Professional Documents
Culture Documents
قصيدة الإنسان الإله - الجزء الأول 25.03.17
قصيدة الإنسان الإله - الجزء الأول 25.03.17
الجزء األول
{التهيئة}
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
(مقدمة)
(مدخل)
(هتيئة)
اجلزء األول ( 4 -يواكيم كان قد تزوج حكمة هللا احملتواة يف قلب املرأة البارة)
اجلزء األول ( 8 -تبدو نفسها مجيلة وال عيب فيها كما كانت يف فكر هللا)
اجلزء األول ( 9 -بعد ثالث سنوات ستكونني هنا ،اي زنبقيت)
اجلزء األول ( 11 -اي فرحي كيف تعرفني هذه األمور املقدسة؟ من يقول ِ
لك ذلك)
اجلزء األول ( 14 -العذراء األبدية ال تفكر إال أبمر واحد :أن توجه قلبها إىل هللا)
اجلزء األول ( 17 -كانت ترى جمدداًكل ما كانت روحها قد رأته يف هللا)
ألنك ِ
وثقت ابهلل .وستبوحني له عروسك وسيكون قديساً ِ
ِ ِ
(سيمنحك هللا اجلزء األول 18 -
ِ
بنذرك)
اجلزء األول ( 21 -وضع يوسف مثل "خامت على خامت" مثل رئيس املالئكة على عتبة الفردوس)
اجلزء األول ( 35 -جيب أن جتعلنا عطية هللا أفضل على الدوام)
اجلزء األول ( 37 -يتفتح األمل مثل زهرة ملن يتكئ برأسه على صدري الوالدي)
اجلزء األول ( 41 -لو كان يوسف أقل قداسة ملا َمنَ َحهُ هللا نوره)
اجلزء األول ( 50 -عند الرعاة توجد كل الصفات الالزمة ليكونوا عابدي الكلمة)
املكرسة)
اجلزء األول ( 52 -يوسف حيمي كذلك النفوس َّ
اجلزء األول ( 59 -كان األمل رفيقنا األمني ،وقد َّاَّتَ َذ خمتلف األشكال وكل األمساء)
(املقدمة)
ُولِ َدت ماراي فالتورات يف كازرته (إيطاليا) يف 14آذار (مارس) .1897كانت االبنة الوحيدة
لنائب قائد كتيبة فرسان ،هو جوزيف فالتورات املولود يف مانتوفا عام ،1862وملدرسة لغة فرنسية هي
إيزيس فيورافانزي املولودة يف كرميوان عام .1861
مل تكن قد جتاوزت شهرها الثامن عشر عندما اضطر والداها لإلقامة مع ابنتهما يف مشايل
إيطاليا .استقرا أوالً يف فاينزا ،وبعد عدة سنوات انتقال إىل ميالنو حيث أدخالها دار حضانة عند
راهبات األورسولني .وهنا بدت عليها أوىل عالئم الدعوة :أرادت أن تكرس نفسها للسيد املسيح ابألمل
الذي اختارته برضاها بدافع احملبة.
يف السابعة من عمرها ،وكانت ما تزال يف ميالنو ،دخلت املدرسة االبتدائية عند الراهبات
املرسيليّات ،حيث انلت نعمة التثبيت املقدس عام 1905على يد الكردينال أندريه فراري .واتبعت
بعدها دراستها يف مدرسة فوغريا العامة حيث استقرت العائلة يف عام .1907ويف كاستيجيو احتفلت
مبناولتها األوىل عام .1908
يف عام 1909وبضغط من والدهتا الصارمة جداً انتسبت إىل معهد بيانكوين دي مونزا ،حيث
متيزت بذكائها املتوقد جداً وشخصيتها الصلبة جداً .ولقد كانت جد موهوبة يف املواد األدبية ،بينما
مل تفلح يف مادة الرايضيات .وبعد جهد جهيد ومثابرة مضنية استطاعت احلصول على الدبلوم ابلعلوم
التقنية ،اليت فرضت عليها والدهتا دراستها .وعلى الرغم من ذلك كانت مراتحة إىل املعهد ولكن والدهتا
أرادت بعد أربع سنوات إخراجها منه .هنا توجهت ماراي بصالة حارة إىل الباري تعاىل الذي أانر مرة
أخرى بصريهتا بشأن مستقبلها.
يف 17آذار ،1920وبينما هي سائرة بصحبة والدهتا يف الشارع ،ضرهبا أحد املتطرفني على
ظهرها بقضيب حديدي ضربة تركت على جسدها أوىل عالئم عاهتها املستقبلية.
بعد أن الزمت الفراش مدة ثالثة أشهر ،مضت يف تشرين األول من نفس العام ،مع والديها،
إىل رجييو دي كاالبراي ،حيث أقامت حوايل السنتني عند أقرابء هلا من أمها من عائلة بلفانيت ،ميلكون
شـبكة من الفنادق .كانت هذه الفرتة الطويلة اليت قضتها يف هذه املدينة الساحلية اجلميلة يف جنوب
إيطاليا ،غنية ابلتجارب اليت أثرت يف روحها ولكنها يف الوقت نفسه متيزت ابلنفور من والدهتا اليت
كانت تعارض عروض زواج جديدة .عادت بعدها ماراي إىل فلورنسا -وكان ذلك عام -1922
وأقامت فيها عامني آخرين حافلني بذكرايت مؤملة.
يف عام 1924كان االنتقال النهائي إىل فيارجييو الذي شكل بداية حياة جديدة تتوق إىل
صعود متواصل حنو هللا .والتزمت سراً ،بسبب رفض والدهتا ،جبميع املمارسات الروحية ،وبذلك جنحت
يف االخنراط يف العمل الكاثوليكي .وحبماسها الدائم ورغبتها العارمة يف بذل الذات ،فقد وهبت نفسها
للمحبة الرحيمة يف عام ،1925ويف عام ،1931وبعد إعالهنا نذورها ،أرادت بنية اثبتة أن هتب
نفسها أيضاً للعدالة اإلهلية.
بسبب تفاقم مرضها ،اضطرت ملالزمة الفراش بشكل هنائي اعتباراً من أول نيسان 1934وها
هي منذ اآلن آلة طيعة بني يدي الرب .ويف السنة التالية وصلت إليها ماراي ديشيويت اليت بقيت مرافقتها
األمينة ،واليت مل ترتكها طوال حياهتا .ويف هذه األثناء تلقت ماراي صفعة أمل مربحة بوفاة والدها الذي
كانت حتبه وتعتربه األفضل بني الرجال.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 8 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
يف عام 1942زارها كاهن ورع وتقي ،وكان من املرسلني ،هو األب روموالد .م .ميغليوريين من
رهبنة خدام مرمي ،الذي اَّتذته مرشدها الروحي مدة أربع سنوات .ويف عام 1943يف السنة ذاهتا
اليت توفيت خالهلا والدهتا ،بدأت ماراي فالتورات رسالتها ككاتبة.
انتقلت ماراي من كتابة سريهتا الذاتية اليت كتبتها حسب إمكانياهتا بطلب من األب ميغليوريين
إىل "اإلمالءات" و "الرؤى" اليت صرحت بتلقيها عن طريق الوحي .على الرغم من آالمها املربحة
ومالزمتها الفراش ،كانت تكتب بيدها ،ومن احملاولة األوىل ،دون مراجعة ،دون اكرتاث ابلوقت حّت
ولو كان ليالً ،ودون اإلحساس إطالقاً ابالنزعاج من مقاطعات عرضية ،مع حمافظتها الدائمة على
مظهرها الطبيعي .ومل تكن ترجع إال إىل الكتاب املقدس وكتاب التعليم املسيحي للبااب بيوس العاشر
للتحقق.
ومنذ العام 1943حّت العام 1947كانت فورة عطائها اليت بدأت َّتبو بعدها تدرجيياً حّت
عام 1953حيث أمتت ماراي كتابة 15000مخسة عشر ألف صفحة دفرت كانت عبارة عن تعليقات
حول الكتاب املقدس ودراسات عقائدية ،رواايت عن املسيحيني األوائل والشهداء .مؤلفات عن
التقوى ،عدا عدد من صفحات الصحيفة الروحية .إال أن ثلثي نتاج ماراي فالتورات األدي تقريباً كان
مكرساً لعمل هائل هو سرية حياة السيد املسيح.
بعد أن وهبت كل شيء هلل ،حّت ذكاءها الشخصي ،بدأت ماراي ابالنطواء تدرجيياً خالل عدة
سنوات بشكل من أشكال العزلة النفسية حّت اليوم الذي انطفأت فيه جذوهتا ،وكأهنا تطيع قول
الكاهن الذي دعي عند نزاعها األخري ،فصلى هبذه العبارة" :اذهيب أيتها الروح املسيحية من هذا
العامل ".وكان ذلك يوم 21تشرين األول (أكتوبر) ،1961وكانت قد تركت للذكرى اجلملة التالية:
«لقد َّتلصت من اآلالم ولكنين سأستمر يف احلب».
إن أهم أعماهلا حول حياة السيد املسيح كتبت بدءاً من العام 1944وحّت 1947ابستثناء
بعض الفصول ُدونت يف السنوات التالية .وقد نشرت يف إيطاليا عام 1956حتت عنوان" :قصيدة
الرجل اإلله" " ."IL POEMA DELL UOMO DIOوقد ظهرت يف أربعة أجزاء
كبرية ،مث تلتها طبعة جديدة منقحة يف عشرة أجزاء مع تعليقات الهوتية ومذهبية لألب كونراد .م.
بريت ،من رهبنة خدام مرمي ،وقد أعيد طبعه ابستمرار ،وكان يوزع دون أية دعاية ومع ذلك فقد انتشر
بشكل واسع يف إيطاليا ويف كل العامل.
ويف عام ،1971قرأ مدرس فرنسي ،السيد فليكس سوفاج FELIX SAUVAGE
كتاب ،"IL POEMA DELL` UOMO DIO" :وأحس ابندفاع لرتمجته إىل لغته
األم .ومن بون أودمري حيث كان يقطن ،كان يعلمنا ابستمرار عن تطورات عمله ،ويلتمس إبحلاح أن
نتخذ قراران ابلنشر ،ذلك أنه كان طاعناً ابلسن .مل يكن حيدثنا عن نفسه إال حينما يطمئننا عن
إمكانياته معلماً إايان أنه أهنى دراسة الفلسفة والالهوت وأمضى حياته كلها يف التدريس.
يف كانون األول (ديسمرب) ،1976قصدان النورماندي لتسلم الرتمجة الفرنسية لألجزاء العشرة
اليت كتبها السيد سوفاج خبط يده .ومل نبدأ بتفحصها إال بعد حني .وقد الحظنا ضرورة مراجعتها .إن
هذه الرتمجة ،رغم اإلسهاب يف إصالحها ،فهي جديرة ابالهتمام ألن رجالً مسناً قد أجنزها بدافع من
إميان كان جيدد فيه شبابه.
بكل أسف ،مل يتمكن فيليكس سوفاج من رؤية العمل املرتجم وقد نشر ،إذ قد تويف يف 16
أيلول (سبتمرب) 1978عن عمر يناهز 87عاماً .ولقد احرتمنا رغبته األكيدة بعدم إضافة أية
مالحظات تفسريية وتعليقات على نص ماراي فالتورات ،وإبراز طبيعة العمل من خالل عنوانه ذاته.
إميليو بيزاين
EMILIO PISANI
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
هو فيكتور أبن اخلوري إبراهيم ُمصلح ،من مواليد 1952دمشق -سورية.
أمضى املرحلة اإلعدادية كإكلرييكي يف إكلرييكية دير ال ُـمخلص (صيدا -لبنان) وأهنى بعدها
شارك بتأسيس مركز التعليم املسيحي لطالب املرحلة الثانوية بصفة عضو ِ
مؤسس. َ
ساه َم إبعطاء دروس التعليم املسيحي يف املراكز الكنَسية ال ُـمهتَّمة بطُالب املرحلة االبتدائية.
َ
َشَرع برتمجة كتاب قصيدة اإلنسان-اإلله (اإلجنيل كما أوحي به إيل) ملاراي فالتورات من اللغة
ص َحه بقراءته األب ميشيل زمار الذي كان الفرنسية إىل اللغة العربية يف عام 2000بعد أن نَ َ
وقتها يف زايرة إىل سورية قادماً من الوالايت املتحدة األمريكية.
(مدخل)
يف البدء كان الكلمة ،والكلمة كان لدى هللا ،والكلمة هو هللا.
كان منذ البدء لدى هللا ،به كان كل شيء ،وبغريه ما كان شيء.
هو احلياة لكل موجود واحلياة نور الناس ،والنور يشرق يف الظلمات وال تغشاه الظلمات.
ظهر رسول من لدن هللا امسه يوحنا.
جاء شاهداً ليشهد للنور فيؤمن على يده مجيع الناس .مل يكن هو النور بل شاهداً للنور.
الكلمة هو النور احلق الذي ينري كل إنسان.
كان قادماً إىل العامل .وكان يف العامل ،وبه كان العامل ،ومل يعرفه العامل.
جاء إىل بيته فما قبله أهل بيته .أما الذين قبلوه فقد أوالهم أن يصريوا أبناء هللا ،هم الذين آمنوا
ابمسه.
وهو ليس من دم وال من رغبة ذي حلم وال من رغبة رجل ،بل هللا ولده.
والكلمة صار بشراً فسكن بيننا فرأينا جمده ،جمد االبن الواحد الذي أتى من لدن اآلب ملؤه
النعمة واحلق.
شهد له يوحنا فهتف« :هذا الذي قلت فيه إن الذي أييت بعدي قد تقدمين ألنه كان قبلي».
ومن ملئه نلنا أبمجعنا نعمةً على نعمة.
ألن الشريعة أتتنا على يد موسى وأما النعمة واحلق ،قد بلغا إلينا على يد يسوع املسيح.
ما من أحد رأى هللا ،االبن الوحيد الذي يف حضن اآلب هو الذي أخرب عنه.
(التـهـيئــة)
«الرب قناين يف أول طريقه من قبل أعماله منذ البدء» (أمثال )22 / 8
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 08 / 22
أيمرين يسوع:
«خذي دفرتاً جديداً ،اكتيب على الورقة األوىل :إمالء السادس عشر من آب (أغسطس) ،1944
ففي هذا الكتاب سنتكلّم عنها».
يقول يسوع:
«اكتيب هذا فقط :القيمة الكبرية للطهارة هي اليت أاتحت ألحشاء إنسانة أن تتسع ملن ال
يوسع ،ذلك ألن طهارهتا مطلقة ،هي أعظم طهارة ميكن خلليقة هللا أن متلكها.
لقد احندر الثالوث األقدس بكل كماله وسكن فيها أبقانيمه الثالثة ،واتسع ،وهو الالمتناهي،
يف مساحة صغرية -مل تعد ضيقة ،ذلك أن حمبة العذراء واإلرادة اإلهلية وسعا هذه املساحة حّت
أصبحت مساء -.وجتلى مبميزاته:
اآلب ،مع كونه اخلالق ،جدد عمل اليوم السادس القتناء "فتاة" حقيقية ،جديرة به ،لكمال
التشابه .فإن مالمح هللا كانت مطبوعة يف مرمي بوضوح ونقاء مل يـَ ُف ْقه إال ما كان لبكر اآلب .ميكننا
وعرفَت كيف حتافظ عليه ،جبدارهتا ألن تكون عروس ِ
تسمية مرمي اثنية بكر اآلب للكمال الذي ُمن َحته َ
وأم هللا ،وملكة السماء ،إهنا يف املرتبة الثانية بعد ابن اآلب ،ويف املقام الثاين يف فكره األبدي ،ألنه،
أبدايً ،يفرح هبا.
االبن ،كونه أيضاً "ابناً" هلا ،فقد لقنها ،بسر النعمة ،حقيقته وحكمته عندما كان ما يزال بذرة
تنمو يف أحشائها.
حواء أيضاً كانت قد ُخلِ َقت بال عيب ،ولكنها أرادت تلقائياً أن تفسد نفسها يف الوقت الذي
كانت موجودة يف عامل نقي ،بينما عاشت مرمي يف عامل فاسد ،ال يرتدد يف جرح طهارته أبدىن فكرة
وشاه َدت منها أشكاالً وألواانً واألكثر فظاعة،
موجهة حنو اخلطيئة .لقد كانت تعلم بوجود اخلطيئة َ
رأهتا كلها حّت األبشع واألفظع :قتل هللا .ولكنها َعرفَتها لتكفر عنها ،ولتكون على مدى الدهور تلك
اليت ترأف ابخلطأة وتصلي من أجل فدائهم.
أطلعك عليها ألش ّدد عز ِ
ميتكِ ،
أنت وآخرين ِ «سوف تكون هذه الفكرة املدخل حلقائق أخرى مق ّدسة
كثريين».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
للرب)
( -2يواكيم وحنة يَن ُذرون ّ
1944 / 08 / 22
أرى منزالً من الداخل ،وامرأة يف سن متقدمة نوعاً ما جالسة أمام نول .لدى رؤيتها ،بشعرها
الذي كان حالك السواد يوماً وأصبح اآلن رمادايً ،وبوجهها اخلايل من التجاعيد ،إّنا جتلله رصانة
مكتسبة عرب السنني جتعلين أمخن عمرها بني اخلمسني واخلامسة واخلمسني ،ليس أكثر.
َ
أراها حتيك .الغرفة مضاءة بنور يَلِج من الباب ال ُـمطل على مبقلة واسعة ،ومع ذلك هي أمالك
صغرية ألهنا متتد بتموجات تنتهي إىل منحدر أخضر .إهنا مجيلة ،تلك املرأة ،مبالحمها العربانية اخلالصة،
لست أدري ملاذا تذكرانين بعيين املعمدان .أما نظرهتا فنظرة نبيلة كاليت مللكة
فعيناها سوداوان عميقتانُ ،
ومفعمة حناانً ،كما لو أن وشاحاً الزوردايً ينتشر على بريق نظرة نسر .نظرة وديعة تشوهبا مسحة حزن
خفيفة كما لو كانت تفكر أبشياء فُِق َدت منها .لون بشرهتا مييل إىل السمرة .الفم عريض قليالً ولكنه
مرسوم إبتقان ،له تعبري صارم ولكن دون قسوة .األنف طويل دقيق ومنعكف قليالً عند القاعدة ،أنف
معقوف ومتناغم بشكل جيد مع العينني .إهنا ممتلئة ولكنها ليست بدينة ،كبرية احلجم ولكنها متناسقة
جيداً ،هذا ما ميكن َّتمينه وهي جالسة.
خييل إيل أهنا حتيك سجادة أو ستاراً ،واملكوكات املتعددة األلوان تنزلق بسرعة عرب حلمة كستنائية
غامقة ،يُظ ِهر اجلزء املنتهي منها تداخالً متماوجاً من الرسوم والزخارف بشكل الورود ،يتقاطع فيها
األخضر واألصفر واألمحر وكذلك الالزورد ابنعكاسات النحاس ،وتتمازج بشكل فسيفسائي.
ترتدي املرأة ثوابً بسيطاً للغاية وغامقاً .إنه بنفسجي مييل إىل احلمرة ،ويبدو أن ألوانه مستعارة
من زهور "البانسيه"( .زهرة الثالوث أو بنفسج الثالوث)
جتلب املرأة معها طفالً يف اخلامسة من عمره ،يتمسك برداء حنة مباشرة ،فتداعبه وهي ماضية
إىل غرفة أخرى لتجلب منها جرة حناسية مجيلة .تعطيها للزائرة وهي تقول هلا« :إن ِ
ك طيبة دائماً مع
ـك اآلن والذين سيكونون ،مغبوطة ِ
أنت!» ِ
وأبوالدك الذيـن ل ِ حنة العجوز ،كاف ِ
ـأك هللا بصغريك هذا
وتتنهد حنة.
تنظر املرأة إليها ،غري عاملة مبا تقول بعد ذلك التنهد .ولكي َّتفف من األمل الذي مخَّنَتهُ تقول:
ـك؛ هكذا سـأنتهي بسرعة أكرب من ملء عدة جرار وأابريق لك حـلفـا إذا مل يكن هذا يـزعج ِ «سـأترك ِ
ِ
لك».
ط حلفـا كثرياً لبقائه ،وقد عرف السبب .فحاملا تذهب والدته تلف حنة ذراعها حول عنقه، اغتَـبَ َ
وحتمله إىل اجلنينة وترفعه ليطال دالية عنب حباته مسراء كالزبرجد وتقول لهُ « :كلُ ،كل ،إنه لذيذ».
وتعود لتطبع قبالهتا على كامل وجهه الصغري امللطخ بعصري العنب الذي يفرط حباته بنهم .مث تضحك
وتضحك وتبدو فجأة أكثر شباابً بصفي اللؤلؤ اللذين يزينان فمها ابلفرح املشع على وجهها ماسحاً
أثر السنني ،وذلك عندما يقول هلا الطفل« :واآلن ماذا ستعطيين؟» وينظر إليها حمملقاً بعينيه الرماديتني
بلون الالزورد القامت.
أعطيتك...
َ أعطيتك ...إذا
َ تضحك مازحة وتنحين طاوية ركبتيها وتقول« :ماذا ستعطيين إذا
احزر ماذا؟»
ِ
أعطيك قبالت اي تضج أسارير الطفل بضحكة وتصفيق وهو يقول« :قُبالت ...قُبالت...
حنة اجلميلة ،حنة الطيبة ،حنة أمي!»...
وعندما تسمعه يقول« :حنة أمي» تصرخ صرخة فرح وحنان ،وتضمه إىل صدرها قائلة« :أيها
الفرح الثمني ،الثمني ،الثمني!» وبعد كل كلمة مثني تطبع قبلة على وجنتيه احلمراوين .مث يتجهان إىل
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 19 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
لك اي
لك اي هباء حنة املسكينةَ ، أحد الرفوف حيث ُخي ِرجان طبقاً من احللوى ابلعسل «لقد َ
صنَعتُها َ
من حتبين كثرياً! ولكن قل يل كم حتبين؟»
ويفكر الطفل مبا يثري اهتمامه أكثر مث جييب« :مثل هيكل الرب» .تعود حنة فتقبل عينيه اللتني
تضجان ابحلياة وشفتيه الورديتني ،والطفل يتمسح هبا كقطة صغرية .وأمه تروح وترجع ابجلرة ممتلئة
وتضحك دون أن تقول كلمة .وتدعهما يف فيض مشاعرمها.
أسه شعر أبيض، يصل إىل اجلنينة رجل طاعن ابلسن ،أصغر حجماً قليالً من حنة ،يغطي ر َ
وحيد وجهه املشرق إطار من حلية مربعة وعينان الزورديتان كالفريوز بني رمشني كستناويني فاحتني
مييالن إىل اللون األشقر ،وثوبه بين داكن.
مل تره حنة ألن ظهرها كان ابجتاه املدخل ،فيمسكها من كتفيها قائالً« :وال شيء يل؟» تدور
لك
عملك؟» ويف الوقت ذاته ميسكه الطفل من ركبتيه ويشدمها قائالًَ « :
َ أأهنيت
َ حنة قائلة« :يواكيم،
لك أيضاً ».وعندما ينحين الرجل املسن ويقبله ،يلف الطفل ذراعيه حول عنقه ويداعب حليته أيضاًَ ،
بيديه الصغريتني ويعانقه.
حيصل يواكيم أيضاً على هديته .وها هو أيخذ من خلف ظهره بيده اليسرى تفاحة ملمعة
لك ،فلن تستطيع أكلهاكفاكهة خزفية ويقول للطفل الذي ميد لـه يديه بلهفة« :انتظر حّت أقطعها َ
هكذا .إهنا أكرب منك ».وبسكني حيملها يف نطاقه ،سكني بستاين ،يقطعها لـه شرائح ولقم .يبدو
وكأنه يعطي نقدات لعصفور يف العش ،لطاملا يضع القطع بعناية يف الفم الصغري الذي ال يتوقف عن
املضغ.
«انظر يواكيم ،اي هلاتني العينني ،أليستا كقطعتني من حبر اجلليل عندما يسدل نسيم الليل وشاحاً
من الغمام على السماء؟» تتكلم حنة وهي تشد بيدها على كتف زوجها وتتكئ عليه بلطف :حركة
توحي حبب زوجة عميق ،حب ال تشوبه شائبة بعد سنوات عديدة من الزواج.
لكنت أردته هكذا ،هباتني العينني وهذا الشعر »...وتنحين حنة حّت
«آه! لو كان لدينا ابن ُ
جتثو ،وتُقبل هاتني العينني الرماديتني الالزورديتني بتنهد.
يتنهد يواكيم أيضاً ولكنه يريد مواساهتا .يضع يده على شعر حنة اجملعد واألبيض ،ويقول هلا:
«جيب أال نفقد األمل .ال شيء غري مستطاع لدى هللا ،وطاملا حنن أحياء فإن فرصة املعجزة قائمة،
خاصة عندما حنب هللا وحنب بعضنا ».ويشدد يواكيم على الكلمات األخرية هذه.
أما حنة فتصمت بتواضع وتطأطئ رأسها لتخفي دمعتني ،وحده حلفا الصغري يلحظهما .كانت
مفاجأة مؤملة أن يرى صديقته الكبرية تبكي كما حيصل له أحياانً .فريفع يده الصغرية وميسح دمعتيها.
ك ِ
أنت يل». «ال تبكي اي حنة! إننا مع ذلك سعداء ،أان على األقل ،ألن ِ
أنت كلية القداسة؟ فلنذهب ،من أجل ذلك ،مرة أخرى إىل «اي زوجيت! كيف تسيئني إىل هللا و ِ
لك كما حصل لسارة... اهليكل ،ليس فقط من أجل عيد املظال .ولنصل صالة طويلة ...وقد حيصل ِ
وحلنة زوجة ألقانة اللتني انتظرات طويالً حّت ظنتا نفسيهما مغضوابً عليهما بسبب العقم .بينما على
العكس ،فقد كان يتهيأ هلما يف مساء هللا ابن قديس .ابتسمي أيتها الزوجة العزيزة .إن مه ِ
ك يؤملين أكثر
بكثري من كوين دون َخلَف ...وسوف أنخذ حلفا معنا وجنعله يصلي ،فهو بريء وسيسمع هللا صالته
وصالتنا ويستجيب لدعواتنا».
«نـعم ،ولننـذر للـرب أن يكـون ولدنـا لـه إذا مـا َوَهبَنـا إيـاه ...آه لـو أسـمع مـن ينـاديـين "ماما"!»
ِ
أانديك هكذا». أما حلفا الـم ِ
شاهد املندهش والربيء فيقول« :أان ُ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 21 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
أنت ،أما أان فال ولد يل»...
لك أماً َ
«نعم اي فرحي ،اي حبييب ...ولكن َ
وتتوقف الرؤاي.
1944 / 08 / 23
خارج أسوار أورشليم ،على الرواي وسط الزيتون يوجد حشد كبري .حتسبها سوقاً كبرياً ،إّنا بال
بسطات وال حمالت ،فال أصوات مساسرة وابئعني هناك ،كما ليست هناك ألعاب .بل هناك جمموعة
من اخليام املصنوعة من الصوف اخلام ،ولكنها ابلتأكيد غري نفوذة .إهنا مبسوطة على أواتد مثبتة يف
األرض ،ومربوطة إىل أواتد من األغصان اخلضراء تشكل زينة غضة .فضالً عن ذلك هناك خيام أخرى
مؤلفة من أغصان مثبتة يف األرض ،فتبدو وكأهنا معارض خضراء صغرية ،حتت كل منها أانس من كل
األعمار والظروف يتكلمون هبدوء يف خلوة ال يعكر صفوها سوى صرخات طفل.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 23 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ط املساء ،وأنوار مصابيح الزيت الصغرية أضحت تعكس هنا وهناك أشعتها على هذا املخيم
َهبَ َ
الغريب .حول األنوار هناك عائالت تتناول طعامها جالسة على األرض ،واألمهات يرضعن صغارهن.
أطفال كثريون تعبون أتخذهم سنة النوم وهم ال يزالون ميسكون بكسرة خبز بني أصابعهم الصغرية
الوردية ،ويرتكون رؤوسهم لتتدىل على صدور أمهاهتم كما الفراخ حتت جناحي األم الدجاجة ،وتكمل
األمهات التهام الطعام ،حسب استطاعتهن ،ابليد الباقية حرة ،بينما تشد كل منهن ابليد األخرى
طفلها إىل صدرها.
وابملقابل ،هناك عائالت مل تبدأ عشاءها بعد ،ويتجاذب أفرادها أطراف احلديث يف "شبه
العتمة" هذا من الغسق ،ابنتظار جتهيز الطعام .انر تشتعل هنا ،وانر هناك ،تنهمك حوهلا النساء.
هزازة بطيئة كأهنا أغنية حزينة هتز لطفل أتخر يف نومه.
يف األعايل مساء مجيلة صافية أتخذ شيئاً فشيئاً صبغة الزورد قامتة ،وقد أصبَ َحت وكأهنا وشاح
كبري من املخمل احلريري األسود الالزوردي يثبت عليها هبدوء كل من الفنانني وصانعي الديكور غري
املرئيني جواهر مشعة ،بعضها منفرد والبعض اآلخر ضمن جمموعات تشكل أشكاالً هندسية غريبة
يسطع من بينها الدب األصغر يف شكل يشبه العربة اليت يبقى زمامها مرتبطاً ابألرض ،بعد أن تتحرر
َضرَمت كل نرياهنا.
من نري الثريان .أما النجمة القطبية فقد أ َ
كت أنه تشرين األول (أكتوبر) ،ألن صوت رجل غليظاً قد قاهلا« :تشرين مجيل ،اندراً ما
أدر ُ
رأينا مثله!»
هي ذي حنة قادمة من أحد املخيمات ويداها مليئتان أبشياء ممدودة على رغيف كبري ومنبسط
ك حلفا بتنورهتا وهو ي ِ
سمعها صوته الطفويل .يواكيم أمس َ
ُ كإحدى شطائران ويقوم مقام الصينية ،وقد َ
على عتبة كوخ من أوراق الشجر ،يتكلم مع رجل يف الثالثني من عمره ،حيييه حلفا من بعيد بصوته
احلاد« :اباب» .وعندما يَرى يواكيم حنة قادمة ،يُسرع يف إانرة أحد املصابيح.
«ثالث سنوات .إنه قبل األخري وخالل فرتة قريبة سوف ألد طفالً جديداً .يل ستة أوالد .اآلن
أرغب بطفلة ...كثري على أم طفلة واحدة»...
ِ
منحك العلي عزاء كبرياً ».وتتنهد حنة. «لقد
وقالت األخرى« :نعم أان فقرية ،ولكن أوالدان هم سروران ،واألكرب سناً منهم يساعدوننا اآلن
أنت اي سيديت (وكانت قد الحظَت أن كل شيء يشري إىل أن ظروف حنة أفضل من يف العمل ،أما ِ
ظروفها كثرياً) فكم من األوالد ِ
لديك؟»
«ال أوالد».
لديك أوالد؟ وهذا أليس اب ِ
نك؟» «ليس ِ
يتنهد يواكيم.
والد حلفا ينادي صغريه فريد عليه قائالً« :إنين ابق مع حنة ملساعدهتا ».فيشرع اجلميع
ابلضحك.
«دعه ،إنه ال يزعج أحداً .فهو مل يصبح بعد حتت وصاية الشريعة .إ ْن هنا أو هناك فهو ليس
وجتلس حاضنة الطفل ،مث تعطيه فطرية ،يبدو يل أهنا مسك
سوى عصفور صغري أيكل ».تقوهلا حنة َ
مقلي .أراها منهمكة يف عمل ما قبل أن تعطيه إايها ،رمبا تنزع احلسك ،مث أعطَت زوجها وأكلَت
هي يف النهاية.
لقد أضحت جنوم الليل كالنمل ،وازدادت األنوار يف املخيم .مث انطفأت أنوار كثرية تدرجيياً؛
لقد كانت تلك مصابيح أولئك الذين أكلوا أوالً ،وها هم ينصرفون اآلن إىل النوم .وكذلك األصوات،
سمع مثل فقد خفتت تدرجيياً .سكتت صرخات األطفال ما عدا صوت طفل مل يُفطَم بعد ،فما زال يُ َ
نعجة تبحث عن حليب أمها .وهتب أنفاس الليل على األشياء واألشخاص منومة األشجان
والذكرايت ،اآلمال واألحقاد ،وقد حيدث العكس ،حيث تفيق كلها ابلقدر الذي حيمل هلم النوم
واحللم من اهلدوء.
«لتكن تلك إرادة الرب ...وألمتكن بسرعة من مساع صوت يقول يل" :اذهيب بسالم .إله
وهبك النعمة اليت ِ
كنت تطلبينها منه"». إسرائيل قد ِ
ِ
أحشائك .سيكون صوت فسينبئك هبا ِ
طفلك أثناء العودة ،وألول مرة يف ِ «إذا حصلَت النعمة
الرباءة ،وابلتايل صوت هللا!»
( -4يواكيم كان قد تزوج حكمة هللا احملتواة يف قلب املرأة البارة)
1944 / 08 / 23
يقول يل يسوع:
«األبرار هم دائماً حكماء :إهنم أصدقاء هللا ،حييون بصحبته ،وهو يعلمهم ،هو ،احلكمة
الالمتناهية .أجدادي كانوا أبراراً ،إذاً كانوا ميلكون احلكمة .يف احلقيقة كانوا يستطيعون التعبري عما
وحبثت عنها منذ نعومة
ُ يقوله الكتاب عندما يتغّن مبجد احلكمة يف السفر الذي حيمل امسها" :أحببتُها
وعزمت على اَّتاذها عروسة يل".ُ أظفاري،
كانت حنة ابنة هارون هي املرأة الشجاعة اليت تكلم عنها أجدادان .ويواكيم املتحدر من ساللة
امللك داود مل يكن ليبحث عن الغّن والرفاه بقدر حبثه عن الفضيلة .وحنة كانت تتحلى مبزية عظمى،
فيها جتتمع كل املزااي يف ابقة عطرة لتشكل حقيقة وحيدة ،أمجل احلقائق :الفضيلة .فضيلة حقيقية
ظهر أمام عرش هللا .إذاً فيواكيم قد تزوج احلكمة مرتني" ،حببها أكثر من أية امرأة أخرى":
جديـرة أبن تَ َ
حكمة هللا احملتواة يف قلب املرأة البارة .حنة بنت هارون مل تطلب سوى أن تقرن حياهتا حبياة رجل
مستقيم ،موقِنة ومتأكِدة أبن االستقامة هي مسرة العائلة .ولكي تكون رمز املرأة الشجاعة ،مل يكن
ينقصها سوى اتج األطفال ،جمد العروس ،مقوم الزواج الذي تكلم عنه سـليمان .والكتمال سـعادهتا
مل يكن ينقصها سوى البنني ،زهـرات الشـجرة املتحدة ابلشجرة القريبة حيث تنتج وفرة مثار جديدة
فتنصهر فيها شيمتان يف واحدة ،ذلك أن الزوج مل يراوده الشعور خبيبة األمل ولو ملرة واحدة.
َّمت يف السن ،زوجة يواكيم منذ أمد بعيد ،كانت ابستمرار وعلى الدوام "زوجة حنة اليت تقد َ
شبابه وفرحه ،النعجة احملبوبة والغزالة الطيبة" ،اليت ظل توددها حمافظاً على نداوته كما يف ليلة العرس،
ومضفياً املتعة على حناهنا مع احملافظة عليه نضراًكوردة بللها الندى ومتأججة مثل انر تتغذى ابستمرار.
كذلك كاان يف حمنتهما بعدم اإلجناب يتبادالن "كلمات املواساة يف مهومهما وحزهنما" .وعليهما قامت
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 28 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
احلكمة األزلية :عندما حانت الساعة بعد أن متت هتيئتهما مدى حياهتما ،أانرمها يف أحالم الليل
جرس القصيدة املمجدة اليت ستولد منهما ،واليت هي مرمي الكلية القداسة ،أمي.
إذا كاان يف تواضعهما مل يقفا عند هذا احللم ،فقد كان قلبامها رغم ذلك خيفقان ابألمل عند
مساعهما أول صوت نطق بوعد هللا .ها هو التأكيد يف كلمات يواكيم" :الرجاء ،الرجاء ،سنغلب هللا
بوفاء حبنا".
كاان حيلمان بولد ،فناال أم هللا .يبدو أن كلمات سفر احلكمة قد كتبَت عنهما" :سأبلغ هبا
اجملد أمام الشعب ...هبا سأحصل على اخللود وسأترك ِذكراً يل أبدايً للذين سيأتون بعدي" .ولكن
للحصول على كل هذا كان ال بد هلما من بلوغ رفعة فضيلة حقيقية ،غري قابلة للتبدل ،حيث ال
تطاهلا أية انئبة .فضيلة اإلميان ،فضيلة احملبة ،فضيلة الرجاء ،وفضيلة العفاف.
عفة الزوجني! كاان ميلكاهنا ،إذ من غري الضروري البقاء يف حالة العزوبية لبلوغ العفة .فاألزواج
العفيفون حترسهم املالئكة ،ومنهم أييت النسل الصاحل ،األبناء الذين يتخذون من فضيلة ذويهم قاعدة
حياهتم.
ولكن أين هم اآلن؟ يف هذا الوقت ،مل تعد تَرى من يريد أطفاالً ،واألنكى من ذلك مل يعودوا
ودنس.
يتقبلون العفة؛ إذاً أستطيع القول أبن احلب قد انتُهك ُ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 08 / 24
أرى بيت يواكيم وحنة من جديد .ال تغيري من الداخل سوى جمموعة أغصان مقطوفة من شجر
احلديقة ،تكسوها الزهور ،موضوعة هنا وهناك يف آنية .سحابة ابقات تتدرج ألواهنا من بياض الثلج
حّت امحرار املرجان.
عمل حنة أيضاً قد اختلف قليالً ،فالنول أصغر من السابق ،وهي حتيك أنسجة مجيلة من
الكتان ،وتغين وهي حتـرك قدمها حسب إيقاع األغنية .تغين وتبتسم ملن؟ لنفسها ،لرؤى يف داخلها.
األغنية بطيئة ،ولكنها مع ذلك فَ ِر َحة .لقد كتبتُها على حدة ألحصل عليها كاملة ،ذلك أهنا ترددها
عدة مرات ،ألهنا جتد فيها غبطة عارمة .وهي يف كل مرة تؤديها بقوة أكرب وثقة أكثر ،كما لو أهنا
وجدت إيقاعها يف قلبها .يف البدء كانت تتمتمها بصوت خافت ،مث ،وبثقة أكثر أصب َحت ترتلها َ
بصوت أعلى وسرعة أكرب .كتبتُها ألهنا مجيلة جداً رغم بساطتها:
"اجملد للرب القادر على كل شيء ،الذي أحب نسل داود .اجملد للرب.
أعظم نعمة منذ تكوين السماء قد زارتين.
الغرسة العتيقة أنبتت غصناً جديداً ،فأان مغبوطة.
من أجل عيد األنوار نثر الرجاء بذوره؛
اجلو العابق يف شهر نيسان (أبريل) رآها تنتش.
جسدي يف الربيع كشجرة اللوز املزهرة.
يشعر يف خريف العمر أنه حيمل مثاره،
على هذا الغصن وردة ،هي الثمرة األكثر حالوة.
جنمة تتألأل ،حياة جديدة بريئة.
وهنضت حنة متجهة صوب زوجها ضاحكة .إهنا تبدو أكثر شباابً وأكثر
«من قليب اي يواكيم»َ .
مجاالً وإشراقاً.
ِ
أعهدك شاعرة ».قاهلا زوجها وهو ينظر إليها بدهشة عارمة .ال ميكن التخمني أبهنما «مل
أتيت من آخر احلديقة لدى مساعي إاي ِك
عروسان مسنان .يف نظراهتما حنان عروسني شابني« .لقد ُ
ِ
صوتك كيمامة عاشقة .فهل تعيدين إنشادها من أجلي؟» تغنني .منذ سنوات مل أمسع
أنت ذلك .إن أبناء إسرائيل كانوا دائماً يضمنون لك حّت ولو مل تطلب َ كنت سأعيدها َ « ُ
نت هذا النشيد العناية ابلتعبري
ض َّم ُ
أانشيدهم اهلتافات احلقيقية لرجائهم ،ألفراحهم ،ولشدائدهم .وقد َ
لك .نعم ،حّت إبعادته لنفسي ،إن األمر لَ َعظيم لدرجة أنين رغم أتكدي يبدو عن فرح كبري لنفسي و َ
يل وكأنه ال يُصدَّق ».وتعيد النشيد ،ولكن ما أن تصل إىل املقطع القائل" :على هذا الغصن زهرة،
هي الثمرة األكثر حالوة ،إهنا جنمة "...حّت يرجتف صوهتا الرانن Contraltoبداية مث يتكسر.
وبدموع الفرح يف عينيها تنظر إىل يواكيم وترفع يديها وتصرخ« :أان أم اي حبييب!» وهترع ملتجئة إىل
صدره بني ذراعيه اللذين يبسطهما ليحيط هبما زوجته السعيدة.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 31 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
إنه أطهر وأسعد عناق رأيته يف حيايت .إنه طاهر ومتأجج يف طهارته .مث العتاب الرقيق ويده
تتخلل شعر حنة الرمادي« :وَمل تقويل يل هذا؟»
كنت أرجو :ففي اليوم األخري ،عندما كنا نصلي يف «نعم ،وقد غزلتُه أثناء االنتظار والرجاءُ ...
سمح المرأة أن تقف فيه ،وقد كان الوقت متأخراً ...هل تذكر أنين املعبد ،يف أقرب مكان لبيت هللا يُ َ
كنت أقول" :مهالً ،مهالً قليالً" .ذلك ألنين مل أكن أستطيع انتزاع نفسي من ذلك املكان قبل حصويل ُ
كنت أشعر مبيلعلى النعمة .وهكذا ،يف الظلمة اليت كانت قد خي َمت داخل املكان املقدس ،حيث ُ
أيت نوراً ،بل وميض نور شديد من كل نفسي النتزاع كلمة "نعم" من هللا الذي كان حاضراً هناك ،ر ُ
رائع مير ،مشرقاً وانعماًكضوء القمر ،ومع ذلك كان حيمل معه بريق كل آللئ األرض وجواهرها .كان
يبدو يل أنه جنمة مثينة من الوشاح املقدس ،من النجوم اليت حتت أقدام الشاروبيم ،وقد أفلتت واَّتذت
روعة الضوء فائق الطبيعة ...كان يبدو يل أهنا أبعد من الوشاح املقدس ،من اجملد نفسه ،شعلة انر
سريعة أتت ابجتاهي وقالت بصوت مساوي وهي َّترتق اهلواء" :ما طلبتِه ستنالينه" .هلذا أان أ ِ
ُنشد:
إليك" .أي ابن سيكون ابننا؟ هذا الذي يتجلى مثل نور جنمة يف اهليكل وهو يقول: "جنمة ستأيت ِ
نظرت إيل وكأنين حنة زوجة ألقاان جديدة. أصبت الرؤية عندما ََ ك قد "ها أنذا" يف عيد األنوار؟ وأظن َ
تُرى ماذا سنسمي مولودان الذي أشعر به يف أحشائي انعماً كوشوشة جدول ،الذي يكلمين خبفقات
قلبه الصغري مثل ميامة أ ِ
ُمسكها بعناية يف كفي؟»
لست أدري ،أظن ،أظنها ستكون بنتاً .يبدو يل أن مالطفات انعمة مثل «جنمة ،جنمتنا .نعمُ ،
لست أعاين منه .إهنا
لست أشعر ابحلملُ ، هذه ال ميكن أن تتأتى إال من طفلة انعمة جداً .ابلفعلُ ،
كنت األخت الصغرية للمالئكة القديسني، هي اليت حتملين على درب من الالزورد والزهور كما لو ُ
كنت أمسَع ما يُقال للنساء عن أمل احلمل ابألطفال.
أصبحت بعيدة ...غالباً ما ُ
وكما لو أن األرض قد َ
إال أنين ،على العكس من ذلك ،مل أخترب أملاً .أشعر أبنين قوية ،شابة نضرة أكثر من اليوم الذي
وهبتك فيه عذرييت ،يف فرتة الشباب البعيدة .ابنة هللا -ذلك أهنا من هللا أكثر مما هي منا ،هذه الزهرة
َ
املتفتحة على جذع جاف -.فهي ال تسـبب أملـاً ألمهـا ،ال حتمل هلا سوى السالم والربكة :مثار هللا
أبيها احلقيقي».
«إذاً سوف نسميها مرمي .جنمة حبران ،لؤلؤة ،سعادة .إنه اسم أول أعظم امرأة إلسرائيل .فهي
لن تسـيء أبـداً للـرب ،ولـه وحـده سـتنشد قصيدة حياهتا ،إذ إهنا قد ُوِهبَت لـه "قرابانً" قبل أن تولد».
«إهنا تقدمتنا له ،نعم .صبياً كان أم بنتاً ،عندما ستكون قد َمنَ َحتنا الفرح طيلة سنوات ثالث،
سنهب مولودان للرب وحنن أيضاً معه قرابني جملد هللا».
1944 / 08 / 24
يقول يسوع:
«بعد أن أانرهتُما احلكمة يف أحالم الليل ،نزلَت ،هي نفسها" ،انبثاقاً من قدرة هللا ومن جمد
الكلي القدرة" ،وصارت وعداً للمدعوة عاقراً .الذي كان يُرى آنذاك زمن الفداء قريباً جداً -أان املسيح
حفيد حنة -اجرتح املعجزات على العاقرات واملرضى ،على املصابني ومن تسكنهم الشياطني ،على
كل ويالت األرض.
ولكن يف تلك األثناء ،يف غمرة فرح احلصول على أم ،تراين أمهس كلمة خمبأة يف عتمة اهليكل
الذي حوى آمال إسرائيل ،اهليكل الذي أصبَح منذ اآلن يف حدود وجوده ،ألن اهليكل اجلديد احلقيقي
الذي مل يعد حيوي آمال شعب وحسب ،بل يقني اجلنة ألمم األرض قاطبة عرب تعاقب الدهور ،إىل
هناية العامل ،قد أصبح على وشك جتليه على األرض .هذا "الوعد" جيرتح معجزة إعادة أحشاء العاقر
خصيبة ،يعطيين أماً ليست ذات طبيعة كاملة فقط كما هو مفرتض أن يكون حبكم والدهتا من أبوين
قديسني ،ليست ذات نفس صاحلة فقط مثل كثريين غريها ،مع تطور لصالحها مستمر ابستعدادات
إرادهتا الرائعة ،وليست جسداً طاهراً فقط ،ولكنها وحدها بني املخلوقات مجيعها كانت تتمتع بنفس
ال شائبة فيها.
أيت خلق هللا املستمر لألرواح .واآلن ،فكري ما ميكن أن يكون مجال هذه الروح اليت لقد ر ِ
كانت ذات إيثار لدى اآلب قبل أن يوجد الزمن ،هذه النفس اليت كانت متعة الثالوث األقدس الذي
َحتََّرق شوقاً ليزينها مبواهبه ليجعل منها هبة لنفسه .أيتها الكلية القداسة اليت َخلَ َقها هللا لنفسه ،ومث
اببتسامتك ِ
بدأت تقديس ِ ِ
أضحيت أصل اخلالص .أيتها اجلنة احلية، ِ
حبملك املخلص خلالص البشر!
األرض .النفس اليت ُخلِ َقت لتكون نفس أم هللا! عندما انبثقت شرارة احلياة هذه ابرتعاشة احلب
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 34 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
الثالثي املضطرمة جداً ،اخترب املالئكة فرحاً غري عادي ،إذ مل يكن الفردوس قد رأى نوراً أكثر توقداً...
كوريقات زهرة مساوية ،وريقات غري مادية ومثينة بدت مثل جوهرة وشعلة ،واليت كانت نفحة من هللا
نزلَت لتحيي جسداً بشكل خمتلف عن اآلخرين ،اليت نزلَت تتوهج بشدة مل تستطع معها اخلطيئة أن
متسها ،فاجتازت املسافات واستقرت يف أحشاء مقدسة.
أصبحت لألرض زهرهتا ،دون علمها ،الزهرة احلقيقية ،الزهرة الوحيدة ذات التفتح األبدي :زنبق
َ
وورد وبنفسج وايمسني ودوار مشس ،مجيعها منصهرة معاً ،ومعها كل زهور األرض ،يف زهرة واحدة،
مرمي ،اليت فيها تتحد كل الفضائل وكل النِعم .يف نيسان (أبريل) بدت أرض فلسطني كبستان كبري
حيث أضحت العطور واأللوان هبة رائعة لقلوب البشر .ولكن الوردة األمجل واألهبى كانت ما تزال
جمهولة ،كانت ما تزال تتفتح هلل يف سر األحشاء الوالدي ،فقد كان احلب ميأل قلب أمي منذ اللحظة
األوىل للحبل هبا .إهنا فقط اللحظة اليت أعطت فيها الكرمة دمها ليُصنَع منه اخلمر ،وعندما مأل عصري
ابتسمت ،هلل أوالً ،مث للبشر ،قائلة هبذه االبتسامة فائقة الوصف:
العنب احللو والقوي األجواء واألنوف َ
"ها هي الكرمة اليت ستَطرح العنقود املعد للعصر ليصبح الدواء األزيل آلالمكم ،ها هي ذي ،إهنا
بينكم".
لت" :مأل احلب قلب مرمي منذ اللحظة األوىل للحبل هبا" .من ذا الذي مينح النفس النور لقد قُ ُ
واملعرفة؟ إهنا النعمة .ومن جيعلهما خيتفيان؟ اخلطيئة األصلية واخلطيئة املميتة.
مرمي اخلالية من كل عيب مل تغب أبداً عن ذاكرة هللا ،عن جواره وحبه ونوره وحكمته .لقد
اسـتطاعت إذن أن تدرك وحتب عندما مل تكن سوى جسد يتشكل حول روح طاهرة نزيهة استمرت
يف احلب.
ِ
أجعلك تتأملني ابلروح أغوار البتولية يف مرمي .ستختربين يف ذلك ُدواراً مساوايً، فيما بعد ،سوف
جعلتك تتأملني أزليتنا .اآلن الحظي كيف أن محل خليقة "خالية من كل عيب يسبب ِ كما عندما
ابتعادها عن هللا" يف األحشاء ،ميكنه أن مينح األم اليت حبلَت هبا طبيعياً فقط وبشرايً ،ذكاءً فائقاً،
وفعلياً نبوة .إهنا نبوة ابنتها اليت أعلنَتها "ابنة هللا".
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 35 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
َّتيلي كيف كانت ستبقى حالة األبوين األولني النقيني لو كان ُولِد هلما أبناء أنقياء حسب
مشيئة هللا .انظروا أيها الناس الذين تدعون الطموح إىل الكمال وأنتم برذائلكم تتوجهون إىل الشيطان،
هناك وسيلة قائمة للوصول إىل الكمال :معرفة اإلفالت من سيطرة الشيطان املشؤومة لِتَ َدعوا هلل أمر
تنظيم احلياة واملعرفة واخلري دون الرغبة يف شيء آخر غري الذي أعطاكموه هللا -وكان هذا أقل قليالً
من الالهناية -لتتمكنوا من التوالد والنمو ابستمرار حنو الكمال ،أبناء بشراً ابجلسد وأوالد فطنة ابلروح،
يعين منتصرين وقادرين ،يعين عمالقة يف مواجهة الشيطان الذي كان سيبقى مسمراً يف األرض آالف
القرون قبل الساعة اليت سيصبح فيها هكذا ،ومعه كل الشر الكامن فيه.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 08 / 26
أرى حنة َّترج من املبقلة ،تتكئ على ذراع إحدى قريباهتا ابلتأكيد ،فهي تشبهها .إهنا جسيمة
وتبدو متعبة ،قد يكون ذلك من أتثري احلرارة ،كاليت تنهكين متاماً.
وإن تكن احلديقة مظللة ،إال أن اهلواء حارق ومزعج ،إنه مثل حد السكني على عجينة طرية
وحارة ،إنه ثقيل حتت مساء الزوردية لدرجة أن الغبار ال ُـمعلَّق يف اهلواء يُعتم قليالً .ال بد أنه اجلفاف
منذ أمد ،ذلك أن األرض غري املروية قد حتولت فيها الرتبة متاماً إىل غبار شبه أبيض ،بياض مييل إىل
الزهر امللوث ،بينما هي يف األصل كستناوية غامقة ،إهنا ابلفعل كذلك حول املزروعات املروية على
طول األرض املنبَ ِسطة حيث تنمو اخلضار ،وأيضاً حول الورود واليامسني والزهور األخرى املنتشرة أمام
صد ،وحّت وعلى جانيب العرائش اجلميلة اليت تقسم البستان حّت بداية احلقول حيث الشوفان قد ح ِ
ُ
العشب الذي يشري إىل حدود امللكية قد َجف وقُطع ،فال جتد العشب املخضوضر والكثيف إال على
احلدود فقط حيث نبتت شجريات سياج من الشوك الربي ،مزينة بفاكهتها اليت تشبه الياقوت ،وهناك
توجد بعض العنزات مع راعيها الصغري ،حبثاً عن املرعى والظل.
يواكيم حول َمساكِب اخلضار والزيتون بصحبة رجلني يساعدانه .ورغم تقدمه يف السن فهو
نشيط ،يستمتع ابلعمل .إهنم يف هذه األثناء يفتحون جماري مياه على طول حدود احلقل إليصال املاء
للمزروعات العطشى .واملاء أيخذ طريقه ،مزبداً عرب العشب واألرض العطشى مشكالً حلقات تبدو
للوهلة األوىل وكأهنا من الكريستال األصفر ،مث ال تعدو أكثر من دوائر قامتة من الرتاب الرطب حول
جذوع الكروم والزيتون املثقلة ابحلِمل.
َع ْرب العريشة املظللة ،حيث تطن حنالت ذهبية شرهة لعصري حبات العنب الشقراء ،تتوجه حنة
بتؤدة صوب يواكيم الذي ما أن يراها حّت يهرع للقائها.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 37 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
« ِ
أأتيت إىل هنا؟»
«وتعانني منه؟»
«معاانيت الوحيدة هي من حلظات احلمل األخرية ،إهنا معاانة مجيع املخلوقات ،بشراً وحيواانت.
مكوثك يف هذا اجلو احلار ،اي يواكيم».
َ ال تطل
«إن املاء الذي متنيناه منذ زمن بعيد والذي بدا وشيكاً منذ ثالثة أايم ،مل أيت بعد ،والقرية
فتحت أقنية للري :معاجلة بسيطة للمزروعات
ُ تشتعل .من حسن حظنا أن لدينا نبعاً يتدفق غزيراً .لقد
اليت جفت أوراقها وغطاها الغبار ،ولكن هذا ال يعدو أكثر من محاية هلا من املوت .ليتها متطر!»...
ويتفحص يواكيم أعماق السماء يعروه قلق مجيع الفالحني ،بينما حنة تستخدم مروحة تبدو مصنوعة
من أوراق النخيل اجلافة تتخللها خيوط ملونة جتعلها متماسكة.
تقول القريبة« :هناك عند حرمون الكبري ترتاكض غيمات بسرعة .الريح قادمة من الشمال،
سيربد اجلو ،وقد يهطل املطر».
«منذ ثالثة أايم والريح هتب مث تسكن عند ظهور القمر .سيتكرر املشهد نفسه ».لقد ثبطَت
عزمية يواكيم.
تقول حنة« :لنعد للمنزل .هنا أيضاً نشعر بضيق يف التنفس ،مث أظن أنه من األفضل لنا أن
نعود! »...وتبدو أكثر شحوابً بسبب اصفرار جيتاح وجهها.
«أتتألمني؟»
عند قوهلا هذه الكلمات يتغري لون حنة وتشرق مثل كائن انتقل من نور القمر إىل انر كبرية أو
العكس .وتنهمر دمعات انعمة على طول خديها .مل تلحظها ،وتبتسم لسعادهتا ،وأثناء كالمها تتجه
سمعاهنا بصمت وقد أتثرا كثرياً.
صوب املنزل بني زوجها وقريبتها اللذين يَ َ
كضت وتزامحَت عرب السماء ،وأظلَم السهل،يُسرعون ألن الغيوم املدفوعة برايح شديدة ،ر َ
اضطرب معلناً هبوب العاصفة .وعند وصوهلم إىل عتبة املنزل ميزق السماء أول برق بسهمه األزرق،
و َ
يعود اجلميع وتنسحب حنة بينما يبقى يواكيم عند العتبة ليلتقي مساعديه ويتكلم عن املياه
املنتظرة ،وهي بركة لألرض العطشى .ولكن الفرح امتزج ابخلوف من عاصفة رهيبة أن هتب مرافقة
سحق العنب والزيتون كما حتت حجر ابلربد« .إذا متزقت الغيوم الكثيفة ،سيُ َ
السحب احململة ََ
للربق و ُّ
الرحى .الويل لنا».
وينتاب يواكيم هم آخر بعدئذ ،هم زوجته اليت حان موعد وضعها .لقد َزفَّت إليه القريبة بشرى
عدم أتمل حنة هنائياً .ولكنه مضط ِربََّ .ت ُرج القريبة ونساء أخرايت ،بينهن أم حلفا ،من غرفة حنة
لِيَعِدن أبوعية حتوي املاء الساخن وألبسة داخلية جمففة على النار اليت هتدر فرحاً وروعة يف موقد وسط
املطبخ الكبري ،ويواكيم يسأل كل واحدة بدورها عن األخبار ،ولكنه ال يطمئن ملا يقلن .حّت عدم
مسعت قوالً مفاده أن
ُ صراخ حنة يقلقه« :أان رجل ،ومل أحضر والدة قط ،ولكنين أذكر جيداً أنين
انعدام األمل عالمة سيئة».
أقبَ َل الليل مسبوقاً بعاصفة هوجاء ،غريبة الشكل :سيول ،رايح وبرق ،كلها جمتمعة ،ما عدا
الربد الذي سقط بعيداً.
ََ
ظ أحد الغلمان هذه الشدة فقال معلناً« :ميكننا القول أبن إبليس قد خرج من جحيمه الح َ
َ
مع رهط شياطينه .انظر إىل هذه السحب السوداء! كأن هبا رائحة كربيت منتشرة يف اجلو ،وهذا
الصفري املشؤوم وكأنه صراخ العويل واللعنة .نعم ،إن هذا املساء ملخيف!»
ضحك الغالم اآلخر وجييبه« :فريسة أخرى قد أفلتَت منه ،أو إن ميخائيل قد ضربه بصاعقة
يَ َ
شطرت قرنه وذنَبه وأحرقتهما».
من عند هللا َ
ومتر امرأة مسرعة وهي هتتف« :يواكيم ،سيولد! لقد مر كل شيء بيسر وسعادة!» وتغيب وهي
حتمل جرة بني يديها.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 40 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
وفجأة هتب العاصفة بعد ضربة صاعقة أخرية ،كانت شديدة لدرجة أهنا رمت الرجال الثالثة
فالتصقوا ابجلدار؛ وقد تَـَرَكت على واجهة املنزل يف أرض احلديقة ذكرى وأثراً :حفرة سوداء تدخن .يف
هذه األثناء يتسلل عرب ابب غرفة حنة صوت وليد وكأنه صوت (ترغلة) ميامة تناغي ألول مرة بدل
الصياح .وبنفس الوقت يَبسط قوس قزح عظيم وشاحاً نصف دائري على امتداد السماءَ .خي ُرج أو
ابألحرى يبدو وكأنه َخي ُرج من قمة حرمون اليت قَـبَّـلَتها الشمس فبدت بلون مرمر أبيض بياض وردة من
أروع الورود .ويرتفع إىل مساء أيلول (سبتمرب) الصافية جداً ،مروراً أبجواء منقاة من كل شائبة ،ليحوم
ظهر جهة اجلنوب بني شجريت تني وجبل آخر أيضاً ،وتبدو هنايته فوق هضاب اجلليل والسهل الذي يَ َ
وكأهنا تستقر يف طرف األفق حيث سلسلة جبال منحدرة تضع حداً جملال الرؤية.
«انظروا ،انظروا!»
«والقمر ،ها هو القمر .إنه بدر التمام مع أن املفروض أنه سيكتمل بعد ثالثة أايم .ولكن
انظروا ،اي هلا من روعة!»
إهنا مرمي ،األم! مرمي الصغرية جداً حبيث تستطيع النوم بني ذراعي طفل .مرمي ليست أطول من
الذراع ،رأسها صغري عاجي مييل قليالً إىل اللون الوردي ،وشفتان قرمزيتان مل تعودا تبكيان ولكنهما
شرعتا يف عملية مص غريزي ،إال أهنما صغرياتن لدرجة ال ميكن معها رؤية كيف ستستطيعان التقاط
"احللمة" ،أنف صغري بني خدين مدورين ،وعندما تفتح عينيها تبدوان كقطعيت مساء ،إهنما نقطتان
أما األذانن فمحاراتن ورديتان شفافتان وكاملتان .وأما اليدان ...ما هذان الشيئان الصغريان
املتحركان يف اهلواء واملتوجهان حنو الفم؟ إهنما اآلن مغلقتان كربعمي ورد نديني تفتق كأسامها اخلضراوان
ليُظهرا حريرمها الوردي الباهت؛ أما ومها مفتوحتان فكأهنما جوهراتن عاجيتان أو مرمريتان وتكادان
تكوانن ورديتني ،أبظافر من األحجار الكرمية فاحتة .فكيف ستستطيعان مسح الدموع الكثرية؟
الرجالن ،أين مها؟ ليستا اآلن سوى قدمني صغريتني َّتتفيان يف قماط كتاين .ولكن ها هي وِ
القريبة جتلس وتكشفهما .آه! من هاتني القدمني الصغريتني! أربعة سنتيمرتات ،وابطنهما حماراتن بلون
املرجان ،وظاهرمها أيضاً حمارة مثل ثلج معرق ابلالزورد .واألصابع وال أروع ،إهنا كمنحواتت قزمة
مكللة أيضاً حبراشف كأحجار كرمية مضيئة .ولكن كيف ستجد ِرجال اللعبة هذه األحذية الصغرية
الرجالن الصغرياتن لدرجة تدعو للتساؤل :ترى كيف ستساعداهنا عندما متشي أوىل خطواهتما؟ هااتن ِ
على الوقوف؟ وكيف ستسريان على الدرب القاسية وتتحمالن آالماً مجة حتت الصليب؟
أما اآلن فكل هذا يف حكم اجملهول ،والكل يضحك ويبتسم لرؤية ساقني صغريتني تتحركان
وتتخبطان ،والفخذين املنمنمني اللذين بربربتهما يشكالن مع البطن غمازات وثنيات ،أما العنق فينبثق
عن صدر صغري كامل األوصاف .وحتت احلرير األبيض الناصع تُرى حركات التنفس ،وإذا ما أُسنِد
سمع ضرابت القلب الصغري ...قلب صغري ولكنه الفم لتقبيلها كما فعل األب الذي مأله احلبور ،تُ َ
أمجل ما حوت األرض عرب العصور ،القلب البشري الوحيد الذي ال عيب فيه.
أما الظَّهر ،فها هي الطفلة تُقلَب لتَظهر احنناءة اخلاصرتني مث الكتفني املربربني والرقبة الوردية.
وأما رأسها الصغري فإنه ينتصب ليشكل قوساً مع العمود الفقري ،إنه مثل رأس عصفور ينظر حوله
إىل عامل جديد يكتشفه.
ها هي من جديد ضمن اللفائف ،بني ذراعي أبيها األرضي الذي تشبهه ،إهنا ال تشبهه اآلن
ألهنا ما تزال مشروع كائن بشري ،فأان أريد القول أبهنا ستشبهه عندما تصبح امرأة .إهنا مل أتخذ شيئاً
من صفات أمها اجلسدية ،أما من أبيها فقد أخذت الصبغة ولون العينني وكذلك الشعر الذي ،رغم
ستدل من احلاجبني ،أخ َذت بياضه يف الوقت احلاضر ،إال أنه كان أشقراً يف املاضي ابلتأكيد كما يُ َ
منه املالمح اليت تبدو عليها أكثر كماالً وأكثر نقاء ،ألهنا امرأة ،وهذه املرأة ابلذات! أخ َذت منه
االبتسامة والنظرة واحلركات والقامة .وعندما أفكر ابلسيد املسيح كما أراهِ ،أجد أن حنة قد أورثَت
حفيدها قامتها ولون بشـرهتا العاجي القامت .مل تكن ملرمي مهابة حنة -النخلة الشاخمة واملرنة -إّنا لطف
أبيها.
ما زالت النساء يتكلمن عن العاصفة وأعجوبة القمر والنجمة وعن قوس قزح العمالق ،بينما
دخلن مع يواكيم غرفة األم السعيدة ،ويُعِدن هلا املولودة الصغرية.
يَ ُ
تضحك حنة يف سرها وتقول لنفسها« :إهنا النجمة ،فعالمتها يف السماء .مرمي هي قوس قزح
السالم! مرمي جنميت! مرمي هي القمر الالمع! مرمي هي جوهرتنا!»
«ستسمينها مرمي؟»
«ولكن هذا االسم يعين أيضاً مرارة ...أال َّتشني أن حيمل هلا الشقاء؟»
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 43 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
«هللا معها .هي لـه قبل أن تُولَد ،وسيقودها يف طرقه ،وكل مرارة سوف تتحول إىل عسل
ك ...وبعد وقت قليل ستصبحني بكل ِ
يتك هلل»... فردوسي .اآلن ِ
أنت عند أم ِ
( -8تبدو نفسها مجيلة وال عيب فيها كما كانت يف فكر هللا)
1944 / 08 / 27
يقول يسوع:
ِ
ألمحلك معي إىل مساء أتمل بتولية «اهنضي بسرعة اي صديقيت الصغرية .فإن ي رغبة متأججة
قت من اآلب للتو ،حواء صغرية ما نت خلِ ِ
ِ
مرمي الفردوسية .سوف َّترجني منها بنفس ندية كما لو ُك ُ
ك ستتعمقني يف رائعة هللا .ستخرجني منها زالت جتهل أمر اجلسد .ستخرجني منها بنفس مشرقة ألن ِ
ك ستدركني كم يعرف هللا أن حيب .الكالم عن احلَبَل مبرمي املنزهة عن كل عيب،بكيان يفيض حباً ألن ِ
هذا يعين الغوص يف الالزورد ،يف النور ،ويف احلب .تعايل واقرأي أجمادها يف كتاب األجداد.
صنعين يف أصل الكائنات "الرب قناين أول طريقه من قبل أعماله منذ البدء قبل اخلليقة .لقد َ
قبل أن َُّتلق األرض .عندما مل تكن اللجج بعد قد صاغين .عندما مل تكن الينابيع احلية قد تدفقت،
دت .عندما مل ِ
مشخت بكتلتها الضخمة ومل تكن التالل قد تعرضت للشمسُ ،ول ُ واجلبال مل تكن قد َ
كنت حاضرة بينما كان يهيئ السماء! كنت أان .لقد ُيكن هللا قد صنع األرض واألهنار وحمور العاملُ ،
وصنَ َع
صَر اللجج حتت قبة السماء بفعل قانون اثبت ،وأكد ثبات القبة السماوية يف األعايلَ ، عندما َح َ
ينابيع املياه احلية ،عندما كان يثبِت حدود البحار ويقرر قوانني ُكتَل مياهها ،وعندما أ ََمر املياه أال
كنت ألعـب
كنت أنـا معـه لتنـظيم كل األمـورُ ، تتجاوز حدودها؛ وعندمـا كان يرمي أسـاسـات األرض ُ
وسـط الكون بفرح ال متناه."...
لقد عزومت هذا الكالم إىل احلكمة ،بينما كان يعنيها هي :األم كلية البهاء ،كلية القداسة.
بت أن تكتيب أول بيت من هذا النشيد ِ ِ
العذراء أم احلكمة اليت هي أان ابلذات ،أان الذي أكلمكَ .رغ ُ
يف رأس الكتاب الذي يتكلم عنها ليعرف اجلميع ويعلموا أهنا سلوى هللا وفرحه ،هي سبب مسرة هللا
الواحد والثالوث الثابتة والكاملة واحلميمية ،هللا الذي يسوسكم وحيبكم يف الوقت الذي كان اإلنسان
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 45 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
سبب حزنه .لقد كانت سبب َّتليد اجلنس البشري الذي استحق السحق عند أول جتربة .إهنا سبب
حصولكم على الغفران.
امتالك مرمي للحصول منها على احلب .آه! إنه ألمر يستحق عناء خلق اإلنسان وجعله َحي َىي
وتقرير مساحمته ،كل هذا من أجل احلصول على العذراء اجلميلة ،العذراء القديسة ،العذراء املنزهة عن
كل عيب ،العذراء املقتناة ابحلب ،االبنة احملبوبة جداً ،األم كلية الطهارة ،العروسة احملبوبة! لقد َوَهبَكم
هللا عطاايه ،وهو على استعداد ألن يهبكم ابستمرار ليمتلك اخلليقة اليت تصنع لـه هبجته ،مشس مشسه،
زهرة بستانه ،ويستمر عطاؤه لكم عن طريقها ،بناء على طلبها ،ملسرهتا ،ذلك أن مسرهتا ستذوب يف
مسرة هللا وتعظمها ابلومضات املتأللئة ابلنور ،نور اجلنة العظيم ،وكل ومضة هي هبة للكون ،للجنس
البشري ،للمغبوطني أنفسهم الذين يستجيبون بنداء متأللئ ابهللليلواي لكل معجزة من قبل هللا جيرتحها
بسبب رغبة هللا الثالوث رؤية ابتسامة مسرة العذراء ال ُـمش ِرقة.
لقد أراد هللا أن يقيم َملِ َكاً على العامل الذي خل َقه من العدم .ملكاً يكون بطبيعته املادية األول
بني كل املخلوقات املنبثقة من املادة وهي نفسها مادية .ملكاً يكون أقل من اإلله قليالً بطبيعته
الروحية ،متحداً ابلنعمة كما كانت براءته يف يومه األول .ولكن الفطنة الفائقة ،اليت تَعلَم كل األحداث
األكثر بُعداً يف أعماق الدهور ،واليت تكتشف دائماً كل ما كان ،وما هو كائن ،وما سوف يكون -
وبينما هي تتأمل املاضي وتالحظ احلاضر ،تراها تتعمق بنظرها يف املستقبل البعيد جداً دون أن تغفل
أو جتهل كيف ستكون ميتة اإلنسان األخري ،كل ذلك دون اختالط أو توقف -مل جتهل أبداً أن امللك
الذي توقـ َعتهُ ،الذي ُخلِ َق ليكون ِشبه إهلي إىل جانب هللا يف السماء ،وارث اآلب ،الذي يصبح ابلغاً
يف مملكته بعد أن َحي َىي يف بيت والدته -األرض اليت تَ َش َّكل منها -مل جتهل أنه طوال فرتة طفولته كابن
األزيل ،أثناء إقامته األرضية ،كان سريتكب ضد ذاته جرمية قتل النعمة يف نفسه وسرقة التواري عن
السماء.
صـنَ َع هذه النجوم والكواكب السيارة اليت تنتقل كاألسهم ُخمَ ِططة قُـبَّة السماء أو تتقدم ببطء
ملـن َ
جلي ،ولكنه مهيب يف جري النيازك واهبة إايكم أنواراً وفصوالً ،وهي هتبكم أبزليتها وثباهتا ،ابلرغم
من تغري شكلها املستمر ،صفحة للقراءة عن الالزورد كل مساء وكل شهر وكل سنة؟ وكأهنا تريد أن
تقول لكم :انسوا السجن ،دعوا جانباً إعالانتكم املليئة أبشياء قامتة ،عفنة ،وسخة ،سامة ،كاذبة،
امسوا ،أقله ابلنظر ،صوب حرية تتجاوز حدود السماوات ،اجعلوا أرواحكم مساوية جمدفة ،ومفسدة ،و ْ
ابلتطلع إىل الكثري من السكينة ،اخزنوا لكم مؤونة من النور لتحملوها إىل سجنكم املظلم ،اقرأوا الكلمة
اليت نكتبها بينما نرتل الرتتيلة الفلكية ،أكثر تناغماً من تلك اليت ترافقها أراغن الكاتدرائية ،الكلمة
اليت يكتبها أتلقنا ،اليت يكتبها حبنا ألنه حاضر دائماً ابلنسبة لنا ذلك الذي منحنا مسرة الوجود،
وحنن حنبه ألنه منحنا هذا الوجود ،هذا التألق ،هذه احلركة ،هذه احلرية وهذا السناء وسط هذه السماء
املليئة ابلعذوبة اليت نرى أبعد منها مساء أكثر رفعة وسناء :اجلنة .إنه كياننا الذي جيعلنا نتمم اجلزء
الثاين من وصية احلب ،حببكم أنتم ابعتباركم كوننا املستقبلي ،حببكم ابملوهبة اليت نعطيكموها أبن نؤمن
لكم التوجيه والنور ،احلرارة والسناء .اقرأوا الكلمة اليت نوجهها إليكم ،فهي اليت تُل ِهم نشيدان وأتلقنا
ومسرتنا" :هللا".
صنَ َع هذا الالزورد السائل ،مرآة السماء ،الطريق إىل األرض ،بسمة املياه ،صوت ملن تراه َ
األمواج ،وأيضاً الكلمة اليت ،بشنشنة احلرير وضحكات األطفال الوادعة ،بتنهيدات املسنني الذين
يتذكرون ويبكون ،بصفعات العنف ونطحات القرون ،ابخلوارق والزجمرات ،ال تتوقف عن الكالم وتقول
دائماً" :هللا"؟ البحر ابلنسبة لكم كالسماوات والكواكب ومعه البحريات واألهنار واجلداول والغدران
والينابيع املشرقة ،كل ما يصلح لنقلكم وتغذيتكم ،ليشفي غليلكم ويطهركم ،واليت َّتدمكم بينما هي
َّتدم اخلالق ،دون اخلروج من جماريها لتغمركم كما تستحقون.
صنَ َع هذا العدد الذي ال حيصى من أنواع املزروعات والزهور اليت تشبه الفراشات ملن تراه َ
واجلواهر ،عصافري اثبتة ،مثاراً تبدو كعقود أو مصاغاً من الآللئ ،سجادات ألرجلكم وراحة لرؤوسكم،
اسرتاحات ومنافع ،مسرة للروح واألعضاء واحلواس :النظر والشم؟
صنَ َع املعادن يف أعماق األرض ،واألمالح املنحلة يف الينابيع اليت تغلي منها أو اجلامدة:
ملن تراه َ
الكربيت ،اليود ،الربوم ...إ ْن مل يكن ليتمتع هبا أحد غري هللا ،هو ابن هلل ،وهو كائن فريد :اإلنسان؟
ٍ
مكتف بذاته .وأتمله هو ال ميكن لشيء أن يكون ضرورايً ال غّن عنه ملسرة هللا وحاجته ،إنه
غبطته وغذاؤه وحياته وراحته .اخلليقة قاطبة مل تستطع أن تضيف ذرة واحدة إىل مسرته الالمنتهية،
صنَـ َعهُ خلليقته ،لذاك الذي أراد جعله َملِك كل األشياء املخلوقة،
لبهائه وحياته وقدرته .كل هذا قد َ
لإلنسان.
