Professional Documents
Culture Documents
دكتور بهاء الأمير كتاب شفرة سورة الإسراء بنو إسرائيل والحركات السرية في القرآن PDF
دكتور بهاء الأمير كتاب شفرة سورة الإسراء بنو إسرائيل والحركات السرية في القرآن PDF
٠
شفرة سورة اإلسراء
ﻣﻜﺘﺒﺔ ﻣﺪﺑﻮﱃ
٢٠١٦
٣
شفرة سورة اإلسراء
٤
شفرة سورة اإلسراء
ٕاﻫـــــــــﺪاء
ٕاﱃ
)• (
ﺳـﻠــﻄــــــﺎن وﻧـﺎﺻـــــــــــﺮ
•
( ﻫم اﻷﻓﺎﻀل اﻝذﻴن ذﻜرﻨﺎﻫم ﻓﻲ ﻤﻘدﻤﺔ اﻝﻜﺘﺎب.
٥
شفرة سورة اإلسراء
٦
شفرة سورة اإلسراء
ﻣـﻘـﺪﻣــــــــــﺔ
الحمد " يصطفي من عبيده عبادَه ،ويورث من اختاره ما شاء من كتابه،
ويمتن عليه ببيناته وفرقانه ،ويؤتيه من علمه ويكشف له أسراره ،والصالة
والسالم على من ال ينطق عن الھوى ،والنور الذي بعثه ﷲ بالنور ،فكان وما
زال نوراً على نور ،وعلى آله وصحبه الھداة المھديين ،ومن تبعھم على بصر
إلى يوم الدين.
وبعد،
في كل كتاب عبارة ھي مفتاحه ،ويدور كل ما فيه من حولھا ،وكتابته
وتأليفه كان من أجلھا.
والكتاب الذي بين يديك كله ھو فصله األخير ،وكل ما سبق ھذا الفصل من
فصول ھو مقدمة له ،وتمھيد لكي يُمكنك عندما تصل إليه استيعابه وفھمه،
والعبارة التي ھي مفتاح ھذا الكتاب ويدور من حولھا ،والذي كتبناه كله من أجل
بيانھا ،وھي عنوانه الحقيقي الذي كان ينبغي أن يوضع على غالفه ،ھي قوله
تعالى:
)(١
|{zyxwv
( ١اإلسراء.٤ :
٧
شفرة سورة اإلسراء
في يوم من أيام ﷲ عز وجل قَ ِدم إلى بعض األفاضل ممن لھم حماسة لدين
ى في تجھيز برنامج وإعداد
ﷲ وغيرة على األخالق والفضائل ،ورغبوا إل ﱠ
حلقات لبيان تاريخ الماسونية والحركات السرية وآثارھا في العالم ،وصلتھا
بالصورة التي وصل إليھا وما شاع فيه من عدوان على الديانات وانحالل
لألخالق ،وعالقتھا بالعلمانية والليبرالية والماركسية ،والرابطة بينھا وبين
منظمات حقوق اإلنسان وحركات التحرير النسائية ،وقبل ذلك كله السر في
ارتباط الماسونية والحركات السرية باليھود ،ودورھا في صعودھم إلى رأس
العالم وسطوتھم على دوله وفي كل شعوبه.
ورأيت أن أبدأ من سيرة بني إسرائيل في القرآن ،إذ ال يمكن فھم غايات
الحركات السرية وما تريد أن تصل بالعالم إليه ،وال فھم أساليبھا ووسائلھا
الملتوية شديدة الدھاء والمراوغة للوصول إلى ھذه الغايات من غير إدراك
موقع اليھود منھا وآثارھم فيھا ،وال يمكن إدراك المسألة اليھودية وال فھمھا
سوى بفھم ما الذي يريد القرآن أن يخبرنا به عن بني إسرائيل وموقعھم من
العالم وآثارھم في البشرية ،وما يكشفه من خبئ نفوسھم وما تحويه من غايات،
ومن تكوينھم وما ينتجه من سلوك وأساليب.
وما أن بدأت في سيرة بني إسرائيل في القرآن ،حتى جرفتني أمواج سورة
اإلسراء الھادرة ،فتركت ،ولم أكد أبحر ،سواحل بني إسرائيل وسيرتھم،
وشواطئ الماسونية والحركات السرية ،وغرقت في صدرھا.
وظللت أياما ً ثم أسابيع فشھوراً واألفاضل الذين يريدون الحلقات يسألونني
إلى أين وصلت وھل انتھيت من إعدادھا ،وھم يستعجبون ،حاالً ال مقاالً ،إذ
٨
شفرة سورة اإلسراء
يرون األمر يسيراً ،وأكاد أسمعھم يقولون إن موضوع الحلقات ليس غريبا ً عنك
وال جديداً عليك ،فقد كتبتَ فيه من قبل ما كتبت ،وقدمتَ فيه من الحلقات ما
قدمت.
وھم ال يشعرون ،وليس من عادتي أن أفسر ،أني خارج العالم ،سابح فوق
الزمان والمكان ،وغارق في صدر سورة اإلسراء.
وفي ھاتيك األيام واألسابيع والشھور كنت أنام ألحلم بصدر سورة اإلسراء،
وأستيقظ ألدون لمحات وخطرات ،وأرسم للتاريخ واألمم خرائط ومسارات،
ولدورتي اإلفساد والعباد رسوما ً بيانيات.
وفي كل مرة أصل فيھا إلى احتمال أو فرضية ،أسجلھا وأرسم لھا خريطة
ورسما ً بيانياً ،تبدو في النھار معقولة منطقية ،ثم يمحوھا من رأسي عند نومي
ھامس في أذني فتصير نسيا ً منسياً ،وال يبقى منھا إال ذكراھا في الرسم
والخريطة ،ألعود في النھار التالي واآليات ما زالت في نفسي طلسما ً مطلسماً.
ثم وأنا خارج يوما ً من النوم ،وعلى أعتاب اليقظة ،وعيناي ما زالت بين
اإلغماض والفتح ،أشرقت شمس اآليات في نفسي ،وانبثق من شعاعھا ما ن ﱠور
عقلي وكشف سرھا ،وانتشلني مما كنت غارقا ً فيه من لجج ظلماء ،وأرساني
على ضياء وضاء.
ُ
وقعت فيه من أخطاء ،وھي في ھذه اللحظة أدركت أين العقدة ،ومصدر ما
نفسھا أخطاء كل من تعاملوا مع صدر سورة اإلسراء مذ أنزلت ،وعبر كل
العصور ،وھي األخطاء التي ستراھا بنفسك في الكتاب الذي بين يديك إذا شاء
ﷲ لك أن تتم رحلتك في بحاره.
٩
شفرة سورة اإلسراء
العقدة ومصدر كل األخطاء في تفسير ھذه اآليات وفھم ما الذي تريد أن
تخبر عنه القدوم عليھا من غير بابھا ،وفتحھا بغير مفتاحھا ،وتفسيرھا وفھمھا
من خارجھا وليس من داخلھا.
فكل من قَ ِدم على ھذه اآليات ،ويستوي في ذلك من اقترب من حقيقتھا ومن
ابتعد ،يقيدھا بما في ذھنه ھو ،ويسلسلھا بمعارفه ،أو بظروف زمانه ومكانه ،أو
بما يريد أن ينطقھا به ،ومن ثَم يقدم على اآليات ،وبدالً من أن يفحصھا ھي بدقة
وفي أناة ،يتأملھا إجماالً ،وتتكون في ذھنه من ھذا النظر اإلجمالي صورة،
يترك من أجلھا اآليات ليبحث عما يطابقھا في ما يعرفه ،أو ما يتمناه ويريده.
وكل الصور التي تكونت في أذھان كل من قدموا على صدر سورة اإلسراء
لتفسيرھا ال تطابق اآليات نفسھا ،بل تختلط فيھا لمحات منھا بتفاصيل وزيادات
وقيود من خارجھا ،وھو ما أفضى عبر العصور إلى طلسمة اآليات بتفسيراتھا،
وحجبھا بالصور الذھنية التي حلت محلھا.
ومن العجيب ،وألمر ال أعلمه ،أن البؤرة التي أشرق منھا الضياء الذي
أسفرت به آيات سورة اإلسراء أمام عيني نصف المغمضة ،ھو كلمة:
،kفي قوله تعالى عن العباد الذين يبعثھم على بني إسرائيلi :
.kj
ففي لمح البصر ،وعقلي يصعد من قيعان النوم ويكاد يالمس سطح اليقظة،
توھجت الكلمة أمام عيني وانفتحت بوابتھا وخرج ما في اآليات كلھا منھا يتدافع
بعضه في إثر بعض :الديار فقط ،ال في األرض المقدسة وال في غيرھا ،وال
١٠
شفرة سورة اإلسراء
منسوبة لبني إسرائيل ،بنو إسرائيل في األرض المقدسة في الدورة الثانية دون
األولى ،بين الدورتين فروق ،اإلفساد في األرض كلھا ال في المقدسة فقط،
التحريف ،بعث العباد إلزالة التحريف وإصالح اإلفساد في األرض كلھا ال
لعقاب بني إسرائيل وإخراجھم من ھذه األرض المقدسة.
وھا ھنا أبصرت بالشمس التي أشرقت من الكلمة وأضاءت اآليات كلھا أن
صدر سورة اإلسراء سبيكة بيانية ،مفتاح تفسيرھا فيھا ھي نفسھا ،وأنھا شفرة
لغوية حلھا في فحصھا بمجھر حساس يكشف دقائقھا ويجلي مكوناتھا وتسفر به
الروابط الناعمة بينھا ،من غير إضافات وال زيادات وال قيود من خارجھا.
وتركت ما كنت غارقا ً فيه من التفاسير وما قاله المفسرون إلى اآليات
نفسھا ،من أجل فحص نسيجھا اللغوي شديد الدقة واإلحكام ،والتماسك
والترابط ،والتركيب والتعقيد ،ولم أعد إلى التفاسير إال بعد أن انتھيت من حل
شفرة اآليات من أجل نقدھا وبيان أخطائھا.
فكل ما ستراه في الفصل األخير من ھذا الكتاب ،ھو بسط ما أشرق من
ضياء وانبثق من نور في ھذه اللحظة ،وما فاض فيھا من كلمة ،k :وكل
ما ستقرأه من فصول قبل ھذا الفصل األخير ھي جزء منه وتمھيد له ،كتبناھا
لكي نؤھلك بھا لفھم ھذا الفصل األخير وما فاض في ھذه اللحظة المشرقة.
والحمد " أوالً وآخراً
١١
شفرة سورة اإلسراء
١٢
شفرة سورة اإلسراء
١٣
شفرة سورة اإلسراء
١٤
شفرة سورة اإلسراء
ﲢــﺮﻳــــﺮ اﻟـﻘــﺮآن
بـيــــــان:
لكي تعرف ما الذي يخبرنا به القرآن عن بني إسرائيل ،وما الذي يريدنا أن
نعرفه عن موقعھم من التاريخ وآثارھم في البشرية ،البد من تحريره أوالً من
الفھم التقليدي النمطي الذى شاع بين العوام وكثير من عموم المسلمين ،وھو أنه
مجرد كتاب مقدس للعبادة ونوال البركة والحصول على الثواب.
وأھم من ذلك أنه البد من تحريره من الفھم والمنھج والطريقة التي تعامل
بھا كثير من العلماء ومن المفسرين ،عبر التاريخ اإلسالمي كله ،مع ما فيه من
قصص وأخبار عن قصة الخلق وسيرة البشرية األولى وعن األمم السابقة
عموماً ،وعن بني إسرائيل خصوصاً ،إذ أقاموا فھمھم وبنوا تفسيراتھم على أنھا
أخبار قديمة منقطعة عن الحاضر والمستقبل ،وأن الغاية من إخبارنا بھا مجرد
العبرة والعظة وضرب األمثلة.
فالبشر قد يقدسون أي كتاب ،أو أي شئ ،نجماً ،أو كوكباً ،أو إنساناً ،أو
حيواناً ،كما يقدس الصابئة النجوم والكواكب ،واليھود والمسيحيون الكتاب
المقدس ،والبوذيون بوذا ،والھندوس البقرة.
فالتقديس لكتاب ،أو لشئ ،ھو وصف لموقف اإلنسان منه وليس بيانا ً لحقيقته
في ذاته.
وأيضا ً لم ينزل ﷲ عز وجل كتابه على رسوله الخاتم ،وقص عليه وعلى
أمته وعلى الناس جميعا ً إلى يوم القيامة أخبار بني إسرائيل ،وفصل في سيرتھم
١٥
شفرة سورة اإلسراء
القرآن كتاب حي ،أنزله عز وجل لكي يتكون به وعي من يؤمنون به ،ولكي
يك ﱢون عقولھم ،ويصنع بناءھم الذھني والنفسي ،الذي يدركون به ويفھمون ما
حولھم ويحكمون عليه.
القرآن كتاب الحياة والوجود ،أنزله عز وجل رسالة خاتمة لكي نرى الحياة
ونفھمھا ونصنعھا به ،ولكي نرى الوجود كله وندركه ونفھمه به ومن خالل
منظاره.
القرآن ،كما أخبرك سبحانه وتعالى نفسه ،ھو بيان اإلله عز وجل إلى خلقه،
وھو بيانه إليھم في كل زمان وفي كل مكان إلى يوم القيامة.
)(١
zyxwvut
يخبرك ﷲ عز وجل أن القرآن ھدى وموعظة للمتقين ،ولكنه يخبرك أنه قبل
ذلك بيان للناس ،وللناس جميعاً ،في كل زمان وكل مكان.
و" المثل األعلى ،إذا فتحت التلفاز أو المذياع فوجدت الحاكم في بلدك،
رئيسا ً كان أو ملكا ً أو أميراً أو سلطاناً ،يوجه خطابا ً أو بيانا ً لشعبه أو أمته،
فلست بحاجة إلى من يعرفك أو ينبھك أنه يلقيه إليك وأنك مخاطب به.
( ١آل عمران.١٣٨:
١٦
شفرة سورة اإلسراء
وكذلك إذا فتحت المصحف وقرأت ،أو إذا سمعت القرآن يُتلى ،ينبغي أن
تدرك أن ﷲ عز وجل يخاطبك أنت نفسك في اللحظة التي تقرأ أو تسمع فيھا،
وأن ھذا بيانه إليه أنت ،ثم تحاول أن تفھم ما الذي يريد ھذا البيان أن يعرفك به
أو يرشدك إليه.
وھا ھنا ينبغي أن تعرف الفرق األساسي والفاصل بين القرآن وبين
النصوص المقدسة ،كتابية كانت أو غير كتابية.
القرآن ،بيان اإلله إلى إلى خلقه ،ھو النص الوحيد الصادر عن الذات اإللھية
ويخاطب البشر مباشرة دون وسيط ينقل أو يترجم أو را ٍو يقص أو يروي.
أما الكتب األخرى ،فغير الكتابية ،وسترى نماذج منھا ،فليست سوى تأمالت
أصحابھا وأفكار من كتبوھا عن اإلله والخلق والوجود ،فھي ابتكارات عقولھم
ونتاج نفوسھم ،وال ھم وال أتباعھم ينكرون ھذا أو ي ﱠدعون غيره.
فإذا دفعت القرآن إلى أي أحد ،وسألته :ھذا النص َمن الذي يتكلم فيه ،وبأي
صفة يخاطب البشر؟
١٧
شفرة سورة اإلسراء
فستكون إجابته :الذي يتكلم ھو اإلله أو بصفته اإلله ،وبعد ذلك قد يؤمن أنه
حقا ً كالم اإلله ،أو ال يؤمن فيقول لك :من يتكلم ينتحل مقام األلوھية.
أما إذا دفعت إليه الكتاب المقدس ،وسألته من الذي يتكلم في ھذا النص،
فستكون إجابته :ال ريب ھو بشر ،را ٍو يروي مذكراته أو ذكرياته عما رآه أو
سمعه أو أخبره به أحد آخر.
ولكي نقرب إليك المسألة ،الفرق بين القرآن وبين الكتاب المقدس ،ھو
بالضبط كالفرق بين أن تفتح التلفاز فترى الحاكم في بلدك يلقي بيانا ً وتسمعه
بنفسك ،وبين أن تفتحه فتجد نشرة األخبار التي تروي ما قاله ،مع ما فھمه من
يقرؤھا مما قاله ،وتعلق عليه ،ويختلط فيھا ما قاله بما يقوله غيره ،ويل ﱢونھا من
يحررھا بأفكاره ،ويحشو من يقرؤھا ما بين عباراتھا بأرائه.
فإذا كان القرآن بيان ﷲ عز وجل الخاتم إلى خلقه جميعاً ،وھو بيان حي
غايته فھم الوجود وصناعة الحياة وتكوين الوعي وبناء األذھان والنفوس ،فال
يستقيم أن يكون ما أخبرنا به من سيرة بني إسرائيل وأخبارھم ،بل وما أخبرنا
به عن األمم السابقة ،لمجرد الرواية واإلخبار بالغيب ،وال لمحض العبرة
والعظة.
القرآن ،الوحي الخاتم وبيان اإلله النھائي إلى خلقه ،ال يأتي بحادثة من بطن
الغيب ،وال يصحح واقعة ،وإن بدت بسيطة موغلة في القدم ،إال ألن لھا أثراً في
وعي البشر ،وفي أذھانھم ونفوسھم ،في كل زمان ،وفي فھمھم لما يرونه من
١٨
شفرة سورة اإلسراء
وفي سيرة بني إسرائيل تحديداً ،ال يروي لك بيان اإلله عز وجل عنھم
رواية ،وال يخبرك بقصة ،وال يأتيك من غابر الزمان بطرف من ھذه السيرة إال
ليعرفك من خاللھا بصفة الصقة بأذھانھم ونفوسھم ،يورثھا كل جيل منھم للذي
يليه ،ولينبھك في ثنايا القصة إلى أخالق وطباع ،وسلوك وسجايا ،وغايات
وأساليب ،تنتقل معھم وال تنفك عنھم.
غاية بيان اإلله عز وجل من استخراج سيرة بني إسرائيل من بطن الغيب،
وإفراد ھذه المساحة الھائلة لھم فيه ،أن يجعلك تعي عظم موقع بني إسرائيل من
التاريخ ،وآثارھم الھائلة في البشر ومسيرة البشرية ،ولكي تفھم من خالل ھذه
السيرة وما فيھا من قصص وأخبار غاياتھم وأساليبھم ،وما في نفوسھم ،وكيف
تعمل أذھانھم ،ثم لكي تدرك أثر غاياتھم وما في نفوسھم في تكوين مسار
التاريخ وتوجيھه ،وأثر أساليبھم وطريقة عمل أذھانھم في صناعة أحداثه ،وأثر
ھذا وذاك في تكوين مجتمعات البشر والصبغة التي تصبغ اجتماعھم.
وكل نداء أو خطاب من ﷲ عز وجل إلى خلقه ،أو إلى فئة منھم ،ھو خطاب
ونداء لھم إلى يوم القيامة.
فلم يختلف أحد من العلماء والمفسرين أنه إذا قال عز وجل":يا أيھا الناس"،
فھو ينادي الناس جميعاً ،مؤمنھم وكافرھم ،إلى يوم القيامة ،وإذا قال عز وجل:
"يا أيھا الذين آمنوا" ،فھو ينادي عباده المؤمنين به في كل زمان وكل مكان.
١٩
شفرة سورة اإلسراء
والمشكلة أنھم لم يطبقوا ھذا الفھم وھذه القاعدة على نداء ﷲ عز وجل
وخطابه لبني إسرائيل ،وھم القوم والفئة والطائفة الوحيدة في البشرية التي
يوجه عز وجل نداءه وخطابه إليھا باسمھا ونسبھا.
أما إذا فھمت أن القرآن ھو بيان ﷲ عز وجل إلى كل زمان وكل مكان،
فيترتب على ذلك أنه ينبغي أن تدرك أن ﷲ عز وجل إذا نادى" :يا بني
إسرائيل" ،أو" :يا أھل الكتاب" ،أو" :يا أيھا الذين ھادوا" ،فھو يخاطب بني
إسرائيل وأھل الكتاب والذين ھادوا في كل زمان وكل مكان إلى يوم القيامة.
نداء ﷲ عز وجل في بيانه الخاتم لبني إسرائيل ،وحده ،ودون معرفة ما الذي
يتبع ھذا النداء ،ھو في حقيقته إخبار لنا أنھم موجودون حاضرون في الزمان
وفاعلون في تاريخ البشر ومسيرة البشرية.
٢٠
شفرة سورة اإلسراء
القول بأن نداءه عز وجل لبني إسرائيل والذين ھادوا وأھل الكتاب ھو لمن
كانوا يوجدون منھم في زمن نزول الوحي فقط ،وأن ما يتبع ھذا النداء من بيان
سمات وصفات وسلوك ينحصر في قبائل المدينة أو جزيرة العرب ،يفضي
تلقائيا ً إلى القول بتاريخانية نص القرآن.
وھو ما يعني أن ﷲ عز وجل أنزل وحيه لفئة معينة في زمان محدد ومكان
بعينه ،وأن كل ما فيه من بيان إنما يتعلق بھذه الفئة أو الطبقة أو الجيل في ھذا
الزمان وھذا المكان ،ال أنه بيانه عز وجل إلى خلقه كافة.
وھو ما يكون معناه الحقيقي وترجمته الفعلية الواقعية أن مكان القرآن ليس
حياة البشر وال حركتھم ،وأن الغاية منه ليست تكوين أذھانھم ونفوسھم ،وال
ضبط اجتماعھم ،نور إبانة ومنھج ھداية ،مكان القرآن الوحيد بھذا الفھم ھو
المتاحف.
أما إذا قلت إن نداء ﷲ عز وجل وخطابه لبني إسرائيل ھو لھم في بقاع
األرض وأصقاعھا كافة ،وإلى يوم القيامة ،وأن ما أخبرنا به من سلوكھم
وأساليبھم في التفكير والتدبير مطلقات يتوارثونھا عبر األجيال ،ويتصفون بھا
في كل زمان ،فكأنھم ،في تكوينھم العقلي والذھني والنفسي ،في كل أجيالھم
جيل واحد ،وكأنھم ،في غاياتھم ووسائلھم ،في كل طبقاتھم طبقة واحدة ،إذا قلت
ھذا تكون قد أحدثتَ بما تقول ثورتين.
فأما األولى ،فھي ثورة في فھم ما الذي يريد عز وجل أن يخبرنا به عن بني
إسرائيل ،وما الذي يريدنا أن نعرفه عنھم.
٢١
شفرة سورة اإلسراء
وأما الثورة الثانية ،فھي في فھم موقع بني إسرائيل من التاريخ ،وعظم
دورھم في صناعة أحداثه وتكوين مساره ،وفي إدراك جسامة آثارھم في وعي
البشر وأذھانھم ونفوسھم ،وفي حياتھم ومجتمعاتھم.
ما أفرده ﷲ عز وجل لبني إسرائيل في بيانه إلى خلقه ،يخبرنا به وفي ثناياه
عن شئ أشد خطراً وأعظم أثراً في تكوين البشرية وتاريخھا ومسيرتھا من
مجرد ثالث قبائل كانت تستوطن ضواحي المدينة ثم أجليت عنھا وانتھى
أمرھا.
فإذا كان القرآن والوحي ھو بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه كافة ،وإلى يوم
القيامة ،وليس نصا ً تاريخيا ً ألھل الزمان الذي أنزل فيه والمكان الذي تنزل
عليه ،فال معنى لما أفرده لبني إسرائيل من مساحة ھائلة إال أن بني إسرائيل
مسألة محورية في تاريخ البشر ،وأن لھم دوراً عظيما ً في سيرتھم وأثراً ھائالً
في مجتمعاتھم.
وتـبــيـــــــان:
ألن القرآن ھو بيان ﷲ عز وجل الخاتم إلى خلقه إلى يوم القيامة ،فقد نبھك
عز وجل إلى أنه:
٢٢
شفرة سورة اإلسراء
_`(١)ihgfedcba
فا" عز وجل جعل بيانه تبيانا ً لكل شئ ،وأودع فيه أصول العلوم ،ومفاتيح
المعارف ،لتكون نبعا ً تتفجر منه العلوم وتنفتح به أبواب المعارف ،ولتكون
قواعد وضوابط تُفھم بھا ومن خاللھا كل المعارف والعلوم.
ومن ھذه العلوم والمعارف ما ال مصدر له أصالً سوى الوحي ،وليس في
طاقة البشر إدراكه وال الوصول إليه بما يحوزونه وأودع فيھم من وسائل
اإلدراك وتحصيل المعرفة.
والقرآن كله ناطق بذلك في آياته ومنھجه وما يرشد إليه اإلنسان ،وھو
صريح في ذلك في قوله تعالى:
edcb a`_~}|{zyx
)(٢
k jihgf
( ١النحل.٨٩:
( ٢إبراھيم.٩:
٢٣
شفرة سورة اإلسراء
وﺳﺎﺋﻞ اﳌﻌﺮﻓﺔ
وسائل المعرفة ،أي الوسائل التي يدرك بھا اإلنسان األشياء و يعرفھا،
ويحكم بھا عليھا ،تنقسم إلى قسمين كبيرين:
ھو وسائل المعرفة الذاتية المركبة في اإلنسان والمودعة فيه ،وھي جزء من
تكوينه ،وتمكنه من أن يكتشف األشياء ويدركھا ويعرفھا بنفسه.
أوالً :العقل:
وتفھم به البدائه والمسائل الرياضية والحساب ،وھنا نشير لك إلى الفرق بين
موقع العقل في اإلسالم وحضارته وموقعه من الغرب وسيرته.
العقل في الغرب صيﱠرته مسيرته وتاريخه ميزانا ً ومعياراً ،ألن الغرب ال
ميزان فيه وال معيار ،الفتقاده الوحي ،وھو مصدر الميزان والمعيار.
أما فى اإلسالم وحضارته وتاريخه ،فالعقل أداة ووسيلة ،وظيفتھا العمل في
المعيار والميزان ،ومن داخله ،لفھمه وتطبيقه.
٢٤
شفرة سورة اإلسراء
وھذا بخالف وسائل المعرفة األخرى جميعھا التي تأتي في القرآن بصيغتيھا
االسمية والفعلية :السمع ،السميع ،يسمع ،تسمعون ،البصر ،األبصار،
يبصرون.
وھي داللة على أن العقل في الحقيقة ما ھو إال وظيفته ،وانه ال يكون اداة
للفھم والعلم إال إذا كان متحركا ً يجول في الشئ الذي توجه لفھمه وعلمه.
وثمة شئ آخر ،وھو أن العقل ،بخالف الحواس ،ال يكون وسيلة للمعرفة
وحده ابتدا ًءا ،بل ھو وسيلة تبدأ من معطيات سابقة تقدمھا له وسائل أخرى،
ليتحرك فيھا ويجول ،كي يصل إلى المعرفة.
وقد تاتي ھذه المعطيات األولية التي يبدأ منھا العقل الحركة من الحواس،
ولذا نبھك بيان اإلله إلى أنه إذا فقد اإلنسان الحواس تماماً ،انعدمت المعارف
األولية التي يبدأ العقل منھا وفيھا العمل ،فيصبح وكأنه ال وجود له.
)(١
lkjihgf
وقد تكون المعطيات األولية التي يبدأ العقل منھا وفيھا الحركة واردة إليه من
الوحي.
)(٢
~}|{zy
فإذا فقد العقل الوحي في المعارف والعلوم التي ال مصدر لھا إال الوحي،
انعدم ولم يعد له وجود ،وصارت حركته ضالالً وخبطا ً في عشواء.
( ١البقرة.١٧١:
( ٢يوسف.٢:
٢٥
شفرة سورة اإلسراء
ثانياً :الحواس:
والحواس تشمل تلك المجردة ،كالسمع والبصر واللمس والشم والذوق،
والحواس المدعومة باآلالت ،كالتلسكوب أو الميكروسكوب.
وبيان ﷲ عز وجل يرشدك إلى أن الحواس وسيلة لمعرفة حقة وعلم حقيقي،
وأنھا الوسيلة االولى في التعامل مع الطبيعة وإدراك حقائق الكون.
§¦¥ ¤£¢¡~}|{zyx
)(١
¨©¯®¬«ª
وأن الحواس ھي التي تقدم للعقل المادة األولية والمعارف األولى ،التي
يتحرك فيھا ويك ﱢون العلم.
ÁÀ¿¾½¼»º¹¸¶µ
)(٢
ÆÅÄÃ Â
وما اخبرك به الوحي حقيقة لم يدركھا ويصل إليھا أحد خارج عالم الوحي
إال بعد نزول القرآن بتسعة قرون ،حين صاغ المفكر والفيلسوف اإلنجليزي
( ١الغاشية.٢٠-١٧ :
( ٢النحل.٧٨ :
٢٦
شفرة سورة اإلسراء
والمصطلح الذي صكه لوك وصاغه ھو ،Tabula Rasa :ويعني ان
اإلنسان يولد صفحة بيضاء ليس في عقله وال نفسه وال وجدانه علم وال معارف
وال مدركات ،ثم تتكون ھذه مما يرد إليه ويدخل فيھا مما تجلبه الحواس أو
التعاليم والخبرات.
وكما ترى ،التابيوال رازا التي كتبوا فيھا األشعار وغنوا لھا االغاني ليست
سوى ما أخبرك به عز وجل في بيانه قبل ان يولد جون لوك بتسعة قرون.
وقد تتوھم أيضا ً ألول وھلة ،أن ما ع ﱠرفك به عز وجل في بيانه من أن
الحواس وسيلة لمعرفة وعلم حقيقي مسألة ھينة أو بديھية وال تحتاج إلى إرشاد
وتنبيه.
ولكي تقدر ما أخبرك به اإلله في بيانه حق قدره ينبغي أن تعلم أنه قبل نزول
القرآن كان للبشر عيون وآذان ،ولكن كان استخدامھا عشوائياً ،وفي حدود
ضرورة التعامل اليومي ،ولم يكن في العالم منھج ي ُعد الحواس من وسائل
تحصيل المعرفة والوصول إلى علم حقيقي.
٢٧
شفرة سورة اإلسراء
ولم يتقدم اإلغريق في أي علم سوى الھندسة ،ألنھا العلم الذي أداته الوحيدة
العقل ووسيلته التصور الذھني.
وتنطفئ وسائل المعرفة األخرى كلھا ،وتفقد قدرتھا على التمييز ،وتتوھم أي
شئ في أي شئ ،وترى الحق باطالً والباطل حقاً.
)(١
½¼»º¹¸¶µ´³²±
فإليك الدليل من أھله ،يقول يوشيودي كوزان ،رئيس مرصد طوكيو ،وھو
أستاذ في جامعة طوكيو ،يصف ما جاء في آيات القرآن من معارف وإشارات
تتعلق بالكون وتكوينه وشكله وحركته والعالقات بين أجرامه:
"إن ھذا القرآن يصف الكون من أعلى نقطة في الوجود ،فكل شئ
مكشوف أمامه ،إن الذي قال ھذا القرآن يرى كل شئ في ھذا الكون ،فليس
)(٢
ھناك شئ قد خفي عليه"
وما فطن إليه يوشيودي كوزان ھو السبب الذي من أجله حجب بنو إسرائيل
الوحي عن البشر وكتموه ،ألن من يحوز الوحي يملك مفاتيح المعرفة المطلقة،
ويرى كل شئ في الوجود مكشوفا ً دون حواجز من الزمان أو من المكان،
فضنوا بھذه المعرفة المطلقة أن يصل إليھا أو تكون في حوزة أحد غيرھم.
( ١النساء.١٧٤ :
( ٢نقالً عن كتاب :أنه الحق ،للشيخ عبد المجيد الزنداني ،ص.٦٨
٢٩
شفرة سورة اإلسراء
وھنا موض ٌع ألن نذكرك أنك ال يمكن أن تدرك ما الذي يريد الوحي أن
يخبرك به عن بني إسرائيل ،عقائدھم وأخالقھم وسماتھم العقلية والنفسية
وأساليبھم في التفكير والتدبير ،إال إذا تعاملت مع القرآن على أنه مصدر حي
ومطلق للمعرفة ،ثم تحاول أن تستخرج ما ھو مبثوث في آياته ويسري في
نسيجه من معارف ،ال أن تتعامل معه بطريقة جامدة ساكنة على أنه كتاب
للتقديس ،أو أن ما فيه من قصص وأخبار وسير لمجرد العظة ،أو لمحض نوال
الثواب والبركة.
وظيفة الوحي:
وذلك عبر إمداد اإلنسان بالمعارف المحورية التي تك ﱢون ھذا الوعي وتصنع
ھذا البناء ،والتي ال مصدر لھا إال الوحي ،وال يستطيع اإلنسان أن يدركھا وال
أن يصل إليھا وحده بما يحوزه وما أودع فيه من وسائل لتحصيل المعرفة.
وھذا النوع من المعارف التي ال مصدر لھا إال الوحي ،ف ْقده يؤدي إلى خلل
في تكوين اإلنسان ،واضطراب في وعيه ،وعدم قدرته على فھم أي شئ في
الوجود فھما ً صحيحا ً وعلى حقيقته ،بما في ذلك فھم اإلنسان نفسه وماذا يكون.
٣٠
شفرة سورة اإلسراء
ولذا ال يُفصﱢ ل القرآن في معرفة وال مسألة إال إذا كانت عصية على اإلنسان
أن يصل إليھا بنفسه ،وفوق طاقة وسائل معرفته الذاتية المركبة فيه أن يدركھا.
أما المعارف التي يمكن لإلنسان أن يصل إليھا وحده بعقله ،أو بحواسه ،أو
بالتجربة والخطأ والتصويب ،فإن منھج القرآن أن يضع لإلنسان اإلرشادات إلى
الطريق الصحيح ،ويدله على المسار الحق لكي ال يضل ،ثم يتركه ليحوزھا
ويحصلھا بنفسه.
والوظيفة الثانية الرئيسة للوحي ،كمصدر للمعرفة ،ھي تنظيم العالقة بين
وسائل المعرفة جميعاً ،وبيان المجال المناسب لعمل كل وسيلة من وسائل
المعرفة ،والذي إن وضعت واستخدمت فيه أثمرت وفتحت مغاليقه ،وإن
وضعت في غيره انغلق أمامھا ولم تصل إلى شئ .
وربما توجد معارف تحتاج في إدراكھا إلى اجتماع وسائل معرفة متعددة،
فالوحي ھنا يدلك على الموضع أو المجال الذي تتقدم فيه وسيلة وتتبعھا
الباقيات ،وربما تقدمت وسيلة من وسائل المعرفة في مجال ،وربما تأخرت
لتتقدم عليھا أخرى فى مجال آخر.
وثمة مثال صيني شھير يعرفك أنك إذا أعطيت الفقير سمكة فقد أطعمته يوما ً
واحداً ،أما إذا علمته الصيد فقد أطعمته طوال حياته.
٣١
شفرة سورة اإلسراء
وبإعطائه المعارف التي ال مصدر لھا غيره ،وبھدايته إلى الوسيلة المناسبة لكل
مجال من مجاالت المعرفة ،وبتنسيق العالقة بينھا وبيان أيھا تتقدم وأيھا تتأخر.
٣٢
شفرة سورة اإلسراء
ﺿــــﻮاﺑــــــــــﻄـ
ألن الكتاب الذي بين يديك يرى القرآن على أنه بيان اإلله وتبيانه ،وأنه
مصدر مطلق للمعرفة ،ال أنه مجرد كتاب للتقديس والبركة ،وألنه سيتعامل مع
ما فيه بخصوص بني إسرائيل بطريقة غير تقليدية وال مألوفة ،وتتجاوز حدود
البحث عن معنى الكلمة أو اآلية إلى فھم ما الذي تريد أن تخبر عنه ،واستخراج
الرسائل التي تحملھا في نسيجھا ،وألن ما تنتجه ھذه الطريقة غير التقليدية وال
المألوفة ،وما تُخرجه وما يترتب عليه ،ال سابقة له من قبل ،بل ويخالف في
بعضه كل ما قاله المفسرون وما ذھب إليه المحققون ،فالبد أوالً من كلمة عن
ضوابط فھم القرآن واستخراج معانيه.
فھم آيات القرآن ،وتفسير معانيھا واستخراج ما تخبر به ال قيد عليه ،عندنا
على األقل ،سوى أمر من اثنين ،ھما الضابطان للفھم.
أن يكون قد ورد عن النبي عليه الصالة والسالم حديث صحيح في تفسير
اآلية أو الكلمة ،ألنه عليه الصالة والسالم ال ينطق عن الھوى ،وتفسيره وحي
تتوقف أمامه كل وسائل المعرفة األخرى ،عقالً وحواساً ،وليس لھا أن تتقدم
عنه أو تتأخر.
)(١
UTSRQPONMLK
( ١النجم.٤-٣:
٣٣
شفرة سورة اإلسراء
ومن حكمة ﷲ عز وجل ،ومن مراده ،أن النبي عليه الصالة والسالم لم
يفسر من القرآن وآياته إال ما يتعلق بالعقائد والعبادات واألحكام ،ليبين ألمته
كيف تكون ،وليزيل االلتباس في فھم ما يقوم عليه الدين وتشاد به الملة.
وأما أغلب آيات القرآن ،فلم يتعرض لھا عليه الصالة والسالم بالتفسير،
وھي حكمة وإرادة إلھية ،من أجل أن يظل القرآن ينبوعا ً يتدفق بالمعاني
والكشف واإلبانة ،ويفھم منه كل جيل وعصر ما لم يفھمه سابقه ،فيظل القرآن
نوراً يضئ سيرة البشرية كلھا ،ويظل حيا ً يصنع أذھان البشر ويتفاعل مع
عالمھم وما يشھده من أحداث عبر الزمان كله.
أن يكون الفھم والتفسير وما ينتجه مقيداً باللغة العربية ،وما تجيزه قواعدھا
ونحوھا وتراكيبھا وصياغاتھا من فھم ،وما تحمله وتحتمله كلماتھا وألفاظھا من
معان ،ألن ﷲ عز وجل أخبرنا ھو ذاته أن ھذا ھو القيد والضابط الوحيد في
فھم كتابه.
)(١
~}|{zy
)(٢
{zyxwvu
( ١يوسف.٢:
( ٢الزخرف.٣:
٣٤
شفرة سورة اإلسراء
وبخالف تفسير النبي عليه والصالة ،وقواعد اللغة ومعانيھا ،فال قيد على
فھم آيات القرآن وتفسيرھا ،ال من فھم آخر ،وال من معرفة شائعة ،وال من
أقوال قيلت وألفت دون أن ترفع إلى من يوحى إليه عليه الصالة والسالم.
فكل ما يفھمه اإلنسان من إعمال العقل في آيات القرآن صحيح ،بشرط أن
يكون الفھم مقيداً بما تحتمله معاني األلفاظ والكلمات ،وما تجيزه الصياغات
والتراكيب ،وبشرط أال يكون للنبي عليه الصالة والسالم في اآلية تفسير،
فحينئذ ليس ألحد بأي ذريعة أن يتقدم أو يتأخر عن تفسيره عليه الصالة
والسالم.
وھذه الضوابط ھي أيضا ً تقييد ،للتفرقة بين الفھم وإعمال العقول وبين
الھوى ،وبين التفسير بمعنى محاولة الوصول إلى ما يريد النص أن يخبرنا به
وبين التأويل الذي يلوي عنق النص ليخرج منه ما ليس فيه.
وھو ما يفعله بعض الضالة من العلمانيين ،لكي يجعلوا القرآن موافقا ً
ألھوائھم ،فيبدأ أحدھم من نص القرآن ،ثم ينفلت خارجه ،ليقول باسم أنه يفسر
ويستنبط ما ال عالقة له بالكلمات واأللفاظ ومعانيھا ،وال تحتمله صياغة اآليات
وتراكيب العبارات من أي وجه.
٣٥
شفرة سورة اإلسراء
وھم في ذلك إنما ھم قردة مقلدة ،وببغاوات مرددة ،تحاكي ،دون وعي أو
عقل ،مذھب التأويل الغربي أو الھرمنيوتيكا ،Hermeneuticsالذي اضطر
بعض فالسفة الغرب وأدبائه البتكاره ،من أجل تفسير الغرائب التي يمتأل بھا
الكتاب المقدس ،وتتصادم مع العقل ،ومع حقائق الكون وعلوم الطبيعية ،وھو
المذھب الذي اكتمل على يد الفيلسوف األلماني مارتن ھيدجر Martin
Heideggerوتلميذه ھانز جورج جادامر . Hans Georg Gadamer
والفرق بيننا وبين ھؤالء الببغاوات والقردة أننا نمثل بين يدي النص ،لنسأله
السؤال التالي :ما الذي تريد ان تخبرنا به؟
أما ھؤالء الضالة فينكرون النص ويريدون اقتحامه ولوي عنق آياته ،ليوافق
أھواءھم وما في رؤوسھم من ضالالت ،وما يعتنقونه من مذاھب فلسفية أو
اجتماعية ،أو ما يتبعونه من اتجاھات سياسية.
٣٦
شفرة سورة اإلسراء
ﻋــــﻮاﺋــــــــــﻖ
القرآن ،كما علمت ،بيان ﷲ عز وجل إلى الناس كافة ،وھو تبيانه سبحانه
لكل شئ ،وھو مصدر المعرفة المطلق وحدھا األعلى ،وفيه أصول كل العلوم
ومفاتيح لكل المعارف.
وھذه المفاتيح والمعارف قد تكون صريحة ظاھرة أمام النظر ،وقريبة من
العقل ،فيدركھا اإلنسان دون كبير جھد أو عميق تدبر.
غير أن أغلب ھذه المفاتيح عميق داخل النص ،وملفوف في نسيج كلماته
وآياته ،ومخبوء بين تراكيبھا وفي ثنايا صياغاتھا ،ومن ثَم يحتاج كشفھا
والوصول إليھا إلى تدبر وتفكر ،وإلى غوص عميق ،والبد إلدراكھا وفھمھا من
أساليب وطرائق تتجاوز مجرد معرفة معنى الكلمة أو العبارة أو اآلية.
فالقرآن ،نعم ،به خفايا وخبايا ،بل وفيه ،كما سترى ،شفرات ورموز ،ولكنھا
خفايا وشفرات لغوية ،وحلھا ،كما ستعلم ،بالعقل ،ووسائل ھذا الحل في اللغة،
وليس باإللھامات والشطحات التي ليس لھا قواعد وال دليل عليھا.
٣٧
شفرة سورة اإلسراء
القرآن ،كالبحر ،شاسع عميق ،وكل مستوى من العمق يصل إليه فھم تنفتح
معه معارف بقدر قدرة ھذا الفھم على الغوص ،فما يفھمه ويدركه الواقف على
شاطئ القرآن يراه وينظر إليه ،يختلف عما يدركه ويفطن إليه من يبحر فيه
ويمخر ُعبابه ،وھذا وذاك يختلف عن األعماق التي يراھا من يغوص فيه ،وعن
اآلفاق التي يدركھا ،والعوالم التي تنفتح له ،واألعجايب التي يستخرجھا.
وربما تساءلت :إذا كانت المفاتيح والشفرات التي في القرآن لغوية ،وحلھا
في معانيھا وقواعدھا وبالعقل ،فلماذا ال تدركھا كل العقول ،بل وقد ال تراھا
أصالً ،ولماذا ال تنتبه األفھام إلى المعارف التي تحويھا وھي مخزونة فيھا؟
واإلجابة في المثال الذي أمامك ،فليس كل واقف أمام البحر يتأمله وتُسر
نفسه برؤيته بقادر على السباحة فيه ،وليس كل سباح بغواص.
وثمة عوائق تحول دون أن ترى كل األنظار ھذه الشفرات اللغوية ،ودون أن
تدرك جل األفھام ما فيھا من معارف ،وھذه العوائق ليست ،كما قد يتبادر إلى
ذھنك ،العوائق التقليدية المفھومة بداھة ،كالجھل بالعربية وقواعدھا ،وما تعنيه
صياغات عباراتھا وتراكيبھا ،وما تحمله ألفاظھا وكلماتھا من معان.
فإليك بعضا ً من ھذه العوائق التي قد تحجب العقول عن رؤية ينابيع المعرفة
في القرآن ،وتصرفھا عن تفجيرھا.
٣٨
شفرة سورة اإلسراء
أوالً :المعارف المجھولة:
فقد تكون المعرفة أو الشئ موجوداً أمامنا وال نراه أصالً ،ألننا ال نعرف
وجوده ،أو ألنه ليس موجوداً في وعينا ،فالعين ال ترى إال ما يعرفه العقل وما
ھو موجود في الوعي ،فإذا لم يكن ،فلن نراه ولن نفطن إلى وجوده.
فثمة معارف في اآليات قد ال تُفھم وال تدرك بالبداھة والنظر العام أو
المباشر ،ألنھا تحتاج إلى معارف أخرى من خارج القرآن لرؤيتھا وإدراكھا
بھا.
فآيات القرآن التي تصف الكون واألفالك والنجوم ،وتلك التي تخبر عن
الطبيعة ،اجتھد أئمتنا من المفسرين القدامى ،رحمھم ﷲ ،في تفسيرھا في حدود
معارفھم ،لكنھم لم يستطيعوا فھم فحواھا وما تصفه وما تعنيه حقاً ،ألنه يحتاج
إلى معارف وعلوم لم تكن في حوزتھم وال يعرفھا زمانھم.
ولإلمام الطبري ،رحمه ﷲ ،عبارة بديعة ،قالھا عند تفسير معنى الفلك في
قوله تعالى فى سورة األنبياء:
)(١
¿¾½¼»º ¹¸¶µ´³²
فبعد أن نقل اإلمام الطبري ما وصل إليه من أقوال ومعارف في تفسير ھذه
اآلية وما سبقھا من آيات تصف الكون والسماء وأجرامھا ،على منھجه في
( ١األنبياء.٣٣:
٣٩
شفرة سورة اإلسراء
فقد يكون الشئ ،أو المعرفة والتعريف بشئ ما ،موجوداً في اآلية أو اآليات
ويذھل الناظر عن المراد النصراف ذھنه في تفسير اآليات إلى معنى آخر غير
المقصود ،أو الكتفائه بمعنى موجود فعالً وعدم انتباھه إلى غيره من المعاني.
)(٢
onmlk
فسر األئمة من المفسرين الدحو ھنا على أنه البسط والسعة ،وھو معنى
صحيح للكلمة ،واإلمام ابن فارس يقول في معجم مقاييس اللغة:
"الدال والحاء أصل واحد يدل على اتساع وتبسط ...والدال والحاء والواو
)(٣
أصل واحد يدل على بسط وتمھيد "
واإلعجاز حقا ً في كلمة n :أنھا تحتمل ھذه المعاني كلھا ،فإذا اعتقدت
أن األرض مسطحة منبسطة ألنك تراھا وتدركھا في حدود حواسك ھكذا ،فھي:
، nوإذا استدل أحد أو اكتشف مع تقدم آالت الرصد أنھا ِجرم سابح في
ومن الطريف ھنا أن تعلم أنه إلى اآلن يوجد في الغرب ،وليس في الشرق،
من يعتقد أن األرض مسطحة أو منبسطة ولھا حواف وبداية ونھاية.
٤١
شفرة سورة اإلسراء
أعضائھا بضعة آالف في أوروبا وأمريكا الشمالية ،أن األرض مسطحة ،وعلى
شكل قرص ،وان القارات توجد على السطح األعلى لھذا القرص!
فاآليات التي تبدو متشابھة ،وربما يتوھم الذھن أنھا تتكلم أو تخبر عن شئ
واحد ،ھي في حقيقتھا وعند الغوص فيھا غير متشابھة ،والفروق الدقيقة بينھا
في الصياغة تنتج اختالفا ً كبيراً وآثاراً متباينة في المعنى.
قد تبدو اآلية ،في ظاھرھا ،صامتة أو وحيدة المعنى ،ولكن جمع اآليات
المختلفة في الموضوع الواحد معا ً يحولھا إلى ينبوع يتدفق بالمعارف ،وينكشف
٤٢
شفرة سورة اإلسراء
بھذا الجمع ما ال ينكشف برؤية اآليات وفھمھا منفردة منفصلة معزولة عن
بعضھا.
فثمة من المعارف ما اليمكن رؤيته ،وال االنتباه إليه ،وال فھم معناه إال بجمع
اآليات المختلفة في الموضوع الواحد معاً.
٤٣
شفرة سورة اإلسراء
ﻧـﻤـــــــــــــﺎذج
فإليك ھذه النماذج على ما تحويه آيات القرآن من معارف ال يمكن رؤيتھا
وال إدراكھا باالقتصار على األساليب التقليدية التي تتوقف عند فھم معنى الكلمة
أو العبارة أو اآلية ،دون االنتباه إلى سؤال والبحث عن إجابته ،وھذا السؤال
ھو :ما الذي تريد اآلية أو اآليات أن تخبرنا عنه؟
وھي نماذج ليس المقصود منھا التعرف على ما تحويه اآليات من معارف،
ولكن بيان كيف يكون منھج التعامل مع اآليات الذي يُنطقھا ويجعلھا ينبوعا ً
متدفقا ً بالمعاني والمعارف ،لكي يكون ذلك نموذجا ً للمنھج الذي سنتعامل به مع
آيات بني إسرائيل ،لمحاولة فھم ماذا يريد ﷲ عز وجل أن يخبرنا به عنھم.
وفي كل مثال قاعدة ،سوف نحتاج إليھا ونحن نحل شفرة سورة اإلسراء،
ونحاول أن نفھم ما الذي تريد أن تخبرنا به آياتھا عن بني إسرائيل.
٤٤
شفرة سورة اإلسراء
ﻟﺆﻟﺆ وﻣﺮﺟﺎن
فھذا مثال على أن اآليات التي تبدو متشابھة ،وربما تتوھم أنھا تتكلم أو تخبر
عن شئ واحد ،ھي في حقيقتھا وعند الغوص فيھا غير متشابھة ،والفروق
الدقيقة بين ألفاظھا وكلماتھا تنتج اختالفات شاسعة البون في معانيھا وما فيھا.
ZYXWVUTSRQPONMLK
)(٢
[\]
كما ترى ،اآليات تبدو متشابھة وتخبر عن شئ واحد ،لكن بينھا في الحقيقة
فروق ،وھذه الفروق ،التي تبدو دقيقة ،تجعل ما تتكلم عنه كل منھما ال عالقة له
بما تخبر عنه األخرى.
( ١الفرقان.٥٣:
( ٢الرحمن.٢٢-٢٠:
٤٥
شفرة سورة اإلسراء
فالماءان أو البحران يتجه كل منھما نحو اآلخر ويلتقيان ،ولكن بينھما برزخ
أو حاجز يمنعھما من االمتزاج واالختالط.
فإليك نماذج مما قاله أئمة المفسرين في بيان المقصود من آية سورة الفرقان.
" قال الحسن :يعني بحر فارس وبحر الروم ،وقال ابن عباس وابن جبير:
يعني بحر السماء وبحر األرض ،قال ابن عباس يلتقيان في كل عام وبينھما
")(١
برزخ قضاء من قضائه
"البحر أعده ﷲ ليكون مخزن الماء في الكون ...وجعل بينه وبين الماء
العذب تعايشا ً سلمياً ،ال يبغي أحدھما على اآلخر رغم تجاورھما ...وأصل
)(٢
كلمة برزخ اليابسة التي تفصل بين ماءين"
وأما اإلمام الطبري ،فبعد ان نقل ،في تفسيره ،ما وصله من آثار في تفسير
البحرين والبرزخ والحجر المحجور ،اختار قول ابن جريج:
"فلم أجد بحراً عذبا ً سوى األنھار العذاب ،فإن دجلة تقع في البحر،
فأخبرني الخبير بھا أنھا تقع في البحر فال تمور فيه ،بينھما مثل الخيط األول
)(٣
...والنيل يصب في البحر"
"ﷲ تعالى ذكره أخبر في أول اآلية أنه مرج البحرين ،والمرج الخلط في
كالم العرب ،فلو كان البرزخ الذي بين العذب الفرات من البحرين والملح
( ١اإلمام القرطبي :الجامع ألحكام القرآن :ج ،١٣ص ،٥٩اإلمام أبو حيان التوحيدي :تفسير البحر المحيط
ج ،٦ص.٤٦٤
( ٢تفسير الشعراوي :ج ،٢٦ص.١٠٤٧٠
( ٣جامع البيان :ج ،١٧ص.٤٧٤
٤٧
شفرة سورة اإلسراء
األجاج لم يكن ھناك مرج للبحرين ...وال ھناك من األعجوبة ما ينبه إليه أھل
الجھل من الناس ويذكرون به").(١
وأما الذي اتاح له زمنه وما ظھر فيه من معارف أن يقترب من الذي تخبر
عنه آية سورة الفرقان فعالً ،فھو فضيلة الشيخ محمد الطاھر بن عاشور ،فذكر
في تفسيره :التحرير والتنوير أن:
"المراد بالبرزخ تشبيه ما في تركيب الماء الملح مما يدفع تخلل الماء
العذب فيه ،بحيث ال يختلط أحدھما باآلخر ،ويبقى كالھما حافظا ً لطعمه عند
)(٢
المصب"
فاھتدى الطاھر بن عاشور بذلك إلى أن ما تخبر عنه آية الفرقان ھو
مصبات األنھار العذبة في البحار الملح ،بل وحدد موضعا ً معينا ً فسر به اآلية،
وھو:
)(٣
"ملتقى ماء نھري الفرات ودجلة مع ماء بحر خليج العجم"
ما تخبر عنه آية سورة الفرقان ھو مصبات األنھار في البحار والمحيطات،
حيث يلتقي ماء النھر العذب بماء البحر أو المحيط شديد الملوحة دون أن
يمتزجا ،والبرزخ ھو اختالف خواص كل منھما عن اآلخر ،كالكثافة ودرجة
الحرارة وسرعة الجريان.
وأصل الحجر في اللغة ،كما يقول ابن فارس ،في معجم مقاييس اللغة:
"الحاء والجيم والراء أصل واحد مطرد ،وھو المنع واإلحاطة على الشئ
)(١
...والعقل يسمى حجراً ألنه يمنع من إتيان ما ال ينبغي"
"منطقة المصب منطقة حجر على معظم الكائنات الحية التي تعيش فيھا،
ألن ھذه الكائنات ال تستطيع أن تعيش إال في نفس الوسط المائي المتناسب في
ملوحته وعذوبته مع درجة الضغط األسموزي ٍفي تلك الكائنات ...وھي في
نفس الوقت منطقة محجورة على معظم الكائنات الحية في البحر والنھر ،ألن
)(٢
ھذه الكائنات تموت إذا دخلتھا ،الختالف الضغط األسموزي أيضاً"
فنھر األمازون أعرض أنھار الدنيا ،وأعمقھا ،وأغزرھا ،وأطولھا بعد النيل،
ومتوسط عرضه ١٩٠كم ،وفمه أو مخرجه إلى المحيط يصل إلى ٢٤٠كم،
فيتدفق منه الماء في المحيط بغزارة ،ويصنع دائرة من الماء العذب يبلغ
اتساعھا مائتي كم داخل ماء المحيط الملح ،ودون أن يختلط أحدھما باآلخر.
للتشابه الشديد بين آية سورة الفرقان وآيات سورة الرحمن ،ذھب جل
المفسرين ،وإن لم ينصوا على ذلك ،إلى أن آيات سورة الرحمن ليست سوى
تكرار آلية سورة الفرقان ،وأنھما تتكلمان عن شئ واحد ،ومن ثَم فسروا ھذه
بالتفسير نفسه الذي فسروا به تلك.
واإلمام الطبري نقل في موضع سورة الرحمن نُقوالً ال تختلف عن تلك التي
نقلھا في موضع سورة الفرقان ،ولكنه ،للغرابة ،اختار منھا ھنا قوالً غير الذي
اختاره ھناك:
"وأولى األقوال عندي بالصواب قول من قال :عني به بحر السماء وبحر
األرض ،وذلك ألن اللؤلؤ والمرجان إنما يخرج من أصداف بحر األرض عن
)(١
قطر ماء السماء ،فمعلوم أن ذلك بحر األرض وبحر السماء"
وفي قوله اآلخر ،فسر الطاھر بن عاشور بحري آيات سورة الرحمن
بالتفسير نفسه الذي فسر به آية سورة الفرقان:
"ھما نھر الفرات وبحر العجم ،والتقاؤھما انصباب ماء الفرات في الخليج
الفارسي ،والمراد بالبرزخ الذي بينھما الفاصل بين الماءين الحلو والملح،
بحيث ال يغير أحد البحرين طعم اآلخر بجواره ،وذلك بما في كل ماء منھما من
)(٢
خصائص تدفع عنه اختالط اآلخر به"
فإليك ما بين آيات سورة الرحمن وآية سورة الفرقان من دقائق الفروق في
األلفاظ والصياغة ،وما يترتب عليھا من عظيم اآلثار في المعنى ،ومن اختالف
ما تتكلم عنه كل منھما.
سورة الفرقان تزيد عن سورة الرحمن شيئاً ،وتقل عنھا آخر ،وما قل ھنا
وزاد ھناك يخرجك من ظاھرة ليدخل بك في أخرى.
في سورة الفرقان أن الماءين بينھما ،مع البرزخ ،حجر محجور ،أما سورة
الرحمن فليس بين البحرين فيھا ھذا الحجر المحجور ،فھما يلتقيان ،وبينھما
برزخ يحول دون امتزاجھما ،أو أن يبغي أحدھما على اآلخر ،ولكن ليس بين
البحرين منطقة حرام أو ممنوعة ،كالتي في موضع الفرقان.
فھذا الذي تقله سورة الرحمن عن سورة الفرقان ،وأما ما تزيده عليھا ،فھو
أن موضع التقاء البحرين يخرج منه اللؤلؤ والمرجان ،والمرجان ھو :صغار
اللؤلؤ أو نوع من الكائنات البحرية تعيش في المياه الملح وينتج صنفا ً من
األحجار الكريمة.
Yفي آية سورة الرحمن ،ھكذا ،بفتح الياء وضم الراء ،ھي
وكلمة Y :
قراءة ابن كثير المكي ،والكوفيين :عاصم وحمزة والكسائي ،وخلف العاشر.
وأما قراءة المدنييْن :نافع وأبي جعفر ،وأبي عمرو البصري ،ويعقوب
الحضرمي ،فبضم الياء وفتح الراء ،على بناء الفعل للمفعول ،ھكذاُ :ﳜ َﺮ ُج،
)•()(١
ووافقھم اليزيدي من الشواذ
والكلمة التي زادتھا سورة الرحمن على سورة الفرقان ،واألخرى التي قلتھا
عنھا ،تطير بك من مصبات األنھار ،لتغوص بك في قاع الخليج!
ولكن إليك أوالً تفسير الدكتور محمد إبراھيم السمرة لما تصفه آيات سورة
الرحمن:
•( القراءات الشاذة ،ھي قراءات صحيحة ،ولكنھا لم تبلغ حد التواتر في السند ،ويستنبط منھا وال يُتعبد بھا،
وسميت شاذة لخروجھا عن رسم المصحف العثماني.
(١اإلمام ابن الجزري :النشر في القراءات العشر :ج ،٢ص ،٣٨١اإلمام أحمد بن محمد البنا :اتحاف فضالء
البشر بالقراءات األربعة عشر :ج ،٢ص.٥١٠
٥٢
شفرة سورة اإلسراء
وثَمة ما يفسر آيات سورة الرحمن غير ھذا الذي فسرھا به الدكتور السمرة
وأقرب إليه من المثال الذي ضربه ،وھو التقاء البحر المتوسط بالمحيط
االطلنطي.
أما الطريف حقاً ،فھو أن ھذه المنطقة أمام بصر الدكتور السمرة ،وھو أستاذ
علوم البحار في جامعة قطر ،وعلى مرمى حجر منه!
( ١نقالً عن الشيخ عبد المجيد الزنداني :منطقة المصب والحواجز بين البحار ،ص.١٣-١٢
٥٣
شفرة سورة اإلسراء
وإحدى ھذه الحرف أو المھن حرفة الغوص في قاع الخليج للبحث عن اللؤلؤ
واستخراجه ،وكانت رحلة الغوص على اللؤلؤ واستخراجه تستغرق شھوراً،
تنطلق فيھا السفن وتتنقل بين مغاصات في قاع الخليج ،يعرف الغواصون
) •(
مواضعھا ومواقعھا
وحين ينفد الماء ،كانت السفن تضطر لترك الغوص واإلبحار إلى أقرب
شاطئ للتزود بالماء ،وفي مناطق معينة للغوص كانت توجد عيون تتفجر منھا
مياه عذبة في قاع الخليج ،ويتدفق منھا الماء لعشرات األمتار صانعا ً أنھاراً من
الماء العذب وسط ماء الخليج شديد الملوحة دون أن يمتزج به.
وألن الخليج قليل العمق نسبياً ،ويتراوح عمقه بين ٥٠متراً و ٩٠متراً)••(،
كان الغواصون يغلقون أفواه القرب على السفينة ،ثم يغوصون إلى بطن الخليج،
إلى أن يصلوا إلى الماء العذب المتدفق منه ،فيفتحون القرب ويملؤونھا بالماء،
ثم يغلقونھا مرة أخرى ويصعدون إلى السفن.
وأشھر ھذه العيون المتفجرة بالماء العذب وسط ماء الخليج الملح :عين
إغمسة قرب الكويت ،ومجموعة عيون الكواكب أو الكويكبات حول جزيرة
) •(
البحرين ،وأھل الخليج ينطقونھا :الجواجب ،باللھجة المحلية
فھذه العيون وتيارات الماء العذب المتفجر منھا ،والمتدفق بغزارة ليلتقي
بماء الخليج الملح ،دون أن يختلط أو يمتزج به ،واللؤلؤ ،كباره وصغاره ،الذي
يوجد ويستخرج من موضع التقاء الماءين والتماس بينھما ،ھو ما تصفه آيات
سورة الرحمن.
ومن ھذا المثال او النموذج تعرف قاعدة ،وھي أنه عند النظر العابر أو
المتسرع ،أو عند عدم االنتباه وافتقاد الدقة ،قد تتوھم أن اآلية أو اآليات في
القرآن يمكن تفسيرھا بأشياء متعددة ،تبدو متشابھة ،أو أنھا تنطبق كلھا على ما
تخبر به اآليات ،إال أنه عند التمھل والتأمل والتعامل بميزان حساس مع األلفاظ
والكلمات ،يستبين أنھا تعني شيئا ً محدداً له مواصفات خاصة وسمات محددة،
وال تنطبق إال عليه وحده.
وھي قاعدة ينبغي أن تحتفظ بھا ،لكي تستحضرھا وتتذكرھا وأنت تعرف
المعنى المخصوص إلفساد بني إسرائيل في آيات سورة اإلسراء.
ٔاﳝﻦ وﻏﺮﰊ
وإليك نموذجا ً آخر ترى به كيف تبدو اآلية صامتة أو وحيدة المعنى ،ثم حين
يضم إليھا غيرھا ،وتراھا معاً ،تُفجر التساؤالت وتتدفق منھا المعاني
والمعارف.
E D C B A é è ç æ å ä ã â á à ß Þ
HGF
)( ١
وقد حاول اإلمام أبو حيان التوحيدي ،في تفسيره :البحر المحيط ،حل ھذه
المشكلة ،فقال:
"والجبل نفسه ال يمنة له وال يسرة ،ولكن على يمين موسى بحسب وقوفه
)(٢
فيه"
وھو نفسه حل اإلمام القرطبي ،إذ قال إن جانب الطور األيمن ھو:
"يمين موسى")(٣
( ١مريم.٥٢-٥١:
( ٢اإلمام أبو حيان التوحيدي :تفسير البحر المحيط :ج ،٦ص.١٨٨
( ٣الجامع ألحكام القرآن :ج ١١و ص.١١٤
٥٦
شفرة سورة اإلسراء
وأما غير القرطبي وأبي حيان من المفسرين ،فقد ذھبوا إلى البحث عن نقطة
مرجعية أو مركز لتحديد االتجاھات بنا ًءا عليه أو بالنسبة إليه ،ألنه إذا لم يوجد
ھذا المركز فال معنى ليمين وال يسار.
فذھب اإلمام الطبري إلى أن ھذه النقطة المركزية التي تتحدد االتجاھات
بموقعھا منھا ھي القبلة ،فقال:
)(١
"وإنما ذلك كما يقال :قام عن يمين القبلة وعن شمالھا"
وعلى ذلك فالجانب األيمن لجبل الطور المقصود في اآلية ھو الذي يقع يمين
مستقبل القبلة ،وھي مكة ،فيكون جانب الطور األيمن ھو جانبه الغربي.
"مشرق الشمس ،جھة مشرق الشمس ھي الجھة التي يضبط بھا البشر
)(٢
النواحي"
وبنا ًءا على ذلك ،ذھب الطاھر بن عاشور إلى أن جانب الطور األيمن
المذكور في اآلية ھو جانبه السفلي أو الجنوبي.
ولكنه ،رحمه ﷲ ،اضطر إلى الرجوع عن تفسيره حين وصل إلى قوله
تعالى في سورة القصص:
"أيمن باعتبار أنه واقع يمين مستقبل القبلة ،على طريقة العرب من جعل
)(٢
القبلة ھي الجھة األصلية لضبط الواقع"
واضطر الشيخ الطاھر بن عاشور إلى الرجوع عما قاله في موضع سورة
مريم ،ألنه وجد نفسه قريبا ً من قوله تعالى:
)(٣
NMLKJIHGFEDCBA
فاآلية تنص نصا ً على أن جانب الطور الذي كان به الوعد وعنده اللقاء ھو
الجانب الغربي ،فجانب الطور األيمن ھو جانبه الغربي نصاً.
اآلن سترى كيف يغير جمع اآليات الفھم والمعنى ،ويفتح آفاقا ً ما كانت لتفتح
عند النظر لكل آية وفھمھا بمعزل عن األخرى.
المفسرون افترضوا أن مركز تحديد االتجاھات القبلة ،ثم جعلوا ھذه القبلة
مكة أو البيت الحرام الذي يقع في الجنوب من جبل الطور ،وما قالوه خطأ بنص
القرآن ،ألن ﷲ عز وجل أخبرك في آية أخرى أن قبلة موسى وبني إسرائيل
( ١القصص.٣٠:
( ٢تفسير التحرير والتنوير :ج ،٢٠ص .١١٢
( ٣القصص.٤٤:
٥٨
شفرة سورة اإلسراء
التي أمرھم باتخاذھا ھي بيوتھم ،وبيوتھم في مصر ،في غرب جبل الطور،
وليس في جنوبه ،وذلك في قوله تعالى في سورة يونس:
ثم إنه عز وجل أخبرك في آية ثالثة أنه واعد نقباء بني إسرائيل عند جانب
الطور ،وأخبرھم أن اللقاء عند جانبه األيمن ،وذلك قوله في سورة طه:
)(٢
lkjihgfedc
فلو كانت القبلة ھي مركز تحديد االتجاھات ،لكان الجانب األيمن للطور ھو
جانبه الشمالي وليس الغربي ،والقرآن ينص على أن جانب الطور الذي كان
عنده النداء واللقاء ھو جانبه الغربي.
( ١يونس.٨٧:
( ٢طه.٨٠:
٥٩
شفرة سورة اإلسراء
عن غيرھا من اآليات ،ولو جمعت آية سورة القصص مع آية سورة مريم ،لما
كان ثَمة حاجة إلى البحث عن مركز أو نقطة مرجعية لتحديد االتجاھات وتمييز
اليمين من اليسار ،للوصول إلى الجانب المقصود.
ولكن ثَمة سؤال ينفلق عنه الجمع بين اآليتين ،وھو :إذا كان جانب الجبل
الموصوف باأليمن عرفناه نصا ً من وصفه سبحانه وتعالى بأنه الغربي ،فما
فائدة وصف جانب جبل الطور بأنه أيمن أصالً ،ولماذا لم يخبرنا عز وجل بأنه
الجانب الغربي مباشرة دون حاجة لوصفه بأنه أيمن؟
ألنه لو أخبرنا عز وجل أن جانب الطور الذي واعد عنده موسى والتقاه ھو
الغربي فقط ،النغلقت اآليات وأُصمتت ،وضاع ما ھو مخبوء فيھا .
فا" عز وجل في اآليتين معا ً ال يخبرنا بالجانب الذي التقى فيه موسى
وواعد فيه بني إسرائيل فقط ،بل يعرفنا االتجاه الذي سار فيه موسى أو خط
سيره ،ألنه ال يمكن أن يكون جانب الطور ھو األيمن والغربي في الوقت نفسه
إال في حالة واحدة ،ھي أنه عليه السالم جاء إلى الطور قادما ً من الشمال في
اتجاه الجنوب ،فھذه ھي الكيفية الوحيدة التي يكون بھا الجانب الغربي للطور
عن يمين موسى.
ولو أنه عليه السالم قدم إلى الطور من الجنوب إلى الشمال ،مثالً ،لكان
غرب الجبل عن شماله ال عن يمينه.
٦٠
شفرة سورة اإلسراء
وصفه عز وجل لجانب الجبل بأنه أيمن وأنه غربي ھو إيجاز معجز لخط
)•(
سير موسى عليه السالم ولخريطته المفصلة في سفر الخروج في التوراة
فلو قال عز وجل األيمن فقط لما عرفت وال فھمت شيئاّ ،ألن الجبل ال يمين
له وال يسار ،ولو قال الغربي فقط لفقدت اتجاه حركة موسى عليه السالم وخط
سيره.
بقي أنه حين تجتمع اآليات معا ً تشع بطبقة من المعرفة أعمق وأشد بريقاً،
ولكن رؤيتھا واالنتباه إليھا وإدراكھا يحتاج إلى معارف من خارج القرآن.
ال معنى إلدراك بني إسرائيل ،حين أخبرھم موسى عليه السالم بالموعد ،أن
جانب الطور األيمن ھو الغربي ،إال أن األيمن ھو الغربي مطلقاً ،وبصرف
النظر عن اتجاه الحركة ،فكيف يكون ذلك؟
لكي تدرك ذلك وتفھمه البد أن تتذكر أوالً أن موسى عليه السالم ولد في
مصر ،وربي أميراً مصريا ً في قصر فرعون ،حاكمھا ،فثقافته وعلومه ،قبل أن
يمتن ﷲ عز وجل عليه باصطفائه ،مصرية ،وكذلك بنو إسرائيل ،فقد كانوا
• ( انظر خريطة لخط سير موسى عليه السالم وبني إسرائيل في اتجاه جبل الطور ،في ملحق الصور.
٦١
شفرة سورة اإلسراء
يعيشون بين المصريين وأخذوا عنھم علومھم ومعارفھم ،وحين قدم موسى عليه
السالم إلى الطور وحين قدموا ھم إليه بعد ذلك مع موسى ،لم تكن التوراة
أنزلت عليھم وال صاروا أھل كتاب ،فحتى ھذه اللحظة كانت معارفھم ھي
معارف المصريين.
وعند المصريين القدماء اليمين ھو الغرب مطلقاً ،ألن المصري القديم كان
يحدد االتجاھات بأن يستقبل النيل اآلتي من الجنوب ،وھو عنده واھب الحياة،
فيكون ما على يمينه ھو الغرب وما على يساره ھو الشرق.
ولذلك في مصر القديمة كان المصري يعُد كل ما يقع عن يمينه غرباً ،ويعبر
عن اليمين والغرب بكلمة واحدة في النطق وعالمة واحدة في الكتابة ،وكذلك
كل ما على شماله ھو عنده شرق ،ويعبر عن اليسار والشرق بكلمة واحدة
وعالمة واحدة.
والكلمة الواحدة التي تعبر عن اليمين والغرب في مصر القديمة تنطق ،كما
ضبطھا السير آالن جاردنر ،Alan Gardinerفي كتابه :فقه اللغة المصرية
القديمة :Egyptian Grammar
)(١
"إمنت ،Imntوالعالمة التي تدل عليھا في الكتابة صقر يمسك ريشة"
ومن ھذا النموذج تعرف قاعدة أخرى سوف تراھا في صدر سورة اإلسراء،
وھي أن القرآن يسمي األعالم واألماكن والمواقع والجھات بأسمائھا التي تُعرف
وتسمى بھا عند أھلھا في زمانھم الذي يتكلم عنھا فيه.
• ( انظر صورة للعالمة التي تدل على الغرب واليمين ،وأخرى للتي تدل على الشرق واليسار في ملحق
الصور.
٦٣
شفرة سورة اإلسراء
٦٤
شفرة سورة اإلسراء
٦٥
شفرة سورة اإلسراء
٦٦
شفرة سورة اإلسراء
فھذه كلھا أھداف ساكنة وغايات جامدة ،وتجعل مكان القرآن المتاحف ال
حياة البشر ،وال فرق حينئذ بينه وبين برديات المصريين القدماء وآثارھم وما
فيھا من أخبار وحقائق عنھم وعن زمانھم.
القرآن بيان اإلله الحي إلى خلقه ،وھو نص لفھم الوجود ولصناعة الحياة
بھذه المعارف واألخبار.
ولو لم يأت القرآن بھذه الغيوب ويُعرف اإلنسان بحقائقھا الختل تكوينه
ووعيه ،ولتقلقل بناء ذھنه ونفسه ،والضطرب فھمه لألشياء واألحداث والزمان
والتاريخ ،بل والختل واضطرب فھمه لذاته وفقد كينونته.
ومما يغفل عنه كثير من الناس أن الصورة التي يعرف بھا اإلنسان الماضي
تتحكم في فھمه لحاضره وإدراكه لمستقبله ،فإذا عرف اإلنسن الماضي مشوھا ً
أو محرفا ً تشوه إدراكه للحاضر والمستقبل.
٦٧
شفرة سورة اإلسراء
منھج القرآن ،وما يريد ترسيخه في وعي البشر وأذھانھم ،من خالل ما
أورده من قصص وأخبار ،أنه ال يمكنك أن تفھم ما يحدث في الحياة فھما ً
صحيحا ً إال إذا عرفت ما حدث على وجھه الحقيقي والصحيح.
ولذا إذا أخبرك القرآن بقصة وكررھا وألح في إخبارك بھا فھذا يعني أن ھذه
القصة وما تحويه من حقائق لھا موقع محوري في تكوين وعي اإلنسان الذي
يرى ويفھم به كل شئ ،وأن افتقادھا أو إخفاءھا أو تحريفھا والعبث بمكوناتھا
يؤدي إلى خلل في تكوين اإلنسان وفي فھمه لكل شئ في الوجود والحياة.
ولم يخبرك القرآن بقصة ،ويكررھا ويلح في إخبارك بھا وبتفاصيلھا ،قدر
تكراره لقصة الخلق ،وقدر إلحاحه على تعريفك بتفاصيلھا ،وال يضارعھا في
ذلك سوى سيرة بني إسرائيل!
قصة الخلق ،ومن خالل ما ترويه عما حدث لإلنسان في المأل األعلى ،وما
واكب ھبوطه منه إلى األرض وبدء مسيرته عليھا ،ھي التي تعرف اإلنسان
أصله وحقيقته :ماذا يكون ،ومن أين أتى ،وكيف أتى إلى األرض ،ولماذا ،وما
سبب وجوده عليھا ،وما مھمته فيھا ،وإلى أين يذھب بعد أن يودعھا ،وھي التي
تعرفه باإلله الذي خلقه ،ووھبه العلم والمعرفة ،ومنحه ملكاته وقدراته ،وتعرفه
بالشيطان عدوه وتربصه به ،وبالكون والطبيعة والمخلوقات وموقفه منھا،
والعالقة التي يجب أن تكون بينه وبينھا.
٦٨
شفرة سورة اإلسراء
قصة الخلق ھي خريطة الوجود والبوصلة التي يعرف بھا اإلنسان البداية
والنھاية وأين موقعه من الزمان وما عالقته بالوجود ،ومن غير ھذه الخريطة
والبوصلة ،اإلنسان بالضبط كتائه في صحراء الزمان ،وجد نفسه في قلبھا وال
يعلم االتجاھات ،وال بدايتھا وال نھايتھا ،وال فى أي بقعة ھو منھا ،وال أين ھي
كلھا من العالم ،فكل األشياء فيھا متشابھة.
وحينئذ إذا ظھر له أحد داخل ھذه المتاھة التي ال يعلم كيف دخلھا ،وكيف
وإلى أين سيخرج منھا ،وأعطاه أي خريطة ،وأشار إلى أي مسار فيھا ،فسيتبعه
طائعا ً مختاراً ،وھو في الحقيقة مجبر ال اختيار له.
فإذا كانت الخريطة التي يمنحھا له ھذا الذي ظھر له مزورة ،فقد أضله
وزاده تيھا ً وھو ال يدري ،وحينئذ ال يكون أمامه إال أن يحصر وعيه وذھنه في
اللحظة التي ھو فيھا وال يشغلھما بما قبلھا وال بما بعدھا ،وفي البقعة التي ھو
فيھا فال يرنو إلى ما خلفھا.
من غير قصة الخلق يفقد اإلنسان كينونته ومعنى وجوده ،ويختل تكوينه
الذھني والنفسي ،ويصبح حائراً يساءل كل شئ حوله وال شئ يجيبه ،كما يقول
لبيد بن ربيعة:
وتبقى الجبال بعدنا والمصان ُع بلينا وما تبلى النجوم الطوالع
يحور رماداً بعد إذ ھو ساط ُع وما المرء إال كالشھاب وضوئه
٦٩
شفرة سورة اإلسراء
فال يجد أمامه وحوله إال أن يسأل النجوم في السماء ،والجبال والتالل في
الصحراء ،والنخيل في القرى والواحات ،فإذا لم يجد منھا إجابة قال حزينا ً
آيساً:
وربما قلت :لبيد بن ربيعة ھذا كان يعيش في صحراء بيداء قفر خالء من
الحضارة ،فمن الطبيعي أن يكون تائھا ً حائراً يساءل الصم الخوالد وال يجد
إجابة لتساؤالته.
ونقول لك :بل وفي القرن العشرين فشلت الحضارة والمدنية بزينتھا
وزخرفھا وتقنياتھا أن تحل محل خريطة الوجود في قصة الخلق ،وفي أن تحقق
لإلنسان كينونته ومعنى وجوده ،فما زال اإلنسان في زمن الصعود إلى القمر
يسأل ما كان يسأله في الزمن الذى كان فيه يعبد القمر.
قصير؟
ْ وطريقي ،ما طريقي؟ أطوي ٌل أم
وأغور
ْ ھل أنا أصع ُد أم أھبِط فيه
يسير
ْ ّرب
ب أم الد ُ
سائر في الدّر ِ
أأنا ال ّ
أم كالّنا واقفٌ والدّھر يجري؟
لست أدري!
٧١
شفرة سورة اإلسراء
عقول آسناتْ
ٍ غير أنّي لم أجد َ
غير
وقلوب بليت فيھا المنى فھي رفاتْ
غيري أعمى؟
َ ما أنا أعمى فھل
لست أدري!
ق فيه الناسكينا
ّير استنط ُ
قد دخلت الد َ
فإذا القوم من الحيرة مثلي باھتونا
اليأس عليھم ،فھم مستسلمونا
ُ غلب
وإذا بالباب مكتوب عليه ...
لست أدري!
المقابر
ْ ولقد قلتُ لنفسي ،وأنا بين
الحفائر؟
ْ ت األمنَ وال ّراحةَ إالّ في
ھل رأي ِ
المحاجر
ْ فأشارتْ ،فإذا للدّود ع ٌ
َيث في
سائل إني ...
ثم قالت :أيّھا ال ّ
لست أدري!
٧٢
شفرة سورة اإلسراء
ونشور
ْ أوراء القبر بعد الموت ٌ
بعث
فحياةٌ فخلو ٌد أم فنا ٌء ود ْ
ثور
أكالم النّاس صدق أم كالم الناس ْ
زور
أصحيح أنّ بعض الناس يدري؟ ...
لست أدري!
٧٣
شفرة سورة اإلسراء
لست أدري!
وإيليا أبو ماضي يخبرك في قصيدته أنه سأل البحر والدير والمقابر وكل ما
رآه حوله ،ولو أنه ولﱠى وجھه شطر بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه ،وسأل خريطة
الوجود اإللھية ،لوجد ما يُذھب حيرته وما يجيب على تساؤالته ،كما وجد لبيد
بن ربيعة ما خرج به من التيه وھداه.
قصة الخلق ،على أي صورة كانت ،ھي المصدر األول لتكوين وعي اإلنسان
ونفسه وذھنه ،وھي التي تتحكم في كل ما يتكون فيھا ،وفي كل ما تنتجه
ويخرج منھا.
