Professional Documents
Culture Documents
كان نصوح أفندي السالحي ،الشهير بمطراقي زاده ،فارسا ً ومؤرخــا ً ورحالــة ،رافق
السلطان سليم األول في حملته على الشام ومصر /927 – 926ـ 1517 – 1516م،
كما رافق السلطان سليمان القانوني في حمالته على العراق ،والدولة الصفوية بإيران
1536 /943م .وعرف عنه تسجيل وقائع الحمالت العسكرية التي شارك فيها.
وبصــفته مؤرخـا ً عثمانيـا ً «رســميا ً» فقد ذكر أن الســلطان القــانوني قد انتــوى دخــول
العــراق من أجل إبطــال محــاوالت الشــاه طهماسب ابن إســماعيل الصــفوي ،لنشر
المذهب الشيعي في العراق بدالً من المذهب السني.
رسم مؤرخنا صور حية لتحرك موكب الجيش العثماني تحت قيادة سليمان القــانوني،
وكبـار قادته واألعيــان ،وكتــائب الخيالــة ،حيث خـرج الجميع من اســكدار عــبر آســيا
الصغرى ،مــروراً بســيواس و أرزنجــان ،حــتى وصل المــوكب العثمــاني إلى تــبريز
حيث أمر الســلطان بنصب خيمته األرجوانيــة ،وبــدأ أمــراء المنــاطق المجــاورة في
إعالن والئهم للعثمانيين.
بعد ذلك توجه الجيش العثماني إلى همذان وجبال قره خان التي وصفها مطراقي زاده
بأنه «ال يمكن اجتيازها إال بشق األنفس ،فقد كانت كل صخرة تشبه رأس غول ،وكل
عين ماء فيها تحاكي عين ثور».
وعلى رغم ذلك فقد نجح العثمانيون في تسلقها واجتيازهــا ،وبلغ ذلك الشــاه طهماسب
فجمع كبار دولته وقادته ليستثير حماستهم ويحذرهم من العثمانيين .غير أن مطــراقي
زاده ،المؤرخ الرسمي للعثمانيين ،ذكر أنهم جاوبوه بأن ال قبل لهم بالسـلطان سـليمان
القــانوني ،األمر الــذي لم يعجب الشــاه فــدعاهم إلى إبــداء الجلد والشــجاعة ،قبل أن
يتحرك بجيشه إلى منطقة قريبة من همذان.
تحرك السلطان العثماني نحو همذان ،ليجد الشــاه الفارسي قد فر بقواته إلى أصــفهان،
ثم إلى منطقة سهل علي ،ففضل العثمانيون قضاء الشــتاء في همــذان ،قبل التوجه إلى
بغداد.
عندما بلغت أســماع محمد خـان أمـير بغـداد من قبل الشــاه الصـفوي ،اقــتراب جحافل
العثمانيين ،سارع بتقديم فروض الطاعة والوالء ،وعلى رغم قبول السلطان القــانوني
ذلك ،فـإن هـواجس الخـوف من انتقــام العثمـانيين راودت محمد خـان ،فاســتقر عزمه
على الفرار برفقة جنوده من بغداد إلى البصرة ،ومنها إلى مقر الشاه طهماسب.
على أية حال ،تقــدم العثمــانيون إلى بغــداد ،حيث وصل الســلطان وقادته عند ضــريح
اإلمــام أبي حنيفة النعمــان في ربيع اآلخر 941تشــرين األول (أكتــوبر) 1534م.
وعندما حل الربيع ،شرعت القوات العثمانية في حمالت تأديب لفلول القــوات الموالية
للشاه الصفوي.
على أن مطــراقي زاده يخبرنا أن الســلطان ســليمان القــانوني أمر كــذلك برفع حــال
الطوارئ في أرجاء الدولة العثمانية كافة ،وخصوصا ً في المواني البحرية .إلى درجة
انه أمر خـــير الـــدين قائد األســـطول العثمـــاني بـــالبحر المتوسط «بمراقبة الســـفن
اإلفرنجية» .إذ كــان يخشى من أن يــؤدي التحــالف بين الصــفويينـ والقــوى األوروبية
باألخيرة إلى مهاجمة المواني واألراضيـ العثمانية.
ولم يكتف سليمان القانوني بذلك ،بل أرسل إلى أحمد خـان حــاكم األقــاليم العثمانية في
هنغاريا ورومانيا بسرعة إرسال الجنــود لمســاندة حملته ضد الصــفويين،ـ كما لم ينس
تذكيره بإعداد الطبول والفرق الموسيقية لالحتفال بالنصر العثماني المرتقب.
ويصف مطــراقي زاده بالتفصــيل دخــول الســلطان العثمــاني إلى بغــداد ،حيث هب
المشايخ والزهاد والعلماء والسادات واألشراف لمقابلته وكـذا سـكان المدينة «كالسـيل
الجارف» .بمجرد دخول سليمان القانوني إلى بغداد ،ارتفعت الخطبة وضربت السكة
باسمه ،وجرى إبطال القوانين الصفوية السابقة كافة ،ثم بدأ القــانوني زيــارة أضــرحة
ومدافن الشيوخ والعلماء قبل أن يتوجه لزيارة مقــام اإلمــام الحســين (رضي هللا عنه).
