Professional Documents
Culture Documents
6861 20100608223618
6861 20100608223618
وليد قصاب
إن اللفظ المفرد هو جزء -من التركيب ،وهو لبنة في بناء النظم وال شك أن
له حسناً وقبحاً ذاتيين ،فقد يكون لفظ أخف من غيره وأرشق ،وقد -يكون
أجمل إيقاعاً وأحلى جرساً ،وقد -يكون أبعد من الحوشية والغرابة ،وأدنى
إلى األنس والسالسة ،وقد يكون أبعد عن االبتذال والسوقية ،وأقرب إلى
·الجزالة -والرصانة ،بل الفصاحة -والجاللة-
وعن هذا التميز الذاتي للفظ المفرد يقول ابن األثير" :إن األلفاظ داخلة في
حيز األصوات ،ألنها مركبة -من مخارج الحروف ،فما استلذه السمع منها فهو
الحسن ،وما -كرهه ونبا عنه فهو القبيح·· -وقد رأيت جماعة من الجهال إذا
قيل ألحدهم :إن هذه اللفظة حسنة ،وهذه قبيحة ،أنكر ذلك ،وقال :كل
األلفاظ حسن ،والواضع لم يضع إال حسناً· ومن يبلغ جهله إلى أن ال يفرق
بين لفظة "الغصن" ولفظة "العسلوج" وبين لفظة "المدامة" ولفظة
"اإلسفنط" وبين -لفظة "السيف" ولفظة "الخنشليل" وبين لفظة "األسد"
ولفظة "الفدوكس" ،فال ينبغي أن يخاطب بخطاب·· وما مثاله في هذا
المقام إال كمن يسوي بين صورة زنجية سوداء مظلمة السواد شوهاء
·الخلق·· وبين صورة رومية بيضاء -مشربة بحمرة··"()1
ولقد أطال ابن األثير بعد ذلك الكالم على خصائص اللفظ المفرد وشروط
الحسن فيه ،فذكر -من ذلك دقته -في التعبير عن المعنى ،وحالوة جرسه
وسهوله نطقه ،وجمال إيقاعه ،بحيث ال يتألف من حروف متقاربة المخارج،
مما يجعله عسير النطق ،ثقيال ً على اللسان· وذكر من مالمح الحسن في
اللفظ المفرد جزالته ،ولكن الجزالة -ال تعني أن يكون اللفظ "وحشياً متوعراً،
عليه عنجهية البداوة ،بل أن يكون متيناً على عذوبته -في الفم ،ولذاذته-
·في السمع··"()2
1
وهو أعلم بما يفعلون ،وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمراً حتى إذا جاءوها
فتحت أبوابها وقال لهم خزنتها ألم يأتكم رسل منكم يتلون عليكم آيات
ربكم وينذرونكم لقاء يومكم هذا قالوا -بلى ولكن حقت كلمة العذاب على
الكافرين ،قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فبئس مثوى المتكبرين،
وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً حتى إذا جاءوها وفتحت أبوابها
وقال لهم خزنتها سالم عليكم طبتم فادخلوها -خالدين ،وقالوا الحمد هلل
الذي صدقنا -وعده وأورثنا األرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر
·العاملين}-
يقول ابن األثير في التعليق على اآليات" :تأمل هذه اآليات المضمنة ذكر
الحشر على تفاصيل أحواله ،وذكر النار والجنة ،وانظر هل فيها لفظة إال
وهي سهلة مستعذبة على ما بها من الجزالة؟
وكذلك ورد قوله -تعالى في سورة األنعام{ :ولقد جئتمونا فرادى كما
خلقناكم أول مرة وتركتم -ما خولناكم -وراء ظهوركم وما نرى معكم شفعاءكم
الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء -لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم
·تزعمون}[األنعام]94:
وهكذا ترى سبيل القرآن الكريم في كال هذين الحالين -من الجزالة
