Professional Documents
Culture Documents
www.RaoufAbbas.org 1
محتويات الكتاب
مقدمة4 ........................................................................................................
تمهيد -تكوين اليابان ما قبل النهضة 6 ................................................................
الفصل األول -دعائم النهضة 16 .......................................................................
اإلصالح اإلدارى 17 ....................................................................................
اإلصالح االجتماعى 18 ................................................................................
اإلصالح القضائى 19 ...................................................................................
الجيش الحديث 20 .......................................................................................
التعليم الحديث 21 ........................................................................................
الفصل الثانى -بناء االقتصاد الوطنى 26 .............................................................
رأس المال المصرفى 28 ................................................................................
الصناعات اإلستراتيجية 30 .............................................................................
رعاية الدولة للقطاع الخاص 33 .......................................................................
النمو االقتصادى 35 .....................................................................................
الفصل الثالث -بناء إمبراطورية آسيوية 38 ...........................................................
التوسع فى كوريا 40 .....................................................................................
الحرب الصينية-اليابانية 41 ............................................................................
التنافس الروسى -اليابانى 44 ..........................................................................
التحالف البريطانى -اليابانى 44 .......................................................................
الحرب الروسية -اليابانية 45 ...........................................................................
أثر التوسع اإلمبريالى على النمو االقتصادى49 ...................................................
الفصل الرابع -الحركة السياسية 51 ....................................................................
حركة المطالبة بالحياة النيابية 52 .....................................................................
قيام األحزاب السياسية 56 ..............................................................................
www.RaoufAbbas.org 2
وضع الدستور 58 ........................................................................................
الحياة النيابية 62 .........................................................................................
الفصل الخامس -التطور الفكرى 67 ...................................................................
الفكر التقليدى 67 .........................................................................................
مرحلة االنتقال 71 ........................................................................................
مرحلة التحضر والتنوير 73 ............................................................................
مرحلة الحرية وحقوق الشعب 78 ......................................................................
الفكرة اليابانية والفكرة الشرقية 79 ......................................................................
فكرة تقديس الدولة 82 ....................................................................................
خاتمة86 ......................................................................................................
المراجع 89 ....................................................................................................
(أ)مراجع عربية 89 .......................................................................................
(ب)مراجع إنجليزية مختارة 89 .........................................................................
www.RaoufAbbas.org 3
مقدمة
تعانى المكتبة العربية نقصاً شديداً فى الدراسات المتعلقة بآسيا :تاريخها ،وحضارتها وشئونها
السياسية واالقتصادية ،ويرجع ذلك إلى اهتمام المثقفين بما يجرى فى الغرب ببعديه األوربى
واألمريكى ،باعتباره المهيمن على بالدنا ،والذى يأتينا منه دائماً ما يؤثر على واقع بالدنا
الراهن ومستقبلها.
ورغ م أننا اكتشفنا أهمية التضامن مع آسيا وأفريقيا فى مرحلة التحرر الوطنى ونسقنا سياستنا
مع بالدها فى إطار حركة عدم االنحياز أيام الحرب الباردة ،إال أن ذلك التنسيق السياسى
لم يترتب عليه محاولة لفهم واقع أولئك الشركاء فى النضال من أجل االستقالل ،فلم نقدم
على الدراسة العلمية لتاريخ تلك البالد وتجاربها فى إعادة بناء مؤسساتها فى العصر
الحديث ،ومن ثم كان حصاد التنسيق السياسى معها فى إطار حركة عدم االنحياز يفتقر
إلى البعدين االقتصادى والسياسى.
وهكذا تأخر اهتمامنا بتجارب شعوب آسيا حتى النصف الثانى من العقد األخير من القرن
العشرين عندما تأسس مركز الدراسات اآلسيوية بجامعة القاهرة ،واستطاع خالل سنوات قليلة
أن يثرى المكتبة العربية بدراسات وبحوث قيمة فى هذا المجال.
ومن بين التجارب النهضوية اآلسيوية ،تحتل النهضة اليابانية الحديثة مركز االهتمام عند
شعوب آسيا وأفريقيا ،وليس عند العرب وحدهم ،فقد أثار الصعود المفاجئ لليابان من بلد
مهمش ال شأن له إلى قوة إمبريالية انضمت إلى نادى الدول الكبرى قبل أن يطوى القرن
التاسع عشر صفحته ،أثار اهتمام العالم بقدر ما أصاب الشعوب المستضعفة البعيدة عن
أخطار التوسع اليابانى بقدر كبير من اإلعجاب ،الذى حول التجربة اليابانية إلى نوع من
"المعجزة" التى نسجت حولها هالة أقرب إلى األسطورة منها إلى الحقيقة.
وقد كان المؤلف واحداً ممن بهرتهم التجربة اليابانية عندما أتيحت له فرصة اإلقامة باليابان
كباحث زائر ( ،)1973-1972فعكف على سبر غور التجربة عن طريق الدراسة العلمية
المتأنية ،حتى ا ستطاع أن يقدم للمكتبة العربية أول دراسة للنهضة اليابانية الحديثة (عام
)1980نشرت بعنوان "المجتمع اليابانى فى عصر مايجى" أعيد طبعها ثالث مرات خالل
www.RaoufAbbas.org 4
عقدين من الزمان ،اعتمد المؤلف فى كتابتها على المصادر اليابانية المترجمة لإلنجليزية،
كما ا ستعان فى الرجوع إلى ما لم يترجم من المصادر الهامة بمن ساعدوه على استخالص
المادة منها من اليابانيين ،كما اطلع على أهم مؤلفات مدرسة االستشراق عن اليابان،
وخاصة ما اتصل منها بعصر النهضة.
والكتاب الذى نقدمه يعتمد بالدرجة األولى -على تلك الدراسة التى عدها بعض النقاد (رائدة)
فى هذا المجال ،كما يعتمد على ثمار األبحاث األخرى التى قام بها المؤلف ،ونشر بعضها
باإلنجليزية فى طوكيو وبعضها يعتمد على الكتابات األساسية التى نشرت باإلنجليزية
لمؤلفين آخرين.
ويهدف الكتاب إلى إلقاء الضوء على تجربة النهضة اليابانية ،ووضعها فى مكانها الصحيح
بقدر كبير من الموضوعية التى تضرب بجذورها فى أعماق تاريخ اليابان وثقافتها ،حتى
يتعرف القارئ العربى على حقيقة التجربة دون مبالغة تصل إلى حد اإلبهار ،ودون استهانة
تصل إلى حد اإلجحاف ،لعلنا نستطيع أن نخرج من التعرف على أبعاد تلك التجربة بما يفيد
أمتنا فى تطلعها إلى اللحاق بركب التقدم.
المؤلف
www.RaoufAbbas.org 5
تمهيد -تكوين اليابان ما قبل النهضة
تقع اليابان فى أقصى شرقى آسيا ،وتتكون من أربع جزر رئيسية هى من الشمال إلى
الجنوب هوكايدو ،وهونشو ،وشيكوك ،وكيوشو ،وما يزيد على مائة جزيرة صغيرة تحف بتلك
الجزر ،وتكون قوساً طرفه الشمالى جزيرة سخالين وطرفه الجنوبى قبالة شبه جزيرة كوريا،
ويفصل هذا القوس الذى ينتظم الجزر اليابانية عن الساحل اآلسيوى بحر اليابان ،وكانت
بذلك اليابان على اتصال بالقارة اآلسيوية من خالل سخالين وكوريا ،وعبر هذين المعبرين
جاء إلى الجزر اليابانية فى القرنين
األخيرين قبل الميالد نوعان من
البشر سكنوا هذه الجزر ،فجاء
"األينو" من جنوب سيبيريا إلى
بينما هونشو، وشمال هوكايدو
جاءت عناصر ذات أصول مغولية
إلى منطقة وسط اليابان (هونشو
وشيكوك) عبر شبه جزيرة كوريا،
وحمل البحر األصفر والمحيط
الهادى عناصر أخرى ذات أصول
ماالوية جاءت عبر جزيرة فورمو از
وجزر ريوكيو فى الجنوب.
وتلقى هذه التكوينه البشرية بظاللها على ما أصبح يسمى بالشعب اليابانى ،فاألينو طوال
القامة نسبيا تميل بشرتهم إلى البياض ،وتضيق حدقات عيونهم فيبدون شبه مغمضى
األعين ،على حين تتسم العناصر ذات األصل المغولى بالقامة المتوسطة وميل لون البشرة
إلى الشحوب (وهو ما يطلق عليه البعض خطأ اللون األصفر) ،أما العناصر ذات األصل
الماالوى فتمتاز بقصر القامة والنحافة وسمرة لون البشرة.
www.RaoufAbbas.org 6
ورغم غموض تاريخ اليابان القديم فى القرنين السابقين على ميالد المسيح (حيث يبدأ
العصر الحجرى الحديث فى تلك البالد مع بداية الميالد) ،فمن المؤكد أن صراعاً دموياً دار
بين العناصر التى سكنت تلك الجزر ،كان ضحيته "األينو" أقدم سكان اليابان فطردوا أوالً
من هونشو ،فتجمعوا فى هوكايدو ،ثم تعرضوا فى أوائل عصر مايجى (سبعينيات القرن
التاسع عشر) إلى عملية تطهير عرقى حولتهم إلى أقلية ضئيلة العدد ،ظلت مهملة حتى
منتصف القرن العشرين محرومة من الخدمات األساسية التى تمتع بها غيرهم من اليابانيين
كالتعليم والخدمة الصحية وظلوا يمارسون حرفة الصيد فى الغابات ،يقيمون فى قرى معزولة
ب عيدة عن العمران ،أما العنصران اآلخران :المغول والماالو ،فقد وحدهما الصراع ضد األينو
– على ما يبدو – فال نسمع عن تصفيات دموية جرت بينهم على نحو ما حدث مع األينو،
ولعل من بين عوامل الوحدة بينهم تشابه درجة التطور الحضارى بينهم من حيث كونهم أهل
فالحة واستقرار كما كانت لهم خبرة بركوب البحر واالعتماد عليه مصد اًر للرزق ،بينما كان
األينو يعيشون مرحلة الصيد وما تطلبه من تنقل داخل الغابات بحثاً عن الرزق.
وال يعرف المؤرخون على وجه الدقة متى بدأ اندماج المغول والماالو ليكونوا شعباً واحداً،
ولعل تلك العملية استغرقت نحو القرن من الزمان أو ما يزيد على القرن ببضعة عقود ،أنتج
بعدها هذا االندماج األسطورة التى تحدد إطا اًر تخيلياً لتلك المرحلة الغامضة من تاريخ
اليابان القديم ،تقول تلك األسطورة بأن األرض والسماء كانتا كتلة واحدة ،ثم انفصلت السماء
عن األرض ،وبعد انفصالهما هبطت اإللهة إيزانامى واإلله إيزاناجى من السماء إلى جزيرة
أونوكورو (األرض) ،وخلقا معاً جزيرة اوياشيما (الجزر اليابانية) ،ثم خلقا بعد ذلك بقية
اآللهة ،إله الرياح ،واله الجبال والغابات ،واله العواصف ،ولقيت اإللهة إيزانامى حتفها حين
وضعت إله النار ،وعندما اشتاق زوجها إيزاناجى لرؤيتها ،ذهب إلى أرض الليل حيث التقى
بها ،ثم عاد مرة أخرى إلى العالم ،واغتسل من تراب عالم الموت ،فإذا بثالثة آلهة يخرجون
من عينيه وأنفه ،ومن بين هؤالء الثالثة إلهة الشمس التى أعطت اسمها لليابان Nippon
(أى منبع الشمس) وأنجبت بدورها األسرة اإلمب ارطورية الحاكمة ،ومن ثم فاليابان أرض
مقدسة ،يحكمها سليل اآللهة ،وشعبها متميز على غيره من الشعوب التى لم يسعدها الحظ
بهذا النسب فهى تعد شعوباً همجية أو متبربرة.
www.RaoufAbbas.org 7
لقد حلت هذه األسطورة مشكلة تكوين الشعب اليابانى ،وان كانت تحمل (ضمناً) ما يفيد
اندماج المغول والماالو ليكونوا شعباً واحداً فى القرن األول للميالد (على أكثر تقدير)،
إطار العقيدة اليابانية التى عرفت بالشنتو ( Shintoأى طريق وشكلت تلك األسطورة
اآللهة) ،وهى العقيدة التى بنيت عليها فكرة قداسة اإلمبراطور (أى ألوهيته) ،واعتقاد عامة
الناس أن النظر إلى شخص اإلمبراطور يصيب المرء بالعمى لما يشعه سليل الشمس من
ضوء وهاج ،ومن ثم يخرون له ساجدين مغمضى العيون أو ناظرين إلى األرض!!
وظل هذا االعتقاد قائماً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما احتل الجيش األمريكى
اليابان ،وأجبر اإلمبراطور هيروهيتو أن يذيع بياناً بصوته يعلن فيه أنه بشر كغيره من
الناس ،أنه ليس إلها ،وال يمت لآللهة بصلة ،وقد آذى هذا اإلعالن مشاعر اليابانيين ،ولم
تختف فكرة ألوهية اإلمبراطور نهائياً إال بعد نشوء جيل جديد تربى على مناهج دراسية تركز
على نفى هذه الفكرة ونقدها.
ما يعنينا هنا أن الشعب اليابانى صاغ لنفسه -بهذه األسطورة -هوية خاصة فى القرن
األول للميالد ،وكان -فى نفس الوقت -يتصل تجارياً وثقافياً بالصين ،فتعلم اليابانيون من
الصين الشيء الكثير فيما يتعلق بأمور الحياة اليومية فى الزراعة وبناء المدن وغير ذلك من
متطلبات الحياة ،كما نقلوا عن الصين طريقة الكتابة الصينية باستخدام تراكيب رمزية تخط
بطريقة معينة لتعبر عن حركات صوتية ،وقد جاءت "البوذية" إلى اليابان عبر الصين فى
القرن الثالث الميالدى ،كما جاءتها "الكنفوشية" من الصين فيما بعد ،وقد طوع اليابانيون كل
ما اقتبسوه من الصين أو تعلموه منها لخدمة متطلبات حياتهم بقدر ما طوعوا "البوذية"
و"الكنفوشية" لتتفق كل منهما مع "الشنتو" العقيدة اليابانية المتوارثة.
وال يعنى إضفاء القداسة على األسرة اإلمبراطورية الحاكمة أن اليابان عاشت فى ظل إدارة
مركزية تقبض على زمام األمور فى البالد دون منازع ،فقد شهد تاريخ اليابان ص ارعات بين
الطامعين فى السلطة جرت فيها الدماء أنها اًر ،شارك فى بعضها أمراء من البيت
اإلمبراطورى ،كما شارك فيها بعض القادة العسكريين ،وحاول كل من هؤالء ومن شايعه من
األتباع أن تكون له اليد العليا فى البالط اإلمبراطورى ولم يكن أمام اإلمبراطور سوى أن
يمنح بركاته واعترافه لمن غلب ،فيخلع عليه من األلقاب ما يعطيه حق النيابة عن
www.RaoufAbbas.org 8
اإلمبراطور فى حكم البالد ،وفى بعض المراحل من تاريخ اليابان كانت السلطة الفعلية
لإلمبراطور ال تتجاوز أسوار قصره فى مدينة كيوتو التى كانت عاصمة البالد.
أما المتنافسون على السلطة فكان لمن غلب منهم حق حكم البالد حكماً مطلقاً -باسم
اإلمبراطور -بل وتكوين إدارة خاصة به تتولى إدارة أمور البالد ،ويخضع لها الجميع،
يختار لها مق اًر بعيداً عن العاصمة كيوتو حتى يتخلص من دسائس رجال البالط ،فكانت
مدينة كاماكو ار مق ار لهذه اإلدارة التى عرفت باسم الباكفو (أى الحكومة) فيما بين القرنين
الثانى عشر والرابع عشر ،وعادت إلى كيوتو نحو 130عاماً لتسود البالد بعد ذلك فترة من
الفوضى والحرب األهلية التى كان كل طرف فيها يدعى الدفاع عن اإلمبراطور ومصالح
األسرة اإلمبراطورية المقدسة ،واستمرت خمسة عشر عاماً نجح فى ختامها أحد القادة
العسكريين فى إعادة الوحدة إلى البالد لينتهى حكمه على يد زميل له ،نصب نفسه حاكماً
على البالد باسم اإلمبراطور واختار مدينة إيدو Edoعاصمة إلدارته وتعاقبت أسرته على
حكم البالد لما يزيد عن القرنين ونصف القرن ( ،)1868-1603وهى أسرة طوكوجاوا التى
كان كبيرها يتولى منصب الشوجون وهو منصب عسكرى إدارى كبير ،يخلعه عليه
اإلمبراطور ويفوضه أمر إدارة البالد نيابة عنه ،على نحو شبيه بو ازرة التفويض فى الدولة
العباسية ،بل كان وضع اإلمبراطور -فى ظل ذلك النظام -يماثل وضع الخليفة العباسى،
وكان وضع الشوجون يماثل وضع السلطان فى العهود السلجوقية واأليوبية والمملوكية فى
تاريخ اإلسالم.
واتجه نظام طوكوجاوا اإلقطاعى إلى انتهاج سياسة تضمن استم ارره ،قامت على تجميد
بنيان المجتمع من خالل القيود والضوابط التى فرضت على كل طبقة من طبقاته ،فكان لكل
منها زيها الخاص وعاداتها الخاصة ،وقيمها السلوكية الخاصة بها ،والتى تختلف كثي اًر عن
الطبقات األخرى ،وكان التميز واضحاً جلياً بين طبقة المحاربين (الساموراى) وطبقة العامة
من الفالحين ،فأصبح المجتمع -فى ذلك العصر -يشتمل على مجموعة من الفئات
االجتماعية التى تعلو بعضها بعضاً تبعاً لدرجة سموها من الناحية االجتماعية ،ولم يجد
الناس غضاضة فى هذا التميز االجتماعى ألن فكرة "المساواه" لم تكن واردة فى عقيدة
"الشنتو" التى يؤمن بها اليابانيون ،فالناس -عند الشنتو -غير متساوين ألن دماءهم ليست
www.RaoufAbbas.org 9
واحدة :اإلمبراطور -مثالً -تجرى فى عروقه دماء اآللهة ،وعلية القوم تجرى فى عروقهم
دماء نبيلة ،أما عامة الناس (الفالحين) فتجرى فى عروقهم دماء عادية ،وكذلك الحال
بالنسبة للتجار (وان كانوا أدنى منزلة من الفالحين) ،أما المنبوذون فهم ليسوا من البشر،
والدماء التى تجرى فى عروقهم دماء حيوانية.
كذلك حرص نظام طوكوجاوا على إبعاد كل تأثير أجنبى محتمل على البنيان االجتماعى
للبالد ،ولما كان تأسيس النظام قد واكب المد االستعمارى األوروبى اإلسبانى والبرتغالى
والهولندى فى الشرق األقصى ،فقد حرصت حكومة طوكوجاوا على إبعاد البالد عن أية
مؤثرات قد تفد من الغرب ،ومن ثم حرم النشاط التبشيرى المسيحى ،وطرد التجار اإلسبان
(عام )1624والبرتغاليين (عام )1638وكان قد صدر قبلها بعام (أى عام )1637قرار
يمنع سفر اليابانيين خارج البالد ،نص على توقيع عقوبة اإلعدام على أى شخص يغادر
البالد وذلك فور عودته إليها.
واقتصر اإلتجار مع العالم الخارجى على محطة تجارية واحدة ،أقيمت فوق جزيرة صناعية
فى مواجهة ميناء نجاساكى ،سميت بجزيرة ديشيما ،وكان يفصلها عن ساحل نجاساكى
جسر متحرك ينصب فى النهار ويرفع فى الليل وسمح لكل من الصينيين والهولنديين
باال تجار مع اليابان على أرض تلك الجزيرة وحدها ،وتحت الرقابة المشددة لحكومة
طوكوجاوا.
وقبعت أسرة طوكوجاوا على قمة الهرم االجتماعى يليها حكام المقاطعات ثم العسكر
(الساموراى) ،هم جميعاً يكونون كياناً اجتماعياً متعدد الشرائح يمثل الحكام ،وكان الفالحون
يشكلون كياناً اجتماعياً أدنى مرتبة ،وينقسمون بدورهم إلى أصحاب الحيازات الزراعية يليهم
من حيث المنزلة االجتماعية الفالحون المعدمون ،وتحمل الفالحون عبء إعالة طبقة الحكام
بما يقدمون من ضرائب باهظة لم تترك لهم إال فائضاً محدوداً ال يكاد يكفى إلقامة أود
عائالتهم ،حتى شاع بينهم وأد األطفال عند والدتهم تخلصاً من نفقة تربيتهم وكانوا يرهنون
الذكور من أبنائهم مقابل ما يقترضون من ديون وباعوا بناتهم لالشتغال بالحانات والدعارة
لسداد ما عليهم من ديون ،وحرم عليهم االنتقال من قراهم ،وقد أدى بؤس الفالحين -فى
نهاية األمر -إلى انفجار ثوراتهم فى مطلع القرن التاسع عشر ،وجاء الحرفيون فى المرتبة
www.RaoufAbbas.org 10
التالية للفالحين ،يليهم التجار ألنهم -حسب الثقافة التقليدية السائدة -يحصلون على الثروة
دون عمل ،ويشجعون على الحياة المرفهة ،ويفسدون عقول الناس ،ويقف المنبوذين خارج
السلم االجتماع ى باعتبارهم أدنى منزلة من البشر ،ويندرج فى تلك الفئة من ولدوا آلباء من
المنبوذين أو من يشتغلون بمهن دنيئة كالج ازرين والدباغين والحالقين وكذلك المعوقين
وأصحاب العاهات البدنية حتى لو كانوا -أصالً -من أبناء الفالحين أو الحرفيين.
وجرت العادة على استبعاد المنبوذين من التعداد الرسمى واسقاط أماكن سكناهم من خرائط
المدن ،وكذلك استبعاد الطرق التى تمر بمساكنهم عند تقدير المسافات ،وكان عليهم اإلقامة
فى أماكن خاصة معزولة فى أطراف المدن ،واعتبرت نفس المنبوذ معادلة لسبع نفس من
نفوس غيرهم عند القصاص.
ولكن النظام اإلقطاعى الذى أقامته أسرة طوكوجاوا فى اليابان ،والذى عمر ما يزيد عن
القرنين من الزمان ،بدأ يعانى من األزمات االقتصادية اعتبا اًر من مطلع القرن الثامن عشر،
تلك األزمات التى أخذت تنخر فى النظام حتى أودت به فى نهاية األمر .وترجع أسباب تلك
األزمات إلى عجز موارد الزراعة عن تلبية الحاجات المتزايدة للحكام ،مما اضطرهم إلى
التوسع فى االستدانة من التجار فى مقابل إفساح مجال العمل لهم ،فتدخل التجار فى
اإلنتاج الزراعى لتشجيع زراعة المحاصيل النقدية ،واقامة بعض الصناعات ،وخاصة
الصناعات الغذائية مما أدى إلى تجاوز حدود العزلة التى فرضتها الحكومة على القرى،
وبدأـت القرى والمدن تتصل ببعضها البعض عن طريق التبادل التجارى.
وازداد الحكام حاجة إلى القروض التى يفرضون على التجار تقديمها لهم بقدر ما ازداد
صغار الفالحين بؤساً وفقدوا حيازتهم لعجزهم عن سداد ديونهم ،كما ازداد أثرياء الفالحين
ثراء ،ومع تفاقم هذا الخلل االجتماعى لم يجد الفالحون سبيالً سوى الثورة ،فتعددت ثورات
الفالحين وأرهقت اإلدارة فى مقاومتها.
وجاء الضغط الغربى ليلعب الدور األساسى فى تفويض نظام طوكوجاوا ،فبرغم العزلة التى
فرضها النظام على البالد ،لم تتركها القوى الغربية وشأنها فكانت روسيا فى طليعة الدول
األوروبية التى رنت ببصرها إلى اليابان منذ الربع األخير من القرن الثامن عشر ،كما أخذت
www.RaoufAbbas.org 11
بريطانيا والواليات المتحدة األمريكية يبديان اهتماماً بفتح موانى اليابان للتجارة الدولية ،ولكن
حكومة طوكوجاوا أصدرت أم اًر عام 1825إلى حكام المقاطعات بمنع السفن األجنبية من
االقتراب من الشواطئ اليابانية ،وبعدما وصلت إلى اليابان أنباء هزيمة الصين فى حرب
األفيون ،أخذت حكومة طوكوجاوا تعزز قواتها العسكرية -تحسباً للمستقبل -عن طريق
صناعة المدافع وتدريب الرجال على استخدامها .وعندما أدركت أن ضغط القوى األجنبية
أقوى من أن يقاوم سمحت (عام )1842بتزويد السفن األجنبية التى ترد إلى مرافئ اليابان
-مضطرة -بالطعام والماء والوقود دون الدخول معها فى عالقات تجارية ،ورفضت اليابان
االستجابة لنصيحة ملك هولندا ( )1844بضرورة فتح موانيها للتجارة الخارجية.
غير أن الواليات المتحدة األمريكية كانت أقدر من غيرها من الدول على إجبار اليابان على
فتح موانيها أمام العالم الخارجى ،وبعد محاوالت سلمية متعددة اقتحمت عمارة بحرية مكونة
من أربع سفن حربية خليج إيدو ( 8يوليو )1853بقيادة الكومودور ماثيو بيرى متجاهلة
تحذيرات قوارب الحراسة اليابانية ،ورفض بيرى االنسحاب قبل أن يحصل على رد الشوجون
على رسالة الرئيس األمريكى التى طلب فيها ضمان المعاملة اإلنسانية الكريمة للبحارة
الذين تتحطم سفنهم أمام الشواطئ اليابانية ،والسماح للسفن األمريكية بدخول الموانى
اليابانية للتزود بالطعام والوقود ،وقيام عالقات تجارية -إن أمكن -بين اليابان والواليات
المتحدة األمريكية ،وأمهل بيرى السلطات اليابانية ثالثة أيام لتلقى الرد على رسالة الرئيس
األمريكى ،ولما كان ذلك يعنى تعرض إيدو -مركز الحكومة -للقصف فى حالة الرفض،
فقد اضطرت إلى التسليم بالمطالب األمريكية ،وسمحت للعمارة األمريكية بإلقاء مراسيها فى
ميناء أوراجا ،عندئذ اكتفى بيرى بتسليم رسالة الرئيس األمريكى للشوجون ،وأبلغه أنه
سيحضر فى العام التالى لتلقى الرد رسمياً.
انقسمت الطبقة الحاكمة على نفسها فى كيفية الخروج من المأزق الذى وضعت فيه ،فعلى
حين رأى البعض ضرورة "صد البرابرة" عارض البعض اآلخر ذلك لخطورته على مصير
البالد ،واضطرت حكومة طوكوجاوا -ألول مرة -أن تلجأ إلى البالط اإلمبراطورى والى
حكام المقاطعات طلباً للرأى ،مما أدى إلى إتاحة فترة ذهبية للمعارضة السياسية ،فوحد دعاة
www.RaoufAbbas.org 12
إعادة السلطة كاملة إلى اإلمبراطور صفوفهم مع المعادين للتدخل األجنبى للعمل على
تصفية نظام طوكوجاوا.
وذهبت الغالبية العظمى من الردود التى تلقتها الحكومة إلى التمسك بسياسة العزلة مع
تجنب التورط فى الحرب مع القوى األجنبية بأى ثمن ،وهو أمر صعب التحقيق ،و أرـت
األقلية أنه البد من المواجهة العسكرية ضد االحتالل األجنبى ،وازاء ذلك استقر الرأى على
إرجاء الرد على المطالب األمريكية ألطول فترة زمنية ممكنة ،ولكن بيرى بادر بالقدوم إلى
خليج إيدو -مرة أخرى -فى أوائل عام 1854على رأس عمارة من ثمانى سفن حربية
وارتعدت فرائص حكام إيدو أمام مظاهر القوة تلك فوافقوا على فتح ميناءين أمام السفن
األمريكية هما هاكوداتى فى جزيرة هوكايدو ،وشيمودا على طرف شبه جزيرة إيزو ،كما
وافقوا على مراعاة معاملة البحارة معاملة كريمة والسماح لقنصل أمريكى باإلقامة فى
شيمودا.