وإذا أخفى أحد خريطة الوجود الحقيقية التي تجيب على ھذه األسئلة إجابة
صحيحة ،فقد حول الوجود إلى متاھة يضل فيھا البشر في كل اتجاه ،ويدورون
حول أنفسھم بال نھاية ،ودون أن يصلوا إلى إجابة ،ألن اإلجابة فوق قدرات
اإلنسان وما يمتلكه من وسائل للمعرفة.
وإذا حجب أحد خريطة الوجود الحقيقية وأخرج للبشر خريطة مزورة،
وتعمد أن يعبث بھا وبمكوناتھا لكي يضللھم فيھا عن اإلجابات الصحيحة ،يكون
بذلك قد أفسد وعيھم وأذھانھم ونفوسھم ،وأفسد كل ما يتكون فيھا وكل ما تنتجه
ويخرج منھا من أفكار ونظريات وفلسفات ،ومن آداب وعلوم وفنون ،وھو في
الحقيقة الذي يحكم وعي البشر ويتحكم في كل ما ينتجونه.
وھا ھنا بداية أن تعرف صلة بني إسرائيل بقصة الخلق وخريطة الوجود.
ما أفرده ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه لبني إسرائيل من مساحة ھائلة ،وما
أواله من عناية لسيرتھم لم يولھا ألحد غيرھم ،ألن إخفاء خريطة الوجود
اإللھية الحقيقية ،وكتمھا وتحريفھا ،وإخراج ھذا التحريف للبشر ،وبثه في
وعيھم ،وصناعة حياتھم به ھو عمل بني إسرائيل الرئيسي في التاريخ ،وھو
دورھم وموقعھم المحوري من سيرة البشر.
لذا سيرة بني إسرائيل في القرآن ،وفھم موقعھم من البشرية ودورھم في
التاريخ وآثارھم في األمم يبدأ من عند قصة الخلق ،وبفھم خريطة الوجود.
٧٥
شفرة سورة اإلسراء
) •(
المبثوثة والقرآن نفسه يدلنا على ذلك بأسلوبه المعجز والرسائل المشفرة
في صياغات آياته.
• ( لمنع االلتباس ،المراد بالتشفير ھنا التشفير اللغوي وليس الرموز وال اإلشارات الباطنية.
٧٦
شفرة سورة اإلسراء
ﰲ اﳌ ٔﻼ ا ٔﻻﻋﲆ
يقول عز وجل في بيانه إلى خلقه:
)(١
¬®¯½¼»º¹¸¶ µ´³²±°
)(٢
QPONMLK
ويقول عز وجل:
| { z y x w v u t s r q p o n m l k
}~
)( ٣
( ١ص.٧٥:
( ٢التين.٤:
( ٣ص.٧٢-٧١:
٧٧
شفرة سورة اإلسراء
)(١
»¼½¾¿ÃÂÁÀ
يقول عز وجل:
)(٢
zyxwv
وما أخبرك به عز وجل في بيانه إلى خلقه من حقائق ال مصدر لھا إال
الوحي ينسف الداروينية ونظرية التطور ،ويطيح بأصولھا وما قامت عليه وما
قامت ألجله ،فمنبع الداروينية وھدفھا الحقيقي نفي الخلق ،ومن ثَم إزاحة
الوجود اإللھي من وعي البشر ومن أذھانھم ونفوسھم ،وإزالة الوحي وآثاره من
حياتھم ومجتمعاتھم.
الداروينية التي تجيب على األسئلة التي ال إجابة عليھا إال من الوحي،
وغايتھا الحقيقية أن تحل محله ،ليست نظرية علمية ،بل ھي عقيدة أو ديانة،
وھي ديانة باطلة وإحدى ثمار تحريف الوحي ،ومن ابتكروھا ويؤمنون بھا
يعلمون أنھا ليست سوى بديل لإلله والخلق اإللھي.
"إن نظرية النشوء واالرتقاء غير ثابتة علميا ً وال سبيل إلى إثباتھا
بالبراھين ،ونحن نؤمن بھا ألن البديل الوحيد لھا ھو التسليم بوجود خالق
والخلق المباشر ،وھو ما ال يمكن حتى مجرد التفكير فيه"!
( ١التحريم.٦:
( ٢البقرة.٣٤:
٧٨
شفرة سورة اإلسراء
وأما العجيب فھو أنه في الوقت الذي كان يقر فيه أصحاب النظرية وأھلھا
أنھا مليئة بالفجوات التي ال تستطيع اإلجابة عليھا ،كان نفر من الحمقى في بالد
العرب ،من أمثال أحمد لطفي السيد وإسماعيل مظھر وسالمة موسى،
يعتبرونھا مقدسا ً ال يأتيه الباطل من بين يديه وال من خلفه ،ومن يعارضھا وال
يؤمن بھا ويعتنقھا عندھم رجعي ومتخلف!
وأما الشيطان في خريطة الوجود اإللھية وقصة الخلق الحقيقية ،فھو عدو
اإلنسان الذي حسده على مكانه من اإلله ومكانته عنده وموقعه من الوجود
ومھمته التي خلقه عز وجل وشرفه من أجلھا ،فعصى ،لعنه ﷲ ،أمر اإلله عز
وجل وأبى السجود آلدم استكباراً وتمرداً ،فطرده عز وجل من رحمته وجعله
ملعونا ً إلى يوم الدين.
وھو لعنه ﷲ إذ طرد من رحمة ﷲ عز وجل وأبلس منھا وعلم مصيره ،نذر
نفسه لغواية اإلنسان وإضالله ،كي يثبت خطأ ﷲ ،عز وجل وتعالى عن ذلك،
في اختياره.
( ١الحجر.٣٥-٣٣:
٧٩
شفرة سورة اإلسراء
وجعل مھمته في الوجود إخراج ھذا الكائن المشرف المفضل عليه عن
مھمته وتضليله عنھا حتى يكونا سوا ًءا بسواء.
| { z y x w v u t s r q p o n m
)(٢
}~_ ` edcba
واآلن بعد إذ علمت ماذا يكون الشيطان في خريطة الوجود اإللھية الحقيقية،
إليك نموذجا ً تعرف منه ماذا يكون الشيطان في وعي النخب األدبية والثقافية في
بالد العرب ،لتدرك أي خريطة وجود تلك التي كونت نفوس ھذه النخب
وصنعت أذھانھم في عصرھم الحديث.
الرياح
ْ للشيطان .....معبود
ِ المجد
من قال ال في وجه من قالوا نع ْم
العدم
ْ من علم اإلنسان تمزيق
من قال ال ...فلم يمتْ
)(٣
وظل روحا أبدية األل ْم
( ١اإلسراء.٦٢:
( ٢األعراف.١٧-١٦:
( ٣الشاعر أمل دنقل :األعمال الكاملة ،ص.١١٠
٨٠
شفرة سورة اإلسراء
الشيطان ھو الذي علم اإلنسان تمزيق العدم وحقق له وجوده وكينونته !!
فھل أدركت اآلن لماذا ھو مشوه وعي ھذه النخب ،ولماذا ھي مختلة أذھانھم
ونفوسھم ،ألن ما تكونت به ويحكمھا ويتحكم في كل ما يتكون فيھا وتنتجه ليس
سوى خريطة الوجود البني إسرائيلية ،ووصول ھذه الخريطة إلى بالد العرب
وإزاحتھا لخريطة الوجود اإللھية من وعي أھلھا وحلولھا محلھا ھو إفساد بني
إسرائيل وعلوھم في األرض الكبير.
٨١
شفرة سورة اإلسراء
كيف ظھر اإلنسان على األرض ،ھل كان وجوده على ھذا الكوكب الذي
يبدو كل شئ فيه معداً الستقباله مصادفة عشواء؟!
وإذا كان اإلنسان في مأل أعلى ،فما الذى حدث لھذا إلنسان في المأل األعلى
فأُھبط إلى األرض ،ھل كان وجوده على األرض عقابا ً له ،ھل كان قدره
ومصيره المحتوم من غير غاية له على األرض وال ھدف؟
ھل اإلنسان جاء إلى األرض ليكون قائداً وخليفة أم لعقابه وتعذيبه ،وھل
األرض مقر اإلنسان ومركز قيادته ومحل عرشه أم ھي ملعونة وھي سجنه
ومعتقله؟
ھذه الفترة بين وجود اإلنسان في المأل األعلى وبين بداية مسيرته على
األرض ھي فجوة في كل العقائد والفلسفات والحضارات والديانات والكتب عدا
القرآن ،بيان ﷲ عز وجل وتبيانه لخلقه.
ھذه الفجوة بين وجود اإلنسان في المأل األعلى وبين وجوده على األرض
ھي تاريخ العالم كله ،وھي كل مشاكله ،وكل عقائده ،وكل فلسفاته ،وكل إيمانه،
وكل إلحاده.
٨٢
شفرة سورة اإلسراء
فكما يخرج المولود من بطن أمه ،من بطن ھذه الفجوة بين ظھور اإلنسان
على األرض وما سبق ھذا الظھور ،ومن الضرب أخماسا ً فى أسداس من أجل
تفسيرھا وملئھا ،خرجت كل ضالالت الغرب ونظرياته وفلسفاته وفھمه
للوجود ،قبل نھضته وبعدھا ،ومنھا خرجت كل أساطير الشرق وخرافاته.
ماذا حدث حقا ً بين وجود اإلنسان في المأل األعلى وبين الھبوط منه إلى
األرض؟
يقول عز وجل:
´ ³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª © ¨ § ¦ ¥
)(١
¹¸¶µ
أمر ﷲ عز وجل آدم أن يأكل من ثمار الجنة ونعيمھا ،ونھاه ابتال ًءا واختباراً
له أن يقرب شجرة لم يعين القرآن اسمھا وال نوعھا وال ما تثمره.
ھي شجرة فقط ونوعھا ال عالقة له بما حدث ،وال يغير معرفته أو جھله من
فھمه شيئاً.
واإلمام الطبري نقل أقواالً عديدة في تفسيره تعين نوع الشجرة ،بعضھا
يقول إنھا سنبلة ،أو أنھا شجرة تين ،أو أنھا كرمة ،أو شجرة عنب ،أو شجرة
بُر.
( ١البقرة.٣٥:
٨٣
شفرة سورة اإلسراء
وكل ما نقله الطبري في تعيين نوع الشجرة تخمينات ال أصل لھا ،عقب
عليھا ھو رحمه ﷲ بقوله:
"وذلك علم إذا عُلم لم ينفع العال َم به عل ُمه ،وإن جھله جاھل لم يضره
)(١
جھله به"
ﺿﺤﻚ ﻛﺎﻟﺒﻜﺎ:
سوف تعرف عندما تصل إلى قصة الخلق البني إسرائيلية المحرفة أن تحديد
نوع الشجرة في خريطة الوجود المزورة التي أخرجھا بنو إسرائيل للناس كان
أحد األركان الرئيسية في التحريف والتزوير ،وھو التحريف الذي صنع وعي
الغرب وكونه ويحكم كل ما يتكون فيه وما ينتجه عبر عصوره كلھا.
ولكن ما نتوقف عنده ھاھنا لطرافته ھو أنه مما شاع في القصص والروايات
واألفالم والمسلسالت ،وفي الصحف والمجالت ،حتى صار من الثقافة العامة
أن الشجرة التي أكل منھا آدم وكانت سببا ً في إخراجه من الجنة كانت شجرة
تفاح.
فإليك مثاالن ،أحدھما ألديب كبير في بدايات القرن العشرين ،والثاني ألستاذ
جامعي وناقد أكاديمي من بدايات القرن الحادي والعشرين ،لكي تعرف من ھذه
األمثلة أن التوراة وثقافتھا ھي الرافد الذي تكون به العقل العربي والبناء الذھني
والنفسي لبالد العرب في العصر الحديث ،عبر تسربھا في اآلداب والفنون
ووسائل اإلعالم والثقافة الشعبية ،بل وعبر تسربھا في الدراسات العلمية
واألكاديمية.
في كتابه الشھير :صندوق الدنيا ،كتب األديب إبراھيم عبد القادر المازني
قصة قصيرة عنوانھا :من مذكرات حواء ،قال إنه يحاكي فيھا قصة :من
مذكرات آدم لألديب األمريكي مارك توين ،فإليك ھذه العبارة لتعرف أي حواء
تلك التي دون أديب بالد العرب مذكراتھا:
"بعد أربعة أيام طوال وجدت آدم فألقيت عند قدميه الغصن الذي قطعته من
الشجرة المحرمة مثقالً بالتفاح الشھي ،فنظر َ
إلي نظرة استغراب وسألني عن
ھذا الورق الذي أستر به جسدي ،فقلت ستعرف ھذا متى أكلت من التفاح،
فانتزعه مني فعراني فخجلت ،فقال لقد علمت أنك اكلت منه فھاجت الوحوش
وھمت بأكلي")!(١
فحواء التي يعرفھا األديب العربي وتكون بھا رأسه ويكتب مذكراتھا ،ھي
حواء التحريف البني إسرائيلي ،التي أكلت من شجرة التفاح وأغوت آدم ليأكل،
ال حواء الوحي وخريطة الوجود اإللھية.
فربما قلت لنفسك :ھذا أديب واسع الخيال ال يؤاخذ على ما تبدعه قريحته،
واألدب تتالقى مياھه وتختلط أمواجه.
يكون
فإليك النموذج الثاني :الناقد األدبي واألكاديمي واألستاذ الجامعي الذي ﱢ
عقول الناشئة ونفوسھم في إحدى الجامعات ،في البالد التي أنزل عليه الوحي
وتكونت بخريطة الوجود اإللھية ،ومن غيره وغيرھا ما كان لھا وجود.
"...وھي صورة ال يملك القارئ وھو يتأملھا إال أن يتذكر تاريخ البشر
األزلي في قصة الوجود األولى كما رسمھا القرآن الكريم ممثلة في حادثة أبينا
آدم مع حواء ...فحواء كانت ھي اللحظة الحساسة في تاريخ البشر منذ
تواجه معھا آدم على مشھد التفاحة وھي تقدمھا له ليأكل منھا وھو يضعف
أمامھا ناسيا ً تحذير ﷲ سبحانه وتعالى له من الفاكھة المحرمة ،وأخيراً ينسى
نفسه فيأكل من الحرام ويأثم ،وعندئذ يحكم ﷲ عليه بالھبوط إلى المنفي
)األرض(")!!(١
ھل في قصة الوجود األولى كما رسمھا القرآن الكريم تفاحة ،وفي أي سورة
أو موضع فيه وجد أن حواء ھي التي أكلت ثم قدمت الفاكھة المحرمة آلدم
وأغوته باألكل منھا ،ھل قال ﷲ عز وجل لنا في خريطة الوجود التي أنزلھا في
بيانه وحفظھا بحفظه أن األرض لإلنسان منفى ،ووجوده فيھا عقوبة؟!
فإذا أخفينا عنك اسم ھذا الذي قرأت ما كتبه ،وحجبناه عنك ولم نعرفك به،
وطلبنا منك ان تخمن ماذا يكون ،فاختر إجابة للسؤال التالي:
ھل ھو:
ثم قل لنفسك بعد ذلك :فليكن ما يكون ،ولكن كيف صار أستاذا جامعيا ً في
علم نقد النصوص ،بل كيف حصل على الدكتوراة في النقد ،ومن الذي منحه
إياھا وھو اليعرف الفرق بين قصة الخلق في القرآن وقصة الخلق في التوراة؟!
واآلن نعرفك من أين أتت التفاحة التي تمتلئ بھا ھذه األدمغة المختلة.
كوْ ن الشجرة التي ُمنع آدم من األكل منھا في الجنة كانت شجرة تفاح معلومة
ال أصل لھا ،وال وجود لھا ال في سفر التكوين في التوراة العبرية ،وال في أي
ترجمة معتمدة لھا ،وإنما مصدرھا يھودي إغريقي اسمه أكويال بونتيكس
،Aquila Ponticusكان يعيش في القرن الثاني الميالدي ،وقام بترجمة العھد
القديم ترجمة روائية أدبية لم يلتزم فيھا بالنص العبري ،وإنما أدخل فيھا خياله
وحول الترجمة إلى قصص وحكايات ،فكان مما أدخله في الترجمة من خياله أن
الشجرة المحرمة في الجنة كانت شجرة تفاح.
٨٧
شفرة سورة اإلسراء
أما الحق ،فھي شجرة فقط ،وال يفرق نوعھا في قصة الخلق ،وال عالقة له
بما حدث.
¦§¨©¶µ´³²±°¯®¬«ª
)(١
¸ÁÀ¿¾½¼»º¹
والشجرة لم تكن شجرة خلد في الحقيقة ،وإنما كان وصفھا بذلك من وسوسة
الشيطان آلدم وإغوائه له ،كما أخبرك عزوجل:
srqponmlkjihg
t
)(٢
والقرآن ينسب وسوسة الشيطان آلدم وليس لحواء ،ثم إنھما أكال منھا معا ً
ودون إغواء أحدھما لآلخر:
)(٣
~}|{zyxwvu
فآدم وزوجة أكال معا ً ولم تكن امرأته ھي المسؤولة وحدھا ،وال ھي التي
أغوت آدم ليأكل.
(١األعراف.٢٠:
( ٢طه.١٢٠:
( ٣طه.١٢١:
٨٨
شفرة سورة اإلسراء
وتحريف ھذه الحقيقة ھو البذرة التي نمت منھا شجرة أن المرأة سبب شقاء
الرجل بإخراجه من الجنة ،وأن مھمتھا في الوجود الغواية ،وأنھا رسول
الشيطان إلى الرجل ،وھي البذرة التي رواھا ونماھا عبر التاريخ وبثھا في
العقائد واألفكار من بذروھا في خريطة الوجود المحرفة ،ليرسخوا في أذھان
البشر أن الرجل والمرأة في صراع دائم وأن كالً منھما في مواجھة اآلخر ،ثم
وفروا لھما معا ً الحطب والوقود الذي يجعل الصراع أبدياً ،عبر النظريات
والفلسفات والقصص والروايات واألفالم والمسلسالت.
فإليك نموذجا ً آخر من بالد العرب على الوعي المختل والتكوين المشوه،
تعرف منه أصل مسألة تحرير المرأة ،وعلى أي أسس وبأي شئ تكونت
حركاتھا ،وتدرك به أن خريطة الوجود المحرفة ،الجرثومة التي أطلقھا بنو
إسرائيل في وعي البشر ومجتمعاتھم بعد ان حجبوا خريطة الوحي الحقيقية،
ھي النبع الذي يتدفق منه الفساد عبر العصور ،وفي كل األمم والشعوب.
أشھر داعية لتحرير المراة ومساواتھا التامة بالرجل ،وأشدھن شططا ً في
زمانك ھذا دكتورة نوال السعداوي ،وكل كتب نوال السعداوي ونظرياتھا
وأفكارھا عن تحرير المرأة قائمة على خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وليست
سوى بناء عليھا ،أو امتدادات لھا ،أو فروع منھا.
ففي كل كتبھا بال استثناء تبدأ بسرد قصة الخلق البني إسرائيلية وما فيھا من
إغراء حواء آلدم باالكل من الشجرة وتحميلھا وزر إخراجه من الجنة إلى منفاه
ومحل عقوبته في األرض ،ثم تشرع في سب األديان جميعاً ،والتنظير لطرحھا
والتخلص منھا وإحالل نظرية التطور محلھا ،ألنھا بما نسبته لحواء كانت
٨٩
شفرة سورة اإلسراء
السبب في جعل المراة في مرتبة أدنى من الرجل وفي ازدرائھا عبر التاريخ
كله ،بل وتتطاول على الذات اإللھية ،ألن الجرثومة البني إسرائيلية بالت في
رأسھا أن اإلله تجنى على االنثى ونسب الشر لھا ولم ينسبه للذكر.
فإليك من كتابھا :الرجل والجنس ھذا الحوار الذي دار بينھا وبين أبيھا ،وھي
في السنة األولى من المرحلة الثانوية حول ضمير المذكر وضمير المؤنث ،لكي
تعرف منه أن إلحادھا وتشوه وعيھا والخلل في تكوينھا ،وشطط كل ما يدركه
وما ينتجه ھذا الوعي المشوه والتكوين المختل ليس سوى بعض من آثار سريان
الجرثومة البني إسرائيلية في بالد العرب وضربھا لعقول أھلھا ونفوسھم.
"وقال أبي ...:وآدم كان أكثر سمواً من حواء ألنه كان االصل ،أما حواء
فلم تكن إال أحد أضالعه ،وھي التي أغرته أن يأكل من الشجرة المحرمة.
قلت بدھشة :فكيف تكون حواء جز ًءا صغيراً من آدم وھي األضعف ومع
ذلك تصبح ھي األقوى فجأة فتقنعه بأن يخالف ﷲ ويسمع آدم كالمھا ،حواء
ليست ھنا ضعيفة بل إنھا قوية وأقوى من آدم ،وھي الطرف اإليجابي وآدم
ھو السلبي.
وقال أبي :نعم ولكن إيجابية حواء كانت في الشر فقط ...لوال حواء لبقي
آدم في الجنة ،وقد نسب الشر إلى حواء ونسب الخير إلى آدم ،وھذا ھو
السبب في مخاطبة ﷲ بضمير المذكر :ھو.
قلت ألبي :ولكن حواء لم تكن السبب في الشر ،ألن إبليس ھو الذي أشار
عليھا أن تغوي آدم باألكل من الشجرة المحرمة ،أي إن إبليس ھو سبب الشر
٩٠
شفرة سورة اإلسراء
في العالم ،وإبليس مذكر ...فلماذا ألصقت تھمة الشر والشيطنة وإغراء آدم
لحواء؟
بعد ان قرأت ھذا الحوار الطريف ،الذي يشخص لك حقيقة مرض نوال
السعداوي ،ويعرفك بالفيروس الذي شوه عقلھا ونفسھا ووجدانھا ،فال ينبغي أن
يكون قد فاتك أن أباھا ،الذي يبدو لك أنه يحامي عن اإلله ،ال يفرق عنھا في
شئ ،فھي تتھم وھو يبرر ويفسر ،وكالھما عقله وتكوينه محصور داخل
خريطة الوجود البني إسرائيلية وما فيھا من جراثيم وليس في وعيه غيرھا.
ھاھنا وقفة حاسمة فاصلة بين القرآن وبين الغرب وكل ما أنتجه وأنتجته
األمم والشعوب والحضارات من أساطير ومن نظريات ومن فلسفات ،بعد أن
غابت الحقيقة التي ال مصدر لھا إال اإلله وحده.
أكل آدم من الشجرة فأخطأ ،لكنه لم ينزل إلى األرض مباشرة بعد خطئه ،بل
ھناك حدث بين عصيانه ألمر ربه وبين نزوله إلى األرض.
وھذا الحدث الذي أتى به اإلله عز وجل في بيانه إلى خلقه ،ليضئ عقولھم،
وليكون بناء أذھانھم وتكوين نفوسھم ومصدر وعيھم ،تنھار به كل األساطير
والخرافات والنظريات والفلسفات التي أنتجھا الغرب والشرق ،ماذا حدث؟
تاب آدم!
)(١
ÜÛÚÙØ× ÖÕÔÓÒÑÐ
إذاً تاب آدم وزوجة وأنابا إلى ﷲ ،واعترفا بجھلھما وذنبھما ،وطلبا منه عز
وجل الرحمة والمغفرة.
)(٢
MLKJIHGFEDCBA
واألمر بالھبوط إلى األرض لإلنسان األول كان بعد ھذه التوبة ،وبعد قبولھا،
وبعد أن صار بتوبته في ھداية ﷲ عز وجل ونوره .
ومن المثير لالنتباه أن القرآن ال يذكر األمر آلدم عليه السالم وزوجه
بالھبوط إلى األرض إال بعد ذكر توبته وقبولھا:
)(٣
DCBAÜÛÚÙØ× ÖÕÔÓÒÑÐ
)(٤
§¨©³ ²±°¯®¬«ª
فإليك نموذج آخر على ما يضحك ويبكي يعرفك الماء الذي يسري في عقول
الساسة ومن يكتبون في السياسة في بالد العرب ،من أين ينبع وما الذي يلوثه.
( ١البقرة.٣٧:
( ٢األعراف.٢٣:
( ٣البقرة.٣٨-٣٧:
( ٤طه.١٢٣-١٢٢:
٩٢
شفرة سورة اإلسراء
في يوم الثالث والعشرين من أغسطس سنة ٢٠١١م نشرت صحيفة األھرام
المصرية مقاالً سياسيا ً للخبير االستراتيجي والمفكر السياسي دكتور عبد المنعم
سعيد عنوانه :الخطيئة األصلية ،افتتحه بھذه العبارة:
"عندما قضم آدم التفاحة ارتكب الخطيئة االولى التي بعدھا بات على
اإلنسان أن يدير حياته على األرض ،ومع اإلدارة جاءت السياسة")!(١
ألم يفتح ھذا المصحف ولو مرة واحدة في حياته ،ألم يمر في مراحل تعليمه
كلھا بأحد يُعرفه أن آدم تاب قبل ان يھبط إلى األرض ،وأن ﷲ عز وجل ھو
الذي وھبه العلم والمعرفة؟!
الذي يسري في عقول الساسة ومن يشتغلون بالسياسة في بالد العرب ،وما
يحكم وعيھم وما ينتجه ليس سوى ماء خريطة الوجود المحرفة.
فإذا ما تساءلت :من أين ،وكيف تلوث عقل ھذا وأمثاله بالتحريف ،فمما دلنا
ھو عليه دون أن يدري ،من علوم السياسة واإلدارة ،وكلھا نبتت من التحريف
وخريطة الوجود المزورة ،وھي مروية بھا.
ﰲ ﻣﻘﺮ اﳋﻼﻓﺔ
آدم ،اإلنسان األول خلقه ﷲ عز وجل شريفا ً عزيزاً مكرماً ،وابتاله
اختباراً بالشجرة فنسي وأخطأ وأكل منھا ،ثم تاب وأناب إلى خالقه عز
وجل فقبل توبته.
والسؤال اآلن:
إذا لم يكن ھبوط آدم إلى األرض عقابا ً له وال نفيا ً فلماذا إذاً أھبطه عز
وجل إلى األرض؟
ھل اإلنسان جاء إلى األرض ليكون قائداً وخليفة أم لعقابه وتعذيبه،
وھل األرض مقر اإلنسان ومركز قيادته ومحل عرشه ،أم ھي ملعونة
وھي سجنه ومعتقله ومنفاه؟
)(١
IHGFEDCBA
يخبرك ﷲ عز وجل أنه أھبط آدم من المأل األعلى إلى األرض من أجل
مھمة محددة ،ھي أن يكون خليفتة عز وجل فيھا.
( ١البقرة.٣٠:
٩٤
شفرة سورة اإلسراء
إال أن في اآلية حقيقة أخرى كامنة ،وھي أن وجود آدم على األرض
وھبوطه إليھا من المأل األعلى واستقراره فيھا إرادة إلھية وأمر مقرر عليه قبل
أن يوجد وقبل أن يخلق ،ففي ھذا الحوار في المأل األعلى بين ﷲ عز وجل
ومالئكته لم يكن آدم موجوداً ،ولم يكن قد خلق بعد ،ولم يكن قد أدخل الجنة ،وال
نھي عن األكل من الشجرة ،وال ھو أكل منھا.
إذاً ھبوط آدم ووجوده في األرض واستقراره فيھا إرادة ﷲ عز وجل التي لم
يخلق آدم أصالً إال من أجلھا ،بل إنه عز وجل لم يعرف المالئكة بالمخلوق
الذي سوف يخلقه إال من خالل مھمته التي سوف يخلقه من أجلھا ،وھي الوجود
في األرض وخالفته عز وجل فيھا.
فآدم مكانه األرض ومستقره األرض وھبوطه إليھا مقرر مراد قبل خلقه
وھو المقصود من خلقه.
٩٥
شفرة سورة اإلسراء
ﻣﻌﲎ اﳋﻼﻓﺔ
ما ھو بالضبط معنى الخالفة ،المھمة التي خلق ﷲ عز وجل آدم وأبناءه من
أجلھا وأسكنھم األرض للقيام بھا؟
ھذه ھي المھمة التي خلق اإلنسان من أجلھا ،ومن أجلھا أھبط من المأل
األعلى ،أن يكون خليفة ﷲ عز وجل في إمضاء أحكامه وأوامره.
ھذه المھمة التي خلق اإلنسان من أجلھا ،وھي الخالفة عن ﷲ عز وجل في
الكون ،تضع لإلنسان اإلطار الذي ينبغي له أن يتحرك فيه ،والفھم الذي يجب
أن يعيه لنفسه ولعالقته بالكون وبا" عز وجل ،كما توضح له خريطة مسيرته
في الحياة وتضع له العالمات اإلرشادية فيھا.
فاإلنسان ھو الكائن المشرف الذي خلقه خالق الوجود واختاره ،ليكون خليفة
له في األرض والكون كله.
وجعل ﷲ عز وجل عالمة لباقي مخلوقاته على اختيار ھذا المخلوق للخالفة
وتكليفه بھا وتشريفه على من سواه ،وھي أمره عز وجل المالئكة بالسجود له،
ال سجود العبادة ،ولكن سجود إعالن الخضوع ألمر ﷲ عز وجل في إرادته
واختياره ،وإعالن التسليم للمختار بالخالفة والتشريف والطاعة له في إمضاء
أحكام ﷲ عز وجل وأوامره.
)(١
{zyxwv
والمالئكة ھم أطھر خلق ﷲ عز وجل وأقربھا له ،وھم منفذوا أمره وحكمه،
فاألمر لھم بالسجود ھو أمر لكل من سواھم بالسجود والطاعة.
فما ھي مھام اإلنسان ،وما ھو المطلوب منه ليكون خليفة ويحقق إرادة
المستخلف منه وال يخرج عن إطار مھمة الخالفة الموكولة إليه؟
)(٢
FEDCBA
فمھمة اإلنسان التي خلق من أجلھا وأھبط إلى األرض للقيام بھا أن يكون
خليفة ﷲ عز وجل.
ويقول عز وجل:
( ١البقرة.٣٤:
( ٢فاطر.٣٩:
٩٧
شفرة سورة اإلسراء
)(١
ihgfedc
إذاً كيف يمكن حل ھذا اإلشكال ،ھل خلق اإلنسان للعبادة أم للخالفة؟
ال يمكن حل ھذا اإلشكال إال بأن تكون عبادة ﷲ عز وجل ھي الخالفة في
األرض ،وخالفة ﷲ عز وجل في األرض ھي العبادة ،والعبادة والخالفة ،معاً،
ھي مھمة اإلنسان التي من أجلھا خلق وأھبط إلى األرض.
إذاً فلكي تفھم معنى خالفة اإلنسان " عز وجل وطبيعة المھمة الموكولة
إليه ،فالبد أن تفھمھا في إطار أنھا العبادة ،ولكي تفھم معنى العبادة " عز وجل
حق فھمھا البد أن تفھمھا في ضؤ الخالفة ،ألن القرآن يقرر أنھما شئ واحد.
ھل المعنى أن تكون مھمة اإلنسان األولى والوحيدة على األرض أن يصلي
ويصوم ويحج ويؤدي الزكاة ويسبح ويستغفر؟
ھذا ما ال يمكن تصوره ،ألنه لو كان ھو المقصود لما كان لوجود اإلنسان
على األرض معنى ،ولما استطاع أن يعيش على األرض أو يتم مسيرته عليھا،
ألن سعيه في ھذه الحالة وعلمه وعمله وبحثه عن الرزق والضرب في األرض
كلھا تكون خارجة عن مفھوم العبادة ،ومن ثَم عن المراد من الخالفة ،فيكون
اإلنسان بذلك قد خرج عن إطار المھمة التي خلق للقيام بھا.
( ١الذاريات.٥٦:
٩٨
شفرة سورة اإلسراء
إذاً فال يمكن أن يكون معنى العبادة " عز وجل ،في إطار أنھا الخالفة في
األرض والكون ،ھو الفروض والشعائر فقط.
فماذا يكون معنى العبادة في ضوء أنھا الخالفة ومھمة اإلنسان والغاية التي
خلق من أجلھا ،كما يقرر القرآن؟
ال يمكن اإلجابة ،بل تصبح مستحيلة في ضوء ما قرره القرآن ،إال بتوسيع
معنى العبادة ،ليشمل كل ما يمكن أن يقوم به اإلنسان على األرض ،وإال كانت
كل نشاطاته وحركته خروجا ً على المھمة وتجاوزاً للتكليف.
فالعبادة ھي فھم الوجود والحياة بخريطة الوجود اإللھية ،وصنع الحياة بھا،
وتكوين القيم واألخالق والعالقات بھديھا ،وضبط كل ما يصدر عن اإلنسان
بمنھج ﷲ عز وجل وأوامره ،أفكاره وسلوكه ،علمه وعمله ،نشاطه وأخالقه.
العبادة إذاً ھى الحياة اإلنسانية كلھا حين تسير بأمر ﷲ عز وجل وفي نور
منھجه.
وقد تقول :في ھذه الحالة التي تكون فيھا العبادة ھي ضبط كل ما يصدر عن
اإلنسان من قول أو فعل أو حركة بما أراد ﷲ عز وجل منه فيھا ،ماذا تكون
الفروض والشعائر؟
ھي الخط الساخن بين الخليفة وبين ﷲ عز وجل الذي استخلفه ،وبينه وبين
المأل األعلى الذي قدم منه ،يصله به ويذكره بنفسه ،من ھو ،وما ھي ماھيته،
وما ھو سبب وجوده ،وينبھه إلى المھمة التي قدم من أجلھا إلى األرض ليكون
دائم الوعي بھا واإلدراك لھا ،إذا غفل عنھا تذكر ،وإذا أخطأ عاد ورجع ،وإذا
تكاسل تنبه.
١٠٠
شفرة سورة اإلسراء
ﺳﻠﻄﺎن اﻻٕﻧﺴﺎن
أول آثار الخالفة من ﷲ عز وجل في الكون ومقتضياتھا ھي أن اإلنسان
مخلوق مشرف مختار على الخالئق.
فإذا كان اإلنسان ھو خليفة ﷲ عز وجل في الكون المشرف ،فقد ترتب على
ذلك أن ﷲ عز وجل الذي اختاره لخالفته منحه سلطانا ً على الوجود ،وھيمنة
عليه ،وقدره على تسييره وإدارته ،حتى يتمكن من أداء مھام الخالفة التي خلق
وشرف على الخالئق من أجلھا.
ÉÈÇÆÅÄÃÂÁÀ¿¾½¼»º
)(١
ÓÒÑÐÏÎ ÍÌËÊ
إذاً فالكون والطبيعة ليست نداً لإلنسان وال عاصية له ،بل ھي مذللة له،
أوجدت ورتبت بأمر ﷲ عز وجل في ھذه الصورة ،لتمكنه من أداء مھمته التي
خلقه ﷲ عز وجل واختاره لھا ،وليس الكون شراً يفر منه ،وال الطبيعة في حالة
صراع دائم معه ،بل ھي موجود مخلوق ليسيره اإلنسان في إطار المھمة
( ١إبراھيم.٣٣-٣٢ :
١٠١
شفرة سورة اإلسراء
المحددة التي خلق من أجلھا ،والوجود كله يدعوه لذلك بما ھو مبثوث فيه ويعينه
عليه.
فإليك مرة أخرى نموذجا ً على أدمغة العرب المختلة وتكوينھم الذي لوثته
وشوھته خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وال أثر فيه للوحي ،وكأن الرسول
الخاتم ما بعث والبيان اإللھي ما أنزل.
إليك ھذه العبارة من كتاب :اإلنسان يعصي لھذا يصنع الحضارات الذي يدل
اسمه على فحواه ،والذي بناه مؤلفه الكاتب والدبلوماسي عبد ﷲ القصيمي على
أن اإلنسان يصنع الحضارة والعلوم واآلداب والفنون بالعصيان والتمرد على
كل شئ :اإلله والمجتمع والطبيعة ،بل وعلى نفسه:
الھذيان الذي أتحفك به المفكر والروائي والدبلوماسي ليس سوى أحد آثار
سريان التحريف البني إسرائيلي في عقول العرب.
فإذا تجاوزت ھذا الھذيان ،تعلم من بيان اإلله إلى خلقه أن السلطان والھيمنة
التي لإلنسان على األرض والكون وكل ما يحيط به من مخلوقات ،ھذه الھيمنة
وھذا السلطان ُمنحا من المستخلف للخليفة إلعانته في مھمته التي خلق من
أجلھا ،وإذاً سلطان اإلنسان على الكون والطبيعة والخالئق ليس أصيالً فيه ،وال
ھو حازه بقدراته الذاتية ،بل ھو موھوب له في إطار مھمته المحددة ،أال وھي
الخالفة.
فليس لإلنسان أن يستخدم ھذا السلطان وھذه الھيمنة إال في إطار مھمة
الخالفة عن ﷲ عز وجل ،وفي حدود أدائھا ،وكل استخدام لھذا السلطان خارج
حدود مھمته في الكون ھو خروج على إرادة المستخلف عز وجل وعقد
الخالفة ،ألن ھذا السلطان وھذه الھيمنة لم تمنح له إال ألداء ھذه المھمة.
وكل استخدام لھذا السلطان خارج حدود مھمة الخالفة ھو افتئات وتمرد من
اإلنسان على الذي استخلفه عز وجل ،ألن الخليفة ليس حراً حرية مطلقة في
التصرف في الكون والخلق ،فھو حر داخل الحدود التي وضعھا له من
استخلفه ،وھو حر في استخدام ما منح من سلطان بحيث ال يخرج عن إرادة من
منحه ھذا السلطان.
وكل تعد لھذه الحدود وھذا اإلطار ھو تعد من اإلنسان لمقامه ومكانه ،مقام
الخليفة ،إلى مقام ليس له وال يملك قدراته وال سلطانه ،مقام اإلله ،ذلك أن
السلطان الذي منح له سلطان جزئي محدود بحدود المھمة التي وكل بھا،
فسلطان اإلنسان على الكون ھو سلطان الخليفة الممنوح الجزئي ،ال سلطان
اإلله الكامل المطلق.
١٠٣
شفرة سورة اإلسراء
Ý Ü Û Ú Ù Ø × Ö Õ Ô Ó Ò Ñ Ð
)( ١
ßÞ
\ [ Z Y X W V U T S R Q P
)( ٢
]^_`dcba
فالكون كله سما ًءا وأرضا ً ،براً وبحراً ،المسخر لإلنسان المذلل له ھو نفسه
الذي يخرج عن سلطانه الممنوح له إذا وضعه في غير ما منح له بسببه،
ويصير ھو عين ھالكه وتدميره.
وإذا كانت خالفة اإلنسان في األرض والكون تشريفا ً وتكريما ً له ،واقتضت
أن يُمنح سلطانا ً يمكنه من أداء ھذه المھمة على األرض ،فإن ھذه الخالفة نفسھا
ھي تكليف لإلنسان ومھمة موكولة إليه محاسب عليھا ،وليس له أن يتنصل منھا
وال أن يأبى حمل تبعاتھا ،مثلما أنه ليس له أن يستخدم السلطان الذي منح له بھا
في غيرھا.
( ١الروم.٤١:
( ٢العنكبوت.٤٠:
١٠٤
شفرة سورة اإلسراء
فالخالفة تكليف يعني أن على اإلنسان مھمة محددة ،ھو مسؤول أمام من
استخلفه عن أدائھا وتنفيذھا على الوجه الذي أراده ،وھذا التكليف ھو المھمة
األولى واألصلية لإلنسان على األرض ،ألنه ما أوجد وال أھبط إليھا إال ألدائھا.
وھذه المھمة المسؤولية التي كلف بھا لھا أجل مسمى محدد عيﱠنه المستخلف،
ھو يوم القيامة لإلنسانية كلھا ،والموت لكل إنسان وحده.
بعدھا تنتھي المھمة ويُستدعي اإلنسان الخليفة إلى مستخلفه ،لتنشر صحائف
األعمال وتبسط التقارير ،ويحاسب الخليفة على كيفية أدائه وإنجازه للمھمة ،ھل
أداھا كما أراد منه ﷲ عز وجل الذي استخلفه ،ھل قصر فيھا ،ھل تجاھل
المھمة التي خلق من أجلھا وخرج عن إرادة المستخلف؟
يقول عز وجل:
١٠٥
شفرة سورة اإلسراء
½ ¼ » º ¹ ¸ ¶ µ ´ ³ ² ± °
)( ١
¾
يقول الحافظ ابن كثير في تفسيره ،بعد أن نقل ما وصله من أقوال الصحابة
والتابعين في معنى األمانة:
"وكل ھذه األقوال ال تناقض بينھا ،بل ھي متفقة وراجعة إلى أنھا
)(٢
التكليف"
فاألمانة التي يحملھا اإلنسان معه ھي التكليف بالمھمة التي يجب إنجازھا
على األرض ،والتي ما خلق إال من أجلھا وما أھبط من المأل األعلى إال
ألدائھا ،وھي األمانة التي ليس له أن يتنصل من أدائھا ألن وجوده ما كان إال
من أجلھا.
وال يخلو األمر من سفسطة ،فرب قائل :أنا ال أريد ھذه المھمة وال أرغب
في ھذا التكليف.
فقل له :إن ھذا التكليف ھو سبب وجود اإلنسان في األرض ،ورفضه يعني
رفض اإلنسان لسبب وجوده ،فإذا كان يمكن إلنسان أن يرفض وجوده فيمكنه
أن يرفض التكليف.
وھذه المھمة التي خلق اإلنسان ألدائھا ھي ماھيته التي عرف ﷲ عز وجل
المالئكة به عن طريقھا ،فرفض اإلنسان المھمة ھو إنكار منه لماھيته.
( ١األحزاب.٧٢:
) (٢الحافظ ابن كثير :تفسير القرآن العظيم ،ج ،٦ص.٦٨٩
١٠٦
شفرة سورة اإلسراء
وھذه المھمة وھذا التكليف ھو الذي منح اإلنسان سلطانه على المخلوقات،
وسخر له الكون لكي يستطيع إنجازھا والقيام بھا ،فإذا أراد رفض المھمة كان
عليه أن يتنازل عن سلطانه على الخالئق ويترك التعامل مع ما سخر له من
األرض والكون ،فال يأكل من األرض التي سخرت لتنبت له ،وال يشرب الماء
الذى سخرت السماء والسحاب والشمس والبحار إلسقاطه له ،وال يتنفس
الھواء ،وال ..وال ..وال ..وال يكون.
فمن أراد رفض المھمة وترك التكليف عليه في الوقت نفسه ،الرتباط المھمة
بمقتضياتھا وما منح له إلنجازھا ،عليه أن يتنازل عن سلطانه وعلمه وعقله،
وعن وجوده وماھيته ،وعليه أال يكون.
١٠٧
شفرة سورة اإلسراء
اﻟﻌﲅ واﳌﻌﺮﻓﺔ
لماذا منح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم بالكون والطبيعة والمخلوقات ،ولماذا
انفرد اإلنسان بھذا العلم واختص به دون باقي المخلوقات؟
§¦¥ ¤£¢¡~}|{zyx
)(١
¨©¯®¬«ª
ومنح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم والمعرفة ،لكي يكون سلطانا ً يتمكن به من
السيطرة على المخلوقات واستخدامھا واالنتفاع بھا.
( ١الغاشية.٢٠-١٧:
١٠٨
شفرة سورة اإلسراء
¶¸HGFEDCBA ¼»º¹
V U T S R Q P O N M L K J I
)( ١
[ZYXW
ومنح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم والمعرفة ليعرف نفسه وما أُودع فيه من
قدرات ووسائل سيادة وسلطان ،ومن وسائل علم وكشف ليستخدمھا في مھمته
االستخالفية ،ولكي يطورھا ويورثھا من جيل إلى جيل في البشرية حتى تتحقق
وتكتمل المھمة التي وجدت من أجلھا.
)(٢
WVUTS
)(٣
wvutsr
وقبل ذلك منح ﷲ عز وجل اإلنسان العلم والمعرفة ليكون مرشداً له وھاديا ً
حين ينظر في الكون والطبيعة والخلق ويرى دقة النظام وكمال اإلحكام إلى
الخالق :وحدانيته ،وطالقة قدرته ،وكمال صفاته ،لكي يظل على اتصال بالمأل
األعلى ،حتى ال ينحرف عن مھمته ،أو يسئ فھم المراد منه إلتمامھا.
( ١النحل.٨-٥:
( ٢الطارق.٥:
( ٣الذاريات.٢١:
١٠٩
شفرة سورة اإلسراء
)(١
dcba`_~}|{zy
ُمنح اإلنسان العلم والمعرفة ،ألنه وسيلته في التعرف على محل مھمته ،وھو
قدراته الممنوحة له إلنجازھا ،وھو سلطانه في تسخير المخلوقات واالنتفاع بھا،
وھو طريقه لمعرفة نفسه وما أُودع فيه من قدرات إلنجاز مھمته ،وھو النجم
الذي يھديه في أثناء مسيرته إلى الخالق ويذكره بوحدانيته.
يقول عز وجل في خريطة الوجود الحقيقية التي حفظھا سبحانه وتعالى في
بيانه إلى خلقه:
)(٢
`cba
أما إذا نطقت باسم عنترة فسوف نراه ماثالً أمام أعيننا ،وفي وعينا كل ما
يتعلق به ونعرفه عنه ،ألن االسم ھو كل المسمى ،وھو جمع لكل ما تعلق به
واستحضار لكل سماته معاً.
( ١آل عمران.١٩٠:
( ٢البقرة.٣١:
١١٠
شفرة سورة اإلسراء
فا" عز وجل عرف اإلنسان بأسماء األشياء ،أي بھا وبكل خصائصھا
وصفاتھا ومنافعھا ،المادية والمعنوية ،األسماء ،كما يقول اإلمام القرطبي ھي:
فالفرق بين الزواج والزنا ضوابط وقواعد ،مصدرھا اإلله وبيانھا في وحيه،
إن ُوجدت فھو زواج ،وإن فقدت فھو زنا ،وكذلك الفرق بين البيع والربا ،وبين
والرشا.
ِ الھدايا
وخريطة الوجود البني إسرائيلية المحرفة ،كما ستعلم ،ليست سوى تفريغ
ألسماء القيم واألخالق من المعاني ،ونسف لقواعد العالقات االجتماعية
وضوابطھا ،وعمل بني إسرائيل عبر التاريخ ليس سوى بث مكونات ھذه
الخريطة المحرفة في وعي البشر وتكوين مجتمعاتھم بھا ،عبر إعادة ملء
أسماء القيم واألخالق بعد تفريغھا ،وشحنھا بالمعاني التي يريدونھا ويستوطنون
بھا عقول البشر ،وعبر وضع قواعد وضوابط للعالقات االجتماعية بديلة
لقواعد الوحي وضوابطه يمتطون بھا كل األمم والشعوب.
)(١
qponmlkjihg
يخبرك بيان اإلله أنه عز وجل الذي علم اإلنسان البيان ،ومادة بان ،وكل ما
يتفرع منھا ،يدل على الكشف والوضوح والظھور:
"بان الشئ :ظھر واتضح ،وأبان فالن :أفصح عما يريد ،وأبان الشئ:
أظھره ووضحه ،وتبين الشئ :تأمله حتى اتضح ،والبيان :الحجة والمنطق
)(٢
الفصيح"
وسمي الكالم بيانا ً ألن اإلنسان يظھر به ما في نفسه ويوضح ما يفكر فيه،
فالبيان ھو اللغة ،واللغة ھي أداة التفكير ووعاء األفكار ،فال فكرة من غير لغة
( ١الرحمن.٤-١ :
( ٢المعجم الوجيز ،ص.٧٠
١١٢
شفرة سورة اإلسراء
تُصب فيھا ،منطوقة أو مكتوبة ،واإلنسان المخلوق الذي له لغة ،ألنه المخلوق
المفكر ،واللغة أداة نقل المعرفة وتوارثھا.
)(١
"والبيان ھو الكشف عن الشئ"
r q p o n m l k j i h g
إذاً فا" عز وجل ھو الذي منح اإلنسان العلم والمعرفة ،وأمره سبحانه
وتعالى بھما ،وھو الذي وھبه التفكير وأودعه أدواته ،وھو عز جل الذي علمه
اللغة ووھبھا له لكي يتمكن من الكشف واإلبانة عن علمه وأفكاره ،ومن نقلھا
وتوارثھا ومراكمة آثارھا.
فإليك ما تعرف به أي خريطة وجود تلك التي كونت الوعي في بالد العرب
وتحكمه وتتحكم في ما يدركه وما ينتجه.
"والحق أن ھذه الخصومة بين العلم والدين ،كما قلت في غير ھذا
الموضع ،قديمة يرجع عھدھا إلى أول الحياة العقلية الفلسفية ،والحق أيضا ً
أن ھذه الخصومة بين العلم والدين ستظل قائمة متصلة ما قام العلم وما قام
الدين ألن الخالف بينھما أساسي جوھري ال سبيل إلى إزالته أو تخفيفه إال إذا
)(١
استطاع كل منھما ان ينسى اآلخر نسيانا ً تاما ً ويعرض عنه إعراضا ً مطلقاً"
ابن األزھر الذي يلقبونه بعميد األدب في بالد العرب يؤمن أن العلم والدين
نقيضان ال يجتمعان ،ألم يحفظ القرآن أو يقرأه يوماً ،ومن أين أتته الجراثيم التي
كونت عقله ولوثته؟
"الكاتب الفرنسي المعروف بول فاليري شخص العقل األوروبي فرده إلى
عناصر ثالثة :حضارة اليونان وما فيھا من أدب وثقافة وفن ،وحضارة
الرومان وما فيھا من سياسة وفقه ،والمسيحية وما فيھا من خير وحث على
اإلحسان ،فلو أردنا أن نحلل العقل اإلسالمي في مصر والشرق القريب أفتراه
ينحل إلى شئ آخر غير ھذه العناصر؟
خذ نتائج العقل اإلسالمي كلھا ،فستراھا تنحل إلى ھذه اآلثار األدبية
والفلسفية والفنية التي ھي متصلة بحضارة اليونان وما فيھا من أدب وفلسفة
وفن ،وإلى ھذه السياسة والفقه اللذين ھما متصالن أشد االتصال بما كان
للرومان من سياسة وفقه ،وإلى ھذا الدين اإلسالمي الكريم وما يحث عليه من
إحسان ،ومھما يقل القائلون فلن يستطيعوا أن ينكروا أن اإلسالم قد جاء
متمما ً ومصدقا ً التوراة واإلنجيل ،وإذاً فمھما نبحث ومھما نستقص فن نجد ما
)(١
يحملنا على أن نقبل أن بين العقل االوروبي والعقل المصري فرقا ً جوھرياً"
واإلسالم الذي يفھمه السيد العميد وتكلم عنه في كتابه ليس سوى صورة من
المسيحية ،وفحواه عنده ھي فحواھا ،فالذي كون العقل المصري الحديث ،أو
عقله ھو في الحقيقة ،ثالثة روافد ھي :الثقافة اإلغريقية ،والحضارة الرومانية،
والمسيحية التي يتوھمھا إسالما ً ،أو يموھھا فيه.
والمسيحية كلھا ليست سوى امتداد أو فرع تفرع من خريطة الوجود البني
إسرائيلية في سفر التكوين ،فالتجسد الذي يحكم الوعي المسيحي ،شجرة بذرتھا
في سفر التكوين ،وعقيدة الصلب التي ھي لب المسيحية ،أصلھا وجذرھا
خطيئة اإلنسان األول والعقوبة المفروضة عليه في األرض في الخريطة البني
إسرائيلية.
واإلغريق والرومان حضارات أقيمت على افتقاد الوحي والجھل به ،فھي
من ثمار حجب الوحي ومن إفرازاته في دورة اإلفساد األولى ،كما ستعلم
تفصيالً في أثناء رحلتك معنا.
فالروافد التي كونت ذھن عميد األدب العربي ونخب مصر الضالة ،كلُھا
نبعت من التحريف ،وتدفقت في عقولھم من خريطة الوجود البني إسرائيلية
وآثارھا.
فال تعجب إذا علمت أنه في النصف األول من القرن العشرين نسف الرواد
بوعيھم المشوه كل قواعد المجتمع ،وھتكوا نسيجه ،وأذابوا قيمه ،ومحوا
أخالقه ،وشوھوا وعي أھله جميعاً.
وقد كان تشويه وعي ھذه النخب وتكوينھا مقصوداً ،ليكون إفسادھم لبالد
العرب وسيلة إلقامة دولة اليھود ،فكل تخريب في بالد العرب كان يقابله وضع
لبنة في دولة اليھود ،فتفكيك بالد العرب باألفكار الوطنية والقومية والنخب التي
تكونت بھا كان يقابله اجتماع اليھود ،وإقامة إسرائيل لم يكن ممكنا ً من غير
إسقاط دولة اإلسالم الموحدة ،وفي الوقت الذي كان فيه الضالون في بالد
العرب يميتون العربية كان اليھود يعيدون إحياء العبرية ،وحين كانوا يھجرون
القرآن ويخرجونه من وعي العرب وعقولھم ونفوسھم كان اليھود يصنعون
دولتھم ويقيمونھا بالتوراة.
فاإلجابة :عبر نظم التعليم التي أقامھا الفرنسيس والبريطان ،والبعثات التي
أرسلوھا إلى بالدھم ليصنعوا رؤوس ھذه النخب في معاملھا ،وعبر المحافل
الماسونية التي نشروھا في مصر ليربوھم فيھا ،وعبر القوانين التي شرعوھا
١١٦
شفرة سورة اإلسراء
أشھر رجال بريطانيا في تاريخ مصر وأشدھم أثراً فيه ،والذي وضع في
عھده ھيكل تعليمھا الذي ما زال ساريا ً إلى اليوم ،والذي أزاح بسطوته الشريعة
وأحل محلھا القانون الوضعي ،والذي تربى على يديه جل نخبة مصر الحديثة
الذين حددوا مالمحھا ومنحوھا سماتھا :اللورد كرومر.
واللورد كرومر اسمه األصلي :إيفلين بيرنج إيرل أوف كرومر Evelyn
Baring Earl of Cromer
١١٧
شفرة سورة اإلسراء
}|{zyxwvutsrqponmlk
)(١
~_`cba
فا" عز وجل ھو الذي يدل اإلنسان على القراءة ويأمره بھا ،ولكنه يرشده
إلى أن القراءة الحقيقية والصحيحة ال تكون إال باسم ﷲ الذي خلق وفي نور
وحقيقة أنه سبحانه وتعالى الذي خلق .
أما ما أنتجه التحريف وخريطته من معارف وعلوم وآداب وفنون ،فھو كله
قائم على إزاحة الوجود اإللھي من وعي البشر الذي ينتجھا ،وھدفه ترسيخ ھذه
اإلزاحة فيه وفي وعي البشر جميعاً.
( ١العلق.٥-١:
١١٨
شفرة سورة اإلسراء
ومن أجل القيام بھذه المھمة سخر ﷲ عز وجل كل شئ في الكون ،سما ًءا
وأرضا ً ومخلوقات ،بما يعنيه على أداء مھمته ،وزود عز وجل اإلنسان نفسه
من القدرات والطاقات والسلطان ما يمكنه من أداء ھذه المھمة والقيام بتبعاتھا.
ومن أجل أن يتمكن آدم من أداء وظيفته ورسالته زوده عز وجل بالعلم
والمعرفة وأدوات تحصيلھا.
وبدأت البشرية مسيرتھا على األرض بآدم عليه السالم وزوجه عارفا ً با"
عز وجل تائبا ً إليه مھتدياً ،ووھبه المنھج الذي يسير عليه والقواعد التي يُك ﱢون
بھا عالمه ويقود بھا الكون والمخلوقات من مقر عمله في األرض.
فالبشرية بدأت رحلتھا تائبة مھتدية راشدة على الحق ومعھا منھج إلھي تتبعه
وقواعد ربانية تسير عليھا.
)(١
qponm lkjihgfed
( ١األعراف.٢٦:
١١٩
شفرة سورة اإلسراء
بيان ﷲ عز وجل يعرفك أنه سبحانه علم اإلنسان األول كيف يتعامل مع
الطبيعة ،وكيف ومن أين يأكل ،وكيف يصنع ما يستر به عورته.
وقراءة عاصم ومن وافقه ،كابن كثير المكي وأبي عمرو البصري وحمزة
الكوفي ويعقوب الحضرمي وخلف العاشر ،برفع كلمة ، n :على انھا
مبتدأ.
وأما نافع المدني من وافقه ،كابن عامر الدمشقي والكسائي الكوفي وأبي
جعفر المدني ،فقرءوا بنصبھا عطفا ً على كلمة i :األولى ،ووافقھم
)(١
الحسن وابن شنبوذ من الشواذ
فيكون المعنى أنه عز وجل أنزل على بني آدم لباس التقوى مع لباس
أجسامھم ،أي إنه عز وجل أنزل مع آدم التائب المھتدي الذي يعرف اإلله
ويوحده منھجا ً يطيعه ويھتدي به ،ويعرف منه القيم واألخالق والعالقات
االجتماعية ،ما معناھا وما قواعدھا وضوابطھا وكيف تكون.
وھذه الحقيقة اإللھية التي كشفھا لك عز وجل في بيانه إلى خلقه ،تخالف
سيرة البشر األولى في كل النظريات والفلسفات والعلوم التي كونھا وأنتجھا
سريان تحريف الوحي فى أذھان من أنتجوھا وعقولھم كما سترى.
( ١اإلمام ابن الجزري :النشر في القراءات العشر :ج ،٢ص ،٢٦٨اإلمام أحمد بن محمد البنا :اتحاف
فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر :ج ،٢ص.٤٦
١٢٠
شفرة سورة اإلسراء
وارتفعت صروحھا الكاذبة على فرضية أن اإلنسان بدأ مسيرته على األرض
تائھا ً يخبط في عماء المجھول ،وأنه كون معارفه وعلومه وعالقاته ونظام
حياته ،وكون أخالقه وقيمه ،بل وكون عقائده وأفكاره عن اإلله ،من سيرة
خبطه العشواء ھذه وما صاحبھا من تجارب ،ألنھا كلھا نبتت ورُويت بخريطة
التحريف البني إسرائيلية التي أوجدت اإلنسان على األرض تائھا ً آبقا ً مطروداً
من اإلله ،وجعلت األرض منفاه التي يقضي فيھا عقوبته ويصنع عالمه ضاربا ً
فيھا بنفسه بمعزل عن اإلله.
فإليك مثاالً واضحا ً ال لبس فيه تدرك به الفرق بين ما تثمره سيرة اإلنسان
األول في خريطة الوجود اإللھية ،وما تفرزه سيرته المحرفة في خريطة
الوجود البني إسرائيلية ،وتعرف منه أيھما التي نبتت منھا المعارف والعلوم،
ورويت به اآلداب والفنون ،وأقيمت عليه العالقات ،وصنعت به المجتمعات.
إذا كان الزواج إرشاداً واألسرة وضعا ً إلھياً ،فيكون ھو وھي العالقة الوحيدة
الصحيحة بين الرجل والمرأة ،وأي صورة أخرى لھذه العالقة خطأ أو خطيئة.
وأما إذا كان الزواج واألسرة ابتكاراً واختراعا ً إنسانياً ،فال غضاضة وال
وزر في أن يبتكر من شاء غيره وغيرھا ،وحينئذ تكون العالقات الحرة
والشيوع الجنسي ،بل والشذوذ ال غبار عليھا.
١٢١
شفرة سورة اإلسراء
ثم إليك أشھر فاسق وعربيد في التاريخ يخبرك ھو نفسه أن انحالله وشذوذه
ليس سوى نظرية وفلسفة منطقية أفرزتھا تلقائيا ً سيرة اإلنسان الضال اآلبق
وانفصاله عن اإلله ووحيه وإرشاده في خريطة الوجود البني إسرائيلية.
"ما دام اإلله غير موجود فإن العاقل ھو من يسعى إلى إشباع رغباته ما
استطاع إلى ذلك سبيالً دون أن يجر على نفسه عقوبة أرضية ،وكل الرغبات
خير ،واألخالق أوھام ،والعالقات الجنسية بكل صورھا جيدة ،وال يوجد شئ
اسمه شذوذ ،ألنه ليس ھناك من يستطيع أن يقول ما ھو الشذوذ وما الذي
)(٢
يكون شاذاً وما الذي ال يكون"
( ١النساء.١:
( ٢ول ديورانت :قصة الحضارة :ج ،٤٢ص.٤٠٠
١٢٢
شفرة سورة اإلسراء
واآلن إليك أشھر نموذج على وعي العرب المشوه الذي كونه التحريف وحل
فيه محل الوحي ،فھذه ھي مسيرة البشر كيف بدأت وكيف سارت عند قاسم
أمين ،وھي نفسھا الفرضية التي فرع منھا وأقام عليھا دعوته لتحرير المرأة.
يقول قاسم أمين إن عالقة الرجل بالمرأة عبر التاريخ مرت بأربعة مراحل،
كل مرحلة منھا تواكب طوراً من األطوار التي مر بھا المجتمع البشري ،ففي
المرحلة األولى:
"كانت عالقة الرجل بالمرأة متروكة إلى الصدفة وال تفترق عما يشاھد
بين األنعام ،وكان الشأن إذا ولدت المرأة ولداً أن يجتمع القوم متى وصل الولد
)( ١
إلى سن البلوغ وينسبوه إلى أشبه الناس به"
فالذي يعرفه قاسم أمين المصري العربي المسلم عن البشرية ويؤمن به أنھا
بدأت باالنحالل واإلباحية المطلقة والشيوعية الجنسية ،بال إرشاد وال منھج وال
قواعد وال قيم وال أخالق ،والمرأة في ھذه المرحلة ،والتي وصفھا بما قرأت،
ھي المرأة الحرة.
"لما ودع اإلنسان بداوته واتخذ وطنا ً قاراً واشتغل بالزراعة وجد نظام
البيت ،ومن أھم ما ساعد على تشكيل العائلة أنه كان لكل عائلة معبود خاص
بھا تختاره من بين أسالفھا ...وترتب على دخول المرأة في العائلة حرمانھا
)(١
من استقاللھا"
فالزواج وتكوين األسر لم يكن سوى ابتكار من اإلنسان اضطره إليه اشتغاله
بالزراعة وما واكب مرحلة حياته ھذه من ظروف ومالبسات ،وانتقال المرأة
من اإلباحية وامتطاء الرائح والغادي لھا إلى الزواج والوجود في أسرة داخل
بيتھا وبين أبنائھا كان استعباداً لھا!!
ومما قاله الرائد المعتوه تعلم أنه ال يعتقد أن البشرية بدأت باإلباحية والشيوع
الجنسي فقط ،بل وأنھا بدأت بالوثنية والشرك ،ثم كان أن اخترعت من بين ما
اخترعت األلوھية والوحدانية!!
ثم يوجز المختل عقليا ً ونفسيا ً المراحل األربع التي مرت بھا البشرية في
كلمتين ،كما يقول ،ھكذا:
"عاشت المرأة حرة في العصور األولى حيث كانت اإلنسانية لم تزل في
مھدھا ،ثم بعد تشكيل العائلة وقعت في االستعباد الحقيقي ،ثم لما قامت
اإلنسانية على طريق المدنية تغيرت صورة ھذا الرق واعترف للمرأة بشئ
من الحق ،ولكن خضعت الستبداد الرجل ،ثم لما بلغت اإلنسانية مبلغھا من
)(١
المدنية نالت المرأة حريتھا التامة"
فھل ھذا الذي يفھم ويوقن أن الزواج ابتكار واختراع إنساني ،وھو استعباد
للمرأة ،وأن البشرية بدأت مسيرتھا باإلباحية واالنحالل ،وھي حرية المرأة التي
يريد بتحريرھا إعادتھا إليھا ،ھل قرأ أو سمع أو أخبره أحد يوما ً أن ثمة وحيا ً
أنزل وفيه يُعرف ﷲ عز وجل البشر أنه:
edcba`_~}|{zy
)(٢
nmlkjihg f
وأن الزواج وضع وإرشاد إلھي من قبل أن يوجد آدم على األرض وتبدأ
البشرية مسيرتھا:
)(٣
xwvut
فمن أين جاء ھذا األحمق بھذه النظرية التي قدمھا على أنھا حقيقة علمية
مطلقة؟
كل ما قاله المحرر األحمق وصار به رائداً عن المراحل األربعة التي مرت
بھا البشرية ،واستعباد المرأة مع تكوين األسرة وابتكار مؤسسة الزواج ،وما
دعا إليه من تحريرھا ،سرقه من كتاب فريدريك إنجلز :أصل العائلة والملكية
وربما تتعجب سائالً :ما الذي جمع قاسم أمين الليبرالي بإنجلز الشيوعي،
وكيف وأين تعرف به؟
ثم إليك المثال األفدح ،توقن به أن الغرب وعلومه وآدابه وفنونه لم تكن
سوى قنوات سرت من خاللھا خريطة الوجود البني إسرائيلية لتستوطن وعي
العرب ويختل بھا تكوينھم ،ولتروي كل ما ينتجونه ،لتتم بھذا االستيطان
واالختالل وبھذا النتاج دورة اإلفساد الثانية.
يقول توفيق الحكيم في كتابه :زھرة العمر ،وھو جمع لرسائله التي أرسلھا
بعد أن عاد إلى مصر إلى صديقه في فرنسا أندريه ،ولم يكن في حسبانه ،كما
يقول ھو ،أنھا ستنشر يوما ً ما:
"إذا كانت األديان السماوية ھي الحق ،فالبد أن تكون قديمة قدم الحق ،أو
على األقل قدم اإلنسان ،األنبياء إذن لم يخلقوا الحق خلقا ً بظھورھم ،ولكنھم
١٢٦
شفرة سورة اإلسراء
وكما ترى ،األديان السماوية عند توفيق الحكيم المصري العربي المسلم،
منابعھا في الوثنية ،وھذه الوثنية نفسھا تفجرت ينابيعھا من تلقاء نفسھا في قلب
اإلنسان األول منذ وجد نفسه على األرض تائھا ً ھائماً ،فالوثنية ھي األصل
والبداية ،واإلنسان ھو الذي كون بنفسه عقائده وأفكاره عن اإلله ومسألة
األلوھية ،وھو الذي ابتكر التوحيد والوحدانية!
فھل فھمت اآلن كيف وبأي وسائل أزيحت خريطة الوجود اإللھية من وعي
العرب ،وعبر أي قنوات تسربت إليه خريطة التحريف البني إسرائيلية ،ثم
استوطنته وشوھته ،وصارت ھي التي تحكمه وتتحكم في كل ما يتكون فيه،
وتسري في كل ما ينتجه؟!
١٢٨
شفرة سورة اإلسراء
١٢٩
شفرة سورة اإلسراء
١٣٠
شفرة سورة اإلسراء
ﰱ ﺑﻴﺎن ا ٕﻻهل
القرآن ،كما علمت ،ھو بيان اإلله عز وجل إلى خلقه جميعا ً ودليل ھدايتھم
إلى يوم القيامة ،ولكي نقرب لك مسألة بني إسرائيل فيه ،نعود بك إلى المثال
الذي رأيته في :بيان اإلله.
إذا أدرت مفتاح التلفاز فوجدت الحاكم في بالدك ،رئيساً ،أو ملكاً ،أو
سلطاناً ،أو أميراً ،يلقى بيانا ً إلى األمة ،ثم إذا بك تجد الرئيس أو الملك أو
السلطان يفرد مساحة في بيانه لفئة معينة أو طائفة أو جماعة ،ال يفردھا ألحد
غيرھم ،فيتعقبھم ،ويخاطبھم ،ويتركھم ثم يعود إليھم ،فالبد أن ھذه الفئة أو
الجماعة بالبديھة لھا أھمية خاصة وأثر كبير ودور محوري في بالدك ،بقدر ما
أفرد الحاكم لھم.
فإذا تأملت القرآن ،بيان ﷲ عز وجل الخاتم للناس ،وخطابه األخير لھم،
وجدته أفرد مساحة ھائلة لبني إسرائيل واليھود لم يفرد مثلھا ألحد في العالمين
غيرھم.
ذلك وما بنو إسرائيل واليھود بأكثر البشرية عدداً ،وال أشدھا مراساً ،وال
أعظمھا عمرانا ً وبنا ًءا ،والنصارى وھم أكثر البشرية عدداً وأشدھا مراسا ً
وأكثرھا حروبا ً وأعظمھا عمرانا ً وبنا ًءا لم يفرد لھم ﷲ عز وجل في بيانه
النھائي إلى خلقه عشر معشار ما أفرده وخص به بنى إسرائيل.
١٣١
شفرة سورة اإلسراء
فإذا سرت في القرآن من أوله تقابلك سور طوال ،كالبقرة وآل عمران
والنساء والمائدة واألنعام واألعراف ،محورھا وموضوعھا الرئيسي بنو
إسرائيل ،سيرتھم وأقوالھم وأفعالھم وأخالقھم ،بل إنه عز وجل يخبرك وينبھك:
)(١
×ãâáàßÞÝÜÛÚÙØ
ما أفرده ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه لبني إسرائيل يعني ثالثة أشياء:
األول :أن بني إسرائيل مسألة كبيرة ومحورية في التاريخ ،وفي تكوين
العالم ،وفي سيرة البشر ،فموقع بني إسرائيل من البشرية وأثرھم فيھا وفي
تاريخھا ھو بقدر ما أفرد ﷲ عز وجل لھم في بيانه إلى خلقه.
ومن العجيب أنه لم يرد في كتاب ﷲ عز وجل إلى خلقه ذكر لإلمبراطورية
اإلغريقية على ما يبدو من عظم أثرھا فى ثقافة العالم وآدابه وفنونه ،وال
لإلمبراطورية الرومانية على اتساع دولتھا وعظم جيوشھا وأثرھا في شكل
العالم وقوانينه ،ولم يرد ذكر وال إشارة لدولة عظمى ،ال بريطانيا حين كانت
إمبراطورية ال تغرب عنھا الشمس ،وال الواليات المتحدة األمريكية بقوتھا
النووية وغطرستھا.
( ١النمل.٧٦ :
١٣٢
شفرة سورة اإلسراء
فتفھم من ذلك أن بني إسرائيل أشد خطراً وأبعد وأعمق أثراً في تكوين العالم
وفي خط مساره ،وفي صناعة تاريخه ،وفي مسيرة أممه وشعوبه ،من أعتى
اإلمبراطوريات ومن أعرق الممالك وأعظمھا.
الثاني :أن ھذا األثر والدور لبني إسرائيل في سيرة البشر ،وفي صنع
عالمھم وتاريخھم ،مسألة حية في كل زمان ومتدفقة مع مسار البشر وتاريخھم
إلى يوم القيامة.
فما أخبرك به عز وجل عن بني إسرائيل في كتابه وبيانه ليس الھدف منه
مجرد القص واإلخبار ،وال محض العبرة والعطة بسيرة بني إسرائيل ،فھذا
الفھم يحول القرآن إلى كتاب ساكن ال عالقة له بواقع البشر ومعزول عن
حياتھم ،ويجعل ما يقصه من أخبار عن ماض حدث وانتھى وانقطعت آثاره،
وحينئذ ال يكون ثَمة فرق بينه وبين برديات المصريين القدماء.
ھذا الفھم ،كما أخبرناك من قبل ،يجعل بيان ﷲ إلى خلقه مكانه المتاحف،
وليس وعي البشر وحياتھم.
القرآن كتاب حي ،أنزله عز وجل بيانا ً إلى خلقه ليصنع به وعيھم ،ويُ ﱢ
كون
أذھانھم ونفوسھم ،ويَ ُكون نوراً يرون به كل شئ ،ويحكمون به على كل شئ،
١٣٣
شفرة سورة اإلسراء
ومن غيره يصيرون عميانا ً في ظالم دامس ال يرون أي شيء وال يفھمونه على
حقيقته ،كما أخبرك ھو ذاته عز وجل:
)(١
½¼»º¹¸¶µ´³²±
ÁÀ¿¾½¼»º¹¸¶µ
)(٢
وخطاب ﷲ عز وجل إلى بني إسرائيل ونداؤه لھم في بيانه يعني أنھم
موجودون حاضرون ،وأنھم يعرفون أنھم بنو إسرائيل ،وإال لما كان لتوجيه
الخطاب إليھم معنى.
( ١النساء.١٧٤:
( ٢البقرة.٤٧:
١٣٤
شفرة سورة اإلسراء
األمر الثالث :الذي يعنيه ما أفرده عز وجل لبني إسرائيل في بيانه إلى خلقه،
أن بني إسرائيل مسألة ،على عظمھا وعظم أثرھا في البشر وعالمھم ،ومع
كونھا مسألة حية وآثارھا باقية ،ومع كون بني إسرائيل أنفسھم باقين فاعلين في
الزمان ،ھى مسالة خفية عصية على األذھان أن تدركھا ،أو أن تفطن إلى
أھميتھا وآثارھا إال بإرشاد من اإلله إليھا.
فمنھج القرآن أنه ال يفصل في أي مسألة يمكن لإلنسان أن يصل فيھا إلى
الحق ووجه الصواب بما أودعه ﷲ عز وجل فيه من وسائل اإلدراك والمعرفة
وبالتجربة والخطأ والتصويب ،بل يشير إشارات ھادية فقط.
ومثال ذلك اآليات الكونية في القرآن ،ففيھا إشارات موجزة إلى حقائق
الكون والطبيعة دون تفصيل وال إسھاب ،ألن اإلنسان مؤھل بما خلق عليه
وأودع فيه مع ھذه اإلرشادات اليسيرة أن يصل إلى وجه الصواب ،وأن يصحح
خطأه إذا أخطأ.
تفصيل ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه في سيرة بني إسرائيل ،وتعقبه عز
وجل لھم ،يعني أن آثار بني إسرائيل في البشر والتاريخ آثار غير مرئية ،وفوق
طاقة اإلنسان بوسائل معرفته وإدراكه أن يعيھا ويدركھا أو يفھمھا من غير
اإلرشاد اإللھي.
فاآلن ماذا يقول لك ﷲ عز وجل في بيانه عن بني إسرائيل ،وما الذى يكشفه
من خفايا سيرتھم وآثارھم ،ليكون بناء األذھان والنفوس ونوراً ترى به وتفھم
الحياة وما يحدث فيھا ،والتاريخ وكيف يسير؟
١٣٥
شفرة سورة اإلسراء
اﺻﻄﻔﺎء ﻣﴩوط
اليمكنك ان تفھم سيرة بني إسرائيل في القرآن ،وال ما يريد ﷲ عز وجل أن
يخبرك به عنھم إال بعد فھم سيرة البشر على األرض كما يعرفك بھا القرآن.
بدأت البشرية مسيرتھا على األرض بآدم عليه السالم وزوجه ،كما علمت،
عارفا ً با" عز وجل ،تائبا ً إليه مھتدياً ،من أجل أن يبدأ في ممارسة مھام
وظيفته التي خلقه عز وجل من أجلھا ،أال وھي خالفته عز وجل ،وھي قيادة
نفسه ونسله وقيادة الوجود كله بمنھج ﷲ عز وجل.
ومن أجل أن يتمكن آدم من أداء وظيفته ورسالته زوده عز وجل بالعلم
والمعرفة وأدوات تحصيلھا ،ووھبه المنھج الذي يسير عليه ،والقواعد التي
يكون بھا عالمه ،ويقود بھا الكون والمخلوقات من مقر عمله في األرض.
فالبشرية بدأت تائبة مھتدية راشدة على الحق معھا منھج إلھي تتبعه وقواعد
ربانية تسير عليھا.
وھذه الحقيقة اإللھية التي كشفھا عز وجل في بيانه إلى خلقه تخالف سيرة
البشر األولى في كل النظريات والفلسفات والعلوم التي كونھا وأنتجھا سريان
تحريف الوحي وخريطة الوجود المزورة فى أذھان من أنتجوھا وعقولھم ،كما
سترى.
١٣٦
شفرة سورة اإلسراء
zyxwvutsrqpon
)( ١
{|}~_`
فالبشرية بدأت أمة واحدة ،على دين واحد وملة واحدة ،ھي الحق ،وتھتدي
بمنھج اإلله الحق ،وتسير بنوره وإرشاده.
وفي تفسير ھذه اآلية أخرج الحاكم في مستدركه واإلمام البزار في مسنده
البحر الزخار ،بسنده عن عبد ﷲ بن عباس رضي ﷲ عنھما ،أنه قال:
"كان بين نوح وآدم عشرة قرون ،كلھم على شريعة من الحق ،فاختلفوا
)( ٢
فبعث ﷲ النبيين مبشرين ومنذرين"
وإبان مسيرة البشرية ،وبعد أن زاد عددھا وانشعبت وتفرقت وابتعدت عن
أحداث الخلق األولى ،انحرفت عن أصلھا بأھواء النفس والشھوات ،وبضالالت
العقل وأوھام الذھن ،وبنسيان سيرتھا األولى ،وبوسوسة الشيطان الذي جعل
وظيفته في الوجود إضالل ھذا المخلوق الذي شرفه عز وجل عليه واصطفاه
فأوكل إليه مھمة خالفته والنيابة عنه في تسيير الخلق والخالئق ،كما أخبرك
عز وجل:
)(٣
ñðïîíìëêéè
( ١البقرة.٢١٣:
( ٢أخرجه الحاكم في المستدرك ،واإلمام البزار في مسنده ،وابن أبي حاتم في تفسيره ،وعزاه السيوطي في
الدر المنثور إلى ابن المنذر.
( ٣ص.٨٣-٨٢:
١٣٧
شفرة سورة اإلسراء
وإذ ينحرف قوم من البشر أو يضلون يصطفي ﷲ عز وجل رجالً منھم ،فيه
نقاوة الفطرة والخلق األول ،ويعرفه بما ضل عنه قومه ،ويكلفه تعريفھم به
وإعادتھم إليه.
فنوح عليه الصالة والسالم ،أو آدم الثاني ،عرﱠف قومه بأحداث الخلق األولى
وكيف كان الخلق أطواراً:
)(١
ZYXWVUTSRQP
وأن ھذه االطوار بدأت من األرض ،وأنه عز وجل ھو الذي بسطھا لھم ،ثم
يبعثھم منھا بعد أن يعودوا إليھا:
{zyxwvutsrqponml
)(٢
|}~_` ba
)(٣
SRQPONMLKJ
وما في سورة األعلى أنه عز وجل ھو الذي خلق اإلنسان وسواه ،وقدر لكل
شئ منافعه وھدى اإلنسان إليھا:
( ١نوح.١٤-١٣ :
( ٢نوح.٢٠-١٧:
( ٣األعلى.١٩-١٨ :
١٣٨
شفرة سورة اإلسراء
)(١
{zyxwvutsrqpo
وھود عليه الصالة والسالم عرﱠف قومه بسيرة البشر األولى ،وما تالھا من
زيغ إلى أن اصطفى عز وجل نوحا ً إلعادة البشرية إلى الحق األول:
)(٢
_^]\[ZYXWVUT
وصالح عليه الصالة والسالم أخبر قومه بأن ﷲ عز وجل خلقھم من
األرض ،وألجل غاية ومھمة ،ھي أن يعمرھم فيھا:
¾ ¿ Ð Ï Î Í Ì Ë Ê É È Ç Æ Å Ä Ã Â ÁÀ
)(٣
ÖÕÔÓÒÑ
والرسل واألنبياء جميعا ً أخبروا أقوامھم أن الذي خلقھم إله واحد ،وأمروھم
بعبادته سبحانه وتعالى وحده:
)(٤
PONMLKJIHGFEDCBA
فلما اتسعت البشرية وصارت أمما ً وشعوباً ،شاءت إرادته عز وجل أن
يصطفي أمة كاملة ،ال رجالً واحداً ،ينزل على رجل منھم وحيه ويؤتيه رسالة
إلى البشر ،في كتاب يودع فيه عز وجل قصة الخلق الحقيقية وسيرة اإلنسان
( ١األعلى.٣-١ :
( ٢األعراف.٦٩ :
( ٣ھود.٦١ :
( ٤األنبياء.٢٥ :
١٣٩
شفرة سورة اإلسراء
األول ومفتاح تصنيف البشر اإللھي ومنھج قيادة البشر وسبل ھدايتھم ،فى خطة
شاملة إلصالح مسيرة البشرية ،عقائديا ً وأخالقيا ً واجتماعيا ً وسياسيا ً واقتصادياً.
ومن أجل إصالح مسيرة البشرية اصطفى عز وجل بني إسرائيل واستأمنھم
على رسالته وكتابه ،لكي يحفظوه ويقوموا به ويكونوا مرآة له ،فتصير رسالة
اإلله ومنھجه حياة حية ،تراھا األقوام واألمم األخرى ،فتعرف اإلله ووحيه من
آثاره في بني إسرائيل فتھتدي بھم وتقتدي.
