You are on page 1of 32

‫تلخيص كتاب احملرر يف علوم القرآن‬

‫مفهوم علوم القرآن‪:‬‬

‫العلوم‪ :‬مجع (علم)‪ ،‬والعلم لغة‪ :‬معرفة الشيء على احلقيقة اليت هو عليها ظنّاً أو يقيناً‪.‬‬

‫خاصاً اليت تندرج حتت جهة واحدة‪ .‬وسيدرك الطالب متايز كل علم عن غريه‬
‫واصطالحا‪ :‬املسائل املضبوطة ضبطاً ّ‬
‫ابلنظر يف موضوعاته ومسائله‪.‬‬

‫ظاهر من استخدام هذا اللفظ ومشتقاته يف كالم هللا سبحانه‪،‬‬


‫والقرآن يف اللغة مأخوذ من مادة قرأ‪ ،‬مبعىن تال‪ ،‬وهذا ٌ‬
‫ويف كالم رسوله‪ ،‬ويف كالم الصحابة الذين نزل عليهم القرآن‪.‬‬
‫يدل على ذلك قوله تعاىل‪{ :‬وإِ َذا قُ ِرىء الْ ُقرآ ُن فَاستَ ِمعوا لَه وأَنْ ِ‬
‫صتُوا لَ َعلَّ ُك ْم تُ ْر ََحُو َن} [األعراف‪ ،]204 :‬وقوله تعاىل‪:‬‬ ‫ْ ُ َُ‬ ‫َ ْ‬ ‫َ‬
‫ان وما تَْت لُو ِمْنه ِمن قُر ٍ‬ ‫ٍ‬
‫آن} [يونس‪ .]61 :‬فاستعمل لفظ التالوة ولفظ القراءة مع القرآن ليدل‬ ‫ُ ْ ْ‬ ‫{وَما تَ ُكو ُن ِيف َش َ َ‬
‫َ‬
‫على أهنما مبعىن واحد‪ .‬وبناء على ذلك يكون القرآن مبعىن املقروء واملتلو‪ ،‬مث غلب امساً على كالم هللا تعاىل احملفوظ‬
‫بني دفيت املصحف‪.‬‬

‫والقرآن يف االصطالح‪ :‬كالم هللا املنَزل على نبيه حممد صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬املتعبد بتالوته‪ ،‬املعجز أبقصر سوره‪.‬‬

‫خاصاً املتعلقة ابلقرآن‬


‫ومما سبق نستطيع أن نبني معىن علوم القرآن فنقول‪ :‬مجلة من أنواع املعلومات املضبوطة ضبطاً ّ‬
‫الكرمي من حيث نزوله ومجعه وقراءاته ومكيِّه ومدنيِّه وأسباب نزوله‪ ،‬وما إىل ذلك‪.‬‬

‫وقد استخدم العلماء يف كتبهم مصطلحات مرادفة لعلوم القرآن مثل‪ :‬علم القرآن‪ ،‬أو علم الكتاب‪ ،‬أو علوم الكتاب‪،‬‬
‫أو علم التنزيل أو علوم التنزيل‪.‬‬

‫نشأة علوم القرآن‬

‫إن بداية ظهور علوم القرآن مرتبطة ببداية نزوله‪ ،‬فلما نزل جربيل عليه السالم على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم يف‬
‫ك األَ َكَرُم *الَّ ِذي َعلَّ َم‬
‫*خلَ َق ا ِإلنْ َسا َن ِم ْن َعلَ ٍق *اقْ َرا َوَربُّ َ‬
‫غار حراء‪ ،‬وتال عليه قوله تعاىل‪{ :‬اقْ را ِابس ِم ربِ ِ‬
‫ك الَّذي َخلَ َق َ‬
‫َ ْ َّ َ‬
‫*علَّ َم ا ِإلنْ َسا َن َما ََلْ يَ ْعلَ ْم} [العلق‪ ]5 - 1 :‬بدأت العلوم املرتبطة ابلقرآن ابلظهور شيئاً فشيئاً‪ .‬وقد ظل‬ ‫ِابلْ َقلَِم َ‬
‫الصحابة رضي هللا عنهم من زمن النيب صلى هللا عليه وسلم وبعده يتناقلون هذه العلوم املرتبطة ابلقرآن مشافهة؛‬
‫وعنهم أخذها التابعون ومن بعدهم حىت ظهر التدوين‪.‬‬
‫واحلديث عن تدوين علوم القرآن ال ميكن أن ينفك عن احلديث عن كتب التفسري يف مجيع مراحلها؛ ألن علم التفسري‬
‫من حيث هو بيان ملعاين كالم هللا جزء من علوم القرآن‪ ،‬لكنه يتضمن مجلة من أنواع علوم القرآن ال يقوم التفسري إال‬
‫هبا‪ ،‬ومن تلك األنواع‪ :‬علم غريب القرآن‪ ،‬وعلم الناسخ واملنسوخ‪ ،‬وعلم أسباب النُّزول‪ ،‬فهذه األنواع وغريها من ما‬
‫حيتاج إليه املفسر أحياانً؛ كاملكي واملدين وغريه مما ال ختلو منه كتب التفسري‪.‬‬
‫دوهنا السلف مصدر من مصادر علوم القرآن‪ ،‬وهي جزء مرتبط بنشأة علوم القرآن ال‬ ‫ومن َمثَّ‪ ،‬فإن كتب التفسري اليت َّ‬
‫ميكن إغفاله وجتنُّبه‪.‬‬

‫وميكن تقسيم نشأة علوم القرآن كاآليت‪:‬‬

‫املرحلة األوىل‪ :‬بذور هذا العلم منذ نشأته إىل هناية القرن الثاين (‪200‬ه )‬
‫كانت علوم القرآن يف هذه املرحلة تتمثل يف وجود رواايت شفاهية يتناقلها التابعون عن الصحابة‪ ،‬وأتباع التابعني‬
‫عن التابعني‪ ،‬وأتباع أتباع التابعني عن أتباع التابعني حىت يصل السند إىل قائله من هذه الطبقات الثالث‪.‬‬
‫نصيب يف هذه الفرتة‪ ،‬فقد ُد ِّونت جمموعة من الكتب يف هذه املرحلة‪ ،‬وكانت حتمل قدراً ال أبس به‬
‫ٌ‬ ‫وكان للتدوين‬
‫من أنواع علوم القرآن‪.‬‬

‫وميكن تقسيمها على النحو اآليت‪:‬‬

‫أوالً‪ :‬رواايت التفسري وكتبه‪ :‬وذلك إما أن تكون رواية لتفسري أحد أعالم املفسرين؛ كمجاهد بن جرب (ت‪104‬ه )‬
‫الذي كتب تفسري شيخه ابن عباس رضي هللا عنهما (ت‪68‬ه )‪ ،‬وإما أن تكون لعدد من املفسرين؛ كتفسري سفيان‬
‫الثوري (ت‪161‬ه )‪.‬‬

‫كامل مطبوع‪ ،‬وتفسري‬


‫أو تكون كتابة تفسري شاملة جلميع القرآن‪ ،‬ومنه تفسري مقاتل بن سليمان (ت‪150‬ه )‪ ،‬وهو ٌ‬
‫حيىي بن سالم البصري (ت‪200‬ه )‪ ،‬ويتميز هذا التفسري مبقدمة ذكر فيها بعض مسائل يف علوم القرآن‪.‬‬

‫اثنياً‪ :‬كتب مفردة يف نوع من أنواع علوم القرآن‪ :‬وهي كثرية ج ّداً‪ ،‬ومن هذه األنواع‪ :‬املكي واملدين‪ ،‬والناسخ واملنسوخ‪،‬‬
‫والوجوه والنظائر‪ ،‬واآلايت املتشاهبات على احلفاظ‪ ،‬ومشكل القرآن‪ ،‬وأحكام القرآن‪ ،‬ورسم املصحف‪ ،‬ونقط‬
‫املصحف‪ ،‬ومعاين القرآن‪ ،‬وغريب القرآن‪ ،‬وإعراب القرآن‪ ،‬وعد اآلي‪ ،‬والوقف واالبتداء‪ ،‬والقراءات‪ ،‬واألداء‪ ،‬واملقطوع‬
‫واملوصول‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫فقد كتب حتت عنوان (نزول القرآن)‪ :‬الضحاك بن مزاحم (ت‪105‬ه )‪ ،‬وعكرمة (ت‪105‬ه )‪ ،‬واحلسن البصري‬
‫(ت‪110‬ه ) (‪ ،)1‬وغريهم‪.‬‬

‫وكتب حتت عنوان (الناسخ واملنسوخ)‪ :‬قتادة (ت‪117‬ه )‪ ،‬والزهري (ت‪124‬ه )‪.‬‬

‫وكتب غريهم يف أنواع أخرى من علوم القرآن‪.‬‬

‫املرحلة الثانية‪ :‬اجلمع اجلزئي لعلوم القرآن من القرن الثالث إىل ظهور كتاب «الربهان يف علوم القرآن» للزركشي‬
‫(ت‪794‬ه )‬
‫وتتميز هذه املرحلة ابستمرار الكتابة يف التفسري‪ ،‬والكتابة يف نوع من أنواع علوم القرآن‪ .‬وميكن التمثيل لبعضها‪:‬‬
‫فمن كتب التفسري‪« :‬جامع البيان عن أتويل آي القرآن» للطربي (ت‪310‬ه )‪ ،‬و «احملرر الوجيز» البن عطية‬
‫(ت‪542‬ه )‪ ،‬و «اجلامع ألحكام القرآن» للقرطيب (ت‪671‬ه )‪ ،‬و «البحر احمليط» أليب حيان (ت‪745‬ه )‪ ،‬و‬
‫«تفسري القرآن العظيم» البن كثري (ت‪774‬ه )‪ ،‬وغريها كثريٌ ج ّداً ج ّداً‪.‬‬
‫ومن كتب علوم القرآن املفردة‪« :‬فضائل القرآن» أليب عبيد القاسم بن سالم (ت‪224‬ه )‪ ،‬و «أتويل مشكل‬
‫القرآن» البن قتيبة (ت‪276‬ه )‪ ،‬و «أحكام القرآن» للطحاوي (ت‪321‬ه )‪ ،‬و «الناسخ واملنسوخ» أليب جعفر‬
‫النحاس (ت‪338‬ه )‪ ،‬و «التبيان يف إعراب القرآن» للعكربي (ت‪616‬ه )‪ ،‬والربهان يف ترتيب سور القرآن أليب‬
‫جعفر بن الزبري الغرانطي (ت‪708‬ه )‪ ،‬وغريها كثريٌ ج ّداً ج ّداً‪.‬‬
‫وهذه املرحلة متيَّزت مبيزتني من جهة كتابة علوم القرآن عما سبقها‪:‬‬
‫األوىل‪ :‬وجود كتب التفسري اليت قصد مؤلفوها هبا أن تكون على ترتيب موضوعات علوم القرآن‪ ،‬حيث رتَّب كتابه‬
‫نص على االعتناء‬
‫على املوضوعات‪ :‬التفسري‪ ،‬القراءات‪ ،‬اإلعراب‪ ،‬األحكام ‪ ...‬إخل‪ .‬وبعضهم وإن َل يرتبها فإنه َّ‬
‫جبملة من علوم القرآن‪ ،‬ومن هذه التفاسري‪:‬‬
‫‪ - 1‬كتاب «االستغناء يف تفسري القرآن»‪ ،‬حملمد بن علي بن أَحد‪ ،‬املعروف ابأل ُْدفُوي (ت‪388‬ه )‪.‬‬
‫وقد قال يف مقدمة كتابه‪« :‬هذا كتاب ألَّفناه جيمع ضروابً من علوم القرآن‪ ،‬من بني كالم غريب‪ ،‬ومعىن مستغلق‪،‬‬
‫وإعراب مشكل‪ ،‬وتفسري مروي‪ ،‬وقراءة مأثورة‪ ،‬وانسخ ومنسوخ‪ ،‬وحمكم ومتشابه‪ ،‬وأذكر فيه إن شاء هللا ما بلغين‬
‫أبني تصريف الكلمة واشتقاقها إن علمت ذلك‬ ‫من اختالف الناس يف القراءات‪ ،‬وعدد اآلي‪ ،‬والوقف والتمام‪ ،‬و ِّ‬
‫وما فيه من حذف الختصا ٍر‪ ،‬أو إطالة ٍ‬
‫إلفهام‪ ،‬وما فيه تقدمي وأتخري ‪.»...‬‬
‫‪ - 2‬كتاب «الربهان يف تفسري القرآن»‪ ،‬لعلي بن إبراهيم بن سعيد‪ ،‬املعروف ابحلويف (ت‪430‬ه )‪.‬‬
‫‪ - 3‬كتاب «اهلداية إىل بلوغ النهاية يف علم معاين القرآن وتفسريه وأحكامه ومجل من فنون علومه»‪ ،‬ملكي بن أيب‬
‫طالب (ت‪437‬ه )‪.‬‬
‫الثانية‪ :‬ظهور جمموعة من الكتب اليت مجعت أنواعاً من أنواع علوم القرآن‪ ،‬ومن املطبوع من هذه الكتب‪:‬‬
‫‪« - 1‬فنون األفنان يف علوم القرآن»‪ ،‬البن اجلوزي (ت‪597‬ه )‪.‬‬
‫‪« - 2‬مجال القراء‪ ،‬وكمال اإلقراء»‪ ،‬لعلم الدين السخاوي (ت‪643‬ه )‪.‬‬
‫‪« - 3‬املرشد الوجيز إىل علوم تتعلق ابلكتاب العزيز»‪ ،‬أليب شامة املقدسي (ت‪665‬ه )‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬أنه اتسعت الكتابة وكثرت يف جمال كتب التفسري‪ ،‬والكتب املفردة يف علوم القرآن‪ ،‬لكن َل يصلنا كتاب‬
‫متكامل يقصد مجع كل علوم القرآن‪.‬‬
‫ٌ‬

