You are on page 1of 16

‫النهر والموت‬

‫بدر شاكر السياب‬

‫‪1‬‬
‫النهر والموت‬

‫بويب‪..‬‬
‫بويب ‪..‬‬
‫أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر‬
‫الماء في الجرار‪ ،‬والغروب في الشج ـر‬
‫وتنضح الجرار أجراساً من المطـ ـر‬
‫بلورها يذوب في أنين‬
‫"بويب ‪ ..‬يابويب! "‬

‫فيدلهم في دمي حنين‬


‫إليك يا بويب‪،‬‬
‫يا نهري الحزين كالمَطر‬
‫أود لو عدوت في الظالم‬
‫أشد قـبضتي تحمالن شوق عام‬
‫في كل إصبعٍ كأني أحمل الن ـذور‬
‫إليك‪ ،‬من قمحٍ ومن زهور‬
‫أود لو أطل من أسرة التالل‬
‫أللمح القمر‬

‫يخوض بين ضفتيك‪ ،‬يزرع الظالل‬


‫ويمأل السالل‬
‫بالماء واألسماك والزهر‪.‬‬
‫أود لو أخوض فيك‪ ،‬أتبع القمر‬
‫وأسمع الحصى يصل منك في القرار‬
‫صليل آالف العصافير على الشجر‪.‬‬
‫أغابة من الدموع أنت أم نهر؟‬
‫والسمك الساهر‪ ،‬هل ينام في السحر؟‬
‫وهذه النجوم‪ ،‬هل تظل في انتظار‪.‬‬
‫تطعم بالحرير آالف ـًا من اإلبر؟‬
‫وأنت يا بويب ‪...‬‬
‫‪2‬‬
‫أود لو غرقت فيك‪ ،‬ألقط المحار‬
‫أشيد منه دار‬
‫يضيء فيها خضرة المياه والشجر‬
‫ما تنضح النجوم والقمر‪،‬‬
‫وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر!‬
‫فالموت عالم غريب يفتن الصغار‪،‬‬
‫وبابه الخفي كان فيك‪ ،‬يا بويب‪...‬‬

‫(‪)2‬‬

‫بويب ‪ ..‬يا بويب‪،‬‬


‫عشرون قد مضين‪ ،‬كالدهور كل عام‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬حين يطبق الظالم‬
‫وأستقر في السرير دون أن أنام‬
‫وأرهف الضمير‪ :‬دوحة إلى السحر‬
‫مرهفة الغصون والطيور والثمر _‬
‫أحس بالدماء والدموع‪ ،‬كالمطر‬
‫ينضحهن العالم الحزين‪:‬‬
‫أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين‪،‬‬
‫فيدلهم في دمي حنين‬
‫ٍ‬
‫صاصة يشق ث ـ ـلجها الزؤام‬‫إلى ر‬

‫أعماق صدري‪ ،‬كالجحيم يشعل العظام‪،‬‬


‫أود لو عدوت أعضد المكافحين‬
‫أود لو غرقت في دمي إلى القرار‪،‬‬
‫ألحمل العبء مع البشر‬
‫وأبعث الحياة‪ .‬إن موتي انتصار!‬

‫‪3‬‬
‫إضاءة‬

‫أنموذجا من نماذج قصيدة الشعر الحر‪ ،‬أو ما اصطلح على تسميته‬


‫ً‬ ‫تمثل القصيدة‬
‫بقصيدة التفعيلة‪ .‬ويرى أغلب النقاد أن أول من أتى بها على وجه التقريب بدر شاكر السياب‬
‫ونازك المالئكة‪ ،‬وعبد الوهاب البياتي‪.‬‬

‫ويقوم الشعر الحر على قدر كبير من الحرية في استخدام بحور الشعر والقوافي؛ فال‬
‫يلتزم بعدد التفعيالت في األسطر الشعرية‪.‬‬

‫بدال من نظام البيت ذي الشطرين‬


‫ويتخذ من التفعيلة نواة أساسية للتشكيل اإليقاعي ً‬
‫(الصدر والعجز) المتساويين بعدد التفعيالت‪ ،‬وذي القافية الواحدة‪.‬‬

