Professional Documents
Culture Documents
مكتبة كتوباتي - يدان لثلاث بنات
مكتبة كتوباتي - يدان لثلاث بنات
ّ
ويليه :بوصلة التيه
سيرة
عبد الرزاق ّ
بوكبة
األيم الــي ُولــدت فيهــا بنــايت عليــاء وجنمــة ومــرمي ،مــن أعـوام
إىل ّ
2009و 2012و .2014حيــث أصبحــت احلكايــة عنــدي
ثالثيــة األبعــاد.
عبد الرزاق
abdezak@hotmail.com
إشــارة :كتبــت هــذه التجربــة يف رمضــان مــن أع ـوام 2015و2016
و.2017
تمهيد
الرعي حىت إذا ُخطنب ُحجنبّ .أما كانت القرية حتمل بناهتا على ّ
الرعي حىت تدركها ظ والنّصيب ،فتبقى على قيد ّ اليت مل يزرها احل ّ
الرعاة،
الراعيات و ّ
الرب .كان املرعى الكبري يغلي بعشرات ّ رعاية ّ
يتزوج فيه ،من
عرسا ّ
اخلروب ،ويقيمون ً شجرة ّ مجيعا ،حتت
يلتقون ً
الرتاس ،فهي كبرية املرعى، ٍ
ابب التمثيل ،ر ٍاع براعية ختتارمها «خ» ّ
يتم أمر من غري مصادقتها عليه. وال ّ
السمن والتوابل ،من كانت الفتيات يتك ّفلن جبلب ال ّدقيق و ّ
دوما ،يف بيوهتن ،إلعداد الطّعام يف الطّنجرة الكبرية املنصوبةً ،
ّ
اخلالء .وكان الفتيان يتك ّفلون ابهلجوم على أحد قطعان القرى
خروف يُذبح على شرف العريسني ،فتشتعل ٍ اجملاورة ،خلطف
الزغاريد واألهازيج وطلقات البارود. ّ
مرًةّ ..قررت «خ» أن تكون هي العروس ،ويكون عبد الرزاق ّ
كنت يف بداية وعيي
ُ و ا، عام
ً عشر اثين عمري كان ها. يس
بوكبّ َ
ر ع ة
اخلروب،علي وأان أسوق الفرس خبضراء إىل شجرة ّ ابجلسد .سالم َّ
حيث كوخ من ال ّدفلى ،يدخل إليه العريسان ،هنيهةً ،من ابب
التمثيل .كم قبلة خمطوفةً شهدها الكوخ؟
علي وهي الكوخ خلف «عروسي» .سالم َّ سالم علي وأان أدخل َ
مص اخلوخة النّاضجة. متصين ّ علي وهي ّ عن ثيايب .سالم َّ تنزع ّ
مقاما وسطًا بني اخلوف واللّذات .سالم علي وأان أعيش ً سالم َّ
علي وأان أصل البيت، هارب إىل حوشنا .سالم َّ الكوخ ً
علي وأان أخرتق َ َّ
يده إىل
ّ َ د مي وهو عليه سالم ابألمر. أيب فأخرب منتوف، ٍ
ديك مثل
ابرودته .سالم على «خ» وهي هترب من موهتا بني أشجار ال ّدفلى.
الشيوخ وهم يتدخلون ليُخمدوا الفضيحة. سالم على ّ
أصدر أيب قر ًارا ال يقبل النّقاش :من اآلن فصاعداً ،لن ترعى إال
بعد ،فيتملّكينيده ،عن ٍ وحدك» .صرت أمسع أهازيج املرعى وزغار َ
أسست عالقيت ابلكتابة، اإلحساس ابلغربة .وهي اللحظة األوىل اليت ّ
ُ
أسرهبا إىل املرعى ،عن طريق كنت ، ٍ
أغنيات أتليف يف شرعت حيث
ُ ّ ُ
عمي ،فتعتمدها «خ» يف األعراس. بنات ّ
اخلروب ،وقدذهبت إىل شجرة ّ ُ حني بلغين موهتا ،عام ،1994
استدعيت
ُ الكوخ/
َ أصلحت
ُ أصبحت طقوس املرعى من املاضي/
مددت يدي
ُ اعتذرت هلا على هرويب من بني يديها/
ُ «خ» يف اخليال/
السماء يف البكاء.
متاما ،فشرعت ّ نزعت ثيايب ً
إليهاُ /
عبد الرزاق بوكبّة
مسكة رمضان
ـت ابب األول مــن رمضــان ،وفتحـ ُ ـت علـ ّـي ابيب ،يف اليــوم ّ مــا أن أغلقـ ُ
ـت
ـرت عش ـرات الكتــب احلميمــة يف زوااي املكتبــة ،وأعليـ ُ الكتابــة ،أبن بعثـ ُ
ٍ
ـت ســتارة النّافــذة املطلّــة علــى مشــهد عانــق
موســيقى كرديـةً خاثــرةً ،وقبضـ ُ
ـرق املعجــون
الصيــف ،حــى هتاطــل علـ ّـي الطـ ُ الربيــع اصف ـر َار ّ
فيــه اخض ـر ُار ّ
ببــكاءّ .إنمــا الشــقيّتان عليــاء وجنمــة ومــرمي الثّالثــة األخــرى .هــل ذهبــت
اج األهنــار اجلاريــة؟
كل وصــاايي هلـ ّـن بنســياين ،حــن أدخــل مكتبــي ،أدر َ ّ
ـ ماذا هناك؟
فيلما يف قناتناّ .إما أن خترج إليها،
ـ مرمي ترفض أن نغيـَّر قناهتا ،لنشاهد ً
وإما ستجدها جثّة منكوبة. ّ
ـــــــ
فالش ابك
ــــــــ
كان أيب يلســع ظهــر أمــي حبزامــه اجللــدي ،وهــي تواجــه ذلــك بصمـ ٍ
ـت ّ
ـت متكـ ّـوًرا علــى نفســي ـ ن ك ـا ـ م بين . كأنــا كانــت َتتل ّقــى قُبـ ٍ
ـات صــارخّ ،
ُ
الشــجرة ،وأتل ّقــى املشــهد بعينــن ماطرتــن. خلــف ّ
سكت بكائي يف وجه قيلولته.
تتدخل لتُ َ
الضرب ّأنا مل ّ
وسبب ّ
مترد الواقع
ّ
ـص احل ـزام اجللــدي يف يــديَّ ،أم عليــاء تبــادر إىل القــول ّإنــا
جعــل رقـ ُ
9
يدان لثالث بنات
كانــت غارقـةً يف املطبــخ ،وإال مــا كانــت لتســمح ابلتّشــويش علــي .وجعــل
موجــه ٍ ٍ
مــرميَ تطلــق ضحــكات ماكـرات يف وجــه أختيهــا ،ظنًــا منهــا أ ّن احلـزام ّ
لنصرهتــا يف اإلبقــاء علــى قناهتــا.
مترد اخليال
ّ
الروايــة حيملــون
ـدت إىل خلــويت .فواجهــي منظــر خميــف :شــخوص ّ
عـ ُ
ويلوحــون هبــا يف وجهــي.
مجيعــا أحزم ـةً جلدي ـةًّ ،
ً
ـ ماذا هناك؟
ـنتول حنــن ذلــك .لســنا
وإمــا سـ ّ
ـام يف البيــتّ ،
ـ ّإمــا أن تفــرض اهلــدوء التّـ ّ
ٍ
مســتع ّدين ألن نبــوح لــك بشــيء يف ظـ ّـل هــذه التشويشــات وإال..
ـ وإال ماذا؟
الروائــي ،فتضطـَّـر إىل انتظــاران إىل رمضــان القــادم .هــذا
ـ نعــود إىل ســباتنا ّ
ـب سـواك. إذا عــدان إليــك أصـ ًـا ،ومل نذهــب إىل كاتـ ٍ
الصيــاح أركان البيــتّ :أم عليــاء تصيــح /عليــاء تصيــح /جنمــة تصيــح/
هـّـز ّ
مــرمي تصيــح.
ــــــــ
فالش ابك
ــــــــ
قــادين صـراخ نســاء أعمامــي إىل مربــط الفــرس ،فرأيــت جـ ّديت مــرمي ملقــا ًة،
ـدمي علــى الـّـروث .وص ّكــة الفــرس مطبوعــة علــى جبهتهــا ،مثــل مثــل ســرٍج قـ ٍ
ختـ ٍم وقّعــه إداري غاضــب.
10
عبد الرزاق بوكبّة
حيلة العجوز
ٍ
خمطوط مسروق: مفجوعا مثل خرجت من مكتبيت
ً ُ
ـ ماذا صار؟
ـ ّأمك أغمي عليها.
كان فمهــا يرســل فقاعـ ٍ
ـات بيضــاءَ ،وميناهــا ترتعــش مبــا يوحــي ّأنــا
ـوف ابخلــوفابلصـراخ واخلـ ُ
الصـراخ ّ ـورا .اختلــط ّ
ســتلتحق برفيقهــا األعلــى فـ ً
مصريهــا
ـكت فيهــا علــى أن ألقــى َ وال ّدعــاءُ ابل ّدعــاء ،ويف اللحظــة الــي أوشـ ُ
مجيعــا إىل
ـت عينيهــا واســتوت يف جلســتها ودعتنــا ً نفســه كمـ ًـدا عليهــا ،فتحـ ْ
َ
أن نســمعها.
الصــوم علــى مـ ٍ
ـرض غمزتــي مبــا يعــي ّأنــا كانــت متثّــل :مل يُغـ َـم علـ ّـي بســبب ّ
اندهاشــا،
ً كمــا اعتقــدمت ،بــل ألنـّـي رأيــت رمضــان[ ،قامــت عليــاء وجنمــة
الصغــرة مــرمي ،فكانــت تفعــل فعلتهــا يف املطبــخ ،مــن غــر أن ينتبــه ّأمــا ّ
إليهــا أحــد] وطلــب مـ ّـي أن أخــر البنــات أبنـّـه ســرحل عــن البيــت يف حالــة
ـهن علــى أبيهـ ّـن ،وزرعهـ ّـن الفوضــى يف البيــت. تشويشـ ّ
ـكالم،
وضعــت عليــاء وجنمــة يديهمــا علــى فميهمــا ،كنايـةً عــن تركهمــا الـ َ
ـت ،وهــو الوضــع الــذي أفرحــي وســحبين إىل حــى ال يهجــر رمضــا ُن البيـ َ
الروايــة ٍ
ـت علــى مشــهد خميــف :شــخوص ّ الروائيــة جم ـ ّد ًدا .فوقفـ ُ
خلــويت ّ
يضعــون أشــرطةً الصق ـةً علــى أفواههــم ،وقــد كتب ـوا علــى جباههــم« :نريــد
ـازب».
كاتبًــا عـ ً
ـت مــرمي صرخ ـةً اهتـ ّـزت هلــا العمــارة واألرواح. ـت ابلــكالم ،فأطلقـ ْ مهمـ ُ
ـت أغلــي يفـحبت منــه مسكـةً تغلــي ،مثلمــا كنـ ُكانــت قــد فتحــت الفــرن وسـ ْ
دورهــا ،قبــل أن يَرفَــع مــؤذّن املغــرب عقريتَــه اجلائعــة.
هبــو املستشــفى ،منتظـًـرا َ
11
يدان لثالث بنات
أرجوحة مف ّخخة
ويل هللا ،وأقنـ َـع شــيعيًا أب ّن معاويــة
ـي ُّ أســتطيع أن أقنـ َـع س ـنـّيًا أبن اخلميـ َّ
الصغــرة
وابنَــه يزيـ ًـدا مــن املالئكــة األطهــار ،لكنّــي ال أســتطيع أن أجعــل ّ
مــرمي ترجــع عــن رغبـ ٍـة رغبْتهــا أو ق ـرا ٍر َّقررتــه.
مــن ذلــك ّأنــا عـ ّـرت عــن رغبتهــا يف أن تتأرجـ َـح يف أرجوحــة احلومــة،
ـت فيهــا عليــاء وجنمــة هــذه الـ ّدودةَ يف غفلـ ٍـة مـ ّـي ،وقــد أدركتــا بعــد أن زرعـ ْ
أ ّن األرجوحــة ابتــت خطـًـرا علــى مــن ميـّـر ابلقــرب منهــا ،خلّيكــم اي راكبهــا.
ـب ،مل نعثــر لزارعهــا علــى فأرضيـَتُهــا تـراب خملــوط مبســامري وقطــع حديـ ٍـد مدبـّ ٍ
َ
ابل ابتــت ،وسلســلتها تف ّككــت مســمار يف حــذاء ،وقاعدهتــا اخلشــبيّة غ ـر ً
الشر أبشياء ت ّدعي ّأنا خيوطّ ،أما أعمدهتا احلديدية، أهل اخلري و ّ
فشدَّها ُ
فكأهنــا شــاركت يف ثــورة الفيتنــام.
ــــــــ
فالش ابك
ــــــــ
ـب أن أتدحــرج،
ـت طفـ ًـا يف قريــة «أوالد جحيــش» ( ،)1وكنــت أحـ ّ كنـ ُ
الغسيل
َ لت
نفسها لعسل القيلولة ،وأز ُ أسلمت َ
ْ يوماّ ،أمي حىت فانتظرتً ،
ُ
الزعــرور.
عــن احلبــل ،قاصـ ًـدا بــه شــجرة ّ
مؤخــريت لألرجوحــة،
ـلمت ّـت يف ربــط احلبــل إىل أقــوى غصـ ٍن ،وأسـ ُ كافحـ ُ
ـول إىل قعرهــا أن تســتمع إىل إحــدى الــي أســلمتين هلاويـ ٍـة يســتغرق الوصـ ُ
ـت هنــاك
ـرب ،ملكثـ ُ
أغــاين ّأم كلثــوم .ولــوال عــودة بنــات العـ ّـم بقطيعهــن مغـ ً
ابل مفجــوع. حــى أصــر ذكــرى أغنيـ ٍـة يف ٍ
12
عبد الرزاق بوكبّة
القبة
تشويش ّ
ـت ُّأم عليــاء علــى طــرق ابب خلــويت ،وليــس مــن عادهتــا أن تزعجــي
واظبـ ْ
حــن أغــرق يف الكتابــة.
الروايــة يف وجهــي :اســتطعنا أن نتأقلــم مــع تشــويش ـخوص ّ
انتفــض شـ ُ
الرحــال إىل
البنــاتّ ،أمــا أن تنخــرط ُّأمهــن يف املســعى ،فمــا علينــا إال نشـ ّد ّ
روائـ ٍـي عـ ٍ
ـازب أو عاقــر. ّ
الرجـ َـل الوحيـ َـد
ـ لعلّهــا احتاجــت أمـًـرا ال يقبــل التأجيــل .هــل نســيتم كــوين ّ
يف البيــت؟
ـهورا لتكتبنــا ،وأنــت ال تكتــب
ـ مــا يبــدو هــو نســيانُك أنّنــا انتظ ـرانك شـ ً
الس ـريع.
مرورهــا ّ
الروايــة يف غــر رمضــان ،ومــن طبيعــة ّأيمــه ُ ّ
مثقوب ابلغضب ،فتفادته ابلتّوضيح:
خرجت ً
وتنام أبن تتأرجح.
وتشرب َ
َ أتكل
ـ مرمي تشرتط أن َ
ـ فلتأخذها ج ّدهتا.
أصل.
ـ تعلم أ ّن اجل ّدة ترفض فكرة األرجوحة ً
ف ّخ معلّق
ـور محــاس عليــاء وجنمــة ملرافقــي ،فهمــا تــكادان أن تفعــا
َو ْس َو َســي فتـ ُ
ـيت أمرمهــا ،بفعــل تفكــري يف العــودة
ذلــك حــى إىل املرحــاض .لكنّــي نسـ ُ
ـت مــن اســتدراج الفــى «ن»خاص ـةً أنـّـي متكنـ ُ
الروائيــةّ ،
س ـر ًيعا إىل خلــويت ّ
محاســا.
الشــخوص ً ـخ احلكايــة ،بعــد أن كان أقـ َّـل ّإىل فـ ّ
13
يدان لثالث بنات
الس ـؤال:
ـت يف رأســي هــذا ّ الصغــرَة يف األرجوحــة ،الــي وضعـ ْ ـت ّ وضعـ ُ
ـزت عــن توفــر أراجيـ َـح آمنـ ٍـة لصغارهــا؟» ،وإذا ٍ
«أيـّـة حكومــة هــذه الــي عجـ ْ
ـوي يهــوي علــى رأســي ،فاجتهـ ُ
ـدت يف التّوفيــق بــن ابلعمــود احلديـ ِّ
ـدي العلـ ِّ
بتوعــد
أن أمــارس ح ّقــي يف ال ّدوخــة ،وواجــي يف محايــة صغــريت ورفــع يــدي ّ
عليــاء وجنمــة ،اللتــن أطلّتــا علــي مــن شـ ٍ
ـرفة زلزلتاهــا ابلقهقهــات.
ـــــــــــــــــــــــ
()1
14
عبد الرزاق بوكبّة
ركض مشبوه
ـؤدي إىل اجلنــون .وهــو اعتقــاد
الركــض ،مســافةً طويلـةً ،يـ ّ
تعتقــد ّأمــي أ ّن ّ
الركــض ،يف ـودا عاقلــة إلقناعهــا خبروجــي إىل ّجعلــي أبــذل ،يوميًــا ،جهـ ً
الغابــة اجملــاورة حلومتنــا.
ـــــــ
فالش ابك
ـــــــ
اي وليــدي كان الفــى موســى يرعــى خيــل «أوالد جحيــش» يف مرعــى
ابلسـ ّـراق يقتحمــون ٍ
يبعــد مســافةً تكفــي إلعــداد شخشــوخة ( ،)2وإذا ُ
عليــه خيلَــه ،فمــا كان منــه إال أن ركــض ليخــر القريــة ،لكــن اجلـ َّـن أخــذوا
ـر .هــل تريــد أن تصبــح مهبـ ًـول ـال اخلـ َ
الرجـ ُ
منــه عقلَــه ،مبجـ ّـرد أن أخــذ منــه ّ
مثــل موســى؟
إصرار الغابة
قلت لشخوص رواييت إنّين خارج إىل الغابة ألركض ،فاهتمامي
يقل حرارًة عن اهتمامي إبخراجكم إىل الوجود.
إبدخال كرشي ،ال ّ
ـ نرافقك.
مشغول عنكم ،ابلركض يف الغابة واملوسيقى.
ً ـ لكنّين سأكون
ـ نرافقك.
أكثر من مخسني دقيقة.
ـ لن يستغرق غيايب َ
ـ نرافقك.
15
يدان لثالث بنات
ــــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــ
قــال ج ـ ّدي امليلــود إنـّـه خــارج إىل اجلبــل ليجلــب احللفــاء ،كيمــا يصنــع
منهــا قفافًــا جيمــع فيهــا القمــح بعــد احلصــاد.
ـ أرافقك.
ـ لكنّك حديث عهد ابخلتان ،وبردعة البغلة حرشاء.
ـ أرافقك.
ـك
ـت خلــف اجل ـ ّد أحتـ ّ كانــت البغلــة ترتفــع وهتــوي بــن األح ـراش ،وكنـ ُ
أحتمــل أو أســتطيع أن أطلــب علــى عــر ٍي ابلربدعــة ،فــا أان أســتطيع أن ّ
إن ـزايل .ولــوال ســقوط قط ـر ٍ
ات مــن دم ختــاين علــى قــدم اجل ـ ّد ،ونزولــه
ـدت إىل البيــت بفخذيــن فارغــن.النتشــال املوقــف ،لعـ ُ
مسافة مف ّخخة
ـودت علــى أن أركــض وحــدي ،أو مــع صديقــن غارقــن يف الصمــت. تعـ ُ
كأنــم بلع ـوا الفضائيــات العربيــة كلَّهــا .كانـخوص ّ وهــا أان أركــض مــع شـ ٍ
هــذا يُناطــح هــذا مــن أجــل أن يكــون بقــريب ،إال الفــى «ن» ،فقــد أخــذ
مســافةً منّــا .أخشــى مــا أخشــاه أن يرتاجــع عــن رغبتــه يف احلكــي ،فيختـ ّـل
الروايــة ،وأحــرم مــن كتابــة جــرٍح بليــغ .مــا أتعــس الـ ّـرواايت الــي بــا
معمــار ّ
جــرح!
ش يف شــجرٍة ،وهذه توغلنا يف الغابة ،فتوغلوا يف املشاكســة :هذا يـَتـََعْن َك ُ
أى مــن اجلميــع ،إال الفــى تعتلــي صخــرًة وتصــرخ ،وهــذا يبــول علــى م ـر ً
«ن» ،فقــد بقــي حمافظًــا علــى صمتــه ومســافته .احلـ َّـق ..احلـ َّـق أقــول إنـّـي
16
عبد الرزاق بوكبّة
الروايــة .أليســت
ـت أكثــر مــن الثّـراثر ،سـواء يف الواقــع أو يف ّ الصامـ َ
أخــاف ّ
اقعــا؟
الروايــة و ً
ّ
الشــجار بينهــم .إذ كان اشــتعل جســدي عرقًــا ،ابمل ـوازاة مــع اشــتعال ّ
كل واحـ ٍـد منهــم يقــول لآلخــر إنـّـه ســيكون ّأوَل مــن أكتبــه بعــد ال ـ ّدوش. ّ
الزمــا أن أضــع حــدًّا لــذاك
ً كان ـك؟». ـ ل كذ ـس ـ ي «أل ال: ؤ ـ س ـي ـ ل ع ـلـ ط وهتا
ضاعفت ســرعيت /ضاعفوا ُ عائدا إىل احلومة /حلقوا يب/ ـتدرت ً الوحل ،فاسـ ُ
ـاري ،حــى ال أمســع
ســرعتهم /كان منظــري غريبًــا بوضــع إصبعـ َّـي يف أذينَّ جـ ً
ـت إليهــم ،عنــد مدخــل احلومــة .بينمــا كانــت عليــاء حريـ َـق فوضاهــم /التفـ ُّ
ذات أغصــان :أيــن «ن»؟ ـت صرخ ـةً َ وجنمــة تلعبــان هنــاك ،وأطلقـ ُ
حــن صعــدت إىل البيــت بعــد ربــع ســاعة مــن االهنيــار علــى سـلّم العمــارة،
الركــض ابجلنــون». وجــدت ّأمــي تتخبّــط يف حس ـرهتا« :نبّهتــه إىل ارتبــاط ّ
دائمــا،
وبعــض اجلــارات يُواســينها :ال تص ّدقــي عليــاء وجنمــة ،فهمــا تبالغــان ً
كوهنمــا رأاته يتحـ ّدث وحــده ،ال يعــي أنــه فقــد عقلــه.
الشــيءَ يف الربدعــة ،يــوم
ـت هــذا ّ
ـت منطقــة اإلجنــاب :ليتــي تركـ ُ
حتسسـ ُ
ّ
خرجــت مــع ج ـ ّدي إىل احللفــاء.
ـــــــــــــــــ
17
يدان لثالث بنات
شهادة مذبوحة
ـوزا،
مــن املقامــات اإلنســانة الــي تدهشــي ،وتقــف أمامهــا بالغــي عجـ ً
ـتان ُم َف ْوَكـ ٍـه ،البــكاءُ مــن فــرح .حيــث أتخــذ
عجــز ثعلــب أمــام ســياج بسـ ٍ
َ
روحهــا.
َ َ ـد ـ ق تف أن ـر ـ غ ـن ـ م ـة، ـ ع مد ال
َ ّ ـكل ـ ش ـة ـ ك ح الض
ّ
البحث عن الولد «ن»
بت
صباحــا ،بينمــا كان اجلميــع انئمــن يف البيــت .فتسـ ّـر ُ كانــت العاشــرة ً
ـخوص روايــي ،كمــا يتسـ ّـرب أبــو العيــال ،بعــد أن ألصحـ َـي شـ َ إىل مكتبــي ْ
الشــخري.
مجيعــا يغطّــون يف النّــوم و ّينامـوا ،إىل سـرير ّأمهــم .فــإذا هبــم ً
الصدمــة،
صدمــي أن «ن» مل يعــد مــن الغابــة منــذ أمــس ،وتضاعفــت ّ
الروائيــن ،الذيــن يؤمنــون أب ّن
ـت مــن ّ ـود أبـ ًـدا .لسـ ُـت أنــه لــن يعـ َ حــن ختيّلـ ُ
ٍ
الروايــة تقــوم علــى بطـ ٍـل واحــد ،فهــي مثــرة لتعـ ّدد األصـوات ،و«ن» يف هــذه ّ
ـبيل مــع كاتــب آخــر،الروايــة مينــح لتعـ ّدد أصواهتــا معـ ًـى .فمــاذا لــو اختــذ سـ ً ّ
ـأضطر للبحــث عنــه
ُّ ـ س ـل
ـ ه ـد؟ـ ع ب ـا
ـ ه ابمس يل ـح
ْ ـ ب ي مل ـيـ ل ا ـه،
ـ ت حوم إىل ـاد
ـ ع أو
يف حومــات اجلزائــر العاصمــة كلّهــا؟
ظ شــخوصي، بت علــى أطـراف أصابعــي خــارج البيــت ،حــى ال أوقـ َ تسـّـر ُ
خاصــة الفتــاة «نعيمــة املعقــال» ،ههههههههــه وهللا اي نعيمــة املعقــال! ّ
حتكــي لــك ســبعني حكاي ـةً دفع ـةً واحــدةً ،وختتــم بقوهلــا« :أعلــم أال أحــد
خاصــة عليــاء،
ظ أحــد أف ـراد أســريتّ ، يفهمــي يف هــذا العــامل» .أو أوق ـ َ
ههههههههه وهللا اي علياء! تطرح عليك مخســن سـؤ ًال دفعةً واحد ًة ،من
غــر أن تنتظــر منــك إجـ ٍ
ـاابت ،فهــي «تعلــم» أنـّـك ال تعلــم.
18
عبد الرزاق بوكبّة
19
يدان لثالث بنات
20
عبد الرزاق بوكبّة
ذهب أسود
خرجيــة بيئـ ٍـة
ابلص ـراخ ،فهــي ّ
تدشــن يومهــا ّ ليــس مــن عــادة ّأم عليــاء أن ّ
ـت أن تتحـ ّـول إىل راعيــة تــرى يف ذلــك عالمـةَ شــؤم وجملبـةَ هـ ّـم .مث ّإنــا ألفـ ْ
صمــت ،حــن تـراين دخلــت إىل مكتبــي ألكتــب أو أقـرأ ،فمــا ابهلــا زرعــت
البيــت ابلعيــاط هــذا الصبــاح؟
الســلوك مــن ّأمــك
قالــت يل نعيمــة املعقــال :هــل كان أبــوك ســيقبل هــذا ّ
لــو كان حيًّــا؟
ـدت يف أن أحتفــظ لــك جبرعــة
انتفــض الفــى «ن» يف وجههــا :اجتهـ ُ
كل شــيء ،لكنّــي فقدهتــا اآلن بتحريضــك الرجـ َـل علــى ضــرب
احـرام ،رغــم ّ
زوجتــه.
ــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــ
الضــرب ،إال إذا أطلّــت تبقــى امل ـرأة يف «أوالد جحيــش» انئي ـةً عــن ّ
ضبطــت تغـ ّـي بصــوت مرتفــع ،أو تقاعســت عــن وليمــة ـب ،أو ُ علــى غريـ ٍ
ـت بــا عــرس،
الضيــف ،أو جتـ ّـرأت علــى أحــد رجــال العائلــة ،أو تََكْيَ َجـ ْ
ّ
أو أطلقــت ،علــى مســم ٍع ،لفظ ـةَ فحــش أو ســبّةَ ديــن ،أو تركــت ضــروع
ضجيجــا يف صبــاح هللا.
ً القطيــع بــا حلــب ،أو أحدثــت
حرية ذهبية
ـ ماذا صار؟
21
يدان لثالث بنات
ـ ال أثر جملوهرايت.
ـ فتّشي جيّ ًدا.
ـ فعلت إال يف مكتبتك.
ٍ
ـ ليس لل ّذهب أرجل تنقله من غرفة إىل أخرى.
لعلك محلتَه من غري أن تشعر ،فأنت تفقد الوعي ابألشياء ،حني
ـ َ
تكون يف حالة كتابة.
ـ هل سألت البنات؟
شبهة احللزونة
أيضا ،لكن للحديثالرواية :سنخرج اليوم إىل الغابة ً
قلت لشخوص ّ
فرحا ما عدا نعيمة املعقال.
للركض ،فطاروا ً
ال ّ
ـ سأبقى
الصنوبر ،لنتفق على خمطّط للكتابة ،يف
ـ لكنّنا سنجتمع حتت شجرة ّ
ما بقي من رمضان.
ـ سأبقى.
رسولة الظالم
الصنوبــرة ،وراح ـوا يتكالبــون علــى مــن يكــون ّأوَل
حتلّق ـوا حــويل حتــت ّ
أيضــا.
املتح ّدثــن ،وأدهشــي أ ّن الفــى «ن» فعــل مثلهــم ً
جتمــدت فجــأ ًة :كيــف مل أربــط بــن ضيــاعـت ابحلديــث ،لكنّــي ّ
َهَ ْمـ ُ
ال ّذهبــات ،ودخــول عليــاء إىل اجملوه ـرايت؟
الركــض /ظهــرت يل املســافة حبـ ًـرا/
ـت احللقــة /أســلمت نفســي لريــح ّ تركـ ُ
الســائلة /اقتحمــت علــى اجملوه ـرايت حملَّــه/
جتاهلــت العيــون احلائــرة واألف ـواه ّ
نســيت التحيّــة :واش جــات بنــي تديــر عنــدك؟
ات قصديريةً ،مثّ أجابين وهو ميسح نظّاراته: صب علي نظر ٍ
َّ ّ
ـ قالــت إ ّن جــارة تسـ ّـمى نعيمــة املعقــال ،أرســلتها لتســأل هلــا عــن ســعر
الغ ـرام مــن ال ّذهــب.
23
يدان لثالث بنات
مقود يتيم
ـاب ظاهــرٍة وأخــرى ختفــى ،ومسـ ً
ـتعدا ألن مكشــرا عــن أنيـ ٍ
ـت مكتبــي ّ ً دخلـ ُ
نفســه
إعدامــا يف حـ ّـق مــن تسـ ّـول لــه ُ
أدوس أو أن ّف ـ َذ ًكل أو َ ـرب أو أر َ
أضـ َ
الســرد ال تعــي
ـويش علــي .حريــة ّالروايــة ،إزعاجــي أو التشـ َ مــن شــخوص ّ
ـورا ال يعــي أن أخضــع خــارج الفوضــى ،وخــويف مــن أن أكــون روائيًــا دكتاتـ ً
مــا تســمح بــه شــروط الكتابــة .للكتابــة شــروط ..هــل فهمتــم؟
اج ُكراعــهنفســه إخ ـر َ
كل مــن تسـ ّـول لــه ُ
ـرب الكتابــة إنـّـي ســأعدم َّ
أقســم بـ ّ
وإيكــم أن هت ـ ّددوين ،مــرًة أخــرى ،ابل ّذهــاب إىل
ـنتيما واحـ ًـداّ ،
مــن الق ّفــة سـ ً
كاتــب آخــر ،فلســت مــن النّــوع الــذي ُيــارس التهديـ َـد أو يقبلــه مــن غــره.
ـأتطوع إبحالتــه علــى مــن هــو مــن أراد أن يذهــب إىل غــري ،فــأان نفســي سـ ّ
مؤهــل ألن يكتبَــه ،فقــد عشــت مــع الكتّــاب أكثـَـر مــن عيشــي مــع آل بوكبــة.
قال الفىت «ن» من غري أن ينظر إيل :ماذا فعل هللا مبجوهرات ّأم
علياء؟
نبيل أن تص ّف َي حسابَك مع نعيمة املعقال على ـ امسع اي «ن» ..ليس ً
حسايب ،فأان رجل انضج وأعرف كيف ومىت أنتقم منها .أم أنّك تريد
القراء لك ،فتعتقد تغرنك حمبّة بعض ّ الرواية؟ ال ّ نفسك خارج ّ أن جتد َ
أنّين ال أستطيع أن أص ّفيك.
ـرت ببــكاء كنــت حباجـ ٍـة إليــه ،حاجــي إىل ـت صــارخ ،فانفجـ ُ عـ َّـم صمـ ٌ
ـودع أحـ ًـدا.
