You are on page 1of 89

‫النهضة اليابانية الحديثة‬

‫أ‪.‬د‪ .‬رءوف عباس حامد‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪1‬‬
‫محتويات الكتاب‬

‫مقدمة‪4 ........................................................................................................‬‬
‫تمهيد ‪ -‬تكوين اليابان ما قبل النهضة ‪6 ................................................................‬‬
‫الفصل األول ‪ -‬دعائم النهضة ‪16 .......................................................................‬‬
‫اإلصالح اإلدارى ‪17 ....................................................................................‬‬
‫اإلصالح االجتماعى ‪18 ................................................................................‬‬
‫اإلصالح القضائى ‪19 ...................................................................................‬‬
‫الجيش الحديث ‪20 .......................................................................................‬‬
‫التعليم الحديث ‪21 ........................................................................................‬‬
‫الفصل الثانى ‪ -‬بناء االقتصاد الوطنى ‪26 .............................................................‬‬
‫رأس المال المصرفى ‪28 ................................................................................‬‬
‫الصناعات اإلستراتيجية ‪30 .............................................................................‬‬
‫رعاية الدولة للقطاع الخاص ‪33 .......................................................................‬‬
‫النمو االقتصادى ‪35 .....................................................................................‬‬
‫الفصل الثالث ‪ -‬بناء إمبراطورية آسيوية ‪38 ...........................................................‬‬
‫التوسع فى كوريا ‪40 .....................................................................................‬‬
‫الحرب الصينية‪-‬اليابانية ‪41 ............................................................................‬‬
‫التنافس الروسى‪ -‬اليابانى ‪44 ..........................................................................‬‬
‫التحالف البريطانى‪ -‬اليابانى ‪44 .......................................................................‬‬
‫الحرب الروسية‪ -‬اليابانية ‪45 ...........................................................................‬‬
‫أثر التوسع اإلمبريالى على النمو االقتصادى‪49 ...................................................‬‬
‫الفصل الرابع ‪ -‬الحركة السياسية ‪51 ....................................................................‬‬
‫حركة المطالبة بالحياة النيابية ‪52 .....................................................................‬‬
‫قيام األحزاب السياسية ‪56 ..............................................................................‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪2‬‬
‫وضع الدستور ‪58 ........................................................................................‬‬
‫الحياة النيابية ‪62 .........................................................................................‬‬
‫الفصل الخامس ‪ -‬التطور الفكرى ‪67 ...................................................................‬‬
‫الفكر التقليدى ‪67 .........................................................................................‬‬
‫مرحلة االنتقال ‪71 ........................................................................................‬‬
‫مرحلة التحضر والتنوير ‪73 ............................................................................‬‬
‫مرحلة الحرية وحقوق الشعب ‪78 ......................................................................‬‬
‫الفكرة اليابانية والفكرة الشرقية ‪79 ......................................................................‬‬
‫فكرة تقديس الدولة ‪82 ....................................................................................‬‬
‫خاتمة‪86 ......................................................................................................‬‬
‫المراجع ‪89 ....................................................................................................‬‬
‫(أ)مراجع عربية ‪89 .......................................................................................‬‬
‫(ب)مراجع إنجليزية مختارة ‪89 .........................................................................‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪3‬‬
‫مقدمة‬
‫تعانى المكتبة العربية نقصاً شديداً فى الدراسات المتعلقة بآسيا‪ :‬تاريخها‪ ،‬وحضارتها وشئونها‬
‫السياسية واالقتصادية‪ ،‬ويرجع ذلك إلى اهتمام المثقفين بما يجرى فى الغرب ببعديه األوربى‬
‫واألمريكى‪ ،‬باعتباره المهيمن على بالدنا‪ ،‬والذى يأتينا منه دائماً ما يؤثر على واقع بالدنا‬
‫الراهن ومستقبلها‪.‬‬

‫ورغ م أننا اكتشفنا أهمية التضامن مع آسيا وأفريقيا فى مرحلة التحرر الوطنى ونسقنا سياستنا‬
‫مع بالدها فى إطار حركة عدم االنحياز أيام الحرب الباردة‪ ،‬إال أن ذلك التنسيق السياسى‬
‫لم يترتب عليه محاولة لفهم واقع أولئك الشركاء فى النضال من أجل االستقالل‪ ،‬فلم نقدم‬
‫على الدراسة العلمية لتاريخ تلك البالد وتجاربها فى إعادة بناء مؤسساتها فى العصر‬
‫الحديث‪ ،‬ومن ثم كان حصاد التنسيق السياسى معها فى إطار حركة عدم االنحياز يفتقر‬
‫إلى البعدين االقتصادى والسياسى‪.‬‬

‫وهكذا تأخر اهتمامنا بتجارب شعوب آسيا حتى النصف الثانى من العقد األخير من القرن‬
‫العشرين عندما تأسس مركز الدراسات اآلسيوية بجامعة القاهرة‪ ،‬واستطاع خالل سنوات قليلة‬
‫أن يثرى المكتبة العربية بدراسات وبحوث قيمة فى هذا المجال‪.‬‬

‫ومن بين التجارب النهضوية اآلسيوية‪ ،‬تحتل النهضة اليابانية الحديثة مركز االهتمام عند‬
‫شعوب آسيا وأفريقيا‪ ،‬وليس عند العرب وحدهم‪ ،‬فقد أثار الصعود المفاجئ لليابان من بلد‬
‫مهمش ال شأن له إلى قوة إمبريالية انضمت إلى نادى الدول الكبرى قبل أن يطوى القرن‬
‫التاسع عشر صفحته‪ ،‬أثار اهتمام العالم بقدر ما أصاب الشعوب المستضعفة البعيدة عن‬
‫أخطار التوسع اليابانى بقدر كبير من اإلعجاب‪ ،‬الذى حول التجربة اليابانية إلى نوع من‬
‫"المعجزة" التى نسجت حولها هالة أقرب إلى األسطورة منها إلى الحقيقة‪.‬‬

‫وقد كان المؤلف واحداً ممن بهرتهم التجربة اليابانية عندما أتيحت له فرصة اإلقامة باليابان‬
‫كباحث زائر (‪ ،)1973-1972‬فعكف على سبر غور التجربة عن طريق الدراسة العلمية‬
‫المتأنية‪ ،‬حتى ا ستطاع أن يقدم للمكتبة العربية أول دراسة للنهضة اليابانية الحديثة (عام‬
‫‪ )1980‬نشرت بعنوان "المجتمع اليابانى فى عصر مايجى" أعيد طبعها ثالث مرات خالل‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪4‬‬
‫عقدين من الزمان‪ ،‬اعتمد المؤلف فى كتابتها على المصادر اليابانية المترجمة لإلنجليزية‪،‬‬
‫كما ا ستعان فى الرجوع إلى ما لم يترجم من المصادر الهامة بمن ساعدوه على استخالص‬
‫المادة منها من اليابانيين‪ ،‬كما اطلع على أهم مؤلفات مدرسة االستشراق عن اليابان‪،‬‬
‫وخاصة ما اتصل منها بعصر النهضة‪.‬‬

‫والكتاب الذى نقدمه يعتمد بالدرجة األولى‪ -‬على تلك الدراسة التى عدها بعض النقاد (رائدة)‬
‫فى هذا المجال‪ ،‬كما يعتمد على ثمار األبحاث األخرى التى قام بها المؤلف‪ ،‬ونشر بعضها‬
‫باإلنجليزية فى طوكيو وبعضها يعتمد على الكتابات األساسية التى نشرت باإلنجليزية‬
‫لمؤلفين آخرين‪.‬‬

‫ويهدف الكتاب إلى إلقاء الضوء على تجربة النهضة اليابانية‪ ،‬ووضعها فى مكانها الصحيح‬
‫بقدر كبير من الموضوعية التى تضرب بجذورها فى أعماق تاريخ اليابان وثقافتها‪ ،‬حتى‬
‫يتعرف القارئ العربى على حقيقة التجربة دون مبالغة تصل إلى حد اإلبهار‪ ،‬ودون استهانة‬
‫تصل إلى حد اإلجحاف‪ ،‬لعلنا نستطيع أن نخرج من التعرف على أبعاد تلك التجربة بما يفيد‬
‫أمتنا فى تطلعها إلى اللحاق بركب التقدم‪.‬‬

‫وهللا ثم الوطن العزيز من وراء القصد‪.‬‬

‫المؤلف‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪5‬‬
‫تمهيد ‪ -‬تكوين اليابان ما قبل النهضة‬
‫تقع اليابان فى أقصى شرقى آسيا‪ ،‬وتتكون من أربع جزر رئيسية هى من الشمال إلى‬
‫الجنوب هوكايدو‪ ،‬وهونشو‪ ،‬وشيكوك‪ ،‬وكيوشو‪ ،‬وما يزيد على مائة جزيرة صغيرة تحف بتلك‬
‫الجزر‪ ،‬وتكون قوساً طرفه الشمالى جزيرة سخالين وطرفه الجنوبى قبالة شبه جزيرة كوريا‪،‬‬
‫ويفصل هذا القوس الذى ينتظم الجزر اليابانية عن الساحل اآلسيوى بحر اليابان‪ ،‬وكانت‬
‫بذلك اليابان على اتصال بالقارة اآلسيوية من خالل سخالين وكوريا‪ ،‬وعبر هذين المعبرين‬
‫جاء إلى الجزر اليابانية فى القرنين‬
‫األخيرين قبل الميالد نوعان من‬
‫البشر سكنوا هذه الجزر‪ ،‬فجاء‬
‫"األينو" من جنوب سيبيريا إلى‬
‫بينما‬ ‫هونشو‪،‬‬ ‫وشمال‬ ‫هوكايدو‬
‫جاءت عناصر ذات أصول مغولية‬
‫إلى منطقة وسط اليابان (هونشو‬
‫وشيكوك) عبر شبه جزيرة كوريا‪،‬‬
‫وحمل البحر األصفر والمحيط‬
‫الهادى عناصر أخرى ذات أصول‬
‫ماالوية جاءت عبر جزيرة فورمو از‬
‫وجزر ريوكيو فى الجنوب‪.‬‬

‫وتلقى هذه التكوينه البشرية بظاللها على ما أصبح يسمى بالشعب اليابانى‪ ،‬فاألينو طوال‬
‫القامة نسبيا تميل بشرتهم إلى البياض‪ ،‬وتضيق حدقات عيونهم فيبدون شبه مغمضى‬
‫األعين‪ ،‬على حين تتسم العناصر ذات األصل المغولى بالقامة المتوسطة وميل لون البشرة‬
‫إلى الشحوب (وهو ما يطلق عليه البعض خطأ اللون األصفر)‪ ،‬أما العناصر ذات األصل‬
‫الماالوى فتمتاز بقصر القامة والنحافة وسمرة لون البشرة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪6‬‬
‫ورغم غموض تاريخ اليابان القديم فى القرنين السابقين على ميالد المسيح (حيث يبدأ‬
‫العصر الحجرى الحديث فى تلك البالد مع بداية الميالد)‪ ،‬فمن المؤكد أن صراعاً دموياً دار‬
‫بين العناصر التى سكنت تلك الجزر‪ ،‬كان ضحيته "األينو" أقدم سكان اليابان فطردوا أوالً‬
‫من هونشو‪ ،‬فتجمعوا فى هوكايدو‪ ،‬ثم تعرضوا فى أوائل عصر مايجى (سبعينيات القرن‬
‫التاسع عشر) إلى عملية تطهير عرقى حولتهم إلى أقلية ضئيلة العدد‪ ،‬ظلت مهملة حتى‬
‫منتصف القرن العشرين محرومة من الخدمات األساسية التى تمتع بها غيرهم من اليابانيين‬
‫كالتعليم والخدمة الصحية وظلوا يمارسون حرفة الصيد فى الغابات‪ ،‬يقيمون فى قرى معزولة‬
‫ب عيدة عن العمران‪ ،‬أما العنصران اآلخران‪ :‬المغول والماالو‪ ،‬فقد وحدهما الصراع ضد األينو‬
‫– على ما يبدو – فال نسمع عن تصفيات دموية جرت بينهم على نحو ما حدث مع األينو‪،‬‬
‫ولعل من بين عوامل الوحدة بينهم تشابه درجة التطور الحضارى بينهم من حيث كونهم أهل‬
‫فالحة واستقرار كما كانت لهم خبرة بركوب البحر واالعتماد عليه مصد اًر للرزق‪ ،‬بينما كان‬
‫األينو يعيشون مرحلة الصيد وما تطلبه من تنقل داخل الغابات بحثاً عن الرزق‪.‬‬

‫وال يعرف المؤرخون على وجه الدقة متى بدأ اندماج المغول والماالو ليكونوا شعباً واحداً‪،‬‬
‫ولعل تلك العملية استغرقت نحو القرن من الزمان أو ما يزيد على القرن ببضعة عقود‪ ،‬أنتج‬
‫بعدها هذا االندماج األسطورة التى تحدد إطا اًر تخيلياً لتلك المرحلة الغامضة من تاريخ‬
‫اليابان القديم‪ ،‬تقول تلك األسطورة بأن األرض والسماء كانتا كتلة واحدة‪ ،‬ثم انفصلت السماء‬
‫عن األرض‪ ،‬وبعد انفصالهما هبطت اإللهة إيزانامى واإلله إيزاناجى من السماء إلى جزيرة‬
‫أونوكورو (األرض)‪ ،‬وخلقا معاً جزيرة اوياشيما (الجزر اليابانية)‪ ،‬ثم خلقا بعد ذلك بقية‬
‫اآللهة‪ ،‬إله الرياح‪ ،‬واله الجبال والغابات‪ ،‬واله العواصف‪ ،‬ولقيت اإللهة إيزانامى حتفها حين‬
‫وضعت إله النار‪ ،‬وعندما اشتاق زوجها إيزاناجى لرؤيتها‪ ،‬ذهب إلى أرض الليل حيث التقى‬
‫بها‪ ،‬ثم عاد مرة أخرى إلى العالم‪ ،‬واغتسل من تراب عالم الموت‪ ،‬فإذا بثالثة آلهة يخرجون‬
‫من عينيه وأنفه‪ ،‬ومن بين هؤالء الثالثة إلهة الشمس التى أعطت اسمها لليابان ‪Nippon‬‬
‫(أى منبع الشمس) وأنجبت بدورها األسرة اإلمب ارطورية الحاكمة‪ ،‬ومن ثم فاليابان أرض‬
‫مقدسة‪ ،‬يحكمها سليل اآللهة‪ ،‬وشعبها متميز على غيره من الشعوب التى لم يسعدها الحظ‬
‫بهذا النسب فهى تعد شعوباً همجية أو متبربرة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪7‬‬
‫لقد حلت هذه األسطورة مشكلة تكوين الشعب اليابانى‪ ،‬وان كانت تحمل (ضمناً) ما يفيد‬
‫اندماج المغول والماالو ليكونوا شعباً واحداً فى القرن األول للميالد (على أكثر تقدير)‪،‬‬
‫إطار العقيدة اليابانية التى عرفت بالشنتو ‪( Shinto‬أى طريق‬ ‫وشكلت تلك األسطورة‬
‫اآللهة)‪ ،‬وهى العقيدة التى بنيت عليها فكرة قداسة اإلمبراطور (أى ألوهيته)‪ ،‬واعتقاد عامة‬
‫الناس أن النظر إلى شخص اإلمبراطور يصيب المرء بالعمى لما يشعه سليل الشمس من‬
‫ضوء وهاج‪ ،‬ومن ثم يخرون له ساجدين مغمضى العيون أو ناظرين إلى األرض!!‬

‫وظل هذا االعتقاد قائماً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية عندما احتل الجيش األمريكى‬
‫اليابان‪ ،‬وأجبر اإلمبراطور هيروهيتو أن يذيع بياناً بصوته يعلن فيه أنه بشر كغيره من‬
‫الناس‪ ،‬أنه ليس إلها‪ ،‬وال يمت لآللهة بصلة‪ ،‬وقد آذى هذا اإلعالن مشاعر اليابانيين‪ ،‬ولم‬
‫تختف فكرة ألوهية اإلمبراطور نهائياً إال بعد نشوء جيل جديد تربى على مناهج دراسية تركز‬
‫على نفى هذه الفكرة ونقدها‪.‬‬

‫ما يعنينا هنا أن الشعب اليابانى صاغ لنفسه ‪-‬بهذه األسطورة‪ -‬هوية خاصة فى القرن‬
‫األول للميالد‪ ،‬وكان ‪-‬فى نفس الوقت‪ -‬يتصل تجارياً وثقافياً بالصين‪ ،‬فتعلم اليابانيون من‬
‫الصين الشيء الكثير فيما يتعلق بأمور الحياة اليومية فى الزراعة وبناء المدن وغير ذلك من‬
‫متطلبات الحياة‪ ،‬كما نقلوا عن الصين طريقة الكتابة الصينية باستخدام تراكيب رمزية تخط‬
‫بطريقة معينة لتعبر عن حركات صوتية‪ ،‬وقد جاءت "البوذية" إلى اليابان عبر الصين فى‬
‫القرن الثالث الميالدى‪ ،‬كما جاءتها "الكنفوشية" من الصين فيما بعد‪ ،‬وقد طوع اليابانيون كل‬
‫ما اقتبسوه من الصين أو تعلموه منها لخدمة متطلبات حياتهم بقدر ما طوعوا "البوذية"‬
‫و"الكنفوشية" لتتفق كل منهما مع "الشنتو" العقيدة اليابانية المتوارثة‪.‬‬

‫وال يعنى إضفاء القداسة على األسرة اإلمبراطورية الحاكمة أن اليابان عاشت فى ظل إدارة‬
‫مركزية تقبض على زمام األمور فى البالد دون منازع‪ ،‬فقد شهد تاريخ اليابان ص ارعات بين‬
‫الطامعين فى السلطة جرت فيها الدماء أنها اًر‪ ،‬شارك فى بعضها أمراء من البيت‬
‫اإلمبراطورى‪ ،‬كما شارك فيها بعض القادة العسكريين‪ ،‬وحاول كل من هؤالء ومن شايعه من‬
‫األتباع أن تكون له اليد العليا فى البالط اإلمبراطورى ولم يكن أمام اإلمبراطور سوى أن‬
‫يمنح بركاته واعترافه لمن غلب‪ ،‬فيخلع عليه من األلقاب ما يعطيه حق النيابة عن‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪8‬‬
‫اإلمبراطور فى حكم البالد‪ ،‬وفى بعض المراحل من تاريخ اليابان كانت السلطة الفعلية‬
‫لإلمبراطور ال تتجاوز أسوار قصره فى مدينة كيوتو التى كانت عاصمة البالد‪.‬‬

‫أما المتنافسون على السلطة فكان لمن غلب منهم حق حكم البالد حكماً مطلقاً ‪-‬باسم‬
‫اإلمبراطور‪ -‬بل وتكوين إدارة خاصة به تتولى إدارة أمور البالد‪ ،‬ويخضع لها الجميع‪،‬‬
‫يختار لها مق اًر بعيداً عن العاصمة كيوتو حتى يتخلص من دسائس رجال البالط‪ ،‬فكانت‬
‫مدينة كاماكو ار مق ار لهذه اإلدارة التى عرفت باسم الباكفو (أى الحكومة) فيما بين القرنين‬
‫الثانى عشر والرابع عشر‪ ،‬وعادت إلى كيوتو نحو ‪130‬عاماً لتسود البالد بعد ذلك فترة من‬
‫الفوضى والحرب األهلية التى كان كل طرف فيها يدعى الدفاع عن اإلمبراطور ومصالح‬
‫األسرة اإلمبراطورية المقدسة‪ ،‬واستمرت خمسة عشر عاماً نجح فى ختامها أحد القادة‬
‫العسكريين فى إعادة الوحدة إلى البالد لينتهى حكمه على يد زميل له‪ ،‬نصب نفسه حاكماً‬
‫على البالد باسم اإلمبراطور واختار مدينة إيدو ‪ Edo‬عاصمة إلدارته وتعاقبت أسرته على‬
‫حكم البالد لما يزيد عن القرنين ونصف القرن (‪ ،)1868-1603‬وهى أسرة طوكوجاوا التى‬
‫كان كبيرها يتولى منصب الشوجون وهو منصب عسكرى إدارى كبير‪ ،‬يخلعه عليه‬
‫اإلمبراطور ويفوضه أمر إدارة البالد نيابة عنه‪ ،‬على نحو شبيه بو ازرة التفويض فى الدولة‬
‫العباسية‪ ،‬بل كان وضع اإلمبراطور ‪-‬فى ظل ذلك النظام‪ -‬يماثل وضع الخليفة العباسى‪،‬‬
‫وكان وضع الشوجون يماثل وضع السلطان فى العهود السلجوقية واأليوبية والمملوكية فى‬
‫تاريخ اإلسالم‪.‬‬

‫واتجه نظام طوكوجاوا اإلقطاعى إلى انتهاج سياسة تضمن استم ارره‪ ،‬قامت على تجميد‬
‫بنيان المجتمع من خالل القيود والضوابط التى فرضت على كل طبقة من طبقاته‪ ،‬فكان لكل‬
‫منها زيها الخاص وعاداتها الخاصة‪ ،‬وقيمها السلوكية الخاصة بها‪ ،‬والتى تختلف كثي اًر عن‬
‫الطبقات األخرى‪ ،‬وكان التميز واضحاً جلياً بين طبقة المحاربين (الساموراى) وطبقة العامة‬
‫من الفالحين‪ ،‬فأصبح المجتمع ‪-‬فى ذلك العصر‪ -‬يشتمل على مجموعة من الفئات‬
‫االجتماعية التى تعلو بعضها بعضاً تبعاً لدرجة سموها من الناحية االجتماعية‪ ،‬ولم يجد‬
‫الناس غضاضة فى هذا التميز االجتماعى ألن فكرة "المساواه" لم تكن واردة فى عقيدة‬
‫"الشنتو" التى يؤمن بها اليابانيون‪ ،‬فالناس ‪-‬عند الشنتو‪ -‬غير متساوين ألن دماءهم ليست‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪9‬‬
‫واحدة‪ :‬اإلمبراطور ‪-‬مثالً‪ -‬تجرى فى عروقه دماء اآللهة‪ ،‬وعلية القوم تجرى فى عروقهم‬
‫دماء نبيلة‪ ،‬أما عامة الناس (الفالحين) فتجرى فى عروقهم دماء عادية‪ ،‬وكذلك الحال‬
‫بالنسبة للتجار (وان كانوا أدنى منزلة من الفالحين)‪ ،‬أما المنبوذون فهم ليسوا من البشر‪،‬‬
‫والدماء التى تجرى فى عروقهم دماء حيوانية‪.‬‬

‫كذلك حرص نظام طوكوجاوا على إبعاد كل تأثير أجنبى محتمل على البنيان االجتماعى‬
‫للبالد‪ ،‬ولما كان تأسيس النظام قد واكب المد االستعمارى األوروبى اإلسبانى والبرتغالى‬
‫والهولندى فى الشرق األقصى‪ ،‬فقد حرصت حكومة طوكوجاوا على إبعاد البالد عن أية‬
‫مؤثرات قد تفد من الغرب‪ ،‬ومن ثم حرم النشاط التبشيرى المسيحى‪ ،‬وطرد التجار اإلسبان‬
‫(عام ‪ )1624‬والبرتغاليين (عام ‪ )1638‬وكان قد صدر قبلها بعام (أى عام ‪ )1637‬قرار‬
‫يمنع سفر اليابانيين خارج البالد‪ ،‬نص على توقيع عقوبة اإلعدام على أى شخص يغادر‬
‫البالد وذلك فور عودته إليها‪.‬‬

‫واقتصر اإلتجار مع العالم الخارجى على محطة تجارية واحدة‪ ،‬أقيمت فوق جزيرة صناعية‬
‫فى مواجهة ميناء نجاساكى‪ ،‬سميت بجزيرة ديشيما‪ ،‬وكان يفصلها عن ساحل نجاساكى‬
‫جسر متحرك ينصب فى النهار ويرفع فى الليل وسمح لكل من الصينيين والهولنديين‬
‫باال تجار مع اليابان على أرض تلك الجزيرة وحدها‪ ،‬وتحت الرقابة المشددة لحكومة‬
‫طوكوجاوا‪.‬‬

‫وقبعت أسرة طوكوجاوا على قمة الهرم االجتماعى يليها حكام المقاطعات ثم العسكر‬
‫(الساموراى)‪ ،‬هم جميعاً يكونون كياناً اجتماعياً متعدد الشرائح يمثل الحكام‪ ،‬وكان الفالحون‬
‫يشكلون كياناً اجتماعياً أدنى مرتبة‪ ،‬وينقسمون بدورهم إلى أصحاب الحيازات الزراعية يليهم‬
‫من حيث المنزلة االجتماعية الفالحون المعدمون‪ ،‬وتحمل الفالحون عبء إعالة طبقة الحكام‬
‫بما يقدمون من ضرائب باهظة لم تترك لهم إال فائضاً محدوداً ال يكاد يكفى إلقامة أود‬
‫عائالتهم‪ ،‬حتى شاع بينهم وأد األطفال عند والدتهم تخلصاً من نفقة تربيتهم وكانوا يرهنون‬
‫الذكور من أبنائهم مقابل ما يقترضون من ديون وباعوا بناتهم لالشتغال بالحانات والدعارة‬
‫لسداد ما عليهم من ديون‪ ،‬وحرم عليهم االنتقال من قراهم‪ ،‬وقد أدى بؤس الفالحين ‪-‬فى‬
‫نهاية األمر‪ -‬إلى انفجار ثوراتهم فى مطلع القرن التاسع عشر‪ ،‬وجاء الحرفيون فى المرتبة‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪10‬‬
‫التالية للفالحين‪ ،‬يليهم التجار ألنهم ‪-‬حسب الثقافة التقليدية السائدة‪ -‬يحصلون على الثروة‬
‫دون عمل‪ ،‬ويشجعون على الحياة المرفهة‪ ،‬ويفسدون عقول الناس‪ ،‬ويقف المنبوذين خارج‬
‫السلم االجتماع ى باعتبارهم أدنى منزلة من البشر‪ ،‬ويندرج فى تلك الفئة من ولدوا آلباء من‬
‫المنبوذين أو من يشتغلون بمهن دنيئة كالج ازرين والدباغين والحالقين وكذلك المعوقين‬
‫وأصحاب العاهات البدنية حتى لو كانوا ‪-‬أصالً‪ -‬من أبناء الفالحين أو الحرفيين‪.‬‬

‫وجرت العادة على استبعاد المنبوذين من التعداد الرسمى واسقاط أماكن سكناهم من خرائط‬
‫المدن‪ ،‬وكذلك استبعاد الطرق التى تمر بمساكنهم عند تقدير المسافات‪ ،‬وكان عليهم اإلقامة‬
‫فى أماكن خاصة معزولة فى أطراف المدن‪ ،‬واعتبرت نفس المنبوذ معادلة لسبع نفس من‬
‫نفوس غيرهم عند القصاص‪.‬‬

‫ولكن النظام اإلقطاعى الذى أقامته أسرة طوكوجاوا فى اليابان‪ ،‬والذى عمر ما يزيد عن‬
‫القرنين من الزمان‪ ،‬بدأ يعانى من األزمات االقتصادية اعتبا اًر من مطلع القرن الثامن عشر‪،‬‬
‫تلك األزمات التى أخذت تنخر فى النظام حتى أودت به فى نهاية األمر‪ .‬وترجع أسباب تلك‬
‫األزمات إلى عجز موارد الزراعة عن تلبية الحاجات المتزايدة للحكام‪ ،‬مما اضطرهم إلى‬
‫التوسع فى االستدانة من التجار فى مقابل إفساح مجال العمل لهم‪ ،‬فتدخل التجار فى‬
‫اإلنتاج الزراعى لتشجيع زراعة المحاصيل النقدية‪ ،‬واقامة بعض الصناعات‪ ،‬وخاصة‬
‫الصناعات الغذائية مما أدى إلى تجاوز حدود العزلة التى فرضتها الحكومة على القرى‪،‬‬
‫وبدأـت القرى والمدن تتصل ببعضها البعض عن طريق التبادل التجارى‪.‬‬

‫وازداد الحكام حاجة إلى القروض التى يفرضون على التجار تقديمها لهم بقدر ما ازداد‬
‫صغار الفالحين بؤساً وفقدوا حيازتهم لعجزهم عن سداد ديونهم‪ ،‬كما ازداد أثرياء الفالحين‬
‫ثراء‪ ،‬ومع تفاقم هذا الخلل االجتماعى لم يجد الفالحون سبيالً سوى الثورة‪ ،‬فتعددت ثورات‬
‫الفالحين وأرهقت اإلدارة فى مقاومتها‪.‬‬

‫وجاء الضغط الغربى ليلعب الدور األساسى فى تفويض نظام طوكوجاوا‪ ،‬فبرغم العزلة التى‬
‫فرضها النظام على البالد‪ ،‬لم تتركها القوى الغربية وشأنها فكانت روسيا فى طليعة الدول‬
‫األوروبية التى رنت ببصرها إلى اليابان منذ الربع األخير من القرن الثامن عشر‪ ،‬كما أخذت‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪11‬‬
‫بريطانيا والواليات المتحدة األمريكية يبديان اهتماماً بفتح موانى اليابان للتجارة الدولية‪ ،‬ولكن‬
‫حكومة طوكوجاوا أصدرت أم اًر عام ‪ 1825‬إلى حكام المقاطعات بمنع السفن األجنبية من‬
‫االقتراب من الشواطئ اليابانية‪ ،‬وبعدما وصلت إلى اليابان أنباء هزيمة الصين فى حرب‬
‫األفيون‪ ،‬أخذت حكومة طوكوجاوا تعزز قواتها العسكرية ‪-‬تحسباً للمستقبل‪ -‬عن طريق‬
‫صناعة المدافع وتدريب الرجال على استخدامها‪ .‬وعندما أدركت أن ضغط القوى األجنبية‬
‫أقوى من أن يقاوم سمحت (عام ‪ )1842‬بتزويد السفن األجنبية التى ترد إلى مرافئ اليابان‬
‫‪-‬مضطرة‪ -‬بالطعام والماء والوقود دون الدخول معها فى عالقات تجارية‪ ،‬ورفضت اليابان‬
‫االستجابة لنصيحة ملك هولندا (‪ )1844‬بضرورة فتح موانيها للتجارة الخارجية‪.‬‬

‫غير أن الواليات المتحدة األمريكية كانت أقدر من غيرها من الدول على إجبار اليابان على‬
‫فتح موانيها أمام العالم الخارجى‪ ،‬وبعد محاوالت سلمية متعددة اقتحمت عمارة بحرية مكونة‬
‫من أربع سفن حربية خليج إيدو (‪ 8‬يوليو ‪ )1853‬بقيادة الكومودور ماثيو بيرى متجاهلة‬
‫تحذيرات قوارب الحراسة اليابانية‪ ،‬ورفض بيرى االنسحاب قبل أن يحصل على رد الشوجون‬
‫على رسالة الرئيس األمريكى التى طلب فيها ضمان المعاملة اإلنسانية الكريمة للبحارة‬
‫الذين تتحطم سفنهم أمام الشواطئ اليابانية‪ ،‬والسماح للسفن األمريكية بدخول الموانى‬
‫اليابانية للتزود بالطعام والوقود‪ ،‬وقيام عالقات تجارية ‪-‬إن أمكن‪ -‬بين اليابان والواليات‬
‫المتحدة األمريكية‪ ،‬وأمهل بيرى السلطات اليابانية ثالثة أيام لتلقى الرد على رسالة الرئيس‬
‫األمريكى‪ ،‬ولما كان ذلك يعنى تعرض إيدو ‪-‬مركز الحكومة‪ -‬للقصف فى حالة الرفض‪،‬‬
‫فقد اضطرت إلى التسليم بالمطالب األمريكية‪ ،‬وسمحت للعمارة األمريكية بإلقاء مراسيها فى‬
‫ميناء أوراجا‪ ،‬عندئذ اكتفى بيرى بتسليم رسالة الرئيس األمريكى للشوجون‪ ،‬وأبلغه أنه‬
‫سيحضر فى العام التالى لتلقى الرد رسمياً‪.‬‬

‫انقسمت الطبقة الحاكمة على نفسها فى كيفية الخروج من المأزق الذى وضعت فيه‪ ،‬فعلى‬
‫حين رأى البعض ضرورة "صد البرابرة" عارض البعض اآلخر ذلك لخطورته على مصير‬
‫البالد‪ ،‬واضطرت حكومة طوكوجاوا ‪-‬ألول مرة‪ -‬أن تلجأ إلى البالط اإلمبراطورى والى‬
‫حكام المقاطعات طلباً للرأى‪ ،‬مما أدى إلى إتاحة فترة ذهبية للمعارضة السياسية‪ ،‬فوحد دعاة‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪12‬‬
‫إعادة السلطة كاملة إلى اإلمبراطور صفوفهم مع المعادين للتدخل األجنبى للعمل على‬
‫تصفية نظام طوكوجاوا‪.‬‬

‫وذهبت الغالبية العظمى من الردود التى تلقتها الحكومة إلى التمسك بسياسة العزلة مع‬
‫تجنب التورط فى الحرب مع القوى األجنبية بأى ثمن‪ ،‬وهو أمر صعب التحقيق‪ ،‬و أرـت‬
‫األقلية أنه البد من المواجهة العسكرية ضد االحتالل األجنبى‪ ،‬وازاء ذلك استقر الرأى على‬
‫إرجاء الرد على المطالب األمريكية ألطول فترة زمنية ممكنة‪ ،‬ولكن بيرى بادر بالقدوم إلى‬
‫خليج إيدو ‪-‬مرة أخرى‪ -‬فى أوائل عام ‪ 1854‬على رأس عمارة من ثمانى سفن حربية‬
‫وارتعدت فرائص حكام إيدو أمام مظاهر القوة تلك فوافقوا على فتح ميناءين أمام السفن‬
‫األمريكية هما هاكوداتى فى جزيرة هوكايدو‪ ،‬وشيمودا على طرف شبه جزيرة إيزو‪ ،‬كما‬
‫وافقوا على مراعاة معاملة البحارة معاملة كريمة والسماح لقنصل أمريكى باإلقامة فى‬
‫شيمودا‪.‬‬

‫وتضمنت االتفاقية التى وقعت بهذا الشأن (‪ 31‬مارس ‪ )1854‬نصاً على معاملة الواليات‬
‫المتحدة األمريكية معاملة الدولة األولى بالرعاية رغم أن االتفاقية لم تنص على قيام عالقات‬
‫تجارية بين البلدين‪.‬‬

‫وما لبثت بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا أن وقعت مع اليابان اتفاقيات مماثلة حطمت‬
‫أسوار العزلة التى فرضتها اليابان على نفسها‪ ،‬وحددت بذلك بداية النهاية لحكومة‬
‫طوكوجاوا‪ ،‬ألن استسالمها للتدخل األجنبى أعطى المعارضين لها سالحاً ماضياً لمهاجمتها‬
‫بحجة عجزها عن الدفاع عن البالد فى مواجهة التدخل األجنبى‪.‬‬