‫املرحلة الثالثة‪ :‬اجلمع الكلي من كتاب «الربهان» للزركشي (ت‪794‬ه ) إىل كتاب «اإلتقان» للسيوطي‬
‫(ت‪911‬ه )‬
‫يف هذه الفرتة اليت بني ظهور أول كتاب جيتهد يف مجع أنواع علوم القرآن‪ ،‬وظهور كتاب السيوطي الذي صار عمدةً‬
‫يف كتب علوم القرآن جتد اآليت‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬ال زال التصنيف يف التفسري مستمراً‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪« - 1‬التقييد الكبري يف تفسري كتاب هللا اجمليد»‪ ،‬ألَحد بن حممد البسيلي التونسي (ت‪830‬ه )‪ ،‬وقد طُبِع منه إىل‬
‫تفسري سورة آل عمران‪.‬‬
‫‪« - 2‬اجلواهر احلسان يف تفسري القرآن»‪ ،‬للثعاليب اجلزائري (ت‪875‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫‪« - 3‬نظم الدرر يف تناسب اآلايت والسور» لربهان الدين البقاعي (ت‪885‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬ال زال التصنيف يف علوم القرآن املفردة مستمراً‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫‪« - 1‬العجاب يف بيان األسباب»‪ ،‬البن حجر العسقالين (ت‪852‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫‪« - 2‬مصاعد النظر لإلشراف على مقاصد السور» لربهان الدين البقاعي (ت‪885‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫‪« - 3‬كشف السرائر يف معاين الوجوه واألشباه والنظائر» البن العماد (ت‪887‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫اثلثاً‪ :‬ظهر بعض التصنيفات اليت تتسم ابجلمع اجلزئي‪ ،‬ومن ذلك‪:‬‬
‫«التيسري يف قواعد علم التفسري»‪ ،‬حملمد بن سليمان الكافِيَ ِجي (ت‪879‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫رابعاً‪ :‬ظهرت حماوالت أخرى غري ما ذهب إليه الزركشي للجمع الشمويل لعلوم القرآن‪ ،‬ومن هذه‪:‬‬
‫‪« - 1‬مواقع العلوم من مواقع النجوم» للبلقيين (ت‪824‬ه )‪.‬‬

‫‪« - 2‬الفوائد اجلميلة على اآلايت اجلليلة»‪ ،‬أليب علي احلسني بن علي الرجراجي (ت‪899‬ه )‪ ،‬وهو مطبوع‪.‬‬
‫‪« - 3‬التحبري يف علوم التفسري»‪ ،‬للسيوطي (ت‪911‬ه )‪ ،‬وقد بىن كتابه على كتاب البلقيين (ت‪824‬ه )‪ ،‬حيث‬
‫قال‪ ...« :‬فصنفت يف ذلك كتاابً مسيته التحبري يف علوم التفسري ضمنته ما ذكر البلقيين من األنواع مع زايدة مثلها‬
‫وأضفت إليه فوائد مسحت القرحية بنقلها»‪.‬‬

‫املرحلة الرابعة‪ :‬ما بعد «اإلتقان» للسيوطي‬


‫بعد كتاب «اإلتقان» يكاد يكون التأليف يف علوم القرآن قد توقف سوى بعض ٍ‬
‫كتب ظهرت إما تشقيقاً ملا ذكره‬
‫السيوطي‪ ،‬وإما كتابةً لبعض أنواع علوم القرآن‪.‬‬
‫وملا دخلت مادة (علوم القرآن) يف مناهج اجلامعات ظهرت جمموعة من كتب علوم القرآن ألعضاء هيئة التدريس‬
‫درسوا هذا املنهج‪ ،‬فكان منها‪:‬‬‫الذين َّ‬
‫‪« - 1‬مناهل العرفان يف علوم القرآن»‪ ،‬حملمد عبد العظيم الزرقاين (ت‪1367‬ه )‪.‬‬
‫‪« - 2‬مباحث يف علوم القرآن»‪ ،‬للدكتور صبحي الصاحل (ت‪1407‬ه )‪ .‬وقد متيَّز هذان الكتاابن حبسن العرض‪،‬‬
‫وترتيب املعلومات‪ ،‬واألسلوب األديب الرشيق يف عرض املادة العلمية‪ ،‬واالعتناء ابلرد على شبه املستشرقني‪.‬‬
‫‪« - 3‬مباحث يف علوم القرآن»‪ ،‬ملناع خليل القطان (ت‪1420‬ه )‪ .‬وميتاز هذا الكتاب جبودة التنظيم‪ ،‬وحسن‬
‫ترتيب املعلومات مع سهولة يف العبارة‪.‬‬

‫الفرق بني علوم القرآن وأصول التفسري‪:‬‬


‫‪ /1‬اختالف اإلضافات ُّ‬
‫تدل على اختالف املصطلحات‪ ،‬إال إذا كان املضاف إليه له أكثر من نظري يف معناه؛‬
‫كمصطلح «علوم التَّ ْنزيل»‪ ،‬ومصطلح «علوم الكتاب»‪ ،‬وأمثاهلا‪.‬‬

‫‪ /2‬كلمة (التفسري) غري كلمة (القرآن)‪ ،‬لذا فأصول التفسري ليست هي علوم القرآن‪ .‬والتفسري جزءٌ من علوم القرآن‪،‬‬
‫بل هو أكرب علومه‪ .‬وقد تكون بعض العلوم مشرتكة بني التفسري وعلوم القرآن‪ ،‬وهذا أمر معتاد‪ ،‬فكل ما هو من‬
‫علوم التفسري‪ ،‬فهو من علوم القرآن قطعاً‪ ،‬مثل‪ :‬غريب القرآن‪ ،‬وأسباب النزول ‪ ...‬اخل‪.‬‬
‫درس يف األصول غالباً ما متثِّل شكل القاعدة اليت يندرج‬
‫أخص من علوم التفسري‪ ،‬واملسائل اليت تُ ُ‬
‫‪ /3‬أصول التفسري ُّ‬
‫حتتها أمثلة متعددة‪ ،‬وتكون من مبادئ هذا العلم‪ ،‬ويغلب عليها اجلانب التطبيقي‪ ،‬ومن عرفها فإنه يسهل عليه ممارسة‬
‫علم التفسري‪.‬‬
‫وأصول التفسري تشتمل على املبادئ واألسس اليت حيتاج إليها من يريد قراءة التفسري أو من يريد التفسري؛ ليعرف هبا‬
‫القول الصواب من اخلطأ‪.‬‬
‫خالصة القول‪ :‬إن كانت املعلومة ال أثر هلا يف فهم املعىن‪ ،‬فهي من علوم القرآن وليست من علوم التفسري؛ كمعرفة‬
‫فضائل سورة اإلخالص‪ ،‬فإهنا من علوم القرآن لكن معرفتها أو جهلها ال يؤثر يف فهم املعىن‪.‬‬
‫وإن كانت املعلومة تؤثر يف فهم املعىن؛ كمعرفة غريب األلفاظ‪ ،‬فهذا من علوم التفسري‪ ،‬ومن علوم القرآن من ابب‬
‫أوىل‪.‬‬
‫وإن كانت املعلومة متثِّل أصالً أو أساساً يُرجع إليه ملعرفة التفسري من حيث الصحة والبطالن‪ ،‬ومن حيث توجيه أقوال‬
‫املفسرين‪ ،‬فإهنا تكون من أصول التفسري‪ ،‬ومن ابب أوىل أن تكون من علوم التفسري‪ ،‬فعلوم القرآن‪.‬‬

‫نزول القرآن ومجعه‬


‫الفصل األول‪ :‬الوحي‪.‬‬
‫الوحي لغة‪ :‬إلقاء علم يف ٍ‬
‫خفاء إىل غريك‪ .‬فاإلشارة والكتابة والرسالة‪ ،‬وكل ما ألقيته إىل غريك حىت َعلِ َمهُ فهو وحي؛‬
‫كيف كان‪.‬‬
‫الوحي بلغة القرآن والسنة‪ :‬إعالم هللا لنيب من أنبيائه بكيفية معينة بنبوته‪ ،‬وما يتبعها من أوامر ونواهٍ وأخبار‪.‬‬

‫أنواع (صور) الوحي‪:‬‬


‫‪ /1‬أن يلقي هللا كالمه على النيب بكيفية غري معتادة فيعيه‪.‬‬
‫‪ /2‬أن يكلمه مباشرة من وراء حجاب‪ ،‬فال يرى النيب ربه‪ ،‬لكن يسمع كالمه‪ ،‬وقد وقع هذا ملوسى عليه السالم يف‬
‫بدء وحيه‪ ،‬ويف ميعاده مع ربه ألخذ الشريعة اليت كانت يف األلواح‪ .‬وحصل لنبينا ٍ‬
‫حممد صلّى هللا عليه وسلّم يف‬
‫معراجه‪ ،‬حيث أخذ األمر ابلصالة عن ربه مباشرة‪.‬‬
‫املرسل جربيل عليه السالم إن كان األمر يتعلق ابلنبوة والشريعة‪،‬‬
‫‪ /3‬أن يرسل رسوالً من املالئكة‪ ،‬وغالباً ما يكون َ‬
‫وقد يرسل غريه ألمور أخرى‪ ،‬كما هو وارد يف اآلاثر‪.‬‬
‫والوحي الذي يُْنزله هللا بواسطة امللك جربيل على نيب من أنبيائه هو الغالب على الوحي إىل األنبياء‪.‬‬

‫كيفية الوحي‪:‬‬
‫الوحي من أمور الغيب اليت خيتص هبا النيب املرسل‪ ،‬لذا فإن االجتهاد يف تقريب صورة الوحي إىل األذهان أبمر من‬
‫األمور احملسوسة غري دقيق‪.‬‬

‫نزول القرآن الكرمي‪:‬‬


‫ابتداءُ النُّزول‪:‬‬
‫كان نزول جربيل عليه السالم على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم يف غار حراء مؤذ ٌن ببداية النبوة‪ ،‬وقد نزل ابآلايت‬
‫اخلمس األوىل من سورة العلق‪ ،‬وهي قوله تعاىل‪{ :‬اقْ را ِابس ِم ربِ ِ‬
‫*خلَ َق ا ِإلنْ َسا َن ِم ْن َعلَ ٍق *اقْ َرا َوَربُّ َ‬
‫ك‬ ‫ك الَّذي َخلَ َق َ‬
‫َ ْ َّ َ‬
‫ِ‬
‫األَ َكَرُم *الَّذي َعلَّ َم ِابلْ َقلَِم َ‬
‫*علَّ َم ا ِإلنْ َسا َن َما ََلْ يَ ْعلَ ْم} [العلق‪.]5 - 1 :‬‬

