حية‪ ،‬تراھا األقوام واألمم‪ ،‬فتعرف ﷲ عز‬
‫وجل من آثاره وآثار وحيه وشريعته فيھم‪ ،‬فيقتدون بھم ويتبعونھم ويھتدون‬
‫بھدايتھم‪.‬‬

‫ولذلك ما كانت األنبياء بعد نزول التوراة تُر َسل إال إلى بني إسرائيل خاصة‪،‬‬
‫دون باقي أمم األرض وأقوامھا‪ ،‬ألنھا كلھا تبع في االھتداء أو الضالل لھم‪،‬‬
‫تھتدى بھداھم وتضل بضاللھم‪ ،‬وھو ما تجده صريحا ً في توبيخ المسيح عليه‬
‫السالم لھم في إنجيل متى‪:‬‬

‫َي ٍء‪،‬‬ ‫صلُ ُح بَ ْع ُد لِش ْ‬‫س َد ا ْل ِم ْل ُح فَبِ َما َذا يُ َملﱠ ُح ؟ الَ يَ ْ‬ ‫"أَ ْنتُ ْم ِم ْل ُح األَ ْر ِ‬
‫ض‪َ ،‬ول ِكنْ إِنْ فَ َ‬
‫س‪ .‬أَ ْنتُ ْم نُو ُر ا ْل َعالَ ِم‪ ....‬فَ ْليُ ِ‬‫َاس ِمنَ النﱠا ِ‬ ‫إِالﱠ ألَنْ يُ ْط َر َح َخا ِر ًجا َويُد َ‬
‫‪١٤‬‬
‫ض ْئ نُو ُر ُك ْم‬
‫سنَةَ‪َ ،‬ويُ َم ﱢجدُوا أَبَا ُك ُم الﱠ ِذي فِي‬
‫س‪ ،‬لِ َك ْي يَ َر ْوا أَ ْع َمالَ ُك ُم ا ْل َح َ‬
‫ھ َك َذا قُدﱠا َم النﱠا ِ‬
‫)‪(١‬‬
‫ت"‬
‫اوا ِ‬
‫س َم َ‬
‫ال ﱠ‬

‫وما وبخھم عليه المسيح ھو ما يخبرك به عز وجل في ثنايا خطابه لھم‪:‬‬

‫‪¤ £¢¡  ~ } | {z y x w v‬‬

‫‪´³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª © ¨ § ¦ ¥‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪¶µ‬‬

‫‪ ( ١‬متى‪.١٦-١٣ :٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٨٧:‬‬
‫‪١٦٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فتنبه أن ﷲ عز وجل يخاطب بني إسرائيل في زمن نزول القرآن‪ ،‬فيوبخھم‬


‫على ما فعله أسالفھم في زمن نزول التوراة على موسى واإلنجيل على عيسى‪،‬‬
‫في مصر وفلسطين‪ ،‬وكأنھم ھم الذين فعلوه‪ ،‬أو كأنھم ھم أسالفھم‪ ،‬أو أسالفھم‬
‫ھم‪.‬‬

‫فقد دمجھم ﷲ عز وجل معا ً حتى صيرھم طائفة واحدة‪ ،‬وبينھم آالف‬
‫السنين‪ ،‬وكأن الزمان توقف والمكان لم يتغير‪.‬‬

‫كل ما في شأن بني إسرائيل في بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه يصب في اتجاه‬
‫واحد‪ ،‬وھو أنه يريد إخبارك وتنبيھك إلى طائفة أو فئة من بني إسرائيل لھا‬
‫تكوين ذھني ونفسي واحد‪ ،‬ال يغيره مرور الزمان وال تقلبھم في المكان‪ ،‬فھي‬
‫تتوارث ھذا التكوين كما ھو‪ ،‬وتتوارث معه غاياته وأساليبه‪.‬‬

‫‪١٦٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪١٦٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﺘـﺤﺮﻳ ـ ـ ـ ــﻒ‬
‫‪RQPONML‬‬
‫)اﻟﻨﺴﺎء‪(٤٦:‬‬

‫‪١٦٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪١٦٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬
‫اصطفى عز وجل بني إسرائيل على علم وأنزل عليھم وحيه واستودعھم‬
‫رسالته وكتابه‪ ،‬لكى يحفظوه ويحافظوا عليه‪ ،‬ويبينوه للناس بإقامته فيھم‪،‬‬
‫فيكونوا لھم بذلك أئمة وقادة ورادة‪.‬‬

‫فما الذى حدث وما الذى فعله بنو إسرائيل أو طائفة من بني إسرائيل؟‬

‫يخبرك ﷲ عز وجل في بيانه الكاشف والمحفوظ أن طائفة من بني إسرائيل‬


‫حرفت الوحي وھو ينزل عليھم‪ ،‬وحرفته ال عن غفلة أو سھو‪ ،‬بل حرفته عن‬
‫قصد وعلم ووعى وھم يعقلون ما يفعلونه‪:‬‬

‫´‪ÂÁÀ ¿ ¾½¼»º¹¸ ¶µ‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ÈÇÆÅÄÃ‬‬

‫وبيان ﷲ عز وجل إلى خلقه اختص بني إسرائيل أو اليھود بالتحريف دون‬
‫النصارى أو المسيحيين‪ ،‬فالتحريف‪ ،‬كما يخبرك ﷲ عز وجل‪ ،‬صفة اليھود‬
‫وبني إسرائيل وحدھم‪.‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪RQPONML‬‬

‫وقد فصل سبحانه لك ذلك في الربع الثاني من سورة المائدة‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٧٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬النساء‪.٤٦:‬‬
‫‪١٦٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪rqpo nmlkjihgfed‬‬

‫‪}|{zyxwvut s‬‬

‫~_`‪hgfedcba‬‬

‫‪vu t s r q p on m lk j i‬‬

‫‪£ ¢ ¡  ~ } | { z y x w‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪§¦¥¤‬‬

‫فجمع عز وجل في وصف بني إسرائيل وكشف حقيقتھم وما فعلوه في‬
‫الوحي بين التحريف والنسيان‪.‬‬

‫ويقول اإلمام الطبري إن تحريف بني إسرائيل معناه أنھم‪:‬‬

‫"يحرفون كالم ربھم الذي أنزله على نبيھم موسى عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫وھو التوراة‪ ،‬فيبدلونه ويكتبون بأيديھم غير الذي أنزله ﷲ عز وجل‪ ،‬ثم‬
‫يقولون لجھال الناس‪ :‬ھذا ھو كالم ﷲ الذي أنزله على نبيه موسى عليه‬
‫)‪(٢‬‬
‫الصالة والسالم"‪.‬‬

‫أما الطاھر بن عاشور فيقول إن التحريف أصله الميل بالشئ إلى الحرف‪،‬‬
‫وھو جانب الشئ وحافته‪ ،‬وعلى ذلك تحريف الوحي معناه‪:‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.١٣-١٢:‬‬
‫‪ ( ٢‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٨‬ص‪.٢٥١‬‬
‫‪١٧٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل ‪ ...‬فھو على ھذا‬
‫)‪(١‬‬
‫تحريف مراد ﷲ في التوراة إلى تأويالت باطلة"‬

‫ويجوز أن يكون التحريف مشتقا ً من الحرف‪ ،‬وھو الكلمة والكتابة‪ ،‬فيكون‬


‫المراد بالتحريف‪:‬‬

‫"تغيير كلمات التوراة وتبديلھا بكلمات أخرى لتوافق أھواء اھل الشھوات‬
‫)‪(٢‬‬
‫في تأييد ما ھم عليه من فاسد األعمال"‬

‫ثم يعقب الطاھر بن عاشور بقوله‪:‬‬


‫)‪(٣‬‬
‫"والظاھر أن كال األمرين قد ارتكبه اليھود في كتابھم"‬

‫أما المسيحيون أو النصارى فيقول عز وجل في شأنھم في اآلية التي بعدھا‪:‬‬

‫ ‪KJIHGFEDCBA‬‬
‫)‪(٤‬‬
‫‪L‬‬

‫فا" عز وجل نسب إلى بني إسرائيل التحريف والنسيان‪ ،‬ولكنه نسب إلى‬
‫النصارى النسيان فقط‪ ،‬فاآليات على ذلك تخبرك بمعرفة مخبوءة في نسيجھا‬
‫وغير مرئية في ظاھرھا‪ ،‬وھي أن التحريف الذي تجده في كتب النصارى ھو‬
‫من عمل اليھود‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.٧٥‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.٧٥‬‬
‫‪ ( ٣‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.٧٥‬‬
‫‪ ( ٤‬المائدة‪.١٤:‬‬
‫‪١٧١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫)‪(١‬‬
‫"ونسي الشئ تركه على ذھول وغفلة‪ ،‬أو تركه على عمد"‬

‫فالفرق بين تحريف الوحي ونسيانه‪ ،‬أن النسيان ذھول عن الوحي غفلة‪ ،‬أو‬
‫ترك له عمداً‪ ،‬وفقط‪ ،‬أما التحريف فأمران ال أمر واحد‪ ،‬كتم والوحي وإخفاؤه‬
‫مع وجوده واالحتفاظ به‪ ،‬وإخراج بديل له مزور للبشر‪.‬‬

‫ولذا فالتحريف ال يكون إال عمداً‪ ،‬والنسيان قد يكون سھواً وقد يكون عمداً‪.‬‬

‫فالنصارى ذھلوا عما أوتوه غفلة أو تركوه عمداً‪ ،‬أما بنو إسرائيل فھم‬
‫يحوزون الوحي األصيل الذي أنزل عليھم ويكتمونه عندھم‪ ،‬ويخرجون للبشر‬
‫تحريفه عمداً‪ ،‬وھم مع ذلك ذھلوا عن بعضه ونسوه‪ ،‬أنساھم عز وجل إياه عقابا ً‬
‫لھم على ما يخفونه ويبثون نقيضه عمداً‪.‬‬

‫والقرآن‪ ،‬بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه‪ ،‬لم ينسب تحريف الوحي إلى بني‬
‫إسرائيل دون النصارى فقط‪ ،‬ولكنه نسبه إلى طائفة من بني إسرائيل وبعض‬
‫اليھود ال إلى كل اليھود‪.‬‬

‫ففي تفسير قوله تعالى في سورة النساء‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪RQPONML‬‬

‫ذكر اإلمام الطبري قولين يفسر بھما معنى‪.L :‬‬

‫‪ ( ١‬المعجم الوسيط‪ ،‬ص‪.٩٢٠‬‬


‫‪ ( ٢‬النساء‪.٤٦:‬‬
‫‪١٧٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫القول األول نسبه إلى الكوفيين‪ ،‬وھو أن‪ L  :‬بيانية أو صلة‪،M  :‬‬
‫في قوله تعالى قبلھا‪:‬‬

‫‪Ö Õ Ô Ó Ò Ñ Ð Ï Î Í Ì Ë Ê É‬‬
‫)‪(١‬‬
‫×‬

‫فيكون المعنى‪:‬‬

‫"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا ً من الكتاب من الذين ھادوا يحرفون الكلم‬
‫)‪(٢‬‬
‫عن مواضعه"‬

‫والقول الثاني نسبه الطبري إلى أھل البصرة‪ ،‬وھو أن تكون‪L  :‬‬
‫للتبعيض‪ ،‬وعلى ذلك يكون معنى اآلية‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫"من الذين ھادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه"‬

‫ولكن اإلمام الطبري اختار قول الكوفيين‪ ،‬الذي يجعل‪ L  :‬للصلة‪،‬‬
‫وينسب التحريف للذين أوتوا نصيبا ً من الكتاب أجمعين‪.‬‬
‫والشيخ الطاھر بن عاشور ذكر الوجھين كاإلمام الطبري‪ ،‬ولكنه لم يرجح‬
‫)‪(٤‬‬
‫أحدھما على اآلخر‬

‫وما تركه اإلمام الطبري ھو الصحيح وليس ما اختاره‪ ،‬ألن دليل صحته في‬
‫القرآن نفسه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬النساء‪.٤٤:‬‬
‫‪ ( ٢‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٧‬ص‪.١٠١‬‬
‫‪ ( ٣‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٧‬ص‪.١٠٢‬‬
‫‪ ( ٤‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.٧٤‬‬
‫‪١٧٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ففي سورة البقرة فرﱠق بيان اإلله في مسألة التحريف بين طائفتين أو فئتين‬
‫من بني إسرائيل‪.‬‬

‫األولى ھي الطائفة التي تكتم الوحي وتحرفه عن علم ووعي وقصد‪ ،‬وتخرج‬
‫للبشر ھذا التحريف إلضاللھم‪ ،‬والطائفة الثانية ھم عموم بني إسرائيل‪ ،‬ممن ال‬
‫يعلمون عن الوحي المخبؤ والكتاب المنزل المكتوم شيئا ً‪ ،‬ال يعلمون إال‬
‫التحريف‪ ،‬فھو الذى رأوه وتعلموه وتكونوا به‪.‬‬

‫فالطائفة األولى ھي التي يقول فيھا عز وجل‪:‬‬

‫´‪ÂÁÀ ¿ ¾½¼»º¹¸ ¶µ‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ÈÇÆÅÄÃ‬‬

‫أما الطائفة الثانية فھي التي يخبرك عنھا عز وجل بعدھا مباشرة‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪VUTSRQPONMLK‬‬

‫واألمنية معناھا التالوة الظاھرة دون علم والفھم وال فقه‪ ،‬ومنھا قوله تعالى‪:‬‬

‫‪gfedcba`_~}|{zyx‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫‪onmlkjih‬‬

‫أي‪ :‬في قراءته‪ ،‬ال في علمه‪ ،‬وال في ما يعتقده‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٧٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٧٨:‬‬
‫‪ ( ٣‬الحج‪.٥٢:‬‬
‫‪١٧٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫واألمنية تعني الكذب‪ ،‬ومنھا قول سيدنا عثمان بن عفان‪:‬‬

‫"ما تمنيت مذ أسلمت"‬

‫أي‪ :‬ما كذبت‪.‬‬

‫فتفھم من اآلية أن ھناك طائفة أخرى من بني إسرائيل ال يعلمون عن الوحي‬


‫والكتاب المنزل شيئاً‪ ،‬ال يعرفون إال األكاذيب والتحريف الذي حرفته الطائفة‬
‫األولى وتلقوه عنھم‪ ،‬فھم يتلون ھذا التحريف وما كتبته الطائفة األولى بأيديھا‬
‫خاشعين متبتلين‪ ،‬ويتكون وعيھم ونفوسھم به‪ ،‬وھم يعتقدون أنه وحي ﷲ‬
‫المنزل‪.‬‬

‫فالطائفة األولى التي حرفت الوحى عن علم وتكتمه رأس‪ ،‬والطائفة الثانية‪،‬‬
‫األميون‪ ،‬جسد لھذا الرأس يتكون بما يأتيه منه ويتبعه في حركته‪.‬‬

‫وتنبه أن قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪VUTSRQPONMLK‬‬

‫يخبرك أن األمي عند ﷲ عز وجل ھو من حُرم علم الوحي وزال الوعي به‬
‫وبحقائقه وقضاياه ومعارفه ومنھجه من ذھنه وتكوينه‪ ،‬األمي ھو من فقد الوعي‬
‫بالوحي مصدراً للعلم والمعرفة‪ ،‬األمي من يرى ويفھم بغير نور الوحي‪ ،‬ويفكر‬
‫بغير علمه‪ ،‬ويزن بغير معياره وميزانه‪.‬‬

‫وأما وصف النبي عليه الصالة والسالم بأنه أمي في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٧٨:‬‬
‫‪١٧٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ ‪n m l k j i h g f e d‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪o‬‬

‫فھو نسبة ألمة‪ ،‬ال ألم‪ ،‬ومعناه أنه عليه الصالة والسالم بُعث في أمة أمية لم‬
‫ينزل عليھا وحي وليس عندھا كتاب وال بعث فيھا رسول‪ ،‬أي بخالف أنبياء‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬الذين بعثوا في بني إسرائيل‪ ،‬الذين عندھم الوحي والكتاب‪.‬‬

‫وھو معنى قوله عز وجل‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪TSRQPON‬‬

‫أما الدليل على عدم علم النبي عليه الصالة والسالم بالقراءة والكتابة‪ ،‬فقوله‬
‫تعالى في سورة العنكبوت‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪ba`_~ }|{zyxwvut‬‬

‫‪ ( ١‬األعراف‪.١٥٧:‬‬
‫‪ ( ٢‬الجمعة‪.٢:‬‬
‫‪ ( ٣‬العنكبوت‪.٤٨:‬‬
‫‪١٧٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺗﺘﻮارث ﻛامتن اﻟﻮيح وﲢﺮﻳﻔﻪ‬


‫نعود بك إلى قوله عز وجل في بيانه إلى خلقه‪:‬‬

‫´‪ÂÁÀ ¿ ¾½¼»º¹¸ ¶µ‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ÈÇÆÅÄÃ‬‬

‫الفريق لفظ يدل على الجماعة وال مفرد له من لفظه‪ ،‬فمن يكون ھذا الفريق؟‬

‫يقول اإلمام أبو حيان التوحيدي إن كلمة‪ » :‬في اآلية‪:‬‬

‫"ھم األحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى ﷲ عليه وسلم‪،‬‬
‫وقيل جماعة من اليھود كانوا يسمعون الوحي إذا نزل على رسول ﷲ صلى‬
‫)‪(٢‬‬
‫ﷲ عليه وسلم‪ ،‬ليدخلوا في الدين ما ليس فيه"‬

‫وما قاله أبو حيان نحا نحوه الشيخ الطاھر بن عاشور وزاده بياناً‪ ،‬فقال عن‬
‫ھذا الفريق‪:‬‬

‫"يحتمل أن يريد ِمن قومھم األقدمين‪ ،‬أو من الحاضرين في زمن نزول‬


‫)‪(٣‬‬
‫اآلية"‬

‫فألن اآلية تخاطب النبي عليه الصالة والسالم والمؤمنين في زمن نزول‬
‫القرآن‪ ،‬فقد افترضا رحمھما ﷲ أن من تخبر عنھم اآلية‪ ،‬ممن يحرفون كالم ﷲ‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٧٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسير البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٤٣٩‬‬
‫‪ ( ٣‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٥٦٧‬‬
‫‪١٧٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫من بعد ما عقلوه‪ ،‬يحتمل أن يكونوا من بني إسرائيل في عھد موسى وزمن‬
‫نزول التوراة‪ ،‬أو أن يكونوا من بني إسرائيل في زمن نزول القرآن‪.‬‬

‫وأما اإلمام القرطبي فقد نقل في ھذا الفريق الذي حرف الوحي عمداً قولين‪،‬‬
‫والقوالن يقصرانه على األقدمين من بني إسرائيل‪ ،‬فقال ھم‪:‬‬

‫" األحبار السبعون الذين اختارھم موسى عليه السالم‪ ،‬فسمعوا كالم ﷲ‪،‬‬
‫فلم يمتثلوا أمره‪ ،‬وحرفوا القول في إخبارھم قومھم‪ ،‬وھو قول الربيع وابن‬
‫إسحق‪ ،‬وقال السدي وغيره‪ :‬بدلت طائفة منھم ما سمعت من كالم ﷲ على‬
‫)‪(١‬‬
‫لسان نبيھم موسى عليه السالم"‬

‫والسؤال الذي لم يسأله أبو حيان وابن عاشور والقرطبي‪ ،‬ھو‪ :‬إذا كان‬
‫الفريق الذين حرفوا من بني إسرائيل ھم األقدمين‪ ،‬زمن موسى عليه السالم‬
‫ونزول التوراة‪ ،‬فلماذا يوبخ عز وجل الحاضرين من بني إسرائيل زمن نزول‬
‫القرآن‪ ،‬ممن أبوا اإليمان بالنبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬على التحريف الذي‬
‫حرفه ھؤالء الغابرين وكأنھم ھم الذين فعلوه‪ ،‬وما تفسير الضمير في قوله عز‬

‫وجل‪ ¼  :‬الذي يجعل األقدمين من بني إسرائيل فريقا ً من ھؤالء‬

‫الحاضرين‪ ،‬أو ھم ھم؟‬

‫وما لم يسألوه أجاب عنه اإلمام الطبري رحمه ﷲ‪ ،‬فقد اختار قوالً واحداً في‬
‫ھذا الفريق‪ ،‬وھو أنھم طائفة من بني إسرائيل في عھد موسى عليه السالم‪ ،‬ثم‬

‫‪ ( ١‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪٢‬‬


‫‪١٧٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فسر دخول ھؤالء األقدمين في الضمير العائد على الحاضرين من بني إسرائيل‬

‫زمن القرآن في قوله‪ ،¼ :‬بقوله‪:‬‬

‫"وإنما جعل ﷲ الذين كانوا على عھد موسى ومن بعدھم من بني إسرائيل‬
‫من اليھود الذين قال ﷲ ألصحاب محمد‪ ،¸¶µ´ :‬ألنھم كانوا‬
‫آباءھم وأسالفھم‪ ،‬كما يذكر الرج ُل اليوم الرج َل‪ ،‬فيقول‪ :‬كان منا فالن‪ ،‬يعني‬
‫)‪(١‬‬
‫أنه كان من أھل طريقته ومذھبه‪ ،‬أو من قومه وعشيرته"‬
‫فاإلمام الطبري رحمه ﷲ فطن إلى أن االنتقال في اآلية من الرواية عن بني‬
‫إسرائيل األقدمين في صيغة الغيب إلى اإلخبار عنھم في صيغة الحضور‪،‬‬
‫وإدخال من كانوا في عھد التوراة في ضمائر من ھم في عھد القرآن ليس سوى‬
‫شفرة لغوية تريد أن تخبرنا أن ھؤالء في تكوينھم ھم أنفسھم أولئك‪ ،‬وأن ما فعله‬
‫األقدمون من بني إسرائيل ورثه الحاضرون منھم‪ ،‬وھو نفسه ما يفعلونه‪،‬‬
‫وسوف يظلون يتوارثونه ويفعلونه‪.‬‬

‫وما لم نر أحداً أدركه أو سأل عنه ھو‪ :‬لماذا حرفت طائفة من بني إسرائيل‬
‫الوحي وھو ينزل عليھم عن وعى وعلم وقصد‪ ،‬ولماذا أخبرنا ﷲ عز وجل بھذا‬
‫التحريف‪ ،‬ولماذا ألح في إخبارنا به حتى جعل الصفة الرئيسية الالصقة ببني‬
‫إسرائيل واليھود في ذھن كل قارئ للقرآن ھي التحريف والتزوير؟‬

‫ھنا نعود بك إلى ما أخبرناك به في‪ :‬بيان اإلله‪ ،‬الوحي بيان كاشف ونور‬
‫تنكشف به حقيقة الوجود‪ ،‬وفيه تبيان كل شئ‪ ،‬وھو مصدر المعرفة المطلق‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.١٤٠‬‬


‫‪١٧٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المھيمن على مصادر المعرفة كلھا‪ ،‬ومن ثَم فمن يحوزه يحوز سلطة المعرفة‬
‫المطلقة المھيمنة‪ ،‬ويصبح وعيه حاكما ً لوعي البشر جميعاً‪ ،‬وھو مصدر تكوينه‪.‬‬

‫حجب بنو إسرائيل الوحي وحرفوه ألنھم ضنوا على باقي األقوام واألمم بما‬
‫فيه من معرفة شاملة وعلم محيط‪ ،‬وما يمنحه من قوة وسلطة‪ ،‬وأرادوا حيازته‬
‫خالصا ً لھم دون تقيد بشروط حيازته‪ ،‬أال وھى اإليمان والطاعة وإقامة ھذا‬
‫الوحي ومنھجه فيھم‪ ،‬وھداية األمم كلھا إليه من خاللھم‪.‬‬

‫بنو إسرائيل حرفوا الوحي وكتموه ألنھم ضنوا على األمم األخرى بالھداية‬
‫ومعرفة اإلله الحق‪ ،‬وأرادوا أن يكون اإلله لھم وإلھھم وحدھم‪ ،‬وال صلة ألحد‬
‫به غيرھم‪.‬‬

‫‪١٨٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﳛﺮﻓﻮن ﻻ ﺣﺮﻓﻮا‬
‫لماذا أخبرنا عز وجل في بيانه النھائي والمعصوم إلى خلقه كافة بھذا‬
‫التحريف‪ ،‬ولماذا شدد على ھذا اإلخبار وألح فيه؟‬

‫ھذا اإلخبار واإللحاح ال معنى له إال أن ما حرفه بنو إسرائيل من الوحي‬


‫آثارة مستديمة قائمة فى عالم البشر‪ ،‬سائرة في الزمان‪ ،‬وأن ھذه اآلثار ال تنقطع‬
‫إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫ومن المثير لالنتباه‪ ،‬وھو ما يؤكد ما نقوله ھنا‪ ،‬أن ﷲ عز وجل في كل ما‬
‫أخبرك به عن كتم بني إسرائيل للوحي وتحريفھم له يخبرك به في صيغة‬
‫المضارعة وليس في صيغة الماضي‪.‬‬

‫فيقول عز وجل في سورة البقرة‪:‬‬

‫‪§¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡ ~}| {z y y‬‬


‫)‪( ١‬‬
‫¨©‪¬«ª‬‬

‫فا" عز وجل يخبرك عن الذين‪ ،~ } | { z  :‬وليس‬


‫عن الذين كتموه‪.‬‬
‫ويقول عز وجل في سورة النساء‪:‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.١٧٤:‬‬
‫‪١٨١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ ‪W V U T S R Q P O N M L‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪^]\[ZYX‬‬

‫ويقول في سورة المائدة‪:‬‬

‫‪~}| {zyxwvu‬‬
‫)‪( ٢‬‬
‫¡‬

‫مرة أخرى‪ ،‬بيان ﷲ عز وجل يخبرك ويلح في إخبارك عن‪" :‬الذين‬


‫يحرفون"‪ ،‬وليس عن الذين حرفوا‪.‬‬

‫فاآليات كلھا تخبرك عن تحريف طائفة من بني إسرائيل ومن الذين ھادوا‬
‫للوحي ولكلم ﷲ ورسالته في صيغة المضارعة‪ ،‬التي تعني الحال واالستمرار‬
‫والتجدد واالستدامة‪ ،‬ال في صيغة الماضي‪ ،‬التي تعني الحدوث واالنتھاء‬
‫واالنقطاع‪.‬‬

‫صيغة المضارعة التي أخبرك فيھا عز وجل عن كتم بني إسرائيل للوحي‬
‫وإخفائھم له وتحريفه‪ ،‬تعني أن الكتم والتحريف عمل مستمر متجدد‪ ،‬ال يتوقف‬
‫وال تنقطع آثاره عبر الزمان‪.‬‬

‫وھو ما أشار إليه الشيخ الطاھر بن عاشور في إحدى فتوحاته الخاطفة‪ ،‬فبعد‬
‫أن فسر‪ ،‬في موضع سورة المائدة‪ ،‬معنى التحريف من غير أن يخرج في ھذا‬

‫‪ ( ١‬النساء‪.٤٦:‬‬
‫‪ ( ٢‬المائدة‪.١٣:‬‬
‫‪١٨٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المعنى عما قاله من سبقه من المفسرين‪ ،‬قال رحمه ﷲ في عبارة عابرة‪ ،‬في‬
‫سطر واحد منفرد عما قبله وما بعده‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"وجئ بالمضارع للداللة على استمرارھم"‬

‫وعند تفسيره لمعنى النسيان في قوله تعالى‪ ،§¦¥¤£ :‬قال‬

‫رحمه ﷲ‪:‬‬

‫"والنسيان المراد به اإلھمال المفضي إلى النسيان‪ ،‬وعبر عنه بالفعل‬


‫)‪(٢‬‬
‫الماضي ألن النسيان ال يتجدد"‬

‫فكأن الطاھر بن عاشور أدرك‪ ،‬ضمناً‪ ،‬أن القرآن يريد أن يخبرنا أن ما نسيه‬
‫بنو إسرائيل قد حدث مرة واحدة قديماً‪ ،‬أما الكتم والتحريف وبث ھذا التحريف‬
‫فھو عمل دائم مستمر ومتجدد‪ ،‬وھو ما يعني وجود طائفة من بني إسرائيل‬
‫قوامة على كتمان الوحي األصيل عندھا وتتوارث التحريف وبثه في البشر‪،‬‬
‫وھذا التوارث ھو الذي يكون به التحريف وبثه عمالً دائما ً متجدداً في كل‬
‫عصر‪.‬‬

‫وھو ما يخبرك به القرآن فعالً!‬

‫القرآن ينبھك أن الفئة أو الطائفة من بني إسرائيل التي تكتم الوحي األصيل‬
‫وتخفيه وتخرج للبشر تحريفه‪ ،‬ھي نفسھا موجودة عبر التاريخ كله‪ ،‬تتوارث‬
‫ھذا الكتم والتحريف وإخراج ما حُرف‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.١٤٣‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.١٤٤‬‬
‫‪١٨٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فا" عز وجل في القرآن يخاطب بني إسرائيل أنفسھم قائال‪:‬‬

‫\]^_`‪edcba‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪kjihgf‬‬

‫ويقول عز وجل موبخا ً بني إسرائيل في صيغة الغيبة‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫´‪½¼»º¹¸¶µ‬‬

‫فھذه اآليات تخبرك إلى جوار معناھا القريب الظاھر‪ ،‬عن جحود بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬بشيئين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن وحي ﷲ عز وجل األصيل موجود بين طائفة من بني إسرائيل‬
‫عصر نزول القرآن‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن الطائفة التي تكتم ھذا الوحي من بني إسرائيل وتخبئه وتخرج‬
‫للناس تحريفه‪ ،‬ھي أيضا ً موجودة عصر نزول القرآن‪.‬‬

‫بل إن ﷲ عز وجل أمر نبيه صلى ﷲ عليه وسلم إن اعتراه شك فيما يأتيه‬
‫من وحي أن يسأل الذين يعرفون الكتاب من قبله‪ ،‬لكي يعرف صدق ما يأتيه‬
‫بموافقته لما معھم وما بين أيديھم من الوحي‪.‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫}~¡‪ª©¨§¦¥¤£¢‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.١٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.١٠١:‬‬
‫‪ ( ٣‬يونس‪.٩٤:‬‬
‫‪١٨٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والتوراة‪ ،‬وحي ﷲ وكتابه المنزل‪ ،‬أنزلت على بني إسرائيل في القرن الثالث‬
‫عشر قبل الميالد‪ ،‬والقرآن أنزل في القرن السابع الميالدي‪.‬‬

‫فاآليات تخبرك أن التوراة األصلية األصيلة‪ ،‬وما فيھا من علم شامل محيط‬
‫وخطة إلصالح مسيرة البشر‪ ،‬كانت موجودة عند الطائفة من بني إسرائيل التي‬
‫تحرفھا بعد عشرين قرنا ً من نزولھا!‬

‫بل وتخبرك اآليات أن ھذه الطائفة نفسھا موجودة‪ ،‬تتدفق مع الزمان‪،‬‬


‫وتتوارث كتم األصل وإخراج التحريف‪ ،‬ألن ﷲ يخاطبھم ويوجه كالمه إليھم‬
‫مباشرة‪.‬‬

‫وھو ما أدركه اإلمام الطبري عند تفسيره لمعنى نقض بني إسرائيل للميثاق‬
‫وتحريفھم للوحي في سورة المائدة‪ ،‬فقال رحمه ﷲ‪:‬‬

‫"وھذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليھود‪ ،‬ممن أدرك‬
‫بعضھم عصر نبينا محمد صلى ﷲ عليه وسلم‪ ،‬ولكن ﷲ عز ذكره أدخلھم في‬
‫عداد الذين ابتدأ الخبر عنھم‪ ،‬ممن أدرك موسى منھم‪ ،‬إذ كانوا من أبنائھم‪،‬‬
‫وعلى منھاجھم في الكذب على ﷲ‪ ،‬والفرية عليه‪ ،‬ونقض المواثيق التي‬
‫)‪(١‬‬
‫أخذھا عليھم في التوراة"‬

‫فالطائفة من بني إسرائيل التي تحوز الوحي وتكتمه‪ ،‬وتحرفه وتبث في‬
‫البشر تحريفه‪ ،‬تكونت مع نزول التوراة على موسى عليه السالم‪ ،‬وظلت‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،٨‬ص‪.٢٥١‬‬


‫‪١٨٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫موجودة تتوارث ھذا الكتم والحيازة‪ ،‬وھذا التحريف والبث‪ ،‬إلى زمن نزول‬
‫القرآن‪.‬‬

‫وألن ﷲ عز وجل ينادي ھذه الطائفة من بني إسرائيل ويخاطبھا في بيانه‬


‫إلى خلقه إلى يوم القيامة‪ ،‬فھذه الطائفة حاضرة في الزمان وفاعلة في التاريخ‪،‬‬
‫وما زالت موجودة إلى يومك ھذا‪ ،‬تحوز الوحي وتعلم حقائقه وتكتمه‪ ،‬وتحرفه‬
‫وتبث تحريفه‪ ،‬وتصارع بھذا التحريف وحي ﷲ األصيل في تكوين وعي البشر‬
‫وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وتنازعه على صبغ حياتھم وبناء مجتمعاتھم‪.‬‬

‫وألن ﷲ عز وجل أفرد في بيانه الخاتم لھذه الطائفة من بني إسرائيل ما لم‬
‫يفرد مثله‪ ،‬وال رُبعه‪ ،‬وال ُعشره‪ ،‬ألحد في العالمين غيرھم‪ ،‬ال قديما ً وال حديثاً‪،‬‬
‫فال فئة‪ ،‬وال أمة‪ ،‬وال مملكة‪ ،‬وال إمبراطورية‪ ،‬وال حضارة‪ ،‬في العالم وال‬
‫التاريخ‪ ،‬لھا موقع ھذه الطائفة من البشرية‪ ،‬وال آثارھا فيھا‪ ،‬وال دورھا في خط‬
‫مسارھا وصناعة تاريخھا‪.‬‬

‫وھذا الموقع على مركزيته‪ ،‬وھذا الدور على عظمه‪ ،‬عصي على اإلنسان‬
‫أن ينتبه إليه ويدركه بوسائل إدراكه الذاتية وحده‪ ،‬وھذه اآلثار على جسامتھا‬
‫عسيرة عليه أن يفطن إلى صلتھا ببني إسرائيل بما أودع فيه من مصادر‬
‫ووسائل للمعرفة من غير تنبيه الوحي‪ ،‬مصدر المعرفة المطلق المرتفع عن‬
‫الزمان والمكان والمحيط بالسر وأخفى‪ ،‬ومن غير إرشاده وبيانه‪.‬‬

‫‪١٨٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاﺻﻞ اﻟﴪ ور ٔاس ﺣﺮﰷﺗﻪ‬


‫ونعود بك مرة ثالثة إلى قوله عز وجل‪:‬‬

‫´‪ÂÁÀ ¿ ¾½¼»º¹¸ ¶µ‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ÈÇÆÅÄÃ‬‬

‫ھذه اآلية تخبرك وتنبھك إلى معرفة ال مصدر لھا غيرھا‪ ،‬وھي التأريخ‬
‫لبداية الحركات السرية وعالمھا‪ ،‬عالم السر والخفاء والكتمان‪ ،‬ولمن بدأه وھو‬
‫قلبه ونواته‪.‬‬

‫اآلية تؤرخ لبداية عالم السر والخفاء وأصل الحركات السرية في العالم‬
‫بعصر نزول التوراة والوحي على بني إسرائيل‪ ،‬وبنو إسرائيل ھم من بدأه‪،‬‬
‫وھم قلب الحركات السرية ونواتھا وطاقتھا ومن يسيطرون عليه‪.‬‬

‫والقرآن بھذا ھو المصدر الوحيد في العالم الذي يعود ببداية عالم السر‬
‫والخفاء والحركات السرية إلى عصر نزول التوراة في القرن الثالث عشر قبل‬
‫الميالد‪.‬‬

‫ثم اآلية تخبرك بمعرفة أخرى ال مصدر لھا غيرھا‪ ،‬وھي أن المسألة القلب‬
‫أو النواة التي تكونت حولھا الحركات السرية‪ ،‬وقام عليھا عالم السر والخفاء‬
‫ھي تحريف الوحي‪ ،‬ثم كتمانه وإخفاؤه وإظھار التحريف للعالم وبثه في البشر‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٧٥:‬‬
‫‪١٨٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وال يشترك مع القرآن‪ ،‬في العودة بأصول عالم السر والخفاء وبداية كتمان‬
‫شئ وإظھار آخر وبثه‪ ،‬إلى عصر نزول الوحي على بني إسرائيل‪ ،‬سوى‬
‫القبااله‪ ،‬أو التراث الباطني الشفوي اليھودي‪.‬‬

‫والقبااله لب عالم السر والخفاء‪ ،‬وينبوع أفكار الحركات السرية وأساليبھا‬


‫وطقوسھا ورموزھا‪ ،‬وھي التى صبغتھا وكونت عقول أھلھا ونفوسھم‪.‬‬

‫والقبااله تعود بالكتم واإلخفاء والتمويه إلى عصر نزول التوراة‪ ،‬كالقرآن‬
‫تماماً‪.‬‬

‫في سورة البقرة يخبرك عز وجل أنه واعد موسى عليه الصالة والسالم‬
‫أربعين ليلة‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫`‪lkjihgfedcba‬‬

‫ولكن في سورة األعراف يخبرك عز وجل بشيء آخر زائد على ما في‬
‫سورة البقرة‪ ،‬وھو أن ميقات موسى مع ربه تم باألربعين ليلة‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪ponmlkjihgf‬‬

‫المعنى الذي يخبرك به عز وجل في آية األعراف أن لقاء موسى عليه‬


‫السالم بربه كان أربعين ليلة مرة واحدة‪ ،‬أوحى ﷲ عز وجل إليه فيھا بالتوراة‬
‫وأمره أن يبلغھا لبني إسرائيل‪ ،‬وأمر بني إسرائيل أن يبينوھا للناس جميعا ً وأال‬
‫يكتموھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٥١:‬‬
‫‪ ( ٢‬األعراف‪.١٤٢:‬‬
‫‪١٨٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالغرض من آية األعراف ليس اإلخبار عن الميقات أو مدته كآية البقرة‪ ،‬بل‬
‫ھدفھا غلق الطريق أمام تصور أو افتراض أنه كان ثَمة لقاءات أخرى‪.‬‬

‫فلماذا اغلق بيان اإلله إلى خلقه ميقات موسى مع ربه‪ ،‬وأكد أنه تم باألربعين‬
‫ليلة؟‬

‫آية االعراف ھي في الحقيقة رد على القبااله او التراث الباطني اليھودي‪،‬‬


‫ففي القبااله أن‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"موسى ذھب للقاء اإلله ثالث مرات‪ ،‬ومكث فى كل مرة أربعين ليلة"‬

‫ففي المرة األولى أوحى إليه اإلله نص التوراة في األلواح‪ ،‬وأمره أن يبلغ ما‬
‫فيھا من تعاليم وتكاليف لبني إسرائيل جميعا ً ويأمرھم بھا‪.‬‬

‫وفي المرة الثانية أطلعه اإلله على المعاني العميقة لنص التوراة وتفسير ھذه‬
‫المعاني‪ ،‬وأمره أن يقصر ھذه التفسيرات والمعاني العميقة على األحبار‬
‫والكھان دون عموم بني إسرائيل‪.‬‬

‫وفي المرة الثالثة عرﱠفه اإلله أن التوراة نص مشفر‪ ،‬وأطلعه على شفرتھا‬
‫ورموزھا وعرفه بما تحمله من معان‪ ،‬وأمره أن يختص بھذه الشفرة وحلھا وما‬
‫تحويه من معارف وعلوم طائفة من بني إسرائيل‪ ،‬ھم النقباء السبعون فقط‪ ،‬وأن‬
‫يحجبھا عن سواھم فال يُطلع عليھا أحداً غيرھم‪.‬‬

‫ثم صار ھؤالء النقباء السبعون يورثون ھذه العلوم والمعارف المشفرة‬
‫للصفوة من األحبار والكھان في كل جيل من بني إسرائيل‪.‬‬

‫‪1 ) Manly Hall:The secret teachings of all ages, P113.‬‬


‫‪١٨٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والفرق بين القرآن والقبااله‪ ،‬كما ترى‪ ،‬أن بيان اإلله الخاتم ھدانا إلى أن ﷲ‬
‫عز وجل لم يمنع علما ً عن أحد من خلقه‪ ،‬بل أمر سبحانه وتعالى موسى بإبالغ‬
‫الكتاب الذي أنزل عليه لبني إسرائيل جميعا ً وللناس أجمعين‪ ،‬وأنه عليه السالم‬
‫بلغ ما أوحي إليه من ربه ولم يكتم منه شيئا ً عن أحد‪.‬‬

‫ووجود علوم ومعارف سرية خفيه تتوارثھا فئة من بني إسرائيل وال تطلع‬
‫عليھا أحداً غيرھا‪ ،‬ال من بني إسرائيل وال من غيرھم‪ ،‬ليس فقط في القبااله‪ ،‬بل‬
‫له أصل في أحد األسفار األبوكريفا‪ ،‬وھي األسفار المخفية أو غير القانونية‬
‫وغير المعترف بھا‪ ،‬وھو سفر إسدراس أو عزرا الثاني ‪.‬‬

‫في اإلصحاح الرابع عشر من سفر إسدراس الثاني‪ ،‬أن عزرا كاتب التوراة‬
‫كان يجلس تحت شجرة سنديان فكلمه اإلله من غابه قريبة وأخبره أنه‪:‬‬

‫"أنا الرب إلھك‪ ،‬لقد أظھرت نفسي لموسى وكلمته حين كان شعبي في‬
‫بيت العبودية في مصر‪ ،‬وأرسلته ليطلق شعبي‪ ،‬وأرشدته إلى جبل سيناء‬
‫ليمكث معي أياما ً عديدة‪ ،‬وأريته أشياء عجيبة‪ ،‬وعرفته بأسرار الزمان وما‬
‫يكون في آخر األيام‪ ،‬وأمرته قائالً‪ :‬ھذه الكلمات تنشرھا للناس‪ ،‬وأما ھذه‬
‫)‪( ١‬‬
‫فتبقى سراً وال تطلع عليھا أحداً"‬

‫فالسفر يقول إن اإلله حين أوحى إلى موسى عليه السالم التوراة‪ ،‬أمره بنشر‬
‫بعض ما أوحى به إليه وبكتم بعضه اآلخر‪.‬‬

‫‪1 ) Zaine Ridling: The Apocrypha with the apocryphal books,P506.‬‬


‫‪١٩٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وليس ھذا فقط‪ ،‬بل يقول من كتبوا السفر إن اإلله حين أوحى لعزرا بأسفار‬
‫العھد القديم وأمره بكتابتھا‪ ،‬أمره أن يُظھر جز ًءا مما كتبه وأن يحجب جلھا وما‬
‫فيھا من معارف إال عن طائفة من بني إسرائيل‪ ،‬ھم حكماء بني إسرائيل‪ ،‬ففي‬
‫اإلصحاح نفسه‪:‬‬

‫"وفي اليوم الثالث وأنا جالس تحت شجرة السنديان أتاني صوت العلي من‬
‫بين الشجيرات وناداني‪ :‬إسدراس‪ ،‬إسدراس‪ ،‬اجمع أدوات الكتابة وأحضر‬
‫ساريا ودابريا وسيليما وإيكانوس وعزيل‪ ،‬المھرة في الكتابة‪ ،‬للقائي أربعين‬
‫يوماً‪ ،‬فأخذت الرجال الخمسة وانطلقنا إلى البرية‪ ،‬وقال لي العلي‪ :‬افتح فمك‬
‫واشرب ما أسقيه لك‪ ،‬وفتحت فمي فسقيت شرابا ً كالماء ولونه كالنار‪ ،‬وعندما‬
‫شربت أشرق نور في قلبي وانسكبت الحكمة في صدري‪ .‬ومنح العلي الحكمة‬
‫للخمسة أيضا ً وأنار قلوبھم‪ ،‬فكتبوا في أربعين يوما ً أربعة وتسعين‬
‫سفراً‪...‬وعند نھاية األيام قال لي العلي‪ :‬انشر األسفار األربعة والعشرين‬
‫األولى بين الناس جميعاً‪ ،‬من يفقه ومن ال يفقه ‪The worthy and the‬‬
‫‪ ،unworthy‬وأما األسفار السبعون األخيرة فال تطلع عليھا إال الحكماء‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ ،The wise‬فمن ھذه األسفار تنبع الحكمة وتسري المعرفة"‬

‫فاإلله‪ ،‬كما يقول السفر‪ ،‬أنزل الوحي على عزرا‪ ،‬فأخذ يملي ما يوحى إليه‬
‫على الكتبة الخمسة‪ ،‬فكان عدد ما كتبوه أربعة وتسعين سفراً‪ ،‬أمر اإلله عزرا‬
‫أن ينشر أربعة وعشرين سفراً منھا‪ ،‬وھي عدد أسفار العھد القديم‪ ،‬وأن يحتفظ‬
‫باألسفار السبعين الباقية سرية وأال يُطلع عليھا أحداً سوى حكماء بني إسرائيل!‬

‫‪1 ) The Apocrypha with the apocryphal books:P508.‬‬


‫‪١٩١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إذاً القبااله‪ ،‬أو التراث الباطني اليھودي‪ ،‬واألسفار المخفية‪ ،‬تتفق مع القرآن‬
‫في وجود طائفة من بني إسرائيل تظھر شيئا ً لعموم بني إسرائيل وللناس جميعاً‪،‬‬
‫وتخفي شيئا ً آخر تعلمه وتتوارثه من جيل إلى جيل‪ ،‬وتحجبه وتكتمه عن ھؤالء‬
‫العموم من بني إسرائيل وعن الناس‪.‬‬

‫وما صححه لك بيان اإلله إلى خلقه واستخرجه من بطن الغيب وكشفه لك‪،‬‬
‫وخالف فيه القبااله واألسفار المخفية‪ ،‬أن ما تخفيه ھذه الطائفة من بني إسرائيل‬
‫وتكتمه عن البشر ھو الحق والوحي األصيل‪ ،‬وليس طبقة من العلوم والمعارف‬
‫ال يؤتمن عليھا عموم الناس‪ ،‬وأن ما تظھره لھم ھذه الطائفة وتبثه فيھم ھو‬
‫تحريف ھذا الحق والوحي األصيل‪.‬‬

‫والمصدر الوحيد الذي يتفق مع القرآن في جوانب المسألة كلھا‪ :‬وجود طائفة‬
‫من بني إسرائيل تتوارث إخفاء شئ وكتمه‪ ،‬وتتوارث معه بث شئ آخر في‬
‫غيرھا من بني إسرائيل وعموم الناس‪ ،‬وأن ھذا الذي تكتمه ھو الحق والوحي‬
‫األصيل‪ ،‬وما تبثه من إجل إضالل الناس عمداً ھو تحريفه‪ ،‬ھذا المصدر الوحيد‬
‫ھو بروتوكوالت حكماء صھيون‪.‬‬

‫يقول من يحوز الوحي والحق ويكتمه ويبث التحريف في البشر من أجل‬


‫إضاللھم في البروتوكول الثالث عشر‪:‬‬

‫"ولھذا السبب سنحاول أن نوجه العقل العام نحو كل نوع من النظريات‬


‫المبھرجة التي يمكن أن تبدو تقدمية أو تحررية‪ ،‬لقد نجحنا نجاحا ً كامالً‬
‫بنظرياتنا عن التقدم في تحويل رؤوس األميين الفارغة من العقل نحو‬

‫‪١٩٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫االشتراكية‪ ،‬وال يوجد عقل واحد بين األميين يستطيع ان يالحظ انه في كل‬
‫حالة وراء كلمة التقدم يختفي ضالل وزيغ عن الحق‪ ،‬ما عدا الحاالت التي‬
‫تشير فيھا ھذه الكلمة إلى كشوف مادية أو علمية‪ ،‬إذ ليس ھناك إال تعليم حق‬
‫واحد‪ ،‬وال مجال فيه للتقدم‪ ،‬إن التقدم كفكرة زائفة يعمل على تغطية الحق‪،‬‬
‫حتى ال يعرف الحق أحد غيرنا‪ ،‬نحن شعب ﷲ المختار الذي اصطفاه ليكون‬
‫)‪( ١‬‬
‫قواما ً على الحق"‬

‫فإذا أن تعرف من يكون ھؤالء الذين يوافقون القرآن‪ ،‬ويُقرون باحتكار الحق‬
‫و كتمانه‪ ،‬وإشاعة الضالالت عبر التاريخ كله عمداً‪ ،‬فارجع إلى آخر سطر في‬
‫وثيقة البروتوكوالت‪ ،‬وستجد أن الموقعين عليھا ھم‪:‬‬

‫"ممثلو صھيون من الدرجة الثالثة والثالثين"‬

‫‪Representatives of Zion of the 33 degree‬‬

‫وللماسونية مذاھب عدة‪ ،‬والمذھب االسكتلندي ھو أعرقھا وأقدمھا وأوسعھا‬


‫انتشاراً‪ ،‬ومذاھب الماسونية األخرى‪ ،‬بل والحركات السرية كلھا‪ ،‬ليست سوى‬
‫فروع منه أو امتدادات له أو انشقاقات عليه‪.‬‬

‫والمذھب االسكتلندي يتكون من ثالث وثالثين درجة مرتبة في ست مراتب‪،‬‬


‫والمرتبة السادسة مرتبة مفردة ليس فيھا إال درجة واحدة‪ ،‬ھي الدرجة الثالثة‬
‫والثالثين‪ ،‬وھي الدرجة السامية ‪ Sublim‬وقمة ھرم الماسونية التي يتكون منھا‬

‫‪ ( ١‬محمد خليفة التونسي‪ :‬بروتوكوالت حكماء صھيون ‪ ،‬ص‪.٩٤‬‬


‫‪١٩٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المجلس السامي ‪ Suprem Council‬الذي يسيطر على النشاط الماسوني‪،‬‬


‫واسم الدرجة‪ :‬درجة المفتش األعظم ‪.Inspector General‬‬

‫فالطائفة من بني إسرائيل التي تخفي الوحي وتكتمه‪ ،‬وتبث تحريفه في األمم‬
‫والشعوب عبر التاريخ‪ ،‬ھي قمة ھرم الماسونية والرأس الخفي للحركات‬
‫السرية في العالم‪.‬‬

‫‪١٩٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻋﺎﱂ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ‬
‫ما الذى حرفه بنو إسرائيل ويتوارثون تحريفه وبثه في وعي البشر وأذھانھم‬
‫ونفوسھم عبر العصور‪ ،‬ھل يمكن معرفته وإدراك ما يترتب عليه وما آثاره‬
‫التي دعت بيان اإلله إلى خلقه أن يفرد له ھذه المساحة الھائلة‪ ،‬ويلح في إخبار‬
‫الناس به ھذا اإللحاح؟‬

‫نخبرك أوالً بما فھمه المفسرون من معنى التحريف والمراد به‪ ،‬لتعرف‬
‫الفرق بينه وبين ما يخبرك به ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه فعالً‪.‬‬

‫جل المفسرين‪ ،‬كما علمت‪ ،‬تعاملوا مع تحريف بني إسرائيل للوحي على أن‬
‫المراد به تحريفھم التوراة أو الكتاب قديما ً في عھد نزولھا على موسى عليه‬
‫السالم‪ ،‬وأغلبھم فسر معنى التحريف تفسيراً لغويا ً أو عمومياً‪ ،‬من غير أن يُعنى‬
‫بماذا يكون ھذا التحريف بالضبط‪ ،‬وال كيف يكون مستمراً عبر الزمان كما‬
‫تخبرنا صيغة المضارعة‪ ،‬وال لماذا ألح القرآن على إخبارنا به ھذا اإللحاح‪.‬‬

‫فقال اإلمام الطبري في معنى تحريف بني إسرائيل الكلم كالما ً متشابھا ً في‬
‫كل مواضعه‪ ،‬في سورة البقرة‪ ،‬وفي سورة النساء‪ ،‬وفي سورة المائدة‪ ،‬وھو‬
‫أنھم‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"يبدلون معناھا ويغيرونھا عن تأويلھا "‬

‫ونظيره قول الشيخ الشعراوي‪:‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج ‪ ،٧‬ص‪.١٠٣‬‬


‫‪١٩٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"جاءوا بأشياء وأقاويل وقالوا إنھا من عند ﷲ وھي ليست من عند‬


‫)‪(١‬‬
‫ﷲ"‬

‫ومن تجاوز من المفسرين بيان معنى التحريف اللغوي والعمومي إلى‬


‫محاولة تحديد ھذا الذي حُرف‪ ،‬فقد فھم معنى التحريف وقصره على األحكام‬
‫الفقھية‪ ،‬فيقول الشيخ الطاھر بن عاشور في معنى التحريف‪:‬‬

‫"ھو تبديل معاني كتبھم السماوية‪ ،‬وھذا التحريف يكون غالبا ً بسوء‬
‫التأويل اتباعا ً للھوى‪ ،‬ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة ألھواء العامة‪ ،‬قيل‪:‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫ويكون بتبديل ألفاظ كتبھم"‬

‫وبعض المفسرين وقع فيما نبھناك إليه من قبل‪ ،‬إذ تعاملوا مع آيات القرآن‪،‬‬
‫خصوصا ً خارج آيات العقائد والعبادات‪ ،‬على أنھا خطاب للمكان واللحظة من‬
‫الزمان التي أُنزل فيھا‪ ،‬وأن ما يحمله ھذا الخطاب من معان مقصور على أھل‬
‫ھذا المكان وھذه اللحظة‪ ،‬وتفسيره محصور فيھا وفيھم‪.‬‬

‫فھؤالء المفسرون‪ ،‬رحمھم ﷲ جميعاً‪ ،‬ال شك يؤمنون أن القرآن ھو الرسالة‬


‫الخاتمة‪ ،‬وأنه يخاطب الناس جميعاً‪ ،‬لكنھم لم يحولوا ھذا اإليمان إلى منھج في‬
‫التعامل مع القرآن‪ ،‬ولم يكن له أثر في فھمھم ما الذي تخبر عنه آياته‪ ،‬وال في‬
‫ارتفاع وعيھم إلى إدراك أن ما يخبر عنه غير موقوت بزمان وال محدود في‬
‫مكان‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.٣٠٠٩‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.١٤٣‬‬
‫‪١٩٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وربما نلتمس لھم العذر‪ ،‬ألن ما يخبر به بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه عن بني‬
‫إسرائيل وتحريفھم للوحي‪ ،‬يحتاج في إدراكه وفھمه إلى علوم ومعارف لم تكن‬
‫في حوزتھم وال يمكن معرفة المراد به من غيرھا‪.‬‬

‫ألن المفسرين لم يتعاملوا مع القرآن على أنه بيان ﷲ عز وجل المفتوح إلى‬
‫كل األزمنة وكل األمكنة‪ ،‬فمنھم من حصر ذھنه‪ ،‬وھو يبحث عما يكون ھذا‬
‫التحريف الذي حرفه بنو إسرائيل للوحي‪ ،‬في أسباب النزول وما تحويه من‬
‫قصص‪ ،‬فيقول اإلمام أبو حيان عن تحريف الكلم‪:‬‬

‫"أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعھا ﷲ فيھا‪ ،‬قال ابن عباس‬
‫والجمھور‪ :‬ھي حدود ﷲ في التوراة‪ ،‬وذلك أنھم غيروا آية الرجم‪ ،‬أي‬
‫وضعوا الجلد مكان الرجم‪ ،‬وقال الحسن‪ :‬يغيرون ما يسمعون من الرسول‬
‫)‪(١‬‬
‫عليه السالم بالكذب عليه "‬

‫والشئ الوحيد الحاضر والمستمر والمتجدد الذي فھمه المفسرون من‬


‫تحريف بني إسرائيل للوحي‪ ،‬ھو إنكارھم إخبار التوراة بنبوة النبي عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬وتحريفھم صفاته الموصوف بھا فيھا‪.‬‬

‫فالتحريف‪ ،‬كما يقول اإلمام القرطبي‪ ،‬ھو أنھم‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫"غيروا صفة محمد صلى ﷲ عليه وسلم"‬

‫وكما ترى‪ ،‬المفسرون كان يحكمھم في فھم معنى تحريف الوحي أمران‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪.٥٠٠‬‬


‫‪ ( ٢‬الجامع ألحكام القرآن‪:‬ج‪.٢٤٣ ،٥‬‬
‫‪١٩٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫األول‪ :‬أن ھذا التحريف مسألة قديمة في عھد نزول التوراة على موسى عليه‬
‫السالم‪ ،‬ولذا ارتبط المراد بالتحريف عندھم بالكتابة واألوراق والقراطيس‪ ،‬ولم‬
‫يرد على خلدھم‪ ،‬من قريب وال من بعيد‪ ،‬أن يبحثوا عن معنى ھذا التحريف في‬
‫العالم وتاريخه‪ ،‬وال عن آثاره في البشرية وسيرة أممھا وشعوبھا‪.‬‬

‫واألمر الثاني‪ :‬أن ھذا التحريف يقع في أحكام فقھية مفردة أو وقائع محددة‪،‬‬
‫فلم يفطن أحد منھم إلى أن التحريف الذي يفرد له بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه‬
‫ھذه المساحة‪ ،‬ويلح في اإلخبار به ھذا اإللحاح‪ ،‬ال يمكن أن يكون لمجرد تبديل‬
‫حكم فقھي أو مجموعة أحكام جزئية‪.‬‬

‫والعلة الحقيقية واألصلية لھذا الفھم الذي ضيق به المفسرون المراد‬


‫بالتحريف‪ ،‬وجعلھم يحصرونه في مسائل قديمة وتتعلق بالورق والقراطيس‪ ،‬أو‬
‫في وقائع معدودة محددة‪ ،‬أو في أحكام فقھية مجزأة متناثرة‪ ،‬أنھم توھموا أن‬
‫المراد من ھذا اإلخبار بالتحريف‪ ،‬بل ومن كل ما أخبر به القرآن عن بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬مجرد العبرة والعظة لكي ال نفعل مثلھم‪.‬‬

‫فإليك نموذجا ً صريحا ً مبينا ً على ما كان يحكم المفسرين في بيان ما ھو‬
‫التحريف‪ ،‬وما قيدھم في فھمه‪ ،‬وأوصلھم إلى ما وصلوا إليه من تضييق معناه‪،‬‬
‫في تعقيب الشيخ الطاھر بن عاشور على ما ذكره من معنى التحريف في‬
‫موضع سورة المائدة‪ ،‬وھو رحمه ﷲ أكثر المفسرين انتباھا ً إلى صيغة‬
‫المضارعة التي جاء فيھا التحريف ووعيا ً بمعناھا‪:‬‬

‫‪١٩٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"والمقصود ھنا أن نعتبر بحالھم‪ ،‬ونتعظ من الوقوع في مثلھا‪ ،‬وقد حاط‬


‫)‪( ١‬‬
‫علماء اإلسالم‪ ،‬رضي ﷲ عنھم‪ ،‬ھذا الدين من كل مسارب التحريف ‪"...‬‬

‫ونقول لك‪ :‬تحريف بني إسرائيل للوحي الذي أخبرك به ﷲ عز وجل في‬
‫بيانه إلى خلقه وألح في إخبارك به‪ ،‬واختصه بھذه المساحة الھائلة‪ ،‬وجعله‬
‫ساريا ً في الزمان بوضعه في صيغة المضارعة‪ ،‬مسألة أشد خطراً وأعمق‬
‫وأبقى آثاراً من مجرد اإلخبار عن وقائع قديمة ماتت وقُبرت مع من فعلوھا‪،‬‬
‫ولمجرد العظة والعبرة‪ ،‬ومن إخبارنا عن تغيير حكم أو أحكام في قراطيس‬
‫معزولة عن تكوين العالم وتاريخه وعن مسيرة البشرية ومسارھا‪.‬‬

‫التحريف الذي يخبرك به بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه مسألة حية فاعلة في‬
‫وعي البشر وتكوينھم في كل زمان ومكان‪ ،‬وھائلة اآلثار في سيرة البشر‬
‫وتكوين حضاراتھم وصناعة تاريخھم في كل العصور‪.‬‬

‫التحريف ھو أداة بني إسرائيل التي يصارعون بھا وحي اإلله األصيل‪ ،‬في‬
‫كل مكان وفي كل زمان يوجدون فيه‪ ،‬قديما ً وحديثاً‪ ،‬من أجل إزاحته والحلول‬
‫محله في تكوين وعي البشر وبناء أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬ومن أجل إزالته وأخذ‬
‫موقعه في صناعة تاريخھم ونسج مجتمعاتھم‪.‬‬

‫وﷲ عز وجل أخبرنا بھذا التحريف ال لنتعظ ونعتبر‪ ،‬بل لكي ننتبه إليه‬
‫ونتعقبه في وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬ولكي نتتبع آثاره في سيرة البشر‬
‫ومجتمعاتھم وتاريخھم‪ ،‬فنزيله ونمحو آثاره‪ ،‬ولكي نكافحه ونحذر عودته إلى‬
‫وعي البشر وعالمھم‪.‬‬
‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.١٤٤‬‬
‫‪١٩٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وصناعة العالم بالتحريف‪ ،‬ثم إزالته ومحو آثاره بالوحي‪ ،‬ثم تسريب بني‬
‫إسرائيل للتحريف إلى وعي البشر مرة أخرى وإعادة تكوين العالم به بعد إزاحة‬
‫الوحي منه‪ ،‬ھي قصة الصراع الوجودي الممتد عبر الزمان وفي بقاع األرض‬
‫كلھا بين الوحي وتحريفه الذي تخبرك به سورة اإلسراء‪.‬‬

‫فاصبر وصابر إلى أن تصل إليھا‪.‬‬

‫‪٢٠٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻫﻨﺪﺳﺔ اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ‬
‫مرة أخرى‪ ،‬ما الذى حرفه بنو إسرائيل ويتوارثون تحريفه وبثه في وعي‬
‫البشر وأذھانھم ونفوسھم عبر العصور‪ ،‬ھل يمكن معرفته وإدراك ما يترتب‬
‫عليه من آثار جعلت بيان اإلله إلى خلقه يفرد له ھذه المساحة الھائلة ويلح في‬
‫إخبار الناس به ھذا اإللحاح؟‬

‫يقول عز وجل في بيانه‪:‬‬

‫ ‪N M L K J I H G F E D C B A‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪VUTSRQPO‬‬

‫ويقول سبحانه‪:‬‬

‫\]^_`‪edcba‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪kjihgf‬‬

‫فا" عز وجل يخبرك أن ما أنزله في القرآن محفوظا ً معصوما ً ھو ما أنزله‬


‫سبحانه في التوراة المنزلة‪ ،‬وھو نفسه الوحي األصيل الذي تحوزه طائفة من‬
‫بني إسرائيل وتكتمه وتتوارثه‪ ،‬وتتوارث معه تحريفه وبث ھذا التحريف‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٨٩:‬‬
‫‪ ( ٢‬المائدة‪١٥:‬‬
‫‪٢٠١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بيان ﷲ عز وجل يريد أن يرشدك إلى أنه يمكن معرفة ما حرفه بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬ومعرفة آثاره‪ ،‬بمضاھاة القرآن‪ ،‬البيان الخاتم والوحي المحفوظ‪ ،‬وما‬
‫فيه صنو التوراة المنزلة‪ ،‬بالتحريف‪.‬‬

‫المسألة األولى واألم التي كان تحريفھا النبع الذي يتفجر منه الفساد فى كل‬
‫زمان ومكان‪ ،‬كما سنبرھن لك ونفصل الحقاً‪ ،‬ھي قصة الخلق التوراتية‬
‫وخريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬والتي كان عمل بني إسرائيل واليھود‬
‫الرئيسي عبر التاريخ إزاحة خريطة الوجود اإللھية بھا‪ ،‬عبر بثھا‪ ،‬أو بث‬
‫فحواھا ومضمونھا ومكوناتھا في وعي البشر وتكوين أذھانھم ونفوسھم بھا‬
‫أينما وجدوا‪ ،‬وعبر دسھا في العلوم والمناھج والفلسفات والفنون واآلداب‪،‬‬
‫وعبر تسريب آثارھا القيمية واألخالقية واالجتماعية في مجتمعاتھم حيثما حلوا‪.‬‬

‫المسألة المحورية الثانية في التحريف‪ ،‬ھي كتم مسألة األلوھية وكتم خطة‬
‫إصالح اإلله لعالم البشر التي أنزلھا عليھم ليحملوھا إلى الناس ويھدوھم إليھا‪،‬‬
‫وإقامة بناء متكامل ونسيج شامل نقيض لھا‪ ،‬من أجل حجب مسألة األلوھية عن‬
‫البشر واحتكار اإلله ومعرفته ووحيه‪.‬‬

‫رسالة بني إسرائيل تحولت مع التحريف من تعريف الناس باإلله وھدايتھم‬


‫إليه إلى قطع صلتھم به وتضليلھم عنه‪.‬‬

‫وھو ما أخبرك به عز وجل في بيانه إلى خلقه من خبيئة نفوسھم‪:‬‬

‫‪٢٠٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫~_`‪jihgfedcba‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪rqponmlk‬‬

‫فماذا فعل بنو إسرائيل بالضبط من أجل احتكار اإلله وإزالته من وعي‬
‫البشرية وقطع صلتھم به وبھديه‪.‬‬

‫تحريف الوحي نسيج شامل وھندسة متكاملة‪ ،‬كلھا مقلوب نسيج الوحي‬
‫وھندسته‪ ،‬وأول لبنة في بناء التحريف ومعماره ھي تغيير مفتاح تصنيف البشر‬
‫في كتابه ورسالته التي أنزلت عليھم‪.‬‬

‫تاريخ العالم في القرآن كونته عقائده‪ ،‬ومساره رسمته أفكاره‪ ،‬وميزان الحكم‬
‫على األقوام والشعوب واألمم في القرآن إيمانھم با" أو كفرھم‪ ،‬وطاعتھم له أو‬
‫معصيتھم‪ ،‬فال فضيلة لقوم وال أمة بالميالد‪ ،‬وال قداسة لشعب بالنسب أو العرق‪.‬‬

‫وخريطة البشر اإللھية خريطة عقائدية‪ ،‬مفتاح تصنيف البشر فيھا العقائد‪،‬‬
‫ھي التي تصلھم معا ً أو تفصل بينھم‪ ،‬ومدار االصطفاء والشرف في ھذه‬
‫الخريطة اإليمان والطاعة‪ ،‬وإقامة وحي اإلله وحمله إلى الناس وھدايتھم إليه‪.‬‬

‫تعلم ذلك من قوله عز وجل في بيانه النھائي المحفوظ‪:‬‬

‫‪UTSRQPONMLK‬‬
‫)‪( ٢‬‬
‫‪ba`_^]\[ ZYXWV‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.١٠٩:‬‬
‫‪ ( ٢‬الحج‪.١٧:‬‬
‫‪٢٠٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فأقسام البشرية في القرآن ستة أقسام ال سابع لھا‪ ،‬ھي التي جمعتھم ھذه‬
‫اآلية‪ ،‬ألن ھذه ھي األقسام واألصناف التي سيفصل بينھا عز وجل يوم القيامة‪،‬‬
‫وﷲ عز وجل سيفصل يوم القيامة بين البشر جميعاً‪.‬‬

‫وھذه كلھا أقسام وأصناف عقائدية وليست أصنافا ً عرقية أو قومية‪ ،‬مفتاح‬
‫تصنيفھا العقائد ومسألة األلوھية‪.‬‬

‫والمراد اإللھي من مفتاح تصنيف البشر العقائدي‪ ،‬وأن تكون مرجعية اإلله‬
‫ووحيه ھي التي تصل بين األمم أو تفصل بينھم‪ ،‬أن يكون داخل ھذا التصنيف‬
‫دائما ً صنف أو أمة واحدة‪ ،‬ھي التي على الحق‪ ،‬وما عداھا على الضالل‬
‫والباطل‪ ،‬فترى باقي أقسام التصنيف من األمم ھذه األمة‪ ،‬فتعرف من سيرتھا‬
‫ومن آثار الوحي فيھا الحق‪ ،‬فتقتدي بھا وتھتدي‪ ،‬كما أخبرك عز وجل في بيانه‬
‫المحفوظ‪:‬‬

‫)‪( ١‬‬
‫‪{zyxwvut‬‬

‫فكانت أول لبنة في تحريف بني إسرائيل ھي أنھم طمسوا مفتاح التصنيف‬
‫اإللھي للبشر‪ ،‬واستبدلوا به مفتاح تصنيف مزوراً‪ ،‬بتحويل خريطة البشر من‬
‫خريطة عقائدية إلى خريطة عرقية قومية‪ ،‬مدار االصطفاء فيھا ومعيار الشرف‬
‫والريادة التقديس األبدي غير المشروط لبني إسرائيل بالدم والميالد‪ ،‬ال باإليمان‬
‫والطاعة‪ ،‬وال بالعمل بالرسالة وحملھا إلى الناس كما أُمروا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬األعرف‪.١٨١ :‬‬
‫‪٢٠٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ال ا ْل ِم ْ‬ ‫س َرائِي َل‪ :‬أَنَا ال ﱠر ﱡب‪َ ،‬وأَنَا أُ ْخ ِر ُج ُك ْم ِمنْ ت َْح ِ‬


‫ت أَ ْثقَ ِ‬ ‫" لِذلِكَ قُ ْل لِبَنِي إِ ْ‬
‫‪٦‬‬
‫ص ِريﱢينَ‬
‫اع َم ْمدُو َد ٍة َوبِأ َ ْح َك ٍام ع َِظي َم ٍة‪َ ٧ ،‬وأَتﱠ ِخ ُذ ُك ْم لِي‬ ‫َوأُ ْنقِ ُذ ُك ْم ِمنْ ُعبُو ِديﱠتِ ِھ ْم َوأُ َخلﱢ ُ‬
‫ص ُك ْم بِ ِذ َر ٍ‬
‫)‪(١‬‬
‫ش ْعبًا‪َ ،‬وأَ ُكونُ لَ ُك ْم ِإل ًھا"‬
‫َ‬

‫فأصبحت رابطة الدم والعرق والنسل والساللة ھي العقيدة التي تنبع منھا‬
‫أفكار بني إسرائيل واليھود‪ ،‬ويدور حولھا فھمھم لكل شئ‪ ،‬وھي التي تصبغ كل‬
‫ما تنتجه أذھانھم‪ ،‬وكل ما يسري فيه ماتنتجه ھذه األذھان من أشخاص‪ ،‬ومن‬
‫علوم ومعارف‪ ،‬ومن مناھج ونظريات‪ ،‬ومن أبنية وصروح‪ ،‬تقام بھؤالء‬
‫األشخاص‪ ،‬وبھذه العلوم والمعارف والمناھج والنظريات‪ ،‬في األخالق‬
‫واالجتماع واالقتصاد والسياسة واآلداب والفنون‪.‬‬

‫ومفتاح تصنيف البشر العرقي الساللي في السيرة التوراتية‪ ،‬أحل بني‬


‫إسرائيل في وعي اٍلبشر محل اإلله ووحيه وإرادته‪ ،‬ثم بإحالل كل قوم أنفسھم‬
‫مرجعية ومركزاً ونبعا ً لألفكار والقيم والشرائع محل اإلله‪ ،‬يعيد القوم إنتاج‬
‫سيرة التوراة لبني إسرائيل‪ ،‬لكن دون إله!‬

‫فتتكون خريطة للبشر‪ ،‬مفتاح تصنيفھم فيھا األعراق واألقوام والقوميات‪،‬‬


‫وال موضع ألحد داخلھا أن يحوز شرف االصطفاء ومعرفة وحي اإلله الحق‬
‫سوى بني إسرائيل‪ ،‬شعب اإلله المقدس‪.‬‬

‫وھذا التحريف تم دعمه وتقويته وتحويله إلى مسألة منطقية باللبنة الثانية في‬
‫بناء التحريف‪ ،‬وھي تحويل العالقة بين بني إسرائيل أو اليھود واإلله إلى عالقة‬
‫عضوية دموية‪ ،‬يكون بھا اإلله ھو إله بني إسرائيل وحدھم دون باقي األمم‬
‫‪ ( ١‬خروج‪.٧-٦ :٦ :‬‬
‫‪٢٠٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والشعوب‪ ،‬فتحول اإلله من رب العالمين إلى شيخ بني إسرائيل أو الجد األعلى‬
‫للقبيلة اليھودية‪.‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪HGFEDCBA‬‬

‫وكما أنه إلھھم وحدھم‪ ،‬فھم أيضا ً وحدھم دون العالمين شعبه الذي ال شعب‬
‫له سواه‪ ،‬وال يعنيه في البشرية إال ھم‪.‬‬

‫فالتوراة التي أظھرھا بنو إسرائيل للناس‪ ،‬وسجلھا التاريخ‪ ،‬وتتداولھا‬


‫األيدي‪ ،‬ال تذكر اإلله إال منسوبا ً لبني إسرائيل أو العبرانيين فقط‪ ،‬وال يتكلم ھو‬
‫عنھم‪ ،‬رضي أو غضب‪ ،‬إال وھم قبيلته أو شعبه‪.‬‬

‫ففي اإلصحاح الخامس من سفر الخروج أن ﷲ عز وجل قال لموسى حين‬


‫أمره أن يذھب إلى فرعون‪:‬‬

‫سى َوھَا ُرونُ َوقَاالَ لِفِ ْرع َْونَ ‪» :‬ھ َك َذا يَقُو ُل ال ﱠر ﱡ‬
‫‪١‬‬
‫ب إِلهُ‬ ‫" َوبَ ْع َد ذلِكَ د ََخ َل ُمو َ‬
‫ب‬‫ش ْعبِي لِيُ َعيﱢدُوا لِي فِي ا ْلبَ ﱢريﱠ ِة«‪ ،‬فَقَا َل فِ ْرع َْونُ ‪َ » :‬منْ ھ َُو ال ﱠر ﱡ‬
‫‪٢‬‬
‫ق َ‬ ‫س َرائِي َل‪ :‬أَ ْطلِ ْ‬
‫إِ ْ‬
‫س َرائِي َل الَ أُ ْطلِقُهُ«‪.‬‬
‫ب‪َ ،‬وإِ ْ‬‫س َرائِي َل؟ الَ أَ ْع ِرفُ ال ﱠر ﱠ‬
‫ق إِ ْ‬ ‫س َم َع لِقَ ْولِ ِه فَأ ُ ْطلِ َ‬
‫َحتﱠى أَ ْ‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪٣‬فَقَاالَ‪» :‬إِلهُ ا ْل ِع ْب َرانِيﱢينَ قَ ِد ا ْلتَقَانَا"‬

‫والقرآن بيان اإلله الخاتم والوحى المحفوظ يصحح لك التحريف‪ ،‬ويعرفك ما‬
‫الذي أمر ﷲ عز وجل به موسى وما قاله موسى لفرعون حقاً‪.‬‬

‫يقول عز وجل في سورة الشعراء‪:‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.١٨:‬‬
‫‪ ( ٢‬خروج‪.٢-١ :٥ :‬‬
‫‪٢٠٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫¿‪ÆÅÄÃÂÁÀ‬‬

‫فا" عز وجل أمر موسى عليه السالم أن يقول لفرعون أنه وأخوه رسوال‬
‫رب العالمين‪ ،‬ال أنه إله إسرائيل وال إله العبرانيين وحدھم‪.‬‬

‫بل إنه عز وجل يخبرك في بيانه أنه أمر موسى عليه السالم أن يقول‬
‫لفرعون إنه رسول رب فرعون نفسه‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫¸‪¼»º¹‬‬

‫ما حدث في التحريف أن من كتبوا التوراة وأخرجوھا للناس حرفوا‪ :‬رب‬


‫فرعون ورب العالمين إلى‪ :‬إله إسرائيل والعبرانيين وحدھم‪.‬‬

‫وألن اإلله تحول في التحريف إلى إله إسرائيل والقبيلة اليھودية وحدھا‪ ،‬وھم‬
‫وحدھم شعبه‪ ،‬فلم يعد ثَمة مجال ألمة أخرى أن تعرف اإلله‪ ،‬أو أن يكون لھا‬
‫صلة به‪ ،‬أو بوحيه وكتابه‪.‬‬

‫ومن ثَم صارت رسالة بني إسرائيل حجب اإلله عن األمم‪ ،‬ال تعريفھم به‪،‬‬
‫وتعميتھم عنه كما يعمي صاحب الكنز على الناس كنزه‪.‬‬

‫فالقرآن يخاطبھم قائالً‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫¾¿‪ËÊÉÈÇÆÅÄÃÂÁÀ‬‬

‫‪ ( ١‬الشعراء‪١٦:‬‬
‫‪ ( ٢‬طه‪.٤٧:‬‬
‫‪ ( ٣‬آل عمران‪.٩٩:‬‬
‫‪٢٠٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومما بقي من الحق في العھد القديم‪ ،‬ما وبخ به النبي عاموس في السفر‬
‫المسمى باسمه رؤساء بيت يعقوب وكھنة بني إسرائيل وآباءھم قائالً‪:‬‬

‫ْق‪ ،‬ألَنﱢي َعلِ ْمتُ‬ ‫ضونَ ا ْل ُم ْن ِذ َر‪َ ،‬ويَ ْك َرھُونَ ا ْل ُمتَ َكلﱢ َم بِ ﱢ‬
‫الصد ِ‬ ‫"إِنﱠ ُھ ْم فِي ا ْلبَا ِ‬
‫ب يُ ْب ِغ ُ‬
‫اآلخ ُذونَ ال ﱠرش َْوةَ‪،‬‬
‫ِ‬ ‫ضايِقُونَ ا ْلبَا ﱠر‪،‬‬ ‫طايَا ُك ْم َوافِ َرةٌ أَ ﱡي َھا ا ْل ُم َ‬
‫يرةٌ َو َخ َ‬ ‫أَنﱠ ُذنُوبَ ُك ْم َكثِ َ‬
‫سينَ فِي ا ْلبَا ِ‬
‫صادﱡونَ ا ْلبَائِ ِ‬
‫)‪(١‬‬
‫ب"‬ ‫ال ﱠ‬

‫وھو نفسه ما وبخھم عليه المسيح عليه السالم بعد النبي عاموس بثمانية‬
‫قرون وسجله إنجيل متى‪:‬‬

‫يسيﱡونَ ا ْل ُم َرا ُؤونَ ! ألَنﱠ ُك ْم تُ ْغلِقُونَ َملَ ُكوتَ‬‫"و ْي ٌل لَ ُك ْم أَيﱡ َھا ا ْل َكتَبَةُ َوا ْلفَ ﱢر ِ‬
‫َ‬
‫س‪ ،‬فَالَ َتد ُْخلُونَ أَ ْنتُ ْم َوالَ تَ َدعُونَ الد ِ‬
‫ﱠاخلِينَ يَد ُْخلُونَ "‬ ‫ت قُدﱠا َم النﱠا ِ‬
‫)‪(٢‬‬
‫اوا ِ‬ ‫س َم َ‬
‫ال ﱠ‬

‫واللبنة الثالثة في بناء التحريف كانت اإلقرار بوجود آلھة أخرى لألمم‬
‫األخرى‪ ،‬وإن كانت دون إله بني إسرائيل قدرة ونفاذاً وعلماً‪.‬‬

‫وھو ما تقر به التوراة وأسفار العھد القديم في مواضع متعددة‪ ،‬أولھا في‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬الينبوع المتفجر باإلفساد‪ ،‬ومن آخرھا ما‬
‫وضعه الكتبة على لسان النبي ميخا في السفر المسمى باسمه‪:‬‬

‫ب يَ ُكونُ ثَابِتًا فِي َر ْأ ِ‬


‫س ا ْل ِجبَ ِ‬ ‫آخ ِر األَيﱠ ِام أَنﱠ َجبَ َل بَ ْي ِ‬
‫"‬
‫ال‪،‬‬ ‫ت ال ﱠر ﱢ‬ ‫َويَ ُكونُ فِي ِ‬
‫وب‪َ ،‬وت َِسي ُر أُ َم ٌم َكثِ َ‬
‫يرةٌ َويَقُولُونَ ‪َ » :‬ھلُ ﱠم‬ ‫َويَ ْرتَفِ ُع فَ ْو َ‬
‫ق التﱢالَ ِل‪َ ،‬وت َْج ِري إِلَ ْي ِه ُ‬
‫‪٢‬‬
‫ش ُع ٌ‬
‫وب‪ ،‬فَيُ َعلﱢ َمنَا ِمنْ طُ ُرقِ ِه‪َ ،‬ونَ ْ‬
‫سلُكَ فِي‬ ‫ب‪َ ،‬وإِلَى بَ ْي ِ‬
‫ت إِل ِه يَ ْعقُ َ‬ ‫ص َع ْد إِلَى َجبَ ِل ال ﱠر ﱢ‬
‫نَ ْ‬

‫‪ ( ١‬عاموس‪.١٣-٩ :٥:‬‬
‫‪ ( ٢‬متى‪.١٣ :٢٣:‬‬
‫‪٢٠٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ضي‬ ‫ب‪ ،‬فَيَ ْق ِ‬


‫‪٣‬‬
‫ش ِري َعةُ‪َ ،‬و ِمنْ أُو ُر َ‬
‫شلِي َم َكلِ َمةُ ال ﱠر ﱢ‬ ‫سبُلِ ِه«‪ ،‬ألَنﱠهُ ِمنْ ِ‬
‫ص ْھيَ ْونَ ت َْخ ُر ُج ال ﱠ‬ ‫ُ‬
‫سيُوفَ ُھ ْم ِ‬
‫س َك ًكا‪،‬‬ ‫صفُ ألُ َم ٍم قَ ِوي ﱠ ٍة بَ ِعي َد ٍة‪ ،‬فَيَ ْطبَ ُعونَ ُ‬‫ب َكثِي ِرينَ ‪ ،‬ويُ ْن ِ‬‫ش ُعو ٍ‬ ‫بَيْنَ ُ‬
‫ب فِي َما بَ ْع ُد‪،‬‬ ‫اج َل‪ ،‬الَ ت َْرفَ ُع أُ ﱠمةٌ َعلَى أُ ﱠم ٍة َ‬
‫س ْيفًا‪َ ،‬والَ يَتَ َعلﱠ ُمونَ ا ْل َح ْر َ‬ ‫اح ُھ ْم َمنَ ِ‬
‫َو ِر َم َ‬
‫ب‪ ،‬ألَنﱠ فَ َم‬‫اح ٍد ت َْحتَ َك ْر َمتِ ِه َوت َْحتَ تِينَتِ ِه‪َ ،‬والَ يَ ُكونُ َمنْ يُ ْر ِع ُ‬ ‫سونَ ُك ﱡل َو ِ‬ ‫بَ ْل يَ ْجلِ ُ‬
‫‪٤‬‬

‫س ِم إِل ِھ ِه‪َ ،‬ونَ ْحنُ‬ ‫سلُ ُكونَ ُك ﱡل َو ِ‬


‫اح ٍد بِا ْ‬ ‫ب يَ ْ‬
‫ش ُعو ِ‬ ‫ب ا ْل ُجنُو ِد تَ َكلﱠ َم‪٥ ،‬ألَنﱠ َج ِمي َع ال ﱡ‬ ‫َر ﱢ‬
‫)‪(١‬‬
‫ب إِل ِھنَا ِإلَى ال ﱠد ْھ ِر َواألَبَ ِد"‬ ‫سلُ ُك بِا ْ‬
‫س ِم ال ﱠر ﱢ‬ ‫نَ ْ‬

‫والعلة في إقرار بني إسرائيل واليھود بوجود آلھة أخرى مع إله التوراة‬
‫إلھھم‪ ،‬ھي أن تضل األمم واألقوام بآلھتھا‪ ،‬فال ترنو إلى إله التوراة وال تعرفه‬
‫وال تصل إليه‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ ،‬صارت رسالة بني إسرائيل‪ ،‬بدالً من ھداية األمم واألقوام إلى‬
‫اإلله الحق ووحيه‪ ،‬تضليلھم عنه‪ ،‬بتزيين الضالل لمن اھتدى وتنظيره وفلسفته‪،‬‬
‫وبإقرار من ضل على ضالله‪ ،‬وأن ضالله ھو عين الحق‪ ،‬كما أخبرنا عز وجل‬
‫في بيانه المعصوم‪:‬‬

‫‪ÒÑÐ ÏÎÍÌËÊÉÈÇ‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪ÛÚÙØ×ÖÕÔÓ‬‬

‫ومع تضليل األمم واألقوام عن اإلله من أجل احتكاره واحتكار معرفته لكي‬
‫يظل التقديس واالصطفاء لھم وحدھم‪ ،‬عمد بنو إسرائيل ومن تك ﱠون حولھم من‬

‫‪ ( ١‬ميخا‪.٥-٤:١:‬‬
‫‪ ( ٢‬النساء‪.٥١:‬‬
‫‪٢٠٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اليھود إلى إرشاد األمم إلى نقيض ما أرشد إليه الوحي في كل أمر ومسألة‪ ،‬لكي‬
‫تنقطع صلتھم باإلله انقطاعا ً تاما ً‪ ،‬وال يكون ثَمة احتمال ألن يصل أحد إلى اإلله‬
‫الحق فيزول التقديس وتتساوى معھم األمم‪.‬‬

‫فمحور حركة بني إسرائيل في التاريخ وعملھم في البشرية‪ ،‬صارت دفع‬


‫البشر بعيداً عن اإلله وتضليلھم عنه‪ ،‬وقيادتھم أخالقيا ً واجتماعيا ً واقتصاديا ً‬
‫وسياسيا ً بنسيج شامل مترابط محكم‪ ،‬ھو بالضبط نقيض وحي السماء في كل‬
‫مسألة‪ ،‬وتكوين أمة تكون نموذجا ً وقدوة لغيرھا من األمم في الفساد‪ ،‬ال في‬
‫الصالح الذي اصطفاھم عز وجل من أجله‪.‬‬

‫وھو ما وبخھم عليه النبي ميخا في السفر المسمى باسمه صريحاً‪:‬‬

‫س َرائِي َل‪ ،‬الﱠ ِذينَ يَ ْك َرھُونَ‬ ‫وب َوقُ َ‬ ‫س َم ُعوا ھ َذا يَا ُرؤَ َ‬
‫"‬
‫ضاةَ بَ ْي ِ‬
‫ت إِ ْ‬ ‫ت يَ ْعقُ َ‬ ‫سا َء بَ ْي ِ‬ ‫اِ ْ‬
‫ص ْھيَ ْونَ بِال ﱢد َما ِء‪َ ،‬وأُو ُر َ‬
‫شلِي َم‬ ‫يم‪ ،‬الﱠ ِذينَ يَ ْبنُونَ ِ‬
‫‪١٠‬‬
‫ستَقِ ٍ‬‫ق َويُ َع ﱢو ُجونَ ُك ﱠل ُم ْ‬ ‫ا ْل َح ﱠ‬
‫ضونَ بِال ﱠرش َْو ِة‪َ ،‬و َك َھنَتُ َھا يُ َعلﱢ ُمونَ بِاألُ ْج َر ِة‪َ ،‬وأَ ْنبِيَا ُؤھَا‬ ‫ﱡ ‪١١‬‬
‫ظ ْل ِم‪ُ ،‬رؤَ َ‬
‫سا ُؤھَا يَ ْق ُ‬ ‫بِال‬
‫س ِطنَا؟ الَ‬ ‫ب قَائِلِينَ ‪» :‬أَلَ ْي َ‬
‫س ال ﱠر ﱡب فِي َو َ‬ ‫يَ ْع ِرفُونَ بِا ْلفِ ﱠ‬
‫ض ِة‪َ ،‬و ُھ ْم يَت ََو ﱠكلُونَ َعلَى ال ﱠر ﱢ‬
‫)‪(١‬‬
‫يَأْتِي َعلَ ْينَا ش ﱞَر!"‬

‫عمل بني إسرائيل واليھود في التاريخ صار تكريه األمم في الحق وتعويج‬
‫كل مستقيم‪.‬‬

‫وألن‪" :‬الرب في وسطنا"‪ ،‬وألن منھج الصالح واإلصالح وخطة تصحيح‬


‫مسار البشرية ھي من إله التوراة الذي ھو إله بني إسرائيل واليھود فقط‪ ،‬فال‬

‫‪ ( ١‬ميخا‪.١٠-٩ :٣:‬‬
‫‪٢١٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫حق لألمم األخرى في معرفتھا وال االھتداء بھا‪ ،‬فليبحث كل قوم عن منھجھم‬
‫وأسلوب حياتھم عند إلھھم!‬

‫فإذا أردت أن تعرف اآلن لماذا أولى ﷲ عز وجل ھذا التحريف ھذه العناية‪،‬‬
‫ولماذا وضعه في صيغة المضارعة واختصه بھذه المساحة وألح في إخبارنا‬
‫به‪ ،‬فألن الذي عرفناك به من طمس مفتاح تصنيف البشر اإللھي العقائدي‪،‬‬
‫وإحالل مفتاح التصنيف البني إسرائيلي العرقي الساللي مكانه‪ ،‬واحتكار اإلله‬
‫ووحيه وخطة إصالحه‪ ،‬واإلقرار بآلھة أخرى لغير بني إسرائيل من األمم‪ ،‬ھو‬
‫أصل المسألة القومية والبذرة التي أثمرت المعمار القومي للعالم‪.‬‬

‫مسألة األلوھية وحجب الوحي عن البشر ھي الجذر العميق للمسألة القومية‪،‬‬


‫إذ بمفتاح تصنيف البشر المزور صار لكل إله قومه ولكل قوم إلھھم‪ ،‬ھو‬
‫حدودھم ومصدر الرابطة بينھم‪ ،‬وھو الذي يفصل بينھم وبين غيرھم‪ ،‬وھو منبع‬
‫أفكارھم وأخالقھم وشرائعھم‪ ،‬وھو ميزان من يوالون ومن يعادون‪.‬‬

‫فاإلله الحق ھو إله بني إسرائيل وحدھم‪ ،‬وكل قوم غيرھم لھم إلھھم‬
‫يصنعونه من الحجر‪ ،‬أو يصنعه لھم بنو إسرائيل من البشر!‬

‫يقول المؤرخ األمريكي ول ديورانت في قصته للحضارة الغربية‪ ،‬وھو‬


‫يفسر تطور الديانة في التوراة من عبادة آلھة متعددة إلى عبادة إله واحد‪ ،‬لكنه‬
‫إله اليھود وحدھم ال إله البشر جميعاً‪:‬‬

‫"التوحيد حتى في يومنا ھذا إنما ھو توحيد نسبي ناقص‪ ،‬فكما كان اليھود‬
‫يعبدون إلھا ً قبلياً‪ ،‬فإنا نحن أيضا ً نعبد إلھا ً أوروبياً‪ ،‬أو إلھا ً إنجليزيا ً أو ألمانيا ً‬

‫‪٢١١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أو إيطاليا ً ‪ ...‬ولن يكون للعالم كله إله واحد حتى تربط اآلالت األرض وتؤلف‬
‫)‪(١‬‬
‫بينھا وتجعلھا وحدة اقتصادية‪ ،‬وتجمع األمم كلھا في حكومة واحدة"‬

‫فديورانت‪ ،‬ألنه أمي حُرم علم الوحي‪ ،‬يعتقد أن البشرية بدأت بالشرك‬
‫وعبادة آلھة متعددة‪ ،‬ثم ارتقت حتى وصلت إلى الوحدانية‪ ،‬وھي إحدى ثمار‬
‫التحريف البني إسرائيلي‪ ،‬لكنه وضع يده من حيث ال يدري وال يعي على أصل‬
‫المسألة القومية‪.‬‬

‫فبنو إسرائيل وإلھھم القومي ھم النموذج الذي تكونت القوميات على غراره‪،‬‬
‫وبمحاكاة سيرتھم في التوراة‪ ،‬وببث بني إسرائيل لمفتاح تصنيف البشر المزور‬
‫والخريطة العرقية في كل مكان يحلون فيه‪ ،‬من أجل إزالة مسألة األلوھية من‬
‫وعي البشر وحجب اإلله ووحيه عنھم‪.‬‬

‫بنو إسرائيل‪ ،‬أو العبرانيون‪ ،‬كما يقول ھانس كھن‪ ،‬في كتابه‪ :‬القومية معناھا‬
‫وتاريخھا‪ ،‬ھم المعين الذي نبعت منه أصول القومية‪ ،‬ألنه‪:‬‬

‫"قد نشأت عند العبرانيين الخصائص الجوھرية الثالثة التي تتسم بھا‬
‫القومية‪ ،‬وھي فكرة الشعب المختار‪ ،‬واالحتفاظ بتراث مشترك من ذكريات‬
‫الماضي وآمال المستقبل‪ ،‬وأخيراً انتظار البطل القومي الموعود‪ ،‬ويبدأ تاريخ‬
‫)‪(٢‬‬
‫العبرانيين بالميثاق الذي تم بين ﷲ وشعبه"‬

‫‪ ( ١‬ول ديورانت‪ :‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.٣٤٤-٣٤٣‬‬


‫‪ ( ٢‬ھانس كھن‪ :‬القومية‪ ،‬معناھا وتاريخھا‪ ،‬ص‪.٥‬‬
‫‪٢١٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الجذر العميق للمسألة القومية ولقوميات الغرب‪ ،‬وجود صورة ذھنية لإلله‬
‫عند كل قوم تخالف ما عند غيرھم‪ ،‬وبھذه الفروق بين صورة اإلله في األذھان‬
‫وما تراكم من آثارھا قامت الحدود والفواصل‪ ،‬وافترقت األقوام‪ ،‬وتباينت األمم‪.‬‬

‫والحاكم أو السلطة أو النخبة في القوم‪ ،‬كما فطن ديورانت‪ ،‬ليست سوى‬


‫نموذج أو صورة لسلطة اإلله في أذھانھم‪ ،‬ويستوي في ذلك أن يكون حكمھم‬
‫باسم اإلله أو بغير اسمه‪.‬‬

‫فإذا حكم الحاكم أو النخبة باسم اإلله فھي تَخلُفه في البشر‪ ،‬وإذا حكمت بغير‬
‫اسمه‪ ،‬فبسلطة التشريع وقوة السلطة ھي اإلله نفسه!‬

‫والخريطة القومية ومفتاح تصنيف البشر الذي زوره بنو إسرائيل من أجل‬
‫إزاحة اإلله والوحي من وعي البشر‪ ،‬ليست سوى خريطة تفريغ ھائلة للعالم من‬
‫المعاني واألخالق والقيم والمعايير والموازين‪.‬‬

‫فاإلله‪ ،‬كما قد علمت من خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬ھو مصدر االخالق والقيم‪،‬‬
‫وھو عز وجل الذي يمنحھا معناھا‪ ،‬وھو سبحانه ضابط العالقات بين البشر‬
‫ومركز اتزانھا ومحور توازنھا‪ ،‬والذي يحدد قواعدھا‪.‬‬

‫أما األقوام والقوميات فليس فيھا من عند نفسھا ما يُعرف به معنى القيم‬
‫واألخالق أو كيف ھي ضوابط العالقات بين البشر‪ ،‬فتصير ھذه كلھا ھائمة بال‬
‫مصدر وال ضابط‪.‬‬

‫ما يثمره مفتاح التصنيف البني اإلسرائيلي المزور ھو خريطة قومية للبشر‪،‬‬
‫نخبة كل قوم فيھا ھي إلھھم‪ ،‬فھي مصدر فھمھم للوجود وتحكم وعيھم‪،‬‬

‫‪٢١٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ويكونون ھم قيمھم وأخالقھم بتقليدھا‬


‫ﱢ‬ ‫وبالقوانين والتشريعات تتحكم في حياتھم‪،‬‬
‫ومحاكاتھا‪ ،‬وھذه النخب‪ ،‬ھي نفسھا‪ ،‬تفھم الوجود وتكون قيمھا وأخالقھا بتقليد‬
‫بني إسرائيل ومحاكاة سيرتھم!‬

‫أخبرناك من قبل أن الطائفة من بني إسرائيل التي تكتم الوحي وتتوارث بث‬
‫تحريفه في البشر عبر العصور‪ ،‬والتي أنبأك ﷲ عز وجل بھا وھتك لك سرھا‬
‫في بيانه إلى خلقه‪ ،‬ھي رأس ھرم الماسونية والحركات السرية في العالم‪ ،‬فاآلن‬
‫اعلم أن الثورة الفرنسية‪ ،‬التي أطاحت بالمسيحية من الغرب‪ ،‬وأزاحت مفتاح‬
‫التصنيف اإللھي للبشر منه بمفتاح التصنيف البني إسرائيلي العرقي الساللي‪،‬‬
‫وأعادت تكوين أممه وشعوبه وبناء معماره ورسم خرائطه وحدوده القومية‪ ،‬لم‬
‫)•(‬
‫تكن سوى ثورة يھودية ماسونية خالصة‬

‫وھذا ھو إفساد بني إسرائيل في األرض كلھا‪.‬‬

‫ثم اعلم أن ما يسميه البعض في بالد العرب نھضة وتنويراً‪ ،‬وما يصمه‬
‫آخرون باالستعمار الغربي‪ ،‬أو بأنه غزو ثقافي‪ ،‬لم يكن في حقيقته سوى غزو‬
‫توراتي شنه بنو إسرائيل‪ ،‬ومن استوطن بنو إسرائيل وعيھم وأذھانھم من‬
‫اليھود والماسون‪ ،‬بعد أن أعادوا تكوين الغرب وبناءه بغاياتھم وأھدافھم‪ ،‬وبعد‬
‫أن امتلكوا زمامه وامتطوا ظھره‪ ،‬من أجل َسلﱢ مفتاح التصنيف اإللھي من‬
‫شعوب ھذه البالد)••(‪ ،‬وتسريب مفتاح تصنيفھم المزور للبشر إليھا‪ ،‬وإعادة‬

‫• ( لمعرفة حقيقة الثورة الفرنسية‪ ،‬وأنھا تدبير يھودي ماسوني خالص‪ ،‬ارجع إلى كتابنا‪ :‬اليھود والماسون‬
‫في الثورات والدساتير‪ ،‬مكتبة مدبولي‪.‬‬
‫•• ( سل الشئ‪ :‬سرقه أو انتزعه خفية وبرفق دون أن يشعر به أحد‪.‬‬
‫‪٢١٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھندستھا ورسم خرائطھا وبناء معمارھا وتكوين مجتمعاتھا والعالقات بينھا‬


‫بمفتاح التحريف‪.‬‬

‫ما دفع بنو إسرائيل الغرب اليھودي الماسوني إلى بالد العرب من أجله ھو‬
‫محو خريطتھا اإللھية القرآنية التي مفتاحھا‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫¬®¯‬

‫وإخراج الخريطة ال ُساللية العرقية القومية من بطن التوراة إلى عقول‬


‫شعوبھا ونفوسھم‪ ،‬ثم إلى أراضيھا‪ ،‬وإعادة رسم خرائطھا وحدودھا بھا‪ ،‬ألن‬
‫ھذه ھي الخريطة التي يتحكم بھا بنو إسرائيل في وعي البشر‪ ،‬أدركوا ذلك أو لم‬
‫يدركوه‪ ،‬فھي الخريطة التي في قلبھا وموقع السيادة والتحكم منھا بنو إسرائيل‪،‬‬
‫واألمم والشعوب األخرى كلھا تدور فيھا من حولھم‪.‬‬

‫فبالليص ستان العربية التوراتية تدور بالغرب ومن حوله‪ ،‬والغرب يدور‬
‫باليھود والماسون ومن حولھم‪ ،‬واليھود يدورون بالطائفة من بني إسرائيل التي‬
‫تتوارث تحريف الوحي ومن حولھا‪.‬‬

‫ووصول مفتاح تصنيف البشر البني إسرائيلي إلى البالد التي أنزل عليھا‬
‫الوحي وتكونت به‪ ،‬وإزاحته لمفتاح التصنيف اإللھي منھا ومن خرائطھا‪،‬‬
‫وإعادة تكوينھا ورسم خرائطھا وھندسة معمارھا بالتحريف‪ ،‬ھو علو بني‬
‫إسرائيل الكبير‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الحجرات‪.١٠:‬‬
‫‪٢١٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٢١٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺧﺮﻳﻄﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺒﻨﻲ إﺳﺮاﺋﻴﻠﻴﺔ‬


‫‪srqpon‬‬
‫)اﻟﺒﻘﺮة‪(٤١:‬‬

‫‪٢١٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٢١٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اي ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬
‫القرآن بيان ﷲ عز وجل النھائي والخاتم إلى خلقه‪ ،‬ووظيفة ھذا البيان‬
‫وغايته األولى بناء وعى البشر وتكوين أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وإمدادھم بالمعارف‬
‫التى ال مصدر لھا غيره‪ ،‬والتي ليس فى طاقة اإلنسان وما يملكه من أدوات‬
‫ووسائل للمعرفة أن يعرفھا أو أن يصل إليھا‪.‬‬

‫وترتيب القرآن في آياته وسورة‪ ،‬كما تعلم‪ ،‬توقيفي باتفاق العلماء جميعا ً‪،‬‬
‫ومعنى ذلك أن الترتيب النھائي آليات القرآن وسوره وحي من ﷲ عز وجل إلى‬
‫رسوله الخاتم‪ ،‬التزم به‪ ،‬وألزم به من كانوا يكتبون ما يمليه عليھم من كتبة‬
‫الوحي‪.‬‬

‫وعن السيدة عائشة‪ ،‬عن السيدة فاطمة رضي ﷲ عنھما أنھا قالت‪ :‬إن النبي‬
‫عليه الصالة والسالم‪:‬‬

‫"أسر إل ّي‪ :‬أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة‪ ،‬وإنه عارضني‬
‫)‪(١‬‬
‫العام مرتين وال أراه إالﱠ حضر أجلي"‬

‫إذاً ترتيب سور القرآن وآياته ترتيب مقصود مراد‪ ،‬وھو وحي من ﷲ عز‬
‫وجل‪.‬‬

‫‪ ( ١‬أخرجه البخاري ومسلم واإلمام أحمد وابن ماجه‪.‬‬


‫‪٢١٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإذا أردت قراءة القرآن أو السير فيه‪ ،‬فستبدأ رحلتك فيه من أوله‪ ،‬فتقابلك‬
‫فاتحة الكتاب التي ھي بوابة القرآن‪ ،‬والعھد الذى بين ﷲ عز وجل وبين كل‬
‫إنسان‪ ،‬وأم القرآن التي ال تصح صالة إال بھا‪.‬‬

‫فإذا واصلت رحلتك فى القرآن قابلك الربع األول من سورة البقرة‪ ،‬فھذا‬
‫الربع األول من سورة البقرة ھو مدخل القرآن الذي يستقبل داخله بعد عبور‬
‫الفاتحة‪ ،‬ويعرفه بالصرح الذي دخله وتكوينه وسماته وماذا يكون‪.‬‬

‫فإذا جُلت في القرآن‪ ،‬مع بداية رحلتك فيه‪ ،‬في ھذا المدخل وجدته يعرفك‬
‫بحقيقته وصفته‪ ،‬وھي أنه الكتاب الذي ال ريب فيه ھدى للمتقين‪ ،‬ثم يصف لك‬
‫ھؤالء المتقين وحالھم‪ ،‬ثم يقارنھم بالكافرين وكيف ختم ﷲ على قلوبھم‪ ،‬وماذا‬
‫ينتظرھم من عذاب عظيم‪.‬‬

‫ثم يعرفك القرآن بالمنافقين‪ ،‬وبصفتھم وجدالھم وذرائعھم ومرض قلوبھم‪ ،‬ثم‬
‫يضرب لك األمثال للتعريف بھم والتشبيه بحالھم‪.‬‬