عمــي رزقــي الــذي رحــل اليــوم مــن غــر أن يـ ّ
ّ
ـائق عائلــي ابخلصــوص ،منــذ قـ ّـررت أن
ـائق احلومــة كلّهــا ،وسـ َ
كان سـ َ
أدخل هبا إىل اجلزائر العاصمة عام ،2010وكان آخر حديث دار بيننا:
ـ ملاذا مل تش ِرت سيارًة اي عبد الرزاق؟ ما دفعتَه يل خالل هذه السنوات،
24
عبد الرزاق بوكبّة
25
يدان لثالث بنات
حلوى املالك
عمــي رزقــي ،كــي ـت ن ّقــايل أكلّــم ّ
ـت ّأمــي تشــكو دوخـةً ،فأخرجـ ُ أصبحـ ْ
ـت
ـرت أننــا دفنّــاه أمــس ،فاصبـ ُ
أيخــذان إىل املشــفى ،مثــل العــادات .مث تذ ّكـ ُ
ابل ّدوخــة مثلهــا .ملــاذا ت ّدعــي اللغــة ّأنــا تســتطيع أن تصــف حلظـةً ،حيــار فيهــا
رقمــا لعزيـ ٍز مــات؟
الواحــد ُبــن أن يــرك أو حيــذف ً
اتبوت العصفور
ـرب األصدقــاء إىل نفســي يف اللّيســيه ،رغــم أنـّـي كنــت كان «ج» أقـ َ
عامــا حــى بتنــا حنلــم
ضمــن النظــام الداخلــي ،ومل يكــن كذلــكَ .تَ ْوَْننــا ً
ـاعة واحدةٍ،ابملســامهة يف إعادة اخلالفة اإلســامية ،مث حلقنا حليتينا ،يف سـ ٍ
ّ
وصارحــي حببّــه لنجــوى ،فصارحتــه حبـ ّـي للياقــوت .لقــد اكتشــفنا أ ّن الواحــد
كل إثنــن ،مــن غــر أن ُيــر اآلخـ َـر ،أي منّــا كان يعشــق ويُواعــد مســاء ّ
ش ـري َكه يف احللــم إبعــادة اخلالفــة.
ت يف األمــر،متامــا ،فتحـَّـر ْ
ـت جنــوى أ ّن أســلوب رســاالته إليهــا تغـ ّـر ً
الحظـ ْ
ـت كاتبَــه احلفــي .كانــت مــن النّــوع ال ّذكــي الــذي
ـت أنـّـي أصبحـ ُ حــى عرفـ ْ
قصــة «الشــاعر» حيســن إرســال اإلشــارات ،فطلبــت منّــا أن نعيــد ق ـراءة ّ
للمنفلوطــي ،حيــث كان الفــى العاشــق فيهــاُ ،ياطــب حبيبتــه بلســان
الشــاعر س ـرانو ،ومل تعــد تتعامــل مــع «ج» إال ازدراءً.
ـت جبامعــة ســطيف عــام ،1996والتحــق ابخلدمــة الوطنيــة، التحقـ ُ
ـان ،وكانبعدمــا خســر الباكالــوراي ،فكنــت أكلّمــه يف اهلاتــف الثابــت أحيـ ً
ـوت ملفـ ٍ
ـوف ابلعلــم يراســلين يف كل حــن ،مث فجــأةً عــاد إىل بيتــه يف اتبـ ٍ
ّ ّ
ـات صغــرة. الوطــي ،بعــد أن ل ّفتــه قنبلــة ،فصيتْــه جيمـ ٍ
ّ ُ
26
عبد الرزاق بوكبّة
هواجس العصفورة
ـت فيهــا يومهــا ،أبن مــا أشــبه عجــزي عــن وصــف اللحظــة الــي َهَ ْمـ ُ
أحــذف رقــم هاتفــه مــن أجنــديت ،بعجــزي البارحــة عــن الـ ّـرد علــى أســئلة
عمــي رزقــي ايكل ويشــرب عنــد ريب؟ يقــدر جنمــة قبــل أن تنــام :ابابّ ..
يشــوف والدو؟ وســيّارتو عــاش مــا ّداهــاش معــاه وخالهــا حابســة يف
احلومــة؟ يلقــى ســيّارة عنــد ريب؟ اباب ..ريب ســاكن فالســما ،وعمــي رزقــي
دفنــوه فلَّــرض ،كيفــاش يتالقــاو؟
يقني اجلرو
الصغــرة ،مثلمــا شــرحتَها
نفســك بنفســك هلــذه ّ اي ريب الكبــر ،اشــر ْح َ
ـت قصبــة واعتليــت جبــل ـت طفـ ًـا يف «أوالد جحيــش» .محلـ ُ يل حــن كنـ ُ
ٍ
ـت يف هاويــة كافــرة،
ـرت قدمــي ووقعـ ُ
أملســك ،فتعثـ ْ
بوزيــد علّــي أســتطيع أن َ
ـت فعـ ًـا بيــدك
كان مــن املنطقــي أن أمــوت ،لكنّــي مل أمــت ،ألنــي أحسسـ ُ
ـروا علــى جنــاح األرض ..منذهــا مل أشــرط أن أراك تتل ّقــاين ،وحتــط يب جـ ً
حــى أومــن بــك.
شبيه
حرية ال ّ
الرواية ،ما عدا مجال بودبزة ،لذلك
مجيع شخوص ّ توقعت أن ينطق ُ
ُ
كانت دهشيت فخمةً حني نطق .ما كان أشبهَ فرحيت تلك ،بفرحة ّأمٍ
عن ،إذ حت ّدثت
حتدثت ّ
َ ليدها ينطلق للمرة األوىل .قال :كأنك
تسمع و َ
عن صديقك «ج» أيها الكاتب.
ـ واش بيك؟
ـ حتدثت معي ابلدارجة؟
27
يدان لثالث بنات
مؤجلة
دمعة ّ
الرواق بعويل فصيح لنجمة وعلياء.
اشتعل ّ
ـ ماذا صار؟
عمي رزقي خمبّيهالنا يف
ـ وليد عمي رزقي عطاان احللوى اللي كان ّ
سيّارتو.
28
عبد الرزاق بوكبّة
جزية ال ّذئب
يدان لثالث بنات ،هو العنوان الذي يصلح لوصف حاليت مع علياء
للتبضع قبل اإلفطار.وجنمة ومرمي ،ساعة اخلروج إىل احلومة يوميًا ّ
الســابقني ،فكانــت يــداي
ّ كانــت مــرمي قاصــرًة عــن اخلــروج ،يف الرمضانــن
ـدة يفكافيتــن ألختيهــا ،مــع هوشـ ٍـة تشــتعل بينهمــا ،بســبب رغبــة كل واحـ ٍ
ّ
الريشــة (ّ ،)3أمــا هــذا العــام ،فقــد صــارت يـ ٌد
أن حتظــى ابليــد الــي حتمــل ّ
إلحدامهــا ابلتنــاوب ،واألخــرى حكـًـرا تظـ ّـل حلمــل مــرمي.
علما أ ّن ٍ
أبي يد ُتمل الق ّفة؟ ً السؤال الذي يطرح نفسه يف هذا املقامّ : ّ
عليــاء وجنمــة ترفضــان أن حتمــا شــيئًا ،ألهنمــا تكــوانن حمتفيتــن ابألغـراض
ختصهمــا وحدمهــا.
الصغــرة الــي ّ ّ
ـس حلــوى اثلثًــا ،مــن غــر أن أرى لــه ابملناســبة :ملــاذا صــارات تشــراين كيـ َ
أثـ ًـرا يف البيــت؟
ـروج معنــا،
الصغــرة مــرمي ابتــت ترفــض اخلـ َ
الحظــت قبــل يومــن ،أن ّ
علمــا ّأنــا
وتلجــأ إىل حضــن ج ّدهتــا ،كلّمــا رأتنــا جه ـزان أنفســنا لذلــكً .
الســابقة ،إذا رفضنــا أن نصطحبهــااأليم ّ
كانــت تشــعل البيــت عويـ ًـا ،يف ّ
معنــا.
ــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــ
ـب السـ ِ
ـاعات إيل ،ســاعة ـت طفـ ًـا يف «أوالد جحيــش» ،وكانــت أحـ َّ ّ
كنـ ُ
29
يدان لثالث بنات
الصيــد ،ومرافقتــه إىل اجلبـ ِـل ،لنصطــاد يدعــوين أيب ،إىل إطــاق سـراح كلــب ّ
الرعــب الــذي كان يســتعمر مفاصلــي ،حلظ ـةَ مــا يُتــاح مــن احلجـ ِـل .رغــم ّ
ـلت حماوالتـُـه مجيعُهــا ،يف إقناعــي أبن يُطلــق البــارود مــن بندقيتــه .لقــد فشـ ْ
اخلوافــة.
أتعلّــم ذلــك ،فــكان يســتفزين ،فيشــبّهين ابألنثــى ّ
الرمحــن بــن عمــي مــن مدينــة ســطيف ،وصــار رفي ًقــا صي ًفــا مــا ،زاران عبــد ّ
الصيــد ،مث شـري ًكا أليب يف إطــاق البــارود ،فتحـ ّـول مــن يل يف اخلــروج إىل ّ
ـدو محيــم .كان يُطلــق رصاصتــه علــى األرنــب ،وكان أيب ـدود إىل عـ ٍّ صديـ ٍـق لـ ٍ
يُطلــق رصاصتــه علــي :ويقتــاش ترجــع راجــل كيفــو؟
صباحــا
ـت أن أضــع حــدًّا خلروجــه معنــا عشــيةً ،فأخــرت أيب ً ليلـةً مــا ،بيَّـ ُّ
ـت العـ ّـم .ومل تـ َـر العيــو ُن
ـب ،خلــف احلــوش ،بنـ َ العمــة ،يركـ ُ
أنـّـي رأيــت ولـ َـد ّ
عبـ َـد الرمحــن ،يف بيتنــا ،ســتة أعـوام متواليــة.
سقوط القناع
ســألتين جارتُنــا ُّأم مــوح :ملــاذا مل تعــد مــرمي ختــرج معكــم؟ قلــتّ :إنــا كانــت
تبكــي مــن عــدم خروجهــا ،فصــارت تبكــي مــن دعوهتــا إىل ذلــك .قالــت:
هــل أصارحــك أبمـ ٍر ،علــى أن تعطــي األمــا َن حلفيــدي رايض؟ قلــت :يكفــي
أن تذكريــه ألعــرف أ ّن لــه يـ ًـدا يف األمــر .مــاذا صــار اي خالــة؟
ف مــرمي ،حــن ـ مسعــت عليــاء وجنمــة ،قبــل يومــن ،تطلبــان منــه أن ُيـ ّـو َ
صباحــا ،حــى تزهــد يف اخلــروج معــك ،علــى أن جتلبــا ُترجاهنــا إىل احلومــة ً
ـي اللتــن ســيأكلهما الـ ّدود ،يلبــس ـس حلــوى معهمــا ،وقــد رأيتــه بعيـ َّ
لــه كيـ َ
قنــاع ال ّذئــب ويهجــم عليهــا ،حتــت س ـلّم العمــارة ،مثــل خروفــة خلّفهــا
القطيــع.
حدثت َّأم علياء ابألمر ،وطالبتها أبن تضاعف البوراك الليلة.
ُ
30
عبد الرزاق بوكبّة
ـــــــــــــ
دوما منذ الطفولة.
3ـ ريشة فوق قصبة قصرية ،أمحلها ً
31
يدان لثالث بنات
فخاخ شقيقة
حيــدث أن أحــرم نفســي مــن مشــاهدة التلفزيــون ،واالســتماع لإلذاعــة،
ـب يف بيتــه ،أو اســتقباله يف بيــي،ـب أو حبيـ ٍ
وق ـراءة اجلريــدة ،وزايرة قريـ ٍ
واســتعمال اهلاتــف وفيســبوك ،ألخلــو بنفســي يف مكتبــي مــع شــخوص
روايــي.
أنسى ما وراء الباب ،وأفخخ نفسي مبوسيقى حز ٍ
ينة ،عاد ًة ما تكون كرديةً، ّ
معــا ونغــي ونبكــي ونضحــكـون لذي ـ ًذا مــع «عبــادي» .فنرقــص ً
وأابشــر جنـ ً
ونتهــاوش ونتنابــز ابأللقــاب .مثّ نتصــاحل ونتجــاذب أحاديــث األطـراف.
وقــد صــار مــن العــادة ،أن خترجــي جنمــة أو عليــاء مــن خلــويت ،ابلطــرق
علــى البــاب ودعــويت للتدخــل حـ ًـال :اباب ..ضربتــي /اباب ..مــا خلتنيــش
نتفرج /اباب ..ضربتلي بوبييت /اباب ..كالتلي حقي /اباب ..رماتلي صبّاطي/ ّ
اباب ..عايرتــي /اباب ..مــا خالتنيــش نلعــب ابلطابــات /اباب ..اباب ..اباب.
أقــع مثــل ريشــي بــن رحيــن ،ريـ ٍـح تقــول يل :أغلــق أذنيــك ،فأنــت اآلن
مهربـ ٍـة للكتابــة ،وملــزم أبن تعتــي بشــخوص روايتــك .وريــح تقــول: ٍ
يف حلظــة ّ
واش بيــه ج ـ ّدك اي بوكبــة؟ بناتــك يف حالــة حــرب ،وأنــت أوىل النّــاس أبن
ـت ستشــعر لــو كنــت عاقـ ًـرا؟
تفـ ّكك مــا بينهمــا مــن فخــاخ .كيــف كنـ َ
ـس بســامي بطــل املسلســل الكارتــوين اليــاابين «أان وأخــي» ـتنجدت أمـ ِ
ُ اسـ
املقتبــس عــن سلســلة «مانغــا» للكاتبــة مارميوراغــاوا عــام ،1996علّــه
قصتــه مــع أخيــه
يــزرع بينهمــا ســنبلة أو ســنبلتني مــن احملبّــة ،فأطلعتهمــا علــى ّ
الصغــر وســيم.
ّ
32
عبد الرزاق بوكبّة
أخــا
ـغول و ً
روى هلمــا ســامي كيــف أ ّن ّأمــه ماتــت ،وتركــت لــه ًأب مشـ ً
ـخر له وقتَه كلَّه :يُطعمه /يســقيه /يُالعبه /يُنيمه /يغســل صغريا ،فصار يُسـ ًّ
ِ
فس
دموعــه ولعابَــه/
َ ـح ـ س مي ـه/ ـ يط غ
ُ ّي ـه/ ـ ي حيم ـا/ ـقصص
ً ـه ـ ل ـي ـ ك حي ـحه/ ـ لــه /يُ ّ
يتنــازل لــه عــن أكلــه ولُعبــه ،وحيــرس مهـ َـده حــى يصحــو.
فعلــت التجربــة فعلتهــا طيلــة املســاء ،إذ مل حيــدث أن تشــاجرات ،أو طرقتــا
ـج ْل ســوى أنـّـي فقــدت ألــف دينــار ،كنــت قــد علــي ابب اخللــوة .ومل أسـ ّ
ـت لنعيمــة املعقــال والفــى «ن» ،وعقــدت بينهمــا الصالــون ،فتفرغـ ُ
تركتهــا يف ّ
ٍ
اتفاقًا على أن يرتكا ما بينهما من مشاحنات ،ويُرّكزا على سرد حياتيهما،
قبــل أن خيلــص رمضــان ،فقــد ال أجــد نفحـةً للكتابــة بعــده.
الســيد رايض ،ســبع ســنوات ،لتنــاول اإلفطــار معنــا، كنــت قــد دعــوت ّ
الصغــرة مــرمي ،عشــرونالســهرة ،حــى تتخلّــص ّ ومرافقتنــا إىل البحــر يف ّ
ـهرا ،مــن رفــض اخلــروج إىل احلومــة ،بعــد أن أرعبهــا بقنــاع ال ّذئــب ،فجــاء
شـ ً
ألم عليــاء ،حتبّهــا وال يش ـرهبا يف البيــت س ـواها: بــا قنــاع وق ـ ّدم هديــة ّ
زجاجــة كوكاكــوال اليــت.
ـت ُّأم ِ رفــع األذا ُن إىل ِ
اآلذانُ ،فرفعــت املالعــق إىل األف ـواه ،مث فجــأةً رفعـ ْ ُ
ـرب بعدهــا.
ْ ـ ش ت أو أتكل مل ة
ً ـ ط عي ـاء
عليـ
عمــي رزقــي التاكســيور قــد مــات ،فهممــت أبن أطلبــه ـيت أن ّ نسـ ُ
ليأخــذان إىل املستشــفى /ذ ّكرتــي ّأمــي مبوتــه ،فطلبــت جــاران أاب شــيماء يف
الطابــق الثــاين /قيــل يل إنــه أفطــر عنــد شــقيقته /عــدت إىل البيــت ،فوجــدت
املخلوقــة قــد اراتحــت أبن تقيّــأت ،ومل أجــد أثـ ًـرا لعليــاء وجنمــة وضيفهمــا
العزيــز.
33
يدان لثالث بنات
34
عبد الرزاق بوكبّة
35
يدان لثالث بنات
ـدره
ـي تظهــر ركبتــاه وصـ ُ حوشــنا متسـ ّـوٌل يتبعــه صـ ّ
بعــد يومــن ،قصــد َ
لت إىل صنــدوق ّأمــي وأخرجــت الكيــس العزيــز/ وحاف ـراه مــن فق ـ ٍر ،فتس ـلّ ُ
ـت عينيهــا إىل هنايــة املمـ ّـر الــذي يســلكه وضعتــه حتــت إبطــي ،وغافلـ ُ
ـت خلــف صخــرة حــى أتيــا ،خرجــت هلمــا ،وأعطيــت املتسـ ّـوالن .مكثـ ُ
للصــي.
الكيــس ّ
ابلســرور،
مل أكــن أعلــم حينهــا أن نظراتــه إيل ،وهــو يُغــادر مكسـ ًّـوا ّ
ٍ
س ـرافقين إىل يــوم الكتابــة هــذا ،مثلمــا مل أكــن أعلــم أنـّـي علــى موعــد مــع
ـت أمـ َـره ،وظهــرت بلباســيـرٍح علــى يــد اجلـ ّد ،بســبب أنـّـي خالفـ ُ ٍ
ضــرب مـ ّ
وحذائــي املوغلــن يف القدامــة.
حتقيق امللكة
ـوح
الروائيــة ،مــع الفــى «ن» ،الــذي ذاب يف بـ ٍـس ،كنــت يف خلــويت ّ أمـ ِ
ـاع عاجـ ٍـل يف غرفــة
أبم عليــاء تدعــوين إىل اجتمـ ٍ
فــاض علــى اللّغــة ،وإذا ّ
امللكــة األم.
الفروج؟
ـ أين ّ
ـ واش من ّفروج ّما؟
لنحيي به نصفية سيّدان رمضان؟
َ ـ ذاك الذي أحضرتُه معي من القرية،
اسك ما شفتو. ـ ْور َ
الرأس واألمعاء ،يستطيع أن يغادرالريش و ّ
ـ ال أعتقد أ ّن دي ًكا منزوع ّ
سبيل.
الثالجة ،ويتخ َذ له يف الربيّة ً
ـ ّما ..خلّينا من املشاكل ..راين نكتب وراسي راهو كالطبل.
قادرا على أن تشرتي دجاجةً ،وتتص ّدق هبا ،ال أن تتص ّدق كنت ً
ـ َ
بفروج النّصفية.
ّ
36
عبد الرزاق بوكبّة
مر ِ
فَخ ٌذ ّ
مهمــي بنقــل املواعــن ومــا
ـرت ّ
أهنــت ُّأم عليــاء مهمتَهــا يف املطبــخ ،فباشـ ُ
الصالــون ،وإذا جبــرس البيــت يُعلــن عــن كائـ ٍن
فيهــا ،إىل طاولــة اإلفطــار يف ّ
ـاج بلــدي:
يتوســطه فخـ ُذ دجـ ٍ ٍ
مــا .كانــت ّأم كرميــو يســبقها صحـ ُـن مــرق ّ
وج الذي جلبتاه يل وحدي. الفر َ
آكل ّ
أخرب ابنتيك أنّين مل أشأ أن َ ـ ْ
37
يدان لثالث بنات
السلّة الصّينية
حالة ٍ
كتابة خاثرة ،ال ال أحتمل أن يدخل أح ٌد مكتبيت ،حني أكون يف ِ
َ ُ
أثنــاء وجــودي فيهــا وال بعــد خروجــي منهــا .وأســارع إىل تنظيفهــا وتعطريهــا،
ع ُّأم عليــاء ابلتنظيــف ،فتدخلهــا ،وتشـ ّـوش علــى تداخلــي مــعـذر َ
حــى ال تتـ ّ
شخوصي.
الشــرفة ،ألتفقــد البنــات يلعــن
مفتوحــا ،أثنــاء خروجــي إىل ّ
ـيت البــاب ً
نسـ ُ
يف احلومــة ،فوجــدت أم عليــاء قــد جلبــت ترســانة التنظيــف واســتعمرت
املكتبــة.
مل أشــأ أن أعلّــق علــى مــا فعلتــه مــن غــر إذين ،رغــم امتعاضــي الــذي
خاصــة نعيمــة املعقــال،
الروايــةّ ، ـاض شــخوص ّ مل يتفـ ّـوق عليــه إال امتعـ ُ
ـت ّأنــا ،علــى غــر عادهتــا،
ـررت إىل أن أســأ َلا ،بعــد أن الحظـ ُ
لكنــي اضطـ ُ
تتلصــص علــى زوااي مل تكــن ترّكــز عليهــا ،مثــل خزانــة الكتــب وأســفل ّ
الس ـرير ،مبــا يوحــي ّأنــا تفتــش عــن شـ ٍ
ـيء أو عــن بقــاايه. ّ ّ
أي ٍ
شيء تبحثني اي خملوقة؟ ـ عن ِّ
مصدره.
َ صرصورا يف املطبخ ،فخشيت أن تكون مكتبتُك ً وجدت
ُ ـ
ـ أقسم إنك تتجنّبني قول احلقيقة .اعرتيف ..فأان شريكك.
أكلت رمضا َن خفيةً.
كنت شريكي ،ملا َ ـ لو َ
ـ اي إهلي.
األكل بنفسي.
َ وسأجلب لك
ُ اعرتف..
ْ ـ
أنكر لك ذلك أو أثبتَه. َ مضطرا ألن
ً لست
ـ ُ
كمية من حل ٍم وج ٍ
نب ،يف ترك ٍ أتعمد ،منذ حلول رمضانَ ، ـ تعلم أنين ّ
38
عبد الرزاق بوكبّة
أثرا .مع
الثالجة ،حىت أتكل البنات يف النّهار ،غري أنّين ال أجد هلا ً
علمي أهنن مل أيكلنها ،أين راحت من غري معدتك؟
ـــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــــ
ب ماءَ القربة
عاما ،حني ضبط أيب فمي يـَعُ ُّ
كان عمري اثين عشر ً
فتجمد املاءُ يف حلقي وأمعائي،عز سيدان رمضانّ ، مباشرًة من فمها ،يف ّ
لعلمي ِ
املسبق أب ّن العقاب سيكون ساخنًا.
ـرك عقابَــه هــو ،وخـ ّـرين بــن
قــال إنـّـه ســيرتك عقــاب هللا هلل ،لكنّــه لــن يـ َ
ـت خــارج احلــوش مــع الــذائب. ـرب القرب ـةَ كلَّهــا ،أو أبيـُ َ
أن أشـ َ
كنــت أخــاف عـواء الذيــب ،وأان حممــي يف الفـراش ،فكيــف أن أواجهــه
ـاب. ِ
ـرب القربــة عقـ ًـرت شـ َوانب؟ فاخـ ُ وجهــا ً
ً
امتــأ بطــي ابملــاء ،حــى انقطــع نفســي ،ولــوال جــديت مــرمي الــي فعلــت مــا
ـب يف مثــل هــذه املواقــف، تفعــل عجائـ ُـز «أوالد جحيــش» ،إلنقــاذ املعاقَـ ِ
ـفت عــن عورهتــا أماُمــه ،فطــار إىل خــارج احلــوش، ـرت قرب ـةً اثني ـةً :كشـ ْ
لصـ ُ
عمــي.
ومل يعــد إال بعــد إفطاريــن عنــد ّ
ابلصني
مرحبًا ّ
الصينية
بعيدا عن ّبوابة الورشــة ّ
الســيد «شــي»ً ، ليس من عاديت أن أرى ّ
املكلفــة إبجنــاز احلـ ّـي اجلديــد ،فمــا ابلــه زار اليــوم حومتنــا؟
مل تــدم حــريت طويـ ًـا ،خبــروج جــاري عزيــز الــذي يل ّقــب بعزيزوفيتــش ،ألنـّـه
ـدرب البوســي وحيــد حليلوزيتــش ،حامـ ًـا سـلّةً صــدرت بكــى يــوم غــادر املـ ّ
ـدت ســتة قطــط مســان.
ـفت عنهــا الغطــاءَ ،فوجـ ُ اءات متقاطعــة ،كشـ ُمنهــا مـو ٌ
39
يدان لثالث بنات
40
عبد الرزاق بوكبّة
ليلة القدر
مــن العــادات الــي تزعجــي هبــا عليــاء وجنمــةّ ،أنمــا تط ـران إىل البـ ِ
ـاب
اخلارجـ ِّـي كلّمــا مسعتــا اجلــرس .وابت انزعاجــي ثالثـ َّـي األبعــاد ،ابنضمــام
الشــهور الثّالثــة األخــرة.
الصغــرة مــرمي إليهمــا ،يف ّ ّ
فعلتــا ذلــك أمــس ،مث أغلقتــا البــاب بقـ ٍ
ـوة علــى غــر العــادة ،وأمطـرات علــى
ابب مكتبــي بغـزارة :اباب ..اباب ..النّجــدة ..النّجــدة.
الروايــةِّ :
عو ْدمهــا علــى اللّجــوء إىل ج ّدهتمــا أو ـض شــخوص ّ قــال يل بعـ ُ
ّأمهمــا أو نفســيهما ،حبســب احلالــة ،وإال فإنـّـك لــن جتــي مــن خلوتــك
حرفًــا.
ـ ماذا صار؟
ف بنفسك.
ـ تعال ُش ْ
الرماد
مطوية ّ
ـباب ســلفيني بوجـ ٍ
ـوه أدهشــي أنـّـي وجــدت خلــف البــاب ،ثالثــة شـ ٍ
ِ
رد التحيــة ،مثّ يف اســتالم مطويـ ٍـة، ٍ ٍ ٍ
ـرت يف ّ
مكسـ ّـوة وســيقان عاريــة ،فتأخـ ُ
قالـوا ّإنــم خرجـوا يف ســبيل هللا ،لينبهـوا العائـ ِ
ـات إىل بدعــة االحتفــال بليلــة ّ
القــدر.
حترضنــا عــل تــرك التّبذيــر ،وإخ ـراج القمامــة ٍ ٍ
ـ حنــن حباجــة إىل مطــوايت ّ
يف وقتهــا ،وعــدم إزعــاج النّائمــن يف ســاعات النّــوم ،واحلفــاظ علــى مواعيــد
الــدوام.
41
يدان لثالث بنات
مهمة احلكومة.
ـ هذه ّ
مل أأتخــر يف إغــاق البــاب ،وفتـ ِـح حديـ ٍ
ـث مــع ّأمــي ،الــي تعتقــد أ ّن ليلــة ْ
ـت أحـ ًـدا يف اخلــاء ،إال حققــت رغباتِــه كلَّهــا.القــدر امـرأة مساويــة ،مــا أدركـ ْ
ـــــــــ
فالش ابك
ـــــــــ
تيســا احتفـ ًـال بليلــة
ط بــه ،وهــو يذبــح ً دعــاان ج ـ ّدان امليلــود ،إىل أن حني ـ َ
القــدر .وصــادف أن زاران العطّــار عمــر أوعاشــور ،مــن منطقــة زواوة ،علــى
بغلتــه الــي حتمــل مــا تشــتهيه النّســاء ،مــن مـرااي صغـ ٍ
ـرة وعطـ ٍر وكحـ ٍـل وسـو ٍاك ُ
ـت للشــعر ومناديـ َـل للـّـرؤوس ،فأقســم عليــه جـ ّدي ابملبيــت. وزيـ ٍ
ـرك خــويف وأقتحـ َـم اخلــاءَ،ـجعتين ّأمــي علــى أن أتـ َ عســعس اللّيـ ُـل ،فشـ ّ
ـب منهــا أن جتعلــي عاملـاً هتتــدي بــه النجــوم. علّــي أدرك ليلــة القــدر ،فأطلـ َ
ـت صخــرةً خلــف مدفوعــا حبـرارة الطّمــوح ،مثّ فقدهتــا ،حــن اعتليـ ُ
ً ـت
خرجـ ُ
ـام
ـب منعــي مــن النّــزول والعــودة إىل البيــت .كان الظـ ُ احلــوش ،فاعتــاين رعـ ٌ
ـوف األرواح. والعـواءُ سـريرين كبرييــن ينــام عليهمــا خـ ُ
ـت جترب ـةَ أن ختــر َج روحــي مــن جســدي ،حــن مسعــت حننح ـةً حتــت عشـ ُ
ـتعدت روحــي فجــأ ًة ،ظنًّــا مـ ّـي ّأنــا حننحــة ليلــة القــدر،
الصخــرة ،مث اسـ ُ ّ
ـت أذوب يف ال ّدعــاء.
فر ُ
ـ ح
ـ إيه ..ريب يسرتك ويهنّيك اي وليدي.
كرشــه
الصخــرة ،ليفــرغ َ
ظهــر أهنــا حننحــة عمــر أوعاشــور ،وقــد ســبقين إىل ّ
مــن حلــم التّيــس.
42
عبد الرزاق بوكبّة
شرفة النّور
الســحور ،فــأان ال أســتصيغ
مــن عــاديت أن أوقــظ عليــاء وجنمــة وقــت ّ
ـاوي مــن حديثهمــا.
ـت خـ ً البيـ َ
التمســتهما يف سـريريهما /مل أجدمهــا /دخلــت غرفــة ج ّدهتمــا /مل أجدمهــا/
ـاب اخلارجـ َّـي ،فقــد تكــوانن
ـدت البـ َ
يف الـ ّدوش واملرحــاض ،مل أجدمهــا /تفقـ ُ
الشــرفة
ابب ّ
ـوع النّهــار ،وجدتــه حمكـ َـم اإلقفــال ،وكان ُ
خرجتــا معتقدتــن طلـ َ
الشــرفة علــى البــال .ويــن راحــو اي ريب؟
مقفـ ًـا مثلــه ،فلــم ختطـ ْـر يل ّ
احنا أن خترج فيه خوفًا عليهما ،وصلين
يف الوقت الذي كادت أرو ُ
منديل على رأسها،
الشرفة :كانت علياء واضعةً ً صواتن خفيفان من ّ
ورافعةً يديها إىل القبلة جهة الغرب ،خلفها جنمة حتمل مطوية الشباب
السلفيني.
ّ
ـ واش راكم تديرو؟
ـ نستنّاو يف ليلة القدر.
43
يدان لثالث بنات
أنا قاتل
األم ،قبــل مخــس ســنوات ،أي ثــاث بقـرا ٍر ملكـ ٍّـي سـ ٍـام ،أصدرتــه امللكــة ّ
ـهرا بعــد والدة جنمــة ،أصبــح مسلســل ســنوات بعــد والدة عليــاء ،وشـ ً
«نســيبيت العزيــزة» ،الــذي تبثّــه قنــاة «نســمة» التّونســية ،مسلسـ َـل األســرة
كل
فرتســخ يف األذهــان والوجــدان ،حــى أ ّن َّ
الســاعة الــي تلــي اإلفطــارّ ، ّ يف
واحـ ٍـد منّــا ،ابت حيمــل اسـ َـم واحـ ٍـد مــن شــخوصه.
ّأمي :فطّوم أم املنجي
ّأم علياء :مخيسة
علياء :رزيقة
جنمة :حيّوتة
مرمي :مجعة
أان :ببّوشة
ـت
وأل ّن نســخة هــذا العــام ،أدخلــت «رفيقــة» زوجـةً للمنجــي ،فقــد أطلقـ ْ
ِ
ـب دماهــا إليهــا.
عليــاءُ امسَهــا علــى أحـ ّ
ـدث أن بلــغ التشــنّ ُج مــع شــخوص روايــي ذروتَــه ،مثلمــا بلــغ اليــوم،
مل حيـ ْ
أصبت صحنًا طينيًا ُ حىت أنّين رميت نعيمة املعقال ابلكرســي ،فحدث أن
أهدتــه يل جـ ّديت األمازيغيــة ورديــة يــوم ختــاين منتصــف الثمانينيــات.
تزامنــت احلادثــة مــع ص ـراخ عليــاء ،مــن خلــف البــاب ،تقــول إ ّن جنمــة
ضربــت دميتهــا رفيقــة.
44
عبد الرزاق بوكبّة
45
يدان لثالث بنات
الفنّانة التشكيلية
سر سواد هذه اللّوحة؟
ـ اباب ..ما ُّ
ـ ألهنا مرسومة ابلفحم.
ـ هل ُيكننا أن نرسم ابلفحم؟
الرسامني يستعملونه.ـ كثري من ّ
ـ كيف ُيكننا أن حنصل على الفحم؟
الشواي.
جاهزا ،من عند احل ّداد أو ّ
وإما أن نشرتيه ً
ـ ّإما أن حنرق احلطبّ ،
كان هذا حو ًارا بيين وبني علياء ،خبصوص اللوحة اليت رمسها التشكيلي منري
غوري ،ترمجةً لكتايب «وحم أعلى اجملاز» ،وقمت بتعليقها يف صالون البيت.
ـــــــــ
فالش ابك
ـــــــــ
مقيمــا يف احلـ ّـي اجلامعــي جبامعــة ســطيف ،أواخــر التســعينيات ،وكان كنــت ً
ـورا
ـى ســلفيًا ،عـّـز عليــه أن أســتمع إىل املوســيقى ،وأعلّــق صـ ً
شـريكي يف الغرفــة فـ ً
ٍ
لــذوات األرواح ،وأنــزل إىل صديقــات ينادينــي مــن الطريــق الــذي تطـ ّـل عليــه
انفــذيت.