وتضمنت االتفاقية التى وقعت بهذا الشأن ( 31مارس )1854نصاً على معاملة الواليات
المتحدة األمريكية معاملة الدولة األولى بالرعاية رغم أن االتفاقية لم تنص على قيام عالقات
تجارية بين البلدين.
وما لبثت بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا أن وقعت مع اليابان اتفاقيات مماثلة حطمت
أسوار العزلة التى فرضتها اليابان على نفسها ،وحددت بذلك بداية النهاية لحكومة
طوكوجاوا ،ألن استسالمها للتدخل األجنبى أعطى المعارضين لها سالحاً ماضياً لمهاجمتها
بحجة عجزها عن الدفاع عن البالد فى مواجهة التدخل األجنبى.
وفى أغسطس ، 1856أرسلت الحكومة األمريكية تاونسند هارس إلى ميناء شيمودا للضغط
على الحكومة اليابانية من أجل توقيع معاهدة تجارية ،وبعد مفاوضات طويلة حرص خاللها
هارس أن يذكر للجانب اليابانى أن أساطيل الدول األوروبية تستعد لإلقالع صوب اليابان
بعد انتصارها على الصين ،وأن اليابان سوف تضطر إلى تقديم المزيد من التنازالت
واالمتيازات لتلك الدول ما لم تسارع بتوقيع المعاهدة مع الواليات المتحدة التى تصبح نموذجاً
للتعامل بين اليابان والدول األوروبية ،لذلك سارع ممثل الشوجون بالتوقيع على المعاهدة مع
www.RaoufAbbas.org 13
هارس ( 29يوليو )1858وبموجبها تقرر فتح ثالث موانى جديدة أمام التجارة األمريكية
فو اًر ،على أن تضاف إليها اثنتان فيما بعد ،وسمح لألجانب باإلقامة فى إيدو وأوساكا اعتبا اًر
من عام 1862بالنسبة لألولى ،وعام 1863بالنسبة للثانية ،وأصبح المواطنون األمريكيون
-بموجب المعاهدة -خارج دائرة السلطة القضائية اليابانية ،كما ضمنت لهم حرية العبادة،
وبمجرد توقيع المعاهدة األمريكية اليابانية ،وقعت حكومة طوكوجاوا معاهدات مماثلة مع
بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا.
وأدى االنفتاح على العالم الخارجى إلى احتكاك اليابانيين فى الموانى والمدن التى فتحت
للتجارة الخارجة (وخاصة يوكوهاما) باألجانب فى محاولة للتعرف على ثقافتهم ،وأنشأت
الحكومة مدرسة لتعليم موظفيها اللغات األجنبية ،كما أرسلت الوفود الرسمية وبعثت الطالب
إلى أمريكا وأوروبا ،وأقبل بعض الشباب على دراسة اللغات األجنبية على أيدى المبشرين
األجانب وبعض المعلمين من أهل البالد ،وعلى الصعيد االقتصادى زاد الطلب الخارجى
على السلع اليابانية وخاصة الحرير الخام مما أدى إلى التوسع فى اإلنتاج وارتفاع أسعار
السلع محلياُ ،كما لعب التجار األجانب دو اًر خطي اًر فى نزح الذهب من اليابان بما يترتب
على ذلك من آثار سلبية على االقتصاد اليابانى.
وال ريب أن هذه التطورات التى نتجت عن سياسة االنفتاح على العالم الخارجى زادت من
فعالية المعارضة السياسية لنظام طوكوجاوا ،واكتسبت حركة استرداد سلطة اإلمبراطور
ومعاداة األجانب العديد من األنصار من بين الساموراى ،ووجهت الحركة اللوم إلى الحكومة
إلبرامها المعاهدات مع الدول األجنبية دون الحصول على موافقة اإلمبراطور ،ونظم أعضاء
تلك الحركة حملة اغتياالت طالت بعض كبار رجال الحكومة وبعض األجانب ،وانضم إلى
المعارضة بعض حكام المقاطعات الجنوبية فحركت قواتها ضد الباكفو (حكومة طوكوجاوا)
وأنصارها من رجال البالط اإلمبراطورى ،وبذلك أصبحت البالد على شفا حرب أهلية.
وأيقن المعارضون لسياسة االنفتاح على الخارج أنه ال سبيل إلنقاذ البالد سوى اإلطاحة
بالباكفو ،واقامة حكومة مركزية قوية تدخل اإلصالحات العسكرية والمدنية ،وازاء تفاقم
األوضاع المنذرة بوقوع حرب أهلية اضطر الشوجون إلى تقديم التماس إلى اإلمبراطور
الجديد مايجى طلب فيه إعادة السلطة اإلدارية الكاملة لإلمبراطور (نوفمبر )1867حالً
www.RaoufAbbas.org 14
لألزمة التى تواجهها البالد ،واقترح تأسيس مجلسين لمعاونة اإلمبراطور يضم أحدهما نبالء
البالط ،ويتكون اآلخر من مجموعة منتقاة من الساموراى ،على أن يصبح الشوجون -فى
ظل النظام الجديد -بمثابة رئيس للوزراء.
وفى آخر يناير ،1868أصدر اإلمبراطور مرسوماً قضى بتجريد أسرة طوكوجاوا من
إقطاعاتهم ،والغاء الشجونية وتورط الشوجون فى القيام بعمل عسكرى موجه ضد حكام
المقاطعات الذين وقفوا وراء إصدار هذا المرسوم اإلمبراطورى ،فلقيت قواته هزيمة منكرة
قرب كيوتو ،وفر عائداً إلى إيدو حيث أصدر أوامره بتسليم المدينة للقوات المؤيدة
لإلمبراطور دون قتال (إبريل )1868وبذلك طويت صفحة من تاريخ اليابان اقتلعت معها
جذور النظام اإلقطاعى ،وتركت التربة صالحة لقيام نظام جديد صنع النهضة اليابانية
الحديثة.
www.RaoufAbbas.org 15
الفصل األول -دعائم النهضة
بدأ عهد جديد فى تاريخ اليابان ،وتغير اسم إيدو - Edoالتى أصبحت عاصمة البالد -إلى
طوكيو ( Tokyoوتعنى العاصمة الشرقية) وفى ربيع العام التالى ،انتقل اإلمبراطور من
ك يوتو إلى العاصمة الجديدة ليعلن بذلك بداية عصر مايجى (وتعنى الحكم المستنير) ،وقدر
لذلك العصر أن يستمر حتى عام ،1912ولكن االنتقال من عصر إلى آخر يعنى الكثير،
ألنه ليس مجرد تغيير لسلطة أو شخص من يمسك بمقودها ،ولكنه تغيير لمجتمع بأسره،
شمل واقعه االقتصادى واالجتماعى ،كما شمل أداة الحكم والقوة التى تمسك بزمام األمور
فى البالد ،كما تغيرت األفكار والعادات والقيم االجتماعية ،أو -بعبارة أخرى -كان التغيير
إرساء لدعائم النهضة التى حققتها اليابان ،ونقلت نتيجة لها من هامش العالم إلى قلبه.
كان اإلمبراطور متسوهيتو (الذى لقب بمايجى) عند بداية العهد الجديد صبيا فى السادسة
عشرة من عمره ،ال يمتلك من الخبرة السياسية واالستعداد الفكرى ما يؤهله لتغيير النظام
القائم ،فلم يكن سوى رمز للحركة الجديدة ،وظل كذلك -إلى حد كبير -طوال حكمه ،أما
السلطة الحقيقية فى بداية العهد ،فكانت بيد مجموعة صغيرة من نبالء البالط ،باإلضافة إلى
حفنة من العسكريين (الساموراى) الذين ينتمون إلى المقاطعات التى ساهمت فى صنع
النظام الجديد ،وكونوا معاً النخبة الحاكمة التى صنعت النهضة.
وكان على القيادة الجديدة أن تواجه المشكالت الملحة ،وعلى رأسها إصالح مالية البالد،
ومقاومة الزحف الغربى ،وكان حل المشكلة األخيرة يرتبط بحل األولى ،ألن مواجهة
األطماع الغربية تتطلب إيجاد قاعدة صلبة يقوم عليها اقتصاد البالد ،واقامة مثل تلك
القاعدة يحتاج إلى إدخال تغييرات جذرية على الواقع االقتصادى للبالد،ـ يجعلها قادرة على
الوقوف أمام الدول الغربية وقفة الند للند.
www.RaoufAbbas.org 16
المتكافئة التى أجبرت على إبرامها مع الدول الغربية ،والتى سلبتها حقها فى تقرير الضرائب
الجمركية ،واستثنت األجانب من الخضوع للقضاء اليابانى ،وأعطت الدول الغربية حقوق
الدولة األولى بالرعاية دون أن يكون لليابان نفس الحق.
وأدرك قادة العهد الجديد أن الدول الغربية استهانت ببالدهم لتخلفها حضارياً عن الغرب،
وخاصة فى المجال االقتصادى والعسكرى ،فعملوا على اللحاق بالغرب فى هذين الميدانين،
ومن ثم اتخذوا من شعار "إثراء األمة وتقوية الجيش" شعا اًر النطالق النهضة وكان ذلك
يعنى إقامة دولة حديثة على النمط الغربى.
وهكذا وجد الرجال -الذين حملهم إلى السلطة عداؤهم للغرب -أنفسهم فى موقف يلزمهم
بإقامة عالقات ثقافية وتجارية وثيقة مع دول الغرب التى تملك وحدها مفاتيح الخبرة التقنية
والعلم الحديث.
وجاءت اإلشارة إلى ضرورة انفتاح اليابان تمام ًا على العالم الخارجى رغم المعارضة لذلك
ضمناً فى المرسوم اإلمبراطورى الصادر فى 14من مارس ،1868وعرف باسم "ميثاق
العهد ذو المبادئ الخمسة" فنص على:
.1إقامة مجالس استشارية على نطاق واسع ،وتقرير أمور البالد بمعرفة الرأى العام.
.2اتحاد جميع الطبقات -العليا والدنيا -فى إدارة البالد بفعالية تامة.
.3السماح لعامة الناس بانتهاج السبل التى يختارونها كالموظفين المدنيين والعسكريين،
حتى ال تؤدى الالمباالة العامة إلى إفساد البالد.
.4حظر ممارسة العادات السيئة القديمة ،وارساء القواعد على األسس القانونية العادلة
الخاصة بالسماء واألرض.
.5التماس المعرفة من شتى أرجاء العالم لتقوية دعائم الحكم اإلمبراطورى.
اإلصالح اإلدارى
وجاء التطبيق العملى لهذه المبادئ فى النظام اإلدارى الذى صدر به مرسوم إمبراطورى عام
،1868أصبحت السلطة العليا فى البالد -بموجبه -بيد "مجلس الدولة" الذى ضم ثالثة
أقسام :قسم تشريعى ،وقسم تنفيذى ،وثالث قضائى ،وبذلك تحقق -نظرياً -مبدأ الفصل بين
www.RaoufAbbas.org 17
السلطات الذى يعكس التأثر (الشكلى) بالنظم السياسية الغربية ،ألن التطبيق العملى لذلك
المبدأ ظل غائباً ،وأدخلت تعديالت أخرى على النظام اإلدارى فى صيف ،1869ثم استقر
النظام فى صيف ،1871واستمر كذلك حتى أدخل النظام الوزارى عام ،1885فأصبح
"مجلس الدولة" ينقسم إلى ثالثة أقسام:
.1مجلس مركزى برياسة المستشار ،يضم فى عضويته من عرفوا بالنواب ،ثم استبدل
بهم -فيما بعد -وزراء من المجلسين اآلخرين ،وعدد من المستشارين.
.2مجلس اليسار ،وكانت وظيفته فى األصل تشريعية ،غير أنه كان بمثابة هيئة
استشارية لصناع القرار.
.3مجلس اليمين ،ويضم الهيئة التنفيذية ممثلة فى الوزراء ونوابهم ،وكانت الهيئة
التنفيذية تتكون من و ازرات الخارجية والمالية والحربية واألشغال العامة وشئون
البالط ،والتعليم والشنتو (العقيدة) والعدل ثم أضيف إليها و ازرة الداخلية عام .1873
وقد تم إلغاء نظام المقاطعات فى أغسطس ،1871فقسمت البالد إلى محافظات تضم كل
منها عدداً من الوحدات اإلدارية ،وتنقسم كل وحدة إلى عدد من الوحدات اإلدارية األصغر،
واحتفظت الحكومة لنفسها بحق تعيين المحافظين.
اإلصالح االجتماعى
كان إلغاء النظام اإلقطاعى يتطلب -بالضرورة -تعديل النظام الطبقى بما يتالءم مع
األوضاع الجديدة ،وقد وضعت الحكومة تصنيف ًا للقوى االجتماعية (عام )1869جعل من
أرستقراطية البالط وحكام المقاطعات السابقة طبقة واحدة عرفت باسم "النبالء".
يليهم طبقة الساموراى التى ضمت شريحتين إحداهما لكبار الساموراى واألخرى لصغارهم،
وفى عام 1870أصبح من حق العامة اتخاذ ألقاب العائالت ،وسمح فى العام التالى
بالتزاوج بين الطبقات العليا والدنيا ،كما سمح للعامة بارتداء المالبس الرسمية الخاصة
بالمناسبات وركوب الخيل فى أسفارهم (وهى حقوق كانت مقصورة على الساموراى وحدهم)،
وحظر على الساموراى حظ اًر تاماً قتل العامة دون رحمة (وهو حق إقطاعى كانوا يتمتعون
به منذ القدم) وسمح للنبالء وكبار الساموراى باالشتغال بالزراعة والتجارة والصناعة،
واستثنى من ذلك من يتقلد منصباً حكومياً.
www.RaoufAbbas.org 18
وفى عام ،1872أعادت الحكومة تصنيف القوى االجتماعية من جديد ،فجعلتهم ثالث
طبقات :النبالء وكبار الساموراى والعامة وبذلك دخل صغار الساموراى ضمن طبقة العامة،
كما ألحق المنبوذون -نظرياً -بطبقة العامة ،وأصبحت الطبقات سواء أمام القانون (نظري ًا
أيضاً) فمن الناحية العملية حظى النبالء وكبار الساموراى باستثناءات قانونية كثيرة ،فكان
لهم أن يدفعوا غرامة مالية بدالً من معاقبتهم بالسجن فى حالة اإلدانة فى قضايا الجنح،
والجنايات ،ونال موظفو الحكومة -على اختالف مواقعهم االجتماعية -نفس االستثناءات.
واضطرت الحكومة (فى خريف )1872أن تسن قانوناً يجرم االسترقاق وتجارة الرقيق ،غير
أن استرقاق النساء ظل سائداً فى اليابان حتى ثالثينيات القرن العشرين (بصورة اختيارية)
حيث استمر الفالحون يبيعون بناتهم سداداً لديونهم ليعلمن بالحانات وبيوت الدعارة.
وكان إلغاء التقسيم الطبقى اإلقطاعى وتطبيق نظام المعاشات للساموراى ،ثم استبدال
سندات الدولة بالمعاشات يمثل تجريداً شبه كامل للساموراى من امتيازاتهم المادية ،مما
جعلهم يتذمرون من النظام الجديد ويقومون بحركات تمرد ضده شهدتها السبعينيات من
القرن التاسع عشر ،ولم تتجاوز نسبة من التحقوا بوظائف الدولة من الساموراى العشرة
بالمائة ،فاشتغلوا بالتدريس ،أو التحقوا بخدمة الجيش الحديث أو الشرطة ،أما الباقون
فاشتغل بعضهم بالزراعة والتجارة والحرف ،وعض الفقر بنابه بعضهم فاضطروا أن يبيعوا
بناتهم لبيوت الدعارة من أجل الحصول على ما يقتاتون به.
اإلصالح القضائى
كان النظام القضائى فى عهد طوكوجاوا يختلف باختالف المركز االجتماعى للمتقاضين،
واقتصرت مهمة القضاة على التوفيق بين المتخاصمين.
ووقف هذا النظام عقبة أمام محاوالت حكومة مايجى إقناع الدول الغربية بتعديل المعاهدات
غير المتكافئة ما دامت اليابان ال تأخذ بنظم التقاضى الغربية ،وما لم تنسج قوانينها على
منوال الغرب.
لذلك كانت حكومة مايجى حريصة على إصالح النظام القضائى على نحو تتقبله الدول
الغربية ،وتوافق على خضوع رعاياها له عند النظر فى تعديل المعاهدات ،ووقع اختيار
www.RaoufAbbas.org 19
الحكومة على النظام الفرنسى الذى يعتمد على القضاة المحترفين ،وال يسمح باستخدام نظام
المحلفين ،ولكن النظام الجديد كان محققاً لمبدأ "السيادة بالقانون" وليس لمبدأ "سيادة القانون"
على نحو ما عرف فى الغرب ،فرغم أن النظام جاء مؤكداً للحكم عن طريق القوانين ،إال أنه
لم يضع حدوداً أو ضوابط لصالحيات السلطة اإلدارية فى ميدان التشريع ،فلم تتحقق سيادة
القانون القائمة على االعتراف بحقوق اإلنسان ،واشراك الشعب فى صياغة القوانين واالقتراع
عليها إال بعد الحرب العالمية الثانية.
وتضمن النظام القضائى الجديد المحاكم الجزئية التى كان الفصل فيها من سلطة رجال
الشرطة ،ثم محاكم األقاليم ،فمحاكم االستئناف ومحكمة النقض ،كما أنشئت محكمة إدارية
خاصة للبت فى المنازعات التى تدخل السلطات اإلدارية طرفاً فيها ،وكان ذلك يعنى عدم
خضوع السلطات اإلدارية للقضاء العادى بدرجاته المختلفة.
وأعد قانون العقوبات عام 1880بمعاونة خبير فرنسى ،كما أعد القانون التجارى بمعاونة
خبير ألمانى وكذلك الحال بالنسبة للقانون المدنى ،وقد طبق قانون العقوبات عام ،1890
والقانون المدنى عام ،1898أما القانون التجارى فطبق عام .1899
الجيش الحديث
رأى رجال نظام مايجى أن إقامة حكومة مركزية قوية ،قادرة على مواجهة التحديات
الخارجية ،يتطلب -بالضرورة -إقامة أداة عسكرية قوية تدين بالوالء للحكومة المركزية
وحدها ،ومن ثم اتفقت وجهات النظر على ضرورة تأسيس جيش وطنى حديث ،ولكنها
اختلفت حول طريقة تكوينه ،فهناك من رأى تكوين الجيش من الساموراى الذين جاءوا من
المقاطعات الثالث التى لعبت دو اًر هاماً فى تصفية النظام القديم ،وهناك من رأى إقامة
جيش وطنى يعتمد على التجنيد اإلجبارى العام ،وبعد صراع بين أصحاب االتجاهين لعب
فيه الساموراى دو اًر عنيفاً للدفاع عن مصالحهم ووجودهم بلغ حد اغتيال من دعا للتجنيد
اإلجبارى العام أساساً لتكوين الجيش الوطنى ،صدر قانون التجنيد اإلجبارى (يناير )1873
ليجعل من "ضريبة الدم" أساساً للخدمة فى الجيش الجديد.
وبموجب قانون التجنيد ،يتم اختيار عدد معين من الشباب حسب درجة اإلنتاج الزراعى فى
القرية ،على أن تتراوح أعمارهم بين العشرين والثالثين ،يجندون لمدة أربع سنوات يسمح
www.RaoufAbbas.org 20
بعدها لمن يشاء أن يستمر فى الخدمة متطوعاً ،وحدد القانون أسلوب معاملة المجندين
مالياً ،وأناط بو ازرة الجيش والبحرية مهمة اإلشراف على التجنيد.
ورغم الصعوبات التى واجهت تطبيق قانون التجنيد بسبب مقاومة السواد األعظم من
الفالحين له ،أصبح الجيش اإلمبراطورى الجديد قوة عسكرية ذات شأن ،وبحلول عام 1883
كان جميع جنود الجيش من المجندين للخدمة الوطنية ،وتقبل الساموراى نظام الجيش
الحديث عندما خدم بعضهم فيه كضباط ،واتخذ النظام العسكرى األلمانى أساساً للجيش
اليابانى.
كذلك شغلت حكومة مايجى بإنشاء قوة بحرية حديثة ولكن خطواتها -فى هذا السبيل -كانت
وتيدة ،فأنشئت إدارة خاصة للبحرية عام ،1872وكانت اليابان تعتمد على الدول األوروبية
-وخاصة بريطانيا -فى بناء سفنها الحربية ،وفى االستفادة بخبرتها العسكرية البحرية.
وقد ازداد عدد القطع البحرية اليابانية بمرور الزمن :من سبع عشرة سفينة حربية بلغت
حمولتها 13ألف طن (عام )1873إلى ثمان وعشرين سفينة حربية بحمولة قدرها60,87-
طناً ،وأربعة زوارق طوربيد عند قيام الحرب الصينية -اليابانية (عام ،)1894وبحلول عام
1882كانت البحرية اليابانية قد استغنت عن المدربين األجانب استغناء تاماً ،ومع نهاية
الحرب العالمية األولى كانت اليابان تحتل المركز الثالث بين القوى البحرية العالمية الكبرى.
ورغم تكوين الجيش الحديث الذى يقوم على أساس الخدمة العامة والوالء للوطن ،لم تستقر
تلك المفاهيم فى أذهان الجنود والضباط الذين تعودوا الوالء لألقاليم التى تربوا فيها وجاءوا
منها ،مما جعل الحاجة ماسة إلى إصدار مرسوم إمبراطورى (عام )1882ليؤكد معانى
الوالء والواجب والطاعة التى يجب أن يتحلى بها الجنود والضباط ،وأكد -أيضاً -أن للجيش
الوطنى دو اًر خاصاً فى خدمة اإلمبراطور.
التعليم الحديث
انتعشت آمال المعلمين التقليدين -عند قيام نظام مايجى -لجعل الشنتو والكنفوشية قاعدة
النظام التعليمى فى العهد الجديد الذى كان يعنى -بالنسبة لهم -إحياء القيم التقليدية لألمة
اليابانية ،وفى عام ،1869اختير أحد هؤالء المعلمين لإلشراف على "مكتب التعليم" وكانت
www.RaoufAbbas.org 21
النية تتجه -عندئذ -نحو جعل الشنتو عقيدة رسمية للبالد ،وأساساً لنظام التعليم فيها ،وحدد
المرسوم اإلمبراطورى الصادر عام 1870أهداف التعليم بأنها " احترام طريق اآللهة الممتلئ
بالنور ،وتنقية العالقات اإلنسانية ..وخدمة البالط اإلمبراطورى".
وأعيد فتح المدرسة الكنفوشية التى كانت تزاول نشاطها فى عهد طوكوجاوا ،وأصبحت مرك اًز
للدراسات الشنتوية والكنفوشية.
ولكن ذلك التيار المرجعى انقلب على عقبيه نتيجة تصدى دعاة حركة "التحضر والتنوير"
له ،فقد كانوا يرون أن تحويل اليابان إلى دولة حديثة ال يتحقق إال بتبنى األفكار التربوية
الغربية ووضعها موضع التطبيق ،وما لبث األخذ باألفكار التربوية الغربية وتطويعها
لحاجات المجتمع اليابانى أن نال تأييد واهتمام الجناح التقدمى من النخبة الحاكمة ،مما فتح
الباب على مصراعيه إلقامة نظام التعليم الحديث.
وكان إدخال المعارف الغربية يتطلب -بالضرورة -خفض نسبة األمية ،وجاءت الئحة
التعليم (عام )1872لتؤكد عزم الحكومة على محاربة األمية ،واقامة نظام للتعليم العام على
مرحلتين دراسيتين ،يلتحق بهما األطفال جميع ًا دون تمييز (وان كان ذلك من الناحية
النظرية) ،وأكدت أن مجال التعليم يشمل اللغات األجنبية والكتابة والحساب إضافة إلى
القانون والفلك والطب...إلخ ،فجميع المعارف التى تهم اإلنسان تدخل فى إطار التعليم،
ونسج نظام التعليم -الذى حددته الالئحة -على المنوال الفرنسى ،فقسمت البالد إلى ثمان
مناطق تعليمية ،بكل منها 32مدرسة متوسطة و 110مدارس ابتدائية ،ولكن هذه الخطة
الطموحة لم تر النور ،فلم تنشئ الحكومة -فى مطلع عصر مايجى -إال عدداً محدوداً من
المدارس المتوسطة واالبتدائية ،وكان التعليم -فى معظمه -يعتمد على الجهود الخاصة فى
البيوت ومدارس المعابد (التى كانت قريبة الشبه بالكتاتيب عندنا).
ولما كان نظام التعليم الحديث يحتاج إلى معلمين مدربين وفق األصول التربوية الغربية ،فقد
أنشئت مدرسة للمعلمين بمعاونة خبير أمريكى إلعداد المعلمين للعمل بالمدارس الحديثة،
وكان ذلك الخبير يؤكد على استخدام النماذج والعينات وغيرها من الوسائل التعليمية فى
عملية التعليم ،فينقل تلك األفكار إلى تالميذه اليابانيين ،فتأثر به جيل كامل من المعلمين.
www.RaoufAbbas.org 22
وتحمل الفالحون -الذين كانوا يمثلون القطاع األكبر من دافعى الضرائب -عبء تغطية
تكاليف النظام التعليمى الحديث ،فقد تحملت الحكومة %90من نفقات التعليم ،ولم يدفع
أولياء أمور التالميذ سوى %10على شكل رسوم دراسية ،وكان القصد من ذلك إتاحة
الفرصة للسواد األعظم من أبناء النبالء لتلقى العلم فى المدارس الحديثة ،وقد تأثرت برامج
الدراسة فى المدارس االبتدائية بالنظام األمريكى.
وعدل نظام التعليم عام ،1879فأصبح التعليم فى كل محافظة يخضع لمجلس مدينة يدخل
فى اختصاصه إقامة المدارس ،وصيانة األبنية التعليمية وتحددت مدة التعليم اإللزامى بأربع
سنوات دراسية.
غير أن تلك اإلصالحات عجزت عن تقوية دعائم نظام التعليم الحديث ،بل أدت إلى
إنقاص عدد المدارس ألن مجالس التعليم المحلية كانت تغلق بعض المدارس أو تدمجها فى
بعضها البعض للحد من نفقات التعليم التى كانت تثقل كواهل الفالحين.
وفى عام ،1880استعادت الحكومة المركزية سيطرتها على نظام التعليم ،مع إعطاء
الم حافظات بعض الصالحيات فى اإلشراف على المدارس ،وأصبحت مدة التعليم اإللزامى
ثالث سنوات دراسية.
وخالل الثمانينيات من القرن التاسع عشر ،بذلت جهود مضنية للتخفيف من الصبغة اللبرالية
للمناهج الدراسية ،فألغيت الكتب الدراسية التى ألفها لبراليون من اليابانيين ،واستبدلت بها
كتب أخرى ركزت على التاريخ القومى ،والقيم االجتماعية والثقافية المستمدة من الكنفوشية
والشنتوية ،وأكدت على فكرة الوالء لإلمبراطور ،وكان ذلك التغيير استجابة لمد الشعور
الوطنى المتطرف الذى كان آخذاً فى االرتفاع خالل تلك الحقبة.
فاصطبغ التعليم العام بالصبغة العسكرية ،واختير بعض الضباط إلدارة المدارس وكان
الطالب يقيمون فى مدارس داخلية ،ويحيون حياة قريبة الشبه بحياة الجنود فى الثكنات
وأصبح شعار التعليم" :الطاعة ،والصداقة ،والكرامة".
www.RaoufAbbas.org 23
ومع علو هذا االتجاه المرجعى فى نظام التعليم ،اختفى التأثير بالفكر التربوى األمريكى،
وبدأ االهتمام بأساليب التربية األلمانية التى تركزت على الجوانب الخلفية ،وكانت تؤمن أن
هدف التعليم خلق اإلدارة المستنيرة القادرة على التمييز بين الصواب والخطأ.
وارتفعت نتيجة لهذا التيار أصوات المنادين بالكف عن االقتباس من الغرب ،واحياء القيم
الفلسفية القديمة ،وكان لذلك كله أبلغ األثر على الئحة التعليم التى صدرت عام .1890
وأولت حكومة مايجى تعليم البنات اهتماماً خاصاً ،فأوفدت بعثة من خمس بنات إلى
الواليات المتحدة األمريكية ،كما افتتحت أول مدرسة للبنات بطوكيو عام ،1872لتعليم
البنات الالتى تتراوح أعمارهن بين 14-7عاماً ،بغض النظر عن أصولهن االجتماعية.