‫وفى أغسطس ‪ ، 1856‬أرسلت الحكومة األمريكية تاونسند هارس إلى ميناء شيمودا للضغط‬
‫على الحكومة اليابانية من أجل توقيع معاهدة تجارية‪ ،‬وبعد مفاوضات طويلة حرص خاللها‬
‫هارس أن يذكر للجانب اليابانى أن أساطيل الدول األوروبية تستعد لإلقالع صوب اليابان‬
‫بعد انتصارها على الصين‪ ،‬وأن اليابان سوف تضطر إلى تقديم المزيد من التنازالت‬
‫واالمتيازات لتلك الدول ما لم تسارع بتوقيع المعاهدة مع الواليات المتحدة التى تصبح نموذجاً‬
‫للتعامل بين اليابان والدول األوروبية‪ ،‬لذلك سارع ممثل الشوجون بالتوقيع على المعاهدة مع‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪13‬‬
‫هارس (‪ 29‬يوليو ‪ )1858‬وبموجبها تقرر فتح ثالث موانى جديدة أمام التجارة األمريكية‬
‫فو اًر‪ ،‬على أن تضاف إليها اثنتان فيما بعد‪ ،‬وسمح لألجانب باإلقامة فى إيدو وأوساكا اعتبا اًر‬
‫من عام ‪ 1862‬بالنسبة لألولى‪ ،‬وعام ‪ 1863‬بالنسبة للثانية‪ ،‬وأصبح المواطنون األمريكيون‬
‫‪-‬بموجب المعاهدة‪ -‬خارج دائرة السلطة القضائية اليابانية‪ ،‬كما ضمنت لهم حرية العبادة‪،‬‬
‫وبمجرد توقيع المعاهدة األمريكية اليابانية‪ ،‬وقعت حكومة طوكوجاوا معاهدات مماثلة مع‬
‫بريطانيا وفرنسا وروسيا وهولندا‪.‬‬

‫وأدى االنفتاح على العالم الخارجى إلى احتكاك اليابانيين فى الموانى والمدن التى فتحت‬
‫للتجارة الخارجة (وخاصة يوكوهاما) باألجانب فى محاولة للتعرف على ثقافتهم‪ ،‬وأنشأت‬
‫الحكومة مدرسة لتعليم موظفيها اللغات األجنبية‪ ،‬كما أرسلت الوفود الرسمية وبعثت الطالب‬
‫إلى أمريكا وأوروبا‪ ،‬وأقبل بعض الشباب على دراسة اللغات األجنبية على أيدى المبشرين‬
‫األجانب وبعض المعلمين من أهل البالد‪ ،‬وعلى الصعيد االقتصادى زاد الطلب الخارجى‬
‫على السلع اليابانية وخاصة الحرير الخام مما أدى إلى التوسع فى اإلنتاج وارتفاع أسعار‬
‫السلع محلياُ‪ ،‬كما لعب التجار األجانب دو اًر خطي اًر فى نزح الذهب من اليابان بما يترتب‬
‫على ذلك من آثار سلبية على االقتصاد اليابانى‪.‬‬

‫وال ريب أن هذه التطورات التى نتجت عن سياسة االنفتاح على العالم الخارجى زادت من‬
‫فعالية المعارضة السياسية لنظام طوكوجاوا‪ ،‬واكتسبت حركة استرداد سلطة اإلمبراطور‬
‫ومعاداة األجانب العديد من األنصار من بين الساموراى‪ ،‬ووجهت الحركة اللوم إلى الحكومة‬
‫إلبرامها المعاهدات مع الدول األجنبية دون الحصول على موافقة اإلمبراطور‪ ،‬ونظم أعضاء‬
‫تلك الحركة حملة اغتياالت طالت بعض كبار رجال الحكومة وبعض األجانب‪ ،‬وانضم إلى‬
‫المعارضة بعض حكام المقاطعات الجنوبية فحركت قواتها ضد الباكفو (حكومة طوكوجاوا)‬
‫وأنصارها من رجال البالط اإلمبراطورى‪ ،‬وبذلك أصبحت البالد على شفا حرب أهلية‪.‬‬

‫وأيقن المعارضون لسياسة االنفتاح على الخارج أنه ال سبيل إلنقاذ البالد سوى اإلطاحة‬
‫بالباكفو‪ ،‬واقامة حكومة مركزية قوية تدخل اإلصالحات العسكرية والمدنية‪ ،‬وازاء تفاقم‬
‫األوضاع المنذرة بوقوع حرب أهلية اضطر الشوجون إلى تقديم التماس إلى اإلمبراطور‬
‫الجديد مايجى طلب فيه إعادة السلطة اإلدارية الكاملة لإلمبراطور (نوفمبر ‪ )1867‬حالً‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪14‬‬
‫لألزمة التى تواجهها البالد‪ ،‬واقترح تأسيس مجلسين لمعاونة اإلمبراطور يضم أحدهما نبالء‬
‫البالط‪ ،‬ويتكون اآلخر من مجموعة منتقاة من الساموراى‪ ،‬على أن يصبح الشوجون ‪-‬فى‬
‫ظل النظام الجديد‪ -‬بمثابة رئيس للوزراء‪.‬‬

‫وفى آخر يناير ‪ ،1868‬أصدر اإلمبراطور مرسوماً قضى بتجريد أسرة طوكوجاوا من‬
‫إقطاعاتهم‪ ،‬والغاء الشجونية وتورط الشوجون فى القيام بعمل عسكرى موجه ضد حكام‬
‫المقاطعات الذين وقفوا وراء إصدار هذا المرسوم اإلمبراطورى‪ ،‬فلقيت قواته هزيمة منكرة‬
‫قرب كيوتو‪ ،‬وفر عائداً إلى إيدو حيث أصدر أوامره بتسليم المدينة للقوات المؤيدة‬
‫لإلمبراطور دون قتال (إبريل ‪ )1868‬وبذلك طويت صفحة من تاريخ اليابان اقتلعت معها‬
‫جذور النظام اإلقطاعى‪ ،‬وتركت التربة صالحة لقيام نظام جديد صنع النهضة اليابانية‬
‫الحديثة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪15‬‬
‫الفصل األول ‪ -‬دعائم النهضة‬
‫بدأ عهد جديد فى تاريخ اليابان‪ ،‬وتغير اسم إيدو ‪- Edo‬التى أصبحت عاصمة البالد‪ -‬إلى‬
‫طوكيو ‪( Tokyo‬وتعنى العاصمة الشرقية) وفى ربيع العام التالى‪ ،‬انتقل اإلمبراطور من‬
‫ك يوتو إلى العاصمة الجديدة ليعلن بذلك بداية عصر مايجى (وتعنى الحكم المستنير)‪ ،‬وقدر‬
‫لذلك العصر أن يستمر حتى عام ‪ ،1912‬ولكن االنتقال من عصر إلى آخر يعنى الكثير‪،‬‬
‫ألنه ليس مجرد تغيير لسلطة أو شخص من يمسك بمقودها‪ ،‬ولكنه تغيير لمجتمع بأسره‪،‬‬
‫شمل واقعه االقتصادى واالجتماعى‪ ،‬كما شمل أداة الحكم والقوة التى تمسك بزمام األمور‬
‫فى البالد‪ ،‬كما تغيرت األفكار والعادات والقيم االجتماعية‪ ،‬أو ‪-‬بعبارة أخرى‪ -‬كان التغيير‬
‫إرساء لدعائم النهضة التى حققتها اليابان‪ ،‬ونقلت نتيجة لها من هامش العالم إلى قلبه‪.‬‬

‫كان اإلمبراطور متسوهيتو (الذى لقب بمايجى) عند بداية العهد الجديد صبيا فى السادسة‬
‫عشرة من عمره‪ ،‬ال يمتلك من الخبرة السياسية واالستعداد الفكرى ما يؤهله لتغيير النظام‬
‫القائم‪ ،‬فلم يكن سوى رمز للحركة الجديدة‪ ،‬وظل كذلك ‪-‬إلى حد كبير‪ -‬طوال حكمه‪ ،‬أما‬
‫السلطة الحقيقية فى بداية العهد‪ ،‬فكانت بيد مجموعة صغيرة من نبالء البالط‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫حفنة من العسكريين (الساموراى) الذين ينتمون إلى المقاطعات التى ساهمت فى صنع‬
‫النظام الجديد‪ ،‬وكونوا معاً النخبة الحاكمة التى صنعت النهضة‪.‬‬

‫وكان على القيادة الجديدة أن تواجه المشكالت الملحة‪ ،‬وعلى رأسها إصالح مالية البالد‪،‬‬
‫ومقاومة الزحف الغربى‪ ،‬وكان حل المشكلة األخيرة يرتبط بحل األولى‪ ،‬ألن مواجهة‬
‫األطماع الغربية تتطلب إيجاد قاعدة صلبة يقوم عليها اقتصاد البالد‪ ،‬واقامة مثل تلك‬
‫القاعدة يحتاج إلى إدخال تغييرات جذرية على الواقع االقتصادى للبالد‪،‬ـ يجعلها قادرة على‬
‫الوقوف أمام الدول الغربية وقفة الند للند‪.‬‬

‫ال‪ ،‬فبريطانيا وفرنسا كانتا‬


‫ولم يكن ذلك يحتمل اإلرجاء‪ ،‬ألن الخطر الغربى كان ماث ً‬
‫تتربصان باليابان الدوائر‪ ،‬وأيقن القادة الجدد أن قيام حرب أهلية قد يتيح الفرصة أمام‬
‫الدولتين للتدخل المسلح‪ ،‬أضف إلى ذلك ضعف مركز اليابان فى سلسلة المعاهدات غير‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪16‬‬
‫المتكافئة التى أجبرت على إبرامها مع الدول الغربية‪ ،‬والتى سلبتها حقها فى تقرير الضرائب‬
‫الجمركية‪ ،‬واستثنت األجانب من الخضوع للقضاء اليابانى‪ ،‬وأعطت الدول الغربية حقوق‬
‫الدولة األولى بالرعاية دون أن يكون لليابان نفس الحق‪.‬‬

‫وأدرك قادة العهد الجديد أن الدول الغربية استهانت ببالدهم لتخلفها حضارياً عن الغرب‪،‬‬
‫وخاصة فى المجال االقتصادى والعسكرى‪ ،‬فعملوا على اللحاق بالغرب فى هذين الميدانين‪،‬‬
‫ومن ثم اتخذوا من شعار "إثراء األمة وتقوية الجيش" شعا اًر النطالق النهضة وكان ذلك‬
‫يعنى إقامة دولة حديثة على النمط الغربى‪.‬‬

‫وهكذا وجد الرجال ‪-‬الذين حملهم إلى السلطة عداؤهم للغرب‪ -‬أنفسهم فى موقف يلزمهم‬
‫بإقامة عالقات ثقافية وتجارية وثيقة مع دول الغرب التى تملك وحدها مفاتيح الخبرة التقنية‬
‫والعلم الحديث‪.‬‬

‫وجاءت اإلشارة إلى ضرورة انفتاح اليابان تمام ًا على العالم الخارجى رغم المعارضة لذلك‬
‫ضمناً فى المرسوم اإلمبراطورى الصادر فى ‪ 14‬من مارس ‪ ،1868‬وعرف باسم "ميثاق‬
‫العهد ذو المبادئ الخمسة" فنص على‪:‬‬

‫‪ .1‬إقامة مجالس استشارية على نطاق واسع‪ ،‬وتقرير أمور البالد بمعرفة الرأى العام‪.‬‬
‫‪ .2‬اتحاد جميع الطبقات ‪-‬العليا والدنيا‪ -‬فى إدارة البالد بفعالية تامة‪.‬‬
‫‪ .3‬السماح لعامة الناس بانتهاج السبل التى يختارونها كالموظفين المدنيين والعسكريين‪،‬‬
‫حتى ال تؤدى الالمباالة العامة إلى إفساد البالد‪.‬‬
‫‪ .4‬حظر ممارسة العادات السيئة القديمة‪ ،‬وارساء القواعد على األسس القانونية العادلة‬
‫الخاصة بالسماء واألرض‪.‬‬
‫‪ .5‬التماس المعرفة من شتى أرجاء العالم لتقوية دعائم الحكم اإلمبراطورى‪.‬‬

‫اإلصالح اإلدارى‬
‫وجاء التطبيق العملى لهذه المبادئ فى النظام اإلدارى الذى صدر به مرسوم إمبراطورى عام‬
‫‪ ،1868‬أصبحت السلطة العليا فى البالد ‪-‬بموجبه‪ -‬بيد "مجلس الدولة" الذى ضم ثالثة‬
‫أقسام‪ :‬قسم تشريعى‪ ،‬وقسم تنفيذى‪ ،‬وثالث قضائى‪ ،‬وبذلك تحقق ‪-‬نظرياً‪ -‬مبدأ الفصل بين‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪17‬‬
‫السلطات الذى يعكس التأثر (الشكلى) بالنظم السياسية الغربية‪ ،‬ألن التطبيق العملى لذلك‬
‫المبدأ ظل غائباً‪ ،‬وأدخلت تعديالت أخرى على النظام اإلدارى فى صيف ‪ ،1869‬ثم استقر‬
‫النظام فى صيف ‪ ،1871‬واستمر كذلك حتى أدخل النظام الوزارى عام ‪ ،1885‬فأصبح‬
‫"مجلس الدولة" ينقسم إلى ثالثة أقسام‪:‬‬

‫‪ .1‬مجلس مركزى برياسة المستشار‪ ،‬يضم فى عضويته من عرفوا بالنواب‪ ،‬ثم استبدل‬
‫بهم ‪-‬فيما بعد‪ -‬وزراء من المجلسين اآلخرين‪ ،‬وعدد من المستشارين‪.‬‬
‫‪ .2‬مجلس اليسار‪ ،‬وكانت وظيفته فى األصل تشريعية‪ ،‬غير أنه كان بمثابة هيئة‬
‫استشارية لصناع القرار‪.‬‬
‫‪ .3‬مجلس اليمين‪ ،‬ويضم الهيئة التنفيذية ممثلة فى الوزراء ونوابهم‪ ،‬وكانت الهيئة‬
‫التنفيذية تتكون من و ازرات الخارجية والمالية والحربية واألشغال العامة وشئون‬
‫البالط‪ ،‬والتعليم والشنتو (العقيدة) والعدل ثم أضيف إليها و ازرة الداخلية عام ‪.1873‬‬

‫وقد تم إلغاء نظام المقاطعات فى أغسطس ‪ ،1871‬فقسمت البالد إلى محافظات تضم كل‬
‫منها عدداً من الوحدات اإلدارية‪ ،‬وتنقسم كل وحدة إلى عدد من الوحدات اإلدارية األصغر‪،‬‬
‫واحتفظت الحكومة لنفسها بحق تعيين المحافظين‪.‬‬

‫اإلصالح االجتماعى‬
‫كان إلغاء النظام اإلقطاعى يتطلب ‪-‬بالضرورة‪ -‬تعديل النظام الطبقى بما يتالءم مع‬
‫األوضاع الجديدة‪ ،‬وقد وضعت الحكومة تصنيف ًا للقوى االجتماعية (عام ‪ )1869‬جعل من‬
‫أرستقراطية البالط وحكام المقاطعات السابقة طبقة واحدة عرفت باسم "النبالء"‪.‬‬

‫يليهم طبقة الساموراى التى ضمت شريحتين إحداهما لكبار الساموراى واألخرى لصغارهم‪،‬‬
‫وفى عام ‪ 1870‬أصبح من حق العامة اتخاذ ألقاب العائالت‪ ،‬وسمح فى العام التالى‬
‫بالتزاوج بين الطبقات العليا والدنيا‪ ،‬كما سمح للعامة بارتداء المالبس الرسمية الخاصة‬
‫بالمناسبات وركوب الخيل فى أسفارهم (وهى حقوق كانت مقصورة على الساموراى وحدهم)‪،‬‬
‫وحظر على الساموراى حظ اًر تاماً قتل العامة دون رحمة (وهو حق إقطاعى كانوا يتمتعون‬
‫به منذ القدم) وسمح للنبالء وكبار الساموراى باالشتغال بالزراعة والتجارة والصناعة‪،‬‬
‫واستثنى من ذلك من يتقلد منصباً حكومياً‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪18‬‬
‫وفى عام ‪ ،1872‬أعادت الحكومة تصنيف القوى االجتماعية من جديد‪ ،‬فجعلتهم ثالث‬
‫طبقات‪ :‬النبالء وكبار الساموراى والعامة وبذلك دخل صغار الساموراى ضمن طبقة العامة‪،‬‬
‫كما ألحق المنبوذون ‪-‬نظرياً‪ -‬بطبقة العامة‪ ،‬وأصبحت الطبقات سواء أمام القانون (نظري ًا‬
‫أيضاً) فمن الناحية العملية حظى النبالء وكبار الساموراى باستثناءات قانونية كثيرة‪ ،‬فكان‬
‫لهم أن يدفعوا غرامة مالية بدالً من معاقبتهم بالسجن فى حالة اإلدانة فى قضايا الجنح‪،‬‬
‫والجنايات‪ ،‬ونال موظفو الحكومة ‪ -‬على اختالف مواقعهم االجتماعية ‪ -‬نفس االستثناءات‪.‬‬

‫واضطرت الحكومة (فى خريف ‪ )1872‬أن تسن قانوناً يجرم االسترقاق وتجارة الرقيق‪ ،‬غير‬
‫أن استرقاق النساء ظل سائداً فى اليابان حتى ثالثينيات القرن العشرين (بصورة اختيارية)‬
‫حيث استمر الفالحون يبيعون بناتهم سداداً لديونهم ليعلمن بالحانات وبيوت الدعارة‪.‬‬

‫وكان إلغاء التقسيم الطبقى اإلقطاعى وتطبيق نظام المعاشات للساموراى‪ ،‬ثم استبدال‬
‫سندات الدولة بالمعاشات يمثل تجريداً شبه كامل للساموراى من امتيازاتهم المادية‪ ،‬مما‬
‫جعلهم يتذمرون من النظام الجديد ويقومون بحركات تمرد ضده شهدتها السبعينيات من‬
‫القرن التاسع عشر‪ ،‬ولم تتجاوز نسبة من التحقوا بوظائف الدولة من الساموراى العشرة‬
‫بالمائة‪ ،‬فاشتغلوا بالتدريس‪ ،‬أو التحقوا بخدمة الجيش الحديث أو الشرطة‪ ،‬أما الباقون‬
‫فاشتغل بعضهم بالزراعة والتجارة والحرف‪ ،‬وعض الفقر بنابه بعضهم فاضطروا أن يبيعوا‬
‫بناتهم لبيوت الدعارة من أجل الحصول على ما يقتاتون به‪.‬‬

‫اإلصالح القضائى‬
‫كان النظام القضائى فى عهد طوكوجاوا يختلف باختالف المركز االجتماعى للمتقاضين‪،‬‬
‫واقتصرت مهمة القضاة على التوفيق بين المتخاصمين‪.‬‬

‫ووقف هذا النظام عقبة أمام محاوالت حكومة مايجى إقناع الدول الغربية بتعديل المعاهدات‬
‫غير المتكافئة ما دامت اليابان ال تأخذ بنظم التقاضى الغربية‪ ،‬وما لم تنسج قوانينها على‬
‫منوال الغرب‪.‬‬

‫لذلك كانت حكومة مايجى حريصة على إصالح النظام القضائى على نحو تتقبله الدول‬
‫الغربية‪ ،‬وتوافق على خضوع رعاياها له عند النظر فى تعديل المعاهدات‪ ،‬ووقع اختيار‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪19‬‬
‫الحكومة على النظام الفرنسى الذى يعتمد على القضاة المحترفين‪ ،‬وال يسمح باستخدام نظام‬
‫المحلفين‪ ،‬ولكن النظام الجديد كان محققاً لمبدأ "السيادة بالقانون" وليس لمبدأ "سيادة القانون"‬
‫على نحو ما عرف فى الغرب‪ ،‬فرغم أن النظام جاء مؤكداً للحكم عن طريق القوانين‪ ،‬إال أنه‬
‫لم يضع حدوداً أو ضوابط لصالحيات السلطة اإلدارية فى ميدان التشريع‪ ،‬فلم تتحقق سيادة‬
‫القانون القائمة على االعتراف بحقوق اإلنسان‪ ،‬واشراك الشعب فى صياغة القوانين واالقتراع‬
‫عليها إال بعد الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫وتضمن النظام القضائى الجديد المحاكم الجزئية التى كان الفصل فيها من سلطة رجال‬
‫الشرطة‪ ،‬ثم محاكم األقاليم‪ ،‬فمحاكم االستئناف ومحكمة النقض‪ ،‬كما أنشئت محكمة إدارية‬
‫خاصة للبت فى المنازعات التى تدخل السلطات اإلدارية طرفاً فيها‪ ،‬وكان ذلك يعنى عدم‬
‫خضوع السلطات اإلدارية للقضاء العادى بدرجاته المختلفة‪.‬‬

‫وأعد قانون العقوبات عام ‪ 1880‬بمعاونة خبير فرنسى‪ ،‬كما أعد القانون التجارى بمعاونة‬
‫خبير ألمانى وكذلك الحال بالنسبة للقانون المدنى‪ ،‬وقد طبق قانون العقوبات عام ‪،1890‬‬
‫والقانون المدنى عام ‪ ،1898‬أما القانون التجارى فطبق عام ‪.1899‬‬

‫الجيش الحديث‬
‫رأى رجال نظام مايجى أن إقامة حكومة مركزية قوية‪ ،‬قادرة على مواجهة التحديات‬
‫الخارجية‪ ،‬يتطلب ‪-‬بالضرورة‪ -‬إقامة أداة عسكرية قوية تدين بالوالء للحكومة المركزية‬
‫وحدها‪ ،‬ومن ثم اتفقت وجهات النظر على ضرورة تأسيس جيش وطنى حديث‪ ،‬ولكنها‬
‫اختلفت حول طريقة تكوينه‪ ،‬فهناك من رأى تكوين الجيش من الساموراى الذين جاءوا من‬
‫المقاطعات الثالث التى لعبت دو اًر هاماً فى تصفية النظام القديم‪ ،‬وهناك من رأى إقامة‬
‫جيش وطنى يعتمد على التجنيد اإلجبارى العام‪ ،‬وبعد صراع بين أصحاب االتجاهين لعب‬
‫فيه الساموراى دو اًر عنيفاً للدفاع عن مصالحهم ووجودهم بلغ حد اغتيال من دعا للتجنيد‬
‫اإلجبارى العام أساساً لتكوين الجيش الوطنى‪ ،‬صدر قانون التجنيد اإلجبارى (يناير ‪)1873‬‬
‫ليجعل من "ضريبة الدم" أساساً للخدمة فى الجيش الجديد‪.‬‬

‫وبموجب قانون التجنيد‪ ،‬يتم اختيار عدد معين من الشباب حسب درجة اإلنتاج الزراعى فى‬
‫القرية‪ ،‬على أن تتراوح أعمارهم بين العشرين والثالثين‪ ،‬يجندون لمدة أربع سنوات يسمح‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪20‬‬
‫بعدها لمن يشاء أن يستمر فى الخدمة متطوعاً‪ ،‬وحدد القانون أسلوب معاملة المجندين‬
‫مالياً‪ ،‬وأناط بو ازرة الجيش والبحرية مهمة اإلشراف على التجنيد‪.‬‬

‫ورغم الصعوبات التى واجهت تطبيق قانون التجنيد بسبب مقاومة السواد األعظم من‬
‫الفالحين له‪ ،‬أصبح الجيش اإلمبراطورى الجديد قوة عسكرية ذات شأن‪ ،‬وبحلول عام ‪1883‬‬
‫كان جميع جنود الجيش من المجندين للخدمة الوطنية‪ ،‬وتقبل الساموراى نظام الجيش‬
‫الحديث عندما خدم بعضهم فيه كضباط‪ ،‬واتخذ النظام العسكرى األلمانى أساساً للجيش‬
‫اليابانى‪.‬‬

‫كذلك شغلت حكومة مايجى بإنشاء قوة بحرية حديثة ولكن خطواتها ‪-‬فى هذا السبيل‪ -‬كانت‬
‫وتيدة‪ ،‬فأنشئت إدارة خاصة للبحرية عام ‪ ،1872‬وكانت اليابان تعتمد على الدول األوروبية‬
‫‪-‬وخاصة بريطانيا‪ -‬فى بناء سفنها الحربية‪ ،‬وفى االستفادة بخبرتها العسكرية البحرية‪.‬‬

‫وقد ازداد عدد القطع البحرية اليابانية بمرور الزمن‪ :‬من سبع عشرة سفينة حربية بلغت‬
‫حمولتها ‪ 13‬ألف طن (عام ‪ )1873‬إلى ثمان وعشرين سفينة حربية بحمولة قدرها‪60,87-‬‬
‫طناً‪ ،‬وأربعة زوارق طوربيد عند قيام الحرب الصينية‪ -‬اليابانية (عام ‪ ،)1894‬وبحلول عام‬
‫‪ 1882‬كانت البحرية اليابانية قد استغنت عن المدربين األجانب استغناء تاماً‪ ،‬ومع نهاية‬
‫الحرب العالمية األولى كانت اليابان تحتل المركز الثالث بين القوى البحرية العالمية الكبرى‪.‬‬

‫ورغم تكوين الجيش الحديث الذى يقوم على أساس الخدمة العامة والوالء للوطن‪ ،‬لم تستقر‬
‫تلك المفاهيم فى أذهان الجنود والضباط الذين تعودوا الوالء لألقاليم التى تربوا فيها وجاءوا‬
‫منها‪ ،‬مما جعل الحاجة ماسة إلى إصدار مرسوم إمبراطورى (عام ‪ )1882‬ليؤكد معانى‬
‫الوالء والواجب والطاعة التى يجب أن يتحلى بها الجنود والضباط‪ ،‬وأكد ‪-‬أيضاً‪ -‬أن للجيش‬
‫الوطنى دو اًر خاصاً فى خدمة اإلمبراطور‪.‬‬

‫التعليم الحديث‬
‫انتعشت آمال المعلمين التقليدين ‪-‬عند قيام نظام مايجى‪ -‬لجعل الشنتو والكنفوشية قاعدة‬
‫النظام التعليمى فى العهد الجديد الذى كان يعنى ‪-‬بالنسبة لهم‪ -‬إحياء القيم التقليدية لألمة‬
‫اليابانية‪ ،‬وفى عام ‪ ،1869‬اختير أحد هؤالء المعلمين لإلشراف على "مكتب التعليم" وكانت‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪21‬‬
‫النية تتجه ‪-‬عندئذ‪ -‬نحو جعل الشنتو عقيدة رسمية للبالد‪ ،‬وأساساً لنظام التعليم فيها‪ ،‬وحدد‬
‫المرسوم اإلمبراطورى الصادر عام ‪ 1870‬أهداف التعليم بأنها " احترام طريق اآللهة الممتلئ‬
‫بالنور‪ ،‬وتنقية العالقات اإلنسانية ‪ ..‬وخدمة البالط اإلمبراطورى"‪.‬‬

‫وأعيد فتح المدرسة الكنفوشية التى كانت تزاول نشاطها فى عهد طوكوجاوا‪ ،‬وأصبحت مرك اًز‬
‫للدراسات الشنتوية والكنفوشية‪.‬‬

‫ولكن ذلك التيار المرجعى انقلب على عقبيه نتيجة تصدى دعاة حركة "التحضر والتنوير"‬
‫له‪ ،‬فقد كانوا يرون أن تحويل اليابان إلى دولة حديثة ال يتحقق إال بتبنى األفكار التربوية‬
‫الغربية ووضعها موضع التطبيق‪ ،‬وما لبث األخذ باألفكار التربوية الغربية وتطويعها‬
‫لحاجات المجتمع اليابانى أن نال تأييد واهتمام الجناح التقدمى من النخبة الحاكمة‪ ،‬مما فتح‬
‫الباب على مصراعيه إلقامة نظام التعليم الحديث‪.‬‬

‫وكان إدخال المعارف الغربية يتطلب ‪-‬بالضرورة‪ -‬خفض نسبة األمية‪ ،‬وجاءت الئحة‬
‫التعليم (عام ‪ )1872‬لتؤكد عزم الحكومة على محاربة األمية‪ ،‬واقامة نظام للتعليم العام على‬
‫مرحلتين دراسيتين‪ ،‬يلتحق بهما األطفال جميع ًا دون تمييز (وان كان ذلك من الناحية‬
‫النظرية)‪ ،‬وأكدت أن مجال التعليم يشمل اللغات األجنبية والكتابة والحساب إضافة إلى‬
‫القانون والفلك والطب‪...‬إلخ‪ ،‬فجميع المعارف التى تهم اإلنسان تدخل فى إطار التعليم‪،‬‬
‫ونسج نظام التعليم ‪-‬الذى حددته الالئحة‪ -‬على المنوال الفرنسى‪ ،‬فقسمت البالد إلى ثمان‬
‫مناطق تعليمية‪ ،‬بكل منها ‪ 32‬مدرسة متوسطة و‪ 110‬مدارس ابتدائية‪ ،‬ولكن هذه الخطة‬
‫الطموحة لم تر النور‪ ،‬فلم تنشئ الحكومة ‪-‬فى مطلع عصر مايجى‪ -‬إال عدداً محدوداً من‬
‫المدارس المتوسطة واالبتدائية‪ ،‬وكان التعليم ‪-‬فى معظمه‪ -‬يعتمد على الجهود الخاصة فى‬
‫البيوت ومدارس المعابد (التى كانت قريبة الشبه بالكتاتيب عندنا)‪.‬‬

‫ولما كان نظام التعليم الحديث يحتاج إلى معلمين مدربين وفق األصول التربوية الغربية‪ ،‬فقد‬
‫أنشئت مدرسة للمعلمين بمعاونة خبير أمريكى إلعداد المعلمين للعمل بالمدارس الحديثة‪،‬‬
‫وكان ذلك الخبير يؤكد على استخدام النماذج والعينات وغيرها من الوسائل التعليمية فى‬
‫عملية التعليم‪ ،‬فينقل تلك األفكار إلى تالميذه اليابانيين‪ ،‬فتأثر به جيل كامل من المعلمين‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪22‬‬
‫وتحمل الفالحون ‪-‬الذين كانوا يمثلون القطاع األكبر من دافعى الضرائب‪ -‬عبء تغطية‬
‫تكاليف النظام التعليمى الحديث‪ ،‬فقد تحملت الحكومة ‪ %90‬من نفقات التعليم‪ ،‬ولم يدفع‬
‫أولياء أمور التالميذ سوى ‪ %10‬على شكل رسوم دراسية‪ ،‬وكان القصد من ذلك إتاحة‬
‫الفرصة للسواد األعظم من أبناء النبالء لتلقى العلم فى المدارس الحديثة‪ ،‬وقد تأثرت برامج‬
‫الدراسة فى المدارس االبتدائية بالنظام األمريكى‪.‬‬

‫وعدل نظام التعليم عام ‪ ،1879‬فأصبح التعليم فى كل محافظة يخضع لمجلس مدينة يدخل‬
‫فى اختصاصه إقامة المدارس‪ ،‬وصيانة األبنية التعليمية وتحددت مدة التعليم اإللزامى بأربع‬
‫سنوات دراسية‪.‬‬

‫غير أن تلك اإلصالحات عجزت عن تقوية دعائم نظام التعليم الحديث‪ ،‬بل أدت إلى‬
‫إنقاص عدد المدارس ألن مجالس التعليم المحلية كانت تغلق بعض المدارس أو تدمجها فى‬
‫بعضها البعض للحد من نفقات التعليم التى كانت تثقل كواهل الفالحين‪.‬‬

‫وفى عام ‪ ،1880‬استعادت الحكومة المركزية سيطرتها على نظام التعليم‪ ،‬مع إعطاء‬
‫الم حافظات بعض الصالحيات فى اإلشراف على المدارس‪ ،‬وأصبحت مدة التعليم اإللزامى‬
‫ثالث سنوات دراسية‪.‬‬

‫وخالل الثمانينيات من القرن التاسع عشر‪ ،‬بذلت جهود مضنية للتخفيف من الصبغة اللبرالية‬
‫للمناهج الدراسية‪ ،‬فألغيت الكتب الدراسية التى ألفها لبراليون من اليابانيين‪ ،‬واستبدلت بها‬
‫كتب أخرى ركزت على التاريخ القومى‪ ،‬والقيم االجتماعية والثقافية المستمدة من الكنفوشية‬
‫والشنتوية‪ ،‬وأكدت على فكرة الوالء لإلمبراطور‪ ،‬وكان ذلك التغيير استجابة لمد الشعور‬
‫الوطنى المتطرف الذى كان آخذاً فى االرتفاع خالل تلك الحقبة‪.‬‬

‫فاصطبغ التعليم العام بالصبغة العسكرية‪ ،‬واختير بعض الضباط إلدارة المدارس وكان‬
‫الطالب يقيمون فى مدارس داخلية‪ ،‬ويحيون حياة قريبة الشبه بحياة الجنود فى الثكنات‬
‫وأصبح شعار التعليم‪" :‬الطاعة‪ ،‬والصداقة‪ ،‬والكرامة"‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪23‬‬
‫ومع علو هذا االتجاه المرجعى فى نظام التعليم‪ ،‬اختفى التأثير بالفكر التربوى األمريكى‪،‬‬
‫وبدأ االهتمام بأساليب التربية األلمانية التى تركزت على الجوانب الخلفية‪ ،‬وكانت تؤمن أن‬
‫هدف التعليم خلق اإلدارة المستنيرة القادرة على التمييز بين الصواب والخطأ‪.‬‬

‫وارتفعت نتيجة لهذا التيار أصوات المنادين بالكف عن االقتباس من الغرب‪ ،‬واحياء القيم‬
‫الفلسفية القديمة‪ ،‬وكان لذلك كله أبلغ األثر على الئحة التعليم التى صدرت عام ‪.1890‬‬

‫وأولت حكومة مايجى تعليم البنات اهتماماً خاصاً‪ ،‬فأوفدت بعثة من خمس بنات إلى‬
‫الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬كما افتتحت أول مدرسة للبنات بطوكيو عام ‪ ،1872‬لتعليم‬
‫البنات الالتى تتراوح أعمارهن بين ‪ 14-7‬عاماً‪ ،‬بغض النظر عن أصولهن االجتماعية‪.‬‬

‫وبدأت أول مدرسة ثانوية للبنات نشاطها عام ‪ ،1882‬وأسست أول كلية للبنات لتعليم اللغة‬
‫اإلنجليزية عام ‪ ،1900‬كما قامت يوشيوكايايوى ‪-‬أول طبيبة يابانية‪ -‬بتأسيس كلية طب‬
‫النساء فى العام ذاته‪ ،‬وفى العام التالى (‪ )1901‬افتتحت "كلية اليابان للبنات" ولكن‬
‫الجامعات اليابانية لم تفتح أبوابها أمام البنات إال بعد انتهاء عصر مايجى‪ ،‬عندما قبلت‬
‫جامعة طوهوكو اإلمبراطورية ثالث طالبات على سبيل التجربة عام ‪.1914‬‬

‫وفى عام ‪ ،1877‬أنشئت "جامعة طوكيو اإلمبراطورية" من اندماج ثالث مؤسسات تعليمية‬
‫كانت قائمة فى أواخر عصر طوكوجاوا‪ ،‬ولم تبرز الجامعة ككيان مستقل إال بعد صدور‬
‫الئحة الجامعة عام ‪ ،1886‬فأصبحت تضم كليات الحقوق‪ ،‬والطب‪ ،‬والهندسة‪ ،‬والعلوم‪،‬‬
‫واآلداب‪ ،‬ثم افتتحت "جامعة كيوتو اإلمبراطورية" عام ‪ ،1897‬ورغم تأسيس جامعتين أخريين‬
‫فى السنوات األخيرة من عصر مايجى (جامعة طوهوكو فى سنداى عام ‪ ،1907‬وجامعة‬
‫فوكوأوكا فى كيوشو عام ‪ )1910‬ظلت جامعة طوكيو تتصدر التعليم الجامعى فى البالد‪،‬‬
‫موجهة نشاطها العلمى لخدمة أهداف الدولة‪ ،‬وعملت على مدها بالكوادر اإلدارية والفنية‪.‬‬