لكي تروا هذا الكم من األعمال اإلهلية وتشكروه على القدرة اليت منحكموها ،فذلك يستحق
أن حتيوا .وجيب أن تعرتفوا جبميل َمْن ِحكم احلياة .هذا ما جيب أن يكون حّت ولو مل تكونوا قد افتُديتم
إال يف آخر األزمان .ابلفعل ،على الرغم من أنكم ،اي من كنتم من األوائل ،وكنتم كل مبفرده خمالً
ابألمانة ،متكرباً ،فاجراً وقاتالً ،على الرغم من كل هذا ،فقد َمنَ َح ُكم هللا أن تستمتعوا جبمال الكون،
وعاملَ ُكم كما لو كنتم صاحلني ،أبناء بـََرَرة ُمينحون ويُ َّلقنون كل شيء لتصبح حياهتم ألطف وأسلم .كل
َ
ما تعلمونه قد عرفتموه بواسطة نور هللا .وكل ما تكتشفونه فبموجب إيعاز من هللا ،يف اخلري .وكل
املعارف األخرى اليت حتمل شارة الشر فإهنا متأتية من الشر األعظم :إبليس.
الذكاء العظيم الذي ال جيهل شيئاً وكان يعرف قبل وجود اإلنسان أنه سيكون مبحض إرادته
سارقاً وقاتالً .ومبا أن الصالح األبدي ال حدود لصالحه ،فقد فَ َّك ُ
رت بوسيلة لتدمري اخلطيئة قبل أن
توجد اخلطيئة .والوسيلة هذه هي :أان ،الكلمة .أما األداة اليت جعلَت من الوسيلة أداة فاعلة فهي:
فرش حتت قدمي ،قدمي امللك اإلهلي ،سجادات وجواهر مل أان كملك ،كان من املفروض أن تُ َ
فرش ومل توجد يف أي قصر ملكي بعد ،وأن تصدح أانشيد وأصوات ،وأن حييط ي ،بوجودي ،خدام تُ َ
مل يكونوا ألي ملك غريي ،ومن الزهور واألحجار الكرمية كل ما هو األكثر عظمة واألكثر روعة ،كل
ما هو لطيف وممتع ،كل ما ميكن أن ُجي َّن من فكر هللا .إّنا كان جيب أن أكون ابجلسد وليس روحاً
فقط ...أن أكون ابجلسد ألخلص اجلسد وألمسو به برفعه إىل السماء قبل األوان بقرون ،ذلك أن
اجلسد الذي تسكنه الروح هو رائعة هللا ،وألجله ُخلِ َقت السماوات.
ولكي ألبس جسداً كان ال بد يل من أُم .وألكون هللا كان ال بد يل من أب يكون هو هللا.
هذا هو السبب الذي جعل هللا خيلق عروسه ويقول هلا" :تعايل معي ،إىل جانيب ،وانظري كل ما أفعله
ِ
ابتسامتك فلتمأل السماء ولتعطي البننا .انظري وافرحي ،أيتها العذراء األبدية ،الطفل األبدي ،أما
إليك وأر ِاك كما ستكونني ،أيتها املرأة املالئكة النغمة األصلية ولتُـعلِم اجلنة التناغم السماوي .أنظر ِ
َ
لست اآلن سوى روح :الروح الذي أُسُّر به .أنظُر ِ
إليك وأمنح الزورد أنت ِ املنزهة عن كل عيب ،و ِ
َ
ارك للوردة الشبيهةبياضك للزانبق ،وامحر ِشعرك للبذرة املقدسة ،و ِ تك للبحر وقبة السماء ،ولون ِ نظر ِ
أسنانك الصغرية .أصنع توت األرض (الفريز) اللذيذ حينما أنظر إىل ِ ببشر ِ
تك احلريرية ،والآللئ هي
ِ
أفكارك املستقبلية ومساع نشيدك ويف اليمامة ِ
أنينك .بقراءة ِ فمك ،وأضع يف حنجرة البالبل أنغامِ
ألجلك ستكون العوامل كالتسايل إىلِ قلبك أحصل على شكل ودليل اخلليقة .تعايل اي فرحي، ضرابت ِ
ألجلك هي أكاليل النجومِ ِ
ابتسامتك، أن تصبحي يف فكري النور املرتاقص ،ها هي العوامل من أجل
لنفسك من جنوم درب التبانة وشاحاً. ِ ِ
قدميك العذبتني ،فاصنعي وأطواق الكواكب ،القمر حتت
لدك وتكون مبثابة الوسادةلك .تعايل ومتتعي برؤية األزهار اليت ستسلي و ِ النجوم والكواكب السيارة ِ
أحشائك .تعايل وأتملي خلق القطعان والنعاج ،خلق النسور واحلمام .كوين بقري عندما أصنع ِ البن
أبدر القمح وأزرع أنصب اجلبال وأغطيها ابلثلج والغاابت ،عندما ُ أحواض البحار واألهنار ،عندما ُ
هللا ،األب اخلالقَ ،خلَق الرجل واملرأة بشريعة حب كاملة لدرجة ال ميكنكم معها أبي شكل
إدراك مدى كماهلا .وسيضل بكم التفكري إذا ما حاولتم معرفة وضع اجلنس البشري لو مل خيضع
اإلنسان لتوجيهات الشيطان.
أتملي النبااتت بثمارها وبذورها .هل تقوم ابلزراعة واحلصول على الثمار نتيجة فسق أو بفعل
تلقيح من مائة مجاع؟ أبداً .بل َخي ُرج غبار الطلع من الزهرة الذكر ،وبتوجيه من جمموعة قوانني نيزكية
ومغناطيسية يتجه صوب مبيض الزهرة األنثى اليت تتفتح ،تستقبله وتُنتِج .إهنا ال تقبل النجاسة لرتفضها
فيما بعد كما تفعلون أنتم لتعودوا فتختربون اإلحساس ذاته يف اليوم التايل ،فهي إذ تُنتِج ال تعود تُ ِزهر
حّت املوسم التايل ،وإن أزهرت فذلك بغرض التوالد.
أتملي احليواانت ،كل احليواانت .هل رأيت قَط ذكراً وأنثى يتجه الواحد صوب اآلخر هبدف
عناق عقيم وعالقة جنسة؟ أبداً .ال من قريب وال من بعيد ،ابلطريان كان أو ابلزحف ،ابلقفز أو
نجز طقوس اإللقاح دون متلص منها ابلوقوف عند حدود اللذة ،ولكنها تنجزها حّت ابجلري؛ بل إهنا تُ ِ
النهاية اجلادة واملقدسة الستمرار اجلنس ،وهو اهلدف الوحيد منها .أما اإلنسان ،شبه اإلله بطبيعته
اإلهلية ابلنعمة اليت َوَهبتُها لـه كاملة ،فقد كان من املفروض أن يَقبَل فقط لنفس اهلدف الفعل احليواين
الذي يفرض نفسه منذ هبطتم درجة يف التصنيف احليواين.
أراد هللا أن يقابل الرجل واملرأة اللذين أفسدمها الشيطان ،ابإلنسان املولود من امرأة َرفَـ َعها هللا
بشكل فائق ،لدرجة احلَبَل والوالدة دون أن تعرف َر ُجالً ،زهرة تلد زهرة دوّنا حاجة إىل تلقيح مادي،
ولكنها تصبح أُماً بفعل قبلة وحيدة من الشمس على كأس الزنبقة مرمي الذي مل ُميَس.
انتقام هللا!
تك هذه الطفلة الصغرية! قبل أن جتعل من حقدك أيها الشيطان بينما هي تُولَد .لقد َغلَبَ َ
َ انفث
كنت املقهور وهي املنتصرة .ألف جيش منظم يف احلرب ال يستطيعون نفسك متمرداً ومراوغاً ِ
ومفسداًَ ، ُ ُ َ ُ
فسدتروسك ،أيها الـم ِ
َ تك .فاألسلحة تسقط من أيدي الرجال عندما تُقابِل شيئاً يف مواجهة قدر َ
ُ
الدائم ،وليس هناك ريح قوية كفاية لتبدد نتانة نـَ َفسك .ومع ذلك فكعب قدم هذه الطفلة ،الوردي
مثل قلب زهرة الكاميليا الوردية الناعمة والطرية ،لدرجة أن احلرير يبدو خشناً إذا ما قورن هبا ،الصغري
جداً لدرجة أنه يستطيع الدخول يف كأس خزامى Tulipeوأن جيعل من هذا السندس النبايت حذاء،
أنت
جيعلك هترب ََ كهفك .ها إن جمرد صراخها وهي وليدة َ وحيبسك يف
َ يسحقك دون خوف َ ها هو
فأنت مقهور .وامسها ونظرهتا وطهارهتانتانتكَ .
َ الذي ال يهاب اجليوش ،وها إن نـَ َفسها يطهر رائحة
جحرك اجلهنمي ،أيها
َ وحتبسك يف
َ رك يف األرض َّترتقك وتسم َ
َ ُهم :الرمح واحلجر والصاعقة اليت
ع من هللا فرحة كونه أابً لكل البشر املخلوقني. امللعون الذي انتَـَز َ
حماوالتك إفساد الذين ُخلِقوا يف حالة الرباءة ،حبملهم على القران واحلبل من خالل
َ ابطلة هي
حيل فاسقة ،مانعاً هللا من أن مينح خليقته احملبوبة أوالداً حسب قواعد ،لو مت احرتامها ،لصانت يف
األرض توازانً بني اجلنس والنسل قادراً أن مينع احلروب بني األمم والشقاء يف العائالت.
واآلن ،أيها البشر ،ما طبيعة حبكم ،بل ما طبيعة جمموع أنواع احلب عندكم؟ إنه ،مهما كان
النوع الذي ينتمي إليه ،إما فسق أيخذ شكل حب وإما خوف غري قابل للشفاء من فقدان حب
القرين بسبب فسقه واآلخرين .مل تعودوا متأكدين من امتالك قلب الزوج أو الزوجة أبداً ،منذ أن
اجتاح الفسق العامل .وترجتفون وتبكون وتصبحون جمانني بسبب الغرية ،بل قَـتَـلَة أحياانً ابالنتقام،
بسبب خيانة ،ويف حاالت أخرى ايئسني ومصابني بفقدان اإلرادة واخلبل.
هذا ما فعلتَهُ أيها الشيطان أببناء هللا .أولئك الذين َخ َدعتَهم وكانوا سيعرفون فرح احلصول على
هزمتك
َ أبناء بدون أمل ،والذين كانوا سيختربون فرح أهنم ُولِدوا دون اخلوف من املوت .أما اآلن فقد
امرأة ،بل املرأة اليت سيعود منذ الساعة كل من حيبها ليصبح من هللا ،وينتصر على التجارب ليستطيع
احملافظة على طهارته دون عيب .أما النساء فسيحصلن على تشجيعها ،وستصبح هي منذ اآلن
فصاعداً لألزواج دليالً ولألموات أُماً .وبفضلها سيصبح لذيذاً املوت على هذا الصدر الذي حيميهم
منك أيها امللعون ،ويدافع عنهم عند صدور أحكام هللا. َ
ت والدة ابن العذراء ووالدة أمه يف السماء .لقدماراي فالتورات ،اي صوت هللا اهلامس ،لقد رأي ِ
ِ
عاينت إذاً أن ال وجود آلالم الوالدة واملوت خارج اخلطيئة .ولكن إذا كان كمال املواهب اإلهلية قد
صان الفائقة الرباءة أم هللا ،فقد كان سيمنح كل املتحدرين من األبوين األولني ،لو كاان بقيا بريئني
وابين هللا ،نعمة التوالد دون أمل -كما كان مفرتضاً ملعرفتهم التزاوج واحلبل بال فسق -واملوت دون قلق.
أثر هللا السامي من انتقام إبليس كان يف َمحل كمال اخلليقة احملبوبة إىل الكمال الفائق الذي،
أقله يف خليقة واحدة ،قد أبطَ َل كل ذكرى للبشرية قابلة ألن تعطي دفعاً لسم إبليس .وهكذا كان،
غري وجه الروح يف نشوة
أن جاء االبن إىل العامل ،ليس على أثر عالقة بشرية عفيفة ،بل بعناق إهلي َّ
النار.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 52 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
بتولية العذراء!
تعايل أتملي أعماق هذه البتولية ،اليت جتعل التأمل فيها ُحي ِدث دوار اهلوة اليت ال قرار هلا! ماذا
ُرغ َمت عليها ألن رجالً مل يتزوجها؟ أقل من ال شيء .ماذا تكون بتولية من أرادت تكون بتولية امرأة أ ِ
أن تكون عذراء لتكون هلل ولكنها ال تعرف أن تكون كذلك إال ابجلسد وليس ابلروح ،حيث إهنا
ترتك جماالً ألفكار كثرية غريبة تتسرب إليها ،كما تداعب وتتقبل مداعبة األفكار البشرية؟ إهنا بداية
كوهنا يرقة بتولية ،ولكن ذلك ما يزال قليالً جداً .وماذا تكون بتولية حبيسة ،انسكة ال حتىي إال من
هللا؟ الكثري ...ولكنها مل تصل أبداً إىل البتولية الكاملة إذا ما قورنت ببتولية أ ّمي.
تواطؤ ال شعوري موجود دائماً حّت لدى أكثر الناس قداسة :إنه متأصل يف الروح مع اخلطيئة،
وهو الذي تعمل املعمودية على التحرير منه ،إهنا حترران منه ،ولكن لدى العذراء ،ال أثر للتواطؤ مع
اخلطيئة .وتبدو نفسها مجيلة ونقية كما كانت يف فكر هللا ،جامعة يف ذاهتا كل النِ َعم .هذه هي العذراء
وردت يف فكر هللا وكما ُحبِل هبا ،كذلك ستبقى أبداً .هكذا ُكلِلتالوحيدة ،الكاملة ،املكتملة :فكما َ
وستبقى ُمكلَّلة لألبد .إهنا العذراء ،عمق عدم املساس والطهارة والنعمة ،اليت تتالشى يف هذا العمق
الذي انبث َقت منه يف هللا ،عدم مساس وطهارة ونعمة مطلقة.
1944 / 08 / 28
إين أرى يواكيم وحنة مع زكراي وأليصاابت خيرجون من منزل يف أورشليم ،من املؤكد أنه منزل
أصدقاء أو أقرابء .إهنم يتوجهون صوب اهليكل للمشاركة يف طقوس التطهري.
الطفلة بني يدي حنة مقمطة بشكل جيد ،يلفها غطاء صويف خفيف املفروض أنه انعم ودافئ.
إهنا حتمل وليدهتا الصغرية بعناية ابلغة وحب ال يوصف ،وتراقبها وهي ترفع طرف الغطاء الناعم والدافئ
بني آونة وأخرى َلرتى ما إذا كانت مرمي تتنفس بشكل جيد ،مث تعود لتغطيها فتحميها وتقيها من
اهلواء البارد يف يوم مجيل من أايم الشتاء ،ولكنه يوم ابرد!
كانت أليصاابت حتمل رزماً بني يديها .ويواكيم جير َمحَلني كبريين انصعي البياض مربوطني
حببل ،إهنما أكثر من َمحَلني ،إهنما ابألحرى خروفان .مل يكن زكراي حيمل شيئاً .إنه وسيم جداً يف ثوبه
نت قد رأيتهُ عند
ظهر من خالل معطفه الصويف األبيض الثقيل .زكراي أكثر شباابً مما ُك ُ الكتاين الذي يَ َ
والدة املعمدان ،وهو بكامل قوته .أليصاابت أيضاً يف سن انضجة ولكنها تبدو نضرة .ويف كل مرة
كانت حنة تنظر إىل الطفلة ،كانت تنحين بنشوة على الوجه الصغري النائم ،وهي أيضاً كانت مجيلة
جداً بثوهبا الالزوردي املائل إىل البنفسجي القامت ،ووشاحها الذي يغطي رأسها وينزل على كتفيها
وعلى املعطف األغمق لوانً من الثوب.
كان يواكيم وحنة بشكل خاص مهيبني يف ثياب العيد .على غري عادته ،مل يكن يواكيم مرتدايً
جلبابه الكستنائي الداكن ،بل ثوابً طويالً أمحر داكناً -كما يُطلَق عليه اليوم لون أمحر القديس
يوسف -أما أهداب معطفه فجديدة ومجيلة ،وعلى رأسه نوع من الوشاح املستطيل احملاط بشريط
دائري من اجللد .كل ثيابه كانت جديدة وانعمة.
املظهر يف هذا
أظهر بنفس ذاك َ أردت أن َ
«ولكنين اآلن أان كذلك ،بل أان أكثر من ذلك ،لقد ُ
احتفظت به ليوم العيد هذا ...وأان ال أمل يل ابرتداء ثياي هذه يف يوم كهذا بعد»...
ُ االحتفال ،لقد
تقول أليصاابت بتنهد« :لقد أحب ِ
ك الرب كثرياً».
أحب ما لدي ،هذه الزهرة ...زهريت». له م «ألجل ذلك أُقَ ِ
د
َ
ِ
صدرك عندما تزف الساعة؟» «كيف ستستطيعني انتزاعها من
«أتذكر أهنا مل تكن وأن الرب أعطانيها .سأكون أكثر سعادة يف تلك الساعة ،عندما أعلَم أهنا
يف اهليكل ،سأقول لنفسي" :إهنا تصلي عند خيمة اتبوت العهد ،ستصلي إلله إسرائيل من أجل
والدهتا أيضاً" .سأشعر ابلسالم ،بل سأخترب سالماً أعظم وأان أقول لنفسي" :إهنا لـه بكاملها ،وعندما
ال يعود العجوزان اللذان تَـلَ َّقياها من السماء يف الوجود يبقى ،هو األزيل ،أابها" .ثقي ي ،إنين متأكدة
زرعها يف
أبن هذه الطفلة ليست لنا ،لسنا ّنلكها ،فأان مل أكن يف وضع أستطيع معه شيئاً ...هو َ
أحشائي ،هبة إهلية ،ليمسح دموعي ويثبت رجاءان وصالتنا .إذاً هي لـه .أما حنن فلسنا سوى حراس
سعداء ...فليتمجد امسه!»
قبل الوصول إىل مكان االلتقاء ،توقَّفوا ليُخ ِرجوا من الرزم األشياء اليت ُجلبَت :فطائر كما يبدو
يل ،كبرية ومنبسطة والسمن فيها وفري .طحني أبيض ومحامتان يف قفص ،وقطعتا فضة كبرياتن :إنه
نوع من العملة الثقيلة ،لدرجة أنه كان من حسن احلظ آنئذ أنه مل يكن هناك جيوب وإال لكانت هذه
العملة تثقبها ابستمرار.
ها هي بوابة نيكانور Nicanoreاجلميلة ،إهنا رائعة ،كتلة مشغولة ابلربونز وملبسة ابلفضة.
وها هو زكراي إىل جانب أحد الكهنة ،جليل بثوبه الكتاين .تتلقف حنة رشة املاء ،أظنها مياه التطهري،
مث متتثل لألمر ابلتقدم ابجتاه هيكل الذابئح.
تطهَرت حنة.
اآلن َّ
س زكراي بكلمات لصديقه الذي َِمس َعها وابتَ َسم .مث حلق هذا األخري اجلَّمع الذي انتظَم ُمهنِئاً َمهَ َ
األب واألم بفرحتهما وإمياهنما ابلوعود ،وتَقبُّل احلَ َمل الثاين والطحني والفطائر.
حنة اليت لفانويل ،املتسربلة األبيض بشكل كامل ،تداعب الطفلة اليت استيقظَت وهي تنظر
بعينيها الربيئتني واملندهشتني إىل كل هذا البياض ،إىل كل هذا الذهب الذي يلمع حتت الشمس.
املفروض أن االحتفال انتهى ،ومع ذلك مل َأر طقوساً خاصة لتقدمة مرمي .قد يكون البوح
بذلك للكاهن وابألخص هلل قرب املوضع املقدس كافياً.
«بعد سنوات ثالث ستكونني هنا أيضاً اي زنبقيت ».هذا هو الوعد الذي نَطََقت به حنة وكان
موجهاً ملرمي اليت تنظر إىل الداخل كاملسحورة ،مشدوهة ومبتسمة للرتاتيل املنبعثة ببطء.
كنت على استعداد ليس فقط لتقدمي أفضل َمحَلني عندي ،بل ألن أقدمها
أَمسَع يواكيم يقولُ « :
كلها ألجل هذه الفرحة ،ولتسبيح الرب».
1944 / 08 / 28
يتحدث يسوع:
«يقول سليمان يف سفر احلكمة" :إذا كان أحدكم صغرياً جداً فليأت إيل ".يف احلقيقة ،من
قلعته من أسوار مدينته كانت احلكمة األزلية تقول للطفلة األزلية" :تعايل إيل" وكان يتحرق المتالكها.
وقد قال ابن هذه الطفلة الكلية الطهر فيما بعد" :دعوا األطفال أيتون إيل ألن ملثل هؤالء ملكوت
السماوات ،ومن مل يرجع ويصبح كاألطفال فلن جيد له مكاانً يف مملكيت".
تتالقى األصوات ،فبينما كان صوت السماء ينادي مرمي الصغرية جداً" :تعايل إيل" ،كان صوت
اإلنسان يقول ويفكر أبمه أثناء قوله" :تعالوا إيل إذا عرفتم أن تكونوا أطفاالً صغاراً".
ها هي الطفلة الكاملة بقلب محامة والبسيطة والطاهرة :وهي اليت مل تستطع السنوات وال
رفضت مرمي هذا االحتكاك،
االحتكاك ابلعامل أن متسها برببرية الفساد وال بطرقها امللتوية والكاذبة .لقد َ
فتعالوا إيل وأنتم متعنون النظر إليها.
نت ،اي من ترينها ،قويل يل :هل اختل َفت نظرهتا الطفولية اآلن عن نظرهتا يوم رأيتِها عند أ ِ
الصليب ،أو يف غبطة العنصرة ،أو ساعة ظَلَّ َل جفناها عيين الغزالة يف رقادها األخري؟ ال ...فهنا نظرة
طوبة ألم بيتالطفل احلائرة املندهشة ،وبعدها ستكون نظرة البشارة املندهشة واملوقرة ،ومث النظرة امل َّ
حلم ،وبعدها النظرة اهلائمة لتلميذيت األوىل الفائقة السناء ،مث النظرة املمزقة للمتألمة يف اجللجلة ،ومن
مث نظرة القيامة والعنصرة ال ُـم ِش َّعة ،وأخرياً النظرة املوشحة للنعاس االنتشائي للرؤاي األخرية .إّنا كان
أغمضتها على آخر ضوء بعد رؤية أفراح كثرية وأهوال فتحتها على أول رؤية كما َ كذلك أن عينها اليت َ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 60 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
كثرية ،بقيَت صافية طاهرة ،هدب السماء اهلادئ الذي يشع دائماً وبنفس القدر حتت جبهة مرمي.
فالغضب والكذب والكربايء والنجاسة واحلقد والفضول ،كل هذا مل يستطع أن ميسها بغيومه الداكنة
أبداً.
إهنا العني اليت تنظر إىل هللا حبب وسط البكاء والضحك ،واليت من أجل حمبة هللا تالطف
وتسامح وتتحمل كل شيء ،وحمبتها هلل جعلَتها منيعة يف مواجهة هجمات الشر الذي استخدم العني
كثرياً لينفذ إىل القلب .إهنا العني الطاهرة الوديعة واملباركة اليت ميلكها األطهار والقديسون واحملبوبون
من هللا.
عينك
فجسدك كله نري ،ولكن إذا كانت ََ عينك طاهرة
لقد قُلتُها" :العني نور اجلسد ،إذا كانت َ
فجسدك كله يكون مظلماً" .فالقديسون مجيعاًكانت هلم هذه العني اليت هي نور للنفس وخالص َ شريرة
للجسد ألهنم ،على مثال مرمي ،مل ينظروا خالل حياهتم كلها إال إىل هللا ،بل أكثر من ذلك أيضاً فإهنم
كانوا دائمي التذكر هلل.
لك ،أيتها الصوت اهلامس ،معّن هذه العبارة األخرية اليت قلتها ِ
لك». فيما بعد سأشرح ِ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 08 / 29
لت أرى حنة ،منذ أمس مساء أراها هكذا ،جالسة عند طرف عريشة مظللة ،منهمكة يفما ز ُ
شغل خياطة .إهنا متشحة بلون رمادي .لباسها بسيط جداً وفضفاض ،قد يكون هذا بسبب احلرارة
الشديدة.
شاهد حصادون حيصدون الشعري .ولكنه ليس يف مومسه كالذي عند الطرف اآلخر للعريشة ،يُ َ
حيصد للمرة األوىل ،ذلك أن العنب آخذ ابلتلون بلون الذهب ،وشجرة تفاح كبرية تكشف ،من
خالل أوراقها القامتة ،عن مثراهتا اآلخذة ابلتلون ألواانًكاشفة كشمع أصفر وأمحر .مث حقل القمح ،هو
اآلخر مل يعد سوى قش يتموج وسطه كما اللهب املنثور ،وتنتصب اثبتة وبال حراك ترجناانت خمططة
كنجمة ،والزوردية كشمس الشرق.
من خالل ظالل العريشة تُقبِل مرمي الصغرية جداً ،ولكنها اآلن مفعمة نشاطاً وثقة ،مشيتها ال
تعرف الرتدد ،وحذاؤها األبيض ال يتعثر وسط احلجارة .لقد بدأَت اآلن متشي مشية احلمام اللطيفة
املتموجة قليالً .إهنا بيضاء ابلكامل كزغلول محام ،تلبس ثوابًكتانياً صغرياً يصل حّت الكعب ،فضفاضاً
ومثبتاً عند العنق بشريطة زرقاء مساوية ،وأكمامه صغرية قصرية تكشف عن زنديها الورديني الربيلني
(املربربني) ،أما شعرها احلريري الكاشف بلون العسل ،غري اجملعد كثرياً ،إّنا املتماوج بشكل خفيف،
وينتهي بعقدة ،وأما عيناها فبلون السماء ،وتبدو بوجهها اللطيف ،الوردي قليالً والباسم وكأهنا مالك
صغري ،حّت النسمة املتغلغلة يف األكمام العريضة ،واليت تنفخ ثوهبا الكتاين عند األكتاف فهي تساهم
يف إضفاء هيئة املالك الصغري عليها ،أبجنحته نصف املفتوحة استعداداً للطريان .إهنا حتمل يف يديها
منثوراً وزهوراً أخرى مما ينبت وسط القمح ال أعرف أمساءها .متشي ،وعندما تصبح قريبة من والدهتا
تركض مسافة قصرية ،تصرخ صرخة فرح ،ومثل ميامة صغرية توقف طرياهنا عند ركبيت والدهتا اليت
انتهت الرؤاي هنا ليلة أمسّ .أما هذا الصباح فقد عادت لتتواصل على الشكل التايل:
«ماما! ماما!» وترمتي اليمامة الصغرية البيضاء يف عش حضن أمهاِ ،رجالها الصغرياتن على
العشب القصري ووجهها الصغري على صدر أمها .مل يعد يُرى منها سوى ذهب شعرها املنري على عنقها
الصغري ،وتنحين حنة لتقبلها حبب .مث ترفع اليمامة الصغرية رأسها لتقدم الزهور ألمها ،إهنا مجيعها
لوالدهتا ،ومع كل زهرة تروي قصة ََّتَيَّـلَتها.
هذه الزهرة الكبرية بلون الالزورد هي جنمة هبطت من السماء لتحمل لوالدهتا قبلة الرب .وها
هي تضم هذه الزهرة السماوية الصغرية إىل قلبها بقوة ،وجتد فيها طعم هللا.
ب أما هذه األخرى ،ذات اللون الالزوردي األفتح كما لون عيين أبيها ،فهي حتمل وريقات ُكتِ
َ
عليها أن الرب حيب أابها كثرياً بسبب صالحه.
وهذه الصغرية ،الصغرية جداً ،فقد َو َج َدهتا وحيدة ،وامسها أذن الفأر (نبات ذات أزهار كثرية
صنعها الرب ليقول ملرمي إنه حيبها كثرياً.
وصغرية) وقد َ
أما هذه الزهرات احلمراوات ،فهل تعرف أمي ما هي؟ إهنا قطع من ثوب امللك داود مغمسة
بدم أعداء إسرائيل ومتناثرة على أرض املعركة واالنتصار .لقد ُخلِ َقت من نتف الثوب امللوكي ذاته
املمزق أثناء املعركة البطولية من أجل الرب.
َّ
صنِ َعت من سبع قطع حريرية تنظر إىل السماء ولكن هذه الزهرة البيضاء اللطيفة ،يبدو أهنا ُ
ممتلئة عطوراً ،وقد نبتَت هنا قرب النبع -كان والدها هو الذي قطفها هلا من بني األشواك -وهذه قد
صنِ َعت من ثوب امللك سليمان الذي لبسه يف الشهر ذاته الذي ُولِ َدت فيه ابنة أخيه منذ سنواتُ
كثرية -آه! كم من السنوات! كم من السنوات! -سنوات كثرية مضت ،وقد سار آنئذ بروعة بياض
لست أعرف من يكون .يبدو يل أين أعرفها منذ أمد بعيد جداً .ولكن قد يكون أحدهم «الُ .
يرويها يل وأان ال أراه .قد يكون مالكاً ُم َكلَّفاً من قبل هللا أبن يُكلِم الناس الطيبني .أماه ،هل تروين
يل املزيد؟»
َخ َذت تستمع إبمعان ،عيناها مغمضتان ،تردد ببطء الكلمات اليت تقوهلا والدهتا وكأهنا ترددها
وأ َ
لـتحفظها جـيداً .وعندما أهنَت حنة كالمهـا سـألَتها« :كم من الوقت يلـزم بعـد للحصـول على
عمـانوئيل؟»
تعود االبتسامة لتضيء الوجه الصغري الذي ارتفع بتؤدة صوب والدهتا ،وإشراقة الشمس اليت
مرت بني غصنني رطبني جعلَت الدموع املتوقفة تلمع كما قطرات الندى العالقة على القصبات الدقيقة.
«أجل .هذا يعين أال أعرف حب َر ُجل ،بل حب هللا فقط .يعين أال أفكر إال ابلرب .هذا يعين
البقاء طفلة ابجلسد ومالكاً ابلقلب .هذا يعين أال أرى بعيين غري هللا ،وأال أمسع أبذين سواه ،وأال أنطق
بفمي بغري تسـبحته ،وأال تكون يداي إال لتقدمي ذايت لـه كقرابن ،وأال تكون رجـالي إال التباعه
بسـرعة ،وأال تكون يل حياة أو يكون يل قلب إال لتقدميهما له».
لك أطفال ،و ِ
أنت اليت حتبني الصغار كثرياً ،احلمالن وزغاليل ت! ولكن لن يكون ِ «بوِرْك ِ
احلمام ...هل تعرفني ذلك؟ إن الطفل ابلنسبة للمرأة كاحلَ َمل الصغري األبيض ذي الصوف اجملعد ،أو
كزغلول احلمام ذي الريش احلريري واملنقار املرجاين ،إنه حمبوبُ ،مشبَع ابل ُقبالت على الدوام ،وهو
ِ
يناديك" :ماما"». الذي تطربني لسماعه
«ال يهم .سأكون من هللا .ويف اهليكل سأجهد يف الصالة .وقد ِ
أشاهد يوماً عمانوئيل .فالعذراء
اليت يفرتض أن تكون أمه كما قال النيب العظيم ،جيب أن تكون قد ُولِ َدت وأن تكون اآلن يف اهليكل...
سأصبح رفيقتها ...بل خادمتها .آه! نعم ،لو أنين أستطيع التعرف عليها ،بواسطة النور اإلهلي ،أريد
أن أخدم هذه املغبوطة! فتحمل يل ابنها فيما بعد ،أتخذين إىل ابنها وأخدمه هو أيضاً .تصوري اي
أمي! ...أن أخدم املاسيا! »...إن محاس مرمي يفوق الوصف ،فهي متحمسة هلذه الفكرة اليت تسمو
«بدون شك .أمل يقل سليمان امللك" :ستكون هناك ستون ملكة ومثانون عروسة أخرى ،وعدد
أيت ،سيكون يف قصر امللك عدد ال حيصى من العذارى خيدمن الرب».ال حيصى من الشاابت"؟ أر ِ
أيت إذاً أنه جيب أن أكون عذراء؟ جيب أن أكوهنا .إذا كان هو الذي أراد أن تكون «آه! أر ِ
أمه عذراء ،فهذا يعين أنه حيب البتولية أكثر من أي أمر آخر .أريد أن حيبين ،أان خادمته ،من أجل
كنت أريد أن أكون خاطئة،
البتولية اليت جتعلين شبيهة قليالً أبمه احملبوبة جداً ...نعم ،هذا ما أبتغيهُ ...
خاطئة كبرية جداً ،لو مل أكن أخاف من ارتكاب اخلطيئة جتاه الرب ...قويل يل اي أمي ،هل ميكنين
أن أكون خاطئة من أجل حب هللا؟»
لست أفهم».
«ولكن ما الذي تقولينه ،اي كنزي؟ ُ
«أريد القول :أن أرتكب اخلطيئة بغية احلصول على حمبة هللا الذي يصبح ُخمَلِصاً .الضال خيلص.
أليس كذلك؟ أريد أن أخلص بواسطة املخلص ألحظى بنظرة حبه .من أجل هذا أريد ارتكاب
اخلطيئة .ولكن دوّنا الوقوع يف اخلطااي اليت تثري امشئزازه .فكيف سيستطيع َّتليصي إذا مل أضل؟»
يُقبِل يواكيم لنجدهتا ماشياً على العشب ،فيقرتب دون صوت خلف صف من شتالت الكروم
ك حتبينه وال تريدين حمبة أحد غريه .هلذا ِ
أنت اآلن ك مسبقاً ألنه يعرف أن ِويقول هلا« :لقد أحب ِ
خملَّصة .وتستطيعني أن تكوين عذراء ،كما تريدين».
«لقد أحببتَه اآلن بشكل أفضل ،وذلك بعدم السماح أبن يهلك يف املياه الباردة».
ك أكثر إذ خل ِ
صك قبل ارتكاب اخلطيئة». «إذاً! فاهلل قد أحب ِ
ك ستأيت لزايريت ...مث إذا مل يسبب هذا األمل ،فأي تضحية تكون؟»
«كثرياً! ولكن َ
«هل ستذكريننا؟»
«دائما .بعد الصالة من أجـل عمـانوئيل ،سأصلي من أجلكم .ليمنحكم هللا الفرح والعمر
املديد ...إىل اليوم الذي سيصبح فيه هو املخلص .ومن مث أطلب إليه أن أيخذكم ويقودكم إىل أورشليم
السماء».
1944 / 08 / 29
يقول يسوع:
«إين أمسع تعليقات أساتذة املماحكة" :كيف تستطيع طفلة مل تتجاوز عامها الثالث أن تتكلم
هكذا؟ إهنا مبالغة ".أال يفكرون أبهنم جيعلون مين أان أيضاً ظاهرة فريدة حني ينسبون إىل طفوليت
سلوك البالغني.
َّدت الكنيسة سن السابعة ال يتأتى الذكاء جلميع الناس ابلطريقة ذاهتا ويف العمر نفسه .لقد حد َ
لبداية حتمل املسؤولية ،ألنه العمر الذي يستطيع فيه الطفل ،حّت ولو كان متخلفاً ،أن مييز ،أقله
بشكل بدائي ،بني اخلري والشر .ولكن هناك أطفاالً يستطيعون التمييز قبل هذه السن بكثري ،بل
وفرض ذواهتم وإرادهتم حبجة متطورة مبا فيه الكفاية .فاألطفال" :إمييلدا المربتيين ،وروز دي فيتريبِه،
ونيللي أورغان ،ونينوليتا" أكرب مثال لكم اي جهابذة التشدد يقودكم إىل االقتناع أبن أمي استطاعت
أن تفكر وتتكلم ابلطريقة إايها .مل أورد سوى أربعة أمساء ال على التعيني من بني ألوف األطفال
القديسني الذين يقطنون جنيت بعد أن فكروا كالبالغني على األرض على مدى قليل أو كثري من
السنوات.
ما تراه يكون الرشد؟ إنه هبة من هللا .يستطيع أن مينحها ابملقدار الذي يشاء وملن يشاء ومّت
يشاء .فالرشد هو أيضاً من األمور اليت جتعلنا نتشبه ابهلل أكثر :إنه روح موهوب ابلذكاء والرشد.
فالرشد والذكاء مها من املواهب اجملانية املمنوحة لإلنسان يف اجلنة األرضية ،وكم كانت حيوية النعمة
غري املنقوصة والفاعلة حني كانت ال تزال حية يف نفس األبوين األولني!
الثغرات احلاصلة يف ذكائكم هي الثمرة الطبيعية للسقطة اليت ارتُ ِكبَت ضد النعمة والشرف.
وبفقدان النعمة أُبعِ َدت احلكمة عدة قرون مثل نيزك خيتبئ داخل ضبابية عمالقة ،فلم تعد تصلكم
ابنعكاسات صافية ،ولكن عرب قتامات تصبح أكثر كثافة دائماً بفعل إخاللكم املتكرر ابألمانة.
مث أتى املسيح وأعاد النعمة إليكم هبة عظمى من حمبة هللا .ولكن هل جتيدون احلفاظ على هذه
اجلوهرة نقية طاهرة؟ أبداً .فعندما ال حتطموهنا إبرادتكم الشخصية ابرتكاب اخلطيئة ،تلطخوهنا خبطااي
مستدمية ،مع كوهنا أقل فداحة :إمهال ،تعلقات دنسة مبيول ،وإن مل تكن مرتبطة مباشرة ابلرذائل
الرئيسية السبع ،فإهنا تُب ِهت صفاء نور النعمة وفعاليتها .وبعد ذلك ،ولتعتيم الوضوح الرائع للذكاء
الذي َمنَ َحهُ هللا لألبوين األولني ،كانت قرون وقرون من الفساد قد فَـ َعلَت فعلها يف إضعاف القوى
اجلسدية والقدرات العقلية.
إال أن مرمي مل تكن فقط الطاهرة ،حواء اجلديدة اليت ُخلِ َقت اثنية ملسرة هللا ،بل كانت حواء
الفائقة ،رائعة الباري تعاىل ،كانت املمتلئة نعمة ،إهنا أم الكلمة يف فكر هللا.
يقول يشوع بن سرياخ" :نبع احلكمة هي الكلمة" .أمل يضع االبن حكمته الذاتية على شفيت
والدته؟
إذا كانت شفتا نيب ُمكلَّف بقول كلمات يوحي هبا إليه الكلمة ،الذي هو احلكمة ذاهتا ،لينقلها
فرتض أهنا
للبشر ،قد طُهرات جبمرة متأججة ،فهل َحي ُجب احلب عن عروسته اليت ما تزال طفلة ،واليت يُ ََ
ستحمل الكلمة يف أحشائها ،دقة ورفعة اللغة؟ فاألمر مل يعد متعلقاً بطفلة ،وفيما بعد ابمرأة ،ولكنه
يتعلق خبليقة مساوية مندجمة حبكمة هللا ونوره العظيم.
سوف أتكلم أيضاً عن هذا املوضوع الذي يدخل يف تصنيف "الذكرايت" اليت حيتفظ هبا
القديسون عن هللا.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 08 / 30
يتوقف املارة ملشاهدة الطفلة اجلميلة ابللباس األبيض بياض الثلج ،املتدثِرة شاالً رقيقاً جداً،
يبدو يل برسومه من أوراق وزهور وتكاثف ألوان يف أرضيته أنه نفسه الذي كانت حنة ترتديه يوم
تطهريها .الفرق فقط هو أن حنة حينما ارتدته مل يتجاوز نطاقها ،بينما ،وهو على مرمي ،يصل إىل
األرض ،ويلفها وشاح أبيض رقيق ومضيء بسحر اندر.
لون شعرها األشقر املنسرح على كتفيها وعلى عنقها الرهيف يشـف من خالل األرضية الرقيقة
للغاية ،حيث ال رسوم على الوشاح املثبت عند اجلبهة بشريطة بلون زرقة السماء فاحتة جداً حيث
كانت أمها قد طََّرَزت عليها زانبق صغرية فضية.
الثوب ،كما سبق وقلنا ،أبيض انصع ويصل إىل األرض ،وعندما تسري ،ابلكاد ميكن رؤية
قدميها الصغريتني يف حذائها األبيض .أما يداها الصغرياتن فتبدوان كتوجيي "مغنولية" ََّت ُرجان من
ُك َّمني طويلني .وهكذا ،فما عدا اإلطار األزرق يف الشريطة اليت على جبهتها ،ال لون سوى األبيض،
وكأن مرمي تلبس الثلج.
أما يواكيم وحنة ،فيواكيم يرتدي ثوب يوم التطهري ذاته وحنة ترتدي البنفسجي الداكن جداً.
حّت املعطف الذي يغطي رأسها فهو بلون بنفسجي داكن ،وقد كان منسدالً على عينيها ،عيين أم
مسكينة ،احلمراوين من كثرة البكاء ،بينما مها ال تريدان البكاء ،كما ال تريدان أن يـََرى أحد الدموع
فيهما ،ولكنهما مل تستطيعا اإلحجام عن البكاء حتت غطاء املعطف .واحلَ َذر هذا كان من املارة،
وحّت من يواكيم صاحب العني الصافية يف العادة ،واملغرورقة اليوم واملعكرة بسبب الدموع اليت انسكبَت
حياول االثنان إخفاء دموعهما ،ولكن حّت ولو جنحا مع أغلب الناس ،فإن ذلك كان مستحيالً
مع مرمي ،فإهنا ،بسبب قامتها الصغرية ،تنظر من أسفل لألعلى ،وبشكل متناوب إىل أبيها وإىل أمها.
ومها حياوالن االبتسام بشفاه مرتعشة ،ويشدان أيديهما بقوة أكثر على يدي مرمي الصغريتني كلما
نَظََرت إليهما مبتسمة .كانت تلح عليهما فكرة «ها هي مرة أخرى على األقل نرى فيها هذه
االبتسامة».
يسريون ببطء وتؤدة وكأهنم يريدون إطالة مسافة الطريق قدر املستطاع ،فكانوا يتذرعون أبتفه
األسباب للتوقف ...ولكن ال بد هلذه املسافة مهما طالت أن تنتهي أخرياً! إهنا حبق على وشك أن
أجه َشت حنة وشدت على يد مرمي تنتهي .ها هو حائط سور اهليكل يف هناية هذه الطريق الصاعدة؛ َ
الصغرية بقوة.
صدر صوت يقول« :حنة ،أيتها احملبوبة ،أان من حتت قنطرة منخفضة عند تقاطع طرق يَ ُ
معك!» فأليصاابت اليت كانت تنتظرها ابلتأكيد تالقيها وتضمها إىل صدرها .ومبا أن حنة كانت ِ
تبكي فقد قالت هلا« :تعايل ،تعايل ندخل قليالً إىل هذا املنزل ،اي صديقيت ،ومن مث نذهب معاً .زكراي
هنا».
دخلون مجيعاً إىل غرفة منخفضة السقف ومظلمة ،تلمع فيها انر كبرية ،فتنسحب املعلمة،
يَ ُ
وهي ابلتأكيد صديقة أليصاابت ،أما حنة فال تعرفها ،تنسحب أبدب موفرة للجماعة بعض احلرية.
داعب مرمي يدي والدهتا وتقبلهما ،مث متررمها على وجهها لتداعباه ،أما حنة فتشد على الوجه تُ ِ
الصغري بيديها وتقبله ،تقبله ،إهنا مل تشبع منه تقبيالً بعد.
دخل زكراي ويُلقي السالم« :سالم الرب على األبرار ».فيجيبه يواكيم« :نعم ،اطلُب لنا يَ ُ
صعد اجلبل ،ولكننا لن جند تقدمةالسالم ،فقلوبنا ترتعد من تقدميها .إهنا كتقدمة ابراهيم عندما كان يَ َ
أخرى نفتديها هبا .وحنن طبعاً ال نريد ذلك ألننا أوفياء هلل .ولكننا نتأمل ،اي زكراي ،اي كاهن الرب،
افهمنا وال تستنكر ذلك».
«أبداً؛ بل على العكس ،فإن أملكما الذي يعرف أال يتعدى احلدود املسموح هبا ،وال حيملكما
إىل الكفر ،يـُ َعلمين حب الباري تعاىل .ولكن اطمئنا فإن املعلمة حنة ستهتم بزهرة داود وهارون هذه
أميا اهتمام .فاآلن هي الزنبقة الوحيدة يف اهليكل املتحدرة من نسل داود املقدس .سنهتم هبا كما
جبوهرة َملَكية .فمع أنه قد بـَلَ َغ ملء الزمان ،ويفرتض ابألمهات املتحدرات من نسل داود تكريس
بناهتن للهيكل ،ألنه من عذراء من أصل داود سيخرج املاسيا ،وبسبب قلة اإلميان ،فاألمكنة املخصصة
للعذارى قد أصبَ َحت خالية .هناك القليالت جداً يف اهليكل ،وليس فيهن واحدة من أصل ملوكي
منذ أن َخَر َجت سارة اليت ألليشع لتتزوج منذ ثالث سنوات .صحيح أنه يلزمنا ست "مخسيات"
Lustresبعد لنصل إىل العهد ،إّنا ...ال أبس .أنمل أن تكون مرمي هي األوىل من بني عذارى
كثريات من نسل داود أمام احلجاب املقدس ...مث ...من يدري؟ »...مل يضف زكراي شيئاً آخر،
ولكنه ينظر إىل مرمي وهو مستغرق يف التفكري ،مث يتابع« :وأان أيضاً سأسهر عليها .أان كاهن ،ويل
حق الدخول .سأستغل ذلك من أجل هذا املالك .وكذلك أليصاابت ستأيت كثرياً لرؤيتها»...
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 74 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
«آه! بكل أتكيد! أان يف حاجة ماسة إىل هللا ،وسوف آيت ألطلب من هذه الطفلة أن حتمل
طلبايت إىل األزيل».
تتمالك حنة نفسها ،ولكي ترفع من معنوايهتا تردف أليصاابت« :أليس هذا وشاح زو ِ
اجك؟
طت طرحة جديدة؟»ك قد خ ِ أو أن ِ
ُ
إنه وشاحي ،وسأكرسه معها للرب .مل أعد أرى جيداً ...مث إن َد ْخلَنا قد شح كثرياً بسبب
َّرت هلا فقط
فحض ُ
الضرائب من جهة ونوائب الدهر من اجلهة األخرى .مل أستطع زايدة املصاريفَ ،
جهازاً فخماً إلقامتها يف بيت الرب ،وملا بعد ذلك ...ذلك أنين أعتقد أبين لن أُلبِسها أان نفسي يف
احتفاالت زفافها ...بينما أريد أن تكون يد أمها دائماً ،حّت وهي ابردة وقاصرة ،هي اليت تزينها
لعرسها ،واليت تنسج هلا بياضات وثياب العرس».
«أان عجوز اي نسيبيت .مل أشعر بعجزي يوماً كما أشعر به اآلن حتت وطأة هذا األمل .آخر قوى
للح َمل هبا وتغذيتها ،واآلن ...اآلن ...أمل فقداهنا يعصف هبذه القوى
حيايت قد وهبتُها هلذه الزهرةَ ،
األخرية ويبددها».
يقول زكراي« :حنن اآلن ابلضبط بني الساعة الثالثة والسادسة ،أظن أن وقت الذهاب قد حان».
يُبا ِركها األبوان ويقبالهنا مرة واثنتني بل حّت عشر مرات ،ذلك أهنما مل يكوان ليستطيعا أن
يشبَعا منها .تبكي أليصاابت بصمت ،وزكراي الذي مل يكن يريد إظهار ذلك أتثر أتثراً عميقاً .خيرجون
حسب الرتتيب السابق ،مرمي بني أمها وأبيها ،وأمامهم زكراي وزوجته .وها هم داخل أسوار اهليكل.
ظهر مرمي كأكثر ما يكون بياض الثلج حتت هذه الشمس الكبرية .ها هي عند أسفل السلم تَ َ
بني أبيها وأمها .كم تراها َّتفق قلوب الثالثة! وأليصاابت جبانب حنة ،ولكنها متأخرة عنها مقدار
نصف خطوة.
صوت إعصار فضي الرنة ،مث يَدور الباب على مفصالته وكأنه صوت إنذار من قيثارة ،بينما
ظهر القسم الداخلي من اهليكل مبصابيحه ،ويتقدم موكب ابجتاه الباب يَدور على كرات برونزية .ويَ َ
الباب ،قادماً من العمق ،موكب مهيب يرافقه عزف أبواق فضية وغيوم من البخور واألنوار.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 76 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ظهر أحدهم ،يفرتض أنه كبري الكهنة .عجوز جليل بلباس كتاين انعم عند العتبة ،يف املقدمة يَ َ
جداً ،وفوقه جلباب كتاين أيضاً ولكنه أقصر منه ،وفوقهما أيضا حلة .Chasubleشيء وسط
بني بدلة القداس ولباس الشمامسة مع تعدد ابأللوان :ذهب وأرجوان ،بنفسجي وأبيض ،تتداخل معاً
وتلمع كأحجار كرمية حتت الشمس؛ وفوق كل هذا جوهراتن حقيقيتان تلمعان أيضاً حبيوية أكثر على
مستوى الكتفني ،قد تكوانن عروتني مع فصني مثينني .وعلى صدره لوحة متأللئة ابجلواهر وحممولة
بسلسلة ذهبية .مناجد وتزيينات أخرى تلمع يف أسفل اجللباب القصري ،والذهب يربق على اجلبهة يف
القسم األعلى لقلنسوة تذكرين بتلك اليت يعتمرها الكهنة األورثوذكسيون ،ولكنها مدورة بدل أن تكون
مروسة كاليت للكهنة الكاثوليكيني.
ويتقدم الشخص املهيب مبفرده إىل األمام حّت بداية السلم اخلارجي يف نور الشمس املذهبة
اليت جتعله أكثر روعة .ينتظر اآلخرون برتتيب دائري خارج الباب ،حتت الرواق املظلل .إىل اليسار
هناك جمموعة من الفتيات ابللباس األبيض ،مع املعلمة حنة ونساء أخرايت مسنات ،وهن ابلتأكيد
معلمات.
ينظر كبري الكهنة إىل الصغرية ويبتسم .كانت تبدو لـه صغرية جداً عند أسفل هذا السلم اخلليق
هبيكل مصري! يرفع يديه إىل السماء مصلياً ،فيحين اجلميع رؤوسهم ،متالشني أمام جاللة الكهنوت
املتحدة ابجلاللة األزلية .مث يشري إىل مرمي.
وتصعد ،وكاملسحورة املفتونة ترتقي الدرجات .تبتسم .تبتسم لظل اهليكل ِ
تن َفصل عن والديها َ
حيث ينسدل احلجاب الثمني ...إهنا اآلن يف أعلى السلم ،عند قدمي كبري الكهنة الذي يضع يديه
على رأسها .لقد قُبِلَت الذبيحة .هل حوى اهليكل قبالً قرابانً أطهر منها؟
مث يَلتَ ِفت واضعاً يده على كتفها ،كما لو كان يبغي أن يقودها إىل املذبح ،وهي احلَ َمل الذي
دخلها يسأهلا« :اي مرمي بنت داود هل هذه هي بغري عيب ،يقودها إىل ابب اهليكل ،وقبل أن ي ِ
ُ
ِ
رغبتك؟»
تدخل مرمي وتبتلعها الظلمة ،مث تتبعها جمموعة العذارى واملعلمات تليهن مجاعة الالويني
فتحجبها أكثر ،مث تفصلها.
مل تعد هناك ...يدور اآلن الباب على مفصالته بصوت متناغم ،وتضيق فتحته رويداً ،رويداً،
اتركة جماالً لرؤية املوكب الذي يتجه صوب األقداس .مل يعد اآلن هناك سوى شق يتالشى ،مث ال
أصبحت يف احلرم.
شيء ،وأخرياً لقد َ
ولدى آخر صوت للمفصالت اجمللجلة ،جييب صوت العجوزين الذي جيهش ،وبصرخة واحدة:
«مرمي! ابنيت!» مث أبنينني متقاطعني« :حنة!» «يواكيم!» وخيتتمان« :لنمجد الرب الذي قَبِلَها يف
بيته ،ويقودها على طريقه».
يقول يسوع:
«قال كبري الكهنة" :سريي حبضوري وكوين كاملة" .ومل يكن كبري الكهنة يَعلَم أنه يُكلِم املرأة
اليت بكماهلا مل تكن أدىن من أحد غري هللا .إال أنه كان يتكلم ابسم هللا ،هلذا السبب كان األمر الذي
أعطاه مقدساً .إنه مقدس على الدوام ،وخاصة ابلنسبة لليت كانت ممتلئة حكمة.
لقد استَ َح َّقت مرمي أن "تبادرها احلكمة وتتجلى هلا أوالً" ألهنا "منذ البداية سهرت على ابهبا،
ورغبة منها يف أن تتثقف ،للحب ،أرادت أن تكون طاهرة للحصول على احلب الكامل ،وتستحق أن
متتلك احلكمة كمعلِمة هلا".
بسبب تواضعها ،مل تعلم أهنا امتلكتها قبل أن تولد ،وأن احتادها ابحلكمة مل يكن يؤدي سوى
إىل استمرار دقات قلبها اإلهلية يف اجلنة .مل تستطع تصور ذلك .وعندما قال هللا هلا كلمات رائعة يف
اض َعت ملا جال يف فكرها ،ابعتباره خواطر كربايء ،وبرفعها قلباً نقياً حنو هللا ،قالت:
سكون قلبها ،تو َ
خادمتك ،اي رب!"
َ "ارحم
آه! ابحلقيقة إن احلكيمة حبق ،العذراء األبدية ،مل تكن تفكر منذ مطلع يومها سوى "بتوجيه
قلبها للرب منذ فجر حياهتا ،والسهر للرب يف الصالة حبضوره تعاىل" طالبة الغفران لضعف قلبها كما
كانت تعتقد ،بوحي من تواضعها ،دون علمها أبهنا تستبق طلبات الغفران للخطأة ،وذلك هو ما
فَـ َعلَتهُ فيما بعد ،أمام الصليب ،يف الوقت ذاته مع ابنها الذي ميوت.
هذا للجميع.
1944 / 08 / 31
يقول يسوع:
«مثل غسق الشتاء السريع حيث الغيوم يف السماء ترتاكم بفعل الرايح الثلجية ،كذلك أقبَ َل
ي سريعاً ،منذ أن ثَبتَت مشسهم لتسطع أمام حجاب اهليكل املقدس. ليل حياة جد َّ
ولكن أما قيل" :احلكمة تنفخ احلياة يف أبنائها ،حتمي الذين يبحثون عنها ...من حيبها حيب
احلياة ،ومن يسهر من أجلها ينعم ابلسالم ،ومن ميتلكها يرث احلياة ...من خيدمها يطع القدوس،
ومن حيبها يصبح حمبوابً من هللا ...من يؤمن هبا يرثها إراثً اثبتاً ولنسله من بعده ،فرتافقه يف التجربة.
إهنا بداية تنتقيه ،مث ترسل لـه خوفاً وذعراً وجتارب ،وسوط أتديبه ليشكله ،إىل أن َّتتربه يف أفكاره
وتصبح أهالً للوثوق به .ولكن ،بعد ذلك ترسخه ،تعود إليه بدروب مستقيمة وتسعده .تكشف له
عن أسرارها ،تضع فيه كنوز العلم والذكاء يف صدر العدالة"؟
نعم ،لقد قيل هذا كلهُ .كتُب احلكمة تناسب كل الذين جيدون فيها ِمرآة تصرفاهتم ودليالً هلم،
طت ابحلكماء اآليلني ِ
ولكن طوىب ملن ميكن التعرف إليهم من بني العاشقني الروحيني للحكمة .لقد أُح ُ
للموت من أهلي .حنة ،يواكيم ،يوسف ،زكراي وأيضاً أليصاابت ومن مث املعمدان؛ أليسوا حكماء
لست أتكلم عن أمي حيث جتد احلكمة مقر إقامتها.
حقيقيني؟ ُ
أوحت احلكمة ألجدادي شكل حياة يرضي هللا ،مثل خيمة حتمي من ِ
من املهد إىل اللحدَ ،
َسورة العناصر اهلائجة ،لقد محتهم من خطر اخلطيئة .خمافة هللا املقدسة هي يف جذور شجرة احلكمة
اليت ترتفع بكل أغصاهنا لتالقي يف قمتها احلب اهلادئ يف سالمها ،احلب الساكن يف أماهنا ،احلب
الواثق يف إخالصها ،احلب املخلص يف قوهتا ،احلب الكامل الكرمي احملرك للقديسني.
أحبَّها يواكيم وحنة فكانت معهم يف جتارهبم .كم منكم ،دون أن يكون كامل ِ
ضمن هذا املعّنَ ،
السوء ،ال يتقبل ما يبكيه أو ما يؤمله! كم من التجارب ال جتد يف طريقها هؤالء الصاحلني الذين
يستحقون أن تكون مرمي ابنتهم!
االضطهاد السياسي الذي طََرَد ُمها من أرض داود وأف َقَرُمها دون قياس .احلزن املتأيت من رؤية
السنوات متضي دون أن تقول هلما زهرة" :أان استمرار لكما" .وبعد ذلك ،اخلوف احلاصل هلما يف
سن متقدمة كان أتكيداً على أهنما لن يـََراي تَـ َفتُّح املرأة فيها .ومن مث وجوب انتزاعها من قلبيهما حلملها
إىل هيكل هللا ،وأيضاً العيش يف سكون ثقيل ،بينما كاان قد تَـ َع َّودا على غناء ميامتهما الصغرية ،على
صوت خطواهتا القصرية ،على ضحكات وقبالت ابنتهم ...مث انتظار ساعة هللا مع ذكرايهتا ،وأيضاً،
وأيضاً أمراض ومصائب وأهوال الطقس ووقاحة املتنفذين .كلها إصاابت قذائف كثرية يف القلعة
الضعيفة لرخائهم املتواضع .ليس هذا كل شيء :فالذكرى املضنية لطفلتهما البعيدة واليت بقيَت وحيدة
ومسكينة ،واليت رغم عنايتهما وتضحيتهما مل يبق هلا سوى بقية خريات أبوية .وأبية حالة سوف جتدها
ومنتَ ِظرة عودهتا؟ خماوف ،هلع ،اختبارات وجتارب ،وأمانة، هملَةُ ،مغلَ َقة ُ
إذا ما بقيَت لسنوات أيضاً ُم َ
أمانة ،أمانة هلل .التجربة األقوى :احتجاب سلوى وجود ابنتهما إىل جانبهما عند أفول حياهتما.
ولكن األوالد ينتمون هلل قبل انتمائهم لذويهم .وكل ابن يستطيع قول ما قُلتُه لوالديت" :أال
تعلمني أنه ينبغي يل أن أكون يف ما هو ألي السماوي؟" وجيب على كل أب وكل أم ،ملعرفة السلوك
الذي عليه أن يراعيه ،أن ينظر إىل مرمي ويوسف يف اهليكل ،وإىل يواكيم وحنة يف بيت الناصرة الذي
خييم عليه الفراغ واحلزن كل يوم أكثر من الذي سبقه ،إال أن شيئاً واحداً فقط ال يضعف أبداً ،بل ال
يتوقف عن النمو :قداسة قلبني ،بل قداسة احتادمها.
حينئذ يُش ِرق فَـَرح فائق اإلدراك بنور مساوي مل يعرفه بشر ،وال خيبو بفعل وقوعه على جفون
ذابلة ،على عينني أوشكتا أن متوات .ولكنه ،يف الساعة األخرية ،يَسطَع أكثر ،وينري حقائق كل زمن
ظهر وجودها إال عربحياهتما احملفوظة يف أعماق نفسيهما مغلقاً عليها كالفراشات يف شرانقها ،ال يَ َ
حركات لطيفة انمجة عن ملعان خفيف؛ إال أهنا اآلن تفتح أجنحتها الشمسية وتُظ ِهر الكلمات اليت
تزينها .وتنطفئ احلياة يف معرفة مستقبل سعيد هلما والبنتهما ،بينما تتفتح على شفاههما مباركة أخرية
ومتجيد هلل.
هكذا كانت وفاة جدي كما استحقتها حياهتما املقدسة .بسبب قداستهما استحقا أن يكوان
صال على الرؤية الكاملة أول حارسني حملبوبة هللا .فقط حني أتت الشمس لتنري أفول حياهتماَ ،ح َ
للنعمة اليت َمنَ َح ُهما إايها هللا .بسبب قداستهما مل َّتترب حنة آالم الوالدة ،بل هي َولَ َدت املنزهة عن
كل عيب بنشوة بعد احلمل هبا.
ابلنسبة لكليهما ،مل يذوقا سكرات املوت ،إّنا مخول احلياة اليت َخبَت كما َّتبو جنمة عند قيام
ص َل عليه يوسف،الشمس يف الفجر .وإن مل حيصال على عزاء امتالكي ،أان احلكمة املتجسدة ،كما َح َ
كنت موجوداً إىل جانبهما بشكل غري مرئي ،منحنياً على وسادهتما أمهس هلما كلمات رائعة فقد ُ
ألنومهما يف السالم ابنتظار الظفر.
قد يقول قائل" :ملاذا مل يتألما يف الوالدة واملوت طاملا مها من أبناء آدم؟" أجيب" :إذا كان
املعمدان ،ابن آدم ،وهو الذي قد ُحبِ َل به ابخلطيئة األصلية ،قد تقدس جملرد اقرتابه وأمه مين ،وأان بعد
يف أحشاء أمي ،قبل والدته ،أفال حتصل األم القديسة على نعمة من كلية القداسة اليت مل ميسها عيب،
ِمن اليت كانت خاصة هللا ،وقد كانت حتمل هللا معها يف روحها شبه اإلهلية ويف قلبها الذي ما زال
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 83 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
جنينياً غري منفصل عن هللا منذ اللحظة اليت فَ َّكر فيها اآلب هبا ،واليت ُحبِ َل هبا يف أحشاء عادت
لتمتلك هللا يف ملء السماء ألبدية سعيدة".؟
هلذا أجيب" :استقامة الضمري تؤمن ميتة صافية ،وصلوات القديسني حترز لكم ميتة مشاهبة".
1944 / 09 / 02
مرمي فتية ،عمرها حوايل اثين عشر عاماً على األكثر ،مل تعد لوجهها الصغري مسة الطفولة الدائرية،
ولكن التطاول املرتسم على وجهها يقود للتخمني أبهنا امرأة ،وشعرها مل يعد منسرحاً على عنقها
مج َع اآلن يف ضفريتني كبريتني من الذهب الفاتح -إنه فاتح لدرجة أنه يبدو بتقصيبات خفيفة ،ولكنه ُِ
صالن إىل الوركني .والوجه أكثر رزانة وأكثر نضجاً مع ممزوجاً ابلفضة -مشلوحتني على الكتفني وتَ ِ
كونه وجه طفلة مجيلة وطاهرة .إهنا ترتدي األبيض ابلكامل ،وهي َّتيط يف غرفة صغرية جداً وبيضاء.
ومن خالل النافذة املفتوحة ميكن رؤية بناء اهليكل املركزي الضخم ،وكذلك أدراج الساحات الصغرية
املنحدرة واألروقة ،وخلف حائط السور تُـَرى املدينة بشوارعها وبيوهتا وحدائقها ،ويف البعيد تلوح قمة
جبل الزيتون احملدَّبة.
إهنا َّتيط وترتل بصوت خافت .ال أدري إذا كانت ترتيلة مقدسة .ها هي:
وتصمت مرمي وتبتسم وتتنهد ،مث جتثو على ركبتيها للصالة ،ويصبح وجهها الصغري كتلة ضياء،
ويرتفع نظرها صوب الزورد مساء صيف رائع ،ويبدو أن أنوار السماء كلها قد انسحبت إليها وتوهجت
هبا .أو ابألصح ،يبدو أن مشساً خمتبئة يف أعماقها أتججت أبنوارها وأانرت الثلج املائل قليالً إىل
الوردي يف بشرة مرمي ،ومن مث تناثرت على كل األشياء وعلى الشمس اليت تنري األرض مع مباركتها
ووعدها بكثري من اخلري.
وبينما هتم مرمي ابلنهوض بعد صالة احلب ،تَثبُت على وجهها إشراقة االخنطاف .ويف هذه
اللحظة تدخل العجوز حنة اليت لفانوئيل .وتقف مرتددة ،أو على األقل مندهشة من فعل ومظهر مرمي
مث تناديها« :مرمي» .وتلتفت الشابة اببتسامة خمتلفة ،ولكنها دائماً مجيلة جداً ،وتلقي التحية« :حنة،
السالم ِ
لك».
ِ
كفايتك أبداً يف الصالة؟» « ِ
أكنت تُصلني؟ أال تبلغني
«سيكون هللا معي ...وهو الذي سيفتح قلب عروسي للنور ...سوف تفقد احلياة شوكة
األحاسيس ،وتصبح زهـرة طاهرة تفوح منها عطور احملبة .أما الشريعة ...حنة ،ال تقويل عين جمدفة،
ولكنين أعتقد أن الشريعة ستتغري .ومن يفعل ذلك إذا كانت إهلية؟ الذي وحده ميتلك القدرة على
لك .فعند قراءيت سفر دانيال َشع يف داخلي نور ذلك :هللا .والزمن قريب أكثر مما تتصورين ،أقوهلا ِ
آت من مركز قليب وروحي ،وقد أُد ِرك معّن كلماته السرية .هل ستُختصر األسابيع السبعون ،أو عظيم ٍ
يتغري عدد السنوات بسبب صلوات املستقيمني؟ ال .فالنبوءات ال تكذب .إّنا لن تكون الدورة
سمع ِ
الشمسية هي مقياس زمن النبوءة ،بل الدورة القمرية .لذلك أقول لك" :قريبة هي الساعة اليت يُ َ
فيها بكاء وليد العذراء".
لست أجرؤ على رفع نظري إىل اجملد .وألجل هذا أريد لست سوى بؤس وغبار .و ُ «آه! ال .أان ُ
النظر إىل أعماق قليب أكثر من نظري إىل احلجاب املزدوج ،حيث أعلم أن يهوه غري املنظور موجود
خلفه .فهناك إله سيناء اجلبار؛ وهنا يف داخلي أرى أابان ،وجهاً يتألق ابحلب ،يبتسم يل ويباركين ألنين
صغرية كفرخ عصفور حيمله اهلواء دون أن يشعر بوزنه ،وضعيفة كقصبة زنبق الوادي الربي الذي ال
يعرف سوى أن يُ ِزهر ويـُ َع ِطر ،وال يقابل اهلواء بغري نعومة قوته العطرة والطاهرة .اي هللا ،اي نسمة حيب،
ال ليس يل هذا الطموح ،أما الذي سيولد من هللا ومن عذراء فلن يرضى هذا الكلي قدسه إال ابليت
لت الشريعة يفاختارها يف السماء أُماً لـه ،واليت حتدثه يف األرض عن أبيه السماوي :الطهارة .فلو أتم ِ
هذا ،ولو كان املشرعون الذين ابلغوا يف دقائق تعاليمهم ،لو أداروا أرواحهم صوب آفاق أكثر مسواً،
َكم ِمن الدم جيب أن يُراق ليفتدينا املخلص! كم! آالف وآالف من اجلروح رآها اشعيا على
جسد رجل اآلالم ،ها إن وابالً من الدم يتساقط مثل قطرات إانء مسامي .ليت هذا الدم اإلهلي ال
الع ِطَرة اليت تتقبله وتستقبله لتنشره على مرضىيتساقط حيث الكفر والتجديف ،إّنا يف كؤوس الطهارة َ
النفوس ،على النفوس اجملذومة ،على كل الذين ماتوا يف سبيل هللا .قَ ِدموا زانبق ،قَ ِدموا زانبق ملسح
عرق ودموع املسيح ،مع ثوب بتالت طاهرة أبيض! قَ ِدموا زانبق ،قَ ِدموا الزانبق من أجل اضطرام حرارة
ظمأك؟ أين ستكون اليت تتخضب حتملك؟ أو اليت سرتوي َ َ شهادته! آه! أين ستكون الزنبقة اليت
جسدك الذي أريق دمه كله؟ آه! أيها املسيح! َ أتك متوت؟ أين اليت ستبكي علىبدمك ومتوت أملاً إذا ر َ
َ
آه! أيها املسيح! واحسراته! »...وتصمت مرمي ذائبة يف البكاء منهارة.
تصمت حنة بعض الوقت مث تقول بصوهتا املشرق ،بصوت امرأة عجوز متأثرة« :هل هناك
أشياء أخرى تُـ َعلِمينيها ،اي مرمي؟»
تعود مرمي إىل يقظتها .وتظن يف تواضعها أن معلمتها تلومها ،فتقول« :آه! أان آسفة! ِ
أنت
حرصت كثرياً على أال
ُ معلمة وأان جمرد ال شيء مسكينة ،ولكن هذا الكالم قد فاض من قليب .ولقد
فتجاوزت كلميت احلدود .ال تقيمي ذت ِ
َ أقوله .ولكنه مثل هنر يف عنفه املتزايد حيطم السدود .لقد أُخ ُ
وزانً لكالمي ،وال هتتمي لتخميين .كان من املفروض أن تبقى الكلمات السرية يف طي الكتمان ضمن
القلب الذي ابرَكه هللا بصالحه .أان أعرف ذلك ،ولكن هذا احلضور غري املرئي ي ِ
سكرين بعذوبته... ُ َ
ِ
خلادمتك الصغرية!» حنة اغفري
مرمي بني ذراعيها ،وجهها الصغري على صدر املعلمة العجوز ...وهكذا ينتهي كل شيء.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
يقول يسوع:
«كانت مرمي تتذكر هللا .كانت حتلم ابهلل .كانت تعتقد أهنا حتلم .بينما مل تكن تقوم سوى
إبعادة رؤية كل ما كانت روحها قد رأته يف أتلق مساء هللا ،يف اللحظة اليت ُخلِ َقت فيها لالحتاد ابجلسد
الذي ُحبِ َل به على األرض .كانت تقتسم مع هللا صفة من صفاته ،ولو بطريقة متفاوتة جداً ،كما
تقتضيه العدالة ،صفة التذكر ،الرؤية والتوقع بفضل ذكاء قادر وكامل ،ألن اخلطيئة مل تكن قد َجَر َحتها.
لقد ُخلِ َق اإلنسان على صورة هللا كمثاله ،وإحدى صفات التشبه هذه تكمن يف إمكانية الروح
على التذكر ،على الرؤية وعلى التوقع .هذا ما يفسر إمكانية قراءة املسـتقبل ،هذه القدرة اليت ُمت َارس
مبشيئة هللا ،غالباً بطريقة مباشرة ،وأحياانً بتذكر يقوم كالشمس ،يف ذات صبح ،منرياً نقطة حمددة من
أفق الدهور ،حمفوظة غالباً يف قلب هللا .إهنا أسرار أكثر مسواً من أن تستطيعوا فهمها ابلكامل.
ولكن تصوروا ،هذا الذكاء اخلارق ،هذا الفكر الذي يعرف كل شيء ،وهذه العني اليت ترى
كل شيء ،وهذا الذي خلقكم بفعل إرادته ،وبنفحة من حبه الالمتناهي جبعلكم أبناءه أبصلكم،
وكذلك أبناءه مبصريكم ،فهل يستطيع إعطاءكم شيئاً خمتلفاً عنه؟ إنه يعطيكموه جبزء ال متناه يف الصغر،
ألن اخلليقة ال تستطيع أن تستوعب اخلالق ،ولكن هذه القسمة اتمة وكاملة رغم صغرها الالمتناهي.
اي للكنز ،الذكاء الذي مينحه هللا لإلنسان ،آلدم! واخلطيئة قد قلصته ،ولكن تضحييت قد أعادته
وعلمه .آه! سناء النفس البشرية املتحدة بنعمة هللا، إىل ما كان عليه ،وفَـتَحت روائع الذكاء ،أهنرهِ ،
َ
مقتسمة معه سعة معارفه! ...النفس البشرية املتحدة ابهلل بواسطة النعمة.
المتالك الروح ،ال بد من النعمة ،والمتالك احلقيقة والعلم ال بد من النعمة ،لوجود األب مع
الذات ال بد من النعمة .إهنا اخليمة اليت يُقيم فيها األقانيم الثالثة سكنهم ،مكان االسـتغفار حيث
يُقيم األزيل ويتكلم ،ليس من قلب سحابة ،ولكن ابلكشف عن وجهه إىل ابنه الويف.
القديسون يعيدون استذكار هللا ،الكلمات املسموعة يف الفكر اخلالق ،اليت حيييها الصالح يف
قلوهبم لرتفعهم كالنسور يف أتمل احلقيقة ويف معرفة الزمن.
كانت مرمي املمتلئة نعمة .كل النعمة ،الواحدة والثالوث ،كانت فيها .كل النعمة ،الواحدة
والثالوث كانت هتيئها كعروسة حلفل العرس ،كسرير الزفاف من أجل ذريتها ،كإهلية من أجل أمومتها
ورسالتها .وهي اليت ََّتتَتِم دائرة البنوة يف العهد القدمي وتَفتَتِح دائرة "الناطقة ابسم هللا" يف العهد اجلديد.
اتبوت العهد احلقيقي لكلمة هللا ،وهي تنظر إىل أحشائها اليت مل ميسها أحد منذ األزل ،كانت
تكتشف كلمات العلم األزيل وقد خطتها يد هللا على قلبها املنزه عن كل عيب ،وتتذكر مثل كل
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 93 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
القديسني أهنا َِمس َعتها عندما كوهنا هللا اآلب ،اخلالق كل ذي حياة ،مع نفسها غري املائتة .وإذا مل تتذكر
كل شيء عن رسالتها املستقبلية ،فَلِ َسبب هو أن هللا يرتك يف كل كمال إنساين ثغرات ،مردها إىل
احلكمة اإلهلية ،وهي مبثابة الصالح خلليقته ،ألهنا تقدم هلا فرصاً لالستحقاق .كان على مرمي ،حواء
الثانية ،أن تكتسب حصتها من االستحقاق لتكون أم املسيح بصدق نيتها األمينة ،تلك النية الصادقة
اليت أرادها هللا حّت من قبل املسيح ليجعل منه فادايً.
روح مرمي كانت يف السماء .وأخالقها وجسدها على األرض ،وكان عليها أن تطأ بقدميها
األرض واجلسد لتصل إىل الروح الذي يوحدها ابلروح األمسى يف عناق خصيب.
لست
كرايُ ،كنت أف ّكر يف رؤية إعالن موت األهل من قبل ز ّ مالحظة شخصيّة :طوال يوم أمسُ ،
كنت أف ّكر ،على طريقيت ،كيف سيُعالِج يسوع نقطة «تذ ّكر هللا من قبل الق ّديسني».
أدري ملاذا .وكذلك ُ
قلت لنفسي« :سيقال اآلن إ ّن مرمي يتيمة» .وكان قليب يعتصر ...كان
وهذا الصباح ،عندما بَ َدأَت الرؤايُ ،
ظننت أن أرى
ُ وأحسست به .ابلعكس ،مل تكن الرؤاي كما
ُ األايم األخرية هو نفسه الذي اختربتُهُ
حزن ّ
حّت بتلميح بسيط.
وأمسع ،وال ّ
ما زالَت مرمي يف اهليكل ،ويف هذه اللحظة َّترج من اهليكل مع العذارى األخرايت.
ال بد أن هناك احتفاالً ،ألن رائحة البخور تنتشر يف جو غسق مجيل أمحر ،وكأن اخلريف قد
َسبَّق جميئه ،فالسماء كئيبة نوعاً ما ،كما يف شهر تشرين األول (أكتوبر) ،صافية تنحين على حدائق
أورشليم ،حيث اصفرار األوراق اليت ستقع قريباً تضع بصماهتا الصفراء-احلمراء الفاحتة يف أخضر
الزيتون الفضي.