وبدأت أول مدرسة ثانوية للبنات نشاطها عام ،1882وأسست أول كلية للبنات لتعليم اللغة
اإلنجليزية عام ،1900كما قامت يوشيوكايايوى -أول طبيبة يابانية -بتأسيس كلية طب
النساء فى العام ذاته ،وفى العام التالى ( )1901افتتحت "كلية اليابان للبنات" ولكن
الجامعات اليابانية لم تفتح أبوابها أمام البنات إال بعد انتهاء عصر مايجى ،عندما قبلت
جامعة طوهوكو اإلمبراطورية ثالث طالبات على سبيل التجربة عام .1914
وفى عام ،1877أنشئت "جامعة طوكيو اإلمبراطورية" من اندماج ثالث مؤسسات تعليمية
كانت قائمة فى أواخر عصر طوكوجاوا ،ولم تبرز الجامعة ككيان مستقل إال بعد صدور
الئحة الجامعة عام ،1886فأصبحت تضم كليات الحقوق ،والطب ،والهندسة ،والعلوم،
واآلداب ،ثم افتتحت "جامعة كيوتو اإلمبراطورية" عام ،1897ورغم تأسيس جامعتين أخريين
فى السنوات األخيرة من عصر مايجى (جامعة طوهوكو فى سنداى عام ،1907وجامعة
فوكوأوكا فى كيوشو عام )1910ظلت جامعة طوكيو تتصدر التعليم الجامعى فى البالد،
موجهة نشاطها العلمى لخدمة أهداف الدولة ،وعملت على مدها بالكوادر اإلدارية والفنية.
وهكذا كانت الرغبة فى تجسير فجوة التخلف الحضارى عن الغرب ،والحرص على امتالك
مفاتيح القوة التى استطاع بها أن يفرض إرادته على اليابان ،هى التى حددت أسس دعائم
النهضة التى شملت اإلصالح اإلدارى واإلصالح االجتماعى ،واإلصالح القضائى واقامة
شكل حجر الزاوية للنهضة التى
الجيش الحديث ،وصاحب ذلك بناء نظام تعليمى حديث َ
www.RaoufAbbas.org 24
قامت على قاعدة إقتصادية وفرت العوامل المادية لنجاح النهضة فى تحقيق أهدافها على
نحو ما سنرى فى الفصل التالى.
www.RaoufAbbas.org 25
الفصل الثانى -بناء االقتصاد الوطنى
ارتكزت النهضة اليابانية الحديثة على قاعدة اقتصادية وفرت للنظام الجديد الموارد الالزمة
لبناء قوته العسكرية ،ونظامه التعليمى ،ومؤسسات الدولة الحديثة ،وكان جانب من تلك
القاعدة االقتصادية موروثاً عن عصر طوكوجاوا ،ولكن ما أدخل عليه من إصالحات جعله
يندمج فى البناء االقتصادى الحديث ويدعم االقتصاد الوطنى.
وكان فى مقدمة اإلصالحات التى أدخلتها حكومة مايجى إقرار حق الملكية الفردية لألرض
الزراعية ،وتخليصه من القيود الموروثة من الماضى.
وكان صدور قرار إلغاء اإلقطاع (أغسطس )1871أول خطوة فى هذا السبيل ،فقد تحرر
الفالحون من اإلقطاع ،وأصبحوا يتمتعون -من الناحية النظرية -بالحقوق الكاملة على
حيازتهم الزراعية ،وان لم يصدر نص قانونى صرح بذلك ،وفى سبتمبر من نفس العام،
صدر قرار إطالق يد الفالح فى اختيار المحصول الذى يزرعه ،وأصبح باستطاعة الفالح
الصغير أن يستدين بضمان األرض ،ولما كانت ظروفه المادية ال تمكنه -غالباً -من سداد
الدين ،فإن أرضه كانت تتعرض للمصادرة وفاء للديون ،وبذلك تراكمت حقوق الملكية فى
أيدى أثرياء الفالحين من المرابين ،وتحول صغار الفالحين إلى مجرد مستأجرين لألرض،
ووضع نظام جديد لضرائب األطيان ساعد على تدهور أوضاع صغار الفالحين لصالح
كبارهم.
لقد كانت عجالت التاريخ تتحرك بالفعل فى االتجاه نحو دعم الملكية الفردية لألرض
الزراعية والعمل على تركزها فى أيدى محدودة ،وفى كل بلد من البالد التى شهدت مثل هذه
الحركة ،كان الفالح البسيط -سواء كان حائ اًز لألرض أو مالكاً صغي اًر أو مستأج اًر -هو
الضحية التى تتمزق أشالء تحت تلك العجالت ،هكذا كان مصير الفالح اليابانى فى
مجتمع بدأ يتحرك صوب الرأسمالية.
www.RaoufAbbas.org 26
وفقد صغار الفالحين أمالكهم لعجزهم عن سداد الضرائب الحكومية التى تراكمت عليهم،
وعجزهم عن سداد الديون التى حصلوا عليها بضمان األرض ،وشهد عقد الثمانينيات من
القرن التاسع عشر ذروة انتقال الملكيات الزراعية من صغار المالك إلى كبارهم ،وترتب
على ذلك تطور اجتماعى سريع اإليقاع شهده الريف اليابانى خالل ذلك العقد من الزمان،
فقد أدى ذلك إلى وجود فائض كبير فى العمالة اتجه نحو الصناعة المنزلية أو نزح إلى
المدن التماساً للرزق فى األعمال التى ال تتطلب مهارة خاصة.
وكان وجود هذا الفائض فى العمالة الريفية مشجعاً لبعض أصحاب المشروعات الصناعية
الصغيرة على االتجاه بمشروعاتهم نحو الريف لتنشيط الصناعات المنزلية ،واالستفادة من
وفرة ورخص األيدى العاملة ،وبذلك ساعد اإلصالح الزراعى –الذى أدخلته حكومة مايجى-
على خلق سوق العمل التى تعد شرطاً من الشروط األساسية للتطور أ
الرسمالى ،فارتبط
نشوء سوق العمل بذلك الفائض الكبير فى األيدى العاملة من الفالحين المعدمين ،ومن
مالك المساحات الضئيلة من األطيان ولكن امتصاص الصناعة الحديثة لتلك األيدى
العاملة كان بطيئاً نتيجة تطورها الوئيد ،فظل هذا الفائض فى العمالة راكداً فى الريف ،مما
أدى إلى هبوط مستوى المعيشة واألجور معاً ،وفى أواخر عصر مايجى ،أخذ فائض العمالة
الريفية يزحف –تدريجياً -على الصناعة الحديثة ،وانخفضت نسبة العاملين بالزراعة من نحو
%80من السكان عند بداية عصر مايجى إلى %58من السكان عام .1913
ولما كانت الدولة تستمد معظم مواردها المالية من ضرائب األطيان ،فقد أولت الزراعة
اهتماماً خاصاً ،فى نفس الوقت الذى كانت تعمل فيه على إقامة صناعة حديثة على النمط
الغربى ،فبذلت الدولة جهوداً كبيرة لتطوير الزراعة واستصالح األراضى ،وكان االتجاه العام
للسياسة الزراعية لحكومة مايجى يستهدف فى زيادة اإلنتاج القومى من الزراعة –وخاصة
من زراعة المحاصيل النقدية الجديدة -لخدمة التجارة الخارجية والصناعة المحلية على حد
سواء ،ونتيجة لذلك زاد اإلنتاج الزراعى فيما بين 1912-1878بنسبة %121عما كان
عليه عند بداية الفترة ،أى بمعدل نمو قدره 7و % 2سنوياً ،وزادت إنتاجية األرض بنسبة
%76خالل تلك الفترة ،وانتاجية العمل بنسبة .%117
www.RaoufAbbas.org 27
وقد حمل قطاع اإلنتاج الزراعى عبء سياسة التصنيع التى تبنتها حكومة مايجى ،ألن
الحكومة كانت تدفع معونات مالية سخية للبيوتات التجارية وأصحاب المشروعات الصناعية
الحديثة تشجيعاً لهم على المساهمة فى االستثمار الصناعى ،هذا فضالً عن قيام الحكومة
بتأسيس الصناعات اإلستراتيجية والعسكرية الهامة ،مما تطلب موارد مالية تحملها بالكامل
قطاع الزراعة ،فضاق مالك األراضى باألعباء الضريبية الملقاة على عاتقهم ،كما عانى
الفالحون شظف العيش ،وانعكس ذلك على حركة الفالحين االحتياجية والثورية وخاصة فى
العقدين األولين من عصر مايجى.
واذا كانت سياسة الدولة الخاصة بالتصنيع واتاحة فرصة النمو أمام رأس المال التجارى
على حساب الزراعة والمجتمع الريفى ،من أقوى بواعث تلك الحركة ،فإن ذلك يدفعنا إلى
الزوية فى النظام االقتصادى الذى أقامته
إلقاء نظرة على تلك السياسة التى كانت حجر ا
حكومة مايجى.
ونال بذلك رأس المال الخاص دفعة قوية ،زاد من قوتها التزام الدولة بسداد ديون المقاطعات
القديمة التى كانت قد اقترضتها من البيوت المالية ،وانضم إلى رأس المال الخاص وافد
جديد تمثل فى الساموراى الذين حصلوا على معاشات استبدلوا بها سندات الدولة ،حتى إذا
اك تملت لرأس المال الخاص أسباب القوة ،اندفع نحو العمل المصرفى كسبيل لالستثمار،
www.RaoufAbbas.org 28
وظل رأس المال المصرفى يحرز قصب السبق على رأس المال الصناعى حتى قيام الحرب
الصينية اليابانية ( )1894 -1893وبذلك تدعم مركز أصحاب المصارف (الذين عرفوا
بالماليين )zaibatsuوقد ساعد على تركز رأس المال سياسة الحكومة التى استهدفت حماية
رأس المال وتشجيعه ،وتهيئة ظروف النمو له ،وساعد على سرعة تركز رأس المال الهبوط
النسبى لمستوى تراكم رأس المال ،وحاجة الحكومة إلى األموال للبدء فى المشروعات
الصناعية الحديثة ،وادخال نظام الشركات المساهمة فى اليابان منذ ،1869وما تقتضيه
منافسة الدول األجنبية من ضرورة تركيز رأس المال.
وحينما استطاعت الصناعة الحديثة أن تبلغ بإنتاجها حد القدرة على منافسة منتجات البالد
األوروبية فى السوق المحلية والسوق الخارجية ،تكونت الكارتالت (االتحادات االحتكارية)
للسيطرة على تلك الصناعة ،مثلما حدث فى صناعة النسيج فى الثمانينيات وفى هذا الصدد
ال يعد رأس المال اليابانى نسيجاً فريداً ،فقد جرت عادة رأس المال الكبير فى الغرب على
النمو عن طريق ابتالع رءوس األموال الصغيرة ،وخاصة عند وقوع األزمات االقتصادية وما
يصحبها من تضخم.
وكان نمو رأس المال الكبير عن طريق ابتالع رءوس األموال الصغيرة هو السمة البارزة
للزايباتنسو (أو الماليين) فى اليابان الذين كونوا أربعة بيوت مالية كبرى ،وتسلحت تلك
الحقبة المحدودة من كبار الرأسماليين بما توافر لديها من قدرة على المنافسة غير المتكافئة
من خالل هيمنة على المصارف والقطاعين الصناعى والتجارى ،وان ظل العمل المصرفى
-الذى دعمته حكومة مايجى -حصنها الحصين.
وكانت المصارف تقدم للحكومة القروض التى تقيم بها المشروعات الصناعية التى تتطلب
استثمارات كبيرة ،بينما عانى رأس المال الصغير من الحاجة إلى التمويل ،واضطر إلى
اال قتراض من المصارف بفوائد كبيرة ،لذلك كانت رءوس األموال الصغيرة تفضل الحياة على
فتات موائد رأس المال الكبيرة فى المجاالت التى يعف رأس المال الكبير عن ولوجها،
وخاصة الصناعات التقليدية مثل :الخزف ،والحرير ،والخمور ،والصناعات الغذائية البسيطة
التى كانت بعيدة عن المنافسة األجنبية ،ولكن -مع مرور الزمن -لم تسلم تلك المنشآـت
الصناعية التقليدية من الوقوع فى فخ المصارف والتورط فى االستدانة.
www.RaoufAbbas.org 29
ال -فى الغالب -عن رأس المال الصناعى فى
وعلى حين كان رأس المال المصرفى منفص ً
الكثير من البالد التى شهدت هذه المرحلة من مراحل نمو الرأسمالية ،مر رأس المال
الصناعى فى اليابان بظروف مختلفة تمام االختالف ،فقد بدأـت الدولة حركة التصنيع ،وما
كادت الصناعة الجديدة تقف على أقدامها ،حتى سلمتها الحكومة لعدد محدود من الشركات
الخاصة التابعة للمصارف الكبرى ،مقابل شروط متواضعة للبيع ،وتسهيالت مناسبة للسداد،
ولذلك لم تظهر فى اليابان طبقة جديدة من الرأسماليين الصناعيين ،ولكن ترتب على هذه
الظاهرة تقوية رأس المال المصرفى ورأس المال الربوى ،وتحولهما -جزئي ًا -إلى رأسمالية
صناعية.
الصناعات اإلستراتيجية
كانت الصناعة اليابانية -فى عصر مايجى -ذات طابع فريد ،فهى صناعة احتكارية،
يخضع القطاع اإلستراتيجى منها لهيمنة الدولة ،ونعنى بالصناعات اإلستراتيجية تلك
الصناعات ذات الصلة بالمجهود الحربى ،أو تلك التى تنتج سلعاً ذات أهمية خاصة بالنسبة
ألسواق الصادرات ،ومن ثم تحظى بتشجيع الحكومة وحمايتها ودعمها المادى حتى تستطيع
الصمود فى وجه منافسة بضائع البلدان األخرى فى األسواق الخارجية.
فقد أوقفت حكومة مايجى جهودها على إقامة جيش وطنى قوى ،ونظام حديث للشرطة حتى
تستطيع مواجهة التحديات الداخلية ممثلة فى تمرد الساموراى وانتفاضات الفالحين
والتحديات الخارجية ممثلة فى خطر التدخل األجنبى وخاصة أن ما حدث للصين على يد
القوى االستعمارية كان ماثالً فى أذهان حكام اليابان فى ذلك العصر.
واذا كانت حكومة مايجى قد ورثت عن العهد السابق عليها نواة قوة عسكرية دربت على
النسق الفرنسى ،فإن تلك القوة كانت تفتقر إلى المقومات المادية التى تضمن تزويدها بالعتاد
والعدة ،والتى ال تتوافر إال من خالل الصناعة الحديثة ونظام النقل الحديث ،ولذلك كان البد
من وضع خطة للتصنيع من أجل سد الحاجات العسكرية الملحة وخاصة أن قضية األمن
كانت أساسية فى مطلع عصر مايجى ،ومن ثم كان االهتمام بالصناعات الثقيلة
والصناعات الهندسية والتعدين التى أصبحت -بالنسبة للحكومة -صناعات إستراتيجية ،وان
كانت نواتها قد بدأـت فى أواخر عصر طوكوجاوا استجابة للتحدى الغربى.
www.RaoufAbbas.org 30
فكان لمقاطعات :ساتسوما ،وهيزن ،وتشوشو ،فضل الريادة فى إقامة الصناعات الحربية
الحديثة ،فأقيم أول فرن حديث لصهر الحديد بمدينة ساجا (مقاطعة هيزن) لخدمة صناعة
المدافع عام ،1850وبدأ إنتاجه عام ،1852وكانت تلك المقاطعة قد بدأت صناعة المدافع
على الطراز الهولندى قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات ،وأقيمت أفران الحديد الحديثة -بعد
ذلك -فى ساتسوما (عام )1853وميتو (عام ،)1855كذلك أقامت حكومة طوكوجاوا
مصنعاً حديثاً للحديد (عام ،)1853وانتهى العمل فى إنشاء مصنع صب المدافع فى
ساتسوما عام ، 1854وتمكنت تلك المقاطعة من تجهيز ست سفن بالمدافع من إنتاج ذلك
المصنع (عام )1857كذلك أقامت مقاطعة ميتو مصنعاً لصب المدافع ،وقد تم ذلك كله
بالرجوع إلى الكتب الهولندية وبطريق التجربة والخطأ ،باالعتماد على الذات ودون االستعانة
بخبراء أجانب.
وفى عام 1857قامت حكومة طوكوجاوا ببناء سفينة تجارية كما أقامت مصانع يوكوسوكا
الشهيرة للحديد ،وترسانة لبناء السفن باالستعانة بالخبرة الفرنسية ،فتم إنجازها عام 1871
(بعد سقوط طوكوجاوا) وا لتزم المقاول الفرنسى بتسليمها للسلطة الجديدة (حكومة مايجى)
وهكذا كانت نواة الصناعات اإلستراتيجية فى اليابان قد بدأت قبل عصر مايجى ألسباب
تتصل بمواجهة التحدى الغربى.
وورثت حكومة مايجى هذه المشروعات عن العهد السابق ،فاستولت عليها وعملت على
تطويرها فأصبحت تتص در العمل فى مجال الصناعات الثقيلة والتعدين ،واستخدمت الحكومة
مدربين من األجانب لرفع مستوى الكفاية الفنية واإلنتاجية ،كما أقامت مرك اًز خاصاً للتدريب
على صناعة المدافع ،وأنشأت ترسانة أوساكا ،كما استولت الحكومة على بعض ترسانات
بناء السفن التى كانت للمقاطعات القديمة ،وأنشأت الحكومة المدارس الهندسية والفنية
إلعداد الكوادر لتلك المؤسسات الصناعية ،واستخدمت لتلك المدارس معلمين من األجانب،
كما أوفدت المبرزين من الطالب إلى الخارج إلتمام دراستهم واكتساب الخبرة الالزمة للعمل
بتلك الصناعات الهامة.
وسارت الحكومة على نفس الدرب فيما يتصل بصناعة التعدين ،فاستولت على جميع
المناجم التى كانت تدار لحساب الحكومة السابقة والمقاطعات القديمة ،وباعت جانباً كبي اًر
www.RaoufAbbas.org 31
منها للبيوت المالية ذات الخظوة لديها ،وأبقت لنفسها نحو عشرة من تلك المناجم تولت
إدارتها ،حتى إذا وقف إنتاجها على أقدامه ،باعتها بدورها للقطاع الخاص ،واستخدمت
الحكومة الخبراء األجانب للعمل على زيادة إنتاج تلك الصناعة الهامة.
وتطور قطاع النقل والمواصالت بسرعة كبيرة بفضل جهود حكومة مايجى ،التى ركزت
اهتمامها على هذا القطاع الرتباطه بحماية المصالح الوطنية للبالد ،وخدمة السوق الوطنية
بتوسيع نظامها وتنشيط حركتها ،وكان أول خط حديدى يتم بناؤه فى اليابان (هو خط
طوكيو -يوكوهاما) خط حكومى ،عنيت الدولة بإنشائه بقرض بريطانى ،وما كاد القرن
التاسع عشر يبلغ نهايته ،حتى كان حجم رأس المال الخاص فى ذلك القطاع يفوق حكم
االستثمار الحكومى ،ولكن الحك ومة ما لبثت أن قامت بتأميم السكك الحديدية عام ،1906
وتركت الخطوط الحديدية الضيقة بيد القطاع الخاص ،وكان الهدف من التأميم استخدام
عائدات السكك الحديدية فى توسيع الشبكة لتغطى جميع انحاء البالد ،وتم عقد قرض وطنى
لتوفير األموال الالزمة لشراء الخطوط التى كانت تملكها الشركات الخاصة.
وبذلك تغلبت االعتبارات اإلستراتيجية على مصالح رأس المال الوطنى ،فقد جاء إنشاء
بعض الخطوط الجديدة لخدمة المجهود الحربى بالدرجة األولى ،ونجد صدى تغليب
(التليفونات المصالح اإلستراتيجية يتردد بوضوح فيما يتعلق بالمواصالت السلكية
والتلغرافات) فعندما اقترحت بعض الشركات الخاصة أن تأخذ على عاتقها مد خطوط البرق
والهاتف ،اعترض "مجلس الدولة" على ذلك ( 2أغسطس )1872وبرر اعتراضه بضمان
سرية االتصاالت الحكومية التى البد أن تتم عبر تلك الخطوط ،كما أن نظام المواصالت
السلكية يربط اليابان بالعالم الخارجى مما يكسبه أهمية خاصة ،ولذلك يجب أن يكون مرفقاً
حكومي ًا.
وعندما طرحت فكرة جعل الخدمة الهاتفية الداخلية -التى تخدم الجمهور -استثما اًر خاص ًا
( )1899رفضت الحكومة الفكرة وأخذت على عاتقها مد تلك الخدمة للجمهور ،وأصدرت -
فى العام التالى -لوائح لتنظيم الخدمة الهاتفية.
www.RaoufAbbas.org 32
وهكذا كان حكام اليابان فى عصر مايجى على درجة كبيرة من الحساسية فى كل ما يتصل
بالنواحى اإلستراتيجية ،فحرصوا على أن يضعوا الصناعات الحربية والنقل والمواصالت
السلكية تحت إدارة الدولة ورقابتها ،رغم ما يترتب على ذلك من زيادة أعباء اإلنفاق
الحكومى مما أدى إلى زيادة األعباء الضريبية على قطاع الزراعة الذى كان عليه أن يتحمل
عبء بناء مؤسسات الدولة الحديثة ،وبذلك ضمنت الحكومة بقاء الصناعات اإلستراتيجية
بمنأى عن الضغوط التى يمكن أن تنشأ عن تركها بيد رأس المال الوطنى واألجنبى مما قد
يعرض أمنها القومى للخطر.
غير أن السبب الرئيسى الذى دفع الحكومة إلى بيع مصانعها (غير اإلستراتيجية) إلى
الشركات الخاصة ،هو الفشل فى إدارتها وتعرضها للخسارة مما جعلها تشكل عبئاً على
الخزانة العامة للدولة ،وكان هذا التصرف جزءاً من سياسة االنكماش االقتصادى التى لجأت
إليها الدولة لمعالجة التضخم ،ولذلك عندما طرحت تلك المصانع والمناجم للبيع ،كان
اإلقبال على شرائها محدوداً ،مما جعل الحكومة تطرحها للبيع بأسعار زهيدة وشروط سداد
مريحة ،فك ان بيع تلك المشروعات بمثابة معونة حكومية مستترة لرأس المال الخاص ،ولوال
سلوك الحكومة هذا المسلك ،لما أبدى القطاع الخاص اهتماماً بامتالك تلك المشروعات -
التى كانت تحقق خسائر -بأسعار تعبر عن القيمة الحقيقية ألصولها ،وقامت الشركات التى
اشترت تلك المصانع والمناجم بإضافة استثمارات جديدة إلى األصول التى قامت بشرائها من
الحكومة ،وحولت تلك المشروعات إلى نواة إلمبراطورية صناعية ضخمة ال زالت باقية حتى
اليوم.
www.RaoufAbbas.org 33
وقد حققت سياسة بيع المشروعات الصناعية الحكومية نوعاً من الحرية االقتصادية ولكن
الحكومة أيقنت أن المشروعات الصناعية الخاصة ال تستطيع أن تمضى قدماً فى ممارسة
نشاطها دون أن تنال مساعدتها ،واذا كان التساهل فى بيع المشروعات الحكومية يعد نوعاً
من المعونة غير المباشرة للقطاع الخاص الصناعى ،قصد به تشجيع االستثمارات الوطنية
الخاصة ،فإن الحكومة قدمت المزيد من التشجيع والمعونات للصناعة كان بعضها يسير
وفق خطة معينة تخدم مصالح الدولة ،على حين كان بعضها اآلخر يخدم مصالح حفنة من
رواد الصناعة اليابانية الحديثة.
وتعددت أشكال المساعدة الحكومية للصناعات اليابانية ،ولكن أهمها حرص الحكومة
اليابانية على تدعيم تلك الصناعات بشراء جانب كبير من إنتاجها ،فقد كانت السوق
اليابانية قادرة على استهالك إنتاج صناعة المنسوجات القطنية ،ما دامت تلك الصناعة قادرة
على منافسة المنسوجات األجنبية ،وكذلك كانت الحال بالنسبة للصناعات التقليدية ،ولكن
األمر كان يختلف تمام االختالف بالنسبة للصناعات الكهربية والكيماوية مثل صناعة
األسمنت والطوب والورق والزجاج والجلود ،حيث كانت المشروعات الخاصة المستقلة بتلك
الصناعات تعانى من مشكلة تصريف إنتاجها ،وخاصة أن الناس كانوا يحجمون عن
استهالك مواد لم يعتادوا استخدامها من قبل ،كما أن احتياجاتهم كانت أقل من أن تستوعب
اإلنتاج الكبير لتلك الصناعات ،وجاءت مشتروات الحكومة لتنقذ هذه المشروعات من إفالس
محقق ،وخاصة فى السنوات الحرجة السابقة على عام ،1895فأقبلت الحكومة على شراء
معظم إنتاج الجلود لتغطية احتياجات الجيش ،والورق لسد حاجة األجهزة اإلدارية ،واألسمنت
والطوب والزجاج لمشروعاتها العمرانية والمنسوجات الصوفية لصنع البزات العسكرية
والبطاطين للجيش.
واقتفت حكومة مايجى أثر النظام السابق عليها فى إسناد مهمة توريد احتياجاتها المختلفة
إلى موردين بعينهم ،مما جعل هؤالء يحققون أرباحاً خيالية ،ولم تحاول الحكومة أن تنقص
من أرباحهم ما دامت تلك األرباح تستثمر فى مشروعات صناعية حديثة ،وكان كبار
الموردين الذين تتعامل معهم الحكومة ،هم -فى نفس الوقت -أساطين الصناعة اليابانية
الحديثة.
www.RaoufAbbas.org 34
ولكن الصناعات الخفيفة لم تحظ بالدعم الحكومى على نحو ما حظيت به الصناعات
الهندسية والثقيلة ،فلم تنل صناعة غزل ونسج القطن وصناعة الحرير أى دعم مالى من
الحكومة بعد عام ،1884وحتى المساعدات التى نالتها فى الحقبة السابقة على ذلك التاريخ
كانت ضئيلة القيمة ،واقتصر دور الدولة على نشر المعرفة الفنية ،وافساح المجال أمام
المنسوجات الوطنية فى السوق المحلية عن طريق إثارة الشعور الوطنى ضد المنسوجات
األجنبية مما أدى إلى تثبيت دعائم سوق المنسوجات الوطنية وجعلها فى غنى عن معاونة
الحكومة ،وكانت المعارض واألسواق أداة الدولة فى تشجيع وترفيه الصناعات الخفيفة ،وما
لبثت أن أصبحت المنسوجات فى مقدمة السلع اليابانية التى غزت األسواق األجنبية.
غير أ ن الرواج الذى أصاب النشاط الصناعى بفضل سياسة حكومة مايجى -سواء عن
طريق الدعم المباشر أو غير المباشر -تم على حساب العمل والعمال ،فلم تول الحكومة
اهتمامها لتحسين ظروف العمل وشروطه ،وتغاضت عن الجور الذى عاناه العمال على
أيدى أصحاب األعمال ،وأصمت آذانها عن سماع شكواهم وأنينهم ،بعد ما وجدت أن إتاحة
فرصة التراكم لرأس المال الوطنى "ضرورة قومية" يجب أن تتحقق ولو كان ذلك على
حساب العمل والطبقة العاملة اليابانية.
النمو االقتصادى
ولعل من المناسب -على ضوء ما تقدم -أن نلقى نظرة على النمو االقتصادى الذى حققته
اليابان فى عصر النهضة لنقف على ما أثمرته التجربة التى لفتت األنظار إلى ذلك البلد
وحولته من كيان مهمش إلى دولة قوية يحسب لها ألف حساب.