والسؤال الذي ربما تسأله ھاھنا :لماذا اصطفى عز وجل بني إسرائيل تحديداً
من بين باقي األقوام واألمم؟
اصطفاھم عز وجل ،ال لميزة عرق ،وال فضيلة جنس ،وال لتقديس عنصر
أو دم ،بل اصطفاھم عز وجل ألنھم حينئذ أقرب األمم إلى الھدى والرشد بوجود
ميراث األنبياء بينھم ،وبقاء آثار النبوة فيھم بانحدارھم من إبراھيم أبي األنبياء،
ومن ذريته إسحق ويعقوب عليھم جميعا ً الصالة والسالم.
اصطفاھم عز وجل بعلمه لكونھم األقرب إلى العلم بالحق وميراث الھدى
كما قال عز وجل:
)(١
}~¡¤£¢
والسؤال الثاني الذي قد تسأله :ھل كان ھذا االصطفاء مطلقاً ،ودون قيد وال
شرط؟
( ١الدخان.٣٢:
١٤٠
شفرة سورة اإلسراء
فھناك سؤال يردده كثير من الناس ،خاصة الشباب وھم في حيرة ،يقولون:
أليس ﷲ عز وجل اختار بني إسرائيل وأخبرنا بذلك في القرآن ،فلماذا ننكر أنھم
شعب ﷲ المختار؟
ومنھم من يُتبع السؤال سؤاالً آخر :إذا كان ﷲ أخبرنا في القرآن أنه ھو الذي
منح األرض المقدسة لبني إسرائيل ،إذاً فھي أرضھم ومن حقھم؟!
١٤١
شفرة سورة اإلسراء
)(١
½ ¼»º¹¸¶µ´³²
بل إن ﷲ عز وجل يخبرك أنه بتر نسب ابن إلى أبيه النبي ألنه عصاه
وكفر ،فحين رأى نوح عليه السالم ابنه يغرق أمام عينيه أخذته به شفقة األبوة
وأن يكون مصيره إلى النار ،فنادى ربه:
)(٢
ÞÝÜÛÚÙØ×ÖÕÔÓ
)(٣
KJIHG FEDCBA
( ١آل عمران.٦٨:
( ٢ھود.٤٥:
( ٣ھود.٤٦:
( ٤اإلمام ابن الجزري :النشر في القراءات العشر :ج ،٢ص ،٢٨٩اإلمام أحمد بن محمد البنا :اتحاف
فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر :ج ،٢ص.١٢٧
١٤٢
شفرة سورة اإلسراء
فاآلن نعود إلى السؤال وقد صارت اإلجابة واضحة ومفھومة :ھل كان ھذا
اصطفاء ﷲ عز وجل لبني إسرائيل ٍاصطفاءاً مطلقا ً ودون قيد وال شرط؟
فيقول عز وجل:
~}|{zyxw vutsrq
)(١
_`hgfedcba
والشرط الثاني :لھذا االصطفاء أن يبينوا الكتاب الذي أُنزل عليھم للناس،
وأن يدعوھم إليه ويقيموھم عليه ،بأن يكونوا ھم تطبيقا ً له ونموذجا ً تراه األمم
فتعرف اإلله ووحيه من آثاره فيھم.
يقول عز وجل:
)( ٢
KJIHGFEDCBA
( ١المائدة.٤٤:
( ٢آل عمران١٨٧:
١٤٣
شفرة سورة اإلسراء
يقول عز وجل:
Á À ¿ ¾ ½ ¼ » º ¹ ¸ ¶ µ
)(١
ÆÅÄÃÂ
فا" عز وجل يخبرك أنه أنزل الكتاب على موسى بصائر وھدى ورحمة
للناس جميعاً ،ال لبني إسرائيل وحدھم.
وقد ذھب كل المفسرين تقريبا ً إلى أن كلمة Á :ھنا المقصود بھا بنو
إسرائيل ،فمنھم من لم يتوقف في تفسيره عند كلمة الناس أصالً ،وإن كان يفھم
من تفسيرھم ضمنا ً أنه كله قائم على أن الناس ھنا ھم بنو إسرائيل ،ومن أمثلة
ھؤالء اإلمام ابن كثير في تفسيره ،واإلمام القرطبي في تفسيره :الجامع ألحكام
القرآن ،واإلمام أبى حيان التوحيدي في تفسيره :البحر المحيط ،والشيخ
الشعراوي في تفسيره.
( ١القصص.٤٣:
١٤٤
شفرة سورة اإلسراء
ومن توقف من المفسرين عند كلمة ،Á :صرح أن المقصود بھا بنو
إسرائيل ،فيقول اإلمام الطبري في :جامع البيان في معنى اآلية:
"ولقد آتينا موسى التوراة من بعد أن أھلكنا األمم التي كانت قبله ،كقوم
نوح ،وعاد ،وثمود ،وقوم لوط ،وأصحاب مدين ،بصائر للناس ،يقول :ضيا ًءا
)(١
لبني إسرائيل فيما بھم إليه الحاجة من أمر دينھم"
إلى بني إسرائيل في تفسير كلمة Á :بعض من عاصرھم ،كقوم فرعون
ومن تھود من عرب اليمن ،ومن يريد أن يقتدي بھم ،فقال رحمه ﷲ:
ومما يثير االنتباه أن الطاھر بن عاشور ضبط كلمة " :قو ُم فرعون" في
تفسيره المطبوع بالرفع ،عطفا ً على الضمير" :ھم" ،وليس بالجر عطفا ً على:
"بني إسرائيل" ،فكأنه فرق بين الرسول والرسالة وبين البصائر والھدى
والرحمة التي فيھا ،فجعل موسى ورسالته لبني إسرائيل خاصة ،وما فيھا من
بصائر وھدى ورحمة عامة لبني إسرائيل ولغيرھم ممن عاصرھم واھتدى بھم.
ونقول لك :القرآن ترد فيه الكلمات واأللفاظ في مواضعھا بدقة متناھية
وميزان حساس ،فإذا قال عز وجل ª :مطلقة دون تقييد ،فھو للناس
جميعاً ،ولو كان المقصود أن الكتاب لبني إسرائيل فقط لنص عليھم ،أو لقيد
كلمة الناس بما يحصر معناھا فيھم.
وتفھم أن إنزال ﷲ عز وجل للتوراة كان للناس جميعاً ،ال لبني إسرائيل
وحدھم ،ويؤكده لك ،أن وصفه سبحانه وتعالى للتوراة ھو نفسه وصفه للقرآن
في قوله تعالى:
)(١
¡¨§¦¥¤£¢
)(٢
¨©°¯®¬«ª
فالتوراة والقرآن ،كالھما أنزل ھداية للناس أجمعين ،ال للقوم الذين أنزل
فيھم وعليھم وحدھم ،وكالھما أنزله عز وجل فرقانا ً بين الحق والباطل.
)(٣
yxwvutsrq
( ١األعراف.٢٠٣ :
( ٢الجاثية.٢٠:
( ٣األنبياء.٤٨:
١٤٦
شفرة سورة اإلسراء
)(١
®¬«ª©¨§¦¥¤
وإليك الدليل الصريح على أن ﷲ عز وجل أنزل التوراة للناس جميعاً ،ال
لبني إسرائيل فقط ،في قوله تعالى:
VUTSRQPONMLKJIHGFEDCBA
)(٢
a `_^]\[ ZYXW
\]^_`
)(٣
ھي قراءة القراء العشر ،عدا ابن كثير المكي ،وأبي عمرو البصري
فيه وفيھم ،فقد حار من انتبه منھم في تفسير َم ْن يكون المخاطب في اآلية على
القراءة بتاء الخطاب.
وقد حاول اإلمام القرطبي واإلمام أبو حيان التوحيدي حل مشكلة كيف يكون
الخطاب في صيغة الحضور لبني إسرائيل الذين جعلوا الكتاب قراطيس أبدوا
بعضھا وأخفوا جلھا ،وبنوا إسرائيل الذين فعلوا ھذا ،كما فھموا ،فعلوه قديما ً
وھم غائبون ال حضور لھم ،فجاءت عباراتھم أقرب لإلبھام منھا لإلبانة.
فإليك النموذج المبين على ھذه الحيرة التي ما كانت لتكون لو فطن
المفسرون إلى أن ﷲ عز وجل يخاطب بني إسرائيل لكي ينبھنا أنھم موجودون،
وأن ما يخبرنا به عنھم في صورة الخطاب لھم ھو حقائق سارية متجددة
وآثارھا ال تنقطع عبر الزمان ،ال ماض حدث وانتھى وغابت آثاره.
"إما أن يكون الخطاب لغير المشركين ،إذ الظاھر أن ليس لھم عمل في
الكتاب الذي أنزل على موسى وال باشروا إبداء بعضه وإخفاء بعضه ،فتعين
أن يكون خطابا ً لليھود على طريقة اإلدماج ،أي الخروج من خطاب إلى غيره،
تعريضا ً باليھود وإسماعا ً لھم وإن لم يكونوا حاضرين ،وإما أن يكون خطابا ً
للمشركين ،ومعنى كونھم يجعلون كتاب موسى قراطيس يبدون بعضھا
ويخفون بعضھا أنھم سألوا اليھود عن نبوة محمد صلى ﷲ عليه وسلم،
فقرأوا لھم ما في التوراة من التمسك بالسبت ،أي دين اليھود ،وكتموا ذكر
١٤٨
شفرة سورة اإلسراء
الرسول الذي يأتي من بعد ،فأسند اإلخفاء واإلبداء إلى المشركين مجازاً،
)(١
ألنھم كانوا مظھراً من مظاھر ھذا اإلخفاء"
وأما اإلمام الطبري فقد حل المسألة بأن رجح القراءة بياء الغيبة ،وھي قراءة
المكي والبصري ،على القراءة بتاء الخطاب ،وھي قراءة جمھور القراء ،فقال
رحمه ﷲ:
فاإلمام الطبري اختار القراءة في نھاية اآلية بالياء ،وفسرھا باإلخبار عما
فعله بنو إسرائيل بالكتاب الذي أنزل عليھم قديماً ،ال في زمن بعثة النبي عليه
الصالة والسالم ،وجعل ذلك من باب ضرب المثال لمشركي العرب بعد أن
جعل الخطاب في صدر اآلية لھم.
وحل المشكلة في فھم اآليات فھما ً آخر يجعل ما فيھا متجانساً ،ومترابطا ً مع
ما كل أخبرنا به عز وجل عن بني إسرائيل في بيانه إلى خلقه.
فا" عز وجل يخاطب فعالً بني إسرائيل الذين أنكروا إنزال الرسالة على
النبي الخاتم وقالوا ،NMLKJIH :فيوبخھم بأنه ليس أول إنكار لھم،
فقد جعلوا الكتاب الذي أنزل على موسى قراطيس وأخفوھا عن الناس.
فمفتاح فھم اآلية وفك شفرتھا ،في إدراك أنه عز وجل يريد أن يخبرنا أن
بني إسرائيل ،الذين أنزل عليھم التوراة فأبدوا منھا قليالً وأخفوا ما ال يوافق
ھواھم ،موجودون مستمرون في الزمان ،يتوارثون تكوينھم الذھني والنفسي،
ويتوارثون غاياتھم وأھدافھم ،ويتوارثون سلوكھم وعملھم ،ويتوارثون التوراة
ويتوارثون معھا كتمھا وإخفاء ما فيھا ،وأنھم ھم أنفسھم من ينكرون الوحي
وإنزال الرسالة على النبي الخاتم.
فمن ِح َكم تعدد القراءات إتمام المعنى واستكماله ،واإلتيان بالمعاني المختلفة
التى ال يحيط بھا وجه قراءة واحد.
فإذا كنت ذاكراً أن القرآن ھو بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه إلى يوم القيامة،
فستفھم أنه يخبرك ويخبرنا أن الطائفة من بني إسرائيل التي أخفت الوحي
وكتمته في زمن نزول التوراة ،والتي كانت تتوارث كتمانه وإخفاءه إلى زمن
نزول القرآن ،مازالت موجودة وتخفي الوحي وتكتمه إلى زماننا ھذا ،وستظل
موجودة وتتوارث إخفاءه إلى يوم القيامة.
من سورة األنعام ،ھم الناس جميعاً ،وال يمكن أن يكون المقصود بالناس ھنا
١٥٠
شفرة سورة اإلسراء
بني إسرائيل فقط ألنه عز وجل يخاطبھم ،فلو كان الكتاب لبني إسرائيل فقط
لقال لھم :قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نوراً وھدى لكم.
ويزيدك تأكداً أن كلمة ،Z :في كل ما ورد من آيات تخبرك عمن أنزل
ﷲ عز وجل الكتاب والتوراة على موسى عليه الصالة والسالم بصائر وھدى
لھم ،ھم الناس جميعاً ،ال بنو إسرائيل وحدھم كما قال المفسرون ،قوله تعالى:
)(١
KJIHGFEDCBA
فصريح اآلية يخبرك أنه عز وجل أنزل الكتاب على بني إسرائيل ،وھي
تخبرك في الوقت نفسه أنه سبحانه وتعالى حين أنزله أخذ عليھم العھد والميثاق
أن يبينوه للناس جميعاً ،وأال يكتموا ما فيه من ھدى ونور عن أحد منھم ،ال بني
إسرئيل وال غير بني إسرائيل.
"واذكر من ھؤالء اليھود وغيرھم من أھل الكتاب منھم يا محمد ،إذ أخذ
ﷲ ميثاقھم ليبينن للناس أمرك الذي أخذ ميثاقھم على بيانه للناس ،في كتابھم
)(١
الذي في أيديھم ،وھو التوراة واإلنجيل"
والذي دفع المفسرين ،ممن قصر الميثاق الذي أخذ على بني إسرائيل بالبيان
وعدم الكتمان على النبي عليه الصالة والسالم ،إلى ذلك ،ھو ھذه القراءة بتاء
الخطاب ،وھي قراءة جمھور القراء ،عدا ابن كثير المكي وأبي عمرو البصري
وشعبة عن عاصم الكوفي) ،(٢الذين قرأوا بياء الغيبة ،ھكذا:
"وقد أخذ عليھم الميثاق بأمرين ،ھما بيان الكتاب ،أي عدم إجمال معانيه
)(٣
أو تحريف تأويله ،وعدم كتمانه ،أي إخفاء شئ منه"
ولكنه فھم أن اآلية إخبار عن بني إسرائيل الذين أُخذ عليھم الميثاق ببيان
الكتاب كله في عھد موسى عليه السالم فقط ولم يعد لھم حضور ،فقال في تفسير
القراءة بالخطاب إنھا:
"على طريقة الحكاية بالمعنى ،حيث كان المأخوذ عليھم ذلك العھد غائبين
)(١
في وقت اإلخبار عنھم"
والذي جمع بين أن الضمير في اآلية يعود على الكتاب ،وما فيه من بينات،
وإن كان قد خص نعت النبي عليه الصالة والسالم من بين ھذه البينات بالذكر،
وبين أنه في الوقت نفسه خطاب لبني إسرائيل في زمن النبي عليه الصالة
والسالم ،ھو الشيخ الشعراوي في تفسيره ،فقال رحمه ﷲ ،في معنى اآلية:
"لتبينن أمر الرسول صلى ﷲ عليه وسلم كما ھو موجود عندكم دون
تغيير وال تحريف ،وعنما يبينون أمر الرسول بأوصافه ونعوته فھم يبينون
الذي جاء حقا ً في الكتاب الذي جاءھم من عند ﷲ ،وھكذا نجد أن معنى تبيين
)( ٢
الكتاب وتبيين نعت رسول ﷲ أمران ملتقيان"
KJIH
ﻴﻌود ﻋﻠﻰ اﻝﻜﺘﺎب اﻝﻤذﻜور ﻓﻲ اﻵﻴﺔ ،ﻻ ﻋﻠﻰ اﻝﻨﺒﻲ ﻋﻠﻴﻪ اﻝﺼﻼة واﻝﺴﻼم
اﻝذي ﻻ ذﻜر ﻝﻪ ﻓﻴﻬﺎ ،واﻝذي أﺨذ اﷲ ﻋز وﺠل ﻤﻨﻬم اﻝﻤﻴﺜﺎق ﻋﻠﻰ ﺒﻴﺎﻨﻪ ﻝﻠﻨﺎس
ﺠﻤﻴﻌﺎً وﻋدم ﻜﺘﻤﺎﻨﻪ ﻫو ﻤﺎ ﻓﻴﻪ ﻤن اﻝﺒﺼﺎﺌر واﻝﻬدى واﻝرﺤﻤﺔ اﻝﺘﻲ أﺨﺒرك ﺒﻬﺎ
ﻋز وﺠل ﻓﻲ ﻤوﻀﻊ ﺴورة اﻝﻘﺼص ،وﻤﻨﻪ ﻨﺒﺄ اﻝﻨﺒﻲ اﻝﺨﺎﺘم ،ﻴدﻝك ﻋﻠﻰ ذﻝك
ﺨﺘﺎم اﻵﻴﺔ ،وﻫو ﻗوﻝﻪ ﺘﻌﺎﻝﻰ:
)(١
WVUTS RQPONML
فما نبذوه وراء ظھورھم واشتروا به ثمنا ً قليالً الكتاب الذي أنزل إليھم،
وليس النبي الخاتم الذي بعث للناس كافة.
والذي يريد القرآن إخبارك به عن بني إسرائيل والكتاب الذي أنزل عليھم،
بالجمع بين اإلخبار بياء الغيبة والقراءة بتاء الخطاب ،ھو ما فتح ﷲ عز وجل
على الشيخ الطاھر بن عاشور ،فقاله في ھذا الموضع من سورة آل عمران،
وإن يكن في عبارة خاطفة عابرة:
"الذين أوتوا الكتاب ھم اليھود ،وھذا الميثاق أُخذ على سلفھم من عھد
رسولھم وأنبيائھم ،وكان فيه ما يدل على عمومه لعلماء أمتھم في سائر
)(٢
أجيالھم ،إلى أن يجئ رسول"
الذي يريد بيان ﷲ عز وجل تنبيھك إليه وإخبارك به ،أن ثَمة طائفة من بني
إسرائيل تحوز التوراة ،كتاب ﷲ المنزل ،وتعلم ما فيه من ھدى ونور،
وتتوارثه عبر الزمان ،وتتوارث معه كتمانه وتحريفه وبث ھذا التحريف في
البشر.
( ١آل عمران.١٨٧:
( ٢تفسير التحرير والتنوير:ج ،٤ص.١٩١
١٥٤
شفرة سورة اإلسراء
فا" عز وجل عھد إلى بني إسرائيل ،القوم الذين أنزل عليھم كتابه ورسالته،
واستأمنھم أن يحفظوھا ويحافظوا عليھا ،كما أخبرك عز وجل:
~ } | { z y x w v u t s r q
)(١
_`hgfedcba
أما القرآن ،بيان ﷲ الخاتم إلى خلقه ورسالته األخيرة إليھم ،فقد عصمه ﷲ
عز وجل ،بأن أوكل مھمة حفظه والحفاظ عليه إلى ذاته عز وجل.
)(٢
nmlkjihg
وبحفظ القرآن وعصمته ،صار كتاب ﷲ وبيانه ورسالته إلى خلقه مشاعا ً
بين البشر ،وخطابا ً لھم جميعا ً باقيا ً إلى يوم القيامة.
( ١المائدة.٤٤:
( ٢الحجر.٩:
١٥٥
شفرة سورة اإلسراء
ورحمة من خاللھم ،فال تظھر في العالم إال بھم ،وال تتجلى على البشر إال فيھم،
أما القرآن فقد أراده عز وجل بائنا ً ظاھراً يتجلى على البشر بنفسه ،غير قابل
للكتم وال اإلخفاء وال التحريف ،التزمه البشر أو أعرضوا عنه ،وسواء وجدت
األمة التي تقيمه وتترجمه فيھا واقعا ً وحياة حية أو لم توجد.
١٥٦
شفرة سورة اإلسراء
ٔاﺋـﻤـﺔ ﻟـﻤــــﻦ؟
كيف يكون الكتاب الذي أنزل على موسى عليه الصالة والسالم لبني
إسرائيل ،وﷲ عز وجل اصطفاھم لحمله وحفظه ،وھو في الوقت نفسه بصائر
وھدى ورحمة للناس جميعاً؟
À ¿ ¾ ½ ¼ » º ¹ ¸ ¶ µ
)(١
ÂÁ
hgfedcba`_^]\[Z
)(٢
utsrq ponmlkji
أغلب المفسرين فرقوا بين معنى أئمة في اآليتين ،ففي سورة القصص نقل
اإلمام الطبري واإلمام أبو حيان التوحيدي عن فتادة المفسر قوله:
)(٣
"ونجعلھم أئمة ،أي :ونجعلھم والة األمر وملوكاً"
وھو القول الذي اختاره ورجحه أيضا ً اإلمام القرطبي ،مفسراً ترجيحه بأن:
( ١القصص.٥:
( ٢السجدة.٢٤-٢٣:
( ٣جامع البيان :ج ،١٨ص ،١٣٥والبحر المحيط :ج،٧ص١٠٠
١٥٧
شفرة سورة اإلسراء
)(١
" ال َملِك إمام يؤتم به ويقتدى به"
فھؤالء المفسرين فھموا" :أئمة" في آية القصص على أن المقصود بھا أن
يكون بنو إسرائيل حكاما ً وملوكاً.
ونقل القرطبي قوالً آخر في معنى ¿ :عن ابن عباس رضي ﷲ عنه،
وھو أن يكون بنوا إسرائيل:
)(٢
"قادة في الخير"
أما الشيخ الشعراوي فقد جمع في معنى ¿ :بين اإلمامة بمعنى ال ُملك،
واإلمامة بمعنى الھداية إلى الحق ،فقال رحمه ﷲ إن معنى أئمة:
)(٣
"أئمة في الدين وفي القيم ،وأئمة في سياسة األمور والملك"
"بأن أخرجھم من ذل العبودية وجعلھم أمة حرة مالكة أمر نفسھا ،لھا
شريعة عادلة وقوانين معامالتھا ،وقوة تدفع بھا أعداءھا ،ومملكة خالصة
لھا ،وحضارة كاملة تفوق حضارة جيرانھا ،بحيث تصير قدوة لألمم في
شؤون الكمال وطلب الھناء ،فھذا معنى جعلھم أئمة ،أي يقتدي بھم غيرھم
)(٤
ويدعون إلى الخير"
فابن عاشور جعل إمامة بني إسرائيل بمعنى إقامة حضارة متكاملة أو
نموذجية ،تكون قدوة لألمم في الخير ،وفي الشريعة والعدل ،وفي القوة والبأس،
فتراھا األمم وبھا تقتدي ،فوضع رحمه ﷲ يده على المعنى الصحيح ،وإن كان
فاته تجلية صلة ھذه الحضارة المتكاملة ونصبھا نموذجا ً لألمم بالكتاب الذي
أنزل على بني إسرائيل ،وأن الغاية منھا أن تكون ترجمة حية للكتاب ،وتطبيقا ً
واقعيا ً للرسالة ،والوسيلة التي ترى بھا األمم كيف يتجلى الوحي في البشر.
وأما الذي اتفق فيه المفسرون جميعا ً في ھذا الموضع من سورة القصص،
فھو أنھم فسروا قوله تعالى بعدھا:
ÁÀ
)(١
DCBA
فلو كانت الوراثة المقصودة وراثة األرض لكانت اآلية التي بعدھا تكراراً ال
لزوم له.
أما في آية سورة السجدة ،فقد ذھب المفسرون في تفسير كلمة¿ :
نحواً آخر ،فذھبوا جميعا ً إلى أن ¿ :فيھا بمعنى من يُقتدى بھم.
فاتفق القرطبي وأبو حيان في معنى ¿ :في سورة السجدة على عبارة
واحدة ،وھي أن معناھا:
)(٢
"قادة وقدوة يھتدى بھم في دينھم"
وقال الطبري:
"وجعلنا من بني إسرائيل أئمة ،وھي جمع إمام ،واإلمام يؤتم به في خير
أو شر ،وأريد بذلك في ھذا الموضع أنه جعل منھم قادة في الخير ،يؤتم بھم
)(٣
ويھتدى بھديھم"
وقال الشعراوي:
"ليس المقصود باإلمامة ھنا السلطة الزمنية ،إنما إمامة القدوة بأمر
)(٤
ﷲ"
( ١القصص.٦:
( ٢الجامع ألحكام القرآن :ج ،١٤ص ،١٠٩والبحر المحيط:ج ،٧ص.٢٠٠
( ٣جامع البيان:ج ،١٨ص.٦٣٧
( ٤تفسير الشعراوي :ج ،١٩ص.١١٨٥١
١٦٠
شفرة سورة اإلسراء
ونقول لك :المعنى يكون أوضح وأبين بجمع آية القصص وآية السجدة معاً،
فمعنى أئمة في سورة القصص ھو نفسه معناھا في سورة السجدة.
فاألصل في كلمة إمام لغويا ً أنه الطريق الذي يتبعه الناس ويسيرون فيه ،وقد
جاءت كلمة إمام ،بمعناھا اللغوي ھذا ،في القرآن في قوله تعالى في سورة
الحجر عن قرى قوم لوط وأصحاب األيكة:
)(٢
vuts
و ُسمي اإلمام إماما ً ألن الناس يتبعونه ويسيرون خلفه ،كما يتبعون الطريق
ويسيرون فيه.
وكلمة :أئمة ،ھكذا جمعاً ،لم ترد في القرآن إال بمعنى القدوة والمثل المتبع،
فمنھا قوله تعالى عن إبراھيم وإسحق ويعقوب عليھم السالم:
KJIHGFEDCBA
QPONM L
)( ١
وقد وردت كلمة :أئمة ،في كل مواضعھا في القرآن ،بمعنى اإلمامة في
الھدى والداللة على الحق والخيرات ،إال في موضع واحد جاءت فيه على معنى
اإلمامة في الضالل ،وھى قوله تعالى في سورة القصص في فرعون وقومه:
|}~¡ §¦¥¤£¢
)(٢
)(٣
nmlkj
قد تكونِ " :من" فيه للتبعيض ،فيكون المعنى :وجعلنا من بعضھم أئمة،
ويحتمل حينئذ أن يكون المقصود أن ھؤالء البعض أئمة لباقي بني إسرائيل،
فمعنى اآلية يحتمل أن يكون أنه عز وجل جعل بعض بني إسرائيل أئمة لباقيھم.
)(١
¾¿ÁÀ
( ١األنبياء.٧٣:
( ٢القصص.٤١:
( ٣السجدة.٢٤:
١٦٢
شفرة سورة اإلسراء
فالمعنى ھنا ال لبس فيه أنه عز وجل جعل بني إسرائيل جميعا ً أئمة ،فأئمة
في الموضعين ،موضع القصص وموضع السجدة ،معناھا أن ﷲ عز وجل أنزل
الوحي على موسى عليه السالم ليصنع به بني إسرائيل ،ليكونوا أمة الوحي
والرسالة ،تراھم األمم فتعرف ﷲ عز وجل من آثار وحيه فيھم ،فتھتدي بھم
وتقتدي.
ÁÀ
)(٢
utsrqponm
فا" عز وجل جعل بني إسرائيل جميعا ً أئمة ،بأن أورثھم ميراث األنبياء
قبلھم وما أُنزل معھم من ھدى ورشاد ،ال األرض ،أو مجرد الحكم والملك.
)(٣
YXWVUTS
مرة أخرى ،إذا كان بنو إسرائيل كما أخبرنا عز وجل أئمة ،أي يُقتدى بھم
ويھتدى بھديھم ،فالسؤال :أئمة لمن ،وكيف؟
وأما كيف ،فكما يخبرك بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه في ثنايا ما يرويه وما
يقصه من سيرتھم ،بأن يقيموا رسالة ﷲ فيھم ،ويتحول وحيه عز وجل ومنھجه
وشريعته بھم وبإقامتھم لھا إلى حياة حية ،تراھا األقوام واألمم ،فتعرف ﷲ عز
وجل من آثاره وآثار وحيه وشريعته فيھم ،فيقتدون بھم ويتبعونھم ويھتدون
بھدايتھم.
ولذلك ما كانت األنبياء بعد نزول التوراة تُر َسل إال إلى بني إسرائيل خاصة،
دون باقي أمم األرض وأقوامھا ،ألنھا كلھا تبع في االھتداء أو الضالل لھم،
تھتدى بھداھم وتضل بضاللھم ،وھو ما تجده صريحا ً في توبيخ المسيح عليه
السالم لھم في إنجيل متى:
َي ٍء، صلُ ُح بَ ْع ُد لِش ْس َد ا ْل ِم ْل ُح فَبِ َما َذا يُ َملﱠ ُح ؟ الَ يَ ْ "أَ ْنتُ ْم ِم ْل ُح األَ ْر ِ
ضَ ،ول ِكنْ إِنْ فَ َ
س .أَ ْنتُ ْم نُو ُر ا ْل َعالَ ِم ....فَ ْليُ َِاس ِمنَ النﱠا ِ إِالﱠ ألَنْ يُ ْط َر َح َخا ِر ًجا َويُد َ
١٤
ض ْئ نُو ُر ُك ْم
سنَةََ ،ويُ َم ﱢجدُوا أَبَا ُك ُم الﱠ ِذي فِي
س ،لِ َك ْي يَ َر ْوا أَ ْع َمالَ ُك ُم ا ْل َح َ
ھ َك َذا قُدﱠا َم النﱠا ِ
)(١
ت"
اوا ِ
س َم َ
ال ﱠ
´³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª © ¨ § ¦ ¥
)(٢
¶µ
( ١متى.١٦-١٣ :٥:
( ٢البقرة.٨٧:
١٦٤
شفرة سورة اإلسراء
فقد دمجھم ﷲ عز وجل معا ً حتى صيرھم طائفة واحدة ،وبينھم آالف
السنين ،وكأن الزمان توقف والمكان لم يتغير.
كل ما في شأن بني إسرائيل في بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه يصب في اتجاه
واحد ،وھو أنه يريد إخبارك وتنبيھك إلى طائفة أو فئة من بني إسرائيل لھا
تكوين ذھني ونفسي واحد ،ال يغيره مرور الزمان وال تقلبھم في المكان ،فھي
تتوارث ھذا التكوين كما ھو ،وتتوارث معه غاياته وأساليبه.
١٦٥
شفرة سورة اإلسراء
١٦٦
شفرة سورة اإلسراء
اﻟﺘـﺤﺮﻳ ـ ـ ـ ــﻒ
RQPONML
)اﻟﻨﺴﺎء(٤٦:
١٦٧
شفرة سورة اإلسراء
١٦٨
شفرة سورة اإلسراء
ﻃﺎﺋﻔﺔ ﻣﻦ ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ
اصطفى عز وجل بني إسرائيل على علم وأنزل عليھم وحيه واستودعھم
رسالته وكتابه ،لكى يحفظوه ويحافظوا عليه ،ويبينوه للناس بإقامته فيھم،
فيكونوا لھم بذلك أئمة وقادة ورادة.
فما الذى حدث وما الذى فعله بنو إسرائيل أو طائفة من بني إسرائيل؟
وبيان ﷲ عز وجل إلى خلقه اختص بني إسرائيل أو اليھود بالتحريف دون
النصارى أو المسيحيين ،فالتحريف ،كما يخبرك ﷲ عز وجل ،صفة اليھود
وبني إسرائيل وحدھم.
)(٢
RQPONML
( ١البقرة.٧٥:
( ٢النساء.٤٦:
١٦٩
شفرة سورة اإلسراء
rqpo nmlkjihgfed
}|{zyxwvut s
~_`hgfedcba
£ ¢ ¡ ~ } | { z y x w
)(١
§¦¥¤
فجمع عز وجل في وصف بني إسرائيل وكشف حقيقتھم وما فعلوه في
الوحي بين التحريف والنسيان.
"يحرفون كالم ربھم الذي أنزله على نبيھم موسى عليه الصالة والسالم،
وھو التوراة ،فيبدلونه ويكتبون بأيديھم غير الذي أنزله ﷲ عز وجل ،ثم
يقولون لجھال الناس :ھذا ھو كالم ﷲ الذي أنزله على نبيه موسى عليه
)(٢
الصالة والسالم".
أما الطاھر بن عاشور فيقول إن التحريف أصله الميل بالشئ إلى الحرف،
وھو جانب الشئ وحافته ،وعلى ذلك تحريف الوحي معناه:
( ١المائدة.١٣-١٢:
( ٢جامع البيان :ج ،٨ص.٢٥١
١٧٠
شفرة سورة اإلسراء
"الميل عن سواء المعنى وصريحه إلى التأويل الباطل ...فھو على ھذا
)(١
تحريف مراد ﷲ في التوراة إلى تأويالت باطلة"
"تغيير كلمات التوراة وتبديلھا بكلمات أخرى لتوافق أھواء اھل الشھوات
)(٢
في تأييد ما ھم عليه من فاسد األعمال"
KJIHGFEDCBA
)(٤
L
فا" عز وجل نسب إلى بني إسرائيل التحريف والنسيان ،ولكنه نسب إلى
النصارى النسيان فقط ،فاآليات على ذلك تخبرك بمعرفة مخبوءة في نسيجھا
وغير مرئية في ظاھرھا ،وھي أن التحريف الذي تجده في كتب النصارى ھو
من عمل اليھود.
فالفرق بين تحريف الوحي ونسيانه ،أن النسيان ذھول عن الوحي غفلة ،أو
ترك له عمداً ،وفقط ،أما التحريف فأمران ال أمر واحد ،كتم والوحي وإخفاؤه
مع وجوده واالحتفاظ به ،وإخراج بديل له مزور للبشر.
ولذا فالتحريف ال يكون إال عمداً ،والنسيان قد يكون سھواً وقد يكون عمداً.
فالنصارى ذھلوا عما أوتوه غفلة أو تركوه عمداً ،أما بنو إسرائيل فھم
يحوزون الوحي األصيل الذي أنزل عليھم ويكتمونه عندھم ،ويخرجون للبشر
تحريفه عمداً ،وھم مع ذلك ذھلوا عن بعضه ونسوه ،أنساھم عز وجل إياه عقابا ً
لھم على ما يخفونه ويبثون نقيضه عمداً.
والقرآن ،بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه ،لم ينسب تحريف الوحي إلى بني
إسرائيل دون النصارى فقط ،ولكنه نسبه إلى طائفة من بني إسرائيل وبعض
اليھود ال إلى كل اليھود.
)(٢
RQPONML
القول األول نسبه إلى الكوفيين ،وھو أن L :بيانية أو صلة،M :
في قوله تعالى قبلھا:
Ö Õ Ô Ó Ò Ñ Ð Ï Î Í Ì Ë Ê É
)(١
×
فيكون المعنى:
"ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا ً من الكتاب من الذين ھادوا يحرفون الكلم
)(٢
عن مواضعه"
والقول الثاني نسبه الطبري إلى أھل البصرة ،وھو أن تكونL :
للتبعيض ،وعلى ذلك يكون معنى اآلية:
)(٣
"من الذين ھادوا قوم يحرفون الكلم عن مواضعه"
ولكن اإلمام الطبري اختار قول الكوفيين ،الذي يجعل L :للصلة،
وينسب التحريف للذين أوتوا نصيبا ً من الكتاب أجمعين.
والشيخ الطاھر بن عاشور ذكر الوجھين كاإلمام الطبري ،ولكنه لم يرجح
)(٤
أحدھما على اآلخر
وما تركه اإلمام الطبري ھو الصحيح وليس ما اختاره ،ألن دليل صحته في
القرآن نفسه.
( ١النساء.٤٤:
( ٢جامع البيان :ج ،٧ص.١٠١
( ٣جامع البيان :ج ،٧ص.١٠٢
( ٤تفسير التحرير والتنوير :ج ،٥ص.٧٤
١٧٣
شفرة سورة اإلسراء
ففي سورة البقرة فرﱠق بيان اإلله في مسألة التحريف بين طائفتين أو فئتين
من بني إسرائيل.
األولى ھي الطائفة التي تكتم الوحي وتحرفه عن علم ووعي وقصد ،وتخرج
للبشر ھذا التحريف إلضاللھم ،والطائفة الثانية ھم عموم بني إسرائيل ،ممن ال
يعلمون عن الوحي المخبؤ والكتاب المنزل المكتوم شيئا ً ،ال يعلمون إال
التحريف ،فھو الذى رأوه وتعلموه وتكونوا به.
أما الطائفة الثانية فھي التي يخبرك عنھا عز وجل بعدھا مباشرة:
)(٢
VUTSRQPONMLK
واألمنية معناھا التالوة الظاھرة دون علم والفھم وال فقه ،ومنھا قوله تعالى:
gfedcba`_~}|{zyx
)(٣
onmlkjih
( ١البقرة.٧٥:
( ٢البقرة.٧٨:
( ٣الحج.٥٢:
١٧٤
شفرة سورة اإلسراء
فالطائفة األولى التي حرفت الوحى عن علم وتكتمه رأس ،والطائفة الثانية،
األميون ،جسد لھذا الرأس يتكون بما يأتيه منه ويتبعه في حركته.
)(١
VUTSRQPONMLK
يخبرك أن األمي عند ﷲ عز وجل ھو من حُرم علم الوحي وزال الوعي به
وبحقائقه وقضاياه ومعارفه ومنھجه من ذھنه وتكوينه ،األمي ھو من فقد الوعي
بالوحي مصدراً للعلم والمعرفة ،األمي من يرى ويفھم بغير نور الوحي ،ويفكر
بغير علمه ،ويزن بغير معياره وميزانه.
وأما وصف النبي عليه الصالة والسالم بأنه أمي في قوله تعالى:
( ١البقرة.٧٨:
١٧٥
شفرة سورة اإلسراء
n m l k j i h g f e d
)(١
o
فھو نسبة ألمة ،ال ألم ،ومعناه أنه عليه الصالة والسالم بُعث في أمة أمية لم
ينزل عليھا وحي وليس عندھا كتاب وال بعث فيھا رسول ،أي بخالف أنبياء
بني إسرائيل ،الذين بعثوا في بني إسرائيل ،الذين عندھم الوحي والكتاب.
)(٢
TSRQPON
أما الدليل على عدم علم النبي عليه الصالة والسالم بالقراءة والكتابة ،فقوله
تعالى في سورة العنكبوت:
)(٣
ba`_~ }|{zyxwvut
( ١األعراف.١٥٧:
( ٢الجمعة.٢:
( ٣العنكبوت.٤٨:
١٧٦
شفرة سورة اإلسراء
الفريق لفظ يدل على الجماعة وال مفرد له من لفظه ،فمن يكون ھذا الفريق؟
"ھم األحبار الذين حرفوا التوراة في صفة محمد صلى ﷲ عليه وسلم،
وقيل جماعة من اليھود كانوا يسمعون الوحي إذا نزل على رسول ﷲ صلى
)(٢
ﷲ عليه وسلم ،ليدخلوا في الدين ما ليس فيه"
وما قاله أبو حيان نحا نحوه الشيخ الطاھر بن عاشور وزاده بياناً ،فقال عن
ھذا الفريق:
فألن اآلية تخاطب النبي عليه الصالة والسالم والمؤمنين في زمن نزول
القرآن ،فقد افترضا رحمھما ﷲ أن من تخبر عنھم اآلية ،ممن يحرفون كالم ﷲ
( ١البقرة.٧٥:
( ٢تفسير البحر المحيط :ج ،١ص.٤٣٩
( ٣تفسير التحرير والتنوير :ج ،١ص.٥٦٧
١٧٧
شفرة سورة اإلسراء
من بعد ما عقلوه ،يحتمل أن يكونوا من بني إسرائيل في عھد موسى وزمن
نزول التوراة ،أو أن يكونوا من بني إسرائيل في زمن نزول القرآن.
وأما اإلمام القرطبي فقد نقل في ھذا الفريق الذي حرف الوحي عمداً قولين،
والقوالن يقصرانه على األقدمين من بني إسرائيل ،فقال ھم:
" األحبار السبعون الذين اختارھم موسى عليه السالم ،فسمعوا كالم ﷲ،
فلم يمتثلوا أمره ،وحرفوا القول في إخبارھم قومھم ،وھو قول الربيع وابن
إسحق ،وقال السدي وغيره :بدلت طائفة منھم ما سمعت من كالم ﷲ على
)(١
لسان نبيھم موسى عليه السالم"
والسؤال الذي لم يسأله أبو حيان وابن عاشور والقرطبي ،ھو :إذا كان
الفريق الذين حرفوا من بني إسرائيل ھم األقدمين ،زمن موسى عليه السالم
ونزول التوراة ،فلماذا يوبخ عز وجل الحاضرين من بني إسرائيل زمن نزول
القرآن ،ممن أبوا اإليمان بالنبي عليه الصالة والسالم ،على التحريف الذي
حرفه ھؤالء الغابرين وكأنھم ھم الذين فعلوه ،وما تفسير الضمير في قوله عز
وما لم يسألوه أجاب عنه اإلمام الطبري رحمه ﷲ ،فقد اختار قوالً واحداً في
ھذا الفريق ،وھو أنھم طائفة من بني إسرائيل في عھد موسى عليه السالم ،ثم
فسر دخول ھؤالء األقدمين في الضمير العائد على الحاضرين من بني إسرائيل
"وإنما جعل ﷲ الذين كانوا على عھد موسى ومن بعدھم من بني إسرائيل
من اليھود الذين قال ﷲ ألصحاب محمد ،¸¶µ´ :ألنھم كانوا
آباءھم وأسالفھم ،كما يذكر الرج ُل اليوم الرج َل ،فيقول :كان منا فالن ،يعني
)(١
أنه كان من أھل طريقته ومذھبه ،أو من قومه وعشيرته"
فاإلمام الطبري رحمه ﷲ فطن إلى أن االنتقال في اآلية من الرواية عن بني
إسرائيل األقدمين في صيغة الغيب إلى اإلخبار عنھم في صيغة الحضور،
وإدخال من كانوا في عھد التوراة في ضمائر من ھم في عھد القرآن ليس سوى
شفرة لغوية تريد أن تخبرنا أن ھؤالء في تكوينھم ھم أنفسھم أولئك ،وأن ما فعله
األقدمون من بني إسرائيل ورثه الحاضرون منھم ،وھو نفسه ما يفعلونه،
وسوف يظلون يتوارثونه ويفعلونه.
وما لم نر أحداً أدركه أو سأل عنه ھو :لماذا حرفت طائفة من بني إسرائيل
الوحي وھو ينزل عليھم عن وعى وعلم وقصد ،ولماذا أخبرنا ﷲ عز وجل بھذا
التحريف ،ولماذا ألح في إخبارنا به حتى جعل الصفة الرئيسية الالصقة ببني
إسرائيل واليھود في ذھن كل قارئ للقرآن ھي التحريف والتزوير؟
ھنا نعود بك إلى ما أخبرناك به في :بيان اإلله ،الوحي بيان كاشف ونور
تنكشف به حقيقة الوجود ،وفيه تبيان كل شئ ،وھو مصدر المعرفة المطلق
المھيمن على مصادر المعرفة كلھا ،ومن ثَم فمن يحوزه يحوز سلطة المعرفة
المطلقة المھيمنة ،ويصبح وعيه حاكما ً لوعي البشر جميعاً ،وھو مصدر تكوينه.
حجب بنو إسرائيل الوحي وحرفوه ألنھم ضنوا على باقي األقوام واألمم بما
فيه من معرفة شاملة وعلم محيط ،وما يمنحه من قوة وسلطة ،وأرادوا حيازته
خالصا ً لھم دون تقيد بشروط حيازته ،أال وھى اإليمان والطاعة وإقامة ھذا
الوحي ومنھجه فيھم ،وھداية األمم كلھا إليه من خاللھم.
بنو إسرائيل حرفوا الوحي وكتموه ألنھم ضنوا على األمم األخرى بالھداية
ومعرفة اإلله الحق ،وأرادوا أن يكون اإلله لھم وإلھھم وحدھم ،وال صلة ألحد
به غيرھم.
١٨٠
شفرة سورة اإلسراء
ﳛﺮﻓﻮن ﻻ ﺣﺮﻓﻮا
لماذا أخبرنا عز وجل في بيانه النھائي والمعصوم إلى خلقه كافة بھذا
التحريف ،ولماذا شدد على ھذا اإلخبار وألح فيه؟
ومن المثير لالنتباه ،وھو ما يؤكد ما نقوله ھنا ،أن ﷲ عز وجل في كل ما
أخبرك به عن كتم بني إسرائيل للوحي وتحريفھم له يخبرك به في صيغة
المضارعة وليس في صيغة الماضي.
( ١البقرة.١٧٤:
١٨١
شفرة سورة اإلسراء
W V U T S R Q P O N M L
)(١
^]\[ZYX
~}| {zyxwvu
)( ٢
¡
فاآليات كلھا تخبرك عن تحريف طائفة من بني إسرائيل ومن الذين ھادوا
للوحي ولكلم ﷲ ورسالته في صيغة المضارعة ،التي تعني الحال واالستمرار
والتجدد واالستدامة ،ال في صيغة الماضي ،التي تعني الحدوث واالنتھاء
واالنقطاع.
صيغة المضارعة التي أخبرك فيھا عز وجل عن كتم بني إسرائيل للوحي
وإخفائھم له وتحريفه ،تعني أن الكتم والتحريف عمل مستمر متجدد ،ال يتوقف
وال تنقطع آثاره عبر الزمان.
وھو ما أشار إليه الشيخ الطاھر بن عاشور في إحدى فتوحاته الخاطفة ،فبعد
أن فسر ،في موضع سورة المائدة ،معنى التحريف من غير أن يخرج في ھذا
( ١النساء.٤٦:
( ٢المائدة.١٣:
١٨٢
شفرة سورة اإلسراء
المعنى عما قاله من سبقه من المفسرين ،قال رحمه ﷲ في عبارة عابرة ،في
سطر واحد منفرد عما قبله وما بعده:
)(١
"وجئ بالمضارع للداللة على استمرارھم"
رحمه ﷲ:
فكأن الطاھر بن عاشور أدرك ،ضمناً ،أن القرآن يريد أن يخبرنا أن ما نسيه
بنو إسرائيل قد حدث مرة واحدة قديماً ،أما الكتم والتحريف وبث ھذا التحريف
فھو عمل دائم مستمر ومتجدد ،وھو ما يعني وجود طائفة من بني إسرائيل
قوامة على كتمان الوحي األصيل عندھا وتتوارث التحريف وبثه في البشر،
وھذا التوارث ھو الذي يكون به التحريف وبثه عمالً دائما ً متجدداً في كل
عصر.
القرآن ينبھك أن الفئة أو الطائفة من بني إسرائيل التي تكتم الوحي األصيل
وتخفيه وتخرج للبشر تحريفه ،ھي نفسھا موجودة عبر التاريخ كله ،تتوارث
ھذا الكتم والتحريف وإخراج ما حُرف.
\]^_`edcba
)(١
kjihgf
)(٢
´½¼»º¹¸¶µ
فھذه اآليات تخبرك إلى جوار معناھا القريب الظاھر ،عن جحود بني
إسرائيل ،بشيئين:
األول :أن وحي ﷲ عز وجل األصيل موجود بين طائفة من بني إسرائيل
عصر نزول القرآن.
والثاني :أن الطائفة التي تكتم ھذا الوحي من بني إسرائيل وتخبئه وتخرج
للناس تحريفه ،ھي أيضا ً موجودة عصر نزول القرآن.
بل إن ﷲ عز وجل أمر نبيه صلى ﷲ عليه وسلم إن اعتراه شك فيما يأتيه
من وحي أن يسأل الذين يعرفون الكتاب من قبله ،لكي يعرف صدق ما يأتيه
بموافقته لما معھم وما بين أيديھم من الوحي.
)(٣
}~¡ª©¨§¦¥¤£¢
( ١المائدة.١٥:
( ٢البقرة.١٠١:
( ٣يونس.٩٤:
١٨٤
شفرة سورة اإلسراء
والتوراة ،وحي ﷲ وكتابه المنزل ،أنزلت على بني إسرائيل في القرن الثالث
عشر قبل الميالد ،والقرآن أنزل في القرن السابع الميالدي.
فاآليات تخبرك أن التوراة األصلية األصيلة ،وما فيھا من علم شامل محيط
وخطة إلصالح مسيرة البشر ،كانت موجودة عند الطائفة من بني إسرائيل التي
تحرفھا بعد عشرين قرنا ً من نزولھا!
وھو ما أدركه اإلمام الطبري عند تفسيره لمعنى نقض بني إسرائيل للميثاق
وتحريفھم للوحي في سورة المائدة ،فقال رحمه ﷲ:
"وھذا من صفة القرون التي كانت بعد موسى من اليھود ،ممن أدرك
بعضھم عصر نبينا محمد صلى ﷲ عليه وسلم ،ولكن ﷲ عز ذكره أدخلھم في
عداد الذين ابتدأ الخبر عنھم ،ممن أدرك موسى منھم ،إذ كانوا من أبنائھم،
وعلى منھاجھم في الكذب على ﷲ ،والفرية عليه ،ونقض المواثيق التي
)(١
أخذھا عليھم في التوراة"
فالطائفة من بني إسرائيل التي تحوز الوحي وتكتمه ،وتحرفه وتبث في
البشر تحريفه ،تكونت مع نزول التوراة على موسى عليه السالم ،وظلت
موجودة تتوارث ھذا الكتم والحيازة ،وھذا التحريف والبث ،إلى زمن نزول
القرآن.
وألن ﷲ عز وجل أفرد في بيانه الخاتم لھذه الطائفة من بني إسرائيل ما لم
يفرد مثله ،وال رُبعه ،وال ُعشره ،ألحد في العالمين غيرھم ،ال قديما ً وال حديثاً،
فال فئة ،وال أمة ،وال مملكة ،وال إمبراطورية ،وال حضارة ،في العالم وال
التاريخ ،لھا موقع ھذه الطائفة من البشرية ،وال آثارھا فيھا ،وال دورھا في خط
مسارھا وصناعة تاريخھا.
وھذا الموقع على مركزيته ،وھذا الدور على عظمه ،عصي على اإلنسان
أن ينتبه إليه ويدركه بوسائل إدراكه الذاتية وحده ،وھذه اآلثار على جسامتھا
عسيرة عليه أن يفطن إلى صلتھا ببني إسرائيل بما أودع فيه من مصادر
ووسائل للمعرفة من غير تنبيه الوحي ،مصدر المعرفة المطلق المرتفع عن
الزمان والمكان والمحيط بالسر وأخفى ،ومن غير إرشاده وبيانه.
١٨٦
شفرة سورة اإلسراء
ھذه اآلية تخبرك وتنبھك إلى معرفة ال مصدر لھا غيرھا ،وھي التأريخ
لبداية الحركات السرية وعالمھا ،عالم السر والخفاء والكتمان ،ولمن بدأه وھو
قلبه ونواته.
اآلية تؤرخ لبداية عالم السر والخفاء وأصل الحركات السرية في العالم
بعصر نزول التوراة والوحي على بني إسرائيل ،وبنو إسرائيل ھم من بدأه،
وھم قلب الحركات السرية ونواتھا وطاقتھا ومن يسيطرون عليه.
والقرآن بھذا ھو المصدر الوحيد في العالم الذي يعود ببداية عالم السر
والخفاء والحركات السرية إلى عصر نزول التوراة في القرن الثالث عشر قبل
الميالد.
ثم اآلية تخبرك بمعرفة أخرى ال مصدر لھا غيرھا ،وھي أن المسألة القلب
أو النواة التي تكونت حولھا الحركات السرية ،وقام عليھا عالم السر والخفاء
ھي تحريف الوحي ،ثم كتمانه وإخفاؤه وإظھار التحريف للعالم وبثه في البشر.
( ١البقرة.٧٥:
١٨٧
شفرة سورة اإلسراء
وال يشترك مع القرآن ،في العودة بأصول عالم السر والخفاء وبداية كتمان
شئ وإظھار آخر وبثه ،إلى عصر نزول الوحي على بني إسرائيل ،سوى
القبااله ،أو التراث الباطني الشفوي اليھودي.
والقبااله تعود بالكتم واإلخفاء والتمويه إلى عصر نزول التوراة ،كالقرآن
تماماً.
في سورة البقرة يخبرك عز وجل أنه واعد موسى عليه الصالة والسالم
أربعين ليلة:
)(١
`lkjihgfedcba
ولكن في سورة األعراف يخبرك عز وجل بشيء آخر زائد على ما في
سورة البقرة ،وھو أن ميقات موسى مع ربه تم باألربعين ليلة:
)(٢
ponmlkjihgf
( ١البقرة.٥١:
( ٢األعراف.١٤٢:
١٨٨
شفرة سورة اإلسراء
فالغرض من آية األعراف ليس اإلخبار عن الميقات أو مدته كآية البقرة ،بل
ھدفھا غلق الطريق أمام تصور أو افتراض أنه كان ثَمة لقاءات أخرى.
فلماذا اغلق بيان اإلله إلى خلقه ميقات موسى مع ربه ،وأكد أنه تم باألربعين
ليلة؟
ففي المرة األولى أوحى إليه اإلله نص التوراة في األلواح ،وأمره أن يبلغ ما
فيھا من تعاليم وتكاليف لبني إسرائيل جميعا ً ويأمرھم بھا.
وفي المرة الثانية أطلعه اإلله على المعاني العميقة لنص التوراة وتفسير ھذه
المعاني ،وأمره أن يقصر ھذه التفسيرات والمعاني العميقة على األحبار
والكھان دون عموم بني إسرائيل.
وفي المرة الثالثة عرﱠفه اإلله أن التوراة نص مشفر ،وأطلعه على شفرتھا
ورموزھا وعرفه بما تحمله من معان ،وأمره أن يختص بھذه الشفرة وحلھا وما
تحويه من معارف وعلوم طائفة من بني إسرائيل ،ھم النقباء السبعون فقط ،وأن
يحجبھا عن سواھم فال يُطلع عليھا أحداً غيرھم.
ثم صار ھؤالء النقباء السبعون يورثون ھذه العلوم والمعارف المشفرة
للصفوة من األحبار والكھان في كل جيل من بني إسرائيل.
والفرق بين القرآن والقبااله ،كما ترى ،أن بيان اإلله الخاتم ھدانا إلى أن ﷲ
عز وجل لم يمنع علما ً عن أحد من خلقه ،بل أمر سبحانه وتعالى موسى بإبالغ
الكتاب الذي أنزل عليه لبني إسرائيل جميعا ً وللناس أجمعين ،وأنه عليه السالم
بلغ ما أوحي إليه من ربه ولم يكتم منه شيئا ً عن أحد.
ووجود علوم ومعارف سرية خفيه تتوارثھا فئة من بني إسرائيل وال تطلع
عليھا أحداً غيرھا ،ال من بني إسرائيل وال من غيرھم ،ليس فقط في القبااله ،بل
له أصل في أحد األسفار األبوكريفا ،وھي األسفار المخفية أو غير القانونية
وغير المعترف بھا ،وھو سفر إسدراس أو عزرا الثاني .
في اإلصحاح الرابع عشر من سفر إسدراس الثاني ،أن عزرا كاتب التوراة
كان يجلس تحت شجرة سنديان فكلمه اإلله من غابه قريبة وأخبره أنه:
"أنا الرب إلھك ،لقد أظھرت نفسي لموسى وكلمته حين كان شعبي في
بيت العبودية في مصر ،وأرسلته ليطلق شعبي ،وأرشدته إلى جبل سيناء
ليمكث معي أياما ً عديدة ،وأريته أشياء عجيبة ،وعرفته بأسرار الزمان وما
يكون في آخر األيام ،وأمرته قائالً :ھذه الكلمات تنشرھا للناس ،وأما ھذه
)( ١
فتبقى سراً وال تطلع عليھا أحداً"
فالسفر يقول إن اإلله حين أوحى إلى موسى عليه السالم التوراة ،أمره بنشر
بعض ما أوحى به إليه وبكتم بعضه اآلخر.
وليس ھذا فقط ،بل يقول من كتبوا السفر إن اإلله حين أوحى لعزرا بأسفار
العھد القديم وأمره بكتابتھا ،أمره أن يُظھر جز ًءا مما كتبه وأن يحجب جلھا وما
فيھا من معارف إال عن طائفة من بني إسرائيل ،ھم حكماء بني إسرائيل ،ففي
اإلصحاح نفسه:
"وفي اليوم الثالث وأنا جالس تحت شجرة السنديان أتاني صوت العلي من
بين الشجيرات وناداني :إسدراس ،إسدراس ،اجمع أدوات الكتابة وأحضر
ساريا ودابريا وسيليما وإيكانوس وعزيل ،المھرة في الكتابة ،للقائي أربعين
يوماً ،فأخذت الرجال الخمسة وانطلقنا إلى البرية ،وقال لي العلي :افتح فمك
واشرب ما أسقيه لك ،وفتحت فمي فسقيت شرابا ً كالماء ولونه كالنار ،وعندما
شربت أشرق نور في قلبي وانسكبت الحكمة في صدري .ومنح العلي الحكمة
للخمسة أيضا ً وأنار قلوبھم ،فكتبوا في أربعين يوما ً أربعة وتسعين
سفراً...وعند نھاية األيام قال لي العلي :انشر األسفار األربعة والعشرين
األولى بين الناس جميعاً ،من يفقه ومن ال يفقه The worthy and the
،unworthyوأما األسفار السبعون األخيرة فال تطلع عليھا إال الحكماء
)(١
،The wiseفمن ھذه األسفار تنبع الحكمة وتسري المعرفة"
فاإلله ،كما يقول السفر ،أنزل الوحي على عزرا ،فأخذ يملي ما يوحى إليه
على الكتبة الخمسة ،فكان عدد ما كتبوه أربعة وتسعين سفراً ،أمر اإلله عزرا
أن ينشر أربعة وعشرين سفراً منھا ،وھي عدد أسفار العھد القديم ،وأن يحتفظ
باألسفار السبعين الباقية سرية وأال يُطلع عليھا أحداً سوى حكماء بني إسرائيل!
إذاً القبااله ،أو التراث الباطني اليھودي ،واألسفار المخفية ،تتفق مع القرآن
في وجود طائفة من بني إسرائيل تظھر شيئا ً لعموم بني إسرائيل وللناس جميعاً،
وتخفي شيئا ً آخر تعلمه وتتوارثه من جيل إلى جيل ،وتحجبه وتكتمه عن ھؤالء
العموم من بني إسرائيل وعن الناس.
وما صححه لك بيان اإلله إلى خلقه واستخرجه من بطن الغيب وكشفه لك،
وخالف فيه القبااله واألسفار المخفية ،أن ما تخفيه ھذه الطائفة من بني إسرائيل
وتكتمه عن البشر ھو الحق والوحي األصيل ،وليس طبقة من العلوم والمعارف
ال يؤتمن عليھا عموم الناس ،وأن ما تظھره لھم ھذه الطائفة وتبثه فيھم ھو
تحريف ھذا الحق والوحي األصيل.
والمصدر الوحيد الذي يتفق مع القرآن في جوانب المسألة كلھا :وجود طائفة
من بني إسرائيل تتوارث إخفاء شئ وكتمه ،وتتوارث معه بث شئ آخر في
غيرھا من بني إسرائيل وعموم الناس ،وأن ھذا الذي تكتمه ھو الحق والوحي
األصيل ،وما تبثه من إجل إضالل الناس عمداً ھو تحريفه ،ھذا المصدر الوحيد
ھو بروتوكوالت حكماء صھيون.
١٩٢
شفرة سورة اإلسراء
االشتراكية ،وال يوجد عقل واحد بين األميين يستطيع ان يالحظ انه في كل
حالة وراء كلمة التقدم يختفي ضالل وزيغ عن الحق ،ما عدا الحاالت التي
تشير فيھا ھذه الكلمة إلى كشوف مادية أو علمية ،إذ ليس ھناك إال تعليم حق
واحد ،وال مجال فيه للتقدم ،إن التقدم كفكرة زائفة يعمل على تغطية الحق،
حتى ال يعرف الحق أحد غيرنا ،نحن شعب ﷲ المختار الذي اصطفاه ليكون
)( ١
قواما ً على الحق"
فإذا أن تعرف من يكون ھؤالء الذين يوافقون القرآن ،ويُقرون باحتكار الحق
و كتمانه ،وإشاعة الضالالت عبر التاريخ كله عمداً ،فارجع إلى آخر سطر في
وثيقة البروتوكوالت ،وستجد أن الموقعين عليھا ھم:
فالطائفة من بني إسرائيل التي تخفي الوحي وتكتمه ،وتبث تحريفه في األمم
والشعوب عبر التاريخ ،ھي قمة ھرم الماسونية والرأس الخفي للحركات
السرية في العالم.
١٩٤
شفرة سورة اإلسراء
ﻋﺎﱂ ﻣﻦ اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ
ما الذى حرفه بنو إسرائيل ويتوارثون تحريفه وبثه في وعي البشر وأذھانھم
ونفوسھم عبر العصور ،ھل يمكن معرفته وإدراك ما يترتب عليه وما آثاره
التي دعت بيان اإلله إلى خلقه أن يفرد له ھذه المساحة الھائلة ،ويلح في إخبار
الناس به ھذا اإللحاح؟
نخبرك أوالً بما فھمه المفسرون من معنى التحريف والمراد به ،لتعرف
الفرق بينه وبين ما يخبرك به ﷲ عز وجل في بيانه إلى خلقه فعالً.
جل المفسرين ،كما علمت ،تعاملوا مع تحريف بني إسرائيل للوحي على أن
المراد به تحريفھم التوراة أو الكتاب قديما ً في عھد نزولھا على موسى عليه
السالم ،وأغلبھم فسر معنى التحريف تفسيراً لغويا ً أو عمومياً ،من غير أن يُعنى
بماذا يكون ھذا التحريف بالضبط ،وال كيف يكون مستمراً عبر الزمان كما
تخبرنا صيغة المضارعة ،وال لماذا ألح القرآن على إخبارنا به ھذا اإللحاح.
فقال اإلمام الطبري في معنى تحريف بني إسرائيل الكلم كالما ً متشابھا ً في
كل مواضعه ،في سورة البقرة ،وفي سورة النساء ،وفي سورة المائدة ،وھو
أنھم:
)(١
"يبدلون معناھا ويغيرونھا عن تأويلھا "
"ھو تبديل معاني كتبھم السماوية ،وھذا التحريف يكون غالبا ً بسوء
التأويل اتباعا ً للھوى ،ويكون بكتمان أحكام كثيرة مجاراة ألھواء العامة ،قيل:
)(٢
ويكون بتبديل ألفاظ كتبھم"
وبعض المفسرين وقع فيما نبھناك إليه من قبل ،إذ تعاملوا مع آيات القرآن،
خصوصا ً خارج آيات العقائد والعبادات ،على أنھا خطاب للمكان واللحظة من
الزمان التي أُنزل فيھا ،وأن ما يحمله ھذا الخطاب من معان مقصور على أھل
ھذا المكان وھذه اللحظة ،وتفسيره محصور فيھا وفيھم.
وربما نلتمس لھم العذر ،ألن ما يخبر به بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه عن بني
إسرائيل وتحريفھم للوحي ،يحتاج في إدراكه وفھمه إلى علوم ومعارف لم تكن
في حوزتھم وال يمكن معرفة المراد به من غيرھا.
ألن المفسرين لم يتعاملوا مع القرآن على أنه بيان ﷲ عز وجل المفتوح إلى
كل األزمنة وكل األمكنة ،فمنھم من حصر ذھنه ،وھو يبحث عما يكون ھذا
التحريف الذي حرفه بنو إسرائيل للوحي ،في أسباب النزول وما تحويه من
قصص ،فيقول اإلمام أبو حيان عن تحريف الكلم:
"أي يزيلونه ويميلونه عن مواضعه التي وضعھا ﷲ فيھا ،قال ابن عباس
والجمھور :ھي حدود ﷲ في التوراة ،وذلك أنھم غيروا آية الرجم ،أي
وضعوا الجلد مكان الرجم ،وقال الحسن :يغيرون ما يسمعون من الرسول
)(١
عليه السالم بالكذب عليه "
وكما ترى ،المفسرون كان يحكمھم في فھم معنى تحريف الوحي أمران.
األول :أن ھذا التحريف مسألة قديمة في عھد نزول التوراة على موسى عليه
السالم ،ولذا ارتبط المراد بالتحريف عندھم بالكتابة واألوراق والقراطيس ،ولم
يرد على خلدھم ،من قريب وال من بعيد ،أن يبحثوا عن معنى ھذا التحريف في
العالم وتاريخه ،وال عن آثاره في البشرية وسيرة أممھا وشعوبھا.
واألمر الثاني :أن ھذا التحريف يقع في أحكام فقھية مفردة أو وقائع محددة،
فلم يفطن أحد منھم إلى أن التحريف الذي يفرد له بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه
ھذه المساحة ،ويلح في اإلخبار به ھذا اإللحاح ،ال يمكن أن يكون لمجرد تبديل
حكم فقھي أو مجموعة أحكام جزئية.
فإليك نموذجا ً صريحا ً مبينا ً على ما كان يحكم المفسرين في بيان ما ھو
التحريف ،وما قيدھم في فھمه ،وأوصلھم إلى ما وصلوا إليه من تضييق معناه،
في تعقيب الشيخ الطاھر بن عاشور على ما ذكره من معنى التحريف في
موضع سورة المائدة ،وھو رحمه ﷲ أكثر المفسرين انتباھا ً إلى صيغة
المضارعة التي جاء فيھا التحريف ووعيا ً بمعناھا:
١٩٨
شفرة سورة اإلسراء
ونقول لك :تحريف بني إسرائيل للوحي الذي أخبرك به ﷲ عز وجل في
بيانه إلى خلقه وألح في إخبارك به ،واختصه بھذه المساحة الھائلة ،وجعله
ساريا ً في الزمان بوضعه في صيغة المضارعة ،مسألة أشد خطراً وأعمق
وأبقى آثاراً من مجرد اإلخبار عن وقائع قديمة ماتت وقُبرت مع من فعلوھا،
ولمجرد العظة والعبرة ،ومن إخبارنا عن تغيير حكم أو أحكام في قراطيس
معزولة عن تكوين العالم وتاريخه وعن مسيرة البشرية ومسارھا.
التحريف الذي يخبرك به بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه مسألة حية فاعلة في
وعي البشر وتكوينھم في كل زمان ومكان ،وھائلة اآلثار في سيرة البشر
وتكوين حضاراتھم وصناعة تاريخھم في كل العصور.
التحريف ھو أداة بني إسرائيل التي يصارعون بھا وحي اإلله األصيل ،في
كل مكان وفي كل زمان يوجدون فيه ،قديما ً وحديثاً ،من أجل إزاحته والحلول
محله في تكوين وعي البشر وبناء أذھانھم ونفوسھم ،ومن أجل إزالته وأخذ
موقعه في صناعة تاريخھم ونسج مجتمعاتھم.
وﷲ عز وجل أخبرنا بھذا التحريف ال لنتعظ ونعتبر ،بل لكي ننتبه إليه
ونتعقبه في وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم ،ولكي نتتبع آثاره في سيرة البشر
ومجتمعاتھم وتاريخھم ،فنزيله ونمحو آثاره ،ولكي نكافحه ونحذر عودته إلى
وعي البشر وعالمھم.
( ١تفسير التحرير والتنوير :ج ،٦ص.١٤٤
١٩٩
شفرة سورة اإلسراء
وصناعة العالم بالتحريف ،ثم إزالته ومحو آثاره بالوحي ،ثم تسريب بني
إسرائيل للتحريف إلى وعي البشر مرة أخرى وإعادة تكوين العالم به بعد إزاحة
الوحي منه ،ھي قصة الصراع الوجودي الممتد عبر الزمان وفي بقاع األرض
كلھا بين الوحي وتحريفه الذي تخبرك به سورة اإلسراء.
٢٠٠
شفرة سورة اإلسراء
ﻫﻨﺪﺳﺔ اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ
مرة أخرى ،ما الذى حرفه بنو إسرائيل ويتوارثون تحريفه وبثه في وعي
البشر وأذھانھم ونفوسھم عبر العصور ،ھل يمكن معرفته وإدراك ما يترتب
عليه من آثار جعلت بيان اإلله إلى خلقه يفرد له ھذه المساحة الھائلة ويلح في
إخبار الناس به ھذا اإللحاح؟
N M L K J I H G F E D C B A
)(١
VUTSRQPO
ويقول سبحانه:
\]^_`edcba
)(٢
kjihgf
( ١البقرة.٨٩:
( ٢المائدة١٥:
٢٠١
شفرة سورة اإلسراء
بيان ﷲ عز وجل يريد أن يرشدك إلى أنه يمكن معرفة ما حرفه بنو
إسرائيل ،ومعرفة آثاره ،بمضاھاة القرآن ،البيان الخاتم والوحي المحفوظ ،وما
فيه صنو التوراة المنزلة ،بالتحريف.
المسألة األولى واألم التي كان تحريفھا النبع الذي يتفجر منه الفساد فى كل
زمان ومكان ،كما سنبرھن لك ونفصل الحقاً ،ھي قصة الخلق التوراتية
وخريطة الوجود البني إسرائيلية ،والتي كان عمل بني إسرائيل واليھود
الرئيسي عبر التاريخ إزاحة خريطة الوجود اإللھية بھا ،عبر بثھا ،أو بث
فحواھا ومضمونھا ومكوناتھا في وعي البشر وتكوين أذھانھم ونفوسھم بھا
أينما وجدوا ،وعبر دسھا في العلوم والمناھج والفلسفات والفنون واآلداب،
وعبر تسريب آثارھا القيمية واألخالقية واالجتماعية في مجتمعاتھم حيثما حلوا.
المسألة المحورية الثانية في التحريف ،ھي كتم مسألة األلوھية وكتم خطة
إصالح اإلله لعالم البشر التي أنزلھا عليھم ليحملوھا إلى الناس ويھدوھم إليھا،
وإقامة بناء متكامل ونسيج شامل نقيض لھا ،من أجل حجب مسألة األلوھية عن
البشر واحتكار اإلله ومعرفته ووحيه.
٢٠٢
شفرة سورة اإلسراء
~_`jihgfedcba
)(١
rqponmlk
فماذا فعل بنو إسرائيل بالضبط من أجل احتكار اإلله وإزالته من وعي
البشرية وقطع صلتھم به وبھديه.
تحريف الوحي نسيج شامل وھندسة متكاملة ،كلھا مقلوب نسيج الوحي
وھندسته ،وأول لبنة في بناء التحريف ومعماره ھي تغيير مفتاح تصنيف البشر
في كتابه ورسالته التي أنزلت عليھم.
تاريخ العالم في القرآن كونته عقائده ،ومساره رسمته أفكاره ،وميزان الحكم
على األقوام والشعوب واألمم في القرآن إيمانھم با" أو كفرھم ،وطاعتھم له أو
معصيتھم ،فال فضيلة لقوم وال أمة بالميالد ،وال قداسة لشعب بالنسب أو العرق.
وخريطة البشر اإللھية خريطة عقائدية ،مفتاح تصنيف البشر فيھا العقائد،
ھي التي تصلھم معا ً أو تفصل بينھم ،ومدار االصطفاء والشرف في ھذه
الخريطة اإليمان والطاعة ،وإقامة وحي اإلله وحمله إلى الناس وھدايتھم إليه.
UTSRQPONMLK
)( ٢
ba`_^]\[ ZYXWV
( ١البقرة.١٠٩:
( ٢الحج.١٧:
٢٠٣
شفرة سورة اإلسراء
فأقسام البشرية في القرآن ستة أقسام ال سابع لھا ،ھي التي جمعتھم ھذه
اآلية ،ألن ھذه ھي األقسام واألصناف التي سيفصل بينھا عز وجل يوم القيامة،
وﷲ عز وجل سيفصل يوم القيامة بين البشر جميعاً.
وھذه كلھا أقسام وأصناف عقائدية وليست أصنافا ً عرقية أو قومية ،مفتاح
تصنيفھا العقائد ومسألة األلوھية.
والمراد اإللھي من مفتاح تصنيف البشر العقائدي ،وأن تكون مرجعية اإلله
ووحيه ھي التي تصل بين األمم أو تفصل بينھم ،أن يكون داخل ھذا التصنيف
دائما ً صنف أو أمة واحدة ،ھي التي على الحق ،وما عداھا على الضالل
والباطل ،فترى باقي أقسام التصنيف من األمم ھذه األمة ،فتعرف من سيرتھا
ومن آثار الوحي فيھا الحق ،فتقتدي بھا وتھتدي ،كما أخبرك عز وجل في بيانه
المحفوظ:
)( ١
{zyxwvut
فكانت أول لبنة في تحريف بني إسرائيل ھي أنھم طمسوا مفتاح التصنيف
اإللھي للبشر ،واستبدلوا به مفتاح تصنيف مزوراً ،بتحويل خريطة البشر من
خريطة عقائدية إلى خريطة عرقية قومية ،مدار االصطفاء فيھا ومعيار الشرف
والريادة التقديس األبدي غير المشروط لبني إسرائيل بالدم والميالد ،ال باإليمان
والطاعة ،وال بالعمل بالرسالة وحملھا إلى الناس كما أُمروا.
( ١األعرف.١٨١ :
٢٠٤
شفرة سورة اإلسراء
فأصبحت رابطة الدم والعرق والنسل والساللة ھي العقيدة التي تنبع منھا
أفكار بني إسرائيل واليھود ،ويدور حولھا فھمھم لكل شئ ،وھي التي تصبغ كل
ما تنتجه أذھانھم ،وكل ما يسري فيه ماتنتجه ھذه األذھان من أشخاص ،ومن
علوم ومعارف ،ومن مناھج ونظريات ،ومن أبنية وصروح ،تقام بھؤالء
األشخاص ،وبھذه العلوم والمعارف والمناھج والنظريات ،في األخالق
واالجتماع واالقتصاد والسياسة واآلداب والفنون.
وھذا التحريف تم دعمه وتقويته وتحويله إلى مسألة منطقية باللبنة الثانية في
بناء التحريف ،وھي تحويل العالقة بين بني إسرائيل أو اليھود واإلله إلى عالقة
عضوية دموية ،يكون بھا اإلله ھو إله بني إسرائيل وحدھم دون باقي األمم
( ١خروج.٧-٦ :٦ :
٢٠٥
شفرة سورة اإلسراء
والشعوب ،فتحول اإلله من رب العالمين إلى شيخ بني إسرائيل أو الجد األعلى
للقبيلة اليھودية.
)(١
HGFEDCBA
وكما أنه إلھھم وحدھم ،فھم أيضا ً وحدھم دون العالمين شعبه الذي ال شعب
له سواه ،وال يعنيه في البشرية إال ھم.
سى َوھَا ُرونُ َوقَاالَ لِفِ ْرع َْونَ » :ھ َك َذا يَقُو ُل ال ﱠر ﱡ
١
ب إِلهُ " َوبَ ْع َد ذلِكَ د ََخ َل ُمو َ
بش ْعبِي لِيُ َعيﱢدُوا لِي فِي ا ْلبَ ﱢريﱠ ِة« ،فَقَا َل فِ ْرع َْونُ َ » :منْ ھ َُو ال ﱠر ﱡ
٢
ق َ س َرائِي َل :أَ ْطلِ ْ
إِ ْ
س َرائِي َل الَ أُ ْطلِقُهُ«.
بَ ،وإِ ْس َرائِي َل؟ الَ أَ ْع ِرفُ ال ﱠر ﱠ
ق إِ ْ س َم َع لِقَ ْولِ ِه فَأ ُ ْطلِ َ
َحتﱠى أَ ْ
)(٢
٣فَقَاالَ» :إِلهُ ا ْل ِع ْب َرانِيﱢينَ قَ ِد ا ْلتَقَانَا"
والقرآن بيان اإلله الخاتم والوحى المحفوظ يصحح لك التحريف ،ويعرفك ما
الذي أمر ﷲ عز وجل به موسى وما قاله موسى لفرعون حقاً.
( ١المائدة.١٨:
( ٢خروج.٢-١ :٥ :
٢٠٦
شفرة سورة اإلسراء
)(١
¿ÆÅÄÃÂÁÀ
فا" عز وجل أمر موسى عليه السالم أن يقول لفرعون أنه وأخوه رسوال
رب العالمين ،ال أنه إله إسرائيل وال إله العبرانيين وحدھم.
بل إنه عز وجل يخبرك في بيانه أنه أمر موسى عليه السالم أن يقول
لفرعون إنه رسول رب فرعون نفسه:
)(٢
¸¼»º¹
وألن اإلله تحول في التحريف إلى إله إسرائيل والقبيلة اليھودية وحدھا ،وھم
وحدھم شعبه ،فلم يعد ثَمة مجال ألمة أخرى أن تعرف اإلله ،أو أن يكون لھا
صلة به ،أو بوحيه وكتابه.
ومن ثَم صارت رسالة بني إسرائيل حجب اإلله عن األمم ،ال تعريفھم به،
وتعميتھم عنه كما يعمي صاحب الكنز على الناس كنزه.
)(٣
¾¿ËÊÉÈÇÆÅÄÃÂÁÀ
( ١الشعراء١٦:
( ٢طه.٤٧:
( ٣آل عمران.٩٩:
٢٠٧
شفرة سورة اإلسراء
ومما بقي من الحق في العھد القديم ،ما وبخ به النبي عاموس في السفر
المسمى باسمه رؤساء بيت يعقوب وكھنة بني إسرائيل وآباءھم قائالً:
ْق ،ألَنﱢي َعلِ ْمتُ ضونَ ا ْل ُم ْن ِذ َرَ ،ويَ ْك َرھُونَ ا ْل ُمتَ َكلﱢ َم بِ ﱢ
الصد ِ "إِنﱠ ُھ ْم فِي ا ْلبَا ِ
ب يُ ْب ِغ ُ
اآلخ ُذونَ ال ﱠرش َْوةَ،
ِ ضايِقُونَ ا ْلبَا ﱠر، طايَا ُك ْم َوافِ َرةٌ أَ ﱡي َھا ا ْل ُم َ
يرةٌ َو َخ َ أَنﱠ ُذنُوبَ ُك ْم َكثِ َ
سينَ فِي ا ْلبَا ِ
صادﱡونَ ا ْلبَائِ ِ
)(١
ب" ال ﱠ
وھو نفسه ما وبخھم عليه المسيح عليه السالم بعد النبي عاموس بثمانية
قرون وسجله إنجيل متى:
يسيﱡونَ ا ْل ُم َرا ُؤونَ ! ألَنﱠ ُك ْم تُ ْغلِقُونَ َملَ ُكوتَ"و ْي ٌل لَ ُك ْم أَيﱡ َھا ا ْل َكتَبَةُ َوا ْلفَ ﱢر ِ
َ
س ،فَالَ َتد ُْخلُونَ أَ ْنتُ ْم َوالَ تَ َدعُونَ الد ِ
ﱠاخلِينَ يَد ُْخلُونَ " ت قُدﱠا َم النﱠا ِ
)(٢
اوا ِ س َم َ
ال ﱠ
واللبنة الثالثة في بناء التحريف كانت اإلقرار بوجود آلھة أخرى لألمم
األخرى ،وإن كانت دون إله بني إسرائيل قدرة ونفاذاً وعلماً.
وھو ما تقر به التوراة وأسفار العھد القديم في مواضع متعددة ،أولھا في
خريطة الوجود البني إسرائيلية ،الينبوع المتفجر باإلفساد ،ومن آخرھا ما
وضعه الكتبة على لسان النبي ميخا في السفر المسمى باسمه:
( ١عاموس.١٣-٩ :٥:
( ٢متى.١٣ :٢٣:
٢٠٨
شفرة سورة اإلسراء
والعلة في إقرار بني إسرائيل واليھود بوجود آلھة أخرى مع إله التوراة
إلھھم ،ھي أن تضل األمم واألقوام بآلھتھا ،فال ترنو إلى إله التوراة وال تعرفه
وال تصل إليه.
