You are on page 1of 16

‫أربع مواقف دعوية من العهد المكي وأربع مواقف‬

‫دعوية من العهد المدني‬

‫نشاط مقدم للدكتور أحمد الفرجابي‬


‫عمل الطالبة‪:‬‬
‫الرا محمد خميس المجدوبة‬
‫معهد الدعوة والعلوم اإلسالمية‬
‫المستوى الثالث – الشعبة المسائية أ‬

‫‪1‬‬
‫الدعوة إلى هللا ‪-‬ع َّز وج َّل ‪-‬من أفضل األعمال‪ ،‬وأقرب القربات‪ ،‬وأوجب الواجبات‪ ،‬بعث هللا‬
‫‪-‬تعالى ‪-‬صفوة خلقه من األنبياء والرُّ سل ‪-‬عليهم الصالة والسالم ‪-‬للقيام بها‪ ،‬ووعد القائمين بها‬
‫أجرًا عظي ًما وثوابًا جزيالً في الدنيا واآلخرة‪ ،‬بل إن هللا ‪-‬جل وعال ‪-‬جعلها شعارًا ألتباع الرسل‬
‫‪-‬عليهم الصالة والسالم‪ .‬ولقد كان هؤالء وهم خيار ِعباد هللا ‪-‬تعالى ‪-‬يهتمون بالدعوة أبلغ‬
‫االهتمام‪ ،‬ويحرصون على إخراج الناس من الظلمات إلى النور أشد الحرص‪ ،‬وهكذا حال من‬
‫سلك دربهم من صالحي األمة ومصلحيها‬
‫فالدعوة إلى هللا جل وعال‪ ،‬هي أعظم ميزة أو صفة يمكن أن يتميز بها اإلنسان‪ ،‬وعلى مدى‬
‫العصور السابقة كلها‪ ،‬كان هللا عز وجل يقيض لهذه الدعوة من يحملها وخير من حملها األنبياء‬
‫وأهم من نتعلم منه هو رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪ .‬وقد امتألت سيرته وفاضت بالمواقف‬
‫الدعوية الرائدة التي تتمثل فيه القدوة العملية للدعاة والعلماء والمصلحين‪ ،‬وسبيله في ذلك‬
‫ك بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َموْ ِعظَ ِة ْال َح َسنَ ِة َو َجا ِد ْلهُ ْم بِالَّتِي ِه َي‬ ‫ع إِلَى َسبِ ِ‬
‫يل َربِّ َ‬ ‫ومنطلقه وقاعدته العريضة‪ b﴿:‬ا ْد ُ‬
‫أَحْ َس ُن ﴾[النحل‪.]125:‬‬

‫فالسيرة النبوية هي النموذج العملي التطبيقي الذي وضعه هللا عز وجل للناس لكي يقتدوا به‬
‫ويتبعوه‪ ،‬فكل من يبحث عن مثل أعلى في ناحية من نواحي الحياة فإنه سيجد ذلك نموذجا ً ماثالً‬
‫في حياة النبي صلى هللا عليه وسلم وسيرته على أعظم ما تكون القدوة‪.‬‬
‫لذلك فإننا سنستخرج من السيرة النبوية أربع مواقف دعوية من العهد المكي وأربع مواقف‬
‫دعوية من العهد المدني وإننا بذلك نسأل هللا عز وجل ان يتقبل منا وان ينفعنا بما علمنا كدعاة‬
‫الى دين اإلسالم على هدي نبيه محمد صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫أوال‪ :‬العهد المكي‬ ‫‪‬‬
‫الموقف الدعوي األول في العهد المكي‪ :‬التخطيط للدعوة‬ ‫‪‬‬
‫الداعية يخطط لكل مرحلة من مراحل الدعوة حسبما تقتضيه هذه المرحلة‪:‬‬
‫ويُمكن توضيح التخطيط لل َّدعوة اإلسالمية في عهد الرسول ‪-‬عليه الصَّالة والسَّالم –في العهد‬
‫المكي بما م َّرت الدعوة اإلسالمية فيه من مراحل وخطوات وأولها‪:‬‬
‫سرية الدعوة‪:‬‬
‫وقد استغرقت مدةَ ثالث سنوات‪ ،‬وكانت بدايتها قول هللا ‪ -‬تعالى ‪ -‬للرسول‪ ﴿ :‬يَا أَيُّهَا ْال ُم َّدثِّ ُر * قُ ْم‬
‫ك فَطَهِّرْ * َوالرُّ جْ زَ فَا ْهجُرْ ﴾ [المدثر‪ ،]5 - 1 :‬ثُ َّم جاء األمر‬ ‫ك فَ َكبِّرْ * َوثِيَابَ َ‬ ‫فَأ َ ْن ِذرْ * َو َربَّ َ‬
‫ك اأْل َ ْق َربِينَ ﴾‬
‫للرسول ‪ -‬عليه الصَّالة والسَّالم ‪ -‬بإنذار أقاربه وعشيرته‪َ ﴿ :‬وأَ ْن ِذرْ ع َِشي َرتَ َ‬
‫إن هللا ‪ -‬ع َّز وجل ‪ -‬ح َّدد له أسلوب الدعوة الذي سيتبعه قائالً‪ ﴿ :‬ا ْد ُ‬
‫ع إِلَى‬ ‫[الشعراء‪ ،]214 :‬بل َّ‬
‫ض َّل ع َْن‬‫ك هُ َو أَ ْعلَ ُم بِ َم ْن َ‬ ‫َسبِي ِل َربِّكَ بِ ْال ِح ْك َم ِة َو ْال َموْ ِعظَ ِة ْال َح َسنَ ِة َو َجا ِد ْلهُ ْم بِالَّتِي ِه َي أَحْ َس ُن إِ َّن َربَّ َ‬
‫َسبِيلِ ِه َوهُ َو أَ ْعلَ ُم بِ ْال ُم ْهتَ ِدينَ ﴾ [النحل‪.]125 :‬‬
‫ت األرقم بن أبي األرقم المخزومي‪ ،‬وهذا بطبيعة‬ ‫‪ ‬ولقد كان الرسو ُل يَجتمع مع أصحابه في بي ِ‬
‫الحال جز ٌء من الخطة المرسومة؛ حيث كان اختيا ُر دار األرقم مق ًّرا الجتماعات الرسول ‪-‬صلَّى‬
‫هللا عليه وسلَّم ‪-‬حيث تستبعد قريش عق َد هذه االجتماعات فيه؛ لكون األرقم من بني مخزوم‪،‬‬
‫وهي العشيرة المنافسة لبني هاشم‪ ،‬ونظرًا لصغر ِسنِّ األرقم؛ حيث كان ال يتجاوز السادسة‬
‫عشرة‪ ،‬وفي الوقت نفسه لم يعلن إسالمه بعد‪ ،‬وبهذا سارت الخطة كما رسم لها‪.‬‬