يتفق الباحثون المعنيون بدراسة التطور االقتصادى لليابان على تقسيم النمو االقتصادى إلى
ثالث مراحل:
.1المرحلة األولى :وتشمل الفترة التى تسمى "فترة االنتقال" وتقع بين ()1885 -1868
وبداية بناء االقتصاد الحديث (.)1905 -1886
.2المرحلة الثانية :وتشمل البناء االقتصادى الحديث (.)1925 -1905
www.RaoufAbbas.org 35
.3المرحلة الثالثة :وتشمل االنتعاش واعادة البناء االقتصادى الحديث بعد الحرب
العالمية الثانية وتمتد إلى تحول اليابان إلى قوة اقتصادية كبرى فى الوقت الحاضر.
اما المرحلة األولى فتمثل النمو االقتصادى الحديث منذ أصبح "هدفاً قومياً" مع بداية العصر
حتى كانت بداية تحقيقه عملياً ( )1905وليس ثمة دليل يشير إلى أن اإلنتاج الحقيقى للفرد
كان يزيد بمعدل سريع ،أو حتى فى حدود سد الحاجات الضرورية -خالل الستينيات من
القرن التاسع عشر -كما أن السكان لم يتزايدوا بمعدالت كبيرة ،وفى السبعينيات من نفس
القرن كان ما يتراوح بين %80 -70من السكان القادرين على العمل يشتغلون بالزراعة،
وقدمت الزراعة نحو %65من اإلنتاج القومى ،وكان نصيب الفرد من اإلنتاج القومى يقدر
بعشرين ينا سنوياً ،وفى أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر بلغت قيمة اإلنتاج الصناعى
نحو %30من جملة اإلنتاج السلعى.
وكان لسنوات التضخم المالى ( )1881 -1876أثرها على النظام النقدى والمركز المالى
للبالد ،بقدر ما كان لسنوات االنكماش االقتصادى ( )1885 -1881من أثر على إدخال
التغيرات األساسية على بنية االقتصاد اليابانى ،فقد كانت سياسة االنكماش محاولة جريئة
وناجحة لخلق الظروف المالئمة للنمو االقتصادى الحديث الذى كان -عندئذ -يمثل ضرورة
حيوية ملحة بالنسبة لليابان ،فتم وضع حد للفوضى التى اتسم بها النظام النقدى ،كما تم
ترشيد رأس المال الوطنى بفضل المرونة التى توفرت للنظام النقدى ،وأمنت الحكومة موارده
المالية ،وبذلك فتح الباب أمام النمو االقتصادى الحديث.
وعندما بدأت عملية بناء االقتصاد الحديث فى تلك المرحلة ( )1905 -1886أصبح لدينا
قطاعان إقتصاديان :أحدهما تقليدى ،واآلخر حديث ،وكانت الزراعة قاعدة االقتصاد
www.RaoufAbbas.org 36
التقليدى ،وظلت تحظى بأهمية خاصة فى تلك المرحلة التى كان فيها دور االقتصاد
الحديث دو اًر محدوداً وتمثل فى اقتباس التقنية من الغرب.
وان كان التمييز بين القطاعيين التقليدى والحديث من الصعوبة بمكان ،فقد كانا يستندان إلى
بعضهما البعض ،وكثي اًر ما كانا يشتبكان معاً ،وتجمع بينهما رابطة االنتماء إلى نظام
اقتصاد ى واحد ،وكان االلتقاء بينهما فى رحاب الصناعات الريفية التقليدية التى استفادت
استفادة نسبية من مستحدثات التقنية اإلنتاجية ،وفى الحدود التى تشكل استجابة لتحديات
السوق فى ظل الظروف الجديدة التى أوجدتها سياسة التصنيع.
ولكن الفضل فى زيادة معدالت النمو االقتصادى -فى المرحلة التى تلت عام -1905
يرجع إلى السياسة اإلمبريالية التى انتهجتها حكومة مايجى ،واتخذت شكل التوسع على
حساب كوريا والصين لخلق سوق خارجية مالئمة لتصرف منتجات الصناعة اليابانية
الحديثة ،واتاحة فرصة النمو السريع أمام رأس المال اليابانى.
www.RaoufAbbas.org 37
الفصل الثالث -بناء إمبراطورية آسيوية
ترجع الدعوة إلى بناء إمبراطورية آسيوية باعتباره ضرورة حيوية لليابان ،إلى األفكار التى
طرحها بعض المفكرين اليابانيين المتطرفين فى وطنيتهم فى أواخر عصر طوكوجاوا،
وكانت مبررات هذه الدعوة أن التوسع عن طريق ضم جزر الكوريل ،وجزيرة سخالين وشبه
جزيرة كمتشكا ،وبعض مناطق سيبريا ،إضافة إلى منشوريا وكوريا وفرمو از من شأنه أن
يحول اليابان إلى قوة إقليمية مهابة تحسب لها القوى الكبرى ألف حساب.
وعندما طرحت تلك األفكار كانت تبدو مجرد أضغاث أحالم ،غير أنها أثرت على فكر
النخبة التى صنعت عصر مايجى ،وألهمتها إستراتيجية التوسع اإلمبريالى على حساب
الجيران التى وضعت فى منتصف الثمانينيات من القرن التاسع عشر ،وما كاد يحل عام
،1890حتى كان العسكريون ومجلس الوزراء على يقين من أن اليابان ال تستطيع
المحافظة على استقاللها ،إال إذا توفرت لديها القدرة على االنضمام إلى محفل الدول الكبرى
التى تسعى إلى الحصول على مطالب وامتيازات فى آسيا ،وبحلول عام ،1894أصبحت
الرغبة فى االستيالء على أراضى آسيا ذات األهمية اإلستراتيجية موضع اهتمام مجلس
الوزراء والعسكريين وعندما نشبت الحرب مع الصين ،أصبح الهدف اإلستراتيجى لليابان:
االستيالء على شبه جزيرة لياوتونج ،وضمان استقالل كوريا واتخاذ فرمو اًز قاعدة بحرية
يتحكم منها األسطول اليابانى فى الطرق البحرية المؤدية إلى سواحل الصين ،وتلك التى
تؤدى إلى اليابان.
وكان من بين الدوافع التى وجهت السياسة اليابانية صوب التوسع اإلمبريالى ،التنافس
الروسى -البريطانى فى شرق آسيا.
وقدر مجلس الوزراء اليابانى أن ذلك التنافس سوف يؤدى إلى زيادة االضطرابات فى
المنطقة ،وخاصة أن الدولتين طورتا تجارتهما ومراكزهما العسكرية بما يحقق لكل منهما
مزايا إستراتيجية .ولما كان الروس يفكرون فى مد خط حديدى يخترق سيبريا ويصل إلى
المحيط الهادى ،قدر له أن يتم عام ،1911كان على اليابان أن تأخذ األمر مأخذ الجد،
www.RaoufAbbas.org 38
وتتأهب عسكرياً لمواجهة وصول السكك الحديدية الروسية إلى المحيط ،ألن الروس
سيسعون عندئذ إلى فرض سيطرتهم على آسيا.
ولما كان التنافس البريطانى -الروسى سيقود إلى صدام بين القوتين ،فقد رأى مجلس الوزراء
اليابانى ( )1886أن تكون اليابان على درجة من القوة العسكرية تمكنها من أن تقرر ما
يالئم مصالحها ،فتبقى على الحياد ،أو تنضم إلى أحد الطرفين المتنازعين ضد اآلخر.
ورأى ياماجاتا (رئيس الوزراء) أنه فى حالة تعرض كوريا للغزو فلن تسلم اليابان من الخطر،
وكانت سياسة اليابان تهدف إلى االحتفاظ بكوريا كدولة مستقلة ال ترتبط بالصين بروابط
التبعية ،والحيلولة دون قيام أى من الدول األوروبية باحتاللها ،ألن ما تتمتع به شبه جزيرة
كوريا من موقع جغرافى يجعل من يحتلها فى مركز القوة الذى يمكنه من التحكم فى شرق
آسيا ،وتهديد سالمة األراضى اليابانية ،كذلك كان من األهداف السياسية اليابانية إعاقة أية
محاولة من جانب الصين لبناء جيش عصرى قوى ألن ذلك يضر بأمن اليابان.
وفى نوفمبر ،1890قرر مجلس الوزراء ضرورة أن تكون اليابان على أتم استعداد للدفاع
عن خطين :خط السيادة ،وخط المصالح.
أما الخط األول فهو حدودها ،وأما الخط اآلخر فيمر عبر أراضى جيرانها ،أو المناطق التى
تالمس خط السيادة (على حد تعبير رئيس الوزراء) وحتى تحافظ اليابان على استقاللها
يجب أن تجد لنفسها موضعاً بين الدول الكبرى ،وأن تخطو خطوة واسعة نحو الدفاع عن
خط المصالح القومية الذى يشمل كوريا ،وبذلك تصبح اليابان فى وضع أفضل من االكتفاء
بالوقوف خلف "خط السيادة".
وهكذا ركز ياماجاتا -رئيس الوزراء -على األهمية اإلستراتيجية للتوسع فى القارة األسيوية
على حساب جارات اليابان باعتباره "ضرورة أمن قومى" للدفاع عن استقالل اليابان ،بل
نجده فى أواخر أيامه (عام )1915يؤكد أن منشوريا هى المجال الطبيعى للتوسع اليابانى
فى القارة اآلسيوية ،وأنها تعد شريان الحياة بالنسبة لليابان ،ألن اليابانيين البد أن يسكنوا
آسيا والتوسع فى منشوريا يحل مشكلة السكان فى اليابان ،كما يوفر -على حد زعمه-
الحماية لآلسيويين.
www.RaoufAbbas.org 39
وراح بعض مفكرى عصر مايجى يبرر حركة التوسع اليابانى على ضوء نظرية دارون
بالقول بأن البقاء لألقوى فى عالم تسوده شريعة الغاب ،وبأن التوسع فى أراضى الجيران
ليس عدوانا أو اغتصاب ًا ،ولكنه "مهمة حضارية" هدفها حماية تلك الشعوب ،ومساعدتها
على تحقيق التقدم وبلوغ درجة التحضر.
التوسع فى كوريا
وقد طبقت اليابان عند توسعها فى كوريا نفس األسلوب الذى اتبعته الواليات المتحدة مع
اليابان ،ففى أغسطس 1875اقتحمت سفينة يابانية خليج كانجهوا الكورى ،فأطلقت عليها
قوات خفر السواحل الكورية النيران ،واتخذت اليابان من ذلك الحادث مبر اًر إلرغام كوريا
على إقامة عالقات دبلوماسية وتجارية معها تحت تأثير التهديد باستخدام القوة العسكرية
ضدها ،وبعد ستة أشهر من ذلك الحادث (فبراير )1876وقعت كوريا معاهدة غير متكافئة
مع اليابان على نمط المعاهدات التى وقعتها كل من اليابان والصين مع الدول الغربية،
وافقت بموجبها كوريا على فتح ثالثة موانى أمام التجارة اليابانية واعتبرت المعاهدة كوريا بلداً
مستقالً ،رغم أن الصين كانت تعدها من توابعها.
وفى عام 1822قامت ثورة ضد األسرة المالكة الكورية ،اتخذت طابع العداء ضد اليابانيين،
فتدخلت الصين تلبية لطلب األسرة الحاكمة ونجحت فى قمع الثورة ،وقنع اليابانيون
بالتعويضات التى حصلوا عليها من الحكومة الكورية عما لحق بالمصالح اليابانية من
خسائر خالل أحداث الثورة ،غير أنهم بيتوا النية لتصفية الوجود العسكرى الصينى فى
كوريا ،فوضعت خطة لزيادة عدد الجيش اليابانى وعدته على مدى عشر سنوات ،بدأ تنفيذها
عام ،1855كما وضعت البحرية اليابانية خطة لزيادة قدرتها القتالية.
وعندما قامت انتفاضات شعبية كورية ضد مظالم السلطة وهيمنة التجار اليابانيين والصينيين
على االقتصاد الكورى مما زاد من معاناة الشعب ،فتوقفت تلك االنتفاضات عام ،1894
فأتيحت الفرصة ألنصار التوسع اإلمبريالى داخل الحكومة اليابانية لتحقيق أحالمهم
التوسعية.
www.RaoufAbbas.org 40
الحرب الصينية-اليابانية
استنجدت الحكومة الكورية بالقوات الصينية للقضاء على االنتفاضات الشعبية ،فأبلغت
اليابان الحكومة الصينية اعتزامها إرسال قوات عسكرية إلى كوريا ،فحاولت الصين -عبثاً-
منع الصدام المرتقب عن طريق طلب الوساطة من الدول الكبرى ،واقترح رئيس الوزراء
اليابانى إرسال لجنة صينية -يابانية مشتركة إلى كوريا ،ولكن الصين رفضت االقتراح بحجة
قدرتها وحدها على إخماد االنتفاضات ووعدت باالنسحاب فور انتهاء المهمة من كوريا
ورفضت اليابان اقتراحان أحدهما بريطانى واآلخر روسى بانسحاب قوات الطرفين من كوريا،
والحق أن أحداً لم يأخذ التهديد اليابانى مأخذ الجد ،سواء فى ذلك الصين أو الدول األوروبية
الكبرى.
وفى يونيو 1894وصل الوزير المفوض اليابانى إلى العاصمة الكورية على رأس قوة
عسكرية تمثل جميع فروع القوات المسلحة اليابانية ،وقابل ملك كوريا وأملى عليه شروطاً
إلصالح الحكومة ،وأجبر الملك الكورى على إعالن إلغاء المعاهدة الكورية -الصينية ،وأن
يطلب من اليابانيين طرد القوات الصينية من بالده.
ورغم ذلك ظل حكام الصين يستهينون باليابان ،وال يعتقدون فى قدرتها على خوض غمار
حرب من أجل كوريا ،واعتقدوا أن اليابان ليست جادة فى تهديداتها ،وعندما التقت ثالث
سفن حربية صينية -كانت تتولى حراسة ناقلة جنود صينية على متنها 1200جندى-
بثالث سفن حربية يابانية فى طريقها إلى كوريا ( 25مايو) ،أطلقت عليها النار ،فنشبت
معركة بحرية صغيرة راحت ضحيتها ناقلة الجنود الصينية بمن عليها ،وأسرت إحدى السفن
الحربية الصينية ،وأعقب ذلك هجوم القوات اليابانية فى كوريا على القوات الصينية ،وألحقت
بها هزيمة ساحقة دون أن تعلن الحرب رسمياً.
وجاء إعالن الحرب من جانب اليابان فى أول أغسطس ،وتبعه إعالن الحرب من جانب
الصين ،وآثرت الدول الكبرى الوقوف على الحياد ظناً منها أن الصراع سينهك الطرفين
لمصلحتها ،فإذا بالجيش اليابانى ينزل إلى كوريا ويتجه إلى منشوريا ويستولى على المواقع
الصينية الهامة ،ويقيم حكومة عسكرية فى اإلقليم ،وفى نفس الوقت ،اتجه جيش يابانى آخر
إلى شبه جزيرة لياوتونج ،استولى على أهم مواقعها واتجه إلى شبه جزيرة شانتونج فاستولى
www.RaoufAbbas.org 41
على أهم مدنها ،واضطر األسطول الصينى أن يستسلم لألسطول اليابانى ( 12فبراير
.)1895
وفى مارس ،اتحد الجيشان اليابانيان ،وزحفا صوب بكين حيث استوليا على أهم المدن فى
الطريق ،وتوالت الهزائم على الصين دون أن يلوح فى األفق أمل تحول المد لصالحها،
ولجأت الحكومة الصينية إلى الروس واإلنجليز طالبة التدخل لوقف إطالق النار دون
جدوى.
وبعد محاوالت فاشلة من جانب الصين لفتح باب المفاوضات مع اليابان حول الصلح ،التقى
نائب اإلمبراطور الصينى مع رئيس الوزراء اليابانى فى ميناء شيمونوسيكى (اليابانى) حيث
توصل الطرفان إلى اتفاق حول هدنة بال قيد أو شرط ( 19مارس) وتم التوقيع على معاهدة
الصلح فى 17إبريل ،وخالل المفاوضات قدم األمريكيون واإلنجليز النصح والمشورة
للطرفين.
وبموجب معاهدة الصلح ،اعترف الطرفان باستقالل كوريا استقالالً تاماً ،وتنازلت الصين
لليابان عن شبه جزيرة لياوتونج ،وجزيرة فرموزا ،وجزر البسكادور ،وتعهدت بدفع تعويض
مالى كبير ،كما وافقت على فتح أربع مدن صينية أمام التجارة اليابانية.
لم تتمكن الدول الكبرى من الحيلولة دون تحقيق اليابان لهذا النصر فقد كانت العمليات
الحربية اليابانية تدار بكفاءة عالية وتنسيق تام ب اًر وبح اًر ،وخالل ثمانية أشهر هزمت تلك
الدولة الجزرية الصغيرة إمبراطورية الصين العريقة ذات التعداد السكانى الهائل والموارد
المتنوعة ،وقضت على قواتها العسكرية ،واضطرتها إلى اإللحاح فى طلب الصلح وكان ذلك
كله بعيداً عن تقدير الدول الكبرى لمدى ما بلغته اليابان من قوة ففضلت الوقوف على
الحياد ،ولكن نتيجة الصراع جاءت مخيبة لتوقعاتها.
وهزت الهزيمة النظام اإلمبراطورى الصينى ليسقط نهائياً بعد عقدين من الزمان ،على حين
حققت الحرب لليابانيين الكثير فانبهر المراقبون األجانب بمستوى األداء العسكرى للجيش
والبحرية ،وأخذ العالم يتقبل اليابان كواحدة من الدول الحديثة وأيقنت الدول الكبرى أن اليابان
قوة ال يمكن تجاهلها عند رسم سياستها الخاصة بالشرق األقصى.
www.RaoufAbbas.org 42
وبذلك أعلنت الحرب الصينية -اليابانية عن مولد قوة إمبريالية جديدة ،تنتمى إلى الشرق
وليس إلى الغرب ،وكان معيار النجاح الذى يمكن أن تحققه هذه القوة الجديدة (اليابان)
يتوقف على مدى تقبل القوى اإلمبريالية األخرى لها ،وخاصة تلك التى لها مصالح فى
الشرق األقصى ،أما بريطانيا فقد عبرت عن ترحيبها بالنصر اليابانى وارتياحها لنتائجه ،ألن
من مصلحتها أن تلعب اليابان دور المناوئ للوجود الروسى فى المنطقة الذى كان موضع
ضيق اإلنجليز ،وأما روسيا فكانت أكثر الدول استياء من نتيجة الحرب ألنها تعرقل
مخططاتها الخاصة بكوريا ومنشوريا ،وتضع العقبات فى طريق تحقيق األطماع الروسية فى
الشرق األقصى ،لذلك حثت فرنسا وألمانيا على مساندتها فى معارضة استحواذ اليابان على
شبه جزيرة لياوتونج.
وأيدت فرنسا المطالب الروسية الرتباطها مع روسيا بحلف ثنائى ،أما ألمانيا فقد أعطت
تأييدها لروسيا حتى تصرفها عن االهتمام بالشئون األوروبية ،وتستنفد طاقتها فى الصراع
حول الشرق األقصى ،رغم أن ألمانيا -بدورها -كانت تطمع فى أن تنال نصيباً من
االمتيازات التجارية فى الصين.
ولذلك تقدمت الدول الثالث :روسيا وألمانيا وفرنسا بمذكرة إلى الخارجية اليابانية قبل تبادل
وثائق التصديق على معاهدة الصلح بعشرة أيام ،طالبت فيها اليابان بالتنازل عن شبه جزيرة
لياوتونج ،ولما كان الرفض يعنى الدخول فى حرب مع الدول الثالث مما قد يحرم اليابان
من جنى ثمار انتصارها على الصين ،وافقت اليابان على تعديل نص المعاهدة مقابل زيادة
التعويض المالى الذى تدفعه الصين.
ولكن التدخل الثالثى أصاب الرأى العام اليابانى بصدمة قاسية ،جعلته يشعر بأن الدول
الثالث قد امتهنت كرامة اليابان ،وحول العسكريون ودعاة التوسع هذا السخط إلى موجة
عداء عارمة ضد روسيا ،كما استغلت الحكومة هذا السخط لزيادة اإلنفاق العسكرى ،فتقرر
زيادة الجيش من سبع فرق (عام )1894إلى 13فرقة (عام )1903وزيدت قدرة األسطول
من 63.1ألف طن إلى 153ألف طن ،وبذلك أصبحت ميزانية الدفاع تستحوذ على
%55.6من الموازنة العامة للدولة بعد أن كانت تمثل %29.5من الموازنة واستمر اإلنفاق
العسكرى فى استئثاره بالقسط األكبر من اإلنفاق الحكومى بعد ذلك.
www.RaoufAbbas.org 43
التنافس الروسى -اليابانى
كان لروسيا مصالح تجارية فى كوريا جعل لها وجوداً إلى جانب المصالح اليابانية ،مما وفر
فرصة احتكاك بين الطرفين ،كذلك كان للروس وجود فى منشوريا حيث كانوا قد حصلوا من
الصين على امتياز مد خط حديدى يصل الخط الروسى -عبر سيبريا -بالمحيط ،ولما كان
لليابان وجود فى جنوب منشوريا ،فقد أصبح تعايشهما معاً فى كوريا ومنشوريا من
المستحيالت ،وخاصة أن روسيا لم تحترم نصوص المعاهدات التى أبرمتها مع اليابان عام
1896وعام 1898حول حصول كل منهما على امتيازات متساوية فى كوريا ،كذلك أقلقت
السياسة الروسية الرامية إلى تحويل منشوريا إلى محمية روسية ،اليابان وبريطانيا والواليات
المتحدة وألمانيا ،وأدى عدم وفاء روسيا بتعهداتها بالجالء عن منشوريا إلى حدوث تقارب
بريطانى -يابانى تحول فيما بعد إلى تحالف بين الدولتين لمواجهة األطماع الروسية فى
منشوريا ،وجاء رفض الروس للجالء عن منشوريا ممهداً لتصعيد األزمة التى قادت إلى
إشعال نار الحرب الروسية -اليابانية.
وخالل عام ،1900بذلت جهود دبلوماسية بريطانية ويابانية ،الستطالع موقف ألمانيا
وفرنسا فى حالة نشوب صراع روسى -يابانى بالشرق األقصى ،ولكن اليابان لم تكن قد
حسمت الخالف داخل الحكومة بين مؤيدى التحالف على بريطانيا ،ودعاة التقارب مع
روسيا على أساس االعتراف بالمصالح الروسية فى منشوريا فى مقابل االعتراف الروسى
بالمصالح اليابانية فى كوريا.
www.RaoufAbbas.org 44
كذلك لم تكن الحكومة البريطانية قد توصلت إلى قرار بشأن هذا التحالف حتى إبريل
، 1901حين كلفت الحكومة اليابانية وزير خارجيتها ،باستطالع مدى إمكانية عقد التحالف
بين البلدين.
وفى نفس الوقت الذى كان فيه وزير الخارجية اليابانى يتفاوض مع زميله البريطانى حول
بنود اتفاقية التحالف (يوليو ،)1901توجه مبعوث يابانى إلى موسكو لمحاولة الوصول إلى
اتفاق روسى -يابانى حول الشرق األقصى ،ولكن الروس تشددوا فى مطالبهم ،وعاد
المبعوث اليابانى بخفى حنين ،مما وحد صفوف الحكومة اليابانية وراء التحالف البريطانى-
اليابانى الذى تم إبرامه فى لندن ( 30يناير ،)1902وأثار اإلعالن عنه فى كل من لندن
وطوكيو ( 11فبراير) دهشة عواصم العالم ،وتمادى البعض فى استنكاره لهذا التحالف،
فاتهم بريطانيا بخيانة العنصر األبيض لصالح "العنصر األصفر العدوانى الوضيع".
ومهما كان األمر ،فقد أصبح باستطاعة اليابان أن تخطط للحرب مع روسيا دون أن تخشى
دخول دولة ثالثة -طرفاً فى الصراع -إلى جانب الروس ،وأن تضمن عدم تكرار التدخل
الدولى الذى حرمها من بعض ثمار انتصاراتها على الصين ،ولكن بريطانيا لم تخرج من
التحالف صفر اليدين ،فقد كان التحالف يخدم مصالحها فى اإلقليم ،وبإبرام التحالف بدأ العد
التنازلى للحرب.
www.RaoufAbbas.org 45
( 10فبراير) ،وقامت خطة اليابان العسكرية على شل حركة األسطول الروسى فى المحيط
الهادى بقاعد ة بورت آرثر ،فأغرقوا بعض السفن التجارية القديمة فى البوغاز المؤدى إلى
الميناء وزرعوا األلغام البحرية فى الجزء المتبقى من البوغاز ،وحققوا أكبر انتصاراتهم عندما
نجحوا فى إغراق سفينة القيادة الروسية وعلى ظهرها قائد األسطول و 600جندى روسى.
وفى البر حققت القوات اليابانية الزاحفة من العاصمة الكورية صوب الشمال انتصا اًر على
القوات الروسية ،وفى أواخر أبريل بدأت معركة نهر يالو ،وتوالى سقوط المواقع الروسية فى
أيدى اليابانيين على طول مجرى النهر ،كما نجح اليابانيون فى االستيالء على المواقع
الروسية بشبه جزيرة لياوتونج وتحركوا لالستيالء على بورت آرثر -أكبر المعاقل الروسية
بالشرق األقصى -حيث أجهزت مدفعيتهم على ما تبقى من األسطول الروسى.
وفى صيف ،1904دفع اليابانيون القوات الروسية أمامهم عند زحفهم فى جنوب منشوريا،
وشنوا عليها هجوماً شامالً جعل الروس ينسحبون إلى موكدن ،وبعد ستة أشهر من القتال
الضارى سقطت بورت آرثر فى أيدى اليابانيين ،واستسلم لهم القائد الروسى ومعه 25ألفاً
من الجنود ،وغنم اليابانيون خمسمائة مدفع روسى ،وبذلك تفرغ الجيش اليابانى لخوض
المعركة الفاصلة فى منشوريا ،حيث دارت رحى معركة موكدن التى تعد من المعارك الكبرى
الحاسمة فى النزاع والتى سقطت بيد اليابانيين بعد أسبوعين من القتال الشرس العنيف،
وبلغت خسائر الروس -حتى ذلك الحين 150 -ألفاً بين قتيل وجريح ،بينما لم تصل خسائر
اليابانيين إلى الخمسين ألفاً.
أصبح الموقف العسكرى الروسى حرجاً للغاية فحاول الروس تعويض هزائمهم بتوجيه
أسطول بحر البلطيق إلى العمل فى الشرق األقصى وبعد رحلة شاقة -قطعها األسطول من
غرب أوروبا إلى الشرق األقصى -اشتبك مع األسطول اليابانى فى الطريق إلى كوريا (28
مايو )1905فأغرق اليابانيون سفينة القيادة وست سفن أخرى ،باإلضافة إلى خمس مدمرات
وخمس ناقالت جنود ،وأربع سفن خدمات وسفينة دفاع سواحل ،وأسروا خمساً من قطع
األسطول الروسى ،وقدر عدد القتلى والغرقى من جنود البحرية الروسية بثلثى عدد رجال
األسطول ،على حين لم يخسر اليابانيون فى تلك المعركة سوى 116قتيالً ،و 538جريحاً،
www.RaoufAbbas.org 46
وثالثة من زوارق الطوربيد ،ولم ينج من أسطول البلطيق سوى ناقلة جنود ومدمرتين ،وصلوا
إلى ميناء فيالديفوستك بعد جهد جهيد.
ولم يعد أمام الروس -بعد هذه الهزيمة الساحقة -سوى طلب الصلح ،وخاصة أن الثورة
اندلعت فى روسيا ضد ا ستبداد القيصر ،كما أن الدول األوروبية التى وقفت على الحياد
رغبت فى إنهاء الحرب بعد أن حققت أهدافها اإلستراتيجية :فألمانيا قنعت بما أصاب روسيا
من ضعف عسكرى ،وفرنسا أرادت االحتفاظ بما بقى من قوة روسيا لتدعيم الحلف الثنائى
الذى يجمع البلدين.
وتوسطت الواليات المتحدة لعقد الصلح ،الذى بدأت مفاوضاته فى 10أغسطس ،1905
تحت رعاية الرئيس األمريكى.