‫وهكذا كانت الرغبة فى تجسير فجوة التخلف الحضارى عن الغرب‪ ،‬والحرص على امتالك‬
‫مفاتيح القوة التى استطاع بها أن يفرض إرادته على اليابان‪ ،‬هى التى حددت أسس دعائم‬
‫النهضة التى شملت اإلصالح اإلدارى واإلصالح االجتماعى‪ ،‬واإلصالح القضائى واقامة‬
‫شكل حجر الزاوية للنهضة التى‬
‫الجيش الحديث‪ ،‬وصاحب ذلك بناء نظام تعليمى حديث َ‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪24‬‬
‫قامت على قاعدة إقتصادية وفرت العوامل المادية لنجاح النهضة فى تحقيق أهدافها على‬
‫نحو ما سنرى فى الفصل التالى‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪25‬‬
‫الفصل الثانى ‪ -‬بناء االقتصاد الوطنى‬
‫ارتكزت النهضة اليابانية الحديثة على قاعدة اقتصادية وفرت للنظام الجديد الموارد الالزمة‬
‫لبناء قوته العسكرية‪ ،‬ونظامه التعليمى‪ ،‬ومؤسسات الدولة الحديثة‪ ،‬وكان جانب من تلك‬
‫القاعدة االقتصادية موروثاً عن عصر طوكوجاوا‪ ،‬ولكن ما أدخل عليه من إصالحات جعله‬
‫يندمج فى البناء االقتصادى الحديث ويدعم االقتصاد الوطنى‪.‬‬

‫وكان فى مقدمة اإلصالحات التى أدخلتها حكومة مايجى إقرار حق الملكية الفردية لألرض‬
‫الزراعية‪ ،‬وتخليصه من القيود الموروثة من الماضى‪.‬‬

‫وكان صدور قرار إلغاء اإلقطاع (أغسطس ‪ )1871‬أول خطوة فى هذا السبيل‪ ،‬فقد تحرر‬
‫الفالحون من اإلقطاع‪ ،‬وأصبحوا يتمتعون ‪-‬من الناحية النظرية‪ -‬بالحقوق الكاملة على‬
‫حيازتهم الزراعية‪ ،‬وان لم يصدر نص قانونى صرح بذلك‪ ،‬وفى سبتمبر من نفس العام‪،‬‬
‫صدر قرار إطالق يد الفالح فى اختيار المحصول الذى يزرعه‪ ،‬وأصبح باستطاعة الفالح‬
‫الصغير أن يستدين بضمان األرض‪ ،‬ولما كانت ظروفه المادية ال تمكنه ‪-‬غالباً‪ -‬من سداد‬
‫الدين‪ ،‬فإن أرضه كانت تتعرض للمصادرة وفاء للديون‪ ،‬وبذلك تراكمت حقوق الملكية فى‬
‫أيدى أثرياء الفالحين من المرابين‪ ،‬وتحول صغار الفالحين إلى مجرد مستأجرين لألرض‪،‬‬
‫ووضع نظام جديد لضرائب األطيان ساعد على تدهور أوضاع صغار الفالحين لصالح‬
‫كبارهم‪.‬‬

‫لقد كانت عجالت التاريخ تتحرك بالفعل فى االتجاه نحو دعم الملكية الفردية لألرض‬
‫الزراعية والعمل على تركزها فى أيدى محدودة‪ ،‬وفى كل بلد من البالد التى شهدت مثل هذه‬
‫الحركة‪ ،‬كان الفالح البسيط ‪-‬سواء كان حائ اًز لألرض أو مالكاً صغي اًر أو مستأج اًر‪ -‬هو‬
‫الضحية التى تتمزق أشالء تحت تلك العجالت‪ ،‬هكذا كان مصير الفالح اليابانى فى‬
‫مجتمع بدأ يتحرك صوب الرأسمالية‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪26‬‬
‫وفقد صغار الفالحين أمالكهم لعجزهم عن سداد الضرائب الحكومية التى تراكمت عليهم‪،‬‬
‫وعجزهم عن سداد الديون التى حصلوا عليها بضمان األرض‪ ،‬وشهد عقد الثمانينيات من‬
‫القرن التاسع عشر ذروة انتقال الملكيات الزراعية من صغار المالك إلى كبارهم‪ ،‬وترتب‬
‫على ذلك تطور اجتماعى سريع اإليقاع شهده الريف اليابانى خالل ذلك العقد من الزمان‪،‬‬
‫فقد أدى ذلك إلى وجود فائض كبير فى العمالة اتجه نحو الصناعة المنزلية أو نزح إلى‬
‫المدن التماساً للرزق فى األعمال التى ال تتطلب مهارة خاصة‪.‬‬

‫وكان وجود هذا الفائض فى العمالة الريفية مشجعاً لبعض أصحاب المشروعات الصناعية‬
‫الصغيرة على االتجاه بمشروعاتهم نحو الريف لتنشيط الصناعات المنزلية‪ ،‬واالستفادة من‬
‫وفرة ورخص األيدى العاملة‪ ،‬وبذلك ساعد اإلصالح الزراعى –الذى أدخلته حكومة مايجى‪-‬‬
‫على خلق سوق العمل التى تعد شرطاً من الشروط األساسية للتطور أ‬
‫الرسمالى‪ ،‬فارتبط‬
‫نشوء سوق العمل بذلك الفائض الكبير فى األيدى العاملة من الفالحين المعدمين‪ ،‬ومن‬
‫مالك المساحات الضئيلة من األطيان ولكن امتصاص الصناعة الحديثة لتلك األيدى‬
‫العاملة كان بطيئاً نتيجة تطورها الوئيد‪ ،‬فظل هذا الفائض فى العمالة راكداً فى الريف‪ ،‬مما‬
‫أدى إلى هبوط مستوى المعيشة واألجور معاً‪ ،‬وفى أواخر عصر مايجى‪ ،‬أخذ فائض العمالة‬
‫الريفية يزحف –تدريجياً‪ -‬على الصناعة الحديثة‪ ،‬وانخفضت نسبة العاملين بالزراعة من نحو‬
‫‪ %80‬من السكان عند بداية عصر مايجى إلى ‪%58‬من السكان عام ‪.1913‬‬

‫ولما كانت الدولة تستمد معظم مواردها المالية من ضرائب األطيان‪ ،‬فقد أولت الزراعة‬
‫اهتماماً خاصاً‪ ،‬فى نفس الوقت الذى كانت تعمل فيه على إقامة صناعة حديثة على النمط‬
‫الغربى‪ ،‬فبذلت الدولة جهوداً كبيرة لتطوير الزراعة واستصالح األراضى‪ ،‬وكان االتجاه العام‬
‫للسياسة الزراعية لحكومة مايجى يستهدف فى زيادة اإلنتاج القومى من الزراعة –وخاصة‬
‫من زراعة المحاصيل النقدية الجديدة ‪ -‬لخدمة التجارة الخارجية والصناعة المحلية على حد‬
‫سواء‪ ،‬ونتيجة لذلك زاد اإلنتاج الزراعى فيما بين ‪ 1912-1878‬بنسبة ‪ %121‬عما كان‬
‫عليه عند بداية الفترة‪ ،‬أى بمعدل نمو قدره ‪7‬و‪ % 2‬سنوياً‪ ،‬وزادت إنتاجية األرض بنسبة‬
‫‪ %76‬خالل تلك الفترة‪ ،‬وانتاجية العمل بنسبة ‪.%117‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪27‬‬
‫وقد حمل قطاع اإلنتاج الزراعى عبء سياسة التصنيع التى تبنتها حكومة مايجى‪ ،‬ألن‬
‫الحكومة كانت تدفع معونات مالية سخية للبيوتات التجارية وأصحاب المشروعات الصناعية‬
‫الحديثة تشجيعاً لهم على المساهمة فى االستثمار الصناعى‪ ،‬هذا فضالً عن قيام الحكومة‬
‫بتأسيس الصناعات اإلستراتيجية والعسكرية الهامة‪ ،‬مما تطلب موارد مالية تحملها بالكامل‬
‫قطاع الزراعة‪ ،‬فضاق مالك األراضى باألعباء الضريبية الملقاة على عاتقهم‪ ،‬كما عانى‬
‫الفالحون شظف العيش‪ ،‬وانعكس ذلك على حركة الفالحين االحتياجية والثورية وخاصة فى‬
‫العقدين األولين من عصر مايجى‪.‬‬

‫واذا كانت سياسة الدولة الخاصة بالتصنيع واتاحة فرصة النمو أمام رأس المال التجارى‬
‫على حساب الزراعة والمجتمع الريفى‪ ،‬من أقوى بواعث تلك الحركة‪ ،‬فإن ذلك يدفعنا إلى‬
‫الزوية فى النظام االقتصادى الذى أقامته‬
‫إلقاء نظرة على تلك السياسة التى كانت حجر ا‬
‫حكومة مايجى‪.‬‬

‫رأس المال المصرفى‬


‫كانت حكومة مايجى تعقد العزم على تطوير االقتصاد اليابانى فى االتجاه نحو التصنيع‬
‫على الطريق الرأسمالى‪ ،‬وتريد أن تحقق –فى سنوات قليلة‪ -‬ما حققته الدول الغربية المتقدمة‬
‫فى حوالى القرنين من الزمان‪ ،‬ولما كان تحقيق تلك اآلمال العريضة يحتاج إلى قاعدة مالية‬
‫على درجة عالية من الكفاءة‪ ،‬فقد أصلحت الحكومة النظام المالى والنقدى‪ ،‬وضمنت لنفسها‬
‫موارد ثابتة من ضرائب األطيان الزراعية‪ ،‬ثم رنت ببصرها إلى البيوت التجارية المالية‪،‬‬
‫فراحت تنظمها وتعمل على ضمان التسهيالت االئتمانية التى تقدمها تلك البيوت‪ ،‬كما‬
‫عملت على تثبيت قواعد سوق النقد ومحاولة تركيز رأس المال المتاح عن طريق تكوين‬
‫الشركات التجارية والشركات المصرفية‪ ،‬ووضعت و ازرة التجارة –التى تأسست عام ‪-1869‬‬
‫نظاماً لتلك الشركات‪ ،‬يضمن لها أن تستظل بحماية الدولة‪.‬‬

‫ونال بذلك رأس المال الخاص دفعة قوية‪ ،‬زاد من قوتها التزام الدولة بسداد ديون المقاطعات‬
‫القديمة التى كانت قد اقترضتها من البيوت المالية‪ ،‬وانضم إلى رأس المال الخاص وافد‬
‫جديد تمثل فى الساموراى الذين حصلوا على معاشات استبدلوا بها سندات الدولة‪ ،‬حتى إذا‬
‫اك تملت لرأس المال الخاص أسباب القوة‪ ،‬اندفع نحو العمل المصرفى كسبيل لالستثمار‪،‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪28‬‬
‫وظل رأس المال المصرفى يحرز قصب السبق على رأس المال الصناعى حتى قيام الحرب‬
‫الصينية اليابانية (‪ )1894 -1893‬وبذلك تدعم مركز أصحاب المصارف (الذين عرفوا‬
‫بالماليين ‪ )zaibatsu‬وقد ساعد على تركز رأس المال سياسة الحكومة التى استهدفت حماية‬
‫رأس المال وتشجيعه‪ ،‬وتهيئة ظروف النمو له‪ ،‬وساعد على سرعة تركز رأس المال الهبوط‬
‫النسبى لمستوى تراكم رأس المال‪ ،‬وحاجة الحكومة إلى األموال للبدء فى المشروعات‬
‫الصناعية الحديثة‪ ،‬وادخال نظام الشركات المساهمة فى اليابان منذ ‪ ،1869‬وما تقتضيه‬
‫منافسة الدول األجنبية من ضرورة تركيز رأس المال‪.‬‬

‫وحينما استطاعت الصناعة الحديثة أن تبلغ بإنتاجها حد القدرة على منافسة منتجات البالد‬
‫األوروبية فى السوق المحلية والسوق الخارجية‪ ،‬تكونت الكارتالت (االتحادات االحتكارية)‬
‫للسيطرة على تلك الصناعة‪ ،‬مثلما حدث فى صناعة النسيج فى الثمانينيات وفى هذا الصدد‬
‫ال يعد رأس المال اليابانى نسيجاً فريداً‪ ،‬فقد جرت عادة رأس المال الكبير فى الغرب على‬
‫النمو عن طريق ابتالع رءوس األموال الصغيرة‪ ،‬وخاصة عند وقوع األزمات االقتصادية وما‬
‫يصحبها من تضخم‪.‬‬

‫وكان نمو رأس المال الكبير عن طريق ابتالع رءوس األموال الصغيرة هو السمة البارزة‬
‫للزايباتنسو (أو الماليين) فى اليابان الذين كونوا أربعة بيوت مالية كبرى‪ ،‬وتسلحت تلك‬
‫الحقبة المحدودة من كبار الرأسماليين بما توافر لديها من قدرة على المنافسة غير المتكافئة‬
‫من خالل هيمنة على المصارف والقطاعين الصناعى والتجارى‪ ،‬وان ظل العمل المصرفى‬
‫‪-‬الذى دعمته حكومة مايجى‪ -‬حصنها الحصين‪.‬‬

‫وكانت المصارف تقدم للحكومة القروض التى تقيم بها المشروعات الصناعية التى تتطلب‬
‫استثمارات كبيرة‪ ،‬بينما عانى رأس المال الصغير من الحاجة إلى التمويل‪ ،‬واضطر إلى‬
‫اال قتراض من المصارف بفوائد كبيرة‪ ،‬لذلك كانت رءوس األموال الصغيرة تفضل الحياة على‬
‫فتات موائد رأس المال الكبيرة فى المجاالت التى يعف رأس المال الكبير عن ولوجها‪،‬‬
‫وخاصة الصناعات التقليدية مثل‪ :‬الخزف‪ ،‬والحرير‪ ،‬والخمور‪ ،‬والصناعات الغذائية البسيطة‬
‫التى كانت بعيدة عن المنافسة األجنبية‪ ،‬ولكن ‪-‬مع مرور الزمن‪ -‬لم تسلم تلك المنشآـت‬
‫الصناعية التقليدية من الوقوع فى فخ المصارف والتورط فى االستدانة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪29‬‬
‫ال ‪-‬فى الغالب‪ -‬عن رأس المال الصناعى فى‬
‫وعلى حين كان رأس المال المصرفى منفص ً‬
‫الكثير من البالد التى شهدت هذه المرحلة من مراحل نمو الرأسمالية‪ ،‬مر رأس المال‬
‫الصناعى فى اليابان بظروف مختلفة تمام االختالف‪ ،‬فقد بدأـت الدولة حركة التصنيع‪ ،‬وما‬
‫كادت الصناعة الجديدة تقف على أقدامها‪ ،‬حتى سلمتها الحكومة لعدد محدود من الشركات‬
‫الخاصة التابعة للمصارف الكبرى‪ ،‬مقابل شروط متواضعة للبيع‪ ،‬وتسهيالت مناسبة للسداد‪،‬‬
‫ولذلك لم تظهر فى اليابان طبقة جديدة من الرأسماليين الصناعيين‪ ،‬ولكن ترتب على هذه‬
‫الظاهرة تقوية رأس المال المصرفى ورأس المال الربوى‪ ،‬وتحولهما ‪-‬جزئي ًا‪ -‬إلى رأسمالية‬
‫صناعية‪.‬‬

‫الصناعات اإلستراتيجية‬
‫كانت الصناعة اليابانية ‪-‬فى عصر مايجى‪ -‬ذات طابع فريد‪ ،‬فهى صناعة احتكارية‪،‬‬
‫يخضع القطاع اإلستراتيجى منها لهيمنة الدولة‪ ،‬ونعنى بالصناعات اإلستراتيجية تلك‬
‫الصناعات ذات الصلة بالمجهود الحربى‪ ،‬أو تلك التى تنتج سلعاً ذات أهمية خاصة بالنسبة‬
‫ألسواق الصادرات‪ ،‬ومن ثم تحظى بتشجيع الحكومة وحمايتها ودعمها المادى حتى تستطيع‬
‫الصمود فى وجه منافسة بضائع البلدان األخرى فى األسواق الخارجية‪.‬‬

‫فقد أوقفت حكومة مايجى جهودها على إقامة جيش وطنى قوى‪ ،‬ونظام حديث للشرطة حتى‬
‫تستطيع مواجهة التحديات الداخلية ممثلة فى تمرد الساموراى وانتفاضات الفالحين‬
‫والتحديات الخارجية ممثلة فى خطر التدخل األجنبى وخاصة أن ما حدث للصين على يد‬
‫القوى االستعمارية كان ماثالً فى أذهان حكام اليابان فى ذلك العصر‪.‬‬

‫واذا كانت حكومة مايجى قد ورثت عن العهد السابق عليها نواة قوة عسكرية دربت على‬
‫النسق الفرنسى‪ ،‬فإن تلك القوة كانت تفتقر إلى المقومات المادية التى تضمن تزويدها بالعتاد‬
‫والعدة‪ ،‬والتى ال تتوافر إال من خالل الصناعة الحديثة ونظام النقل الحديث‪ ،‬ولذلك كان البد‬
‫من وضع خطة للتصنيع من أجل سد الحاجات العسكرية الملحة وخاصة أن قضية األمن‬
‫كانت أساسية فى مطلع عصر مايجى‪ ،‬ومن ثم كان االهتمام بالصناعات الثقيلة‬
‫والصناعات الهندسية والتعدين التى أصبحت ‪-‬بالنسبة للحكومة‪ -‬صناعات إستراتيجية‪ ،‬وان‬
‫كانت نواتها قد بدأـت فى أواخر عصر طوكوجاوا استجابة للتحدى الغربى‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪30‬‬
‫فكان لمقاطعات‪ :‬ساتسوما‪ ،‬وهيزن‪ ،‬وتشوشو‪ ،‬فضل الريادة فى إقامة الصناعات الحربية‬
‫الحديثة‪ ،‬فأقيم أول فرن حديث لصهر الحديد بمدينة ساجا (مقاطعة هيزن) لخدمة صناعة‬
‫المدافع عام ‪ ،1850‬وبدأ إنتاجه عام ‪ ،1852‬وكانت تلك المقاطعة قد بدأت صناعة المدافع‬
‫على الطراز الهولندى قبل ذلك التاريخ بعشر سنوات‪ ،‬وأقيمت أفران الحديد الحديثة ‪-‬بعد‬
‫ذلك‪ -‬فى ساتسوما (عام ‪ )1853‬وميتو (عام ‪ ،)1855‬كذلك أقامت حكومة طوكوجاوا‬
‫مصنعاً حديثاً للحديد (عام ‪ ،)1853‬وانتهى العمل فى إنشاء مصنع صب المدافع فى‬
‫ساتسوما عام ‪ ، 1854‬وتمكنت تلك المقاطعة من تجهيز ست سفن بالمدافع من إنتاج ذلك‬
‫المصنع (عام ‪ )1857‬كذلك أقامت مقاطعة ميتو مصنعاً لصب المدافع‪ ،‬وقد تم ذلك كله‬
‫بالرجوع إلى الكتب الهولندية وبطريق التجربة والخطأ‪ ،‬باالعتماد على الذات ودون االستعانة‬
‫بخبراء أجانب‪.‬‬

‫وفى عام ‪ 1857‬قامت حكومة طوكوجاوا ببناء سفينة تجارية كما أقامت مصانع يوكوسوكا‬
‫الشهيرة للحديد‪ ،‬وترسانة لبناء السفن باالستعانة بالخبرة الفرنسية‪ ،‬فتم إنجازها عام ‪1871‬‬
‫(بعد سقوط طوكوجاوا) وا لتزم المقاول الفرنسى بتسليمها للسلطة الجديدة (حكومة مايجى)‬
‫وهكذا كانت نواة الصناعات اإلستراتيجية فى اليابان قد بدأت قبل عصر مايجى ألسباب‬
‫تتصل بمواجهة التحدى الغربى‪.‬‬

‫وورثت حكومة مايجى هذه المشروعات عن العهد السابق‪ ،‬فاستولت عليها وعملت على‬
‫تطويرها فأصبحت تتص در العمل فى مجال الصناعات الثقيلة والتعدين‪ ،‬واستخدمت الحكومة‬
‫مدربين من األجانب لرفع مستوى الكفاية الفنية واإلنتاجية‪ ،‬كما أقامت مرك اًز خاصاً للتدريب‬
‫على صناعة المدافع‪ ،‬وأنشأت ترسانة أوساكا‪ ،‬كما استولت الحكومة على بعض ترسانات‬
‫بناء السفن التى كانت للمقاطعات القديمة‪ ،‬وأنشأت الحكومة المدارس الهندسية والفنية‬
‫إلعداد الكوادر لتلك المؤسسات الصناعية‪ ،‬واستخدمت لتلك المدارس معلمين من األجانب‪،‬‬
‫كما أوفدت المبرزين من الطالب إلى الخارج إلتمام دراستهم واكتساب الخبرة الالزمة للعمل‬
‫بتلك الصناعات الهامة‪.‬‬

‫وسارت الحكومة على نفس الدرب فيما يتصل بصناعة التعدين‪ ،‬فاستولت على جميع‬
‫المناجم التى كانت تدار لحساب الحكومة السابقة والمقاطعات القديمة‪ ،‬وباعت جانباً كبي اًر‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪31‬‬
‫منها للبيوت المالية ذات الخظوة لديها‪ ،‬وأبقت لنفسها نحو عشرة من تلك المناجم تولت‬
‫إدارتها‪ ،‬حتى إذا وقف إنتاجها على أقدامه‪ ،‬باعتها بدورها للقطاع الخاص‪ ،‬واستخدمت‬
‫الحكومة الخبراء األجانب للعمل على زيادة إنتاج تلك الصناعة الهامة‪.‬‬

‫وتطور قطاع النقل والمواصالت بسرعة كبيرة بفضل جهود حكومة مايجى‪ ،‬التى ركزت‬
‫اهتمامها على هذا القطاع الرتباطه بحماية المصالح الوطنية للبالد‪ ،‬وخدمة السوق الوطنية‬
‫بتوسيع نظامها وتنشيط حركتها‪ ،‬وكان أول خط حديدى يتم بناؤه فى اليابان (هو خط‬
‫طوكيو‪ -‬يوكوهاما) خط حكومى‪ ،‬عنيت الدولة بإنشائه بقرض بريطانى‪ ،‬وما كاد القرن‬
‫التاسع عشر يبلغ نهايته‪ ،‬حتى كان حجم رأس المال الخاص فى ذلك القطاع يفوق حكم‬
‫االستثمار الحكومى‪ ،‬ولكن الحك ومة ما لبثت أن قامت بتأميم السكك الحديدية عام ‪،1906‬‬
‫وتركت الخطوط الحديدية الضيقة بيد القطاع الخاص‪ ،‬وكان الهدف من التأميم استخدام‬
‫عائدات السكك الحديدية فى توسيع الشبكة لتغطى جميع انحاء البالد‪ ،‬وتم عقد قرض وطنى‬
‫لتوفير األموال الالزمة لشراء الخطوط التى كانت تملكها الشركات الخاصة‪.‬‬

‫وبذلك تغلبت االعتبارات اإلستراتيجية على مصالح رأس المال الوطنى‪ ،‬فقد جاء إنشاء‬
‫بعض الخطوط الجديدة لخدمة المجهود الحربى بالدرجة األولى‪ ،‬ونجد صدى تغليب‬
‫(التليفونات‬ ‫المصالح اإلستراتيجية يتردد بوضوح فيما يتعلق بالمواصالت السلكية‬
‫والتلغرافات) فعندما اقترحت بعض الشركات الخاصة أن تأخذ على عاتقها مد خطوط البرق‬
‫والهاتف‪ ،‬اعترض "مجلس الدولة" على ذلك (‪ 2‬أغسطس ‪ )1872‬وبرر اعتراضه بضمان‬
‫سرية االتصاالت الحكومية التى البد أن تتم عبر تلك الخطوط‪ ،‬كما أن نظام المواصالت‬
‫السلكية يربط اليابان بالعالم الخارجى مما يكسبه أهمية خاصة‪ ،‬ولذلك يجب أن يكون مرفقاً‬
‫حكومي ًا‪.‬‬

‫وعندما طرحت فكرة جعل الخدمة الهاتفية الداخلية ‪-‬التى تخدم الجمهور‪ -‬استثما اًر خاص ًا‬
‫(‪ )1899‬رفضت الحكومة الفكرة وأخذت على عاتقها مد تلك الخدمة للجمهور‪ ،‬وأصدرت ‪-‬‬
‫فى العام التالى‪ -‬لوائح لتنظيم الخدمة الهاتفية‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪32‬‬
‫وهكذا كان حكام اليابان فى عصر مايجى على درجة كبيرة من الحساسية فى كل ما يتصل‬
‫بالنواحى اإلستراتيجية‪ ،‬فحرصوا على أن يضعوا الصناعات الحربية والنقل والمواصالت‬
‫السلكية تحت إدارة الدولة ورقابتها‪ ،‬رغم ما يترتب على ذلك من زيادة أعباء اإلنفاق‬
‫الحكومى مما أدى إلى زيادة األعباء الضريبية على قطاع الزراعة الذى كان عليه أن يتحمل‬
‫عبء بناء مؤسسات الدولة الحديثة‪ ،‬وبذلك ضمنت الحكومة بقاء الصناعات اإلستراتيجية‬
‫بمنأى عن الضغوط التى يمكن أن تنشأ عن تركها بيد رأس المال الوطنى واألجنبى مما قد‬
‫يعرض أمنها القومى للخطر‪.‬‬

‫رعاية الدولة للقطاع الخاص‬


‫ولكن ذلك ال يعنى أن الحكومة احتكرت اإلنتاج الصناعى لنفسها‪ ،‬بل ‪ -‬على نقيض ذلك‪-‬‬
‫قدمت الحكومة لرأس المال الخاص العديد من المشروعات الصناعية التى بدأتها‪ ،‬فقامت‬
‫بنقل ملكيتها إلى الشركات الخاصة عن طريق البيع تطبيقاً لقانون (نقل ملكية المصانع)‬
‫الصادر فى ‪ 5‬فبراير ‪ 1880‬الذى نص على أن هدف الحكومة تشجيع الناس على‬
‫االستثمار فى الصناعة لزيادة ثروة األمة‪.‬‬

‫غير أن السبب الرئيسى الذى دفع الحكومة إلى بيع مصانعها (غير اإلستراتيجية) إلى‬
‫الشركات الخاصة‪ ،‬هو الفشل فى إدارتها وتعرضها للخسارة مما جعلها تشكل عبئاً على‬
‫الخزانة العامة للدولة‪ ،‬وكان هذا التصرف جزءاً من سياسة االنكماش االقتصادى التى لجأت‬
‫إليها الدولة لمعالجة التضخم‪ ،‬ولذلك عندما طرحت تلك المصانع والمناجم للبيع‪ ،‬كان‬
‫اإلقبال على شرائها محدوداً‪ ،‬مما جعل الحكومة تطرحها للبيع بأسعار زهيدة وشروط سداد‬
‫مريحة‪ ،‬فك ان بيع تلك المشروعات بمثابة معونة حكومية مستترة لرأس المال الخاص‪ ،‬ولوال‬
‫سلوك الحكومة هذا المسلك‪ ،‬لما أبدى القطاع الخاص اهتماماً بامتالك تلك المشروعات ‪-‬‬
‫التى كانت تحقق خسائر‪ -‬بأسعار تعبر عن القيمة الحقيقية ألصولها‪ ،‬وقامت الشركات التى‬
‫اشترت تلك المصانع والمناجم بإضافة استثمارات جديدة إلى األصول التى قامت بشرائها من‬
‫الحكومة‪ ،‬وحولت تلك المشروعات إلى نواة إلمبراطورية صناعية ضخمة ال زالت باقية حتى‬
‫اليوم‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪33‬‬
‫وقد حققت سياسة بيع المشروعات الصناعية الحكومية نوعاً من الحرية االقتصادية ولكن‬
‫الحكومة أيقنت أن المشروعات الصناعية الخاصة ال تستطيع أن تمضى قدماً فى ممارسة‬
‫نشاطها دون أن تنال مساعدتها‪ ،‬واذا كان التساهل فى بيع المشروعات الحكومية يعد نوعاً‬
‫من المعونة غير المباشرة للقطاع الخاص الصناعى‪ ،‬قصد به تشجيع االستثمارات الوطنية‬
‫الخاصة‪ ،‬فإن الحكومة قدمت المزيد من التشجيع والمعونات للصناعة كان بعضها يسير‬
‫وفق خطة معينة تخدم مصالح الدولة‪ ،‬على حين كان بعضها اآلخر يخدم مصالح حفنة من‬
‫رواد الصناعة اليابانية الحديثة‪.‬‬

‫وتعددت أشكال المساعدة الحكومية للصناعات اليابانية‪ ،‬ولكن أهمها حرص الحكومة‬
‫اليابانية على تدعيم تلك الصناعات بشراء جانب كبير من إنتاجها‪ ،‬فقد كانت السوق‬
‫اليابانية قادرة على استهالك إنتاج صناعة المنسوجات القطنية‪ ،‬ما دامت تلك الصناعة قادرة‬
‫على منافسة المنسوجات األجنبية‪ ،‬وكذلك كانت الحال بالنسبة للصناعات التقليدية‪ ،‬ولكن‬
‫األمر كان يختلف تمام االختالف بالنسبة للصناعات الكهربية والكيماوية مثل صناعة‬
‫األسمنت والطوب والورق والزجاج والجلود‪ ،‬حيث كانت المشروعات الخاصة المستقلة بتلك‬
‫الصناعات تعانى من مشكلة تصريف إنتاجها‪ ،‬وخاصة أن الناس كانوا يحجمون عن‬
‫استهالك مواد لم يعتادوا استخدامها من قبل‪ ،‬كما أن احتياجاتهم كانت أقل من أن تستوعب‬
‫اإلنتاج الكبير لتلك الصناعات‪ ،‬وجاءت مشتروات الحكومة لتنقذ هذه المشروعات من إفالس‬
‫محقق‪ ،‬وخاصة فى السنوات الحرجة السابقة على عام ‪ ،1895‬فأقبلت الحكومة على شراء‬
‫معظم إنتاج الجلود لتغطية احتياجات الجيش‪ ،‬والورق لسد حاجة األجهزة اإلدارية‪ ،‬واألسمنت‬
‫والطوب والزجاج لمشروعاتها العمرانية والمنسوجات الصوفية لصنع البزات العسكرية‬
‫والبطاطين للجيش‪.‬‬

‫واقتفت حكومة مايجى أثر النظام السابق عليها فى إسناد مهمة توريد احتياجاتها المختلفة‬
‫إلى موردين بعينهم‪ ،‬مما جعل هؤالء يحققون أرباحاً خيالية‪ ،‬ولم تحاول الحكومة أن تنقص‬
‫من أرباحهم ما دامت تلك األرباح تستثمر فى مشروعات صناعية حديثة‪ ،‬وكان كبار‬
‫الموردين الذين تتعامل معهم الحكومة‪ ،‬هم ‪-‬فى نفس الوقت‪ -‬أساطين الصناعة اليابانية‬
‫الحديثة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪34‬‬
‫ولكن الصناعات الخفيفة لم تحظ بالدعم الحكومى على نحو ما حظيت به الصناعات‬
‫الهندسية والثقيلة‪ ،‬فلم تنل صناعة غزل ونسج القطن وصناعة الحرير أى دعم مالى من‬
‫الحكومة بعد عام ‪ ،1884‬وحتى المساعدات التى نالتها فى الحقبة السابقة على ذلك التاريخ‬
‫كانت ضئيلة القيمة‪ ،‬واقتصر دور الدولة على نشر المعرفة الفنية‪ ،‬وافساح المجال أمام‬
‫المنسوجات الوطنية فى السوق المحلية عن طريق إثارة الشعور الوطنى ضد المنسوجات‬
‫األجنبية مما أدى إلى تثبيت دعائم سوق المنسوجات الوطنية وجعلها فى غنى عن معاونة‬
‫الحكومة‪ ،‬وكانت المعارض واألسواق أداة الدولة فى تشجيع وترفيه الصناعات الخفيفة‪ ،‬وما‬
‫لبثت أن أصبحت المنسوجات فى مقدمة السلع اليابانية التى غزت األسواق األجنبية‪.‬‬

‫غير أ ن الرواج الذى أصاب النشاط الصناعى بفضل سياسة حكومة مايجى ‪-‬سواء عن‬
‫طريق الدعم المباشر أو غير المباشر‪ -‬تم على حساب العمل والعمال‪ ،‬فلم تول الحكومة‬
‫اهتمامها لتحسين ظروف العمل وشروطه‪ ،‬وتغاضت عن الجور الذى عاناه العمال على‬
‫أيدى أصحاب األعمال‪ ،‬وأصمت آذانها عن سماع شكواهم وأنينهم‪ ،‬بعد ما وجدت أن إتاحة‬
‫فرصة التراكم لرأس المال الوطنى "ضرورة قومية" يجب أن تتحقق ولو كان ذلك على‬
‫حساب العمل والطبقة العاملة اليابانية‪.‬‬

‫النمو االقتصادى‬
‫ولعل من المناسب ‪-‬على ضوء ما تقدم‪ -‬أن نلقى نظرة على النمو االقتصادى الذى حققته‬
‫اليابان فى عصر النهضة لنقف على ما أثمرته التجربة التى لفتت األنظار إلى ذلك البلد‬
‫وحولته من كيان مهمش إلى دولة قوية يحسب لها ألف حساب‪.‬‬

‫يتفق الباحثون المعنيون بدراسة التطور االقتصادى لليابان على تقسيم النمو االقتصادى إلى‬
‫ثالث مراحل‪:‬‬

‫‪ .1‬المرحلة األولى‪ :‬وتشمل الفترة التى تسمى "فترة االنتقال" وتقع بين (‪)1885 -1868‬‬
‫وبداية بناء االقتصاد الحديث (‪.)1905 -1886‬‬
‫‪ .2‬المرحلة الثانية‪ :‬وتشمل البناء االقتصادى الحديث (‪.)1925 -1905‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪35‬‬
‫‪ .3‬المرحلة الثالثة‪ :‬وتشمل االنتعاش واعادة البناء االقتصادى الحديث بعد الحرب‬
‫العالمية الثانية وتمتد إلى تحول اليابان إلى قوة اقتصادية كبرى فى الوقت الحاضر‪.‬‬

‫اما المرحلة األولى فتمثل النمو االقتصادى الحديث منذ أصبح "هدفاً قومياً" مع بداية العصر‬
‫حتى كانت بداية تحقيقه عملياً (‪ )1905‬وليس ثمة دليل يشير إلى أن اإلنتاج الحقيقى للفرد‬
‫كان يزيد بمعدل سريع‪ ،‬أو حتى فى حدود سد الحاجات الضرورية ‪-‬خالل الستينيات من‬
‫القرن التاسع عشر‪ -‬كما أن السكان لم يتزايدوا بمعدالت كبيرة‪ ،‬وفى السبعينيات من نفس‬
‫القرن كان ما يتراوح بين ‪ %80 -70‬من السكان القادرين على العمل يشتغلون بالزراعة‪،‬‬
‫وقدمت الزراعة نحو ‪ %65‬من اإلنتاج القومى‪ ،‬وكان نصيب الفرد من اإلنتاج القومى يقدر‬
‫بعشرين ينا سنوياً‪ ،‬وفى أوائل سبعينيات القرن التاسع عشر بلغت قيمة اإلنتاج الصناعى‬
‫نحو ‪ %30‬من جملة اإلنتاج السلعى‪.‬‬

‫وكانت الفترة (‪ )1876-1868‬تتسم بثبات نسبى فى األوضاع االقتصادية واعتمدت‬


‫الحكومة على األصول التى ورثتها عن النظام القديم فيما يتعلق بالموارد وطرق االستفادة‬
‫بها‪ ،‬كما لعبت القروض األجنبية وزيادة اإلنتاج المحلى دو اًر هاماً فى استغالل الموارد‬
‫المتاحة‪.‬‬