الثلة ،سرب الفتيات ،روض عذارى جتتزن الباحة الصغرية من اخللف ،يصعدن املدرجات وميشني
عرب رواق صغري ليدخلن إىل ابحة أخرى أقل روعة ،مربعة وليس هلا سوى منفذ واحد قد دخلن منه،
ويفرتض أنه املخصص ليؤدي إىل املساكن الصغرية للعذارى العامالت يف اهليكل ،ذلك أن كل شابة
كح َمامة إىل عشها ،مثل َمحَامات طائرة تتفرق بعد أن كانت جمتمعة .كثريات منهن،
تتوجه إىل غرفتها َ
بل ميكنين القول مجيعهن يتحدثن إىل بعضهن قبل االفرتاق بصوت خافت ،لكنه َمرِح .أما مرمي فهي
وهناك وافتها معلمة ليست ابلعجوز مثل حنة اليت لفانوئيل ،ولكنها مع ذلك مسنة« :مرمي،
ِ
ينتظرك». كبري الكهنة
تنظر مرمي إليها بشيء من الدهشة ،ولكن من غري أن تطرح سؤاالً .جتيب فقط« :سأذهب
إليه يف احلال».
لست أدري إذا ما كانت تنتمي إىل منزل الكاهن أم هي جزء من سكن تدخل غرفة كبريةُ ،
النساء العامالت يف املعبد ،كل ما أعرفه هو أهنا واسعة ،جيدة اإلانرة والرتتيب ،وأن زكراي وحنة اليت
لفانوئيل موجودان فيها مع كبري الكهنة بلباسه الفاخر.
لدى وصوهلا إىل العتبة ،تنحين مـريـم لألرض ،وال تتقـدم إال حينمـا يقـول هلـا كبيـر الكهنـة:
«تقدمي اي مرمي ،ال َّتايف ».فتنتصب وتتقدم ببطء ،ليس لقلة محاس منها ،بل إّنا ابلفطرة ،مبهابة
لست أعلم ما نوعها ،جتعلها تبدو أكثر نضجاً كامرأة.
ُ
تبتسم هلا حنة لتشجعها ،أما زكراي فيحييها« :السالم ِ
لك اي ابنة العم».
ينظُر إليها الكاهن إبمعان ،مث يقول لزكراي« :إن أصل داود وهارون واضح عليها.
فيقول زكراي« :ال ميكن أن تعرف أحداً ،طاملا أهنا أتت إىل هنا صغرية جداً ،كما أن نسل داود
قد اضطُهدوا كثرياً ،وتشتتوا ،ومل تتمكن أفرعه املختلفة من االجتماع واالحتاد لتورق النخلة امللكية».
وتنس ِكب حّت تصل إىل فمها املرتعش ،وتنظر مرمي إىل
وتَفلُت دموعها احملبوسة حّت اآلنَ ،
معلمتها نظرة توسل.
وتسارع حنة لتقدمي العون هلا بقوهلا« :لقد َعَزَمت مرمي على أن تقف نفسها للرب ،جملده
وخالص إسرائيل منذ نعومة أظفارها .أما اآلن فقد ارتبطَت بنذر»...
ِ
دموعك إذن هلذا السبب هي؟ وليست ملخالفة الشريعة؟» «
«أان هي».
كنت أمسَع صواتً أعذب من غناء املاء والعصافري يقول يل: ِ
كنت أُحب تلك املغارة ،ألنين منها ُُ
كنت أتالشى ِ
كنت أرى فيها إشارة الرب .و ُ كنت أُحب النقاط املاسية البهية ألنين ُ
"تعايل اي حمبوبيت"ُ .
حني أقول لنفسي" :اي روحي ،هل ترين كم هو عظيم ِ
إهلك؟ فالذي َج َع َل أرز لبنان لريح الشمال،
كنت أحب ِ ِ
َج َع َل هذه الوريقات اليت تنثين حتت ثقل ذاببة لفرح عينيك وسجادة لقدمك الصغرية"ُ .
صمت األشياء الطاهرة هذا :النسمة اخلفيفة ،واملياه ابنعكاساهتا الفضية ،ونظافة طيور احلَمام...
سهر على تلك املغارة وكأنه ينهمر من أشجار التفاح والزيتون ،اترة على ِ
كنت أُحب السالم الذي يَ َ
ُ
لست أدري ،يبدو أن الصوت كان يقول يل ،نعم كان شكل زهر ،وطوراً حممالً ابلفاكهة الثمينة ...و ُ
أنت اي مياميت" ...عذب هو حب األب أنت اي شجرة الزيتون الرائعة؛ تعايل ِيقول يل أان" :تعايلِ ،
واألم ...وعذب هو صوهتما الذي كان يناديين ...ولكن هذا الصوت! هذا الصوت! آه! أعتقد أن
«هل سيوافق؟»
ـبك .اذهيب اآلن ولري ِ
افقك هللا على «أمتّن ذلك .صلي أيتها الفتـاة لكي يســتطيع تفهم قل ِ
الدوام».
1944 / 09 / 04
أرى غرفة فاخرة مزينة جيداً بستائر وسجاد وموبيليا مطعمة .يفرتض أن تكون جزءاً من اهليكل،
فإن كهنة متواجدون فيها ،ومن ضمنهم زكراي وكثري من الرجال أبعمار ترتاوح بني العشرين واخلمسني
سنة تقريباً.
إهنم يتكلمون هبدوء فيما بينهم ،ولكن املناقشة حمتدمة .يبدو عليهم القلق ألمر أجهله .كان
اجلميع بثياب العيد ،ثياب جديدة أو أقله جمددة ،كما لو أهنم أتوا من أجل عيد .كثريون منهم نـََزعوا
العمامات اليت تغطي رؤوسهم ،وآخرون تركوها على رؤوسهم ،خاصة كبار السن منهم ،يف الوقت
ظهر رؤوس الشباب عارية يكسو بعضها شعر أشقر داكن ،والبعض اآلخر شعر بين ،والبعض الذي تَ َ
اآلخر شعر أسود ،بينما واحد فقط شعره أمحر حناسي .شعر األغلبية قصري ،إال أن هناك البعض قد
أرخوا شعورهم حّت األكتاف .يبدو أن اجلميع ال يعرفون بعضهم بعضاً ،إذ إهنم ينظرون إىل بعضهم
بفضول .ولكنهم يبدون أقرابء ألن أمراً واحداً يشغلهم مجيعاً.
يف إحدى الزوااي أرى يوسف يتحدث إىل عجوز إّنا يتمتع بصحة جيدة ،يوسف يقارب
الثالثني من عمره ،وهو وسيم ذو شعر قصري وكثيف ،مييل لونه إىل البين-الكستنائي ،كذلك اللحية
والشارابن اليت تغطي ذقناً مجيالً وخدين بلون بين مييل إىل االمحرار ،وليس كاآلخرين ذوي اللون البين
املائل إىل الزيتوين .وعيناه داكنتان مجيلتان وغائراتن ،جاداتن جداً حّت ميكن القول إهنما حزينتان
قليالً ،ومع ذلك فحني يبتسم ،كما يفعل اآلن ،فإهنما تُ ِعربان عن الفرح والشباب .وهو يرتدي ثوابً
كستنائياً فاحتاً .إن مظهره بسيط ولكنه الئق جداً.
َحيتَ ِدم فضول اجلميع بشكل خاص حينما تزيح الستارة يَد لتفسح الطريق لالوي حيمل بني يديه
حزمة من األغصان اجلافة وقد ُو ِض َع فوقها بشكل لطيف غصن مزهر .ندف خفيفة لبتالت بيضاء
ابلكاد تتلون ابلزهر الذي يتوهج اعتباراً من الوسط أبكثر فأكثر نعومة حّت طرف البتالت اخلفيفة.
يضع الالوي حزمة األغصان على الطاولة حبذر ونعومة ،لكي ال خيرب هذا الغصن املزهر بشكل
عجائيب وسط أغصان كثرية جافة.
ينتَ ِشر صوت يف القاعة ،وتتطاول الرقاب وترتكز النظرات لريوا أفضل .زكراي نفسه مع الكهنة
األقرب إىل الطاولة حياول أن يـََرى ،ولكنه ال يرى شيئاً .أما يوسف فبالكاد يلقي نظرة من زاويته إىل
حزمة األغصان ،وعندما يقول له ُحمَ ِدثه شيئاً ،يقوم حبركة تعين« :غري معقول!» ويبتسم.
يعلو صوت بوق خلف الستار .وخييم صمت مطبق ،وأيخذ اجلميع مواقعهم برتتيب مجيل،
الوجه صوب الفتحة اليت تنكشف جيداً ،فقد أزيح الستار ودخل كبري الكهنة حماطاً آبخرين كبار.
ينحين اجلميع احنناءة كبرية ،ويذهب الكاهن إىل جانب الطاولة ويتكلم وهو ما يزال منتصباً« :أيها
الرجال املتحدرون من أصل داود ،اي من لبيتم ندائي وأتيتم ...أنصتوا .لقد تكلم الرب له التسبيح،
ومن جمده سقط شعاع كشمس الربيع وأعطى احلياة لغصن جاف ،وقد أزهر بشكل عجائيب ،بينما مل
يزهر عود على األرض يف مثل هذا الوقت ،اليوم األخري من العنصرة ،بينما الثلج املتساقط على قمم
جبل يهوذا مل يذب بعد .هذا هو البياض الوحيد بني صهيون وبيت عنيا .لقد تكلم هللا جاعالً نفسه
َّ
استحقت أن أابً وسنداً لعذراء داود اليت ال محاية هلا إاله .الطفلة املقدسة ،جمد اهليكل وجمد أصلها،
تكون كلمة هللا هي الدالة على اسم الزوج املرضي عنه لدى األزيل .ابحلقيقة ،إن هذا البار هو خمتار
هللا ،ليكون سند العذراء الغالية جداً إىل قلبه! كذلك حزننا على فقداهنا َّتف وطأته ،فإن مصريها
كزوجة مل يعد يشغل ابلنا .فإىل الذي اختاره هللا نعهد بكل أمان ابلعذراء اليت حلَّت عليها بركة هللا
أصوات كثرية ،رؤوس تتلفت ،أيد وعيون تشري ،خيبات أمل ورضى .وهناك خاصة بني من هم
األكرب سناً من عليهم أن يفرحوا لعدم وقوع هذا املصري عليهم.
يعرتي يوسف امحرار وإحراج ويتقدم .مث يدنو من الطاولة يف مواجهة الكاهن الذي حيييه
ابحرتام.
«تعالوا مجيعاً وانظروا االسم املكتوب على الغصن ،وليأخذ كل منكم غصنه ليتأكد من عدم
وجود أي تالعب».
يطيع الرجال وينظرون إىل الغصن الذي ميسكه كبري الكهنة بكل لطف .مث أيخذ كل غصنه.
البعض يكسره والبعض اآلخر حيتفظ به .وينظر اجلميع إىل يوسف ،منهم من ينظر بصمت ،ومنهم
لك اي
قلت َمن يهنئه .أما العجوز صغري القد الذي كان حيادثه يف بداية اجللسة فيقول لـه« :لقد ُ
يوسف ،إن من لديه الشعور أبنه األقل أتكداً هو الذي يكسب الشوط ».أما اآلن فلقد خرج اجلميع.
يعطي كبري الكهنة الغصن املزهر ليوسف ،مث يربت على كتفه وهو يقول« :العروسة اليت أعطاكها
أنت تعرف ذلك .إال أهنا َمس َكن كل الفضائل .كن أهالً هلا على الدوام.
هللا ليست غنية مادايً ،و َ
أنت اي
أنت اي يوسف .أما َ فليس يف إسرائيل زهرة أمجل منها وأطهر ...اخرجوا اآلن مجيعكم ،وابق َ
ك قريب العروسة فاذهب وهاهتا». زكراي ،فبما أن َ
سدل الستار اثنية على الباب.
َخي ُرج اجلميع ما عدا كبري الكهنة ويوسف .مث يُ َ
يقف يوسف بتواضع أمام الكاهن اجلليل .متر حلظة صمت ،مث يقول لـه« :ينبغي ملرمي أن تبوح
قطعتهُ على نفسها .كن عوانً هلا يف حيائها .كن طيباً معها فهي جد طيبة».
لك ابلنذر الذي َ
َ
َخي ُرج زكراي لريافق الكاهن بينما حنة هتنئ العروس وَّترج أيضاً.
يقف اخلطيبان يف مواجهة بعضهما .يعرتي مرمي امحرار ورأسها منحن .وكذلك يوسف يعرتيه
القليل من االمحرار ،ينظر إليها ويبحث عن كلمات يقوهلا ليبدأ احلديث .أخرياً جيدها ويشرق وجهه
أيتك يف السابق صغرية جداً ،كان ِ
عمرك ال يتجاوز أايماً... لك اي مرمي .ر ِ اببتسامة .يقول« :سالم ِ
ك كثرياً .لقد كان صديقها الصغري ،فعمره اآلن يك ،وحفيد أخي حلفا كان حيب أم ِ كنت صديق أب ِ
ُ
لدت بعد ،كان هو ال يزال صغرياً جداً ،ولكنه ال يتجاوز الثماين عشرة سنة ،وعندما مل تكوين قد و ِ
ت إىل هنا ك أتي ِ ك احلزينة اليت كانت حتبه بكل جوارحهاِ .
أنت ال تعرفيننا ألن ِ كان يثلج صدر أم ِ
ك اجلميع كثرياً ،ويتحدثون عن مرمي الصغرية اليت جاءت والدهتا صغرية جداً .ولكن يف الناصرة حيب ِ
والدتك ...اجلميع يذكرها بسبب ِ معجزة من الرب أعادت أحشاء العاقر مزهرة ...وأان أتذكر عشية
كسر ضرابت الصاعقة وال قصبة أعجوبة املطر القوي الذي أن َق َذ احملصول ،والعاصفة القوية حيث مل تَ ِ
خلنج بري واحدة ،وقد انتهت بقوس قزح مل نر يف حياتنا أعظم منه وال أمجل .مث ...من ال يتذكر
كنت زهرة قادمة من السماء ،كان معجباً يك للجريان ...كما لو ِ يؤرجحك وهو ير ِ
ِ فرحة يواكيم؟ كان
بك ويريد أن يُطلِع اجلميع على هذا اإلعجاب .أب عجوز وسعيد ،مات وهو يتحدث عن مرمي ِ
اجلميلة جداً والطيبة جداً واليت كانت كلماهتا مفعمة نعمة وحكمة ...لقد كان حمقاً إبعجابه ِ
بك
ك؟ فقد كانت متأل احلي حيث كان ِ
بيتك ابألانشيد. منك! أما أم ِ
وبقوله إنه ال يوجد من هي أمجل ِ
ترضعك .وأان من صنَع ِ
لك ِ ِ
حتملك ،كنا حنسبها قربة يف الربيع ،وكذلك حينما كانت وعندما كانت
ََ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 103 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
املهد ،سريراً صغرياً مزيناً بورود حمفورة ،متاماً كما أرادته أم ِ
ك .قد يكون ما يزال يف بيتكم املغلق ...أان ُ
كنت أعمل آنئذ ...من كان حيسب ِ ِ
كنت أان أتعلم مهنة .لقد ُ
كبري السن اي مرمي .عندما ولدت أنتُ ،
أبويك اآلن أكثر سعادة ألننا كنا أصدقاء .لقد دفَنت ِ
أابك لك عروساً؟ قد تكون وفاة ِ أنين سأصبح ِ
َ ُ
بيدي ،وبكيتُهُ بقلب خملص ألنه كان معلماً صاحلاً حليايت».
ترفع مرمي وجهها ببطء وتؤدة وهي مطمئنة أكثر فأكثر لسماع يوسف يكلمها هكذا .فعندما
ابتسمت ،وعندما كلَّ َمها عن أبيها مدَّت لـه يدها وقالت« :شكراً اي يوسف».
كلَّ َمها عن السرير َ
كلمة شكر خجولة ومفعمة لطفاً.
أيخذ يوسف بني يديه ،يدي النجار القصريتني والقويتني ،يد ايمسينة صغرية ،ويداعبها حبنان
دون الكف عن حماولة طمأنتها .رمبا كان ينتظر كلمات أخرى ،ولكن مرمي تصمت من جديد .فيتابع
أنت تعرفينه ،سليم كله ،ما عدا القسم الذي ُه ِد َم أبمر احلاكم الستبدال الدرب بشارع
هو« :البيتِ ،
همل قليالً .أقول ما تبقى ،ألن مرض ِ
من أجل العرابت الرومانية .أما احلقول ،فما تبقى لك منها ُم َ
أبيك ،كما تعرفني ،جعلهُ يبيع قسماً كبرياً من األمالك .لقد مضى أكثر من ثالث سنوات مل َتر فيها ِ
الكروم وال األشجار مقص بستاين ،وكذلك األرض صلبة وغري حمروثة .ولكن األشجار اليت ر ِ
أتك
ِ
مسحت فسأهتم أان هبا من اآلن فصاعداً». صغرية جداً مل تزل يف مكاهنا ،وإذا
بعملك».
َ ك مشغول
لك ،اي يوسف ،ولكن َ
«شكراً َ
ِ
حديقتك يف الساعات األوىل واألخرية من النهار .يف هذا الوقت يطول «سوف أعمل يف
لك .انظري ،إنه غصن من شجرة اللوز املالمسةالنهار .أريد أن أرتب كل شيء قبل الربيع إرضاء ِ
أردت قطفه- ...ميكن الدخول من كل اجلهات من السياج الذي ُخ ِر َق ،ولكين سأصلحه للمنزلُ .
كنت أريد قطف هذا الغصن يف حال كان االختيار سيقع علي -مل يكن يل أمل وأجعله صلباً متيناًُ -
يت الدعوة فقط ألهنا صادرة عن الكاهن ،وليس رغبة يف الزواج-. يف ذلك ألنين انصري ،وقد لب ُ
ِ
حديقتك .ها هو اي مرمي. لك على زهرة منك ستُسرين حلصو ِ قطفتُه إذاً ،كما قلت ،اعتقاداً مين أن ِ
ُ ُ
لك معه قليب الذي مل يزهر حّت اآلن إال للرب ،وها هو يزهر اآلن ِ
لك اي عروسيت». أقدم ِ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 104 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
شعرت ابألمان
أتخذ مرمي الغصن .إهنا متأثرة ،وتنظر إىل يوسف بطمأنينة وإشراقة سعادة .لقد َ
وهبت نفسي ابلكامل
عندما قال هلا« :أان انصري ».فأصبح وجهها أكثر إشراقاً وتَ َش َّج َعت« :أان أيضاً ُ
أخربك بذلك»... لست أدري ما إذا كان كبري الكهنة قد َ هلل اي يوسفُ .
ِ
نفسك ،وأن بنذرك الذي قطعتِ ِه على
وإنك ستبوحني يل ِ ك طيبة وطاهرة ِ«لقد قال يل فقط إن ِ
ِ
رغباتك .أان ِ
يسعدك يف كل معك .تكلمي اي مرمي .فيوسف الذي أصبح ِ
لك يريد أن أكون طيباً ِ
ََ
ك حبسب اجلسد .بل أحب ِ
ك حبسب روحي ،أيتها الطفلة القديسة اليت منحنيها هللا! اعتربيين لست أحب ِ
ُ
ِ
ألخيك». األب واألخ وليس فقط الزوج .ثقي ي كما ِ
أببيك ،اطمئين يل كما
ست نفسي للرب .أان أعلم أن هذا األمر غري وارد يف إسرائيل،كنت طفلة صغرية كر ُ«منذ ُ
مسعت صواتً يطلب مين بتولييت بتضحية حب من أجل قدوم املاسيا الذي تنتظره إسرائيل منذ
ولكنين ُ
أمد بعيد ...فليس كثرياً ألجل ذلك أن أضحي بفرح األمومة!»...
ينظر يوسف إليها ملياً ،كما لو كان يريد قراءة أعماق قلبها ،مث يقول هلا وهو ميسك يديها
الصغريتني اللتني ما زالتا متسكان بني أصابعهما الغصن املزهر« :أان أيضاً ،سأضم تضحييت إىل
ِ
تضحيتك ،وبعفتنا معاً َسنُـ َعِرب لألزيل عن حب جم ،حب كبري ملعطي املخلص قريباً لكل األرض،
ماحناً إايان رؤية نوره يضيء العامل .تعايل اي مرمي ،ولنذهب أمام بيته ولنقسم أبن حنب بعضنا كما
لك ،يف ِ
بيتك إن كنت تفضلني يتحاب املالئكة فيما بينهم .مث سأذهب إىل الناصرة أهيئ كل شيء ِ
ذلك ،أو يف أي مكان آخر ،لو ِ
أردت».
لك واحدة أخرى هادئة ومنعشة ،تستطيعني لك ...ولكنين سأبين ِ «ما زالت إال أهنا مل تعد ِ
اللجوء إليها يف الساعات األكثر حرارة من النهار .سأجعلها حبجم تلك .مث قويل يل :من اليت تريدينها
مرافِقة ِ
لك؟»
شئت اي يوسف».
«مّت َ
يدك أن جتديه كماأحضر حاملا يصبح البيت مرتباً .لن أغري من ترتيبه شيئاً .أر ِ
«إذاً ،سوف ُ
ِ
ليستقبلك دون حزن .تعايل اي مرمي. ك .ولكنين أود أن متأله الشمس ،كما أريده نظيفاً جداً تَـرَكته أم ِ
َ ُ
فلنذهب لنقول له تعاىل إننا حنمده».
مل أعد أرى شيئاً ،ولكن الشعور ابألمان الذي اختَََربته مرمي بقي أثره يف قليب...
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 09 / 05
اي جلمال مرمي بثياب العرس بني زميالهتا ومعلماهتا اللوايت حيتفلن هبا! وقد كانت أليصاابت
بينهن.
لباسها أبكمله كان من الكتان الناصع البياض ،احلريري الناعم ،حّت لكأنه من احلرير النفيس.
صنِ َع أبكمله من ميداليات متصلة ببعضها حبلقاتوالنطاق من الذهب والفضـة املشـغولني ابل ُـمنَـ َّقـش؛ ُ
صغرية ،وكل ميداليـة هي عبارة عن زخرفـة من خيوط الذهب على دخيلة فضية ،أصبحت بـُنية بفعل
الزمن .إهنا طويلة ،وهي ما تزال شابة صغرية ،وقد كان النطاق يشد خصرها النحيل فتتدىل من األمام
امليداليات الثالث األخريات .تغوص بني ثنيات الثوب الفضفاض جداً ذي الرفل (الذيل) القصري،
بقدر ما هي طويلة ...ويف قدميها الصغريتني حذاء من اجللد األبيض الناصع تزينه حلقات فضية.
الوَريدات الذهبية ذات الزخارف السلكية الفضية ،تتخذصر الثوب بسلسال من ُ عند العنقُ ،حي َ
صيغة وروح النطاق ،إّنا بشكل مصغر ،ومير عرب التخرميات الواسعة يف حفرة العنق الواسعة ليجمع
الثنيات فتشكل نوعاً من الكشكش .عنق مرمي يظهر من خالل بياض الثنيات مع كياسة ساق ال َقبة
املغلفة بنسيج شفاف مثني ،ويبدو أكثر نعومة وبياضاً :ساق زنبق يتفتح بوجه زنبقي أكثر شحوابً من
التأثر وأكثر طهراً .وجه ذبيحة قرابن طاهرة جداً.
ص ِفف بدقة جبدائل نصف معقودة مبشابك مثينة من الفضة مل يعد شعرها على كتفيها .لقد ُ
الضاربة إىل اللون البين ،واملشغولة بتزيينات سلكية تُـثَـبِتها ابتداء من القمة .وشاح أمها موضوع على
هذه اجلدائل ،ويعود ليتدىل ُمشكالً ثنيات حلوة حتت شريطة القصب النفيسة اليت تشد اجلبهة الناصعة
البياض وينزل حّت الوركني ،ويتجاوزمها ألن مرمي مل تكن بطول أمها؛ بينما كان على حنة يتوقف عند
تنظر رفيقاهتا إليها من كافة االجتاهات إبعجاب ،أصواهتن مثل زقزقة العصافري املرحة بطلباهتن
وهتافات اإلعجاب.
«هل كان هذا ألم ِ
ك؟»
«قدمي حقيقي؟»
«وهذا الوشاح اي سوسن؟ انظري إىل هذه الدقة وهذه الزانبق املطرزة على احلبكة!»
«أريين األساور اي مرمي! هل كانت لو ِ
الدتك؟»
«آه! انظري .فيها خامت سليمان متشابك مع سعف خنل صغرية وأغصان زيتون ،تتخللها زانبق
وزهور .آه! من أجنََز هذا العمل العظيم والدقيق هلذه الدرجة؟»
فتقول مرمي ُم َف ِسرة« :إهنا من بيت داود .تتناقل النساء هذه احللي من جيل جليل ،تلبسها عند
الزواج ،مث تنتقل ابإلرث».
«حقاً! إن ِ
ك فتاة وارثة»...
«هل جلَب ِ
لك كل شيء من الناصرة؟» َ َ
«كال .عندما ماتت أمي ،محلَت نسيبيت هذا اجلهاز إىل بيتها لتحفظه من التلف .وقد جلبَتهُ
يل اآلن».
مل تعرف مرمي كيف تتصرف ...أرادت أن تكون ُجم ِاملة ،ولكنها أرادت كذلك أال َُّتَ ِرب ترتيب
كل أغراضها املرتبة يف صناديق ثالثة ثقيلة .تتدخل املعلمات ملساعدهتا« :العروس على وشك الوصول.
فالوقت ليس وقت بعثرة .اتركنها ،إنكن تتعبنها ،اذهنب وهيئن أنفسكن».
يبتعد سرب املثرثرات بقليل من االستياء .وأصبح ابستطاعة مرمي أن تفرح هبدوء مع معلماهتا
اللوايت ميدحنها ويباركنها.
تدنو أيضاً أليصاابت .تتأثر مرمي وتبكي عندما تناديها حنة اليت لفانوئيل« :ابنيت» وتُـ َقبِلها
ليست هنا ،ومع ذلك فهي ِ
إبحساس الوالدة احلقيقي .وتقول هلا أليصاابت« :اي مرمي ،إن أمك َ
لك مداعبتها، روحك .انظري :إن ما تلبسينه من آاثرها يعيد ِ ِ موجودة .روحها تتهلل فرحاً قرب
أتيت فيه إىل اهليكل ،قالت يل" :لقد وجتدين فيه أيضاً طعم قبالهتا ...منذ زمن ،يف اليوم ذاته الذي ِ
أت هلا ثياب وجهاز عرسها .أريد أن أكون أان من ينسج هلا الكتان وخييط أثواب العروس ،كي ال هي ُ
كنت أعتين هبا ،كانت تود مداعبة أكون غائبة يوم فرحها ".وهل تدرين؟ يف أواخر أايمها ،عندما ُ
ابك األوىل كل مساء ،وكذلك األثواب اليت تلبسني اآلن .كانت تقول" :أشم فيها رائحة ايمسني أثو ِ
جبهتك! إهناِ صغرييت ،وأريد أن حتس فيها قبلة أمها ".كم من القبالت يف هذا الوشاح الذي يظلل
أكثر من اخليوط! ...وعندما ستلبسني الثياب اليت خاطتها ،فكري أن نصيب الصنعة فيها أقل من
ك،الدك أثناء ساعات النكبة ذاهتا من أجل حب ِ ك .وهذه العقود ...قد أنقذها و ِ نصيب حب أم ِ
لست يتيمة ألن ِ
أهلك لك كما يليق أبمرية من نسل داود ،يف ساعة كهذه .كوين سعيدة اي مرميِ . لتجم ِ
لك األب واألم ،كم هو عظيم!»...ديك عروس هو ِ معك .ول ِ ِ
«آه! نعم! ابحلقيقة! إن مما ال شك فيه ،هو أنين ال أستطيع التشكي منه .ففي أقل من شهرين
جاء مرتني إىل هنا ،واليوم أييت للمرة الثالثة متحدايً املطر والرايح ليسألين عن أوامري ...تصوري:
أوامري! أان املرأة املسكينة ،وكم أان أصغر منه! ومع ذلك مل يرفض يل طلباً .حّت إنه ال ينتظر أن
أَطلُب .يبدو أن مالكاً ينقل إليه رغبايت ،فيحدثين عنها حّت قبل أن أفتح فمي .ففي املرة األخرية قال
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 109 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ميكنك ذلك لو ِ
أردت .وسآيت ِ لك الوالدي .مبا أن ِ
ك الوريثة، ك تفضلني اإلقامة يف منز ِ يل" :مرمي ،أظن ِ
لك .إّنا فقط للحفاظ على العرف والتقاليد ،ستمضني أسبوعاً يف بيت حلفا ،أخي .إن أان إىل منز ِ
ِ
ليوصلك إىل املنزل ".أليس هذا لطفاً منه؟ ال ك كثرياً .وعشية العرس ينطلق املوكب من هناك مرمي حتب ِ
يهمه أبداً أن يقول الناس إن بيته ال يعجبين ...بينما أان فقد كان بيته يعجبين على الدوام بسببه هو،
ضل منزيل ...بسبب الذكرايت ...آه! إن يوسف لطيب!» فهو طيب جداً .ولكنين ،بكل أتكيد ...أُفَ ِ
«مل يبد أي اعرتاض .ولكنه عندما عرف األسباب قال" :سأضم تضحييت إىل تضح ِ
يتك"». ُ
فقالت حنة اليت لفانوئيل« :حقاً إنه شاب قديس».
يف هذه اللحظة يدخل "الشاب القديس" بصحبة زكراي .إنه رائع حقاً .ابللباس الكامل األصفر
الذهيب ،الذي يبدو فيه كملك شرقي .نطاق خالب حيمل حمفظة نقوده وخنجره ،األوىل من اجللد
بتوشيات ذهبية ،واآلخر أيضاً يف غمد جلدي خبطوط ذهبية .على رأسه عمامة ،كسوة رأس منسوجة
كقبعة ،تشبه تلك اليت ما تزال تلبسها بعض شعوب أفريقيا ،البدو مثالً ،مثبتة يف مكاهنا حبلقة ذهبية
دقيقة ترتبط هبا طاقات من اآلس .ويلبس معطفاً جديداً أبهداب يتدثر به جبالل .عيناه تطفحان
سروراً .وبني يديه ابقات من اآلس املزهر.
يلقي التحية« :السالم ِ
لك اي عروسيت! السالم للجميع!» وبعد أن يردوا عليه التحية ،يتابع:
لك اآلس الذي ينبت قرب حديقتك .وفكرت أن أمحل ِ
ِ فرحك يوم محلت ِ
لك الغصن من ِ أيت
ُ ُ «ر ُ
املغارة اليت حتبني .كنت أريد أن أمحل ِ
إليك زهوراً بدأَت تتفتح قرب البيت ،ولكن الزهور ال تدوم ُ
لك اي حمبوبيت سوى إليك سوى أشواك ،بينما ال أريد أن أقدم ِ
طوال أايم السفر ...مل تكن لتصل ِ
ِ
أرجلك عليها دون أية الزهور ،وأريد أن أفرش ِ
لك الطريق زهوراً انعمة وعطرة لكي تستطيعي وضع
قذارة أو مضايقة».
تزين أليصاابت مع املعلمات مرمي إبكليل الزهور .تشكلنه بتثبيته على احللقة النفيسة اليت متنطق
جبهتها ابلتناوب ،طاقة آس بيضاء مث وردة بيضاء أ ُِخ َذت من مزهرية موجودة على صندوق ...وهكذا.
أصبَ َحت مرمي اآلن جاهزة الرتداء معطفها الفضفاض لوضعه على أكتافها ،إال أن عروسها يتحرك
ويساعدها على تثبيت املعطف يف أعلى الكتفني بدبوسني فضيني .وترتب املعلمات الثنيات برعاية
وحب.
لست أدري ماذا ،يقول يوسف بعد أن يتنحى مع مرمي أصبح كل شيء جاهزاً .أثناء انتظار ُ
رت به ِ ِ ِ
قلت لك إنين أشاركك به ،ولكنين كلما فك ُ رت بنذرك طوال هذا الوقت ،ولقد ُ قليالً« :لقد فك ُ
ِ
لست أستحق بعد أُد ِرك أن النذر املؤقت ال يكفي حّت ولو جتدد عدة مرات .لقد فهمتك اي مرميُ .
كلمة النور ،إال أن مهساً أاتين .وهذا ما جعلَين أقرأ سرِك ،أقله يف خطوطه األكثر قوة .أان جاهل
مسكني ،اي مرمي .أان عامل مسكني .ال أعرف احلروف وال أملك الكنز .إال أنين أضع كنزي عند
بك ،اي عذراء هللا" ،األخت عروسيت ،احلديقة قدميك لألبد :عفيت الـمطلَ َقة؛ ألكون أهالً للبقاء بقر ِ
ِ
ُ
ب النشـيد وهو ينظر املغلقة ،الينبوع املختوم" ،كما قال أحد األجـداد الذي ميكن أن يكـون قد َكتَ َ
أنت ...وسأكون البستاين يف بستان العطور هذا ،حيث توجد الثمار األكثر قيمة ،ومن حيث إليك ِِ
وداعتك اي عروسيت ،اليت اجتاحت روحي برب ِ
اءتك ،أيتها اجلميلة. ِ يتدفق نبع ماء احلياة ابندفاع عذب:
ِ
مبجملك ُحب قلبك هو الذي يشعِ ،
أنت اي من اجلميلة أكثر من الفجر ،الشمس املشعة ،ذلك أن ِ
ِ
بتضحيتك كامرأة .تعايل اي حمبوبيت ».ميسك بيدها إلهلك وللعامل الذي تريدين أن تعطيه املخلص ِ
بلطف ويقودها إىل الباب .يتبعهما اجلميع ،ويف اخلارج تُقبل رفيقاهتا لتنضممن إىل االحتفال ،بلباس
أبيض ابلكامل ،وكذلك ابلوشاح.
«نعم ،فهي من أصل ملكي وكهنويت ،زهرة داود وهارون .العروسة هي إحدى عذارى اهليكل.
وعروسها من نسل داود».
يضع الكاهن يد العروسة اليمّن يف يد عروسها ويباركهما مبهابة« :فليكن إله إبراهيم وإسحق
ويعقوب معكما ،ليوحدكما وحيقق بكما بركته إبعطائكما سالمه وخلفاًكثرياً وحياة طويلة وميتة صاحلة
يف أحضان إبراهيم ».مث ينسحب بشكل احتفايل كما دخل.
خيرج اجلميع بشكل منتظم ويذهبون إىل غرفة يُكتَب فيها عقد الزواج ويُعلَن أن مرمي وريثة يواكيم
بن داود وحنة بنت هارون قد َدفَـ َعت "دوطة" لزوجها بيتها مع ملحقاته وجهازها اخلاص وأشياء أخرى
وِرثَتها عن أبيها.
وينتهي كل شيء.
َخي ُرج العروسان إىل الباحة ،مث يتوجهان إىل املخرج ،جانب مقر النساء العامالت يف اهليكل.
عربة ثقيلة مرتبة جيداًكانت يف انتظارمها .إهنا مغطاة بنسيج؛ وصناديق مرمي الثقيلة هي اآلن داخلها.
تبكي مرمي هبدوء خلف الستار الذي كانت تزحيه من وقت آلخر لتنظر إىل اهليكل الذي
أضحى بعيداً ،واملدينة اليت تركتها.
( -21وضع يوسف مثل "خامت على خامت" مثل رئيس املالئكة على عتبة الفردوس)
1944 / 09 / 05
يقول يسوع:
أنش َد مدائحها؟ "يف احلكمة يوجد ابلفعل روح الذكاء، «ماذا جاء يف سفر احلكمة عندما َ
مقدساً ،وحيداًِ ،
متعدداً ،واثقباً" .ويستمر يف تعداد صفاهتا ،وخيتتم هبذه العبارات..." :تستطيع كل
شيء وتتوقع كل شيء وتستوعب كل النفوس ،ذكية ،طاهرة ،واثقبة الفكر .احلكمة تَلِج كل شيء
بطهرها ،إهنا فيض (نفحة) من روح هللا ...إذ ليس فيها ما هو غري طاهر ...إهنا صورة عن الصالح
اإلهلي .مع كوهنا وحيدة ،فإن وحدهتا تستطيع كل شيء؛ ومع كوهنا غري قابلة للتبدل ،فهي جتدد كل
األشياء .إهنا تتحد أبرواح القديسني وتشكل أصدقاء هللا واألنبياء".
أيت كيف أن يوسف ،ليس بثقافته البشرية ،بل إّنا مبعرفته فائقة الطبيعة ،عرف القراءة يف ر ِ
الكتاب املختوم للعذراء املنزهة عن كل عيب ،وكيف يالمس برؤيته احلقائق النبوية برؤية سر فائق
البشر ،حيث ال يـََرى اآلخرون سوى فضيلة كربى .مشرابً هبذه احلكمة اليت تنبعث من فضيلة هللا،
واليت هي انبثاق من القدرة الكلية ،يتوجه بروح مطمئن وواثق يف حبر سر النعمة هذا الذي هو مرمي،
يلتقي هبا يف مبادلة روحية ،حيث مل تتكلم الشفاه ،بل كاان نفسني يتبادالن احلديث يف صمت األرواح
املقدس ،حيث ال يسمعان سوى صوت هللا الذي ال يستقبله سوى املرضيني لدى هللا ،ألهنم خيدمونه
إبخالص وهم ممتلئون منه.
حكمة البار اليت تنمو ابالحتاد وحبضور كلية النعمة ،هتيئه للولوج يف أسرار هللا األكثر مسواً
ليستطيع محايتها والدفاع عنها ضد الشراك البشرية أو الشيطانية .وقد كان كل هذا فرصة له للتجدد.
لقد َج َعلَت من البار قديساً ،ومن القديس حارساً لعروسة هللا وابنه.
"عروسة هللا" .هكذا كان مكتوابً يف هذا الكتاب السري يف الصفحات غري املدنسة ...وعندما
عصف له الشك ابالختبار آبالمه املربحة ،كرجل ،وكخادم هلل ،أتمل كإنسان يف العامل ،النتهاك
القدسيات ابلشك .إّنا هذا كان اختبار املستقبل .أما يف الوقت احلاضر ،يف زمن النعمة ،فإنه يرى
ويضع نفسه يف اخلدمة احلقيقية هلل .إّنا بعدئذ ستأيت عاصفة االختبار ،كما لكل القديسني ،ليجتازوا
االمتحان ويصبحوا معاوين هللا.
"مر هارون أخاك أبن ال يدخل القدس يف كل وقت ،إىل داخل ماذا جاء يف سفر األحبار؟ ُ
احلجاب ،إىل أمام الغشاء الذي يغطي اتبوت العهد ،لكيال ميوت ،ألين ٍ
متجل يف الغمام فوق الغشاء،
قل له أال يدخل قبل أن يقوم هبذه األفعال :ي ِ
قدم عجالً من البقر كذبيحة للخطااي ،وكبشاً للمحرقة،ُ
ويعود ليلبس قميصاً من الكتان ،وابلسراويل الكتانية سيسرت عريه".
ابحلقيقة ،يدخل يوسف ،عندما يريد هللا ،وابلقدر الذي يريده ،إىل قدس أقداس هللا ،وراء
احلجاب الذي يغطي اتبوت العهد الذي يرفرف فوقه روح هللا ،ويقدم نفسه ،وسيقدم احلمل حمرقة
عن خطيئة العامل وكفارة عن هذه اخلطيئة .ويقوم هبذا وهو يرتدي الكتان على جسده الذي أماته
بنذره لي ِ
بطل الغرائز اليت انتصرت يوماً يف بداية الزمان ،خملة أبوامر هللا لإلنسان ،وستداس اآلن يفُ
أمل يكن يوسف يف اجللجلة؟ أيبدو لكم أنه مل يكن بني املشاركني يف عملية الفداء؟ احلق أقول
لكم إنه كان أول املوجودين ،لذلك فهو عظيم يف عيين هللا .عظيم ابلتضحية والصرب والثبات واإلميان.
وأي إميان أعظم من إميان الذي آمن دون أن يرى معجزات ماسيا؟
كل التقريظ (الثناء) ألي الومهي ،املثل األعلى لكم ملا ينقصكم على األغلب :الطهارة
واإلخالص ،واحلب الكامل .للذي قَـَرأَ بشكل رائع الكتاب املختومُ ،متثقفاً ابحلكمة ليعرف كيفية
إدراك أسرار النعمة .ذاك الذي اختاره هللا ليحمي خالص العامل ضد مكائد كل األعداء».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
متتد مساء شهر شباط (فرباير) الدافئ واألكثر زرقة على رواي اجلليل .الرواي اللطيفة اليت مل أرها
دت فيها. ِ
كنت قد ُول ُ
أبداً يف مرحلة طفولة العذراء بدت وكأن املشهد كان مألوفاً ابلنسبة يل ،كما لو ُ
الطريق الرئيسية املبللة بفعل أمطار سبق هطوهلا -رمبا تكون قد هطلت يف الليلة السابقة-
ليست موحلة وال مغربة .إهنا منتظمة ونظيفة كما لو كانت شارعاً يف مدينة ،وهي متتد بني سياجني
من الزعرور املزهر .إهنا مثل سطح ثلجي يضوع منها عطر املر واخلشب ،مقطعة حبسب جمموعات
كبرية من الصبار ذات األوراق الضخمة واملسطحة ،أبشواكها املنتصبة ،ومزينة مبجموعة كبرية من
الثمار غري املألوفة اليت نبتت بشكل عشوائي على أطراف األوراق .شكلها ولوهنا يوحيان إيل أبعماق
البحار بكل ما فيها من مدخات ِ
(شعاب مرجانية) وقناديل حبر وحيواانت أخرى من األعماق املائية.
فيما بعد األسيجة -اليت تقوم مقام احلدود للملكيات ،واليت متتد يف كل االجتاهات ،مشكلة
رسوماً هندسية غريبة ،منحنيات وزوااي ،متوازايت أضالع ومعينات ومربعات وأنصاف دوائر ومثلثات
حادة أو منفرجة الزاوية غري معقولة ،إنه رسم موشى كله ابألبيض كشريطة متبدلة ُمدت هكذا ،للمتعة،
على طول احلقول ،وعليها يطري مئات العصافري من كل نوع ،وتزقزق وتصدح بفرح احلب وبناء
األعشاش -وبعد األسيجة أتيت احلقول مع القمح والعشب ،وهو اآلن أطول من القمح يف جبل يهوذا
واملروج املزهرة ،وعليها -ابلتجاوب مع غيوم السماء اخلفيفة اليت يضفي عليها الغسق صبغات من
الزهر والليلك الفاتح ،والبنفسج والدفلة ،وعني اهلر الالزوردي واملرجان الربتقايل -مئات ومئات من
ُس ُحب األشجار املثمرة :بيضاء ومحراء مع كل الدرجات البَينية.
تنام الشمس مطمئنة يف السماء العذبة بزرقتها اليت جيعلها النور أكثر إشراقاً ،كما جيعل ثلج
حرمون والقمم البعيدة األخرى تلمع من البعيد.
عربة تسري على الطريق .إهنا هي اليت حتمل يوسف ومرمي مع األنسباء .انتهت الرحلة.
تنظر مرمي نظرة متلهفة تروم هبا معرفة ،بل التحقق من كل ما تراه وال تتذكره ،وتبتسم عندما
تعود إحدى الذكرايت غري احملددة وتتوقف عند هذه أو تلك من األشياء ،عند نقطة معينة ،أليصاابت
ومعها زكراي ويوسف يساعدوهنا على التذكر بتحديد هذه القمة أو تلك ،هذه الدار أو تلك .من هنا
تبدأ البيوت ،فالناصرة تظهر اآلن ممتدة على سفح الرابية.
ظهر بيوهتا الصغرية البيضاء واسعةلفحتها مشس املغيب من جهة اليسار ،تَ َ املدينة اليت َ
ومنخفضة ،تعلوها سطوح ملونة ابلوردي .بعضها ،اليت تلفحها الشمس ابلكامل ،تبدو مضاءة وكأنه
احلريق ،وذلك المحرار الواجهة بسبب الشمس اليت جتعل املياه تلمع ،مياه القنوات واآلابر املنخفضة
غري املسورة ،واليت َّترج منها الدالء للمنازل واملرشات للمبقلة.
يقف األطفال والنساء على قارعة الطريق ،ينظرون إىل العربة وحييون يوسف الذي يعرفه اجلميع.
ولكنهم يبقون بعدها يف نوع من اخلشوع والرهبة أمام الثالثة اآلخرين.
لدى دخوهلم فعلياً إىل املدينة ،مل تعد هناك حرية وال خوف .كثريون من كل األعمار يتواجدون
عند أول البلدة حتت قوس ريفي من الزهور واألوراق ،ومل تكد العربة تظهر من خلف منعطف آخر
منزل ريفي شذ عن الصف ،حّت علت كرة من اهلتاف احلاد؛ الناس يهزون السعف والباقات .إهنم
كشف العربة قبل الوصول إىل البلدة ،فالشمس مل تعد مزعجة ،وهكذا يتاح ملرمي أن ترى جيداً تُ َ
مسقط رأسها .تبدو مرمي مجيلة مثل زهرة ،بيضاء وشقراء مثل مالك ،تبتسم بطيبة لألطفال الذين
يرشقوهنا ابلزهور ويرسلون هلا القبالت ،وللفتيات من عمرها اللوايت ينادينها ابمسها ،كذلك للعروسات
نشدة .مث تنحين أمام الرجال ،خاصة أمام أحدهم واألمهات والعجائز اللوايت يباركنها أبصواهتن الـم ِ
ُ
الذي رمبا كان احلاخام أو الشخصية الرئيسية يف البلدة.
لك اي مرمي» يقوهلا يوسف مشرياً ابلسوط إىل منزل صغري موجود متاماً يف أسفل «ها هو منز ِ
سفح هضبة ،وله من اخللف حديقة مجيلة واسعة ،مليئة ابلزهور ،وتنتهي بشجرة زيتون صغرية .وأبعد
من ذلك قليالً السياج املعتاد من الزعرور والدفل الذي يـُ َعني حدود امللكية.
لك منها القليل فقط يقول زكراي« :احلقول اليت كانت يوماً ليواكيم أكرب من ذلك ،وقد بقي ِ
الدك كان طويالً ومكلفاً ،وكذلك مصاريف اإلصالحات كثرية التكاليف ،وآخرها ما ألن مرض و ِ
أُتلِف من قِبل روما .أرأي ِ
ت الطريق وقد طُ ِم َست معامل امللحقات الثالث األساسيات ،وكذلك املنزل َ َ
صغر؟ ولتوسيعه دون حتمل تكاليف ابهظة استخدمنا جزءاً من اهلضبةُ ،ح ِفَرت كمغارة كان وقد َ
أنت فستتصرفني حسب ما ترينه مناسباً».يواكيم حيفظ فيها مؤونته ،وحنة تضع فيها مصنوعاهتا .أما ِ
«آه! وإن يكن صغرياً ،ال يهم! هذا يكفيين دائماً .سوف أعمل»...
جييب يوسف« :ال اي مرمي ،فأان من سيعمل ،أما ِ
أنت فلن تقومي سوى أبعمال البيت من
ِ
بعملك». ِ
زوجك .فال تذليين غسيل وخياطة .إنين شاب وقوي ،وأان
يقول يوسف« :هذا أخي حلفا ،وهذه مرمي زوجته ،وهؤالء أوالدمها ،وقد جاءوا خصيصاً
لك لو ِ
أردت». لك إن منزهلم هو منز ِ
بك ،وليقولوا ِ
لالحتفال ِ
تقول مرمي زوجة حلفا« :نعم ،تعايل اي مرمي ،إذا كان العيش وحيدة يضن ِ
يك .الريف مجيل يف
الربيع ،ومنزلنا وسط احلقول املزهرة .وستكونني ِ
أنت فيه أمجل زهرة».
أشكرك اي مرمي .سوف آيت بكل سرور بني احلني واحلني ،دون اإلساءة لعرف الزواج .ولكنين « ِ
نسيت مالحمه ...أما اآلن
ُ كنت صغرية جداً عندما غادرتُه ،وقد
أرغب كثرياً رؤية واستكشاف منزيلُ .
وقد وجدتُه ...فيبدو يل أين أالقي أمي اليت أضعتُها ،وأي احملبوب ،أالقي صدى كلماهتما ...وعطر
آخر تنهيدة هلما .يبدو أين مل أعد يتيمة ،ألنين أمتلك حويل عناق اجلدران ...افهميين اي مرمي ».وهنا
فضح صوت مرمي أتثرها ،وتتألأل الدموع على أهداهبا.يَ َ
جتيب مرمي اليت حللفا« :كما تريدين اي حبيبيت .ولكين أر ِ
يدك أن حتسي ي كأخت ِ
لك وصديقة
لك إىل حد ما ،فأان أكرب ِ
منك سناً». وكأم ِ
«أشكركم مجيعاً وعلى كل شيء ،من أجل كل صنيع أردمت أن تسدوه ألهلي وتريدون أن تسدوه
يل .فليبارككم هللا الكلي القدرة».
أتعرف على بيت الناصرة الصغري كما أُن ِزلَت الصناديق الثقيلة وأ ِ
ُدخلَت إىل البيت .يدخلون ،و َّ
هو فيما بعد أثناء حياة يسوع.
أيخذ يوسف مرمي من يدها -حركة طبيعية واعتيادية -ويدخالن هكذا .وعند العتبة يقول هلا:
لك صديق آخر لك فال يكن ِ يعرتضك أو حيصل ِ
ِ «واآلن ،على هذه العتبة أريد ِ
منك وعداً :أي شيء
أو م ِ
ساعد تلتجئني إليه إال يوسف .وكذلك أال َّتفي ِ
أملك ألي سبب من األسباب .أان بِ ُكلييت حتت ُ
فك ،تذكري هذا ،وهنا سيكمن فرحي يف أن أجعل در ِ
بك سعادة ،ومبا أن السعادة ليست دائماً تصر ِ
يف متناول يدان ،فعلى األقل أن أجعلها ِ
لك هادئة وأمينة».
َّتلع مرمي اآلن املعطف والوشاح ،ذلك أهنا ما تزال بثوب العرس ماعدا زهور اآلس .مث َّترج
إىل احلديقة املزهرة .تنظر وتبتسم ،ويدها ما تزال يف يد يوسف ،تدور حول احلديقة .تبدو وكأهنا
استعادت ملكية مكان فَـ َق َدتهُ سابقاً.
«ال ،فمرمي ترغب يف إخاطة األغطية الصوفية ،الشيء الوحيد الذي يفتقده اجلهاز .وأان سعيد.
انتظرت سنة أو أكثر .وأثناء ذلك ستتعود على املنزل»...
ُ فمرمي ما تزال شابة ،وال يهم إن
«عندما تبلغ مرمي السادسة عشرة .بعد عيد املظال .وستكون أمسيات الشتاء أعذب ابلنسبة
لعروسني جديدين!»...
ويبتسم اثنية وهو ينظر إىل مرمي نظرة انتظار سري مليئة عذوبة وعفة أخوية لطيفة .مث يتابع:
«ها هنا الغرفة ،داخل األكمة .إذا ِ
رغبت فسأجعلها مشغلي عندما آيت ،فهي متصلة ابملنزل ،ولكنها
كنت مع ذلك تريدين غري هذا»...ليست داخله ،وهكذا لن يكون هناك ضجة وال فوضى .أما إذا ِ
حييي اجلميع وينصرفون .يبقى يوسف لبضع دقائق أخرى ،يتحدث إىل زكراي بصوت منخفض.
أنت؟ أان مسرور ألهنا ست ِ
عينك عندك لبعض الوقت ،أمسرورة ِ نسيبك أليصاابت ِِ «سوف يدع
كي ...تصبحي ربة منزل عظيمة .معها سوف تنظمني كل شيء حسب ِ
ذوقك وترتبني املوبيليا،
ِ
ملساعدتك .معها ستستطيعني أتمني الصوف وكل ما يلزم ،وأان من سيتوىل أمر وسوف آيت كل مساء
ِ
وعدت أن تلتجئي إيل يف كل شيء .إىل اللقاء اي مرمي .انمي أول ليلة كامرأة املصاريف .تذكري ِ
أنك
لك مالك هللا هادائً .وليكن الرب ِ
معك على الدوام». بيتك ،وليجعله ِ
يف هذا البيت الذي هو ِ
أنت أيضاً حتت جناح مالك هللا .شكراً اي يوسف على كل«إىل اللقاء اي يوسف ،فلتكن َ
ك».شيء .بقدر استطاعيت ،سوف أجعل حيب متجاوابً مع حب َ
حييي يوسف األنسباء وخيرج .ويف الوقت ذاته تنتهي الرؤاي.
يقول يسوع:
لك ذلك ،وكان وعداً مين ،ومل تدركيه عندما حان الوقت الذي تغوصني فيه ،تتدحرجني، قلت ِ
ُ
احلب الذي هو أان ِ
أكرر لك ذلك اآلن بفرح ال خيتربه إالّ ّ مكبّلة ،مغطّاة ابألشواك يف أعمق الظلماتّ ...
لك اآلن :زمن التضحية انتهى .وأان الذي أعرف أقول عندما أريد أن أوقف األمل عن احملبوبة .هذا ما أقوله ِ
بت يل فيهالك من أجل العامل الذي ال يعرف ،ألجل إيطاليا وفيارجييو ،ألجل هذه البلدة الصغرية اليت جلَ ِ ِ
َ
يتك سيسيليا املخصص للمحرقات من أجل تضحياهتم .عندما أر ِ أتملي معَن هذه الكلّمات -الشكر
ّ ّ -
مشربة بعطوري اليت َج َذبَت بروائحها الزوج والصهر واخل ّدام واألهل واألصدقاء. الزوجة البتول ُ ِ
قلت لك ّإهنا ّ
لك ،أان الذي أعرف ،عن دور سيسيليا يف هذا العامل فعلت ذلك دون أن تعلمي ،ولكنّين أقول ِ وأنت قد ِ ِ
أدركوا، ِ ِ
الذي أصبح جمنوانً .أنت ممتلئة مين ،من كلميت ؛ لقد محلت رغبايت وسط الناس ،واألفضل منهم َ
ضلة واحملبوبةوطنك أبكمله ،واألمكنة املف ّ ِ يدمر ِ
وبعدك ،أيّتها الضحيّة ،كثريون ،كثريون خرجوا ،وإذا مل ّ
استمري أيضاً. ِ
ونشاطك .شكراً أيّتها املباركة .إ ّّنا لديك ،فذلك ألن كثرياً من القرابني قُ ِّدمت بعد مثَ ِ
لك ِ
ّ َ َ
وأننت أيتها الضحااي ،مثّن هذا االفتداء.
أمس احلاجة ألنقذ األرض ،ألفتديهاّ . فأان يف ّ
ِ
ترفعك دائماً أكثر إىل مستوى إدراك علم احلياة احلكمة اليت تث ّقف الق ّديسني وتث ّق ِ
فك بتعليم مباشر،
ك يف مقر احلكمة وابقي فيهاخيمتك قرب بيت الرب .اغرسي أواتد خيمت ِ ِ وممارستها .فانصيب ِ
أنت أيضاً
ِ
وسيجعلك يف مأمن وال خترجي .سرتاتحني ُتت محاية الرب الذي ِ
حيبك كعصفور وسط األغصان املزهرة،
من كل سوء األحوال الروحية ،وستكونني يف نور جمد هللا من حيث ستهبط ِ
إليك كلمات السالم واحلقيقة. ّ
اذهيب بسالم .أابر ِ
كك اي مباركة».
الرب
تتذمري من ّ األم يف عيدها .سلسلة هدااي .وإن كان بينها بعض األشواك ،ال ّ
«إىل ماري هديّة ّ
ِ
ووجدت كل أمل سيلقى سلواه". ب القليلني ج ّداًِ ُ . ِ
قلت لك يف البداية" :اكتيب عين .و ّ َح َّ
الذي أحبّك كما أ َ
لك لزمن االضطراابت هذا .فنحن ال هنتم فقط ابلروح ،ولكننا أن هذا حقيقي .هذه اهلدية كانت حمفوظة ِ
نعرف أن نعري اهتماماً للمادة اليت ليست أبداً مالكة ،بل خادمة مفيدة للروح لتتيح له اجناز رسالته .كوين
1944 / 03 / 08
هذا ما أراه :مرمي شابة صغرية مراهقة -مظهرها يدل على أهنا مل تتجاوز اخلامسة عشرة -يف
غرفة صغرية مستطيلة ،غرفة مناسبة حبق لصبية.
إىل جانب اجلدار األطول يوجد السرير :مرقد منخفض دون جوانب ،مغطى حبصر أو سجاد،
وكأهنا ممدودة على طاولة أو حصرية قصب .إهنا ابحلقيقة متصلبة وال تشكل احنناءات كما حيصل
على أسرتنا .وعلى اجلدار اآلخر رف ،عليه مصباح زيت ولفافات رق وأعمال خياطة مطوية بعناية
وكأهنا تطريز .وإىل اجلانب ،من جهة الباب املفتوح على احلديقة واملغطى بستار حيركه هواء خفيف،
جتلس العذراء على كرسي صغري.
إهنا تغزل كتاانً انصع البياض وانعماً كاحلرير .ويداها الصغرياتن األقل بياضاً قليالً من الكتان
تديران املغزل برشاقة .والوجه الصغري الفيت مجيل جداً ،هبي ابحنناءته اخلفيفة وابتسامته الرقيقة كما لو
كانت تداعب أو تتبع فكرة عذبة.
صمت عميق يف البيت الصغري واحلديقة .سالم عميق على وجه مرمي كما يف حميطها .سالم
وترتيب .كل شيء نظيف ومرتب واجلو العام متواضع يف مظهره ويف األاثث ،متاماً كما يف صومعة،
مع شيء من التقشف ،ولكنه بنفس الوقت ملوكي بسبب الصفاء والعناية اليت هبا ُرتِبت األقمشة على
السرير ،واللفافات واملصباح وإانء النحاس الصغري قرب املصباح ،واحلاوي حزمة من األغصان املزهرة،
لست أدري ،ولكنها ابلتأكيد أغصان أشجار مثمرة ذات أزهار متيل قليالًأغصان دراق أم إجاصُ ،
إىل اللون الزهري.
خادمك حيمل السالم إىل بدل النشيد بصالة« :أيها الرب السامي ،ال تتأخر يف إرسال تست ِ
َ َ
مسيحك .أيها اآلب القدوسَ ،هب أوجد الزمن املناسب والعذراء الطاهرة واملخصبة جمليءاألرضِ .
َ
وعدلك على األرض ،وأنَ خادمتك أن َهتِب حياهتا هلذا اهلدف .هبين أال أموت قبل أن أرى َ
نورك َ
خادمتك
َ أرى الفداء حمققاً .أيها اآلب القدوس أرسل إىل األرض َمن َج َع َل األنبياء يتأوهون ،أرسل إىل
إقامتك ،فإن أبوابه ستكون قد فُتِ َحت بواسطة
َ الفاديَ .هب يل ساعة انتهاء يومي أن يُفتَح يل مكان
ـرونك .تعـال
ـونك .تعـال ،تعـال اي روح الـرب ،تعـال إىل املـؤمنني الذين ينتظ َ
مسيحك لكل الذين يرج َ
َ
اي أمـري السالم! »...وتبقى هكذا ال تعي لنفسها.
يتحرك الستار بقوة أكرب كما لو أن أحداً من اخلارج ُحي ِدث تيار هواء أو يهزه ليبعده .ويَلِج نور
أبيض وكأنه من الآللئ أو من الفضة الصرف جيعل اجلدران املائلة إىل االصفرار أكثر إشراقاً ،وجيعل
ألوان األقمشة أكثر حيوية ،وجيعل وجه مرمي املرتفع أكثر روحانية .يف قلب هذا النور ،ودون أن
تكشف السجادة عن السر الذي يتم -حّت إهنا مل تعد هتتز ،بل تدلت جامدة على الدعامات ،وكأهنا
ظهر رئيس املالئكة جاثياً.
جدار يعزل الداخل عن اخلارج -يف قلب هذا النور يَ َ
ترتعش مرمي وَّتفض عينيها ،ترتعش أكثر عندما ترى هذا املخلوق النوراين جاثياً على بُعد مرت
منها تقريباً ،ذراعاه متصالبتان على صدره وينظر إليها ابحرتام ال متناه.
تنتَ ِ
صب مرمي واقفة وتلتصق ابجلدار .يشحب لوهنا ،مث يعلوها امحرار .وجهها يُ ِعرب عن دهشة
وذهول .تضم يديها بشكل ال شعوري إىل صدرها وَّتبئهما يف كميها الطويلني .تنحين قليالً لتخفي
ما أمكنها من جسدها .عادة حياء حلو.
معك! ِ
أنت مباركة بني كل النساء». «ال .ال َّتايف فالرب ِ
تقول مرمي ،وهي اآلن بدورها ،ذراعاها متصالبتان على صدرها وقد احننت احنناءة كبرية« :ها
لك».
أان ذا أمة للرب ،وليكن يل حبسب قو َ
يشع املالك فَرحاًَ .خي َشع ألنه ابلتأكيد يرى روح هللا انزالً على العذراء املنحنية يف قبوهلا .مث
خيتفي دون حتريك السجادة الستارة اليت يرتكها منسدلة على السر املقدس.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 03 / 05
يقول يسوع:
أمل يُكتَب يف سفر التكوين إن هللا قد منح اإلنسان السيادة على كل شيء ما عدا هللا ومالئكته؟
أمل يكتب فيه أبنه خلَق املرأة لتكون شريكة الرجل ت ِ
قامسهُ فرحه والسيطرة على الكائنات احلية؟ أملُ َ َ ُ َ
يُكتَب فيه أهنما كاان يستطيعان أن أيكال من كل ما يف اجلنة ما عدا شجرة معرفة اخلري والشر؟ هل
سألتم أنفسكم عن هذا ،أنتم اي من تلهثون وراء أمور كثرية اتفهة وال تعرفون أن تسألوا أنفسكم عن
احلقائق السماوية؟
لو كانت نفسكم نشيطة ،كنتم ستقولون إهنا عندما تكون يف حالة النعمة ،فهي كالزهرة بني
يدي مالككم ،عندما تكونون يف حالة النعمة ،فهي تشبه زهرة تتلقى قبلة الشمس ،منتعشة ابلندى
بفعل الروح القدس الذي يدفئها وينريها ،ويسقيها وجيملها ابألنوار السماوية .كم من احلقائق َّتربكم
عنها نفسكم لو كنتم جتيدون احلوار معها؟ لو كنتم حتبوهنا كما حيبها الذي مينحكم الشبه مع هللا
والذي هو الروح مبا أن نفسكم هي روح .أية صديقة عظيمة جتدون يف أنفسكم لو أحببتموها بدل
وسنية ،كنتم ستستطيعون حمادثتها عن األمور السماوية ،أنتمخيانتها حّت القتل؟ أية صديقة عظيمة َ
اي من تتوقون إىل الكالم وتفسدون الواحد اآلخر بصداقاتكم .هذه الصداقات ،إن مل تكن شائنة -
وهذا ما حيدث أحياانً -فهي تكون تقريباً دائماً غري ذات جدوى ،وال تعطي الفرصة للتعبري عن ذاهتا
إال بسيل من الكلمات الباطلة والضارة ،والدنيوية على الدوام.
أمل أقل" :من حيبين حيفظ كالمي ،وأي حيبه ،وإليه أنيت ،وعنده جنعل مقامنا؟" النفس يف حالة
النعمة متتلك احلب ،وابمتالكها احلب متتلك هللا ،أي اآلب الذي حيفظها ،واالبن الذي يسوسها،
والروح الذي ينريها .حينئذ متتلك املعرفة والعلم واحلكمة .متتلك النور .فكروا إذاً ،أية حماورات رائعة
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 130 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
تستطيع ربط نفسكم بكم؟ إهنا هي ،تلك احملاورات اليت مألت سكون السجون ،صمت الزنزاانت،
صمت الصومعات ،وسكوت املتقني العاجزين .إهنا هي اليت قوت املساجني يف انتظار الشهادة،
والنساك يف البحث عن احلقيقة ،واملتوحدين التواقني إىل معرفة مسبقة عن هللا ،وتقوى العاجزين
للرضوخ ،ولكن ماذا أقول يف حبهم لصليبهم؟
لو كنتم تعرفون سؤال نفسكم لكانت حتدثكم عن الداللة احلقيقية والدقيقة ،الواسعة وسع العامل
"ليسيطر اإلنسان على كل شيء ،على مستوى حاالته ِ سيطر" واليت هي كالتايل: هلذه العبارة "أن ي ِ
ُ
الثالث :احلالة الدنيا ،احليوانية .احلالة الوسطى ،األخالقية .واحلالة السامية ،الروحية .وأهنا كلها توصله
إىل هناية واحدة :امتالك هللا ".امتالكه عن طريق استحقاقه بواسطة هذه السيطرة املطلقة اليت جتعل
كل قوى األان خاضعة ،بل وخادمة هلذا اهلدف الوحيد :استحقاق امتالك هللا .وستقول لكم إن هللا
َمنَ َع معرفة اخلري والشر ،ألنه قد َمنَ َح اخلري جماانً خلليقته ،أما الشر ،فلم يرد أن تعرفوه ،ألنه مثرة لذيذة
يف احللق ،ولكنها ما أن تصل بعصريها إىل الدم حّت حتمل احلرارة القاتلة وتؤدي إىل عطش ِ
حمتدم
لدرجة أنه كلما شرب أحد من هذا العصري الكاذب عطش أكثر.
سوف تعرتضون" :ملاذا وضعه فيها؟" وملاذا؟ ألن الشر قوة ِ
وج َدت بذاهتا بشكل آين ،كما كثري َ ََ
من اآلالم اليت تصيب األجسام األكثر سالمة.
لوسيفوروس مثالً كان مالكاً ،وكان األكثر مجاالً وهباء بني املالئكة .كان روحاً كامالً ،ولكنه
فقط أدىن مرتبة من هللا .ومع ذلك ُولِ َدت يف كيانه النوراين أخبرة الكربايء اليت مل يبددها ،بل على
العكس كثَّـ َفها أبن حضنَها .ومن هذا االحتضان ولد الشر .وقد كان موجوداً قبل أن يوجد اإلنسان.
وطََرَد هللا ذلك امللعون الذي حضن الشر ودنس اجلنة ،خارج الفردوس .إال أنه بقي احلاضن األزيل
للشر .ومبا أنه مل يعد إبمكانه تدنيس الفردوس ،فقد دنَّس األرض.
فهذا النبات الرمزي يستخدم للكشف عن هذه احلقيقة .قال هللا للرجل واملرأة" :تعرفان كل
أسرار اخلليقة ،ولكن ال تتعداي على حقي أبن أكون خالق اإلنسان .وإلكثار اجلنس البشري سيكفيكم
أراد الشيطان أن يسلب اإلنسان بكارة الذكاء تلك ،وبلسانه ،لسان احلية ،مدح وداعب أعضاء
وعيين حواء إبحداث ردود فعل وإاثرة مل يكن األبوان األوالن يعرفاهنا ،ألن املكر مل يكن قد مسمها
بعد.
حواء "رأت" .وعندما رأت أرادت أن جترب .فكان استيقاظ اجلسد .آه! لو اندت هللا! لو
َجَرت إليه لتقول له" :أبيت ،أان مريضة .مداهنات احلية أاثرت يف االضطراب ".لكان األب طهرها
وشفاها من سورهتا ،وكما كان قد بث فيها احلياة ،كان ابستطاعته أن يبث فيها براءة جديدة أبن
جيعلها تنسى سم احلية ،وحّت أبن يضع فيها مقت احلية ،مثل الذين ،بعد إصابتهم مبرض ما وشفائهم
منه ،حيتفظون ابمشئزاز غريزي جتاه هذا املرض .ولكن حواء مل تتوجه لآلب :بل توجهت صوب احلية،
وقد استعذبت هذا اإلحساس" :وبرؤيتها أن مثر الشجرة كان لذيذاً لألكل ،مجيالً للعينني ،حسناً
للنظر ،قطفته وأكلَت منه".
مث "أدرَكت" ،وكان اخلبث قد اخرتق أحشاءها بلسعته .فرأت بعينني جديدتنيَِ ،
ومس َعت أبذنني َ
جديدتني أخالق وأصوات البهائم ،ورغبَت هبا رغبة جمنونة .بدأت اخلطيئة وحيدة وأكملتها مع
شريكها .لذا جاء احلكم على املرأة أعظم.
بواسطتها أصبح الرجل متمرداً على هللا وعرف الفجور واملوت .بسببها مل تعد له السيطرة على
ملكاته الثالث :ملكة الروح :ألنه مسح للروح مبخالفة أمر هللا؛ ملكة السلوك األخالقي :ألنه مسح
لألهواء أبن تتملكه؛ وملكة اجلسد :ألنه احندر به إىل مستوى قوانني غرائز البهائم .تقول حواء" :احلية
ت منها" .وحينذاك ترتبط الشهوة الثالثية مبمالك أغوتين" ،ويقول آدم" :املرأة أعطتين الثمرة وأان أكل ُ
اإلنسان الثالث.
كل املناسبات)
مار َست الطاعة يف ّ
( -25حواء اجلديدة َ
1944 / 03 / 08
تقول مرمي:
ست نفسي هلل منذ طفوليت األوىل ،ذلك أن نوره تعاىل قد كشف يل كوضح النهار كنت قد كر ُُ
أردت ،على قدر استطاعيت ،حمو بصمات الشيطان عين .مل أكن أعلم أنين سبب شقاء العامل ،وقد ُ
بال عيب ،كما مل أكن أستطيع أن أفكر هبذا ،فمجرد التفكري هبذا االمتياز كان سيصبح َّتميناً وكربايء.
دت من أبوين بشريني ،مل يكن مسموحاً يل أن أفكر أنين أان املختارة املدعوة ألكون دون ِ
ومبا أنين ُول ُ
عيب .كان روح هللا قد أطلعين على أمل اآلب أمام فساد حواء اليت أرادت أن تتخبط وتنحدر فتهبط
كنت أمحل يف نفسي الرغبة يف تلطيف هذا من مستوى خليقة النعمة إىل مستوى املخلوقات الدنياُ .
األمل ،وذلك أبن ينمو جسدي وفق طهارة مالئكية ،مع إراديت أبن أحافظ على نفسي من أن تُنتَـ َهك
أفكاري ورغبايت ،وكذلك أن أحافظ عليها يف عالقايت البشرية .فخفقان قليب كان هلل فقط ،وله فقط
كنت أملك قرار التضحية أبال
كياين أبكمله .ولكن حّت ولو مل تكن يف حرارة اجلسد املتأججة ،فقد ُ
أصبح أماً.
األمومة ،بعيداً عن كل ما حيط من قدرها اآلن ،كانت ممنوحة أيضاً حلواء من اآلب اخلالق.
أمومة عذبة وطاهرة ،دون وطأة األحاسيس! لقد اختََربُهتا! كم افتَـ َقَرت حواء برفضها هذا الغّن! أكثر
من كوهنا غري آيلة للموت .وال يكن ذلك ابدايً لكم كأنه مبالغة .يسوعي ،وأان معه ،عرفنا مخول
لو فكرمت بعدئذ مبدى سرور املرأة حني تصبح أماً عند اإلسرائيليني ،لكنتم متنيتم بشكل أفضل
رضيت هبا إبقبايل على نذر نفسي هلذا احلرمان .أما اآلن فقد َمنَ َح الصالح األزيل ُ التضحية اليت
اختربت
ُ خلادمته هذه النعمة دون أن ينزع عين الرباءة اليت لَبِستُها ألكون زهرة على عرشه .وأان قد
غبطة َسنية ابمتالك الفرح املزدوج لكوين أم إنسان وكوين أمة هللا آبن معاً.
آه! الرغبة هبذا السالم ،حملبة هللا والقريب ومعرفة أنه بواسطيت ،أان اخلادمة املسكينة للكلي
القدرة ،كان قد أتى هذا السالم للعامل! أقول" :أال أيها الناس ،ال تعودوا تبكون بعد .فأان أمحل السر
الذي جيعلكم سعداء .ال أستطيع البوح به لكم ألنه راسخ يف ،يف قليب ،مثلما َح َوت أحشائي ابن هللا
دون مس .ولكين اآلن أمحله وسطكم ،وكل ساعة متر تدين اللحظة اليت ترونه فيها وتعرفون امسه
القدوس".
فرح إعطاء الفرح هلل :فرح مؤمنة إبهلها الذي أصبَحَ سعيداً.
وتدنو حواء من الشجرة اليت كان من املفروض أن هترب منها لتنال اخلري ،بينما جماورهتا ،على
منجذبة بفضول سخيف لرؤية ما هبا من خصوصية ،وابلطيش العكس منحتها الشر .ذهبت إليها ِ
َ ََ َ
الذي جعلَها حتكم أبن أمر هللا غري ذي جدوى ،ألهنا قوية وطاهرة ،ملكة عدن ،حيث كل شيء
حتت تصرفها ،وحيث ال شيء ميكنه أن يؤذيها .معصيتها هذه ستكون سبب دمارها ،املعصية اليت
أصبَ َحت اآلن مخرية الكربايء.
ضلِل الذي اغتنم فرصة عدم خربهتا ،سذاجة عدم خربهتا ِ
إىل جانب النباتُ ،وج َد املغوي ال ُـم َ
لك ذلك كعذراء ،ضعف عدم خربهتا ،و َغ َّّن أغنية الكذب" :أتؤمنني بوجود الشر؟ أبداً .لقد قال هللا ِ
ليبقيك خادمة جلربوته .أتظنان نفسيكما َملِ َكني؟ ال ،فإنكما لستما حّت وال حرين كاحليوان الربي ِ
سمح به لكما .لقد أ َِذ َن له أن يصبح خالقاً مثل هللا ،فهو
الذي جعلَهُ حيب حباً حقيقياً ،وذاك ما مل يَ َ
سمح به لكما .هذه املسرة يتوالد ويصبح له أبناء ،ويرى عائلته تنمو وفق مرامه .األمر الذي مل يَ َ
مرفوضة ابلنسبة لكما ،فما نفع كونكما رجالً وامرأة إذاً ،إذا كان مفروضاً عليكما العيش هكذا؟ كوان
آهلة .فأنتما حّت اآلن مل تعرفا مسرة أن تكوان اثنني يف جسد واحد وََّتلقا منكما اثلثاً وأكثر .ال تؤمنا
نشئان عائالت جديدة ،وأبن يدعكم لتكونوا آابء بوعود هللا أبن تستمتعا بذريتكما برؤية أوالدكما ي ِ
ُ
وأمهات ،لقد أعطاكما شبه حياة .فاحلياة احلقيقية هي معرفة قوانني احلياة .هي إذن أن تصبحا شبيهي
لك؟"
اآلهلة وأن تستطيعا القول هلل" :حنن مساواين َ
وتستمر الغواية ألن حواء مل تكن متلك اإلرادة يف طردها ،بل ابألحرى َر ِغبَت يف اتباعها ومعرفة
ما مل يكن خيص البشر .وها هي ذي الشجرة احملرمة تصبح املميتة حبق للجنس البشري ،ألنه من
أغصاهنا أ ُِخ َذ مثر املعرفة املر اآليت من الشيطان .وقد أصبَ َحت املرأة أنثى ،ومع مخرية املعرفة الشيطانية
ُفس َدت ،والروح حط من قدره .وها يف قلبها مضت إىل آدم لتفسده .هكذا اجلسد احندر ،واألخالق أ ِ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 136 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
مها قد عرفا األمل وموت الروح اجملرد من النعمة واجلسد اجملرد من الالموت .ومن جرح حواء ُولِ َد األمل
الذي لن يزول حّت موت آخر زوج على األرض.