‫أنواع نزول القرآن‪:‬‬


‫‪ /1‬النُّزول اجلُملي‪:‬‬
‫ثبت عن ابن عباس رضي هللا عنهما يف تفسري قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّان أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} [القدر‪ ]1 :‬أنه نزل إىل مساء‬
‫الدنيا‪ ،‬فعن سعيد بن جبري عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ :‬يف قوله تعاىل‪{ :‬إِ َّان أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} قال‪« :‬أنزل‬
‫القرآن يف ليلة القدر مجلة واحدة إىل مساء الدنيا‪ ،‬كان مبوقع النجوم‪ ،‬فكان هللا يْنزله على رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫ت بِِه‬ ‫اح َد ًة َك َذلِ ِ‬
‫وسلّم بعضه يف إثر بعض‪ ،‬قال عز وجل‪{ :‬وقَ َال الَّ ِذين َك َفروا لَوالَ نُ ِزَل علَي ِه الْ ُقرآ ُن مجُْلَةً و ِ‬
‫ك لنُثَبِّ َ‬
‫َ‬ ‫َ‬ ‫َ ُ ْ ّ َْ ْ‬ ‫َ‬ ‫ّ‬
‫فُ َؤ َاد َك َوَرتَّ ْلنَاهُ تَ ْرتِيالً} [الفرقان‪.»]32 :‬‬
‫خمالف من‬
‫صح عن ابن عباس رضي هللا عنهما (ت‪68‬ه )‪ ،‬وليس له ٌ‬ ‫وهذا اخلرب الغييب الذي ال يُدرك إال ابخلرب قد َّ‬
‫الصحابة‪ ،‬وال ُحيتمل أن يكون من مروايت بين إسرائيل؛ ألنه خرب إسالمي‪ .‬وال يقع فيه شبهة أن يكون من مروايت‬
‫تج به‪.‬‬
‫وحي ُّ‬
‫قبل ُ‬
‫بين إسرائيل؛ لذا فإنه يُ ُ‬
‫وهذا النُّزول اجلملي ال تتعلق به أحكام سوى بيان شرف هذه األمة وفضلها؛ إذ نزوله هبذه الصفة دون غريه من‬
‫الكتب إيذان بتميُّزها عن غريها‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وملا كان هذا النُّزول اجلملي من املغيبات‪ ،‬فإنه خيرج عن السؤاالت التكييفية‪ ،‬فالبحث يف كيفية هذا النازل‪ ،‬ويف أحواله‬
‫من ترتيبه وكيفية تدوينه‪ ،‬أو القول بنُزول آايت فيه َل يقع مضموهنا؛ كل هذا من اقتحام كيفيات الغيبيات‪.‬‬
‫املفرق‪ :‬وقد تتابع تْنزيله على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم طوال فرتة بعثته يف أو ٍ‬
‫ثالث وعشرين سنة) ‪.‬‬ ‫النُّزول َّ‬

‫النُّزول السنوي‪ :‬هذا النوع من النُّزول مما َل يُشر إليه من َكتب يف تنَزالت القرآن‪ ،‬وقد أشار إليه مقاتل بن سليمان‬
‫(ت‪150‬ه ) يف تفسريه لقوله تعاىل‪{ :‬إِ َّان أَنْ َزلْنَاهُ ِيف لَْي لَ ِة الْ َق ْد ِر} [القدر‪ ،]1 :‬قال‪« :‬قوله‪{ :‬إِ َّان أَنْ َزلْنَاهُ} يعين‬
‫عز وجل من اللوح احملفوظ إىل مساء الدنيا‪ ،‬إىل السفرة وهم الكتبة من املالئكة وكان يْنزل تلك‬ ‫القرآن؛ أنزله هللا ّ‬
‫الليلة من الوحي على قدر ما يْنزل به جربيل عليه السالم على النيب صلّى هللا عليه وسلّم يف السنة كلها إىل مثلها من‬
‫قابل‪ ،‬حىت نزل القرآن كله يف ليلة القدر من شهر رمضان من السماء»‪.‬‬
‫أن هللا يق ِّدر يف ليلة القدر مقادير السنة اآلتية‪ ،‬ويُْنزهلا إىل الكتبة من املالئكة‪.‬‬
‫وهذا املعىن موافق ملا قيل من َّ‬

‫فوائد تنجيم النُّزول‪:‬‬


‫‪ - 1‬تثبيت فؤاد الرسول عليه الصالة والسالم بسبب ما يالقيه من عنت املشركني‪ .‬فيْنزل القرآن عليه ليهبه‬
‫ال الَّ ِذين َك َفروا لَوالَ نُ ِزَل علَي ِه الْ ُقرآ ُن ُُْلَةً و ِ‬
‫اِ ََ ً ً‬ ‫َ‬ ‫َْ ْ‬ ‫{وقَ َ َ ُ ْ‬ ‫ذلك التَّنَزل طمأنينةً وثبااتً‪ ،‬كما قال تعاىل‪َ :‬‬
‫ت بِِه فُ َؤ َاد َك َوَرتَّ ْلنَاهُ تَ ْرتِيالً} [الفرقان‪ .]32 :‬وهذه اآلية صرحية بفائَ ً تنجيمه على‬ ‫َك َذلِ ِ‬
‫ك لنُثَبِ َ‬
‫َ‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬
‫‪ - 2‬مواكبة احلوادث واملسائل اليت تقع يف عصر النبوة‪ ،‬إذ كان الوحي يْنزل بشأهنا؛ َّإما قرآ ٌن‪ ،‬وإما غري ذلك‪ ،‬تلك‬
‫مهماً ملن أراد أن يفسر القرآن‪.‬‬
‫احلوادث واملسائل هي أسباب النُّزول اليت صارت علماً ّ‬
‫‪ - 3‬التدرج يف التشريع وبيان األحكام واحلدود‪ ،‬فالشريعة َل تْنزل مجلة واحدة على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬
‫بل كان يْنزل منها الشيء بعد الشيء من تفاصيل األحكام واحلدود حىت اكتملت الشريعة ومتَّ الدين‪.‬‬
‫ما هي األمور أو الوسائل اليت ساعدت النيب صلى هللا عليه وسلم يف حتقيق التدرج يف تربية األمة؟؟‬

‫كيفية إنزاله‪:‬‬
‫ورد احلديث ببيان كيفية مساع الوحي يف السماء عن أيب هريرة رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪ :‬إن نيب هللا صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫قال‪ « :‬إذا قضى هللا األمر يف السماء ضربت املالئكة أبجنحتها خضعاان لقوله؛ كأنه سلسلة على صفوان‪ ،‬فإذا فزع‬
‫عن قلوهبم قالوا‪ :‬ماذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال‪ :‬احلق وهو العلي الكبري» (‪ )2‬احلديث‪.‬‬
‫وقال مسروق عن ابن مسعود رضي هللا عنه‪« :‬إذا تكلم هللا ابلوحي مسع أهل السموات شيئاً فإذا فزع عن قلوهبم‬
‫وسكن الصوت عرفوا أنه احلق واندوا‪ :‬ماذا قال ربكم قالوا احلق»‪.‬‬
‫والقرآن من الوحي الذي يسمعه جربيل عليه السالم من ربه مباشرة بال واسطة‪ ،‬ويْنزل به على حممد صلّى هللا عليه‬
‫ك لِتَ ُكو َن ِمن الْمْن ِذ ِر ِِ ٍ‬
‫*علَى قَ ْلبِ َ‬ ‫ِ‬ ‫وسلّم‪ ،‬وال شأن لغريمها به‪ ،‬كما قال تعاىل‪{ :‬نََزَل بِِه ُّ‬
‫ين *بل َسان َعَرٍِّ‬
‫يب‬ ‫َ ُ َ‬ ‫ني َ‬
‫وح األَم ُ‬
‫الر ُ‬
‫ني} [الشعراء‪.]195 - 193 :‬‬ ‫ُمبِ ٍ‬

‫أول ما نزل من القرآن‬


‫َل يقع خالف بني العلماء يف أن أول ما نزل من القرآن على اإلطالق هو أول مخس آايت من سورة العلق‪ ،‬فقد ثبت‬
‫ذلك ابلدليل الصريح‪ ،‬فعن حممد بن شهاب الزهري عن عروة بن الزبري أخربه أن عائشة زوج النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم قالت‪( :‬كان أول ما بدئ به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم الرؤاي الصادقة يف النوم‪ ،‬فكان ال يرى رؤاي إال‬
‫ُّث‪ :‬التعبد الليايل‬ ‫َّث فيه قال والتَّحن ُ‬ ‫ب إليه اخلالء‪ ،‬فكان يلحق بغار حراء‪ ،‬فيتحن ُ‬ ‫ِ‬
‫جاءت مثل فلق الصبح‪ ،‬مث ُحبّ َ‬
‫احلق وهو يف غار‬ ‫ذوات العدد قبل أن يرجع إىل أهله ويتزود لذلك‪ ،‬مث يرجع إىل خدجية فيتزود مبثلها‪ ،‬حىت فَ َجأَه ُّ‬
‫حراء‪ ،‬فجاءه امللك‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪.‬‬
‫فقال رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ :‬ما أان بقارئ‪.‬‬
‫قال‪ :‬فأخذين‪ ،‬فغطَّين حىت بلغ مين اجلَهد‪ ،‬مث أرسلين‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪.‬‬
‫قلت‪ :‬ما أان بقارئ‪ .‬فأخذين‪ ،‬فغطَّين الثانية حىت بلغ مين اجلَهد‪ ،‬مث أرسلين‪ ،‬فقال‪ :‬اقرأ‪.‬‬
‫ك الَّ ِذي َخلَ َق‬
‫قلت‪ :‬ما أان بقارىء‪ .‬فأخذين‪ ،‬فغطَّين الثالثة حىت بلغ مين اجلَهد‪ ،‬مث أرسلين‪ ،‬فقال‪{ :‬اقْ َرا ِاب ْس ِم َربِّ َ‬
‫ِ‬
‫*علَّ َم ا ِإلنْ َسا َن َما ََلْ يَ ْعلَ ْم} [العلق‪.]5 - 1 :‬‬ ‫*خلَ َق ا ِإلنْ َسا َن ِم ْن َعلَ ٍق *اقْ َرا َوَربُّ َ‬
‫ك األَ َكَرُم *الَّذي َعلَّ َم ِابلْ َقلَِم َ‬ ‫َ‬
‫نزول للقرآن كان يف غار حراء‪ ،‬وأن أول ما نزل منه هذه اآلايت اخلمس من أول سورة العلق‪.‬‬ ‫وهذا صريح يف أن أول ٍ‬
‫وقد ورد عن جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما خالف ذلك‪ ،‬حيث جعل سورة املدثر أول ما نزل‪.‬‬
‫روى البخاري بسنده عن جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما قال‪ :‬مسعت النيب صلّى هللا عليه وسلّم قال‪« :‬جاورت‬
‫حبراء‪ ،‬فلما قضيت جواري هبطت‪ ،‬فنوديت‪ ،‬فنظرت عن مييين فلم أر شيئاً‪ ،‬ونظرت عن مشايل فلم أر شيئاً‪ ،‬ونظرت‬
‫أمامي فلم أر شيئاً‪ ،‬ونظرت خلفي فلم أر شيئاً‪ ،‬فرفعت رأسي فرأيت شيئاً‪ ،‬فأتيت خدجية‪ ،‬فقلت‪ :‬دثروين وصبوا علي‬
‫ك فَ َكِّْرب}»‪.‬‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫{ايأَيُّ َها الْ ُم َّدثُّر *قُ ْم فَأَنْذ ْر َ‬
‫*وَربَّ َ‬ ‫ماءً ابرداً‪ ،‬قال‪ :‬فدثروين وصبوا علي ماءً ابرداً‪ ،‬قال‪ :‬فنَزلت‪َ :‬‬
‫خرجه العلماء بعدد من التخرجيات‪ ،‬لكن بعضها فيه نظر‪ ،‬ومن أحسن ما ميكن أن ُجياب عنه يف هذا املقام‪ :‬أن‬ ‫وقد َّ‬
‫جابراً َل يكن على علم مبا نزل يف غار حراء‪ ،‬وإن كان يف حديثه إشارة إىل نزول جربيل عليه السالم على حممد صلّى‬
‫هللا عليه وسلّم يف الغار‪ ،‬وإمنا مسع حديثه عن نزول امللك آبايت سورة املدثر‪.‬‬
‫والصحيح أن أول ما نزل على اإلطالق أول مخس آايت من سورة العلق‪ ،‬وأن أول ما نزل بعد فرتة الوحي سورة‬
‫املدثر‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫نزول القرآن على سبعة أحرف‬