‫وكان لسنوات التضخم المالى (‪ )1881 -1876‬أثرها على النظام النقدى والمركز المالى‬
‫للبالد‪ ،‬بقدر ما كان لسنوات االنكماش االقتصادى (‪ )1885 -1881‬من أثر على إدخال‬
‫التغيرات األساسية على بنية االقتصاد اليابانى‪ ،‬فقد كانت سياسة االنكماش محاولة جريئة‬
‫وناجحة لخلق الظروف المالئمة للنمو االقتصادى الحديث الذى كان ‪-‬عندئذ‪ -‬يمثل ضرورة‬
‫حيوية ملحة بالنسبة لليابان‪ ،‬فتم وضع حد للفوضى التى اتسم بها النظام النقدى‪ ،‬كما تم‬
‫ترشيد رأس المال الوطنى بفضل المرونة التى توفرت للنظام النقدى‪ ،‬وأمنت الحكومة موارده‬
‫المالية‪ ،‬وبذلك فتح الباب أمام النمو االقتصادى الحديث‪.‬‬

‫وعندما بدأت عملية بناء االقتصاد الحديث فى تلك المرحلة (‪ )1905 -1886‬أصبح لدينا‬
‫قطاعان إقتصاديان‪ :‬أحدهما تقليدى‪ ،‬واآلخر حديث‪ ،‬وكانت الزراعة قاعدة االقتصاد‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪36‬‬
‫التقليدى‪ ،‬وظلت تحظى بأهمية خاصة فى تلك المرحلة التى كان فيها دور االقتصاد‬
‫الحديث دو اًر محدوداً وتمثل فى اقتباس التقنية من الغرب‪.‬‬

‫وان كان التمييز بين القطاعيين التقليدى والحديث من الصعوبة بمكان‪ ،‬فقد كانا يستندان إلى‬
‫بعضهما البعض‪ ،‬وكثي اًر ما كانا يشتبكان معاً‪ ،‬وتجمع بينهما رابطة االنتماء إلى نظام‬
‫اقتصاد ى واحد‪ ،‬وكان االلتقاء بينهما فى رحاب الصناعات الريفية التقليدية التى استفادت‬
‫استفادة نسبية من مستحدثات التقنية اإلنتاجية‪ ،‬وفى الحدود التى تشكل استجابة لتحديات‬
‫السوق فى ظل الظروف الجديدة التى أوجدتها سياسة التصنيع‪.‬‬

‫ولكن الفضل فى زيادة معدالت النمو االقتصادى ‪-‬فى المرحلة التى تلت عام ‪-1905‬‬
‫يرجع إلى السياسة اإلمبريالية التى انتهجتها حكومة مايجى‪ ،‬واتخذت شكل التوسع على‬
‫حساب كوريا والصين لخلق سوق خارجية مالئمة لتصرف منتجات الصناعة اليابانية‬
‫الحديثة‪ ،‬واتاحة فرصة النمو السريع أمام رأس المال اليابانى‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪37‬‬
‫الفصل الثالث ‪ -‬بناء إمبراطورية آسيوية‬
‫ترجع الدعوة إلى بناء إمبراطورية آسيوية باعتباره ضرورة حيوية لليابان‪ ،‬إلى األفكار التى‬
‫طرحها بعض المفكرين اليابانيين المتطرفين فى وطنيتهم فى أواخر عصر طوكوجاوا‪،‬‬
‫وكانت مبررات هذه الدعوة أن التوسع عن طريق ضم جزر الكوريل‪ ،‬وجزيرة سخالين وشبه‬
‫جزيرة كمتشكا‪ ،‬وبعض مناطق سيبريا‪ ،‬إضافة إلى منشوريا وكوريا وفرمو از من شأنه أن‬
‫يحول اليابان إلى قوة إقليمية مهابة تحسب لها القوى الكبرى ألف حساب‪.‬‬

‫وعندما طرحت تلك األفكار كانت تبدو مجرد أضغاث أحالم‪ ،‬غير أنها أثرت على فكر‬
‫النخبة التى صنعت عصر مايجى‪ ،‬وألهمتها إستراتيجية التوسع اإلمبريالى على حساب‬
‫الجيران التى وضعت فى منتصف الثمانينيات من القرن التاسع عشر‪ ،‬وما كاد يحل عام‬
‫‪ ،1890‬حتى كان العسكريون ومجلس الوزراء على يقين من أن اليابان ال تستطيع‬
‫المحافظة على استقاللها‪ ،‬إال إذا توفرت لديها القدرة على االنضمام إلى محفل الدول الكبرى‬
‫التى تسعى إلى الحصول على مطالب وامتيازات فى آسيا‪ ،‬وبحلول عام ‪ ،1894‬أصبحت‬
‫الرغبة فى االستيالء على أراضى آسيا ذات األهمية اإلستراتيجية موضع اهتمام مجلس‬
‫الوزراء والعسكريين وعندما نشبت الحرب مع الصين‪ ،‬أصبح الهدف اإلستراتيجى لليابان‪:‬‬
‫االستيالء على شبه جزيرة لياوتونج‪ ،‬وضمان استقالل كوريا واتخاذ فرمو اًز قاعدة بحرية‬
‫يتحكم منها األسطول اليابانى فى الطرق البحرية المؤدية إلى سواحل الصين‪ ،‬وتلك التى‬
‫تؤدى إلى اليابان‪.‬‬

‫وكان من بين الدوافع التى وجهت السياسة اليابانية صوب التوسع اإلمبريالى‪ ،‬التنافس‬
‫الروسى‪ -‬البريطانى فى شرق آسيا‪.‬‬

‫وقدر مجلس الوزراء اليابانى أن ذلك التنافس سوف يؤدى إلى زيادة االضطرابات فى‬
‫المنطقة‪ ،‬وخاصة أن الدولتين طورتا تجارتهما ومراكزهما العسكرية بما يحقق لكل منهما‬
‫مزايا إستراتيجية‪ .‬ولما كان الروس يفكرون فى مد خط حديدى يخترق سيبريا ويصل إلى‬
‫المحيط الهادى‪ ،‬قدر له أن يتم عام ‪ ،1911‬كان على اليابان أن تأخذ األمر مأخذ الجد‪،‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪38‬‬
‫وتتأهب عسكرياً لمواجهة وصول السكك الحديدية الروسية إلى المحيط‪ ،‬ألن الروس‬
‫سيسعون عندئذ إلى فرض سيطرتهم على آسيا‪.‬‬

‫ولما كان التنافس البريطانى‪ -‬الروسى سيقود إلى صدام بين القوتين‪ ،‬فقد رأى مجلس الوزراء‬
‫اليابانى (‪ )1886‬أن تكون اليابان على درجة من القوة العسكرية تمكنها من أن تقرر ما‬
‫يالئم مصالحها‪ ،‬فتبقى على الحياد‪ ،‬أو تنضم إلى أحد الطرفين المتنازعين ضد اآلخر‪.‬‬

‫ورأى ياماجاتا (رئيس الوزراء) أنه فى حالة تعرض كوريا للغزو فلن تسلم اليابان من الخطر‪،‬‬
‫وكانت سياسة اليابان تهدف إلى االحتفاظ بكوريا كدولة مستقلة ال ترتبط بالصين بروابط‬
‫التبعية‪ ،‬والحيلولة دون قيام أى من الدول األوروبية باحتاللها‪ ،‬ألن ما تتمتع به شبه جزيرة‬
‫كوريا من موقع جغرافى يجعل من يحتلها فى مركز القوة الذى يمكنه من التحكم فى شرق‬
‫آسيا‪ ،‬وتهديد سالمة األراضى اليابانية‪ ،‬كذلك كان من األهداف السياسية اليابانية إعاقة أية‬
‫محاولة من جانب الصين لبناء جيش عصرى قوى ألن ذلك يضر بأمن اليابان‪.‬‬

‫وفى نوفمبر ‪ ،1890‬قرر مجلس الوزراء ضرورة أن تكون اليابان على أتم استعداد للدفاع‬
‫عن خطين‪ :‬خط السيادة‪ ،‬وخط المصالح‪.‬‬

‫أما الخط األول فهو حدودها‪ ،‬وأما الخط اآلخر فيمر عبر أراضى جيرانها‪ ،‬أو المناطق التى‬
‫تالمس خط السيادة (على حد تعبير رئيس الوزراء) وحتى تحافظ اليابان على استقاللها‬
‫يجب أن تجد لنفسها موضعاً بين الدول الكبرى‪ ،‬وأن تخطو خطوة واسعة نحو الدفاع عن‬
‫خط المصالح القومية الذى يشمل كوريا‪ ،‬وبذلك تصبح اليابان فى وضع أفضل من االكتفاء‬
‫بالوقوف خلف "خط السيادة"‪.‬‬

‫وهكذا ركز ياماجاتا ‪-‬رئيس الوزراء‪ -‬على األهمية اإلستراتيجية للتوسع فى القارة األسيوية‬
‫على حساب جارات اليابان باعتباره "ضرورة أمن قومى" للدفاع عن استقالل اليابان‪ ،‬بل‬
‫نجده فى أواخر أيامه (عام ‪ )1915‬يؤكد أن منشوريا هى المجال الطبيعى للتوسع اليابانى‬
‫فى القارة اآلسيوية‪ ،‬وأنها تعد شريان الحياة بالنسبة لليابان‪ ،‬ألن اليابانيين البد أن يسكنوا‬
‫آسيا والتوسع فى منشوريا يحل مشكلة السكان فى اليابان‪ ،‬كما يوفر ‪-‬على حد زعمه‪-‬‬
‫الحماية لآلسيويين‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪39‬‬
‫وراح بعض مفكرى عصر مايجى يبرر حركة التوسع اليابانى على ضوء نظرية دارون‬
‫بالقول بأن البقاء لألقوى فى عالم تسوده شريعة الغاب‪ ،‬وبأن التوسع فى أراضى الجيران‬
‫ليس عدوانا أو اغتصاب ًا‪ ،‬ولكنه "مهمة حضارية" هدفها حماية تلك الشعوب‪ ،‬ومساعدتها‬
‫على تحقيق التقدم وبلوغ درجة التحضر‪.‬‬

‫التوسع فى كوريا‬
‫وقد طبقت اليابان عند توسعها فى كوريا نفس األسلوب الذى اتبعته الواليات المتحدة مع‬
‫اليابان‪ ،‬ففى أغسطس ‪ 1875‬اقتحمت سفينة يابانية خليج كانجهوا الكورى‪ ،‬فأطلقت عليها‬
‫قوات خفر السواحل الكورية النيران‪ ،‬واتخذت اليابان من ذلك الحادث مبر اًر إلرغام كوريا‬
‫على إقامة عالقات دبلوماسية وتجارية معها تحت تأثير التهديد باستخدام القوة العسكرية‬
‫ضدها‪ ،‬وبعد ستة أشهر من ذلك الحادث (فبراير ‪ )1876‬وقعت كوريا معاهدة غير متكافئة‬
‫مع اليابان على نمط المعاهدات التى وقعتها كل من اليابان والصين مع الدول الغربية‪،‬‬
‫وافقت بموجبها كوريا على فتح ثالثة موانى أمام التجارة اليابانية واعتبرت المعاهدة كوريا بلداً‬
‫مستقالً‪ ،‬رغم أن الصين كانت تعدها من توابعها‪.‬‬

‫وفى عام ‪ 1822‬قامت ثورة ضد األسرة المالكة الكورية‪ ،‬اتخذت طابع العداء ضد اليابانيين‪،‬‬
‫فتدخلت الصين تلبية لطلب األسرة الحاكمة ونجحت فى قمع الثورة‪ ،‬وقنع اليابانيون‬
‫بالتعويضات التى حصلوا عليها من الحكومة الكورية عما لحق بالمصالح اليابانية من‬
‫خسائر خالل أحداث الثورة‪ ،‬غير أنهم بيتوا النية لتصفية الوجود العسكرى الصينى فى‬
‫كوريا‪ ،‬فوضعت خطة لزيادة عدد الجيش اليابانى وعدته على مدى عشر سنوات‪ ،‬بدأ تنفيذها‬
‫عام ‪ ،1855‬كما وضعت البحرية اليابانية خطة لزيادة قدرتها القتالية‪.‬‬

‫وعندما قامت انتفاضات شعبية كورية ضد مظالم السلطة وهيمنة التجار اليابانيين والصينيين‬
‫على االقتصاد الكورى مما زاد من معاناة الشعب‪ ،‬فتوقفت تلك االنتفاضات عام ‪،1894‬‬
‫فأتيحت الفرصة ألنصار التوسع اإلمبريالى داخل الحكومة اليابانية لتحقيق أحالمهم‬
‫التوسعية‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪40‬‬
‫الحرب الصينية‪-‬اليابانية‬
‫استنجدت الحكومة الكورية بالقوات الصينية للقضاء على االنتفاضات الشعبية‪ ،‬فأبلغت‬
‫اليابان الحكومة الصينية اعتزامها إرسال قوات عسكرية إلى كوريا‪ ،‬فحاولت الصين ‪-‬عبثاً‪-‬‬
‫منع الصدام المرتقب عن طريق طلب الوساطة من الدول الكبرى‪ ،‬واقترح رئيس الوزراء‬
‫اليابانى إرسال لجنة صينية‪ -‬يابانية مشتركة إلى كوريا‪ ،‬ولكن الصين رفضت االقتراح بحجة‬
‫قدرتها وحدها على إخماد االنتفاضات ووعدت باالنسحاب فور انتهاء المهمة من كوريا‬
‫ورفضت اليابان اقتراحان أحدهما بريطانى واآلخر روسى بانسحاب قوات الطرفين من كوريا‪،‬‬
‫والحق أن أحداً لم يأخذ التهديد اليابانى مأخذ الجد‪ ،‬سواء فى ذلك الصين أو الدول األوروبية‬
‫الكبرى‪.‬‬

‫وفى يونيو ‪ 1894‬وصل الوزير المفوض اليابانى إلى العاصمة الكورية على رأس قوة‬
‫عسكرية تمثل جميع فروع القوات المسلحة اليابانية‪ ،‬وقابل ملك كوريا وأملى عليه شروطاً‬
‫إلصالح الحكومة‪ ،‬وأجبر الملك الكورى على إعالن إلغاء المعاهدة الكورية‪ -‬الصينية‪ ،‬وأن‬
‫يطلب من اليابانيين طرد القوات الصينية من بالده‪.‬‬

‫ورغم ذلك ظل حكام الصين يستهينون باليابان‪ ،‬وال يعتقدون فى قدرتها على خوض غمار‬
‫حرب من أجل كوريا‪ ،‬واعتقدوا أن اليابان ليست جادة فى تهديداتها‪ ،‬وعندما التقت ثالث‬
‫سفن حربية صينية ‪-‬كانت تتولى حراسة ناقلة جنود صينية على متنها ‪ 1200‬جندى‪-‬‬
‫بثالث سفن حربية يابانية فى طريقها إلى كوريا (‪ 25‬مايو)‪ ،‬أطلقت عليها النار‪ ،‬فنشبت‬
‫معركة بحرية صغيرة راحت ضحيتها ناقلة الجنود الصينية بمن عليها‪ ،‬وأسرت إحدى السفن‬
‫الحربية الصينية‪ ،‬وأعقب ذلك هجوم القوات اليابانية فى كوريا على القوات الصينية‪ ،‬وألحقت‬
‫بها هزيمة ساحقة دون أن تعلن الحرب رسمياً‪.‬‬

‫وجاء إعالن الحرب من جانب اليابان فى أول أغسطس‪ ،‬وتبعه إعالن الحرب من جانب‬
‫الصين‪ ،‬وآثرت الدول الكبرى الوقوف على الحياد ظناً منها أن الصراع سينهك الطرفين‬
‫لمصلحتها‪ ،‬فإذا بالجيش اليابانى ينزل إلى كوريا ويتجه إلى منشوريا ويستولى على المواقع‬
‫الصينية الهامة‪ ،‬ويقيم حكومة عسكرية فى اإلقليم‪ ،‬وفى نفس الوقت‪ ،‬اتجه جيش يابانى آخر‬
‫إلى شبه جزيرة لياوتونج‪ ،‬استولى على أهم مواقعها واتجه إلى شبه جزيرة شانتونج فاستولى‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪41‬‬
‫على أهم مدنها‪ ،‬واضطر األسطول الصينى أن يستسلم لألسطول اليابانى (‪ 12‬فبراير‬
‫‪.)1895‬‬

‫وفى مارس‪ ،‬اتحد الجيشان اليابانيان‪ ،‬وزحفا صوب بكين حيث استوليا على أهم المدن فى‬
‫الطريق‪ ،‬وتوالت الهزائم على الصين دون أن يلوح فى األفق أمل تحول المد لصالحها‪،‬‬
‫ولجأت الحكومة الصينية إلى الروس واإلنجليز طالبة التدخل لوقف إطالق النار دون‬
‫جدوى‪.‬‬

‫وبعد محاوالت فاشلة من جانب الصين لفتح باب المفاوضات مع اليابان حول الصلح‪ ،‬التقى‬
‫نائب اإلمبراطور الصينى مع رئيس الوزراء اليابانى فى ميناء شيمونوسيكى (اليابانى) حيث‬
‫توصل الطرفان إلى اتفاق حول هدنة بال قيد أو شرط (‪ 19‬مارس) وتم التوقيع على معاهدة‬
‫الصلح فى ‪ 17‬إبريل‪ ،‬وخالل المفاوضات قدم األمريكيون واإلنجليز النصح والمشورة‬
‫للطرفين‪.‬‬

‫وبموجب معاهدة الصلح‪ ،‬اعترف الطرفان باستقالل كوريا استقالالً تاماً‪ ،‬وتنازلت الصين‬
‫لليابان عن شبه جزيرة لياوتونج‪ ،‬وجزيرة فرموزا‪ ،‬وجزر البسكادور‪ ،‬وتعهدت بدفع تعويض‬
‫مالى كبير‪ ،‬كما وافقت على فتح أربع مدن صينية أمام التجارة اليابانية‪.‬‬

‫لم تتمكن الدول الكبرى من الحيلولة دون تحقيق اليابان لهذا النصر فقد كانت العمليات‬
‫الحربية اليابانية تدار بكفاءة عالية وتنسيق تام ب اًر وبح اًر‪ ،‬وخالل ثمانية أشهر هزمت تلك‬
‫الدولة الجزرية الصغيرة إمبراطورية الصين العريقة ذات التعداد السكانى الهائل والموارد‬
‫المتنوعة‪ ،‬وقضت على قواتها العسكرية‪ ،‬واضطرتها إلى اإللحاح فى طلب الصلح وكان ذلك‬
‫كله بعيداً عن تقدير الدول الكبرى لمدى ما بلغته اليابان من قوة ففضلت الوقوف على‬
‫الحياد‪ ،‬ولكن نتيجة الصراع جاءت مخيبة لتوقعاتها‪.‬‬

‫وهزت الهزيمة النظام اإلمبراطورى الصينى ليسقط نهائياً بعد عقدين من الزمان‪ ،‬على حين‬
‫حققت الحرب لليابانيين الكثير فانبهر المراقبون األجانب بمستوى األداء العسكرى للجيش‬
‫والبحرية‪ ،‬وأخذ العالم يتقبل اليابان كواحدة من الدول الحديثة وأيقنت الدول الكبرى أن اليابان‬
‫قوة ال يمكن تجاهلها عند رسم سياستها الخاصة بالشرق األقصى‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪42‬‬
‫وبذلك أعلنت الحرب الصينية‪ -‬اليابانية عن مولد قوة إمبريالية جديدة‪ ،‬تنتمى إلى الشرق‬
‫وليس إلى الغرب‪ ،‬وكان معيار النجاح الذى يمكن أن تحققه هذه القوة الجديدة (اليابان)‬
‫يتوقف على مدى تقبل القوى اإلمبريالية األخرى لها‪ ،‬وخاصة تلك التى لها مصالح فى‬
‫الشرق األقصى‪ ،‬أما بريطانيا فقد عبرت عن ترحيبها بالنصر اليابانى وارتياحها لنتائجه‪ ،‬ألن‬
‫من مصلحتها أن تلعب اليابان دور المناوئ للوجود الروسى فى المنطقة الذى كان موضع‬
‫ضيق اإلنجليز‪ ،‬وأما روسيا فكانت أكثر الدول استياء من نتيجة الحرب ألنها تعرقل‬
‫مخططاتها الخاصة بكوريا ومنشوريا‪ ،‬وتضع العقبات فى طريق تحقيق األطماع الروسية فى‬
‫الشرق األقصى‪ ،‬لذلك حثت فرنسا وألمانيا على مساندتها فى معارضة استحواذ اليابان على‬
‫شبه جزيرة لياوتونج‪.‬‬

‫وأيدت فرنسا المطالب الروسية الرتباطها مع روسيا بحلف ثنائى‪ ،‬أما ألمانيا فقد أعطت‬
‫تأييدها لروسيا حتى تصرفها عن االهتمام بالشئون األوروبية‪ ،‬وتستنفد طاقتها فى الصراع‬
‫حول الشرق األقصى‪ ،‬رغم أن ألمانيا ‪-‬بدورها‪ -‬كانت تطمع فى أن تنال نصيباً من‬
‫االمتيازات التجارية فى الصين‪.‬‬

‫ولذلك تقدمت الدول الثالث‪ :‬روسيا وألمانيا وفرنسا بمذكرة إلى الخارجية اليابانية قبل تبادل‬
‫وثائق التصديق على معاهدة الصلح بعشرة أيام‪ ،‬طالبت فيها اليابان بالتنازل عن شبه جزيرة‬
‫لياوتونج‪ ،‬ولما كان الرفض يعنى الدخول فى حرب مع الدول الثالث مما قد يحرم اليابان‬
‫من جنى ثمار انتصارها على الصين‪ ،‬وافقت اليابان على تعديل نص المعاهدة مقابل زيادة‬
‫التعويض المالى الذى تدفعه الصين‪.‬‬

‫ولكن التدخل الثالثى أصاب الرأى العام اليابانى بصدمة قاسية‪ ،‬جعلته يشعر بأن الدول‬
‫الثالث قد امتهنت كرامة اليابان‪ ،‬وحول العسكريون ودعاة التوسع هذا السخط إلى موجة‬
‫عداء عارمة ضد روسيا‪ ،‬كما استغلت الحكومة هذا السخط لزيادة اإلنفاق العسكرى‪ ،‬فتقرر‬
‫زيادة الجيش من سبع فرق (عام ‪ )1894‬إلى ‪ 13‬فرقة (عام ‪ )1903‬وزيدت قدرة األسطول‬
‫من ‪ 63.1‬ألف طن إلى ‪ 153‬ألف طن‪ ،‬وبذلك أصبحت ميزانية الدفاع تستحوذ على‬
‫‪ %55.6‬من الموازنة العامة للدولة بعد أن كانت تمثل ‪ %29.5‬من الموازنة واستمر اإلنفاق‬
‫العسكرى فى استئثاره بالقسط األكبر من اإلنفاق الحكومى بعد ذلك‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪43‬‬
‫التنافس الروسى‪ -‬اليابانى‬
‫كان لروسيا مصالح تجارية فى كوريا جعل لها وجوداً إلى جانب المصالح اليابانية‪ ،‬مما وفر‬
‫فرصة احتكاك بين الطرفين‪ ،‬كذلك كان للروس وجود فى منشوريا حيث كانوا قد حصلوا من‬
‫الصين على امتياز مد خط حديدى يصل الخط الروسى ‪-‬عبر سيبريا‪ -‬بالمحيط‪ ،‬ولما كان‬
‫لليابان وجود فى جنوب منشوريا‪ ،‬فقد أصبح تعايشهما معاً فى كوريا ومنشوريا من‬
‫المستحيالت‪ ،‬وخاصة أن روسيا لم تحترم نصوص المعاهدات التى أبرمتها مع اليابان عام‬
‫‪ 1896‬وعام ‪ 1898‬حول حصول كل منهما على امتيازات متساوية فى كوريا‪ ،‬كذلك أقلقت‬
‫السياسة الروسية الرامية إلى تحويل منشوريا إلى محمية روسية‪ ،‬اليابان وبريطانيا والواليات‬
‫المتحدة وألمانيا‪ ،‬وأدى عدم وفاء روسيا بتعهداتها بالجالء عن منشوريا إلى حدوث تقارب‬
‫بريطانى‪ -‬يابانى تحول فيما بعد إلى تحالف بين الدولتين لمواجهة األطماع الروسية فى‬
‫منشوريا‪ ،‬وجاء رفض الروس للجالء عن منشوريا ممهداً لتصعيد األزمة التى قادت إلى‬
‫إشعال نار الحرب الروسية‪ -‬اليابانية‪.‬‬

‫التحالف البريطانى‪ -‬اليابانى‬


‫يرجع التقارب البريطانى‪ -‬اليابانى إلى عهد و ازرة روزبرى التى حثت الدول األوروبية على‬
‫التنازل عن حقوق القضاء القنصلى التى حصلت عليها من اليابان منذ عام ‪ ،1858‬وفى‬
‫عام ‪ ،1895‬ازداد هذا التقارب عندما امتنعت بريطانيا عن االشتراك مع روسيا وألمانيا‬
‫وفرنسا فى التدخل للحيلولة دون حصول اليابان على شبه جزيرة لياوتونج الصينية‪ ،‬وكان‬
‫من نتيجة ذلك ترحيب اليابان باحتالل بريطانيا لميناء وى هاى وى‪ ،‬واستئجارها له بعد ذلك‬
‫لتوازن االحتالل الروسى لميناء بورت آرثر‪.‬‬

‫وخالل عام ‪ ،1900‬بذلت جهود دبلوماسية بريطانية ويابانية‪ ،‬الستطالع موقف ألمانيا‬
‫وفرنسا فى حالة نشوب صراع روسى‪ -‬يابانى بالشرق األقصى‪ ،‬ولكن اليابان لم تكن قد‬
‫حسمت الخالف داخل الحكومة بين مؤيدى التحالف على بريطانيا‪ ،‬ودعاة التقارب مع‬
‫روسيا على أساس االعتراف بالمصالح الروسية فى منشوريا فى مقابل االعتراف الروسى‬
‫بالمصالح اليابانية فى كوريا‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪44‬‬
‫كذلك لم تكن الحكومة البريطانية قد توصلت إلى قرار بشأن هذا التحالف حتى إبريل‬
‫‪ ، 1901‬حين كلفت الحكومة اليابانية وزير خارجيتها‪ ،‬باستطالع مدى إمكانية عقد التحالف‬
‫بين البلدين‪.‬‬

‫وفى نفس الوقت الذى كان فيه وزير الخارجية اليابانى يتفاوض مع زميله البريطانى حول‬
‫بنود اتفاقية التحالف (يوليو ‪ ،)1901‬توجه مبعوث يابانى إلى موسكو لمحاولة الوصول إلى‬
‫اتفاق روسى‪ -‬يابانى حول الشرق األقصى‪ ،‬ولكن الروس تشددوا فى مطالبهم‪ ،‬وعاد‬
‫المبعوث اليابانى بخفى حنين‪ ،‬مما وحد صفوف الحكومة اليابانية وراء التحالف البريطانى‪-‬‬
‫اليابانى الذى تم إبرامه فى لندن (‪ 30‬يناير ‪ ،)1902‬وأثار اإلعالن عنه فى كل من لندن‬
‫وطوكيو (‪ 11‬فبراير) دهشة عواصم العالم‪ ،‬وتمادى البعض فى استنكاره لهذا التحالف‪،‬‬
‫فاتهم بريطانيا بخيانة العنصر األبيض لصالح "العنصر األصفر العدوانى الوضيع"‪.‬‬

‫ومهما كان األمر‪ ،‬فقد أصبح باستطاعة اليابان أن تخطط للحرب مع روسيا دون أن تخشى‬
‫دخول دولة ثالثة ‪-‬طرفاً فى الصراع‪ -‬إلى جانب الروس‪ ،‬وأن تضمن عدم تكرار التدخل‬
‫الدولى الذى حرمها من بعض ثمار انتصاراتها على الصين‪ ،‬ولكن بريطانيا لم تخرج من‬
‫التحالف صفر اليدين‪ ،‬فقد كان التحالف يخدم مصالحها فى اإلقليم‪ ،‬وبإبرام التحالف بدأ العد‬
‫التنازلى للحرب‪.‬‬

‫الحرب الروسية‪ -‬اليابانية‬


‫ففى ‪ 13‬يناير ‪ ،1904‬قدمت اليابان آخر مقترحاتها إلى روسيا لحل النزاع حول منشوريا‬
‫وكوريا‪ ،‬ولكن تلك المقترحات اتخذت طابع اإلنذار‪ ،‬مما جعل أصحاب الدعوة إلى سياسة‬
‫التوسع الخارجى على حساب الصين فى الحكومة الروسية يعدون العدة للقيام بعمل تأديبى‬
‫ضد اليابان تتخذ كوريا مسرحاً له‪ ،‬وفى نفس الوقت‪ ،‬كانت اليابان قد اتخذت قرار الحرب‬
‫بالفعل بعد أن اطمأنت إلى موقف ألمانيا والواليات المتحدة األمريكية‪.‬‬

‫وفى ‪ 4‬فبراير ‪ ،1904‬أخطرت اليابان الحكومة الروسية بقطع المفاوضات مع االحتفاظ‬


‫بالحق فى اتخاذ أى عمل مستقل للدفاع عن مصالحها‪ .‬وفى ‪ 6‬فبراير‪ ،‬أبحر األسطول‬
‫اليابانى فى المياه الكورية صوب ميناء بورت آرثر لتدمير األسطول الروسى الرابض هناك‪،‬‬
‫ونجحت اليابان فعالً فى تدمير بعض السفن الحربية الروسية‪ ،‬وأعلنت اليابان الحرب رسمي ًا‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪45‬‬
‫(‪ 10‬فبراير)‪ ،‬وقامت خطة اليابان العسكرية على شل حركة األسطول الروسى فى المحيط‬
‫الهادى بقاعد ة بورت آرثر‪ ،‬فأغرقوا بعض السفن التجارية القديمة فى البوغاز المؤدى إلى‬
‫الميناء وزرعوا األلغام البحرية فى الجزء المتبقى من البوغاز‪ ،‬وحققوا أكبر انتصاراتهم عندما‬
‫نجحوا فى إغراق سفينة القيادة الروسية وعلى ظهرها قائد األسطول و‪ 600‬جندى روسى‪.‬‬

‫وفى البر حققت القوات اليابانية الزاحفة من العاصمة الكورية صوب الشمال انتصا اًر على‬
‫القوات الروسية‪ ،‬وفى أواخر أبريل بدأت معركة نهر يالو‪ ،‬وتوالى سقوط المواقع الروسية فى‬
‫أيدى اليابانيين على طول مجرى النهر‪ ،‬كما نجح اليابانيون فى االستيالء على المواقع‬
‫الروسية بشبه جزيرة لياوتونج وتحركوا لالستيالء على بورت آرثر ‪-‬أكبر المعاقل الروسية‬
‫بالشرق األقصى‪ -‬حيث أجهزت مدفعيتهم على ما تبقى من األسطول الروسى‪.‬‬

‫وفى صيف ‪ ،1904‬دفع اليابانيون القوات الروسية أمامهم عند زحفهم فى جنوب منشوريا‪،‬‬
‫وشنوا عليها هجوماً شامالً جعل الروس ينسحبون إلى موكدن‪ ،‬وبعد ستة أشهر من القتال‬
‫الضارى سقطت بورت آرثر فى أيدى اليابانيين‪ ،‬واستسلم لهم القائد الروسى ومعه ‪ 25‬ألفاً‬
‫من الجنود‪ ،‬وغنم اليابانيون خمسمائة مدفع روسى‪ ،‬وبذلك تفرغ الجيش اليابانى لخوض‬
‫المعركة الفاصلة فى منشوريا‪ ،‬حيث دارت رحى معركة موكدن التى تعد من المعارك الكبرى‬
‫الحاسمة فى النزاع والتى سقطت بيد اليابانيين بعد أسبوعين من القتال الشرس العنيف‪،‬‬
‫وبلغت خسائر الروس ‪-‬حتى ذلك الحين‪ 150 -‬ألفاً بين قتيل وجريح‪ ،‬بينما لم تصل خسائر‬
‫اليابانيين إلى الخمسين ألفاً‪.‬‬

‫أصبح الموقف العسكرى الروسى حرجاً للغاية فحاول الروس تعويض هزائمهم بتوجيه‬
‫أسطول بحر البلطيق إلى العمل فى الشرق األقصى وبعد رحلة شاقة ‪-‬قطعها األسطول من‬
‫غرب أوروبا إلى الشرق األقصى‪ -‬اشتبك مع األسطول اليابانى فى الطريق إلى كوريا (‪28‬‬
‫مايو ‪ )1905‬فأغرق اليابانيون سفينة القيادة وست سفن أخرى‪ ،‬باإلضافة إلى خمس مدمرات‬
‫وخمس ناقالت جنود‪ ،‬وأربع سفن خدمات وسفينة دفاع سواحل‪ ،‬وأسروا خمساً من قطع‬
‫األسطول الروسى‪ ،‬وقدر عدد القتلى والغرقى من جنود البحرية الروسية بثلثى عدد رجال‬
‫األسطول‪ ،‬على حين لم يخسر اليابانيون فى تلك المعركة سوى ‪ 116‬قتيالً‪ ،‬و‪ 538‬جريحاً‪،‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪46‬‬
‫وثالثة من زوارق الطوربيد‪ ،‬ولم ينج من أسطول البلطيق سوى ناقلة جنود ومدمرتين‪ ،‬وصلوا‬
‫إلى ميناء فيالديفوستك بعد جهد جهيد‪.‬‬

‫ولم يعد أمام الروس ‪-‬بعد هذه الهزيمة الساحقة‪ -‬سوى طلب الصلح‪ ،‬وخاصة أن الثورة‬
‫اندلعت فى روسيا ضد ا ستبداد القيصر‪ ،‬كما أن الدول األوروبية التى وقفت على الحياد‬
‫رغبت فى إنهاء الحرب بعد أن حققت أهدافها اإلستراتيجية‪ :‬فألمانيا قنعت بما أصاب روسيا‬
‫من ضعف عسكرى‪ ،‬وفرنسا أرادت االحتفاظ بما بقى من قوة روسيا لتدعيم الحلف الثنائى‬
‫الذى يجمع البلدين‪.‬‬

‫وتوسطت الواليات المتحدة لعقد الصلح‪ ،‬الذى بدأت مفاوضاته فى ‪ 10‬أغسطس ‪،1905‬‬
‫تحت رعاية الرئيس األمريكى‪.‬‬

‫ووقع الطرفان اتفاقية الصلح التى نصت على االعتراف بالمصالح اليابانية المتميزة فى‬
‫كوريا‪ ،‬وانتقال حقوق روسيا فى شبه جزيرة لياوتونج إلى اليابان‪ ،‬والتنازل لليابان عن القسم‬
‫الجنوبى من سكك حديد منشوريا‪ ،‬وكذلك عن النصف الجنوبى من جزيرة سخالين‪ ،‬وانسحاب‬
‫قوات البلدين من منشوريا‪ ،‬فيما عدا قوات حراسة السكة الحديد‪ ،‬وتعهد البلدان بعدم التدخل‬
‫فيما تتخذه الصين من إجراءات تطوير الصناعة والتجارة فى منشوريا‪ ،‬واستغالل السكك‬
‫الحديدية لألغراض التجارية‪ ،‬فيما عدا الخط الحديدى بشبه جزيرة لياوتونج فيستخدم‬
‫ألغراض إستراتيجية‪.‬‬