فخخــي ابلنّصيحــة بكــرًة وأصيـ ًـا. ـن ،فــكان يُ ّ يف البدايــة ،اســتعمل معــي اللـ َ
ـف األشــرطة يف غيــايب، اخشوشـ َـن فبــات يوقــف املســجلّة يف حضــوري ،ويُتلـ ُ مث ْ
وحــن يـراين شـغّلتها مــن جديـ ٍـد ينخــرط يف قيــام الليــل ،لعلمــه أنـّـي أضــع حــدًّا هلــا
مــن تلقــاء نفســي ،احرت ًامــا لل ُقـران العظيــم.
46
عبد الرزاق بوكبّة
كان مــن عــاديت شــبه اليوميــة ،أن أقصــد الغابــة الــي أعلــى اجلامعــة ،فأكتــب
ـروب ،وأعــود إىل غرفــي.
أو أق ـرأ ،مث أشــاهد الغـ َ
ـوب يف الفــن
ـت يف الغابــة كتل ـةً فحمي ـةً ،فدعــوت صدي ًقــا موهـ ً
مــرًة ..صادفـ ُ
وطلبت منه أن ينحت الســلفي، ٍ
ُ التشــكيلي ،كان على علم خباليف مع شـريكي ّ
صنمــا.
منهــا ً
الســوداء فــوق الطاولــة ،ومــا أن مسعــت خشخشــة املفتــاح يف
ـت املنحوتــة ّ
وضعـ ُ
للصنــم.
ـرعت يف اهلمهمــة ،مبــا يوحــي أنـّـي أصلّــي ّ
قفــل البــاب ،حــى شـ ُ
ـ ماذا تفعل؟
كت دينكم .وعدت إىل الداينة األصلية ألجدادي العرب.
ـ تر ُ
ـورا ،وهــو يســتغفر هللا العظيــم ،مــن
اضــا لــه ونســي أخــرى ،وغــادر الغرفــة فـ ً
ملَّ أغر ً
وجـ ّدي وهلــوي.الشــرك العظيــم ،فأصبحــت ســيِ ًدا علــى نومــي وصحــوي ِ
ّ ّ
جدار أسود
الروايــة يف
ـث مــع شــخوص ّ ـطت احلديـ َ أعجبتــي قيلولــة اجلميــع يف البيــت ،فبسـ ُ
الصـر ِاخ يعلــو .كانــت جارتنــا أم علــي. املكتبــة ،وإذا ابجلــرس يــر ّن والبـ ِ
ـاب يُفتــح و ّ
ـ ماذا صار اي خالة؟
الشواي رضوان ،ورمسا به
فحما من عند ّ
ـ ابنتك علياء وابين علي ،جلبا ً
فشوهاه بشكل سيجعل عشيّيت سوداءَ مع زوجي.
الصالونّ ،
فوق جدار ّ
47
يدان لثالث بنات
مشس الكفيف
أصـ ّـرت عليــاء وجنمــة علــى مرافقــي ،إىل اإلفطــار اخلـ ِّ
ـري ،الــذي أقامتــه
«مجعيــة الوفــاء ابلعهــد» ،لن ـزالء معهــد التكويــن املهــي اخلــاص بــذوي
االحتياجــات اخلاصــة .وحــدث أن انســجمتا مــع وهيبــة الكفيفــة ،وأعجبتــا
ـاب عمي ًقــا.
هبــا إعجـ ً
وزو ابملعهــد ،لتتعلّــم اإلعــام اآليل، التحقــت وهيبــة ســليلة مدينــة تيــزي ّ
بعــد أن حصلــت علــى شــهادة ماجســتري يف العلــوم القانونيــة ،وهــي متح ّدثــة
جيّــدة وتتقــن فــن التنشــيط.
ـــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــ
تتوحــم علــى
زارتنــا إحــدى القريبــات يف «أوالد جحيــش» ،وظهــر ّأنــا ّ
ـعرها ألشــري هلــا
الت ّفــاح ،فباعــت ج ـ ّديت مــرمي دجاج ـةً هلــا ،وأعطتــي سـ َ
تفاحــا مــن بســتان ســي خملــوف.
ً
وحمروســا مــن طــرف الفــى
ً كان البســتان مس ـيَّ ًجا أبشــجار العرعــار،
مبدعــا يف التعـ ّـرف علــى النّــاس مــن
الكفيــف ســي حمفــوظ ،الــذي كان ً
ٍ
خــال أصواهتــم ،مهمــا طالــت املـ ّدة ،ويف املشــي مســافات طويلـةً مــن غــر
عصــا أو دليــل.
ســاب ًقا ،كنــت قــد اســتعرت مئــي دينــار مــن زميــل يل ،لشـراء كتــاب مــن
ـك مـ ّـي املبلـ َـغ،
زميــل آخــر ،فحــدث أن التقيتــه يف طريقــي إىل البســتان ،وافتـ ّ
فتناهبـَْتين حرياتن :هل أعود إىل البيت ،من الســياقَ ، ـرحت له ّ
رغم أنّين شـ ُ
48
عبد الرزاق بوكبّة
ـاح ،فتبيعــي اجلـ ّدة إىل اجلـ ّد ،الــذي عــاد متقاعـ ًـدا مــن فرنســا ،مثلمــا
غــر ت ّفـ ٍ
ابعــت دجاجتهــا جلارهتــا ،فيكــون مصــرُان مشــرًكا يف النتــف ،أم أصــارح
ـان أو أتجيـ ًـا؟
ســي حمفــوظ ابألمــر ،فقــد يشــفق علــي ،ويعطيــي الت ّفــاح جمـ ً
ـح احللـ ُـق ،فلــم يظهـ ْـر لــهـت عنــد ســياج العرعــار ،وانديــت عليــه حــى بـ ّ
وقفـ ُ
إبحساسـ ْـي اخلــوف
َ مفخخــا
ً الســياج
ّ وجــهٌ ،أو يطلـ ْـع لــه صــوت .اقتحمــت
ٍ
واخلــزي ،وشــرعت يف قطــف الت ّفاحــة تلــو أختهــا ،وإذا بيــد غليظـ ٍـة تقبــض
علــى قفــاي .كانــت يـ َـد ســي احملفــوظ.
ـت علــى عــدم ســقوط الت ّفاحــات الثمينــات ،وأان أفـ ّـر ،أكثـ َـر مــنحرصـ ُ
رت يف مــكاين ،حــن مسعــت حرصــي علــى عــدم ســقوطي .مث فجــأ ًة تسـ ّـم ُ
ســي احملفــوظ يناديــي ابمســي .كيــف عرفــي وهــو ال يشــوف وأان مــا نطقــت؟
انئمــا يف ظـ ّـل شــجرة،
عامــا ،اعــرف يل أبنـّـه كان ،يومهــاً ، بعــد عشـرين ً
وقــد رآين يف املنــام أفعـ ُـل مــا فعلــت.
متثّالت فراشة
محلــي النعــاس اليــوم ،علــى أن أغفــو مــن غــر أن أضــع القلــم ،فرأيــت فيمــا
فزعــا .نســيت أنيدهــا وهــي تبكــي ،فقمــت ً يــرى النّائـ ُـم أ ّن جنمــة مت ـ ّد إيل َ
الروايــة/
ـض شــخوص ّ أغلــق ابب املكتبــة خلفــي كالعــادة ،فقــد يتسـ ّـرب بعـ ُ
ـت مــن الطابــقتفقدهتــا يف البيــت /قيــل يل ّإنــا خرجــت مــع عليــاء /نزلـ ُ
مجعــا مــن األطفــال
اخلامــس إىل الطابــق األرضــي يف رمشــتني ،فوجــدت ً
تتوجــع مــن ركبتهــا.
ُييطــون هبــا ،وهــي ّ
ـ علياء ..ماذا صار؟
جنرب كيف متشي طاطا وهيبة من غري عينني ،فأغمضنا ـ أردان أن ّ
أعيننا ومشينا ،وها أنت ترى النّتيجة.
49
يدان لثالث بنات
اغتيال رمضان
زرت قريــي «أوالد
متامــا ،مــن العــام الفائــتُ ،
يف مثــل هــذا اليــوم ً
ـدت ،إىل العاصمــة،
رب يرمحهــا ،وعـ ُ ـت جــديت مــرمي ّ جحيــش» ،فرأيـ ُ
ـاج بلــدي. ٍ حممـ ًـا خبـ ٍ
ـروف ودقيـ ِـق قمـ ٍـح وفريــك ومس ـ ٍن ول ـ ٍ
ن ودجـ ٍ ّ
أشارت جنمة إىل األرزاق :اباب ..هذا هو رمضان؟
أفخخهــا مبــا يتجــاوز سـنَّها ،فقلــت :نعــم ..هــذا هــو رمضــان. مل أشــأ أن ّ
ـتقر يف ذهنهــا أ ّن رمضــا َن هــو مــا أنكلــه فيــه.
واسـ ّ
ـــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــ
كل رمضــان ،وكان حيــرص ،رغــم نفــوري،كان أيب يذبــح خروفًــا ،فاحتــة ِّ
أصبحت
ُ قائل إنّين
وتقطيعاً ،
ً وسلخا
الطقس ذحبًا ونس ًفا ً َ على أن أحضر
ـتقر يف ذهــي
الرجـ ُـل ملــزم ابحـرام رمضــان .فاسـ ّ
رجلَــه الــذي يعتمــد عليــه ،و ّ
ُ
أ ّن رمضــا َن هــو اخلــروف املذبــوح.
أايمــا مــن غــر تربيــد،
ـتقر حلـ ُـم اخلــروف يف كرشــي ليلـةً ،بعــد أن مكــث ً
اسـ ّ
حلمــا ،وفعــل فعلتــه يف أمعائــي .فتهيّــأ
فلــم تكــن القريــة تعــرف الكهـرابءَ إال ً
كبشــا ذا قرنــن يهـ ّـم أبن ينطحــي ،غارقًــا يف العــرق وصــدر ّأمــي،
ـوت ً يل املـ ُ
احلمــى ذات اهلــذاين .وهــو مــا جعلــي ،يف العــام
ـوت فــوق اإلســهال و ّ مث طفـ ُ
ـت مكيــدةً للخــروف ،أقصــد رمضــان. القــادم ،أبيّـ ُ
ـال .فطفــح ـوت اهلـ ِ
الرمحــن اجليــايل ،يف املــذايع ،ثبـ َ
الشــيخ عبــد ّ
أعلــن ّ
50
عبد الرزاق بوكبّة
الزريبة ،اليت يتواجد فيها وجهُ أيب بِ ْشـًـرا ،وطفح وجهي خوفًا .تسـ ُ
ـللت إىل ّ
اخلــروف املدلّــل ،فنزعــت احلبـ َـل مــن ُكراعــه ،ووضعتــه يف عنقــه .أصبــح امللــك
ـروف /رمضــا ُن جثـةً ينهبُهــا الــذابب.
هلل ،وأصبــح اخلـ ُ
السماء
حمامية ّ
التـزال ّأمــي مصـّـرًة علــى أن حنتفـ َـل بنصفيــة رمضــان ،وهــي الليلــة الوحيــدة
الــي نتخلّــى فيهــا عــن أطباقــه املعروفــة كلِّهــا ،ونكتفــي ابلشخشــوخة مــع
ـدي ،جلارتنــا أم
وج البلـ َّ
ديــك بلــدي ،وأل ّن عليــاء وجنمــة كانتــا قــد أهــدات الفـّـر َ
عوضنــاه بدجاجــة اجلـّـزار. كرميــو ،فقــد ّ
الشــوربة والبــوراك وطاجــن الزيتــون ـتوعب جنمــة أن نتخلــى عــن ّ مل تسـ ْ
صارخــا علــى
اضــا ً ـدت اعرت ًواللحــم احللــو ،فهــي متثّــل رمضــا َن يف ذهنهــا ،فأبـ ْ
ابلشخشــوخة. االكتفــاء ّ
ـ ما حتشموش تقتلو رمضان؟
ـاب ثالثتنــاّ ،أمــي و ّأم
ـري ابألل ـوان ،وكان لعـ ُ
الشخشــوخة ثـ ًكان منظــر ّ
ـاث إىل صحــن عليــاء وأان ،متأهبًــا قبيــل األذان .تداعــت املالعـ ُـق الثـ ُ
ـات دفع ـةً واحــد ًة،ـاث وخوخـ ٍ
الطــن ،مث تداعــت إىل األف ـواه ،فطلعــت ثـ ُ َ ْ َ
ـدود ال ـراءة وشــرفةأخ ..أخ..أخ ،أعقبتهــا قهقهتــان للبنتــن جتــاوزات حـ َ
البيــت.
كانــت الشخشــوخة ماحل ـةً ح ـ ّد امل ـرارة ،مبــا جعلنــا نكتفــي ابملــاء وبقــااي
خبــز البارحــة.
51
يدان لثالث بنات
اختطاف انتقامي
ـال علــى محريهــم،
ـس هللا ،حــى يقتحـ َـم احلوم ـةَ أطفـ ٌ
ـرق مشـ ُ
مــا أن تشـ َ
ويُغرقوهــا ابلص ـراخ :ايو اخلبــز اليابــس /ايو اخلبــز اليابــس .وهــو الوقــت
ـتمتعا بنــوم البنــات ،وصحـ ِو
الــذي أكــون فيــه ابسـطًا قلمــي يف املكتبــة ،مسـ ً
الروايــة. شـ ِ
ـخوص ّ
الصغــار القادمــن مــن خيـ ٍـام منصوبـ ٍـة خلــف
اخ هــؤالء ّ أزعجــي ص ـر ُ
ـرفت عليهــم مــن الطابــق اخلامــس ،ورحــت أصــرخ فيهــم :النّــاس
احلومــة ،فأشـ ُ
نيــام .فاكتف ـوا أبخــذ األكيــاس ،الــي عنــد أب ـواب العمــارات يف صمــت.
يومــا ،مثلنــا أيّهــا املتعجــرف.
متوعـ ًـدا :ســتصبحً ،
أحدهــم ّأشــار ُ
ــــــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــــ
أكل احلمامــة ،ألهنــا أنقــذت الرســول عليــه الســام ِ
ُيـ ّـرم أوالد جحيــش َ
حلمهــا جب ـراين الكــرش ،وهــذا الــذي
ويتوعــدون مــن أيكل َيف غــار ثــورّ ،
يومــا.
حــدث يل ً
ـت ثيــايب وغســلتها يف
ـت إىل وادي ال ّدفلــى .نزعـ ُـرت كرشــي ،فجريـ ُ جـ ْ
ـاري أنتظــر أن تنشــف .يف تلــك اللحظــة ،جــاء ـت عـ ً
الربكــة احلجريــة ،ورحـ ُ
ِ
فرســه ،فرآين كما ولدتين ّأمي ،ويف ذلك مدعاة ألن يُشـغّ َل ـقي َ ج ّدي ليسـ َ
ـرب.
ـذت يل بــن أشــجار ال ّدفلــى مهـ ً
عصــاه ،فاختـ ُ
ـار الظــام
ـاب معــه ،فمــا كان مـ ّـي إال انتظـ ُ
ـدت فوجدتــه قــد أخــذ الثيـ َ
عـ ُ
52
عبد الرزاق بوكبّة
ـود إىل
ـوب أبمنيتــن ينهبهمــا التناقــض :أن أييتَ الليـ ُـل ألعـ َ
ـرين ،منهـ ً
حــى يسـ َ
البيــت ،وأال أييتَ حــى ال أييت الذيــب.
ـتجب للنــداءات الــي كان اجلميــعلت إىل زريبــة الغنــم ،ومل أسـ ْ
تس ـلّ ُ
يطلقوهنــا يف اخلــاء ،حاملــن قناديـ َـل مضيئ ـةً :رزيــق ..رزيــق ..رزيــق.
عضــي اجلــوع ،فكنــت آكل مــن اخلبــز اليابــس الــذي كان جــدي يشـريه ّ
لنعاجــه مــن مدينــة املهــر ،وأبلّلــه ابحلليــب مــن ضــرع العنــزة مباشــرة.
اختفاء الفراشة
ٍ
صفحات يف اليوم الواحد ،منذ شرعت يف عشر
كتبت َحيدث أن ُ
مل ْ
فشرعت أقول لشخوصها :أان
ُ فعلت اليوم،
كتابة هذه الرواية ،وقد ُ
حيدث أن
أعزائي ..هكذا أريدكم عمليني ومثمرين .ومل ْ
سعيد بكم اي ّ
فعلمت أن مصيبةً قد حلّت.
ُ ابب املكتبة بعصاها،
علي َ
ت أمي َّدقّ ْ
ـ ماذا صار؟
أثر يف احلومة منذ ساعتني.
يظهر هلما ٌ
ـ بنتاك ال ُ
ـأت يف البحــث عنهمــا بداي ـةً ،العتقــادي ّأنمــا عنــد إحدامهــا ،مث
تباطـ ُ
رب؟ـض ،حــن أنكــر اجلميـ ُـع رؤيتَهمــا .ويــن راحـوا اي ّ
ـث والنبـ ُ
تســارع البحـ ُ
الشــرفة ابكيـةً ،ونبّهتــي إىل ّأنمــا قــد تكــوانن ذهبتــا
ـت ُّأم عليــاء مــن ّ
أطلّـ ْ
ـان،ـودت علــى أن أصحبَهمــا أحيـ ً
إىل الغابــة الــي خلــف احلومــة ،حيــث تعـ ُ
ـوف يف أوصــايل وصــويت ،وقــادين إىل للركــض .فركــض اخلـ ُ حــن أخــرج ّ
أوصــال الغابــة.
ابلسؤال:
توعدين على محاره ،فبادرين ّ
صادفت الفىت الذي ّ
ُ
53
يدان لثالث بنات
54
عبد الرزاق بوكبّة
ال ّدكتاتورة
مجيعا ،بل
نذوق منها ً
أتكل اللقمة حىت َ إيثارا ،ال ُ
أكثران ً
الصغرية مرمي َ كانت ّ
نفســها ،ومــن أىب فســيُضرب
ضاعـةَ َ
الر ّ
ّإنــا كانــت تفــرض علينــا أن نشــارَكها َّ
الراس .مثّ انقلبت فجأةً ،فصارت متيل إىل احتكار ِّ
كل شــيء. هبا على ّ
بــدأ االحتــكار ابلتلفــاز ،فــا قنــاة تعلــو علــى قناهتــا .وليتهــا اكتفــت أبن
أيضــا،
ـاهدها وحدهــا ،بــل راحــت تفــرض علينــا أن نتسـ ّـمَر أمامهــا ً تشـ َ
وانتقــل األمـُـر إىل األحذيــة ،فبتنــا ممنوعــن مــن اســتعمال أحذيتنــا الــي ابتــت
تراهــا مل َكهــا.
بعضهــم
قـ ّـرران أن نــرك األحذيــة عنــد البــاب اخلارجــي ،وبعــد أن ســرق ُ
بعضهــا ،قـّـرران أن نضعهــا يف خزانــة عـ ّدادات املــاء والغــاز والكهـرابء .وأل ّن
َ
نضعهــا يف
َ أن ـى ـ ل ع ـا
ـ ن اتفق ـد
ـ ق ف ـامل،
ـ ش ـق
ـ ي
ر ح يف ب ـب
ّ ـ س تت أن كادت ـة
جنمـ
الشــرفة ،لنومههــا ،حــن إخراجهــا ،أبننــا ُنــرج القمامــة. أكيــاس يف ّ
ط داخلــه مثــل ضفدعــة ،فــا ختــرج إال تــرك أحـ َـدان جيهــز الـ ّدوش ،مث تنـ ّ
ـف رغبتُــه يف ذلــكّ .أمــا املرحــاض فهــي تتصـ ّـرف علــى أنـّـه بعــد أن تنشـ َ
حمرمــة علــى سـواها ،رغــم ّأنــا مــا زالــت ابحل ّفــاظ ،والويــل ملــن دامهتــهمنطقــة ّ
نفســه مضطـ ًـرا النتظــار نومهــا ،أو اللجــوء إىل حيلــة احلاجــة ،إذ ســيجد َ
يصــرف مــن خالهلــا بولتَــه.
55
يدان لثالث بنات
ــــــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــــــ
أمثــر كــوين وحيـ َـد ّأمــي وأيب ،بعــد ســنوات مــن انتظارمهــا يل ،ميـ ًـا مـ ّـي إىل
روح االحتــكار ،فقــد كنــت أفــرض عليهمــا أال أيكال إال بعــد أن أزهـ َـد يف
ـب ظهــر ـب يف أن أركـ َ األكلــة ،وأال ينامــا إال بعــد أن أانم ،وحيــدث أن أرغـ َ
ـول أليبّأمــي ،عنــد حلــول وقــت إعــداد الطعــام فيفوهتــا ذلــك ،ويكفــي أن تقـ َ
إنـّـي منعتهــا ،حــى تنجـ َـو مــن العقوبــة.
يومــا ،زارتنــا املرابطــة اللّــة فاطمــة ،وهــي شـريفة مــن قريــة شـريفة ،ال تدخــل ً
أنفســهم إبخـراج دجاجهــم ومسنهــم وعســلهم ،وال تغــادره ٍ َ ـهـ
ُل أه ـزمـ ل أ إال بيتًــا
إال بكســوة جديدة .أليســت حفيدةَ رســول هللا؟ٍ
ـف اجلميـ ُـع أيديهــم ،حــى تنهـ َـي اللّــة فاطمــةُوضــع طعــام اإلفطــار ،فكـ َّ
ِ
أكلهــا ،إالي فقــد أطلقــت يــدي إىل فَخ ـ َذ ِّ
ي الفـ ّـروج.
ـ ال أتكل فخذي سيّدتك.
ـف أيب عــنـف عــن اقتنــاص الفخذيــن ،ومل يكـ ّ غلــب علــي الطبــع ،فلــم أكـ َّ
أحدمهــا ،ويف ذلــك إهانــة
ـت َ الضــرب علــى يــدي اجلريئــة .مث غافلتُــه وخطفـ ُ ّ
مفروضــا عليــه أن يعيــد هلــا بعــض اعتبارهــا،
ً ـكانـ ف يفة، ر ـ ش ال ـيدةـالس
ملقـ ّ
ـام
خاصــة بعــد أن قذفـَْتــهُ بنظــرة اســتنكارها.
ّ
خطفين مثلما يفعل عُقاب مع ّفروج ،ووضع يدي على فرن احلطب
يرفع يدي عنالشواء الفضاءَ ،ومل ْ احملمرِة حديدتُه ،فمألت رائحةُ ّ ّ
شفعت هلا
ْ نبوءة مع بذلك، ة
ًإشار دتهّسي أعطته أن بعد إال احلديدة،
كربت:
عندي بعد أن ُ
ـ هذه اليد ،ال يُصلحها إال القلم.
56
عبد الرزاق بوكبّة
حارسة اجلوع
كل صائـ ٍم منــا مقعـ َـده ،فحــى جنمــة
جهـزان البارحــة طاولـةَ اإلفطــار ،وأخــذ ُّ
وترجــان لســانيهما دالل ـةً علــى ذلــك، وعليــاء تعتقــدان ّأنمــا صائمتــانُ ،
عقريتــا ابلبــكاء ،طالبـةً
ومــا أن رفعنــا املالعـ َـق إىل األفـواه ،حــى رفعــت مــرميُ َ
الشــرب.
ـف عــن األكل و ّ منّــا أن نكـ َّ
كانــت تبكــي وتتمـّـرغ حـ َّـد انقطـ ِ
ـاع النفــس ،كلّمــا رفــع أحـ ُـدان ملعقتَــهّ ،أمــا
ـف عــن الطـواف علــى األطبــاق. ملعقتهــا فلــم تكـ َّ
طاق
طاق
األم قـر ًارا :مــا اتكلــوش حــى ترقــد ،راكــم حابـّـن تقتلــو
أصــدرت امللكــة ّ
الطفلــة؟ انمــت ،وهــي حتــرس الطاولــة ،بعــد ســاعتني وتسـ ٍع وثالثــن دقيقـةً
مــن أذان املغــرب.
57
يدان لثالث بنات
الفدية
[]1
عمــي
الســائق ّ
كانــت املـّـرَة األوىل ،الــي خنــرج فيهــا للتنـّـزه ليـ ًـا ،بعــد رحيــل ّ
ـت
رزقــي .ومــا أن أخــذان مقاعـ َـدان يف ســيّارة الشــيفور اجلديــد ،حــى اخنرطـ ْ
ٍ
عمــي رزقــي يُعطينــا احللــوى مبجـ ّـرد أنـارٍة :كان ّ عليــاء وجنمــة يف بكائيــة حـ ّ
جاريــن
مجيعــا ّ
نصعــد ،وكان يُســمعنا أغنيــة «نــي ابغيــة واحــد» .فبكينــا ً
ـيفور اجلديـ َـد إىل ذلــك.
الشـ َ
[]2
ســألين مــرةً يف طريقنــا إىل املســرح الوطــي اجلزائــري ،وقــد كان اجلزائريــون
مضغوطــن هباجــس اختطــاف األطفــال:
ـ واش تدير لوكان خيطفولك بناتك؟
ـتطع معهــا أن ٍ ٍ
ـت يف كآبــة عميقــة ،مل أسـ ْ
ـتحضرت احلالـةَ فعـ ًـا ،واخنرطـ ُ
ُ اسـ
الصــن ٍ ٍ ٍ
آيتَ بكلمــة واحــدة ،فشــرع يُلهيــي حبديــث عــن رحلتــه البحريــة إىل ّ
ٍ
الشــعبية ،يف ابخــرٍة عســكرية ،هنايــة الثمانينيــات .وطالــت احلكايــة و ّ
الزمحــة،
ـوت إغفــاء َة مــن قضــى ليلَــه كاتبًــا.
فغفـ ُ
حديث اإلغفاءة
ـدو طبيعيًــا ،أمــام ّأمــي و ِّأم عليــاء ،وأان أســأل عــن البنتــن،
ـت أن أبـ َ
حاولـ ُ
أيضــا ،وأان
فقالتــا ّإنمــا خرجتــا إىل ش ـراء أوراق بيضــاء ،وأن أبقــى طبيعيًــا ً
ـتحضرا تفاصيـ َـل املكاملــة الــي وردتــي قبــل قليــل
ـت ،مسـ ً أغــادر البيـ َ
58
عبد الرزاق بوكبّة
السيد بوكبة؟
ـ أنت ّ
ـ من أنت؟
يهمك ليس هوييت بل مطليب.
ـ ما جيب أن ّ
ـ ماذا تقصد؟
ٍ
ـت عاقـ ًـا ومل ختــر ـ ابنتــاك خمطوفتــان ،وســتبقيان يف أمــان ٍّ
اتم ،إذا بقيـ َ
ـدت يف أن تتدبـَـر نصــف مليــار.
الشــرطة أو أحـ ًـدا مؤهـ ًـا إلخبارهــا ،واجتهـ َ
ـ اي رجــل ..أان بــا وظيفــة حكوميــة ،وأعيــش مبــا أكتبــه مــن مقــاالت يف
الصحافــة العربيــة.
ّ
ـب مبلغًــا
ـ لعلــي اخلاطــف الوحيــد الــذي أشــفق علــى ضحيتــه ،فلــم يطلـ ْ
ـرا ،وســأكلّمك بعــد يومــن. كبـ ً
رقمهــا علــى أهنــا مــن واليــة تيــزي َّ
كانــت املكاملــة مــن هاتــف اثبــت ،ودل ُ
ـف
ـت أن يتوقـ َ كل اجلهــات ،فخفـ ُ ـكل األرقــام ويف ِّ
وزو ،وكان قلــي ينبــض بـ ِّ
ـت؟
احهما إذا مـ ّ قبــل أن أمتكـ َـن مــن حتريــر البنتــن .هــل ســيطلقون سـر َ
أرد علــى التحيّــات الــي صادفتــي يف طريقــي إىل األشــجار الــي خلــف مل َّ
احلومــة ،وال علــى املكاملــات الــي وردتــي ،وخانتــي القــدرة علــى أن أفصـ َـل
الشــرطة؟ت خمّــي :هــل ســأخرب ّأمــي و َّأم عليــاء؟ هــل ســأخرب ّ ٍ
يف أســئلة َنَـَـر ْ
ـت وأتفـ ّـرغ
ـره؟ أم أنـّـي ســألزم الصمـ َ مــن هــو جديــر مــن أصدقائــي أبن أخـ َ
لتوفــر املبلــغ؟
شارعا يف تسجيل وسحبت ورقةً كانت مرميةً يف املكانً ، ُ قلما
أخرجت ً
ُ
أمســاء معــاريف املؤهلــن ألن يُســعفوين مببالـ َـغ صغــرة .فوصلتــي رســالة مــن
ـمحت
صديقــي القــاص ســليم بوفنداســة« :س ـلّ ْم علــى البنــات» .فسـ ُ
لدموعــي ابهلطــول ،ومل أمسـ ْـح لنفســي ابلـ ّـرد علــى مكاملــات ِّأم عليــاء.
59
يدان لثالث بنات
60
عبد الرزاق بوكبّة
عرس ال ّصهيل
كنــت تلمي ـ ًذا يف مدرســة «أوالد جحيــش» ،وكانــت تســتقبل تالمي ـ َذ
ـت أحســب نفســي علــى ـرب وآخريـ َـن أمازيـ َـغَّ .
وألن ّأمــي أمازيغيــة ،فقــد كنـ ُ عـ ً
ـتعل هوشــة مــن اهلوشــات.
الفريقــن ،وال أحنــاز إىل أحدمهــا ،يــوم تشـ ُ
ـت أاتين إانث احلمــر ،وقــد مسّيـ ُ
كان التالميــذ العــرب أيتــون راكبــن َ
«طيطشــة» ،كمــا ورد يف روايــي «ندبــة اهلــايل» ،بينمــا كان التالمي ـ ُذ
الصهيــل ،ومــاـرس ّ ـور منهــا ،ولكــم أن تتصـ ّـوروا عـ َ األمازيـ ُـغ يركبــون الذكـ َ
كل فريـ ٍـق دوابـَّـه.
يرتتّــب عنــه ،حــن يربــط ُّ
رب يرمحهم «الروجي»ّ ، محار الفىت «قاسي» على أاتن الفىت ّ مرًة..ارمتى ُ
ِ
أنفاســها حتــت أنفاســه ،وهــو
ـت َ هشـةً ،فلفظـ ْ
يف زوج ،وقــد كانــت جحشـةً ّ
ـوس والـّـرؤوس.
أجـ َـج النفـ َ
احلــدث اجللــل الــذي ّ
للروجــي أســفلها، احنــاز األمازيــغ لقاســي أعلــى املدرســة ،واحنــاز العــرب ّ
ـرب ابردةً،
ـذت وضعي ـةَ عــدم االحنيــاز ،داعيًــا إىل أن تبقــى احلـ ُ ّأمــا أان فاختـ ُ
ـك مــن أجــل جحشــة .أاثر موقفــي حفيظــة ِ
ـك والفـ ِّ
وال تتحـ ّـوَل إىل الصـ ّ
اشــا.
الروجــي ،فدبـّـر يل مكيــد ًة طرحتــي فر ً ّ
ـامنا عشــيةً ،وإذا يب أالحــظ أ ّن الزمــاء األمازيــغ ينظــرون غــادران أقسـ َ
كل ٍ ٍ
ـت نظرا ُتــم إىل اســتفزازات ،فهجــوم مجاعـ ٍّـي أهلبــي ر ً إيل َشـ َـرًرا .مث حتولـ ْ
ـتما:
وعضــا وس ـبًّا وشـ ً
لكمــا ًّ و ً
تسب أخوالك؟ ـ كيف ّ
ـائل عــن ســبب دمــي
الصلــب واملخالــب ،سـ ً
انتشــلين املديـ ُـر مــن بــن ّ
61
يدان لثالث بنات
الروجــي قــد
الســائل ،فأشــاروا لــه أن يقـرأ الورقــة املعلقــة علــى ظهــري .كان ّّ
للزعيــم حســن آيــت أمحــد ريب يرمحــو (.)4ً ّ ا ـتم
ـ ش ـا
ـ ه علي ـب ـ ت ك ـة
ـ ق
ور ـقعلّـ
غربة العريس
ـوت اليــوم ،فلــم أشــأ أن أزعـ َـج قيلولـةَ ّأمــي و ِّأم عليــاء ،أبن أســأ َلما
صحـ ُ
للتبضــع علــى طــول.
عمــا ينقــص مــن حاجــات ،فخرجــت ّ ّ
ـت عليــاء وجنمــة تلعبــان ،عنــد مدخــل العمــارة ،فأدهشــي ّأنمــا صادفـ ُ
رفضتا أن تصحباين إىل احلوانيت ،وتسلّلتا إىل البيت ،مطلقتني ضحكاتٍ
أاثرت يف نفســي شــكوًكا صاهلــة.ْ
ـات ،علــى مــن ـات الّزكيـ ِ
غمرتــي دهشــة أخــرى ،إذ كنــت ألقــي التحيـ ِ
ـات ،مــن ذلــك النّــوع ،الــذي صادفــي يف الطريــق ،فــا ت ــرُّد علــي إال مههمـ ٍ
َُ
الرجيم .مث تفاقمت دهشيت ،حني ّ يطان الش
ّ من يُفهم استعاذ ًة ابهلل العظيم
ـلعهم، ـاب احلوانيــت بوجوههــم ،رغــم أهنــم مل مينعــوين سـ َ أعــرض عـ ّـي أصحـ ُ
الزالبيــة ،وســعيدبونــم احملتفــى بــه كأنـّـه العريــس .ســليم صاحــب ّ ـت ز َ وقــد كنـ ُ
صاحــب اللّحــم ،ورابــح صاحــب بطاقــات اهلاتــف ،وهشــام صاحــب
الش ـرابت.الســجائر ،ونعيــم صاحــب ّ اخلضــر ،ويوســف صاحــب ّ
ـرت حادثـةَ قاســي مـّـر علــي الفــى جامــع اخلبــز اليابــس علــى محــاره ،فتذكـ ُ
الروجــي .مثّ مـ ّـرت علــي عليــاء وجنمــة ،طالبتــن مـ ّـي أال أقلـ َـق عليهمــا، وّ
ألهنمــا مدعــواتن لإلفطــار عنــد طاطامهــا «ف» ،وتسـلّلتا إىل ابهبــا ابلطريقــةِ
نفســها .واش راهــو صــاري يف حومــة الــذراري؟ ـبوهة ِ
ـكات املشـ ِ الضحـ ِ و ّ
فمها :بوكبّة ..عملت املاكياج؟ الباب ،مث فتحت َ فتحت يل ُّأم علياء َ
ـــــــــــــــ
4ـ زعيم سياسي وثوري جزائري ذو أصول أمازيغية.