‫ونتيجة لتفلت هذا الفن من عدد التفعيالت‪ ،‬وتحرره من القافية‪ ،‬فقد سمح باتساع المعجم‬
‫الشعري المستعمل في القصيدة‪ ،‬وصار الشعر أقرب إلى الحياة اليومية‪ ،‬وأكثر تناغما مع قضايا‬
‫الواقع المعاصر‪ .‬وكثر فيه استخدام الرمز وتوظيف األسطورة‪ ،‬وقصيدة بدر شاكر السياب واحدة‬
‫من نماذجه‪.‬‬

‫السياب‬
‫‪ -‬بدر شاكر ّ‬
‫ولد السياب بقرية تسمى جيكور في البصرة‪ ،‬سنة ٍ‬
‫ألف وتسعمائة وست وعشرين‪ ،‬فقد‬
‫والدته في سنواته األولى‪ ،‬فحمل معه اإلحساس بالحرمان والحنين الذي ال يكف‪ .‬التحق بدار‬
‫المعلمين ببغداد ودرس األدب العربي‪ ،‬ثم تحول منه إلى دراسة اللغة اإلنجليزية وآدابها فاطلع‬
‫على اآلداب العالمية التي ساهمت بتشكيل ثقافته‪.‬‬

‫عرف بكفاحه لتحرير العراق من اإلنجليز‪ ،‬وفصل من عمله بفعل مواقفه الفكرية‬
‫والسياسية‪.‬‬

‫أصيب بمرض عضال‪ ،‬ومات سنة ٍ‬


‫ألف وتسعمائة وأربع وستين في مستشفى الكويت‪،‬‬
‫ونقل جثمانه إلى البصرة‪ ،‬ودفن في قريته جيكور‪ .‬كابد السياب في حياته الفقر والحرمان‬
‫والمرض‪ ،‬وابتلي بمعاناة جسدية ونفسية‪.‬‬

‫جمعت أعماله الشعرية بديوان كبير مكون من جزأين‪ .‬وأشهر أعماله‪ :‬أزهار ذابلة سنة‬
‫(‪ ،)1947‬أنشودة المطر سنة (‪ ،)1950‬المعبد الغريق (‪ ،)1962‬منزل األقنان (‪،)1963‬‬
‫البواكير (‪.)1964‬‬
‫‪4‬‬
‫المعجم والداللة‬

‫ق اررة‪ :‬عمق‪.‬‬

‫تنضح‪ :‬ترشح‪ ،‬تقول‪ :‬نضح اإلناء بما فيه‪.‬‬

‫أنين‪ :‬إخراج النفس بصوت فيه توجع وحزن‪.‬‬

‫يدلهم‪ :‬ادلهم الظالم‪ :‬كثف واشتد‪.‬‬

‫صليل العصافير‪ :‬الصوت الذي يسمع عند شرب العصافير التي يبست أمعاؤها من شدة العطش‬

‫الزؤام‪ :‬الموت السريع الكريه‪.‬‬

‫السحر‪ :‬آخر الليل قبيل الفجر‪.‬‬

‫أشيد‪ :‬أبني وأقيم ‪.‬‬

‫أغتدي‪ :‬أي أذهب معه في الوقت ما بين الفجر وطلوع الشمس‪.‬‬

‫دوحة‪ :‬الشجرة العظيمة ذات الفروع الممتدة‪.‬‬

‫أرهف‪ :‬أدقق السمع‪.‬‬

‫أعضد‪ :‬أناصر وأساند‪.‬‬

‫‪5‬‬
‫العنوان "النهر والموت"‬

‫قائما على ثنائيتين‬


‫يمثل العنوان عتبة نصية هامة تومئ بما يوجد داخل النص‪ .‬ونراه ً‬
‫متضادتين‪ ،‬فالنهر مكمن الماء‪ ،‬والماء باعث الخصب والحياة‪ ،‬والموت فجيعة إنسانية تترصد‬
‫باإلنسان ووجوده‪.‬‬

‫والالفت في القصيدة أن السياب سيأخذ النهر بما يمثله من حياة وجمال ليكون طريقه‬
‫إلى الموت الذي يغذ إليه خطى محملة بالحنين‪ ،‬كما سنرى الحًقا‪.‬‬