‫نصت على ذلك مجلة األحاديث الواردة ومنها‪:‬‬ ‫نزل التخفيف على األمة ابألحرف السبعة كما َّ‬
‫عبد القاري أنه قال‪« :‬مسعت عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه يقول‪ :‬مسعت‬ ‫‪ - 1‬روى البخاري عن عبد الرَحن بن ٍ‬
‫هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان على غري ما أقرؤها‪ ،‬وكان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أقرأنيها‪ ،‬وكِدت‬
‫أن أعجل عليه‪ ،‬مث أمهلته حىت انصرف‪ ،‬مث لَبَ ْب تُه بردائه‪ ،‬فجئت به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فقلت‪ :‬إين مسعت‬
‫هذا يقرأ على غري ما أقرأتنيها‪ .‬فقال يل‪« :‬أرسله»‪ .‬مث قال له‪ :‬اقرأ‪ .‬فقرأ‪ .‬قال‪« :‬هكذا أُنزلت»‪ .‬مث قال يل‪ :‬اقرأ‪.‬‬
‫فقرأت‪ ،‬فقال‪ :‬هكذا أُنزلت‪ ،‬إن القرآن أنزل على سبعة أحرف‪ ،‬فاقرؤوا منه ما تيسر»‪.‬‬
‫‪ - 2‬وروى أيضاً عن عبيد هللا بن عبد هللا أن ابن عباس رضي هللا عنهم حدثه أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫قال‪« :‬أقرأين جربيل على حرف فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدين حىت انتهى إىل سبعة أحرف»‪.‬‬
‫‪ - 3‬وروى عن أُيب بن كعب رضي هللا عنه أن النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان عند أضاة بين غفار‪ ،‬قال‪ :‬فأاته جربيل‬
‫عليه السالم‪ ،‬فقال‪ :‬إن هللا أيمرك أن تَ ْقَرأَ َّأمتُك القرآ َن على حرف‪ .‬فقال‪« :‬أسأل هللا معافاته ومغفرته‪ ،‬وإن أميت ال‬
‫تطيق ذلك»‪ .‬مث أاته الثانية‪ ،‬فقال‪ :‬إن هللا أيمرك أن تقرأ أمتُك القرآن على حرفني‪ .‬فقال‪« :‬أسأل هللا معافاته ومغفرته‪،‬‬
‫وإن أميت ال تطيق ذلك»‪ .‬مث جاءه الثالثة‪ ،‬فقال‪ :‬إن هللا أيمرك أن تقرأ أمتك القرآن على ثالثة أحرف‪ .‬فقال‪ :‬أسأل‬
‫هللا معافاته ومغفرته‪ ،‬وإن أميت ال تطيق ذلك‪ .‬مث جاءه الرابعة‪ ،‬فقال‪ :‬إن هللا أيمرك أن تقرأ أمتك القرآن على سبعة‬
‫أحرف‪ ،‬فأميا حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا»‪.‬‬
‫‪ - 4‬وروى أيضاً عن أُيب بن كعب رضي هللا عنه قال‪« :‬كنت يف املسجد‪ ،‬فدخل رجل يصلي‪ ،‬فقرأ قراءة أنكرهتا‬
‫عليه‪ ،‬مث دخل آخر‪ ،‬فقرأ قراءة سوى قراءة صاحبه‪ .‬فلما قضينا الصالة دخلنا مجيعاً على رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم‪ ،‬فقلت‪ :‬إن هذا قرأ قراءة أنكرهتا عليه‪ ،‬ودخل آخر‪ ،‬فقرأ سوى قراءة صاحبه‪ .‬فأمرمها رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم‪ ،‬فقرآ‪ ،‬فَ َح َّس َن النيب صلّى هللا عليه وسلّم شأهنما‪ ،‬فسقط يف نفسي من التكذيب‪ ،‬وال إذ كنت يف اجلاهلية‪،‬‬
‫عز وجل‬‫فلما رأى رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم ما قد غشيين ضرب يف صدري‪ ،‬ففضت عرقاً‪ ،‬وكأمنا أنظر إىل هللا ّ‬
‫إيل أن أقرأ القرآن على حرف‪ ،‬فرددت إليه‪ :‬أن َه ِّون على أميت‪ ،‬فَ َرَّد َّ‬
‫إيل الثانية‪ :‬اقرأه‬ ‫ُيب‪ ،‬أ ِ‬
‫ُرسل َّ‬ ‫فَ َرقاً‪ ،‬فقال يل‪« :‬اي أ َُّ‬
‫إيل الثالثة‪ :‬اقرأه على سبعة أحرف‪ ،‬فلك بكل َرَّدةٍ َرْد ْدتُكها مسألةٌ‬ ‫ت إليه‪ :‬أن ِّ‬
‫هون على أميت‪ ،‬فَ َرَّد َّ‬ ‫على حرفني‪َ ،‬فرَد ْد ُ‬
‫إيل اخللق كلهم حىت إبراهيم عليه‬ ‫ت الثالثة ليوم يرغب َّ‬ ‫َخ ْر ُ‬
‫تسألنيها‪ ،‬فقلت‪ :‬اللهم اغفر ألميت اللهم اغفر ألميت‪ ،‬وأ َّ‬
‫السالم»‪.‬‬
‫من فوائد هذه األحاديث‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن نزول األحرف السبعة كان يف املدينة بداللة قوله‪« :‬أن النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان عند أضاة بين غفار»‪،‬‬
‫وهو موضع ماء يف املدينة نزل فيه رهط أيب ذر الغفاري رضي هللا عنه‪ ،‬فَنُ ِسب إليهم‪.‬‬
‫ويضاف إىل هذا ما ورد من استنكار أ َُيب بن كعب ملا مسع من الصحابيني غري ما مسعه هو من النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم‪ ،‬وأ َُيب كان يف املدينة‪ ،‬ولو كانت األحرف نزلت يف مكة ملا وقع هذا االستنكار الذي يدل على ورود أمر جديد‬
‫فيما يتعلق بقراءة القرآن‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن القرآن يف العهد املكي‪ ،‬وفرتة من العهد املدين كان يقرأ على لغة قريش لسان النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وَل‬
‫يرد أنه قرأه بغري ذلك‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن هذه األحرف نزلت من عند هللا‪ ،‬بداللة قوله صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬هكذا أنزلت»‪ ،‬وهذا يعين أنه ال يصح‬
‫أن يُرتك من هذه األحرف إال ما أذن هللا برتكه‪.‬‬
‫‪ - 4‬أنه ال ميكن معرفة األحرف إال من طريق الرسول صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬خالفاً ملن ذهب إىل جواز القراءة ابملعىن‪.‬‬
‫‪ - 5‬أن هذه األحرف نزلت ابلتدريج‪ ،‬بعد مراجعة النيب صلّى هللا عليه وسلّم لربه أن يزيد من األحرف رفقاً أبمته‪.‬‬
‫‪ - 6‬أن العدد سبعة يقصد به العدد املعروف‪ ،‬وهو ما بني الستة والثمانية‪ ،‬بداللة قوله صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬أقرأين‬
‫جربيل على حرف‪ ،‬فراجعته فلم أزل أستزيده ويزيدين حىت انتهى إىل سبعة أحرف»‪ ،‬وهذا فيه داللة على احل ِّد خالفاً‬
‫ملن ذهب إىل أن املراد ابلسبعة التكثري يف العدد‪ ،‬كما يستعمله العرب يف العدد سبعة ومضاعفاته أحياانً‪ ،‬وإرادة‬
‫املضاعفة خروج عن األصل‪ ،‬فهو حيتاج إىل قرينة‪ ،‬والقرينة يف األحاديث خالفه‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫‪ - 7‬أن هذا االختالف كان له أثر كبري على بعض كبار الصحابة من القراء‪ ،‬إذ استنكر القراءة بغري ما أقرأه رسول‬
‫هللا صلّى هللا عليه وسلّم كما حصل لعمر مع حكيم بن حزام حىت َّبني هلم رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أنه أقرأ‬
‫هبا وأهنا أنزلت من عند هللا‪.‬‬
‫‪ - 8‬أن القراءة أبي حرف من األحرف السبعة تعترب قرآانً‪ ،‬وأبيها قرأ القارئ فهو مصيب‪.‬‬
‫رب العاملني صلّى هللا عليه وسلّم طلب املزيد من األحرف ختفيفاً على أمته‪،‬‬ ‫‪ - 9‬أن الرسول الكرمي؛ الرَحة املهداة من ِّ‬
‫وتوسيعاً عليها يف القراءة‪ ،‬وذلك يف قوله‪« :‬أسأل هللا معافاته ومغفرته‪ ،‬وإن أميت ال تطيق ذلك»‪ ،‬وقد ورد يف بعض‬
‫طرق حديث األحرف السبعة تفصيل آخر‪ ،‬فقد روى اإلمام أَحد بسنده عن حذيفة رضي هللا عنه عن النيب صلّى‬
‫هللا عليه وسلّم قال‪« :‬لقيت جربيل عليه السالم عند أحجار املراء‪ ،‬فقال‪ :‬اي جربيل إين أرسلت إىل أمة أمية‪ :‬الرجل‬
‫واملرأة والغالم واجلارية والشيخ الفاين الذي ال يقرأ كتاابً قط‪ ،‬قال‪ :‬إن القرآن نزل على سبعة أحرف»‪ ،‬ويف حتديد هذه‬
‫الفئات أمران‪:‬‬
‫تعوده من ِ‬
‫النطق‪ ،‬فإن نزوع أمثال هؤالء عن طريقة منطقهم‬ ‫األمي هو ما يعود إىل ما َّ‬ ‫َّ‬
‫األول‪ :‬أن الذي يصعب على ِّ‬
‫حتتاج إىل تعلٍُّم وتكلُّ ٍ‬
‫ف‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫أن أغلب اختالف األحرف السبعة يرجع إىل طريقة النطق‪ ،‬وإمنا جاء ذكر التيسري هبذه الصورة يف احلديث‬ ‫الثاين‪َّ :‬‬
‫الكل إىل أعظم ٍ‬
‫جزء فيه؛ كقوله صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬احلج عرفة»‪.‬‬ ‫على األسلوب النبوي الشرعي يف نسبة ِّ‬
‫اختالف يف هذه األحرف ال يستطيعه من ذكرهم الرسول صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬‫ٍ‬ ‫واملقصود أنه ال يلزم أن يكون كل‬
‫بل قد يستطيعونه‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫ومن املهم مالحظة أن التخفيف على األمة ابألحرف السبعة َل ينقطع‪ ،‬فالرسول صلّى هللا عليه وسلّم استزاد ألمته‬
‫كلها‪ ،‬وليس لزمن من أزماهنا دون غريه‪ ،‬وهذه امللحوظة حيسن التنبه هلا يف كل األحاديث اليت يرد فيها ذكر أمته‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬

‫االختالفات الواردة يف القراءات القرآنية من خالل القراءات املشهورة‪:‬‬


‫إذا اجتهدت يف حصر أنواع األوجه القرائية اليت وقع فيها االختالف يف هذه القراءات = فإنه سيظهر لك أنواع كثرية‪،‬‬
‫ومنها على سبيل املثال‪:‬‬
‫قسمع)‪.‬‬
‫‪ - 1‬الفك (اإلظهار) واإلدغام (قد مسع‪َّ ،‬‬
‫‪ - 2‬اإلمالة والفتح (والضحى)‪.‬‬
‫‪ - 3‬القصر واملد‪.‬‬
‫‪ - 4‬التسهيل والتحقيق (أاعجمي‪ ،‬أأعجمي)‪.‬‬
‫‪ - 5‬التحقيق واإلبدال (يؤمنون‪ ،‬يومنون)‪.‬‬
‫‪ - 6‬اإلبدال بني احلروف (كالسني والصاد)‪ ،‬واملعىن واحد‪.‬‬
‫وهذه األنواع ترجع إىل األداء‪ ،‬فهي من علم الصوتيات املرتبط ابختالف هلجات قبائل العرب‪.‬‬
‫وصى)‪( ،‬جتري من حتتها‪ ،‬جتري حتتها)‪.‬‬‫‪ - 7‬الزايدة والنقصان (أوصى‪َّ ،‬‬
‫كلمات)‪.‬‬ ‫آدم من ربه‬ ‫ٍ‬
‫ٌ‬ ‫آدم من ربه كلمات‪ ،‬فتلقى َ‬ ‫‪ - 8‬اختالف اإلعراب (فتلقى ُ‬
‫‪ - 9‬اخلطاب والغيبة (يعلمون‪ ،‬تعلمون)‪.‬‬
‫‪ - 10‬التذكري والتأنيث (كان سيئُه‪ ،‬كان سيئةً) (كالذي استهوته‪ ،‬كالذي استهواه)‪.‬‬
‫‪ - 11‬تغيري الكلمة ومعناها (تبلوا‪ ،‬تتلوا)‪( ،‬بظنني‪ ،‬بضنني)‪.‬‬
‫وغالب هذه االختالفات تعود إىل الرسم الذي هو فرع عن القراءة الصحيحة‪ ،‬حبيث لو َل يرد االختالف يف القراءة‬
‫الصحيحة ملا قرئ به لو وافق الرسم‪.‬‬
‫تتبعت القراءات الشواذ ملا بَعُ َد أن يوجد إضافة إىل هذا‪.‬‬
‫وهذه االختالفات موجودة يف القراءة املشهورة املقبولة‪ ،‬ولو َ‬