‫والخالصة يجب اإلسرار بالدعوة إذا كان الجهر أو القتال يضر بها وهذا ما يجب ان يتنبه له‬
‫الداعية الحصيف الذي يدرس السيرة النبوية دراسة واعية وخاصة مرحلة سرية الدعوة وال‬
‫يلقي بنفسه في التهلكة ان كانت المرحلة التي يعيشها ال تحتمل الجهر بها‪.‬‬

‫‪3‬‬
‫الموقف الدعوي الثاني في العهد المكي‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫الداعية ال ينتصر لنفسه‪ :‬اللهم اهد ثقيفا‬
‫ها هي مكة تقف عقبة في سبيل الدعوة اإلسالمية‪ ،‬وها هم سفهاء قريش قد أسرفوا في إيذاء‬
‫النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ‪ ،‬والصد عن سبيل هللا بعد تكالب المحن والشدائد عليه‪ ،‬من موت‬
‫عمه أبي طالب الذي كان يحميه‪ ،‬وزوجته خديجة ـ رضي هللا عنها ـ‪ ،‬التي كانت تواسيه وتخفف‬
‫عنه آالمه‪ .‬ومع ذلك فقد مضى ـ صلى هللا عليه وسلم ـ في تبليغ دعوته ورسالته‪ ،‬فعزم على أن‬
‫ينتقل إلى بلد غير بلده‪ ،‬وقوم غير قومه‪ ،‬وهو في ذلك يقتدي باألنبياء والمرسلين الذين سبقوه‪،‬‬
‫فدعا سرا وجهرا‪ ،‬وبشر وأنذر‪ ،‬ودعا إلى هللا في كل وقت وحال‪.‬‬
‫توجه النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ جهة الطائف حيث توجد ثقيف عسى أن يجد منهم من‬
‫ينصر اإلسالم‪ ،‬ويحمي الدعوة الجديدة‪ ،‬فخرج إليها في شوال في السنة العاشرة من البعثة‪،‬‬
‫ومعه مواله زيد بن حارثة ـ رضي هللا عنه ـ‪ ،‬فأقام بها مدة يدعو ثقيفا إلى هللا تعالى‪ ،‬فلم يجد‬
‫آذانا صاغية‪ ،‬بل اذوه وسلطوا عليه سفهاءهم وصبيانهم ليرموه بالحجارة ويؤذوه‪.‬‬
‫وقد سألت عائشة ـ رضي هللا عنها ـ رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ قائلة‪ ( :‬يا رسول هللا‪،‬‬
‫هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟‪ ،‬فقال ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ‪ :‬لقد لقيت من قومك ما‬
‫لقيت‪ ،‬وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة‪ ،‬إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد ُكالل فلم‬
‫يجبني إلى ما أردت‪ ،‬فانطلقت وأنا مهموم على وجهي‪ ،‬فلم أستفق إال وأنا بقرن الثعالب (ميقات‬
‫أهل نجد)‪ ،‬فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني‪ ،‬فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني‪ ،‬فقال‪ :‬إن‬
‫هللا قد سمع قول قومك لك‪ ،‬وما ردوا عليك‪ ،‬ولقد أرسل إليك ملَك الجبال لتأمره بما شئت‪،‬‬
‫ي‪ ،‬ثم قال‪ :‬يا محمد‪ ،‬إن هللا قد سمع قول قومك لك‪ ،‬وأنا ملَك‬
‫فناداني ملك الجبال وسلم عل َّ‬
‫الجبال‪ ،‬وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت؟‪ ،‬إن شئتَ أن أُطبق عليهم األخشبين‬
‫(الجبلين)‪ ،‬فقال رسول هللا ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ‪ :‬بل أرجو أن يخرج هللا من أصالبهم من‬
‫يعبد هللا وحده ال يشرك به شيئا ) رواه البخاري ‪.‬‬
‫ويستفيد الداعية من دراسته لسيرة وحياة النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ومواقفه مع أعدائه عظمة‬
‫أخالقه‪ ،‬ونُبل صفاته‪ ،‬وال يستغرب أفعاله‪ ،‬وال يتعجب من مواقفه‪ ،‬فهو أحلم الناس وأعفاهم عن‬
‫جاهل‪ ،‬وكان حلمه وعفوه دائما ً عجيبا ً يفوق الحد الذي يتصوره اإلنسان‪ ،‬خاصة وأن عفوه كان‬
‫مع القدرة على البطش واالنتقام ممن أساء إليه‪ ،‬لكنه ـ صلوات هللا وسالمه عليه ـ كان يقول‬
‫عمن آذاه وأساء إليه‪( :‬اللهم اغفر لقومي فإنهم ال يعلمون)‪ ،‬ويقول‪:‬‬
‫(بل أرجو أن يخرج هللا من أصالبهم من يعبد هللا وحده ال يشرك به شيئا)‪ ،‬ويقول‪( :‬اللهُ َّم ا ْه ِد‬
‫ثَقِيفاً) وهذا ما يحتاجه الداعية من اخالق ليسمو بدعوته ويترفع عن االنتقام للنفس واالنتصار‬
‫لها‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫الموقف الدعوي الثالث في العهد المكي‬ ‫‪‬‬
‫صلة الداعية بربه عز وجل وخوفه منه‪:‬‬
‫عبء الدعوة عبء ثقيل‪ ،‬وحملها حمل كبير‪ ،‬تعجز قدرة الفرد عن تحمله والقيام به‪ ،‬لوال‬
‫توفيق هللا تعالى وعونه؛ ولذلك كان البد للداعي إلى هللا تعالى أن يتعرض لتوفيق ربه‪ ،‬وأن‬
‫يستمد منه عونه‪ ،‬ويطلب منه مدده‪ .‬وإنما يكون هذا االستمداد بحسن الصلة به سبحانه‪ ،‬وأن‬
‫يكون بين العبد وبين هللا حال يصبح معها من أوليائه‪ ،‬فال يسلمه معها إلى أعدائه‪ .‬وهذه‬
‫العالقة باهلل الزمة وضرورة للداعية من هذا الجانب‪ ،‬وأيضا من جانب آخر وهو أن الداعي‬
‫دالّل على هللا يدعو الناس في األصل لتحسين عالقتهم بربهم‪ .‬فكيف يدل على هللا من ال‬
‫يعرفه ‪ ،‬وكيف يربط الناس بموالهم من هو مقطوع الصلة به ؟!!‬