62
عبد الرزاق بوكبّة
نعش رئاسي
ـت
تقــول ّأمــي إ ّن حومتَنــا مباركـةٌ بوجــود الفــى «مومــوح» فيهــا ،وقــد أنفقـ ْ
عادي مثلهما،
إنسان ً أبل ختافاه ،واعتبا ِره ً جهدا ووقتًا إلقناع علياء وجنمة ّ ً
ـت يف ذلــك فصــارات ـف عــن الضحــك عليــه والســخرية منــه ،وقــد أفلحـ ْ ِ
والكـ ّ
صديقتيه.
السادســة عشــر الســابع عشــر ،وابل ّذكــرى ّ
حيتفــل مومــوح بعيــد ميــاده ّ
إلصابتــه ابلكســاح ،حــى صــار ابلــكاد ميشــي وينطــق .ومــن ميزاتــه أنـّـك ال
ـرف إن كان يضحــك يف وجهــك أم يبكــي. تســتطيع أن تعـ َ
أتفرغ لـ«عبادي» يف املكتبة، ٍ
الشرفة ،قبل أن ّ إبطاللة من ّ قمت
ُ
فهالين عدد األطفال يش ّكلون حلقةً حتت شجرة العرعار ،اليت يف قلب
احلومة .وبينما كان موموح مربوطًا إىل جذع العرعارة ،كانت علياء حتمل
يصورا بشكل جيّد ،إذ كاان ايضا وعليًّا أبن ّقصبةً وختطب فيهم ،آمرةً ر ً
يستخدمان قارورتني يف هيئة كامرتني.
ـ ماذا تفعلون؟
السطح» (.)5نصور حلقة من «انس ّ ـ ّ
ـ وملاذا ربطتم موموح ابحلبال؟
ـ اباب ..حنن منثّل فقط ،موموح هنا هو الرئيس بوتفليقة.
63
يدان لثالث بنات
ـــــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــــ
مدج ًجــا بوصــااي
ـت ،بكــرةً ،رفقــة خ ـرايف إىل املرعــىّ ، ـت أغــادر البيـ َ كنـ ُ
ِ
ـتد احلـّـر /حــذار مــن ِ
أيب :حــذار مــن الذئــب /حــذار مــن العــودة قبــل أن يشـ َّ
ِ
ـت أطلــق علــى ِّ
كل رد اخلـراف .وكنـ ُ الرعــاة /حــذا ِر مــن اســتعمال احلجــر يف ّ
ـت أمتـ ّـى أ ْن لــو كان يل .كان أشــقاها ّ ٍ
واحــد منهــا ،امسًــا مــن األمســاء الــي كنـ ُ
هشــمـروف «ســعد» ،رميتــه ،ذات رمضــان ،حبج ـ ٍر ّ إزعاجــا اخلـ ُ
أكثرهــا ً و َ
الصغــرةَ فمــات. أســه ّرَ
ٍ
ـعدا
ـروف سـ ً ـت اخلـ َ هنــاك ..كان ّأو ُل اتصــال مباش ـ ٍر يل ابهلل ،إذ وضعـ ُ
ٍ
ـارٍة مــن ال ّدعــاء ،أبن يعـ َ
ـود إىل احليــاة ،فأجنـ َـو ـت يف نوبــة حـ ّ
ق ّدامــي ،واخنرطـ ُ
مــن عقــاب أيب.
ـت
ـاوره ش ـ ّكيكةٌ ،يف أ ّن هللاَ سيســتجيب يل .فقــد كنـ ُ
كان دعــاءً ال تسـ ُ
متأكدا
ً مغمض العينني،
َ كل شــيء ،وكنت أفعل ذلك أمسع أنّه قادر على ِّ
ـعدا مل
أفتحهمــا .لكـ َّـن سـ ً
ط أمامــي ،مبجــرد أن َـعدا ين ـ ّ
مــن أنــي ســأرى سـ ً
انتقامــا
ـذر يل أيب ،عــن رأســي الــي ثقبهــا ً
يعـ ْد إىل غايــة اليــوم ،مثلمــا مل يعتـ ْ
لشــهيده العزيــز.
ـب خاطــري، حــدث أ ّن ج ـ ّدي امليلــود ،عــاد عشــيتَها مــن فرنســا ،فطيّـ َ
ـت أتســاءل: مذايعــا جلبــه معــه ،وإىل غايــة هــذه اللّحظــة ،ال زلـ ُ
أبن أهــداين ً
ـت ســأصري إىل مــا أان عليــه ،مــن االنشــغال ِّ
األديب واإلعالمـ ِّـي ،لــوال هــل كنـ ُ
ذاك املــذايع الكنــز؟
64
عبد الرزاق بوكبّة
إطاللة جنائزية
ـودا جلعلــي ال أنتبــه إىل مــا
كان شــخوص الروايــة يف الســابق ،يبذلــون جهـ ً
ات وأحـ ٍ
ـداث خــارج املكتبــة ،فمــا الــذي حصــل هلــم اليــوم، يــدور مــن أصـو ٍ
ـرف هلــم
الشــرفة ،ألعـ َ ـرب إطاللــة مــن ّ
حــى طلب ـوا مـ ّـي أبنفســهم أن أضـ َ
ـبب صيــاح األطفــال والنســاء املعجــون بصيــاح ســيّارة اإلســعاف؟ سـ َ
ـ علياء ..ماذا صار؟
ننتبه إىل أن بوتفليقة اختنق ابحلبال ..اباب ..أقصد موموح.
ـ مل ْ
ـــــــــــ
65
يدان لثالث بنات
الغمّيضة
الصبــااي،
الغميضــة .جتمــع خنبـةً مــن ّتدهشــي براعـةُ عليــاء يف تنظيــم لعبــة ّ
ـردد معهــن أغني ـةً خليطًــا
فرضــا ،وتـ ّ
نفســه ً مــا عــدا «رايض» فهــو يفــرض َ
مــن الفصحــى والدارجــة« :عنــدي قطّــة /يف احلديقــة /امسهــا شـربق دربــق/
ديقــودا /مــن يعيــد امسهــا /خيــرج مــن اللّعبــة» .ابملـوازاة مــع انتقــال يدهــا مــن
صــد ٍر إىل صــد ٍر ،لتكــو َن صاحبــة الصــدر الــذي تقــع عليــه ُ
يدهــا مــع الكلمــة
األخــرة ،هــي مــن تغمــض عينيهــا.
أقصد ذكاءَ
هنا تبدأ التقنية ،اليت أستفيد منها يف كتابة رواييت اجلديدةُ .
علياء يف توجيه «رعاايها» إىل املخابئ اليت يصعب اكتشافُها ،بناءً على
ِ
مغمضة العينني. معرفتها الدقيقة بقدرات الصّبيّ ِة
إشارات سياسية
مــا مل تتلـ َـق عليــاء معارض ـةً شرس ـةً ،هت ـ ّدد بنســف اللعبــة ابالنسـ ِ
ـحاب ُ
اجلماعـ ِّـي منهــا ،فإهنــا حتتكــر إدارةَ اللّعبــة حــى وإن كانــت مريض ـةً.
ـرب أو الصعــود إىل البيــت ،لتشـ َ ـعرت ابلتعــب أو احلاجــة إىل ّ إذا شـ ْ
ـدث ِ
ـتخلف أختَهــا جنمــة .يف املقابــل ،مل حيـ ْ
فإنــا تسـ ُ ـضّ ، أتكل أو تـَتَ َم ْر َحـ َ
َ
ٍ
ـت جنمــة إىل حركــة ضــد شــقيقتها أبـ ًـدا ،إال تلوحيًــا بذلــك ،حــى أن ّ ْ
ـ انضم
ـتمر امتيازا ُتــا.تسـ ّ
خاصــة ذوات الـ ّـروح املعارضــة، إذا كان هلــا موقــف ّســيء مــن إحداهـ ّـنّ ،
انطباعــا أبهنــا
ً ـف سـر ًيعا ،وتعطـ َـي
توجههــا إىل خمبــئ يســر ،حــى تُكتشـ َ فإنــا ّ
ّ
ٍ
غــرُ جديــرة إبدارة اللعبــة.
66
عبد الرزاق بوكبّة
متــأ جيبيهــا ابحللــوى ،لتمــأ أفو ًاهــا حت ِّددهــا بعنايـ ٍـة ،إذ تذهــب احللــوى
ـارض قابــل للســكوت ،أو ف ـ ٍم مسـ ٍ
ـاند قابـ ٍـل للمعارضــة .وحــى إىل ف ـ ٍم معـ ٍ
ّ
انطباعــا أب ّن العطــااي ختضــع للمعيــا ِر اإلنسـ ِ
ـاينّ ال غــر ،فإهنــا متنــح ً تعطـ َـي
احلبّــة األوىل للفــى «مومــوح» الــذي متنعــه إعاقتُــه مــن املشــاركة يف اللّعبــة.
ــــــــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــــــ
ـات ،مــن
الراعيـ ُ
ـائدا يف مراعــي «أوالد جحيــش» ،أنِ ُتضـ َـر ّ كان سـ ً
بيوهتـ ّـن ،دقي ًقــا ومسنًــا وتوابـ َـل ،إلعــداد الغــداء يف ق ـ ْد ٍر كبــرة حتــت شــجرة
أحدهــم ،الختطــاف خــروف ـول أحـ ُـد الرعــاة مغافلــة ِ اخلـ ّـروب .علــى أن يتـ ّ
ّ
وضمــه للوليمــة بعــد أن يذحبَــه. مــن قطيعــهّ ،
ملزمــا ،إذا واجهــوه خبروفــه
الراعـ َـي الضحي ـةَ يصبــح ً أيضــا ،أ ّن ّ
ـائد ً السـ ُ
و ّ
مذبوحــا ،مبباركــة األمــر والعمــل علــى نســفه وســلخه وتقطيعــه وإيصالــه ً
الراعيــات ،ألنــه فشــل يف محايــة
ّ اءاتز ـتهـ س اب ـاـق
ًمرفو ـرة، ـ ج الطن إىل ـهبنفسـ
قطيعــه.
ـرت خمب ـأً ال
الغميضــة ،فاخـ ُ
ـب ّ الرعــاة إىل أن نلعـ َ مــرًة ،دعــاين زمالئــي ّ
للســطو علــى أمســن خـرايف.
خيطــر علــى عــن أو ابل ،ممـّـا أعطاهــم وقتًــا مرحيًــا ّ
ـزم ِ ِ أحتمـ ْـل َّ
ـت فيهــا أن ألتـ َ
أن أيب ظهــر يف اللحظــة نفســها ،الــي رفضـ ُ مل ّ
درســا أمثـ َـن مــن اخلــروف :نس ـ َفهُ وســلخ جلـ َـده ِ
بقانــون اللّعبــة ،فأعطــاين ً
السماءَ بطلقتني.وشج ّ وقطّعه وأوصله بنفسه إىل الطنجرة ،مثّ رفع بندقيته َّ
الراعيــات ،هــذه املـ ّـرة ،بديـ ًـا لالســتهزاء.
فكانــت زغاريـ ُـد ّ
67
يدان لثالث بنات
دوخة ال ّذئب
ـب
الغميضــة ،بعــد اإلفطــار ،وأصحـِ َ
ـرك البنتــن يف غمــرة ّ مــن عــاديت أن أتـ َ
الصح ـراوي ،ألجلــب شــايَهُ ومكس ـراته.
الصغــرةَ مــرمي ،إىل حانــوت الفــى ّ ّ
ِ ِ
ـدت العيــو َن مس ـلّطةً زوماتــا علــى «جثــة» الفــى ـ جفو ـة، ـ حالبار ـدت
ُ عـ ُ
رايض.
ـ علياء ..ماذا صار؟
فقمت بتوجيهه إىل
ُ الغميضة،
يلعب معنا ّ
أصر على أن َ ـ ابابّ ..
االختباء يف القمامة.
68
عبد الرزاق بوكبّة
ابتسامات بيضاء
أمــادو القــادم مــن منطقــة «ســيغو» املاليــة ،تسـ ُـع ســنوات ،واح ـ ٌد مــن
أنفســهم يف القطــار الرابــط بــن اجلزائــر العاصمــة األطفــال الذيــن فرض ـوا َ
ابت مــن دواعــي امللــل ،أال جنـ َـده فيــه.
ومدينــة الثنيــة ،حــى َ
الشــخص الــذي يظهــر لــه أنــه لــن إنـّـه براغمــايت جـ ًـدا ،فــا يطيــل مــع ّ
ٍ
يعطيَــه شــيئًا ،وحيــرص علــى أن يقابـ َـل «خبلَــه» اببتســامات غزيــرة ،فقــد
فيُعطيــه يف املـ ّـرات القادمــات .عكــس بعــض أترابــه الذيــن يُســيئون التصـ ّـر َ
ابت
ـتعداد أحدهــم للعطــاءَ ، ـان ،كمــا أنـّـه يســتغل اسـ َيف هــذه احلــاالت أحيـ ً
يعــرف ذلــك مــن خــال ق ـراءة املالمــح وردود األفعــال ،فيعمـ َـد إىل إغراقــه
للســخاء.
ابل ّدعــاء والعبــارات الدينيــة املثــرة ّ
ـمح لــه ابالطــاع علــى األلعــاب، أكثـ ُـر مــا يُســعد طفلنــا األمســر ،أن تسـ َ
الــي يتوفّــر عليهــا هات ُفــك ال ّذكــي .حينهــا يســهو عــن صحنــه وعــن جيبيــه،
الضحــك لنفســه احملرومــة مــن املدرســة والتلفــزة ويغــرق يف إنتــاج االبتســام و ّ
والتكنولوجيــا ،ومــن سـ ٍ
ـقف أيويــه وأسـرتَه يف وطـ ٍن آمــن.
ـــــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــــ
ـت منتســبًا مــا بــن ســنيت 1990و ،1993إىل النظــام الداخلــي يف كنـ ُ
الســبت إىل منتصــف اخلميــس، املتوســطة مــن ّ
مدينــة بــرج بوعريريــج .أمكــث يف ّ
جري إىل احملطّة البعيدة ،حيث ال توجد إال حافلة يتيمة تربط املدينة مث أغادر ً
أبوالد جحيــش .وإن حــدث أن فاتتــي ،فســأبقى عرضـةً للتشـّـرد ،يف عـِّـز غليــان
الشــارع مبسـرات جبهــة اإلنقــاذ ،وهــذا الــذي وقــع يل ذات مخيــس.
ّ
69
يدان لثالث بنات
70
عبد الرزاق بوكبّة
حديث األرنوب
مل يكـ ْـن مــن عــادة الفــى املنــادي علــى اخلبــز اليابــس ،أن يتجـ ّـرأَ علــى
ـب اليــوم علــى ِ
ال ّدخــول إىل العمــارة والطبطبــة علــى األب ـواب ،لكنّــه طبطـ َ
ابيب.
أهل وليدي. ـ ً
عمو.صحيت ّ ـ ّ
ـ دقيقة ..كاش ما نلقالك خبز.
عمو ..أان جبت هدية لبناتك اللي راحو معااي ذيك النّهار. ـ ال ..ال ّ
ذكرمهــا حــى مــأات فـ َـم البــاب ،وراحتــا تســأالنه عــن أرانبــه وخرافــه
ومــا أن َ
ودجاجاتــه وديكتــه وقططــه وكالبــه .أخــرج هلمــا أرنبًــا مــن الق ّفــة ،فدخلتــا
الزغــردة. ٍ
يف نوبــة مــن ّ
ـــــــــ
فالش ابك
ـــــــــ
ـت اســتقاليت مــن املكتبــة الوطنيــة اجلزائريــة هنايــة ،2004والتحقــت ق ّدمـ ُ
ـتقيل ِ
ت ابلتوظيــف يف التلفزيــون ،شٍـريطة ٍأن أسـ َ ابإلذاعــة اجلزائريــة ،مث ُوعـ ْد ُ
ـرد مآمــرة علميــة ،حلرمــاين ـف َّ
أن األمـ َـر جمـ ُ ـتقلت .ألكتشـ َ
مــن اإلذاعــة ،فاسـ ُ
من التّوظيف يف اإلذاعة .فعدت إىل بداايت التحاقي ابلعاصمة يوم 30
جـوان ،2002حيــث ال ســقف وال لقمــة وال راتبًــا.
خترجــه ،حــن التقيــت الفــى غيــاس ،الــذي كنــت ســاعدته يف مذكــرة ّ
ٍ
ـت مستشـ ًـارا يف املكتبــة الوطنيــة ،فعــرض علـ ّـي أن أقيـ َـم يف بنايــة ُي ّهزهــا كنـ ُ
ـكلأبــوه يف حومــة األقبيــة الثالثــة بضاحيــة احلـّـراش .ومل تكـ ْـن البنايــة إال هيـ ً
اب وال نوافـ َذ ،وتتحـ ّـول ،بعــد املغــرب ،إىل حمشاشـ ٍـة لشــباب احلومــة. بــا أبـو ٍ
71
يدان لثالث بنات
الشــباب، ـكاايت ّ
ـرا يف اجلــدار ،كانــت تصلــي منــه حـ ُ ـت ثقبًــا صغـ ً أحدثـ ُ
ـب مــن وهــو مــن العتبــات األوىل الــي برجمتــي علــى الكتابــة الســردية ،بطلـ ٍ
ّ ٍ نفســها .بعــد ثالثــة ٍ القصيــدة ِ
ـدت أرنبًــا
ـوت فوجـ ُ أايم جائعــة بلياليهــا ،صحـ ُ
ـت بــه فأعطيتــه الضــوء الــي أحدثهــا الثقــب .استأنسـ ُ انئمــا يف دائــرة ّ ـرا ً صغـ ً
ـب واألمــان. املــاءَ والعشـ َ
ـاعات ،بــدأ األرنــوب يتحـ ّـول يف خمّــي مــن صديـ ٍـق إىل وجبــة. بعــد سـ ٍ
ـت منــه خنجـًـراّ /ادعيــت ـاب املقابـ َـل /خــرج إيل الفــى بــدرو /طلبـ ُ ـت البـ َ طرقـ ُ
ـكت
أيضــا /أمسـ ُ ملحــا ً ـب ً ـيت ٍأن أطلـ َ أنـّـي أحتاجــه لتقشــر البطاطــا /نسـ ُ
اجع عن قرار ذحبه/ انطلقت إىل األرنب بســرعة ،حىت ال أتر َ ُ بقوٍة/
اخلنجر َّ
الضــوء /خطفتــه خط ًفــا /ذحبتــه ذحبًــا /بقــي رأســه ّ ـرة ـ ئ دا يف ـا ـ
وجدتـ ً
قغار ـه
ـت يف نوبــة الضــوء /اخنرطـ ُ ـرعت جثتــه تتخبّــط يف دائــرة الـ ّدم و ّ يف يــدي /شـ ْ
ـب، ٍ
ـلخت األرنـ َ
انرا /سـ ُ ـعلت ً ـاس اإلمسنــت /أشـ ُ ـت أكيـ َ بــكاء عميقــة /مجعـ ُ
ـت أشــويه بدمعــي. ورحـ ُ
ـكوك الفــى بــدرو ،فنــادي ـاري ابخلنجــر ،شـ َ أاثرت عــوديت ،إىل البنايــة ،جـ ً ْ
أحدهــم،ُ َ ـت ـ حب ذ ـي ـ
ّن أ ـن
ـ ي معتقد ـة،ـ ي البنا ـي
ّ ـ ل ع ا
و ـ م اقتحو ـة.ـ ماحلو ـانـ ي علــى فت
متامــا يف املــكان الــذي تعـ ّـودوا علــى فوقف ـوا علــى مشــهد األرنــب املغــدورً ،
أن يســهروا فيــه.
سن
إفطار ّ
جتتهــد ُّأم عليــاء يف أن تعـ َّـد وجبـةَ اإلفطــار ،ســاعةً قبــل األذان ،حــى ال
ـت ابملطبــخ .ومل
املفضــل .أوشــك علــى أن يــؤذن ،فالتحقـ ْ يفوتــا مسلسـلُها ّ َ
رب؟
ّ اي ـاق
ـ ب األط ـةـبقي
ّ ـنـ ي أ ـن.
ـ ل
َ ّال
و ـرـ م الت إال جتـ ْد
لــو كان األرنــوب مــن النّاطقــن ،الختصــر علينــا احلــرةَ ،وأخــران َّ
أبن
الشــرفة. ٍ
كل شــيء إىل ّ عليــاء وجنمــة ،أحض ـرات لــه َّ
72
عبد الرزاق بوكبّة
اخلتان
أقربــم إليهــا ،رغــم بعــد املســافة ،وليــد
أصغرهــم و ُ
لعليــاء ثالث ـةُ أخ ـوالُ ،
الــذي ســبقته إىل احليــاة بعــام .بلغهــا خــرُ ختانــه مبناســبة ليلــة القــدر ،فبكتــه
شــفقةً عليــه.
ـ ج ّديت ..ملاذا خيتّنون األطفال؟
ـ حىت ال ميرضوا ويكربوا بسرعة.
صغرون مثل حبّة بلّوط.
ً فهمت ملاذا بقي جاران علي،
ُ ـ اآلن
قلــت يف نفســي :عليــك أن تشــعري ابالمتنــان ،أل ّن اجلزائــر ليســت
ضمــن اجملتمعــات الــي ختـ ّـن البنــات ،وإال كنــت اآلن طرحيــة الف ـراش
والفراشــة مثــل وليــد.
ـــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــ
فرحــا يب ،بــل أتجيلَــه مل يثمـ ْـر كــوين وحيـ َـد ّأمــي وأيب ،التعجيـ َـل خبتــاين ً
الســنة الثّامنــة ،شــفقةً علــي .إذ كنــت أتعلّــق حبضــن ّأمــي ،كلمــا ذكــروا إىل ّ
ِ
الصــارم للج ـ ّد ،المتـ َّـد
عامــا إضافيًــا .ولــوال التدخــل ّ
يل ذلــك ،فيمنحونــي ً
التأجيـ ُـل إىل أعـوام أخــرى ،ووجــد ســي علــي ختــان «أوالد جحيــش» ومــا
نفســه مضطـ ًّـرا إىل اســتعمال الفــأس عــوض املقــص. جاورهــم مــن قــرىَ ،
ـام العــرب واألخ ـو ُال األمازيــغ،الشــهباء ،وجــاء األعمـ ُجــاء علــى بغلتــه ّ
وغمــوين ابألهازيــج والبــارود وال ّدراهــم والدع ـوات .نبّهــي ســي علــي إىل ّ
73
يدان لثالث بنات
مقص الفراشة
ّ
متعس ـ ًفا يف تعاملــي
ـت ّ ـفت كــوين كنـ ُ احلـ َـق ..احلـ َّـق أقــول إنـّـي اكتشـ ُ
مــع شــخوص روايــي اجلديــدة ،برغبــي يف أن أكتبَهــم كمــا أريــد ،وهــو مــا
ـان خلصوصياهتــم ،فراح ـوا يتمــردون علــي ،ويؤجلــون ِ
بوحاتــم اعتــروه ختـ ً
ّ
كل واحـ ٍـد منهــم علــى مــا هــو عليــه،
يل .تصاحلنــا ..واتفقنــا علــى أن يبقــى ُّ
وليذهــب النّاشــر والقــارئ إىل جحيــم أتويالتــه.
ومزقنــا أوراقًــا ،وإذا
أقالمــا ّ
أقمنــا حفل ـةً صارخ ـةً يف املكتبــة ،كس ـران فيهــا ً
منظرهــا مرعوبـةً ،وهــي
ـتوعب َ
ميزقنــا مــن أســفل احلومــة .مل أسـ ْ
بصـراخ عليــاء ّ
ِ
ألم علــي ،وهــي تعنّفــه علــى أنــه
دمــا .ومل أجــد مــا أقــول ّ
مقصــا يقطــر ً
حتمــل ًّ
ـلم فخذيــه بســهولة.
أسـ َ
74
عبد الرزاق بوكبّة
هسترييا
ـمت لــه ،مث تواصــل
ـك عليــاء وجنمــة ،وأان يف املكتبــة ،فابتسـ ُ وصلــي ضحـ ُ
ـت ألســتطلع أمـَـره، ٍ
ـتمر ســاعتني ،فخرجـ ُ ـت منــه .اسـ ّـف ســاعة ،فانزعجـ ُنصـ َ
إذ مل تضحــكا هبــذا االرتفــاع واالســتمرار منــذ أن ُولــدات.
ـت أن تك ّفــا عــن ذلــك برؤيــي ،فمــا زادهتمــا إال ضحـ ًكا .ســألتهما
توقعـ ُ
الســبب ،فــكادات أن ختتنقــا ضح ـ ًكا ،وكادت ّأمهمــا وج ّدهتمــا أن عــن ّ
ختتنقــا خوفًــا عليهمــا .واش راه صــاري مــع الــذراري؟
ـــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــــ
ـائدا أن «أوالد جحيــش» ،خيرجــون يف شــهر ســبتمرب إىل الغابــة كان سـ ً
ـاد ذكـ ٍر
ـب إجيـ ُ
ـتعدادا لشــتاء ال يرحــم ،حــى أنـّـه كان يصعـ ُ
لالحتطــاب ،اسـ ً
ط فيهــاتتبس ـ ُ
ابل ـ ٍغ يف حــوش مــن األح ـواش .وهــي الفرصــة الثّمينــة ،الــي ّ
املتعســفة.
الصبــااي ،بعيـ ًـدا عــن املراقَبــات ّ
النّســاءُ و ّ
ـكل
الشــبيهةَ ببــذور اللفــت شـ ً
ـذور «بورجـوان» ّمــن ذلــك ّأنــن يضعــن بـ َ
نوبة هسترييةٍوحجما ،يف احلساء ،ومن خصائصها أن تُدخل حمتسيها يف ٍ
الضحــك ،ال تتوقــف إال بعــد سـ ٍ ً
ـاعات طويلــة. مــن ّ
ـت النّســوة بورج ـوان،ـال القريــة إىل الغابــة فجــرا ،فجلبـ ِ
مــرًة ،خــرج رجـ ُ
ً
حد البكاء. ابلضحك َّالتعة ّ عن ،فاشتعلت ّ وأضفنه إىل املرق الذي ُمنع ّ
تقع ذاببة على جبني إحداهن ،أو
كن يضحكن ألتفه األسباب ،كأن َ
َّ
75
يدان لثالث بنات
ـول اجلـ ّدة ضاحكـةً« :توقفــن ـب أو يُعب ـَّـر طفـ ٌـل عــن عطشــه ،أو تقـ َ
ينبـ َـح كلـ ٌ
ـت إىل الثنيّــة الــي يطلــع
الشــمس إىل املغيــب ،فملـ ُ
الضحــك» .مالــت ّ عــن ّ
ـت مــن النّســاء ـت ورأيـ ُ
أبشـ َـرهم مبــا مسعـ ُ
منهــا احلطّابــة علــى بغاهلــم ،حــى ّ
الضاحــكات .كانــت إحــدى جتــاريب األوىل يف ممارســة وســخ القـوادة. ّ
ـال.. الشــمس أم علــى األرض ،ظـ ً ـن هــل كانــت البغــال متشــي يف ّ مل أتبـ ّ ْ
ـأت خــري اللّعــن .ومل أتوقّـ ْـع أن يــرك ـال ،فجريــت إىل القافلــة وتقيّـ ُ ظـ ً
ـدان قاســيةً،
ـال بغا َلــم للطريــق ،ويعمــدوا إىل األشــجار ليسـلّوا منهــا عيـ ً الرجـ ُ
ّ
الضحــك. ّ و ـة
ـ خو د
ّ ال يف ـارق
َ ـ غ ال ـوش
َ ـ حل ا ـن
ـ ي قاصد ـم، ـ ه ألرجل ـحـ
ّ َ يِ
الر ا
و ـتعري ـ س وي
ـدان علــى األجســاد الضاحكــة .مل أتوقّـ ْـع أن ـرك العيــدا ُن عيـ ً
مل أتوقّـ ْـع أن تـ َ
كل رجـ ٍـل زوجتَــه إىل بيــت أبيهــا ،اترًكا َ
صغارهــا ينافســون اجل ـراءَ يف أيخ ـ َذ ُّ
النّبــاح.
انتقام الكبار
ـك يف أ ّن البنتــن ختطّتــا عفريتًــا ،وال بـ ّد مــن عرضهمــا
قالــت ّأمــي :ال شـ َّ
الراقــي «شــن» .قالــت ُّأم عليــاء :مــاذا لــو بقيتــا علــى ضحكهمــا علــى ّ
الصغــرة
هــذا؟ أال ختشــى عليهمــا املــوت؟ خذمهــا إىل الطبيــب .فيمــا قالــت ّ
ـاب.
ـرس ،ففتــح البـ ُ
رن اجلـ ُ مــرمي :اباب ..تغفشــوحححححوججغ بــغَّ .
كل هذا االضطراب اي َّأم موموح؟ ـ ملاذا ُّ
ـ أخــرين ولــدي مومــوح ،أبنـّـه انتقــم مــن عليــاء وجنمــة ،علــى ربطهمــا لــه
اص الــي يســتعملها يف هتدئــة أعصابــه.ابحلبــال ،أبن أعطامهــا األق ـر َ
76
عبد الرزاق بوكبّة
زكاة الفطر
ات ،يطلــن زكاةَ الفطــر .وهــو مــا
ايت كثـر ٌ
ايت وجزائـر ٌ
ـت اببَنــا ســور ٌ
طرقـ ْ
ـول عليــاء وجنمــة:
أاثر فضـ َ
ـ اباب ..ما معىن زكاة الفطر؟
يوما قبل العيد ،حىت يفرحوا مثلنا ـ صدقة نعطيها للفقراء ،يومني أو ً
فيه.
كل الفقراء؟
ـ نعطي َّ
ـ األفضــل أن نعطيَهــا لفق ـ ٍر واحـ ٍـد ،يكــون قريبًــا منّــا ،مثــل خالــي «م»
منظّفــة العمــارة .هــل رأيتمــا يديهــا اللتــن تشــققتا مــن اجلافيــل ،ورجليهــا
اللتــن ش ـ ّققهما احلــذاء املطاطــي؟
ــــــــــ
فالش ابك
ــــــــــ
ـتحق زكاة الفطــر ،فخذهــا إىل قــال يل جـ ّدي« :ليــس يف حوشــنا مــن يسـ ّ
فــان يف احلــوش الفــاين» .وأمــر أبن يُعـ ّدوا يل البغلـةَ الشــهباء.
األرض
َ بعيدا مسافةَ ساعتني ،وكانت البغلة تنهب احلوش الفالينُّ ً
ُ كان
ـت عنهــا ٍ
ـت ســرعتَها ،يف بقعــة ال يـراان فيهــا إال هللا .نزلـ ُ هنبًــا ،مث فجــأ ًة كبحـ ُ
الســنابل الشــهيّات.
مرغوبــا مــن ّ
وتركتهــا تنــال َ
ملــاذا تعطــي ال ّدراهـ َـم لرجـ ٍـل ميلــك ماعـًـزا وغنمــات؟ ألسـ َ
ـت أوىل هبــا منــه،
أنــت الــذي تلبــس صبّاطًــا مطاطيًــا وســرو ًال مرقـًّعــا؟ ُد َّســها يف جيبــك واشـرِ
77
يدان لثالث بنات
ـت
هبــا مــن ســوق اإلثنــن ،مــا يســر مؤخرتَــك ورجليــك ،وقــل إنـّـك ّأديـ َ
أي اي عزيــزي؟رب؟ هــل توافقــي ال ـر َ األمان ـةَ إىل أهلهــا .أليــس كذلــك اي ّ
أعلم أنك تراين وتســمعين ،وهو ما جيعلين ال آكل وال أشــرب يف رمضان،
رب أشــتهي ســرو َال جينــز وصبّــا َط جلــد ،وأريــد أن رغــم أنـّـي وحــدي .اي ّ
ـور فوقــي،
ـت تســمح يل بذلــك ،ف ْليَ ُمـَّـر عصفـ ٌ أحتفـ َظ هبــذه ال ّدراهــم ،فــإن كنـ َ
ـرب كامــل. وإال ســأواصل طريقــي إىل احلــوش الفــاين .مـ َّـر سـ ٌ
الصغــر يف جامــع العــرش ،وعــاد علــى البغلــة ّأدى اجلـ ُّـد صــاةَ العيــد ّ
ِ
الصغــار مث النّســاء. نفســها .فاصط ّفــت العائل ـةُ كلُّهــا ملعايدتــه ،الكبــار مث ّ
إيل مــن غــر أن ينظــر انحيــي ،وهــو مــا فهمــه ّإلي فقــد اكتفــى مب ـ ّد يــده ّ
اجلميـ ُـع غضبًــا منــه علــي ،وراح ـوا يتهامســون داعــن هللا أن يكــو َن األمـ ُـر
يذكرهــا هلــم ،وعقــايب أنـت جرميــة تقتضــي العقــاب ،مل ْ ـرا .قــال إنـّـي ارتكبـ ُ
خـ ً
الشــمس إىل مغرهبــا.