‫ما املراد ابألحرف السبعة‪ ،‬وهل بقيت؟‬


‫هذا املوضوع من املشكل الذي حارت فيه العلماء واختلفت فيه قَولَتُ ُهم‪ ،‬وال يعين هذا أنه ال ميكن الوصول إىل القول‬
‫الصواب يف معىن هذه األحرف‪ ،‬كما أن القول الصواب ال خيرج عن جمموع أقواهلم‪.‬‬
‫وسأذكر لك هنا أحسن ما رأيت يف تعريفها الذي ميكن أن يقال فيها‪:‬‬
‫هي وجوه قرائية ُمنَ َّزلة متعددة متغايرة يف الكلمة القرآنية الواحدة ضمن نوع واحد من أنواع التغاير‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬هل يلزم أن تصل إىل سبعة أوجه؟‬
‫فاجلواب‪ :‬إن ذلك أقصى ما تصل إليه هذه الوجوه املْنزلة‪ ،‬فقد يكون يف الكلمة الواحدة وجه أو وجهان أو ثالثة إىل‬
‫مقصود يف التحديد‪ ،‬وليس املراد به التكثري‪ ،‬كما سبق التنبيه‬ ‫ٌ‬ ‫ألن هذا العدد‬ ‫سبعة أوجه قرائية‪ ،‬وال ميكن أن تزيد؛ َّ‬
‫على ذلك‪.‬‬
‫فسرت األحرف ابلوجوه القرائية؟‬ ‫ِ‬
‫وإن قلت‪َ :‬لَ َّ‬
‫فاجلواب‪ :‬ألن ألفاظ االحاديث تدل على أن هذه األحرف شيء متعلق ابلقراءة‪ ،‬وإنك مهما ذهبت يف تفسريها فلن‬
‫خترج عن كوهنا وجوهاً قرائية‪ ،‬وإمنا سيقع اخلالف يف أمرين‪:‬‬
‫األول‪ :‬املراد هبذه الوجوه القرائية‪.‬‬
‫والثاين‪ :‬هل بقيت هذه الوجوه القرائية أم نُ ِسخت وتُِركت؟‬
‫أما األول‪ :‬فإنه قد وقع اختالف كثريٌ يف املراد هبذه الوجوه القرائية‪ ،‬والذي يظهر وهللا أعلم أن الوجوه القرائية من‬
‫حيث هي أكثر من سبعة وجوه‪ ،‬لكن َل جيتمع يف الكلمة الواحدة ضمن نوع واحد من أنواعها أكثر من سبعة‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬هالَّ مثَّلت أبمثلة توضح ذلك؟‬
‫فدونك أمثلة منها‪:‬‬
‫اها} [هود‪.]41 :‬‬ ‫‪ - 1‬لفظ «جمريها» يف قوله تعاىل‪{ :‬وقَ َال ارَكبوا فِيها بِس ِم َِّ‬
‫اَّلل َْجمَر َاها َوُم ْر َس َ‬ ‫َ ُْ َ ْ‬
‫قرأ َحزة والكسائي وحفص عن عاصم بفتح امليم مع اإلمالة‪.‬‬
‫قرأ بضم امليم مع اإلمالة أبو عمرو وابن ذكوان خبلف عنه‪.‬‬
‫قرأ األزرق عن ورش بضم امليم مع التقليل‪.‬‬
‫قرأ الباقون بضم امليم من دون إمالة‪.‬‬
‫وهذه الكلمة يتشكل منها أربعة أحرف‪ ،‬وهي‪ :‬فتح امليم‪ ،‬وضم امليم‪ ،‬والفتح أو اإلمالة أو التقليل‪ ،‬ويرتكب منها‬
‫ابجلمع عدد من األوجه‪ ،‬وما يرتكب من األوجه ليس هو األحرف‪ ،‬وإمنا األصل الرابعي املذكور هو األحرف يف هذه‬
‫الكلمة‪.‬‬
‫‪ - 2‬لفظ إبراهيم يف قوله تعاىل‪{ :‬وإِ ِذ اب تَ لَى إِب ر ِاهيم ربُّه بِ َكلِم ٍ‬
‫ات فَأََمتَُّه َّن} [البقرة‪.]124 :‬‬ ‫َ ْ َْ َ َ ُ َ‬
‫قرأ ابن ذكوان عن ابن عامر خبلف عنه (إبراهام)‪.‬‬
‫وقرأ الباقون وهو الوجه الثاين البن ذكوان (إبراهيم)‪.‬‬
‫فقراءة (إبراهيم) هبذين الوجهني من النطق مها حرفان من األحرف املْنزلة‪.‬‬
‫مرده إىل األحرف السبعة اليت نزل هبا‬
‫مجلة من وجوه االختالف الكائن يف القراءات الذي ُّ‬ ‫وقد سبقت اإلشارة إىل ٍ‬
‫القرآن‪.‬‬
‫وأما الثاين‪ ،‬وهو هل بقيت هذه الوجوه القرائية أم نُ ِسخت وتُِركت؟‬
‫تدل على أنَّه قد تُرك بعض القراءات اليت كان يُقرأ هبا؛ ألن أعلى ما وصلنا‬ ‫فاجلواب‪ :‬إ َّن القراءات اليت وصلت إلينا ُّ‬
‫من الوجوه القرائية املتواترة يف الكلمة الواحدة مخسة أوجه‪ ،‬ومن أمثلة ذلك كلمة (جربيل)‪.‬‬
‫ويرد السؤال املتوقع هنا‪ ،‬وهو َل ال جند يف كلمة سبعة أوجه من أنواع التغاير؟‬
‫ترك لبعض األوجه يف العرضة األخرية‪ ،‬فكان ما بقي منها َل يتجاوز اخلمسة‪ ،‬وهذا استدالل‬ ‫فاجلواب‪ :‬ألنه قد وقع ٌ‬
‫ابلثابت من القراءات املوافقة للعرضة األخرية؛ ألن األمة أمرت أبن تقرأ كما عُلِّمت‪ ،‬وما بلغنا صحيحاً مقبوالً (املتواتر)‬
‫يصح رفع القراءة به إىل‬‫هو ما عُلِّمت وأريد هلا أن تقرأ به‪ ،‬وما عداه مما أبيدينا فهو إما مما تُرك (نُسخ)‪ ،‬وإما مما َل َّ‬
‫النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫أن هناك قراءات صحيحة ال يُقرأ هبا اليوم كالقراءات األربع املتممة للعشر‪ ،‬وككث ٍري من أفراد‬ ‫وإذا كان قد ثبت َّ‬
‫القراءات اليت ثبتت أبسانيد مفردة‪ ،‬كقراءة (والذكر واألنثى) اليت ثبتت عن ابن مسعود وأيب الدرداء رضي هللا عنهما‪،‬‬
‫أن هذه القراءات قد تُِركت‪ ،‬وهي من األحرف املْنزلة‪.‬‬ ‫فإن هذا مما ُّ‬
‫يدل على َّ‬ ‫وغريها َّ‬
‫وميكن أن نقسم القراءات إىل أقسام ثالثة‪:‬‬
‫القسم األول‪ :‬القراءات املشهورة اليت تلقتها األمة ابلقبول‪ ،‬وحكم عليها العلماء ابلتواتر‪.‬‬
‫القسم الثاين‪ :‬القراءات الصحيحة اليت َل تصل إىل ح ِّد الشهرة والقبول‪ ،‬وقد تُِركت القراءة هبا‪.‬‬
‫القسم الثالث‪ :‬ما سوى ذلك مما يُنسب إىل بعض القراء أو غريهم بال سند‪ ،‬وتلك ال ترقى إىل حكم القسم الثاين‬
‫فضالً عن األول؛ لذا قد يدخلها اخلطأ‪ ،‬فهي ال ُحتسب من القراءات عند التمحيص والتمييز والتحقيق‪.‬‬
‫هل جيوز ألحد كائ ٍن من كان أن حيذف ما ثبتت قرآنيته؟‬
‫اجلواب بال ٍّ‬
‫شك ‪ :‬ال‪.‬‬
‫إذن؛ ما دامت قد ثبتت قرآنية هذه الكلمات املرتوكة‪ ،‬وثبت أهنا مما َل يقرأ به الصحابة بعد مجع عثمان الناس على‬
‫أن الذي أمر برتكها هو الذي أمر بقراءهتا أوالً‪ ،‬وهو املْنزل هلا؛ إذ من‬ ‫يدل على َّ‬ ‫صح يف العرضة االخرية؛ فإن هذا ُّ‬ ‫ما َّ‬
‫فوائد حديث إنزال األحرف أن النيب صلّى هللا عليه وسلّم خيرب أن القرآن (أُن ِزل) واملْنزل جربيل‪ ،‬اآلمر ابإلنزال هو هللا‬
‫سبحانه وتعاىل القائل‪{ :‬إِ َّان ََْن ُن نََّزلْنَا ال ِّذ ْكَر َوإِ َّان لَهُ َحلَافِظُو َن} [احلجر‪ ،]9 :‬فهو الذي له حق النسخ‪.‬‬
‫أما ما يُنسب لعثمان رضي هللا عنه من أنه أبقى حرفاً واحداً‪ ،‬فإن ذلك أمر ال يصح‪ ،‬ولو قال به من له جاللة ومْنزلة‬
‫أن أحرفاً نزلت‪ ،‬وأن بعض األمة قد تركها‪ ،‬وهذه األحرف اليت يُدَّعى أهنا تركت إمنا هي‬ ‫ألن ذلك يعين َّ‬
‫يف العلم؛ َّ‬
‫قرآن‪ ،‬وتركها خمالف لقوله تعاىل‪{ :‬إِ َّان ََْن ُن نََّزلْنَا ال ِّذ ْكَر َوإِ َّان لَهُ َحلَافِظُو َن} [احلجر‪.. ]9 :‬‬

‫عالقة القراءات ابألحرف السبعة‪:‬‬


‫وقع اخلالف بني العلماء هل أبقى عثمان على شيء من األحرف أم اختار واحداً وترك الباقي؟‬
‫وهذا االختالف ينبين على فهم مدلول األحرف‪ ،‬وقد سبق بيانه‪.‬‬
‫لكن املراد هنا االنطالق من االختالف الكائن يف القراءات املشهورة املتلقاة ابلقبول من لدن علماء األمة‪ ،‬وهي‬
‫القراءات العشر املنسوبة لقارئيها‪.‬‬
‫وإذا انطلقت من أنواع الوجوه القرائية اليت ذكرهتا لك‪ ،‬ورتبتها على اختالف العلماء يف فعل عثمان‪ ،‬فإنه سيظهر لك‬
‫ما أييت‪:‬‬
‫‪ - 1‬أن من يقول أبن عثمان رضي هللا عنه أبقى حرفاً واحداً فقط‪ ،‬فهذا يعين أن وجوه االختالف الواردة يف القراءات‬
‫ليست من األحرف يف شيء‪ ،‬وأمامك احتماالن يف بقية األحرف‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن يكون هذا االختالف يف القراءات وارداً مع كل حرف من األحرف اليت ال نعلم ماهيتها بسبب ترك‬
‫الصحابة هلا‪ ،‬فاختالف القراءات شيء‪ ،‬واألحرف شيء آخر‪.‬‬
‫وذلك احتمال يدور حوله تساؤالت كثرية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫كيف غاب عن األمة ما هو منَزل من أجل التخفيف عليها؟ أفكان التخفيف ألجل سنني معدودة مث زال سببه؟!‬
‫احد‪ ،‬ولو بقيت لنا األحرف األخرى خلرج لنا اختالفات‬ ‫الثاين‪ :‬أن يكون هذا االختالف يف القراءات على حرف و ٍ‬
‫أخرى أكثر من هذه لكنها ذهبت مع ذهاب األحرف الستة‪.‬‬
‫يبق ما يدل عليها‪ ،‬ولو قليالً؟ أفزالت ابلكلية؟!‬ ‫وهذا فيه نظر أيضاً‪ ،‬فكيف َل َ‬
‫يصح أن تكون هذه‬‫وهذه القراءات الشاذة ال ختتلف من حيث العموم عن أداء القراءات املقبولة املشهورة‪ ،‬فهل ُّ‬
‫القراءات الشاذة قد ُح ِفظت‪ ،‬ويغيب عنا بقية األحرف السبعة؟‬
‫موجود يف وجوه القراءات؛ متواترها وشاذها؛ ألنه ال يُعقل أن تذهب هذه‬ ‫ٌ‬ ‫حل األحرف السبعة‬ ‫وينتج عن هذا أن َّ‬
‫فصح أن األحرف ال خترج عما هو‬ ‫األحرف ابلكلية‪ ،‬وال نرى بني أيدينا سوى هذه األوجه املختلفة يف القراءات‪َّ ،‬‬
‫بني أيدينا من هذه األوجه املختلفة يف القراءة‪.‬‬
‫‪ - 2‬أن من يقول‪ :‬إن عثمان َل يصنع شيئاً سوى أنه َّفرق ما يف مصحف أيب بكر يف املصاحف اليت كتبتها اللجنة‬
‫صح أنه مقروءٌ يف العرضة االخرية اليت عرضها رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم على جربيل‬ ‫اليت اختارها‪ ،‬فأابنَت عما َّ‬
‫بد أن يذهب إىل أن األحرف السبعة ابقية مبثوثة يف هذا االختالف‬ ‫يف آخر رمضان له صلّى هللا عليه وسلّم = فإنه ال َّ‬
‫الوارد يف القراءات‪ ،‬خالفاً ملن ذهب إىل أنه ترك ستة أحرف وأبقى واحداً‪.‬‬
‫أن جيل الصحابة رضي هللا عنهم قد مضى‪ ،‬وَل حيدث عندهم لبس يف هذه األحرف؛ إذ َل ِ‬
‫أيت عن‬ ‫ولعلك تالحظ َّ‬
‫أحدهم أنه استشكل معناها‪ ،‬وال سأل عن فحواها‪ ،‬وإمنا مسعوها من بعضهم أو مسعوها من النيب صلّى هللا عليه وسلّم‬
‫شك‪ ،‬مثَّ زال عنه‪ ،‬واملراد أنه قد انقضى هذا اجليل واألحرف‬
‫الذي علمهموها‪ ،‬ووقع عند بعضهم يف أول األمر ٌّ‬
‫السبعة معلومة هلم يقرؤون هبا‪.‬‬
‫وإنه كلما تباعد العصر عن عصرهم ازداد غموض هذه األحرف‪ ،‬ويالحظ أن بعض العلماء قد كثَّر عدد االختالف‪،‬‬
‫حىت بلغت األقوال عند السيوطي يف اإلتقان أربعني قوالً‪ ،‬وذلك ابلنظر إىل تعدد عبارات األقوال دون النظر إىل‬
‫تداخل بعضها يف بعض‪ ،‬مع أهنا عند التمحيص ال تتجاوز العشرة حبال‪.‬‬