‫ولن تنجح الدعوات إال أن يتأتى نصر هللا وتوفيقه ‪ ،‬وال يتأتى النصر والتوفيق ما لم تكن‬
‫هناك صلة وثيقة ‪ ،‬وعالقة وطيدة باهلل رب العالمين‪ .‬قال قتادة ‪" :‬من يتق هللا يكن معه ‪،‬‬
‫ومن يكن هللا معه فمعه الفئة التي ال تغلب ‪ ،‬والحارس الذي ال ينام ‪ ،‬والهادي الذي ال يضل‬
‫ومن اهم المواقف الدعوية في العهد المكي دعاء النبي صلى هللا عليه وسلم في البستان ذلك‬
‫الدعاء الخالد‪ ،‬ففيه تأكيد لصدق الرسول في دعوته‪ ،‬وتصميم على االستمرار فيها مهما‬
‫قامت في وجهه الصعاب‪ ،‬وأنه ال يهمه إال رضا هللا وحده‪ ،‬فال يهمه رضا الكبراء‬
‫والزعماء‪ ،‬وال رضا العامة والدهماء « إن لم يكن بك غضب علي فال أبالي» كما أن فيه‬
‫استمداد القوة من هللا باللجوء إليه واالستعانة به عندما يشتد األذى بالداعية‪ ،‬وفيه أن خوف‬
‫الداعية كل الخوف هو من سخط هللا عليه وغضبه‪ ،‬ال من سخط أي شيء سواه‪.‬‬
‫فإذا حصلت للداعية هذه الصلة كانت معها المعية الخاصة من هللا سبحانه التي جعلها‬
‫ألوليائه الصالحين ‪ ،‬وعباده المخلصين ‪ ،‬قال تعالى ‪{ :‬إن هللا مع الذين اتقوا والذين هم‬
‫محسنون } ‪ ،‬وقال سبحانه ‪{ :‬إن هللا يدافع عن الذين آمنوا } ‪ ،‬وقال عز وجل لموسى‬
‫وهارون ‪ { :‬ال تخافا إنني معكما أسمع وأرى }‬

‫وهذا االتصال بالرب جل جالله ضروري جدا للداعية المسلم ‪ ،‬فبه تهون الصعاب ‪ ،‬وتخف‬
‫اآلالم ‪ ،‬وتنتزع من القلب الخشية من الناس ‪ ،‬ويحس اإلنسان بعزة اإلسالم ؛ ألنه موصول‬
‫بالقوي العزيز {وهلل العزة ولرسوله وللمؤمنين}‪ ،‬فال يعظم في عينه باطل وال مبطل ألن‬
‫الباطل وأهله من التافه الحقير فال يمكن أن يعظم في أعين المؤمنين ‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫الموقف الدعوي الرابع في العهد المكي‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫الثبات على الدين والتمسك بالدعوة‬

‫ومن أهم سمات التربية في المرحلة المكية الثبات على الدين‪ ،‬وال شك أن موقف النبي ـ‬
‫صلى هللا عليه وسلم ـ الراسخ أمام اإليذاء‪ ،‬واإلغراء‪ ،‬والمساومة‪ ،‬كان درسا تربويا‬
‫للصحابة ـ رضوان هللا عليهم ـ ولنا من بعدهم‪ ،‬نتعلم منه الثبات على العقيدة‪ ،‬والتمسك‬
‫بالمبادئ‪ ،‬مهما أوذينا بقول أو فعل‪ ،‬وعدم الضعف أمام المحن‪ ،‬أو التفكير في المغريات‬
‫التي تعرض علينا لصرفنا عن ديننا ودعوتنا ‪..‬‬
‫ثم إن‪ ‬الثبات على الدين والحق‪ ‬نعمة من نعم هللا‪ ،‬قال هللا تعالى‪َ { :‬ولَوْ ال أَ ْن ثَبَّ ْتنَا َ‬
‫ك لَقَ ْد‬
‫ِكدْتَ تَرْ َك ُن إِلَ ْي ِه ْم َشيْئا ً قَلِيالً }(اإلسراء‪ ،)74:‬ولذا كان رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬‬
‫يكثر من الدعاء‪ ‬بقوله ‪ ( :‬يا مقلب القلوب ثبّت قلبي على دينك ) رواه أحمد ‪.‬‬
‫والثبات في أيام الفتن ووقت المحن والبالء له أجره الكبير وفضله العظيم‪ ،‬ولذلك ب ّشر‬
‫رسول هللا ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ـ الثابت على دينه بأجر خمسين من الصحابة‪ ،‬فقال ـ‬
‫فيهن يومئ ٍذ بما أنتم عليه‬ ‫َّ‬ ‫صلى هللا عليه وسلم ـ‪ ( :‬إن من ورائكم أيام الصبر‪ ،‬للمتمسك‬
‫ي هللا أو منهم ؟‪ ،‬قال‪ :‬بل م ْنكم ) رواه الترمذي ‪.‬‬ ‫أجر خمسين منكم‪ ،‬قالوا‪ :‬يا نب َّ‬
‫في خالل مرحلة االضطهاد والمواجهة كان الرسول يتحرك بالدعوة في اتجاهات‬
‫متعددة‪ ،‬باذال ما أمكنه من جهد وفكر وتوجيه‪.‬‬