أصبحت أ ََمة الرب جبسدي وسلوكي وروحي ،ابتكايل عليه ،ليس فقط ألجل البتولية ،ولكن ُ
للدفاع عن شريف ،لتعزية زوجي ،من أجل أن حيمله إىل مسو الزواج بشكل جيعل منا اللذين يُعيدان
قلت:
قت إرادة الرب من أجلي ،من أجل زوجي ومن أجل ابينُ . للرجل واملرأة اعتبارمها املفقود .عانَ ُ
"نعم" ألجلنا حنن الثالثة ،واثقة أبن هللا ال يكذب بوعده أن يسعفين يف أملي كعروسة تَرى أنه قد
ُح ِك َم عليها أبهنا مذنبة ،كأم تَرى أهنا َحتبَل لتدفع اببنها إىل اآلالم.
قلت "نعم" .نعم .وهذا يكفي .وهذه "النعم" حمت "ال" حواء ألمر هللا" .نعم ،اي رب ،كما ُ
أنت .نعم،
شئت ،سأأتمل ملا تريده َ
أنت َسأحىي كما تشاء .سأستمتع إن َ َ تشاء ،سأعرف ما تريد.
إليك .نعم،
شعاعك أُماً وحّت اللحظة اليت انديتين فيها َ
َ دائماً نعم ،ري ،منذ اللحظة اليت َج َعلَين فيها
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 137 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
دائماً نعم .كل أصوات اجلسد ،كل احنناءات إحساسي حتت ثقل هذه النَّعم الدائمة اليت هي يل.
املروضة
إليك ،ولكنها السيدة على كل األان َّ وكما على قاعدة ماسية ،روحي تنقصها األجنحة لتطري َ
خلدمتك يف األمل .ولكن ابتسم اي هللا وكن سعيداً ،فلقد غُلِبَت اخلطيئة،
َ خلدمتك يف الفرح،
َ واخلاضعة
ضت ،طُِر َحت حتت كعيب ،غُ ِسلَت بدموعيُ ،ه ِد َمت بطاعيت .ومن أحشائي ستنبت انتُ ِز َعت ،قُـ ِو َ
الشجرة اجلديدة ،ستحمل الثمرة اليت تعرف كل الشر لتتأمل به بذاهتا وتعطي كل اخلري .إليها أييت كل
البشر ،وسأكون سعيدة لو يقطفوهنا ،حّت ولو مل يفكروا أهنا مين نبتت ،ليخلص البشر ويكون هللا
حمبوابً ،وليجعل من خادمته ما يتم عمله أبرض تنتصب فيها شجرة :درجة سلم من أجل الصعود".
1944 / 03 / 08
يقول يسوع:
«جيب أن تُـبَ ِدد كلمة أمي كل تردد حّت يف فكر أكثر الناس تشبثاً ابلشكليات.
ويوجد منهم الكثري! يريدون أن مينطقوا األمور اإلهلية مبا هو مادي ،مبقاييسهم البشرية ،ويزعمون
أنه من املفروض أن مينطقها هللا كذلك .إّنا على العكس ،إنه مجيل جداً التفكري أبن هللا يفكر بطريقة
فائقة البشر لدرجة عظيمة وال هنائية .كذلك هو رائع ومناسب التفكري ،ليس حسب الرؤية البشرية
ولكن حسب الروح ،واتباع هللا .وعدم اإلرساء حيث يتعلق فكركم اإلنساين الذي هو أيضاً من قبيل
الكربايء ،ألنه افرتاض الكمال يف الروح البشري .وابلعكس ،خبصوص الكمال ،ليس هناك سوى
الفكر اإلهلي ،يستطيع لو أراد وارأتى أنه من املفيد أن يفعل ،أن ينزل ويصبح كلمة يف فكر وعلى
شفاه إحدى خملوقاته املنبوذة من العامل ،ألهنا يف نظر العامل جاهلة وبال قيمة وحمدودة وصبيانية وسخيفة.
حتب احلكمة أن تفقد كربايء الروح اجتاهها ،وأن تنتَ ِشر على املنبوذين من العامل الذين ال أفكار
مكتسبة ابلثقافة ،ولكنهم يفيضون حباً وطهارة ،وهم عظماء برغبتهم يف َ شخصية هلم وال مذاهب
خدمة هللا بعد العمل على معرفته وحبه ،وبعد استحقاقهم معرفته حببهم إايه بكل قوهتم .الحظوا أيها
الناس يف فاتيما Fatimaيف لورد Lourdeيف غوادي لوي Guadeloupeيف كارافاجيو
Caravagioيف سالييت ،Saletteففي كل مكان حدثَت ظهورات حقيقية ومقدسة ،الذين رأوا،
الذين كانوا مدعوين للرؤية ،هم خملوقات مسكينة ،وهم من انحية السن والثقافة والشروط بني أكثر
الناس تواضعاً .وهلؤالء املغمورين ،هلؤالء الالشيء تظهر النعمة لتجعل منهم ُر ُسلها.
جيرتح هللا املعجزات بواسطة ُخدامه حّت قبل أن يصبح هللا :املسيح ابن هللا ،فيما بينكم ،أمل َِ
الذين يتصرفون ابمسه؟ أمل َّتصب أحشاء ساراي العاقر اليت إلبراهيم لتصبح سارة وتلد يف شيخوختها
اسحق الذي أ ُِعد ليكون الذي أُب ِرم امليثاق معه؟ أمل تتحول مياه النيل إىل دماء ومتتلئ ابحليواانت
النجسة أبمر موسى؟ وبكلمته كذلك ،أمل تنفق احليواانت ابلطاعون ،أما تقرحت أجساد الرجال
ُطفئَت األنوار فأظلمت ثالثة ص َدت السنابل وتكسرت بربد مكتسح ،وج ِردت األشجار ابجلراد وأ ِ وح ِ
ُ ََ ُ
وشق البحر ليمر إسرائيل ،وحتلت املياه ال ُـمرة؟ ونـََزل املن والسلوىأايم وطاح املوت ابملواليد اجلددُ ،
بغزارة؟ أمل تتدفق كذلك املياه بغزارة من الصخرة الصماء؟ وكذلك يشوع ،أمل يوقِف الشمس يف كبد
السماء؟ وداود الفيت أمل جيندل العمالق؟ وإيليا أمل يكثر الطحني والزيت ويُِقم ابن أرملة صرفة
Sorepta؟ أمل ينزل املطر بناء على طلبه على األرض القاحلة؟ أمل تنزل انر السماء على احملرقة؟
والعهد اجلديد أليس غابة صغرية مزهرة ،حيث كل زهرة فيه معجزة؟ فمن لديه القدرة إذن على اجرتاح
املعجزات؟ مث ما هو غري املمكن لدى هللا؟ من مثل هللا؟
احنُوا رؤوسكم واعبُدوا .زمن احلصاد الكبري قد اقرتب ،وكل شيء جيب أن يكون مكشوفاً قبل
أن ينقضي وجود البشر ،كل شيء :النبوءات الالحقة للمسيح وتلك اليت قبله ،والرمزية منها والتوراتية
كنت أان أُعلِمكم بنقطة ما تزال غري مشروحة اليت ابتدأت منذ الكلمات األوىل لسفر التكوين .وإذا ُ
أمسع اآلن اعرتاضاتكم :أمل تكن اإلدانة متطرفة؟ والسبيل املتبع حلصوهلا سخيفاً؟
ال .فإذا اقرتفتم هذه املعصية يف الوقت الراهن ،أنتم اي من أخذمت عنهما هذا اإلرث ،فسيكون
ذلك أخف وطأة مما كان ابلنسبة هلما .فإنكم قد افتُديتم ي ،إال أن سم الشيطان يبقى دائماً متأهباً
للتدفق من جديد .إنه مثل أمراض كثرية مل يزل مفعوهلا متاماً من الدم .فهما ،أي األبوان األوالن ،كاان
حتت ملكة النعمة قبل أن يفقدا نضارهتما بفقدان احلظوة .كاان إذن أقوى ،كاان مدعومني أكثر ابلنعمة،
ويف داخلهما نبع براءة وحب .كانت مواهب هللا اليت وهبهما إايها ال هنائية ،فكان سقوطهما ابلتايل
أعظم على الرغم من هذه املواهب.
والثمرة املقدمة واملأكولة هي أيضاً رمزية .كانت مثرة جتربة أرادا خوضها بتحريض شيطاين ضد
كنت أحبهما
عت الناس عن احلب ،بل أردته فقط أن يكون دون مكر .وكما ُ أمر هللا .مل أكن قد َمنَ ُ
حباً مقدساً من حيث اجلوهر ،فقد كان من الواجب عليهما أن حيبا بعضهما مبودة مقدسة حبيث ال
تدع جماالً للشهوة تدنسها.
جيب أال ننسى أن النعمة نور ،ومن ميتلكها يعرف أن مييز ما هو مفيد وجيد للمعرفة .ولقد
وعرفَت أن تسلك بقداسة.َعرفَت املمتلئة نعمة كل شيء ألهنا َّنَت ابحلكمة ،احلكمة اليت هي نعمةَ ،
مت كثرياً يف هذا املوضوعِ ،ألُف ِهمكم إىل أيّة درجة جيب أن تكونوا عاريف اجلميل للذي مات
تكلّ ُ
أردت أن أكلّمكم يف هذا الوقت من التهيئة ُ ليوصلكم إىل السماء ،وللتغلب على الشهوة الشيطانيّة،
اإلهلي إىل املذبح،
ّ عما كان احللقة األوىل من السلسلة اليت هبا ُج ّر كلمة هللا إىل املوت ،احلَ َمل
للفصح ّ
حواء متسممني بنفحة وكلمة الشيطان.
أردت الكالم ألنّه يف الوقت احلاضر تسعون يف املائة منكم يشبهون ّ
ُ
فإنّكم ال تعيشون لتحبّوا بعضكم بعضاً ولكن لتشبعوا .ال ُتيون للسماء بل للوحل .مل تعودوا خملوقات
ري ،ولكنّكم كالكالب دون نفس ودون فكر .لقد قتلتم النفس وأفسدمت الفكر.
وحس فك ّتتميّزون بنفس ّ
أؤكد لكم حب ّق أ ّن الوحوش يفوقونكم شرفاً وحبّاً».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 03 / 25
ظهر بيت الناصرة ،حيث كانت مرمي .مرمي شابة كما كانت يوم ظَ َهَر هلا مالك هللا .ال شيء يَ َ
مثل رؤيتها ميأل نفسي من عطر البتولية يف هذا املقام ،من العطر املالئكي الذي ما زال يضج يف الغرفة
ف فيها جبناحيه الذهبيتني ،من العطر اإلهلي الذي تركز كله على مرمي ليجعل منها أماً ،الذياليت َر َفر َ
ابت اآلن يفوح منها.
الوقت مساء ،ذلك أن الظالل بدأت جتتاح الغرفة اليت كان نور عظيم قد هبط عليها من
السماء قبل حني.
مرمي جاثية قرب سريرها تصلي ،ذراعاها متصالبتان على صدرها ،رأسها منحن إىل األرض .إهنا
ما تزال ترتدي الثياب اليت كانت ترتديها أثناء البشارة .وكل شيء على حاله :الغصن املزهر يف
مزهريتها ،األاثث بنفس الرتتيب .فقط الغزالة واملغزل كاان موضوعني يف إحدى الزوااي مع ريشة مشاقة
اآلخر.
للواحدة واخليط الالمع الذي َكر من َ
وتنهض بوجه مشع وثغر ابسم ،ولكن دمعة تتألأل يف عينها الالزوردية. تنهي مرمي صالهتاَ ،
أتخذ مصباح الزيت وتشعله حبجر صوان .وتبدي اهتماماً ليكون كل شيء يف الغرفة مرتباً .ترتب
غطاء الفراش الذي كان يف غري وضعه الصحيح .تضيف املاء للمزهرية حيث الغصن املزهر ،وحتملها
إىل اخلارج ،إىل رطوبة الليل .مث تعود .أتخذ غطاء اخلزانة املطرز واملصباح ال ُـمنار وَّترج مغلقة الباب.
أيت وداع يسوعمتشي بضعة خطوات يف احلديقة الصغرية على مدى املنزل ،وتدخل إىل الغرفة حيث ر ُ
ومرمي .أعرفها رغم غياب بعض األغراض اليت كانت موجودة آنذاك.
مث تعود لتخرج إىل احلديقة وتدخل اثنية حاملة تفاحاً وخضاراً .تضع التفاحات على الطاولة
يف صينية معدنية منقوشة يدوايً :تبدو يل من النحاس احملفور ،تعود إىل املطبخ (فهذه الغرفة هي حتماً
املطبخ) يرتسم اآلن هلب املوقد بفرح من خالل الباب املفتوح ويراقص الظالل على اجلدار.
وبعد مضي وقت قصري تعود مرمي حاملة قطعة خبز أمسر وفنجان حليب حار .جتلس وتغمس
قطع اخلبز يف احلليب .أتكلها على مهل .مث ترتك نصف فنجاهنا وتدخل من جديد إىل املطبخ لتعود
حاملة خضاراً تسكب عليها الزيت لتأكلها مع اخلبز .بعد شرب احلليب أتخذ تفاحة وأتكلها؛ إهنا
وجبة فتاة صغرية .أتكل مرمي مث تفكر وتبتسم خلاطرة داخلية .تنهض وتدير عينيها صوب اجلدران اليت
تبدو وكأهنا تبثها سراً .وكانت من وقت آلخر تبدو مبظهر جاد ،تكاد تكون حزينة ،مث تعود االبتسامة.
سمع طرق على الباب ،تنهض مرمي وتفتح .يدخل يوسف .يتبادالن التحية ،مث جيلس يوسف يُ َ
على كرسي صغري مقابل مرمي على اجلهة األخرى للطاولة.
يوسف رجل وسيم بكل عنفوان الشباب .كان ابن مخس وثالثني سنة على األغلب ،بشعره
الكستنائي الغامق ،وحليته ابللون ذاته حتيط بوجه متناسق ذي العينني الوديعتني ابللون الكستنائي
املائل إىل السواد .اجلبهة عريضة وملساء ،األنف صغري حمدب قليالً ،اخلدان مكوران ابللون األمسر إّنا
ليس الزيتوين ،والوجنتان فيهما ورديتان .هو ليس ضخماً جداً ولكن صحته جيدة وهو قوي.
قبل أن جيلس خيلع معطفه (وهو األول الذي أراه هبذا الشكل) كان شكله مدوراً مقفالً عند
العنق مبشبك أو شيء من هذا القبيل ،مع قَـبة .وهو بين فاتح ومن قماش غري نفوذ من احلرير املصوف،
يبتسم قائالً« :لقد جلبوه يل من قاان ،أما البيضتان فقد أعطانيهما قائد املائة مقابل إصالح
لهم مريض .إهنما طازجتانَ ،جلَبَهما من قن الدجاج الذي يف ِ
عربته .كانت َع َجلَة منها معطلة وعام ُ
ِ
فسينفعانك». بيته .اشربيهما
أكلت اآلن».
«غداً اي يوسف ،فقد ُ
ِ
فيمكنك أكله ،إنه طيب ،لذيذ كالعسل ،لقد محلتهُ بعناية كي ال أتلفهُ كلية، «أما العنب
أتيت من بيت قائد املائة ِ
فهناك غريه ،سأجلب لك غداً سلة صغرية .مل أستطع هذا املساء ألنين ُ
مباشرة».
تتعش بعد».
فأنت إذن مل َّ
«آه! َ
«ال ،إّنا ال يهم».
تنهض مرمي مباشرة وتذهب إىل املطبخ لتعود حاملة احلليب مع زيتون وجنب .مث تقول« :ليس
لدي شيء آخر ،خذ بيضة».
يرفض يوسف ،فالبيضتان ملرمي .أيكل بشهية ،خبزاً مع اجلنب ،ويشرب احلليب الذي ما يزال
فاتراً .مث أيخذ تفاحة من يدها .وينتهي العشاء.
أتخذ مرمي تطريزها بعد أن ترفع الصحون عن املائدة .يساعدها يوسف الذي يبقى يف املطبخ
بينما تعود هي .أمسعه يتحرك أثناء إعادة كل شيء إىل مكانه ،مث يزكي النار ألن األمسية ابردة.
حينما يعود تشكره مرمي ،ويتحداثن .يروي يوسف كيف أمضى يومه .يتكلم عن أوالد أخيه.
يبدي اهتمامه بشغل مرمي وأزهارها .ويعدها جبلب أزهار مجيلة جداً وعده هبا قائد املائة« :زهور غري
تبتسم مرمي وتشكره .خييم صمت .ينظر يوسف إىل رأس مرمي األشقر ،املنكب على التطريز
نظرة حب مالئكي .بكل أتكيد ،لو نظر مالك إىل امرأة حبب الزوج ملا كان نظر إليها غري هكذا.
مرمي ،كما لو أهنا اَّتذت قراراً ،تضع التطريز على صدرها وتقول« :يوسف ،لدي شيء آخر
لك .كما تعلم ليس لدي شيء أقوله مبا أنين أعيش يف خلوة ،ولكنين اليوم أمحل بُشرى .لقد أقوله َ
مت أن نسيبتنا أليصاابت زوجة زكراي تنتظر مولوداً»...ِ
َعل ُ
حيملق يوسف ويقول« :أيف هذا العمر؟»
جتيب مرمي مبتسمة« :يف هذا العمر .الرب قادر على كل شيء ،وقد شاء أن مينح هذه الفرحة
لنسيبتنا».
«كيف ِ
عرفت هذا؟ مث هل النبأ أكيد؟»
«لقد جاء مرسال ممن ال يعرفون الكذب .إين أرغب يف الذهاب إىل أليصاابت أخدمها وأخربها
مسحت يل بذلك»...
َ أبنين أشاركها سرورها .لو
ِ
خادمك .كل ما تعملينه جيد .مّت تودين الذهاب؟» «مرمي ،إن ِ
ك عروسيت ،وأان
ويبتسم العروسان العفيفان بطريقة مالئكية .وخييم الصمت برهة مث ينهض يوسف ويرتدي
معطفه ويضع قبعته على رأسه .مث حييي مرمي اليت هنضت بدورها وينصرف.
تنظر إليه مرمي وهو خيرج ،وتُطلِق زفرة كأن هبا غماً ،مث ترفع عينيها إىل السماء وتصلي ابلتأكيد.
تُغلِق الباب ،تطوي الشغل ،وتذهب إىل املطبخ .تطفئ النار أو تغطيها .وتنظر لرتى إذا ما
كان كل شيء مرتباً يف مكانه .أتخذ املصباح وَّترج ُمغلِقة الباب .حتمي بيدها الشعلة املرتاقصة يف
رايح الليل الباردة .وتدخل إىل غرفتها وتصلي أيضاً.
1944 / 03 / 25
تقول مرمي:
«أيتها االبنة احلبيبة ،عندما انتهت النشوة اليت مألتين بفرح ال ميكن التعبري عنه ،عادت
وخزت قليب املغمور
أحاسيسي لتتفتح على األشياء األرضية .أوىل األفكار الواخزة كشوك زهرة ،اليت َ
بزهور احلب اإلهلي الذي أصبح عروسي منذ زمن ،كانت فكرة يوسف.
وهبت حيب ابلفعل حلارسي القديس املتيقظ .منذ اللحظة اليت أرادتين فيها املشيئة اإلهلية،
لقد ُ
نت من التعرف إليه وتثمني قداسة هذا البار .فباحتادي من خالل كلمة الكاهن ،عروسة ليوسف ،متك ُ
أضعت .كان تعويضاًُ أحسست بزوال وحديت كيتيمة ،ومل أعد أحتسر على اهليكل ،امللجأ الذي
ُ به،
كنت أحس ابألمان كما جبانب الكاهن .لقد هوى كل تردد ،ليس يل عن عذوبة أي الغائب .بقربه ُ
كت أن أي تردد وأي كنت قد أدر ُهوى وحسب بل نُسي ،لقد ابتعد كلياً عن قليب ،قلب عذراءُ .
فكنت أكثر اطمئناانً عليها
ُ عهدت إليه ببتولييت،
ُ َّتوف مل يكن ليجد لـه طريقاً حيال يوسف الذي
من طفل يف أحضان أمه.
اي ابنيت ،كم هو مجيل ومؤاس اإلميان ابألزيل ،هللا الصاحل! يتقبلنا بني ذراعيه مثل مهد .حيملنا
مثل مركب إىل شاطئ اخلري املضيء ،يدفئ قلوبنا ،يعزينا ويغذينا ،مينحنا الراحة واملسرة ويهبنا النور
ويهدينا .فالثقة ابهلل هي كل شيء ملن يثق به :يعطيه ذاته.
محلت ثقيت كخليقة إىل كلي الكمال .اآلن أستطيع فعل ذلك ألن هللا يف .يف البدء هذا املساء ُ
كنت احملبوبة كثرياً لكوين املنزهة
كنت أثق ثقة اخلليقة املسكينة اليت كنتُها :دائماً ال شيء ،حّت ولو ُ
ُ
عن كل عيب .إال أنين اآلن أملك ثقة إهلية ألن هللا يف :عروسي ،ابين! اي هلا من فرحة! أن أحتد ابهلل.
أنت
وحدك الذي يف ،كن َ أنت َ "أنتَ ،
لتمكين من القول لهَ :ليس جملدي ولكن حملبته يف وحدة اتمة و ُّ
بكمالك اإلهلي كل ما أفعله أان".
َ الفاعل
لكنت جترأت أن أبوح ليوسف بوجه منخفض لألرض" :لقد لو مل يقل يل هو نفسه" :اصميت" ُ
حل الروح يف وأان أمحل اآلن بذرة هللا ".وكان هو سيصدقين ،ألنه كان ي ِ
قد ُرين ،وألنه ،ككل الذين الُ
نت قد جتاوزت
يكذبون أبداً ،ال ميكنه االعتقاد أن اآلخرين يكذبون .نعم ،لكي أجنبه األمل املقبل ،ك ُ
أطعت األمر اإلهلي .وخالل أشهر ،ابتداء من هذه
امشئزازي من أن أنسب لنفسي فخراًكهذا .ولكنين ُ
اللحظة ،أحس أبول جرح يدمي قليب.
أوىل آالمي ،لكوين املختارة للمشاركة يف الفداء ،قد قدمتُها هلل وحتملتُها ،ألعطيكم قاعدة
للسلوك يف أوقات األمل املماثلة ،عندما يتوجب عليكم الصمت يف ظرف حادث يضعكم يف جو غري
مالئم أمام من حيبكم.
دعوا هلل مهمة احلفاظ على مسعتكم واملشاعر اليت متأل قلوبكم .استحقوا ،حبياة مقدسة ،محاية
هللا ،مث اذهبوا بسالم مطمئنني حّت ولو كان العامل كله ضدكم ،فسيدافع هو عنكم لدى من حيبكم،
وسيُظ ِهر احلقيقة.
1944 / 03 / 27
إنين أشاهد حلظة االنطالق للمضي إىل القديسة أليصاابت .لقد أتى يوسف ألخذ مرمي ،جالباً
معه محارين رماديني ،أحدمها له واآلخر ملرمي.
يُغلِقان ابب املنزل وينطلقان ...إنه الفجر ،فأان أرى الشفق يضفي على الشرق اللون الوردي.
ما تزال الناصرة انئمة .مل يلتق املسافران الصباحيان سوى بِر ٍاع يدفع أمامه عنزاته اليت َّتب،
مالصقة الواحدة لألخرى ومرتاصة يف أكثر من موضع ،حّت لكأن الواحدة تتداخل يف األخرى وهي
تثغو .احلمالن أيضاً تثغو أكثر من األخرايت أبصواهتا احلادة ،لقد كانت تبغي البحث عن الضرع
الوالدي .إال أن األمهات تسرع صوب املرعى وتدعوها للخب بثغائها األقوى.
تنظر مرمي وتبتسم بعد أن تتوقف لتفسح اجملال للقطيع ليمر ،تنحين ،وهي على سرجها،
لتداعب احليواانت اللطيفة بلمس ظهرها .وعندما يصل الراعي ،حامالً بني ذراعيه َمحَالً ُولِد لتوه،
ويتوقف ليلقي التحية ،تبتسم مرمي وهي تداعب فم احلمل الوردي الذي يثغو بدون جدوى .تقول
كك ،ال ،اي صغري ».ابلفعل فقد كانت األم حتك ك ،إهنا ال ترت َ
مرمي« :إنه يبحث عن أمه .ها هي أم َ
جسدها ابلراعي وتنتصب لتلعق فم وليدها.
يتابع يوسف ومرمي طريقهما .يوسف يرتدي معطفه ومرمي تتدثر بشال خمطَّط ،فالصبيحة رطبة.
مع ذلك ،ها مها وسط القرية يسريان الواحد إىل جانب اآلخر .يتحداثن قليالً ،فيوسف يفكر
يف أعماله ،ومرمي تتبع خواطرها مستغ ِرقة ،تبتسم هلا وملا حييط هبا .تنظر إىل يوسف أحياانً وقد ظلَّل
وجهها وشاح من احلزن؛ مث تعود االبتسامة حّت وهي تنظر إىل عروسها املتيقظ الذي يتكلم قليالً وال
يفتح فمه إال لكي يسأل مرمي إذا كانت مراتحة ،أو هي حباجة إىل شيء ما.
يَظ َهر اآلن على الطريق أانس آخرون ،خاصة يف جوار بعض البلدات أو عند التقاطع .ولكنهما
لجلة
ال يكرتاثن لألشخاص الذين يلتقياهنم .إهنما ماضيان على دابتيهما اللتني َّتبان حمدثتني صوت َج َ
قوي ،ومل يقفا إال مرة واحدة يف ظل غابة صغرية ليأكال بعض اخلبز والزيتون ويشراب من نبع تتدفق
املياه فيه من مغارة .عليهما التوقف مرة أخرى لالحتماء من املطر املتساقط بغزارة وعنف من غيمة
مكفهرة جداً.
احتَ َميا يف ظل رابية ،حتت نتوء صخرة حتميهما من قطرات املطر الكبرية .ولكن يوسف يصر
بشدة على أن تلبس مرمي معطفه الصويف غري النفوذ ،حيث يسيل املاء عليه دون أن يبللها .وكان ال
بد ملرمي من أن تتنازل أمام إصرار عروسها الذي ،لكي يُطَمئِنها على مصريه ،يضع على رأسه وكتفيه
غطاء رمادايً كان على السرج ،وهو على األرجح ،غطاء احلمار .تشبه مرمي اآلن أخاً صغرياً ،ابلقبعة
اليت حتيط بوجهها واملعطف الكستنائي ال ُـمح َكم عند الرقبة والذي يغلفها ابلكامل.
يتوقف املطر الغزير ليبدأ رذاذ مزعج .ويتابع اإلثنان مسريمها على الطريق اليت أصبَ َحت موحلة.
ولكنه الربيع ،وبعد برهة تبدأ الشمس جبعل الدرب أسهل .واملطيتان تركضان اآلن بنشاط أكثر على
الطريق.
1944 / 03 / 28
مث َخي ُرجان ،وتذهب مرمي مع يوسف إىل منزل أصحاب هلما كما يبدو ،حيث يستعيدا
نشاطهما ،وتراتح مرمي ريثما يعود يوسف مع عجوز قصري القامة« :هذا الرجل يسافر على طر ِ
يقك
ِ
نسيبتك .ثقي به ،فأان أعرفه». صلي إىل ِ
مبفردك لتَ ِ ذاهتا .وستبقى مسافة قصرية جداً تقطعينها
أيخذان مطيتيهما ويرافق يوسف مرمي حّت ابب املدينة (هو ابب آخر غري ذاك الذي دخال
منه) .يتصافحان ومتضي مرمي وحدها مع العجوز الذي يتكلم بقدر ما كان يوسف صمواتً ،ويبدي
اهتماماً أبلف شيء .ومرمي جتيب بصرب.
لقد أصبح الصندوق الذي كان حمموالً على مطية يوسف حمموالً اآلن على مقدمة سرج مطية
مرمي ،كذلك املعطف مل يعد معها ،وحّت شاهلا ،فقد طوته ووضعته فوق الصندوق .إهنا مجيلة جداً
بثوهبا األزرق السماوي الداكن ووشاحها األبيض الذي حيميها من الشمس .كم هي مجيلة!
كان َمسَع العجوز ثقيالً ،على ما يبدو ،ألن مرمي كانت تضطر لرفع صوهتا كثرياً كي يسمعها،
وهي اليت كانت ال تتكلم إال بصوت خافت .أما اآلن فقد انتهى ،لقد أفرغ جعبته من األسئلة
واألخبار ،وها هو يغفو على السرج اتركاً القيادة ملطيته اليت تعرف الطريق جيداً.
مكثت كاألمس واألم إىل جانيب ،أراها يف داخلي على درجة من الصفاء
ُ اآلن وقد توقَّـ َفت الرؤاي فقد
وردي فاتح ،ممتلئان قليالً ولكن بعذوبة ممتعة ،فمها ِ
حّت إنّين أستطيع أن أصفها :خ ّداها بلون ّ والوضوحّ ،
الصغري أمحر زاه ،وعيناها الزرقاوان تتألّقان ُتت حاجبيها الشقراوين الداكنني.
ميكنين الكالم عن شعرها الذي فُ ِر َق عند قمة الرأس وهو يتدىل بشكل ممتع جبدالت ثالث من ّ
كل
الرباق خلف الوشاح الذي
كل من األذنني الصغريتني ،مثّ ختتفي بلوهنا األشقر الذهيب ّ
حّت تغطي نصف ّ جهة ّ
الفردوسي ،ومعطفها على رأسها ،معطف خفيف كوشاح وهو
ّ يغطّي رأسها( .أراها ابلفعل بثوب من احلرير
مع ذلك غري شفاف ومن قماش الثوب نفسه).
ميكنين القول إ ّن ثوهبا حمصور عند رقبتها مبش ّد ينزلق منه حبل عُ ِق َد طرفاه عند أسفل العنق ،كما
ويتدىل على اجلانبني
ّ ُش َّد الثوب عند اخلصر حببل أغلظ من األول ،ولكنّه من احلرير األبيض كذلك،
بشرابتني.
ّ
مدورة
املضي يف القول إ ّن ثوهبا احملصور عند العنق واخلصر ينثين عند الصدر سبع ثنيات ّ
ّ كما ميكنين
قليالً ،تش ّكل الزينة الوحيدة لثوهبا العفيف.
وكذلك إبمكاين التح ّدث عن انطباع الع ّفة املنبعث من مظهر مرمي ،من تقاسيمها الرقيقة واملتناغمة
اليت جتعل منها امرأة مالئكيّة.
لتصوري إىل أيّة درجة َج َعلوها تتأملّ ،وأتساءل كيف كان من املمكن عدم نظرت إليها أأت ّمل ّ
ُ وكلّما
حّت يف مظهرها اجلسماينّ .أنظر إليها وأمسع صيحات اجللجلة اإلشفاق عليها ،عذبة هي ولطيفة ورقيقة ّ
كل اللعنات اليت تل ّقتها لكوهنا أ ُّم احملكوم عليه .أراها مجيلة ِ
ومـا ُو ّجه إليها من سخرية وهتريج ،وكذلك ّ
املأساوي ساعة النزاع ،واألسى الذي
ّ وهادئة اآلن ،إالّ أ ّن مظهرها احلايل ال ميكنه أن ميحو ذكرى وجهها
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 155 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
كنت أرغب لو أالطفها وأقبّل وجنتيها الورديتّني برقّة
عرب عنه يف بيت أورشليم بعد موت يسوعُ . كان يُ ِّ
يف…شديدة ،ألنتزع بقبليت ذكرى دموعها املقيمة فيها مثل إقامتها ّ
ال ميكنين تصديق مدى السالم الذي مينحه وجودها إىل جانيب .ختامرين فكرة أن مويت وأان أراها
سوف يكون بعذوبة ،بل أكثر من أكثر ساعات احلياة عذوبة .يف اآلونة األخرية ،عندما مل أعد أراها هكذا
ّمت لغياهبا كما لغياب ّأم يل .يعاودين اآلن اإلحساس ابلفرح فائق الوصف الذي مل يفارقين
بشكل كامل ،أتل ُ
طيلة كانون األول (ديسمرب) وأوائل ّأايم كانون الثاين (يناير) .فأان سعيدة رغم وشاح األمل الذي َعتَّم صفو
متزقات اآلالم.
هنائي برؤية ّ
ث منذ احلادي عشر من شباط (فرباير) ،عشيّة إنّه من الصعب القول وإفهام ما اختربتُه وما َح َد َ
جذرايً .فلو ُم ُّ
ت اآلن أو بعد مائة عام ،فستبقى تلك غريين ّ رؤييت يسوع يعاين من آالمه .لقد كان منظراً ّ
كنت أف ّكر يف آالم يسوعّ ،أما اآلن فقد رأيتُها ،لذا
الرؤاي جب ّدهتا وأتثريها مطبوعة يف خميّليت .قبل ذلك ُ
أحسست به ذاك املساء الختباري
ُ تكفيين كلمة أو نظرة إىل صورة لكي أأت ّمل من جديد ذلك األمل الذي
حّت ولو مل يذ ّكرين به شيء ،فذكراه تعصر قليب.
فظاعة تعذيبه واختباري ضيق أملها وهي مفجوعةّ ،
1944 / 03 / 28
تقول مرمي:
ِ
انتباهك وانتباه القراء إىل «لن أطيل كالمي ألن ِ
ك تعبة جداً ،اي ابنيت املسكينة .إنين فقط ألفت
عادة يوسف الثابتة وكذلك عاديت إعطاء األولوية دائماً للصالة .فاجلفاء والعجلة واهلم واالنشغاالت
كلها ال تعيق الصالة أبداً ،بل على العكس ،إهنا عوامل م ِ
ساعدة .الصالة دائماً ملكة اهتماماتنا ُ
وسلواان ونوران وأملنا .وإذا كانت السلوى يف ساعات احلزن ،ففي ساعات السعادة تصبح ترتيلة .إهنا
الصديقة الصدوقة الوفية لروحنا .إهنا حترران من األرض ،من املنفى وتسمو بنا إىل أعايل السماء ،إىل
الوطن.
مل أكن الوحيدة اليت أمحل هللا يف ،ومل يكن يشغلين سوى التطلع إىل أحشائي ألعبد قدس
األقداس ،إّنا يوسف أيضاً كان يشعر ابحتاده ابهلل يف الصالة ،ألن صالتنا كانت عبادة حقيقية لكل
كياننا الذي كان يذوب يف هللا يف عبادته وتلقي عناقه بعد ذلك.
كنت أمحل األزيل ،مل أكن أتصور نفسي معفاة من الرتدد إبجالل إىل انظروا إيل ،أان اليت ُ
اهليكل .فالقداسة األكثر مسواً ال تعفي من الشعور ابلعدمية أمام هللا ،وبتواضع هذا العدم ،ألنه هو
يسمح لنا به أبوشعنا متواصلة جملده.
هل أنتم ضعفاء ،مساكني ،ومفعمون أخطاء؟ تضرعوا إىل قداسة الرب" :قدوس ،قدوس،
قدوس!" ادعوا هذا القدوس املبارك إىل جندة بؤسكم .سوف أييت وميألكم بقداسته .هل أنتم قديسون
وأغنياء ابالستحقاقات يف عينيه ،فهذه القداسة الالمتناهية ستجعل قداستكم تنمو أكثر وابستمرار.
ال تتخلوا أبداً عن محاية الصالة اليت تتكسر عليها أسلحة الشيطان ومكر العامل وشهوات
اجلسد وكربايء الروح .ال تُلقوا أبداً هذه األسلحة اليت تفتح السماء وُمت ِطر النِعم والربكات.
األرض يف حاجة إىل محام من الصلوات لتتطهر من األخطاء اليت جتلب قصاصات هللا .ومبا
أن نفوس الصالة قليلة جداً ،فيجب عليها أن تصلي كثرياً كي تعوض عن تقصري اآلخرين .جيب
عليهم مضاعفة صلواهتم احلارة ليصلوا إىل القدر الالزم للحصول على النعمة .تصبح الصالة حية حارة
عندما تبلغ نبعها يف احلب والتضحية.
كراي)
( -32وصول مرمي إىل بيت ز ّ
1944 / 04 / 01
إنين يف بلدة جبلية .اجلبال فيها غري شاهقة ،ولكنها ليست تالالً كذلك .هلا قمم وأخاديد
جبال حقيقية كاليت نراها على سـلسـلة جبـال "أبنني" "( "Apenninsسلسلة جبال على طول
إيطاليا بطول 1300كم) .النبااتت فيها كثيفة ورائعة .فيها الكثري من املياه اليت حتافظ على احلقول
خضراء والبساتني املليئة ابلتفاح منتجة ،وكذلك أشجار التني مع الكروم حول البيوت .إنه الربيع بدون
شك ،ذلك أن العناقيد أصبحت كبرية مثل حبات البيقية ،وبراعم أشجار التفاح قد بدأَت تتفتح وهي
تبدو اآلن خضراء ،وعلى األغصان العليا من أشجار التني هناك مثار أخ َذت متام شكلها .ومث احلقول،
فإهنا ليست سوى سجاد طري أبلف لون .ترعى القطعان فيها أو تراتح ،وهي تبدو كبقع بيضاء على
زمرد العشب.
متضي مرمي مبطيتها صعوداً يف طريق ال أبس حبالتها ،يفرتض أهنا الطريق الرئيسية ملدخل البلدة.
إهنا تصـعد اآلن ألن البلدة اليت تبدو مبظهر منتظـم إىل حد ما تقع يف األعلى .والذي يعلمين عادة
فلست متيقنة
ُ يقول يل« :هذا املكان هو حربون (اخلليل)» كنتم حتدثونين عن Montanaأما أان
وال أعلم إذا ما كانت حربون هي البلدة كلها أم التجمع السكين فقط .فلن أحتدث عنها إذن إال يف
حدود معرفيت.
ها هي مرمي تدخل القرية .الوقت مساء :نساء على األبواب يراقنب القادمة الغريبة ويتحدثن
عنها فيما بينهن .يتبعنها أبعينهن ،ومل يتأكدن إال حني رأينها تقف أمام أحد أمجل البيوت الواقعة
وسط البلدة .من األمام هناك حديقة ،ومن اخللف واجلوانب حييط به بستان معتّن به جيداً .بعد
ذلك أييت حقل يصعد وينزل حسب تضاريس اجلبل ،وينتهي بدوحة .وبعد ذلك مل أعد أعرف ماذا
يوجد .هذه األمالك حماطة بسياج من العليق وشجريات الورد الربي .ال أميز محلها جيداً ،فزهور وأوراق
ترتجل مرمي من على مطيتها ،وتدنو من البوابة .تنظر من خالل القضبان فال ترى أحداً .فتأخذ
ابلبحث عن وسيلة تعلن بواسطتها عن وجودها .وكانت امـرأة صغرية القد أكثر فضوالً من األخرايت
وقد تبعتها ،فتدهلا على تركيبة غريبة تستخدم كجرس ،وهي عبارة عن قطعيت معدن مثبتتني على حمور،
عند حتريك احملور بواسطة احلبل تتصادمان الواحدة ابألخرى فتصدران صواتً يشبه صوت اجلرس أو
صوت صنج.
تشد مرمي احلبل ،إّنا بلطف شديد حبيث يرن اجلهاز رنة خفيفة مل يسمعها أحد .فتدنو العجوز
صغرية القد ،وهي عبارة عن أنف وذقن وبينهما لسان يساوي عشرة ،وتتعلق ابحلبل وتشد ،تشد،
ِ
يسمعونك؟ اعلَمي أن تشد ُحم ِدثة ضجة توقظ امليت« .هذا ما جيب فعله ،وإال فكيف ستجعلينهم
أليصاابت عجوز ،وكذلك زكراي ،وهو يف الوقت احلاضر أصم أبكم فوق البيعة .كذلك اخلدام شيوخ،
هل تعرفني ذلك؟ أمل جتيئي أبداً؟ هل تعرفني زكراي؟ هل ِ
أنت»...
إنقاذاً ملرمي من هذا الطوفان من االستفسارات واألسئلة ،يُقبِل عجوز صغري يتعثر .رمبا كان
البستاين أو أحد الفالحني ،فهو حيمل يف يده معزقة ويعلق يف حزامه ساطوراً صغرياً .يفتح فتدخل
مرمي وهي تشكر العجوز الصغرية ولكن ...وا أسفاه! دون أن جتيبها .اي خليبة أمل هذه الفضولية!
حال دخوهلا تقول مرمي« :أان مرمي بنت يواكيم وحنة من الناصرة ،نسيبة أصحاب املنزل».
ينحين العجوز ويؤدي التحية ويبدأ ابهلتاف« :سارة! سارة!» مث يفتح البوابة لِي ِ
دخل احلمارُ
الذي بقي خارجاً ،ألن مرمي ،كي تتخلص من العجوز الصغرية املزعجة تنزلق إىل الداخل بسرعة،
بدل سارة ،تظهر يف أعلى سلم جناح يف طرف املنزل ،امرأة متقدمة أكثر يف السن ،متلؤها
التجاعيد ،والشعر يكسوه املشيب .هذا الشعر الذي يفرتض أنه كان أسود قامتاً ألن حاجبيها ورموشها
ما تزال سوداء قامتة ،وهي كانت مسراء داكنة ،فلون وجهها يشري إىل ذلك بوضوح .ومحلها الظاهر
جداً رغم رحابة ثياهبا يتعارض بشكل غريب مع شيخوختها احلالية .إهنا تنظر وتشري بيدها .لقد
تعرفَت على مرمي .ترفع ذراعيها إىل السماء مع هتاف «اوه!» وبدهشة وسرور ،تسرع قدر استطاعتها َّ
أخ َذت تركض خبفة كظبية ،وتصل إىل أسفل الدرج ملالقاة مرمي .ومرمي كذلك ،الرزينة دائماً مبشيتهاَ ،
بنفس الوقت مع أليصاابت .وتضم مرمي إىل قلبها اببتهاج نسيبتها اليت تبكي فرحاً لرؤيتها.
تظالن متعانقتني برهة ،مث تنفك أليصاابت من العناق مع «آه!» ميتزج فيها األمل ابلفرح ،وحتمل
يدها إىل بطنها املنتفخَّ .تفض وجهها الذي ابت يتلون ابألصفر واألمحر بشكل متناوب .متد مرمي
بدأَت ترتنح كما لو أهنا كانت تشعر بسوء .ولكن أليصاابت ،بعد واخلادم أيديهما ليسنداها ،ألهنا َ
أن ظلت دقيقة وكأهنا َّتتلي بنفسها ،ترفع وجهاً مشعاً لدرجة أنه يبدو وكأنه يعود شاابً .تنظر إىل
مرمي إبجالل وهي تبتسم كما لو كانت تـرى مالكاً ،مث تنحين بتحيـة عميقـة وهي تقـول« :مبـاركة ِ
أنت
مرمي ،بدمعتني كلؤلؤتني تنهمران من عينيها الضاحكتني ابجتاه فمها الذي يبتسم ووجهها املرتفع
حنو السماء وكذلك ذراعاها ،يف الوضع الذي سيتخذه كثرياً يسوع فيما بعد ،هتتف« :تُـ َع ِظم نفسي
وصلَت إلينا .ويف النهاية ،عند اآلية« :عضد إسرائيل فتاه »...تُصالِب ِ
الرب ».وتُكمل الرتتيلة كما َ
يديها على صدرها ،جتثو منحنية إىل األرض يف عبادة هلل.
يتوارى اخلادم بكل لباقة ،عندما يرى أن أليصاابت مل تعد تشعر بسوء ،وهي تبث أفكارها ملرمي.
ويعود من البستان برفقة عجوز جليل ذي شعر أبيض وحلية ،وهو حييي مرمي من بعيد حبركات كبرية
وأصوات حلقية.
«لقد وصل زكراي» تقول أليصاابت وهي تلمس كتف العذراء املستغرقة يف صالهتا «زوجي زكراي
أبكم .لقد عاقَـبه هللا ألنه مل يؤمن .سوف أقص ِ
عليك فيما بعد حكايته ،إّنا اآلن أرجو العفو من هللا َ
أتيت ِ
أنت املمتلئة نعمة». ك ِ ألن ِ
تنهض مرمي وتذهب ملالقاة زكراي ،وتنحين أمامه إىل األرض ،وتقبل طرف الرداء األبيض الذي
َ
ط عند اخلصر بشريط عريض موشى. يتسربله حّت األرض .إنه ثوب فضفاض جداً وقد ُربِ َ
ويف هذه األثناء كانت مرمي جتيب على أسئلة يطرحها زكراي كتابة بواسطة مسرب على لوح مطلي
أيقنت كذلك أن
كت من األجوبة أنه حيدثها عن يوسف ،ويسأهلا عن وضعها كعروسة .و ُ ابلشمع .أدر ُ
يتلق أية إشارة نورانية فائقة الطبيعة عن وضع مرمي كأم املاسيا .وها هي أليصاابت تدنو من
زكراي مل َّ
زوجها وتضع يدها حبنان على كتفه كما ملداعبة عفيفة ،وهي تقول له« :مرمي أيضاً هي أم .افرح
لسعادهتا ».ولكنها مل تضف شيئاً ،تنظر إىل مرمي وكذلك مرمي تنظر إليها دون أن تدعوها لقول املزيد.
وتصمت.
أيت مرمي تبكي وهي منحنية على حجر ال َدهن ،على جسد الفادي أمس مساء ،قبل أن أانم ،ر ُ
وج َعلَتين
الذي ال حراك فيه .كانت إىل ميينه وظهرها ملدخل املغارة الضريح .أضاءَت نور املشاعل وجهها َ
أرى وجهها املسكني الذي اجتاحه األمل وغَ َم َرته الدموع .كانت متسك بيد يسوع ،متسحها ،تدفئها على
مترر يدها على
كالً مبفرده رغم كوهنا جامدة .كانت ّ
خ ّديها مثّ تقبّلها وتبسط أصابعها ...كانت تقبّل أصابعه ّ
وجهه وتنحين لتقبّل فمه املفتوح وعينيه شبه املغمضتني وكذلك جبينه اجملروح .ونور املشاعل املائل لالمحرار
املنهك أكثر ح ّدة ،وفظاعة العذاب الذي تلقاه أكثر وضوحاً وكذلك حقيقة موته.
كل اجلسد َ
يربز جراح ّ
أتملي هكذا طاملا بقي فكري ّنرياً .مثّ نبَّهين نعاسي كي أصلي وأختذ وضعية النوم الصحيحة.
بقيت يف ّ
ُ
تتحركي ،انظري فقط وستكتبني غداً».
األم قالت يل« :ال ّ
وهنا ابلضبط ب َدأَت الرؤاي املذكورة أعاله ،ولكن ّ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 163 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
عدت
استيقظت يف السادسة والنصف صباحاً ُ
ُ كل شيء من جديد يف احللم .وعندما
أيت ّ
وأثناء نومي ر ُ
واستطعت أن أسأل إذا كان من املفروض
ُ كتبت وأان أرى .مثّ أتيتم
كل ما رأيتُه مساء أمس ويف احللمُ .
ألرى ّ
كراي.
متفرقة عن إقامة مرمي يف بيت ز ّ
كل ما سوف يليّ .إهنا لوحات صغرية ّ
أن أكتب ّ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 04 / 02
يبدو أن الوقت صباح ،وأرى مرمي َّتيط يف الردهة .وأليصاابت تروح وجتيء ،تعتين بشؤون
املنزل .كلما دخلَت ال تتواىن أبداً يف التوجه إىل مرمي لتمرر يدها على رأسها األشقر م ِ
داعبَة إايها، ُ َ
ويربز لونه األشقر أكثر وهي قرب اجلدران املظللة حتت شعاع مجيل من الشمس اليت تدخل من الباب
املطل على احلديقة.
«ولكن اآلن جيب أن تستخدميه له .هل هو مجيل؟ انعم؟ فاألطفال كما تعلمني حباجة إىل
مرهفة جداً».
ثياب َ
«أعرف ذلك».
«خييل إيل أن يف قليب أجنحة وليس ثقالً .خييل إيل أين أمحل يف داخلي كل الزهور وكل العصافري
اليت تغرد يف الربيع ،وكذلك لذة العسل وكل الشمس ...آه! كم أان سعيدة!»
«مباركة ِ
أنت! فأان أيضاً منذ اللحظة اليت ر ِ
أيتك فيها ،مل أعد أشعر بثقل وال تعب وال أمل .يبدو
وحمررة من شقاء اجلسد كامرأة .فبعد أن قفز ابين من الفرح لدى
أصبحت شابة َّ
ُ َّدت و
يل أنين قد جتد ُ
ِ
صوتكَ ،س َك َن مسروراً .يبدو يل أنين أمحله يف أحشائي كما يف مهد حي ،وأنين أراه انئماً مساعه
مشبعاً وسعيداً ،يتنفس كعصفور يسرتيح مطمئناً حتت جناح أمه ...فاآلن سأبدأ عملي ،مل يعد يتعبين.
إين ال أرى بوضوح ،ولكن»...
ِ
والبنك .فأان رشيقة وأرى بوضوح». عنك أليصاابت! فأان أفكر أن أغزل وأن أنسج ِ
لك «دعي ِ
لقد كانت العبارة عذبة للغاية ،وصوت مرمي كان يتهلل وهي تلفظ هذا االسم ،مث تتألأل عيناها
بدموع فرح مشرقة بينما هي تنظر إىل السماء املضيئة والالزوردية ،هذا ما يفوق القدرات البشرية.
يبدو أن النشوة قد استولت عليها ومل تعد تعي سوى القول« :يسوع».
«آه! أليصاابت!» وتتحول مالمح مرمي لتبدو حزينة ،حزينة ،ومتسك يدي نسيبتها اليت
امتألت من روح الرب عند قدومي ،وتنب ِ
أت مبا ِ تُصالِبهما على بطنها املنتفخ «قويل يل ِ
أنت اي من
ـك صحيح ،ولكنـه أيضـاً ابن هللا .وهللا سوف تؤاسـيها أليصاابت« :ال تبكي اي مـرمي .إنـه ابن ِ
أنت أمه .وإذا ظَ َهَر كثريون فيما بعد غليظي القلب جتاهه ،فسيكون هناك كثريون وبك ِيفكر اببنه ِ
كك معهِ ،
أنت :النبع الذي منه ينبع ابنك ويبار ِ
حيبونه .كثريون! ...عرب قرون وقرون ،سيتطلع العامل حنو ِ
ابنك! إنه مرتفع إىل درجة امللك على كل اخلليقة .فكري هبذا اي مرمي .ملك :ألنه الفداء .ومصري ِ
سيفتدي كل ما كان قد ُخلِق ،وهلذا سيصبح امللك الكوين .وأيضاً سيكون حمبوابً على األرض عرب
األزمنة .ابين سيسبق ِ
ابنك وحيبه .وهذا ما قاله املالك لزكراي وهو قد كتَـبَه يل ...آه! اي له من أمل أن
أراه صامتاً ،زوجي زكراي! ولكنين أرجو ،لدى والدة ابين ،أن يتحرر األب أيضاً من القصاص الذي
أنت اي عرش قدرة هللا وسبب فرح العامل .ولكي أانل ذلك أقدم ،ابلقدر الذي وقع عليه .صلي معي ِ
أستطيعه ،وليدي للرب .إنه له فعالً وقد أعاره خلادمته ليهبها الفرح بسماع من يدعوها "أماً" .وتلك
هي الشهادة ملا فَـ َعلَهُ هللا من أجلي .أريد تسميته "يوحنا" .أليس ابين نعمة أم هو صدفة؟ أوليس هللا
صنَ َع ي ذلك؟»
هو الذي َ
سيمنحك هذه النعمة .سأصليِ ...
معك». ِ «أان واثقة متاماً أبن هللا
«أحزن كثرياً لرؤييت إايه أب َكم! »...وتبكي أليصاابت« .وعندما يكتب ألنه ال يستطيع الكالم،
خييل إيل أن هناك جباالً وحبوراً بيين وبني زكراي .فبعد سنوات كثرية من الكالم العذب يبقى فمه اآلن
صامتاً .اآلن بشكل خاص حيث ال شيء أمجل من الكالم عما سيحصل .أمتَنِع حّت عن الكالم
لكي ال أراه ُجي ِهد نفسه ابحلركات ليجيبين .لقد بكيت كثرياً! لقد انتظر ِ
تك طويالً! البلدة تنظر ،تثرثر ُ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 167 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
وتنتقد .هكذا هو العامل! وعندما يكون هناك حزن أو فرح فاحلاجة تكون ماسة للتفهم وليس لالنتقاد.
ِ
أصبحت معي .أحس اآلن يبدو يل أن احلياة ستكون أفضل بكاملها .أحس ابلفرح ميألين منذ أن
أبن اختباري سيمر وسأصبح قريباً سعيدة متاماً .سيكون هذا ،أليس كذلك؟ إين مذعنة لكل شيء.
ولكن ليت هللا يصفح عن زوجي! للتمكن من مساعه يصلي كما يف السابق!»
تالطفها مرمي وتواسيها ،مث ،ولكي تسليها ،تدعوها إىل نزهة يف احلديقة املشمسة .وتذهبان معاً
حتت عريشة منصوبة جيداً ،وتَ ِ
صالن إىل برج ريفي َّاَّتَ َذت طيور احلمام أعشاشاً يف جتاويفه.
تنثر مرمي احلبوب وهي تضحك ،وطيور احلمام تتهافت عليها مع اهلديل وتطري حوهلا بشكل
دائري .وتقف على رأسها وكتفيها وذراعيها مادة مناقريها الوردية اللتقاط احلبوب من جتاويف يديها،
انقرة بلطف شفيت العذراء الورديتني وأسناهنا اليت تلمع يف الشمسَُّ .ترِج مرمي حبوابً شقراء من كيس
َّهم.
معها وتضحك وسط هذه املنافسة العامرة على النـ َ
ك أكثر مين ،أان ِ
وجودك معنا بضعة أايم وهي حتب ِ تقول أليصاابت« :كم حتب ِ
ك! مل ميض على
اليت أعتين هبا بشكل دائم».
تستمر النزهة إىل أن تصال إىل سياج مغلق يف هناية البستان حيث توجد عشرون عنزة مع
جدائها.
جتلس مرمي على صخرة تلعب مع احلمالن واجلداء وهي تُـ َق ِرب زهر النفل من أفواهها الوردية.
ويرفع جدي أبيض وأسود قائمتيه األماميتني ويضعهما على كتفيها ويشم شعرها فتقول له مرمي وهي
لك قطعة خبز .اهدأ اآلن». تضحك« :هذا ليس خبزاً ،غداً سأجلب َ
أخ َذت أليصاابت اليت استعادت هدوءها تضحك.
وَ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 04 / 02
أرى مرمي تغزل بسرعة حتت العريشة حيث ينمو العنب .املفروض أن وقتاً قد مضى ألن مثار
بدأَت أتخذ لوهنا األمحر على الشجر ،والنحل يطن قرب مثر التني الذي نضج.
التفاح َ
أضحت أليصاابت ضخمة جداً وثقلت مشيتها .ومرمي تنظر إليها حبنان .وحّت مرمي نفسها لقد َ
نض َجت
عندما تنهض لتلم املغزل الواقع بعيداً تبدو مكورة من اجلانبني وقد تبدلت تعابري وجهها .لقد َ
أكثر ،فقد كانت شابة صغرية وهي اآلن امرأة.
بدأ النهار مييل ،وتدخل املرأاتن إىل الداخل حيث أُشعِلت املصابيح .ويف انتظار العشاء مرمي
تنسج.
«ولكن أال ِ
يتعبك حقاً هذا؟» تسأل أليصاابت وهي تشري إبصبعها إىل عمل النسيج.
«ال ،اطمئين».
«أما أان فهذه احلرارة تتعبين .مل أكن أعاين ،ولكن احلمل اآلن أصبح ثقيـالً على ُكليَ َيت
العجوزتني».
كت هلل مهمة إعالمه مبصريه السعيد كمري ابن هللا .وهو سيتدبر األمر .قال يل
«ال ،فلقد تر ُ
الروح هذا املساء" :اصميت ،اتركي يل املهمة ،سوف أبر ِ
رك" .وهو سيفعل ،فاهلل ال يكذب أبداً ،إنه
التزمت الصمت دائماً حّت حيال زكراي الذي كان سيفرح كثرياً .إنه اآلن يعتقد أن
ُ «أان قد
ِ
أمومتك طبيعية».
أردت ذلك من قبيل احليطة واحلذر .فأسرار هللا مقدسة .مالك الرب مل يبح لزكراي
«أعلَم ،ولقد ُ
أبموميت اإلهلية .كان ابستطاعته أن يفعل لو أراد هللا ذلك ،ذلك أن هللا كان يَعلَم أن زمن جتسد كلمته
ِ
خصوبتك املتأخرة يف أحشائي وشيك .ولكن هللا أخفى هذه الفرحة املشعة عن زكراي الذي رفض
أنت هذا السر احلي يف ...وهو ملعرفت ِ
أيت ،لقد ِ ابعتبارها مستحيلة .إنين أمتثل إلرادة هللا .وكما ر ِ
يالحظ شيئاً .وطاملا مل يقع حجاب شكه مبا خيص قدرة هللا ،فسيعيش بعيداً عن النور فائق الطبيعة».
يدخل زكراي ،يقدم لفائف ملرمي ،إهنا ساعة الصالة قبل العشاء ،ومرمي هي اليت تصلي بصوت
مرتفع بدل زكراي .مث جيلسون إىل املائدة.
«عندما ترحلني من هنا ،كم سنفتقد من يتلو لنا الصلوات!» تقول أليصاابت وهي تنظر إىل
زوجها األبكم.
1944 / 04 / 02
تقول مرمي:
«أوىل مظاهر حب القريب متارس جتاه القريب .فال خييل ِ
إليك أن ذلك تالعب ألفاظ. ُ
للمحبة غاية مضاعفة .هللا والقريب .حمبة القريب تتضمن تلك اليت ّنارسها جتاه أنفسنا .أما
إذا أحببنا أنفسنا أكثر من اآلخرين فال نعود ُحمبني بل نكون هبذا أاننيني.
حّت يف األمور املباحة ،جيب أن يكون لنا فيها قَدر من القداسة جيعلنا نقدم احتياجات القريب
على احتياجاتنا .كونوا مطمئنني اي أوالدي :فاهلل يعوض النفوس الكرمية بوسائل صالحه الكلية القدرة.
جعلَين آيت إىل اخلليل ملساعدة نسيبيت يف احلالة اليت ُوِج َدت فيها .ومع عزمي على العون
هذا اليقني َ
البشري ابندفاعي للعطاء إىل أبعد احلدود ،أضاف هللا على عادته عطية العون فائق الطبيعة الذي مل
يكن ليخطر يل على ابل.
قدس استقامة مسعاي بتقديس مثرة أحشاء أليصاابت ،ومع أذهب لتقدمي العون املادي ،وهللا ي ِ
ُ
هذا التقديس الذي قَدَّس املعمدان مسبقاً َس َّك َن اآلالم اجلسدية البنة حواء املسنة واليت محَلَت يف سن
غري عادية.
أليصاابت ،املرأة اليت متلك اإلميان اجلريء ،واليت استسلَ َمت بثقة إلرادة هللا ،استَ َحقت إدراك
السر الكامن يفَ .كلَّ َمها الروح بواسطة ارتكاض اجلنني يف أحشائها .لقد نَطَق املعمدان حبديثه األول
وح َدته
فصلَته عن أمه القديسة وبنفس الوقت َّ كمبشر ابلكلمة من خالل أشرعة األوردة واجلسد اليت َ
معها.
احليطة واحلذر منعاين من البوح ابحلقيقة لزكراي .فهذا كان سيُعتََرب جتاوزاً لعمل هللا .فحّت ولو
كنت ابلنسـبة لـه عروسـة وأمـاً ،إال أنين أبقى دائماً خادمته ،وال ينبغي بسبب حبه الكبري أن أمسحُ
لنفسي أبن أقوم مقامه ،وأن أَّتذ قراراً جيعلين يف مرتبة أعلى منه .لقد تنبَّـ َهت أليصاابت بقداستها
وص َمتَت ،ذلك أن من يكن قديساً يكن دائماً خاضعاً ومتواضعاً. لألمر َ
جيب أن جتعلنا عطية هللا دائماً أفضل .وكلما تلقينا منه العطااي كلما وجب علينا العطاء ،إذ
كلما تلقينا كلما كان هو فينا ومعنا وكان ينبغي لنا أن جنتهد يف االقرتاب من كماله .وهذا هو السبب
جعلَين أرجئ عملي الشخصي إىل مرحلة اتلية وأعمل ألليصاابت. احلقيقي الذي َ
مل أدع جماالً للخوف من عدم إجياد الوقت أن يسيطر علي ،فاهلل سيد الزمن .وعندما نضع
رجاءان يف هللا نستفيد من عنايته نفسها يف أموران املادية .األاننية ال تستعجل شيئاً ،بل تؤخر كل
شيء ،واحملبة ال تؤخر شيئاً ،بل تستعجل كل اإلجنازات .اح َفظوا ذلك جيداً وعلى الدوام.
اي هلذا السالم يف بيت أليصاابت! فلو مل تراودين فكرة يوسف وفكرة ابين الذي عليه افتداء
كنت أمسع أصوات ِ
لكنت سعيدة .ولكن ها إن الصليب قد بدأ يُسقط ظالله على حيايت ،و ُ العاملُ ،
كنت أُدعى :مرمي .واملرارة كانت متتزج دائماً ابلعذوبة اليت كان هللا يسكبها يف
األنبياء كاألجراسُ ...
قليب .واستَ َمرت يف تزايد مطرد حّت موت ابين.
ِ
يكفيك هذا اآلنِ ،
فأنت متعبة وسعيدة .اسرتحيي مع بركيت».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 04 / 03
َوسط األشياء ال ُـمن ِّفرة اليت يق ّدمها لنا العامل يف هذا الوقت هتبط رؤاي السالم هذه من السماء – وال
املستمرة مع
ّ مهب الريح يف قلب هذه املواجهات
شة تنب يف ّ
أدري كيف ميكن أن يتأتّى ذلك ألنّين مثل ق ّ
يف.
حي ّ
لكل ما هو ّ
الشرور البشريّة املناقضة ّ
ما يزال املكان بيت أليصاابت ،يف ليلة صيف مجيلة ال تزال مضاءة ابلشمس املائلة للغروب،
حيث قوس القمر يبدو كفاصلة فضية موضوعة على قطعة جوخ كبرية من الالزورد الداكن.
نشر عطرها القوي ،والنحل يُنهي اجلوالت األخرية لطريانه ،وكقطرات ذهبشجريات الورد تَ ُ
يطن يف أجواء املساء احلار والساكن .من احلقول هتب رائحة قوية من العشب اليابس حتت الشمس،
ورائحة خبز ميكن القول أبنه طازج ،خارج لتوه من الفرن ،وقد تكون متأتية كذلك من الغسيل الكثري
املنشور هنا وهناك ليجف ،والذي ما زالت سارة تطويه.
عني مرمي تراقب كل شيء ،وبينما هتتم أبليصاابت ترى سارة وهي تعمل على طي قطعة نسيج
طويلة رفَـ َعتها من فوق سياج ،فتقول لنسيبتها« :انتظريين ،اجلسي هنا ».ومتضي ملساعدة اخلادمة
العجوز يف شد القماش لتسوية الثنيات ،وأثناء طيها تقول اببتسامة« :ما تزال آاثر الشمس فيها ،فهي
ِ
غسلك إايه ،أصبح أمجل مما كان عليه سابقاً. دافئة ».ولكي ترضي املرأة تقول« :هذا النسيج ،بعد
ليس هناك من يتقن كل شيء هكذا ِ
مثلك».
ولكن ،مبا أن أليصاابت مل تكن ترغب ابلتحرك تقول هلا« :لنذهب فقط لتفقد طيور احلمام
إذا كانت كلها يف أعشاشها ،وإذا كان املاء يف مشارهبا نظيفاً ،مث نعود إىل البيت.
فرتض أن تكون طيور احلمام هي املفضلة لدى أليصاابت .وعندما تكون أمام الربج الريفي يُ ََ
الصغري ،فإهنا تكون كلها جمتمعة :اإلانث على األعشاش والذكور أمامها دون حراك ،وعندما ترى
عزى حلالتها فإنه يسيطر عليها املرأتني هتدل لتحييهما .أليصاابت تتأثر كثرياً هلذا .أما الوهن الذي يُ َ
ت ...اي حلمامايت املسكينة! ِ
فأنت ويوحي هلا مبخاوف جتعلها تبكي .إهنا تتكئ على نسيبتها« :إن ُم ُّ
امتلكت أعظم فرحة ميكن المرأة أن كنت ستبقني ،فال يعود يهمين أن أموت .لقد لن تبقي ،لو ِ
ُ
أذعنت أبال أعرفها .وحّت املوت فال ميكنين أن أتشكى منه إىل الرب .إنه، ُ كنت قد
متتلكها ،فرحة ُ
َمتَ َّجد امسه ،قد َغ َمَرين بفيض صالحه .إّنا هناك زكراي ...وكذلك سيكون الطفل .األول عجوز وسيجد
نفسه مثل التائه يف الصحراء دون امرأته ،واآلخر طفل مسكني سـيكون مثل زهـرة ُح ِك َم عليها ابملوت
برداً ،ألنه سـيفقد أمـه .اي له من طفـل مسـكني دون عطف أمـه وحناهنا!»...
منحك هللا فرح األمومة ،ولن ِ
حيرمك منها وهي يف أوجها .ستكون ِ «ولكن ملاذا هذا احلزن؟ لقد
ليوحنا الصغري كل قبالت أمه ولزكراي كل عناايت زوجته األمينة الوفية حّت الشيخوخة املتقدمة جداً.
إنكما غصنان من شجرة واحدة ،ولن ميوت غصن اتركاً اآلخر يف وحدته».
كربت كثرياً لكي يكون يل ابن .واآلن وقد حان موعد قدومه ِ
«أنت طيبة وتواسينين ،ولكين قد ُ
إىل العامل ،فأان خائفة».
ِ
آالمك، «آه! ال ،فيسوع هنا! وحيث يكون يسوع جيب أن ينتفي اخلوف .لقد خفف ابين
كما ِ
قلت ،عندما كان مثل الزر مل يكد يتشكل .واآلن وقد ّنا أكثر فأكثر وهو يف أحشائي كائن
حي كامل -أحس بقلبه ينبض قرب صدري ،ولدي انطباع أين أمتلك عصفوراً صغرياً يف عش ينبض
بك اآلن كل خطر .جيب أن تؤمين بذلك».قلبه الصغري خبفة -وهو سيجن ِ
«نعم ،يبدو أن أملي يتضاعف .قد يكون الوقت حان .مرمي ،صلي ألجلي».
ِ
آالمك فَـَرحاً». ِ
سأساعدك بصاليت إىل أن تتفتح «
تتوجه أليصاابت إىل حجرهتا ،ومرميِ ،حبَ َذق ونفاذ بصرية ،تعطي األوامر وهتيئ لكل ما ميكن
توقعه وتواسي زكراي ال َقلِق.
سمع أصوات غريبة لنساء دعني يف البيت حيث يسهر اجلميع يف هذه الليلة ،وحيث تُ َ
للمساعدة ،تبقى مرمي متيقظة كاملنارة يف ليلة عاصفة .البيت كله يدور حوهلا ،وهي تسهر على كل
شيء بلطف وابتسامة .إهنا تصلي ،عندما ال يطلبها أحد ألمر أو آلخر َّتتلي للصالة .إهنا يف احلجرة
اليت جيتمعون فيها دائماً لألكل والعمل .زكراي معها ،وهو يتنهد ويَدور قلقاً .يصليان معاً ،مث تستمر
مرمي ابلصالة حّت يف الوقت الذي يتعب فيه العجوز ،فيأخذ كرسياً وجيلس قرب الطاولة صامتاً وحاملاً،
وهي تصلي .وعندما تراه مستغرقاً يف النوم واضعاً رأسه على ذراعيه املتصالبتني واملستندتني إىل الطاولة،
تنزع حذاءها لكي تقلل قدر اإلمكان من اجللبة ومتشي حافية .فكان الصوت الذي ُحت ِدثه أقل من
صوت فراشة تطري يف غرفة .أتخذ معطف زكراي وتغطيه به بكل لطف حّت إنه استمر يف النوم يف
دخل سـارة وتشري إليها أبن َّتـرج .وَّترج مرمي حافية إىل احلديقة .فتقول هلا« :معلميت
تَ ُ
ِ
تطلبك».
«ها أنذا آتية» ومتشي مرمي طول البيت وتصعد السلم ...وكأهنا مالك أبيض يدور يف الليل
اهلادئ واملرصع ابلنجوم .وتدخل عند أليصاابت.
«آه! مرمي! مرمي! اي له من أمل! مل أعد أحتمل .مرمي! اي هلذا األمل الذي جيب أن نقاسيه لنصبح
أمهات!»
أتخذ مرمي اليدين اجملعدتني واملنتفختني وتضعهما على بطنها املستدير ومتسك هبما بشدة بني
يديها املصقولتني واخلفيفتني .واآلن وقد بقيتا وحدمها تتكلم هبدوء« :يسوع هنا ،وهو يرى ويدرك.
ثقي أليصاابت .إن قلبه القدوس خيفق بقوة أكرب ألنه يعمل يف هذه اللحظة ِ
خلريك .أمسَعهُ خيفق كما
كنت أمسكه بني يدي .إين أدرك الكلمات اليت يقوهلا يل الطفل من خالل هذا اخلفقان .يقول يل
لو ُ
يف هذه اللحظة" :قويل للمرأة أبال َّتاف .قَدر قليل من األمل بعد .مث عند شروق الشمس ،وسط
زهرات كثريات تنتظر هذا الشعاع الصباحي لتتفتح على أعوادها ستكون يف بيتها الزهرة األمجل،
سيكون يوحنا ،سابِقي"».
تبقى مرمي على هذا الوضع بعض الوقت ألنه كان يبدو هلا أن األمل خيف ،يتالشى ويَسكن.
تشري للجميع أبن ميكثوا هادئني ،وتبقى واقفة ،بيضاء ومجيلة للغاية يف شعاع مصباح الزيت الضعيف،
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 180 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
كنت
مثل مالك يسهر على األمل .إهنا تصلي .أراها حترك شفتيها .حّت لو مل أكن أرامها تتحركان ُ
سأُد ِرك أهنا تصلي من خالل التعبري عن النشوة واالخنطاف البادي على وجهها.
مير الوقت ،ويعاود األمل أليصاابت .تقبلها مرمي اثنية .وتنزل بسرعة يف شعاع القمر وتركض لرتى
إذا كان العجوز ما يزال انئماً .فلقد كان انئماً ويئن وهو حيلم .تقوم مرمي حبركة تنم عن شفقة وتعود
إىل الصالة.
مير بعض الوقت ،يستيقظ العجوز ويلقي نظرة دهشة كما لو أنه مل يتذكر جيداً ملاذا هو هنا.
مث يتذكر ويقوم حبركة تعجب بصوت حلقومي .مث يَكتُب« :أمل يولد بعد؟» تشري مرمي أبن ال .فيكتب
زكراي« :اي آلالمها ،مسكينة زوجيت! هل تقوم دون أن متوت؟»
أتخذ مرمي بيد العجوز وتطمئنه« :عند الفجر ،بعد قليل ،سيولد الطفل .كل شيء سيكون
على ما يرام .أليصاابت قوية .كم سيكون مجيالً هذا اليوم -فالنهار سيبزغ بعد قليل -الذي فيه سريى
ابنك هو البشري بذلك».
لك ،و َحياتك! إهنا نِ َعم عظيمة حيفظها هللا َ
َ بنك النور! أمجل يوم يف
ا َ
يهز زكراي رأسه حبزن ويشري إىل فمه األبكم .كان يريد قول أشياء كثرية ولكنه مل يستطع.
جائك .إنه
سيعطيك هللا الفرح كامالً .وهو تعاىل يستجيب ألبعد من ر َ َ تُد ِرك مرمي وجتيب« :
قلبك" :أان أؤمن" ،قُلها مع كل خفقة
يريد هذا اإلميان الكامل ليغسل االرتياب القدمي .قُل معي يف َ
قلبك .فكنوز هللا تنفتح ملن يؤمن به وبصالحه ال ُـمقتَ ِدر».
من َ
فتحته مرمي .الفجر ينشر نوره األبيض على األرض
بدأ النور يتسرب عرب الباب املو َارب الذي َ
الرطبة .فقد كانت رائحة األرض ورطوبة اخلضرة قوية .وبدأت أوىل زقزقات العصافري اليت تتنادى من
سمع.غصن إىل آخر تُ َ
تذهب مرمي إىل حجرة لتعود منها حاملة حليباً ساخناً تقدمه للعجوز .مث تذهب لتفقد طيور
احلمام وتعود لتغيب يف هذه احلجرة .رمبا هي املطبخَ .جتول وتتفقد .تبدو وكأهنا قد انمت نوماً كافياً
ورائعاً ،لذا فهي حيوية جداً وهادئة.
يزرع زكراي املكان جيئة وذهاابً ،بعصبية ،يذهب ويعود عرب احلديقة .تنظر إليه مرمي إبشفاق .مث
تعود لتدخل من جديد إىل نفس احلجرة .تركع أمام نوهلا وتصلي من صميم قلبها ،ذلك أن أانت اليت
يف الفراش قد أصبَ َحت أكثر حدة .وتنحين إىل األرض لتصلي إىل األزيل .يدخل زكراي فرياها ساجدة
هكذا فيبكي ،مسكني هو هذا العجوز .تنهض مرمي من جديد وأتخذه بيده .تبدو وكأهنا أم هلذه
الشيخوخة املنعزلة ،تسكب عليها السلوان.
يظالن هكذا ،الواحد قرب اآلخر حتت الشمس اليت تضفي على جو الصباح لون الورد ،إىل
لك من أب سعيد! إنه صيب ندي مثل ِ ِ أن يَِر ُ
دمها النبأ السعيد« :لقد ُولد! لقد ُولد! إنه صيب! اي َ
لك الفرح أيها األب املبارك من الرب ألنه
الوردة ،مجيل مثل الشمس ،قوي ،شديد ،وعذب مثل أمهَ .
والبنك املولود من لك ِ ِ
َ قد ُول َد لك ابن تُقدمه إىل هيكله .اجملد هلل الذي َمنَ َح الذرية هلذا البيت! الربكة َ
امسك إىل أجيال وأجيال عرب األنسال ،ولتحافظ على االحتاد ابلرب صلبك! ولتتمكن ذريته من دميومة َ َ
األزيل».
تُبا ِرك مرمي الرب بدموع الفرح .مث يتقبل اإلثنان الطفل احملمول إىل أبيه ليباركه .ومل يذهب زكراي
للقاء أليصاابت .يتقبل الطفل الذي يصرخ كالتائه ،ولكنه ال يذهب للقاء زوجته.
تضع مـرمي املولود جبانب أمه وتالطفها مبسح شعرها الرمادي وإعادة ترتيبه .وتقول هلا هبدوء:
«الوردة قد ولِ َدت .و ِ
أنت ما ز ِ
لت على قيد احلياة .وزكراي سعيد». ُ
«هل يتكلم؟»
«ليس بعد ،إّنا فليكن رجاؤك ابلرب .اسرتحيي اآلن .سأبقى ِ
معك».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
( -37يتفتح األمل مثل زهرة ملن يتكئ برأسه على صدري الوالدي)
1944 / 04 / 03
تقول مرمي:
َّس املعمدان ،فهو مل يعف أليصاابت من احلكم على حواء "ابألمل «إذا كان وجودي قد قَد َ
كنت مستثناة من
تلدين البنني" الصادر من األزيل حبقها .أان وحدي بال عيب وبغري احتاد بشري ،لذا ُ
كنت "بدون خطيئة" كان ينبغي يل أن
الوضع .احلزن واألمل مها مثرة اخلطيئة .ومع ذلك فأان اليت ُآالم َ
كنت ال ُـمشا ِركة يف الفداء .ومع ذلك مل أعرف حدة معاانة الوالدة .ال ،مل
أعرف األمل واحلزن ألنين ُ
أعرف هذا األمل.