مرة أخرى ،صارت رسالة بني إسرائيل ،بدالً من ھداية األمم واألقوام إلى
اإلله الحق ووحيه ،تضليلھم عنه ،بتزيين الضالل لمن اھتدى وتنظيره وفلسفته،
وبإقرار من ضل على ضالله ،وأن ضالله ھو عين الحق ،كما أخبرنا عز وجل
في بيانه المعصوم:
ÒÑÐ ÏÎÍÌËÊÉÈÇ
)(٢
ÛÚÙØ×ÖÕÔÓ
ومع تضليل األمم واألقوام عن اإلله من أجل احتكاره واحتكار معرفته لكي
يظل التقديس واالصطفاء لھم وحدھم ،عمد بنو إسرائيل ومن تك ﱠون حولھم من
( ١ميخا.٥-٤:١:
( ٢النساء.٥١:
٢٠٩
شفرة سورة اإلسراء
اليھود إلى إرشاد األمم إلى نقيض ما أرشد إليه الوحي في كل أمر ومسألة ،لكي
تنقطع صلتھم باإلله انقطاعا ً تاما ً ،وال يكون ثَمة احتمال ألن يصل أحد إلى اإلله
الحق فيزول التقديس وتتساوى معھم األمم.
س َرائِي َل ،الﱠ ِذينَ يَ ْك َرھُونَ وب َوقُ َ س َم ُعوا ھ َذا يَا ُرؤَ َ
"
ضاةَ بَ ْي ِ
ت إِ ْ ت يَ ْعقُ َ سا َء بَ ْي ِ اِ ْ
ص ْھيَ ْونَ بِال ﱢد َما ِءَ ،وأُو ُر َ
شلِي َم يم ،الﱠ ِذينَ يَ ْبنُونَ ِ
١٠
ستَقِ ٍق َويُ َع ﱢو ُجونَ ُك ﱠل ُم ْ ا ْل َح ﱠ
ضونَ بِال ﱠرش َْو ِةَ ،و َك َھنَتُ َھا يُ َعلﱢ ُمونَ بِاألُ ْج َر ِةَ ،وأَ ْنبِيَا ُؤھَا ﱡ ١١
ظ ْل ِمُ ،رؤَ َ
سا ُؤھَا يَ ْق ُ بِال
س ِطنَا؟ الَ ب قَائِلِينَ » :أَلَ ْي َ
س ال ﱠر ﱡب فِي َو َ يَ ْع ِرفُونَ بِا ْلفِ ﱠ
ض ِةَ ،و ُھ ْم يَت ََو ﱠكلُونَ َعلَى ال ﱠر ﱢ
)(١
يَأْتِي َعلَ ْينَا ش ﱞَر!"
عمل بني إسرائيل واليھود في التاريخ صار تكريه األمم في الحق وتعويج
كل مستقيم.
( ١ميخا.١٠-٩ :٣:
٢١٠
شفرة سورة اإلسراء
حق لألمم األخرى في معرفتھا وال االھتداء بھا ،فليبحث كل قوم عن منھجھم
وأسلوب حياتھم عند إلھھم!
فإذا أردت أن تعرف اآلن لماذا أولى ﷲ عز وجل ھذا التحريف ھذه العناية،
ولماذا وضعه في صيغة المضارعة واختصه بھذه المساحة وألح في إخبارنا
به ،فألن الذي عرفناك به من طمس مفتاح تصنيف البشر اإللھي العقائدي،
وإحالل مفتاح التصنيف البني إسرائيلي العرقي الساللي مكانه ،واحتكار اإلله
ووحيه وخطة إصالحه ،واإلقرار بآلھة أخرى لغير بني إسرائيل من األمم ،ھو
أصل المسألة القومية والبذرة التي أثمرت المعمار القومي للعالم.
فاإلله الحق ھو إله بني إسرائيل وحدھم ،وكل قوم غيرھم لھم إلھھم
يصنعونه من الحجر ،أو يصنعه لھم بنو إسرائيل من البشر!
"التوحيد حتى في يومنا ھذا إنما ھو توحيد نسبي ناقص ،فكما كان اليھود
يعبدون إلھا ً قبلياً ،فإنا نحن أيضا ً نعبد إلھا ً أوروبياً ،أو إلھا ً إنجليزيا ً أو ألمانيا ً
٢١١
شفرة سورة اإلسراء
أو إيطاليا ً ...ولن يكون للعالم كله إله واحد حتى تربط اآلالت األرض وتؤلف
)(١
بينھا وتجعلھا وحدة اقتصادية ،وتجمع األمم كلھا في حكومة واحدة"
فديورانت ،ألنه أمي حُرم علم الوحي ،يعتقد أن البشرية بدأت بالشرك
وعبادة آلھة متعددة ،ثم ارتقت حتى وصلت إلى الوحدانية ،وھي إحدى ثمار
التحريف البني إسرائيلي ،لكنه وضع يده من حيث ال يدري وال يعي على أصل
المسألة القومية.
فبنو إسرائيل وإلھھم القومي ھم النموذج الذي تكونت القوميات على غراره،
وبمحاكاة سيرتھم في التوراة ،وببث بني إسرائيل لمفتاح تصنيف البشر المزور
والخريطة العرقية في كل مكان يحلون فيه ،من أجل إزالة مسألة األلوھية من
وعي البشر وحجب اإلله ووحيه عنھم.
بنو إسرائيل ،أو العبرانيون ،كما يقول ھانس كھن ،في كتابه :القومية معناھا
وتاريخھا ،ھم المعين الذي نبعت منه أصول القومية ،ألنه:
"قد نشأت عند العبرانيين الخصائص الجوھرية الثالثة التي تتسم بھا
القومية ،وھي فكرة الشعب المختار ،واالحتفاظ بتراث مشترك من ذكريات
الماضي وآمال المستقبل ،وأخيراً انتظار البطل القومي الموعود ،ويبدأ تاريخ
)(٢
العبرانيين بالميثاق الذي تم بين ﷲ وشعبه"
الجذر العميق للمسألة القومية ولقوميات الغرب ،وجود صورة ذھنية لإلله
عند كل قوم تخالف ما عند غيرھم ،وبھذه الفروق بين صورة اإلله في األذھان
وما تراكم من آثارھا قامت الحدود والفواصل ،وافترقت األقوام ،وتباينت األمم.
فإذا حكم الحاكم أو النخبة باسم اإلله فھي تَخلُفه في البشر ،وإذا حكمت بغير
اسمه ،فبسلطة التشريع وقوة السلطة ھي اإلله نفسه!
والخريطة القومية ومفتاح تصنيف البشر الذي زوره بنو إسرائيل من أجل
إزاحة اإلله والوحي من وعي البشر ،ليست سوى خريطة تفريغ ھائلة للعالم من
المعاني واألخالق والقيم والمعايير والموازين.
فاإلله ،كما قد علمت من خريطة الوجود اإللھية ،ھو مصدر االخالق والقيم،
وھو عز وجل الذي يمنحھا معناھا ،وھو سبحانه ضابط العالقات بين البشر
ومركز اتزانھا ومحور توازنھا ،والذي يحدد قواعدھا.
أما األقوام والقوميات فليس فيھا من عند نفسھا ما يُعرف به معنى القيم
واألخالق أو كيف ھي ضوابط العالقات بين البشر ،فتصير ھذه كلھا ھائمة بال
مصدر وال ضابط.
ما يثمره مفتاح التصنيف البني اإلسرائيلي المزور ھو خريطة قومية للبشر،
نخبة كل قوم فيھا ھي إلھھم ،فھي مصدر فھمھم للوجود وتحكم وعيھم،
٢١٣
شفرة سورة اإلسراء
أخبرناك من قبل أن الطائفة من بني إسرائيل التي تكتم الوحي وتتوارث بث
تحريفه في البشر عبر العصور ،والتي أنبأك ﷲ عز وجل بھا وھتك لك سرھا
في بيانه إلى خلقه ،ھي رأس ھرم الماسونية والحركات السرية في العالم ،فاآلن
اعلم أن الثورة الفرنسية ،التي أطاحت بالمسيحية من الغرب ،وأزاحت مفتاح
التصنيف اإللھي للبشر منه بمفتاح التصنيف البني إسرائيلي العرقي الساللي،
وأعادت تكوين أممه وشعوبه وبناء معماره ورسم خرائطه وحدوده القومية ،لم
)•(
تكن سوى ثورة يھودية ماسونية خالصة
ثم اعلم أن ما يسميه البعض في بالد العرب نھضة وتنويراً ،وما يصمه
آخرون باالستعمار الغربي ،أو بأنه غزو ثقافي ،لم يكن في حقيقته سوى غزو
توراتي شنه بنو إسرائيل ،ومن استوطن بنو إسرائيل وعيھم وأذھانھم من
اليھود والماسون ،بعد أن أعادوا تكوين الغرب وبناءه بغاياتھم وأھدافھم ،وبعد
أن امتلكوا زمامه وامتطوا ظھره ،من أجل َسلﱢ مفتاح التصنيف اإللھي من
شعوب ھذه البالد)••( ،وتسريب مفتاح تصنيفھم المزور للبشر إليھا ،وإعادة
• ( لمعرفة حقيقة الثورة الفرنسية ،وأنھا تدبير يھودي ماسوني خالص ،ارجع إلى كتابنا :اليھود والماسون
في الثورات والدساتير ،مكتبة مدبولي.
•• ( سل الشئ :سرقه أو انتزعه خفية وبرفق دون أن يشعر به أحد.
٢١٤
شفرة سورة اإلسراء
ما دفع بنو إسرائيل الغرب اليھودي الماسوني إلى بالد العرب من أجله ھو
محو خريطتھا اإللھية القرآنية التي مفتاحھا:
)(١
¬®¯
فبالليص ستان العربية التوراتية تدور بالغرب ومن حوله ،والغرب يدور
باليھود والماسون ومن حولھم ،واليھود يدورون بالطائفة من بني إسرائيل التي
تتوارث تحريف الوحي ومن حولھا.
ووصول مفتاح تصنيف البشر البني إسرائيلي إلى البالد التي أنزل عليھا
الوحي وتكونت به ،وإزاحته لمفتاح التصنيف اإللھي منھا ومن خرائطھا،
وإعادة تكوينھا ورسم خرائطھا وھندسة معمارھا بالتحريف ،ھو علو بني
إسرائيل الكبير.
( ١الحجرات.١٠:
٢١٥
شفرة سورة اإلسراء
٢١٦
شفرة سورة اإلسراء
٢١٧
شفرة سورة اإلسراء
٢١٨
شفرة سورة اإلسراء
اي ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ
القرآن بيان ﷲ عز وجل النھائي والخاتم إلى خلقه ،ووظيفة ھذا البيان
وغايته األولى بناء وعى البشر وتكوين أذھانھم ونفوسھم ،وإمدادھم بالمعارف
التى ال مصدر لھا غيره ،والتي ليس فى طاقة اإلنسان وما يملكه من أدوات
ووسائل للمعرفة أن يعرفھا أو أن يصل إليھا.
وترتيب القرآن في آياته وسورة ،كما تعلم ،توقيفي باتفاق العلماء جميعا ً،
ومعنى ذلك أن الترتيب النھائي آليات القرآن وسوره وحي من ﷲ عز وجل إلى
رسوله الخاتم ،التزم به ،وألزم به من كانوا يكتبون ما يمليه عليھم من كتبة
الوحي.
وعن السيدة عائشة ،عن السيدة فاطمة رضي ﷲ عنھما أنھا قالت :إن النبي
عليه الصالة والسالم:
"أسر إل ّي :أن جبريل كان يعارضني القرآن كل سنة مرة ،وإنه عارضني
)(١
العام مرتين وال أراه إالﱠ حضر أجلي"
إذاً ترتيب سور القرآن وآياته ترتيب مقصود مراد ،وھو وحي من ﷲ عز
وجل.
فإذا أردت قراءة القرآن أو السير فيه ،فستبدأ رحلتك فيه من أوله ،فتقابلك
فاتحة الكتاب التي ھي بوابة القرآن ،والعھد الذى بين ﷲ عز وجل وبين كل
إنسان ،وأم القرآن التي ال تصح صالة إال بھا.
فإذا واصلت رحلتك فى القرآن قابلك الربع األول من سورة البقرة ،فھذا
الربع األول من سورة البقرة ھو مدخل القرآن الذي يستقبل داخله بعد عبور
الفاتحة ،ويعرفه بالصرح الذي دخله وتكوينه وسماته وماذا يكون.
فإذا جُلت في القرآن ،مع بداية رحلتك فيه ،في ھذا المدخل وجدته يعرفك
بحقيقته وصفته ،وھي أنه الكتاب الذي ال ريب فيه ھدى للمتقين ،ثم يصف لك
ھؤالء المتقين وحالھم ،ثم يقارنھم بالكافرين وكيف ختم ﷲ على قلوبھم ،وماذا
ينتظرھم من عذاب عظيم.
ثم يعرفك القرآن بالمنافقين ،وبصفتھم وجدالھم وذرائعھم ومرض قلوبھم ،ثم
يضرب لك األمثال للتعريف بھم والتشبيه بحالھم.
ويعرفك القرآن أن الرسالة التي يوجھھا لك ولكل الناس ،ھى أن يعبدوا ربھم
الذى خلقھم والذين من قبلھم ،وأنعم عليھم بنعمه وآالئه التي ال تحصى في
السماء واألرض ،ويبين لك ما الذي أُعد لمن كفر وعصى من نار وقودھا
الناس والحجارة ،وما ھُيأ للمؤمنين من جنات ونعيم.
وما إن تجتاز مدخل القرآن في الربع األول إلى الربع الثاني حتى تقابلك
قصة الخلق.
٢٢٠
شفرة سورة اإلسراء
وھذا شئ مراد ومقصود ،ألن قصة الخلق ،كما عرفناك ،ھى المصدر األول
لتكوين لوعي اإلنسان ولبناء ذھنه ونفسه ،وھي التي تحكم كل ما يتخلق فيھا
وتتحكم في كل ما تثمره ،وھي الخريطة التي تُعرف اإلنسان ماذا يكون ،ومن
أين أتى ،ولماذا وجد على األرض ،وما مھمته فيھا ،وھي التي تُعرفه إلى أين
يسير ،وتعرفه بحقيقة العالقة بين مكونات الوجود ومواقعھا منه ،وموقع كل
منھا من األخرى ،وموقعه ھو نفسه من الوجود.
فقصة الخلق ھي التي تعرف اإلنسان باإلله وحقيقة األلوھية ،وبحقيقة إبليس
أو الشيطان وما يحكم عالقته باإلنسان ،وتعرفه بالكون والطبيعة وما طبيعة
العالقة بينه وبينھا ،وتعرفه اإلنسان بذاته ھو نفسه ،لماذا يختلف عن باقي
المخلوقات ،وتعرفه بالعلم ووسائل تحصيله للمعرفة التي أوتيھا من أين جاءته
ولماذا وھبت له.
لذلك ،كما فھمت اآلن ،أي عبث بقصة الخلق أو طمس لھا أو تغيير في
تفاصيلھا يفضي إلى اختالل وعي اإلنسان ،واضطراب تكوينه ،وفساد بنائه
الذھني والنفسي ،وإلى تضارب عناصر الوجود وفقدان العالقة بينھا ،بل
٢٢١
شفرة سورة اإلسراء
ويفضي إلى جھل اإلنسان بنفسه وضربه أخماسا ً في أسداس وھو يحاول
الوصول إلى حقيقته وكنه ذاته.
من غير خريطة الوجود ،أو بتحريفھا والعبث بھا ،يفقد اإلنسان كينونته
ووجوده ،ويصير ،كما قالت نظرية التطور ،حيوانا ً تائھا ً وجد نفسه في صحراء
ال يعرف من أين ابتدأت ،والى أين تنتھي ،ولماذا وجد فيھا ،وفي أي موضع ھو
منھا ،وإلى أي اتجاه يسير ويكون سيره آمناً.
واإلنسان ،بتحريف قصة الخلق والعبث بھا ،كأنه في صحراء ومعه خريطة
تضلله وتفضي به إلى المھالك ،بدالً من أن ترشده وتدله على سبيل النجاة.
قصة الخلق وخريطة الوجود اإللھية ،وما تحويه من مكوناتھا ،ھي لُب
الوحي ،وھي نواته التي يدور كل شئ فيه حولھا ،ومن غيرھا تفقد الشرائع
والتكاليف أصلھا ومصدرھا الذي تنبت منه ويرويھا ويمنحھا معناھا.
وھو ما أخبرك به بيان ﷲ الخاتم إلى خلقه ،بصياغته المعجزة ،وما تحمله
من رسائل مشفرة في لغته ،وملفوفة في نسيج أساليبه ،ومكنونة في عمق آياته.
٢٢٢
شفرة سورة اإلسراء
فإليك أوالً نموذجا ً على الذھول بمعاني الكلمات واآليات القريبة المباشرة
عن ھذه الصياغة المعجزة وعن ھذه الشفرات وھذا النسيج ،وما يفضي إليه ھذا
الذھول من ضياع الرسائل المرسلة فيه ،وفقدان ما تحويه من معارف.
يقول دكتور فتحي محمد الزغبي في كتابه :تأثر اليھودية باألديان الوثنية،
وھو في األصل أطروحته التي حصل بھا على درجة الدكتوراة في العقيدة
والفلسفة من كلية أصول الدين بجامعة األزھر ،في سياق تعقيبه على علماء
الغرب الذين يقولون إن قصة الخلق التوراتية في سفر التكوين اقتبسھا كاتبھا
من الديانات الوثنية التي عاصرھا:
"والحقيقة أننا ال يمكن أن نتابعھم في ھذا الرأي على وجه اإلطالق ،وإنما
الذي يمكننا ان نقوله في ھذا الشأن أننا أمام احتمالين :االحتمال األول :ھو أن
التوراة المنزلة على سيدنا موسى كانت خالية تماما ً من قصة الخلق ،وأنھا
كانت تشتمل على عدة وصايا وتشريعات فقط ...واما االحتمال الثاني :فھو أن
توراة موسى السماوية كانت تحتوي على قصة الخلق كما أنزلھا ﷲ سبحانه،
وحدث أن فُقدت ھذه التوراة وقام اليھود بتضييعھا ،ثم حينما عثروا على
أجزاء منھا كانت تحتوي على قصة الخلق األصلية أو جزء منھا ،وقام الكتبة
)(١
بخلط ھذه القصة بأساطير الديانات الوثنية"
ونقول لك :لو كان الذي أنزل على موسى عليه السالم الوصايا والتشريعات
فقط ،لما كان ثَمة تحريف ،فھذه الوصايا والتشريعات موجودة في التوراة التي
أخرجھا بنو إسرائيل للعالم وعرفھا التاريخ وتتداولھا األيدي إلى يومك ھذا ،في
ما أُنزل على بني إسرائيل في التوراة فكتموه وأخرجوا للعالم تحريفه ،أشد
خطراً ،وأكبر وأعمق أثراً في وعي البشر وتكوين العالم من الوصايا
والتشريعات.
وقصة الخلق ليست فقط كانت موجودة في التوراة التي أنزلت على موسى
عليه السالم ،بل ھي رسالة ھذه التوراة األساسية لبني إسرائيل ،وھي البصائر
والھدى والرحمة التي أُمروا ان يحملوھا للناس جميعاً.
قصة الخلق وخريطة الوجود اإللھية ھي الوحي المخبوء الذي تتوارثه طائفة
من بني إسرائيل ،والخريطة المزورة ھي التحريف الذي تتوارث ھذه الطائفة
بث مكوناته في األمم والشعوب ،وتتحكم من خاللھا في وعي البشر ،وتحكم كل
ما يتكون فيه وما ينتجه وما يخرج منه.
وكتم خريطة الوجود اإللھية ،وبث الخريطة المحرفة مكانھا ،وإزاحة تلك
من وعي البشر ومما يدركه وينتجه بھذه ،ھو ما من أجله أفرد ﷲ عز وجل في
٢٢٤
شفرة سورة اإلسراء
بيانه إلى خلقه لھذه الطائفة من بني إسرائيل ما لم يفرده ألحد في العالمين
غيرھم.
فاآلن تأھب للتحليق في سموات الوحي ،لترى كيف يخبرك بيان ﷲ عز
عل بذلك.
وجل إلى خلقه من ٍ
)(١
IHGFEDCBA
QPONMLKJIHGFEDCBA
)(٢
_^]\[ ZYXWVUTSR
بعد انتھاء قصة الخلق في اآلية التاسعة والثالثين ،يفاجئك القرآن بنقلك من
قصة الخلق وبداية سيرة البشر على األرض إلى سيرة بني إسرائيل مباشرة.
( ١البقرة.٣٠:
( ٢البقرة.٣٩-٣٨:
٢٢٥
شفرة سورة اإلسراء
فالقرآن بعد ذكر قصة الخلق المفصلة الكاملة ألول مرة فيه ،ينقلك مباشرة
إلى سيرة بني إسرائيل ،ويُسقط كل ما بينھما من قصص األنبياء وسير األمم.
وبين قصة الخلق وبين سيرة بني إسرائيل ،قصة نوح عليه السالم وقومه،
وقصة إبراھيم عليه السالم وقومه ،ولوط عليه السالم وقومه ،وھود عليه
السالم وقومه ،وصالح عليه السالم وقومه ،وشعيب عليه السالم وقومه.
فھل ھذا االنتقال من قصة الخلق إلى سيرة بني إسرائيل مباشرة تلقائي بال
غاية ،أم ھو مقصود لمعنى وشئ يريد عز وجل أن ينبھك إليه؟
فإليك نموذجا ً على فھم لماذا كان ھذا االنتقال ،وتفسيراً لما أفرده ﷲ عز
وجل لبني إسرائيل في بيانه.
"الحق سبحانه وتعالى أراد أن يقص علينا مواكب الرساالت وكيف استقبل
بنو آدم منھج ﷲ بالكفر والعصيان ،فاختار جل جالله بني إسرائيل ألنھا أكثر
القصص معجزات ،وأنبياء بني إسرائيل من أكثر األنبياء الذين أرسلوا ألمة
واحدة ،ألنھم كانوا أكثر األمم عصيانا ً وآثاما ً ...ولذلك أخذت قصة بني
)(٢
إسرائيل ذلك الحجم الضخم في كتاب ﷲ"
مرة أخرى ،ما حكم ف ْھم المفسرين جميعاً ،وليس الشيخ الشعراوي وحده،
وما سيطر على أذھانھم ،وھم يتعاملون مع ما يقوله القرآن عن بني إسرائيل،
( ١البقرة.٤١-٤٠:
( ٢تفسيرر الشعراوي :ج ،١ص.٢٨٥
٢٢٦
شفرة سورة اإلسراء
أنه إخبار عن وقائع قديمة ميتة ،وليس عن سيرة حية ،آثارھا متدفقة في الزمان
وفاعلة في الحياة ،يخبرنا بھا عز وجل لننتبه إليھا ونتعقبھا ،ال لمجرد االعتبار
والعظة بھا.
ومن المثير الذي لم يلتفت إليه إال قليل من المفسرين ،أن الخروج من قصة
الخلق وافتتاح سيرة بني إسرائيل ،جاء في صورة انتقال من رواية قصة االخلق
في صيغة الغيب إلى توجيه النداء والخطاب إلى بني إسرائيل في صيغة
الحضور والشھود ،وليس اإلخبار عنھم في صيغة الغيب.
)(١
`a
( ١البقرة.٤٠:
( ٢تفسير التحرير والتنوير :ج ،١ص.٤٤٧
٢٢٧
شفرة سورة اإلسراء
وبعضھم فھم أن خطاب بني إسرائيل ،ألن خطابھم وقص سيرتھم التي ال
يعلمھا غيرھم دليل على صدق النبي عليه الصالة والسالم وبرھان نبوته.
"خصھم بالخطاب ،ألن الذي احتج به من اآليات التي فيھا أنباء أسالفھم
وأخبار أوائلھم وقصص األمور التي ھم بعلمھا مخصوصون دون غيرھم من
سائر األمم ،ليس عند غيرھم من العلم بصحته وحقيقته مثل الذي لھم من
العلم به ،فع ﱠرفھم ،باطالع محمد صلى ﷲ عليه وسلم على علمھا ،مع بُعد
قومه وعشيرته من معرفتھا ،أن محمداً لم يصل إلى علم ذلك إال بوحي من ﷲ
)(١
تعالى ذكره"
ونقول لك :انتقال بيان ﷲ عز وجل من رواية قصة الخلق إلى خطاب بني
إسرائيل مقصود ،لتفھم من ذلك أن بني إسرائيل ھم المخاطب األول بقصة
الخلق ،وأن ﷲ عز وجل يخبرھم أوالً بھا ،ثم يخبرنا نحن بھا من خالل خطابھم
وإخبارھم ھم بھا.
فإذا كان ﷲ عز وجل في بيانه يُعرﱢ ف البشر جميعاً ،وليس المؤمنين فقط،
بقصة الخلق وما واكب سيرة اإلنسان األولى ،فلماذا اختص عز وجل بني
إسرائيل دون البشر جميعا ً بالنداء ،وكأنه عز وجل يخبرھم وحدھم بھا؟
)( ١
xwvutsrqpon
قوله تعالى:
srqpon
يخبرك أن بني إسرائيل ھم الفئة الوحيدة واألمة الفريدة في البشر التي كانت
تعرف قصة الخلق الحقيقية والخريطة األصلية للوجود وتحوزھا قبل نزول
القرآن.
( ١البقرة.٤١:
( ٢الجامع ألحكام القرآن :ج ،١ص.٣٣٣
٢٢٩
شفرة سورة اإلسراء
وتحريف خريطة الوجود الذي يبثونه في األمم التي تناثروا بينھا عبر
التاريخ ،ھو مصدر اختالل وعي البشر واضطراب بنائھم الذھني والنفسي،
وفساد كل ما يتكون داخل ھذا الوعي وما ينتجه ھذا البناء الذھني والنفسي،
وھو مصدر تشويه فھم اإلنسان لكل شئ في الوجود ،وتشويه فھمه لنفسه ھو
ولذاته.
تحريف قصة الخلق ھو الينبوع الذي يتدفق منه الفساد في وعى البشر ،وفي
نفوسھم وأذھانھم ،ثم يفيض في ما كل ما تخلقه وتكونه ويخرج منھا.
ولكن قبل أن ترى ما فعله بنو إسرائيل في قصة الخلق ،وما يترتب عليه من
آثار ھائلة مروعة في وعى البشر وتكوينھم ،وفي سيرتھم ،وفي عالقاتھم معاً،
وعالقاتھم بكل شئ في الوجود ،نعود بك إلى سيرة بني إسرائيل التي ذكرھا
عز وجل في سورة البقرة وفصل فيھا بعد قصة الخلق مباشرة.
علمتَ أن االنتقال من قصة الخلق إلى سيرة بني إسرائيل مباشرة ،وإسقاط
كل ما بينھما من قصص وسير ،مقصود للتنبيه على ارتباط قصة الخلق ببني
٢٣٠
شفرة سورة اإلسراء
إسرائيل ،وأنه من المثير أن ھذا االنتقال من قصة الخلق إلى سيرة بني إسرائيل
كان في صيغة النداء لھم وتوجيه الخطاب إليھم.
وما ھو أغرب وأشد إثارة ،أن ما قصه عز وجل عليك من سيرة بني
إسرائيل في سورة البقرة ،جاء كله في صيغة خطاب لبني إسرائيل ،فا" عز
وجل يخبرنا بسيرتھم من خالل تكليمه إياھم:
` k j i h g f e d c b a
)(١
ml
)(٢
_^]\[ZYXWVU
§ ¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡ ~ } | { z
)(٣
¨©
)(٤
utsrqponmlk
gfedcba`_^]\[Z
)(٥
ih
( ١البقرة.٤٠::
( ٢البقرة.٥٠:
( ٣البقرة٥٥:
( ٤البقرة.٦١:
( ٥البقرة.٦٣:
٢٣١
شفرة سورة اإلسراء
)(١
yxwvuts rqpon
َمن الذي يخاطبه عز وجل ويوجه إليه كالمه في ھذه اآليات من بيانه إلى
خلقه؟
بنو إسرائيل الذين أنعم ﷲ عليھم ،والذين فرق بھم البحر وأنجاھم ،والذين
أخذ عز وجل منھم الميثاق ورفع فوقھم الطور ،والذين سألوا موسى ما سألوه،
وقتلوا من قتلوه ،كانوا في عصر نزول التوراة في القرن الثالث عشر قبل
الميالد ،والقرآن أُنزل على النبى عليه الصالة والسالم في القرن األول الھجري
أو السابع الميالدي ،بعد عشرين قرنا ً من زمن نزول التوراة وما شھده من
سيرة بني إسرائيل التي يتكلم القرآن عنھا.
فمن الذين يخاطبه عز وجل في ھذه اآليات ويقول له ،W V :و:
ھل ھو سبحانه يخاطب بني إسرائيل الذين كانوا حول موسى عليه السالم؟
ال يمكن أن تكون اإلجابة :نعم ،ألن ﷲ عز وجل ال يخاطب الموتى بخطاب
األحياء.
( ١البقرة.٧٢:
٢٣٢
شفرة سورة اإلسراء
فإذا لم يكن نداء ﷲ عز وجل وخطابه لبني إسرائيل عصر التوراة وموسى
عليه السالم ألنه يستحيل عقالً ،فمن الذين يخاطبھم عز وجل ،وما تفسير أن
يخاطبھم ويحاسبھم ،وھم األحياء ،على ما فعله الموتى؟
دون أن يحدد لنا َمن الذي يناديه ﷲ عز وجل ويخاطبه ِمن ھذه الذرية ،وفي
أي زمان ،وأي جيل منھم.
واإلمام أبو حيان التوحيدي عرض ثالثة أقوال فيمن يكون ھؤالء الذين
يناديھم عز وجل من بني إسرائيل ،ثم رجح أحدھا ،فقال ھم:
"من كان بحضرة رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم بالمدينة ومن واالھا من
بني إسرائيل ،أو من أسلم من اليھود وآمن بالنبي عليه الصالة والسالم ،أو
)(٢
أسالف بني إسرائيل وقدماؤھم ،واألقرب األول"
مھاجر رسول ﷲ
َ "أحبار اليھود من بني إسرائيل الذين كانوا بين ظھراني
)(١
عليه الصالة والسالم"
وما لم يفسره لنا أبو حيان والطبري ھو :كيف يوبخ القرآن من يخاطبھم من
بني إسرائيل ،ممن ھم بحضرة النبي عليه الصالة والسالم ،على ما فعله
أسالفھم ويحملھم وزره وكأنھم ھم من فعلوه؟!
ونقول لك :نداء ﷲ عز وجل وخطابه في آيات سورة البقرة التي تقص سيرة
بني إسرائيل ،ھو لبني إسرائيل عصر نزول القرآن ،وفي كل زمان وفي كل
بقعة يوجدون فيھا من األرض بعد نزوله.
والصيغة التي قص عز وجل لنا فيھا سيرة بني إسرائيل ،والتي يخاطب فيھا
عز وجل األحياء منھم ويحاسبھم على ما فعله الموتى من أسالفھم ،ال معنى لھا
إال أنھا تريد أن تنبھنا إلى أن بني إسرائيل الذين أُنزل عليھم الوحي ،وأخذ ﷲ
عز وجل منھم الميثاق ،وحرفوا الوحي ،موجودون في الزمان ،حاضرون في
التاريخ ،بأذھانھم ونفوسھم ،وبما فيھا من غايات وأھداف ،ومن وسائل
وأساليب ،وبصفاتھم وطباعھم ،وما فيھا من سجايا وخالل ،وإن ماتوا
بأجسامھم.
٢٣٥
شفرة سورة اإلسراء
األصل الذي أنزله عز وجل على بني إسرائيل ،ھو نفسه ما أتى به القرآن
محفوظا ً معصوما ً ،فيمكن بمقارنته بقصة الخلق التي كتبھا بنو إسرائيل أن
تعرف ما الذي حرفوه ويتوارثون تحريفه وبثه ،وما الذي يترتب عليه في وعي
البشر ،وفي أذھانھم ونفوسھم ،وفي حياتھم ومجتمعاتھم.
سوف نرى أوالً قصة الخلق في سفر التكوين ،قبل أن نقف بك عند تفاصيلھا
ونقارنھا باألصل لتعرف ما الذى تعنيه وما الذي يترتب عليه؟
ْن لِيَ ْع َملَ َھا َويَ ْحفَ َض َعهُ فِي َجن ﱠ ِة َعد ٍ َوأَ َخ َذ ال ﱠر ﱡب ِ
"١٥
ظ َھا. اإللهُ آ َد َم َو َو َ
يع ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة تَأْ ُك ُل أَ ْكالًَ ١٧ .وأَ ﱠما ش ََج َرةُ
اإللهُ آ َد َم قَائِالًِ :منْ َج ِم ِ
صى ال ﱠر ﱡب ِ َوأَ ْو َ
١٦
َم ْع ِرفَ ِة ا ْل َخ ْي ِر َوالش ﱢﱠر فَالَ تَأْ ُك ْل ِم ْن َھا ،ألَنﱠكَ يَ ْو َم تَأْ ُك ُل ِم ْن َھا َم ْوتًا تَ ُموتُ َ ١٩ ...و َجبَ َل
ض َرھَا إِلَى س َما ِء ،فَأ َ ْح َ
ت ا ْلبَ ﱢري ﱠ ِة َو ُك ﱠل طُيُو ِر ال ﱠض ُك ﱠل َحيَ َوانَا ِ اإللهُ ِمنَ األَ ْر ِ ال ﱠر ﱡب ِ
س ُم َھا .... س َحيﱠ ٍة فَ ُھ َو ا ْ آ َد َم لِيَ َرى َما َذا يَ ْدعُوھَاَ ،و ُك ﱡل َما َدعَا بِ ِه آ َد ُم َذاتَ نَ ْف ٍ
اإللهُ ،فَقَالَتْ
ت ا ْلبَ ﱢريﱠ ِة الﱠتِي َع ِملَ َھا ال ﱠر ﱡب ِ ت ا ْل َحيﱠةُ أَ ْحيَ َل َج ِم ِ
١
يع َحيَ َوانَا ِ َو َكانَ ِ
لِ ْل َم ْرأَ ِة :أَ َحقًّا قَا َل ﷲُ الَ تَأْ ُكالَ ِمنْ ُك ﱢل ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة؟ فقَالَ ِ
ت ا ْل َم ْرأَةُ لِ ْل َحيﱠ ِةِ :منْ ثَ َم ِر ٢
٢٣٦
شفرة سورة اإلسراء
ش ﱠر .فَ َرأَ ِ ا ْل َخ ْي َر َوال ﱠ ان َكا ِ عَا ِرفَ ْي ِن يَ ْو َم تَأْ ُكالَ ِن ِم ْنهُ تَ ْنفَتِ ُح أَ ْعيُنُ ُك َما َوتَ ُكونَ ِ
٦
ت
ش ِھيﱠةٌ لِلنﱠ َ
ظ ِر، الش َﱠج َرةَ َ ونَ ،وأَنﱠ ا ْل َم ْرأَةُ أَنﱠ الش َﱠج َرةَ َجيﱢ َدةٌ لِألَ ْك ِلَ ،وأَنﱠ َھا بَ ِھ َجةٌ لِ ْل ُعيُ ِ
ضا َم َع َھا فَأ َ َك َل٧ ،فَا ْنفَت ََحتْ أَ ْعيُنُ ُھ َما
طتْ َر ُجلَ َھا أَ ْي ً ِمنْ ثَ َم ِرھَا َوأَ َكلَتْ َ ،وأَ ْع َ فَأ َ َخ َذتْ
س ِطاإلل ِه فِي َو َ ب ِ اختَبَأ َ آ َد ُم َوا ْم َرأَتُهُ ِمنْ َو ْج ِه ال ﱠر ﱢ
ان .....فَ ْ أَنﱠ ُھ َما ع ُْريَانَ ِ َو َعلِ َما
لَهُ :أَيْنَ أَ ْنتَ يا آدم؟ َ ١٦ ....وقَا َل ش ََج ِر ا ْل َجنﱠ ِة .فَنَادَى ال ﱠر ﱡب ِ
اإللهُ آ َد َم َوقَا َل ٩
تَلِ ِدينَ أَ ْوالَدًاَ ،وإِلَى َر ُجلِ ِك يَ ُكونُ اب َحبَلِ ِك ،بِا ْل َو َج ِع لِ ْل َم ْرأَ ِة :تَ ْكثِي ًرا أُ َكثﱢ ُر أَ ْت َع َ
س ِمعْتَ لِقَ ْو ِل ا ْم َرأَتِكَ َوأَ َك ْلتَ ِمنَ سو ُد َعلَ ْي ِكَ .وقَا َل آل َد َم :ألَنﱠكَ َ
١٧
شتِيَاقُ ِك َوھ َُو يَ ُ ا ْ
ب تَأْ ُك ُلسبَبِكَ ،بِالتﱠ َع ِ ض بِ َ ص ْيتُكَ قَائِالً :الَ تَأْ ُك ْل ِم ْن َھاَ ،م ْل ُعونَةٌ األَ ْر ُ الش َﱠج َر ِة الﱠتِي أَ ْو َ
اح ٍد ِمنﱠا سانُ قَ ْد َ اإللهُ :ھ َُو َذا ِ
اإل ْن َ ِم ْن َھا ُك ﱠل أَيﱠ ِام َحيَاتِك َ ....وقَا َل ال ﱠر ﱡب ِ
٢٢
ار َك َو ِ ص َ
ضا َويَأْ ُك ُل ش ﱠرَ ،واآلنَ لَ َعلﱠهُ يَ ُم ﱡد يَ َدهُ َويَأْ ُخ ُذ ِمنْ ش ََج َر ِة ا ْل َحيَا ِة أَ ْي ً عَا ِرفًا ا ْل َخ ْي َر َوال ﱠ
ض الﱠتِي أُ ِخ َذ ْن لِيَ ْع َم َل األَ ْر َ
اإللهُ ِمنْ َجنﱠ ِة َعد ٍ َويَ ْحيَا إِلَى األَبَ ِد .فَأ َ ْخ َر َجهُ ال ﱠر ﱡب ِ
٢٣
ف ُمتَقَلﱢ ٍ
ب س ْي ٍيب َ سانَ َ ،وأَقَا َم ش َْرقِ ﱠي َجن ﱠ ِة َعد ٍ
ْن ا ْل َك ُروبِي َمَ ،ولَ ِھ َ اإل ْن َ ِم ْن َھا٢٤ .فَ َ
ط َر َد ِ
)( ١
يق ش ََج َر ِة ا ْل َحيَا ِة" س ِة َ
ط ِر ِ لِ ِح َرا َ
( ١تكوين.٣ ،٢ :
٢٣٧
شفرة سورة اإلسراء
االجتماعية وإقامة مجتمعاتھم بھا ،ھو عمل بني إسرائيل الرئيسي في التاريخ،
وھو غاية من صنعھم ويستوطن وعيھم ويتدفق في عقولھم بنو إسرائيل من
الحركات السرية.
السطور التي قرأتھا ھي النبع الذي يتدفق منه الفساد في كل األمم والشعوب،
وھي البذرة التي نبتت منھا وتكونت حولھا الضالالت في كل األزمان
والعصور ،وسيطرة مكوناتھا على وعي البشر ھو إفساد بني إسرائيل في
األرض وعلوھم الكبير.
فإليك ماذا تكون خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وبيان ما عبثوا به فيھا من
مكونات الخريطة اإللھية ،والتحريف الذي أخبرك عز وجل في بيانه أنھم
حرفوه ويحرفونه عمداً من بعد ما عقلوه وھم يعلمون.
أوالً :الشجرة التي نھى ﷲ عز وجل آدم عن األكل منھا ال يفرق نوعھا في
بنية القصة ،ألن ﷲ عز وجل نھى آدم عن األكل منھا اختباراً وابتال ًءا له،
وأخبره أنه إن أكل منھا يكون ظالما ً لنفسه ،فقط لمخالفة األمر.
فجاء التحريف وحدد نوع الشجرة بأنھا شجرة معرفة الخير والشر ،وجعل
اإلله ينھى اإلنسان ،الذي ال يعرف نوعھا وال ماذا تكون ،عن األكل منھا،
بتخويفه أنه إن أكل منھا مات.
فيترتب على ذلك أن اإلله خدع اإلنسان ،ألنه لم يُعرﱢ فه بنوع الشجرة ،وألنه
أخبره بمصير غير حقيقي إن ھو أكل منھا ،فآدم وزوجة أكال ولم يموتا.
٢٣٨
شفرة سورة اإلسراء
واألمر الثاني :أن تحديد نوع الشجرة بأنھا شجرة المعرفة ،جعل المعرفة
حصراً على اإلله أو اآللھة ،فاإلنسان خلقه اإلله ليكون جاھالً وال حق له في
المعرفة ،وحصوله عليھا كان بعصيان اإلله وتمرده على أمره وإرشاده.
ثانياً :تقول قصة الخلق البني إسرائيلية إن اإلله جبل من األرض كل
حيوانات البرية وطيور السماء ،ثم أحضر آدم ليرى ماذا يدعوھا ،فكل ما دعا
به آدم ذات نفس حية فھو اسمھا.
فالذين حرفوا القصة أخفوا أن اإلله ھو الذي علم آدم األسماء ،وھو ما يعني
أن آدم ھو نفسه مصدر معرفته عن الكون والمخلوقات ،وأنه ھو الذي حدد
أنواعھا ووظائفھا ،وليس أن اإلله عز وجل ھو الذى علمه إياھا ،ألن االسم،
كما قد علمت ،ھو جماع المسمى ،أو ھو وعاؤه الذي تحضر فيه وتتكثف كل
صفاته وخصاله ومنافعه وقدراته.
فبنو إسرائيل في تحريفھم لخريطة الوجود تعمدوا أن يؤلھوا اإلنسان ،أو أن
يرفعوه إلى مرتبة اإلله ،وأن يجعلوه مصدراً لمعارفه ،ومستقالً بوسائل
تحصيله للمعرفة الذاتية عن اإلله وإرشاده.
٢٣٩
شفرة سورة اإلسراء
)•(
ھي التي ثالثاً :يقول بنو إسرائيل في قصتھم للخلق إن الحية أو الشيطان
عرﱠفت حواء بحقيقة الشجرة ،وأنھا شجرة المعرفة ،وأنھما لن يموتا إذا أكال
منھا ،بل سيحوزان المعرفة ،فأكلت المرأة وأغوت آدم باألكل ،فانفتحت أعينھما
وعلما أنھما عريانان.
واألمر الثاني :أن من يتكون وعيه وذھنه ونفسه بھذه القصة ،سوف ترتبط
في تكوينه تلقائياً ،وبرباط ال ينقصھم ،حيازة المعرفة والعلم بالعري ،ألن األكل
من شجرة المعرفة أثمر مع حيازتھا عري اإلنسان وانكشاف عورته.
فدسوا في أذھان البشر بذلك بذرة المواجھة والصراع بين الرجل والمرأة،
وھي البذرة التي كانوا يتعھدونھا ويقومون بريھا من خالل الحركات السرية
• ( في قاموس الكتاب المقدس" :وحية التجربة كانت في المظھر كحية عادية ...لكن الشيطان كان في ھذه
الحية".
٢٤٠
شفرة سورة اإلسراء
عبر التاريخ ،بإثارة كل طرف ،وإمداده بالوقود ،واستنفار طاقته ،وشحذ ھمته
لحشد البراھين وإقامة النظريات ،وقدح شرارة ذھنه إلبداع القصص
والروايات ،وتمويله لتكوين الجمعيات والحركات ،التي تثبت التحريف وتبثه
وترسخ آثاره.
خامساً :تقول القصة المحرفة إن آدم وامرأته اختبئا من اإلله في وسط شجر
الجنة ،فلم يعرف اإلله أين ھما واضطر إلى أن يناديه" :أين أنت يا آدم"؟
فاإلله في التحريف جاھل يجوز خداعه واالختباء منه ،أو في الحقيقة بنو
إسرائيل ،لكي يضللوا البشر عن اإلله ويطمسوا في وعيھم مسألة األلوھية،
ولكي يسووا بين اإلله واإلنسان فال يكون ألحدھما سلطة على اآلخر ،جعلوا
اإلله إنساناً ،أو شبيھا ً باإلنسان.
"ھو ذا اإلنسان صار كواحد منا عارفا ً الخير والشر واآلن لعله يمد يده
ويأخذ من شجرة الحياة أيضا ً ويأكل ويحيا إلى األبد ..فأخرجه الرب من جنة
٢٤١
شفرة سورة اإلسراء
عدن ليعمل األرض وأقام شرقي جنة عدن الكروبيم ولھيب سيف متقلب
لحراسة طريق شجرة الحياة"
والتحريف ھا ھنا جعل اإلله آلھة متعددة أو مجتمعا ً من اآللھة ،ثم جعل قِدم
اإلله وبقاءه صفات عارية مجلوبة لإلله من مصدر خارج عن ذاته ،وھو شجرة
الحياة التي أقام اإلله حراسة عليھا ،لكي ال يأكل منھا اإلنسان فيصير إلھاً!
فاإلله صار إلھا باألكل من شجرة الحياة ،واإلنسان في إمكانه أن يكون إلھا ً
أو شبيھا باإلله وينازعه صفاته ،فالقصة في حقيقتھا ترفع اإلنسان إلى مرتبة
اإلله ،وتجعل لإلله صفات اإلنسان ،والھدف الحقيقي لمن حرفوھا أن يدسوا في
وعي البشر أن اإلنسان صنو لإلله ،ويمكنه أن يكون بديالً لإلله ،أو أن يحل في
الوجود محله.
سادساً :تقول القصة المحرفة أن اإلله طرد آدم إلى األرض وقال له:
فالتحريف جعل األرض منفى لإلنسان ،ووجوده فيھا عقابا ً له ،وجعله في
ھذا المنفى مطروداً من اإلله وانقطعت صلته به ،فال اإلله ھداه وال أرشده إلى
ماذا يفعل في األرض ،وال كلفه بشىء ،وال بي ﱠن له ما العالقة التي بينه وبين
زوجه وأبنائه الذين سينجبھم ،وال دله على قواعد وال ألزمه بمنھج.
٢٤٢
شفرة سورة اإلسراء
وعلى ذلك ،فاإلنسان ھو الذي كون عالقاته ووضع قواعدھا ،وھو الذى
ابتكر نظمه وقوانينه ،وھو الذي حدد لنفسه قيمه وأخالقه ،بل وھو الذي ابتكر
أفكاره وعقائده.
٢٤٣
شفرة سورة اإلسراء
وھذا المضمون لقصة الخلق المحرفة ھو الذي أثمر اإللحاد بكل صوره
وأشكاله ،فخريطة الوجود البني إسرائيلية ،التي تتكلم عن اإلله والخلق ،ھي في
الحقيقة أشد ينابيع اإللحاد غزارة وتدفقاً.
فالعبث الذي عبثه بنو إسرائيل بخريطة الوجود جعلھا تنضح من كل جوانبھا
بمضمون واحد ،وھو أن اإلله ال وجود له ،ألن اإلله في القصة شبيه باإلنسان،
وعلمه وقِدمه وبقاؤه ،كلھا صفات عارية مجلوبة له من خارج ذاته ،من شجرة
المعرفة وشجرة الحياة .
فاإلله في القصة المحرفة ليس في الحقيقة إلھا ً ،بل غاية القصة وما تبثه
وتغرسه في ذھن من يتكون بھا أن اإلله في الحقيقة ابتكار من كتب القصة على
ھذا النحو.
فالقصة تقول في فحواھا إن اإلنسان كاإلله ،أو اإلله كاإلنسان ،وألن اإلله ال
يكون إلھا ً إال بمفارقته لخلقه وأنه ليس كمثله شئ ،عقالً قبل أن يكون نقالً،
فالثمرة الحقيقية لما فعله بنو إسرائيل ھي اإللحاد وأنه ال إله ،ألن اإلله الذي في
التحريف ال يستقيم أن يكون إلھا ً ،وألن اإليمان به ال فائدة منه.
٢٤٤
شفرة سورة اإلسراء
وكون اإلله شبيھا ً باإلنسان ،أو أن اإلنسان شبيه به ويمكنه اجتالب صفات
األلوھية ،بل وحاز إحداھا فعالً على غير مشيئة اإلله وبعصيانه ،وقادر على أن
يكون بديالً له ،ھي البذرة التي رواھا بنو إسرائيل عبر الحركات السرية ،التي
ھم قلبھا وطاقتھا ،لتكون ثمرتھا المذھب اإلنساني ،Humanismالذي كان
إحدى الدعائم التي تم إعادة تكوين الغرب العلماني بھا ،ثم العالم كله من ورائه.
وھو المذھب الذي يقوم على إحالل اإلنسان محل اإلله مركزاً للوجود،
ومصدراً للقيم واألخالق ،ومستقالً بعقله وحواسه عن الحاجة إلى مصدر
للمعرفة من خارجه ،أي :عن الوحي ،وطارحا ً للغيب ،والوجود عنده ھو ما يقع
تحت طائلة ھذا العقل والحواس ،ومؤمنا ً بأنه قادر على خلق الجنة على األرض
بقدراته وعلمه وحده.
فاآلن ،ومعك نور خريطة الوجود اإللھية ،تأمل عبث بني إسرائيل في
الخريطة التي بثوھا في البشر بأناة وعمق ،ولن يكون عسيراً عليك أن تفطن
وحدك أن ھذه النزعة اإلنسانية التي صبغت العالم ،غربه وشرقه ،ليست سوى
بعض من آثار ھذا العبث!
وال تتعجب وال تضرب كفا ً بكف إذا أخبرناك أن البذرة التي أثمرت النزعة
اإلنسانية ،التي ھي ثورة على المسيحية ،ھي ھي التي تكونت بھا وحولھا
المسيحية نفسھا!
٢٤٥
شفرة سورة اإلسراء
إذا سألت مسيحياً :لماذا صُلب المسيح ،والصلب محور المسيحية وعقيدتھا
الرئيسية ،فسيجيبك :فدا ًءا للبشرية.
فإذا سألته :وما الذي فعلته البشرية لكي يفديھا المسيح ،فسيقول لك :آدم
ارتكب الخطيئة وعصى الرب وأكل من شجرة المعرفة فطُرد إلى األرض ،لذا
فالبشرية ُوجدت على األرض وارثة لھذه الخطيئة األصلية وكل فرد فيھا يحمل
وزرھا.
فيكون بذلك قد فتح خريطة الوجود البني اإلسرائيلية ،ويجيبك وھو يحملھا
في يده ويرى الوجود من خاللھا!
فإذا غلبك الفضول وسألت :وماذا عن المسيح نفسه ،فسيرد عليك :ھو اإلله
أو ابنه تجسد في صورة البشر ،ليفتدي البشرية ويكفر عن خطيئتھا ويخلصھا
من الوزر الذي تحمله وترثه منذ بدأت رحلتھا على األرض.
٢٤٦
شفرة سورة اإلسراء
بعد أن وصلت في رحلتك إلى ما تقرأه اآلن ،لن تعجب إذا قلنا لك إن تحديد
نوع الشجرة في خريطة بني إسرائيل للوجود ھو الذي أنتج الغرب كله ،حين
تكون بالمسيحية واإليمان بھا ،وبعد أن ثار عليھا وتكون باالنفالت منھا!
حدد بنو إسرائيل نوع الشجرة بأنه شجرة المعرفة ،واإلله حرم اإلنسان من
األكل منھا ألنه ال حق ألحد فيھا سوى اإلله أو اآللھة.
ومن رحم ھذا التحديد ُولدت معادلة ،ھي التي تحكم وعي الغرب وتتحكم
فيه ،وفي كل ما يتكون فيه وينتجه ،وال تتغير أطرافھا ،ولم يتمكن في أي عصر
من عصوره من أن يتحرر منھا ،وال أن يجمع بين أطرافھا ،أو يوفق بينھم.
في الغرب المسيحي الذي نبت وتكون من بذور العبث البني إسرائيلي
بخريطة الوجود ،اختارت الكنيسة لإلنسان أن يھجر المعرفة لكي يكون مع
اإلله وطائعا ً له ،فكانت المعادلة التي تحكم وعي الغرب المسيحي وتتحكم فيه
ھي:
٢٤٧
شفرة سورة اإلسراء
وما كانت تفعله الحركات السرية ،وفي قلبھا بنو إسرائيل ،عبر عصور
الغرب كلھا ،ھو أنھا كانت تصارع الكنيسة من أجل أن تحل في تكوين الغرب
محلھا ،وتكافح من أجل أن تنقل اإلنسان إلى الطرف اآلخر من المعادلة ،فتجعل
حيازة المعرفة في وعيه رھن بإنكار الوجود اإللھي ،أو بالتمرد على التعاليم
المنسوبة إلى اإلله ،لتكون ھذه النقلة أداة اإلطاحة بمسألة األلوھية كلھا ،وإزاحة
الوحي كوسيلة مطلقة للمعرفة من وعي البشر جميعاً ،وإزاحة الوحي معناھا
نسف المعايير والموازين التي ھو مصدرھا ،وتفريغ القيم واألخالق من
المعاني ،التي ھو أيضا ً ضابطھا والذي يمنحھا معناھا.
في الغرب المسيحي كان اإلنسان مع اإلله ويطيعه بھجر المعرفة ،وبسيطرة
الحركات السرية على الغرب وصناعتھا لوعيه ،صار اإلنسان والمعرفة معا ً
في مواجھة اإلله ،والمعادلة وأطرافھا ھي ھي لم تتغير.
٢٤٩
شفرة سورة اإلسراء
ﻋﻨﺪﻣﺎ ﳛﲅ اﻟﻘﺒﺎﻟﻴﻮن
الحركات السرية ،كما قد علمت ،كانت تكافح عبر التاريخ ،وتصارع
الكنيسة ،من أجل نقل اإلنسان في المعادلة البني إسرائيلية ،من طرفھا الذي
يكون فيه مع اإلله ويھجر المعرفة ،إلى طرفھا الذي يحوز فيه المعرفة بالتمرد
على اإلله.
والرجل الذي أثمر كفاح الحركات السرية على يديه وبمواھبه وقدراته،
والذي وضع تعريفا ً للعلم الطبيعي يزيح به الوحي من وعي البشر ،ورسم له
مساراً يصطدم في كل خطوة فيه بمسألة األلوھية ،وبدأت من عنده العلمنة
الفعلية للغرب ،ھو فرنسيس بيكون ١٥٦١) Francis Baconم – ١٦٢٦م(،
أبو العلوم التجريبية في الغرب ،والرجل األول في الغرب الذي ينسب إليه
ابتكار المنھج التجريبي ،بما صنفه من كتب ،وضع فيھا قواعده ورفعه بھا إلى
منزلته التي صار إليھا في تكوين الغرب وتاريخه ومساره.
وكتب فرنسيس بيكون وأفكاره كانت ھي العقيدة والنواة التي تكونت بھا
وحولھا الجمعية الملكية البريطانية ،British Royal Societyومؤسسوھا
كانوا جميعا ً من أتباع أفكاره وحركته.
٢٥٠
شفرة سورة اإلسراء
وعقيدة بيكون التي أدخل بھا الغرب كله في مسار يصطدم في كل خطوة
يخطوھا فيه بمسألة األلوھية ،ھي أن المعرفة الوحيدة الحقيقية ويوثق بھا ھي
تلك التي تكون وسيلتھا التجربة ،وضابطھا عقل اإلنسان وحواسه ،ومن ثَم فأي
شئ يأتي من خارج اإلنسان وبغير طريق التجربة فليس علما ً وال معرفة.
فإذا رجعت إلى فصل :بيان اإلله ،ستفھم أن عقيدة بيكون ھذه ليست سوى
غالف ،فحواه وما يغلفه في الحقيقة إزاحة اإلله من اجتماع البشر ،وفصله عن
حياتھم ،ونفي وحيه وإخراجه من تكوين وعيھم وبناء أذھانھم ونفوسھم ومن
مصادر معارفھم ،والوحي ،كما علمت ،ھو مصدر القواعد والضوابط
والمعاني.
فإليك الوجه البني إسرائيلي للرجل الذي َع ْلمن الغرب ،والعالم كله من بعده،
لتدرك أن العبارات المزخرفة والنظريات المزركشة عن العلم والمعرفة
والموضوعية والتجربة والحياد ليست سوى وسائل لقرطسة البشر وتفريغ
العالم من العقائد والقواعد والضوابط والمعاني ،من أجل فتح العالم وأذھان
البشر أمام بني إسرائيل وغاياتھم ومملكتھم القادمة.
فإليك أوالً وصف أحد األميين من مشاھير أساتذة الفلسفة لما تخيله بيكون
في روايته ،يقول دكتور زكي نجيب محمود في مقالة عنوانھا :عندما يحلم
العقالء ،نشرتھا مجلة العربي الكويتية ،في عدد شھر أغسطس سنة ١٩٦٧م ،ثم
أعاد نشرھا في كتابه :نافذة على فلسفة العصر:
"حلم فرنسيس بيكون بيوم يغير فيه اإلنسان معنى العلم ،فال يطلق ھذه
الكلمة العظيمة إال على ذلك الضرب من الكالم الذي ال يكاد يثبته صاحبه على
صفحات كتابه حتى يثب إلى حياة الناس عمالً ينفع ،وله في مقارنة العلم
بمعناه الفظي القديم ومعناه التطبيقي الجديد تشبيھات رائعة ،فھو بالمعنى
القديم كالمرأة العاقر ،تناقش تناقش وال تلد ،العلم قوة ،وھذه عبارة قالھا
بيكون ،بمعنى أنه أداة تغيير البيئة المحيطة بنا على النحو الذي يحقق
)(١
أغراضنا"
فإليك ماذا يكون المجتمع العلمي الذي تصوره بيكون ،لتعلم أن العلم
وتجاربه وتطبيقاته ليست معزولة عن عقائد من ينتجه وينتجھا وال عن غاياته،
وال عن خريطة الوجود التي تحكم وعيه وتتحكم في تكوينه الذھني والنفسي،
كما توھم أستاذ الفلسفة األمي.
في روايته ھذه التي نشرت ألول مرة سنة ١٦٢٧م يتخيل بيكون جزيرة
يقوم عليھا مجتمع علمي ،يُك ﱢون حياته ويحكمھا بالعلوم التجريبية ،ويسيطر
بالمخترعات على كل شئ ،حتى ھبوب الرياح واتجاھھا.
وتبدأ رواية بيكون بإبحار سفينة أوروبية من بيرو Peruفي اتجاه الغرب
قاصدة اليابان والصين ،وفي قلب المحيط الھادي تھب عليھا عاصفة ھوجاء
وتتالعب بھا أمواج المحيط العاتية ،فتضل وتفقد طريقھا ،لتخرج من التيه إلى
أورشليم الجديدة!
وبيت العلوم الذي يسيطر على العالم من أورشليم الجديدة ھو :بيت سُليمان
،Salomona's Houseوبيت العربية ھى نفسھا بيت العبرية ،وبيت العربية
والعبرية ھي ھيكل األكادية.
فالذي تخيله فرنسيس بيكون وسعى بكتبه وأفكاره إلى إيجاده وتوجيه مسار
التاريخ نحوه ،ليس سوى استعادة أورشليم ،أو أورشليم جديدة تحكم العالم من
ھيكل سليمان.
وقد يبتليك ﷲ عز وجل فتلتقي أحداً من األميين في بالد العرب ،ممن تراھم
يملؤون جامعاتھا وصحفھا وشاشاتھا ،فيعطيك محاضرة وينشد لك نشيداً عن
بيكون أبي العلوم وفيلسوف المعرفة ،وداعية الموضوعية وقيام العلم على
٢٥٣
شفرة سورة اإلسراء
عل
التجربة وفصله عن األديان وعقائدھا وغاياتھا وأخالقھا ،ثم يقول لك من ٍ
وھو يتعالم ويتصنع التواضع :ھذه األسماء رمزية أو ھي مصادفات ،وال عالقة
لھا بأورشليم بني إسرائيل وھيكلھم.
فھاك فرنسيس بيكون أبو العلوم وفيلسوف المعرفة نفسه يخبرك أن أورشليم
الجديدة ليست سوى بعث ألورشليم القديمة ،وأن بيت علوم الجديدة ليس سوى
طبعة عصرية من ھيكل القديمة.
٢٥٤
شفرة سورة اإلسراء
ھذا ھو وصف بيكون في روايته لبيت سليمان في أورشليم على لسان حاكم
أورشليم الجديدة:
"حكم ھذه الجزيرة منذ ألف وتسعمائة عام ملك ال نوقر ذكرى أحد مثلما
نوقره ،فقد كان واسع الحكمة ،كبير القلب ،مفعما ً بحب الخير ،ورغم أنه بشر
فان فقد كان أداة إلھية ،Divine Instrumentواسمه سليمان
ٍ
...Solamonaومن أج ﱢل أعمال ھذا الملك أنه أنشأ جمعية أو منظمة ھي
أشرف مؤسسة وجدت على ظھر األرض ،ووھبھا لدراسة مخلوقات اإلله
ومعرفة طبيعتھا ...وقد سماھا باسم ملك العبريين ،ألنه كان يرى نفسه رمزاً
وتجسيداً لملك العبريين الذي عاش قبله بسنوات عديدة ،وتعلم منه أن اإلله
خلق العالم في ستة أيام ،ولذا جمعيتنا لھا اسم آخر ھو :كلية عمل اليوم
السادس (١)"Collage of six day's work
وكما ترى ،سليمان الذي أنشأ بيت العلوم في أورشليم الجديدة ،وصارت به
مملكته أجل الممالك ،ليس سوى صورة روائية استنسخھا بيكون من سليمان
ملك بني إسرائيل التوراتي ،ووصف سليمان أورشليم الجديدة الذي وصفه به
بيكون ھو نقل حرفي لوصف سليمان أورشليم القديمة في سفر الملوك األول:
ب َكال ﱠر ْم ِل الﱠ ِذي سلَ ْي َمانَ ِح ْك َمةً َوفَ ْھ ًما َكثِي ًرا ِج ًّداَ ،و َر ْحبَةَ قَ ْل ٍ "َ ٢٩وأَ ْع َ
طى ﷲ ُ ُ
يع بَنِي ا ْل َم ْ سلَ ْي َمانَ ِح ْك َمةَ َج ِم ِ َاط ِئ ا ْلبَ ْح ِرَ ،وفَاقَتْ ِح ْك َمةُ ُ
َعلَى ش ِ
٣٠
ق َو ُك ﱠل
ش ِر ِ
ص َر َو َكانَ أَ ْح َك َم ِمنْ َج ِم ِ
يع النﱠا ِ
)(٢ ٣١
س" ِح ْك َم ِة ِم ْ
وأما بيت علوم أورشليم الجديدة ،الذي أنشأ الماسون وأعضاء حركة
الروزيكروشيان ،من أتباع بيكون وخلفائه ،الجمعية الملكية البريطانية على
غراره وبمحاكاته ،لكي يحولوه بھا من خيال إلى واقع ،فھو نفسه ھيكل أورشليم
القديمة ،وعلومه ھي أداة سيطرة أورشليم الجديدة على األرض وتسلطھا على
الممالك ،بديالً عصريا ً لسيطرة سليمان أورشليم القديمة على ما حولھا من
ممالك بمردة الجن والشياطين!
فھذا ھو موقع بني إسرائيل من أورشليم الجديدة التي ابتكرھا بيكون لكي
تكون نموذجا ً يُدفع العالم نحوه ويُصنع على غراره وبمحاكاته ،وھذه ھي الغاية
التي يتجه العالم نحوھا بصناعته على غرارھا:
"وقد كان يعيش بين ظھراني أھل بن ساليم بقايا من اليھود يحتفظون
بديانتھم ويحبون شعب بن ساليم محبة عظيمة ،ومن ھؤالء اليھود وما
يحوزونه من كتب وتقاليد ،Traditionأخذ أھل بن ساليم عاداتھم
وقوانينھم ،وعرفوا أنھم من نسل إبراھيم Abrahamوينحدرون من ابن
آخر له ،وأن موسى Mosesھو الذي سن تشريعات بن ساليم التي يتحاكمون
بھا ،وصبغھا بحكمة القبااله السرية ،Secret Cabalaوأنه عندما يأتي
الھامشيحاه Messiaويجلس على عرشه في أورشليم ،Hierusalem
٢٥٦
شفرة سورة اإلسراء
سيكون ملك بن ساليم عند قدميه ،Sit at his feetوخلفه من بعيد باقي
الملوك")!!(١
فھل أدركت اآلن من يكون أبو العلوم وفيلسوف المعرفة الذي علمن الغرب
ورسم مساره ،ليدفعه فيه َمن جاءوا بعده ِمن أتباعه وخلفائه؟
بقي أن تعلم أن فرنسيس بيكون زين ھوامش صفحات كتابه وفراغاتھا في
مخطوطته األصلية التي كتبھا بخط يده ،وفي طبعته األولى التي ظھرت بعد
وفاته بعام ،كما يقول صفيه ووصيه الذي أشرف على طبع الكتاب وليام راولي
،William Rawleyزينھا بمجموعة من الرموز اليھودية والماسونية مثل
عمودي ھيكل سليمان الشھيرين بوعز وجاكين ،وھما أحد أركان تصميم
واآلن يمكنك أن تعيد قراءة القصيدة التي كتبھا دكتور زكي نجيب محمود
في بيكون وجزيرته وبيته للعلوم ،ثم تعدل عنوانھا إلى العنوان الصحيح الذي
ينبغي لھا ،وھو :عندما يحلم القباليون!
٢٥٨
شفرة سورة اإلسراء
ﻋﺒﺎدة اﻟﺸـﻴﻄﺎن
والنبع في خريطة الوجود البني إسرائيلية الذي تدفقت منه العلمانية ،ھو
نفسه الذي كان من فروعه عبادة الشيطان ،وفرع آخر منه تحرير المرأة،
بإخراجھا من ھدي الشرائع ،في األخالق والزي والسلوك ،وارتباط ھذا
التحرير والخروج بالعلم والتقدم والمدنية.
وھا ھنا قد تسأل :ما الدليل على أن قصة الخلق البني إسرائيلية ھي التي
كونت وعي الغرب ،وأنھا ھي التي تحكم أذھان نخبه ورموزه وصانعي تاريخه
ونفوسھم ،وأنھا ھي التي أنتجت ھذا كله؟
عبادة الشيطان في الحركات السرية وجمعيات عبادته ليست مجرد كفر أو
زندقة أو ھرطقة كما قد تعتقد ،بل ھي فلسفة متكاملة ،وھي نتاج طبيعي تلقائي
ال غضاضة فيه لخريطة الوجود البني إسرائيلية.
فسل نفسك أوالً :الذين يعبدون الشيطان ويقدسونه ويعتبرونه صديقا ً
لإلنسان ،من أين علموا أصالً أنه يوجد كائن أو مخلوق اسمه الشيطان لكي
يعبدوه ،ومن أين أتتھم وكيف دخلت في عقولھم فكرة أن ھذا المخلوق أو الكائن
الذي اسمه الشيطان صديق لإلنسان محب له؟
٢٥٩
شفرة سورة اإلسراء
يقول حبر الماسونية األعظم في القرن التاسع عشر اليھودي ألبرت بايك،
وھو يُن ﱢ
ظر لعبادة الشيطان ،في تعاليم الدرجة الثالثة ،درجة االستاذ ،Master
وفي تعاليم الدرجة السادسة والعشرين ،درجة أمير الرحمة Prince of
:Mercy
وكما ترى ،عبادة الشيطان ھي ابنة خريطة الوجود البني إسرائيلية وثمرتھا
وليست خروجا ً عليھا ،فبنو إسرائيل ،لكي يُضلوا البشر ويفصموا عالقتھم
باإلله ،حولوا الشيطان في خريطة الوجود إلى محب لإلنسان ،أو اإلله الذي
يرعاه ودله على المعرفة ،وھيأ له األرض وأعانه على بدء مسيرته فيھا ،بعد
أن طرده اإلله إليھا ،ولعنھا لكي تكون منفاه ومحل عقوبته.
ثم إليك إحدى الفروع التي فرعتھا الحركات السرية من خريطة الوجود
البني إسرائيلية.
• ( أدوناي اسم اإلله في سفر التكوين ،وھي عبرية معناھا :المولى أو السيد ،ويھوه اسم اإلله الذي ظھر
لموسى في سفر الخروج ،وال يعرف معناه تحديداً ،بل وال النطق الصحيح له ،ألنه يحرم نطقه إال على الحبر
األعظم داخل قدس األقداس.
1 ) Albert Pike: Morals and dogma, P:102, 567.
٢٦٠
شفرة سورة اإلسراء
في الدرجات العليا من الماسونية ،يتحول إغواء الشيطان لحواء إلى إغواء
جنسي ،نزھھا ﷲ عز وجل عما يقولون ،ليثمر ھذا اإلغواء أول أبناء حواء:
قايين بن إبليس!
وقايين بن إبليس ھو الذي دل أخاه ھابيل بن آدم على ما يحفظ به حياته من
طعام وشراب ،وھو الذي علمه كيف يحيك ما يحميه من الحر والبرد ،ثم كان
نسل قايين بن إبليس ھم من علموا بني آدم الصيد والزراعة والصناعة.
ومن ثَم فالبشرية عبر تاريخھا كله قسمان ،نسل الشيطان ،وھم الطبقة
المستنيرة الصانعة للعلم وحاملة نور المعرفة والقائدة للبشر ،وھؤالء ھم
الماسون.
وأما باقي البشرية ،فھم الطبقات الخاملة ،وأتباع الجھل والظالم من بني آدم!
٢٦١
شفرة سورة اإلسراء
ﻣﺎدة اﻟﺘﺤﺮﻳﻒ
من أين أتى بنو إسرائيل بعناصر خريطتھم للوجود ،وھل الصورة التي
استقرت عليھا العالقة بين مكوناتھا كانت عفواً أو غفلة وسھواً أم ھي قصد
مقصود؟
فإليك نموذجا ً على ما يحدثه افتقاد الوحي مصدراً مطلقا ً للمعرفة ،في
مجاالت من المعارف ال مصدر لھا غيره ،وليس في طاقة اإلنسان وما يحوزه
من وسائل ذاتية للمعرفة أن يصل إلى وجه الحق فيھا ،من خلل في الفھم،
وانحراف في المنھج ،وانقالب في الفرضيات ،وضالل في النتائجٍ .
إليك كيف وأين نقب أحد أكثر العقول سعة وخبرة وإحاطة بتاريخ البشر
وعقائدھم عن إجابة السؤال ،وما وصل إليه من نتائج ،بعد أن خرج الوحي من
مصادره ضابطا ً ومرشداً.
٢٦٢
شفرة سورة اإلسراء
أن ھناك آثاراً ليست بالقليلة من الطرز البدائية القديمة في الحياة والتفكير ال
)(١
تزال ماثلة في عادات الناس وتقاليدھم"
وكما ترى ،وعي السير جيمس فريزر محصور داخل خريطة الوجود البني
إسرائيلية ،وما يفھمه ،ھو كله من آثار سريانھا في تكوينه ،فوعيه وتكوينه ال
يستطيع الفصل بين التقدم المادي في علوم الطبيعة والكون وبين الحق في
العقائد والقيم واألخالق ،وھذا عنده يرتبط بذاك ،ألن التفرقة بينھما ال يرتقي
إليھا إال وعي كونه الوحي.
فإليك ھذه التفرقة واضحة حاسمة ،نذكرك بھا ،لتعلم الفرق بين العقل الذي
يسري فيه الوحي والعقل الفارغ منه ،وأن ھذا اليرقى أبداً لذاك ،بالغا ً ما بلغ
علمه ومعارفه وألقابه وشھاداته:
"في كل حالة وراء كلمة التقدم يختفي ضالل وزيغ عن الحق ،ما عدا
الحاالت التي تشير فيھا ھذه الكلمة إلى كشوف مادية أو علمية ،إذ ليس ھناك
اال تعليم حق واحد ،وال مجال فيه للتقدم .إن التقدم كفكرة زائفة يعمل على
تغطية الحق ،حتى ال يعرف الحق أحد غيرنا نحن شعب ﷲ المختار الذي
)( ٢
اصطفاه ليكون قواما ً على الحق"
السير جيمس فريزر الذي تحكمه سيرة البشر في التحريف كيف بدأت على
األرض ،لم يرتق وعيه إلى أن يفطن أن التقدم في الزراعات والصناعات
والتقنيات ،وما يرتبط بھا من تيسير حياة البشر ،وسيلته تجارب اإلنسان
وخبراته وما يتوارثه ،أما العقائد والقيم واألخالق فليس فيھا إال الحق والباطل،
وال مجال لمعرفة وجه الحق ھذا إال من مصدره ،فإن افتقد اإلنسان المصدر
فليس إال الباطل ،ولن يصل إلى الحق بتجاربه وخبراته ولو بعد ماليين السنين،
وسوف يستوي من صعد إلى القمر مع من كان يعبده.
ما لم يصل إليه وعي السير جيمس فريزر ،وما كان أن يصل إليه ،ال ھو
وال أحد غيره من غير الوحي ،أنه ھو نفسه يرى الوجود ويفھم التاريخ ويستنبط
من سيرة بني إسرائيل ما أرادوا ھم له وللبشر جميعا ً أن يروه ويفھموه
ويستنبطوه!
ألن خريطة الوجود البني إسرائيلية ،ھي نفسھا ،ترسخ في ذھن من يتكون
بھا أن اإلنسان ظھر على األرض مقطوع الصلة باإلله ،إن كان ثَمة إله أصالً،
وأنه مصدر علم نفسه ،وھو الذي ابتكر أخالقه وقيمه ،وھو الذي كون عقائده
وأفكاره ،فقد افترض جيمس فريزر ،كما افترض ويفترض أمثاله في الغرب
وذيولھم في الشرق ،أن قصة الخلق أسطورة محض ،كونت عناصرھا عقول
القبائل البدائية وخياالتھم ،ثم جمع بنو إسرائيل ھذه المكونات من القبائل الوثنية
ولفقوا منھا القصة.
لذا كان منھج فريزر الرئيسي ،كما رأيت عند ديورانت من قبل ،التنقيب عن
مكونات خريطة الوجود البني إسرائيلية في ما وصل إليه من فلكلور القبائل
والشعوب السابقة على بني إسرائيل ،أو في ما وجده من معتقدات وطقوس في
القبائل المعزولة عن المدنية التي عثر عليه المستكشفون في إفريقيا وآسيا
واستراليا ونيوزيلندا.
٢٦٤
شفرة سورة اإلسراء
ولكن جيمس فريزر وھو ينقب عن آثار معتقدات القبائل البدائية والمعزولة
في المسرحية ،كما يسميھا ،سدت طريقه صخرة ھائلة ،ينھار عمله كله من غير
إزاحتھا ،فقد أعياه أن يعثر على أثر لشجرة المعرفة التي نُھي اإلنسان األول
عن األكل منھا ،والتي ھي صُلب المسرحية والمحور الذي تدور كل تفاصيلھا
من حوله.
وھا ھنا آب فريزر إلى المغارة التي يأوي إليه كل من تحكم وعيھم وما
يتكون فيه وما ينتجه خريطة الوجود البني إسرائيلية ،في كل العلوم والمعارف،
ليموھوا فرضياتھم داخل ظالمھا ،ويسدوا الفجوات التي في نظرياتھم بغبارھا،
ويوھمون من يقدمونھا لھم أنھا حقائق ،فھي المغارة التي لُفقت في ظالمھا
الليبرالية والعقد االجتماعي ،وسُدت بغبارھا ثقوب الداروينية والماركسية.
ل ﱠما عجز جيمس فريزر عن العثور على مادة يجعلھا أصالً لشجرة المعرفة،
انتقل إلى التخمين وضرب الودع واالفتراضات التي ال دليل عليھا.
خمن فريزر أن أصل المسرحية حكايتان تم دمجھما معاً ،دون أن يقدم دليالً
على أي منھما ،إحداھما كانت تدور حول شجرة المعرفة ،واألخرى صلبھا
شجرة الحياة ،ثم افترض ،من غير برھان أيضاً ،أن من كتب المسرحية ومزج
بين الحكايتين لم يكن ماھراً ،فاحتفظ بحكاية شجرة المعرفة كما ھي ،واختصر
حكاية شجرة الحياة اختصاراً أفقدھا معالمھا.
٢٦٥
شفرة سورة اإلسراء
"لم تلعب في الحكاية األصلية ھذا الدور المثير السلبي الصرف الذي لعبته
)(١
في ھذه الحكاية"
وھكذا ،وبالتخمين وضرب الودع ،أزاح فريزر صخرة شجرة المعرفة التي
لم يعثر لھا على شبيه ،ولم يستطع أن يجد ما يفسر به وجودھا ،وأحل محلھا في
موضع الصدارة من مسرحية بني إسرائيل شجرة الحياة ،ليفسر ھذا الموضع،
وبالتخمين أيضاً ،بأن:
"الھدف من حكاية السقوط ،فيما يبدو ،ھو محاولة لتفسير فناء اإلنسان،
)( ٢
ولتقديم السبب الذي من أجله أصبح الموت جز ًءا من كياننا الدنيوي"
وفرضيات ھؤالء األميين ،وما وصلوا إليه من نتائج ،كلھا خاطئة ومقلوبة،
فإليك كيف ستكون الفرضيات والنتائج بإدخال الوحي مصدراً للمعرفة في
المسألة ،وضابطا ً وسقفا ً أعلى لھا.
المسرحية التي صنعھا بنو إسرائيل لھا أصل حقيقي ،ھو خريطة الوجود
اإللھية التي استودعھم عز وجل إياھا وكلفھم ھداية األمم إليھا وإرشادھم بھا،
فاإلله ،في خريطة الوجود اإللھية ،جعلوه كبيراً آللھة ،والشجرة التي ال نوع
لھا في األصل حددوه ،والمعرفة التي ھي ھبة اإلله لإلنسان جعلوھا نوع ھذه
الشجرة التي حرﱠمھا اإلله وثمرتھا ،والشيطان الذي ھو عدو اإلنسان صيروه
مرشده وھاديه إلى المعرفة ،وال ُخلد الذي أغوى به الشيطان اإلنسان جعلوه
حقيقة وغرسوا له شجرة ،والمھمة التي خلق اإلله اإلنسان من أجلھا حجبوھا،
والوحي واإلرشاد الذي زوده به أزاحوه ،واألرض التي أھبطه إليھا ليبدأ فيھا
مھمته حولوھا إلى منفاه.
٢٦٧
شفرة سورة اإلسراء
حجْ ب بني إسرائيل لخريطة الوجود اإللھية ،وعبثھم بھا عمداً ،ح ﱠول الوجود
إلى متاھة ال معالم لھا ،وال إرشاد فيھا ،ضلت أكابر العقول وأعاظم األمم
والشعوب وھي تبحث عن تفسير لھا أو مخرج منھا.
٢٦٨
شفرة سورة اإلسراء
في خريطة الوجود المزورة أن اإلنسان ُوجد على األرض مطروداً من اإلله
مغضوبا ً عليه ،وما أراد بنو إسرائيل بثه بذلك في أذھان البشر وترسيخه في
نفوسھم ،أن اإلنسان ھبط إلى األرض مستقالً عن اإلله ،مفارقا ً له ،غير مكلف
بشئ ،وليس عليه التزام بشئ ،فلم يزوده اإلله بإرشاد وھدي ،وال ضوابط وال
قواعد في أي شئ ،ال السلوك والعالقات ،وال األخالق والقيم ،وال النظم
والشرائع ،بل وال األفكار والعقائد.
غاية بني إسرائيل من العبث الذي عبثوه بخريطة الوجود أن يغرسوا في
وعي البشر ونفوسھم أن أفكار اإلنسان وعقائده ،وأخالقه وقيمه ،وأنظمته
االجتماعية واالقتصادية والسياسية ،كلھا كانت ابتكارات ھو الذي ابتكرھا بعقله
وحواسه ،ووصل إليھا بتجاربه ،في استقالل تام عن اإلله ووحيه وھديه.
٢٦٩
شفرة سورة اإلسراء
فبھذا الري والتعھد ،انبثقت من ھذه البذرة الليبرالية وفكرة العقد االجتماعي
وضرورة وضع دستور.
والدستور ،الذي ھو أحد آثار عبث بني إسرائيل بخريطة الوجود ،والذي تم
وضع معادالته وضبط تفاعالته ونواتجه طبقا ً للمواصفات اليھودية وفي معامل
الماسون ،أصل فكرته وفلسفته أن قوى المجتمع ،أو ممثليه ،سوف يتفقون في
لحظة معينة على القواعد التي ستحكم ھذا المجتمع ،ألنه ال قواعد وال ضوابط
سابقة على االتفاق ،وھو ما يعني أنه ال ثوابت وال معايير وال موازين.
٢٧٠
شفرة سورة اإلسراء
الذي حدد القواعد وأباح الشرائع وقبِل بھا ضمن قواعده ،كما أنه يمكنه أن
يمنعھا ويخرجھا منھا.
وكما ترى ،غاية بني إسرائيل من العبث بخريطة الوجود تتدسس وتتسرب
في كل ما يتكون بھا وتفرزه ،وفي كل ما يصنعونه بھا.