‫فقد عرض اإلسالم على القبائل‪ ،‬وعلى جميع الوافدين إلى مكة في مواسم الحج‬
‫والتجارة‪ ،‬وواجه كفار مكة بدعوتهم إلى هللا‪ ،‬وتالوة القرآن الكريم عليهم‪ ،‬وأبدى لهم ما‬
‫بدعوته من صدق وحق‪ ..‬وبين لهم أن ما منعهم من اإلسالم إال الجحود والتعصب‪ ،‬يدل‬
‫على ذلك أقوال وأفعال نطق بها الكفار‪.‬‬

‫فإن عينه ال تغفو عن أصحابه الذين القوا االذى فقد كان صلى‬ ‫أن أرسل هللا رسوله ّ‬ ‫فمنذ ْ‬
‫هللا عليه وسلم معهم يثبتهم ويبشرهم ويذكرهم بما أع ّد هللا لهم ويمنحهم التفاؤل‪ ،‬لقد كان‬
‫دفئًا لهم في زمهرير االبتالء‪ ،‬وموجهًا لهم في الشدائد والمحن‪ ،‬ومثبتًا لهم على إيمانهم‪.‬‬
‫فهو يم ّر على آل ياسر رضي هللا عنها والسياط تحرق ظهورهم فيقول‪ :‬صبرًا آل ياسر‬
‫فإن موعدكم الجنة‪.‬‬

‫‪6‬‬
‫وحين أتاه خبابُ بن األرت رضي هللا عنه شاكيًا يطلب منه الدعاء‪ ،‬قعد صلى هللا عليه‬
‫وسلم وهو محمرٌّ وجهه‪ ،‬فقال‪« :‬لقد كان من قبلكم يُم َشط بمشاط الحديد ما دون عظامه‬
‫ويوضع المنشار على مفرق رأسه فيُ َشق‬
‫َ‬ ‫من لحم أو عصب ما يصرفه ذلك عن دينه‪،‬‬
‫ّ‬
‫وليتمن هللا هذا األمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى‬ ‫باثنين‪ ،‬ما يصرفه ذلك عن دينه‪،‬‬
‫حضرموت ما يخاف إال هللا والذئب على غنمه»‬

‫وحين جاء عبدالرحمن بن عوف وأصحابه رضي هللا عنهم إلى النبي صلى هللا عليه‬
‫وسلم فقالوا‪ :‬يا رسول هللا! كنا في ع ّز ونحن مشركون‪ ،‬فلما آمنا صرنا أذلة! فقال‪« :‬إني‬
‫أمرت بالعفو‪ ،‬فال تقاتلوا» ولقد كانت دار األرقم محضنًا يجمع المربي الكبير صلى هللا‬
‫عليه وسلم بأصحابه أتباع دعوته‪ ،‬فيصلون ويتلون القرآن ويتلقون التوجيه ويفضون‬
‫بهمومهم ومشاعرهم‪.‬‬

‫‪7‬‬
‫ثانيا‪ :‬العهد المدني‬ ‫‪‬‬
‫الموقف الدعوي األول في العهد المدني‬ ‫‪‬‬
‫المسجد أول دعائم الدولة اإلسالمية ويجب على الداعية ان يهتم بالمسجد ودوره‪:‬‬
‫بدأ الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ منذ الوصول إلى المدينة المنورة في إنجاز المهام الملقاة‬
‫على عاتقه في مطلع المرحلة الجديدة من الدعوة‪ ،‬والتي تستهدف إنشاء الدولة اإلسالمية‬
‫الجديدة‪ ‬على أسس راسخة‪ ،‬وتهيئة كافة المتطلبات لتحقيق هذا الهدف‪ ،‬فقام بخطوات هامة‬
‫لتحقيق هذه الغاية‪ ،‬منها‪ :‬بناء المسجد‬
‫‪ .1‬بناء المسجد‪:‬‬