ووقع الطرفان اتفاقية الصلح التى نصت على االعتراف بالمصالح اليابانية المتميزة فى
كوريا ،وانتقال حقوق روسيا فى شبه جزيرة لياوتونج إلى اليابان ،والتنازل لليابان عن القسم
الجنوبى من سكك حديد منشوريا ،وكذلك عن النصف الجنوبى من جزيرة سخالين ،وانسحاب
قوات البلدين من منشوريا ،فيما عدا قوات حراسة السكة الحديد ،وتعهد البلدان بعدم التدخل
فيما تتخذه الصين من إجراءات تطوير الصناعة والتجارة فى منشوريا ،واستغالل السكك
الحديدية لألغراض التجارية ،فيما عدا الخط الحديدى بشبه جزيرة لياوتونج فيستخدم
ألغراض إستراتيجية.
لقد أسفرت الحرب الروسية -اليابانية عن مولد قوة شرقية ،نجحت فى إلحاق الهزيمة بدولة
أوروبية استعمارية كبرى ،وفى تحديد حجم الدور الروسى فى الشرق األقصى ،ولفتت الحرب
أنظار الصين إلى ما أحرزته اليابان من تقدم ،فبدأت تستلهم التجربة اليابانية ،وتدفق
الطالب الصينيون على اليابان بأعداد كبيرة لتلقى العلم والدراسة ،فأعادوا لألذهان ذكرى
حركة مماثلة -ولكنها عكسية -عندما كان طالب العلم من اليابانيين يحجون إلى الصين
لدراسة الكنفوشية والفلك والرياضيات قبل ذلك ثالثة قرون.
وكان ل لنصر اليابانى صداه الكبير فى مصر ،حيث كانت الحركة الوطنية قد بلغت ذروتها
بزعامة مصطفى كامل باشا ،الذى ألف كتيباً بعنوان "الشمس المشرقة" ،أشاد فيه بالنهضة
www.RaoufAbbas.org 47
اليابانية الحديثة ،وبقدرة الشرق على إلحاق الهزيمة بالغرب ،وصاغه بأسلوب رومانسى
يخاطب الوجدان أكثر مما يخاطب العقل ،وغاب عن مصطفى كامل أن اليابان تحولت -
منذ عام -1895إلى قوة إمبريالية تمارس مع الشعوب الخاضعة لها نفس أساليب القهر
التى يمارسها اإلنجليز فى مستعمراتهم ،وأن حربها مع روسيا كانت إحدى حلقات التنافس
والصين ،وأنها كانت أداة من أدوات الصراع بين البلدين حول السيطرة على كوريا
اإلمبريالى فى الشرق األقصى ،وظل انتصار اليابان فى تلك الحرب مخلداً فى قصيدة
شاعر النيل حافظ إبراهيم الذى اختار لها عنوان "الغادة اليابانية" والتى تغنت بها أجيال من
الشباب المصرى.
وجنت اليابان من وراء انتصارها فى تلك الحرب اعتراف الدول الكبرى بها كقوة هامة ،ال
يبرم أمر يتعلق بالشرق األقصى بدونها ،وكفلت لها المكاسب اإلقليمية التى حصلت عليها
تحقيق حلم قديم ،طالما راود ساستها بأن تصبح ذات ركيزة قارية ،وبدأت بعض الدول
الغربية تشعر بعدم اال رتياح لما حققته اليابان من مكاسب إستراتيجية ،وما أحرزته من مكانة
دولية ،فأحس الرئيس األمريكى أن توازن القوى فى المحيط الهادى قد اختل ،لذلك كان
حريصاً على عدم تصفية الوجود الروسى نهائياُ -رغم ميله إلى كسر شوكة الروس -ضماناً
لتوازن القوى فى اإلقليم ،ومن ثم كانت مساعدته للموقف الروسى خالل مفاوضات الصلح،
وبدأت المصالح األمريكية تتعارض مع المصالح اليابانية فى المحيط الهادى ،وأخذت شقة
الخالف بين البلدين فى االتساع تدريجياً ،حتى كان الصدام بينهما فى الحرب العالمية
الثانية صداماً مروعاً.
وعلى كل ،فقد تحركت اليابان بسرعة لتدعيم مكاسبها الجديدة ،ففى نوفمبر 1905حصلت
من بكين على تأكيد لما جاء بمعاهدة الصلح مع روسيا فيما يتصل بتأجير لياوتونج
ومنشوريا ،وباإلضافة إلى ذلك حصلت من الصين على امتيازات جديدة لمد الخطوط
الحديدية ،واقامة المشروعات االقتصادية فى منشوريا ،وعملت على إحباط جهود الدول
األخرى الرامية إلى الحصول على امتيازات خاصة فى منشوريا فعقدت اتفاقية سرية مع
روسيا عام ،1907أصبح جنوب منشوريا -بموجبها -منطقة نفوذ يابانية ،وشمال منشوريا
www.RaoufAbbas.org 48
منطقة نفوذ روسية ،وبذلك قطعت الطريق على المساعى األمريكية الرامية إلى الحصول
على امتياز إلقامة خط حديد بمنشوريا.
أما بالنسبة لكوريا ،فقد وسعت اليابان دائرة نفوذها هناك ،وأبرمت اتفاقاً مع الواليات المتحدة
األمريكية (يوليو ) 1905تعهدت فيه األخيرة بعدم اإلقدام على عمل يمس المصالح اليابانية
فى كوريا ،فى مقابل تعهد اليابان بعدم مد نفوذها إلى الفلبين ،وعندما حددت معاهدة
التحالف مع بريطانيا أضيف إليها بند نص على اعتراف بريطانيا بسيادة المصالح اليابانية
فى كوريا ،وبعد ذلك أخذت اليابان تحول كوريا إلى محمية يابانية ،ثم إلى مستعمرة ،وأصبح
المندوب السامى اليابانى هو الحاكم الفعلى للبالد ،وأجبر ملك كوريا على التنازل عن
العرش لولده (يوليو )1907الذى نصب ملكاً على البالد ،وحصل منه المندوب السامى
اليابانى على تفويض بإدخال ما يراه من إصالحات ،وانتهزت اليابان فرصة اغتيال أحد
أقطاب الحكومة اليابانية على يد شاب كورى ( 26أكتوبر )1909فأعلنت ضم كوريا
وأخذت تنسج سياستها الخاصة بالسيطرة على كوريا على منوال السياسة البريطانية فى
مصر ،وترجم كتاب كرومر "مصر الحديثة" إلى اليابانبة ( )1911ليستفيد به اليابانيون فى
إدارتهم لكوريا.
ومما دعم من مركز الصناعة اليابانية ،تعديل التعريفة الجمركية عام 1911بما يحقق
الحماية لإلنتاج الوطنى ،مما أدى إلى زيادة معدل نمو رأس المال الوطنى ،فتطورت
الشركات اليابانية وامتد نشاطها إلى كوريا ومنشوريا ،بل والى أوروبا وأمريكا ،وامتد مع
نشاط الشركات نشاط رأس المال المصرفى اليابانى إلى كوريا ومنشوريا وفورموزا ،وأصبحت
البنوك اليابانية التى أنشئت فى تلك البالد تتحكم فى اقتصادياتها تماماً بحكم كونها بنوك
إصدار للعملة.
www.RaoufAbbas.org 49
وهكذا أتاحت سياسة التوسع اإلمبريالى المناخ المالئم لنمو القطاع االقتصادى الحديث،
بتوسيع نطاق السوق الخارجية المناسبة لتصريف اإلنتاج الصناعى اليابانى والتى تتمتع
بالحماية الجمركية ،وتم تأمين مجاالت جديدة الستثمار رأس المال الوطنى اليابانى ،وحقق
نهب الشعبين الكورى والصينى فرصة ذهبية لتراكم رأس المال اليابانى واستكمال نمو
الرأسمالية مما كان له انعكاسه على الحركة السياسية فى عصر النهضة ،وفى الفترة الممتدة
حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
www.RaoufAbbas.org 50
الفصل الرابع -الحركة السياسية
استقر رأى صناع عصر النهضة اليابانية الحديثة على اختيار النموذج الغربى كإطار
للدولة ،وهنا واجهتهم مشكلة االختيار بين دولة ليبرالية ديمقراطية ،أو دولة أوتقراطية يستند
الحكم فيها إلى بيروقراطية مركزية ،فكان النموذج األخير أكثر تقبالً عندهم ،فهو يهيئ
للسلطة فرصة إجراء ما تشاء من إصالحات دون أن تعرقل جهودها عقبات تأتى من جانب
المجالس النيابية ،كما أن الحكم المطلق والسلطة المركزية أكثر قبوالً لدى اليابانيين بحكم
تراثهم الثقافى والسياسى.
ومن ثم كان النظام الجديد حركة إصالحية فى إطار الثقافة التقليدية اليابانية ،تأثرت دوافعها
-إلى حد كبير -بمصالح الفئات االجتماعية التى شاركت فى صنعها ،واليها يرجع الفضل
فى تكوين اليابان الحديث.
ولما كان نظام مايجى قد أسقط من حسابه المشاركة الشعبية فى صنع القرار ،وادارة أمور
البالد من خالل مجالس نيابية دستورية على النمط الغربى ،فقد قامت حركة للمطالبين
بالدستور عرفت باسم "حركة الحرية وحقوق الشعب" ،ولعبت دو اًر هاماً فى الحركة السياسية.
وكما تزعم فريق من الساموراى حركة تصفية نظام طوكوجاوا واسترداد سلطة اإلمبراطور،
ووضعوا أسس النظام الجديد ،كان ثمة فريق آخر من مثقفى الساموراى تأثر بالفكر الليبرالى
الغربى من خالل تعلمهم اللغات األوروبية الحديثة ،ودراستهم للتيارات الفكرية التى سادت
فى أوروبا فى القرن التاسع عشر.
فلم يكن الساموراى طبقة إقطاعية عسكرية فحسب ،بل كانوا على قدر من الثقافة يتلقونها -
فى عصر طوكوجاوا -فى مدارس خاصة بهم ،حيث يدرسون المعارف الصينية وتعاليم
الكنفوشية والرياضيات ،كما التحق بعض أفراد الساموراى بمدارس أخرى للثقافة الحرة ظهرت
فى أواخر عصر طوكوجاوا ،كان يختلف إليها -باإلضافة إلى الساموراى -أبناء التجار
وأعيان الريف ،وكانت تلك المدارس تعنى -فى األصل -بدراسة العلوم والفلسفة الصينية ،ثم
أصبحت فى مطلع القرن التاسع عشر تعنى بدراسة "علوم الغرب" وهو مصطلح أطلق على
العلوم الحديثة التى تخرج عن دائرة الثقافة التقليدية.
www.RaoufAbbas.org 51
وتصدى هذا الفريق من الساموراى المثقفين إلدارة دفة المعارضة السياسية فى عصر
مايجى ،ألنهم وان اتفقوا مع مؤسس النظام الجديد على ضرورة تصفية اإلقطاع ،وتوحيد
البالد تحت حكم إدارة مركزية حديثة ،إال أنهم أروا ضرورة إقامة النظام الجديد على أساس
يسمح للجماهير بقدر من المشاركة فى السلطة ،ومن ثم اختلف مفهوم "التحضر والتنوير"
عندهم عنه عند غيرهم ،فهم يرون فيها حركة تجديد شاملة ،تغير وجه المجتمع اليابانى
اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً ،بينما رأى فيها خصوصهم السياسيون سلطة أوتقراطية مركزية
مستنيرة تدور حول محور اإلمبراطور ،باعتباره وحده -وليس األمة -مصدر السلطات.
والتقت آمال مثقفى الساموراى مع أحالم أعيان الريف الذين كونوا الزعامات التقليدية للريف
اليابانى فى أواخر عصر طوكوجاوا ،فكانت ثورات الفالحين ضد الحكم اإلقطاعى تهب
بقيادتهم ،وساعد اإلصالح الزراعى الذى طبقه النظام الجديد على إزاحة نفوذ سادة اإلقطاع
من الريف ،ففتح بذلك الطريق أمام األعيان للسيطرة التامة على مقاليد األمور فى قراهم،
وتطلعوا إلى المشاركة فى السلطة بقدر متكافئ مع ما لهم من وزن اقتصادى ومكانة
اجتماعية فى الريف السيما أنهم استمروا يمسكون بزمام قيادة نضال الفالحين ضد السلطة
فى مطلع العصر الجديد حتى تم القضاء على ثورة ساتسوما ( )1877فانتهت المعارضة
المسلحة للنظام الجديد ،وأصبح النضال ضد السلطة المطلقة نضاالً سياسياً سلمياً.
وأصبح أعيان الريف على رأس حركة المعارضة السياسية بما لهم من نفوذ بين صفوف
الفالحين ،باإلضافة إلى بعض األفراد من نخبة مثقفى الساموراى الذين كانوا محور
المعارضة السياسية بالمدن عامة ،وطوكيو خاصة ،والذين التمسوا فى قيادة العمل السياسى
ما يعوضهم عن المكانة التى كانت لهم من قبل ،والتى جرفها التغيير فى مطلع عصر
مايجى.
www.RaoufAbbas.org 52
وعبر عن تلك الحركة تنظيم سياسى عرف باسم "الحزب الوطنى العام" الذى اختار صيغة
الحزب السياسى ليميز نفسه عن الجمعيات السياسية العديدة التى ظهرت -فى تلك الفترة-
بغرض خدمة األهداف والمصالح السياسية ألفراد بعينهم ،وأصدر التنظيم الجديد بياناً ضمنه
برنامجه الذى ركز فيه على إقامة حكومة نيابية منتخبة من الشعب.
ولكن وقوع ثورة ساجا التى تزعمها أحد الموقعين على العريضة جعل الحكومة تتجه إلى
تصفية المعارضة السياسية ،فبادر إيتاجاكى بحل "الحزب الوطنى العام" (مارس ،)1874
وعاد إلى موطنه طوساً بجزيرة شيكوك ،حيث أسس جمعية سياسية عرفت باسم "جمعية
المفكرين األحرار" لنشر الوعى بالمبادئ اللبرالية والتف حول تلك الجمعية فريق من الشباب
المتعطش للمعرفة ،وشكلت أفكار الثورة الفرنسية األساس اإليديولوجى للجمعية ،وكان كتاب
روسو "العقد اإلجتماعى" مصدر إلهام فكرى لرواد الليبرالية فى ذلك العصر ،وذاع صيت
"جمعية المفكرين األحرار" حتى أصبحت طوسا م از اًر يقصده المئات من الشباب اليابانى
الذين أطلقوا على المدينة -فيما بينهم -اسم "مهد الحرية".
ورغم المحاوالت التى بذلتها الحكومة لكبح جماح هذه الحركة ،استمرت تحقق النجاح
وتكسب األنصار حولها يوماً بعد يوم ،وبعد إخماد ثورة ساتسوما ،فكر إيتاجاكى فى تأسيس
"جمعية الوطنيين" وفى ربيع 1878أوفد الدعاة إلى مختلف أنحاء البالد لشرح أهداف
التنظيم السياسى الجديد ودعوة الناس لالنضمام إليه ،وفى سبتمبر من نفس العام عقدت
الجمعية أول مؤتمر لها بمدينة أوساكا ،أعلنت فيه عن تأسيسها وقررت أن تتخذ من طوكيو
مق اًر لها ،وأن تنشئ فروعاً لها بالمحافظات.
وفى المؤتمر الثالث للجمعية (خريف )1879تقرر رفع عريضة إلى اإلمبراطور للمطالبة
بإقامة مجلس نيابى ،وقع عليها أعضاء الجمعية الذين انتدبوا اثنين من زمالئهم لتقديمها إلى
"مجلس الدولة" و "مجلس الشيوخ" ورغم رفض المجلسين للعريضة ،فقد نجحت الجمعية فى
تعبئة الرأى العام ضد الحكومة ،وكشفت موقفها المتعنت أمام الشعب ،وطوف إيتاجاكى
بأنحاء البالد يخطب فى الجماهير ،ويطلب مساندتها للجمعية فى مطالبها ،واكتسبت الحركة
المزيد من األنصار من بين الصحفيين ورجال األعمال وحتى موظفى الحكومة.
www.RaoufAbbas.org 53
ولما كان قانون الرقابة على الصحف ( 5يونيو )1875يجعل من الصحافة أداة محدودة
النفع بالنسبة لحركة المطالبة بالحكم النيابى ،لجأ زعماء تلك الحركة إلى عقد االجتماعات
العامة والقاء الخطب السياسية.
فلم تجد الحكومة مف اًر من إصدار "قانون التجمهر" (إبريل )1880الذى قضى بضرورة
الحصول على إذن مسبق من الشرطة قبل عقد أى اجتماع عام ،وحظر على العسكريين
ورجال الشرطة والطلبة االستماع إلى الخطب السياسية ،واالتصال بالمنظمات السياسية.
ورغم محاوالت الكبت ،تبلورت المعارضة السياسية فى حركة تهدف إلى تأسيس "جمعية
وطنية دستورية" فى آخر السبعينيات من القرن التاسع عشر ،وما كاد يحل مطلع الثمانينيات
حتى نظم القائمون على تلك الحركة حملة لجمع التوقيعات على عرائض تطالب بالدستور،
وبإقامة مجلس نيابى ،وبلغ عدد التوقيعات التى جمعت نحو ربع المليون توقيع ،وتم تأسيس
عدد من الجمعيات السياسية -لهذا الغرض -فى جميع أنحاء البالد ،بلغ عددها -فى تلك
الحقبة -نحو 150جمعية وعقدت االجتماعات السياسية لمناقشة قضية الحكم النيابى،
ونظمت الحلقات الدراسية بغرض التثقيف السياسى الذاتى فى معظم القرى الهامة،
واستطاعت تلك الحلقات الدراسية تعبئة الرأى العام الريفى لمساندة حركة المطالب بالحياة
النيابية عن فهم واقتناع.
واتخذت تلك الحلقات الدراسية شكل مدارس متوسطة أقامها األعيان على نفقتهم الخاصة،
أو عن طريق جمع التبرعات من أهالى مجموعة من القرى المتجاورة ،وكانت تلك المدارس
تقام مهما بلغ عدد الصبية الراغبين فى االلتحاق بها ،فقد كانت مقصد الكبار الذين ينشدون
الثقافة العامة لذاتها ،وعلى سبيل المثال ،كانت نسبة عدد التالميذ دون سن الرابعة عشر،
بذلك النوع من المدارس بمحافظة كانا ازوا ال تتعدى %20من جملة عدد التالميذ بتلك
المدارس ،بينما كان بقية التالميذ من البالغين ،وكانت تلك المدارس ال تقتصر جهودها على
تدريس العلوم المختلفة ،بل امتد نشاطها إلى التثقيف السياسى واالجتماعى ،وبعد قيام
الحكومة بإخضاع هذه المدارس إلشرافها حول األعيان تلك المدارس إلى "حلقات دراسية"
لنشر المعرفة العامة ولم تعد تستخدم اسم "مدرسة" ،وتركزت غالبية تلك الحلقات فى شرق
www.RaoufAbbas.org 54
البالد ،وانتشرت -بدرجة أقل -فى بقية أنحاء البالد ،وكانت أقل واحدة منها تضم ما بين
12و 30عضواً ،وان كان ثمة حلقات تجاوز عدد أفرادها المائة عضو.
وبلغ حماس بعض األعيان للحركة واهتمامهم بتلك الحركات حد فقد ملكياتهم الزراعية عن
طريق رهنها مقابل قروض أنفقت على تلك الحلقات التثقيفية وعلى الحركة السياسية،
وتحولت تلك الحلقات الدراسية إلى جمعيات سياسية ،عقدت سلسلة من الندوات لمناقشة
قضية ا لحكم النيابى ،وبلغ عدد الجمعيات السياسية التى دعت إلى عقد الندوات نحو 150
جمعية ،انتشرت فى جميع أنحاء اليابان ،مما يقدم دليالً على اتساع قاعدة الحركة،
واضطرت الحكومة إلى تشديد الرقابة على الصحف والمطبوعات ،واهتمت بتطبيق "قانون
التجمهر" غير أن تلك اإلجراءات الصارمة لم تنجح فى إحباط الحركة السياسية ،فكسبت
الحركة -بذلك -المزيد من تأييد الجماهير ،وخاصة أن بعض مفكرى "حركة الحرية وحقوق
الشعب" قدموا المفاهيم الليبرالية المكتسبة من الغرب فى إطار كنفوشى ،فعند شرحهم لتلك
األفكار كانوا يتخذون من الكنفوشية قالباً للتعبير عن أفكار المساواة والتزام اإلمبراطور نحو
شعبه الذى يجعله ملزماً باالستجابة لمطالبه وهى هنا المطالبة بالدستور ،ونقد االستبداد من
خالل فكرة العدل عند كنفوشيوس ،وكذلك الحال بالنسبة لفكرة المساواة ،ولم تجد الجماهير
(وخاصة الفالحين) صعوبة فى استيعاب الفكر الليبرالى إذ قدم لهم فى وعاء كنفوشى ،ال
يجعله يبدو غريباً عن واقع المجتمع اليابانى ،أو بعيداً عن إدراك الجماهير ،ولعل ذلك يفسر
التفاف الجماهير حول تلك الحركة التى اكتسبت صبغة شعبية.
لذلك أيقنت الحكومة أنها بصدد حركة منظمة يقودها رجال من األعيان الذين عاشوا فى
الريف ألجيال بعيدة ،وتمتعوا فيه بنفوذ كبير ،ولديهم القدرة على تعبئة سكان القرى فى
حركة سياسية ضد الحكومة ،واألساس الذى قامت عليه سلطتها ،ولم تكن الحكومة مهيأة -
عندئذ -لمواجهة هذه الحركة بإجراءات قمع صارمة فآثرت السالمة ،وسارعت بإصدار بيان
( 12أكتوبر )1881أعلن فيه اإلمبراطور أنه ينوى إقامة نظام نيابى تدريجياً ،وذلك فى
السنة الثالثة والعشرين من حكمه (أى عام )1890وحذر البيان جميع طبقات الشعب
"أعالها وأدناها" من التسرع ،والدعوة إلى الطفرة فى التغيير ،ألن ذلك يؤدى إلى إشاعة
االضطرابات فى البالد.
www.RaoufAbbas.org 55
وكان صدور البيان اإلمبراطورى نقطة تحول فى تاريخ حركة المطالبة بالحياة النيابية ،إذ
أعيد تنظيمها فى شكل حزبين سياسيين هما" :حزب األحرار" و"حزب اإلصالح" فى الوقت
الذى كانت فيه الحكومة تدبر أمر تصفية الحركة ،فقد أبعد أنصار الليبرالية من الحكم،
وانفرد أنصار األوتقراطية ومركزية السلطة بإدارة أمور البالد.
ومنذ ذلك الحين ،أصبح النشاط السياسى يتركز حول األحزاب السياسية وحدها ،وتحولت
الجمعيات السياسية المنتشرة بالريف إلى خدمة أغراض أخرى ،فلم يعد نشاطها مقصو اًر على
المطالبة بالدستور ،وانما تعداه إلى مطالب أخرى ذات طابع اقتصادى ،وتتفق -إلى حد
كبير -مع مصالح األعيان ،فدعت إلى االهتمام بالتعليم ،وعدم قصر الوظائف العامة على
فئة معينة من الناس ،وتشجيع الصناعة.
وبدأ األعيان يرغبون عن السياسة ،وزادت الهوة التى أوجدتها سياسة االنكماش االقتصادى
اتساعاً بينهم وبين جماهير الفالحين ،فعلى حين عانى الفالحون من تدهور أسعار
الحاصالت الزراعية كانت ضرائب األطيان تواصل ارتفاعها ،مما جعل ريع أطيانهم ال يكفى
لسداد ما عليهم من ديون ،كان األعيان يتشددون فى تحصيل الديون التى اقترضها
الفالحون منهم ،واتجهوا إلى استثمار أموالهم فى الصناعة والنشاط المصرفى فاختلفت بهم
وبالفالحين السبل.
وأخذ الفالحون يعيدون تنظيم أنفسهم لمواجهة السلطة واألعيان معاً ،فبعد أن كانت
انتفاضات الفالحين بقيادة األعيان ،أصبحت قيادة االنتفاضات بيد عناصر من الفالحين
أنفسهم على نحو ما شهدته بعض جهات الريف فى الثمانينيات من القرن التاسع عشر.
www.RaoufAbbas.org 56
وانفصل فرع حزب األحرار فى أوساكا ليكون حزباً آخر سمى "الحزب الدستورى" ليعبر عن
وجهة نظر الجناح المتطرف فى حركة المطالبة بالحياة النيابية.
وفى مارس ،1882تكون "حزب اإلصالح" الذى عبر عن المثقفين من أبناء الطبقة
الوسطى الذين يميلون إلى االعتدال من كبار رجال األعمال والعلماء والشخصيات البارزة
من النخبة ،وحدد الحزب أهدافه بالحفاظ على مكانة األسرة اإلمبراطورية والعمل على تحقيق
الرفاهية للشعب ،والنهوض باإلدارة وزيادة قوة األمة ،واقامة نوع من اإلدارة الذاتية فى
المحافظات تخفف من قبضة اإلدارة المركزية ،والحفاظ على الحد األدنى من العالقات
السياسية مع الدول األجنبية وتقوية العالقات التجارية بقدر اإلمكان ،وبذلك لم يعلق "حزب
اإلصالح" أهمية كبرى على قضية الدستور والحكم النيابى ،فكان أميل إلى االعتدال من
"حزب األحرار" الذى اتخذ موقفاً متشدداً من السلطة ،وركز على اعتبار الشعب مصدر
السلطات.
وعندما رأت الحكومة الحماس الذى استقبل به الحزبان الجديدان ،قررت أن تنشئ حزباً
سياسياً يعبر عن وجهة نظر الحكومة ومصالحها ،فأسست "الحزب اإلمبراطورى" (18
مارس )1882وجاءت قيادته من أقطاب الحكم ،وضم فى عضويته كبار موظفى اإلدارة
المركزية والمحافظات والمجالس البلدية ،ورجال الدين ،والمعلمون المشتغلون بمدارس
الحكومة ،ورجال األعمال المتصلون بدوائر الحكم ،ورغم محدودية العضوية فى "الحزب
اإلمبراطورى" ،تمتع بنفوذ كبير اكتسبه من مساندة الحكومة ورعايتها له ،وحدد برنامجه
بالتأكيد على تنفيذ ق اررات الحكومة الخاصة بإصدار الدستور ،واقامة المجلس النيابى،
وتقديم العون للحكومة فى تنفيذ سياستها ،والرد على الحملة الدعائية التى تشنها المعارضة
على الحكومة .وأصدر الحزب -لهذه الغاية -العديد من الصحف التى تكيل المدح للنخبة
الحاكمة ،وتصد عنها هجوم المعارضة.
وسعى كل حزب لنشر أفكاره السياسية ،والعمل على أن يأتى الدستور المرتقب محققاً للحكم
النيابى على النحو الذى يراه الحزب ،وكان "حزب األحرار" يرى أن الحكومة لم تخلق من
أجل حاكم أو من أجل حفنة من الناس ،ولكنها خلقت من أجل الشعب ،وأكد على أن
السيادة للشعب وحده ،وأن إعداد الدستور وصياغته البد أن تتم على يد من يمثلون الشعب
www.RaoufAbbas.org 57
ال حقيقياً ،أما "الحزب اإلمبراطورى" فكان يرى أن السيادة من حق اإلمبراطور وحده ألنه
تمثي ً
"يملك األرض والناس" ،فإذا رأى أن يمنح الشعب دستو اًر ،فال معقب لكلمته ،واذا رأى غير
ذلك فال تثريب عليه ،ووقف "حزب اإلصالح" بين هذين النقيضين ،فذهب إلى أن المجلس
النيابى إنما يمثل اإلمبراطور والشعب معاً ،وبذلك يمثل سلطة السيادة كما هو الحال فى
البرلمان اإلنجليزى.
وازاء تعسف السلطة مع النشاط الحزبى المعارض ،عانى كل من " حزب األحرار" و"حزب
اإلصالح" الضعف فى الفترة السابقة على افتتاح المجلس النيابى (الدايت) عام ،1890فعاد
"حزب األحرار" إلى الظهور من جديد بعد أن كان قد جمد نشاطه ولكن النص فى الدستور
على الملكية كشرط للتمتع بحق االنتخاب قصر عضوية الحزب على المالك ،كما أصبحت
مواقف الحزب -فى تلك المرحلة -تتسم باالعتدال ،ومن ثم أصبح يعرف باسم "جمعية
أصدقاء الحكومة الدستورية" منذ سبتمبر عام ،1900عندما عقد لواء قيادة الحزب لكبار
المالك المزارعين.