ولكن ثقي اي ابنيت ،فإنه مل ولن يوجد أبداً أمل مربح يشبه أمل والديت كشهيدة ألمومة روحية متت
على أقسى سرير :سرير صلييب على قدم صليب ابين الذي ميوت .ومن هي األم املرغمة على الوالدة
هبذه الطريقة ،وعلى مزج أمل أحشائها اليت تتمزق لسماع حشرجة ابنها احملتضر ابلتمزق الداخلي
الضطرارها جتاوز هول وجوب قوهلا" :أُحبكم ،تعالوا إيل ،أان أمكم " ،لقتلة ابنها الذي ُولِ َد ِمن احلب
األمسى الذي مل تر السماء مثله ،من احتاد حب إله وعذراء ،بقبلة انر ،بعناق النور ،الذين أصبحوا
وج َعلوا من أحشاء امرأة اتبوت عهد هللا.
مجيعهم جسداً َ
لقد قالت أليصاابت" :كم من اآلالم كي أصبح أماً!" إهنا آالم فظيعة ،ولكنها ال شيء ابملقارنة
مع آالمي.
"دعيين أضع يدي على ِ
بطنك" آه! لو كنتم يف آالمكم تطلبون ذلك مين على الدوام!
أان حاملة يسوع األزلية .لقد أقام يف أحشائي كما رأيتِ ِه العام املاضي مثل نزيل يف بيت القرابن.
أيت إيل جيده .من يتكئ علي يلمسه .من يتوجه إيل يُ َكلِمه .أان ثوبه وهو روحي .إنه متحد ي من ِ
نسين أوالدي الذين يتألمون إين أصلي من أجلكم .فغبطة كوين يف السماء أعيش يف نور هللا مل تُ ِ
على األرض .وأصلي .السماء أبكملها تصلي ألن السماء حتب .السماء هي احملبة احلية .واحملبة ترأف
بكم .إّنا حّت ولو مل يوجد غريي فستكون مع ذلك صالة كافية الحتياجات من يرجو هللا ،ألنين ال
أتوقف عن الصالة ألجلكم مجيعاً :قديسني وفاسدين .للقديسني ألمنحهم الفرح ،وللفاسدين ألمنحهم
التوبة اليت َُّتَلِص.
تعالوا! تعالوا اي أبناء آالمي .أنتظركم عند أسفل الصليب ألُنعِم عليكم.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 04 / 04
أرى البيت وكأن فيه عيداً .إنه يوم اخلتان .حترص مرمي على أن يبدو كل شيء مجيالً يف مظهره
ومرتباً .فالغرف تتألأل ابلضياء ،وكذلك األقمشة اجلميلة واملفروشات احللوة ،إنه رونق وروعة .يوجد
كثري من الناس.
مرمي تتنقل ،رشيقة بني اجلموع ،هبية يف ثوهبا األبيض الرائع اجلمال.
أليصاابت وقورة كامرأة ُم ِسنة مهيبة ،تستمتع مبتعة العيد .الطفل على صدرها وقد شبع من
احلليب.
البنك».
امسك َشخت ومن األفضل أن يُعطى َ
َ فأنت قد
يقول الرجال« :سنسميه زكرايَ .
تصرخ األم« :أبداً .فامسه هو يوحنا .جيب أن يكون امسه شهادة ل ُقدرة هللا».
سمى يوحنا».
«ال يهم .جيب أن يُ َّ
َميضي الناس على مهل .وال يبقى يف الغرفة سوى مرمي حتمل الطفل بني ذراعيها وأليصاابت
املفع َمة فرحاً.
َ
دخل زكراي ويغلق الباب .ينظر إىل مرمي والدموع يف عينيه .يريد التكلم ولكنه يؤثر الصمت.
يَ ُ
ك يتقدم ،يركع أمام مرمي ويقول هلا« :ابركي خادم الرب البائس .ابركيه ِ
فأنت تستطيعني ذلك ألن ِ
وآمنت بكل ما قيل يل. اكتشفت خطيئيت ِ
أحشائك .كلمة الرب قالت يل ذلك عندما حتملينه يف
ُ ُ
أنت هيكلي األول حيث الكاهن األول الذي أصبَ َح فيك إله يعقوبِ ، أر ِاك وقَ َدرِك السعيد .أعبد ِ
ُ
ِ
ومحلت له املخلص. أنت اي من ِ
نلت نعمة للعامل اآلن مد ِركاً يستطيع اآلن الصالة لألزيل .مباركة ِ
ُ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 187 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
كبقدومك كل النِعم ،ألن ِ
ِ ك قد ِ
جلبت لنا عظمتك ،فإن ِ
ِ ِ
خلادمك إن مل يلحظ من الوهلة األوىل اغفري
ذهبت ،اي ممتلئة نعمة ،يصنع هللا العجائب ،ومقدسة هي اجلدران اليت تدخلينها ،مقدسة هي أينما ِ
ك َمتنَحني النِعم اي أم هللا
اآلذان اليت تسمع صوتك ،واألجساد اليت تلمسينها .مقدسة القلوب ألن ِ
تعاىل ،العذراء اليت تكلم عنها األنبياء واملنتَظَرة لتمنح املخلص لشعب هللا».
تبتسم مرمي مضطرمة ابلتواضع وتقول« :التسبيح للرب ،له وحده .فمنه ،ال مين أتيت كل نعمة.
حياتك ،لتستحق ملكوته الذي سيفتح ابين َ منحك نعمته لتحبه وَّتدمه ابلكمال بقية أايم
َ وهو الذي
صل منأنت اي من تستطيع أن تصلي اآلن أمام قدس األقداسِ ، أبوابه لآلابء واألنبياء وأبرار الرب .و َ
أجل خادمة العلي ،ألن كوين أم ابن هللا ،فهو قَ ْدر السعادة ،أما كوين أم الفادي ،فهو قَ ْدر اآلالم
صل ألجلي ،أان اليت أحس ساعة بعد ساعة بتعاظم ثِقل األمل .وهذا ما جيب أن أمحله حياة الفظيعةِ .
كنت ال أرى التفاصيل ،إال أنين أحس أنه ِمحل أثقل مما لو كان العامل كله موضوعاً على أبكملها .وإذا ُ
َكتِ َف َّي كامرأة ،وأنه ينبغي يل أن أرفعه إىل السماء .أان ،أان وحدي ،املرأة املسكينة! ابين! َولَدي! آه!
ابنك وهدهدته يتوقف عن البكاء .ولكن هل سأستطيع هدهدة ابين محلت َيف الوقت احلاضر ،إن ُ
صل ألجلي اي كاهن الرب .قليب يرتعد مثل زهرة يف قلب زوبعة .أَنظُر إىل الناس ألسكن أمله؟ِ ...
ظهر ،العدو ،بـل فعلياً أعداء هللا ويسوع ابين»...
وأُحبهم ،ولكن خلف وجوههم أراه يَ َ
وتبدأ الرؤاي ابلتالشي مع رؤية شحوب مرمي ودموعها حيث تتألق نظرهتا.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 04 / 04
تقول مرمي:
«يَغفر هللا ملن يعرف خطأه ويندم عليه ويعرتف بتواضع وبقلب صادق .إنه ال يغفر وحسب:
اضع والصادق! جتاه من يؤمن به ويتكل عليه! أزيلوا من إنه يكافئ .آه! كم هو طيب ري جتاه املتو ِ
نفوسكم كل ما من شأنه أن يعيقها وجيعلها خامدة .هيئوها لتستقبل النور .كاملنارة يف الظالم .سيكون
لكم مرشداً ومؤاسياً مقدساً.
وعندما مينحنا الصالح اإلهلي نعمة ،فلنستخدم اخلري الذي نتلقاه لتمجيد هللا .وال نكن جمانني
جنعل من الغرض النافع سالحاً ضاراً ،أو مثل السفهاء الذين حيولون غناهم إىل شقاء.
كثري هو األمل الذي تعطينيه أيها االبن خلف الوجه الذي يكشف يل عن العدو الذي ينقض
على يسوعي .أمل عظيم! أرغب يف أن أكون للجميع نبع النِعم .ولكن الكثريين منكم يرفضون النعمة.
تطلبون "النِعم" ولكن بنفس ال حتوي النِعمة .وكيف ستنجدكم النِعمة إذا كنتم أعداءها؟
صلوا اي أبنائي بكلمات ابين .قولوا معه لآلب من أجل أعدائكم" :أيها اآلب اغفر هلم" .اندوا
اآلب الذي َخَر َج منكم مغتاظاً بسبب أخطائكم ":أبيت ،أبيت ،ملاذا تركتين؟ أان خاطئ ولكن إذا تركتين
َّكلوا على الوحيد الذي يستطيع أن حيفظ خريكم فسأهلك .عد أيها اآلب القدوس ألخلص" .ات ِ
ُ
األبدي ،روحكم ،يف مأمن من ضرابت الشيطان" :أيها اآلب ،بني يديك أست ِ
ودع روحي". َ َ
آه! إذا استودعتم روحكم بكل تواضع وقلب ُِحمب بني يدي هللا ،فإنه يقودكم كما يقود األب
ابنه وال يسمح أبن يَغبنه شيء .يسوع يف حشرجاته صلى ليُـ َعلِمكم الصالة.
أُذَكِركم به يف أايم اآلالم هذه .و ِ
أنت اي مارايِ ،
أنت اي من ترين يف فرح األمومة وكم أنتشي هبا،
امتلكت هللا من خالل آالم متزايدة ابستمرار .لقد نزل إيل من أعيدي إىل ذاكر ِ
تك هذه الفكرة :لقد
ُ
يت
مبدأ حياة هللا ،ومثل شجرة عمالقة كرب حّت المس السماء بقمتها واجلحيم أبساساته .حينها تلق ُ
دت التمزقات الوحشية،وع َد ُ
أيت َ
على صدري اجلثة اهلامدة للجسد الذي من جسدي ،حيث ر ُ
ملست قلبه الذي كان قد ُِ
اخرتق بطعنة ليستنفذ األمل حّت آخر قطرة من دمه». و ُ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
من عربة فاخرة ُربِطَت إليها مطية مرمي أيضاً ،أرى زكراي يهبط مع أليصاابت ومرمي اليت حتمل
يوحنا الصغري وكذلك صموئيل ومعه احلَ َمل وطري احلمام يف قفص .ينزلون مجيعهم قرب اإلسطبل حيث
ينبغي أن يقف عادة كل احلجاج القادمني إىل اهليكل ليضعوا مطاايهم.
تنادي مرمي رجالً قصري القامة ،هو املالك لإلسطبل وتسأله إذا ما كان انصري قد وصل يف
األمس أو يف الساعات األوىل من صبيحة اليوم« .ال أحد سيديت ».جييب العجوز القصري .تُد َهش
مرمي ولكنها ال تضيف شيئاً.
جتعل صموئيل يفك محارها وتلحق بزكراي وأليصاابت ،تعلل أتخري يوسف« :قد يكون أمر ما
أخره ،ولكنه سيأيت اليوم حتماً ».مث تعود فتأخذ الطفل الذي كانت قد أعطته ألليصاابت ،ويتوجهون
إىل اهليكل.
يتلقى زكراي ترحيب احلراس وحتيات وهتاين الكهنة اآلخرين .زكراي اليوم متألق بثيابه الكهنوتية
وفرحه كأب سعيد ،حّت كأنه بطريرك .أعتقد أن إبراهيم كان يشبهه يوم ابتهاجه بتقدمي اسحق للرب.
أرى طقوس تقدمة اإلسرائيلي اجلديد وتطهري األم .إنه أكثر أهبة من تقدمة مرمي ،ألن يوحنا
ابن كاهن ،والكهنة حيتفلون بشكل أكثر فخامة .إهنم يهرعون أبعداد وينهمكون حول جمموعة النساء
الصغرية واملولود اجلديد.
فرتض أهنا
يقول آخر« :مع ذلك ،ال يوجد غريها ميكنها أن تكون األم ،فاألخرى عجوز .يُ ََ
إحدى القريبات ،إّنا ال ميكنها أن تكون أماً وهي يف هذه السن».
«ال!»
«نعم».
يتهامس الناس وهم ال يزالون غري مصدقنيُ .حي ِدثون أصوااتًكثرية حّت إن «بشت» بلهجة آمرة
تصدر عن جمموعة كهنة حيضرون املراسم .يصمت الناس برهة ولكن اهلمس يعود بشكل أقوى عندما
دخل به إىل اهليكل لتقدمه للرب. أتخذ أليصاابت املتألقة ،إبابء مقدس ،الطفل وتَ ُ
«إهنا هي حقاً!»
جييب أحدهم وقد وصل وهو يَ َلهث« :أال تعلمون؟ إنه ابن زكراي الكاهن من نسل هارون،
هذا الذي أصبح أبكماً عندما كان يقدم البخور يف قدس األقداس».
«اي هلذا السر! واآلن هو يتكلم من جديد! والدة ابنه حلت عقدة لسانه!»
«تُرى ما يكون الروح الذي َكلَّ َمه وجعل لسانه ميتاً ليعوده على االحتفاظ ابلصمت يف ما خيص
أسرار هللا؟»
«لقد ُولِ َد يف اليهودية وليس يف بيت حلم وال من عذراء فال ميكن أن يكون ماسيا».
«من هو إذن؟»
أما اإلجابة فقد بَِقيَت يف سر هللا وأما الناس فقد ظلوا يف فضوهلم.
وحيتَ ِفل الكهنة اآلن ابألم واالبن معاً .أما الوحيدة اليت مل ينتبه إليها
تنتهي الطقوس الدينيةَ ،
أحد واليت حتاشاها اجلميع عند مالحظة حاهلا ،هي مرمي.
ما أن تنتهي التهاين حّت ميضي أغلب الناس ،كل يف طريقه ،وترغب مرمي يف العودة إىل النَّزل
لرتى ما إذا كان يوسف قد وصل .إنه مل يصل بعد .وتبقى مرمي شاردة الذهن تعرتيها خيبة أمل.
معك حّت الساعة السادسة .ولكن جيب أن نرحل بعدها هتتم أليصاابت حلاهلا« :ميكننا البقاء ِ
لنصل إىل البيت قبل العشية .إنه ما يزال صغرياً وال حيتمل البقاء إىل ما بعد هبوط الليل».
يَرَكبون مطية مرمي وميضون إىل بيت أهل زبدى ،وهم أصالً الذين استضافوا مرمي ويوسف قبل
أربعة أشهر.
أخ َذت هتدهدمتضي الساعات مسرعة ويوسف مل يظهر بعد .تسيطر مرمي على حمنتها أبن َ
للصغري ،إّنا كان انشغال البال ابدايً عليها ،كأن حتاول إخفاء حالتها بعدم نزع معطفها رغم احلرارة
اليت أسالت عرق اجلميع.
سمع ضربة قوية على الباب تُعلِن عن قدوم يوسف .يسطع وجه مرمي مستعيداً صفاءه.
أخرياً تُ َ
حيييها يوسف بعد أن تتقدم هي أوالً وحتييه ابحرتام« :بركة الرب حتل ع ِ
ليك اي مرمي!»
كنت أان يف قاان أقضي بعض أعمايل ،ومل أعلَم سوى ِ
«لقد وصل مرسالك إىل الناصرة بينما ُ
رت بدون توقف ،فقد أخرين احلمار بفقدانه نعالً. ِ
فانطلقت يف احلال .ولكن مبا أنين س ُ
ُ أمس مساء
ساحميين».
أنت لبقائي طويالً بعيدة عن الناصرة! ولكن انظر :لقد كاان سعيدين جداً لكوين
«بل ساحمين َ
أردت أن أسعدمها ببقائي معهما حّت اآلن».
معهما ،لذا ُ
يدخالن إىل الغرفة حيث توجد أليصاابت اليت ترضع ابنها قبل الرحيل .يهنئ يوسف أهل
الطفل لكونه شديداً عتيداً .فرتفعه أليصاابت عن صدرها لرتيه ليوسف ،ولكنه يصرخ ويتخبط كما لو
كان أحدهم يسلخه ،فيضحك اجلميع من احتجاجه ،حّت أهل زبدى الذين أسرعوا يف إحضار
الفواكه الطازجة للجميع ،واحلليب واخلبز مع صحن مسك ،يضحكون وينضمون إىل حديث اآلخرين.
مرمي تتكلم قليالً .إهنا جتلس يف إحدى الزوااي هادئة صامتة ،ويداها على صدرها حتت املعطف،
حّت وهي تشرب فنجان احلليب وأتكل عنقود العنب الذهيب مع القليل من اخلبز ،إهنا تتكلم قليالً
وال تتحرك أبداً .إهنا تنظر إىل يوسف مبزيج من املعاانة والقلق .وهو كذلك كان ينظر إليها ،وبعد برهة
أنت تعبة؟ هل تتألمني؟ ِ
فأنت شاحبة وحزينة». ينحين على كتفها ويسأهلا« :هل ِ
«إين أتـأمل البتعـادي عن يوحنـا الصغري .فأنـا أحبـه كثرياً ،ولقد ضممته إىل قليب منذ والدته
تقريباً»...
حان موعد رحيل زكراي .تتوقف العربة قرب الباب ويدنو اجلميع .تتعانق النسيبتان حبنان .تقبل
مرمي الطفل قبالت كثرية قبل أن تعود أمه لتضمه إىل صدرها وهي َجتلُس يف عربتها .مث حتيي زكراي
صالً حتت أنوار بعد ظهريةطالبة منه بركته ،وعندما جتثو أمام الكاهن ينزلق املعطف ويظهر شكلها ُم َف َّ
يوم صيف كاشفة .مل أعلم إذا ما كان يوسف قد الحظ ذلك يف تلك اللحظة اليت كان فيها منهمكاً
بوداع أليصاابت ...وتبتعد العربة.
ويدخل يوسف مع مرمي اليت تعود إىل مكاهنا يف الزاوية نصف املضاءة« .إذا ِ
كنت المتانعني يف
السفر ليالً ،فإنين أقرتح الرحيل عند الغَ َسق .فاحلرارة يف النهار شديدة ،بينما الليل ابرد وهادئ .أقول
ضك كثرياً للشمس .ابلنسبة يل ،ال يهمين التعرض للقيظ ،إّنا ِ
أنت»... أجلك لكي ال أعر ِهذا من ِ
«البيت مرتب جيداً وكذلك احلديقة .سرتين الزهور كم هي مجيلة! سوف تصلني يف الوقت
املناسب لتجدي كل شيء مزهراً .شجرة التفاح والتني والكروم حمملة ابلثمار أكثر من أي وقت مضى،
أخ َذت الثمار
رت لوضع دعامات هلا لكثرة احلمل على أغصاهنا ،وقد َ أما شجرة الرمان فقد اضطُِر ُ
أشكاهلا كما مل َنر مثيالً هلا يف مثل هذا الوقت .ومث شجرة الزيتون ...سوف حتصلني على زيت وافر.
عجز ،ومل تفقد زهرة واحدة ،بل إن كل زهرة فيها أضحت اآلن زيتونة صغرية. لقد أزهرت بشكل م ِ
ُ ََ
وعندما ستنضج ستغطي الشجرة بآللئ سوداء .وال يوجد يف الناصرة كلها من ميتلك حديقة هبذا
غريك .حّت األهل ُد ِهشوا هبا .وحلفا قال إهنا معجزة».
اجلمال ِ
حيل الليل .يصر املضيفون على أن أيكال قبل الرحيل .فيأكل يوسف خبزاً ومسكاً بينما مل أتكل
مرمي سوى الفواكه مع شرهبا احلليب.
تقول مرمي:
« ّإهنا ليلة اخلميس املق ّدس .ستبدو هذه الرؤاي للكثريين خارجة عن املوضوع .ولكن ِ
أملك كعاشقة ّ
حّت بوجود رؤاي عذبةّ .إهنا كاحلرارة املنتشرة من الشعلة ،هي من
ويستمر ّ ليسوع املصلوب هو يف ِ
قلبك
ّ
النار كذلك ،إالّ ّأهنا مل تعد انراً .فالنار هي الشعلة وليست احلرارة املنتشرة حوهلا .إ ّن أيّة رؤاي ِّ
مطوبة أو
ِ
حياتك ذاهتا :إنّه ابلفعل ،أكرب مطهرة لن أتيت لتنزع من ِ
قلبك هذا األمل .انظري إليه كشيء مثني أكثر من ِّ
نعمة ميكن أن مينحها هللا ملن يؤمن اببنه .مثّ إن رؤايي يف سالمها تتوافق بشكل جيّد مع إحياء ذكرى هذا
األسبوع.
من ميكنه وصف معركيت ضد الفتور الذي كان حياول إرهاقي ليقنعين أبن رجائي ابلرب ابطل؟
كنت أحس ابلشك ميسكين من كتفي ويطيل جمساته آه! أظنها كانت محلة هوجاء من الشيطان! ُ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 198 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ليأسر نفسي ومينعها من الصـالة .الشـك اخلطري جداً ،القـاتل للروح .إنه قاتل ،ذلك أنه اإلصابة
ال َـمَرضيَّة األوىل واليت تسمى "اليأس" ،حيث جيب أن يتصرف الروح يف مواجهتها بكل قواه لكي ال
تصل النفس إىل اهلالك وفقدان هللا.
من ميكنه التحدث بدقة عن أمل يوسف وأفكاره واضطراب عواطفه؟ إنه مثل قارب صغري وسط
عاصفة هوجاء ،وكان قد َو َج َد نفسه يف زوبعة من األفكار املتناقضة وردود فعل ،كانت الواحدة منها
أكثر أملاً وشراسة من األخرى .لقد كان يف الظاهر رجالً خمدوعاً من قبل زوجته ،فكان يرى اهنيار
مسعته الطيبة واحرتام العامل معاً بسببها ،كان يرى نفسه مشاراً إليه ابلبَـنَان وموضوع إشفاق البلدة.
الفعلة.وكان يرى احلب واالحرتام اللذين كان يكنُّهما يل ميواتن أمام بـيِنة ِ
ََ
أشرقَت أكثر من اليت يل .وأشهد لذلك حبيب كعروسة ،إذ أر َغب يف أن وهنا تألألت قداسته و َ
حتبوا يوسف ،هذا الرجل احلكيم وال َفطن ،الصبور والصاحل ،الذي مل يكن غريباً عن سر الفداء الذي
استخد َم أمله وذاته هلذا ،وذلك إبنقاذ املخلص دافعاً الثمن تضحيته،َ ارتَـبَط به بشكل وثيق ألنه
ُرجم فتموت معي صَّرف بشرايً أبن يشي ي كزانية أل َوبقداسته العظيمة :فلو كان أقل قداسة لكان تَ َ
مثرة خطيئيت .لو كان أقل قداسة ملا كان هللا قد َمنَ َحه النور لريشده يف مثل هذا االختبار.
إّنا يوسف كان قديساً .وكان روحه الكلي الطهر حييا يف هللا .فاحملبة كانت متأججة فيه وقوية.
ومبحبته أن َق َذ لكم املخلص ،اترة بعدم الوشاية ي إىل الشيوخ ،واترة برتكه كل شيء وفق طاعة سريعة،
ليَحمل يسوع إىل مصر أايماً مل تكن كثرية ،ولكنها فظيعة بشدهتا ،لقد كانت أايم آالم يوسف وآالمي،
كنت أُد ِرك معاانته وال أستطيع انتزاعها مطلقاً
تلك األايم األوىل اليت كان ينبغي يل أن أعاين فيها ،فقد ُ
ألبقى وفية ألمر هللا القائل يل" :اصميت!".
عندما رأيتُه ،حال وصولنا إىل الناصرة ،يرتكين بعد حتية مقتضبة ،حانياً ظهره ،حّت ليبدو وكأنه
َعرتف لكم ،أبنائي ،أن ِ
شاخ يف وقت قليل ،إذا صح التعبري ،وعندما مل أيت إيل يف املساء كعادته ،أ َ
قليب املفطور قد عاىن من أمل حادُ .حمتَـبَسة ووحيدة يف البيت حيث كل شيء يذكرين ابلبشارة والتجسد،
وحيث كل شيء يعيد إىل قليب ذكرى يوسف املتحد ي يف بتولية ال عيب فيها ،كان ينبغي يل أن
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 199 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
أقاوم الفتور ووساوس الشيطان ،وأن أرجو وأرجو وأرجو؛ وأن أصلي وأصلي وأصلي؛ وأن أغفر وأغفر
وأغفر ليوسف ريبته ومترده َكبَ ٍ
ار اغتاظ.
أبنائي :عليكم ابلرجاء والصالة والصفح للحصول على تدخل هللا ونيل حظوة لديه .وأنتم أيضاً
عليكم أن تعيشوا آالمكم ،فإن خطاايكم قد استَ َح َّقتها .وأان أ َُعلِمكم كيف تتجاوزوهنا وحتولوهنا إىل
فرح ،أُرجوا دوّنا حساب ،صلوا دوّنا شك ،واغفروا ليُغ َفر لكم .ومغفرة هللا ،اي أبنائي ،ستكون هي
السالم الذي تتوقون إليه.
لن أقول لكم أي شيء آخر يف الوقت احلاضر سوى أنه بعد انتصار القيامة سيكون الصمت.
انس َكبَت كانت من دمعة فكل ودموعه. احاته
ر ج ا
و د وع تهأان ا
و ع امس فاديكم، له حتم ما على ا
و ق ِ
أشف
َ ُ َ
أجلكم ،وجراحاته تَـ َقبَّـلَها من أجلكم .وأية رؤاي أخرى متحي أمام تلك اليت تذكركم ابلفداء الذي
َح َّق َقه لكم.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 05 / 31
بعد ثالثة ومخسني يوماً ،تعود األُم للظهور يف هذه الرؤاي اليت طَلَبَت مين أن أدوهنا يف هذا
الكتاب .وعاد الفرح ليُولَد يف من جديد ،ألن رؤية مرمي تعين امتالك الفرح.
إذاً فأان أرى حديقة الناصرة الصغرية .مرمي تغزل يف ظل شجرة تفاح وارفة وحمملة زايدة ابلثمار
بدأَت ابالمحرار حّت لتحسبها خدود أطفال مدورة ووردية. اليت َ
ولكن لون مرمي مل يكن كتلك األلوان اجلميلة .فلون خديها الذي كان يف اخلليل قد اختفى.
ووجهها شاحب مثل العاج ،والشفتان فقط ترمسان عليه قوساً من املرجان الشاحب .وحتت جفنيها
لست أرى عينيها ألن رأسها منحن ِ ِ
املنخفضني ظالن ُمظلمان ،وحافة عينيها منتفخة كما بعد بكاءُ .
نصب على الشغل وأكثر منه على أفكار حزينة ،ذلك أنين أمسَعها تتنهد كمن يعاينوكل انتباهها ُم َ
ويتأمل يف قلبه .كان ثوهبا ذا لون أبيض أبكمله ،فقد كان من الكتان األبيض ألن الطقس حار جداً
رغم أن رطوبة الزهور النقية توحي أبنه الصباح .رأسها مكشوف والشمس اليت تداعب أوراق شجر
التفاح اليت حتركها نسمات خفيفة جداً ،واليت تتسلل حمدثة خيوط نور على األرض البنية املخصصة
للزهور ،وترسم دوائر مضيئة على الرأس األشقر وعلى الشعر الذي يبعث انعكاسات ذهب خالص.
تنتَ ِفض مرمي لدى مساعها طرقاً قوايً على ابب البيت اخلارجي .تضع مغزهلا ومردهنا جانباً وتنهض
لتذهب وتفتح .ورغم كون ثوهبا فضفاضاً ،إال أنه مل ُخيْ ِ
ف استدارة احلوض متاماً.
عفوك» .وينحين كأنه يريد أن جيثو .ولكن مرمي اليت ما تزال متحفظة من ملسهُ ،مت ِسك به
« ِ
بعزم من كتفيه ومتنعه من ذلك.
وأخذ لون وجه مرمي يتبدل ،فتارة هو أمحر وأخرى شاحب كما كان قبالً« :عفوي؟ ليس هناك
لك اي يوسف ،ليس لدي سوى الشكر على كل ما فعلته هنا أثناء غياي ،وكذلك على شيء أغفره َ
احلب الذي تكنه يل».
ينظر إليها يوسف وترتقرق دمعتان كبرياتن يف حجريت عينيه العميقتني ،وتبقيان كما على حافة
نح ِدران على اخلدين واللحية.
آنية ،مث تَ َ
لست أهالً ألن يكون يل مثل ِ
عرفت و ُ
تزعز َعت ثقيت بك ،أما اآلن فقد ُ
«ساحميين اي مرمي ،فلقد َ
متك يف قليب .اهت ِ
متك دون عدل ألنين مل أسألك لتقويل لك .لقد اهت ِ
صرت يف حمبيت ِ
هذا الكنز .لقد قَ َّ ُ
لك كحيب لنفسي»...يل احلقيقة .لقد أخطأت حبسب شريعة هللا ،وذلك بعدم حيب ِ
ُ
«آه! ال! أنت مل تُـ َق ِ
صر أبداً!» َ
أنت ...مل أمسح ِ
لك «بلى اي مرمي .لو كنت ُّاهتِمت مبثل هذا اجلرم لكنت دافعت عن نفسي .و ِ
ُ ُ ُ ُ
أسأت ِ نفسك ألنين كنت على وشك أن أَّتذ قراراً دون سؤ ِ
ِ
أخطأت جتاهك أبن ُ ُ الك .لقد ُ ابلدفاع عن
بك ينتقص من قدر ِك .وأان مل
إليك ابلريبة .ال شيء سوى الشك .وهذه إساءة اي مرمي .فمن يشك ِ ِ
مل يكن يوسف جاثياً ولكنه منحن لدرجة أنه يبدو كذلك ،وتضع مرمي يدها الصغرية على رأسه
ت أن أحبَلوهي تبتسم .تبدو وكأهنا حتله من خطاايه .تقول« :لو مل يكن تواضعي كامالً ملا استحقق ُ
ب
أطعت ...فاهلل هو من طَلَ َ
ُ مبن ننتظر ،من أييت ليمحو خطيئة الكربايء اليت دمرت اإلنسان .مث أان
أجلك ،من أجل األمل الذي اختََربتَه .إّنا مل يكن لدي خيار
مين هذه الطاعة اليت كلفتين كثرياً ...من َ
سوى الطاعة .أان خادمة هللا ،واخلدام ال يناقشون األوامر اليت يتلقوهنا .بل هم ينفذوهنا ،اي يوسف،
ولو أبكتهم دماً ».تبكي مرمي وهي تقول ذلك .تبكي هبدوء لدرجة أن يوسف املنحين مل يلحظ ذلك
إال حينما َس َقطَت دمعة على األرض.
عندها يرفع رأسه -وألول مرة أراه يفعل ذلك -ويشد على يدي مرمي الصغريتني بني يديه
القويتني ويقبل أطراف أانملها الناعمة اليت تربز مثل براعم الدراق من بني قبضيت يدي يوسف.
«اآلن جيب أن نتدبر األمر ،ألن »...ومل يضف يوسف شيئاً ولكنه ينظر إىل جسم مرمي اليت
جتلس حاالً لكي ال تبقى عُرضة للنظرات اليت ترتكز عليها« .جيب أن نسرع .سآيت إىل هنا ...سنُتم
الزواج ...األسبوع القادم ،أموافِقة ِ
أنت؟»
خادمتك».
َ أنت رأس البيت وأان
«كل ما تفعله اي يوسف جيدَ .
«يسوع أييت من أجلنا حنن املساكني ليجعلنا أغنياء ابهلل .سيأيت إلينا حنن اإلثنني ألننا مساكني
حصلَت على امللك الذي تنتظره، أكثر من كل الناس ،وحنن نعلم ذلك .افرح اي يوسف فذرية داود َ
وقد أصبَح بيتنا أكثر فخامة من قصر سليمان امللكي ،فهنا ستكون السماء ،وسنشارك هللا سر السالم
الذي َسيُـ َعلِمه للعامل فيما بعد .سينمو بيننا وستكون أذرعنا مهداً للفادي الذي يكرب .ومن َعَرقنا وتعبنا
سنوفر له اخلبز ...آه! يوسف! سوف نسمع صوت هللا ينادينا "اباب"" ،ماما"! آه! »...وتبكي مرمي
فرحاً بدموع سعيدة للغاية!
تقول مرمي:
كنت سأنتظر «ال يؤولن أحد شحوي بطريقة خاطئة .مل يكن نتيجة خوف بشري ،فبشرايً ُ
كنت أعاين من أمل يوسف .حّت فكرة إدانته يل مل جتعلين الرجم .وهذا مل يكن يف يوم َم َبعث خويف .بل ُ َّ
حبد ذاهتا أضطَ ِرب .إّنا ما مل يكن يروق يل فقط هو أنه بوقوفه عند فكرة إدانيت كان قد أ َ
َخ َّل ابحملبة.
لذلك ،عندما شاهدتُه قفز دمي .لقد كانت حلظة خيطئ ابر فيها حبق العدل ،وذلك ابإلخالل ابحملبة.
وأن خيل ابر ابحملبة وهو الذي مل خيل أبداً يف السابق ،هو ما سبب يل أشد العذاب.
اإلميان .لقد َآمن يوسف إمياانً أعمى بكلمة رسول السماء .مل يكن يطلب سوى اإلميان ألنه
كان ُمقتنعاً بشكل جاد أن هللا صاحل وأنه ،وهو الذي رجا الرب ،فال ميكن أن يبتليه الرب أبمل أن
خيونه قريبه وخيدعه ويهزأ به .مل يكن يطلب سوى اإلميان ي ،ألنه ،كرجل شريف ،مل يكن يستطيع
جمرد التفكري بدون أمل أن ال يفعل اآلخرون ذلك .كان يعيش مبوجب الشريعة ،والشريعة تقول" :أحبِب
كنفسك" .فنحن حنب أنفسنا لدرجة االعتقاد أبننا كاملون حّت حينما ال نكون كذلك .ملاذاَ يبك
قر َ
نتوقف إذن عن حمبة القريب جملرد فكرة أنه غري كامل؟
التواضع ال ُـمطلَق مثل احملبة .معرفة أننا مقصرون ،حّت مبجرد فكرة بسيطة ،وعدم االتصاف
أخطأت" .فكل العامل ،ما عدا هللا،
ُ ابلكربايء األكثر ضرراً من اخلطيئة السابقة أبن نرفض القول" :أان
خيطئ .من الذي أو من اليت تستطيع القول" :أان ال أخطئ أبداً؟" والتواضع أكثر صعوبة كذلك .فهو
الذي يعرف أن يكتم روائع هللا فينا ،عندما يكون من غري املفيد أن نعلنها لتمجيده هبا .لكي ال نقلل
من قيمة القريب الذي مل يتلق هذه املواهب اخلاصة من هللا .لو أراد ذلك ،آه لو أراد ذلك فاهلل يَظ َهر
دت من أجلها، ِ
بنفسه يف خادمه! فإن أليصاابت قد رأتين كما أان ،وعروسي عرفين والغاية اليت ُوج ُ
وذلك عندما حان الوقت ليعرف.
دعوا هلل مهمة اإلعالن لكم عن خدامه .إنه حباجة ألن يكون ذلك حبب .إذ إنه يهيئ كل
خليقة لرسالة خاصة ،هي جمد جديد يضاف إىل جمده الالمتناهي ،ألهنا الشهادة عن طبيعة اإلنسان
كما أراده هللا :كمال اثنوي يعكس األصل .اب ُقوا يف الظل ويف الصمت ،اي من حظيتم ابلنعمة،
لتستطيعوا مساع الكلمات الوحيدة اليت هي "احلياة" ،لتستطيعوا استحقاق أن تسطع الشمس بشكل
أزيل فوقكم وفيكم.
1944 / 05 / 04
لت أرى بيت الناصرة :الغرفة الصغرية حيث تتناول مرمي عادة طعامها .إهنا يف هذه األثناء ما ز ُ
ُم َنه ِمكة بشغل من القماش األبيض .وتضع شغلها جانباً لتذهب وتُشعِل املصباح ،فالليل يُرخي
كت أن ِ
سدوله ،والنور املخضر املتسلل من الباب املواَرب على احلديقة مل يعد كافياً .وتُغلق الباب .أدر ُ
َمحلَها أصبَح متقدماً جداً .ولكنها ما تزال مجيلة جداً .مشيتها َسلِ َسة ،وسلوكها رشيق .وال شيء من
ظهر عادة على امرأة توشك أن تضع وليدها .الوجه فقط قد تغري. التثاقل الذي يَ َ
اآلن هي "امرأة" ،بينما يف السابق ،يف زمن البشارة كانت شابة فتية ،ذات وجه هادئ وديع:
وجه طفل بريء .ومنذ أن كانت يف منزل أليصاابت ،يف حلظات والدة املعمدان ،أصبَح وجهها أكثر
صفاء ،فقد نضج مجاهلا .أما اآلن ،فإنه الوجه الساكن إّنا املطبوع بطابع الوقار اللطيف المرأة بلغت
كماهلا ابألمومة.
َّحت بعذوبة
لقد أصبَ َحت مرمي اآلن حبق "املرأة" املمتلئة وقاراً ونعمة .حّت ابتسامتها ،فقد تفت َ
مهيبة .كم هي مجيلة!
دخل من الباب اخلارجي وليس من ابب دخل يوسف .يبدو أنه عائد من البلدة ،ألنه يَ ُ يَ ُ
املشغَل .ترفع مرمي رأسها وتبتسم له ،كذلك يوسف يبادهلا االبتسامة ،إال أنه يبدو ُم َتعباً قلقاً .تالحظ
تنهض وأتخذ املعطف الذي ينزعه يوسف وتضعه على كرسي. مرمي ذلك ،وتتساءل ماذا هناك .مث َ
جيلس يوسف قرب الطاولة .يسند عليها مرفقه ،ورأسه مستند إىل يده ،بينما هو يتلمس حليته
ابليد األخرى قلقاً.
عنك؟»
جيعلك تعاين؟ هل أستطيع التخفيف َ
َ ألديك ما
تسأله مرميَ « :
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 207 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ِ
ألجلك». « ِ
أنت عزائي على الدوام اي مرمي ،ولكن مهي يف هذه املرة كبري...
ألصقوا منشوراً على ابب الكنيس .إنه أمر إبحصاء كل الفلسطينيني .جيب الذهاب
لقد َ
لالكتتاب يف مكان األصل .فيجب علينا حنن أن نذهب إىل بيت حلم»...
«ال اي يوسف ،ليس هذا .إنين أفكر ...أفكر يف الكتاب املقدس :راشيل أم بنيامني وزوجة
يعقوب اليت منها سيولَد الكوكب :املخلص .راشيل مدفونة يف بيت حلم ،وقد ُكتِب" :و ِ
أنت اي بيت َ ُ
منك خيرج ال َـملِك" .ال َـملِك املوعود به لذرية داود حلم إفرااتِ ،
أنت األصغر يف قضاء يهوذا ،ولكن ِ
سيُولَد هناك»...
«أتعتقدين ...أتعتقدين أن الزمن قد حان؟ آه! كيف سنعمل؟» يوسف حائر متاماً .إنه ينظر
إىل مرمي نظرة إشفاق.
تالحظ مرمي ذلك فتبتسم .إهنا تبتسم لنفسها أكثر منها له ،ابتسامة تبدو وكأهنا تقول« :إنه
أشفقي عليه اي نفسي واجعليه حياكمرجل ابر ولكنه إنسان .يرى األمور كإنسان .يفكر كإنسانِ .
األمور ابلروح ».ولكن صالحها وطيبتها يدفعاهنا لطمأنته .إهنا ال تكذب ،ولكنها تسعى إىل تسليته
قلقك؟ إنه
النتشالك من َ
َ يف كربته« .ال أعرف اي يوسف .املوعد قريب ،ولكن أال ميكن للرب أتخريه
قادر على كل شيء ،فال َّتف».
«ولكن السفر؟ ...من يدري أي ازدحام سيكون! هل سنجد مأوى الئقاً؟ هل سنجد الوقت
ِ
اضطررت للوالدة هناك فما العمل؟ ال بيت لنا ...ومل نعد نعرف أحداً»... للعودة؟ وإذا
ينظُر إليها يوسف ويستمع إليها بنشوة .تزول أخاديد جبهته ،وتعود االبتسامة .ينتصب دون
أنت اي مشس نفسي! ِ
أنت املباركة تعرفني أن تري كل شيء بنور سأم ودون حزن .يبتسم« .مباركة ِ
متألك! فال نضيعن الوقت إذن.علينا الرحيل أبقصى سرعة و ...العودة أبسرع وقت ألن النعمة اليت ِ
كل شيء هنا جاهز ل ــ ...ل ــ»...
«البننا اي يوسف .هكذا جيب أن يبدو يف نظر العامل ،تذكر .لقد أحاط اآلب قدومه بسرية،
وليس لنا حنن أن ّنيط اللثام .هو ،يسوع ،سيفعل ذلك عندما حيني الوقت».
تقول مرمي:
إين ألفت انتباه العروسات إىل نقطة هامة .ارتباطات كثرية قد احنَلَّت بسبب خطأ النساء اللوايت
دودة ،وعزاء للزوج .إن الرجل ال
ال يتحلني هبذا احلب الذي هو كل شيء :لطف ،عطف ،رعاية َو َ
ترهقه املعاانة اجلسمانية اليت ترهق كاهل املرأة ،إّنا يرهقه ثقل كل اهلموم املعنوية :ضرورة العمل،
القرارات احلامسة ،املسؤولية جتاه كل السلطات الشرعية وجتاه عائلته ذاهتا ...آه! كم من األشياء ال
ترهق الرجل! وكم هو كذلك حباجة إىل السلوان! أما األاننية فتكمن يف أن تزيد املرأة على كاهل الرجل
ال ُـم َتعب وال ُـمحبَط وال ُـمنتَـ َقص قدره وال َـمهموم ،ثِقل شكاواها غري اجملدية وأحياانً غري الصحيحة وغري
العادلة .كل ذلك ألهنا أاننية .فهي ال حتب.
احلب ليس البحث عن إرضاء األحاسيس أو االهتمامات الشخصية .إّنا احلب هو إرضاء من
حنب بتجاوز اإلحساس واملنفعة ،هو أن ّننَح روحه املساعدة اليت حتتاجها ليستطيع احملافظة على
جناحيه مفتوحتني يف مساوات الرجاء والسالم.
مت عنها سابقاً ،ولكين أحل عليها :الثقة ابهلل .فالثقة نقطة أخرى ألفت انتباهكم إليها .لقد تكل ُ
تلخص يف ذاهتا كل الفضائل اإلهلية .والتحلي ابلثقة يعين التحلي ابإلميان .التحلي ابلثقة يفرتض
الرجاء .التحلي ابلثقة يعين اختبار احلب .ففي حب شخص والرجاء واإلميان به تكمن الثقة .وغري
هذا فال .هللا يستحق مثل هذه الثقة اليت جيب أن تكون ثقتنا حنن .فإذا كنا َّننَحها ألانس مساكني،
قادرين على عدم االستجابة ،فلماذا حنجبها عن هللا الذي ال يـ َق ِ
صر معنا أبداً؟ ُ
الثقة هي أيضاً طاعة .وهللا حيب املطيع .والطاعة تعين أن نتعرف على بعضنا كأبناء له وأن
نعرف هللا أابً لنا .وال يستطيع األب سوى أن حيب عندما يكون أابً حقيقياً .وهللا هو أبوان احلقيقي،
وهو أب كامل.
النقطة الثالثة اليت أريدكم أن تتأملوا هبا ،وهي ترتكز دائماً على الثقة .ال ميكن أن حيدث شيء
فأنت ِ ِ
أنت خاضع للسلطة؟ َ فأنت كذلك ألن هللا قد َمسَح به .هل َ أنت قادر؟ َ دون إذن هللا .هل َ
كذلك ألن هللا قد َمسَح به.
اذهيب بسالم».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 05 / 05
أرى طريقاً عريضة ،هناك مجع غفري .محري ذاهبة ُحم َّملَة أمتعة وأانساً .ومحري عائدة .والناس
ال ُـممتَطية َهت ِمز مطاايها ،ومن يسري منهم على أقدامه حيث اخلطى ألن الطقس ابرد.
اهلواء نقي وجاف ،السماء صافية ،إال أن كل شيء يبدو ابملظهر الدقيق ليوم شتوي حقيقي.
أحرقَته رايح الشتاء .ويف تلك املراعي تبحث
القرية العارية تبدو أوسع .عشب املراعي قصري وقد َ
القطعان عن القليل من الغذاء ،وتطلب الشمس اليت تولد ببطء .يلتصق خرفاهنا الواحد ابآلخر ألهنا
هي أيضاً تشعر ابلربد .تثغو رافعة أفواهها انظرة إىل الشمس كأهنا تقول هلا« :بسرعة ،بسرعة ،كم
ظهر على األرض متوجات تبدو أكثر فأكثر وضوحاً .إنه منظر هضبة حقيقي .هناك الطقس ابرد!» وتَ َ
منخفضات عشبية ومنحدرات بوداين صغرية وقِمم .والطريق متر يف الوسط وتتجه إىل اجلنوب الشرقي.
مرمي على محارها الرمادي متدثرة مبعطفها السميك .ويف مقدمة السرج ،كما كان األمر يوم
السفر إىل اخلليل ،الصندوق احملتوي على احلاجات األكثر ضرورة .ويوسف إىل جانبها يسري ممسكاً
متعبَة؟» ِ
ابللجام سائالً إايها بني الفينة واألخرى «هل أنت َ
أنت ابألحرى الذي متشي
فتنظر إليه مرمي مبتسمة وتقول« :ال» .ويف املرة الثالثة تضيفَ « :
تعبت».
دميك ،قد تكون َ على ق َ
وجدت محاراً آخر لكان من املمكن
ُ «آه! أان ،ابلنسبة يل هذا ال يهم .ولكنين أفكر ،لو أنين
أن تكوين مراتحة أكثر وكنا استطعنا الذهاب بشكل أسرع .ولكنين مل أجد .كل الناس حباجة للمطااي
يف هذا الوقت .إّنا تشجعي! فقريباً سنصل إىل بيت حلم .فوراء هذا اجلبل توجد إفراات».
«ال ،شكراً».
إال أن يوسف ال يقتَنِع فيجس ِرجليها اللتني تتدليان على كشح احلمارِ ،رجليها اللتني تنتعالن
صندالً ومها ال تكادان تتجاوزان ثوهبا الطويل .رمبا َو َج َدمها ابردتني ،فهو يهز رأسه ،وأيخذ غطاء
(حرام) كان حيمله َورابً على كتفيه ،ويغطي به ساقي مرمي حّت صدرها بشكل تب َقى فيه يداها يف
الدفء متاماً حتت الغطاء واملعطف.
يلتقيان بَِر ٍاع يقطع الطريق مع قطيعه الذي ينقله من مرعى على اليمني إىل آخر على اليسار.
فينحين يوسف ليهمس يف أذنه بشيء ما .جييبه الراعي إبشارة تدل على املوافقة .فيأخذ يوسف احلمار
وحيلب نعجة كبرية ضرعاها
ويقوده خلف القطيع إىل املرعى حيث أيخذ الراعي من خرجه وعاء كبرياً َ
مليئان ،ويعطي الوعاء ليوسف الذي يقدمه إىل مرمي.
وجهت ُكما؟»
«وإىل أين َ
«إىل بيت حلم».
«ال».
«األمر يبعث على القلق ،،فبيت حلم مكتظة أبانس أتوا من كل صوب لالكتتاب أو للذهاب
لست أدري إذا كنتما َستَجدان مأوى .هل تعرفان املكان؟»
إىل أمكنة أخرى لنفس املسعىُ .
«ليس كثرياً».
مك ...من أجلها (ويقصد مرمي) اقصدا النَّزل .سيكون ممتلئاً .ولكنين أحدده «إذاً! ...سأ ِ
ُعل َ َ
لكما ليكون مبثابة نقطة عالمة .إنه يف الساحة الكربى .تذهبان إليها من الطريق الرئيسية .ال ميكن
أن َّتطئا .هناك نبع ماء قرب النَّزل الكبري واملنخفض ذي البوابة الكبرية .سيكون مكتظاً .وإذا مل َِجتدا
مكاانً يف النَّزل ويف البيوت ،فامضيا خلف النَّزل ابجتاه القرية .هناك إسطبالت يف اجلبل يستخدمها
الباعة املتوجهون إىل أورشليم ليضعوا فيها حيواانهتم عندما ال جيدون مكاانً يف النَّزل .إهنا إسطبالت
يف اجلبل ،تدركان ذلك :إهنا رطبة ،ابردة ،وبدون أبواب ،ولكنها تبقى ملجأ ،ألن املرأة ...ال تستطيع
البقاء يف الطريق .قد َِجتدا هناك مكاانً فيه قش لتناما ،وكذلك مكاانً للحمار .ولريافقكما هللا».
افقك السالمة».
ليهبك هللا الفرح» .ويقول يوسف بدوره« :ولرت َ
ُجتيب مرميَ « :
املنخ َفض
املنح َدر الشديد الذي اجتازاه .و َ
منخ َفض أكرب من َظهر َ
ويعاودان سلوك طريقهما .ويَ َ
حماط من األعلى ومن األسفل مبنحدرات ،وهناك بيوت وأيضاً بيوت ،إهنا بيت حلم.
«ها حنن على أرض داود اي مرمي .اآلن ستسرتحيني .إن ِ
ك تبدين يل مرهقة جداً»...
«آه! ال .فأان ممتلئة فرحاً .إنه لََفرح عظيم ومجيل ال يُقاوم ،لدرجة أن قليب خيفق بشدة ،بشدة
ويقول يل" :إنه يُولَد! يُولَد!" يقوهلا مع كل خفقة .إنه صغريي الذي يدق على ابب قليب ويقول يل:
ألعطيك قبلة هللا" .اي له ِمن فرح اي يوسف!»
ِ "ماما ها أان ذا
ولكن يوسف ليس فَ ِرحاً .إنه يفكر بضرورة إجياد ملجأ وحيث اخلطى .يطرق الباب تلو الباب،
يسأهلم املأوى .ال فائدة فالكل مشغول .ي ِ
صالن إىل النَّزل .إنه مكتظ ،حّت حتت األروقة الريفية اليت َ
حتيط بباحة الدار الكبرية ،أبانس ُخييِمون.
يرتك يوسف مرمي على احلمار داخل الدار ،وخيرج يفتش يف البيوت األخرى .مث يعود خائباً .ال
يوجد مكان .وغسق الشتاء املبكر بدأ ينشر شراعه .يتوسل يوسف إىل صاحب النَّزل ،يتوسل إىل
مسافرين .إهنم رجال بكامل صحتهم وهي امرأة على وشك الوالدة .ليكن لديهم رمحة .ال شيء.
يَنظُر إليه أحد الفريسيني األغنياء ابحتقار َسافِر ،وعندما تدنو مرمي يبتعد عنها كما لو كانت مصابة
ابلربص .فينظر إليه يوسف وقد امحر وجهه من الغيظ ،فتضع مرمي يدها على قبضة يوسف لتهدئته
وتقول« :ال تلح ،فلنذهب .هللا سوف يتدبر األمر».
َخي ُرجان ويسريان مبحاذاة جدار النَّزل .يسلكان درابً مرتاكبة فيما بينها وبني بيوت فقرية .يدوران
حول النَّزل .يبحثان حّت جيدا أحد الكهوف ،إهنا ابألحرى أقبية أكثر منها إسطبالت لكثرة اخنفاضها
ورطوبتها .وما كان مقبوالً منها قد ُشغِل .يوسف ُم َنهك.
لكي يـََرى بشكل أوضح ،حيث إن النور فيها خافِتُ ،خيرِج يوسف بعض الصوفان (مادة خترج
من قلب الشجر ،رخوة ،تَق َدح فيها النار) وقداحة ،ويُشعِل مصباحاً صغرياً ُخي ِرجه من اخلرج الذي كان
دخل .يستقبله خوار ابلتحية« .تعايل اي مرمي ،إهنا فارغة إال من ثور ».ويبتسم يوسف يتمنطق به ،ويَ ُ
«أفضل من ال شيء!»
َِ
ترجتل مرمي وتدخل.
يـُثَـبِت يوسف املصباح على مسمار يف أحد اجلذوع املستخدمة كدعامة .أما ال ُقبة فقد كانت
مغطاة خبيوط العنكبوت ،واألرض من الرتاب املداس ومصدعة بثقوب وحصى وفضالت وغائط
ومفروشة بسوق التنب .ويف الداخل ثور يتلفت وينظر بعينيه الكبريتني واهلادئتني ،بينما يتدىل العلف
وح َجران كبريان يف زاوية قرب صدع يشري السواد الذي يغطي هذه الزاوية من فمه .هناك مقعد كبري َ
إىل أهنا مكان إشعال النار.
تدنو مرمي من الثور ،وقد كانت تشعر ابلربد ،فتضع يديها على عنقه لتشعر ابلدفء .خيور
أدرَك ،حّت عندما أزاحه يوسف إىل مكان أبعد ليأخذ من القش كمية الثور ويستسلم .يبدو أنه قد َ
أكرب إىل املعلَف فيجعل منه سريراً ملرمي .واملعلَف مضاعف :املكان الذي أيكل منه الثور ،وآخر أعلى،
العلَف ..هذا ما أخذه يوسف وقد تركه الثور يفعل .كما هيأ وهو مبثابة رف توجد عليه املؤونة من َ
مكاانً آخر للحمار التَّعِب واجلائع والذي َ
ابشَر فوراً ابألكل .مث يكتشف يوسف دلواً مقلوابً وكثري
البعج ،وخيرج إىل حيث مير يف اخلارج هنر ،ليعود ابملاء للحمار .مث يستحوذ على حزمة ُم َش َّكلَة من
جتلس مرمي على مقعد متعبة ،تنظر وتبتسم .ها قد انتهى .جتلس مرمي براحة على القش الطري
مسندة كتفيها على جذع .ويكمل يوسف ...األاثث ،وذلك مبد معطفه الذي يقوم مقام اخليمة،
على الفتحة املستخدمة كمدخل .إنه مأوى نسيب جداً .بعدها يقدم خبزاً وجبناً للعذراء ويعطيها املاء
من قُربَة معه لتشرب .بعد ذلك يقول هلا« :انمي اآلن وسأسهر أان لكي ال تنطفئ النار .يوجد حطب
حلسن احلظ .أنمل أن يدوم اشتعاهلا .وسأدخر الزيت للمصباح.
تطيع مرمي وتتمدد ،ويغطيها يوسف مبعطفها ذاته واحلرام الذي كان يغطي قدميها.
ظهر أبهنا تصلي .ويوسف ينزوي يف ركنه على مقعد مع دقاق ِ
تُغمض مرمي عينيها دون أن تَ َ
احلطب إىل جانبه ،ال يوجد منها إال القليل .ال أعتقد أهنا ستدوم طويالً.
كانت املواقع على الشكل التايل :مرمي إىل اليمني ،وكتفاها صوب الباب ،وهي نصف خمبأة
س القرفصاء ،وتقال للحيوان فقط) يف املهاد؛ ويوسفجبذع شجرة وجبسم الثور الذي أقعى (أي َجلَ َ
إىل اليسار يتجه صوب الباب ،وابلتايل فهو ابلورب ،ووجهه صوب النار وكتفاه حنو مرمي .وهو يدور
بني الفينة والفينة لينظر إليها ويراها مستكينة كما لو كانت انئمة .كان يست ِ
خدم األغصان قليالً، َ
قليالً ،ويرميها واحدة فواحدة يف النار لكي ال تنطفئ ولتضيء ولكي يدوم هذا القليل من احلطب .مل
يبق سوى ضوء النار ،وهو طوراً حيوايً وطوراً خيبو ،إذ إن زيت املصباح يكاد ينفذ ،ويف شبه العتمة
تند ِمج
هذه ميكن التفريق فقط بني بياض الثور ووجه ويدي يوسف .أما الباقي فلم يكن سوى كتلة َ
يف كتلة الظل.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 218 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
تقول مـرمي« :لن يقال لكم املزيد ،فالرؤاي تتح ّدث عن نفسها .ولكم أن تستَخلِصوا منها ِع َرب احملبّة
سهرت أان يف انتظار يسوع. ُ والتواضع والطهارة اليت تنجم عنها .اسرتحيي ،اسرتحيي ِ
وأنت تسهرين كما
سوف أييت حامالً ِ
لك السالم».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 05 / 06
لت أرى داخل هذا امللجأ احلجري الفقري ،حيث َو َج َد يوسف ومرمي مالذاً يُشا ِركون به
ما ز ُ
احليواانت املصري.
النار اخلفيفة تغفو مثل حارسها .ترفع مرمي رأسها هبدوء من فراشها وتنظر فرتى يوسف وقد
تدىل رأسه على صدره كما لو كان يفكر ،واعتَـ َق َدت أن التعب قد تغلب على إرادته الطيبة ابلبقاء
وجتلُس ُحم ِدثَة ِمن الضجة ما يقل عن الذي حتدثه فراشة على زهرة،متيقظاً ،وتبتسم ابتسامة لطيفةَ ،
مث جتثو .إهنا تصلي اببتسامة مشرقة على وجهها .تصلي ويداها ممدوداتن ،ليس ابلضبط على شكل
ظهر عليها التعب من هذا الوضع الشاق .مثصليب ،إّنا كفاها متجهتان إىل األمام حنو األعلى .ومل يَ َ
العلَف يف صالة عميقة جداً .صالة طويلة. ِ
سجد فيُالمس وجهها َ تَ ُ
يتنبه يوسف فيجد النار شبه مطفأة واإلسطبل يف شبه ظلمة .يرمي قبضة من القش فتعود النار
الذع ،إنه برد الليلة الشتوية لتتأجج ،مث يضيف أغصاانً أكثر غالظة ،مث أكثر غالظة ،ذلك أن الربد ِ
الساكنة الذي خيرتق كل األمكنة يف هذه األنقاض .يوسف املسكني القريب من الباب -لِنُ َس ِم الفتحة
فرتض أنه جتمد من الربد .يـُ َق ِرب يديه من النار وينزع حذاءه ليُدين
اليت حياول سدها مبعطفه هكذا -يُ ََ
قدميه منها كذلك .وعندما تشتعل النار بشكل جيد ويسطَع نورها ،يلتَ ِفت فال يرى شيئاً وال حّت
فينهض ببطء ويدنو من املرقد.
العلَف العامتَ .
بياض وشاح مرمي الذي ميتد انصعاً على َ
يسأهلا« :أال تنامني اي مرمي؟» ويكرر السؤال ثالث مرات إىل أن تتنبه وجتيبه« :إنين أصلي».
« ِ
ألست حتتاجني شيئاً؟»
«ال اي يوسف».
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 220 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
«حاويل أن تنامي قليالً ،أن تسرتحيي على األقل».
«سالماً اي مرمي».
«سالماً اي يوسف».
تعود مرمي إىل وضعيتها .أما يوسف فَلِكي ال يغلب عليه النوم جيثو قرب النار ويصلي .يصلي
ويداه تغطيان وجهه .ال يرفعهما إال حينما يريد تلقيم النار ومث يعود إىل صالته احلارة .خييم اهلدوء فال
تنزلِق
يُسمع شيء سوى طقطقة اخلشب وصوت حوافر احلمار اليت تضرب األرض بني الفينة والفينةَ .
ُحزمة من ضوء القمر َع َرب صدع من السقف وتبدو وكأهنا صفيحة فضية غري مادية تبحث عن مرمي.
تتطاول رويداً رويداً مع تصاعُد القمر إىل أن تَبلُغ إليها .وها هي على رأس اليت تصلي ،حتيطها هبالة
من البياض ِ
الناصع الزاهي.
ترفع مرمي رأسها وكأهنا تنادي السماء ،وجتثو من جديد .آه! كم هو مجيل هذا املكان! وترفع
تسمع؟
رأسها الذي يبدو مشرقاً بضوء القمر األبيض ،وتتجلى اببتسامة ال بشرية .ماذا ترى؟ ماذا َ
وتسمعه وَّتتَِربه يف ساعة أمومتها ِ ِ
ماذا َّتتَرب؟ ما من أحد غريها ميكنه أن يقول ما الذي كانت تراه َ
الساطعة .أتنبه إىل أن األنوار حوهلا تنمو ،تنمو وتنمو حّت لكأهنا هابطة من السماء ،وتنبَعِث من
األشياء الفقرية احمليطة هبا ،بل إهنا تنبَعِث منها هي بشكل خاص.
ثوهبا الالزوردي الداكن يغدو اآلن ذا لون أزرق ونعومة مساوية ،وجهها ويداها تبدو قد أصبَ َحت
بلون الزوردي ،كما لو أهنا حتت وهج سفري (أو زفري ،وهو حجر كرمي) واسع ساطع .هذا اللون
يذكرين ،ولو بشكل أقل ،ابلذي اكتشفتُه يف رؤاي الفردوس املقدس وكذلك يف رؤاي وصول اجملوس.
إهنا تنتشر دائماً ابطراد على األشياء وتكسوها وتطهرها وتنقل إليها أتلقها.
ال ُقبة املغطاة ابلصدوع وخيوط العنكبوت ،واألنقاض بربوزاهتا ،تبدو متوازنة بشكل عجائيب،
إهنا سوداء داخنة منفردة ،ومع ذلك تبدو قُـبة قاعة ملكية ،كل حجر فيها سبيكة فضة ،وكل صدع
ملعان خزف ،وكل نسيج عنكبوت مظلة عرش مرصعة ابلفضة واملاس .وعظاءة كبرية مسرتخية بني
حجرين كبريين ،تبدو وكأهنا عقد زمرد نسيَتهُ هنا إحدى امللكات؛ سرب من الوطواط اخلامل يبث
العلَف املتديل من املذود العايل مل يعد عشباً ،إّنا خيوط من الفضة ترتعش يف
نور العقيق الثمني .و َ
ِ
مسرتسل. اهلواء برشاقة شعر طويل
املذود السفلي ،خبشبه السميك ،أصبَ َح سبيكة فضة بُنية .اجلدران مغطاة حبرير مقصب حيث
خيتفي بياض احلرير حتت توشية الآللئ البارزة .أما األرض ...تُرى ماذا أصبَ َحت األرض اآلن؟ كريستال
مضيء بنور أبيض .تبدو النتوءات كأهنا ورود مضيئة مرمية على األرض تعبرياً عن اإلجالل؛ والثقوب
كؤوس مثينة ينبَعِث منها األريج والعطور.
تتوهج األنوار ابستمرار حّت مل تعد تتحملها عني .وتغيب العذراء فيها كأهنا غارقة يف ِوشاح
نور متوهج ...لتنبَعِث منه وهي األُ ّم.
الثور الذي أي َقظَه النور يَهب حمداثً جلجلة كبرية حبوافره وخيور .واحلمار يرفع رأسه وينهق .لقد
ضل التفكري أبهنما أرادا حتية خالقهما ابألصالة عن نفسيهما وابلنيابة عنأيقظهما النور ،إال أنين أُفَ ِ
ُ
كل احليواانت.
نسلِخاً عن
ويوسف أيضاً ،وَك َمن هو يف حالة اخنطاف ،كان يصلي حبرارة أكرب حبيث كان ُم َ
كل ما حييط به ،ويهتز حني يرى النور يتسرب بني أصابعه اليت يغطي هبا وجهه .يكشف عن وجهه،
يرفع رأسه ويدور .الثور الواقف حيجب مرمي عنه ،ولكنها تناديه« :يوسف ،تعال».
يهرع إليها ،مث يتوقف أمام املشهد مشدوهاً من جالله ،يكاد يقع على ركبتيه يف املكان الذي
َ
هو فيه .إال أن مرمي تلح« :هلم اي يوسف ».وتستَنِد بيدها اليسرى على القش حاملة ابليد اليمّن
تنهض وتتوجه صوب يوسف الذي كان ميشي برتدد مأخوذاً بني رغبة الطفل الذي تضمه إىل قلبهاَ ،
التقدم واخلوف من كونه غري جدير بذلك.
لست أهالً!» وكان اخلوف ميأل يوسف وهو يتالشى أمام فكرة وجوب
«أان! يل أان! آه! ال! ُ
ملس هللا.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 223 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
أنت تستَ ِحق ذلك حبق .ما ِمن أحد يستحق ذلك أكثر َ
منك. إال أن مرمي تلح وهي تبتسمَ :
اختارك هللا .خذه اي يوسف ،أمسكه ريثما أحبث عن األقمطة».
َ فَِألجل هذا
يوسف أمحر كاألرجوان ،ميد يديه وأيخذ برعم اجلسد الصغري الذي يصرخ ألنه يشعر ابلربد.
أيخذه بني ذراعيه ويف نيته أن حيمله إبجالل بعيداً عنه ،لكن ذلك مل يَ ُدم ،فقد ضمه إىل قلبه وان َف َجر
ابلبكاء« :آه! ري! وإهلي!» وينحين ليقبل قدميه الصغريتني فيحس هبما ابردتني ،فيَجلِس على األرض
ويضمه إىل صدره ،وبثوبه الكستنائي وبيديه يبذل كل ما يف وسعه ليغطيه ويدفئه وليحميه من صقيع
الليل .لقد أراد أن يذهب إىل جهة النار ،ولكن هناك تيار هواء يدخل من الباب .من األفضل البقاء
حيث هو .بل األفضل أن يذهب بني احليوانني اللذين سيحميانه من تيار اهلواء ومينحانه القليل من
الدفء .ويذهب ليقف بني الثور واحلمار وظهره إىل الباب ،وينحين على املولود اجلديد ليجعل له من
صدره كوخاً ،جدرانه رأس رمادي أبذنني طويلتني ووجه كبري أبيض ومنخرين يدخنان وعينني طيبتني
رطبتني.
سحب الفوط واألقمطة وتذهب قرب النار لتدفئها .مث تذهب صوب تفتح مرمي الصندوق وتَ َ
يوسف لتَـلُف الصغري ابألقمشة ال ُـم َس َّخنة مث حتمي رأسه الصغري بوشاحها وتقول« :أين سنضعه
اآلن؟»
ينظُر يوسف حوله ويفكر ...مث يقول« :انتَ ِظري ،لِنُبعِد احليوانني قليالً مع َعلَفهما ،ولِنُن ِزل
العلَف سيكون له القش من املذود العايل ولنضعه هنا يف الداخل .حافة املذود ستحميه من اهلواء ،و َ
مبثابة الوسادة ،والثور يدفئه بِنَـ َفسه .الثور أفضل فهو أكثر صرباً وهدوءاً ».ويباشر يوسف العمل بينما
مرمي هتدهد طفلها وهي تضمه إىل قلبها ُمسنِ َدة خدها على رأسه الصغري لتدفئه.
يذكي يوسف النار دون تبديد احلطب ليحصل على هلب مجيل .إنه يُ َدفئ القش وجيففه قليالً،
حيصل على كمية كافية ُم َكدَّسة ليصنع منها فراشاً
قليالً ويضعه على صدره ليمنع عنه الربد .مث ،حني َ
«ستشعرين ابلربد».
أيخذ يوسف املعطف الفضفاض من الصوف اللني األزرق الداكن ويرتبه مضاعفاً على القش ُ
مع ثنية تتدىل خارج املذود .أول سرير للمخلص أصبَ َح جاهزاً.
واألم ،مبشيتها الناعمة املتموجة ،حتمله وتضعه فيه ،وتغطيه بثنية املعطف اليت جتعلها كذلك
حول رأسه العاري ال ُـمنغَ ِرس يف القش وهو ابلكاد حممي من الوخز بوشاح مرمي الرقيق .ومل يبق دون
غطاء سوى الوجه الصغري السمني مثل القبضة ،واإلثنان منحنيان على املذود ومها متألِقان يَنظُران إليه
وهو ينام ألول مرة .فدفء األقمطة والقش يوقف بكاءه وجيلب النوم لعيين يسوع العذب.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 05 / 06
تقول مرمي:
ِ
يغمرك يوم لك السالم ،هل تذكرين ذاك السالم الذي كانك أبن سيأيت بنفسه حامالً ِ
«لقد وعدتُ ِ
امليالد؟ عندما رأيتِين مع طفلي؟ عندها كان زمن السالم ابلنسبة ِ
لكّ .أما اآلن فزمن اآلالم هوِ .
وأنت مع
كل نعمة لنا وللقريب .يسوع اإلنسان عاد بعد عذاب اآلالم
ذلك تَعلَمني هذا :ابألمل نكسب السالم و ّ
شر اآلن سالمه
الفظيعة يسوع اإلله .لقد عاد هو السالم .السالم يف السماء من حيث أتى ومن حيث يَن ُ
على الذين حيبّونه يف العامل .ولكنّه يف ساعات اآلالم ،كان ،وهو سالم العامل ،حمروماً من هذا السالم .مل يكن
ليتأ ّمل لو كان ميتلكه ،وكان ينبغي له أن يتأملّ ،وأن يتأ ّمل ابلكامل.
افتديت املرأة أبموميت اإلهلية .ولكن ذلك مل يكن سوى بداية فداء املرأة .فَِ َربفضي كل
ُ أان ،مرمي،
استبعدت كل إشباع جسدي ،مستحقة بذلك نعمة هللا .إّنا مل يكن ُ اتصال بشري بنذري البتولية،
ذلك كافياً .فخطيئة حواء كانت فعالً كشجرة أبغصان أربعة :الكربايء ،الطمع ،الشراهة ،والفجور.
وكان ينبغي أن تُقطَع هذه األغصان األربعة قبل أن تُـ َع َّقم الشجرة حّت جذورها.
لست
اضعت أمام مجيع الناسُ . انتصرت على الكربايء .لقد تو ُُ فَبِتَواضعي حّت أعماق ذايت
أتكلم عن تواضعي أمام هللا ،فإنه فريضة إليه تعاىل واجبة على مجيع خملوقاته .وَكلِ َمتُهُ كان ميتلكها.
حتملتُها من
رت بكل صنوف اهلوان اليت َّ وقد كان ينبغي يل ،أان املرأة ،أن أحصل عليها .ولكن هل فَ َّك ِ
َ
الناس وبدون الدفاع عن نفسي أبية طريقة؟
حّت يوسف الذي كان ابراً مستقيماً ،أدانين يف قلبه .أما اآلخرون ،غري الربرة فقد أخطأوا
ابلنميمة على محلي ،وأتت إشاعة كالمهم مثل سيل ُمر يتحطم على شريف كامرأة .هذه كانت أوىل
اإلهاانت اليت ال ُحتصى واليت خبَّأَهتا يل حيايت كأم ليسوع وللجنس البشري .مهانة الفقر ،إذالل
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 226 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
الالجئة ،مهانة اهتامات األهل واألصدقاء الذين كانوا جيهلون احلقيقة فاهتموا سلوكي كأم جتاه يسوع
ابلضعف ،عندما أصبَ َح شاابً ،إهاانت خالل سنوات الكرازة الثالث ،إهاانت فظيعة ال توصف ساعة
اجللجلة ،إهاانت إىل حد معرفة أنه مل يكن لدي ما أشرتي به م ِ
وضعاً وطيوابً لدفن ابين. َ
ت مسبقاً عن ابين.
ت على جشع األبوين األوّلني أبن تنازل ُ
لقد انتصر ُ
كرهة على ذلك ،حّت ولو كانت تنتمي بقلبها إىل ال تتخلى أم عن ابنها قط إن مل تكن ُم َ
الوطن ،إىل احلب الزوجي أو إىل هللا ذاته ،فإهنا تتوتر ضد هذا التفريق .هذا طبيعي .فالولد ينمو يف
األحشاء الوالدية ،وال ميكن أبداً أن يُقطَع متاماً الرابط الذي جيعل شخصه متحداً بشخصها .حّت
صب صب ينطلق من قلب األمَ ،ع َ حينما تُقطَع القناة احليوية للحبل السري ،فإنه يبقى دائماً هناك َع َ
صب املادي والذي يتفرع على قلب االبن .ويتم اإلحساس الع َ
روحي ،أكثر حيوية وأكثر حساسية من َ
به يتمطى حّت حيدث األمل إذا كان حب هللا أو حب إنسان أو الواجب الوطين يبعد االبن عن أمه.
ع املوت االبن عن أمه. وينسحق وهو يتمزق إذا ما انتَـَز َ
حصلت فيها عليه .قدمتُه هلل ،منحتُكم إايه .وأان قد
ُ لت عن ابين منذ اللحظة اليت
وأان قد تناز ُ
انسلخت عن مثرة أحشائي ألصلح خطيئة حواء عن الثمرة املختَـلَسة من هللا.
ُ
انتصرت على الشراهة ،شراهة املعرفة وشراهة املتعة بقبويل عدم معرفة إال ما يريدين هللا أن
ُ لقد
آمنت دون البحث عن أي شيء. أعرفه ،دون سؤال نفسي أو سؤاله عن غري ما قيل يل .لقد ُ
وطأت جسدي بقدمي، ُ رفضت كل إشباع حسي .وقدُ انتصرت على شراهة املتعة إذ
ُ لقد
اجلسد أداة الشيطان ،فوضعتُه مع الشيطان حتت كعيب لكي أجعل منهما يل ُسلماً َِ
أقرتب به من
السماء .فالسماء هديف! حيث يوجد هللا ،جوعي الوحيد ،اجلوع الذي ال يُعتََرب شراهة ،بل ضرورة
بارَكة من هللا الذي ال يريد أن يرى فينا شهية إال له وحده.
ُم َ
َّهم .ابلفعل ،إن كل رذيلة ال تُكبَح
صلَت حد النـ َ
انتصرت على الفجور ،وهو الشراهة اليت َو َ
ُ
تقود إىل رذيلة أكرب .فشراهة حواء الـمدانَة قادهتا إىل الفجور .مل ي ِ
كفها أن تُشبِع ذاهتا فقط ،فأرادتَ ُ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 227 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
وعلَّ َمتهُ لشريكها .أما أان فقد قَـلَ ُ
بت املفاهيم ،وبدل عرفَت الفجور َدفع خطيئتها حّت اإلفراط .لقد َ
بت دائماً حنو القمم ،شريكي الذي ُجَّر إىل األسفل فقد َس َح ُ
صعدت على الدوام .وبدل أن أ َ
ُ اهلبوط
جعلت منه مالكاً.
ُ كان رجالً نزيهاً وقد
مشيئتك
َ أسرعت يف التجرد بقويل" :لتـكن
ُ حصلت على هللا ومعه غناه الالمتناهي،
ُ منذ أن
ألجله وبِِه" .عفيف هو ذاك الذي ميلك السيطرة ليس فقط على اجلسد ،ولكن على األفكار
والعواطف .كان علي أن أكون عفيفة ألحيل إىل ال شيء قلة حياء اجلسد والقلب والروح .مل أَّتل
عن هذه السيطرة عندما مل أقل عن ابين الذي كان يل وحدي على األرض كما كان هلل وحده يف
السماء" :هذا يل ،فأان أريده".
حصلت عليه
ُ مع ذلك مل يكن هذا كافياً ليُعيد للمرأة السالم املفقود حبواء .هذا السالم قد
لكم عند أقدام الصليب ،وذلك عند رؤييت الذي رأيتُه يولد ،ميوت .عند شعوري أبحشائي تتمزق مع
غت من كل أنوثة :مل أعد جسداً ،بل مالكاً .فمرمي ،العذراء صرخات ابين الذي كان حيتضر .لقد أُف ِر ُ
املتحدة ابلروح كعروسة ماتت يف تلك اللحظة .وبَِقيَت أُم النعمة ،تلك اليت ،آبالمها املربحة ،أجنَبَت
أعدت تكريسها ،امرأة ليلة امليالد ،انلت عند أقدام الصليب ُ لكم النعمة وأعطتكم إايها .األنثى اليت
الوسيلة اليت تُصبِح هبا خليقة السماوات.