‫كان بناء المسجد الخطوة األولى على طريق بناء الدولة اإلسالمية الجديدة‪ ،‬لتظهر فيه شعائر‬
‫اإلسالم التي طالما حوربت‪ ،‬ولتقام فيه الصلوات التي تربط الناس برب العالمين ‪ ..‬وقد وقع‬
‫اختيار النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ على المكان الذي بركت فيه ناقته‪ ‬وقال ‪ ( :‬هذا إن شاء هللا‬
‫المنزل ) رواه البخاري ‪.‬‬
‫وقد شارك النبي صلى هللا عليه وسلم في بناء المسجد وأسهم بنفسه في العمل جنبا إلى جنب مع‬
‫المهاجرين واألنصار‪ ،‬وعندما رأى الصحابة ـ رضوان هللا عليهم ـ رسولهم الكريم ـ صلى هللا‬
‫عليه وسلم ـ يجهد كما يجهدون‪ ،‬نشطوا في أداء المهمة به ّمة عالية‪ ،‬وعزيمة ال تلين‬
‫لذلك فإن المسجد في المفهوم اإلسالمي الخالص هو مقر إعالن العبودية الخالصة لخالقنا‬
‫وا َم َع هَّللا ِ أَ َحداً } ‪ ،‬وبما أن العبادة في المفهوم اإلسالمي شاملة جامعة‬ ‫اج َد هَّلِل ِ فَالَ تَ ْد ُع ْ‬
‫{ َوأَ َّن ْال َم َس ِ‬
‫ي َو َم َماتِي هَّلل ِ َربِّ ْال َعالَ ِمينَ ‪ .‬الَ‬ ‫لحياة اإلنسان العابد هلل تعالى { قُلْ إِ َّن َ‬
‫صالَتِي َونُ ُس ِكي َو َمحْ يَا َ‬
‫ت َوأَنَاْ أَ َّو ُل ْال ُم ْسلِ ِمينَ } [األنعام‪]163-162:‬‬ ‫ك لَهُ َوبِذلِكَ أُ ِمرْ ُ‬ ‫َش ِري َ‬

‫وبما أن العلم في اإلسالم شرط أساسي في أداء العبادة الصحيحة بمفهومها الشامل‪ ،‬فالبد إذن‬
‫من أن يقوم المسجد بدور نشر العلوم بل وأن يصبح منارة ومقصداً علميا ً‪.‬‬

‫وقد قام المسجد بدوره التعليمي منذ أيامه األولى‪ ،‬وحث رسول هللا على هذا الدور العلمي لقوله‬
‫صلى هللا عليه وسلم‪ « :‬من غدا إلى المسجد ال يريد إال أن يتعلم خيراً أو يعلمه كان كأجر حاج‬
‫تاما ً حجه » أخرجه الطبراني‪ ,‬وهذا المقصد التعليمي أوضحه وبيَّنه صلى هللا عليه وسلم في‬
‫حديثه ليفرق بينه وبين البعد الشعائري من إقامة الصلوات في المساجد‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫ولم يقتصر الدور التعليمي للمسجد على الرجال بل نافست عليه النساء‪ ،‬لما أخرجه البخاري في‬
‫صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي هللا عنه قال‪ :‬قالت النساء للنبي‪ " :‬غلبنا عليك الرجال‬
‫فاجعل لنا يوما ً من نفسك‪ ,‬فوعدهن يوما ً لقيهن فيه فوعظهن وأمرهن " ‪ .‬وفتح المسجد صدره‬
‫للمرأة تشهد دروس العلم ليتأكد حق المرأة في تحصيل العلم ومشاركة الرجل في الحياة‪ ,‬وقد‬
‫أُعجبت السيدة عائشة أم المؤمنين بإقبال األنصاريات على العلم فقالت‪ " :‬نعم النساء نساء‬
‫األنصار‪ ،‬لم يمنعهن الحياء من أن يتفقهن في الدين " ‪.‬‬

‫وكان رسول هللا صلى هللا عليه وسلم يشرف على حلقات العلم التي كانت تنتشر في أرجاء‬
‫المسجد النبوي الشريف‪ ،‬خاصة في بواكير الصباح حيث حدث عبدهللا بن عمرو بن العاص أن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم م َّر بمجلسين أحدهما فيه دعاء وإقبال على هللا واآلخر فيه علم‪,‬‬
‫فأق َّرهما وقعد في مجلس العلم‪ ,‬وشجع رسول هللا صلى هللا عليه وسلم استخدام الوسائل المتاحة‬
‫آنذاك لتوضيح المعاني والدروس سواء كانت بصرية أو سمعية‪ ,‬ومن أمثلة ذلك ما رواه ابن‬
‫مسعود بقوله‪ :‬خطَّ لنا رسول هللا خطا ً بيده ثم قال‪ « :‬هذا سبيل هللا مستقيما ً » وخط عن يمينه‬
‫وشماله ثم قال‪ « :‬هذه السبل ليس منها سبيل إال عليه شيطان يدعو إليه » ثم قرأ { َوأَ َّن هَـ َذا‬
‫ق بِ ُك ْم عَن َسبِيلِ ِه } [األنعام‪.]153:‬‬ ‫اطي ُم ْستَقِيما ً فَاتَّبِعُوهُ َوالَ تَتَّبِع ْ‬
‫ُوا ال ُّسب َُل فَتَفَ َّر َ‬ ‫ص َر ِ‬
‫ِ‬

‫ولو أن الوسائل التعليمية المتاحة لنا في عصرنا هذا وجدت في عصر رسول هللا صلوات هللا‬
‫َّ‬
‫لحث على استعمالها‪ ،‬وكان أول من يستعملها صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬ ‫وسالمه عليه‬

‫واستمر المسجد في التطور والنمو جيالً بعد جيل‪ ،‬ليؤدي مهامه في صناعة الحياة ليصبح‬
‫جامعات ومنارات علمية وفكرية رائدة‪ ,‬واألمثلة كثيرة نذكر بعضها مثل جوامع األلف ‪-‬وسميت‬
‫كذلك ألنه مضى على تأسيسها أكثر من ألف عام‪ -‬مثل جامع عمرو بن العاص‪ ،‬قلب الفسطاط‬
‫الفكري‪ ،‬ومهد الحركة العلمية في مصر‪ ،‬والذي كان يشهد مئات الزوايا العلمية‪ ,‬والجامع‬
‫األموي في دمشق وجامع المنصور ببغداد‪ ,‬وجامع القرويين في فاس بالمغرب الذي امتاز‬
‫بالنظام التعليمي الجامعي وطرق التدريس‪ b‬فيه‪ ،‬فكان له شروط دقيقة للتعيين ووظائف التدريس‬
‫وتخصيص كراسي األستاذية واإلجازات الفخرية‪ ,‬وكان له مساكن جامعية خاصة للطلبة‬
‫واألساتذة‪ ،‬ومكتبات متخصصة للدارسين الجامعيين‪ ،‬فقصدها المسلمون وغير المسلمين من‬
‫شتى أرجاء العالم‪ ,،‬أما جامع الزيتونة بتونس فقد أبدع في شتى مجاالت العلوم النقلية والعقلية‪،‬‬
‫وضمت مكتبته العامرة مايزيد عن مائتي ألف مجلد‪ ,‬وكذلك كان حال الجامع األزهر الذي بدأ‬
‫كغيره كمسجد إلقامة الشعائر التعبدية وسرعان ما أصبح جامعة يدرس فيها العلوم المختلفة‪،‬‬
‫وتخرج فيها علماء عمالقة في كل مجاالت الحياة‪.‬‬
‫واشتركت كل هذه الجامعات العظيمة في تشجيعها لطلبتها على مبدأ المناقشة والمناظرة‬