فإليك الوجه اآلخر لمن عرفھم العالم آبا ًءا لليبرالية والعقد االجتماعي
والدساتير ،وما ھم بآبائھا ،فآباؤھا الحقيقيون ھم من كونوا وعي ھؤالء
بخريطتھم للوجود ،وصنعوا أدمغتھم في المعامل التي أنشأوھا لذلك وعبأوھا
طبقا ً لمواصفاتھم القياسية.
فولتير ،Voltaireأشھر أعالم الليبرالية ورموزھا في التاريخ ،كان عضواً
في محفلين:
وكتب وھو في الثمانين من عمره أنه يتمنى أال يموت قبل أن يرى ھيكل
أورشليم قائماً!
فالليبراية عند من ابتكروھا لم تكن سوى إحدى أدوات تغيير عقل العالم
وتفريغه وتحويل مساره ،من أجل إعادة ملئه بغاية بني إسرائيل ودفعه في
اتجاھھا!
وأما الثاني ،فيخبرك به ألبرت بايك ،وھو يعرفك كيف تم دفع فرنسا نحو
الثورة ،ومنه تعرف المعمل الذي صُنعت و ُعلﱢبت فيه نظرية العقد االجتماعي
من أجل إزاحة مسألة األلوھية من وعي البشر ومن معمار العالم بالدولة
القومية ،وتعرف َمن الذي كان خلف الثورة الفرنسية التي علمنت الغرب
وأخرجت مفتاح التصنيف البني إسرائيلي من التوراة إلى بلدانه وخرائطه:
"وبإشراف روسو وتحت رعايته ،صار محفل عصبة جنيف Fanatic of
)(١
Genevaمركز الحركة الثورية في فرنسا"
ويغنيك عن أن نشرح لك ما الذي يعنيه روسو بھذه العبارة ،التي تكاد تخلب
عقلك ،أن تعرف اسم الفصل الذي يليھا والذي جعلھا مدخالً له ،واسمه:
المجتمعات األولى!
Jean Jacque Rousseau:The Social ( ١جان جاك روسو :العقد االجتماعي ،ص،١٩
Contract,P5.
( ٢العقد االجتماعي ،صThe Social Contract,P6 ،٢٠
٢٧٣
شفرة سورة اإلسراء
فالعقد االجتماعي ليس سوى وسيلة روسو إللغاء رابطة الدين والعقائد
بالرابطة القومية العلمانية ،وإحالل الدولة القومية التي تحكم باسم الشعب محل
دولة اإليمان التي تحكم باسم اإلله.
الدولة التي أقامھا روسو بعقده االجتماعي ،كما وصفھا ھو ،ھي التي:
وسيرة الرجل الذي اكتملت على يديه صياغة العقد االجتماعي وفكرة
الدستور ،ھي نفسھا من آثار نفي بني إسرائيل للوحي واإلرشاد اإللھي ،وقطع
العالئق بين اإلنسان واإلله.
في كتابه :العقد االجتماعي ،ولكي يُغيﱢب وعي من يكتب لھم ،ويدق َع ْقده
االجتماعي في رؤوسھم ،ويزيح منھا مسألة األلوھية والوحي ،يمجد روسو
الفضائل االجتماعية التي يقر بھا الدين المدني الذي ابتكره ،والتي يكون بھا
المواطن صالحاً.
فاعلم أن سيرة المرء ھي الترجمان الحق ألفكاره ،وليس زخرف القول ،وال
معسول الكالم ،وال بھرج النظريات ،التي ھي وسائله في التضليل وحشو
العقول باألباطيل ،ليس إال.
فإليك من سيرة روسو ،التي كتبھا ھو نفسه ،ما تعرف به حقيقته ،ولماذا كان
العقد االجتماعي والدين المدني ھما اإلخراج الطبيعي لھذ الشخص وھذه
السيرة.
فھذا الذي تراه في :العقد االجتماعي وقوراً رصيناً ،يتكلم عن الفضائل
ويُضلل البشر عن أنھا لم يعد لھا مصدر وال معنى بعد إزاحة اإلله والوحي من
وعيھم ،ھو نفسه في كتابه :اعترافات ،The Conffessionsيروي لك
عشرات الحكايات عن مغامراته الجنسية ،وعالقاته بالسيدات ،وإغوائه للفتيات،
وركوعه امام العاھرات!
٢٧٥
شفرة سورة اإلسراء
ثم إليك من كتابه ھذا ،ما تعرف منه كيف نبتت في رأسه بذرة انفصال القيم
واألخالق والعالقات االجتماعية والنظم السياسية عن الوجود اإللھي ،ثم ظل
يرويھا ويتعھدھا إلى أن أثمرت العقد االجتماعي والدين المدني.
كان روسو حائراً مضطربا ً قلقاً ،وسبب حيرته وقلقه تشككه في الوجود
اإللھي ،وفي الوقت نفسه عدم قدرته على طرحه من نفسه وإخراجه منھا
إخراجا ً كامالً ،مع إلحاح فكرة الخالص عليه.
وھذا التمزق ھو نفسه إحدى ثمار خريطة الوجود البني إسرائيلية ،التي تقول
إن اإلله موجود وتروي كيف خلق اإلنسان ،ولكن العبث الذي تعمده من عبثوا
بھا يدس في أذھان البشر ،من خالل مضمونھا والفحوى الحقيقية لتفاصيلھا
وحبكتھا وصفات اإلله فيھا ،أن اإلله غير موجود ،وأنه ليس إال ابتكار من
كتبھا.
وھا ھنا ومضت في عقله تجربة يجريھا ،ويعرف منھا إن كان ناجيا ً من
الجحيم أم فاته الخالص.
٢٧٦
شفرة سورة اإلسراء
فإليك روسو نفسه يروي لك تجربته ،التي وصل بھا إلى ما يخرجه من
حيرته وتمزقه ،ويريح عقله ونفسه ،وبدأ منھا عقده االجتماعي:
"وھنا ومضت في عقلي فكرة ،سأقذف الشجرة التي تواجھني بحجر ،فإن
أصبتھا فأنا من الناجين ،وإن أخطأتھا فقد حاقت بي اللعنة ،وبيد مرتعشة
وقلب يرتجف قذفت الحجر ،ولسعادتي أصاب الحجر الشجرة في جذعھا ،وفي
الحقيقة لم يكن ذلك عسيراً ،فقد صوبت نحو شجرة غليظة الجذع وقريبة
مني ،ومنذ ذلك الحين لم اعد أشك في خالصي Never doubted of my
!!(١)"salvation
فالنتيجة التي وصل إليه روسو من تجربته العلمية المعملية الفذة ،وجعلھا
محور عقده االجتماعي وصلب دينه المدني ،ھي أنه إذا كان اإلله موجوداً ،فال
حرج على اإلنسان أن يفعل ما يشاء ،وال إثم عليه أن يشبع غرائزه ويسير خلف
ھواه!
ادلاروﻳﻨﻴﺔ واﳌﺎرﻛﺴـﻴﺔ
ومرة أخرى ،ال تتعجب حين نخبرك أن الماركسية والحتمية االجتماعية
والتاريخية ليست سوى فرع من الجذر البني إسرائيلي نفسه الذي نبتت منه
الليبرالية والعقد االجتماعي!
فكرة أن اإلنسان بدأ مسيرته على األرض مفارقا ً لإلله ،وبال وحي وال
إرشاد إلھي ،وأنه ھو الذي كون أفكاره وعقائده ،وابتكر أخالقه وقيمه ،ووضع
ضوابط عالقاته ،وأقام أنظمته االجتماعية واالقتصادية والسياسية متأثراً
بالظروف والمالبسات التي أحاطت به وبمسيرته ،التي أنتجت جان جاك روسو
وعقده االجتماعي ،ھي نفسھا التي أفرزت الماركسية والحتمية التاريخية.
٢٧٨
شفرة سورة اإلسراء
والمغارة التي ھبط على دارون فيھا وحي بني إسرائيل ،وفيھا انقدحت
شرارة التطور في رأسه وصاغ نظريته ،ھي محفل إنجلترا األعظم
فإليك نموذجا ً واحداً تتفجر من جوانبه آثار خريطة الوجود البني إسرائيلية
في الماركسية.
٢٧٩
شفرة سورة اإلسراء
أما في خريطة بني إسرائيل ،فاإلله ترك اإلنسان يبدأ مسيرته ھائما ً في
األرض ،ولذا فالزواج وتكوين األسر ابتكار اضطر إليه اإلنسان بحكم ما أحاط
به من ظروف ومالبسات في مرحلة من مراحل تطور البشرية.
والثمرة الحقيقية لما فعله بنو إسرائيل أنه ليس من حق أحد أن ينكر على
أحد ،ألنه ال قواعد ملزمة ،وال معيار للتمييز ،وال ميزان للعقل ،وما ابتكره
إنسان يمكن ان يبتكر إنسان آخر غيره ويغلفه في معسول الكلمات وزخرف
النظريات.
فإليك ثمرة عبث بني إسرائيل بخريطة الوجود مكتملة ناضجة في البيان
الشيوعي:
"نعم ،إننا نسعى إلى محو األسرة ،فھي تعتمد على المال والربح
الشخصي ،وال توجد إال في الطبقات البرجوازية ،فھل نُالم على أننا نريد أن
نمحو استغالل اآلباء لألبناء ،نحن نفخر بذلك ،ونقول :إننا نمزق ھذه العالئق
لنستبدل بالتربية العائلية التربية االجتماعية ،إن الشيوعية ال تبتكر ھذا
التدخل في التربية ،فالناس تخضع للظروف االجتماعية ،وتربي أوالدھا
بواسطة المجتمع وبمعاونة مدارسه ،نحن نريد فقط أن نغير من وجھة التعبير
)(١
االجتماعي ،وأن ننتزع األسرة من براثن الطبقة الحاكمة"
ﻣﺴﺎٔةل ا ٔﻻﻟﻮﻫﻴﺔ
علمت من قبل أن الغاية الحقيقية التي عبث من أجلھا بنو إسرائيل بخريطة
الوجود اإللھية ،بل ولكل ما حرفوه من الوحي ،ھي طمس مسألة األلوھية في
وعي البشر ،لكي يحتكروا اإلله والوحي.
فخريطة بني إسرائيل للوجود تقول إن اإلله موجود ،لكنھا بمكوناتھا وبنائھا
تغرس في وعي من يتكون بھا أن اإلنسان ھو الذي خلق اإلله بذھنه ،وأنه ھو
الذي ابتكر أفكاره عن اإلله وعقائده في األلوھية.
فإليك البرھان.
للمؤرخ البريطاني جيمس ھنري برستد كتاب افتتن به بعض األميين من
المصريين ،ممن ضربت تكوينھم ووعيھم الجرثومة البني إسرائيلية ،ألنه قال
فيه إن الضمير اإلنساني انبثق فجره في مصر.
وكتاب برستد :فجر الضمير نموذج مثالي ومتكامل على آثار الجرثومة التي
تكون علومھم
أطلقھا بنو إسرائيل في وعي البشر وفي فھمھم للوجود ،وعلى ﱡ
ومعارفھم بماء التحريف.
فالمؤرخ البريطانى قارن بين أنشودة أخناتون والمزمور الرابع بعد المائة،
وأيضا بين أمثال الحكيم المصرى القديم أمينوبى وسفر األمثال في العھد القديم،
وبين أمينوبى وكالم النبى إرميا فى السفر المسمى باسمه ،وبينه وبين موسى
التوراتي فى سفر العدد.
٢٨١
شفرة سورة اإلسراء
وما أراد برستد أن يصل إليه من ھذه المقارنات أسبقية العقائد والثقافة
واألخالق المصرية القديمة على التراث العبري ،وتسربھا إليه ،وظھورھا
وتأثيرھا فى عقيدة التوراة والعھد القديم وأخالقھا وقيمھا ،ومن ثَم إسھام الفكر
والعقائد المصرية القديمة في تكوين الغرب أو الحضارة اليھودية المسيحية.
وما لم يفطن إليه األميون ،ممن دغدغ كالم برستد مشاعرھم القومية
المراھقة وغيب وعيھم ،ھو أن برستد يتعامل مع التوارة التي أمامه كتراث
أدبي وفكري وتاريخي للجماعات العبرانية ،وليس كوحي سماوي.
فبرستد في :فجر الضمير يقوم يعملية بحث وحفر وتنقيب من خالل الطبقة
اليھودية اإلسرائيلية عما جعله عنوانا للفصل األخير فى كتابه" :مصادر إرثنا
الخلقي" ،لكي يعود بجذور عقائد الغرب وأخالقه إلى أقدم ما وصل إليه من
نصوص مكتوبة.
فلن تحتاج وأنت تقرأ الكتاب إلى من ينبھك أن ما يقصده برستد ويبحث عنه
ھو" :مصادر إرث الغرب الخلقي".
والنتيجة التى وصل إليھا برستد ھي إحدى ثمار التفسير التطوري للعقائد،
وھو المسلمة والفرضية الرئيسية التي أقام عليھا كتابه.
"الواقع إن نھوض اإلنسان إلى ال ُمثل االجتماعية قد حدث قبل أن يبدأ ما
يسميه رجال الالھوت بعصر الوحي بزمان طويل ،وأن ھذا النھوض نتيجة
الخبرة االجتماعية التي مارسھا اإلنسان بنفسه ،ولم يُزج إلى ھذا العالم من
٢٨٢
شفرة سورة اإلسراء
برستد ،كما ترى ،بعد أن أكد على نفي الوحي ،ح ﱠول األخالق وقواعد
االجتماع والعالقات بين البشر إلى ابتكارات ،ھم من ابتكروھا.
فإذا أردت أن تعرف من أين جاء برستد بھذا الذي قاله ،فھا ھو يخبرك
بنفسه:
"ليس من عالم مفكر إال ويشعر بقوة العھد القديم والدور األساسي الھام
الذي لعبه في تقدم المدنية الغربية ،غير أنه يجب علينا أن نعترف أيضا ً أن
)(٢
كتاب العھد القديم ال يخرج عن كونه سجالً لتجارب البشرية القديمة"
وأما النبع الذي أفسد عقل برستد ،وما ينھمر منه ھو الذي يتدفق في وعيه،
ويتحكم في كل ما يتكون فيه من فھم للوجود ،وما ينتجه من أفكار ونظريات
عن العقائد واألخالق واالجتماع ،ھو ومن على شاكلته جميعاً ،ليس سوى
جرثومة بني إسرائيل التي أطلقوھا في وعي البشر ،ورسخوھا بسيرتھم
وسلوكھم في عالمھم.
يقول برستد:
"ولقد كان سير اإلسرائيليين من عبادة آلھة عدة إلى عبادة إله واحد
)(١
لجميع العالم بطيئا ً وتدريجياً ،حتى لقد استغرق عدة قرون"
برستد وصل إلى ما وصل إليه وجعل األلوھية والتوحيد ابتكارات ابتكرھا
اإلنسان خالل مسيرته على األرض ،ألنه يرى الوجود ويفھم الحياة والتاريخ
والعقائد واالجتماع من خالل خريطة بني إسرائيل للوجود ،التي طمسوا فيھا
مسألة األلوھية وموھوھا بتلفيقات ،حولت الوجود اإللھي من حقيقة إلى أحد
ابتكارات اإلنسان ،وجعلت اإلنسان خالقا ً لخالقه.
فمن علمھا تكون بعلمه بھا وما تغرسه في وعيه ونفسه من أفكار ،وفي
تكوينه من مفاھيم وفھم للوجود ومكوناته والعالقة بينھا ،ومن لم يعلمھا تكون
بآثارھا في وعي رموز الغرب و َمن كونوا وعيه وتاريخه ،و ِمن سريانھا في ما
أنتجوه من مناھج ونظريات وفلسفات ،ومن علوم وآداب وفنون ،وفي ما أقاموه
من نظم سياسية وقوانين ،وما أنشأوه من مؤسسات إعالم وتعليم.
الغرب الحديث تكون بالنص وعليه ،وليس باسقاط النص كما توھم وما زال
يتوھم العلمانيون في بالد العرب ،وكما يعتقد من ينتقدونھم من اإلسالميين.
• ( التوراة ھي األسفار الخمسة األولى من العھد القديم ،والمقصود بھا ھنا العھد القديم كله ،من باب إطالق
الجزء على الكل.
٢٨٥
شفرة سورة اإلسراء
الذي سقط في الغرب في الحقيقة ليس النص ،الذي سقط وتم إزاحته من
وعي الغرب الحديث ھو الكنيسة ومسألة األلوھية.
وقد يبدو لك ھذا شيئا ً غريبا ً ويحتاج إلى تفسير ،كيف تك ﱠون رموز الغرب
وأعالمه ومن كونوا وعيه ورسموا مالمحه وسماته بنص مقدس يقول إن اإلله
موجود ،وفي الوقت نفسه أُسقط من وعيھم وتكوينھم مسألة األلوھية؟
تفسير ذلك أن رموز الغرب وأعالمه ومن كونوا مساره وصنعوا تاريخه
تكونوا بعالم النص وليس بتعاليم النص.
وبين تعاليم النص وعالم النص بون شاسع يحتاج إلى تجلية.
التوراة وسائر أسفار العھد القديم تحوي تعاليم وأوامر وإرشادات منسوبة
لإلله على ألسنة أنبياء بني إسرائيل ،ولكن نص التوراة والعھد القديم الذي يحمل
ھذه التعاليم واألوامر واإلرشادات ،ھو في حقيقته سيرة بني إسرائيل أو رواية
تحكي تاريخھم ،وھذه التعاليم تُروى في ثنايا تلك السيرة ،ومن خالل شخوصھا
وأبطالھا وأخالقھم وسلوكھم وما بينھم من عالقات.
فتعاليم العھد القديم محمولة على سيرة بني إسرائيل ،وتصل إلى المؤمن بھا
متناثرة من خالل أقوال أنبيائھم ،وھذه السيرة ھي بالضبط نقيض تلك األقوال
والتعاليم!
فالوصايا العشر التي أوصى بھا موسى بني إسرائيل يأمرھم فيھا اإلله:
٢٨٦
شفرة سورة اإلسراء
س ِرقْ١٦ .الَ الَ تَ ْقتُ ْل .الَ ت َْز ِن .الَ تَ ْ
١٥ ١٤ ١٣ ....
"٣الَ يَ ُكنْ لَكَ آلِ َھةٌ أُ ْخ َرى أَ َما ِمي
شتَ ِه ا ْم َرأَةَ قَ ِريبِكَ،
شتَ ِه بَيْتَ قَ ِريبِكَ .الَ تَ ْ
ش َھا َدةَ ُزو ٍر١٧ .الَ تَ ْ ش َھ ْد َعلَى قَ ِريبِكَ َ تَ ْ
َوالَ َع ْب َدهَُ ،والَ أَ َمتَهَُ ،والَ ثَ ْو َرهَُ ،والَ ِح َم َ
)(١
ش ْيئًا ِم ﱠما لِقَ ِريبِكَ "
ارهَُ ،والَ َ
ولكنھم في عالمھم وحياتھم وسيرتھم التي كتبوھا ونثروا بين تفاصيلھا ھذه
الوصايا ،افتروا على نبي ﷲ سليمان عليه السالم أنه جرى خلف آلھة زوجاته
الوثنيات وقدم لھا القرابين ،وعلى نبي ﷲ لوط عليه السالم أنه زنى بابنتيه،
وعلى نبي ﷲ يعقوب عليه السالم أنه غرر بأخيه عيصو وسرق منه البركة
وحق البكورية ،وعلى نبي ﷲ داوود عليه السالم أنه أرسل أوريا الحثي ،أحد
قواد جيشه ،للھلكة ،بعد أن زنى بامرأته ألنه يشتھيھا ويريدھا.
وما تمكنت الحركات السرية من تتويج كفاحھا عبر التاريخ به ،عبر تكوين
الغرب الحديث بعالم العھد القديم ،أزاح الكنيسة وھدم المسيحية وأسقط مسألة
األلوھية من وعيه وتكوينه ،وأحل محلھا جميعا ً بني إسرائيل وسيرتھم مقدسا ً
مركزياً ،ومحوراً يدور التاريخ حوله ،ويتحرك من أجله ،وفي اتجاه غاياته.
( ١خروج.١٧-١٣ ،٢٠:٣ :
٢٨٧
شفرة سورة اإلسراء
الحركات السرية كانت ھي القنوات التي تسلل بنو إسرائيل من خاللھا في
نسيج الغرب ،وتمكنوا من خاللھا ،وبامتصاص المواھب والطاقات والعقول
الخالقة في الغرب وتكوينھا في محافلھا ،من السريان في عقل الغرب
وأعصابه وشرايينه ومن السيطرة على مقاليده ومفاتيحه.
بنو إسرائيل تمكنوا عبر الحركات السرية من استيطان عقل الغرب ،وحولوه
إلى آله ھائلة يملكون مفاتيحھا وأزرارھا ،أو إلى حمار يستوطنون رأسه
ويمتطون ظھره ،ثم بعد أن صار زمامه في أيديھم وثبوا به إلى بالد العرب ،ال
لكي يستعمروھا كما فھم العرب وما زالوا يفھمون ،بل ليتمموا دورة اإلفساد في
األرض كلھا ،بإعادة تكوين بالد العرب بالتحريف عبر إعادة رسم خريطتھا
بمفتاح تصنيفھم للبشر القائم على الدماء واألعراق ،وعبر صنع ساستھا ونخبھا
وتكوين أذھانھم ونفوسھم بخريطتھم للوجود ،ليس بتعريفھم بھا وتعليمھم إياھا،
بل بتربيتھم على فحواھا وبث مضمونھا ومكوناتھا وآثارھا في وعيھم،
وبتحويلھا بسطوة السالح والجيوش إلى واقع حي ونسيج اجتماعي ،وإحالله
محل نسيج ھذه البالد األصلي ،عبر السياسات اإلدارية والقانونية واإلعالمية
والتعليمية ،وعبر القصص والروايات واألفالم والمسلسالت ،وعبر وضع
النخب المزورة التي صنعوھا بالتحريف على رأس ھذه المجتمعات وتسليمھم
مقاليدھا.
مرة أخرى ،ما يسميه العلمانيون في بالد العرب النھضة والعصر الحديث،
وما يصمه اإلسالميون بأنه غزو ثقافي ،لم يكن في حقيقته سوى غزو بني
إسرائيلي ،محوره وغايته إزاحة خريطة الوجود اإللھية من أذھان العرب
٢٨٨
شفرة سورة اإلسراء
تاريخ بالد العرب ،منذ حملة الماسوني نابليون بونابرت ،خالصته إزاحة
قصة الخلق القرآنية بقصة الخلق التوراتية ،ومفتاح التصنيف اإللھي بمفتاح
التصنيف البني إسرائيلي ،وھذه ھي الدورة الثانية من دورتي إفساد بني
إسرائيل في األرض كلھا وعلوھم الكبير.
٢٨٩
شفرة سورة اإلسراء
اﺧﺘﱪ ذﰷءك
واآلن ،وقبل أن نعرفك بدورة إفساد بني إسرائيل األولى ،وبطرف من
آثارھا ،نريد أن نختبر ذكاءك ،فأعد قراءة خريطة الوجود البني إسرائيلية وما
عرفناك به من آثارھا ومن تكونوا بھا ،ثم قارنه بما أتيناك به ،عند خريطة
الوجود اإللھية ،من فھم النخب في بالد العرب للوجود وما أنتجه ھذا الفھم من
أفكار وآثار ،ثم اختبر ذكاءك واختر إجابة للسؤال التالى:
٢٩٠
شفرة سورة اإلسراء
٢٩١
شفرة سورة اإلسراء
٢٩٢
شفرة سورة اإلسراء
فإليك اآلن طرفا ً من آثار حجب بني إسرائيل لخريطة الوجود اإللھية عن
البشر وبث تحريفھا في دورة اإلفساد األولى.
يعود أقدم نصوص الھندوسية ،وھو الريج فيدا ،Rig Vedaإلى منتصف
األلف األولى قبل الميالد تقريباً ،ولكن العقيدة الھندوسية ظھرت واكتملت
وتبلور ما يرتبط بھا من شعائر وطقوس ورموز في فترة تقع بين القرن الثالث
والقرن الثاني قبل الميالد.
والھندوسية تكاد تكون ديانة باطنية خالصة ،ومن غرائب الھندوسية أنھا
ديانة ال يُعلم لھا أصل محدد ،فال يُعلم من الذي صاغ أفكارھا وأسس عقيدتھا،
وال من الذي ابتكر طقوسھا وھيئاتھا ،وال من الذي وضع نصوصھا المقدسة.
٢٩٣
شفرة سورة اإلسراء
"تزدحم بھم مقبرة العظماء في الھند ،ولو أحصينا أسماء ھاتيك اآللھة
القتضى ذلك مائة مجلد ،وبعضھا أقرب في طبيعته إلى المالئكة ،وبعضھا ھو
)(١
ما قد نسميه نحن بالشياطين ،وطائفة منھم أجرام سماوية مثل الشمس"...
"إله واحد يتجلى في ثالث صور ،وال أحد منھم يوجد وحده أو ينفرد عن
)(٢
صاحبيه ،وكل منھم أول وآخر في الثالوث المقدس "Trimurti
"اإلله الواحد ،الذي خلق ھؤالء اآللھة الثالثة ويتجلى في صورتھم ،ھو
براھمان ،Brahmanالذي ھو حقيقة سامية سرمدية ،ال يحده زمان وال
مكان ،وال يعلم كنھه وال حقيقة ذاته أحد ،ولذا يسمونه أوم ،Aumأي:
)(٣
األسمى"
فأما براھما ،Brahmaفھو نفسه اإلله الخالق براھمان حين يتنزل من
سرمديته ويتحول من موجود سام فوق الحواس وإدراك البشر إلى موجود
ظاھر ويتشكل في صورة مدركة للبشر.
وأما شيفا ،Shivaفھو قوة الھدم ،التي تعمل على إفناء كل شئ ،وھو من
خلف كل صور التحلل في الوجود ،وھو اإلله القاسي على اإلنسان ويكره
أفكاره ويعمل على محوھا وإزالة آثارھا ،وعلى تخريب ما تصنعه يداه.
فإذا كنت واعيا ً ويقظا ً ربما انتبھت إلى ما بين الھندوسية والمسيحية من
وجوه شبه مثيرة ،بد ًءا من الصور أو األقانيم الثالثة إلله واحد ،مروراً بتجسد
اإلله في اإلنسان أو التجلي في صورته ،وصوالً إلى خالص اإلنسان من خالل
ھذا التجسد.
وقد تھمس لنفسك وأنت تفسر وجوه الشبه ھذه :ربما يكون ھذا ألن المسيحية
تأثرت بالعقيدة الھندوسية ،أو ألن الھندوسية اقتبست في مراحل تالية على
ظھورھا من المسيحية.
٢٩٥
شفرة سورة اإلسراء
فأما إن كنت من أھل الوحي فستكون إجابتك بالبداھة والفطرة :بل ألن كالً
منھما خرج من المعين نفسه ،ونبت من البذرة نفسھا ،والذي بذرھا ورواھا ھو
ھو.
وإذا كنت أكثر وعيا ً ويقظة ،فستفطن وحدك إلى أن العقيدة الھندوسية ،التي
تفصل بين األلوھية والربوبية ،أو تميز في األلوھية بين الخلق وبين الرعاية
والعناية ،ليست سوى نسخة من خريطة الوجود البني إسرائيلية مع قليل من
التحوير!
فمجتمع اآللھة ھنا ھو نفسه الذي ھناك ،وبراھما ،اإلله الذي خلق ،والذي ال
تُعلم حقيقته وال صفاته ،ھو أدوناي في سفر التكوين ،وشيفا ھو مزيج من
أدوناي الذي حرﱠم المعرفة على اإلنسان ويسعى لسلبه إياھا ،ومن يھوه القاسي
العنيف في سفر الخروج.
وأما فشنو الھندوسي فھو نفسه الشيطان الذي أحب اإلنسان ووھبه المعرفة
في خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وھو نفسه لوسيفر أو اإلله اآلخر في القبااله
والحركات السرية الغربية التي تكونت بھا.
وكما أنه يحرم أن ينطق أحد اسم يھوه إال الحبر األعظم في قدس أقداس
الھيكل ،يحرم نطق أوم ،اسم الموجود األسمى والحقيقة السرمدية براھمان إال
لكبير الرھبان الھندوس في قدس أقداس المعبد ،ولذا ال يُعرف على وجه التحديد
النطق الصحيح لھذا ،كما ال يعرف النطق الصحيح لذاك.
٢٩٦
شفرة سورة اإلسراء
وألن الحية ،في خريطة الوجود البني إسرائيلية ،ھي رمز الشيطان ،أو
تشكل في صورتھا الشيطان وتسلل إلى جنة عدن ،ليغوي حواء باألكل من
الشجرة ،ويدل اإلنسان على المعرفة ،فقد استحالت في الھندوسية إلھا ً معبوداً،
وألن ھذا اإلغواء تحول في بعض ما تفرع عن ھذه الخريطة ،كما قد علمت،
إلى إغواء جنسي ،فقد صارت الحية عند الھندوس رمز الفحولة وقرين القدرة
الجنسية!
وفي شمال الھند يؤدي الھندوس في المعابد ،إلى يومك ھذا ،طقوس العبادة
عند تماثيل لحية ھائلة اسمھا :نيجاراجا ،Nagarajaويقولون إنھا أم الحيات،
وكانت موجودة عند بدء الخليقة ،واشتركت في الخلق ،وھي إحدى الصور أو
األشكال Avatarالتي يتجلى في صورتھا الموجود األسمى.
وأما في جنوب الھند وشرقھا فيعبدون الحيات الحية الحقيقية ،ويسمونھا ناجا
،Nagaوھي كلمة معناھا في السنسكريتية :الموجود أو الكائن ،ويقيمون
المعابد إليوائھا وأداء طقوس العبادة عندھا.
وإذا حدث وماتت إحدى الحيات وعثروا عليھا ،يتم دفنھا في طقوس وموكب
احتفالي يتقدمه الرھبان الھندوس يحملونھا فيه إلى ضريحھا المقدس!
٢٩٧
شفرة سورة اإلسراء
قد علمت من قبل أن بيان ﷲ عز وجل إلى خلقه أخبرنا بخريطة الوجود
الحقيقية وألح في تكرار تفاصيلھا ،ألن خريطة الوجود ،على أي صورة كانت،
ھي التي تحكم وعي البشر وتتحكم في كل ما يتكون فيه وتصبغ كل ما ينتجه،
والذي يتكون وعي البشر وفھمھم للوجود بخريطته ھو في الحقيقة من يُسيﱢرھم
ويتحكم في كل ما تفرزه عقولھم من آثار في الحياة.
فإذا رأيت تشابھا ً بين األمم والشعوب ،أو بين األزمان واألماكن ،في األفكار
والمعتقدات ،أو في القيم واألخالق ،أو في االجتماع والسلوك ،أو في العالقات
والشرائع ،فاعلم أن ذلك ليس ألن التاريخ يكرر نفسه ،وال ألن ھذا أخذ من
ذاك ،وھو ما يعتقده األميون ويوجھون عنايتھم نحوه ،بل ألن النبع الذي كون
وعي ھذا وذاك واحد ،وألن الصبغة التي تصبغ ما ينتجه كل منھما وتسري في
آثاره في البشر والمجتمع والحياة ھي ھي.
بعد أن علمت التشابه ،بل التطابق بين الھندوسية وخريطة الوجود البني
إسرائيلية ،لن تعجب حين تعرف أن آثار ھذه ،في القيم واألخالق واالجتماع،
كآثار تلك.
ألن اإلنسان في خريطة الوجود الھندوسية ،كما في أمھا اليھوديةُ ،وجد على
األرض ،بعد أن خلقه براھما ،مقطوع الصلة باإلله ويسير فيھا ويصنع عالمه
وحده بال وحي وال إرشاد ،فھو غير مطالب بشئ ،وال معنى محدداً ألي قيمة أو
إلزام بأي ُخلق ،وكل شئ مقبول ،فال فضيلة وال رذيلة ،والفصل بينھما متروك
لكل شخص وما يستلھمه من تأمالته ،وميزان أي فعل يفعله اإلنسان تحقيقه
ألھوائه وإشباعه لرغباته ،ورضاه ھو نفسه عنه.
٢٩٨
شفرة سورة اإلسراء
نعم!
الوجود البني إسرائيلية وتكوين العالم بھا في دورة اإلفساد الثانية ،التي بدأت
من بعد نزول القرآن وتوشك أن تصل إلى تمامھا في زمانك ھذا.
٣٠٠
شفرة سورة اإلسراء
اﻟﻬﻨﺪوﺳـﻴﺔ واﻟﻘﺒﺎﻻﻩ
علمتَ أن اإلله براھمان في الھندوسية ھو الذي خلق اإلنسان والموجودات
كلھا ،ولكنﱠا لم نخبرك كيف خلقھا.
"ھو الذي َولد Generatedاآللھة ،وھو الذي ولد العالم كله ،والكون
)( ٢
كله فيه ،براھمان سفينة تحتوي الوجود كله واألشياء كلھا"
فإليك كيف خلق براھمان الموجودات ،أو كيف أخرجھا من داخله إلى العالم
المنظور.
عندما حلت باإلله براھمان رغبة أن يخرج الموجودات التي في داخله ،أخذ
يتأمل عميقاً ،فانبثق منه ماء ،وباستمراره في التامل انبثقت منه أو صدرت عنه
بذرة ،تحولت إلى بيضة صفراء ،Sarva Mandalaفي داخلھا أول
الموجودات والتجلي األول لإلله براھمان ،وھو اإلله براھما.
1 ) Hinduism,P86.
2 ) Hindu Mythology, P43.
٣٠١
شفرة سورة اإلسراء
ثم انفجرت البيضة وخرج منھا اإلله براھما ،ليتمم الخلق ،وأيضا ً بالتفكير
والتأمل العميق ،فمن تأمله تكونت الكواكب والنجوم الجبال والبحار واألنھار
واإلنسان والمخلوقات كلھا.
وبراھما ،اإلله المخلوق من اإلله براھمان ،والخالق لكل شئ بعد ذلك ،حتى
اإلله فشنو واإلله شيفا ،له في الفيدا ھويتان أو طبيعتان يمتزجان معا ً إحداھما
ساكنة واألخرى نشطة ،فالنشطة منھما:
1 ) Hinduism,P86
٣٠٢
شفرة سورة اإلسراء
فاعلم أن قصة الخلق الھندوسية التي قرأتھا ليست ھي األخرى سوى نسخة
من قصة الخلق القبالية ،وأيضا ً مع قليل من التحوير!
فأما اإلله نفسه فيتكون اسمه من أربعة حروف عبرية تسمى الرباعي
المقدس ،Tetragrammatonوھي :يود ،Yodوفاف ،Wawويود ،Yod
وھي ،Heوالحروف األربعة تكتب مرتبة في نسق معين داخل مثلث)•( ،ھو
بأضالعه الثالثة رمز الصفات الثالث التي ھي جوھر األلوھية وال تنفصل
1 ) Hinduism,P90.
• ( انظر كيف يكتب اسم اإلله في القبااله في ملحق الصور.
٣٠٣
شفرة سورة اإلسراء
ولكن ألنه يحرم نطق اسم اإلله األعظم ،يطلق على الرباعي المقدس اسم
رمزي ،ھو عين صوف ،Ein Sofوھي كلمة معناھا الممتد والالمتناھي ،ألن
اإلله ال يمكن إدراك ذاته ،فھو:
"مطلق ،Absoluteبال جوھر وال مادة ،وال وصف له ألن الوصف يدنسه
،Defile itوالمادة والكون واإلنسان كلھا في داخله بال صورة وال ھيئة،
وتمثله دائرة ھي رمز الخلود ،فھذه البيضة الكونية Kosmic Eggتحوي
)(١
الوجود كله فيھا ،والخلق والفناء يحدث في داخلھا وال شئ خارجھا"
فبراھمان الھندوسي ھو نفسه عين صوف القبالي ،بل ومعنى اسمھما واحد،
والبيضة التي خلق منھا براھمان الكون والمخلوقات باضتھا القبااله في
الھندوسية ،وأضالع المثلث الثالثة ،التي يتجلى فيھا جوھر عين صوف
القبالي ،ھي نفسھا الثالوث المقدس الذي يتشكل فيه براھمان الھندوسي،
فالوجود والحضور ھو براھما ،والمعرفة واإلحاطة فشنو ،والقوة والقدرة شيفا.
٣٠٦
شفرة سورة اإلسراء
ولذا يصور اإلنسان األول أو آدم القديم ،في القبااله ،مرسوما ً على شجرة
التجليات اإللھية ،وكل عضو فيه يناظر صفة أو تجليا ً من تجليات الذات ،ويقع
في داخل البلورة النورانية التي انبثق منھا ،وفي الوقت نفسه يناظر جز ًءا من
) •(
الكون
وأصل ذلك في القبااله ،أن ثمة أربعة عوالم ،أو أربعة مستويات من
الوجود ،وكل عالم أو مستوى تمثله سيفيروت أو شجرة حياة ،فأوالھا ھي الذات
اإللھية ،وآخرھا العالم المنظور واإلنسان المخلوق.
"العمود األيمن من الكرات يمثل صفات اللين واألنوثة ،والعمود األيسر ھو
صفات الشدة والذكورة ،وكرات العمود األوسط ھي االتزان بينھما ،والجانب
)(١
المؤنث ھو الشخيناه"
وألن آدم السماوي أو القديم كان في داخل اإلله قبل أن يخرج منه ،فھو أيضا ً
كانت تمتزج فيه الذكورة واألنوثة ،أو ال تتميز فيه وال تنفصل ھذه من تلك.
ومساواتھا التامة بالرجل ،التي تولى من صنعوا ھذه الخريطة بثھا في وعي
البشر أينما وجدوا وحيثما حلوا .
سلﱠطُونَ َعلَى َ
شبَ ِھنَا ،فَيَتَ َ سانَ َعلَى ُ " َوقَا َل ﷲُ :نَ ْع َم ُل ِ
اإل ْن َ
٢٦
س َم ِك ورتِنَا َك َ
ص َ
س َما ِء َو َعلَى ا ْلبَ َھائِ ِمَ ،و َعلَى ُك ﱢل األَ ْر ِ
ضَ ،و َعلَى َج ِم ِ
يع ا ْلبَ ْح ِر َو َعلَى َ
ط ْي ِر ال ﱠ
ورتِ ِهَ ،علَى
ص َسانَ َعلَى ُ
اإل ْن َ ض٢٧ .فَ َخلَ َ
ق ﷲُ ِ ت الﱠتِي تَ ِد ﱡب َعلَى األَ ْر ِ ال ﱠدبﱠابَا ِ
)(١
ور ِة ﷲِ َخلَقَهَُ ،ذ َك ًرا َوأُ ْنثَى َخلَقَ ُھ ْم"
ص َ ُ
ومترجم الكتاب المقدس ،في ھذه الترجمة الرسمية ،وضع لفظ الجاللة مكان
كلمة :إلوھيم Elohimفي األصل العبري ،والتي تدل على الجمع وتعدد
اآللھة ،كما يفعل المترجمون في كل اللغات لكي ال يصدموا المؤمنين بدياناتھم
التي يسوقونھا على أنھا توحيدية.
( ١تكوين.٢٧-٢٦ :١ :
٣٠٩
شفرة سورة اإلسراء
التكوين إنه شرع في خلق اإلنسان" :على صورتنا كشبھنا" ،فتامل في
صمت كيف تحولت في الترجمة كلمة إلوھيم العبرية التي توحي بالتعدد إلى
كلمة إله Godالتي تدل على الوحدانية وانتفاء التمييز الجنسي ،إن صيغة
الجمع ھذه تعني بال مواربة تعدد اآللھة ،وألن اإلنسان حين خلقه إلوھيم،
وقبل أن يُخ ِرج منه المرأة ،لم تكن قد تميزت فيه بع ُد الذكورة عن األنوثة،
فالعبارة التي تقول إن إلوھيم خلقه" :على صورتنا كشبھنا" ،ھي ضربة
قاتلة deathblowللعقيدة المقدسة عبر األزمان في ذكورة اإلله ،والتي
)(١
صورھا مايكل أنجلو في سقف كنيسة سستين"
وألن الھندوسية ھي نفسھا القبااله ،فآثار ھذه ،في العبادة واألخالق ،بالضبط
كآثار تلك.
ألن اإلنسان في الھندوسية والقبااله ،معاً ،كان متوحداً مع الكون كله داخل
اإلله ثم انبثق من اإلله أو صدر عنه ،فاإلله ونفس اإلنسان وجوھر الكون شئ
واحد ،وبينھا ممرات وقنوات تصل بينھا وتسبح ھي حرة فيھا ،وقد تكون خاملة
ويمكن تنشيطھا ،ويمكن لإلنسان أن يشحذ طاقته النفسية والذھنية ويرتقي
بالروح ،التي ھي آتمان Atmanفي الھندوسية ،وروح Ruachفي القبااله،
إلى ان يصل بھا إلى مرتبة من التطھر والسمو تتحرر بھا من قيود الجسد
المادي الفيزيائي ،وتعود إلى التواصل مع اإلله واالتصال بالكون.
وإذا وصل اإلنسان إلى ھذه الحالة السماوية السامية التي كان عليھا قبل أن
يخرج من اإلله وينفصل عن الكون ،حل فيه اإلله أو عاد ھو إلى التوحد باإلله،
براھمان الھندوسي أو عين صوف القبالي ،وإلى االمتزاج بالكون ،وھذه الحالة
السرمدية العليا ھي الموكشا Mokshaفي الھندوسية ،والنرفانا Nirvanaفي
البوذية ،والدفيقوت Devekutالقبالية.
وألن خلق اإلنسان والكون كان باالنبثاق والفيض من اإلله عبر التأمل
العميق ،فالوصول إلى حالة الطھارة النفسية والنقاء العقلي ،والعودة للتوحد
باإلله واالمتزاج به ھي أيضا ً بالسكون في الھيئة التي كان عليھا اإلله حين
خلق ،وبالتأمل العميق الذي خلق به ،وھذا التأمل العميق في سكون كاإلله ھو
في الھندوسية دھايانا ،Dhyanaوفي البوذية بھافانا ،Bhavanaوفي القبااله
كافاناه .Kavanah
٣١١
شفرة سورة اإلسراء
فإذا كان بك فضول إلى أن تعرف ھذه الھيئة التي يتأمل فيھا اإلنسان لكي
يعود للتوحد باإلله والسياحة في الكون ،فاذھب إلى أي حديقة أو ميدان في أي
عاصمة أو مدينة كبرى من عواصم بالد العرب ومدنھا ،وسوف ترى بعض
األميين منھم جالسين فيھا.
والموكشا ،أو التطھر النفسي والنقاء العقلي الذي يعود به اإلنسان للتوحد
باإلله ،ھي إحدى غايات الحياة الھندوسية األربع.
ألن اإلله في الھندوسية ،كما قد علمت ،تجتمع فيه الذكورة باألنوثة ،وألن
اإلنسان وھو في داخل اإلله وقبل أن يصدر عنه كانت تمتزج فيه الذكورة
باألنوثة ،فممارسة الجنس والطقوس الجنسية ھي إحدى طقوس العبادة ووسائل
التطھر النفسي والنقاء العقلي التي يصل بھا اإلنسان إلى الموكشا ويتوحد باإلله.
٣١٢
شفرة سورة اإلسراء
ألن شجرة الحياة القبالية التي تمثل الذات اإللھية تمتزج فيھا الذكورة
باألنوثة وال تمييز بينھما ،وآدم السماوي القديم مثلھا وعلى صورتھا وھيئتھا،
فاتحاد الرجل بالمرأة في الممارسة الجنسية يضعھما معا ً في الصورة السماوية
وحالة الكمال التي كانا عليھا قبل الصدور عن اإلله ،ومن ثَم يؤھلھما لالرتقاء
والعودة للتوحد باإلله واالندماج فيه مرة أخرى.
وألن القبااله ھي ينبوع الحركات السرية ،فقد تحولت فكرة ارتقاء اإلنسان
الروحي وتوحده باإلله ،عبر اتحاد الرجل بالمرأة اتحاداً جنسياً ،إلى طقس علني
له شعائر موقرة في الحركات السرية وجمعيات عبادة الشيطان وممارسة
السحر ،وھو ھيروس جاموس Hieros Gamosأو طقس االتحاد المقدس.
ﱠ
تلفت حولك في فإذا نظرت أمامك في الصحف والمجالت والشاشات ،أو
النوادي والشواطئ والجامعات ،أو انتبھت إلى ما يحدث في الشوارع وأماكن
٣١٣
شفرة سورة اإلسراء
العمل والحافالت ،فستدرك أنك تعيش في عالم القبااله والدنيا التي صنعتھا
خريطة الوجود البني إسرائيلية.
أما إذا غلبك الفضول وأردت أن تتعرف على عقائد القبااله ،وما يرتبط بھا
من طقوس ،وممارسة السحر ،واستحضار الجان ،ومن أفكار عن الطالسم
وفكھا ،والسفر بين األزمان ،واالنتقال بين عوالم الموتى وعوالم األحياء ،فليس
عليك إال أن تفتح التلفاز وتشاھد األفالم التي تعرضھا قنوات األكشن العربية
بعد منتصف الليل!
٣١٤
شفرة سورة اإلسراء
وأما القباليون وأبناء الحركات السرية أنفسھم ،وھم ،حقاً ،موسوعيون وأكثر
إحاطة بتواريخ الشعوب واألمم ،ووعيا ً بالمؤثرات واآلثار المتبادلة بينھا ،فقد
فطن بعضھم إلى ھذا التشابه الشديد بين الھندوسية وخريطة الوجود البني
إسرائيلية والعقيدة القبالية.
٣١٥
شفرة سورة اإلسراء
ما استدلت به بالفاتسكي أن التوراة تك ﱠون نصھا الحالي ،الذي ھو دمج بين
ثالثة نصوص سابقة ،في بداية األلف األولى بعد الميالد ،والزوھار وبقية أسفار
القبااله ظھرت مكتوبة في التاريخ في بداية األلف الثانية بعد الميالد ،بينما
نصوص الھندوسية ُدونت في منتصف األلف األولى قبل الميالد ،والھندوسية
اكتملت عقيدتھا وتبلورت طقوسھا قبل الميالد بقرنين أو ثالثة.
والنتائج التي وصلت إليھا بالفاتسكي مقلوبة ،ألن الفرضيات التي بدأت منھا
خاطئة ،وھي خاطئة ألنه يحكمھا فيھا خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وما تعمد
بنوا إسرائيل بثه في سيرتھم من أضاليل ليموھوا الوحي فيھا ويضللوا البشر
عنه.
فكل ما تقوله بالفاتسكي ،في كتابھا ھائل الحجم ،ليس سوى استنباطات من
خريطة الوجود البني إسرائيلية ،بناءات عليھا ،أو استطرادات لھا ،أو ابتكارات
عليھا وتفريعات منھا ،بل وعناوين فصول كتابھا ھذا كله ليست سوى أسماء
عناصر الجرثومة البني إسرائيلية.
٣١٧
شفرة سورة اإلسراء
ى ھذه
ونكاد نسمعك تھمس لنفسك وأنت تقرأ العبارة اآلنفة :لقد مرت عل ﱠ
العبارة من قبل ،أين ترى؟
نعم ،قرأت عبارة شبيھة لھا عند خريطة الوجود اإللھية ونحن نبين لك آثار
تحريفھا في تكوين الدكتورة نوال السعداوي ووعيھا وما أنتجه ھذا التكوين
والوعي المختل.
وعبارتنا ھنا تشبه عبارتنا ھناك ،ألن نوال السعداوي ھي نفسھا ھيلينا
بالفاتسكي ،والفرق بينھما أن بالفاتسكي قبالية بالوعي واإلرادة والقصد ،ونوال
السعداوي قبالية بالتقليد ومحاكاة من استغفلوھا ودسوا القبااله في رأسھا
وفَ ْيرسوا تكوينھا بھا.
فإليك أوالً مثاالً أوضح على ما يحدثه فقدان الوحي مصدراً للمعرفة من
تخبط وتيه وضالل عن الحقائق ،وتوھم الحقائق في األباطيل ،يساعدك على أن
تصحح فرضيات ھيلينا بالفاتسكي وتعتدل أمامك النتائج.
تعلم من بيان ﷲ إلى خلقه أنه عز وجل ھو الذي أحى إلى أم موسى عليه
السالم أن تلقيه في اليم ،ألنه سبحانه أراد لموسى أن يكون من المرسلين ،ولبني
إسرائيل أن يكونوا أمة الوحي التي تتلقاه وتتكون به وتبلغه:
٣١٨
شفرة سورة اإلسراء
ولكن في السيرة المقدسة خلط بنو إسرائيل قصص الوحي بسيرتھم الضالة،
وبما ابتكروه أو جمعوه من حكايات ،فلم يعد احد يستطيع أن يميز ھذا من ذاك
أو يفصل بينھما ،سوى الطائفة منھم التي تحوز األصل وتتوارث ما فيه من
حق.
فإليك فرضية بالفاتسكي من أين جاءت قصة موسى عليه السالم وإلقائه في
اليم:
"إن قصة الفرعون والنھر الكبير والصبي الذي وجد طافيا ً في تابوت
ليست قصة موسى وال ھو الذي ألفھا ،فأصلھا في قطع الفخار Tilesالبابلية
سرجون Sargonالذي كان يعيش قبل
التي عُثر عليھا ،وتحوي قصة الملك َ
موسى بأزمان بعيدة)• ( ،ففي كتابه :آسيا قديما ً ،Assian Antiquities
يقول مستر جورج سميث " :George Smithفي قصر سنحاريب
Sennicheribفي كويونجيك Kouyunjikوجدت قطعة أخرى بھا جزء
من تاريخ سرجون المثير ،وال شك أن عزرا Ezraقد أضاف قصة سرجون
إلى قصة موسى ،وأنه ال يمكن أن يكون جاھالً باألصل ،وفي لوح الفخار الذي
وجدته في كويونجيك نقرأ العبارات اآلتية -١ :أنا سرجون ملك أ ﱠكاد Akkad
( ١القصص.٧:
• ( موسى عليه السالم كان قبل سرجون بعدة قرون ،وبالفاتسكي تخلط في عبارتھا بين موسى الذي أتى
بالتوراة وبين عزرا الذي كتب أسفارھا ،فعزرا ھو الذي بعد سرجون.
٣١٩
شفرة سورة اإلسراء
القوي -٢أمي كانت أميرة ولكن أبي ال أعلم من ھو -٣في مدينة أزوبيرانو
Azupiranoعلى شاطئ نھر الفرات -٤حملت بي أمي ثم وضعتني -٥ثم
في تابوت من القش وضعتني ،وبالقار Bitumenأغلقته -٦ثم في النھر
)(١
قذفتني -٧فحملني النھر إلى أكاد ،والساقية Water carrierالتقطتني"
وھكذا ،وبجمع قطعة فخار من ھنا مع قطعة فخار من ھناك ،ورتق لفافة
بأخرى ،صنع أبناء خريطة الوجود البني إسرائيلية ،ومن تحكم وعيھم مكوناتھا
وآثارھا ،التواريخ القديمة للبالد التي بين النيل والفرات ،واعتبروا أن ما
صنعوه بلصق قطع الفخار ھو الحقيقة المطلقة!
ثم تبعھم في ذلك األميون في بالد العرب ،ممن كون وعيھم وصنع أذھانھم
ونفوسھم وصول خريطة التحريف وآثارھا إلى ھذه البالد ،لتتم بھذا الوصول
وھذا التكوين وھذه الصناعة دورة اإلفساد البني إسرائيلي الثانية)•(.
وما لم تخبرك به بالفاتسكي ،أن ال ِغراء الذي لصق به أسرى سيرة بني
إسرائيل المقدسة قطع الفخار ،والنماذج التي جمعوا ھذه القطع معا ً لتحاكيھا،
أتوا بھا من ھذه السيرة التي ھم عبيدھا ،والتواريخ التي أقاموھا بلصق ھذه
القطع إنما صنعوھا لتكون مطابقة لما فبركه بنو إسرائيل فيھا.
وكما ترى ،القباليون واألميون ،غربا ً وشرقاً ،أسرى خريطة بني إسرائيل
للوجود ومن عبيد سيرتھم القدسة ،وكل من حُجبت عنه خريطة الوجود اإللھية
أو ضل عنھا ھو ،تلقائيا ً وبالضرورة ،كما البد تدرك اآلن ،من أسرى بني
إسرائيل وعبيدھم ،وھم من يحكمون بخريطتھم وسيرتھم وعيه ،ويتحكمون في
كل ما يكونه وما يفرزه ،ألن من ال يعرف الخريطة الحقيقية ففي أي اتجاه يسير
ال ريب تائه.
فاآلن إن كنت ممن يُغشي أعينھم ويدور بعقولھم زخرف قول ھؤالء
القباليين وبھرج نظريات أتباعھم من األميين ،وما يفترضونه ويخمنونه من
لصق قطع الفخار عندك ھو الحق ،وتؤمن أن موسى ليس إال سرجون البابلي،
فلن تفقه شيئاً ،ولن تتصحح في عقلك فرضية وال تعتدل نتيجة ،وال نملك إزاءك
إال أن ندعو ﷲ لك بالشفاء.
وأما إن كنت ممن ال يذھله تشقيق الكالم وحشوه بالعبارات الخالبة واألفكار
المثيرة والكلمات األعجمية عن أن ﷲ عز وجل ھو الحق وھو وحده عالم
الغيوب ،وأن وحيه ھو الفرقان والمعيار والميزان ،وأن موسى ھو نبي ﷲ
الكليم ،فإليك كيف تكون الفرضيات والنتائج في نور مصدر المعرفة المطلق
وبيان ﷲ عز وجل إلى خلقه.
فإليك الدليل على سبق خريطة الوجود البني إسرائيلية والقبااله ،في الوجود،
للھندوسية ،ومن بالفاتسكي نفسھا التي تقول إن القبااله أخذت من الھندوسية:
ثانياً :خريطة الوجود البني إسرائيلية وتراثھم الباطني في القبااله يجتمع فيھا
كل ما تفرق في األمم والشعوب والثقافات والحضارات ،فيوجد شبيه لكل وجه
أو مكون من وجوه خريطة الوجود البني إسرائيلية ومكوناتھا ،أو لما في القبااله
من أفكار وطقوس وممارسات ،في عقائد كل أمة أو في أساطيرھا وتراثھا،
ولكن ھذه الخريطة والقبااله تنفرد بجمع كل الوجوه والمكونات معاً.
فبعضٌ من وجوه خريطة بني إسرائيل للوجود ومن أفكار القبااله وطقوسھا
وآثارھا قد رأيته في الھندوسية ،وسوف ترى بعضا ً آخر في اإلغريقية ،وبعضٌ
ثالث تراه في طقوس استحضار الجان وفك الطالسم وممارسة السحر والتنجيم
التي شاعت في بالد العرب ،قديما ً وحديثاً.
والكتب التي تشرح ھذه الطقوس والممارسات ،سواء منھا ما طبع مثل
كتاب :شمس المعارف للبوني ،أو ما ھو مخطوط ولم يطبع مثل كتاب :السحر
األسود ،وكتاب :القبة اإلبليسية في األعمال السفلية ،ليست سوى شذرات من
كتاب :مفاتيح سليمان ،Clavicula Salomonisالذي ظھر مطبوعا ً في
أوروبا ألول مرة بالالتينية سنة ١٦٨٦م.
• ( انظر في ملحق الصور غالف الطبعة األولى من كتاب :مفاتيح سليمان ،والصفحة األولى من كتاب السحر
األسود.
٣٢٣
شفرة سورة اإلسراء
فليس أمامنا وأمامك اآلن إال فرضيتان :إما أن بني إسرائيل ھم المنبع
والمصدر ،وخريطتھم للوجود ،بعناصرھا وآثارھا في الوعي ،ھي الروافد التي
تكونت بسريانھا في األمم والشعوب ،مع بعثرة بني إسرائيل في األرض،
الوثنيات والفلسفات والخرافات واألساطير ،أو أنھم جمعوھا من األمم
والشعوب ،وكانوا ھم وخريطتھم المصب الذي صبت كلھا فيه.
فبعض مكونات خريطة الوجود البني إسرائيلية ال وجود لھا وال نظير في
تراث أي أمة ،كما عرفت من تنقيب السير جيمس فريزر عن شجرة المعرفة
وشجرة الحياة ،وفشله في العثور على شبيه لھما ،مما اضطره للف والدوران
وضرب الودع إلثبات فرضياته األمية.
٣٢٤
شفرة سورة اإلسراء
وفي الوقت نفسه من خصال بني إسرائيل الذھنية والنفسية االنبھار بالوثنيات
وجمعھا ومحاكاتھا وزخرفتھا وإعادة بثھا.
ONMLKJIHGFEDCBA
)(١
U TSRQP
وأما جمعھم لھا وزخرفتھا وإعادة بثھا في األمم والشعوب ،فيخبرك به بيان
ﷲ عز وجل في قوله:
والمسألة الفيصل بين بيان اإلله عز وجل إلى خلقه وبين ما يقوله القباليون
واألميون ،أن بيان اإلله يخبرك أن ھذه الطائفة من أھل الكتاب تفعل ذلك عمداً
وقصداً ،وھي تعلم الحق وتكتمه.
( ١األعراف.١٣٨:
( ٢النساء٥١:
٣٢٥
شفرة سورة اإلسراء
فالقبائل واألمم والشعوب والثقافات قد تنتج الوثنيات أو الضالالت عفواً
لحجب الوحي عنھا وجھلھا به ،ولكن ھذه الطائفة من أھل الكتاب ھي التي
تنشرھا وتبثھا في البشر ،وتصنع لھا النظريات ،وتقيم بھا الفلسفات ،وتُكسبھا
األغلفة العلمية التي تُسوقھا فيھا.
بيان ﷲ عز وجل يخبرك بحقيقة لن تقدرھا حق قدرھا ،بل ولن تراھا أو
تدركھا أصالً إال إذا أوتيت علما ً بسيرة الحركات السرية وآثارھا في العالم
وصلتھا ببني إسرائيل.
٣٢٦
شفرة سورة اإلسراء
وھو ما من أجله اختص اإلله عز وجل مصر القديمة ،من بين ممالك
األرض وإمبراطورياتھا كلھا ،بالذكرفي بيانه إلى خلقه ،ثم لم يذكر من تاريخھا
إال ما يتصل ببني إسرائيل ويلتقي بسيرتھم!
٣٢٧
شفرة سورة اإلسراء
والفرع من الفيدانتا الذي يرتبط باإلله فشنو ،كغيره من الفروع ،تكونت به
وحوله تنظيمات وحركات ،لھا طقوس ودرجات ومراتب وأساتذة عظام مثل
الماسونية والحركات السرية الغربية.
٣٢٨
شفرة سورة اإلسراء
ولمنظمة راما كريشنا وجمعية الفيدانتا ما يربو على مائة وخمسين فرعاً،
تنتشر في الھند وأوروبا والقارة األمريكية ،تعلم الفيدانتا وعقيدتھا وتدرب
أعضاءھا على طقوسھا.
وألن فشنو الھندوسي ،كما ترى ،ھو نفسه شيطان خريطة الوجود البني
إسرائيلية ،وھو نفسه لوسيفر القبالي ،ونسل فشنو من الھندوس ھم أنفسھم نسل
لوسيفر من الماسون ،فقد مزج حبر الماسونية األعظم اليھودي ألبرت بايك بين
الفيدانتا والقبااله ،وجعل شروح سوامي فيفيكاناندا على الفيدا فلسفة للدرجة
الثانية والثالثين من الماسونية االسكتلندية ،درجة أمير السر الملكي Prince of
.Royal Secret
٣٢٩
شفرة سورة اإلسراء
ثم ،وھي تتنقل مع أبيھا في بلدان أوروبا ،التقت سنة ١٨٥١م ،وھي في
العشرين من عمرھا ،معلمھا ومرشدھا الروحي كوت ھومي Koot Hoomi
في لندن ،ثم ارتحلت معه إلى الھند واستوطنتھا عدة سنوات ،حيث فتح أمامھا
مرشدھا معابد الھندوسية ،فتلقت تعاليم الفيدانتا ومارست ما يرتبط بھا من
طقوس على يد مرشدھا ونخبة من الرھبان الھندوس.
وفي أخويتھم ھذه ،قام مؤسسوھا الثالثة بالمزج بين أفكار منظمة
اإلليوميناتي Illuminatiاأللمانية وبين فلسفة الفيدانتا الباطنية الھندوسية،
وجعلوا تنظيم ھذه كتنظيم تلك ،بل واسم أخويتھم ليس سوى اسم منظمة
اإلليوميناتي ،إذ اإلليوميناتي معناھا :أخوية النور.
٣٣٠
شفرة سورة اإلسراء
وفكرة وجود حكمة أو معارف خفية تتوارثھا صفوة من البشر ويسلمھا جيل
منھم إلى جيل ھي ،كما تعلم اآلن ،جوھر القبااله وينبوع الحركات السرية.
وتفسر بالفاتسكي نفسھا ھذا االسم في كتابھا :مفتاح الثيوسوفي The key
،to Theosophicalبأن معناه:
وبعد تأسيس الجمعية ارتحل مؤسسوھا معا ً إلى الھند ،وأسسوا أول مقر
للجمعية في أديار Adyarفي َمدراس ،Madrasثم أقاموا لھا عدة مقرات في
الواليات المتحدة وأوروبا.
فأما لماذا في مدراس تحديداً ،فلسببين ،األول :ألنھا بيئة ممھدة وتربة
مخصبة الستقبال القبااله والحركات الباطنية وإنباتھا ،ففي مدراس أقيم أول
محفل ماسوني في العالم خارج القارة األوروبية والمستعمرات األمريكية ،وكان
ذلك سنة ١٧٢٤م ،والسبب الثاني ستعلمه الحقاً.
• ( لوسيفر كلمة التينية معنھا :جالب الضوء أو حامل الضياء ،وھو في األصل االسم الذي كان يطلقه
المنجمون الرومان على كوكب الزھرة ،لبريقه في السماء قبيل الفجر ،وقد جاء في سفر إشعياء وصفا ً لحاكم
بابل الذي سبى بني إسرائيل ،وھو في المسيحية الغربية اسم للشيطان ،وفي القبااله والحركات السرية ھو
اإلله اآلخر الذي وھب اإلنسان المعرفة.
٣٣٢
شفرة سورة اإلسراء
فبعد أن طرد اإلله اإلنسان إلى األرض وجعلھا قاسية عليه وعاصية له
ليعاقبه بالوجود فيھا ،أتم لوسيفر أو الشيطان جميله عليه ،كما تقول بالفاتسكي،
بأن أصلح له األرض ومھدھا ،وأعد بيئتھا ومواردھا وطاقتھا ليتمكن من العيش
فيھا.
وكما ترى ،نذھب ونجئ ،ونرحل ونعود ،ونلف وندور ،ونحن محصورون
داخل خريطة الوجود البني إسرائيلية وال نفارقھا ،وال سبيل للخروج منھا
ومفارقتھا إال الوحي.
فباستثناء أمة الوحي التي يُزيل بھا عز وجل إفساد بني إسرائيل وخريطتھم
للوجود ،صدقت بالفاتسكي فيما تقول ،فالشيطان ھو اإلله الذي تعبده الصفوة
في كل األمم ،وال محيص لھا عن عبادته لكي تصنع الحضارة وتبتكر العلوم
وتبدع الفنون ،ألن شيطان بني إسرائيل ھذا ھو الذي دل اإلنسان على المعرفة
ووھبه إياھا.
والثيوسوفي أو الحكمة اإللھية ،ھذه التي رأيت عقيدتھا ،تحولت بجھود أتباع
بالفاتسكي وخلفائھا إلى علوم وفلسفات وطقوس تدرس في جامعات الغرب
وأكاديمياته في غالف أنھا علوم حرة وحداثة في العبادة.
ومن أفكار أنجب تالميذ بالفاتسكي ،اليھودية القبالية أليس بيلي Alice
،Baileyوحول كتاباتھا ،كون أتباعھا حركة العھد الجديد New Age
،Movementالتي أقامت ،لتعليم الحكمة اإللھية والتدريب على ما يرتبط بھا
من طقوس ،المعاھد ومراكز التدريب ونثرتھا في أرجاء العالم شرقه وغربه.
وطقوس نوال الحكمة اإللھية ،عبر التأمل من أجل استحضار اإلله أو السفر
إليه ،ھي التي ترى المغفلين من األميين يمارسونھا في شوراع بالد العرب،
وھم ال يعرفون ما الذي تعنيه!
فأما أشھر األعالم من أتباع حركة العھد الجديد وأبناء بالفاتسكي وحكمتھا
اإللھية ،فالسويدي داج ھمرشولد Dag Hamersjoldاألمين العام الثاني لألمم
المتحدة ،الذي أقام غرفة لممارسة طقوس الثيوسوفي داخل جناح الزوار في
األمم المتحدة ،ووضع تصميمھا وأشرف على إنشائھا بنفسه ،ويوثانت Uthant
األمين العام الثالث.
وأما العھد الجديد الذي تدفع جمعية الحكمة اإللھية وحركة العھد الجديد
العالم نحوه ،فھو العھد الذي تتوحد فيه البشرية في حضارة واحدة ،لھا عقيدة
واحدة وأخالق واحدة ،وحكومة واحدة ،بقيادة حاكم عالمي واحد ،تزول بمجيئه
الحروب بين األمم والشعوب ويحل بينھا السالم.
فأما ھذا الحاكم العالمي الواحد ،فھو ،كما تقول بالفاتسكي ،الماتريا
الھندوسي :Maitreya
٣٣٤
شفرة سورة اإلسراء
والماتريا الھندوسي ،أو بوذا الخامس ،كما رأيت عند بالفاتسكي ،ھو نفسه
الھامشيحاه اليھودي!
وھو ما تجده صريحا ً عند تلميذتھا النجيبة اليھودية القبالية أليس بيلي ،ففي
كتابھا :ظھور المسيح The Reappearance of the Christتقول إن ھذا
المسيح الذي سيظھر:
• ( أفاتار Avatarمصطلح ھندوسي يعني الھيئة أو الشكل الذي يحل فيه اإلله ليكون ظاھراً مدركاً ،وقد
يكون إنسانا ً أو حيواناً ،وھو اسم فيلم شھير من أفالم ھوليوود القبالية! ،وكالكي Kalkiكلمة سنسكريتية
معناھا :الخالد ،والمقصود بھا في الھندوسية اإلنسان األخير الذي سيحل فيه براھمان ويتجلى في صورته،
وھو في الھندوسية نظير بوذا الخامس في البوذية.
1 ) The secret doctrine,Vol.1,P412.
٣٣٥
شفرة سورة اإلسراء
فھذا ھو المسيح القادم ،الذي تقول إنه ھو نفسه الماتريا ،وھذا ھو عھده
الجديد وما سيفعله فيه:
وأما وسيلة الوصول إلى ھذا الحاكم العالمي الواحد ،الذي ھو الماتريا
الھندوسي والھامشيحاه اليھودي ،كما يدبر أتباع ھذه وأتباع تلك ،فھي أكبر
منظمة سرية في زمانك ھذا وأكثرھا إمعانا ً في الخفاء والسرية ،أال وھي
منظمة األمم المتحدة!!
وھذه قصة أخرى طويلة ليس لھا موضع في ھذا الكتاب ،ونوجزھا لك في
أن نخبرك أنك إذا رجعت إلى أي مرجع عن األمم المتحدة فستجده يخبرك أنھا
أنشئت بعد الحرب العالمية الثانية باتفاق بين رئيس الواليات المتحدة ورئيس
وزراء بريطانيا ورئيس وزراء االتحاد السوفيتي .
فاألمم المتحدة لم تكن اتفاقا ً بين الدول العظمى ،بل بين اليھود والماسون في
ھذه الدول!
وأول أمين عام لألمم المتحدة ھو اليھودي المشكوك في يھوديته والماسوني
من الدرجة الثالثة والثالثين تريجفيه لي ،Trygve Lieوالذي صاغ ميثاق
األمم المتحدة ھو اليھودي ليو بالفولسكي ،Leo Palvolskyوھو إذ ذاك
مساعد وزير الخارجية في إدارة رئيس الواليات المتحدة الماسوني فرانكلين
روزفلت ،والذي صاغ اإلعالن العالمي لحقوق اإلنسان ھو اليھودي جون
بيترز ھيومفري John Peters Humphreyأستاذ القانون في جامعة ماكجيل
الكندية!
وأما إذا تساءلت من أين أتت بالفاتسكي وأليس بيلي وأتباعھما بھذه الحكومة
الواحدة التي تتوحد بھا البشرية ويحل بھا السالم بين شعوبھا ،فمن سيرة بني
إسرائيل المقدسة ونبوءات أنبيائھم فيھا:
س ا ْل ِجبَ ِب يَ ُكونُ ثَابِتًا فِي َر ْأ ِ آخ ِر األَيﱠ ِام أَنﱠ َجبَ َل بَ ْي ِ
٢
ال، ت ال ﱠر ﱢ " َويَ ُكونُ فِي ِ
يرةٌَ ،ويَقُولُونَ : ق التﱢالَ ِلَ ،وت َْج ِري إِلَ ْي ِه ُك ﱡل األُ َم ِمَ ،وتَ ِ
َويَ ْرتَفِ ُع فَ ْو َ
٣
وب َكثِ َش ُع ٌسي ُر ُ
سلُكَ فِي وب ،فَيُ َعلﱢ َمنَا ِمنْ طُ ُرقِ ِه َونَ ْ ت إِل ِه يَ ْعقُ َب ،إِلَى بَ ْي ِ » َھلُ ﱠم نَ ْ
ص َع ْد إِلَى َجبَ ِل ال ﱠر ﱢ
ضي ٤
ش ِري َعةَُ ،و ِمنْ أُو ُر َ
شلِي َم َكلِ َمةُ ال ﱠر ﱢ
ب ،فَيَ ْق ِ سبُلِ ِه« ،ألَنﱠهُ ِمنْ ِ
ص ْھيَ ْونَ ت َْخ ُر ُج ال ﱠ ُ
٣٣٧
شفرة سورة اإلسراء
اح ُھ ْم َمنَ ِ
اج َل. س َك ًكا َو ِر َم َ ب َكثِي ِرينَ ،فَيَ ْطبَ ُعونَ ُ
سيُوفَ ُھ ْم ِ ش ُعو ٍ صفُ لِ ُ بَيْنَ األُ َم ِم َويُ ْن ِ
الَ ت َْرفَ ُع أُ ﱠمةٌ َعلَى أُ ﱠم ٍة َ
س ْيفًاَ ،والَ يَتَ َعلﱠ ُمونَ ا ْل َح ْر َ
)(١
ب فِي َما بَ ْعدُ"
( ١إشعياء.٤-٢ :٢ :
٣٣٨
شفرة سورة اإلسراء
في سنة ٢٦٩قبل الميالد خَ لَف أشوكا الملقب بالعظيم Ashoka The
Greatأباه بندوسارا Bindusaraعلى عرش اإلمبراطورية التي كونھا جده
تشاندراجوبتا Chandraguptaبتوحيد مقاطعات شبه القارة الھندية وإماراتھا
بعد حروب طويلة ومعارك دموية.
وبعد المعركة ،كما يقول فنسنت سميث ،Smith Vincentفي كتابه :حكام
الھند ،Rulers of Indiaنقالً عن النقوش التي تحكي سيرة أشوكا على
األعمدة المعروفة باسمه ،Ashoka Pillarsوالتي ُدونت بأمره:
٣٣٩
شفرة سورة اإلسراء
ثم أتم ابنه ماھيندرا ،Mahendraالذي خلف أشوكا على اإلمبراطورية بعد
وفاته سنة ٢٣٢قبل الميالد ،نشر الھندوسية والبوذية وبسط حمايته عليھما في
كل مكان يصل إليه أثر اإلمبراطورية ،لتتحول إلى ديانة عالمية واسعة االنتشار
بين أمم وشعوب مختلفة.
ومن أجل الفوز بالعقول والقلوب تحول أشوكا إلى البوذية والھندوسية
ونشرھا بين الناس في إمبراطوريته ،ألنھا ،كما علمت ،فضفاضة ،ال تجبر
أحداً على اعتناق عقيدة بعينھا ،أو اإليمان بإله معين ،أو االلتزام بأخالق أو
طريقة للعيش محددة.
أشوكا نشر الھندوسية والبوذية ،لكي تكون العقد االجتماعي ،الذي يكون
للناس فيه الرفاھة واللھو واالنحالل واالنفالت ،في مقابل أن يكون له وألسرته
حكم اإلمبراطورية ،والسيطرة بھذا اللھو واالنحالل على عقول البشر فيھا.
استيقظ! فأنت على تخوم بني إسرائيل ،وأمام نسخة في دورة اإلفساد األولى
من الواليات المتحدة الماسونية في دورة اإلفساد الثانية ،ليس ألن التاريخ يكرر
نفسه ،ولكن ألن من يصنعونه ھم ھم ،وأذھانھم ونفوسھم وغاياتھم ووسائلھم
ھي ھي.
ونشر الھندوسية والبوذية كان وسيلة أشوكا األولى للسيطرة على عقول
الناس ونفوسھم ،وأما وسيلته الثانية ،فكانت ،أيضا ً كالواليات المتحدة
الماسونية ،تكوين جمعية سرية.
يقول باولز وبيرييه إن أشوكا كون جمعية سرية من تسعة رجال ،كان ھو
أحدھم ،ولذا كان اسمھا :جمعية الرجال التسعة .The Nine Men Society
1) Louis Pauwels and Jacque Bergier: The morning of the magicians,P37.
٣٤١
شفرة سورة اإلسراء
"مع علمه بفظائع الحروب ،ك ﱠون الجمعية لكي تكون مسئولة عن حفظ
المعرفة وتطويرھا ،ولكي تمنع وقوعھا في أيادي الرجال ذوي العلم والذكاء
)(١
ممن قد يوظفون علمھم وذكاءھم فيما يجلب الشرور"
ويقول باولز وبيرييه إنھم تعرفوا على الجمعية من مصدرين ،األول ھو
) •(
،Louis Jacquolliotقنصل فرنسا في كلكتا في كتابات لويس جاكوليو
النصف الثاني من القرن التاسع عشر ،وكان من المولعين بتاريخ الجمعيات
السرية والمنقبين في كتاباته عنھا ،وكان ھو نفسه عضواً في جمعية براھمانية
سرية ووصف درجاتھا وطقوسھا وطريقة الترقي فيھا في كتابه :العلم الخفي
في الھند . Occult Science in India
وأما المصدر الثاني لباولز وبيرييه ،فھو رواية :الرجال التسعة المجھولون
The nine unknown menالتي صدرت سنة ١٩٢٧م لتالبوت ماندي
،Talbot Mundyوكان ضمن قوة المستعمرات البريطانية العاملة في الھند
خمسة وعشرين عاماً.
ويقول باولز وبيرييه إن العلوم التي تكونت الجمعية بھا ومن أجل حراستھا،
تمتزج فيھا علوم الطبيعة بالخيمياء وتحويل المعادن الخسيسة إلى أخرى نفيسة،
والتأمالت الفلسفية والعقائدية بالتنجيم وممارسة السحر واستحضار أرواح
الموتى.
والمزيج الذي رأيته ھذا ھو الخلطة التقليدية التي تكونت بھا وحولھا
الحركات السرية التي نبعت من القبااله ورويت بھا في كل العصور.
والمكان الذي أنشأ فيه أشوكا جمعيته السرية ھو مقاطعة كالينجا ،وكالينجا
في الھند القديمة ھي َمدراس في الھند الحديثة.
فجمعية الحكمة اإللھية في مدراس ليست سوى إعادة بعث أو إحياء لجمعية
أشوكا السرية في كالينجا!
بقي أن تعلم أن األسرة التي و ﱠحد أول أباطرتھا تشاندراجوبتا شبه القارة
الھندية ،وكان أشوكا ثالثھم ،وفي عھدھا تبلورت وانتشرت الھندوسية التي ھي،
كما علمت ،ليست سوى اسم آخر للقبااله ،ھذه األسرة اسمھا :أسرة الموريا
،Morya Dynastyوالھند في عھدھا ھي :إمبراطورية الموريا.
أما القبالية ھيلينا بالفاتسكي ،وريثة أشوكا وباعثة جمعيته السرية ،فقد نقلت
في كتابھا :العقيدة السرية ،عن الكولونيل تود ،Colonel Todفي أصل اسم
أسرة الموريا أنه:
"ربما تكون أخذت اسمھا من اسم البلدة التي نشأت فيھا وخرجت
)(٢
منھا"
أما بالفاتسكي نفسھا فلم تفسر من أين أتى اسم الموريا ،ولكنھا قالت في
وصف األسرة ما يُعرفك بحقيقتھا ويغنيك عن التفسير:
• ( البورانا Puranasكلمة سنسكريتية معناھا :في قديم الزمان أو :كان يا ما كان! ،وھي نصوص
ھندوسية مقدسة في شكل أقاصيص عن اإلله والخلق ،ظھرت في فترة تقع بين القرن الثالث والقرن الخامس
بعد الميالد ،وككل نصوص الھندوسية ال يُعلم من الذي ألفھا.
1 ) The secret doctrine,Vol.1,P405
• ( في القرن السابع قبل الميالد غزا سنحاريب األشوري مملكة إسرائيل الشمالية وشتت أسباطھا العشرة،
وال يُعلم ماذا كان مصيرھم ،وال توجد وثائق وال أخبار وال روايات تقول أين ذھبوا ،وھذه األسباط التي
يسمونھا في التاريخ :األسباط المفقودة أو الضائعة ،حاضرة في الحركات السرية ،فاعلة في مطابخ األحداث
وكواليس التاريخ.
٣٤٥
شفرة سورة اإلسراء
األخفياء ،في أي مكان من العالم ،وإن لم يكن من سبط يھوذا ،فالبد أن يتخذ
أسدھم شعاراً له ،ليعلن أنه منھم أو أنه إنما يحكم نيابة عنھم!.
وأما ما لم تنتبه إليه بالفاتسكي ،وال من نقلت عنھم من المؤرخين ،فھو أن
الموريا ،اسم أسرة الھامشيحاه الھندي الذي ال يعرف معناه وال أصله أحد ،ليس
سوى اسم جبل الھيكل في التوراة!
)(١
ت ََرا َءى لِدَا ُو َد أَبِي ِه"
٣٤٧
شفرة سورة اإلسراء
٣٤٨
شفرة سورة اإلسراء
وفي الطريق نحو الثورة في فرنسا ،وظف الماسون من فالسفة التنوير ومن
وضعوا الموسوعة أسطورة بروميثيوس في تسريب روح الثورة على المسيحية
والبابوية والعروش الملكية.
ألن بروميثيوس ھو الذي سرق النار ووھبھا لإلنسان ،فقد صار في العلوم
رمزاً خالداً للمعرفة والبحث والمغامرة واالستكشاف ،فتم إطالق اسمه على أحد
أقمار كوكب زحل ،وبروميتيا ،Prometeaمؤنث بروميثيوس ،ھي أول فرس
يستنسخھا البشر في إيطاليا سنة ٢٠٠٣م ،وبروميثيوس اسم جائزة ألفضل
كتاب علمي ،ولجمعيات فيزيائية وفلكية ،ولمراكز أبحاث طبية ودوائية ،ولدور
نشر علمية وأدبية.
٣٤٩
شفرة سورة اإلسراء
وألن وثبات الغرب على بالد العرب بالجيوش والسالح ،كما علمت ،لم تكن
سوى وسيلة إللحاق وعيھا بوعيه ،وإلعادة تكوينھا بما تكون به ھو نفسه من
خريطة الوجود البني إسرائيلية وآثارھا وتوابعھا ،فقد حل بروميثيوس
وأسطورته في وعي نخب ھذه البالد ،التي تم تكوينھا بالتحريف ،في المحل
نفسه الذي حل فيه من وعي نخب الغرب ،وصار له الموقع نفسه واألثر نفسه.