‫لقد أسفرت الحرب الروسية‪ -‬اليابانية عن مولد قوة شرقية‪ ،‬نجحت فى إلحاق الهزيمة بدولة‬
‫أوروبية استعمارية كبرى‪ ،‬وفى تحديد حجم الدور الروسى فى الشرق األقصى‪ ،‬ولفتت الحرب‬
‫أنظار الصين إلى ما أحرزته اليابان من تقدم‪ ،‬فبدأت تستلهم التجربة اليابانية‪ ،‬وتدفق‬
‫الطالب الصينيون على اليابان بأعداد كبيرة لتلقى العلم والدراسة‪ ،‬فأعادوا لألذهان ذكرى‬
‫حركة مماثلة ‪-‬ولكنها عكسية‪ -‬عندما كان طالب العلم من اليابانيين يحجون إلى الصين‬
‫لدراسة الكنفوشية والفلك والرياضيات قبل ذلك ثالثة قرون‪.‬‬

‫وكان ل لنصر اليابانى صداه الكبير فى مصر‪ ،‬حيث كانت الحركة الوطنية قد بلغت ذروتها‬
‫بزعامة مصطفى كامل باشا‪ ،‬الذى ألف كتيباً بعنوان "الشمس المشرقة"‪ ،‬أشاد فيه بالنهضة‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪47‬‬
‫اليابانية الحديثة‪ ،‬وبقدرة الشرق على إلحاق الهزيمة بالغرب‪ ،‬وصاغه بأسلوب رومانسى‬
‫يخاطب الوجدان أكثر مما يخاطب العقل‪ ،‬وغاب عن مصطفى كامل أن اليابان تحولت ‪-‬‬
‫منذ عام ‪ -1895‬إلى قوة إمبريالية تمارس مع الشعوب الخاضعة لها نفس أساليب القهر‬
‫التى يمارسها اإلنجليز فى مستعمراتهم‪ ،‬وأن حربها مع روسيا كانت إحدى حلقات التنافس‬
‫والصين‪ ،‬وأنها كانت أداة من أدوات الصراع‬ ‫بين البلدين حول السيطرة على كوريا‬
‫اإلمبريالى فى الشرق األقصى‪ ،‬وظل انتصار اليابان فى تلك الحرب مخلداً فى قصيدة‬
‫شاعر النيل حافظ إبراهيم الذى اختار لها عنوان "الغادة اليابانية" والتى تغنت بها أجيال من‬
‫الشباب المصرى‪.‬‬

‫وجنت اليابان من وراء انتصارها فى تلك الحرب اعتراف الدول الكبرى بها كقوة هامة‪ ،‬ال‬
‫يبرم أمر يتعلق بالشرق األقصى بدونها‪ ،‬وكفلت لها المكاسب اإلقليمية التى حصلت عليها‬
‫تحقيق حلم قديم‪ ،‬طالما راود ساستها بأن تصبح ذات ركيزة قارية‪ ،‬وبدأت بعض الدول‬
‫الغربية تشعر بعدم اال رتياح لما حققته اليابان من مكاسب إستراتيجية‪ ،‬وما أحرزته من مكانة‬
‫دولية‪ ،‬فأحس الرئيس األمريكى أن توازن القوى فى المحيط الهادى قد اختل‪ ،‬لذلك كان‬
‫حريصاً على عدم تصفية الوجود الروسى نهائياُ ‪-‬رغم ميله إلى كسر شوكة الروس‪ -‬ضماناً‬
‫لتوازن القوى فى اإلقليم‪ ،‬ومن ثم كانت مساعدته للموقف الروسى خالل مفاوضات الصلح‪،‬‬
‫وبدأت المصالح األمريكية تتعارض مع المصالح اليابانية فى المحيط الهادى‪ ،‬وأخذت شقة‬
‫الخالف بين البلدين فى االتساع تدريجياً‪ ،‬حتى كان الصدام بينهما فى الحرب العالمية‬
‫الثانية صداماً مروعاً‪.‬‬

‫وعلى كل‪ ،‬فقد تحركت اليابان بسرعة لتدعيم مكاسبها الجديدة‪ ،‬ففى نوفمبر ‪ 1905‬حصلت‬
‫من بكين على تأكيد لما جاء بمعاهدة الصلح مع روسيا فيما يتصل بتأجير لياوتونج‬
‫ومنشوريا‪ ،‬وباإلضافة إلى ذلك حصلت من الصين على امتيازات جديدة لمد الخطوط‬
‫الحديدية‪ ،‬واقامة المشروعات االقتصادية فى منشوريا‪ ،‬وعملت على إحباط جهود الدول‬
‫األخرى الرامية إلى الحصول على امتيازات خاصة فى منشوريا فعقدت اتفاقية سرية مع‬
‫روسيا عام ‪ ،1907‬أصبح جنوب منشوريا ‪-‬بموجبها‪ -‬منطقة نفوذ يابانية‪ ،‬وشمال منشوريا‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪48‬‬
‫منطقة نفوذ روسية‪ ،‬وبذلك قطعت الطريق على المساعى األمريكية الرامية إلى الحصول‬
‫على امتياز إلقامة خط حديد بمنشوريا‪.‬‬

‫أما بالنسبة لكوريا‪ ،‬فقد وسعت اليابان دائرة نفوذها هناك‪ ،‬وأبرمت اتفاقاً مع الواليات المتحدة‬
‫األمريكية (يوليو ‪ ) 1905‬تعهدت فيه األخيرة بعدم اإلقدام على عمل يمس المصالح اليابانية‬
‫فى كوريا‪ ،‬فى مقابل تعهد اليابان بعدم مد نفوذها إلى الفلبين‪ ،‬وعندما حددت معاهدة‬
‫التحالف مع بريطانيا أضيف إليها بند نص على اعتراف بريطانيا بسيادة المصالح اليابانية‬
‫فى كوريا‪ ،‬وبعد ذلك أخذت اليابان تحول كوريا إلى محمية يابانية‪ ،‬ثم إلى مستعمرة‪ ،‬وأصبح‬
‫المندوب السامى اليابانى هو الحاكم الفعلى للبالد‪ ،‬وأجبر ملك كوريا على التنازل عن‬
‫العرش لولده (يوليو ‪ )1907‬الذى نصب ملكاً على البالد‪ ،‬وحصل منه المندوب السامى‬
‫اليابانى على تفويض بإدخال ما يراه من إصالحات‪ ،‬وانتهزت اليابان فرصة اغتيال أحد‬
‫أقطاب الحكومة اليابانية على يد شاب كورى (‪ 26‬أكتوبر ‪ )1909‬فأعلنت ضم كوريا‬
‫وأخذت تنسج سياستها الخاصة بالسيطرة على كوريا على منوال السياسة البريطانية فى‬
‫مصر‪ ،‬وترجم كتاب كرومر "مصر الحديثة" إلى اليابانبة (‪ )1911‬ليستفيد به اليابانيون فى‬
‫إدارتهم لكوريا‪.‬‬

‫أثر التوسع اإلمبريالى على النمو االقتصادى‬


‫وبانتهاء الحرب الروسية‪ -‬اليابانية‪ ،‬تبدأ المرحلة الثانية والهامة من مراحل النمو االقتصادى‬
‫لليابان‪ ،‬والتى تمتد حتى نهاية الحرب العالمية الثانية فقد حققت الصناعات الخفيفة تقدماً‬
‫كبي اًر‪ ،‬كما بلغت الصناعات الثقيلة أقصى درجات تطورها‪ ،‬وبذلك اكتمل نضج اإلنتاج‬
‫الرأسمالى‪ ،‬وازداد إيقاع النمو االقتصادى الحديث بسرعة‪ ،‬واتسع نطاق التجارة الخارجية‪.‬‬

‫ومما دعم من مركز الصناعة اليابانية‪ ،‬تعديل التعريفة الجمركية عام ‪ 1911‬بما يحقق‬
‫الحماية لإلنتاج الوطنى‪ ،‬مما أدى إلى زيادة معدل نمو رأس المال الوطنى‪ ،‬فتطورت‬
‫الشركات اليابانية وامتد نشاطها إلى كوريا ومنشوريا‪ ،‬بل والى أوروبا وأمريكا‪ ،‬وامتد مع‬
‫نشاط الشركات نشاط رأس المال المصرفى اليابانى إلى كوريا ومنشوريا وفورموزا‪ ،‬وأصبحت‬
‫البنوك اليابانية التى أنشئت فى تلك البالد تتحكم فى اقتصادياتها تماماً بحكم كونها بنوك‬
‫إصدار للعملة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪49‬‬
‫وهكذا أتاحت سياسة التوسع اإلمبريالى المناخ المالئم لنمو القطاع االقتصادى الحديث‪،‬‬
‫بتوسيع نطاق السوق الخارجية المناسبة لتصريف اإلنتاج الصناعى اليابانى والتى تتمتع‬
‫بالحماية الجمركية‪ ،‬وتم تأمين مجاالت جديدة الستثمار رأس المال الوطنى اليابانى‪ ،‬وحقق‬
‫نهب الشعبين الكورى والصينى فرصة ذهبية لتراكم رأس المال اليابانى واستكمال نمو‬
‫الرأسمالية مما كان له انعكاسه على الحركة السياسية فى عصر النهضة‪ ،‬وفى الفترة الممتدة‬
‫حتى نهاية الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪50‬‬
‫الفصل الرابع ‪ -‬الحركة السياسية‬
‫استقر رأى صناع عصر النهضة اليابانية الحديثة على اختيار النموذج الغربى كإطار‬
‫للدولة‪ ،‬وهنا واجهتهم مشكلة االختيار بين دولة ليبرالية ديمقراطية‪ ،‬أو دولة أوتقراطية يستند‬
‫الحكم فيها إلى بيروقراطية مركزية‪ ،‬فكان النموذج األخير أكثر تقبالً عندهم‪ ،‬فهو يهيئ‬
‫للسلطة فرصة إجراء ما تشاء من إصالحات دون أن تعرقل جهودها عقبات تأتى من جانب‬
‫المجالس النيابية‪ ،‬كما أن الحكم المطلق والسلطة المركزية أكثر قبوالً لدى اليابانيين بحكم‬
‫تراثهم الثقافى والسياسى‪.‬‬

‫ومن ثم كان النظام الجديد حركة إصالحية فى إطار الثقافة التقليدية اليابانية‪ ،‬تأثرت دوافعها‬
‫‪-‬إلى حد كبير‪ -‬بمصالح الفئات االجتماعية التى شاركت فى صنعها‪ ،‬واليها يرجع الفضل‬
‫فى تكوين اليابان الحديث‪.‬‬

‫ولما كان نظام مايجى قد أسقط من حسابه المشاركة الشعبية فى صنع القرار‪ ،‬وادارة أمور‬
‫البالد من خالل مجالس نيابية دستورية على النمط الغربى‪ ،‬فقد قامت حركة للمطالبين‬
‫بالدستور عرفت باسم "حركة الحرية وحقوق الشعب"‪ ،‬ولعبت دو اًر هاماً فى الحركة السياسية‪.‬‬

‫وكما تزعم فريق من الساموراى حركة تصفية نظام طوكوجاوا واسترداد سلطة اإلمبراطور‪،‬‬
‫ووضعوا أسس النظام الجديد‪ ،‬كان ثمة فريق آخر من مثقفى الساموراى تأثر بالفكر الليبرالى‬
‫الغربى من خالل تعلمهم اللغات األوروبية الحديثة‪ ،‬ودراستهم للتيارات الفكرية التى سادت‬
‫فى أوروبا فى القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫فلم يكن الساموراى طبقة إقطاعية عسكرية فحسب‪ ،‬بل كانوا على قدر من الثقافة يتلقونها ‪-‬‬
‫فى عصر طوكوجاوا‪ -‬فى مدارس خاصة بهم‪ ،‬حيث يدرسون المعارف الصينية وتعاليم‬
‫الكنفوشية والرياضيات‪ ،‬كما التحق بعض أفراد الساموراى بمدارس أخرى للثقافة الحرة ظهرت‬
‫فى أواخر عصر طوكوجاوا‪ ،‬كان يختلف إليها ‪-‬باإلضافة إلى الساموراى‪ -‬أبناء التجار‬
‫وأعيان الريف‪ ،‬وكانت تلك المدارس تعنى ‪-‬فى األصل‪ -‬بدراسة العلوم والفلسفة الصينية‪ ،‬ثم‬
‫أصبحت فى مطلع القرن التاسع عشر تعنى بدراسة "علوم الغرب" وهو مصطلح أطلق على‬
‫العلوم الحديثة التى تخرج عن دائرة الثقافة التقليدية‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪51‬‬
‫وتصدى هذا الفريق من الساموراى المثقفين إلدارة دفة المعارضة السياسية فى عصر‬
‫مايجى‪ ،‬ألنهم وان اتفقوا مع مؤسس النظام الجديد على ضرورة تصفية اإلقطاع‪ ،‬وتوحيد‬
‫البالد تحت حكم إدارة مركزية حديثة‪ ،‬إال أنهم أروا ضرورة إقامة النظام الجديد على أساس‬
‫يسمح للجماهير بقدر من المشاركة فى السلطة‪ ،‬ومن ثم اختلف مفهوم "التحضر والتنوير"‬
‫عندهم عنه عند غيرهم‪ ،‬فهم يرون فيها حركة تجديد شاملة‪ ،‬تغير وجه المجتمع اليابانى‬
‫اقتصادياً واجتماعياً وفكرياً‪ ،‬بينما رأى فيها خصوصهم السياسيون سلطة أوتقراطية مركزية‬
‫مستنيرة تدور حول محور اإلمبراطور‪ ،‬باعتباره وحده ‪-‬وليس األمة‪ -‬مصدر السلطات‪.‬‬

‫والتقت آمال مثقفى الساموراى مع أحالم أعيان الريف الذين كونوا الزعامات التقليدية للريف‬
‫اليابانى فى أواخر عصر طوكوجاوا‪ ،‬فكانت ثورات الفالحين ضد الحكم اإلقطاعى تهب‬
‫بقيادتهم‪ ،‬وساعد اإلصالح الزراعى الذى طبقه النظام الجديد على إزاحة نفوذ سادة اإلقطاع‬
‫من الريف‪ ،‬ففتح بذلك الطريق أمام األعيان للسيطرة التامة على مقاليد األمور فى قراهم‪،‬‬
‫وتطلعوا إلى المشاركة فى السلطة بقدر متكافئ مع ما لهم من وزن اقتصادى ومكانة‬
‫اجتماعية فى الريف السيما أنهم استمروا يمسكون بزمام قيادة نضال الفالحين ضد السلطة‬
‫فى مطلع العصر الجديد حتى تم القضاء على ثورة ساتسوما (‪ )1877‬فانتهت المعارضة‬
‫المسلحة للنظام الجديد‪ ،‬وأصبح النضال ضد السلطة المطلقة نضاالً سياسياً سلمياً‪.‬‬

‫وأصبح أعيان الريف على رأس حركة المعارضة السياسية بما لهم من نفوذ بين صفوف‬
‫الفالحين‪ ،‬باإلضافة إلى بعض األفراد من نخبة مثقفى الساموراى الذين كانوا محور‬
‫المعارضة السياسية بالمدن عامة‪ ،‬وطوكيو خاصة‪ ،‬والذين التمسوا فى قيادة العمل السياسى‬
‫ما يعوضهم عن المكانة التى كانت لهم من قبل‪ ،‬والتى جرفها التغيير فى مطلع عصر‬
‫مايجى‪.‬‬

‫حركة المطالبة بالحياة النيابية‬


‫وقد بدأت الحركة بعريضة قدمها إيتاجاكى وسبعة من زمالئه من النخبة التى شاركت فى‬
‫صنع النظام الجديد‪ ،‬قدموها للحكومة (‪ )1871‬واستنكروا فيها استبداد السلطة‪ ،‬وطالبوا‬
‫بإقامة مجلس نيابى يقوم الشعب بانتخابه‪ ،‬وبهذا الحدث بدأت الحركة السياسية التى عرفت‬
‫باسم "حركة الحرية وحقوق الشعب" التى ضمت المطالبين بالحكم النيابى الدستورى‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪52‬‬
‫وعبر عن تلك الحركة تنظيم سياسى عرف باسم "الحزب الوطنى العام" الذى اختار صيغة‬
‫الحزب السياسى ليميز نفسه عن الجمعيات السياسية العديدة التى ظهرت ‪-‬فى تلك الفترة‪-‬‬
‫بغرض خدمة األهداف والمصالح السياسية ألفراد بعينهم‪ ،‬وأصدر التنظيم الجديد بياناً ضمنه‬
‫برنامجه الذى ركز فيه على إقامة حكومة نيابية منتخبة من الشعب‪.‬‬

‫ولكن وقوع ثورة ساجا التى تزعمها أحد الموقعين على العريضة جعل الحكومة تتجه إلى‬
‫تصفية المعارضة السياسية‪ ،‬فبادر إيتاجاكى بحل "الحزب الوطنى العام" (مارس ‪،)1874‬‬
‫وعاد إلى موطنه طوساً بجزيرة شيكوك‪ ،‬حيث أسس جمعية سياسية عرفت باسم "جمعية‬
‫المفكرين األحرار" لنشر الوعى بالمبادئ اللبرالية والتف حول تلك الجمعية فريق من الشباب‬
‫المتعطش للمعرفة‪ ،‬وشكلت أفكار الثورة الفرنسية األساس اإليديولوجى للجمعية‪ ،‬وكان كتاب‬
‫روسو "العقد اإلجتماعى" مصدر إلهام فكرى لرواد الليبرالية فى ذلك العصر‪ ،‬وذاع صيت‬
‫"جمعية المفكرين األحرار" حتى أصبحت طوسا م از اًر يقصده المئات من الشباب اليابانى‬
‫الذين أطلقوا على المدينة ‪-‬فيما بينهم‪ -‬اسم "مهد الحرية"‪.‬‬

‫ورغم المحاوالت التى بذلتها الحكومة لكبح جماح هذه الحركة‪ ،‬استمرت تحقق النجاح‬
‫وتكسب األنصار حولها يوماً بعد يوم‪ ،‬وبعد إخماد ثورة ساتسوما‪ ،‬فكر إيتاجاكى فى تأسيس‬
‫"جمعية الوطنيين" وفى ربيع ‪ 1878‬أوفد الدعاة إلى مختلف أنحاء البالد لشرح أهداف‬
‫التنظيم السياسى الجديد ودعوة الناس لالنضمام إليه‪ ،‬وفى سبتمبر من نفس العام عقدت‬
‫الجمعية أول مؤتمر لها بمدينة أوساكا‪ ،‬أعلنت فيه عن تأسيسها وقررت أن تتخذ من طوكيو‬
‫مق اًر لها‪ ،‬وأن تنشئ فروعاً لها بالمحافظات‪.‬‬

‫وفى المؤتمر الثالث للجمعية (خريف ‪ )1879‬تقرر رفع عريضة إلى اإلمبراطور للمطالبة‬
‫بإقامة مجلس نيابى‪ ،‬وقع عليها أعضاء الجمعية الذين انتدبوا اثنين من زمالئهم لتقديمها إلى‬
‫"مجلس الدولة" و "مجلس الشيوخ" ورغم رفض المجلسين للعريضة‪ ،‬فقد نجحت الجمعية فى‬
‫تعبئة الرأى العام ضد الحكومة‪ ،‬وكشفت موقفها المتعنت أمام الشعب‪ ،‬وطوف إيتاجاكى‬
‫بأنحاء البالد يخطب فى الجماهير‪ ،‬ويطلب مساندتها للجمعية فى مطالبها‪ ،‬واكتسبت الحركة‬
‫المزيد من األنصار من بين الصحفيين ورجال األعمال وحتى موظفى الحكومة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪53‬‬
‫ولما كان قانون الرقابة على الصحف (‪ 5‬يونيو ‪ )1875‬يجعل من الصحافة أداة محدودة‬
‫النفع بالنسبة لحركة المطالبة بالحكم النيابى‪ ،‬لجأ زعماء تلك الحركة إلى عقد االجتماعات‬
‫العامة والقاء الخطب السياسية‪.‬‬

‫فلم تجد الحكومة مف اًر من إصدار "قانون التجمهر" (إبريل ‪ )1880‬الذى قضى بضرورة‬
‫الحصول على إذن مسبق من الشرطة قبل عقد أى اجتماع عام‪ ،‬وحظر على العسكريين‬
‫ورجال الشرطة والطلبة االستماع إلى الخطب السياسية‪ ،‬واالتصال بالمنظمات السياسية‪.‬‬

‫ورغم محاوالت الكبت‪ ،‬تبلورت المعارضة السياسية فى حركة تهدف إلى تأسيس "جمعية‬
‫وطنية دستورية" فى آخر السبعينيات من القرن التاسع عشر‪ ،‬وما كاد يحل مطلع الثمانينيات‬
‫حتى نظم القائمون على تلك الحركة حملة لجمع التوقيعات على عرائض تطالب بالدستور‪،‬‬
‫وبإقامة مجلس نيابى‪ ،‬وبلغ عدد التوقيعات التى جمعت نحو ربع المليون توقيع‪ ،‬وتم تأسيس‬
‫عدد من الجمعيات السياسية‪ -‬لهذا الغرض‪ -‬فى جميع أنحاء البالد‪ ،‬بلغ عددها ‪-‬فى تلك‬
‫الحقبة‪ -‬نحو ‪ 150‬جمعية وعقدت االجتماعات السياسية لمناقشة قضية الحكم النيابى‪،‬‬
‫ونظمت الحلقات الدراسية بغرض التثقيف السياسى الذاتى فى معظم القرى الهامة‪،‬‬
‫واستطاعت تلك الحلقات الدراسية تعبئة الرأى العام الريفى لمساندة حركة المطالب بالحياة‬
‫النيابية عن فهم واقتناع‪.‬‬

‫واتخذت تلك الحلقات الدراسية شكل مدارس متوسطة أقامها األعيان على نفقتهم الخاصة‪،‬‬
‫أو عن طريق جمع التبرعات من أهالى مجموعة من القرى المتجاورة‪ ،‬وكانت تلك المدارس‬
‫تقام مهما بلغ عدد الصبية الراغبين فى االلتحاق بها‪ ،‬فقد كانت مقصد الكبار الذين ينشدون‬
‫الثقافة العامة لذاتها‪ ،‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬كانت نسبة عدد التالميذ دون سن الرابعة عشر‪،‬‬
‫بذلك النوع من المدارس بمحافظة كانا ازوا ال تتعدى ‪ %20‬من جملة عدد التالميذ بتلك‬
‫المدارس‪ ،‬بينما كان بقية التالميذ من البالغين‪ ،‬وكانت تلك المدارس ال تقتصر جهودها على‬
‫تدريس العلوم المختلفة‪ ،‬بل امتد نشاطها إلى التثقيف السياسى واالجتماعى‪ ،‬وبعد قيام‬
‫الحكومة بإخضاع هذه المدارس إلشرافها حول األعيان تلك المدارس إلى "حلقات دراسية"‬
‫لنشر المعرفة العامة ولم تعد تستخدم اسم "مدرسة"‪ ،‬وتركزت غالبية تلك الحلقات فى شرق‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪54‬‬
‫البالد‪ ،‬وانتشرت ‪-‬بدرجة أقل‪ -‬فى بقية أنحاء البالد‪ ،‬وكانت أقل واحدة منها تضم ما بين‬
‫‪ 12‬و‪ 30‬عضواً‪ ،‬وان كان ثمة حلقات تجاوز عدد أفرادها المائة عضو‪.‬‬

‫وبلغ حماس بعض األعيان للحركة واهتمامهم بتلك الحركات حد فقد ملكياتهم الزراعية عن‬
‫طريق رهنها مقابل قروض أنفقت على تلك الحلقات التثقيفية وعلى الحركة السياسية‪،‬‬
‫وتحولت تلك الحلقات الدراسية إلى جمعيات سياسية‪ ،‬عقدت سلسلة من الندوات لمناقشة‬
‫قضية ا لحكم النيابى‪ ،‬وبلغ عدد الجمعيات السياسية التى دعت إلى عقد الندوات نحو ‪150‬‬
‫جمعية‪ ،‬انتشرت فى جميع أنحاء اليابان‪ ،‬مما يقدم دليالً على اتساع قاعدة الحركة‪،‬‬
‫واضطرت الحكومة إلى تشديد الرقابة على الصحف والمطبوعات‪ ،‬واهتمت بتطبيق "قانون‬
‫التجمهر" غير أن تلك اإلجراءات الصارمة لم تنجح فى إحباط الحركة السياسية‪ ،‬فكسبت‬
‫الحركة ‪-‬بذلك‪ -‬المزيد من تأييد الجماهير‪ ،‬وخاصة أن بعض مفكرى "حركة الحرية وحقوق‬
‫الشعب" قدموا المفاهيم الليبرالية المكتسبة من الغرب فى إطار كنفوشى‪ ،‬فعند شرحهم لتلك‬
‫األفكار كانوا يتخذون من الكنفوشية قالباً للتعبير عن أفكار المساواة والتزام اإلمبراطور نحو‬
‫شعبه الذى يجعله ملزماً باالستجابة لمطالبه وهى هنا المطالبة بالدستور‪ ،‬ونقد االستبداد من‬
‫خالل فكرة العدل عند كنفوشيوس‪ ،‬وكذلك الحال بالنسبة لفكرة المساواة‪ ،‬ولم تجد الجماهير‬
‫(وخاصة الفالحين) صعوبة فى استيعاب الفكر الليبرالى إذ قدم لهم فى وعاء كنفوشى‪ ،‬ال‬
‫يجعله يبدو غريباً عن واقع المجتمع اليابانى‪ ،‬أو بعيداً عن إدراك الجماهير‪ ،‬ولعل ذلك يفسر‬
‫التفاف الجماهير حول تلك الحركة التى اكتسبت صبغة شعبية‪.‬‬

‫لذلك أيقنت الحكومة أنها بصدد حركة منظمة يقودها رجال من األعيان الذين عاشوا فى‬
‫الريف ألجيال بعيدة‪ ،‬وتمتعوا فيه بنفوذ كبير‪ ،‬ولديهم القدرة على تعبئة سكان القرى فى‬
‫حركة سياسية ضد الحكومة‪ ،‬واألساس الذى قامت عليه سلطتها‪ ،‬ولم تكن الحكومة مهيأة ‪-‬‬
‫عندئذ‪ -‬لمواجهة هذه الحركة بإجراءات قمع صارمة فآثرت السالمة‪ ،‬وسارعت بإصدار بيان‬
‫(‪ 12‬أكتوبر ‪ )1881‬أعلن فيه اإلمبراطور أنه ينوى إقامة نظام نيابى تدريجياً‪ ،‬وذلك فى‬
‫السنة الثالثة والعشرين من حكمه (أى عام ‪ )1890‬وحذر البيان جميع طبقات الشعب‬
‫"أعالها وأدناها" من التسرع‪ ،‬والدعوة إلى الطفرة فى التغيير‪ ،‬ألن ذلك يؤدى إلى إشاعة‬
‫االضطرابات فى البالد‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪55‬‬
‫وكان صدور البيان اإلمبراطورى نقطة تحول فى تاريخ حركة المطالبة بالحياة النيابية‪ ،‬إذ‬
‫أعيد تنظيمها فى شكل حزبين سياسيين هما‪" :‬حزب األحرار" و"حزب اإلصالح" فى الوقت‬
‫الذى كانت فيه الحكومة تدبر أمر تصفية الحركة‪ ،‬فقد أبعد أنصار الليبرالية من الحكم‪،‬‬
‫وانفرد أنصار األوتقراطية ومركزية السلطة بإدارة أمور البالد‪.‬‬

‫ومنذ ذلك الحين‪ ،‬أصبح النشاط السياسى يتركز حول األحزاب السياسية وحدها‪ ،‬وتحولت‬
‫الجمعيات السياسية المنتشرة بالريف إلى خدمة أغراض أخرى‪ ،‬فلم يعد نشاطها مقصو اًر على‬
‫المطالبة بالدستور‪ ،‬وانما تعداه إلى مطالب أخرى ذات طابع اقتصادى‪ ،‬وتتفق ‪-‬إلى حد‬
‫كبير‪ -‬مع مصالح األعيان‪ ،‬فدعت إلى االهتمام بالتعليم‪ ،‬وعدم قصر الوظائف العامة على‬
‫فئة معينة من الناس‪ ،‬وتشجيع الصناعة‪.‬‬

‫وبدأ األعيان يرغبون عن السياسة‪ ،‬وزادت الهوة التى أوجدتها سياسة االنكماش االقتصادى‬
‫اتساعاً بينهم وبين جماهير الفالحين‪ ،‬فعلى حين عانى الفالحون من تدهور أسعار‬
‫الحاصالت الزراعية كانت ضرائب األطيان تواصل ارتفاعها‪ ،‬مما جعل ريع أطيانهم ال يكفى‬
‫لسداد ما عليهم من ديون‪ ،‬كان األعيان يتشددون فى تحصيل الديون التى اقترضها‬
‫الفالحون منهم‪ ،‬واتجهوا إلى استثمار أموالهم فى الصناعة والنشاط المصرفى فاختلفت بهم‬
‫وبالفالحين السبل‪.‬‬

‫وأخذ الفالحون يعيدون تنظيم أنفسهم لمواجهة السلطة واألعيان معاً‪ ،‬فبعد أن كانت‬
‫انتفاضات الفالحين بقيادة األعيان‪ ،‬أصبحت قيادة االنتفاضات بيد عناصر من الفالحين‬
‫أنفسهم على نحو ما شهدته بعض جهات الريف فى الثمانينيات من القرن التاسع عشر‪.‬‬

‫قيام األحزاب السياسية‬


‫كان "حزب األحرار" فى طليعة األحزاب السياسية التى شكلت عقب صدور البيان‬
‫اإلمبراطورى (‪ ،)1881‬وانتخب إيتاجاكى أول رئيس له‪ ،‬وحدد أهدافه بالعمل على إقامة‬
‫حكم نيابى‪ ،‬وتوسيع نطاق الحريات‪ ،‬وحماية وتدعيم حقوق الشعب‪ ،‬وتحقيق الرخاء والرفاهية‬
‫له‪ ،‬والعمل على النهوض بالبالد‪ ،‬وضمان تحقيق المساواة بين اليابان والدول األخرى‪،‬‬
‫والعمل على تحقيق التقدم الوطنى‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪56‬‬
‫وانفصل فرع حزب األحرار فى أوساكا ليكون حزباً آخر سمى "الحزب الدستورى" ليعبر عن‬
‫وجهة نظر الجناح المتطرف فى حركة المطالبة بالحياة النيابية‪.‬‬

‫وفى مارس ‪ ،1882‬تكون "حزب اإلصالح" الذى عبر عن المثقفين من أبناء الطبقة‬
‫الوسطى الذين يميلون إلى االعتدال من كبار رجال األعمال والعلماء والشخصيات البارزة‬
‫من النخبة‪ ،‬وحدد الحزب أهدافه بالحفاظ على مكانة األسرة اإلمبراطورية والعمل على تحقيق‬
‫الرفاهية للشعب‪ ،‬والنهوض باإلدارة وزيادة قوة األمة‪ ،‬واقامة نوع من اإلدارة الذاتية فى‬
‫المحافظات تخفف من قبضة اإلدارة المركزية‪ ،‬والحفاظ على الحد األدنى من العالقات‬
‫السياسية مع الدول األجنبية وتقوية العالقات التجارية بقدر اإلمكان‪ ،‬وبذلك لم يعلق "حزب‬
‫اإلصالح" أهمية كبرى على قضية الدستور والحكم النيابى‪ ،‬فكان أميل إلى االعتدال من‬
‫"حزب األحرار" الذى اتخذ موقفاً متشدداً من السلطة‪ ،‬وركز على اعتبار الشعب مصدر‬
‫السلطات‪.‬‬

‫وعندما رأت الحكومة الحماس الذى استقبل به الحزبان الجديدان‪ ،‬قررت أن تنشئ حزباً‬
‫سياسياً يعبر عن وجهة نظر الحكومة ومصالحها‪ ،‬فأسست "الحزب اإلمبراطورى" (‪18‬‬
‫مارس ‪ )1882‬وجاءت قيادته من أقطاب الحكم‪ ،‬وضم فى عضويته كبار موظفى اإلدارة‬
‫المركزية والمحافظات والمجالس البلدية‪ ،‬ورجال الدين‪ ،‬والمعلمون المشتغلون بمدارس‬
‫الحكومة‪ ،‬ورجال األعمال المتصلون بدوائر الحكم‪ ،‬ورغم محدودية العضوية فى "الحزب‬
‫اإلمبراطورى"‪ ،‬تمتع بنفوذ كبير اكتسبه من مساندة الحكومة ورعايتها له‪ ،‬وحدد برنامجه‬
‫بالتأكيد على تنفيذ ق اررات الحكومة الخاصة بإصدار الدستور‪ ،‬واقامة المجلس النيابى‪،‬‬
‫وتقديم العون للحكومة فى تنفيذ سياستها‪ ،‬والرد على الحملة الدعائية التى تشنها المعارضة‬
‫على الحكومة‪ .‬وأصدر الحزب ‪-‬لهذه الغاية‪ -‬العديد من الصحف التى تكيل المدح للنخبة‬
‫الحاكمة‪ ،‬وتصد عنها هجوم المعارضة‪.‬‬

‫وسعى كل حزب لنشر أفكاره السياسية‪ ،‬والعمل على أن يأتى الدستور المرتقب محققاً للحكم‬
‫النيابى على النحو الذى يراه الحزب‪ ،‬وكان "حزب األحرار" يرى أن الحكومة لم تخلق من‬
‫أجل حاكم أو من أجل حفنة من الناس‪ ،‬ولكنها خلقت من أجل الشعب‪ ،‬وأكد على أن‬
‫السيادة للشعب وحده‪ ،‬وأن إعداد الدستور وصياغته البد أن تتم على يد من يمثلون الشعب‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪57‬‬
‫ال حقيقياً‪ ،‬أما "الحزب اإلمبراطورى" فكان يرى أن السيادة من حق اإلمبراطور وحده ألنه‬
‫تمثي ً‬
‫"يملك األرض والناس"‪ ،‬فإذا رأى أن يمنح الشعب دستو اًر‪ ،‬فال معقب لكلمته‪ ،‬واذا رأى غير‬
‫ذلك فال تثريب عليه‪ ،‬ووقف "حزب اإلصالح" بين هذين النقيضين‪ ،‬فذهب إلى أن المجلس‬
‫النيابى إنما يمثل اإلمبراطور والشعب معاً‪ ،‬وبذلك يمثل سلطة السيادة كما هو الحال فى‬
‫البرلمان اإلنجليزى‪.‬‬

‫وازاء تعسف السلطة مع النشاط الحزبى المعارض‪ ،‬عانى كل من " حزب األحرار" و"حزب‬
‫اإلصالح" الضعف فى الفترة السابقة على افتتاح المجلس النيابى (الدايت) عام ‪ ،1890‬فعاد‬
‫"حزب األحرار" إلى الظهور من جديد بعد أن كان قد جمد نشاطه ولكن النص فى الدستور‬
‫على الملكية كشرط للتمتع بحق االنتخاب قصر عضوية الحزب على المالك‪ ،‬كما أصبحت‬
‫مواقف الحزب ‪-‬فى تلك المرحلة‪ -‬تتسم باالعتدال‪ ،‬ومن ثم أصبح يعرف باسم "جمعية‬
‫أصدقاء الحكومة الدستورية" منذ سبتمبر عام ‪ ،1900‬عندما عقد لواء قيادة الحزب لكبار‬
‫المالك المزارعين‪.‬‬

‫وضع الدستور‬
‫فى ‪ 6‬سبتمبر ‪ ،1876‬أصدر اإلمبراطور أم اًر بدراسة النظم الدستورية المختلفة‪ ،‬والعمل على‬
‫وضع مشروع للدستور اليابانى‪ ،‬ونتيجة لذلك أنشئ "مكتب دراسة النظم الدستورية" فى صورة‬
‫لجنة منبثقة عن مجلس الشيوخ‪ ،‬وقد بدأ المكتب عمله على الفور‪.‬‬