·والرقة··"()4
وقد أشار بعض العلماء إلى هذه الخاصية -في األلفاظ القرآنية ،وهي تقلبها
بين العذوبة والجزالة -بحسب مقامات -الكالم ،وعد ذلك وجهاً من وجوه
·اإلعجاز البالغي في القرآن الكريم
قال الزركشي( :)5ومنها -أي وجوه اإلعجاز" :جمعه بين صفتي الجزالة
والعذوبة ،وهما كالمتضادين ،ال يجتمعان غالباً في كالم البشر ،ألن الجزالة
من األلفاظ التي ال توجد إال بما يشوبها من القوة وبعض الوعورة ،والعذوبة
منها ما يضادها -من السالسة والسهولة· فمن نحا نحو الصورة األولى فإنما
بقصد الفخامة والروعة -في األسماع ،مثل الفصحاء -من األعراب ،وفحول
الشعراء منهم· -ومن نحا نحو الثانية -قصد -كون الكالم في السماع أعذب
وأشهى وألذ ،مثل أشعار المخضرمين ،ومن داناهم من المولدين-
·المتأخرين
2
وعلى أن اللفظ المفرد -مهما بلغ من حسن وقبح ذاتيين ال بد من التسليم
بهما -ال تبدو ميزته الحقيقية إال في النظم ،فهو -كما ذكرنا -لبنة هامة في
بناء النظم ،ولكن جماله -الحق يتجلى في تناسقه مع جميع لبنات البناء،
وفي تشاكله مع ما قبله وما بعده· وهذا ما عبر عنه عبد القاهر الجرجاني
بقوله" :إنك ترى الكلمة تروقك وتؤنسك في موضع ،ثم تراها تثقل عليك
·وتوحشك في موضع آخر··"()6
ولقد أشار ابن األثير -الذي أطال الكالم على خصائص اللفظ المفرد -أكثر
من مرة إلى موقعه في النظم ،وأظهر أن حسنه الحقيقي يتجلى في
تركيبه مع ألفاظ أخرى على نسق معين ،واستشهد على ذلك بأمثلة -من
·القرآن الكريم
يقول" :من عجيب ذلك أن لفظتين تدالن على معنى واحد ،وكالهما حسن
في االستعمال ،وهما على وزن واحد وعدة واحدة ،إال أنه ال يحسن
استعمال هذه في كل موضع تستعمل فيه هذه ،بل يفرق بينهما في
مواضع السبك·· فمن ذلك قوله تعالى{ :ماجعل هللا لرجل من قلبين -في
جوفه} [األحزاب ]4:وقوله تعالى{ :رب إني نذرت لك ما في بطني محرراً}
[آل عمران ]35:فاستعمل (الجوف) في األولى و(البطن) في الثانية· ولم
يستعمل (الجوف) موضع (البطن) وال (البطن) موضع (الجوف) واللفظتان
سواء في الداللة ،وهما ثالثيتان في عدد واحد ،ووزنهما واحد أيضاً ،فانظر
إلى سبك األلفاظ كيف تفعل··( ·)7ويقول في موضع آخر" :اعلم أن تفاوت
التفاضل يقع في تركيب األلفاظ أكثر مما يقع في مفرداتها ،ألن التركيب
أعسر وأشق· -أال ترى ألفاظ القرآن الكريم -من حيث انفرادها -قد
استعملتها العرب ومن بعدهم ،ومع ذلك فإنه يفوق جميع كالمهم ،ويعلو
عليه؟ وليس ذلك إال لفضيلة التركيب·· -وسأضرب لك مثاال ً يشهد بصحة ما
ذكرته ،وهو أنه قد جاءت لفظة واحدة في آية من القرآن وبيت من الشعر،
فجاءت في القرآن جزلة متينة ،وفي الشعر ركيكة ضعيفة ،فأثر -التركيب-
·فيها هذين الوصفين الضدين-
أما اآلية فهي قوله تعالى{ :فإذا طعمتم فانتشروا وال مستأنسين لحديث
إن ذلكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم وهللا ال يستحي من الحق}
[:األحزاب ·]53:وأما بيت الشعر فهو قول أبي الطيب
ومن ذلك لفظة "القمل" وردت في آية في القرآن الكريم فجاءت -حسنة،
وفي بيت من شعر الفرزدق غير حسنة· أما اآلية فقوله تعالى{ :فأرسلنا-