ولدى عودته إلى بغداد ،استقبل رسل محمد باشا أمير ديار بكر الذين أفادوا بأن الشــاه
الصــفوي قد شن هجومه على تــبريز وســلطانية و همــذان .فاتحه الجيش العثمــاني
لمحاربته بــالقرب من أربيــل ،حيث تمكن من القبض على أميرها الكــردي أردشــير
الذي كان مواليا ً للشاه طهماسب.
بعد ذلك أرسل الســـلطان العثمـــاني للشـــاه الصـــفوي رســـالة تهديد فحواها انه قـــادم
لالســتيالء على أقاليمه وضــمها لدولة العثمــانيين .كما أرسل إلى ســليمان باشا والى
مصــر ،الــذي خــرج بعــده آالف من المحــاربين لالنضــمام إلى ســليمان القــانوني في
العراق.
بدأت جحافل العثمانيين في مطاردة الشاه طهماسب ،الذي لم يجد مفراً من الهرب إلى
تبريز ،وهناك أخذ – من دون جــدوى – في حث أمرائه وقادته على ضـرورة الثبــات
في وجه العثمــانيين .وبعــدما وجد منهم انصــرافا ً عن ذلــك ،لجأ إلى محاولة اســتخدام
الخــداع والحيلة مع الســلطان العثمــاني ،فتظــاهر باألسف وطلب الرحمــة ،وأرسل له
رسالة يدعو فيها إلى إقرار الصــلح بين الصــفويين والعثمــانيين ،على أن تظل عــراق
العجم (كرمنشــاه ،همــذان ،الــري ،أصــفهان) تحت ســيطرته ،وأن يســتحوذ الســلطان
العثماني على عراق العرب (أرض السواد).
غير أن سليمان القانوني ،الذي كان يدرك قوته ،ويــدرك أن الــدائرة دارت على الشــاه
الصفوي ،رفض ذلك العرض ،عاقداً العزم على مطاردته والتخلص منــه ،خصوصـا ً
بعد أن قام األخير بإعمــال القتل في تجــار مدينة تــبريز الــذين تعــاملوا مع العثمــانيين.
وهكــذا اســتمرت مطــاردة طهماسب من تــبريز إلى وان ،غــير أن الشــاه الصــفوي
وأعوانه حققوا نصراً كبيراً على قوة عثمانية مطاردة في مضيق حــيران بــالقرب من
قلعة واستان.
استشاط السلطان سليمان القانوني غضبا ً لهزيمة قواته ،وقــرر إرســال قــوات عثمانية
إلى واستان ،غير أن حلول الشتاء دفعه إلى ترك قوات كافية لمطاردة الشاه وحصاره
الــذي تقوضت أركــان دولتــه ،بينما عــاد الســلطان العثمــاني بقواته إلى ديــار بكــر،
وبحسب مطــراقي زاده ،فقد خــرجت من هنــاك البيانــات العســكرية العثمانية الــتي
أفاضت في ذكر االنجــازات العســكرية لهــذه الحملــة ،كما جــرى تكــريم قــادة الجيش
العثماني ،ووزراء السلطان.
قبل أن يعود السلطان سليمان القانوني إلى بغداد لتأكيد الســيطرة العثمانية عليها .وبعد
أن نجحت الحملة العثمانية في إقصـــاء الشـــاه الصـــفوي طهماسب عن بغـــداد ،وعن
الكثير من المدن واألقاليم التي نجح العثمانيون في ضمها ،قفل سليمان القانوني عائــداً
إلى اسطنبول مفضالً عدم مطاردة الشاه في األراضي اإليرانية.
وفي النهاية ،فــإن كتابــات نصــوح الســالحي أو مطــراقي زاده تكتسب أهمية تاريخية
فائقة لكونه شاهد عيان على الحرب العثمانية الصفوية في العراق 941هـ 1534 -م،
األمر الـــذي جعله يـــذكر كل تفاصـــيل رحلة الجيش العثمـــاني منذ تحركه من منطقة
اسكدار (أمام اسطنبول) مـروراً بمـدن آسـيا الصــغرى وشـمال الشــام والعـراق حــتى
بغداد ،ثم عودة الجيش العثماني مرة أخرى في اسكدار.
ولم يكتف مطــراقي زاده بــذلك ،بل وصف بالتفصــيل تحــرك الجيش العثمــاني بين
المــدن ،وكــذا المســافات الموجــودة بينهــا ،فض ـالً عن شــرحه التضــاريسـ كافة الــتي
شاهدها .وعلى رغم كونه مؤرخا ً «رسميا ً» بالغ في مدح السلطان سليمان القانوني و
اإلشادة بالجيش العثماني ،ومهاجمة الشاه الصفوي طهماسب والمذهب الشــيعي ،فــإن
ذلك كــان ذا فائــدة من ناحية أخــرى ،إذ تمكن من االطالع ،ومن ثم اإليــراد في كتابه
للكثير من الرســائل المتبادلة بين العــاهلين العثمــاني و الصــفوي ،وهو األمر الــذي لم
يكن متوافراً في أية مصادر تاريخية معاصرة.