‫‪9‬‬
‫والتمرس عليها‪ ,‬فأصبح من المألوف أن يخالف الطالب أستاذه في الرأي في إطار األدب‬
‫المتعارف عليه‪ ,‬وبهذا أوجدت المدرسة العظيمة التي يطلق عليها بالمسجد ‪-‬بمفهومه الشامل‪-‬‬
‫أجياالً ستظل معجزة العالم ومفخرته‪ ,‬ولها فضل على كل علوم الدنيا شرعية أو كونية أو‬
‫إنسانية‪ ,‬حيث ك َّونت أساس النهضة العلمية والصناعية‪.‬‬
‫‪ ‬وهذا مما البد ان يتنبه له الداعية من دور تاريخي عظيم للمساجد ويتذكر ان األمة لن تصلح اال‬
‫بشرع هللا ولن تصلح اال كما صلح االولون على يد رسول هللا‬

‫‪10‬‬
‫الموقف الدعوي الثاني في العهد المدني‪:‬‬ ‫‪‬‬
‫إقالة ذوي العثرات خلق رحيم يجب على الداعية ان يتأسى به‪:‬‬

‫عندما أكمل الرسول ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬استعداده للسير إلى فتح مكة ‪ ،‬كتب حاطب‬
‫بن أبي بلتعة ـ رضي هللا عنه ـ إلى قريش كتابا ً يخبرهم بمسير رسول هللا ـ صلى هللا‬
‫عليه وسلم ـ إليهم ‪ ،‬ثم أعطاه امرأة ‪ ،‬وجعل لها أجراً على أن تبلغه إلى قريش ‪ ،‬فجعلته‬
‫في ضفائر شعرها ‪ ،‬ثم خرجت به إلى مكة ‪ ،‬ولكن هللا ـ تعالى ـ أطلع نبيه ‪ -‬صلى هللا‬
‫عليه وسلم ‪ -‬بما صنع حاطب ‪ ،‬فقضى ـ صلى هللا عليه وسلم ـ على هذه المحاولة ‪ ،‬ولم‬
‫يصل قريش أي خبر من أخبار تجهز المسلمين وسيرهم لفتح مكة ‪..‬‬
‫والخطأ الذي اقترفه هذا الصحابي الجليل ليس بالخطأ اليسير ‪ ،‬إنه كشف أسرار الدولة‬
‫المسلمة ألعدائها ‪ ،‬ثم هذا الصحابي ليس من عوام الصحابة ‪ ،‬بل هو ِمن أولي الفضل‬
‫منهم ‪ ،‬إنه من أهل بدر‪ ،‬ويكفيه هذا شرفا ‪ ،‬والصحابة بمجموعهم خير القرون بقول‬
‫الرسول ـ صلى هللا عليه وسلم ـ ‪ ،‬ومع كل هذا زلت به القدم في لحظة من اللحظات ‪،‬‬
‫و َك ْم للنفس البشرية من زالت ‪ ،‬وهذا من سمات الضعف البشري والعجز اإلنساني ‪،‬‬
‫ليعلم هللا عباده المؤمنين بأن البشر ما داموا ليسوا رسالً وال مالئكة فهم غير معصومين‬
‫من الخطأ ‪ ،‬وهذا الذي عناه النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بقوله‪ ( :‬كل بني آدم خطاء ‪،‬‬
‫وخير الخطائين التوابون ) رواه أحمد ‪.‬‬
‫وقد عامل النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ حاطبا ـ رضي هللا عنه ـ معاملة رحيمة تدل على‬
‫إقالة عثرات ذوي السوابق الحسنة ‪ ،‬فجعل ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬من ماضي حاطب‬
‫سببا ً في العفو عنه ‪ ،‬وهو منهج تربوي حكيم ‪..‬‬
‫فلم ينظر النبي ‪ -‬صلى هللا عليه وسلم ‪ -‬إلى حاطب من زاوية مخالفته تلك فحسب ـ وإن‬
‫كانت كبيرة ـ ‪ ،‬وإنما راجع رصيده الماضي في الجهاد في سبيل هللا وإعزاز دينه ‪ ،‬فوجد‬
‫أنه قد شهد بدراً ‪ ،‬وفي هذا توجيه للمسلمين إلى أن ينظروا إلى أصحاب األخطاء نظرة‬
‫متكاملة ‪ ،‬وأن يأخذوا باالعتبار ما قدموه من خيرات وأعمال صالحة في حياتهم ‪ ،‬في‬
‫مجال الدعوة والخير ‪ ،‬والعلم والتربية ‪ ،‬والجهاد ونصرة دين هللا ‪..‬‬
‫قال ابن القيم ‪ " :‬من قواعد الشرع والحكمة أن من كثرت حسناته وعظمت ‪ ،‬وكان له‬
‫في اإلسالم تأثير ظاهر ‪ ،‬فإنه يحتمل منه ما ال يحتمل لغيره ‪ ،‬ويُ ْعفَى عنه ما ال يعفى عن‬
‫غيره ‪ ،‬فإن المعصية خبث ‪ ،‬والماء إذا بلغ قلتين لم يحمل الخبث ‪ ،‬بخالف الماء القليل ‪،‬‬
‫فإنه ال يحتمل أدنى خبث‪. ".‬‬

