Professional Documents
Culture Documents
النهر والموت
النهر والموت
1
النهر والموت
بويب..
بويب ..
أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر
الماء في الجرار ،والغروب في الشج ـر
وتنضح الجرار أجراساً من المطـ ـر
بلورها يذوب في أنين
"بويب ..يابويب! "
()2
3
إضاءة
ويقوم الشعر الحر على قدر كبير من الحرية في استخدام بحور الشعر والقوافي؛ فال
يلتزم بعدد التفعيالت في األسطر الشعرية.
ونتيجة لتفلت هذا الفن من عدد التفعيالت ،وتحرره من القافية ،فقد سمح باتساع المعجم
الشعري المستعمل في القصيدة ،وصار الشعر أقرب إلى الحياة اليومية ،وأكثر تناغما مع قضايا
الواقع المعاصر .وكثر فيه استخدام الرمز وتوظيف األسطورة ،وقصيدة بدر شاكر السياب واحدة
من نماذجه.
السياب
-بدر شاكر ّ
ولد السياب بقرية تسمى جيكور في البصرة ،سنة ٍ
ألف وتسعمائة وست وعشرين ،فقد
والدته في سنواته األولى ،فحمل معه اإلحساس بالحرمان والحنين الذي ال يكف .التحق بدار
المعلمين ببغداد ودرس األدب العربي ،ثم تحول منه إلى دراسة اللغة اإلنجليزية وآدابها فاطلع
على اآلداب العالمية التي ساهمت بتشكيل ثقافته.
عرف بكفاحه لتحرير العراق من اإلنجليز ،وفصل من عمله بفعل مواقفه الفكرية
والسياسية.
جمعت أعماله الشعرية بديوان كبير مكون من جزأين .وأشهر أعماله :أزهار ذابلة سنة
( ،)1947أنشودة المطر سنة ( ،)1950المعبد الغريق ( ،)1962منزل األقنان (،)1963
البواكير (.)1964
4
المعجم والداللة
ق اررة :عمق.
صليل العصافير :الصوت الذي يسمع عند شرب العصافير التي يبست أمعاؤها من شدة العطش
5
العنوان "النهر والموت"
والالفت في القصيدة أن السياب سيأخذ النهر بما يمثله من حياة وجمال ليكون طريقه
إلى الموت الذي يغذ إليه خطى محملة بالحنين ،كما سنرى الحًقا.
محاور القصيدة
المحور األول :المقطع األول ويشكل الماضي كما يطل من دواخل السياب ،وما به من
طفولة وجمال وأمنيات غائبة مستحيلة.
المحور الثاني :المقطع الثاني :يتحدث عن الحاضر وما به من معاناة وتشوه وعجز
وعذابات نفسية تدفع الشاعر إلى دائرة الموت.
إن حياة السياب حياة بائسة ملؤها الشقاء والمعاناة؛ فمن الفقر والمرض إلى واقع سياسي
واجتماعي م ٍ
ترد ،فالجوع واليباس يلتهمان العراق ،والمرض يأكل جسد الشاعر ويوقظ أوجاعه
هاجسا يتربص به ،وبوطنه.
ً وأحزانه ،ويدخله دوائر اليأس فيمتلكه القلق والخوف ،ويصير الموت
ويتضخم حتى يلتهم كل آمال السياب وتوقعاته ،فال يرى أمامه درًبا إال الموت بما يمثله من
عجز ،وإن رآه السياب تضحية وخالصا.
بويب /بويب
أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر
6
الماء في الجرار ،والغروب في الشج ـر
وتنضح الجرار أجراساً من المطـ ـر
بلورها يذوب في أنين
"بويب ...يابويب! "
إن "بويب" نهر صغير في قرية الشاعر "جيكور" حيث ترك طفولته وذكرياته حين كان
دفئا رغم هيمنة الفقر واليباس ،ولكن واقع الشاعر بما فيه من يأس
وجعا ،وأكثر ً
العالم أقل ً
وعذاب يوقظ حنينه لمكانه األول بما يمثله من إحساس باألمان ،فحين يتفاقم اإلحساس باأللم
نشعر بالحنين والرغبة بالفرار إلى أمكنتنا األولى.