أرعــى القطيـ َـع طيلــة يومــي العيــد ،مــن مطلــع ّ
ـت
ـت أشــعر حــى هــذه اللحظــة ،حب ـرارة أنفاســه يف أذين :التقيـ ُ الزلـ ُ
صاحبَنــا يف صــاة العيــد ،وأنكــر أنــه اســتلم منــك درمهًــا واحـ ًـدا.
صدقة راكدة
ـدت مــن مكتــب الربيــد مكتظًّــا ابلغيــض ،ألنــي مل أجــد درمهــا واحـ ًـدا قــد
عـ ُ
أايم ،كســوَة العيــد للجميــع. يت ،قبــل ٍ دخــل حســايب ،والعـزاء يف أنــي اشـر ُ
ووجههــا ابلفرحــات. طافحــا ُـت اخلالـةَ «م» عنــد مدخــل العمــارةً ، التقيـ ُ
ـ ها خاليت «م» ..فرحينا معاك.
ويبعد الشر عليهم. ـ هللا يسرت علياء وجنمة ،ويهنّيهم وحيفظهم وخيلّيهم ّ
فمك لريب ..واش عملولك؟ ـ آمني ..من ّ
ـ راك تشوف هاذ اخلري؟ هوما اللي جابوهلي.
الكيس الذي حيوي كسوَة العيد.
َ كان
78
عبد الرزاق بوكبّة
املتط ّرف
اضــه إىلالشــرفة ،بينمــا كان جــاري «ي» ينقــل أغر َ ـت أشـ ّـم اهلـواءَ يف ّ كنـ ُ
ٍ
الشــاحنة ،لينتقـ َـل إىل حومــة أخــرى ،فلــم يبـ َـق لــه وجــهٌ يُقابــل بــه خلـ َـق هللا ّ
السـؤال :مل يكــن ّ ـذا ـ ه ـزين
ـ غ ن ة
ً ـأ
ـ ج وف ، ٍ
ـلـعَ ـن
ـ م ـهدـ ش امل ـة
ـ ع مبتاب يت
ُ ّل ـ س ت ـا.
هنـ
ـش أطفالــه بدونــه؟ التلفزيــون مــن بــن األاثث ،فكيــف يســتطيع أن يعيـ َ
أصل احلكاية
ـاع عاجـ ٍـل يف صالــون البيــت ،وهـ ّددت مــن
دعتنــا اآلنســة عليــاء إىل اجتمـ ٍ
يتغيّــب أبال حتادثَــه أبـ ًـدا« ،األمــر يتعلّــق مبســتقبلي أان وجنمــة ،وال داعــي
للتّســاهل» .قالــت.
ألحد منكم أبن يناديينفصاعدا ،ال أمسح ٍ شوفوا اي عباد هللا ،من اآلن
ً
«عليــاء» ،أو ينــادي أخــي «جنمــة»ّ .إنمــا امســان غريبــان عــن املســلمني،
وقــد صــار امســاان «خدجيــة» و»عائشــة» ،ونســمح ملــرمي ابإلبقــاء علــى
امسهــا .داكــور؟
ـ داكور خدجية ..لكن ملاذا هذا؟
ـ جــاران «ي» ،أعطــاان احللــوى وأفهمنــا أنّنــا حنمــل امســن ليســا مســلِ َمني،
ـال رضــا هللا وندخـ َـلـرض امسينــا اجلديديــن ،حــى ننـ َ وطلــب منّــا أن نفـ َ
اجلنّــة ..اباب ..أال تريــدان أن ندخـ َـل اجلنّــة؟
قلــت يف نفســي :ليــس قبــل أن أُدخـ َـل «ي» انري .مث أقنعتهمــا أبنـّـه
تدخــل يف مــا ال يعنيــه ،وأب ّن امسيهمــا رائعــان ،وليســا غريبــن عــن أمســاء
املســلمني.
79
يدان لثالث بنات
ــــــــــ
فالش ابك
ـــــــــ
أديب يف وادي ســوف عــام ـدت إىل غرفــي اجلامعيــة ،مــن ملتقـ ًـى ٍّ عـ ُ
ع صبّاطــي .ومل أنتبـ ْـه إىل أ ّن يف الغرفــةـت مــن غــر أن أنــز َ ،1998فنمـ ُ
ضي ًفــا هــو صديــق لشـريكي فيهــا .أخذتــي عيــي فأيقظــي لصــاة العشــاء.
ـدمي مــع املغــرب ،يف مســجد احلــي .منــت قليـ ًـا ـت إنـّـي صلّيتهــا مجـ َـع تقـ ٍ
قلـ ُ
ـكل اآلايت واألحاديــث املر ّغبــة يف ـام الليــل ،وأمطــرين بـ ِّ
فأيقظــي ألشــارَكه قيـ َ
ـول لــه :أان مســيحي مــن لبنــان، ذلــك ،فحملــي غضــي وتعــي علــى أن أقـ َ
ملزمــا بصالتــك ..داكــور؟ ـت ً ولسـ ُ
ـتوعب مســيحييت ،فخــرج خمنوقًــا ،مثّ عــاد بعــد ربــع ســاعة ،وأيقظــي
مل يسـ ْ
ـفق عليــك مــن انر هللا ،فقـ ْـم ألح ّدثــك عــن اإلســام ،لعلــك اثلث ـةً« :أشـ ُ
تعصــم دمــك» .أخافتــي الكلمــة األخــرة ،إذ مــن يدريــي أنـّـه علــى صلــةٍ
َ
جبماعـ ٍـة إرهابيــة ،فوجــدت نفســي أعلــن «إســامي» مــن جديــد ،علــى
يديــه ،ب«هلجــي» اللبنانيــة ،وأقضــي ليلــي مصليًــا معــه ،أان املرهــق القــادم
مــن أعمــاق الصح ـراء.
احتجاج رمسي
فورا.
وطلبت منه أن يوافيين يف البيت ً ُ مت جاري «ي»، كلّ ُ
ـ خــواي «ي» .أنــت متلــك ســيّارًة ،وأحتــاج ضــرورًة أن أتخــذين اآلن إىل
قســنطينة.
ـ أفعل إبذن هللا اي جاري.
80
عبد الرزاق بوكبّة
ـ بل قل اي أاب خدجية.
ـت
الســبيل .هــل تــدري أنــك مسيـ َ
ـ احلمــد هلل علــى أن هــداك إىل س ـواء ّ
ابنتَــك جنمــة علــى اســم روايــة للزنديــق كاتــب ايســن؟
الصوم.
فالسفر يُسقط عليك ّ
ـ املهم ..سأحضر لك ما أتكلهّ ،
ـ عائشة ..جييب لعمك الساندويتش.
جملة مف ّخخة
الضحك حامل السندويتش بيمناه ،وهو غارق يف ّ راح يدور يف احلومةً ،
معــا .فيمــا كان الــذراري يتبعونــه ،وهــم يصيحــون ـب املســلمني والكفــار ً ِ
وسـ ّ
ويقذفونــه ابحلصــى :بوحليــة املهبــول ..بوحليــة املهبــول .كانــت عليــاء وجنمــة،
قــد طبّقتــا وصيــي جيّـ ًـدا :ازرعــا الســندويتش ببقــااي األقـراص املهلوســة الــي
أعطاهــا لكمــا مومــوح ،كــي يثــأر مــن أنّكمــا ربطتمــاه ابحلبــال.
81
يدان لثالث بنات
حرج التفّاح
مدخل
«إذا فُطــم الطّفـ ُـل علــى فاكهـ ٍـة معيّنـ ٍـة ،صــارت بديـ ًـا حلليــب ّأمــه ،يف
رب يرمحهــا.عينيــه ،حــى يلقــى حليــب ربـّـه» .ج ـ ّديت مــرمي ّ
[]1
إذا حضــرت فاكهــة ال ّدنيــا كلّهــا ،فســتختار عليــاءُ وجنمــة ومــرمي منهــا
احــا مث طُلــب منهـ ّـن أن أيكلــن شــيئًا آخـَـر ،فســيطلنبالت ّفــاح ،وإذا أكلــن ت ّف ً
أن اتفقــت مــع ّأمهـ ّـن علــى أن ختفيــه عنهـ ّـن إذا اشـريتُه،
أيضــا ،حــى ّـاح ً
الت ّفـ َ
إىل مــا بعــد الغــداء أو العشــاء ،حــى ال يزهــدن فيــه.
فطمتهن على الت ّفاح /قالت.
ّ هذه نتيجة أنّك
نتبضع لرمضان.
ـ هيّا خنرج ّ
ـ دعنا أنكل ت ّف ٍ
احات قبل اخلروج.
ــــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــ
أتخــر ختانـُـك .هــذا مــا حيــدث عــاد ًة
متامــا مثلمــا ّ
أتخــر فطامــي لــكً ،
ّ
82
عبد الرزاق بوكبّة
فضــان إغضــاب األصــول لوحيــد ّأمــه وأبيــه ،ال يطيقــان رؤيتــه ابكيًــا ،فيُ ّ
ـك علــى التـّّفــاح ،ألنـّـه كان الفاكه ـةَ الوحيــدةَ
علــى إغضابــه .وقــد فطمتـ َ
املتاح ـةَ يف حوشــنا صي َفهــا.
ـت
األم تغــار ممـّـن مييــل و ُلدهــا إليهــا؟ وأان كنـ ُ
هــل تــدري اي ولــدي ،أ ّن ّ
وهتزهــا
ـت هتــرع إليهــا ،وحتتضــن جذعهــاّ ، أغــار مــن شــجرة التّفــاح ،ألنـّـك كنـ َ
ٍ
هـ ًّـزا ،فــا تلبــث أن ترمــي لــك حببّــة أو حبّتــن .أتكلهمــا مثّ تنــام حتــت
الســماء.
اجلــذع ،مثــل مــاك نســي جناحيــه يف ّ
مرةً..
ّ
يســا ٍ
زاران التّاجــر عمــر أوعاشــور مــن بــاد زواوة ،علــى بغلــة لــه حتمــل تلّ ً
الضيــوف ،وقــد
مــن الت ّفــاح ،ليبيعــه يف البيــوت .فأنزلــه جـ ّدك امليلــود يف دار ّ
ـس حتــت شــجرتك ،الــي أغــار منهــا.
وضــع التلّيـ َ
الشجرة؟
ليل من حضين إىل حضن ّ
بت ًتسر َ
كيف ّ
احا؟
عرفت أ ّن ما يف التـّلّيس ت ّف ً
كيف َ
كيف قضمتَه حبّةً ..حبّةً ،ورميتَه عل ًفا للنّمل؟
مصدومــا ،أمــام
ً فمــه
ـب الت ّفــاح ،فأمســك َ وج الفجــر صاحـ َ أصحــى فـ ّـر ُ
ـدت هللاَ
الشــتم مــن الغضــب .وقــد محـ ُ ـب و ّ مقضومــا ،مث أطلقــه ابلسـ ّ
ً الت ّفــاح
ـكرت العنــزة علــى ّأنــا
علــى أنـّـه اســتعمل األمازيغيــة ،فلــم يفهمــه أحــد ،وشـ ُ
احــه. ٍ
ـت لــه هبــا ت ّف َ
عوضـ ُ
الســمنّ ،بكميــة مــن ّ
ّزودتــي ّ
83
يدان لثالث بنات
ــــــــــ
كهرابء اللّحظة
ــــــــــ
[]2
ـت أع ـ ّد نفســي للخــروج يف غرفــة النّــوم ،ســبقنين إىل مدخــل بينمــا كنـ ُ
العمــارة ،ومل أنتبــه إىل أ ّن ال ّدافــع إىل ذلــك ،كان نــداءَ ابئــع الت ّفــاح علــى
ســلعته.
كيســا ،وهـ ّـن يُثمــرن ٍ
وأان أنــزل يف س ـلّم العمــارة ،كـ ّـن يصعــدن حامــات ً
فرحــا مــن عيوهنـ ّـن وأفواههـ ّـن :اباب ت ّفــاح ..اباب ت ّفــاح.
ً
حصلنت عليه؟
ّ ـ من أين
عمو.ـ أعطاه لنا ّ
آخر، حباجة إليه لشراء ٍ مل أشأ أن ألومه على أنّه ألزمين مببل ٍغ أان ٍ
غرض َ
فسألته عن املبلغ على طول.
من ،يف رأس رمضان ،على اليتيمات الثّالث. ـ هذه صدقة ّ
ـ ّإن ّن بنايت.
صفقة عقدهتا ـ لقد قلن يل ّإنن يتيمات .مع ذلك ،لن أتراجع عن ٍ
ّ
كميةً ،وتص ّد ْق هبا على يتامى ّ ّ من ِ
رت فاش ا،
مصر
دمت ًّمع هللا .وما َ
حقيقيني.
حممـ ًـا ابألكيــاس، الســوق ّ وأان أصعــد س ـلّم العمــارة ،وقــد عــدت مــن ّ
ـت ورائــي /كانــت خطواهتــا ومالحمُهــا توحــي بشـٍّـرـت امـرأ ًة تناديــي /التفـ ّ
مسعـ ُ
ـت مــا
ـاس /اختصــرت هلــا املســافة احرت ًامــا ،أبن نزلـ ُ ٍ
وشــرر /وضعــت األكيـ َ
بقــي منهــا.
84
عبد الرزاق بوكبّة
85
يدان لثالث بنات
نباح ال ّدمى
[]1
ـال
األول مــن العمــارة ،شــرفة مســدودة .خمافــة أن يصــل األطفـ ُ يف الطابــق ّ
ات ،حكـ ًـرا علــى ال ّدمــى ،الـ ّـي تســقط مــن األعلــى، إليهــا ،فبقيــت ســنو ٍ
ْ
دمــى أخــرى ـن ـ ل
ْ ـ نـ ي ـى ـ ح ـا، ـ ه رمي اتر ـ غ الص ـد ـ تتعم ات ،ومــر ٍ
ات ســهوا مــر ٍ
ََ َ ً ّ ّ ُ َ ّ ً ّ
ـرهن.
مــن أسـ ّ
ـودا عظيم ـةً إلقناعــي ابقتحامهــا .لكنّــي ـت عليــاء وجنمــة جهـ ً وقــد بذلـ ْ
ـباب تُعفيــي مــن األمــر .مــن قبيــل أ ّن جلنــة كل مـ ّـرة ،أختلــق أسـ ً
كنــت ،يف ّ
ـرذان خطــرًة ميكنهــا أن تؤذيــي .غــر احلـ ِّـي ترفــض ذلــك ،أو أ ّن هنــاك جـ ً
الشرفة املمنوعة. حيلة يستحيل ،معها ،أال أقتحم ّ ّأنما تفطّنتا ،اليوم ،إىل ٍ
[]2
ـ أين القصبة اليت فيها ريشيت؟
الشرفة.
ـ سقطت منّا يف ّ
ـــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــ
ـعة ِج ـر ٍاء
حوشــنا ذات ربي ـ ٍع ،يف قريــة أوالد جحيــش ،علــى تسـ ِ أصبــح ُ
ن مطموسـ ٍـة ،علــى أثــداء ّأمهــا احملظوظــة واملنكوبــة يف الوقــت تتداعــى ،أبعـ ٍ
نفســه .أمــا حظّهــا فمــن عـ ٍ
ـادة مجيلـ ٍـة يف القريــة هــي أن تُزيـّـن عينــا الكلبــة ِ
ّ
الوالــدة حديثًــا ابلكحــل ،وأن تُصنــع مــن أجلهــا «شخشــوخة» بزيــت
86
عبد الرزاق بوكبّة
متامــا كمــا كان ـوا يفعلــون مــع النّفســاء مــن النّســاء .ونكبتهــا مــن الزيتــون.
ّ
ّأنــا لــن حتتفـًـظ إال جبــرٍو أو جرويــن ،أمــا البقيــة فيتــم رميهــا يف حفــرٍة عميقــةٍ،
ّ ُ ّ
تتغ ـ ّذى فيهــا علــى نباحهــا حــى متــوت.
الســبعة اآلخريــن ِ
زوجــا ذكـًـرا ،مثّ وضــع ّعايـ ٍـن جـ ّدي اجلـراءَ ،فاختــار منهــا ً
يف ق ّفــة مــن سـ ٍ
ـعف ،وأمــرين أبن أصعــد هبــا إىل احلفــرة .مل حيــدث قبلهــا أو
بعدهــا أن متنّيــت العمــى .حلظتَهــا متنّيتــه ،كمــا متنّيــت أن يطــول يب الطريــق،
مدفوعــا خبــويف مــن أن
ً إىل حيــث ال وصــول إىل احلفــرة .لكنّــي وصلتهــا
ـروا اثمنًــا.
ـردد يف تنفيــذ أمــره ،فأصبــح جـ ً يفهــم اجلـ ُّـد أنـّـي مـ ّ
ـوت يدعــوين إىل اهلــرب ـت علــى شــفة احلفــرة ،فوقــف داخلــي صـ ٌ وقفـ ُ
ابجلـراء إىل حيــث ميكنهــا أن تعيــش ،وكنــت كلّمــا مســحت علــى أفواههــا
إبصبعــي رضعْتــهُ ،وأصــدرت أص ـو ًات أنيني ـةً جتــرح أذن الـ ّـروح.
ابلركــض إىل
هــل أرمــي الق ّفــة دفعـةً واحــدةً ،مثّ أختلّــص مــن هــول اللحظــة ّ
الســقوط؟ لكنّــي ـروا حــى ال تتــأذّى عنــدـروا ..جـ ً
البيــت؟ أم أرمــي اجلـراء جـ ً
كنــت أان ،فنزلــت هبــا إىل احلفــرة ،وهالــي وقوعــي علــى كوّمـ ٍـة مــن عظــامِ
جـر ٍاء ســابقني.
فعل ،أن أبقى هناك .ألشارك صغاري فضلتً ، احلق أقول إنّين ّ
احلقَّ ..َّ
مصريهــم ،علــى أن أواجــه وجــه ج ـ ّدي مـ ّـرًة أخــرى .غــر أنـّـه صدمــي أبن َ
متامــا كمــا صدمــي ســقو ُط اجلـراء
ً ـا،
ـ هب ثّـب
ـ ش أت أبن ـرين
ـ م أ
و إيل، ـاه
ـ ص ع مـ َّـد
ٍ مــن حضــي ،يف ظــام احلفــرة .وأان أصعــد إىل مشـ ٍ
ـس غارقــة يف االمحـرار.
ـــــــــــــ
كهرابء اللّحظة
ـــــــــــــ
87
يدان لثالث بنات
[]3
الشــرفة ،فواجهتــي
ـؤدي إىل ّ
ـت ثقبًــا يف اجلــدار املـ ّ
فأســا وأحدثـ ُ
ـرت ً
تدبـّ ُ
ٍ ٍ ٍ
دمى مرمية فيها ،اببتســامات معجونة ابل ّدموع .دموعها أم دموعي، ـبع ً
سـ ُ
الســبعة ،يف احلفــرة املظلمــة؟
وقــد تذ ّكــرت اجلـراء ّ
[]4
التقطتُهــا دمع ـةً ..دمع ـةً ،أقصــد دمي ـةً ..دمي ـةً /ضممتُهــا إىل صــدري/
أســلمت إىل اجلــدار ظهــري /ورحــت ِ
أع ُدهــا أبال أتركهــا تتســاقط مــن ُ ُ
حضــي هــذه املـ ّـرة.
[]5
من ثقب اجلدار ،كانت القصبة اليت تعلوها ريشيت ،تظهر ُرَويْ َد ًةُ ..رَويْ َد ًة.
[]6
إيل
ـرت عصــا جـ ّدي ،وهــي هتــوي ّ مــع غرقــي يف اللّحظــة املســتعادة ،تذ ّكـ ُ
الشــرفة علــي.
ـدت أنـّـه ســيقتحم ّ يف حفــرة اجلـراء ،فاعتقـ ُ
[]7
ـت خمطوفًــا مــن غــر االســتعانة بيـ ٍـد أو اثنتــن ،فتســاقطت ال ّدمــى مــن
قمـ ُ
متامــا.
حضــي ،عكــس مــا وعد ُتــا بــه ً
[]8
فوجدت علياء وجنمة مكان ج ّدي.
ُ قذفت برأسي إىل ما وراء الثّقبة،
ُ
88
عبد الرزاق بوكبّة
خارج التحقيق
[]1
قــد تتســامح ّأم عليــاء مــع مــن يســطو علــى طعامهــا ،لكنّهــا ال تتســامح
خاص ـةً وقــت القيلولــة ،لذلــك كان عتاهبــا
مــع مــن يســطو علــى منامهــاّ .
عاليــا ،للبنــات علــى دخوهلــن ضاجـ ٍ
ـات ،مبــا شـ ّـوش علــى غرقــي يف عســل ّ ّ ً
الكتابــة.
ٍ
ـرب الــكالب ،مثّ
ـ طاطــا «ف» ضرهبــا خطيبُهــا «ح» بعصــا زيتــون ضـ َ
ســطا علــى هاتفهــا وحقيبــة يدهــا.
الشرطة.
ـ ال نستطيع أن نفعل هلا شيئًا .فلتقصد ّ
ـ مامــا ..كيــف نســيت ّأنــا تص ّفــف لنــا شــعران ،وتشــري لنــا القصــص،
ابلضــرب؟
وتعلّمنــا الطبــخ ،وأتوينــا حــن هت ّدديننــا ّ
[]2
الشــرفات وألســنتَها« .مــا
رؤوس ّ
أخــرج عويـ ُـل «ف» ،يف ســاحة احلومــةَ ،
الرجالــة /مــا عنديــش اللّــي ْيامــي علـ َّـي .هــل كان ســيفعل يب هــذا،
عنديــش ّ
لــو كنــت أملــك ذلــك؟».
[]3
مســكينة ،قالت ّأم علياء ،تســكن وحدها ،وقد ظنّت أ ّن ارتباطها ب«ح»
ســيحميها .هــل يطاوعــك قلبــك أن تضربــي بعصــا زيتـ ٍ
ـون اي بوكبــة؟ ُ
89
يدان لثالث بنات
ـــــــــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــــــــ
ـت ضي ًفــا علــى خالــي يف «اثوريــرث آث منصــور». حلّــت العطلــة ،فحللـ ُ
للســماء ،وهــي املتعـ ّـودة
قم ـةَ اللّــة خدجيــة املطاول ـةَ ّ
ومــا لفــت عيــي ليــس ّ
علــى قم ـ ٍم أصغـ َـر منهــا يف أوالد جحيــش ،أو القطـ َـار الــذي يش ـ ّقها يف
امللونـةَ ،وهــي ِ
اللّيــل والنّهــار ،وهــي املتعـ ّـودة علــى رؤيــة اجلـّـرار ،أو املثلّجــات ّ
الصبيــة
ـعر ّ املتعـ ّـودة علِــى اجلــن املصنــوع مــن حليــب املاعــز .مــا لفتهــا كان شـ َ
ـور املرتفعــات.
ـنابل اللّيــل وعطـ َ
زينــة ،خمتصـ ًـرا سـ َ
ـت كلّمــا رأيتهــا نســيت ّأمــي وخالــي ،وســرحت كانــت وحيــدةَ أبيهــا ،وكنـ ُ
يف مشــيتها وضحكتهــا ونظرهتــا ولفتتهــا ووقفتهــا ،ورحــت أحبــث عــن
ـك يف أ ّن احلديــث الكلمــات ألدعــو هللا أن جيعلــي قريبًــا منهــا .فــا شـ ّ
إليهــا أشــهى مــن عســل النّحــل ،الــذي كنــت أتع ّقبــه يف الثقــوب وجــذوع
األشــجار ،ومــن حــكاايت خالــي عــن حــورايت البحــر وغيــان الغــاابت.
تالشــت شــهيّيت للطّعــام ،ورغبــي يف النّــوم والــكالم ،ومل يعــد يل هاجــس
إال أن أكــون قريبًــا مــن زينــة .ملــاذا أزهــد يف ال ّدنيــا حــن أمتلــئ أبنثــى؟ ملــاذا
فخهــا ،وهــيـأزت مــن اهتمامــي؟ ملــاذا مل أتفطّـ ْـن إىل ّ مل أنتبــه إىل أ ّن زينــة امشـ ّ
ـف ،وهــي تقــول ألبيهــا: تشــر يل أبن أتبعهــا إىل حديقــة الـ ّدار؟ ملــاذا مل أخـ ْ
ـدي؟ ملــاذا مل أصــرخ وهــو يعلّقــي يف «هــذا»؟ ملــاذا مل أقــاوم ،وهــو يقيّــد يـ ّ
يعريــي قطعـةً ..قطعـةً؟ ملــاذا مل أعــرف الزيتــون؟ ملــاذا مل أخجــل ،وهــو ّ شــجرة ّ
الزيتــون؟
متســد جســدي بزيــت ّ هبويــة الفاعــل ،وهــي ّ خلالــي ّ
90
عبد الرزاق بوكبّة
ـــــــــــــ
كهرابء اللحظة
ـــــــــــــ
[]4
ـب رجــال احلمايــة املدنيــة ،وأكــره أص ـوات ســياراهتم .فمــا الــذي
أحـ ّ
حصــل يف احلومــة حــى جــاؤوا؟ مل تكــن انفــذة مكتبــي مطلّ ـةً ،فلجــأت
إىل شــرفة الكوزينــة .اي إهلــي ..كيــف اســتطاعت «ف» أن تُضــرم
ـألت ّأم عليــاء .لكـ ّـن «ف» نقلهــا شــباب النــار يف زيتــوانت «ح»؟ سـ ُ
احلومــة إىل املستشــفى ،قبــل أن حيصــل احلريــق /قالــتّ .إمــا أ ّن «ح»
ـول ذلــك /قالــت ّأمــي.
وإمــا أ ّن هللا تـ ّ
نفســه فعــل هــذا ليُشـ ّـوه «ف»ّ ،
َ
[]5
نومها من أن أتدارك
ثيابا ،فلم مينعين ُ
غي َ انمت جنمة من غري أن نُ ّ
الولعة يف جيبها؟
ذلك .لكن ماذا تفعل ّ
91
يدان لثالث بنات
ٌ
سرقات أمينة
[]1
أدسه يف ٍ
كتاب كل شه ٍر ،و َّ
صغريا ،بداية ّ
من عاديت أن أقتطع مبلغًا ً
كنت متساحمًا مع اليد،
ارئ .ولئن ُ تضطرين إليه الطّو ُ
من الكتب ،فقد ّ
من يف الفراش، اليت متت ّد إىل النّقود اليت يف جييب ،أو تلك اليت تقع ّ
اخلاص.
ّ فلست كذلك مع اليد ،اليت متت ّد إىل هذا املبلغ
[]2
ـاص ،فلــم أجــد ثلثَــه .وهــو مــا دعــاين إىل قبــل شــهرين ،تف ّقــدت املبلـ َـغ اخلـ َّ
جترأت على يد من هذه اليت ّ فوراُ : ـري إىل االجتماع ً أن أدعو اجمللس األسـ َّ
أن متتـ ّد إىل الكتــاب؟ وألنّنــا ال نلجــأ إىل ال َق َسـ ِم يف البيــت ،احرت ًامــا للثّقــة
بيننــا ،فقــد انتهــى االجتمــاع إىل اهتــام شــخص واحــد هــو :أان.
ــــــــــ
شريط الذاكرة
ـــــــــــ
ـت تلمي ـ ًذا ضمــن النّظــام ال ّداخلــي ،يف مدينــة بــرج بوعريريــج ،وكان كنـ ُ
صــص لنــا وقــت يف املســاء ال يتع ـ ّدى ســاعتني للمراجعــة ،ال يبقــى منــه ُي ّ
شــيء للمطالعــة خــارج املقـ ّـرر ،فكنــت أراجــع دروســي املقـ ّـررة ،يف الوقــت
املخصــص لذلــك ،مث أطالــع يف مرحــاض املرقــد ،بعــد أن ينــام زمالئــي .إذ ّ
مل يكــن يُســمح أبن يبقــى املرقــد مضــاءً إال نصــف ســاعة بعــد ال ّدخــول ،مث
ـوب.
ؤوس مجيعُهــا حتــت الغطــاء وجـ ًتكــون الـ ّـر ُ
92
عبد الرزاق بوكبّة
اســتثمرت ثقــة أمينــة املكتبــة ،يف الفصــل األخــر مــن املرحلــة الثّانويــة،
ـاب اســتعرته .أذكــر أنـّـه كان ـت آخــر كتـ ٍ
،1996و ّادعيــت أنـّـي أضعـ ُ َ
الشــعرية ،وكنــت أرى ـال الكامل ـةَ لن ـزار قبّــاين ،إذ كنــت يف بــدااييت ّ األعمـ َ
منوذجــا ُيتــذى ومثـ ًـال .لكــن هــل كان يل مــا أردت؟ اســتدعاين املراقــب فيــه ً
وإمــا
ـام للثّانويــة ،وقــال يل يف صرامــة ســوداءّ :إمــا أن تعيــد الكتــابّ ، العـ ّ
ســتُحرم مــن املشــاركة يف امتحــان الباكالــوراي البيضــاء.
ـرت يف إعــادة ِ
ـت أظـ ّـن أنـّـه ميــزح ،لكنّــي أتكــدت مــن أنـّـه اجلــدُّ .ففكـ ُ كنـ ُ
ـت خوفًــا مــن أن هتتـّـز صــوريت ،إن أان أعدتــه ،بعــد الكتــاب فعـ ًـا ،مثّ تراجعـ ُ
ضياعــه ،فأصــررت علــى أنــه ضــاع ،وأبديــت اســتعدادي ألن أن ّادعيــت َ
ـاب آخـَـر مهـ ٍّـم مثلــه ،فوافــق املراقــب علــى ذلــك .لكــن مــن أيــن أعوضــه بكتـ ٍ
ّ
ـض
َ ـ ع وب ـا ـ ه بيض
َ ـع ـ ي تب ـه ـأم
ُّ ـت ـ ن كا ـذي ـ ل ا ـي، ـ ل اخ د
ّ ال ـذ ـ ي التلم أان ـال. ـ مل اب يل
دجاجاهتــا ،لتضمــن لــه مصروفَــه؟
ـدت جامــع القريــة بنيّـ ٍـة خمتلفـ ٍـة ،هــي أن أختــار عن ـو ًان مــن مكتبتــه.
قصـ ُ
كانــت حلظ ـةً حرجــة جــدًّا ،احتقــرت فيهــا نفســي ،إذ وجدتــي أســرق يف
ـح أناملــكان الــذي كنــت أصلّــي فيــه ،وأحفــظ القــرآن العظيــم .فهــل يصـ ّ
رب شــيئاً مــا؟ هــل مــن الـ ّذوق أن
ـائل ّ
ـدي سـ ًأعــود إليــه مـّـرة أخــرى ،وأرفــع يـ َّ
أســتعني مبــن ســرقت بيتَــه؟
ـاب .هــل أصلّــي ط البـ ُـوب خبــويف ،مثّ زادت الثّقــوب ،حــن َزْريَـ َ دخلــت مثقـ ً
ف نفســي .أصلّي إذا مل حتيّة املســجد أم ال؟ ال ب ّد أن أكون شـ ّفافًا ،فأصنّ َ
الصــاة ليســت أجــئ ســارقًاّ ،أمــا إذا صلّيــت مثّ ســرقت ،فســأكون عابثًــا .و ّ
ـدودك اي عبــد الـّـرّزاق.
ـزم حـ َ ـرب ليــس عبثًــا /ريب ليــس عبثًــا .فالـ ْ
عبثًــا /بيــت الـ ّ
ـت ركنًــا مــن اجلامــع ،وانكمشــت علــى نفســي ،ألجــدين أبكــي التزمـ ُ
ـت وســط اجلامــع الــذي كان حب ـرارٍة .مث فجــأةً توقّفـ ُ
ـت عــن البــكاء /وقفـ ُ
93
يدان لثالث بنات
ـاب
ـمت يف وجــه هللا :هــل تســمح يل أبن أختــار كتـ ً خاليًــا إال مـ ّـي /ابتسـ ُ
الســرقة ،علــى أن أشــري نســخةً منــه ،وأعيدهــا مــى
بنيّــة االســتعارة ،ال بنيّــة ّ
وفّقتــي لذلــك؟
أذكر أنّه كان كتاب «األمايل» أليب علي القايل.
ـــــــــــ
كهرابء اللحظة
ـــــــــــ
[]3
كل
أعيتــي الكتابــة ،فَأ ََر ْحتُــي ابالســتجابة لغفــويت ،وأان مســتع ّد ألن أكــره َّ
ـرق علـ ّـي غرفــي. مــن تطـ ُ
[]4
ـ من؟
ـ علياء
ـ ماذا تريدين؟
ـت وضعتهــا يف الكتــاب،
أرد لــك أمانـةً أخذ ُتــا منــك ،قبــل شــهرين .كنـ َ
ـ ّ
يومهــا ،أن أســاعد هبــا صديقــي «م» .أضاعــت ســاعتها، وكان ال ب ـ ّدَ ،
و ُّأمهــا مــن النّــوع الــذي ال يشــفق عندمــا يضــرب.