‫املكي واملدين‪:‬‬
‫‪ /1‬حرص الصحابة رضي هللا عنهم والتابعون رَحهم هللا على العناية مبكان نزول اآلايت‪ .‬ألن ذلك يسهم يف معرفة‬
‫معانيها‪ ،‬ويدل على زايدة االهتمام ابلقرآن ‪ ....‬اخل‬
‫عن ابن مسعود رضي هللا عنه قال‪« :‬والذي ال إله غريه ما أنزلت سورة من كتاب هللا إال وأان أعلم أين نزلت‪ ،‬وال‬
‫أنزلت آية من كتاب هللا إال وأان أعلم فيمن أنزلت‪ ،‬ولو أعلم أحداً أعلم مين بكتاب هللا تبلغه اإلبل لركبت إليه»‬
‫الضابط يف التفريق بني املكي واملدين‪:‬‬
‫‪ /1‬ورد اعتبار املكان‪ :‬فاملكي ما نزل مبكة واملدين ما نزل ابملدينة‪.‬‬

‫‪ /2‬ورد اعتبار الزمان‪ :‬فاملكي ما نزل قبل اهلجرة واملدين ما نزل بعدها‪.‬‬
‫قال حيىي بن سالم البصري (ت‪200‬ه ) قال‪ ...« :‬وإن ما نزل مبكة وما نزل يف طريق املدينة قبل أن يبلغ النيب عليه‬
‫السالم املدينة فهو من املكي‪ .‬وما نزل على النيب عليه السالم يف أسفاره بعدما قدم املدينة فهو من املدين»‪.‬‬

‫طرق معرفة املكي واملدين‪:‬‬


‫‪ /1‬الطريق النقلي‬
‫‪ /2‬الطريق القياسي االجتهادي‪.‬‬
‫فظاهر‪ ،‬فإذا وقع االتفاق أو وقع النقل عن واحد من الصحابة ليس له خمالف فاألمر على ما قال‪ ،‬واملنقول‬ ‫أما النقلي ٌ‬
‫هو األغلب األعم يف ابب املكي واملدين دون القياسي‪.‬‬
‫دل ابالستقراء من موضوعات املكي‬ ‫وأما القياسي االجتهادي فإنه يقوم على معرفة ما ميكن القياس عليه‪ ،‬وهو ما َّ‬
‫واملدين وأسلوهبما يف السور واآلايت‪.‬‬
‫وقد استنبط العلماءُ عدداً من الضوابط اليت يُعرف هبا املكي واملدين ومنها‪:‬‬
‫َّاس} فبمكة‪.‬‬ ‫َّ ِ‬
‫{ايأَيُّ َها الن ُ‬
‫ين َآمنُوا} أنزل ابملدينة‪ .‬وما كان َ‬ ‫{ايأَيُّ َها الذ َ‬
‫‪ /1‬ما كان َ‬
‫َّاس اتَّ ُقوا َربَّ ُك ُم الَّ ِذي َخلَ َق ُك ْم‬
‫{ايأَيُّ َها الن ُ‬
‫وهذا أغليب وليس كلي‪ .‬فقد أمجع العلماء على أن سورة النساء مدنية‪ ،‬وأوهلا‪َ :‬‬
‫اح َدةٍ َو َخلَ َق ِمْن َها َزْو َج َها َوبَ َّ‬
‫ث ِمْن ُه َما ِر َجاالً َكثِ ًريا َونِ َساءً} [النساء‪.]1 :‬‬ ‫سوِ‬ ‫ِ‬
‫م ْن نَ ْف ٍ َ‬

‫‪ /2‬كل شيء نزل من القرآن فيه ذكر األمم والقرون؛ فإمنا نزل مبكة‪ .‬وما كان من الفرائض والسنن؛ فإمنا نزل ابملدينة‪.‬‬
‫أغليب أيضاً؛ ألنه ورد يف القرآن املدين شيءٌ من ذكر األمم والقرون كقصة آدم وإبليس وقصة موسى‬ ‫وهذا الضابط ٌّ‬
‫يف سورة البقرة املدنية ‪ ،‬لكنه يف القرآن املكي أكثر‪.‬‬
‫كما أنه من جهة الفرائض والسنن أغليب كذلك؛ ألن بعض األحكام قد فُ ِرضت مبكة‪ ،‬لكن أكثر األحكام وتفاصيلها‬
‫إمنا نزلت ابملدينة‪.‬‬
‫هتج فهي مكية‪ ،‬سوى البقرة وآل عمران والرعد‪ ،‬ويف سورة الرعد خالف‪.‬‬ ‫‪ - 3‬كل سورة ورد يف أوهلا أحرف ٍ‬
‫‪ - 4‬كل سورة ورد فيها لفظ (كال)‪ ،‬فهي مكية‪ ،‬وَل يرد هذا اللفظ إال يف النصف الثاين من سور القرآن‪.‬‬
‫‪ - 5‬كل سورة فيها ذكر املنافقني فهي مدنية؛ ألن النفاق َل يظهر إال يف املدينة‪.‬‬
‫‪ - 6‬كل سورة فيها سجدة فهي مكية‪.‬‬
‫‪ - 7‬كل سورة نزل فيها جدال ألهل الكتاب وذكر ألحواهلم وخمازيهم فهي مدنية‪.‬‬

‫فوائد معرفة املكي واملدين‬


‫ومما يذكر يف فوائد معرفة املكي واملدين ما أييت‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬معرفة الناسخ واملنسوخ‪.‬‬
‫اثنياً‪ :‬معرفة الصحيح من الضعيف من التفسري (الرتجيح بني األقوال)‪.‬‬
‫اثلثاً‪ :‬االستفادة منه يف الدعوة إىل هللا بتْنزيل املقال على مقتضى احلال‪:‬‬
‫إن القرآن املكي كان خياطب أغلبية كافرة ال تؤمن ابهلل وال ابليوم اآلخر‪ ،‬فكان اخلطاب يكثر فيه ذكر قضااي التوحيد‬
‫الكلية وما يتعلق إبثبات النبوة والبعث‪ ،‬وغريها‪.‬‬
‫استقر أمرها‪ ،‬وصار األمر والنهي فيها لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪،‬‬
‫والقرآن املدين كان خياطب الدولة املسلمة اليت َّ‬
‫فظهر احلديث عن التشريعات واحلدود‪ ،‬كما جتد احلديث عن اجلهاد واملنافقني وغري ذلك‪ ،‬وكان لكل نوع من هذه‬
‫األنواع طريقة يف خطابه‪.‬‬
‫فالداعية يستفيد من هذا يف تنويع خطابه‪ ،‬فال يكون خطابه وأسلوب تعامله واحداً ال يتغري‪ ،‬فإن كان خياطب ملحداً‬
‫فإن خطابه ال يكون كما خياطب كافراً مؤمناً ابهلل‪ ،‬وإذا كان خياطب كافراً مؤمناً ابهلل كأهل الكتاب فإنه خيتلف يف‬
‫لعاص ٍ‬
‫فاسق‪ ،‬وهكذا يُنَ َّزل لكل قوم ما يصلح هلم‬ ‫خطابه هلم عن خطابه ملبتدع‪ ،‬وخطابه ملبتدع خيتلف عن خطابه ٍ‬
‫من اخلطاب‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫أسباب النزول‪:‬‬
‫تعرف أسباب النُّزول أبهنا‪ :‬كل قول أو فعل أو سؤ ٍال ممن عاصروا التْنزيل نزل بشأنه قرآن‪.‬‬
‫ونزول القرآن ال خيرج عن قسمني‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن ال يكون له سبب مباشر‪ ،‬بل يْنزل حسب احلاجة واملصلحة‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن يقع حدث فيْنزل قرآن بشأنه‪ ،‬وهذا هو املراد أبسباب النُّزول‪.‬‬
‫يتأخر؛ كحادثة اإلفك‪.‬‬
‫وال يلزم أن يكون النُّزول عقب احلدث مباشرة‪ ،‬فقد َّ‬
‫يصح أن يكون النُّزول قبل احلدث‪ ،‬فهذا ال يدخل يف أسباب النُّزول‪ ،‬بل يدخل يف اإلخبار عن املغيبات‪.‬‬
‫لكن ال ُّ‬

‫صيغ عبارات أسباب النزول‪:‬‬


‫األصل يف أسباب النُّزول الصرحية أهنا نقلية من جهتني‪ :‬الصيغة اليت ُحيكى هبا سبب النُّزول‪ ،‬واحلدث الذي يُذكر يف‬
‫سبب النُّزول‪ ،‬فكما ال يصح افتعال حدث يقال فيه‪ :‬إنه سبب نزول‪ ،‬كذلك ال يصلح ذكر صيغة َل ترد يف املنقول‬
‫عن الصحابة أو التابعني وأتباعهم‪.‬‬

‫‪ /1‬أشهر الصيغ يف أسباب النُّزول هي العبارة اليت أتيت بعد فاء السببية (فنَزلت‪ ،‬أو فأنزل هللا)‪،‬‬
‫‪ /2‬مث بعدها عبارة (نزلت يف كذا‪ ،‬أُنزلت يف كذا)‪.‬‬
‫ألن عبارة (فأنزل هللا‪ ،‬فنَزلت) أ َْد َخ ُل يف السببية من عبارة (نزلت يف كذا‪ ،‬أُنزلت يف كذا)؛ إذ غالب ما يرد هبذه الصيغة‬
‫يدخل يف سبب النُّزول املباشر‪ ،‬خبالف عبارة (نزلت يف كذا‪ ،‬أُنزلت يف كذا)‪.‬‬
‫وقد ترد هااتن الصيغتان ويراد هبما دخول احلادثة يف معىن اآلية وتفسريها‪.‬‬
‫اب ُس َّج ًدا َوقُولُوا ِحطَّةٌ} [البقرة‪ ،]58 :‬عن أيب الكنود عن عبد‬ ‫{و ْاد ُخلُوا الْبَ َ‬
‫مثال ‪ /1‬روى الطربي يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫ين ظَلَ ُموا قَ ْوالً َغ ْ َري‬ ‫هللا‪{« :‬وادخلُوا الْباب س َّج ًدا وقُولُوا ِحطَّةٌ} قالوا‪ :‬حنطة َحراء فيها شعرية فأنزل هللا‪{ :‬فَبد َ َّ ِ‬
‫َّل الذ َ‬ ‫َ‬ ‫َُْ َ َ ُ َ‬
‫يل َهلُْم}»‪.‬‬ ‫الَّ ِذي قِ‬
‫َ‬