‫ويعرفك القرآن أن الرسالة التي يوجھھا لك ولكل الناس‪ ،‬ھى أن يعبدوا ربھم‬
‫الذى خلقھم والذين من قبلھم‪ ،‬وأنعم عليھم بنعمه وآالئه التي ال تحصى في‬
‫السماء واألرض‪ ،‬ويبين لك ما الذي أُعد لمن كفر وعصى من نار وقودھا‬
‫الناس والحجارة‪ ،‬وما ھُيأ للمؤمنين من جنات ونعيم‪.‬‬

‫وما إن تجتاز مدخل القرآن في الربع األول إلى الربع الثاني حتى تقابلك‬
‫قصة الخلق‪.‬‬

‫‪٢٢٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وقصة الخلق جاءت في مواضع عدة من القرآن‪ ،‬في سورة األعراف‪،‬‬


‫وسورة الحجر‪ ،‬وسورة طه‪ ،‬وسورة ص‪ ،‬وكل سورة من ھذه السور تعرض‬
‫مشھداً من مشاھد قصة الخلق‪ ،‬أو جانبا ً منھا‪ ،‬لكن سورة البقرة التي تستقبل‬
‫داخل القرآن وقارئه ھي الموضع الوحيد الذي تأتي فيه قصة الخلق متكاملة‪،‬‬
‫وھي أكثر مواضع قصة الخلق في القرآن تفصيالً‪.‬‬

‫وھذا شئ مراد ومقصود‪ ،‬ألن قصة الخلق‪ ،‬كما عرفناك‪ ،‬ھى المصدر األول‬
‫لتكوين لوعي اإلنسان ولبناء ذھنه ونفسه‪ ،‬وھي التي تحكم كل ما يتخلق فيھا‬
‫وتتحكم في كل ما تثمره‪ ،‬وھي الخريطة التي تُعرف اإلنسان ماذا يكون‪ ،‬ومن‬
‫أين أتى‪ ،‬ولماذا وجد على األرض‪ ،‬وما مھمته فيھا‪ ،‬وھي التي تُعرفه إلى أين‬
‫يسير‪ ،‬وتعرفه بحقيقة العالقة بين مكونات الوجود ومواقعھا منه‪ ،‬وموقع كل‬
‫منھا من األخرى‪ ،‬وموقعه ھو نفسه من الوجود‪.‬‬

‫فقصة الخلق ھي التي تعرف اإلنسان باإلله وحقيقة األلوھية‪ ،‬وبحقيقة إبليس‬
‫أو الشيطان وما يحكم عالقته باإلنسان‪ ،‬وتعرفه بالكون والطبيعة وما طبيعة‬
‫العالقة بينه وبينھا‪ ،‬وتعرفه اإلنسان بذاته ھو نفسه‪ ،‬لماذا يختلف عن باقي‬
‫المخلوقات‪ ،‬وتعرفه بالعلم ووسائل تحصيله للمعرفة التي أوتيھا من أين جاءته‬
‫ولماذا وھبت له‪.‬‬

‫لذلك‪ ،‬كما فھمت اآلن‪ ،‬أي عبث بقصة الخلق أو طمس لھا أو تغيير في‬
‫تفاصيلھا يفضي إلى اختالل وعي اإلنسان‪ ،‬واضطراب تكوينه‪ ،‬وفساد بنائه‬
‫الذھني والنفسي‪ ،‬وإلى تضارب عناصر الوجود وفقدان العالقة بينھا‪ ،‬بل‬

‫‪٢٢١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ويفضي إلى جھل اإلنسان بنفسه وضربه أخماسا ً في أسداس وھو يحاول‬
‫الوصول إلى حقيقته وكنه ذاته‪.‬‬

‫من غير خريطة الوجود‪ ،‬أو بتحريفھا والعبث بھا‪ ،‬يفقد اإلنسان كينونته‬
‫ووجوده‪ ،‬ويصير‪ ،‬كما قالت نظرية التطور‪ ،‬حيوانا ً تائھا ً وجد نفسه في صحراء‬
‫ال يعرف من أين ابتدأت‪ ،‬والى أين تنتھي‪ ،‬ولماذا وجد فيھا‪ ،‬وفي أي موضع ھو‬
‫منھا‪ ،‬وإلى أي اتجاه يسير ويكون سيره آمناً‪.‬‬

‫واإلنسان‪ ،‬بتحريف قصة الخلق والعبث بھا‪ ،‬كأنه في صحراء ومعه خريطة‬
‫تضلله وتفضي به إلى المھالك‪ ،‬بدالً من أن ترشده وتدله على سبيل النجاة‪.‬‬

‫قصة الخلق وخريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وما تحويه من مكوناتھا‪ ،‬ھي لُب‬
‫الوحي‪ ،‬وھي نواته التي يدور كل شئ فيه حولھا‪ ،‬ومن غيرھا تفقد الشرائع‬
‫والتكاليف أصلھا ومصدرھا الذي تنبت منه ويرويھا ويمنحھا معناھا‪.‬‬

‫خريطة الوجود اإللھية ھي الوحي الذي أنزله ﷲ عز وجل على بني‬


‫إسرائيل‪ ،‬واستودعھم إياه‪ ،‬لكي يتكون به وعيھم‪ ،‬ولكي يقيموا به أمة الوحي‪،‬‬
‫التي تحمل الخريطة اإللھية إلى أمم االرض كلھا‪ ،‬وتھديھم إليھا مترجمة فيھم‪،‬‬
‫وفي فھمھم للوجود والحياة‪ ،‬وفي مجتمعھم وأخالقھم وسلوكھم‪.‬‬

‫وھو ما أخبرك به بيان ﷲ الخاتم إلى خلقه‪ ،‬بصياغته المعجزة‪ ،‬وما تحمله‬
‫من رسائل مشفرة في لغته‪ ،‬وملفوفة في نسيج أساليبه‪ ،‬ومكنونة في عمق آياته‪.‬‬

‫‪٢٢٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإليك أوالً نموذجا ً على الذھول بمعاني الكلمات واآليات القريبة المباشرة‬
‫عن ھذه الصياغة المعجزة وعن ھذه الشفرات وھذا النسيج‪ ،‬وما يفضي إليه ھذا‬
‫الذھول من ضياع الرسائل المرسلة فيه‪ ،‬وفقدان ما تحويه من معارف‪.‬‬

‫يقول دكتور فتحي محمد الزغبي في كتابه‪ :‬تأثر اليھودية باألديان الوثنية‪،‬‬
‫وھو في األصل أطروحته التي حصل بھا على درجة الدكتوراة في العقيدة‬
‫والفلسفة من كلية أصول الدين بجامعة األزھر‪ ،‬في سياق تعقيبه على علماء‬
‫الغرب الذين يقولون إن قصة الخلق التوراتية في سفر التكوين اقتبسھا كاتبھا‬
‫من الديانات الوثنية التي عاصرھا‪:‬‬

‫"والحقيقة أننا ال يمكن أن نتابعھم في ھذا الرأي على وجه اإلطالق‪ ،‬وإنما‬
‫الذي يمكننا ان نقوله في ھذا الشأن أننا أمام احتمالين‪ :‬االحتمال األول‪ :‬ھو أن‬
‫التوراة المنزلة على سيدنا موسى كانت خالية تماما ً من قصة الخلق‪ ،‬وأنھا‬
‫كانت تشتمل على عدة وصايا وتشريعات فقط ‪ ...‬واما االحتمال الثاني‪ :‬فھو أن‬
‫توراة موسى السماوية كانت تحتوي على قصة الخلق كما أنزلھا ﷲ سبحانه‪،‬‬
‫وحدث أن فُقدت ھذه التوراة وقام اليھود بتضييعھا‪ ،‬ثم حينما عثروا على‬
‫أجزاء منھا كانت تحتوي على قصة الخلق األصلية أو جزء منھا‪ ،‬وقام الكتبة‬
‫)‪(١‬‬
‫بخلط ھذه القصة بأساطير الديانات الوثنية"‬

‫ونقول لك‪ :‬لو كان الذي أنزل على موسى عليه السالم الوصايا والتشريعات‬
‫فقط‪ ،‬لما كان ثَمة تحريف‪ ،‬فھذه الوصايا والتشريعات موجودة في التوراة التي‬
‫أخرجھا بنو إسرائيل للعالم وعرفھا التاريخ وتتداولھا األيدي إلى يومك ھذا‪ ،‬في‬

‫‪ ( ١‬دكتور فتحي محمد الزغبي‪ :‬تأثر اليھودية باألديان الوثنية‪ ،‬ص‪.٥٢٩-٥٢٧‬‬


‫‪٢٢٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الوصايا العشر‪ ،‬وفي غيرھا من التعاليم المنسوبة لموسى في التوراة‪ ،‬ولغيره‬


‫من األنبياء في أسفار العھد القديم‪ ،‬وھي في مجملھا توافق الوحي األصيل وال‬
‫تخالفه‪.‬‬

‫ما أُنزل على بني إسرائيل في التوراة فكتموه وأخرجوا للعالم تحريفه‪ ،‬أشد‬
‫خطراً‪ ،‬وأكبر وأعمق أثراً في وعي البشر وتكوين العالم من الوصايا‬
‫والتشريعات‪.‬‬

‫وقصة الخلق ليست فقط كانت موجودة في التوراة التي أنزلت على موسى‬
‫عليه السالم‪ ،‬بل ھي رسالة ھذه التوراة األساسية لبني إسرائيل‪ ،‬وھي البصائر‬
‫والھدى والرحمة التي أُمروا ان يحملوھا للناس جميعاً‪.‬‬

‫خريطة الوجود اإللھية ھي الوحي الذي استأمن ﷲ عز وجل بني إسرائيل‬


‫عليه‪ ،‬فاختصوا بھا أنفسھم‪ ،‬وأخفوھا وكتموھا عن البشر‪ ،‬ولفقوا تحريفا ً لھا‪،‬‬
‫ليضللوھم عنھا‪.‬‬

‫قصة الخلق وخريطة الوجود اإللھية ھي الوحي المخبوء الذي تتوارثه طائفة‬
‫من بني إسرائيل‪ ،‬والخريطة المزورة ھي التحريف الذي تتوارث ھذه الطائفة‬
‫بث مكوناته في األمم والشعوب‪ ،‬وتتحكم من خاللھا في وعي البشر‪ ،‬وتحكم كل‬
‫ما يتكون فيه وما ينتجه وما يخرج منه‪.‬‬

‫وكتم خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وبث الخريطة المحرفة مكانھا‪ ،‬وإزاحة تلك‬
‫من وعي البشر ومما يدركه وينتجه بھذه‪ ،‬ھو ما من أجله أفرد ﷲ عز وجل في‬

‫‪٢٢٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بيانه إلى خلقه لھذه الطائفة من بني إسرائيل ما لم يفرده ألحد في العالمين‬
‫غيرھم‪.‬‬

‫فاآلن تأھب للتحليق في سموات الوحي‪ ،‬لترى كيف يخبرك بيان ﷲ عز‬
‫عل بذلك‪.‬‬
‫وجل إلى خلقه من ٍ‬

‫تبدأ قصة الخلق الكاملة والمفصلة في القرآن في اآلية الثالثين من سورة‬


‫البقرة بقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪IHGFEDCBA‬‬

‫وتنتھي في اآلية الثامنة والثالثين واآلية التاسعة والثالثين بقوله تعالى‪:‬‬

‫‪QPONMLKJIHGFEDCBA‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪_^]\[ ZYXWVUTSR‬‬

‫بعد انتھاء قصة الخلق في اآلية التاسعة والثالثين‪ ،‬يفاجئك القرآن بنقلك من‬
‫قصة الخلق وبداية سيرة البشر على األرض إلى سيرة بني إسرائيل مباشرة‪.‬‬

‫فاآليتان األربعون والحادية واألربعون‪:‬‬

‫` ‪k j i h g f e d c b a‬‬


‫‪| { z y x w v u t s r q p o n  ml‬‬
‫)‪(١‬‬
‫}~_`‪a‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٣٠:‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٣٩-٣٨:‬‬
‫‪٢٢٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالقرآن بعد ذكر قصة الخلق المفصلة الكاملة ألول مرة فيه‪ ،‬ينقلك مباشرة‬
‫إلى سيرة بني إسرائيل‪ ،‬ويُسقط كل ما بينھما من قصص األنبياء وسير األمم‪.‬‬

‫وبين قصة الخلق وبين سيرة بني إسرائيل‪ ،‬قصة نوح عليه السالم وقومه‪،‬‬
‫وقصة إبراھيم عليه السالم وقومه‪ ،‬ولوط عليه السالم وقومه‪ ،‬وھود عليه‬
‫السالم وقومه‪ ،‬وصالح عليه السالم وقومه‪ ،‬وشعيب عليه السالم وقومه‪.‬‬

‫فھل ھذا االنتقال من قصة الخلق إلى سيرة بني إسرائيل مباشرة تلقائي بال‬
‫غاية‪ ،‬أم ھو مقصود لمعنى وشئ يريد عز وجل أن ينبھك إليه؟‬

‫فإليك نموذجا ً على فھم لماذا كان ھذا االنتقال‪ ،‬وتفسيراً لما أفرده ﷲ عز‬
‫وجل لبني إسرائيل في بيانه‪.‬‬

‫يقول فضيلة الشيخ الشعراوي‪:‬‬

‫"الحق سبحانه وتعالى أراد أن يقص علينا مواكب الرساالت وكيف استقبل‬
‫بنو آدم منھج ﷲ بالكفر والعصيان‪ ،‬فاختار جل جالله بني إسرائيل ألنھا أكثر‬
‫القصص معجزات‪ ،‬وأنبياء بني إسرائيل من أكثر األنبياء الذين أرسلوا ألمة‬
‫واحدة‪ ،‬ألنھم كانوا أكثر األمم عصيانا ً وآثاما ً ‪ ...‬ولذلك أخذت قصة بني‬
‫)‪(٢‬‬
‫إسرائيل ذلك الحجم الضخم في كتاب ﷲ"‬

‫مرة أخرى‪ ،‬ما حكم ف ْھم المفسرين جميعاً‪ ،‬وليس الشيخ الشعراوي وحده‪،‬‬
‫وما سيطر على أذھانھم‪ ،‬وھم يتعاملون مع ما يقوله القرآن عن بني إسرائيل‪،‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٤١-٤٠:‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسيرر الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٢٨٥‬‬
‫‪٢٢٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أنه إخبار عن وقائع قديمة ميتة‪ ،‬وليس عن سيرة حية‪ ،‬آثارھا متدفقة في الزمان‬
‫وفاعلة في الحياة‪ ،‬يخبرنا بھا عز وجل لننتبه إليھا ونتعقبھا‪ ،‬ال لمجرد االعتبار‬
‫والعظة بھا‪.‬‬

‫ومن المثير الذي لم يلتفت إليه إال قليل من المفسرين‪ ،‬أن الخروج من قصة‬
‫الخلق وافتتاح سيرة بني إسرائيل‪ ،‬جاء في صورة انتقال من رواية قصة االخلق‬
‫في صيغة الغيب إلى توجيه النداء والخطاب إلى بني إسرائيل في صيغة‬
‫الحضور والشھود‪ ،‬وليس اإلخبار عنھم في صيغة الغيب‪.‬‬

‫فا" عز وجل بعد قصة الخلق ينادي بني إسرائيل‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫`‪a‬‬

‫ومن انتبه من المفسرين‪ ،‬حاول تفسير ھذا االلتفات ونداء ﷲ عز وجل‬


‫وخطابه لبني إسرائيل معزوالً عن قصة الخلق السابقة عليه مباشرة‪ ،‬ودون أن‬
‫يفطن أو يشير إلى أي صلة بينھما‪.‬‬

‫فبعضھم فھم أن خطاب ﷲ عز وجل لبني إسرائيل‪:‬‬

‫"انتقال من موعظة المشركين إلى موعظة الكافرين من أھل الكتاب‪،‬‬


‫و ُوجه الخطاب ھنا إلى بني إسرائيل ألنھم أشھر األمم المتدينة ذات الكتاب‬
‫)‪(٢‬‬
‫الشھير والشريعة الواسعة"‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٤٠:‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٤٤٧‬‬
‫‪٢٢٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالشيخ الطاھر بن عاشور‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬وصل سيرة بني إسرائيل بموعظة‬


‫المشركين والمنافقين في الربع األول من سورة البقرة‪ ،‬وأسقط قصة الخلق التي‬
‫بينھما‪ ،‬وعدھا اعتراضا ً ال صلة له بسيرة بني إسرائيل أصالً!‬

‫وبعضھم فھم أن خطاب بني إسرائيل‪ ،‬ألن خطابھم وقص سيرتھم التي ال‬
‫يعلمھا غيرھم دليل على صدق النبي عليه الصالة والسالم وبرھان نبوته‪.‬‬

‫يقول اإلمام الطبري‪:‬‬

‫"خصھم بالخطاب‪ ،‬ألن الذي احتج به من اآليات التي فيھا أنباء أسالفھم‬
‫وأخبار أوائلھم وقصص األمور التي ھم بعلمھا مخصوصون دون غيرھم من‬
‫سائر األمم‪ ،‬ليس عند غيرھم من العلم بصحته وحقيقته مثل الذي لھم من‬
‫العلم به‪ ،‬فع ﱠرفھم‪ ،‬باطالع محمد صلى ﷲ عليه وسلم على علمھا‪ ،‬مع بُعد‬
‫قومه وعشيرته من معرفتھا‪ ،‬أن محمداً لم يصل إلى علم ذلك إال بوحي من ﷲ‬
‫)‪(١‬‬
‫تعالى ذكره"‬

‫ونقول لك‪ :‬انتقال بيان ﷲ عز وجل من رواية قصة الخلق إلى خطاب بني‬
‫إسرائيل مقصود‪ ،‬لتفھم من ذلك أن بني إسرائيل ھم المخاطب األول بقصة‬
‫الخلق‪ ،‬وأن ﷲ عز وجل يخبرھم أوالً بھا‪ ،‬ثم يخبرنا نحن بھا من خالل خطابھم‬
‫وإخبارھم ھم بھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج ‪ ،١‬ص‪.٥٩٤‬‬


‫‪٢٢٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإذا كان ﷲ عز وجل في بيانه يُعرﱢ ف البشر جميعاً‪ ،‬وليس المؤمنين فقط‪،‬‬
‫بقصة الخلق وما واكب سيرة اإلنسان األولى‪ ،‬فلماذا اختص عز وجل بني‬
‫إسرائيل دون البشر جميعا ً بالنداء‪ ،‬وكأنه عز وجل يخبرھم وحدھم بھا؟‬

‫اإلجابة فى اآلية التالية‪ ،‬اآلية الحادية واألربعون‪:‬‬

‫)‪( ١‬‬
‫‪xwvutsrqpon‬‬

‫فتفھم من ذلك أن ﷲ عز وجل ينادي بني إسرائيل‪ ،‬ويخاطبھم من بين البشر‬


‫جميعا ً بقصة الخلق ألنھا عندھم‪ ،‬يعرفونھا ويكتمونھا‪ ،‬وھي التي معھم‪ ،‬وقصة‬
‫الخلق في القرآن ھي ما أنزله ﷲ عز وجل مصدقا ً لھا‪ ،‬وأن ليس المراد بما ھو‬
‫مصدق لما معھم في ھذا الموضع عموم القرآن‪ ،‬أو صفة النبي عليه الصالة‬
‫والسالم‪ ،‬كما فھم ُجل المفسرين‪.‬‬

‫فإليك مثاالً في قول اإلمام القرطبي‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫"التقدير‪ :‬آمنوا بالقرآن مصدقا ً لما معكم‪ ،‬يعني‪ :‬من التوراة"‬

‫قوله تعالى‪:‬‬

‫‪srqpon‬‬

‫يخبرك أن بني إسرائيل ھم الفئة الوحيدة واألمة الفريدة في البشر التي كانت‬
‫تعرف قصة الخلق الحقيقية والخريطة األصلية للوجود وتحوزھا قبل نزول‬
‫القرآن‪.‬‬
‫‪ ( ١‬البقرة‪.٤١:‬‬
‫‪ ( ٢‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٣٣٣‬‬
‫‪٢٢٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫قصة الخلق ھي المسألة الرئيسية والمحورية في الوحي التي كتمھا بنو‬


‫إسرائيل ويكتمونھا‪ ،‬لكي يحجبوا اإلله عن األمم ويضللوھم عنه‪ ،‬وھي األصل‬
‫الذي احتفظوا ويحتفظون به ألنفسھم‪ ،‬وتحريفھا‪ ،‬وآثار ھذا التحريف‪ ،‬وما‬
‫يترتب عليه في وعي البشر‪ ،‬وفي مجتمعاتھم‪ ،‬ھو ما يبثونه أينما حلوا وحيثما‬
‫وجدوا‪.‬‬

‫وتحريف خريطة الوجود الذي يبثونه في األمم التي تناثروا بينھا عبر‬
‫التاريخ‪ ،‬ھو مصدر اختالل وعي البشر واضطراب بنائھم الذھني والنفسي‪،‬‬
‫وفساد كل ما يتكون داخل ھذا الوعي وما ينتجه ھذا البناء الذھني والنفسي‪،‬‬
‫وھو مصدر تشويه فھم اإلنسان لكل شئ في الوجود‪ ،‬وتشويه فھمه لنفسه ھو‬
‫ولذاته‪.‬‬

‫تحريف قصة الخلق ھو الينبوع الذي يتدفق منه الفساد في وعى البشر‪ ،‬وفي‬
‫نفوسھم وأذھانھم‪ ،‬ثم يفيض في ما كل ما تخلقه وتكونه ويخرج منھا‪.‬‬

‫ولكن قبل أن ترى ما فعله بنو إسرائيل في قصة الخلق‪ ،‬وما يترتب عليه من‬
‫آثار ھائلة مروعة في وعى البشر وتكوينھم‪ ،‬وفي سيرتھم‪ ،‬وفي عالقاتھم معاً‪،‬‬
‫وعالقاتھم بكل شئ في الوجود‪ ،‬نعود بك إلى سيرة بني إسرائيل التي ذكرھا‬
‫عز وجل في سورة البقرة وفصل فيھا بعد قصة الخلق مباشرة‪.‬‬

‫علمتَ أن االنتقال من قصة الخلق إلى سيرة بني إسرائيل مباشرة‪ ،‬وإسقاط‬
‫كل ما بينھما من قصص وسير‪ ،‬مقصود للتنبيه على ارتباط قصة الخلق ببني‬

‫‪٢٣٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إسرائيل‪ ،‬وأنه من المثير أن ھذا االنتقال من قصة الخلق إلى سيرة بني إسرائيل‬
‫كان في صيغة النداء لھم وتوجيه الخطاب إليھم‪.‬‬

‫وما ھو أغرب وأشد إثارة‪ ،‬أن ما قصه عز وجل عليك من سيرة بني‬
‫إسرائيل في سورة البقرة‪ ،‬جاء كله في صيغة خطاب لبني إسرائيل‪ ،‬فا" عز‬
‫وجل يخبرنا بسيرتھم من خالل تكليمه إياھم‪:‬‬

‫ ` ‪k j i h g f e d c b a‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ml‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪ _^]\[ZYXWVU‬‬

‫‪§ ¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡  ~ } | { z‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫¨©‬

‫)‪(٤‬‬
‫‪utsrqponmlk‬‬

‫‪gfedcba`_^]\[Z‬‬
‫)‪(٥‬‬
‫‪ ih‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٤٠::‬‬
‫‪ ( ٢‬البقرة‪.٥٠:‬‬
‫‪ ( ٣‬البقرة‪٥٥:‬‬
‫‪ ( ٤‬البقرة‪.٦١:‬‬
‫‪ ( ٥‬البقرة‪.٦٣:‬‬
‫‪٢٣١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ yxwvuts rqpon‬‬

‫فاآلن استيقظ وتنبه ! ثم سل نفسك‪:‬‬

‫َمن الذي يخاطبه عز وجل ويوجه إليه كالمه في ھذه اآليات من بيانه إلى‬
‫خلقه؟‬

‫بنو إسرائيل الذين أنعم ﷲ عليھم‪ ،‬والذين فرق بھم البحر وأنجاھم‪ ،‬والذين‬
‫أخذ عز وجل منھم الميثاق ورفع فوقھم الطور‪ ،‬والذين سألوا موسى ما سألوه‪،‬‬
‫وقتلوا من قتلوه‪ ،‬كانوا في عصر نزول التوراة في القرن الثالث عشر قبل‬
‫الميالد‪ ،‬والقرآن أُنزل على النبى عليه الصالة والسالم في القرن األول الھجري‬
‫أو السابع الميالدي‪ ،‬بعد عشرين قرنا ً من زمن نزول التوراة وما شھده من‬
‫سيرة بني إسرائيل التي يتكلم القرآن عنھا‪.‬‬

‫فمن الذين يخاطبه عز وجل في ھذه اآليات ويقول له‪ ،W V  :‬و‪:‬‬

‫‪ ،Y‬و‪ ،\[ :‬و‪^] :‬؟‬

‫ھل ھو سبحانه يخاطب بني إسرائيل الذين كانوا حول موسى عليه السالم؟‬

‫ال يمكن أن تكون اإلجابة‪ :‬نعم‪ ،‬ألن ﷲ عز وجل ال يخاطب الموتى بخطاب‬
‫األحياء‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البقرة‪.٧٢:‬‬
‫‪٢٣٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإذا لم يكن نداء ﷲ عز وجل وخطابه لبني إسرائيل عصر التوراة وموسى‬
‫عليه السالم ألنه يستحيل عقالً‪ ،‬فمن الذين يخاطبھم عز وجل‪ ،‬وما تفسير أن‬
‫يخاطبھم ويحاسبھم‪ ،‬وھم األحياء‪ ،‬على ما فعله الموتى؟‬

‫ھذه ھي المعاني والمعرفة العميقة التي تحملھا اآليات في نصھا‪ ،‬كما‬


‫أخبرناك سابقاً‪ ،‬والتى تنصرف عنھا األذھان بالمعاني الظاھرة القريبة‬
‫المباشرة‪ ،‬فال تفطن إليھا إال بعد استيقاظ وانتباه‪ ،‬وتفكر وتدبر‪ ،‬إن كان ثَمة‪.‬‬

‫يقول الشيخ الطاھر بن عاشور إن بني إسرائيل الذين يناديھم ﷲ عز وجل‬


‫ويخاطبھم مباشرة ھم‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"ذرية يعقوب‪ ،‬وفي ذريته انحصر سائر األمة اليھودية"‬

‫دون أن يحدد لنا َمن الذي يناديه ﷲ عز وجل ويخاطبه ِمن ھذه الذرية‪ ،‬وفي‬
‫أي زمان‪ ،‬وأي جيل منھم‪.‬‬

‫واإلمام أبو حيان التوحيدي عرض ثالثة أقوال فيمن يكون ھؤالء الذين‬
‫يناديھم عز وجل من بني إسرائيل‪ ،‬ثم رجح أحدھا‪ ،‬فقال ھم‪:‬‬

‫"من كان بحضرة رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم بالمدينة ومن واالھا من‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬أو من أسلم من اليھود وآمن بالنبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬أو‬
‫)‪(٢‬‬
‫أسالف بني إسرائيل وقدماؤھم‪ ،‬واألقرب األول"‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٤٤٩‬‬


‫‪ ( ٢‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٣٢٨‬‬
‫‪٢٣٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫واإلمام الطبري كان أكثر تحديداً‪ ،‬فقال إن من يخاطبھم عز وجل من بني‬


‫إسرائيل ھم‪:‬‬

‫مھاجر رسول ﷲ‬
‫َ‬ ‫"أحبار اليھود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظھراني‬
‫)‪(١‬‬
‫عليه الصالة والسالم"‬

‫وما لم يفسره لنا أبو حيان والطبري ھو‪ :‬كيف يوبخ القرآن من يخاطبھم من‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬ممن ھم بحضرة النبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬على ما فعله‬
‫أسالفھم ويحملھم وزره وكأنھم ھم من فعلوه؟!‬

‫ونقول لك‪ :‬نداء ﷲ عز وجل وخطابه في آيات سورة البقرة التي تقص سيرة‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬ھو لبني إسرائيل عصر نزول القرآن‪ ،‬وفي كل زمان وفي كل‬
‫بقعة يوجدون فيھا من األرض بعد نزوله‪.‬‬

‫والصيغة التي قص عز وجل لنا فيھا سيرة بني إسرائيل‪ ،‬والتي يخاطب فيھا‬
‫عز وجل األحياء منھم ويحاسبھم على ما فعله الموتى من أسالفھم‪ ،‬ال معنى لھا‬
‫إال أنھا تريد أن تنبھنا إلى أن بني إسرائيل الذين أُنزل عليھم الوحي‪ ،‬وأخذ ﷲ‬
‫عز وجل منھم الميثاق‪ ،‬وحرفوا الوحي‪ ،‬موجودون في الزمان‪ ،‬حاضرون في‬
‫التاريخ‪ ،‬بأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وبما فيھا من غايات وأھداف‪ ،‬ومن وسائل‬
‫وأساليب‪ ،‬وبصفاتھم وطباعھم‪ ،‬وما فيھا من سجايا وخالل‪ ،‬وإن ماتوا‬
‫بأجسامھم‪.‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٥٩٣‬‬


‫‪٢٣٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بنو إسرائيل موجودون في أبنائھم ونسلھم‪ ،‬الذين يحملون صفاتھم وطباعھم‬


‫وسجاياھم وتكوينھم الذھني والنفسي‪ ،‬وورثوا عنھم الوحي األصيل ويخفونه‪،‬‬
‫وورثوا معه بث تحريفه وما يترتب عليه من آثار في األقوام واألمم عبر‬
‫التاريخ‪ ،‬ويتوارثون صناعة وعي البشر وتشكيل مجتمعاتھم بھذا التحريف‪.‬‬

‫‪٢٣٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺧﺮﻳﻄﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﺒﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻠﻴﺔ‬


‫ما الذى فعله بنو إسرائيل‪ ،‬وما الذى حرفوه في قصة الخلق التي أخبرنا عز‬
‫وجل أن أصلھا موجود عندھم ويكتمونه ويخفونه‪ ،‬وأن ما أنزله في القرآن‬
‫مصدق له؟‬

‫األصل الذي أنزله عز وجل على بني إسرائيل‪ ،‬ھو نفسه ما أتى به القرآن‬
‫محفوظا ً معصوما ً‪ ،‬فيمكن بمقارنته بقصة الخلق التي كتبھا بنو إسرائيل أن‬
‫تعرف ما الذي حرفوه ويتوارثون تحريفه وبثه‪ ،‬وما الذي يترتب عليه في وعي‬
‫البشر‪ ،‬وفي أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وفي حياتھم ومجتمعاتھم‪.‬‬

‫سوف نرى أوالً قصة الخلق في سفر التكوين‪ ،‬قبل أن نقف بك عند تفاصيلھا‬
‫ونقارنھا باألصل لتعرف ما الذى تعنيه وما الذي يترتب عليه؟‬
‫ْن لِيَ ْع َملَ َھا َويَ ْحفَ َ‬‫ض َعهُ فِي َجن ﱠ ِة َعد ٍ‬ ‫َوأَ َخ َذ ال ﱠر ﱡب ِ‬
‫‪"١٥‬‬
‫ظ َھا‪.‬‬ ‫اإللهُ آ َد َم َو َو َ‬
‫يع ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة تَأْ ُك ُل أَ ْكالً‪َ ١٧ .‬وأَ ﱠما ش ََج َرةُ‬
‫اإللهُ آ َد َم قَائِالً‪ِ :‬منْ َج ِم ِ‬
‫صى ال ﱠر ﱡب ِ‬ ‫َوأَ ْو َ‬
‫‪١٦‬‬

‫َم ْع ِرفَ ِة ا ْل َخ ْي ِر َوالش ﱢﱠر فَالَ تَأْ ُك ْل ِم ْن َھا‪ ،‬ألَنﱠكَ يَ ْو َم تَأْ ُك ُل ِم ْن َھا َم ْوتًا تَ ُموتُ ‪َ ١٩ ...‬و َجبَ َل‬
‫ض َرھَا إِلَى‬ ‫س َما ِء‪ ،‬فَأ َ ْح َ‬
‫ت ا ْلبَ ﱢري ﱠ ِة َو ُك ﱠل طُيُو ِر ال ﱠ‬‫ض ُك ﱠل َحيَ َوانَا ِ‬ ‫اإللهُ ِمنَ األَ ْر ِ‬ ‫ال ﱠر ﱡب ِ‬
‫س ُم َھا ‪....‬‬ ‫س َحيﱠ ٍة فَ ُھ َو ا ْ‬ ‫آ َد َم لِيَ َرى َما َذا يَ ْدعُوھَا‪َ ،‬و ُك ﱡل َما َدعَا بِ ِه آ َد ُم َذاتَ نَ ْف ٍ‬
‫اإللهُ‪ ،‬فَقَالَتْ‬
‫ت ا ْلبَ ﱢريﱠ ِة الﱠتِي َع ِملَ َھا ال ﱠر ﱡب ِ‬ ‫ت ا ْل َحيﱠةُ أَ ْحيَ َل َج ِم ِ‬
‫‪١‬‬
‫يع َحيَ َوانَا ِ‬ ‫َو َكانَ ِ‬
‫لِ ْل َم ْرأَ ِة‪ :‬أَ َحقًّا قَا َل ﷲُ الَ تَأْ ُكالَ ِمنْ ُك ﱢل ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة؟ فقَالَ ِ‬
‫ت ا ْل َم ْرأَةُ لِ ْل َحيﱠ ِة‪ِ :‬منْ ثَ َم ِر‬ ‫‪٢‬‬

‫س ِط ا ْل َجنﱠ ِة فَقَا َل ﷲُ‪ :‬الَ تَأْ ُكالَ‬


‫ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة نَأْ ُك ُل‪َ ،‬وأَ ﱠما ثَ َم ُر الش َﱠج َر ِة الﱠتِي فِي َو َ‬
‫‪٣‬‬

‫ت ا ْل َحيﱠةُ لِ ْل َم ْرأَ ِة‪ :‬لَنْ تَ ُموتَا! بَ ِل ﷲُ عَالِ ٌم أَنﱠهُ‬


‫ساهُ لِئَالﱠ تَ ُموتَا‪ ،‬فَقَالَ ِ‬‫ِم ْنهُ َوالَ تَ َم ﱠ‬
‫‪٥‬‬ ‫‪٤‬‬

‫‪٢٣٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ش ﱠر‪ .‬فَ َرأَ ِ‬ ‫ا ْل َخ ْي َر َوال ﱠ‬ ‫ان َكا‪ ِ ‬عَا ِرفَ ْي ِن‬ ‫يَ ْو َم تَأْ ُكالَ ِن ِم ْنهُ تَ ْنفَتِ ُح أَ ْعيُنُ ُك َما َوتَ ُكونَ ِ‬
‫‪٦‬‬
‫ت‬
‫ش ِھيﱠةٌ لِلنﱠ َ‬
‫ظ ِر‪،‬‬ ‫الش َﱠج َرةَ َ‬ ‫ون‪َ ،‬وأَنﱠ‬ ‫ا ْل َم ْرأَةُ أَنﱠ الش َﱠج َرةَ َجيﱢ َدةٌ لِألَ ْك ِل‪َ ،‬وأَنﱠ َھا بَ ِھ َجةٌ لِ ْل ُعيُ ِ‬
‫ضا َم َع َھا فَأ َ َك َل‪٧ ،‬فَا ْنفَت ََحتْ أَ ْعيُنُ ُھ َما‬
‫طتْ َر ُجلَ َھا أَ ْي ً‬ ‫ِمنْ ثَ َم ِرھَا َوأَ َكلَتْ ‪َ ،‬وأَ ْع َ‬ ‫فَأ َ َخ َذتْ‬
‫س ِط‬‫اإلل ِه فِي َو َ‬ ‫ب ِ‬ ‫اختَبَأ َ آ َد ُم َوا ْم َرأَتُهُ ِمنْ َو ْج ِه ال ﱠر ﱢ‬
‫ان ‪ .....‬فَ ْ‬ ‫أَنﱠ ُھ َما ع ُْريَانَ ِ‬ ‫َو َعلِ َما‬
‫لَهُ‪ :‬أَيْنَ أَ ْنتَ يا آدم؟ ‪َ ١٦ ....‬وقَا َل‬ ‫ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة‪ .‬فَنَادَى ال ﱠر ﱡب ِ‬
‫اإللهُ آ َد َم َوقَا َل‬ ‫‪٩‬‬

‫تَلِ ِدينَ أَ ْوالَدًا‪َ ،‬وإِلَى َر ُجلِ ِك يَ ُكونُ‬ ‫اب َحبَلِ ِك‪ ،‬بِا ْل َو َج ِع‬ ‫لِ ْل َم ْرأَ ِة‪ :‬تَ ْكثِي ًرا أُ َكثﱢ ُر أَ ْت َع َ‬
‫س ِمعْتَ لِقَ ْو ِل ا ْم َرأَتِكَ َوأَ َك ْلتَ ِمنَ‬ ‫سو ُد َعلَ ْي ِك‪َ .‬وقَا َل آل َد َم‪ :‬ألَنﱠكَ َ‬
‫‪١٧‬‬
‫شتِيَاقُ ِك َوھ َُو يَ ُ‬ ‫ا ْ‬
‫ب تَأْ ُك ُل‬‫سبَبِكَ ‪ ،‬بِالتﱠ َع ِ‬ ‫ض بِ َ‬ ‫ص ْيتُكَ قَائِالً‪ :‬الَ تَأْ ُك ْل ِم ْن َھا‪َ ،‬م ْل ُعونَةٌ األَ ْر ُ‬ ‫الش َﱠج َر ِة الﱠتِي أَ ْو َ‬
‫اح ٍد ِمنﱠا‬ ‫سانُ قَ ْد َ‬ ‫اإللهُ‪ :‬ھ َُو َذا ِ‬
‫اإل ْن َ‬ ‫ِم ْن َھا ُك ﱠل أَيﱠ ِام َحيَاتِك ‪َ ....‬وقَا َل ال ﱠر ﱡب ِ‬
‫‪٢٢‬‬
‫ار َك َو ِ‬ ‫ص َ‬
‫ضا َويَأْ ُك ُل‬ ‫ش ﱠر‪َ ،‬واآلنَ لَ َعلﱠهُ يَ ُم ﱡد يَ َدهُ َويَأْ ُخ ُذ ِمنْ ش ََج َر ِة ا ْل َحيَا ِة أَ ْي ً‬ ‫عَا ِرفًا ا ْل َخ ْي َر َوال ﱠ‬
‫ض الﱠتِي أُ ِخ َذ‬ ‫ْن لِيَ ْع َم َل األَ ْر َ‬
‫اإللهُ ِمنْ َجنﱠ ِة َعد ٍ‬ ‫َويَ ْحيَا إِلَى األَبَ ِد‪ .‬فَأ َ ْخ َر َجهُ ال ﱠر ﱡب ِ‬
‫‪٢٣‬‬

‫ف ُمتَقَلﱢ ٍ‬
‫ب‬ ‫س ْي ٍ‬‫يب َ‬ ‫سانَ ‪َ ،‬وأَقَا َم ش َْرقِ ﱠي َجن ﱠ ِة َعد ٍ‬
‫ْن ا ْل َك ُروبِي َم‪َ ،‬ولَ ِھ َ‬ ‫اإل ْن َ‬ ‫ِم ْن َھا‪٢٤ .‬فَ َ‬
‫ط َر َد ِ‬
‫)‪( ١‬‬
‫يق ش ََج َر ِة ا ْل َحيَا ِة"‬ ‫س ِة َ‬
‫ط ِر ِ‬ ‫لِ ِح َرا َ‬

‫فاعلم أن ھذه السطور التي قرأتھا ھي ما من أجله تعقب ﷲ عز وجل بني‬


‫إسرائيل‪ ،‬وأفرد لھم في بيانه إلى خلقه ما لم يفرده ألحد في العالمين غيرھم‪.‬‬

‫فالوحي الذي يحوزه بنو إسرائيل ويتوارثونه ويكتمونه عن البشر ھو أصل‬


‫ھذه السطور‪ ،‬وھذه السطور ھي تحريفه الذي حرفه بنو إسرائيل‪ ،‬وبث فحواھا‬
‫ومضامينھا ومكوناتھا‪ ،‬والعالقة ين ھذه المكونات‪ ،‬وآثار ذلك كله‪ ،‬في وعي‬
‫البشر وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وتسريبھا إلى أخالقھم وقيمھم‪ ،‬وصناعة أنسجتھم‬

‫‪ ( ١‬تكوين‪.٣ ،٢ :‬‬
‫‪٢٣٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫االجتماعية وإقامة مجتمعاتھم بھا‪ ،‬ھو عمل بني إسرائيل الرئيسي في التاريخ‪،‬‬
‫وھو غاية من صنعھم ويستوطن وعيھم ويتدفق في عقولھم بنو إسرائيل من‬
‫الحركات السرية‪.‬‬

‫السطور التي قرأتھا ھي النبع الذي يتدفق منه الفساد في كل األمم والشعوب‪،‬‬
‫وھي البذرة التي نبتت منھا وتكونت حولھا الضالالت في كل األزمان‬
‫والعصور‪ ،‬وسيطرة مكوناتھا على وعي البشر ھو إفساد بني إسرائيل في‬
‫األرض وعلوھم الكبير‪.‬‬

‫فإليك ماذا تكون خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وبيان ما عبثوا به فيھا من‬
‫مكونات الخريطة اإللھية‪ ،‬والتحريف الذي أخبرك عز وجل في بيانه أنھم‬
‫حرفوه ويحرفونه عمداً من بعد ما عقلوه وھم يعلمون‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬الشجرة التي نھى ﷲ عز وجل آدم عن األكل منھا ال يفرق نوعھا في‬
‫بنية القصة‪ ،‬ألن ﷲ عز وجل نھى آدم عن األكل منھا اختباراً وابتال ًءا له‪،‬‬
‫وأخبره أنه إن أكل منھا يكون ظالما ً لنفسه‪ ،‬فقط لمخالفة األمر‪.‬‬

‫فجاء التحريف وحدد نوع الشجرة بأنھا شجرة معرفة الخير والشر‪ ،‬وجعل‬
‫اإلله ينھى اإلنسان‪ ،‬الذي ال يعرف نوعھا وال ماذا تكون‪ ،‬عن األكل منھا‪،‬‬
‫بتخويفه أنه إن أكل منھا مات‪.‬‬

‫فيترتب على ذلك أن اإلله خدع اإلنسان‪ ،‬ألنه لم يُعرﱢ فه بنوع الشجرة‪ ،‬وألنه‬
‫أخبره بمصير غير حقيقي إن ھو أكل منھا‪ ،‬فآدم وزوجة أكال ولم يموتا‪.‬‬

‫‪٢٣٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫واألمر الثاني‪ :‬أن تحديد نوع الشجرة بأنھا شجرة المعرفة‪ ،‬جعل المعرفة‬
‫حصراً على اإلله أو اآللھة‪ ،‬فاإلنسان خلقه اإلله ليكون جاھالً وال حق له في‬
‫المعرفة‪ ،‬وحصوله عليھا كان بعصيان اإلله وتمرده على أمره وإرشاده‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬تقول قصة الخلق البني إسرائيلية إن اإلله جبل من األرض كل‬
‫حيوانات البرية وطيور السماء‪ ،‬ثم أحضر آدم ليرى ماذا يدعوھا‪ ،‬فكل ما دعا‬
‫به آدم ذات نفس حية فھو اسمھا‪.‬‬

‫فالذين حرفوا القصة أخفوا أن اإلله ھو الذي علم آدم األسماء‪ ،‬وھو ما يعني‬
‫أن آدم ھو نفسه مصدر معرفته عن الكون والمخلوقات‪ ،‬وأنه ھو الذي حدد‬
‫أنواعھا ووظائفھا‪ ،‬وليس أن اإلله عز وجل ھو الذى علمه إياھا‪ ،‬ألن االسم‪،‬‬
‫كما قد علمت‪ ،‬ھو جماع المسمى‪ ،‬أو ھو وعاؤه الذي تحضر فيه وتتكثف كل‬
‫صفاته وخصاله ومنافعه وقدراته‪.‬‬

‫فالقصة في ظاھرھا وغالفھا تقول إن الرب ھو الذى خلق الحيوانات‬


‫والطيور‪ ،‬لكنھا في نسيجھا وبنيتھا وحبكتھا وما خلف ھذا الغالف تجعل‬
‫اإلنسان ھو الخالق الحقيقي للمخلوقات‪ ،‬والذي قدر لھا‪ ،‬بتحديد أسمائھا‪ ،‬صفاتھا‬
‫ومنافعھا ووظائفھا‪.‬‬

‫فبنو إسرائيل في تحريفھم لخريطة الوجود تعمدوا أن يؤلھوا اإلنسان‪ ،‬أو أن‬
‫يرفعوه إلى مرتبة اإلله‪ ،‬وأن يجعلوه مصدراً لمعارفه‪ ،‬ومستقالً بوسائل‬
‫تحصيله للمعرفة الذاتية عن اإلله وإرشاده‪.‬‬

‫‪٢٣٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫)•(‬
‫ھي التي‬ ‫ثالثاً‪ :‬يقول بنو إسرائيل في قصتھم للخلق إن الحية أو الشيطان‬
‫عرﱠفت حواء بحقيقة الشجرة‪ ،‬وأنھا شجرة المعرفة‪ ،‬وأنھما لن يموتا إذا أكال‬
‫منھا‪ ،‬بل سيحوزان المعرفة‪ ،‬فأكلت المرأة وأغوت آدم باألكل‪ ،‬فانفتحت أعينھما‬
‫وعلما أنھما عريانان‪.‬‬

‫وما يعنيه ھذا ھو أن الشيطان ھو الذي دل اإلنسان على المعرفة ومنحه‬


‫إياھا وليس اإلله‪ ،‬فتكون المعرفة بذلك قرينة عصيان أمر اإلله واتباع أمر‬
‫الشيطان‪ ،‬فالمعرفة في قصة خريطة الوجود البني إسرائيل تحولت من ھبة ﷲ‬
‫عز وجل آلدم إلى ھبة الشيطان له‪ ،‬والتي حازھا بطاعة الشيطان‪ ،‬وبعصيان‬
‫اإلله والتمرد عليه‪.‬‬

‫واألمر الثاني‪ :‬أن من يتكون وعيه وذھنه ونفسه بھذه القصة‪ ،‬سوف ترتبط‬
‫في تكوينه تلقائياً‪ ،‬وبرباط ال ينقصھم‪ ،‬حيازة المعرفة والعلم بالعري‪ ،‬ألن األكل‬
‫من شجرة المعرفة أثمر مع حيازتھا عري اإلنسان وانكشاف عورته‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬أبالسة البشر تعمدوا في خريطة الوجود التي زوروھا من األصل‬


‫اإللھي أن يجعلوا حواء ھي التي تستقبل إغواء الشيطان‪ ،‬ثم تغوي آدم باألكل‬
‫من الشجرة‪ ،‬لتكون ھي سبب خروج آدم من الجنة‪ ،‬ومصدر شقائه في األرض‪،‬‬
‫التي جعلوھا منفاه‪.‬‬

‫فدسوا في أذھان البشر بذلك بذرة المواجھة والصراع بين الرجل والمرأة‪،‬‬
‫وھي البذرة التي كانوا يتعھدونھا ويقومون بريھا من خالل الحركات السرية‬

‫• ( في قاموس الكتاب المقدس‪" :‬وحية التجربة كانت في المظھر كحية عادية ‪ ...‬لكن الشيطان كان في ھذه‬
‫الحية"‪.‬‬
‫‪٢٤٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫عبر التاريخ‪ ،‬بإثارة كل طرف‪ ،‬وإمداده بالوقود‪ ،‬واستنفار طاقته‪ ،‬وشحذ ھمته‬
‫لحشد البراھين وإقامة النظريات‪ ،‬وقدح شرارة ذھنه إلبداع القصص‬
‫والروايات‪ ،‬وتمويله لتكوين الجمعيات والحركات‪ ،‬التي تثبت التحريف وتبثه‬
‫وترسخ آثاره‪.‬‬

‫بنو إسرائيل تعمدوا في خريطتھم المحرفة أن يفككوا مكونات الوجود كلھا‪،‬‬


‫وليس الرجل والمرأة فقط‪ ،‬وأن يمزقوا العالئق بينھا‪ ،‬وأن يضعوھا في حالة‬
‫تضارب ومواجھة ونزاع‪.‬‬

‫فاإلنسان في مواجھة اإلله لحيازة المعرفة‪ ،‬والرجل في مواجھة المرأة التي‬


‫كانت سبب شقائه‪ ،‬والمرأة في مواجھة الرجل الذي يُحملھا مسؤولية ھذا الشقاء‪،‬‬
‫واإلنسان في معركة مع األرض والطبيعة التي ھي منفاه ومحل عقوبته‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬تقول القصة المحرفة إن آدم وامرأته اختبئا من اإلله في وسط شجر‬
‫الجنة‪ ،‬فلم يعرف اإلله أين ھما واضطر إلى أن يناديه‪" :‬أين أنت يا آدم"؟‬

‫فاإلله في التحريف جاھل يجوز خداعه واالختباء منه‪ ،‬أو في الحقيقة بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬لكي يضللوا البشر عن اإلله ويطمسوا في وعيھم مسألة األلوھية‪،‬‬
‫ولكي يسووا بين اإلله واإلنسان فال يكون ألحدھما سلطة على اآلخر‪ ،‬جعلوا‬
‫اإلله إنساناً‪ ،‬أو شبيھا ً باإلنسان‪.‬‬

‫وتقول خريطة التحريف إن اإلله بعد أن أكل آدم من الشجرة قال‪:‬‬

‫"ھو ذا اإلنسان صار كواحد منا عارفا ً الخير والشر واآلن لعله يمد يده‬
‫ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ً ويأكل ويحيا إلى األبد‪ ..‬فأخرجه الرب من جنة‬

‫‪٢٤١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫عدن ليعمل األرض وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولھيب سيف متقلب‬
‫لحراسة طريق شجرة الحياة"‬

‫والتحريف ھا ھنا جعل اإلله آلھة متعددة أو مجتمعا ً من اآللھة‪ ،‬ثم جعل قِدم‬
‫اإلله وبقاءه صفات عارية مجلوبة لإلله من مصدر خارج عن ذاته‪ ،‬وھو شجرة‬
‫الحياة التي أقام اإلله حراسة عليھا‪ ،‬لكي ال يأكل منھا اإلنسان فيصير إلھاً!‬
‫فاإلله صار إلھا باألكل من شجرة الحياة‪ ،‬واإلنسان في إمكانه أن يكون إلھا ً‬
‫أو شبيھا باإلله وينازعه صفاته‪ ،‬فالقصة في حقيقتھا ترفع اإلنسان إلى مرتبة‬
‫اإلله‪ ،‬وتجعل لإلله صفات اإلنسان‪ ،‬والھدف الحقيقي لمن حرفوھا أن يدسوا في‬
‫وعي البشر أن اإلنسان صنو لإلله‪ ،‬ويمكنه أن يكون بديالً لإلله‪ ،‬أو أن يحل في‬
‫الوجود محله‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬تقول القصة المحرفة أن اإلله طرد آدم إلى األرض وقال له‪:‬‬

‫"ملعونة األرض بسببك‪ ،‬بالتعب تأكل منھا كل أيام حياتك"‬

‫فالتحريف جعل األرض منفى لإلنسان‪ ،‬ووجوده فيھا عقابا ً له‪ ،‬وجعله في‬
‫ھذا المنفى مطروداً من اإلله وانقطعت صلته به‪ ،‬فال اإلله ھداه وال أرشده إلى‬
‫ماذا يفعل في األرض‪ ،‬وال كلفه بشىء‪ ،‬وال بي ﱠن له ما العالقة التي بينه وبين‬
‫زوجه وأبنائه الذين سينجبھم‪ ،‬وال دله على قواعد وال ألزمه بمنھج‪.‬‬

‫بنو إسرائيل جعلوا اإلنسان منفيا ً فى األرض‪ ،‬يصنع فيھا كل شئ وحده‬


‫بالمعرفة التي عرفھا وحازھا بعصيان اإلله واتباع الشيطان‪.‬‬

‫‪٢٤٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وعلى ذلك‪ ،‬فاإلنسان ھو الذي كون عالقاته ووضع قواعدھا‪ ،‬وھو الذى‬
‫ابتكر نظمه وقوانينه‪ ،‬وھو الذي حدد لنفسه قيمه وأخالقه‪ ،‬بل وھو الذي ابتكر‬
‫أفكاره وعقائده‪.‬‬

‫فالخريطة المحرفة تقول لك في ظاھرھا وبأسلوب مباشر إن اإلله موجود‪،‬‬


‫لكنھا بتفاصيلھا ومضمونھا وبنائھا تغرس في وعي من يتكون بھا وفي ذھنه‬
‫ونفسه أن اإلنسان ھو الذي اختلق اإلله بذھنه‪ ،‬وأنه الذي ابتكر أفكاره عن‬
‫األلوھية واإلله‪.‬‬

‫‪٢٤٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻻٕﳊﺎد وﺗﺎٔﻟﻴﻪ اﻻٕﻧﺴﺎن‬


‫الغاية والفحوى األولى لخريطة الوجود البني اسرائيلية‪ ،‬وأول آثارھا‪ ،‬أن‬
‫يتسرب إلى وعي البشر ونفوسھم أن اإلنسان إله‪ ،‬أو أنه شبيه باآللھة‪ ،‬وأنه ند‬
‫ونظير لإلله وقادر على االستقالل عنه‪.‬‬

‫وھذا المضمون لقصة الخلق المحرفة ھو الذي أثمر اإللحاد بكل صوره‬
‫وأشكاله‪ ،‬فخريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬التي تتكلم عن اإلله والخلق‪ ،‬ھي في‬
‫الحقيقة أشد ينابيع اإللحاد غزارة وتدفقاً‪.‬‬

‫فالعبث الذي عبثه بنو إسرائيل بخريطة الوجود جعلھا تنضح من كل جوانبھا‬
‫بمضمون واحد‪ ،‬وھو أن اإلله ال وجود له‪ ،‬ألن اإلله في القصة شبيه باإلنسان‪،‬‬
‫وعلمه وقِدمه وبقاؤه‪ ،‬كلھا صفات عارية مجلوبة له من خارج ذاته‪ ،‬من شجرة‬
‫المعرفة وشجرة الحياة ‪.‬‬

‫فاإلله في القصة المحرفة ليس في الحقيقة إلھا ً‪ ،‬بل غاية القصة وما تبثه‬
‫وتغرسه في ذھن من يتكون بھا أن اإلله في الحقيقة ابتكار من كتب القصة على‬
‫ھذا النحو‪.‬‬

‫فالقصة تقول في فحواھا إن اإلنسان كاإلله‪ ،‬أو اإلله كاإلنسان‪ ،‬وألن اإلله ال‬
‫يكون إلھا ً إال بمفارقته لخلقه وأنه ليس كمثله شئ‪ ،‬عقالً قبل أن يكون نقالً‪،‬‬
‫فالثمرة الحقيقية لما فعله بنو إسرائيل ھي اإللحاد وأنه ال إله‪ ،‬ألن اإلله الذي في‬
‫التحريف ال يستقيم أن يكون إلھا ً‪ ،‬وألن اإليمان به ال فائدة منه‪.‬‬

‫‪٢٤٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكون اإلله شبيھا ً باإلنسان‪ ،‬أو أن اإلنسان شبيه به ويمكنه اجتالب صفات‬
‫األلوھية‪ ،‬بل وحاز إحداھا فعالً على غير مشيئة اإلله وبعصيانه‪ ،‬وقادر على أن‬
‫يكون بديالً له‪ ،‬ھي البذرة التي رواھا بنو إسرائيل عبر الحركات السرية‪ ،‬التي‬
‫ھم قلبھا وطاقتھا‪ ،‬لتكون ثمرتھا المذھب اإلنساني ‪ ،Humanism‬الذي كان‬
‫إحدى الدعائم التي تم إعادة تكوين الغرب العلماني بھا‪ ،‬ثم العالم كله من ورائه‪.‬‬

‫وھو المذھب الذي يقوم على إحالل اإلنسان محل اإلله مركزاً للوجود‪،‬‬
‫ومصدراً للقيم واألخالق‪ ،‬ومستقالً بعقله وحواسه عن الحاجة إلى مصدر‬
‫للمعرفة من خارجه‪ ،‬أي‪ :‬عن الوحي‪ ،‬وطارحا ً للغيب‪ ،‬والوجود عنده ھو ما يقع‬
‫تحت طائلة ھذا العقل والحواس‪ ،‬ومؤمنا ً بأنه قادر على خلق الجنة على األرض‬
‫بقدراته وعلمه وحده‪.‬‬

‫فاآلن‪ ،‬ومعك نور خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬تأمل عبث بني إسرائيل في‬
‫الخريطة التي بثوھا في البشر بأناة وعمق‪ ،‬ولن يكون عسيراً عليك أن تفطن‬
‫وحدك أن ھذه النزعة اإلنسانية التي صبغت العالم‪ ،‬غربه وشرقه‪ ،‬ليست سوى‬
‫بعض من آثار ھذا العبث!‬

‫وال تتعجب وال تضرب كفا ً بكف إذا أخبرناك أن البذرة التي أثمرت النزعة‬
‫اإلنسانية‪ ،‬التي ھي ثورة على المسيحية‪ ،‬ھي ھي التي تكونت بھا وحولھا‬
‫المسيحية نفسھا!‬

‫فاإلنسان في النزعة اإلنسانية ھو اإلله‪ ،‬واإلله في المسيحية ھو اإلنسان‪،‬‬


‫وھما وجھان للشئ نفسه‪ ،‬وكل منھما نب ُ‬
‫ْت العبث البني إسرائيلي ورُوي به‪.‬‬

‫‪٢٤٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إذا سألت مسيحياً‪ :‬لماذا صُلب المسيح‪ ،‬والصلب محور المسيحية وعقيدتھا‬
‫الرئيسية‪ ،‬فسيجيبك‪ :‬فدا ًءا للبشرية‪.‬‬

‫فإذا سألته‪ :‬وما الذي فعلته البشرية لكي يفديھا المسيح‪ ،‬فسيقول لك‪ :‬آدم‬
‫ارتكب الخطيئة وعصى الرب وأكل من شجرة المعرفة فطُرد إلى األرض‪ ،‬لذا‬
‫فالبشرية ُوجدت على األرض وارثة لھذه الخطيئة األصلية وكل فرد فيھا يحمل‬
‫وزرھا‪.‬‬

‫فيكون بذلك قد فتح خريطة الوجود البني اإلسرائيلية‪ ،‬ويجيبك وھو يحملھا‬
‫في يده ويرى الوجود من خاللھا!‬

‫فإذا غلبك الفضول وسألت‪ :‬وماذا عن المسيح نفسه‪ ،‬فسيرد عليك‪ :‬ھو اإلله‬
‫أو ابنه تجسد في صورة البشر‪ ،‬ليفتدي البشرية ويكفر عن خطيئتھا ويخلصھا‬
‫من الوزر الذي تحمله وترثه منذ بدأت رحلتھا على األرض‪.‬‬

‫فيكون بذلك قد سار بك في الدروب والمدقات التي رسمھا ودقھا بنو‬


‫إسرائيل!‬

‫‪٢٤٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻻٕهل واﻻٕﻧﺴﺎن واﳌﻌﺮﻓﺔ واﻟﺸـﻴﻄﺎن‬


‫الغاية والفحوى الثانية للعبث الذي عبثه بنو إسرائيل بخريطة الوجود‪ ،‬ھي‬
‫جعل العلم والمعرفة قرينة التمرد على اإلله وعصيان أوامره وإرشاده ومخالفة‬
‫ھديه‪ ،‬وثمرة اتباع الشيطان وطاعة وساوسه‪ ،‬وأن المرأة المنطلقة المتمردة‬
‫على اإلله والمتحررة من أوامره التابعة للشيطان‪ ،‬ھي باب ھذه المعرفة‪.‬‬

‫بعد أن وصلت في رحلتك إلى ما تقرأه اآلن‪ ،‬لن تعجب إذا قلنا لك إن تحديد‬
‫نوع الشجرة في خريطة بني إسرائيل للوجود ھو الذي أنتج الغرب كله‪ ،‬حين‬
‫تكون بالمسيحية واإليمان بھا‪ ،‬وبعد أن ثار عليھا وتكون باالنفالت منھا!‬

‫حدد بنو إسرائيل نوع الشجرة بأنه شجرة المعرفة‪ ،‬واإلله حرم اإلنسان من‬
‫األكل منھا ألنه ال حق ألحد فيھا سوى اإلله أو اآللھة‪.‬‬

‫ومن رحم ھذا التحديد ُولدت معادلة‪ ،‬ھي التي تحكم وعي الغرب وتتحكم‬
‫فيه‪ ،‬وفي كل ما يتكون فيه وينتجه‪ ،‬وال تتغير أطرافھا‪ ،‬ولم يتمكن في أي عصر‬
‫من عصوره من أن يتحرر منھا‪ ،‬وال أن يجمع بين أطرافھا‪ ،‬أو يوفق بينھم‪.‬‬

‫وھي المعادلة التي أطرافھا‪ :‬اإلله واإلنسان والمعرفة‪.‬‬

‫في الغرب المسيحي الذي نبت وتكون من بذور العبث البني إسرائيلي‬
‫بخريطة الوجود‪ ،‬اختارت الكنيسة لإلنسان أن يھجر المعرفة لكي يكون مع‬
‫اإلله وطائعا ً له‪ ،‬فكانت المعادلة التي تحكم وعي الغرب المسيحي وتتحكم فيه‬
‫ھي‪:‬‬

‫‪٢٤٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اإلله واإلنسان = ھجر المعرفة‬

‫وما ترتب على ما اختارته الكنيسة‪ ،‬ھو ما تخبرك به المؤرخة األلمانية‪:‬‬


‫زيغريد ھونكه في كتابھا‪ :‬العقيدة والمعرفة‪:‬‬

‫"أينما وضعت المسيحية قدمھا‪ ،‬في اإلسكندرية وبيزنطة‪ ،‬في اليونان‬


‫)‪( ١‬‬
‫وروما‪ ،‬في فرنسا وإيطاليا‪ ،‬أدت إلى تقلص مروع في الثقافة"‬

‫وما كانت تفعله الحركات السرية‪ ،‬وفي قلبھا بنو إسرائيل‪ ،‬عبر عصور‬
‫الغرب كلھا‪ ،‬ھو أنھا كانت تصارع الكنيسة من أجل أن تحل في تكوين الغرب‬
‫محلھا‪ ،‬وتكافح من أجل أن تنقل اإلنسان إلى الطرف اآلخر من المعادلة‪ ،‬فتجعل‬
‫حيازة المعرفة في وعيه رھن بإنكار الوجود اإللھي‪ ،‬أو بالتمرد على التعاليم‬
‫المنسوبة إلى اإلله‪ ،‬لتكون ھذه النقلة أداة اإلطاحة بمسألة األلوھية كلھا‪ ،‬وإزاحة‬
‫الوحي كوسيلة مطلقة للمعرفة من وعي البشر جميعاً‪ ،‬وإزاحة الوحي معناھا‬
‫نسف المعايير والموازين التي ھو مصدرھا‪ ،‬وتفريغ القيم واألخالق من‬
‫المعاني‪ ،‬التي ھو أيضا ً ضابطھا والذي يمنحھا معناھا‪.‬‬

‫في الغرب المسيحي كان اإلنسان مع اإلله ويطيعه بھجر المعرفة‪ ،‬وبسيطرة‬
‫الحركات السرية على الغرب وصناعتھا لوعيه‪ ،‬صار اإلنسان والمعرفة معا ً‬
‫في مواجھة اإلله‪ ،‬والمعادلة وأطرافھا ھي ھي لم تتغير‪.‬‬

‫المعادلة التي صارت تحكم الغرب اإلنساني العلماني ھي‪:‬‬

‫اإلنسان والمعرفة = التمرد على اإلله‬

‫‪ ( ١‬زيغريد ھونكه‪ :‬العقيدة والمعرفة‪ ،‬ص‪.٢٣‬‬


‫‪٢٤٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھذا المضمون من خريطة الوجود البني إسرائيلية ھو النبع الذي تكونت‪،‬‬


‫بسريانه في أذھان صفوة الغرب ورموزه ومن صنعوا تاريخه وكونوا وعيه‪،‬‬
‫العلمانية‪ ،‬وفصل العلم والمعرفة عن مسألة األلوھية والديانة‪ ،‬وارتباط التقدم‬
‫بتجاوز العقائد ونفي الشرائع‪.‬‬

‫‪٢٤٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻋﻨﺪﻣﺎ ﳛﲅ اﻟﻘﺒﺎﻟﻴﻮن‬
‫الحركات السرية‪ ،‬كما قد علمت‪ ،‬كانت تكافح عبر التاريخ‪ ،‬وتصارع‬
‫الكنيسة‪ ،‬من أجل نقل اإلنسان في المعادلة البني إسرائيلية‪ ،‬من طرفھا الذي‬
‫يكون فيه مع اإلله ويھجر المعرفة‪ ،‬إلى طرفھا الذي يحوز فيه المعرفة بالتمرد‬
‫على اإلله‪.‬‬

‫والرجل الذي أثمر كفاح الحركات السرية على يديه وبمواھبه وقدراته‪،‬‬
‫والذي وضع تعريفا ً للعلم الطبيعي يزيح به الوحي من وعي البشر‪ ،‬ورسم له‬
‫مساراً يصطدم في كل خطوة فيه بمسألة األلوھية‪ ،‬وبدأت من عنده العلمنة‬
‫الفعلية للغرب‪ ،‬ھو فرنسيس بيكون ‪١٥٦١) Francis Bacon‬م – ‪١٦٢٦‬م(‪،‬‬
‫أبو العلوم التجريبية في الغرب‪ ،‬والرجل األول في الغرب الذي ينسب إليه‬
‫ابتكار المنھج التجريبي‪ ،‬بما صنفه من كتب‪ ،‬وضع فيھا قواعده ورفعه بھا إلى‬
‫منزلته التي صار إليھا في تكوين الغرب وتاريخه ومساره‪.‬‬

‫ومن أشھر ھذه الكتب كتاب‪ :‬تنمية العلوم ‪،Augmentes Scientiarum‬‬


‫وكتاب‪ :‬تقدم التعليم ‪ ،Advancement of learning‬وكتاب موجز قواعد‬
‫العلم الطبيعي ‪.Parasceve Historium Naturalem‬‬

‫وكتب فرنسيس بيكون وأفكاره كانت ھي العقيدة والنواة التي تكونت بھا‬
‫وحولھا الجمعية الملكية البريطانية ‪ ،British Royal Society‬ومؤسسوھا‬
‫كانوا جميعا ً من أتباع أفكاره وحركته‪.‬‬

‫‪٢٥٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وعقيدة بيكون التي أدخل بھا الغرب كله في مسار يصطدم في كل خطوة‬
‫يخطوھا فيه بمسألة األلوھية‪ ،‬ھي أن المعرفة الوحيدة الحقيقية ويوثق بھا ھي‬
‫تلك التي تكون وسيلتھا التجربة‪ ،‬وضابطھا عقل اإلنسان وحواسه‪ ،‬ومن ثَم فأي‬
‫شئ يأتي من خارج اإلنسان وبغير طريق التجربة فليس علما ً وال معرفة‪.‬‬

‫فإذا رجعت إلى فصل‪ :‬بيان اإلله‪ ،‬ستفھم أن عقيدة بيكون ھذه ليست سوى‬
‫غالف‪ ،‬فحواه وما يغلفه في الحقيقة إزاحة اإلله من اجتماع البشر‪ ،‬وفصله عن‬
‫حياتھم‪ ،‬ونفي وحيه وإخراجه من تكوين وعيھم وبناء أذھانھم ونفوسھم ومن‬
‫مصادر معارفھم‪ ،‬والوحي‪ ،‬كما علمت‪ ،‬ھو مصدر القواعد والضوابط‬
‫والمعاني‪.‬‬

‫فإليك الوجه البني إسرائيلي للرجل الذي َع ْلمن الغرب‪ ،‬والعالم كله من بعده‪،‬‬
‫لتدرك أن العبارات المزخرفة والنظريات المزركشة عن العلم والمعرفة‬
‫والموضوعية والتجربة والحياد ليست سوى وسائل لقرطسة البشر وتفريغ‬
‫العالم من العقائد والقواعد والضوابط والمعاني‪ ،‬من أجل فتح العالم وأذھان‬
‫البشر أمام بني إسرائيل وغاياتھم ومملكتھم القادمة‪.‬‬

‫فرنسيس بيكون ھو مؤسس حركة الصليب الوردي أو الروزيكروشيان‬


‫‪ Russicrucian‬في إنجلترا‪ ،‬ورئيسھا وأستاذھا األعظم لعشرين سنة‪ ،‬وشھدت‬
‫المنظمة في عھده ازدھاراً كبيراً‪ ،‬واستغرقت ُجل الطبقات العليا من الساسة‬
‫واألدباء والعلماء والمفكرين والفنانين في إنجلترا‪ ،‬بل وكان بيكون‪ ،‬عضو‬
‫البرلمان اإلنجليزي‪ ،‬ومستشار الملكة إليزابيث والملك جيمس األول‪ ،‬بمناصبه‬
‫ونفوذه السياسي في إنجلترا‪ ،‬األب الروحي لكل الحركات السرية في عصره‪.‬‬
‫‪٢٥١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأشھر مؤلفات بيكون على اإلطالق‪ ،‬كتابه أو روايته‪ :‬أطلنطس الجديدة‬


‫‪.New Atlantis‬‬

‫فإليك أوالً وصف أحد األميين من مشاھير أساتذة الفلسفة لما تخيله بيكون‬
‫في روايته‪ ،‬يقول دكتور زكي نجيب محمود في مقالة عنوانھا‪ :‬عندما يحلم‬
‫العقالء‪ ،‬نشرتھا مجلة العربي الكويتية‪ ،‬في عدد شھر أغسطس سنة ‪١٩٦٧‬م‪ ،‬ثم‬
‫أعاد نشرھا في كتابه‪ :‬نافذة على فلسفة العصر‪:‬‬

‫"حلم فرنسيس بيكون بيوم يغير فيه اإلنسان معنى العلم‪ ،‬فال يطلق ھذه‬
‫الكلمة العظيمة إال على ذلك الضرب من الكالم الذي ال يكاد يثبته صاحبه على‬
‫صفحات كتابه حتى يثب إلى حياة الناس عمالً ينفع‪ ،‬وله في مقارنة العلم‬
‫بمعناه الفظي القديم ومعناه التطبيقي الجديد تشبيھات رائعة‪ ،‬فھو بالمعنى‬
‫القديم كالمرأة العاقر‪ ،‬تناقش تناقش وال تلد‪ ،‬العلم قوة‪ ،‬وھذه عبارة قالھا‬
‫بيكون‪ ،‬بمعنى أنه أداة تغيير البيئة المحيطة بنا على النحو الذي يحقق‬
‫)‪(١‬‬
‫أغراضنا"‬

‫فإليك ماذا يكون المجتمع العلمي الذي تصوره بيكون‪ ،‬لتعلم أن العلم‬
‫وتجاربه وتطبيقاته ليست معزولة عن عقائد من ينتجه وينتجھا وال عن غاياته‪،‬‬
‫وال عن خريطة الوجود التي تحكم وعيه وتتحكم في تكوينه الذھني والنفسي‪،‬‬
‫كما توھم أستاذ الفلسفة األمي‪.‬‬

‫‪ ( ١‬دكتور زكي نجيب محمود‪ :‬نافذة على نافذة العصر‪ ،‬ص‪.١٦-١٥‬‬


‫‪٢٥٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في روايته ھذه التي نشرت ألول مرة سنة ‪١٦٢٧‬م يتخيل بيكون جزيرة‬
‫يقوم عليھا مجتمع علمي‪ ،‬يُك ﱢون حياته ويحكمھا بالعلوم التجريبية‪ ،‬ويسيطر‬
‫بالمخترعات على كل شئ‪ ،‬حتى ھبوب الرياح واتجاھھا‪.‬‬

‫وتبدأ رواية بيكون بإبحار سفينة أوروبية من بيرو ‪ Peru‬في اتجاه الغرب‬
‫قاصدة اليابان والصين‪ ،‬وفي قلب المحيط الھادي تھب عليھا عاصفة ھوجاء‬
‫وتتالعب بھا أمواج المحيط العاتية‪ ،‬فتضل وتفقد طريقھا‪ ،‬لتخرج من التيه إلى‬
‫أورشليم الجديدة!‬

‫فالجزيرة التي ابتكرھا األستاذ األعظم لحركة الروزيكروشيان في روايته‬


‫وبنى عليھا عالمه العلمي اسمھا بن ساليم ‪ ،Ben Salem‬وبن ساليم الالتينية‬
‫ھي‪ :‬أورشليم الجديدة!‬

‫وبيت العلوم الذي يسيطر على العالم من أورشليم الجديدة ھو‪ :‬بيت سُليمان‬
‫‪ ،Salomona's House‬وبيت العربية ھى نفسھا بيت العبرية‪ ،‬وبيت العربية‬
‫والعبرية ھي ھيكل األكادية‪.‬‬

‫فالذي تخيله فرنسيس بيكون وسعى بكتبه وأفكاره إلى إيجاده وتوجيه مسار‬
‫التاريخ نحوه‪ ،‬ليس سوى استعادة أورشليم‪ ،‬أو أورشليم جديدة تحكم العالم من‬
‫ھيكل سليمان‪.‬‬

‫وقد يبتليك ﷲ عز وجل فتلتقي أحداً من األميين في بالد العرب‪ ،‬ممن تراھم‬
‫يملؤون جامعاتھا وصحفھا وشاشاتھا‪ ،‬فيعطيك محاضرة وينشد لك نشيداً عن‬
‫بيكون أبي العلوم وفيلسوف المعرفة‪ ،‬وداعية الموضوعية وقيام العلم على‬

‫‪٢٥٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫عل‬
‫التجربة وفصله عن األديان وعقائدھا وغاياتھا وأخالقھا‪ ،‬ثم يقول لك من ٍ‬
‫وھو يتعالم ويتصنع التواضع‪ :‬ھذه األسماء رمزية أو ھي مصادفات‪ ،‬وال عالقة‬
‫لھا بأورشليم بني إسرائيل وھيكلھم‪.‬‬

‫فال يغرنك ما يرفعه لك ھؤالء األميون من شھادات وألقاب ومناصب‪،‬‬


‫يُ ْغشون بھا بصر العوام‪ ،‬ويموھون بھا ما ھم فيه من عته وبله‪ ،‬واعلم أن‬
‫المحاضرة التي قالھا لك األمي والنشيد الذي أنشدك إياه‪ ،‬ليست سوى األغلفة‬
‫المزركشة التي يغلف بھا بيكون وأمثاله ما يريدون‪ ،‬لكي يقرطسوه بھا ھو‬
‫وأمثاله من األميين‪.‬‬

‫واعلم أن المسألة ليست في العلم الطبيعي واالكتشاف والتجربة والتطبيق‪،‬‬


‫بل ھي في فھم موقع العلم الطبيعي من الوجود والحياة‪ ،‬وعالقته بالعقائد والقيم‬
‫واألخالق‪ ،‬وفي تطبيقاته كيف تكون‪ ،‬وفي أي شئ توظف‪ ،‬وألي غاية تسخر‪،‬‬
‫وھي كلھا أسئلة ال يجيب عليھا العلم الطبيعي نفسه أو تطبيقاته‪ ،‬وال تتكون‬
‫اإلجابة عليھا وحدھا أو من تلقاء نفسھا‪ ،‬بل يحكمھا من ينتج العلم‪ ،‬ودوافعه‬
‫التي تحركه نحو العلم والتجربة‪ ،‬وغاياته التي يريد توظيف العلم وتطبيقاته‬
‫لبلوغھا ودفع العالم والتاريخ نحوھا‪.‬‬

‫فھاك فرنسيس بيكون أبو العلوم وفيلسوف المعرفة نفسه يخبرك أن أورشليم‬
‫الجديدة ليست سوى بعث ألورشليم القديمة‪ ،‬وأن بيت علوم الجديدة ليس سوى‬
‫طبعة عصرية من ھيكل القديمة‪.‬‬

‫‪٢٥٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھذا ھو وصف بيكون في روايته لبيت سليمان في أورشليم على لسان حاكم‬
‫أورشليم الجديدة‪:‬‬

‫"حكم ھذه الجزيرة منذ ألف وتسعمائة عام ملك ال نوقر ذكرى أحد مثلما‬
‫نوقره‪ ،‬فقد كان واسع الحكمة‪ ،‬كبير القلب‪ ،‬مفعما ً بحب الخير‪ ،‬ورغم أنه بشر‬
‫فان فقد كان أداة إلھية ‪ ،Divine Instrument‬واسمه سليمان‬
‫ٍ‬
‫‪ ...Solamona‬ومن أج ﱢل أعمال ھذا الملك أنه أنشأ جمعية أو منظمة ھي‬
‫أشرف مؤسسة وجدت على ظھر األرض‪ ،‬ووھبھا لدراسة مخلوقات اإلله‬
‫ومعرفة طبيعتھا ‪ ...‬وقد سماھا باسم ملك العبريين‪ ،‬ألنه كان يرى نفسه رمزاً‬
‫وتجسيداً لملك العبريين الذي عاش قبله بسنوات عديدة‪ ،‬وتعلم منه أن اإلله‬
‫خلق العالم في ستة أيام‪ ،‬ولذا جمعيتنا لھا اسم آخر ھو‪ :‬كلية عمل اليوم‬
‫السادس ‪(١)"Collage of six day's work‬‬

‫وكما ترى‪ ،‬سليمان الذي أنشأ بيت العلوم في أورشليم الجديدة‪ ،‬وصارت به‬
‫مملكته أجل الممالك‪ ،‬ليس سوى صورة روائية استنسخھا بيكون من سليمان‬
‫ملك بني إسرائيل التوراتي‪ ،‬ووصف سليمان أورشليم الجديدة الذي وصفه به‬
‫بيكون ھو نقل حرفي لوصف سليمان أورشليم القديمة في سفر الملوك األول‪:‬‬

‫ب َكال ﱠر ْم ِل الﱠ ِذي‬ ‫سلَ ْي َمانَ ِح ْك َمةً َوفَ ْھ ًما َكثِي ًرا ِج ًّدا‪َ ،‬و َر ْحبَةَ قَ ْل ٍ‬ ‫"‪َ ٢٩‬وأَ ْع َ‬
‫طى ﷲ ُ ُ‬
‫يع بَنِي ا ْل َم ْ‬ ‫سلَ ْي َمانَ ِح ْك َمةَ َج ِم ِ‬ ‫َاط ِئ ا ْلبَ ْح ِر‪َ ،‬وفَاقَتْ ِح ْك َمةُ ُ‬
‫َعلَى ش ِ‬
‫‪٣٠‬‬
‫ق َو ُك ﱠل‬
‫ش ِر ِ‬
‫ص َر َو َكانَ أَ ْح َك َم ِمنْ َج ِم ِ‬
‫يع النﱠا ِ‬
‫)‪(٢‬‬ ‫‪٣١‬‬
‫س"‬ ‫ِح ْك َم ِة ِم ْ‬

‫‪1) Francis Bacon: New Atlantis,in:Works of Francis Bacon،P205-206.‬‬


‫‪ ( ٢‬الملوك األول‪.٣١-٤:٢٩:‬‬
‫‪٢٥٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأما بيت علوم أورشليم الجديدة‪ ،‬الذي أنشأ الماسون وأعضاء حركة‬
‫الروزيكروشيان‪ ،‬من أتباع بيكون وخلفائه‪ ،‬الجمعية الملكية البريطانية على‬
‫غراره وبمحاكاته‪ ،‬لكي يحولوه بھا من خيال إلى واقع‪ ،‬فھو نفسه ھيكل أورشليم‬
‫القديمة‪ ،‬وعلومه ھي أداة سيطرة أورشليم الجديدة على األرض وتسلطھا على‬
‫الممالك‪ ،‬بديالً عصريا ً لسيطرة سليمان أورشليم القديمة على ما حولھا من‬
‫ممالك بمردة الجن والشياطين!‬

‫وباستثناء العميان من األميين‪ ،‬أمثال من أنشدك النشيد‪ ،‬ال يجد من يقرأ‬


‫رواية بيكون ذرة من شك في الصورة التي يريد أن يوجه العالم نحوھا ويصل‬
‫به إليھا‪.‬‬

‫فھذا ھو موقع بني إسرائيل من أورشليم الجديدة التي ابتكرھا بيكون لكي‬
‫تكون نموذجا ً يُدفع العالم نحوه ويُصنع على غراره وبمحاكاته‪ ،‬وھذه ھي الغاية‬
‫التي يتجه العالم نحوھا بصناعته على غرارھا‪:‬‬

‫"وقد كان يعيش بين ظھراني أھل بن ساليم بقايا من اليھود يحتفظون‬
‫بديانتھم ويحبون شعب بن ساليم محبة عظيمة‪ ،‬ومن ھؤالء اليھود وما‬
‫يحوزونه من كتب وتقاليد ‪ ،Tradition‬أخذ أھل بن ساليم عاداتھم‬
‫وقوانينھم‪ ،‬وعرفوا أنھم من نسل إبراھيم ‪ Abraham‬وينحدرون من ابن‬
‫آخر له‪ ،‬وأن موسى ‪ Moses‬ھو الذي سن تشريعات بن ساليم التي يتحاكمون‬
‫بھا‪ ،‬وصبغھا بحكمة القبااله السرية ‪ ،Secret Cabala‬وأنه عندما يأتي‬
‫الھامشيحاه ‪ Messia‬ويجلس على عرشه في أورشليم ‪،Hierusalem‬‬

‫‪٢٥٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫سيكون ملك بن ساليم عند قدميه ‪ ،Sit at his feet‬وخلفه من بعيد باقي‬
‫الملوك")‪!!(١‬‬

‫فھل أدركت اآلن من يكون أبو العلوم وفيلسوف المعرفة الذي علمن الغرب‬
‫ورسم مساره‪ ،‬ليدفعه فيه َمن جاءوا بعده ِمن أتباعه وخلفائه؟‬

‫فرنسيس بيكون ھو أحد أشھر القباليين في التاريخ‪ ،‬وأورشليمه الجديدة ھي‬


‫أورشليم القبالية‪ ،‬وإذا كان بعض أتباعه حولوا الھيكل الجديد إلى واقع بإنشاء‬
‫الجمعية الملكية البريطانية‪ ،‬فقد حول بعضٌ آخر منھم أورشليم القبالية إلى حقيقة‬
‫يدفعون بھا العالم نحو غاية بني إسرائيل بإنشاء الواليات المتحدة الماسونية‪.‬‬

‫وصاحب فكرة توحيد الحركات السرية والماسونية في أوروبا ونقل مجال‬


‫حركتھا وعملھا من أوروبا إلى القارة األمريكية البكر الخالية من عوائق العقائد‬
‫والكنيسة والتاريخ والملوك‪ ،‬إلنشاء أورشليم القبالية الجديدة فيھا‪ ،‬والسيطرة بھا‬
‫ومنھا على العالم‪ ،‬وتوجيھه نحو استعادة أورشليم بني إسرائيل الحقيقية القديمة‪،‬‬
‫ھو بيكون نفسه!‬

‫بقي أن تعلم أن فرنسيس بيكون زين ھوامش صفحات كتابه وفراغاتھا في‬
‫مخطوطته األصلية التي كتبھا بخط يده‪ ،‬وفي طبعته األولى التي ظھرت بعد‬
‫وفاته بعام‪ ،‬كما يقول صفيه ووصيه الذي أشرف على طبع الكتاب وليام راولي‬
‫‪ ،William Rawley‬زينھا بمجموعة من الرموز اليھودية والماسونية مثل‬
‫عمودي ھيكل سليمان الشھيرين بوعز وجاكين‪ ،‬وھما أحد أركان تصميم‬

‫‪1) New Atlantis,in:Works of Francis Bacon،P209.‬‬


‫‪٢٥٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المحفل الماسوني‪ ،‬والبرجل ‪ ،Compass‬ومربع ضبط الزوايا ‪،Square‬‬


‫والمسطرين ‪ ،Trowel‬والعين المطلعة على كل شئ ‪.The All Seing Eye‬‬

‫واآلن يمكنك أن تعيد قراءة القصيدة التي كتبھا دكتور زكي نجيب محمود‬
‫في بيكون وجزيرته وبيته للعلوم‪ ،‬ثم تعدل عنوانھا إلى العنوان الصحيح الذي‬
‫ينبغي لھا‪ ،‬وھو‪ :‬عندما يحلم القباليون!‬

‫‪٢٥٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻋﺒﺎدة اﻟﺸـﻴﻄﺎن‬
‫والنبع في خريطة الوجود البني إسرائيلية الذي تدفقت منه العلمانية‪ ،‬ھو‬
‫نفسه الذي كان من فروعه عبادة الشيطان‪ ،‬وفرع آخر منه تحرير المرأة‪،‬‬
‫بإخراجھا من ھدي الشرائع‪ ،‬في األخالق والزي والسلوك‪ ،‬وارتباط ھذا‬
‫التحرير والخروج بالعلم والتقدم والمدنية‪.‬‬

‫وھا ھنا قد تسأل‪ :‬ما الدليل على أن قصة الخلق البني إسرائيلية ھي التي‬
‫كونت وعي الغرب‪ ،‬وأنھا ھي التي تحكم أذھان نخبه ورموزه وصانعي تاريخه‬
‫ونفوسھم‪ ،‬وأنھا ھي التي أنتجت ھذا كله؟‬

‫فإليك الدليل في أشد ما ذكرناه لك شططا ً وأكثره جنوحا ً‪ ،‬وھو عبادة‬


‫الشيطان‪.‬‬

‫عبادة الشيطان في الحركات السرية وجمعيات عبادته ليست مجرد كفر أو‬
‫زندقة أو ھرطقة كما قد تعتقد‪ ،‬بل ھي فلسفة متكاملة‪ ،‬وھي نتاج طبيعي تلقائي‬
‫ال غضاضة فيه لخريطة الوجود البني إسرائيلية‪.‬‬
‫فسل نفسك أوالً‪ :‬الذين يعبدون الشيطان ويقدسونه ويعتبرونه صديقا ً‬
‫لإلنسان‪ ،‬من أين علموا أصالً أنه يوجد كائن أو مخلوق اسمه الشيطان لكي‬
‫يعبدوه‪ ،‬ومن أين أتتھم وكيف دخلت في عقولھم فكرة أن ھذا المخلوق أو الكائن‬
‫الذي اسمه الشيطان صديق لإلنسان محب له؟‬

‫فھاك اإلجابة من أحد المشاھير من ُعبﱠاد الشيطان‪.‬‬

‫‪٢٥٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يقول حبر الماسونية األعظم في القرن التاسع عشر اليھودي ألبرت بايك‪،‬‬
‫وھو يُن ﱢ‬
‫ظر لعبادة الشيطان‪ ،‬في تعاليم الدرجة الثالثة‪ ،‬درجة االستاذ ‪،Master‬‬
‫وفي تعاليم الدرجة السادسة والعشرين‪ ،‬درجة أمير الرحمة ‪Prince of‬‬
‫‪:Mercy‬‬

‫"الشيطان ‪ Satan‬في القبااله كفء يھوه ‪ ،Yehveh‬فالشيطان ليس‬


‫شراً‪ ،‬بل ھو إله الخير‪ ،‬الذي تمرد على أدوناي)•(‪ ،‬ووھب اإلنسان نور‬
‫المعرفة وحرية اإلرادة ‪ ...‬أدوناي ھو إله الغيوب‪ ،‬والشيطان ھو نور العالم‪،‬‬
‫وھو اإلله الذي خلق الكون المنظور ‪ Visible universe‬ويحكمه‪ ،‬وكالھما‬
‫)‪(١‬‬
‫إله خالد"‬

‫وكما ترى‪ ،‬عبادة الشيطان ھي ابنة خريطة الوجود البني إسرائيلية وثمرتھا‬
‫وليست خروجا ً عليھا‪ ،‬فبنو إسرائيل‪ ،‬لكي يُضلوا البشر ويفصموا عالقتھم‬
‫باإلله‪ ،‬حولوا الشيطان في خريطة الوجود إلى محب لإلنسان‪ ،‬أو اإلله الذي‬
‫يرعاه ودله على المعرفة‪ ،‬وھيأ له األرض وأعانه على بدء مسيرته فيھا‪ ،‬بعد‬
‫أن طرده اإلله إليھا‪ ،‬ولعنھا لكي تكون منفاه ومحل عقوبته‪.‬‬

‫ثم إليك إحدى الفروع التي فرعتھا الحركات السرية من خريطة الوجود‬
‫البني إسرائيلية‪.‬‬

‫• ( أدوناي اسم اإلله في سفر التكوين‪ ،‬وھي عبرية معناھا‪ :‬المولى أو السيد‪ ،‬ويھوه اسم اإلله الذي ظھر‬
‫لموسى في سفر الخروج‪ ،‬وال يعرف معناه تحديداً‪ ،‬بل وال النطق الصحيح له‪ ،‬ألنه يحرم نطقه إال على الحبر‬
‫األعظم داخل قدس األقداس‪.‬‬
‫‪1 ) Albert Pike: Morals and dogma, P:102, 567.‬‬
‫‪٢٦٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في الدرجات العليا من الماسونية‪ ،‬يتحول إغواء الشيطان لحواء إلى إغواء‬
‫جنسي‪ ،‬نزھھا ﷲ عز وجل عما يقولون‪ ،‬ليثمر ھذا اإلغواء أول أبناء حواء‪:‬‬
‫قايين بن إبليس!‬

‫وقايين بن إبليس ھو الذي دل أخاه ھابيل بن آدم على ما يحفظ به حياته من‬
‫طعام وشراب‪ ،‬وھو الذي علمه كيف يحيك ما يحميه من الحر والبرد‪ ،‬ثم كان‬
‫نسل قايين بن إبليس ھم من علموا بني آدم الصيد والزراعة والصناعة‪.‬‬

‫ومن ثَم فالبشرية عبر تاريخھا كله قسمان‪ ،‬نسل الشيطان‪ ،‬وھم الطبقة‬
‫المستنيرة الصانعة للعلم وحاملة نور المعرفة والقائدة للبشر‪ ،‬وھؤالء ھم‬
‫الماسون‪.‬‬

‫وأما باقي البشرية‪ ،‬فھم الطبقات الخاملة‪ ،‬وأتباع الجھل والظالم من بني آدم!‬

‫‪٢٦١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣﺎدة اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ‬
‫من أين أتى بنو إسرائيل بعناصر خريطتھم للوجود‪ ،‬وھل الصورة التي‬
‫استقرت عليھا العالقة بين مكوناتھا كانت عفواً أو غفلة وسھواً أم ھي قصد‬
‫مقصود؟‬

‫فإليك نموذجا ً على ما يحدثه افتقاد الوحي مصدراً مطلقا ً للمعرفة‪ ،‬في‬
‫مجاالت من المعارف ال مصدر لھا غيره‪ ،‬وليس في طاقة اإلنسان وما يحوزه‬
‫من وسائل ذاتية للمعرفة أن يصل إلى وجه الحق فيھا‪ ،‬من خلل في الفھم‪،‬‬
‫وانحراف في المنھج‪ ،‬وانقالب في الفرضيات‪ ،‬وضالل في النتائج‪ٍ .‬‬

‫إليك كيف وأين نقب أحد أكثر العقول سعة وخبرة وإحاطة بتاريخ البشر‬
‫وعقائدھم عن إجابة السؤال‪ ،‬وما وصل إليه من نتائج‪ ،‬بعد أن خرج الوحي من‬
‫مصادره ضابطا ً ومرشداً‪.‬‬

‫يقول السير جيمس فريزر في مدخل كتابه‪ :‬الفلكلور في العھد القديم‪:‬‬

‫"توصلت األبحاث الحديثة التي تدرس فجر التاريخ البشري بشتى‬


‫اتجاھاتھا إلى نتيجة مؤكدة‪ ،‬مؤداھا أن كل الشعوب المتحضرة قد تطورت‪ ،‬في‬
‫زمن أو آخر‪ ،‬من المرحلة الھمجية التي تشبه في قليل أو كثير المرحلة التي ال‬
‫تزال بعض الشعوب المتأخرة تعيشھا إلى اليوم‪ ،‬كما انتھت ھذه األبحاث إلى‬

‫‪٢٦٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أن ھناك آثاراً ليست بالقليلة من الطرز البدائية القديمة في الحياة والتفكير ال‬
‫)‪(١‬‬
‫تزال ماثلة في عادات الناس وتقاليدھم"‬

‫وكما ترى‪ ،‬وعي السير جيمس فريزر محصور داخل خريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬وما يفھمه‪ ،‬ھو كله من آثار سريانھا في تكوينه‪ ،‬فوعيه وتكوينه ال‬
‫يستطيع الفصل بين التقدم المادي في علوم الطبيعة والكون وبين الحق في‬
‫العقائد والقيم واألخالق‪ ،‬وھذا عنده يرتبط بذاك‪ ،‬ألن التفرقة بينھما ال يرتقي‬
‫إليھا إال وعي كونه الوحي‪.‬‬

‫فإليك ھذه التفرقة واضحة حاسمة‪ ،‬نذكرك بھا‪ ،‬لتعلم الفرق بين العقل الذي‬
‫يسري فيه الوحي والعقل الفارغ منه‪ ،‬وأن ھذا اليرقى أبداً لذاك‪ ،‬بالغا ً ما بلغ‬
‫علمه ومعارفه وألقابه وشھاداته‪:‬‬

‫"في كل حالة وراء كلمة التقدم يختفي ضالل وزيغ عن الحق‪ ،‬ما عدا‬
‫الحاالت التي تشير فيھا ھذه الكلمة إلى كشوف مادية أو علمية‪ ،‬إذ ليس ھناك‬
‫اال تعليم حق واحد‪ ،‬وال مجال فيه للتقدم‪ .‬إن التقدم كفكرة زائفة يعمل على‬
‫تغطية الحق‪ ،‬حتى ال يعرف الحق أحد غيرنا نحن شعب ﷲ المختار الذي‬
‫)‪( ٢‬‬
‫اصطفاه ليكون قواما ً على الحق"‬

‫السير جيمس فريزر الذي تحكمه سيرة البشر في التحريف كيف بدأت على‬
‫األرض‪ ،‬لم يرتق وعيه إلى أن يفطن أن التقدم في الزراعات والصناعات‬
‫والتقنيات‪ ،‬وما يرتبط بھا من تيسير حياة البشر‪ ،‬وسيلته تجارب اإلنسان‬

‫‪ ( ١‬سير جيمس فريزر‪ :‬الفلكلور في العھد القديم‪ ،‬ص‪.٢١‬‬


‫‪ ( ٢‬محمد خليفة التونسي‪ :‬بروتوكوالت حكماء صھيون‪ ،‬ص‪.٩٤‬‬
‫‪٢٦٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وخبراته وما يتوارثه‪ ،‬أما العقائد والقيم واألخالق فليس فيھا إال الحق والباطل‪،‬‬
‫وال مجال لمعرفة وجه الحق ھذا إال من مصدره‪ ،‬فإن افتقد اإلنسان المصدر‬
‫فليس إال الباطل‪ ،‬ولن يصل إلى الحق بتجاربه وخبراته ولو بعد ماليين السنين‪،‬‬
‫وسوف يستوي من صعد إلى القمر مع من كان يعبده‪.‬‬

‫ما لم يصل إليه وعي السير جيمس فريزر‪ ،‬وما كان أن يصل إليه‪ ،‬ال ھو‬
‫وال أحد غيره من غير الوحي‪ ،‬أنه ھو نفسه يرى الوجود ويفھم التاريخ ويستنبط‬
‫من سيرة بني إسرائيل ما أرادوا ھم له وللبشر جميعا ً أن يروه ويفھموه‬
‫ويستنبطوه!‬

‫ألن خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬ھي نفسھا‪ ،‬ترسخ في ذھن من يتكون‬
‫بھا أن اإلنسان ظھر على األرض مقطوع الصلة باإلله‪ ،‬إن كان ثَمة إله أصالً‪،‬‬
‫وأنه مصدر علم نفسه‪ ،‬وھو الذي ابتكر أخالقه وقيمه‪ ،‬وھو الذي كون عقائده‬
‫وأفكاره‪ ،‬فقد افترض جيمس فريزر‪ ،‬كما افترض ويفترض أمثاله في الغرب‬
‫وذيولھم في الشرق‪ ،‬أن قصة الخلق أسطورة محض‪ ،‬كونت عناصرھا عقول‬
‫القبائل البدائية وخياالتھم‪ ،‬ثم جمع بنو إسرائيل ھذه المكونات من القبائل الوثنية‬
‫ولفقوا منھا القصة‪.‬‬

‫لذا كان منھج فريزر الرئيسي‪ ،‬كما رأيت عند ديورانت من قبل‪ ،‬التنقيب عن‬
‫مكونات خريطة الوجود البني إسرائيلية في ما وصل إليه من فلكلور القبائل‬
‫والشعوب السابقة على بني إسرائيل‪ ،‬أو في ما وجده من معتقدات وطقوس في‬
‫القبائل المعزولة عن المدنية التي عثر عليه المستكشفون في إفريقيا وآسيا‬
‫واستراليا ونيوزيلندا‪.‬‬
‫‪٢٦٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ولكن جيمس فريزر وھو ينقب عن آثار معتقدات القبائل البدائية والمعزولة‬
‫في المسرحية‪ ،‬كما يسميھا‪ ،‬سدت طريقه صخرة ھائلة‪ ،‬ينھار عمله كله من غير‬
‫إزاحتھا‪ ،‬فقد أعياه أن يعثر على أثر لشجرة المعرفة التي نُھي اإلنسان األول‬
‫عن األكل منھا‪ ،‬والتي ھي صُلب المسرحية والمحور الذي تدور كل تفاصيلھا‬
‫من حوله‪.‬‬

‫وھا ھنا آب فريزر إلى المغارة التي يأوي إليه كل من تحكم وعيھم وما‬
‫يتكون فيه وما ينتجه خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬في كل العلوم والمعارف‪،‬‬
‫ليموھوا فرضياتھم داخل ظالمھا‪ ،‬ويسدوا الفجوات التي في نظرياتھم بغبارھا‪،‬‬
‫ويوھمون من يقدمونھا لھم أنھا حقائق‪ ،‬فھي المغارة التي لُفقت في ظالمھا‬
‫الليبرالية والعقد االجتماعي‪ ،‬وسُدت بغبارھا ثقوب الداروينية والماركسية‪.‬‬

‫ل ﱠما عجز جيمس فريزر عن العثور على مادة يجعلھا أصالً لشجرة المعرفة‪،‬‬
‫انتقل إلى التخمين وضرب الودع واالفتراضات التي ال دليل عليھا‪.‬‬

‫خمن فريزر أن أصل المسرحية حكايتان تم دمجھما معاً‪ ،‬دون أن يقدم دليالً‬
‫على أي منھما‪ ،‬إحداھما كانت تدور حول شجرة المعرفة‪ ،‬واألخرى صلبھا‬
‫شجرة الحياة‪ ،‬ثم افترض‪ ،‬من غير برھان أيضاً‪ ،‬أن من كتب المسرحية ومزج‬
‫بين الحكايتين لم يكن ماھراً‪ ،‬فاحتفظ بحكاية شجرة المعرفة كما ھي‪ ،‬واختصر‬
‫حكاية شجرة الحياة اختصاراً أفقدھا معالمھا‪.‬‬

‫ثم خمن‪ ،‬مرة ثالثة‪ ،‬أن شجرة الحياة‪:‬‬

‫‪٢٦٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"لم تلعب في الحكاية األصلية ھذا الدور المثير السلبي الصرف الذي لعبته‬
‫)‪(١‬‬
‫في ھذه الحكاية"‬

‫وھكذا‪ ،‬وبالتخمين وضرب الودع‪ ،‬أزاح فريزر صخرة شجرة المعرفة التي‬
‫لم يعثر لھا على شبيه‪ ،‬ولم يستطع أن يجد ما يفسر به وجودھا‪ ،‬وأحل محلھا في‬
‫موضع الصدارة من مسرحية بني إسرائيل شجرة الحياة‪ ،‬ليفسر ھذا الموضع‪،‬‬
‫وبالتخمين أيضاً‪ ،‬بأن‪:‬‬

‫"الھدف من حكاية السقوط‪ ،‬فيما يبدو‪ ،‬ھو محاولة لتفسير فناء اإلنسان‪،‬‬
‫)‪( ٢‬‬
‫ولتقديم السبب الذي من أجله أصبح الموت جز ًءا من كياننا الدنيوي"‬

‫فرضيات جيمس فريزر وأضرابه من األميين ممن ُحرموا علم الوحي‪،‬‬


‫ووعيھم تحكمه خريطة بني إسرائيل للوجود‪ ،‬أن ھذه الخريطة ليس لھا أصل‬
‫حقيقي‪ ،‬وأن مادتھا وعناصرھا ابتكار صنعته تصورات القبائل والشعوب‬
‫البدائية وخياالتھا‪ ،‬وأن بني إسرائيل جمعوا ھذه المادة والمكونات وصنعوا منھا‬
‫مسرحيتھم عفواً وتأثراً بتراث من سبقوھم أو من عاصروھم‪.‬‬

‫وفرضيات ھؤالء األميين‪ ،‬وما وصلوا إليه من نتائج‪ ،‬كلھا خاطئة ومقلوبة‪،‬‬
‫فإليك كيف ستكون الفرضيات والنتائج بإدخال الوحي مصدراً للمعرفة في‬
‫المسألة‪ ،‬وضابطا ً وسقفا ً أعلى لھا‪.‬‬

‫المسرحية التي صنعھا بنو إسرائيل لھا أصل حقيقي‪ ،‬ھو خريطة الوجود‬
‫اإللھية التي استودعھم عز وجل إياھا وكلفھم ھداية األمم إليھا وإرشادھم بھا‪،‬‬

‫‪ ( ١‬الفلكلور في العھد القديم‪ ،‬ص‪.٤٩‬‬


‫‪ ( ٢‬الفلكلور في العھد القديم‪ ،‬ص‪.٤٩‬‬
‫‪٢٦٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫وبنو إسرائيل عبثوا بأصل ھذه الخريطة وحرفوا العالقات بين مكوناتھا عمداً‬
‫وقصداً من بعد ما عقلوه وھم يعلمون‪ ،‬لكي يحتكروھا ويضللوا البشر عنھا‪،‬‬
‫والطائفة منھم التي تعمدت ذلك تعرف الحق وتحوز األصل وتتوارثه‪ ،‬وھو‬
‫معھا وأنت تقرأ ما نقوله لك عنھا اآلن‪ ،‬وسوف يظل معھا إلى يوم القيامة‪،‬‬
‫ووجود عناصر من قصة الخلق في تراث القبائل والشعوب المختلفة ھو مما‬
‫بقي من آثار الحق األول‪ ،‬ومن آثار النبوات والرساالت قبل بني إسرائيل‪ ،‬وما‬
‫في ھذه العناصر من وثنيات وأساطير وخرافات ھو من تحريفات ھذه القبائل‬
‫والشعوب لألصل‪ ،‬أو زيادات ألحقتھا به‪ ،‬وما أخذه بنو إسرائيل من ھذه‬
‫الوثنيات واألساطير استعانوا به لملء الفجوات التي صنعھا عبثھم باألصل‪.‬‬

‫واآلن نجيبك على السؤال‪.‬‬

‫بنو إسرائيل صنعوا خريطتھم للوجود من مادة الخريطة اإللھية ومكوناتھا‪،‬‬


‫فالذي فعلوه عمداً ليس ابتكار عناصر المسرحية‪ ،‬بل العبث بمكونات قصة‬
‫الخلق األصلية‪ ،‬عبر طمس حقائقھا وتغيير صفاتھا وتبديل العالقات بينھا‪.‬‬