‫وفى ‪ 22‬يوليو ‪ ،1878‬صدر مرسوم إمبراطورى بتنظيم مجالس المحافظات عن طريق‬


‫االقتراع‪ ،‬وبذلك وضعت قاعدة الحكم النيابى الذى أقيم بعد ذلك باثنى عشر عاماً‪ ،‬وبموجب‬
‫ذلك المرسوم‪ ،‬منح حق االقتراع لجميع الذكور ممن بلغوا العشرين عاماً على األقل‪ ،‬بشرط‬
‫أن يكون الناخب ممن يدفعون ضريبة أطيان ال تقل عن خمسة ينات سنوياً (وكانت تلك‬
‫الضريبة تدفع على ما يقرب من الفدانين)‪ ،‬وأصبح من حق مجلس المحافظة أن يقر‬
‫الموازنة الخاصة بالمحافظة‪ ،‬ويحدد طريقة جباية الضرائب‪ .‬ثم استكملت هذه الخطوة‬
‫التمهيدية إلقامة الحكم النيابى بصدور مرسوم يناير ‪ ،1880‬الخاص بإنشاء مجالس األحياء‬
‫والمدن بنفس الطريقة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪58‬‬
‫وعندما قام جرانت ‪-‬أحد الرؤساء األمريكيين السابقين‪ -‬بزيارة اليابان (يونيو ‪ ،)1879‬حرص‬
‫اإلمبراطور اليابانى على استشارته فيما يتعلق بالحكم النيابى‪ ،‬فى وقت كانت حركة المطالبة‬
‫بالحكم النيابى قد بلغت ذروتها‪ ،‬فأشار الرئيس جرانت على اإلمبراطور بأن من مصلحة‬
‫بالده االع تماد على حكومة ينتخبها الشعب‪ ،‬ومجلس نيابى يراقب الشعب من خالله عمل‬
‫الحكومة ولكنه حذر اإلمبراطور من عواقب التراجع عن الحكم الدستورى بعد إق ارره‪ ،‬ألن‬
‫حرمان الشعب من هذا الحق ‪-‬بعد منحه له‪ -‬قد يؤدى إلى كارثة‪ ،‬ومن ثم وجب على‬
‫الحكومة اليابانية أن تتوخى الدقة عند إعداد الدستور‪.‬‬

‫وفى ‪ 6‬يوليو ‪ ،1881‬قدم رئيس الوزراء إلى "مجلس الشيوخ" تقري اًر طالب فيه بأن يصاغ‬
‫الدستور اليابانى على نسق الدستور األلمانى وليس اإلنجليزى‪ ،‬وقد تأثرت سياسة الحكومة‬
‫الرامية إلى إقامة مجلس نيابى فى ظل نظام دستورى باألفكار التى طرحت بذلك التقرير‪،‬‬
‫نظ اًر لما يوفره النموذج الدستورى األلمانى من ضمانات للنخبة الحاكمة‪ ،‬والنطباقه على‬
‫اإلطار السياسى لنظام الحكم فى عصر مايجى‪ ،‬ولذلك استبعدت نهائياً فكرة االستفادة من‬
‫النظامين اإلنجليزى والفرنسى عند صياغة الدستور اليابانى‪.‬‬

‫ولما كانت دراسة النظم الدستورية الغربية تتطلب الوقوف على أسلوب تطبيقها‪ ،‬فقد أوفدت‬
‫بعثة من الوزراء إلى أوروبا لدراسة تلك النظم على الطبيعة (مارس ‪ )1882‬وقبل أن تغادر‬
‫البعثة اليابان‪ ،‬وضعت فى اعتبارها دراسة النظام الدستورى األلمانى‪.‬‬

‫وعندما وصلت البعثة إلى ألمانيا‪ ،‬استمع أعضاؤها إلى محاضرات من فقهاء الدستور هناك‪،‬‬
‫واقتنعت البعثة بالنظام الدستورى األلمانى من حيث األخذ بمبدأ ثنائية السلطة التشريعية‬
‫اشترط نصاب معين من الملكية فيمن يتمتع بحق‬
‫(من خالل إقامة مجلسين نيابيين)‪ ،‬و ا‬
‫االقتراع‪ ،‬مع االحتفاظ لإلمبراطور بسلطات سياسية وعسكرية واقتصادية واسعة‪ ،‬وعدم الميل‬
‫إلى إقامة حكومات حزبية تجعل من الهيئة السياسية مصد اًر للقوة السياسية‪.‬‬

‫وعادت البعثة من أوروبا ‪-‬فى صيف ‪ -1883‬بعد غيبة دامت أكثر من العام‪ ،‬وقد توثقت‬
‫عرى الصداقة بين إيتو ‪-‬رئيس البعثة‪ -‬وبسمارك المستشار األلمانى‪ ،‬وأصبح إيتو على‬
‫يقين تام أن ألمانيا وحدها تستطيع أن تقدم لليابان النموذج الدستورى المالئم لظروفها‪ ،‬ومن‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪59‬‬
‫ثم أصبحت القومية والعسكرية والبيروقراطية األلمانية مثالً يحتذى عند إعادة تنظيم أداة‬
‫الحكم فى اليابان‪ ،‬ووجه إيتو الدعوة إلى العديد من األساتذة والخبراء األلمان‪ ،‬وأسند إليهم‬
‫بعض الوظائف فى الو ازرات المختلفة‪ ،‬وفى مارس ‪ ،1884‬أنشأ مكتباً لدراسة النظم اإلدارية‬
‫أسندت إليه مهمة إعداد مشروع الدستور ومراجعة اللوائح الخاصة بإدارات الحكومة‪ ،‬ووضع‬
‫المقترحات الخاصة بإصالح النظام اإلدارى‪ ،‬وتولى إيتو رئاسة هذا المكتب‪ ،‬باإلضافة إلى‬
‫منصبه كوزير للبالط اإلمبراطورى‪.‬‬

‫وكخطوة أولى فى الطريق إلى تنظيم أداة الحكم‪ ،‬وضع إيتو نظاماً يقضى بإقامة "هيئة‬
‫النبالء" صدر به مرسوم خاص فى ‪ 7‬يوليو ‪ ،1884‬جعل هيئة النبالء اليابانية تحاكى‬
‫مثيلتها فى ألمانيا‪ ،‬فضمت خمس مراتب‪ :‬أمير‪ ،‬ماركيز‪ ،‬كونت‪ ،‬فسكونت‪ ،‬بارون‪ ،‬ووضع‬
‫تصنيفاً لرجال الدولة لتسكينهم على تلك المراتب‪ ،‬فأصبحت "هيئة النبالء" تضم‪ :‬نبالء‬
‫البالط القدامى‪ ،‬وحكام المقاطعات السابقين‪ ،‬وصغار الساموراى الذين تقلدوا الوظائف‬
‫الكبرى‪ ،‬وبلغ عدد أفراد األرستقراطية الجديدة ما يزيد على ‪ 500‬عضو‪ ،‬وتم استبعاد بعض‬
‫الشخصيات السياسية التى أدت خدمات جليلة للدولة ألنها كانت ‪-‬عندئذ‪ -‬تتصدر صفوف‬
‫المعارضة السياسية‪.‬‬

‫ومن الجلى‪ ،‬أن إقامة تلك الهيئة األرستقراطية كانت مناورة سياسية بارعة‪ ،‬قصد بها خلق‬
‫طبقة جديدة ذات امتيازات خاصة يكفلها القانون لتكون عوناً للحكومة على تطبيق سياستها‪،‬‬
‫بعد ما انفض صغار الساموراى من حولها‪ ،‬واشتركوا فى قيادة وتوجيه المعارضة السياسية‪،‬‬
‫ووفرت إقامة تلك األرستقراطية ‪-‬فى نفس الوقت‪ -‬العضوية الالزمة للمجلس األعلى‪ ،‬الذى‬
‫جعل منه الدستور رقيباً على سلطات وأعمال "المجلس األدنى" الذى يضم نواب الشعب‪،‬‬
‫وبذلك خرجت الحكومة على مبدأ المساواة بين الطبقات الذى روجت له فى بداية العهد‪،‬‬
‫فكان تشكيل هيئة أرستقراطية بمثابة نكسة للحياة السياسية وردة عن طريق تحقيق المساواة‬
‫بين المواطنين التى تم إقرارها عندما ألغى نظام الطبقات االجتماعية فى مطلع العهد‪.‬‬

‫وخالل عامى ‪ ،1887-1886‬واصلت لجنة إعداد مشروع الدستور عملها ‪-‬بسرية تامة‪-‬‬
‫مستعينة بأحد فقهاء القانون الدستورى األلمانى هو الدكتور هرمان روسلر‪ ،‬الذى عمل‬
‫مستشا اًر للجنة‪ ،‬التى فرغت من عملها فى ربيع ‪ ،1888‬وتم تشكيل مجلس ‪-‬بطريق‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪60‬‬
‫التعيين‪ -‬لبحث مشروع الدستور واق ارره عرف باسم "المجلس الخاص"‪ ،‬اقتصر عمله على‬
‫دراسة مشروع الدستور والقوانين الخاصة بالمجلسين النيابيين ومجلس البالط‪ ،‬ومجلس‬
‫النبالء‪ ،‬واختير أعضاء المجلس الخاص من كبار رجال الدولة‪ ،‬ومن طبقة النبالء الجديدة‪،‬‬
‫وكان بمثابة مجلس استشارى لإلمبراطور‪ ،‬عليه أن يقدم المشورة له فيما اتصل بتفسير‬
‫الدستور والقوانين المتعلقة به‪ ،‬ووضع مشروع التعديالت الدستورية‪ ،‬ووضع نصوص القوانين‬
‫وتعديلها ومراجعتها‪ ،‬ووضع الخطط الخاصة بالتنظيم اإلدارى‪ ،‬وصياغة نصوص المراسيم‬
‫اإلمبراطورية الهامة‪ ،‬والفصل فى المنازعات المتعلقة بموازنة الدولة وحساباتها‪ ،‬وتولى إيتو‬
‫رئاسة "المجلس الخاص" الذى أصبح مصدر السلطة الحقيقية فى البالد‪.‬‬

‫وبدأ المجلس الخاص النظر فى مشروع الدستور‪ ،‬وراء أبواب مغلقة داخل القصر‬
‫اإلمبراطورى فى سرية تامة‪ ،‬حتى ال يتسرب شيء إلى الصحافة والرأى العام‪ ،‬قد يؤدى إلى‬
‫قيام موجة من النقد تعوق إنجاز الدستور على النحو الذى تريده الدولة‪ ،‬وحرص اإلمبراطور‬
‫على حضور الجلسات‪ ،‬والمشاركة فى مراجعة مشروع الدستور مراجعة دقيقة‪ ..‬وانتهى‬
‫المجلس من مهمته فى يناير ‪ ،1889‬وأعلن صدور الدستور (فى ‪ 11‬فبراير) فى حفل‬
‫متواضع حضره ممثلو الدول األجنبية‪ ،‬وكبار رجال الدولة‪ ،‬ورؤساء مجالس المحافظات‪.‬‬

‫وقد نص الدستور على إقامة هيئة نيابية أطلق عليها "المجلس اإلمبراطورى" (الدايت)‪،‬‬
‫تتكون من مجلسين‪ :‬أحدهما مجلس النواب‪ ،‬واآلخر مجلس النبالء‪ ،‬وركزت السلطة كلها فى‬
‫يد اإلمبراطور فكان من حقه إصدار مراسيم بقوانين دون الرجوع إلى الدايت‪ ،‬بشرط أن‬
‫يحصل على موافقة "المجلس الخاص" عليها (وهو مجلس معين وليس مجلساً منتخباً) يختار‬
‫أعضاؤه من الموالين لإلمبراطور‪ ،‬واحتفظ اإلمبراطور لنفسه بحق االعتراض على ق اررات‬
‫الدايت بمجلسيه‪ ،‬ولم يكن من حق الدايت النظر فى المعاهدات التى تبرم مع الدول‬
‫األجنبية‪ ،‬فقد كان ذلك حقاً خالصاً لإلمبراطور وحده‪ ،‬يقرره بعد استشارة "المجلس الخاص"‪.‬‬

‫وكانت صالحيات اإلمبراطور ‪-‬وفقاً للدستور‪ -‬ال تحدها حدود‪ ،‬فهو الذى يدعو الدايت‬
‫بمجلسيه إلى االنعقاد‪ ،‬وله أن يحل مجلس النواب متى شاء‪ ،‬وأن يغير ويبدل فى مؤسسات‬
‫الدولة المختلفة‪ ،‬وله حق تعيين وعزل كبار الموظفين والوزراء الذين كانوا مسئولين أمامه‬
‫وحده‪ ،‬وهو القائد األعلى للقوات المسلحة‪ ،‬له حق إعالن الحرب وابرام الصلح‪ ،‬واعالن‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪61‬‬
‫األحكام العرفية ومنح األلقاب المدنية والرتب العسكرية‪ ،‬وتعيين القضاة وعزلهم من‬
‫مناصبهم‪ ،‬وال رقيب على اإلمبراطور فى سلطته تلك‪ ،‬وله ‪-‬إذا شاء‪ -‬أن يرجع إلى‬
‫مستشاريه فيما يعن له من أمور‪ ،‬واإلمبراطور يمارس السلطات التى كفلها له الدستور ‪-‬‬
‫بشخصه‪ -‬ممارسة فعلية‪ ،‬ولكنه مارسها من خالل كبار رجال الدولة الذين أداروا دفة الحكم‬
‫باسمه ومن خالله‪.‬‬

‫ورغم إقرار الدستور لمبدأ الفصل بين السلطات تمتع مجلس الوزراء بسلطات فاقت تلك التى‬
‫كانت للسلطة التشريعية‪ ،‬واختص "المجلس الخاص" بإقرار دستورية القوانين واللوائح‬
‫اإلدارية‪ ،‬بدالً من إعطاء ذلك الحق للمحكمة العليا‪ ،‬وأقيم "مجلس المحاسبة" الذى نص‬
‫الدستور على تأسيسه لالضطالع بعبء مراجعة حسابات الحكومة (مايو ‪ ،)1889‬ثم‬
‫أصبح من حقه ‪-‬بعد ذلك بعشر سنوات‪ -‬أن يتولى مراقبة تنفيذ الموازنة العامة للدولة‪.‬‬

‫وهكذا كان الدستور اليابانى عصرياً شكالً ال موضوعاً‪ ،‬فدعم حكم األوليجاركية التى‬
‫أمسكت بزمام الحكم بيد من حديد منذ مطلع عصر مايجى‪ ،‬وبافتتاح الدايت عام ‪،1890‬‬
‫بدأ الحكم الدستورى فى اليابان‪.‬‬

‫الحياة النيابية‬
‫بدأت الحياة النيابية فى اليابان بانتخابات األول من يوليو ‪ ،1890‬وكانت أكثر االنتخابات‬
‫جدية ونجاحاً مقارنة باالنتخابات التى تمت بعهدها‪ ،‬وكان ذلك يرجع إلى نقص الخبرة عند‬
‫الحكومة‪ ،‬وخشيتها من االنتقادات التى قد توجهها الدول الغربية إلى أسلوبها فى إدارة‬
‫االنتخابات‪ ،‬كما كان المرشحون والناخبون على درجة كبيرة من تقدير المسئولية‪ ،‬ظناً منهم‬
‫أن إقامة الدايت سوف تؤدى إلى تصفية نفوذ األوليجاركية الحاكمة‪ ،‬ووضع حد لالستبداد‪،‬‬
‫وتخفيف أعباء الضرائب‪.‬‬

‫وبعد أن تم انتخاب أعضاء مجلس النواب (‪ 300‬عضو) شكل "مجلس النبالء" (المجلس‬
‫األعلى) من ‪ 250‬عضواً من طبقة النبالء وبعض كبار الموظفين الذين أدوا خدمات جليلة‬
‫للدولة‪ ،‬وكبار دافعى الضرائب وكان ذلك بالتعيين بمعرفة السلطة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪62‬‬
‫واستطاعت األحزاب السياسية أن تنظم معارضة قوية داخل مجلس النواب‪ ،‬حيث حصل‬
‫"حزب األحرار" على ‪ 130‬مقعداً‪ ،‬بينما حصل "حزب اإلصالح" على ‪ 41‬مقعداً‪ ،‬فائتلف‬
‫الحزبان معاً ليكونا أغلبية داخل المجلس (‪ %57‬من جملة المقاعد)‪ ،‬وخاصة أن مجلس‬
‫النواب كان الموقع الوحيد الذى تمارس فيه حرية التعبير دون التعرض لمضايقات السلطة‪،‬‬
‫فواجهت الحكومة هجوماً عنيفاً من جانب المعارضة بسبب عجزها عن تعديل المعاهدات‬
‫غير المتكافئة‪ ،‬وعندما أدركت المعارضة عدم جدوى الضغط على الحكومة فى أمر يتعلق‬
‫بالسياسة الخارجية‪ ،‬اتجهت إلى انتقاد السياسة المالية للحكومة‪ ،‬فطالبت بضغط اإلنفاق‬
‫الحكومى حتى يمكن تخفيف أعباء الضرائب‪ ،‬وأثمرت جهود المعارضة عندما خفضت‬
‫موازنة الدولة بنسبة تزيد قليالً عن ‪.%10‬‬

‫وعندما عارض المجلس برنامج الحكومة الخاص بتدعيم البحرية‪ ،‬وتأسيس مصانع للحديد‬
‫والصلب‪ ،‬وتأميم السكك الحديدية صدر مرسوم إمبراطورى بحل المجلس فى ‪ 25‬ديسمبر‬
‫‪ ،1891‬وبذلك أثبت النظام عجزه عن التعايش مع التجربة الدستورية األولى فى تاريخ‬
‫البالد‪.‬‬

‫وجرت انتخابات المجلس الجديد (‪ 15‬فبراير ‪ )1892‬فى جو غلب عليه بطش الشرطة‬
‫وتدخلها فى االنتخابات‪ ،‬وشراء األصوات مما أدى إلى وقوع مصادمات بين مؤيدى األحزاب‬
‫والشرطة أطلق خاللها الرصاص على المتظاهرين‪ ،‬وتم إحراق منازل بعض المعارضين‪،‬‬
‫ورغم ذلك كله حصلت المعارضة على ‪ 152‬مقعداً فى المجلس الجديد‪ ،‬وأطلق على أنصار‬
‫الحكومة بالمج لس الذين جاءوا نتيجة تدخل الشرط فى االنتخابات لقب "األطفال غير‬
‫الشرعيين"‪.‬‬

‫وعندما افتتح الدايت الجديد (‪ 6‬مايو ‪ )1892‬بادر بإدانة الحكومة لعجزها عن تحقيق الرخاء‬
‫للبالد والرفاهية للشعب‪ ،‬واتخذ مجلس النواب ق ار اًر بسحب الثقة من الحكومة لتدخلها فى‬
‫االنتخابات‪ ،‬فقامت الحكومة بتعطيل جلسات المجلس لمدة سبعة أيام بدالً من تقديم‬
‫استقالتها كما تقضى بذلك األعراف الدستورية‪ ،‬وعندما تقدمت الحكومة بمشروع قرار‬
‫اعتمادات مالية إضافية أنقص المجلس االعتماد المقترح بمقدار الثلث‪ ،‬فاعترض "مجلس‬
‫النبالء" على هذا التخفيض‪ ،‬مما أثار أزمة دستورية حول مدى أحقية مجلس النبالء فى‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪63‬‬
‫نقض ق اررات مجلس النواب‪ ،‬واحتكم النواب إلى اإلمبراطور‪ ،‬فأحال األمر بدوره إلى‬
‫"المجلس الخاص" الذى أفتى لصالح مجلس النبالء‪ ،‬مسجالً بذلك سابقة دستورية كان لها‬
‫أثرها فيما بعد‪ ،‬وفى موقف آخر احتكم فيه كل من مجلس النواب والحكومة إلى اإلمبراطور‪،‬‬
‫عقد اإلمبراطور اجتماعاً دعا إليه رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس النبالء ورئيس مجلس‬
‫الوزراء وأمر الجميع بتنسيق العمل بينهم من أجل مصلحة األمة‪ ،‬فسجل بذلك سابقة أخرى‬
‫الحياة النيابية من‬ ‫هامة قطعت الطريق أمام تحقيق مبدأ المسئولية الو ازرية وفرغت‬
‫مضمونها‪.‬‬

‫ولذلك كان من السهل على الحكومة أن تحل الدايت (‪ 30‬يناير ‪ )1894‬عندما عارض‬
‫مجلس النواب التشدد فى تطبيق قوانين التجمهر‪ ،‬وحظر عقد االجتماعات العامة‪ ،‬ومصادرة‬
‫الصحف المعارضة‪ ،‬واطالق يد الشرطة للعمل ضد األحزاب السياسية‪ ،‬وتم حل التنظيمات‬
‫السياسية‪.‬‬

‫وأجريت االنتخابات الجديدة (فى أول مارس) عندما كانت سحب الحرب الصينية‪ -‬اليابانية‬
‫تتجمع فى األفق‪ ،‬فتشددت الحكومة فى إصدار التعليمات إلى المحافظين ورجال الشرطة‬
‫بعدم التدخل فى االنتخابات التى تمت فى جو تسوده الحرية‪ ،‬وجاءت نتيجة االنتخابات‬
‫بزيارة فى عدد المقاعد التى فاز بها "حزب األحرار" وعادت المعارضة قوية كما كانت من‬
‫قبل‪ ،‬فتعذر على الحكومة متابعة العمل فى ظل تلك الظروف‪ ،‬فقررت حل الدايت بعد ثالثة‬
‫أشهر من انعقاده (‪ 2‬يونيو ‪.)1894‬‬

‫وعندما نشبت الحرب مع الصين‪ ،‬نسيت المعارضة خالفاتها مع الحكومة‪ ،‬وأبدت استعدادها‬
‫التام للتعاون معها‪ ،‬وتمت االنتخابات فى هدوء تام (سبتمبر ‪ )1894‬بعدما اختفت الخالفات‬
‫بدعوى الحرص على الوحدة الوطنية‪ ،‬وعندما اجتمع المجلس الجديد (‪ 15‬أكتوبر) وافق‬
‫على مشروعات القوانين التى قدمتها الحكومة دون أدنى اعتراض‪ ،‬بما فى ذلك ميزانية‬
‫الحرب‪ ،‬وكالت األحزاب السياسية المديح للحكومة لنجاحها فى إدارة دفة الحرب‪ ،‬ووقف‬
‫حزب األحرار موقف المدافع عن الحكومة عندما هاجمتها أحزاب المعارضة بعد تعديل‬
‫اتفاقية شيمونوسيكى نتيجة لتدخل الدول الثالث (على نحو ما رأينا فيما سبق)‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪64‬‬
‫وما لبث الصراع أن عاد من جديد بين الحكومات والمعارضة بعدما انقضت الظروف التى‬
‫دعت إلى االئتالف‪ ،‬واذا كانت الحكومة التى وقعت تحت سيطرة أوليجاركية محدودة ظلت‬
‫تدير البالد بنفس الطريقة التى درجت عليها منذ تأسيسها للنظام‪ ،‬ومن ثم لم تستطع‬
‫استيعاب متطلبات الحكم الدستورى‪ ،‬وضاقت ذرعاً باألحزاب السياسية‪ ،‬فإن األحزاب‬
‫السياسية تعلمت ‪-‬بدورها‪ -‬الكثير من صراعها مع الحكومة داخل الدايت‪ ،‬وكان أهم درس‬
‫أفادت منه تلك األحزاب ضرورة نبذ الفرقة واإلحن وتوحيد الصفوف فى جبهة واحدة‬
‫للتصدى لمحاوالت الحكومة االستبداد بالسلطة‪ ،‬وميلها إلى تفريغ الحياة النيابية من‬
‫مضمونها‪ ،‬وهكذا أخذت بعض األحزاب تندمج مع بعضها البعض لتدعيم صفوفها‪ ،‬فظهر‬
‫"الحزب التقدمى" من اندماج "حزب اإلصالح" مع بعض األحزاب األخرى‪ ،‬ثم اندمج "حزب‬
‫األحرار مع الحزب التقدمى" ليكونا معاً "الحزب الدستورى (‪ ،)1898‬لتبدأ بذلك مرحلة جديدة‬
‫فى الحركة السياسية‪ ،‬فتحت الباب أمام تشكيل حكومات حزبية مسئولة أمام الدايت‪.‬‬

‫لقد بدأت الحياة السياسية ‪-‬فى عصر مايجى‪ -‬بنضال جماهيرى للمطالبة بتقييد السلطة‬
‫األوتقراطية بقيود دستورية‪ ،‬وعندما صدر الدستور كان مجرد محاولة للتوفيق بين اتجاه‬
‫الحكومة إلى تركيز السلطة فى يدها ورغبة الجماهير فى الحكم الدستورى فغلب االتجاه‬
‫األول على االتجاه اآلخر‪ ،‬وتحول الحكم الدستورى إلى إطار يحوى فى جوهرة سلطة‬
‫أوليجاركية‪ ،‬فظلت مقاليد األمور بيد حفنة محدودة من "كبار الساسة" الذين كانوا مجموعة‬
‫صغيرة من (أهل الثقة)‪ ،‬وقع على عاتقهم بناء النظام ووضع أسس النهضة الحديثة لليابان‪،‬‬
‫ومارسوا السلطة الفعلية فى ظل الدستور‪ ،‬فكانوا يحددون األشخاص الذين يتولون الو ازرة من‬
‫بينهم‪ ،‬كما كانوا يشكلون أعضاء "المجلس الخاص" الذى تمتع بسلطات واسعة كادت أن‬
‫تكون مطلقة‪ ،‬ورغم أن نفوذهم السياسى بدأ يتقلص بعد غروب شمس عصر مايجى‬
‫(‪ ،)1912‬إال أنهم ظلوا يوجهون السياسة الداخلية والخارجية للبالد ‪-‬بصورة أو بأخرى‪-‬‬
‫حتى عام ‪.1922‬‬

‫واستمر دستور مايجى سارى المفعول حتى هزيمة اليابان فى الحرب العالمية الثانية‪ ،‬ولعل‬
‫السبب فى استمرار العمل بذلك الدستور يرجع إلى شعور الرأسمالية اليابانية ‪-‬التى شبت‬
‫عن الطوق وبلغت المرحلة اإلمبريالية فى زمن قياسى‪ -‬بالحاجة إلى سلطة مركزية قوية‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪65‬‬
‫ترعى مصالحها‪ ،‬وتفتح أمامها آفاق االستثمار داخل البالد وخارجها‪ ،‬أكثر من حاجتها إلى‬
‫طبقة معينة تعبر عن مصالحها‪ ،‬وتعمل على تنميتها ورعايتها من خالل المؤسسات النيابية‬
‫الدستورية‪ ،‬ومن ثم كانت تلك الظاهرة التى كادت تنفرد بها اليابان‪ ،‬ونعنى بها ظاهرة الوفاق‬
‫التام بين رجال السياسة ورجال المال‪ ،‬والتى ما زالت تحدد إطار الحياة السياسية فى اليابان‬
‫حتى اليوم‪.‬‬

‫غير أن الحياة السياسية فى عصر مايجى ‪-‬بإيجابياتها وسلبياتها‪ -‬هيأت المناخ المالئم‬
‫لنمو األفكار الجديدة التى عكست التأثر بالثقافة الغربية‪ ،‬ومحاولة أجيال ذلك العصر تمثل‬
‫تلك الثقافة فى إطار يابانى‪ ،‬طوعت فيه تلك األفكار لحاجات المجتمع اليابانى‪ ،‬ومن ثم‬
‫طبعت الحياة الفكرية فى ذلك العصر بطابع خاص‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪66‬‬
‫الفصل الخامس ‪ -‬التطور الفكرى‬
‫شهد عصر النهضة اليابانية (عصر مايجى) ازدواجية فى الحياة الفكرية‪ ،‬تمثلت فى إحياء‬
‫الفكر التقليدى المستمد من التراث اليابانى القديم‪ ،‬والذى شكل فى جملته عقيدة الشعب‬
‫اليابانى ‪-‬األصيل منها والمكتسب على حد سواء‪ -‬إلى جانب التيارات الفكرية الجديدة التى‬
‫هبت على اليابان من الغرب‪ ،‬والتى نتجت عن االحتكاك بالحضارة الغربية فى مرحلة‬
‫النهضة‪ ،‬وما امتازت به تلك المرحلة من اقتباس نماذج من النتاج الحضارى للغرب‪ ،‬ولم‬
‫يكن باستطاعة اليابانيين تفادى البعد الثقافى لتلك الحضارة‪ ،‬وما ارتبط به من أفكار تتباين‬
‫تماماً مع األساس الذى قام عليه الفكر اليابانى التقليدى‪ ،‬غير أنه استطاع أن يجد لنفسه‬
‫مكاناً بفضل جهود من تأثروا بالثقافة الغربية من كتاب وأدباء عصر النهضة اليابانيين‪.‬‬

‫الفكر التقليدى‬
‫ولكن دراسة التطور الفكرى لليابان فى عصر النهضة تتطلب منا وقفة أمام الفكر التقليدى‬
‫الذى تأصل فى وجدان الشعب اليابانى‪ ،‬وكان له أثره البالغ فى تحديد إطار النظام السياسى‬
‫الذى ع اشته اليابان منذ عصر مايجى حتى نهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬كما كان له أثره‬
‫فى تحديد القيم االجتماعية والسلوكية لليابانيين لما يقرب من القرن‪ ،‬وقام على أساسه النظام‬
‫اإلمبراطورى بإطاره الثقافى‪ -‬السياسى‪.‬‬

‫ويرتكز الفكر التقليدى على عقيدة "الشنتو" التى ترفع اإلمبراطور إلى مصاف اآللهة‪ ،‬وتجعل‬
‫تقديسه فرضاً على كل يابانى استنادا إلى األساطير (التى أشرنا إليها فى التمهيد) فى مزيج‬
‫يضفى القداسة على اليابان نفسها‪ ،‬والتميز على شعبها‪ ،‬وطوع اليابانيون "البوذية" التى‬
‫جاءتهم من الهند ‪-‬عن طريق الصين‪ -‬والكنفوشية التى جاءتهم من الصين‪ ،‬للعقيدة‬
‫الشنتوية‪ ،‬ففى البوذية اعتبر اإلمبراطور "سليل بوذا العظيم" وفى الكنفوشية اعتبر "منبع‬
‫الفضائل التى يقوم على أساسها المجتمع الخير"‪.‬‬

‫وكذلك كانت الحال بالنسبة لفكرة المساواة‪ ،‬فقد كان اليابانيون ينشئون ‪-‬منذ نعومة أظفارهم‪-‬‬
‫على تقبل فكرة التفاوت فى المكانة االجتماعية للناس‪ ،‬ووجد هذا الموقف التبرير المناسب‬
‫ال‪-‬‬
‫فى العقيدة اليابانية‪ ،‬فالناس غير متساوين ألن دماءهم ليست واحدة‪ ،‬اإلمبراطور ‪-‬مث ً‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪67‬‬
‫تجرى فى عروقه دماء اآللهة ألنه انحدر من نسل آلهة الشمس‪ ،‬وعلية القوم انحدروا من‬
‫ساللة ذات منزلة رفيعة متأصلة‪.‬‬

‫واذا كان هذا موقف الشنتوية من فكرة المساواة االجتماعية فإن التطبيق اليابانى للكنفوشية‬
‫أخذ بهذا المبدأ أيضاً‪ ،‬فاعتبر الناس مختلفين اجتماعياً بقدر ما يتوفر لهم من الفضائل‪:‬‬
‫فذوى الفضائل العالية السامية يتمتعون بمكانة اجتماعية ممتازة‪ ،‬أما أولئك الذين ال يتوفر‬
‫لهم إال درجات محدودة من الفضائل‪ ،‬فيصنفون اجتماعياً حسب حظهم من تلك الدرجات‪،‬‬
‫كذلك عالج التطبيق اليابانى للبوذية فكرة التفاوت االجتماعى‪ ،‬فربط مكانة الناس االجتماعية‬
‫بما لديهم من قدرة على الكفاح من أجل الخالص‪ ،‬وهم كما يتفاوتون فى الصبر على‬
‫الكفاح‪ ،‬يتفاوتون ‪-‬كذلك‪ -‬فى المنزلة االجتماعية‪.‬‬

‫وكان التراث اليابانى يضع إطا اًر محدداً جامدًا للعالقات داخل المجتمع‪ ،‬يدور حول "وحدة‬
‫المجتمع" كما عبرت عنها الكنفوشية اليابانية‪ ،‬فالفرد فى ظل فكرة وحدة المجتمع ال قيمة له‬
‫بذاته‪ ،‬ولكن قيمته من قيمة الجماعة التى ينتمى إليها‪ ،‬سواء كانت األسرة أو القرية أو‬
‫األمة‪ ،‬إذ تسمو الروابط االجتماعية على العالقات الشخصية الفردية‪ ،‬ورغم االعتراف بما‬
‫للفرد من شخصية مستقلة فإن ذلك ال يعنى أن األفراد يتمتعون بمكانة مستقلة عن الجماعة‪.‬‬

‫وقيمة الفرد ترتبط بمكانة الطبقة االجتماعية التى ينتمى إليها‪ ،‬وهى ظاهرة اجتماعية يتردد‬
‫صداها فى اللغة اليابانية التى ال تحتوى على صيغة مفرد وصيغة جمع‪ ،‬وانما هناك صيغة‬
‫واحدة تستخدم للمفرد والمثنى‪ ،‬والجمع دون تمييز‪ ،‬كما تبدو أيضاً فى أسلوب المخاطبة‬
‫حيث تراعى منزلة المخاطب داخل الجماعة فيستخدم الصغير صيغة معينة عندما يتحدث‬
‫مع من يكبره سناً أو مقاماً‪.‬‬

‫وألقت هذه الظاهرة بظاللها على البوذية‪ ،‬فعندما اعتنقها اليابانيون لم يهتموا باالختالف‬
‫الواضح بين النفوس البشرية الذى تبرزه البوذية فى أصلها الهندى‪ ،‬وعلى حين تذهب البوذية‬
‫الهندية إلى القول بأنه "ال يعنى األبناء وال اآلباء وال األقارب المرء شيئاً حين يدنو أجله‪"...‬‬
‫وانه "ال سلطان على النفس سوى النفس ذاتها" فركزت بذلك على االعتماد على النفس‬
‫باعتباره ركن الفضائل‪ ،‬ورأت أن "الخير فى االرتكان إلى النفس والبعد عن الناس"‪ ،‬وبذلك‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪68‬‬
‫تقوم البوذية ‪-‬فى أصلها الهندى‪ -‬على التمحور حول الذات (الفردية) ونبذ الجماعة‪ ،‬نجد‬
‫التطبيق اليابانى للبوذية يتواءم مع طبيعة المجتمع اليابانى وتراثه التقليدى القائم على نبذ‬
‫الفردية وااللتحام بالجماعة‪ ،‬فتذهب البوذية اليابانية إلى القول بأنه "يجب أن يكون الفرد‬
‫أقرب إلى إخوانه فى البوذية منه إلى نفسه" وبذلك تعبر عن ذوبان الفرد فى الخلية‬
‫االجتماعية التى ينتمى إليها (األسرة) وذوبان تلك الخلية الصغيرة فى الخلية االجتماعية‬
‫األكبر (القرية)‪ ،‬لتشكل مع غيرها من الخاليا الكبرى كياناً واحداً (الوطن)‪.‬‬