فعلت ذلك ألجلكن برفضي كل إشباع حّت املقدس منه .ومنكن أننت اللوايت حتولنت لقد ُ
جعلت منكن ،شريطة رغبتكن بذلك، ُ بواسطة حواء إىل إانث ال تزيد رفعة عن شريكات احليواانت،
القمة من أجلكن .لقد محلتكن مثل يوسف إىل األعايل .صخرة اجللجلة قديسات هللا .لقد بلغت هذه ِ
ُ
نلت قوة الدفع ،ألمحل إىل السماوات نفس املرأة املكرسة اجلديدة،
ابلنسبة يل هي جبل الزيتون .هناك ُ
ألغيت ِمن ذايت حّت آخر أثر ِمن حواء،
بنفس الوقت مع جسدي ،الذي متجد حبمله كلمة هللا ،و ُ
آخر جذر من تلك الشجرة ذات األغصان السامة األربعة ،واجلذر املنغرس يف األحاسيس اليت قادت
البشرية إىل السقوط ،واليت تعض أحشاءكن حّت هناية الدهور وحّت آخر امرأة .فَ ِمن املكان الذي
أأتلق فيه إبشعاع احلب أانديكن وأدلكن على الدواء لتنتصرن على ذواتكن :نعمة ري ودم ابين.
1944 / 05 / 07
أكتُب حبضور يسوع معلّمي .إنه هنا من أجلي ،فقط من أجلي .لقد عاد بعد غياب طويل ،فقط
من أجلي .ستقولون« :ولكن كيف؟ لقد ِ
كنت ترين وتسمعني ملدة شهر تقريباً ،فلماذا إذن تقولني أنه عاد
مرات كثرية شفهيّاً وكتابيّاً. ِ
من أجلك بعد غياب طويل؟» فأُجيب ما قلتُه ّ
هناك فرق بني أن أرى (الرؤى) ،وأن أمسع (اإلمالءات) ،وهناك أختالف بني أن أرى وأمسع من أجل
اآلخرين ،وأن أرى وأمسع لنفسي ،حصراً لنفسي .يف احلالة األوىل أان ِ
شاهدة ومرِّددة ملا أرى وأمسع ،ولكن
إذا كانت هذه األشياء متنحين الفرح فذلك ّأهنا على الدوام هي األشياء اليت تسبّب لكم فرحاً عظيماً .وهو
ُعرب أبحسنأحس به متاماً .ولكنّين ال أعرف أن أ ِّ
عما ّ خارجي .الكلمات تُ ِّ
عرب بشكل سيّئ ّ ّ يف احلقيقة فرح
من ذلك .اخلالصة ،أريد القول إ ّن فرحي يشبه فرح من يقرأ كتاابً مجيالً أو يشاهد مسرحيّة مجيلة ،فيتأثّر
ويتذوقها ويُعجب للتناغم الذي فيها ويف ّكر« :كم هو مجيل لو أكون مكان هذه الشخصيّة!» بينما يف هبا ّ
احلالة الثانية ،عندما يكون االستماع والرؤية لذايت أان ،حينئذ تكون هذه الشخصيّة هي أان .فالكلمة اليت
أمسع هي يل ،والوجه الذي أرى هو يل .فاألمر هو أنّين أان وهو .أان ومرمي .أان ويوحنّا .أحياء حقيقيّون،
واقعيّون ،قريبون ج ّداً .ليس قباليت كما لو أنّين أشاهد فيلماً ،إ ّّنا جبانب سريري ،يتن ّقلون يف الغرفة أو
يستندون إىل املفروشات أو جيلسون أو يقفون كأشخاص أحياءّ ،إهنم ضيويف .وهذا ما هو خمتلف متاماً عن
كل هذا كان «يل أان».
الرؤاي من أجل اجلميع .فقصارى القولّ :
الصويف األبيض ،بياضه
ّ العادي من النسيج
ّ وحّت أمس منذ بعد الظهر ،يسوع هنا ،بثوبه
فاليومّ ،
ي شديد
قريب من العاج ،وهو خمتلف متاماً بثقله ولونه ،عن الثوب الناصع ،وهو يبدو من كتّان غري ما ّد ّ
البياض لدرجة ُتسبه معها مصنوعاً من خيوط النور اليت تغطّيه يف السماء .إنّه هنا بيديه اجلميلتني ،الطويلتني
والنحيفتني ،ببياض عاج قدمي ،بوجهه الوسيم الطويل والشاحب حيث تتألّق عيناه امله ِ
يمنتان والعذبتان
املشع ابألشقر األصهب .إنّه هنا بشعره
ّ كأهنما من السفري الداكن بني حاجبني كثيفني بلون الكستناءو ّ
اجلميل الطويل األشقر والناعم ،األكثر حيويّة يف األجزاء املضاءة واألكثر تعتيماً يف أعماق الطيّات .إنّه
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 230 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
إيل أكتُب عنه ،كما كان يفعل يف فيارجييو ...Viareggioوكما مل يفعل
هنا! إنّه هنا! يبتسم يل وينظر ّ
وحّت شبه أيس عندما
كل هذا احلزن الذي أصبَ َح حرارة مرتفعةّ ،
منذ األسبوع العظيم املق ّدس ،مسبّباً يل ّ
واستطعت
ُ األقل حيث رأيتُه
مت منه ،أمل حرماين من العيش على ّ أضيف إىل األمل الذي انتابين لكوين ُح ِر ُ
تويف أهلي .آه! من مل خيترب ذلك ال
القول« :هنا استَـنَد ،وهنا احنَن ليضع يده على رأسي ».وهنا حيث ّ
بكل هذه اهلبات .إنّنا نَعلَم جيّداً ّأهنا هبات
يستطيع إدراكه! ال ،ما من سبب يدعو للمطالبة ابالستمتاع ّ
توهب لنا .نعرف ذلك جيّداً .وكلّما أُعطيَت جمّانيّة ،ال نستح ّقها وال نستطيع املطالبة ابستمراريّتها عندما َ
اإلهلي الذي يهبنا
ّ لنا كلّما تالشينا يف التواضع ،عارفني بؤسنا ال ُـمنَـ ِّفر يف مقابل اجلمال الالمتناهي والغَن
ذاته.
حّت ولو
أكتُب ُتت أنظار يسوع ،إذاً فأان ال أُابلغ وال أُغالط .هذا يف األصل ليس أسلويب .ولكن ّ
كتبت هذا يف هذا املكان حيث ال عادة
كان ذلك أسلويب ،فسيستحيل أن أفعل ذلك ُتت هذا النَّظَرُ .
علي
ألن أفعل ،إذ ابلنسبة لرؤى مرمي فأان ال أقاطعها إبظهار ذايت املسكينة .إنّين أعرف مسبقاً أنّه يتوجب ّ
متابعة إظهار أجمادها .أَفَـلَم تكن أمومتها يف ّ
كل األحيان إكليل جمد؟ أان مريضة ج ّداً والكتابة تُسبّب يل
متاعب َمجّة .إنّين كتلة أشالء بشريّة .ولكن عندما يتعلّق األمر ابلتعريف هبا لتصبح حمبوبة أكثر ،فأان ال
فيما بعد أرى امتداداً واسعاً للقرية .والقمر يف مست الرأس ،وكان يسري هبدوء يف مساء مرصعة
ابلنجوم اليت ظَ َهَرت وكأهنا أحجار ماس مغروسة يف مظلة عرش كبرية من املخمل األزرق الداكن .ويف
وسطها يضحك القمر بوجهه األبيض الذي تتدفق منه أهنار من األنوار احلليبية ،تضفي على املشهد
صبغة بيضاء .واألشجار اليت تعرت من أوراقها بَ َدت أكرب وعامتة يف هذا البياض ،بينما اجلدران اليت
الحت هنا وهناك تشبه اللنب .وبيت صغري يف البعيد يبدو وكأنه كتلة من املرمر األبيض .إىل اليمني
أرى مكاانً مغلقاً من جهتني بسياج من العليق ،ومن اجلهتني األخريني جبدار منخفض عريض .وذاك
ين قسم منه بناء والقسم اآلخر من ِ
اجلدار حيمل سقفاًُ ،مشكالً نوعاً من العنابر داخل السور ،وقد بُ َ
اخلشب القابل ألن يُ َنزع يف الصيف ليتحول إىل رواق .من هذا املكان ينطلق بني الفينة واألخرى ثغاء
متقطع وخمتصر .قد تكون النعاج حتلم أو حتسب أنه قد اقرتب بزوغ الفجر بسبب ضوء القمر .إنه
نور ُمف ِرط يف شدته وهو يزداد وكأن الكوكب يقرتب من األرض أو يتوهج بسبب حريق ُم َبهم.
يتقدم أحد الرعاة إىل العتبة ،يرفع يده إىل مستوى جبهته ليحمي عينيه وينظر إىل اجلو .يبدو
أن ال بد من االحتماء من نور القمر ،ولكنه قوي لدرجة أنه يُب ِهر ،خاصة ذاك الذي ينبَعِث من زريبة،
هي يف العادة مظلمة .كل شيء هادئ ،ولكن هذا النور مدهش .ينادي الراعي رفاقه ،يتوجهون مجيعاً
صوب الباب .حشد من الرجال ذوي الشعر الكثيف ومن أعمار خمتلفة ،فمنهم املراهق ومنهم األشيب،
والكل يـُ َعلِق على هذا احلدث الغريب ،واألصغر سناً منهم خائفون ،خاصة َولَد عمره اثين عشر عاماً،
فقد أخذ يبكي جالباً لنفسه سخرية الشيوخ.
ك حقاً أبله .أال ترى أن اجلو يف سكون؟ أمل َتر أبداً أنت خائف؟ إن َ مم َ
يقول له أكربهمَّ « :
ك سرتى أموراً ك مثل صوص حتت قرقة حاضنة؟ ولكن َ عمرك حتت رداء أم َ
قضيت َ َ ضوء قمر؟ هل
كنت
كنت أصعد ،ذلك أين ُ كنت ذاهباً ذات مرة ابجتاه جبال لبنان ،بل أبعد أيضاً .و ُ
كثرية .أان مثالًُ ،
أيت نوراً حسبته إيليا عائداً بعربته النارية،
كنت آنذاك غنياً ...وذات ليلة ر ُ
شاابً ال يُتعبين السري ،وقد ُ
نسالً
إال أن الراعي الصغري مل يعد يسمعه .يبدو أنه مل يعد خائفاً .ابلفعل ،ها هو يرتك العتبة ُم َ
وخي ُرج إىل احلظرية املوجودة جانب
من خلف ظهر أحد الرعاة مفتول العضالت حيث كان حيتميَ ،
العنرب .ينظر إىل اجلو ويسري كال ُـمروبَص (الذي يسري أثناء نومه) أو كما لو كان خاضعاً لتنومي
مغناطيسي من قِبَل شيء يسيطر عليه كلياً .ويف حلظة يصرخ« :آه!» ويتصلب يف مكانه ،ذراعاه
مفتوحتان قليالً ،واآلخرون ينظر واحدهم إىل اآلخر بتعجب.
ويقول اآلخر« :سأعيده غداً إىل أمه .ال حاجة ي إىل جمنون حيرس النعاج».
يعودون ،ينادون الرعاة اآلخرين وخيرجون مجيعاً مبشاعل وهراوات ،ويلحقون ابلصيب.
يـُ َهم ِهم وهو يبتسم« :هنا ،هنا ،فوق الشجرة ،انظروا هذا النور القادم ،كأنه يتقدم شعاع قمر.
ها هو يقرتب .كم هو مجيل!»
«أان أيضاً».
فيقول آخر ،وقد عرفتُهُ ،إنه الراعي الذي قَدَّم احلليب ملرمي« :ال .إين أرى شيئاً يشبه اجلسم».
سقطون ووجوههم إىل األرض. بجل يصدر عن جمموعة الرعاة الذين ي ِ وم َّ
ُ هتاف« :آه!» طويل ُ
ويبدون متأثرين ابلظهور على قَدر كِ َرب سنهم .أما األكثر شباابً فقد َرَكعوا ونَظَروا إىل املالك الذي
يقرتب ابستمرار ،إىل أن يتوقف يف اجلو ابسطاً جناحيه الكبريين ،بياض الآللئ يف بياض القمر الذي
يـُغَلِفه ،فوق جدار السور.
«ال َّتافوا ،فأان ال أمحل لكم سوءاً ،بل إنين أمحل إليكم نبأ فرح عظيم لشعب إسرائيل ولكل
شعوب األرض ».وكان الصوت املالئكي مثل قيثارة متناغمة ترافق أصوات الشحارير.
«اليوم ُولِ َد املخلص يف مدينة داود ».عند هذه الكلمات يبسط املالك جناحيه أكثر ويرفرف
ظهر وابل من شرارات الذهب واألحجار الكرمية تتدفق منه .وقوس قزح حقيقيكما ابرتعاش الفرح .ويَ َ
كان يرسم قوس نصر فوق احلظرية الفقرية.
«...املخلص الذي هو املسيح ».ويتألق املالك بنور أكثر بريقاً .وجناحاه املتوقفتان اآلن
واملبسوطتان صوب السماء يبدوان كشراعني اثبتني فوق سفري البحر ،يبدوان كشعلتني تتصاعدان
حارتني.
«...املسيح ،الرب!» ويطوي املالك جناحيه النورانيني ويكتسي شبه رداء من املاس فوق ثوب
من الآللئ ،وينحين كما للعبادة بِيَ َدين مضمومتني إىل القلب ،والوجه الذي يتالشى منحنياً على
الصدر يف ظل قمة اجلناحني املطويني .مل يعد يُرى منه سوى شكل متطا ِول ُ
ومنري .ويَظل اثبتاً طيلة
فرتة :اجملدلة .Gloria
ولكن ها هو يتحرك ،يُعا ِود فتح جناحيه ويرفع وجهه حيث يتدفق النور اببتسامة فردوسية
ويقول:
مجهَرة تُقبِل من السماء -آه! اي هلا من َمج َهرة! -مجهور مالئكة يشبهونه ،مرقاة مالئكة ولكن َ
بشر وهم يرفرفون ينزلون اببتهاج ،حيجبون القمر بنورهم الفردوسي .يتجمعون حول املالك الـم ِ
ُ
أبجنحتهم ،وينشرون عطوراً ،بتناغم موسيقي تتداخل فيه أمجل أصوات اخلليقة كلها ،ولكنها مرتقية
إىل كمال الرخامة .إذا كان اللون هو سعي املادة لتصبح نوراً ،فهنا النغم هو سعي املوسيقى لِتُـ َعِرب
للناس عن مجال هللا ،ومساع هذا النغم هو التعرف على اجلنة حيث كل شيء هو تناغم احلب املمنوح
من هللا والذي ينتَ ِشر ليمتع الطوابويني ويرتد منهم إىل هللا ليقول له« :حنن حنبك!»
تنتَ ِشر «اجملدلة» املالئكية مبوجات متتد أكثر فأكثر على القرية اهلادئة ،وكذلك النور .أما
العصافري فقد توحد غناؤهم لتحية ابكورة النور هذه ،والنعاج تُطلِق ثغاءها هلذه الشمس السابقة
ألواهنا .أما أان فكما راودتين الفكرة يف املغارة سابقاً عن الثور واحلمار ،كذلك أود هنا االعتقاد أبن
احليواانت حتيي خالقها القادم ليحبها كإنسان ،وابألكثر كإله.
يتضاءل اإلنشاد ،وكذلك األنوار ،بينما تصعد املالئكة إىل السماوات ...ويعود الرعاة إىل
ذواهتم.
«هل َِمسعتُم؟»
«أنذهب لنرى؟»
«واحليواانت؟»
عنربَ ،خي ُرجون منه بعد قليل ،منهم من حيمل آنية حليب ،ومنهم من حيمل جبناً
ميضون إىل َ
مدوراً مغلفاً ضمن شبكة ،ومنهم من حيمل سالالً ومحَالً يثغو ،ومنهم جلود نعاج مصنوعة.
ادخل!»
« ُ
«أان ال أجرؤ».
أنت».
ادخل َ
« ُ
«ال».
يرتدد الفّت أوالً ،ولكنه يقرر بعدئذ .يدنو من املأوى ،يُبعِد املعطف قليالً ...ويتوقف مشدوهاً.
«إنين أرى امرأة فتية ومجيلة ،ورجالً منحنياً على مذود ،وأَمسَع ...أَمسَع طفالً يبكي ،واملرأة تقول
له بصوت ...آه! اي له من صوت!»
«ماذا تقول؟»
الدتك! ال ِ
تبك اي بين!" إهنا تقول" :آه! ليتين «إهنا تقول" :يسوع ،اي صغريي! يسوع اي حب و َ
"أنت تشعر لك :خذ احلليب اي صغريي! ولكنين مل أحصل عليه بعد!" إهنا تقولَ : أستطيع القول َ
متكنها من تسمعك تبكي هكذا! دون ُّ
َ ك أن
ملك بوخزه .اي له من أمل ألم َ
ابلربد اي حبييب ،القش يؤ َ
دموعك ".إهنا تُـ َقبِله
َ مساعك ورؤية
َ "َن اي روحي! إن قليب لينفطر لدى عنك ".إهنا تقولَ :
التخفيف َ
وتُ َدفئ قدميه الصغريتني بيديها .إهنا تنحين وَّتفض يديها على املذود».
لوجودك!»
َ « ِ
اند! نبههم
ادخلوا».
« ُ
ِ
املشاعل .والكبار منهم يدفعون الصغار أمامهم. دخلون إىل اإلسطبل الذي أضيء بنور
يَ ُ
تلتَ ِفت مرمي وتبتسم ،مث تقول« :تعالوا ،هلموا!» وتدعوهم ابليد واببتسامتها ،ومتسك ابلولد
الذي رأى املالك وتسحبه إليها قرب املذود .وينظر الولد مشرقاً فرحاً.
ويتقدم اآلخرون الذين دعاهم يوسف حاملني هداايهم .ويضعوهنا عند أقدام مرمي مع كلمات
صرة ومتأثِرة .مث ينظرون برفق إىل الطفل الذي يبكي ويبتسمون متأثرين وسعداء.
خمتَ َ
يقول أحدهم ،وهو األكثر شجاعةِ « :
إليك أيتها األم ،إنه انعم ونظيف ،لقد صنعتُه للطفل
لك .ضعي ِ
ابنك يف هذا الصوف الناعم الدافئ ».ويقدم هلا جلد الذي سيولد لنا قريباً ،ولكين أقدمه ِ
نعجة ،جلداً مجيالً ذا جزة صوف طويل وانصع البياض.
ترفع مرمي يسوع وتلفه به ،وتُريه للرعاة الذين يركعون على قَش األرض وينظرون إليه بنشوة.
مث يتشجعون ويقرتح أحدهم« :جيب إعطاؤه جرعة حليب ،أو األفضل جرعة ماء وعسل .إّنا
ليس لدينا عسل .هذا ما نعطيه عادة للمواليد اجلدد ،فعندي سبعة أوالد وأصبَ َحت يل خربة يف
ذلك»...
« ِ
هاك احلليب ،خذي سيديت».
من املفروض أن يكون إيلي هو رجل احلليب ،ولكنه ليس هنا ،فقد ظل واقفاً خارجاً وينظر
من خالل صدع ،وقد اته يف ظلمة الليل.
إليك».
«تقدم إننا حباجة َ
اعرتته اخلشية من أن يكون األكثر لفتاً لالنتباه.
دخل مع النعجة وقد ََ
يَ ُ
ك لََر ُجل طيب».
أنت؟» وتبتسم مرمي قائلة له« :إن َ
فيقول يوسف وقد تعرف عليه« :أهذا َ
َحيلبون النعجة ،وبِطََرف فوطة مبللة ابحلليب ال ُـمزبِد متسح مرمي شفيت الصغري الذي يبدأ مص
هذه العذوبة الدمسة .يبتسم اجلميع ،ويبتسمون أكثر عندما يغفو يسوع يف دفء الصوف وطرف
الوشاح ما يزال بني شفتيه.
«ولكن ال ميكن أن تبقوا هنا ،فاملكان ابرد ورطب ،ومث ...مع رائحة احليواانت هذه ،ال ميكن
أن يُع َقل هذا ...و ...ال يُع َقل هذا من أجل املخلص».
فتجيب مرمي بتنهيدة كبرية« :أعرف ذلك ،إّنا ليس لنا مكان يف بيت حلم».
«تشجعي اي امرأة .سوف نبحث ِ
لك عن منزل».
ويقول رجل احلليب إيلي« :سأُ َكلِم سيديت .إهنا طيبة وستستقبلكم حّت ولو اضطَُّرت للتنازل
لكم عن غرفتها .سأُ َكلِمها عند طلوع النهارَّ .
إن بيتها مليء ،ولكنها ستجد لكم فيه مكاانً».
«للصغري على األقل .فأان ويوسف ال يهم إن بقينا هكذا على األرض .إّنا من أجل الصغري»...
«آه! حنن ال نريد! حّت ولو كنتم قادرين ،فنحن ال نريد ذلك! الرب قد كافَأَان ،لقد َو َع َد
ابلسالم لكل الناس .كان املالئكة يقولون" :السالم للناس ذوي اإلرادة احلسنة" .أما لنا حنن فقد
وج َهلَة ،صحيح، الولَد هو املخلص ،املسيح ،الرب .حنن فقراء َ
أعطاانه ألن املالك قال لنا إن هذا َ
ولكننا نَعلَم أن األنبياء قالوا إن املخلص سيكون أمري السالم .وقد قال لنا أبن نقدم فروض العبادة
أنت أيتها له ،فَمنَحنا بذلك سالمه .اجملد هلل يف أعايل السماوات ،واجملد ملن هو مسيحه! ومبارَكة ِ
َ َ َ
حتمليه! ُمرينا كملكة ،فنحن كنت مستَ ِح َّقة ألن ِ
ك ِ أحشائك! ِ
أنت قديسة ألن ِ ِ املرأة اليت محَلتِ ِه يف
ِ
ألجلك؟» ِ
خبدمتك .ماذا ميكننا فعله سوف نسعد
«ِ
أحبوا ابين واحفظوا دائماً هذه األفكار يف قلوبكم».
لك أهل تودين إخبارهم أبن ِ
ابنك قد ألجلك ِ
أنت؟ أليس ِ ِ «ولكن أال رغبة ِ
لك يف شيء
ُولِد؟»
«زكراي ،آه! أان أعرفه جيداً .إنين أذهب إىل جباله صيفاً ،فهناك توجد مر ٍاع خصبة ومجيلة ،وأان
صديق راعيه .عندما أرى أن األمور هنا قد ترتبت سأمضي إىل زكراي».
لك اي إيلي».
«شكراً َ
«عفواً .إنه لَ َشرف كبري يل ،أان الرعي املسكني ،أن أذهب ألحتدث إىل الكاهن وأقول له" :لقد
َولِ َد املخلص"».
«نعم».
«أان إيلي».
«أان ليفي».
«وأان صموئيل».
«وأان يوان».
«وأان اسحق».
«وأان طوبيا».
«وأان يواناثن».
«وأان دانيال».
«وأان مسعان».
أظهَرهُ لنا!»
«اجملد هلل الذي َ
ويقول ليفي اببتسامة مالئكية« :دعينا نـُ َقبِل ثوبه».
ترفع مرمي يسوع هبدوء مع بقائها جالسة على القش وتُـ َق ِدم القدمني الصغريتني امللفوفتني
ابلقماش ليقبلومها .وقد كان ال ُـملتَحون أول من مسحوا دموعهم ،فاجلميع تقريباً تدمع عيوهنم .وعندما
يضطرون للذهاب خيرجون سائرين للخلف اتركني قلوهبم قرب املذود.
هكذا تنتهي الرؤاي ابلنسبة يل :مرمي جالسة على القش والطفل على صدرها ،أما يوسف الذي
يستَنِد مبرفقيه على حافة املذود فينظر ويتعبد.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
يقول يسوع:
ك متعبة ج ّداً ،ولكن اصربي قليالً أيضاًّ .إهنا أمسية مخيس اجلسد .إبمكاين «اليوم ،أان من يتكلّم .إنّ ِ
ثتك عن الق ّديسنيثك عن اإلفخارستيا وعن الق ّديسني الذين أصبحوا رسل العبادة هلا ،كما ح ّد ِ أن أح ّد ِ
َ ُُ
ثك عن أمر آخر وعن فئة أخرى من عابدي الذين كانوا رسل القلب األقدسّ .إال أنّين أريد اآلن أن أح ّد ِ
ُُ
املتجسد.
ّ رواد هذه العبادةّ .إهنم الرعاة ،أوائل عابدي جسدي ككلمة هللا جسدي الذين ُهم ابلنسبة إليه ّ
مرة ،وقد قيل كذلك عن طريق كنيسيت :إ ّن الق ّديسني األبرار هم شهداء املسيح لقد ُ ِ
قلت لك ذلك ّ
األوائل .واآلن أقول ِ
لك إن:
الرعاة هم أوائل عابدي جسد هللا .ففيهم توجد كل املميزات الالزمة ليكونوا عابدي جسدي،
النفوس اإلفخارستية:
التواض ـ ـ ـ ــع :يتقربون من األشخاص األكثر فقراً بشرايً منهم ،ببساطة وحبركات ال ذل فيها
ويُعلِنون أنفسهم خداماً هلم.
الــرغب ـ ـ ــة :وما مل يستطيعوا تقدميه منهم تفننوا يف أتمينه سريعاً وبنخوة ُشجاعة.
سرعة الطاعة :ترغب مرمي يف إخبار زكراي ،فيذهب إيلي فوراً ومل يؤجل ذلك إىل وقت الحق.
من يذهب إىل مرمي جيدين .ومن يطلبين منها ينلين بواسطتها .فابتسامة أمي حني تَطلُب منها
يسوعك ،وألحبه" ،جتعل السماء تشع أبلق حي وسعيد على قدر ما ِ إحدى املخلوقات" :أعطيين
متلك هي من الفرح.
قويل هلا إذن" :اجعليين أُقَـبِّل ثوب يسـوع ،اجعليين أُقَـبِّل جراحه ".وجتاسري كذلك أكثر وقويل هلا:
ألغرف منه الغبطة". ِ
"أرحيي رأسي على قلب يسوعك ُ
تعايل واسرتحيي ،مثل يسوع يف املهد بني يسوع ومرمي».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
كراي)
( -51زايرة ز ّ
1944 / 05 / 08
«الرجل الذي أرسلتُماه يل قال إنكما مل جتدا لكما منزالً أثناء الوالدة .من يدري مقدار ما
عانيتُما».
«نعم ،يف احلقيقة قد عانينا كثرياً .ولكننا كنا خائ َفني أكثر منا متأل َمني .كنا خائ َفني من أن
يؤدي ذلك إىل إيذاء الطفل ...لقد اضطرران إىل املكوث يف مكاننا يف األايم األوىل ،مل يكن ينقصنا
شيء ،ألن الرعاة محلوا البشرى إىل أهل بيت حلم ،وكثريون منهم محلوا لنا اهلدااي .ولكن الذي كان
ينقصنا هو بيت ،غرفة يف حالة جيدة ،وسرير ...وكان يسوع يبكي كثرياً ،خاصة يف الليل ،بسبب
كنت أُشعِل النار قليالً ،قليالً جداً ألن الدخان كان يهيج السعال
الرايح اليت تدخل من كل اجلهاتُ .
«ولكن كان ينبغي أن يُولَد املسيح يف بيت حلم .فاألنبياء كانوا قد أعلَنوا ذلك».
لدى مساعهما يتكلمان تدخل مرمي .كانت ترتدي الصوف األبيض ابلكامل .فهي قد نـََز َعت
الثياب الداكنة اليت كانت ترتديها أثناء السفر ويف املغارة .وهي ترتدي اآلن ثوابً أبيضاً أبكمله كما
رأيتُها يف مرات أخرى .كان رأسها عارايً وهي حتمل يسوع انئماً بني ذراعيها ،وقد شبع من حليبها،
وهو يف أقمطته البيضاء.
ينهض زكراي ابحرتام وينحين إبجالل ،مث يدنو وينظر إىل يسوع مع أمسى عالئم االحرتام .إنه
ينحين ليس لرؤيته بشكل أفضل ،إّنا لكي يـُ َعِرب عن والئه .تُـ َق ِدمه مرمي له وأيخذه زكراي بِ ِسمات عبادة
كثرية حّت لَيبدو وكأنه حيمل بيت القرابن املقدس .إنه ابحلقيقة حيمل القرابن بني ذراعيه ،القرابن
ال ُـم َقدَّم الذي ستتم التضحية به عندما سيُمنَح للناس غذاء حب وفداء.
يعيد زكراي يسوع ملرمي ،وجيلسون مجيعاً ويعيد زكراي ذكر السبب الذي من أجله مل ِ
أتت أليصاابت،
البنك املبارك ،وقد محلتُها ِ
لك. وكم هي متأثرة لذلك« .لقد هيَّأَت خالل األشهر األخرية غيارات ِ
إهنا يف العربة حتت».
ينهضَ ،خي ُرج ،مث يعود حامالً صرة كبرية وأخرى صغرية ،يساعده يوسف يف فتح الصرة الكبرية
َ
واألخرى ،وخيرج هداايه منهما :غطاء صوف انعماً منسوجاً يدوايً ،بياضات وثياابً صغرية .ومن الصرة
«الناصرة؟ ولكن عليكم البقاء هنا .جيب أن ينمو املاسيا يف بيت حلم .إهنا مدينة داود ،والباري
تعاىل َج َعلَه أييت بواسطة إرادة قيصر ليولد يف أرض داود ،أرض يهوذا املقدسة .فلماذا أتخذانه إىل
عامل اليهود الناصريني .جيب أن يكون هذا الطفل يف املستقبل خملص الناصرة؟ وأنتما تعلَمان كيف ي ِ
ُ َ
شعبه ،كما جيب أال َحتتَ ِقر العاصمة ملكها ألنه َخي ُرج من منطقة َحيتَ ِقرها .وأنتما تعرفان مثلي كم اجملمع
شديد احلساسية ،وكم أبناء الطبقات الرئيسية الثالث متحذلقون ...ومث ،هنا ستكونون قريبني مين
فأستطيع مساعدتكم قليالً ،وأمتكن من وضع كل ما أملك ،ليس فقط مادايً ،بل إّنا كل املميزات
املعنوية اليت يل ،يف خدمة هذا املولود اجلديد .وعندما يصبح يف سن اإلدراك سأكون سعيداً أبن أكون
معلماً له مثل ابين ألانل احلق ،عندما أكرب ،أبن يباركين .جيب أن نفكر يف َعظَ َمة مصريه ،وأنه هلذا
السبب جيب أن يـُ َقدَّم للعامل بكل االمتيازات اليت جتعله يسيطر على املوقف بسهولة .وهو ،بكل
أتكيد ،سيمتلك احلكمة ،إّنا الفائدة الوحيدة اليت جينيها من كون أحد الكهنة هو معلمه ،هي أن
ذلك جيعله مقبوالً بسهولة لدى الفريسيني املتطلِبني والكتبة .وهذا يسهل عليه رسالته».
تنظر مرمي إىل يوسف ،وكذلك يوسف ينظر إىل مرمي .ومن فوق رأس الطفل الربيء الذي ينام
متورد اخلدين وال يلوي على شيء ،كان تبادل األسئلة الصامت .وهذه األسئلة كانت مطبوعة ابحلزن،
فمرمي تفكر ببيتها الصغري ويوسف يفكر بعمله .وهنا جيب البدء من الصفر يف بناء كل شيء يف مكان
أنت تعلم اي زكراي أننا فقراء ولسنا ّنلك سوى البيت والشغل ،وكالمها يساعداننا
«وأين سنضعه؟ َ
يف كسب ما نُ َسِري به أمور معيشتنا دون أن جنوع .وهنا قد جند عمالً ...ولكن جيدر بنا أن نفكر
ابملنزل .فهذه املرأة الطيبة ال ميكنها أن تستضيفنا كل العمر؛ وأان ال ميكنين أن أفرض على يوسف
تضحيات أكثر من تلك اليت َر ِض َي أن يتحملها حّت اآلن من أجلي».
«آه! أان! ابلنسـبة يل ال يهم .فأان أفكر فقط يف أمل مرمي ،يف معاانهتا لعدم متكنها من العيش يف
بيتها»...
«هذا صحيح ،ولكن على األقل ،طاملا مل يبلغ بعد سن الرشد ،فدعوه يكرب يف اليهودية .فلقد
قال النيب" :و ِ
أنت اي بيت حلم إفراات ،ستكونني األعظم ،ألنه ِ
منك َخي ُرج املخلص" .ومل يتحدث عن
لست أدري ألي سبب .ولكن موطنه هو هذا». ِ
الناصرة .قد تكون هذه التسمية قد أُطل َقت عليه ُ
ونعطيك احلق .ولكن اي له
َ كالمك...
َ قلت أيها الكاهن ،وحنن ...حننِ ...أبََمل نسمع
أنت َ« َ
كت مدى أصبحت أماً؟» وتبكي مرمي هبدوء .وقد أدر ُ
ُ من أمل! ...مّت سأرى ذلك البيت الذي فيه
غمها .آه! نعم لقد أدركتُه!
املكرسة)
( -52يوسف حيمي كذلك النفوس َّ
1944 / 05 / 08
ِ
روحك ك سوف ترينين أبكي بشكل أشد أيضاً .فأان اآلن أرفع «لقد أدركتِ ِه ،أان أعلَم ،ولكن ِ
جبعلك تَرين قداسة يوسف .لقد كان رجالً ،يعين أنه مل يكن ميتلك سوى قداسته كمساعد لروحه. ِ
كنت
كمنزهة عن اخلطيئة .مل أكن أعرف أين ُ ابلنسبة يل ،فقد كانت يل كل نِ َعم هللا ضمن ظرويف َّ
كذلك ،إّنا يف قرارة نفسي كانت منابع نشاط ،وكذلك كان هناك ما يهبين قوى روحية .أما هو فلم
يكن منزهاً عن اخلطيئة ،بل كان حيمل يف ذاته اإلنسانية بعبئها الثقيل ،وكان عليه مع كل هذا الثقل
أن يرتقي إىل الكمال ،فكان ذلك يكلفه جهداً متواصالً مع استخدام كل مقدراته ليحصل على إرادة
الوصول إىل الكمال ،وأن يكون مقبوالً لدى هللا.
آه! اي عروسي القديس! قديس يف كل شيء حّت األكثر تواضعاً يف الوجود .قديس لعفته
املالئكية ،قديس لنزاهته كإنسان ،قديس لصربه وحرارته يف العمل ،لصفائه الثابت دائماً ،لزهده ،لكل
شيء .وتتألأل قداسته كذلك يف هذا احلَ َدث .يقول له كاهن" :حيسن أن تقيم هنا" .وعلى الرغم من
معرفته املسبقة ابلتعب الكبري الذي ينتظره ،يقول" :ابلنسبة يل ،ال يهم .أفكر يف معاانة مرمي .وإن مل
فلست أقلق بشأن نفسي ،يكفي أن يكون هذا يف مصلحة يسوع" .يسوع ،مرميُ :حباه ُ يكن هذا،
كرس نفسه ابلكامل كخادم هلذا احلب. املالئكيان .مل حيب غريمها على األرض ،عروسي القديس ،وقد َّ
لقد ُجعِ َل شفيعاً للعائالت املسيحية وللعمال وكذلك لفئات كثرية .إّنا ينبغي أن ال يكون
املكرسة هلل كذلك .ومن ذا الذي ،بني
شفيعاً للمحتضرين واألزواج والعمال فقط ،بل لكل النفوس َّ
كرس نفسه مثله خلدمة إهله ،راضياً بكل ِ
املكرسني ذواهتم يف هذا العامل خلدمة هللا ،مهما يكن ،قد َّ
جعلتك تالحظينه ،بل أمران .زكراي كان كاهناً ويوسف مل يكن كذلك ،إّنا ِ وهناك أمر آخر
انظري كم كان روحه ،وهو الذي مل يكن كاهناً ،متجهاً صوب السماء أكثر من الكاهن .زكراي يفكر
بشرايً ،ويـُ َف ِسر ما ُكتِب كذلك بشرايً ،وهذه ليست املرة األوىل اليت يفعلها فيها ،إنه ينقاد كثرياً للحس
البشري اجليد .لقد عوقب لذلك ،ولكنه عاد فوقع يف املطب ذاته ،حّت ولو كان أقل جسامة .لقد
كنت أان طاعناً يف السن وزوجيت عاقراً؟" ويقول اآلن: قال بشأن والدة يوحنا" :كيف يكون هذا إذا ُ
"لتمهيد الطريق أمام يسوع جيب أن ينمو هنا" .وعلى هذا األساس من الكربايء الذي يظل عند الطبقة
الراقية ،يفكر أنه يستطيع هو أن يكون ذا منفعة ليسوع .ليس ذا منفعة كما يريدها يوسف بكونه
خادماً لـه ،إّنا بكونه معلمـاً لـه ...لقد َغ َفَر هللا لـه ِحلُسن نيته ،ولكن هل كان "املعلم" يف حاجة إىل
معلِ ِمني؟
لت أن أجعله يرى النور يف النبوءات .ولكنه كان يظن نفسه أعلَم مين ،وقد واءَ َملقد حاو ُ
ِ
جعلتك داخلَته بطريقته .لقد كان إبمكاين اإلصرار وإفحامه .ولكن -وهنا املالحظة الثانية اليت
ُم َ
تالحظينها -ولكين احرتمت الكاهن بسبب مقامه وليس بسبب ِعلمه.
الطاعة تُ ِنقذ دائماً ،حّت ولو كانت النصيحة اليت نتلقاها غري كاملة من مجيع جهاهتا .لقد ر ِ
أيت
صَر على ذبح أطفال بيت حلم ذلك :لقد أطعنا وكنا يف ذلك سعيدين .يف احلقيقة إن هريودس قد اقتَ َ
وحميطها ،ولكن أمل يكن ابستطاعة الشيطان أن جيعله ميد سيل جرائمه إىل أبعد من ذلك كثرياً ،وأن
يدفع كل الشخصيات ذوات النفوذ يف فلسطني إىل جرمية مشاهبة حملو مستقبل َملِك اليهود؟ كان
يستطيع ذلك .وقد كان هذا ممكن احلدوث يف األزمنة األوىل للمسيح ،عندما لََفتَت املعجزات انتباه
اجلموع ونظر ذوي النفوذ .فلو حدث ذلك ،كيف كنا سنستطيع اجتياز كل فلسطني لنأيت من الناصرة
املضطهدون ،والسفر مع مولود صغري وأثناء َ البعيدة إىل مصر ،األرض اليت كان يلجأ إليها اليهود
هيجان االضطهاد؟ لقد كان اهلروب من بيت حلم أسهل حّت ولو كانت املعاانة بنفس الدرجة.
فالطاعة تُ ِنقذ دائماً .تذكري ذلك .واحرتام الكاهن هو على الدوام عالمة الكمال املسيحي.
الويل -وقد قاهلا يسوع -الويل للكهنة الذين يفقدون الشعلة الرسولية! والويل ملن يظن نفسه
ويوزعون اخلبز احلقيقي النازل من السماء .وهذا يقدسون ِذا سلطة على احتقارهم! ففعلياً هم الذين ِ
االحتكاك جيعلهم قديسني ،مثل كأس مقدسة ،حّت ولو مل تكن شخصيتهم كذلك .إهنم يستجيبون
هلل يف ذلك .أما أنتم فال تنظروا إال إىل مقامهم وال هتتموا ابلباقي .ال تكونوا أكثر تشدداً من ربكم
يسوع ،الذي يرتك السماء أبمر منهم وينزل لريفَع أبيديهم .تعلموا منه ،وإذا كانوا عمياانً ،إذا كانوا
صماً ،إذا كانت نفوسهم مشلولة ،وأفكارهم مريضة ،وإذا كانوا مصابني جبذام األخطاء اليت تتناىف ُ
ورسالتهم ،وإذا كانوا لعازر يف القرب ،فاطلبوا يسوع ليشفيهم ويرد هلم احلياة.
بصالتك و ِ
أملك أيتها النفوس الضحية .فإن إنقاذ نفس يعين هتيئة مكان للذات يف ِ اطلبيه
السماء سلفاً .إّنا إنقاذ نفس كهنوتية يعين إنقاذ عدد كبري من النفوس ،ألن كل كاهن قديس هو
كالشبكة اليت ِ
جتتذب النفوس إىل هللا .وإنقاذ كاهن يعين تقديسه ،تقديسه من جديد يعين جعله
شبَ َكة روحانية .وكل غنيمة له تضيف إىل إكليلكم األبدي بريق نور جديد.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 252 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
اذهيب بسالم».
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 02 / 01
أرى شخصني ِ
يغادران منزالً متواضعاً جداً .أُماً فتية جداً هتبط من سلم خارجي صغري ،وبني
ذراعيها طفل ابلقماط األبيض.
فت عليها ،إهنا أُمنا .إهنا ذاهتا شاحبة ،شقراء ،رشيقة ولطيفة جداً يف كل حتركاهتا .إهنا
لقد تعر ُ
ترتدي ثوابً أبيضاً ومعطفاً الزوردايً فاحتاً يلفها ،وعلى رأسها وشاح أبيض .وهي حتمل طفلها بعناية
فائقة .وعند أسفل السلم الصغري ينتظرها يوسف إىل جانب محار رمادي .وكان يرتدي ثوابً كستنائياً
صل إىل جانب احلمار ،ينقل فاحتاً ومعطفاً ابللون ذاته .وقد كان ينظُر إىل مرمي ويبتسم هلا .وعندما تَ ِ
اللجام إىل اليد اليسرى وأيخذ منها الطفل النائم هبدوء للحظة ،ريثما تستقر مرمي جيداً على السرج،
مث يعيد إليها يسوع ،وينطلقان.
يسري يوسف إىل جانب مرمي وهو ميسك بلجام املطية جاعالً إايها تسري بشكل سوي ودون
أن تكبو .ومرمي تضم يسوع إىل صدرها خشية أن يؤذيه الربد ،وهي تلفه بِطيَّة معطفها .يتكلم الزوجان
قليالً جداً ،ولكنهما يبتسمان لبعضهما يف أغلب األحيان.
الطريق ليست ّنوذجية ،وهي متتد عرب قرية َعَّراها الشتاء .يقابلهما بعض املسافرين أو
يقاطعوهنما ،ولكن ذلك اندر احلدوث.
ظهر بعض املنازل ،وجدران تُ َس ِور املدينة ،يدخل العروسان من أحد األبواب ،مث يشرعان
مث تَ َ
ابملسري يف شوارع املدينة غري املنتظمة .يصبح السري أكثر صعوبة ،إ ْن بسبب حركة السري اليت جتعل
الطريق ليست مستوية ،إهنا تصعد قليالً ،وهي ضيقة بني املنازل العالية ذات املداخل الضيقة
جداً واملنخفضة والنوافذ القليلة جداً على الشارع .يف األعلى تظهر السماء بني البيوت والسطوح قِطَ َعاً
الزوردية متعددة ،ويف األسفل يف الشارع ،هناك أانس يصرخون ويتقابلون وآخرون يسريون أو يركبون
حمملة ،وآخرون يسريون خلف قافلة ِمجال مزدمحة .ويف أحد األمكنة متر دورية احلمري أو جيرون محرياً َّ
من اجلنود الرومان ُحم ِدثة الكثري من َجلَبَة النِعال والسالح ،مث حيتجبون خلف قنطرة جتتاز شارعاً ضيقاً
وكثري احلجارة.
ينعطف يوسف إىل اليسار ليسلك طريقاً أعرض وأمجل .أرى السور ذا الشرفات الذي أعرفه
يف آخر الشارع.
ترتجل مرمي قرب الباب حيث يوجد نوع من املالجئ للحمري .أقول "ملجأ" ألنه عبارة عن
َّ
عنرب أو ابألحرى ملجأ مغطى ومفروش ابلقش ،توجد فيه أواتد متصلة حبلقات لربط ذوات األربع.
يعطي يوسف أحد الغلمان بعض الدراهم فيجري لشراء بعض العلف ،مث يسحب دلواً من املاء من
بئر بدائي يف إحدى الزوااي ليقدمه للحمار.
مث يلحق مبرمي ليدخال معاً داخل سور املعبد .يتوجهان ابدئ ذي بدء صوب رواق يتواجد فيه
أولئك الناس الذين ضرهبم يسوع ابلسوط فيما بعد بشكل عنيف :ابئعو اليمام واحلمالن والصيارفة.
يشرتي يوسف زوج محام أبيض .مل يبدل أبداً عملة مما يشري إىل أنه أصبَ َح لديه كل ما يَ َلزم.
لست أدري إذا كان يوسف هو الذي طَلَب :ذلك أن كاهناً يهرع إليهما .تُ ِ
قدم له مرمي طريي ََ َ ُ
احلمام املسكينني ،فأدركت آنذاك مصريمها وأشحت بوجهي .أ ِ
ُالحظ تزيينات الباب الثقيل جداً، ُ ُ
والسقف والبهو .يبدو يل مع ذلك أنين أرى بطرف عيين الكاهن يرش مرمي ابملاء .ينبغي أن يكون
هذا ماء إذ إنين مل َأر بقعاً على ثوهبا .مث إن مرمي اليت أعطت الكاهن ،مع طريي احلمام ،قبضة دراهم
نسيت قول ذلك) تدخل مع يوسف إىل اهليكل ،ابملعّن الصحيح ،يصحبهما الكاهن.
ُ (لقد
أَنظُر إىل كل اجلهات .إنه مكان مليء ابلتزيينات ،منحواتت رؤوس مالئكة ،أغصان وتزيينات
على طول العواميد وعلى اجلدران والسقف .أما النور فيدخل من خالل نوافذ طويلة وغريبة الشكل،
نح ِرف ،أظنه ملنع املطر من التسرب
ضيقة وطبيعية بدون زجاج ،ومتوضعة على اجلدار بشكل ُم َ
للداخل.
تصل مرمي إىل مكان معني تقف عنده ،وعلى بضعة أمتار منها توجد درجات أخرى يف أعالها
نوع آخر من اهلياكل ،ويليه إنشاء آخر.
كنت ،على الدوام ،أعتَ ِقد أنه من السلك الكهنويت ،ولكنه يف احلقيقة على إنه مسعان ،وقد ُ
عكس ذلك ،إنه جمرد مؤمن بسيط ،وميكن َّتمني ذلك من ثوبه .أيخذ الطفل ويـُ َقبِله .يبتسم لـه يسوع
مبالمح الرضيع غري الواضحة .يبدو أنه يتأمله بفضول ،ألن العجوز القصري القامة يبكي ويضحك يف
صعة تَلِج جتاعيده لتَس ُقط على حليته الطويلة البيضاء
الوقت ذاته ،ودموعه تُ َش ِكل على وجهه رسوماً ُمَر َّ
اليت ميد يسوع يديه إليها .هو يسوع ،ولكنه يظل الطفل الصغري الذي يثري انتباهه كل شيء يتحرك
أمامه ،وجيعله ميسك به بشكل عفوي لريى ما هو .يبتسم يوسف ومرمي وكذلك األشخاص املوجودون
الذين يثنون على مجال الطفل.
إنين أمسَع كلمات العجوز القديس ،وأرى نظرة الدهشة على حميا يوسف وأتثُّر مرمي وتفاعالت
ومند ِهشون من كالم العجوز ،والبعضاجلمع الصغري من األشخاص املوجودين ،فالبعض متأثِرون َ
اآلخر يضحكون ضحكة جنونية .ومن بني هؤالء يوجد رجال ملتحون وأعضاء متغطرسون من اجملمع
اخرتقَت ِ
وَّتبو ابتسامة مرمي بشحوب ابلغ حني يُعلن هلا مسعان عن األمل .ورغم معرفتها ،فقد ََ
كلماته نفسها ،وتقرتب من يوسف أكثر لتجد عزاء هلا؛ وتضم ابنها إىل صدرها بشغف .وكنفس
فإهنا تشفق على آالم مرمي فإهنا ترتوي بكلمات حنة اليت لفانوئيل ،واليت لكوهنا امرأة مثلهاَّ ، عطشىَّ ،
وتَعِدها أبن األزيل َسيُـلَ ِطف ساعة األمل إبعطائه هلا قوة فائقة الطبيعة« :أيتها املرأة ،إن الذي َمنَ َح شعبه
صر الرب يوماً يف مد يد العون لنساء دموعك .مل يـ َق ِ
ِ ِ
إعطائك مالكه ليمسح املخلص ،لن يبخل يف
ُ
ِ
مينحك إهلنا قلباً ذهبياً نقياً جداً ملقاومة أنت أكثر من يهوديت وايئيل ،فسوف إسرائيل العظيمات ،و ِ
أنت أيها الصغري اذكرين ساعة
حبر اآلالم الذي به ستصبحني أعظم امرأة يف اخلليقة كلها ،األم .و َ
انبعاثك».
َ
1944 / 02 / 02
يقول يسوع:
ظهر هذه اإلرادة الطيبة؟ حبياة ،على قدر اإلمكان ،متأتية أبكملها من هللا ،ابإلميانكيف تَ َ
والطاعة والطهارة واحملبة واجلود والصالة ،ليس ابملمارسات الظاهريّة بل ابلصالة .فالفرق بني الليل
والنهار أقل من الفرق بني املمارسات والصالة .إن الصالة هي احتاد الروح مع هللا حيث خنرج منها
ِ
ومصممني على أن نكون دائماً أكثر احتاداً ابهلل .أما املمارسات الظاهرية فهي عادة معينة منتعِشني
ذات أهداف خمتلفة ولكنها دائماً أاننية .تبقيكم كما أنتم أو حّت بزايدة خطيئة كذب وَك َسل.
صديق كامل هو "يقوده الروح القدس" .هكذا يقول اإلجنيل املقدس .آه! لو يعرف الناس أي َ
الروح القدس! أي م ِ
رشد! أي معلم! لو كانوا حيبونه ويناشدون ُحب الثالوث األقدس هذا ،نور النور ُ
هذا ،انر النار هذا ،وهذا الذكاء ،هذه احلكمة! كم سيصبحون أكثر اطالعاً على ما هو ضروري أن
يعرفوه!
انظري اي ماراي ،انظروا اي أبنائي .لقد انتَظََر مسعان حياة بطوهلا قبل أن "يرى النور" ،قبل أن
"من غري اجملدي أن أواظب يعرف أن وعد هللا قد مت .ولكنه مل يشك يوماً ،كما مل يقل يوماً لنفسهِ :
ب ،فنال أن "يرى" ما مل يره الكاهن وأعضاء اجملمع اليهودي املتكربون
على الرجاء والصالة" ،ولقد واظَ َ
والعميان :ابن هللا ،املاسيا ،املخلص يف جسد هذا الطفل الذي َمنَ َحهُ دفئاً وابتسامة .لقد انل ابتسامة
هللا كمكافأة أوىل على حياته الشريفة والتقية عرب شفيت ،شفيت طفل.
ِ
دموعك، "إن الذي أعطى خملصاً ال ميكن أن تنقصه القدرة على أن يهب مالكه ليمسح
ب ذاته كي يتالشى عمل الشيطان يف النفوس .أفَال ميكنه اآلن التغلب ه و قد هللا أن ا
و ر دموعكم"ِ .
فك
َ
َ َ
على الشياطني الذين ينهكونكم؟ أال يستطيع مسح دموعكم أبن جيعل الشياطني هترب ويعيد سالم
مسيحه؟ فلماذا ال تطلبون منه ذلك إبميان؟ إبميان حقيقي ال يـَُرد ،تتالشى أمامه ،مع ابتسامة ،قسوة
ب الناس ابلطوفان ،قال لنفسه ولشيخه الوقور (نوح)" :لن ألعن ق
َ عا أن بعد اآلب، ا:ور ِ
فك
َ
األرض بعد بسبب الناس ألن مشاعر وأفكار القلب البشري تنحدر حنو الشر منذ الشباب .لن أعاقِب
رسل الطوفان ،إّنا أنتم فكم مرة قلتم وظل أميناً لكلمته ومل يعد ي ِفعلت"َّ .
ُ أي كائن حي كما قد ُ
ألنفسكم وقلتم هلل" :لو َخلصنا هذه املرة ،لو َُّتلِصنا فلن نفتعل احلروب أبداً ،قطعياً" .ومن مث أََمل
أرهب؟ وكم مرة كنتم كاذبني وبدون احرتام للرب ولكلمتكم؟ ومع ذلك فالرب تفعلوا دائماً ما هو َ
ميدكم مبعونته ،مرة أخرى إذا ما دعاه مجع كبري من املؤمنني إبميان وحبب ال يقاوم.
أنتم مجيعاً ،اي من عددكم ضئيل جداً لِتُـ َع ِدلوا كفة ميزان اجلموع اليت تُذكي غضب هللا على
الدوام ،ظلوا ُخملِصني هلل ابلرغم من هتديدات الساعة احلاضرة الرهيبة اليت تزداد من حلظة ألخرى .ارموا
أرس َل املخلص إىل العامل .ال َّتافوا.
بقلقكم أمام أقدام هللا ،وهو سيعرف أن يرسل لكم مالكه كما َ
صَر دائماً على أحابيل الشيطان الذي ،بشراسة الناس وأحزان احلياة، ظلوا متحدين ابلصليب .فلقد انتَ َ
يعمل على جرف القلوب اليت ال يعرف أن أيخذها بطريقة أخرى إىل اليأس ،يعين إىل االبتعاد عن
هللا.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 11 / 28
يغين
مسعت صواتً نقيّاً ّ
كنت ال أزال يف سحابة النوم عندما ُ
حلمت هذا الصباح ُحلماً ممتعاً .فقد ُ
ُ لقد
الكالسيكية.
ميالدايً لكثرة ما بدت بطيئة وأبسلوب ما قبل ّ
ّ بلطف أغنية هدهدة بطيئة ،قد ُتسبها نشيداً
عت هذا املوضوع وهذا الصوت الذي َمنَ َحين سعادة متنامية ،وأعاد يل صفاء ذهين بتأثري متاوجه لقد تتبّ ُ
األم هي اليت
لك اي مرمي ،اي ممتلئة نعمة!» إذ كانت ّقلت« :السالم ِ كتُ .
استيقظت وأدر ُ
ُ العذب .أخرياً
لك كذلك .تعايل وكوين سعيدة!»نشد بشكل أقوى بعد أن قالت يل« :وسالمي ِ وأخ َذت تُ ِ
نشدَ ، تُ ِ
رأيتُها يف منزل بيت حلم ،يف الغرفة اليت تشغلها ،أثناء هدهدة يسوع لينام .وكان يف الغرفة نول
احلياكة وأعمال خياطة مرمي .يبدو أن مرمي قد قَطَ َعت عملها لرتضع الطفل وتُـغَِري قمطه ،ذلك أن
عمره قد بلغ أشهراً ،ستة أو مثانية أشهر ليس أكثر على ما أظن .وقد كان يف حسباهنا أن تعود إىل
العمل بعد أن ينام الطفل.
كان الوقت مساء .والغسق املتقدم متاماً كان قد جعل السماء ساكنة وموشاة بندف ذهبية.
كانت قطعان تعود إىل حظائرها وهي ما تزال أتكل آخر أعشاب حقل مزهر وتثغو رافعة فمها.
أتخر الطفل يف النوم .يبدو أنه مضطرب كما لو كانت أسنانه تؤمله أو هي من آالم الطفولة
األوىل.
كتبت النشيد ،قدر استطاعيت ،يف ظلمة هذه الساعة اليت ابلكاد ،ابلكاد صباحية ،علىُ
قصاصة ورق ،واآلن أعيد كتابته هنا.
عيناك
حدقتاك العذبتان ،آه! ال تدعهما تدمعانَ .
َ ألف جنمة متأللئة هناك يف السماء تنظر.
اللتان ُمها ِمن السفري مها جنمتا قليب .ودم َ
وعك أملي! آه! ال ِ
تبك بعدَ .نَ ،نَ ،نَ ،ن ...وال تعد
تبكي…
فأنت حياة قليب .إنه ينام ...وكأين به زهرة موضوعة على الصدر .إنه
معك دائماًَ ،سأكون َ
ينام ...توخوا اهلدوء التام! قد يكون يرى األب القدوس ...وهذه الرؤاي متسح دموع يسوعي العذب...
ينام ،ينام ،ينام ،ينام ،ومل يعد يبكي»...
رف هذا املشهد غري معقول .فهو ليس سوى أُم هتدهد لطفلها .ولكن أي أُم وأي أقول إن ظُ َ
َّصور أية نعمة وأي ُحب وأية طهارة وأية مساء يتضمنهم هذا املشهد الصغري الكبري طفل! فيمكن إذاً الت ُّ
واللذيذ الذي جمرد ذكراه ُمتتعين ،والذي يبقى ،لتثبت حقيقته ،النـَّغَم الذي أُرِدده أل ِ
ُمسعكم إايه أنتم َ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 263 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
لست أمتَلِك احلنجرة الفضية والصوت النقي الذي ملرمي ،صوت العذراء اخلام! ...بل
أيضاً ،إال أنين ُ
إنين أبدو مثل أكورديون َخ ِرب .ال يهم .سوف أبذل قصارى جهدي .اي هلا من مسرحية رعوية مجيلة
تغين حول مغارة امليالد!
ألهنا ال
أبهنا ال جدوى منها ضمن جمموع بقيّة الرؤى ّ ابلعظَ َمة ،وقد ُحي َكم عليها ّ
ليست رؤاي توحي َ
تُظ ِهر شيئاً لـه خصوصيّته .أان أعرف ذلكّ .إال ّأهنا ابلنسبة يل نعمة حقيقيّة .فأان أُقَـيِّمها على هذا األساس،
األم .أظنّها من هذا
كأهنا ُختلَق من جديد بيدي ّ
احلب هدوءاً ونقاء و ّ
تبعث يف نفسي اليت خيرتقها ّ إذ ّإهنا َ
وأما اآلخرون ،علماء ِ
ال ُـمنطَلَق ستعجبكم أنتم أيضاً .إنّنا صغار ج ّداً .وهذا أفضل! بذلك نُعجب يسوعّ .
بكل هذا .أليس كذلك؟ كانوا أم ُم َع َّقدين ،فليف ّكروا مبا حيلوا هلم ،معتربين ّإايان "طفوليّني" فليس لنا أن ّ
هنتم ّ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 02 / 28
أرى بيت حلم صغرية وبيضاء أبكملها ،جمتمعة مثل فراخ صيصان جائعة حتت ضوء النجوم.
هناك شارعان رئيسيان يتقاطعان عمودايً ،الواحد قادم ِمن ما قبل البلدة ،وهي الطريق الرئيسية اليت
متتد إىل ما بعد املدينة ،واآلخر يقطع املدينة عرضياً ولكنه ال يتجاوزها .وطُُرق أخرى صغرية تقطع
هذه البلدة الصغرية دون أي أثر ملخطط إمجايل كما يُستَ َدل من ذلك ،ولكنها تتكيف مع األرض
خمتلفة املستوايت ،والبيوت املوزعة هنا وهناك حسب ظروف األرض وأهواء البنائني ،فمنها ما يتجه
إىل اليمني ومنها إىل اليسار ،وأخرى تنحرف حسب الطريق اليت حتدها فتضطرها إىل الظهور مبظهر
الشريط الذي ميتد بتعرجات بدل أن تكون طريقاً مستقيمة تصل مكاانً آبخر دون احنراف .وبني
مرحلة وأخرى هناك ساحة قد تكون سوقاً أو ينبوع ماء ،أو رمبا بقيَت مساحات بينية ال ميكن البناء
صبَت كيفما اتفق. عليها ،وذلك بسبب األبنية اليت انتَ َ
يف املكان الذي يبدو يل وجوب التوقف عنده بشكل خاص ،هناك ابلتحديد واحدة من
الساحات غري املنتَظَمة .كان ينبغي أن تكون مربعة أو أقله مستطيلة .إّنا هي على شكل شبه منحرف
غريب الشكل تستطيع معه القول أبنه مثلث حاد الزوااي منحرف من الرأس .الضلع األول ،أي قاعدة
املثلث بناء عريض ومنخفض ،إنه البناء األكرب يف البلدة .من اخلارج له جدار أملس وعار ابلكاد
فُتِ َحت فيه بوابتان ،ومها اآلن مغلقتان متاماً .يف الداخل ،على العكس ،توجد نوافذ كثرية يف الطابق
األول تطل على فناء دار مربع الشكل ،بينما يف األرضي هناك أروقة حتيط بساحات مفروشة ابلقش
وعلى طرفني آخرين من نفس االمتداد هناك منازل كبرية وبيوت صغرية ،منها ما أُحلَِقت به
لحق ،ألن بينها ما و ِاجهته تطل على الساحة ،ومنها ما هو خلفي .على اجلانب
حديقة ،ومنها ما مل تُ َ
اآلخر األكثر ضيقاً ،يف املقابل ،خان القوافل ،وهناك منزل وحيد له سلم خارجي صغري يف منتصف
الواجهة ،ينفذ إىل الطابق األول .وهي مجيعها مغلقة ألن الوقت ليل ،وال يوجد إنسان يف الطريق
بسبب الوقت.
أراها تتنامى ،تلك الضياء الليلية ،اهلابطة من السماء ،مرصعة ابلنجوم اجلميلة جداً ،من مساء
الشرق احليوية والكبرية ،حّت لتبدو قريبة جداً وأن من السهل الوصول إليها وملسها ،هذه الزهور اليت
رفعت عيين ألحتقق من مصدر ازدايد النور هذا ،وإذا بنجمة حبجمتلمع على خممل القبة السماويةُ .
غري عادي ،مثل قمر صغري ،تتقدم يف مساء بيت حلم ،فتبدو ابقي النجوم وكأهنا تتوارى لتفسح هلا
اجملال لتمر ،مثل الوصيفات يف خدمة امللكة ،وكذلك كان ألقها يفوقها مجيعاً وجيعلها َّتتفي .من هذه
الكرة اليت تبدو كسفري ضخم ُمنار من الداخل بشمس ،ينبَعِث ذَنَب ُمنري ،تذوب فيه ،حتت هيمنة
نور السفري ،ألوان الزبرجد األشقر واألخضر وألق عني الـهر (حجر كرمي كثري األلوان) األغبش وأنوار
الياقوت الدموية ،وتوهجات اجلمز العذبة (اجلمز هو أكسيد السيليكون املتبلور ،وهو من األحجار
الكرمية) .كل األحجار الكرمية اليت على وجه األرض كانت تذوب يف هذا َّ
الذنَب الذي جيتاز السماء
حبركة سريعة ومتماوجة كما لو كان حياً .ولكن اللون الذي يهيمن هو هذا اللون الذي يبدو وكأنه
يهطل من كرة النجمة :اللون الفردوسي للسفري الشاحب الذي يهبط ليضفي لون الالزورد الفضي
على املنازل والطرقات وأرض بيت حلم ،مهد املخلص.
مع ألق السطوع األكثر حيوية ،توقَّـ َفت النجمة فوق املنزل الصغري املوجود يف الناحية الضيقة
من الساحة الصغرية .مل يرها سكان املنزل ،وال حّت سكان بيت حلم ألهنم مجيعاً نيام يف البيوت املغلقة.
حينئذ َسَّر َعت النجمة خفقان نورها ،واهتز ذيلها وزاد أترجحه ُم َش ِكالً أنصاف دوائر يف السماء اليت
ُنريت بكاملها بفعل شبكة النجوم هذه اليت َج َذبَتها ،شبكة األحجار الكرمية هذه اليت تنعكس على أَ
بقية النجوم أبلف لون ،كما لتشاركها كلمة فرحة.
لقد َسبح البيت الصغري يف انر هذه اجلواهر السائلة .سطح الشرفة الصغرية ،السلم الصغري ذو
األحجار الداكنة ،الباب الصغري ،لقد كان كله عبارة عن سبيكة فضة خالصة موشاة بغبار ماس
وجواهر .مل يكن ألي قصر ملكي ولن يكون سلم خارجي مماثل هلذا املعد ليستقبل ُخطى املالئكة،
لتستخدمه األم اليت هي أم هللا .فقدماها قدما عذراء منزهة عن كل عيب تستطيعان أن تدوسا هذا
البياض املشرق ،قدماها املعداتن لتدوسا درجات عرش هللا.
ولكن العذراء ال تعرف شيئاً عن هذه الروعة الفاتنة .إهنا تسهر قرب مهد ابنها وتصلي .ويف
جتاوَز ذلك الذي َمجَّلَت به النجمة األشياء. ُّ
نفسها أتلق َ
هو النهار .مشس مجيلة تتألق يف مساء بعد الظهر .أحد خدام اجملوس الثالثة جيتاز الساحة
ويرتقي سلم البيت الصغري .يدخل .خيرج .ويعود إىل النَّزل.
َخي ُرج اجملوس الثالثة ،وكل منهم يتبعه خادمه اخلاص .جيتازون الساحة .يلتفت املارة القليلون
جداً لينظروا إىل الشخصيات املهيبة الذين ميرون ببطء شديد وفخامة .كانت ربع ساعة قد مرت بني
جميء اخلادم وجميء الثالثة ،مما أعطى سكان البيت الفرصة لالستعداد الستقبال الضيوف.
َحي ِمل أحد اخلدام صندوقاً ُمطَعَّماً ابلنقوش املعدنية من الذهب املشغول .والثاين حيمل كأساً
مشغولة بشكل انعم جداً ،مغطى بغطاء من الذهب املنقوش .أما الثالث فيحمل نوعاً من اجلِرار كبرية
فرتض أن تكون وقصرية ،وهي من الذهب كذلك ،وهلا غطاء بشكل هرمي ،ويف قمته ماسة مصقولة .يُ ََ
تلك األشياء ثقيلة ،ذلك أن اخلدام يعانون من َمحلِها ،خاصة ذاك الذي حيمل الصندوق.
يرتقي الثالثة السلم ويدخلون .يَلِجون غرفة من جهة الطريق تطل على ما خلف البيت،
فاحلديقة اخللفية تُرى من خالل انفذة مفتوحة للشمس .تُفتَح أبواب من اجلدارين اآلخرين ،ينظر منها
أصحاب املنزل .رجل وامرأة وأوالد أربعة أبعمار خمتلفة.
مرمي جالسة والطفل على صدرها ،ويوسف واقف إىل جانبها .إال أهنا عندما ترى اجملوس الثالثة
يدخلون تقف وتنحين .إهنا ترتدي األبيض ،وهي مجيلة جداً بثوهبا األبيض الذي يكسوها من أسفل
العنق حّت القدمني ،ومن الكتفني حّت الكفني الناعمني ،مجيلة جداً ورأسها ُم َكلَّل بضفائر شقراء،
ووجهها قد أضفى عليه املوقف املؤثر لوانً وردايً زاهياً ،وعيناها تبتسمان بنعومة ،وفمها الذي يُفتَح
لِيُ َحيي« :هللا معكم ».ويبقى اجملوس الثالثة حائِرين للحظة .مث يتقدمون ،وجيثون عند قدميها ويرجوهنا
أن جتلس.
ُهم ال .مل َجيلِسوا رغم دعوة مرمي ويظلون جاثني على ركبهم متكئني على أعقاهبم .وخلفهم جيثو
ضعوا أمامهم األغراض اليت كانوا حيملوهنا.
العتَـبَة مباشرة ،وقد َو َ
كذلك اخلدام الثالثة .إهنم خلف َ
وينتظرون.
يتأمل احلكماء الثالثة الطفل .يبدو يل أن عمره يرتاوح بني تسعة أشهر وسنة ،وذلك حسب
وعيه وقوته .يستند على صدر أمه .يبتسم ويناغي مثل عصفور صغري .إنه يرتدي األبيض مثل أمه،
مع صندل صغري يف قدميه .ثوب صغري بسيط َّترج منه قدماه اللتان تتحركان ،اليدان الربيلتان اللتان
يتكلم كبري احلكماء ابمسهم مجيعاً ،فيشرح ملرمي أهنم يف ليلة من ليايل كانون األول املاضي رأوا
جنماً جديداً أضاء يف السماء بتألق غري عادي .ومل تكن اخلرائط السماوية قد َمحَلَت يوماً هذا النجم
يف رسوماهتا كما مل تُ ِشر إليه .ومل يكن امسه معروفاً ،بل مل يكن له اسم مطلقاً .لقد ُخلِ َق من قلب هللا،
أزهَر ليُعلِن للعامل حقيقة مباركة ،سراً من هللا .ولكن الناس مل يكرتثوا له ألن نفوسهم كانت غارقة يف وَ
الوحل .مل يرفعوا أنظارهم إىل هللا ومل يكونوا يعرفون قراءة الكالم الذي يسطره- :فليكن مباركاً إىل
األبد -مع جنوم النار على قبة السماء.
وجهدوا يف إدراك صوته ،زاهدين عن طيب خاطر ابلقليل من النوم الذي مينحونه ُهم ،قد رأوهَ ،
ألعضائهم ،انسني األكل ،غارقني يف دراسة األبراج وارتباطات النجوم ،الزمن ،الفصول وحساابت
وسر النجم ،امسه« :ماسيا» .سره« :إنه هو األزمنة القدمية؛ والرتتيبات النجومية هذه ابحت هلم ابسم ِ
ماسيا اآليت إىل العامل» .وقد قَطَعوا املسافات ليَسجدوا له دون معرفة الواحد منهم ابآلخرين .وبعد أن
َع َربوا جباالً واجتازوا صحارى وودايانً وأهناراً ،وسافروا ليالً ،اجتهوا صوب فلسطني ألن النجم كان
يسري هبذا االجتاه .ومن أصقاع ثالثة خمتلفة من العامل كان كل منهم يسري هبذا االجتاه ،إىل أن التقوا
معاً قرب البحر امليت .لقد مجعتهم إرادة هللا هناك ،ومعاً ساروا متفامهني ،وعلى الرغم من أن كالً
منهم يتكلم بلغته اخلاصة ،فقد كان يُد ِرك ويتمكن من التكلم بلغات البالد اليت جيتازها مبعجزة من
األزيل.
َذ َهبوا معاً ابجتاه أورشليم ،ألن ماسيا كان ينبغي أن يكون ملك أورشليم ،ملك اليهود .إال أن
النجم اختفى يف مساء تلك املدينة .لقد أحسوا بقلوهبم تن َف ِطر أملاً وكانوا يتفحصون أعماق ذواهتم ملعرفة
ما إذا كانوا فَـ َقدوا عطف هللا واحرتامه .ولكن بعد التأكد من سالمة ضمائرهم ونواايهم ،ذَ َهبوا للقاء
إليك الذهب الذي يليق ِمبَلِك أن يقتنيه ،هذا هو البخور الذي يليق إبله ،وهذا ،اي أيتها األُم
« ِ
ابنك املولود ،الذي هو إله وكذلك إنسان ،سوف يَع ِرف جبسده وحياته كإنسان املرارة هو الـمر ،ألن ِ
ُ
وقانون املوت الذي ال ميكن حتاشيه .وحنن ،مبحبتنا ،كنا نود عدم البوح هبذه الكلمات ،كما نريد
التفكري أبن جسده أزيل مثل روحه .ولكن ،أيتها املرأة ،إذا كانت خرائطنا وخاصة نفوسنا مل َّتطئ،
ابنك ،هو املخلص ،مسيح هللا ،وهلذا السبب ينبغي له ،ليُ َخلِص األرض ،أن حيمل خطااي فإنه ،أي ِ
العامل اليت إحدى عقوابهتا املوت .وهذا الراتنج هو لتلك الساعة ،لكي ال يعرف جسده تفسخ الفساد،
وحيافظ على سالمته حّت القيامة .ولكي يذكران هبذه اهلبات وخيلص خدامه أبن مينحهم ملكوته .ويف
الوقت احلاضر ،لكي حنصل على التقديس ،فلتُـ َق ِدم األُم ابنها الصغري إىل ُحبنا ،وبتقبيلنا قدميه فلتحل
علينا الربكة السماوية».
جتاوَزت اخلوف الذي سببه كالم احلكماء ،وأخ َفت خلف ابتسامة منها حزن الدعوة مرمي ،اليت َ
املأمتية ،تُـ َق ِدم الطفل ،وتضعه بني ذراعي أكربهم سناً الذي يقبله ويتقبل مداعباته مث يدفعه إىل اآلخرين.
يبتسم يسوع ويلعب بسالسل وأهداب الثالثة .إنه يَنظُر بفضول إىل صندوق اجملوهرات املفتوح
واملليء مبادة صفراء براقة .ويضحك لرؤيته الشمس تشكل قوس قزح مبالمستها ماسة غطاء ال ُـمر.
العتَـبَة -مع العلم أن الغرفة على مدى طول املنزل -أيخذ اجملوس الثالثة فرصة
لدى وصوهلم إىل َ
أخرية وجيثون وهم يـُ َقبِلون قدمي يسوع .ومرمي املنحنية على الطفل أتخذ يده الصغرية وتقودها يف إشارة
بركة على رأس كل من اجملوس .إهنا إشارة صليب خطتها أصابع يسوع الصغرية اليت قادهتا مرمي.
مث يهبط الثالثة السلم .لقد أصبَ َحت القافلة هنا جاهزة وتنتظر .رصيعات جلامات األحصنة
وجتَ َّمع الناس يف الساحة الصغرية لرؤية هذا املشهد غري املألوف.
تتألأل حتت الشمس املائلة للمغيبَ .
يضحك يسوع وهو يصفق بيديه الصغريتني .ترفعه أمه وهي متكئة على درابزين الشرفة العريض،
ومتسكه ويدها على صدره لتقيه من السقوط .وينزل يوسف مع الثالثة وميسك ابلركاب لكل منهم،
بينما ميتطون احلصان أو اجلمل.
أصبَ َح اآلن اجلميع ،خدام ومعلمون ،جاهزين على مطاايهم .تُعطَى إشارة االنطالق ،وينحين
الثالثة حّت يالمسوا أعناق مطاايهم يف حتية ُمبالَغ فيها ،وينحين يوسف ،ومرمي كذلك وهي أتخذ
بقيادة يد يسوع يف حركة وداع وبركة.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 02 / 28
يقول يسوع:
«واآلن؟ ماذا أقول ِ
لك اآلن أيتها النفوس اليت تشعر أبن إمياهنا ميوت؟
مل يكن لدى حكماء الشرق هؤالء ما يؤكد هلم احلقيقة .ال شيء فائق الطبيعة ،مل يكن هلم
سوى حساابهتم الفلكية وعملهم الفكري التأملي الذي َج َعلَته حياهتم النزيهة كامالً .ومع ذلك فقد
كان لديهم اإلميان .اإلميان بكل شيء .اإلميان ابلعلم ،اإلميان بضمائرهم واإلميان ابجلود اإلهلي .ابلعلم
اعتَـ َقدوا بداللة النجم اجلديد الذي مل يكن ممكناً أن يكون إال "ذاك" الذي تنتظره البشرية منذ قرون:
املاسيا .ابلضمري حصلوا على اإلميان ابلصوت ذاته الذي بتلقيه "األصوات" السماوية قال هلم" :إهنا
هي النجمة اليت حتدد جميء املاسيا" .وبصالحهم كان هلم اإلميان أبن هللا مل خيدعهم ،ومبا أن نواايهم
ساع َدهم هللا بكل الوسائل لبلوغ هدفهم.
كانت سليمة ،فقد َ
ولقد جنحواُ ،هم وحدهم من بني عدد كبري من الناس الذين يدرسون الدالالت ،لقد فَ ِهموا
هذه اإلشارة ،ألهنم وحدهم الذين كانت يف نفوسهم الرغبة املتلهفة ملعرفة كلمات هللا بِنِيَّة مستقيمة،
حيث كانوا يفكرون يف أعماقهم أن يـُ َق ِدموا هلل دون أتخري كل تسبيح ومتجيد وإكرام.