‫فاإلله‪ ،‬في خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬جعلوه كبيراً آللھة‪ ،‬والشجرة التي ال نوع‬
‫لھا في األصل حددوه‪ ،‬والمعرفة التي ھي ھبة اإلله لإلنسان جعلوھا نوع ھذه‬
‫الشجرة التي حرﱠمھا اإلله وثمرتھا‪ ،‬والشيطان الذي ھو عدو اإلنسان صيروه‬
‫مرشده وھاديه إلى المعرفة‪ ،‬وال ُخلد الذي أغوى به الشيطان اإلنسان جعلوه‬
‫حقيقة وغرسوا له شجرة‪ ،‬والمھمة التي خلق اإلله اإلنسان من أجلھا حجبوھا‪،‬‬
‫والوحي واإلرشاد الذي زوده به أزاحوه‪ ،‬واألرض التي أھبطه إليھا ليبدأ فيھا‬
‫مھمته حولوھا إلى منفاه‪.‬‬
‫‪٢٦٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫حجْ ب بني إسرائيل لخريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وعبثھم بھا عمداً‪ ،‬ح ﱠول الوجود‬
‫إلى متاھة ال معالم لھا‪ ،‬وال إرشاد فيھا‪ ،‬ضلت أكابر العقول وأعاظم األمم‬
‫والشعوب وھي تبحث عن تفسير لھا أو مخرج منھا‪.‬‬

‫‪٢٦٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاﺑﻨﺎء اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ و ٔاﺗﺒﺎع ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬


‫الليبرالية والعقد االجتماعي‪:‬‬

‫في خريطة الوجود المزورة أن اإلنسان ُوجد على األرض مطروداً من اإلله‬
‫مغضوبا ً عليه‪ ،‬وما أراد بنو إسرائيل بثه بذلك في أذھان البشر وترسيخه في‬
‫نفوسھم‪ ،‬أن اإلنسان ھبط إلى األرض مستقالً عن اإلله‪ ،‬مفارقا ً له‪ ،‬غير مكلف‬
‫بشئ‪ ،‬وليس عليه التزام بشئ‪ ،‬فلم يزوده اإلله بإرشاد وھدي‪ ،‬وال ضوابط وال‬
‫قواعد في أي شئ‪ ،‬ال السلوك والعالقات‪ ،‬وال األخالق والقيم‪ ،‬وال النظم‬
‫والشرائع‪ ،‬بل وال األفكار والعقائد‪.‬‬

‫فاإلنسان في خريطة الوجود البني إسرائيلية ھو الذي صنع على األرض‬


‫قوانينه وعالقاته وھو الذي وضع ضوابطھا‪ ،‬وھو الذي حدد بنفسه ما ھي قيمه‬
‫وأخالقه‪ ،‬وھو الذي ابتكر أنظمته االجتماعية واالقتصادية والسياسية بالتجربة‬
‫والخطأ والتصويب‪ ،‬وھو الذي كون أفكاره وعقائده مما أحاط به من ظروف‬
‫ومالبسات وأعطاھا شكلھا وقوتھا بالتراكم والتوارث‪.‬‬

‫غاية بني إسرائيل من العبث الذي عبثوه بخريطة الوجود أن يغرسوا في‬
‫وعي البشر ونفوسھم أن أفكار اإلنسان وعقائده‪ ،‬وأخالقه وقيمه‪ ،‬وأنظمته‬
‫االجتماعية واالقتصادية والسياسية‪ ،‬كلھا كانت ابتكارات ھو الذي ابتكرھا بعقله‬
‫وحواسه‪ ،‬ووصل إليھا بتجاربه‪ ،‬في استقالل تام عن اإلله ووحيه وھديه‪.‬‬

‫‪٢٦٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والبذرة التي غرسھا بنو إسرائيل في وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم‬


‫بخريطتھم للوجود‪ ،‬ھم من كانوا طوال التاريخ يروونھا ويتعھدونھا‪ ،‬في ھذا‬
‫الوعي وھذه األذھان والنفوس‪ ،‬عبر الحركات السرية‪.‬‬

‫فبھذا الري والتعھد‪ ،‬انبثقت من ھذه البذرة الليبرالية وفكرة العقد االجتماعي‬
‫وضرورة وضع دستور‪.‬‬

‫فإذا تساءلت كيف ؟‬

‫فاإلجابة‪ :‬ألن ھذه المذاھب واألفكار كلھا معناھا أن اإلنسان حر حرية‬


‫مطلقة‪ ،‬فليس عليه التزام بأخالق وال قيم‪ ،‬وال تقيده قواعد وال ضوابط‪ ،‬فما‬
‫أعجبه وارتضاه‪ ،‬وماتخلق به من أخالق وقيم‪ ،‬ھو حر فيه‪ ،‬والقواعد والضوابط‬
‫ھو الذي يضعھا ويحد حدودھا في المجتمع باالتفاق‪ ،‬وفي تحرر من إرشاد‬
‫الوحي وقواعد الدين وضوابطه‪.‬‬

‫والدستور‪ ،‬الذي ھو أحد آثار عبث بني إسرائيل بخريطة الوجود‪ ،‬والذي تم‬
‫وضع معادالته وضبط تفاعالته ونواتجه طبقا ً للمواصفات اليھودية وفي معامل‬
‫الماسون‪ ،‬أصل فكرته وفلسفته أن قوى المجتمع‪ ،‬أو ممثليه‪ ،‬سوف يتفقون في‬
‫لحظة معينة على القواعد التي ستحكم ھذا المجتمع‪ ،‬ألنه ال قواعد وال ضوابط‬
‫سابقة على االتفاق‪ ،‬وھو ما يعني أنه ال ثوابت وال معايير وال موازين‪.‬‬

‫فاألبالسة ابتكروا فكرة الدستور وصنعوه في معاملھم‪ ،‬لتكون إحدى وسائل‬


‫إزاحة مسألة األلوھية ونفي الوحي‪ ،‬إذ حتى لو تم وضع الشرائع في صُلب‬
‫الدستور‪ ،‬فالمعنى الحقيقي الذي سوف يسري في وعي البشر أن الدستور ھو‬

‫‪٢٧٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الذي حدد القواعد وأباح الشرائع وقبِل بھا ضمن قواعده‪ ،‬كما أنه يمكنه أن‬
‫يمنعھا ويخرجھا منھا‪.‬‬

‫فالبشر ھم من وضعوا النظام وقعﱠدوا قواعده‪ ،‬وباالتفاق ال بالوحي ھم الذين‬


‫قبلوا الشرائع ومنحوھا موضعھا من النظام‪ ،‬وھم من يرفضونھا‪ ،‬فيصير البشر‬
‫بذلك فوق اإلله‪ ،‬ودساتيرھم أعلى من وحيه‪.‬‬

‫وكما ترى‪ ،‬غاية بني إسرائيل من العبث بخريطة الوجود تتدسس وتتسرب‬
‫في كل ما يتكون بھا وتفرزه‪ ،‬وفي كل ما يصنعونه بھا‪.‬‬

‫فإليك الوجه اآلخر لمن عرفھم العالم آبا ًءا لليبرالية والعقد االجتماعي‬
‫والدساتير‪ ،‬وما ھم بآبائھا‪ ،‬فآباؤھا الحقيقيون ھم من كونوا وعي ھؤالء‬
‫بخريطتھم للوجود‪ ،‬وصنعوا أدمغتھم في المعامل التي أنشأوھا لذلك وعبأوھا‬
‫طبقا ً لمواصفاتھم القياسية‪.‬‬
‫فولتير ‪ ،Voltaire‬أشھر أعالم الليبرالية ورموزھا في التاريخ‪ ،‬كان عضواً‬
‫في محفلين‪:‬‬

‫"محفل كارلوتنبرج ‪ Krlottenberg‬في برلين في ألمانيا‪ ،‬ومحفل‬


‫)‪( ١‬‬
‫األخوات التسع ‪ Loge des Neuf Soeurs‬في باريس"‬

‫وكتب وھو في الثمانين من عمره أنه يتمنى أال يموت قبل أن يرى ھيكل‬
‫أورشليم قائماً!‬

‫‪1 ) Nesta Webster:Secret societies and submersive movemens,P399.‬‬


‫‪٢٧١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالليبراية عند من ابتكروھا لم تكن سوى إحدى أدوات تغيير عقل العالم‬
‫وتفريغه وتحويل مساره‪ ،‬من أجل إعادة ملئه بغاية بني إسرائيل ودفعه في‬
‫اتجاھھا!‬

‫والعقد االجتماعي وفكرة الدستور‪ ،‬كان خلف ظھورھا وفلسفتھا والتنظير‬


‫لھا جون لوك‪ ،‬وجان جاك روسو‪.‬‬

‫فأما اإلنجليزي جون لوك ‪ Jhone Locke‬فكان عضواً في حركة‬


‫الروزيكروشيان أو الصليب الوردي ‪ ،Russicrucian‬وھي توأم الماسونية‬
‫وأختھا الشقيقة‪.‬‬
‫وأما السويسري جان جاك روسو ‪ Jean Jacque Rousseau‬فكان عضواً‬
‫في محفلين‪ ،‬األول‪ :‬ھو الشرق األعظم الفرنسي ‪.Grand Orient‬‬

‫وأما الثاني‪ ،‬فيخبرك به ألبرت بايك‪ ،‬وھو يعرفك كيف تم دفع فرنسا نحو‬
‫الثورة‪ ،‬ومنه تعرف المعمل الذي صُنعت و ُعلﱢبت فيه نظرية العقد االجتماعي‬
‫من أجل إزاحة مسألة األلوھية من وعي البشر ومن معمار العالم بالدولة‬
‫القومية‪ ،‬وتعرف َمن الذي كان خلف الثورة الفرنسية التي علمنت الغرب‬
‫وأخرجت مفتاح التصنيف البني إسرائيلي من التوراة إلى بلدانه وخرائطه‪:‬‬

‫"وبإشراف روسو وتحت رعايته‪ ،‬صار محفل عصبة جنيف ‪Fanatic of‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ Geneva‬مركز الحركة الثورية في فرنسا"‬

‫فإليك ماذا يكون العقد االجتماعي أو الدستور‪ ،‬وما المراد منه‪.‬‬

‫‪1) Morals and dogma, P823.‬‬


‫‪٢٧٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بدأ روسو الفصل األول من كتابه‪ :‬العقد االجتماعي ‪Social Contract‬‬


‫بھذه العبارة‪:‬‬

‫"يولد اإلنسان حراً‪ ،‬ويوجد مقيداً ‪ In chains‬في كل مكان")‪(١‬‬

‫ويغنيك عن أن نشرح لك ما الذي يعنيه روسو بھذه العبارة‪ ،‬التي تكاد تخلب‬
‫عقلك‪ ،‬أن تعرف اسم الفصل الذي يليھا والذي جعلھا مدخالً له‪ ،‬واسمه‪:‬‬
‫المجتمعات األولى!‬

‫فھا قد أدخلك روسو العقد االجتماعي من بوابة خريطة الوجود البني‬


‫إسرائيلية‪ ،‬أن اإلنسان ولد حرأ‪ ،‬معزوالً عن اإلله وإرشاده‪ ،‬ليس عليه تكاليف‬
‫وال التزامات تجاه اآلخرين‪ ،‬وال تحكم عالقاته بھم أي قواعد أو ضوابط‪ ،‬ألن‪:‬‬

‫"ھذه الحرية العامة ھي نتيجة طبيعة اإلنسان ‪،Nature of man‬‬


‫وقانون اإلنسان األول ھو أن يُعنى ببقائه الخاص‪ ،‬وواجبه تجاه نفسه ھو ما‬
‫)‪(٢‬‬
‫يحرص عليه"‬
‫ثم بعد أن يسير بك روسو رحلة طويلة يُن ﱢ‬
‫ظر فيھا للعقد االجتماعي‪ ،‬وما‬
‫يترتب عليه في الدولة من نظم ومؤسسات‪ ،‬ولألفراد من حقوق وما عليھم من‬
‫واجبات‪ ،‬يصل بك إلى الغاية من عقده االجتماعي‪ ،‬وھي الغاية التي يغنيك‬
‫عنوان الفصل الذي يحملھا عن قراءة تفاصيله‪ ،‬وغاية روسو وعنوان الفصل‪:‬‬

‫الدين المدني ‪! Civil Religion‬‬

‫‪Jean Jacque Rousseau:The Social‬‬ ‫‪ ( ١‬جان جاك روسو‪ :‬العقد االجتماعي‪ ،‬ص‪،١٩‬‬
‫‪Contract,P5.‬‬
‫‪ ( ٢‬العقد االجتماعي‪ ،‬ص‪The Social Contract,P6 ،٢٠‬‬
‫‪٢٧٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالعقد االجتماعي ليس سوى وسيلة روسو إللغاء رابطة الدين والعقائد‬
‫بالرابطة القومية العلمانية‪ ،‬وإحالل الدولة القومية التي تحكم باسم الشعب محل‬
‫دولة اإليمان التي تحكم باسم اإلله‪.‬‬

‫الدولة التي أقامھا روسو بعقده االجتماعي‪ ،‬كما وصفھا ھو‪ ،‬ھي التي‪:‬‬

‫"تجعل من الوطن موضع عبادة المواطنين ‪ ...‬ويُعترف فيھا بعقائد ديانة‬


‫مدنية خالصة‪ ،‬تُعيﱠن موادھا‪ ،‬ال كعقائد الدين بالضبط‪ ،‬بل كمشاعر اجتماعية‬
‫‪ Social Sentiments‬يتعذر على الواحد بغيرھا أن يكون مواطنا ً صالحاً‪،‬‬
‫ويقدر الحاكم أن يُبعد من الدولة كل من ال يعتقدھا‪ ،‬ال كملحد‪ ،‬بل كنافر عاجز‬
‫عن أن يحب القوانين‪ ،‬وإذا سار أحد كغير مؤمن بھذه العقائد‪ ،‬بعد ان أقر بھا‪،‬‬
‫)‪(١‬‬
‫يعاقب بالموت"‬

‫غاية روسو الحقيقية من عقده االجتماعي ھي إزاحة مسألة األلوھية والرسل‬


‫واألنبياء والوحي والشرائع بالدولة وأبطالھا وزعمائھا وقوانينھا ودستورھا‬
‫الذي ھو دينھا المدني‪ ،‬وأن تكون ھذه بديالً لتلك‪.‬‬

‫فبعد أن أبحر روسو من بوابة بني إسرائيل‪ ،‬طاف بك في سراديب ودھاليز‬


‫يذھل عقلك عن حقيقتھا بزخرف العبارات التي يصفھا بھا‪ ،‬ثم عاد ليرسو بك‬
‫في النھاية ويستقر مرة أخرى على خريطة بني إسرائيل‪ ،‬التي ينحصر تكوينه‬
‫داخلھا وال يعرف غيرھا‪ ،‬وتتحكم في وعيه وفي كل ما يتخلق فيه وينتجه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬العقد االجتماعي‪ ،‬ص‪.The Social Contract,P121 ،١٧٧‬‬


‫‪٢٧٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وسيرة الرجل الذي اكتملت على يديه صياغة العقد االجتماعي وفكرة‬
‫الدستور‪ ،‬ھي نفسھا من آثار نفي بني إسرائيل للوحي واإلرشاد اإللھي‪ ،‬وقطع‬
‫العالئق بين اإلنسان واإلله‪.‬‬

‫في كتابه‪ :‬العقد االجتماعي‪ ،‬ولكي يُغيﱢب وعي من يكتب لھم‪ ،‬ويدق َع ْقده‬
‫االجتماعي في رؤوسھم‪ ،‬ويزيح منھا مسألة األلوھية والوحي‪ ،‬يمجد روسو‬
‫الفضائل االجتماعية التي يقر بھا الدين المدني الذي ابتكره‪ ،‬والتي يكون بھا‬
‫المواطن صالحاً‪.‬‬

‫فاعلم أن سيرة المرء ھي الترجمان الحق ألفكاره‪ ،‬وليس زخرف القول‪ ،‬وال‬
‫معسول الكالم‪ ،‬وال بھرج النظريات‪ ،‬التي ھي وسائله في التضليل وحشو‬
‫العقول باألباطيل‪ ،‬ليس إال‪.‬‬

‫فإليك من سيرة روسو‪ ،‬التي كتبھا ھو نفسه‪ ،‬ما تعرف به حقيقته‪ ،‬ولماذا كان‬
‫العقد االجتماعي والدين المدني ھما اإلخراج الطبيعي لھذ الشخص وھذه‬
‫السيرة‪.‬‬

‫فھذا الذي تراه في‪ :‬العقد االجتماعي وقوراً رصيناً‪ ،‬يتكلم عن الفضائل‬
‫ويُضلل البشر عن أنھا لم يعد لھا مصدر وال معنى بعد إزاحة اإلله والوحي من‬
‫وعيھم‪ ،‬ھو نفسه في كتابه‪ :‬اعترافات ‪ ،The Conffessions‬يروي لك‬
‫عشرات الحكايات عن مغامراته الجنسية‪ ،‬وعالقاته بالسيدات‪ ،‬وإغوائه للفتيات‪،‬‬
‫وركوعه امام العاھرات!‬

‫‪٢٧٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثم إليك من كتابه ھذا‪ ،‬ما تعرف منه كيف نبتت في رأسه بذرة انفصال القيم‬
‫واألخالق والعالقات االجتماعية والنظم السياسية عن الوجود اإللھي‪ ،‬ثم ظل‬
‫يرويھا ويتعھدھا إلى أن أثمرت العقد االجتماعي والدين المدني‪.‬‬

‫كان روسو حائراً مضطربا ً قلقاً‪ ،‬وسبب حيرته وقلقه تشككه في الوجود‬
‫اإللھي‪ ،‬وفي الوقت نفسه عدم قدرته على طرحه من نفسه وإخراجه منھا‬
‫إخراجا ً كامالً‪ ،‬مع إلحاح فكرة الخالص عليه‪.‬‬

‫وھذا التمزق ھو نفسه إحدى ثمار خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬التي تقول‬
‫إن اإلله موجود وتروي كيف خلق اإلنسان‪ ،‬ولكن العبث الذي تعمده من عبثوا‬
‫بھا يدس في أذھان البشر‪ ،‬من خالل مضمونھا والفحوى الحقيقية لتفاصيلھا‬
‫وحبكتھا وصفات اإلله فيھا‪ ،‬أن اإلله غير موجود‪ ،‬وأنه ليس إال ابتكار من‬
‫كتبھا‪.‬‬

‫وھو في الخامسة والعشرين من عمره‪ ،‬وكان إذ ذاك منغمسا ً في الملذات‬


‫والفواحش‪ ،‬مرض روسو مرضا ً طال وثقل عليه‪ ،‬فانتقل إلى الريف‪ ،‬ثم‪ ،‬وھو‬
‫جالس أمام بضع أشجار يقذفھا بأحجار يلتقطھا من األرض‪ ،‬انقبض قلبه وھو‬
‫يتذكر حياته الالھية‪ ،‬وانزعج من أن يكون قد فاته الخالص‪ ،‬وانتابه الخوف من‬
‫أن يكون مصيره الجحيم‪.‬‬

‫وھا ھنا ومضت في عقله تجربة يجريھا‪ ،‬ويعرف منھا إن كان ناجيا ً من‬
‫الجحيم أم فاته الخالص‪.‬‬

‫‪٢٧٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإليك روسو نفسه يروي لك تجربته‪ ،‬التي وصل بھا إلى ما يخرجه من‬
‫حيرته وتمزقه‪ ،‬ويريح عقله ونفسه‪ ،‬وبدأ منھا عقده االجتماعي‪:‬‬

‫"وھنا ومضت في عقلي فكرة‪ ،‬سأقذف الشجرة التي تواجھني بحجر‪ ،‬فإن‬
‫أصبتھا فأنا من الناجين‪ ،‬وإن أخطأتھا فقد حاقت بي اللعنة‪ ،‬وبيد مرتعشة‬
‫وقلب يرتجف قذفت الحجر‪ ،‬ولسعادتي أصاب الحجر الشجرة في جذعھا‪ ،‬وفي‬
‫الحقيقة لم يكن ذلك عسيراً‪ ،‬فقد صوبت نحو شجرة غليظة الجذع وقريبة‬
‫مني‪ ،‬ومنذ ذلك الحين لم اعد أشك في خالصي ‪Never doubted of my‬‬
‫‪!!(١)"salvation‬‬

‫فالنتيجة التي وصل إليه روسو من تجربته العلمية المعملية الفذة‪ ،‬وجعلھا‬
‫محور عقده االجتماعي وصلب دينه المدني‪ ،‬ھي أنه إذا كان اإلله موجوداً‪ ،‬فال‬
‫حرج على اإلنسان أن يفعل ما يشاء‪ ،‬وال إثم عليه أن يشبع غرائزه ويسير خلف‬
‫ھواه!‬

‫‪1 ) Jean Jacques Rousseau: The Conffessions، P99.‬‬


‫‪٢٧٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ادلاروﻳﻨﻴﺔ واﳌﺎرﻛﺴـﻴﺔ‬
‫ومرة أخرى‪ ،‬ال تتعجب حين نخبرك أن الماركسية والحتمية االجتماعية‬
‫والتاريخية ليست سوى فرع من الجذر البني إسرائيلي نفسه الذي نبتت منه‬
‫الليبرالية والعقد االجتماعي!‬

‫الليبرالية والعقد االجتماعي‪ ،‬والماركسية والحتمية االجتماعية‪ ،‬ليستا‬


‫نقيضتين ال يلتقيان‪ ،‬كما تبدوان لك‪ ،‬أو كما يتعمد عالم التحريف أن يوھمك‪،‬‬
‫لكي يكون وعيك واختيارك محصوراً بينھما‪ ،‬فھما فرعان من أصل واحد‪،‬‬
‫وھما معا ً نقيض للوجود اإللھي والوحي‪.‬‬

‫فكرة أن اإلنسان بدأ مسيرته على األرض مفارقا ً لإلله‪ ،‬وبال وحي وال‬
‫إرشاد إلھي‪ ،‬وأنه ھو الذي كون أفكاره وعقائده‪ ،‬وابتكر أخالقه وقيمه‪ ،‬ووضع‬
‫ضوابط عالقاته‪ ،‬وأقام أنظمته االجتماعية واالقتصادية والسياسية متأثراً‬
‫بالظروف والمالبسات التي أحاطت به وبمسيرته‪ ،‬التي أنتجت جان جاك روسو‬
‫وعقده االجتماعي‪ ،‬ھي نفسھا التي أفرزت الماركسية والحتمية التاريخية‪.‬‬

‫نظرية التطور البيولوجية ھي بديل اإلنسان الذي يفسر به وجوده على‬


‫األرض بعد استبعاد الوجود اإللھي والخلق اإللھي‪ ،‬ونظرية التطور االجتماعية‬
‫ھي بديل اإلنسان الذي يفسر به كيف تكونت قيمه وأخالقه وعالقاته ونظمه بعد‬
‫نفي الوحي واإلرشاد اإللھي‪ ،‬وھما معا ً الفحوى الحقيقية لخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬وغاية بني إسرائيل من طمس خريطة الوجود اإللھية الحقيقية‪.‬‬

‫‪٢٧٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ونظرية التطور البيولوجية‪ ،‬وامتدادھا في الماركسية والحتمية االجتماعية‬


‫والتطور التاريخي‪ ،‬تكونتا وخرجتا معا ً من معمل واحد من معامل بني إسرائيل‬
‫لتصنيع أدمغة البشر وتعليبھا‪.‬‬
‫فأما تشارلز دارون ‪ ،Charles Darwin‬فكان عضواً في محفل ْ‬
‫كيل ِوننج‬
‫الثاني ‪ Kilwining lodge No.2‬في اسكتلندا‪ ،‬وھو المحفل الذي كان من‬
‫أعضائه أبوه وإخوته جميعاً‪ ،‬ألن جده إرازموس دارون ‪Erazmos Darwin‬‬
‫كان أستاذه األعظم‪.‬‬

‫والمغارة التي ھبط على دارون فيھا وحي بني إسرائيل‪ ،‬وفيھا انقدحت‬
‫شرارة التطور في رأسه وصاغ نظريته‪ ،‬ھي محفل إنجلترا األعظم‬

‫وأما كارل ماركس ‪ Karl Marx‬وفريدريك إنجلز ‪،Frederick Engels‬‬


‫آباء الماركسية‪ ،‬فھما أيضا ً من أبناء خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬ومن‬
‫مادتھا ومكوناتھا صاغا الماركسية ونظﱠرا للحتمية التاريخية واالجتماعية‪ ،‬وفي‬
‫المعمل نفسه‪ ،‬محفل إنجلترا األعظم‪.‬‬

‫فإليك نموذجا ً واحداً تتفجر من جوانبه آثار خريطة الوجود البني إسرائيلية‬
‫في الماركسية‪.‬‬

‫خريطة الوجود اإللھية ثمرتھا أن اإلنسان اھتدى في كل شؤونه وعالقاته‬


‫بالوحي اإللھى‪ ،‬وأن ﷲ عز وجل ھو الذي أرشده إلى أن العالقة بين الرجل‬
‫والمرأة ال تكون صحيحة إال عن طريق الزواج‪ ،‬وأن وحدة بناء المجتمع‬
‫البشري ھي أن يعيشا معا ً وينجبا أبناء من خالل تكوين أسرة‪.‬‬

‫‪٢٧٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أما في خريطة بني إسرائيل‪ ،‬فاإلله ترك اإلنسان يبدأ مسيرته ھائما ً في‬
‫األرض‪ ،‬ولذا فالزواج وتكوين األسر ابتكار اضطر إليه اإلنسان بحكم ما أحاط‬
‫به من ظروف ومالبسات في مرحلة من مراحل تطور البشرية‪.‬‬

‫والثمرة الحقيقية لما فعله بنو إسرائيل أنه ليس من حق أحد أن ينكر على‬
‫أحد‪ ،‬ألنه ال قواعد ملزمة‪ ،‬وال معيار للتمييز‪ ،‬وال ميزان للعقل‪ ،‬وما ابتكره‬
‫إنسان يمكن ان يبتكر إنسان آخر غيره ويغلفه في معسول الكلمات وزخرف‬
‫النظريات‪.‬‬

‫فإليك ثمرة عبث بني إسرائيل بخريطة الوجود مكتملة ناضجة في البيان‬
‫الشيوعي‪:‬‬

‫"نعم‪ ،‬إننا نسعى إلى محو األسرة‪ ،‬فھي تعتمد على المال والربح‬
‫الشخصي‪ ،‬وال توجد إال في الطبقات البرجوازية‪ ،‬فھل نُالم على أننا نريد أن‬
‫نمحو استغالل اآلباء لألبناء‪ ،‬نحن نفخر بذلك‪ ،‬ونقول‪ :‬إننا نمزق ھذه العالئق‬
‫لنستبدل بالتربية العائلية التربية االجتماعية‪ ،‬إن الشيوعية ال تبتكر ھذا‬
‫التدخل في التربية‪ ،‬فالناس تخضع للظروف االجتماعية‪ ،‬وتربي أوالدھا‬
‫بواسطة المجتمع وبمعاونة مدارسه‪ ،‬نحن نريد فقط أن نغير من وجھة التعبير‬
‫)‪(١‬‬
‫االجتماعي‪ ،‬وأن ننتزع األسرة من براثن الطبقة الحاكمة"‬

‫‪ ( ١‬كارل ماكس وفريدريك إنجلز‪ :‬البيان الشيوعي‪ ،‬ص‪.٤٣‬‬


‫‪٢٨٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣﺴﺎٔةل ا ٔﻻﻟﻮﻫﻴﺔ‬
‫علمت من قبل أن الغاية الحقيقية التي عبث من أجلھا بنو إسرائيل بخريطة‬
‫الوجود اإللھية‪ ،‬بل ولكل ما حرفوه من الوحي‪ ،‬ھي طمس مسألة األلوھية في‬
‫وعي البشر‪ ،‬لكي يحتكروا اإلله والوحي‪.‬‬

‫فخريطة بني إسرائيل للوجود تقول إن اإلله موجود‪ ،‬لكنھا بمكوناتھا وبنائھا‬
‫تغرس في وعي من يتكون بھا أن اإلنسان ھو الذي خلق اإلله بذھنه‪ ،‬وأنه ھو‬
‫الذي ابتكر أفكاره عن اإلله وعقائده في األلوھية‪.‬‬

‫فإليك البرھان‪.‬‬

‫للمؤرخ البريطاني جيمس ھنري برستد كتاب افتتن به بعض األميين من‬
‫المصريين‪ ،‬ممن ضربت تكوينھم ووعيھم الجرثومة البني إسرائيلية‪ ،‬ألنه قال‬
‫فيه إن الضمير اإلنساني انبثق فجره في مصر‪.‬‬

‫وكتاب برستد‪ :‬فجر الضمير نموذج مثالي ومتكامل على آثار الجرثومة التي‬
‫تكون علومھم‬
‫أطلقھا بنو إسرائيل في وعي البشر وفي فھمھم للوجود‪ ،‬وعلى ﱡ‬
‫ومعارفھم بماء التحريف‪.‬‬

‫فالمؤرخ البريطانى قارن بين أنشودة أخناتون والمزمور الرابع بعد المائة‪،‬‬
‫وأيضا بين أمثال الحكيم المصرى القديم أمينوبى وسفر األمثال في العھد القديم‪،‬‬
‫وبين أمينوبى وكالم النبى إرميا فى السفر المسمى باسمه‪ ،‬وبينه وبين موسى‬
‫التوراتي فى سفر العدد‪.‬‬

‫‪٢٨١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وما أراد برستد أن يصل إليه من ھذه المقارنات أسبقية العقائد والثقافة‬
‫واألخالق المصرية القديمة على التراث العبري‪ ،‬وتسربھا إليه‪ ،‬وظھورھا‬
‫وتأثيرھا فى عقيدة التوراة والعھد القديم وأخالقھا وقيمھا‪ ،‬ومن ثَم إسھام الفكر‬
‫والعقائد المصرية القديمة في تكوين الغرب أو الحضارة اليھودية المسيحية‪.‬‬

‫وما لم يفطن إليه األميون‪ ،‬ممن دغدغ كالم برستد مشاعرھم القومية‬
‫المراھقة وغيب وعيھم‪ ،‬ھو أن برستد يتعامل مع التوارة التي أمامه كتراث‬
‫أدبي وفكري وتاريخي للجماعات العبرانية‪ ،‬وليس كوحي سماوي‪.‬‬

‫فبرستد في‪ :‬فجر الضمير يقوم يعملية بحث وحفر وتنقيب من خالل الطبقة‬
‫اليھودية اإلسرائيلية عما جعله عنوانا للفصل األخير فى كتابه‪" :‬مصادر إرثنا‬
‫الخلقي"‪ ،‬لكي يعود بجذور عقائد الغرب وأخالقه إلى أقدم ما وصل إليه من‬
‫نصوص مكتوبة‪.‬‬

‫فلن تحتاج وأنت تقرأ الكتاب إلى من ينبھك أن ما يقصده برستد ويبحث عنه‬
‫ھو‪" :‬مصادر إرث الغرب الخلقي"‪.‬‬

‫والنتيجة التى وصل إليھا برستد ھي إحدى ثمار التفسير التطوري للعقائد‪،‬‬
‫وھو المسلمة والفرضية الرئيسية التي أقام عليھا كتابه‪.‬‬

‫فھذا ھو فھم برستد لكيف عرف اإلنسان األخالق وقواعد االجتماع‪:‬‬

‫"الواقع إن نھوض اإلنسان إلى ال ُمثل االجتماعية قد حدث قبل أن يبدأ ما‬
‫يسميه رجال الالھوت بعصر الوحي بزمان طويل‪ ،‬وأن ھذا النھوض نتيجة‬
‫الخبرة االجتماعية التي مارسھا اإلنسان بنفسه‪ ،‬ولم يُزج إلى ھذا العالم من‬

‫‪٢٨٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الخارج ‪ ...‬وأفكار اإلنسان األول الخلقية أتت نتيجة لخبرته االجتماعية‬


‫)‪(١‬‬
‫الشخصية"‬

‫برستد‪ ،‬كما ترى‪ ،‬بعد أن أكد على نفي الوحي‪ ،‬ح ﱠول األخالق وقواعد‬
‫االجتماع والعالقات بين البشر إلى ابتكارات‪ ،‬ھم من ابتكروھا‪.‬‬

‫فإذا أردت أن تعرف من أين جاء برستد بھذا الذي قاله‪ ،‬فھا ھو يخبرك‬
‫بنفسه‪:‬‬

‫"ليس من عالم مفكر إال ويشعر بقوة العھد القديم والدور األساسي الھام‬
‫الذي لعبه في تقدم المدنية الغربية‪ ،‬غير أنه يجب علينا أن نعترف أيضا ً أن‬
‫)‪(٢‬‬
‫كتاب العھد القديم ال يخرج عن كونه سجالً لتجارب البشرية القديمة"‬

‫وأما النبع الذي أفسد عقل برستد‪ ،‬وما ينھمر منه ھو الذي يتدفق في وعيه‪،‬‬
‫ويتحكم في كل ما يتكون فيه من فھم للوجود‪ ،‬وما ينتجه من أفكار ونظريات‬
‫عن العقائد واألخالق واالجتماع‪ ،‬ھو ومن على شاكلته جميعاً‪ ،‬ليس سوى‬
‫جرثومة بني إسرائيل التي أطلقوھا في وعي البشر‪ ،‬ورسخوھا بسيرتھم‬
‫وسلوكھم في عالمھم‪.‬‬

‫يقول برستد‪:‬‬

‫"ولقد كان سير اإلسرائيليين من عبادة آلھة عدة إلى عبادة إله واحد‬
‫)‪(١‬‬
‫لجميع العالم بطيئا ً وتدريجياً‪ ،‬حتى لقد استغرق عدة قرون"‬

‫‪ ( ١‬جيمس ھنري برستد‪ :‬فجر الضمير‪ ،‬ص‪.١٣‬‬


‫‪ ( ٢‬فجر الضمير‪ ،‬ص‪.٤٢٩‬‬
‫‪٢٨٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫برستد وصل إلى ما وصل إليه وجعل األلوھية والتوحيد ابتكارات ابتكرھا‬
‫اإلنسان خالل مسيرته على األرض‪ ،‬ألنه يرى الوجود ويفھم الحياة والتاريخ‬
‫والعقائد واالجتماع من خالل خريطة بني إسرائيل للوجود‪ ،‬التي طمسوا فيھا‬
‫مسألة األلوھية وموھوھا بتلفيقات‪ ،‬حولت الوجود اإللھي من حقيقة إلى أحد‬
‫ابتكارات اإلنسان‪ ،‬وجعلت اإلنسان خالقا ً لخالقه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬فجر الضمير‪ ،‬ص‪.٣٧٨‬‬


‫‪٢٨٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣﻦ ﺗﻌﺎﻟﲓ اﻟﻨﺺ إﱃ ﻋﺎﱂ اﻟﻨﺺ‬


‫الغرب كله‪ ،‬وكل ما أنتجه تك ﱠون في الحقيقة بخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬ومن فحواھا ومضامينھا ومكوناتھا‪ ،‬ومن آثارھا وإفرازاتھا وما‬
‫ترتب عليھا‪ ،‬يستوى في ذلك من علم بھذه القصة ورُبي عليھا‪ ،‬ومن لم يعلمھا‬
‫ولم يرھا أو يقرأھا مطلقاً‪.‬‬

‫فمن علمھا تكون بعلمه بھا وما تغرسه في وعيه ونفسه من أفكار‪ ،‬وفي‬
‫تكوينه من مفاھيم وفھم للوجود ومكوناته والعالقة بينھا‪ ،‬ومن لم يعلمھا تكون‬
‫بآثارھا في وعي رموز الغرب و َمن كونوا وعيه وتاريخه‪ ،‬و ِمن سريانھا في ما‬
‫أنتجوه من مناھج ونظريات وفلسفات‪ ،‬ومن علوم وآداب وفنون‪ ،‬وفي ما أقاموه‬
‫من نظم سياسية وقوانين‪ ،‬وما أنشأوه من مؤسسات إعالم وتعليم‪.‬‬

‫الغرب الحديث تكون بالنص وعليه‪ ،‬وليس باسقاط النص كما توھم وما زال‬
‫يتوھم العلمانيون في بالد العرب‪ ،‬وكما يعتقد من ينتقدونھم من اإلسالميين‪.‬‬

‫وكل رموز الغرب وأعالمه‪ ،‬في مختلف المجاالت والعلوم والمعارف‬


‫والفنون‪ ،‬كانوا أبناء النص وليسوا أبناء سقوط النص‪ ،‬وكلھم تكونوا بخريطة‬
‫الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وبمحاكاة سيرة البشر في التوراة)•(‪ ،‬وكلھم كانوا من‬
‫أبناء الحركات السرية‪ ،‬تربوا وتكون وعيھم وعقولھم ونفوسھم في أحضانھا‪،‬‬
‫وتم صياغتھم في معاملھا‪.‬‬

‫• ( التوراة ھي األسفار الخمسة األولى من العھد القديم‪ ،‬والمقصود بھا ھنا العھد القديم كله‪ ،‬من باب إطالق‬
‫الجزء على الكل‪.‬‬
‫‪٢٨٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الذي سقط في الغرب في الحقيقة ليس النص‪ ،‬الذي سقط وتم إزاحته من‬
‫وعي الغرب الحديث ھو الكنيسة ومسألة األلوھية‪.‬‬

‫وقد يبدو لك ھذا شيئا ً غريبا ً ويحتاج إلى تفسير‪ ،‬كيف تك ﱠون رموز الغرب‬
‫وأعالمه ومن كونوا وعيه ورسموا مالمحه وسماته بنص مقدس يقول إن اإلله‬
‫موجود‪ ،‬وفي الوقت نفسه أُسقط من وعيھم وتكوينھم مسألة األلوھية؟‬

‫تفسير ذلك أن رموز الغرب وأعالمه ومن كونوا مساره وصنعوا تاريخه‬
‫تكونوا بعالم النص وليس بتعاليم النص‪.‬‬

‫وبين تعاليم النص وعالم النص بون شاسع يحتاج إلى تجلية‪.‬‬

‫التوراة وسائر أسفار العھد القديم تحوي تعاليم وأوامر وإرشادات منسوبة‬
‫لإلله على ألسنة أنبياء بني إسرائيل‪ ،‬ولكن نص التوراة والعھد القديم الذي يحمل‬
‫ھذه التعاليم واألوامر واإلرشادات‪ ،‬ھو في حقيقته سيرة بني إسرائيل أو رواية‬
‫تحكي تاريخھم‪ ،‬وھذه التعاليم تُروى في ثنايا تلك السيرة‪ ،‬ومن خالل شخوصھا‬
‫وأبطالھا وأخالقھم وسلوكھم وما بينھم من عالقات‪.‬‬

‫فتعاليم العھد القديم محمولة على سيرة بني إسرائيل‪ ،‬وتصل إلى المؤمن بھا‬
‫متناثرة من خالل أقوال أنبيائھم‪ ،‬وھذه السيرة ھي بالضبط نقيض تلك األقوال‬
‫والتعاليم!‬

‫فتعاليم التوراة تنھى عن الزنى والسرقة والقتل والخيانة‪ ،‬وعالم التوراة‬


‫وسيرة أبطالھا ليست سوى خروج على ھذه التعاليم ونقض لھا‪.‬‬

‫فالوصايا العشر التي أوصى بھا موسى بني إسرائيل يأمرھم فيھا اإلله‪:‬‬
‫‪٢٨٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫س ِرقْ‪١٦ .‬الَ‬ ‫الَ تَ ْقتُ ْل‪ .‬الَ ت َْز ِن‪ .‬الَ تَ ْ‬
‫‪١٥‬‬ ‫‪١٤‬‬ ‫‪١٣ ....‬‬
‫"‪٣‬الَ يَ ُكنْ لَكَ آلِ َھةٌ أُ ْخ َرى أَ َما ِمي‬
‫شتَ ِه ا ْم َرأَةَ قَ ِريبِكَ‪،‬‬
‫شتَ ِه بَيْتَ قَ ِريبِكَ‪ .‬الَ تَ ْ‬
‫ش َھا َدةَ ُزو ٍر‪١٧ .‬الَ تَ ْ‬ ‫ش َھ ْد َعلَى قَ ِريبِكَ َ‬ ‫تَ ْ‬
‫َوالَ َع ْب َدهُ‪َ ،‬والَ أَ َمتَهُ‪َ ،‬والَ ثَ ْو َرهُ‪َ ،‬والَ ِح َم َ‬
‫)‪(١‬‬
‫ش ْيئًا ِم ﱠما لِقَ ِريبِكَ "‬
‫ارهُ‪َ ،‬والَ َ‬

‫ولكنھم في عالمھم وحياتھم وسيرتھم التي كتبوھا ونثروا بين تفاصيلھا ھذه‬
‫الوصايا‪ ،‬افتروا على نبي ﷲ سليمان عليه السالم أنه جرى خلف آلھة زوجاته‬
‫الوثنيات وقدم لھا القرابين‪ ،‬وعلى نبي ﷲ لوط عليه السالم أنه زنى بابنتيه‪،‬‬
‫وعلى نبي ﷲ يعقوب عليه السالم أنه غرر بأخيه عيصو وسرق منه البركة‬
‫وحق البكورية‪ ،‬وعلى نبي ﷲ داوود عليه السالم أنه أرسل أوريا الحثي‪ ،‬أحد‬
‫قواد جيشه‪ ،‬للھلكة‪ ،‬بعد أن زنى بامرأته ألنه يشتھيھا ويريدھا‪.‬‬

‫وتعاليم النص وأوامره ھي الدين والكنيسة‪ ،‬وعالمه وسيرة أبطاله وشخوصه‬


‫ھي العلمانية والحركات السرية‪.‬‬

‫والذي حدث في الغرب حقا ً أن الحركات السرية كانت تكافح وتستفرغ‬


‫وسعھا عبر التاريخ وتصارع الكنيسة‪ ،‬من أجل أن تنقل الغرب من تعاليم النص‬
‫إلى عالم النص‪ ،‬لتك ﱢون أھله بمحاكاة سيرة أبطاله ورموزه من بني إسرائيل في‬
‫أخالقھم وسلوكھم وما يحكم حركتھم وعالقاتھم من قواعد وضوابط‪.‬‬

‫وما تمكنت الحركات السرية من تتويج كفاحھا عبر التاريخ به‪ ،‬عبر تكوين‬
‫الغرب الحديث بعالم العھد القديم‪ ،‬أزاح الكنيسة وھدم المسيحية وأسقط مسألة‬
‫األلوھية من وعيه وتكوينه‪ ،‬وأحل محلھا جميعا ً بني إسرائيل وسيرتھم مقدسا ً‬
‫مركزياً‪ ،‬ومحوراً يدور التاريخ حوله‪ ،‬ويتحرك من أجله‪ ،‬وفي اتجاه غاياته‪.‬‬
‫‪ ( ١‬خروج‪.١٧-١٣ ،٢٠:٣ :‬‬
‫‪٢٨٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الحركات السرية كانت ھي القنوات التي تسلل بنو إسرائيل من خاللھا في‬
‫نسيج الغرب‪ ،‬وتمكنوا من خاللھا‪ ،‬وبامتصاص المواھب والطاقات والعقول‬
‫الخالقة في الغرب وتكوينھا في محافلھا‪ ،‬من السريان في عقل الغرب‬
‫وأعصابه وشرايينه ومن السيطرة على مقاليده ومفاتيحه‪.‬‬

‫بنو إسرائيل تمكنوا عبر الحركات السرية من استيطان عقل الغرب‪ ،‬وحولوه‬
‫إلى آله ھائلة يملكون مفاتيحھا وأزرارھا‪ ،‬أو إلى حمار يستوطنون رأسه‬
‫ويمتطون ظھره‪ ،‬ثم بعد أن صار زمامه في أيديھم وثبوا به إلى بالد العرب‪ ،‬ال‬
‫لكي يستعمروھا كما فھم العرب وما زالوا يفھمون‪ ،‬بل ليتمموا دورة اإلفساد في‬
‫األرض كلھا‪ ،‬بإعادة تكوين بالد العرب بالتحريف عبر إعادة رسم خريطتھا‬
‫بمفتاح تصنيفھم للبشر القائم على الدماء واألعراق‪ ،‬وعبر صنع ساستھا ونخبھا‬
‫وتكوين أذھانھم ونفوسھم بخريطتھم للوجود‪ ،‬ليس بتعريفھم بھا وتعليمھم إياھا‪،‬‬
‫بل بتربيتھم على فحواھا وبث مضمونھا ومكوناتھا وآثارھا في وعيھم‪،‬‬
‫وبتحويلھا بسطوة السالح والجيوش إلى واقع حي ونسيج اجتماعي‪ ،‬وإحالله‬
‫محل نسيج ھذه البالد األصلي‪ ،‬عبر السياسات اإلدارية والقانونية واإلعالمية‬
‫والتعليمية‪ ،‬وعبر القصص والروايات واألفالم والمسلسالت‪ ،‬وعبر وضع‬
‫النخب المزورة التي صنعوھا بالتحريف على رأس ھذه المجتمعات وتسليمھم‬
‫مقاليدھا‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ ،‬ما يسميه العلمانيون في بالد العرب النھضة والعصر الحديث‪،‬‬
‫وما يصمه اإلسالميون بأنه غزو ثقافي‪ ،‬لم يكن في حقيقته سوى غزو بني‬
‫إسرائيلي‪ ،‬محوره وغايته إزاحة خريطة الوجود اإللھية من أذھان العرب‬

‫‪٢٨٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وإزالة آثارھا في مجتمعاتھم‪ ،‬وإحالل خريطة الوجود البني إسرائيلية وآثارھا‬


‫محلھا‪.‬‬

‫خريطة بالليص ستان‪ ،‬كما ھي اآلن‪ ،‬بنخبھا وحدودھا‪ ،‬الخريطة العرقية‬


‫القومية‪ ،‬خريطة يھودية مفتاح تصنيف البشر فيھا المفتاح التوراتي‪ ،‬والدولة‬
‫الوطنية القومية ليست سوى محاكاة للدولة البني إسرائيلية‪ ،‬وكل ما شھدته بالد‬
‫العرب منذ حملة نابليون على مصر من دول وسياسات‪ ،‬ومن أداب وفنون‪،‬‬
‫ومن نظريات ومناھج‪ ،‬علمانية وليبرالية وماركسية‪ ،‬لم تكن سوى آثار سريان‬
‫خريطة الوجود المحرفة في وعي أبنائھا وسيطرتھا على أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬ثم‬
‫تدفقھا من ھذا الوعي ومن ھذه النفوس واألذھان إلى المجتمعات والسياسات‬
‫والعلوم واآلداب والفنون‪.‬‬

‫تاريخ بالد العرب‪ ،‬منذ حملة الماسوني نابليون بونابرت‪ ،‬خالصته إزاحة‬
‫قصة الخلق القرآنية بقصة الخلق التوراتية‪ ،‬ومفتاح التصنيف اإللھي بمفتاح‬
‫التصنيف البني إسرائيلي‪ ،‬وھذه ھي الدورة الثانية من دورتي إفساد بني‬
‫إسرائيل في األرض كلھا وعلوھم الكبير‪.‬‬

‫‪٢٨٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﺧﺘﱪ ذﰷءك‬
‫واآلن‪ ،‬وقبل أن نعرفك بدورة إفساد بني إسرائيل األولى‪ ،‬وبطرف من‬
‫آثارھا‪ ،‬نريد أن نختبر ذكاءك‪ ،‬فأعد قراءة خريطة الوجود البني إسرائيلية وما‬
‫عرفناك به من آثارھا ومن تكونوا بھا‪ ،‬ثم قارنه بما أتيناك به‪ ،‬عند خريطة‬
‫الوجود اإللھية‪ ،‬من فھم النخب في بالد العرب للوجود وما أنتجه ھذا الفھم من‬
‫أفكار وآثار‪ ،‬ثم اختبر ذكاءك واختر إجابة للسؤال التالى‪:‬‬

‫العلمانيون والليبراليون والماركسيون في بالد العرب‪ ،‬ھل ھم‪:‬‬

‫‪ -١‬أبناء بالد العرب وأتباع عقائدھا وتاريخھا وحضارتھا؟‬

‫‪ -٢‬أبناء الغرب وأتباع تاريخه وصراعاته ونظرياته؟‬

‫‪ -٣‬أبناء التحريف وأتباع بني إسرائيل؟‬

‫‪٢٩٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺑﻨﻮ إﺳﺮاﺋﻴﻞ ﻓﻲ اﻟﺸﺮق‬


‫‪ÏÎÍÌËÊÉÈÇ‬‬
‫‪×ÖÕÔÓÒÑÐ‬‬
‫‪ÛÚÙØ‬‬
‫)اﻟﻨﺴﺎء‪(٥١:‬‬

‫‪٢٩١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٢٩٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺧﺮﻳﻄﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻟﻬﻨﺪوﺳـﻴﺔ‬


‫الخريطة القومية للعالم‪ ،‬والليبرالية والعقد االجتماعي‪ ،‬والداروينية‬
‫والماركسية‪ ،‬والعلمانية واإللحاد‪ ،‬وتوابعھا جميعاً‪ ،‬كما قد عرفت‪ ،‬ھي من آثار‬
‫بث خريطة الوجود البني إسرائيلية في وعي البشر وتكوينھم بھا في دورة‬
‫اإلفساد الثانية‪.‬‬

‫فإليك اآلن طرفا ً من آثار حجب بني إسرائيل لخريطة الوجود اإللھية عن‬
‫البشر وبث تحريفھا في دورة اإلفساد األولى‪.‬‬

‫يعود أقدم نصوص الھندوسية‪ ،‬وھو الريج فيدا ‪ ،Rig Veda‬إلى منتصف‬
‫األلف األولى قبل الميالد تقريباً‪ ،‬ولكن العقيدة الھندوسية ظھرت واكتملت‬
‫وتبلور ما يرتبط بھا من شعائر وطقوس ورموز في فترة تقع بين القرن الثالث‬
‫والقرن الثاني قبل الميالد‪.‬‬

‫والھندوسية تكاد تكون ديانة باطنية خالصة‪ ،‬ومن غرائب الھندوسية أنھا‬
‫ديانة ال يُعلم لھا أصل محدد‪ ،‬فال يُعلم من الذي صاغ أفكارھا وأسس عقيدتھا‪،‬‬
‫وال من الذي ابتكر طقوسھا وھيئاتھا‪ ،‬وال من الذي وضع نصوصھا المقدسة‪.‬‬

‫فإليك أوالً نبذة عن العقيدة الھندوسية‪.‬‬

‫اإلله في الھندوسية مجتمع من اآللھة ال يحصرھا ع ﱞد‪ ،‬يصفھم ول ديورانت‬


‫بأنھم‪:‬‬

‫‪٢٩٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"تزدحم بھم مقبرة العظماء في الھند‪ ،‬ولو أحصينا أسماء ھاتيك اآللھة‬
‫القتضى ذلك مائة مجلد‪ ،‬وبعضھا أقرب في طبيعته إلى المالئكة‪ ،‬وبعضھا ھو‬
‫)‪(١‬‬
‫ما قد نسميه نحن بالشياطين‪ ،‬وطائفة منھم أجرام سماوية مثل الشمس‪"...‬‬

‫وداخل ھذا المجتمع من اآللھة التي ال تكاد تحصى‪ ،‬يتميز في الھندوسية‬


‫ثالثة آلھة‪ ،‬براھما وفشنو وشيفا‪ ،‬ھم اآللھة العلوية والتجلي األسمى للوجود‬
‫اإللھي‪ ،‬وكل منھم كفء لآلخر‪ ،‬وال يتقدم أحدھم على صاحبيه‪ ،‬فھم كما يقول‬
‫كبير شعراء الھندوس في القرن الخامس الميالدي كاليداسا ‪:Kalidasa‬‬

‫"إله واحد يتجلى في ثالث صور‪ ،‬وال أحد منھم يوجد وحده أو ينفرد عن‬
‫)‪(٢‬‬
‫صاحبيه‪ ،‬وكل منھم أول وآخر في الثالوث المقدس ‪"Trimurti‬‬

‫ويقول ج‪ .‬ويلكينز ‪ J. Wilkins‬في كتابه‪ :‬األساطير الھندية‪ :‬إنه في بعض‬


‫نصوص الفيدا أن‪:‬‬

‫"اإلله الواحد‪ ،‬الذي خلق ھؤالء اآللھة الثالثة ويتجلى في صورتھم‪ ،‬ھو‬
‫براھمان ‪ ،Brahman‬الذي ھو حقيقة سامية سرمدية‪ ،‬ال يحده زمان وال‬
‫مكان‪ ،‬وال يعلم كنھه وال حقيقة ذاته أحد‪ ،‬ولذا يسمونه أوم ‪ ،Aum‬أي‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫األسمى"‬

‫‪ ( ١‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪.٢٠٧‬‬


‫‪2 ) Monier Williams:Hinduism,P87.‬‬
‫‪3 ) W.J. Wilkins:Hindu Mythology,P44‬‬
‫‪٢٩٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فأما براھما ‪ ،Brahma‬فھو نفسه اإلله الخالق براھمان حين يتنزل من‬
‫سرمديته ويتحول من موجود سام فوق الحواس وإدراك البشر إلى موجود‬
‫ظاھر ويتشكل في صورة مدركة للبشر‪.‬‬

‫وأما فشنو‪ ،Vishnu‬فھو اإلله المحب للحياة‪ ،‬والمحافظ على الوجود‪،‬‬


‫العطوف على اإلنسان‪ ،‬والنور الذي يھبه المعرفة ويحرسه من غضب اإلله‬
‫شيفا‪ ،‬وألنه يحب اإلنسان ويرعاه فقد يتجسد فشنو في اإلنسان أو يأتي على‬
‫صورته‪ ،‬ليعينه أو يشفيه أو يغيثه ويخلصه‪.‬‬

‫وأما شيفا ‪ ،Shiva‬فھو قوة الھدم‪ ،‬التي تعمل على إفناء كل شئ‪ ،‬وھو من‬
‫خلف كل صور التحلل في الوجود‪ ،‬وھو اإلله القاسي على اإلنسان ويكره‬
‫أفكاره ويعمل على محوھا وإزالة آثارھا‪ ،‬وعلى تخريب ما تصنعه يداه‪.‬‬

‫فإذا كنت واعيا ً ويقظا ً ربما انتبھت إلى ما بين الھندوسية والمسيحية من‬
‫وجوه شبه مثيرة‪ ،‬بد ًءا من الصور أو األقانيم الثالثة إلله واحد‪ ،‬مروراً بتجسد‬
‫اإلله في اإلنسان أو التجلي في صورته‪ ،‬وصوالً إلى خالص اإلنسان من خالل‬
‫ھذا التجسد‪.‬‬

‫وقد تھمس لنفسك وأنت تفسر وجوه الشبه ھذه‪ :‬ربما يكون ھذا ألن المسيحية‬
‫تأثرت بالعقيدة الھندوسية‪ ،‬أو ألن الھندوسية اقتبست في مراحل تالية على‬
‫ظھورھا من المسيحية‪.‬‬

‫فاعلم أن ھذا ھو نفسه تفسير األميين!‬

‫‪٢٩٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فأما إن كنت من أھل الوحي فستكون إجابتك بالبداھة والفطرة‪ :‬بل ألن كالً‬
‫منھما خرج من المعين نفسه‪ ،‬ونبت من البذرة نفسھا‪ ،‬والذي بذرھا ورواھا ھو‬
‫ھو‪.‬‬

‫وإذا كنت أكثر وعيا ً ويقظة‪ ،‬فستفطن وحدك إلى أن العقيدة الھندوسية‪ ،‬التي‬
‫تفصل بين األلوھية والربوبية‪ ،‬أو تميز في األلوھية بين الخلق وبين الرعاية‬
‫والعناية‪ ،‬ليست سوى نسخة من خريطة الوجود البني إسرائيلية مع قليل من‬
‫التحوير!‬

‫فمجتمع اآللھة ھنا ھو نفسه الذي ھناك‪ ،‬وبراھما‪ ،‬اإلله الذي خلق‪ ،‬والذي ال‬
‫تُعلم حقيقته وال صفاته‪ ،‬ھو أدوناي في سفر التكوين‪ ،‬وشيفا ھو مزيج من‬
‫أدوناي الذي حرﱠم المعرفة على اإلنسان ويسعى لسلبه إياھا‪ ،‬ومن يھوه القاسي‬
‫العنيف في سفر الخروج‪.‬‬

‫وأما فشنو الھندوسي فھو نفسه الشيطان الذي أحب اإلنسان ووھبه المعرفة‬
‫في خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وھو نفسه لوسيفر أو اإلله اآلخر في القبااله‬
‫والحركات السرية الغربية التي تكونت بھا‪.‬‬

‫وكما أنه يحرم أن ينطق أحد اسم يھوه إال الحبر األعظم في قدس أقداس‬
‫الھيكل‪ ،‬يحرم نطق أوم‪ ،‬اسم الموجود األسمى والحقيقة السرمدية براھمان إال‬
‫لكبير الرھبان الھندوس في قدس أقداس المعبد‪ ،‬ولذا ال يُعرف على وجه التحديد‬
‫النطق الصحيح لھذا‪ ،‬كما ال يعرف النطق الصحيح لذاك‪.‬‬

‫‪٢٩٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وألن الحية‪ ،‬في خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬ھي رمز الشيطان‪ ،‬أو‬
‫تشكل في صورتھا الشيطان وتسلل إلى جنة عدن‪ ،‬ليغوي حواء باألكل من‬
‫الشجرة‪ ،‬ويدل اإلنسان على المعرفة‪ ،‬فقد استحالت في الھندوسية إلھا ً معبوداً‪،‬‬
‫وألن ھذا اإلغواء تحول في بعض ما تفرع عن ھذه الخريطة‪ ،‬كما قد علمت‪،‬‬
‫إلى إغواء جنسي‪ ،‬فقد صارت الحية عند الھندوس رمز الفحولة وقرين القدرة‬
‫الجنسية!‬

‫وفي شمال الھند يؤدي الھندوس في المعابد‪ ،‬إلى يومك ھذا‪ ،‬طقوس العبادة‬
‫عند تماثيل لحية ھائلة اسمھا‪ :‬نيجاراجا ‪ ،Nagaraja‬ويقولون إنھا أم الحيات‪،‬‬
‫وكانت موجودة عند بدء الخليقة‪ ،‬واشتركت في الخلق‪ ،‬وھي إحدى الصور أو‬
‫األشكال ‪ Avatar‬التي يتجلى في صورتھا الموجود األسمى‪.‬‬

‫وأما في جنوب الھند وشرقھا فيعبدون الحيات الحية الحقيقية‪ ،‬ويسمونھا ناجا‬
‫‪ ،Naga‬وھي كلمة معناھا في السنسكريتية‪ :‬الموجود أو الكائن‪ ،‬ويقيمون‬
‫المعابد إليوائھا وأداء طقوس العبادة عندھا‪.‬‬

‫وللحيات في الھند عيد باسمھا‪ ،Naga pancham :‬يُعقد في اليوم الخامس‬


‫من شھر شرافانا ‪ ،Shravana‬ويقع بين شھري يوليو وأغسطس من كل عام‪،‬‬
‫وفي ھذا العيد يذبح الھندوس في البيوت قرابين من الماعز أو الطيور أمام‬
‫تماثيل الحية اإلله‪ ،‬ويضعون اللبن والموز عند مداخل الجحور تقربا ً للحيات‬
‫الحية!‬

‫وإذا حدث وماتت إحدى الحيات وعثروا عليھا‪ ،‬يتم دفنھا في طقوس وموكب‬
‫احتفالي يتقدمه الرھبان الھندوس يحملونھا فيه إلى ضريحھا المقدس!‬
‫‪٢٩٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫قد علمت من قبل أن بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه أخبرنا بخريطة الوجود‬
‫الحقيقية وألح في تكرار تفاصيلھا‪ ،‬ألن خريطة الوجود‪ ،‬على أي صورة كانت‪،‬‬
‫ھي التي تحكم وعي البشر وتتحكم في كل ما يتكون فيه وتصبغ كل ما ينتجه‪،‬‬
‫والذي يتكون وعي البشر وفھمھم للوجود بخريطته ھو في الحقيقة من يُسيﱢرھم‬
‫ويتحكم في كل ما تفرزه عقولھم من آثار في الحياة‪.‬‬

‫فإذا رأيت تشابھا ً بين األمم والشعوب‪ ،‬أو بين األزمان واألماكن‪ ،‬في األفكار‬
‫والمعتقدات‪ ،‬أو في القيم واألخالق‪ ،‬أو في االجتماع والسلوك‪ ،‬أو في العالقات‬
‫والشرائع‪ ،‬فاعلم أن ذلك ليس ألن التاريخ يكرر نفسه‪ ،‬وال ألن ھذا أخذ من‬
‫ذاك‪ ،‬وھو ما يعتقده األميون ويوجھون عنايتھم نحوه‪ ،‬بل ألن النبع الذي كون‬
‫وعي ھذا وذاك واحد‪ ،‬وألن الصبغة التي تصبغ ما ينتجه كل منھما وتسري في‬
‫آثاره في البشر والمجتمع والحياة ھي ھي‪.‬‬

‫بعد أن علمت التشابه‪ ،‬بل التطابق بين الھندوسية وخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬لن تعجب حين تعرف أن آثار ھذه‪ ،‬في القيم واألخالق واالجتماع‪،‬‬
‫كآثار تلك‪.‬‬

‫ألن اإلنسان في خريطة الوجود الھندوسية‪ ،‬كما في أمھا اليھودية‪ُ ،‬وجد على‬
‫األرض‪ ،‬بعد أن خلقه براھما‪ ،‬مقطوع الصلة باإلله ويسير فيھا ويصنع عالمه‬
‫وحده بال وحي وال إرشاد‪ ،‬فھو غير مطالب بشئ‪ ،‬وال معنى محدداً ألي قيمة أو‬
‫إلزام بأي ُخلق‪ ،‬وكل شئ مقبول‪ ،‬فال فضيلة وال رذيلة‪ ،‬والفصل بينھما متروك‬
‫لكل شخص وما يستلھمه من تأمالته‪ ،‬وميزان أي فعل يفعله اإلنسان تحقيقه‬
‫ألھوائه وإشباعه لرغباته‪ ،‬ورضاه ھو نفسه عنه‪.‬‬
‫‪٢٩٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يقول سري سوامي سيفاناندا ‪ ،Sri Swami Sivananda‬وھو أحد أكابر‬


‫الرھبان الھندوس‪ ،‬ومؤسس جمعية الحياة اإللھية ‪،Devine Life Society‬‬
‫وھو يعرض الھندوسية ويفتخر بمزاياھا‪:‬‬

‫"الھندوسية ليس فيھا أي نوع من القيود لعقل اإلنسان‪ ،‬وھي تمنح‬


‫اإلنسان الحرية المطلقة في معتقداته عن اإلله‪ ،‬وفي أفكاره عن الخلق‬
‫والوجود والنفس‪ ،‬وفي مشاعره وإرادته‪ ،‬وفي أخالقه والطريقة التي يعيش‬
‫بھا حياته‪ ،‬وليس فيھا أي إدانة لھؤالء الذين ينكرون وجود اإلله كخالق أو‬
‫كحاكم للعالم‪ ،‬فالھندوسية متسامحة ومرنة ‪ Elastic‬إلى أقصى درجة‪ ،‬وكل‬
‫الديانات والمعتقدات والعبادات والطقوس والعادات واألخالق مقبولة فيھا‬
‫)‪(١‬‬
‫وموقرة"‬

‫فھل يذكرك ما قاله سيفاناندا بشئ؟‬

‫نعم!‬

‫فالھندوسية‪ ،‬في األخالق واالجتماع‪ ،‬ليست سوى الطبعة القديمة من عقد‬


‫روسو االجتماعي ودينه المدني‪ ،‬ألن المنابع التي تدفقت منھا الھندوسية ھي‬
‫نفسھا التي تسري مياھھا في العقد االجتماعي‪.‬‬

‫الھندوسية ھي إحدى إفرازات حجب خريطة الوجود اإللھية وبث تحريفھا‬


‫في دورة اإلفساد االولى‪ ،‬التي بدأت بعد نزول التوراة وانتھت بنزول القرآن‪،‬‬
‫كما أن الليبرالية والعقد االجتماعي ھي إحدى إفرازات إعادة بث خريطة‬

‫‪1 ) Sri Swami Sivananda: All about Hinduism,P2.‬‬


‫‪٢٩٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الوجود البني إسرائيلية وتكوين العالم بھا في دورة اإلفساد الثانية‪ ،‬التي بدأت‬
‫من بعد نزول القرآن وتوشك أن تصل إلى تمامھا في زمانك ھذا‪.‬‬

‫‪٣٠٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻬﻨﺪوﺳـﻴﺔ واﻟﻘﺒﺎﻻﻩ‬
‫علمتَ أن اإلله براھمان في الھندوسية ھو الذي خلق اإلنسان والموجودات‬
‫كلھا‪ ،‬ولكنﱠا لم نخبرك كيف خلقھا‪.‬‬

‫اسم اإلله براھمان‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫"مأخوذ من جذر سنسكريتي ھو‪ :‬بريه ‪ ،Brih‬ومعناه‪ :‬ينمو أو يتمدد"‬

‫فاإلله براھمان‪ ،‬الموجود األعلى في الھندوسية‪ ،‬ھو الالمتناھي والممتد في‬


‫الكون‪ ،‬والوجود كله كان في داخله‪ ،‬فھو نفسه الخالق والمخلوقات والموجودات‬
‫جميعھا‪ ،‬أو كما تصفه الفيدا‪:‬‬

‫"ھو الذي َولد ‪ Generated‬اآللھة‪ ،‬وھو الذي ولد العالم كله‪ ،‬والكون‬
‫)‪( ٢‬‬
‫كله فيه‪ ،‬براھمان سفينة تحتوي الوجود كله واألشياء كلھا"‬

‫فإليك كيف خلق براھمان الموجودات‪ ،‬أو كيف أخرجھا من داخله إلى العالم‬
‫المنظور‪.‬‬

‫عندما حلت باإلله براھمان رغبة أن يخرج الموجودات التي في داخله‪ ،‬أخذ‬
‫يتأمل عميقاً‪ ،‬فانبثق منه ماء‪ ،‬وباستمراره في التامل انبثقت منه أو صدرت عنه‬
‫بذرة‪ ،‬تحولت إلى بيضة صفراء ‪ ،Sarva Mandala‬في داخلھا أول‬
‫الموجودات والتجلي األول لإلله براھمان‪ ،‬وھو اإلله براھما‪.‬‬

‫‪1 ) Hinduism,P86.‬‬
‫‪2 ) Hindu Mythology, P43.‬‬
‫‪٣٠١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثم انفجرت البيضة وخرج منھا اإلله براھما‪ ،‬ليتمم الخلق‪ ،‬وأيضا ً بالتفكير‬
‫والتأمل العميق‪ ،‬فمن تأمله تكونت الكواكب والنجوم الجبال والبحار واألنھار‬
‫واإلنسان والمخلوقات كلھا‪.‬‬

‫وفي رواية أخرى أن البيضة زھرة لوتس‪.‬‬

‫جوھر عملية الخلق في الھندوسية أن‪:‬‬

‫"الكون والعالم المنظور وكل شئ في الوجود كان في داخل الخالق‪ ،‬ثم‬


‫)‪( ١‬‬
‫صدر عنه باالنبثاق والفيض ‪" Emanation‬‬

‫وانبثاق العالم المنظور والمخلوقات أو صدورھا عن براھما كان عبر‬


‫وسيط‪ ،‬وھذا الوسيط ھو عشرة براجاباتيس ‪ ،Prajāpatis‬أو ريشي ‪،Rhshis‬‬
‫وھي عشرة آلھة صدرت بالتأمل عن أجزاء جسم براھما‪ ،‬ثم تولت ھي إتمام‬
‫عملية الخلق‪ ،‬وبالتأمل أيضاً‪ ،‬وأبناء براھما ھؤالء ھم‪ :‬ماريشي‪،Marichi :‬‬
‫وأنجيرازا ‪ ،Angirasa‬وبوالھا ‪ ،Pulaha‬وبوالثيا ‪ ،Pulasthya‬وكراثو‬
‫‪ ،Krathu‬وفاشيستا ‪ ،Vashista‬وبراشيثاسا ‪ ،Prachethasa‬وبريجو‬
‫‪ ،Bhrigu‬ونارادا ‪.Narada‬‬

‫وبراھما‪ ،‬اإلله المخلوق من اإلله براھمان‪ ،‬والخالق لكل شئ بعد ذلك‪ ،‬حتى‬
‫اإلله فشنو واإلله شيفا‪ ،‬له في الفيدا ھويتان أو طبيعتان يمتزجان معا ً إحداھما‬
‫ساكنة واألخرى نشطة‪ ،‬فالنشطة منھما‪:‬‬

‫‪1 ) Hinduism,P86‬‬
‫‪٣٠٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"اسمھا شاكتي ‪ ،Shakti‬وھي النصف المؤنث في جوھر براھما‪،‬‬


‫وتصور احيانا ً في صورة زوجة له‪ ،‬وھي تمثل الصفات المؤنثة في اإلله‬
‫)‪(١‬‬
‫والقوة الخالقة المؤنثة في الوجود"‬

‫فاإلله الخالق في الھندوسية مزدوج الطبيعة وتمتزج في جوھره الذكورة‬


‫واألنوثة‪ ،‬بل ولكل من فشنو وشيفا أيضا ً طبيعة ذكورية أنثوية مزدوجة‪،‬‬
‫ويصور الجوھر المؤنث لكل منھما في صورة شاكتي أو زوجة أو محظية‪.‬‬

‫وشاكتي فشنو‪ ،‬اإلله الراعي لإلنسان والذي يھبه المعرفة‪ ،‬واسمھا‬


‫ساراسفاتي ‪ ،Sarasvati‬ھي ربة العلم والكالم‪ ،‬وھي التي ابتكرت اللغة‬
‫السنسكريتية وحروفھا‪.‬‬

‫فاعلم أن قصة الخلق الھندوسية التي قرأتھا ليست ھي األخرى سوى نسخة‬
‫من قصة الخلق القبالية‪ ،‬وأيضا ً مع قليل من التحوير!‬

‫في القبااله أن األلوھية لھا مستويان أو طبيعتان‪ ،‬فالمستوى األول ھو جوھر‬


‫اإلله وحقيقته‪ ،‬والمستوى الثاني الھيئة التي تتجلي فيھا ھذه الذات‪.‬‬

‫فأما اإلله نفسه فيتكون اسمه من أربعة حروف عبرية تسمى الرباعي‬
‫المقدس ‪ ،Tetragrammaton‬وھي‪ :‬يود ‪ ،Yod‬وفاف ‪ ،Waw‬ويود ‪،Yod‬‬
‫وھي ‪ ،He‬والحروف األربعة تكتب مرتبة في نسق معين داخل مثلث)•(‪ ،‬ھو‬
‫بأضالعه الثالثة رمز الصفات الثالث التي ھي جوھر األلوھية وال تنفصل‬

‫‪1 ) Hinduism,P90.‬‬
‫• ( انظر كيف يكتب اسم اإلله في القبااله في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪٣٠٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إحداھما عن األخريين‪ ،‬وھي الوجود والحضور ‪ ،Omnipresence‬والمعرفة‬


‫واإلحاطة ‪ ،Omniscience‬والقوة والقدرة ‪.Omnipatence‬‬

‫ولكن ألنه يحرم نطق اسم اإلله األعظم‪ ،‬يطلق على الرباعي المقدس اسم‬
‫رمزي‪ ،‬ھو عين صوف ‪ ،Ein Sof‬وھي كلمة معناھا الممتد والالمتناھي‪ ،‬ألن‬
‫اإلله ال يمكن إدراك ذاته‪ ،‬فھو‪:‬‬

‫"مطلق‪ ،Absolute‬بال جوھر وال مادة‪ ،‬وال وصف له ألن الوصف يدنسه‬
‫‪ ،Defile it‬والمادة والكون واإلنسان كلھا في داخله بال صورة وال ھيئة‪،‬‬
‫وتمثله دائرة ھي رمز الخلود‪ ،‬فھذه البيضة الكونية ‪ Kosmic Egg‬تحوي‬
‫)‪(١‬‬
‫الوجود كله فيھا‪ ،‬والخلق والفناء يحدث في داخلھا وال شئ خارجھا"‬

‫فبراھمان الھندوسي ھو نفسه عين صوف القبالي‪ ،‬بل ومعنى اسمھما واحد‪،‬‬
‫والبيضة التي خلق منھا براھمان الكون والمخلوقات باضتھا القبااله في‬
‫الھندوسية‪ ،‬وأضالع المثلث الثالثة‪ ،‬التي يتجلى فيھا جوھر عين صوف‬
‫القبالي‪ ،‬ھي نفسھا الثالوث المقدس الذي يتشكل فيه براھمان الھندوسي‪،‬‬
‫فالوجود والحضور ھو براھما‪ ،‬والمعرفة واإلحاطة فشنو‪ ،‬والقوة والقدرة شيفا‪.‬‬

‫والمستوى الثاني لأللوھية في القبااله ھو نفسه براھما الھندوسي‪ ،‬الذي تجلى‬


‫فيه براھمان ليخلق‪ ،‬وتجس َد براھما في أبنائه العشرة ليكونوا وسطاءه في‬
‫الخلق‪ ،‬كما تجلى عين صوف القبالي في شجرة الحياة لتكون وسيلته للخلق‪.‬‬

‫‪1 ) The secret teachings of all ages,P117.‬‬


‫‪٣٠٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالقبالية الھندوسية األوكرانية ھيلينا بالفاتسكي ‪ Helena Blavtsky‬فطنت‬


‫في كتابھا‪ :‬العقيدة السرية إلى أن‪:‬‬

‫"اآللھة العشرة ‪ Prajāpatis‬ھم أنفسھم شجرة الحياة ‪Sephiroth‬‬


‫)‪( ١‬‬
‫بتجلياتھا العشرة"‬

‫وشجرة الحياة‪ ،‬أو سيفروت ‪ ،Sefirot‬في القبااله تمثل الذات اإللھية‬


‫المدركة والخالقة للموجودات‪ ،‬وتتكون‪ ،‬كأبناء براھما‪ ،‬من عشر بلورات أو‬
‫َ‬
‫كرات نورانية مرتبة في ثالثة أعمدة متوازية‪ ،‬ويصل بينھا اثنتان وثالثون‬
‫) •(‬
‫قناة‬

‫وكل بلورة في شجرة الحياة ترمز لصفة في اإلله‪:‬‬

‫"فاألولى‪ِ :‬كثير أو التاج ‪ ،Kether‬وھي رمز اإلرادة اإللھية‪ ،‬والثانية‪:‬‬


‫حوخمة ‪ Chochmah‬أو الحكمة‪ ،‬والثالثة‪ :‬بيناه ‪ Binah‬أو الفھم‪،‬‬
‫والرابعة‪ :‬جيدواله ‪ Gedulah‬أو العطف والحنو‪ ،‬والخامسة‪ :‬جيفوراه‬
‫‪ Gevurah‬أو القوة والشدة‪ ،‬والسادسة‪ :‬تيفيريت‪ Tiferet :‬أو االنسجام‪،‬‬
‫والسابعة‪ :‬نتزاه ‪ Netzah‬أو النصر‪ ،‬والثامنة‪ :‬ھود ‪ Hod‬أو المجد‪،‬‬
‫والتاسعة‪ :‬يسود ‪ Yesod‬أو التأسيس‪ ،‬والعاشرة‪ :‬ملخوت ‪ Malchut‬أو‬
‫)‪(٢‬‬
‫الملكوت"‬

‫‪1 ) Helena Blavtsky:The secret doctrine,Vol.1,P380.‬‬


‫• ( انظر شجرة الحياة في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪2 ) MacGregor Mathers:The kabbalaha unveiled,P23.‬‬
‫‪٣٠٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وشجرة الحياة القبالية ھذه وبلوراتھا وتجلياتھا ليست سوى ابتكارات‬


‫لتفاصيل على األصل في خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وھي شجرة الحياة‬
‫التي خاف اآللھة أن يأكل اإلنسان منھا فيصير خالداً مثلھم‪.‬‬

‫وخلق الكون والموجودات واإلنسان في الھندوسية كان باالنبثاق والفيض‬


‫والصدور عن اإلله براھما وليس باإلرادة واألمر‪ ،‬ألن أصله في القبااله ھكذا‪.‬‬

‫ومن الطريف أن من يؤرخون للھندوسية وشراح عقيدتھا وأساطيرھا‪،‬‬


‫والقباليين ومؤرخي القبااله ومفسري طالسمھا‪ ،‬يصفون عملية الخلق ھنا‬
‫وھناك بالكلمة اإلنجليزية نفسھا‪ ،Emanation :‬أي‪ :‬االنبثاق والفيض‬
‫والصدور‪ ،‬دون أن يفطن شراح الھندوسية إلى صلتھا بالقبااله‪ ،‬أو يشير مفسرو‬
‫القبااله إلى آثارھا في الھندوسية!‬

‫كما رأيت في الھندوسية بالضبط‪ ،‬الخلق في القبااله كان بانبثاق الكون‬


‫واإلنسان والموجودات كلھا عن الذات اإللھية‪ ،‬وصدورھا من شجرة الحياة التي‬
‫تمثلھا‪ ،‬والفيض في العبرية‪ :‬أزيلوت ‪.Aẓilut‬‬

‫واإلنسان والكون والموجودات كلھا‪ ،‬قبل الخلق وظھورھا في العالم المدرك‬


‫المنظور كانت‪ ،‬في القبااله‪ ،‬داخل الذات وعلى صورة التجليات في الشجرة‬
‫اإللھية‪.‬‬

‫فاإلله في القبااله‪ ،‬كما يقول الربي جوزيف جيكاتيال ‪:Joseph Gikatilla‬‬

‫"يمأل كل شئ‪ ،‬ويوجد فيه كل شئ‪ ،‬وھو نفسه كل شئ"‬

‫‪٣٠٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وآدم األول أو آدم القديم ‪ ،Adam Kadmon‬ھو اإلنسان في العالم األول‬


‫حين كان داخل الذات اإللھية وعلى صورة اإلله‪ ،‬قبل أن ينبثق عنه ويتشكل‬
‫ويظھر في العالم المنظور‪ ،‬وكذا الكون ونجومه وكواكبه‪.‬‬

‫ولذا يصور اإلنسان األول أو آدم القديم‪ ،‬في القبااله‪ ،‬مرسوما ً على شجرة‬
‫التجليات اإللھية‪ ،‬وكل عضو فيه يناظر صفة أو تجليا ً من تجليات الذات‪ ،‬ويقع‬
‫في داخل البلورة النورانية التي انبثق منھا‪ ،‬وفي الوقت نفسه يناظر جز ًءا من‬
‫) •(‬
‫الكون‬

‫فھاك أعضاء اإلنسان في القبااله‪ ،‬وما يقابلھا من التجليات اإللھية في شجرة‬


‫الحياة‪ ،‬ومن النجوم والكواكب‪:‬‬

‫"صفة التاج في الذات اإللھية تحتوي الرأس في اإلنسان ومنھا انبثقت‪،‬‬


‫ويقابلھا المحرك األول ‪ Primum Mobile‬في الكون‪ ،‬وصفة الحكمة‬
‫يقابلھا النصف األيمن من المخ واألبراج االثني عشر‪ ،‬وصفة الفھم يقابلھا‬
‫النصف األيسر من المخ وكوكب زحل‪ ،‬وصفة العطف والحنو يقابلھا الذراع‬
‫األيمن وكوكب المشترى‪ ،‬وصفة القوة والشدة يقابلھا الذراع األيسر وكوكب‬
‫عطارد‪ ،‬وصفة االنسجام يقابلھا القلب والشمس‪ ،‬وصفة النصر يقابلھا الساق‬
‫اليمنى وكوكب الزھرة‪ ،‬وصفة المجد يقابلھا الساق اليسرى وكوكب المريخ‪،‬‬
‫وصفة التأسيس يقابلھا أعضاء التناسل والقمر‪ ،‬وصفة الملكوت يقابلھا‬
‫)‪(١‬‬
‫األقدام والمقعدة والعناصر األربعة"‬

‫• ( انظر آدم القديم مصوراً على شجرة الحياة في ملحق الصور‪.‬‬


‫‪1) The secret teachings of all ages,P122-123.‬‬
‫‪٣٠٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والكون والعالم المنظور في الھندوسية يقع في المستوى الرابع في الوجود‪،‬‬


‫يسبقه براھمان في المستوى االول‪ ،‬ثم براھما‪ ،‬ثم اآللھة العشرة التي تَك ﱠون‬
‫العالم المنظور واإلنسان من خاللھا‪.‬‬

‫وأصل ذلك في القبااله‪ ،‬أن ثمة أربعة عوالم‪ ،‬أو أربعة مستويات من‬
‫الوجود‪ ،‬وكل عالم أو مستوى تمثله سيفيروت أو شجرة حياة‪ ،‬فأوالھا ھي الذات‬
‫اإللھية‪ ،‬وآخرھا العالم المنظور واإلنسان المخلوق‪.‬‬

‫وشاكتي‪ ،‬التجلي االنثوي لبراھما‪ ،‬ھي الشخيناه ‪ Shkhinah‬أو السكينة في‬


‫شجرة الذات اإللھية القبالية التي تمتزج فيھا ھي أيضا ً الذكورة باألنوثة‪ ،‬ففي‬
‫شجرة الحياة‪:‬‬

‫"العمود األيمن من الكرات يمثل صفات اللين واألنوثة‪ ،‬والعمود األيسر ھو‬
‫صفات الشدة والذكورة‪ ،‬وكرات العمود األوسط ھي االتزان بينھما‪ ،‬والجانب‬
‫)‪(١‬‬
‫المؤنث ھو الشخيناه"‬
‫وألن آدم السماوي أو القديم كان في داخل اإلله قبل أن يخرج منه‪ ،‬فھو أيضا ً‬
‫كانت تمتزج فيه الذكورة واألنوثة‪ ،‬أو ال تتميز فيه وال تنفصل ھذه من تلك‪.‬‬

‫وامتزاج الذكورة باألنوثة في األلوھية‪ ،‬في القبااله والھندوسية معاً‪ ،‬ليست‬


‫سوى أثر من آثار خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وشاكتي والشخيناه ھي‬
‫ابتكارات الوعي والعقول التي تكونت بھا‪ ،‬وھي أصل فكرة تحرير المرأة‬

‫‪1 ) Professor Don Perini:Kabbalah,Secrets of the jewish mysticism,P3.‬‬


‫‪٣٠٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومساواتھا التامة بالرجل‪ ،‬التي تولى من صنعوا ھذه الخريطة بثھا في وعي‬
‫البشر أينما وجدوا وحيثما حلوا ‪.‬‬

‫يقول بنو إسرائيل في خريطتھم للوجود‪:‬‬

‫سلﱠطُونَ َعلَى َ‬
‫شبَ ِھنَا‪ ،‬فَيَتَ َ‬ ‫سانَ َعلَى ُ‬ ‫" َوقَا َل ﷲُ‪ :‬نَ ْع َم ُل ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫‪٢٦‬‬
‫س َم ِك‬ ‫ورتِنَا َك َ‬
‫ص َ‬
‫س َما ِء َو َعلَى ا ْلبَ َھائِ ِم‪َ ،‬و َعلَى ُك ﱢل األَ ْر ِ‬
‫ض‪َ ،‬و َعلَى َج ِم ِ‬
‫يع‬ ‫ا ْلبَ ْح ِر َو َعلَى َ‬
‫ط ْي ِر ال ﱠ‬
‫ورتِ ِه‪َ ،‬علَى‬
‫ص َ‬‫سانَ َعلَى ُ‬
‫اإل ْن َ‬ ‫ض‪٢٧ .‬فَ َخلَ َ‬
‫ق ﷲُ ِ‬ ‫ت الﱠتِي تَ ِد ﱡب َعلَى األَ ْر ِ‬ ‫ال ﱠدبﱠابَا ِ‬
‫)‪(١‬‬
‫ور ِة ﷲِ َخلَقَهُ‪َ ،‬ذ َك ًرا َوأُ ْنثَى َخلَقَ ُھ ْم"‬
‫ص َ‬ ‫ُ‬

‫ومترجم الكتاب المقدس‪ ،‬في ھذه الترجمة الرسمية‪ ،‬وضع لفظ الجاللة مكان‬
‫كلمة‪ :‬إلوھيم ‪ Elohim‬في األصل العبري‪ ،‬والتي تدل على الجمع وتعدد‬
‫اآللھة‪ ،‬كما يفعل المترجمون في كل اللغات لكي ال يصدموا المؤمنين بدياناتھم‬
‫التي يسوقونھا على أنھا توحيدية‪.‬‬

‫يقول القبالي والماسوني من الدرجة الثالثة والثالثين مانلي ھول ‪Manly‬‬


‫‪ Hall‬في كتابه‪ :‬التعاليم السرية عبر العصور‪ ،‬في تفسير مجئ كلمة اإلله في‬
‫صيغة الجمع والتعدد في خريطة بني إسرائيل للوجود‪ ،‬التي يتوھم أنه ينتقدھا‬
‫بينما تكوينه ووعيه محصور تحت سقفھا وبين جدرانھا‪ ،‬وعقله يتحرك داخل‬
‫مساراتھا وبين مكوناتھا‪:‬‬

‫"بعد أن خلق إلوھيم الكون بطريقة تتطابق مع التعاليم السرية ‪Esoteric‬‬


‫‪ Teachings‬في أساطير المصريين والھندوس واإلغريق‪ ،‬يقول سفر‬

‫‪ ( ١‬تكوين‪.٢٧-٢٦ :١ :‬‬
‫‪٣٠٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫التكوين إنه شرع في خلق اإلنسان‪" :‬على صورتنا كشبھنا"‪ ،‬فتامل في‬
‫صمت كيف تحولت في الترجمة كلمة إلوھيم العبرية التي توحي بالتعدد إلى‬
‫كلمة إله ‪ God‬التي تدل على الوحدانية وانتفاء التمييز الجنسي‪ ،‬إن صيغة‬
‫الجمع ھذه تعني بال مواربة تعدد اآللھة‪ ،‬وألن اإلنسان حين خلقه إلوھيم‪،‬‬
‫وقبل أن يُخ ِرج منه المرأة‪ ،‬لم تكن قد تميزت فيه بع ُد الذكورة عن األنوثة‪،‬‬
‫فالعبارة التي تقول إن إلوھيم خلقه‪" :‬على صورتنا كشبھنا"‪ ،‬ھي ضربة‬
‫قاتلة ‪ deathblow‬للعقيدة المقدسة عبر األزمان في ذكورة اإلله‪ ،‬والتي‬
‫)‪(١‬‬
‫صورھا مايكل أنجلو في سقف كنيسة سستين"‬

‫وإليك عبارة القبالي ماك جريجور ميثرز ‪ ،MacGregor Mathers‬في‬


‫كتابه‪ :‬القبااله سافرة‪ ،‬صريحة واضحة‪ ،‬تعرف بھا من أين تنبع األساطير‬
‫والخرافات‪ ،‬وكيف تنھمر في وعي البشر مياھھا‪:‬‬

‫"لقد بذل مترجمو الكتاب المقدس كل ما في وسعھم من أجل طمس كل‬


‫إشارة إلى حقيقة احتواء األلوھية على األنوثة والذكورة معاً‪ ،‬ولذا عمدوا إلى‬
‫ترجمة‪ :‬إلوھيم‪ ،‬التي ھي في العبرية جمع المؤنث‪ ،‬إلى‪ :‬إله التي ھي مفرد‬
‫شبَ ِھنَا ‪َ ...‬علَى‬
‫ورتِنَا َك َ‬
‫ص َ‬‫سانَ َعلَى ُ‬
‫اإل ْن َ‬
‫مذكر‪ ،‬ولكن فاتھم أن اإلله يقول‪" :‬نَ ْع َم ُل ِ‬
‫ور ِة ﷲِ َخلَقَهُ‪َ ،‬ذ َك ًرا َوأُ ْنثَى َخلَقَ ُھ ْم "‪ ،‬فكيف يكون اإلنسان الذي خلقه اإلله‬‫ص َ‬
‫ُ‬
‫)‪(٢‬‬
‫على صورته وكشبھه ذكراً وأنثى إال إذا كان اإلله نفسه ذكراً وأنثى؟!"‬

‫‪1) The secret teachings of all ages,P126.‬‬


‫‪2) The kabbalah unveiled,P21.‬‬
‫‪٣١٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وألن الھندوسية ھي نفسھا القبااله‪ ،‬فآثار ھذه‪ ،‬في العبادة واألخالق‪ ،‬بالضبط‬
‫كآثار تلك‪.‬‬

‫ألن اإلنسان في الھندوسية والقبااله‪ ،‬معاً‪ ،‬كان متوحداً مع الكون كله داخل‬
‫اإلله ثم انبثق من اإلله أو صدر عنه‪ ،‬فاإلله ونفس اإلنسان وجوھر الكون شئ‬
‫واحد‪ ،‬وبينھا ممرات وقنوات تصل بينھا وتسبح ھي حرة فيھا‪ ،‬وقد تكون خاملة‬
‫ويمكن تنشيطھا‪ ،‬ويمكن لإلنسان أن يشحذ طاقته النفسية والذھنية ويرتقي‬
‫بالروح‪ ،‬التي ھي آتمان ‪ Atman‬في الھندوسية‪ ،‬وروح ‪ Ruach‬في القبااله‪،‬‬
‫إلى ان يصل بھا إلى مرتبة من التطھر والسمو تتحرر بھا من قيود الجسد‬
‫المادي الفيزيائي‪ ،‬وتعود إلى التواصل مع اإلله واالتصال بالكون‪.‬‬

‫وإذا وصل اإلنسان إلى ھذه الحالة السماوية السامية التي كان عليھا قبل أن‬
‫يخرج من اإلله وينفصل عن الكون‪ ،‬حل فيه اإلله أو عاد ھو إلى التوحد باإلله‪،‬‬
‫براھمان الھندوسي أو عين صوف القبالي‪ ،‬وإلى االمتزاج بالكون‪ ،‬وھذه الحالة‬
‫السرمدية العليا ھي الموكشا ‪ Moksha‬في الھندوسية‪ ،‬والنرفانا ‪ Nirvana‬في‬
‫البوذية‪ ،‬والدفيقوت ‪ Devekut‬القبالية‪.‬‬

‫وألن خلق اإلنسان والكون كان باالنبثاق والفيض من اإلله عبر التأمل‬
‫العميق‪ ،‬فالوصول إلى حالة الطھارة النفسية والنقاء العقلي‪ ،‬والعودة للتوحد‬
‫باإلله واالمتزاج به ھي أيضا ً بالسكون في الھيئة التي كان عليھا اإلله حين‬
‫خلق‪ ،‬وبالتأمل العميق الذي خلق به‪ ،‬وھذا التأمل العميق في سكون كاإلله ھو‬
‫في الھندوسية دھايانا ‪ ،Dhyana‬وفي البوذية بھافانا ‪ ،Bhavana‬وفي القبااله‬
‫كافاناه ‪.Kavanah‬‬
‫‪٣١١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإذا كان بك فضول إلى أن تعرف ھذه الھيئة التي يتأمل فيھا اإلنسان لكي‬
‫يعود للتوحد باإلله والسياحة في الكون‪ ،‬فاذھب إلى أي حديقة أو ميدان في أي‬
‫عاصمة أو مدينة كبرى من عواصم بالد العرب ومدنھا‪ ،‬وسوف ترى بعض‬
‫األميين منھم جالسين فيھا‪.‬‬

‫فھؤالء العرب األميون قباليون وھندوس بالمحاكاة والتقليد‪ ،‬وإن لم يفطنوا‬


‫لذلك‪ ،‬قرطسھم القباليون والھندوس الذين نشروا الوثنيات وطقوسھا في العالم‪،‬‬
‫وأقاموا لھا المعاھد ومراكز التدريب‪ ،‬بعد أن لفوھا في أغلفة العلوم والفلسفات‬
‫الحرة والحداثة في العبادة‪.‬‬

‫والموكشا‪ ،‬أو التطھر النفسي والنقاء العقلي الذي يعود به اإلنسان للتوحد‬
‫باإلله‪ ،‬ھي إحدى غايات الحياة الھندوسية األربع‪.‬‬

‫والثالثة األخريات ھي‪ :‬دراھما ‪ ،Drahma‬أي‪ :‬أداء الواجبات اليومية التي‬


‫يتعين على اإلنسان أن يؤديھا تجاه عمله ومن يحيطون به‪ ،‬وأرثا ‪ ،Artha‬أي‪:‬‬
‫تحقيق الثروة والمال والجاه ورفاھة العيش‪ ،‬وكاما ‪ ،Kama‬أي‪ :‬تحقيق اللذة‬
‫واإلشباع واإلرواء الجنسي‪ ،‬وھي البيت الذي أتيناك بھذا القصيد من أجله‪.‬‬

‫ألن اإلله في الھندوسية‪ ،‬كما قد علمت‪ ،‬تجتمع فيه الذكورة باألنوثة‪ ،‬وألن‬
‫اإلنسان وھو في داخل اإلله وقبل أن يصدر عنه كانت تمتزج فيه الذكورة‬
‫باألنوثة‪ ،‬فممارسة الجنس والطقوس الجنسية ھي إحدى طقوس العبادة ووسائل‬
‫التطھر النفسي والنقاء العقلي التي يصل بھا اإلنسان إلى الموكشا ويتوحد باإلله‪.‬‬

‫‪٣١٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والمعابد في الھند تمتلئ بالتماثيل التي تصور األوضاع الجنسية وفنونھا‬


‫كطقوس للعبادة‪ ،‬وتوجد في األماكن المعزولة في الغابات والجبال معابد للتطھر‬
‫والوصول إلى الموكشا عبر ممارسة الطقوس الجنسية بصورة جماعية وعالنية‬
‫في ساحات مكشوفة‪.‬‬

‫وارتباط العبادة والتوحد باإلله بالجنس وفنونه أصله في القبااله ‪.‬‬

‫ألن شجرة الحياة القبالية التي تمثل الذات اإللھية تمتزج فيھا الذكورة‬
‫باألنوثة وال تمييز بينھما‪ ،‬وآدم السماوي القديم مثلھا وعلى صورتھا وھيئتھا‪،‬‬
‫فاتحاد الرجل بالمرأة في الممارسة الجنسية يضعھما معا ً في الصورة السماوية‬
‫وحالة الكمال التي كانا عليھا قبل الصدور عن اإلله‪ ،‬ومن ثَم يؤھلھما لالرتقاء‬
‫والعودة للتوحد باإلله واالندماج فيه مرة أخرى‪.‬‬

‫وألن القبااله ھي ينبوع الحركات السرية‪ ،‬فقد تحولت فكرة ارتقاء اإلنسان‬
‫الروحي وتوحده باإلله‪ ،‬عبر اتحاد الرجل بالمرأة اتحاداً جنسياً‪ ،‬إلى طقس علني‬
‫له شعائر موقرة في الحركات السرية وجمعيات عبادة الشيطان وممارسة‬
‫السحر‪ ،‬وھو ھيروس جاموس ‪ Hieros Gamos‬أو طقس االتحاد المقدس‪.‬‬

‫وألن الطقوس الجنسية في القبااله وسيلة الكتمال اإلنسان وتؤھله للتوحد‬


‫باإلله‪ ،‬فالممارسة الجنسية عبادة‪ ،‬وإشاعة الثقافة الجنسية في المجتمع ودورانه‬
‫حولھا وسيلة ألن يستحضر المجتمع كله اإلله ويحل فيه‪.‬‬

‫ﱠ‬
‫تلفت حولك في‬ ‫فإذا نظرت أمامك في الصحف والمجالت والشاشات‪ ،‬أو‬
‫النوادي والشواطئ والجامعات‪ ،‬أو انتبھت إلى ما يحدث في الشوارع وأماكن‬

‫‪٣١٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫العمل والحافالت‪ ،‬فستدرك أنك تعيش في عالم القبااله والدنيا التي صنعتھا‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية‪.‬‬

‫أما إذا غلبك الفضول وأردت أن تتعرف على عقائد القبااله‪ ،‬وما يرتبط بھا‬
‫من طقوس‪ ،‬وممارسة السحر‪ ،‬واستحضار الجان‪ ،‬ومن أفكار عن الطالسم‬
‫وفكھا‪ ،‬والسفر بين األزمان‪ ،‬واالنتقال بين عوالم الموتى وعوالم األحياء‪ ،‬فليس‬
‫عليك إال أن تفتح التلفاز وتشاھد األفالم التي تعرضھا قنوات األكشن العربية‬
‫بعد منتصف الليل!‬

‫والھندوسية‪ ،‬كالقبااله‪ ،‬ترتبط فيھا العبادة والطقوس بممارسة السحر‬


‫والتنجيم والنبوءات واستطالع الغيوب وقراءة الطوالع‪.‬‬

‫‪٣١٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺑﻨﻮ ٕاﴎاﺋﻴﻞ ٔام اﻟﻬﻨﺪوس؟‬


‫ربما يحلق في رأسك‪ ،‬وأنت تستكشف التشابه الذي يكاد أن يكون تطابقا ً بين‬
‫العقيدة الھندوسية وأفكارھا وطقوسھا وآثارھا وبين خريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية وما أقيم بھا وعليھا من ابتكارات في القبااله‪ ،‬سؤال‪ :‬أيھما كانت رافداً‬
‫لألخرى‪ ،‬وھل اليھود أخذوا من الھندوس أم ھم الذين بثوا فيھم؟‬

‫أما المؤرخون التقليديون فليس عندھم دراية بالمسألة‪ ،‬يستوي في ذلك‬


‫مؤرخو الھندوسية وال علم لھم بالقبااله‪ ،‬ومن يؤرخون لليھودية والقبااله وال‬
‫يعرفون شيئا ً عن الھندوسية‪.‬‬

‫وأما القباليون وأبناء الحركات السرية أنفسھم‪ ،‬وھم‪ ،‬حقاً‪ ،‬موسوعيون وأكثر‬
‫إحاطة بتواريخ الشعوب واألمم‪ ،‬ووعيا ً بالمؤثرات واآلثار المتبادلة بينھا‪ ،‬فقد‬
‫فطن بعضھم إلى ھذا التشابه الشديد بين الھندوسية وخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية والعقيدة القبالية‪.‬‬

‫ولكن ألن الوحي خارج مصادرھم في المعرفة‪ ،‬وألن تكوينھم ووعيھم‬


‫محصور داخل خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وھي نفسھا مصدر فھمھم‬
‫للوجود ومعرفتھم بمكوناته والعالقة بينھا‪ ،‬ولتاريخ البشرية كيف بدأت وكيف‬
‫سارت‪ ،‬وألن كل ما يتوھمونه من أفكار وابتكارات ليس سوى آثار تكوينھم‬
‫بھذه الخريطة وسريانھا في عقولھم ونفوسھم‪ ،‬فقد جاءت مختلة مناھجھم‬
‫ومقلوبة فرضياتھم وضالة نتائجھم‪.‬‬

‫‪٣١٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫تقول القبالية األوكرانية ھيلينا بالفاتسكي ‪ Helena Blavtsky‬في كتابھا‪:‬‬


‫العقيدة السرية‪:‬‬

‫"أقدم الديانات في العالم‪ ،‬في ظاھرھا ‪ ،Exoterically‬أما من جھة‬


‫جذورھا السرية ‪ Esoteric root‬فھي واحدة‪ ،‬ھي ديانة الھند والمزدكية‬
‫وديانة المصريين‪ ،‬ثم يأتي بعد ذلك ديانة الكلدانيين‪ ،‬وآثار ھذه الديانات‬
‫ضائعة تماما ً من االعالم اآلن‪ ،‬ثم ديانة اليھود‪ ،‬الخفية في القبااله‪ ،‬والظاھرة‬
‫في سفر التكوين وبقية األسفار الخمسة التي ھي جمع من األساطير الرمزية‬
‫)•( )‪(١‬‬
‫‪ Allegorical legends‬التي يجب أن تُقرأ في نور الزوھار "‬

‫فھيلينا بالفاتسكي‪ ،‬كمن رأيتھم سابقا ً من أمثال ديورانت وبرستد وفريزر‪،‬‬


‫تفھم أن خريطة الوجود في سفر التكوين والقبااله ليست سوى حكايات رمزية‬
‫ذات أبعاد فلسفية أخذھا بنو إسرائيل من الديانات واألمم السابقة وال أصل لھا‬
‫عندھم‪ ،‬ثم‪ ،‬وھي تدرك وجوه الشبه الشديدة بين الھندوسية واليھودية‪ ،‬تجعل‬
‫نصوص الھندوسية أصالً لخريطة الوجود البني إسرائيلية والعقائد القبالية‪،‬‬
‫وتفسر ذلك بأن‪:‬‬

‫"أدبيات القبااله لم تُعرف مكتوبة قبل القرن األول من العصر الحديث‪،‬‬


‫بينما في الھند نجد أن الفيدا ‪ Vidas‬وأدبيات البراھمانية مكتوبة ومدونة قبل‬
‫")‪(٢‬‬
‫ظھور المسيحية بقرون عديدة‬

‫• ( الزوھار ‪ Zohar‬ھو سفر اإلشراق أو الضياء في القبااله‪.‬‬


‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.1,P39.‬‬
‫‪2 ) The secret doctrine,Vol.3,P167.‬‬
‫‪٣١٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ما استدلت به بالفاتسكي أن التوراة تك ﱠون نصھا الحالي‪ ،‬الذي ھو دمج بين‬
‫ثالثة نصوص سابقة‪ ،‬في بداية األلف األولى بعد الميالد‪ ،‬والزوھار وبقية أسفار‬
‫القبااله ظھرت مكتوبة في التاريخ في بداية األلف الثانية بعد الميالد‪ ،‬بينما‬
‫نصوص الھندوسية ُدونت في منتصف األلف األولى قبل الميالد‪ ،‬والھندوسية‬
‫اكتملت عقيدتھا وتبلورت طقوسھا قبل الميالد بقرنين أو ثالثة‪.‬‬

‫والنتائج التي وصلت إليھا بالفاتسكي مقلوبة‪ ،‬ألن الفرضيات التي بدأت منھا‬
‫خاطئة‪ ،‬وھي خاطئة ألنه يحكمھا فيھا خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وما تعمد‬
‫بنوا إسرائيل بثه في سيرتھم من أضاليل ليموھوا الوحي فيھا ويضللوا البشر‬
‫عنه‪.‬‬

‫وكتاب ھيلينا بالفاتسكي‪ :‬العقيدة السرية ‪ ،The secret doctrine‬وھو أحد‬


‫أشھر المؤلفات في القبااله والعقائد الخفية والحركات السرية‪ ،‬وأحد أكثر الكتب‬
‫إلھاما ً للزعماء والقادة والنابھين في كل مجال من أبناء الغرب‪ ،‬ھو كله دليل‬
‫على سريان خريطة الوجود البني إسرائيلية في تكوين بالفاتسكي ووعيھا‬
‫وعقلھا‪ ،‬وعلى تح ﱡكمھا في كل ما تعرفه عن الوجود وما تفھمه منه‪ ،‬وعلى أنھا‬
‫تعيش بھا وفيھا‪.‬‬

‫فكل ما تقوله بالفاتسكي‪ ،‬في كتابھا ھائل الحجم‪ ،‬ليس سوى استنباطات من‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬بناءات عليھا‪ ،‬أو استطرادات لھا‪ ،‬أو ابتكارات‬
‫عليھا وتفريعات منھا‪ ،‬بل وعناوين فصول كتابھا ھذا كله ليست سوى أسماء‬
‫عناصر الجرثومة البني إسرائيلية‪.‬‬

‫‪٣١٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فھي تأتي بكل مكون من مكونات الوجود كما ھي في الخريطة البني‬