‫ولعل انفراد اليابانيين بهذه السمة الثقافية يرجع إلى طابع الحياة االجتماعية الذى ساد‬
‫اليابان‪ ،‬والذى يتفق مع الظروف الطبيعية للبالد‪ ،‬فهى بالد جبلية وعرة تكسوها الغابات‬
‫وتثور فيها البراكين من حين آلخر فتلحق الدمار والخراب بما حولها‪ ،‬وتكاد الزالزل أن تكون‬
‫حدثاً يومياً‪ ،‬وال توجد بها سهول واسعة‪ ،‬إذ ال تتجاوز مساحة السهول خمس مساحة السطح‪،‬‬
‫وهى تجمع ‪-‬من حيث المناخ‪ -‬بين الصيف الحار شديد الرطوبة غزير األمطار‪ ،‬والشتاء‬
‫القارس البرد الذى يتساقط فيه الجليد بغ ازرة‪ ،‬وخاصة فى الشمال والشمال الغربى‪ ،‬لذلك‬
‫عاش اليابانيون فى نضال مستمر ضد الطبيعة‪ ،‬ومثل هذا الصراع ال يقوى عليه الفرد‪ ،‬وانما‬
‫يقتضى تضافر جهود الجماعة من أجل البقاء‪ ،‬فكان البد أن يعيش الناس فى جماعات‬
‫ذات تنظيم دقيق‪ ،‬يتمتع فيها رئيس الجماعة بسلطات واسعة على أفراد جماعته‪.‬‬

‫وتركت هذه الظروف الطبيعية آثا اًر واضحة على التكوين النفسى للناس‪ ،‬يعبر عنه القول‬
‫المأثور الذى تناقلته األجيال منذ القدم‪ ،‬والذى يذهب إلى أن "هناك أربعة يثيرون الفزع‪،‬‬
‫الزلزال‪ ،‬والعاصفة الرعدية‪ ،‬والحريق‪ ،‬واألب (أو رب العائلة)"‪ ،‬وليس من الغريب أن تكون‬
‫سلطة األب أو رب العائلة وكبيرها صارمة كصرامة الكوارث الطبيعية‪ ،‬ألن مواجهة الحياة‬
‫فى مجتمع له مثل تلك الظروف الطبيعية القاسية يقتضى وجود تنظيم دقيق للجماعة‪ ،‬يتمتع‬
‫‪-‬فى ظله‪ -‬رئيس الجماعة بسلطات واسعة وكلمة مسموعة مرهوبة‪ ،‬ومن ثم كانت التربية‬
‫اليابانية قائمة على غرس قيم الوالء للعائلة الصغرى (األسرة) والعائلة الكبرى (األمة) فى‬
‫نفوس البشر‪.‬‬

‫ومن هنا أصبحت فكرة "البيت" ذات مدلول واسع المعنى ‪-‬فى الثقافة اليابانية‪ -‬يتجاوز‬
‫حدود بيت األسرة‪ ،‬ليشمل بيت األمة (الوطن)‪ ،‬وال يوجد بيت بدون آباء‪ ،‬فالمحافظة على‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪69‬‬
‫البيت تقتضى مراعاة تراث السلف‪ ،‬ولذلك وجب على األفراد تدعيم البيت‪ ،‬والعمل على رفع‬
‫شأنه‪ ،‬وتوقير وطاعة رب البيت‪ ،‬وال تعنى فكرة "البيت" ‪-‬كما استقرت فى الوجدان اليابانى‪-‬‬
‫أن تكون رابطة الدم هى أساس العالقة بين من يقيمون فيه‪ ،‬فال وزن هنا لصلة الدم أو‬
‫الرحم‪ ،‬إنما رابطة المكان هى التى تجمع بين أهل "البيت" وكذلك رابطة العمل أيضاً‪ ،‬فالذين‬
‫يعملون لدى صاحب األرض الزراعية يعدون من أفراد أسرته‪ ،‬وكذلك من يعمل لدى التاجر‬
‫فى متجره‪ ،‬أو صاحب الحرفة فى ورشته‪ ،‬لجميع هؤالء ما ألفراد األسرة من الحقوق‪ ،‬وعليهم‬
‫ما عليهم من واجبات‪.‬‬

‫وكان لفكرة "البيت" دور هام فى نمو االقتصاد اليابانى الحديث فلم تكن المشروعات المالية‬
‫والصناعية الخاصة ترتبط بأفراد بعينهم‪ ،‬ولكنها ارتبطت بعائالت (بالمفهوم اليابانى للعائلة)‬
‫وكثي اًر ما كان أصحاب رأس المال بمنأى عن إدارة تلك المشروعات‪ ،‬التى أدارها خبراء لهم‬
‫مطلق التصرف ال سلطان ألحد عليهم سوى مجلس اإلدارة الذى هو ‪-‬فى نفس الوقت‪-‬‬
‫مجلس العائلة‪ ،‬وعلى سبيل المثال‪ ،‬كان البيت المالى الشهير "ميتسوى" فى القرن التاسع‬
‫عشر يتكون ‪-‬فى حقيقة األمر‪ -‬من إحدى عشرة أسرة رأسمالية متساوية تقريباً‪ ،‬ال ترتبط‬
‫ببعضها البعض بصلة الدم أو الرحم‪ ،‬ولكنها كانت تحمل اسم عائلة ميتسوى الذى مارست‬
‫نشاطها المالى به‪ ،‬وكذلك الحال بالنسبة لبيت "سوميتومون"‪ ،‬وكان كل من يعمل بإحدى‬
‫الشركات التى أقامتها تلك البيوت المالية يعد مسئوالً عن رواج نشاطها‪ ،‬شأنه فى ذلك شأن‬
‫أصحاب رأس المال أنفسهم‪.‬‬

‫كما كانت الطريق مفتوحة أمام من يظهر كفاءة ومقدرة متميزة من العمال للترقى فى‬
‫مناصب اإلدارة حتى أرفعها‪ ،‬وقد تكافئه العائلة صاحبة الشركة فتتبناه رسمياً‪ ،‬وتمنحه لقبها‪،‬‬
‫فإذا وصل بكفاءته إلى رئاسة الشركة أصبح رئيس العائلة وكبيرها الذى يلتزم الجميع‬
‫بطاعته حتى من جاءوا من صلب صاحب رأس المال‪ ،‬ومن ثم كان التفانى فى العمل هدف‬
‫الجميع حتى يظل "البيت" مزده اًر‪ ،‬ويتحقق النجاح لمشروعاته‪ ،‬واستخدمت هذه الفكرة ‪-‬فى‬
‫جانبها السلبى‪ -‬فى استغالل العمال فى الصناعة الحديثة باسم "الواجب نحو البيت" أسوأ‬
‫استغالل‪ ،‬وفى جانبها اإليجابى ساعدت على دفع النمو االقتصادى الحديث إلى األمام‪ ،‬فلم‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪70‬‬
‫يعتمد النمو االقتصادى على اإلمكانات المادية وحدها‪ ،‬وانما زودته الثقافة التقليدية اليابانية‬
‫‪-‬التى تقول بوحدة المجتمع‪ -‬بطاقة هائلة دفعته إلى األمام‪.‬‬

‫وأثمرت هذه الوحدة االجتماعية الفريدة اتجاهاً أخالقياً يدفع الفرد إلى التضحية بالنفس من‬
‫أجل عشيرته فى العهد اإلقطاعى‪ ،‬ثم من أجل اإلمبراطور والوطن فى عصر النهضة‬
‫الحديثة‪ ،‬وأدى ذلك إلى تميز التكوين الفكرى اليابانى بروح التطرف الوطنى الذى يمتزج فيه‬
‫ا لوالء للوطن وطاعة اإلمبراطور والتضحية الواجبة بالنفس فى سبيلهما‪ ،‬وغذت العقيدة‬
‫الشنتوية هذا الشعور الوطنى المتطرف بتأكيد أن العائلة اإلمبراطورية المقدسة هى نواة‬
‫الشعب اليابانى كله‪ ،‬وارتبط بها مفهوم "األمة المقدسة" الذى بلغ أوجه فى العقد األخير من‬
‫القرن التا سع عشر‪ ،‬واستمر حتى نهاية الحرب العالمية الثانية‪ ،‬واستقر فى أذهان اليابانيين‬
‫أن بالدهم "أعظم بالد العالم قاطبة ألن اآللهة صنعتها قبل أن تصنع بقية بالد العالم‪ ،‬فهى‬
‫أرض لها قداستها واحترامها" ومن ثم أطلقوا على بالدهم "اليابان العظمى" واعتبروا‬
‫اإلمبراطور أباً لألمة اليابانية‪.‬‬

‫وتطورت (الوطنية) اليابانية من مفهوم (الدولة) اليابانى ذاته الذى أطلقوا عليه اسم "النظام‬
‫اإلمبراطورى"‪ ،‬وليس من مفهوم (الدولة) فى علم السياسة‪ ،‬ولذلك صلة وثيقة بمفهوم "الوحدة‬
‫االجتماعية" التى تربط بين الناس واألرض والسلطة برباط واحد‪ ،‬وساعد الموقع الجغرافى‬
‫لليابان على دعم ذلك المفهوم وأنبتت له الشنتوية جذو اًر فى وجدان اليابانيين منذ القدم‪،‬‬
‫وبذلك توفرت لليابان مالمح "وطنية" واضحة قبل القرن التاسع عشر بزمن بعيد‪ ،‬وقبل‬
‫وصول المؤثرات الفكرية الغربية الحديثة إلى البالد‪ ،‬قامت تلك المالمح على أسس راسخة‬
‫من التراث الثقافى اليابانى‪ ،‬لتعبر عن واقع يختلف اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً ‪-‬اختالفاً‬
‫جذري ًا‪ -‬عن فكرة "القومية" بمفهومها السياسى الحديث‪.‬‬

‫مرحلة االنتقال‬
‫بدأت وفود المؤثرات الفكرية الغربية إلى اليابان خالل ما اصطلح على تسميته "بالقرن‬
‫المسيحى" عند المؤرخين اليابانيين‪ ،‬ويبدأ بعام ‪ 1549‬الذى شهد وصول أول إرسالية‬
‫تبشيرية كاثوليكية إلى اليابان‪ ،‬وينتهى بعام ‪ 1614‬الذى حظرت فيه حكومة طوكوجاوا‬
‫المسيحية وقامت بتصفية معتنقيها من اليابانيين‪ ،‬واقتصرت األفكار الجديدة الوافدة ‪-‬عندئذ‪-‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪71‬‬
‫على الفكر الدينى المسيحى الذى قامت اإلرساليات التبشيرية بترجمته إلى اليابانية وطبعه‪،‬‬
‫غير أن أثر تلك األعمال تالشى مع تحريم المسيحية وطرد اإلرساليات التبشيرية‪ ،‬وفرض‬
‫العزلة على البالد‪.‬‬

‫وكثي اًر ما تشير المصادر إلى تأثر بعض المثقفين ‪-‬فى عصر طوكوجاوا‪ -‬بالفكر الغربى‬
‫بدرجة ما‪ ،‬ولكن هذا التأثر لم يؤد إلى إيجاد تقارب بين الفكر التقليدى اليابانى‪ ،‬والفكر‬
‫الغربى الوافد إلى البالد عبر تلك النافذة الخلفية التى أبقتها حكومة طوكوجاوا مفتوحة على‬
‫العالم الخارجى‪ ،‬ونعنى بها جزيرة ديشيما التى كانت تقع أمام شاطئ نجاساكى‪ ،‬والتى‬
‫اقتصر التعامل التجارى فيها على الهولنديين‪.‬‬

‫وكان التأثر بالفكر الغربى أكثر وضوحاً عند مفكرى القرن الثامن عشر‪ ،‬وخاصة ما عرف‬
‫باسم "علوم الهولنديين" التى سمحت الحكومة (عام ‪ )1720‬بترجمة ما اتصل منها بالطب‬
‫والجغرافيا‪ ،‬والعلوم العسكرية الخاصة بصناعة األسلحة وبناء الحصون‪ ،‬ولكنها حرمت كل‬
‫ما اتصل بالفلسف ة والفكر‪ ،‬وكان هذا النوع من الكتب التى تعالج المسائل الفكرية يهرب إلى‬
‫البالد على يد التجار الهولنديين‪ ،‬ولما كان الممنوع مرغوباً‪ ،‬فقد اشتد اإلقبال على قراءة تلك‬
‫الكتب‪ ،‬وانعكس ذلك على كتابات بعض المفكرين اليابانيين المعاصرين‪.‬‬

‫وجاء التحدى الكبير الذى واجهته اليابان من القوى الغربية والذى دفعها إلى فتح بعض‬
‫موانيها للتجارة الخارجية (عام ‪ ،)1854‬ليحرك تيا اًر فكرياً شغل بقضية الساعة‪ :‬االنفتاح‬
‫على العالم‪ ،‬أو البقاء وراء أسوار العزلة‪ ،‬وقامت تلك الحركة التى دعت إلى "توقير‬
‫اإلمبراطور وطرد البرابرة" على أكتاف الساموراى‪ ،‬الذين كان جناحهم المثقف بمثابة الرافد‬
‫الرئيسى للتيار الفكرى الجديد‪ ،‬وهو تيار وطنى راح يبحث عن حل للمأزق الذى وقعت فيه‬
‫البالد‪ ،‬ورأى أن األمر يتطلب تغيي اًر سياسياً يتيح ألفكاره فرصة التطبيق العملى‪ ،‬وأعطى‬
‫ذلك التيار للحياة الفكرية فى مرحلة االنتقال من عصر طوكوجاوا إلى عصر النهضة‬
‫(مايجى) مالمحها المميزة لها‪ ،‬والتى انعكست فى أفكار الرواد من أمثال‪ :‬شوزان‪ ،‬وشونان‪،‬‬
‫وبوشيدا‪ .‬وقد اتفق ثالثتهم ‪-‬فيما صدر عنهم من كتابات‪ -‬على ضرورة اإللمام بمعارف‬
‫الغرب لتقوية البالد فى مواجهة ضغوط الغرب‪ ،‬وتفاوتت اهتماماتهم من الحرص على‬
‫توظيف العلوم الحديثة لمصلحة البالد إلى ضرورة التعرف على أفكار الغرب واالستفادة‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪72‬‬
‫منها‪ ،‬وذهب بعضهم إلى ضرورة تصفية نظام طوكوجاوا واقامة نظام ثورى جديد يستفيد‬
‫بعلوم الغرب ويعمل على بناء دولة حديثة قوية فى اليابان تضارع دول الغرب‪.‬‬

‫وقد تأثر بكتابات هؤالء المفكرين أولئك الذين أطاحوا بنظام طوكوجاوا وأقاموا نظام مايجى‪،‬‬
‫وتبنوا مشروع النهضة‪.‬‬

‫مرحلة التحضر والتنوير‬


‫يطلق المؤرخون اليابانيون على المرحلة الممتدة من ‪ 1873‬حتى ‪ 1877‬مرحلة "التحضر‬
‫والتنوير" فقد أخلى شعار توقير اإلمبراطور وطرد األجانب ‪-‬فى سنى طوكوجاوا األخيرة‪-‬‬
‫م كانه لشعار "التحضر والتنوير" الذى أطلق فى السنوات التى شهدت التوسع فى االقتباس‬
‫من الغرب‪.‬‬

‫ولعل من المالحظ أن تلك المرحلة لم تبدأ مع بداية عصر مايجى (‪ )1868‬ولكنها تأخرت‬
‫قليالً‪ ،‬وكان ميثاق العهد "الذى أعلنه اإلمبراطور أداة االنتقال إلى مرحلة التحضر والتنوير‪،‬‬
‫فقد بدأ التأثر بأسلوب الحياة الغربية فى تلك السنوات (‪ )1873 -1868‬يصبح ظاهرة‬
‫ملموسة‪ ،‬ترددت أصداؤها فى األعمال األدبية التى كانت تنضح بالسخرية من أولئك الذين‬
‫قلدوا الغرب فى أسلوب حياتهم‪.‬‬

‫وتعد رواية "آكل اللحم" للكاتب اليابانى روبون (‪ )1894 -1829‬أبرز مثال لتلك الكتابات‬
‫الناقدة‪ ،‬فقد اتخذ المؤلف بطل روايته من بين شباب تلك األيام‪ ،‬وصوره فى شكل شاب‬
‫يحمل مظلة أوروبية الصنع‪ ،‬ويتمنطق بساعة ذات سلسلة مطلية بالذهب‪ ،‬يرتاد المطاعم‬
‫الجديدة التى أقيمت على الطراز الغربى لتقدم وجبات شهية من اللحم البقرى الذى أقبل عليه‬
‫الشباب إقباالً شديداً فى تلك األيام‪ ،‬بعد أن كان اليابانيون يأنفون من أكل اللحم ألنه يتنافى‬
‫مع تعاليم البوذية‪ ،‬ويعتقدون أن من يأكله ال يرقى إلى مستوى البشر‪ ،‬وصفف بطل الرواية‬
‫شعره على طريقة أبناء الغرب‪ ،‬وحرص على أن يغسل يديه بالصابون المعطر‪ ،‬كما كان‬
‫يتعطر بماء الكولونيا وهو يخرج ساعته من جيبه ‪-‬من حين آلخر‪ -‬ال ليعرف الوقت‪ ،‬ولكن‬
‫ليراها الناس فى يده‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪73‬‬
‫وامتألت شوارع طوكيو بأولئك الذين يرتدون مالبس غريبة‪ ،‬تجمع بين الزى اليابانى التقليدى‬
‫والزى الغربى وشاعت مصطلحات جديدة تداولها الناس فى أحاديثهم اليومية‪ ،‬مثل (التجارة)‬
‫و(ا لتوظف فى الحكومة) تعبر عن التطلعات الجديدة لشباب العهد الجديد‪ ،‬وحتى األمهات‬
‫كن يغنين ألطفالهن أغانى شاعت ‪-‬فى تلك األيام‪ -‬تدعو للطفل أن يكبر لتراه أمه موظفاً‬
‫حكومياً من ذوى الرواتب الشهرية‪ ،‬وأصبحت عادات اليابانيين ‪-‬التى درجوا عليها باألمس‪-‬‬
‫"عادات بربرية"‪ ،‬وحاولوا اقتباس عادات الغرب التى كانت (بربرية) باألمس‪ ،‬فأصبحت اليوم‬
‫تمثل (المدنية) و(العصرية)‪.‬‬

‫وفى يوليو ‪ ،1873‬أسس جماعة من المثقفين اليابانيين جمعية أدبية فكرية‪ ،‬كان لها أثرها‬
‫فى الفكر اليابانى فى تلك المرحلة هى "جمعية العام السادس من عصر مايجى" التى‬
‫تزعمها أرينورى‪ ،‬وكان يشغل منصب القائم باألعمال فى الواليات المتحدة األمريكية‪ ،‬حيث‬
‫بهره نشاط الجمعيات العلمية واألدبية هناك‪ ،‬فحمل فكرتها معه عندما عاد إلى بالده فى تلك‬
‫السنة‪ ،‬وفاتح بعض أصدقائه من المثقفين فى إقامة جمعيات يابانية مماثلة‪ ،‬وكان من بين‬
‫هؤالء‪ :‬نيشيمورا‪ ،‬وشندو‪ ،‬وأمانى‪ ،‬وفوكو ازوا‪ ،‬وغيرهم من أقطاب الجيل المخضرم من‬
‫المثقفين الذى نشأ على الثقافة التقليدية‪ ،‬ثم تأثر بالتيارات الفكرية التى سادت فى مرحلة‬
‫االنتقال ونهل من الثقافة الغربية فى مرحلة التحضر والتنوير‪.‬‬

‫ودرجت الجمعية على عقد اجتماع عام فى أوائل كل شهر‪ ،‬وآخر فى السادس عشر من‬
‫الشهر بأحد المطاعم الغربية‪ ،‬حيث يتناولون العشاء معاً‪ ،‬ثم يلقى أحدهم محاضرة تعالج‬
‫قضية فكرية أو أدبية أو علمية‪ ،‬أو يعرض لنظرية من النظريات الغربية فى تلك المجاالت‪،‬‬
‫واختلف إلى تلك االجتماعات الكثير من موظفى الحكومة والمثقفين لالستماع إلى‬
‫المحاضرات والمشاركة فى المناقشات‪.‬‬

‫وما كاد يمر عام واحد على تأسيس الجمعية‪ ،‬حتى أصدرت "مجلة السادس من عصر‬
‫مايجى" لتصبح منب اًر رائداً فى الفكر الحديث‪ ،‬ولتعبر عن أفكار الرواد الذين بشروا بالفكر‬
‫الغربى‪ ،‬وكانت المجلة تصدر نصف شهرية (فبراير‪ -‬أكتوبر ‪ ،)1874‬ثم أصبحت تصدر‬
‫كل عشرة أيام اعتبا اًر من نوفمبر‪ .‬وبلغ حجم توزيعها ثالثة آالف نسخة‪ ،‬وهو رقم قياسى‪،‬‬
‫إذا علمنا أن أكبر صحيفة يومية كانت توزع ‪-‬عندئذ‪ -‬ثمانية آالف نسخة يومياً‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪74‬‬
‫والى أعضاء "جمعية العام السادس من عصر مايجى" يرجع الفضل فى إثراء اللغة اليابانية‬
‫بمفردات تعبر عن مصطلحات جديدة‪ ،‬بل يرجع إلى فوكو ازوا الفضل فى ابتداع لفظ‬
‫(خطابة) و(مناقشة) ولم يكن لهما وجود بين مفردات اللغة من قبل‪ ،‬وبرز من بين أعضاء‬
‫الجمعية من برعوا فى الخطابة‪ ،‬وأقيمت أول قاعة اجتماعات كبرى بجامعة كيو (التى‬
‫أسسها فوكو ازوا) عام ‪.1875‬‬

‫وكان من بين أعضاء الجمعية ناكامو ار (‪ )1891 -1832‬الذى اعتنق المسيحية‪ ،‬وروج‬
‫لفكرة التسامح الدينى وحرية العقيدة على صفحات مجلة الجمعية‪ ،‬كما كان رئيسها ‪-‬‬
‫أرينورى‪ -‬رائد الدعوة إلى تحرير المرأة اليابانية‪ ،‬وطالب بضمان حقوقها فى سلسلة من‬
‫المقاالت نشرها على صفحات مجلة بعنوان‪" :‬فى الزوجات والمحظيات" وشاركه فوكو ازوا‬
‫ال‬
‫الرأى فى بعض مقاالته التى ساهم بها فى الدعوة إلى تحرير المرأة‪ ،‬كما كتب شندو مقا ً‬
‫حول "مساواة المرأة بالرجل فى الحقوق"‪.‬‬

‫كذلك دعا أرينورى ‪-‬الذى اعتنق المسيحية‪ -‬إلى حرية العقيدة‪ ،‬مؤكداً أنها تأتى فى مقدمة‬
‫الحريات الشخصية التى يجب أن تتوفر للفرد‪ ،‬وعندما أصبح وزي اًر للتعليم‪ ،‬فتح مدارس‬
‫الحضانة لألطفال‪ ،‬وركز جهوده على تعليم البنات‪ ،‬وأوفد أول بعثة من الطالبات اليابانيات‬
‫للدراسة فى أمريكا‪.‬‬

‫أما فوكو ازوا‪ ،‬فكان رائد الفكر الليبرالى فى عصر مايجى بال منازع‪ .‬ونستطيع أن نميز بين‬
‫ثالث مراحل تطور خاللها فكره‪ :‬المرحلة األولى (‪ )1869 -1862‬ركز خاللها على‬
‫التعريف بالحضارة الغربية من خالل بعض الكتب التى ذاع صيتها فى تلك الفترة مثل "قدوم‬
‫وذهاب األجانب" و"األحوال فى الغرب" و"دليل السياحة فى الغرب" و"العلوم الطبيعية‬
‫المصورة" و"حول جميع البالد" وفى المرحلة الثانية (‪ )1877 -1869‬اهتم فوكو ازوا بإبراز ما‬
‫يمكن أن تفيد به اليابان من حضارة الغرب وعلومه‪ ،‬فكتب فى تلك المرحلة كتابان مهمان‬
‫هما‪" :‬تشجيع المعرفة" و "إلمام بالحضارة"‪ ،‬أما المرحلة الثالثة واألخيرة (‪ )1901 -1877‬فقد‬
‫وضع فيها صيغة يابانية للفكر الحديث‪ ،‬فى محاولة للتوفيق بين الموروث والمكتسب من‬
‫األفكار‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪75‬‬
‫وذهب فوكو ازوا إلى أن الغرب يمتاز عن الشرق باعتماده على المنهج العقلى والرياضيات‪،‬‬
‫واهتمامه ببث روح االستقالل واحترام حرية الفرد‪ ،‬ومن ثم رحب فوكو ازوا بالمدنية الغربية من‬
‫خالل ما وجهه من نقد للمجتمع اإلقطاعى فى أواخر عصر طوكوجاوا‪ ،‬ورأى أن التاريخ‬
‫يكتسب مغزاه من كونه تاريخاً للحضارة‪ ..‬وحاول أن يفسر أسباب تخلف الشرق عن اللحاق‬
‫بالغرب حضارياً من خالل هذا المنظور‪ ،‬فذهب إلى أن التاريخ ينقسم إلى ثالث مراحل‪:‬‬
‫التوحش‪ ،‬والبربرية‪ ،‬والمدنية‪ ،‬وتشمل المرحلة األولى حياة الترحال والصيد وبداية الزراعة‪،‬‬
‫أما الثانية فتشمل المجتمع الزراعى حتى قيام اإلقطاع‪ ،‬أما المرحلة األخيرة‪ ،‬فهى مرحلة‬
‫المدنية المتقدمة القائمة على أساس العلم والتى تمثل المجتمع الحديث‪.‬‬

‫وطبق فوكو ازوا ذلك على بالد العالم‪ ،‬فرأى أن أفريقيا تعيش مرحلة التوحش‪ ،‬والصين‬
‫واليابان وتركيا تعيش مرحلة البربرية‪ ،‬وأن أوروبا الغربية وأمريكا تعيشان مرحلة المدنية‪ ،‬فإذا‬
‫أرادت اليابان أن تأخذ بأسباب التقدم‪ ،‬فإن عليها أن تطرح عنها مرحلة البربرية وتجد السير‬
‫فى طريق التمدن‪ ،‬وتجعل المدنية الغربية هدفها األسمى‪ ،‬وتتخذ من الغرب مثلها األعلى‪.‬‬

‫وركز فوكو ازوا على أهمية التجربة كسبيل للتقدم ألن "التقدم ال يتحقق إال من خالل مئات‬
‫وآالف التجارب"‪ ،‬والتجارب تقوم على "الشك" ومن خالل الشك والتجربة تطورت الحضارة‬
‫الغربية‪ .‬وال يتحقق استقالل بلد ما‪ ،‬إذا لم يتحقق استقالل الفرد فيه‪ ،‬ولما كان الفرد اليابانى‬
‫محروماً من استقالليته مرتبطاً بالجماعة‪" ،‬فال نستطيع القول أن فى اليابان أمة‪ ،‬ولكن هناك‬
‫حكومة‪ ..‬ألن ذلك (فقدان الفرد اليابانى الستقالله) جعل اليابان محرومة منذ القدم من‬
‫إمكانية تكوين أمة"‪ ،‬والعالقة بين الشعب والحكومة عالقة تعاقدية قائمة على األخذ‬
‫والعطاء‪ ،‬وكما أن على الشعب واجبات‪ ،‬فالبد أن تكون له حقوق‪ ،‬وأبرزها حق المشاركة فى‬
‫السلطة‪ ،‬فليس الناس عبيداً للحكومة‪ ،‬وما الحكومة إال أداة لخدمة الشعب‪ ،‬ويجب أن يكون‬
‫التمايز بين الناس قائماً على أساس ما يحصلونه من علم‪.‬‬

‫وينتقل فوكو ازوا من هذا اإلطار الفكرى‪ ،‬إلى تحليل النظام السياسى فى اليابان فى كتابه‪:‬‬
‫"فى العائلة اإلمبراطورية" (نشر عام ‪ ،)1882‬فذهب إلى أن احترام األسرة اإلمبراطورية شئ‬
‫والمؤسسات السياسية شئ آخر‪ ،‬فال يجب الربط بينهما‪ ،‬ويجب أن يظل اإلمبراطور بعيدًا‬
‫عن التدخل فى معترك السياسة‪ ،‬حتى تظل العائلة اإلمبراطورية محتفظة بكرامتها وقدسيتها‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪76‬‬
‫فوظيفة الحكومة تشريعية وتنفيذية‪ ،‬وال شأن لها بمشاعر الناس‪ ،‬وال يجب أن تسعى للتحكم‬
‫فى تلك المشاعر‪ ،‬ويستطيع اإلمبراطور أن يفعل الكثير ألبناء شعبه إذا صرف اهتمامه إلى‬
‫تشجيع المعرفة والفنون‪.‬‬

‫وأشار فوكو ازوا ‪-‬ضمناً‪ -‬فى كتابه "فى توقير اإلمبراطور" (‪ )1888‬إلى أن اإلمبراطور يعلو‬
‫فوق شئون الحكم‪ ،‬وال يشارك فيه مباشرة‪ ،‬فالسياسة هى أحد جوانب الحياة فى اليابان‪،‬‬
‫ويجب أن يهتم اإلمبراطور بجميع جوانب حياة أمته التى تعد عائلته‪ ،‬فال يركز على جانب‬
‫معين على حساب الجوانب األخرى‪ ،‬ولما كان الناس يبجلون اإلمبراطور‪ ،‬فإن "هذا التبجيل‬
‫يجب أن يقوم على أساس قانونى"‪.‬‬

‫ويتجلى أثر الفكر الليبرالى فى تكوين فوكو ازوا ‪-‬بوضوح‪ -‬فى مفهوم التطور الحضارى‬
‫عنده‪ ،‬فهو يرى أن هذا التطور يؤدى إلى زيادة تعقد العالقات اإلنسانية وتشابكها على‬
‫المستويين المحلى والعالمى سواء بسواء‪ ،‬ويصحب هذا التطور تشعب الوظائف االجتماعية‬
‫لكل الفئات التى تعيش فى المجتمع‪ ،‬فال تستقر األوضاع االجتماعية على حال واحد‪،‬‬
‫وتسقط كل الحواجز التى تصنف الناس حسب مولدهم‪ ،‬لذلك يجب النظر إلى الفرد من‬
‫خالل أعماله‪ ،‬وليس من خالل أصله االجتماعى‪ ،‬فعلى حد تعبيره‪" :‬ليست أعمال كل من‬
‫انحدروا من أصول رفيعة أعماال طيبة بالضرورة‪ ،‬وليست أعمال كل من انحدروا من أصول‬
‫متواضعة أعماالً سيئة بالضرورة" وفى هذا نقد صريح للتراث الثقافى اليابانى الذى يبرز قيم‬
‫األسرة‪ ،‬ويركز على الروابط االجتماعية ذات الدائرة المغلقة‪ ،‬وال يعتبر الفرد إال فى نطاق‬
‫الجماعة التى ينتمى إليها‪ -‬ففكرة المساواة اإلجتماعية‪ ،‬وتقييم الفرد على أساس عمله‪-‬‬
‫بغض النظر عن أصله االجتماعى إنما كانت فكرة جديدة على العقلية اليابانية فى ذلك‬
‫العصر‪.‬‬

‫لذلك كان من الطبيعى أن يشن أنصار المحافظة على التراث التقليدى حملة شعواء ضد‬
‫فوكو ازوا‪ ،‬تصدى األخير لها فرد عليها بمقال نشر بجريدة تشويا‪ ،‬جاء فيه‪" :‬إنهم يخلطون‬
‫بين األشياء بطريقة عشوائية‪ ..‬فهم يفترضون أن المساواة فى الحقوق بين جميع أفراد الشعب‬
‫مأخوذة من المبادئ الجمهورية‪ ،‬والجمهورية مأخوذة من المسيحية‪ ،‬والمسيحية ثقافة غربية‪..‬‬
‫وهم يفترضون أنه ما دامت ثقافة فوكو ازوا غربية‪ ،‬فإن نظريته الخاصة بحقوق الشعب‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪77‬‬
‫مستمدة من المسيحية والمبادئ الجمهورية‪ ..‬ويرجع ذلك إلى رؤيتهم األشياء من جانب‬
‫واحد‪ ..‬فتاجر الخمر ليس بالضرورة عاقرها‪ ،‬وصانع الحلوى ليس بالضرورة آكلها‪ ،‬وال يجب‬
‫أن نحكم على التاجر بمجرد رؤيتنا للبضاعة التى يضعها فى متجره‪ "..‬وبذلك يشير فوكو ازوا‬
‫إلى أن األفكار التى يطرحها على مواطنيه‪ ،‬تلبى حاجة المجتمع‪ ،‬تماماً مثل البضاعة التى‬
‫يعرضها التاجر لتلبية طلب السوق‪ ،‬وينفى عن نفسه تهمة االنقياد التام لألفكار الغربية‪.‬‬

‫مرحلة الحرية وحقوق الشعب‬


‫لم تنته مرحلة "التحضر والتنوير" بنهاية "جمعية السادس من عصر مايجى" فقد استمرت‬
‫الفكرة الليبرالية حتى عام ‪ ،1887‬ولكنها اتخذت طابع التطبيق العملى‪ ،‬وتحولت إلى حركة‬
‫سياسية ‪-‬طوال السنوات العشر الممتدة من ‪ 1877‬حتى ‪ -1887‬على يد الجيل الجديد من‬
‫الشباب الذى تأثر بما طرحه الجيل المخضرم من أفكار ليبرالية على صفحات "مجلة‬
‫السادس من عصر مايجى" التى كانت نبراساً لعدد من المجالت الثقافية والفكرية ظهرت فى‬
‫تلك الفترة‪ ،‬وتميزت عن بعضها البعض من حيث القضايا التى تصدت لها‪ ،‬وان اتفقت‬
‫جميعاً من حيث الغاية التى استهدفت تحقيقها‪.‬‬

‫وحرر معظم تلك المجالت مثقفون ممن اعتنقوا المسيحية‪ ،‬وبشروا بحقوق الشعب من‬
‫منطلق إيمانهم بحرية العقيدة‪ ،‬وتعد "مجلة الدنيا" التى حررها كوزاكى‪ ،‬وبدأ ظهورها عام‬
‫‪ ،1880‬امتداداً لمجلة "السادس من عصر مايجى" من حيث االهتمام بالفكر الليبرالى‬
‫والترويج لحقوق اإلنسان‪ ،‬ونافست مجلة "صديق األمة" التى ظهرت أواخر الثمانينيات‬
‫ومجلة "الشمس" التى ظهرت فى أواخر التسعينيات‪ ،‬ولم تكن "مجلة الدنيا" مجرد مجلة‬
‫مسيحية ولكنها عنيت بتقديم الفكر السياسى الغربى‪ ،‬وعرف الفكر االشتراكى طريقه إلى‬
‫اليابان عبر صفحاتها‪ ،‬بينما ركزت مجلة "الفنون والعلوم الشرقية" اهتمامها على نظرية‬
‫التطور (النشوء واالرتقاء) وبذلك عارضت نظرية حقوق اإلنسان التى استندت إليها حركة‬
‫الحرية وحقوق الشعب‪ ،‬وقد اتخذ مفهوم مبدأ (البقاء لألصلح) دعامة للتيار الوطنى‬
‫المتطرف‪ ،‬كان سوجيوا ار ‪-‬أحد مؤسسى هذه المجلة‪ -‬من كبار منظرى االتجاه الوطنى‬
‫المتطرف‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪78‬‬
‫وهكذا حفل ذلك العقد (‪ )1887 -1877‬بمختلف االتجاهات السياسية والفكرية‪ :‬من‬
‫الليبرالية إلى الدارونية إلى الفكر المسيحى‪ ،‬ولكن التيارات السياسية كانت تحتل المكان‬
‫األول ‪-‬من حيث األهمية‪ -‬تليها التيارات المسيحية‪ .‬وبمرور الزمن غلب على الحياة الفكرية‬
‫اإلحساس بأن اإلنسان ليس حيواناً سياسياً فحسب‪ ،‬بل هو مخلوق له وجدان وروح‪ ،‬ولديه‬
‫قدرات ومهارات وفنون‪ ،‬كما أن له تاريخاً‪.‬‬