‫مثال ‪ /2‬عن الرباء بن عازب رضي هللا عنه‪« :‬أن رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم صلى إىل بيت املقدس ستة عشر‬
‫شهراً أو سبعة عشر شهراً‪ ،‬وكان يعجبه أن تكون قبلته قِبَ َل البيت‪ ،‬وأنه صلى أو صالها صالة العصر‪ ،‬وصلى معه‬
‫قوم‪ ،‬فخرج رجل ممن كان صلى معه‪ ،‬فمر على أهل املسجد وهم راكعون‪ ،‬قال‪ :‬أشهد ابهلل لقد صليت مع النيب‬
‫صلّى هللا عليه وسلّم قِبَ َل مكة‪ ،‬فَ َداروا كما هم قبل البيت‪ ،‬وكان الذي مات على القبلة قبل أن ُحتَ َّوَل قِبَ َل البيت ٌ‬
‫رجال‬
‫وف َرِح ٌيم} [البقرة‪.»]143 :‬‬ ‫يع إِميَانَ ُك ْم إِ ْن َّ‬
‫اَّللَ ِابلن ِ‬
‫َّاس لََرُؤ ٌ‬ ‫قتلوا َل ندر ما نقول فيهم‪ ،‬فأنزل هللا‪{ :‬وما َكا َن َّ ِ ِ‬
‫اَّللُ ليُض َ‬ ‫ََ‬
‫مثال‪ /3‬عن هشام بن عروة‪ ،‬قال‪ :‬قال عروة‪« :‬كان الناس يطوفون يف اجلاهلية عراة إال احلُ ْمس واحلمس قريش وما‬
‫ولدت وكانت احلمس حيتسبون على الناس يعطي الرجل الرجل الثياب يطوف فيها‪ ،‬وتعطي املرأة املرأة الثياب تطوف‬
‫فيها فمن َل يعطه احلمس طاف ابلبيت عرايانً وكان يفيض مجاعة الناس من عرفات ويفيض احلمس من مجع‪.‬‬
‫قال‪ :‬وأخربين أيب عن عائشة رضي هللا عنها أن هذه اآلية نزلت يف احلمس‪ِ ُ :‬‬
‫َّاس}‬
‫اض الن ُ‬ ‫يضوا ِم ْن َحْي ُ‬
‫ث أَفَ َ‬ ‫{مثَّ أَف ُ‬
‫[البقرة‪ .]199 :‬قال كانوا يفيضون من مجع فدفعوا إىل عرفات)‪.‬‬

‫يضا أَو بِِه أَذى ِمن ر ِاس ِه فَِف ْديةٌ ِمن ِصي ٍام أَو ص َدقٍَة أَو نُس ٍ‬ ‫ِ‬
‫ك} [البقرة‪:‬‬ ‫َ ْ َ ْ َ ْ ُ‬ ‫ً ْ َ‬ ‫مثال‪ /4‬قوله تعاىل‪{ :‬فَ َم ْن َكا َن مْن ُك ْم َم ِر ً ْ‬
‫يف‬
‫‪ ]196‬عن عبد هللا بن معقل قال‪« :‬جلست إىل كعب بن عجرة رضي هللا عنه فسألته عن الفدية‪ ،‬فقال‪ :‬نزلت َّ‬
‫ت إىل رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم والقمل يتناثر على وجهي فقال‪« :‬ما كنت أرى‬ ‫ِ‬
‫خاصة‪ ،‬وهي لكم عامة؛ َُح ْل ُ‬
‫الوجع بلغ بك ما أرى‪ ،‬أو ما كنت أرى اجلهد بلغ بك ما أرى؛ جتد شاة؟»‪ .‬فقلت‪ :‬ال‪.‬‬
‫فقال‪« :‬فصم ثالثة أايم‪ ،‬أو أطعم ستة مساكني لكل مسكني نصف صاع»‪.‬‬

‫احلَيَاةِ الدُّنْيَا َوِيف‬ ‫اَّلل الَّ ِذين آمنُوا ِابلْ َقوِل الثَّابِ ِ‬
‫ت ِيف ْ‬ ‫ْ‬ ‫ت َُّ َ َ‬ ‫مثال‪ /5‬عن الرباء بن عازب رضي هللا عنه يف قوله تعاىل‪{ :‬يُثَبِّ ُ‬
‫اآلخَرِة} [إبراهيم‪ ،]27 :‬قال‪« :‬نزلت يف عذاب القرب»‪.‬‬‫ِ‬
‫مثال ‪ /6‬قوله عز وجل‪{ :‬وإِ ِن امرأَةٌ خافَ ِ ِ‬
‫اضا} [النساء‪ ]128 :‬عن عائشة قالت‪« :‬نزلت‬ ‫ت م ْن بَ ْعل َها نُ ُش ًوزا أ َْو إِ ْعَر ً‬
‫َ َْ َ ْ‬ ‫ّ‬
‫يف املرأة تكون عند الرجل‪ ،‬فَلَ َعلَّهُ أن ال يستكثر منها‪ ،‬وتكون هلا صحبة وولد‪ ،‬فتكره أن يفارقها‪ ،‬فتقول له‪ :‬أنت يف‬
‫حل من شأين»‪.‬‬

‫فوائد معرفة أسباب النزول‪:‬‬


‫‪ /1‬معرفة املعىن املراد ابآلية‪ :‬فسبب النُّزول يعني على معرفة املراد‪ ،‬وتعيينه‪ ،‬إذ قد ترد عليه احتماالت صحيحة من‬
‫حيث هي‪ ،‬لكن سبب النُّزول حيدد أحد هذه املعاين‪ ،‬ويكون هو املراد دون غريه‪.‬‬
‫قال ابن تيمية‪ :‬معرفة سبب النُّزول يعني على فهم اآلية؛ فإن العلم ابلسبب يورث العلم ابملسبب»‪.‬‬
‫عن أيب إسحاق قال‪ :‬مسعت الرباء رضي هللا عنه يقول‪« :‬نزلت هذه اآلية فينا‪ ،‬كانت األنصار إذا حجوا فجاؤوا َل‬
‫اب بيوهتم‪ ،‬ولكن من ظهورها‪ ،‬فجاء رجل من األنصار‪ ،‬فدخل من قِبَ ِل اببه‪ ،‬فكأنه عَُِّري بذلك‬ ‫يدخلوا من قِب ِل أبو ِ‬
‫َ‬
‫وت ِم ْن أَبْ َو ِاهبَا} [البقرة‪.»]189 :‬‬ ‫ِ‬ ‫فنزلت‪{ :‬ولَيس الِْربُّ ِأبَ ْن َاتتُوا الْب ي ِ‬
‫وت م ْن ظُ ُهوِرَها َولَك َّن الِْربَّ َم ِن اتَّ َقى َواتُوا الْبُيُ َ‬
‫ُُ َ‬ ‫َْ َ‬
‫وكون البيوت يف اآلية هي البيوت املسكونة مما أمجع عليه السلف‪ ،‬وإن اختلفوا يف سبب النُّزول على أقو ٍال‪ ،‬قول الرباء‬
‫هو أصوهبا؛ ألنه قول صحايب شاهد التْنزيل‪ ،‬وهو عارف بعادات قومه اليت نزل القرآن بشأهنا‪.‬‬
‫كني‪..‬‬ ‫ِ‬ ‫من أهلِه ووج ِهه‪ ،‬وال تطلبوه َ‬
‫عند اجلهلة املشر َ‬ ‫من األقوال الواردة يف تفسري اآلية‪ :‬اطلبوا ِ َّ‬
‫الرب ْ‬
‫ِ‬ ‫ِ ِ‬
‫أمركم هللاُ‪.‬‬
‫حيث َ‬‫من ُ‬ ‫البيوت كنايةٌ ع ِن النّ َساء‪ ،‬ويكو ُن املعىن‪ :‬وأتوا النّ َساءَ ْ‬
‫َ‬ ‫وذهب آخرون إىل َّ‬
‫أن‬
‫وهذان القوالن خمالفان لسبب النُّزول‪ ،‬وإن كان بعضها جائزاً من جهة االحتمال اللغوي‪.‬‬

‫‪ /2‬معرفة حكمة التشريع‪ ،‬ومسايرته للحوادث الواقعة‪:‬‬


‫إن من فوائد نزول القرآن منجماً أنه يساير احلوادث اليت كانت حتدث فأي حدث حيدث‪ ،‬وحيتاج املسلمون فيه إىل‬
‫بيان فإنه حيصل هلم بيانه بطرق متعددة‪ ،‬منها نزول القرآن الكرمي‪.‬‬
‫أسباب؛ اللعان‪ ،‬والظهار‪ ،‬و ِ‬
‫العضل‪ ،‬وتقسيم الغنائم‪ ،‬وغريها من‬ ‫ٍ‬ ‫وإذا أتملت بعض التشريعات وجدهتا نزلت على‬
‫التشريعات‪ .‬ومعرفة هذه األسباب املقرتنة ابآلايت يدلُّك على شيء من حكمة التشريع‪.‬‬
‫‪ / 3‬االستفادة منها يف جمال التزكية والرتبية والتعليم‪ :‬إن إدراك أسباب النُّزول تعطي املريب فرصة كبرية يف التعامل مع‬
‫الناس على ما هم عليه من الواقع الذي يعيشونه‪ ،‬ومن األخالق اليت جبلهم هللا عليها‪ ،‬وترشده إىل كيفية إاثرهتم إىل‬
‫القضية اليت يريد أن يتحدث عنها ببيان كيفية عناية هللا مبن نزل فيهم قرآن من املؤمنني‪ ،‬وكيف عاجل ما فيهم من‬
‫األدواء‪ ،‬وكيف فضح أعداءهم وأابن هلم صنائعهم ومنكراهتم‪.‬‬
‫وهذا وإن َل يكن خيتص ابآلايت الواردة على سبب وحدها‪ ،‬إال أن نزوهلا على سبب يزيد يف قوهتا من هذه اجلهة‪،‬‬
‫وهللا أعلم‪.‬‬

‫قاعدة‪( :‬العبة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب)‪:‬‬


‫وقع خالف بني العلماء يف عالقة السبب ابلعموم الوارد يف ألفاظه على قولني‪:‬‬
‫األول‪ :‬أن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن العربة خبصوص السبب ال بعموم اللفظ‪.‬‬
‫والقول األول أقوى وأوىل على التحقيق‪.‬‬
‫َح ِسنُوا إِ َّن‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫مثال تطبيقي‪ /‬ما ورد يف سبب نزول قوله تعاىل‪{ :‬وأَنْ ِف ُقوا ِيف سبِ ِيل َِّ‬
‫اَّلل َوالَ تُ ْل ُقوا ِأبَيْدي ُك ْم إِ َىل الت َّْهلُ َكة َوأ ْ‬ ‫َ‬ ‫َ‬
‫ني} [البقرة‪ ،]195 :‬فقد ورد فيها أهنا نزلت يف النفقة‪ ،‬رواه البخاري عن حذيفة بن اليمان رضي‬ ‫ِِ‬ ‫اَّللَ ُِحي ُّ‬
‫ب الْ ُم ْحسن َ‬ ‫َّ‬
‫هللا عنهما‪ ،‬ومراده‪ :‬وال تلقوا أبيديكم إىل التهلكة برتك النفقة يف سبيل هللا تعاىل‪.‬‬
‫وقد علَّق ابن حجر على هذا األثر فقال‪ ...« :‬ذكر املصنف حديث حذيفة يف هذه اآلية؛ قال‪« :‬نزلت يف النفقة»؛‬
‫مفسراً يف حديث أيب أيوب الذي أخرجه‬ ‫عز وجل‪ ،‬وهذا الذي قاله حذيفة جاء َّ‬ ‫أي‪ :‬يف ترك النفقة يف سبيل هللا ّ‬
‫مسلم والنسائي وأبو داود والرتمذي وابن حبان واحلاكم من طريق أسلم بن عمران قال‪ :‬كنا ابلقسطنطينية فخرج‬
‫صف عظيم من الروم‪ ،‬فحمل رجل من املسلمني على صف الروم حىت دخل فيهم‪ ،‬مث رجع مقبالً‪ .‬فصاح الناس‪:‬‬
‫سبحان هللا‪ ،‬ألقى بيده إىل التهلكة‪.‬‬
‫تؤولون هذه اآلية على هذا التأويل‪ ،‬وإمنا نزلت هذه اآلية فينا معشر األنصار‪ ،‬إان‬ ‫فقال أبو أيوب‪ :‬أيها الناس‪ ،‬إنكم ِّ‬
‫ملا أعز هللا دينه‪ ،‬وَكثُر انصروه قلنا بيننا ِسّراً‪ :‬إن أموالنا قد ضاعت‪ ،‬فلو أان أقمنا فيها‪ ،‬وأصلحنا ما ضاع منها‪ .‬فأنزل‬
‫هللا هذه اآلية‪ ،‬فكانت التهلكة اإلقامة اليت أردانها‪.‬‬
‫وصح عن ابن عباس رضي هللا عنهما ومجاعة من التابعني َنو ذلك يف أتويل اآلية»‪.‬‬ ‫َّ‬
‫{والَ تُ ْل ُقوا ِأبَيْ ِدي ُك ْم إِ َىل الت َّْهلُ َك ِة} الذي جاء يف سياق األمر ابإلنفاق يف اجلهاد يف سبيل‬
‫وإذا أتملت قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫خيتص برتك النفقة فقط‪ ،‬بل ترك النفقة يف اجلهاد صورة من صور اإللقاء ابليد إىل التهلكة‪،‬‬ ‫عاماً ال ُّ‬
‫هللا‪ ،‬وجدته أمراً ّ‬
‫ولو اعتربت خصوص السبب‪ ،‬فإنك ال ميكن أن تقيس غري أمور النفقة يف هذا املوضع؛ ألنك ستكون حمصوراً بصورة‬
‫السبب فتقيس عليها‪ ،‬فتقول‪ :‬أي ترك للنفقة فيه إلقاء ابليد إىل التهلكة‪ ،‬فهو داخل يف معىن اآلية قياساً؛ كرتك النفقة‬
‫على األوالد واليتامى واملساكني‪ ،‬فأنت تدخل هذه الصور ألهنا تشارك أصل السبب يف ترك النفقة‪ .‬لكن إذا رأيت‬
‫من يتقحم املنكرات واملعاصي فإنك ال تستطيع إدخاله يف صورة السبب؛ ألن فعله ال عالقة له ابلنفقة‪ ،‬وإن كان فيه‬
‫إلقاءٌ ابليد إىل التهلكة‪.‬‬
‫{والَ تُ ْل ُقوا ِأبَيْ ِدي ُك ْم إِ َىل الت َّْهلُ َك ِة}‪ ،‬وجعلت صورة السبب ترك النفقة يف اجلهاد‬
‫فإذا نزعت إىل العموم يف مجلة َ‬
‫صح عندك إدخال كل صورة فيها إلقاءٌ ابليد إىل التهلكة‪ ،‬فتدخل من يشرب املسكرات واملخدرات والدخان؛‬ ‫مثاالً = َّ‬
‫ألنه يلقي بيده إىل التهلكة‪ ،‬وكذا غريها من الصور اليت تدخل يف هذا املقطع‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وهبذا يتبني أن القول أبن العربة بعموم اللفظ ال خبصوص السبب أمشل للمعاين من القول أبن العربة خبصوص السبب‬
‫ال بعموم اللفظ‪ ،‬وأن غري السبب يدخل قياساً‪.‬‬