‫إسرائيلية‪ ،‬ثم تستنبط منه فكرة‪ ،‬أو تبني عليه عقيدة‪ ،‬أو تقيم نظرية‪ ،‬أو تبتكر‬
‫طقساً‪ ،‬أو تبحث عن شبيه له في الھندوسية أو في غيرھا من العقائد والثقافات‪.‬‬

‫ى ھذه‬
‫ونكاد نسمعك تھمس لنفسك وأنت تقرأ العبارة اآلنفة‪ :‬لقد مرت عل ﱠ‬
‫العبارة من قبل‪ ،‬أين ترى؟‬

‫نُھنئك بذاكرتك الحديدية!‬

‫نعم‪ ،‬قرأت عبارة شبيھة لھا عند خريطة الوجود اإللھية ونحن نبين لك آثار‬
‫تحريفھا في تكوين الدكتورة نوال السعداوي ووعيھا وما أنتجه ھذا التكوين‬
‫والوعي المختل‪.‬‬

‫وعبارتنا ھنا تشبه عبارتنا ھناك‪ ،‬ألن نوال السعداوي ھي نفسھا ھيلينا‬
‫بالفاتسكي‪ ،‬والفرق بينھما أن بالفاتسكي قبالية بالوعي واإلرادة والقصد‪ ،‬ونوال‬
‫السعداوي قبالية بالتقليد ومحاكاة من استغفلوھا ودسوا القبااله في رأسھا‬
‫وفَ ْيرسوا تكوينھا بھا‪.‬‬

‫فإليك أوالً مثاالً أوضح على ما يحدثه فقدان الوحي مصدراً للمعرفة من‬
‫تخبط وتيه وضالل عن الحقائق‪ ،‬وتوھم الحقائق في األباطيل‪ ،‬يساعدك على أن‬
‫تصحح فرضيات ھيلينا بالفاتسكي وتعتدل أمامك النتائج‪.‬‬

‫تعلم من بيان ﷲ إلى خلقه أنه عز وجل ھو الذي أحى إلى أم موسى عليه‬
‫السالم أن تلقيه في اليم‪ ،‬ألنه سبحانه أراد لموسى أن يكون من المرسلين‪ ،‬ولبني‬
‫إسرائيل أن يكونوا أمة الوحي التي تتلقاه وتتكون به وتبلغه‪:‬‬

‫‪٣١٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪`_ ^]\[ZYXWVUT SRQPON‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪fedcba‬‬

‫ولكن في السيرة المقدسة خلط بنو إسرائيل قصص الوحي بسيرتھم الضالة‪،‬‬
‫وبما ابتكروه أو جمعوه من حكايات‪ ،‬فلم يعد احد يستطيع أن يميز ھذا من ذاك‬
‫أو يفصل بينھما‪ ،‬سوى الطائفة منھم التي تحوز األصل وتتوارث ما فيه من‬
‫حق‪.‬‬

‫فإليك فرضية بالفاتسكي من أين جاءت قصة موسى عليه السالم وإلقائه في‬
‫اليم‪:‬‬

‫"إن قصة الفرعون والنھر الكبير والصبي الذي وجد طافيا ً في تابوت‬
‫ليست قصة موسى وال ھو الذي ألفھا‪ ،‬فأصلھا في قطع الفخار ‪ Tiles‬البابلية‬
‫سرجون ‪ Sargon‬الذي كان يعيش قبل‬
‫التي عُثر عليھا‪ ،‬وتحوي قصة الملك َ‬
‫موسى بأزمان بعيدة)• (‪ ،‬ففي كتابه‪ :‬آسيا قديما ً ‪،Assian Antiquities‬‬
‫يقول مستر جورج سميث ‪" :George Smith‬في قصر سنحاريب‬
‫‪ Sennicherib‬في كويونجيك ‪ Kouyunjik‬وجدت قطعة أخرى بھا جزء‬
‫من تاريخ سرجون المثير‪ ،‬وال شك أن عزرا ‪ Ezra‬قد أضاف قصة سرجون‬
‫إلى قصة موسى‪ ،‬وأنه ال يمكن أن يكون جاھالً باألصل‪ ،‬وفي لوح الفخار الذي‬
‫وجدته في كويونجيك نقرأ العبارات اآلتية‪ -١ :‬أنا سرجون ملك أ ﱠكاد ‪Akkad‬‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٧:‬‬
‫• ( موسى عليه السالم كان قبل سرجون بعدة قرون‪ ،‬وبالفاتسكي تخلط في عبارتھا بين موسى الذي أتى‬
‫بالتوراة وبين عزرا الذي كتب أسفارھا‪ ،‬فعزرا ھو الذي بعد سرجون‪.‬‬
‫‪٣١٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫القوي ‪ -٢‬أمي كانت أميرة ولكن أبي ال أعلم من ھو ‪ -٣‬في مدينة أزوبيرانو‬
‫‪ Azupirano‬على شاطئ نھر الفرات ‪ -٤‬حملت بي أمي ثم وضعتني ‪ -٥‬ثم‬
‫في تابوت من القش وضعتني‪ ،‬وبالقار‪ Bitumen‬أغلقته ‪ -٦‬ثم في النھر‬
‫)‪(١‬‬
‫قذفتني ‪ -٧‬فحملني النھر إلى أكاد‪ ،‬والساقية ‪ Water carrier‬التقطتني"‬

‫وھكذا‪ ،‬وبجمع قطعة فخار من ھنا مع قطعة فخار من ھناك‪ ،‬ورتق لفافة‬
‫بأخرى‪ ،‬صنع أبناء خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬ومن تحكم وعيھم مكوناتھا‬
‫وآثارھا‪ ،‬التواريخ القديمة للبالد التي بين النيل والفرات‪ ،‬واعتبروا أن ما‬
‫صنعوه بلصق قطع الفخار ھو الحقيقة المطلقة!‬

‫ثم تبعھم في ذلك األميون في بالد العرب‪ ،‬ممن كون وعيھم وصنع أذھانھم‬
‫ونفوسھم وصول خريطة التحريف وآثارھا إلى ھذه البالد‪ ،‬لتتم بھذا الوصول‬
‫وھذا التكوين وھذه الصناعة دورة اإلفساد البني إسرائيلي الثانية)•(‪.‬‬

‫وما لم تخبرك به بالفاتسكي‪ ،‬أن ال ِغراء الذي لصق به أسرى سيرة بني‬
‫إسرائيل المقدسة قطع الفخار‪ ،‬والنماذج التي جمعوا ھذه القطع معا ً لتحاكيھا‪،‬‬
‫أتوا بھا من ھذه السيرة التي ھم عبيدھا‪ ،‬والتواريخ التي أقاموھا بلصق ھذه‬
‫القطع إنما صنعوھا لتكون مطابقة لما فبركه بنو إسرائيل فيھا‪.‬‬

‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.1,P339-340.‬‬


‫• ( يمكنك أن تجد نموذجا ً مثاليا ً على ھؤالء األميين‪ ،‬أبناء التحريف وأتباع بني إسرائيل في الشرق‪ ،‬ممن‬
‫يغرفون غرف العميان مما يكتبه أبناء التحريف وأتباع بني إسرائيل في الغرب‪ ،‬في كتابات األمي سيد‬
‫القمني‪ :‬قصة الخلق‪ ،‬النبي إبراھيم والتاريخ المجھول‪ ،‬إسرائيل‪ :‬التوراة‪ ،‬التاريخ‪ ،‬التضليل‪ ،‬إلخ ‪ ..‬إلخ‪.‬‬
‫‪٣٢٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يقول دكتور كمال الصليبي في كتابه‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪،‬‬


‫الذي يقول فيه إنه ينتقد روايات التوراة وما فيھا من تواريخ‪ ،‬وھو في حقيقته‬
‫من أسرى خريطة بني إسرائيل وسيرتھم‪ ،‬وعبد من عبيدھا‪:‬‬

‫"وسجالت مصر والعراق القديمة‪ ،‬التي قُرئت على ضوء النصوص‬


‫التوراتية‪ ،‬والتي أُخذت تلميحاتھا الطبوغرافية تقليديا ً على أنھا تتعلق‬
‫بفلسطين والشام ومصر والعراق‪ ،‬أُجبرت على إعطاء مؤشرات جغرافية‬
‫وتاريخية تتوافق مع األحكام المسبقة لدى الباحثين التوراتيين‪ ،‬واألمر نفسه‬
‫ينطبق على تفسير السجالت القديمة التي يتابع علماء اآلثار العثور عليھا في‬
‫)‪(١‬‬
‫أراضي الشرق األدنى"‬

‫وكما ترى‪ ،‬القباليون واألميون‪ ،‬غربا ً وشرقاً‪ ،‬أسرى خريطة بني إسرائيل‬
‫للوجود ومن عبيد سيرتھم القدسة‪ ،‬وكل من حُجبت عنه خريطة الوجود اإللھية‬
‫أو ضل عنھا ھو‪ ،‬تلقائيا ً وبالضرورة‪ ،‬كما البد تدرك اآلن‪ ،‬من أسرى بني‬
‫إسرائيل وعبيدھم‪ ،‬وھم من يحكمون بخريطتھم وسيرتھم وعيه‪ ،‬ويتحكمون في‬
‫كل ما يكونه وما يفرزه‪ ،‬ألن من ال يعرف الخريطة الحقيقية ففي أي اتجاه يسير‬
‫ال ريب تائه‪.‬‬

‫فاآلن إن كنت ممن يُغشي أعينھم ويدور بعقولھم زخرف قول ھؤالء‬
‫القباليين وبھرج نظريات أتباعھم من األميين‪ ،‬وما يفترضونه ويخمنونه من‬
‫لصق قطع الفخار عندك ھو الحق‪ ،‬وتؤمن أن موسى ليس إال سرجون البابلي‪،‬‬

‫‪ ( ١‬دكتور كمال الصليبي‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬ص‪.٥٢-٥١‬‬


‫‪٣٢١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فلن تفقه شيئاً‪ ،‬ولن تتصحح في عقلك فرضية وال تعتدل نتيجة‪ ،‬وال نملك إزاءك‬
‫إال أن ندعو ﷲ لك بالشفاء‪.‬‬

‫وأما إن كنت ممن ال يذھله تشقيق الكالم وحشوه بالعبارات الخالبة واألفكار‬
‫المثيرة والكلمات األعجمية عن أن ﷲ عز وجل ھو الحق وھو وحده عالم‬
‫الغيوب‪ ،‬وأن وحيه ھو الفرقان والمعيار والميزان‪ ،‬وأن موسى ھو نبي ﷲ‬
‫الكليم‪ ،‬فإليك كيف تكون الفرضيات والنتائج في نور مصدر المعرفة المطلق‬
‫وبيان ﷲ عز وجل إلى خلقه‪.‬‬

‫أوالً‪ :‬ظھور الشئ غير وجوده‪ ،‬وسبْق نصوص الھندوسية في الظھور‬


‫لنصوص القبااله المكتوبة ال يعني أنھا تسبقھا في الوجود‪ ،‬والقبااله نفسھا تنص‬
‫على أنھا تراث غير مكتوب‪ ،‬وعلى أن توارثھا ھذا كان شفاھة منذ نزول‬
‫الوحي على موسى عليه السالم‪ ،‬والقبااله معناھا أصالً‪ :‬التلقي الشفوي‪.‬‬

‫فإليك الدليل على سبق خريطة الوجود البني إسرائيلية والقبااله‪ ،‬في الوجود‪،‬‬
‫للھندوسية‪ ،‬ومن بالفاتسكي نفسھا التي تقول إن القبااله أخذت من الھندوسية‪:‬‬

‫"بالرغم من أن أدبيات القبااله المكتوبة ال يمكن العثور عليھا قبل القرن‬


‫األول من العصر الحديث‪ ،‬ومن أن الزوھار ‪ Zohar‬يُنسب دائما ً للربي‬
‫شمعون بن يوحاي ‪ ،Simeon Ben Iochai‬فالحقيقة أن القبااله قديمة قدم‬
‫الشعب اليھودي نفسه‪ ،‬وظلت تنتقل تعاليمھا شفاھة عبر األجيال والعصور‬
‫)‪( ١‬‬
‫إلى أن تم تدوينھا"‬

‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.3,P166.‬‬


‫‪٣٢٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثانياً‪ :‬خريطة الوجود البني إسرائيلية وتراثھم الباطني في القبااله يجتمع فيھا‬
‫كل ما تفرق في األمم والشعوب والثقافات والحضارات‪ ،‬فيوجد شبيه لكل وجه‬
‫أو مكون من وجوه خريطة الوجود البني إسرائيلية ومكوناتھا‪ ،‬أو لما في القبااله‬
‫من أفكار وطقوس وممارسات‪ ،‬في عقائد كل أمة أو في أساطيرھا وتراثھا‪،‬‬
‫ولكن ھذه الخريطة والقبااله تنفرد بجمع كل الوجوه والمكونات معاً‪.‬‬

‫فبعضٌ من وجوه خريطة بني إسرائيل للوجود ومن أفكار القبااله وطقوسھا‬
‫وآثارھا قد رأيته في الھندوسية‪ ،‬وسوف ترى بعضا ً آخر في اإلغريقية‪ ،‬وبعضٌ‬
‫ثالث تراه في طقوس استحضار الجان وفك الطالسم وممارسة السحر والتنجيم‬
‫التي شاعت في بالد العرب‪ ،‬قديما ً وحديثاً‪.‬‬

‫والكتب التي تشرح ھذه الطقوس والممارسات‪ ،‬سواء منھا ما طبع مثل‬
‫كتاب‪ :‬شمس المعارف للبوني‪ ،‬أو ما ھو مخطوط ولم يطبع مثل كتاب‪ :‬السحر‬
‫األسود‪ ،‬وكتاب‪ :‬القبة اإلبليسية في األعمال السفلية‪ ،‬ليست سوى شذرات من‬
‫كتاب‪ :‬مفاتيح سليمان ‪ ،Clavicula Salomonis‬الذي ظھر مطبوعا ً في‬
‫أوروبا ألول مرة بالالتينية سنة ‪١٦٨٦‬م‪.‬‬

‫ومن الطريف أن الصفحة األولى من مخطوط كتاب‪ :‬السحر األسود مكتوب‬


‫عليھا أن الذي ترجم الكتاب من العبرية األنبا شمعون سنة ‪١٦٠٠‬م‪ ،‬أي قبل أن‬
‫)•(‬
‫يظھر كتاب‪ :‬مفاتيح سليمان مطبوعا ً في أوروبا بستة وثمانين عاما!‬

‫• ( انظر في ملحق الصور غالف الطبعة األولى من كتاب‪ :‬مفاتيح سليمان‪ ،‬والصفحة األولى من كتاب السحر‬
‫األسود‪.‬‬
‫‪٣٢٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فليس أمامنا وأمامك اآلن إال فرضيتان‪ :‬إما أن بني إسرائيل ھم المنبع‬
‫والمصدر‪ ،‬وخريطتھم للوجود‪ ،‬بعناصرھا وآثارھا في الوعي‪ ،‬ھي الروافد التي‬
‫تكونت بسريانھا في األمم والشعوب‪ ،‬مع بعثرة بني إسرائيل في األرض‪،‬‬
‫الوثنيات والفلسفات والخرافات واألساطير‪ ،‬أو أنھم جمعوھا من األمم‬
‫والشعوب‪ ،‬وكانوا ھم وخريطتھم المصب الذي صبت كلھا فيه‪.‬‬

‫ونقول لك‪ :‬اإلجابة ھي‪ :‬ھما معاً‪.‬‬

‫فبعض مكونات خريطة الوجود البني إسرائيلية ال وجود لھا وال نظير في‬
‫تراث أي أمة‪ ،‬كما عرفت من تنقيب السير جيمس فريزر عن شجرة المعرفة‬
‫وشجرة الحياة‪ ،‬وفشله في العثور على شبيه لھما‪ ،‬مما اضطره للف والدوران‬
‫وضرب الودع إلثبات فرضياته األمية‪.‬‬

‫فھذه المكونات الفريدة في خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وقصة الخلق‬


‫باإلرادة اإللھية التي تحويھا‪ ،‬ال مصدر لھا وال سبيل إليھا إال من األصل‪،‬‬
‫واألصل ھو خريطة الوجود اإللھية التي حجبھا بنو إسرائيل وعبثوا بھا‪ ،‬ثم‬
‫صار عبثھم النبع الذي يتفجر منه فھم األميين من بني إسرائيل ومن عموم‬
‫البشر للوجود والحياة‪.‬‬

‫بنو إسرائيل ھم المصدر والمنبع‪ ،‬ألن خريطتھم للوجود‪ ،‬بمكوناتھا‬


‫والعالقات بينھا‪ ،‬ال يمكن أن تصدر‪ ،‬كما أخبرناك من قبل‪ ،‬إال ممن يحوز‬
‫الوحي ويعرف األصل‪.‬‬

‫‪٣٢٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وفي الوقت نفسه من خصال بني إسرائيل الذھنية والنفسية االنبھار بالوثنيات‬
‫وجمعھا ومحاكاتھا وزخرفتھا وإعادة بثھا‪.‬‬

‫فأما انبھارھم بالوثنيات ومحاكاتھم لھا‪ ،‬فيخبرك ﷲ عز وجل بھا في بيانه‬


‫إلى خلقه في قوله‪:‬‬

‫‪ONMLKJIHGFEDCBA‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪U TSRQP‬‬

‫وأما جمعھم لھا وزخرفتھا وإعادة بثھا في األمم والشعوب‪ ،‬فيخبرك به بيان‬
‫ﷲ عز وجل في قوله‪:‬‬

‫ ‪Ò Ñ Ð Ï ÎÍÌ ËÊ ÉÈÇ‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫‪ÛÚÙØ×ÖÕÔÓ‬‬

‫بيان ﷲ إلى خلقه يخبرك أن نشر األباطيل والضالالت وبثھا ھو عمل‬


‫طائفة من أھل الكتاب‪ ،‬وليس الھندوس وال غير الھندوس من األميين‪.‬‬

‫والمسألة الفيصل بين بيان اإلله عز وجل إلى خلقه وبين ما يقوله القباليون‬
‫واألميون‪ ،‬أن بيان اإلله يخبرك أن ھذه الطائفة من أھل الكتاب تفعل ذلك عمداً‬
‫وقصداً‪ ،‬وھي تعلم الحق وتكتمه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬األعراف‪.١٣٨:‬‬
‫‪ ( ٢‬النساء‪٥١:‬‬
‫‪٣٢٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫فالقبائل واألمم والشعوب والثقافات قد تنتج الوثنيات أو الضالالت عفواً‬
‫لحجب الوحي عنھا وجھلھا به‪ ،‬ولكن ھذه الطائفة من أھل الكتاب ھي التي‬
‫تنشرھا وتبثھا في البشر‪ ،‬وتصنع لھا النظريات‪ ،‬وتقيم بھا الفلسفات‪ ،‬وتُكسبھا‬
‫األغلفة العلمية التي تُسوقھا فيھا‪.‬‬

‫بيان ﷲ عز وجل يخبرك بحقيقة لن تقدرھا حق قدرھا‪ ،‬بل ولن تراھا أو‬
‫تدركھا أصالً إال إذا أوتيت علما ً بسيرة الحركات السرية وآثارھا في العالم‬
‫وصلتھا ببني إسرائيل‪.‬‬

‫صقع من أصقاع العالم‪،‬‬


‫فالحركات السرية والقبالية عبر العصور‪ ،‬وفي كل ُ‬
‫كانت وما زالت أكبر مصنع المتصاص الوثنيات واألساطير والخرافات‬
‫وجمعھا وتدويرھا وتنظيرھا وفلسفتھا وإعادة بثھا في العلوم والفنون واآلداب‬
‫والحياة والمجتمعات‪.‬‬

‫وأساطير العالم كلھا‪ ،‬ووثنياته المركبة‪ ،‬وعقائده الباطنية الممنھجة‪ ،‬وليست‬


‫البسيطة الساذجة‪ ،‬ھي من عمل ھذه الطائفة من بني إسرائيل وأثر من آثار‬
‫سريان خريطتھم المحرفة للوجود وابتكاراتھم القبالية في األمم والشعوب‪ ،‬كما‬
‫ترى في الھندوسية‪ ،‬وكما سترى في اإلغريقية‪.‬‬

‫واالستثناء الوحيد من ذلك الحضارة المصرية القديمة التي كانت أساطيرھا‬


‫عن الخلق واآللھة ومكوناتھا وعناصرھا ھي المادة الخام التي وظفتھا ھذه‬
‫الطائفة في العبث بخريطة اإلله للوجود التي أنزلھا عليھم واستودعھم إياھا‪،‬‬

‫‪٣٢٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومنھا نسجت القبااله‪ ،‬وبمحاكاتھا صنعت الحركات السرية وعقائدھا وطقوسھا‬


‫ومراتبھا ورموزھا‪.‬‬

‫وھو ما من أجله اختص اإلله عز وجل مصر القديمة‪ ،‬من بين ممالك‬
‫األرض وإمبراطورياتھا كلھا‪ ،‬بالذكرفي بيانه إلى خلقه‪ ،‬ثم لم يذكر من تاريخھا‬
‫إال ما يتصل ببني إسرائيل ويلتقي بسيرتھم!‬

‫ولكن ھذه قصة أخرى طويلة نرجو من ﷲ عز وجل أن نتمكن من أن نفرد‬


‫لھا كتابا ً يجليھا يوما ً ما‪.‬‬

‫‪٣٢٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻬﻨﺪوﺳـﻴﺔ واﳊﺮﰷت اﻟﴪﻳﺔ‬


‫بعد إذ رأيت التشابه والتماھي بين القبااله والھندوسية‪ ،‬وأنھما ليسا إال اسمين‬
‫لشئ واحد‪ ،‬لن تعجب إذا علمت أن الھندوسية كانت عبر التاريخ معينا ً‬
‫للجمعيات الباطنية وينبوعا ً للحركات السرية‪ ،‬وأن الھند تربة خصبة ومحضن‬
‫لھذه الجمعيات والحركات‪ ،‬وأن بينھا وبين الجمعيات الباطنية والحركات‬
‫السرية القبالية في الغرب ترافد وتالقح‪ ،‬وفي بعض األحيان توحد وامتزاج‪.‬‬

‫فإليك بعض النماذج‪.‬‬

‫الفيدانتا ‪ Vedanta‬كلمة معناھا غاية الفيدا‪ ،‬والفيدا ھي نصوص الھندوسية‪،‬‬


‫والفيدانتا فلسفة تأملية‪ ،‬ولھا فروع عديدة‪ ،‬وإذا كانت الھندوسية كلھا باطنية‬
‫فالفيدانتا ھي باطنية الباطنية‪ ،‬أو ھي القبااله الھندوسية‪.‬‬

‫والفرع من الفيدانتا الذي يرتبط باإلله فشنو‪ ،‬كغيره من الفروع‪ ،‬تكونت به‬
‫وحوله تنظيمات وحركات‪ ،‬لھا طقوس ودرجات ومراتب وأساتذة عظام مثل‬
‫الماسونية والحركات السرية الغربية‪.‬‬

‫وإحدى ھذه الحركات منظمة راما كريشنا ‪ ،Ramakrishna Order‬التي‬


‫أسسھا سري راما كريشنا ‪ Sri Ramakrishna‬وتلميذه سوامي فيفيكاناندا‬
‫‪ ،Swami Vivekananda‬في كلكتا ‪ Calcutta‬في البنجال ‪ Bengal‬جنوب‬
‫الھند سنة ‪١٨٩٤‬م‪ ،‬ثم أنشأ لھا فيفيكاناندا في العام نفسه فرعا ً في نيويورك‬

‫‪٣٢٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫باسم‪ :‬جمعية الفيدانتا ‪ ،Vedanta Society‬ثم صار ھو رئيسھا واألستاذ‬


‫األعظم لھا ولمنظمة راما كريشنا بعد رحيل أستاذه‪.‬‬

‫ولمنظمة راما كريشنا وجمعية الفيدانتا ما يربو على مائة وخمسين فرعاً‪،‬‬
‫تنتشر في الھند وأوروبا والقارة األمريكية‪ ،‬تعلم الفيدانتا وعقيدتھا وتدرب‬
‫أعضاءھا على طقوسھا‪.‬‬

‫والدرجة العليا في الفيدانتا وحركاتھا‪ ،‬ھي أن يصل اإلنسان إلى مرتبة‬


‫الراجافان ‪ ،Raghavan‬وھي مرتبة الحكمة الكاملة‪ ،‬فيكون قد أصبح رجالً‬
‫حكيما ً أو امرأة حكيمة‪ ،‬بأن حل فيه نور اإلله فشنو وصار من نسله المقدس‪.‬‬

‫وألن فشنو الھندوسي‪ ،‬كما ترى‪ ،‬ھو نفسه شيطان خريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬وھو نفسه لوسيفر القبالي‪ ،‬ونسل فشنو من الھندوس ھم أنفسھم نسل‬
‫لوسيفر من الماسون‪ ،‬فقد مزج حبر الماسونية األعظم اليھودي ألبرت بايك بين‬
‫الفيدانتا والقبااله‪ ،‬وجعل شروح سوامي فيفيكاناندا على الفيدا فلسفة للدرجة‬
‫الثانية والثالثين من الماسونية االسكتلندية‪ ،‬درجة أمير السر الملكي ‪Prince of‬‬
‫‪.Royal Secret‬‬

‫‪٣٢٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﲨﻌﻴﺔ اﳊﳬﺔ ا ٕﻻﻟﻬﻴﺔ‬


‫القبالية األوكرانية ھيلينا بالفاتسكي‪ ،‬التي عرفت طرفا ً من أفكارھا‪ ،‬ألمانية‬
‫األصل‪ ،‬ولدت سنة ‪١٨٣١‬م‪ ،‬وكان أبوھا دبلوماسيا ً ألمانيا ً يعمل في روسيا‬
‫وأوكرانيا‪ ،‬وھناك اعتنقت القبااله وتدربت على طقوسھا‪.‬‬

‫ثم‪ ،‬وھي تتنقل مع أبيھا في بلدان أوروبا‪ ،‬التقت سنة ‪١٨٥١‬م‪ ،‬وھي في‬
‫العشرين من عمرھا‪ ،‬معلمھا ومرشدھا الروحي كوت ھومي ‪Koot Hoomi‬‬
‫في لندن‪ ،‬ثم ارتحلت معه إلى الھند واستوطنتھا عدة سنوات‪ ،‬حيث فتح أمامھا‬
‫مرشدھا معابد الھندوسية‪ ،‬فتلقت تعاليم الفيدانتا ومارست ما يرتبط بھا من‬
‫طقوس على يد مرشدھا ونخبة من الرھبان الھندوس‪.‬‬

‫وقد روت بالفاتسكي تجربتھا في الھند ومعابدھا في كتابھا‪ :‬من كھوف‬


‫ھندوستان وغاباتھا ‪.From the Caves and Jungles of Hindostan‬‬

‫وكوت ھومي‪ ،‬معلم بالفاتسكي ومرشدھا الروحي‪ ،‬راھب ھندوسي أسس‪،‬‬


‫ھو نفسه‪ ،‬باالشتراك مع الماسوني اإلنجليزي أالن ھيوم ‪Alan Hum‬‬
‫والماسوني اإلنجليزي ألفريد سينيت ‪ Alfred Sinnett‬جمعية سرية‪ ،‬ھي‬
‫أخوية النور العظمى ‪.Great Brotherhood of Light‬‬

‫وفي أخويتھم ھذه‪ ،‬قام مؤسسوھا الثالثة بالمزج بين أفكار منظمة‬
‫اإلليوميناتي ‪ Illuminati‬األلمانية وبين فلسفة الفيدانتا الباطنية الھندوسية‪،‬‬
‫وجعلوا تنظيم ھذه كتنظيم تلك‪ ،‬بل واسم أخويتھم ليس سوى اسم منظمة‬
‫اإلليوميناتي‪ ،‬إذ اإلليوميناتي معناھا‪ :‬أخوية النور‪.‬‬
‫‪٣٣٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والفكرة األساسية التي استلھمتھا أخوية النور العظمى من اإلليوميناتي‪ ،‬ھي‬


‫وجود سادة من الحكماء ‪ Masters‬يتوارثون الحكمة القديمة ‪Ancient‬‬
‫‪ Wisdom‬عبر التاريخ‪ ،‬ويحل فيھم نور اإلله فشنو‪ ،‬أو تتناسخ فيھم روحه‪،‬‬
‫وھم بذلك مصدر الحكمة للبشرية كلھا‪ ،‬والوصول إلى ھذه المرتبة وحلول نور‬
‫اإلله فشنو في من يصل إليھا يكون عبر التأمل‪.‬‬

‫وفكرة وجود حكمة أو معارف خفية تتوارثھا صفوة من البشر ويسلمھا جيل‬
‫منھم إلى جيل ھي‪ ،‬كما تعلم اآلن‪ ،‬جوھر القبااله وينبوع الحركات السرية‪.‬‬

‫وفي سنة‪١٨٧٥‬م كونت القبالية ھيلينا بالفاتسكي‪ ،‬باالشتراك مع الماسوني‬


‫األمريكي الكولونيل ھنري أولكوت ‪ ،Henry S. Olcott‬والقبالي األيرلندي‬
‫وليام كوان جادج ‪ ،William Quan Judge‬جمعية في الواليات المتحدة‪،‬‬
‫س ﱠمتھا‪ :‬جمعية الثيوسوفي ‪ ،Theosophical Society‬وجعلتھا صورة من‬
‫أخوية مرشدھا‪ ،‬فغايتھا تعليم الحكمة‪ ،‬ووسيلتھا مزج الھندوسية بالقبااله‪.‬‬

‫وتفسر بالفاتسكي نفسھا ھذا االسم في كتابھا‪ :‬مفتاح الثيوسوفي ‪The key‬‬
‫‪ ،to Theosophical‬بأن معناه‪:‬‬

‫"الحكمة اإللھية ‪ ،Devine wisdom‬أو حكمة اآللھة ‪Wisdom of‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪"gods‬‬

‫‪1 ) Helena Blavatsky:The key to theosophy,P1.‬‬


‫‪٣٣١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وبعد تأسيس الجمعية ارتحل مؤسسوھا معا ً إلى الھند‪ ،‬وأسسوا أول مقر‬
‫للجمعية في أديار ‪ Adyar‬في َمدراس ‪ ،Madras‬ثم أقاموا لھا عدة مقرات في‬
‫الواليات المتحدة وأوروبا‪.‬‬

‫فأما لماذا في مدراس تحديداً‪ ،‬فلسببين‪ ،‬األول‪ :‬ألنھا بيئة ممھدة وتربة‬
‫مخصبة الستقبال القبااله والحركات الباطنية وإنباتھا‪ ،‬ففي مدراس أقيم أول‬
‫محفل ماسوني في العالم خارج القارة األوروبية والمستعمرات األمريكية‪ ،‬وكان‬
‫ذلك سنة ‪١٧٢٤‬م‪ ،‬والسبب الثاني ستعلمه الحقاً‪.‬‬

‫وعقيدة جمعية الحكمة اإللھية‪ ،‬كما شرحتھا بالفاتسكي نفسھا في كتابيھا‪:‬‬


‫إيزيس سافرة ‪ ،Isis unveiled‬والعقيدة السرية‪ ،‬أنه توجد عقيدة سرية متوارثة‬
‫عبر التاريخ‪ ،‬وھي العقيدة التي كانت تعتقدھا وتتوارثھا الصفوة الصانعة‬
‫للحضارة‪ ،‬والمبدعة للعلوم واآلداب والفنون في كل األمم‪ ،‬وھذه العقيدة‬
‫الصحيحة تحوي االديان األخرى كلھا‪ ،‬وھذه الديانات كلھا ليست سوى صورة‬
‫ستكون عقيدة‬
‫ﱢ‬ ‫محرفة ومشوھة وغير كاملة من ھذه الديانة الصحيحة‪ ،‬والتي‬
‫البشرية كلھا في العصر القادم‪.‬‬

‫فإليك ماذا تكون ھذه العقيدة الصحيحة‪:‬‬

‫"الشيطان أو لوسيفر)• (‪ Satan or Lucyfer‬ھو الحياة والنشاط‪ ،‬وھو‬


‫الطاقة الدافعة لكل شئ في الكون‪ ،‬لوسيفر ھو النار والضوء‪ ،‬والحياة‬

‫• ( لوسيفر كلمة التينية معنھا‪ :‬جالب الضوء أو حامل الضياء‪ ،‬وھو في األصل االسم الذي كان يطلقه‬
‫المنجمون الرومان على كوكب الزھرة‪ ،‬لبريقه في السماء قبيل الفجر‪ ،‬وقد جاء في سفر إشعياء وصفا ً لحاكم‬
‫بابل الذي سبى بني إسرائيل‪ ،‬وھو في المسيحية الغربية اسم للشيطان‪ ،‬وفي القبااله والحركات السرية ھو‬
‫اإلله اآلخر الذي وھب اإلنسان المعرفة‪.‬‬
‫‪٣٣٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والكفاح‪ ،‬والفكر والحضارة‪ ،‬والحرية واالستقالل‪ ،‬لوسيفر ھو إله كوكبنا‪،‬‬


‫)‪(١‬‬
‫وھو إلھه الوحيد"‬

‫فبعد أن طرد اإلله اإلنسان إلى األرض وجعلھا قاسية عليه وعاصية له‬
‫ليعاقبه بالوجود فيھا‪ ،‬أتم لوسيفر أو الشيطان جميله عليه‪ ،‬كما تقول بالفاتسكي‪،‬‬
‫بأن أصلح له األرض ومھدھا‪ ،‬وأعد بيئتھا ومواردھا وطاقتھا ليتمكن من العيش‬
‫فيھا‪.‬‬

‫وكما ترى‪ ،‬نذھب ونجئ‪ ،‬ونرحل ونعود‪ ،‬ونلف وندور‪ ،‬ونحن محصورون‬
‫داخل خريطة الوجود البني إسرائيلية وال نفارقھا‪ ،‬وال سبيل للخروج منھا‬
‫ومفارقتھا إال الوحي‪.‬‬

‫فباستثناء أمة الوحي التي يُزيل بھا عز وجل إفساد بني إسرائيل وخريطتھم‬
‫للوجود‪ ،‬صدقت بالفاتسكي فيما تقول‪ ،‬فالشيطان ھو اإلله الذي تعبده الصفوة‬
‫في كل األمم‪ ،‬وال محيص لھا عن عبادته لكي تصنع الحضارة وتبتكر العلوم‬
‫وتبدع الفنون‪ ،‬ألن شيطان بني إسرائيل ھذا ھو الذي دل اإلنسان على المعرفة‬
‫ووھبه إياھا‪.‬‬

‫والثيوسوفي أو الحكمة اإللھية‪ ،‬ھذه التي رأيت عقيدتھا‪ ،‬تحولت بجھود أتباع‬
‫بالفاتسكي وخلفائھا إلى علوم وفلسفات وطقوس تدرس في جامعات الغرب‬
‫وأكاديمياته في غالف أنھا علوم حرة وحداثة في العبادة‪.‬‬

‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.1,P245..‬‬


‫‪٣٣٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن أفكار أنجب تالميذ بالفاتسكي‪ ،‬اليھودية القبالية أليس بيلي ‪Alice‬‬
‫‪ ،Bailey‬وحول كتاباتھا‪ ،‬كون أتباعھا حركة العھد الجديد ‪New Age‬‬
‫‪ ،Movement‬التي أقامت‪ ،‬لتعليم الحكمة اإللھية والتدريب على ما يرتبط بھا‬
‫من طقوس‪ ،‬المعاھد ومراكز التدريب ونثرتھا في أرجاء العالم شرقه وغربه‪.‬‬

‫وطقوس نوال الحكمة اإللھية‪ ،‬عبر التأمل من أجل استحضار اإلله أو السفر‬
‫إليه‪ ،‬ھي التي ترى المغفلين من األميين يمارسونھا في شوراع بالد العرب‪،‬‬
‫وھم ال يعرفون ما الذي تعنيه!‬

‫فأما أشھر األعالم من أتباع حركة العھد الجديد وأبناء بالفاتسكي وحكمتھا‬
‫اإللھية‪ ،‬فالسويدي داج ھمرشولد ‪ Dag Hamersjold‬األمين العام الثاني لألمم‬
‫المتحدة‪ ،‬الذي أقام غرفة لممارسة طقوس الثيوسوفي داخل جناح الزوار في‬
‫األمم المتحدة‪ ،‬ووضع تصميمھا وأشرف على إنشائھا بنفسه‪ ،‬ويوثانت ‪Uthant‬‬
‫األمين العام الثالث‪.‬‬

‫وأما العھد الجديد الذي تدفع جمعية الحكمة اإللھية وحركة العھد الجديد‬
‫العالم نحوه‪ ،‬فھو العھد الذي تتوحد فيه البشرية في حضارة واحدة‪ ،‬لھا عقيدة‬
‫واحدة وأخالق واحدة‪ ،‬وحكومة واحدة‪ ،‬بقيادة حاكم عالمي واحد‪ ،‬تزول بمجيئه‬
‫الحروب بين األمم والشعوب ويحل بينھا السالم‪.‬‬

‫فأما ھذا الحاكم العالمي الواحد‪ ،‬فھو‪ ،‬كما تقول بالفاتسكي‪ ،‬الماتريا‬
‫الھندوسي ‪:Maitreya‬‬

‫‪٣٣٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"الماتريا ھو االسم السري لبوذا الخامس ‪ ،Fifth Bodha‬وھو التجلي‬


‫الخاتم والخالد ‪ Kalki Avtar‬الذي سيتجلى فيھا براھمان)• (‪ ،‬وھو المسيا‬
‫األخير ‪ Last Messiah‬الذي سيأتي عند ذروة الدورة الكبرى‬
‫)‪(١‬‬
‫‪"Culmination of the great cycle‬‬

‫فألن بالفاتسكي تؤمن بالحلول وبتناسخ األرواح ‪ ،Samsara‬فھي تقول إن‬


‫البشرية تمر في دورات روحية كبرى‪ ،‬وفي كل دورة يحل اإلله في بشر‬
‫ويتجلى فيه‪ ،‬وعند ذروة الدورة الحالية سيعود الماتريا‪ ،‬الذي ھو بوذا الخامس‪،‬‬
‫ليھدي البشرية روحيا ً ويوحدھا ويقودھا‪.‬‬

‫والماتريا الھندوسي‪ ،‬أو بوذا الخامس‪ ،‬كما رأيت عند بالفاتسكي‪ ،‬ھو نفسه‬
‫الھامشيحاه اليھودي!‬

‫وھو ما تجده صريحا ً عند تلميذتھا النجيبة اليھودية القبالية أليس بيلي‪ ،‬ففي‬
‫كتابھا‪ :‬ظھور المسيح ‪ The Reappearance of the Christ‬تقول إن ھذا‬
‫المسيح الذي سيظھر‪:‬‬

‫• ( أفاتار ‪ Avatar‬مصطلح ھندوسي يعني الھيئة أو الشكل الذي يحل فيه اإلله ليكون ظاھراً مدركاً‪ ،‬وقد‬
‫يكون إنسانا ً أو حيواناً‪ ،‬وھو اسم فيلم شھير من أفالم ھوليوود القبالية!‪ ،‬وكالكي ‪ Kalki‬كلمة سنسكريتية‬
‫معناھا‪ :‬الخالد‪ ،‬والمقصود بھا في الھندوسية اإلنسان األخير الذي سيحل فيه براھمان ويتجلى في صورته‪،‬‬
‫وھو في الھندوسية نظير بوذا الخامس في البوذية‪.‬‬
‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.1,P412.‬‬
‫‪٣٣٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"لن يكون كالمسيح الذي رحل‪ ،‬رمزاً حزيناً‪ ،‬حالما ً ‪ ،Pensive‬سلبيا ً‬


‫‪ ،Passive‬يختفي خلف ركام من الكلمات كتبھا حفنة من الرجال‪ ،‬بل سيكون‬
‫)‪(١‬‬
‫قائداً روحيا ً قويا ً وفاعالً "‬

‫فھذا ھو المسيح القادم‪ ،‬الذي تقول إنه ھو نفسه الماتريا‪ ،‬وھذا ھو عھده‬
‫الجديد وما سيفعله فيه‪:‬‬

‫"المسيح القادم سيأتي من العرق اليھودي ‪ ،Jewish race‬وسيعرف فيه‬


‫اليھود الھامشيحاه الذي ينتظرونه ‪ ،Their Messiah‬وسوف يتوحد فيه‬
‫)‪(٢‬‬
‫الشرق والغرب ويحل به السالم في العالم"‬

‫وأما وسيلة الوصول إلى ھذا الحاكم العالمي الواحد‪ ،‬الذي ھو الماتريا‬
‫الھندوسي والھامشيحاه اليھودي‪ ،‬كما يدبر أتباع ھذه وأتباع تلك‪ ،‬فھي أكبر‬
‫منظمة سرية في زمانك ھذا وأكثرھا إمعانا ً في الخفاء والسرية‪ ،‬أال وھي‬
‫منظمة األمم المتحدة!!‬

‫وھذه قصة أخرى طويلة ليس لھا موضع في ھذا الكتاب‪ ،‬ونوجزھا لك في‬
‫أن نخبرك أنك إذا رجعت إلى أي مرجع عن األمم المتحدة فستجده يخبرك أنھا‬
‫أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية باتفاق بين رئيس الواليات المتحدة ورئيس‬
‫وزراء بريطانيا ورئيس وزراء االتحاد السوفيتي ‪.‬‬

‫فإليك ما لن تجده في المصادر الرسمية والمراجع المعتمدة‪ ،‬رئيس الواليات‬


‫المتحدة ھو الماسوني من الدرجة الثانية والثالثين فرانكلين روزفلت ‪Franklin‬‬

‫‪1 ) Alice Bailey: The Reappearance of the Christ, P25,27.‬‬


‫‪2 ) The Reappearance of the Christ, P35,42.‬‬
‫‪٣٣٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ ،Roosevelt‬ورئيس وزراء بريطانيا ھو الماسوني من الدرجة الثالثة‬


‫والثالثين ونستون تشرشل ‪ ،Winston Churchill‬ورئيس وزراء االتحاد‬
‫السوفيتي ھو اليھودي الماسوني جوزيف فسرايونوفيتش دجوجا شفيلي ‪Ioseb‬‬
‫‪ Besarionis dze Jughashvili‬الشھير باسم جوزيف ستالين‪.‬‬

‫فاألمم المتحدة لم تكن اتفاقا ً بين الدول العظمى‪ ،‬بل بين اليھود والماسون في‬
‫ھذه الدول!‬

‫وأول أمين عام لألمم المتحدة ھو اليھودي المشكوك في يھوديته والماسوني‬
‫من الدرجة الثالثة والثالثين تريجفيه لي ‪ ،Trygve Lie‬والذي صاغ ميثاق‬
‫األمم المتحدة ھو اليھودي ليو بالفولسكي ‪ ،Leo Palvolsky‬وھو إذ ذاك‬
‫مساعد وزير الخارجية في إدارة رئيس الواليات المتحدة الماسوني فرانكلين‬
‫روزفلت‪ ،‬والذي صاغ اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان ھو اليھودي جون‬
‫بيترز ھيومفري ‪ John Peters Humphrey‬أستاذ القانون في جامعة ماكجيل‬
‫الكندية!‬

‫وأما إذا تساءلت من أين أتت بالفاتسكي وأليس بيلي وأتباعھما بھذه الحكومة‬
‫الواحدة التي تتوحد بھا البشرية ويحل بھا السالم بين شعوبھا‪ ،‬فمن سيرة بني‬
‫إسرائيل المقدسة ونبوءات أنبيائھم فيھا‪:‬‬

‫س ا ْل ِجبَ ِ‬‫ب يَ ُكونُ ثَابِتًا فِي َر ْأ ِ‬ ‫آخ ِر األَيﱠ ِام أَنﱠ َجبَ َل بَ ْي ِ‬
‫‪٢‬‬
‫ال‪،‬‬ ‫ت ال ﱠر ﱢ‬ ‫" َويَ ُكونُ فِي ِ‬
‫يرةٌ‪َ ،‬ويَقُولُونَ ‪:‬‬ ‫ق التﱢالَ ِل‪َ ،‬وت َْج ِري إِلَ ْي ِه ُك ﱡل األُ َم ِم‪َ ،‬وتَ ِ‬
‫َويَ ْرتَفِ ُع فَ ْو َ‬
‫‪٣‬‬
‫وب َكثِ َ‬‫ش ُع ٌ‬‫سي ُر ُ‬
‫سلُكَ فِي‬ ‫وب‪ ،‬فَيُ َعلﱢ َمنَا ِمنْ طُ ُرقِ ِه َونَ ْ‬ ‫ت إِل ِه يَ ْعقُ َ‬‫ب‪ ،‬إِلَى بَ ْي ِ‬ ‫» َھلُ ﱠم نَ ْ‬
‫ص َع ْد إِلَى َجبَ ِل ال ﱠر ﱢ‬
‫ضي‬ ‫‪٤‬‬
‫ش ِري َعةُ‪َ ،‬و ِمنْ أُو ُر َ‬
‫شلِي َم َكلِ َمةُ ال ﱠر ﱢ‬
‫ب‪ ،‬فَيَ ْق ِ‬ ‫سبُلِ ِه«‪ ،‬ألَنﱠهُ ِمنْ ِ‬
‫ص ْھيَ ْونَ ت َْخ ُر ُج ال ﱠ‬ ‫ُ‬
‫‪٣٣٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اح ُھ ْم َمنَ ِ‬
‫اج َل‪.‬‬ ‫س َك ًكا َو ِر َم َ‬ ‫ب َكثِي ِرينَ ‪ ،‬فَيَ ْطبَ ُعونَ ُ‬
‫سيُوفَ ُھ ْم ِ‬ ‫ش ُعو ٍ‬ ‫صفُ لِ ُ‬ ‫بَيْنَ األُ َم ِم َويُ ْن ِ‬
‫الَ ت َْرفَ ُع أُ ﱠمةٌ َعلَى أُ ﱠم ٍة َ‬
‫س ْيفًا‪َ ،‬والَ يَتَ َعلﱠ ُمونَ ا ْل َح ْر َ‬
‫)‪(١‬‬
‫ب فِي َما بَ ْعدُ"‬

‫‪ ( ١‬إشعياء‪.٤-٢ :٢ :‬‬
‫‪٣٣٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺑﻨﻮ ٕاﴎاﺋﻴﻞ ﰲ اﻟﻬﻨﺪ‬


‫أخبرناك من قبل أن العقيدة الھندوسية ظھرت واكتملت وتبلور ما يرتبط بھا‬
‫من شعائر وطقوس ورموز في القرن الثالث والقرن الثاني قبل الميالد‪ ،‬فإليك‬
‫كيف كان ازدھارھا وعلى يد َمن اكتملت طقوسھا ورموزھا‪.‬‬

‫في سنة ‪ ٢٦٩‬قبل الميالد خَ لَف أشوكا الملقب بالعظيم ‪Ashoka The‬‬
‫‪ Great‬أباه بندوسارا ‪ Bindusara‬على عرش اإلمبراطورية التي كونھا جده‬
‫تشاندراجوبتا ‪ Chandragupta‬بتوحيد مقاطعات شبه القارة الھندية وإماراتھا‬
‫بعد حروب طويلة ومعارك دموية‪.‬‬

‫وبعد اعتالء أشوكا للعرش شن حملة عسكرية على مقاطعة كالينجا‬


‫‪ Kalinga‬الواقعة على السواحل الشرقية لشبه القارة الھندية‪ ،‬وفي حملته ھذه‬
‫ُووجه أشوكا‪ ،‬الدموي كأبيه وجده‪ ،‬بمقاومة عنيفة‪ ،‬انتھت بمعركة ھائلة‪ ،‬أباد‬
‫فيھا أشوكا ما يقرب من مائة ألف من أھل كالينجا‪ ،‬وقام بتھجير مائة وخمسين‬
‫ألفا ً آخرين‪.‬‬

‫وبعد المعركة‪ ،‬كما يقول فنسنت سميث ‪ ،Smith Vincent‬في كتابه‪ :‬حكام‬
‫الھند ‪ ،Rulers of India‬نقالً عن النقوش التي تحكي سيرة أشوكا على‬
‫األعمدة المعروفة باسمه ‪ ،Ashoka Pillars‬والتي ُدونت بأمره‪:‬‬

‫‪٣٣٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"وأشوكا يتجول في ميدان المعركة وأراضي كالينجا أسف جاللته أسفا ً‬


‫‪ Rregret‬شديداً‪ ،‬وأصابه الحزن والغم ‪ Sorrow‬من كثرة القتلى وجثثھم‬
‫)‪( ١‬‬
‫المتناثرة‪ ،‬والمآسي التي حاقت بعشائرھم وأھليھم"‬

‫وتكفيراً عن وحشية حملته‪ ،‬أصدر أشوكا قانون الشفقة ‪،Law of piety‬‬


‫وقرر أن يتحول إلى البوذية‪ ،‬وأن ينشرھا وينشر الديانة البراھمانية‪ ،‬التي ھي‬
‫ديانة مقاطعة كالينجا‪ ،‬في إمبراطوريته التي تحكم شبه القارة الھندية وتمتد من‬
‫أرخبيل الماليو شرقا ً إلى أفغانستان غرباً‪ ،‬ومن أواسط آسيا شماالً إلى سيالن‬
‫جنوباً‪ ،‬ثم ح ﱠولھا في سنة ‪ ٢٦٠‬قبل الميالد إلى الديانة الرسمية لإلمبراطورية‪.‬‬

‫ثم أتم ابنه ماھيندرا ‪ ،Mahendra‬الذي خلف أشوكا على اإلمبراطورية بعد‬
‫وفاته سنة ‪ ٢٣٢‬قبل الميالد‪ ،‬نشر الھندوسية والبوذية وبسط حمايته عليھما في‬
‫كل مكان يصل إليه أثر اإلمبراطورية‪ ،‬لتتحول إلى ديانة عالمية واسعة االنتشار‬
‫بين أمم وشعوب مختلفة‪.‬‬

‫فإليك ما لم يذكره التقليديون من مؤرخي الھندوسية والبوذية ومن كتبوا‬


‫سيرة أشوكا العظيم‪.‬‬

‫يقول لويس باولز ‪ Louis Pauwels‬وجاك بيرييه ‪ Jacque Bergier‬في‬


‫كتابھما‪ :‬صباح السحرة ‪ ،The morning of the magicians‬الذي تتبعا فيه‬
‫العقائد الخفية والمعتقدات السرية وآثارھا في العالم عبر التاريخ‪ ،‬إن أشوكا بعد‬
‫معركة كالينجا‪ ،‬والمقاومة العنيفة التي واجھھا‪ ،‬وفشله في استمالة أھلھا‪:‬‬

‫‪1) Vincent Smith:Rulers of India,P130.‬‬


‫‪٣٤٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"أيقن أن النصر الحقيقي ليس في القھر والغلبة‪ ،‬بل في الفوز بعقول‬


‫)‪(١‬‬
‫الرجال وقلوبھم ‪"Men's heart‬‬

‫ومن أجل الفوز بالعقول والقلوب تحول أشوكا إلى البوذية والھندوسية‬
‫ونشرھا بين الناس في إمبراطوريته‪ ،‬ألنھا‪ ،‬كما علمت‪ ،‬فضفاضة‪ ،‬ال تجبر‬
‫أحداً على اعتناق عقيدة بعينھا‪ ،‬أو اإليمان بإله معين‪ ،‬أو االلتزام بأخالق أو‬
‫طريقة للعيش محددة‪.‬‬

‫أشوكا نشر الھندوسية والبوذية‪ ،‬لكي تكون العقد االجتماعي‪ ،‬الذي يكون‬
‫للناس فيه الرفاھة واللھو واالنحالل واالنفالت‪ ،‬في مقابل أن يكون له وألسرته‬
‫حكم اإلمبراطورية‪ ،‬والسيطرة بھذا اللھو واالنحالل على عقول البشر فيھا‪.‬‬

‫استيقظ! فأنت على تخوم بني إسرائيل‪ ،‬وأمام نسخة في دورة اإلفساد األولى‬
‫من الواليات المتحدة الماسونية في دورة اإلفساد الثانية‪ ،‬ليس ألن التاريخ يكرر‬
‫نفسه‪ ،‬ولكن ألن من يصنعونه ھم ھم‪ ،‬وأذھانھم ونفوسھم وغاياتھم ووسائلھم‬
‫ھي ھي‪.‬‬

‫ونشر الھندوسية والبوذية كان وسيلة أشوكا األولى للسيطرة على عقول‬
‫الناس ونفوسھم‪ ،‬وأما وسيلته الثانية‪ ،‬فكانت‪ ،‬أيضا ً كالواليات المتحدة‬
‫الماسونية‪ ،‬تكوين جمعية سرية‪.‬‬

‫يقول باولز وبيرييه إن أشوكا كون جمعية سرية من تسعة رجال‪ ،‬كان ھو‬
‫أحدھم‪ ،‬ولذا كان اسمھا‪ :‬جمعية الرجال التسعة ‪.The Nine Men Society‬‬

‫‪1) Louis Pauwels and Jacque Bergier: The morning of the magicians,P37.‬‬
‫‪٣٤١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھدف أشوكا من تكوين ھذه الجمعية السرية‪ ،‬كما يقوالن‪ ،‬أنه‪:‬‬

‫"مع علمه بفظائع الحروب‪ ،‬ك ﱠون الجمعية لكي تكون مسئولة عن حفظ‬
‫المعرفة وتطويرھا‪ ،‬ولكي تمنع وقوعھا في أيادي الرجال ذوي العلم والذكاء‬
‫)‪(١‬‬
‫ممن قد يوظفون علمھم وذكاءھم فيما يجلب الشرور"‬

‫مرة أخرى‪ ،‬انتبه! فأنت اآلن أمام القبااله‪.‬‬

‫ويقول باولز وبيرييه إنھم تعرفوا على الجمعية من مصدرين‪ ،‬األول ھو‬
‫) •(‬
‫‪ ،Louis Jacquolliot‬قنصل فرنسا في كلكتا في‬ ‫كتابات لويس جاكوليو‬
‫النصف الثاني من القرن التاسع عشر‪ ،‬وكان من المولعين بتاريخ الجمعيات‬
‫السرية والمنقبين في كتاباته عنھا‪ ،‬وكان ھو نفسه عضواً في جمعية براھمانية‬
‫سرية ووصف درجاتھا وطقوسھا وطريقة الترقي فيھا في كتابه‪ :‬العلم الخفي‬
‫في الھند ‪. Occult Science in India‬‬

‫وأما المصدر الثاني لباولز وبيرييه‪ ،‬فھو رواية‪ :‬الرجال التسعة المجھولون‬
‫‪ The nine unknown men‬التي صدرت سنة ‪١٩٢٧‬م لتالبوت ماندي‬
‫‪ ،Talbot Mundy‬وكان ضمن قوة المستعمرات البريطانية العاملة في الھند‬
‫خمسة وعشرين عاماً‪.‬‬

‫ويقوالن عن رواية تالبوت ماندي ھذه إنھا‪:‬‬

‫‪1 ) The morning of the magicians,P37.‬‬


‫• ( القبالية ھيلينا بالفاتسكي اقتبست من جاكوليو في عدة مواضع من كتابھا‪ :‬العقيدة السرية‪ ،‬وجعلت‬
‫مؤلفاته من مراجعھا‪.‬‬
‫‪٣٤٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫)‪(١‬‬
‫" مزيج من الخيال والعلم ‪"Half fiction half science‬‬

‫ويقول باولز وبيرييه إن العلوم التي تكونت الجمعية بھا ومن أجل حراستھا‪،‬‬
‫تمتزج فيھا علوم الطبيعة بالخيمياء وتحويل المعادن الخسيسة إلى أخرى نفيسة‪،‬‬
‫والتأمالت الفلسفية والعقائدية بالتنجيم وممارسة السحر واستحضار أرواح‬
‫الموتى‪.‬‬

‫والمزيج الذي رأيته ھذا ھو الخلطة التقليدية التي تكونت بھا وحولھا‬
‫الحركات السرية التي نبعت من القبااله ورويت بھا في كل العصور‪.‬‬

‫والمكان الذي أنشأ فيه أشوكا جمعيته السرية ھو مقاطعة كالينجا‪ ،‬وكالينجا‬
‫في الھند القديمة ھي َمدراس في الھند الحديثة‪.‬‬

‫وھذا ھو السبب الثاني الذي من أجله أنشأت ھيلينا بالفاتسكي جمعيتھا‬


‫للحكمة اإللھية وجعلت مقرھا في مدراس‪.‬‬

‫فجمعية الحكمة اإللھية في مدراس ليست سوى إعادة بعث أو إحياء لجمعية‬
‫أشوكا السرية في كالينجا!‬

‫بقي أن تعلم أن األسرة التي و ﱠحد أول أباطرتھا تشاندراجوبتا شبه القارة‬
‫الھندية‪ ،‬وكان أشوكا ثالثھم‪ ،‬وفي عھدھا تبلورت وانتشرت الھندوسية التي ھي‪،‬‬
‫كما علمت‪ ،‬ليست سوى اسم آخر للقبااله‪ ،‬ھذه األسرة اسمھا‪ :‬أسرة الموريا‬
‫‪ ،Morya Dynasty‬والھند في عھدھا ھي‪ :‬إمبراطورية الموريا‪.‬‬

‫‪1 ) The morning of the magicians,P37‬‬


‫‪٣٤٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والمؤرخون التقليديون ال يعرفون من أين جاء اسم األسرة واإلمبراطورية‪،‬‬


‫بل وال يعرفون من أين جاءت األسرة نفسھا!‪ ،‬وبعضھم يخمن أنه اسم لجد‬
‫أعلى انحدرت من األسرة‪ ،‬أو أنه اسم لمكان أو بلدة تكونت أصولھا فيھا‪.‬‬

‫وتاريخ أكسفورد للھند ‪ ،Oxord history of India‬الذي تتبع تاريخھا من‬


‫أقدم العصور‪ ،‬ال يذكر أي شئ عن أصول أسرة الموريا وال عن أصل اسمھا‪.‬‬

‫وكذا موسوعة ويكيبيديا‪ ،‬التي تحرص في كل مقاالتھا ودراساتھا عن‬


‫األعالم في مشارق األرض ومغاربھا على أن تذكر أصولھم ومعنى أسمائھم‬
‫في لغاتھا األصلية‪ ،‬ال توجد أي إشارة في مقاالتھا عن األسرة وعن أباطرتھا‬
‫إلى أصول أسرة الموريا ومن أين جاء اسمھا أو ما الذي يعنيه‪.‬‬

‫أما القبالية ھيلينا بالفاتسكي‪ ،‬وريثة أشوكا وباعثة جمعيته السرية‪ ،‬فقد نقلت‬
‫في كتابھا‪ :‬العقيدة السرية‪ ،‬عن الكولونيل تود ‪ ،Colonel Tod‬في أصل اسم‬
‫أسرة الموريا أنه‪:‬‬

‫"تحريف لكلمة موري ‪ ،Mori‬وھو اسم إحدى القبائل في راجبوت‬


‫)‪(١‬‬
‫‪"Rajpoot‬‬

‫ونقلت عن المؤرخ األلماني ماكس موللر ‪ Max Muller‬أن األسرة‪:‬‬

‫"ربما تكون أخذت اسمھا من اسم البلدة التي نشأت فيھا وخرجت‬
‫)‪(٢‬‬
‫منھا"‬

‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.1,P405.‬‬


‫‪2 ) The secret doctrine,Vol.1,P405.‬‬
‫‪٣٤٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أما بالفاتسكي نفسھا فلم تفسر من أين أتى اسم الموريا‪ ،‬ولكنھا قالت في‬
‫وصف األسرة ما يُعرفك بحقيقتھا ويغنيك عن التفسير‪:‬‬

‫"والبورانا)•(‪ Purana‬تخبرنا أن الموريا ‪ Moryas‬سوف تحكم الھند‬


‫يوما ً ما‪ ،‬وسوف يكون حكمھا روحيا ً خالصاً‪ ،‬وستكون مملكة التجلي القادم‬
‫)‪(١‬‬
‫لإلله ‪"Kingdom of the next avatar‬‬

‫فارجع إلى ما قرأته لبالفاتسكي عن الماتريا واألفاتار‪ ،‬وسوف تدرك أن‬


‫أسرة الموريا ليست سوى أسرة الھامشيحاه‪ ،‬التي بعثرھا ﷲ عز وجل في‬
‫)•(‪،‬‬
‫فحولوا النبي الخاتم‪ ،‬الذي أمرھم ﷲ عز وجل بانتظاره واتباعه‬ ‫األرض‬
‫وإبالغ األمم بخبره‪ ،‬إلى البطل الذي سيبعثه إلھھم ليعيدھم إلى حكم األرض‬
‫المقدسة‪ ،‬وجعلوا ظھوره عقيدة ألمم األرض كلھا‪ ،‬فصارت كل أمة‪ ،‬بدالً من‬
‫أن تترقب النبي الخاتم المبعوث بالحق‪ ،‬تنتظر البطل الذي سيعيد عرقھا المقدس‬
‫إلى السلطة والحكم‪.‬‬

‫وھو ما يفسر لك شعار أشوكا اإلمبراطوري‪ ،‬األسود األربعة‪ ،‬فاألسد ھو‬


‫شعار يھوذا وسبطه‪ ،‬والحكم في بني إسرائيل ال يكون إال فيھم‪ ،‬وال يكون‬
‫الحاكم إال منھم‪ ،‬وكل من يصل إلى سدة الحكم من بني إسرائيل‪ ،‬الصرحاء أو‬

‫• ( البورانا ‪ Puranas‬كلمة سنسكريتية معناھا‪ :‬في قديم الزمان أو‪ :‬كان يا ما كان!‪ ،‬وھي نصوص‬
‫ھندوسية مقدسة في شكل أقاصيص عن اإلله والخلق‪ ،‬ظھرت في فترة تقع بين القرن الثالث والقرن الخامس‬
‫بعد الميالد‪ ،‬وككل نصوص الھندوسية ال يُعلم من الذي ألفھا‪.‬‬
‫‪1 ) The secret doctrine,Vol.1,P405‬‬
‫• ( في القرن السابع قبل الميالد غزا سنحاريب األشوري مملكة إسرائيل الشمالية وشتت أسباطھا العشرة‪،‬‬
‫وال يُعلم ماذا كان مصيرھم‪ ،‬وال توجد وثائق وال أخبار وال روايات تقول أين ذھبوا‪ ،‬وھذه األسباط التي‬
‫يسمونھا في التاريخ‪ :‬األسباط المفقودة أو الضائعة‪ ،‬حاضرة في الحركات السرية‪ ،‬فاعلة في مطابخ األحداث‬
‫وكواليس التاريخ‪.‬‬
‫‪٣٤٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫األخفياء‪ ،‬في أي مكان من العالم‪ ،‬وإن لم يكن من سبط يھوذا‪ ،‬فالبد أن يتخذ‬
‫أسدھم شعاراً له‪ ،‬ليعلن أنه منھم أو أنه إنما يحكم نيابة عنھم!‪.‬‬

‫وأما ما لم تنتبه إليه بالفاتسكي‪ ،‬وال من نقلت عنھم من المؤرخين‪ ،‬فھو أن‬
‫الموريا‪ ،‬اسم أسرة الھامشيحاه الھندي الذي ال يعرف معناه وال أصله أحد‪ ،‬ليس‬
‫سوى اسم جبل الھيكل في التوراة!‬

‫ث‬ ‫ب فِي أُو ُر َ‬


‫شلِي َم‪ ،‬فِي َجبَ ِل ا ْل ُم ِريﱠا َح ْي ُ‬ ‫سلَ ْي َمانُ فِي بِنَا ِء بَ ْي ِ‬
‫ت ال ﱠر ﱢ‬ ‫" َوش ََر َع ُ‬
‫‪١‬‬

‫)‪(١‬‬
‫ت ََرا َءى لِدَا ُو َد أَبِي ِه"‬

‫وھذا ھو نص العبارة وضبط االسم في طبعة الملك جيمس للكتاب المقدس‪:‬‬

‫‪"Then Solomon began to build the house of the Lord‬‬


‫‪at Jerosalem in the mount Moriah,where the Lord‬‬
‫)‪appeared unto David his father"(2‬‬

‫فاألسرة التي ازدھرت في عھدھا الھندوسية والبوذية واكتملت طقوسھا‪،‬‬


‫وبسطت حمايتھا عليھا‪ ،‬ونشرتھا وحولتھا إلى ديانات عالمية‪ ،‬ھي إحدى أسر‬
‫جبل الھيكل!‬

‫‪ ( ١‬أخبار األيام الثاني‪.١ :٣ :‬‬


‫‪2 ) Chronicles2:3:1.‬‬
‫‪٣٤٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وﺷﻴﻄﺎن ﺑﻨﻲ إﺳﺮاﺋﻴﻞ ﻓﻲ اﻟﻐﺮب‬


‫‪SRQPONM‬‬
‫)اﻟﻨﺴﺎء‪( ٣٨ :‬‬

‫‪٣٤٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٣٤٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺧﺮﻳﻄﺔ اﻟﻮﺟﻮد اﻻٕﻏﺮﻳﻘﻴﺔ‬


‫ال توجد قصة تضارع أسطورة بروميثيوس‪ ،‬أو سارق النار‪ ،‬في موقعھا من‬
‫الغرب‪ ،‬وال في أثرھا في فھمه للوجود والحياة‪ ،‬أو تقاربھا في تكوين من‬
‫صنعوا وعيه وتاريخه من الساسة والعلماء واألدباء والفنانين‪ ،‬وفي إلھامھا لھم‬
‫فيما صنعوه وأنتجوه‪.‬‬

‫ومنذ مطلع عصر النھضة ‪ ،Renaissance‬صار بروميثيوس رمزاً لحرية‬


‫اإلرادة والفكر والتعبير‪ ،‬وللتمرد على القيود واألغالل‪.‬‬

‫وفي الطريق نحو الثورة في فرنسا‪ ،‬وظف الماسون من فالسفة التنوير ومن‬
‫وضعوا الموسوعة أسطورة بروميثيوس في تسريب روح الثورة على المسيحية‬
‫والبابوية والعروش الملكية‪.‬‬

‫فإليك طرفا ً من اآلثار الھائلة ألسطورة بروميثيوس في وعي الغرب وما‬


‫أنتجه أھله‪.‬‬

‫ألن بروميثيوس ھو الذي سرق النار ووھبھا لإلنسان‪ ،‬فقد صار في العلوم‬
‫رمزاً خالداً للمعرفة والبحث والمغامرة واالستكشاف‪ ،‬فتم إطالق اسمه على أحد‬
‫أقمار كوكب زحل‪ ،‬وبروميتيا ‪ ،Prometea‬مؤنث بروميثيوس‪ ،‬ھي أول فرس‬
‫يستنسخھا البشر في إيطاليا سنة ‪٢٠٠٣‬م‪ ،‬وبروميثيوس اسم جائزة ألفضل‬
‫كتاب علمي‪ ،‬ولجمعيات فيزيائية وفلكية‪ ،‬ولمراكز أبحاث طبية ودوائية‪ ،‬ولدور‬
‫نشر علمية وأدبية‪.‬‬

‫‪٣٤٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وفي اآلداب مسرحية‪ :‬بروميثيوس مقيداً ‪Prometheus Bound‬‬


‫إلسخيلوس ‪ Aeschylus‬ھي إحدى أشھر األعمال اإلغريقية التي تخلد عذاب‬
‫بروميثيوس وعقابه على أن وھب اإلنسان المعرفة‪ ،‬وعلى غرارھا ورداً عليھا‬
‫كتب اإلنجليزي بيرسي شيللي ‪ Percy Shelley‬في القرن التاسع عشر‬
‫مسرحيته‪ :‬بروميثيوس طليقا ً ‪ ،Prometheus Unbound‬التي حرره فيھا‬
‫وجعله رمزاً لتغلب اإلنسان بالذكاء والمعرفة على طغيان األديان ورجالھا‪،‬‬
‫وبروميثيوس في إحدى أقاصيص فرانز كافكا ھو رمز المعرفة دون يقين‪،‬‬
‫والحرية مع الشقاء‪ ،‬واالستقالل مع جھل المصير‪.‬‬

‫وقصيدة‪ :‬بروميثيوس للورد بايرون ‪ Lord Byron‬اإلنجليزي‪ ،‬جعله فيھا‬


‫رمزاً لحرية اإلرادة ومواجھة الصعاب‪ ،‬ولجوته ‪ Goethe‬األلماني قصيدة‬
‫باسم‪ :‬بروميثيوس‪ ،‬ھو المتكلم فيھا مخاطبا ً زيوس‪ ،‬رمزاً لتحدي التقاليد‬
‫والتعاليم‪ ،‬وقدرة اإلنسان أن يصل إلى الخالص والسعادة من غيرھا‪.‬‬

‫وأما في الفنون‪ ،‬فأسطورة بروميثيوس‪ ،‬رمزاً للحرية واالنطالق والثورة‬


‫على القيود والخروج على الكنيسة وعقيدتھا وتقاليدھا ورجالھا‪ ،‬كانت الشرارة‬
‫التي أوقدت شعلة اإلبداع في أذھان ما ال يُحصى من الرسامين والمثالين‬
‫والموسيقيين‪ ،‬فاستلھموھا في أعمالھم وتفننوا في تصويرھا والنسج حولھا‪.‬‬

‫ومن أشھر ھذه األعمال في الموسيقى سيمفونية‪ :‬مخلوقات بروميثيوس‬


‫‪ The Creatures of Prometheus‬لبيتھوفن ‪ ،Beethoven‬وسيمفونية‪:‬‬
‫بروميثيوس الغنائية لفرانز ليست ‪ ،Franz Liszt‬وأوبرا‪ :‬بروميثيوس لكارل‬
‫أورف ‪.Carl Orff‬‬
‫‪٣٥٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن أشھرھا في الرسم لوحة‪ :‬بروميثيوس في السالسل ‪Chained‬‬


‫‪ Prometheus‬لبيتر روبنز ‪ ،Peter Rubens‬ولوحة‪ :‬بروميثيوس لجوستاف‬
‫مورو ‪ ،Gustave Moreau‬وفي النحت تمثال‪ :‬بروميثيوس لباول مانشيب‬
‫‪ ،Paul Manship‬ومثله لجاك ليبشتز ‪.Jacques Lipchitz‬‬

‫وألن وثبات الغرب على بالد العرب بالجيوش والسالح‪ ،‬كما علمت‪ ،‬لم تكن‬
‫سوى وسيلة إللحاق وعيھا بوعيه‪ ،‬وإلعادة تكوينھا بما تكون به ھو نفسه من‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية وآثارھا وتوابعھا‪ ،‬فقد حل بروميثيوس‬
‫وأسطورته في وعي نخب ھذه البالد‪ ،‬التي تم تكوينھا بالتحريف‪ ،‬في المحل‬
‫نفسه الذي حل فيه من وعي نخب الغرب‪ ،‬وصار له الموقع نفسه واألثر نفسه‪.‬‬

‫فإليك ما تعرف منه قدر بروميثيوس‪ ،‬وموقع أسطورته في أذھان العرب‬


‫الذين أنتجھم وصول دورة اإلفساد البني إسرائيلي وموجات التحريف إلى‬
‫بالدھم‪.‬‬

‫يقول الشاعر نزار قباني في قصيدته‪ :‬حوار ثوري مع طه حسين التي نظمھا‬
‫وألقاھا في ذكرى وفاته‪ ،‬يشبھه فيھا ببروميثيوس‪:‬‬

‫ق النّ‪¤¤¤‬ا ِر‬
‫ي ي‪¤¤¤‬ا س‪¤¤¤‬ار َ‬ ‫أيّھ‪¤¤¤‬ا ْ‬
‫األزھَ‪¤¤¤‬ـ ِر ﱡ‬
‫وي‪¤¤¤¤¤‬ـا كاس‪¤¤¤¤¤‬ـراً ح‪¤¤¤¤¤‬ـدو َد الثـوان‪¤¤¤¤¤‬ـي‬

‫‪¤¤¤‬ـب التّح‪¤¤¤¤‬ـدّي‬
‫أن‪¤¤¤¤‬تَ أرضعتَن‪¤¤¤¤‬ـا حلي‪َ ¤‬‬
‫باألس‪¤¤¤¤¤¤¤‬ـنان‬
‫ِ‬ ‫فَ َ‬
‫طـحنﱠ‪¤¤¤¤¤¤¤‬ـا الـنج‪¤¤¤¤¤¤¤‬ـو َم‬

‫‪٣٥١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫واقـتَـلَعن‪¤¤¤¤¤¤¤¤‬ـا جـلودَن‪¤¤¤¤¤¤¤¤‬ـا بي َد ْين‪¤¤¤¤¤¤¤¤‬ـا‬


‫‪¤¤¤¤¤¤¤‬ـوان‬
‫ِ‬ ‫وفَـ َك ْكن‪¤¤¤¤¤¤¤¤‬ـا حـج‪¤¤¤¤¤¤¤¤‬ـارةَ األك‪¤‬‬

‫ض‬
‫‪¤‬الطين ف‪¤‬ي األر ِ‬‫ِ‬ ‫ضنا ُك‪ ¤‬ﱠل ال ّ‬
‫س‬ ‫ورفَ ْ‬‫َ‬
‫)‪(١‬‬
‫ِ‬ ‫ضن‪¤¤¤¤¤¤¤‬ـا عـِب‪¤¤¤¤¤¤¤‬ـادةَ األوث‪¤‬‬
‫‪¤¤¤¤¤¤‬ـان‬ ‫َرفـ َ ْ‬

‫فالمعرفة التي قبسھا طه حسين من الغرب‪ ،‬والفھم الذي أخذه عنھم للوجود‬
‫والحياة‪ ،‬صارت في وعي من صنعھم الغرب من أبناء بالد العرب النار التي‬
‫سرقھا بروميثيوس من رب أرباب اإلغريق ووھبھا لإلنسان ليبتكر العلوم‬
‫ويبدع اآلداب والفنون‪ ،‬وليواجه بھا السالطين ويتحرر من األديان‪ ،‬ويتمرد‬
‫على األزھر ويخرج على األعراف‪.‬‬

‫وقصيدة الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي الشھيرة التي يتحدى فيھا الداء‬
‫واألعداء‪ ،‬والتي مطلعھا‪:‬‬

‫كالنسر فوق القمة الش ﱠماء‬ ‫سأعيش رغم الداء واألعداء‬

‫اختار لھا عنواناً‪ :‬نشيد الجبار‪ ،‬ولكنه جعل لھا معه عنوانا ً آخر ھو‪ :‬ھكذا‬
‫)‪(٢‬‬
‫غنى بروميثيوس‬

‫ويقول الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في وصف رفاعة الطھطاوي‪:‬‬

‫‪ ( ١‬الشاعر نزار قباني‪ :‬من قصيدة‪ :‬حوار ثوري مع طه حسين‪ ،‬األعمال السياسية الكاملة‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪-٤٧٦‬‬
‫ص‪.٤٧٨-٤٧٦‬‬
‫‪ ( ٢‬ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله‪ ،‬ص‪.٢٩‬‬
‫‪٣٥٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"الطھطاوي سرق لنا النار‪ ،‬لكن الطھطاوي لم يكن أول سارق لھا ولن‬
‫يكون األخير‪ ،‬فالنار التي سرقھا الطھطاوي ھي النار التي سرقھا‬
‫بروميثيوس‪ ،‬وربما كانت ھناك عالقة ما بين بروميثيوس وموسي الذي رأي‬
‫النار في سيناء‪ ،‬فذھب ليأتي منھا بقبس يسير علي ھداه‪ ،‬النار التي سرقھا‬
‫بروميثيوس إذن واقتبسھا موسي ھي المعرفة ‪ ،‬وھي الحكمة‪ ،‬وھي النور‬
‫الذي نھتدي به في الظلمة‪ ،‬ونتحرر من الخوف ‪ ،‬ونتقدم إلي االمام ‪ ،‬وننتصر‬
‫)‪(١‬‬
‫علي البؤس والخرافة والطغيان"‬

‫وعبارة أحمد عبد المعطي حجازي ھذه أتيناك بھا من أجل شيئين‬
‫متناقضين‪ ،‬األول أنھا نموذج على الھذيان باسم العقل والخبل في أردية الثقافة‪،‬‬
‫فالشاعر الذي يكلمك عن المعرفة والحكمة ويتغنى بالكلمات المزركشة عن‬
‫االنتصار على البؤس والخرافة جعل موسى نبي ﷲ الكليم الذي كان في القرن‬
‫الثالث عشر قبل الميالد سارقا ً من بروميثيوس األسطوري الذي ظھرت‬
‫أسطورته ألول مرة في القرن السابع قبل الميالد‪ ،‬بعد موسى عليه السالم بستة‬
‫قرون!!‬

‫وأما الشئ الثاني‪ ،‬فھو أن الشاعر‪ ،‬وھو يھذي عن موسى وبروميثيوس‬


‫والنار‪ ،‬وضع يده من حيث ال يدري على ما تاه عنه المؤرخون‪ ،‬وضل عنه‬
‫الباحثون المنقبون عن أصول األساطير ومنابعھا التي تدفقت منھا في األمم‪،‬‬
‫وھو ما سنفصله لك في موضعه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي‪ :‬الطھطاوي مترجم أم داعية‪ ،‬األھرام‪ :‬العدد ‪ ١٧ ،٤٤١٤٤‬أكتوبر‬
‫‪٢٠٠٧‬م‪.‬‬
‫‪٣٥٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وما نعرفك به ھنا ليكون عونا ً لك على فھم ما سنخبرك به وعلى تقبله‪ ،‬ھو‬
‫الفرق بين األسطورة والخرافة‪.‬‬

‫األسطورة تحريف ألصل حقيقي‪ ،‬أو تغيير لتفاصيله أو صفة مكوناته‪ ،‬أو‬
‫ابتكارات حول ھذا األصل أو تفريعات منه‪ ،‬أما الخرافة فاختالق وابتكار‬
‫محض لما ال اصل له‪.‬‬

‫يقول دكتور عبد المعطي شعراوي في كتابه‪ :‬أساطير إغريقية‪:‬‬

‫"األسطورة ھي قصة حقيقية خيالية في نفس الوقت‪ ،‬فكيف يكون الشئ‬


‫حقيقيا ً وخياليا ً في نفس الوقت‪ ،‬األسطورة قصة حقيقية‪ ،‬إذ أنھا تحتوى على‬
‫عنصر الحقيقة‪ ،‬فالبد أن يكون ھناك عنصر حقيقى في كل أسطورة‪ ،‬ھذا‬
‫العنصر الحقيقى ھو مركز األسطورة‪ ،‬ثم تأتى األجيال المتعاقبة لتتناول تلك‬
‫القصة الحقيقية وتغلف ذلك المركز الحقيقى بقشور ھي في الحقيقة من بنات‬
‫أفكار تلك األجيال أو معتقداتھا‪ ،‬فإذا حاول الدارس لألسطورة أن ينزع تلك‬
‫القشور واحدة بعد األخرى فإنه سوف يصل بال شك إلى عنصر الحقيقة التي‬
‫تكونت منه األسطورة في األصل‪ ،‬وھذه الحقيقة قد تكون حقيقة تاريخية أو‬
‫)‪(١‬‬
‫علمية أو اجتماعية أو دينية "‬

‫والدكتور عبد المعطي شعراوي طبق ما فھمه من معنى األسطورة على‬


‫بعض أساطير اإلغريق‪ ،‬كأسطورة حصان طروادة‪ ،‬وذكر كيف تكونت حول‬
‫حقيقة تاريخية‪ ،‬ھي حرب وقعت فعالً بين طروادة في آسيا الصغرى وممالك‬

‫‪ ( ١‬دكتور عبد المعطي شعراوي‪ :‬أساطير إغريقية‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.٦‬‬


‫‪٣٥٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اإلغريق في جنوب أوروبا‪ ،‬وأسطورة عشق أوكيانوس إله البحر أو المحيط‬


‫لسيليني إلھة القمر‪ ،‬وقال إنھا محاولة من خيال اإلنسان البدائي لتفسير ظاھرة‬
‫طبيعية‪ ،‬ھي ارتباط المد بظھور القمر في مرحلة االكتمال حين يكون بدراً‪،‬‬
‫واقتران الجذر باختفاء القمر‪.‬‬

‫واقتبسنا ھذا االقتباس الطويل وأتيناك بھذه األمثلة‪ ،‬ليس فقط لنعرفك بمعنى‬
‫األسطورة‪ ،‬ولكن لنقول لك إن صاحبه طبق تفسيره لألسطورة على أساطير‬
‫صغيرة داخل األسطورة الكبرى‪ ،‬وعلى تفاصيل وفروع من الشجرة الكاملة‪،‬‬
‫وما لم يرد على خلده ھو وال أمثاله‪ ،‬أن يعمموا ھذا الفھم والتفسير على أصل‬
‫األساطير اإلغريقية‪ ،‬فلم ينتبھوا إلى وجود أصل حقيقي يجب أن ينقبوا عنه‪،‬‬
‫وال فطنوا إلى أن ثَمة نبعا ً لھا ينبغي أن يستكشفوھا ويسيروا معھا إلى أن‬
‫يصلوا إليه‪ ،‬بل عدوھا اختالقا ً محضاً‪ ،‬كما يقول في صراحة‪ :‬ب‪ .‬كومالن في‬
‫كتابه‪ :‬األساطير اإلغريقية والرومانية‪:‬‬

‫"األساطير ھي في الحقيقة مجموعة من األكاذيب‪ ،‬ولكنھا أكاذيب كانت‬


‫لقرون طويلة حقائق يؤمن بھا الناس‪ ،‬وكان لھا في عقلية اإلغريق والرومان‬
‫)‪(١‬‬
‫ما للعقائد والحقائق من قيمة"‬

‫والمؤرخون من العرب يسمونھا‪ :‬أساطير‪ ،‬لكنھم يتعاملون معھا فعالً على‬


‫أنھا خرافات‪ ،‬أما الغربيون فيسمونھا باسمھا الذي يتفق مع ما يعتقدونه فيھا‪،‬‬
‫فھي عندھم‪ :‬خرافات ‪ ،Mythology‬ال أساطير ‪.Legends‬‬

‫‪ ( ١‬ب‪ .‬كومالن‪ :‬األساطير اإلغريقية والرومانية‪ ،‬ص‪.٥‬‬


‫‪٣٥٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وما نقوله لك نحن‪ :‬إنھا أساطير حقاً‪ ،‬تكونت حول أصل‪ ،‬وھذا األصل ھو‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وھذا األصل تكون بتحريف أصل آخر والعبث‬
‫به عمداً‪ ،‬وھو خريطة الوجود اإللھية‪.‬‬

‫وقبل أن تعرف من يكون بروميثيوس ھذا‪ ،‬وماذا تكون أسطورته التي خلبت‬
‫لب األميين في الغرب والشرق‪ ،‬البد أن تعرف أوالً الجزء األول من خريطة‬
‫الوجود اإلغريقية‪ ،‬أال وھو كيف عرف اإلغريق األلوھية والخلق‪ ،‬وعلى يد‬
‫َمن‪.‬‬

‫"التقى أورانوس ‪ ،Ouranos‬الذي ھو السماء‪ ،‬بجايا ‪ ،Gaia‬التي ھي‬


‫األرض‪ ،‬فأنجبت ثالثة أنواع من النسل‪ :‬السيكلوبس ‪ ،Cyclopes‬أو العمالقة‬
‫ذوي العين الواحدة‪ ،‬والعمالقة ذوي األذرع المائة ‪،Hekatokheires‬‬
‫والجبابرة التيتان ‪ ،Titans‬وتمرد السيكلوبس على أبيھم الظالم‪ ،‬فأطاح بھم‬
‫إلى تارتاروس ‪ Tartarus‬في العالم السفلي‪ ،‬وبتحريض من األم جايا قام‬
‫أبناؤھا السبعة التيتان بقيادة أخيھم األصغر‪ ،‬كرونوس ‪ ،Cronos‬بثورة على‬
‫أبيھم‪ ،‬فغافلوه وھو نائم وقتلوه‪ ،‬ونصبوا كرونوس‪ ،‬أي‪ :‬الزمن‪ ،‬زعيما ً‬
‫للتيتان الجبابرة وله السلطةً على الكون‪ ،‬وألن أباه أورانوس تنبأ له أن أحد‬
‫أبنائه سينتزع منه السلطة‪ ،‬قرر كرونوس‪ ،‬بعد أن تزوج إحدى شقيقاته ريا‬
‫‪ ،Rhea‬أن يبتلع أوالده‪ ،‬وبعد أن ابتلع كرونوس خمسة من أوالده‪ ،‬قدمت له‬
‫زوجته ريا حجراً ملفوفا ً في مالبس رضيع ليبتلعه بدالً من وليدھا السادس‬
‫زيوس‪ ،‬الذي سلمته لألرض جايا لتحميه‪ ،‬وبعد ان شب زيوس ‪ Zeus‬احتال‬
‫بمعونة أمه حتى صار ساقيا ً ألبيه كرونوس‪ ،‬فوضع له في الشراب ملحا ً‬

‫‪٣٥٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫وخردالً‪ ،‬فتقيأ وأخرج أوالده الذين ابتلعھم شبابا ً قوياً‪ ،‬ليقود بھم زيوس حربا ً‬
‫ضد أبيه وعشيرته من الجبابرة التيتان‪ ،‬انتھت بزيوس إلھا ً لمملكة السماء‬
‫وكبيراً لآللھة‪ ،‬وتنصيبه أخاه بوسيدون ‪ Poseidon‬إلھا ً للبحار والمحيطات‪،‬‬
‫وأخاه ھاديس ‪ Hades‬إلھا ً لممكة الموتى والعالم السفلي‪ ،‬ثم تزوج زيوس‬
‫من ھيرا ‪ Hera‬ربة البيت والزواج‪ ،‬وأنجب منھا ھيفاستوس‬
‫‪ Hephaestus‬إله النار والمعادن وراعي الصناعة والحدادة‪ ،‬وأريس‬
‫‪ Aries‬إله الحرب‪ ،‬وتزوج ابنة عمه ليتو ‪ ،Leto‬وأنجب منھا أبولو‬
‫‪ Appolo‬إله الشمس وراعي اآلداب والفنون‪ ،‬وأرتيميس ‪ Artemes‬إلھة‬
‫الصيد والعفة والطھارة‪ ،‬وأنجب ھرمس ‪ Hermes‬ليكون إله الزراعة‬
‫ورسوله إلى اآللھة األخرى وإلى البشر من عشيقته مايا ‪ Maya‬التي ھي‬
‫أرضية من البشر‪ ،‬وصاھر زيوس البشر فتزوج‪ ،‬سراً لكي ال تغضب عليه‬
‫ھيرا‪ ،‬من سيميلي ‪ Semele‬ابنة كادموس ‪ Cadmos‬ملك طيبة‪ ،‬وأنجب‬
‫)‪(١‬‬
‫منھا ديونيسوس ‪ Dionysos‬إله المرح والخمر‬

‫وھكذا‪ ،‬كما يقول روبن ھارد ‪ ،Robin Hard‬في كتابه‪ :‬خرافات‬


‫اإلغريق ‪:Greek Mythology‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫"اكتملت قبيلة اآللھة في جبل األوليمب"‬

‫‪ ( ١‬ملحمة‪ :‬مولد اآللھة ‪ ،Theogony‬وھي خريطة الوجود اإلغريقية‪ ،‬نشر نصھا اإلغريقي مع ما يقابله‬
‫من الترجمة اإلنجليزية ھيوج إيفلين وايت ‪ ،Hugh Evylen White‬سنة ‪١٩١٤‬م‪ ،‬ضمن ترجمته لألعمال‬
‫الكاملة لھزيود‪ ،‬انظر‪:‬‬
‫‪Hugh Evelyn White: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an‬‬
‫‪English translation, P78-153.‬‬
‫‪2 ) Robin Hard:Greek Mythology,P141.‬‬
‫‪٣٥٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وقبيلة آلھة اإلغريق ھذه‪ ،‬ھي وكل ما يدور حولھا من حكايات‪ ،‬يقول‬
‫المؤرخون‪ ،‬وال تعجب‪ ،‬إنھا ُولدت على يد رجل واحد‪ ،‬ليس أي رجل‪ ،‬بل‬
‫قروي ساذج!‬

‫فيقول دكتور عبد المعطي شعراوي‪:‬‬

‫"وھكذا قدم لنا القروي اإلغريقي البسيط ھزيود تساؤالت ومالحظات حول‬
‫كيفية حدوث كل شئ‪ ،‬وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاھرة أو عادة أو‬
‫شعيرة أو تقليد‪ ،‬ولعله أول إغريقي يفعل ذلك‪ ،‬إذ إن ھوميروس لم يفعل في‬
‫اإللياذة واألوديسا مثلما فعل ھزيود في قصائده‪ ،‬ومن ھنا جاءت أھمية ھزيود‬
‫)‪(١‬‬
‫كصانع لألساطير اإلغريقية"‬

‫فھزيود‪ ،‬كما يقول روبن ھارد‪:‬‬

‫"ھو الذي وضع قوائم ‪ Listed‬معظم اآللھة في ملحمته‪ :‬مولد اآللھة‬


‫‪ ،Theogony‬وقسمھا إلى مجموعات‪ ،‬وھو الذي حدد أنسابھا‪ ،‬ومنحھا‬
‫)‪(٢‬‬
‫أسماءھا"‬

‫وقبل أن تعرف ھزيود ينبغي أن تعلم ثالثة أشياء‪.‬‬

‫فأما األول‪ ،‬فھو أن أساطير ھزيود عن األلوھية والخلق‪ ،‬مع اإللياذة‪،‬‬


‫)•(‬
‫لھوميروس‪ ،‬كانت ھي النواة التي قامت عليھا وتكونت حولھا‬ ‫واألوديسا‬
‫حضارة اإلغريق كلھا‪ ،‬فھذه األساطير‪ ،‬كما يقول ديورانت‪:‬‬

‫‪ ( ١‬أساطير إغريقية‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.١٨‬‬


‫‪2 ) Greek Mythology,P36.‬‬
‫‪٣٥٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"أصبحت عقيدة اليونان األولين‪ ،‬وفلسفتھم‪ ،‬وآدابھم‪ ،‬وتاريخھم‪ ،‬جميعاً‪،‬‬


‫ومنھا استمدوا الموضوعات التي زينوا بھا مزھرياتھم‪ ،‬وھي التي أوحت إلى‬
‫)‪(١‬‬
‫الفنانين ما ال يحصى من الرسوم‪ ،‬والتماثيل‪ ،‬والنقوش"‬

‫وأما الشئ الثاني‪ ،‬فھو أن الرومان أو روما‪ ،‬كما يقول ب‪ .‬كومالن‪:‬‬

‫"قد جعلت أغلب آلھة اإلغريق أربابا ً لھا‪ ،‬إال أنھا عندما أدخلتھا في‬
‫")‪(٢‬‬
‫طقوسھا الدينية وآدابھا أطلقت عليه أسماء التينية ظلت الصقة بھا‬

‫بل إن الدولة الرومانية كلھا لم تكن سوى امتداد لإلغريق‪ ،‬فھي بناء سياسي‬
‫وعسكري ھائل‪ ،‬قلبه وعقله إغريقي‪ ،‬فحيثما توسعت اإلمبراطورية الرومانية‬
‫وحلت كانت تفتح‪ ،‬بالجيوش والسالح‪ ،‬الطريق أمام ثقافة اإلغريق!‬

‫وأما الثالث‪ ،‬فھو أن ثقافة اإلغريق وفلسفاتھم وآدابھم وفنونھم‪ ،‬التي نبتت‬
‫من خريطة ھزيود للوجود ورويت بھا‪ ،‬كانت ھائلة اآلثار‪ ،‬ال في اإلمبراطورية‬
‫الرومانية وحدھا‪ ،‬بل في كل األمم والشعوب وفي كل العصور‪ ،‬ما عدا عالم‬
‫وحيد‪ ،‬مسته دون أن تؤثر في تكوينه ومساره وتاريخه‪ ،‬أال وھو العالم‬
‫المعصوم من خرائط الوجود المزورة بالوحي وخريطة الوجود اإللھية‬
‫المحفوظة‪.‬‬

‫يقول األمي ول ديورانت‪:‬‬

‫•( اإللياذة ملحمة تروي قصة حرب طروادة وما أحاط بھا من أساطير‪ ،‬واألوديسا تروي أسطورة‬
‫أوديسيوس ‪ Odysseus‬حاكم جزيرة إثاكا ‪. Ithaca‬‬
‫‪ ( ١‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.٣٢٠‬‬
‫‪ ( ٢‬األساطير اإلغريقية والرومانية‪ ،‬ص‪.٧‬‬
‫‪٣٥٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"كان اليونان‪ ،‬وال يزالون‪ ،‬شعبا ً مغامراً يقظا ً‪ ،‬فھاجروا بمئات اآلالف إلى‬
‫آسيا‪ ،‬ومصر‪ ،‬وإبيروس‪ ،‬ومقدونيا‪ ،‬والدم الھليني واللغة اليونانية والثقافة‬
‫اليونانية قد شقت طريقھا إلى داخل آسية الصغرى‪ ،‬وفينيقية وفلسطين‪،‬‬
‫واخترقت سوريا‪ ،‬وبابل‪ ،‬وتخطت نھري الفرات ودجلة‪ ،‬بل وصلت إلى بكتريا‬
‫)‪(١‬‬
‫والھند نفسھما"‬

‫فإليك القروي الساذج الذي وضع خريطة الوجود التي حكمت وعي اإلغريق‬
‫والرومان‪ ،‬وكونت أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وكانت النبع الذي تدفقت منه فلسفاتھم‬
‫وآدابھم وعلومھم وفنونھم‪ ،‬ثم انسابت في األمم والشعوب‪.‬‬

‫ھزيود ‪ Hesiod‬قروي أو فالح‪ ،‬المعلومات عنه شحيحة‪ ،‬فسيرته مجھولة‪،‬‬


‫وأصوله غير معلومة‪ ،‬وما أنتجه من أعمال ال يتفق مع سيرته وتاريخه‪ ،‬ويقول‬
‫دكتور عبد المعطي شعراوي إن بعض مؤرخي األدب‪:‬‬

‫"يثير غبار الشك حول صحة ما جاء في أعمال ھزيود عن أصله ونسبه‬
‫)‪(٢‬‬
‫وحياته الشخصية"‬

‫وألن اسم ھزيود ارتبط باألساطير‪ ،‬وأعماله كانت النبع الذي تدفقت منه‬
‫األساطير في اإلغريق والرومان‪ ،‬فقد مأل المؤرخون الفجوات في سيرته‪،‬‬
‫وفسروا أعماله الھائلة بأسطورة من األساطير!‬

‫يُرجح المؤرخون أن ھزيود عاش بين القرن الثامن والقرن السابع قبل‬
‫الميالد‪ ،‬وكان أبوه دبوس‪ ،‬كما يقول ھو نفسه في ملحمته‪ :‬األعمال واأليام‪،‬‬

‫‪ ( ١‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٨‬ص‪.٨-٧‬‬


‫‪ ( ٢‬أساطير إغريقية‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.١٤‬‬
‫‪٣٦٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالحا ً في سيمي ‪ Cyme‬في إيوليا ‪ Iulia‬في آسيا الصغرى‪ ،‬أصابته فاقة‪،‬‬


‫فھاجر إلى أسكرا ‪ Ascra‬في إقليم بويتيا ‪ Boetia‬اإلغريقي‪ ،‬حيث امتھن الفتى‬
‫ھزيود مھنة أبيه‪ ،‬الزراعة ورعي األغنام‪.‬‬

‫ثم‪ ،‬وھو ما زال في شبابه‪ ،‬أنتج ھزيود عدة مالحم‪ ،‬أشھرھا‪ :‬األعمال‬
‫واأليام ‪ ،Warks and Days‬ومولد اآللھة ‪ ،Theogony‬وكتالوج النساء‬
‫‪ ،Catalogue of women‬ثم كتب كتابا ً عن التنجيم وقراءة الطوالع‪ ،‬ويعتبره‬
‫بعض المؤرخين االقتصادي األول في تاريخ العالم الحتواء كتاباته على أفكار‬
‫في االقتصاد ال يُعرف له فيھا سابق‪.‬‬

‫وھذه‪ ،‬كما أخبرناك من قبل‪ ،‬خلطة القبااله واألشخاص الذين تكونوا بھا‬
‫واألفكار التي خرجت منھا والجمعيات التي أقيمت لبثھا في كل العصور‪.‬‬

‫فكيف أنتج الفالح وراعي األغنام مالحمه التي توله بھا الفالسفة والمفكرون‬
‫واألدباء والفنانون؟‬

‫وھزيود يرعى األغنام في سفح جبل ھيليكون ‪ Helicon‬ظھرت له‬


‫الموسيات ‪ ،Muses‬وھن ربات الشعر‪:‬‬

‫"ونفثت في جسمه روح الشعر")‪" ،(١‬ولقنته أنشوداته الرائعة")‪!!(٢‬‬

‫فھل أدركت اآلن َمن القروي الساذج‪ ،‬ھزيود أم المؤرخون األميون؟!‬

‫‪ ( ١‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.١٨٤‬‬


‫‪ ( ٢‬أساطير إغريقية‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.١٥‬‬
‫‪٣٦١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاﻟﻒ ﻟﻴةل وﻟﻴةل‬


‫كما ترى‪ ،‬الھندوسية‪ ،‬التي ھي ديانة عالمية يعتنقھا مئات الماليين من‬
‫البشر‪ ،‬ال يعرف أحد من الذي وضع نصوصھا وابتكر طقوسھا‪ ،‬وصانع‬
‫األساطير اإلغريقية التي تكونت بھا حضارة اإلغريق والرومان مشكوك في‬
‫أصله ونسبه وال يعلم أحد من يكون!‬

‫فاعلم أن سيرة ھزيود التي قرأتھا‪ ،‬الرجل الذي يسافر بين البلدان‪ ،‬ويتنقل‬
‫عبر القارات‪ ،‬ثم يھبط على مكان ال يعلم أحد فيه أصله وال بلده وال ديانته وال‬
‫مواھبه‪ ،‬بل وال اسمه الحقيقي‪ ،‬ثم يعمل عمالً‪ ،‬أو يكون الواجھة التي يظھر من‬
‫خاللھا عمل‪ ،‬يغير وعي المكان الذي ھبط عليه‪ ،‬ويصير نبعا ً يتكون به أھله‬
‫ويتدفق في ما يعتقدونه ويفھمونه‪ ،‬وفي ما يبدعونه ويبتكرونه‪ ،‬ھذه السيرة ھي‬
‫السيرة التقليدية لرؤوس الحركات السرية في كل العصور‪ ،‬وھي السيرة التي‬
‫انسابت عبرھا خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وما كونته القبااله حولھا من‬
‫ابتكارات‪ ،‬في كل األمم والشعوب‪.‬‬

‫وھذه السيرة نفسھا ھي سيرة جماعات وطوائف كاملة من اليھود‪ ،‬تتنقل بين‬
‫البالد والقارات‪ ،‬وتعتنق ديانات الشعوب التي تحل بينھا‪ ،‬وتمارس عاداتھا‪،‬‬
‫وتتسمى بأسمائھا‪ ،‬وتبدو وكأنھا جزء من نسيجھا‪ ،‬وھي فيما بينھا تدين‬
‫باليھودية‪ ،‬وتتزاوج في ما بينھا‪ ،‬وتتوارث أسماءھا اليھودية وأنسابھا‪.‬‬

‫فإذا رجعت إلى كتابينا‪ :‬الوحي ونقيضه‪ ،‬واليھود والحركات السرية في‬
‫الحروب الصليبية‪ ،‬ستجد أمثلة نموذجية على ھؤالء الرجال وھذه الجماعات‪،‬‬
‫‪٣٦٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫كأسر الملك اإللھي في أوروبا‪ ،‬ويھود الدونمة في تركيا العثمانية‪ ،‬واليھود الذين‬
‫ھبطوا على مصر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين‪ ،‬فشوھوا وعيھا‬
‫وأفسدوا عقلھا ومسخوا روحھا‪.‬‬
‫ثم اعلم أن العمل الذي يعمله ھذا المتنقل في المكان الذي ھبط عليه‪ ،‬فرداً‬
‫كان أو جماعة‪ ،‬قد يكون جمعية علمية أو جماعة أدبية أو منظمة سياسية أو‬
‫طريقة دينية‪ ،‬يدس من خاللھا ما يريد دسه من أفكار في أذھان من يخلب لبھم‬
‫بريق راياتھا وزخرف شعاراتھا فيدخلونھا‪ ،‬ثم يكونون ھم أداة بث ھذه األفكار‬
‫وتغيير وعي عموم الناس بھا‪.‬‬

‫ولكن أوسع ھذه األعمال التي يعملھا ھؤالء المتنقلون انتشاراً‪ ،‬وأشدھا‬
‫خطراً‪ ،‬وأبقاھا أثراً‪ ،‬أدوات اللھو ووسائل الترفيه والتسلية‪ ،‬يمتعون بھا عموم‬
‫الناس بإثارة خيالھم‪ ،‬وإلھاب مشاعرھم‪ ،‬ومداعبة عواطفھم‪ ،‬وتحريك‬
‫غرائزھم‪ ،‬ومن خالل ھذه اإلثارة واإللھاب‪ ،‬وفي ثنايا ھذه المداعبة والتحريك‪،‬‬
‫يصنعون وعي ھذه العوام بفحوى خريطة الوجود البني إسرائيلية ومكوناتھا‬
‫وآثارھا‪ ،‬ويسربون القبااله وعوالمھا وأخالقھا إلى أذھانھم ونفوسھم‪.‬‬

‫فإذا وعيت ذلك وفھمته‪ ،‬ولم يذھلك اختالف األسماء واأللقاب‪ ،‬وتبديل‬
‫األردية والثياب‪ ،‬عن أن الذي في داخلھا ھو ھو‪ ،‬فستفطن وحدك أنه في دورة‬
‫اإلفساد األولى أساطير ھزيود‪ ،‬ھي نفسھا في دورة اإلفساد الثانية أفالم‬
‫ھوليوود!‬

‫‪٣٦٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أما إذا كان وعيك فوق الزمان‪ ،‬وال يقيده المكان‪ ،‬وال يخدعه تباين األشكال‬
‫واأللوان‪ ،‬واختالف اللغة واللسان‪ ،‬فستدرك ان أساطير ھزيود وأفالم ھوليوود‬
‫ھي نفسھا ألف ليلة وليلة!‬

‫فألف ليلة وليلة‪ ،‬التي كتبت بلغة عربية عامية دارجة لكي تكون قريبة للعوام‬
‫وأقدر على تغيير وعيھم والتأثير فيھم‪ ،‬وامتألت بالمشاھد الجنسية واأللفاظ‬
‫الفاحشة‪ ،‬والتي حولت الخليفة العادل المجاھد وأحد أعظم الحكام في كل‬
‫العصور‪ ،‬ھارون الرشيد‪ ،‬إلى رمز للھو والفساد وطلب الملذات‪ ،‬ألف ليلة وليلة‬
‫يھودية‪ ،‬تعرف يھوديتھا من أفكار اليھود وآثارھم فيھا‪ ،‬ومن سريان القبااله في‬
‫شخوصھا وحكاياتھا‪ ،‬فالقبااله ھي روح ألف ليلة وليلة‪.‬‬

‫ومنھجنا‪ ،‬كما البد تدرك اآلن‪ ،‬تتبع األفكار واآلثار‪ ،‬وھو منھج الوحي‪،‬‬
‫وليس تتبع األشخاص واألسماء‪ ،‬وھو منھج األميين‪.‬‬