يقول الشاعر نزار قباني في قصيدته :حوار ثوري مع طه حسين التي نظمھا
وألقاھا في ذكرى وفاته ،يشبھه فيھا ببروميثيوس:
ق النّ¤¤¤ا ِر
ي ي¤¤¤ا س¤¤¤ار َ أيّھ¤¤¤ا ْ
األزھَ¤¤¤ـ ِر ﱡ
وي¤¤¤¤¤ـا كاس¤¤¤¤¤ـراً ح¤¤¤¤¤ـدو َد الثـوان¤¤¤¤¤ـي
¤¤¤ـب التّح¤¤¤¤ـدّي
أن¤¤¤¤تَ أرضعتَن¤¤¤¤ـا حليَ ¤
باألس¤¤¤¤¤¤¤ـنان
ِ فَ َ
طـحنﱠ¤¤¤¤¤¤¤ـا الـنج¤¤¤¤¤¤¤ـو َم
٣٥١
شفرة سورة اإلسراء
ض
¤الطين ف¤ي األر ِِ ضنا ُك ¤ﱠل ال ّ
س ورفَ َْ
)(١
ِ ضن¤¤¤¤¤¤¤ـا عـِب¤¤¤¤¤¤¤ـادةَ األوث¤
¤¤¤¤¤¤ـان َرفـ َ ْ
فالمعرفة التي قبسھا طه حسين من الغرب ،والفھم الذي أخذه عنھم للوجود
والحياة ،صارت في وعي من صنعھم الغرب من أبناء بالد العرب النار التي
سرقھا بروميثيوس من رب أرباب اإلغريق ووھبھا لإلنسان ليبتكر العلوم
ويبدع اآلداب والفنون ،وليواجه بھا السالطين ويتحرر من األديان ،ويتمرد
على األزھر ويخرج على األعراف.
وقصيدة الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي الشھيرة التي يتحدى فيھا الداء
واألعداء ،والتي مطلعھا:
اختار لھا عنواناً :نشيد الجبار ،ولكنه جعل لھا معه عنوانا ً آخر ھو :ھكذا
)(٢
غنى بروميثيوس
( ١الشاعر نزار قباني :من قصيدة :حوار ثوري مع طه حسين ،األعمال السياسية الكاملة :ج ،٣ص-٤٧٦
ص.٤٧٨-٤٧٦
( ٢ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله ،ص.٢٩
٣٥٢
شفرة سورة اإلسراء
"الطھطاوي سرق لنا النار ،لكن الطھطاوي لم يكن أول سارق لھا ولن
يكون األخير ،فالنار التي سرقھا الطھطاوي ھي النار التي سرقھا
بروميثيوس ،وربما كانت ھناك عالقة ما بين بروميثيوس وموسي الذي رأي
النار في سيناء ،فذھب ليأتي منھا بقبس يسير علي ھداه ،النار التي سرقھا
بروميثيوس إذن واقتبسھا موسي ھي المعرفة ،وھي الحكمة ،وھي النور
الذي نھتدي به في الظلمة ،ونتحرر من الخوف ،ونتقدم إلي االمام ،وننتصر
)(١
علي البؤس والخرافة والطغيان"
وعبارة أحمد عبد المعطي حجازي ھذه أتيناك بھا من أجل شيئين
متناقضين ،األول أنھا نموذج على الھذيان باسم العقل والخبل في أردية الثقافة،
فالشاعر الذي يكلمك عن المعرفة والحكمة ويتغنى بالكلمات المزركشة عن
االنتصار على البؤس والخرافة جعل موسى نبي ﷲ الكليم الذي كان في القرن
الثالث عشر قبل الميالد سارقا ً من بروميثيوس األسطوري الذي ظھرت
أسطورته ألول مرة في القرن السابع قبل الميالد ،بعد موسى عليه السالم بستة
قرون!!
( ١الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي :الطھطاوي مترجم أم داعية ،األھرام :العدد ١٧ ،٤٤١٤٤أكتوبر
٢٠٠٧م.
٣٥٣
شفرة سورة اإلسراء
وما نعرفك به ھنا ليكون عونا ً لك على فھم ما سنخبرك به وعلى تقبله ،ھو
الفرق بين األسطورة والخرافة.
األسطورة تحريف ألصل حقيقي ،أو تغيير لتفاصيله أو صفة مكوناته ،أو
ابتكارات حول ھذا األصل أو تفريعات منه ،أما الخرافة فاختالق وابتكار
محض لما ال اصل له.
واقتبسنا ھذا االقتباس الطويل وأتيناك بھذه األمثلة ،ليس فقط لنعرفك بمعنى
األسطورة ،ولكن لنقول لك إن صاحبه طبق تفسيره لألسطورة على أساطير
صغيرة داخل األسطورة الكبرى ،وعلى تفاصيل وفروع من الشجرة الكاملة،
وما لم يرد على خلده ھو وال أمثاله ،أن يعمموا ھذا الفھم والتفسير على أصل
األساطير اإلغريقية ،فلم ينتبھوا إلى وجود أصل حقيقي يجب أن ينقبوا عنه،
وال فطنوا إلى أن ثَمة نبعا ً لھا ينبغي أن يستكشفوھا ويسيروا معھا إلى أن
يصلوا إليه ،بل عدوھا اختالقا ً محضاً ،كما يقول في صراحة :ب .كومالن في
كتابه :األساطير اإلغريقية والرومانية:
وما نقوله لك نحن :إنھا أساطير حقاً ،تكونت حول أصل ،وھذا األصل ھو
خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وھذا األصل تكون بتحريف أصل آخر والعبث
به عمداً ،وھو خريطة الوجود اإللھية.
وقبل أن تعرف من يكون بروميثيوس ھذا ،وماذا تكون أسطورته التي خلبت
لب األميين في الغرب والشرق ،البد أن تعرف أوالً الجزء األول من خريطة
الوجود اإلغريقية ،أال وھو كيف عرف اإلغريق األلوھية والخلق ،وعلى يد
َمن.
٣٥٦
شفرة سورة اإلسراء
وخردالً ،فتقيأ وأخرج أوالده الذين ابتلعھم شبابا ً قوياً ،ليقود بھم زيوس حربا ً
ضد أبيه وعشيرته من الجبابرة التيتان ،انتھت بزيوس إلھا ً لمملكة السماء
وكبيراً لآللھة ،وتنصيبه أخاه بوسيدون Poseidonإلھا ً للبحار والمحيطات،
وأخاه ھاديس Hadesإلھا ً لممكة الموتى والعالم السفلي ،ثم تزوج زيوس
من ھيرا Heraربة البيت والزواج ،وأنجب منھا ھيفاستوس
Hephaestusإله النار والمعادن وراعي الصناعة والحدادة ،وأريس
Ariesإله الحرب ،وتزوج ابنة عمه ليتو ،Letoوأنجب منھا أبولو
Appoloإله الشمس وراعي اآلداب والفنون ،وأرتيميس Artemesإلھة
الصيد والعفة والطھارة ،وأنجب ھرمس Hermesليكون إله الزراعة
ورسوله إلى اآللھة األخرى وإلى البشر من عشيقته مايا Mayaالتي ھي
أرضية من البشر ،وصاھر زيوس البشر فتزوج ،سراً لكي ال تغضب عليه
ھيرا ،من سيميلي Semeleابنة كادموس Cadmosملك طيبة ،وأنجب
)(١
منھا ديونيسوس Dionysosإله المرح والخمر
( ١ملحمة :مولد اآللھة ،Theogonyوھي خريطة الوجود اإلغريقية ،نشر نصھا اإلغريقي مع ما يقابله
من الترجمة اإلنجليزية ھيوج إيفلين وايت ،Hugh Evylen Whiteسنة ١٩١٤م ،ضمن ترجمته لألعمال
الكاملة لھزيود ،انظر:
Hugh Evelyn White: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an
English translation, P78-153.
2 ) Robin Hard:Greek Mythology,P141.
٣٥٧
شفرة سورة اإلسراء
وقبيلة آلھة اإلغريق ھذه ،ھي وكل ما يدور حولھا من حكايات ،يقول
المؤرخون ،وال تعجب ،إنھا ُولدت على يد رجل واحد ،ليس أي رجل ،بل
قروي ساذج!
"وھكذا قدم لنا القروي اإلغريقي البسيط ھزيود تساؤالت ومالحظات حول
كيفية حدوث كل شئ ،وحاول أن يصل إلى تفسير لكل ظاھرة أو عادة أو
شعيرة أو تقليد ،ولعله أول إغريقي يفعل ذلك ،إذ إن ھوميروس لم يفعل في
اإللياذة واألوديسا مثلما فعل ھزيود في قصائده ،ومن ھنا جاءت أھمية ھزيود
)(١
كصانع لألساطير اإلغريقية"
"قد جعلت أغلب آلھة اإلغريق أربابا ً لھا ،إال أنھا عندما أدخلتھا في
")(٢
طقوسھا الدينية وآدابھا أطلقت عليه أسماء التينية ظلت الصقة بھا
بل إن الدولة الرومانية كلھا لم تكن سوى امتداد لإلغريق ،فھي بناء سياسي
وعسكري ھائل ،قلبه وعقله إغريقي ،فحيثما توسعت اإلمبراطورية الرومانية
وحلت كانت تفتح ،بالجيوش والسالح ،الطريق أمام ثقافة اإلغريق!
وأما الثالث ،فھو أن ثقافة اإلغريق وفلسفاتھم وآدابھم وفنونھم ،التي نبتت
من خريطة ھزيود للوجود ورويت بھا ،كانت ھائلة اآلثار ،ال في اإلمبراطورية
الرومانية وحدھا ،بل في كل األمم والشعوب وفي كل العصور ،ما عدا عالم
وحيد ،مسته دون أن تؤثر في تكوينه ومساره وتاريخه ،أال وھو العالم
المعصوم من خرائط الوجود المزورة بالوحي وخريطة الوجود اإللھية
المحفوظة.
•( اإللياذة ملحمة تروي قصة حرب طروادة وما أحاط بھا من أساطير ،واألوديسا تروي أسطورة
أوديسيوس Odysseusحاكم جزيرة إثاكا . Ithaca
( ١قصة الحضارة :ج ،٦ص.٣٢٠
( ٢األساطير اإلغريقية والرومانية ،ص.٧
٣٥٩
شفرة سورة اإلسراء
"كان اليونان ،وال يزالون ،شعبا ً مغامراً يقظا ً ،فھاجروا بمئات اآلالف إلى
آسيا ،ومصر ،وإبيروس ،ومقدونيا ،والدم الھليني واللغة اليونانية والثقافة
اليونانية قد شقت طريقھا إلى داخل آسية الصغرى ،وفينيقية وفلسطين،
واخترقت سوريا ،وبابل ،وتخطت نھري الفرات ودجلة ،بل وصلت إلى بكتريا
)(١
والھند نفسھما"
فإليك القروي الساذج الذي وضع خريطة الوجود التي حكمت وعي اإلغريق
والرومان ،وكونت أذھانھم ونفوسھم ،وكانت النبع الذي تدفقت منه فلسفاتھم
وآدابھم وعلومھم وفنونھم ،ثم انسابت في األمم والشعوب.
"يثير غبار الشك حول صحة ما جاء في أعمال ھزيود عن أصله ونسبه
)(٢
وحياته الشخصية"
وألن اسم ھزيود ارتبط باألساطير ،وأعماله كانت النبع الذي تدفقت منه
األساطير في اإلغريق والرومان ،فقد مأل المؤرخون الفجوات في سيرته،
وفسروا أعماله الھائلة بأسطورة من األساطير!
يُرجح المؤرخون أن ھزيود عاش بين القرن الثامن والقرن السابع قبل
الميالد ،وكان أبوه دبوس ،كما يقول ھو نفسه في ملحمته :األعمال واأليام،
ثم ،وھو ما زال في شبابه ،أنتج ھزيود عدة مالحم ،أشھرھا :األعمال
واأليام ،Warks and Daysومولد اآللھة ،Theogonyوكتالوج النساء
،Catalogue of womenثم كتب كتابا ً عن التنجيم وقراءة الطوالع ،ويعتبره
بعض المؤرخين االقتصادي األول في تاريخ العالم الحتواء كتاباته على أفكار
في االقتصاد ال يُعرف له فيھا سابق.
وھذه ،كما أخبرناك من قبل ،خلطة القبااله واألشخاص الذين تكونوا بھا
واألفكار التي خرجت منھا والجمعيات التي أقيمت لبثھا في كل العصور.
فكيف أنتج الفالح وراعي األغنام مالحمه التي توله بھا الفالسفة والمفكرون
واألدباء والفنانون؟
فاعلم أن سيرة ھزيود التي قرأتھا ،الرجل الذي يسافر بين البلدان ،ويتنقل
عبر القارات ،ثم يھبط على مكان ال يعلم أحد فيه أصله وال بلده وال ديانته وال
مواھبه ،بل وال اسمه الحقيقي ،ثم يعمل عمالً ،أو يكون الواجھة التي يظھر من
خاللھا عمل ،يغير وعي المكان الذي ھبط عليه ،ويصير نبعا ً يتكون به أھله
ويتدفق في ما يعتقدونه ويفھمونه ،وفي ما يبدعونه ويبتكرونه ،ھذه السيرة ھي
السيرة التقليدية لرؤوس الحركات السرية في كل العصور ،وھي السيرة التي
انسابت عبرھا خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وما كونته القبااله حولھا من
ابتكارات ،في كل األمم والشعوب.
وھذه السيرة نفسھا ھي سيرة جماعات وطوائف كاملة من اليھود ،تتنقل بين
البالد والقارات ،وتعتنق ديانات الشعوب التي تحل بينھا ،وتمارس عاداتھا،
وتتسمى بأسمائھا ،وتبدو وكأنھا جزء من نسيجھا ،وھي فيما بينھا تدين
باليھودية ،وتتزاوج في ما بينھا ،وتتوارث أسماءھا اليھودية وأنسابھا.
فإذا رجعت إلى كتابينا :الوحي ونقيضه ،واليھود والحركات السرية في
الحروب الصليبية ،ستجد أمثلة نموذجية على ھؤالء الرجال وھذه الجماعات،
٣٦٢
شفرة سورة اإلسراء
كأسر الملك اإللھي في أوروبا ،ويھود الدونمة في تركيا العثمانية ،واليھود الذين
ھبطوا على مصر في القرن التاسع عشر والقرن العشرين ،فشوھوا وعيھا
وأفسدوا عقلھا ومسخوا روحھا.
ثم اعلم أن العمل الذي يعمله ھذا المتنقل في المكان الذي ھبط عليه ،فرداً
كان أو جماعة ،قد يكون جمعية علمية أو جماعة أدبية أو منظمة سياسية أو
طريقة دينية ،يدس من خاللھا ما يريد دسه من أفكار في أذھان من يخلب لبھم
بريق راياتھا وزخرف شعاراتھا فيدخلونھا ،ثم يكونون ھم أداة بث ھذه األفكار
وتغيير وعي عموم الناس بھا.
ولكن أوسع ھذه األعمال التي يعملھا ھؤالء المتنقلون انتشاراً ،وأشدھا
خطراً ،وأبقاھا أثراً ،أدوات اللھو ووسائل الترفيه والتسلية ،يمتعون بھا عموم
الناس بإثارة خيالھم ،وإلھاب مشاعرھم ،ومداعبة عواطفھم ،وتحريك
غرائزھم ،ومن خالل ھذه اإلثارة واإللھاب ،وفي ثنايا ھذه المداعبة والتحريك،
يصنعون وعي ھذه العوام بفحوى خريطة الوجود البني إسرائيلية ومكوناتھا
وآثارھا ،ويسربون القبااله وعوالمھا وأخالقھا إلى أذھانھم ونفوسھم.
فإذا وعيت ذلك وفھمته ،ولم يذھلك اختالف األسماء واأللقاب ،وتبديل
األردية والثياب ،عن أن الذي في داخلھا ھو ھو ،فستفطن وحدك أنه في دورة
اإلفساد األولى أساطير ھزيود ،ھي نفسھا في دورة اإلفساد الثانية أفالم
ھوليوود!
٣٦٣
شفرة سورة اإلسراء
أما إذا كان وعيك فوق الزمان ،وال يقيده المكان ،وال يخدعه تباين األشكال
واأللوان ،واختالف اللغة واللسان ،فستدرك ان أساطير ھزيود وأفالم ھوليوود
ھي نفسھا ألف ليلة وليلة!
فألف ليلة وليلة ،التي كتبت بلغة عربية عامية دارجة لكي تكون قريبة للعوام
وأقدر على تغيير وعيھم والتأثير فيھم ،وامتألت بالمشاھد الجنسية واأللفاظ
الفاحشة ،والتي حولت الخليفة العادل المجاھد وأحد أعظم الحكام في كل
العصور ،ھارون الرشيد ،إلى رمز للھو والفساد وطلب الملذات ،ألف ليلة وليلة
يھودية ،تعرف يھوديتھا من أفكار اليھود وآثارھم فيھا ،ومن سريان القبااله في
شخوصھا وحكاياتھا ،فالقبااله ھي روح ألف ليلة وليلة.
ومنھجنا ،كما البد تدرك اآلن ،تتبع األفكار واآلثار ،وھو منھج الوحي،
وليس تتبع األشخاص واألسماء ،وھو منھج األميين.
ويھودية ألف ليلة وليلة في أھدافھا وأسلوبھا ،وتسريب القبااله إلى األذھان
ملفوفة في حكاياتھا ،قو ٌل سبقنا إلى القول به دكتور جمال البدري في دراسته
الرصينة :اليھود وألف ليلة وليلة ،وزاد علينا التنقيب عمن يكون ھؤالء اليھود
الذين أنتجوھا.
٣٦٤
شفرة سورة اإلسراء
"مؤلف الليالي ليس فرداً واحداً مشخصاً ،بل ھي مؤسسة لھا صفة
الديمومة واالستمرارية ،بغض النظر عن األشكال والتطورات التاريخية
)(١
والسياسية والثقافية المحيطة بھا"
وكما ترى ،فرضية دكتور جمال البدري التي خرج بھا من دراسة ألف ليلة
وليلة ،ھي نفسھا ما أخبرناك وما نخبرك به عن نصوص الھندوسية وطقوسھا،
وعن ھزيود ومالحمه ،وھي لب ما يخبرك به بيان اإلله إلى خلقه عن الطائفة
من بني إسرائيل التي تتوارث صناعة الضالالت واألباطيل وبثھا ،وبھا تسيطر
على وعي البشر في كل العصور.
وبعد أن تعقب دكتور جمال البدري خط سير نسخ ألف ليلة وليلة تاريخياً،
وحدد البؤرة التي خرجت منھا النسخة األولى ،وبعد أن قام بتحليل فحوى
حكاياتھا وشخصيات أبطالھا ،وانتبه إلى اتساع جغرافية حكاياتھا التي تكاد
تستوعب كل ما ھو معروف من العالم في وقتھا ،بالداً وجزراً وبحاراً ،بما
يستحيل معه أن يكون من ألفھا شخص واحد وال فئة مستقرة في بلد بعينه أو
بقعة جغرافية محدودة ،وبعد أن تتبع أفكار اليھود وآثار التلمود في تالفيفھا،
كانت النتيجة التي وصل إليھا ھي:
"ألف ليلة وليلة تم تأليفھا في نفس بيئة تأليف التوراة والتلمود البابليين،
ووفق طريقتھما المرحلية ،وتمت كتابتھا بشكلھا األَ ْولي من قبل سنھدرين
وما نزيده لك نحن ،أن ألف ليلة وليلة لم تكن فقط من أجل تقبل الفكر
والسلوك اليھودي ،بل من أجل إزاحة خريطة الوجود اإللھية ،و بث خريطة
الوجود البني إسرائيلية وتسريب فحواھا وآثارھا وأخالقھا من خالل حكاياتھا،
وھو ،كما أخبرناك ،عمل بني إسرائيل الرئيسي في التاريخ.
• ( السنھدرين ھو مجمع الربانيين واألحبار الذي يدير شؤون الطائفة اليھودية دينيا ً ودنيوياً ،ورأس
الجالوت ھو االسم الذي كان يطلق على رأس الطائفة اليھودية ورئيس السنھدرين في الدولة العباسية،
ورأس الجالوت الذي ظھرت في عھده ألف ليلة وليلة ھو الربي ھاي بن شريرا.
( ١اليھود وألف ليلة وليلة ،ص.١٥١
( ٢اليھود وألف ليلة وليلة ،ص.١٥٢
٣٦٦
شفرة سورة اإلسراء
ﱔ ﺧﺮﻳﻄﺔ ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ
ونعود بك مرة أخرى إلى ھزيود والملحمة التي كان واجھة لھا ،وعرفھا
المؤرخون باسمه ،لتعرف كيف أن ھذه الملحمة :مولد اآللھة إنما ُولدت من
رحم خريطة بني إسرائيل للوجود.
في مولد اآللھة وما تحويه من أساطير تنسب لھزيود عناصر ومكونات
وعالقات بين ھذه المكونات ليست من خيال شعراء ،وال سبيل ألن يعلمھا أحد
أو أن يبتكر حولھا ويصوغھا شعراً إال إذا كان راضعا ً من خريطة الوجود
البني إسرائيلية ومفطوما ً عليھا ،وعلى رأس ھذه العناصر والمكونات
بروميثيوس وأسطورته!
وإذا لم تستطع أن تعرف وحدك أعرق األمم وينبوع الحكمة القديمة ،التي
أخبرك القبالي بيكون أنھا أصل أساطير اإلغريق ومصدرھا الحقيقي ولم
يصرح باسمھا طوال كتابه ھذا ،فيمكنك أن تعود إلى :خريطة الوجود البني
إسرائيلية ،لتراه يُعرفك بھا صريحة في كتابه :أطلنطس الجديدة.
الشئ الذي تنفرد به خريطة الوجود اإلغريقية في ملحمة ھزيود من بين كل
خرائط الوجود ،كما يقول دكتور عبد المعطي شعراوي ھو أن:
"اآللھة ليست ھي التي خلقت الكون ،بل الكون ُخلق أوالً ،في البدء كان
الخواء ،ثم األرض ،ثم البحار والجبال ،ثم السماء ،ثم مجموعة التياتن ،ثم
اآللھة وعلى رأسھم كبيرھم زيوس ،ثم بدأت اآللھة في اإلنجاب ،أنجبت
اآللھة العظمى ،أعضاء مجلس اآللھة فوق جبل أولمبوس ،ثم اآللھة
)(٢
الصغرى ،ثم انصاف اآللھة ،ثم الحوريات ،ثم األبطال ،ثم أفراد البشر"
وما يعتقد دكتور عبد المعطي شعراوي ومن نقل عنھم من الغربيين أن
ملحمة ھزيود تنفرد به ،ليس سوى قصة الخلق القبالية والھندوسية في المرآة،
فجوھر ھذه ھو نفسه جوھر تلك ،أال وھو أن اآللھة والكون واإلنسان كانوا
وحدة واحدة ،ثم انفصل بعضھم عن بعض ،وأن الخلق كان بالصدور أو الميالد
وليس باإلرادة اإللھية ،وأن اإلنسان على صورة اإلله أو أن اآللھة تشبه
اإلنسان.
وأما الطبعة الثالثة من ھذه وتلك ،فھي العلمانية بكل فروعھا وطبقاتھا،
الليبرالية والماركسية واإللحاد ،وجوھرھا أن اإلنسان ھو الذي خلق بأفكاره
اإلله وصنع بمعارفه الكون.
فإليك القبالية ھيلينا بالفاتسكي تعرفك في كتابھا :العقيدة السرية بھذه اآللھة:
٣٦٩
شفرة سورة اإلسراء
الشجرة وأوفى بوعده ،والثالث لوسيفر الذي وھب اإلنسان المعرفة والنور،
)(١
وجعله ذا طبيعة خالدة " Immortal
"والقصة ال تذكر إطالقا ً أن الرب يھوه قام بطرد المرأة والحنش من جنة
عدن مع اإلنسان ...فلماذا لم يقم الرب يھوه بطرد المرأة مع اإلنسان الذي كان
زوجھا من الجنة ،وقد كان إثمھا أعظم من إثمه؟ ...ھل كانت حواء في األصل
إلھة وليس امرأة عادية ،وھل كان الحنش في األصل إلھا ً مثلھا ،فلم يكن
للرب يھوه صالحية في طرد أي منھما من الجنة كما فعل باإلنسان؟ ،حواء لم
تكن في الواقع زوجة اإلنسان األول ،بل إلھة أما ً لجميع المخلوقات الحية،
ويبدو أن الحنش أيضا ً كان من اآللھة الموجودين أصالً في الجنة")!!(٢
وأما اإلله الذي اتفقت فيه بالفاتسكي القبالية والصليبي األكاديمي ،دون أن
يكون ألي منھما صلة باآلخر وال علم به ،بل ألنھما ينھالن من النبع نفسه
وتحكمھما معا ً خريطة الوجود البني إسرائيلية ،فھو اإلنسان!
"ھذه القصة ال تفترض إطالقا ً كون الرب يھوه اإلله الوحيد في الوجود ،بل
إنھا تعتبره واحداً من مجموعة اآللھة التي تنعم وحدھا بأبدية الحياة ،والتي
كان لھا وحدھا في البداية معرفة الخير من الشر قبل أن يخلق الرب يھوه
اإلنسان ،فاعتدى ھذا المخلوق على انحصار المعرفة باآللھة وأكل من
)(١
الشجرة"
فلعلك وصلت اآلن بنفسك إلى أن زيوس كبير آلھة اإلغريق ليس سوى يھوه
شيخ قبيلة اآللھة في خريطة بني إسرائيل.
وألن اإلنسان ھنا وھناك إله ،واآللھة كالبشر ،فربما يكون تعجبك قليالً
وصدمتك خفيفة إذا علمت أن زواج اآللھة بالبشر الذي رأيته في أساطير ھزيود
إنما أتى به من خريطة بني إسرائيل للوجود!
ضَ ،و ُولِ َد لَ ُھ ْم بَنَاتٌ ٢ ،أَنﱠ أَ ْبنَا َء اس يَ ْكثُ ُرونَ َعلَى األَ ْر ِ َث لَ ﱠما ا ْبتَدَأَ النﱠ ُ
"َ ١و َحد َ
اختَا ُروا. سا ًء ِمنْ ُك ﱢل َما ْ س ِھ ْم نِ َسنَاتٌ ،فَاتﱠ َخ ُذوا ألَ ْنفُ ِ
س أَنﱠ ُھنﱠ َح َ
ت النﱠا ِ ﷲِ َرأَ ْوا بَنَا ِ
ش ٌرَ ،وتَ ُكونُ ان إِلَى األَبَ ِد ،لِزَ يَ َغانِ ِه ،ھ َُو بَ َ
س ِ فَقَا َل ال ﱠر ﱡب» :الَ يَ ِدينُ ُرو ِحي فِي ِ
اإل ْن َ
٣
ض طُ َغاةٌ فِي تِ ْلكَ األَيﱠ ِامَ ،وبَ ْع َد ذ ِلكَ سنَةً«َ .كانَ فِي األَ ْر ِ
٤
ش ِرينَ َ أَيﱠا ُمهُ ِمئَةً َو ِع ْ
س َو َولَدْنَ لَ ُھ ْم أَ ْوالَدًا ،ھ ُؤالَ ِء ُھ ُم ا ْل َجبَابِ َرةُ ضا ،إِ ْذ د ََخ َل بَنُو ﷲِ َعلَى بَنَا ِ
ت النﱠا ِ أَ ْي ً
الﱠ ِذينَ ُم ْن ُذ ال ﱠد ْھ ِر َذ ُوو ا ْ
)(٣
س ٍم"
" ...أن أبناء اآللھة رأوا بنات الناس أنھن حسنات ...إذ دخل بنو اآللھة
على بنات الناس وولدن لھم أوالداً".
ف ِمن البشر َمن ھم ِمن نسل اآللھة ،وھو ما تجده في ملحمة ھزيود في عشق
عدد من اآللھة الخالدة ، Immortalsرجاالً ونسا ًءا ،لنساء ورجال من البشر
الفانين ،Mortalsأو زواجھم وإنجابھم منھم األبطال ،وعلى رأسھم زيوس
نفسه الذي تزوج من ألكميني Alcmeneاألرضية وأنجب منھا البطل ھرقل
،Heraclesويصف ھزيود زيوس بأنه:
)(١
"أبو اآللھة والناس "Father of Gods and Men
وال ينبغي أن يكون قد فاتك أن التيتان ،الذين يصفھم ھزيود بأنھم آلھة
،Titan Godsليسوا سوى فيلم اقتبس ھزيود ومن خلف ھزيود قصته من
ھؤالء الجبابرة بني اآللھة في خريطة بني إسرائيل ،وكلمة :تيتان اإلغريقية ھي
(•).
حرفياً :الجبابرة العربية ،وھجبوريم العبرية
1) Theogony, in:Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an English
translation, P81.
• ( تمتلئ أفالم ھوليوود بأمثال ھذه القصص ،وبعضھا أفالم تجسد األساطير ،وبعضھا ،وھو األخطر ،يدور
في إطار حديث يخدع المشاھد من باب أنه خيال علمي ،وأحد ھذه االفالم يجسد أساطير ھزيود عن التيتان،
والمعارك بين اآللھة ،واإلنسان القادر على أن يكون كاآللھة ويصارعھا ،في صورة عصرية مع بعض
التحوير كالمعتاد ،ويزيده خداعا ً للمشاھد العربي التالعب بالترجمة وحجب الكلمات الصادمة لوعيه كالمعتاد
٣٧٢
شفرة سورة اإلسراء
وما جاء في ملحمة ھزيود ،كما أخبرناك ،أساطير وليس خرافات محض،
فما فعله ھزيود ھو نفسه ما فعله بنو إسرائيل في خريطتھم للوجود ،العبث
بالمكونات ،وتغيير العالقات ،ونزع األفعال والصفات من أصحابھا ونسبتھا
إلى غيرھم ،ثم إضافة بعض االبتكارات والتفنن في التحويرات.
فآلھة السماء واألرض والبحار والجبال والعالم السفلي ليست سوى المالئكة،
وكل ما فعله ھزيود ھو أنه أسند إليھا اإلرادة والفعل بدالً من المھمة والحفظ،
وجسدھا في صورة البشر ،وغير اسمھا من مالئكة إلى آلھة ،وح ﱠول اجتماعھا
من المأل األعلى إلى جبل األوليمب ،بالضبط كما حول بنو إسرائيل اإلله إلى
آلھة وزوجوھا بالبشر ،وكما حول القباليون إبليس إلى إله ،والجن إلى آلھة.
وھزيود جعل ھؤالء التيتان آلھة ،ألن الجن والشياطين في ابتكارات القباليين
على خريطة الوجود البني إسرائيلية كانوا ،ھم والمالئكة ،آلھة مع اإلله في جنة
عدن ،وھو ما تجده عند ھيلينا بالفاتسكي صريحا ً ولكنه مقلوب:
أيضاً ،وھو فيلم :مدينة مظلمة ، Dark Cityالذي أخرجه ألكس بروياس Alex Proyasسنة ١٩٩٨م،
والمدينة المظلمة ھي الوجود المظلم الذي ينيره في نھاية الفيلم اإلنسان وقد حل محل اآللھة.
٣٧٣
شفرة سورة اإلسراء
ومعركة الوجود التي دارت رحاھا بين زيوس والتيتان ،ھي نفسھا المعركة
التي افترض كل من تكون وعيه بخريطة الوجود البني إسرائيلية من القباليين
واألميين وقوعھا بين اآللھة في جنة بني إسرائيل.
وأما المؤرخون األميون ،فإن ھذه الحرب التي تحكم وعيھم تتسرب في ثنايا
ما يكتبون ،وفي األمثلة التي يستخدمون.
فإليك األمي ول ديورانت يجمع في عبارة واحدة بين اإليمان بالمعركة التي
أقامھا بنو إسرائيل في الجنة وبين ارتباط ھذه المعركة في وعيه بمعركة زيوس
والتيتان:
"وكان على رأس ھذا النظام اإللھي الجديد رب األرباب زيوس العظيم ،ولم
يكن زيوس أول من ُوجد من اآللھة ،فقد سبقه كما رأينا من قبل أورانوس
وكرونوس ،ولكنھما ھما والجبابرة Titansقد ثُلت عروشھم كما ثُلت
)(١
عروش جيش الشيطان "Lucifer
وألن جرثومة بني إسرائيل تستوطن وعي ديورانت ،و َمن تستوطن ھذه
الجرثومة وعيه يختل تكوينه وتفسد موازينه ويضطرب فھمه ،وأعظم آثار ھذا
الخلل والفساد واالضطراب أنه ال يعي ھذه الجرثومة ،وال يدرك أنھا ھي التي
تحكمه ،وال يفطن إلى آثارھا في ما يراه وما يفھمه ،ديورانت ،ألنه أمي ،ھذا
ھو تفسيره لألساطير ولماذا تصدر ،وللشرك وتعدد اآللھة وكيف تولد:
"لقد فُطر اإلنسان على أن يعبد آلھة متعددة كما فُطر على الزواج من
نساء متعددات ،وال يقل عمر فطرته األولى عن فطرته الثانية ،ألنھا توائم كل
المواءمة ما في العالم من تيارات متعارضة ،وإن مسيحية البحر المتوسط في
ھذه األيام ال يُعبد فيھا ﷲ بقدر ما يعبد فيھا األولياء والقديسون ،ذلك أن
الشرك ھو الذي يوحي إلى حياة السذج باألساطير وما فيھا من خيال
)(٢
وسلوى"
فإليك تصحيح الوحي لما أنتجه وعي ديورانت البني إسرائيلي وفھمه
المختل :الشرك ال يلھم األساطير ،بل األساطير ،التي أنتجھا رجل واحد ،كما
رأيت ،أو في الحقيقة كان مجرد واجھة للطائفة التي لفقتھا ،ھي مصدر الشرك
ووسيلة بثه من أجل طمس مسألة األلوھية وتضليل البشر عن اإلله الحق،
وتغييب التوحيد والوحدانية.
وتعدد اآللھة ليس فطرة ،بل ھو التيه الذي يذھب فيه البشر في كل اتجاه
ويدورون حول أنفسھم حين يفتقدون خريطة الوجود الحقيقية أو تُحجب عنھم،
وكائنا ً ما كان ما يصلون إليه ،أو يصل إليه بعضھم ،فلن يكون إال داخل التيه.
فإذا أردت أن تتيقن أن ديورانت نفسه داخل التيه ويرى ويفھم من خالله،
وأنه ليس سوى أحد أتباع بني إسرائيل ،وأن وعيه محكوم بخريطتھم ،فتأمل
كيف حين أراد أن يدلل على ما يقوله ،ضرب مثاالً س ﱠوى فيه بين اإلله الذي
خلق اإلنسان ويعبده ويتطلع إليه فوقه وبين المرأة التي ينكحھا الرجل ويفترشھا
تحته!!
ثم إليك نموذجا ً على التيه في بالد العرب ھو ھو ،ومن خالل خريطة ھزيود
البني إسرائيلية للوجود ھي ھي ،بعد أن عبرت جرثومة بني إسرائيل من
الغرب إلى الشرق ،واستوطنت وعي أبنائھا ليتحولوا إلى أتباع لھم وھم ال
يشعرون.
يقول توفيق الحكيم في إحدى رسائله إلى صديقه أندريه في كتابه :زھرة
العمر:
٣٧٦
شفرة سورة اإلسراء
"إني أعيش في الظاھر كما يعيش الناس في ھذه البالد ،أما في الباطن فما
زالت لي آلھتي وعقائدي و ُمثلي العليا ،وكل آالمي مرجعھا ھذا التناقض بين
حياتي الظاھرة وحياتي الباطنة")!!(١
فھذا ھو اإلله الذي اختاره توفيق الحكيم ليتعبد له ويجاھد في سبيله ،يخبرك
به في حرارة ،في رسالة أخرى:
"إني أومن بأبولون)•( ،أومن بأبولون ،إله الفن الذي عفﱠرت جبيني أعواما ً
في تراب ھيكله ،إنه ليعلم كم جاھدت من أجله وكم كافحت وناضلت وكددت،
باسمه أخوض المعركة الكبرى وأنازل كل مجتمع وكل حياة وكل عقبة تحول
)(٢
بيني وبين فني الذي منحته زھرة عمري التي لن تعود"
ﺷـﻴﻄﺎن ﺑﲏ ٕاﴎاﺋﻴﻞ
واآلن لعلك في شوق إلى أن تعرف من يكون بروميثيوس ،وماذا تكون
أسطورته التي ھام بھا األميون من المفكرين واألدباء والفنانين في الغرب
والشرق.
وبعد انتصار آلھة األوليمب واستتاب األمر لكبيرھم زيوس ،قرر أن يعمر
األرض بمخلوقات جديدة ،فأوكل ھذه المھمة لبروميثيوس وأخيه إبيميثيوس
مكافأة لھما.
1) Theogony, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an English
translation, P117-125.
2) . Warks and Days, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an
English translation, P2-64.
3) Edwyn Robert Bevan: The Prometheus Bound of Aeschylus، rendered into
English verse
٣٧٨
شفرة سورة اإلسراء
وفي غيبة بروميثيوس ،كان أخوه العجول إبيميثيوس قد أتم خلق الحيوانات
والطيور فعالً ،ومنح بعضھا أشعاراً وأوباراً وأصوافاً ،وجعل لبعضھا اآلخر
مخالب وأنياباً ،ولبعضھا الثالث سرعة أو جناحاً ،ولبعضھا الرابع صوتا ً أو
جماالً.
وعندما عاد بروميثيوس الداھية واسع الحيلة ،قرر أن يجعل ھذا المخلوق
الضعيف ،الذي ال حول له وال قوة ويفتقد كل ميزة ،أقوى المخلوقات ،بأن
يجعله على صورة اآللھة ويھبه قدرات اآللھة.
وبدأ بروميثيوس ما انتواه بأن جعل اإلنسان معتدل القوام ،منتصب القامة،
ورأسه مرفوعة كاآللھة نحو السماء ،ثم غامر بنفسه ،فصعد إلى السماء وغافل
زيوس ،وسرق قبسا ً من نار اآللھة وخبأھا في عصا مجوفة صنعھا من ساق
)•(
،Hollow fennel stalkثم عاد إلى األرض ،ليھب بھا نبات ال ﱠشمار
• ( الشمار بقلة من الفصيلة الخيمية ،ومنه نوع حلو يزرع ويؤكل ورقه وسوقه نيئاً ،ونوع آخر سكري
يؤكل مطبوخاً.
٣٧٩
شفرة سورة اإلسراء
اإلنسان نور المعرفة ،وضياء العقل والقدرة على التفكير ،ويجعله بھا قادراً
على النطق والكالم.
والخطوة األخيرة التي كان بروميثيوس على وشك أن يفعلھا ،ھي أن يھب
اإلنسان الخلود ،غير أن زيوس تنبه له ومنعه ،ولوال ذلك لصار اإلنسان إلھا ً
خالداً كامالً.
فأما عقاب بروميثيوس ،فكان أن أمر زيوس بأن يُعتقل بروميثيوس ،وأن
يُقيد طريحا ً على ظھره بسالسل قاسية وأغالل ال تفك في رأس أحد جبال
القوقاز في أطراف األرض ،ثم سلط عليه ُعقابا ً ھائالً ،يلتھم كبده كل يوم ،فإذا
التئم الكبد الخالد في الليل عاد العقاب إلى التھامه من جديد في النھار.
1) Warks and Days, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an
English translation, P7.
٣٨٠
شفرة سورة اإلسراء
االثنتي عشرة التي كلفته بھا ربة الزواج ھيرا ،لتتخلص منه ،بعد موافقة زوجھا
زيوس.
وبعد تحريره ،أتم ابن إيابيتوس النبيل أياديه على اإلنسان الذي خلقه ،فبدالً
من أن يعود إلى عالم اآللھة في رأس جبل األوليمب ،اختار بروميثيوس أن
يذھب إلى األرض ليعيش مع اإلنسان ،فعرﱠفه ماذا يأكل وكيف يعد طعامه،
وكيف يصنع ما يقيه غوائل الحر والبرد ،ووبأي شئ يبني ما يأوي إليه ،ثم
علمه ھو ونسله القراءة والكتابة ،ثم الزراعة والتجارة ،ثم ركوب البحر
والصناعة.
وأما عقاب الرجل الذي عاقبه به زيوس ،واللعنة التي أنزلھا عليه ،فھي
حواء اإلغريقية!
بعد أن توعد زيوس بروميثيوس في ثورة غضبه بالعذاب ،كان ھذا ھو
عقابه للرجال الذي أخبره به:
"سأجعل الرجال Menيدفعون ثمن النار التي أخذوھا شراً ،قد تسعد به
)(١
قلوبھم ،ولكن في عناقھم Embraceله ھالكھم"
1) Warks and Days, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an
English translation, P7.
٣٨١
شفرة سورة اإلسراء
التي أنجبھا من رأسه دون أم ،الربة العذراء وإلھة الحكمة أثينا ،Athenaأن
تُلبسھا ثوبا ً فتانا ً مطرزاً بالذھب والفضة ،وأمر ربة الحب والجمال الفاتنة
أفروديت Aphroditeأن تتوج رأسھا بتاج من زھور الربيع الملكية الفواحة،
وأن تمنحھا من أنوثتھا الطاغية ،وتبث في جسدھا رغبة عشق عارمة ،وأمر
رسوله ھرمس Hermesأن يجعلھا بال حياء ،وأن يھبھا صوتا ً ناعما ً عذبا ً
وأكاذيب خالبة وطبيعة مخادعة ،فكانت ھذه ھي المرأة األولى ،وسماھا
زيوس :باندورا ،Pandoraأي :ھدية الجميع ،جميع اآللھة للرجال.
ثم أمر زيوس رسوله ھرمس أن يأخذ باندورا ،وأن يأخذ معه جُرة Jarأو
صندوقا ً)•( ،مأله ،وطعمه بالذھب ،ورصعه بالدر والجواھر ،وزينه بالرسوم
والمناظر ،وأن يسلم باندورا ومعھا الصندوق المغلق ھدية إلبيميثيوس في
األرض ،حيث يعيش معه الرجال حياة مديدة طاھرة ،بال شقاء وال أحزان،
والخطايا وال أوزار.
وما إن رأى إبيميثيوس الغر الساذج الھدية الفاتنة حتى ھام بھا ،فقبِلھا ھي
والصندوق مخالفا ً وصية أخيه الفطن بروميثيوس أال يقبل أي ھدايا تأتي من
جھة اآللھة!
• ( في مالحم ھزيود أنھا جرة ،وفي مسرحية إسخيلوس :بروميثيوس مقيداً ،التي أخذھا من مالحم ھزيود،
أنه صندوق.
٣٨٢
شفرة سورة اإلسراء
"أتى جنس النساء ونوع اإلناث ،منھا انحدر الجنس اللدود المھلك
Deadly raceوقبيلة النساء ،الالتي يعشن بين الرجال الفانين من أجل
)(١
تعاستھم الكبرى ،راضيات عند الغنى ،ساخطات عند الفقر"
ونقول لك :بل ھي أسطورة أصيلة ال خرافة ،أقامھا ھزيود وإسخيلوس حول
نواة ،ورسموا مالمحھا وصاغوا تفاصيلھا منھا ،مع ما يلزم من االبتكار في
الصياغة والتحوير في التفاصيل ،وھذه النواة ھي خريطة الوجود البني
1) Theogony, in: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with an English
translation, P123.
( ٢أساطير إغريقية ،ج ،١ص.٨٩
٣٨٣
شفرة سورة اإلسراء
إسرائيلية وما تفرع عنھا في القبااله وعوالمھا ،وھي ،كما علمت ،قديمة قدم
بني إسرائيل وتالزم وجودھم.
٣٨٤
شفرة سورة اإلسراء
بروميثيوس ،كما ترى ،ھو نفسه لوسيفر ،فلم يفعل ھزيود في مالحمه سوى
أنه أضاف إلى مخاطرته بنفسه بعصيانه أمر كبير اآللھة وھبته المعرفة
لإلنسان على غير إرادته ،خلقه لإلنسان ،أو نقل الوساطة في الخلق بين الخالق
والمخلوقات إليه.
وبعد ذلك ،فزيوس كبير اآللھة ھنا ھو أدوناي أو يھوه كبير اآللھة ھناك،
واألكل من الشجرة في خريطة الوجود البني إسرائيلية ھو سرقة النار في
الخريطة اإلغريقية ،وحيازة اإلنسان للمعرفة ليصير إلھا ً أو كاآللھة ھي ثمرة
ﱠ
ومن على ھذه وتلك ،وبروميثيوس الذي ثار على اإلله من أجل اإلنسان،
اإلنسان بالمعرفة ،ثم ھبط إلى األرض ليرافقه في حياته ويعينه على بدء
مسيرته ويعلمه كيف يعيش فيھا ،ثم علمه الزراعة والتجارة ،ووھبه األدب
والفن ومقومات الحضارة ،ھو نفسه شيطان بني إسرائيل ولوسيفر القبااله
والحركات السرية.
وفي مالحم ھزيود ،وعند اإلغريق الذين تكونوا بھا ،كما يقول دكتور عبد
المعطي شعراوي:
ألن اآللھة ،إلوھيم ،في ملحمة بني إسرائيل خلقوا اإلنسان على صورتھم
وفي شكلھم:
وباندورا اإلغريق مزج فيھا ھزيود بين القبااله وخريطة الوجود البني
إسرائيلية ،فھي ،في أحد وجھيھا ،كما رأيت ،ليست سوى حواء بني إسرائيل،
رمز الغواية ومصدر الشرور ،واللعنة التي صبھا اآللھة على الرجال ليعاقبوھم
بھا.
وأما وجه باندورا اآلخر ،فھو أنھا ُخلقت من التراب والماء مباشرة وليس
من الرجل األول كحواء بني إسرائيل.
فال تتوھم أن ھذا من ابتكارات ھزيود المحض ،فھذا الوجه اآلخر ليس سوى
ليليث القبالية!
وليليث Lilithفي سفر زوھار ،وفي القبااله ،وفي جمعيات السحر وعبادة
الشيطان ،ھي زوجة آلدم سابقة على حواء ،خلقھا اإلله خلقا ً مباشراً من التراب
كآدم وليس من ضلعه كحواء ،ثم أمرھا بطاعة آدم فأبت وفرت إلى ساحل
البحر األحمر.
وألن ليليث تمردت على اإلله وخرجت على طاعته فطردھا ،فقد أحبھا قائد
الثورة والمطرود األول ،لوسيفر ،وتزوجھا!
واآلن إليك من مالحم ھزيود ما يزيدك يقينا ً بأن أصلھا في خريطة بني
إسرائيل ،وما توقن به أن ما في ھذه الخريطة ال يمكن أن يعرفه وال أن يصل
إليه اال من يحوز أصله في الوحي.
( ١تكوين.٣:١٧ :
٣٨٧
شفرة سورة اإلسراء
في أسطورته ،خلق بروميثيوس اإلنسان ،كما علمت ،من التراب والماء ثم
ص ﱠوره من الطين.
فإليك إحدى غرائب األدمغة األمية ،تعرف منھا أن ثَمة معارف ال مصدر
لھا إال الوحي ،وأن ثَمة أسئلة إذا استقل العقل في اإلجابة عليھا ،بالغا ً ما بلغ
صاحبه من علم وتحصيل للمعارف ،فلن يكون ما يصل إليه إال أباطيل
وضالالت ،بعضھا مقلوب الحق ،وبعضھا من الھزل والطرائف.
يقول السير جيمس فريزر في كتابه :الفلكلور في العھد القديم ،وھو يبحث،
بمنھجه األمي ،عن أصل قصة خلق اإلنسان من ماء وتراب في خريطة الوجود
البني إسرائيلية ،ومن أين جاءت:
العالمة األمي وجد شبھا ً بين خلق اإلنسان من طين في خريطة بني إسرائيل
ﱠ
وأسطورة بروميثيوس ،فجعل األسطورة مصدراً للخريطة ،ثم حول األسطورة
إلى حقيقة بحث عن آثارھا ،ووجد ما تخلف عنھا من الطين بعد آالف السنين!!
المشكلة أنه من عبيد بني إسرائيل ،وعيه محصور داخل خريطة بني
إسرائيل للوجود ،وعقله يعمل داخل سيرة البشر األولى كما رسمھا بنو إسرائيل
في ھذه الخريطة ،فأسئلته تنبعث منھا ،ومكونات ھذه الخريطة ھي فرضياته
التي يبدأ من عندھا ،ومنھجه والطريقة التي يبحث بھا عن اإلجابة أتى بھا من
سيرة البشر فيھا ،وإجاباته وما يصل إليه يعود به إليھا.
وال تثريب على أمثاله من عبيد بني إسرائيل في الغرب ،إذ إن عالمه الذي
ولد ويعيش فيه ،ھو كله ،بعقائده وأفكاره وعلومه وآدابه وفنونه ،ليس إال ثمرة
مكتملة وترجمة حية لخريطة بني إسرائيل للوجود وسيرة البشر األولى فيھا،
وھذا العالم وكل من فيه تكونوا بمحاكاة سيرة بني إسرائيل المقدسة.
٣٨٩
شفرة سورة اإلسراء
ولكن أنﱠى له ذلك والعالم الذي نبت فيه يحكمه ،وخريطة بني إسرائيل
تفترس وعيه وتعشش في عقله ووجدانه ،وما تفتحه من أبواب االنفالت
واالبتكار رضاعه وفطامه.
ونقول لك :ليست المشكلة أنه ال يعلم ،بل أنه لن يقبل علما ً يأتيه من غير
عالمه وخريطة الوجود التي انفتق بھا وعيه ،وتسري مياھھا فيه ،بل وإذا علم
الحق وكان منصفا ً وأقر بأنه حق فلن يتبعه ،فھذا وأضرابه شعارھم :لوال نُزل
ھذا القرآن على رجل من الغرب عظيم!
فإليك نموذجا ً في عبارة للمستشرق إرنست رينان ،تراه فيھا يعرف الحق
ويقر به ،دون أن يعتنقه ،بل وھو يشن حمالت شعواء القتالعه وإحالل ما
يعرف أنه باطل محله.
"ال يستطيع أن يقاوم شعوراً يجرفه حين يدخل المساجد ويرى خلوھا من
التماثيل والزخارف التي تثقل الكنائس وتشغل العابد عن الرب ،وحين يرى
وحدة المسلمين في صالتھم ،وھو أنه يتمنى لو أنه كان مسلماً")!!(١
فالذي منع ھذا أن يكون مسلما ً وجعله عدواً لإلسالم وعقائده وحضارته ،مع
يقينه أنه الحق ،ھو ما يحجز جيمس فريزر وأشباھه في الغرب عن النظر في
خريطة الوجود اإللھية الحقيقة ،بل إنھم ينقبون ،ويكدون في التنقيب ،عما
فھا ھو موريس بوكاي ،أحد أبناء الغرب ،يخبرك صريحا ً أن المشكلة ليست
في أن َمن في عالمه ال يعلمون ،بل في أنھم ال يريدون أن يعلموا:
ألن القرآن بيان اإلله إلى خلقه ،وخريطة الوجود فيه ھي الحق الذي ينسف
خريطة الوجود البني إسرائيلية ،وتنقطع به االبتكارات ،وتنھار عوالم الباطل
التي تكونت بھا ويقوم كل شئ فيھا عليھا ،واالبتكارات وعوالمھم التي تكونت
بھا أحب إليھم من الحق!
وأما التثريب ،كل التثريب ،فعلى عبيد عبيد بني إسرائيل من األميين في
الشرق ،اتخذوا القرآن مھجوراً ،ودخلوا خلف األميين في الغرب جحر الضب
البني إسرائيلي ،لتستوطن الخريطة المزورة وعيھم ،وتسري في تكوينھم ،فمن
خاللھا يرون ،وبھا يفھمون ،ومن مياھھا الملوثة ما أنتجوه وما زالوا ينتجون.
في األسطورة أن بروميثيوس خبأ نار المعرفة حين اختلسھا من اآللھة في
عصا من ساق شجيرة ال ﱠشمار ،وھذه العصا ،التي أھملھا من فطنوا إلى وجوه
الشبه بين األسطورة وقصة الخلق البني إسرائيلية ،ليست سوى الحية التي اختبأ
فيھا الشيطان ليدل اإلنسان على شجرة المعرفة.
الحية في خريطة الوجود البني إسرائيلية ،لم تأت بھا الطائفة منھم التي
تحوز األصل ال من شرق وال من غرب ،كما توھم األميون وكدوا في البحث
عنھا في الصخور واألحافير واألساطير.
٣٩٢
شفرة سورة اإلسراء
لم يفعل بنو إسرائيل شيئا ً سوى أنھم قلبوا عصا موسى إلى حية ،كما
وجدوھا تنقلب في سيرتھم:
صا«٣ ،فَقَا َل» :ا ْ
ط َر ْح َھا إِلَى " فَقَا َل لَهُ ال ﱠر ﱡبَ » :ما ھ ِذ ِه فِي يَ ِدكَ؟« فَقَا َلَ » :ع ً
٢
سى ِم ْن َھا٤ ،ثُ ﱠم قَا َلب ُمو َ ارتْ َحيﱠةً ،فَ َھ َر َ ص َ ض فَ َ ض« ،فَطَ َر َح َھا إِلَى األَ ْر ِ األَ ْر ِ
صا ارتْ َع ً ص َ سكْ بِ َذنَبِ َھا« .فَ َم ﱠد يَ َدهُ َوأَ ْم َ
سكَ بِ ِه ،فَ َ سىُ » :م ﱠد يَدَكَ َوأَ ْم ِ ال ﱠر ﱡب لِ ُمو َ
)(١
فِي يَ ِد ِه"
فعصا موسى التي جعلھا الرب اإلله تفعل األعاجيب ،فالتھمت ثعابين سحرة
فرعون ،وضرب بھا موسى النھر فاستحال ماؤه دماً ،وفلق بھا البحر ،وفجر
بھا عيون الماء في سيناء ،نقلھا بنو إسرائيل إلى خريطة الوجود لتؤدي عجيبة
أخرى ،بعد أن قلبوھا كما فعل موسى إلى:
ثم جاء ھزيود ،فأعاد الحية إلى أصلھا ،وقلبھا في خريطته للوجود إلى عصا
مرة أخرى.
( ١خروج.٤-٤:٢ :
( ٢تكوين.٣:١ :
٣٩٣
شفرة سورة اإلسراء
يھش بھا على غنمه ،فثَمة من ذھب إلى أن عصاه ھذه كانت من الشجيرات التي
تنبت في البوادي.
وفي ذلك أثر ضعيف رواه اإلمام الدارمي في كتابه :الرد على الجھمية،
بسنده عن عكرمة ،عن ابن عباس ،موقوفا ً عليه أن:
"سيد السموات السماء التي فيھا العرش ،وسيد األرضين التي نحن
)(١
عليھا ،وسيد الشجر العوسج ،ومنه عصا موسى"
وألن العوسج ال وجود له في اليونان ،فقد حوله ھزيود ،وھو يعيد الحية إلى
أصلھا العصا ،إلى شجيرة ال ﱠشمار التي تنتشر في حوض البحر المتوسط!
ومن العصا التي خبأ بروميثيوس فيھا النار إلى النار نفسھا ،وھي شئ آخر
ال شبيه لمعانيه في األسطورة إال في سيرة بني إسرائيل ،وفي أصل ھذه السيرة
في الوحي.
فأما عن النار في األسطورة ،من أين أتى بھا ھزيود ،فارتباط النار في
األسطورة باآللھة ،واقترانھا بالمعرفة ،وحملھا علم اآللھة إلى اإلنسان ،وارتفاع
اإلنسان بھذه النار وما جلبته له من علم ومعرفة فوق المخلوقات كلھا ،ليصير
المخلوق اإللھي أو المخلوق المختار عند اإلله بروميثيوس ،فلست في حاجة إلى
كبير ذكاء لتدرك أنھا ليست سوى النار التي كلم منھا اإلله يھوه موسى عليه
السالم ،وجاءه منھا علمه ،وبھذا العلم اآلتي منھا ارتفع بنو إسرائيل فوق البشر
واصطفاھم اإلله وصاروا شعبه المختار.
ق ا ْل ُعلﱠ ْيقَةُ؟«٤ .فَلَ ﱠما َرأَى ال ﱠر ﱡب أَنﱠهُ َما َل لِيَ ْنظُ َر،
ظ َر ا ْل َع ِظي َم ،لِ َما َذا الَ ت َْحتَ ِر ُ
ا ْل َم ْن َ
سى!« ،فَقَا َل» :ھأَنَ َذا«٥ ،فَقَا َل: سىُ ،مو َ س ِط ا ْل ُعلﱠ ْيقَ ِة َوقَا َلُ » :مو َ نَادَاهُ ﷲُ ِمنْ َو َ
ض َع الﱠ ِذي أَ ْنتَ َواقِفٌ
اخلَ ْع ِح َذا َءكَ ِمنْ ِر ْجلَ ْيكَ ،ألَنﱠ ا ْل َم ْو ِ
»الَ تَ ْقتَ ِر ْب إِلَى ھ ُھنَاْ ،
َعلَ ْي ِه أَ ْر ٌ
ٌ )(١
س ة"ض ُمقَ ﱠد َ
فھزيود ،كما ترى ،لم يأت في مالحمه بشئ جديد ،وال ابتدع شيئا ً من بنات
أفكاره ،ال النار ،وال المعرفة ،وال أن تلك حاملة لھذه ،وال أن اإلله مصدر ھذه
وتلك.
واالبتكار الوحيد الذي ابتكره ،والتحوير الذي فعله ،كما رأيت في كل
االبتكارات والتحويرات ،ھو أنه نقل المكونات التي بدأت بھا سيرة بني إسرائيل
إلى خريطة الوجود ،وصنع بھا مادة ،فبرك منھا بداية سيرة بني آدم ،ليموه بھذه
الفبركة السيرة اإللھية الحقيقية.
ومما يزيدك يقينا ً أن ھزيود إنما أتى بالمادة التي لفق منھا األسطورة من
سيرة بني إسرائيل ،أنه ال شبيه لھذه المادة في أي تراث سابق على سيرة بني
إسرائيل.
والسير جيمس فريزر تتبع سيرة بني إسرائيل ،في كتابه :الفلكلور في العھد
القديم ،وألنه أمي والفرضية التي بدأ منھا أن كل ما في ھذه السيرة ليس سوى
تلفيق جمع فيه كاتبھا كل ما وصله من حكايات القبائل البدائية والشعوب البائدة،
فقد استعرض فريزر معارفه الغزيرة عن تراث ھذه القبائل والشعوب ،واختال
بمھاراته ومواھبه في ربط جزيئات سيرة بني إسرائيل بھذا التراث وإيجاد
شوابه لھا فيه ،ولكنه لم يجد لقصة اإلله والنار والمعرفة أثراً ،فغض طرفه
وسكت عنھا ،رغم أنھا محور ھذه السيرة وبدايتھا وأشد مكوناتھا إثارة!
فإليك ما تعمد األمي جيمس فريزر أن يُعرض عنه ،تعلم منه المصدر
األصلي لقصة اإلله والنار واالصطفاء والمعرفة ،وأنھا حقيقة ال أسطورة ،وأنه
حتى بني إسرائيل ال يبتكرون ،ولكنھم بما أوتوه يعبثون ،ثم في ما ينتجه عبثھم
تسير خياالت األميين ،وفي األوھام التي تخلقھا ھذه الخياالت يعيشون.
}~¡®¬«ª©¨§¦¥¤£¢
وإليك مرة أخرى من أسطورة ھزيود ما ال أصل له وال تفسير له إال في
الوحي.
( ١طه.١٣-٩ :
٣٩٦
شفرة سورة اإلسراء
القرن السابع قبل الميالد ،وولد إسخيلوس في الربع األول من القرن السادس
قبل الميالد ،سنة ٥٢٥ق م.
ولكن ثمة فرق بين األسطورة والمسرحية في مسألة النار والمعرفة ،وإن
كانت الفحوى واحدة ،فإسخيلوس نص في مسرحيته على أن بروميثيوس سرق
)(١
النار ليھب اإلنسان بھا المعرفة ويعلمه التفكير وينطقه
أما في مالحم ھزيود ،فقد علم بروميثيوس اإلنسان التفكير والكالم ،ثم سرق
النار من اآللھة ليھبھا له في األرض مصدراً للطاقة وينشر بھا الدفء في
حياته ،وليعرفه كيف يستخدمھا ويصنع بھا ما ييسر أحواله.
في مالحم ھزيود ،بعد أن بدأ الرجال الذين خلقھم بروميثيوس حياتھم على
األرض كانوا يذبحون الماشية قربانا ً لآللھة ،ولم يكن مباحا ً لھم أن يأكلوھا ،وال
يعرفون كيف يكون طھيھا ،فاحتال ابن إيابيتوس النبيل لكي يبيح لإلنسان أكل
اللحم ويعلمه كيف يطھوه.
ذبح بروميثيوس ثوراً عظيما ً وجعله قسمة بين زيوس واإلنسان ،لكي
اإلنسان اآللھةَ أكل األنعام ،ولكن غلبته مواھبه في
ُ يرضى زيوس أن يقاسم
المكر وتدبير الحيل ،فقسم الذبيحة قسمين ،فجعل في كومة عظامھا البيضاء بما
اختلط بھا من رقائق اللحم ،وزين اإلناء الذي وضعھا فيه وغطاھا بطبقة من
الدھن البراق ،وفي الكومة األخرى وضع اللحم وغطاه باألحشاء.
ووضع بروميثيوس الكومتين أمام زيوس ليختار التي تروق لھا ويترك
األخرى لإلنسان ،فاختار الكومة البراقة ،وحين رأى ما فيھا علم أنه ُخدع،
فامتأل غضبا ً ولكنه أخفاه وقبل العظام والدھن ألنھا اختياره.
"اعتادت قبائل الرجال في األرض أن تأكل اللحم وأن تقدم العظم قربانا ً
)(١
لآللھة في المعابد"
ثم سرق بروميثيوس النار من اآللھة ،ليعلم اإلنسان كيف يطبخ اللحم ،ثم
ليعرفه كيف يوقدھا ويحتمي بھا من البرد.
وينقل دكتور عبد المعطي شعراوي ،عن جريفز ،وعن بورا Bowraفي
كتابه :تجربة اإلغريق ،Greek Experienceفي تفسير عادة اإلغريق تقديم
العظم وما اختلط به من شرائح اللحم لتحرق في المعابد قربانا ً لآللھة ،وفي
تفسير أصلھا في ملحمة ھزيود أنه:
"ربما تكون ھذه الرواية من ابتكار ھزيود ،إذ إنھا قصة طريفة مضحكة
لتبرير عقاب زيوس لبروميثيوس ،وقد تكون أيضا ً أسطورة من األساطير
ومرة أخرى ،نقول لك :ما في أسطورة ھزيود توظيف وليس ابتكاراً من
عنده كما توھم األميون ،فھذه القصة التي يقولون إنھا طريفة ومضحكة ،ولم
يجدوا لھا مصدراً ،أصلھا في الوحي وما أخبرك به عن بني إسرائيل:
´ÁÀ¿¾½¼ »º¹¸¶µ
اإلله يخبرك في بيانه أنه عاقب بني إسرائيل ببغيھم ،فضيق عليھم وحرم أن
يأكلوا من الذبيحة إال العظم وما اختلط به من لحم ،والذي فعله ھزيود أنه رد
العقوبة في ملحمته لآللھة فأباح لھا العظم وحرم عليھا اللحم.
وألن مالحم ھزيود ھي النواة التي تكون بھا اإلغريق وتخلقت حولھا
حضارتھم ،فقد صارت ھذه شعيرة عند اإلغريق ورثوا فيھا عن بني إسرائيل
عقاب اآللھة وھم يحسبون أنھم يتقربون إليھا!!
فلعلك تكون قد أدركت اآلن ماذا يكون بنو إسرائيل في البشر ،ولماذا أفرد
لھم عز وجل في بيانه إلى خلقه ما أفرده لھم ،ولماذا تتبع لك سيرتھم وأتاك بما
فيھا من تفاصيل؟
٤٠٠
شفرة سورة اإلسراء
ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس اﻟﻘﺒﺎﻟﻲ
ÊÉÈÇÆÅÄÃÂ
)اﻟﻘﺼﺺ(٥٠:
٤٠١
شفرة سورة اإلسراء
٤٠٢
شفرة سورة اإلسراء
ٔاﺧﻮﻳﺔ ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس
علمتَ من قبل أن ثَمة سيرة تقليدية لمن كونوا الحركات السرية في كل
العصور ،وأن ھذه السيرة انسابت عبرھا خريطة الوجود البني إسرائيلية وما
بُني عليھا من ابتكارات في كل األمم والشعوب ،وھي سيرة الرجل الذي يسافر
بين البلدان ،ويتنقل بين القارات ،ثم يقر في مكان ال يعلم أحد فيه أصله وال بلده
وال ديانته وال مواھبه ،بل وال اسمه الحقيقي ،ثم يعمل عمالً يغير به وعي
المكان الذي قر فيه.
وعلمت أن ھذا العمل الذي يعمله ھذا المتنقل في المكان الذي ھبط عليه ،قد
يكون جمعية علمية أو جماعة أدبية أو منظمة سياسية أو طريقة دينية ،يدس من
خاللھا ما يريد دسه من أفكار في أذھان من يخلب لبھم بريق راياتھا وزخرف
شعاراتھا فيدخلونھا ،ثم يكونون ھم أنفسھم أداة بث ھذه األفكار وتغيير وعي
عموم الناس بھا.
فإليك نموذجا ً آخر لھذه السيرة التي تنساب بھا خريطة بني إسرائيل
وامتدادھا في القبااله ،في أحد أشھر أعالم البشر ،وإحدى أقدم الجمعيات السرية
في التاريخ ،توقن بھا أن الفساد ،وإن تعددت الضالالت واألباطيل التي يفرزھا
وتفرقت وسارت في مشارق األرض ومغاربھا ،فمنابعه واحدة.
٤٠٣
شفرة سورة اإلسراء
وما خلﱠد فيثاغورس في تاريخ العالم كله ،وجعله حاضراً مذكوراً في كل
العصور ،أثره في علم الحساب واألعداد ،ونظريته في الھندسة التي أقام
برھانھا وأثبتھا ،وھي أنه:
"في مثلث قائم الزاوية ،مربع طول الوتر المقابل للزاوية القائمة يساوي
حاصل جمع مربع طول الضلعين اآلخرين"
فإليك الوجه اآلخر لفيثاغورس وما ال تذكره المؤلفات التي تمتلئ بقصائد
مدحه ،وكتب المدارس والجامعات التي تحوي نظرياته وأفكاره.
وھو على أعتاب الشباب قام فيثاغورس بالرحلة التقليدية الشبيھة باألساطير
التي يحجھا رجال القبااله والحركات السرية عبر التاريخ ،كل واحد منھم في
أثر اآلخر)•( ،وفي رحلته ھذه ،كما يقول القبالي والماسوني من الدرجة الثالثة
والثالثين مانلي ھول ،في كتابه :التعاليم السرية عبر العصور:
"رحل إلى مصر ،وبمثابرته ،وبعد صد ورفض ،حاز ثقة كھنة طيبة
،Priests of Thebesفتتلمذ على أيديھم وأطلعوه على أسرار عبادة
إيزيس)•( ،ثم وجد ھذا القلب الجسور طريقه إلى فينيقيا وسوريا ،فتلقى من
كھنتھا أسرار عبادة أدونيس ، Adonisثم عبر إلى وادي الفرات فمكث
طويالً إلى أن تضلع من Versed inاألسرار الكلدانية والبابلية ،ثم عبر في
• ( في دورة اإلفساد الثانية ،أشھر من قاموا بھذه الرحلة ،التي تبدأ عادة بمصر ،أو تنتھي بھا ،اليھودي
القبالي كاجليوسترو مؤسس مذھب ممفيس المصري في الماسونية ،وآرثر إدوارد ويت األستاذ األعظم
لحركة الروزيكروشيان ،والقبالية ھيلينا بالفاتسكي مؤسسة جمعية الحكمة اإللھية ،وتلميذتھا اليھودية
القبالية أليس بيلي األم الروحية لحركة العھد الجديد ،والقبالي الماسوني أليستر كراولي أبو الشيطانية
الحديثة ومؤسس جمعية الفجر الذھبي لممارسة السحر وتعليم فنونه.
•( عبادة إيزيس ھي نفسھا العقيدة السرية المتوارثة بين الصفوة عبر التاريخ ،كما تقول بالفاتسكي ،ولھا
كتاب أقل شھرة من كتاب العقيدة السرية في كشف أسرار عبادة إيزيس ھذه ،عنوانه :إيزيس سافرة Isis
.Unveiled
٤٠٥
شفرة سورة اإلسراء
وبعد ما يربو على ثالثين عاما ً من االطالع على األسرار وحيازتھا ،عاد
فيثاغورس ليقيم في مدينة كروتونا ،Crotonaجنوب إيطاليا ،وھي إذ ذاك
مستعمرة إغريقية وأكثر المدن نشاطا ً وسعة وثروة ،فأنشأ مدرسته لتعليم
الحساب والھندسة العلنية ،لتكون رافداً وغالفا ً لجمعيته السرية!
بعد أن استقر فيثاغورس في كروتونا ذاع صيته فيھا وفيما حولھا من
المستعمرات اإلغريقية ،فصار مقصداً للزوار ،وقبلة للسؤال وطلب المشورة،
وأستاذاً لمحبي الحساب والھندسة وراغبي تعلمھا.
ومن ھؤالء كون فيثاغورس مدرسة لتعليم الحساب والھندسة ،فإليك وصف
أحد أشھر أساتذة الفلسفة في بالد العرب لفيثاغورس ومدرسته ،قبل أن نعرفك
بحقيقته وحقيقتھا ،يقول الدكتور يوسف كرم:
دينية قوية ومقتنعا ً بفكرة جليلة ،وھي أن العلم وسيلة فعالة لتھذيب األخالق
)(١
وتقديس النفس"
قسﱠم فيثاغورس تالميذ مدرسته ،و ُجلھم من الشباب ،إلى ثالث مراتب أو
درجات ،وأعضاء كل مرتبة ال يعلمون شيئا ً عن التي تليھا ،فتعاليم كل درجة
وطقوسھا ،وما يتعلمه ويمارسه من فيھا ،سر ال يعلمه إال ھم.
تعلم الحساب والھندسة ،وغير مسموح لھم بالكالم وال النقاش ،وبعد انتھاء
)(١
وقت التعلم يعودون إلى بيوتھم"
وفي أثناء السنوات التي يستمعون فيھا ،والتي قد تصل إلى خمس سنوات،
يترقى من يتوسم فيه من يعلمھم ما ترغبه الجمعية من مواھب عقلية ومحاضن
نفسية إلى المرتبة التي بعدھا ،وھي:
وأما المرتبة الثالثة ،والتي ال يصعد إليھا أحد من مرتبة الرياضيين إال
Pythagoras باالنتخاب ممن ھم فيھا ،فھوالء ھم :أخوية فيثاغورس
!! Brotherhood
فھؤالء ھم:
وأبناء فيثاغورس وأعضاء أخويته ھؤالء ،ال ينتقلون إلى ھذه الدرجة إال بعد
طقوس للترقي ،وبعد قسم يقسمونه بالوالء لفيثاغورس وطاعته المطلقة مع
الكتمان والمحافظة على األسرار ،ثم يقيمون معه في مدرسته إقامة دائمة ،وھو
الذي يعلمھم الحكمة وطقوسھا وكيف يمكن الوصول إليھا بنفسه.
أما قبل مرتبة الصفوة ،فكان التالميذ ال يرون فيثاغورس وال يسمعون
اسمه ،وال يعرفون عن رأس مدرستھم إال أنه السيد أو األستاذ ،Master
فمرتبة الرياضيين كان يُعلمھما النابھون من أبناء فيثاغورس ،ومرتبة السميعة
عھد فيثاغورس بتعليمھا إلى ھيباسوس Hippasusأنجب حوارييه ،لكي
يستكشف من يصلح منھم للترقي.
فمن الطريف ،أو لعله من األدلة على بالھة أكثر بني اإلنسان ،أن تعلم أن
أعضاء المنظمة وكوادرھا امتألوا بأفكار فيسھاوبت ،وكانوا يتحركون
بتعاليمه ،وثاروا وأشعلوا الثورة بأمره ،وھم لم يروه وال يعرفونه وال يعرفون
حتى اسمه ،فكل ما كانوا يعرفونه عن قائد منظمتھم ھو اسمه الحركي:
سبارتاكوس !Spartacus
٤٠٩
شفرة سورة اإلسراء
مرة أخرى ،التاريخ ال يتكرر وال يكرر أشخاصه وال حوادثه كما يتوھم
األميون ،ولكن األذھان والنفوس التي تنتج ھذا التاريخ ھي ھي ،وما فيھا ھو
ھو.
وأما ما ينبغي أن تكون قد تنبھت إليه وحدك ،وقد وصلت إلى ھذا الموضع
من رحلتك الوعرة ھذه داخل المسارات التي حفرتھا أفكار بني اسرائيل في
وعي البشر ،ثم سرت من خاللھا ابتكاراتھم واستقرت في األمم والشعوب ،فھو
أنك أمام القبااله!
٤١٠
شفرة سورة اإلسراء
الدافعة ،وھي وحدھا التي تعلم غايات المنظمة الحقيقية وأھدافھا التي تسعى
إليھا.
والدوائر التي حول ھذه النواة تغلفھا ،وكل دائرة أظھر من سابقتھا وأكبر
اتساعا ً وأكثر أعضا ًءا ،وھي أقل منھا علما ً وإحاطة بالغايات واألھداف ،وكل
طبقة أو دائرة من األعضاء ھي قناة يتم عبرھا ضخ أفكار النواة وتعاليمھا إلى
الطبقة التي تليھا ،ومع سريان األفكار والتعاليم من دائرة إلى دائرة وانتقالھا من
طبقة إلى طبقة تُموه األفكار وتُصنع للتعاليم األغلفة ،ومع كل انتقال يزداد ما
تموه به األفكار والمعتقدات الحقيقية سمواً وبراءة ،وتزداد الشعارات واألغلفة
رنينا ً وبريقاً.
والطبقة الخارجية قد تكون مئات أو ألوفا ً مؤلفة ،ھي التي يراھا عموم الناس
ويسيرون خلف ما تقوله من شعارات رنانة وما ترفعه من أغلفة براقة ،ال يعلم
حقيقتھا والغاية منھا وما تفضي إليه حقا ً ال الذين يرفعونھا وال الذين يسيرون
خلفھم!!
وفي زمانك ھذا الذي تكاد تصل فيه دورة اإلفساد الثانية إلى تمامھا ،العالم
كله ليس سوى جمعية سرية ،نواتھا نواة الحركات السرية في كل العصور،
وشعاراتھا الجذابة وأغلفتھا الخالبة التقدم والمدنية ،والليبرالية والعلمانية،
ووحدة األديان وتوحيد اإلنسانية ،وحقوق اإلنسان وأفكار التحرير النسائية،
٤١١
شفرة سورة اإلسراء
وطبقتھا الخارجية َمن يھتفون بھذه الشعارات ويرفعون ھذه الرايات في كل أمة
من أمم الكرة األرضية!
وأما إذا كنت فطنا ً حقاً ،فستكون قد أدركت أن الفلسفة ،التي تبدو لك
صروحا ً عقلية ،ھي ابتكارات لتفسير الوجود وفھم الحياة وبناء المعارف،
وأبنية عقلية ھائلة التركيب وشديدة اإلحكام واالتقان ،تذھل عقول األميين
بتركيبھا وإحكامھا واتقانھا عن أنھا أقيمت أصالً على فرضيات خاطئة وال دليل
عليھا!
فالفلسفة وصروحھا ليست سوى أثر من آثار حجب الوحي ،و َد َو َران داخل
التيه الذي صنعه بنو إسرائيل بحجب خريطة الوجود االلھية.
وإذا كنت أشد فطنة ،فلن يكون قد فاتك أن كلمة فلسفة التي صاغھا القبالي
فيثاغورس ،وكان أول من تسمى فيلسوفاً ،ھي كلمة تتكون ،كما علمت ،من
مقطعين :فيلو Philoوسوفيا ،Sophiaومعناھا :محبة الحكمة ،والحكمة ھي
القبااله ،فالفلسفة ،كما ترى ،ليست سوى محبة القبااله!
٤١٢
شفرة سورة اإلسراء
ﺷﻔﺮة ﻓﻴﺜﺎﻏﻮرس
فاآلن إليك ماذا تكون الحكمة واألسرار التي خبأھا فيثاغورس في أعداده
وأشكاله الھندسية ،وما الذي علمه وو ﱠرثه للصفوة من أبنائه.
فال يغرنﱠك أن إله فيثاغورس اسمه الواحد ،فھذا الموناد ،كما يقول مانلي
ھول ،في كتابه :التعاليم السرية عبر العصور:
٤١٣
شفرة سورة اإلسراء
فكما ترى ،موناد فيثاغورس ليس إال اسما ً إغريقيا ً لعين صوف القبالي
وبراھمان الھندوسي.
وألن فيثاغورس كان مولعا ً بالمثلثات والثالثيات ،ومن مبادئه أنه ال يمكن
أن يكون اإلنسان حكيما ً إال إذا وضع أي مشكلة تواجھه في صورة مثلثة،
وعندئذ ستنحل من تلقاء نفسھا ،فقد حل معضلة الوجود بأن قسمه إلى ثالث
عوالم أو طبقات ،فالطبقة ألولى :ھي العالم السامي ،Sublime Worldوھو
عالم الواحد وحده ،والثانية :العالم العلوي ،Superiorوفيه اآللھة الخالدة،
والثالثة :العالم السفلي ،Inferiorوفيه العالم المادي المنظور من كون وإنسان
ومخلوقات.
فھذه ،كما البد أدركت ،بيضة القبااله التي باضتھا في رأس فيثاغورس
وأخويته ،كما باضت أختا ً لھا في رأس الھندوس من عبﱠاد براھمان.
إله فيثاغورس واحد ،ألنه ھو نفسه الوجود كله ،وألن اآللھة األخرى أجزاء
منه وتوجد في داخله ،فقد كان فيثاغورس يعتقد أن النجوم والكواكب المنيرة
وألنھا كلھا أسماء بلغات مختلفة لشئ واحد ،فكما رأيت في الھندوسية
والقبااله بالضبط ،كان فيثاغورس يعتقد ويعلم أبناءه في أخويته أن:
"يعدونه واحداً من آلھة األوليمب الخالدة التي تظھر للبشر الفانين من
)(٢
أجل تعليمھم وإعانتھم ،وبعضھم يراه أحد اآللھة التي تسكن القمر"
أما الصفوة من أبناء فيثاغورس ،فلھم في وصفه عبارة شھيرة ،ھي أن:
"روح اإلنسان تھاجر بعد موته من جسده ،وتعود لتحل في إنسان آخر أو
حيوان له صفاته ،فإذا كان جبانا ً رعديداً عادت في أرنب ،وإن كان شرسا ً
)(٢
حلت في ذئب ،فإذا مات ھاجرت مرة أخرى ،وھكذا ،إلى أن تصير خالدة"
"روحه ھاجرت عدة مرات ،وأنه عاش قبل حياته التي يرونه فيھا أربع
حيوات أخرى ويتذكرھا جميعاً ،ففي األولى كان أثاليدس Aethalidesابن
إله الحرب ،وفي الثانية كان يوفوربس Euphorbusأحد أبطال حرب
طروادة ،وفي الثالثة كان ھيرموتيموس Hermotimusرسول اآللھة إلى
)(٣
البشر ،وفي الرابعة كان صياداً على شاطئ بحيرة"
وإذا عجبت ،فما يُزيل عجبك ،ويجعلك توقن أن تكوين قادة الحركات السرية
في كل العصور واحد ،أن ترى صورة طبق األصل من فيثاغورس في دورة
اإلفساد الثانية ،بعده بأربعة وعشرين قرناً.
ففي النصف الثاني من القرن الثامن عشر ،ادعى اليھودي القبالي الخيميائي
كاجليوسترو ،Cagliostroمؤسس المذھب المصري في الماسونية ،وأحد
الشركاء في التدبير للثورة في فرنسا ،أن عمره ثالثمائة عام ،وأنه عاش قبل
حياته ھذه حياة أخرى ،كانت في بداية المسيحية ،وتوله به العوام في كل مكان
يحل فيه ويمارس طقوس السحر والتخييل حين زعم أنه كان في حياته تلك
صديقا ً للمسيح ورافقه على الصليب!
٤١٧
شفرة سورة اإلسراء
"المجال والصورة التي يظھر فيھا عقل الموناد والطاقة المخزونة فيه،
وكان ھيباسوس يقول إن األعداد ھي المادة ألولية التي تكون بھا كل شئ في
)(١
الوجود"
فأما الواحد ،فألنه رقم الموناد أو ھو نفسه الموناد السرمدي الذي صدر عنه
اآللھة واإلنسان والكون ،التي ھي أيضا ً أعداد ،ويحويھا في داخله.