‫محاور القصيدة‬

‫تنقسم القصيدة إلى محورين‪:‬‬

‫المحور األول‪ :‬المقطع األول ويشكل الماضي كما يطل من دواخل السياب‪ ،‬وما به من‬
‫طفولة وجمال وأمنيات غائبة مستحيلة‪.‬‬

‫المحور الثاني‪ :‬المقطع الثاني‪ :‬يتحدث عن الحاضر وما به من معاناة وتشوه وعجز‬
‫وعذابات نفسية تدفع الشاعر إلى دائرة الموت‪.‬‬

‫شرح المحور األول‪ :‬المقطع األول في القصيدة‪:‬‬

‫إن حياة السياب حياة بائسة ملؤها الشقاء والمعاناة؛ فمن الفقر والمرض إلى واقع سياسي‬
‫واجتماعي م ٍ‬
‫ترد‪ ،‬فالجوع واليباس يلتهمان العراق‪ ،‬والمرض يأكل جسد الشاعر ويوقظ أوجاعه‬
‫هاجسا يتربص به‪ ،‬وبوطنه‪.‬‬
‫ً‬ ‫وأحزانه‪ ،‬ويدخله دوائر اليأس فيمتلكه القلق والخوف‪ ،‬ويصير الموت‬
‫ويتضخم حتى يلتهم كل آمال السياب وتوقعاته‪ ،‬فال يرى أمامه درًبا إال الموت بما يمثله من‬
‫عجز‪ ،‬وإن رآه السياب تضحية وخالصا‪.‬‬

‫بويب ‪ /‬بويب‬
‫أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر‬

‫‪6‬‬
‫الماء في الجرار‪ ،‬والغروب في الشج ـر‬
‫وتنضح الجرار أجراساً من المطـ ـر‬
‫بلورها يذوب في أنين‬
‫"بويب ‪ ...‬يابويب! "‬

‫فيدلهم دمي حنين‬


‫إليك يا بويب‪،‬‬

‫إن "بويب" نهر صغير في قرية الشاعر "جيكور" حيث ترك طفولته وذكرياته حين كان‬
‫دفئا رغم هيمنة الفقر واليباس‪ ،‬ولكن واقع الشاعر بما فيه من يأس‬
‫وجعا‪ ،‬وأكثر ً‬
‫العالم أقل ً‬
‫وعذاب يوقظ حنينه لمكانه األول بما يمثله من إحساس باألمان‪ ،‬فحين يتفاقم اإلحساس باأللم‬
‫نشعر بالحنين والرغبة بالفرار إلى أمكنتنا األولى‪.‬‬

‫كئا على أسلوب النداء بأداة نداء محذوفة "بويب" مما يجعل‬ ‫يبدأ الشاعر قصيدته مت ً‬
‫المنادى أقرب‪ .‬وقد استدعاه الشاعر ليبثه أحزانه وحنينه وشوقه ليختزل العراق والطفولة واألمنيات‬
‫والرغبات المتعذرة بهذا النهر الصغير‪.‬‬

‫و"بويب" تصغير باب‪ ،‬وسيتحول عند السياب الذي يناديه بشوق إلى باب للعبور‪،‬‬
‫ومتنف ًسا يفر إليه الشاعر من عذاباته النفسية‪.‬‬

‫و "بويب" اآلتي من دائرة الشاعر تردده أجراس برج غارق في عمق البحر‪ ،‬وقد يكون‬
‫شبيها بصوت أجراس برج غارق تحت الماء‪ ،‬وحين يأتي صوت الجرس‬
‫هذا النهر يصدر صوتًا ً‬
‫وصدى عميًقا‪.‬‬
‫ً‬ ‫خاصا‬
‫إيقاعا ًّ‬
‫ً‬ ‫من عمق الماء يمنحه‬

‫والجرس حاضر ببعض الديانات‪ ،‬فيضفي حضوره قدسية على نهر السياب‪ .‬ويزيد من‬
‫وسالما‬
‫ً‬ ‫أهميته أهميته كطارد لصوت الموت‪ ،‬ومعبر من الحياة الرديئة إلى حياة أكثر رحابة‬
‫وبعثًا‪.‬‬