وضع الدستور
فى 6سبتمبر ،1876أصدر اإلمبراطور أم اًر بدراسة النظم الدستورية المختلفة ،والعمل على
وضع مشروع للدستور اليابانى ،ونتيجة لذلك أنشئ "مكتب دراسة النظم الدستورية" فى صورة
لجنة منبثقة عن مجلس الشيوخ ،وقد بدأ المكتب عمله على الفور.
www.RaoufAbbas.org 58
وعندما قام جرانت -أحد الرؤساء األمريكيين السابقين -بزيارة اليابان (يونيو ،)1879حرص
اإلمبراطور اليابانى على استشارته فيما يتعلق بالحكم النيابى ،فى وقت كانت حركة المطالبة
بالحكم النيابى قد بلغت ذروتها ،فأشار الرئيس جرانت على اإلمبراطور بأن من مصلحة
بالده االع تماد على حكومة ينتخبها الشعب ،ومجلس نيابى يراقب الشعب من خالله عمل
الحكومة ولكنه حذر اإلمبراطور من عواقب التراجع عن الحكم الدستورى بعد إق ارره ،ألن
حرمان الشعب من هذا الحق -بعد منحه له -قد يؤدى إلى كارثة ،ومن ثم وجب على
الحكومة اليابانية أن تتوخى الدقة عند إعداد الدستور.
وفى 6يوليو ،1881قدم رئيس الوزراء إلى "مجلس الشيوخ" تقري اًر طالب فيه بأن يصاغ
الدستور اليابانى على نسق الدستور األلمانى وليس اإلنجليزى ،وقد تأثرت سياسة الحكومة
الرامية إلى إقامة مجلس نيابى فى ظل نظام دستورى باألفكار التى طرحت بذلك التقرير،
نظ اًر لما يوفره النموذج الدستورى األلمانى من ضمانات للنخبة الحاكمة ،والنطباقه على
اإلطار السياسى لنظام الحكم فى عصر مايجى ،ولذلك استبعدت نهائياً فكرة االستفادة من
النظامين اإلنجليزى والفرنسى عند صياغة الدستور اليابانى.
ولما كانت دراسة النظم الدستورية الغربية تتطلب الوقوف على أسلوب تطبيقها ،فقد أوفدت
بعثة من الوزراء إلى أوروبا لدراسة تلك النظم على الطبيعة (مارس )1882وقبل أن تغادر
البعثة اليابان ،وضعت فى اعتبارها دراسة النظام الدستورى األلمانى.
وعندما وصلت البعثة إلى ألمانيا ،استمع أعضاؤها إلى محاضرات من فقهاء الدستور هناك،
واقتنعت البعثة بالنظام الدستورى األلمانى من حيث األخذ بمبدأ ثنائية السلطة التشريعية
اشترط نصاب معين من الملكية فيمن يتمتع بحق
(من خالل إقامة مجلسين نيابيين) ،و ا
االقتراع ،مع االحتفاظ لإلمبراطور بسلطات سياسية وعسكرية واقتصادية واسعة ،وعدم الميل
إلى إقامة حكومات حزبية تجعل من الهيئة السياسية مصد اًر للقوة السياسية.
وعادت البعثة من أوروبا -فى صيف -1883بعد غيبة دامت أكثر من العام ،وقد توثقت
عرى الصداقة بين إيتو -رئيس البعثة -وبسمارك المستشار األلمانى ،وأصبح إيتو على
يقين تام أن ألمانيا وحدها تستطيع أن تقدم لليابان النموذج الدستورى المالئم لظروفها ،ومن
www.RaoufAbbas.org 59
ثم أصبحت القومية والعسكرية والبيروقراطية األلمانية مثالً يحتذى عند إعادة تنظيم أداة
الحكم فى اليابان ،ووجه إيتو الدعوة إلى العديد من األساتذة والخبراء األلمان ،وأسند إليهم
بعض الوظائف فى الو ازرات المختلفة ،وفى مارس ،1884أنشأ مكتباً لدراسة النظم اإلدارية
أسندت إليه مهمة إعداد مشروع الدستور ومراجعة اللوائح الخاصة بإدارات الحكومة ،ووضع
المقترحات الخاصة بإصالح النظام اإلدارى ،وتولى إيتو رئاسة هذا المكتب ،باإلضافة إلى
منصبه كوزير للبالط اإلمبراطورى.
وكخطوة أولى فى الطريق إلى تنظيم أداة الحكم ،وضع إيتو نظاماً يقضى بإقامة "هيئة
النبالء" صدر به مرسوم خاص فى 7يوليو ،1884جعل هيئة النبالء اليابانية تحاكى
مثيلتها فى ألمانيا ،فضمت خمس مراتب :أمير ،ماركيز ،كونت ،فسكونت ،بارون ،ووضع
تصنيفاً لرجال الدولة لتسكينهم على تلك المراتب ،فأصبحت "هيئة النبالء" تضم :نبالء
البالط القدامى ،وحكام المقاطعات السابقين ،وصغار الساموراى الذين تقلدوا الوظائف
الكبرى ،وبلغ عدد أفراد األرستقراطية الجديدة ما يزيد على 500عضو ،وتم استبعاد بعض
الشخصيات السياسية التى أدت خدمات جليلة للدولة ألنها كانت -عندئذ -تتصدر صفوف
المعارضة السياسية.
ومن الجلى ،أن إقامة تلك الهيئة األرستقراطية كانت مناورة سياسية بارعة ،قصد بها خلق
طبقة جديدة ذات امتيازات خاصة يكفلها القانون لتكون عوناً للحكومة على تطبيق سياستها،
بعد ما انفض صغار الساموراى من حولها ،واشتركوا فى قيادة وتوجيه المعارضة السياسية،
ووفرت إقامة تلك األرستقراطية -فى نفس الوقت -العضوية الالزمة للمجلس األعلى ،الذى
جعل منه الدستور رقيباً على سلطات وأعمال "المجلس األدنى" الذى يضم نواب الشعب،
وبذلك خرجت الحكومة على مبدأ المساواة بين الطبقات الذى روجت له فى بداية العهد،
فكان تشكيل هيئة أرستقراطية بمثابة نكسة للحياة السياسية وردة عن طريق تحقيق المساواة
بين المواطنين التى تم إقرارها عندما ألغى نظام الطبقات االجتماعية فى مطلع العهد.
وخالل عامى ،1887-1886واصلت لجنة إعداد مشروع الدستور عملها -بسرية تامة-
مستعينة بأحد فقهاء القانون الدستورى األلمانى هو الدكتور هرمان روسلر ،الذى عمل
مستشا اًر للجنة ،التى فرغت من عملها فى ربيع ،1888وتم تشكيل مجلس -بطريق
www.RaoufAbbas.org 60
التعيين -لبحث مشروع الدستور واق ارره عرف باسم "المجلس الخاص" ،اقتصر عمله على
دراسة مشروع الدستور والقوانين الخاصة بالمجلسين النيابيين ومجلس البالط ،ومجلس
النبالء ،واختير أعضاء المجلس الخاص من كبار رجال الدولة ،ومن طبقة النبالء الجديدة،
وكان بمثابة مجلس استشارى لإلمبراطور ،عليه أن يقدم المشورة له فيما اتصل بتفسير
الدستور والقوانين المتعلقة به ،ووضع مشروع التعديالت الدستورية ،ووضع نصوص القوانين
وتعديلها ومراجعتها ،ووضع الخطط الخاصة بالتنظيم اإلدارى ،وصياغة نصوص المراسيم
اإلمبراطورية الهامة ،والفصل فى المنازعات المتعلقة بموازنة الدولة وحساباتها ،وتولى إيتو
رئاسة "المجلس الخاص" الذى أصبح مصدر السلطة الحقيقية فى البالد.
وبدأ المجلس الخاص النظر فى مشروع الدستور ،وراء أبواب مغلقة داخل القصر
اإلمبراطورى فى سرية تامة ،حتى ال يتسرب شيء إلى الصحافة والرأى العام ،قد يؤدى إلى
قيام موجة من النقد تعوق إنجاز الدستور على النحو الذى تريده الدولة ،وحرص اإلمبراطور
على حضور الجلسات ،والمشاركة فى مراجعة مشروع الدستور مراجعة دقيقة ..وانتهى
المجلس من مهمته فى يناير ،1889وأعلن صدور الدستور (فى 11فبراير) فى حفل
متواضع حضره ممثلو الدول األجنبية ،وكبار رجال الدولة ،ورؤساء مجالس المحافظات.
وقد نص الدستور على إقامة هيئة نيابية أطلق عليها "المجلس اإلمبراطورى" (الدايت)،
تتكون من مجلسين :أحدهما مجلس النواب ،واآلخر مجلس النبالء ،وركزت السلطة كلها فى
يد اإلمبراطور فكان من حقه إصدار مراسيم بقوانين دون الرجوع إلى الدايت ،بشرط أن
يحصل على موافقة "المجلس الخاص" عليها (وهو مجلس معين وليس مجلساً منتخباً) يختار
أعضاؤه من الموالين لإلمبراطور ،واحتفظ اإلمبراطور لنفسه بحق االعتراض على ق اررات
الدايت بمجلسيه ،ولم يكن من حق الدايت النظر فى المعاهدات التى تبرم مع الدول
األجنبية ،فقد كان ذلك حقاً خالصاً لإلمبراطور وحده ،يقرره بعد استشارة "المجلس الخاص".
وكانت صالحيات اإلمبراطور -وفقاً للدستور -ال تحدها حدود ،فهو الذى يدعو الدايت
بمجلسيه إلى االنعقاد ،وله أن يحل مجلس النواب متى شاء ،وأن يغير ويبدل فى مؤسسات
الدولة المختلفة ،وله حق تعيين وعزل كبار الموظفين والوزراء الذين كانوا مسئولين أمامه
وحده ،وهو القائد األعلى للقوات المسلحة ،له حق إعالن الحرب وابرام الصلح ،واعالن
www.RaoufAbbas.org 61
األحكام العرفية ومنح األلقاب المدنية والرتب العسكرية ،وتعيين القضاة وعزلهم من
مناصبهم ،وال رقيب على اإلمبراطور فى سلطته تلك ،وله -إذا شاء -أن يرجع إلى
مستشاريه فيما يعن له من أمور ،واإلمبراطور يمارس السلطات التى كفلها له الدستور -
بشخصه -ممارسة فعلية ،ولكنه مارسها من خالل كبار رجال الدولة الذين أداروا دفة الحكم
باسمه ومن خالله.
ورغم إقرار الدستور لمبدأ الفصل بين السلطات تمتع مجلس الوزراء بسلطات فاقت تلك التى
كانت للسلطة التشريعية ،واختص "المجلس الخاص" بإقرار دستورية القوانين واللوائح
اإلدارية ،بدالً من إعطاء ذلك الحق للمحكمة العليا ،وأقيم "مجلس المحاسبة" الذى نص
الدستور على تأسيسه لالضطالع بعبء مراجعة حسابات الحكومة (مايو ،)1889ثم
أصبح من حقه -بعد ذلك بعشر سنوات -أن يتولى مراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة.
وهكذا كان الدستور اليابانى عصرياً شكالً ال موضوعاً ،فدعم حكم األوليجاركية التى
أمسكت بزمام الحكم بيد من حديد منذ مطلع عصر مايجى ،وبافتتاح الدايت عام ،1890
بدأ الحكم الدستورى فى اليابان.
الحياة النيابية
بدأت الحياة النيابية فى اليابان بانتخابات األول من يوليو ،1890وكانت أكثر االنتخابات
جدية ونجاحاً مقارنة باالنتخابات التى تمت بعهدها ،وكان ذلك يرجع إلى نقص الخبرة عند
الحكومة ،وخشيتها من االنتقادات التى قد توجهها الدول الغربية إلى أسلوبها فى إدارة
االنتخابات ،كما كان المرشحون والناخبون على درجة كبيرة من تقدير المسئولية ،ظناً منهم
أن إقامة الدايت سوف تؤدى إلى تصفية نفوذ األوليجاركية الحاكمة ،ووضع حد لالستبداد،
وتخفيف أعباء الضرائب.
وبعد أن تم انتخاب أعضاء مجلس النواب ( 300عضو) شكل "مجلس النبالء" (المجلس
األعلى) من 250عضواً من طبقة النبالء وبعض كبار الموظفين الذين أدوا خدمات جليلة
للدولة ،وكبار دافعى الضرائب وكان ذلك بالتعيين بمعرفة السلطة.
www.RaoufAbbas.org 62
واستطاعت األحزاب السياسية أن تنظم معارضة قوية داخل مجلس النواب ،حيث حصل
"حزب األحرار" على 130مقعداً ،بينما حصل "حزب اإلصالح" على 41مقعداً ،فائتلف
الحزبان معاً ليكونا أغلبية داخل المجلس ( %57من جملة المقاعد) ،وخاصة أن مجلس
النواب كان الموقع الوحيد الذى تمارس فيه حرية التعبير دون التعرض لمضايقات السلطة،
فواجهت الحكومة هجوماً عنيفاً من جانب المعارضة بسبب عجزها عن تعديل المعاهدات
غير المتكافئة ،وعندما أدركت المعارضة عدم جدوى الضغط على الحكومة فى أمر يتعلق
بالسياسة الخارجية ،اتجهت إلى انتقاد السياسة المالية للحكومة ،فطالبت بضغط اإلنفاق
الحكومى حتى يمكن تخفيف أعباء الضرائب ،وأثمرت جهود المعارضة عندما خفضت
موازنة الدولة بنسبة تزيد قليالً عن .%10
وعندما عارض المجلس برنامج الحكومة الخاص بتدعيم البحرية ،وتأسيس مصانع للحديد
والصلب ،وتأميم السكك الحديدية صدر مرسوم إمبراطورى بحل المجلس فى 25ديسمبر
،1891وبذلك أثبت النظام عجزه عن التعايش مع التجربة الدستورية األولى فى تاريخ
البالد.
وجرت انتخابات المجلس الجديد ( 15فبراير )1892فى جو غلب عليه بطش الشرطة
وتدخلها فى االنتخابات ،وشراء األصوات مما أدى إلى وقوع مصادمات بين مؤيدى األحزاب
والشرطة أطلق خاللها الرصاص على المتظاهرين ،وتم إحراق منازل بعض المعارضين،
ورغم ذلك كله حصلت المعارضة على 152مقعداً فى المجلس الجديد ،وأطلق على أنصار
الحكومة بالمج لس الذين جاءوا نتيجة تدخل الشرط فى االنتخابات لقب "األطفال غير
الشرعيين".
وعندما افتتح الدايت الجديد ( 6مايو )1892بادر بإدانة الحكومة لعجزها عن تحقيق الرخاء
للبالد والرفاهية للشعب ،واتخذ مجلس النواب ق ار اًر بسحب الثقة من الحكومة لتدخلها فى
االنتخابات ،فقامت الحكومة بتعطيل جلسات المجلس لمدة سبعة أيام بدالً من تقديم
استقالتها كما تقضى بذلك األعراف الدستورية ،وعندما تقدمت الحكومة بمشروع قرار
اعتمادات مالية إضافية أنقص المجلس االعتماد المقترح بمقدار الثلث ،فاعترض "مجلس
النبالء" على هذا التخفيض ،مما أثار أزمة دستورية حول مدى أحقية مجلس النبالء فى
www.RaoufAbbas.org 63
نقض ق اررات مجلس النواب ،واحتكم النواب إلى اإلمبراطور ،فأحال األمر بدوره إلى
"المجلس الخاص" الذى أفتى لصالح مجلس النبالء ،مسجالً بذلك سابقة دستورية كان لها
أثرها فيما بعد ،وفى موقف آخر احتكم فيه كل من مجلس النواب والحكومة إلى اإلمبراطور،
عقد اإلمبراطور اجتماعاً دعا إليه رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس النبالء ورئيس مجلس
الوزراء وأمر الجميع بتنسيق العمل بينهم من أجل مصلحة األمة ،فسجل بذلك سابقة أخرى
الحياة النيابية من هامة قطعت الطريق أمام تحقيق مبدأ المسئولية الو ازرية وفرغت
مضمونها.
ولذلك كان من السهل على الحكومة أن تحل الدايت ( 30يناير )1894عندما عارض
مجلس النواب التشدد فى تطبيق قوانين التجمهر ،وحظر عقد االجتماعات العامة ،ومصادرة
الصحف المعارضة ،واطالق يد الشرطة للعمل ضد األحزاب السياسية ،وتم حل التنظيمات
السياسية.
وأجريت االنتخابات الجديدة (فى أول مارس) عندما كانت سحب الحرب الصينية -اليابانية
تتجمع فى األفق ،فتشددت الحكومة فى إصدار التعليمات إلى المحافظين ورجال الشرطة
بعدم التدخل فى االنتخابات التى تمت فى جو تسوده الحرية ،وجاءت نتيجة االنتخابات
بزيارة فى عدد المقاعد التى فاز بها "حزب األحرار" وعادت المعارضة قوية كما كانت من
قبل ،فتعذر على الحكومة متابعة العمل فى ظل تلك الظروف ،فقررت حل الدايت بعد ثالثة
أشهر من انعقاده ( 2يونيو .)1894
وعندما نشبت الحرب مع الصين ،نسيت المعارضة خالفاتها مع الحكومة ،وأبدت استعدادها
التام للتعاون معها ،وتمت االنتخابات فى هدوء تام (سبتمبر )1894بعدما اختفت الخالفات
بدعوى الحرص على الوحدة الوطنية ،وعندما اجتمع المجلس الجديد ( 15أكتوبر) وافق
على مشروعات القوانين التى قدمتها الحكومة دون أدنى اعتراض ،بما فى ذلك ميزانية
الحرب ،وكالت األحزاب السياسية المديح للحكومة لنجاحها فى إدارة دفة الحرب ،ووقف
حزب األحرار موقف المدافع عن الحكومة عندما هاجمتها أحزاب المعارضة بعد تعديل
اتفاقية شيمونوسيكى نتيجة لتدخل الدول الثالث (على نحو ما رأينا فيما سبق).
www.RaoufAbbas.org 64
وما لبث الصراع أن عاد من جديد بين الحكومات والمعارضة بعدما انقضت الظروف التى
دعت إلى االئتالف ،واذا كانت الحكومة التى وقعت تحت سيطرة أوليجاركية محدودة ظلت
تدير البالد بنفس الطريقة التى درجت عليها منذ تأسيسها للنظام ،ومن ثم لم تستطع
استيعاب متطلبات الحكم الدستورى ،وضاقت ذرعاً باألحزاب السياسية ،فإن األحزاب
السياسية تعلمت -بدورها -الكثير من صراعها مع الحكومة داخل الدايت ،وكان أهم درس
أفادت منه تلك األحزاب ضرورة نبذ الفرقة واإلحن وتوحيد الصفوف فى جبهة واحدة
للتصدى لمحاوالت الحكومة االستبداد بالسلطة ،وميلها إلى تفريغ الحياة النيابية من
مضمونها ،وهكذا أخذت بعض األحزاب تندمج مع بعضها البعض لتدعيم صفوفها ،فظهر
"الحزب التقدمى" من اندماج "حزب اإلصالح" مع بعض األحزاب األخرى ،ثم اندمج "حزب
األحرار مع الحزب التقدمى" ليكونا معاً "الحزب الدستورى ( ،)1898لتبدأ بذلك مرحلة جديدة
فى الحركة السياسية ،فتحت الباب أمام تشكيل حكومات حزبية مسئولة أمام الدايت.
لقد بدأت الحياة السياسية -فى عصر مايجى -بنضال جماهيرى للمطالبة بتقييد السلطة
األوتقراطية بقيود دستورية ،وعندما صدر الدستور كان مجرد محاولة للتوفيق بين اتجاه
الحكومة إلى تركيز السلطة فى يدها ورغبة الجماهير فى الحكم الدستورى فغلب االتجاه
األول على االتجاه اآلخر ،وتحول الحكم الدستورى إلى إطار يحوى فى جوهرة سلطة
أوليجاركية ،فظلت مقاليد األمور بيد حفنة محدودة من "كبار الساسة" الذين كانوا مجموعة
صغيرة من (أهل الثقة) ،وقع على عاتقهم بناء النظام ووضع أسس النهضة الحديثة لليابان،
ومارسوا السلطة الفعلية فى ظل الدستور ،فكانوا يحددون األشخاص الذين يتولون الو ازرة من
بينهم ،كما كانوا يشكلون أعضاء "المجلس الخاص" الذى تمتع بسلطات واسعة كادت أن
تكون مطلقة ،ورغم أن نفوذهم السياسى بدأ يتقلص بعد غروب شمس عصر مايجى
( ،)1912إال أنهم ظلوا يوجهون السياسة الداخلية والخارجية للبالد -بصورة أو بأخرى-
حتى عام .1922
واستمر دستور مايجى سارى المفعول حتى هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية ،ولعل
السبب فى استمرار العمل بذلك الدستور يرجع إلى شعور الرأسمالية اليابانية -التى شبت
عن الطوق وبلغت المرحلة اإلمبريالية فى زمن قياسى -بالحاجة إلى سلطة مركزية قوية
www.RaoufAbbas.org 65
ترعى مصالحها ،وتفتح أمامها آفاق االستثمار داخل البالد وخارجها ،أكثر من حاجتها إلى
طبقة معينة تعبر عن مصالحها ،وتعمل على تنميتها ورعايتها من خالل المؤسسات النيابية
الدستورية ،ومن ثم كانت تلك الظاهرة التى كادت تنفرد بها اليابان ،ونعنى بها ظاهرة الوفاق
التام بين رجال السياسة ورجال المال ،والتى ما زالت تحدد إطار الحياة السياسية فى اليابان
حتى اليوم.
غير أن الحياة السياسية فى عصر مايجى -بإيجابياتها وسلبياتها -هيأت المناخ المالئم
لنمو األفكار الجديدة التى عكست التأثر بالثقافة الغربية ،ومحاولة أجيال ذلك العصر تمثل
تلك الثقافة فى إطار يابانى ،طوعت فيه تلك األفكار لحاجات المجتمع اليابانى ،ومن ثم
طبعت الحياة الفكرية فى ذلك العصر بطابع خاص.
www.RaoufAbbas.org 66
الفصل الخامس -التطور الفكرى
شهد عصر النهضة اليابانية (عصر مايجى) ازدواجية فى الحياة الفكرية ،تمثلت فى إحياء
الفكر التقليدى المستمد من التراث اليابانى القديم ،والذى شكل فى جملته عقيدة الشعب
اليابانى -األصيل منها والمكتسب على حد سواء -إلى جانب التيارات الفكرية الجديدة التى
هبت على اليابان من الغرب ،والتى نتجت عن االحتكاك بالحضارة الغربية فى مرحلة
النهضة ،وما امتازت به تلك المرحلة من اقتباس نماذج من النتاج الحضارى للغرب ،ولم
يكن باستطاعة اليابانيين تفادى البعد الثقافى لتلك الحضارة ،وما ارتبط به من أفكار تتباين
تماماً مع األساس الذى قام عليه الفكر اليابانى التقليدى ،غير أنه استطاع أن يجد لنفسه
مكاناً بفضل جهود من تأثروا بالثقافة الغربية من كتاب وأدباء عصر النهضة اليابانيين.
الفكر التقليدى
ولكن دراسة التطور الفكرى لليابان فى عصر النهضة تتطلب منا وقفة أمام الفكر التقليدى
الذى تأصل فى وجدان الشعب اليابانى ،وكان له أثره البالغ فى تحديد إطار النظام السياسى
الذى ع اشته اليابان منذ عصر مايجى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ،كما كان له أثره
فى تحديد القيم االجتماعية والسلوكية لليابانيين لما يقرب من القرن ،وقام على أساسه النظام
اإلمبراطورى بإطاره الثقافى -السياسى.
ويرتكز الفكر التقليدى على عقيدة "الشنتو" التى ترفع اإلمبراطور إلى مصاف اآللهة ،وتجعل
تقديسه فرضاً على كل يابانى استنادا إلى األساطير (التى أشرنا إليها فى التمهيد) فى مزيج
يضفى القداسة على اليابان نفسها ،والتميز على شعبها ،وطوع اليابانيون "البوذية" التى
جاءتهم من الهند -عن طريق الصين -والكنفوشية التى جاءتهم من الصين ،للعقيدة
الشنتوية ،ففى البوذية اعتبر اإلمبراطور "سليل بوذا العظيم" وفى الكنفوشية اعتبر "منبع
الفضائل التى يقوم على أساسها المجتمع الخير".
وكذلك كانت الحال بالنسبة لفكرة المساواة ،فقد كان اليابانيون ينشئون -منذ نعومة أظفارهم-
على تقبل فكرة التفاوت فى المكانة االجتماعية للناس ،ووجد هذا الموقف التبرير المناسب
ال-
فى العقيدة اليابانية ،فالناس غير متساوين ألن دماءهم ليست واحدة ،اإلمبراطور -مث ً
www.RaoufAbbas.org 67
تجرى فى عروقه دماء اآللهة ألنه انحدر من نسل آلهة الشمس ،وعلية القوم انحدروا من
ساللة ذات منزلة رفيعة متأصلة.
واذا كان هذا موقف الشنتوية من فكرة المساواة االجتماعية فإن التطبيق اليابانى للكنفوشية
أخذ بهذا المبدأ أيضاً ،فاعتبر الناس مختلفين اجتماعياً بقدر ما يتوفر لهم من الفضائل:
فذوى الفضائل العالية السامية يتمتعون بمكانة اجتماعية ممتازة ،أما أولئك الذين ال يتوفر
لهم إال درجات محدودة من الفضائل ،فيصنفون اجتماعياً حسب حظهم من تلك الدرجات،
كذلك عالج التطبيق اليابانى للبوذية فكرة التفاوت االجتماعى ،فربط مكانة الناس االجتماعية
بما لديهم من قدرة على الكفاح من أجل الخالص ،وهم كما يتفاوتون فى الصبر على
الكفاح ،يتفاوتون -كذلك -فى المنزلة االجتماعية.
وكان التراث اليابانى يضع إطا اًر محدداً جامدًا للعالقات داخل المجتمع ،يدور حول "وحدة
المجتمع" كما عبرت عنها الكنفوشية اليابانية ،فالفرد فى ظل فكرة وحدة المجتمع ال قيمة له
بذاته ،ولكن قيمته من قيمة الجماعة التى ينتمى إليها ،سواء كانت األسرة أو القرية أو
األمة ،إذ تسمو الروابط االجتماعية على العالقات الشخصية الفردية ،ورغم االعتراف بما
للفرد من شخصية مستقلة فإن ذلك ال يعنى أن األفراد يتمتعون بمكانة مستقلة عن الجماعة.
وقيمة الفرد ترتبط بمكانة الطبقة االجتماعية التى ينتمى إليها ،وهى ظاهرة اجتماعية يتردد
صداها فى اللغة اليابانية التى ال تحتوى على صيغة مفرد وصيغة جمع ،وانما هناك صيغة
واحدة تستخدم للمفرد والمثنى ،والجمع دون تمييز ،كما تبدو أيضاً فى أسلوب المخاطبة
حيث تراعى منزلة المخاطب داخل الجماعة فيستخدم الصغير صيغة معينة عندما يتحدث
مع من يكبره سناً أو مقاماً.
وألقت هذه الظاهرة بظاللها على البوذية ،فعندما اعتنقها اليابانيون لم يهتموا باالختالف
الواضح بين النفوس البشرية الذى تبرزه البوذية فى أصلها الهندى ،وعلى حين تذهب البوذية
الهندية إلى القول بأنه "ال يعنى األبناء وال اآلباء وال األقارب المرء شيئاً حين يدنو أجله"...
وانه "ال سلطان على النفس سوى النفس ذاتها" فركزت بذلك على االعتماد على النفس
باعتباره ركن الفضائل ،ورأت أن "الخير فى االرتكان إلى النفس والبعد عن الناس" ،وبذلك
www.RaoufAbbas.org 68
تقوم البوذية -فى أصلها الهندى -على التمحور حول الذات (الفردية) ونبذ الجماعة ،نجد
التطبيق اليابانى للبوذية يتواءم مع طبيعة المجتمع اليابانى وتراثه التقليدى القائم على نبذ
الفردية وااللتحام بالجماعة ،فتذهب البوذية اليابانية إلى القول بأنه "يجب أن يكون الفرد
أقرب إلى إخوانه فى البوذية منه إلى نفسه" وبذلك تعبر عن ذوبان الفرد فى الخلية
االجتماعية التى ينتمى إليها (األسرة) وذوبان تلك الخلية الصغيرة فى الخلية االجتماعية
األكبر (القرية) ،لتشكل مع غيرها من الخاليا الكبرى كياناً واحداً (الوطن).