عوضت املبلغ؟
ـ رائع .ولكن من أين ّ
ـ من الكتاب.
94
عبد الرزاق بوكبّة
بوسعدية
[]1
للتبضــع ،ومــر ٍ
ات ات ،مبرافقــة البنــات إىل حوانيــت احلومــةّ ، أســتمتع ،مــر ٍ
ّ ّ
الشــرفة .إذ يصغــر ّ ـن ـ م ـن
ّ ـ ه ومتابعت ،ـن
ّ ـ ه وحد ـاهلن
ّ ـ سإر يف أجعــل متعــي
ٍ
حجمهـ ّـن ويكــر ولعــي هبـ ّـن ،فــا أغادرهــا حــى يظهــرن عائــدات ،مثــل
قصــرن اخلطـ َـو ،حــى يُ ِط ْلـ َـنرؤوس األع ـوام واألزواج ،فهـ ّـن يُ ّعجائـ َـز أكلــن َ
احلــكاايت.
[]2
غرضــا خرجــن ٍ ٍ
غرضــا مل نوصيهـ ّـن عليــه ،وم ـرات ينســن ً مـ ّـرات جيلــن ً
ـهن ،فــا يعــدن إال بعــد أن أتــرك ٍ
أصـ ًـا مــن أجلــه ،وم ـرات ينســن أنفسـ ّ
متامــا مثلمــا حــدث يل اليــوم.
ط الطريـ َـق حبثًــا عنهـ ّـنً .قلمــي ،وأخ ـ ّ
ـــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــ
خاصــة تكــون
كنّــا صغـ ًـارا يف قريــة أوالد جحيــش ،وكانــت لنــا ّأيم ّ
األيم األخــرى ،منهــا يــوم عاشــوراء .وعلــى فيهــا جرعــة الفــرح أكـ َـر منهــا يف ّ
الشــيعة أن يرتيّث ـوا ،فــا يســارعوا إىل االعتقــاد أننــا كنّــا نفــرح مبقتــل
األصدقــاء ّ
الســيّد احلســن ،فقــد قلــت إننــا كنّــا صغـ ًـارا وقرويــن مل يصلنــا ال خــر احلســن،
ّ
وال خــر بــي أميــة .إّنــا كان فرحنــا بســبب ظهــور بوســعدية ،يف ذلــك اليــوم
صغارهـ�ا.
ابلـ� ّذات مـ�ن العـ�ام ،ليجعـ�ل للقـ�رى األخـ�رى ّأي ًمـ�ا أخـ�رى يفـ�رح هبـ�ا ُ
95
يدان لثالث بنات
96
عبد الرزاق بوكبّة
قــال« :إنـّـي جئــت إىل احليــاة ،بعــد أن رقصــت ّأمــي يف حضــرة بوســعدية،
وأان ال أمســح ملخلـ ٍ
ـوق يف ال ّدنيــا ،أبن يســبّه أو يُســيء إليــه».
ــــــــ
كهرابء اللّحظة
ــــــــ
[]3
ـت الفــى «ر» املعــروف بـ«هبّــاط ـت ـ بعــد أن اســتبطأ ُت ّن ـ فصادفـ ُ
خرجـ ُ
الس ـراويل» ،ألنــه يُه ـ ّدد اجلميــع أبن ينــزع عنهــم س ـراويلَهم ،فأنكــر أنـّـهّ
رآهـ ّـن ،واخنــرط معــي يف مســعى البحــث ،وهــو يُه ـ ّدد مــن يُؤذيهـ ّـن بنــزع
ســرواله.
[]4
ـات شـ ٍ
ـباب الزرنــة ،وصيحـ ُ
ـام ّ
ختلّــى عـ ّـي ،مبجـ ّـرد أن انتهــت إىل أذنيــه أنغـ ُ
اســتنتج ّأنــم يرقصــون عليهــا.
[]5
درت دورتــن ،فوقفــت علــى مشــهد قــد أعجــز عــن كتابتــه :بوســعدية
الرحبــة ابألنغــام ،وشــباب يُشــعلون رقــص بنــايت ابلتّصفيــق.
يُشــعل ّ
[]6
ـتفز جنمــة كــي
ـوي ،وراح يسـ ّالس ـراويل يف احلضــرة عفـ ًاخنــرط «ر» هبّــاط ّ
معــا:
تراقصــه ،فاســتجابت لــه .أصابتهــا ال ّدوخــة ،فتشــبّثت بــه حــى هبطــا ً
هــي وســروالُه.
97
يدان لثالث بنات
ذحبت أخي
[]1
األول مــن رمضــان :ابت البيــت حباجـ ٍـة إىل خــرة احمل ّقــق كــوانن،
اليــوم ّ
فأمــي مل
اض منــه ،وهويـّـة املتســبّبة يف ذلــكّ . ملعرفــة كيفيــة اختفــاء أغ ـر ٍ
ـجادة صالهتــا ،و ّأم عليــاء مل تعثــر علــى فســتاهنا
تعثــر علــى صبّاطهــا وسـ ّ
وصندالتهــا ،وأان مل أعثــر علــى غــاف وســاديتّ .أمــا البنــات فلــم يفقــدن
ـك يف أ ّن كــوانن س ـراعي هــذا املعطــى يف حتقيقــه. شــيئًا ،وال شـ ّ
[]2
نب مرقّ ٍط صغ ٍري يف
اليوم الثّالث :انتفت حاجتُنا إىل كوانن ،بظهور أر ٍ
البيت.
ـ ما هذا؟
الصغري.
ـ أخوان ّ
ـ من أين جاء؟
ـ هديّة من اخلالة «م» منظّفة العمارة.
ــــــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــــ
كان ج ـ ّدي جيمــع أطفــال العائلــة البالغــن واملوشــكني علــى البلــوغ ،بعــد
ـس ال ّذبــح فيتعلّمــوه .كان يقــول
عودتــه مــن صــاة العيــد الكبــر ،ليشــهدوا طقـ َ
الرجــل الــذي ال يتعلّــم هــذه األمــور يف صغــره ،ســوف يضحــك عليــه لنــا إ ّن ّ
الرجــال يف كــره.
ّ
98
عبد الرزاق بوكبّة
99
يدان لثالث بنات
كنــت أذهــب ابكـًـرا إىل املدرســة ،الــي تبعــد عــن حوشــنا ســتة كيلومـرات
احتجاجــا علــى أنـّـي تركتــه ،وأعــود عشــيةً
ً الصغــر يثغــو
تقريبًــا ،اترًكا أخــي ّ
ليســتقبلين حب ـرارٍة تنســيين كــوين وحيـ َـد ّأمــي وأيب .وقــد حــدث أنـّـي عـ ُ
ـدت
إىل البيــت ،قبــل أن أصــل إىل املدرســة أصـ ًـا ،ويف فمــي كذبــة كبــرة أوىل :مل
أيت املعلّــم اليــوم ،أمــا الكذبــة الكبــرة الثّانيــة ،فهــي للمعلّــم العزيــز يف الغــد: ِ
ـت ،بســبب اخلــروف ،معلّمــي .وجعلــت ّأمــي «مرضــت ّأمــي» .لقــد غيّبـ ُ
متــرض ،أكثـ َـر مــن مـ ّـرة.
وشــا كامـ ًـا ،وابت اســتعدادي ألن عامــا كامـ ًـا ،فبــات علّ ً ابت عمـ ُـره ً
األول كامـ ًـا ،وســتكون الفرحــة بذلــك فرحتــن ،فرحــة أحتفــل بعيــد ميــاده ّ
عيــد امليــاد ،وفرحــة عيــد األضحــى.
عــاد جـ ّدي مــن اجلامــع البعيـ ِـد ،وقــد صلّــى صــاة العيـ ِـد .فاحتشــدان ،حنــن
ـت نســيت أنـّـه قــال يل ،قبــل عـ ِـام،ـس ال ّذبــح .كنـ ُ ـهد طقـ َ
ـال العائلــة ،لنشـ َ أطفـ َ
إنـّـي ســأكون ال ّذابـ َـح ،لذلــك تداخلــت ركبتــاي ،حــن ذ ّكــرين بذلــك .مث
ـي ابل ّذبــح هــو رأس خــرويف، أس املعـ َّ
ـرت بــا ركبتــن ،حــن أخــرين أ ّن الـ ّـر َ صـ ُ
الصغــر.
يقصــد أخــي ّ
ـــــــ
كهرابء اللحظة
ــــــ
[]3
معــا ،وهــو ممـ ّدد فــوق صحــن
للشــفقة واللّعــاب ً
ـرا ّ
كان منظـُـر األرنــب مثـ ً
ـوخ بشـ ٍ
ـكل ط يف بطــي أيّهــا املطبـ ُـس دقائـ َـق ،وســتن ّاألرز /مل تبـ َـق إال مخـ ُ
ـات ،وقــد لعــن يف ســاحة احلومــة منــذ العصــر /خطــف جيّــد /دخلــت البنـ ُ
ـاب، ِ
أبصارهـ ّـن /فقــدن الكلمــات /فقــدن األعصـ َ منظـ ُـر األرنــب املطبــوخ َ
100
عبد الرزاق بوكبّة
101
يدان لثالث بنات
ُ
كنت فدائياً يف فلسطني
[]1
ـات علــى طــرق اببـروح خاصـ ٍـة ،تســابق البنـ ِ
ُ مــن العــادات الــي تغ ّذيــي بـ ٍ ّ
مكتبــي ،إلخبــاري أب ّن موعــد األكل قــد حــان .وعــادةً مــا تقــع شــجارات
وتطاحنــات ،بينهـ ّـن ،بســبب ذلــك يف الـّـرواق .وهــو مــا دفعــي ،إىل أن أضــع
ـدول ُيـ ّدد ،بدقّـ ٍـة ،دور ّكل واحـ ٍ
ـدة منهـ ّـن ،حقنًــا ل ـ «ال ّدمــاء». جـ ً
َ
[]2
أبنا ال تغادر
الصغرية مرمي .وهي تتميّز عن أختيهاّ ، دور ّ قبل ّأيم ،كان َ
البــاب حــى أخــرج ،وال ينفــع معهــا قــويل إنـّـي مشــغول ،وإنـّـي ســأخرج بعــد
قليــل .إذ تقابــل ذلــك مبضاعفــة الطــرق ،مث مبضاعفــة البــكاء ،حبيــث يصبــح
الشــغل بال جدوى. اســتمراري يف ّ
[]3
كتهن
ـت عــن مشــار ّـرا للهــدوء .مثّ امتنعـ ُ
ـت علــى طــول ،توفـ ً
ـت ،فخرجـ ُ طرقـ ْ
ـت أن أجـ ّـوع نفســي ،تعاط ًفــا مــع األســرى املضربــن يف
ـام ،ألنـّـي نويـ ُ
الطّعـ َ
ســجون االحتــال اإلسـرائيلي.
[]4
ـت أدخلهـ ّـن إىل «اليوتيــوب»، ـاب ألعمارهـ ّـن ،فرحـ ُ
مل أحســب حسـ ً
ـاهد مــن صمــود مــروان الربغوثــي ورفاقــه.
وأعــرض عليهـ ّـن مشـ َ
102
عبد الرزاق بوكبّة
ــــــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــــ
أهــداين ج ـ ّدي امليلــود ،وقــد عــاد صي ًفــا مــن فرنســا ،ليُمضــي عطلتــه
مذايعــا كان مدرســي األوىل ،قبــل أن أدخــل الســنوية يف أوالد جحيــشً ، ّ
ـت ،عــن طريقــه ،أمســاء العواصــم وامللــوكُ ـ ف
عر إذ . ـا
ً ـ ص أ ـة
ـ ي االبتدائ ـة
ـ ساملدر
الرؤســاء والكتّــاب واملغنّــن وحــركات املقاومــة يف العــامل .أقســم واألم ـراء و ّ
ـرب األثــر إ ّن ذلــك الطفــل كان يعــرف «حركــة التاميــل» يف سـريالنكا، بـ ّ
و»حركــة خلــق» يف إيـران ،وحركــة حتريــر إريــراي ،ومــا كان حيــدث يف إقليــم
ملمــا بــه إملامــه
انغــورين كاراابخّ .أمــا مــا كان حيــدث يف فلســطني ،فقــد كان ًّ
مبــا حيــدث يف حــوش بيتــه.
يرجــع الفضــل يف ذلــك إىل برانمــج «صــوت فلســطني» ،الــذي كانــت
الســابعة بعــد الـّـزوال،
السادســة إىل ّ
تبثّــه اإلذاعــة الوطنيــة اجلزائريــة يوميًــا ،مــن ّ
الســلطة الوطنيــة الفلســطينية إىل رام هللا ،بعــد اتفــاق
قبــل أن يتوقــف بعــودة ّ
أوســلو .كان أيب ال يُفـ ّـوت هــذا الربانمــج ،وعنــه أخــذت ذلــك ،فصــرت
أحفــظ األانشــيد الفلســطينية ،وأعــرف أمســاء القــرى واحلــركات املقاومــة
الشــهداء امسًــا ..امسًــا ،فــا
وأمســاء وجوههــا ،بــل إنـّـي كنــت ألتقــط أمســاء ّ
تفــارق ذاكــريت إال بعــد شــهور عديــدة.
ذاك التّماهــي مــع أخبــار االنتفاضــة األوىل ،الــي كان يُغ ّذيــي هبــا برانمــج
«صــوت فلســطني» ،ذكــر هللا األحيــاءَ ممـّـن كان ـوا يُع ّدونــه ويُق ّدمونــه خبــر،
ورحــم مــن رحــل منهــم ،جعلــي ،مـ ّـرةً ،أغــرق يف خيــال تســبّب يل يف وجبـ ٍـة
طعمهــا ،إىل غايــة هــذه اللّحظــة. ـس َ الضــرب ،مل أنـ َ
مــن ّ
الشــباب امللثّمــن ،يف ـت نفســي يف فلســطني ،متق ّد ًمــا كوكب ـةً مــن ّ ختيّلـ ُ
ٍ
هجــوم ابحلجــارة علــى دوريــة لالحتــال .كنــت وحــدي ،يف احلقيقــة ،أعلــى
ـكل قـ ّـويت ،وأان أصــرخ« :حتيــاالبيــت .وكنــت ،يف اخليــال ،أرمــي ابحلجــارة بـ ّ
103
يدان لثالث بنات
104
عبد الرزاق بوكبّة
حجاب ض ّد الكتابة
[]1
ـت أبن تســتقبلي البنــات يف بيتــك ،لعلمــي
ـ امسعــي اي «ف» .إذا مسحـ ُ
الراقــي
أبنـّـك وحيــدة ،وحببّــك هلـ ّـن ،فــأان ال أمســح أبن تصحبيهـ ّـن إىل ّ
«شــن».
ـ تعلــم أنـّـي لســت علــى وفـ ٍ
ـاق مــع خطيــي «و» ،وقــد طمعــت يف أن ُ
الراقــي.
أجــد احلـ ّـل عنــد ّ
ـ قــد يكــون طمعــك يف حملّــه ،لكـ ّـن اصطحابــك للبنــات ليــس كذلــك.
هــذا العــامل أكــر مــن إدراكهــن ،وقــد وجدهتــن واضعـ ٍ
ـات أيديَهـ ّـن علــى جبــاه ّ ّ ُ
دماهـ َّـن ،وهــن يقـرأن عليهــا مــا يعرفــن مــن قـ ٍ
ـرآن عظيــم. ّ ُ ُ
ــــــــــ
شريط الذاكرة
ــــــــــ
كان ينــدر أن خيلـ َـو قطيـ ُـع أغنـ ٍـام ،يف قريــة أوالد جحيــش ،مــن كبـ ٍ
ـش
الزاوية املعروفة يف منطقة ســيدي عيســى. كبش بلّعموري ،صاحب ّ يُسـ ّـمى َ
للشــيخ.
ـود اخل ـراف وينويــه ّ حيــث ينتقــي املـ ّـو ُال ،يف موســم الــوالدات ،أجـ َ
فيحظــى أبجــود أنـواع العلــف ،وببقــااي الكســرة والطّعــام ،وال تفــارق احلنّــاءُ
جبهتَــه الغـّـراء .وهــو مــا جيعــل منــه ألي ًفــا يغشــى حــى غــرف النّــوم ،ومــن هــذا
الشــيخ؟ لقــد كان ـوا يُعاملونــه كمــا لــو كان
ـش ّ الــذي يف ّكــر يف أن يـَنـَْهـ َـر كبـ َ
نفســه.
ـيخ َ الشـ َ
105
يدان لثالث بنات
ذات ضحى..
كلّفــي ج ـ ّدي أبن أســوق القطيــع إىل ال ـوادي ،فظهــر يل أن أختــذ مــن
الرغيــدَّ .
وألن ٍ
كبــش بلّعمــوري مطيّ ـةً ،إذ كان يبــدو مثــل حصــان لعيشــه ّ
الضــرب الــي
حظّــي كان بغـ ًـا ،فقــد رآين جـ ّدي .ولكــم أن تتصـ ّـوروا كعكــة ّ
ـدم
الزعــرور ،حــى يتطايــر الـ ُ ابتــاه شــجرة ّ أكلتهــا ضحاهــا .كان يقذفــيّ ،
الشــيخ؟».
ـش ّ مــن رأســي« :هــل تريــد أن جتلــب الشـّـر للعائلــة ،إبهانتــك كبـ َ
وقــد عمــد ،حــى يتجنّــب ذاك الشـ َّـر املتوقّـ َـع ،إىل اختــاذ ق ـرا ٍر ،فــور عــودة
عوضــا عــن
الشــيخً ، ـش آخـ َـر علــى ّ الزريبــة ،متثّــل يف تســمية كبـ ٍ
القطيــع إىل ّ
ـارعت ج ـ ّديت إىل حتنيــة جبهتــه.
الكبــش املهــان ،فسـ ْ
كان الكبــش املقـ ّدس ،يف تلــك القــرى ،الــي مل حتـ َظ ابلكهـرابء إال مطلــع
الســوق املشــركة لألع ـراش ،ويُرســل مثنُــه إىل التســعينياتّ ،إمــا يُبــاع يف ّ
وإمــا يُســاق بشــحمه وحلمــه وثُغــاهُ إليهــا ،رفقــة األطفــال والعرائــس
الزاويــةّ ،
ّ
اجلديــدات لنيــل الــركات.
الشــيخ؟ مــن قبيــل ش ـراءهــل كان الســكان يقطعــون أمـ ًـرا دون استشــارة ّ
ـرس ،أو بي ـ ٍع أو ش ـر ٍاء ،أو زو ٍاج أو طـ ٍ
ـاق ســيارٍة أو جـ ّـرا ٍر أو بغـ ٍـل أو فـ ٍ
ـاهدت أو ختـ ٍ
ـان أو ذهـ ٍ
ـاب إىل الطبيــب أو االكتفــاء ابألعشــاب؟ وقــد شـ ُ
ـت فيهــا عائلــي ،يُصغــي للجميــع رغــم كل الـ ّـزايرات الــي رافقـ ُـيخ ،يف ّالشـ َ
عامــا منهــا يف املشــيخة ،ويُطلــقكــر ســنه ،مــن مواليــد ،1921ســتّون ً
مات ال ختضــع للنّقــاش. نصائحــه الــي يتل ّقفهــا الــزوار بصفتهــا مس ـلّ ٍ
ُّ َ
كـ ّـرس هــذه الثق ـةَ ،بــن النّــاس وشــيخهم ،مــا مسعــوه عــن كراماتــه .مــن
الزاويــة ،بســبب
وجههــا إىل ّ قبيــل أ ّن مدافــع اجليــش الفرنســي تعطّلــت حــن ّ
الرجــل،
قصــة ّ
جلــوء اجملاهديــن إليهــا .أو مــا شــاهدوه أبعينهــم ،مــن خــال ّ
الــذي هاجــر إىل فرنســا ،أثنــاء الثّــورة ،مثّ عــاد إىل القريــة هنايــة الثمانينيــات،
106
عبد الرزاق بوكبّة
أرضــا وتــزوج .قيــل لــه عليــك ،قبــل أن تفعــل هــذا ،أن تستشــر فاشــرى ً
ـف إال بعــدمتامــا ،ومل يُشـ َ
فشـ َّـل ً
قبيحــاُ ،
كالمــا ً الشــيخ بلّعمــوري .قــال فيــه ً ّ
ـى عــن
ً ـ غ يف ـت
َ ـ ن ك ـه: ـ ل ـال ـ ق ـذي ـ ل ا ـيخ، ـ ش لل ـذاره ـ ت اع
و ـة ـ ياو
الز
ّ إىل ـه نقلـ
اردا أن تستشــرين يف زواجــك، استشــاريت فيمــا أنــت حـ ّـر فيــه ،إذ ليــس و ً
لكــن ملــاذا شــتمتين وشــتمت جــدودي؟
قــال لعائلــي ،قبــل أن أولــد بشــهرين« :ســيولد لكــم ذكــر ،إبذن هللا
تعــاىل ،مسّــوه «رزيــق» ،وال تســألوه أبـ ًـدا مــن أيــن جــاء أو إىل أيــن هــو
ذاهــب ،وسيســلط هللاُ عقابـَـه علــى مــن يكــذب عليــه ،وســيكون مهّــه أن
ـتمتعت ،وال أزال ،حبريـ ٍـة
يقـرأ ويكتــب» .ومــا مهّــي ،يف هــذا كلّــه ،أنـّـي اسـ ُ
رضيعــا ،بســبب وصيّــة الشــيخ .حــى ّأنــم كان ـوا الً مطلقـ ٍـة ،منــذ كنــت
ـرة ،مــن موســم ـروق كثـ ٍ
ينهرونــي ،وأان أتوجــه إىل الكانــون ،فكنــت أخــرج حبـ ٍ
ُ ّ
الشــتاء.
ّ
ـــــــــــ
كهرابء اللحظة
ــــــــــ
[]2
ـ أين البنات اي مدام؟
طاطاهن «ف».
ّ ـ عند
[]3
ـ أين البنات اي «ف»؟
ـ عند سعيد صاحب احلانوت.
[]4
107
يدان لثالث بنات
108
عبد الرزاق بوكبّة
109
يدان لثالث بنات
الرئيــس ،لكنّــي مل كنــت صدي ًقــا وفيًّــا للمــذايع ،فكنــت علــى علــم ابســم ّ
أكــن أعــرف مالحمَــه ،إذ ال كهـرابء يف القريــة ،ومنــه ال وجــود للتلفــزة فيهــا.
دوره ،يف رســم صورٍة له ،مثّ حموها ،ورســم صورٍة أخرى، اخليال يلعب َ فراح ُ
فمحوهــا ،حــى انل مـ ّـي النّعــاس.
ـض ٍ
ومهندمــا ،فــوق حصــان أبيـ َ ً ـيما
ـت ،يف املنــام ،رجـ ًـا طويـ ًـا ووسـ ً رأيـ ُ
تــكاد حوافـ ُـره ال تالمــس األرض لنشــاطه .مثّ رأيــت ســكان القريــة خيرجــون
الشــاذيل» .فرحــت أهتــف الشــاذيل ...حييــا ّ
الســتقباله هاتفــن« :حييــا ّ
ـرب إليــه منهــم .طلــب مـ ّـي راكــب معهــم ،وأخــرق صفوفهــم ألكــون أقـ َ
ـأت قدمــاهيرتجــل ففعلــت .ومــا أن وطـ ْ احلصــان أن أمســك بلجامــه حــى ّ
ـت احلصــا َن ،ف ـراح يركــض بعيــداً يف ال ـراري. األرض حــى أَفـْلَـ ُّ
َ
ـرب
ـيخ كان يهتــف ابمســه ،وراح يضربــي هبــا ضـ ً ـس العصــا مــن شـ ٍ الرئيـ ُ
انتــزع ّ
الرئيــس يضربــي وأهلــي يهتفــون ابمســه .مل يهتفــونّ . ال رمحــة فيــه ،والنّــاس
ِ
ـج ،مل أبــك ،مثّ فجــأةً توقّــف عــن ضــريب ،مش ـراً إىل النّــاس أصــرخ ،مل أحتـ ّ
ابلرعــب مــن منامــي امل َك ْوبـَـس.ـوب ّ
ـوت مثقـ ً
أبن ينوبـوا عنــه يف ذلــك .فصحـ ُ
ُ
كانــت املـ ّـرة األوىل ،الــي أرى فيهــا مركب ـةً ضخم ـةً .أقصــد احلافلــة الــي
ـاب
أرســلوها مــن الواليــة لتحملنــا إىل دائــرة املنصــورة .وكان اجلميــع يرتــدون ثيـ ً
جديــدةً .بعضهــم كان يرتــدي دي ـ ًكا روميًّــا ،وبعضهــم دجاجتــن وبعضهــم
ـب ،ابعتهــا ّأمــي الســمنّ ،أمــا أان ،فقــد كنــت أرتــدي أربع ـةَ أرانـ َ لرتيــن مــن ّ
ـودا.
لعجــوز تســتع ّد ابنتُهــا ألن تضــع مولـ ً
كاد قلــي خيــرج مــن فمــي ،حــن وصلنــا إىل املــكان .مــا أكثــر التّالميــذ
مجيعــا
الرئيــس مــن بينهــم ً الذيــن جــيء هبــم مثلنــا! هــل يُعقــل أن خيتــارين ّ
الصفــوف اخللفيــة؟ ف ّكــرت يف أن ليضربــي؟ مثّ كيــف سـراين وأان ســأختار ّ
أتسـ ّـرب ،مــن بــن اجلميــع ،وأفـ َّـر إىل بيــت خــايل .ويف اللحظــة الــي قلــت
يف نفســي ّإنــا فكــرة جيّــدة ،قــال يل مديــر املدرســة إنـّـه علــي أن أرافــق هــذا
110
عبد الرزاق بوكبّة
111
يدان لثالث بنات
ثورة شهرزاد
[]1
ـدع ،يف فضائيــة مــن مــن طقوســي أن أحتفــل ابكتشــاف مسلسـ ٍـل مبـ ٍ
الفضائيــات .وهــذا مــا فعلتــه عليــاء وجنمــة ،عشــيةَ اكتشــفتا مسلســل «ألــف
ليلــة وليلــة» ،يف صيغتــه الكرتونيــة ،علــى قنــاة «ســي .آن» العربيــة .وقــد زاد
ـرحت هلمــا ســياقات احلكايــة.
تعلّقهمــا بــه ،بعــد أن شـ ُ
[]2
امتـ َّـد شــغ ُفهما ابملسلســل ،إىل أن تدع ـوا جارمهــا «رايض» ،إىل أن
الصغــرة مــرمي ،حــى ال تشـ ّـوش علــى ســفرهم
يشــاركهما املتعــة .وإىل إخـراج ّ
يف اخليــال.
ـــــــــــ
شريط ال ّذاكرة
ـــــــــــ
ـفت كتــاب «ألــف ليلــة وليلــة» ،صدف ـةً ،هنايــة مثانينيــات القــرن اكتشـ ُ
ٍ ٍ
العش ـرين .يف قريــة موغلــة يف العزلــة ،واحلــكاايت الــي متنــح اجل ـ ّد َة ســلطةً
األوَل
وتتوجهــا ســيّد ًة علــى الليــل واألمســاع .أي أ ّن كتــاب احلكايــة ّ خاصـةًّ ، ّ
مدجــج بــروح احلكايــة أصـ ًـا.
ّ أان
و ـي ـ مل عا ـلـ خ د ـة»، ـ ل ليو ـة ـ ل لي ـف«ألـ
جامعها،
كانت قرية «أوالد جحيش» ،عام 1967قد ّقررت أن تبين َ
ٍ
جامعــا .وقــد تك ّفــل مبصاريــف منفصل ـةً عــن قريــة جمــاورٍة كانــت متلــك ً
ـال القريــة املهاجــرون يف فرنســا .وال أدري ،إىل غايــة البنــاء والتأثيــث ،عمـ ُ
اليــوم ،مــن الــذي أرســل ،مــن هنــاك ،الكتــب الــي شـ ّكلت مكتبــة اجلامــع.
112
عبد الرزاق بوكبّة
ـات اجلوامــع .كتــاب موضعهــا ،يف العــادة ،مكتبـ َُ ـب ليــس ـف وكتـ ٌ مصاحـ ُ
«األمــايل» أليب علـ ٍّـي القــايل ،وكتــاب «كليلــة ودمنــة» لعبــد هللا بــن املقفــع،
وكتــاب «العقــد الفريــد» البــن عبــد ربـّـه ،وكتــاب /كتــب «ألــف ليلــة وليلــة».
عامــا ،حــن شــرعت يف التهــام هــذه املكتبــة .إذ كان عمــري اثــي عشــر ً
كنــت أتــرك األشــغال كلّهــا وأهــرب إليهــا .وهــو مــا كان ســببًا يف أن أحظــى
الضــرب والتّعنيــف ،مــن طــرف اجل ـ ّد واألب .إذ كاان ـات دمسـ ٍـة مــن ّ بوجبـ ٍ
ـر مــن سـ ّـي. يرفضــان أن أتــرك احلقــل أو املرعــى ،وأنــزوي ألق ـرأ كتبًــا أكـ َ
جتــدر اإلشــارة ،هنــا ،إىل أ ّن القرويــن كانـوا يعاملــون هــذه الكتــب علــى ّأنــا
مق ّدســة ،ويُقســمون عليهــا عنــد النّزاعــات .فهــم ال يقــرؤون وال يكتبــون،
ـوب هــو قــرآن عظيــم.ويــرون أ ّن كل مكتـ ٍ
ّ
الرهبـةَ ،الــي كنــت أشــعر هبــا ،وأان الزلــت ،إىل غايــة اليــوم ،أتذ ّكــر تلــك ّ
ـوت حيفــر يف تربــة الـ ّـروح .أذكــر ـي للجامــع ،فيحــدث صـ ً ـاب اخلشـ َّ أفتــح البـ َ
ـزرق مــن الــرد ،عاك ًفــا علــى الق ـراءة يف اجلامــع املعــزول. أصابعــي وهــي تـ ّ
مفضـ ًـا إكمــال الكتــاب ،علــى العــودة إىل البيــت ـوت اجلــوعّ ، أمســع صـ َ
ألانل لقم ـةً.
ـس ّأوَل مـ ّـرٍة ـات كثــرةً حدثــت يف حيــايت .لكنّــي مل أنـ نســيت حلظـ ٍ
َ ُ
ـتُ ـ س مل ٍ
ةمر لَ أو ابإلذاعة/ فيها التحقت
ُ ٍ
ةمر لَ أو ـدي/ ـ س ج فيها ـفت
اكتشـ ُ
ّ ّ ّ ّ
ـت فيهــا «ألــف ليلــة وليلــة» ،يف مكتبــة ٍ
فيهــا كتــاابً منشــوراًّ /أوَل مـ ّـرة واجهـ ُ
اجلامــع.
ـددت إليــه يــدي /مـ ّد
ـمت لــه /ابتســم يل .مـ ُ ـرت إليــه /نظــر إيل .ابتسـ ُنظـ ُ
ـيت اخلــوف مــن جـ ّدي ـرد األصابــع /نسـ ُ ـيت بـ َ
ـيت نفســي /نسـ ُ إيل يـ َـده .نسـ ُ
ّ
ـت أ ّن اخلطــأ فيهــا ،هــو
ُ ـ مّل تع ـيـ ل ا ـة،ـ مار الص
ّ ـةـ ح الفصي ـيـ غ ل ـيت
ُ ـ س ن أيب/و
ـذو ُق فيهــا عسـ َـل
خطــأ يف حـ ّـق كتــاب هللا .وكانــت املـ ّـرَة األوىل ،الــي أتـ ّ
خاصــة
خاصـةً ابألرض ،مثلمــا هنــاك لغــة ّ اخلطــأ ،وأكتشــف أ ّن هنــاك لغـةً ّ
113
يدان لثالث بنات
ابلســماء.
ّ
ـت «ألــف ـموحا إبخ ـراج الكتــب مــن اجلامــع ،لكنّــي أخرجـ ُ مل يكــن مسـ ً
ليلــة وليلــة» .إلحساســي أبنـّـه كتــاب اهلـواء الطلــق ،وال يُقـرأ بــن اجلــدران
متامــا مثلمــا كان الســهل والتلّــة واجلبــلً . املغلقــة .فقرأتــه يف الغابــة والـوادي و ّ
ـذت منهــا عائلـةً جديــدةً. ـت كائناتــه واختـ ُ
الســندابد فيــه .لقــد صادقـ ُ
يُســافر ّ
ـدت ،قبــل م ـ ّد ٍة ،إىل القريــة .فلــم أجــد اجلامــع القــدمي ،لقــد هدمــوه عـ ُ
ـألت عــن ّأمــي املكتبــة ،فقيــل يل ّإنــا ـجدا جديـ ًـدا .سـ ُوأقامـوا ،مكانــه ،مسـ ً
حبجــة ّأنــا كانــت تضـ ّـم كتبًــا ال عالقــة هلــا ابل ّديــن .فتّشــت يف أزيلــتّ ،
املكتبــة اجلديــدة ،فلــم أجــد إال ســيّد قطــب ُيـ ّـرم اخلــروج علــى حكايتــه.