كئا على أسلوب النداء بأداة نداء محذوفة "بويب" مما يجعل يبدأ الشاعر قصيدته مت ً
المنادى أقرب .وقد استدعاه الشاعر ليبثه أحزانه وحنينه وشوقه ليختزل العراق والطفولة واألمنيات
والرغبات المتعذرة بهذا النهر الصغير.
و"بويب" تصغير باب ،وسيتحول عند السياب الذي يناديه بشوق إلى باب للعبور،
ومتنف ًسا يفر إليه الشاعر من عذاباته النفسية.
و "بويب" اآلتي من دائرة الشاعر تردده أجراس برج غارق في عمق البحر ،وقد يكون
شبيها بصوت أجراس برج غارق تحت الماء ،وحين يأتي صوت الجرس
هذا النهر يصدر صوتًا ً
وصدى عميًقا.
ً خاصا
إيقاعا ًّ
ً من عمق الماء يمنحه
والجرس حاضر ببعض الديانات ،فيضفي حضوره قدسية على نهر السياب .ويزيد من
وسالما
ً أهميته أهميته كطارد لصوت الموت ،ومعبر من الحياة الرديئة إلى حياة أكثر رحابة
وبعثًا.
ينسب الشاعر النهر إلى نفسه فيزيد اقترابه منه ،ويتوحدان في حزنهما ،فالشاعر يعاني
انكسارات كثيرة ،والعراق يعمه الجوع والخراب ،والشاعر يشتاق إلى نهره ،ولكل من تربطه بهم
ذكريات .ويصبح النهر حز ًينا مثل المطر ،فالشاعر يعكس حزنه على كل التفاصيل ،وعلى كل
غالبا.
صور الحياة؛ فمعلوم أن النهر والمطر يفترض بهما الخصب والحياة والبعث ً
يستخدم الشاعر كلمة "أود" ليشرح رغباته المكبوتة وأمنياته التي يعجز عن تحقيقها لسوء
الواقع وكثرة عذاباته ،فهي أمنيات وأحالم مستحيلة التحقق؛ مما يجعلها مصدر ألم ال مصدر
سعادة وراحة فال تقود إال إلى اإلحساس باليأس والموت.
8
يتمنى لو يركض في الظالم بال وعي ،يشد قبضته خوًفا من أن ينفلت شيئ من شوقه
الذي يساوي شوق عا ٍم في كل إصبع للداللة على ح اررته ولوعته .يتمنى أن يحمل النذور إلى
النهر مما يؤكد قدسيته وقيمته بالنسبة إلى السياب كدرب من دروب الخالص وهذه النذور تتكون
من قمح وزهور ،والقمح يمثل الخبز المقدس عند كثير من الديانات ،والقمح طعام الجياع وقربان
قديما ،والزهور صورة من صور الحياة والجمال والتقرب.
اآللهة ً
وتتسع أمنية الشاعر المتصاعدة مع حجم اشتياقه إلى نهره ،يتمنى أن يصعد إلى التلة
ليلمح القمر الذي ينعكس ضوءه فوق النهر؛ فمن االرتفاع تتبدى جمالية المشهد ً
كامال بتفاصيله.
وفي حالة من حاالت االشتياق إلى العلو واالرتفاع مما يعانيه.
وشبه الشاعر القمر المنعكس فوق النهر بإنسان يسبح بين ضفتيه ،ويشبه الظالل
بالنبات الذي يزرع ،والقمر يمأل السالل بالماء واألسماك والزهر ،وكلها صور من صور الحياة
التي يقدمها النهر بوصفه الباعث والمخلص ،ورم از آخر من رموز العطاء والمنح.
وما دامت هذه األمنية متعذرة التحقق بفعل البعد المكاني عن جيكور ،ومرض الشاعر،
واستحالة عودة زمن الطفولة والنقاء ،فإنها تقود إلى أمنية أخرى يدفع الشاعر إليها واقعه الحزين
مستخدما كلمة "أود" من جديد ،يقول:
ً
يتمنى الشاعر أن يسبح في النهر يتبع حركة القمر ،ومعلوم أن القمر يتحكم بحركتي
المد والجزر .والشاعر يريد أن يسير مع النهر بحركته تجاه البحر ،ثم أن يصل إلى مقر البحر،
ويسمع صوت الحصى الذي يصدر صوتًا كصليل آالف من العصافير على الشجر ،كما يتمنى
الشاعر الوصول إلى قعر البحر متخ ًذا من النهر الذي يرتبط بطفولته وذاكرته طريًقا إليه.