مل يكونوا يفتشون عن منفعة شخصية .وأكثر من ذلك فلقد حتملوا مشقات السفر ومصاريفه
دون أن يطلبوا أي تعويض بشري .لقد طَلَبوا فقط أن يذكرهم هللا وخيلصهم يف األبدية .كما وأهنم مل
يفكروا أبية مكافأة بشرية يف املستقبل ،وكذلك حني قرروا السفر مل يكن لديهم أية اهتمامات بشرية.
أما أنتم فكنتم َستُبدون ألف عذر :كيف العمل ألقوم برحلة طويلة كهذه يف بلدان وبني شعوب بلغات
خمتلفة؟ هل يصدقونين أم يسجنونين كجاسوس؟ ماذا سيَـ َقدَّم يل من عون الجتياز الصحارى واألهنار
كان هذا كافياً .و َغذوا السري من األصقاع البعيدة .سالسل جبال منغولية ال حيلق فوقها سوى
ب كلمات سرية على صفحات الثلج النسور والعقبان حيث كلمهم هللا جبلبة الرايح والعواصف ،وَكتَ َ
اليت ال هناية هلا .من األراضي اليت يولد فيها النيل وجيري ،وريد الربوع السماوية إىل قلب البحر األبيض
املتوسط الالزوردي .فما استطاعت قمم وال غاابت وال رمال حميطات جافة ،وهي أكثر خطورة من
احمليطات املائية ،الوقوف يف وجه مسريهتم .والنجمة تلمع يف لياليهم ،مانعة عنهم النوم .عندما يبحث
أحدان عن هللا فينبغي للعادات احليوانية أن تتخلى عن ضيق الصدر واملطالب الفائقة البشر.
قادهم النجم من الشمال ،من الشرق ومن اجلنوب ،ومبعجزة إهلية تقدم أمام الثالثة ليصل هبم
إىل النقطة ذاهتا .وكذلك مبعجزة أخرى جيمعهم بعد مسريات طويلة يف نفس املكان .ومبعجزة أخرى
أيضاً مينحهم نعمة الفهم واإلفهام كما يف الفردوس حيث اللغة واحدة :لغة هللا .سابِِقني بذلك حكمة
العنصرة.
ولكن ضمائرهم طمأَنَتهم .فنفوسهم اليت تعودت التأمل ،وضمائرهم حساسة جداً .ولقد َ
ص َفت
ابالنتباه املتواصل ،بتأمل ابطين ُمَرَّكز َج َع َل ِمن ابطنهم مرآة تعكس أدق آاثر األحداث اليومية .لقد
سمع صوته ،ال أقول ألقل اهلفوات ،إّنا جملرد نظرة بسيطة صوب جعلوا منها معلِمة ،صواتً يـنَـبِه وي ِ
ُ ُ ََ
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 274 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
االحنراف أو اخلطأ حبق ما هو إنساين ،مبا خيص جماراة األان .وكذلك حني يقفون يف مواجهة هذه
املعلمة ،هذه املرآة اجلادة الواضحة ،فإهنم يعرفون أهنا ال تكذب ،فهي تطمئنهم اآلن ويستعيدون
شجاعتهم.
"آه! ما أعذب معرفة أن ال شيء فينا خمالف إلرادة هللا! والعلم أبنه ينظر بعطف إىل نفس
االبن البار ويباركها .من هذا الشعور أييت ّنو اإلميان والثقة والرجاء ،وقدرة النفس والصرب .يف هذه
األثناء هي العاصفة .ولكنها ستمضي ألن هللا حيبين ويعرف أنين أحبه ولن يبخل مبد يد العون يل مرة
يوجه بسلطان مطلق أخرى" .هكذا يتكلم الذين ميتلكون السالم ،السالم املتأيت من ضمري مستقيم ِ
قلت إهنم كانوا "متواضعني ألهنم يف احلقيقة عظماء" .أما يف حياتكم
كل حركة من تصرفاهتم .لقد ُ
فعلى العكس؛ ماذا حيدث؟ جتد أحدهم ،ليس ألنه عظيم ،بل ألنه عنيف ويستمد قدرته من تضافر
أتثريه مع عبادتكم الغبية لألصنام ،تراه لذلك ليس متواضعاً على اإلطالق .كذلك جتد من البؤساء
املساكني َمن ،بفعل كونه كبري خدام شخصية هلا وزهنا ،أو حاجب مكتب شخصية ما ،أو موظفاً يف
دائرة حكومية ،أو أحد أتباع من يوفر له مكانة معينة ،يتخذ وضعية نصف آهلة ،وأمثاله يبعثون على
الشفقة!...
ُهم ،احلكماء الثالثة ،كانوا فعالً عظماء .بفضيلتهم فائقة الطبيعة يف املقام األول ،ومث بضمريهم،
وأخرياً بثرائهم .إال أهنم يَعتَِربون أنفسهم الشيء :غباراً على غبار األرض ابلنسبة هلل تعاىل الذي خيلق
العوامل اببتسامة وينثرها مثل احلبوب مع أطواق من النجوم ،ليُشبِع هبا نظر املالئكة.
ولكن إذا كانوا يعتَِربون أنفسهم ال شيء جتاه هللا تعاىل الذي َخلَ َق الكوكب الذي يعيشون
العظَ َمة لألعمال اليت بال حدود،
عليه ،وقد َمنَ َحه تنوعاً غري عادي برتتيبه ،وهو النحات الالمتناهي يف َ
فهنا ،بلمسة إصبع َمنَ َحه إكليالً من هضاب انعمة وهناك هيكل قباب وقمم تبدو مثل فقرات العمود
الفقري لألرض ،وهذا اجلسم الذي بغري قياس والذي ميتلك األهنار كأوردة والبحريات كأحواض
واحمليطات كقلب والغاابت كثوب والغيوم كوشاح ،واجملمدات املتبلورة كزينة والزمرد والفريوز وعني اهلر
الع َدم أمام حضور هللا الذي منه أتتيهم احلكمة ولكنهم ،بكل حكمتهم ،يشعرون أبنفسهم مثل َ
والذي َمنَ َحهم نَظراً أكثر نفوذاً من عيوهنم لريوا احلقائق :عيون النفس اليت تعرف القراءة يف األشياء،
قراءة الكلمات اليت مل تكتبها يد إنسان ،إّنا فِكر هللا هو الذي نـَ َق َشها.
ولكنهم يَعون تالشيهم كمالكي الكنوز :فهي ذرات إذا ما قوِرنَت بكنوز مالك الكون الذي
ينشر املعادن واألحجار الكرمية يف النجوم والكواكب ،وثروات ال تنفذ يف قلوب الذين حيبونه.
ولدى وصوهلم أمام منزل متواضع يف أكثر مدن يهوذا وضاعةً ،مل يهزوا رؤوسهم قائلني" :غري
معقول" .ولكنهم حينون ظهورهم ،جيثون ،ويتواضعون ،خاصة يف قلوهبم ،ويسجدون .فهنا ،خلف هذا
اجلدار الوضيع يتواجد هللا .هذا اإلله الذي تضرعوا إليه دائماً وهم ال جيسرون مطلقاً على التأمل يف
أن حيصلوا ،ولو من بعيد ،على إمكانية رؤيته ،ولكنهم يبتهلون إليه من أجل خري اجلنس البشري،
و"خريهم" األبدي .آه إهنم كانوا يتمنون فقط إمكانية رؤيته ومعرفته وأن يكون يف حياهتم حيث ال
يعود فجر وال غسق.
إنه هنا ،خلف هذا اجلدار الوضيع .بدون شك ،إن قلبه الطفويل الذي هو مع ذلك قلب هللا،
حيس خبفقات قلوب هؤالء الثالثة الذين يصرخون جاثني على غبار الطريق" :قدوس ،قدوس ،قدوس،
مبارك الرب إهلنا ،اجملد له يف أعايل السموات ،والسالم خلدامه .اجملد ،اجملد ،اجملد والربكة ".هذا ما
كانوا يطلبونه بقلب يرتعش ابحلب .وأثناء الليل والصباح الذي تاله ،يتهيئون ابلصالة األكثر حرارة
لالتصال ابإلله الطفل .ومل يذهبوا إىل هذا اهليكل الذي هو صدر العذراء الذي حيمل القرابن اإلهلي
كما تذهبون أنتم إليه ونفوسكم مفعمة ابالهتمامات البشرية.
آه! يف بالدهم البعيدة جداً جداًكان ينبغي أن يتربجوا للناس املساوين هلم ليعايدوهم ويكرموهم.
فمن العدل إذن أن يرموا عند أقدام امللك األعظم الربفري واجلواهر ،احلرائر والريش الثمني ،أن يضعوا
صنَـ َعه هو -حّتعند قدميه الصغريتني العذبتني نُ ُسج األرض وجواهرها وريشها ومعادهنا -كل ما َ
ب منهم هذا الطفل أن تسجد أشياء األرض هذه ،هي أيضاً ،خلالقها .وسوف يكونون سعداء لو طَلَ َ
يتمددوا على األرض ليكونوا سجادة حية خلطواته الطفولية وأن يسري فوقها ،وهو الذي تَـَرَك النجوم
من أجلهم ،غباراً ،غباراً ،غباراً.
إهنم متواضعون وكرماء ،مطيعون "ألصواته" تعاىل ،تلك األصوات اليت أ ََمَرت أن ُحت َمل اهلدااي
للملك املولود حديثاً ،فحملوا أبنفسهم هذه اهلدااي .مل يقولوا" :إنه غين وال حاجة به إليها .إنه إله وال
يعرف املوت" .لقد أطاعوا .وكانوا ُهم أول من يغيثون فَقر املخلص .كم سيكون هذا الذهب مفيداً
للذين سيكونون يف الغد فارين! وكم سيكون ال ُـمر ذا مغزى كبري ملن سيُحكم عليه قريباً ابملوت! وكم
سيكون هذا البخور درءاً لـه من نتانة فسق الناس اليت حتتدم حول طهارته الالمتناهية ويتنشَّقها.
إهنم متواضعون ،كرماء ،مطيعون وحمرتمون الواحد من اآلخر :فالفضائل تَلِد دائماً فضائل
أخرى .بعد تلك اليت تتوجه إىل هللا أتيت اليت تتوجه إىل القريب .إنه االحرتام الذي يصبح حمبة .لقد
أُسنِد الكالم ابسم اجلميع إىل أكربهم سناً ،فيتقبل كذلك هو أوالً قبلة الرب ويقوده من يده .ذلك
أن ابستطاعة اآلخرين أن يروه فيما بعد ،أما هو فإنه مسن .ال بل إن اليوم الذي يعود فيه إىل هللا
قريب جداً .وسوف يرى املسيح بعد موته املفجع وسيتبعه ضمن عِداد املخلَّصني ،عندما يعود إىل
السماء .ولكنه لن يراه اثنية على هذه األرض ،لذا ،وكزاد لرحلته ،تبقى له حرارة اليد الصغرية اليت
استسلَ َمت ليده املتجعدة.
ولكن ،اي أبنائي ،هناك عرباتن أيضاً ميكن استخراجهما من هذه الرؤاي.
سلوك يوسف الذي يعرف البقاء يف "مكانه" ،حاضراً كحارس وحافظ للطهارة والقداسة،
يوجه الكالم .يسعد يوسف ولكنه ال يغتَ ِ
صب حقاً .إهنا مرمي ،مع يسوعها ،اليت تتقبل اهلدااي ،وإليها َّ
البار .ويبقى ابراً على الدوام،
من أجلها وال يهتم لكونه شخصية اثنوية .إن يوسف رجل ابر .إنّه ّ
حّت يف مثل هذه الساعة .فأخبرة االحتفال مل تصعد إىل دماغه .إنه يظل متواضعاً ومستقيماً وابراً.
سعيد هو ابهلدااي .إّنا ليس من أجله .ولكنه يفكر أن إبمكانه ،بواسطة هذه اهلدااي ،توفري
حياة أسهل لزوجته وللطفل .ليست لدى يوسف رغبة ابلثراء ،فهو عامل ،وسيظل يعمل .إّنا ليوفِر
"هلما" ،حلُبَّيه ،قليالً من اليسر والراحة .ال هو وال اجملوس يَعلَمون أن هذه اهلدااي ستنفع يف اهلرب
وحياة املنفى حيث سيتبدد هذا الثراء مثل غيوم تطاردها الرايح ،وكذلك يف العودة إىل الوطن .إذاً فَـ ُهم
سيفقدون كل شيء .العمالء واألاثث ،لن جيدوا سوى جدران بيتهم اليت محاها هللا ،إذ يف هذا املكان
قد احتد ابلعذراء و َّاَّتَ َذ لنفسه جسداً.
إن يوسف متواضع ،فحّت مع كونه حارس هلل ولتلك اليت هي أُم هللا وعروسته تعاىل ،فقد
َّدت إرث داود من ممتلكاهتم ك ِ
ابلركاب ألتباع هللا هؤالء .إنه جنار فقري ألن قسوة العامل قد بَد َ َأم َس َ
امللكية .ولكنه يبقى من أصل ملوكي ،وله طباع امللوك .فمن أجله أيضاً قيل" :إنه متواضع ألنه يف
احلقيقة عظيم".
وم َعِربة. ِ ِ
آخر عربة ،وهي عذبة ُ
إهنا مرمي اليت أتخذ بيد يسوع الذي مل يكن يعرف بعد أن يبارك ،وتقودها يف احلركة املقدسة.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 278 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
دائماً هي مرمي اليت أتخذ بيد يسوع وتقودها ،حّت اآلن كذلك .اآلن يعرف يسوع أن يبارك،
ومثبَطَة عزائمها ،ألن الربكة ال تفيد .إنكم تنقضون بركيت .وتعود ِ
املخرتقَة تَعبَة ُ
إّنا أحياانً تسقط يده ََ
لتسقط كذلك لعدم استحقاقكم ألنكم تلعنونين .حينئذ حتتوي مرمي هذا السخط وهي تُـ َقبِل هذه
اليد .آه! اي لقبلة أمي! من يستطيع مقاومة هذه القبلة؟ مث أتخذ أصابعها الناعمة قبضيت حبب آمر
وترغمين على أن أُاب ِرك .فأان ال أستطيع أن أرد أمي ،إّنا جيب العبور من خالهلا لتجعلوها احملامية
عنكم.
إهنا َملِ َكيت قبل أن تكون ملكتكم ،وحبها لكم ميتلك من الغفراانت ما ال يعرفه حيب نفسه.
وهي ،بدون كالم ،بآللئ دموعها ودعوة صلييب الذي َج َعلَتين أرسم إشارته يف اهلواء ،تُرافِع عنكم
"أنت املخلِص ،فخلِص!"
وحتثينَ :
هذا هو ،اي أبنائي "إجنيل اإلميان" يف رؤاي مشهد اجملوس .أتملوا واقتدوا من أجل خريكم.
يقول يسوع:
ِ
رغبتك بزايرة األماكن املق ّدسة كنت تقولني إنّ ِ
ك متوتني دون رؤية إشباع «اكتيب هذا فقط .منذ أايم ِ
ّ
قدستُها بوجوديّ .أما اآلن ،وبعد عشرين قرانً من االنتهاكات ،حبقد تتح ّقق .إنّ ِ
ك تَـ َرينَها ،وكما كانت حني َّ
فأنت يف الوقت احلاضر ترينها ،بينما الذي يذهب إىل فلسطني ال أو حبب ،فلم تعد أبداً كما كانت .إذاِّ ،
ّ
يراها .ال ُتزين.
1944 / 05 / 09
الوقت ليل .ويوسف يغفو على وسادته يف غرفته الصغرية انئماً نوماً هادائً ،نوم َمن يراتح بعد
عمل كثري أجنََزهُ بشرف وعناية.
أراه يف عتمة الغرفة اليت يتخللها خيط نور قمري يَلِج من فتحة يف النافذة غري املغلقة جيداً ،بل
هي ابلكاد منفرجة ،كما لو كان يوسف يشعر ابلدفء يف هذا املكان الصغري ،أو كما لو كان هو
يريد هذا اخليط من النور ليستطيع ضبط نفسه مع الفجر فينهض سريعاً .إنه ينام على جنب ويبتسم
لست أدري ألية رؤاي أو أي حلم .إن االبتسامة ما لَبِثَت أن َّ
حتولَت إىل َجَزع .يتنهد عميقاً يف نومه ُ
كما لو كان كابوساً ،مث يـَ ُهب من النوم قافزاً.
جيلس على السرير ،يفرك عينيه وينظر حوله .ينظر إىل النافذة من حيث يدخل خيط النور.
الظلمة دامسة ،ولكنه يتوصل إىل الثوب املمدد يف أسفل السرير ،ويرتديه فوق قميص أبيض أبكمام
قصرية كان يلبسه وهو ما يزال جالساً على السرير .يكشف الغطاء ويُن ِزل قدميه إىل األرض ويبحث
عن صندله ويلبسه ويربط شريطه .ينهض ويتوجه صوب الباب املقابل لسريره ،وليس الذي إىل جانبه
ويؤدي إىل الغرفة اليت استَقبَلوا فيها اجملوس .يقرع هبدوء ،ابلكاد تك -تك أبطراف أصابعه.
أدرَك أنه ُدعِ َي إىل الدخول ،ذلك أنه يفتح الباب حبذر ويعيد إغالقه دون جلبة.
قد يكون َ
وقبل أن يتوجه إىل الباب يشعل مصباح زيت صغرياً بشعلة واحدة ليستنري به .يدخل إىل غرفة أكرب
قليالً من غرفته حيث يوجد مرقد منخفض وإىل جانبه مهد ،وفيها قنديل مضاء ،حبيث تبدو شعلته
ولكن مرمي ال تنام .إهنا جتثو إىل جانب املهد بثوهبا الناصع وتصلي ،تسهر على يسوع الذي
ينام هبدوء .يسوع الذي ما يزال ابلعمر الذي رأيتُه به يف رؤاي اجملوس .إنه طفل يف ما يقارب السنة،
صب ،وهو غارق يف الوسادة ،ويده املغلقة على مجيل وردي وأشقر ذو رأس صغري مجيل وشعر ُم َق َّ
عنقه.
يسأهلا يوسف بصوت منخفض مندهشاً« :أال تنامني؟ ملاذا؟ أوليس يسوع يف حالة جيدة؟»
يتكلم يوسف بصوت منخفض جداً ،لكي ال يوقظ الطفل ،إّنا حبماس« :جيب أن نرحل من
هنا ،وفوراً .أعدي الصندوق والكيس ،وضعي فيهما كل ما تستطيعني ،وسأجهز الباقي .سأمحل أكثر
ما ميكنين محله ...وسنهرب مع الفجر ،بل حّت قبل ذلك .إّنا جيب أن أحتدث إىل صاحبة املنزل»...
ال حاجة للقول ملرمي أبن ال تضيع الوقت .فما أن َِمس َعتهُ يتكلم عن املالك ،عن يسوع وعن
أدرَكت أن خطراً حييق اببنها .ف َق َفَزت واقفة ووجهها أكثر شحوابً كالشمع ،واضعة يدها
الفرار ،حّت َ
على صدرها بقلق .وبَ َدأَت تسري بسرعة وخفة ،وترتب الثياب يف الصندوق ويف كيس كبري َمدَّته على
سريرها الذي مل ُميس .إهنا قلقة ولكنها مل تفقد دقة التفكري ،إهنا تقوم بكل شيء بعجلة إّنا برتتيب.
ومن وقت آلخر ،بينما متر قرب املهد تنظر إىل الطفل النائم غري عامل بشيء.
فقط عندما امتأل الكيس وأصبَ َح ثقيالً ،اندت يوسف ليساعدها يف إغالقه ورفعه عن السرير.
ولكن يوسف ال يريد أن يساعده أحد ،ويتصرف منفرداً حبمله الصرة الطويلة وأخذها إىل غرفته.
«خذي كل ما ميكن أخذه ،ألن الباقي سنخسره .إّنا خذي كل ما تستطيعني .سوف ينفع
ألن ...ألننا سوف نضطر إىل البقاء بعيداً مدة طويلة ،اي مرمي!»...
أثناء قوله هذا يبدو يوسف حزيناً جداً ،أما مرمي فيمكننا تصور ما هي عليه .إهنا تطوي ،وهي
تتنهد ،أغطيتها وأغطية يوسف الذي يربطها حببل.
تلملم مرمي أشياء أخرى ،وبعد أن تنظر إىل يسوعَّ ،ترج وتعود وبيدها ثياب صغرية تبدو أهنا
ما تزال رطبة ،قد تكون َغ َسلَتها يف الليل ،تطويها وتلفها ضمن قطعة قماش وتضعها مع الباقي .ال
شيء بعد .تلتفت فرتى يف إحدى الزوااي لعبة صغرية ليسوع :نعجة صغرية منحوتة من اخلشب.
تلتقطها مرمي وهي تبكي وتُـ َقبِلها .فاخلشب حيمل آاثر أسنان يسوع الصغرية ،واألذانن عليهما آاثر
اآلن حتماً مل يعد ينقص شيء .فقط يسوع يف مهده .تفكر مرمي أبنه ينبغي إعداد الطفل جيداً.
تذهب إىل املهد وحتركه قليالً إليقاظ الصغري .ولكنه يئن للحظة مث يدور ويتابع نومه ،تداعب مرمي
بلطف خصالت شعره ،يفتح يسوع فمه ليتثاءب .تنحين مرمي وتقبل خده .يستيقظ يسوع ،يفتح
عينيه .يرى أمه ويبتسم ،مث ميد يديه إىل صدرها.
الدتك
ك جاهز دوماً لرتضع من و َ
ك .نعم احلليب .قبل املوعد املعتاد ...ولكن َ«نعم اي ُحب أُم َ
اي َمحَلي املقدس الصغري!»
يبتسم يسوع ويلهو بتحريك قدميه الصغريتني خارج األغطية ،وخافقاً بيديه بنوع من الفرح
الطفويل الذي خيلب النَّظَر .يسند قدميه على بطن أمه ويتقوس ليسند رأسه على صدرها .مث يعود
فريمي بنفسه إىل اخللف ويضحك ممسكاً ابحلبال اليت تقفل ثوب مرمي يف حماولة لفتحها .إنه يبدو
مجيالً جداً بقميصه الكتاين ،ربيالً وردايً مثل زهرة.
تنحين مرمي ،وبينما هي هكذا من وراء املهد لرعايته ،تبكي وتضحك يف الوقت ذاته ،يف حني
يناغي الطفل بكلمات ليست كالكلمات ،كلمات كل األطفال ،حيث ّنيز بوضوح فقط كلمة
"ماما" .وينظر إليها مندهشاً لرؤيتها تبكي .ميد يده إىل الدموع املتأللئة ،اليت جتوب خدي مرمي
وتبللهما ،وهو يداعبها ،مث ،وبسلوكه العذب هذا ،يعود ليستند على صدر أمه مشدوداً إليه وهو
يداعبه بيده الصغرية.
تُـ َقبِل مرمي شعره ،وأتخذه وجتلس لتلبسه .ها هو قد لبس الثوب الصويف الصغري وصندالً صغرياً
يف قدميه .تُـ َق ِدم لـه ثديها فريضع يسوع حليب أمه بشهية ،وعندما يبدو لـه أن اليميين مل يعد يدر إال
تَ َنهض مرمي من جديد هبدوء وتضعه على مفرش سريرها .تغطيه مبعطفها .تذهب إىل املهد
وتطوي األغطية الصغرية ،وتتساءل ما إذا كان ينبغي هلا أن أتخذ الفراش الصغري .إنه صغري جداً!
إبمكاهنا أخذه .وتضعه مع الوسادة قرب األمتعة اليت هي اآلن على الصندوق .وتبكي فوق املهد
املضطهدة اببنها!
َ الفارغ .مسكينة هي هذه األم
ِ
أخذت أغطيته ومرقده الصغري؟ إننا ال أنت جاهزة؟ ويسوع كذلك؟ هل يعود يوسف« :هل ِ
نستطيع محل املهد ،إّنا فليكن له فراشه على األقل ،هذا الصغري املسكني الذي يسعون إىل قتله».
«نعم اي مرمي ،إىل قتله! هريودس يريد قتله ...ألنه خائف منه ...من أجل سلطانه امللكي خياف
لست أدري ماذا سيفعل عندما يعلم أنه َهَرب .ولكن حينئذالوحش الدنس من هذا الربيءُ . ُ هذا
لست أظن أن انتقامه أثناء البحث سوف ميتد إىل اجلليل .إنه من الصعب جداً
سوف نكون بعيدينُ .
ساع َده
ومن حنن ابلتحديد .إال إذا َ اكتشاف كوننا جليليني ،وأصعب من ذلك أننا من الناصرةَ ،
الشيطان ليشكره على كونه خادمه األمني .إّنا ...إذا ما حصل هذا ...فسيساعدان هللا من جهته.
ال تبكي اي مرمي .أن أر ِاك تبكني يعذبين أكثر من وجوب الرحيل إىل املنفى بكثري».
لست أبكي من أجلي وال من أجل املمتلكات القليلة اليت أفقدها .بل«سـاحمين اي يوسف! ُ
نفسك دون عمل ،دون بيت! َ اضطررت حّت اآلن أن تضحي كثرياً! واآلن ستجد
َ أجلك ...لقد
من َ
لك من املتاعب اي يوسف!»
كم أسبب َ
«كم؟ ال اي مرميِ .
أنت ال تسببني يل شيئاً أبداً .بل إن ِ
ك تعزينين دائماً .ال تفكري ابلغد .إننا
ّنلك كنوز اجملوس .سوف يساعدوننا يف البداية .مث سأجد عمالً .فالعامل الشريف والقدير يدبر شؤونه
حاالً .ر ِ
أيت هنا .مل أكن أجد الوقت الكايف إلجناز األعمال كلها».
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 285 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
حنينك إىل الوطن؟»
َ يشفيك من
َ «أعرف ،ولكن َمن
لك الغايل جداً على ِ
قلبك؟» حنينك إىل منز ِ
ِ ِ
يشفيك من «و ِ
أنت َمن
تَ َنهض مرمي ُمطيعة ،وتتدثر مبعطفها ،بينما جيهز يوسف الصرة األخرية وحيملها وهو خيرج.
ترفع مرمي الطفل بلطف .وتلفه بوشاح وتضمه إىل قلبها .تنظر إىل اجلدران اليت آوهتم شهوراً
وتتلمسها بيدها .مغبوط املنزل الذي استحق أن حتبه مرمي وتباركه!
عرب الغرفة الصغرية اليت كانت ليوسف ،وتدخل إىل الغرفة األخرى .تُـ َقبِلها صاحبة املنزل
ََّت ُرج ،تَ ُ
وتُ َسلِم عليها وقد اهنَ َمَرت دموعها .وترفع طرف الوشاح وتُـ َقبِل الطفل النائم هبدوء من جبهته .ويهبطون
السلم اخلارجي الصغري.
كانت اخليوط األوىل لنور الفجر تسمح فقط بتمييز األشياء .ويف شبه العتمة هذه تُرى املطااي
ُخريَني سرجان .يهتم يوسف برتتيب الصندوق الثالث .على األقوى منها ُحتَ َّمل األمتعة ،وعلى األ َ
والصرر بشكل جيد على بردعة احلمار األول .أرى عدة النجارة موضوعة ومربوطة على أعلى الكيس.
ومن جديد وداع ودموع ،مث متتطي مرمي احلمار بينما صاحبة املنزل حتمل يسوع قرب عنقها وتُـ َقبِله
للمرة األخرية قبل إعادته إىل أمه .وميتطي يوسف كذلك صهوة محاره بعد أن يربطه ابلذي حيمل
األمتعة ليتفرغ لإلمساك بلجام محار مرمي.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 286 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
يبدأ اهلروب بينما كانت بيت حلم ما تزال حتلم مبشهد اجملوس اخلارق ،وتنام بسكينة غافلة عما
ينتظرها.
يقول يسوع:
وابإلذن من العلماء املتشددين -فقد سب َق وأرينا ِك م ِ
شاهد «وهكذا أيضاً هذه اجملموعة من الرؤىِ - .
َ ََ
وعاص َرت وتَـلَت جميئي إىل هذا العامل ،ذلك ليس ألجلها هي ؛ فهي معروفة مبا فيه الكفاية ،إ ّّنا َ مما َسبَـ َقت
تبدلَت مبا طرأ عليها من إضافات عرب القرون ،ودائماً بسبب هذا األسلوب خاص أل ّن معالِمها قد َّ
بشكل ّ
حقيقي ما كان أمجل لو تُ ِرك علىّ يتم متجيد هللا بشكل أفضلَ ،جت َعل غري
البشري يف رؤية األمور اليت ،لكي ّ
ّ
حقيقته -ألجل هذا كان ذاك مغفوراً -ذلك أ ّن إنسانيّيت وإنسانيّة مرمي ال تكون منقوصة ،وكذلك ألوهيت
وحب الثالوث األقدس ،هبذه الطريقة يف رؤية األمور على حقيقتها ،إ ّّنا على العكس، ّ وعظَ َمة اآلب
َ
يناك هذه فاستحقاقات والديت وتواضعي الكامل تتألّق ،وكذلك صالح الرب األزيل الكلّي القدرة .وإ ّّنا أر ِ
ّ ّ ّ
نحك هذا كقاعدة عليك وعلى اآلخرين ،وم ِ املشاهد إلمكانية تطبيق املعَن الفائق الطبيعة الذي ينبعث منها ِ
َ ّ
حياة.
الوصااي العشر هي الشريعة ،وإجنيلي هو العقيدة اليت جتعل تلك الشريعة أكثر وضوحاً وأكثر
حتبُّباً التِباعها .فهذه الشريعة وهذه العقيدة كافيتان لتجعال من الناس قديسني.
إنكم متورطون جداً إبنسانيتكم اليت تُسيِطر عليكم بشكل ُمبالَغ فيه ،واليت تسيطر أيضاً على
روحكم حبيث ال تستطيعون اتباع طُُرقه اليت يعينها لكم ،وتَـ َقعون ،أو ابألحرى تتوقفون ُمثبَطة عزائمكم.
تقولون ألنفسكم وللذين يريدونكم أن ترتقوا برواية أمثال اإلجنيل" :ولكن يسوع ،ولكن مرمي ،إّنا
يوسف (وهكذا لكل القديسني) مل يكونوا مثلنا ،لقد كانوا أقوايء .لقد تعزوا مباشرة يف آالمهم ،وحّت
يف هذا القليل من األمل الذي حتملونه مل يكونوا حيسون ابألهواء ،لقد كانوا آنئذ كائنات غريبة عن
األرض".
األمل ،ابلنسبة لنا ،كان الصديق الويف ،ولقد َّاَّتَ َذ كل األمساء ومجيع األشكال على اختالف
أنواعها" .األهواء" ،ال تستخدموا كلمات غري ُمالئِمة يف تسمية الرذائل اليت تضللكم "أبهواء" .بل
مسوها ،وبصراحة" ،رذائل" ،وعالوة على ذلك ،رئيسية.
وهذه أيضاً ،ال ميكن اعتبار أننا كنا جنهلها .فلقد كانت لنا عيون وآذان لنرى ونسمع ،وكان
الشيطان جيعل هذه الرذائل تلمع أمامنا وحولنا إبظهارها ابلفعل بكل قذارهتا ،كما كان أيضاً جيربنا
بتلميحاته .ولكن مبا أن اإلرادة كانت تَ َنزع يف النية إىل أن نكون َمرضيني لدى هللا ،فهذه القذارة وهذه
ض َعه الشيطان نصب عينيه ،فقد أدت إىل التأثري ِ
التلميحات ،بدالً من أن ُحتَقق هدفها الذي َو َ
العكسي .وكلما كان َجيد يف مطاردتنا ،كنا نلتجئ إىل نور هللا ابلنفور من الظلمات املوحلة اليت كان
يقدمها لعيون جسدان وروحنا.
أما األهواء ،ابملعّن الفلسفي هلا ،فلم نكن جنهلها فينا .لقد ُكنا حنب ،بل هنوى وطننا ،بلدتنا
اجتاحتنا مشاعر احلنني إىل منزلنا وأهلنا وأصدقائنا.
الصغرية الناصرة ،أكثر من كل مدن فلسطني .لقد َ
فلماذا مل يكن ينبغي لنا أن خنتربها؟ إال أننا مل جنعل من أنفسنا عبيداً هلا ،ذلك أن ال شيء ميكنه أن
يكون معلماً لنا غري هللا .ولكننا َج َع ْلنا منها رفاقاً صاحلني.
صَر َخت عندما عادت إىل الناصرة ،بعد حوايل أربع سنوات ،صرخة فرح وهي تدخل إىل أمي َ
َّعم" اليت قالتها كانت قد فَـتَ َحت أحشاءها لتستَقبِل بذرة هللا
بيتها ،وأخذت تُـ َقبِل اجلدران حيث "النـ َ
فيها .ويوسف صافَ َح بفرح أهله وأوالد إخوته املتزايدين عدداً وحجماً؛ ولقد استمتَ َع مبالحظته مواطنيه
مت من خيانة يهوذا وكأهنا كنت حساساً للصداقات ،فتأل ُ صدوه مباشرة لكفاءته .وأان ُ وقد تذكروه وقَ َ
لب وجداين .وأكثر من ذلك ،فال أمي وال يوسف َج َعال حب البيت يتقدم على إرادة هللا. ص ٌَ
وأان مل أمسك الكلمات ،عندما كان يتوجب علي قوهلا ،الكلمات القابلة ألن جتلب يل حقد
يف َك َفادي ،إّنا كغين.
كنت أعلَم أن الفضة كانت كافية لربطه يف؛ ليس َّ
اليهود أو عداوة يهوذا .لقد ُ
يدعو العامل "عظماء" أولئك الذين يعرفون أن يستحوذوا ألنفسهم على مراكز جيدة بوسائل
صلوا إىل هذه املراكز يستخدمون القريب سلماً يدوسونه أبرجلهم هي غالباً غري مشروعة .ولكي ي ِ
َ
لريتقوا هم .يسمي العامل "عظماء" أولئك الذين يَعرفون أن يَقتُلوا لكي َميلِكوا ،أن يَقتُلوا معنوايً أو
جسدايً :الذين يَغتَصبون املراكز أو جيتاحون البالد ويغتنون هم أنفسهم بتجريد اآلخرين من ثرواهتم
"فالعظَ َمة" ال تنسجم معاخلاصة أو اجلماعية .وغالباً ما َمينَح العامل لقب "عظماء" جملرمني .الَ .
الصالح والرب ،يف الشرف ويف احلب واالستقامة .انظروا إىل عظمائكم ،أية فاكهة اإلجرام .إهنا تُقيم يف َّ
مسمومة يقدمون لكم ،إهنم يقطفوهنا ابلفساد الشيطاين من حديقتهم الداخلية!
الرؤاي األخرية -مبا أنين أريد التحدث عنها دون التوقف عن الكالم يف أمور أخرى لن جيدي
نفعاً عرضها على عامل ال يريد مساع احلقيقة اليت َّتصه -هذه الرؤاي األخرية تُـ َو ِضح نقطة خاصة َوَرَدت
تكرَرت مرتني" :قُمُ ،خذ الصيب وأمه وارحل إىل مصر" (" )13 / 2قُم، مرتني يف إجنيل مّت ،مجلة َّ
أيت أن مرمي كانت وحدها يف غرفتها مع خذ الصيب وأمه وارجع إىل أرض إسرائيل" ( )20 / 2ور ِ
ُ
الطفل.
هامجَها كثرياً أولئك الذين ،لكوهنم وحالً ونتانة ،ال يتقبلون أن يستطيع خملوق بشري مثلهم
لقد َ
فس َدة للغاية،
أن يكون كنفاً ونوراً ،بتولية مرمي بعد الوالدة وعفة يوسف .لقد احنَطوا بنفسهم ال ُـم َ
بنفسهم املذلولة للجسد لدرجة أهنم أصبَحوا عاجزين عن التفكري أبن إنساانً يستطيع احرتام امرأة أبن
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 290 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
يرى فيها الروح ال اجلسد ،وأن يرتقي لدرجة احلياة يف جو فائق الطبيعة ،راغباً ليس يف ما هو جسدي،
بل يف ما هو إهلي.
املتنكرين للجمال الفائق ،هلذه الديدان العاجزة عن أن تصبح فراشات ،هلذه الزواحف إذاً ،هلؤالء ِ
استمرت عذراء،املتمرغة يف لعاب الشهوات ،العاجزة عن إدراك مجال الزنبقة ،أان أقول إن مرمي كانت و َّ
اقرتنَت بيوسف ،كما أن روحها فقط هي اليت َّاحتَ َدت بروح هللا ،وبِِفعله وإن النفس وحدها هي اليت ََ
َحبَـلَت ابلوحيد الذي َمحَلَت به :أان ،يسوع املسيح ،االبن الوحيد هلل وملرمي.
أزهَراً فيما بعد بسبب احرتام الطوابوية اليت هي أمي إىل حد العشق .إهنا
هذا ليس تقليداً َ
حقيقة وقد عُ ِرفَت منذ األزمنة األوىل.
مل يولد مّت يف القرون التالية .بل لقد كان معاصراً ملرمي .ومّت مل يكن جاهالً مسكيناً ،أو
صالً للضرائب (جابياً) كما تسمونه اآلن، مستوحشاً ساذجاً وقابالً لتصديق أية قصة .لقد كان ُحم ِ
َ
سمع ويُد ِرك ومييز احلقيقة من الباطل .فمّت مل
عشاراً كما كنا نسميه آنذاك .وكان يَع ِرف أن يَنظُر ويَ َ
يعلم ابألمور عن طريق قيل عن قال ،وإّنا عن طريق أشخاص َمشَلَتهم األحداث .لقد استقى معلوماته
من فم مرمي حيث ُحبه للمعلم وللحقيقة َدفَـ َعه ليطلب املعلومات منها شخصياً.
ال أظن هؤالء الناكرين حلصانة مرمي يفكرون أبهنا استطاعت الكذب .فأهلي أنفسهم كانوا
يستطيعون تكذيبها لو كان هلا أبناء آخرون .فيعقوب ويوضاس ومسعان ويوسف كانوا هم أيضاً
معاصرين ملّت .لقد كان من السهل على هذا األخري أن يُقابِل الرواايت ،لو كانت ُوِج َدت عدة
أتك" .بل قال" :خذ الصيب وأمه" .وكان قَبلَها قد قال:
رواايت .ذلك أن مّت مل يقل أبداً" :قم خذ امر َ
"عذراء خمطوبة ليوسف" و "يوسف عروسها".
فال أيتينين هؤالء الناكرون ليقولوا يل إهنا كانت طريقة كالم اليهود كما لو أن عبارة "امرأة"
تنكرون للطهارة .من العبارات األوىل للكتاب املقدس نقرأ مراتكانت َّتل ابلشرف .ال ،أيها الـم ِ
ُ
ف امرأته" .ذلك أن قبل إمتام الزواج ابلدخول تسمى "خمطوبة" "...وعَر َ
َ كثرية ،ويف فصول خمتلفة:
كما تَـَرون ،فهذه التسمية مل تكن لفظاً حمظوراً على الذين يتبعون طرق الرب ،أو لفظاً جنساً
جيب عدم نطقه ،وأكثر من ذلك عدم كتابته حيث يكون املوضوع خيص هللا وأعماله البديعة .واملالك
بقوله" :الطفل وأمه" ،يبني لكم أن مرمي كانت األم احلقيقية ليسوع دون أن تكون امرأة (زوجة) يوسف.
وستبقى أبداً عروسة يوسف العذراء.
هذه هي العِربة األخرية من هذه الرؤى .إهنا هالة نور تتألق على رأس مرمي ويوسف ،العذراء
الع ِطر
عت بينهما وأان ال أمسع غري الكالم َ
ترعر ُ
اليت مل ُمتس والرجل العفيف البار ،الزنبَـ َقتني اللتني َ
والطاهر.
َّسة .إهنا يف مصر .ال ميكن الشك يف ذلك ،فأان أرى الصحراء وأحد
الرؤاي العذبة للعائلة املقد َ
األهرامات.
موشَّحاً ابلبياض ،هو عبارة عن طابق أرضي فقط ،بيتاً متواضعاً ألانس فقراء جداً.
إين أرى بيتاً َ
جدرانه ابلكاد مطلية ومكسوة بطبقة واحدة من الكلس .هلذا املنزل الصغري ابابن؟ ،الواحد إىل جانب
دخالن لغرفتني وحيدتني مل أدخلهما بعد .السكن وسط أرض صغرية رملية مسورة اآلخر ،إهنما َم َ
بقصب مغروس يف األرض ليشكل دفاعاً واهياً ضد اللصوص .إنه ال يفيد إال ضد كلب أو قطة
شاردة .ولكن ،ابلفعل ،من ذا الذي خيطر له على ابل أن يسرق مكاانً يبدو جلياً أن ال أثر للغّن
فيه؟
على سور القصب َعَّر َشت بعض النبااتت املتسلِقة ،جاعلة السور أكثر مساكة وأقل بؤساً،
وتبدو يل أهنا من اللبالب املتواضع .يف طرف واحد فقط توجد شجرية ايمسني مزهرة ودغل من الورد
فمعتَّن هبا بصرب رغم كوهنا قاحلة وجافة ومتواضعة ،لتصبح حديقة
من النوعية الصغرية .أما األرض ُ
صغرية .أرى خضراوات هزيلة جداً يف بعض املساكب الصغرية يف الوسط حتت شجرة ضخمة مل
أستطع متييز نوعيتها ،وهي تظلل األرض احملروقة ابلشمس ،وكذلك املنزل .ولقد ُربِطَت إىل هذه
الشجرة عنزة بيضاء وسوداء وهي تقضم وجترت أوراق بعض األغصان امللقاة على األرض.
وهنا على حصرية ممدودة على األرض كان الطفل يسوع .يبدو يل ابن سنتني إىل سنتني ونصف
على األكثر .يلعب بقطع خشبية منحوتة تشبه النعاج أو اخليل مع شرائط من اخلشب األبيض .وهو
حياول بيديه الربيلتني الصغريتني وضع هذه األطواق اخلشبية يف رقاب احليواانت.
على مسافة قريبة منه كانت السيدة العذراء ،وهي كذلك يف ظل الشجرة ،تنسج على نول
ريفي وتراقب الطفل .أرى يديها الناعمتني البيضاوين تروحان وجتيئان مع رمي املكوك على اللحمة،
والقدم احملتذية بصندل حترك الدواسة .إهنا ترتدي جلباابً بنفسجياً مائالً إىل الوردي مثل لون زهرة
اخلبيزة .رأسها عار ،وبذلك أستطيع مالحظة شعرها األشقر املفروق إىل خصلتني على رأسها مث
جتدالن بشكل بسيط وتنزالن بلطف على العنق .أكمام ثوهبا طويلة وضيقة .ال زينة أخرى غري مجاهلا
وتعبري وجهها العذب ،لون بشرهتا ،لون شعرها وعينيها ،شكل وجهها ،كل شيء كما أراه يف العادة.
وهي تبدو هنا شابة يف العشرين من عمرها .بعد قليل تَ َنهض وتنحين على الطفل تُلبِسه حذاءه وتربط
فوه) الطفل بكالم فتجيبه، له السري (الرابط) بعناية .مث تداعبه وتطبع قبلة على رأسه وعينيه .يُتعتِع (يت َّ
ولكنين مل أفهم الكالم .مث تعود إىل نوهلا لتمد قطعة قماش على السداة واللحمة وأتخذ الكرسي الذي
كانت جتلس عليه إىل داخل املنزل .ويتبعها الطفل بِنَظَره دون إزعاجها عندما ترتكه وحيداً.
يبدو أن العمل قد انتهى ألن املساء قد حل .ابلفعل ،فإن الشمس تغيب على الرمال العارية،
وكأن حريقاً حقيقياً جيتاح السماء كلها خلف اهلرم البعيد.
تعود مرمي مرة أخرى وهي تضع وشاحاً طويالً على رأسها وحتمل بيديها جرة .أتخذ يسوع بيده
ويتوجهان معاً صوب الواجهة األخرى للمنزل ومها يدوران حوله.
أتبَـعُهما وأان أنظر إبعجاب إىل هذه اللوحة .السيدة العذراء اليت تضبط خطواهتا على خطوات
الطفل ،والطفل الذي يهرول إىل جانبها .فأرى األعقاب الوردية اليت تصعد وهتبط على رمال الدرب،
مع الظرف اخلاص مبسرية األطفال .أشري هنا إىل أن اجللباب ال يصل إىل القدمني ،ولكنه يصل فقط
إىل منتصف بطة الساق .إنه شديد النظافة ،بسيط جداً ،حمصور عند اخلصر حببل أبيض.
أرى السياج يف واجهة البيت األمامية مقطوعاً حباجز ريفي ُم َشبَّك .تفتحه مرمي وَّترج إىل
الشارع .إنه شارع فقري يف طرف مدينة أو بلدة تتصل ابلريف .إنه درب رملي فيه منزل صغري فقري
آخر مثل هذا مع حديقة صغرية متواضعة .ال أرى فيه أحداً .تنظر مرمي إىل جهة املدينة ،وليس ابجتاه
القرية ،كما لو كانت تنتظر أحداً ،مث تتجه صوب بركة أو بئر موجود على مسافة بضعة عشر مرتاً إىل
األعلى وتضفي عليه بعض النخالت ظالً مستديراً .كما أرى األرض يف هذا املكان مغطاة بعشب
أخضر.
وهنا أرى رجالً يصل عرب الطريق األمامية ،وهو ليس كبرياً جداً ولكنه قوي .أتعرف عليه ،إنه
يوسف وهو يبتسم .إنه أكثر شباابً مما رأيته عليه يف رؤاي الفردوس .يبدو يف سن ال يتجاوز األربعني.
شعر اللحية كثيف وأسود ،البشرة مسراء برونزية والعينان قامتتان؛ وجه نزيه ورضي ،وجه يوحي ابلثقة؛
لدى رؤيته مرمي ويسوع حيث اخلطى ،كان حيمل على كتفه األيسر منشاراً ومسحجاً ،ويف يده أدوات
أخرى من أدوات مهنته ،تبدو خمتلفة عن أدوات هذا العصر ،إّنا ليس كثرياً .يبدو كأنه عائد من عمل
لدى شخص ما.
تبتسم مرمي ،ويُطلِق الطفل صرخات فرح وميد يده احلرة .وعندما يلتقي الثالثة ينحين يوسف
ليقدم للصيب مثرة تبدو من شكلها ولوهنا أهنا تفاحة .مث ميد ذراعيه .فيرتك الصيب أمه ويتلملم بني
ذراعي يوسف حانياً رأسه يف جتويف كتفه وأيخذ يقبله ويتلقى منه القبالت .حركة مفعمة ابلعاطفة
ال ُـممتِعة.
يُقبِل الليل ،وأرى لون الغسق األمحر الذي يتخذ صبغة بنفسجية فوق الرمال ،حيث يبدو اجلو،
بفعل احلرارة ،وكأنه يهتز .ويبدو اهلرم كذلك أكثر قتامة.
يَلِج يوسف غرفة يف البيت ،من املفروض أن تكون مشغالً ومطبخاً وغرفة طعام معاً .أعتَ ِقد أن
األخرى قد ُخصصت لالسرتاحة .ولكنين مل أدخل إليها .هناك على األرض موقد مشتعل ،ودائماً يف
هذه الغرفة ،توجد طاولة جنارة ،وطاولة صغرية وكراسي صغرية ورفوف ُو ِض َعت عليها بعض األواين
وقنديال زيت .ويف إحدى زواايها نول مرمي .إهنا مرتبة جداً جداً ونظيفة جداً جداً .إنه مسكن فقري
جداً ولكنه نظيف للغاية.
تعود مرمي مع اجلرة .ويُغلَق الباب مع الليل الذي يهبط بسرعة .تُنار الغرفة بقنديل يُشعِله يوسف
ويضعه على طاولة النجارة حيث ينحين ليعمل أيضاً أعماالً بسيطة بينما هتيئ مرمي العشاء .والنار
كذلك تضيء الغرفة .ويسوع ُميعِن النظر يف ما يعمله يوسف مسنداً يديه على الطاولة رافعاً رأسه.
صلون. صلوا .طبعاً ُهم ال يرمسون إشارة الصليب ،ولكنهم يُ َ مث َجيلسون إىل الطاولة بعد أن يُ َ
أجهلُها متاماً.
صلي ومرمي ُجتيب .ولكين مل أفهم شيئاً .قد يكون مزموراً ،إال أنه يُتلى بلغة َيوسف يُ َ
مث َجيلسون .القنديل اآلن على الطاولة .أتخذ مرمي يسوع إىل صدرها وتسقيه حليب العنزة.
هي تغمس فيه قطعاً من خبز أسود يف ظاهره وداخله .قد يكون خبز شيلم أو خبز شعري ،ذلك ألنه
صدر أصوااتً كثرية .أيكل يوسف اخلبز مع اجلنب ،قليل من اجلنب مع كثري من اخلبز .مث خبز أمسر وي ِ
ُ
ُجتلِس مرمي يسوع على كرسي صغري يف مواجهتها ،وجتلب خضاراً مطهوة -يبدو يل أهنا مطهوة ابملاء
ومبَـ َّهرة كما نفعلها حنن عادة -أتكل منها بعد أن يسكب يوسف .أما يسوع فيأكل تفاحته هبدوء ُ
ويبتسم ُمظ ِهراً أسنانه الصغرية البيضاء .تنتهي الوجبة بزيتون أو بلحُ :
لست أُدرك جيداً؛ فالزيتون زاه
جداً ،والبلح قاس جداً .ال وجود للنبيذ .إهنا وجبة أانس فقراء .إال أن السالم الذي يتم تنفسه يف هذه
الغرفة عظيم جداً .ال ميكن لرؤية مسكن ثري ألحد امللوك أن حتقق يل متعة كهذه .اي له ِمن ِوفاق
متآلف متناغم!
مل يتكلّم يسوع هذا املساء ومل يشرح يل املشهد .إنه يعلّمين من خالل الرؤاي اليت يهبنيها ،وهذا ك ّل
شيء .فليكن مباركاً على الدوام وهبذا الشكل.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
اعى النظام)
( -61يف هذا البيت يُر َ
1944 / 01 / 26
يقول يسوع:
لقد ر ِ
أيت بيتاً متواضعاً فقرياً .واملؤمل يف األمر أنه منزل فقري يف بلد غريب.
كثريون ُهم املؤمنون "املقبولون" الذين يطالبون حبياة مادية سهلة ،تَقيهم أدىن املعاانة ،حياة
َ ِ
صلون ويتناولون من أجل صلون ويتقبلونين يف اإلفخارستيا ،ألهنم يُ َ
ُم َزدهرة وسعيدة ،وذلك فقط ألهنم يُ َ
احتياجاهتم "اخلاصة" وليس من أجل احتياجات النفوس امللِحة وجمد هللا( ،ابلفعل ،إنه لَ ِمن النادر
ُ
جداً أال نكون أاننيني يف صلواتنا).
يوسف ومرمي كاان ميتلكانين أان ،اإلله احلقيقي ،كابن هلما .ومع ذلك مل يكن هلما حّت حد
اإلشباع املتواضع لكوهنما فقريين جداً ،بينما يف وطنهما ،يف بلدمها ،كاان معروفني ،أو على األقل كان
هلما بيت صغري "خيصهما" ،ومل يكن ألحد صلة يف مسألة سكنهما؛ يف بلدمها كان من السهل عليهما
أتمني العمل وسبل العيش ،ألهنما كاان معروفني ،وبسبيب أان أصبحا ِ
الجئَني يف مناخ خمتلف ويف بلد ََ
خمتلف ،بلد كئيب جداً إذا ما قوِرن بِ ُقرى اجلليل اللطيفة ،وكذلك مع لغة وعادات خمتلفة ،ووسط
أانس ال يعرفوهنما ،ولديهم تلك الريبة املعتادة اليت لدى الشعوب جتاه الالجئني واجملهولني.
مشرتك ِ
ومع ذلك فقد رأيت كيف يهيمن يف هذا املسكن الصفاء واالبتسامة والوائم ،وبتآلف َ
جتري حماولة جعله أكثر مجاالً ،حّت البستان الفقري ،لكي يصبح كل شيء مشاهباً للبيت الذي تُِرك،
بل وحّت أكثر راحة .مل تكن هناك سوى فكرة واحدة :تلك اليت من أجلي ،أان املقدس ،أن تصبح
األرض الغريبة أقل بؤساً ابلنسبة يل أان اآليت من هللا .إنه حب املؤمنني واألهل الذي يتبدى أبلف
اهتمام؛ ها هي العنزة اليت تَـتَطلَّب إضافة ساعات كثرية من العمل ،واللُّ َعب الصغرية املنحوتة من القطع
اخلشبية الزائدة ،والفواكه املشرتاة يل وحدي ،بينما مها َحيرمان نفسيهما من لقمة غذاء.
كنت حمبوابً من هللا ،من هللا اآلب السماوي ،ومن هللا االبن
أيها األب األرضي احلبيب ،كم َ
الذي أصبح خملصاً على األرض!
يف هذا البيت ال يوجد أانس عصبيو املزاج ،شديدو احلساسية ،ذوو مالمح شرسة ،وال وجود
ملالمات متبادلة كذلك ،وال حّت جتاه هللا الذي ال يُسبِغ عليهما وضعاً مادايً جيداً .فيوسف ال يُلقي
ين هبا ،ومرمي من جهتها ال تلوم يوسف لعدم معرفته ِ
ابلالئمة على مرمي لكوهنا السبب يف اخلسائر اليت ُم َ
توفري وضع جيد أفضل هلا .إهنما يتحاابن بقداسة وهذا كل ما يف األمر .وال اهتمام ألحدمها مبصلحته
الشخصية ،إّنا ابملصلحة املشرتكة .فاحلب احلقيقي ال يعرف األاننية .واحلب احلقيقي عفيف على
ُحب أمي ويوسف كان كامالً .لقد كان َحي ِمل على اكتساب الفضائل األخرى ،وخاصة حمبة
املبارك يف كل حني ،حّت ولو كانت إرادته املقدسة تضين اجلسد والقلب؛ فلقد كان الروح عند هللا َ
هذين القديسني أكثر حيوية ويسود على كل شيء .لقد كان ذلك الروح هو الذي جيعلهما يـُ َع ِظمان
الرب بشكره على اختياره إايمها كحا ِرسني البنه األزيل.
يف هذا املنزل كانت الصالة .ضمن البيوت احلالية ،الصالة قليلة الوجود جداً .يف مطلع النهار
ويف الغسق ،يف بداية العمل ولدى اجللوس إىل املائدة ،فال خيطر على ابل أحد الرب الذي أَذن بيوم
ابرَك أتعابكم وأَذن أبن يـُ َوفَّر لكم هذا
جديد أو أَذن إبمكانية الوصول إىل مساء جديد ،الرب الذي َ
الطعام وهذه النار وهذه الثياب وهذا السقف ،وكذلك كل هذه األشياء الضرورية يف وضعكم البشري.
فكل شيء "جيد" على الدوام حني أييت من هللا الصاحل .حّت ولو كانت هذه اخلريات فقرية وقليلة،
فاحلب هو الذي مينحها الطعم والقيمة ،احلب الذي جيعلكم تَـَرون يف اخلالق األزيل األب الذي حيبكم.
شف .وكان سيبقى كذلك حّت ولو مل يكن املال قليالً .لقد كانت غاية يف هذا البيت كان التق ّ
الطعام استمرار احلياة ،ومل تكن يوماً إلشباع الشراهة وجشع النهم وشهوات الشرهني الذين يبتلعون
األطعمة حّت التخمة ويبذرون ممتلكاهتم على منتجات ابهظة الثمن دون أن يفكروا يف الذين ال جيدون
كفايتهم أو يضطرون ألن ُحيَرموا منها ،دون التفكري أبهنم يف اعتداهلم ميكنهم أن يوفروا على الكثريين
أمل اجلوع.
يف هذا البيت العمل حمبوب .إنه حمبوب حّت ولو كان املال موجوداً بوفرة .ألن يف العمل يطيع
الدبَِقة تُطوق
اإلنسان أوامر هللا ،ويهرب من الرذيلة اليت مثل العشقة (نبات ُم َع ِرش يشبه اللبالب) َ
وَّتنق العاطلني عن العمل الذين يشبهون أكواماً هامدة .الغذاء جيد ،والراحة لذيذة والقلب يرضى
عندما نعمل جيداً ،كما تُـ َقدَّر حلظة االسرتاحة بني عمل وآخر .والرذيلة يف مجيع أوجهها ال ميكنها
يف هذا البيت يسود التواضع .وأي درس يف التواضع للمتكربين منكم .فَ ِمن وجهة نظر بشرية
كان لدى مرمي ألف ألف سبب لتتكرب وجتعل قرينها يسجد هلا .فهناك الكثري من النساء اللوايت يفعلن
ذلك ألن ثقافتهن أوسع وعائلتهن أكثر نبالً وثروهتن تفوق ثروة أزواجهن .أما مرمي ،وهي عروسة وأم
هللا ،فهي َّتدم قرينها ،وال تطلب أن َُّت َدم ،وكذلك هي تَ ُكن له الكثري من العاطفة .ويوسف الذي
َو َج َده هللا أهالً هو سيد هذا البيت ،وهو األهل حبق ليكون رأس البيت ويتقبل من هللا حراسة الكلمة
يسهر ابهتمام ابلغ على َّتفيف وطأة األتعاب واألشغال
املتجسد وعروسة الروح األزيل ،ومع ذلك فهو َ
عن مرمي .إنه يتحمل أعباء البيت األكثر تواضعاً ليوفر على مرمي العناء ،ومث ،كما يستطيع وابلقدر
الذي يستطيع ،حياول إرضاءها ،ويتفنن يف جعل املسكن عملياً أكثر ،وأن جيعل احلديقة الصغرية أكثر
هبجة ابلزهور.
يف هذا البيت ُحيرتَم الرتتيب فائق الطبيعة والوجداينّ واملادّيّ .هللا هو السيد املطلَق وله العبادة
ُ
واحلب .وهذا هو الرتتيب الفائق الطبيعة .يوسف هو سيد العائلة وله يـُ َقدَّم العطف واالحرتام والطاعة.
وهذا هو الرتتيب الوجداين .والبيت عطية من هللا وكذلك الثياب واملفروشات ،ويف كل هذه األمور
ظهر عناية هللا ،هذا اإلله الذي َمينَح النِعاج صوفها والطيور ريشها واحلقول خضرهتا ،وكذلك مينَح تَ َ
العلف للحيواانت الداجنة ،واحلبوب واألوراق للطيور ،وهو الذي ينسج ثياب زانبق الوادي .فاملأوى
وامللبس واملفروشات نتلقاها كلها ابمتنان وحنن نبا ِرك اليد اإلهلية اليت وفرهتا ،وذلك مبعاملتها ابحرتام
كعطااي من عند الرب ،دون النظر إليها ابمشئزاز لكوهنا متواضعة ،ودون َّتريبها مستغلني العناية اإلهلية.
وهذا هو الرتتيب املادي.
1944 / 03 / 21
ظهر ،لطيفاً مثل شعاع مشس يف يوم ممطر ،طفالً عمره حوايل اخلمس سنوات ،إنه أرى يسوع يَ َ
أشقر وفاتن بثوبه البسيط األزرق السماوي الذي يصل إىل منتصف بطات الساقني الربيلتني .وهو
يلعب يف احلديقة الصغرية ابلرتاب .هو جيمعه أكواماً يزرع فيها أغصاانً صغرية وكأنه جيعل منها غابة
صغَّرة؛ وجيعل دروابً ابستخدام احلصى ،مث أراه يريد صنع حبرية صغرية عند أسفل تلك التالل الصغرية.
ُم َ
ولكي يتوصل إىل ذلك أيخذ طبقاً يَدفُن قاعه يف األرض حّت احلافة ،مث يسكب فيه املاء بواسطة
وعاء يـُغَ ِطسه يف بركة للغسيل أو لري احلديقة .ولكنه ال يتوصل إال إىل ترطيب ثوبه وخباصة األكمام.
فاملاء يتسرب من الطبق املثقوب أو رمبا املشقوق و ...تبقى البحرية جافة.
ظهر يوسف عند العتبة ،ويبقى بعض الوقت ينظر صامتاً إىل عمل الطفل ويبتسم .إنه لَ َمشهد
يَ َ
مبهج يبعث على االبتسام .مث لكي يضع حداً لتبلله يناديه .فيلتفت يسوع ،وحني يـََرى يوسف يركض
حنوه ويداه ممدوداتن .ميسح يوسف بطرف ثوبه القصري اليدين الصغريتني املتسختني ويـُ َقبِل يسوع.
ويدور بني االثنني حوار عذب.
أخ َذ يسوع يشرح عمله ولعبته والصعوابت اليت تعرتضه أثناء التنفيذ .كان يريد صنع حبرية مثل َ
َخذاه إليها ).أراد صنع ّنوذج
حبرية جنسارت (مما يقودين إىل االعتقاد أبهنما قد كلماه عنها أو رمبا أ َ
مصغر عنها ليلعب .هنا كانت طرباي وهناك جمدلة وأبعد قليالً كفرانحوم .وهذه الطريق متر بقاان وتقود
إىل الناصرة .كان يريد وضع بعض املراكب يف البحرية :هذه األوراق هي مراكب للوصول إىل طرف
الشاطئ الثاين .إّنا املاء يهرب…
دك».
فيقول يسوع وهو يبتسم« :وهكذا سأساع َ
دخالن إىل املشغَل .ويريه يوسف مطرقته الصغرية ومنشاراً صغرياً ومفكات كذلك صغرية مع
يَ ُ
مسحج صغري ،مجيعها كانت موضوعة على طاولة جنارة صغرية ،طاولة تُ ِ
ناسب طول يسوع الصغري.
«انظر :من أجل عملية النشر ،يوضع اخلشب مع ضغطه هبذه الطريقة ،مث يؤخذ املنشار هبذا
األسلوب مع االنتباه لكيال يالمس األصابع ،ويتم النشر .حاول»...
يبدأ الدرس .ويعلو يسوع امحرار بفعل اجلهد الذي يبذله ،يضغط على شفتيه ،ينشر ابنتباه مث
يسحج القطعة اخلشبية الصغرية اليت وإن كانت متعرجة قليالً ،فإهنا تبدو لـه مجيلة ،ويثين عليه يوسف
ويعلمه العمل بصرب وحب.
تعود مرمي .ابلتأكيد كانَت قد َخَر َجت من البيت .تقف يف الباب وتنظر .مل يـََرايها ألهنما يديران
خدم املسحج واحلنان الذي حييطه به ظهريهما للباب .تبتسم مرمي وهي ترى محاس يسوع الذي يست ِ
َ
يوسف أثناء تدريبه.
ولكن كان ينبغي ليسوع أن حيس هبذه االبتسامة .فيلتفت ويرى أمه ويركض إليها مع قطعته
اخلشبية نصف املسحوجة ويريها إايها .تُظ ِهر مرمي ليسوع إعجاابً وتنحين لتقبله وترفع له شعره املشعث
نصت بكل عطف إىل يسوع الذي يَعِدها أبن يصنع هلا مقعداً صغرياً ليوفر هلا ومتسح عرق وجهه ،وتُ ِ
راحة أكثر أثناء عملها .ويقف يوسف قرب طاولة النجارة الصغرية ،يداه على خاصرتيه ،ينظر ويبتسم.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 305 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
تسرب إىل أعماقي كل سالم هذه
رت أول درس يف العمل ليسوعي الصغري ،وقد َّ
ض ُلقد َح َ
العائلة املقدسة.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
النمو بصخب)
( -63مل أشأ التخلّص من قواعد ّ
1944 / 03 / 21
يقول يسوع:
وإن يكن ذكائي كابن هللا كامالً ،إال أنه ينبغي التفكري واالعتقاد أبنين مل أشأ التخلص من
خضعت
ُ قواعد النمو بصخب .هببوطي إذن بكمال فكري اإلهلي إىل مستوى اإلدراك البشري ،فقد
مت بسرعة ،فهذا ال
كنت ابلتايل قد تعل ُ
إىل االحتياج إىل معلم ،إىل أن يكون لدي معلم إنسان .وإن ُ
وضعت نفسي حتت تصرف رجل ،وال ينفي كذلك فضل هذا الرجل يف إمداد فكري ُ ينفي عين أنين
الصغري ابملعارف الضرورية للحياة.
لن أنسى األوقات العذبة اليت قضيتها إىل جانب يوسف الذي قادين ،وكأننا نلعب ،ألن أُصبح
قادراً على العملَ ،مل ولَن أنساها حّت وأان يف السماء اآلن .وعندما أعود ألرى أي الشكلي واحلديقة
الصغرية واملشغل املليء ابلدخان ،يبدو يل أنين أرى أمي هتل اببتسامتها اليت جتعل املسكن رائعاً
وتُفعِمين سروراً.
لقد كان يوسف هو السيد .مل تُناقَش سلطته يف العائلة ،بل مل تكن قابلة للمناقشة .فكانت
أمامها تنحين سلطة عروس وأم هللا ،وكان ابن هللا خيضع هلا .كل ما كان يوسف يقرر عمله كان جيداً،
دون مناقشة ،وال معارضة وال مقاومة .لقد كانت كلمته الشرع الصغري املتبع عندان .ورغم ذلك ،اي
لتواضعه! إنه ال يسيء استخدام السلطة مطلقاً ،وال حّت كانت لديه إرادة غري صائبة مستمدة من
السلطة .وكانت العروسة مستشارته اللطيفة ،وهي وإن كانت بتواضعها العميق تَعتَرب نفسها خادمة
قرينها ،فقد كان هو يستفيد من حكمة املمتلئة نعمة ،ومن النور الذي يقوده يف كل الظروف.
كنت أان أّنو مثل زهرة حتميها شجراتن كبرياتن وا ِرفَتان ،بني حبني يتشابكان فوق رأسي
و ُ
ليحمياين وحيباين.
وطوال فرتة شباي اليت كانت جتعلين أجهل العامل ،مل أكن أفتقد اجلنة ،فاهلل اآلب والروح اإلهلي
مل يكوان غائبني ،ألن مرمي كانت ممتلئة منهما ،واملالئكة كانت تقطن هناك ألن ما من شيء كان
يبعدها عن هذا البيت .ميكنين القول إن أحدها كان متجسداً ،إنه يوسف .ذلك أن نفسه كانت
مالئكية متحررة من ثقل اجلسد ،وكان اهتمامه منصباً فقط على خدمة هللا ومهامه ،وعلى حبه كما
حيبه السريافيم .نظرة يوسف! هادئة نقية ،مثل نور جنمة جتهل شهوات األرض .لقد كان راحتنا وقوتنا.
يتصور الكثريون أنين مل أأتمل كبشر عندما انطََفأَت نظرة هذا القديس الذي كان يسهر على
كنت هلذا السبب مل
كنت إهلاً وأعلَم أن مصري يوسف ستكون تلك السعادة ،وإن ُ بيتنا .حّت وإن ُ
أكتئب من رحيله ،وهو الذي ،بعد إقامة قصرية يف اليمبس سيفتَتِح السماء كإنسان ،مع ذلك فقد
بكيت يف املنزل الذي ُح ِرَم من وجوده العطوفُ .
بكيت الصديق املختفي .أفما كان ينبغي يل البكاء ُ
غفوت عليه صغرياً جداً
ُ على هذا القديس الذي كان قريباً مين جداً ،وعلى هذا القلب الذي طاملا
والذي أحاطَين حببه طوال سنني كثرية؟
بلغت السن اليت جتعلين قادراً على استخدام األدوات ،حّت بدأ ال يرتكين أتعفن يف ما إن ُ
ساعد األول يف تشجيعي على هذا العمل. البطالة ،لقد كان يدفعين إىل العمل جاعالً من حيب ملرمي امل ِ
ُ
إعداد حاجات تستفيد منها املاما ،هكذا كان يـَُرِسخ يف ذهين االحرتام الواجب لألم الذي من املفروض
أن يكون لدى كل ابن .وعلى هذا األساس من االحرتام واحلب ،كان يَستَنِد يف تنشئة َجنَّار املستقبل.
أين هي اآلن العائالت اليت ُحتَبِب العمل لشباهنا الصغار ،لتعلمهم إرضاء أهلهم؟ األوالد اآلن
طغاة يف البيت .يَنمون قساة ،ال ُمبالني ،يتصرفون جبلف مع أهلهم ،يعتربوهنم خداماً هلم ،بل عبيداً.
ال حيبوهنم ،ونصيبهم من حبهم قليل .فبجعلكم من أبنائكم ذوي طبع حاد ومزاج عصيب تنفصلون
عنهم بتغيب خمجل.
إهنم أبناء كل العامل .إال أهنم ال ينتمون إليكم اي أهل القرن العشرين .إهنم يف األغلب أبناء املربية
واملعلمة وينتمون إىل الكلية إذا كنتم أغنياء .أو إىل الرفاق والشارع واملدرسة إذا كنتم فقراء .مل يعودوا
لكم .أننت أيتها األمهات ،تلدهنم فقط وانتهى األمر .وأنتم أيها اآلابء ال يشكلون ابلنسبة إليكم سوى
مهاً إضافياً .ولكن االبن ليس فقط كائناً من جسد .إنه فِكر وقلب وروح .كونوا على يقني إذاً أن ال
أحد غري األب واألم له احلق وعليه واجب هتذيب هذا الفكر وهذا القلب وهذا الروح.
لقد ُوِج َدت العائلة وال بد من وجودها .فال توجد نظرية أو تطور يستطيع أن يقف يف وجه
هذه احلقيقة دون التسبب ابخلراب .فمن عائلة تتفكك ،ال ميكن أن يتأتى يف املستقبل غري رجال
فسدين على الدوام ويتسببون أبعظم اخلراب .واحلق أقول لكم إنه من األفضل أن ال يعود ونساء م ِ
ُ
هناك زواج وال أطفال على األرض من أن توجد عائالت أقل ارتباطاً كما هي احلال يف قبائل القردة،
عائالت ال تكون مدارس للفضيلة والعمل واحلب والدين ،بل فوضى يعيش فيها كل لذاته مثل مسننات
مغلوطة تنتهي مجيعها ابلتهشم.
1944 / 10 / 29
يقول يسوع:
كل ما سرتينه
سين طفوليت .و ّ
«تعايل اي حمبوبيت الصغرية وانظري .ويدك يف يدي ،عودي إىل الوراء ،إىل ّ
درج كذلك رؤاي إقامة العائلة يف مصر .سوف
درجاً ضمن إجنيل طفوليت ،حيث أو ّد أن تُ َ
ينبغي أن يكون ُم َ
األول يف عمل يسوع الطفل ،مثّ املشهد الذيتوردينها حسب الرتتيب التايل :العائلة يف مصر ،مثّ الدرس ّ
سن الرشد (موعده اليوم )11 / 25ويف النهاية مشهد يسوع بني أحبار ِ
َستَصفينه اآلن ،بعد ذلك مشهد ّ
يك مشهد اليوم هكذا بدون سبب .بل على ولست أر ِ
ُ اهليكل يف عيد الفصح الثاين عشر ابلنسبة لـه.
سين حيايت األوىل ،وكذلك على العالقات مع أهلي ِ
ختص ّ
العكس ،فإنّك ستلقني األضواء على تفاصيل ّ
ِ
أعماقك ُتسني سـالم بيت الناصرة يعـرب إىل ِ ِ ِ
واألقاربّ .إهنا هديّيت لك يف عيد امتالكي ّإايك ،أنت اليت ّ
عندما ترينه .اكتيب».
أرى الغرفة اليت يتناولون فيها الطعام عادة وحيث تقوم مرمي أبعمال النسيج أو اخلياطة .هذه
سمع فيه صوت عمله النشيط واجملد .أما هنا فعلى العكس الغرفة هي اجملاورة ملشغل يوسف الذي يُ َ
يسود هدوء وسكونَّ .تيط مرمي شرائط قماش صويف .وهي اليت نَ َس َجتها بنفسها ابلتأكيد .إن عرض
القطعة منها حوايل النصف مرت ،وطوهلا ضعف ذلك .ومن املفروض أهنا ُم َعدَّة من أجل معطف
ليوسف .من الباب املفتوح على احلديقة ،تُـَرى األسيجة اليت ينتَ ِشر عليها األقحوان بلون الالزورد
لست أعرف العبارة اخلاصة هبا يف علم
البنفسجي الذي يسمى عموماً "ماري" أو "مساء ذات جنوم" ُ
النبات .إهنا مزهرة ،فينبغي إذن أن يكون اخلريف .ومع ذلك فاألوراق ما زالت حتتفظ ابخضرارها
اجلميل الكثيف ،والنحالت اليت أُسنِ َدت خليتاها إىل اجلدار املشمس ،تطري وهي تطن وترقص يف
ضوء الشمس ،من الكرمة إىل التينة مث إىل شجرة رمان مليئة ابلثمار املكورة وقد انشقت بسبب زايدة
يلعب يسوع حتت األشجار مع طفلني يف مثل سنه تقريباً :شعرمها جمعد وليسا أشقرين .أحدمها
أمسر حبق :رأس َمحَل أسود يزيد إظهار بياض بشرة الوجه املدور حيث عينان بلون الالزورد الضارب
إىل البنفسجي ،مجيلتان جداً .والثاين شعره أقل جتعداً ،كستنائي داكن ،عيناه كستناويتان .لون بشرته
أكثر مسرة ولكنه مييل إىل الوردي عند اخلدين .ويبدو يسوع برأسه األشقر بني الشعرين الداكنني وكأن
له آنئذ هالة مضيئة .إهنم يلعبون معاً مرحني بعرابت صغرية توجد عليها ...بضائع متنوعة :أوراق،
حصى ،شرائط وقطع خشبية .يلعبون لعبة الباعة .ويسوع هو الزبون الذي يشرتي احتياجات والدته،
حيمل هلا آانً حاجة وآانً أخرى .ومرمي تتقبل مشرتايته اببتسامة.
بعد ذلك يقرتح أحد الولدين تغيري اللعبة« :لنقم ابهلجرة عرب مصر .يسوع سيكون موسى ،أان
أنت ...مرمي».
هارون ،و َ
«ولكنين صيب!»
أنت مرمي ،ولرتقص أمام العجل الذهيب الذي سيكون هذا القفري».
«ال يهم! ومع ذلك فلتكن َ
«أان ال أرقص .أان رجل وال أريد أن أكون امرأة .مث أان مؤمن وال أريد الرقص أمام الصنم».
هنا يتدخل يسوع« :ال نلعنب هذا املشهد .ولنخرت غريه :حلظة اختيار يشوع كخليفة ملوسى.
وسيُسر يوضاس لكونه رجالً وخليفيت،
وهكذا ال يعود ملشكلة خطيئة عبادة األصنام الشنيعة وجودَ ،
ألست مسروراً لذلك؟»
َ
يدك أن متوت،
لك حينئذ أن متوت ،ألن موسى ميوت بعدها ،وال أر َ
«نعم ،يسوع ،إّنا ينبغي َ
أنت اي من حتبين كثرياً».
َ
االقرتاح مقبول ،ولكن هناك مسألة تطرح نفسها :بعد أن يكون شعب إسرائيل قد مشى طويالً
جداً ،هل يكون ما يزال ميتلك العربـات اليت خرج هبا من مصـر؟ هنا َّتتلف اآلراء ،فيهرع اجلميع إىل
مرمي« :أمي ،أان أقول أبن اإلسرائيليني كانوا ال يزالون ميتلكون العرابت ،يعقوب يقول ال ،أما يوضاس
فال يعرف من منا يقول احلق .فهل تعرفني ِ
أنت ذلك؟»
«نعم اي بين ،فقد كانت العرابت ما تزال مع الشعب املهاجر .وكان كلما توقف جيري
اإلصالحات عليها .وقد كان األكثر ضعفاً يركبون العرابت ،وعليها ُحت َّمل املواد الغذائية ،وكل األشياء
الضرورية لشعب كثري العدد .إال اتبوت العهد فهو الوحيد الذي كان حيمله بشر .وكل ما عداه على
العرابت».