أت فيهــا «ألــف ليلــة ـعرت ابالختنــاق ،فانطلقــت إىل اخلــاءات ،الــي قـر ُ شـ ُ
رددهتــا األمكنــة :شــهرزاااااااااااااااااااااااااااااااد.
ـت صرخ ـةً ّوليلــة» ،وأطلقـ ُ
ــــــــــــ
كهرابء اللّحظة
ـــــــــــ
[]3
الصالــون؟ مــا ابلــه مقيّـ ًـدا فــوق
مــا ابل ص ـراخ الطّفــل رايض مهيمنًــا يف ّ
الكرســي؟ مــا ابل عليــاء حتمــل ســي ًفا خشــبيًّا؟ مــا ابل جنمــة تضــع قماش ـةً
علــى عينيــه؟
أان :ما هذا؟
عليــاء :قـ ّـرران أن يكــون هــو شــهراير ،وأكــو َن أان شــهرزاد .وظهــر يل أن
ابلســيف ،حــى أســتطيع أن أحكــي مــن غــر خــوف. أســه ّ أقطــع ر َ
114
الفهرس
متهيد 07..................................................
مسكة رمضان 09 ......................................
أرجوحة مفخخة 12.....................................
ركض مشبوه 15.........................................
شهادة مذبوحة 18......................................
ذهب أسود 21.........................................
مقود يتيم 24...........................................
حلوى املالك 26........................................
جزية ال ّذئب 29.........................................
فخاخ شقيقة 32........................................
الفروج املق ّدس 35.......................................
السلّة الصينية 38........................................
ليلة القدر 41...........................................
أان قاتل 44.............................................
الفنانة التشكيلية 46.....................................
مشس الكفيف 48.......................................
اغتيال رمضان 50.......................................
اختطاف انتقامي 52....................................
الدكتاتورة 55...........................................
الفدية 58..............................................
عرس الصهيل 61.......................................
نعش رائسي 63........................................
الغميضة 66............................................
ابتسامات بيضاء 69....................................
حديث األرنوب 71.....................................
اخلتان 73..............................................
هسترياي 75.............................................
زكاة الفطر 77..........................................
املتطرف 79............................................
حرج الت ّفاح 82.........................................
نباح الدمى 86.........................................
خارج التحقيق 89......................................
سرقات أمينة 92........................................
ٌ
بوسعدية 95...........................................
ذحبت أخي 98 ........................................
كنت فدائياً يف فلسطني 102.............................
ُ
حجاب ض ّد الكتابة 105................................
الرئيس 109..................................
يوم ضربين ّ
ثورة شهرزاد 112........................................
بوصلة التّيه
كيف ُ
جئت إىل الكتابة ال ّسردية؟
إىل اللحظات اليت قمت فيها ألعيش ،ومل أجلس ألكتب.
عبد الرزاق
عبد الرزاق بوكبّة
[]1
ضاج ـةً ابل ّدمــى
كانــت غرفــي يف احلـ ّـي اجلامعـ ّـي جبامعــة ســطيفّ ،
ـائل
ـت هلـ ّـن رسـ َوزجاجــات العطــر ،الــي أهدهتــا يل الطالبــات ،الل ـوايت كتبـ ُ
عاطفي ـةً ألصحاهبـ ّـن .إذ كانــت وال ت ـزال تلــك رشــويت الوحيــدة .وبصــور
املقربــن إىل وجــداين.
الكتّــاب والفنّانــن ّ
[]2
اقتحــم علـ ّـي غرفــي ،ليلــة 01ج ـوان مــن عــام ،2002صديقــاي
الشــاعران مجــال رميلــي الــذي جــاء مــن واليــة خنشــلة ،ورابــح ظريــف الــذي ّ
ِ
مقيمــا يف احلـ ِّـي نفســه .وقــاال يل ّإنمــا ســينطلقان فجـ ًـرا إىل اجلزائــر
كان ً
ـتعدادا
العاصمــة ،ومهــا يريــدان أن أرافقهمــا .فقمــت إىل ثيــايب أغســلها اسـ ً
أودع دمــاي وصــوري وكتــي ٍ
لرحلــة مل أكــن أعلــم أنـّـي لــن أعــود منهــا ،فلــم ّ
وكراريســي ،الــي ال أعــرف شــيئًا عــن مصريهــا.
[]3
الرحلــة ،ومل ألبســها يكي يف ّ ـت مــع شـر َّ تن ّفــس الفجـُـر عــن ثيــايب مبلّلـةً ،فانطلقـ ُ
إال علــى مشــارف العاصمــة .كمــا مل ألبــس غريهــا إال بعــد شــهور .ذلــك أنـّـي
قلــت جلمــال ورابــح ،وقــد طلبــا مـ ّـي ،بعــد ثالثــة ّأيٍم ،أن نعــود مــن حيــث أتينــا:
لــن أخــرج مــن اجلزائــر العاصمــة إال علــى آلـ ٍـة حــدابءَ ،فانطلِقــا ر ِاشـ َـديْ ِن .قــاال
إنـّ�ك سـ�تجوع هنـ�ا وتعـ�رى .قلـ�ت :لـ�ن أبـ�رح مـ�كاين مهمـ�ا يكـ�ن مـ�ن شـ�اين.
121
بوصلة التّيه
[]4
حممد دمحاين ،مثّ الشاعر طيّب لسلوس، أتعرف على اإلعالمي ّ قبل أن ّ
تعرفــت يف عـراء العاصمــة اللذيــن تقامســا معــي جيبيهمــا ،علــى مــدار شــهورّ ،
َّر ابلقصيــدة .فأحرقــت ـارد املُ َخــد َ
السـ َ
ـتفزت يف داخلــي ّ
ـوس اسـ ّ علــى نفـ ٍ
ـف ســيبويه دس خـ ّ
الشــعري «أنثــى الغيــم» ،وكتبــت جتربــي «مــن ٍ ّ خمطوطــي ّ
ٍ
الرمــل؟» ،الــي نشــرت ســنتني بعــد ذلــك ،يف طبعــة مشــركة بــن دار يف ّ
الروائــي أمــن الـ ّـزاوي.
«الــرزخ» واملكتبــة الوطنيــة اجلزائريــة ،يف عهــد إدارة ّ
[]5
ـروي املشــمول مبحبّــة ّأمــه وأبيــه يف قريــة أوالد
مل يســتوعب عبــد الــرزاق القـ ّ
جحيش ،وحمبّة أصدقائه وصديقاته يف جامعة ســطيف ،أن يبيت يف عراء
ـارب خمتلف ـةً
املدينــة .لكـ ّـن عبــد الــرزاق الكاتــب املتطلّــع إىل أن خيــوض جتـ َ
ـتثمر
متامــا ،فــرض عليــه أن يتصــاحل مــع الوضــع ،وأن يكــون إجيابيًــا ،فيسـ َ ً
األول للثّــاين.
ّ ـعـ ض خ ـا
ـ مل لطاو ـة.ـ ب
ر جّالت يف ـاـإبداعي
ً
[]6
ـات ،فأكلــت هبـ ّـن اللوبيــا ،واش ـريت تــرك يل رابــح ظريــف دريهمـ ٍ
ـب ،فلجــأت إىل حديقــة «صوفيــا» ،الــي حتــت «الشم ّــة» .واس��تب ّد يب التعـ ُ
ٍ
ـدي ّ
يتوســطهاّ .أمــا الربيــد املركــزي ،وأســلمت جســدي إىل مقعــد حديـ ٍّ
رؤوســها ،وأطلقــت ِ
روحــي فبقيــت متوثّب ـةً تُراقــب الكائنــات الــي رفعــت َ
جربــت ٍ
عالمـةَ اســتفهام كبــرًة« :مــن يكــون هــذا الوافــد اجلديـِـد؟» .هنــاك ّ
مــا معــى أن ينــام اإلنســان ،ويصحــو يف الوقـ ِ
ـت نفســه. َ
122
عبد الرزاق بوكبّة
[]7
الصحــو والنّعــاس ،أحسســت بيـ ٍـد تعبــث يف جســدي ،فصــار كلّــي بــن ّ
األيم ،فكأنــه رســول اللّيــل البهيــم .مل
صاحيًــا .كان كهـ ًـا حمطّــم األســنان و ّ
ـرت معــه ّأول شــجا ٍر يف حيــايت، أد ِر هــل كان يريــد صـ ّـريت أم سـ ّـريت ،فباشـ ُ
أان القــادم مــن أعمــاق الكتــب واملكتبــات والكتاتيــب .ويف اللحظــة الــي كاد
يتفـ ّـوق فيهــا علــي ،حتــت تصفيقــات كائنــات اللّيــل األخــرى ،أشــرق فـ ًـى
ٍ ٍ
ـوم ،وآواينمــن حتــت شــجرٍة قريبــة ،ففـّـروا مثــل دجاجــات رأت ظـ َّـل نسـ ٍر حيـ ُ
داخــل كوخــه الكرتــوين اجمليــد .أقصــد داخــل حكايتــه املضيئــة ابألحــداث
املظلمــة.
[]8
تــرك قــادة الغلي ـزاين ال ّدراســة ابكـ ًـرا ،وابت ســاعيًا يف أحــد األضرحــة
خاص ـةً بعــد أن ذبــح اإلرهابيــون أابه و َّأمــه
نفســه فيــهّ .
املق ّدســة ،فنســي َ
وأخويـ�ه.
[]9
حممـ ًـا ابلطعــام
ـربّ ،صباحــا ،فــا يعــود إيل يف احلديقــة إال مغـ ً
كان يُغــادر ً
الســماء مــن شــقيقاهتا .فكنّــا نغــرق يف التهــام ذلــك،
والش ّ��مة ( )1ومــا كتبتــه ّ
الضريحــ ألجن��و .ومل
��ت أ ّن هللا ق��ادين إىل ّ مثّ نطفــو ف��وق حكايت��ه :أحسس ُ
ـت
وي ّدثــي ،فــإن منـ ُ
ـاح اللّيـ ُـل ُ
الشــيخ يف قــره ،أح ّدثــه كلمــا طـ َ
يبـ َـق يل إال ّ
ـتمر حديثُنــا يف املنــام.اسـ ّ
ـــــــــــــــ
الشفة.
1ـ تبغ حملّي ُيّزن حتت ّ
123
بوصلة التّيه
[]10
ـرت فيهــا
ومل تــزل تلــك حــايل ،حــى ظهــرت «زهــرة» يف حيــايت ،فأزهـ ْ
الضري��ح لت��زورين.
��ذرع ب��زايرة ّ
أم��ور مل أك��ن أعل��م أهن��ا تزه��ر أب ً��دا .ص��ارت تت ّ
متامــا ،بعــد أن
��ذرع ابملبيــت عن��د خالته��ا وتبي��ت عنـ�دي .مثّ اختفــت ً مثّ تت ّ
األول« :عزيــزي ـوب علــى وجههــا ّ أرســلت يل ورق ـةً مــع ابنــة خالتهــا ،مكتـ ً
ـوما
ـإن ذاهبــة حيــث لــن جتــدين أبـ ًـدا» ،ومرسـ ً
قــادة .ال تنتظــرين بعــد اليــوم ،فـ ّ
وجههــا.
علــى الوجــه الثّــاين ُ
[]11
ـت .وملغيابــا فالتهبـ ُ
ـرت ،مثّ طــال ُ اعتقــدت يف البدايــة ّأنــا ختتــرين فصـ ُ
ِ
الضريــح وهتديدهــا: ٍ
أجــد بــدًّا مــن حشــر ابنــة خالتهــا يف زاويــة مــن زوااي ّ
أنفاســها فصعقتــي ابخلــر الكســيح« :هربــت أيــن زهــرة؟ خافــت أن أُخــرج َ
ببطنهــا الــذي منــك ،إىل حيــث ال جيدهــا أبوهــا فيقتلهــا».
مل أجــد فســحةً للتفكــر واحلركــة ،ومل أحلــق أن أســأهلا عــن وجهــة زهــرة،
الشــيخ ،فعاتبــي علــى أنـّـي
ـي إىل ضريــح ّ ـت عيـ َّ
فهربــت مــن بــن يــدي .رفعـ ُ
ـاب.
ل ّقحــت فتــايت يف حضرتــه ،مــن غــر أن أحســب لوجــوده حسـ ً
[]12
يتأخــر قــادة عــن دخــول اجلزائــر العاصمــة ،بعــد أن علــم بدخــول زهــرة مل ّ
إليهــا .فصــار علــى معرفـ ٍـة حبوماهتــا وأوكارهــا ،وصلـ ٍـة بصعاليــك ليلهــا وهنارهــا.
يتأخــر حلظـةً عــن محايــي وإطعامــي ونقــل تلــك املعرفــة إيل .فكأنـّـه كان
مثلمــا مل ّ
ـت اييُهيّئــي ألن أعتمــد علــى نفســي ،بعــد أن خيتفــي هــو فجــأ ًة .أيــن ذهبـ َ
ـام قــادة
ـت مقـ َوعممـ ُ
ـارد راويــهّ .
السـ ُ
ـت مـرارَة أن يفقــد ّ جربـ ُ
الصغــر؟ هنــاك ّأخــي ّ
مجيعــا يبحثــون عــن حبيباهتــم.
علــى شــخوص روايــي «ندبــة اهلــايل» ،إذ كانـوا ً
124
عبد الرزاق بوكبّة
[]13
مطر
مطر
مطر
فهوت الكرتونة اليت ورثتُها عن قادة يف حديقة صوفيا ،ألنّين مل أبذل
فأسلمت نفسي
ُ الراوي.
زهدا فيها بعد اختفاء ّ
جهدا يف إعادة ربطهاً ،
ً
ابلريح .ريح
لالغتسال ابملطر وااللتحاف ّ
ريح
ـح داعــرة أخــذت أغ ـراض ام ـر ٍأة تتشــبّث بصغريهــا ،بــن أق ـواس قصــر ريـ ٌ
ورضاعتــه ،فلــم تــد ِر هــل ترتكــه
العدالــة يف ســاحة بــور ســعيد ،منهــا ح ّفاظاتــه ّ
أم ترتكهــا ،فتولّيــت أان مجــع تلــك األغـراض.
ـ يرحم والديك.
ـ والدينا ووالديك.
[]14
هــل إحساســي حباجتهــا إىل رجـ ٍـل حيميهــا ،أم إحساســي حباجــي إىل
ـوب بكتابــة ٍ
ام ـرأة تشــبه ّأمـ ٍـي ،هــو مــا جعلــي أبقــى قريبًــا منهــا؟ كنــت مثقـ ً
ـف ســيبويه يف دس خـ ّـوص قصــرة جــدًّا ،ش ـ ّكلت الح ًقــا كتــايب «مــن ّ نصـ ٍ
نصــا أوحتــه اللحظــة.
ـت أكتــب ًّ ـت كنّاشــي وقلمــي ،ورحـ ُ الرمــل؟» ،فأخرجـ ُ ّ
ِ
ـص مل يكــن مثــرًة ملعايشــة حيّــة. ـ ن ـابـ ت الك ـذاـ ه يف ـس ليـ
ّ
ـت مــن حقيبتهــا ٍ
ـح إىل جهــة أخــرى ،أخرجـ ْ الريـ ُ
الصٍبــاح ،وقــد ذهبــت ّ يف ّ
ألانس طلبوها منها« .أان لســت متسـ ّـولةً ،بل بورتريهات قالت ّإنا رمستها ٍ
أطع��م طفل��ي بريش�تي .هــل تري��د أن أرس��م لــك واحـ ًـدا؟».
125
بوصلة التّيه
مال.
ـ ال أملك ً
قلما.
ـ لكنّك متلك ً
ـ تقصدين أن نتبادل اإلهداء؟
ـ بل أن نتبادل اإلبداع.
ص رمسًا؟
ـ أان أكتب وأنت ترتمجني النّ َ
ـ واه)2( .
أنت من الغرب اجلزائري إذن.ـ ِ
ـ من غليزان.
ـ امسي رزيق
ـ امسي زهرة
ـ هذا إذن ولد قادة!
[]15
مجيعهــا ال تتفـ ّـوق ٍ
ـت نفســي مـّـرات كثــرًة يف حيــايت ،لكنّهــا َحــدث أن ملـ ُ
ـت
عت يف كشــف معرفــي مبــن هربـ ْ علــى تلــك املـ ّـرة يف القســوة .فقــد تسـ ّـر ُ
منــه أصـ ًـا .وهــو مــا جعلــي أفقدهــا بعدهــا.
[]16
الرمــل؟» ،عــام
ـف ســيبويه يف ّ دس خـ ّ حــن أتيــح يل أن أنشــر «مــن ّ
ـت أن ـت مستشـ ًـارا يف املكتبــة الوطنيــة اجلزائريــة ،رأيـ ُ
،2004وقــد أصبحـ ُ
ـت
أكــون وفيًّــا القـراح زهــرة ،أبن تكــون رســوماهتا إىل جانــب نصوصــي .فرمسـ ُ
ملصمم��ه الفنّ��ان ف��اروق درارج��ة: ٍ
ضمنته��ا للكت��اب .قل��ت ّ لوح��ات طفولي��ةً ّ
ـت معرفتَــك ابحليــاة. ابلرســم .قاــل :املهـ ّـم أنـّـك كتبـ َ
�ت جهل��ي ّ لق��د رمسـ ُ
ــــــــــــــــــــ
2ـ تعين «نعم» يف هلجة الغرب اجلزائري.
126
عبد الرزاق بوكبّة
معــا ،جلــأت إىل مقـّـر احتــاد الكتّــاب اجلزائريــن. بعــد اختفــاء قــادة وزهــرة ً
اخلي شـ ّـوار
الشــاعر طيّب لســلوس ،قبل أن يلتحق بنا الكاتبان ّ فاحتضنين ّ
وعلــي مغــازي .نبيــع الكتــب هنـ ًـارا ،وخنــوض يف األفــكار واألحــام واألوهــام
والنّميمــات ليـ ًـاّ .أي ًمــا نطبــخ أبنفســنا ،ونقصــد املطعــم ّأي ًمــا .هــذا إذا جــاز
طعامــا.
يل أن أمسّــي مــا كنّــا نطبخــه ً
جــاءت فاتــورة الكه ـرابء ،فتماطلــت إدارة االحتــاد يف دفعهــا .ممـّـا ّأدى
ـات جديـ ٍ
ـدة الضــوء عنّــا .وهــو الوضــع الــذي مهــد النضمــام كائنـ ٍ
ّ إىل قطــع ّ
تعودان عليهاالســمينة .خفناها يف البداية وحاربناها ،مثّ ّ إلينا ،هي اجلرذان ّ
وصاحلناهــا .حــى أنّنــا كنّــا نطلــق علــى بعضهــا أمســاءً.
ـوف منهــا أوســام علــى «حفيظــة» ،وهــي تدخــل علينــا ،مــن غــر خـ ٍ
مرغوبــا مــن األكل ،وتغــادر يف طمأنينـ ِـة كاتبـ ٍـة جاملهــا
حت ّفـ ٍـظ منّــا ،فتأخــذ َ
النّقــاد.
ذهــب لســلوس ،ذات ويكانــد ،ليتف ّقــد صغـ َـاره يف «قصــر البخــاري»،
ـت كثــرة الظـ ِ
ـام وذهــب شـ ّـوار ليتف ّقــد والديــه يف «بــر ح ـ ّدادة» ،فواجهـ ُ
ـكالم .ومل أنتبــه إىل أ ّن «حفيظــة» ســبقتين إىل صحــن العــدس، وقلّــة الـ ِ
ـزت عــن الوصــول
متامــا مثلمــا عجـ ُ
فثقبتــي أوجــاع تعجــز اللّغــة عــن وصفهــاً .
ـي ملقـ ّـر االحتــاد ،حــى أخــرج إىل خلــق هللا ،فيأخــذوين إىل
إىل البــاب اجلانـ ِّ
املستشــفى.
127
بوصلة التّيه
كنــت أزحــف علــى بطــي يف الظّــام ،فتنــر يف خمّــي صــورات أيب و ّأمــي،
اللذيــن تركتهمــا يف قريــة «أوالد جحيــش» ،ودخلــت العاصمــة حبثًــا عــن
ـود ســينتهي بعــد حلظــات .مــن هــذا الــذي أكل مــن الصحــن ِ
نفســه مــع وجـ ٍ
ّ
اجلــرذان وأفلــت للمــوت؟ مــن هــذا الــذي ســيدخل علــي ألمحّلــه رســالةً أخــرًة
هلمــا؟ ليتــي اســتجبت جلمــال رميلــي ورابــح ظريــف فعــدت معهمــا.
حررتــي ،ســاب ًقا،
تذ ّكــرت روايــة «احللــزون العنيــد» لرشــيد بوجــدرة ،وقــد ّ
ـت زحفــي وإميــاين ابلوصــول. الصغــر .فضاعفـ ُ
عضــي يف ّ مــن عقــدة فــأ ٍر ّ
الرخامـ َّـي ،ومل أمهــل نفســي لتف ّكــر يف طريقـ ٍـة مثلــى للنّــزول،
ـت الس ـلّ َم ّ
بلغـ ُ
ـلمت نفســي للكركبة عليه ،حىت ال أخســر وقتًا جيعلين أخســر حيايت. فأسـ ُ
خامي
الر ّ مقر االحتاد ،أ ّن املســافة بني أســفل سـلّمه ّ يعرف الذين يعرفون ّ
واببــه اجلانــي ال تتجــاوز عشــرة أمتــار .لكنّــي قطعتهــا زح ًفــا علــى بطــي
ـدي ،ففقــدت اإلحســاس ـت البــاب احلديـ َّ ٍ
يف ســاعة أو أكثــر بقليــل .بلغـ ُ
باب ،خلف الباب ،تصلين الش ِ الساهرين من ّ تبق إال أصوات ّ بنفسي ،ومل َ
متقطّعـةً ،فأكملهــا يف خيــايل .هــل كنــت أضحــك ،وأان أمسعهــم ،أم كنــت
أبكــي؟ هــل عرفــت طيّــب لســلوس واخلـ ّـر شـ ّـوار ،ومهــا يدخــان علـ ّـي
الســماء؟
صباحــا ،أم حســبتهما مالكــن ن ـزال ليُنقــذاين مــن ًّ
متاما ،مها التخلّص من «حفيظة»، ـفيت ً
اختذت قرارين ،بعد أن شـ ُ ُ لقد
ـي ملقـ ّـر احتــاد الكتّــاب .ألحبــر يف ٍ
كل ليلــة ،خلــف البــاب اجلانـ ّ
واجللــوسَّ ،
ـاردا
حــكاايت شــباب شــارع ديــدوش م ـراد .مــن غــر أن أنتبــه إىل أ ّن سـ ً
للشــاعر ،الــذي كان قــد
الســامية ّ الرعايــة ّ
ـرا بــدأ يتشـ ّكل داخلــي ،حتــت ّ
صغـ ً
قطــع أشـواطًا يف اإلنصــات لذاتــه.
128
عبد الرزاق بوكبّة
129
بوصلة التّيه
130
عبد الرزاق بوكبّة
ـياهتن وذهنياهتـ ّـن ومنبعهـ ّـن االجتماعــي .وهــي التجربــة الــي هيّأتــي ألن
نفسـ ّ
الســردي .إذـص ّ أكتســب خــرةً ،يف مراعــاة مســتوايت اللغــة ،داخــل النـ ّ
ليــس معقـ ًـول أن أكتــب عــن دكتــورٍة وماكثـ ٍـة يف تسـ ّـرهبا املدرســي املب ّكــر
ابلقامــوس ِ
نفســه.
[]8
عزيــت نفســي وكنــت كلّمــا أتعبتــي التجربــة ،أو عافهــا ضمــري ،كلّمــا ّ
الشهر ،فاستقبلته الشهر .جاء آخر ّ قل ،يف آخر ّ مال ،وإن ّ أبنّين سأقبض ً
داع ألن أذكــر غـزارة الفــرح يف هــذا
يســا .هــل هنــاك ٍ
كمــا تســتقبل عانــس عر ً
داع ألن أصــف خيبــي ،وأان أمســع رئيــس التّحريــر يقــولاملقــام؟ هــل هنــاك ٍ
الشيــخ راب�حـ ..أقصــد األس��تاذ بوكب��ة ..إ ّن
م�نيّ :
يل ،وه��و غ��ارق يف اخلج��ل ّ
اإلدارة ت��رى أهن�اـ ليس��ت قاــدرةً عل��ى أن تدف��ع لــك اآلن .وهــي تطمــع يف أن
ـهورا أخــرى.
يُســاعدك صــرُك علــى أن تنتظــر شـ ً
وداعا.
ـ ً
[]9
رأيــت ضمــري يضحــك علــي يف الـ ّـزوااي كلّهــا ،وهــو يُلـ ّـوح يل أبكيــاس
مهتما ابلتجربة ال ابملال ،أبخذ رسائل أبي له أنين كنت ًّ امللح .فرأيت أن ّ
الســيّارات.
القــارائت .فصــرت أغــرق فيهــا ،كلّمــا طــاح الليـ ُـل يف كاراج ّ
ـــــــــــــ
احلمص املطحون.
الزيت والبيض و ّ
تتكون من ّ
3ـ أكلة ذات منشأ إسباينّ ،
131
بوصلة التّيه
132
عبد الرزاق بوكبّة
133
بوصلة التّيه
[]7
��ت عازفً�اـ يف ابخ�رـٍة زمــن االحتــال .وقــد أان س��عيد القوســطو .كن ُ
الســاحة بعــزيف ،بعــد أن طلــع علينــا االســتقالل .ألكتشــفـتعمرت هــذه ّ
اسـ ُ
ابلصرصــور ،الــذي يُهــدر وقتــه يف
ـبيها ّ بعــد رحيــل العمــر ،أنــي كنــت شـ ً
الغنــاء ،بينمــا كان اآلخــرون يســطون علــى املبــاين الــي خلّفهــا الفرنســيون.
ـت
وإنـّـي أقــول لنفســي كلّمــا عاتبتــي :ذهــب النّــاس ابلشــقق الضيّقــة ،ورحبـ ُ
الســماء والنّجــوم.
كل هــذه ّ
أان َّ
[]8
إذا كان قــادة الغلي ـزاين قــد ّزودين خبارطــة اللّيــل ،يف اجلزائــر العاصمــة،
ـت تلــكعمــي ســعيد القســطو ّزودين خبارطــة التشـ ّـرد فيــه .وقــد منحـ ُفــإ ّن ّ
اخلــرَة ملنصــور بــن ذايب وعلــي بلميلــود بطلَـ ْـي روايــي «ندبــة اهلــايل»« :اي
ـوت هللا ،فــإ ّن احلــاانت بيــوت أحبابــه».
ولــدي ..إذا كانــت املســاجد بيـ َ
ــــــــــــــــــ
4ـ من السبّاقني إىل حتديث اخلطاب الشعري اجلزائري .انتحر عام 1988يف
قسنطينة.
134
عبد الرزاق بوكبّة
135
بوصلة التّيه
[]2
حممــد ديــب 02 ،مايــو ،2003فقــال يل مديــر املكتبــة الروائــي ّمــات ّ
الزاوي إنه على املقهى األديب ،الذي كان حيمل اســم الروائي أمني ّ الوطنية ّ
الراحــل أصـ ًـا ،أن ينظّــم أتبينيـةً تليــق ابملقــام.
ّ
[]3
بعــد هنايــة األمســية الــي قمــت بتنشــيطها ،قصــدين إنســان هــادئ وودود:
أان حمســن ســليماين مديــر القنــاة اإلذاعيــة األوىل ،وأرى أنـّـه مــن صــاحل
اإلذاعــة أن تنتــج هلــا برانجمًــا أدبيًــا.
ــــــــ
فالش ابك
ــــــــ
العسلوج
َ الروائي رشيد بوجدرة ،يف اخليال ،وأان طفل يقطف استضفت ّ
ِ ِ
اجمليب يف الوقت عينه .وحدث ائل و َالس َ
فكنت ّ
ُ يف حقول أوالد جحيش.
األوَل علــى
أن التحقــت ابإلذاعــة يــوم 17ســبتمرب .2003فــكان ضيفــي ّ
املباشــر ،وقــد صـران صديقــن مــن خــال جلســات املقهــى األديب يف املكتبــة
الوطنية.
الشــك فيــه.
ـارحا مبــا أاثر ّ
ـت سـ ًكان جييــب بنفســه هــذه املـ ّـرة ،وكنـ ُ
فســألين بعــد أن خرجنــا :واش بيــك كنــت ســارح؟ صارحتــه :كنــت أقــارن
بــن إجاابتــك الليلــة يف اإلذاعــة ،وإجاابتــك علــى لســاين ،حــن اســتضفتك
يف املرعــى.
136
عبد الرزاق بوكبّة
[]4
كان الربانمــج يُبــث ليـ ًـا .وكان مــن شــروط محّــام «بســتان اجلنــوب»،
الســاعة
الــذي كنــت أقيــم فيــه يف ابب عـّـزون ،أال يفتــح اببــه ملــن يطرقــه بعــد ّ
الســابع
العاشــرة .فكنــت أانم ،بعــد هنايــة املباشــر ،يف قاعــة التحريــر ابلطابــق ّ
الزمالء.
الشــمس و ّاحلمام ،بعد شــروق ّ لإلذاعة ،على أن ألتحق بغرفيت يف ّ
[]5
اس جـ ٍ
ـدد ال أعرفهــم وال يعرفونــي ،فأب ـوا أن يُعطــوين مفتــاح جيــئ حبـ ّـر ٍ
القاعــة ،وطلب ـوا مـ ّـي ،مــا دمــت أهنيــت شــغلي ،مغــادرة مبــى اإلذاعــة.
سائق العمل :وين حنطّك اي شيخ؟
ـت أن
كان ممكنًــا يف تلــك اللحظــة أن أعطيــه ألــف احتمــال .لكنّــي رأيـ ُ
أكــون يف بقعـ ٍـة أعــرف ليلهــا عمي ًقــا ،فطلبــت منــه أن يوصلــي إىل ســاحة
الشــهداء.
ّ
ــــــــــ
صرخة أوىل
ــــــــ
غمزتــي كرتونــة كانــت حتــت س ـلّم مدخــل غرفــة التجــارة املقابلــة لثكنــة
البحريــة ،فاســتجبت هلــا .غمزتــي إغفــاءة أمالهــا تعــب النّهــار وامليكروفــون،
قادمــا إيل ،فلــم أســتجب لــه.
ـاب ًفاســتجبت هلــا .غمــزين منــام رأيــت فيــه شـ ًّ
رددهــا البحـ ُـر
معــا إىل خصيتيــه يف املنــام ،فأطلــق صرخـةً ّلقــد ضربتــه برجلـ ّـي ً
يف الواقــع.
137
بوصلة التّيه
ـــــــــــــ
صرخة اثنية
ــــــــــــ
اكضــا يف ضبــاب العاصمــة. تركــت الفــى متكـ ّـوًرا علــى وجعــه ،وانطلقــت ر ً
ـت
ضبــاب ..ضبــاب ..ضبــاب ،ترقّشــه القطــط واملتشـّـردون والــكالب .بلغـ ُ
ـت قطًّــا أطلــق
الســاحة الــي اغتيــل فيهــا املســرحي عـ ّـز ال ّديــن جمّــويب ،فـََع َف ْسـ ُ
ّ
الشــارع.
رددهــا ّ صرخـةً ّ
ــــــــــ
صرخة اثلثة
ـــــــــــ
ـت متثــال األمــر عبــد القــادر ،يف شــارع العــريب بــن مهيــدي ،فأقســمت بلغـ ُ
مؤســس ال ّدولــة اجلزائريــة احلديثــة؟ إذن فليلحقــي فــى
ـاوزه .أليــس هــو ّأال أجتـ َ
الليــل وليقتلــي عنــد قدميــه.
ـلمت ظهــري للتمثــال ،مــن اجلهــة املطلّــة علــى حانــة القمــر األمحــر.
أسـ ُ
ٍ
فــإذا يب أمســع َو ْح َوحــات مــن اجلهــة املطلّــة علــى مقهــى ميلــك ابر ،الــذي
وضعــت فيــه مجيلــة بوحــرد إحــدى قنابلهــا ،عــام 1958خــال ثــورة
التحريــر.
ـول يُضاجــع مهبول ـةً ،مــن النّــوع الــذي نســي ـات ملهبـ ٍ
كانــت الوحوحـ ُ
ـس يتقيّــأ كأنـّـه بلــع قطـةً
املــاءُ جسـ َـديهما .أكمــا غزوتيهمــا ،فانتحــى العريـ ُ
الشــفاه ،من حقيبة ت ّدعي ّأنا حقيبة، أمحر ّ
جرابء ،فيما أخرجت العروس َ
وأطلقــت زغــرودةً مسعتُهــا يف القمــر.
138
عبد الرزاق بوكبّة
كنــت أقيــم ،عــام ،2004يف قبـ ٍو أســفل اجلامــع الكبــر ،الــذي يصلّــي
ـاد ،رفقــة ثالثــة أصدقــاء كتّــاب ،منهــم رايض وطّــار .وقــد
ـس األعيـ َ
الرئيـ ُ
فيــه ّ
ـزل مــن املؤانســة
عــادوا إىل مدهنــم البعيــدة ،قبيــل عيــد األضحــى ،فبقيــت أعـ َ
والطعام.