‫‪11‬‬
‫وإلى ذلك أشار النبي ـ صلى هللا عليه وسلم ـ بقوله لعمر ـ رضي هللا عنه ـ ‪ ( :‬وما‬
‫يدريك لعل هللا اطلع على أهل بدر فقال ‪ :‬اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم ) رواه‬
‫البخاري ‪.‬‬

‫إن إقالة العثرة ‪ ،‬والعفو عن صاحب الخطأ والزلة ‪ ،‬ليس إقرارا لخطئه ‪ ،‬وال تهوينا من‬
‫زلته ‪ ،‬ولكنها ـ مع اإلنكار عليه ومناصحته ـ إنقاذ له ‪ ،‬بأخذ يده ليستمر في سيره إلى‬
‫هللا ‪ ،‬وعطائه لدين هللا ‪ ..‬ومن ثم فإقالة إقالة ذوي العثرات موقف تربوي عظيم من النبي‬
‫ـ صلى هللا عليه وسلم ـ لألمة طبقه مع حاطب بن أبي بلتعة ـ رضي هللا عنه‬

‫‪12‬‬
‫‪ ‬الموقف الدعوي الثالث في العهد المدني‬
‫الترغيب في البذل والجهد وبث االمل في نفوس الناس من اهم صفات‬
‫الداعية‪:‬‬
‫رسالة الداعية أسمى رسالة‪ ،‬وأي عمل ـ مهما بلغت قيمته ـ ال يرقى إلى مستوى عمل الدعوة‪،‬‬
‫وهداية الناس إلى هللا ‪.‬‬
‫ومما يؤكد على هذا المعنى أن هللا تعالى حين تحدث عن الدعوة والقيام بها ص َّدرها بأسلوب‬
‫ال إِنَّنِي‬ ‫(و َم ْن أَحْ َس ُن قَوْ الً ِم َّم ْن َدعَا إِلَى هَّللا ِ َو َع ِم َل َ‬
‫صالِحا ً َوقَ َ‬ ‫االستفهام المفيد للنفي‪ ،‬فقال تعالى‪َ :‬‬
‫ِمنَ ْال ُم ْسلِ ِمينَ )(فصلت‪ ،)33:‬أي‪ :‬ال أحد أحسن ممن يفعل ذلك ‪.‬‬

‫ومعلوم أن عمل الداعية ليس مجرد الكالم والوعظ‪ ،‬فما أيسر أن يعتاد اإلنسان ـ بكثرة المران ـ‬
‫على األلفاظ الجذلة‪ ،‬والعبارات الرصينة‪ ،‬بحيث يطلب منه الحديث في أي موطن‪ ،‬فيفيض به‬
‫كأحسن ما يكون تقربا الى هللا وكي تلين القلوب بطيب الحديث‬
‫يقول عليه الصالة والسالم للمسلمين في بدر‪ :‬قوموا إلى جنة عرضها السموات واألرض‬
‫والذي نفس محمد بيده ال يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرا محتسبا مقبال غير مدبر إال أدخله‬
‫هللا الجنة‪ ،‬فقال عمير بن الحمام بخ بخ‪ ،‬فقال رسول هللا ‪-‬صلى هللا عليه وسلم ‪-‬ما يحملك على‬
‫قولك بخ بخ؟ قال‪ :‬ال‪ ،‬يا رسول هللا إال رجاء أن أكون من أهلها‪ ،‬قال‪ :‬إنك من أهلها‪ .‬فأخرج‬
‫تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن‪ ،‬ثم قال‪ :‬لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي^ هذه إنها لحياة‬
‫طويلة‪ ،‬فرمى بما كان معه من التمر ثم قاتلهم حتى قتل وكذلك سأله عوف بن الحارث‪ .‬ما‬
‫يضحك الرب من عبده! قال‪ :‬غمسه يده في العدو حاسرا فنزع درعا كانت عليه فقذفها ثم أخذ‬
‫سيفه فقاتل القوم حتى قتل‬
‫لم يكن النبي صلى هللا عليه وسلم يترك فرصة من الفرص أو مجال من المجاالت إال واستغلها‬
‫في تبليغ دعوته‪ ،‬للقبائل واألفراد وهذا من حرصه على الدعوة وتفانيه وبذله مما يستدعي‬
‫التأسي به من صفوف الدعاة‪.‬‬