‫ويھودية ألف ليلة وليلة في أھدافھا وأسلوبھا‪ ،‬وتسريب القبااله إلى األذھان‬
‫ملفوفة في حكاياتھا‪ ،‬قو ٌل سبقنا إلى القول به دكتور جمال البدري في دراسته‬
‫الرصينة‪ :‬اليھود وألف ليلة وليلة‪ ،‬وزاد علينا التنقيب عمن يكون ھؤالء اليھود‬
‫الذين أنتجوھا‪.‬‬

‫بعد أن فحص دكتور جمال البدري‪ ،‬وھو عضو في اتحاد الكتاب‬


‫والمؤرخين في العراق‪ ،‬ألف ليلة وليلة‪ ،‬جعل فرضية دراسته ھي أن‪:‬‬

‫‪٣٦٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"مؤلف الليالي ليس فرداً واحداً مشخصاً‪ ،‬بل ھي مؤسسة لھا صفة‬
‫الديمومة واالستمرارية‪ ،‬بغض النظر عن األشكال والتطورات التاريخية‬
‫)‪(١‬‬
‫والسياسية والثقافية المحيطة بھا"‬

‫وكما ترى‪ ،‬فرضية دكتور جمال البدري التي خرج بھا من دراسة ألف ليلة‬
‫وليلة‪ ،‬ھي نفسھا ما أخبرناك وما نخبرك به عن نصوص الھندوسية وطقوسھا‪،‬‬
‫وعن ھزيود ومالحمه‪ ،‬وھي لب ما يخبرك به بيان اإلله إلى خلقه عن الطائفة‬
‫من بني إسرائيل التي تتوارث صناعة الضالالت واألباطيل وبثھا‪ ،‬وبھا تسيطر‬
‫على وعي البشر في كل العصور‪.‬‬

‫وبعد أن تعقب دكتور جمال البدري خط سير نسخ ألف ليلة وليلة تاريخياً‪،‬‬
‫وحدد البؤرة التي خرجت منھا النسخة األولى‪ ،‬وبعد أن قام بتحليل فحوى‬
‫حكاياتھا وشخصيات أبطالھا‪ ،‬وانتبه إلى اتساع جغرافية حكاياتھا التي تكاد‬
‫تستوعب كل ما ھو معروف من العالم في وقتھا‪ ،‬بالداً وجزراً وبحاراً‪ ،‬بما‬
‫يستحيل معه أن يكون من ألفھا شخص واحد وال فئة مستقرة في بلد بعينه أو‬
‫بقعة جغرافية محدودة‪ ،‬وبعد أن تتبع أفكار اليھود وآثار التلمود في تالفيفھا‪،‬‬
‫كانت النتيجة التي وصل إليھا ھي‪:‬‬

‫"ألف ليلة وليلة تم تأليفھا في نفس بيئة تأليف التوراة والتلمود البابليين‪،‬‬
‫ووفق طريقتھما المرحلية‪ ،‬وتمت كتابتھا بشكلھا األَ ْولي من قبل سنھدرين‬

‫‪ ( ١‬دكتور جمال البدري‪ :‬اليھود وألف ليلة وليلة‪ ،‬ص‪.١٥‬‬


‫‪٣٦٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اليھود تحت إشراف رأس الجالوت)•(‪ ،‬وبمساعدة الحاخام المصري سعديا‬


‫الفيومي المقيم في مدرسة سورا بالكوفة‪ ،‬ثم تمت عملية نشرھا وإذاعتھا في‬
‫)‪(١‬‬
‫مجالس بغداد"‬

‫وھذه ھي غاية من ألفوھا‪:‬‬

‫"ثمة أھداف سياسية دينية نفسية تقف من وراء التأليف‪ ،‬باتجاھين‪:‬‬


‫األول‪ :‬التخفيف من العداء ضد اليھود من قِبل األوساط غير اليھودية ثقافياً‪،‬‬
‫والثاني‪ :‬كسب المعتدلين من مختلف الطبقات والفئات والمستويات لتقبل‬
‫)‪(٢‬‬
‫المقوالت اليھودية‪ ،‬وبالتالي تقبل الفكر والسلوك اليھودي"‬

‫وما نزيده لك نحن‪ ،‬أن ألف ليلة وليلة لم تكن فقط من أجل تقبل الفكر‬
‫والسلوك اليھودي‪ ،‬بل من أجل إزاحة خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬و بث خريطة‬
‫الوجود البني إسرائيلية وتسريب فحواھا وآثارھا وأخالقھا من خالل حكاياتھا‪،‬‬
‫وھو‪ ،‬كما أخبرناك‪ ،‬عمل بني إسرائيل الرئيسي في التاريخ‪.‬‬

‫• ( السنھدرين ھو مجمع الربانيين واألحبار الذي يدير شؤون الطائفة اليھودية دينيا ً ودنيوياً‪ ،‬ورأس‬
‫الجالوت ھو االسم الذي كان يطلق على رأس الطائفة اليھودية ورئيس السنھدرين في الدولة العباسية‪،‬‬
‫ورأس الجالوت الذي ظھرت في عھده ألف ليلة وليلة ھو الربي ھاي بن شريرا‪.‬‬
‫‪ ( ١‬اليھود وألف ليلة وليلة‪ ،‬ص‪.١٥١‬‬
‫‪ ( ٢‬اليھود وألف ليلة وليلة‪ ،‬ص‪.١٥٢‬‬
‫‪٣٦٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﱔ ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬
‫ونعود بك مرة أخرى إلى ھزيود والملحمة التي كان واجھة لھا‪ ،‬وعرفھا‬
‫المؤرخون باسمه‪ ،‬لتعرف كيف أن ھذه الملحمة‪ :‬مولد اآللھة إنما ُولدت من‬
‫رحم خريطة بني إسرائيل للوجود‪.‬‬

‫في مولد اآللھة وما تحويه من أساطير تنسب لھزيود عناصر ومكونات‬
‫وعالقات بين ھذه المكونات ليست من خيال شعراء‪ ،‬وال سبيل ألن يعلمھا أحد‬
‫أو أن يبتكر حولھا ويصوغھا شعراً إال إذا كان راضعا ً من خريطة الوجود‬
‫البني إسرائيلية ومفطوما ً عليھا‪ ،‬وعلى رأس ھذه العناصر والمكونات‬
‫بروميثيوس وأسطورته!‬

‫فإليك أوالً القبالي ورأس حركة الروزيكروشيان فرنسيس بيكون‪ ،‬الذي‬


‫يعرفه األميون على أنه أبو العلوم التجريبية‪ ،‬يخبرك في مقدمة كتابه‪ :‬حكمة‬
‫القدماء ‪ ،Wisdom of the ancients‬الذي قال إنه ألفه ليكشف فيه المعاني‬
‫الخفية والتعاليم السرية المخبوءة خلف أساطير اإلغريق‪ ،‬أن ھزيود لم يكن‬
‫سوى واجھة لألساطير التي تنسب إليه وعرفت باسمه‪:‬‬

‫"ھذه الخرافات ‪ Fables‬ليست من ابتكار من أذاعوھا وتُنسب إليھم‪،‬‬


‫سواء ھوميروس أو ھزيود‪ ،‬بل انتقلت إليھم من أزمنة أقدم ومصادر أعرق‪،‬‬
‫وفي اعتقادي أن أصولھا واحدة‪ ،‬وأنه ال أعظم وال أشرف من ھذه األصول‪،‬‬
‫ومن ثَم توقيري ‪ Esteem‬لھذه األساطير‪ ،‬وتعاملي معھا على أنھا آثار‬
‫مقدسة ‪ Sacred Relics‬وروح الزمن الجميل ‪Breath of Better‬‬
‫‪٣٦٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ ،Times‬القادمة إلينا من تراث أعرق األمم‪ ،‬عبر مالحم اإلغريق‬


‫)‪(١‬‬
‫وغنائياتھم"‬

‫وإذا لم تستطع أن تعرف وحدك أعرق األمم وينبوع الحكمة القديمة‪ ،‬التي‬
‫أخبرك القبالي بيكون أنھا أصل أساطير اإلغريق ومصدرھا الحقيقي ولم‬
‫يصرح باسمھا طوال كتابه ھذا‪ ،‬فيمكنك أن تعود إلى‪ :‬خريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬لتراه يُعرفك بھا صريحة في كتابه‪ :‬أطلنطس الجديدة‪.‬‬

‫ثم إليك ما تتيقن به من صحة ما أخبرك به بيكون ويتوارثه القباليون‬


‫ورؤوس عالم السر والخفاء‪ ،‬وال وعي لألميين من المؤرخين به‪.‬‬

‫الشئ الذي تنفرد به خريطة الوجود اإلغريقية في ملحمة ھزيود من بين كل‬
‫خرائط الوجود‪ ،‬كما يقول دكتور عبد المعطي شعراوي ھو أن‪:‬‬

‫"اآللھة ليست ھي التي خلقت الكون‪ ،‬بل الكون ُخلق أوالً‪ ،‬في البدء كان‬
‫الخواء‪ ،‬ثم األرض‪ ،‬ثم البحار والجبال‪ ،‬ثم السماء‪ ،‬ثم مجموعة التياتن‪ ،‬ثم‬
‫اآللھة وعلى رأسھم كبيرھم زيوس‪ ،‬ثم بدأت اآللھة في اإلنجاب‪ ،‬أنجبت‬
‫اآللھة العظمى‪ ،‬أعضاء مجلس اآللھة فوق جبل أولمبوس‪ ،‬ثم اآللھة‬
‫)‪(٢‬‬
‫الصغرى‪ ،‬ثم انصاف اآللھة‪ ،‬ثم الحوريات‪ ،‬ثم األبطال‪ ،‬ثم أفراد البشر"‬

‫وما يعتقد دكتور عبد المعطي شعراوي ومن نقل عنھم من الغربيين أن‬
‫ملحمة ھزيود تنفرد به‪ ،‬ليس سوى قصة الخلق القبالية والھندوسية في المرآة‪،‬‬
‫فجوھر ھذه ھو نفسه جوھر تلك‪ ،‬أال وھو أن اآللھة والكون واإلنسان كانوا‬

‫‪1 ) Francis Bacon:Bacon's Essays and Wisdom of the ancients,P320-321.‬‬


‫‪ ( ٢‬أساطير إغريقية‪ :‬ج ‪ ،٢‬ص‪.٣٨‬‬
‫‪٣٦٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وحدة واحدة‪ ،‬ثم انفصل بعضھم عن بعض‪ ،‬وأن الخلق كان بالصدور أو الميالد‬
‫وليس باإلرادة اإللھية‪ ،‬وأن اإلنسان على صورة اإلله أو أن اآللھة تشبه‬
‫اإلنسان‪.‬‬

‫والفرق بينھما أن الخلق في القبااله والھندوسية كان بصدور الكون واإلنسان‬


‫عن اإلله أو اآللھة‪ ،‬وفي خريطة الوجود اإلغريقية ولدت اآللھة واإلنسان من‬
‫الكون‪.‬‬

‫وأما الطبعة الثالثة من ھذه وتلك‪ ،‬فھي العلمانية بكل فروعھا وطبقاتھا‪،‬‬
‫الليبرالية والماركسية واإللحاد‪ ،‬وجوھرھا أن اإلنسان ھو الذي خلق بأفكاره‬
‫اإلله وصنع بمعارفه الكون‪.‬‬

‫وقبيلة اآللھة التي رأيتھا في خريطة الوجود اإلغريقية‪ُ ،‬ولدت من خريطة‬


‫الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬فسفر التكوين‪ ،‬كما علمت‪ ،‬يتكلم عن آلھة وليس عن إله‬
‫واحد‪.‬‬

‫فإليك القبالية ھيلينا بالفاتسكي تعرفك في كتابھا‪ :‬العقيدة السرية بھذه اآللھة‪:‬‬

‫"اإلله في سفر التكوين ليس واحداً‪ ،‬فھناك ثالثة مجموعات من اآللھة‬


‫‪ ،Elohim‬األول يھوه ‪ ،Jehovah‬الذي تحول إلى اإلنسان بجنسيه الذكر‬
‫واألنثى‪ ،‬والثاني الحية‪ ،‬وھي ليست الشيطان‪ ،‬بل ھي المالك الساطع‬
‫‪ ،Bright Angel‬أحد اآللھة‪ ،‬والذي وعد المرأة أنھا لن تموت إن أكلت من‬

‫‪٣٦٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الشجرة وأوفى بوعده‪ ،‬والثالث لوسيفر الذي وھب اإلنسان المعرفة والنور‪،‬‬
‫)‪(١‬‬
‫وجعله ذا طبيعة خالدة ‪" Immortal‬‬

‫ولكي ال تتوھم أن ما قرأته من خياالت القباليين وأوھامھم‪ ،‬إليك آلھة أخرى‬


‫وصل إليھا األكاديمي الرصين وأستاذ التوراة العبرية في جامعة نيويورك كمال‬
‫الصليبي في كتابه‪ :‬خفايا التوراة‪:‬‬

‫"والقصة ال تذكر إطالقا ً أن الرب يھوه قام بطرد المرأة والحنش من جنة‬
‫عدن مع اإلنسان‪ ...‬فلماذا لم يقم الرب يھوه بطرد المرأة مع اإلنسان الذي كان‬
‫زوجھا من الجنة‪ ،‬وقد كان إثمھا أعظم من إثمه؟ ‪ ...‬ھل كانت حواء في األصل‬
‫إلھة وليس امرأة عادية‪ ،‬وھل كان الحنش في األصل إلھا ً مثلھا‪ ،‬فلم يكن‬
‫للرب يھوه صالحية في طرد أي منھما من الجنة كما فعل باإلنسان؟‪ ،‬حواء لم‬
‫تكن في الواقع زوجة اإلنسان األول‪ ،‬بل إلھة أما ً لجميع المخلوقات الحية‪،‬‬
‫ويبدو أن الحنش أيضا ً كان من اآللھة الموجودين أصالً في الجنة")‪!!(٢‬‬

‫وأما اإلله الذي اتفقت فيه بالفاتسكي القبالية والصليبي األكاديمي‪ ،‬دون أن‬
‫يكون ألي منھما صلة باآلخر وال علم به‪ ،‬بل ألنھما ينھالن من النبع نفسه‬
‫وتحكمھما معا ً خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬فھو اإلنسان!‬

‫يقول كمال الصليبي‪:‬‬

‫"ھذه القصة ال تفترض إطالقا ً كون الرب يھوه اإلله الوحيد في الوجود‪ ،‬بل‬
‫إنھا تعتبره واحداً من مجموعة اآللھة التي تنعم وحدھا بأبدية الحياة‪ ،‬والتي‬

‫‪1) The secret doctrine,Vol.1,P388.‬‬


‫‪ ( ٢‬دكتور كمال الصليبي‪ :‬خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل‪ ،‬ص‪.٣٠‬‬
‫‪٣٧٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫كان لھا وحدھا في البداية معرفة الخير من الشر قبل أن يخلق الرب يھوه‬
‫اإلنسان‪ ،‬فاعتدى ھذا المخلوق على انحصار المعرفة باآللھة وأكل من‬
‫)‪(١‬‬
‫الشجرة"‬

‫وما التف حوله كمال الصليبي تخبرك به بالفاتسكي صريحاً‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫" اإلنسان إله ‪"Man is God‬‬

‫فلعلك وصلت اآلن بنفسك إلى أن زيوس كبير آلھة اإلغريق ليس سوى يھوه‬
‫شيخ قبيلة اآللھة في خريطة بني إسرائيل‪.‬‬

‫وألن اإلنسان ھنا وھناك إله‪ ،‬واآللھة كالبشر‪ ،‬فربما يكون تعجبك قليالً‬
‫وصدمتك خفيفة إذا علمت أن زواج اآللھة بالبشر الذي رأيته في أساطير ھزيود‬
‫إنما أتى به من خريطة بني إسرائيل للوجود!‬

‫ض‪َ ،‬و ُولِ َد لَ ُھ ْم بَنَاتٌ ‪٢ ،‬أَنﱠ أَ ْبنَا َء‬ ‫اس يَ ْكثُ ُرونَ َعلَى األَ ْر ِ‬ ‫َث لَ ﱠما ا ْبتَدَأَ النﱠ ُ‬
‫"‪َ ١‬و َحد َ‬
‫اختَا ُروا‪.‬‬ ‫سا ًء ِمنْ ُك ﱢل َما ْ‬ ‫س ِھ ْم نِ َ‬‫سنَاتٌ ‪ ،‬فَاتﱠ َخ ُذوا ألَ ْنفُ ِ‬
‫س أَنﱠ ُھنﱠ َح َ‬
‫ت النﱠا ِ‬ ‫ﷲِ َرأَ ْوا بَنَا ِ‬
‫ش ٌر‪َ ،‬وتَ ُكونُ‬ ‫ان إِلَى األَبَ ِد‪ ،‬لِزَ يَ َغانِ ِه‪ ،‬ھ َُو بَ َ‬
‫س ِ‬ ‫فَقَا َل ال ﱠر ﱡب‪» :‬الَ يَ ِدينُ ُرو ِحي فِي ِ‬
‫اإل ْن َ‬
‫‪٣‬‬

‫ض طُ َغاةٌ فِي تِ ْلكَ األَيﱠ ِام‪َ ،‬وبَ ْع َد ذ ِلكَ‬ ‫سنَةً«‪َ .‬كانَ فِي األَ ْر ِ‬
‫‪٤‬‬
‫ش ِرينَ َ‬ ‫أَيﱠا ُمهُ ِمئَةً َو ِع ْ‬
‫س َو َولَدْنَ لَ ُھ ْم أَ ْوالَدًا‪ ،‬ھ ُؤالَ ِء ُھ ُم ا ْل َجبَابِ َرةُ‬ ‫ضا‪ ،‬إِ ْذ د ََخ َل بَنُو ﷲِ َعلَى بَنَا ِ‬
‫ت النﱠا ِ‬ ‫أَ ْي ً‬
‫الﱠ ِذينَ ُم ْن ُذ ال ﱠد ْھ ِر َذ ُوو ا ْ‬
‫)‪(٣‬‬
‫س ٍم"‬

‫‪ ( ١‬خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل‪ ،‬ص‪.٢٨‬‬


‫‪2) The secret doctrine,Vol.3,P63.‬‬
‫‪ ( ٣‬تكوين‪.٤-١ :٦ :‬‬
‫‪٣٧١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ولست في حاجة إلى أن نذكرك أن من ترجموا السفر وضعوا لفظ الجاللة‬


‫مكان كلمة‪ :‬إلوھيم‪ ،‬التي ھي في األصل العبري بأداة التعريف‪ :‬ھإلوھيم‪،‬‬
‫فالترجمة الدقيقة للعبارة‪:‬‬

‫"‪ ...‬أن أبناء اآللھة رأوا بنات الناس أنھن حسنات‪ ...‬إذ دخل بنو اآللھة‬
‫على بنات الناس وولدن لھم أوالداً"‪.‬‬

‫ف ِمن البشر َمن ھم ِمن نسل اآللھة‪ ،‬وھو ما تجده في ملحمة ھزيود في عشق‬
‫عدد من اآللھة الخالدة ‪ ، Immortals‬رجاالً ونسا ًءا‪ ،‬لنساء ورجال من البشر‬
‫الفانين ‪ ،Mortals‬أو زواجھم وإنجابھم منھم األبطال‪ ،‬وعلى رأسھم زيوس‬
‫نفسه الذي تزوج من ألكميني ‪ Alcmene‬األرضية وأنجب منھا البطل ھرقل‬
‫‪ ،Heracles‬ويصف ھزيود زيوس بأنه‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"أبو اآللھة والناس ‪"Father of Gods and Men‬‬

‫وال ينبغي أن يكون قد فاتك أن التيتان‪ ،‬الذين يصفھم ھزيود بأنھم آلھة‬
‫‪ ،Titan Gods‬ليسوا سوى فيلم اقتبس ھزيود ومن خلف ھزيود قصته من‬
‫ھؤالء الجبابرة بني اآللھة في خريطة بني إسرائيل‪ ،‬وكلمة‪ :‬تيتان اإلغريقية ھي‬
‫‪(•).‬‬
‫حرفياً‪ :‬الجبابرة العربية‪ ،‬وھجبوريم العبرية‬

‫‪1) Theogony, in:Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an English‬‬
‫‪translation, P81.‬‬
‫• ( تمتلئ أفالم ھوليوود بأمثال ھذه القصص‪ ،‬وبعضھا أفالم تجسد األساطير‪ ،‬وبعضھا‪ ،‬وھو األخطر‪ ،‬يدور‬
‫في إطار حديث يخدع المشاھد من باب أنه خيال علمي‪ ،‬وأحد ھذه االفالم يجسد أساطير ھزيود عن التيتان‪،‬‬
‫والمعارك بين اآللھة‪ ،‬واإلنسان القادر على أن يكون كاآللھة ويصارعھا‪ ،‬في صورة عصرية مع بعض‬
‫التحوير كالمعتاد‪ ،‬ويزيده خداعا ً للمشاھد العربي التالعب بالترجمة وحجب الكلمات الصادمة لوعيه كالمعتاد‬
‫‪٣٧٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وما جاء في ملحمة ھزيود‪ ،‬كما أخبرناك‪ ،‬أساطير وليس خرافات محض‪،‬‬
‫فما فعله ھزيود ھو نفسه ما فعله بنو إسرائيل في خريطتھم للوجود‪ ،‬العبث‬
‫بالمكونات‪ ،‬وتغيير العالقات‪ ،‬ونزع األفعال والصفات من أصحابھا ونسبتھا‬
‫إلى غيرھم‪ ،‬ثم إضافة بعض االبتكارات والتفنن في التحويرات‪.‬‬

‫فآلھة السماء واألرض والبحار والجبال والعالم السفلي ليست سوى المالئكة‪،‬‬
‫وكل ما فعله ھزيود ھو أنه أسند إليھا اإلرادة والفعل بدالً من المھمة والحفظ‪،‬‬
‫وجسدھا في صورة البشر‪ ،‬وغير اسمھا من مالئكة إلى آلھة‪ ،‬وح ﱠول اجتماعھا‬
‫من المأل األعلى إلى جبل األوليمب‪ ،‬بالضبط كما حول بنو إسرائيل اإلله إلى‬
‫آلھة وزوجوھا بالبشر‪ ،‬وكما حول القباليون إبليس إلى إله‪ ،‬والجن إلى آلھة‪.‬‬

‫والتيتان الجبابرة‪ ،‬ھم والعمالقة ذوو العين الواحدة‪ ،‬واآلخرون ذو األذرع‬


‫المائة ليسوا سوى الجن والشياطين‪ ،‬وصورة المسوخ التي رسمھا لھم ھزيود‬
‫ھي أوصافھم في القبااله وعوالمھا‪.‬‬

‫وھزيود جعل ھؤالء التيتان آلھة‪ ،‬ألن الجن والشياطين في ابتكارات القباليين‬
‫على خريطة الوجود البني إسرائيلية كانوا‪ ،‬ھم والمالئكة‪ ،‬آلھة مع اإلله في جنة‬
‫عدن‪ ،‬وھو ما تجده عند ھيلينا بالفاتسكي صريحا ً ولكنه مقلوب‪:‬‬

‫أيضاً‪ ،‬وھو فيلم‪ :‬مدينة مظلمة ‪ ، Dark City‬الذي أخرجه ألكس بروياس ‪ Alex Proyas‬سنة ‪١٩٩٨‬م‪،‬‬
‫والمدينة المظلمة ھي الوجود المظلم الذي ينيره في نھاية الفيلم اإلنسان وقد حل محل اآللھة‪.‬‬
‫‪٣٧٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"سمائيل ‪ ،Samael‬رئيس الجن والشياطين ‪ Demons‬في التلمود‪ ،‬ھو‬


‫عند التلموديين أحد اآللھة ‪ ،Elohim‬وھو شكل رمزي‪Symbolic form‬‬
‫)‪(١‬‬
‫عند القباليين للتيتان"‬

‫ومعركة الوجود التي دارت رحاھا بين زيوس والتيتان‪ ،‬ھي نفسھا المعركة‬
‫التي افترض كل من تكون وعيه بخريطة الوجود البني إسرائيلية من القباليين‬
‫واألميين وقوعھا بين اآللھة في جنة بني إسرائيل‪.‬‬

‫فالقباليون يجسدونھا صريحة ويتفننون في ابتكار تفاصيل ووقائع لھا‪ ،‬كما‬


‫تجد في أحد فصول كتاب‪ :‬العقيدة السرية لبالفاتسكي‪ ،‬واسمه يغنيك عن أن‬
‫نسرد عليك ما احتواه من ابتكارات عن وقائع المعركة بين اإلله يھوه وأتباعه‬
‫من المالئكة وبين اإلله لوسيفر وأتباعه من الجن والشياطين‪ ،‬والفصل اسمه‪:‬‬
‫)‪( ٢‬‬
‫"الحرب األولى في الجنة ‪"The first war in the heavens‬‬

‫وأما المؤرخون األميون‪ ،‬فإن ھذه الحرب التي تحكم وعيھم تتسرب في ثنايا‬
‫ما يكتبون‪ ،‬وفي األمثلة التي يستخدمون‪.‬‬

‫فإليك األمي ول ديورانت يجمع في عبارة واحدة بين اإليمان بالمعركة التي‬
‫أقامھا بنو إسرائيل في الجنة وبين ارتباط ھذه المعركة في وعيه بمعركة زيوس‬
‫والتيتان‪:‬‬

‫‪1) The secret doctrine,Vol.1,P450.‬‬


‫‪2) The secret doctrine,Vol.2,P45.‬‬
‫‪٣٧٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"وكان على رأس ھذا النظام اإللھي الجديد رب األرباب زيوس العظيم‪ ،‬ولم‬
‫يكن زيوس أول من ُوجد من اآللھة‪ ،‬فقد سبقه كما رأينا من قبل أورانوس‬
‫وكرونوس‪ ،‬ولكنھما ھما والجبابرة ‪ Titans‬قد ثُلت عروشھم كما ثُلت‬
‫)‪(١‬‬
‫عروش جيش الشيطان ‪"Lucifer‬‬

‫وألن جرثومة بني إسرائيل تستوطن وعي ديورانت‪ ،‬و َمن تستوطن ھذه‬
‫الجرثومة وعيه يختل تكوينه وتفسد موازينه ويضطرب فھمه‪ ،‬وأعظم آثار ھذا‬
‫الخلل والفساد واالضطراب أنه ال يعي ھذه الجرثومة‪ ،‬وال يدرك أنھا ھي التي‬
‫تحكمه‪ ،‬وال يفطن إلى آثارھا في ما يراه وما يفھمه‪ ،‬ديورانت‪ ،‬ألنه أمي‪ ،‬ھذا‬
‫ھو تفسيره لألساطير ولماذا تصدر‪ ،‬وللشرك وتعدد اآللھة وكيف تولد‪:‬‬

‫"لقد فُطر اإلنسان على أن يعبد آلھة متعددة كما فُطر على الزواج من‬
‫نساء متعددات‪ ،‬وال يقل عمر فطرته األولى عن فطرته الثانية‪ ،‬ألنھا توائم كل‬
‫المواءمة ما في العالم من تيارات متعارضة‪ ،‬وإن مسيحية البحر المتوسط في‬
‫ھذه األيام ال يُعبد فيھا ﷲ بقدر ما يعبد فيھا األولياء والقديسون‪ ،‬ذلك أن‬
‫الشرك ھو الذي يوحي إلى حياة السذج باألساطير وما فيھا من خيال‬
‫)‪(٢‬‬
‫وسلوى"‬

‫والوسيلة الوحيدة للوعي بالجرثومة البني إسرائيلية وإدراك آثارھا والتحرر‬


‫منھا ومن سيطرتھا على الوعي ھي الوحي‪ ،‬فمن كان أميا ً يفتقد الوحي مصدراً‬
‫للمعرفة فھو بالضرورة من أتباع بني إسرائيل وأبناء خريطتھم للوجود‪.‬‬

‫‪ ( ١‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.٣٢٨‬‬


‫‪ ( ٢‬قصة الحضارة‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.٣١٩‬‬
‫‪٣٧٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإليك تصحيح الوحي لما أنتجه وعي ديورانت البني إسرائيلي وفھمه‬
‫المختل‪ :‬الشرك ال يلھم األساطير‪ ،‬بل األساطير‪ ،‬التي أنتجھا رجل واحد‪ ،‬كما‬
‫رأيت‪ ،‬أو في الحقيقة كان مجرد واجھة للطائفة التي لفقتھا‪ ،‬ھي مصدر الشرك‬
‫ووسيلة بثه من أجل طمس مسألة األلوھية وتضليل البشر عن اإلله الحق‪،‬‬
‫وتغييب التوحيد والوحدانية‪.‬‬

‫وتعدد اآللھة ليس فطرة‪ ،‬بل ھو التيه الذي يذھب فيه البشر في كل اتجاه‬
‫ويدورون حول أنفسھم حين يفتقدون خريطة الوجود الحقيقية أو تُحجب عنھم‪،‬‬
‫وكائنا ً ما كان ما يصلون إليه‪ ،‬أو يصل إليه بعضھم‪ ،‬فلن يكون إال داخل التيه‪.‬‬

‫فإذا أردت أن تتيقن أن ديورانت نفسه داخل التيه ويرى ويفھم من خالله‪،‬‬
‫وأنه ليس سوى أحد أتباع بني إسرائيل‪ ،‬وأن وعيه محكوم بخريطتھم‪ ،‬فتأمل‬
‫كيف حين أراد أن يدلل على ما يقوله‪ ،‬ضرب مثاالً س ﱠوى فيه بين اإلله الذي‬
‫خلق اإلنسان ويعبده ويتطلع إليه فوقه وبين المرأة التي ينكحھا الرجل ويفترشھا‬
‫تحته!!‬

‫ثم إليك نموذجا ً على التيه في بالد العرب ھو ھو‪ ،‬ومن خالل خريطة ھزيود‬
‫البني إسرائيلية للوجود ھي ھي‪ ،‬بعد أن عبرت جرثومة بني إسرائيل من‬
‫الغرب إلى الشرق‪ ،‬واستوطنت وعي أبنائھا ليتحولوا إلى أتباع لھم وھم ال‬
‫يشعرون‪.‬‬

‫يقول توفيق الحكيم في إحدى رسائله إلى صديقه أندريه في كتابه‪ :‬زھرة‬
‫العمر‪:‬‬

‫‪٣٧٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"إني أعيش في الظاھر كما يعيش الناس في ھذه البالد‪ ،‬أما في الباطن فما‬
‫زالت لي آلھتي وعقائدي و ُمثلي العليا‪ ،‬وكل آالمي مرجعھا ھذا التناقض بين‬
‫حياتي الظاھرة وحياتي الباطنة")‪!!(١‬‬

‫فھذا ھو اإلله الذي اختاره توفيق الحكيم ليتعبد له ويجاھد في سبيله‪ ،‬يخبرك‬
‫به في حرارة‪ ،‬في رسالة أخرى‪:‬‬

‫"إني أومن بأبولون)•(‪ ،‬أومن بأبولون‪ ،‬إله الفن الذي عفﱠرت جبيني أعواما ً‬
‫في تراب ھيكله‪ ،‬إنه ليعلم كم جاھدت من أجله وكم كافحت وناضلت وكددت‪،‬‬
‫باسمه أخوض المعركة الكبرى وأنازل كل مجتمع وكل حياة وكل عقبة تحول‬
‫)‪(٢‬‬
‫بيني وبين فني الذي منحته زھرة عمري التي لن تعود"‬

‫‪ ( ١‬زھرة العمر‪ ،‬ص‪.٢١٠‬‬


‫• ( أبولون ‪ Apollon‬ھو الرسم والنطق الالتيني الفرنسي ألبولو‪ ،‬إله الشمس واآلداب والفنون عند‬
‫اإلغريق والرومان‪.‬‬
‫‪ ( ٢‬زھرة العمر‪ ،‬ص‪.٣٠٧‬‬
‫‪٣٧٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺷـﻴﻄﺎن ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬
‫واآلن لعلك في شوق إلى أن تعرف من يكون بروميثيوس‪ ،‬وماذا تكون‬
‫أسطورته التي ھام بھا األميون من المفكرين واألدباء والفنانين في الغرب‬
‫والشرق‪.‬‬

‫بروميثيوس ‪ ،Prometheus‬الذي ُولد ھو وأسطورته في ملحمتي ھزيود‪:‬‬


‫مولد اآللھة)‪ ،(١‬واألعمال واأليام)‪ ،(٢‬ثم صاغھا صياغة فنية إسخيلوس‬
‫ً)‪(٣‬‬
‫‪،Prometheus Bound‬‬ ‫‪ Aeschylus‬في مسرحيته‪ :‬بروميثيوس مقيدا‬
‫أحد الجبابرة التيتان‪ ،‬ولكن ألن اسمه معناه‪ :‬المتبصر ‪One who thinks‬‬
‫‪ ،ahead‬فقد أدرك بثاقب بصره أن النصر في الحرب التي اندلعت بين قبائل‬
‫اآللھة سيكون مع آلھة األوليمب‪ ،‬ولذا انحاز في المعركة إلى زيوس في‬
‫مواجھة اآللھة التيتان‪ ،‬قبيلته‪ ،‬وانضم إليه أخوه السائر في أثره دائما ً إبيميثيوس‬
‫‪ ،Epimetheus‬أي‪ :‬المتھور ‪.One who thinks afterwards‬‬

‫وبعد انتصار آلھة األوليمب واستتاب األمر لكبيرھم زيوس‪ ،‬قرر أن يعمر‬
‫األرض بمخلوقات جديدة‪ ،‬فأوكل ھذه المھمة لبروميثيوس وأخيه إبيميثيوس‬
‫مكافأة لھما‪.‬‬

‫‪1) Theogony, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an English‬‬
‫‪translation, P117-125.‬‬
‫‪2) . Warks and Days, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an‬‬
‫‪English translation, P2-64.‬‬
‫‪3) Edwyn Robert Bevan: The Prometheus Bound of Aeschylus، rendered into‬‬
‫‪English verse‬‬
‫‪٣٧٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وبعد أن صنع بروميثيوس مادة الحيوانات والطيور واإلنسان من التراب‬


‫والماء‪ ،‬ثم ص ﱠورھا ھياكل من الطين‪ ،‬صعد إلى أثينا ‪ ،Athena‬ربة الحكمة‪،‬‬
‫ليستشيرھا كيف يتمم الخلق‪ ،‬وما المالمح والصفات التي يمنحھا لكل مخلوق‪.‬‬

‫وفي غيبة بروميثيوس‪ ،‬كان أخوه العجول إبيميثيوس قد أتم خلق الحيوانات‬
‫والطيور فعالً‪ ،‬ومنح بعضھا أشعاراً وأوباراً وأصوافاً‪ ،‬وجعل لبعضھا اآلخر‬
‫مخالب وأنياباً‪ ،‬ولبعضھا الثالث سرعة أو جناحاً‪ ،‬ولبعضھا الرابع صوتا ً أو‬
‫جماالً‪.‬‬

‫وبعد أن انتھى إبيميثيوس من خلق الحيوانات والطيور‪ ،‬وأراد خلق اإلنسان‬


‫انتبه إلى أنه منح كل مخلوق صفة تميزه وينفرد بھا‪ ،‬ولم يعد في جعبته شئ‬
‫يمنحه لإلنسان ويميزه به‪.‬‬

‫وعندما عاد بروميثيوس الداھية واسع الحيلة‪ ،‬قرر أن يجعل ھذا المخلوق‬
‫الضعيف‪ ،‬الذي ال حول له وال قوة ويفتقد كل ميزة‪ ،‬أقوى المخلوقات‪ ،‬بأن‬
‫يجعله على صورة اآللھة ويھبه قدرات اآللھة‪.‬‬

‫وبدأ بروميثيوس ما انتواه بأن جعل اإلنسان معتدل القوام‪ ،‬منتصب القامة‪،‬‬
‫ورأسه مرفوعة كاآللھة نحو السماء‪ ،‬ثم غامر بنفسه‪ ،‬فصعد إلى السماء وغافل‬
‫زيوس‪ ،‬وسرق قبسا ً من نار اآللھة وخبأھا في عصا مجوفة صنعھا من ساق‬
‫)•(‬
‫‪ ،Hollow fennel stalk‬ثم عاد إلى األرض‪ ،‬ليھب بھا‬ ‫نبات ال ﱠشمار‬

‫• ( الشمار بقلة من الفصيلة الخيمية‪ ،‬ومنه نوع حلو يزرع ويؤكل ورقه وسوقه نيئاً‪ ،‬ونوع آخر سكري‬
‫يؤكل مطبوخاً‪.‬‬
‫‪٣٧٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫اإلنسان نور المعرفة‪ ،‬وضياء العقل والقدرة على التفكير‪ ،‬ويجعله بھا قادراً‬
‫على النطق والكالم‪.‬‬

‫والخطوة األخيرة التي كان بروميثيوس على وشك أن يفعلھا‪ ،‬ھي أن يھب‬
‫اإلنسان الخلود‪ ،‬غير أن زيوس تنبه له ومنعه‪ ،‬ولوال ذلك لصار اإلنسان إلھا ً‬
‫خالداً كامالً‪.‬‬

‫وفي ثورة غضبه‪ ،‬والسحب والغيوم تتجمع من حوله‪ ،‬أوقف زيوس‬


‫بروميثيوس وقال له متوعداً‪:‬‬

‫"يا ابن إيابيتوس ‪ ،Iapetus‬يا من فُقت الجميع في مكرك ودھائك‪ ،‬ال‬


‫تسعد بأنك خدعتني وسرقت النار‪ ،‬فسأصب لعنتي ‪ Plague‬عليك وعلى‬
‫)‪(١‬‬
‫الرجل الذي خلقت"‬

‫فأما عقاب بروميثيوس‪ ،‬فكان أن أمر زيوس بأن يُعتقل بروميثيوس‪ ،‬وأن‬
‫يُقيد طريحا ً على ظھره بسالسل قاسية وأغالل ال تفك في رأس أحد جبال‬
‫القوقاز في أطراف األرض‪ ،‬ثم سلط عليه ُعقابا ً ھائالً‪ ،‬يلتھم كبده كل يوم‪ ،‬فإذا‬
‫التئم الكبد الخالد في الليل عاد العقاب إلى التھامه من جديد في النھار‪.‬‬

‫وظل بروميثيوس ھكذا إلى أن جاء ھرقل بن زيوس من زوجته األرضية‬


‫ألكميني‪ ،‬ففك أغالله‪ ،‬وحل سالسله‪ ،‬وحرره من عذابه وآالمه‪ ،‬في إحدى المھام‬

‫‪1) Warks and Days, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an‬‬
‫‪English translation, P7.‬‬

‫‪٣٨٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫االثنتي عشرة التي كلفته بھا ربة الزواج ھيرا‪ ،‬لتتخلص منه‪ ،‬بعد موافقة زوجھا‬
‫زيوس‪.‬‬

‫وبعد تحريره‪ ،‬أتم ابن إيابيتوس النبيل أياديه على اإلنسان الذي خلقه‪ ،‬فبدالً‬
‫من أن يعود إلى عالم اآللھة في رأس جبل األوليمب‪ ،‬اختار بروميثيوس أن‬
‫يذھب إلى األرض ليعيش مع اإلنسان‪ ،‬فعرﱠفه ماذا يأكل وكيف يعد طعامه‪،‬‬
‫وكيف يصنع ما يقيه غوائل الحر والبرد‪ ،‬ووبأي شئ يبني ما يأوي إليه‪ ،‬ثم‬
‫علمه ھو ونسله القراءة والكتابة‪ ،‬ثم الزراعة والتجارة‪ ،‬ثم ركوب البحر‬
‫والصناعة‪.‬‬

‫وأما عقاب الرجل الذي عاقبه به زيوس‪ ،‬واللعنة التي أنزلھا عليه‪ ،‬فھي‬
‫حواء اإلغريقية!‬

‫بعد أن توعد زيوس بروميثيوس في ثورة غضبه بالعذاب‪ ،‬كان ھذا ھو‬
‫عقابه للرجال الذي أخبره به‪:‬‬

‫"سأجعل الرجال ‪ Men‬يدفعون ثمن النار التي أخذوھا شراً‪ ،‬قد تسعد به‬
‫)‪(١‬‬
‫قلوبھم‪ ،‬ولكن في عناقھم ‪ Embrace‬له ھالكھم"‬

‫أمر زيوس ابنه ھيفيستوس ‪ Hephaestus‬رب النار والمعادن‪ ،‬القاسي‬


‫القبيح األعرج‪ ،‬أن يخلط التراب بالماء ليصنع مخلوقة في شكل اإلنسان‪ ،‬وأن‬
‫يھبھا القدرة على النطق والكالم‪ ،‬ويجعلھا في صورة عذراء لطيفة جذابة‬
‫‪ ،Sweet lovely Maiden‬لھا وجه مشرق كاإللھات الخالدات‪ ،‬وأمر ابنته‬

‫‪1) Warks and Days, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an‬‬
‫‪English translation, P7.‬‬
‫‪٣٨١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫التي أنجبھا من رأسه دون أم‪ ،‬الربة العذراء وإلھة الحكمة أثينا ‪ ،Athena‬أن‬
‫تُلبسھا ثوبا ً فتانا ً مطرزاً بالذھب والفضة‪ ،‬وأمر ربة الحب والجمال الفاتنة‬
‫أفروديت ‪ Aphrodite‬أن تتوج رأسھا بتاج من زھور الربيع الملكية الفواحة‪،‬‬
‫وأن تمنحھا من أنوثتھا الطاغية‪ ،‬وتبث في جسدھا رغبة عشق عارمة‪ ،‬وأمر‬
‫رسوله ھرمس ‪ Hermes‬أن يجعلھا بال حياء‪ ،‬وأن يھبھا صوتا ً ناعما ً عذبا ً‬
‫وأكاذيب خالبة وطبيعة مخادعة‪ ،‬فكانت ھذه ھي المرأة األولى‪ ،‬وسماھا‬
‫زيوس‪ :‬باندورا ‪ ،Pandora‬أي‪ :‬ھدية الجميع‪ ،‬جميع اآللھة للرجال‪.‬‬

‫ثم أمر زيوس رسوله ھرمس أن يأخذ باندورا‪ ،‬وأن يأخذ معه جُرة ‪ Jar‬أو‬
‫صندوقا ً)•(‪ ،‬مأله‪ ،‬وطعمه بالذھب‪ ،‬ورصعه بالدر والجواھر‪ ،‬وزينه بالرسوم‬
‫والمناظر‪ ،‬وأن يسلم باندورا ومعھا الصندوق المغلق ھدية إلبيميثيوس في‬
‫األرض‪ ،‬حيث يعيش معه الرجال حياة مديدة طاھرة‪ ،‬بال شقاء وال أحزان‪،‬‬
‫والخطايا وال أوزار‪.‬‬

‫وما إن رأى إبيميثيوس الغر الساذج الھدية الفاتنة حتى ھام بھا‪ ،‬فقبِلھا ھي‬
‫والصندوق مخالفا ً وصية أخيه الفطن بروميثيوس أال يقبل أي ھدايا تأتي من‬
‫جھة اآللھة!‬

‫وأغوت زينة الصندوق وما ُزخرف به من ذھب ودر وجواھر ورسوم‬


‫باندورا‪ ،‬ففتحته لترى ما فيه‪ ،‬فانطلق منه ما خبأه فيه زيوس من آالم وأمراض‬
‫وشرور وآثام وتعاسة وباليا‪ ،‬لتعم األرض وتكون لعنة لإلنسان‪.‬‬

‫• ( في مالحم ھزيود أنھا جرة‪ ،‬وفي مسرحية إسخيلوس‪ :‬بروميثيوس مقيداً‪ ،‬التي أخذھا من مالحم ھزيود‪،‬‬
‫أنه صندوق‪.‬‬
‫‪٣٨٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن باندورا‪ ،‬كما يقول ھزيود في‪ :‬مولد اآللھة‪:‬‬

‫"أتى جنس النساء ونوع اإلناث‪ ،‬منھا انحدر الجنس اللدود المھلك‬
‫‪ Deadly race‬وقبيلة النساء‪ ،‬الالتي يعشن بين الرجال الفانين من أجل‬
‫)‪(١‬‬
‫تعاستھم الكبرى‪ ،‬راضيات عند الغنى‪ ،‬ساخطات عند الفقر"‬

‫واآلن بعد أن عرفت بروميثيوس‪ ،‬وإذا كنت قد أفقت من الغيبوبة التي‬


‫أدخلتك فيھا أسطورته وارتد إليك عقلك‪ ،‬فالسؤال‪ :‬من أين أتى ھزيود في‬
‫مالحمه‪ ،‬ومن أين أتى إسخيلوس في مسرحيته‪ ،‬التي صاغھا من ھذه المالحم‪،‬‬
‫ببروميثيوس‪ ،‬وبالتفاصيل التي صاغوا منھا قصته وشخوصھا؟‬

‫إليك أوالً إجابة األميين‪.‬‬

‫ينقل دكتور عبد المعطي شعراوي عن روبرت جريفز ‪،Robert Graves‬‬


‫أن قصة بروميثيوس وإبيميثيوس وباندورا‪:‬‬

‫"ليست من التراث األسطوري األصيل‪ ،‬بل قصة من القصص التي يرويھا‬


‫)‪(٢‬‬
‫واحد من أعداء المرأة‪ ،‬وربما يكون ھزيود ھو مبتكرھا"‬

‫ونقول لك‪ :‬بل ھي أسطورة أصيلة ال خرافة‪ ،‬أقامھا ھزيود وإسخيلوس حول‬
‫نواة‪ ،‬ورسموا مالمحھا وصاغوا تفاصيلھا منھا‪ ،‬مع ما يلزم من االبتكار في‬
‫الصياغة والتحوير في التفاصيل‪ ،‬وھذه النواة ھي خريطة الوجود البني‬

‫‪1) Theogony, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an English‬‬
‫‪translation, P123.‬‬
‫‪ ( ٢‬أساطير إغريقية‪ ،‬ج‪ ،١‬ص‪.٨٩‬‬
‫‪٣٨٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إسرائيلية وما تفرع عنھا في القبااله وعوالمھا‪ ،‬وھي‪ ،‬كما علمت‪ ،‬قديمة قدم‬
‫بني إسرائيل وتالزم وجودھم‪.‬‬

‫أول ما ينبغي أن تكون قد انتبھت إليه في خريطة الوجود اإلغريقية أن خلق‬


‫اإلله لإلنسان وللمخلوقات لم يكن مباشرة‪ ،‬بل عبر وسيط‪ ،‬بالضبط كما رأيت‬
‫سابقا ً في القبااله وفي الھندوسية‪.‬‬

‫فاآللھة التيتان بروميثيوس وإبيميثيوس في اإلغريقية‪ ،‬ھما شجرة الحياة في‬


‫القبااله‪ ،‬واآللھة العشرة البراجاباتيس في الھندوسية‪.‬‬

‫وھذا ھو أحد وجھي بروميثيوس‪ ،‬أو دوره األول في خريطة الوجود‬


‫اإلغريقية‪ ،‬وأما دوره الثاني والرئيسي فھو أنه لوسيفر أو شيطان بني إسرائيل‬
‫الذي وھب اإلنسان المعرفة سرقة من اإلله وعلى غير إرادته‪.‬‬

‫وكما ترى‪ ،‬خرائط الوجود المزورة‪ ،‬على ما بينھا من اختالفات تُوھم‬


‫األميين أنھا ذات أصول مختلفة وال صلة بينھا‪ ،‬ھي في حقيقتھا واحدة‪،‬‬
‫والفروق بينھا مصدرھا االبتكار في تحوير مواصفات مكوناتھا‪ ،‬وفي التباديل‬
‫والتوافيق بين ھذه المكونات‪ ،‬بوضع ھذا في مكان ذاك‪ ،‬ونسبة صفات ذاك‬
‫ودوره لھذا‪ ،‬وھكذا‪.‬‬

‫وھذه االبتكارات والتحويرات والتباديل والتوافيق تغرر باألميين بعد أن‬


‫يغيب وعيھم في تفاصيلھا المثيرة‪ ،‬لكنھا ال تخدع ذوي البصائر من أھل الوحي‬
‫في اتفاق جوھرھا ووحدة نبعھا‪ ،‬ومن يبثون األباطيل والضالالت يعلمون أنھا‬
‫واحدة‪.‬‬

‫‪٣٨٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فإليك القبالية ھيلينا بالفاتسكي تخبرك ماذا يكون بروميثيوس في القبااله‬


‫والحركات السرية‪:‬‬

‫"وأبناء حركة الصليب الوردي‪ ،‬الروزيكروشيان ‪ ،Rusicrucians‬على‬


‫اطالع واسع على التعاليم السرية للقبااله‪ ،‬وھم يتدارسون في تعاليمھم أن‬
‫الخلق كله كان ثمرة الحرب التي اندلعت في الجنة عقب تمرد المالئكة‬
‫‪ Rebellion of Angels‬على أمر الخالق‪ ،‬وبروميثيوس والنار التي جلبھا‬
‫ليست سوى طبعة أخرى من ثورة لوسيفر األبي الخالد‪ ،‬الذي طُرد إلى األرض‬
‫)‪(١‬‬
‫ليعيش بين البشر"‬

‫بروميثيوس‪ ،‬كما ترى‪ ،‬ھو نفسه لوسيفر‪ ،‬فلم يفعل ھزيود في مالحمه سوى‬
‫أنه أضاف إلى مخاطرته بنفسه بعصيانه أمر كبير اآللھة وھبته المعرفة‬
‫لإلنسان على غير إرادته‪ ،‬خلقه لإلنسان‪ ،‬أو نقل الوساطة في الخلق بين الخالق‬
‫والمخلوقات إليه‪.‬‬

‫وبعد ذلك‪ ،‬فزيوس كبير اآللھة ھنا ھو أدوناي أو يھوه كبير اآللھة ھناك‪،‬‬
‫واألكل من الشجرة في خريطة الوجود البني إسرائيلية ھو سرقة النار في‬
‫الخريطة اإلغريقية‪ ،‬وحيازة اإلنسان للمعرفة ليصير إلھا ً أو كاآللھة ھي ثمرة‬
‫ﱠ‬
‫ومن على‬ ‫ھذه وتلك‪ ،‬وبروميثيوس الذي ثار على اإلله من أجل اإلنسان‪،‬‬
‫اإلنسان بالمعرفة‪ ،‬ثم ھبط إلى األرض ليرافقه في حياته ويعينه على بدء‬
‫مسيرته ويعلمه كيف يعيش فيھا‪ ،‬ثم علمه الزراعة والتجارة‪ ،‬ووھبه األدب‬

‫‪1) The secret doctrine,Vol.2, P237.‬‬


‫‪٣٨٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والفن ومقومات الحضارة‪ ،‬ھو نفسه شيطان بني إسرائيل ولوسيفر القبااله‬
‫والحركات السرية‪.‬‬

‫واإلنسان في خريطة الوجود اإلغريقية حاز المعرفة وصار شبيھا ً باآللھة‪،‬‬


‫وكان بينه وبين أن يكون إلھا ً كامالً خطوة‪ ،‬ھي أن يكون خالداً‪ ،‬لوال أن تنبه‬
‫يھوه في خريطة الوجود البني إسرائيلية وأقام الكروبيم ولھيب السيف المتقلب‬
‫ليحرس الطريق إلى شجرة الحياة المانحة للخلود‪.‬‬

‫وفي مالحم ھزيود‪ ،‬وعند اإلغريق الذين تكونوا بھا‪ ،‬كما يقول دكتور عبد‬
‫المعطي شعراوي‪:‬‬

‫"ال فرق بين الرجل اإلغريقي وآلھته في الشكل والمظھر والسلوك‬


‫والتصرفات‪ ،‬ال فرق بينھما سوى أن اإلله خالد ال يموت واإلنسان زائل ذائق‬
‫)‪(١‬‬
‫الموت"‬

‫ألن اآللھة‪ ،‬إلوھيم‪ ،‬في ملحمة بني إسرائيل خلقوا اإلنسان على صورتھم‬
‫وفي شكلھم‪:‬‬

‫سانَ َعلَى ُ‬ ‫" َوقَا َل ﷲُ‪ :‬نَ ْع َم ُل ِ‬


‫اإل ْن َ‬
‫)‪(٢‬‬ ‫‪٢٦‬‬
‫شبَ ِھنَا"‬
‫ورتِنَا َك َ‬
‫ص َ‬

‫وباندورا اإلغريق مزج فيھا ھزيود بين القبااله وخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬فھي‪ ،‬في أحد وجھيھا‪ ،‬كما رأيت‪ ،‬ليست سوى حواء بني إسرائيل‪،‬‬

‫‪ ( ١‬أساطير إغريقية‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٨٥‬‬


‫‪ ( ٢‬تكوين‪.٢٦ :١ :‬‬
‫‪٣٨٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫رمز الغواية ومصدر الشرور‪ ،‬واللعنة التي صبھا اآللھة على الرجال ليعاقبوھم‬
‫بھا‪.‬‬

‫ص ْيتُكَ قَائِالً‪ :‬الَ تَأْ ُك ْل‬


‫س ِمعْتَ لِقَ ْو ِل ا ْم َرأَتِكَ َوأَ َك ْلتَ ِمنَ الش َﱠج َر ِة الﱠتِي أَ ْو َ‬
‫"ألَنﱠكَ َ‬
‫ِم ْن َھا‪َ ،‬م ْل ُعونَةٌ األَ ْر ُ‬
‫)‪(١‬‬
‫سبَبِكَ"‬ ‫ض بِ َ‬

‫وأما وجه باندورا اآلخر‪ ،‬فھو أنھا ُخلقت من التراب والماء مباشرة وليس‬
‫من الرجل األول كحواء بني إسرائيل‪.‬‬

‫فال تتوھم أن ھذا من ابتكارات ھزيود المحض‪ ،‬فھذا الوجه اآلخر ليس سوى‬
‫ليليث القبالية!‬

‫وليليث ‪ Lilith‬في سفر زوھار‪ ،‬وفي القبااله‪ ،‬وفي جمعيات السحر وعبادة‬
‫الشيطان‪ ،‬ھي زوجة آلدم سابقة على حواء‪ ،‬خلقھا اإلله خلقا ً مباشراً من التراب‬
‫كآدم وليس من ضلعه كحواء‪ ،‬ثم أمرھا بطاعة آدم فأبت وفرت إلى ساحل‬
‫البحر األحمر‪.‬‬

‫وألن ليليث تمردت على اإلله وخرجت على طاعته فطردھا‪ ،‬فقد أحبھا قائد‬
‫الثورة والمطرود األول‪ ،‬لوسيفر‪ ،‬وتزوجھا!‬

‫واآلن إليك من مالحم ھزيود ما يزيدك يقينا ً بأن أصلھا في خريطة بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬وما توقن به أن ما في ھذه الخريطة ال يمكن أن يعرفه وال أن يصل‬
‫إليه اال من يحوز أصله في الوحي‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تكوين‪.٣:١٧ :‬‬
‫‪٣٨٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في أسطورته‪ ،‬خلق بروميثيوس اإلنسان‪ ،‬كما علمت‪ ،‬من التراب والماء ثم‬
‫ص ﱠوره من الطين‪.‬‬

‫فإليك إحدى غرائب األدمغة األمية‪ ،‬تعرف منھا أن ثَمة معارف ال مصدر‬
‫لھا إال الوحي‪ ،‬وأن ثَمة أسئلة إذا استقل العقل في اإلجابة عليھا‪ ،‬بالغا ً ما بلغ‬
‫صاحبه من علم وتحصيل للمعارف‪ ،‬فلن يكون ما يصل إليه إال أباطيل‬
‫وضالالت‪ ،‬بعضھا مقلوب الحق‪ ،‬وبعضھا من الھزل والطرائف‪.‬‬

‫يقول السير جيمس فريزر في كتابه‪ :‬الفلكلور في العھد القديم‪ ،‬وھو يبحث‪،‬‬
‫بمنھجه األمي‪ ،‬عن أصل قصة خلق اإلنسان من ماء وتراب في خريطة الوجود‬
‫البني إسرائيلية‪ ،‬ومن أين جاءت‪:‬‬

‫"يُحكى في األسطورة اإلغريقية أن بروميثيوس الحكيم قد خلق اإلنسان‬


‫من الطين عند بانوبيس التي تقع عند فوكيس‪ ،‬وقد تخلفت عن عملية الخلق‬
‫كمية من الطين كان من الممكن رؤيتھا بعد ھذا بزمان طويل على شكل‬
‫صخرتين كبيرتين تشرفان على واد ضيق ‪ ...‬وقد قمت أنا بزيارة ھذا المكان‬
‫فوجدته واديا ً مھجوراً‪ ،‬أو باألحرى تجويفا ً يقع على الجانب الجنوبي من تل‬
‫بانوبيس ‪ ...‬وقد بدا الوادي جافا ً بعد صيف طويل لم تسقط فيه األمطار في‬
‫بالد اليونان‪ ،‬ولكني أبصرت في قاع الوادي تربة مفتتة مائلة إلى االحمرار‪،‬‬
‫ربما كانت مخلفات أثرية من الطين الذي خلق منه بروميثيوس أول أبوين‬
‫على وجه األرض")‪!!(١‬‬

‫‪ ( ١‬الفلكلور في العھد القديم‪ ،‬ص‪.٣٠-٢٩‬‬


‫‪٣٨٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أرأيت إلى الكوميديا؟!‬

‫العالمة األمي وجد شبھا ً بين خلق اإلنسان من طين في خريطة بني إسرائيل‬
‫ﱠ‬
‫وأسطورة بروميثيوس‪ ،‬فجعل األسطورة مصدراً للخريطة‪ ،‬ثم حول األسطورة‬
‫إلى حقيقة بحث عن آثارھا‪ ،‬ووجد ما تخلف عنھا من الطين بعد آالف السنين!!‬

‫فھل أدركت أين ھي المشكلة ؟‬

‫المشكلة أنه من عبيد بني إسرائيل‪ ،‬وعيه محصور داخل خريطة بني‬
‫إسرائيل للوجود‪ ،‬وعقله يعمل داخل سيرة البشر األولى كما رسمھا بنو إسرائيل‬
‫في ھذه الخريطة‪ ،‬فأسئلته تنبعث منھا‪ ،‬ومكونات ھذه الخريطة ھي فرضياته‬
‫التي يبدأ من عندھا‪ ،‬ومنھجه والطريقة التي يبحث بھا عن اإلجابة أتى بھا من‬
‫سيرة البشر فيھا‪ ،‬وإجاباته وما يصل إليه يعود به إليھا‪.‬‬

‫وال تثريب على أمثاله من عبيد بني إسرائيل في الغرب‪ ،‬إذ إن عالمه الذي‬
‫ولد ويعيش فيه‪ ،‬ھو كله‪ ،‬بعقائده وأفكاره وعلومه وآدابه وفنونه‪ ،‬ليس إال ثمرة‬
‫مكتملة وترجمة حية لخريطة بني إسرائيل للوجود وسيرة البشر األولى فيھا‪،‬‬
‫وھذا العالم وكل من فيه تكونوا بمحاكاة سيرة بني إسرائيل المقدسة‪.‬‬

‫فلو أنه بدالً من الضرب في مشارق األرض ومغاربھا بحثا ً عن أصول‬


‫خريطة الوجود البني إسرائيلية في الصخور والطين‪ ،‬أو مع ذلك‪ ،‬ذھب إلى‬
‫بيان اإلله إلى خلقه الصادر عن ذاته مباشرة بال وسيط وال را ٍو يروي‪ ،‬لوجد‬
‫خريطة الوجود اإللھية الحقيقية نقية صافية خالية من التحوير واالبتكارات‪ ،‬ھي‬
‫دليل نفسھا على أنھا الحق ومن الحق‪.‬‬

‫‪٣٨٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ولكن أنﱠى له ذلك والعالم الذي نبت فيه يحكمه‪ ،‬وخريطة بني إسرائيل‬
‫تفترس وعيه وتعشش في عقله ووجدانه‪ ،‬وما تفتحه من أبواب االنفالت‬
‫واالبتكار رضاعه وفطامه‪.‬‬

‫وقد تقول‪ :‬ربما ال يعلم‪ ،‬وله بذلك العذر‪.‬‬

‫ونقول لك‪ :‬ليست المشكلة أنه ال يعلم‪ ،‬بل أنه لن يقبل علما ً يأتيه من غير‬
‫عالمه وخريطة الوجود التي انفتق بھا وعيه‪ ،‬وتسري مياھھا فيه‪ ،‬بل وإذا علم‬
‫الحق وكان منصفا ً وأقر بأنه حق فلن يتبعه‪ ،‬فھذا وأضرابه شعارھم‪ :‬لوال نُزل‬
‫ھذا القرآن على رجل من الغرب عظيم!‬

‫فإليك نموذجا ً في عبارة للمستشرق إرنست رينان‪ ،‬تراه فيھا يعرف الحق‬
‫ويقر به‪ ،‬دون أن يعتنقه‪ ،‬بل وھو يشن حمالت شعواء القتالعه وإحالل ما‬
‫يعرف أنه باطل محله‪.‬‬

‫يقول رينان إنه‪:‬‬

‫"ال يستطيع أن يقاوم شعوراً يجرفه حين يدخل المساجد ويرى خلوھا من‬
‫التماثيل والزخارف التي تثقل الكنائس وتشغل العابد عن الرب‪ ،‬وحين يرى‬
‫وحدة المسلمين في صالتھم‪ ،‬وھو أنه يتمنى لو أنه كان مسلماً")‪!!(١‬‬

‫فالذي منع ھذا أن يكون مسلما ً وجعله عدواً لإلسالم وعقائده وحضارته‪ ،‬مع‬
‫يقينه أنه الحق‪ ،‬ھو ما يحجز جيمس فريزر وأشباھه في الغرب عن النظر في‬
‫خريطة الوجود اإللھية الحقيقة‪ ،‬بل إنھم ينقبون‪ ،‬ويكدون في التنقيب‪ ،‬عما‬

‫‪ ( ١‬روبرت بريفالت‪ :‬أثر اإلسالم في تكوين اإلنسانية‪ ،‬ص‪.١١٩‬‬


‫‪٣٩٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يضعونه إلى جوار التوراة ليقارنوھا به من خرافات الھند والصين‪ ،‬وأساطير‬


‫الرومان واإلغريق‪ ،‬وآثار ما فني من القبائل والشعوب‪ ،‬ويتعمدون تجاھل‬
‫القرآن ويتحاشون ذكره‪ ،‬ولو من باب أنه مصدر كغيره من المصادر‪.‬‬

‫فھل أدركت أين العقدة ؟‬

‫العقدة ھي أن وعي فريزر وأشباھه وعقولھم وتكوينھم ووجدانھم محصور‬


‫داخل خريطة الوجود البني إسرائيلية وال يقبل إال ما يتوافق معھا ويدور في‬
‫داخلھا‪ ،‬وكل خرائط الوجود المزورة تتوافق معھا وتدور في داخلھا‪ ،‬ألنھا‬
‫أصالً فروع تفرعت منھا‪.‬‬

‫فھا ھو موريس بوكاي‪ ،‬أحد أبناء الغرب‪ ،‬يخبرك صريحا ً أن المشكلة ليست‬
‫في أن َمن في عالمه ال يعلمون‪ ،‬بل في أنھم ال يريدون أن يعلموا‪:‬‬

‫"حاولت إقامة حوار من أجل دراسة مقارنة حول عدد من األخبار‬


‫المذكورة في القرآن والتوراة معا ً في موضوع واحد‪ ،‬والحظت أن ھناك رفضا ً‬
‫باتا ً للنظر بعين االعتبار‪ ،‬ولو لمجرد التأمل‪ ،‬فيما يحتويه القرآن مما يتعلق‬
‫بموضوع الدراسة المزمعة‪ ،‬كأن الرجوع إلى القرآن يعني االعتماد على‬
‫)‪(١‬‬
‫الشيطان"‬

‫فھل استبان لك اآلن لماذا ھذا التجاھل والتحاشي والرفض البات؟‬

‫ألن القرآن بيان اإلله إلى خلقه‪ ،‬وخريطة الوجود فيه ھي الحق الذي ينسف‬
‫خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وتنقطع به االبتكارات‪ ،‬وتنھار عوالم الباطل‬

‫‪ ( ١‬موريس بوكاي‪ :‬القرآن واإلنجيل والتوراة والعلم‪ ،‬ص‪.٧‬‬


‫‪٣٩١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫التي تكونت بھا ويقوم كل شئ فيھا عليھا‪ ،‬واالبتكارات وعوالمھم التي تكونت‬
‫بھا أحب إليھم من الحق!‬

‫وأما التثريب‪ ،‬كل التثريب‪ ،‬فعلى عبيد عبيد بني إسرائيل من األميين في‬
‫الشرق‪ ،‬اتخذوا القرآن مھجوراً‪ ،‬ودخلوا خلف األميين في الغرب جحر الضب‬
‫البني إسرائيلي‪ ،‬لتستوطن الخريطة المزورة وعيھم‪ ،‬وتسري في تكوينھم‪ ،‬فمن‬
‫خاللھا يرون‪ ،‬وبھا يفھمون‪ ،‬ومن مياھھا الملوثة ما أنتجوه وما زالوا ينتجون‪.‬‬

‫فإذا أردت أن تتيقن‪ ،‬فارجع إلى ما أتيناك به من أفكارھم و آثارھم وابدأ‬


‫القراءة من البداية‪.‬‬

‫واآلن إليك وجوھا ً أخرى من أسطورة بروميثيوس‪ ،‬توقن منھا أن من‬


‫صدرت عنه راضع من بني إسرائيل وخريطتھم وسيرتھم‪.‬‬

‫في األسطورة أن بروميثيوس خبأ نار المعرفة حين اختلسھا من اآللھة في‬
‫عصا من ساق شجيرة ال ﱠشمار‪ ،‬وھذه العصا‪ ،‬التي أھملھا من فطنوا إلى وجوه‬
‫الشبه بين األسطورة وقصة الخلق البني إسرائيلية‪ ،‬ليست سوى الحية التي اختبأ‬
‫فيھا الشيطان ليدل اإلنسان على شجرة المعرفة‪.‬‬

‫فإذا تعجبت وتساءلت‪ :‬كيف تكون العصا ھي الحية؟!‬

‫فاإلجابة‪ :‬ألن ھذه الحية ھي نفسھا ليست سوى عصا موسى!‬

‫الحية في خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬لم تأت بھا الطائفة منھم التي‬
‫تحوز األصل ال من شرق وال من غرب‪ ،‬كما توھم األميون وكدوا في البحث‬
‫عنھا في الصخور واألحافير واألساطير‪.‬‬
‫‪٣٩٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫لم يفعل بنو إسرائيل شيئا ً سوى أنھم قلبوا عصا موسى إلى حية‪ ،‬كما‬
‫وجدوھا تنقلب في سيرتھم‪:‬‬
‫صا«‪٣ ،‬فَقَا َل‪» :‬ا ْ‬
‫ط َر ْح َھا إِلَى‬ ‫" فَقَا َل لَهُ ال ﱠر ﱡب‪َ » :‬ما ھ ِذ ِه فِي يَ ِدكَ؟« فَقَا َل‪َ » :‬ع ً‬
‫‪٢‬‬

‫سى ِم ْن َھا‪٤ ،‬ثُ ﱠم قَا َل‬‫ب ُمو َ‬ ‫ارتْ َحيﱠةً‪ ،‬فَ َھ َر َ‬ ‫ص َ‬ ‫ض فَ َ‬ ‫ض«‪ ،‬فَطَ َر َح َھا إِلَى األَ ْر ِ‬ ‫األَ ْر ِ‬
‫صا‬ ‫ارتْ َع ً‬ ‫ص َ‬ ‫سكْ بِ َذنَبِ َھا«‪ .‬فَ َم ﱠد يَ َدهُ َوأَ ْم َ‬
‫سكَ بِ ِه‪ ،‬فَ َ‬ ‫سى‪ُ » :‬م ﱠد يَدَكَ َوأَ ْم ِ‬ ‫ال ﱠر ﱡب لِ ُمو َ‬
‫)‪(١‬‬
‫فِي يَ ِد ِه"‬

‫فعصا موسى التي جعلھا الرب اإلله تفعل األعاجيب‪ ،‬فالتھمت ثعابين سحرة‬
‫فرعون‪ ،‬وضرب بھا موسى النھر فاستحال ماؤه دماً‪ ،‬وفلق بھا البحر‪ ،‬وفجر‬
‫بھا عيون الماء في سيناء‪ ،‬نقلھا بنو إسرائيل إلى خريطة الوجود لتؤدي عجيبة‬
‫أخرى‪ ،‬بعد أن قلبوھا كما فعل موسى إلى‪:‬‬

‫ت ا ْلبَ ﱢريﱠ ِة الﱠتِي َع ِملَ َھا ال ﱠر ﱡب ِ‬ ‫"ا ْل َحيﱠةُ أَ ْحيَ َل َج ِم ِ‬


‫)‪(٢‬‬
‫اإللهُ"‬ ‫يع َحيَ َوانَا ِ‬
‫وألن العصا ل ﱠما انقلبت إلى حية‪ ،‬بدت لكل من رآھا تھتز كأنھا ﱡ‬
‫جان‪ ،‬فلم يكن‬
‫بعيداً على بني إسرائيل أن يدخلوا فيھا إلى الجنة كبير الجان‪.‬‬

‫ثم جاء ھزيود‪ ،‬فأعاد الحية إلى أصلھا‪ ،‬وقلبھا في خريطته للوجود إلى عصا‬
‫مرة أخرى‪.‬‬

‫ومن الطريف أن تعلم أنه ليس في التوراة ما يُعرف منه من أي شئ كانت‬


‫عصا موسى‪ ،‬ولكن ألنه عليه السالم كان راعيا ً لألغنام في البادية‪ ،‬وعصاه‬

‫‪ ( ١‬خروج‪.٤-٤:٢ :‬‬
‫‪ ( ٢‬تكوين‪.٣:١ :‬‬
‫‪٣٩٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يھش بھا على غنمه‪ ،‬فثَمة من ذھب إلى أن عصاه ھذه كانت من الشجيرات التي‬
‫تنبت في البوادي‪.‬‬

‫وفي ذلك أثر ضعيف رواه اإلمام الدارمي في كتابه‪ :‬الرد على الجھمية‪،‬‬
‫بسنده عن عكرمة‪ ،‬عن ابن عباس‪ ،‬موقوفا ً عليه أن‪:‬‬

‫"سيد السموات السماء التي فيھا العرش‪ ،‬وسيد األرضين التي نحن‬
‫)‪(١‬‬
‫عليھا‪ ،‬وسيد الشجر العوسج‪ ،‬ومنه عصا موسى"‬

‫والعوسج شجيرة من الفصيلة الباذنجانية تنمو في األراضي الرملية‪ ،‬وتكثر‬


‫في صحراوات الجزيرة العربية والشام وسيناء‪.‬‬

‫وألن العوسج ال وجود له في اليونان‪ ،‬فقد حوله ھزيود‪ ،‬وھو يعيد الحية إلى‬
‫أصلھا العصا‪ ،‬إلى شجيرة ال ﱠشمار التي تنتشر في حوض البحر المتوسط!‬

‫ومن العصا التي خبأ بروميثيوس فيھا النار إلى النار نفسھا‪ ،‬وھي شئ آخر‬
‫ال شبيه لمعانيه في األسطورة إال في سيرة بني إسرائيل‪ ،‬وفي أصل ھذه السيرة‬
‫في الوحي‪.‬‬

‫فأما عن النار في األسطورة‪ ،‬من أين أتى بھا ھزيود‪ ،‬فارتباط النار في‬
‫األسطورة باآللھة‪ ،‬واقترانھا بالمعرفة‪ ،‬وحملھا علم اآللھة إلى اإلنسان‪ ،‬وارتفاع‬
‫اإلنسان بھذه النار وما جلبته له من علم ومعرفة فوق المخلوقات كلھا‪ ،‬ليصير‬
‫المخلوق اإللھي أو المخلوق المختار عند اإلله بروميثيوس‪ ،‬فلست في حاجة إلى‬
‫كبير ذكاء لتدرك أنھا ليست سوى النار التي كلم منھا اإلله يھوه موسى عليه‬

‫‪ ( ١‬اإلمام الدارمي‪ :‬الرد على الجھمية‪ ،‬حديث رقم ‪ ،٩٠‬ص‪.٥٠‬‬


‫‪٣٩٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫السالم‪ ،‬وجاءه منھا علمه‪ ،‬وبھذا العلم اآلتي منھا ارتفع بنو إسرائيل فوق البشر‬
‫واصطفاھم اإلله وصاروا شعبه المختار‪.‬‬

‫ظ َر َوإِ َذا ا ْل ُعلﱠ ْيقَةُ‬


‫س ِط ُعلﱠ ْيقَ ٍة)•(‪ ،‬فَنَ َ‬ ‫ب بِلَ ِھي ِ‬
‫ب نَا ٍر ِمنْ َو َ‬ ‫ظ َھ َر لَهُ َمالَ ُك ال ﱠر ﱢ‬ ‫"‪َ ٢‬و َ‬
‫سى‪»:‬أَ ِمي ُل اآلنَ ألَ ْنظُ َر ھ َذا‬ ‫تَت ََوقﱠ ُد بِالنﱠا ِر‪َ ،‬وا ْل ُعلﱠ ْيقَةُ لَ ْم تَ ُكنْ ت َْحتَ ِرقُ‪ ،‬فَقَا َل ُمو َ‬
‫‪٣‬‬

‫ق ا ْل ُعلﱠ ْيقَةُ؟«‪٤ .‬فَلَ ﱠما َرأَى ال ﱠر ﱡب أَنﱠهُ َما َل لِيَ ْنظُ َر‪،‬‬
‫ظ َر ا ْل َع ِظي َم‪ ،‬لِ َما َذا الَ ت َْحتَ ِر ُ‬
‫ا ْل َم ْن َ‬
‫سى!«‪ ،‬فَقَا َل‪» :‬ھأَنَ َذا«‪٥ ،‬فَقَا َل‪:‬‬ ‫سى‪ُ ،‬مو َ‬ ‫س ِط ا ْل ُعلﱠ ْيقَ ِة َوقَا َل‪ُ » :‬مو َ‬ ‫نَادَاهُ ﷲُ ِمنْ َو َ‬
‫ض َع الﱠ ِذي أَ ْنتَ َواقِفٌ‬
‫اخلَ ْع ِح َذا َءكَ ِمنْ ِر ْجلَ ْيكَ ‪ ،‬ألَنﱠ ا ْل َم ْو ِ‬
‫»الَ تَ ْقتَ ِر ْب إِلَى ھ ُھنَا‪ْ ،‬‬
‫َعلَ ْي ِه أَ ْر ٌ‬
‫ٌ )‪(١‬‬
‫س ة"‬‫ض ُمقَ ﱠد َ‬

‫فھزيود‪ ،‬كما ترى‪ ،‬لم يأت في مالحمه بشئ جديد‪ ،‬وال ابتدع شيئا ً من بنات‬
‫أفكاره‪ ،‬ال النار‪ ،‬وال المعرفة‪ ،‬وال أن تلك حاملة لھذه‪ ،‬وال أن اإلله مصدر ھذه‬
‫وتلك‪.‬‬

‫واالبتكار الوحيد الذي ابتكره‪ ،‬والتحوير الذي فعله‪ ،‬كما رأيت في كل‬
‫االبتكارات والتحويرات‪ ،‬ھو أنه نقل المكونات التي بدأت بھا سيرة بني إسرائيل‬
‫إلى خريطة الوجود‪ ،‬وصنع بھا مادة‪ ،‬فبرك منھا بداية سيرة بني آدم‪ ،‬ليموه بھذه‬
‫الفبركة السيرة اإللھية الحقيقية‪.‬‬

‫ومما يزيدك يقينا ً أن ھزيود إنما أتى بالمادة التي لفق منھا األسطورة من‬
‫سيرة بني إسرائيل‪ ،‬أنه ال شبيه لھذه المادة في أي تراث سابق على سيرة بني‬
‫إسرائيل‪.‬‬

‫• ( العليقة ھي شجرة التوت‪ ،‬وھي من الفصيلة الوردية‪.‬‬


‫‪ ( ١‬خروج‪.٥-٢ :٣ :‬‬
‫‪٣٩٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والسير جيمس فريزر تتبع سيرة بني إسرائيل‪ ،‬في كتابه‪ :‬الفلكلور في العھد‬
‫القديم‪ ،‬وألنه أمي والفرضية التي بدأ منھا أن كل ما في ھذه السيرة ليس سوى‬
‫تلفيق جمع فيه كاتبھا كل ما وصله من حكايات القبائل البدائية والشعوب البائدة‪،‬‬
‫فقد استعرض فريزر معارفه الغزيرة عن تراث ھذه القبائل والشعوب‪ ،‬واختال‬
‫بمھاراته ومواھبه في ربط جزيئات سيرة بني إسرائيل بھذا التراث وإيجاد‬
‫شوابه لھا فيه‪ ،‬ولكنه لم يجد لقصة اإلله والنار والمعرفة أثراً‪ ،‬فغض طرفه‬
‫وسكت عنھا‪ ،‬رغم أنھا محور ھذه السيرة وبدايتھا وأشد مكوناتھا إثارة!‬

‫فإليك ما تعمد األمي جيمس فريزر أن يُعرض عنه‪ ،‬تعلم منه المصدر‬
‫األصلي لقصة اإلله والنار واالصطفاء والمعرفة‪ ،‬وأنھا حقيقة ال أسطورة‪ ،‬وأنه‬
‫حتى بني إسرائيل ال يبتكرون‪ ،‬ولكنھم بما أوتوه يعبثون‪ ،‬ثم في ما ينتجه عبثھم‬
‫تسير خياالت األميين‪ ،‬وفي األوھام التي تخلقھا ھذه الخياالت يعيشون‪.‬‬

‫}~¡‪®¬«ª©¨§¦¥¤£¢‬‬

‫¯ ‪ Á À ¿ ¾½ ¼ » º¹¸ ¶ µ ´ ³ ²±°‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪FEDCBAÇÆÅÄÃ‬‬

‫وإليك مرة أخرى من أسطورة ھزيود ما ال أصل له وال تفسير له إال في‬
‫الوحي‪.‬‬

‫بين ھزيود الذي ولدت أسطورة بروميثيوس في مالحمه وبين إسخيلوس‬


‫الذي صاغھا مسرحية حوالي قرن من الزمان‪ ،‬فقد عاش ھزيود في أواسط‬

‫‪ ( ١‬طه‪.١٣-٩ :‬‬
‫‪٣٩٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫القرن السابع قبل الميالد‪ ،‬وولد إسخيلوس في الربع األول من القرن السادس‬
‫قبل الميالد‪ ،‬سنة ‪ ٥٢٥‬ق م‪.‬‬

‫وتتفق األسطورة والمسرحية في أن بروميثيوس خلق اإلنسان‪ ،‬وأنه وھبه‬


‫المعرفة وعلمه التفكير وأنطقه‪ ،‬ليكون شبيھا ً باآللھة‪ ،‬وأنه كاد أن يجعله خالداً‬
‫لوال أن تنبه زيوس ومنعه من ذلك‪ ،‬وأنه سرق النار من اآللھة وأعطاھا‬
‫لإلنسان‪.‬‬

‫ولكن ثمة فرق بين األسطورة والمسرحية في مسألة النار والمعرفة‪ ،‬وإن‬
‫كانت الفحوى واحدة‪ ،‬فإسخيلوس نص في مسرحيته على أن بروميثيوس سرق‬
‫)‪(١‬‬
‫النار ليھب اإلنسان بھا المعرفة ويعلمه التفكير وينطقه‬

‫أما في مالحم ھزيود‪ ،‬فقد علم بروميثيوس اإلنسان التفكير والكالم‪ ،‬ثم سرق‬
‫النار من اآللھة ليھبھا له في األرض مصدراً للطاقة وينشر بھا الدفء في‬
‫حياته‪ ،‬وليعرفه كيف يستخدمھا ويصنع بھا ما ييسر أحواله‪.‬‬

‫في مالحم ھزيود‪ ،‬بعد أن بدأ الرجال الذين خلقھم بروميثيوس حياتھم على‬
‫األرض كانوا يذبحون الماشية قربانا ً لآللھة‪ ،‬ولم يكن مباحا ً لھم أن يأكلوھا‪ ،‬وال‬
‫يعرفون كيف يكون طھيھا‪ ،‬فاحتال ابن إيابيتوس النبيل لكي يبيح لإلنسان أكل‬
‫اللحم ويعلمه كيف يطھوه‪.‬‬

‫ذبح بروميثيوس ثوراً عظيما ً وجعله قسمة بين زيوس واإلنسان‪ ،‬لكي‬
‫اإلنسان اآللھةَ أكل األنعام‪ ،‬ولكن غلبته مواھبه في‬
‫ُ‬ ‫يرضى زيوس أن يقاسم‬

‫‪1) The Prometheus Bound of Aeschylus,rendered into English verse,P10.‬‬


‫‪٣٩٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المكر وتدبير الحيل‪ ،‬فقسم الذبيحة قسمين‪ ،‬فجعل في كومة عظامھا البيضاء بما‬
‫اختلط بھا من رقائق اللحم‪ ،‬وزين اإلناء الذي وضعھا فيه وغطاھا بطبقة من‬
‫الدھن البراق‪ ،‬وفي الكومة األخرى وضع اللحم وغطاه باألحشاء‪.‬‬

‫ووضع بروميثيوس الكومتين أمام زيوس ليختار التي تروق لھا ويترك‬
‫األخرى لإلنسان‪ ،‬فاختار الكومة البراقة‪ ،‬وحين رأى ما فيھا علم أنه ُخدع‪،‬‬
‫فامتأل غضبا ً ولكنه أخفاه وقبل العظام والدھن ألنھا اختياره‪.‬‬

‫ولھذا‪ ،‬كما يقول ھزيود‪:‬‬

‫"اعتادت قبائل الرجال في األرض أن تأكل اللحم وأن تقدم العظم قربانا ً‬
‫)‪(١‬‬
‫لآللھة في المعابد"‬

‫ثم سرق بروميثيوس النار من اآللھة‪ ،‬ليعلم اإلنسان كيف يطبخ اللحم‪ ،‬ثم‬
‫ليعرفه كيف يوقدھا ويحتمي بھا من البرد‪.‬‬

‫وينقل دكتور عبد المعطي شعراوي‪ ،‬عن جريفز‪ ،‬وعن بورا ‪ Bowra‬في‬
‫كتابه‪ :‬تجربة اإلغريق ‪ ،Greek Experience‬في تفسير عادة اإلغريق تقديم‬
‫العظم وما اختلط به من شرائح اللحم لتحرق في المعابد قربانا ً لآللھة‪ ،‬وفي‬
‫تفسير أصلھا في ملحمة ھزيود أنه‪:‬‬

‫"ربما تكون ھذه الرواية من ابتكار ھزيود‪ ،‬إذ إنھا قصة طريفة مضحكة‬
‫لتبرير عقاب زيوس لبروميثيوس‪ ،‬وقد تكون أيضا ً أسطورة من األساطير‬

‫‪1) Theogony,in:Hesiod,The Homeric Hymns and Homerica with an English‬‬


‫‪translation,P119.‬‬
‫‪٣٩٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫السببية‪ ،‬إذ إنھا تفسر السبب في تقديم الجزء الردئ من الذبيحة قربانا ً‬
‫)‪(١‬‬
‫لآللھة"‬

‫ومرة أخرى‪ ،‬نقول لك‪ :‬ما في أسطورة ھزيود توظيف وليس ابتكاراً من‬
‫عنده كما توھم األميون‪ ،‬فھذه القصة التي يقولون إنھا طريفة ومضحكة‪ ،‬ولم‬
‫يجدوا لھا مصدراً‪ ،‬أصلھا في الوحي وما أخبرك به عن بني إسرائيل‪:‬‬

‫´‪ÁÀ¿¾½¼ »º¹¸¶µ‬‬

‫‪Ñ ÐÏÎÍ ÌËÊÉÈÇÆÅÄÃ Â‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫‪ÔÓÒ‬‬

‫اإلله يخبرك في بيانه أنه عاقب بني إسرائيل ببغيھم‪ ،‬فضيق عليھم وحرم أن‬
‫يأكلوا من الذبيحة إال العظم وما اختلط به من لحم‪ ،‬والذي فعله ھزيود أنه رد‬
‫العقوبة في ملحمته لآللھة فأباح لھا العظم وحرم عليھا اللحم‪.‬‬

‫وألن مالحم ھزيود ھي النواة التي تكون بھا اإلغريق وتخلقت حولھا‬
‫حضارتھم‪ ،‬فقد صارت ھذه شعيرة عند اإلغريق ورثوا فيھا عن بني إسرائيل‬
‫عقاب اآللھة وھم يحسبون أنھم يتقربون إليھا!!‬

‫فلعلك تكون قد أدركت اآلن ماذا يكون بنو إسرائيل في البشر‪ ،‬ولماذا أفرد‬
‫لھم عز وجل في بيانه إلى خلقه ما أفرده لھم‪ ،‬ولماذا تتبع لك سيرتھم وأتاك بما‬
‫فيھا من تفاصيل؟‬

‫‪ ( ١‬أساطير إغريقية‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٨٧‬‬


‫‪ ( ٢‬األنعام‪.١٤٦:‬‬
‫‪٣٩٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤٠٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﻘﺒﺎﻟﻲ‬
‫‪ÊÉÈÇÆÅÄÃÂ‬‬
‫)اﻟﻘﺼﺺ‪(٥٠:‬‬

‫‪٤٠١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤٠٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاﺧﻮﻳﺔ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس‬
‫علمتَ من قبل أن ثَمة سيرة تقليدية لمن كونوا الحركات السرية في كل‬
‫العصور‪ ،‬وأن ھذه السيرة انسابت عبرھا خريطة الوجود البني إسرائيلية وما‬
‫بُني عليھا من ابتكارات في كل األمم والشعوب‪ ،‬وھي سيرة الرجل الذي يسافر‬
‫بين البلدان‪ ،‬ويتنقل بين القارات‪ ،‬ثم يقر في مكان ال يعلم أحد فيه أصله وال بلده‬
‫وال ديانته وال مواھبه‪ ،‬بل وال اسمه الحقيقي‪ ،‬ثم يعمل عمالً يغير به وعي‬
‫المكان الذي قر فيه‪.‬‬

‫وعلمت أن ھذا العمل الذي يعمله ھذا المتنقل في المكان الذي ھبط عليه‪ ،‬قد‬
‫يكون جمعية علمية أو جماعة أدبية أو منظمة سياسية أو طريقة دينية‪ ،‬يدس من‬
‫خاللھا ما يريد دسه من أفكار في أذھان من يخلب لبھم بريق راياتھا وزخرف‬
‫شعاراتھا فيدخلونھا‪ ،‬ثم يكونون ھم أنفسھم أداة بث ھذه األفكار وتغيير وعي‬
‫عموم الناس بھا‪.‬‬

‫فإليك نموذجا ً آخر لھذه السيرة التي تنساب بھا خريطة بني إسرائيل‬
‫وامتدادھا في القبااله‪ ،‬في أحد أشھر أعالم البشر‪ ،‬وإحدى أقدم الجمعيات السرية‬
‫في التاريخ‪ ،‬توقن بھا أن الفساد‪ ،‬وإن تعددت الضالالت واألباطيل التي يفرزھا‬
‫وتفرقت وسارت في مشارق األرض ومغاربھا‪ ،‬فمنابعه واحدة‪.‬‬

‫في سنة ‪ ٥٧٠‬قبل الميالد‪ ،‬وفي جزيرة ساموس ‪ Samos‬اإلغريقية‪ ،‬ومن‬


‫أب يُرجح أنه فينيقي األصل من مدينة صيدا ‪ ،Sidon‬وھو كثير التنقل ويعمل‬

‫‪٤٠٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫بالتجارة‪ ،‬ولد فيثاغورس ‪ ،Pythagors‬أول الفالسفة‪ ،‬والذي منح الفلسفة‬


‫اسمھا‪.‬‬

‫فالفلسفة كلمة مركبة من مقطعين‪ :‬فيلو ‪ ،Philo‬وتعني محبة‪ ،‬وسوفيا‬


‫‪ Sophia‬أي‪ :‬الحكمة‪ ،‬فھي محبة الحكمة‪ ،‬وفيثاغورس ھو الذي نحتھا‪ ،‬وھو‬
‫أول من سمى نفسه فيلسوفاً‪ ،‬أي‪ :‬محب الحكمة‪ ،‬وكان المشتغلون بالتأمل والفكر‬
‫قبله يسمونھم‪ :‬العارفون ‪.Sages‬‬

‫وقد كان أفالطون ‪ Plato‬مولعا ً بأفكار فيثاغورس وتقاليده وأسلوب حياته‪،‬‬


‫وقال عنه أرسطو ‪ Aristotle‬إن جمھوريته ليست سوى ترجمة لھذه األفكار‬
‫والتقاليد‪ ،‬وامتدت آثار فيثاغورس إلى كل من جاء بعده من عظام الفالسفة‬
‫اإلغريق‪ ،‬بل وإلى كل من أنجبھم الغرب من فالسفة‪ ،‬حتى قال الفيلسوف‬
‫اإلنجليزي برتراند رسل في كتابه‪ :‬تاريخ الفلسفة الغربية‪:‬‬

‫"فلست أعلم عن رجل آخر كان له من التأثير في نطاق الفكر ما كان‬


‫لفيثاغورس‪ ،‬وأقول ذلك ألن ما قد يبدو لك أفالطونيا ً ستجده عند التحليل‬
‫فيثاغوريا ً في جوھره ‪ ...‬ولواله لما فكر المسيحيون في المسيح على أنه‬
‫)‪(١‬‬
‫الكلمة"‬

‫وما خلﱠد فيثاغورس في تاريخ العالم كله‪ ،‬وجعله حاضراً مذكوراً في كل‬
‫العصور‪ ،‬أثره في علم الحساب واألعداد‪ ،‬ونظريته في الھندسة التي أقام‬
‫برھانھا وأثبتھا‪ ،‬وھي أنه‪:‬‬

‫‪ ( ١‬برتراند رسل‪ :‬تاريخ الفلسفة الغربية ج‪ ١‬الفلسفة القديمة‪ ،‬ص‪٨٠‬‬


‫‪٤٠٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"في مثلث قائم الزاوية‪ ،‬مربع طول الوتر المقابل للزاوية القائمة يساوي‬
‫حاصل جمع مربع طول الضلعين اآلخرين"‬

‫فإليك الوجه اآلخر لفيثاغورس وما ال تذكره المؤلفات التي تمتلئ بقصائد‬
‫مدحه‪ ،‬وكتب المدارس والجامعات التي تحوي نظرياته وأفكاره‪.‬‬

‫وھو على أعتاب الشباب قام فيثاغورس بالرحلة التقليدية الشبيھة باألساطير‬
‫التي يحجھا رجال القبااله والحركات السرية عبر التاريخ‪ ،‬كل واحد منھم في‬
‫أثر اآلخر)•(‪ ،‬وفي رحلته ھذه‪ ،‬كما يقول القبالي والماسوني من الدرجة الثالثة‬
‫والثالثين مانلي ھول‪ ،‬في كتابه‪ :‬التعاليم السرية عبر العصور‪:‬‬

‫"رحل إلى مصر‪ ،‬وبمثابرته‪ ،‬وبعد صد ورفض‪ ،‬حاز ثقة كھنة طيبة‬
‫‪ ،Priests of Thebes‬فتتلمذ على أيديھم وأطلعوه على أسرار عبادة‬
‫إيزيس)•(‪ ،‬ثم وجد ھذا القلب الجسور طريقه إلى فينيقيا وسوريا‪ ،‬فتلقى من‬
‫كھنتھا أسرار عبادة أدونيس ‪ ، Adonis‬ثم عبر إلى وادي الفرات فمكث‬
‫طويالً إلى أن تضلع من ‪ Versed in‬األسرار الكلدانية والبابلية‪ ،‬ثم عبر في‬

‫• ( في دورة اإلفساد الثانية‪ ،‬أشھر من قاموا بھذه الرحلة‪ ،‬التي تبدأ عادة بمصر‪ ،‬أو تنتھي بھا‪ ،‬اليھودي‬
‫القبالي كاجليوسترو مؤسس مذھب ممفيس المصري في الماسونية‪ ،‬وآرثر إدوارد ويت األستاذ األعظم‬
‫لحركة الروزيكروشيان‪ ،‬والقبالية ھيلينا بالفاتسكي مؤسسة جمعية الحكمة اإللھية‪ ،‬وتلميذتھا اليھودية‬
‫القبالية أليس بيلي األم الروحية لحركة العھد الجديد‪ ،‬والقبالي الماسوني أليستر كراولي أبو الشيطانية‬
‫الحديثة ومؤسس جمعية الفجر الذھبي لممارسة السحر وتعليم فنونه‪.‬‬
‫•( عبادة إيزيس ھي نفسھا العقيدة السرية المتوارثة بين الصفوة عبر التاريخ‪ ،‬كما تقول بالفاتسكي‪ ،‬ولھا‬
‫كتاب أقل شھرة من كتاب العقيدة السرية في كشف أسرار عبادة إيزيس ھذه‪ ،‬عنوانه‪ :‬إيزيس سافرة ‪Isis‬‬
‫‪.Unveiled‬‬
‫‪٤٠٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫مغامرة كبرى فارس إلى ھندوستان ‪ ،Hindustan‬حيث استقر به المقام عدة‬


‫)‪(١‬‬
‫سنوات تلميذاً لحكماء البراھمانية‪ ،‬ثم مطلعا ً على أسرارھا"‬

‫وبعد ما يربو على ثالثين عاما ً من االطالع على األسرار وحيازتھا‪ ،‬عاد‬
‫فيثاغورس ليقيم في مدينة كروتونا ‪ ،Crotona‬جنوب إيطاليا‪ ،‬وھي إذ ذاك‬
‫مستعمرة إغريقية وأكثر المدن نشاطا ً وسعة وثروة‪ ،‬فأنشأ مدرسته لتعليم‬
‫الحساب والھندسة العلنية‪ ،‬لتكون رافداً وغالفا ً لجمعيته السرية!‬

‫بعد أن استقر فيثاغورس في كروتونا ذاع صيته فيھا وفيما حولھا من‬
‫المستعمرات اإلغريقية‪ ،‬فصار مقصداً للزوار‪ ،‬وقبلة للسؤال وطلب المشورة‪،‬‬
‫وأستاذاً لمحبي الحساب والھندسة وراغبي تعلمھا‪.‬‬

‫ومن ھؤالء كون فيثاغورس مدرسة لتعليم الحساب والھندسة‪ ،‬فإليك وصف‬
‫أحد أشھر أساتذة الفلسفة في بالد العرب لفيثاغورس ومدرسته‪ ،‬قبل أن نعرفك‬
‫بحقيقته وحقيقتھا‪ ،‬يقول الدكتور يوسف كرم‪:‬‬

‫"وكانت فرقته مفتوحة للرجال والنساء من اليونان واألجانب على‬


‫السواء‪ ،‬يعيش أعضاؤھا في عفة وبساطة بموجب قانون ينص على الملبس‬
‫والمأكل والصالة والتراتيل والدروس والرياضة البدنية‪ ،‬يصدعون بما‬
‫يؤمرون غير ناظرين إال إلى أن المعلم قد قال‪ ،‬وكان المعلم متشبعا ً بعاطفة‬

‫‪1 ) The secret teachings of all ages,P65.‬‬


‫‪٤٠٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫دينية قوية ومقتنعا ً بفكرة جليلة‪ ،‬وھي أن العلم وسيلة فعالة لتھذيب األخالق‬
‫)‪(١‬‬
‫وتقديس النفس"‬

‫والجمعية الخيرية التي وصفھا لك الدكتور يوسف كرم‪ ،‬ھي في حقيقتھا‬


‫جمعية سرية نموذجية‪ ،‬وإحدى أقدم الجمعيات السرية في تاريخ العالم‪ ،‬وبعض‬
‫مؤرخي الحركات السرية يعُدونھا أصل الماسونية‪ ،‬أو أحد الجذور القديمة لھا‪،‬‬
‫وبعضھم اآلخر يراھا نسخة في الغرب القديم من حركة الروزيكروشيان في‬
‫الغرب الحديث‪.‬‬

‫قسﱠم فيثاغورس تالميذ مدرسته‪ ،‬و ُجلھم من الشباب‪ ،‬إلى ثالث مراتب أو‬
‫درجات‪ ،‬وأعضاء كل مرتبة ال يعلمون شيئا ً عن التي تليھا‪ ،‬فتعاليم كل درجة‬
‫وطقوسھا‪ ،‬وما يتعلمه ويمارسه من فيھا‪ ،‬سر ال يعلمه إال ھم‪.‬‬

‫فالمرتبة األولى في مدرسة فيثاغورس‪ ،‬ھي المرتبة العلنية‪ ،‬مرتبة الغالف‬


‫والحشود‪ ،‬التي تعقد لھا المؤتمرات وتسلط عليه األضواء‪ ،‬لترصدھا الصحف‬
‫والكاميرات ويتوھم فيھا األميون جمعيات البر والتقوى واإلحسان‪ ،‬وھذه‬
‫المرتبة ‪ ،‬كما يقول الفيلسوف األفلوطيني يامبليخوس الخليقدوني ‪Iamblichus‬‬
‫‪ Chalcidensis‬في تأريخه لحياة فيثاغورس ‪:Life of Pythagoras‬‬

‫"مرتبة المستمعين أو السميعة ‪ ،Akousmatikoi‬وھذه المرتبة كان‬


‫يحتشد فيھا الرجال والنساء‪ ،‬ويحضرون في مكان عام لالستماع فقط من أجل‬

‫‪ ( ١‬يوسف كرم‪ :‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬ص‪.٢٥‬‬


‫‪٤٠٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫تعلم الحساب والھندسة‪ ،‬وغير مسموح لھم بالكالم وال النقاش‪ ،‬وبعد انتھاء‬
‫)‪(١‬‬
‫وقت التعلم يعودون إلى بيوتھم"‬

‫وفي أثناء السنوات التي يستمعون فيھا‪ ،‬والتي قد تصل إلى خمس سنوات‪،‬‬
‫يترقى من يتوسم فيه من يعلمھم ما ترغبه الجمعية من مواھب عقلية ومحاضن‬
‫نفسية إلى المرتبة التي بعدھا‪ ،‬وھي‪:‬‬

‫سابين ‪ ،Mathematikoi‬وھؤالء يسمح لھم‬


‫"مرتبة الرياضيين أو الح ﱠ‬
‫بالسؤال والنقاش‪ ،‬ويتعلمون الحساب والھندسة مع تطبيقاتھا ممزوجة بمحبة‬
‫)‪(٢‬‬
‫الحكمة ومعانيھا‪ ،‬في مكان مغلق"‬

‫وأما المرتبة الثالثة‪ ،‬والتي ال يصعد إليھا أحد من مرتبة الرياضيين إال‬
‫‪Pythagoras‬‬ ‫باالنتخاب ممن ھم فيھا‪ ،‬فھوالء ھم‪ :‬أخوية فيثاغورس‬
‫‪!! Brotherhood‬‬

‫فھؤالء ھم‪:‬‬

‫باسمه‬ ‫يسميھم‬ ‫الذين‬ ‫فيثاغورس‬ ‫وأبناء‬ ‫‪،Electi‬‬ ‫"الصفوة‬


‫‪ ،Pythagoreans‬ويتعلمون المعاني العميقة لألعداد واألشكال الھندسية‪،‬‬
‫والحكمة وأسرارھا المخبوءة فيھا‪ ،‬وصلتھا باإلله والكون واإلنسان والحياة‬
‫)‪(٣‬‬
‫والموت والخلود"‬

‫‪1 ) Iamblichus Chalcidensis: Life of Pythagoras,P13.‬‬


‫‪2 ) Life of Pythagoras,P42.‬‬
‫‪3) Life of Pythagoras,P43-44.‬‬
‫‪٤٠٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأبناء فيثاغورس وأعضاء أخويته ھؤالء‪ ،‬ال ينتقلون إلى ھذه الدرجة إال بعد‬
‫طقوس للترقي‪ ،‬وبعد قسم يقسمونه بالوالء لفيثاغورس وطاعته المطلقة مع‬
‫الكتمان والمحافظة على األسرار‪ ،‬ثم يقيمون معه في مدرسته إقامة دائمة‪ ،‬وھو‬
‫الذي يعلمھم الحكمة وطقوسھا وكيف يمكن الوصول إليھا بنفسه‪.‬‬

‫أما قبل مرتبة الصفوة‪ ،‬فكان التالميذ ال يرون فيثاغورس وال يسمعون‬
‫اسمه‪ ،‬وال يعرفون عن رأس مدرستھم إال أنه السيد أو األستاذ ‪،Master‬‬
‫فمرتبة الرياضيين كان يُعلمھما النابھون من أبناء فيثاغورس‪ ،‬ومرتبة السميعة‬
‫عھد فيثاغورس بتعليمھا إلى ھيباسوس ‪ Hippasus‬أنجب حوارييه‪ ،‬لكي‬
‫يستكشف من يصلح منھم للترقي‪.‬‬

‫وقبل أن تعرف ما ھي األسرار والحكمة التي كان يعلمھا فيثاغورس ألبنائه‬


‫ويورثھا لھم‪ ،‬تنبه أنك لو أُخفيت األسماء‪ ،‬لكانت السيرة التي قرأتھا اآلن ھي‬
‫سيرة القبالي الماسوني آدم فيسھاوبت ‪ ،Adam Weishaupt‬مؤسس منظمة‬
‫اإلليوميناتي ‪ Illuminati‬أو النور البافارية ورئيسھا‪ ،‬وھي المنظمة التي‬
‫أوقدت نيرات الثورة في فرنسا‪.‬‬

‫فمن الطريف‪ ،‬أو لعله من األدلة على بالھة أكثر بني اإلنسان‪ ،‬أن تعلم أن‬
‫أعضاء المنظمة وكوادرھا امتألوا بأفكار فيسھاوبت‪ ،‬وكانوا يتحركون‬
‫بتعاليمه‪ ،‬وثاروا وأشعلوا الثورة بأمره‪ ،‬وھم لم يروه وال يعرفونه وال يعرفون‬
‫حتى اسمه‪ ،‬فكل ما كانوا يعرفونه عن قائد منظمتھم ھو اسمه الحركي‪:‬‬
‫سبارتاكوس ‪!Spartacus‬‬

‫‪٤٠٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫مرة أخرى‪ ،‬التاريخ ال يتكرر وال يكرر أشخاصه وال حوادثه كما يتوھم‬
‫األميون‪ ،‬ولكن األذھان والنفوس التي تنتج ھذا التاريخ ھي ھي‪ ،‬وما فيھا ھو‬
‫ھو‪.‬‬

‫وأما ما ينبغي أن تكون قد تنبھت إليه وحدك‪ ،‬وقد وصلت إلى ھذا الموضع‬
‫من رحلتك الوعرة ھذه داخل المسارات التي حفرتھا أفكار بني اسرائيل في‬
‫وعي البشر‪ ،‬ثم سرت من خاللھا ابتكاراتھم واستقرت في األمم والشعوب‪ ،‬فھو‬
‫أنك أمام القبااله!‬

‫فالحكمة السرية‪ ،‬ووجود طبقة من المعارف ال ينبغي أن يطلع عليھا إال‬


‫صفوة من البشر يتوارثونھا بينھم‪ ،‬ويتعاھدون على إخفائھا وكتمانھا عن عموم‬
‫الناس‪ ،‬وتكوين أغلفة من المعارف العلنية تحجبھا عن البشر ويذھلون بھا عنھا‬
‫ھو‪ ،‬كما علمت‪ ،‬جوھر القبااله‪.‬‬

‫وتكوين جمعيات‪ ،‬وإنشاء درجات لنقل ھذه الطبقة من الحكمة والمعارف‬


‫السرية إلى الصفوة من البشر‪ ،‬عبر طقوس واختبارات وأقسام‪ ،‬ووضع رموز‬
‫لھا يذھل عموم الناس بما فيھا من غموض وإثارة عن حقيقة معانيھا التي ال‬
‫يعلمھا إال ھذه الصفوة‪ ،‬ھو النبع الذي تكونت به ومن مياھه الحركات السرية‬
‫في شرق العالم وغربه‪ ،‬وعبر التاريخ كله‪.‬‬