‫ومن المالحظ أن الحياة الفكرية ‪-‬فى تلك الحقبة‪ -‬دارت حول حركة المطالبة بالحياة‬
‫النيابية‪ ،‬ثم أصبحت ترتكز ‪-‬بعد عام ‪ -1887‬حول قضية السيادة (أو مصدر السلطات)‬
‫بعدما اقترب موعد صدور الدستور‪ ،‬واختلف المفكرون حول حق السيادة‪ ،‬وما إذا كان‬
‫الشعب وحده مصدر السلطات‪ ،‬أم أن السيادة قسمة بين الشعب والحاكم‪ ،‬أم أن اإلمبراطور‬
‫وحده مصدر السلطات‪ ،‬أو ‪-‬بعبارة أخرى‪ -‬دار الجدل حول مفهوم (السيادة الشعبية)‬
‫و(السيادة القومية)‪ ،‬وترددت أصداء ذلك الجدل على صفحات جريدتى "أخبار طوكيو‬
‫ويوكوهاما" التى مثلت االتجاه األول‪ ،‬و"طوكيو اليومية" التى عبرت عن االتجاه اآلخر‪.‬‬

‫الفكرة اليابانية والفكرة الشرقية‬


‫وعلى حين عال مد العمل السياسى خالل الفترة ‪ ،1887 -1877‬انحسر ذلك المد خالل‬
‫العقد التالى (‪ )1897 -1887‬بصورة تدريجية‪ ،‬ورسخت أقدام الرأسمالية المستندة إلى حماية‬
‫الدولة والتى أعلنت شعار العودة إلى الفكر اليابانى التقليدى‪ ،‬ومن ثم كان ظهور الشعور‬
‫الوطنى المتطرف‪ ،‬أو ما يمكن أن نطلق عليه "الفكرة اليابانية"‪ ،‬وحفلت تلك المرحلة بقضايا‬
‫القيم الخلقية والدينية‪ ،‬وشهدت يقظة نوع من اإلحساس بالذات عبر عن نفسه من خالل‬
‫تطور كل من الشعور الفردى والوعى القومى‪.‬‬

‫وساد فى تلك المرحلة مزيج من االتجاهات اإلصالحية واالتجاهات الرجعية‪ ،‬نستطيع أن‬
‫نتبين من خالل الشعبية التى حظى بها شعار "اليابان الجديدة"‪ ،‬ثم برز االتجاه الوطنى‬
‫المتطرف فى أواخر المرحلة‪ ،‬كذلك امتازت الحقبة بإحياء الفنون واآلداب اليابانية العريقة‬
‫التى كادت تهمل منذ بداية عصر مايجى‪.‬‬

‫وشهدت المرحلة مولد عدد من الجمعيات الفكرية والثقافية من بينها تلك الجمعية التى‬
‫تأسست عام ‪ 1888‬وكانت تصدر مجلة "اليابانيون" التى أصبحت تعرف ‪-‬فيما بعد‪ -‬باسم‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪79‬‬
‫"اليابان واليابانيون"‪ ،‬وفى عام ‪ 1907‬أصبحت هذه الجمعية تعرف باسم "جمعية الفكر‬
‫السياسى" ويعنينا هنا الوقوف على أفكار ميباكى محرر مجلة "اليابانيون" وكوجا محرر‬
‫جريدة "اليابان" التى ظهرت عام ‪ ،1889‬وأفكار الرجلين تعبر عن االتجاه الوطنى المتطرف‬
‫(السوفيتى)‪.‬‬

‫أما كوجا‪ ،‬فقد صاغ نظرية خاصة بالقومية‪ ،‬كانت وسط ًا بين الشوفينية والقومية التى تدور‬
‫حول محور الفرد التى عرفتها ليبرالية القرن الثامن عشر‪ ،‬وذهب إلى ضرورة تأسيس حزب‬
‫وطنى‪" ،‬فالبيت اإلمبراطورى والحكومة ينتميان إلى األمة كلها‪ ،‬وعلى هذا النحو تحقق‬
‫الوحدة القومية‪ ،‬والحزب الوطنى يرمى إلى تجنب األمة شر االنقسام والذاتية‪ ،‬ويهدف إلى‬
‫جعل السلطة السياسية القومية ترتكز على الرأى العام‪ ،‬وهو يحافظ على القوى القومية‪،‬‬
‫ويعمل على تطويرها"‪ ،‬وذكر فى كتابه "أسس السياسة" (عام ‪ )1893‬أن "الحكومة‬
‫الدستورية" ليست إال وسيلة لتحقيق غاية‪ ،‬وال تعد غاية فى حد ذاتها فى إطار الحكومة‬
‫القومية‪.‬‬

‫أما ميباكى‪ ،‬فقد رأى فى الدولة "كائن حى عظيم"‪ ،‬وليست مجرد "شركة" قائمة على أساس‬
‫تعاقدى‪ ،‬إنها "الدولة اليابانية التاريخية"‪ ،‬وواجبات األمة ‪-‬عنده‪ -‬تفوق ما لها من حقوق‪،‬‬
‫لذلك كان على اليابانيين أن يبذلوا أقصى الجهد ألداء واجباتهم‪ ،‬ألن ذلك هو الطريق الوحيد‬
‫لتحقيق السعادة‪.‬‬

‫وقد أثبت اليابانيون دائماً أنهم أهل "إخالص‪ ،‬وخير‪ ،‬وجمال" ولكن ميباكى لم يغفل اإلشارة‬
‫إلى عيوب اليابانيين‪ ،‬وفى مقدمتها ‪-‬فى رأيه‪ -‬الغطرسة‪ ،‬وسيطرة أمراء المال‪ ،‬وهو ما‬
‫يجب أن يتخلص اليابانيون منه‪.‬‬

‫وبذلك وضع هذان المفكران جذور "الفكرة اليابانية" التى نمت وترعرعت فى مرحلة تالية‪،‬‬
‫وان كان اهتمامها قد انصرف إلى "الفكرة الشرقية" التى تعد ‪-‬عندهما‪ -‬نقيضاً للرأسمالية‬
‫واإلمبريالية الغربية‪ ،‬وتبحث فى كيفية حماية اليابان والشرق من خطر الغرب وأطماعه‪،‬‬
‫وكان ذلك يتسق مع سياسة اليابان عندئذ‪ ،‬حيث كانت تلتزم جانب الدفاع‪ ،‬ولم تتحول إلى‬
‫التوسع إال فى أواخر تلك الحقبة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪80‬‬
‫وعبر أوكاكو ار عن "الفكرة الشرقية" فى كتاباته‪ ،‬وخاصة فى "مثاليات الشرق" وفى "يقظة‬
‫الشرق" فلم يكن أوكاكو ار يرتاح إلى تفوق الغرب على الشرق‪ ،‬وقدرته على شن العدوان‬
‫ولكن لم يدر بخلده أن يغزو الشرق الغرب‪ :‬فللشرق ‪-‬عنده‪ -‬شخصيته الخاصة به‪ ،‬كما أن‬
‫لليابان شخصيتها المميزة فى إطار الشرق‪ ،‬لذلك رأى ضرورة احتفاظ الفن اليابانى بسماته‬
‫الخاصة "ألنه يقدم اليابان إلى العالم"‪.‬‬

‫وأيقن أوكاكو ار من صحة نظريته عندما زار الصين‪ ،‬واكتشف أن الفن اليابانى ال يعتمد على‬
‫تراث الصين فى كل شئ‪ ،‬وأنه يمكن أن يكون فناً مستقالً‪ ،‬وعندما زار الهند (‪ ،)1901‬شعر‬
‫أن اليابان تحوى الكنوز التاريخية للحضارة اآلسيوية‪ ،‬وأن تاريخ الفن اليابانى هو تاريخ‬
‫للمثل اآلسيوية‪ ،‬مما يقدم الدليل على "وحدة آسيا"‪ ،‬لذلك رأى أوكاكو ار أن من العار على‬
‫اليابانيين أن يبخسوا أنفسهم حقها‪ ،‬ويستهينوا بما لديهم من إمكانيات‪ ،‬وأن عليهم أن يحققوا‬
‫ذاتهم‪ ،‬وال يندفعوا نحو تقليد الغرب تقليداً أعمى‪" ،‬ألن الشجرة ال تستمد قوتها إال من قوة‬
‫بذرتها"‪ ،‬ورغم أنه يقر بما للعصر الحديث من فضل إبراز مفهوم الحرية الفردية‪ ،‬نجده‬
‫يمتدح ما أسماه "الحرية الشرقية" حيث يعيش الناس تحت السحاب‪ ،‬يفترشون الجبال‪،‬‬
‫ويعتنقون قيماً أعلى مستوى من القيم الغربية القائمة على الحريات الشخصية " فعظمة آسيا‬
‫تتجلى فى ذلك االنسجام الذى يجمع بين اإلمبراطور والفالح"‪.‬‬

‫وذهب أوكاكو ار إلى أن ثمة صراعاً مستم اًر بين علم الغرب ومثالية آسيا وفنها‪ ،‬وع از ما‬
‫اعترى التذوق الفنى من ضعف ‪-‬فى عصر مايجى‪ -‬إلى انتشار الصناعة والترويج‬
‫للديمقراطية وتحالف المسيحية مع أسلحة الدمار‪ ،‬ولذلك تحتاج آسيا واليابان ‪-‬فى رأيه‪ -‬إلى‬
‫نوع من التنسيق الداخلى لتالفى االزدواجية‪ ،‬حتى تصبح قادرة على مقاومة المؤثرات‬
‫الغربية‪.‬‬

‫ورغم أن أوكاكو ار كان ناقداً فنياً‪ ،‬ال يسعى لوضع نظرية سياسية تتصل بآسيا‪ ،‬لكنه يسوق‬
‫األفكار فى إطار تحليل الظواهر الحضارية التى حظيت باهتمامه‪ ،‬إال أن الفاشية اليابانية‬
‫جعلت منه ‪-‬فيما بعد‪" -‬نبى النظام الجديد لشرق آسيا العظمى"‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪81‬‬
‫فكرة تقديس الدولة‬
‫وشهد العقد األخير من عصر مايجى (عصر النهضة اليابانية) علو مد "الفكرة اليابانية"‬
‫نتيجة التوسع اإلمبريالى الذى شنته اليابان على جيرانها‪ ،‬وتحولت تلك الفكرة إلى تقديس‬
‫كامل للدولة‪ ،‬مهد له القانون المدنى الذى صدر عام ‪ ،1898‬وجعل ألرباب العائالت اليد‬
‫العليا على أفرادها‪ ،‬فال يستطيع أحد أفراد األسرة أن يبرم أم اًر دون الحصول على موافقة رب‬
‫األسرة‪ ،‬بما فى ذلك الزواج واختيار بيت الزوجية‪ ،‬وأصبح لمن يخلف (كبير العائلة) فى‬
‫الرياسة حق وراثة ثروة األسرة باعتباره راعياً لها‪ ،‬وجعل لألب سلطة مطلقة على زوجته‬
‫وأبنائه‪ ،‬وظل هذا القانون سارياً حتى نهاية الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫وكان من الطبيعى أن يتجه المشرع إلى وضع كل السلطات فى يد أرباب العائالت فيما‬
‫يتصل بشئون عائالتهم‪ ،‬فقد كان ذلك يعكس التراث اليابانى التقليدى‪ ،‬كما يعكس النظام‬
‫السياسى الذى يجعل من اإلمبراطور كبي اًر للعائلة اليابانية (األمة) وبذلك تفرقت السبل‬
‫بالتجربة اليابانية ونظام الدولة الحديثة بالمفهوم الغربى‪.‬‬

‫وبرزت ثالثة اتجاهات فى الفكر القومى اليابانى‪ ،‬الذى ضرب بجذوره فى أعماق التراث‬
‫التقليدى‪ ،‬عبرت عن المفهوم العائلى للدولة‪ ،‬نجملها فيما يلى‪:‬‬

‫‪ .1‬اتجاه يعد "العائلة" ركيزة الدولة اليابانية‪ ،‬ويرى فى قيم المجتمع وأخالقياته امتداداً لقيم‬
‫األسرة وأخالقيتها‪ ،‬فينادى بالوالء للحاكم باعتباره واجباً أخالقياً يعادل الوالء لرب‬
‫األسرة‪ ،‬ويجعل من الشعور الوطنى نوعاً من االنتماء العائلى‪.‬‬

‫‪ .2‬اتجاه يربط بين الوالء للدولة والعائلة‪ ،‬وبين "تقديس األسالف" الذى ركزت عليه‬
‫التربية ‪-‬فى ذلك الحقبة‪ -‬على نحو يقوم على الربط بين حقائق التاريخ واألساطير‪،‬‬
‫فاليابان "بلد اآللهة" تحكمها أسرة مقدسة‪ ،‬انحدرت من صلب اآللهة‪.‬‬

‫‪ .3‬اتجاه ينسج التراث األسطورى فى صورة "عبادة الدولة" مستفيداً بما أستقر فى وجدان‬
‫الناس من عقائد متوارثة بعد صبغها بالصبغة السياسية‪.‬‬

‫وساعد على رواج هذه االتجاهات والتفاف الناس حولها‪ ،‬نتصار اليابان فى الحرب‬
‫الصينية‪ -‬اليابانية‪ ،‬والحرب الروسية‪ -‬اليابانية‪ ،‬واتجاه البعض إلى تفسير تلك االنتصارات‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪82‬‬
‫فى إطار فكرة "األمة المقدسة" وعبر عن تلك االتجاهات هوزومى الذى صاغ اإلطار‬
‫النظرى لفكرة تقديس الدولة‪.‬‬

‫انحدر هوزومى من أسرة من الساموراى‪ ،‬وتأثر بوالده الذى كان معلماً للتراث القومى‪،‬‬
‫وتخرج فى جامعة طوكيو اإلمبراطورية عام ‪ ،1883‬ثم أوفد إلى ألمانيا ‪-‬فى العام التالى‪-‬‬
‫لدراسة النظم السياسية والتاريخ‪ ،‬فتأثر بالفكر القومى األلمانى‪ ،‬ولكنه نظر إليه من زاوية‬
‫فكرية‪ ،‬ساهم التراث اليابانى التقليدى فى صياغتها بنصيب أكبر مما ساهم به الفكر الغربى‪،‬‬
‫وعبر عن آرائه على صفحات جريدتى "طوكيو اليومية" و"بريد المثقف"‪ ،‬فرفض النظريات‬
‫الخاصة بسيادة الشعب منذ كان طالباً بجامعة طوكيو‪.‬‬

‫وبعد عودته إلى اليابان (‪ )1889‬نشر مقاالً شهي اًر بعنوان "عقيدة الدولة المطلقة" فسر فيه‬
‫الدستور اليابانى من وجهة نظر الفكر السياسى األلمانى‪ ،‬فامتدح الشمولية واستهجن االتجاه‬
‫الفردى‪ ،‬ونادى بضرورة ذوبان الفرد فى الدولة‪ ،‬وناقش ‪-‬فى مقال الحق‪ -‬القانون المدنى‬
‫اليابا نى‪ ،‬فامتدح تركيزه على "األسرة"‪ ،‬ورأى فيه مفتاح الخير للبالد‪ ،‬ألن اتجاه المشرع إلى‬
‫إبراز مكانة الفرد من قبل‪ ،‬ساعد ‪-‬فى رأيه‪ -‬على نمو الرأسمالية اليابانية بالصورة التى أدت‬
‫إلى اتساع الهوة بين الغنى والفقر‪ .‬ولما كانت اليابان "بلد عبادة األسالف‪ ،‬فنظامها‬
‫االجتماعى يقوم على العائلة‪ ،‬ومن ثم تنبع السلطة من قانون األسرة‪ ،‬وما الدولة إال امتداد‬
‫لنظام العائلة"‪.‬‬

‫وتبلور فكر هوزومى ‪-‬عند عام ‪ -1896‬حول فكرة تقديس الدولة التى عبر عنها فى أحد‬
‫مقاالته بقوله‪ ..." :‬إن بالدنا كانت منعزلة ‪-‬فى رأيى‪ -‬منذ زمن بعيد‪ ،‬ولذلك لم تربطها‬
‫عالقة صداقة بالدول األجنبية‪ ،‬واستطاعت بالدنا بفضل مشاعرها القومية الفريدة أن تحتفظ‬
‫بنظامها االجتماع ى والسياسى لما يربو على األلف عام‪ .‬وتلك المثل الفريدة هى السبل التى‬
‫تشكلت عن طريقها عادات وتقاليد وقيم مجتمعنا‪ ،‬وهى مثل ترجع أصولها إلى عقيدة‬
‫أسالفنا‪ ،‬ومن ثم يح تل اإلمبراطور فى بالدنا مكانة رب العائلة‪ ،‬وتمتد مبادئنا الخلقية‬
‫العظيمة المستمدة من أسالفنا إلى من يرجع إليهم أصل أمتنا وطاعة من يمثل أسالفنا ‪-‬رب‬
‫عائلتنا‪ -‬هو ما يجب أن ندين به لألسرة اإلمبراطورية التى يرجع إليها أصل أمتنا"‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪83‬‬
‫وذهب إلى أن تطبيق المفهوم اليابانى للعائلة يضفى قدسية على اإلمبراطور‪ ،‬الرتباطه‬
‫بعبادة األسالف التى تشكل ركيزة العقيدة اليابانية‪" ،‬فحول العرش تتجمع أرواح أجدادنا"‬
‫وبذلك ربط هوزومى بين الدولة القومية الحديثة‪ ،‬ومفهوم الوالء اإلقطاعى المستمد من‬
‫الكنفوشية الذى كان ال يزال قوياً فى اليابان‪ ،‬وهو ما يعنيه بقوله‪" :‬الوالء لإلمبراطور ‪-‬رب‬
‫العائلة اليابانية‪ -‬وطنية وحب للوطن"‪.‬‬

‫وانعكست أفكار هوزومى على برامج التعليم اليابانى فى السنوات األخيرة من عصر مايجى‪،‬‬
‫وطوال عصر طايشو‪ ،‬فاهتمت و ازرة التعليم بإدخال مناهج التربية الخلقية فى جميع مراحل‬
‫التعليم‪ ،‬ووضعت لها كتب دراسية خاصة أشرف هوزومى على تأليفها‪ ،‬ومن ثم شارك فى‬
‫وضع أصول االتجاهات الشوفينية التى غلبت على الحياة الفكرية السياسية فى اليابان حتى‬
‫نهاية الحرب العالمية الثانية وخلقت تربة صالحة لنمو الفاشية‪.‬‬

‫وهكذا كان التطور الفكرى فى عصر مايجى (عصر النهضة) يموج بتيارات عديدة‪ ،‬بعضها‬
‫يعكس المؤثرات الغربية كالليبرالية والمسيحية واالشتراكية وهى تيارات غلبت على الحياة‬
‫الفكرية فى النصف األول من ذلك العصر‪ ،‬فى مرحلتى "التحضر والتنوير" "وتقوية الجيش‬
‫واثراء األمة" وهما المرحلتان اللتان بلغ التأثر بالغرب فيهما ذروته‪ ،‬وتحول التيار القومى ‪-‬‬
‫فى النصف الثانى من عصر مايجى‪ -‬إلى اتجاه شوفينى يستمد ركائزه من الفكر التقليدى‬
‫القديم‪ ،‬ويقدم إطا اًر نظرياً لحركة التوسع اإلمبريالى التى بدأتها اليابان فى تلك الحقبة‪،‬‬
‫وحققت فيها نجاحاً كبي اًر من الطريق أمام ذلك التيار الفكرى الذى استقر على تقديس الدولة‬
‫على أساس نظرية ربطت بين التاريخ واألساطير والعقائد الموروثة‪ ،‬وراح يصوغ من ذلك كله‬
‫إطا اًر للدولة الحديثة‪ ،‬وكان ذلك التناقض الخطير الذى عاشه جيل ذلك العصر‪ ،‬وهو الجيل‬
‫الذى نشأ فى مجتمع أسرف فى االقتباس من منجزات الحضارة الحديثة‪ ،‬بقيم مستمدة من‬
‫عصر ا إلقطاع‪ ،‬فعانى مثقفو عصر مايجى أزمة نفسية انعكست على األدب‪ ،‬الذى حفل‬
‫بمواقف الصراع بين األسرة والفرد‪ ،‬حيث تكون الغلبة دائماً لألسرة‪.‬‬

‫ونستطيع أن نبين مالمح ذلك الصراع الكامن تحت سطح المجتمع فى أعمال ناتسومى‬
‫سوسيكى (‪ .)1916 -1867‬ففى روايته "ماذا بعد؟" يصف انطباع بطل الرواية الشاب عن‬
‫أبيه‪ ،‬فيقول‪:‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪84‬‬
‫"تلقى والده تعليمه على النحو الذى كان ينشأ عليه الساموراى قبل عصر مايجى‪ ..‬وما‬
‫تعلمه األب أصبح يغاير حقائق الحياة اليومية‪ ،‬ولكنه ما زال يعتقد فى صالحية تلك القيم‪،‬‬
‫التى تربى عليها ‪-‬لكل العصور‪ ،-‬رغم أن ظروف الحياة أثبتت عكس ذلك‪ ،‬فقد تغير‬
‫أسلوب حياته بتغير ظروف المعيشة‪ ،‬حتى أصبح واقعه اليوم ال يكاد يشبه واقع األمس إال‬
‫قليالً‪ ،‬رغم أنه ال يشعر بذلك التغيير وال ريب أنه يظن أن تربيته العسكرية الصارمة هى سر‬
‫نجاحه ولكن دايسكى (االبن الشاب) ينظر إلى األمور بصورة أخرى‪ .‬فكيف يستطيع المرء‬
‫تلبية حاجات الحياة العصرية من خالل قيم إقطاعية‪ ،‬إنه مهما بذل من جهد‪ ،‬فالصراع بينه‬
‫وبين نفسه واقع ال محالة"‪.‬‬

‫ويتجلى ذلك التباين بين ما حققته اليابان من تطور عصرى‪ ،‬وبين القيم التقليدية للمجتمع‬
‫اإلقطاعى فى رواية أخرى كتبها شيمازاكى طوسون (‪ )1943 -1872‬بعنوان "الوصية‬
‫الوهمية"‪ ،‬صور فيها موقف المجتمع ‪-‬فى عصر مايجى‪ -‬من طبقة المنبوذين الذين لم‬
‫يتقبلهم المجتمع رغم إلغاء النظام الطبقى القديم ‪-‬قانوناً‪ -‬ومنحهم حقوق طبقة العامة‪ ،‬فيبين‬
‫لنا الطريقة المزرية التى عومل بها معلم ناجح يحظى باحترام وتقدير تالميذه‪ ،‬ويعترف‬
‫زمالؤه ومدير المدرسة بكفاءته‪ ،‬عندما يكتشفون أصله االجتماعى القديم‪ ،‬نتيجة اضط ارره‬
‫االعتراف لهم بذلك (رغم وصية والده له بكتمان انتمائه للمنبوذين) ورغم تمسك التالميذ‬
‫بمعلمهم‪ ،‬فصل من وظيفته واضطر إلى الهجرة إلى الواليات المتحدة األمريكية ما دام‬
‫المجتمع اليابانى ينكره‪ ،‬وال يعترف بآداميته‪ ،‬فضالً عن االعتراف بخدماته لوطنه‪.‬‬

‫ومهما كان األمر‪ ،‬فإن هذا الصراع بين جيل الشباب الذين تفتحت أعينهم على مجتمع‬
‫(عصرى) يعيش بقيم إقطاعية بالية‪ ،‬لم يكن يستطيع التعبير عن سخطه بصراحة مطلقة‪،‬‬
‫ألن أحداً من اليابانيين لم يكن يجرؤ على الجهر بمناصبة قيم المجتمع العداء دون أن يجد‬
‫نفسه فى مواجهة تهمة الخيانة للدولة‪ ،‬ودون أن يعد خارجاً على عقيدة األمة اليابانية‪ ،‬وقد‬
‫تحمل المثقفون اليابانيون عبء هذه المعاناة نتيجة التناقض بين واقع الحياة‪ ،‬وقيم المجتمع‬
‫ردحاً طويالً من الزمان‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪85‬‬
‫خاتمة‬
‫تعرض الشرق األقصى لضغوط الغرب فى صورة موجة إمبريالية اجتاحت المنطقة فى‬
‫النصف األول من القرن التاسع عشر‪ ،‬وتمثلت تلك الضغوط فى حربين شنتهما بريطانيا‬
‫على الصين‪ ،‬وأقامت ‪-‬مع غيرها من الدول األوروبية‪ -‬عالقاتها مع الصين على أساس ما‬
‫عرف "بدبلوماسية الزوارق الحربية" ولعبت تلك السياسة دو اًر هاماً فى إجبار اليابان على‬
‫فتح موانيها للتجارة الدولية‪ ،‬كما تمثلت تلك الضغوط فى التحديات التى واجهت األسس‬
‫التقليدية لثقافة البلدين (الصين واليابان) نتيجة لزحف المؤثرات الغربية ‪-‬من علوم‪ ،‬وأفكار‬
‫وأنماط حياة وغيرها‪ -‬على تلك المنطقة‪.‬‬

‫وتصدت كل من الصين واليابان للضغوط الغربية بوسائل متشابهة كالنفور‪ ،‬والعداء‪،‬‬


‫والتركيز على التراث التقليدى‪ ،‬ثم التسليم بتفوق الغرب فى الثروة والقوة‪ ..‬ولكنهما اختلفا من‬
‫حيث أسلوب االستجابة لتحدى الغرب‪ ..‬ففى الصين‪ ،‬وقفت الكنفوشية سداً منيعاً فى طريق‬
‫إدخال أى تغيير على السي اسيات واألفكار‪ ،‬مما أدى إلى قيام نوع من (وحدة الهدف) بين‬
‫الرجعية الصينية والقوى األجنبية صاحبة االمتيازات‪ .‬وترتب على ذلك تداعى النظام‬
‫اإلمبراطورى وانطالق عصر الثوارت‪.‬‬

‫أما فى اليابان‪ ،‬فقد نجح القوم فى (استخدام البرابرة لمواجهة البرابرة)‪ ،‬فاستفادوا من علوم‬
‫الغرب وثقافته فى صياغة مشروع للنهضة رمى إلى بناء دولة (حديثة)‪ ،‬على درجة من القوة‬
‫تمكنها من الوقوف مع الغرب على قدم المساواة‪ ،‬ومن ثم تفرقت السبل باليابان والصين‪،‬‬
‫فعلى حين اتجهت األولى نحو التصنيع واقامة أداة عسكرية عصرية قوية‪ ،‬وقعت األخرى‬
‫فريسة للفاقة والحروب األهلية واألطماع التوسعية للدول الكبرى‪ ،‬بل بلغت المحنة ذروتها‬
‫عندما هزمت الصين أمام اليابان‪.‬‬

‫وكانت النهضة اليابانية (عصر مايجى) تعبي اًر عن الطريق الذى اختارته اليابان بفضل‬
‫قيادتها السياسية التى انتهجت سبيل اإلصالح‪ ،‬ونجحت فى تحقيقه واتخذت منه أداة‬
‫لمواجهة التحدى الغربى‪ ،‬ولذلك كانت تجربة النهضة اليابانية تجربة فريدة‪ ،‬لم تجذب أنظار‬
‫الباحثين فحسب‪ ،‬بل كانت موضع جدل دار بينهم حول تحديد طبيعة المجتمع اليابانى فى‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪86‬‬
‫ذلك العصر‪ ،‬شارك فيه المؤرخون اليابانيون فيما بعد‪ ،‬وعكست تحليالتهم للتجربة المنطلقات‬
‫الثقافية والفكرية التى جاءوا منها‪.‬‬

‫ورغم تعدد اال تجاهات فى تفسير النهضة اليابانية الحديثة‪ ،‬فقد خلقت استجابة اليابان‬
‫للتحدى الغربى مجتمعاً جديداً‪ ،‬ألقينا الضوء عليه فى الفصول السابقة من هذا الكتاب‪،‬‬
‫وبذلك استطاعت اليابان أن تتعامل مع الدول الغربية على قدم المساواة‪ ،‬على حين بقى‬
‫المجتمع الصينى ‪-‬الذى واجه نفس التحدى‪ -‬على ما هو عليه‪ ،‬متمسكاً بتالبيب القديم‪،‬‬
‫رافضاً للغرب ولكل ما يأتى به‪.‬‬

‫ولما كانت تجربة النهضة اليابانية تشغل بال المثقفين العرب‪ ،‬وكثي اًر ما يشار إليها باعتبارها‬
‫"نموذجاً" يمكن االهتداء به فى عالج ما شاب نهضة أمتنا من أوجه القصور‪ ،‬يجب أن‬
‫نتوقف أمام سؤال قد يعن للقارئ‪ :‬إلى أى مدى يمكن أن تفيد البالد النامية (أو ما كان‬
‫يسمى بالعالم الثالث) بتجربة النهضة اليابانية‪ ،‬وما مدى إمكان تكرار التجربة فى بالد‬
‫"شرقية" أخرى؟!‬

‫يروج بعض الكتاب السياسيين اليابانيين إلمكانية استفادة بالد العالم الثالث التى تتلمس‬
‫طريقها إلى النهضة‪ ،‬وتسعى سعياً حثيثاً لتنمى اقتصادياتها‪ ،‬من تجربة النهضة اليابانية‪،‬‬
‫ويصب هذا الرأى ‪-‬عندهم‪ -‬فى االتجاه القومى اليابانى الموروث من ذلك العصر‪ ،‬من‬
‫حيث قدرة اليابان على النهوض بالشرق‪ ،‬والدور الحضارى الذى يقع على عاتق اليابان‬
‫لتمدين الشرق الذى كان جوهر الدعاية المصاحبة للتوسع اليابانى اإلمبريالى فى آسيا حتى‬
‫نهاية الحرب العالمية الثانية‪.‬‬

‫ولكننا ال نشارك أولئك الكتاب الرأى‪ ،‬فقد اتخذت تجربة النهضة اليابانية مسا اًر فريداً ‪-‬يرجع‬
‫إلى ظروفها التاريخية الخاصة‪ -‬يجعلها نموذج ًا ال يمكن أن يتكرر تك ار اًر نمطياً‪ ،‬لعوامل‬
‫عدة‪ ،‬من بين هذه العوامل أن اليابان تمكنت من تنمية وتكوين سوقها الوطنية المستقلة‬
‫الخاصة بها ‪-‬إلى حد ما‪ -‬فى أواخر عصر طوكوجاوا بالقدر الذى جعل النمو االقتصادى‬
‫الحديث ممكناً‪ ،‬وفتح الطريق أمام االنتقال إلى المرحلة الرأسمالية بفضل ما حققه رأس المال‬
‫التجارى اليابانى من تراكم أغنى البالد عن اللجوء إلى الممولين األجانب على نطاق واسع‪،‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪87‬‬
‫ال‪ -‬على عهد محمد سعيد باشا والخديوى إسماعيل‪ ،‬أما‬
‫على نحو ما حدث فى مصر ‪-‬مث ً‬
‫بالد العالم الثالث ‪-‬فى آسيا وأفريقيا‪ -‬فكانت مستعمرة أو شبه مستعمرة‪ ،‬ومن ثم كانت‬
‫أسواقها ترتبط بالسوق العالمية (واإلمبريالية خاصة) حيث تضخ فوائض اقتصادها فى خزائن‬
‫بنوك الدول األوروبية التى تفرض عليها هيمنتها‪ :‬وكان على تلك البالد أن تسعى لتستقل‬
‫بسوقها الوطنية أوالً‪ ،‬بما يترتب على ذلك من تغير فى طبيعة اإلنتاج الذى يقتصر على‬
‫إنتاج المواد األولية فى األغلب واألعم‪ ،‬وال يتحقق ذلك إال بإعادة هيكلة االقتصاد وتعديل‬
‫توجهاته تعديالً جذرياً وهو أمر من الصعوبة بمكان‪.‬‬

‫ومن أهم عوامل تميز تجربة النهضة اليابانية عن ظروف بالد العالم الثالث‪ ،‬أن اليابان‬
‫استطاعت‪ -‬فى ظروف تاريخية معينة‪ -‬أن تتحول إلى قوة إمبريالية‪ ،‬ومن ثم استطاعت أن‬
‫تحقق نمواً اقتصادياً سريعاً‪ ،‬بفضل ما نهبته من ثروات البالد اآلسيوية التى وقعت تحت‬
‫نيرها‪ ،‬وخاصة كوريا والصين وبذلك اعتمدت اليابان فى نموها االقتصادى المتصاعد على‬
‫نهب موارد الشعوب التى وقعت تحت نيرها‪ ،‬أما بالد العالم الثالث فكانت ضحية النهب‬
‫اإلمبريالى‪ ،‬وكان تخلفها نتيجة طبيعية لما تعرضت له من استنزاف لمواردها االقتصادية‪.‬‬

‫وأخي اًر‪ ،‬نجحت اليابان فى توظيف تراثها الثقافى الذى يرقى إلى مستوى العقيدة (الشنتو) فى‬
‫تعبئة اليابانيين لخدمة مشروع النهضة فى إطار من التضحية ونك ارن الذات‪ ،‬جعل من‬
‫معوقات سياسة التنمية أم اًر غير ذى بال‪ ،‬وأدى إلى تجنيب البالد الكثير من المخاطر‬
‫االجتماعية المصاحبة للنمو الرأسمالى‪.‬‬

‫ال‬
‫ومن ثم ال تعد تجربة النهضة اليابانية نموذجاً تفيد به شعوب العالم الثالث‪ ،‬وتتخذ منه مث ً‬
‫يحتذى به‪ ،‬فليس هناك نمط واحد للهيكل االجتماعى فى تلك البالد‪ ،‬وانما تتعدد األنماط‬
‫وتختلف باختالف تلك المجتمعات عن بعضها البعض ولعل أهم ما يمكن االستفادة به من‬
‫تجربة النهضة اليابانية بالنسبة لبالد العالم الثالث هو ذلك النجاح الملحوظ الذى حققته‬
‫التجربة اليابانية فى هضم المؤثرات الثقافية الغربية وتمثلها فى نسيج جديد من الثقافة‬
‫الوطنية‪ ،‬يوفر سبيل االستفادة منها وتوظيفها لخدمة مشروع النهضة‪.‬‬

‫‪www.RaoufAbbas.org‬‬ ‫‪88‬‬
‫المراجع‬
‫(أ)مراجع عربية‬
‫ دار الكتاب‬،‫ الطبعة األولى‬،‫ المجتمع اليابانى فى عصر مايجى‬:‫ رءوف عباس حامد‬-
‫ الطبعة‬،1997 ‫ القاهرة‬،‫ نهضة الشرق‬،‫ الطبعة الثانية‬،1980 ‫ القاهرة‬،‫الجامعى‬
.2000 ‫ القاهرة‬،‫ مريت للنشر‬،‫الثالثة‬

‫ دراسة مقارنة لفكر رفاعة الطهطاوى‬،‫ التنوير فى مصر واليابان‬:‫ رءوف عباس حامد‬-
.2001 ‫ القاهرة‬،‫ ميريت للنشر‬،‫وفوكو ازوا بوكيتيش‬

‫(ب)مراجع إنجليزية مختارة‬


- Beasley, W.G: The Meiji Restoration, Stanford University Press, USA
1972.

- Goodment (ed.): Imperial Japan and Asia, Re-assessment, New York


1967.

- Hamilton, D.G: Modern Japan and Shinto Nationalism, New York 1963.

- Lock Wood, W.W: The Economic Development of Japan, Princeton


University Press, USA 1968.

- Pule, K.B: The New Generation in Meiji Japan, Problems of Cultural


Identity 1885- 95, Stanford, California 1969.

- Reischauer, R.K: Japan Government Politics, New York 1939.

www.RaoufAbbas.org 89

You might also like