فالواحد صدر عنه االثنين ،ثم صدر عنھما معا ً باقي الوجود.
وعند فيثاغورس وأخويته ،كل األعداد الفردية وما يتكون منھا مذكر
،Musculineوكل األعداد الزوجية وما تك ﱠون بھا مؤنث .Femenine
وأقدس األرقام عند فيثاغورس بعد الواحد رقم ،١٠فھو رقم التمام والكمال
،Perfect Numberألنه رقم الوجود كله ،والوجود كله وأعداده في داخله،
وألن الموناد ھو نفسه الوجود ،فالعشرة ،كالواحد ،رقم اإلله أو الذي يتجلى به
اإلله.
1) The secret teachings of all ages,P70.
2 ) Life of Pythagoras,P219.
3 ) The secret teachings of all ages,P70.
٤١٨
شفرة سورة اإلسراء
وكان فيثاغورس يصور رقم ١٠في شكل فريد ،ھو مثلث متساوي
األضالع والزوايا ،وليس قائم الزاوية كمثلث الھندسة المحض ،ويحوي في
داخله عشر نقاط مرتبة في أربعة صفوف ،TETRACTYSوترتيب النقاط
والصفوف يبدأ من زاوايا المثلث ،وال يتغير بتغير اتجاه النظر.
فإذا نظر أحد إلى المثلث من أي زاوية يقابله في الصف األول نقطة واحدة،
ثم في الصف الثاني نقطتان ،ثم ثالث نقاط ،ثم أربعة ،ليكون المجموع دائما ً
) •(
عشرة
وكان فيثاغورس يعلم من يرتقي إلى مرتبة الصفوة ويصبح من أبنائه ،وھو
يعرفه بكلمة سر األخوية أن:
"ما تعتقد أنه أربعة فھو في حقيقته عشرة ومثلث كامل ،وھو كلمة السر
)(١
بيننا " Our password
وبلغ من تقديس مثلث الوجود ھذا في أخوية فيثاغورس ،أن قسم الوالء
لألخوية والطاعة لفيثاغورس كان عليه ،فقد كانت بداية القسم:
بل وكانت األخوية تتعبد وتصلي ضارعة متبتلة لرقم ١٠والمثلث الذي
توھم يامبليخوس أن فيثاغورس ھو الذي اخترعه ،فھذا ھو نص صالة
فيثاغورس وأخويته كما أورده توبياس دانتزج Tobias Dantzigفي كتابه:
العدد لغة العلم ،Number,the language of scienceالذي يؤرخ فيه
لألعداد وفلسفتھا عبر التاريخ:
ﺣـــــــﻞ اﻟﺸـــــــﻔـــﺮة
وھا ھنا ينبغي أن نتوقف قبل أن تتلبسك الحالة الفيثاغورسية فتقوم لتصلي
لألرقام والمثلثات ،ويحسبك من يراك من أھل السراية الصفرا ،لنعرفك أن ما
قرأته من تعاليم فيثاغورس وأسرار أخويته ،والتي ھي الحكمة ،ومحبتھا ھي
الفلسفة ،ليست سوى قبااله مصفاة.
علمتَ أن اإلله عين صوف في القبااله خلق الكون واإلنسان بالصدور عنه
في صورة فيوضات انبثقت من ذات اإلله وعلى صورته ،وأن الخلق كان عبر
السفيروت أو شجرة الحياة ،التي تمثل الوجود كله ،فكل بلورة مضيئة فيھا تمثل
صفة في اإلله ،وتناظر في الوقت نفسه عضواً في اإلنسان وكوكبا ً أو نجما ً في
الكون.
٤٢٢
شفرة سورة اإلسراء
وما لم تعلمه أن ھذا الصدور واالنبثاق للوجود في شجرة الحياة كان عبر
حروف اللغة العبرية االثنين وعشرين وأصواتھا ،وما يقابل ھذه الحروف
وأصواتھا من أعداد في حساب ال ُج ﱠمل.
)(١
Yezirahصدرت عنه فاإلله ،عين صوف ،في سفر الخلق في القبااله
أصوات الحروف العبرية ،وبامتزاج أصوات الحروف معاً ،وبالتباديل
والتوافيق بينھا ،تك ﱠون كل شئ في الكون وكل عضو في اإلنسان ،فكل شئ
)•(
انبثق عن اإلله الصوت الذي تحدثه حروف اسمه صدر وكان
"تك ﱠونت ثالثة أصول في الكون ،وھي الھواء والماء والنار ،وثالثة أصول
في السنة ،وھي البرد واالعتدال والحر ،وثالثة أصول في اإلنسان ،وھي
)(٢
الرأس والصدر والبطن"
( ١سفر الخلق Yezirahنشر نصه العبري مع ما يقابله من اإلنجليزية دكتور إيزيدور كاليش Isidor
Kalischسنة ١٨٧٧م.
• ( انظر صورة من سفر الخلق Yezirahتمثل انبثاق حروف العبرية وأصواتھا من المثلث رمز عين
صوف في ملحق الصور.
2) Isidor Kalisch:Sepher Yezirah, a book on creation with English translation,
P24.
٤٢٣
شفرة سورة اإلسراء
وإذا كنت قد انتبھت إلى أن االتجاھات ستة فقط ،فاعلم أن االتجاه السابع في
القبااله وقصة خلقھا ھو سرة الكون والذي تدور االتجاھات األخرى كلھا حوله
ويحفظ توازنھا ،أال وھو الھيكل!
"خلق اإلله األبراج االثني عشر في الكون ،والشھور االثني عشر في
)(٢
السنة ،واألعضاء االثني عشر الرئيسة في اإلنسان"
• ( بيت ھي الباء الخفيفة ،وبي ھي الباء الثقيلة ،وتنطق فا ًءا ،ويقابلھا في اإلنجليزية حرف.P :
1) Isidor Kalisch:Sepher Yezirah,a book on creation with english translation,
P30.
2) Sepher Yezirah,a book on creation with english translation, P36-38.
٤٢٤
شفرة سورة اإلسراء
ھذا العالم السفلي وقيوده يمكنه أن يسمع ھذه األلحان وتتوحد روحه مع
)(١
موسيقى الوجود"
في القبااله ،كل حرف في العبرية له رسم يُرسم أو يكتب به ،وله صوت
ينطق به ،وله عدد يقابله ،ومن ثَم فكل شئ في الوجود ،اإلله ،والكون
ومكوناته ،واإلنسان وأعضائه ،له عدد ،وھذا العدد ھو جمع أعداد الحروف
)• (
التي يتكون منھا اسمه
وألن الخلق كان عبر أصوات الحروف ،أو الحروف ھي التي خلقت ،فبنية
الوجود كله بنية صوتية عددية ،والعدد ليس مجرد رقم يقابل اسم الشئ ،بل
ھو ،كالصوت الذي يُحدثه نطق اسم الشئ ،سابق على وجوده ،وھو خالقه
وجوھره وحقيقته ،ويحوي أسراره ،ومطبوع فيه تاريخه وسيرته.
فاآلن يمكنك وحدك أن تحل طالسم فيثاغورس وأن تفك شفرة تعاليمه ھو
وأخويته.
فإذا ما كنت نبھا ً وتساءلت :ولكن حساب الجمل للكلمات وتحويلھا به إلى
أعداد يرتبط بالعبرية ،وفيثاغورس وأخويته تعاليمھم باإلغريقية ،فإليك رد
القبالي الماسوني مانلي ھول على تساؤلك:
"وتحويل الكلمات إلى أعداد بحساب الج ﱠمل ال يصح إال إذا كان باستخدام
)(٢
الكلمات العبرية واإلغريقية فقط ،وبنطقھا القديم"
والواحد ،عند فيثاغورس وأخويته ،ھو رقم الموناد أو اإلله ألن الواحد ،كما
تقول ھيلينا بالفاتسكي:
)(٣
"يقف في عالم الخفاء Occultismوحده ،فھو الرقم اإللھي"
والعشرة ھو العدد الكامل والمقدس ،ألن عدد التجليات التي تكتمل بھا ذات
اإلله في السفيروت أو شجرة الحياة عشرة ،فالعشرة في القبااله ،كما يقول
القبالي ماك جريجور ميثرز:
ومثلث فيثاغورس الذي يصور رقم ١٠المقدس ،يحوي الوجود كله في
نقاطه وأعداده وصفوفه ،كما تحوي شجرة الحياة الوجود كله في كراتھا
والقنوات الواصلة بينھا.
وداخل ھذا المثلث ،األعداد المفردة مذكرة واألعداد الزوجية مؤنثة ،ألن
كرات شجرة الحياة في العمود األيسر مذكرة وفي العمود األيمن مؤنثة ،ومن
الموناد المذكر والدواد المؤنث خرجت األعداد ،ألنه من التقاء الصفة األولى
في شجرة الحياة ،وھي التاج ،بالصفة الثانية ،وھي الفھم ،تكونت باقي الصفات
وطبقات الوجود كلھا ،والتاج صفة ذكورة ،والفھم صفة أنوثة.
النقاط واألعداد في مثلث فيثاغورس ،كما ترى ،ھي نفسھا كرات شجرة
الحياة ،وإن كنت في شك فإليك القبالي ديون فورتشن Dion Fortuneيخبرك
صريحا ً في كتابه :القبااله الباطنية The Mystical Quabalahأن:
واالبتكار الذي ابتكره فيثاغورس ھو أنه دمج بين مثلث القبااله ،الذي ھو
رمز اإلله والبيت الذي يحوي اسمه ،وبين معاني شجرة الحياة التي تمثل الذات
اإللھية والوجود الذي انبثق من ھذه الذات.
فلن تعجب اآلن أو تسأل لماذا كان فيثاغورس وأخويته يتعبدون للمثلث
ويصلون أمامه خاشعين ،ألن ھذا المثلث ليس سوى اإلله نفسه ،فمثلث
فيثاغورس ھو نفسه المثلث الذي تصور القبااله إلھھا عين صوف في أضالعه
الثالثة ،التي ترمز لوجود اإلله وحضوره ،ولعلمه وإحاطته ،ولقوته وقدرته.
والنقاط األربعة داخل مثلث فيثاغورس ھي نفسھا الحروف التي يتكون منھا
الرباعي المقدس ،Tetragrammatonالذي ھو رمز السم اإلله داخل مثلث
القبااله ،وترتيب نقاط فيثاغورس في مثلثه ھو نفسه ترتيب حروف القبااله في
مثلثھا ،والترتيب في المثلثين واحد ومتناظر من أي زاوية يقف أمامھا الناظر.
فھل فھمت اآلن لماذا كان فيثاغورس يبدأ حل أي مشكلة تواجھه بتحويلھا
إلى مثلث ،ويقول إنھا تنحل بذلك تلقائياً ،ألنه يستحضر بھذا المثلث اإلله في
مسكنه ويكتب به اسمه األعظم.
ثم ھل أدركت معنى عبارة فيثاغورس شديدة الغموض التي كان يستقبل بھا
الداخلين في أخويته ،والتي تبدو وكأنھا ھذيان وال معنى لھا؟
ما يراه أحد أربعة ھو في حقيقته عشرة ،وھو نفسه المثلث الذي يتعبد له
فيثاغورس ،ألن ما يبدو للناظر إلى المثلث من أي اتجاه أربعة ليس إال رمزاً
إلخفاء اإلله فيه داخل مثلثه ،والعشرة ھي حقيقة ھذه األربعة ألنھا العدد الذي
يتكون منه اإلله وتكتمل بھا ذاته ،والمثلث ھو بيت ھذه الذات ومحل
استحضارھا.
واآلن ربما تجد نفسك تكرر السؤال الذي سألته عند الھندوسية :من الذي أخذ
من اآلخر ،وأيھما النبع واآلخر تفرع منه :بنو إسرائيل أم فيثاغورس وأخويته ؟
وإجابتنا على سؤالك ھي ھي :بنو إسرائيل ،وخريطتھم للوجود التي حجبوا
بھا خريطة الوجود اإللھية عن البشر ،وما ابتكروه وفرعوه من ھذه الخريطة
في القبااله ،واستيطانھم لوعي األميين وأذھانھم ونفوسھم بھذه الخريطة
وابتكاراتھا ،ھو النبع الذي سرت منه وبه وتكونت حوله األباطيل والضالالت
في أمم العالم كلھا ،شرقه وغربه.
فا" عز وجل في بيانه إلى خلقه أفرد لبني إسرائيل من بين العالمين مساحة
ھائلة ،يبدو معھا وكأنه عز وجل لم ينزله إال من أجلھم ،ولم يخبرك بكلمة
واحدة عن ھندوس وال إغريق.
ونزيدك على ھذه اإلجابة ھنا أن نجعلك ترى دليلھا صريحا ً عند القباليين
ورؤوس عالم السر والخفاء.
٤٢٩
شفرة سورة اإلسراء
فالقبالي الماسوني اإلنجليزي ماك جريجور ميثرز ،وھو أحد الشركاء مع
أبي الشيطانية الحديثة أليستر كراولي Aliester Crawlyفي تأسيس جمعية
الفجر الذھبي ،Golden Downوھي أشھر جمعية في الغرب لتعليم السحر
وفنونه ،يخبرك في كتابه :القبااله سافرة أن:
ثم إليك القبالي األمريكي مانلي ھول ،وھو ماسوني من الدرجة الثالثة
والثالثين ،وعضو جمعية الحكمة اإللھية التي أنشأتھا ھيلينا بالفاتسكي،
ومؤسس الجمعية الفلسفية ،Philosophical Societyيعرفك ،في كتابه:
التعاليم السرية عبر العصور ،ماذا تكون ھذه المصادر القبالية بالضبط وأين
التقى بھا فيثاغورس:
وكما ترى ،بدالً من أن يھدي بنو إسرائيل البشر إلى الحق ويعرفوھم
بخريطة الوجود الحقيقية التي أنزلھا ﷲ عز وجل عليھم واستودعھم إياھا،
حجبوھا لكي يحتكروا اإلله ويحتكروھا خالصة لھم ،ولفقوا خريطة مزورة،
وتفننوا في توليد االبتكارات منھا ،ثم بثوا خريطتھم المزورة وابتكاراتھا،
واستوطنوا بھا وعي البشر في مشارق األرض ومغاربھا.
ومن ھذا البث تكونت أمم الضالل ،وبه كونت فلسفاتھا وعلومھا وآدابھا
وفنونھا ،ودخلت البشرية كلھا في التيه ،إلى أن أشرقت شمس القرآن وأنزل عز
وجل فيه خريطة الوجود اإللھية نقية محفوظة مصونة من عبث البشر
وابتكاراتھم ،وأقام بھا أمة الوحي ،لينھي به وبھا دورة اإلفساد البني اإلسرائيلي
األولى.
فاآلن ،إذا كنت قد ثابرت إلى أن وصلت إلى ھا ھنا ،فأنت على مشارف
الذروة ،وبينك وبينھا خطوة ،وقد صرتَ مؤھالً ألن تخطوھا وتعرف حل
الشفرة التي تحويھا آيات سورة اإلسراء ،وماذا يكون إفساد بني إسرائيل
وعلوھم في األرض الكبير.
٤٣١
شفرة سورة اإلسراء
٤٣٢
شفرة سورة اإلسراء
٤٣٣
شفرة سورة اإلسراء
٤٣٤
شفرة سورة اإلسراء
DCBA
K J I H G F E D C B A
Y X W V U T S R Q P O N M L
fedcba`_^]\[Z
t s r q p o n m l k j i h g
a `_~ } |{zyxwvu
o n m l kj i h gf e dc b
zy x wvu ts r q p
© ¨ § ¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡ ~ } | {
³ ² ± ° ¯ ® ¬ « ª
KJI HGFE DCBA ¹¸¶µ´
XWVUTSRQPO NML
_^]\[ZY
(٩ -١ :)اﻹﺴراء
٤٣٥
شفرة سورة اإلسراء
٤٣٦
شفرة سورة اإلسراء
ﻗـﻴــــــــــﻮد
إذا تأملت ما قاله المفسرون في تفسير صدر سورة بني إسرائيل لترى كيف
فھموا اآليات ،وكيف تفكروا فيھا ،وما الذي كان يحكم أذھانھم وھم يفسرون ما
تخبر عنه ،فستجد أن السمت الغالب على كل ما ذكروه في تفسيرھا ھو تقييدھا
بما في أذھانھم من معارف وما وصلھم من أخبار عن بني إسرائيل ،فقيدوا
اآليات بقيود ليست فيھا ،وأضافوا إليھا معا ِن أتوا بھا من أذھانھم ومن عند
أنفسسھم ،دون أن يوجد في نص اآليات ما يوحي بھا أو يدل عليھا.
والمدخل الصحيح لفھم آيات سورة اإلسراء ،والذي ال يمكن فھم ما تعنيه من
غيره ،ھو القدوم عليھا لإلجابة عن السؤال التالي :ما الذي تريد أن تخبرنا به
اآليات نفسھا عن بني إسرائيل ،وما صلة ما تريد اآليات أن تخبرنا به بموقع
بني إسرائيل من البشرية في القرآن كله ،دون االنشغال بما جاء من سيرة بني
إسرائيل من خارج القرآن.
وھو السؤال الذي ال تصح اإلجابة عليه إال بتحرير اآليات من قيود
المفسرين وإضافاتھم ،ثم االلتزام التام في التعامل مع اآليات بنصھا ،كلمات
٤٣٧
شفرة سورة اإلسراء
وحروفاً ،ألن العلة الثانية التي صرفت المفسرين عن فھم آيات سورة اإلسراء،
ھي أنھم فسروا اآليات تفسيراً إجماليا ً افتقد الدقة ،ولم يول عناية وال رتب أثراً
على ما قُدم من الكلمات وما أُخر ،وما حُذف وما أثبت ،وما أُفرد وما ُكرر ،وال
على ما ذكر في مرة إفساد ولم يذكر في األخرى ،وھي فروق شديدة الدقة في
الصياغة ولكنھا ھائلة اآلثار في المعنى.
وما يجمع العلتين معا ً أن المفسرين تعاملوا مع آيات سورة اإلسراء بمنھج
مقلوب ،ففھموھا وفسروھا بالتاريخ ،والمنھج الصحيح ھو استفراغ الوسع لفھم
ما الذي يريد بيان ﷲ عز وجل أن يخبرنا به عن بني إسرائيل من اآليات
نفسھا ،ثم فھم التاريخ به.
والقيود التي قيد بھا المفسرون اآليات وما أضافوه إليھا من عند أنفسھم
أفضى إلى شيئين:
األول :أنه فكك نسيج اآليات وأفقدھا الروابط بينھا ،فبھذه القيود واإلضافات
ال يمكن فھم عالقة آيات إفساد بني إسرائيل بذكر آية اإلسراء بالنبي عليه
الصالة والسالم قبلھا ،وال بذكر الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السالم
ھدى لبني إسرائيل ،وال بذكر القرآن الذي يھدي للتي ھي أقوم بعدھا.
والشئ الثاني :أن ھذه القيود واإلضافات أغلقت اآليات وأصممتھا وق ﱠزمتھا
عندما قيدتھا بوقائع موقوتة وأحداث محدودة ،وعزلتھا عن تاريخ البشر وعن
مسيرة البشرية ،بل وعما يخبر به القرآن نفسه عن بني إسرائيل.
٤٣٨
شفرة سورة اإلسراء
ھذه اآليات ،كما سترى ،ھي نواة ھائلة الكثافة تحوي في داخلھا تاريخ
البشرية كله ،وفيھا تفسير كل ما أنتجته البشرية من أباطيل وأضاليل في كل
عصورھا.
٤٣٩
شفرة سورة اإلسراء
وقيدھم ھذا فر ٌ
ع ،أصله ما أخبرناك به من قبل ،وھو أنھم فھموا أن كل ما
جاء في القرآن من سيرة بني إسرائيل ھو إخبار عن ماض حدث وانتھى
وانقطعت آثاره.
وعبارة الشيخ الطاھر بن عاشور في تفسيره تنطق لك بھذا الفھم الذي ينضح
من بين سطور غيره من المفسرين ،فھو يخبرك أن ھذه اآليات:
وما حكم أذھان المفسرين ،قديما ً وحديثاً ،وھم يَ ْقدمون على اآليات لتفسيرھا،
أنھم فھموا أن اإلخبار بھذا الماضي غايته العظة والعبرة ،لكي ال نسير سيرة
بني إسرائيل ونفعل مثلھم ،وھو َو ْھم توھموه وتوارثوه ،والكتاب الذي بين يديك
كله ھو من أجل نقض ھذا الفھم وإزالة ھذا الوھم.
وتفسير فضيلة الشيخ الشعراوي آليات سورة اإلسراء كلھا شبيه بتفسير
فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار لھا في دراسة عنوانھا :سورة اإلسراء
تقص نھاية إسرائيل ،نشرھا في المجلد رقم ٢٨ :من مجلة األزھر ،وأورد
نصھا الدكتور محمد سيد طنطاوي ،رحمه ﷲ ،في أطروحته التي حصل بھا
على درجة الدكتوراة ،ونُشرت في كتاب عنوانه :بنو إسرائيل في القرآن
والسنة.
"ھاتين المرتين لم تكونا قبل البعثة ،وإنما ھما في اإلسالم ...ويقعان في
)(٢
المستقبل لمن أُنزل عليه الكتاب عليه الصالة والسالم"
ويستدل الشيخ عبد المعز عبد الستار على ما ذھب إليه بأن ~ :في
"معلوم أن إذا ظرف لما يستقبل من الزمان ،كما تقول :إذا جاء فالن
أكرمته ،فھذا دليل على أن أولى اإلفسادتين لم تحدث بعد ....وقوله` :
)(٢
كذلك ال يكون بشئ مضى ،وإنما بشئ مستقبل"
وما وصل إليه الشيخ عبد المعز عبد الستار ،بحماسه واستبشاره أن تكون
آيات سورة اإلسراء نبوءة باالنتصار على اليھود وإزالة إسرائيل ،وما وصل
إليه الشيخ الشعراوي ،بالفتح واإللھام ،صحيح ،وما استدال به خطأ!
فما فاتھما ،رحمھما ﷲ تعالى ،أن صدر سورة اإلسراء كله إخبار لنا في
القرآن بما أخبر ﷲ عز وجل به بني إسرائيل في التوراة ،فھذه اآليات أُنزلت
على بني إسرائيل ،وھي ما قضاه ﷲ عليھم في الكتاب ،ثم أنزلھا عز وجل
ليخبرنا بھا في القرآن.
وعلى ذلك ،فقوله تعالى ~ :يفيد المستقبل فعالً ،ولكنه المستقبل بالنسبة
لزمن نزول التوراة وليس بالنسبة لزمن نزول القرآن ،ولذا تظل المشكلة كما
ھي ،فيحتمل أن تكون المرتان بعد نزول التوراة وقبل نزول القرآن ،أو أن
تكون المرتان بعد نزول القرآن ،أو أن تكون إحداھما قبل نزول القرآن
واألخرى بعده.
الدليل على أن المرتين بعد نزول القرآن شئ آخر غير الذي قاله الشيخان
الجليالن ،وسوف تكتشف وأنت ترى حل شفرة اآليات أن دخول العباد المسجد
في المرتين ھو الذي بعد نزول القرآن ،أما اإلفساد وما استغرقه من الزمان
فمسألة أخرى ھائلة ،غي ﱠبھا عن المفسرين المعنى الضيق الذي فھموه لإلفساد.
٤٤٣
شفرة سورة اإلسراء
وانفرد اإلمام الفخر الرازي في تفسيره :مفاتيح الغيب ،من بين المفسرين
جميعاً ،بأن قال:
)(٢
"وقوله ،xw :يعني أرض مصر"
ولم يبين ،رحمه ﷲ ،لماذا ،واستناداً إلى أي دليل ،فسر المقصود باألرض
في سورة اإلسراء بأنه مصر.
أما الغريب حقاً ،فھو أنه ،رحمه ﷲ ،خالف غيره من المفسرين وقال إن
األرض ھي مصر ،ثم عاد فتابعھم ،وأقام تفسيره على أن األرض ھي المقدسة.
واإلمام الطبري أطلق ھذه األرض ،وجعلھا البالد كلھا ال بلداً محدداً ،فقال
في بداية تفسيره لآليات إن معناھا:
)(١
"لتعصن ﷲ يا معشر بني إسرئيل ،ولتخالفن أمره في بالده مرتين"
ولكنه حصر تفسير اإلفساد واآليات كلھا فعالً داخل األرض المقدسة.
ولكنه ،رحمه ﷲ ،لم يبين ما المقصود بجنس األرض ،وماذا يكون معنى
اإلفساد على ھذا القول ،ثم أكمل تفسيره لآليات ،وقد حصر ،كغيره ،اإلفساد
وبعث العباد في األرض المقدسة.
فلم نجد أحداً من أئمة المفسرين خرج على ھذا القيد أو افترض أن األرض
المقصودة في اآليات والتي تشھد إفساد بني إسرائيل قد تعني شيئا ً آخر غير
األرض المقدسة.
والذي أوھم المفسرين بھذا القيد وجعلھم يحصرون إفساد بني إسرائيل في
األرض المقدسة ذكر المسجد األقصى في اآليات ،إذ افترضوا أن دخول العباد
الذين يبعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل المسجد يعني بالضرورة أن بني
إسرائيل موجودون فيه ،وأن إفسادھم يكون في األرض التي من حوله ،وأن
تسليط العباد عليھم فيھا.
وما في نص اآليات وما تخبر عنه ال صلة له بما توھمه المفسرون ،فبنو
إسرائيل في اآليات ،كما سترى ،موجودون في المسجد ومن حوله عند دخول
العباد إليه في مرة اإلفساد الثانية دون األولى ،واإلفساد في المرتين غير مقيد
بالمسجد وال ھو محصور في األرض التي ھو فيھا ،ومرتا اإلفساد ليستا
متطابقتين ،وھي الفرضية التي سربھا إلى أذھان المفسرين التعامل مع اآليات
وتفسيرھا من خارجھا ،وما ترتب عليه من افتقاد الدقة وعدم االنتباه إلى الفروق
)•(
الدقيقة والصياغة الساحرة لآليات
• ( في صحيح البخاري ومسند اإلمام أحمد عن عبد ﷲ بن عمر أنه " :قدم رجالن من المشرق فخطبا،
فعجب الناس لبيانھما ،فقال رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم :إن من البيان لسحراً".
٤٤٦
شفرة سورة اإلسراء
فالسلسلة األولى ،أنھم قيدوا اإلفساد والعلو بأنه مادي ،ويستوي في ذلك
أيضا ً من صرح ومن لم يصرح ،بل ومن أشار منھم ،ضمن أقواله ونُقوله ،إلى
معنى غير مادي لإلفساد والعلو ،إذ التفسير كله محوره المعاني المادية.
)(١
"وقوله ،v :يريد المعاصي ومخالفة أحكام التوراة"
"واختار بعضھم ،وقيل إنه الحق ،أن األُولى تغيير التوراة وعدم العمل
)(٢
بھا"
ولم يفسر ،رحمه ﷲ ،كيف يكون تغيير التوراة إفساداً ،ثم ترك ما نقل أنه
الحق ،وعاد ليتم تفسيره متابعا ً من سبقه من المفسرين ،فقال في معنى العلو
الكبير:
)(٣
"لتغلبن الناس بالظلم والعدوان ،وتفرطن في ذلك إفراطا ً مجاوزاً للحد"
ومخالفة األحكام معصية وليس فساداً ،فضالً عن أن يكون إفساداً يُنص عليه
ھذا النص ويُفرد له ھذا اإلفراد ،ويستحق أن يبعث عز وجل عباداً مخصوصين
إلزالته.
ولو كان العلو الكبير ھو البغي والطغيان والظلم والعدوان والتجبر ،لكان في
األمم من ھو أولى من بني إسرائيل بالذكر والتخليد في بيان اإلله إلى خلقه ،فھل
كان لبني إسرائيل يوما ً دولة في بطش الرومانية ،أو سطوة البريطانية ،أو
جبروت األمريكية ،لكي يتقدموا على ھذه اإلمبراطوريات ويستأھلوا ھذه
المكانة؟!
ومرة أخرى ،الشيخ الشعراوي ،رحمه ﷲ ،ھو الذي فطن إلى أن اإلفساد ال
ينحصر في المعانى المادية فقط ،فطرح احتماالً آخر وقال عند بداية تفسيره
لآليات ،وھو يبين معنى الفساد عموماً:
من مرتي اإلفساد ،وال عالقة ھذا التحريف ببعث العباد المذكوربن في اآليات،
وبالكتاب الذي أنزل على موسى قبلھا ،وبالقرآن الذي يھدي للتي ھي أقوم في
ختامھا.
فلم يضع ،رحمه ﷲ ،المفتاح الذي أُلھمه في موضعه الذي تنفتح به اآليات
وتكشف أسرارھا ،ولم يضرب النبع الذي حام حوله ووقف عنده لتتفجر مياھه
التي حبسھا المفسرون ،إذ ا ﱠدخر عز وجل رؤية شفرة ھذه اآليات وحلھا وتفجير
ينابيعھا لعبد من عباده اختاره لھا واصطفاه من أجلھا.
٤٥٠
شفرة سورة اإلسراء
فالمفسرون ،ألنھم فھموا من اإلفساد المعنى المادي فقط ،افترضوا ،من عند
أنفسھم ،ودون أن يوجد في اآليات ما يدل على ما افترضوه ،أن كل مرة من
مرتي اإلفساد ھي حادثة أو واقعة موقوتة بزمان محدد ،ومحصورة في مكان
معين.
فنقل الطبري فى :جامع البيان ،والقرطبي في :الجامع ألحكام القرآن،
والسيوطي في :الدر المنثور ،وأبو حيان في :البحر المحيط ،في المقصود
بمرتي اإلفساد ،رواية نصھا ال يتغير ،فمنھم من نسبھا البن عباس ،ومنھم من
نسبھا لعلي بن أبي طالب ،أو البن مسعود ،أو البن زيد.
"فعلى القول الذي ذكرنا عن ابن عباس ،وقول ابن زيد ،كان إفساد بني
إسرائيل الذي يفسدون في األرض المرة األولى قتلھم زكريا نبي ﷲ ،مع ما
كان سلف منھم قبل ذلك وبعده ...وأما قول ابن اسحق الذي روينا عنه ،فكان
إفسادھم المرة األولى ما وصف مع قتلھم إشعيا بن أمصيا نبي ﷲ ...وأما
٤٥١
شفرة سورة اإلسراء
إفسادھم في األرض المرة اآلخرة ،فال اختالف بين أھل العلم أنه كان قتلھم
)(١
يحي بن زكريا"
وحتى الشيخ الشعراوي رغم أنه افترض أن اإلفساد قد يكون معنوياً ،وقد
يكون المقصود به تحريف التوراة وكتمھا ،فألنه رحمه ﷲ تعامل ،في تفسيره
كله ،مع ھذا التحريف والكتم على أنه واقعة حدثت في الماضي وليس فعالً
مستمراً في الزمان ،حين وصل إلى تفسير إفساد بني إسرائيل ،فارق اإلفساد
بمعنى التحريف ،ولم يجد ما يفسر به مرة اإلفساد األولى ،التي أقام تفسيره على
أنھا في اإلسالم ،إال معنى الواقعة أو الحادثة المحصورة في لحظة من الزمان
وبقعة من المكان.
"في المدينة أبرم رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم معھم معاھدة يتعايشون
بموجبھا ،ووفﱠى لھم رسول ﷲ ما وفوا ،فلما غدروا ھم ،واعتدوا على
حرمات المسلمين وأعراضھم ،جاس رسول ﷲ صلى ﷲ عليه وسلم خالل
ديارھم ،وقتل منھم من قتل ،وأجالھم عن المدينة إلى الشام وخيبر ،وھذا ھو
)(٢
الفساد األول الذي حدث من بني النضير وبني قينقاع وبني قريظة"
فاقترب ،رحمه ﷲ ،من وضع يده على التفسير الصحيح لآليات ،لكنه ابتعد
ُرفَ رحمه ﷲ
عنه مرة أخرى حين حصر اإلفساد في أنه حادثة أو واقعة ،وص ِ
والذي صرفه عن متابعة ما بدأه ،وإقامة تفسيره لآليات على أن اإلفساد ھو
تحريف الوحي ،اقتفاءه أثر الشيخ عبد المعز عبد الستار في دراسته ،وھي
دراسة ،على قصرھا ،عجيبة ،يختلط فيھا العلم بالخطابة ،واالستدالل
باالستبشار ،وكان الشيخ فيھا أول من خالف أقوال أئمة المفسرين ،ووضع يده
فعالً على عدد من مفاتيح التفسير الصحيح آليات سورة اإلسراء ،ولكنه لم ير
الباب الذي ال تنفتح اآليات وتشرق معانيھا إال بوضع ھذه المفاتيح في مواضعھا
منه.
والعلة في ذلك ،أنه ،رحمه ﷲ ،اھتدى إلى ھذه المفاتيح من خارج نص
اآليات وليس من داخلھا ،وال بحل الشفرة اللغوية التي تحويھا ،فصارت
المفاتيح في يده وبابھا محجوب عنه.
يقول الشيخ عبد المعز عبد الستار في بيان مرة اإلفساد األولى:
"وال تنطبق ھذه المرة تمام االنطباق إال على الدور الذي قاموا به على
عھد النبي صلى ﷲ عليه وسلم وأصحابه ،فھم أفسدوا في األرض ونقضوا
عھد ﷲ ورسوله ...وانطلقوا بالبغي والمكر والفساد في األرض يشككون في
شخص النبي عليه الصالة والسالم ونزاھته ورسالته ،ويفتحون دورھم
٤٥٣
شفرة سورة اإلسراء
وكما ترى ،الشيخ عبد المعز عبد الستار لم يفھم من معنى اإلفساد سوى
البغي والخيانة ،وخرج باإلفساد من األرض المقدسة والماضي السحيق ،ولكنه
حصره مرة أخرى في المدينة ،وفي لحظة من الزمان.
وما لم يرد على ذھن أحد من المفسرين ألبتة ،ال قديما ً وال حديثاً ،أن اإلفساد
المقصود في اآليات دورات طويلة في الزمان ،وھو التفسير أو الفرضية التي
يتغير معھا معنى اآليات تغيراً تاماً ،وتتحول من آيات مغلقة مصمتة تخبر عن
حادثة أو واقعة محصورة في بقعة من األرض ولحظة من الزمان ،إلى آيات
فوق الزمان والمكان ،وشمس مشرقة على تاريخ البشرية ،وكاشفة لمسيرتھا،
ومشرفة على مسار العالم كله.
فإليك ما فھموه من الغاية من بعث العباد على بني إسرائيل صريحا ً في
عبارة اإلمام اآللوسي:
"في الكالم تقدير ،أي :فإذا حان وقت حلول العقاب الموعود ...أرسلنا
)(١
لمؤاخذتكم بتلك الفعلة"
وقد توھم المفسرون ذلك ،أوالً :ألنھم فھموا اإلفساد بالمعنى المادي وعلى
أنه حادثة أو واقعة موقوتة بزمن محدد وفي مكان معين ،وثانياً :ألنھم فرعوا
من ذلك أن المقصود األصلي من بعث ھؤالء العباد عقاب بني إسرائيل أو
التنكيل بھم على ھذه الحادثة أو الواقعة.
"أعلم ﷲ بني إسرائيل في التوراة أنه سيقع منھم عصيان وكفر لنعم ﷲ
تعالى ،وأنه سيرسل عليھم أمة تغلبھم وتقتلھم وتذلھم ،ثم يرحمھم بعد ذلك،
ويجعل لھم الكرة ويردھم إلى حالھم االول من الظھور ،فتقع منھم المعاصي
وكفر النعم والظلم والقتل والكفر با من بعضھم ،فيبعث ﷲ عليھم أمة أخرى
تخرب ديارھم وتقتلھم وتجليھم جال ًءا مبرحا ً ...وقد كان بين آخر األولى
)( ١
والثانية مائة وعشر سنين ملكا ً مؤيداً ثابتاً"
فكما ترى ،جعل أبو حيان ،والمفسرون جميعا ً مثله ،المعصية والبغي إفساداً
وعلواً كبيراً ،ثم جعلوا بعث العباد قرينا ً لھذه المعصية والبغي ،ومن أجل عقاب
الجيل من بني إسرائيل الذي وقعت منه ،وحصروا مرتي اإلفساد وبعث العباد
في المائة سنة من تاريخ البشرية التي كان لبني إسرائيل في األرض المقدسة
فيھا دولة ،وانتھى األمر على ذلك!
وأما الشيخ عبد المعز عبد الستار ،والشيخ الشعراوي مثله ،فأدرك أن العباد
المبعوثين على بني إسرائيل ھم النبي عليه الصالة والسالم وصحبه ،فاقترب
من حقيقة اآليات خطوة ،ولكنه ابتعد عنھا مرة أخرى ،حين حصر الغرض من
بعثھم في عقاب بني إسرائيل وليس إصالح ما أفسدوه ،فبعد أن حصر اإلفساد
في نقض العھد والخيانة ،قال:
" ...فسلط ﷲ عليھم عباده المؤمنين ،فأجلوا بني النضير وقتلوا بني
قريظة وسبوھم ،ثم فتحوا خيبر ،ثم منﱠ عليھم الرسول فاستبقاھم عمالء حتى
)(٢
أجالھم عمر في خالفته"
وما صرف الشيخ عبد المعز عبد الستار عن إدراك الغاية اإللھية من بعث
العباد في اآليات ،وجعله يحصرھا في عقاب بني إسرائيل والتنكيل بھم،
انحصار وعيه ھو وذھنه ووجدانه في زمانه ومكانه.
فقد كتب ،رحمه ﷲ ،دراسته أصالً ،كما تنطق ھي بذلك ،متأثراً بإنشاء دولة
إسرائيل واستعالئھا على العرب جميعاً ،ومن ثَم رأى في آيات سورة اإلسراء
بشارة الخالص ،وقذفت البشارة التي رآھا في وجدانه شعوراً جارفاً ،وأوقدت
في عقله استشرافا ً ورجا ًءا أن:
وما لم يدركه الشيخ عبد المعز عبد الستار ،رحمه ﷲ ،أن دول العرب كلھا،
وليس مصر وحدھا ،قد تتعايش مع دولة إسرائيل وتھادنھا ،وقد تعاديھا
وتحاربھا ،وقد تھزمھا في معركة وتنتصر عليھا ،ولكنھا لن تزيلھا ،وال يمكنھا
أن تزيلھا ،ولن تدخل واحدة منھا المسجد ،بل لن يدخلوه ولو اجتمعوا معا ً وكان
بعضھم لبعض ظھيراً ،ألن ھذه الدول ،بتكوينھا ومعمارھا ونسيجھا وحدودھا
ونظمھا ونخبھا وجيوشھا ،ھي نفسھا أثر من آثار دورة اإلفساد البني
اإلسرائيلي ،واإلفساد يزيله إصالح ،وال يزيل بعضه بعضاً.
فما لم ينتبه إليه أحد من المفسرين أن اإلفساد ال يكون أصالً إال بعد صالح
أو إصالح ،ومن ثَم فوجود مرة إفساد ثانية يعني تلقائيا ً إصالح ما أفسده بنو
إسرائيل في المرة األولى وإزالة آثاره ،فھذه ھي مھمة العباد والغاية من بعثھم.
آيات سورة اإلسراء تخبر في ظاھرھا عن مرتي إفساد ،ولكنھا تخبر في
حقيقتھا ،وبحل شفرتھا ،عن ثالثة إصالحات.
٤٥٨
شفرة سورة اإلسراء
ونقل بعضھم في االستدالل على ذلك رواية نسبوھا البن عباس ،وفيھا:
"بعث ﷲ عليھم جالوت ،فجاس خالل ديارھم ،وضرب عليھم الخراج
والذل ،فسألوا ﷲ أن يبعث لھم ملكا ً يقاتلون في سبيل ﷲ ،فبعث ﷲ طالوت ...
ورجع ﷲ إلى بني إسرائيل ملكھم ،فلما أفسدوا بعث ﷲ عليھم في المرة ﱠ
)( ١
اآلخرة بختنصر فخرب المساجد وتبر ما علوا تتبيراً"
ومن الغريب أن السيوطي نقل رواية في :الدر المنثور عن ابن أبى حاتم عن
عطية المفسر ،وفيھا أن بني إسرائيل:
ووجه الغرابة فى ھذه الرواية أنھا جعلت قتل بني إسرائيل ليحى عليه السالم
ھو اإلفساد الذى عوقبوا بسببه ،مع أن بختنصر كان قبل يحى بستة قرون!
وعلى ذلك ،فالمفسرون جميعاً ،عدا الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ
الشعراوي ،يرون أن العباد المقصودين في قوله تعالى ،e d :وقوله:
"الرأي الذي نختاره ھو أن العباد الذين سلطھم ﷲ على بني إسرائيل بعد
إفسادھم في األرض ھم جالوت وجنوده ،كما يراه المحققون من أھل التفسير
...ولھذه األسباب نرجح أن يكون المقصود بالعباد الذين سلطھم ﷲ على بني
)(١
إسرائيل عقب إفسادھم الثاني في األرض ھم الرومان بقيادة تيطس"
وكل ما قاله المفسرون في مرتي اإلفساد ،ومتى كانتا ،ومن يكون العباد
المبعوثون ،ال محل له ،ألنھم أتوا به مما في رؤوسھم ھم وليس من اآليات،
فكل ما ذكروه خارج عن نص آيات سورة اإلسراء ،وال عالقة له بنسيجھا ،وال
وجود له في سبيكتھا اللغوية.
نورد لك أوالً نبذة موجزة عن مملكة بني إسرائيل لكى تدرك معنى ما قاله
المفسرون.
فى عھد داوود وسليمان كانت مملكة إسرائيل موحدة وبلغت أوج قوتھا في
عھد سليمان ،وبعد وفاة سليمان عليه السالم انقسمت مملكة إسرائيل إلى
مملكتين ،مملكة يھوذا في الجنوب ،وعاصمتھا أورشليم ،ويحكمھا رحبعام بن
سليمان ،وھذه المملكة كانت تضم سبطي يھوذا وبنيامين.
وھذه األسباط الضائعة في التاريخ ،حاضرة ،كما أخبرناك من قبل ،في عالم
السر والخفاء.
• ( ثمة خالف بين المؤرخين متى كان غزو سنحاريب لمملكة إسرائيل الشمالية ،وھل كان مرة واحدة أم
مرتين ،ومصدر االختالف التباين بين سجالت الدولة األشورية وبين ماھو مسطور في العھد القديم.
٤٦٢
شفرة سورة اإلسراء
سنحاريب إذاً لم يدخل أورشليم أصالً ،وال وصل إلى المسجد فال يمكن أن
يكون ھو المقصود بقوله تعالى.³²±°¯® :
وما ينبغي ان تعجب منه ،أن كل من ذكرھم المفسرون على أنھم العباد الذين
بعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل في مرتي اإلفساد ملوك وثنيون ،ومن
أقوام مختلفة!
وأما بختنصر الكلداني فوثني أيضاً ،واسمه نفسه دليل على وثنيته،
فبختنصر ،أو نبوخذ نصر ،ھو تعريب اسم الملك الكلداني نبو كودور أسور
،Naboukhodonósôrومعنى اسمه :حامي اإلله نبو ،Nabouإله الحكمة
عند األشوريين والبابيليين.
٤٦٣
شفرة سورة اإلسراء
والغريب ھنا أن المفسرين جعلوا ھؤالء الوثنيين ،ومن أمم مختلفة ،تفسير
العباد المبعوثين على بني إسرائيل في سورة اإلسراء ،مع أن ﷲ عز وجل
وصفھم بأنھم ،ed :وھو وصف يوحي ،نفسيا ً وشعورياً ،وقبل أن يكون
ثَمة بحث ،بأنھم مؤمنون موحدون صالحون ،ثم إن ھؤالء العباد ،كما سترى،
أمة واحدة في المرتين.
ومن المثير لالنتباه ،وھو مما يزيدك يقينا ً أن كل ما قاله المفسرون في تفسير
آيات سورة اإلسراء ومن يكون العباد فيھا إنما أتوا به من عند أنفسھم ،وقيدتھم
فيه األخبار التي وصلتھم من سيرة بني إسرائيل ،والمنھج المقلوب الذي
انتھجوه بتفسير اآليات بالتاريخ بدالً من تفسير التاريخ بھا ،مما يزيدك يقينا ً أن
الحافظ ابن كثير ،في تفسيره ،ضرب صفحا ً عن كل ما أورده من سبقه من
المفسرين في من يكون ھؤالء العباد الذين سلطھم ﷲ عز وجل على بني
إسرائيل في المرتين ،وقال بعد أن أشار إليھم إشارة عابرة:
"وقد وردت في ھذا آثار كثيرة إسرائيلية لم أر تطويل الكتاب بذكرھا ،ألن
)( ١
منھا ما ھو موضوع ،من وضع بعض زنادقتھم"
ومعنى كالم ابن كثير أن كل ما نقله المفسرون فيمن يكون ھؤالء العباد
الذين سُلطوا على بني إسرائيل ،ھو من اإلسرائيليات التي جاءوا بھا من كتب
أھل الكتاب ورواياتھم ،وأنه ليس فيھا شئ تصح نسبته إلى النبي عليه الصالة
والسالم.
)•(
ﺷﻔﺮة ﺳﻮرة ا ٕﻻﴎاء
ينبغي أن تعلم أوالً أن سكوت النبي عليه الصالة والسالم عن تفسير صدر
سورة بني إسرائيل ،معناه إرادة ﷲ عز وجل أن تنطلق العقول واألفھام في
فھمھا وتفسيرھا دون قيد سوى نص اآليات نفسھا ،وما تجيزه اللغة من فھم لھا
واستنباط لمعانيھا.
فآيات سورة اإلسراء ھي ،في حقيقتھا ،كاآليات الكونية التي تصف الطبيعة
أو تركيب الكون ،وما فسره المفسرون منھا ،وما فسروه بھا ،قيدتھم فيه
معارفھم عن بني إسرائيل وما وصلھم من أخبار عن سيرتھم في األرض
المقدسة.
وتفسير آيات سورة اإلسراء وفھم فحواھا ومعرفة ما تخبر عنه ،وما
المقصود بإفساد بني إسرائيل ،وما ھو علوھم الكبير ،يحتاج معارف واسعة
شاملة ومترابطة ،وال يمكن فھم ما الذي تعنيه من غيرھا.
ال يمكن تفسير آيات سورة اإلسراء حقا ً إال بمعرفة سيرة بني إسرائيل في
األمم التي نثرھم ﷲ عز وجل بينھا ،وأين كانت مواقعھم منھا وآثارھم فيھا ،وما
الذي كانوا يفعلونه عبر التاريخ ،وما غايتھم فيه وما الذي يريدونه منه ،وما ھي
وسائلھم في تحريك التاريخ ودفعه نحو ھذه الغاية ،وھم متناثرون بين األمم بال
• ( لست في حاجة إلى أن نذكرك أن الشفرة ھنا معناھا اختيار الكلمات وما تعنيه والعالقات بينھا ،وما قدم
وما أخر ،وما حذف وما أثبت ،وصياغة اآليات وتركيبھا اللغوي ،وأن حل ھذه الشفرة باللغة والعقل ،وليس
المقصود اإلشارات أو الرموز السرية أو تفسيرھا بالمعاني الباطنية.
٤٦٥
شفرة سورة اإلسراء
حول ظاھر وال قوة ،فال أرض تجمعھم ،وال حاكم يحكمھم ويقوم بأمرھم ،وال
لھم دولة.
وھي كلھا ،كما ترى ،معارف تقع في الجوانب المجھولة والخفية من
التاريخ ،ويحتاج الوصول إليھا إلى صبر وجلد ،وقوة وأناة ،وفتوح وبصيرة،
من أجل إعادة فحص التاريخ كله وقراءته وفھمه بطريقة غير تلك التي رآه بھا
المؤرخون ،الشرقيون منھم والغربيون ،وفھموه ودونوه من خاللھا.
ف ْھم آيات سورة اإلسراء يحتاج إلى جمع المشاھد الرئيسية في طول التاريخ
وعرض الدنيا كلھا معاً ،وإدراك الرابط الذي يربط بينھا جميعاً ،وكيف تك ﱠون
المسار الذي سارت فيه ،ومن غير ذلك تظل طلسما ً مطلسماً ،وكل ما يقال في
تفسيرھا ال يفي بحقيقتھا وال يكشف حقا ً ما ھو خبئ فيھا.
آيات سورة اإلسراء فوق الزمان وتحيط به ،وتشرف على المكان وھو كله
فيھا ،وال يمكن لوعي وال عقل أن يدرك ما تحويه ،وال أن يفھم ما الذي تعنيه،
إال إذا رفعه ﷲ عز وجل فوق الزمان والمكان ،ورآھما مطلقين من القيد،
فأحاط بما في طول ھذا وما في عرض ذاك ،وال وسيلة لذلك إال الوحي.
فمن خالل ما قرأته في الكتاب الذي بين يديك ،البد أدركت أن تفسير آيات
سورة اإلسراء يحتاج ،مع المعارف الواسعة الشاملة المترابطة ،الى دراسة
سيرة بني إسرائيل وآثارھم في التاريخ من خالل إخبارات القران عنھم.
٤٦٦
شفرة سورة اإلسراء
وإدراكھا وفھمھا فوق طاقة البشر وما يملكونه من وسائل لإلدراك وتحصيل
المعرفة.
والقرآن ،بيان اإلله إلى خلقه ،ألنه العلم الشامل المحيط ،ومصدر المعرفة
المطلق الكاشف للزمان والمكان ،فھو المصدر الوحيد الذي يكشف ِع َ
ظم آثار
بني إسرائيل في التاريخ والبشرية ،وھو الضوء الوحيد الذي يرشد الى مناطق
استكشاف ھذه اآلثار ،ويضئ المناطق المجھولة التي ال يمكن العثور على ھذه
اآلثار وما تحفل به من أسرار وخفايا ،ھي حقائق التاريخ ال ما يُدونه
المؤرخون ،إال فيھا.
فال يمكن فھم تاريخ العالم والمسار الذي سار فيه ،وال كيف تكونت األمم
وكونت عقائدھا وعلومھا وآدابھا وفنونھا على الصورة التي تكونت وكونتھا
بھا ،إال بمعرفة آثار تحريف الوحي فيھا ،وال يمكن معرفة التحريف وما الذي
حُرف ،وال إدراك أن ثَمة وحيا ً وتحريفا ً أصالً ،إال بمعرفة األصل ،وال مصدر
لألصل ،ولبيان التحريف وما حُرف ،إال القرآن.
فاعلم أنﱠا لم نعرفه ونصل إليه بمجرد االطالع والقراءة ،بل رأيناه أوالً في
القرآن ،ومن قبل أن يكون ثَمة اطالع وال قراءة ،ثم رأيناه بالقرآن عند اإلطالع
والقراءة.
٤٦٧
شفرة سورة اإلسراء
فكم من أمي اطلع وقرأ ،فلم يُس ﱢ
طر قلمه سوى اإلعجاب بما قرأ والوله بما
عليه اطلع ،فلوال أنﱠا رأينا ما رأيناه في القرآن ،ورأيناه بالقرآن ،لكان حالنا ،مع
ما اطلعنا عليه من تواريخ وأساطير ،ومن فلسفات وعلوم ،ومن آداب وفنون،
ومن أسرار ورموز ،ومن مجاھيل عالم السر والخفاء ،كحال ھؤالء األميين،
ولصرنا إلى ما صاروا إليه من عَته وبلَه!
تعلم ذلك من أن بني اسرائيل الذين يقص لك القرآن أخبار أجيالھم الغابرة،
ھم أنفسھم من يخاطب في كل زمان وكل مكان أجيالھم الحاضرة ،فبنو
اسرائيل ،بتكوينھم ،في كل أجيالھم جيل واحد ،وفي كل عصورھم عصر
واحد ،له غاية واحدة ال تتغير ،ووسائل يتوارثونھا ال تتبدل.
٤٦٨
شفرة سورة اإلسراء
المفسرون ،كما رأيت ،قيدوا آيات سورة اإلسراء زمانا ً فجعلوھا تخبر عن
ماض حدث وانتھى ،وقيدوھا مكانا ً فجعلوا مجال اإلفساد ومكان العلو الكبير
األرض المقدسة ،وقيدوا اإلفساد والعلو والكبير بأنه مادي ،وحوادث أو وقائع،
ألنھم فھموا أن المراد من اإلخبار في اآليات العظة والعبرة بسيرة بني
إسرائيل.
وھذه القيود أصمتت اآليات وأغلقتھا وطمرتھا وجعلتھا ساكنة ال عالقة لھا
بحياة البشر ومعزولة عن مسارھم وتاريخھم ،بينما ھي في الحقيقة ناطقة بشئ
آخر ،وتحوي شفرة ال يمكن حلھا وإخراج ما تحويه إال بتحريرھا من القيود
التي قيدھا بھا المفسرون من عند أنفسھم دون أن يوجد في نص اآليات ما يدل
عليھا أو يوحي بھا.
آيات سورة اإلسراء شفرة لغوية ،وتفسيرھا ومعرفة ما أراد ﷲ عز وجل أن
يخبرنا به فيھا ھو في حل ھذه الشفرة اللغوية.
٤٦٩
شفرة سورة اإلسراء
٤٧٠
شفرة سورة اإلسراء
y
اإلفساد الذي تخبر عنه اآليات وتنطق به دورات في الزمان وليس حوادث
أو وقائع فساد ،قتل رجل أو اثنين أو مائة ألف ،فاآليات تخبرنا عن شئ أشد
خطراً وأعمق أثراً في تاريخ البشرية وتكوينھا من مجرد قتل رجلين ،حتى لو
كانا نبيين ،والھدف من اإلخبار به أھم وأكبر من مجرد العظة والعبرة.
اآليات تخبر عن مرتي إفساد ،كل مرة ھي دورة طويلة في الزمان ،وكل
دورة تبدأ من صالح أو إصالح ،ألن الفساد واإلفساد في العربية ،كما ستعلم،
ھو نقيض الصالح واإلصالح ،وال يكون إال بعدھما.
فتفھم من ذلك أن الدورة األولى تبدأ بالصالح ثم يتلوه إفساد يربو ويستشري
حتى يشمل األرض كلھا ،وعندما يصل اإلفساد إلى ذروته يبعث ﷲ عز وجل
عباداً ،ال لمجرد التنكيل ببني إسرائيل كما فھم المفسرون ،بل إلزالة إفسادھم
ومحو آثاره من األرض ،ويواكب ھذا اإلصالح لما أفسده بنو إسرائيل تسلط
ھؤالء العباد عليھم.
وبعد أن يصل اإلصالح إلى تمامه ،يبدأ بنو إسرائيل دورة إفساد أخرى،
تزيد وتتوسع إلى أن تصل إلى ذروتھا بأن تعم األرض كلھا ،فيأتي عباد ﷲ
مرة أخرى إلزالة اإلفساد وآثاره وإعادة الصالح.
وذكر المسجد األقصى في اآليات ليس تقييداً لإلفساد بأنه في األرض التي
ھو فيھا ،بل ھو عالمة على شيئين آخرين ،عالمة تعرف بھا ،مع العالمات
األخرى في اآليات ،من ھم العباد الذين يسلطون على بني إسرائيل ويزيلون
إفسادھم ويمحون آثاره ،ومتى يُبعثون عليھم ،وعالمة على أن وصول بني
إسرائيل إليه وعلوھم المادي حوله ھو ذروة دورة اإلفساد الثانية.
فنص آيات سورة اإلسراء ،بصياغته المعجزة المشفرة لغوياً ،يخبرك أن
دورتي اإلفساد ليستا متشابھتين تماماً ،كما توھم المفسرون ،بل بينھما فروق
ستعرفھا مع استكمال تحريرھا.
٤٧٢
شفرة سورة اإلسراء
xw
إذا كان اإلفساد المقصود في آيات سورة اإلسراء دورات فى الزمان وليس
حوادث أو وقائع موقوتة بلحظة فيه ،وإذا كان المسجد في اآليات عالمة على
العباد وإشارة إلى زمان بعثھم ،وعلى مرحلة في دورة اإلفساد الثانية أو على
ذروتھا ،فما المقصود باألرض التي تشھد ھذا اإلفساد والعلو الكبير لبني
إسرائيل.
األرض في القرآن إما أن ترد مقيدة أو مطلقة ،فاألرض المقيدة كقوله تعالى
في إبراھيم عليه السالم في سورة األنبياء:
)(١
¶¸¿¾½¼»º¹
( ١األنبياء.٧١ :
( ٢األنبياء.٨١ :
٤٧٣
شفرة سورة اإلسراء
أوالً:األرض كلھا:
)(١
qpon
)(٢
}|{zyxwv
)(٣
nmlk
كقوله تعالى:
)(٤
ba`_^]\[ZYXWVUTS
وذلك دون إرادة تحديدھا أو تعيينھا ،ألن التحديد والتعيين ليس مراداً وال
مقصوداً في المعنى ،وال يضيف إليه ،كقوله تعالى:
)(١
KJIHGFEDCBA
وفي ھذه المعاني الثالثة لألرض حين تأتي مطلقة في القرآن المراد التعميم
واإلطالق ،وليس تحديد بقعة معينة ،وال اإلخبار أو الكناية عن بلد بعينه.
رابعاً :مصر:
األرض حين ترد في آيات القرآن مطلقة ،خالية من القيد ،ال تعني بلداً محدداً
بعينه ،وال أن ما تخبر به يتعلق بھذا البلد دون سائر البلدان ،إال في حالة واحدة
ال ثاني لھا ،حين يتعلق الكالم بمصر.
)(٢
mlkji hgfed
)(٣
vutsrqpon
( ١التوبة.١١٨ :
( ٢يوسف.٥٥ :
( ٣يوسف.٥٦ :
٤٧٥
شفرة سورة اإلسراء
)(١
~¡¦¥¤£¢
فالمقصود في ھذه اآليات كلھا مصر تحديداً ،مع إطالق لفظ األرض فيھا،
ألن ھذا ھو اسم مصر فعالً في اللغة المصرية القديمة.
فاألرض المطلقة في اآليات التى تخبر عن مصر تعني مصر دون حاجة
لتقييدھا ،ألن كلمة £ :ھي الترجمة العربية الحرفية السم مصر القديمة
) •(
في لسان أھلھا وكتابتھم
فاسم مصر القديمة عند أھلھا ،كما يقول السير آالن جاردنر Alan
Gardinerفي كتابه :فقه اللغة المصرية القديمة :Egyptian Grammer
فاآلن نريدك أن تتأمل اآليات مرة أخرى ،األرض في آيات سورة اإلسراء
مطلقة غير مقيدة ،والقيد الذي قيدھا به المفسرون ،وھو أنھا األرض المقدسة،
جاءوا به من عند أنفسھم ،وليس في اآليات ما يدل عليه.
وما خطر على أذھانھم من أن ذكر المسجد في اآليات تقييد لألرض بأنھا
التي ھو فيھا َو ْھم ،ألن المسجد في اآليات عالمة على مرحلة من دورة اإلفساد
( ١القصص.٤ :
• ( انظر رسم اسم مصر بالھيروغليفية في ملحق الصور.
2 ) Egyptian Grammar:P479,599.
٤٧٦
شفرة سورة اإلسراء
الثانية ،وعالمة تعرف بھا من ھم العباد الذين يزيلون ھذا اإلفساد ومتى ،وليس
تقييداً لألرض التي يكون فيھا ھذا اإلفساد.
فالسؤال اآلن الذي يجب أن تجيب عليه ھو :إذاً ما المقصود باألرض في
سورة اإلسراء ،في قوله تعالى مخاطبا ً بني إسرائيل:
xwv
المقصود باألرض ھو األرض كلھا ،ال بقعة دون بقعة ،وال بلد دون بلد،
األرض في آيات سورة اإلسراء ھي الكرة األرضية كلھا!
)(١
onml
( ١األعراف.١٦٨ :
٤٧٧
شفرة سورة اإلسراء
وكذلك اإلفساد في سورة اإلسراء ،فھو إفساد يعم األرض كلھا التي نثر فيھا
عز وجل بني إسرائيل وشتتھم بين أممھا وشعوبھا ،يؤكد ذلك قوله تعالى:
´èçæåäãâ ...¿¾½¼»º¹¸¶µ
)( ١
ëêé
فا" عز وجل يصف اليھود بالسعي إلى اإلفساد ،وليس مجرد الفساد أو
اإلفساد ،والسعي يعنى قصد الشئ والمسارعة فيه واإلسراع نحوه.
ثم إنه عز وجل وضع ھذا اإلفساد في صيغة المضارعة التي تعني التجدد
واالستمرار والتكرار ،فحرر بذلك ھذا السعي من قيد الزمان.
إفساد اليھود أو بني إسرائيل ليس محصوراً في األرض المقدسة ،كما فھم
المفسرون ،بل على خالف ذلك ونقيضه ،ھو قرين عدم وجودھم فيھا ،وتشتتھم
في األرض كلھا ،وعودتھم إلى األرض المقدسة واجتماعھم فيھا ھي إحدى
ثمار ھذا اإلفساد في دورته الثانية.
( ١المائدة.٦٤ :
٤٧٨
شفرة سورة اإلسراء
ومن المثير أن الصيغة التي وصف عز وجل بھا إفساد اليھود في األرض
كلھا في سورة المائدة صيغة فريدة لم ترد في القرآن إال مرتين ،وھذا الموضع
الثاني منھما.
w v u t s r q p o n m l k
)(١
ba`_~}|{zyx
فھذه الصيغة ال ترد فى القرآن إال لوصف َمن الفساد حرفته وقرين نشاطه
وسعيه وحركته.
فإفساد بني إسرائيل المذكور في سورة اإلسراء ،بنص اآليات ،إفساد يعم
األرض كلھا وال تنجو منه بقعة فيھا ،وعلوھم الكبير علو في األرض كلھا ،ال
في بلد أو ناحية منھا دون أخرى.
( ١المائدة.٣٣ :
٤٧٩
شفرة سورة اإلسراء
v
السؤال التالى :ما ھو ،وكيف يكون ھذا اإلفساد الذي يعم األرض كلھا ،وما
ھو تفسير العلو الكبير الذي يعلوه بنو إسرائيل على أمم األرض كلھا؟
المفسرون ،كما رأيت ،انصرفت أذھانھم إلى اإلفساد والعلو الكبير بالمعنى
المادي ،القتل والتخريب والبغي والتسلط والتجبر والطغيان ،وفھمھم لإلفساد
والعلو الكبير على ھذا النحو ھو ما أصمت اآليات وأغلقھا ،ولو فطنوا إلى
تفسير اإلفساد والعلو الكبير بالمعنى العقائدي لصارت اآليات ينبوعا ً يتدفق
بالمعاني واإلخبارات والدالالت ،والنفتحت على تاريخ العالم وسيرة البشرية
كلھا.
لكي تعرف ما ھو اإلفساد الذي يعم األرض كلھا وال تنجو بقعة فيھا منه،
البد أوالً أن تعرف ما ھو الفساد واإلفساد أصالً.
وفي المعجم الوسيط الذي قام عليه مجمع اللغة العربية برئاسة الدكتور
شوقي ضيف:
"فسد اللحم واللبن :أنتن أو عطب ،وفسد الرجل :جاوز الصواب والحكمة،
)(٣
وفسدت األمور :اضطربت وأدركھا الخلل ،وأفسد الشئ جعله فاسداً"
وكما ترى ،أئمة اللغة وأساطين العربية يُعرفون الفساد تعريفا ً واحداً يتفقون
عليه ،وال اختالف بينھم فيه ،وھو أن الفساد نقيض الصالح ،واإلفساد نقيض
اإلصالح ،وھو ما تعرف منه أن الصالح ھو األصل ،وأنه إذا قيل :حدث فساد
أو إفساد ،فھو يعني ،تلقائيا ً وبالضرورة ،أن ھذا الفساد واإلفساد كان مسبوقا ً
بصالح أو إصالح.
فإذا صرحت أن اللحم أو اللبن فسد وأنتن ،فإنك تعني في الوقت نفسه ،ومن
غير حاجة إلى تصريح ،أنه كان قبل ھذا الفساد واإلنتان صالحاً ،وإذا أخبرك
أحد أن األمور فسدت واضطربت ،فإنك ستفھم ،من غير أن تكون في حاجة إلى
أن يخبرك ،أن األمور كانت قبل فسادھا واضطرابھا صالحة ومستقرة.
ومن ھنا تفھم أن كل دورة إفساد لبني إسرائيل تبدأ من بعد صالح أو
إصالح ،أي من بعد وحي ورسالة من ﷲ عز وجل إلصالح عالم البشر وإعادة
البشرية إلى الحق ،ثم تبدأ دورة إفساد بني إسرائيل وتربو وتزيد وتتوسع حتى
تعم األرض كلھا.
وھا ھنا تفھم لماذا سبق عز وجل ذكر دورتي اإلفساد بذكر الكتاب الذي
أنزل على موسى ليكون ھدى لبني إسرائيل في قوله تعالى:
b a ` _ ^ ] \ [ Z Y X
)(١
dc
فإنزال الكتاب على موسى عليه السالم ،وھداية بني إسرائيل إليه ،وتكوين
أمة الوحي منھم به ،ھو اإلصالح الذي سبق دورة اإلفساد األولى.
فإذا فھمت ذلك ،وعرفت صلة الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السالم
باإلفساد المذكور بعده ،فسوف تدرك وحدك معنى ھذا اإلفساد والمقصود به.
إفساد بني إسرائيل في آيات سورة اإلسراء ليس القتل والتخريب والبغي،
كما فھم المفسرون ،بل ھو في المرة األولى كتم الكتاب الذي أنزل عليھم
وإخفاؤه ،وتحريف الوحي ،وبث التحريف في البشر وإضاللھم به ،بدالً من
ھدايتھم بالوحي.
( ١اإلسراء.٢ :
٤٨٢
شفرة سورة اإلسراء
حتى إذا اكتمل إفسادھم ،وعم التحريف وآثاره األرض كلھا ،ولم تعد بقعة
فيھا بمنأى عنه ،بعث ﷲ عز وجل عباده بالوحي والرسالة ،ال لمجرد التنكيل
ببني إسرائيل ،بل ليعيدوا الصالح ويغسلوا األرض بالوحي من إفساد بني
إسرائيل ويقيموا أمة الوحي التي تعيد تكوين وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم
وإصالح حياتھم ومجتمعاتھم بالرسالة من جديد.
وما ينبغي أن تعلمه لكي ينير لك الطريق وتفھم ماذا تكون دورة اإلفساد
الثانية واإلصالح الذي يكون بعدھا ،أن الفساد واإلفساد ليس الذنوب والخطايا
واآلثام وال مخالفة األحكام ،وال وجود األباطيل والضالالت في العالم.
٤٨٣
شفرة سورة اإلسراء
وأن تترك أمة الوحي مفتاح التصنيف اإللھي فتنحل ،ليعاد تكوينھا وتركيبھا
بمفتاح التصنيف البني إسرائيلي ،فتحل الدولة ومن يحكمونھا محل اإلله،
وتصير ھذه الدول التي أقيمت بالتزوير والتحريف ،ومن يقومون عليھا ،نقيضا ً
لوحي اإلله ،ووجوده ينقض وجودھا ووجودھم ،ومعاييره وموازينه خطراً
داھما ً يتھددھا ويتھددھم ،فتكون رسالتھم ،وما يحفظ وجودھم وسلطانھم ودولھم
وعالمھم المزور ،غياب الوحي وتغييب معاييره وموازينه عن شعوبھم،
باإلعالم والتعليم ،والسياسات والقوانين ،والمغنواتية والفنانين ،واألدباتية
)•(
والمثقفين ،وأجھزة األمن والجيوش التي ھي للتشريفة والعرض فقط
• ( في مؤتمر القمة العربية الذي عُقد في القاھرة سنة ٢٠٠٠م ،في أعقاب دخول رئيس وزراء إسرائيل
سئل رئيس اليمن :علي عبد ﷲ صالح في مؤتمر أرييل شارون المسجد األقصى واندالع انتفاضة األقصىُ ،
صحفي :لماذا ال تتوحد الجيوش العربية وتقوم بتحرير المسجد األقصى ،فكان رده" :الجيوش العربية لم
تصمم من أجل الحروب والقتال ،فھي جيوش للتشريفة والعرض فقط"!!
وفي يوم ١٩يونيو سنة ١٩٧٣م أرسلت السفارة البريطانية في القاھرة رسالة إلى وزارة الخارجية في لندن
تقترح فيھا شروطا ً لعقد صفقات توريد السالح للدول العربية ،وكان أحد ھذه الشروط ضمان عدم استخدام
ھذا السالح ضد إسرائيل!!
وبعد أن وضعت حرب أكتوبر سنة ١٩٧٣م أوزارھا نشرت مجلة اإليكونوميست البريطانية تقريراً عن
استراتيجية الغرب الجديدة بخصوص إمداد بالد العرب بالسالح بعد الحرب قالت فيه إن ھذه االستراتيجية
سوف تتجه نحو تزويد جيوش بالليص ستان بالسالح الذي يُ َم ﱢكن دولھا وحكوماتھا من السيطرة على
شعوبھا دون أن يرتقي إلى أن يكون خطراً على إسرائيل أو تھديداً ألمنھا!!
٤٨٤
شفرة سورة اإلسراء
واليھود والماسون أقاموا ھذه الدول ،مغلفين في األغلفة التي علمت ،بمفتاح
التصنيف البني إسرائيلي ،وأقاموھا على عقد روسو االجتماعي ودينه المدني،
الذي أتى به من خريطة الوجود البني إسرائيلية.
•( الماسوني إيفلين بيرنج ،Evylen Baringالشھير باللورد كرومر ،صاحب أكبر بصمة في تاريخ مصر
الحديثة ،بعد الماسون الذين حرفوا مسار مصر وأقاموا لمحمد علي دولته ،والذي صنعھا في الحقيقة ووضع
قواعدھا ،وھو الذي أطاح بالشريعة وأحل القوانين الوضعية محلھا ،وكان أبا ً روحيا ً لكل من أنجبتھم مصر
من زعماء وساسة وقادة ثورة ،ومحرري مرأة ،ومفكرين وأدباء ،له عبارة بليغة يقول فيھا :نحن ال نحكم
مصر ،بل نحكم من يحكمون مصر!!
٤٨٥
شفرة سورة اإلسراء
وعيه به وبخريطته للوجود وموازينه ومفتاح تصنيفه ،كان مشتركاً ،أدرك ذلك
)• (
أو لم يدرك ،في تغييب الوحي وترسيخ التحريف!!
آيات سورة اإلسراء تخبرك عن إفسادين ،وألن اإلفساد ال يكون إال بعد
صالح ،فھي تخبرك تلقائياً ،كما علمت ،عن ثالثة إصالحات :اإلصالح األول
الذي يسبق دورة اإلفساد األولى وتبدأ من بعده ،واإلصالح الثاني الذي يزيل
اإلفساد األول وتبدأ من بعده دورة اإلفساد الثانية ،واإلصالح الثالث يزيل
اإلفساد الثاني.
•( بعد أن كتبنا ھذا الكالم نشرت الصحف المصرية أن أحد أعضاء اللجنة التي وضعوھا ،لكي تضع دستور
مصر طالب في أثناء مناقشات المادة الثانية أن تحذف عبارة" :اإلسالم دين الدولة" ،وقال إن الدولة ال دين
لھا ،وأن ھذه العبارة بھا تزيد كبير وتحدث انقساما ً في المجتمع ،والعضو الذي قال ھذا ھو الدكتور سعد
الدين ھاللي أستاذ الشريعة والفقه المقارن بجامعة األزھر!!
وھي قالة سبق للدكتور سعد الدين ھاللي أن قالھا ودعا إليھا في كتابه :اإلسالم وإنسانية الدولة )ص،(٣١٥
وھو الكتاب الذي يؤصل فيه لعلمانية الدولة بفقه اإلسالم!!
وما ال يعلمه أستاذ الشريعة والفقه األمي)!!( أن الدولة في كل األحوال لھا دين ،فإن لم يكن دين ﷲ فھو دين
روسو المدني الذي وضعه وأقام دولته القومية العلمانية من أجل إزاحة مسألة األلوھية والوحي!
٤٨٦
شفرة سورة اإلسراء
|{z
لو كان المقصود بالعلو الكبير لبني إسرائيل الطغيان والتجبر ،أو التحكم في
األرض ،أو تكوين الدولة ،أو الجيوش وحيازة األسلحة ،لكان ھناك من األمم
والشعوب واإلمبراطوريات من ھو أولى بالذكر منھم ،لكي تكون العبرة والعظة
بما آل إليه أكبر.
فبنو إسرائيل عبر التاريخ كله ،كما تعرف ،لم تكن لھم إمبراطورية ُمھابة
شديدة البأس كاإلمبراطورية المصرية القديمة ،وال واسعة وعتية
كاإلمبراطورية الرومانية ،وال فى سطوة بريطانيا العظمى إبان أن كانت
إمبراطورية ال تغرب عنھا الشمس ،وال في قوة الواليات المتحدة األمريكية
وضخامة جيوشھا وعتادھا وما تملكه من أسلحة تقليدية ونووية.
ومع ذلك فا" عز وجل لم يسجل العلو الكبير في كتابه وبيانه إلى خلقه إال
لبني إسرائيل ،فلم يصف عز وجل فئة وال قوما ً وال أمة بالعلو الكبير سوى بنى
إسرائيل ،ولم يصف أحداً بالعلو أصالً بعد بني إسرائيل سوى فرعون في قوله
تعالى:
)(١
~¡¦¥¤£¢
وقوله تعالى:
( ١القصص.٤ :
٤٨٧
شفرة سورة اإلسراء
z y x w v u t s r q p o n m l
)(١
{|
والعلو الذي وصف به عز وجل فرعون ليس العلو المادي ،كما قد يتبادر
لذھنك ألول وھلة ،فكم شھد التاريخ من جبابرة وطغاة وأباطرة وقياصرة ،ولم
يسجل لھم عز وجل ھذا الوصف بالعلو.
علو فرعون ھنا ليس مجرد العلو المادي ،الطغيان والتجبر والسلطة
والسطوة والظلم ،بل علوه العقائدي وحلوله في أذھان رعاياه فى البالد التي
يحكمھا وتحويھا مملكته محل اإلله ،مصدراً للخير والشر ،وفيصالً بين
الصواب والخطأ ،ومنبعا ً لألخالق والقيم.
علو فرعون في األرض ،تفسيره في قوله تعالى على لسان فرعون نفسه:
)(٢
ponmlkjihg
NMLKJIHGFEDCBAÐÏÎÍÌ
( ١الدخان.٣١-٣٠ :
( ٢القصص.٣٨ :
( ٣النازعات.٢٤-١٥ :
٤٨٨
شفرة سورة اإلسراء
علو فرعون ھو أنه جعل نفسه الرب األعلى ،وحل في أذھان رعاياه ھذا
المحل.
األول :أن علو بني إسرائيل فوق علو كل مالك األرض وإمبراطورياتھا في
كل العصور ،بل إن علو بني إسرائيل في األرض كلھا عند ذروة دورة اإلفساد
يفوق علو فرعون في مملكته وما بلغه من منزلة في وعي رعاياه.
والثاني :أن ھذا العلو ،ميزانه ومقياسه ومداره ليس القوة والبأس المادي ،بل
شئ آخر لم تمتلكه ھذه اإلمبراطوريات والممالك ،ولم يصل إليه فرعون.
وھذا الشئ اآلخر ھو السطوة على وعي البشر ،وامتالك عقولھم ،والسيطرة
على أذھانھم ونفوسھم ،ومن ثَم التحكم في كل ما يتكون داخل ھذا الوعي ،وما
تنتجه ھذه العقول واألذھان والنفوس.
فإذا كنت قد علمت أن إفساد بني إسرائيل في األرض ھو عملھم على إزاحة
وحي اإلله ومعاييره وموازينه ،وإزالة خريطته للوجود ومفتاح تصنيفه من
وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم ،فاعلم أن علوھم الكبير ھو تمكنھم من ذلك،
وحلولھم وخريطتھم ومفتاحھم محل وحي اإلله فى أذھان البشر ،واستيطانھم
لوعيھم ،مصدراً مطلقا ً للمعرفة وإدراك الوجود وفھم الحياة وبناء المجتمعات.
علو بنى إسرائيل الكبير ھو أن يحل مفتاح تصنيفھم ألمم البشر والشعوب،
المفتاح العرقي الدموي القومي السُاللي ،محل مفتاح تصنيف اإلله للبشر ،أال
وھو العقائد ومسألة األلوھية واليوم اآلخر ،وأن تتفكك أمة الوحي إلى دول
٤٨٩
شفرة سورة اإلسراء
يفصل بينھا ويحد حدودھا ويحرك جيوشھا ويحكم من يحكمونھا مفتاح تصنيف
بني إسرائيل ،فتصير كلھا أمة بني إسرائيل ومحضنا ً لدولتھم.
يقول فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار في تفسير علو بني إسرائيل الكبير
في المرة الثانية ،إنھم أُمدوا بثالثة أشياء:
٤٩٠
شفرة سورة اإلسراء
إفساد بنى إسرائيل وعلوھم في األرض الكبير ليس دولة إسرائيل وما تمتلكه
من جيش وسالح ،كما فھم الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ الشعراوي ،علو
بني إسرائيل الكبير ھو العالم كله ،وبالد العرب كلھا ،كما تراه وتراھا في
زمنك ھذا ،بمعماره القومي ومعمارھا ،وخريطته وخريطتھا ،ودوله ودولھا،،
ونخبه ونخبھا ،وجيوشه وجيوشھا ،وعلومه وعلومھا ،وآدابه وآدابھا ،وفنونه
وفنونھا.
ed
ثمة سؤال ،كما علمت ،شغل المفسرين وج ﱡدوا في البحث عنه ،وصرفھم عن
الفحوى الحقيقية لآليات ،وعن السؤال الذي كان ينبغي أن يجدوا ويكدحوا في
اإلجابة عليه حقاً ،وھو :ما ھو اإلفساد الذي يستحق أن يُنص عليه بمثل ھذا
النص ،وأن يُخلد في مرتَيْه ھذا التخليد؟
والسؤال الذي شغل المفسرين ھو :من ھم العباد الذين يبعثھم عز وجل على
بني إسرائيل؟
لكي تعرف من يكون ھؤالء العباد ،ينبغي أوالً أن تعرف ما الذي تخبر به
اآليات عنھم.
أوالً:d :
لفظ" :عباد" ال يرد في القرآن إال لوصف أھل الصالح واإليمان والطاعة
كقوله تعالى:
٤٩٢
شفرة سورة اإلسراء
¬ « ª © ¨ § ¦ ¥ ¤ £ ¢
)(١
®¯
وقوله تعالى:
w v u t s r q p o n m l
)(٢
x
وأدنى مقام ترد فيه كلمة" :عباد" في القرآن ،ھو مقام التوبة واالستغفار
واإلنابة كقوله تعالى:
¦ ¥¤£¢¡~}|{zyxwvut
)( ٣
§¨© «ª
ولم ترد كلمة" :عباد" في القرآن لوصف عباد غير مؤمنين إال في
موضعين ،ھما قوله تعالى في سورة الفرقان:
( ١الفرقان.٦٣ :
( ٢األنبياء.١٠٥ :
( ٣الزمر.٥٣ :
( ٤الفرقان.١٧ :
٤٩٣
شفرة سورة اإلسراء
)(١
ÍÌËÊÉÈÇÆÅ ÄÃÂÁ
"في منطقة االختيار يتمايز العبيد والعباد ،فالمؤمنون با يخرجون عن
اختيارھم إلى اختيار ربھم ،فتراھم ينفذون ما أمر ﷲ به ،ويجعلون االختيار
كالقھر ،وھؤالء ھم العباد ،أما الكفار الذين اختاروا مرادھم وتركوا مراد ﷲ،
فھؤالء ھم العبيد ،وال يقال لھم عباد أبداً ألنھم ال يستحقون شرف ھذه الكلمة،
فإذا جاءت اآلخرة فال محل لالختيار والتكليف ،فالجميع مقھور تعالى،
فالجميع عبيد وعباد في الوقت ذاته ،فالكل عباد في اآلخرة ،وليس الكل عباداً
في الدنيا")(٢
ثانياً:ed :
لم يصف ﷲ عز وجل من يبعثھم على بني إسرائيل بأنھم عباد فقط ،ولكنه
عز وجل أضافھم إلى ذاته ونسبھم لنفسه ،فقال عز وجل:
hgfedcb
( ١المائدة.١١٨ :
( ٢تفسير الشعراوي :ج ،١٤ص ،٨٣٥٧-٨٣٥٦مع تصرف يسير.