‫والحركات السرية‪ ،‬عبر العصور وفي كل األمم والشعوب‪ ،‬ھندستھا‬


‫وطريقة تنظيمھا‪ ،‬وفلسفة ھذه الھندسة والتنظيم‪ ،‬واحدة‪ ،‬وھي تكوين طبقات‬
‫ودوائر من األعضاء حول نواة‪ ،‬ھي القلب النابض والعقل المسيطر والطاقة‬

‫‪٤١٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الدافعة‪ ،‬وھي وحدھا التي تعلم غايات المنظمة الحقيقية وأھدافھا التي تسعى‬
‫إليھا‪.‬‬

‫والدوائر التي حول ھذه النواة تغلفھا‪ ،‬وكل دائرة أظھر من سابقتھا وأكبر‬
‫اتساعا ً وأكثر أعضا ًءا‪ ،‬وھي أقل منھا علما ً وإحاطة بالغايات واألھداف‪ ،‬وكل‬
‫طبقة أو دائرة من األعضاء ھي قناة يتم عبرھا ضخ أفكار النواة وتعاليمھا إلى‬
‫الطبقة التي تليھا‪ ،‬ومع سريان األفكار والتعاليم من دائرة إلى دائرة وانتقالھا من‬
‫طبقة إلى طبقة تُموه األفكار وتُصنع للتعاليم األغلفة‪ ،‬ومع كل انتقال يزداد ما‬
‫تموه به األفكار والمعتقدات الحقيقية سمواً وبراءة‪ ،‬وتزداد الشعارات واألغلفة‬
‫رنينا ً وبريقاً‪.‬‬

‫فالنواة‪ ،‬التي ھي الفاعل الحقيقي‪ ،‬ال يتجاوز عدد من فيھا في كل الحركات‬


‫السرية أصابع اليدين‪ ،‬وال يعلم من ھم أحد‪.‬‬

‫والطبقة الخارجية قد تكون مئات أو ألوفا ً مؤلفة‪ ،‬ھي التي يراھا عموم الناس‬
‫ويسيرون خلف ما تقوله من شعارات رنانة وما ترفعه من أغلفة براقة‪ ،‬ال يعلم‬
‫حقيقتھا والغاية منھا وما تفضي إليه حقا ً ال الذين يرفعونھا وال الذين يسيرون‬
‫خلفھم!!‬

‫وفي زمانك ھذا الذي تكاد تصل فيه دورة اإلفساد الثانية إلى تمامھا‪ ،‬العالم‬
‫كله ليس سوى جمعية سرية‪ ،‬نواتھا نواة الحركات السرية في كل العصور‪،‬‬
‫وشعاراتھا الجذابة وأغلفتھا الخالبة التقدم والمدنية‪ ،‬والليبرالية والعلمانية‪،‬‬
‫ووحدة األديان وتوحيد اإلنسانية‪ ،‬وحقوق اإلنسان وأفكار التحرير النسائية‪،‬‬

‫‪٤١١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وطبقتھا الخارجية َمن يھتفون بھذه الشعارات ويرفعون ھذه الرايات في كل أمة‬
‫من أمم الكرة األرضية!‬

‫وأما إذا كنت فطنا ً حقاً‪ ،‬فستكون قد أدركت أن الفلسفة‪ ،‬التي تبدو لك‬
‫صروحا ً عقلية‪ ،‬ھي ابتكارات لتفسير الوجود وفھم الحياة وبناء المعارف‪،‬‬
‫وأبنية عقلية ھائلة التركيب وشديدة اإلحكام واالتقان‪ ،‬تذھل عقول األميين‬
‫بتركيبھا وإحكامھا واتقانھا عن أنھا أقيمت أصالً على فرضيات خاطئة وال دليل‬
‫عليھا!‬

‫فالفلسفة وصروحھا ليست سوى أثر من آثار حجب الوحي‪ ،‬و َد َو َران داخل‬
‫التيه الذي صنعه بنو إسرائيل بحجب خريطة الوجود االلھية‪.‬‬

‫وإذا كنت أشد فطنة‪ ،‬فلن يكون قد فاتك أن كلمة فلسفة التي صاغھا القبالي‬
‫فيثاغورس‪ ،‬وكان أول من تسمى فيلسوفاً‪ ،‬ھي كلمة تتكون‪ ،‬كما علمت‪ ،‬من‬
‫مقطعين‪ :‬فيلو ‪ Philo‬وسوفيا ‪ ،Sophia‬ومعناھا‪ :‬محبة الحكمة‪ ،‬والحكمة ھي‬
‫القبااله‪ ،‬فالفلسفة‪ ،‬كما ترى‪ ،‬ليست سوى محبة القبااله!‬

‫‪٤١٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺷﻔﺮة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس‬
‫فاآلن إليك ماذا تكون الحكمة واألسرار التي خبأھا فيثاغورس في أعداده‬
‫وأشكاله الھندسية‪ ،‬وما الذي علمه وو ﱠرثه للصفوة من أبنائه‪.‬‬

‫ك ﱠون فيثاغورس مدرسته وأقامھا على ثالثة علوم‪ :‬الحساب والھندسة‪،‬‬


‫والموسيقى‪ ،‬والفلك أو استطالع النجوم‪ ،‬وفي الدرجات األولى كانت ھذه العلوم‬
‫والفنون تُلقى إلى من يريدون تعلمھا منفصلة‪ ،‬وكعلوم محض ال أسرار فيھا وال‬
‫صلة لھا بالحكمة وال بالعقائد‪.‬‬

‫أما الدرجة العليا‪ ،‬والصفوة الذين يالزمون فيثاغورس ويعلمھم ھو بنفسه‪،‬‬


‫فكان يعلمھم أن ھذه العلوم والفنون مزيج ال ينفصل أي منھا فيه عن اآلخر‪،‬‬
‫وأن ھذا المزيج كله ھو وسيلة لمعرفة اإلله وفھم الكون وحقيقة اإلنسان‪ ،‬وھي‬
‫كما ترى خلطة القبااله التقليدية التي اعتدت أن تقابلك في كل مسار نسير بك‬
‫فيه‪.‬‬

‫فأما عن اإلله‪ ،‬فھو عند فيثاغورس موناد ‪ ،Monad‬وھي كلمة إغريقية‬


‫تعني‪ :‬واحد ‪ ، One‬أو‪ :‬وحدة ‪ ،Unit‬انفرد فيثاغورس بتسمية اإلله بھا‪،‬‬
‫وصارت َعلما ً على فلسفته وتعاليمه‪.‬‬

‫فال يغرنﱠك أن إله فيثاغورس اسمه الواحد‪ ،‬فھذا الموناد‪ ،‬كما يقول مانلي‬
‫ھول‪ ،‬في كتابه‪ :‬التعاليم السرية عبر العصور‪:‬‬

‫‪٤١٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"جسمه من النور‪ ،‬وھو العقل األسمى ‪ Suprem Mind‬الذي صدر عنه‬


‫كل شئ‪ ،‬وحل في كل جزء من الكون‪ ،‬وھو القوة التي يتحرك بوجودھا فيه كل‬
‫)‪(١‬‬
‫شئ"‬

‫فكما ترى‪ ،‬موناد فيثاغورس ليس إال اسما ً إغريقيا ً لعين صوف القبالي‬
‫وبراھمان الھندوسي‪.‬‬

‫وألن فيثاغورس كان مولعا ً بالمثلثات والثالثيات‪ ،‬ومن مبادئه أنه ال يمكن‬
‫أن يكون اإلنسان حكيما ً إال إذا وضع أي مشكلة تواجھه في صورة مثلثة‪،‬‬
‫وعندئذ ستنحل من تلقاء نفسھا‪ ،‬فقد حل معضلة الوجود بأن قسمه إلى ثالث‬
‫عوالم أو طبقات‪ ،‬فالطبقة ألولى‪ :‬ھي العالم السامي ‪ ،Sublime World‬وھو‬
‫عالم الواحد وحده‪ ،‬والثانية‪ :‬العالم العلوي ‪ ،Superior‬وفيه اآللھة الخالدة‪،‬‬
‫والثالثة‪ :‬العالم السفلي ‪ ،Inferior‬وفيه العالم المادي المنظور من كون وإنسان‬
‫ومخلوقات‪.‬‬

‫وكل عالم من العوالم الثالثة ھو كرة ‪ ،Sphere‬وكرتا العالم العلوي والعالم‬


‫السفلي توجدان داخل كرة العالم السامي الذي ھو اإلله‪.‬‬

‫فھذه‪ ،‬كما البد أدركت‪ ،‬بيضة القبااله التي باضتھا في رأس فيثاغورس‬
‫وأخويته‪ ،‬كما باضت أختا ً لھا في رأس الھندوس من عبﱠاد براھمان‪.‬‬

‫إله فيثاغورس واحد‪ ،‬ألنه ھو نفسه الوجود كله‪ ،‬وألن اآللھة األخرى أجزاء‬
‫منه وتوجد في داخله‪ ،‬فقد كان فيثاغورس يعتقد أن النجوم والكواكب المنيرة‬

‫‪1 ) The secret teachings of all ages,P66.‬‬


‫‪٤١٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫آلھة خالدة يجب لھا التوقير والعبادة ‪ ،Adoration‬ولكنھا جزء من الواحد‬


‫وتأتمر بأمره‪.‬‬

‫وألنھا كلھا أسماء بلغات مختلفة لشئ واحد‪ ،‬فكما رأيت في الھندوسية‬
‫والقبااله بالضبط‪ ،‬كان فيثاغورس يعتقد ويعلم أبناءه في أخويته أن‪:‬‬

‫"ثمة اتصال دائم ‪ Constant interplay‬وتوحد بين اإلنسان والكون‪،‬‬


‫فاإلنسان ھو الكون األصغر‪ ،‬والكون ھو اإلنسان األكبر‪ ،‬واإلنسان والكون‬
‫)‪(١‬‬
‫على صورة اإلله‪ ،‬وفَھم واحد منھم يوصل إلى معرفة الباقين "‬

‫فلست اآلن في حاجة إلى أن نعرفك أن ما قرأته من تعاليم فيثاغورس‬


‫وأخويته ھو استلھام لشجرة الحياة القبالية التي تمثل الذات اإللھية‪ ،‬وھي في‬
‫الوقت نفسه تمثيل لإلنسان والكون اللذين صدرا عن اإلله وعلى صورته‪.‬‬

‫وألن اإلنسان في القبااله والھندوسية صدر عن اإلله‪ ،‬ويمكنه في الديفيقوت‬


‫والموكشا‪ ،‬كما علمت‪ ،‬أن يعود للتوحد باإلله أو أن يحل اإلله فيه‪ ،‬فقد كان‬
‫فيثاغوس القبالي يعتقد بحلول الواحد في اإلنسان‪ ،‬وفيثاغورس نفسه كان عموم‬
‫تالميذه من السميعة الذين ال يرونه‪ ،‬كما يقول يامبليخوس‪:‬‬

‫"يعدونه واحداً من آلھة األوليمب الخالدة التي تظھر للبشر الفانين من‬
‫)‪(٢‬‬
‫أجل تعليمھم وإعانتھم‪ ،‬وبعضھم يراه أحد اآللھة التي تسكن القمر"‬

‫أما الصفوة من أبناء فيثاغورس‪ ،‬فلھم في وصفه عبارة شھيرة‪ ،‬ھي أن‪:‬‬

‫‪1 ) The secret teachings of all ages,P66.‬‬


‫‪2 ) Life of Pythagoras,P14.‬‬
‫‪٤١٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"العقالء ثالثة أنواع‪ ،‬النوع األول‪ :‬اإلله‪ ،‬والثاني‪ :‬اإلنسان‪ ،‬والثالث‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫اإلنسان الذي يتجلى فيه اإلله‪ ،‬وھو فيثاغورس"‬

‫وكان فيثاغورس‪ ،‬يؤمن بتناسخ األرواح ‪ ،Metempsychosis‬مثل‬


‫الھندوس والقباليين‪ ،‬ويقول إن‪:‬‬

‫"روح اإلنسان تھاجر بعد موته من جسده‪ ،‬وتعود لتحل في إنسان آخر أو‬
‫حيوان له صفاته‪ ،‬فإذا كان جبانا ً رعديداً عادت في أرنب‪ ،‬وإن كان شرسا ً‬
‫)‪(٢‬‬
‫حلت في ذئب‪ ،‬فإذا مات ھاجرت مرة أخرى‪ ،‬وھكذا‪ ،‬إلى أن تصير خالدة"‬

‫ويروي المؤرخ اإلغريقي ديوجينيس ليرتيوس ‪،Diogenes Laërtius‬‬


‫الذي د ﱠون أخبار فيثاغورس ضمن تاريخه لفالسفة اإلغريق‪ ،‬أن فيثاغورس‬
‫كان يقول ألبنائه في األخوية إن‪:‬‬

‫"روحه ھاجرت عدة مرات‪ ،‬وأنه عاش قبل حياته التي يرونه فيھا أربع‬
‫حيوات أخرى ويتذكرھا جميعاً‪ ،‬ففي األولى كان أثاليدس ‪ Aethalides‬ابن‬
‫إله الحرب‪ ،‬وفي الثانية كان يوفوربس ‪ Euphorbus‬أحد أبطال حرب‬
‫طروادة‪ ،‬وفي الثالثة كان ھيرموتيموس ‪ Hermotimus‬رسول اآللھة إلى‬
‫)‪(٣‬‬
‫البشر‪ ،‬وفي الرابعة كان صياداً على شاطئ بحيرة"‬

‫‪1) Life of Pythagoras,P15.‬‬


‫‪2) The secret teachings of all ages,P66.‬‬
‫‪3) The secret teachings of all ages,P66.‬‬
‫‪٤١٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وإذا عجبت‪ ،‬فما يُزيل عجبك‪ ،‬ويجعلك توقن أن تكوين قادة الحركات السرية‬
‫في كل العصور واحد‪ ،‬أن ترى صورة طبق األصل من فيثاغورس في دورة‬
‫اإلفساد الثانية‪ ،‬بعده بأربعة وعشرين قرناً‪.‬‬

‫ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر‪ ،‬ادعى اليھودي القبالي الخيميائي‬
‫كاجليوسترو ‪ ،Cagliostro‬مؤسس المذھب المصري في الماسونية‪ ،‬وأحد‬
‫الشركاء في التدبير للثورة في فرنسا‪ ،‬أن عمره ثالثمائة عام‪ ،‬وأنه عاش قبل‬
‫حياته ھذه حياة أخرى‪ ،‬كانت في بداية المسيحية‪ ،‬وتوله به العوام في كل مكان‬
‫يحل فيه ويمارس طقوس السحر والتخييل حين زعم أنه كان في حياته تلك‬
‫صديقا ً للمسيح ورافقه على الصليب!‬

‫وأما عن الحساب والھندسة وصلتھا بھذا الموناد أو اإلله‪ ،‬فقد كان‬


‫فيثاغورس وأخويته‪ ،‬خالفا ً لإلغريق وفالسفتھم جميعاً‪ ،‬يوقرون علم الحساب‬
‫ويرونه سابقا ً على الھندسة وأھم منھا‪ ،‬ويفسرون ذلك بأن العلوم األخرى كلھا‪،‬‬
‫كالھندسة والموسيقى والفلك‪ ،‬تعتمد عليه وال يتأثر ھو بھا‪.‬‬

‫وكان فيثاغورس وأخويته يقدسون األعداد ويؤمنون أن كل شئ‪ ،‬بداية‬


‫باإلله‪ ،‬ثم الكون واإلنسان‪ ،‬إلى أصغر شئ في الوجود‪ ،‬عدد أو تكوينه من‬
‫األعداد‪ ،‬وعدده ھذا يميزه وھو عالمته وال يشترك معه فيه شئ آخر‪.‬‬

‫وكان فيثاغورس يعرف العدد بأنه‪:‬‬

‫‪٤١٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"المجال والصورة التي يظھر فيھا عقل الموناد والطاقة المخزونة فيه‪،‬‬
‫وكان ھيباسوس يقول إن األعداد ھي المادة ألولية التي تكون بھا كل شئ في‬
‫)‪(١‬‬
‫الوجود"‬

‫ومن بين األعداد كان فيثاغورس وأخويته‪:‬‬

‫"ال يعتبرون الواحد ‪ Monad‬وال االثنين ‪ Duad‬أعداداً‪ ،‬فاألعداد عندھم‬


‫)‪(٢‬‬
‫تبدأ بثالثة ‪Triad‬وأربعة ‪"Tetrad‬‬

‫فأما الواحد‪ ،‬فألنه رقم الموناد أو ھو نفسه الموناد السرمدي الذي صدر عنه‬
‫اآللھة واإلنسان والكون‪ ،‬التي ھي أيضا ً أعداد‪ ،‬ويحويھا في داخله‪.‬‬

‫وأما االثنين‪ ،‬فألن‪:‬‬


‫)‪(٣‬‬
‫"الواحد ھو األب ‪ ،Father‬واالثنين ھو األم ‪"Mother‬‬

‫فالواحد صدر عنه االثنين‪ ،‬ثم صدر عنھما معا ً باقي الوجود‪.‬‬

‫وعند فيثاغورس وأخويته‪ ،‬كل األعداد الفردية وما يتكون منھا مذكر‬
‫‪ ،Musculine‬وكل األعداد الزوجية وما تك ﱠون بھا مؤنث ‪.Femenine‬‬

‫وأقدس األرقام عند فيثاغورس بعد الواحد رقم ‪ ،١٠‬فھو رقم التمام والكمال‬
‫‪ ،Perfect Number‬ألنه رقم الوجود كله‪ ،‬والوجود كله وأعداده في داخله‪،‬‬
‫وألن الموناد ھو نفسه الوجود‪ ،‬فالعشرة‪ ،‬كالواحد‪ ،‬رقم اإلله أو الذي يتجلى به‬
‫اإلله‪.‬‬
‫‪1) The secret teachings of all ages,P70.‬‬
‫‪2 ) Life of Pythagoras,P219.‬‬
‫‪3 ) The secret teachings of all ages,P70.‬‬
‫‪٤١٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكان فيثاغورس يصور رقم ‪ ١٠‬في شكل فريد‪ ،‬ھو مثلث متساوي‬
‫األضالع والزوايا‪ ،‬وليس قائم الزاوية كمثلث الھندسة المحض‪ ،‬ويحوي في‬
‫داخله عشر نقاط مرتبة في أربعة صفوف ‪ ،TETRACTYS‬وترتيب النقاط‬
‫والصفوف يبدأ من زاوايا المثلث‪ ،‬وال يتغير بتغير اتجاه النظر‪.‬‬

‫فإذا نظر أحد إلى المثلث من أي زاوية يقابله في الصف األول نقطة واحدة‪،‬‬
‫ثم في الصف الثاني نقطتان‪ ،‬ثم ثالث نقاط‪ ،‬ثم أربعة‪ ،‬ليكون المجموع دائما ً‬
‫) •(‬
‫عشرة‬

‫وكان فيثاغورس يعلم من يرتقي إلى مرتبة الصفوة ويصبح من أبنائه‪ ،‬وھو‬
‫يعرفه بكلمة سر األخوية أن‪:‬‬

‫"ما تعتقد أنه أربعة فھو في حقيقته عشرة ومثلث كامل‪ ،‬وھو كلمة السر‬
‫)‪(١‬‬
‫بيننا ‪" Our password‬‬

‫وألنه مثلث الوجود‪ ،‬فكل صف من النقاط داخل المثلث‪:‬‬

‫"يمثل عدداً وشكالً ھندسياً‪ ،‬ويناظر شيئا ً في الوجود من أول الموناد‬


‫نفسه‪ ،‬مروراً بالكون المنظور والعناصر واإلنسان والحيوان‪ ،‬وصوالً إلى‬
‫البيت الذي يعيش فيه اإلنسان والشارع الذي يسير فيه‪ ،‬والوجود كله أحد‬
‫عشر مثلثاً‪ ،‬كل واحد منھا يمثل مستوى من الوجود‪ ،‬وكل صف من النقاط في‬
‫)‪(٢‬‬
‫مثلث منھا يمثل شيئا ً ويقابل نظيراً له في المثلثات األخرى"‬

‫• ( انظر صورة مثلث فيثاغورس القبالي في ملحق الصور‪.‬‬


‫‪1 ) Tobias Dantzig:Number,the language of science,P42.‬‬
‫‪2 ) Life of Pythagoras,P239.‬‬
‫‪٤١٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالصف األول في المثلث األول‪ :‬رقم ‪ ،١‬ويناظره في المثلث الثاني‪ :‬الموناد‪،‬‬


‫وفي الثالث‪ :‬النقطة الھندسية‪ ،‬وفي الرابع‪ :‬النار‪ ،‬وفي الخامس‪ :‬الھرم‪ ،‬وفي‬
‫السادس‪ :‬البذرة‪ ،‬وفي السابع‪ :‬اإلنسان‪ ،‬وفي الثامن‪ :‬الذكاء‪ ،‬وفي التاسع‪ :‬العقل‪،‬‬
‫وفي العاشر‪ :‬الربيع‪ ،‬وفي الحادي عشر‪ :‬الطفل‪.‬‬

‫وھكذا في باقي الصفوف‪.‬‬

‫وبلغ من تقديس مثلث الوجود ھذا في أخوية فيثاغورس‪ ،‬أن قسم الوالء‬
‫لألخوية والطاعة لفيثاغورس كان عليه‪ ،‬فقد كانت بداية القسم‪:‬‬

‫"به ھو ‪ ،By him‬من وھب أرواحنا المثلث ‪ TETRACTYS‬الذي‬


‫)‪(١‬‬
‫يُعرفنا مصدر كل شئ‪ ،‬ويحوي أصول كل شئ في الطبيعة الخالدة"‬

‫ويقول يامبليخوس إن‪:‬‬

‫"المقصود بقولھم‪ :‬به ھو ‪ By him‬فيثاغورس نفسه‪ ،‬ألن عقيدتھم في‬


‫)‪( ٢‬‬
‫المثلث من اختراعه ‪"His invention‬‬

‫بل وكانت األخوية تتعبد وتصلي ضارعة متبتلة لرقم ‪ ١٠‬والمثلث الذي‬
‫توھم يامبليخوس أن فيثاغورس ھو الذي اخترعه‪ ،‬فھذا ھو نص صالة‬
‫فيثاغورس وأخويته كما أورده توبياس دانتزج ‪ Tobias Dantzig‬في كتابه‪:‬‬
‫العدد لغة العلم ‪ ،Number,the language of science‬الذي يؤرخ فيه‬
‫لألعداد وفلسفتھا عبر التاريخ‪:‬‬

‫‪1 ) Life of Pythagoras,P235 ،The secret teachings of all ages,P68‬‬


‫‪2 ) Life of Pythagoras,P235‬‬
‫‪٤٢٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"باركنا أيھا الرقم اإللھي ‪ Divine Number‬الذي خلق اآللھة والناس‪،‬‬


‫أنت أيھا المثلث المقدس ‪ ،Holy Tetractys‬يا من تحوي أصول الخلق‬
‫السرمدية‪ ،‬أيھا الرقم اإللھي‪ ،‬يا من تبدأ بالواحد األصل وتنتھي باألربعة‬
‫المقدس‪ ،‬يا أم كل شئ‪ ،‬يا من فيك كل شئ‪ ،‬ويتصل بك كل شئ‪ ،‬يا أول‬
‫موجود‪ ،‬أيھا الكامل بال نقص‪ ،‬الدائم بال كلل‪ ،‬أيھا العشرة المقدس يا مفتاح‬
‫)‪( ١‬‬
‫كل شئ"‬

‫‪1) Number,the language of science,P42.‬‬


‫‪٤٢١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺣـــــــﻞ اﻟﺸـــــــﻔـــﺮة‬
‫وھا ھنا ينبغي أن نتوقف قبل أن تتلبسك الحالة الفيثاغورسية فتقوم لتصلي‬
‫لألرقام والمثلثات‪ ،‬ويحسبك من يراك من أھل السراية الصفرا‪ ،‬لنعرفك أن ما‬
‫قرأته من تعاليم فيثاغورس وأسرار أخويته‪ ،‬والتي ھي الحكمة‪ ،‬ومحبتھا ھي‬
‫الفلسفة‪ ،‬ليست سوى قبااله مصفاة‪.‬‬

‫ولكي تعرف المعنى الحقيقي لتعاليم فيثاغورس‪ ،‬التي يورد األميون‬


‫والقباليون بالتقليد والمحاكاة من الفالسفة وأساتذة الفلسفة نُتفا ً منھا في مؤلفاتھم‪،‬‬
‫ويمجدونھا دون أن يدركوا أصلھا وال حقيقتھا‪ ،‬بل ودون أن يفھموا ما الذي‬
‫تعنيه‪ ،‬البد أن تعرف أوالً وجھا ً من قصة الخلق القبالية لم نعرفك به من قبل‪.‬‬

‫قصة الخلق في القبااله أو التراث الباطني اليھودي مركبة متعددة الوجوه‪،‬‬


‫وفوارة باالبتكارات‪ ،‬وقد رأيت عند الھندوسية بعضا ً من ھذه الوجوه‬
‫واالبتكارات‪ ،‬فإليك بعضھا اآلخر‪.‬‬

‫علمتَ أن اإلله عين صوف في القبااله خلق الكون واإلنسان بالصدور عنه‬
‫في صورة فيوضات انبثقت من ذات اإلله وعلى صورته‪ ،‬وأن الخلق كان عبر‬
‫السفيروت أو شجرة الحياة‪ ،‬التي تمثل الوجود كله‪ ،‬فكل بلورة مضيئة فيھا تمثل‬
‫صفة في اإلله‪ ،‬وتناظر في الوقت نفسه عضواً في اإلنسان وكوكبا ً أو نجما ً في‬
‫الكون‪.‬‬

‫‪٤٢٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وما لم تعلمه أن ھذا الصدور واالنبثاق للوجود في شجرة الحياة كان عبر‬
‫حروف اللغة العبرية االثنين وعشرين وأصواتھا‪ ،‬وما يقابل ھذه الحروف‬
‫وأصواتھا من أعداد في حساب ال ُج ﱠمل‪.‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ Yezirah‬صدرت عنه‬ ‫فاإلله‪ ،‬عين صوف‪ ،‬في سفر الخلق في القبااله‬
‫أصوات الحروف العبرية‪ ،‬وبامتزاج أصوات الحروف معاً‪ ،‬وبالتباديل‬
‫والتوافيق بينھا‪ ،‬تك ﱠون كل شئ في الكون وكل عضو في اإلنسان‪ ،‬فكل شئ‬
‫)•(‬
‫انبثق عن اإلله الصوت الذي تحدثه حروف اسمه صدر وكان‬

‫وحروف العبرية وأصواتھا والخلق الذي كان من خاللھا‪ ،‬تقسﱠم في القبااله‬


‫ثالثة أقسام‪.‬‬

‫فالقسم األول ھو الحروف األصول أو األمھات ‪ ،Mother Letters‬وھذه‬


‫الحروف األمھات‪ ،‬وھي‪ :‬آلف‪ ،‬و ِمم‪ ،‬وشين‪ ،‬ومن أصواتھا‪:‬‬

‫"تك ﱠونت ثالثة أصول في الكون‪ ،‬وھي الھواء والماء والنار‪ ،‬وثالثة أصول‬
‫في السنة‪ ،‬وھي البرد واالعتدال والحر‪ ،‬وثالثة أصول في اإلنسان‪ ،‬وھي‬
‫)‪(٢‬‬
‫الرأس والصدر والبطن"‬

‫والقسم الثاني ھو الحروف السبعة المركبة ‪ ،Double Letters‬وھي‪ :‬بيت‪،‬‬


‫وجيمل‪ ،‬ودالت‪ ،‬وكاف‪ ،‬وبي)•(‪ ،‬وريش‪ ،‬وثاف‪ ،‬ومن أصواتھا‪:‬‬

‫‪ ( ١‬سفر الخلق ‪ Yezirah‬نشر نصه العبري مع ما يقابله من اإلنجليزية دكتور إيزيدور كاليش ‪Isidor‬‬
‫‪ Kalisch‬سنة ‪١٨٧٧‬م‪.‬‬
‫• ( انظر صورة من سفر الخلق ‪ Yezirah‬تمثل انبثاق حروف العبرية وأصواتھا من المثلث رمز عين‬
‫صوف في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪2) Isidor Kalisch:Sepher Yezirah, a book on creation with English translation,‬‬
‫‪P24.‬‬
‫‪٤٢٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"خلق اإلله في الكون الكواكب السبعة والسموات السبع واألرضين السبع‬


‫واالتجاھات السبعة‪ ،‬وفي السنة أيام األسبوع السبعة‪ ،‬وفي اإلنسان بوابات‬
‫)‪( ١‬‬
‫الحواس السبع"‬

‫وإذا كنت قد انتبھت إلى أن االتجاھات ستة فقط‪ ،‬فاعلم أن االتجاه السابع في‬
‫القبااله وقصة خلقھا ھو سرة الكون والذي تدور االتجاھات األخرى كلھا حوله‬
‫ويحفظ توازنھا‪ ،‬أال وھو الھيكل!‬

‫والقسم الثالث من الحروف ھو الحروف االثني عشر البسيطة ‪Simple‬‬


‫‪ ،Letters‬وھي‪ :‬حيت‪ ،‬وھي‪ ،‬وفاف‪ ،‬وزاين‪ ،‬وسامخ‪ ،‬وطيت‪ ،‬ويود‪ ،‬والمد‪،‬‬
‫ونون‪ ،‬وصادي‪ ،‬وعاين‪ ،‬وقوف‪ ،‬ومن أصواتھا‪:‬‬

‫"خلق اإلله األبراج االثني عشر في الكون‪ ،‬والشھور االثني عشر في‬
‫)‪(٢‬‬
‫السنة‪ ،‬واألعضاء االثني عشر الرئيسة في اإلنسان"‬

‫وكما ترى‪ ،‬في القبااله كل شئ في الوجود تك ﱠون أو انبثق عبر حروف‬


‫العبرية وأصواتھا‪ ،‬وھو ما يفسر لك اعتقاد فيثاغورس وأخويته أن‪:‬‬

‫"كل شئ في الوجود له صوت‪ ،‬والمخلوقات كلھا تغني معا ً نشيداً خالداً‬


‫‪Divine‬‬ ‫تمجد فيه الموناد‪ ،‬واإلنسان اليسمع ھذه األلحان اإللھية‬
‫‪ ،Melodies‬ألن روحه المطمورة في الوجود المادي خاملة‪ ،‬فإذا تحرر من‬

‫• ( بيت ھي الباء الخفيفة‪ ،‬وبي ھي الباء الثقيلة‪ ،‬وتنطق فا ًءا‪ ،‬ويقابلھا في اإلنجليزية حرف‪.P :‬‬
‫‪1) Isidor Kalisch:Sepher Yezirah,a book on creation with english translation,‬‬
‫‪P30.‬‬
‫‪2) Sepher Yezirah,a book on creation with english translation, P36-38.‬‬
‫‪٤٢٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھذا العالم السفلي وقيوده يمكنه أن يسمع ھذه األلحان وتتوحد روحه مع‬
‫)‪(١‬‬
‫موسيقى الوجود"‬

‫وتنقيب فيثاغورس ومثابرته في البحث عن الطريقة التي يتمكن بھا من‬


‫إحداث أصوات منتظمة متناسقة منسجمة ومنضبطة بقواعد ونسب حسابية‪ ،‬من‬
‫أجل اكتشاف اللحن اإللھي والتوحد مع الكون ومشاركته العزف‪ ،‬أوصله إلى‬
‫اكتشاف التونات)•( ووضع قواعد السلم الموسيقي!‬

‫والمفتاح الذي يفض لك مغاليق تعاليم فيثاغورس وأخويته‪ ،‬ويجعلك تدرك‬


‫الصلة بين أعداد فيثاغورس وحسابه وبين قصة الخلق القبالية‪ ،‬ھو الجماتريا‬
‫‪ Gematria‬أو حساب ال ُج ﱠمل‪.‬‬

‫في القبااله‪ ،‬كل حرف في العبرية له رسم يُرسم أو يكتب به‪ ،‬وله صوت‬
‫ينطق به‪ ،‬وله عدد يقابله‪ ،‬ومن ثَم فكل شئ في الوجود‪ ،‬اإلله‪ ،‬والكون‬
‫ومكوناته‪ ،‬واإلنسان وأعضائه‪ ،‬له عدد‪ ،‬وھذا العدد ھو جمع أعداد الحروف‬
‫)• (‬
‫التي يتكون منھا اسمه‬

‫وألن الخلق كان عبر أصوات الحروف‪ ،‬أو الحروف ھي التي خلقت‪ ،‬فبنية‬
‫الوجود كله بنية صوتية عددية‪ ،‬والعدد ليس مجرد رقم يقابل اسم الشئ‪ ،‬بل‬
‫ھو‪ ،‬كالصوت الذي يُحدثه نطق اسم الشئ‪ ،‬سابق على وجوده‪ ،‬وھو خالقه‬
‫وجوھره وحقيقته‪ ،‬ويحوي أسراره‪ ،‬ومطبوع فيه تاريخه وسيرته‪.‬‬

‫‪1 ) The secret teachings of all ages,P83.‬‬


‫• ( التون ‪ Tone‬في الموسيقى تعني الخصائص التي تميز صوتا ً عن صوت‪ ،‬كالنوع ودرجة الحدة والقوة‬
‫والتردد والمدة التي يستغرقھا في الزمن‪ ،‬وتعني في السلم الموسيقي المسافة بين نغمتين‪.‬‬
‫• ( انظر صورة لحروف العبرية واإلغريقية وما يقابلھا من أعداد في حساب الج ﱠمل في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪٤٢٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فاآلن يمكنك وحدك أن تحل طالسم فيثاغورس وأن تفك شفرة تعاليمه ھو‬
‫وأخويته‪.‬‬

‫فيثاغورس كان يقدس األعداد ويعلم أتباعه في األخوية أن‪:‬‬

‫"العدد ھو الجوھر األول ‪ First Essence‬في الوجود الذي تتكون منه‬


‫)‪(١‬‬
‫كل األشياء ويسري فيھا ويحكمھا"‬

‫ألن كل شئ في الوجود في القبااله ھو في حقيقته عدد‪ ،‬وھذا العدد ھو الذي‬


‫خلقه ويتحكم فيه‪ ،‬وھو خاتمه الذي يحوي أسراره وتاريخه‪ ،‬ومطبوع فيه‬
‫حاضره ومستقبله‪.‬‬

‫فإذا ما كنت نبھا ً وتساءلت‪ :‬ولكن حساب الجمل للكلمات وتحويلھا به إلى‬
‫أعداد يرتبط بالعبرية‪ ،‬وفيثاغورس وأخويته تعاليمھم باإلغريقية‪ ،‬فإليك رد‬
‫القبالي الماسوني مانلي ھول على تساؤلك‪:‬‬

‫"وتحويل الكلمات إلى أعداد بحساب الج ﱠمل ال يصح إال إذا كان باستخدام‬
‫)‪(٢‬‬
‫الكلمات العبرية واإلغريقية فقط‪ ،‬وبنطقھا القديم"‬

‫والواحد‪ ،‬عند فيثاغورس وأخويته‪ ،‬ھو رقم الموناد أو اإلله ألن الواحد‪ ،‬كما‬
‫تقول ھيلينا بالفاتسكي‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫"يقف في عالم الخفاء ‪ Occultism‬وحده‪ ،‬فھو الرقم اإللھي"‬

‫‪1) Life of Pythagoras,P29‬‬


‫‪2) The secret teachings of all ages,P70.‬‬
‫‪3) The secret doctrine,Vol.3,P101‬‬
‫‪٤٢٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والعشرة ھو العدد الكامل والمقدس‪ ،‬ألن عدد التجليات التي تكتمل بھا ذات‬
‫اإلله في السفيروت أو شجرة الحياة عشرة‪ ،‬فالعشرة في القبااله‪ ،‬كما يقول‬
‫القبالي ماك جريجور ميثرز‪:‬‬

‫"ھو عدد األلوھية ‪ ،Deity‬ألن تجليات اإلله في شجرة الحياة‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ Sephiroth‬عشرة"‬

‫ومثلث فيثاغورس الذي يصور رقم ‪ ١٠‬المقدس‪ ،‬يحوي الوجود كله في‬
‫نقاطه وأعداده وصفوفه‪ ،‬كما تحوي شجرة الحياة الوجود كله في كراتھا‬
‫والقنوات الواصلة بينھا‪.‬‬

‫وداخل ھذا المثلث‪ ،‬األعداد المفردة مذكرة واألعداد الزوجية مؤنثة‪ ،‬ألن‬
‫كرات شجرة الحياة في العمود األيسر مذكرة وفي العمود األيمن مؤنثة‪ ،‬ومن‬
‫الموناد المذكر والدواد المؤنث خرجت األعداد‪ ،‬ألنه من التقاء الصفة األولى‬
‫في شجرة الحياة‪ ،‬وھي التاج‪ ،‬بالصفة الثانية‪ ،‬وھي الفھم‪ ،‬تكونت باقي الصفات‬
‫وطبقات الوجود كلھا‪ ،‬والتاج صفة ذكورة‪ ،‬والفھم صفة أنوثة‪.‬‬

‫النقاط واألعداد في مثلث فيثاغورس‪ ،‬كما ترى‪ ،‬ھي نفسھا كرات شجرة‬
‫الحياة‪ ،‬وإن كنت في شك فإليك القبالي ديون فورتشن ‪ Dion Fortune‬يخبرك‬
‫صريحا ً في كتابه‪ :‬القبااله الباطنية ‪ The Mystical Quabalah‬أن‪:‬‬

‫‪1 ) The Kabbalah Unveiled,P21.‬‬


‫‪٤٢٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"النقطة في مثلث فيثاغورس تقابل التاج في شجرة الحياة‪ ،‬والنقطتان‬


‫)‪(١‬‬
‫الحكمة‪ ،‬والنقاط الثالثة الفھم‪ ،‬واألربعة العطف والحنو"‬

‫واالبتكار الذي ابتكره فيثاغورس ھو أنه دمج بين مثلث القبااله‪ ،‬الذي ھو‬
‫رمز اإلله والبيت الذي يحوي اسمه‪ ،‬وبين معاني شجرة الحياة التي تمثل الذات‬
‫اإللھية والوجود الذي انبثق من ھذه الذات‪.‬‬

‫فلن تعجب اآلن أو تسأل لماذا كان فيثاغورس وأخويته يتعبدون للمثلث‬
‫ويصلون أمامه خاشعين‪ ،‬ألن ھذا المثلث ليس سوى اإلله نفسه‪ ،‬فمثلث‬
‫فيثاغورس ھو نفسه المثلث الذي تصور القبااله إلھھا عين صوف في أضالعه‬
‫الثالثة‪ ،‬التي ترمز لوجود اإلله وحضوره‪ ،‬ولعلمه وإحاطته‪ ،‬ولقوته وقدرته‪.‬‬

‫والنقاط األربعة داخل مثلث فيثاغورس ھي نفسھا الحروف التي يتكون منھا‬
‫الرباعي المقدس ‪ ،Tetragrammaton‬الذي ھو رمز السم اإلله داخل مثلث‬
‫القبااله‪ ،‬وترتيب نقاط فيثاغورس في مثلثه ھو نفسه ترتيب حروف القبااله في‬
‫مثلثھا‪ ،‬والترتيب في المثلثين واحد ومتناظر من أي زاوية يقف أمامھا الناظر‪.‬‬

‫فالمثلثان في حقيقتھما شئ واحد‪ ،‬لكن أحدھما بالحروف واآلخر باألعداد‪،‬‬


‫) •(‬
‫واألعداد في القبااله‪ ،‬كما علمت‪ ،‬ھي نفسھا الحروف‬

‫فھل فھمت اآلن لماذا كان فيثاغورس يبدأ حل أي مشكلة تواجھه بتحويلھا‬
‫إلى مثلث‪ ،‬ويقول إنھا تنحل بذلك تلقائياً‪ ،‬ألنه يستحضر بھذا المثلث اإلله في‬
‫مسكنه ويكتب به اسمه األعظم‪.‬‬

‫‪1 ) Dion Fortune: The Mystical Quabalah,P170.‬‬


‫• ( انظر صورة للمثلثين معا ً في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪٤٢٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثم ھل أدركت معنى عبارة فيثاغورس شديدة الغموض التي كان يستقبل بھا‬
‫الداخلين في أخويته‪ ،‬والتي تبدو وكأنھا ھذيان وال معنى لھا؟‬

‫ما يراه أحد أربعة ھو في حقيقته عشرة‪ ،‬وھو نفسه المثلث الذي يتعبد له‬
‫فيثاغورس‪ ،‬ألن ما يبدو للناظر إلى المثلث من أي اتجاه أربعة ليس إال رمزاً‬
‫إلخفاء اإلله فيه داخل مثلثه‪ ،‬والعشرة ھي حقيقة ھذه األربعة ألنھا العدد الذي‬
‫يتكون منه اإلله وتكتمل بھا ذاته‪ ،‬والمثلث ھو بيت ھذه الذات ومحل‬
‫استحضارھا‪.‬‬

‫واآلن ربما تجد نفسك تكرر السؤال الذي سألته عند الھندوسية‪ :‬من الذي أخذ‬
‫من اآلخر‪ ،‬وأيھما النبع واآلخر تفرع منه‪ :‬بنو إسرائيل أم فيثاغورس وأخويته ؟‬

‫وإجابتنا على سؤالك ھي ھي‪ :‬بنو إسرائيل‪ ،‬وخريطتھم للوجود التي حجبوا‬
‫بھا خريطة الوجود اإللھية عن البشر‪ ،‬وما ابتكروه وفرعوه من ھذه الخريطة‬
‫في القبااله‪ ،‬واستيطانھم لوعي األميين وأذھانھم ونفوسھم بھذه الخريطة‬
‫وابتكاراتھا‪ ،‬ھو النبع الذي سرت منه وبه وتكونت حوله األباطيل والضالالت‬
‫في أمم العالم كلھا‪ ،‬شرقه وغربه‪.‬‬

‫فا" عز وجل في بيانه إلى خلقه أفرد لبني إسرائيل من بين العالمين مساحة‬
‫ھائلة‪ ،‬يبدو معھا وكأنه عز وجل لم ينزله إال من أجلھم‪ ،‬ولم يخبرك بكلمة‬
‫واحدة عن ھندوس وال إغريق‪.‬‬

‫ونزيدك على ھذه اإلجابة ھنا أن نجعلك ترى دليلھا صريحا ً عند القباليين‬
‫ورؤوس عالم السر والخفاء‪.‬‬

‫‪٤٢٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فالقبالي الماسوني اإلنجليزي ماك جريجور ميثرز‪ ،‬وھو أحد الشركاء مع‬
‫أبي الشيطانية الحديثة أليستر كراولي ‪ Aliester Crawly‬في تأسيس جمعية‬
‫الفجر الذھبي ‪ ،Golden Down‬وھي أشھر جمعية في الغرب لتعليم السحر‬
‫وفنونه‪ ،‬يخبرك في كتابه‪ :‬القبااله سافرة أن‪:‬‬

‫"عقيدة فيثاغورس في المثلث ‪ ،Tetractys‬وخروج األربعة من الواحد‪،‬‬


‫وتصوير اإلله في رموز من األعداد‪ ،‬استلھمھا من مصادر قبالية‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ Qabalistic Sources‬في أثناء تجواله في بالد الشرق"‬

‫ثم إليك القبالي األمريكي مانلي ھول‪ ،‬وھو ماسوني من الدرجة الثالثة‬
‫والثالثين‪ ،‬وعضو جمعية الحكمة اإللھية التي أنشأتھا ھيلينا بالفاتسكي‪،‬‬
‫ومؤسس الجمعية الفلسفية ‪ ،Philosophical Society‬يعرفك‪ ،‬في كتابه‪:‬‬
‫التعاليم السرية عبر العصور‪ ،‬ماذا تكون ھذه المصادر القبالية بالضبط وأين‬
‫التقى بھا فيثاغورس‪:‬‬

‫"تضلع فيثاغورس من تعاليم الشرق و ُكشفت له خفاياھا‪ ،‬وقد ح ﱠ‬


‫صل ھذه‬
‫التعاليم من رحالته في الشرق ومكوثه بين اليھود في بابل‪ ،‬وتلقى التعاليم‬
‫السرية لموسى ‪ Secret traditions of Moses‬من الربانيين‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪"Rabbins‬‬

‫وكما ترى‪ ،‬بدالً من أن يھدي بنو إسرائيل البشر إلى الحق ويعرفوھم‬
‫بخريطة الوجود الحقيقية التي أنزلھا ﷲ عز وجل عليھم واستودعھم إياھا‪،‬‬

‫‪1 ) The Kabbalah Unveiled,P21,214.‬‬


‫‪2) The secret teachings of all ages,P65‬‬
‫‪٤٣٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫حجبوھا لكي يحتكروا اإلله ويحتكروھا خالصة لھم‪ ،‬ولفقوا خريطة مزورة‪،‬‬
‫وتفننوا في توليد االبتكارات منھا‪ ،‬ثم بثوا خريطتھم المزورة وابتكاراتھا‪،‬‬
‫واستوطنوا بھا وعي البشر في مشارق األرض ومغاربھا‪.‬‬

‫ومن ھذا البث تكونت أمم الضالل‪ ،‬وبه كونت فلسفاتھا وعلومھا وآدابھا‬
‫وفنونھا‪ ،‬ودخلت البشرية كلھا في التيه‪ ،‬إلى أن أشرقت شمس القرآن وأنزل عز‬
‫وجل فيه خريطة الوجود اإللھية نقية محفوظة مصونة من عبث البشر‬
‫وابتكاراتھم‪ ،‬وأقام بھا أمة الوحي‪ ،‬لينھي به وبھا دورة اإلفساد البني اإلسرائيلي‬
‫األولى‪.‬‬

‫فاآلن‪ ،‬إذا كنت قد ثابرت إلى أن وصلت إلى ھا ھنا‪ ،‬فأنت على مشارف‬
‫الذروة‪ ،‬وبينك وبينھا خطوة‪ ،‬وقد صرتَ مؤھالً ألن تخطوھا وتعرف حل‬
‫الشفرة التي تحويھا آيات سورة اإلسراء‪ ،‬وماذا يكون إفساد بني إسرائيل‬
‫وعلوھم في األرض الكبير‪.‬‬

‫‪٤٣١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤٣٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺷﻔﺮة ﺳﻮرة اﻹﺳﺮاء‬


‫‪|{zyxwv‬‬
‫)اﻹﺳﺮاء‪(٣:‬‬

‫‪٤٣٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‬ ‫‬

‫‪٤٣٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

DCBA
K J I H G F E D C B A
Y X W V U T S R Q P O N M L
fedcba`_^]\[Z
t s r q p o n m l k j i h g
a `_~ } |{zyxwvu
o n m l kj i h gf e dc b
zy x wvu ts r q p
© ¨ § ¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡  ~ } | {
³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª
KJI HGFE DCBA ¹¸¶µ´
XWVUTSRQPO NML
_^]\[ZY
(٩ -١ :‫)اﻹﺴراء‬

٤٣٥
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤٣٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻗـﻴــــــــــﻮد‬
‫إذا تأملت ما قاله المفسرون في تفسير صدر سورة بني إسرائيل لترى كيف‬
‫فھموا اآليات‪ ،‬وكيف تفكروا فيھا‪ ،‬وما الذي كان يحكم أذھانھم وھم يفسرون ما‬
‫تخبر عنه‪ ،‬فستجد أن السمت الغالب على كل ما ذكروه في تفسيرھا ھو تقييدھا‬
‫بما في أذھانھم من معارف وما وصلھم من أخبار عن بني إسرائيل‪ ،‬فقيدوا‬
‫اآليات بقيود ليست فيھا‪ ،‬وأضافوا إليھا معا ِن أتوا بھا من أذھانھم ومن عند‬
‫أنفسسھم‪ ،‬دون أن يوجد في نص اآليات ما يوحي بھا أو يدل عليھا‪.‬‬

‫والعلة في ما وضعه المفسرون من قيود وما أضافوه من زيادات ال وجود‬


‫لھا في اآليات‪ ،‬أنھم ُشغلوا بتحديد متى كانت مرتا اإلفساد ومن يكون العباد‬
‫الذين يبعثھم ﷲ على بني إسرائيل‪ ،‬ومن ثَم انصرفوا إلى البحث عن ھذا اإلفساد‬
‫وھؤالء العباد خارج اآليات‪ ،‬فقيدوا اآليات وفسروھا وحصروا فھمھا داخل ما‬
‫يوافق معارفھم‪.‬‬

‫والمدخل الصحيح لفھم آيات سورة اإلسراء‪ ،‬والذي ال يمكن فھم ما تعنيه من‬
‫غيره‪ ،‬ھو القدوم عليھا لإلجابة عن السؤال التالي‪ :‬ما الذي تريد أن تخبرنا به‬
‫اآليات نفسھا عن بني إسرائيل‪ ،‬وما صلة ما تريد اآليات أن تخبرنا به بموقع‬
‫بني إسرائيل من البشرية في القرآن كله‪ ،‬دون االنشغال بما جاء من سيرة بني‬
‫إسرائيل من خارج القرآن‪.‬‬

‫وھو السؤال الذي ال تصح اإلجابة عليه إال بتحرير اآليات من قيود‬
‫المفسرين وإضافاتھم‪ ،‬ثم االلتزام التام في التعامل مع اآليات بنصھا‪ ،‬كلمات‬
‫‪٤٣٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وحروفاً‪ ،‬ألن العلة الثانية التي صرفت المفسرين عن فھم آيات سورة اإلسراء‪،‬‬
‫ھي أنھم فسروا اآليات تفسيراً إجماليا ً افتقد الدقة‪ ،‬ولم يول عناية وال رتب أثراً‬
‫على ما قُدم من الكلمات وما أُخر‪ ،‬وما حُذف وما أثبت‪ ،‬وما أُفرد وما ُكرر‪ ،‬وال‬
‫على ما ذكر في مرة إفساد ولم يذكر في األخرى‪ ،‬وھي فروق شديدة الدقة في‬
‫الصياغة ولكنھا ھائلة اآلثار في المعنى‪.‬‬

‫وما يجمع العلتين معا ً أن المفسرين تعاملوا مع آيات سورة اإلسراء بمنھج‬
‫مقلوب‪ ،‬ففھموھا وفسروھا بالتاريخ‪ ،‬والمنھج الصحيح ھو استفراغ الوسع لفھم‬
‫ما الذي يريد بيان ﷲ عز وجل أن يخبرنا به عن بني إسرائيل من اآليات‬
‫نفسھا‪ ،‬ثم فھم التاريخ به‪.‬‬

‫والقيود التي قيد بھا المفسرون اآليات وما أضافوه إليھا من عند أنفسھم‬
‫أفضى إلى شيئين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أنه فكك نسيج اآليات وأفقدھا الروابط بينھا‪ ،‬فبھذه القيود واإلضافات‬
‫ال يمكن فھم عالقة آيات إفساد بني إسرائيل بذكر آية اإلسراء بالنبي عليه‬
‫الصالة والسالم قبلھا‪ ،‬وال بذكر الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السالم‬
‫ھدى لبني إسرائيل‪ ،‬وال بذكر القرآن الذي يھدي للتي ھي أقوم بعدھا‪.‬‬

‫والشئ الثاني‪ :‬أن ھذه القيود واإلضافات أغلقت اآليات وأصممتھا وق ﱠزمتھا‬
‫عندما قيدتھا بوقائع موقوتة وأحداث محدودة‪ ،‬وعزلتھا عن تاريخ البشر وعن‬
‫مسيرة البشرية‪ ،‬بل وعما يخبر به القرآن نفسه عن بني إسرائيل‪.‬‬

‫‪٤٣٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھذه اآليات‪ ،‬كما سترى‪ ،‬ھي نواة ھائلة الكثافة تحوي في داخلھا تاريخ‬
‫البشرية كله‪ ،‬وفيھا تفسير كل ما أنتجته البشرية من أباطيل وأضاليل في كل‬
‫عصورھا‪.‬‬

‫ففي ھذه اآليات الليبرالية والعلمانية‪ ،‬والعقد االجتماعي والقومية‪ ،‬وفيھا‬


‫الداروينية والماركسية‪ ،‬وفيھا ما يسمى بحقوق اإلنسان وحركات التحرير‬
‫النسائية‪ ،‬وفيھا األساطير والخرافات الوثنية‪.‬‬

‫‪٤٣٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ٔاو ًﻻ‪ :‬ﺗﻘﻴﻴﺪ اﻟﺰﻣﺎن ابﳌﺎﴈ‬


‫أول قيود المفسرين‪ ،‬أنھم قيدوا ما تخبر عنه اآليات بأنه حدث في الماضي‪،‬‬
‫مع أنه ال يوجد في نص اآليات أي قرينة وال دليل يوحي بأن مرتي اإلفساد‬
‫المذكورتين كانتا في الماضي قبل نزول القرآن‪ ،‬أو ستكونان بعده‪ ،‬أو أن‬
‫إحداھما قبل نزوله واألخرى بعده‪.‬‬

‫وقيدھم ھذا فر ٌ‬
‫ع‪ ،‬أصله ما أخبرناك به من قبل‪ ،‬وھو أنھم فھموا أن كل ما‬
‫جاء في القرآن من سيرة بني إسرائيل ھو إخبار عن ماض حدث وانتھى‬
‫وانقطعت آثاره‪.‬‬

‫وعبارة الشيخ الطاھر بن عاشور في تفسيره تنطق لك بھذا الفھم الذي ينضح‬
‫من بين سطور غيره من المفسرين‪ ،‬فھو يخبرك أن ھذه اآليات‪:‬‬

‫"تشير إلى حوادث عظيمة بين بني إسرائيل وأعدائھم من أمتين‬


‫)‪(١‬‬
‫عظيميتين‪ ،‬حوادث بينھم وبين البابليين وحوادث بينھم وبين الرومانيين"‬

‫وما حكم أذھان المفسرين‪ ،‬قديما ً وحديثاً‪ ،‬وھم يَ ْقدمون على اآليات لتفسيرھا‪،‬‬
‫أنھم فھموا أن اإلخبار بھذا الماضي غايته العظة والعبرة‪ ،‬لكي ال نسير سيرة‬
‫بني إسرائيل ونفعل مثلھم‪ ،‬وھو َو ْھم توھموه وتوارثوه‪ ،‬والكتاب الذي بين يديك‬
‫كله ھو من أجل نقض ھذا الفھم وإزالة ھذا الوھم‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٢٨‬‬


‫‪٤٤٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والذي قال من بين المفسرين أن مرتي اإلفساد المذكورتين ليستا من الماضي‬


‫ھو الشيخ الشعراوي رحمه ﷲ تعالى‪ ،‬فقال‪ ،‬بعد أن أشار إلى أقوال أئمة‬
‫المفسرين‪:‬‬

‫"تحدث العلماء كثيراً عن ھاتين المرتين‪ ،‬وفي أي فترات التاريخ حدثتا‪،‬‬


‫وذھبوا إلى أنھما كانتا قبل اإلسالم‪ ،‬والمتأمل لسورة اإلسراء يجدھا قد‬
‫ربطتھم باإلسالم‪ ،‬فيبدو أن المراد بالمرتين أحداث منھم حدثت في حضن‬
‫)‪( ١‬‬
‫اإلسالم"‬

‫وتفسير فضيلة الشيخ الشعراوي آليات سورة اإلسراء كلھا شبيه بتفسير‬
‫فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار لھا في دراسة عنوانھا‪ :‬سورة اإلسراء‬
‫تقص نھاية إسرائيل‪ ،‬نشرھا في المجلد رقم‪ ٢٨ :‬من مجلة األزھر‪ ،‬وأورد‬
‫نصھا الدكتور محمد سيد طنطاوي‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬في أطروحته التي حصل بھا‬
‫على درجة الدكتوراة‪ ،‬ونُشرت في كتاب عنوانه‪ :‬بنو إسرائيل في القرآن‬
‫والسنة‪.‬‬

‫يقول الشيخ عبد المعز عبد الستار في دراسته إن‪:‬‬

‫"ھاتين المرتين لم تكونا قبل البعثة‪ ،‬وإنما ھما في اإلسالم‪ ...‬ويقعان في‬
‫)‪(٢‬‬
‫المستقبل لمن أُنزل عليه الكتاب عليه الصالة والسالم"‬

‫‪ ( ١‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٣‬ص‪.٨٣٤٨‬‬


‫‪ ( ٢‬الدكتور محمد سيد طنطاوي‪ :‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٥ ،٦٧٣‬‬
‫‪٤٤١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ويستدل الشيخ عبد المعز عبد الستار على ما ذھب إليه بأن‪  ~ :‬في‬

‫قوله تعالى‪:a`_~ :‬‬


‫)‪(١‬‬
‫" تدل على تحقيق المجئ ال محالة"‬

‫وھو الدليل الذي بسطه الشيخ الشعراوي بقوله‪:‬‬

‫"معلوم أن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان‪ ،‬كما تقول‪ :‬إذا جاء فالن‬

‫أكرمته‪ ،‬فھذا دليل على أن أولى اإلفسادتين لم تحدث بعد ‪ ....‬وقوله‪` :‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫كذلك ال يكون بشئ مضى‪ ،‬وإنما بشئ مستقبل"‬

‫وما وصل إليه الشيخ عبد المعز عبد الستار‪ ،‬بحماسه واستبشاره أن تكون‬
‫آيات سورة اإلسراء نبوءة باالنتصار على اليھود وإزالة إسرائيل‪ ،‬وما وصل‬
‫إليه الشيخ الشعراوي‪ ،‬بالفتح واإللھام‪ ،‬صحيح‪ ،‬وما استدال به خطأ!‬

‫فما فاتھما‪ ،‬رحمھما ﷲ تعالى‪ ،‬أن صدر سورة اإلسراء كله إخبار لنا في‬
‫القرآن بما أخبر ﷲ عز وجل به بني إسرائيل في التوراة‪ ،‬فھذه اآليات أُنزلت‬
‫على بني إسرائيل‪ ،‬وھي ما قضاه ﷲ عليھم في الكتاب‪ ،‬ثم أنزلھا عز وجل‬
‫ليخبرنا بھا في القرآن‪.‬‬

‫وعلى ذلك‪ ،‬فقوله تعالى‪ ~ :‬يفيد المستقبل فعالً‪ ،‬ولكنه المستقبل بالنسبة‬

‫لزمن نزول التوراة وليس بالنسبة لزمن نزول القرآن‪ ،‬ولذا تظل المشكلة كما‬

‫‪ ( ١‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص ‪.٦٧٨‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص ‪.٨٣٥٣‬‬
‫‪٤٤٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ھي‪ ،‬فيحتمل أن تكون المرتان بعد نزول التوراة وقبل نزول القرآن‪ ،‬أو أن‬
‫تكون المرتان بعد نزول القرآن‪ ،‬أو أن تكون إحداھما قبل نزول القرآن‬
‫واألخرى بعده‪.‬‬

‫الدليل على أن المرتين بعد نزول القرآن شئ آخر غير الذي قاله الشيخان‬
‫الجليالن‪ ،‬وسوف تكتشف وأنت ترى حل شفرة اآليات أن دخول العباد المسجد‬
‫في المرتين ھو الذي بعد نزول القرآن‪ ،‬أما اإلفساد وما استغرقه من الزمان‬
‫فمسألة أخرى ھائلة‪ ،‬غي ﱠبھا عن المفسرين المعنى الضيق الذي فھموه لإلفساد‪.‬‬

‫‪٤٤٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اثﻧﻴ ًﺎ‪ :‬ﺗﻘﻴﻴﺪ ا ٔﻻرض ابﳌﻘﺪﺳﺔ‬


‫ثاني قيود المفسرين آليات سورة اإلسراء من عند أنفسھم‪ ،‬أنھم قيدوا في‬
‫تفسيرھم المكان الذي يشھد إفساد بني إسرائيل‪ ،‬فجعلوا األرض في قوله‬
‫تعالى‪ x w v:‬ھي األرض المقدسة تحديداً‪ ،‬أو بيت المقدس وما‬
‫حولھا من أرض الشام‪ ،‬مع أن األرض في اآلية مطلقة بال تقييد‪.‬‬
‫ويستوي في تحديد األرض وتقييدھا بأنھا المقدسة من صرح بذلك‪،‬‬
‫كالقرطبي وأبي حيان‪ ،‬ومن لم يصرح‪ ،‬كابن كثير وابن عاشور‪ ،‬ألن التفسير‬
‫كله قائم ومحوره أن األرض التي فيھا اإلفساد ھي األرض المقدسة‪.‬‬

‫فيقول اإلمام القرطبي في ھذه األرض‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫"يريد أرض الشام وبيت المقدس وما واالھا"‬

‫وانفرد اإلمام الفخر الرازي في تفسيره‪ :‬مفاتيح الغيب‪ ،‬من بين المفسرين‬
‫جميعاً‪ ،‬بأن قال‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫"وقوله‪ ،xw :‬يعني أرض مصر"‬

‫ولم يبين‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬لماذا‪ ،‬واستناداً إلى أي دليل‪ ،‬فسر المقصود باألرض‬
‫في سورة اإلسراء بأنه مصر‪.‬‬

‫أما الغريب حقاً‪ ،‬فھو أنه‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬خالف غيره من المفسرين وقال إن‬
‫األرض ھي مصر‪ ،‬ثم عاد فتابعھم‪ ،‬وأقام تفسيره على أن األرض ھي المقدسة‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٠‬ص‪.٢٢١٤‬‬


‫‪ ( ٢‬اإلمام الفخر الرازي‪ :‬مفاتيح الغيب ج‪ ،٢٠‬ص‪.١٥٦‬‬
‫‪٤٤٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫واإلمام الطبري أطلق ھذه األرض‪ ،‬وجعلھا البالد كلھا ال بلداً محدداً‪ ،‬فقال‬
‫في بداية تفسيره لآليات إن معناھا‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫"لتعصن ﷲ يا معشر بني إسرئيل‪ ،‬ولتخالفن أمره في بالده مرتين"‬

‫ولكنه حصر تفسير اإلفساد واآليات كلھا فعالً داخل األرض المقدسة‪.‬‬

‫واإلمام اآللوسي قريب منه‪ ،‬فقد ذكر في تفسيره‪ :‬روح المعاني‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫"المراد باألرض الجنس‪ ،‬أو الشام وبيت المقدس"‬

‫ولكنه‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬لم يبين ما المقصود بجنس األرض‪ ،‬وماذا يكون معنى‬
‫اإلفساد على ھذا القول‪ ،‬ثم أكمل تفسيره لآليات‪ ،‬وقد حصر‪ ،‬كغيره‪ ،‬اإلفساد‬
‫وبعث العباد في األرض المقدسة‪.‬‬

‫فلم نجد أحداً من أئمة المفسرين خرج على ھذا القيد أو افترض أن األرض‬
‫المقصودة في اآليات والتي تشھد إفساد بني إسرائيل قد تعني شيئا ً آخر غير‬
‫األرض المقدسة‪.‬‬

‫والذي أوھم المفسرين بھذا القيد وجعلھم يحصرون إفساد بني إسرائيل في‬
‫األرض المقدسة ذكر المسجد األقصى في اآليات‪ ،‬إذ افترضوا أن دخول العباد‬
‫الذين يبعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل المسجد يعني بالضرورة أن بني‬
‫إسرائيل موجودون فيه‪ ،‬وأن إفسادھم يكون في األرض التي من حوله‪ ،‬وأن‬
‫تسليط العباد عليھم فيھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٤٥٥‬‬


‫‪ ( ٢‬اإلمام اآللوسي‪ :‬روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١٦‬‬
‫‪٤٤٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وما في نص اآليات وما تخبر عنه ال صلة له بما توھمه المفسرون‪ ،‬فبنو‬
‫إسرائيل في اآليات‪ ،‬كما سترى‪ ،‬موجودون في المسجد ومن حوله عند دخول‬
‫العباد إليه في مرة اإلفساد الثانية دون األولى‪ ،‬واإلفساد في المرتين غير مقيد‬
‫بالمسجد وال ھو محصور في األرض التي ھو فيھا‪ ،‬ومرتا اإلفساد ليستا‬
‫متطابقتين‪ ،‬وھي الفرضية التي سربھا إلى أذھان المفسرين التعامل مع اآليات‬
‫وتفسيرھا من خارجھا‪ ،‬وما ترتب عليه من افتقاد الدقة وعدم االنتباه إلى الفروق‬
‫)•(‬
‫الدقيقة والصياغة الساحرة لآليات‬

‫• ( في صحيح البخاري ومسند اإلمام أحمد عن عبد ﷲ بن عمر أنه‪ " :‬قدم رجالن من المشرق فخطبا‪،‬‬
‫فعجب الناس لبيانھما‪ ،‬فقال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم‪ :‬إن من البيان لسحراً"‪.‬‬
‫‪٤٤٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اثﻟﺜ ًﺎ‪ :‬ﺗﻘﻴﻴﺪ ﻣﻌﲎ اﻻٕﻓﺴﺎد واﻟﻌﻠﻮ ابﳌﺎدي‬


‫ثالث قيود المفسرين آليات سورة اإلسراء‪ ،‬أنھم قيدوا اإلفساد في األرض‪،‬‬
‫فى مرتيْه‪ ،‬وكذلك العلو الكبير‪ ،‬بسلسلتين‪ ،‬انطمر بينھما المعنى الحقيقي لھذا‬
‫اإلفساد والعلو الذي أواله عز وجل ھذا القدر من العناية‪.‬‬

‫فالسلسلة األولى‪ ،‬أنھم قيدوا اإلفساد والعلو بأنه مادي‪ ،‬ويستوي في ذلك‬
‫أيضا ً من صرح ومن لم يصرح‪ ،‬بل ومن أشار منھم‪ ،‬ضمن أقواله ونُقوله‪ ،‬إلى‬
‫معنى غير مادي لإلفساد والعلو‪ ،‬إذ التفسير كله محوره المعاني المادية‪.‬‬

‫فالطاھر بن عاشور صرح بأن ھذا اإلفساد والعلو‪:‬‬

‫"مجاز في الطغيان والعصيان ‪ ...‬وتشبيه للتكبر والطغيان بالعلو على‬


‫)‪(١‬‬
‫الشئ المتالكه"‬

‫وھو نفسه تفسير أبي حيان‪:‬‬

‫"لتفسدن‪ :‬لتعصن في األرض المقدسة‪ ،‬ولتعلن‪ ،‬أي‪ :‬تطغون‬


‫)‪(٢‬‬
‫وتعظمون"‬

‫والقرطبي جعل اإلفساد‪:‬‬


‫)‪(٣‬‬
‫"مخالفة أحكام التوراة"‬

‫وھو نفسه تفسير الفخر الرازي‪:‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٣٠‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير البحرالمحيط‪:‬ج‪ ،٦‬ص‪.٨‬‬
‫‪ ( ٣‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٠‬ص‪.٢١٤‬‬
‫‪٤٤٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫"وقوله‪ ،v :‬يريد المعاصي ومخالفة أحكام التوراة"‬

‫ونقل اإلمام اآللوسي قوالً عابراً مجھالً لم ينسبه ألحد‪ ،‬فقال‪:‬‬

‫"واختار بعضھم‪ ،‬وقيل إنه الحق‪ ،‬أن األُولى تغيير التوراة وعدم العمل‬
‫)‪(٢‬‬
‫بھا"‬

‫ولم يفسر‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬كيف يكون تغيير التوراة إفساداً‪ ،‬ثم ترك ما نقل أنه‬
‫الحق‪ ،‬وعاد ليتم تفسيره متابعا ً من سبقه من المفسرين‪ ،‬فقال في معنى العلو‬
‫الكبير‪:‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫"لتغلبن الناس بالظلم والعدوان‪ ،‬وتفرطن في ذلك إفراطا ً مجاوزاً للحد"‬

‫والعلو الكبير عند القرطبي ھو‪:‬‬


‫)‪(٤‬‬
‫"التكبر والبغي والطغيان واالستطالة والغلبة والعدوان"‬

‫وعند الفخر الرازي ھو التجبر‪ ،‬ألنه‪:‬‬


‫)‪(٥‬‬
‫"يقال لكل متجبر‪ :‬قد عال وتعظم"‬

‫ومخالفة األحكام معصية وليس فساداً‪ ،‬فضالً عن أن يكون إفساداً يُنص عليه‬
‫ھذا النص ويُفرد له ھذا اإلفراد‪ ،‬ويستحق أن يبعث عز وجل عباداً مخصوصين‬
‫إلزالته‪.‬‬

‫‪ ( ١‬مفاتيح الغيب‪ :‬ج‪ ،٢٠‬ص‪.١٥٦‬‬


‫‪ ( ٢‬روح المعاني‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١٧‬‬
‫‪ ( ٣‬روح المعاني‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١٧‬‬
‫‪ ( ٤‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٠‬ص‪.٢١٤‬‬
‫‪ ( ٥‬مفاتيح الغيب‪ :‬ج‪ ،٢٠‬ص‪.١٥٦‬‬
‫‪٤٤٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ولو كان العلو الكبير ھو البغي والطغيان والظلم والعدوان والتجبر‪ ،‬لكان في‬
‫األمم من ھو أولى من بني إسرائيل بالذكر والتخليد في بيان اإلله إلى خلقه‪ ،‬فھل‬
‫كان لبني إسرائيل يوما ً دولة في بطش الرومانية‪ ،‬أو سطوة البريطانية‪ ،‬أو‬
‫جبروت األمريكية‪ ،‬لكي يتقدموا على ھذه اإلمبراطوريات ويستأھلوا ھذه‬
‫المكانة؟!‬

‫ومرة أخرى‪ ،‬الشيخ الشعراوي‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬ھو الذي فطن إلى أن اإلفساد ال‬
‫ينحصر في المعانى المادية فقط‪ ،‬فطرح احتماالً آخر وقال عند بداية تفسيره‬
‫لآليات‪ ،‬وھو يبين معنى الفساد عموماً‪:‬‬

‫"وكما يكون اإلفساد في الماديات‪ ،‬كمن أفسدوا علينا الماء والھواء‬


‫بالملوثات‪ ،‬كذلك يكون في المعنويات‪ ،‬فالمنھج اإللھي الذي أنزله ﷲ تعالى‬
‫لھداية الخلق وألزمنا بتنفيذه‪ ،‬فكونك ال تنفذ ھذا المنھج‪ ،‬أو تكتمه‪ ،‬أو تحرف‬
‫)‪(١‬‬
‫فيه‪ ،‬فھذا كله إفساد لمنھج ﷲ تعالى"‬

‫وطرْ ُح الشيخ الشعراوي للمعنى المعنوي لإلفساد‪ ،‬وتفسيره بأنه تحريف‬


‫الوحي وكتمانه‪ ،‬وصل به‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬إلى مفتاح اآليات الذي يحل شفرتھا‪،‬‬
‫وأوقفه عند النبع الذي تتفجر منه معانيھا‪.‬‬

‫ولكنه‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬اكتفى بھذا االحتمال والطرح في بداية تفسيره لآليات‪،‬‬


‫عند شرحه للمعنى اللغوي لإلفساد‪ ،‬ولم يتم ما بدأه عند وصوله إلى تفسير‬
‫المقصود بمرتي إفساد بني إسرائيل‪ ،‬فلم يفسر رحمه ﷲ ما ھو التحريف‪ ،‬وما‬
‫الذي حُرف‪ ،‬وال كيف يكون التحريف إفساداً وما الذي يفسده‪ ،‬وال أين موقعه‬
‫‪ ( ١‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٣‬ص‪.٨٣٤٧‬‬
‫‪٤٤٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫من مرتي اإلفساد‪ ،‬وال عالقة ھذا التحريف ببعث العباد المذكوربن في اآليات‪،‬‬
‫وبالكتاب الذي أنزل على موسى قبلھا‪ ،‬وبالقرآن الذي يھدي للتي ھي أقوم في‬
‫ختامھا‪.‬‬

‫فلم يضع‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬المفتاح الذي أُلھمه في موضعه الذي تنفتح به اآليات‬
‫وتكشف أسرارھا‪ ،‬ولم يضرب النبع الذي حام حوله ووقف عنده لتتفجر مياھه‬
‫التي حبسھا المفسرون‪ ،‬إذ ا ﱠدخر عز وجل رؤية شفرة ھذه اآليات وحلھا وتفجير‬
‫ينابيعھا لعبد من عباده اختاره لھا واصطفاه من أجلھا‪.‬‬

‫‪٤٥٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫راﺑﻌ ًﺎ‪ :‬ﺗﻘﻴﻴﺪ ﻣﻌﲎ اﳌﺮة ابﳊﺎدﺛﺔ‬


‫رابع القيود التي حبست ينابيع اآليات‪ ،‬وھي السلسلة الثانية التي طمر تحتھا‬
‫المفسرون المعنى الحقيقي إلفساد بني إسرائيل وعلوھم‪ ،‬تقييد مرتي اإلفساد‬
‫بأنھا حوادث ووقائع‪.‬‬

‫فالمفسرون‪ ،‬ألنھم فھموا من اإلفساد المعنى المادي فقط‪ ،‬افترضوا‪ ،‬من عند‬
‫أنفسھم‪ ،‬ودون أن يوجد في اآليات ما يدل على ما افترضوه‪ ،‬أن كل مرة من‬
‫مرتي اإلفساد ھي حادثة أو واقعة موقوتة بزمان محدد‪ ،‬ومحصورة في مكان‬
‫معين‪.‬‬

‫فنقل الطبري فى‪ :‬جامع البيان‪ ،‬والقرطبي في‪ :‬الجامع ألحكام القرآن‪،‬‬
‫والسيوطي في‪ :‬الدر المنثور‪ ،‬وأبو حيان في‪ :‬البحر المحيط‪ ،‬في المقصود‬
‫بمرتي اإلفساد‪ ،‬رواية نصھا ال يتغير‪ ،‬فمنھم من نسبھا البن عباس‪ ،‬ومنھم من‬
‫نسبھا لعلي بن أبي طالب‪ ،‬أو البن مسعود‪ ،‬أو البن زيد‪.‬‬

‫ويوجز لك الفحوى الواحدة لھذه الرواية ذات األسانيد المختلفة‪ ،‬وإقرار‬


‫المفسرين لھذه الفحوى‪ ،‬قول الطبري تعقيبا ً على نُقوله‪:‬‬

‫"فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس‪ ،‬وقول ابن زيد‪ ،‬كان إفساد بني‬
‫إسرائيل الذي يفسدون في األرض المرة األولى قتلھم زكريا نبي ﷲ‪ ،‬مع ما‬
‫كان سلف منھم قبل ذلك وبعده ‪ ...‬وأما قول ابن اسحق الذي روينا عنه‪ ،‬فكان‬
‫إفسادھم المرة األولى ما وصف مع قتلھم إشعيا بن أمصيا نبي ﷲ‪ ...‬وأما‬

‫‪٤٥١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫إفسادھم في األرض المرة اآلخرة‪ ،‬فال اختالف بين أھل العلم أنه كان قتلھم‬
‫)‪(١‬‬
‫يحي بن زكريا"‬

‫وحتى الشيخ الشعراوي رغم أنه افترض أن اإلفساد قد يكون معنوياً‪ ،‬وقد‬
‫يكون المقصود به تحريف التوراة وكتمھا‪ ،‬فألنه رحمه ﷲ تعامل‪ ،‬في تفسيره‬
‫كله‪ ،‬مع ھذا التحريف والكتم على أنه واقعة حدثت في الماضي وليس فعالً‬
‫مستمراً في الزمان‪ ،‬حين وصل إلى تفسير إفساد بني إسرائيل‪ ،‬فارق اإلفساد‬
‫بمعنى التحريف‪ ،‬ولم يجد ما يفسر به مرة اإلفساد األولى‪ ،‬التي أقام تفسيره على‬
‫أنھا في اإلسالم‪ ،‬إال معنى الواقعة أو الحادثة المحصورة في لحظة من الزمان‬
‫وبقعة من المكان‪.‬‬

‫فقال‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬عن مرة اإلفساد األولى‪:‬‬

‫"في المدينة أبرم رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم معھم معاھدة يتعايشون‬
‫بموجبھا‪ ،‬ووفﱠى لھم رسول ﷲ ما وفوا‪ ،‬فلما غدروا ھم‪ ،‬واعتدوا على‬
‫حرمات المسلمين وأعراضھم‪ ،‬جاس رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم خالل‬
‫ديارھم‪ ،‬وقتل منھم من قتل‪ ،‬وأجالھم عن المدينة إلى الشام وخيبر‪ ،‬وھذا ھو‬
‫)‪(٢‬‬
‫الفساد األول الذي حدث من بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة"‬

‫فاقترب‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬من وضع يده على التفسير الصحيح لآليات‪ ،‬لكنه ابتعد‬
‫ُرفَ رحمه ﷲ‬
‫عنه مرة أخرى حين حصر اإلفساد في أنه حادثة أو واقعة‪ ،‬وص ِ‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٤٦٩-٤٦٨‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٣‬ص‪.٨٣٥٢‬‬
‫‪٤٥٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫عن أن اإلفساد المقصود دورة طويلة في الزمان‪ ،‬تبدأ من تحريف الوحي‪،‬‬


‫وتنتھي بعودة الوحي وإزالة التحريف‪.‬‬

‫والذي صرفه عن متابعة ما بدأه‪ ،‬وإقامة تفسيره لآليات على أن اإلفساد ھو‬
‫تحريف الوحي‪ ،‬اقتفاءه أثر الشيخ عبد المعز عبد الستار في دراسته‪ ،‬وھي‬
‫دراسة‪ ،‬على قصرھا‪ ،‬عجيبة‪ ،‬يختلط فيھا العلم بالخطابة‪ ،‬واالستدالل‬
‫باالستبشار‪ ،‬وكان الشيخ فيھا أول من خالف أقوال أئمة المفسرين‪ ،‬ووضع يده‬
‫فعالً على عدد من مفاتيح التفسير الصحيح آليات سورة اإلسراء‪ ،‬ولكنه لم ير‬
‫الباب الذي ال تنفتح اآليات وتشرق معانيھا إال بوضع ھذه المفاتيح في مواضعھا‬
‫منه‪.‬‬

‫والعلة في ذلك‪ ،‬أنه‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬اھتدى إلى ھذه المفاتيح من خارج نص‬
‫اآليات وليس من داخلھا‪ ،‬وال بحل الشفرة اللغوية التي تحويھا‪ ،‬فصارت‬
‫المفاتيح في يده وبابھا محجوب عنه‪.‬‬

‫يقول الشيخ عبد المعز عبد الستار في بيان مرة اإلفساد األولى‪:‬‬

‫"وال تنطبق ھذه المرة تمام االنطباق إال على الدور الذي قاموا به على‬
‫عھد النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه‪ ،‬فھم أفسدوا في األرض ونقضوا‬
‫عھد ﷲ ورسوله ‪ ...‬وانطلقوا بالبغي والمكر والفساد في األرض يشككون في‬
‫شخص النبي عليه الصالة والسالم ونزاھته ورسالته‪ ،‬ويفتحون دورھم‬

‫‪٤٥٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وصدورھم ألعداء النبي عليه الصالة والسالم ويدلونھم على عورات‬


‫)‪( ١‬‬
‫المؤمنين"‬

‫وكما ترى‪ ،‬الشيخ عبد المعز عبد الستار لم يفھم من معنى اإلفساد سوى‬
‫البغي والخيانة‪ ،‬وخرج باإلفساد من األرض المقدسة والماضي السحيق‪ ،‬ولكنه‬
‫حصره مرة أخرى في المدينة‪ ،‬وفي لحظة من الزمان‪.‬‬

‫وما لم يرد على ذھن أحد من المفسرين ألبتة‪ ،‬ال قديما ً وال حديثاً‪ ،‬أن اإلفساد‬
‫المقصود في اآليات دورات طويلة في الزمان‪ ،‬وھو التفسير أو الفرضية التي‬
‫يتغير معھا معنى اآليات تغيراً تاماً‪ ،‬وتتحول من آيات مغلقة مصمتة تخبر عن‬
‫حادثة أو واقعة محصورة في بقعة من األرض ولحظة من الزمان‪ ،‬إلى آيات‬
‫فوق الزمان والمكان‪ ،‬وشمس مشرقة على تاريخ البشرية‪ ،‬وكاشفة لمسيرتھا‪،‬‬
‫ومشرفة على مسار العالم كله‪.‬‬

‫‪ ( ١‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٦‬‬


‫‪٤٥٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺧﺎﻣﺴ ًﺎ‪ :‬ﺗﻘﻴﻴﺪ اﻟﻐﺎﻳﺔ ﻣﻦ ﺑﻌﺚ اﻟﻌﺒﺎد ﺑﻌﻘﺎب ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ‬


‫خامس القيود‪ ،‬أن المفسرين قرنوا بين بعث العباد على بني إسرائيل‬
‫ودخولھم المسجد في المرتين وبين اإلفساد مباشرة‪ ،‬فقد عدوا بعث ھؤالء العباد‬
‫ودخولھم المسجد تاليا ً في الزمان مباشرة إلفساد بني إسرائيل‪ ،‬أو أنه مقترن به‬
‫وفي نفس زمن حدوثه‪.‬‬

‫فإليك ما فھموه من الغاية من بعث العباد على بني إسرائيل صريحا ً في‬
‫عبارة اإلمام اآللوسي‪:‬‬

‫"في الكالم تقدير‪ ،‬أي‪ :‬فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود‪ ...‬أرسلنا‬
‫)‪(١‬‬
‫لمؤاخذتكم بتلك الفعلة"‬

‫وقد توھم المفسرون ذلك‪ ،‬أوالً‪ :‬ألنھم فھموا اإلفساد بالمعنى المادي وعلى‬
‫أنه حادثة أو واقعة موقوتة بزمن محدد وفي مكان معين‪ ،‬وثانياً‪ :‬ألنھم فرعوا‬
‫من ذلك أن المقصود األصلي من بعث ھؤالء العباد عقاب بني إسرائيل أو‬
‫التنكيل بھم على ھذه الحادثة أو الواقعة‪.‬‬

‫فإليك عبارة أبي حيان التوحيدي تجمع لك المسألتين معاً‪:‬‬

‫"أعلم ﷲ بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منھم عصيان وكفر لنعم ﷲ‬
‫تعالى‪ ،‬وأنه سيرسل عليھم أمة تغلبھم وتقتلھم وتذلھم‪ ،‬ثم يرحمھم بعد ذلك‪،‬‬
‫ويجعل لھم الكرة ويردھم إلى حالھم االول من الظھور‪ ،‬فتقع منھم المعاصي‬
‫وكفر النعم والظلم والقتل والكفر با‪  ‬من بعضھم‪ ،‬فيبعث ﷲ عليھم أمة أخرى‬

‫‪ ( ١‬روح المعاني‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١٧‬‬


‫‪٤٥٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫تخرب ديارھم وتقتلھم وتجليھم جال ًءا مبرحا ً ‪ ...‬وقد كان بين آخر األولى‬
‫)‪( ١‬‬
‫والثانية مائة وعشر سنين ملكا ً مؤيداً ثابتاً"‬
‫فكما ترى‪ ،‬جعل أبو حيان‪ ،‬والمفسرون جميعا ً مثله‪ ،‬المعصية والبغي إفساداً‬
‫وعلواً كبيراً‪ ،‬ثم جعلوا بعث العباد قرينا ً لھذه المعصية والبغي‪ ،‬ومن أجل عقاب‬
‫الجيل من بني إسرائيل الذي وقعت منه‪ ،‬وحصروا مرتي اإلفساد وبعث العباد‬
‫في المائة سنة من تاريخ البشرية التي كان لبني إسرائيل في األرض المقدسة‬
‫فيھا دولة‪ ،‬وانتھى األمر على ذلك!‬

‫وأما الشيخ عبد المعز عبد الستار‪ ،‬والشيخ الشعراوي مثله‪ ،‬فأدرك أن العباد‬
‫المبعوثين على بني إسرائيل ھم النبي عليه الصالة والسالم وصحبه‪ ،‬فاقترب‬
‫من حقيقة اآليات خطوة‪ ،‬ولكنه ابتعد عنھا مرة أخرى‪ ،‬حين حصر الغرض من‬
‫بعثھم في عقاب بني إسرائيل وليس إصالح ما أفسدوه‪ ،‬فبعد أن حصر اإلفساد‬
‫في نقض العھد والخيانة‪ ،‬قال‪:‬‬

‫"‪ ...‬فسلط ﷲ عليھم عباده المؤمنين‪ ،‬فأجلوا بني النضير وقتلوا بني‬
‫قريظة وسبوھم‪ ،‬ثم فتحوا خيبر‪ ،‬ثم منﱠ عليھم الرسول فاستبقاھم عمالء حتى‬
‫)‪(٢‬‬
‫أجالھم عمر في خالفته"‬

‫وما صرف الشيخ عبد المعز عبد الستار عن إدراك الغاية اإللھية من بعث‬
‫العباد في اآليات‪ ،‬وجعله يحصرھا في عقاب بني إسرائيل والتنكيل بھم‪،‬‬
‫انحصار وعيه ھو وذھنه ووجدانه في زمانه ومكانه‪.‬‬

‫‪ ( ١‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.٨‬‬


‫‪ ( ٢‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٦‬‬
‫‪٤٥٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فقد كتب‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬دراسته أصالً‪ ،‬كما تنطق ھي بذلك‪ ،‬متأثراً بإنشاء دولة‬
‫إسرائيل واستعالئھا على العرب جميعاً‪ ،‬ومن ثَم رأى في آيات سورة اإلسراء‬
‫بشارة الخالص‪ ،‬وقذفت البشارة التي رآھا في وجدانه شعوراً جارفاً‪ ،‬وأوقدت‬
‫في عقله استشرافا ً ورجا ًءا أن‪:‬‬

‫"يشرفنا ﷲ في القريب‪ ،‬فإنا لنطمع أن يعذبھم ﷲ بأيدينا ويخزھم‬


‫)‪(١‬‬
‫وينصرنا عليھم ويشف صدور قوم مؤمنين"‬

‫وما لم يدركه الشيخ عبد المعز عبد الستار‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬أن دول العرب كلھا‪،‬‬
‫وليس مصر وحدھا‪ ،‬قد تتعايش مع دولة إسرائيل وتھادنھا‪ ،‬وقد تعاديھا‬
‫وتحاربھا‪ ،‬وقد تھزمھا في معركة وتنتصر عليھا‪ ،‬ولكنھا لن تزيلھا‪ ،‬وال يمكنھا‬
‫أن تزيلھا‪ ،‬ولن تدخل واحدة منھا المسجد‪ ،‬بل لن يدخلوه ولو اجتمعوا معا ً وكان‬
‫بعضھم لبعض ظھيراً‪ ،‬ألن ھذه الدول‪ ،‬بتكوينھا ومعمارھا ونسيجھا وحدودھا‬
‫ونظمھا ونخبھا وجيوشھا‪ ،‬ھي نفسھا أثر من آثار دورة اإلفساد البني‬
‫اإلسرائيلي‪ ،‬واإلفساد يزيله إصالح‪ ،‬وال يزيل بعضه بعضاً‪.‬‬

‫والعباد الذين يبعثھم ﷲ عز وجل إلزالة إفساد بني إسرائيل ويدخلون‬


‫المسجد‪ ،‬كما ستعلم‪ ،‬ھم حملة الرسالة‪ ،‬والذين توسم فيھم الشيخ عبد المعز عبد‬
‫الستار أن يكونوا ھم ھؤالء العباد‪ ،‬منھم من يقيم شعائر الدين ويوقر الشرع‬
‫وأھله‪ ،‬ومنھم من يھدمھا ويطرحه ويطرحھم خلف ظھره‪ ،‬ولكن ال ھؤالء وال‬
‫أولئك من حملة الرسالة‪ ،‬فال بخريطتھا للوجود يرون ويفكرون‪ ،‬وال بمفتاحھا‬
‫للتصنيف يترابطون‪ ،‬وال بمعيارھا وميزانھا يزنون ويحكمون‪ ،‬وال من أجلھا‬

‫‪ ( ١‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٨‬‬


‫‪٤٥٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يتحركون أو يسكنون‪ ،‬وال ھي ميزان من يوالون ومن يعادون‪ ،‬وال من نبعھا‬


‫كونوا علومھم وآدابھم ويكونون‪.‬‬

‫اإلفساد‪ ،‬كما ستعلم‪ ،‬دورات طويلة في الزمان وليس حوادث أو وقائع‬


‫محدودة في الزمان والمكان‪ ،‬وبعث العباد مقصوده األصلي إصالح ما أفسده‬
‫بنو إسرائيل وليس مجرد عقابھم والتنكيل بھم‪ ،‬فعقاب جيل من بني إسرائيل أو‬
‫التنكيل بھم قرين إلزالة إفساد كل أجيالھم‪ ،‬وليس ھو الغاية من بعث العباد‪.‬‬

‫فما لم ينتبه إليه أحد من المفسرين أن اإلفساد ال يكون أصالً إال بعد صالح‬
‫أو إصالح‪ ،‬ومن ثَم فوجود مرة إفساد ثانية يعني تلقائيا ً إصالح ما أفسده بنو‬
‫إسرائيل في المرة األولى وإزالة آثاره‪ ،‬فھذه ھي مھمة العباد والغاية من بعثھم‪.‬‬

‫آيات سورة اإلسراء تخبر في ظاھرھا عن مرتي إفساد‪ ،‬ولكنھا تخبر في‬
‫حقيقتھا‪ ،‬وبحل شفرتھا‪ ،‬عن ثالثة إصالحات‪.‬‬

‫‪٤٥٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﺳﺎدﺳ ًﺎ‪ :‬ﺗﻘﻴﻴﺪ اﻻٓايت اب ٕﻻﴎاﺋﻴﻠﻴﺎت‬


‫بعد أن قيد المفسرون آيات سورة اإلسراء بأنھا تخبر عن ماض حدث‬
‫وانتھى‪ ،‬وأن ما تخبر عنه من إفساد بني إسرائيل وعلوھم الكبير ينحصر في‬
‫األرض المقدسة‪ ،‬وأنه علو وإفساد مادي‪ ،‬وأنه محصور في حوادث معينة‬
‫ووقائع محددة‪ ،‬وأن الغاية من بعث العباد عقاب بني إسرائيل‪ ،‬حاولوا تفسير‬
‫متى كانت دورتا اإلفساد بمطابقة ما فھموه من اآليات على ما يعرفونه من‬
‫سيرة بني إسرائيل وتاريخھم‪ ،‬وما وصلھم عنھم من أخبار‪ ،‬وربما األصح أن ما‬
‫وصلھم من ھذه السيرة وھذه األخبار ھو نفسه الذي كون ھذه القيود على اآليات‬
‫في أذھانھم‪ ،‬وحبسھم عن رؤية ما فيھا وفھمه‪.‬‬

‫فذھب جُل المفسرين‪ ،‬كالطبري والقرطبي وأبي حيان والسيوطي والفخر‬


‫الرازي واآللوسي‪ ،‬إلى أن المرة األولى ھي التى انتھت بتسليط جالوت على‬
‫بني إسرائيل إلى أن قتله داوود عليه السالم‪ ،‬وأن الثانية ھي التي انتھت بغزو‬
‫بختنصر الكلداني لبني إسرائيل وحصاره ألورشليم‪ ،‬ثم اقتحامھا وھدم الھيكل‪،‬‬
‫وسبي بني إسرائيل إلى بابل‪.‬‬

‫ونقل بعضھم في االستدالل على ذلك رواية نسبوھا البن عباس‪ ،‬وفيھا‪:‬‬
‫"بعث ﷲ عليھم جالوت‪ ،‬فجاس خالل ديارھم‪ ،‬وضرب عليھم الخراج‬
‫والذل‪ ،‬فسألوا ﷲ أن يبعث لھم ملكا ً يقاتلون في سبيل ﷲ‪ ،‬فبعث ﷲ طالوت ‪...‬‬
‫ورجع ﷲ إلى بني إسرائيل ملكھم‪ ،‬فلما أفسدوا بعث ﷲ عليھم في المرة‬ ‫ﱠ‬
‫)‪( ١‬‬
‫اآلخرة بختنصر فخرب المساجد وتبر ما علوا تتبيراً"‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪ ،٤٧١‬الدر المنثور‪ :‬ج‪،٩‬ص‪.٢٥٣‬‬


‫‪٤٥٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن الغريب أن السيوطي نقل رواية في‪ :‬الدر المنثور عن ابن أبى حاتم عن‬
‫عطية المفسر‪ ،‬وفيھا أن بني إسرائيل‪:‬‬

‫"أفسدوا في المرة األولى‪ ،‬فأرسل ﷲ عز وجل جالوت‪ ،‬فقتلھم وأذلھم‪ ،‬ثم‬


‫)‪(١‬‬
‫أفسدوا في المرة الثانية‪ ،‬فقتلوا يحى بن زكريا فبعث ﷲ علھم بختنصر"‬

‫ووجه الغرابة فى ھذه الرواية أنھا جعلت قتل بني إسرائيل ليحى عليه السالم‬
‫ھو اإلفساد الذى عوقبوا بسببه‪ ،‬مع أن بختنصر كان قبل يحى بستة قرون!‬

‫ونقل الطبري والقرطبي وأبو حيان روايتين‪ ،‬إحداھما عن سعيد بن جبير‪،‬‬


‫والثانية عن محمد بن إسحق‪ ،‬وفيھما أن المرة األولى ھي‪:‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫"غزو سنحاريب األشوري‪ ،‬والثانية غزو بختنصر الكلداني"‬

‫وأما الشيخ الطاھر بن عاشور فقد اختار أن‪:‬‬

‫"المرة األولى ھي مجموع حوادث متسلسلة تسمى في التاريخ باألسر‬


‫البابلي‪ ،‬وھي غزوات بختنصر ملك بابل وأشور بالد أورشليم‪ ،‬وأما المرة‬
‫الثانية فھي سلسلة غزوات الرومانيين بالد أورشليم ‪...‬أرسل قائد رومية‬
‫القائد سيسيانوس)•( مع ابنه القائد طيطوس الجيوش في حدود سنة أربعين‬
‫بعد المسيح‪ُ ،‬‬
‫فخربت أورشليم‪ ،‬وأسر طيطوس نيفا ً وتسعين ألفا ً من‬
‫)‪(٣‬‬
‫اليھود"‬

‫‪ ( ١‬اإلمام السيوطي‪ :‬الدر المنثور في التفسير بالمأثور‪ :‬ج‪ ،٩‬ص‪.٢٥٣‬‬


‫‪ ( ٢‬جامع البيان‪ :‬ج‪،١٤‬ص‪ ،٤٧٢‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٠‬ص‪ ،٢١٦‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪.٩‬‬
‫• ( سيسيانوس ھذه تصحيف السم اإلمبراطور الروماني‪ ،‬وصحتھا‪ :‬فسبسيانوس ‪Vespesianos‬‬
‫‪ ( ٣‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٣٨‬‬
‫‪٤٦٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وعلى ذلك‪ ،‬فالمفسرون جميعاً‪ ،‬عدا الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ‬
‫الشعراوي‪ ،‬يرون أن العباد المقصودين في قوله تعالى‪ ،e d  :‬وقوله‪:‬‬

‫«¬®¯‪ ³²±°‬يقعون بين جالوت‬


‫الكنعاني‪ ،‬وسنحاريب األشوري‪ ،‬وبُختنصر الكلداني‪ ،‬وفسبسيانوس وتيتوس‬
‫الرومان‪ ،‬وعليك أن تختار‪.‬‬
‫فإليك ما اختاره الدكتور محمد سيد طنطاوي‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬في كتابه ورسالته‬
‫للدكتوراة‪ :‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬بعد أن طاف على ما قاله المفسرون‪،‬‬
‫وفحص وقارن‪ ،‬وحقق ودقق‪:‬‬

‫"الرأي الذي نختاره ھو أن العباد الذين سلطھم ﷲ على بني إسرائيل بعد‬
‫إفسادھم في األرض ھم جالوت وجنوده‪ ،‬كما يراه المحققون من أھل التفسير‬
‫‪ ...‬ولھذه األسباب نرجح أن يكون المقصود بالعباد الذين سلطھم ﷲ على بني‬
‫)‪(١‬‬
‫إسرائيل عقب إفسادھم الثاني في األرض ھم الرومان بقيادة تيطس"‬

‫وكل ما قاله المفسرون في مرتي اإلفساد‪ ،‬ومتى كانتا‪ ،‬ومن يكون العباد‬
‫المبعوثون‪ ،‬ال محل له‪ ،‬ألنھم أتوا به مما في رؤوسھم ھم وليس من اآليات‪،‬‬
‫فكل ما ذكروه خارج عن نص آيات سورة اإلسراء‪ ،‬وال عالقة له بنسيجھا‪ ،‬وال‬
‫وجود له في سبيكتھا اللغوية‪.‬‬

‫نورد لك أوالً نبذة موجزة عن مملكة بني إسرائيل لكى تدرك معنى ما قاله‬
‫المفسرون‪.‬‬

‫‪ ( ١‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٢ ،٦٦٧‬‬


‫‪٤٦١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فى عھد داوود وسليمان كانت مملكة إسرائيل موحدة وبلغت أوج قوتھا في‬
‫عھد سليمان‪ ،‬وبعد وفاة سليمان عليه السالم انقسمت مملكة إسرائيل إلى‬
‫مملكتين‪ ،‬مملكة يھوذا في الجنوب‪ ،‬وعاصمتھا أورشليم‪ ،‬ويحكمھا رحبعام بن‬
‫سليمان‪ ،‬وھذه المملكة كانت تضم سبطي يھوذا وبنيامين‪.‬‬

‫والمملكة الثانية‪ ،‬مملكة إسرائيل في الشمال‪ ،‬وتضم األسباط العشرة الباقية‬


‫وعاصمتھا السامرة‪ ،‬وقد رفض ھؤالء األسباط العشر حكم رحبعام بن سليمان‬
‫وولوا عليھم يربعام بن ناباط‪ ،‬مع أنه ليس من نسل داوود وال من سبط يھوذا‪،‬‬
‫وھو سبط ال ُملك فى بنى إسرائيل‪ ،‬بل من سبط إفرايم‪.‬‬
‫ً)•(‬
‫غزا سنحاريب ‪ Sennacherib‬بن‬ ‫وفي سنة ‪ ٧٠٢‬قبل الميالد تقريبا‬
‫سرجون الثاني ملك أشور مملكة إسرائيل في الشمال‪ ،‬وخربھا ودمر مدنھا‪،‬‬
‫وشرد أھلھا‪.‬‬

‫واألسباط العشرة من بني إسرائيل‪ ،‬أھل ھذه المملكة‪ ،‬تفرقوا في البالد‬


‫وتبددوا‪ ،‬وال توجد وثائق تاريخية عن مصيرھم‪ ،‬أو أين ذھبوا‪ ،‬وال يُعرف لھم‬
‫تاريخ محدد‪ ،‬بل وال يوجد خبر عن مصير ھؤالء األسباط العشرة في العھد‬
‫القديم‪ ،‬ولذلك تعرف ھذه األسباط العشرة باألسباط المفقودة أو الضائعة ‪The‬‬
‫‪.Lost Tribes‬‬

‫وھذه األسباط الضائعة في التاريخ‪ ،‬حاضرة‪ ،‬كما أخبرناك من قبل‪ ،‬في عالم‬
‫السر والخفاء‪.‬‬

‫• ( ثمة خالف بين المؤرخين متى كان غزو سنحاريب لمملكة إسرائيل الشمالية‪ ،‬وھل كان مرة واحدة أم‬
‫مرتين‪ ،‬ومصدر االختالف التباين بين سجالت الدولة األشورية وبين ماھو مسطور في العھد القديم‪.‬‬
‫‪٤٦٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وبعد أن غزا سنحاريب األشوري مملكة إسرائيل الشمالية‪ ،‬حاول غزو‬


‫مملكة يھوذا في الجنوب‪ ،‬لكنه لم يستطيع دخول أورشليم بعد أن حاصرھا‪،‬‬
‫فرفع الحصار وعاد إلى أشور‪.‬‬

‫سنحاريب إذاً لم يدخل أورشليم أصالً‪ ،‬وال وصل إلى المسجد فال يمكن أن‬
‫يكون ھو المقصود بقوله تعالى‪.³²±°¯® :‬‬

‫أما بُختنصر الثاني الكلداني ‪ ،Nebuchadnezzar‬فھو الذي غزا مملكة‬


‫يھوذا سنة ‪ ٥٨٨‬قبل الميالد‪ ،‬واقتحم أورشليم وخربھا‪ ،‬وھدم الھيكل‪ ،‬وسبى بني‬
‫اسرائيل إلى بابل‪ ،‬وھؤالء كانوا جميعا ً من سبط يھوذا وسبط بنيامين‪.‬‬

‫وما ينبغي ان تعجب منه‪ ،‬أن كل من ذكرھم المفسرون على أنھم العباد الذين‬
‫بعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل في مرتي اإلفساد ملوك وثنيون‪ ،‬ومن‬
‫أقوام مختلفة!‬

‫فسنحاريب األشوري وثني‪ ،‬والجزء األول من اسمه‪ِ :‬سن ‪ ،Senn‬ھو اسم‬


‫إله القمر في األساطير األشورية والبابلية‪ ،‬ومعنى اسمه‪ :‬إله القمر آخاني!‬

‫وأما بختنصر الكلداني فوثني أيضاً‪ ،‬واسمه نفسه دليل على وثنيته‪،‬‬
‫فبختنصر‪ ،‬أو نبوخذ نصر‪ ،‬ھو تعريب اسم الملك الكلداني نبو كودور أسور‬
‫‪ ،Naboukhodonósôr‬ومعنى اسمه‪ :‬حامي اإلله نبو ‪ ،Nabou‬إله الحكمة‬
‫عند األشوريين والبابيليين‪.‬‬

‫وفسبسيانوس وتيتوس الرومان وثنيون‪ ،‬من أبناء خريطة الوجود الرومانية‪،‬‬


‫التي ھي امتداد لخريطة الوجود اإلغريقية التي لفقھا ھزيود‪ ،‬كما علمت‪.‬‬

‫‪٤٦٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والغريب ھنا أن المفسرين جعلوا ھؤالء الوثنيين‪ ،‬ومن أمم مختلفة‪ ،‬تفسير‬
‫العباد المبعوثين على بني إسرائيل في سورة اإلسراء‪ ،‬مع أن ﷲ عز وجل‬

‫وصفھم بأنھم‪ ،ed  :‬وھو وصف يوحي‪ ،‬نفسيا ً وشعورياً‪ ،‬وقبل أن يكون‬

‫ثَمة بحث‪ ،‬بأنھم مؤمنون موحدون صالحون‪ ،‬ثم إن ھؤالء العباد‪ ،‬كما سترى‪،‬‬
‫أمة واحدة في المرتين‪.‬‬

‫ومن المثير لالنتباه‪ ،‬وھو مما يزيدك يقينا ً أن كل ما قاله المفسرون في تفسير‬
‫آيات سورة اإلسراء ومن يكون العباد فيھا إنما أتوا به من عند أنفسھم‪ ،‬وقيدتھم‬
‫فيه األخبار التي وصلتھم من سيرة بني إسرائيل‪ ،‬والمنھج المقلوب الذي‬
‫انتھجوه بتفسير اآليات بالتاريخ بدالً من تفسير التاريخ بھا‪ ،‬مما يزيدك يقينا ً أن‬
‫الحافظ ابن كثير‪ ،‬في تفسيره‪ ،‬ضرب صفحا ً عن كل ما أورده من سبقه من‬
‫المفسرين في من يكون ھؤالء العباد الذين سلطھم ﷲ عز وجل على بني‬
‫إسرائيل في المرتين‪ ،‬وقال بعد أن أشار إليھم إشارة عابرة‪:‬‬