ولعل انفراد اليابانيين بهذه السمة الثقافية يرجع إلى طابع الحياة االجتماعية الذى ساد
اليابان ،والذى يتفق مع الظروف الطبيعية للبالد ،فهى بالد جبلية وعرة تكسوها الغابات
وتثور فيها البراكين من حين آلخر فتلحق الدمار والخراب بما حولها ،وتكاد الزالزل أن تكون
حدثاً يومياً ،وال توجد بها سهول واسعة ،إذ ال تتجاوز مساحة السهول خمس مساحة السطح،
وهى تجمع -من حيث المناخ -بين الصيف الحار شديد الرطوبة غزير األمطار ،والشتاء
القارس البرد الذى يتساقط فيه الجليد بغ ازرة ،وخاصة فى الشمال والشمال الغربى ،لذلك
عاش اليابانيون فى نضال مستمر ضد الطبيعة ،ومثل هذا الصراع ال يقوى عليه الفرد ،وانما
يقتضى تضافر جهود الجماعة من أجل البقاء ،فكان البد أن يعيش الناس فى جماعات
ذات تنظيم دقيق ،يتمتع فيها رئيس الجماعة بسلطات واسعة على أفراد جماعته.
وتركت هذه الظروف الطبيعية آثا اًر واضحة على التكوين النفسى للناس ،يعبر عنه القول
المأثور الذى تناقلته األجيال منذ القدم ،والذى يذهب إلى أن "هناك أربعة يثيرون الفزع،
الزلزال ،والعاصفة الرعدية ،والحريق ،واألب (أو رب العائلة)" ،وليس من الغريب أن تكون
سلطة األب أو رب العائلة وكبيرها صارمة كصرامة الكوارث الطبيعية ،ألن مواجهة الحياة
فى مجتمع له مثل تلك الظروف الطبيعية القاسية يقتضى وجود تنظيم دقيق للجماعة ،يتمتع
-فى ظله -رئيس الجماعة بسلطات واسعة وكلمة مسموعة مرهوبة ،ومن ثم كانت التربية
اليابانية قائمة على غرس قيم الوالء للعائلة الصغرى (األسرة) والعائلة الكبرى (األمة) فى
نفوس البشر.
ومن هنا أصبحت فكرة "البيت" ذات مدلول واسع المعنى -فى الثقافة اليابانية -يتجاوز
حدود بيت األسرة ،ليشمل بيت األمة (الوطن) ،وال يوجد بيت بدون آباء ،فالمحافظة على
www.RaoufAbbas.org 69
البيت تقتضى مراعاة تراث السلف ،ولذلك وجب على األفراد تدعيم البيت ،والعمل على رفع
شأنه ،وتوقير وطاعة رب البيت ،وال تعنى فكرة "البيت" -كما استقرت فى الوجدان اليابانى-
أن تكون رابطة الدم هى أساس العالقة بين من يقيمون فيه ،فال وزن هنا لصلة الدم أو
الرحم ،إنما رابطة المكان هى التى تجمع بين أهل "البيت" وكذلك رابطة العمل أيضاً ،فالذين
يعملون لدى صاحب األرض الزراعية يعدون من أفراد أسرته ،وكذلك من يعمل لدى التاجر
فى متجره ،أو صاحب الحرفة فى ورشته ،لجميع هؤالء ما ألفراد األسرة من الحقوق ،وعليهم
ما عليهم من واجبات.
وكان لفكرة "البيت" دور هام فى نمو االقتصاد اليابانى الحديث فلم تكن المشروعات المالية
والصناعية الخاصة ترتبط بأفراد بعينهم ،ولكنها ارتبطت بعائالت (بالمفهوم اليابانى للعائلة)
وكثي اًر ما كان أصحاب رأس المال بمنأى عن إدارة تلك المشروعات ،التى أدارها خبراء لهم
مطلق التصرف ال سلطان ألحد عليهم سوى مجلس اإلدارة الذى هو -فى نفس الوقت-
مجلس العائلة ،وعلى سبيل المثال ،كان البيت المالى الشهير "ميتسوى" فى القرن التاسع
عشر يتكون -فى حقيقة األمر -من إحدى عشرة أسرة رأسمالية متساوية تقريباً ،ال ترتبط
ببعضها البعض بصلة الدم أو الرحم ،ولكنها كانت تحمل اسم عائلة ميتسوى الذى مارست
نشاطها المالى به ،وكذلك الحال بالنسبة لبيت "سوميتومون" ،وكان كل من يعمل بإحدى
الشركات التى أقامتها تلك البيوت المالية يعد مسئوالً عن رواج نشاطها ،شأنه فى ذلك شأن
أصحاب رأس المال أنفسهم.
كما كانت الطريق مفتوحة أمام من يظهر كفاءة ومقدرة متميزة من العمال للترقى فى
مناصب اإلدارة حتى أرفعها ،وقد تكافئه العائلة صاحبة الشركة فتتبناه رسمياً ،وتمنحه لقبها،
فإذا وصل بكفاءته إلى رئاسة الشركة أصبح رئيس العائلة وكبيرها الذى يلتزم الجميع
بطاعته حتى من جاءوا من صلب صاحب رأس المال ،ومن ثم كان التفانى فى العمل هدف
الجميع حتى يظل "البيت" مزده اًر ،ويتحقق النجاح لمشروعاته ،واستخدمت هذه الفكرة -فى
جانبها السلبى -فى استغالل العمال فى الصناعة الحديثة باسم "الواجب نحو البيت" أسوأ
استغالل ،وفى جانبها اإليجابى ساعدت على دفع النمو االقتصادى الحديث إلى األمام ،فلم
www.RaoufAbbas.org 70
يعتمد النمو االقتصادى على اإلمكانات المادية وحدها ،وانما زودته الثقافة التقليدية اليابانية
-التى تقول بوحدة المجتمع -بطاقة هائلة دفعته إلى األمام.
وأثمرت هذه الوحدة االجتماعية الفريدة اتجاهاً أخالقياً يدفع الفرد إلى التضحية بالنفس من
أجل عشيرته فى العهد اإلقطاعى ،ثم من أجل اإلمبراطور والوطن فى عصر النهضة
الحديثة ،وأدى ذلك إلى تميز التكوين الفكرى اليابانى بروح التطرف الوطنى الذى يمتزج فيه
ا لوالء للوطن وطاعة اإلمبراطور والتضحية الواجبة بالنفس فى سبيلهما ،وغذت العقيدة
الشنتوية هذا الشعور الوطنى المتطرف بتأكيد أن العائلة اإلمبراطورية المقدسة هى نواة
الشعب اليابانى كله ،وارتبط بها مفهوم "األمة المقدسة" الذى بلغ أوجه فى العقد األخير من
القرن التا سع عشر ،واستمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية ،واستقر فى أذهان اليابانيين
أن بالدهم "أعظم بالد العالم قاطبة ألن اآللهة صنعتها قبل أن تصنع بقية بالد العالم ،فهى
أرض لها قداستها واحترامها" ومن ثم أطلقوا على بالدهم "اليابان العظمى" واعتبروا
اإلمبراطور أباً لألمة اليابانية.
وتطورت (الوطنية) اليابانية من مفهوم (الدولة) اليابانى ذاته الذى أطلقوا عليه اسم "النظام
اإلمبراطورى" ،وليس من مفهوم (الدولة) فى علم السياسة ،ولذلك صلة وثيقة بمفهوم "الوحدة
االجتماعية" التى تربط بين الناس واألرض والسلطة برباط واحد ،وساعد الموقع الجغرافى
لليابان على دعم ذلك المفهوم وأنبتت له الشنتوية جذو اًر فى وجدان اليابانيين منذ القدم،
وبذلك توفرت لليابان مالمح "وطنية" واضحة قبل القرن التاسع عشر بزمن بعيد ،وقبل
وصول المؤثرات الفكرية الغربية الحديثة إلى البالد ،قامت تلك المالمح على أسس راسخة
من التراث الثقافى اليابانى ،لتعبر عن واقع يختلف اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً -اختالفاً
جذري ًا -عن فكرة "القومية" بمفهومها السياسى الحديث.
مرحلة االنتقال
بدأت وفود المؤثرات الفكرية الغربية إلى اليابان خالل ما اصطلح على تسميته "بالقرن
المسيحى" عند المؤرخين اليابانيين ،ويبدأ بعام 1549الذى شهد وصول أول إرسالية
تبشيرية كاثوليكية إلى اليابان ،وينتهى بعام 1614الذى حظرت فيه حكومة طوكوجاوا
المسيحية وقامت بتصفية معتنقيها من اليابانيين ،واقتصرت األفكار الجديدة الوافدة -عندئذ-
www.RaoufAbbas.org 71
على الفكر الدينى المسيحى الذى قامت اإلرساليات التبشيرية بترجمته إلى اليابانية وطبعه،
غير أن أثر تلك األعمال تالشى مع تحريم المسيحية وطرد اإلرساليات التبشيرية ،وفرض
العزلة على البالد.
وكثي اًر ما تشير المصادر إلى تأثر بعض المثقفين -فى عصر طوكوجاوا -بالفكر الغربى
بدرجة ما ،ولكن هذا التأثر لم يؤد إلى إيجاد تقارب بين الفكر التقليدى اليابانى ،والفكر
الغربى الوافد إلى البالد عبر تلك النافذة الخلفية التى أبقتها حكومة طوكوجاوا مفتوحة على
العالم الخارجى ،ونعنى بها جزيرة ديشيما التى كانت تقع أمام شاطئ نجاساكى ،والتى
اقتصر التعامل التجارى فيها على الهولنديين.
وكان التأثر بالفكر الغربى أكثر وضوحاً عند مفكرى القرن الثامن عشر ،وخاصة ما عرف
باسم "علوم الهولنديين" التى سمحت الحكومة (عام )1720بترجمة ما اتصل منها بالطب
والجغرافيا ،والعلوم العسكرية الخاصة بصناعة األسلحة وبناء الحصون ،ولكنها حرمت كل
ما اتصل بالفلسف ة والفكر ،وكان هذا النوع من الكتب التى تعالج المسائل الفكرية يهرب إلى
البالد على يد التجار الهولنديين ،ولما كان الممنوع مرغوباً ،فقد اشتد اإلقبال على قراءة تلك
الكتب ،وانعكس ذلك على كتابات بعض المفكرين اليابانيين المعاصرين.
وجاء التحدى الكبير الذى واجهته اليابان من القوى الغربية والذى دفعها إلى فتح بعض
موانيها للتجارة الخارجية (عام ،)1854ليحرك تيا اًر فكرياً شغل بقضية الساعة :االنفتاح
على العالم ،أو البقاء وراء أسوار العزلة ،وقامت تلك الحركة التى دعت إلى "توقير
اإلمبراطور وطرد البرابرة" على أكتاف الساموراى ،الذين كان جناحهم المثقف بمثابة الرافد
الرئيسى للتيار الفكرى الجديد ،وهو تيار وطنى راح يبحث عن حل للمأزق الذى وقعت فيه
البالد ،ورأى أن األمر يتطلب تغيي اًر سياسياً يتيح ألفكاره فرصة التطبيق العملى ،وأعطى
ذلك التيار للحياة الفكرية فى مرحلة االنتقال من عصر طوكوجاوا إلى عصر النهضة
(مايجى) مالمحها المميزة لها ،والتى انعكست فى أفكار الرواد من أمثال :شوزان ،وشونان،
وبوشيدا .وقد اتفق ثالثتهم -فيما صدر عنهم من كتابات -على ضرورة اإللمام بمعارف
الغرب لتقوية البالد فى مواجهة ضغوط الغرب ،وتفاوتت اهتماماتهم من الحرص على
توظيف العلوم الحديثة لمصلحة البالد إلى ضرورة التعرف على أفكار الغرب واالستفادة
www.RaoufAbbas.org 72
منها ،وذهب بعضهم إلى ضرورة تصفية نظام طوكوجاوا واقامة نظام ثورى جديد يستفيد
بعلوم الغرب ويعمل على بناء دولة حديثة قوية فى اليابان تضارع دول الغرب.
وقد تأثر بكتابات هؤالء المفكرين أولئك الذين أطاحوا بنظام طوكوجاوا وأقاموا نظام مايجى،
وتبنوا مشروع النهضة.
ولعل من المالحظ أن تلك المرحلة لم تبدأ مع بداية عصر مايجى ( )1868ولكنها تأخرت
قليالً ،وكان ميثاق العهد "الذى أعلنه اإلمبراطور أداة االنتقال إلى مرحلة التحضر والتنوير،
فقد بدأ التأثر بأسلوب الحياة الغربية فى تلك السنوات ( )1873 -1868يصبح ظاهرة
ملموسة ،ترددت أصداؤها فى األعمال األدبية التى كانت تنضح بالسخرية من أولئك الذين
قلدوا الغرب فى أسلوب حياتهم.
وتعد رواية "آكل اللحم" للكاتب اليابانى روبون ( )1894 -1829أبرز مثال لتلك الكتابات
الناقدة ،فقد اتخذ المؤلف بطل روايته من بين شباب تلك األيام ،وصوره فى شكل شاب
يحمل مظلة أوروبية الصنع ،ويتمنطق بساعة ذات سلسلة مطلية بالذهب ،يرتاد المطاعم
الجديدة التى أقيمت على الطراز الغربى لتقدم وجبات شهية من اللحم البقرى الذى أقبل عليه
الشباب إقباالً شديداً فى تلك األيام ،بعد أن كان اليابانيون يأنفون من أكل اللحم ألنه يتنافى
مع تعاليم البوذية ،ويعتقدون أن من يأكله ال يرقى إلى مستوى البشر ،وصفف بطل الرواية
شعره على طريقة أبناء الغرب ،وحرص على أن يغسل يديه بالصابون المعطر ،كما كان
يتعطر بماء الكولونيا وهو يخرج ساعته من جيبه -من حين آلخر -ال ليعرف الوقت ،ولكن
ليراها الناس فى يده.
www.RaoufAbbas.org 73
وامتألت شوارع طوكيو بأولئك الذين يرتدون مالبس غريبة ،تجمع بين الزى اليابانى التقليدى
والزى الغربى وشاعت مصطلحات جديدة تداولها الناس فى أحاديثهم اليومية ،مثل (التجارة)
و(ا لتوظف فى الحكومة) تعبر عن التطلعات الجديدة لشباب العهد الجديد ،وحتى األمهات
كن يغنين ألطفالهن أغانى شاعت -فى تلك األيام -تدعو للطفل أن يكبر لتراه أمه موظفاً
حكومياً من ذوى الرواتب الشهرية ،وأصبحت عادات اليابانيين -التى درجوا عليها باألمس-
"عادات بربرية" ،وحاولوا اقتباس عادات الغرب التى كانت (بربرية) باألمس ،فأصبحت اليوم
تمثل (المدنية) و(العصرية).
وفى يوليو ،1873أسس جماعة من المثقفين اليابانيين جمعية أدبية فكرية ،كان لها أثرها
فى الفكر اليابانى فى تلك المرحلة هى "جمعية العام السادس من عصر مايجى" التى
تزعمها أرينورى ،وكان يشغل منصب القائم باألعمال فى الواليات المتحدة األمريكية ،حيث
بهره نشاط الجمعيات العلمية واألدبية هناك ،فحمل فكرتها معه عندما عاد إلى بالده فى تلك
السنة ،وفاتح بعض أصدقائه من المثقفين فى إقامة جمعيات يابانية مماثلة ،وكان من بين
هؤالء :نيشيمورا ،وشندو ،وأمانى ،وفوكو ازوا ،وغيرهم من أقطاب الجيل المخضرم من
المثقفين الذى نشأ على الثقافة التقليدية ،ثم تأثر بالتيارات الفكرية التى سادت فى مرحلة
االنتقال ونهل من الثقافة الغربية فى مرحلة التحضر والتنوير.
ودرجت الجمعية على عقد اجتماع عام فى أوائل كل شهر ،وآخر فى السادس عشر من
الشهر بأحد المطاعم الغربية ،حيث يتناولون العشاء معاً ،ثم يلقى أحدهم محاضرة تعالج
قضية فكرية أو أدبية أو علمية ،أو يعرض لنظرية من النظريات الغربية فى تلك المجاالت،
واختلف إلى تلك االجتماعات الكثير من موظفى الحكومة والمثقفين لالستماع إلى
المحاضرات والمشاركة فى المناقشات.
وما كاد يمر عام واحد على تأسيس الجمعية ،حتى أصدرت "مجلة السادس من عصر
مايجى" لتصبح منب اًر رائداً فى الفكر الحديث ،ولتعبر عن أفكار الرواد الذين بشروا بالفكر
الغربى ،وكانت المجلة تصدر نصف شهرية (فبراير -أكتوبر ،)1874ثم أصبحت تصدر
كل عشرة أيام اعتبا اًر من نوفمبر .وبلغ حجم توزيعها ثالثة آالف نسخة ،وهو رقم قياسى،
إذا علمنا أن أكبر صحيفة يومية كانت توزع -عندئذ -ثمانية آالف نسخة يومياً.
www.RaoufAbbas.org 74
والى أعضاء "جمعية العام السادس من عصر مايجى" يرجع الفضل فى إثراء اللغة اليابانية
بمفردات تعبر عن مصطلحات جديدة ،بل يرجع إلى فوكو ازوا الفضل فى ابتداع لفظ
(خطابة) و(مناقشة) ولم يكن لهما وجود بين مفردات اللغة من قبل ،وبرز من بين أعضاء
الجمعية من برعوا فى الخطابة ،وأقيمت أول قاعة اجتماعات كبرى بجامعة كيو (التى
أسسها فوكو ازوا) عام .1875
وكان من بين أعضاء الجمعية ناكامو ار ( )1891 -1832الذى اعتنق المسيحية ،وروج
لفكرة التسامح الدينى وحرية العقيدة على صفحات مجلة الجمعية ،كما كان رئيسها -
أرينورى -رائد الدعوة إلى تحرير المرأة اليابانية ،وطالب بضمان حقوقها فى سلسلة من
المقاالت نشرها على صفحات مجلة بعنوان" :فى الزوجات والمحظيات" وشاركه فوكو ازوا
ال
الرأى فى بعض مقاالته التى ساهم بها فى الدعوة إلى تحرير المرأة ،كما كتب شندو مقا ً
حول "مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق".
كذلك دعا أرينورى -الذى اعتنق المسيحية -إلى حرية العقيدة ،مؤكداً أنها تأتى فى مقدمة
الحريات الشخصية التى يجب أن تتوفر للفرد ،وعندما أصبح وزي اًر للتعليم ،فتح مدارس
الحضانة لألطفال ،وركز جهوده على تعليم البنات ،وأوفد أول بعثة من الطالبات اليابانيات
للدراسة فى أمريكا.
أما فوكو ازوا ،فكان رائد الفكر الليبرالى فى عصر مايجى بال منازع .ونستطيع أن نميز بين
ثالث مراحل تطور خاللها فكره :المرحلة األولى ( )1869 -1862ركز خاللها على
التعريف بالحضارة الغربية من خالل بعض الكتب التى ذاع صيتها فى تلك الفترة مثل "قدوم
وذهاب األجانب" و"األحوال فى الغرب" و"دليل السياحة فى الغرب" و"العلوم الطبيعية
المصورة" و"حول جميع البالد" وفى المرحلة الثانية ( )1877 -1869اهتم فوكو ازوا بإبراز ما
يمكن أن تفيد به اليابان من حضارة الغرب وعلومه ،فكتب فى تلك المرحلة كتابان مهمان
هما" :تشجيع المعرفة" و "إلمام بالحضارة" ،أما المرحلة الثالثة واألخيرة ( )1901 -1877فقد
وضع فيها صيغة يابانية للفكر الحديث ،فى محاولة للتوفيق بين الموروث والمكتسب من
األفكار.
www.RaoufAbbas.org 75
وذهب فوكو ازوا إلى أن الغرب يمتاز عن الشرق باعتماده على المنهج العقلى والرياضيات،
واهتمامه ببث روح االستقالل واحترام حرية الفرد ،ومن ثم رحب فوكو ازوا بالمدنية الغربية من
خالل ما وجهه من نقد للمجتمع اإلقطاعى فى أواخر عصر طوكوجاوا ،ورأى أن التاريخ
يكتسب مغزاه من كونه تاريخاً للحضارة ..وحاول أن يفسر أسباب تخلف الشرق عن اللحاق
بالغرب حضارياً من خالل هذا المنظور ،فذهب إلى أن التاريخ ينقسم إلى ثالث مراحل:
التوحش ،والبربرية ،والمدنية ،وتشمل المرحلة األولى حياة الترحال والصيد وبداية الزراعة،
أما الثانية فتشمل المجتمع الزراعى حتى قيام اإلقطاع ،أما المرحلة األخيرة ،فهى مرحلة
المدنية المتقدمة القائمة على أساس العلم والتى تمثل المجتمع الحديث.
وطبق فوكو ازوا ذلك على بالد العالم ،فرأى أن أفريقيا تعيش مرحلة التوحش ،والصين
واليابان وتركيا تعيش مرحلة البربرية ،وأن أوروبا الغربية وأمريكا تعيشان مرحلة المدنية ،فإذا
أرادت اليابان أن تأخذ بأسباب التقدم ،فإن عليها أن تطرح عنها مرحلة البربرية وتجد السير
فى طريق التمدن ،وتجعل المدنية الغربية هدفها األسمى ،وتتخذ من الغرب مثلها األعلى.
وركز فوكو ازوا على أهمية التجربة كسبيل للتقدم ألن "التقدم ال يتحقق إال من خالل مئات
وآالف التجارب" ،والتجارب تقوم على "الشك" ومن خالل الشك والتجربة تطورت الحضارة
الغربية .وال يتحقق استقالل بلد ما ،إذا لم يتحقق استقالل الفرد فيه ،ولما كان الفرد اليابانى
محروماً من استقالليته مرتبطاً بالجماعة" ،فال نستطيع القول أن فى اليابان أمة ،ولكن هناك
حكومة ..ألن ذلك (فقدان الفرد اليابانى الستقالله) جعل اليابان محرومة منذ القدم من
إمكانية تكوين أمة" ،والعالقة بين الشعب والحكومة عالقة تعاقدية قائمة على األخذ
والعطاء ،وكما أن على الشعب واجبات ،فالبد أن تكون له حقوق ،وأبرزها حق المشاركة فى
السلطة ،فليس الناس عبيداً للحكومة ،وما الحكومة إال أداة لخدمة الشعب ،ويجب أن يكون
التمايز بين الناس قائماً على أساس ما يحصلونه من علم.
وينتقل فوكو ازوا من هذا اإلطار الفكرى ،إلى تحليل النظام السياسى فى اليابان فى كتابه:
"فى العائلة اإلمبراطورية" (نشر عام ،)1882فذهب إلى أن احترام األسرة اإلمبراطورية شئ
والمؤسسات السياسية شئ آخر ،فال يجب الربط بينهما ،ويجب أن يظل اإلمبراطور بعيدًا
عن التدخل فى معترك السياسة ،حتى تظل العائلة اإلمبراطورية محتفظة بكرامتها وقدسيتها.
www.RaoufAbbas.org 76
فوظيفة الحكومة تشريعية وتنفيذية ،وال شأن لها بمشاعر الناس ،وال يجب أن تسعى للتحكم
فى تلك المشاعر ،ويستطيع اإلمبراطور أن يفعل الكثير ألبناء شعبه إذا صرف اهتمامه إلى
تشجيع المعرفة والفنون.
وأشار فوكو ازوا -ضمناً -فى كتابه "فى توقير اإلمبراطور" ( )1888إلى أن اإلمبراطور يعلو
فوق شئون الحكم ،وال يشارك فيه مباشرة ،فالسياسة هى أحد جوانب الحياة فى اليابان،
ويجب أن يهتم اإلمبراطور بجميع جوانب حياة أمته التى تعد عائلته ،فال يركز على جانب
معين على حساب الجوانب األخرى ،ولما كان الناس يبجلون اإلمبراطور ،فإن "هذا التبجيل
يجب أن يقوم على أساس قانونى".
ويتجلى أثر الفكر الليبرالى فى تكوين فوكو ازوا -بوضوح -فى مفهوم التطور الحضارى
عنده ،فهو يرى أن هذا التطور يؤدى إلى زيادة تعقد العالقات اإلنسانية وتشابكها على
المستويين المحلى والعالمى سواء بسواء ،ويصحب هذا التطور تشعب الوظائف االجتماعية
لكل الفئات التى تعيش فى المجتمع ،فال تستقر األوضاع االجتماعية على حال واحد،
وتسقط كل الحواجز التى تصنف الناس حسب مولدهم ،لذلك يجب النظر إلى الفرد من
خالل أعماله ،وليس من خالل أصله االجتماعى ،فعلى حد تعبيره" :ليست أعمال كل من
انحدروا من أصول رفيعة أعماال طيبة بالضرورة ،وليست أعمال كل من انحدروا من أصول
متواضعة أعماالً سيئة بالضرورة" وفى هذا نقد صريح للتراث الثقافى اليابانى الذى يبرز قيم
األسرة ،ويركز على الروابط االجتماعية ذات الدائرة المغلقة ،وال يعتبر الفرد إال فى نطاق
الجماعة التى ينتمى إليها -ففكرة المساواة اإلجتماعية ،وتقييم الفرد على أساس عمله-
بغض النظر عن أصله االجتماعى إنما كانت فكرة جديدة على العقلية اليابانية فى ذلك
العصر.
لذلك كان من الطبيعى أن يشن أنصار المحافظة على التراث التقليدى حملة شعواء ضد
فوكو ازوا ،تصدى األخير لها فرد عليها بمقال نشر بجريدة تشويا ،جاء فيه" :إنهم يخلطون
بين األشياء بطريقة عشوائية ..فهم يفترضون أن المساواة فى الحقوق بين جميع أفراد الشعب
مأخوذة من المبادئ الجمهورية ،والجمهورية مأخوذة من المسيحية ،والمسيحية ثقافة غربية..
وهم يفترضون أنه ما دامت ثقافة فوكو ازوا غربية ،فإن نظريته الخاصة بحقوق الشعب
www.RaoufAbbas.org 77
مستمدة من المسيحية والمبادئ الجمهورية ..ويرجع ذلك إلى رؤيتهم األشياء من جانب
واحد ..فتاجر الخمر ليس بالضرورة عاقرها ،وصانع الحلوى ليس بالضرورة آكلها ،وال يجب
أن نحكم على التاجر بمجرد رؤيتنا للبضاعة التى يضعها فى متجره "..وبذلك يشير فوكو ازوا
إلى أن األفكار التى يطرحها على مواطنيه ،تلبى حاجة المجتمع ،تماماً مثل البضاعة التى
يعرضها التاجر لتلبية طلب السوق ،وينفى عن نفسه تهمة االنقياد التام لألفكار الغربية.
وحرر معظم تلك المجالت مثقفون ممن اعتنقوا المسيحية ،وبشروا بحقوق الشعب من
منطلق إيمانهم بحرية العقيدة ،وتعد "مجلة الدنيا" التى حررها كوزاكى ،وبدأ ظهورها عام
،1880امتداداً لمجلة "السادس من عصر مايجى" من حيث االهتمام بالفكر الليبرالى
والترويج لحقوق اإلنسان ،ونافست مجلة "صديق األمة" التى ظهرت أواخر الثمانينيات
ومجلة "الشمس" التى ظهرت فى أواخر التسعينيات ،ولم تكن "مجلة الدنيا" مجرد مجلة
مسيحية ولكنها عنيت بتقديم الفكر السياسى الغربى ،وعرف الفكر االشتراكى طريقه إلى
اليابان عبر صفحاتها ،بينما ركزت مجلة "الفنون والعلوم الشرقية" اهتمامها على نظرية
التطور (النشوء واالرتقاء) وبذلك عارضت نظرية حقوق اإلنسان التى استندت إليها حركة
الحرية وحقوق الشعب ،وقد اتخذ مفهوم مبدأ (البقاء لألصلح) دعامة للتيار الوطنى
المتطرف ،كان سوجيوا ار -أحد مؤسسى هذه المجلة -من كبار منظرى االتجاه الوطنى
المتطرف.
www.RaoufAbbas.org 78
وهكذا حفل ذلك العقد ( )1887 -1877بمختلف االتجاهات السياسية والفكرية :من
الليبرالية إلى الدارونية إلى الفكر المسيحى ،ولكن التيارات السياسية كانت تحتل المكان
األول -من حيث األهمية -تليها التيارات المسيحية .وبمرور الزمن غلب على الحياة الفكرية
اإلحساس بأن اإلنسان ليس حيواناً سياسياً فحسب ،بل هو مخلوق له وجدان وروح ،ولديه
قدرات ومهارات وفنون ،كما أن له تاريخاً.