‫الموقف الدعوي الرابع في العهد المدني‬ ‫‪‬‬


‫‪13‬‬
‫حديث اإلفك وخطورة االشاعة وكيفية تعامل الداعية معها‪:‬‬
‫واخترت هذا العنوان ألنه ال بد أن يشعر الدعاة بخطورة أخذهم باإلشاعة دون تثبت‬
‫وكيف أن اإلشاعة كفيلة بتحطيم الصف المسلم كامال‪.‬‬
‫إنه وإن تجسد باتهام الصديقة بنت الصديق عائشة رضي هللا عنها‪ .‬لكنه صورة قد تتكرر‬
‫في كل جيل وتضع النيل من القيادة هدفا رئيسيا ال بد من تحطيمه‪ ،‬وحين تعجز القوة‬
‫المادية عن النيل من القيادة فليس أمام العدو إال الحرب المعنوية على هذه القيادة‬
‫وتحطيمها من خالل هذه الحرب‪.‬‬
‫وأهم ما في هذا الحدث هو أن مصدر الفرية هم المنافقون تحت راية زعيمهم عبد هللا بن‬
‫أبي‪ ،‬وحين يتحصن الصف من الفرية وتبقى في صفوف المنافقين فال خطر منهم وال هم‬
‫لكن عندما تنتقل إلى داخل الصف المسلم فتسرى فيه سريان النار في الهشيم عندئذ يبدو‬
‫خطرهم الكبير‪.‬‬
‫والداعية يستفيد من دراسته للسيرة النبوية فيما يتعلق بحادثة االفك ما يلي‪:‬‬
‫أوال‪:‬‬
‫البعد عن مظان التهمة واجب أساسي على الداعية وعليه أن يعلم أنه هدف ألنظار العدو‬
‫والصديق‪ ،‬فيتجنب ما استطاع البعد عن موطن الريبة‪.‬‬
‫ثانيا‪:‬‬
‫عدم األخذ باإلشاعة كما يقول القرآن الكريم‪:‬‬
‫{لوال جاؤوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأوالئك عند هللا هم الكاذبون} (‪)1‬‬
‫وأي خبر غير موثق بالنسبة للفرد المسلم هو مرفوض عنده‪ ،‬وليعلم هذا األخ أن رواية‬
‫اإلشاعة‪ ،‬وتناقل الخبر غير الموثق تحيله إلى أخ كاذب ‪ ..‬وهذا حكم القرآن في أمثال‬
‫هؤالء‪ .‬هم الكاذبون عند هللا‪ ،‬ولو لم يفتر الكذب‪ .‬لو كان نقله صدقا محصنا عمن سمع‬
‫منه فهو عند هللا تعالى من الكاذبين‪.‬‬
‫ثالثا‪:‬‬
‫ليبق الميزان الحساس في الحكم على اإلشاعة هو الميزان الذاتي‪ .‬وقد أقر القرآن الكريم‬
‫هذا الميزان وأثنى عليه وذلك بمناسبة الحديث الذي جرى بين أبي أيوب األنصاري‬
‫وزوجة أم أيوب رضي هللا عنهما إذ قالت لزوجها‪( :‬أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟‬
‫قال‪ :‬نعم وذلك الكذب‪ .‬أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب قالت‪ :‬ال وهللا ما كنت ألفعله‪ .‬فقال‪:‬‬
‫فعائشة وهللا خير منك) ولو نفذ الدعاة هذا الميزان الذاتي النهارت اإلشاعة وانهار اإلفك‬
‫من جذوره‪.‬‬
‫رابعا‪:‬‬
‫أال يتدخل الهوى إطالقا في قضية النقل لإلشاعة والمساهمة فيه‬
‫المراجع والمصادر‬
‫‪14‬‬
‫‪ .1‬السيرة النبوية صور تربوية وتطبيقات عملية ‪-‬محمد مسعد ياقوت – موقع رسول هللا صلى‬
‫هللا عليه وسلم‬
‫‪ .2‬سلسلة السيرة النبوية خاتمة الرسالة – صوتيات اسالم ويب – راغب السرجاني‬
‫‪ .3‬الرحيق المختوم – بحث في السيرة النبوية‪ b:‬صفي الدين المباركفوري‬
‫‪ .4‬السيرة النبوية – ابوالحسن الندوي‬
‫‪ .5‬زاد المعاد في هدي خير العباد – ابن القيم‬
‫‪ .6‬تأمالت في السيرة النبوية – د‪ .‬محمود عمارة‬
‫‪ .7‬السيرة النبوية دروس وعبر – مصطفى السباعي‬
‫‪ .8‬السيرة النبوية‪ ،‬عرض وقائع وتحليل أحداث‪ ،‬علي محمد الصالبي‬
‫‪ .9‬هدي محمد صلى هللا عليه وسلم في اخالقه ومعامالته – د‪ .‬أحمد عثمان المزيد‬
‫‪ .10‬دراسة السيرة النبوية وأهميتها في المنهج اإلسالمي – عالء سعد حسن‬
‫االربعاء ‪ 7‬ربيع األول ‪ 1426‬الموافق ‪ 20‬إبريل ‪ 2005‬موقع ‪islamtoday.net‬‬
‫‪ .11‬أهمية دراسة السيرة النبوية ومعرفته‪-‬الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن معال اللويحق‬
‫شبكة االلوكة ‪-‬تاريخ اإلضافة‪ 25/11/2015 :‬ميالدي ‪ 12/2/1437-‬هجري‬
‫‪ .12‬لماذا ندرس السيرة النبوية الشريفة؟ د‪ .‬محمد علي الغامدي‪-‬مركز الدراسات اإلسالمية –‬
‫جامعة أم القرى – مركز البحوث‬
‫‪ .13‬فقه السيرة النبوية – منير الغضبان‬
‫‪ .14‬وقفات تربوية مع السيرة النبوية ‪ -‬أحمد فريد‬
‫‪ .15‬محمد كأنك تراه‪ ،‬عائض القرني‬
‫‪ .16‬المنهج الحركي للسيرة‪ ،‬منير الغضبان‬
‫‪ .17‬السيرة النبوية كيف نبني دولة قوية‪ ،‬محمد مسعد ياقوت‬
‫‪ .18‬التخطيط في اإلدارة اإلسالمية‬
‫الفريق عبد العزيز بن محمد هنيدي‬
‫‪15‬‬
‫المصدر‪ :‬من كتاب‪" :‬إدارة الذات‪ :‬مدخل مقترح في اإلدارة اإلسالمية"‪.‬‬
‫مقاالت متعلقة ‪-‬تاريخ اإلضافة‪ 14/10/2010 :‬ميالدي ‪ 6/11/1431-‬هجري – موقع االلوكة‬
‫‪ . .19‬مختصر الرحيق المختوم‪ b‬من سيرة النبي المعصوم صلى هللا عليه وسلم‪ -‬محمد أبو الهيثم‬

‫‪16‬‬

You might also like