‫"وقد وردت في ھذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرھا‪ ،‬ألن‬
‫)‪( ١‬‬
‫منھا ما ھو موضوع‪ ،‬من وضع بعض زنادقتھم"‬

‫ومعنى كالم ابن كثير أن كل ما نقله المفسرون فيمن يكون ھؤالء العباد‬
‫الذين سُلطوا على بني إسرائيل‪ ،‬ھو من اإلسرائيليات التي جاءوا بھا من كتب‬
‫أھل الكتاب ورواياتھم‪ ،‬وأنه ليس فيھا شئ تصح نسبته إلى النبي عليه الصالة‬
‫والسالم‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الحافظ ابن كثير‪ :‬تفسير القرآن العظيم‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.٤٧‬‬


‫‪٤٦٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)•(‬
‫ﺷﻔﺮة ﺳﻮرة ا ٕﻻﴎاء‬
‫ينبغي أن تعلم أوالً أن سكوت النبي عليه الصالة والسالم عن تفسير صدر‬
‫سورة بني إسرائيل‪ ،‬معناه إرادة ﷲ عز وجل أن تنطلق العقول واألفھام في‬
‫فھمھا وتفسيرھا دون قيد سوى نص اآليات نفسھا‪ ،‬وما تجيزه اللغة من فھم لھا‬
‫واستنباط لمعانيھا‪.‬‬

‫فآيات سورة اإلسراء ھي‪ ،‬في حقيقتھا‪ ،‬كاآليات الكونية التي تصف الطبيعة‬
‫أو تركيب الكون‪ ،‬وما فسره المفسرون منھا‪ ،‬وما فسروه بھا‪ ،‬قيدتھم فيه‬
‫معارفھم عن بني إسرائيل وما وصلھم من أخبار عن سيرتھم في األرض‬
‫المقدسة‪.‬‬

‫وتفسير آيات سورة اإلسراء وفھم فحواھا ومعرفة ما تخبر عنه‪ ،‬وما‬
‫المقصود بإفساد بني إسرائيل‪ ،‬وما ھو علوھم الكبير‪ ،‬يحتاج معارف واسعة‬
‫شاملة ومترابطة‪ ،‬وال يمكن فھم ما الذي تعنيه من غيرھا‪.‬‬

‫ال يمكن تفسير آيات سورة اإلسراء حقا ً إال بمعرفة سيرة بني إسرائيل في‬
‫األمم التي نثرھم ﷲ عز وجل بينھا‪ ،‬وأين كانت مواقعھم منھا وآثارھم فيھا‪ ،‬وما‬
‫الذي كانوا يفعلونه عبر التاريخ‪ ،‬وما غايتھم فيه وما الذي يريدونه منه‪ ،‬وما ھي‬
‫وسائلھم في تحريك التاريخ ودفعه نحو ھذه الغاية‪ ،‬وھم متناثرون بين األمم بال‬

‫• ( لست في حاجة إلى أن نذكرك أن الشفرة ھنا معناھا اختيار الكلمات وما تعنيه والعالقات بينھا‪ ،‬وما قدم‬
‫وما أخر‪ ،‬وما حذف وما أثبت‪ ،‬وصياغة اآليات وتركيبھا اللغوي‪ ،‬وأن حل ھذه الشفرة باللغة والعقل‪ ،‬وليس‬
‫المقصود اإلشارات أو الرموز السرية أو تفسيرھا بالمعاني الباطنية‪.‬‬
‫‪٤٦٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫حول ظاھر وال قوة‪ ،‬فال أرض تجمعھم‪ ،‬وال حاكم يحكمھم ويقوم بأمرھم‪ ،‬وال‬
‫لھم دولة‪.‬‬

‫وھي كلھا‪ ،‬كما ترى‪ ،‬معارف تقع في الجوانب المجھولة والخفية من‬
‫التاريخ‪ ،‬ويحتاج الوصول إليھا إلى صبر وجلد‪ ،‬وقوة وأناة‪ ،‬وفتوح وبصيرة‪،‬‬
‫من أجل إعادة فحص التاريخ كله وقراءته وفھمه بطريقة غير تلك التي رآه بھا‬
‫المؤرخون‪ ،‬الشرقيون منھم والغربيون‪ ،‬وفھموه ودونوه من خاللھا‪.‬‬

‫ف ْھم آيات سورة اإلسراء يحتاج إلى جمع المشاھد الرئيسية في طول التاريخ‬
‫وعرض الدنيا كلھا معاً‪ ،‬وإدراك الرابط الذي يربط بينھا جميعاً‪ ،‬وكيف تك ﱠون‬
‫المسار الذي سارت فيه‪ ،‬ومن غير ذلك تظل طلسما ً مطلسماً‪ ،‬وكل ما يقال في‬
‫تفسيرھا ال يفي بحقيقتھا وال يكشف حقا ً ما ھو خبئ فيھا‪.‬‬

‫آيات سورة اإلسراء فوق الزمان وتحيط به‪ ،‬وتشرف على المكان وھو كله‬
‫فيھا‪ ،‬وال يمكن لوعي وال عقل أن يدرك ما تحويه‪ ،‬وال أن يفھم ما الذي تعنيه‪،‬‬
‫إال إذا رفعه ﷲ عز وجل فوق الزمان والمكان‪ ،‬ورآھما مطلقين من القيد‪،‬‬
‫فأحاط بما في طول ھذا وما في عرض ذاك‪ ،‬وال وسيلة لذلك إال الوحي‪.‬‬

‫فمن خالل ما قرأته في الكتاب الذي بين يديك‪ ،‬البد أدركت أن تفسير آيات‬
‫سورة اإلسراء يحتاج‪ ،‬مع المعارف الواسعة الشاملة المترابطة‪ ،‬الى دراسة‬
‫سيرة بني إسرائيل وآثارھم في التاريخ من خالل إخبارات القران عنھم‪.‬‬

‫فسيرة بني إسرائيل‪ ،‬وحركتھم في التاريخ‪ ،‬وآثارھم في األمم والشعوب‪،‬‬


‫حافلة‪ ،‬كما رأيت‪ ،‬باألسرار والخفايا‪ ،‬وبعض ھذه األسرار والخفايا‪ ،‬الوعي بھا‬

‫‪٤٦٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وإدراكھا وفھمھا فوق طاقة البشر وما يملكونه من وسائل لإلدراك وتحصيل‬
‫المعرفة‪.‬‬

‫والقرآن‪ ،‬بيان اإلله إلى خلقه‪ ،‬ألنه العلم الشامل المحيط‪ ،‬ومصدر المعرفة‬
‫المطلق الكاشف للزمان والمكان‪ ،‬فھو المصدر الوحيد الذي يكشف ِع َ‬
‫ظم آثار‬
‫بني إسرائيل في التاريخ والبشرية‪ ،‬وھو الضوء الوحيد الذي يرشد الى مناطق‬
‫استكشاف ھذه اآلثار‪ ،‬ويضئ المناطق المجھولة التي ال يمكن العثور على ھذه‬
‫اآلثار وما تحفل به من أسرار وخفايا‪ ،‬ھي حقائق التاريخ ال ما يُدونه‬
‫المؤرخون‪ ،‬إال فيھا‪.‬‬

‫فال يمكن فھم تاريخ العالم والمسار الذي سار فيه‪ ،‬وال كيف تكونت األمم‬
‫وكونت عقائدھا وعلومھا وآدابھا وفنونھا على الصورة التي تكونت وكونتھا‬
‫بھا‪ ،‬إال بمعرفة آثار تحريف الوحي فيھا‪ ،‬وال يمكن معرفة التحريف وما الذي‬
‫حُرف‪ ،‬وال إدراك أن ثَمة وحيا ً وتحريفا ً أصالً‪ ،‬إال بمعرفة األصل‪ ،‬وال مصدر‬
‫لألصل‪ ،‬ولبيان التحريف وما حُرف‪ ،‬إال القرآن‪.‬‬

‫فربما توھمت وأنت تقرأ ما أتيناك به من آثار بني إسرائيل وسيرتھم‬


‫وخريطتھم للوجود في الھندوسية واإلغريق‪ ،‬أنﱠا عرفناه باالطالع على تواريخ‬
‫ھذه الشعوب وحضارات ھذه األمم‪.‬‬

‫فاعلم أنﱠا لم نعرفه ونصل إليه بمجرد االطالع والقراءة‪ ،‬بل رأيناه أوالً في‬
‫القرآن‪ ،‬ومن قبل أن يكون ثَمة اطالع وال قراءة‪ ،‬ثم رأيناه بالقرآن عند اإلطالع‬
‫والقراءة‪.‬‬

‫‪٤٦٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫فكم من أمي اطلع وقرأ‪ ،‬فلم يُس ﱢ‬
‫طر قلمه سوى اإلعجاب بما قرأ والوله بما‬
‫عليه اطلع‪ ،‬فلوال أنﱠا رأينا ما رأيناه في القرآن‪ ،‬ورأيناه بالقرآن‪ ،‬لكان حالنا‪ ،‬مع‬
‫ما اطلعنا عليه من تواريخ وأساطير‪ ،‬ومن فلسفات وعلوم‪ ،‬ومن آداب وفنون‪،‬‬
‫ومن أسرار ورموز‪ ،‬ومن مجاھيل عالم السر والخفاء‪ ،‬كحال ھؤالء األميين‪،‬‬
‫ولصرنا إلى ما صاروا إليه من عَته وبلَه!‬

‫والمعضلة الحقيقية ھي أن إخبارات القرآن عن بني اسرائيل‪ ،‬ھي نفسھا‬


‫تحتاج الى تحريرھا من القيود واألوھام التي سلسلتھا وطمرتھا عبر القرون‪،‬‬
‫وھو أيضا ً طريق طويل‪ ،‬شاق ووعر‪ ،‬وأول خطوة في ھذا الطريق ھي تحرير‬
‫ھذه اإلخبارات من فھمھا على انھا تتكلم عن ماض‪ ،‬وأن الغرض منھا العبرة‬
‫والعظة‪.‬‬

‫قصص مات من‬


‫ٍ‬ ‫إخبارات القرآن عن بني اسرائيل‪ ،‬وإن كانت في ثنايا‬
‫عاشوھا‪ ،‬فھي تخبر عن مطلقات‪ ،‬عن تكوين ذھني ونفسي‪ ،‬وخالل وسجايا‪،‬‬
‫وأفعال وسلوك‪ ،‬وأھداف واساليب لبني إسرائيل دائمة‪ ،‬ويورثھا كل جيل منھم‬
‫للذي يليه‪.‬‬

‫تعلم ذلك من أن بني اسرائيل الذين يقص لك القرآن أخبار أجيالھم الغابرة‪،‬‬
‫ھم أنفسھم من يخاطب في كل زمان وكل مكان أجيالھم الحاضرة‪ ،‬فبنو‬
‫اسرائيل‪ ،‬بتكوينھم‪ ،‬في كل أجيالھم جيل واحد‪ ،‬وفي كل عصورھم عصر‬
‫واحد‪ ،‬له غاية واحدة ال تتغير‪ ،‬ووسائل يتوارثونھا ال تتبدل‪.‬‬

‫فاآلن يمكنك أن تفھم ما الذي تخبر عنه آيات سورة اإلسراء‪.‬‬

‫‪٤٦٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المفسرون‪ ،‬كما رأيت‪ ،‬قيدوا آيات سورة اإلسراء زمانا ً فجعلوھا تخبر عن‬
‫ماض حدث وانتھى‪ ،‬وقيدوھا مكانا ً فجعلوا مجال اإلفساد ومكان العلو الكبير‬
‫األرض المقدسة‪ ،‬وقيدوا اإلفساد والعلو والكبير بأنه مادي‪ ،‬وحوادث أو وقائع‪،‬‬
‫ألنھم فھموا أن المراد من اإلخبار في اآليات العظة والعبرة بسيرة بني‬
‫إسرائيل‪.‬‬

‫وھذه القيود أصمتت اآليات وأغلقتھا وطمرتھا وجعلتھا ساكنة ال عالقة لھا‬
‫بحياة البشر ومعزولة عن مسارھم وتاريخھم‪ ،‬بينما ھي في الحقيقة ناطقة بشئ‬
‫آخر‪ ،‬وتحوي شفرة ال يمكن حلھا وإخراج ما تحويه إال بتحريرھا من القيود‬
‫التي قيدھا بھا المفسرون من عند أنفسھم دون أن يوجد في نص اآليات ما يدل‬
‫عليھا أو يوحي بھا‪.‬‬

‫آيات سورة اإلسراء شفرة لغوية‪ ،‬وتفسيرھا ومعرفة ما أراد ﷲ عز وجل أن‬
‫يخبرنا به فيھا ھو في حل ھذه الشفرة اللغوية‪.‬‬

‫‪٤٦٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤٧٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ ‪y‬‬
‫اإلفساد الذي تخبر عنه اآليات وتنطق به دورات في الزمان وليس حوادث‬
‫أو وقائع فساد‪ ،‬قتل رجل أو اثنين أو مائة ألف‪ ،‬فاآليات تخبرنا عن شئ أشد‬
‫خطراً وأعمق أثراً في تاريخ البشرية وتكوينھا من مجرد قتل رجلين‪ ،‬حتى لو‬
‫كانا نبيين‪ ،‬والھدف من اإلخبار به أھم وأكبر من مجرد العظة والعبرة‪.‬‬

‫اآليات تخبر عن مرتي إفساد‪ ،‬كل مرة ھي دورة طويلة في الزمان‪ ،‬وكل‬
‫دورة تبدأ من صالح أو إصالح‪ ،‬ألن الفساد واإلفساد في العربية‪ ،‬كما ستعلم‪،‬‬
‫ھو نقيض الصالح واإلصالح‪ ،‬وال يكون إال بعدھما‪.‬‬

‫فتفھم من ذلك أن الدورة األولى تبدأ بالصالح ثم يتلوه إفساد يربو ويستشري‬
‫حتى يشمل األرض كلھا‪ ،‬وعندما يصل اإلفساد إلى ذروته يبعث ﷲ عز وجل‬
‫عباداً‪ ،‬ال لمجرد التنكيل ببني إسرائيل كما فھم المفسرون‪ ،‬بل إلزالة إفسادھم‬
‫ومحو آثاره من األرض‪ ،‬ويواكب ھذا اإلصالح لما أفسده بنو إسرائيل تسلط‬
‫ھؤالء العباد عليھم‪.‬‬

‫وبعد أن يصل اإلصالح إلى تمامه‪ ،‬يبدأ بنو إسرائيل دورة إفساد أخرى‪،‬‬
‫تزيد وتتوسع إلى أن تصل إلى ذروتھا بأن تعم األرض كلھا‪ ،‬فيأتي عباد ﷲ‬
‫مرة أخرى إلزالة اإلفساد وآثاره وإعادة الصالح‪.‬‬

‫وكما سترى‪ ،‬إفساد بني إسرائيل المقصود ليس محصوراً في األرض‬


‫المقدسة‪ ،‬وإزالة ھذا اإلفساد ال ترتبط بإخراجھم من المسجد وما حوله من‬
‫األرض المقدسة في الدورتين‪ ،‬بل في الدورة الثانية فقط‪.‬‬
‫‪٤٧١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وذكر المسجد األقصى في اآليات ليس تقييداً لإلفساد بأنه في األرض التي‬
‫ھو فيھا‪ ،‬بل ھو عالمة على شيئين آخرين‪ ،‬عالمة تعرف بھا‪ ،‬مع العالمات‬
‫األخرى في اآليات‪ ،‬من ھم العباد الذين يسلطون على بني إسرائيل ويزيلون‬
‫إفسادھم ويمحون آثاره‪ ،‬ومتى يُبعثون عليھم‪ ،‬وعالمة على أن وصول بني‬
‫إسرائيل إليه وعلوھم المادي حوله ھو ذروة دورة اإلفساد الثانية‪.‬‬

‫فنص آيات سورة اإلسراء‪ ،‬بصياغته المعجزة المشفرة لغوياً‪ ،‬يخبرك أن‬
‫دورتي اإلفساد ليستا متشابھتين تماماً‪ ،‬كما توھم المفسرون‪ ،‬بل بينھما فروق‬
‫ستعرفھا مع استكمال تحريرھا‪.‬‬

‫‪٤٧٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ xw‬‬
‫إذا كان اإلفساد المقصود في آيات سورة اإلسراء دورات فى الزمان وليس‬
‫حوادث أو وقائع موقوتة بلحظة فيه‪ ،‬وإذا كان المسجد في اآليات عالمة على‬
‫العباد وإشارة إلى زمان بعثھم‪ ،‬وعلى مرحلة في دورة اإلفساد الثانية أو على‬
‫ذروتھا‪ ،‬فما المقصود باألرض التي تشھد ھذا اإلفساد والعلو الكبير لبني‬
‫إسرائيل‪.‬‬

‫لكي تعرف المقصود باألرض في سورة اإلسراء‪ ،‬ينبغي أن تعرف أوالً‬


‫معاني كلمة األرض في القرآن‪.‬‬

‫األرض في القرآن إما أن ترد مقيدة أو مطلقة‪ ،‬فاألرض المقيدة كقوله تعالى‬
‫في إبراھيم عليه السالم في سورة األنبياء‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫¶¸‪¿¾½¼»º¹‬‬

‫وكقوله تعالى فيھا‪:‬‬

‫¶ ¸ ‪Ä Ã Â Á À ¿ ¾ ½ ¼ » º ¹‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫‪ÆÅ‬‬

‫‪ ( ١‬األنبياء‪.٧١ :‬‬
‫‪ ( ٢‬األنبياء‪.٨١ :‬‬
‫‪٤٧٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فاألرض ھنا مقيدة بأنھا‪  ¾ ½ ¼ »  :‬أو‪،À ¿ ¾ :‬‬


‫فصارت كلمة األرض بھذا القيد منصرفة إلى بقعة محددة معينة‪ ،‬ھي التي‬
‫بورك فيھا‪ ،‬وھي األرض المقدسة‪.‬‬
‫أما األرض حيث ترد مطلقة في القرآن‪ ،‬فإنھا تعني إما‪:‬‬

‫أوالً‪:‬األرض كلھا‪:‬‬

‫أي‪ :‬الكرة األرضية‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪qpon‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪}|{zyxwv‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫‪nmlk‬‬

‫ثانياً‪ :‬جنس األرض أو تربتھا‪:‬‬

‫كقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٤‬‬
‫‪ba`_^]\[ZYXWVUTS‬‬

‫‪ ( ١‬آل عمران‪.١٨٩ :‬‬


‫‪ ( ٢‬الزخرف‪.٨٤ :‬‬
‫‪ ( ٣‬الرحمن‪.١٠ :‬‬
‫‪ ( ٤‬البقرة‪.٧١:‬‬
‫‪٤٧٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثالثاً‪ :‬بقعة في األرض أو مكان فيھا‪:‬‬

‫وذلك دون إرادة تحديدھا أو تعيينھا‪ ،‬ألن التحديد والتعيين ليس مراداً وال‬
‫مقصوداً في المعنى‪ ،‬وال يضيف إليه‪ ،‬كقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪KJIHGFEDCBA‬‬

‫وفي ھذه المعاني الثالثة لألرض حين تأتي مطلقة في القرآن المراد التعميم‬
‫واإلطالق‪ ،‬وليس تحديد بقعة معينة‪ ،‬وال اإلخبار أو الكناية عن بلد بعينه‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬مصر‪:‬‬
‫األرض حين ترد في آيات القرآن مطلقة‪ ،‬خالية من القيد‪ ،‬ال تعني بلداً محدداً‬
‫بعينه‪ ،‬وال أن ما تخبر به يتعلق بھذا البلد دون سائر البلدان‪ ،‬إال في حالة واحدة‬
‫ال ثاني لھا‪ ،‬حين يتعلق الكالم بمصر‪.‬‬

‫كقوله تعالى على لسان يوسف عليه السالم‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪ mlkji hgfed‬‬

‫وقوله تعالى عن يوسف‪:‬‬

‫)‪(٣‬‬
‫ ‪vutsrqpon‬‬

‫وقوله عز وجل عن فرعون‪:‬‬

‫‪ ( ١‬التوبة‪.١١٨ :‬‬
‫‪ ( ٢‬يوسف‪.٥٥ :‬‬
‫‪ ( ٣‬يوسف‪.٥٦ :‬‬
‫‪٤٧٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫~¡‪¦¥¤£¢‬‬

‫فالمقصود في ھذه اآليات كلھا مصر تحديداً‪ ،‬مع إطالق لفظ األرض فيھا‪،‬‬
‫ألن ھذا ھو اسم مصر فعالً في اللغة المصرية القديمة‪.‬‬

‫فاألرض المطلقة في اآليات التى تخبر عن مصر تعني مصر دون حاجة‬

‫لتقييدھا‪ ،‬ألن كلمة‪ £  :‬ھي الترجمة العربية الحرفية السم مصر القديمة‬

‫) •(‬
‫في لسان أھلھا وكتابتھم‬

‫فاسم مصر القديمة عند أھلھا‪ ،‬كما يقول السير آالن جاردنر ‪Alan‬‬
‫‪ Gardiner‬في كتابه‪ :‬فقه اللغة المصرية القديمة ‪:Egyptian Grammer‬‬

‫" تا ‪ ،Ta‬أي‪ :‬األرض‪ ،‬وكانوا أحيانا ً يسمونھا‪ :‬تامري ‪ ،Ta-Meri‬أي‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫األرض المحبوبة‪ ،‬أو تاوي ‪ ،Ta-Wy‬أي‪ :‬األرض ْين‪ ،‬مثنى األرض"‬

‫فاآلن نريدك أن تتأمل اآليات مرة أخرى‪ ،‬األرض في آيات سورة اإلسراء‬
‫مطلقة غير مقيدة‪ ،‬والقيد الذي قيدھا به المفسرون‪ ،‬وھو أنھا األرض المقدسة‪،‬‬
‫جاءوا به من عند أنفسھم‪ ،‬وليس في اآليات ما يدل عليه‪.‬‬

‫وما خطر على أذھانھم من أن ذكر المسجد في اآليات تقييد لألرض بأنھا‬
‫التي ھو فيھا َو ْھم‪ ،‬ألن المسجد في اآليات عالمة على مرحلة من دورة اإلفساد‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٤ :‬‬
‫• ( انظر رسم اسم مصر بالھيروغليفية في ملحق الصور‪.‬‬
‫‪2 ) Egyptian Grammar:P479,599.‬‬
‫‪٤٧٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الثانية‪ ،‬وعالمة تعرف بھا من ھم العباد الذين يزيلون ھذا اإلفساد ومتى‪ ،‬وليس‬
‫تقييداً لألرض التي يكون فيھا ھذا اإلفساد‪.‬‬

‫تعرف ذلك من أن ﷲ عز وجل قرن ذكر المسجد في اآليات بھؤالء العباد‬


‫والوعد ببعثھم في المرتين‪ ،‬ال باإلفساد‪ ،‬وال حتى ببني إسرائيل‪.‬‬

‫فالسؤال اآلن الذي يجب أن تجيب عليه ھو‪ :‬إذاً ما المقصود باألرض في‬
‫سورة اإلسراء‪ ،‬في قوله تعالى مخاطبا ً بني إسرائيل‪:‬‬

‫‪xwv‬‬

‫المقصود باألرض ھو األرض كلھا‪ ،‬ال بقعة دون بقعة‪ ،‬وال بلد دون بلد‪،‬‬
‫األرض في آيات سورة اإلسراء ھي الكرة األرضية كلھا!‬

‫األرض في آيات سورة اإلسراء صنو األرض في قوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪onml‬‬

‫فالمقصود باألرض في قوله تعالى‪  o n m l:‬األرض‬


‫كلھا‪ ،‬ألنه لو كان المقصود األرض المقدسة‪ ،‬لكان المعنى أنھم مجتمعون فيھا‬
‫معا ً‪ ،‬وھو ما يناقض قوله‪.l :‬‬

‫فالمقصود ھنا أن ﷲ عز وجل عقابا ً لھم نثرھم في األرض كلھا وبعثرھم‬


‫وشتتھم في بالدھا وأنحائھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬األعراف‪.١٦٨ :‬‬
‫‪٤٧٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وكذلك اإلفساد في سورة اإلسراء‪ ،‬فھو إفساد يعم األرض كلھا التي نثر فيھا‬
‫عز وجل بني إسرائيل وشتتھم بين أممھا وشعوبھا‪ ،‬يؤكد ذلك قوله تعالى‪:‬‬

‫´‪èçæåäãâ ...¿¾½¼»º¹¸¶µ‬‬
‫)‪( ١‬‬
‫‪ëêé‬‬

‫فا" عز وجل يصف اليھود بالسعي إلى اإلفساد‪ ،‬وليس مجرد الفساد أو‬
‫اإلفساد‪ ،‬والسعي يعنى قصد الشئ والمسارعة فيه واإلسراع نحوه‪.‬‬

‫ثم إنه عز وجل وضع ھذا اإلفساد في صيغة المضارعة التي تعني التجدد‬
‫واالستمرار والتكرار‪ ،‬فحرر بذلك ھذا السعي من قيد الزمان‪.‬‬

‫وأخبرنا عز وجل أن ھذا السعي المستمر المتجدد نحو اإلفساد في األرض‬


‫كلھا‪ ،‬فحرره من قيد البقعة والمكان‪.‬‬

‫فإذا جمعت قوله عز وجل‪  å ä ã â :‬مع قوله تعالى‪:‬‬

‫‪ xwv‬أسفر لك المعنى وأشرق ما تخبرك به اآليات‪.‬‬

‫إفساد اليھود أو بني إسرائيل ليس محصوراً في األرض المقدسة‪ ،‬كما فھم‬
‫المفسرون‪ ،‬بل على خالف ذلك ونقيضه‪ ،‬ھو قرين عدم وجودھم فيھا‪ ،‬وتشتتھم‬
‫في األرض كلھا‪ ،‬وعودتھم إلى األرض المقدسة واجتماعھم فيھا ھي إحدى‬
‫ثمار ھذا اإلفساد في دورته الثانية‪.‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.٦٤ :‬‬
‫‪٤٧٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن المثير أن الصيغة التي وصف عز وجل بھا إفساد اليھود في األرض‬
‫كلھا في سورة المائدة صيغة فريدة لم ترد في القرآن إال مرتين‪ ،‬وھذا الموضع‬
‫الثاني منھما‪.‬‬

‫والموضع األول قوله تعالى في آية الحرابة‪:‬‬

‫‪w v u t s r q p o n m l k‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪ba`_~}|{zyx‬‬

‫فھذه الصيغة ال ترد فى القرآن إال لوصف َمن الفساد حرفته وقرين نشاطه‬
‫وسعيه وحركته‪.‬‬

‫فإفساد بني إسرائيل المذكور في سورة اإلسراء‪ ،‬بنص اآليات‪ ،‬إفساد يعم‬
‫األرض كلھا وال تنجو منه بقعة فيھا‪ ،‬وعلوھم الكبير علو في األرض كلھا‪ ،‬ال‬
‫في بلد أو ناحية منھا دون أخرى‪.‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.٣٣ :‬‬
‫‪٤٧٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪v‬‬
‫السؤال التالى‪ :‬ما ھو‪ ،‬وكيف يكون ھذا اإلفساد الذي يعم األرض كلھا‪ ،‬وما‬
‫ھو تفسير العلو الكبير الذي يعلوه بنو إسرائيل على أمم األرض كلھا؟‬

‫المفسرون‪ ،‬كما رأيت‪ ،‬انصرفت أذھانھم إلى اإلفساد والعلو الكبير بالمعنى‬
‫المادي‪ ،‬القتل والتخريب والبغي والتسلط والتجبر والطغيان‪ ،‬وفھمھم لإلفساد‬
‫والعلو الكبير على ھذا النحو ھو ما أصمت اآليات وأغلقھا‪ ،‬ولو فطنوا إلى‬
‫تفسير اإلفساد والعلو الكبير بالمعنى العقائدي لصارت اآليات ينبوعا ً يتدفق‬
‫بالمعاني واإلخبارات والدالالت‪ ،‬والنفتحت على تاريخ العالم وسيرة البشرية‬
‫كلھا‪.‬‬

‫لكي تعرف ما ھو اإلفساد الذي يعم األرض كلھا وال تنجو بقعة فيھا منه‪،‬‬
‫البد أوالً أن تعرف ما ھو الفساد واإلفساد أصالً‪.‬‬

‫في لسان العرب البن منظور‪:‬‬

‫"الفساد نقيض الصالح ‪ ...‬والمفسدة خالف المصلحة‪ ،‬واالستفساد خالف‬


‫)‪( ١‬‬
‫االستصالح"‬

‫وفي القاموس المحيط للفيروزأبادي‪:‬‬

‫"فسد يفسد فساداً وفسوداً ضد صلح‪ ،‬والمفسدة ضد المصلحة‪ ،‬واستفسد‬


‫)‪(١‬‬
‫ضد استصلح"‬

‫‪ ( ١‬ابن منظور المصري‪ :‬لسان العرب ج‪ ،٣‬ص‪.٣٣٥‬‬


‫‪٤٨٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وفي تاج العروس لمرتضى الزبيدي‪:‬‬

‫"فسد ضد صلح ‪ ...‬وقيل‪ :‬فسد الشئ‪ :‬بطل واضمحل‪ ،‬ويكون بمعنى‬


‫)‪(٢‬‬
‫تغير"‬

‫وفي المعجم الوسيط الذي قام عليه مجمع اللغة العربية برئاسة الدكتور‬
‫شوقي ضيف‪:‬‬

‫"فسد اللحم واللبن‪ :‬أنتن أو عطب‪ ،‬وفسد الرجل‪ :‬جاوز الصواب والحكمة‪،‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫وفسدت األمور‪ :‬اضطربت وأدركھا الخلل‪ ،‬وأفسد الشئ جعله فاسداً"‬

‫وكما ترى‪ ،‬أئمة اللغة وأساطين العربية يُعرفون الفساد تعريفا ً واحداً يتفقون‬
‫عليه‪ ،‬وال اختالف بينھم فيه‪ ،‬وھو أن الفساد نقيض الصالح‪ ،‬واإلفساد نقيض‬
‫اإلصالح‪ ،‬وھو ما تعرف منه أن الصالح ھو األصل‪ ،‬وأنه إذا قيل‪ :‬حدث فساد‬
‫أو إفساد‪ ،‬فھو يعني‪ ،‬تلقائيا ً وبالضرورة‪ ،‬أن ھذا الفساد واإلفساد كان مسبوقا ً‬
‫بصالح أو إصالح‪.‬‬

‫فإذا صرحت أن اللحم أو اللبن فسد وأنتن‪ ،‬فإنك تعني في الوقت نفسه‪ ،‬ومن‬
‫غير حاجة إلى تصريح‪ ،‬أنه كان قبل ھذا الفساد واإلنتان صالحاً‪ ،‬وإذا أخبرك‬
‫أحد أن األمور فسدت واضطربت‪ ،‬فإنك ستفھم‪ ،‬من غير أن تكون في حاجة إلى‬
‫أن يخبرك‪ ،‬أن األمور كانت قبل فسادھا واضطرابھا صالحة ومستقرة‪.‬‬

‫‪ ( ١‬مجد الدين الفيروزأبادي‪ :‬القاموس المحيط ج‪ ،١‬ص‪.٣٢٠‬‬


‫‪ ( ٢‬مرتضى الزبيدي‪ :‬تاج العروس من جواھر القاموس ج‪ ،٨‬ص‪.٤٩٥‬‬
‫‪ ( ٣‬مجمع اللغة العربية‪ :‬المعجم الوسيط‪ ،‬ص‪.٦٨٨‬‬
‫‪٤٨١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ومن ھنا تفھم أن كل دورة إفساد لبني إسرائيل تبدأ من بعد صالح أو‬
‫إصالح‪ ،‬أي من بعد وحي ورسالة من ﷲ عز وجل إلصالح عالم البشر وإعادة‬
‫البشرية إلى الحق‪ ،‬ثم تبدأ دورة إفساد بني إسرائيل وتربو وتزيد وتتوسع حتى‬
‫تعم األرض كلھا‪.‬‬

‫وھا ھنا تفھم لماذا سبق عز وجل ذكر دورتي اإلفساد بذكر الكتاب الذي‬
‫أنزل على موسى ليكون ھدى لبني إسرائيل في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪b a ` _ ^ ] \ [ Z Y X‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪dc‬‬

‫فإنزال الكتاب على موسى عليه السالم‪ ،‬وھداية بني إسرائيل إليه‪ ،‬وتكوين‬
‫أمة الوحي منھم به‪ ،‬ھو اإلصالح الذي سبق دورة اإلفساد األولى‪.‬‬

‫فإذا فھمت ذلك‪ ،‬وعرفت صلة الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السالم‬
‫باإلفساد المذكور بعده‪ ،‬فسوف تدرك وحدك معنى ھذا اإلفساد والمقصود به‪.‬‬

‫إفساد بني إسرائيل في آيات سورة اإلسراء ليس القتل والتخريب والبغي‪،‬‬
‫كما فھم المفسرون‪ ،‬بل ھو في المرة األولى كتم الكتاب الذي أنزل عليھم‬
‫وإخفاؤه‪ ،‬وتحريف الوحي‪ ،‬وبث التحريف في البشر وإضاللھم به‪ ،‬بدالً من‬
‫ھدايتھم بالوحي‪.‬‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.٢ :‬‬
‫‪٤٨٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫حتى إذا اكتمل إفسادھم‪ ،‬وعم التحريف وآثاره األرض كلھا‪ ،‬ولم تعد بقعة‬
‫فيھا بمنأى عنه‪ ،‬بعث ﷲ عز وجل عباده بالوحي والرسالة‪ ،‬ال لمجرد التنكيل‬
‫ببني إسرائيل‪ ،‬بل ليعيدوا الصالح ويغسلوا األرض بالوحي من إفساد بني‬
‫إسرائيل ويقيموا أمة الوحي التي تعيد تكوين وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم‬
‫وإصالح حياتھم ومجتمعاتھم بالرسالة من جديد‪.‬‬

‫وھذا ھو اإلصالح الذي تبدأ من عنده دورة اإلفساد الثانية‪.‬‬

‫وما ينبغي أن تعلمه لكي ينير لك الطريق وتفھم ماذا تكون دورة اإلفساد‬
‫الثانية واإلصالح الذي يكون بعدھا‪ ،‬أن الفساد واإلفساد ليس الذنوب والخطايا‬
‫واآلثام وال مخالفة األحكام‪ ،‬وال وجود األباطيل والضالالت في العالم‪.‬‬

‫الفساد اختفاء الميزان الذي يُعرف به الصواب من الخطأ‪ ،‬واإلفساد طمس‬


‫المعيار الذي يُميز به بين الحق والباطل‪ ،‬الفساد واإلفساد ف ْق ُد األمة التي يتجلى‬
‫فيھا الوحي وتترجمه في واقعھا واجتماعھا‪ ،‬وتكون بھا خريطة الوجود اإللھية‬
‫حياة حية‪ ،‬ويكون بھا المعيار مرفوعاً‪ ،‬والميزان منصوباً‪.‬‬

‫دورة اإلفساد الثانية ھي مصارعة بني إسرائيل للوحي والرسالة في وعي‬


‫البشر وأذھانھم ونفوسھم لكي تحل خريطتھم للوجود محلھا‪ ،‬ومصارعتھم‬
‫للوحي والرسالة في عالم البشر لكي يزيحوا مفتاح التصنيف اإللھي للبشر‬
‫بمفتاحھم‪ ،‬وكفاحھم الشاق الدؤوب من أجل تغييب الموازين وإزالة المعايير من‬
‫اجتماع البشر وأخالقھم وعلومھم وآدابھم وفنونھم‪.‬‬

‫‪٤٨٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وذروة ھذه الدورة أن تصل موجات التحريف وخريطة الوجود البني‬


‫إسرائيلية إلى األمة التي أزالت اإلفساد األول‪ ،‬وتستوطن‪ ،‬عبر السياسات‬
‫والقوانين والعلوم واآلداب والفنون‪ ،‬وعيھا‪ ،‬فتختفي منھا الموازين وتضيع‬
‫المعايير‪ ،‬وتحل محلھا‪ ،‬معياراً للصواب والخطأ‪ ،‬أھواء األشخاص‪ ،‬عواما ً‬
‫وعلماء وحكاماً‪.‬‬

‫وأن تترك أمة الوحي مفتاح التصنيف اإللھي فتنحل‪ ،‬ليعاد تكوينھا وتركيبھا‬
‫بمفتاح التصنيف البني إسرائيلي‪ ،‬فتحل الدولة ومن يحكمونھا محل اإلله‪،‬‬
‫وتصير ھذه الدول التي أقيمت بالتزوير والتحريف‪ ،‬ومن يقومون عليھا‪ ،‬نقيضا ً‬
‫لوحي اإلله‪ ،‬ووجوده ينقض وجودھا ووجودھم‪ ،‬ومعاييره وموازينه خطراً‬
‫داھما ً يتھددھا ويتھددھم‪ ،‬فتكون رسالتھم‪ ،‬وما يحفظ وجودھم وسلطانھم ودولھم‬
‫وعالمھم المزور‪ ،‬غياب الوحي وتغييب معاييره وموازينه عن شعوبھم‪،‬‬
‫باإلعالم والتعليم‪ ،‬والسياسات والقوانين‪ ،‬والمغنواتية والفنانين‪ ،‬واألدباتية‬
‫)•(‬
‫والمثقفين‪ ،‬وأجھزة األمن والجيوش التي ھي للتشريفة والعرض فقط‬

‫• ( في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في القاھرة سنة ‪٢٠٠٠‬م‪ ،‬في أعقاب دخول رئيس وزراء إسرائيل‬
‫سئل رئيس اليمن‪ :‬علي عبد ﷲ صالح في مؤتمر‬ ‫أرييل شارون المسجد األقصى واندالع انتفاضة األقصى‪ُ ،‬‬
‫صحفي‪ :‬لماذا ال تتوحد الجيوش العربية وتقوم بتحرير المسجد األقصى‪ ،‬فكان رده‪" :‬الجيوش العربية لم‬
‫تصمم من أجل الحروب والقتال‪ ،‬فھي جيوش للتشريفة والعرض فقط"!!‬
‫وفي يوم ‪ ١٩‬يونيو سنة ‪١٩٧٣‬م أرسلت السفارة البريطانية في القاھرة رسالة إلى وزارة الخارجية في لندن‬
‫تقترح فيھا شروطا ً لعقد صفقات توريد السالح للدول العربية‪ ،‬وكان أحد ھذه الشروط ضمان عدم استخدام‬
‫ھذا السالح ضد إسرائيل!!‬
‫وبعد أن وضعت حرب أكتوبر سنة ‪١٩٧٣‬م أوزارھا نشرت مجلة اإليكونوميست البريطانية تقريراً عن‬
‫استراتيجية الغرب الجديدة بخصوص إمداد بالد العرب بالسالح بعد الحرب قالت فيه إن ھذه االستراتيجية‬
‫سوف تتجه نحو تزويد جيوش بالليص ستان بالسالح الذي يُ َم ﱢكن دولھا وحكوماتھا من السيطرة على‬
‫شعوبھا دون أن يرتقي إلى أن يكون خطراً على إسرائيل أو تھديداً ألمنھا!!‬
‫‪٤٨٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأما أمضى وسائلھم في تغييب الوحي‪ ،‬واأسفاه‪ ،‬فبعض المشايخ وتحريف‬


‫الدين‪ ،‬فمن دافع عن الوحي ومعاييره وموازينه‪ ،‬أباحوا دمه وصار‪ ،‬عندھم‪،‬‬
‫من الخوارج على الدولة التي حد حدودھا ووضع فواصلھا وأرسى أصولھا‬
‫وأسس قواعدھا ورسم مالمحھا فعالً اليھود والماسون‪ ،‬في غالف من الغرب‬
‫الذي يستوطنون وعيه ويركبون ظھره‪ ،‬وفي غالف من حكامھا ونخبھا الذين‬
‫)•(‬
‫يستوطن ھذا الغرب وھؤالء اليھود والماسون وعيھم ويركبون ظھورھم‬

‫واليھود والماسون أقاموا ھذه الدول‪ ،‬مغلفين في األغلفة التي علمت‪ ،‬بمفتاح‬
‫التصنيف البني إسرائيلي‪ ،‬وأقاموھا على عقد روسو االجتماعي ودينه المدني‪،‬‬
‫الذي أتى به من خريطة الوجود البني إسرائيلية‪.‬‬

‫ومن دافع من ھؤالء المشايخ عن الدولة وسياساتھا وقوانينھا وجيشھا‪ ،‬لدفع‬


‫الضرر ودرء المفسدة والفتنة إن كان ذا وعي وبصر‪ ،‬أو ألنه ممن يطمح إلى‬
‫المناصب وتصدر المجالس ويحب األضواء والكاميرات ويھفو إلى الظھور في‬
‫الصحف والشاشات‪ ،‬أو ألن الدولة وجيشھا عنده ھي الحق وميزان الصواب‬
‫والخطأ ومعيار الحق والباطل‪ ،‬ألنه ھو نفسه ممن ولد في عالم التحريف وتكون‬

‫•( الماسوني إيفلين بيرنج ‪ ،Evylen Baring‬الشھير باللورد كرومر‪ ،‬صاحب أكبر بصمة في تاريخ مصر‬
‫الحديثة‪ ،‬بعد الماسون الذين حرفوا مسار مصر وأقاموا لمحمد علي دولته‪ ،‬والذي صنعھا في الحقيقة ووضع‬
‫قواعدھا‪ ،‬وھو الذي أطاح بالشريعة وأحل القوانين الوضعية محلھا‪ ،‬وكان أبا ً روحيا ً لكل من أنجبتھم مصر‬
‫من زعماء وساسة وقادة ثورة‪ ،‬ومحرري مرأة‪ ،‬ومفكرين وأدباء‪ ،‬له عبارة بليغة يقول فيھا‪ :‬نحن ال نحكم‬
‫مصر‪ ،‬بل نحكم من يحكمون مصر!!‬
‫‪٤٨٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وعيه به وبخريطته للوجود وموازينه ومفتاح تصنيفه‪ ،‬كان مشتركاً‪ ،‬أدرك ذلك‬
‫)• (‬
‫أو لم يدرك‪ ،‬في تغييب الوحي وترسيخ التحريف!!‬

‫ولكن ألن الوحي الخاتم باق محفوظ ومعصوم من التحريف‪ ،‬والمعايير‬


‫والموازين فيه مصونة من التبديل والتغيير‪ ،‬وھو بحفظه وعصمته وصونه‬
‫ونقاء مصدره اإللھي فوق الدول‪ ،‬وأبقى من ساستھا وسياساتھا وقوانينھا‪،‬‬
‫وأقوى من أجھزة أمنھا وجيوشھا‪ ،‬تعود أمة الوحي إلى الوحي والرسالة‪،‬‬
‫ويبعثھا عز وجل من جديد‪ ،‬ال لمجرد عقاب بني إسرائيل‪ ،‬بل ليعيدوا الصالح‬
‫ويغسلوا األرض بالوحي من إفساد بني إسرائيل مرة أخرى‪ ،‬ويعيدوا تكوين‬
‫وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم وإصالح حياتھم ومجتمعاتھم بالرسالة كما فعلوا‬
‫أول مرة‪.‬‬

‫آيات سورة اإلسراء تخبرك عن إفسادين‪ ،‬وألن اإلفساد ال يكون إال بعد‬
‫صالح‪ ،‬فھي تخبرك تلقائياً‪ ،‬كما علمت‪ ،‬عن ثالثة إصالحات‪ :‬اإلصالح األول‬
‫الذي يسبق دورة اإلفساد األولى وتبدأ من بعده‪ ،‬واإلصالح الثاني الذي يزيل‬
‫اإلفساد األول وتبدأ من بعده دورة اإلفساد الثانية‪ ،‬واإلصالح الثالث يزيل‬
‫اإلفساد الثاني‪.‬‬

‫•( بعد أن كتبنا ھذا الكالم نشرت الصحف المصرية أن أحد أعضاء اللجنة التي وضعوھا‪ ،‬لكي تضع دستور‬
‫مصر طالب في أثناء مناقشات المادة الثانية أن تحذف عبارة‪" :‬اإلسالم دين الدولة"‪ ،‬وقال إن الدولة ال دين‬
‫لھا‪ ،‬وأن ھذه العبارة بھا تزيد كبير وتحدث انقساما ً في المجتمع‪ ،‬والعضو الذي قال ھذا ھو الدكتور سعد‬
‫الدين ھاللي أستاذ الشريعة والفقه المقارن بجامعة األزھر!!‬
‫وھي قالة سبق للدكتور سعد الدين ھاللي أن قالھا ودعا إليھا في كتابه‪ :‬اإلسالم وإنسانية الدولة )ص‪،(٣١٥‬‬
‫وھو الكتاب الذي يؤصل فيه لعلمانية الدولة بفقه اإلسالم!!‬
‫وما ال يعلمه أستاذ الشريعة والفقه األمي)!!( أن الدولة في كل األحوال لھا دين‪ ،‬فإن لم يكن دين ﷲ فھو دين‬
‫روسو المدني الذي وضعه وأقام دولته القومية العلمانية من أجل إزاحة مسألة األلوھية والوحي!‬
‫‪٤٨٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪|{z‬‬
‫لو كان المقصود بالعلو الكبير لبني إسرائيل الطغيان والتجبر‪ ،‬أو التحكم في‬
‫األرض‪ ،‬أو تكوين الدولة‪ ،‬أو الجيوش وحيازة األسلحة‪ ،‬لكان ھناك من األمم‬
‫والشعوب واإلمبراطوريات من ھو أولى بالذكر منھم‪ ،‬لكي تكون العبرة والعظة‬
‫بما آل إليه أكبر‪.‬‬

‫فبنو إسرائيل عبر التاريخ كله‪ ،‬كما تعرف‪ ،‬لم تكن لھم إمبراطورية ُمھابة‬
‫شديدة البأس كاإلمبراطورية المصرية القديمة‪ ،‬وال واسعة وعتية‬
‫كاإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬وال فى سطوة بريطانيا العظمى إبان أن كانت‬
‫إمبراطورية ال تغرب عنھا الشمس‪ ،‬وال في قوة الواليات المتحدة األمريكية‬
‫وضخامة جيوشھا وعتادھا وما تملكه من أسلحة تقليدية ونووية‪.‬‬

‫ومع ذلك فا" عز وجل لم يسجل العلو الكبير في كتابه وبيانه إلى خلقه إال‬
‫لبني إسرائيل‪ ،‬فلم يصف عز وجل فئة وال قوما ً وال أمة بالعلو الكبير سوى بنى‬
‫إسرائيل‪ ،‬ولم يصف أحداً بالعلو أصالً بعد بني إسرائيل سوى فرعون في قوله‬
‫تعالى‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫~¡‪¦¥¤£¢‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬

‫‪ ( ١‬القصص‪.٤ :‬‬
‫‪٤٨٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ ‪z y x w v u t s r q p o n m l‬‬
‫)‪(١‬‬
‫{|‬

‫والعلو الذي وصف به عز وجل فرعون ليس العلو المادي‪ ،‬كما قد يتبادر‬
‫لذھنك ألول وھلة‪ ،‬فكم شھد التاريخ من جبابرة وطغاة وأباطرة وقياصرة‪ ،‬ولم‬
‫يسجل لھم عز وجل ھذا الوصف بالعلو‪.‬‬

‫علو فرعون ھنا ليس مجرد العلو المادي‪ ،‬الطغيان والتجبر والسلطة‬
‫والسطوة والظلم‪ ،‬بل علوه العقائدي وحلوله في أذھان رعاياه فى البالد التي‬
‫يحكمھا وتحويھا مملكته محل اإلله‪ ،‬مصدراً للخير والشر‪ ،‬وفيصالً بين‬
‫الصواب والخطأ‪ ،‬ومنبعا ً لألخالق والقيم‪.‬‬

‫علو فرعون في األرض‪ ،‬تفسيره في قوله تعالى على لسان فرعون نفسه‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪ponmlkjihg‬‬

‫وفي قوله تعالى عن فرعون‪:‬‬

‫‪NMLKJIHGFEDCBAÐÏÎÍÌ‬‬

‫‪a `_^ ] \[ZY XWV UT SRQ P O‬‬


‫)‪(٣‬‬
‫‪lkjihgfedcb‬‬

‫‪ ( ١‬الدخان‪.٣١-٣٠ :‬‬
‫‪ ( ٢‬القصص‪.٣٨ :‬‬
‫‪ ( ٣‬النازعات‪.٢٤-١٥ :‬‬
‫‪٤٨٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫علو فرعون ھو أنه جعل نفسه الرب األعلى‪ ،‬وحل في أذھان رعاياه ھذا‬
‫المحل‪.‬‬

‫فتفھم من وصف بني إسرائيل وحدھم بالعلو الكبير أمرين‪:‬‬

‫األول‪ :‬أن علو بني إسرائيل فوق علو كل مالك األرض وإمبراطورياتھا في‬
‫كل العصور‪ ،‬بل إن علو بني إسرائيل في األرض كلھا عند ذروة دورة اإلفساد‬
‫يفوق علو فرعون في مملكته وما بلغه من منزلة في وعي رعاياه‪.‬‬

‫والثاني‪ :‬أن ھذا العلو‪ ،‬ميزانه ومقياسه ومداره ليس القوة والبأس المادي‪ ،‬بل‬
‫شئ آخر لم تمتلكه ھذه اإلمبراطوريات والممالك‪ ،‬ولم يصل إليه فرعون‪.‬‬

‫وھذا الشئ اآلخر ھو السطوة على وعي البشر‪ ،‬وامتالك عقولھم‪ ،‬والسيطرة‬
‫على أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬ومن ثَم التحكم في كل ما يتكون داخل ھذا الوعي‪ ،‬وما‬
‫تنتجه ھذه العقول واألذھان والنفوس‪.‬‬

‫فإذا كنت قد علمت أن إفساد بني إسرائيل في األرض ھو عملھم على إزاحة‬
‫وحي اإلله ومعاييره وموازينه‪ ،‬وإزالة خريطته للوجود ومفتاح تصنيفه من‬
‫وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬فاعلم أن علوھم الكبير ھو تمكنھم من ذلك‪،‬‬
‫وحلولھم وخريطتھم ومفتاحھم محل وحي اإلله فى أذھان البشر‪ ،‬واستيطانھم‬
‫لوعيھم‪ ،‬مصدراً مطلقا ً للمعرفة وإدراك الوجود وفھم الحياة وبناء المجتمعات‪.‬‬

‫علو بنى إسرائيل الكبير ھو أن يحل مفتاح تصنيفھم ألمم البشر والشعوب‪،‬‬
‫المفتاح العرقي الدموي القومي السُاللي‪ ،‬محل مفتاح تصنيف اإلله للبشر‪ ،‬أال‬
‫وھو العقائد ومسألة األلوھية واليوم اآلخر‪ ،‬وأن تتفكك أمة الوحي إلى دول‬

‫‪٤٨٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫يفصل بينھا ويحد حدودھا ويحرك جيوشھا ويحكم من يحكمونھا مفتاح تصنيف‬
‫بني إسرائيل‪ ،‬فتصير كلھا أمة بني إسرائيل ومحضنا ً لدولتھم‪.‬‬

‫علو بني إسرائيل في األرض الكبير ھو حلول خريطة الوجود البني‬


‫إسرائيلية في أذھان البشر‪ ،‬شرقا ً وغرباً‪ ،‬محل خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وصنعھا‬
‫وتحكمھا في كل ما يصدر عنھم من أفكار ومعارف ومناھج وعلوم وآداب‬
‫وفنون وأخالق وقيم ونظم وقوانين‪.‬‬

‫علو بني إسرائيل في األرض الكبير ھو أن تصير أفكارھم المنظار الذي‬


‫يرى به البشر‪ ،‬والميزان الذين يزنون به‪ ،‬والمعيار الذي يتحاكمون إليه‪،‬‬
‫والقواعد التي يخضعون طوعا ً لھا‪ ،‬والضوابط التي يلتزمون من تلقاء أنفسھم‬
‫بھا‪ ،‬وأن يرى الناس التاريخ‪ ،‬وترى كل أمة تاريخھا‪ ،‬كما يريد لھم بنو إسرائيل‬
‫أن يروه‪ ،‬وأن يفھموا الحاضر كما أرادوا لھم أن يفھموه‪ ،‬وأن يستشرفوا‬
‫المستقبل حيث أرادوا لھم أن يستشرفوه‪ ،‬وأن يقيموا دولھم ويكونوا مجتمعاتھم‬
‫ويضبطوا عالقاتھم‪ ،‬ويحكموا على القيم واألخالق‪ ،‬ويحددوا الصواب والخطأ‪،‬‬
‫بما يبتكره بنو إسرائيل ومن يستوطن بنو إسرائيل وعيھم ونفوسھم‪ ،‬وبما‬
‫يدسونه في العلوم والمناھج من معايير مزورة وموازين محرفة‪.‬‬

‫يقول فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار في تفسير علو بني إسرائيل الكبير‬
‫في المرة الثانية‪ ،‬إنھم أُمدوا بثالثة أشياء‪:‬‬

‫‪٤٩٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"‪ -١‬أموال تتدفق عليھم من أقطار األرض ‪ -٢‬بنين مھاجرين ومقاتلين‬


‫ينتخبون لحماسھم وصالحيتھم لبناء دولتھم ‪ ... -٣‬كثرة الناصر لھم والنافر‬
‫)‪(١‬‬
‫لدولتھم‪ ،‬ولقد اتفق الشرق والغرب‪ ،‬ولم يتفقوا يوما ً‪ ،‬على إنشاء إسرائيل"‬

‫إفساد بنى إسرائيل وعلوھم في األرض الكبير ليس دولة إسرائيل وما تمتلكه‬
‫من جيش وسالح‪ ،‬كما فھم الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ الشعراوي‪ ،‬علو‬
‫بني إسرائيل الكبير ھو العالم كله‪ ،‬وبالد العرب كلھا‪ ،‬كما تراه وتراھا في‬
‫زمنك ھذا‪ ،‬بمعماره القومي ومعمارھا‪ ،‬وخريطته وخريطتھا‪ ،‬ودوله ودولھا‪،،‬‬
‫ونخبه ونخبھا‪ ،‬وجيوشه وجيوشھا‪ ،‬وعلومه وعلومھا‪ ،‬وآدابه وآدابھا‪ ،‬وفنونه‬
‫وفنونھا‪.‬‬

‫‪ ( ١‬بنو إسرائيل في الكتاب والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٧‬‬


‫‪٤٩١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ed‬‬
‫ثمة سؤال‪ ،‬كما علمت‪ ،‬شغل المفسرين وج ﱡدوا في البحث عنه‪ ،‬وصرفھم عن‬
‫الفحوى الحقيقية لآليات‪ ،‬وعن السؤال الذي كان ينبغي أن يجدوا ويكدحوا في‬
‫اإلجابة عليه حقاً‪ ،‬وھو‪ :‬ما ھو اإلفساد الذي يستحق أن يُنص عليه بمثل ھذا‬
‫النص‪ ،‬وأن يُخلد في مرتَيْه ھذا التخليد؟‬

‫والسؤال الذي شغل المفسرين ھو‪ :‬من ھم العباد الذين يبعثھم عز وجل على‬
‫بني إسرائيل؟‬

‫والمشكلة ليست في السؤال نفسه‪ ،‬ولكن في طريقة البحث عن اإلجابة‪ ،‬فقد‬


‫اجتھدوا في التنقيب عن ھؤالء العباد خارج اآليات‪ ،‬ولم يولوا أي عناية لتحرير‬
‫أوصافھم وعالماتھم فيھا‪.‬‬

‫لكي تعرف من يكون ھؤالء العباد‪ ،‬ينبغي أوالً أن تعرف ما الذي تخبر به‬
‫اآليات عنھم‪.‬‬

‫أوالً‪:d :‬‬

‫لفظ‪" :‬عباد" ال يرد في القرآن إال لوصف أھل الصالح واإليمان والطاعة‬
‫كقوله تعالى‪:‬‬

‫‪٤٩٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪¬ « ª © ¨ § ¦ ¥ ¤ £ ¢‬‬
‫)‪(١‬‬
‫®¯‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬

‫‪w v u t s r q p o n m l‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪x‬‬

‫وأدنى مقام ترد فيه كلمة‪" :‬عباد" في القرآن‪ ،‬ھو مقام التوبة واالستغفار‬
‫واإلنابة كقوله تعالى‪:‬‬

‫ ‪¦ ¥¤£¢¡~}|{zyxwvut‬‬
‫)‪( ٣‬‬
‫§¨©‪ «ª‬‬

‫ولم ترد كلمة‪" :‬عباد" في القرآن لوصف عباد غير مؤمنين إال في‬
‫موضعين‪ ،‬ھما قوله تعالى في سورة الفرقان‪:‬‬

‫ ‪edc b a ` _ ~ }| { z y‬‬


‫)‪(٤‬‬
‫‪ihgf‬‬

‫وقوله تعالى في سورة المائدة على لسان المسيح عليه السالم‪:‬‬

‫‪ ( ١‬الفرقان‪.٦٣ :‬‬
‫‪ ( ٢‬األنبياء‪.١٠٥ :‬‬
‫‪ ( ٣‬الزمر‪.٥٣ :‬‬
‫‪ ( ٤‬الفرقان‪.١٧ :‬‬
‫‪٤٩٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ÍÌËÊÉÈÇÆÅ ÄÃÂÁ‬‬

‫والموضعان اللذان جاءت فيھما كلمة‪" :‬عباد" لوصف غير المؤمنين‬


‫والصالحين يتفقان في أنھما في اآلخرة وليس في الدنيا‪.‬‬

‫فإليك من فتوحات فضيلة الشيخ الشعراوي قوله في تفسير ذلك‪:‬‬

‫"في منطقة االختيار يتمايز العبيد والعباد‪ ،‬فالمؤمنون با‪  ‬يخرجون عن‬
‫اختيارھم إلى اختيار ربھم‪ ،‬فتراھم ينفذون ما أمر ﷲ به‪ ،‬ويجعلون االختيار‬
‫كالقھر‪ ،‬وھؤالء ھم العباد‪ ،‬أما الكفار الذين اختاروا مرادھم وتركوا مراد ﷲ‪،‬‬
‫فھؤالء ھم العبيد‪ ،‬وال يقال لھم عباد أبداً ألنھم ال يستحقون شرف ھذه الكلمة‪،‬‬
‫فإذا جاءت اآلخرة فال محل لالختيار والتكليف‪ ،‬فالجميع مقھور ‪  ‬تعالى‪،‬‬
‫فالجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته‪ ،‬فالكل عباد في اآلخرة‪ ،‬وليس الكل عباداً‬
‫في الدنيا")‪(٢‬‬

‫ثانياً‪:ed :‬‬

‫لم يصف ﷲ عز وجل من يبعثھم على بني إسرائيل بأنھم عباد فقط‪ ،‬ولكنه‬
‫عز وجل أضافھم إلى ذاته ونسبھم لنفسه‪ ،‬فقال عز وجل‪:‬‬

‫‪hgfedcb‬‬

‫ولم يقل‪ :‬بعثنا عليكم عباداً أولي بأس شديد‪.‬‬

‫‪ ( ١‬المائدة‪.١١٨ :‬‬
‫‪ ( ٢‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪ ،٨٣٥٧-٨٣٥٦‬مع تصرف يسير‪.‬‬
‫‪٤٩٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وإضافته عز وجل ھؤالء العباد لذاته‪ ،‬ونسبتھم لنفسه‪ ،‬إضافة تشريف ونسبة‬
‫رفعة وتكريم‪ ،‬تعني أنھم عباد مؤمنون صالحون‪.‬‬

‫وھو ما فطن إليه فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار‪ ،‬فقال رحمه ﷲ في‬
‫دراسته‪ ،‬عن عمر بن الخطاب وأصحاب النبي عليه الصالة والسالم الذين‬
‫دخلوا المسجد األقصى‪:‬‬

‫"ھم الذين يستحقون شرف ھذه النسبة‪ ،‬ألنھم الموحدون أتباع عبده الذي‬
‫أسري به‪ ،‬أما أتباع بختنصر أو سابور أو سنحاريب‪ ،‬فقد كانوا عبﱠاد وثن ال‬
‫)‪(١‬‬
‫يستحقون شرف االختصاص با‪  ‬في قوله‪"e :‬‬

‫ثالثاً‪ :‬إرادة ﷲ إرادتھم‪:‬‬


‫في المصحف الذي بين يديك قوله‪:‬‬

‫§¨©‪¬«ª‬‬

‫أي‪ :‬يسوء ھؤالء العباد وجوھكم‪ ،‬وھي قراءة نافع المدني‪ ،‬وابن كثير‬
‫المكي‪ ،‬وأبي عمرو البصري‪ ،‬وحفص عن عاصم الكوفي‪ ،‬وأبي جعفر المدني‪،‬‬
‫)•(‬
‫ويعقوب الحضرمي من العشرة‪ ،‬ووافقھم األعمش من الشواذ‬

‫وأما قراءة ابن عامر الدمشقي‪ ،‬وشعبة عن عاصم‪ ،‬وحمزة الكوفي‪ ،‬وخلف‬
‫العاشر‪ ،‬فھي‪:‬‬

‫‪ ( ١‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬ص‪.٦٧٦‬‬


‫• ( للتذكرة‪ ،‬القراءات الشاذة‪ ،‬ھي قراءات صحيحة ولكنھا لم تبلغ حد التواتر في األسانيد‪ ،‬ويستنبط منھا وال‬
‫يُتعبد بھا‪ ،‬وسميت شاذة لخروجھا عن رسم المصحف العثماني‪.‬‬
‫‪٤٩٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻓﺎٕذا َﺟ َﺎء وﻋْﺪُ اﻻٓﺧﺮ ِة ﻟﻴَ ُﺴ َﻮء و ُﺟﻮﻫ َُﲂ‬


‫بنسبة الفعل وإرادته إلى ﷲ عز وجل بياء الغيبة مع اإلفراد‪ ،‬أي‪ :‬يسو َء ﷲ‬
‫وجوھكم‪.‬‬

‫وقراءة الكسائي الكوفي)‪:( ١‬‬

‫ﺟﺎء وﻋْﺪُ اﻻٓﺧﺮ ِة ﻟﻨ َ ُﺴ َﻮء و ُﺟﻮﻫ َُﲂ‬


‫ﻓﺎٕذا َ‬
‫بنسبة الفعل وإرادته إلى ﷲ عز وجل بنون العظمة‪ ،‬أي‪ :‬نسو َء نحن‬
‫وجوھكم‪.‬‬

‫وتعدد القراءات‪ ،‬كما أخبرناك من قبل‪ ،‬من فوائده إتمام المعنى‪ ،‬أو بيان‬
‫معان ال تستبين بقراءة واحدة‪.‬‬
‫ٍ‬
‫وكما ترى‪ ،‬ما ينبئك به تعدد القراءة في ھذا الموضع من آيات سورة‬
‫اإلسراء‪ ،‬أن ﷲ عز وجل يوحد في إرادة الفعل‪ ،‬و َسوْ ء وجوه بني إسرائيل‪ ،‬بينه‬
‫وبين ھؤالء العباد‪ ،‬وھو ما يعني أنھم يفعلون ذلك بأمره عز وجل‪.‬‬

‫رابعاً‪:‬أمة جديدة مبعوثة برسالة‪:‬‬


‫وصف عز وجل ھؤالء العباد بقوله‪:‬‬

‫‪edcb‬‬

‫وفي لسان العرب‪:‬‬

‫‪ ( ١‬اإلمام ابن الجزري‪ :‬النشر في القراءات العشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٣٠٦‬اإلمام أحمد بن محمد البنا‪ :‬اتحاف‬
‫فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.١٩٤-١٩٣‬‬
‫‪٤٩٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"بعث‪ :‬بعثه يبعثه بعثاً‪ :‬أرسله وحده‪ ،‬وبعث به‪ :‬أرسله مع غيره‪ ،‬والبعث‪:‬‬
‫)‪(١‬‬
‫الرسول"‬

‫وفي تاج العروس‪:‬‬

‫"بعث‪ :‬أرسله وحده‪ ،‬وبعث به‪ :‬أرسله مع غيره‪ ،‬وبعث الناقة‪ :‬أثارھا أو‬
‫كانت باركة فأھاجھا‪ ،‬وكل شئ أثرته فقد بعثته‪ ،‬وبعث فالنا ً من نومه‪ :‬أيقظه‪،‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫وبعث الجند يبعثھم بعثاً‪ :‬إلى الغزو"‬

‫وفي المعجم الوسيط‪:‬‬

‫"بعثه‪ :‬بعثا ً وبعثة‪ :‬أرسله وحده‪ ،‬ويقال بعثه إليه وله‪ :‬أرسله‪ ،‬وبعث فالنا ً‬
‫من نومه‪ :‬أيقظه‪ ،‬وبعث ﷲ الخلق بعد موتھم‪ :‬أحياھم ونشرھم‪ ،‬وبعث فالنا ً‬
‫على الشئ‪ :‬حمله على فعله")‪(٣‬‬

‫فكما ترى‪ ،‬البعث في العربية يعني أصالً اإلرسال‪ ،‬ويقتضي وجود ُم ِ‬


‫رسل‬
‫و ُمر َسل ورسالة‪ ،‬فصفة من صفات العباد في آيات سورة اإلسراء أن ﷲ عز‬
‫وجل يبعثھم برسالة‪ ،‬والرسالة ال تكون إال وحياً‪.‬‬

‫ولكن ألن أئمة المفسرين حصروا آيات سورة اإلسراء في األرض المقدسة‪،‬‬
‫وفي زمن دولة بني إسرائيل‪ ،‬وألنھم كانوا يبحثون في تفسيراتھم عمن يعاقب‬
‫بني إسرائيل وينكل بھم‪ ،‬وليس عمن يزيل إفسادھم‪ ،‬وألنھم لم يجدوا من ھؤالء‪،‬‬

‫‪ ( ١‬لسان العرب‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪.١٦‬‬


‫‪ ( ٢‬تاج العروس‪ :‬ج‪ ،٥‬ص‪.١٦٧‬‬
‫‪ ( ٣‬المعجم الوسيط ‪ ،‬ص‪.٦٢‬‬
‫‪٤٩٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في ما بين أيديھم من معارف‪ ،‬إال عب ﱠاد األوثان‪ ،‬فقد اضطروا إلى تأويل معنى‬
‫البعث وصرفه عن معناه األصلي‪.‬‬

‫فإليك المعنى األصلي وكيف صرفه الطاھر بن عاشور‪ ،‬معاً‪ ،‬في عبارة‬
‫واحدة‪:‬‬

‫"والبعث مستعمل في تكوين السير إلى أرض إسرائيل وتھيئة أسبابه‪،‬‬


‫حتى كأن ذلك أمر بالمسير إليھم‪ ،‬وھو بعث تكوين وتسخير ال بعث بوحي‬
‫)‪(١‬‬
‫وأمر"‬

‫فالمعنى الحقيقي‪ ،‬كما تراه في كالم ابن عاشور نفسه‪ ،‬ھو أن بعْث ھؤالء‬
‫العباد إنما ھو بأمر من ﷲ عز وجل‪ ،‬أي بوحي ورسالة‪ ،‬ولكنه رحمه ﷲ‪ ،‬لِما‬
‫قد علمت‪ ،‬اضطر إلى جعله‪ :‬كأنه أمر من ﷲ!!‬

‫ثم إليك ھذه الفرضية العجيبة التي اضطر القاضي ابن عطية األندلسي إلى‬
‫افتراضھا‪ ،‬في تفسيره‪ :‬المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز‪ ،‬لكي يوائم بين‬
‫ما يقتضيه معنى البعث من الوحي والرسالة‪ ،‬وبين عب ﱠاد األوثان الذين حصر‬
‫المفسرون العباد المبعوثين فيھم‪:‬‬

‫"وقوله‪  b  :‬يحتمل أن ﷲ قد بعث إلى ملك تلك األمة رسوالً يأمره‬


‫بغزو بني إسرائيل‪ ،‬فتكون البعثة بأمر‪ ،‬ويحتمل أن يكون عبﱠر بالبعث عما‬
‫)‪(٢‬‬
‫ألقي في نفس الملك الذي غزاھم"‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٣٠‬‬


‫‪ ( ٢‬القاضي ابن عطية األندلسي‪ :‬المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪.٤٣٩‬‬
‫‪٤٩٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فال تفھم إذا كان ملك تلك األمة وثنيا ً ال يؤمن با"‪ ،‬كمن ذكرھم ھو نفسه في‬
‫تفسيره‪ ،‬فما الذي يدعوه إلى طاعة ھذا الرسول المفترض‪ ،‬وشن حرب انصياعا ً‬
‫ألمر إله اليؤمن به؟!‬

‫بقي في‪ ، b  :‬أن تعلم أنھا تحمل في ثناياھا صفة أو عالمة أخرى‬

‫لھؤالء العباد‪ ،‬فبَ َعث تدل في معانيھا المختلفة على االنتقال من حالة إلى أخرى‪،‬‬
‫أوالھما‪ :‬سكون أو خمود وخمول أو موت وعدم‪ ،‬وثانيتھما‪ :‬حركة أو فعل‬
‫ونشاط أو وجود وحياة‪.‬‬
‫فالبعث‪ ،‬كما رأيت في معاجم اللغة‪ ،‬إثارة الناقة من قعود‪ ،‬وتحريك الجيش‬
‫من سكون‪ ،‬واالنتقال من النوم إلى اليقظة‪ ،‬ومن الموت إلى الحياة‪ ،‬ويوم القيامة‬
‫ھو يوم البعث‪ ،‬ألنه انتقال من سكون الموت إلى حركة الحياة‪.‬‬

‫وھذا ھو نفسه جوھر بعث بمعنى أرسل‪ ،‬فالبعث ليس مجرد إرسال رسالة‪،‬‬
‫بل ھو إنھاض رسول وتحريكه بھا بعد إذ كان قاعداً ساكناً‪.‬‬

‫فتفھم من ذلك أن العباد الذين يبعثھم عز وجل على بني إسرائيل في أول مرة‬
‫كانوا قبل بعثھم أمة خاملة ال ذكر لھا‪ ،‬أو أنھم لم يكونوا أمة أصالً‪ ،‬ثم صاروا‬
‫أمة‪ ،‬وصار لھم ذكر وارتفاع بھذا البعث‪.‬‬

‫فھؤالء العباد‪ ،‬من غير تأويل وال صرف للمعنى عن أصله‪ ،‬أمة تبعث‬
‫برسالة جديدة إلصالح األرض وغسلھا وإزالة إفساد بني إسرائيل منھا‪ ،‬وھم‬
‫قبل بعثھم في المرة األولى أمة خاملة لم يكن لھا وجود‪ ،‬أو لم يكن لھا ذكر من‬
‫قبل‪.‬‬
‫‪٤٩٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھاھنا تدرك أن العباد الذين يبعثھم عز وجل على بني إسرائيل في المرة‬
‫الثانية ليسوا مجرد عباد مؤمنين‪ ،‬كما قال الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ‬
‫الشعراوي‪ ،‬وال ھم سيزيلون إسرائيل بأن يعودوا إلى الصالة والصيام والزكاة‪.‬‬

‫الذين سيدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة‪ ،‬ويتبرون ما عال بنو إسرائيل‬
‫تتبيراً ھم أھل الوحي وحملة الرسالة‪ ،‬ھو وھي ما يترابطون به‪ ،‬وما يرابطون‬
‫من أجله‪ ،‬وھو وھي ميزانھم ومعيارھم‪ ،‬وغايتھم ووسيلتھم‪.‬‬

‫وھو ما مسه الشيخ الشعراوي‪ ،‬من بعيد‪ ،‬في فتح خاطف‪ ،‬في ثنايا تفسيره‬
‫لآليات‪ ،‬إذ قال رحمه ﷲ‪ :‬إننا‪:‬‬

‫"ننتظر وعد ﷲ سبحانه ‪ ...‬سيتحقق ھذا عندما ندخل معھم معركة على‬
‫أسس إسالمية وإيمانية‪ ،‬ال على عروبة وعصبية سياسية‪ ،‬لتعود لنا صفة‬
‫)‪(١‬‬
‫العباد‪ ،‬ونكون أھالً لنصره تعالى"‬

‫خامساً‪ :‬ھم ھم في المرتين‪:‬‬


‫وآيات سورة اإلسراء تخبرك أن ھؤالء األمة أو العباد‪ ،‬الذين يبعثھم عز‬
‫وجل برسالة جديدة إلصالح األرض كلھا وغسلھا بالوحي‪ ،‬ويدخلون المسجد‬
‫في المرة األولى‪ ،‬موجودون طوال دورة اإلفساد الثانية وإن عال عليھم بنو‬
‫إسرائيل‪ ،‬وھم أنفسھم من يعودون مرة أخرى في نھاية دورة اإلفساد الثانية‪،‬‬
‫إلزالة اإلفساد وإصالح األرض كلھا بالوحي مرة أخرى‪ ،‬وھم ھم من يدخلون‬
‫المسجد في المرة الثانية‪.‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٨٣٦٦‬‬


‫‪٥٠٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فا" عز وجل يقول‪:‬‬

‫‪utsrq‬‬

‫أي‪ :‬على ھؤالء العباد‪ ،‬ألن الضمير في قوله‪ u :‬عائد لھم‪.‬‬

‫ويقول عز وجل‪:‬‬

‫ §¨©‪²±°¯®¬«ª‬‬

‫‪.³‬‬

‫أي‪ :‬ليسو َء ھؤالء العباد وجوھكم‪ ،‬والضمير في قوله‪ ±° :‬في‬


‫المرة الثانية يعود على من دخلوا في المرة األولى‪ ،‬ف َمن يدخلون المسجد في‬
‫المرة الثانية ھم أنفسھم من دخلوه في المرة األولى‪.‬‬
‫فھؤالء العباد المؤمنون‪ ،‬أو األمة الجديدة المبعوثة بالوحي‪ ،‬أمة واحدة‬
‫متصلة‪ ،‬وھم ھم الذين يزيلون إفساد بني إسرائيل ويصلحون األرض بالوحي‬
‫ويدخلون المسجد في المرتين‪.‬‬

‫‪٥٠١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫®¯‪³²±°‬‬
‫أوالً‪ :‬اسم المسجد إشارة إلى زمان دخوله‪:‬‬
‫استدل الشيخان الجليالن عبد المعز عبد الستار والشعراوي‪ ،‬رضي ﷲ‬
‫عنھما‪ ،‬على أن مرتي اإلفساد كانتا بعد اإلسالم‪ ،‬بقوله تعالى‪:‬‬

‫~_`‪edcba‬‬

‫ودليلھما أن‪  ~ :‬تدل على المستقبل‪.‬‬

‫وقد رأيت أن ما استدال به خطأ‪ ،‬ألن آيات سورة اإلسراء إنما أنزلت أوالً‬
‫على بني إسرائيل في التوراة‪ ،‬وإنزالھا في القرآن كان مرة ثانية إلخبارنا بما‬

‫أخبر به عز وجل بني إسرائيل‪ ،‬ومن ثَم فقوله تعالى‪  ~  :‬مستقبل بالنسبة‬

‫لزمن نزول التوراة‪ ،‬ال بالنسبة لزمن نزول القرآن‪.‬‬

‫والخطأ الثاني‪ ،‬وھو الخطأ الحقيقي واألصلي‪ ،‬أن الشيخين‪ ،‬رحمھما ﷲ‬


‫تعالى‪ ،‬و ﱠحدا بين زمان مرة اإلفساد وزمان دخول العباد المسجد‪ ،‬وكغيرھما من‬
‫المفسرين في كل العصور‪ ،‬قرنوا ھذا بذاك‪ ،‬ولم يفطنوا‪ ،‬بسبب القيود التي‬
‫قُيدت بھا اآليات عبر القرون‪ ،‬وما ترتب عليھا من أخطاء في فھمھا‪ ،‬إلى أنھما‬
‫مسألتان منفصلتان‪ ،‬فدخول العباد إلى المسجد لحظة‪ ،‬أما اإلفساد فمسار ودورة‪.‬‬

‫الدليل على أن دخول العباد إلى المسجد في المرتين‪ ،‬وليس اإلفساد‪ ،‬بعد‬
‫نزول القرآن‪ ،‬ھو ما علمته في بدايات رحلتك في ھذا الكتاب‪ ،‬أنه من منھج‬
‫‪٥٠٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫القرآن أنه يسمي األماكن بأسمائھا التي تُعرف بھا عند أھلھا‪ ،‬وفي زمنھا الذي‬
‫يتحدث عنھا فيه‪ ،‬وقد رأيت مثالً لذلك في‪ :‬األيمن والغربي‪ ،‬وفي‪ :‬مصر‪.‬‬

‫البقعة المقدسة اسمھا في العبرية‪ :‬ھار ھبيت ھمقداش‪ ،‬أي‪ :‬جبل البيت‬
‫المقدس‪ ،‬أما الھيكل فكلمة أكادية شاعت عَلما ً على البيت المقدس إبان السبي‬
‫البابلي‪.‬‬

‫وكان ھذا ھو اسم البقعة المقدسة منذ أن كان لبني إسرائيل دولة في األرض‬
‫المقدسة‪ ،‬وظل اسمھا إلى العھد الروماني‪.‬‬

‫وبعد أن دخلت أورشليم في سيادة اإلمبراطورية الرومانية‪ ،‬تحول اسمھا‬


‫سنة ‪١٣٠‬م‪ ،‬في عھد اإلمبراطور الروماني إيليوس ھادريانوس إلى‪ :‬إيليا‬
‫كابيتولينا أي‪ :‬مدينة إيليوس‪ ،‬وأقيم في جبل الھيكل الذي ھُدم معبد صغير‬
‫لجوبتر‪ ،‬كبير معبودات الرومان‪ ،‬وغلب اسم معبد جوبتر على البقعة المقدسة‪،‬‬
‫لفترة قصيرة‪ ،‬إلى أن دخلت اإلمبراطورية الرومانية في المسيحية‪ ،‬وھدم معبد‬
‫جوبتر‪ ،‬فعاد اسمھا إلى أصله‪ :‬جبل الھيكل‪.‬‬

‫أما المسجد األقصى‪ ،‬ف َعلم قرآني غير مسبوق‪ ،‬والبقعة المقدسة صارت‬
‫المسجد واألقصى بنزول القرآن‪ ،‬وھو ما أشار إليه الشيخ الطاھر بن عاشور‬
‫عند كالمه عن المسجد األقصى في تفسيره آلية اإلسراء‪ ،‬فقال رحمه ﷲ‪:‬‬

‫"وأحسب أن ھذا ال َعلم للمسجد من مبتكرات القرآن‪ ،‬فلم يكن العرب‬


‫)‪(١‬‬
‫يصفونه بھذا الوصف"‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١٤‬‬


‫‪٥٠٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فمن القاعدة القرآنية التي قد علمت‪ ،‬ومن تسمية ﷲ عز وجل للبقعة المقدسة‬
‫ووصفه لھا بالمسجد في زمان دخول العباد إليھا‪ ،‬تعلم أن أن دخول ھؤالء‬
‫العباد إليه‪ ،‬في المرتين‪ ،‬بعد نزول آيات سورة اإلسراء وليس قبلھا‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬المسجد يتعلق بالعباد ال باإلفساد وال ببني إسرائيل‪:‬‬


‫المسجد في آيات سورة اإلسراء عالمة من العالمات على العباد الذين‬
‫يدخلونه‪ ،‬وال يتعلق باألرض‪ ،‬فليس المراد من ذكره تقييد األرض التي تشھد‬
‫اإلفساد بأنھا التي ھو فيھا‪ ،‬بل وال يتعلق ذكره ببني إسرائيل في المرة األولى‬
‫التي يدخله فيھا العباد‪ ،‬فا" عز وجل يقول‪:‬‬

‫~_`‪lkjihgfedcba‬‬

‫والديار‪ ،‬في قوله تعالى‪ ، kji  :‬كما ترى‪ ،‬مطلقة من أي‬

‫وصف أو قيد‪ ،‬وليس في اآليات أي شئ يوحي بأنھا في األرض المقدسة‪ ،‬أو في‬
‫أي مكان آخر‪ ،‬أو في األرض كلھا‪ ،‬وتقييدھا بأنھا في األرض المقدسة ھو من‬
‫أخطاء المفسرين في فھم اآليات‪ ،‬ومن اإلضافات التي أضافوھا إليھا من عند‬
‫أنفسھم‪.‬‬

‫فإليك نماذج ممن صرح بھذه اإلضافة‪ ،‬ومن الخطأ في الفھم الذي كان‬
‫مصدرھا‪ ،‬معاً‪.‬‬

‫يقول اإلمام الفخر الرازي‪:‬‬

‫‪٥٠٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫)‪(١‬‬
‫"والديار ديار بيت المقدس"‬

‫ويقول الشيخ الطاھر بن عاشور في تفسير ھذه اآلية‪:‬‬

‫"ھي ديار بلد أورشليم‪ ،‬فقد دخلھا جيش بختنصر‪ ،‬وقتل الرجال وسبى‪،‬‬
‫وأحرق المدينة وھيكل سليمان بالنار‪ ،‬ولفظ الديار يشمل ھيكل سليمان ألنه‬
‫)‪(٢‬‬
‫بيت عبادتھم"‬

‫وكما ترى‪ ،‬الطاھر بن عاشور رحمه ﷲ‪ ،‬لكي يطابق بين اآلية وبين ما في‬
‫رأسه ھو‪ ،‬أضاف إضافة من عنده‪ ،‬فقيد الديار بأنھا في أورشليم‪ ،‬وزاد على‬
‫ذلك أن حول‪  k j i  :‬في اآلية إلى إحراقھا وإحراق الھيكل في‬
‫تفسيره‪ ،‬والجوسان ليس من معانيه اإلحراق‪ ،‬واآليات تخبرنا أن العباد يدخلون‬
‫المسجد‪ ،‬ال أنھم يحرقونه‪ ،‬كما قال الشيخ ابن عاشور‪ ،‬وال أنھم يخربونه‪ ،‬كما‬
‫)‪(٣‬‬
‫قال اإلمام الطبري ونقل في بعض نُقوله‬
‫في لسان العرب والقاموس المحيط وتاج العروس‪:‬‬

‫"جاس جوسا ً وجوساناً‪ :‬تردد‪ ،‬وفي التنزيل العزيز‪،kji :‬‬


‫أي‪ :‬ترددوا بينھا للغارة‪ ،‬وقال الفراء‪ :‬وجاسوا وحاسوا بمعنى واحد‪ :‬يذھبون‬
‫ويجيئون‪ ،‬وقال الزجاج‪ ،k ji  :‬أي‪ :‬فطافوا في خالل الديار‬

‫ينظرون ھل بقي أحد لم يقتلوه‪ ،‬وفي الصحاح‪ ،k j i  :‬أي‪:‬‬

‫‪ ( ١‬مفاتيح الغيب‪ :‬ج‪ ،٢٠‬ص‪.١٥٧‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٣١‬‬
‫‪ ( ٣‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٤٨٩‬‬
‫‪٥٠٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والجوس‪ :‬طلب‬
‫ْ‬ ‫تخللوھا فطلبوا ما فيھا‪ ،‬كما يجوس الرجل األخبار فيطلبھا‪،‬‬
‫)‪(١‬‬
‫الشئ باستقصاء"‬
‫وليس في المعجم الوسيط زيادات في المعنى على ما في لسان العرب‬
‫والقاموس المحيط وتاج العروس سوى شئ واحد‪ ،‬نأتيك به لطرافته‪:‬‬

‫"‪ ...‬ويقال‪ :‬جاسوا خالل الديار‪ :‬ترددوا بينھا باإلفساد وطلبوا ما فيھا‪،‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫وفي التنزيل العزيز‪ kji :‬‬

‫ووجه الطرافة أن من وضعوا المعجم جعلوا‪" :‬جاسوا" قرينة لإلفساد‪ ،‬أو‬


‫أن اإلفساد جزء من معناھا‪ ،‬ثم استشھدوا باآلية على ذلك‪ ،‬فجعلوا العباد الذين‬
‫يبعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل مبعوثين لإلفساد ال لإلصالح!‬

‫جوسان العباد في المرة األولى‪ ،‬كما ترى‪ ،‬ھو البحث واالستقصاء والحركة‬
‫َ‬
‫خالل الديار‪ ،‬لتعقب بني إسرائيل وتتبعھم‪ ،‬دون وجود علو يھدمونه أو يتبرونه‪،‬‬
‫وھذه الديار التي يجوسون خاللھا قد تكون في أي بقعة من األرض‪ ،‬أو في‬
‫األرض كلھا‪ ،‬ألنھا لم تقيد في اآليات بأنھا في األرض المقدسة‪.‬‬

‫وآيات سورة اإلسراء تخبرك أن العباد الذين يبعثھم ﷲ عز وجل على بني‬
‫إسرائيل يدخلون المسجد في المرة األولى دون وجود لبني إسرائيل فيه وال علو‬
‫لھم حوله‪ ،‬فا" عز وجل يقول‪:‬‬

‫‪ ( ١‬لسان العرب‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪ ،٤٣‬القاموس المحيط‪ :‬ج‪ ،٢‬ص‪ ،٢٠٣‬تاج العروس‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٥١٨‬‬
‫‪ ( ٢‬المعجم الوسيط‪ ،‬ص‪.١٤٧‬‬
‫‪٥٠٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ §¨©‪²±°¯®¬«ª‬‬

‫‪¸¶µ´³‬‬

‫فلم يقل عز وجل‪ :‬وليدخلوا المسجد وليتبروا ما علوا تتبيراً كما في أول‬
‫مرة‪ ،‬فتعرف من ذلك أن العباد يدخلون المسجد في المرة األولى وفي المرة‬
‫الثانية‪ ،‬ولكن وجود بني إسرائيل في المسجد وحوله‪ ،‬وعلوھم المادي بالبناء‬
‫والتشييد‪ ،‬وتتبير العباد لما شادوه وشيدوه‪ ،‬في المرة الثانية فقط‪ ،‬أما في األولى‬
‫فال‪.‬‬

‫ما تخبرك به اآليات أن دخول العباد للمسجد األقصى في المرة األولى‬


‫يواكب بعثھم وتسليطھم على بني إسرائيل وجوسانھم خالل ديارھم‪ ،‬ال أن بني‬
‫إسرائيل موجودون فيه أو حوله‪.‬‬

‫أما في المرة الثانية‪ ،‬فيدخل العباد المسجد وبنو إسرائيل فيه وقد شادوا‬
‫وشيدوا حوله‪ ،‬ليتبروا ما علوا تتبيراً‪ ،‬ووصول بني إسرائيل إلى المسجد في‬
‫المرة الثانية يواكب ذروة دورة اإلفساد أو مرحلة منھا‪ ،‬وليس المعنى أن‬
‫اإلفساد ينحصر فيه أو في األرض المقدسة التي حوله‪.‬‬

‫‪٥٠٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻔﺮق ﺑﲔ دورﰐ اﻻٕﻓﺴﺎد‬


‫أحد أخطاء المفسرين في فھم ما الذي تخبر عنه آيات سورة اإلسراء‪،‬‬
‫افتراضھم أن مرتي اإلفساد متطابقتان أو متشابھتان تماماً‪ ،‬وھو الخطأ الذي‬
‫كان سببه التعامل اإلجمالي مع اآليات وعدم االنتباه إلى دقائق نسيجھا وتفاصيل‬
‫شفرتھا اللغوية‪.‬‬

‫وبين مرتي اإلفساد‪ ،‬كما تخبرك اآليات نفسھا ال تفسيراتھا‪ ،‬أشياء مشتركة‬
‫أو متشابھة‪ ،‬وبينھما اختالفات وفروق‪.‬‬

‫فالمشترك والمتشابه‪ ،‬أن كل دورة إفساد تبدأ من إصالح بنزول الوحي‪،‬‬


‫وتكوين أمة به‪ ،‬وإقامة خريطته للوجود ومفتاح تصنيفه ومعاييره وموازينه فيھا‬
‫وبھا‪ ،‬وأن كل مرة إفساد ھي دورة طويلة في الزمان‪ ،‬وأن اإلفساد في المرتين‬
‫يعم األرض كلھا‪ ،‬وأن من يزيلون اإلفساد ويعيدون الصالح في كل مرة عباد‬
‫مؤمنون حملة رسالة‪ ،‬وأنھم أمة واحدة‪ ،‬وھم ھم في المرتين‪.‬‬

‫وأما الفروق وما تختلف فيه دورتا اإلفساد‪ ،‬فھو أن العباد أمة جديدة مبعوثة‬
‫في الدورة األولى‪ ،‬ولكنھم موجودين طوال الثانية‪.‬‬

‫وبنو إسرائيل ال وجود لھم حول المسجد وال علو لھم في ذروة الدورة‬
‫األولى وحين يصل العباد إليه‪ ،‬فدخول المسجد في ھذه المرة يواكب إزالة‬
‫اإلفساد فقط أو ھو عالمة على إنھاء دورة اإلفساد وإشارة إلى من يكون العباد‪،‬‬
‫أما في الدورة الثانية فبنو إسرائيل موجودون في المسجد وحوله في ذروتھا أو‬

‫‪٥٠٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المرحلة األخيرة منھا‪ ،‬ولھم علو وبناء وتشييد حين يدخله العباد في ھذه المرة‬
‫الثانية‪ ،‬وھو ما يتبرونه حينھا تتبيراً‪.‬‬

‫يزيدك يقينا ً بذلك قوله تعالى في أواخر سورة اإلسراء نفسھا‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪Ø×ÖÕÔÓÒÑÐÏÎÍÌËÊ‬‬

‫فإليك أوالً ما قاله المفسرون في معنى اآلية‪.‬‬

‫مرة أخرى‪ ،‬قيد المفسرون‪  Ð  :‬في اآلية‪ ،‬من عند أنفسھم‪ ،‬بأنھا‬
‫المقدسة‪ ،‬فقال اإلمام الطبري واإلمام القرطبي والشيخ الطاھر بن عاشور‬
‫رحمھم ﷲ إنھا‪:‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫"أرض الشام"‬

‫وانفرد اإلمام اآللوسي بأنھا أرض مصر‪ ،‬فاضطره ذلك إلى أن افترض‪،‬‬
‫دون دليل‪ ،‬أن بني إسرائيل‪ ،‬أو ذريتھم‪ ،‬عادوا إلى مصر بعد غرق فرعون‪،‬‬
‫فقال‪:‬‬

‫"ھي أرض مصر‪ ،‬وھذا ظاھر إن ثبت أنھم دخلوھا بعد أن خرجوا منھا‪،‬‬
‫)‪(٣‬‬
‫وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية من أراد فرعون استفزازھم"‬

‫والذي أوقع اإلمام اآللوسي في ھذا اللبس توحيده بين األرض التي أراد‬
‫فرعون استفزاز بني إسرائيل منھا‪ ،‬واألرض التي قال لھم عز وجل من بعد‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.١٠٤ :‬‬
‫‪ ( ٢‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪ ،١١١‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٠‬ص‪ ،٣٣٨‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪،١٥‬‬
‫ص‪.٢٢٨‬‬
‫‪ ( ٣‬روح المعاني‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١٨٧‬‬
‫‪٥٠٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فرعون‪ :‬اسكنوھا‪ ،‬فلم يفطن‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬أن ھذه غير تلك‪ ،‬فاألولى مصر‪ ،‬أما‬
‫الثانية فشئ آخر‪.‬‬

‫وأما‪ ، ÔÓ :‬فقد ذھبوا جميعا ً إلى أن المراد بھا‪:‬‬


‫)‪(١‬‬
‫" قيام الساعة‪ ،‬أو يوم القيامة"‬

‫واللفيف ھو‪:‬‬

‫"ما اجتمع من الناس من قبائل شتى‪ ،‬والجمع العظيم من أخالط شتى‪ ،‬قال‬
‫ﷲ تعالى‪ ،×ÖÕ :‬أي‪ :‬أتينا بكم من كل قبيلة‪ ،‬وفي الصحاح‪ :‬أي‪:‬‬
‫)‪( ٢‬‬
‫مجتمعين مختلطين"‬
‫ومن ثَم ذھب المفسرون إلى معنى واحد لم يختلفوا عليه في تفسير اآلية‪،‬‬
‫فھاك ھو في عبارة اإلمام الطبري‪:‬‬

‫"فإذا جاءت الساعة حشرناكم من قبوركم إلى موقف القيامة‪ ،‬مختلطين‪،‬‬


‫قد التف بعضكم على بعض‪ ،‬ال تتعارفون‪ ،‬وال ينحاز أحد منكم إلى قبيلته‬
‫)‪(٣‬‬
‫وحيه"‬

‫وما قاله المفسرون رحمھم ﷲ في اآلية يناقض‪ ،‬كما ترى‪ ،‬بعضه بعضاً‪ ،‬فقد‬
‫قالوا إن األرض ھي المقدسة أو الشام‪ ،‬وھو ما يعني اجتماع بني إسرائيل فيھا‪،‬‬

‫وھو ما ال يستقيم مع وجود‪ × :‬في اآلية التي تعني‪ ،‬كما رأيت في لسان‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪ ،١١١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪ ،٢٢٩‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪،١٠‬‬
‫ص‪ ،٣٣٨‬مفاتيح الغيب‪ :‬ج‪ ،٢١‬ص‪ ،٦٧‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪ ،٨٤‬روح المعاني‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪..١٨٧‬‬
‫‪ ( ٢‬لسان العرب‪ :‬ج‪ ،٩‬ص‪.٣١٨‬‬
‫‪ ( ٣‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.١١١‬‬
‫‪٥١٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫العرب‪ ،‬جمعھم من بين أقوام شتى‪ ،‬أي أنھم كانوا قبل جمعھم متفرقين‪ ،‬وتعني‬
‫أيضا ً أن ھؤالء الذين سيجئ بھم عز وجل ھم أنفسھم أخالط مختلفة وإن التفت‬
‫ببعضھا‪ ،‬ألن الشئ الواحد‪ ،‬أو النسيج الواحد‪ ،‬أو القوم المتجانسين المؤتلفين ال‬
‫يوصف اجتماعھم بأنه لفيف‪.‬‬

‫وإذا كان‪  Ô Ó  :‬في اآلية ھو يوم القيامة‪ ،‬كما ذھب المفسرون‪،‬‬

‫لكان معناھا الصريح‪ ،‬مع وجود‪ ،× :‬أن ﷲ عز وجل أخبر بني إسرائيل‬
‫ويخبرنا أنه سيحشرھم يوم القيامة وحدھم دون البشرية كلھا‪ ،‬أو أنه عز وجل‬
‫سيحشر البشرية كلھا في صعيد ويحشر بني إسرائيل‪ ،‬أمة وحدھا‪ ،‬في صعيد‬
‫آخر!‬
‫التفسير المستقيم لآلية ھو تفسير الشيخ الشعراوي رحمه ﷲ تعالى‪،‬‬
‫فاألرض‪:‬‬

‫"جاءت ھكذا دون تقييد بمكان معين‪ ،‬لينسجم مع آيات القرآن التي حكمت‬
‫)‪(١‬‬
‫عليھم بالتفرق في جميع أنحاء األرض‪ ،‬فال يكون لھم وطن يتجمعون فيه"‬

‫ووعد اآلخرة ھو‪:‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫"اإلفساد الثاني لبني إسرائيل"‬

‫وتفسير الشيخ الشعراوي ھو الصحيح‪ ،‬إال في شئ واحد‪ ،‬فألنه‪ ،‬رحمه ﷲ‪،‬‬


‫كما علمت‪ ،‬فھم اإلفساد بمعنى الحادثة أو الواقعة المادية المحصورة في مكان‬

‫‪ ( ١‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٨٧٨٨‬‬


‫‪ ( ٢‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٨٧٨٨‬‬

‫‪٥١١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وفترة من الزمان‪ ،‬فقد عد اإلفساد وإنھاءه ببعث العباد متالزمين في الزمان‪،‬‬


‫ومن ثَم كان تفسيره أن‪  ÔÓ :‬ھو اإلفساد نفسه‪.‬‬

‫أما الصواب‪ ،‬فألن اإلفساد دورة طويلة سائرة في الزمان‪ ،‬فال تالزم بينه‬
‫وبين بعث العباد إال في مرحلته األخيرة‪ ،‬من أجل إنھائھا‪ ،‬وھذا ھو‪Ó  :‬‬

‫‪ Ô‬الذي تقترن فيه ذروة دورة اإلفساد بجمع بني إسرائيل‪ ،‬ثم بعث العباد‬
‫عليھم‪.‬‬

‫وعد اآلخرة في قوله تعالى‪ ،× ÖÕÔÓÒÑ  :‬ھو نفسه‬

‫وعد اآلخرة في قوله تعالى‪.¬«ª©¨§ :‬‬

‫وھا ھنا ما أتيناك بھذه اآلية وتفسيرھا أصالً من أجله‪.‬‬

‫إذا كانت ھذه اآلية من تمام خطاب ﷲ عز وجل لبني إسرائيل‪ ،‬وھي كذلك‪،‬‬
‫ومما قضاه إليھم في الكتاب وأخبرنا به في صدر السورة‪ ،‬فھي تخبرك بالفرق‬
‫الرئيس بين دورتي اإلفساد‪.‬‬

‫فا" عز وجل في صدر سورة اإلسراء خاطب بني إسرائيل فأخبرھم‪،‬‬


‫ويخبرنا معھم‪ ،‬أنھم سيفسدون في األرض كلھا مرتين‪ ،‬وأنه عز وجل سيبعث‬
‫عباده ويسلطھم عليھم في ذروة كل دورة إلنھائھا‪ ،‬ثم في خاتمة السورة أخبرھم‬
‫ويخبرنا أنه لن يجمعھم من تفرقھم في األرض وبعثرتھم بين األمم‪ ،‬إال مع تمام‬
‫الدورة الثانية ومجئ وعده بإعادة بعث عباده عليھم إلنھائھا‪.‬‬

‫‪٥١٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھو ما يعني أنھم في أثناء الدورتين متفرقون غير مجتمعين‪ ،‬وأنھم سيظلون‬
‫متفرقين متناثرين بين األمم منذ بدء دورة اإلفساد األولى‪ ،‬وفي أثنائھا‪ ،‬وعند‬
‫إنھائھا وبعث العباد عليھم‪ ،‬وعند بداية دورة اإلفساد الثانية‪ ،‬وفي أثنائھا‪ ،‬ولن‬
‫يكون اجتماعھم في األرض المقدسة وعلوھم المادي بالتشييد والبناء إال مع‬
‫ذروة ھذه الدورة الثانية‪ ،‬التي يعود عز وجل لتسليط عباده عليھم معھا‪.‬‬

‫وربما تساءلت‪ :‬إذا كان قوله تعالى‪ ،× Ö Õ Ô Ó Ò Ñ :‬في‬


‫خواتيم سورة اإلسراء‪ ،‬ھو بقية إخباره عز وجل لبني إسرائيل عن دورتي‬
‫إفسادھم في صدرھا‪ ،‬فلماذا فرﱠق عز وجل بين اآليات‪ ،‬وأخبرنا ببعض ما‬
‫أخبرھم به في فاتحتھا وببعضه اآلخر في نھايتھا؟‬
‫واإلجابة‪ :‬حصر ﷲ عز وجل سورة اإلسراء كلھا بين خطابه لبني إسرائيل‬
‫في صدرھا‪ ،‬وخطابه لھم في خاتمتھا‪ ،‬لكي تفھم أن كل ما بين الصدر والخاتمة‬
‫ھو أيضا ً من خطابه عز وجل لبني إسرائيل‪.‬‬

‫فسورة اإلسراء‪ ،‬سورة بني إسرائيل‪ ،‬ھي كلھا‪ ،‬موجھة لبني إسرائيل!‬

‫يؤكد لك ذلك أن ﷲ عز وجل ختم سورة اإلسراء‪ ،‬بعد ما أخبر به من إسكان‬


‫بني إسرائيل األرض ومجيئه عز وجل بھم عند وعد اآلخرة لفيفاً‪ ،‬بذكر القرآن‬
‫الذي أنزل بالحق مرة أخرى‪ ،‬وذكر النبي الذي بعث به مبشراً ونذيراً‪ ،‬وأن‬
‫الذين أوتوا العلم من أھل الكتاب إذا يتلى عليھم يخرون‪ ،‬لِما عرفوا فيه من‬
‫الحق‪ ،‬لألذقان سجداً‪ ،‬ثم يخرون باكين خشعاً‪ ،‬ألنھم رأوا وعد ربھم لھم في‬
‫التوراة بإنھاء دورة اإلفساد ‪ ،‬وإخراج الوحي للعالم‪ ،‬وإعادة تكوينه به‪ ،‬وإقامة‬

‫‪٥١٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أمته فيه‪ ،‬ونصب ميزانه في األرض بھا‪ ،‬قد تحقق وصار بھذا القرآن وھذا‬
‫النبي مفعوالً‪.‬‬

‫‪hgfedcba`_^]\ [ZYXWV‬‬

‫‪v u t s r q p o n m l k j i‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪yw‬‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.١٠٨-١٠٧ :‬‬
‫‪٥١٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫دورات اﻻٕﻓﺴﺎد وﻣﻦ ﱒ اﻟﻌﺒﺎد‬


‫صدر سورة اإلسراء كله ھو إخبار عن قصة الصراع بين الوحي وبين‬
‫تحريفه عبر الزمان‪ ،‬قصة الصراع بين الوحي وتحريفه على وعي البشر‪:‬‬
‫أيھما الذي يك ﱠونه‪ ،‬وعلى أذھانھم ونفوسھم‪ :‬أيھما الذي يبنيھا ويملؤھا‪ ،‬وعلى‬
‫حياتھم ومجتمعاتھم‪ :‬أيھما الذي يصنعھا ويصبغھا‪.‬‬

‫ھي قصة الصراع بين خريطة الوجود اإللھية وخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية‪ ،‬وبين مفتاح تصنيف البشر اإللھي ومفتاح تصنيفھم البني إسرائيلي‪.‬‬

‫بعد أن تحررت آيات سورة اإلسراء مما قيده بھا المفسرون‪ ،‬وزال عنھا‬
‫الغبار الذي تراكم عبر القرون‪ ،‬وعادت جديدة كما أنزلت‪ ،‬وانحلت شفرتھا‬
‫اللغوية‪ ،‬وفھمت ما الذي تعنيه وما الذي تريد أن تخبرك به‪ ،‬سيكون من اليسير‬
‫عليك معرفة دورتي اإلفساد اللتين تتكلم عنھما اآليات‪ ،‬ومن يكون العباد الذين‬
‫يبعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل‪.‬‬

‫دورة اﻻٕﻓﺴﺎد ا ٔﻻوﱃ‬


‫اإلصالح األول‪ ،‬الذي بدأت من بعده دورة اإلفساد األولى‪ ،‬ھو إنزال الكتاب‬
‫على موسى عليه السالم ھدى لبني إسرائيل‪ ،‬لكي يتكونوا بخريطة الوجود‬
‫اإللھية‪ ،‬ويقيموا الوحي ومنھجه وميزانه حياة حية وواقعا ً نابضاً‪ ،‬فتراھم األمم‬
‫واألقوام فتھتدي بھم وتقتدي‪ ،‬وبذلك يصير الكتاب الذي آتاه عز وجل لموسى‬
‫بصائر وھدى ورحمة للناس أجمعين‪.‬‬

‫‪٥١٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ودورة اإلفساد األولى ھي التي تبدأ بكتم الكتاب وإخفاء الوحي وتحريفه‪ ،‬ثم‬
‫بث ھذا التحريف في األقوام واألمم حتى يعم التحريف وآثاره األرض كلھا‪،‬‬
‫فتغيب وتُحجب خريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وتستوطن خريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية المزورة وعي البشر‪ ،‬وتتكون بھا وبآثارھا أذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وتحكم‬
‫فھمھم للوجود والحياة‪ ،‬وتصبغ كل ما يصدر عنھم‪.‬‬