‫قديما‪ ،‬قيل أنه غرق داخل البحر الذي سيصير‬


‫برجا بابليًّا ً‬
‫ويقصد السياب بالبرج القديم ً‬
‫صورة من صور الموت عند السياب بابتالعه لكل شيء‪ .‬وكان حضور صوت أجراس البرج‬
‫امنا مع حضور أشياء تأخذ مساراتها الطبيعية "فالماء في الجرار‪/‬‬
‫الغارقة في عمق البحر متز ً‬
‫والغروب في الشج ـر"‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫حضور فتنضح‬
‫ًا‬ ‫وحين يمأل المطر بما يمثله من باعث للحياة والخصب تزداد الحياة‬
‫الجرار بماء مقدس يتجلى على شكل أجراس بفعل ارتطام قطرة المطر بالجرة‪ ،‬مضاًفا إليه لمعان‬
‫قطرة المطر‪ ،‬فتتضافر عناصر اللون والصوت والحركة لخلق جمالية المشهد الذي يصدر صوتًا‬
‫كاألنين يوقظ اإلحساس باأللم بداخل الشاعر الغائب عن قريته وعن إحساسه بالسالم والراحة‪،‬‬
‫مما يزيد من الحاجة إلى النداء واالستنجاد بالنهر الذي ينفجر حنين الشاعر إليه بقوله‪" :‬فيدلهم‬
‫دمي حنين"‪.‬‬

‫يا نهري الحزين كالمَطر‬


‫أود لو عدوت في الظالم‬
‫أشد قـبضتي تحمالن شوق عام‬
‫في كل إصبعٍ كأني أحمل الن ـذور‬
‫إليك‪ ،‬من قمحٍ ومن زهور‬
‫أود لو أطل من أسرة التالل‬
‫أللمح القمر‬

‫يخوض بين ضفتيك‪ ،‬يزرع الظالل‬


‫ويمأل السالل‬
‫بالماء واألسماك والزهر‪.‬‬

‫ينسب الشاعر النهر إلى نفسه فيزيد اقترابه منه‪ ،‬ويتوحدان في حزنهما‪ ،‬فالشاعر يعاني‬
‫انكسارات كثيرة‪ ،‬والعراق يعمه الجوع والخراب‪ ،‬والشاعر يشتاق إلى نهره‪ ،‬ولكل من تربطه بهم‬
‫ذكريات‪ .‬ويصبح النهر حز ًينا مثل المطر‪ ،‬فالشاعر يعكس حزنه على كل التفاصيل‪ ،‬وعلى كل‬
‫غالبا‪.‬‬
‫صور الحياة؛ فمعلوم أن النهر والمطر يفترض بهما الخصب والحياة والبعث ً‬

‫يستخدم الشاعر كلمة "أود" ليشرح رغباته المكبوتة وأمنياته التي يعجز عن تحقيقها لسوء‬
‫الواقع وكثرة عذاباته‪ ،‬فهي أمنيات وأحالم مستحيلة التحقق؛ مما يجعلها مصدر ألم ال مصدر‬
‫سعادة وراحة فال تقود إال إلى اإلحساس باليأس والموت‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫يتمنى لو يركض في الظالم بال وعي‪ ،‬يشد قبضته خوًفا من أن ينفلت شيئ من شوقه‬
‫الذي يساوي شوق عا ٍم في كل إصبع للداللة على ح اررته ولوعته‪ .‬يتمنى أن يحمل النذور إلى‬
‫النهر مما يؤكد قدسيته وقيمته بالنسبة إلى السياب كدرب من دروب الخالص وهذه النذور تتكون‬
‫من قمح وزهور‪ ،‬والقمح يمثل الخبز المقدس عند كثير من الديانات‪ ،‬والقمح طعام الجياع وقربان‬
‫قديما‪ ،‬والزهور صورة من صور الحياة والجمال والتقرب‪.‬‬
‫اآللهة ً‬

‫وتتسع أمنية الشاعر المتصاعدة مع حجم اشتياقه إلى نهره‪ ،‬يتمنى أن يصعد إلى التلة‬

‫ليلمح القمر الذي ينعكس ضوءه فوق النهر؛ فمن االرتفاع تتبدى جمالية المشهد ً‬
‫كامال بتفاصيله‪.‬‬
‫وفي حالة من حاالت االشتياق إلى العلو واالرتفاع مما يعانيه‪.‬‬