ومن المالحظ أن الحياة الفكرية -فى تلك الحقبة -دارت حول حركة المطالبة بالحياة
النيابية ،ثم أصبحت ترتكز -بعد عام -1887حول قضية السيادة (أو مصدر السلطات)
بعدما اقترب موعد صدور الدستور ،واختلف المفكرون حول حق السيادة ،وما إذا كان
الشعب وحده مصدر السلطات ،أم أن السيادة قسمة بين الشعب والحاكم ،أم أن اإلمبراطور
وحده مصدر السلطات ،أو -بعبارة أخرى -دار الجدل حول مفهوم (السيادة الشعبية)
و(السيادة القومية) ،وترددت أصداء ذلك الجدل على صفحات جريدتى "أخبار طوكيو
ويوكوهاما" التى مثلت االتجاه األول ،و"طوكيو اليومية" التى عبرت عن االتجاه اآلخر.
وساد فى تلك المرحلة مزيج من االتجاهات اإلصالحية واالتجاهات الرجعية ،نستطيع أن
نتبين من خالل الشعبية التى حظى بها شعار "اليابان الجديدة" ،ثم برز االتجاه الوطنى
المتطرف فى أواخر المرحلة ،كذلك امتازت الحقبة بإحياء الفنون واآلداب اليابانية العريقة
التى كادت تهمل منذ بداية عصر مايجى.
وشهدت المرحلة مولد عدد من الجمعيات الفكرية والثقافية من بينها تلك الجمعية التى
تأسست عام 1888وكانت تصدر مجلة "اليابانيون" التى أصبحت تعرف -فيما بعد -باسم
www.RaoufAbbas.org 79
"اليابان واليابانيون" ،وفى عام 1907أصبحت هذه الجمعية تعرف باسم "جمعية الفكر
السياسى" ويعنينا هنا الوقوف على أفكار ميباكى محرر مجلة "اليابانيون" وكوجا محرر
جريدة "اليابان" التى ظهرت عام ،1889وأفكار الرجلين تعبر عن االتجاه الوطنى المتطرف
(السوفيتى).
أما كوجا ،فقد صاغ نظرية خاصة بالقومية ،كانت وسط ًا بين الشوفينية والقومية التى تدور
حول محور الفرد التى عرفتها ليبرالية القرن الثامن عشر ،وذهب إلى ضرورة تأسيس حزب
وطنى" ،فالبيت اإلمبراطورى والحكومة ينتميان إلى األمة كلها ،وعلى هذا النحو تحقق
الوحدة القومية ،والحزب الوطنى يرمى إلى تجنب األمة شر االنقسام والذاتية ،ويهدف إلى
جعل السلطة السياسية القومية ترتكز على الرأى العام ،وهو يحافظ على القوى القومية،
ويعمل على تطويرها" ،وذكر فى كتابه "أسس السياسة" (عام )1893أن "الحكومة
الدستورية" ليست إال وسيلة لتحقيق غاية ،وال تعد غاية فى حد ذاتها فى إطار الحكومة
القومية.
أما ميباكى ،فقد رأى فى الدولة "كائن حى عظيم" ،وليست مجرد "شركة" قائمة على أساس
تعاقدى ،إنها "الدولة اليابانية التاريخية" ،وواجبات األمة -عنده -تفوق ما لها من حقوق،
لذلك كان على اليابانيين أن يبذلوا أقصى الجهد ألداء واجباتهم ،ألن ذلك هو الطريق الوحيد
لتحقيق السعادة.
وقد أثبت اليابانيون دائماً أنهم أهل "إخالص ،وخير ،وجمال" ولكن ميباكى لم يغفل اإلشارة
إلى عيوب اليابانيين ،وفى مقدمتها -فى رأيه -الغطرسة ،وسيطرة أمراء المال ،وهو ما
يجب أن يتخلص اليابانيون منه.
وبذلك وضع هذان المفكران جذور "الفكرة اليابانية" التى نمت وترعرعت فى مرحلة تالية،
وان كان اهتمامها قد انصرف إلى "الفكرة الشرقية" التى تعد -عندهما -نقيضاً للرأسمالية
واإلمبريالية الغربية ،وتبحث فى كيفية حماية اليابان والشرق من خطر الغرب وأطماعه،
وكان ذلك يتسق مع سياسة اليابان عندئذ ،حيث كانت تلتزم جانب الدفاع ،ولم تتحول إلى
التوسع إال فى أواخر تلك الحقبة.
www.RaoufAbbas.org 80
وعبر أوكاكو ار عن "الفكرة الشرقية" فى كتاباته ،وخاصة فى "مثاليات الشرق" وفى "يقظة
الشرق" فلم يكن أوكاكو ار يرتاح إلى تفوق الغرب على الشرق ،وقدرته على شن العدوان
ولكن لم يدر بخلده أن يغزو الشرق الغرب :فللشرق -عنده -شخصيته الخاصة به ،كما أن
لليابان شخصيتها المميزة فى إطار الشرق ،لذلك رأى ضرورة احتفاظ الفن اليابانى بسماته
الخاصة "ألنه يقدم اليابان إلى العالم".
وأيقن أوكاكو ار من صحة نظريته عندما زار الصين ،واكتشف أن الفن اليابانى ال يعتمد على
تراث الصين فى كل شئ ،وأنه يمكن أن يكون فناً مستقالً ،وعندما زار الهند ( ،)1901شعر
أن اليابان تحوى الكنوز التاريخية للحضارة اآلسيوية ،وأن تاريخ الفن اليابانى هو تاريخ
للمثل اآلسيوية ،مما يقدم الدليل على "وحدة آسيا" ،لذلك رأى أوكاكو ار أن من العار على
اليابانيين أن يبخسوا أنفسهم حقها ،ويستهينوا بما لديهم من إمكانيات ،وأن عليهم أن يحققوا
ذاتهم ،وال يندفعوا نحو تقليد الغرب تقليداً أعمى" ،ألن الشجرة ال تستمد قوتها إال من قوة
بذرتها" ،ورغم أنه يقر بما للعصر الحديث من فضل إبراز مفهوم الحرية الفردية ،نجده
يمتدح ما أسماه "الحرية الشرقية" حيث يعيش الناس تحت السحاب ،يفترشون الجبال،
ويعتنقون قيماً أعلى مستوى من القيم الغربية القائمة على الحريات الشخصية " فعظمة آسيا
تتجلى فى ذلك االنسجام الذى يجمع بين اإلمبراطور والفالح".
وذهب أوكاكو ار إلى أن ثمة صراعاً مستم اًر بين علم الغرب ومثالية آسيا وفنها ،وع از ما
اعترى التذوق الفنى من ضعف -فى عصر مايجى -إلى انتشار الصناعة والترويج
للديمقراطية وتحالف المسيحية مع أسلحة الدمار ،ولذلك تحتاج آسيا واليابان -فى رأيه -إلى
نوع من التنسيق الداخلى لتالفى االزدواجية ،حتى تصبح قادرة على مقاومة المؤثرات
الغربية.
ورغم أن أوكاكو ار كان ناقداً فنياً ،ال يسعى لوضع نظرية سياسية تتصل بآسيا ،لكنه يسوق
األفكار فى إطار تحليل الظواهر الحضارية التى حظيت باهتمامه ،إال أن الفاشية اليابانية
جعلت منه -فيما بعد" -نبى النظام الجديد لشرق آسيا العظمى".
www.RaoufAbbas.org 81
فكرة تقديس الدولة
وشهد العقد األخير من عصر مايجى (عصر النهضة اليابانية) علو مد "الفكرة اليابانية"
نتيجة التوسع اإلمبريالى الذى شنته اليابان على جيرانها ،وتحولت تلك الفكرة إلى تقديس
كامل للدولة ،مهد له القانون المدنى الذى صدر عام ،1898وجعل ألرباب العائالت اليد
العليا على أفرادها ،فال يستطيع أحد أفراد األسرة أن يبرم أم اًر دون الحصول على موافقة رب
األسرة ،بما فى ذلك الزواج واختيار بيت الزوجية ،وأصبح لمن يخلف (كبير العائلة) فى
الرياسة حق وراثة ثروة األسرة باعتباره راعياً لها ،وجعل لألب سلطة مطلقة على زوجته
وأبنائه ،وظل هذا القانون سارياً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية.
وكان من الطبيعى أن يتجه المشرع إلى وضع كل السلطات فى يد أرباب العائالت فيما
يتصل بشئون عائالتهم ،فقد كان ذلك يعكس التراث اليابانى التقليدى ،كما يعكس النظام
السياسى الذى يجعل من اإلمبراطور كبي اًر للعائلة اليابانية (األمة) وبذلك تفرقت السبل
بالتجربة اليابانية ونظام الدولة الحديثة بالمفهوم الغربى.
وبرزت ثالثة اتجاهات فى الفكر القومى اليابانى ،الذى ضرب بجذوره فى أعماق التراث
التقليدى ،عبرت عن المفهوم العائلى للدولة ،نجملها فيما يلى:
.1اتجاه يعد "العائلة" ركيزة الدولة اليابانية ،ويرى فى قيم المجتمع وأخالقياته امتداداً لقيم
األسرة وأخالقيتها ،فينادى بالوالء للحاكم باعتباره واجباً أخالقياً يعادل الوالء لرب
األسرة ،ويجعل من الشعور الوطنى نوعاً من االنتماء العائلى.
.2اتجاه يربط بين الوالء للدولة والعائلة ،وبين "تقديس األسالف" الذى ركزت عليه
التربية -فى ذلك الحقبة -على نحو يقوم على الربط بين حقائق التاريخ واألساطير،
فاليابان "بلد اآللهة" تحكمها أسرة مقدسة ،انحدرت من صلب اآللهة.
.3اتجاه ينسج التراث األسطورى فى صورة "عبادة الدولة" مستفيداً بما أستقر فى وجدان
الناس من عقائد متوارثة بعد صبغها بالصبغة السياسية.
وساعد على رواج هذه االتجاهات والتفاف الناس حولها ،نتصار اليابان فى الحرب
الصينية -اليابانية ،والحرب الروسية -اليابانية ،واتجاه البعض إلى تفسير تلك االنتصارات
www.RaoufAbbas.org 82
فى إطار فكرة "األمة المقدسة" وعبر عن تلك االتجاهات هوزومى الذى صاغ اإلطار
النظرى لفكرة تقديس الدولة.
انحدر هوزومى من أسرة من الساموراى ،وتأثر بوالده الذى كان معلماً للتراث القومى،
وتخرج فى جامعة طوكيو اإلمبراطورية عام ،1883ثم أوفد إلى ألمانيا -فى العام التالى-
لدراسة النظم السياسية والتاريخ ،فتأثر بالفكر القومى األلمانى ،ولكنه نظر إليه من زاوية
فكرية ،ساهم التراث اليابانى التقليدى فى صياغتها بنصيب أكبر مما ساهم به الفكر الغربى،
وعبر عن آرائه على صفحات جريدتى "طوكيو اليومية" و"بريد المثقف" ،فرفض النظريات
الخاصة بسيادة الشعب منذ كان طالباً بجامعة طوكيو.
وبعد عودته إلى اليابان ( )1889نشر مقاالً شهي اًر بعنوان "عقيدة الدولة المطلقة" فسر فيه
الدستور اليابانى من وجهة نظر الفكر السياسى األلمانى ،فامتدح الشمولية واستهجن االتجاه
الفردى ،ونادى بضرورة ذوبان الفرد فى الدولة ،وناقش -فى مقال الحق -القانون المدنى
اليابا نى ،فامتدح تركيزه على "األسرة" ،ورأى فيه مفتاح الخير للبالد ،ألن اتجاه المشرع إلى
إبراز مكانة الفرد من قبل ،ساعد -فى رأيه -على نمو الرأسمالية اليابانية بالصورة التى أدت
إلى اتساع الهوة بين الغنى والفقر .ولما كانت اليابان "بلد عبادة األسالف ،فنظامها
االجتماعى يقوم على العائلة ،ومن ثم تنبع السلطة من قانون األسرة ،وما الدولة إال امتداد
لنظام العائلة".
وتبلور فكر هوزومى -عند عام -1896حول فكرة تقديس الدولة التى عبر عنها فى أحد
مقاالته بقوله ..." :إن بالدنا كانت منعزلة -فى رأيى -منذ زمن بعيد ،ولذلك لم تربطها
عالقة صداقة بالدول األجنبية ،واستطاعت بالدنا بفضل مشاعرها القومية الفريدة أن تحتفظ
بنظامها االجتماع ى والسياسى لما يربو على األلف عام .وتلك المثل الفريدة هى السبل التى
تشكلت عن طريقها عادات وتقاليد وقيم مجتمعنا ،وهى مثل ترجع أصولها إلى عقيدة
أسالفنا ،ومن ثم يح تل اإلمبراطور فى بالدنا مكانة رب العائلة ،وتمتد مبادئنا الخلقية
العظيمة المستمدة من أسالفنا إلى من يرجع إليهم أصل أمتنا وطاعة من يمثل أسالفنا -رب
عائلتنا -هو ما يجب أن ندين به لألسرة اإلمبراطورية التى يرجع إليها أصل أمتنا".
www.RaoufAbbas.org 83
وذهب إلى أن تطبيق المفهوم اليابانى للعائلة يضفى قدسية على اإلمبراطور ،الرتباطه
بعبادة األسالف التى تشكل ركيزة العقيدة اليابانية" ،فحول العرش تتجمع أرواح أجدادنا"
وبذلك ربط هوزومى بين الدولة القومية الحديثة ،ومفهوم الوالء اإلقطاعى المستمد من
الكنفوشية الذى كان ال يزال قوياً فى اليابان ،وهو ما يعنيه بقوله" :الوالء لإلمبراطور -رب
العائلة اليابانية -وطنية وحب للوطن".
وانعكست أفكار هوزومى على برامج التعليم اليابانى فى السنوات األخيرة من عصر مايجى،
وطوال عصر طايشو ،فاهتمت و ازرة التعليم بإدخال مناهج التربية الخلقية فى جميع مراحل
التعليم ،ووضعت لها كتب دراسية خاصة أشرف هوزومى على تأليفها ،ومن ثم شارك فى
وضع أصول االتجاهات الشوفينية التى غلبت على الحياة الفكرية السياسية فى اليابان حتى
نهاية الحرب العالمية الثانية وخلقت تربة صالحة لنمو الفاشية.
وهكذا كان التطور الفكرى فى عصر مايجى (عصر النهضة) يموج بتيارات عديدة ،بعضها
يعكس المؤثرات الغربية كالليبرالية والمسيحية واالشتراكية وهى تيارات غلبت على الحياة
الفكرية فى النصف األول من ذلك العصر ،فى مرحلتى "التحضر والتنوير" "وتقوية الجيش
واثراء األمة" وهما المرحلتان اللتان بلغ التأثر بالغرب فيهما ذروته ،وتحول التيار القومى -
فى النصف الثانى من عصر مايجى -إلى اتجاه شوفينى يستمد ركائزه من الفكر التقليدى
القديم ،ويقدم إطا اًر نظرياً لحركة التوسع اإلمبريالى التى بدأتها اليابان فى تلك الحقبة،
وحققت فيها نجاحاً كبي اًر من الطريق أمام ذلك التيار الفكرى الذى استقر على تقديس الدولة
على أساس نظرية ربطت بين التاريخ واألساطير والعقائد الموروثة ،وراح يصوغ من ذلك كله
إطا اًر للدولة الحديثة ،وكان ذلك التناقض الخطير الذى عاشه جيل ذلك العصر ،وهو الجيل
الذى نشأ فى مجتمع أسرف فى االقتباس من منجزات الحضارة الحديثة ،بقيم مستمدة من
عصر ا إلقطاع ،فعانى مثقفو عصر مايجى أزمة نفسية انعكست على األدب ،الذى حفل
بمواقف الصراع بين األسرة والفرد ،حيث تكون الغلبة دائماً لألسرة.
ونستطيع أن نبين مالمح ذلك الصراع الكامن تحت سطح المجتمع فى أعمال ناتسومى
سوسيكى ( .)1916 -1867ففى روايته "ماذا بعد؟" يصف انطباع بطل الرواية الشاب عن
أبيه ،فيقول:
www.RaoufAbbas.org 84
"تلقى والده تعليمه على النحو الذى كان ينشأ عليه الساموراى قبل عصر مايجى ..وما
تعلمه األب أصبح يغاير حقائق الحياة اليومية ،ولكنه ما زال يعتقد فى صالحية تلك القيم،
التى تربى عليها -لكل العصور ،-رغم أن ظروف الحياة أثبتت عكس ذلك ،فقد تغير
أسلوب حياته بتغير ظروف المعيشة ،حتى أصبح واقعه اليوم ال يكاد يشبه واقع األمس إال
قليالً ،رغم أنه ال يشعر بذلك التغيير وال ريب أنه يظن أن تربيته العسكرية الصارمة هى سر
نجاحه ولكن دايسكى (االبن الشاب) ينظر إلى األمور بصورة أخرى .فكيف يستطيع المرء
تلبية حاجات الحياة العصرية من خالل قيم إقطاعية ،إنه مهما بذل من جهد ،فالصراع بينه
وبين نفسه واقع ال محالة".
ويتجلى ذلك التباين بين ما حققته اليابان من تطور عصرى ،وبين القيم التقليدية للمجتمع
اإلقطاعى فى رواية أخرى كتبها شيمازاكى طوسون ( )1943 -1872بعنوان "الوصية
الوهمية" ،صور فيها موقف المجتمع -فى عصر مايجى -من طبقة المنبوذين الذين لم
يتقبلهم المجتمع رغم إلغاء النظام الطبقى القديم -قانوناً -ومنحهم حقوق طبقة العامة ،فيبين
لنا الطريقة المزرية التى عومل بها معلم ناجح يحظى باحترام وتقدير تالميذه ،ويعترف
زمالؤه ومدير المدرسة بكفاءته ،عندما يكتشفون أصله االجتماعى القديم ،نتيجة اضط ارره
االعتراف لهم بذلك (رغم وصية والده له بكتمان انتمائه للمنبوذين) ورغم تمسك التالميذ
بمعلمهم ،فصل من وظيفته واضطر إلى الهجرة إلى الواليات المتحدة األمريكية ما دام
المجتمع اليابانى ينكره ،وال يعترف بآداميته ،فضالً عن االعتراف بخدماته لوطنه.
ومهما كان األمر ،فإن هذا الصراع بين جيل الشباب الذين تفتحت أعينهم على مجتمع
(عصرى) يعيش بقيم إقطاعية بالية ،لم يكن يستطيع التعبير عن سخطه بصراحة مطلقة،
ألن أحداً من اليابانيين لم يكن يجرؤ على الجهر بمناصبة قيم المجتمع العداء دون أن يجد
نفسه فى مواجهة تهمة الخيانة للدولة ،ودون أن يعد خارجاً على عقيدة األمة اليابانية ،وقد
تحمل المثقفون اليابانيون عبء هذه المعاناة نتيجة التناقض بين واقع الحياة ،وقيم المجتمع
ردحاً طويالً من الزمان.
www.RaoufAbbas.org 85
خاتمة
تعرض الشرق األقصى لضغوط الغرب فى صورة موجة إمبريالية اجتاحت المنطقة فى
النصف األول من القرن التاسع عشر ،وتمثلت تلك الضغوط فى حربين شنتهما بريطانيا
على الصين ،وأقامت -مع غيرها من الدول األوروبية -عالقاتها مع الصين على أساس ما
عرف "بدبلوماسية الزوارق الحربية" ولعبت تلك السياسة دو اًر هاماً فى إجبار اليابان على
فتح موانيها للتجارة الدولية ،كما تمثلت تلك الضغوط فى التحديات التى واجهت األسس
التقليدية لثقافة البلدين (الصين واليابان) نتيجة لزحف المؤثرات الغربية -من علوم ،وأفكار
وأنماط حياة وغيرها -على تلك المنطقة.
أما فى اليابان ،فقد نجح القوم فى (استخدام البرابرة لمواجهة البرابرة) ،فاستفادوا من علوم
الغرب وثقافته فى صياغة مشروع للنهضة رمى إلى بناء دولة (حديثة) ،على درجة من القوة
تمكنها من الوقوف مع الغرب على قدم المساواة ،ومن ثم تفرقت السبل باليابان والصين،
فعلى حين اتجهت األولى نحو التصنيع واقامة أداة عسكرية عصرية قوية ،وقعت األخرى
فريسة للفاقة والحروب األهلية واألطماع التوسعية للدول الكبرى ،بل بلغت المحنة ذروتها
عندما هزمت الصين أمام اليابان.
وكانت النهضة اليابانية (عصر مايجى) تعبي اًر عن الطريق الذى اختارته اليابان بفضل
قيادتها السياسية التى انتهجت سبيل اإلصالح ،ونجحت فى تحقيقه واتخذت منه أداة
لمواجهة التحدى الغربى ،ولذلك كانت تجربة النهضة اليابانية تجربة فريدة ،لم تجذب أنظار
الباحثين فحسب ،بل كانت موضع جدل دار بينهم حول تحديد طبيعة المجتمع اليابانى فى
www.RaoufAbbas.org 86
ذلك العصر ،شارك فيه المؤرخون اليابانيون فيما بعد ،وعكست تحليالتهم للتجربة المنطلقات
الثقافية والفكرية التى جاءوا منها.
ورغم تعدد اال تجاهات فى تفسير النهضة اليابانية الحديثة ،فقد خلقت استجابة اليابان
للتحدى الغربى مجتمعاً جديداً ،ألقينا الضوء عليه فى الفصول السابقة من هذا الكتاب،
وبذلك استطاعت اليابان أن تتعامل مع الدول الغربية على قدم المساواة ،على حين بقى
المجتمع الصينى -الذى واجه نفس التحدى -على ما هو عليه ،متمسكاً بتالبيب القديم،
رافضاً للغرب ولكل ما يأتى به.
ولما كانت تجربة النهضة اليابانية تشغل بال المثقفين العرب ،وكثي اًر ما يشار إليها باعتبارها
"نموذجاً" يمكن االهتداء به فى عالج ما شاب نهضة أمتنا من أوجه القصور ،يجب أن
نتوقف أمام سؤال قد يعن للقارئ :إلى أى مدى يمكن أن تفيد البالد النامية (أو ما كان
يسمى بالعالم الثالث) بتجربة النهضة اليابانية ،وما مدى إمكان تكرار التجربة فى بالد
"شرقية" أخرى؟!
يروج بعض الكتاب السياسيين اليابانيين إلمكانية استفادة بالد العالم الثالث التى تتلمس
طريقها إلى النهضة ،وتسعى سعياً حثيثاً لتنمى اقتصادياتها ،من تجربة النهضة اليابانية،
ويصب هذا الرأى -عندهم -فى االتجاه القومى اليابانى الموروث من ذلك العصر ،من
حيث قدرة اليابان على النهوض بالشرق ،والدور الحضارى الذى يقع على عاتق اليابان
لتمدين الشرق الذى كان جوهر الدعاية المصاحبة للتوسع اليابانى اإلمبريالى فى آسيا حتى
نهاية الحرب العالمية الثانية.
ولكننا ال نشارك أولئك الكتاب الرأى ،فقد اتخذت تجربة النهضة اليابانية مسا اًر فريداً -يرجع
إلى ظروفها التاريخية الخاصة -يجعلها نموذج ًا ال يمكن أن يتكرر تك ار اًر نمطياً ،لعوامل
عدة ،من بين هذه العوامل أن اليابان تمكنت من تنمية وتكوين سوقها الوطنية المستقلة
الخاصة بها -إلى حد ما -فى أواخر عصر طوكوجاوا بالقدر الذى جعل النمو االقتصادى
الحديث ممكناً ،وفتح الطريق أمام االنتقال إلى المرحلة الرأسمالية بفضل ما حققه رأس المال
التجارى اليابانى من تراكم أغنى البالد عن اللجوء إلى الممولين األجانب على نطاق واسع،
www.RaoufAbbas.org 87
ال -على عهد محمد سعيد باشا والخديوى إسماعيل ،أما
على نحو ما حدث فى مصر -مث ً
بالد العالم الثالث -فى آسيا وأفريقيا -فكانت مستعمرة أو شبه مستعمرة ،ومن ثم كانت
أسواقها ترتبط بالسوق العالمية (واإلمبريالية خاصة) حيث تضخ فوائض اقتصادها فى خزائن
بنوك الدول األوروبية التى تفرض عليها هيمنتها :وكان على تلك البالد أن تسعى لتستقل
بسوقها الوطنية أوالً ،بما يترتب على ذلك من تغير فى طبيعة اإلنتاج الذى يقتصر على
إنتاج المواد األولية فى األغلب واألعم ،وال يتحقق ذلك إال بإعادة هيكلة االقتصاد وتعديل
توجهاته تعديالً جذرياً وهو أمر من الصعوبة بمكان.
ومن أهم عوامل تميز تجربة النهضة اليابانية عن ظروف بالد العالم الثالث ،أن اليابان
استطاعت -فى ظروف تاريخية معينة -أن تتحول إلى قوة إمبريالية ،ومن ثم استطاعت أن
تحقق نمواً اقتصادياً سريعاً ،بفضل ما نهبته من ثروات البالد اآلسيوية التى وقعت تحت
نيرها ،وخاصة كوريا والصين وبذلك اعتمدت اليابان فى نموها االقتصادى المتصاعد على
نهب موارد الشعوب التى وقعت تحت نيرها ،أما بالد العالم الثالث فكانت ضحية النهب
اإلمبريالى ،وكان تخلفها نتيجة طبيعية لما تعرضت له من استنزاف لمواردها االقتصادية.
وأخي اًر ،نجحت اليابان فى توظيف تراثها الثقافى الذى يرقى إلى مستوى العقيدة (الشنتو) فى
تعبئة اليابانيين لخدمة مشروع النهضة فى إطار من التضحية ونك ارن الذات ،جعل من
معوقات سياسة التنمية أم اًر غير ذى بال ،وأدى إلى تجنيب البالد الكثير من المخاطر
االجتماعية المصاحبة للنمو الرأسمالى.
ال
ومن ثم ال تعد تجربة النهضة اليابانية نموذجاً تفيد به شعوب العالم الثالث ،وتتخذ منه مث ً
يحتذى به ،فليس هناك نمط واحد للهيكل االجتماعى فى تلك البالد ،وانما تتعدد األنماط
وتختلف باختالف تلك المجتمعات عن بعضها البعض ولعل أهم ما يمكن االستفادة به من
تجربة النهضة اليابانية بالنسبة لبالد العالم الثالث هو ذلك النجاح الملحوظ الذى حققته
التجربة اليابانية فى هضم المؤثرات الثقافية الغربية وتمثلها فى نسيج جديد من الثقافة
الوطنية ،يوفر سبيل االستفادة منها وتوظيفها لخدمة مشروع النهضة.
www.RaoufAbbas.org 88
المراجع
(أ)مراجع عربية
دار الكتاب، الطبعة األولى، المجتمع اليابانى فى عصر مايجى: رءوف عباس حامد-
الطبعة،1997 القاهرة، نهضة الشرق، الطبعة الثانية،1980 القاهرة،الجامعى
.2000 القاهرة، مريت للنشر،الثالثة
دراسة مقارنة لفكر رفاعة الطهطاوى، التنوير فى مصر واليابان: رءوف عباس حامد-
.2001 القاهرة، ميريت للنشر،وفوكو ازوا بوكيتيش
- Hamilton, D.G: Modern Japan and Shinto Nationalism, New York 1963.
www.RaoufAbbas.org 89