ُحيَل اخلالف ،وميضي األطفال إىل آخر احلديقة ،ومن هناك يتوجهون صوب البيت وهم يرتلون
املزامري .يسوع يف املقدمة وهو يـَُرتِل املزامري بصوته الفضي .وخلفه يسري يوضاس ويعقوب حاملني عربة
نقل صغرية مغطاة متثل اتبوت العهد .ولكن مبا أهنم كانوا مضطرين إىل لعب دور الشعب إىل جانب
َد َور ْي يشوع وهارون ،فقد نـََزعا حزاميهما َوربَطا العرابت الصغرية بساقيهما ،وساروا هكذا جادين
كممثلني حقيقيني .ميشون حتت العريشة كلها ،وميرون إىل جانب ابب الغرفة حيث توجد مرمي ،ويقول
يسوع« :ماما ،حيي اتبوت العهد الذي مير ».تقف مرمي مبتسمة وتنحين ابجتاه ابنها الذي مير متأللئاً
يف هالة من الشمس.
مث جيتاز يسوع املنحدر الذي هو مبثابة احلدود للبيت ،أو ابألحرى للحديقة .وهناك ،فوق
اطب ...إسرائيل .ينطق أبوامر ووعود هللا ،ويـُ َق ِدم يشوع كقائد ويدعوه إليه ،فيصعد
وخي ِ
املغارة يقف ُ
يوضاس بدوره إىل املنحدر فيشجعه ويباركه .مث أيخذ لوحاً (ورقة تني كبرية) ويكتب النشيد ويتلوه،
ليس كله ،إّنا جزءاً ال أبس به ،ويبدو وكأنه يتلوه من الورقة .بعدئذ يودع يشوع الذي يعانقه وهو
يبكي ،ويصعد إىل األعلى ،ابلتحديد إىل قمة املنحدر .هناك يبارك إسرائيل كلها ،أي الولدين
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 313 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
الساجدين إىل األرض ،مث يتمدد على العشب القصري ،يغمض عينيه و ...ميوت .كانت مرمي قد
ظلت عند العتبة مبتسمة ،إال أهنا عندما تشاهده ممدداً بال حراك ،تصيح« :يسوع ،يسوع ،اهنض! ال
ك ال تريد أن تر َاك ميتاً!»
تبق هكذا! فأم َ
ينهض يسوع مبتسماً ،يركض حنو مرمي ويقبلها ،ويصل يعقوب ويوضاس ويناال نصيبيهما أيضاًَ
من مالطفة مرمي.
يسأل يعقوب« :كيف إبمكان يسوع أن يتذكر كل هذا النشيد الطويل جداً والصعب جداً،
وكل هذه التربيكات؟»
تبتسم مرمي وجتيب ببساطة« :إن لديه ذاكرة ممتازة ،وهو شديد االنتباه والرتكيز عندما أقرأ».
«وأان أيضاً أنتبه جيداً يف املدرسة ،إال أنين ال ألبث أن أانم ابلرغم من الضوضاء ...إذاً ،ألن
أتعلم أبداً؟»
قرع الباب ،فيجتاز يوسف احلديقة والغرفة بسرعة ويفتح« ،السالم لكما ،حلفا ومرمي!»
يُ َ
لك السالم والربكة».
«و َ
إنه أخو يوسف مع زوجته .ويف الشارع تقف عربة ريفية ُربِ َ
ط إليها محار قوي.
«رائعاً .واألوالد؟»
«اجلميع خبري ،ويرسلون لكم من قاان كل هذه اهلدااي .عنباً وتفاحاً وجبناً وعسالً و ...يوسف؟
أخ َذت
كنت تريده ليسوع .إنه على العربة يف هذه السلة الضخمة املُكورة ».و َ دت متاماً ما َ
وج ُ
لقد َ
زوجة حلفا تضحك ،وتنحين على يسوع الذي ينظر إليها وهو ُحيَملِق .تُـ َقبِله من عينيه الالزورديتني
لك؟ احزر».
وتقول له« :هل تعرف ماذا عندي َ
يفكر يسوع وال جيد إجابة .أشك يف أنه فَـ َعلَها متعمداً ليمنح يوسف فرحة جعلها تبدو مفاجأة
لـه .ابلفعل ،يعود يوسف حامالً سلة مكورة .يضعها على األرض أمام يسوع ،يقطع احلبل الذي يثبت
فرتش من القش النظيف.
ظهر انئمة على ُم ََ
الغطاء .يزحيه ...ونعجة صغرية بيضاء ،ندفة رغوة حقيقية تَ َ
ت
وما كان من يسوع إال «آه!» بدهشة وافتتان .وكاد يتهافت على احليوان الصغري عندما التَـ َف َ
إىل يوسف املنحين إىل األرض ،فهرع إليه يعانقه ويقبله ويشكره.
ينظر أبناء العم إىل الدابة الصغرية إبعجاب .تستيقظ ،وبينما هي ترفع فمها الصغري الوردي
تثغو ابحثة عن أمهاََّ .ت ُرج من السلة وتُـ َقدَّم هلا قبضة نفل ،تقضمها وهي جتيل حوهلا عينيها العذبتني.
تعجبك كثرياً؟»
َ «أهي
«آه! كثرياً! بيضاء نظيفة ...رخلة (أنثى احلَ َمل) ...آه!» ويضع ذراعيه حول عنق النعجة.
ويضع رأسه األشقر على رأس الدابة الصغرية ويبقى هكذا سعيداً.
يبقى يسوع مع نعجته ،حيملها إىل احلديقة ،ويقدم هلا ماء لتشرب ،وتتبعه كما لو كانت تعرفه
منذ زمن .ويشرع يسوع يناديها بعد أن أطلَ َق عليها اسم "ثلج" والنعجة جتيبه وهي تثغو فَ ِر َحة.
قدم مرمي هلم اخلبز والزيتون واجلنب ،وجتلب كذلك إبريق شراب جيلس الضيوف إىل الطاولة ،وتُ ِ
لست أعلم :أرى السائل زاهياً ،زاهياً متاماً .يتحادثون فيما بينهم بينما يلعبالتفاح أو نبيذ العسلُ ،
األوالد ابلنعجات الثالث اليت أراد يسوع ضمها ليقدم إىل األخريني املاء ويطلق عليهما األمساء:
ونعجتك "شعلة" ألن هلا لون
َ نعجتك يوضاس سوف نسميها "جنمة" ألن هلا إشارة على جبهتها. َ
أنواع من شعالت اخللنجات املائتة»...
«مفهوم».
حللت مشكلة
ُ دخل الكبار يف نقاش ،وها هو حلفا يتكلم« :آمل أن أكون بذلك قد يَ ُ
قلت لنفسي" :أخي يريد نعجة ليسوع ت اي يوسف من أوحى يل ابلفكرةُ . ك أن َ
مشاجرات األوالد .إن َ
ليلهيه قليالً .سآخذ اثنتني هلذين الولدين فأضبطهما قليالً وأختصر األخذ والرد مع بقية األهايل فيما
جنحت يف
ُ الرَكب املسحوجة .فقليالً يف املدرسة وقليالً مع النعجتني وأكون قد خيص الرؤوس و ُّ
أنت أيضاً إرسال يسوع هذه السنة إىل املدرسة .فلقد بـَلَ َغ السن».
عليك َ
ضبطهما" .إّنا َ
فتقاطعه مرمي قائلة« :لن أرسل يسوع أبداً إىل املدرسة» فيندهش اجلميع لرؤيتها تتكلم هكذا،
وتتكلم قبل يوسف.
ميكنك قول ذلك .إنه أفضل طفل يف الناصرة .هل مسعتَه يوماً يبكي أو يتصرف بنزوة أو
َ «ال
يرفض إطاعة أمر أو يقلل من احرتام أحد؟»
«من هذه الناحية ،ال .ولكن هذا سوف حيصل إذا ما استمر إفساده».
فسد األطفال هكذا ،بل إّنا حنفظهم إىل جانبنا .إننا حنبهم بذكاء وبقلب طيب. «لسنا نُ ِ
وهكذا حنن حنب يسوعنا ،ومبا أن مرمي مثقفة أكثر من معلم املدرسة ،فهي اليت ستكون معلمة يسوع».
لست
«ال .لن يكون كذلك .فمرمي امرأة قوية وهي تعرف أن تربيه تربية رجولية .وأان أيضاً ُ
ضعيفاً ،وأستطيع أن أعطيه أمثلة يف الرجولة .فيسوع ال عيب فيه جسدايًّ أو فكرايً .سوف ينمو إذن
مستقيماً وقوايًّ جبسده وروحه .كن مطمئناً اي حلفا ،فلن يسيء إىل شرف العائلة .على كل حال هذا
قرار ،وكفى».
«نعم اي يوسف؛ وإذا ما مات أحدان دون اآلخر ،وأرجو أال حيدث ذلك ،فلنحب بعضنا
كذلك».
ي ِ
داعب يوسف رأس مرمي كما لو أهنا ما زالت طفلة وهي تنظر إليه بعني وادعة وعطوفة.ُ
كنت قادرة على التعليم! يف املدرسة يتعلم
تتدخل زوجة األخ« :إنكما على صواب .آه! لو ُ
أوالدان ما هو خري وما هو شرير ،بينما يف البيت يتعلمون ما هو خري فقط .ولكنين ال أعرف ...إذا
كانت مرمي»...
كنت أقول ...يعقوب ويوضاس يكربان يسوع قليالً .ومها يذهبان اآلن إىل املدرسة ...إّنا
« ُ
كنت أر َغب...
فيما يتعلق مبعرفتهما! ...فعلى العكس ،إن يسوع قد أصبَ َح يعرف الشريعة جيداً!ُ ...
أو ابألحرى هل ترغبني أن حيضرا أيضاً مع يسوع عندما تُ َد ِرسينه؟ أظنهما سيصبحان أفضل وأكثر
ثقافة .إهنم أبناء عم يف األصل ،وحيبون بعضهم كإخوة ...وسأكون أان سعيدة جداً!»...
ِ
زوجك ،فأان على استعداد ،إذ إن الكالم لواحد أو لثالثة «إذا شاء يوسف ذلك ،وكذلك
سواء .وإعادة كل الكتاب شيء ُمفرِح .فليأتيا».
األوالد الثالثة الذين كانوا قد دخلوا هبدوءَِ ،مسعوا وابتوا ينتظرون القرار.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 318 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ِ
جيعالنك متلني اي مرمي». يقول حلفا« :سوف
«ال! فمعي مها طيبان على الدوام .ألن تكوان لطيفني إذا ما علمتُكما؟»
يركض االثنان إىل جانبها ،أحدمها إىل ميينها واآلخر إىل يسارها ،ويضعان ذراعيهما حول
عنقها ،ورأسيهما على كتفيها ويعداهنا أمجل الوعود.
«أترى؟»
«أرى .ومل يبق ما أقوله سوى "شكراً" .أما يسوع فماذا سيقول حني يرى أمه هتتم ابآلخرين؟
ماذا تقول اي يسوع؟»
ويقول يسوع:
1944 / 11 / 25
1944 / 12 / 19
أرى مرمي منحنية فوق وعاء أو ابألحرى "جاط" من الفخار .إهنا متزج شيئاً ُخيَلِف دخاانً يف
اهلواء البارد والساكن ،والذي ميأل حديقة الناصرة.
املفروض أن الوقت شتاء .إذ ما عدا شجرات الزيتون ،فقد كانت مجيع األشجار عارية ،هياكل
عظمية حقيقية .ويف األجواء مساء صافية جداً ،حّت الشمس حلوة ،إّنا هي ال تلطف ريح الشتاء اليت
هتز األغصان العارية وجتعلها تتخبط فيما بينها ،كما جتعل أوراق الزيتون اخلضراء الرمادية تتماوج.
ترتدي السيدة العذراء ثوابًكستنائياً مييل إىل السواد ،وقد َعلَّ َقت يف اجلهة األمامية قماشاً مسيكاً
على شكل مئزر حيمي الثيابَُّ .ترِج من اإلجانة (وعاء خشيب لغسيل الثياب) العصا اليت كانت ُحت ِرك
هبا املحتوى ،وأرى نقطة بلون أمحر مجيل تسقط .تالحظ مرمي ذلك ،فتبلل إصبعها ابلنقاط اليت تَسقط
ُ
وجترب اللون على املئزر .إهنا تبدو راضية.
أثناء عملها تدخل مرمي زوجة حلفا ،قادمة من َمشغَل يوسف ،فتتصافحان وتتحاداثن.
تبتسم مرمي وتقوم حبركة برأسها وكأهنا تقول« :هذا ال شيء على اإلطالق!»
تَنظُر زوجة حلفا قبل أن تُـ َق ِدم إىل مرمي شلل الصوف األخرية .اي لغز ِ
لك هلا! تبدو وكأهنا َشعر
ك تعملني كل شيء بدرجة الكمال ...وبسرعة فائقة! هل ستكون هذه لشدة دقتها وانتظامها .إن ِ
األخرية أفتَح؟»
تعمل املرأاتن يف الوعاء ،مث َُّت ِرجان الشلل اليت أصبَ َحت بلون األرجوان اجلميل ،وتُس ِرعان
لتغطيسها يف حوض ماء ابرد جداً حتت نبع صغري يسيل ماؤه ُحم ِداثً صوت ضحكات بسيط ،تغسالن،
تغسالن مث متددان الشلل على قصبات عُلِ َقت بني غصين شجرة.
دخل املرأاتن إىل املـَشغَل العابق برائحة اخلشب املسحوج اخلاصة مبشاغل النجارين.
ُ تَ
َ
...تعود أثناء انطالق يسوع ابن االثنيت عشرة سنة إىل أورشليم.
ص َل إىل كتفها،
يبدو مجيالً جداً وقد ّنا جيداً ،حّت لتحسبه األخ األصغر ألمه الشابة .لقد َو َ
وشعره األشقر اجملعد مل يعد قصرياًكما يف ِسين حياته األوىل ،ولكنه يتدىل إىل ما حتت أذنيه ،فتحسبه
خوذة من الذهب منقوشة بكاملها بتقصيباته املشرقة.
كان يرتدي األمحر .لون الياقوت األمحر الزاهي اجلميل .ثوابً طويالً يصل إىل الكاحلني ،وال
يَكشف سوى عن قدمني تنتعالن صندالً .الثوب جيعل احلركة حرة أبكمامه الطويلة والعريضة .وعند
العنق وأطراف األكمام واألرداف كانت هناك تزيينات منسوجة ،لوانً على لون ،مجيلة جداً...
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 12 / 20
إنه يبدو أكرب من عمره احلقيقي بسبب بنيته .وهو اآلن كبري لدرجة أنه أصبَ َح على مستوى
كتفي أمه .إنه ما زال حيتفظ بوجهه املدور الوردي كما كان أايم طفولته ،وجهه الذي َحنف بفعل
الشباب وسن الرجولة ،وأصبَ َح بال لون شاحباً بعض الشيء ،وابلكاد مصبوغاً ابألصفر الوردي.
عيناه ،عيناه كذلك ما تزاالن كعيين طفولته .عينان كبرياتن مفتوحتان جيداً مع وميض فرح
ممزوج بنظرة جادة .لن يعودا فيما بعد مفتوحتني كما مها اآلن ...سيُغلقهما اجلفنان نصف إغالق
ليَحجبا فساد العامل العظيم عن الطهر والقداسة .ولـن تعودا كذلك إال أثناء اجرتاح املعجزات ،فتفتَحان
وتضيئان حّت أكثر من اآلن ...لطرد الشياطني واملوت ،لشفاء مرضى اجلسد والروح .ومع ذلك لن
تعودا هبذا الوميض من الفرح املمزوج ابلنظرة اجلادة ...فاملوت واخلطيئة كاان قريبني جداً منه ومعهما
اليقني املعاش بعدم جدوى تضحيته بسبب املقاومة اإلرادية من البشر .مل يكن كذلك سوى يف بعض
ُ
صة حتيط به ،خاصة مع كائنات نقية ،بشكل َّ
من أوقات الفرح النادرة بسبب وجوده مع نفوس ُخمَل َ
خاص األطفال حيث جتعل تلك اإلحاطة نَظََره املقدس املليء ابلطيبة والصالح يُش ِرق فرحاً.
لكنه اآلن مع أمه يف بيته ،قُبالة القديس يوسف الذي يبتسم حبب ،وكذلك ابين عمه اللذين
ينظران إليه إبعجاب ،ومرمي زوجة عمه حلفا اليت تداعبه ...إنه سعيد .ذلك أن يسوعي يف حاجة إىل
احلب ليكون سعيداً .وها هو اآلن ميتلك هذا احلب.
مسكة بيسرى يسوع .تبدو وكأهنا تقول مرمي« :هو ذا ابننا» .ويف الوقت ذاته ترفَع ُميناها امل ِ
ُ
تُـ َق ِدمه للجميع وتؤكد أبوة ذلك البار الذي يبتسم .وتضيف« :ابركه اي يوسف قبل االنطالق إىل
ِ
أورشليم ،مل تكن الربكة الشعائرية ضرورية عند ذهابه إىل املدرسة ،أول خطوة يف احلياة .بينما اآلن،
كتك( ...وخيتنق
وهو يذهب إىل اهليكل ليُعلَن على املأل بلوغه السن ،فباركه وابركين معه .ذلك أن بر َ
صوت مرمي بنشيج) متنحه القوة ومتنحين الشجاعة لالنفصال عنه عما قريب»...
«سوف يكون يسوع ِ
لك على الدوام ،اي مرمي .فالشكليات لن تبدل شيئاً من عالقاتنا ،ولن
امحك على ابننا العزيز جداً على قلبينا .فما ِمن إنسان يستحق أن يقوده يف احلياة أكثر ِ
منك ،اي أز ِ
قديسيت».
تنحين مرمي وأتخذ يد يوسف وتقبلها .إهنا عروسته .وكم هي عطوفة وحمرتمة لشريك حياهتا!
يتقبل يوسف بوقار ابدرة االحرتام واحلب هذه ،ولكنه بعدئذ يرفع اليد اليت قبلتها ويضعها على
مبارَكة ويسوع معك .تعاليا اي فرحي الوحيدين ،اي شريف كوين ، رأس عروسته قائالً هلا« :نعم ،أابر ِ
كك
َ
وهدف حيايت ».يبدو يوسف مبظهر احتفايل .وحني ميد ذراعيه ،وكفاه ابجتاه األرض ،على الرأسني
املنحنيني ،األشقرين املتشاهبني والقديسني ،ينطق بكلمات الربكة« :ليحفظكما الرب ويبارككما.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 325 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ِ
لنمض .إنه ولريأف بكما ومينحكما السالم .وليمنحكما الرب بركته ».مث يقول« :لقد آن األوان.
الوقت املناسب للسفر».
أتخذ مرمي غطاء كبرياً بلون أمحر رماين داكن ،وتغطي به جسد ابنها .كم هي تداعبه أثناء
قيامها بذلك!
َخي ُرج اجلميع ،ويغلقون األبواب ،ويسريون .هنالك مسافرون آخرون يتوجهون إىل املكان ذاته.
خارج البلدة ،تنفصل النساء عن الرجال .بينما يذهب األوالد مع من يرغبون ،ويسوع يبقى مع والدته.
يسري املسافرون ،وهم يف أغلب األحيان يـَُرتِلون املزامري عرب القرى اجلميلة جداً ،يف أحلى يوم
من أايم الربيع .رطوبة احلقول والقمح ،واالخضرار حيث بدأَت الزهور تتفتح .تراتيل الرجال عرب احلقول
وعلى الطرقات .تغريد العصافري اليت تتحاب بني األوراق .السواقي الصافية حيث تنظر زهور األهنار
إىل نفسها يف مرآهتاِ .محالن تقفز إىل جانب أمهاهتا ...سالم وهبجة حتت أمجل مساء يف نيسان
(أبريل).
1944 / 12 / 21
اهليكل يف أايم العيد .تدخل اجلموع وَّترج من أبواب السور ،جيتازون الساحات والردهات
واألروقة ،خيتفون يف هذا البناء أو ذاك املقام على مستوايت خمتلفة حيث تنتشر ُكتَل اهليكل.
ها هم مجاعة يسوع يدخلون كذلك وهم يرتلون املزامري بصوت خافت .مجيع الرجال أوالً ِ
ومن ُ ُ
لست أدري.
مث النساء .وقد انضم إليهم أانس آخرون ،من الناصرة رمبا أو رمبا أصدقاء من أورشليمُ .
بعد السجود إليه تعاىل- ،ليتين أُد ِرك جيداً أين يفعل الرجال ذلك( -وتقف النساء يف مكان
أخفض قليالً) ،يرتك يوسف املكان مع ابنه وجيتاز الساحات من جديد ،إّنا ابالجتاه املعاكس .يدور
لست أفهم جيداً هل كان يوجد يف اهليكل جمامع؟ مث ِ
يف املكان ويَلج قاعة كبرية هلا مظهر ُجمَ َّمعُ .
يتحدث إىل الوي ،ويغيب هذا األخري خلف ستار خمطط ليعود بعد ذلك مع كهنة مسنني .أظنهم
كهنة .إّنا هم ابلتأكيد معلمون يف علوم الشريعة ،فهم إذاً مكلفون ابمتحان املؤمنني.
يـُ َق ِدم يوسف يسوع ،وكاان قبالً قد احننيا احنناءة كبرية أمام عشرة أحبار اَّتذوا أماكنهم بوقار
على كراسي خشبية مرتفعة .فيقول« :هو ذا ابين .لقد بـَلَ َغ منذ ثالثة أقمار واثين عشر يوماً السن
الذي حيدده الشرع لبلوغ سن الرشد .ولكنين أر َغب يف أن يصبح راشداً حبسب تعاليم إسرائيل .أرجوكم
األخذ بعني االعتبار أن بنيته تُظ ِهر أنه َخَر َج من الطفولة ومل يعد صغرياً .وأرجوكم امتحانه برفق وعدل
لتَح ُكموا مبا أؤكد هنا ،أان أبوه ،أبنه حقيقي .لقد هيأتُه هلذه الساعة الستحقاق كونه ابن الشريعة اليت
سيتلقاها .إنه يعرف األحكام والتقاليد والقرارات وعادات القرطاس والطالسم .إنه جييد تالوة الصلوات
والتربيكات اليومية .فهو يستطيع إذن ،مبعرفته للشريعة ذاهتا ولفروعها الثالثة" :هيالسيا" و "ميدراسك"
و "آكادا" ،أن يتصرف كرجل .ألجل ذلك أرغب يف التحرر من مسؤولية تصرفاته وأخطائه .فليكن
منذ اآلن مسؤوالً وفق األحكام ،وأيخذ على عاتقه تبعات تقصريه هبا .امتَ ِحنوه».
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 327 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
امسك؟»
«سوف نفعل .اقرتب أيها الصيب .ما َ
«امسي يسوع بن يوسف الناصري».
«أريد القول أبنين أُد ِرك كذلك معّن املثل أو الرمز املسترت خلف الظاهر ،مثل اللؤلؤة اليت ال
تُرى ،لكنها موجودة ضمن الصدفة الضخمة املغلقة».
«إجابة غري مألوفة ،وهي حكيمة جداً .اندراً ما نسمع ذلك من ابلغ ،ومث من طفل ...وفوق
كل ذلك انصري!»
لقد شد انتباه العشرة حّت مل تعد عيوهنم حتيد حلظة عن هذا الطفل األشقر اجلميل الذي ينظر
إليهم واثقاً من نفسه ،إّنا دون جماهبة ،ولكن دون خوف.
«إنك تش ِرف معلمك الذي هو ،بكل أتكيدِ ،
عامل كبري». َ َ َُ
«حكمة هللا تستوطن قلبه املستقيم».
يُدفَع ليسوع بلفائف ثالث خمتلفة ،ويقال له« :اقرأ ما يف اللفافة ذات الشريط الذهيب».
«من َعلَّ َم َ
ك هذا؟ وملاذا تقوم به؟»
«ألن هذا االسم قدوس ،وجيب أن نلفظه مصحوابً بكل دالالت االحرتام الداخلية منها
واخلارجية .فإذا كان املاثلون أمام ملك ،هو ليس كذلك إال لزمن قليل ،ينحنون ،وهو ليس سوى
غبار .فأمام ملك امللوك ،رب إسرائيل العايل ،احلاضر حّت ولو مل يره سوى الروح ،جيب أن تنحين كل
املخلوقات التابعة له خبضوع أزيل».
«لقد بـَلَ َغ ابين السن ،وهو سيفعل ما يشاء .ابلنسبة إيل ،إذا ما أراد ذلك بشكل جاد فلن
أمانع».
ابنتك
ابنك و َ
أنت فقط ،إّنا َ
قلت " :تذكر تقديس األعياد .ولكن ليس َ «امسع أيها الصيب .لقد َ
وخادمتك كذلك ،وحّت احليواانت القيِمة قيل بعدم شغلها أايم السبت" .إذاً قل يل :إذا َ وخادمك
َ
سمح ابستخدام مثرة أحشائها ،أمض َعت نعجة َمحَالً يوم السبت ،فهل يُ َ
ابضت دجاجة بيضة أو إذا َو َ
ابألحرى جيب اعتباره ُمن َكراً؟»
«أَعلَم أن حاخامني كثريين -آخرهم سياماي ،وهو ما يزال حياً -يؤكدون أن بيضة يوم السبت
مل حترتم األحكام .ولكنين أظن أن اإلنسان خيتلف عن احليوان أو الذي يقوم بعمل حيواين كالوضع.
مت نفسي إلجباره على العمل حتت استخد ُ
َ مت حيواانً على الشغل ،أحتمل أان خطيئته ألنين
فلو أر َغ ُ
ض َعت نعجة يوم السبت ألن
ضغط السوط .إّنا لو ابضت دجاجة بيضة ّنت يف مبيضها ،أو إذا َو َ
ض َعها لكلمهما حبسب قوانني َو َ«ألن احلَ ْمل والوالدة متعلقان مباشرة إبرادة هللا الذي نَظَّ ُ
خليقته .فالدجاجة ال تقوم بغري الطاعة هلذا القانون الذي حيدد مسبقاً عدد الساعات بعد التشكل
اليت ستكون البيضة بعدها كاملة وجاهزة لإلابضة .وكذلك النعجة ال تقوم بغري الطاعة هلذا القانون
صنَ َع كل شيء .لقد رتب اخلالق أن تطيع النعاج غرائزها مرتني يف العام ،مرة ِ
املوضوع من قبَل الذي َ
عندما تُقبِل بسمة الربيع إىل احلقول املزهرة ،وأخرى عندما تفقد األشجار أوراقها ،ويعصر الربد صدر
البشر ،وذلك كي تعطي يف املرحلة التالية احلليب واللحم واجلنب املغذي يف األشهر األكثر تعباً بسبب
ض َعت نعجة محلها عندما حيني الوقت ،فيمكن جين احملاصيل ،أو األكثر قفراً بسبب الصقيع .فإذا َو َ
اعتبار وليدها مقدساً حّت للهيكل ألنه مثرة طاعة للخالق».
«ابلنسبة يل ،فأان أتوقف عن امتحانه ألن حكمته تفوق حكمة البالغني».
«ال .فلقد قال كذلك إنه قادر على فهم الرموز أيضاً ،فلنستمع إليه».
يطيع يسوع.
«جتاوز األمساء».
«"هذا األمر :اذهبوا واسألوا الرب يل وللشعب وجلميع يهوذا من جهة كالم هذا السفر الذي
ُوِجد ،ألنه عظيم هو غضب الرب الذي اضطََرم علينا ألجل أن آابءان مل يسمعوا لكالم هذا السفر
ليعملوا بكل ما ُكتِب علينا»"...
«هذا يكفي .لقد جرى هذا منذ قرون كثرية قبلنا .فما الرمز الذي جتده يف جمرايت هذه األخبار
التارخيية القدمية؟»
«أرى أن ال حند يف زمن ما هو أزيل .فأزيل هو هللا وكذلك نفسنا .وأزلية هي العالقات بني هللا
والنفس .وما أوجب آنذاك العقوابت هو ذاته يوجبها اآلن .ونتائج اخلطأ تبقى ذاهتا».
«مل تعد إسرائيل تعرف احلكمة املتأتية من هللا .فمنه ،وليس من البشر املساكني ،جيب طَلَب
النور ،وما ِمن نور بدون الربارة واالستقامة واإلخالص هلل .إذاً :حنن خنطئ وهللا يف غضبه يُعاقِب».
«توجد أحكام ولكنها ليست سوى حرب على ورق .حنن نعرفها ولكننا ال نضعها موضع
التطبيق .إذن فنحن ال نعرفها .والرمز هو ذاك :كل إنسان يف كل زمن هو يف حاجة إىل سؤال الرب
ملعرفة مشيئته فيلتزم هبا لكي ال جيلب لنفسه غضبه».
الولَد كامل .حّت فخ السؤال املخادع مل يهز إجابته .فلنأخذه إىل اجملمع احلقيقي».
«َ
ينتقلون إىل قاعة أوسع وأكثر زينة .وهنا أول ما قاموا به هو قص شعره .وأيخذ يوسف
التقصيبات .مث يقومون بتزنري ثوبه األمحر حبزام طويل يلف خصره عدة مرات .مث يعلقون له راايت
على جبهته وذراعيه وعلى معطفه ،مثبتني إايها أبنواع من الداببيس .مث يرتلون مزامري بينما ميجد
يوسف الرب بصالة طويلة ويستنزل كل الربكات على االبن.
ينتهي االحتفال وخيرج يسوع مع يوسف ليعودا إىل املكان الذي أتيا منه ،حيث جيتمع رجال
العائلة ويشرتون َمحَالً ليُـ َقدَّم ،ومن مث مع التقدمة املذبوحة يالقون النساء.
تُقبِل مرمي يسوعها حّت لتحسبها مل تره منذ سنوات .إهنا تنظر إليه اآلن وهو يرتدي الثوب
وشعره شعر رجل ،إهنا تداعبه.
1944 / 01 / 28
أرى يسوع مراهقاً ،مرتدايً جلباابً ،يبدو يل من الكتان األبيض يصل حّت القدمني ،وملتحفاً
فوقه بقطعة مستطيلة محراء زاهية .رأسه عار وشعره طويل يصل إىل منتصف أذنيه وهو داكن أكثر مما
رأيته عليه عندما كان صغرياً .إنه صيب قوي ،حجمه كبري ابلنسبة إىل سنه ،ولكن وجهه هو حبق وجه
طفويل.
ينظر إيل ويبتسم ماداً ذراعيه .إهنا ابتسامة تشبه تلك اليت رأيتُها عندما أصبَ َح ابلِغاً :عذبة مع
لست أرى شيئاً آخر يف هذه اآلونة .إنه يستَنِد على جدار صغري على طريق كوهنا جادة .إنه وحيدُ .
ضيقة صاعدة -هابطة ،طريق حجرية ينخفض وسطها فتتحول أايم الشتاء إىل جمرى ماء .وهي اآلن
جافة ألن النهار مجيل.
يتهيأ يل أنين أقرتب من اجلدار وأنظر إىل ما حوله وما حتته كما يفعل يسوع .أرى جمموعة منازل
متجمعة دوّنا ترتيب .منها ما هو عال ،ومنها ما هو منخفض ،وتتجه إىل كافة االجتاهات .هذا يشبه
-التشبيه فقري ولكنه صحيح متاماً -قبضة حصى بيضاء ملقاة على أرض قامتة .الطرق والدروب فيها
تشمخ أشجار بني اجلدران .منها ما هي مزهرة ومنها ما
تظهر كأوردة وسط هذا البياض .وهنا وهناك َ
فرتض أنه الربيع.
هي مكسوة أبوراق جديدة .يُ ََ
إىل اليسار ،ابلنسبة إيل أان اليت أنظر ،هناك جتمع سكين كبري قائم على ثالثة صفوف من
يشمخ يف وسطها بناء شاهق ،عظيم وثري جداً، األرصفة املغطاة ابألبنية .مث أبراج وساحات وأروقة َ
ذو قبب مدورة تلمع يف الشمس كما لو كانت مغطاة مبعدن ،رمبا حناس أو ذهب .وكل ذلك حماط
بسور ذي شرفات على شكل Mكما لو كانت حصناً .ويشرف على هذا التجمع الكبري برج ابرز
أعلى منه ،يتطاول فوق طريق ضيقة ،حتسبه حارساً صارماً.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 333 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
ُحي ِدق يسوع هبذا املكان ،مث يعود ليسند ظهره من جديد إىل اجلدار ،كما كان سابقاً ،مث ينظر
إىل أكمة صغرية مقابلة للتجمع ،أكمة مغطاة ابلبيوت حّت قاعدهتا ،وما بعد القاعدة عار .أرى طريقاً
تنتهي هناك بقوس تليها طريق مرصوفة ابحلجارة الرابعية غري املنتظمة واجملتمعة بشكل سيئ .احلجارة
ليست كبرية جداً مثل حجارة الطريق القنصلية الرومانية ،ولكنها ابألحرى تشبه احلجارة الكالسيكية
(لست أدري إذا ما كانت قائمة بعد) ولكنها جمموعة بشكل ُ ألرصفة فيارجييو Viareggioالقدمية
شرعت أحبث يف تلك األكمة عن سبب ُ سيئ .إهنا طريق سيئة .أصبَ َح وجه يسوع جاداً لدرجة أنين
أضعت يسوع .فعالً،
ُ هذه الكآبة .ولكنين مل أجد شيئاً مميزاً .إنه مرتَـ َفع عار ،وهذا كل شيء .ابملقابل
وغفوت مع هذه الرؤاي.
ُ ستدرت مل يعد هناك.
ُ عندما ا
استيقظت مع ذكرى هذه الرؤاي يف القلب ،وبعد استعادة قليل من القوة واهلدوء ،ذلك
ُ عندما
وجدت نفسي يف مكان مل أره من قبل ،فيه ساحات وينابيع وبيوت أو ابألحرى ُ أن الناس مجيعهم نيام،
هي أجنحة أكثر مما هي بيوت .إهنا تبدو ابلفعل أجنحة أكثر منها بيواتً .هناك مجع غفري يرتدون
هت إىل أنين داخل هذا التجمع الذي نظرت حويل ،تنب ُ
الزي اليهودي القدمي ،وأصوات كثرية .وعندما ُ
كان يسوع ينظر إليه .أرى ابلفعل السور ذا الشرفات الذي حييط هبا ،والربج الذي يشبه اخلفري،
وكذلك البناء الضخم الذي ينتصب يف الوسط ،والذي تستند إليه األروقة اجلميلة جداً والواسعة،
حيث توجد مجوع كثرية منهم َمن يهتم أبمر ومنهم َمن يهتم آبخر.
هت إىل أنين داخل أسوار هيكل أورشليم .أرى فريسيني بثياهبم الطويلة املتماوجة ،وكهنة
تنب ُ
أبثواب كتان مع صفيحة من معدن مثني على قمة الصدر وعلى اجلبهة ويف أماكن أخرى ،وهي تلمع
هنا وهناك على األثواب الفضفاضة البيضاء احملصورة عند اخلصر حبزام مثني .مث هناك آخرون أبقل
زركشة يفرتض أهنم ينتمون إىل السلك الكهنويت وهم حماطون بتالميذ أصغر سناً .أرى أهنم علماء يف
الشريعة.
أجد نفسي اتئهة وسط كل هذه الشخصيات دون أن أعلم سبب وجودي بينهم .أدنو من
جمموعة من األحبار حيث بَ َدأَت مناقشة الهوتية ،وتقرتب كذلك مجوع غفرية.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 334 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
بني العلماء هناك جمموعة على رأسهم مجالئيل مع عجوز شبه أعمى يسانده أثناء املناقشة،
وأمسعه يناديه هيليل ،ويبدو أنه أستاذ أو قريب جلمالئيل ،ألن هذا األخري يعامله بثقة واحرتام .جملموعة
أرحب من جمموعة أخرى ،وهي األكثر عدداً ،ويقودها سياماي ،وتتصف ابلتشدد مجالئيل نظرة َ
البغيض والرجعي ،وهي اليت يُ َسلِط عليها اإلجنيل الضوء.
مجالئيل ،حتيط به جمموعة هامة من التالميذ يتحدث عن جميء ماسيا ،معتمداً على نبوءة
دانيال ليدعم مقولة أنه جيب أن يكون ماسيا قد ُولِد .ابلفعل ،منذ ما يزيد عن العشر سنوات تقريباً
اكتَ َملَت األسابيع السبعون احملددة .إذا ما بُ ِدئ ابلعد منذ حلظة إعادة بناء اهليكل .وجياهبه سياماي
مؤكداً أنه لو كان صحيحاً أن اهليكل قد أعيد بناؤه ،فليس أقل صحة أن استعباد إسرائيل مستمر يف
التزايد ،وأن السالم الذي كان مفرتضاً أن جيلبه ذاك الذي أمساه األنبياء "أمري السالم" بعيد جداً عن
التحقق يف العامل ،وخاصة يف أورشليم املضطهدة من قبل عدو جيرؤ على بسط سيطرته حّت سور
اهليكل ،حيث يُش ِرف برج أنطونيا املليء ابجلنود الرومان اجلاهزين ليقمعوا ابلسيف كل انتفاضة وطنية.
متتد املناقشة املليئة ابجلدل العقيم .كل معلم يُظ ِهر ِعلمه ،ليس لكسب اجلولة ضد منافسه بقدر
ما يكون ذلك لفرض إعجاب السامعني به .ولقد كانت هذه النية جلية.
من جمموعة املؤمنني املرتاصة يربز صوت طفويل ندي« :احلق إىل جانب مجالئيل».
يتحرك اجلمع وجمموعة األحبار ليبحثوا عن الذي قاطعهم .إّنا ال حاجة إىل البحث ،فهو ال
ظهر ويقرتب من جمموعة احلاخامني .أتعرف على يسوعي املراهق .إنه واثق من نفسه
خيتبئ .ها هو يَ َ
وصريح ،وعيناه تشعان ذكاء.
أنت؟»
يسألونه« :من َ
أتيت أمتم ما تفرضه الشريعة».
«أان ابن إلسرائيلُ ،
امسك؟»
«ما َ
«يسوع الناصري».
تقل احلفاوة عند مجاعة سياماي .ولكن مجالئيل ،وحبفاوة أكثر ،يتابع النقاش بنفس الوقت مع
هيليل .أو ابألحرى هو مجالئيل الذي يقول للعجوز ابحرتام« :سل الصيب».
أتكيدك؟»
َ عالم تبين
فيسأله هيليلَ « :
كل إجابة ألوجز وأجعلها أكثر وضوحاً).
(سوف أضع االسم يف مطلع ّ
يسوع« :على النبوءة اليت ال ميكن أن َّتطئ ابلزمن .وعلى الدالالت اليت رافَـ َقتها عندما حان
موعد حتقيقها .صحيح أن قيصر يسيطر علينا ،ولكن العامل كان مستكيناً جداً وفلسطني هادئة جداً
عندما انتهت األسابيع السبعون ،حّت أمكن لقيصر أن أيمر إبجراء إحصاء يف ممالكه .مل يكن ليستطيع
ذلك لو أن حرابً كانت مشتعلة يف إمرباطوريته ،أو أن ثورة كانت قائمة يف فلسطني .ومبا أن الزمن
كان قد مت هكذا فستتم الفرتة األخرى ،األسابيع اإلثنان والستون وزايدة واحد منذ إكمال بناء اهليكل،
لكي يكرس املاسيا وتتحقق تتمة النبوءة يف الشعب الذي مل يقبله .هل ميكنكم الشك يف ذلك؟ هل
ضع متاماً يف مساء بيت حلم قضاء يهوذا ،وأن تذكرون النجم الذي رآه حكماء الشرق ،والذي تَـ َو َّ
النبوءات والرؤى منذ يعقوب وما تاله حتدد هذا املكان كمختار الستقبال والدة املاسيا ابن ابن ابن
يعقوب َعرب داود الذي كان من بيت حلم؟ أال تذكرون بلعام؟ "جنم يولد من يعقوب" .حكماء الشرق
الذين فَـتَ َحت الطهارة واإلميان عيوهنم وآذاهنم قد رأوا النجم وعرفوا امسه" :ماسيا" ،وأتوا ليسجدوا للنور
الذي أضاء العامل».
ينظر إليه سياماي ممتقعاً« :أتقول إن ماسيا قد ُولِد يف زمن النجم يف بيت حلم إفراات؟»
أنت َّتطئ أيها العجوز .فبكاء راحيل قد تبدَّل بـ ـ "أوشعنا" .ألن راحيل اجلديدة اليت
يسوعَ « :
َولَ َدت "ابن اآلالم" َمنَ َحت للعامل االبن املفضل لآلب السماوي ،ابن ميينه ،الذي اختري ليجمع
الشعوب حتت سيادته وحيررها من العبودية الرهيبة».
يسوع« :روح هللا .ليس يل معلم بشري .وما تسمعونه من شفيت ما هو إال كالم هللا».
إبميانك ،ونفسي
َ هيليل« :تعال بيننا ألر َاك عن قرب أيها الصيب! لقد أُنعِش رجائي ابحتكاكه
نفسك».
َ تستضيء بشمس
يسوع« :هكذا أتكلم وهكذا سوف أتكلم حّت املمات .ذلك أن فوق مصلحيت هي مصلحة
لك أيها احلاخام إن العبودية اليت يتكلم عنها النيب واليت أتكلم
وحب احلقّ الذي أان ابنه .وأُضيف َ الرب ّّ
أنت .إّنا على
أنت ،وامللك كذلك ليس الذي تفكر فيه َ عنها أان أيضاً ليست تلك اليت تظنها َ
العكس ،فباستحقاقات ماسيا يتحرر اإلنسان من عبودية الشر الذي يفصله عن هللا ،وشخصية املسيح
تنطَبِع على النفوس ال ُـم َحَّررة من كل نري واخلاضعة مللكه األزيل .كل األمم تنحين ،اي ذرية داود ،أمام
منك والصائرة شجرة تغطي األرض كلها وترتفع إىل السماء .كل فم يف السماء وعلى البذرة املولودة َ
ميجد امسه ،وكل ركبة جتثو أمام املقدَّس من هللا ،أمري السالم ،ذلك الذي تنتشي منه كل نفس األرض ِ
تَعِبة وتشبع به كل نفس جائعة ،القائد القدوس الذي يقيم رابطة بني السماء واألرض ،ليست كتلك
ُجنَزت مع آابء إسرائيل عندما أخرجهم هللا من مصر ،مبعاملتهم كعبيد ،إّنا بطبع فكرة األبوة اليت أ ِ
السماوية ،يف نفوس البشر مع النعمة املتدفقة حديثاً فيهم ابستحقاقات الفادي الذي به يَعرف الرب
هدم ولن يُ َد َّمر».
األخيار ،وهيكل هللا لن يُ َ
هيليل« :امسع أيها الصيب .يقول حجاي ..." :وأييت الذي تتمناه األمم مجيعاً .وسيكون جمد
ذاك البيت األخري أعظم من األول" .هل ُحيتَ َمل أن يكون اهليكل الذي أراد احلديث عنه هو نفسه
أنت؟»
الذي تتكلم عنه َ
استقامتك تُ َسِري َك يف طريق النور ،وأان
َ يسوع« :نعم ،اي معلم ،هو هذا ما كان يريد قوله .إن
فيك».
ك إسرائيلي ال غش َ أيتيك السالم ألن َ
لك :عندما تتم تضحية املسيح َ أقول َ
مجالئيل« :قل يل اي يسوع .السالم الذي يتكلم عنه األنبياء ،كيف ميكن الرجاء به إذا كانت
احلرب ستقوم لتُ َد ِمر هذا الشعب؟ تكلم وأَنِرين أيضاً».
رسل مالكي ،فيهيئ الطريق أمامي ،ويف احلال يسوع« :إنه موجود .أمل يقل مالخي" :ها أان ذا م ِ
ُ
أييت إىل هيكله السيد الذي تلتمسونه ومالك العهد الذي ترغبون به حبرارة"؟ إذاً فالسابق أييت مباشرة
قبل املسيح .ولقد أصبَ َح هنا كاملسيح .فلو كان الفارق سنوات بني الذي يهيئ الطريق للرب واملسيح
لتعرقَـلَت كل الطرق واحنََرفَت .هللا يعرف ذلك وقد قرر أن يسبق السابق املعلم بساعة واحدة فقط.
لك أقول :سيفتَح عندما ترون هذا السابق ستستطيعون القول" :إن رسالة املسيح قد ابتدأت" .و َ
وألمثالك .ذلك
َ لك
املسيح أعيناً كثرية وآذاانً كثرية عندما أييت يف طرقه .ولكنها لن تكون تلك اليت َ
أنكم ستَ ِهبونه املوت مقابل احلياة اليت حيملها إليكم ولكن ،حينئذ ،سيكون الفادي على عرشه وعلى
هيكله أعظم من هذا اهليكل وأمسى من اتبوت العهد احملتَ َجز يف قدس األقداس ،وأرفع من اجملد الذي
حيميه الشريوبيم .واللعنة ل َقتَلة هللا ،واحلياة سوف تتدفق لألمم من جراحاته األلف واأللف .ذلك أنه،
اي أيها املعلم الذي جيهله ،أكرر ذلك ،ليس ملك مملكة بشرية ،بل إّنا هو ملك روحي ،وأتباعه
سيكونون فقط الذين يعرفون حببهم أن يولَدوا من جديد ابلروح ،ومثل يوانن ،بعد الوالدة األوىل،
يولدون من جديد على شواطئ أخرى ،أتباع هللا عرب الوالدة اجلديدة ابلروح اليت ستأيت بواسطة املسيح
الذي يهب احلياة احلقيقية للبشرية».
هيليل وأتباعه« :ال .بل إن هذا الصيب هو نيب هللا .ابق معنا أيها الصغري .ستنقل شيخوخيت
علمك وستكون معلم شعب هللا».
َ كل معارفها إىل
لك :لو كان أمثالك ُكثُر ألتى اجملد إلسرائيل .ولكن ساعيت مل ِ
أتت. يسوع« :احلق أقول َ
وأصوات السماء تكلمين ،وجيب أن أتلقاها يف الوحدة والعزلة حّت أتيت ساعيت .حينئذ سوف أتوجه
إىل أورشليم بشفيت ودمي ،وسيكون مصريي مصري األنبياء الذين َر َمجَتهم وقَـتَـلَتهم .ولكن أعلى مين
يوجد الرب اإلله الذي أخضع له أان ليجعل مين مرقاة جمده ابنتظار أن جيعل هو من العامل مرقاة لقدم
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 340 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
املسيح .انتظروين يف ساعيت .سوف تَسمَع هذه احلجارة صويت من جديد وترتعد عند كلميت األخرية .طوىب
للذين يسمعون هللا من خالل هذا الصوت وبواسطته يؤمنون به .هلؤالء َمينَح املسيح ُملكه الذي حتلم
خادمك اي
َ به أاننيتكم بشرايً بكليته ،بينما هو مساوي .خبصوص قدوم هذا امللك ،أان أقول" :ها هو
مشيئتكَ .ح ِققها كاملة ،فأان أحترق إلمتامها».
َ رب اآليت ليتمم
هنا تنتهي رؤاي يسوع بوجهه املتأجج حبرارة روحية ،متجهاً صوب السماء فاحتاً يديه واقفاً وسط
األحبار املذهولني.
1944 / 01 / 29
استطعت معرفة أمساء هيليل ومجالئيل وسياماي .إنّه الصوت الذي أمسّيه
ُ كنتم اليوم تسألونين كيف
ابحلس من صوت يسوع واآلخرينّ أقل إدراكاً
"الصوت الثاين" وهو الذي يقول يل هذه األمور .إنّه صوت ّ
ُكررها ،تسمعها مسامعي الروحية كما لو كانت أصوااتً بشريّة.الذين ُميلون علي .هذه األصوات ،قُلتُها وأ ِّ
ّ
أمسعها عذبة أو مغتاظة ،ضاحكة أو حزينة ،متاماً كأ ّن أحداً يكلّمين عن قرب .بينما هذا "الصوت الثاين"
قلت" :يف" روحي ،ومل أقل "إىل" روحي.
داخلي يتكلّم يف روحيُ .
ّ حس
على العكس ،فهو مثل نور ،مثل ّ
هذا هو ابلتحديد.
كنت أدنو من جمموعة الرجال الذين يتجادلون دون معرفـة من يكون هذا الشخص
وهكذا حينما ُ
الداخلي" قال يل:
ّ العظيم الذي ،إىل جانب أنّه عجوز ،كان يتكلّم بكثري من احلرارة .هذا "الصوت
تساءلت َمن يكون هؤالء،
ُ أشك هبذا أبداً .وعندما
«مجالئيل ،هيليل» .نعمّ ،أوالً مجالئيل مثّ هيليل .ال ّ
الظل ،متاماً حني انداه مجالئيل ابمسه .وهكذا الداخلي الشخص الثالث ،ثقيل ّ ّ ح ّدد يل جهاز املراقبة
الداخلي هذا يُف ِهمين كيف ُ
كنت ّ يسي .واليوم ،جهاز املراقبة
الفر ّ
استطعت معرفة ذاك الذي كان له مظهر ّ
ُ
أرى الكون بعد موته (األحداث بعد انقضائها) .وغالباً يف الرؤى ،هو الذي يُف ِهمين كثرياً من التفاصيل اليت
1944 / 02 / 22
يقول يسوع:
ِ
مرشدك «حمبوبيت الصغرية ،اصربي .فاألمر يتعلّق بشيء آخر .ولنعاجل هذا الشيء اآلخر إلرضاء
نه َكة ،ألنّين... ِ
وإمتام العمل .أريد أن يكون العمل منتهياً غداً ،أربعاء الرماد .أريدك أن تنهي هذا العمل ُم َ
ِ
أجعلك تتألّمني معي. أريد أن
ترين أمل مرمي حينما اجتَ َم َعت مجاعات الرجال والنساء ورأت أنين مل أكن مع يوسف .مل حتتد
وتتهم عروسها اهتامات قاسية .كل النساء كن فعلن ذلك .كن فعلنها ألقل من ذلك أيضاً ،انسيات
أن الرجل هو رب العائلة.
لكن األمل الذي ارتسم على وجه مرمي قد اخرتق قلب يوسف أكثر من أي اهتام .فمرمي ال
تستسلم ملشاهد دراماتيكية .نساء أخرايت كن ستفعلن ذلك من أجل أمور أقل كثرياً ،وذلك للفت
االنتباه واستدرار العطف .ولكن األمل الذي حتتويه جلي جداً ،وكذلك الرعشة اليت استولَت عليها،
وشحوب وجهها ،وعينيها احململقتني املؤثرتني أكثر من مشهد البكاء والصراخ.
مل تعد تشعر ابلتعب واجلوع ،مع أن الشوط كان طويالً ،وكان قد مضى وقت مل تكن قد
تناولَت خالله شيئاً! لكنها ترتك كل شيء ،املنامة اليت هتيأت والغذاء الذي سيوزع .تعود على أعقاهبا.
َ
إنه املساء ،والليل بدأ يهبط .ال يهم ،فكل خطوة تُدنِيها من أورشليم .تُوقِف القوافل واحلجاج وتسأهلم.
وكان يوسف يتبعها ويساعدها .بعد يوم كامل من املسري املعاكس ،يبدأ البحث ال َقلِق َعرب املدينة.
بعد ثالثة أايم ،وهي ترمز إىل قلقها املستقبلي ملدة ثالثة أايم ،ها هي مرمي على وشك أن َّتور
قواها ،فتدخل اهليكل ،وتقطع الساحات والردهات .ال شيء .تركض األم املسكينة وتركض إىل حيث
سمع صواتً طفولياً ،ذلك أن حّت احلِمالن حني تثغو كانت تبدو هلا صوت من تبحث عنه .لكن تَ َ
سمع خلف َمجع من الرجال الصوت احملبوب يقول" :هذه ت
َ مرمي هي ها م. يسوع ال يبكي .إنه يـعلِ
َ َُ
احلجارة ترتعد "...فَـتُحاول شق طريق هلا عرب اجلَّمع ،وتنجح أخرياً .ها هو االبن ،الذراعان مفتوحتان
صب وسط العلماء. وهو منتَ ِ
أخر َجها هذه املرة عن حتفظها .تركض ابجتاه قد الغم أن إال العادة، يف ويقظة رةذمرمي العذراء ح ِ
َ َ
لت بنا هذا؟ إننا منذ
ابنها ،تعانقه وهي ترفعه عن كرسيه وتضعه على األرض .تصرخ" :آه! ملاذا فَـ َع َ
ك من التعب .ملاذا اي يسوع؟" ثالثة أايم نغذ السري يف البحث عنك .أمك ماتت ِمن الغم و َ ِ
أبوك أُهن َ َ َ
من يعرف ال يُسأل "ملاذا .الـ "ملاذا" ألسلوبه يف التصرف .املدعوون ال يُسألون "ملاذا" ألهنم
كنت
كنت "مدعواً" لرسالة و ُكنت أعرفُ . كنت احلكمة و ُيرتكون كل شيء ويتبعون صوت هللا .لقد ُ
أُمتمها .ففوق األب واألم األرضيني هناك هللا األب اإلهلي .مصاحله تتعدى مصاحلنا ،عواطفه متر قبل
أهنيت تعليمي لألحبار بعربة ملرمي ملكة العلماء .مل تعد تنساها
كل ما عداها .ذاك هو ما قلته لوالديتُ .
أبداً .شعاع مشس عاد إىل قلبها ،وعلى الرغم من إمساكها بيدي متواضعاً وطائعاً ،إال أن كلمايت قد
ُح ِفظَت يف قلبها.
تعلموا هذه األمثولة ،أنتم أيضاً أيها الناس ال ُـمتَـ َعج ِرفون.
ك ِ
لست يف وضع يسمح أبن تعملي أكثر». ُعلِّم أان عن الرؤاي وأُنريها ،ألنّ ِ
أردت أن أ َ
لقد ُ
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
1944 / 02 / 05
الكراسة ،وابلتحديد هذه اإلمالءات حول الدايانت اخلاطئة يف الزمن احلاضر ،تَلِج
ُصحح ّ
بينما أان أ ّ
الرؤاي إبحلاح يف أعماقي ،فأكتبها أثناء رؤيتها.
أرى داخل مشغل جنّار .يبدو يل أن جدارين منه مها حافّيت صخرة ،كما لو أن مغارة طبيعية قد
استُ ِغلَّت يف بناء غرف املنزل.
إهنما ابلضبط اجلانبان الشمايل والغري اللذان نرامها هكذا ،بينما اجلانبان اآلخران ،اجلنوي
والشرقي ،مطليان ابجلص مثل جدراننا.
خد َمت كموقد بدائي ،حيث يوجد قِدر فيه يف اجلدار الشمايل توجد حفرة يف الصخر است ِ
ُ
احرتق يف هذا املكان على مدى سنوات ،فقد لست أدري جيداً .أما اخلشب الذي ََ طالء أو غراءُ .
َس َّوَد اجلانب الذي أصبَ َح يبدو مطلياً ابلقطران .إىل جانبها ثقب مت فوقه بناء نوع من اآلجر املستدير
يف حماولة ليقوم مقام املدخنة فيشفط دخان اخلشب .ولكن الظاهر أنه فشل يف حتقيق وظيفته ،ذلك
اسوَّدت من الدخان ،وحّت هذه اللحظة توجد غيمة من الدخان تنتشر يف أن اجلوانب األخرى قد َ
الغرفة.
يسوع يعمل على طاولة جنارة .إنه يسحج ألواحاً خشبية ،يسندها خلفه على اجلدار .مث أيخذ
كرسياً حمصوراً بني فكي ملزمة ،حيرره ،ينظر إىل العمل إن كان حمكماً ،خيتربه ابلكوس املثلث يف كل
لست أدري .فأان ال أرى
االجتاهات .مث يذهب إىل املوقد يَغمس يف القدر عصاً صغرية أو فرشاة ُ
القدر ،وهي عبارة عن عصا صغرية. سوى القطعة الظاهرة من ِ
نصت .ويفيرفَع رأسه بني احلني واحلني لينظر صوب اجلنوب حيث يوجد ابب مغلق ،كما لي ِ
ُ
حلظة يت َقدَّم ويفتح ابابً يف اجلانب الشرقي يفضي إىل الشارع .أرى زاوية زقاق ترابية .حتسبه ينتظر
أحداً .مث يعود إىل العمل .هو ليس حزيناً ولكنه جاد .يُغلِق املدخل ويعود إىل العمل.
وبينما هو ُم َنه ِمك يف صنع ما يبدو يل أنه قطع دائرة عجلة (إطار) ،تدخل والدته من ابب يف
اجلدار اجلنوي .تدخل مسرعة ،راكضة صوب يسوع .إهنا ترتدي ثوابً الزوردايً داكناً ،وال شيء يغطي
رأسها .جلباهبا بسيط وحمصور عند اخلصر حببل من اللون ذاته .تنادي بلهفة ابنها ،وتضع يديها على
ذراعه حبركة توحي ابلتوسل املمزوج ابألمل .يالطفها يسوع بوضع ذراعه على كتفها ويشجعها ،مث ميضي
معها اتركاً العمل ،انزعاً ال ِـم َئزر.
أظنكم تريدون أيضاً معرفة ما دار بينهما من كالم .إنه قليل جداً من جانب مرمي« :آه! يسوع!
تعال ،تعال .إنه على غري ما يرام!» تقول ذلك بينما شفتاها ترتعشان ودموعها تلمع يف عينيها
احلمراوين املتعبتني .أما يسوع فال يقول سوى« :ماما!» ولكن هذه الكلمة تتضمن كل شيء.
دخالن إىل غرفة جماورة تضحك فيها الشمس الداخلة إليها من خالل ابب مفتوح على يَ ُ
احلديقة الصغرية املليئة ابالخضرار ال ُـمنري ،حيث تطري طيور احلمام وسط الغسيل املنشور ليجف.
الغرفة فقرية ولكنها مرتبة جيداً .وعلى سرير فيها منخفضُ ،و ِض َعت عليه فرشات صغرية (أقول فرشات
صغرية ذلك أهنا أشياء مسيكة وانعمة ،إّنا هو فليس سريراً كأسرتنا) يتمدد يوسف ُمسنِداً رأسه على
عدة وسادات .إنه حيتضر .نرى ذلك بوضوح على وجهه ذي الشحوب املزرورق وعينه اليت َّتبو،
وكذلك على صدره الالهث وجسده الذي يتالشى بكليته.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 347 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
أخ َذت تفركها، تقف مرمي إىل يساره ،ومتسك يده مت ِ
صلبة اجللد املزرورقة حّت األظافر .و َ
َُ َ
تلمع على الصدغني املتجعدين، ِ
تالطفها ،وتقبلها ،ومتسح بقطعة قماش العرق الذي يُ َشكل خطوطاً َ
والدمعة اليت تتألأل يف زاوية العني .ترطب شفتيه بقطعة مبللة بسائل يبدو يل أنه نبيذ أبيض.
يقف يسوع إىل ميينه ،وبرشاقة وانتباه يرفَع جسده اخلائر على الوسادات مبساعدة مرمي .ي ِ
الطفُ
احملتضر على جبهته وحياول إنعاشه.
تبكي مرمي هبدوء وبدون صوت ،ولكنها تبكي .تسيل الدموع على خديها الشاحبني حّت ثوهبا
الالزوردي الداكن ،فتبدو كأحجار سفري متأللئة.
يَنتَعِش يوسف ويتفرس بيسوع .يعطيه يده كما ليقول له شيئاً ،وليجد يف هذا التَّماس اإلهلي
القوة لالختبار األخري .ينحين يسوع على تلك اليد ويقبلها .يبتسم يوسف .مث يستدير لينظر ويبحث
عن مرمي ويبتسم هلا أيضاً .تركع مرمي جبانب السرير ،حتاول أن تبتسم ،ولكنها َّتفق وَّتفض رأسها.
يضع يوسف يده على رأسها مبالطفة عفيفة تبدو وكأهنا بركة.
سمع سوى طريان احلمام وهديله ،وحفيف األوراق ،وخرير املياه ،ويف الغرفة تَـنَـ ُّفس احملتضر.
ال يُ َ
وجيلِس مرمي قائالً هلا فقط« :ماما ».مث يعود إىل مكانه،
يدور يسوع حول السرير ،أيخذ كرسياً ُ
ع دموعي .مث ينحين يسوع وأيخذ يوسف بني يديه .كان املشهد حقيقياً لدرجة أن حزن مرمي قد انتَـَز َ
على رأس احملتضر ويتمتم له مبزمور .ولكنين ،يف الوقت احلاضر ،ال أستطيع القول أي مزمور هو.
يعود يوسف لينتَعِش كلية .ويبتسم ليسوع بنظرة أكثر حيوية ويشد على أصابعه .ويرد يسوع
اببتسامة على ابتسامة يوسف ،ومبالطفة على ضغط أصابعه .ومنحنياً فوق أبيه املزعوم ،ي ِ
كمل هبدوء: ُ
مساكنك اي رب.
َ َحب «"ما أ َ
تشتاق وتذوب نفسي إىل داير الرب.
العصفور جيد له مأوى واليمامة عشاً لفراخها .من يل مبذاحبك اي رب.
فيك َّقوهتم.
بيتك ...طوىب للذين جيدون َ طوىب لساكين َ
إليك ،جيتازون وادي الدموع إىل املكان الذي اخرتتَه. فإن يف قلوهبم مراقي َ
مسيحك»"...
َ امسع أيها الرب صاليت...انظر اي هللا والتَ ِفت إىل وجه
الحظ أنه
جيهش يوسف وينظر إىل يسوع وحيرك شفتيه كما ليباركه ،ولكنه ال يستطيع .من ال ُـم َ
يُد ِرك ولكنه ال يستطيع الكالم ،ولكنه مع ذلك سعيد من خالل نظرته املليئة ابحلياة والثقة بيسوعه.
ويتابع يسوع:
مث يُتابِع:
أصفياؤك.
َ كهنتك الرب و ُلريَِن
َ لِيَلبس
مسيحك.
َ عبدك ال حتجب عنا وجه من أجل داود َ
عرشك.
َ بطنك على
أقس َم الرب لداود ولن خيلف ألُجلسن من مثرة َ َ
الرب اختاره إلقامته.
هناك أنبت لداود قدرة ،أهيئ ملسيحي سراجاً ُمشتَعِالً»".
«"من يسرتح حبضور الرب تعاىل يَعش حتت محاية إله السماء"».
اسبقين لتقول لألبرار إن اجملد قد حل يف األرض ،وإن ملكوت السماوات سيُفتَح هلم قريباً.
افقك بركيت».
اذهب اي أي ولرت َ
املشهد مليء بسالم َوقورُ .ميَ ِدد يسوع العجوز ويُعانِق مرمي اليت تدنو يف تلك اللحظة األخرية
من يسوع ،والقلق ميزقها.
( ---------------عودة إىل الفهرس) ---------------
www.sites.google.com/site/valtortamaria
valtorta.maria@gmail.com
يقول يسوع:
«كل النساء اللوايت يُصنب أبمل مربح أ َُعلِمهن أن يقتدين مبرمي ابحتادها بيسوع يف ترملها.
ُخيطئ كل من يفكر أبن مرمي مل تتأمل أبحزان قلبها .والديت قد َّ
أتلمَت ،اعلَموا ذلك ،بقداسة، َ
ألن كل ما فيها كان مقدساً ،إ ّّنا بعمق.
وكذلك خيطئ من يعتقد أن حب مرمي لعروسها كان ابألحرى فاتراً ،ألن وحدة الروح هي اليت
كانت تربطهما .فإن مرمي كانت حتب يوسف بشدة .لقد َكَّر َست له ثالثني عاماً من حياة الوفاء.
فكان يوسف ابلنسبة إليها :أابً وعروساً وأخاً وصديقاً ونصرياً.
اآلن تشعر أبهنا وحيدة ،كالغصن الغض املقطوع من جذع الكرمة الذي به ترتبط حياته .فكان
ضَربَته الصاعقة .إنه اآلن يَتشتَّت .قبل ذلك كان االحتاد ،حيث كل فرد من العائلة يستند
بيتها كالذي َ
على اآلخرين .أما اآلن فها هو اجلدار الرئيسي يهوي ،أوىل الضرابت اليت َحلَِقت هبذه العائلة ،نبأ
االنفصال القريب جداً عن احملبوب يسوع .فإرادة األزيل اليت أرادهتا عروسة وأ َُّماً تفرض عليها اآلن
الرتمل واالبتعاد عن ابنها .ومرمي ،وسط دموعها ،تنطق إحدى مقوالهتا الرائعة" :نعم"" .نعم اي رب،
لك".
ليكن يل حبسب قو َ
ص َقت ي لتنال القوة .كانت دائماً تلتصق ابهلل يف الساعات األكثر خطورة ويف تلك الساعة التَ َ
يف حياهتا :يف اهليكل عندما ُد ِعيَت للزواج ،يف الناصرة عندما ُد ِعيَت لألمومة ،ويف الناصرة أيضاً وسط
دموع ترملها ،وكذلك يف الناصرة وسط عذاب االنفصال عن ابنها ،وعلى اجللجلة يف أمل مشهد مويت
املربح.
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 353 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
تعلموا هذه األمثولة ،أنتم اي من تبكون ،أنتم اي من متوتون ،أنتم اي من تعيشون لتموتوا .اجتَ ِهدوا
يف أن تَستَ ِحقوا الكلمات اليت قُلتُها ليوسف ،فتكون لكم السالم ساعة احتضاركم .احفظوا هذه
فتجاسروا ذلك اوق العربة ،أنتم اي من متوتون لتستحقوا يسوع قريباً منكم يواسيكم .حّت ولو مل تَستَ ِ
ح
َ
وحباً وعلى ِ
على منادايت إىل جواركم .سوف آيت ،ويداي ممتلئتان ن َعماً وتعزايت ،وقليب يفيض مغفرة ُ
شفيت كلمات الصفح والتشجيع.
يَفقد املوت كل قسوته عندما يكون بني يدي .ثِقوا بذلك .ال ميكنين إلغاء املوت ،ولكنين
أجعله لطيفاً ابلنسبة ملن ميوت وهو مستسلم يل.
1944 / 06 / 10
تقول مرمي:
«قبل أن ترفعي هذه الدفاتر ،سأضم بركيت إليها .واآلن إذا ِ
أردت أن تضيفي قليالً من الصرب،
ميكنك أن حتصلي على اجملموعة الكاملة حلياة يسوع اخلاصة .من البشارة حّت حلظة خروجه من ِ
الناصرة ليبشر ابإلجنيل .فليست ِ
لديك األحاديث فقط ،بل إّنا كذلك أهم األحداث اليت رافَـ َقت َ
حياة يسوع العائلية.
السنوات األوىل ،الطفولة ،املراهقة وشباب ابين ،وكل شيء ُحمَدَّد حبوادث خمتصرة ،يف إطار
حياته اليت تَ ِ
صفها األانجيل .فهناك هو املعلم .وهنا هو اإلنسان ،إنَّه هللا الذي تو َ
اض َع حملبته لإلنسان.
اجرت َح املعجزات حّت يف أمور احلياة العادية .فَـ َعلَها ي أان اليت أحس نفسي حممولة إىل الكمال
والذي ََ
ابالحتكاك ابالبن الذي تكون يف أحشائي .فَـ َعلَها يف بيت زكراي بتقديسه املعمدان ،بتسهيله وضع
أليصاابت ،وإبعادته النطق واإلميان لزكراي .فَـ َعلَها بيوسف حني فَـتَ َح روحه على نور حقيقة سامية
لدرجة مل يكن ليتمكن من إدراكها بوسائله وحدها حّت ولو كان ابراً .وبعدي ،كان يوسف هو الذي
ابتَـ َه َج هبذا الوابل من اخلريات .الحظي أية طريق يسلك يف املسلك الروحي منذ اللحظة اليت أتى فيها
إىل بييت حّت اهلرب إىل مصر.
يف البدء كان جمرد رجل ابر يف زمنه .مث ،وعلى مراحل متتالية أصبَ َح رجل املسيحية البار على
ص َل على اإلميان ابملسيح واستسلَ َم بسكون هلذا اإلميان .فَ ِكروا يف هذه اجلملة يفاإلطالق .لقد َح َ
بداية الرحلة من الناصرة إىل بيت حلم" :ماذا سنفعل؟" فالرجل يرى األمور كلها وفق خماوفه البشرية
صل إىل الرجاء .ويف املغارة قبل ميالد يسوع يقول" :غداً سيكون كل شيء ومهومه البشرية .مث يتو َّ
أفضل" .ويسوع الذي قَ ِد َم َمنَ َحهُ الشجاعة مع هذا الرجاء الذي هو أحد أمجل هبات هللا .وعندما
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 355 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
الرجاء إىل اإلقدام .لقد كان دائماً يستسلم لقياديت لإلجالل الذي
تقدس ابحتكاكه به ،انتَـ َق َل من َّ
كان يغذيه حيايل .وها هو اآلن ميسك بزمام األمور املادية وتلك اليت يف مرتبة أعلى .وهو الذي كان،
كرب العائلة ،يتخذ القرار يف حال وجود ظروف خاصة .وليس هذا فقط ،إّنا يف ساعة حمنة اهلرب،
بعد أن أُشبِ َعت قداسته خالل تلك األشهر من االحتاد ابلطفل اإلهلي ،فقد كان هو الذي يعزيين يف
حمنيت ويقول يل" :حّت ولو اضطرران ألن نفقد كل شيء ،فسنظل ّنتلك دائماً كل شيء ،ألننا ّنتلكه
هو".
جيرتح معجزاته :يَ ِهب النعمة للرعاة .فاملالك يذهب إىل حيث يوجد الراعي الذي هيَّأه يسوع َِ
لقاؤه العابر ي هلذه النعمة ،مث حيمله إىل واهب النِعم خلالصه األبدي .فحيثما مير كان جي َِرتح املعجزات،
يف املنفى أو حينما عاد إىل موطنه الصغري ،الناصرة .إذ حيثما يتواجد تنتشر القداسة كبقعة زيت على
قطعة قماش ،ويكون اهلواء معطراً ابلزهور .من يدنو منه أو يلمسه ،ما مل يكن شيطاانً ،كان يرتكه وكله
رغبة يف أن يصبح قديساً.
حيثما توجد هذه اللهفة تكون أساس احلياة األزلية ،ألن الذي يريد أن يكون صاحلاً ميكنه
ذلك ،والصالح يفضي عادة إىل ملكوت هللا.
ضح خمتلف املراحل ،مراحل الدعوة إلنسانيّة ابين املق ّدسة منذ لديك تفاصيل تو ِّ
ها قد أصبحت ِ
ََ
مرشدك ذلك) .لقد كان إبمكانناِ وحّت غسقها .مي ِ
كنك مجعها لتش ّكل لوحة كاملة (إذا ارأتى فجر حياته ّ
ِ
ملصلحتك اي ِ
نعطيك ّإايها كلّها دفعة واحدة ،ولكن العناية اإلهلية رأت تصرفنا هبذا الشكل أفضل، أن
متنحك الدواء للجراحات اليت ِ
عليك تل ّقيها .فلقد ِ لك كانت ُعطيت ِِ
فكل البياانت اليت أ َ
نفسي العزيزةّ ،
غرة. ِ
تؤخذي على حني ّ أعطيناك ّإايها مسبقاً لكي ال َ
تتبخر بسرعة الربق بوجود املرابني الذين َخينقون الالجئ املسكني أثناء البحث
هدااي اجملوس َّ
عن سقف وعن احلد األدىن من املفروشات الالزمة للحياة ،وعن الغذاء الذي ال بد منه .ومل يكن لنا
سوى هذا املورد يف انتظار إجياد عمل.
الطائفة العربية جاهزة دائماً ملساعدة الذين خيصوهنا ،ولكن الطائفة اليت التقيناها يف مصر كانت
مضطهدين ،إذاً فَـ ُهم فقراء مثلنا ،حنن الذين أتينا لننضم إليهم .لقد أردان
َ يف جمملها تتألف من الجئني
الس َكن يف
االحتفاظ جبزء من هذا املورد ليسوع ،ليسوعنا البالغ ،وقد استطعنا توفريها من مصاريف َّ
مصر ،وفرانها حلني العودة إىل الوطن ،وقد كانت ابلكاد تكفي إلصالح البيت واملشغل يف الناصرة
لدى عودتنا .إن األزمنة َّتتلف ،ولكن جشع البشر هو ذاته على الدوام ،يَغتَنِم ِشدَّة اآلخرين ليستغلهم
بشكل خمجل.
ال .إن وجود يسوع معنا مل يوفر لنا خريات مادية .كثريون منكم يُطالِبون هبذه اخلريات عندما
يكونون ابلكاد متحدين قليالً بيسوع .إنكم تنسون أنه قال" :احبَثوا عن اخلريات الروحية" .وكل ما
عداها أيتيكم يف أوانه .إن هللا حيسب حساب الغذاء للناس كما للطيور ،ذلك أنه يَعلَم أنكم يف حاجة
إىل الغذاء ،ألن نفوسكم يف حاجة إىل دعم اجلسد الذي حييط هبا .ولكن اطلبوا منه أوالً نعمته .اطلبوا
ص َل يوسف بشرايً من احتاده بيسوع أوالً احتياجات الروح .وكل ما سواها يُعطَى لكم زايدة .لقد َح َ
على مضايقات ومتاعب واضطهاد وجوع ،وال شيء سوى ذلك .ولكن ،مبا أنه كان متعلقاً بيسوع
قصيدة اإلنسان -اإلله /ماريا فالتورتا (الجزء األول)
Page 357 of 358 آخر تحديث 25.03.17 :
أردت أن أوصلكم إىل النقطة
وحده فقد كان كل ذلك يتحول إىل سالم روحي ،إىل فرح فائق الطبيعةُ .
ص َل إليها عروسي عندما قال" :حّت ولو اضطرران ألن ال يبقى لدينا شيء ،فإننا سوف نبقى
اليت َو َ
ّنتلك كل شيء ألننا ّنتلك يسوع".
ِ
انتماؤك هو ليسوع؟ تضمحل .ولكن اي ماراي! ...هل أع ِرف أ ّن القلب يتحطّم والروح يتك ّدر واحلياة
ّ
هل تريدين أن تكوين لـه؟ لدرجة أن متويت كما مات يسوع؟ اي صغرييت ،العزيزة على قليب كثرياً ،ابكي ولكن
يتحمل الشهيد هذا العذاب.
ظلّي شجاعة واثبري .الشهادة ليست يف شكل العذاب ،إ ّّنا يف اجلَلَد الذي به ّ
ميكن للشهادة أن تكون ابلسالح ،إ ّّنا ابإلمكان كذلك أن تكون أبمل وجداينّ إذا كان اهلدف الذي نصبو
حب ِ ِ ِ
كل ما تفعلينه فإلخوتك تفعلينه ،من أجل ّ التحمل .و ّ
تتحملني أل ّن ابين يهبك نعمة ّ
إليه واحداً .إنّك ّ
كل شيء من ِ
املسيح الذي يريد جمدهم .هنا تكمن شهادتك .ظلّي وفيّة هلا .وافقي على ّأال تريدي فعل ّ
نفسك وتسيطري علىِ القوة لتقودي ِ
قوي ج ّداً لتستطيعي أيضاً إجياد ّ
ذاتك .فيكفي -إذ إ ّن الضغط ّ
طبيعتك إبيقاف الدموع -يكفي أن تقويل ليسوع" :ساعدين" .فما ال تستطيعني فعله ،يفعله هو ِ
فيك. ِ
مينعك ِمن أن تَري
حّت ولو كان األمل ،ومهما كان عظيماًِ ،
استمري فيه .دائماً فيه .ال تف ّكري يف اخلروج منه ّ
ّ
أنت .فستكونني دوماً يف يسوع. ِ
نفسك أين ِ