كانــت مههمــات املصلّــن تصلــي مــن األعلــى ،صبيحــة العيــد .وكنــت
الرئيــس مــن األســفل« :ســوف لــن تدخــل التّاريــخ مــا مل حتـ ّـرر أخاطــب ّ
الصــاة ،فقلــت يف نفســي: البــاد مــن اجلــوع الثقــايف» .افرنقع ـوا ،بعــد ّ
ٍ
«ســأقصد البحـ َـر ،إن مل يكــن للمناجــاة فلكتابــة قصيــدة» .ال أذكــر أنـّـي
ـت حيــايت ،مثلمــا كرهتهــا يف تلــك اللّحظــة .ملــاذا ال نكتــب عــن كرهـ ُ
اللّحظــات الــي كرهنــا فيهــا احليــاة؟
نزلــت السـلّم احملــاذي لقصــر رايس البحــر ،يف حـ ّـي ابب الـوادي ،فــإذا يب
ـدل علــى أ ّن أحدهــم فــوق إحداهـ ّـن .وهــو مــا أمســع وحوحـ ٍ
ـات ذكوريـةً ،مبــا يـ ّ
الشهوة. أمنح أذينّ جلهة ّ دفعين إىل أن أطلب من خطوايت أال تفضحين ،و َ
ـت مــن خــال كان الفــى يســتحضر ،يف خيالــه ،فتــاةً امسهــا فاطمــة .وعرفـ ُ
كأنــا يف متناولــهِ ،
صفاتــا وأفعا َلــا وعالقتَــه املتشــنّجةَ هبــا. خماطبتــه هلــاّ ،
مدجــج ابجلــوع
الشــاطئ ،وأان ّ لت إىل ّ ـدي املقـ ّدس ،فتسـلّ ُ أهنــى ومهَــهُ اجلسـ َّ
ـت ّزوادةَ ٍ ٍ
إيل هنــاك ،وقــد حملـ ُ
ومبعلومــات كثــرة عنهمــا .متمنـّيًــا أن ينضـ ّـم ّ
طعـ ٍـام حيملهــا بيس ـراه.
139
بوصلة التّيه
140
عبد الرزاق بوكبّة
كان األســتاذ حمســن ســليماين مديـ ًـرا للقنــاة اإلذاعيــة األوىل ،واألســتاذ
مســعود بولطيــور مديـًـرا لإلنتــاج فيهــا ،عــام .2005فاحتضنــاين ومنحــاين
متاحــا يل أن
ـجل .فصــار ً مســاحةً أثريي ـةً معتــرةً .فيهــا املباشــر وفيهــا املسـ ّ
أصــرف علــى نفســي ،وقــد اســتقلت مــن املكتبــة الوطنيــة اجلزائريــة ،وأدفـ َـع
تكاليــف اإلجيــار يف فنــدق «احلديقــة» احملــاذي للمســرح الوطــي اجلزائــري،
متامـ�ا ،مثّ يف محّـ�ام «بسـ�تان اجلنـ�وب» ببـ�اب عـ ّ�زون. قبـ�ل أن ينهـ�ار ً
ٍ
ـت اثينَ ـتقل بغرفــة وحــدي ،فكنـ ُ متاحــا ،يف هــذا األخــر ،أن أسـ ّ مل يكــن ً
ٍ
احلمــام .أان الثّابــت فيهــا ،بينمــا يتغـ ّـراثنــن يف غرفــة تطـ ّـل علــى صحــن ّ
اآلخـ ُـر يوميًــا ،فــا أدري مــن يطلــع علـ ّـي قبــل الغــروب.
يضــا اســتبقـرا ،أو جامعيًــا قــدم للتســجيل ،أو مر ً قــد يكــون اتجـ ًـرا صغـ ً
ـغل ،أو مسسـ ًـارا موعــد املعاينــة يف املستشــفى ،أو بطّـ ًـال يبحــث عــن شـ ٍ
تقمــص األدوار املثــرة الصفقــات ،أو متسـ ّـوًل حمرتفًــا يف ّ يتصيّــد صفقـةً مــن ّ
ـكري لفظتــه املســافات البعيــدة ،أو كاتبًــا قصــد معــرض للشــفقات ،أو عسـ ً ّ
حممــد بــن زاين وعيســى الصنــفّ ، الكتــاب .أذكــر أنـّـه ابت معــي ،مــن هــذا ّ
شـ�ريّط وقلّـ�ويل بـ�ن سـ�اعد ويوسـ�ف بـ�وذن واخل ّـير شـ ّ�وار.
كل الظــروف النفســية والفكريــة ٍ
كل وافــد حكايـةً ،فأهيّــئ ّ ـت أرى يف ّ كنـ ُ
ـرد عليــه نفســي ،بعيـ ًـدا عــن التح ّفــظ نفســه ،وأسـ َ
واملعنويــة ،ألن يســرد علـ ّـي َ
141
بوصلة التّيه
والوسوســة .وهــي التجربــة الــي علّمتــي أال أفــرض نفســي علــى شــخوصي
اوي
ـوت مــن األص ـوات ،ال ر ً الح ًقــا .وأن أ َْد ُخـ َـل يف نصوصــي بصفــي صـ ً
األم لكتــايب الثّــاين « أجنحــة مل ـزاج ال ّذئــب عليمــا .كمــا كانــت اخللفي ـةَ َّ
ً
ـردي،
ً ـ س ـا ـنص
ًّ ـون ـ ث وثال ةّـت ـ س ـث ـ ي ح ،2008 ـام ـ ع ـادر ـ ص ال ـض»، األبيـ
ٍ
ببطـ ٍـل واحــد هــو الوهلــي بــن اجلازيــة صاحــب ّ
الريشــة.
الشــاعر عبــد العــايل مزغيــش وضعــي ،فــرك مــأواه عنــد أخيــه، اكتشــف ّ
الس ـرير الثّالــث حــى ّ والتحــق يب يف الغرفــة .فــكان يدفــع ســعر س ـريره و
ـص جديـ ٍـد دفع ـةً معــا .وكنــت أحاكيــه فــرةً ،مثّ أخنــرط يف كتابــة نـ ٍّ نبقــى ً
واحــدةً ،فكأنـّـي أقتــل املــوت ابســتحضار مــا مسعــت مــن األصـوات .وكان
ـتمر
الض��و» ،فتسـ ّ احلم��ام يعل��و م��ن األســفل« :ط ّفي��و ّ ص��وت «غان��و» مسي ّـر ّ
مهســا يف الظّــام.
وإمــا ً
احلكايــة ّإمــا يف األحــامّ ،
142
عبد الرزاق بوكبّة
143
بوصلة التّيه
أحدهــم« :هــل معــك خرفــان»؟ وهــي عبــارة ـت ،وســألين ُ اســتوقفوين فوقفـ ُ
ـباب اخلدمــة الوطنيــة .فأجبتــه يف هــدوء: األيم شـ َ كانـوا يعنــون هبــا يف تلــك ّ
«ال أظـ ّـن ذلــك» .قــال يل ،بعــد أن فحــص الســيّارة مــن ال ّداخــل« :إ ّن
خربتــك كانــت ســتجعلك ـ لــو وظّفتهــا ـ تعــرف أ ّن هــذا خــروف» .وأشــار
ـاب الــذي قــال إنـّـه طالــب يف اجلامعــة. إىل الشـ ّ
ـات قــال يل مــنابلشــهادة .وبعــد حلظـ ٍ أمــره ابلنــزول فشــرع الفــى يتمتــم ّ
يظن أ ّن جواربه بعيدة عنّا! كان ُيفي البطاقة العســكرية هناك .دار أنزلهّ :
أرضــا ،ماس ـ ًكا إايه مــن
إليــه يف ســرعة الــرق ،وخطفــه مــن رجليــه فســقط ً
صــدره وابرًكا عليــه بركبتيــه .غمــز رفي ًقــا لــه ،فجـ ّـر عليــه ابلسـ ّكني.
ـك يف أنــه دخــل يف عمـ�ي بومجع��ة البلعباس��ي التاكسـ�يور .ال شـ ّ س��كت ّ
متامــا كمــا يف احلالــة األصــل ،مثّ رفــع ٍ
احلالــة مــن جديــد ،فعجــز عــن الــكالمً .
الســبب الــذي جعلــي ال أنســى ذاك الفــى أســه إلينــا يف املــرآة :أتــدرون ّ
رَ
يهمــون بذحبــه :أانشــدكم ابهلل العظيــم وبرس ـوله ابل ـ ّذات؟ عبــارة قاهلــا وهــم ّ
الكــرمي أال تشـ ّـوهوا وجهــي حــى ال حتــزن ّأمــي أكثــر .لكنهــم جدع ـوا أن َفــه
ـح منديـ ًـا مــن جيبــه ،ووضــع األعضــاءَ اجملدوعــة وأذنيــه وشــفتيه .أخــرج الذابـ ُ
ت علــى اخلــروف. فيــه :هــذه هديتنــا إليــك ألنــك تسـ ّـر َ
[]4
أيضــا :يف 17مـ�اي 1995حــان دوري ألاندي ســأحكي لكــم هــذه ً
عل��ى املســافرين م��ن العاصم��ة إىل مس�تـغامن .كان النهــار ظهـًـرا ،وكان امللــل
ــت يرتديـ�ن احلجــاابت ،وليــس علــى وجوههـ ّـن س��ي ًدا .فقصدتــي أرب��ع فتيا ٍ
ُ ّ
ماكيــاج .وطلــن مـ ّـي أن أنطلــق ،ألهنـ ّـن ســيدفعن املقعديــن املتبقيــن.
144
عبد الرزاق بوكبّة
145
بوصلة التّيه
كان كورنيــش وه ـران ،ذات عشــيّ ٍة مــن صيــف عــام ًّ ،2007
ضاجــا
ابحلمــام والبشــر ،الذيــن ال يُراقــب أحــد منهــم أحـ ًـدا .وكان فـ ًـى ال يتجــاوز
ويتأمــل البحــر بعينــن العش ـرين جيلــس علــى أحــد مقاعــد الكورنيــشّ ،
ابكيتــن يف تصــو ٍ
ف كب ـ ٍر ،غــر آبِـ ٍـه مبــن يغــدو ويــروح. ّ
قلــت لــه ،وقــد جعلــت جلوســي إليــه طبيعيًــا :مــا هــذه املوســيقى الــي
تس��مع؟ أعط��اين الكتم��ان حبرك��ة عفوي��ة توح��ي أبن��ه مل ينزع ْ��ج م��ن فض��ويل.
الشــاب حســي بصوتــه احلــي« :قـ ْـع النّ َســا اللــي خلقهــم ريب /...مــا فهـّـزين ّ
ـت
أأتمــل البحـ َـر :كأنـّـه مل ميـ ْ
جيونيـ�ش كاللّـ�ي بغاهـ�ا قلـبي» ( .)5قلــت وأان ّ
رمحـ�ه هللا .ق��ال الفــى :وسـ�وف ل��ن مي��وت .قل��ت :مل��اذا يف رأي��ك؟ ق��ال:
ـرا عندمــا قتلــوه ،لكنّــي عندمــا كــرت وجــدت أنـّـه كان يُغـ ّـي ـت صغـ ً
كنـ ُ
للحب ،يف الوقت الذي ّ لألشيــاء اليت ال تنتهي يف اإلنس��ان .كان يغنّي
كان فيــه اإلرهــاب حيصــد األرواح .هــل تعلــم ملــاذا كنــت أبكــي؟
فعشــاين يف بيتــه ،مــع ّأمــه ،وقــد
ّقربــت احلكايـةُ /اجلــر ُح بيــي وبــن ســفيانّ ،
درســون يف اجلامعــة .مثّ عــرض علــي أن كنــت مدعـ ًّـوا للعشــاء مــع أصدقــاء يُ ّ
ـت علــى طــول. ٍ
أيخــذين إىل مــكان وصفــه ابملهبــول ،فوافقـ ُ
ابب ال يوحــي أبنــه ش ـغّال، ��ب يب يف حـ ٍّـي عتيـ ٍـق ،مثّ طــرق ً ِ تَ َس ْر َس َ
يرحــب بنــا/ف ُفتــح لنــا بعــد كلمــة الســر .ســام علــى الفــى الفاتــح ،وهــو ّ
146
عبد الرزاق بوكبّة
ـــــــــــــــــــ
الراي املؤثرين يف اجلزائر .اغتيل عام .1994
5ـ من جنوم أغنية ّ
147
بوصلة التّيه
الســماء إىل مدينــة متنراســت ،يف ّ كانــت الطائــرة ،وهــي تتو ّغــل يف
أقصــى اجلنــوب اجلزائــري ،مــن عــام ،2010شــبيهةً بقصيـ ٍ
ـدة حملّقـ ٍـة.
لكنّهــا قــد تتوقــف يف أيـّـة حلظـ ٍـة ،فأحتـ ّـول إىل جمـ ّـرد رقـ ٍم يف حصيلـ ٍـة يُق ّدمهــا
روح شــعر ٍية ،رغــم أنـّـي كنــتذات ٍ مديــر الطـران .يومهــا كانــت تشــبيهايت َ
أصــدرت جتربتــن ســرديتني مهــا «أجنحــة مل ـزاج الذئــب األبيــض» ،وجلــدة
الظــل :مــن قــال للشــمعة أف؟».
[]2
ـت مدعـ ًـوا مــن طــرف خــادم الفنّانــن حمــي ال ّديــن بــن حممــد ،قـ ّدس هللا
كنـ ُ
ٍ ٍ
سـ َّـرهُ ،إلحيــاء جلســة أدبيــة يف دار الثقافــة .ومــن عــاديت أال أانم يف اللّيلــة
األوىل ،الــي أدخــل فيهــا مدينــة ً مل أزرهــا مــن قبــل ،فاألمـ ُـر يُشــبه عنــدي أن
ـت إىل املدينــة ،قبــل
ينــام عريــس يف انصيــة اللّيلــة األوىل مــع عروســه .فخرجـ ُ
أن أرتّــب أغراضــي أصـ ًـا.
[]3
ـت
فتوجهـ ُ
أســتطيع أن أواجــه حتفــي ،لكنّــي ال أســتطيع أن أواجــه امـرأةً تبكــيّ .
الشــقراء ،الــي كانــت تنتحــب عنــد مدخــل فنــدق «ترّكفــت». الصبيــة ّـوي إىل ّ عفـ ً
مليحا ،مثّ رحت أخاطبها. السماء ً قت يف ّ مت /ح ّد ُ الص َ
التزمت ّجلست إليهاُ / ُ
أيضــا،
ً ً ـاء ـ مس ـا ـ ه روح
ُ ـت ـ نكا ـد ـ قف ـا، ـ م كلتيه ـاة ـت الف
و ـماء ـ الس
ّ ـى ـل ع ـود ـ عت ـا ـ ن اهلــاء ه
148
عبد الرزاق بوكبّة
149
بوصلة التّيه
الــذي كان ينقشــه صاحــب احملـ ّـل علــى حاملـ ٍـة جلديـ ٍـة للمفاتيــح« :آن».
ـ مسعود!!؟
[]8
الفضــة والنقــش علــى اجللــد عــن
أان مســعود مــن مدينــة جانــت .ورثــت فـ ّـن ّ
ـتقل حبانــويت ،وأمجــع مــن
أيب ،الــذي ورثــه عــن أبيــه .دخلــت متنراســت ألسـ ّ
ـزوج فتــايت.
املــال مــا يكفيــي ألتـ ّ
ـ هل جئت على منت الطيّارة؟
ـ نعم.
ـ لو أعطتين «آن» النّروجيية وزن األرض ذهبًا ،على أن أستبدهلا بفتايت
ما فعلت.
[]9
ـادرا علــى أن ألتقــي «آن» ،يف مطعــم الفنــدق ،بعــد الــذي مل أكــن قـ ً
مسعتــه مــن مســعود .فصعــدت إىل غرفــي مباشــرةً ومل أغادرهــا .لكنّــي
متامــا .لقــد أطلعــي مســعود علــى بعــض رســائلها ٍ
التقيتهــا بطريقــة خمتلفــة ً
ـيت أمــر العشــاء .كيــف تســتطيع
السـرير أقرأهــا ،ونسـ ُ
ـت علــى ّ
إليــه ،فانبطحـ ُ
الصفــاء؟
ـب رجـ ًـا هبــذا ّ
ام ـرأة أن حتـ ّ
[]10
قمــة األســكرام ،فانطلقــت رتّــب يل حمــي ال ّديــن ،بعــد يومــن ،مبيتًــا يف ّ
ـش
املتوحـ َ
مــع السـاّئق «صــاحل» .كانــت الســيّارة رابعيـةُ ال ّدفــع تقضــم الطريـ َـق ّ
مثــل انقـ ٍـة أتكل شــوًكا ..ال ســرعة وال ملــل .وكنــت كلّمــا حملــت وفـ ًـدا مــن
السياح قبلنا أو بعدان ،يف وادي أفيالل ،كلّما عاد إيل اإلحساس ابحلياة.
150
عبد الرزاق بوكبّة
[]11
فارهــا ،بينمــا هــو فضــاء مينحــك
منتجعــا ً
ً ملــاذا كنــت أتصـ ّـور األســكرام
طعامــا بســيطًا، ٍ
الفرصــة ألن تعيــش حيــاة الربيــة؟ بضعــة أكـو ٍاخ بســيطة تقـ ّدم ً
ـس فوقهــا أبنـّـك
قمــة حتـ ّ
بســاطة كنيســة األب شــارل دوفوكــو ،هنــاك يف ّ
خطيــب الشــمس.
[]12
ـت فــوق صخــرٍة رءوم ،وأســلمت كلّــي للمشــهد :ليــل مثقــوب جلسـ ُ
ـج
ـب يشـ ُّ ـوم فتيّــة ،فكأنـّـه غ ـرابل بــن يــدي عجــوٍز قرويــة /ع ـواء ذئـ ٍ بنجـ ٍ
ُ
الســماء /طائـ ُـر
وسـ ّـرة ّ
ـح يف الفاصــل بــن رأس اجلبــل ُ اح /أايئـ ُـل تتناطـ ُ
األرو َ
«مــوال مــوال» يتن ّقــل بــن األحجــار ،مثــل ومضــة هايكــو عطســتها لــوزة
يبانيــة .انر هلّابــة هنــاااااااااااااااااااك يف األســفل ،يرقــص حوهلــا بشــر مــن غــر
فــروق /مههمــات إجنيليــة تطلــع مــن ال ّديــر ،حائــرةً بــن أن تذهــب إىل اخلالــق
رددمهــا الوجــود. ٍ
أو املخلــوق .وإذا بصرختــن ،علــى مقربــة مـ ّـيّ ،
[]13
الصوتني ،فإذا مها آلن ومسعود.
طرت حنو ّ
ُ
151
بوصلة التّيه
ـرا ،هنايــة
كان حــرج أعـوان األمــن املكلّفــن حبراســة التّلفزيــون اجلزائــري كبـ ً
الســيد املديــر
عــام ،2009وهــم يقولــون يل ّإنــم ميلكــون تعليم ـةً ،مــن ّ
الســماح يل ابل ّدخــول .أان الــذي العــام عبــد القــادر العلمــي ،تقضــي بعــدم ّ
ٍ
ابلشاشــة منــذ ،2005وق ـ ّدم ثالثــة برامـ َـج ثقافيــة ،حــاور فيهــا التحــق ّ
قطاعــا واسـ ًـعا مــن الكتّــاب والباحثــن والفنّانــن واملشــرفني علــى املؤسســاتً
املنتميــة إىل هــذه احلقــول.
أحسســت عمي ًقــا ابلظلــم .مثّ تضاعــف هــذا اإلحســاس لــدي ،إبعـراض
ـول إنـّـك عــاريفكأنــا أرادت القـ َ
ـبب معـ ّـن إلبعــاديّ ، اإلدارة عــن تقــدمي سـ ٍ
الكتفــن ،فعــد مــن حيــث أتيــت .ابمل ـوازاة مــع حصــويل علــى درع الـ ّـرايدة
بعمــان.
العربيــة يف التّنشــيط التلفزيــوين ،مــن طــرف جامعــة الـ ّدول العربيــة ّ
اعــا بــن صوتــن .صــوت حيثّــي ـت ،علــى مــدار مخســة شــهوٍر ،صر ً واجهـ ُ
ـارب أخــرى ،مثلمــا فعلــت مــع غريهــم علــى اإلعـراض عنهــم ،واخلــوض يف جتـ َ
مــن قبــل ،وآخــر حيثّــي علــى املطالبــة حب ّقــي ،واملقارعــة مــن أجــل اســرجاعه.
الصحافــة، رت إضـر ًاب عــن الطعــام ،مبناســبة اليــوم العاملــي حلريــة ّ
فــكان أن قـّـر ُ
03مايــو .2010
ـهرا قبــل حصولــه ،حــى أعطــي للمعنيــن ابألمــر ـت عــن اإلضـراب شـ ً أعلنـ ُ
فرص ـةً ألن يســتجيبوا ملطلــي املتمثّــل يف إعــاديت إىل املؤسســة ،فلــم يتحـ ّـرك
منهــم أحــد.
152
عبد الرزاق بوكبّة
لن أحت ّدث عن األايم الثالثني ،اليت تلت اإلعالن عن موعد اإلضراب
ألهنــا تتشــابه .بــل ســأحت ّدث عــن اللحظــة ،الــي ذهبــت فيهــا مــن غرفــي
املؤجــرة فــوق ســينما «اجلزائريــة» ،يف شــارع ديــدوش م ـراد ،رفقــة الكاتــب ّ
الصحافــة حيــث سأشـ ّـن اإلض ـراب. ّ دار إىل ـي، ـ ي خط ـعيدـ س ـيـ م اإلعال و
الش ـربة األخــرة .أغلقــت جهــاز ش ـربت مــن كأســي إبحســاس أهنــا ّ
ـث خــرالتليفزيــون علــى أســاس أنــي لــن أشــاهده مـ ّـرًة أخــرى ،وأنـّـه قــد يبـ ّ
مــويت بعــد أايم .ألقيــت نظــرًة علــى الكتــب الــي كانــت مزروعــة يف الغرفــة،
الصفــا .وقلــت البــن تيميــة:
فودعــت اجلاحــظ وأاب حيّــان واملعـ ّـري وإخـوان ّ ّ
تعســفت يف ح ّقــك ذات يــوم .وحملمــود درويــش :إ ّن ّ ّ ـا
ـ بر ـيخ. ـ ش اي ـاحمين سـ
املســافة بيننــا مل تعــد بعيــد ًة .ولبعــض الكتّــاب الذيــن ال أفعاهلــم ونصوصهــم:
هــي لكــم احليــاة .افعل ـوا فيهــا مــا شــئتم ،وواصل ـوا رداءتكــم واحتكاركــم
لألض ـواء.
هنــاك انتبهــت إىل أ ّن إحساســي بشــعرية األشــياء مل يكــن كافيًــا .شــعرية
الفنجــان -شــعرية النافــذة -شــعرية املرحــاض -شــعرية احلــذاء -شــعرية
البــاب -شــعرية امللعقــة .وهــو مــا اشــتغلت عليــه بعدهــا ،يف جتربــي «مــاء
سـريع االلتهــاب».
الصحافــة ،الــي حتمــل اســم روائــي جزائــري اغتيــل يف ذهبــت إىل دار ّ
ٍ
ـيس متناقضــة .إذمدجــج أبحاسـ َ التســعينيات هــو طاهــر جــاوت ،وأان ّ
كان للخطـوات الــي قطعتهــا مــن شــارع ديــدوش مـراد أحــد مفجــري ثــورة
الصحافــة ،أكثـ ُـر مــن مفارقـ ٍـة فاضــت علــى تلــك املســافة
التّحريــر ،إىل دار ّ
ـتفز الكاتــب داخلــي.القصــرة .وهــذا مــن بــن مــا يسـ ّ
متنّيــت أن تطــول تلــك املســرة ،كــي أراجــع مفهومــي للكتابــة واحليــاة.
ـتمر أكثــر مــن ربــع ســاعة .هنــاك زمــن مســطح نعـ ّده ابل ّدقائــق
لكنّهــا مل تسـ َّ
153
بوصلة التّيه
ـاص
الشــهور واألع ـوام ،وزمــن نفســي خـ ّ األيم واألســابيع و ّ
الســاعات و ّ ّ و
ـون .وإ ّن إغفــال هــذا املعطــى ،يف
نلخــص كـ ً ٍ
نســتطيع يف دقيقــة منــه أن ّ
التعامــل مــع النّــص الســردي شــخوصا وحـ ٍ
ـاالت ،واحــد مــن مداخــل الـّـرداءة ً
إليــه.
الشــرطة يف انتظــاري.الصحافــة ،لفي ًفــا مــن ّ
وجــدت ،حــن بلغــت دار ّ
ابلرعــب ،أان الكائــن
ـت ّ فقــد شــافوا يف اجلرائــد اإلعــا َن عــن اإلضـراب .أصبـ ُ
رجل أمن.
إداري أو سياســيًا أو َ يوما إىل أن يكون ً املســامل ،الذي مل يطمح ً
الشــجاعة ،ألنــه تعـ ّـود علــىوقــد ّزودتــي مرافقــة ســعيد خطيــي ببعــض ّ
الشــرطة لــه ،حبكــم انتمائــه إىل مجاعــة «بـ ّـزاف».
اســتجواابت ّ
الشــاعر .لكـ ّـن زوجــي أوصتــي
جــاءين شــرطي قائـ ًـا« :أان ال أعرفــك أيّهــا ّ
ـرا ،فهــي إحــدى مشــاهداتك .هــل تطلــب شــيئًا؟» .قلــت :أريــد أن بــك خـ ً
أعلّــق بيــان اإلضـراب .قــال :أان مــن ســيفعل ذلــك.
وجهــا تليفزيونيًــا ،ف ـراك النــاس متأل ًقــا ،وينســجون حولــك أن تكــون ً
الراقيــة ،ومتلــك ســيّارًة فاخــرًة ،وبيتًــا ِ
احلــكاايت ،منهــا أنــك تقيــم يف األماكــن ّ
قياســا علــى زمــاء لــك ،مث يرونــك مل ًقــى علــى قارعــة ال يُتــاح للجميــعً ،
خاصــة. ٍ
الطريــق ،أمــر حيتــاج إىل صالبــة ّ
كانــت حلظــة مواجهــة الع ـراء ،يف اللّيلــة األوىل صعب ـةً .إذ تفـ ّـرق النّــاس
الذيــن كانـوا معــي ،عنــد منتصــف الليــل ،ومل يبـ َـق إال ســعيد خطيــي .هنــاك
جدا ،قام على هذه األســئلة :ملاذا مل تكن إرهابياً؟ انتابين إحســاس غريب ً
لديــك زمــاء يف ال ّدراســة ،أصبح ـوا أم ـراءَ يف اجلبــل ،مث عــادوا غارقــن يف
الثّـراء؟ ملــاذا مل تصبــح رايضيًــا أو اتجـ ًـرا؟ لكنّــي ال أســتطيع أن أصــف لـ ّذة
الشــيء اللحظــة ،الــي انتصــرت فيهــا علــى نفســي فقلــت هلــا :أان اخــرت ّ
الــذي يبقــى .ومل أنــدم بعدهــا أبـ ًـدا.
154
عبد الرزاق بوكبّة
ـات نتقـ ّـزز منهــا يف العــادة، واجهــت الع ـراء ،فأصبحــت ش ـري ًكا لكائنـ ٍ
َ
الصراصــر والــكالب الضالّــة واجملانــن .مل أســتطع أن أانم مثــل اجلــرذان و ّ
حــى ال أحــرم نفســي منهــا ،ومل أســتطع أن أبقــى صاحيًــا ألنـّـي كنــت
وجائعــا .هــل ســأغادر الواقــع إذا منــت؟ أم أنـّـه ســيُالحقين يف النّــوم، متعبًــا ً
فيتداخــل الواقــع ابخليــال وتنتفــي احلــدود؟ أليســت حلظ ـةً ســرديةً ابمتيــاز؟
ـان عميـ ٍـق للمثقفــن والفنّانــن واإلعالميــن الذيــن أحسســت ابمتنـ ٍ
توجهــت إىل النّــاس ،الذيــن ال ُيســبون علــى ســاندوين .لكـ ّـن بــؤرة اهتمامــي ّ
حقــل الثقافــة والفـ ّـن واإلعــام.
الصحافــة .وكان أيتيــي انئمــا عنــد مدخــل العمــارة املقابلــة لــدار ّ كنــت ً
ـاب يغــدو ويــروح متح ـ ّد ًث مــن غــر أن ينبــس بكلمــة .كانــت يــداه شـ ّ
تتحـ ّـركان يف الفضــاء ،وشــفتاه تقــوالن شــيئًا ال يصلــي ،لكنّــه يوحــي أبنــه
متذمــر مــن الوضعيــة .ســألته مـ ّـرةً عــن األمــر ،فقــال :ال أســتطيع أن أفعــل ّ
طعامــا تصــل رائحتُــه
ً ـخ ـ ب تط أبال ـي ـ جزو ـرت ـ م أ ـيّـن أ ـدا ـ ع ـا ـ م ا،لــك ً
ـيئ ـ ش
إليــك ،فتتشــهى الطعــام.
وجاءتــي عجــوز ابلقهــوة واخلبــز ،حماول ـةً أن تثنيــي عــن اإلض ـراب.
إحساســا يف نفســي ،أن آكل وأشــرب ً ـكل مــا ُيـّـرك
ـت أبجــدادي وبـ ّ فحلفـ ْ
قصتهــا مــع
ـت ابلبــكاء وحكــت يل ّ ـت ،أجهشـ ْ مــن يدهــا .وحــن رفضـ ُ
اجلوع يف عام اجلوع ،قبل االستقالل الوطين ،حيث وصلت إىل أن أتكل
جــذوع األشــجار والقطــط النّافقــة.
ـوي مــن أشــياء أخــرى غــر الطعــام .فلــم أعــد حباجـ ٍـة إىل كنــت أتغـ ّذى معنـ ً
رت مــن عقــدة الزمتــي منــذ طفولــي. املرحــاض يف تلــك الفــرة .حيــث حتـ ّـر ُ
إذ كان أيب يقــول يل ،كلّمــا أراد أن يرفــع مهّــي« :خـ ّـراي» .وهــا أان مل أعــد
أمــارس هــذا الفعــل اي َّْب .كيــف حالــك يف قــرك؟ كيــف هــي احليــاة هنــاك؟
155
بوصلة التّيه
ّأمــا هنــا ،فولــدك الوحيــد اســتطاع أن يصــر علــى اجلــوع ،لكنّــه مل يســتطع أن
يصــر علــى الظلــم .أنــت علّمتــي أال أَظلــم أو أقبــل أن يظلمــوين ،فــا تلمــي
علــى أم ـ ٍر تعلّمتــه منــك .وال تلمــي علــى أنــي قــد أحلــق بــك ،فأتــرك ّأمــي
رب. ٍ
وزوجــي وابنــي وحيــدات ،فقــد جعلتهـ ّـن وديعـةً عنــد ّ
اش أحضــره يل صديقــي الفنّــان زاد إحساســي املالئكــي ،وأان طريــح ف ـر ٍ
ســعد بــن خليــف ،وزاد معــه إحساســي ابلفنــون.
ليلـةً ..جــاء الفنّــان عــاء ال ّديــن مخّــار ،مــن مدينــة بســكرة ،ليواســيين بعزفــه
علــى النّــاي ،فكأنـّـي اكتشــفت النّــاي للمـ ّـرة األوىل .تذ ّكــرت مقولــة جــال
الســماء إال مــن نفخــة هــذا النّــاي» ،فرحــت الرومــي «ال أظـ ّـن هــذه ّ ال ّديــن ّ
الســماء فقاعـةً تكــرُ ،وأتتبّعهــا ببصــري حــى ظـ ّـن صديقــي الكاتــب أختيّــل ّ
الرفيــق األعلــى.
حاجــي أنـّـي يف طريقــي إىل ّ واإلعالمــي عـ ّـاوة ّ
ـات يف حميطــي العاصمــي .ومل أنتبــه إىل ّأنــن رائعــات كنــت أعــرف فتيـ ٍ
األيم .تســاءلت :هــل ســأموت فعـ ًـا؟ هــل هــو املصــر اجلمــال إال يف تلــك ّ
يضــا
الــذي أملــى علـ ّـي هــذا العطــش للحســن؟ يقــال إ ّن اإلنســان يكــون مر ً
صحيحــا ،فأقبــل علــى متــع احليــاة،
ً مــرض املــوت ،فــإذا اقــرب أجلُــه ،أصبــح
ـت قليـ ًـا.
مث مــات فجــأةً .خفـ ُ
ـهورا يف «األقبيــة الثالثــة»
تعرفــت عليــه ،حــن أقمــت شـ ً ـاب ّ
زارين شـ ّ
ابحلـّـراش ،عــام ،2006فقــال يل :هــل تــرى شــعار «منــوت ومــا هناجــرش»
واقعيًــا؟ قلــت :لــن أهاجــر .قــال :هــل أنــت قــادر علــى ذلــك ومل تفعــل؟
ـادة مــن اخلــارج .فأخــرج يل مــا حتــت ســرواله ،ومل
عروضــا جـ ّ
قلــت :أملــك ً
أره بعدهــا أبـ ًـدا.
لقــد جعلــي اجلــوع أعيــد النظــر ،يف الت ّفــاح واللّحــم والكــرز والكسكســي
والبيــض والعصــر ،ومــا إليهــا مــن املأكــول واملشــروب .فاكتشــفت أنــي مل
156
عبد الرزاق بوكبّة
157
الفهرس