‫وشبه الشاعر القمر المنعكس فوق النهر بإنسان يسبح بين ضفتيه‪ ،‬ويشبه الظالل‬
‫بالنبات الذي يزرع‪ ،‬والقمر يمأل السالل بالماء واألسماك والزهر‪ ،‬وكلها صور من صور الحياة‬
‫التي يقدمها النهر بوصفه الباعث والمخلص‪ ،‬ورم از آخر من رموز العطاء والمنح‪.‬‬

‫وما دامت هذه األمنية متعذرة التحقق بفعل البعد المكاني عن جيكور‪ ،‬ومرض الشاعر‪،‬‬
‫واستحالة عودة زمن الطفولة والنقاء‪ ،‬فإنها تقود إلى أمنية أخرى يدفع الشاعر إليها واقعه الحزين‬
‫مستخدما كلمة "أود" من جديد‪ ،‬يقول‪:‬‬
‫ً‬

‫أود لو أخوض فيك‪ ،‬أتبع القمر‬


‫وأسمع الحصى يصل منك في القرار‬
‫صليل آالف العصافير على الشجر‪.‬‬

‫يتمنى الشاعر أن يسبح في النهر يتبع حركة القمر‪ ،‬ومعلوم أن القمر يتحكم بحركتي‬
‫المد والجزر‪ .‬والشاعر يريد أن يسير مع النهر بحركته تجاه البحر‪ ،‬ثم أن يصل إلى مقر البحر‪،‬‬
‫ويسمع صوت الحصى الذي يصدر صوتًا كصليل آالف من العصافير على الشجر‪ ،‬كما يتمنى‬
‫الشاعر الوصول إلى قعر البحر متخ ًذا من النهر الذي يرتبط بطفولته وذاكرته طريًقا إليه‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫أغابة من الدموع أنت أم نهر؟‬
‫والسمك الساهر‪ ،‬هل ينام في السحر؟‬
‫وهذه النجوم‪ ،‬هل تظل في انتظار‪.‬‬
‫تطعم بالحرير آالف ـًا من اإلبر؟‬

‫نهر باعثًا للحياة؟ فالشاعر يعكس حزنه‬


‫يتساءل الشاعر إن كان نهره غابة من الدموع أم ًا‬
‫على نهره ليصير غابة متشابكة من الدموع‪ .‬واالستفهام هنا يفيد اإلنكار‪.‬‬

‫ويوسع الشاعر دائرة حزنه الخاصة لتختلط بالهم العام‪ .‬فيقصد بالسمك الساهر أولئك‬
‫الكادحين الذين يعملون طيلة الليل لتحصيل قوتهم دون رحمة‪.‬‬

‫ويشبه األمهات بالنجوم الالتي يطعمن بالحرير آالًفا من اإلبر إشارة إلى عملهن بالغزل‬
‫والنسيج وكفاحهن من أجل العيش‪.‬‬

‫وأنت يا بويب ‪...‬‬


‫أود لو غرقت فيك‪ ،‬ألقط المحار‬
‫أشيد منه دار‬
‫يضيء فيها خضرة المياه والشجر‬
‫ما تنضح النجوم والقمر‪،‬‬
‫وأغتدي فيك مع الجزر إلى البحر!‬
‫فالموت عالم غريب يفتن الصغار‪،‬‬
‫وبابه الخفي كان فيك‪ ،‬يا بويب‪..‬‬

‫مستخدما كلمة "أود" متمنًيا أن يصل إلى عمق النهر‬


‫ً‬ ‫يعود الشاعر إلى مخاطبة نهره‬
‫ليغرق فيه‪ ،‬والنهر صغير ال يغرق‪ ،‬فنراه يتبع حركة الجزر ليصل إلى البحر فيغرق‪ ،‬ويتمنى أن‬
‫دار مضاءة بالمحار والشجر‪ ،‬فالجمال وصور الحياة ال تظهر‬
‫قبر من المحار يسميها ًا‬
‫يصنع ًا‬
‫عند الشاعر إال في قاع البحر‪ ،‬وعند الموت‪.‬‬