مل والضفادع -والدم آيات مفصالت} [األعراف:
عليهم الطوفان والجراد -وال ُق ّ
]133:وأما بيت الفرزدق
3
من عزه احتجزت كليب عنده زرباً كأنهم
مل
لديه ال ُق ّ
وإنما حسنت هذه اللفظة في اآلية دون هذا البيت ألنها جاءت في اآلية
مندرجة في ضمن كالم ،ولم ينقطع الكالم عندها ،وجاءت -في الشعر
قافية ،أي آخراً انقطع الكالم عندها··"( ·)9وسواء اتفقنا مع ذوق ابن األثير
وتعليله في هذه األمثلة التي أوردها أم ال ،إال أن إشارته إلى أن قيمة
اللفظ الحقيقية ال تبرز إال من خالل نظم الكالم ،أمر ال شك فيه· -وهو يتفق
في هذا مع عبد القاهر الجرجاني ،بل ينقل كالمه الذي أشرنا إليه قبل
قليل( ،)10وإن كان تقدير عبد القاهر لدور اللفظ المفرد في حد ذاته أقل
·مما هو عليه الحال عند ابن األثير
إذا تجاوزنا -ما أشرنا إليه من بعض مالمح الحسن الذاتي في اللفظ
القرآني المفرد ،فإن من أبرز ما يميز هذا اللفظ -في سياق نظمه وتأليفه-
في الكالم -هو:
إن اللفظة القرآنية هي عالم متفرد ،وهي شخصية -متميزة ذات حضور
باهر ،إنها -كما يقول الراغب األصفهاني" -لب كالم العرب وزبدته" وواسطته
وكرائمه ،وعليها -اعتماد الفقهاء والحكماء في أحكامهم وحكمهم ،وإليها
مفزع حذاق الشعراء والبلغاء -في نظمهم ونثرهم ،وما -عداها من األلفاظ
المتفرعات عنها والمشتقات منها ،هو باإلضافة -إليها إال كالقشور والنوى
باإلضافة -إلى أطايب الثمرة ،وكالحثالة -والتبن -باإلضافة -إلى لبوب الحنطة··(
·)11
إن كل كلمة في كتاب هللا تعالى متمكنة في موضعها ،وال يمكن أن تنوب
منابها كلمة أخرى ،ألن كل كلمة أخرى هي من اختيار البشر ،وهذه من
·اختيار العزيز الحكيم
إن اللفظ القرآني -كما يقول الخطابي" :-إذا أبدل مكانه غيره جاء منه إما
تبدل المعنى الذي يكون منه فساد الكالم ،وإما ذهاب الرونق الذي يكون
معه سقوط البالغة ،وذلك -أن في الكالم ألفاظاً -متقاربة في المعاني
بحسب أكثر الناس أنها متساوية في إفادة بيان مراد الخطاب كالعلم
والمعرفة ،والحمد -والشكر ،والبخل والشح ··،واألمر فيها وفي ترتيبها عند
·علماء أهل اللغة بخالف ذلك··()21
4
روى أن قارئاً قرأ قوله تعالى{ :فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا
أن هللا عزيز حكيم} [البقرة ]209:فقال" :غفور رحيم" فسمعه أعرابي
فأنكره ،ولم يكن هذا األعرابي قد قرأ القرآن· وقال :إن كان هذا كالم هللا
·فال يقول كذا ،الحكيم ال يذكر الغفران عند الزلل ألنه إغراء عليه()13
لقد أدرك األعرابي -بحسه اللغوي المرهف السليم -أن البالغة الرفيعة-
تقتضي أن يكون اللفظ القرآني كما ورد ،وعندما أخطأ القارئ فغيره أحدث
··في الكالم خلال ً فطنت إليه األذن المدربة
وسيأتي في بحث آخر -إن شاء هللا تعالى -وجوه أخرى من بالغة اللفظ
·القرآني في كتاب هللا عز وجل
:الهوامش
المثل السائر( 170/1 :تحقيق د· أحمد الحوفي ،د· بدوي طبانة) دار 1-
·نهضة مصر
·مفردات ألفاظ القرآن( 55 :تحقيق صفوان داوودي) دار القلم ،دمشق 11-
رسالة بيان إعجاز القرآن ،ضمن ثالث رسائل في إعجاز القرآن12- 29 :
5