‫ويصير ميزان التحريف ميزان البشر‪ ،‬ومفتاح بني إسرائيل لتصنيف البشر‬
‫ھو الذي يتكون به معمارھم‪ ،‬وھو مصدر الروابط التي تربطھم‪ ،‬والحدود‬
‫والفواصل التي تفصلھم‪ ،‬وقواعد التحريف التي ھي نقيض الوحي وقواعده ھي‬
‫ما يحكم المجتمعات ويضبط العالقات بين األفراد والجماعات‪ ،‬وبذا يحل‬
‫التحريف محل الوحي في وعي البشر وعقولھم ونفوسھم‪ ،‬وفي كل مناحي‬
‫الحياة وشؤون العمران واالجتماع‪.‬‬

‫دورة اإلفساد األولى‪ ،‬دورة حجب الوحي وبث تحريفه‪ ،‬ھي الدورة التي كان‬
‫من نواتجھا‪ ،‬كما رأيت‪ ،‬حضارة اإلغريق‪ ،‬ودولة الرومان‪ ،‬وأساطير‬
‫الھندوسية والبوذية‪ ،‬وسيرة بني إسرائيل المقدسة‪ ،‬وما استقرت عليه المسيحية‪.‬‬

‫واإلصالح الثاني الذي ينھي دورة اإلفساد األولى ويزيل آثارھا ھو أن يبعث‬
‫ﷲ عباداً له أولي بأس شديد بوحي أصيل ورسالة جديدة‪ ،‬يغسلون به األرض‬
‫من التحريف وآثاره‪ ،‬ويجوسون خالل ديار بني إسرائيل‪ ،‬وھم حينئذ خارج‬
‫األرض المقدسة‪ ،‬ويواكب إزالة ھؤالء العباد إلفساد بني إسرائيل دخولھم‬
‫المسجد‪.‬‬

‫‪٥١٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فمن يكون ھؤالء العباد المبعوثين بالوحي والرسالة إلزالة اإلفساد األول؟‬

‫لست في حاجة إلى التخمين وال االستنتاج‪ ،‬فا" عز وجل عرﱠفك بھم‬
‫صراحة‪ ،‬وبصفتھم التي وصفھم بھا في آيات سورة اإلسراء‪ ،‬والتي ھي صفتھم‬
‫في التوراة‪ ،‬ألن آيات صدر سورة اإلسراء‪ ،‬كما علمت‪ ،‬ھي إخبار لنا بما أخبر‬
‫به عز وجل بني إسرائيل في التوراة‪.‬‬

‫صفة ھؤالء العباد في سورة اإلسراء‪ ،‬وفي التوراة‪ ،‬ھي في قوله تعالى‪:‬‬

‫‪hgfedcb‬‬

‫ومن العجيب أن المفسرين‪ ،‬وھم ينقبون عن ھؤالء العباد في أخبار األمم‬


‫السابقة وبطون اإلسرائيليات‪ ،‬غاب عنھم أن ﷲ عز وجل قد أخبرنا ھو نفسه‬
‫بھؤالء العباد‪ ،‬وبصفتھم ھذه‪ ،‬بل وأخبرنا عز وجل أن ھذه ھي صفتھم التي‬
‫أخبر بھا بني إسرائيل في التوراة‪ ،‬وجعلھا عالمة لھم يعرفون بھا من يكون‬
‫ھؤالء العباد الذين يُبعثون عليھم‪ ،‬وذلك في قوله تعالى في سورة الفتح‪:‬‬

‫ ‪Q P O N M L K J I H G F E D C B A‬‬
‫)‪(١‬‬
‫‪`_^]\[ZYXWVU TSR‬‬

‫فإذا جمعت آيات سورة اإلسراء مع آية سورة الفتح‪ ،‬ألشرقت شمس اآليات‪،‬‬
‫وأسفرت عن معناھا‪ ،‬وكشفت ما تريد إخبارنا به‪ ،‬ومن ھم العباد الذين يبعثھم‬
‫ﷲ على بني إسرائيل دون حاجة للتخمين ولضرب أخماس في أسداس‪.‬‬

‫‪ ( ١‬الفتح‪.٢٩ :‬‬
‫‪٥١٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فتأمل وقارن بروية‪ K J I H G  :‬في سورة الفتح ھي‪:‬‬

‫‪  h g f‬في سورة اإلسراء‪ ،‬و‪S R Q P O N M  :‬‬

‫‪ T‬ھي تفسير‪ ، ed :‬و‪  `_^]  :‬ھي ما قضاه ﷲ‬


‫عزو وجل إلى بني إسرائيل في الكتاب من صفة ھؤالء العباد‪.‬‬
‫العباد الذين يبعثھم ﷲ عز وجل إلزالة إفساد بني إسرائيل وإصالح األرض‬
‫كلھا بالرسالة وغسلھا بالوحي ھم‪:‬‬

‫‪FED CBA‬‬

‫وجوسان العباد خالل الديار ھو تتبع النبي عليه الصالة والسالم وأصحابه‬
‫َ‬
‫لبني إسرائيل خالل ديارھم وتنكيلھم بھم وإجالؤھم منھا‪ ،‬بنو النضير وبنو‬
‫قينقاع وبنوقريظة‪ ،‬ثم جوسانھم خالل ديارھم وتتبعھم في خيبر وفدك وتيماء‬
‫وإجالؤھم منھا‪ ،‬ثم تعقبھم في كل مكان من جزيرة العرب‪ ،‬ومن الشام‪،‬‬
‫وإخراجھم منھا‪.‬‬

‫وفي العھدة العمرية‪ ،‬التي كتبھا عمر بن الخطاب ألھل إيلياء أو بيت‬
‫المقدس‪ ،‬ووقع عليھا بنفسه مع قادة الفتح أنه أعطاھم‪:‬‬

‫"أمانا ً ألنفسھم وأموالھم‪ ،‬ولكنائسھم وصلبانھم‪ ،‬وسقيمھا وبريئھا وسائر‬


‫ملتھا‪ ،‬أنه ال تسكن كنائسھم‪ ،‬وال تھدم‪ ،‬وال ينتقص منھا وال من حيزھا‪ ،‬وال‬

‫‪٥١٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫من صليبھم‪ ،‬وال من شئ من أموالھم‪ ،‬وال يكرھون على دينھم‪ ،‬وال يضار أحد‬
‫)‪( ١‬‬
‫منھم‪ ،‬وال يسكن بإيلياء معھم أحد من اليھود"‬

‫فھذا ھو التتبع والتعقب واالستقصاء الذي في معنى‪.i :‬‬

‫وأطلق عز وجل الديار التي يجوس خاللھا العباد ولم يقيدھا بأي قيد‪ ،‬بل ولم‬
‫ينسبھا لبني إسرائيل‪ ،‬فلم يقل عز وجل‪ :‬فجاسوا خالل دياركم‪ ،‬ألنھا‪ ،‬كما ترى‪،‬‬
‫ليست محصورة في مكان وال بلد بعينه‪ ،‬وبعض ھذه الديار ليست أصالً ديارھم‪.‬‬

‫فجوسان العباد خالل الديار إنما ھو تعقب لبني إسرائيل‪ ،‬ال في ديار في بلد‪،‬‬
‫بل في كل ديار ينتقلون إليھا أو يحلون فيھا في كل بلد‪.‬‬

‫ودخول العباد المسجد ھو دخول عمر بن الخطاب في صحابة النبي عليه‬


‫الصالة والسالم المسجد األقصى حاجا ً متعقبا ً آثار رسول ﷲ فيه‬
‫) •(‬

‫فإليك لماذا ق ﱠدر ﷲ عز وجل لعمر رضي ﷲ عنه أن ينھض من المدينة إلى‬
‫الشام‪ ،‬وكيف فتح بيت المقدس وتسلمھا بنفسه‪ ،‬خالفا ً لغيرھا مما فتحوه من‬
‫البلدان‪.‬‬

‫يقول اإلمام الطبري في‪ :‬تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬في سبب قدوم عمر إلى‬
‫الشام‪:‬‬

‫‪ ( ١‬اإلمام الطبري‪ :‬تاريخ الرسل والملوك‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪.٦٠٩‬‬


‫• ( إذا رجعت إلى تحقيق رحلة اإلسراء وتحقيق وقائع الفتح العمري‪ ،‬في كتابنا‪ :‬المسجد األقصى القرآني‪،‬‬
‫فستعلم أن عمر رضي ﷲ عنه دخل المسجد دخول الحاج‪ ،‬وأنه في ما فعله داخله كان يحاكي أفعال النبي‬
‫عليه الصالة والسالم في رحلة اإلسراء به‪.‬‬
‫‪٥١٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس‪ ،‬فطلب‬
‫أھله منه أن يصالحھم على صلح أھل مدن الشام‪ ،‬وأن يكون المتولي للعقد‬
‫)‪(١‬‬
‫عمر بن الخطاب‪ ،‬فكتب إليه بذلك‪ ،‬فسار عن المدينة"‬

‫وليس في تاريخ الطبري ما يفسر لماذا اشترط أھل بيت المقدس أن يكون‬
‫من يكتب عقد صلحھا ويسلمونھا له الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه‪ ،‬وھو شرط‬
‫لم تشترطه أي بلد أخرى مما فُتح قبلھا وحولھا من كبريات المدن‪.‬‬

‫أما الواقدي فيروي‪ ،‬في‪ :‬فتوح الشام‪ ،‬أنه لما اشتد الحصار حول بيت‬
‫المقدس‪ ،‬خرج إلى أبي عبيدة رسول من عند بترك المدينة‪ ،‬فطلب منه وقف‬
‫القتال‪ ،‬وكان مما قال له‪:‬‬

‫"اعلموا ان صفة الرجل الذي يفتح بلدنا ھذا عندنا‪ ،‬إن كان ھو أميركم فال‬
‫)‪(٢‬‬
‫نقاتلكم‪ ،‬بل نسلم إليكم‪ ،‬وإن لم يكن إياه فال نسلم إليكم أبداً"‬

‫فإليك مصداق ما رواه الواقدي في صفة من يفتح بيت المقدس في ِسفر‬


‫زكريا‪:‬‬

‫شلِي َم‪ ،‬ھ َُو َذا َملِ ُك ِك يَأْتِي‬


‫ص ْھيَ ْونَ ‪ ،‬ا ْھتِفِي يَا بِ ْنتَ أُو ُر َ‬
‫" اِ ْبتَ ِھ ِجي ِج ًّدا يَا ا ْبنَةَ ِ‬
‫‪٩‬‬

‫ش ا ْب ِن أَت ٍ‬
‫َان)•(‪،‬‬ ‫ب َعلَى ِح َما ٍر َو َعلَى َج ْح ٍ‬ ‫إِلَ ْي ِك‪ ،‬ھ َُو عَا ِد ٌل َو َم ْن ُ‬
‫صو ٌر َو ِدي ٌع‪َ ،‬و َرا ِك ٌ‬

‫‪ ( ١‬تاريخ الرسل والملوك‪ :‬ج‪ ،٣‬ص‪.٦٠٨‬‬


‫‪ ( ٢‬الواقدي‪ :‬فتوح الشام‪ :‬ج‪ ،١‬ص‪.٣٢٣-٣٢٢‬‬
‫• ( من المألوف في أسفار العھد القديم أن يخلط كاتبوھا بين الحمير واإلبل‪ ،‬وأشھر موضع لذلك قصة‬
‫يوسف مع إخوته‪َ ٢٦":‬ف َح َملُوا قَ ْم َح ُھ ْم َعلَى َح ِمي ِر ِھ ْم َو َم َ‬
‫ض ْوا ِمنْ ُھنَاكَ")خروج‪ ،(٤٢:٢٦:‬مع أن الحمير ال‬
‫يمكنھا قطع المفازات والصحاري الشاسعة وال تتحمل حرارتھا‪ ،‬واليستطيع الحمار أن يحمل ما يزيد على‬
‫ربع وزنه الذي يتراوح بين ‪ ١٠٠‬و‪ ١٥٠‬كجم‪ ،‬بينما الجمل سفينة الصحراء ويمكنه أن يحمل ما يعادل وزنه‬
‫الذي يبلغ عدة مئات من الكيلوجرامات‪ ،‬وﷲ أخبرك في كتابه أنھا عير ال حمير‪.‬‬
‫‪٥٢٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ب‪،‬‬ ‫ط ُع قَ ْو ُ‬
‫س ا ْل َح ْر ِ‬ ‫َوتُ ْق َ‬ ‫س ِمنْ أُو ُر َ‬
‫شلِي َم‬ ‫ط ُع ا ْل َم ْر َكبَةَ ِمنْ أَ ْف َرايِ َم َوا ْلفَ َر َ‬
‫‪َ ١٠‬وأَ ْق َ‬
‫اصي‬‫َو ِمنَ النﱠ ْھ ِر إِلَى أَقَ ِ‬ ‫طانُهُ ِمنَ ا ْلبَ ْح ِر إِلَى ا ْلبَ ْح ِر‪،‬‬‫س ْل َ‬‫سالَ ِم ِلألُ َم ِم‪َ ،‬و ُ‬‫َويَتَ َكلﱠ ُم بِال ﱠ‬
‫)‪(١‬‬
‫األَ ْرض"‬

‫فإذا قرأت نص ما في ِسفر زكريا بعناية‪ ،‬فلن تكون في حاجة إلى من‬
‫يخبرك أن ما يقوله المسيحيون من أنھا نبوءة في المسيح عليه السالم ال عالقة‬
‫له بما يقوله السفر فعالً‪.‬‬

‫فالسفر يخبر عن حاكم يدخل أورشليم‪ ،‬وھو عند دخوله على رأس مملكة‬
‫حقيقية واسعة لھا حدود وتخوم‪ ،‬والمسيح عليه السالم لم يكن يوما ً ملكا ً وال كان‬
‫له في األرض مملكة‪ ،‬ومملكة السماء ليس لھا تخوم وال تحدھا حدود‪.‬‬

‫صفة من يدخل أورشليم في نبوءة سفر زكريا ھي في الحقيقة صفة دخوله‪،‬‬


‫فھو حاكم لدولة مترامية األطراف‪ ،‬ويدخلھا فاتحا ً منتصراً‪ ،‬ويدخلھا مع ذلك‬
‫بعدل وفي وداعة‪ ،‬وھي صفة دخول لبيت المقدس لم تتحقق إال في دخول عمر‬
‫في صحابة النبي عليه الصالة والسالم بيت المقدس‪ ،‬وال نظير لھا في التاريخ‬
‫بعد ذلك إال في دخول عبد آخر من عباد ﷲ إليھا‪ ،‬إذ دخلھا الناصر صالح الدنيا‬
‫والدين فاتحا ً منتصراً‪ ،‬خاشعا ً باكياً‪.‬‬

‫فإليك وصف أستاذة مقارنة األديان في أوكسفورد والمؤرخة البريطانية‬


‫كارين أرمسترونج لدخول عمر بن الخطاب بيت المقدس في كتابھا‪ :‬القدس‬
‫مدينة واحدة وعقائد ثالث‪:‬‬

‫‪ ( ١‬زكريا‪.١٠-٩:٩:‬‬
‫‪٥٢١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫"عبر عمر عن مبدأ التراحم التوحيدي أكثر من أي ممن فتحوا أورشليم‬


‫قبله‪ ،‬فقد أشرف على أكثر غزو للمدينة سالماً‪ ،‬ودون أي إراقة للدماء‪ ،‬لقد‬
‫كان فتحا ً لم تشھد المدينة مثله في تاريخھا الطويل والمأساوي في غالب‬
‫األحوال‪ ،‬فبمجرد أن استسلم المسيحيون لم يحدث قتل‪ ،‬أو تدمير للمتلكات‪ ،‬أو‬
‫إحراق للرموز الدينية المنافسة‪ ،‬وأيضا ً لم يكن ھناك طرد للسكان وال نزع‬
‫)‪( ١‬‬
‫للملكية‪ ،‬أو محاولة إلجبار السكان على اعتناق اإلسالم"‬

‫فكما ترى‪ ،‬كارين أرمسترونج لم تفعل في عبارتھا التي تصف بھا دخول‬
‫عمر القدس سوى أنھا ترجمت‪ ،‬دون أن تدري‪ ،‬نبوءة سفر زكريا!‬

‫بقي ان تعرف لماذا سبقت آية اإلسراء بالنبي عليه الصالة والسالم إلى‬
‫المسجد األقصى دورتي اإلفساد‪.‬‬

‫دخول المسجد في اآليات‪ ،‬كما علمت‪ ،‬عالمة على أن دخول المسجد في‬
‫اإلسالم وبعد نزول اآلية في المرتين‪ ،‬ألن المسجد صار اسما ً لھذه البقعة بنزول‬
‫اآلية ال قبلھا‪ ،‬وھو عالمة على العباد الذين يدخلونه‪ ،‬فسبق عز وجل ذكر آيات‬
‫إفساد بني إسرائيل باإلسراء وقال‪:‬‬

‫‪M L K J I H GF E D C B A‬‬


‫)‪(٢‬‬
‫‪ WVUTSR QPON‬‬

‫‪ ( ١‬كارين أرمسترونج‪ :‬القدس مدينة واحدة وعقائد ثالث‪ ،‬ص‪.٣٨٦‬‬


‫‪ ( ٢‬اإلسراء‪.١ :‬‬
‫‪٥٢٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ألن النبي عليه الصالة والسالم ھو أول ھؤالء العباد‪ ،‬وھم جميعا ً أمته‬
‫وأتباعه‪ ،‬فاإلسرء به عليه الصالة والسالم إلى المسجد األقصى‪ ،‬وذكر ھذا‬
‫اإلسراء به إلى المسجد قبل ذكر دخول العباد إليه‪ ،‬لكي يفتتح عليه الصالة‬
‫والسالم المسجد ألمته‪ ،‬ألن النبي عليه الصالة والسالم ھو المبعوث بالوحي‬
‫والرسالة الجديدة‪ ،‬ولكي يسبق دخولُه دخولَھم‪ ،‬فال تتقدم أمته عليه وھم أتباعه‪.‬‬

‫دورة اﻻٕﻓﺴﺎد اﻟﺜﺎﻧﻴﺔ‬


‫الدورة الثانية ھي التي تبدأ من بعد بعثة النبي عليه الصالة والسالم وإنزال‬
‫القرآن عليه‪ ،‬وحيا ً جديداً أصيالً محفوظا ً بذاته‪ ،‬إلقامة األمة الجديدة به‪ ،‬من أجل‬
‫إصالح األرض كلھا وتطھيرھا من التحريف وإزالة آثاره‪ ،‬بإعادة تكوين وعي‬
‫البشر وبناء أذھانھم ونفوسھم بخريطة الوجود اإللھية‪ ،‬وبإعادة المعيار‬
‫والميزان اإللھي إلى عالم البشر‪ ،‬وإقامه منھجه عز وجل ونظامه لعالم البشر‬
‫في األمة الجديدة حياة حية‪ ،‬تراھا األمم فتھتدي إلى ﷲ عز وجل‪ ،‬وتعرف وحيه‬
‫سبحانه وتعالى من آثاره في عقائدھا وأفكارھا‪ ،‬وفي أخالقھا وقيمھا‪ ،‬وفي‬
‫نظامھا ومعمار مجتمعھا‪ ،‬وفي العالقات بين أفرادھا وجماعاتھا‪ ،‬رجاالً‬
‫ونسا ًءا‪ ،‬وأغنياء وفقراء‪ ،‬وأقوياء وضعفاء‪ ،‬وآبا ًءا وأبنا ًءا‪ ،‬وحكاما ً ومحكومين‪.‬‬

‫ودورة اإلفساد الثانية ھي الدورة الخفية‪ ،‬التي لم ير فيھا العرب والمسلمون‬


‫بني إسرائيل واليھود إال في مرحلتھا األخيرة‪ ،‬بعد أن عم اإلفساد األرض كلھا‬
‫ووصل بنو إسرائيل مع ذروته إلى بالدھم‪ ،‬وظھر المشروع اليھودي على‬
‫سطح األرض العربية‪.‬‬

‫‪٥٢٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وال تعجب إذا قلنا لك إن العرب ما زالوا إلى يومك ھذا ال يفقھون حقا ً كيف‬
‫وصل بنو إسرائيل إلى بالد العرب وأقاموا دولتھم‪ ،‬فإذا كانت دورة اإلفساد‬
‫األولى‪ ،‬كما رأيت‪ ،‬ھي دورة األساطير واألمم الوثنية‪ ،‬فدورة اإلفساد الثانية‬
‫ھي دورة الماسونية والحركات السرية‪.‬‬

‫دورة اإلفساد الثانية ھي التي تبدأ بتغلغل بني إسرائيل واليھود في نسيج‬
‫الغرب‪ ،‬إلى أن تمكنوا من إسقاط مسألة األلوھية من وعيه‪ ،‬وإزاحة المسيحية‬
‫والكنيسة وتعاليم النص من قلبه‪ ،‬ثم أعادوا تكوين الغرب بعالم النص‪ ،‬وأحلوا‬
‫بني إسرائيل وسيرتھم محل مسألة األلوھية مقدسا ً مركزياً‪ ،‬ومحوراً يدور‬
‫التاريخ حوله‪ ،‬ويتحرك به ومن أجله‪ ،‬وفي اتجاه غاياته‪.‬‬

‫والحركات السرية وعالم السر والخفاء كانت ھي القنوات التي تسلل فيھا‬
‫ومن خاللھا بنو إسرائيل‪ ،‬وطبقات اليھود والماسون من حولھم‪ ،‬في نسيج‬
‫الغرب‪ ،‬وتمكنوا بھا‪ ،‬وبامتصاص المواھب والطاقات والعقول الخالقة في‬
‫الغرب وتكوينھا فيھا‪ ،‬من السريان في عقل الغرب وأعصابه وشرايينه‪ ،‬ومن‬
‫السيطرة على مقاليده ومفاتيحه‪.‬‬

‫بنو إسرائيل تمكنوا عبر الحركات السرية من استيطان وعي الغرب وعقله‬
‫ونفسه‪ ،‬وحولوه إلى آله ھائلة يملكون مفاتيحھا وأزرارھا‪ ،‬أو إلى حمار‬
‫يستوطنون رأسه ويمتطون ظھره‪.‬‬

‫دورة اإلفساد الثانية في شقھا األول ھي الغرب كله‪ ،‬وكل ما كونه وأنتجه‬
‫منذ استولى بنو إسرائيل على وعيه‪ ،‬وسيطرت الحركات السرية على مقاليده‬

‫‪٥٢٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وحركته‪ ،‬ھي دورة الماسونية والحركات السرية‪ ،‬والعلمانية والليبرالية‪ ،‬والعقد‬


‫االجتماعي والدولة القومية‪ ،‬والداروينية والماركسية‪ ،‬وحقوق اإلنسان وحركات‬
‫التحرير النسائية‪ ،‬واألمم المتحدة والمنظمات الدولية‪.‬‬

‫وأما شقھا الثاني‪ ،‬فبالليص ستان العربية التوراتية‪ ،‬إذ بعد أن صار زمام‬
‫الحمار الغربي في أيدي بني إسرائيل والطبقات التي حولھم من اليھود‬
‫والماسون‪ ،‬وثبوا به إلى بالد العرب‪ ،‬ال لكي يستعمروھا‪ ،‬كما فھم العرب وما‬
‫زالوا يفھمون‪ ،‬بل ليتمموا دورة اإلفساد في األرض كلھا‪.‬‬

‫وتمام دورة اإلفساد الثانية ھو إعادة تكوين بالد العرب بالتحريف‪ ،‬عبر‬
‫إزاحة مفتاح التصنيف اإللھي من وعيھا‪ ،‬وإعادة رسم خريطتھا ووضع‬
‫حدودھا بمفتاح تصنيف البشر التوراتي المزور القائم على الدماء واألعراق‪،‬‬
‫وعبر صنع ساستھا ونخبھا وتكوين أذھانھم ونفوسھم بخريطة الوجود البني‬
‫إسرائيلية المحرفة‪ ،‬ال بتعليمھم إياھا‪ ،‬بل بتربيتھم على فحواھا ومضمونھا‬
‫وآثارھا‪ ،‬وبتحويلھا إلى واقع حي ونسيج اجتماعي‪ ،‬وإحالله محل نسيج ھذه‬
‫البالد األصلي الذي صنعه الوحي‪ ،‬بسطوة السالح والجيوش‪ ،‬وعبر السياسات‬
‫اإلدارية والقانونية واإلعالمية والتعليمية‪ ،‬وعبر القصص والروايات‪ ،‬واألفالم‬
‫والمسلسالت‪ ،‬ثم عبر وضع النخب المزورة التي صنعوھا بالتحريف وكونوھا‬
‫بآثاره على رأس ھذه المجتمعات وعلى صدرھا‪.‬‬

‫وما يسميه الساسة والنخب والعلمانيون في بالد العرب النھضة والعصر‬


‫الحديث‪ ،‬وما يصمه المتدينون واإلسالميون بأنه غزو ثقافي‪ ،‬لم يكن في حقيقته‬
‫سوى غزو توراتي‪ ،‬محوره وغايته إزاحة خريطة الوجود اإللھية من أذھان‬
‫‪٥٢٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫العرب وإزالة آثارھا في مجتمعاتھم وإحالل خريطة الوجود البني إسرائيلية‬


‫وآثارھا محلھا‪.‬‬

‫خريطة بالد العرب كما ھي اآلن‪ ،‬الخريطة العرقية الوطنية القومية‪،‬‬


‫خريطةٌ بني إسرائيلية‪ ،‬مفتاح تصنيف البشر فيھا المفتاح التوراتي‪ ،‬والدولة‬
‫الوطنية القومية ليست سوى الدولة التوراتية البني إسرائيلية‪.‬‬

‫ومعمار بالد العرب كما ھي اآلن بفواصله وحدوده ھو معمارھا في عصر‬


‫دولة بني إسرائيل في التوراة‪ ،‬كونه الغرب‪ ،‬الذي يكمن في رأسه بنو إسرائيل‬
‫ويمتطي ظھره اليھود والماسون‪ ،‬بإخراج مفتاح تصنيف بني إسرائيل للبشر من‬
‫التوراة وبثه في عقول أھلھا‪ ،‬ثم إقامته في أرضھا وخرائطھا‪.‬‬

‫وكل ما شھدته بالد العرب‪ ،‬منذ حملة الماسوني نابليون بونابرت على‬
‫مصر‪ ،‬التي مولھا بيت مال روتشيلد‪ ،‬من دول وساسة وسياسات‪ ،‬ومن مناھج‬
‫علمانية ونظريات‪ ،‬ومن أحزاب وحركات‪ ،‬الليبرالية منھا واليساريات‪ ،‬ومن‬
‫نظم تعليم وصحف وإذاعة وتلفزيونات‪ ،‬ومن فنون وآداب وكتب وكتابات‪ ،‬لم‬
‫تكن سوى آثار سريان خريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬ومفتاح التصنيف‬
‫التوراتي في وعي أبنائھا وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬ثم تدفقھا من ھذا الوعي ومن ھذه‬
‫النفوس واألذھان إلى السياسات والمجتمعات والمناھج واآلداب والفنون‪.‬‬

‫تاريخ بالد العرب منذ حملة نابليون‪ ،‬خالصته إزاحة خريطة الوجود اإللھية‬
‫بخريطة الوجود البني إسرائيلية‪ ،‬وھذا ھو اإلفساد الثاني لبني إسرائيل في‬
‫األرض كلھا وعلوھم في األرض الكبير‪.‬‬

‫‪٥٢٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وھو اإلفساد الذي واكب ذروته والمرحلة األخيرة منه وصول بني إسرائيل‬
‫إلى المسجد وعلوھم فيه وحوله بالبناء والتشييد‪ ،‬كما أخبرك عز وجل‪.‬‬

‫دورة اإلفساد الثانية وعلو بني إسرائيل الكبير ھي التي تعيش اآلن مرحلتھا‬
‫األخيرة‪ ،‬أو ذروتھا‪ ،‬أو ما قبل الذروة بقليل‪ ،‬فنرجو من ﷲ عز وجل أن ي ُمن‬
‫علينا‪ ،‬ونسوء وجوه بني إسرائيل‪ ،‬وندخل المسجد كما دخله محمد رسول ﷲ‬
‫والذين معه أول مرة‪ ،‬ونتبر ما عال بنو إسرائيل تتبيراً‪.‬‬

‫ولكن ذلك لن يحدث‪ ،‬كما قد تتوھم‪ ،‬بالجيوش والسالح فقط‪ ،‬وال بالدعاء‬
‫والعبادة وحدھا‪ ،‬وال بالخطابة وصراخ حاخامات الجيوش ومشايخ دولة روسﱡو‬
‫في الناس‪ :‬عودوا إلى ﷲ‪ ،‬وال يعلم أحد كيف‪ ،‬وال أين يجدون ﷲ لكي يعودوا‬
‫إليه‪ :‬أفي التعليم‪ ،‬أم في اإلعالم‪ ،‬أم في النوادي‪ ،‬أم في الشواطئ‪ ،‬أم في األفالم‬
‫والمسلسالت‪ ،‬أم في المساجد التي يغلقونھا ويقيدونھا ويعتقلون من يجلس‬
‫) •(‬
‫فيھا؟‬

‫• ( بعض ھؤالء الحاخامات يوظفون قواعد الوحي وعال ِمه ودولتِه‪ ،‬ويسخرون موازينه ومعاييره من أجل‬
‫ترسيخ التحريف وموازينه وعالمه‪ ،‬ومن أجل تمكين دولة روسو البني إسرائيلية وإقرار أنھا ھي الحق‬
‫وميزان الصواب والخطأ‪ ،‬فاعلم أن الحفاظ على الدولة وجيشھا للضرورة أو لدفع الضرر ودرء المفاسد‬
‫مسألة‪ ،‬وأما إنزالھا منزلة اإلله وإحاللھا محله معيارأ وميزانا ً فمسألة أخرى‪ ،‬فاألولى من بصر العلماء‬
‫وميزانھم‪ ،‬والثانية من تحريف الحاخامات وأھوائھم‪ ،‬فا‪  ‬أخبرك في بيانه أنه عز وجل ھو وحده الحق‪:‬‬
‫‪ ) ª © ¨ § ¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡  ~ } | { z y x‬الحج‪،( ٦٢:‬‬
‫فمن وافق وحيه وميزانه فھو على الحق بقدر موافقته له‪ ،‬ومن خالفه فھو على الباطل بقدر مخالفته له ‪،‬‬
‫جيش مشارق األرض ومغاربھا‪ ،‬ولو دان لدولة داني البلدان‬
‫ٌ‬ ‫فرداً كان أو جماعة أو جيشا ً أو دولة‪ ،‬ولو فتح‬
‫وقاصيھا‪ ،‬ما منحه ذلك وال منحھا شرعية إبطال الحق وال إحقاق الباطل‪ ،‬وال جعل ما يفعله أو تفعله صواباً‬
‫إال أن يوافق وحي اإلله ومعياره وميزانه‪ ،‬ولو لم يكن ذلك كذلك لكان ميزان الحق والباطل ومعيار الصواب‬
‫والخطأ فرعون واإلسكندر ويوليوس قيصر ونابليون وكل طاغية جبار في زمنه‪ ،‬وھؤالء الحاخامات كمن‬
‫يريد تطبيق أحكام المواريث على عالقات الزنى!‬
‫‪٥٢٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫لن ندخل المسجد إال بعودة عباد ﷲ أولي البأس الشديد من حملة الرسالة‬
‫والقائمين بھا وعليھا‪ ،‬لكي يزيلوا إفساد بني إسرائيل بإعادة الوحي إلى الحياة‬
‫وعالم البشر‪ ،‬ولكي يطھروا به األرض كلھا من آثار ھذا اإلفساد‪ ،‬فيمحقوا كل‬
‫ما أنتجه من قيم وسلوك وأخالق‪ ،‬ومن أفكار وآراء‪ ،‬ومن مناھج ونظريات‪،‬‬
‫ومن حركات ومنظمات‪ ،‬ومن روابط وفواصل‪ ،‬ومن معمار وخرائط‪.‬‬

‫‪٥٢٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪HGF‬‬
‫بقى سؤال‪ :‬ھل إفساد بني إسرائيل مرتان فقط أم تحتمل الزيادة؟‬

‫نقل أغلب المفسرين‪ ،‬كالطبري والقرطبي والسيوطي وأبي حيان‪ ،‬عن قتادة‬

‫المفسر‪ ،‬في تفسير قوله تعالى‪:HGF :‬‬

‫"فعادوا‪ ،‬فبعث ﷲ عليھم محمداً صلى ﷲ عليه وسلم‪ ،‬فھم يعطون الجزية‬
‫)‪(١‬‬
‫عن يد وھم صاغرون"‬

‫ومن ثَم‪ ،‬ذھب ھؤالء المفسرون إلى أن بعثة النبى كانت عقابا ً لبني إسرائيل‬
‫على مرة إفساد ثالثة‪ ،‬غير المرتين اللتين فسروا بھما اإلفساد المذكور فى سورة‬
‫اإلسراء‪.‬‬

‫والطريف ھنا أن ھذا التفسير والقبول به يعني ضمنا ً أن اإلفساد المقصود في‬
‫سورة اإلسراء ليس حصراً على األرض المقدسة‪ ،‬ألن النبي عليه الصالة‬
‫والسالم بُعث وسُلط على بني إسرائيل وھم خارج األرض المقدسة ومشتتون‬
‫في بقاع األرض‪.‬‬

‫والشيخ الشعراوي‪ ،‬رغم أنه قال إن مرتي اإلفساد في اإلسالم‪ ،‬وأن أوالھما‬
‫كانت في المدينة‪ ،‬وكان عقاب بني إسرائيل بعث النبي عليه الصالة والسالم‬
‫وتسليطه عليھم‪ ،‬وأن الثانية ھي إنشاء دولة إسرائيل واستعالؤھا على العرب‬

‫‪ ( ١‬جامع البيان‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪ ،٥٠٦‬الجامع ألحكام القرآن‪ :‬ج‪ ،١٠‬ص‪ ،٢٢٤‬البحر المحيط‪ :‬ج‪ ،٦‬ص‪،١١‬‬
‫الدر المنثور‪ :‬ج‪ ،٩‬ص‪.٢٦٤‬‬
‫‪٥٢٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫في زمانك ھذا‪ ،‬فإنه ذھب‪ ،‬كغيره من المفسرين‪ ،‬وإن لم يورد ما أوردوه عن‬

‫قتادة‪ ،‬إلى أن تفسير‪:HGF :‬‬

‫)‪(١‬‬
‫"إن عدتم للفساد عدنا‪ ،‬وھو جزاء الدنيا وال ينجيكم من جزاء اآلخرة"‬

‫واألستاذ سيد قطب‪ ،‬رحمه ﷲ‪ ،‬لم يخرج في تفسيره‪ :‬في ظالل القرآن عما‬
‫قاله أئمة المفسرين في شئ‪ ،‬غير أنه عند تفسير قوله تعالى‪، H G F  :‬‬
‫فتح عدد مرات اإلفساد وقال باحتمال وقوع ثالثة ورابعة‪ ،‬فكان من األمثلة التي‬
‫ضربھا على ذلك‪:‬‬
‫"ولقد عادوا إلى اإلفساد‪ ،‬فسلط ﷲ عليھم المسلمين فأخرجوھم من‬
‫الجزيرة كلھا‪ ،‬ثم عادوا إلى اإلفساد فسلط عليھم عباداً آخرين‪ ،‬حتى كان‬
‫العصر الحديث فسلط عليھم ھتلر‪ ،‬ولقد عادوا اليوم إلى اإلفساد في صورة‬
‫إسرائيل التي أذاقت العرب أصحاب األرض الويالت‪ ،‬وليسلطن ﷲ عليھم من‬
‫)‪( ٢‬‬
‫يسومھم سوء العذاب تصديقا ً لوعد ﷲ القاطع"‬

‫والمثال الذي استشھد به األستاذ سيد قطب على ما رآه‪ ،‬وھو تسليط ھتلر‬
‫على اليھود في القرن العشرين وما فعله بھم‪ ،‬ظاھر الخطأ‪ ،‬ألن ما فعله ھتلر‬
‫كان ذريعة إلعادة اليھود إلى األرض المقدسة وليس إخراجھم منھا‪.‬‬

‫وما لم يدركه سيد قطب أن ھتلر نفسه وما فعله جزء من دورة إفساد بني‬
‫إسرائيل في األرض‪ ،‬ومن آثارھم في العالم‪ ،‬فھم من صنعو رأسه ونفسه‪،‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير الشعراوي‪ :‬ج‪ ،١٤‬ص‪.٨٣٧١‬‬


‫‪ ( ٢‬األستاذ سيد قطب‪ :‬في ظالل القرآن ج‪ ،٤‬ص‪.٢٢١٤‬‬
‫‪٥٣٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وأقالوا دولته من عثرتھا‪ ،‬والنازية كلھا وفلسفتھا وسياساتھا وأھدافھا ليست‬


‫سوى استلھام ومحاكاة لسيرة بني إسرائيل المقدسة‪.‬‬

‫وھي إحدى القصص الطويلة التي ليس موضعھا في ھذا الكتاب‪ ،‬لكي ال‬
‫نزاحم في رأسك اإلفساد المخصوص المذكور في سورة اإلسراء‪ ،‬أال وھو‬
‫تحريف الوحي‪ ،‬بغيره من ألوان الفساد واإلفساد التقليدي‪.‬‬

‫أما بكاء اليھود ونحيبھم على ما فعله بھم من صنعوه وأنھضوه‪ ،‬وتضخيمھم‬
‫لھذا الذي فعله بھم‪ ،‬فھي شيمة نفسية من شيم بني إسرائيل‪ ،‬وخصيصة خلقية‬
‫من خصائصھم‪ ،‬أنبأك بھا عز وجل في بيانه إلى خلقه‪ ،‬في ما قصه عليك عن‬
‫أول ما فعلوه بعد أن ألقوا أخاھم في الجب‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪XWVUT‬‬

‫فھتلر أخوھم‪ ،‬وھم من صنعوه‪ ،‬وفي غيابات الحرب ألقوه‪ ،‬ثم يطلعون على‬
‫البشرية كل عشاء يبكون!‬

‫ما اتفق فيه المفسرون‪ ،‬في قوله تعالى‪ ،HGF :‬كما رأيت‪ ،‬ھو عدم‬

‫تقيدھم في تفسيرھم بعدد مرات اإلفساد وبعث العباد الذي نصت عليه آيات‬
‫سورة اإلسراء‪ ،‬وطرحھم إلمكان وجود مرات أخرى من اإلفساد والبعث‪ ،‬وإن‬
‫اختلفوا بعد ذلك في‪ :‬متى وأين و َمن‪.‬‬

‫‪ ( ١‬يوسف‪.١٦:‬‬
‫‪٥٣١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ونسألك أوالً سؤاالً لم يسأله أحد من المفسرين‪ :‬ختم ﷲ عز وجل آيات إفساد‬
‫بني إسرائيل في األرض في سورة اإلسراء بقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪( ١‬‬
‫‪NMLKJI HGF‬‬

‫فمن الذى يخاطبه عز وجل في ھذه اآلية‪ ،‬ھل يخاطب بني إسرائيل في زمن‬
‫نزول التوراة الذين أخبرھم وقضى إليھم في الكتاب أنھم سيفسدون في األرض‬
‫مرتين ويعلون علواً كبيراً‪ ،‬أم يخاطب بني إسرائيل في عھد النبي عليه الصالة‬
‫والسالم ونزول القرآن‪ ،‬أم يخاطب بني إسرائيل في بقاع األرض كلھا وفي كل‬
‫زمان إلى يوم القيامة؟‬

‫فإليك اإلجابة‪.‬‬

‫اعلم أوالً أن سورة اإلسراء كلھا مكية إال آيتين مختلفا ً فيھما‪ ،‬وليستا من‬
‫صدرھا‪ ،‬وھذا يعني أن آيات إفساد بني إسرائيل‪ ،‬وعلوھم في األرض الكبير‪،‬‬
‫وخطاب ﷲ عز وجل لبني إسرائيل في نھايتھا‪ ،‬نزلت في مكة قبل أن يھاجر‬
‫عليه الصالة والسالم إلى المدينة‪ ،‬وقبل أن يرى بني إسرائيل في المدينة بثالث‬
‫سنوات‪.‬‬

‫ومن حكمة ﷲ عز وجل إنزاله ھذه اآليات في مكة وليس في المدينة‪ ،‬وقبل‬
‫الھجرة ولقاء النبي عليه الصالة والسالم ببني إسرائيل وليس بعدھا‪ ،‬لكي ال‬
‫تربط األذھان بين اآليات والخطاب فيھا لبني إسرائيل وبين قبائل اليھود‬
‫المدينة‪.‬‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.٨ :‬‬
‫‪٥٣٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫فتوقيت نزول اآليات‪ ،‬قبل الھجرة وفي مكة‪ ،‬قرينة أن المخاطب بھا ليس‬
‫يھود المدينة فقط وال وحدھم‪.‬‬

‫ثم تذكر ثانيا ً ما قد علمته من قبل‪ ،‬وھو أن بني إسرائيل ھم الفئة الوحيدة في‬
‫البشر التي يروي لك عز وجل في القرآن قصصھم‪ ،‬ثم يخلط الرواية عن‬
‫أخبارھم وسيرتھم في صيغة الغيب بتوجيه النداء والخطاب لھم في صيغة‬
‫الحضور‪ ،‬ليس في سورة اإلسراء وحدھا‪ ،‬بل في كل موضع ترد فيه سيرتھم‪.‬‬

‫فإذا لم يكن الخطاب في قوله تعالى‪  H G F  :‬لبني إسرائيل في‬


‫الكتاب الذي أنزل عليھم‪ ،‬وال لبني إسرائيل عصر النبي عليه الصالة والسالم‪،‬‬
‫فلمن يكون؟‬
‫بعد تحرير آيات سورة اإلسراء من القيود التي قيدھا بھا المفسرون من عند‬
‫أنفسھم‪ ،‬دون نص مرفوع إلى النبي عليه الصالة والسالم‪ ،‬ودون أي وجود لھذه‬
‫القيود في نص اآليات‪ ،‬وبعد أن علمتَ ما الذي تتكلم عنه وتخبر به بعد حل‬
‫شفرتھا اللغوية‪ ،‬نقول لك‪ :‬إن خطابه عز وجل لبني إسرائيل في سورة اإلسراء‪،‬‬
‫والتي أنزلت في مكة وليس في المدينة‪ ،‬ھو خطاب مطلق مفتوح لبني إسرائيل‬
‫في كل مكان‪ ،‬وفي كل زمان إلى يوم القيامة‪.‬‬

‫فإذا كان ذلك كذلك‪ ،‬فھو يعنى أن اآليات تريد أن تخبرك ان بنى إسرائيل‬
‫موجودون في األرض سائرون في الزمان ويتحركون عبر التاريخ باإلفساد‪،‬‬
‫وأن وصمة اإلفساد ال تنقطع وال تزول عن أحد منھم‪ ،‬فرداً أو جماعة‪ ،‬إال بأمر‬
‫واحد فقط‪ ،‬تعرفه إذا خرجت من آيات إفساد بني إسرائيل إلى اآليات التي قبلھا‬

‫‪٥٣٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫والتي بعدھا‪ ،‬والتي حصر عز وجل بينھا دورات إفسادھم وعلوھم فى األرض‬
‫الكبير‪.‬‬

‫ذھب المفسرون جميعا ً إلى أن آيات إفساد بني إسرائيل في األرض وعلوھم‬
‫الكبير وبعث العباد عليھم تبدأ بقوله تعالى‪:‬‬

‫ ‪{ z y x w v u t s r q p‬‬
‫)‪(١‬‬
‫|}‬

‫وتنتھي بقوله تعالى‪:‬‬

‫)‪(٢‬‬
‫‪NMLKJI HGFE DCBA‬‬

‫ونقول لك‪ :‬بل ھي تبدأ بآية اإلسراء‪ ،‬وتنتھي بھذا القرآن الذي يھدي للتي‬
‫ھي أقوم‪ ،‬وإن شئت قوالً أصوب فھي تنتھي بقوله تعالى‪ÔÓÒÑ  :‬‬

‫‪ ،×Ö Õ‬وما يعقبه من ذكر القرآن والنبي المبعوث به‪ ،‬وأن الذين أوتوا‬
‫الكتاب من قبله يسجدون عند تالوته باكين خاشعين وقد رأوا وعد ربھم قد‬
‫تحقق وصار بھذا القرآن وھذا النبي مفعوالً‪.‬‬
‫تبدأ سورة اإلسراء بقوله تعالى‪:‬‬

‫‪MLKJI HGFEDCB A‬‬


‫)‪(١‬‬
‫‪ WVUTSR QPON‬‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.٤ :‬‬
‫‪ (٢‬اإلسراء‪.٨ :‬‬
‫‪٥٣٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ثم يتلوھا ذكر الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السالم ھدى لبني‬
‫إسرائيل‪.‬‬

‫ ‪b a ` _ ^ ] \ [ Z Y  X‬‬
‫)‪(٢‬‬
‫‪dc‬‬

‫ثم تنتھي‪ ،‬بعد قوله تعالى‪ ،HGF :‬بذكر القرآن‪:‬‬

‫‪]\[ZYXWVUTSRQPO‬‬
‫)‪( ٣‬‬
‫^_‬

‫فھل لحصر آيات إفساد بني إسرائيل وعلوھم الكبير بين اإلسراء بالنبي‬
‫الخاتم من المسجد الحرام إلى المسجد األقصى‪ ،‬وبين القرآن الذي يھدي للتي‬
‫ھي أقوم من معنى‪ ،‬أو ھل ھذه اآليات لھا صلة بإفساد بني إسرائيل‪ ،‬وتوجيھه‬
‫عز وجل الخطاب لھم في نھايتھا؟‬

‫نعم!‬

‫إذا تحررت اآليات من القيود التي ليست فيھا‪ ،‬وفھمتھا بالمعنى المطلق الذي‬
‫عرفت‪ ،‬تسفر الرابطة بين تصدير السورة بآية اإلسراء‪ ،‬يتلوھا ذكر الكتاب‬
‫الذي أنزل ھدى لبني إسرائيل‪ ،‬وبين إفساد بني إسرائيل‪.‬‬

‫‪ ( ١‬اإلسراء‪.١ :‬‬
‫‪ ( ٢‬اإلسراء‪.٢ :‬‬
‫‪ ( ٣‬اإلسراء‪.٩ :‬‬
‫‪٥٣٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫صدر سورة اإلسراء كله خطاب لبني إسرائيل‪ ،‬وھو إخبار لنا من خالل ھذا‬
‫الخطاب‪ ،‬بالضبط كما في آيات خريطة الوجود في سورة البقرة‪.‬‬

‫فا" عز وجل يخاطب بني إسرائيل‪ ،‬األمة التي أنزل الكتاب على موسى‬
‫عليه السالم من أجل أن تحفظه ويكون ھدى لھا‪ ،‬فتھتدي بھداھا األقوام واألمم‪،‬‬
‫لكي يخبرھم ويخبرنا معھم أن الكتاب والوحي قبل ھذا النبي الخاتم كان ينزل‬
‫على بيت المقدس ثم يخرج إلى األمم واألقوام لھدايتھا‪ ،‬فمسار الوحي‪ ،‬قبله عليه‬
‫الصالة والسالم‪ ،‬كان من األرض المقدسة إلى ما حولھا‪.‬‬

‫وببعثه النبي الخاتم تحول نزول الوحي من السماء إلى المسجد الحرام‪،‬‬
‫وتحول مساره في األرض من المسجد الحرام إلى ما حوله‪ ،‬واإلسراء به عليه‬
‫الصالة والسالم إلى المسجد األقصى تحديداً‪ ،‬وھو محل نزول الوحي على بني‬
‫إسرائيل‪ ،‬إيذان وإعالم بتحول الرسالة إلى المسجد الحرام‪ ،‬وعالمة تسليم‬
‫المسجد األقصى الراية للمسجد الحرام‪.‬‬

‫آية اإلسراء تخبرك في ظاھرھا عن رحلة اإلسراء بالنبي عليه الصالة‬


‫والسالم‪ ،‬وھي تخبرك في ماخلف ھذا المعنى الظاھر بمعنى عميق‪ ،‬ھو الذى‬
‫يربطھا بالكتاب الذي أنزل ھدى لبني إسرائيل‪ ،‬وبإفسادھم وعلوھم‪.‬‬

‫وھذا المعنى أن بعثة النبي الخاتم واإلسراء به إلى المسجد األقصى عالمة‬
‫إنھاء الميثاق بين ﷲ عز وجل وبين بني إسرائيل‪ ،‬أمة قائمة بالوحي وقوامة‬
‫عليه وحافظة له وھادية إليه‪ ،‬وإبالغھم أنھم‪ ،‬بتحول الوحي إلى المسجد الحرام‬

‫‪٥٣٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ونزول الكتاب جديداً أصيالً محفوظا ً عليه‪ ،‬صاروا أمة تابعة ال متبوعة‪ ،‬وال‬
‫طريق لھا لالھتداء إال اتباع ھذا النبي والكتاب المحفوظ الذي أنزل عليه‪.‬‬

‫وھنا موقع قوله تعالى‪ ، U T S R Q P O :‬بعد ذكر‬


‫اإلسراء وذكر إفساد بني إسرائيل‪.‬‬

‫ما فھمه المفسرون من قوله تعالى‪ ، U T S R Q P O :‬أنه‬


‫استئناف لكالم جديد‪ ،‬ومعنى منفصل عن آية اإلسراء‪ ،‬ومعزول عن آيات إفساد‬
‫بني إسرائيل‪.‬‬
‫فإليك ما فھموه جميعاً‪ ،‬وأقاموا تفسيرھم عليه‪ ،‬صريحاً‪ ،‬في كالم الطاھر بن‬
‫عاشور‪ ،‬إذ قال في بداية تفسيره لآلية إنھا‪:‬‬

‫"استئناف ابتدائي عاد به الكالم إلى الغرض األھم من ھذه السورة‪ ،‬وھو‬
‫تأييد النبي عليه الصالة والسالم باآليات والمعجزات‪ ،‬وإيتاؤه اآليات التي‬
‫)‪(١‬‬
‫أعظمھا آية القرآن"‬

‫ونقول لك‪ :‬بل إن دوران سورة اإلسراء كلھا حول القرآن وإعجازه‪،‬‬
‫وإحكامه وأحكامه‪ ،‬وما فيه من ھدى‪ ،‬وما في اتباعه من أجر‪ ،‬ليس إال ألنھا‬
‫سورة بني إسرائيل وموجھة إليھم!‬

‫وقوله تعالى‪ UTSRQPO :‬ھو من تمام خطابه عز‬

‫وجل لبني إسرائيل وبقية كالمه إليھم بعد قوله‪ ،HGF :‬أو األدق‪ :‬أنھا‬
‫تمام خطابه عز وجل لبني إسرائيل‪ ،‬وبداية الكالم عن القرآن في الوقت نفسه‪،‬‬

‫‪ ( ١‬تفسير التحرير والتنوير‪ :‬ج‪ ،١٥‬ص‪.٣٩‬‬


‫‪٥٣٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫كشأن القرآن ومنھجه في نسج المعاني‪ ،‬وشد بعضھا ببعض‪ ،‬ووصل المعنى‬
‫الالحق بآخر الكالم السابق‪.‬‬
‫فا" عز وجل يتمم خطابه لبني إسرائيل‪ ،‬أن سبيلھم الوحيد إلى الھدى‬
‫والرشاد‪ ،‬وأال تكون جھنم لھم حصيراً‪ ،‬أن يتبعوا ھذا القرآن الذي أنزل على‬
‫النبي الخاتم وجاءھم به من المسجد الحرام‪.‬‬

‫وقوله تعالى‪:‬‬

‫‪KJIHGFEDCBA‬‬

‫وقوله‪:‬‬

‫‪]\[ZYXWVUTSRQPO‬‬

‫^_‬

‫إبالغ لبني إسرائيل أنھم لم يعودوا أمة الوحي وال حفظته وال رادة األمم‪،‬‬
‫وأن ﷲ عز وجل أنھى الميثاق معھم‪ ،‬وح ﱠولھم من األمة المتبوعة إلى أمة تابعة‬
‫ألمة خاتم النبيين وسيد المرسلين‪ ،‬ال سبيل لھم للھداية والنجاة إال اتباعه‬
‫واإليمان بالكتاب المحفوظ الذي أنزل عليه‪.‬‬

‫وھنا تفھم معنى قوله تعالى‪.HGF  :‬‬

‫فالمفسرون جميعا ً أيضاً‪ ،‬ودون استثناء واحد‪ ،‬فھموا قوله تعالى‪GF  :‬‬

‫‪ H‬على أنه متعلق بقوله تعالى‪ ،MLKJ  :‬ولذلك فھموا‬


‫‪H‬‬

‫‪٥٣٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫أنھا قولة للتھديد والوعيد‪ ،‬وترتب على فھمھم ھذا قولھم إن المعنى المقصود في‬
‫اآليات ھو‪ :‬إن عدتم يا بني إسرائيل إلى اإلفساد عدنا إلى عقوبتكم وتسليط‬
‫عبادنا عليكم‪.‬‬

‫ولكن إذا فھمت أن الواو في قوله‪ HGF :‬للبيان والعطف على قوله‬

‫تعالى‪ ،DCBA:‬وليست لالبتداء أو لالعتراض‪ ،‬كما قال الطاھر بن‬

‫عاشور‪ ،‬وأن قوله‪ HGF  :‬يتعلق بقوله‪ DCBA  :‬قبلھا‪،‬‬

‫وبقوله تعالى‪  U T S R Q P O  :‬بعدھا‪ ،‬فسيضئ أمامك معنى‬


‫آخر مختلف تماماً‪ ،‬وھو أن العودة ھنا عودة إلى الصالح وليس إلى اإلفساد‪،‬‬
‫ألن الصالح ھو األصل الذي يُعاد إليه وليس الفساد‪.‬‬

‫وبذلك يكون المقصود بقوله‪  H G F  :‬ليس تھديد بني إسرائيل‬


‫وتوعدھم‪ ،‬بل دعوتھم أو دعوة من أراد الھداية منھم‪ ،‬أن يترك الفساد ويعود‬
‫إلى الصالح‪ ،‬ويكون المعنى‪ :‬وإن عدتم إلى الصالح عدنا إليكم بالرحمة‪ ،‬ثم بيﱠن‬
‫لھم عز وجل كيف يعودون إلى الصالح‪ ،‬بأن يتبعوا ھذا القرآن الذي يھدي للتي‬
‫ھي أقوم‪.‬‬
‫وھا ھنا نعود بك إلى السؤال الذي بدأنا منه لنختم به‪ :‬ھل اإلفساد المذكور‬
‫في صدر سورة اإلسراء مرتان حصراً‪ ،‬كما تقول اآليات‪ ،‬أم يقبل الزيادة كما‬
‫يقول المفسرون؟‬

‫اإلفساد والعلو بصفته وتفاصيله في سورة اإلسراء‪ ،‬ليس اإلفساد المادي‬


‫كالبغي والتخريب والقتل‪ ،‬وال العلو المادي كالتسلط والتجبر والملك‪ ،‬بل اإلفساد‬
‫العقائدي والذھني والنفسي المرتبط بتحريف الوحي وبث ھذا التحريف‪،‬‬

‫‪٥٣٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫وبمصارعة الوحي في وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم‪ ،‬وما يترتب على ذلك من‬
‫آثار في عالمھم ومجتمعاتھم‪ ،‬والذي يعم األرض كلھا‪ ،‬مرتان فقط‪ ،‬كما تنص‬
‫اآليات‪.‬‬

‫أما إفساد بني إسرائيل المادي‪ ،‬ووقائع اإلفساد خارج مواصفاتھا المذكورة‬
‫في سورة اإلسراء‪ ،‬ومن يبعثھم ﷲ عز وجل عليھم لعقابھم والتنكيل بھم من‬
‫المؤمنين أو من الكافرين‪ ،‬غير عباده المبعوثين بالصالح والموكلين بإزالة‬
‫اإلفساد‪ ،‬والمخصوصين بصفاتھم في اآليات‪ ،‬فقد يتكرر‪ ،‬ال مرتين وال ثالثاً‪،‬‬
‫بل عشرات المرات‪ ،‬وھي كلھا داخل دورتي اإلفساد الكبيرتين ومحصورة بين‬
‫جوانبھا‪ ،‬كما ھو مسجل ومرصود في أحداث التاريخ‪ ،‬وكما أخبرك ﷲ عزوجل‬
‫في بيانه‪:‬‬

‫)‪(١‬‬
‫‪ka`_~}|{zyxwv‬‬

‫‪ ( ١‬األعراف‪.١٦٧ :‬‬
‫‪٥٤٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ﻣـﻠـ ـﺤــﻖ اﻟﺼـ ــﻮر‬

‫‪٥٤١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٥٤٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -١‬ﻣﺼﺐ ﻧﻬﺮ اﻷﻣﺎزون ﻓﻲ اﻟﻤﺤﻴﻂ اﻷﻃﻠﻨﻄﻲ‬

‫‪ -٢‬أﺷﻬﺮ ﻣﻐﺎﺻﺎت اﻟﻠﺆﻟﺆ ﺣﻮل ﺟﺰﻳﺮة اﻟﺒﺤﺮﻳﻦ‬

‫‪٥٤٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ – ٣‬ﻣﺠﻤﻮﻋﺔ ﻋﻴﻮن اﻟﻜﻮﻳﻜﺒﺎت‬

‫‪ -٤‬ﺧﻂ ﺳﻴﺮ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم وﺑﻨﻲ إﺳﺮاﺋﻴﻞ ﻓﻲ اﺗﺠﺎه ﺟﺒﻞ اﻟﻄﻮر‬

‫‪٥٤٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ - ٥‬اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﻬﻴﺮوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﻠﻰ اﻟﻐﺮب واﻟﻴﺪ اﻟﻴﻤﻨﻰ‬

‫‪ -٦‬اﻟﻌﻼﻣﺔ اﻟﻬﻴﺮوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ اﻟﺘﻲ ﺗﺪل ﻋﻠﻰ اﻟﺸﺮق واﻟﻴﺪ اﻟﻴﺴﺮى‬

‫‪٥٤٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -٧‬ﺳﻔﻴﺮوت أو ﺷﺠﺮة اﻟﺤﻴﺎة ﻓﻲ اﻟﻘﺒﺎﻻه‬

‫‪ -٨‬آدم اﻟﻘﺪﻳﻢ أو اﻟﺴﻤﺎوي ﻓﻲ اﻟﻘﺒﺎﻻه‬

‫‪٥٤٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -٩‬اﻟﺮﺑﺎﻋﻲ اﻟﻤﻘﺪس أو ﻋﻴﻦ ﺻﻮف‪ ،‬اﻹﻟﻪ ﻓﻲ اﻟﻘﺒﺎﻻه‬

‫‪ -١٠‬ﻏﻼف اﻟﻄﺒﻌﺔ اﻷوﻟﻰ ﻣﻦ ﻛﺘﺎب ﻣﻔﺎﺗﻴﺢ ﺳﻠﻴﻤﺎن اﻟﺼﺎدرة ﺑﺎﻟﻼﺗﻴﻨﻴﺔ ﺳﻨﺔ‬


‫‪١٦٨٦‬م‬

‫‪٥٤٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -١١‬اﻟﺼﻔﺤﺔ اﻷوﻟﻰ ﻣﻦ ﻣﺨﻄﻮط ﻛﺘﺎب اﻟﺴﺤﺮ اﻷﺳﻮد‪ ،‬ﻣﻜﺘﻮب ﻓﻴﻬﺎ أن اﻟﺬي‬

‫ﺗﺮﺟﻤﻬﺎ اﻷﻧﺒﺎ ﺷﻤﻌﻮن ﺳﻨﺔ ‪١٦٠٠‬م‪ ،‬وﻓﻲ أﺳﻔﻠﻬﺎ ﺗﻮﻗﻴﻌﻪ‬

‫‪ -١٢‬ﻣﻌﺒﻮد ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس‪ ،‬اﻟﻤﺜﻠﺚ اﻟﻘﺒﺎﻟﻲ‪ ،‬ورﻗﻢ ‪ ١٠‬اﻟﻤﻘﺪس‬

‫‪٥٤٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -١٣‬اﻟﺨﻠﻖ ﻓﻲ اﻟﻘﺒﺎﻻه ﻣﻦ اﻹﻟﻪ ﻋﻴﻦ ﺻﻮف ﻋﺒﺮ ﺣﺮوف اﻟﻌﺒﺮﻳﺔ‬

‫‪ -١٤‬ﺣﺮوف اﻟﻌﺒﺮﻳﺔ واﻹﻏﺮﻳﻘﻴﺔ وﻣﺎ ﻳﻘﺎﺑﻠﻬﺎ ﻣﻦ اﻷﻋﺪاد ﻓﻲ ﺣﺴﺎب اﻟﺠُﻤ`ﻞ‬

‫‪٥٤٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -١٥‬ﻣﺜﻠﺚ اﻟﻘﺒﺎﻻه وﻣﺜﻠﺚ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس‬

‫‪ -١٦‬ﺗﺎ ﻣﺮي‪ ،‬أو اﻷرض اﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺔ‪ ،‬اﺳﻢ ﻣﺼﺮ ﻓﻲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻤﺼﺮﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ‬
‫ﻣﺮﺳﻮﻣﴼ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﻬﻴﺮوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ‬

‫‪٥٥٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻤﺼﺎدر واﻟﻤﺮاﺟﻊ‬

‫‪٥٥١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٥٥٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫أوالً‪ :‬القرآن الكريم‪:‬‬

‫بيان اإلله إلى خلقه‪ ،‬والفرقان بين الحق والباطل‪ ،‬وخريطة الوجود اإللھية المحفوظة‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬القواميس ومعاجم اللغة‪:‬‬

‫‪ -١‬أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا‪ ،‬اإلمام‪ :‬معجم مقاييس اللغة‪ ،‬تحقيق وضبط‪ :‬عبد‬
‫السالم محمد ھارون‪ ،‬دار الفكر‪١٩٧٩ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٢‬أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور اإلفريقي المصري‪ ،‬اإلمام‪ :‬لسان‬
‫العرب‪ ،‬دار صادر‪ ،‬بيروت‪١٩٦٨ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٣‬أبو الفيض محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني‪ ،‬الملقب بمرتضى الزبيدي‪ ،‬اإلمام‪:‬‬
‫تاج العروس من جواھر القاموس‪ ،‬دار الھداية للطباعة والنشر‪ ،‬الكويت‪١٩٦٦ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤‬مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيرازي‪ ،‬اإلمام‪ :‬القاموس المحيط‪ ،‬نسخة‬
‫مصورة عن الطبعة الثالثة للمطبعة األميرية سنة ‪١٣٠١‬ھـ‪ ،‬الھيئة المصرية العامة‬
‫للكتاب‪١٣٩٨ ،‬ھـ|‪١٩٧٨‬م‪.‬‬
‫‪ -٥‬مجمع اللغة العربية‪ :‬المعجم الوجيز‪ ،‬طبعة وزارة التربية والتعليم‪١٤٢٧ ،‬ھـ|‪٢٠٠٦‬م‪.‬‬
‫‪ -٦‬مجمع اللغة العربية‪ :‬المعجم الوسيط‪ ،‬الطبعة الرابعة‪ ،‬مكتبة الشروق الدولية‪،‬‬
‫‪١٤٢٥‬ھـ|‪٢٠٠٤‬م‪.‬‬

‫ثالثاً‪ :‬التفسير والقراءات‪:‬‬

‫‪ -١‬أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬اإلمام‪ :‬جامع البيان عن تأويل آي القرآن‪ ،‬تحقيق‬
‫الدكتور عبد ﷲ بن عبد المحسن التركي‪ ،‬باالشتراك مع مركز البحوث والدراسات‬
‫العربية واإلسالمية بدار ھجر‪ ،‬الدكتور عبد السند حسن يمامة‪ ،‬ھجر للطباعة والنشر‬
‫والتوزيع‪ ،‬الطبعة األولى‪١٤٢٢،‬ھـ|‪٢٠٠١‬م‪.‬‬
‫‪ -٢‬أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي الشھير بابن الجزري‪ ،‬اإلمام‪ :‬النشر في القراءات‬
‫العشر‪ ،‬أشرف على تصحيحه ومراجعته‪ :‬الشيخ علي محمد الضباع‪ ،‬شيخ عموم‬

‫‪٥٥٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫المقارئ المصرية‪ ،‬طبعة مصورة من طبعة المكتبة التجارية الكبرى بالقاھرة‪ ،‬دار‬
‫الفكر للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -٣‬أبو عبد ﷲ محمد بن أحمد األنصاري القرطبي‪ ،‬اإلمام‪ :‬الجامع ألحكام القرآن‪ ،‬دار‬
‫الكتب المصرية‪ ،‬القسم األدبي‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬القاھرة‪١٣٥٣ ،‬ھـ|‪١٩٣٥‬م‪.‬‬
‫‪ -٤‬أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي‪ ،‬الحافظ‪ :‬تفسير القرآن العظيم‪،‬‬
‫تحقيق سامي بن محمد السالمة‪ ،‬دارطيبة للنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة الثانية‪ ،‬الرياض‪،‬‬
‫‪١٤٢٠‬ھـ|‪١٩٩٩‬م‪.‬‬
‫‪ -٥‬أبو الفضل شھاب الدين السيد محمد اآللوسي البغدادي‪ ،‬اإلمام‪ :‬روح المعاني في تفسير‬
‫القرآن العظيم والسبع المثاني‪ ،‬إدارة المطبعة المنيرية‪ ،‬درب األتراك‪ ،‬مصر‪ ،‬دار إحياء‬
‫التراث العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬لبنان‪.‬‬
‫‪ -٦‬أبو القاسم الحسين بن مفضل بن محمد‪ ،‬الراغب األصفھاني‪ ،‬اإلمام‪ :‬المفردات في‬
‫غريب القرآن‪ ،‬دار التحرير‪ ،‬القاھرة‪١٩٩١ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٧‬أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية األندلسي‪ ،‬القاضي‪ :‬المحرر الوجيز في تفسير‬
‫الكتاب العزيز‪ ،‬تحقيق‪ :‬عبد السالم عبد الشافي محمد‪ ،‬منشورات محمد على بيضون‬
‫لنشر كتب السنة والجماعة‪ ،‬دار الكتب العلمية‪ ،،‬الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‬
‫‪١٤٢٢‬ھـ|‪٢٠٠١‬م‪.‬‬
‫‪ -٨‬أحمد بن محمد البنا‪ ،‬اإلمام‪ :‬اتحاف فضالء األربعة عشر بالقراءات األربعة عشر‪،‬‬
‫المسمى‪ :‬منتھى األماني والمسرات في علوم القراءات‪ ،‬حققه وقدم له‪ :‬الدكتور شعبان‬
‫محمد إسماعيل‪ ،‬عالم الكتب‪ ،‬بيروت‪ ،‬مكتبة الكليات األزھرية‪ ،‬القاھرة‪ ،‬الطبعة األولى‪،‬‬
‫‪١٤٠٧‬ھـ|‪١٩٨٧‬م‪.‬‬
‫‪ -٩‬جالل الدين السيوطي‪ ،‬اإلمام‪ :‬الدر المنثور في التفسير بالمأثور‪ ،‬تحقيق الدكتور عبد ﷲ‬
‫بن عبد المحسن التركي‪ ،‬باالشتراك مع مركز البحوث والدراسات العربية واإلسالمية‬
‫بدار ھجر‪ ،‬الدكتور عبد السند حسن يمامة‪ ،‬ھجر للطباعة والنشر والتوزيع‪ ،‬الطبعة‬
‫األولى‪ ،‬القاھرة‪١٤٢٤ ،‬ھـ|‪٢٠٠٣‬م‪.‬‬

‫‪٥٥٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫‪ -١٠‬سيد قطب‪ ،‬األستاذ‪ :‬في ظالل القرآن‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة الشرعية الثانية والثالثون‪،‬‬
‫‪١٤٢٣‬ھـ|‪٢٠٠٣‬م‪.‬‬
‫‪ -١١‬محمد بن يوسف الشھير بأبي حيان األندلسي‪ ،‬اإلمام‪ :‬تفسير البحر المحيط‪ ،‬دراسة‬
‫وتحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود‪ ،‬والشيخ علي محمد معوض‪ ،‬شارك في‬
‫تحقيقه الدكتور زكريا أحمد النوتي‪ ،‬والدكتور أحمد النجولي الجمل‪ ،‬دار الكتب العلمية‪،‬‬
‫الطبعة األولى‪ ،‬بيروت‪١٤١٣ ،‬ھـ|‪١٩٩٣‬م‪.‬‬
‫‪ -١٢‬محمد الرازي فخر الدين ابن العالمة ضياء الدين عمر‪ ،‬المشتھر بخطيب الري‪ ،‬اإلمام‪:‬‬
‫التفسير الكبير ومفاتيح الغيب‪ ،‬دار الفكر‪ ،‬الطبعة األولى‪١٤٠١ ،‬ھـ|‪١٩٨١‬م‪.‬‬
‫‪ -١٣‬محمد الطاھر بن عاشور‪ ،‬اإلمام‪ :‬تفسير التحرير والتنوير‪ ،‬الدار التونسية للنشر‪،‬‬
‫تونس‪١٩٨٤ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -١٤‬محمد متولي الشعراوي‪ ،‬اإلمام‪ :‬تفسير الشعراوي‪ ،‬دار أخبار اليوم‪ ،‬قطاع الثقافة‪،‬‬
‫القاھرة‪١٩٩١ ،‬م‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬مصادر ومراجع ومؤلفات أخرى‪:‬‬

‫‪ -١‬أحمد عبد المعطي حجازي‪ ،‬الشاعر‪ :‬الطھطاوي مترجم أم داعية‪ :‬األھرام‪ :‬العدد‬
‫‪ ١٧ ،٤٤١٤٤‬أكتوبر ‪٢٠٠٧‬م‪.‬‬
‫‪ -٢‬إبراھيم عبد القادر المازني‪ ،‬األستاذ‪ :‬صندوق الدنيا‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫الطبعة الثانية‪٢٠٠١ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٣‬أبو جعفر محمد بن جرير الطبري‪ ،‬اإلمام‪ :‬تاريخ الرسل والملوك‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد أبو‬
‫الفضل إبراھيم‪ ،‬دار المعارف بمصر‪ ،‬الطبعة الثانية‪١٣٨٧ ،‬ھـ|‪١٩٦٧‬م‪.‬‬
‫‪ -٤‬أبو عبد ﷲ محمد بن عمر بن واقد السھمي األسلمي‪ ،‬المؤرخ‪ :‬فتوح الشام‪ ،‬تحقيق‪ :‬ھاني‬
‫الحاج‪ ،‬المكتبة التوفيقية‪ ،‬أمام الباب األخضر بالحسين‪ ،‬القاھرة‪.‬‬
‫‪ -٥‬أبو القاسم الشابي‪ ،‬الشاعر‪ :‬ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله‪ ،‬قدم له وشرحه‪ :‬مجيد‬
‫طرار‪ ،‬دار الكتاب العربي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة الثانية ‪١٤١٥‬ھـ|‪١٩٩٤‬م‪.‬‬

‫‪٥٥٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -٦‬أمل دنقل‪ ،‬الشاعر‪ :‬األعمال الشعرية الكاملة‪ ،‬مكتبة مدبولي‪ ،‬الطبعة الثالثة‪،‬‬
‫‪١٤٠٧‬ھـ|‪١٩٨٧‬م‪.‬‬
‫‪ -٧‬إيليا أبو ماضي‪ ،‬الشاعر‪ :‬ديوان إيليا أبي ماضي‪ ،‬شاعر المھجر األكبر‪ ،‬دار العودة‪،‬‬
‫بيروت‪١٩٦٩،‬م‪.‬‬
‫‪ -٨‬برتراند رسل‪ ،‬الفيلسوف‪ :‬تاريخ الفلسفة الغربية‪ ،‬ترجمة‪ :‬دكتور زكي نجيب محمود‪،‬‬
‫مراجعة‪ :‬أحمد أمين‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪٢٠١٠ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٩‬ب‪ .‬كومالن‪ ،‬المؤرخ‪ :‬األساطير اإلغريقية والرومانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬أحمد رضا محمد‬
‫رضا‪ ،‬مراجعة‪ :‬محمود خليل النحاس‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪١٩٩٢ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -١٠‬بھاء األمير‪ ،‬دكتور‪ :‬الحضارة القرآنية‪ ،‬ماذا غير القرآن في العالم وماذا أحضر‬
‫لإلنسانية‪ ،‬مخطوط‪.‬‬
‫‪ -١١‬بھاء االمير‪ ،‬المسجد االقصى القرآنية‪ ،‬دار الحرم للتراث‪ ،‬القاھرة ‪٢٠٠٤ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -١٢‬بھاء األمير‪ :‬الوحي ونقيضه‪ ،‬بروتوكوالت حكماء صھيون في القرآن‪ ،‬مكتبة مدبولي‪،‬‬
‫‪٢٠٠٦‬م‪.‬‬
‫‪ -١٣‬بھاء األمير‪ :‬اليھود والحركات السرية في الحروب الصليبية‪ ،‬مكتبة مدبولي‪٢٠١٢ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -١٤‬توفيق الحكيم‪ ،‬األستاذ‪ :‬زھرة العمر‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪١٩٩٨ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -١٥‬جمال البدري‪ ،‬دكتور‪ :‬اليھود وألف ليلة وليلة‪ ،‬دراسة تحليلية من األعماق إلى اآلفاق‪،‬‬
‫الدار الدولية لالستثمارات الثقافية‪ ،‬القاھرة‪ ،‬الطبعة الثانية‪١٤٢١ ،‬ھـ|‪٢٠٠٠‬م‪.‬‬
‫‪ -١٦‬جان جاك روسو‪ ،‬المفكر‪ :‬العقد االجتماعي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عادل زعيتر‪ ،‬مكتبة النافذة‪،‬‬
‫‪٢٠١٢‬م‪.‬‬
‫‪ -١٧‬جيمس فريزر‪ ،‬السير‪ :‬الفلكلور في العھد القديم‪ ،‬ترجمة‪ :‬دكتورة نبيلة إبراھيم‪،‬‬
‫مراجعة‪ :‬دكتور حسن ظاظا‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪١٩٧٢ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -١٨‬جيمس ھنري برستد‪ ،‬المؤرخ‪ :‬فجر الضمير‪ ،‬ترجمة‪ :‬دكتور سليم حسن‪ ،‬مراجعة‪:‬‬
‫عمر اإلسكندري‪ ،‬وعلي أدھم‪ ،‬مكتبة مصر ‪١٩٥٨‬م‪.‬‬

‫‪٥٥٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫‪ -١٩‬روبرت بريفالت‪ ،‬المؤرخ‪ :‬أثر اإلسالم في تكوين اإلنسانية‪ ،‬ترجمة‪ :‬السيد أحمد أبو‬
‫النصر الحسيني‪ ،‬بدون تاريخ‪ ،‬وبدون دار نشر‪.‬‬
‫‪ -٢٠‬زكي نجيب محمود‪ ،‬دكتور‪ :‬نافذة على فلسفة العصر‪ ،‬كتاب العربي السابع والعشرون‪،‬‬
‫الصفاة الكويت‪ ،‬أبريل ‪١٩٩٠‬م‪.‬‬
‫‪ -٢١‬زيغريد ھونكه‪ ،‬المؤرخة‪ :‬العقيدة والمعرفة‪ ،‬ترجمة‪ :‬عمر لطفي العالم‪ ،‬دار قتيبة‪،‬‬
‫بيروت‪ ،‬الطبعة األولى‪١٤٠٧ ،‬ھـ|‪١٩٨٧‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٢‬سعد الدين الھاللي‪ ،‬دكتور‪ :‬اإلسالم وإنسانية الدولة‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪٢٠١٢‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٣‬طه حسين‪ ،‬دكتور‪ :‬من بعيد‪ ،‬الشركة العربية للطباعة والنشر‪١٩٣٥ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٤‬طه حسين‪ :‬مستقبل الثقاافة في مصر‪ ،‬دار المعارف‪ ،‬الطبعة الثانية‪١٩٩٦ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٥‬عبد ﷲ محمد الغذامي‪ ،‬دكتور‪ :‬الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية‪ ،‬الھيئة‬
‫المصرية العامة للكتاب‪ ،‬الطبعة الرابعة‪١٩٩٨ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٦‬عبد ﷲ القصيمي‪ ،‬دكتور‪ :‬اإلنسان يعصي لھذا يصنع الحضارات‪ ،‬بدون دار نشر‪،‬‬
‫‪١٩٧٢‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٧‬عبد المجيد الزنداني‪ ،‬الشيخ‪ :‬أنه الحق‪ ،‬الھيئة العالمية لإلعجاز العلمي في القرآن‬
‫والسنة‪ ،‬الطبع الرابعة‪١٤٢٧ ،‬ھـ|‪٢٠٠٦‬م‪.‬‬
‫‪ -٢٨‬عبد المجيد الزنداني‪ :‬منطقة المصب والحواجز بين البحار‪ ،‬بحث منشور بموقع‬
‫موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة‪.‬‬
‫‪ -٢٩‬عبد المجيد النجار‪ ،‬دكتور‪ :‬خالقة اإلنسان بين النقل والعقل‪ ،‬المعھد العالمي للفكر‬
‫اإلسالمي‪ ،‬فرجينيا‪ ،‬الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬الطبعة الثانية‪١٤١٣ ،‬ھـ|‪١٩٩٣‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٠‬عبد المعطي شعراوي‪ ،‬دكتور‪ :‬أساطير إغريقية‪ ،‬الھيئة المصرية العامة للكتاب‪،‬‬
‫‪١٩٨٢‬م‪.‬‬
‫‪ -٣١‬عبد المنعم سعيد‪ :‬الخطيئة االصلية‪ ،‬األھرام ‪ ٢٣‬أغسطس ‪٢٠١١‬م‪.‬‬

‫‪٥٥٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ -٣٢‬عثمان بن سعيد الدارمي‪ ،‬اإلمام‪ :‬الرد على الجھمية‪ ،‬قدم له وخرج أحاديثه وعلق عليه‪:‬‬
‫بدر البدر‪ ،‬الدار السلفية‪ ،‬الطبعة األولى‪١٤٠٥ ،‬ھـ|‪١٩٨٥‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٣‬فؤاد زكريا‪ ،‬دكتور‪ :‬التفكير العلمي‪ ،‬مكتبة مصر‪١٩٩٢ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٤‬فتحي محمد الزغبي‪ :‬تأثر اليھودية باألديان الوثنية‪ ،‬دار البشير للثقافة والعلوم‬
‫اإلسالمية‪ ،‬مصر‪ ،‬طنطا‪ ،‬الطبعة األولى‪١٤١٤ ،‬ھـ|‪١٩٩٤‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٥‬قاسم أمين‪ ،‬األستاذ‪ :‬المرأة الجديدة‪ ،‬طبع على نفقة خليل صادق‪ ،‬صاحب مجلة‬
‫مسامرات الشعب‪ ،‬مطبعة الشعب بدرب الجماميز‪١٣٢٩ ،‬ھـ|‪١٩١١‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٦‬قاموس الكتاب المقدس‪ :‬تأليف‪ :‬نخبة من األساتذة ذوي االختصاص والالھوتيين‪ ،‬ھيئة‬
‫التحرير‪ :‬دكتور بطرس عبد الملك‪ ،‬وجون ألكسندر طمسن‪ ،‬واألستاذ إبراھيم مطر‪ ،‬دار‬
‫الكتاب المقدس بالشرق األوسط‪ ،‬بدون تاريخ‪.‬‬
‫‪ -٣٧‬كارل ماكس وفريدريك إنجلز‪ :‬البيان الشيوعي‪ ،‬ترجمة‪ :‬عفيف األخضر‪ ،‬دار الثقافة‬
‫الجديدة‪ ،‬القاھرة‪١٩٩٨ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٨‬كارين أرمسترونج‪ ،‬المؤرخة‪ :‬القدس مدينة واحدة وعقائد ثالث‪ ،‬ترجمة‪ :‬دكتورة‬
‫فاطمة نصر‪ ،‬ودكتور محمد عناني‪ ،‬سطور‪ ،‬القاھرة‪١٩٩٨ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٣٩‬كتاب السحر األسود‪ ،‬ترجمه األنبا شمعون سنة ‪١٦٠٠‬م‪ ،‬مخطوط‪.‬‬
‫‪ -٤٠‬الكتاب المقدس‪ :‬دار الكتاب المقدس في الشرق األوسط‪١٩٩٥ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤١‬كمال الصليبي‪ ،‬دكتور‪ :‬التوراة جاءت من جزيرة العرب‪ ،‬ترجمة‪ :‬عفيف الرزاز‪،‬‬
‫مؤسسة األبحاث العربية‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة العربية السادسة‪١٩٩٧ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٢‬كمال الصليبي‪ :‬خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل‪ ،‬دار الساقي‪ ،‬بيروت‪ ،‬الطبعة‬
‫الرابعة‪١٩٩٨ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٣‬محمد سيد طنطاوي‪ ،‬دكتور‪ :‬بنو إسرائيل في القرآن والسنة‪ ،‬دار الشروق‪ ،‬الطبعة‬
‫الثانية‪١٤٢٠ ،‬ھـ|‪٢٠٠٠‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٤‬محمد خليفة التونسي‪ ،‬األستاذ‪ :‬بروتوكوالت حكماء صھيون‪ ،‬الخطر اليھودي‪ ،‬تقدير‪:‬‬
‫األستاذ عباس محمود العقاد‪ ،‬مكتبة دار التراث‪ ،‬الطبعة الثانية‪١٩٧٦ ،‬م‪.‬‬

‫‪٥٥٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫‪ -٤٥‬موريس بوكاي‪ ،‬دكتور‪ :‬القرآن واإلنجيل والتوراة والعلم‪ ،‬جمعية الدعوة اإلسالمية‪،‬‬
‫طرابلس الغرب‪١٩٨٣ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٦‬نزار قباني‪ ،‬الشاعر‪ :‬األعمال السياسية الكاملة‪ ،‬الجزء الثالث‪ ،‬منشورات نزار قباني‪،‬‬
‫بيروت‪١٩٩٩ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٧‬نوال السعداوي‪ ،‬دكتورة‪ :‬الرجل والجنس‪ ،‬مكتبة مدبولي‪٢٠٠٦ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٨‬ھانس كھن‪ ،‬المؤرخ‪ :‬القومية‪ ،‬معناھا وتاريخھا‪ ،‬ترجمة‪ :‬محمود أمين الشريف‪ ،‬الھيئة‬
‫العامة لقصور الثقافة‪٢٠١١ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٤٩‬ول ديورانت‪ ،‬المؤرخ‪ :‬قصة الحضارة‪ ،،‬ترجمة‪ :‬دكتور زكي نجيب محمود‪ ،‬ومحمد‬
‫بدران‪ ،‬اختارته وأنفقت على ترجمته اإلدارة الثقافية بالجامعة العربية‪ ،‬أجزاء مختلفة‪،‬‬
‫‪١٩٧١‬م‪١٩٧٤ ،‬م‪١٩٧٥ ،‬م‪.‬‬
‫‪ -٥٠‬يوسف كرم‪ ،‬دكتور‪ :‬تاريخ الفلسفة اليونانية‪ ،‬لجنة التأليف والترجمة والنشر‪،‬‬
‫‪١٣٥٥‬ھـ|‪١٩٣٦‬م‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬المصادر والمراجع األجنبية‪:‬‬

‫‪1-‬‬ ‫‪Alan Gardiner, Sir:Egyptian Grammar,being an introduction to the‬‬


‫‪study of Hieroglyphs, Griffith Institute, Ashmolean Museam, Oxford, Third‬‬
‫‪edition, 1957.‬‬

‫‪2-‬‬ ‫‪Albert Pike: Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish‬‬
‫‪Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of‬‬
‫‪the thirty third degree, Charleston, 1871.‬‬

‫‪3-‬‬ ‫‪Alice Bailey: The Reappearance of the Christ, Lucis Trust, New‬‬
‫‪York,1948.‬‬

‫‪4-‬‬ ‫‪Charles J. Rayan: Helena Blavatsky and the Theosophical Movement,‬‬


‫‪a brief historical sketch, Theosophical University Press, second edition, 1975.‬‬

‫‪٥٥٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
5- Claviculae Salomonis Et Theosophia Pneumatica: Andreas Luppius,
Privil, 1686.

6- Don Perini, Professor: Kabbalah, Secrets of the jewish


mysticism,Cornerstone University, 2008.

7- Edwyn Robert Bevan: The Prometheus Bound of Aeschylus, rendered


into English verse,published by David Nutt, London,1902.

8- Francis Bacon, Sir: Bacon's Essays and Wisdom of the ancients, The
University Press, Cambridge, Mass., USA, Little, Brown and Company,
Boston, 1884.

9- Francis Bacon: New Atlantis, in: Works of Francis Bacon, William


Benton, Publisher, Encyclopedia Britannica, Inc., Chicago, London, Toronto,
copyright in the United States of America, 1952.

10- Helena Blavatsky: The key to theosophy, The Theosophical Publishing


Society, Third and revised english edition, London, 1893, reprinted,1905.

11- Helena Blavtsky: The secret doctrine, The synthesis of science, religion
and phylosphy, The Theosophical Publishing House, Third dition,
London1893, reprinted,1924.

12- Hugh Evelyn White: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with
an English translation, William Heinemann, London, and G.P.Putnam'sons,
New York, MCMXX.

13- Iamblichus Chalcidensis: Life of Pythagoras, accompanied by


fragments of the ethical writings of certaine pythagorens and a collection of
pythagoric sentences, taslated from the Greek by Thomas Taylor, J.M.
Watkins, London, 1818.

14- Isidor Kalisch, Dr.: Sepher Yezirah, Abook on creation with English
translation, L. H. Frank and Co., Publishers and Printers, New York,1877.
٥٦٠
‫شفرة سورة اإلسراء‬
15- Jean Jacques Rousseau: The Social Contract, Translated with
introduction by: G. D .H. Cole, Fellow of Magdalene Collage, Oxford, J. M.
Dent & Sons, London, E. P. Dutton & Co., New York, 1913, Reprinted 1920.

16- Jean Jacques Rousseau: The Conffession, Translated from the French,
Printed for J. Bew, London, MDCCLXXXIII.

17- King James Version of the Holly Bible, E.bbok.

18- Jacque Bergier and Louis Pauwels: The morning of the magicians,
translated from the French bt Rollo Myers, Scarborough House Publishers,
USA, 1991.

19- MacGregor Mathers: The kabbalaha unveiled, Translated into English


from the Latin version of Knorr Von Rosenroth and collated with the original
chalde and Hebrew text, George Redway Publishing, London, 1887.

20- Manly Palmer Hall: The secret teachings of all ages, printed for Manly
Hall by H.S.Crocker company, incorporated, San Francisco, 1928.

21- Monier Williams, M.A., D.C.L.: Hinduism, Society for promoting


Christian knowldage, London, Pott, Young and Co., New York, 1878.

22- Nesta Webster: Secret societies and submersive movemens, Boswell


Publishing Co., London, 1924.

23- Robin Hard: Greek Mythology, Rotledge group, London and New
York, 2004.

24- Sri Swami Sivananda: All about Hinduism, Devine Life Society, Uttar
Pradesh, Himalayas, India, Fifth edition, 1993.

25- The Oxord history of India from the earliest times to the end of 1911,
Oxford, at The Claredon Press, 1919.

٥٦١
‫شفرة سورة اإلسراء‬
26- Tobias Dantzig: Number, the language of science, Pi Press, New York,
2005.

27- W.J. Wilkins: Hindu Mythology, vedic and poranic, Thacker, Spink
and Co., Calcutta and London, 1900.

28- Vincent Smith, M.R.A.S.: Rulers of India, Ashoka, published at the


Clarendon Press for The University of Oxford, London, New York, 1901.

29- Wikipedia, The free encyclopedia . Wikipedia.org.

30- Zaine Ridling, Ph. D.: The Apocrypha with the apocryphal books,
Division of Christian Education of the National Council of the Churches of
Christ in the United States of America 1989.

٥٦٢
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫اﻟﻔﻬﺮس‬
‫ا
‬ ‫اع‬
‫‪٥‬‬ ‫إھداء‬

‫‪٧‬‬ ‫ﻣـــﻘــــدﻣــﺔ‬

‫‪١٣‬‬ ‫ﺑﻳﺎن اﻹﻟﻪ‬

‫‪١٥‬‬ ‫تحرير القرآن‬

‫‪٢٤‬‬ ‫وسائل المعرفة‬

‫‪٣٣‬‬ ‫ضوابط‬

‫‪٣٧‬‬ ‫عوائق‬

‫‪٤٤‬‬ ‫نماذج‬

‫‪٤٥‬‬ ‫لؤلؤ ومرجان‬

‫‪٥٦‬‬ ‫أيمن وغربي‬

‫‪٦٥‬‬ ‫ﺧرﻳطﺔ اﻟوﺟود اﻹﻟﮫﻳﺔ‬

‫‪٦٧‬‬ ‫قصة الخلق خريطة الوجود‬

‫‪٧٧‬‬ ‫في المأل األعلى‬

‫‪٨٢‬‬ ‫من المأل األعلى إلى مقر الخالفة‬

‫‪٩٤‬‬ ‫في مقر الخالفة‬

‫‪٥٦٣‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ا
‬ ‫اع‬
‫‪٩٦‬‬ ‫معنى الخالفة‬

‫‪١٠١‬‬ ‫سلطان اإلنسان‬

‫‪١٠٨‬‬ ‫العلم والمعرفة‬

‫‪١١٩‬‬ ‫منھج الحياة وقواعد االجتماع‬

‫‪١٢٩‬‬ ‫ﺑﻧو إﺳراﺋﻳل‬

‫‪١٣١‬‬ ‫فى بيان اإلله‬

‫‪١٣٦‬‬ ‫اصطفاء مشروط‬

‫‪١٤١‬‬ ‫باإليمان والطاعة ال بالدم والساللة‬

‫‪١٤٤‬‬ ‫كتاب للناس ال لبني إسرائيل‬

‫‪١٥٥‬‬ ‫الفرق بين التوراة والقرآن‬

‫‪١٥٧‬‬ ‫أئمة لمن؟‬

‫‪١٦٧‬‬ ‫اﻟﺗﺣرﻳف‬

‫‪١٦٩‬‬ ‫طائفة من بني إسرائيل‬

‫‪١٧٧‬‬ ‫تتوارث كتمان الوحي وتحريفه‬

‫‪١٨١‬‬ ‫يحرفون ال حرفوا‬

‫‪١٨٧‬‬ ‫أصل السر ورأس حركاته‬

‫‪١٩٥‬‬ ‫عالم من التحريف‬

‫‪٢٠١‬‬ ‫ھندسة التحريف‬

‫‪٥٦٤‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ا
‬ ‫اع‬
‫‪٢١٧‬‬ ‫ﺧرﻳطﺔ اﻟوﺟود اﻟﺑﻧﻲ إﺳراﺋﻳﻠﻳﺔ‬

‫‪٢١٩‬‬ ‫يا بني إسرائيل‬

‫‪٢٣٦‬‬ ‫خريطة الوجود البني إسرائيلية‬

‫‪٢٤٤‬‬ ‫اإللحاد وتأليه اإلنسان‬

‫‪٢٤٧‬‬ ‫اإلله واإلنسان والمعرفة والشيطان‬

‫‪٢٥٠‬‬ ‫عندما يحلم القباليون‬

‫‪٢٥٩‬‬ ‫عبادة الشيطان‬

‫‪٢٦٢‬‬ ‫مادة التحريف‬

‫‪٢٦٩‬‬ ‫أبناء التحريف وأتباع بني إسرائيل‬

‫‪٢٦٩‬‬ ‫الليبرالية والعقد االجتماعي‬

‫‪٢٧٨‬‬ ‫الداروينية والماركسية‬

‫‪٢٨١‬‬ ‫مسألة األلوھية‬

‫‪٢٨٥‬‬ ‫من تعاليم النص إلى عالم النص‬

‫‪٢٩٠‬‬ ‫اختبر ذكاءك‬

‫‪٢٩١‬‬ ‫ﺑﻧو إﺳراﺋﻳل ﻓﻲ اﻟﺷرق‬

‫‪٢٩٣‬‬ ‫خريطة الوجود الھندوسية‬

‫‪٣٠١‬‬ ‫الھندوسية والقبااله‬

‫‪٣١٥‬‬ ‫بنو إسرائيل أم الھندوس‬

‫‪٥٦٥‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ا
‬ ‫اع‬
‫‪٣٢٨‬‬ ‫الھندوسية والحركات السرية‬

‫‪٣٣٠‬‬ ‫جمعية الحكمة اإللھية‬

‫‪٣٣٩‬‬ ‫بنو إسرائيل في الھند‬

‫‪٣٤٧‬‬ ‫وﺷﻳطﺎن ﺑﻧﻲ إﺳراﺋﻳل ﻓﻲ اﻟﻐرب‬

‫‪٣٤٩‬‬ ‫خريطة الوجود اإلغريقية‬

‫‪٣٦٢‬‬ ‫ألف ليلة وليلة‬

‫‪٣٦٧‬‬ ‫ھي خريطة بني إسرائيل‬

‫‪٣٧٨‬‬ ‫شيطان بني إسرائيل‬

‫‪٤٠١‬‬ ‫ﻓﻳﺛﺎﻏورس اﻟﻘﺑﺎﻟﻲ‬

‫‪٤٠٣‬‬ ‫أخوية فيثاغورس‬

‫‪٤١٣‬‬ ‫شفرة فيثاغورس‬

‫‪٤٢٢‬‬ ‫حل الشفرة‬

‫‪٤٣٣‬‬ ‫ﺷﻔرة ﺳورة اﻹﺳراء‬

‫‪٤٣٧‬‬ ‫قــيــــــــــود‬

‫‪٤٤٠‬‬ ‫أوالً‪ :‬تقييد الزمان بالماضي‬

‫‪٤٤٤‬‬ ‫ثانياً‪ :‬تقييد األرض بالمقدسة‬

‫‪٤٤٧‬‬ ‫ثالثاً‪ :‬تقييد معنى اإلفساد والعلو بالمادي‬

‫‪٥٦٦‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫ا
‬ ‫اع‬
‫‪٤٥١‬‬ ‫رابعاً‪ :‬تقييد معنى المرة بالحادثة‬

‫‪٤٥٥‬‬ ‫خامساً‪ :‬تقييد الغاية من بعث العباد بعقاب بني إسرائيل‬

‫‪٤٥٩‬‬ ‫سادساً‪ :‬تقييد اآليات باإلسرائيليات‬

‫‪٤٦٥‬‬ ‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٤٧١‬‬ ‫مرتين‬

‫‪٤٧٣‬‬ ‫في األرض‬

‫‪٤٨٠‬‬ ‫لتفسدن‬

‫‪٤٨٧‬‬ ‫ولتـعلــنﱠ عـلــواً كـبـيــراً‬

‫‪٤٩٢‬‬ ‫عباداً لنا‬

‫‪٥٠٢‬‬ ‫وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة‬

‫‪٥٠٨‬‬ ‫الفرق بين دورتي اإلفساد‬

‫‪٥١٥‬‬ ‫دورتا اإلفساد ومن ھم العباد‬

‫‪٥١٥‬‬ ‫دورة اإلفساد األولى‬

‫‪٥٢٣‬‬ ‫دورة اإلفساد الثانية‬

‫‪٥٢٩‬‬ ‫وإن عدتم عدنا‬

‫‪٥٤١‬‬ ‫ﻣـﻠـــﺣــق اﻟﺻــــور‬

‫‪٥٥١‬‬ ‫اﻟﻣﺻﺎدر واﻟﻣﺮاﺟﻊ‬

‫‪٥٦٧‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٥٦٨‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫دكتور ‪ /‬بھاء األمير‬

‫• اﻟﻤﺆﻟﻔﺎت‪:‬‬
‫‪ .١‬كوسوفا‪ ،‬المذابح والسياسة‪ ،‬دار النشر للجامعات‪.‬‬
‫‪ .٢‬النور المبين‪ ،‬رسالة في بيان إعجاز القرآن الكريم‪ ،‬مكتبة وھبة‪.‬‬
‫‪ .٣‬المسجد األقصى القرآني‪ ،‬دار الحرم للتراث‪.‬‬
‫‪ .٤‬الوحي ونقيضه‪ ،‬بروتوكوالت حكماء صھيون في القرآن‪ ،‬مكتبة مدبولي‪.‬‬
‫‪ .٥‬اليھود والماسون في الثورات والدساتير‪ ،‬مكتبة مدبولي‪.‬‬
‫‪ .٦‬اليھود والحركات السرية في الحروب الصليبية‪ ،‬مكتبة مدبولي‪.‬‬
‫‪ .٧‬اليھود والماسون في ثورات العرب‪ ،‬مكتبة مدبولي‪.‬‬

‫‪.٨‬في عالم السر والخفاء‪ ،‬تحت الطبع‪ ،‬مكتبة مدبولي الصغير‪.‬‬

‫‪ .٩‬االنفجار الكبير‪ ،‬ماذا غير القرآن في العالم وماذا أحضر لإلنسانية‪ ،‬مكتبة وھبة‪.‬‬

‫دراﺳﺎت ﻣﻨﺸﻮرة ﻋﻠﻰ اﻹﻧﺘﺮﻧﺖ)•(‪:‬‬

‫‪ .١‬يھود الدونمة‪.‬‬
‫‪ .٢‬اليھود والماسون في قضية األرمن‪.‬‬
‫‪ .٣‬حركة الجزويت اليسوعية‪.‬‬
‫‪ .٤‬عن اإلخوان والماسونية‪.‬‬
‫‪ .٥‬معركة المادة الثانية من الدستور‪.‬‬
‫‪ .٦‬قواعد في إدارة الصراعات والتعامل مع األزمات‪.‬‬
‫‪ .٧‬عن الفتنة والديمقراطية والحركات اإلسالمية‪.‬‬
‫‪ .٨‬نقد كتاب اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد‪.‬‬

‫• ( روابط الدراسات في مدونة صناعة الوعي على اإلنترنت‪.‬‬


‫‪٥٦٩‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫الج ﱠمل واألعداد في االستنباط من القرآن‪.‬‬


‫‪ .٩‬نقد استخدام حساب ُ‬
‫‪ .١٠‬حقيقة ما يحدث في مصر‪.‬‬
‫‪ .١١‬فرعون بين التوراة والقرآن‪.‬‬
‫‪ .١٢‬المسألة اإلخناتونية‪.‬‬
‫‪ .١٣‬معركتنا مع اليھود نموذج قديم وأحداث جديدة‪.‬‬

‫• اﻟﻤﺮﺋﻴﺎت)•(‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬مع الكاتب والمفكر اإلسالمي جمال سلطان في برنامج حوارات بقناة المجد‪:‬‬

‫‪ .١‬بروتوكوالت حكماء صھيون‪ ،‬في مواجھة دكتور عبد الوھاب المسيري ودكتور‬
‫أحمد ثابت‪.‬‬
‫‪ .٢‬اليھود في الغرب‪ ،‬في مواجھة دكتور عمرو حمزاوي‪.‬‬

‫ثانياً‪ :‬مع الشاعر المبدع واإلعالمي الالمع أحمد ھواس في برنامج قناديل وبرنامج كتاب‬
‫األسبوع بقناة الرافدين‪:‬‬

‫‪ .١‬الوحي ونقيضه‪.‬‬
‫‪ .٢‬المسجد األقصى القرآني‪.‬‬
‫‪ .٣‬خفايا شفرة دافنشي‪.‬‬
‫‪ .٤‬مالئكة وشياطين‪.‬‬
‫‪ .٥‬دور الحركات السرية في إنشاء الواليات المتحدة األمريكية والرموز اليھودية‬
‫والماسونية في الدوالر األمريكي‪.‬‬
‫‪ .٦‬القبااله‪ ،‬التراث السري اليھودي‪ ،‬وآثارھا في العالم‪.‬‬
‫‪ .٧‬التنجيم واألبراج‪ ،‬أصلھا وحقيقتھا‪.‬‬
‫‪ .٨‬البلدربرج حكومة العالم الخفية‪.‬‬

‫)•( مرئيات دكتور بھاء األمير موجودة على شبكة المعلومات الدولية‪ ،‬اإلنترنت‪ ،‬في موقع يوتيوب وفي‬
‫العديد من المواقع األخرى‪.‬‬
‫‪٥٧٠‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬
‫‪ .٩‬الرمز المفقود‪.‬‬
‫‪ .١٠‬لماذا العراق؟ خفايا الغزو األمريكي للعراق‪.‬‬
‫‪ .١١‬نبوءة نھاية العالم‪ ،‬األساطير والحقائق‪.‬‬
‫صالتھا باليھود والغرب والحركات السرية‪.‬‬
‫‪ .١٢‬البابية والبھائية‪ِ ،‬‬
‫صالتھا باليھود والغرب والحركات السرية‪.‬‬
‫‪ .١٣‬القاديانية والنصيرية‪ِ ،‬‬

‫ثالثاً‪ :‬مع اإلعالمي والداعية اإلسالمي خالد عبد ﷲ في برنامج مصر الجديدة بقناة الناس‪:‬‬

‫‪ .١‬خفايا الماسونية ومنظمات المجتمع المدني‪ ،‬الجزء األول‪.‬‬


‫‪ .٢‬خفايا الماسونية ومنظمات المجتمع المدني‪ ،‬الجزء الثاني‪.‬‬
‫‪ .٣‬خفايا الماسونية ومنظمات المجتمع المدني‪ ،‬الجزء الثالث‪.‬‬
‫‪ .٤‬االحتفال الماسوني عند الھرم األكبر‪ ،‬حقيقته والھدف منه‪.‬‬
‫‪ .٥‬دكتور محمد البرادعي‪ ،‬مواقفه وأفكاره‪.‬‬

‫رابعاً‪ :‬مع اإلعالمي والشاعر والداعية اإلسالمي دكتور محمود خليل في برنامج الدين‬
‫والنھضة بقناة مصر ‪:٢٥‬‬

‫‪ .١‬الفوضى في مصر‪ ،‬أسبابھا ومن المستفيد منھا‪.‬‬


‫‪ .٢‬مصر بعد الثورة‪ ،‬األخطار الداخلية والخارجية‪.‬‬
‫‪ .٣‬رمضان شھر القرآن‪.‬‬
‫‪ .٤‬الثورة والدولة‪.‬‬

‫خامساً‪ :‬مع اإلعالمي ياسر عبد الستار في قناة الخليجية‪:‬‬

‫‪ .١‬الماسونية والثورات‪.‬‬

‫سادساً‪ :‬في قناة الحدث‪:‬‬

‫‪ .١‬من خلف الثورات‪.‬‬


‫‪ .٢‬المشروع اليھودي وحروب الجيل الرابع‪.‬‬
‫‪٥٧١‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪ .٣‬من ھي إسرائيل؟‬
‫‪ .٤‬يھودية إسرائيل‪.‬‬
‫‪ .٥‬حقيقة الماسونية‬
‫سابعا‪ ً:‬في معرض القاھرة الدولي للكتاب ‪٢٠١٣‬م‪:‬‬

‫‪ .١‬نقد كتاب‪ :‬سر المعبد لألستاذ ثروت الخرباوي‪.‬‬

‫• اﻟﺴﻤﻌﻴﺎت‪:‬‬
‫‪ .١‬برنامج في مكتبة عالم بإذاعة القرآن الكريم‪ ،‬ثالث حلقات‪.‬‬
‫‪ .٢‬برنامج مقاصد الشريعة بإذاعة القرآن الكريم‪ ،‬أربع عشرة حلقة‪.‬‬

‫‪٥٧٢‬‬
‫شفرة سورة اإلسراء‬

‫‪٥٧٣‬‬

You might also like