‫‪10‬‬
‫فالشاعر يرى في الموت ً‬
‫عالما غر ًيبا يثير دهشة الصغار ويفتنهم‪ ،‬وربما هو الذي يجعل‬
‫األطفال يلعبون قرب الشاطئ دون فهم أو خوف من الغرق أو الموت‪.‬‬

‫صا‪.‬‬
‫وتطل فلسفة الشاعر وفكرته فالنهر باب خفي يقود إلى الموت الذي يراه مخل ً‬

‫‪..................................‬‬

‫تقويم رقم (‪)1‬‬

‫‪ .1‬فسر معاني المفردات التالية‪:‬‬

‫يدلهم‪ ،‬ق اررة‪ ،‬النذور‪.‬‬

‫‪ .2‬ماذا يقصد الشاعر بقوله‪" :‬السمك الساهر"؟‬

‫ار من‬
‫‪ .3‬استخدم الشاعر كلمة "أود" ثالث مرات متحدثًا عن أمنيات ورغبات متتابعة فرًا‬
‫واقعه المليء بالحزن والمعاناة‪ ،‬وضح هذه األمنيات‪.‬‬

‫‪ .4‬قال السياب‪ :‬بويب ‪ /‬بويب‪ /‬أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر‬

‫ماذا يقصد الشاعر بقوله‪" :‬برٍج ضاع في ق اررة البحر"؟‬

‫‪ .5‬وضح الصورة الجمالية في قول الشاعر‪:‬‬

‫" وتنضح الجرار أجراساً من المطـ ـر‬

‫بلورها يذوب في أنين"‬

‫إجابة التقويم رقم (‪)1‬‬

‫‪ .1‬يدلهم‪ :‬ادلهم الظالم‪ :‬كثف واشتد‬

‫ق اررة‪ :‬عمق‬

‫‪11‬‬
‫النذور‪ :‬مفردها نذر‪ ،‬وهو‪ :‬وعد يقطعه اإلنسان على نفسه إن تحقق له أمر ما‪.‬‬

‫‪ .2‬يقصد الشاعر "بالسمك الساهر" الكادحين المتعبين لتأمين قوت يومهم‪.‬‬

‫‪ .3‬استخدم الشاعر كلمة "أود" أول مرة حين تمنى العودة إلى نهره وطفولته محمال‬
‫بالنذور‪ ،‬ثم استخدمها متمنيًّا أن يطل من فوق التالل ليراقب انعكاس القمر فوق‬
‫النهر‪ ،‬ثم تمنى أن يتبع مسار النهر ليغرق في عمق البحر‪ ،‬ويشيد ًا‬
‫قبر كما يحب‪،‬‬
‫دارا‪.‬‬
‫وإن سماها ً‬
‫برجا بابليًّا غرق تحت البحر‪.‬‬
‫‪ .4‬أجراس برٍج ضاع في ق اررة البحر‪ :‬يقصد ً‬
‫‪ .5‬يصور الشاعر تدفق الماء من الجرار باألجراس‪ ،‬ويتألأل ماؤها مثل بلور بلمعانه‪،‬‬
‫وجمالية شكله‪ ،‬ومن شدة الحزن يبدو الماء وكأنه يذوب مصد ًار أصواتًا مثل األنين‬
‫الحزين‪.‬‬

‫‪12‬‬
‫المحور الثاني‬

‫بويب ‪ ..‬يا بويب‪،‬‬


‫عشرون قد مضين‪ ،‬كالدهور كل عام ‪.‬‬
‫واليوم‪ ،‬حين يطبق الظالم‬
‫وأستقر في السرير دون أن أنام‬
‫وأرهف الضمير‪ :‬دوحة إلى السحر‬
‫مرهفة الغصون والطيور والثمر _‬
‫أحس بالدماء والدموع‪ ،‬كالمطر‬
‫ينضحهن العالم الحزين‪:‬‬
‫أجراس موتى في عروقي ترعش الرنين‪،‬‬
‫فيدلهم في دمي حنين‬
‫ٍ‬
‫صاصة يشق ث ـ ـلجها الزؤام‬‫إلى ر‬

‫أعماق صدري‪ ،‬كالجحيم يشعل العظام‪،‬‬


‫أود لو عدوت أعضد المكافحين‬
‫أود لو غرقت في دمي إلى القرار‪،‬‬
‫ألحمل العبء مع البشر‬
‫وأبعث الحياة‪ .‬إن موتي انتصار!‬