٤٩٤
شفرة سورة اإلسراء
وإضافته عز وجل ھؤالء العباد لذاته ،ونسبتھم لنفسه ،إضافة تشريف ونسبة
رفعة وتكريم ،تعني أنھم عباد مؤمنون صالحون.
وھو ما فطن إليه فضيلة الشيخ عبد المعز عبد الستار ،فقال رحمه ﷲ في
دراسته ،عن عمر بن الخطاب وأصحاب النبي عليه الصالة والسالم الذين
دخلوا المسجد األقصى:
"ھم الذين يستحقون شرف ھذه النسبة ،ألنھم الموحدون أتباع عبده الذي
أسري به ،أما أتباع بختنصر أو سابور أو سنحاريب ،فقد كانوا عبﱠاد وثن ال
)(١
يستحقون شرف االختصاص با في قوله"e :
§¨©¬«ª
أي :يسوء ھؤالء العباد وجوھكم ،وھي قراءة نافع المدني ،وابن كثير
المكي ،وأبي عمرو البصري ،وحفص عن عاصم الكوفي ،وأبي جعفر المدني،
)•(
ويعقوب الحضرمي من العشرة ،ووافقھم األعمش من الشواذ
وأما قراءة ابن عامر الدمشقي ،وشعبة عن عاصم ،وحمزة الكوفي ،وخلف
العاشر ،فھي:
وتعدد القراءات ،كما أخبرناك من قبل ،من فوائده إتمام المعنى ،أو بيان
معان ال تستبين بقراءة واحدة.
ٍ
وكما ترى ،ما ينبئك به تعدد القراءة في ھذا الموضع من آيات سورة
اإلسراء ،أن ﷲ عز وجل يوحد في إرادة الفعل ،و َسوْ ء وجوه بني إسرائيل ،بينه
وبين ھؤالء العباد ،وھو ما يعني أنھم يفعلون ذلك بأمره عز وجل.
edcb
( ١اإلمام ابن الجزري :النشر في القراءات العشر :ج ،٢ص ،٣٠٦اإلمام أحمد بن محمد البنا :اتحاف
فضالء البشر بالقراءات األربعة عشر :ج ،٢ص.١٩٤-١٩٣
٤٩٦
شفرة سورة اإلسراء
"بعث :بعثه يبعثه بعثاً :أرسله وحده ،وبعث به :أرسله مع غيره ،والبعث:
)(١
الرسول"
"بعث :أرسله وحده ،وبعث به :أرسله مع غيره ،وبعث الناقة :أثارھا أو
كانت باركة فأھاجھا ،وكل شئ أثرته فقد بعثته ،وبعث فالنا ً من نومه :أيقظه،
)(٢
وبعث الجند يبعثھم بعثاً :إلى الغزو"
"بعثه :بعثا ً وبعثة :أرسله وحده ،ويقال بعثه إليه وله :أرسله ،وبعث فالنا ً
من نومه :أيقظه ،وبعث ﷲ الخلق بعد موتھم :أحياھم ونشرھم ،وبعث فالنا ً
على الشئ :حمله على فعله")(٣
ولكن ألن أئمة المفسرين حصروا آيات سورة اإلسراء في األرض المقدسة،
وفي زمن دولة بني إسرائيل ،وألنھم كانوا يبحثون في تفسيراتھم عمن يعاقب
بني إسرائيل وينكل بھم ،وليس عمن يزيل إفسادھم ،وألنھم لم يجدوا من ھؤالء،
في ما بين أيديھم من معارف ،إال عب ﱠاد األوثان ،فقد اضطروا إلى تأويل معنى
البعث وصرفه عن معناه األصلي.
فإليك المعنى األصلي وكيف صرفه الطاھر بن عاشور ،معاً ،في عبارة
واحدة:
فالمعنى الحقيقي ،كما تراه في كالم ابن عاشور نفسه ،ھو أن بعْث ھؤالء
العباد إنما ھو بأمر من ﷲ عز وجل ،أي بوحي ورسالة ،ولكنه رحمه ﷲ ،لِما
قد علمت ،اضطر إلى جعله :كأنه أمر من ﷲ!!
ثم إليك ھذه الفرضية العجيبة التي اضطر القاضي ابن عطية األندلسي إلى
افتراضھا ،في تفسيره :المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز ،لكي يوائم بين
ما يقتضيه معنى البعث من الوحي والرسالة ،وبين عب ﱠاد األوثان الذين حصر
المفسرون العباد المبعوثين فيھم:
فال تفھم إذا كان ملك تلك األمة وثنيا ً ال يؤمن با" ،كمن ذكرھم ھو نفسه في
تفسيره ،فما الذي يدعوه إلى طاعة ھذا الرسول المفترض ،وشن حرب انصياعا ً
ألمر إله اليؤمن به؟!
بقي في ، b :أن تعلم أنھا تحمل في ثناياھا صفة أو عالمة أخرى
لھؤالء العباد ،فبَ َعث تدل في معانيھا المختلفة على االنتقال من حالة إلى أخرى،
أوالھما :سكون أو خمود وخمول أو موت وعدم ،وثانيتھما :حركة أو فعل
ونشاط أو وجود وحياة.
فالبعث ،كما رأيت في معاجم اللغة ،إثارة الناقة من قعود ،وتحريك الجيش
من سكون ،واالنتقال من النوم إلى اليقظة ،ومن الموت إلى الحياة ،ويوم القيامة
ھو يوم البعث ،ألنه انتقال من سكون الموت إلى حركة الحياة.
وھذا ھو نفسه جوھر بعث بمعنى أرسل ،فالبعث ليس مجرد إرسال رسالة،
بل ھو إنھاض رسول وتحريكه بھا بعد إذ كان قاعداً ساكناً.
فتفھم من ذلك أن العباد الذين يبعثھم عز وجل على بني إسرائيل في أول مرة
كانوا قبل بعثھم أمة خاملة ال ذكر لھا ،أو أنھم لم يكونوا أمة أصالً ،ثم صاروا
أمة ،وصار لھم ذكر وارتفاع بھذا البعث.
فھؤالء العباد ،من غير تأويل وال صرف للمعنى عن أصله ،أمة تبعث
برسالة جديدة إلصالح األرض وغسلھا وإزالة إفساد بني إسرائيل منھا ،وھم
قبل بعثھم في المرة األولى أمة خاملة لم يكن لھا وجود ،أو لم يكن لھا ذكر من
قبل.
٤٩٩
شفرة سورة اإلسراء
وھاھنا تدرك أن العباد الذين يبعثھم عز وجل على بني إسرائيل في المرة
الثانية ليسوا مجرد عباد مؤمنين ،كما قال الشيخ عبد المعز عبد الستار والشيخ
الشعراوي ،وال ھم سيزيلون إسرائيل بأن يعودوا إلى الصالة والصيام والزكاة.
الذين سيدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة ،ويتبرون ما عال بنو إسرائيل
تتبيراً ھم أھل الوحي وحملة الرسالة ،ھو وھي ما يترابطون به ،وما يرابطون
من أجله ،وھو وھي ميزانھم ومعيارھم ،وغايتھم ووسيلتھم.
وھو ما مسه الشيخ الشعراوي ،من بعيد ،في فتح خاطف ،في ثنايا تفسيره
لآليات ،إذ قال رحمه ﷲ :إننا:
"ننتظر وعد ﷲ سبحانه ...سيتحقق ھذا عندما ندخل معھم معركة على
أسس إسالمية وإيمانية ،ال على عروبة وعصبية سياسية ،لتعود لنا صفة
)(١
العباد ،ونكون أھالً لنصره تعالى"
utsrq
أي :على ھؤالء العباد ،ألن الضمير في قوله u :عائد لھم.
ويقول عز وجل:
§¨©²±°¯®¬«ª
.³
٥٠١
شفرة سورة اإلسراء
®¯³²±°
أوالً :اسم المسجد إشارة إلى زمان دخوله:
استدل الشيخان الجليالن عبد المعز عبد الستار والشعراوي ،رضي ﷲ
عنھما ،على أن مرتي اإلفساد كانتا بعد اإلسالم ،بقوله تعالى:
~_`edcba
وقد رأيت أن ما استدال به خطأ ،ألن آيات سورة اإلسراء إنما أنزلت أوالً
على بني إسرائيل في التوراة ،وإنزالھا في القرآن كان مرة ثانية إلخبارنا بما
أخبر به عز وجل بني إسرائيل ،ومن ثَم فقوله تعالى ~ :مستقبل بالنسبة
الدليل على أن دخول العباد إلى المسجد في المرتين ،وليس اإلفساد ،بعد
نزول القرآن ،ھو ما علمته في بدايات رحلتك في ھذا الكتاب ،أنه من منھج
٥٠٢
شفرة سورة اإلسراء
القرآن أنه يسمي األماكن بأسمائھا التي تُعرف بھا عند أھلھا ،وفي زمنھا الذي
يتحدث عنھا فيه ،وقد رأيت مثالً لذلك في :األيمن والغربي ،وفي :مصر.
البقعة المقدسة اسمھا في العبرية :ھار ھبيت ھمقداش ،أي :جبل البيت
المقدس ،أما الھيكل فكلمة أكادية شاعت عَلما ً على البيت المقدس إبان السبي
البابلي.
وكان ھذا ھو اسم البقعة المقدسة منذ أن كان لبني إسرائيل دولة في األرض
المقدسة ،وظل اسمھا إلى العھد الروماني.
أما المسجد األقصى ،ف َعلم قرآني غير مسبوق ،والبقعة المقدسة صارت
المسجد واألقصى بنزول القرآن ،وھو ما أشار إليه الشيخ الطاھر بن عاشور
عند كالمه عن المسجد األقصى في تفسيره آلية اإلسراء ،فقال رحمه ﷲ:
فمن القاعدة القرآنية التي قد علمت ،ومن تسمية ﷲ عز وجل للبقعة المقدسة
ووصفه لھا بالمسجد في زمان دخول العباد إليھا ،تعلم أن أن دخول ھؤالء
العباد إليه ،في المرتين ،بعد نزول آيات سورة اإلسراء وليس قبلھا.
~_`lkjihgfedcba
وصف أو قيد ،وليس في اآليات أي شئ يوحي بأنھا في األرض المقدسة ،أو في
أي مكان آخر ،أو في األرض كلھا ،وتقييدھا بأنھا في األرض المقدسة ھو من
أخطاء المفسرين في فھم اآليات ،ومن اإلضافات التي أضافوھا إليھا من عند
أنفسھم.
فإليك نماذج ممن صرح بھذه اإلضافة ،ومن الخطأ في الفھم الذي كان
مصدرھا ،معاً.
٥٠٤
شفرة سورة اإلسراء
)(١
"والديار ديار بيت المقدس"
"ھي ديار بلد أورشليم ،فقد دخلھا جيش بختنصر ،وقتل الرجال وسبى،
وأحرق المدينة وھيكل سليمان بالنار ،ولفظ الديار يشمل ھيكل سليمان ألنه
)(٢
بيت عبادتھم"
وكما ترى ،الطاھر بن عاشور رحمه ﷲ ،لكي يطابق بين اآلية وبين ما في
رأسه ھو ،أضاف إضافة من عنده ،فقيد الديار بأنھا في أورشليم ،وزاد على
ذلك أن حول k j i :في اآلية إلى إحراقھا وإحراق الھيكل في
تفسيره ،والجوسان ليس من معانيه اإلحراق ،واآليات تخبرنا أن العباد يدخلون
المسجد ،ال أنھم يحرقونه ،كما قال الشيخ ابن عاشور ،وال أنھم يخربونه ،كما
)(٣
قال اإلمام الطبري ونقل في بعض نُقوله
في لسان العرب والقاموس المحيط وتاج العروس:
والجوس :طلب
ْ تخللوھا فطلبوا ما فيھا ،كما يجوس الرجل األخبار فيطلبھا،
)(١
الشئ باستقصاء"
وليس في المعجم الوسيط زيادات في المعنى على ما في لسان العرب
والقاموس المحيط وتاج العروس سوى شئ واحد ،نأتيك به لطرافته:
" ...ويقال :جاسوا خالل الديار :ترددوا بينھا باإلفساد وطلبوا ما فيھا،
)(٢
وفي التنزيل العزيز kji :
جوسان العباد في المرة األولى ،كما ترى ،ھو البحث واالستقصاء والحركة
َ
خالل الديار ،لتعقب بني إسرائيل وتتبعھم ،دون وجود علو يھدمونه أو يتبرونه،
وھذه الديار التي يجوسون خاللھا قد تكون في أي بقعة من األرض ،أو في
األرض كلھا ،ألنھا لم تقيد في اآليات بأنھا في األرض المقدسة.
وآيات سورة اإلسراء تخبرك أن العباد الذين يبعثھم ﷲ عز وجل على بني
إسرائيل يدخلون المسجد في المرة األولى دون وجود لبني إسرائيل فيه وال علو
لھم حوله ،فا" عز وجل يقول:
( ١لسان العرب :ج ،٦ص ،٤٣القاموس المحيط :ج ،٢ص ،٢٠٣تاج العروس :ج ،١٥ص.٥١٨
( ٢المعجم الوسيط ،ص.١٤٧
٥٠٦
شفرة سورة اإلسراء
§¨©²±°¯®¬«ª
¸¶µ´³
فلم يقل عز وجل :وليدخلوا المسجد وليتبروا ما علوا تتبيراً كما في أول
مرة ،فتعرف من ذلك أن العباد يدخلون المسجد في المرة األولى وفي المرة
الثانية ،ولكن وجود بني إسرائيل في المسجد وحوله ،وعلوھم المادي بالبناء
والتشييد ،وتتبير العباد لما شادوه وشيدوه ،في المرة الثانية فقط ،أما في األولى
فال.
أما في المرة الثانية ،فيدخل العباد المسجد وبنو إسرائيل فيه وقد شادوا
وشيدوا حوله ،ليتبروا ما علوا تتبيراً ،ووصول بني إسرائيل إلى المسجد في
المرة الثانية يواكب ذروة دورة اإلفساد أو مرحلة منھا ،وليس المعنى أن
اإلفساد ينحصر فيه أو في األرض المقدسة التي حوله.
٥٠٧
شفرة سورة اإلسراء
وبين مرتي اإلفساد ،كما تخبرك اآليات نفسھا ال تفسيراتھا ،أشياء مشتركة
أو متشابھة ،وبينھما اختالفات وفروق.
وأما الفروق وما تختلف فيه دورتا اإلفساد ،فھو أن العباد أمة جديدة مبعوثة
في الدورة األولى ،ولكنھم موجودين طوال الثانية.
وبنو إسرائيل ال وجود لھم حول المسجد وال علو لھم في ذروة الدورة
األولى وحين يصل العباد إليه ،فدخول المسجد في ھذه المرة يواكب إزالة
اإلفساد فقط أو ھو عالمة على إنھاء دورة اإلفساد وإشارة إلى من يكون العباد،
أما في الدورة الثانية فبنو إسرائيل موجودون في المسجد وحوله في ذروتھا أو
٥٠٨
شفرة سورة اإلسراء
المرحلة األخيرة منھا ،ولھم علو وبناء وتشييد حين يدخله العباد في ھذه المرة
الثانية ،وھو ما يتبرونه حينھا تتبيراً.
)(١
Ø×ÖÕÔÓÒÑÐÏÎÍÌËÊ
مرة أخرى ،قيد المفسرون Ð :في اآلية ،من عند أنفسھم ،بأنھا
المقدسة ،فقال اإلمام الطبري واإلمام القرطبي والشيخ الطاھر بن عاشور
رحمھم ﷲ إنھا:
)(٢
"أرض الشام"
وانفرد اإلمام اآللوسي بأنھا أرض مصر ،فاضطره ذلك إلى أن افترض،
دون دليل ،أن بني إسرائيل ،أو ذريتھم ،عادوا إلى مصر بعد غرق فرعون،
فقال:
"ھي أرض مصر ،وھذا ظاھر إن ثبت أنھم دخلوھا بعد أن خرجوا منھا،
)(٣
وإن لم يثبت فالمراد من بني إسرائيل ذرية من أراد فرعون استفزازھم"
والذي أوقع اإلمام اآللوسي في ھذا اللبس توحيده بين األرض التي أراد
فرعون استفزاز بني إسرائيل منھا ،واألرض التي قال لھم عز وجل من بعد
( ١اإلسراء.١٠٤ :
( ٢جامع البيان :ج ،١٥ص ،١١١الجامع ألحكام القرآن :ج ،١٠ص ،٣٣٨تفسير التحرير والتنوير :ج،١٥
ص.٢٢٨
( ٣روح المعاني :ج ،١٥ص.١٨٧
٥٠٩
شفرة سورة اإلسراء
فرعون :اسكنوھا ،فلم يفطن ،رحمه ﷲ ،أن ھذه غير تلك ،فاألولى مصر ،أما
الثانية فشئ آخر.
واللفيف ھو:
"ما اجتمع من الناس من قبائل شتى ،والجمع العظيم من أخالط شتى ،قال
ﷲ تعالى ،×ÖÕ :أي :أتينا بكم من كل قبيلة ،وفي الصحاح :أي:
)( ٢
مجتمعين مختلطين"
ومن ثَم ذھب المفسرون إلى معنى واحد لم يختلفوا عليه في تفسير اآلية،
فھاك ھو في عبارة اإلمام الطبري:
وما قاله المفسرون رحمھم ﷲ في اآلية يناقض ،كما ترى ،بعضه بعضاً ،فقد
قالوا إن األرض ھي المقدسة أو الشام ،وھو ما يعني اجتماع بني إسرائيل فيھا،
وھو ما ال يستقيم مع وجود × :في اآلية التي تعني ،كما رأيت في لسان
( ١جامع البيان :ج ،١٥ص ،١١١تفسير التحرير والتنوير :ج ،١٥ص ،٢٢٩الجامع ألحكام القرآن :ج،١٠
ص ،٣٣٨مفاتيح الغيب :ج ،٢١ص ،٦٧البحر المحيط :ج ،٦ص ،٨٤روح المعاني :ج ،١٥ص..١٨٧
( ٢لسان العرب :ج ،٩ص.٣١٨
( ٣جامع البيان :ج ،١٥ص.١١١
٥١٠
شفرة سورة اإلسراء
العرب ،جمعھم من بين أقوام شتى ،أي أنھم كانوا قبل جمعھم متفرقين ،وتعني
أيضا ً أن ھؤالء الذين سيجئ بھم عز وجل ھم أنفسھم أخالط مختلفة وإن التفت
ببعضھا ،ألن الشئ الواحد ،أو النسيج الواحد ،أو القوم المتجانسين المؤتلفين ال
يوصف اجتماعھم بأنه لفيف.
لكان معناھا الصريح ،مع وجود ،× :أن ﷲ عز وجل أخبر بني إسرائيل
ويخبرنا أنه سيحشرھم يوم القيامة وحدھم دون البشرية كلھا ،أو أنه عز وجل
سيحشر البشرية كلھا في صعيد ويحشر بني إسرائيل ،أمة وحدھا ،في صعيد
آخر!
التفسير المستقيم لآلية ھو تفسير الشيخ الشعراوي رحمه ﷲ تعالى،
فاألرض:
"جاءت ھكذا دون تقييد بمكان معين ،لينسجم مع آيات القرآن التي حكمت
)(١
عليھم بالتفرق في جميع أنحاء األرض ،فال يكون لھم وطن يتجمعون فيه"
٥١١
شفرة سورة اإلسراء
أما الصواب ،فألن اإلفساد دورة طويلة سائرة في الزمان ،فال تالزم بينه
وبين بعث العباد إال في مرحلته األخيرة ،من أجل إنھائھا ،وھذا ھوÓ :
Ôالذي تقترن فيه ذروة دورة اإلفساد بجمع بني إسرائيل ،ثم بعث العباد
عليھم.
إذا كانت ھذه اآلية من تمام خطاب ﷲ عز وجل لبني إسرائيل ،وھي كذلك،
ومما قضاه إليھم في الكتاب وأخبرنا به في صدر السورة ،فھي تخبرك بالفرق
الرئيس بين دورتي اإلفساد.
٥١٢
شفرة سورة اإلسراء
وھو ما يعني أنھم في أثناء الدورتين متفرقون غير مجتمعين ،وأنھم سيظلون
متفرقين متناثرين بين األمم منذ بدء دورة اإلفساد األولى ،وفي أثنائھا ،وعند
إنھائھا وبعث العباد عليھم ،وعند بداية دورة اإلفساد الثانية ،وفي أثنائھا ،ولن
يكون اجتماعھم في األرض المقدسة وعلوھم المادي بالتشييد والبناء إال مع
ذروة ھذه الدورة الثانية ،التي يعود عز وجل لتسليط عباده عليھم معھا.
فسورة اإلسراء ،سورة بني إسرائيل ،ھي كلھا ،موجھة لبني إسرائيل!
٥١٣
شفرة سورة اإلسراء
أمته فيه ،ونصب ميزانه في األرض بھا ،قد تحقق وصار بھذا القرآن وھذا
النبي مفعوالً.
hgfedcba`_^]\ [ZYXWV
v u t s r q p o n m l k j i
)(١
yw
( ١اإلسراء.١٠٨-١٠٧ :
٥١٤
شفرة سورة اإلسراء
ھي قصة الصراع بين خريطة الوجود اإللھية وخريطة الوجود البني
إسرائيلية ،وبين مفتاح تصنيف البشر اإللھي ومفتاح تصنيفھم البني إسرائيلي.
بعد أن تحررت آيات سورة اإلسراء مما قيده بھا المفسرون ،وزال عنھا
الغبار الذي تراكم عبر القرون ،وعادت جديدة كما أنزلت ،وانحلت شفرتھا
اللغوية ،وفھمت ما الذي تعنيه وما الذي تريد أن تخبرك به ،سيكون من اليسير
عليك معرفة دورتي اإلفساد اللتين تتكلم عنھما اآليات ،ومن يكون العباد الذين
يبعثھم ﷲ عز وجل على بني إسرائيل.
٥١٥
شفرة سورة اإلسراء
ودورة اإلفساد األولى ھي التي تبدأ بكتم الكتاب وإخفاء الوحي وتحريفه ،ثم
بث ھذا التحريف في األقوام واألمم حتى يعم التحريف وآثاره األرض كلھا،
فتغيب وتُحجب خريطة الوجود اإللھية ،وتستوطن خريطة الوجود البني
إسرائيلية المزورة وعي البشر ،وتتكون بھا وبآثارھا أذھانھم ونفوسھم ،وتحكم
فھمھم للوجود والحياة ،وتصبغ كل ما يصدر عنھم.
ويصير ميزان التحريف ميزان البشر ،ومفتاح بني إسرائيل لتصنيف البشر
ھو الذي يتكون به معمارھم ،وھو مصدر الروابط التي تربطھم ،والحدود
والفواصل التي تفصلھم ،وقواعد التحريف التي ھي نقيض الوحي وقواعده ھي
ما يحكم المجتمعات ويضبط العالقات بين األفراد والجماعات ،وبذا يحل
التحريف محل الوحي في وعي البشر وعقولھم ونفوسھم ،وفي كل مناحي
الحياة وشؤون العمران واالجتماع.
دورة اإلفساد األولى ،دورة حجب الوحي وبث تحريفه ،ھي الدورة التي كان
من نواتجھا ،كما رأيت ،حضارة اإلغريق ،ودولة الرومان ،وأساطير
الھندوسية والبوذية ،وسيرة بني إسرائيل المقدسة ،وما استقرت عليه المسيحية.
واإلصالح الثاني الذي ينھي دورة اإلفساد األولى ويزيل آثارھا ھو أن يبعث
ﷲ عباداً له أولي بأس شديد بوحي أصيل ورسالة جديدة ،يغسلون به األرض
من التحريف وآثاره ،ويجوسون خالل ديار بني إسرائيل ،وھم حينئذ خارج
األرض المقدسة ،ويواكب إزالة ھؤالء العباد إلفساد بني إسرائيل دخولھم
المسجد.
٥١٦
شفرة سورة اإلسراء
فمن يكون ھؤالء العباد المبعوثين بالوحي والرسالة إلزالة اإلفساد األول؟
لست في حاجة إلى التخمين وال االستنتاج ،فا" عز وجل عرﱠفك بھم
صراحة ،وبصفتھم التي وصفھم بھا في آيات سورة اإلسراء ،والتي ھي صفتھم
في التوراة ،ألن آيات صدر سورة اإلسراء ،كما علمت ،ھي إخبار لنا بما أخبر
به عز وجل بني إسرائيل في التوراة.
صفة ھؤالء العباد في سورة اإلسراء ،وفي التوراة ،ھي في قوله تعالى:
hgfedcb
Q P O N M L K J I H G F E D C B A
)(١
`_^]\[ZYXWVU TSR
فإذا جمعت آيات سورة اإلسراء مع آية سورة الفتح ،ألشرقت شمس اآليات،
وأسفرت عن معناھا ،وكشفت ما تريد إخبارنا به ،ومن ھم العباد الذين يبعثھم
ﷲ على بني إسرائيل دون حاجة للتخمين ولضرب أخماس في أسداس.
( ١الفتح.٢٩ :
٥١٧
شفرة سورة اإلسراء
FED CBA
وجوسان العباد خالل الديار ھو تتبع النبي عليه الصالة والسالم وأصحابه
َ
لبني إسرائيل خالل ديارھم وتنكيلھم بھم وإجالؤھم منھا ،بنو النضير وبنو
قينقاع وبنوقريظة ،ثم جوسانھم خالل ديارھم وتتبعھم في خيبر وفدك وتيماء
وإجالؤھم منھا ،ثم تعقبھم في كل مكان من جزيرة العرب ،ومن الشام،
وإخراجھم منھا.
وفي العھدة العمرية ،التي كتبھا عمر بن الخطاب ألھل إيلياء أو بيت
المقدس ،ووقع عليھا بنفسه مع قادة الفتح أنه أعطاھم:
٥١٨
شفرة سورة اإلسراء
من صليبھم ،وال من شئ من أموالھم ،وال يكرھون على دينھم ،وال يضار أحد
)( ١
منھم ،وال يسكن بإيلياء معھم أحد من اليھود"
وأطلق عز وجل الديار التي يجوس خاللھا العباد ولم يقيدھا بأي قيد ،بل ولم
ينسبھا لبني إسرائيل ،فلم يقل عز وجل :فجاسوا خالل دياركم ،ألنھا ،كما ترى،
ليست محصورة في مكان وال بلد بعينه ،وبعض ھذه الديار ليست أصالً ديارھم.
فجوسان العباد خالل الديار إنما ھو تعقب لبني إسرائيل ،ال في ديار في بلد،
بل في كل ديار ينتقلون إليھا أو يحلون فيھا في كل بلد.
فإليك لماذا ق ﱠدر ﷲ عز وجل لعمر رضي ﷲ عنه أن ينھض من المدينة إلى
الشام ،وكيف فتح بيت المقدس وتسلمھا بنفسه ،خالفا ً لغيرھا مما فتحوه من
البلدان.
يقول اإلمام الطبري في :تاريخ الرسل والملوك ،في سبب قدوم عمر إلى
الشام:
"كان سبب قدوم عمر إلى الشام أن أبا عبيدة حضر بيت المقدس ،فطلب
أھله منه أن يصالحھم على صلح أھل مدن الشام ،وأن يكون المتولي للعقد
)(١
عمر بن الخطاب ،فكتب إليه بذلك ،فسار عن المدينة"
وليس في تاريخ الطبري ما يفسر لماذا اشترط أھل بيت المقدس أن يكون
من يكتب عقد صلحھا ويسلمونھا له الخليفة عمر بن الخطاب بنفسه ،وھو شرط
لم تشترطه أي بلد أخرى مما فُتح قبلھا وحولھا من كبريات المدن.
أما الواقدي فيروي ،في :فتوح الشام ،أنه لما اشتد الحصار حول بيت
المقدس ،خرج إلى أبي عبيدة رسول من عند بترك المدينة ،فطلب منه وقف
القتال ،وكان مما قال له:
"اعلموا ان صفة الرجل الذي يفتح بلدنا ھذا عندنا ،إن كان ھو أميركم فال
)(٢
نقاتلكم ،بل نسلم إليكم ،وإن لم يكن إياه فال نسلم إليكم أبداً"
ش ا ْب ِن أَت ٍ
َان)•(، ب َعلَى ِح َما ٍر َو َعلَى َج ْح ٍ إِلَ ْي ِك ،ھ َُو عَا ِد ٌل َو َم ْن ُ
صو ٌر َو ِدي ٌعَ ،و َرا ِك ٌ
ب، ط ُع قَ ْو ُ
س ا ْل َح ْر ِ َوتُ ْق َ س ِمنْ أُو ُر َ
شلِي َم ط ُع ا ْل َم ْر َكبَةَ ِمنْ أَ ْف َرايِ َم َوا ْلفَ َر َ
َ ١٠وأَ ْق َ
اصيَو ِمنَ النﱠ ْھ ِر إِلَى أَقَ ِ طانُهُ ِمنَ ا ْلبَ ْح ِر إِلَى ا ْلبَ ْح ِر،س ْل َسالَ ِم ِلألُ َم ِمَ ،و َُويَتَ َكلﱠ ُم بِال ﱠ
)(١
األَ ْرض"
فإذا قرأت نص ما في ِسفر زكريا بعناية ،فلن تكون في حاجة إلى من
يخبرك أن ما يقوله المسيحيون من أنھا نبوءة في المسيح عليه السالم ال عالقة
له بما يقوله السفر فعالً.
فالسفر يخبر عن حاكم يدخل أورشليم ،وھو عند دخوله على رأس مملكة
حقيقية واسعة لھا حدود وتخوم ،والمسيح عليه السالم لم يكن يوما ً ملكا ً وال كان
له في األرض مملكة ،ومملكة السماء ليس لھا تخوم وال تحدھا حدود.
( ١زكريا.١٠-٩:٩:
٥٢١
شفرة سورة اإلسراء
فكما ترى ،كارين أرمسترونج لم تفعل في عبارتھا التي تصف بھا دخول
عمر القدس سوى أنھا ترجمت ،دون أن تدري ،نبوءة سفر زكريا!
بقي ان تعرف لماذا سبقت آية اإلسراء بالنبي عليه الصالة والسالم إلى
المسجد األقصى دورتي اإلفساد.
دخول المسجد في اآليات ،كما علمت ،عالمة على أن دخول المسجد في
اإلسالم وبعد نزول اآلية في المرتين ،ألن المسجد صار اسما ً لھذه البقعة بنزول
اآلية ال قبلھا ،وھو عالمة على العباد الذين يدخلونه ،فسبق عز وجل ذكر آيات
إفساد بني إسرائيل باإلسراء وقال:
ألن النبي عليه الصالة والسالم ھو أول ھؤالء العباد ،وھم جميعا ً أمته
وأتباعه ،فاإلسرء به عليه الصالة والسالم إلى المسجد األقصى ،وذكر ھذا
اإلسراء به إلى المسجد قبل ذكر دخول العباد إليه ،لكي يفتتح عليه الصالة
والسالم المسجد ألمته ،ألن النبي عليه الصالة والسالم ھو المبعوث بالوحي
والرسالة الجديدة ،ولكي يسبق دخولُه دخولَھم ،فال تتقدم أمته عليه وھم أتباعه.
٥٢٣
شفرة سورة اإلسراء
وال تعجب إذا قلنا لك إن العرب ما زالوا إلى يومك ھذا ال يفقھون حقا ً كيف
وصل بنو إسرائيل إلى بالد العرب وأقاموا دولتھم ،فإذا كانت دورة اإلفساد
األولى ،كما رأيت ،ھي دورة األساطير واألمم الوثنية ،فدورة اإلفساد الثانية
ھي دورة الماسونية والحركات السرية.
دورة اإلفساد الثانية ھي التي تبدأ بتغلغل بني إسرائيل واليھود في نسيج
الغرب ،إلى أن تمكنوا من إسقاط مسألة األلوھية من وعيه ،وإزاحة المسيحية
والكنيسة وتعاليم النص من قلبه ،ثم أعادوا تكوين الغرب بعالم النص ،وأحلوا
بني إسرائيل وسيرتھم محل مسألة األلوھية مقدسا ً مركزياً ،ومحوراً يدور
التاريخ حوله ،ويتحرك به ومن أجله ،وفي اتجاه غاياته.
والحركات السرية وعالم السر والخفاء كانت ھي القنوات التي تسلل فيھا
ومن خاللھا بنو إسرائيل ،وطبقات اليھود والماسون من حولھم ،في نسيج
الغرب ،وتمكنوا بھا ،وبامتصاص المواھب والطاقات والعقول الخالقة في
الغرب وتكوينھا فيھا ،من السريان في عقل الغرب وأعصابه وشرايينه ،ومن
السيطرة على مقاليده ومفاتيحه.
بنو إسرائيل تمكنوا عبر الحركات السرية من استيطان وعي الغرب وعقله
ونفسه ،وحولوه إلى آله ھائلة يملكون مفاتيحھا وأزرارھا ،أو إلى حمار
يستوطنون رأسه ويمتطون ظھره.
دورة اإلفساد الثانية في شقھا األول ھي الغرب كله ،وكل ما كونه وأنتجه
منذ استولى بنو إسرائيل على وعيه ،وسيطرت الحركات السرية على مقاليده
٥٢٤
شفرة سورة اإلسراء
وأما شقھا الثاني ،فبالليص ستان العربية التوراتية ،إذ بعد أن صار زمام
الحمار الغربي في أيدي بني إسرائيل والطبقات التي حولھم من اليھود
والماسون ،وثبوا به إلى بالد العرب ،ال لكي يستعمروھا ،كما فھم العرب وما
زالوا يفھمون ،بل ليتمموا دورة اإلفساد في األرض كلھا.
وتمام دورة اإلفساد الثانية ھو إعادة تكوين بالد العرب بالتحريف ،عبر
إزاحة مفتاح التصنيف اإللھي من وعيھا ،وإعادة رسم خريطتھا ووضع
حدودھا بمفتاح تصنيف البشر التوراتي المزور القائم على الدماء واألعراق،
وعبر صنع ساستھا ونخبھا وتكوين أذھانھم ونفوسھم بخريطة الوجود البني
إسرائيلية المحرفة ،ال بتعليمھم إياھا ،بل بتربيتھم على فحواھا ومضمونھا
وآثارھا ،وبتحويلھا إلى واقع حي ونسيج اجتماعي ،وإحالله محل نسيج ھذه
البالد األصلي الذي صنعه الوحي ،بسطوة السالح والجيوش ،وعبر السياسات
اإلدارية والقانونية واإلعالمية والتعليمية ،وعبر القصص والروايات ،واألفالم
والمسلسالت ،ثم عبر وضع النخب المزورة التي صنعوھا بالتحريف وكونوھا
بآثاره على رأس ھذه المجتمعات وعلى صدرھا.
وكل ما شھدته بالد العرب ،منذ حملة الماسوني نابليون بونابرت على
مصر ،التي مولھا بيت مال روتشيلد ،من دول وساسة وسياسات ،ومن مناھج
علمانية ونظريات ،ومن أحزاب وحركات ،الليبرالية منھا واليساريات ،ومن
نظم تعليم وصحف وإذاعة وتلفزيونات ،ومن فنون وآداب وكتب وكتابات ،لم
تكن سوى آثار سريان خريطة الوجود البني إسرائيلية ،ومفتاح التصنيف
التوراتي في وعي أبنائھا وأذھانھم ونفوسھم ،ثم تدفقھا من ھذا الوعي ومن ھذه
النفوس واألذھان إلى السياسات والمجتمعات والمناھج واآلداب والفنون.
تاريخ بالد العرب منذ حملة نابليون ،خالصته إزاحة خريطة الوجود اإللھية
بخريطة الوجود البني إسرائيلية ،وھذا ھو اإلفساد الثاني لبني إسرائيل في
األرض كلھا وعلوھم في األرض الكبير.
٥٢٦
شفرة سورة اإلسراء
وھو اإلفساد الذي واكب ذروته والمرحلة األخيرة منه وصول بني إسرائيل
إلى المسجد وعلوھم فيه وحوله بالبناء والتشييد ،كما أخبرك عز وجل.
دورة اإلفساد الثانية وعلو بني إسرائيل الكبير ھي التي تعيش اآلن مرحلتھا
األخيرة ،أو ذروتھا ،أو ما قبل الذروة بقليل ،فنرجو من ﷲ عز وجل أن ي ُمن
علينا ،ونسوء وجوه بني إسرائيل ،وندخل المسجد كما دخله محمد رسول ﷲ
والذين معه أول مرة ،ونتبر ما عال بنو إسرائيل تتبيراً.
ولكن ذلك لن يحدث ،كما قد تتوھم ،بالجيوش والسالح فقط ،وال بالدعاء
والعبادة وحدھا ،وال بالخطابة وصراخ حاخامات الجيوش ومشايخ دولة روسﱡو
في الناس :عودوا إلى ﷲ ،وال يعلم أحد كيف ،وال أين يجدون ﷲ لكي يعودوا
إليه :أفي التعليم ،أم في اإلعالم ،أم في النوادي ،أم في الشواطئ ،أم في األفالم
والمسلسالت ،أم في المساجد التي يغلقونھا ويقيدونھا ويعتقلون من يجلس
) •(
فيھا؟
• ( بعض ھؤالء الحاخامات يوظفون قواعد الوحي وعال ِمه ودولتِه ،ويسخرون موازينه ومعاييره من أجل
ترسيخ التحريف وموازينه وعالمه ،ومن أجل تمكين دولة روسو البني إسرائيلية وإقرار أنھا ھي الحق
وميزان الصواب والخطأ ،فاعلم أن الحفاظ على الدولة وجيشھا للضرورة أو لدفع الضرر ودرء المفاسد
مسألة ،وأما إنزالھا منزلة اإلله وإحاللھا محله معيارأ وميزانا ً فمسألة أخرى ،فاألولى من بصر العلماء
وميزانھم ،والثانية من تحريف الحاخامات وأھوائھم ،فا أخبرك في بيانه أنه عز وجل ھو وحده الحق:
) ª © ¨ § ¦ ¥ ¤ £ ¢ ¡ ~ } | { z y xالحج،( ٦٢:
فمن وافق وحيه وميزانه فھو على الحق بقدر موافقته له ،ومن خالفه فھو على الباطل بقدر مخالفته له ،
جيش مشارق األرض ومغاربھا ،ولو دان لدولة داني البلدان
ٌ فرداً كان أو جماعة أو جيشا ً أو دولة ،ولو فتح
وقاصيھا ،ما منحه ذلك وال منحھا شرعية إبطال الحق وال إحقاق الباطل ،وال جعل ما يفعله أو تفعله صواباً
إال أن يوافق وحي اإلله ومعياره وميزانه ،ولو لم يكن ذلك كذلك لكان ميزان الحق والباطل ومعيار الصواب
والخطأ فرعون واإلسكندر ويوليوس قيصر ونابليون وكل طاغية جبار في زمنه ،وھؤالء الحاخامات كمن
يريد تطبيق أحكام المواريث على عالقات الزنى!
٥٢٧
شفرة سورة اإلسراء
لن ندخل المسجد إال بعودة عباد ﷲ أولي البأس الشديد من حملة الرسالة
والقائمين بھا وعليھا ،لكي يزيلوا إفساد بني إسرائيل بإعادة الوحي إلى الحياة
وعالم البشر ،ولكي يطھروا به األرض كلھا من آثار ھذا اإلفساد ،فيمحقوا كل
ما أنتجه من قيم وسلوك وأخالق ،ومن أفكار وآراء ،ومن مناھج ونظريات،
ومن حركات ومنظمات ،ومن روابط وفواصل ،ومن معمار وخرائط.
٥٢٨
شفرة سورة اإلسراء
HGF
بقى سؤال :ھل إفساد بني إسرائيل مرتان فقط أم تحتمل الزيادة؟
نقل أغلب المفسرين ،كالطبري والقرطبي والسيوطي وأبي حيان ،عن قتادة
"فعادوا ،فبعث ﷲ عليھم محمداً صلى ﷲ عليه وسلم ،فھم يعطون الجزية
)(١
عن يد وھم صاغرون"
ومن ثَم ،ذھب ھؤالء المفسرون إلى أن بعثة النبى كانت عقابا ً لبني إسرائيل
على مرة إفساد ثالثة ،غير المرتين اللتين فسروا بھما اإلفساد المذكور فى سورة
اإلسراء.
والطريف ھنا أن ھذا التفسير والقبول به يعني ضمنا ً أن اإلفساد المقصود في
سورة اإلسراء ليس حصراً على األرض المقدسة ،ألن النبي عليه الصالة
والسالم بُعث وسُلط على بني إسرائيل وھم خارج األرض المقدسة ومشتتون
في بقاع األرض.
والشيخ الشعراوي ،رغم أنه قال إن مرتي اإلفساد في اإلسالم ،وأن أوالھما
كانت في المدينة ،وكان عقاب بني إسرائيل بعث النبي عليه الصالة والسالم
وتسليطه عليھم ،وأن الثانية ھي إنشاء دولة إسرائيل واستعالؤھا على العرب
( ١جامع البيان :ج ،١٤ص ،٥٠٦الجامع ألحكام القرآن :ج ،١٠ص ،٢٢٤البحر المحيط :ج ،٦ص،١١
الدر المنثور :ج ،٩ص.٢٦٤
٥٢٩
شفرة سورة اإلسراء
في زمانك ھذا ،فإنه ذھب ،كغيره من المفسرين ،وإن لم يورد ما أوردوه عن
)(١
"إن عدتم للفساد عدنا ،وھو جزاء الدنيا وال ينجيكم من جزاء اآلخرة"
واألستاذ سيد قطب ،رحمه ﷲ ،لم يخرج في تفسيره :في ظالل القرآن عما
قاله أئمة المفسرين في شئ ،غير أنه عند تفسير قوله تعالى، H G F :
فتح عدد مرات اإلفساد وقال باحتمال وقوع ثالثة ورابعة ،فكان من األمثلة التي
ضربھا على ذلك:
"ولقد عادوا إلى اإلفساد ،فسلط ﷲ عليھم المسلمين فأخرجوھم من
الجزيرة كلھا ،ثم عادوا إلى اإلفساد فسلط عليھم عباداً آخرين ،حتى كان
العصر الحديث فسلط عليھم ھتلر ،ولقد عادوا اليوم إلى اإلفساد في صورة
إسرائيل التي أذاقت العرب أصحاب األرض الويالت ،وليسلطن ﷲ عليھم من
)( ٢
يسومھم سوء العذاب تصديقا ً لوعد ﷲ القاطع"
والمثال الذي استشھد به األستاذ سيد قطب على ما رآه ،وھو تسليط ھتلر
على اليھود في القرن العشرين وما فعله بھم ،ظاھر الخطأ ،ألن ما فعله ھتلر
كان ذريعة إلعادة اليھود إلى األرض المقدسة وليس إخراجھم منھا.
وما لم يدركه سيد قطب أن ھتلر نفسه وما فعله جزء من دورة إفساد بني
إسرائيل في األرض ،ومن آثارھم في العالم ،فھم من صنعو رأسه ونفسه،
وھي إحدى القصص الطويلة التي ليس موضعھا في ھذا الكتاب ،لكي ال
نزاحم في رأسك اإلفساد المخصوص المذكور في سورة اإلسراء ،أال وھو
تحريف الوحي ،بغيره من ألوان الفساد واإلفساد التقليدي.
أما بكاء اليھود ونحيبھم على ما فعله بھم من صنعوه وأنھضوه ،وتضخيمھم
لھذا الذي فعله بھم ،فھي شيمة نفسية من شيم بني إسرائيل ،وخصيصة خلقية
من خصائصھم ،أنبأك بھا عز وجل في بيانه إلى خلقه ،في ما قصه عليك عن
أول ما فعلوه بعد أن ألقوا أخاھم في الجب:
)(١
XWVUT
فھتلر أخوھم ،وھم من صنعوه ،وفي غيابات الحرب ألقوه ،ثم يطلعون على
البشرية كل عشاء يبكون!
ما اتفق فيه المفسرون ،في قوله تعالى ،HGF :كما رأيت ،ھو عدم
تقيدھم في تفسيرھم بعدد مرات اإلفساد وبعث العباد الذي نصت عليه آيات
سورة اإلسراء ،وطرحھم إلمكان وجود مرات أخرى من اإلفساد والبعث ،وإن
اختلفوا بعد ذلك في :متى وأين و َمن.
( ١يوسف.١٦:
٥٣١
شفرة سورة اإلسراء
ونسألك أوالً سؤاالً لم يسأله أحد من المفسرين :ختم ﷲ عز وجل آيات إفساد
بني إسرائيل في األرض في سورة اإلسراء بقوله تعالى:
)( ١
NMLKJI HGF
فمن الذى يخاطبه عز وجل في ھذه اآلية ،ھل يخاطب بني إسرائيل في زمن
نزول التوراة الذين أخبرھم وقضى إليھم في الكتاب أنھم سيفسدون في األرض
مرتين ويعلون علواً كبيراً ،أم يخاطب بني إسرائيل في عھد النبي عليه الصالة
والسالم ونزول القرآن ،أم يخاطب بني إسرائيل في بقاع األرض كلھا وفي كل
زمان إلى يوم القيامة؟
فإليك اإلجابة.
اعلم أوالً أن سورة اإلسراء كلھا مكية إال آيتين مختلفا ً فيھما ،وليستا من
صدرھا ،وھذا يعني أن آيات إفساد بني إسرائيل ،وعلوھم في األرض الكبير،
وخطاب ﷲ عز وجل لبني إسرائيل في نھايتھا ،نزلت في مكة قبل أن يھاجر
عليه الصالة والسالم إلى المدينة ،وقبل أن يرى بني إسرائيل في المدينة بثالث
سنوات.
ومن حكمة ﷲ عز وجل إنزاله ھذه اآليات في مكة وليس في المدينة ،وقبل
الھجرة ولقاء النبي عليه الصالة والسالم ببني إسرائيل وليس بعدھا ،لكي ال
تربط األذھان بين اآليات والخطاب فيھا لبني إسرائيل وبين قبائل اليھود
المدينة.
( ١اإلسراء.٨ :
٥٣٢
شفرة سورة اإلسراء
فتوقيت نزول اآليات ،قبل الھجرة وفي مكة ،قرينة أن المخاطب بھا ليس
يھود المدينة فقط وال وحدھم.
ثم تذكر ثانيا ً ما قد علمته من قبل ،وھو أن بني إسرائيل ھم الفئة الوحيدة في
البشر التي يروي لك عز وجل في القرآن قصصھم ،ثم يخلط الرواية عن
أخبارھم وسيرتھم في صيغة الغيب بتوجيه النداء والخطاب لھم في صيغة
الحضور ،ليس في سورة اإلسراء وحدھا ،بل في كل موضع ترد فيه سيرتھم.
فإذا كان ذلك كذلك ،فھو يعنى أن اآليات تريد أن تخبرك ان بنى إسرائيل
موجودون في األرض سائرون في الزمان ويتحركون عبر التاريخ باإلفساد،
وأن وصمة اإلفساد ال تنقطع وال تزول عن أحد منھم ،فرداً أو جماعة ،إال بأمر
واحد فقط ،تعرفه إذا خرجت من آيات إفساد بني إسرائيل إلى اآليات التي قبلھا
٥٣٣
شفرة سورة اإلسراء
والتي بعدھا ،والتي حصر عز وجل بينھا دورات إفسادھم وعلوھم فى األرض
الكبير.
ذھب المفسرون جميعا ً إلى أن آيات إفساد بني إسرائيل في األرض وعلوھم
الكبير وبعث العباد عليھم تبدأ بقوله تعالى:
{ z y x w v u t s r q p
)(١
|}
)(٢
NMLKJI HGFE DCBA
ونقول لك :بل ھي تبدأ بآية اإلسراء ،وتنتھي بھذا القرآن الذي يھدي للتي
ھي أقوم ،وإن شئت قوالً أصوب فھي تنتھي بقوله تعالىÔÓÒÑ :
،×Ö Õوما يعقبه من ذكر القرآن والنبي المبعوث به ،وأن الذين أوتوا
الكتاب من قبله يسجدون عند تالوته باكين خاشعين وقد رأوا وعد ربھم قد
تحقق وصار بھذا القرآن وھذا النبي مفعوالً.
تبدأ سورة اإلسراء بقوله تعالى:
( ١اإلسراء.٤ :
(٢اإلسراء.٨ :
٥٣٤
شفرة سورة اإلسراء
ثم يتلوھا ذكر الكتاب الذي أنزل على موسى عليه السالم ھدى لبني
إسرائيل.
b a ` _ ^ ] \ [ Z Y X
)(٢
dc
]\[ZYXWVUTSRQPO
)( ٣
^_
فھل لحصر آيات إفساد بني إسرائيل وعلوھم الكبير بين اإلسراء بالنبي
الخاتم من المسجد الحرام إلى المسجد األقصى ،وبين القرآن الذي يھدي للتي
ھي أقوم من معنى ،أو ھل ھذه اآليات لھا صلة بإفساد بني إسرائيل ،وتوجيھه
عز وجل الخطاب لھم في نھايتھا؟
نعم!
إذا تحررت اآليات من القيود التي ليست فيھا ،وفھمتھا بالمعنى المطلق الذي
عرفت ،تسفر الرابطة بين تصدير السورة بآية اإلسراء ،يتلوھا ذكر الكتاب
الذي أنزل ھدى لبني إسرائيل ،وبين إفساد بني إسرائيل.
( ١اإلسراء.١ :
( ٢اإلسراء.٢ :
( ٣اإلسراء.٩ :
٥٣٥
شفرة سورة اإلسراء
صدر سورة اإلسراء كله خطاب لبني إسرائيل ،وھو إخبار لنا من خالل ھذا
الخطاب ،بالضبط كما في آيات خريطة الوجود في سورة البقرة.
فا" عز وجل يخاطب بني إسرائيل ،األمة التي أنزل الكتاب على موسى
عليه السالم من أجل أن تحفظه ويكون ھدى لھا ،فتھتدي بھداھا األقوام واألمم،
لكي يخبرھم ويخبرنا معھم أن الكتاب والوحي قبل ھذا النبي الخاتم كان ينزل
على بيت المقدس ثم يخرج إلى األمم واألقوام لھدايتھا ،فمسار الوحي ،قبله عليه
الصالة والسالم ،كان من األرض المقدسة إلى ما حولھا.
وببعثه النبي الخاتم تحول نزول الوحي من السماء إلى المسجد الحرام،
وتحول مساره في األرض من المسجد الحرام إلى ما حوله ،واإلسراء به عليه
الصالة والسالم إلى المسجد األقصى تحديداً ،وھو محل نزول الوحي على بني
إسرائيل ،إيذان وإعالم بتحول الرسالة إلى المسجد الحرام ،وعالمة تسليم
المسجد األقصى الراية للمسجد الحرام.
وھذا المعنى أن بعثة النبي الخاتم واإلسراء به إلى المسجد األقصى عالمة
إنھاء الميثاق بين ﷲ عز وجل وبين بني إسرائيل ،أمة قائمة بالوحي وقوامة
عليه وحافظة له وھادية إليه ،وإبالغھم أنھم ،بتحول الوحي إلى المسجد الحرام
٥٣٦
شفرة سورة اإلسراء
ونزول الكتاب جديداً أصيالً محفوظا ً عليه ،صاروا أمة تابعة ال متبوعة ،وال
طريق لھا لالھتداء إال اتباع ھذا النبي والكتاب المحفوظ الذي أنزل عليه.
"استئناف ابتدائي عاد به الكالم إلى الغرض األھم من ھذه السورة ،وھو
تأييد النبي عليه الصالة والسالم باآليات والمعجزات ،وإيتاؤه اآليات التي
)(١
أعظمھا آية القرآن"
ونقول لك :بل إن دوران سورة اإلسراء كلھا حول القرآن وإعجازه،
وإحكامه وأحكامه ،وما فيه من ھدى ،وما في اتباعه من أجر ،ليس إال ألنھا
سورة بني إسرائيل وموجھة إليھم!
وجل لبني إسرائيل وبقية كالمه إليھم بعد قوله ،HGF :أو األدق :أنھا
تمام خطابه عز وجل لبني إسرائيل ،وبداية الكالم عن القرآن في الوقت نفسه،
كشأن القرآن ومنھجه في نسج المعاني ،وشد بعضھا ببعض ،ووصل المعنى
الالحق بآخر الكالم السابق.
فا" عز وجل يتمم خطابه لبني إسرائيل ،أن سبيلھم الوحيد إلى الھدى
والرشاد ،وأال تكون جھنم لھم حصيراً ،أن يتبعوا ھذا القرآن الذي أنزل على
النبي الخاتم وجاءھم به من المسجد الحرام.
وقوله تعالى:
KJIHGFEDCBA
وقوله:
]\[ZYXWVUTSRQPO
^_
إبالغ لبني إسرائيل أنھم لم يعودوا أمة الوحي وال حفظته وال رادة األمم،
وأن ﷲ عز وجل أنھى الميثاق معھم ،وح ﱠولھم من األمة المتبوعة إلى أمة تابعة
ألمة خاتم النبيين وسيد المرسلين ،ال سبيل لھم للھداية والنجاة إال اتباعه
واإليمان بالكتاب المحفوظ الذي أنزل عليه.
فالمفسرون جميعا ً أيضاً ،ودون استثناء واحد ،فھموا قوله تعالىGF :
٥٣٨
شفرة سورة اإلسراء
أنھا قولة للتھديد والوعيد ،وترتب على فھمھم ھذا قولھم إن المعنى المقصود في
اآليات ھو :إن عدتم يا بني إسرائيل إلى اإلفساد عدنا إلى عقوبتكم وتسليط
عبادنا عليكم.
ولكن إذا فھمت أن الواو في قوله HGF :للبيان والعطف على قوله
٥٣٩
شفرة سورة اإلسراء
وبمصارعة الوحي في وعي البشر وأذھانھم ونفوسھم ،وما يترتب على ذلك من
آثار في عالمھم ومجتمعاتھم ،والذي يعم األرض كلھا ،مرتان فقط ،كما تنص
اآليات.
أما إفساد بني إسرائيل المادي ،ووقائع اإلفساد خارج مواصفاتھا المذكورة
في سورة اإلسراء ،ومن يبعثھم ﷲ عز وجل عليھم لعقابھم والتنكيل بھم من
المؤمنين أو من الكافرين ،غير عباده المبعوثين بالصالح والموكلين بإزالة
اإلفساد ،والمخصوصين بصفاتھم في اآليات ،فقد يتكرر ،ال مرتين وال ثالثاً،
بل عشرات المرات ،وھي كلھا داخل دورتي اإلفساد الكبيرتين ومحصورة بين
جوانبھا ،كما ھو مسجل ومرصود في أحداث التاريخ ،وكما أخبرك ﷲ عزوجل
في بيانه:
)(١
ka`_~}|{zyxwv
( ١األعراف.١٦٧ :
٥٤٠
شفرة سورة اإلسراء
٥٤١
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٢
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٣
شفرة سورة اإلسراء
-٤ﺧﻂ ﺳﻴﺮ ﻣﻮﺳﻰ ﻋﻠﻴﻪ اﻟﺴﻼم وﺑﻨﻲ إﺳﺮاﺋﻴﻞ ﻓﻲ اﺗﺠﺎه ﺟﺒﻞ اﻟﻄﻮر
٥٤٤
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٥
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٦
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٧
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٨
شفرة سورة اإلسراء
٥٤٩
شفرة سورة اإلسراء
-١٦ﺗﺎ ﻣﺮي ،أو اﻷرض اﻟﻤﺤﺒﻮﺑﺔ ،اﺳﻢ ﻣﺼﺮ ﻓﻲ اﻟﻠﻐﺔ اﻟﻤﺼﺮﻳﺔ اﻟﻘﺪﻳﻤﺔ
ﻣﺮﺳﻮﻣﴼ ﺑﺎﻟﻜﺘﺎﺑﺔ اﻟﻬﻴﺮوﻏﻠﻴﻔﻴﺔ
٥٥٠
شفرة سورة اإلسراء
اﻟﻤﺼﺎدر واﻟﻤﺮاﺟﻊ
٥٥١
شفرة سورة اإلسراء
٥٥٢
شفرة سورة اإلسراء
أوالً :القرآن الكريم:
بيان اإلله إلى خلقه ،والفرقان بين الحق والباطل ،وخريطة الوجود اإللھية المحفوظة.
-١أبو الحسين أحمد بن فارس بن زكريا ،اإلمام :معجم مقاييس اللغة ،تحقيق وضبط :عبد
السالم محمد ھارون ،دار الفكر١٩٧٩ ،م.
-٢أبو الفضل جمال الدين محمد بن مكرم بن منظور اإلفريقي المصري ،اإلمام :لسان
العرب ،دار صادر ،بيروت١٩٦٨ ،م.
-٣أبو الفيض محمد بن محمد بن عبد الرزاق الحسيني ،الملقب بمرتضى الزبيدي ،اإلمام:
تاج العروس من جواھر القاموس ،دار الھداية للطباعة والنشر ،الكويت١٩٦٦ ،م.
-٤مجد الدين محمد بن يعقوب الفيروزابادي الشيرازي ،اإلمام :القاموس المحيط ،نسخة
مصورة عن الطبعة الثالثة للمطبعة األميرية سنة ١٣٠١ھـ ،الھيئة المصرية العامة
للكتاب١٣٩٨ ،ھـ|١٩٧٨م.
-٥مجمع اللغة العربية :المعجم الوجيز ،طبعة وزارة التربية والتعليم١٤٢٧ ،ھـ|٢٠٠٦م.
-٦مجمع اللغة العربية :المعجم الوسيط ،الطبعة الرابعة ،مكتبة الشروق الدولية،
١٤٢٥ھـ|٢٠٠٤م.
-١أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ،اإلمام :جامع البيان عن تأويل آي القرآن ،تحقيق
الدكتور عبد ﷲ بن عبد المحسن التركي ،باالشتراك مع مركز البحوث والدراسات
العربية واإلسالمية بدار ھجر ،الدكتور عبد السند حسن يمامة ،ھجر للطباعة والنشر
والتوزيع ،الطبعة األولى١٤٢٢،ھـ|٢٠٠١م.
-٢أبو الخير محمد بن محمد الدمشقي الشھير بابن الجزري ،اإلمام :النشر في القراءات
العشر ،أشرف على تصحيحه ومراجعته :الشيخ علي محمد الضباع ،شيخ عموم
٥٥٣
شفرة سورة اإلسراء
المقارئ المصرية ،طبعة مصورة من طبعة المكتبة التجارية الكبرى بالقاھرة ،دار
الفكر للطباعة والنشر والتوزيع ،بدون تاريخ.
-٣أبو عبد ﷲ محمد بن أحمد األنصاري القرطبي ،اإلمام :الجامع ألحكام القرآن ،دار
الكتب المصرية ،القسم األدبي ،الطبعة الثانية ،القاھرة١٣٥٣ ،ھـ|١٩٣٥م.
-٤أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير القرشي الدمشقي ،الحافظ :تفسير القرآن العظيم،
تحقيق سامي بن محمد السالمة ،دارطيبة للنشر والتوزيع ،الطبعة الثانية ،الرياض،
١٤٢٠ھـ|١٩٩٩م.
-٥أبو الفضل شھاب الدين السيد محمد اآللوسي البغدادي ،اإلمام :روح المعاني في تفسير
القرآن العظيم والسبع المثاني ،إدارة المطبعة المنيرية ،درب األتراك ،مصر ،دار إحياء
التراث العربي ،بيروت ،لبنان.
-٦أبو القاسم الحسين بن مفضل بن محمد ،الراغب األصفھاني ،اإلمام :المفردات في
غريب القرآن ،دار التحرير ،القاھرة١٩٩١ ،م.
-٧أبو محمد عبد الحق بن غالب بن عطية األندلسي ،القاضي :المحرر الوجيز في تفسير
الكتاب العزيز ،تحقيق :عبد السالم عبد الشافي محمد ،منشورات محمد على بيضون
لنشر كتب السنة والجماعة ،دار الكتب العلمية ،،الطبعة األولى ،بيروت
١٤٢٢ھـ|٢٠٠١م.
-٨أحمد بن محمد البنا ،اإلمام :اتحاف فضالء األربعة عشر بالقراءات األربعة عشر،
المسمى :منتھى األماني والمسرات في علوم القراءات ،حققه وقدم له :الدكتور شعبان
محمد إسماعيل ،عالم الكتب ،بيروت ،مكتبة الكليات األزھرية ،القاھرة ،الطبعة األولى،
١٤٠٧ھـ|١٩٨٧م.
-٩جالل الدين السيوطي ،اإلمام :الدر المنثور في التفسير بالمأثور ،تحقيق الدكتور عبد ﷲ
بن عبد المحسن التركي ،باالشتراك مع مركز البحوث والدراسات العربية واإلسالمية
بدار ھجر ،الدكتور عبد السند حسن يمامة ،ھجر للطباعة والنشر والتوزيع ،الطبعة
األولى ،القاھرة١٤٢٤ ،ھـ|٢٠٠٣م.
٥٥٤
شفرة سورة اإلسراء
-١٠سيد قطب ،األستاذ :في ظالل القرآن ،دار الشروق ،الطبعة الشرعية الثانية والثالثون،
١٤٢٣ھـ|٢٠٠٣م.
-١١محمد بن يوسف الشھير بأبي حيان األندلسي ،اإلمام :تفسير البحر المحيط ،دراسة
وتحقيق وتعليق الشيخ عادل أحمد عبد الموجود ،والشيخ علي محمد معوض ،شارك في
تحقيقه الدكتور زكريا أحمد النوتي ،والدكتور أحمد النجولي الجمل ،دار الكتب العلمية،
الطبعة األولى ،بيروت١٤١٣ ،ھـ|١٩٩٣م.
-١٢محمد الرازي فخر الدين ابن العالمة ضياء الدين عمر ،المشتھر بخطيب الري ،اإلمام:
التفسير الكبير ومفاتيح الغيب ،دار الفكر ،الطبعة األولى١٤٠١ ،ھـ|١٩٨١م.
-١٣محمد الطاھر بن عاشور ،اإلمام :تفسير التحرير والتنوير ،الدار التونسية للنشر،
تونس١٩٨٤ ،م.
-١٤محمد متولي الشعراوي ،اإلمام :تفسير الشعراوي ،دار أخبار اليوم ،قطاع الثقافة،
القاھرة١٩٩١ ،م.
-١أحمد عبد المعطي حجازي ،الشاعر :الطھطاوي مترجم أم داعية :األھرام :العدد
١٧ ،٤٤١٤٤أكتوبر ٢٠٠٧م.
-٢إبراھيم عبد القادر المازني ،األستاذ :صندوق الدنيا ،الھيئة المصرية العامة للكتاب،
الطبعة الثانية٢٠٠١ ،م.
-٣أبو جعفر محمد بن جرير الطبري ،اإلمام :تاريخ الرسل والملوك ،تحقيق :محمد أبو
الفضل إبراھيم ،دار المعارف بمصر ،الطبعة الثانية١٣٨٧ ،ھـ|١٩٦٧م.
-٤أبو عبد ﷲ محمد بن عمر بن واقد السھمي األسلمي ،المؤرخ :فتوح الشام ،تحقيق :ھاني
الحاج ،المكتبة التوفيقية ،أمام الباب األخضر بالحسين ،القاھرة.
-٥أبو القاسم الشابي ،الشاعر :ديوان أبي القاسم الشابي ورسائله ،قدم له وشرحه :مجيد
طرار ،دار الكتاب العربي ،بيروت ،الطبعة الثانية ١٤١٥ھـ|١٩٩٤م.
٥٥٥
شفرة سورة اإلسراء
-٦أمل دنقل ،الشاعر :األعمال الشعرية الكاملة ،مكتبة مدبولي ،الطبعة الثالثة،
١٤٠٧ھـ|١٩٨٧م.
-٧إيليا أبو ماضي ،الشاعر :ديوان إيليا أبي ماضي ،شاعر المھجر األكبر ،دار العودة،
بيروت١٩٦٩،م.
-٨برتراند رسل ،الفيلسوف :تاريخ الفلسفة الغربية ،ترجمة :دكتور زكي نجيب محمود،
مراجعة :أحمد أمين ،الھيئة المصرية العامة للكتاب٢٠١٠ ،م.
-٩ب .كومالن ،المؤرخ :األساطير اإلغريقية والرومانية ،ترجمة :أحمد رضا محمد
رضا ،مراجعة :محمود خليل النحاس ،الھيئة المصرية العامة للكتاب١٩٩٢ ،م.
-١٠بھاء األمير ،دكتور :الحضارة القرآنية ،ماذا غير القرآن في العالم وماذا أحضر
لإلنسانية ،مخطوط.
-١١بھاء االمير ،المسجد االقصى القرآنية ،دار الحرم للتراث ،القاھرة ٢٠٠٤ ،م.
-١٢بھاء األمير :الوحي ونقيضه ،بروتوكوالت حكماء صھيون في القرآن ،مكتبة مدبولي،
٢٠٠٦م.
-١٣بھاء األمير :اليھود والحركات السرية في الحروب الصليبية ،مكتبة مدبولي٢٠١٢ ،م.
-١٤توفيق الحكيم ،األستاذ :زھرة العمر ،الھيئة المصرية العامة للكتاب١٩٩٨ ،م.
-١٥جمال البدري ،دكتور :اليھود وألف ليلة وليلة ،دراسة تحليلية من األعماق إلى اآلفاق،
الدار الدولية لالستثمارات الثقافية ،القاھرة ،الطبعة الثانية١٤٢١ ،ھـ|٢٠٠٠م.
-١٦جان جاك روسو ،المفكر :العقد االجتماعي ،ترجمة :عادل زعيتر ،مكتبة النافذة،
٢٠١٢م.
-١٧جيمس فريزر ،السير :الفلكلور في العھد القديم ،ترجمة :دكتورة نبيلة إبراھيم،
مراجعة :دكتور حسن ظاظا ،الھيئة المصرية العامة للكتاب١٩٧٢ ،م.
-١٨جيمس ھنري برستد ،المؤرخ :فجر الضمير ،ترجمة :دكتور سليم حسن ،مراجعة:
عمر اإلسكندري ،وعلي أدھم ،مكتبة مصر ١٩٥٨م.
٥٥٦
شفرة سورة اإلسراء
-١٩روبرت بريفالت ،المؤرخ :أثر اإلسالم في تكوين اإلنسانية ،ترجمة :السيد أحمد أبو
النصر الحسيني ،بدون تاريخ ،وبدون دار نشر.
-٢٠زكي نجيب محمود ،دكتور :نافذة على فلسفة العصر ،كتاب العربي السابع والعشرون،
الصفاة الكويت ،أبريل ١٩٩٠م.
-٢١زيغريد ھونكه ،المؤرخة :العقيدة والمعرفة ،ترجمة :عمر لطفي العالم ،دار قتيبة،
بيروت ،الطبعة األولى١٤٠٧ ،ھـ|١٩٨٧م.
-٢٢سعد الدين الھاللي ،دكتور :اإلسالم وإنسانية الدولة ،الھيئة المصرية العامة للكتاب،
٢٠١٢م.
-٢٣طه حسين ،دكتور :من بعيد ،الشركة العربية للطباعة والنشر١٩٣٥ ،م.
-٢٤طه حسين :مستقبل الثقاافة في مصر ،دار المعارف ،الطبعة الثانية١٩٩٦ ،م.
-٢٥عبد ﷲ محمد الغذامي ،دكتور :الخطيئة والتكفير من البنيوية إلى التشريحية ،الھيئة
المصرية العامة للكتاب ،الطبعة الرابعة١٩٩٨ ،م.
-٢٦عبد ﷲ القصيمي ،دكتور :اإلنسان يعصي لھذا يصنع الحضارات ،بدون دار نشر،
١٩٧٢م.
-٢٧عبد المجيد الزنداني ،الشيخ :أنه الحق ،الھيئة العالمية لإلعجاز العلمي في القرآن
والسنة ،الطبع الرابعة١٤٢٧ ،ھـ|٢٠٠٦م.
-٢٨عبد المجيد الزنداني :منطقة المصب والحواجز بين البحار ،بحث منشور بموقع
موسوعة اإلعجاز العلمي في القرآن والسنة.
-٢٩عبد المجيد النجار ،دكتور :خالقة اإلنسان بين النقل والعقل ،المعھد العالمي للفكر
اإلسالمي ،فرجينيا ،الواليات المتحدة األمريكية ،الطبعة الثانية١٤١٣ ،ھـ|١٩٩٣م.
-٣٠عبد المعطي شعراوي ،دكتور :أساطير إغريقية ،الھيئة المصرية العامة للكتاب،
١٩٨٢م.
-٣١عبد المنعم سعيد :الخطيئة االصلية ،األھرام ٢٣أغسطس ٢٠١١م.
٥٥٧
شفرة سورة اإلسراء
-٣٢عثمان بن سعيد الدارمي ،اإلمام :الرد على الجھمية ،قدم له وخرج أحاديثه وعلق عليه:
بدر البدر ،الدار السلفية ،الطبعة األولى١٤٠٥ ،ھـ|١٩٨٥م.
-٣٣فؤاد زكريا ،دكتور :التفكير العلمي ،مكتبة مصر١٩٩٢ ،م.
-٣٤فتحي محمد الزغبي :تأثر اليھودية باألديان الوثنية ،دار البشير للثقافة والعلوم
اإلسالمية ،مصر ،طنطا ،الطبعة األولى١٤١٤ ،ھـ|١٩٩٤م.
-٣٥قاسم أمين ،األستاذ :المرأة الجديدة ،طبع على نفقة خليل صادق ،صاحب مجلة
مسامرات الشعب ،مطبعة الشعب بدرب الجماميز١٣٢٩ ،ھـ|١٩١١م.
-٣٦قاموس الكتاب المقدس :تأليف :نخبة من األساتذة ذوي االختصاص والالھوتيين ،ھيئة
التحرير :دكتور بطرس عبد الملك ،وجون ألكسندر طمسن ،واألستاذ إبراھيم مطر ،دار
الكتاب المقدس بالشرق األوسط ،بدون تاريخ.
-٣٧كارل ماكس وفريدريك إنجلز :البيان الشيوعي ،ترجمة :عفيف األخضر ،دار الثقافة
الجديدة ،القاھرة١٩٩٨ ،م.
-٣٨كارين أرمسترونج ،المؤرخة :القدس مدينة واحدة وعقائد ثالث ،ترجمة :دكتورة
فاطمة نصر ،ودكتور محمد عناني ،سطور ،القاھرة١٩٩٨ ،م.
-٣٩كتاب السحر األسود ،ترجمه األنبا شمعون سنة ١٦٠٠م ،مخطوط.
-٤٠الكتاب المقدس :دار الكتاب المقدس في الشرق األوسط١٩٩٥ ،م.
-٤١كمال الصليبي ،دكتور :التوراة جاءت من جزيرة العرب ،ترجمة :عفيف الرزاز،
مؤسسة األبحاث العربية ،بيروت ،الطبعة العربية السادسة١٩٩٧ ،م.
-٤٢كمال الصليبي :خفايا التوراة وأسرار شعب إسرائيل ،دار الساقي ،بيروت ،الطبعة
الرابعة١٩٩٨ ،م.
-٤٣محمد سيد طنطاوي ،دكتور :بنو إسرائيل في القرآن والسنة ،دار الشروق ،الطبعة
الثانية١٤٢٠ ،ھـ|٢٠٠٠م.
-٤٤محمد خليفة التونسي ،األستاذ :بروتوكوالت حكماء صھيون ،الخطر اليھودي ،تقدير:
األستاذ عباس محمود العقاد ،مكتبة دار التراث ،الطبعة الثانية١٩٧٦ ،م.
٥٥٨
شفرة سورة اإلسراء
-٤٥موريس بوكاي ،دكتور :القرآن واإلنجيل والتوراة والعلم ،جمعية الدعوة اإلسالمية،
طرابلس الغرب١٩٨٣ ،م.
-٤٦نزار قباني ،الشاعر :األعمال السياسية الكاملة ،الجزء الثالث ،منشورات نزار قباني،
بيروت١٩٩٩ ،م.
-٤٧نوال السعداوي ،دكتورة :الرجل والجنس ،مكتبة مدبولي٢٠٠٦ ،م.
-٤٨ھانس كھن ،المؤرخ :القومية ،معناھا وتاريخھا ،ترجمة :محمود أمين الشريف ،الھيئة
العامة لقصور الثقافة٢٠١١ ،م.
-٤٩ول ديورانت ،المؤرخ :قصة الحضارة ،،ترجمة :دكتور زكي نجيب محمود ،ومحمد
بدران ،اختارته وأنفقت على ترجمته اإلدارة الثقافية بالجامعة العربية ،أجزاء مختلفة،
١٩٧١م١٩٧٤ ،م١٩٧٥ ،م.
-٥٠يوسف كرم ،دكتور :تاريخ الفلسفة اليونانية ،لجنة التأليف والترجمة والنشر،
١٣٥٥ھـ|١٩٣٦م.
2- Albert Pike: Morals and dogma of the Ancient and Accepted Scottish
Rite of Freemasonry, published by the authority of The Supreme Council of
the thirty third degree, Charleston, 1871.
3- Alice Bailey: The Reappearance of the Christ, Lucis Trust, New
York,1948.
٥٥٩
شفرة سورة اإلسراء
5- Claviculae Salomonis Et Theosophia Pneumatica: Andreas Luppius,
Privil, 1686.
8- Francis Bacon, Sir: Bacon's Essays and Wisdom of the ancients, The
University Press, Cambridge, Mass., USA, Little, Brown and Company,
Boston, 1884.
11- Helena Blavtsky: The secret doctrine, The synthesis of science, religion
and phylosphy, The Theosophical Publishing House, Third dition,
London1893, reprinted,1924.
12- Hugh Evelyn White: Hesiod, The Homeric Hymns and Homerica with
an English translation, William Heinemann, London, and G.P.Putnam'sons,
New York, MCMXX.
14- Isidor Kalisch, Dr.: Sepher Yezirah, Abook on creation with English
translation, L. H. Frank and Co., Publishers and Printers, New York,1877.
٥٦٠
شفرة سورة اإلسراء
15- Jean Jacques Rousseau: The Social Contract, Translated with
introduction by: G. D .H. Cole, Fellow of Magdalene Collage, Oxford, J. M.
Dent & Sons, London, E. P. Dutton & Co., New York, 1913, Reprinted 1920.
16- Jean Jacques Rousseau: The Conffession, Translated from the French,
Printed for J. Bew, London, MDCCLXXXIII.
18- Jacque Bergier and Louis Pauwels: The morning of the magicians,
translated from the French bt Rollo Myers, Scarborough House Publishers,
USA, 1991.
20- Manly Palmer Hall: The secret teachings of all ages, printed for Manly
Hall by H.S.Crocker company, incorporated, San Francisco, 1928.
23- Robin Hard: Greek Mythology, Rotledge group, London and New
York, 2004.
24- Sri Swami Sivananda: All about Hinduism, Devine Life Society, Uttar
Pradesh, Himalayas, India, Fifth edition, 1993.
25- The Oxord history of India from the earliest times to the end of 1911,
Oxford, at The Claredon Press, 1919.
٥٦١
شفرة سورة اإلسراء
26- Tobias Dantzig: Number, the language of science, Pi Press, New York,
2005.
27- W.J. Wilkins: Hindu Mythology, vedic and poranic, Thacker, Spink
and Co., Calcutta and London, 1900.
30- Zaine Ridling, Ph. D.: The Apocrypha with the apocryphal books,
Division of Christian Education of the National Council of the Churches of
Christ in the United States of America 1989.
٥٦٢
شفرة سورة اإلسراء
اﻟﻔﻬﺮس
ا
اع
٥ إھداء
٧ ﻣـــﻘــــدﻣــﺔ
٣٣ ضوابط
٣٧ عوائق
٤٤ نماذج
٥٦٣
شفرة سورة اإلسراء
ا
اع
٩٦ معنى الخالفة
١٦٧ اﻟﺗﺣرﻳف
٥٦٤
شفرة سورة اإلسراء
ا
اع
٢١٧ ﺧرﻳطﺔ اﻟوﺟود اﻟﺑﻧﻲ إﺳراﺋﻳﻠﻳﺔ
٥٦٥
شفرة سورة اإلسراء
ا
اع
٣٢٨ الھندوسية والحركات السرية
٤٣٧ قــيــــــــــود
٥٦٦
شفرة سورة اإلسراء
ا
اع
٤٥١ رابعاً :تقييد معنى المرة بالحادثة
٤٧١ مرتين
٤٨٠ لتفسدن
٥٦٧
شفرة سورة اإلسراء
٥٦٨
شفرة سورة اإلسراء
• اﻟﻤﺆﻟﻔﺎت:
.١كوسوفا ،المذابح والسياسة ،دار النشر للجامعات.
.٢النور المبين ،رسالة في بيان إعجاز القرآن الكريم ،مكتبة وھبة.
.٣المسجد األقصى القرآني ،دار الحرم للتراث.
.٤الوحي ونقيضه ،بروتوكوالت حكماء صھيون في القرآن ،مكتبة مدبولي.
.٥اليھود والماسون في الثورات والدساتير ،مكتبة مدبولي.
.٦اليھود والحركات السرية في الحروب الصليبية ،مكتبة مدبولي.
.٧اليھود والماسون في ثورات العرب ،مكتبة مدبولي.
.٩االنفجار الكبير ،ماذا غير القرآن في العالم وماذا أحضر لإلنسانية ،مكتبة وھبة.
.١يھود الدونمة.
.٢اليھود والماسون في قضية األرمن.
.٣حركة الجزويت اليسوعية.
.٤عن اإلخوان والماسونية.
.٥معركة المادة الثانية من الدستور.
.٦قواعد في إدارة الصراعات والتعامل مع األزمات.
.٧عن الفتنة والديمقراطية والحركات اإلسالمية.
.٨نقد كتاب اليسوعية والفاتيكان والنظام العالمي الجديد.
• اﻟﻤﺮﺋﻴﺎت)•(:
أوالً :مع الكاتب والمفكر اإلسالمي جمال سلطان في برنامج حوارات بقناة المجد:
.١بروتوكوالت حكماء صھيون ،في مواجھة دكتور عبد الوھاب المسيري ودكتور
أحمد ثابت.
.٢اليھود في الغرب ،في مواجھة دكتور عمرو حمزاوي.
ثانياً :مع الشاعر المبدع واإلعالمي الالمع أحمد ھواس في برنامج قناديل وبرنامج كتاب
األسبوع بقناة الرافدين:
.١الوحي ونقيضه.
.٢المسجد األقصى القرآني.
.٣خفايا شفرة دافنشي.
.٤مالئكة وشياطين.
.٥دور الحركات السرية في إنشاء الواليات المتحدة األمريكية والرموز اليھودية
والماسونية في الدوالر األمريكي.
.٦القبااله ،التراث السري اليھودي ،وآثارھا في العالم.
.٧التنجيم واألبراج ،أصلھا وحقيقتھا.
.٨البلدربرج حكومة العالم الخفية.
)•( مرئيات دكتور بھاء األمير موجودة على شبكة المعلومات الدولية ،اإلنترنت ،في موقع يوتيوب وفي
العديد من المواقع األخرى.
٥٧٠
شفرة سورة اإلسراء
.٩الرمز المفقود.
.١٠لماذا العراق؟ خفايا الغزو األمريكي للعراق.
.١١نبوءة نھاية العالم ،األساطير والحقائق.
صالتھا باليھود والغرب والحركات السرية.
.١٢البابية والبھائيةِ ،
صالتھا باليھود والغرب والحركات السرية.
.١٣القاديانية والنصيريةِ ،
ثالثاً :مع اإلعالمي والداعية اإلسالمي خالد عبد ﷲ في برنامج مصر الجديدة بقناة الناس:
رابعاً :مع اإلعالمي والشاعر والداعية اإلسالمي دكتور محمود خليل في برنامج الدين
والنھضة بقناة مصر :٢٥
.١الماسونية والثورات.
.٣من ھي إسرائيل؟
.٤يھودية إسرائيل.
.٥حقيقة الماسونية
سابعا ً:في معرض القاھرة الدولي للكتاب ٢٠١٣م:
• اﻟﺴﻤﻌﻴﺎت:
.١برنامج في مكتبة عالم بإذاعة القرآن الكريم ،ثالث حلقات.
.٢برنامج مقاصد الشريعة بإذاعة القرآن الكريم ،أربع عشرة حلقة.
٥٧٢
شفرة سورة اإلسراء
٥٧٣