9
أغابة من الدموع أنت أم نهر؟
والسمك الساهر ،هل ينام في السحر؟
وهذه النجوم ،هل تظل في انتظار.
تطعم بالحرير آالف ـًا من اإلبر؟
ويوسع الشاعر دائرة حزنه الخاصة لتختلط بالهم العام .فيقصد بالسمك الساهر أولئك
الكادحين الذين يعملون طيلة الليل لتحصيل قوتهم دون رحمة.
ويشبه األمهات بالنجوم الالتي يطعمن بالحرير آالًفا من اإلبر إشارة إلى عملهن بالغزل
والنسيج وكفاحهن من أجل العيش.
10
فالشاعر يرى في الموت ً
عالما غر ًيبا يثير دهشة الصغار ويفتنهم ،وربما هو الذي يجعل
األطفال يلعبون قرب الشاطئ دون فهم أو خوف من الغرق أو الموت.
صا.
وتطل فلسفة الشاعر وفكرته فالنهر باب خفي يقود إلى الموت الذي يراه مخل ً
..................................
ار من
.3استخدم الشاعر كلمة "أود" ثالث مرات متحدثًا عن أمنيات ورغبات متتابعة فرًا
واقعه المليء بالحزن والمعاناة ،وضح هذه األمنيات.
ق اررة :عمق
11
النذور :مفردها نذر ،وهو :وعد يقطعه اإلنسان على نفسه إن تحقق له أمر ما.
.3استخدم الشاعر كلمة "أود" أول مرة حين تمنى العودة إلى نهره وطفولته محمال
بالنذور ،ثم استخدمها متمنيًّا أن يطل من فوق التالل ليراقب انعكاس القمر فوق
النهر ،ثم تمنى أن يتبع مسار النهر ليغرق في عمق البحر ،ويشيد ًا
قبر كما يحب،
دارا.
وإن سماها ً
برجا بابليًّا غرق تحت البحر.
.4أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر :يقصد ً
.5يصور الشاعر تدفق الماء من الجرار باألجراس ،ويتألأل ماؤها مثل بلور بلمعانه،
وجمالية شكله ،ومن شدة الحزن يبدو الماء وكأنه يذوب مصد ًار أصواتًا مثل األنين
الحزين.
12
المحور الثاني
ينادي الشاعر على نهره من جديد ،فبربط المقطع األول بالمقطع الثاني ويقول :إن
عاما قد مضين منذ أن غادر جيكور ونهرها ،ويحس بأن كل عام ثقيل كدهر كامل داللة
عشرين ً
على إحساسه بالغربة والحنين.
والشاعر _في المقطع السابق_ ينتقل ليتحدث عن الواقع وما يعيشه من وجع ،فالشاعر
حين يحل الليل ،ويستلقي في سريره ،ويفكر بعمق وقت السحر يصير إحساسه بالدماء المسفوحة
13
في كل مكان ،وبالدموع مثل المطر الذي يفيض من العالم الحزين ،فالحزن ال يخص السياب
وحده ،فالعالم كله حزين ،والبشر في شقاء.
يكرر الشاعر كلمة "أود" من جديد ،فهو يرغب أن يساند المكافحين ،وأن يغرق في دمه؛
صا للبشر من عذاباتهم، ليكون موته تضحي ًة وخال ً
صا لكل البشر المتعبين ،جاع ًال من نفسه مخل ً
فيرى أن موته بعث وانتصار ،في حين أن الموت في حقيقته هنا استسالم وهزيمة ،وفعل عاجز
الصا
نفعا ،فكان بويب بجمالياته ،وارتباطه بذاكرة الشاعر وتعلقه به طريًقا للموت وخ ً
ال يجدي ً
متوه ًما للشاعر من عذابه.
14
تقويم رقم ()2
.3تحدث السياب عن ثقل الزمن في غيابه عن بويب ،أين يظهر ذلك في القصيدة؟
.............................
15
المراجع
.2النهر والموت ،بدر شاكر السياب ،إعداد وتقديم شوقي عبد األمير ،الدار
البيضاء ،دار توبقال1986 ،
16