‫ينادي الشاعر على نهره من جديد‪ ،‬فبربط المقطع األول بالمقطع الثاني ويقول‪ :‬إن‬
‫عاما قد مضين منذ أن غادر جيكور ونهرها‪ ،‬ويحس بأن كل عام ثقيل كدهر كامل داللة‬
‫عشرين ً‬
‫على إحساسه بالغربة والحنين‪.‬‬

‫والشاعر _في المقطع السابق_ ينتقل ليتحدث عن الواقع وما يعيشه من وجع‪ ،‬فالشاعر‬
‫حين يحل الليل‪ ،‬ويستلقي في سريره‪ ،‬ويفكر بعمق وقت السحر يصير إحساسه بالدماء المسفوحة‬

‫‪13‬‬
‫في كل مكان‪ ،‬وبالدموع مثل المطر الذي يفيض من العالم الحزين‪ ،‬فالحزن ال يخص السياب‬
‫وحده‪ ،‬فالعالم كله حزين‪ ،‬والبشر في شقاء‪.‬‬

‫مستخدما األجراس مرة‬


‫ً‬ ‫ويشبه الدماء والدموع بأجراس الموتى تصدر رعشة في عروقه‬
‫ثاني ًة مرتبط ًة بالموت‪ ،‬فيتمنى رصاصة تقتله ليستريح‪ ،‬فالحنين هذه المرة ليس إلى بويب‪ ،‬بل إلى‬
‫الموت بشكل مكشوف‪ ،‬رصاصة تشق الصدور والعظام‪.‬‬

‫يكرر الشاعر كلمة "أود" من جديد‪ ،‬فهو يرغب أن يساند المكافحين‪ ،‬وأن يغرق في دمه؛‬
‫صا للبشر من عذاباتهم‪،‬‬ ‫ليكون موته تضحي ًة وخال ً‬
‫صا لكل البشر المتعبين‪ ،‬جاع ًال من نفسه مخل ً‬
‫فيرى أن موته بعث وانتصار‪ ،‬في حين أن الموت في حقيقته هنا استسالم وهزيمة‪ ،‬وفعل عاجز‬
‫الصا‬
‫نفعا‪ ،‬فكان بويب بجمالياته‪ ،‬وارتباطه بذاكرة الشاعر وتعلقه به طريًقا للموت وخ ً‬
‫ال يجدي ً‬
‫متوه ًما للشاعر من عذابه‪.‬‬

‫‪14‬‬
‫تقويم رقم (‪)2‬‬

‫‪ .1‬ما معنى‪ :‬الزؤام‪ ،‬يعضد‪.‬‬

‫‪ .2‬يرى السياب بنفسه مخل ً‬


‫صا للبشر المعذبين المتعبين‪ ،‬أين يتجلى ذلك في القصيدة؟‬

‫‪ .3‬تحدث السياب عن ثقل الزمن في غيابه عن بويب‪ ،‬أين يظهر ذلك في القصيدة؟‬

‫‪.............................‬‬

‫إجابة تقويم رقم (‪)2‬‬

‫‪ .1‬الزؤام‪ :‬الموت السريع الكريه‪.‬‬

‫يعضد‪ :‬يناصر ويساند‪.‬‬

‫‪ .2‬أود لو غرقت في دمي إلى القرار‪،‬‬


‫ألحمل العبء مع البشر‬
‫وأبعث الحياة‪ .‬إن موتي انتصار!‬

‫‪" .3‬عشرون قد مضين‪ ،‬كالدهور كل عام"‬

‫‪15‬‬
‫المراجع‬

‫‪ .1‬البروج الرمزية_ دراسة في رموز السياب الشخصية والخاصة_‪ ،‬هاني توفيق‬


‫نصر هللا‪ ،‬جدار للكتاب العالمي‪ ،‬عمان‪2005 ،‬‬

‫‪ .2‬النهر والموت‪ ،‬بدر شاكر السياب‪ ،‬إعداد وتقديم شوقي عبد األمير‪ ،‬الدار‬
‫البيضاء‪ ،‬دار توبقال‪1986 ،‬‬

‫‪16‬‬

You might also like