‫مجع القرآن الكرمي‪:‬‬


‫أنواع اجلمع‪:‬‬
‫أ ‪ /‬اجلمع يف الصدور‪.‬‬
‫ب‪ /‬اجلمع يف السطور‪.‬‬
‫اجلمع يف الصدور‪ :‬تيسري حفظه للمسلمني‪.‬‬
‫آايت على تيسري هذا األمر على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ومن مثَّ على أمته اليت ستحمل عنه‬ ‫نصت ٌ‬ ‫ولقد َّ‬
‫ك لِتَ ْع َج َل بِِه *إِ َّن َعلَْي نَا مجَْ َعهُ َوقُ ْرآنَهُ *فَِإ َذا قَ َر َاانهُ فَاتَّبِ ْع‬ ‫ِ‬
‫هذا الكتاب الكرمي‪ ،‬ومن ذلك قوله تعاىل‪{ :‬الَ ُحتَِّرْك بِِه ل َسانَ َ‬
‫*مثَّ إِ َّن َعلَْي نَا بَيَانَهُ} [القيامة‪.]19 - 16 :‬‬
‫قُ ْرآنَهُ ُ‬
‫وأخرج البخاري بسنده عن سعيد بن جبري عن ابن عباس رضي هللا عنهما‪ ،‬قال‪« :‬كان رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم يعاجل من التْنزيل شدة وكان مما حيرك شفتيه فقال ابن عباس‪ :‬فأان أحركهما لكم كما كان رسول هللا صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم حيركهما وقال سعيد‪ :‬أان أحركهما كما رأيت ابن عباس حيركهما فحرك شفتيه فأنزل هللا تعاىل‪{ :‬الَ ُحتَِّرْك‬
‫ك لِتَ ْع َج َل بِِه *إِ َّن َعلَْي نَا مجَْ َعهُ َوقُ ْرآنَهُ}‪ .‬قال‪ :‬مجعه يف صدرك وتقرأه‪{ ،‬فَِإذَا قَ َر َاانهُ فَاتَّبِ ْع قُ ْرآنَهُ}‪ .‬قال‪ :‬فاستمع‬ ‫ِ‬
‫بِِه ل َسانَ َ‬
‫{مثَّ إِ َّن َعلَْي نَا بَيَانَهُ}‪ .‬مث إن علينا أن تقرأه‪ ،‬فكان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم بعد ذلك إذا أاته‬ ‫له وأنصت‪ُ ،‬‬
‫جربيل استمع‪ ،‬فإذا انطلق جربيل قرأه النيب صلّى هللا عليه وسلّم كما قرأه»‪.‬‬
‫وكان من نعمة هللا على عباده املسلمني أن رتَّب هلم األجر على حفظه‪ ،‬وقد ورد يف ذلك أحاديث كثرية‪ ،‬منها‪:‬‬
‫‪ - 1‬ما أخرجه البخاري بسنده عن جابر بن عبد هللا رضي هللا عنهما قال‪« :‬كان النيب صلّى هللا عليه وسلّم جيمع‬
‫بني الرجلني من قتلى أحد يف ثوب واحد مث يقول‪« :‬أيهم أكثر أخذاً للقرآن»‪ .‬فإذا أشري له إىل أحدمها قدمه يف‬
‫اللحد‪ ،‬وقال‪« :‬أان شهيد على هؤالء يوم القيامة»‪ .‬وأمر بدفنهم يف دمائهم وَل يغسلوا وَل يصل عليهم»‪.‬‬
‫‪ - 2‬روى اإلمام أَحد بسنده عن زر عن عبد هللا بن عمرو رضي هللا عنهما عن النيب صلّى هللا عليه وسلّم قال‪:‬‬
‫«يقال لصاحب القرآن اقرأ و ْار َق َورتِّ ْل كما كنت ترتل يف الدنيا‪ ،‬فإن مْنزلتك عند آخر آية تقرؤها»‪.‬‬

‫اجلمع يف السطور‬
‫مر اجلمع يف السطور مبراحل متعددة‪ ،‬وقد قسمها العلماء إىل ثالث مراحل‪:‬‬ ‫َّ‬
‫املرحلة األوىل‪ :‬يف عهد النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫املرحلة الثانية‪ :‬يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه‪.‬‬
‫املرحلة الثالثة‪ :‬يف عهد عثمان رضي هللا عنه‪.‬‬

‫املرحلة األوىل‪ :‬كتابة القرآن يف زمن النيب صلى هللا عليه وسلم‪:‬‬
‫أ‪ /‬الكتابة يف العهد املكي‪:‬‬
‫ظاهر بتدوين القرآن؛ إذ َل يرد سوى آاث ٍر‬
‫يظهر أنه ملا كان الرسول صلّى هللا عليه وسلّم يف مكة َل يكن هناك اعتناءٌ ٌ‬
‫ضعيفة ميكن االستئناس هبا فقط؛ كأثر إسالم عمر بن اخلطاب رضي هللا عنه‪ ،‬وأخذه الصحيفة اليت ُكتب هبا أول‬
‫سورة طه‪.‬‬

‫ب‪ /‬الكتابة يف العهد املدين‪:‬‬


‫ملا انتقل النيب صلّى هللا عليه وسلّم إىل املدينة النبوية‪ ،‬وكان األمر قد آل إليه‪ ،‬وقد بدأ بتنظيم اجملتمع اإلسالمي؛ كان‬
‫مما اعتىن به كتا بة القرآن‪ ،‬فكتب ما نزل عليه مبكة‪ ،‬وإذا نزل عليه شيء من القرآن ابملدينة كتبه‪ ،‬ومجع القرآن املكي‬
‫واملدين على حسب ما أمر به هللا جربيل عليه السالم‪.‬‬

‫كتاب الوحي‪:‬‬
‫ِ‬
‫خصهم بذلك‬
‫َّاب معروفون يدعوهم لكتابة ما يْنزل من القرآن‪ ،‬وكان من أ ّ‬
‫قد كان له صلى هللا عليه وسلم يف املدينة كت ٌ‬
‫زيد بن اثبت األنصاري رضي هللا عنه‪.‬‬

‫وسائل الكتابة‪:‬‬
‫وقد أخرب زيد ببعض وسائل الكتابة اليت كانت يف عصر الرسول صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬ففي احلديث الذي ذكره‬
‫ب و ِّ‬
‫الرقاع‬ ‫البخاري وغريه يف مجع أيب بكر رضي هللا عنه إشارة إىل ذلك‪ ،‬فقال‪« :‬فتتبعت القرآن أمجعه من العُس ِ‬
‫ُ‬
‫واللِّ َخاف»‪.‬‬
‫مصحف و ٍ‬
‫احد يف عهد النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬بل كان متفرقاً‪ ،‬يف‬ ‫ٍ‬ ‫أن القرآن َل يكن جمموعاً يف‬ ‫وهذا ُّ‬
‫يدل على َّ‬
‫مثل هذه األدوات اليت ذكرها زي ٌد رضي هللا عنه‪.‬‬
‫احد كامالً يف عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟‬ ‫ملاذا َل يكتب القرآن يف مصحف و ٍ‬
‫ُ‬
‫مصحف و ٍ‬
‫احد‪ ،‬وهذا ما يشهد له‬ ‫ٍ‬ ‫لقد كان من قدر هللا أن يتو ََّّف نبيه صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وأن ال جيمع القرآن يف‬
‫الواقع التارخيي لكتابة القرآن يف عهد النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬والبحث عن العلل يف ذلك ضرب من االجتهاد‬
‫ض‪ ،‬ومما ذُكر من األسباب‪:‬‬ ‫الذي حيتمل الصواب واخلطأ؛ ألن كل تعليل ميكن أن يُنت َق َ‬
‫‪ - 1‬أن احلاجة َل تدع إىل ذلك‪ ،‬وَل يقع ما يوجب العمل هبذا الضبط الكتايب اجملموع للقرآن الكرمي‪ ،‬بداللة أنه لو‬
‫كان مما حتتاج إليه األمة آنذاك لوجب العمل فيه؛ إذ ال جيوز ترك ما األمة حباجة إليه‪.‬‬
‫وإذا أتملت واقع األمة آنذاك‪ ،‬وعلِمت أن األمية هي الغالبة عليها‪ ،‬وأن الكتبة ابلنسبة لغريهم قليل = ظهر لك عدم‬
‫وجود احلاجة للكتابة يف أمة تعتمد على احلفظ يف ضبط توارخيها وأايمها وأخبارها‪ ،‬وغري ذلك‪ ،‬هذا فضالً عما وقع‬
‫من تيسري هللا حلفظه يف الصدور‪.‬‬
‫استقر‪ ،‬أما احلال ابلنسبة للوحي فلم يكن كذلك‪ ،‬إذ قد يْنزل‬ ‫‪ - 2‬أن الكتابة يف املصحف تصلح ٍ‬
‫لشيء قد انتهى و َّ‬
‫جزء من السورة‪ ،‬مث يْنزل اجلزء اآلخر منها فيما بعد‪ ،‬فيُلحق هبا‪ ،‬كما أنه قد ينسخ بعض النازل‪ ،‬فال يقرأ به‪ ،‬فلو كان‬
‫لتعسر ذلك األمر من جهة اإلضافة واإلزالة‪ ،‬خبالف احلال اليت هو عليها من كتابته متفرقاً‪ ،‬وحفظهم‬
‫جمموعاً يف كتاب َّ‬
‫له يف صدورهم‪.‬‬

‫مالمح هذا اجلمع‪:‬‬


‫مفرقاً يف عدد من أدوات الكتابة‪.‬‬
‫‪ - 1‬أنه كان َّ‬
‫‪ - 2‬أن القرآن الذي نقرؤه كله كان مكتوابً يف عهد رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم َل يكن منه شيء غري مكتوب‪،‬‬
‫مث ُكتب بعد ذلك‬

‫املرحلة الثانية‪ :‬يف عهد أيب بكر رضي هللا عنه‬


‫إيل أبو بكر مقتل أهل اليمامة‬
‫عن زيد بن اثبت األنصاري رضي هللا عنه وكان ممن يكتب الوحي قال‪« :‬أرسل َّ‬
‫استحر يوم اليمامة ابلناس‪ ،‬وإين أخشى أن ي ِ‬
‫ستحَّر‬ ‫َّ‬ ‫وعنده عمر‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إن عمر أاتين فقال‪ :‬إن القتل قد‬
‫َ‬
‫القتل ابلقراء يف املواطن‪ ،‬فيذهب كثري من القرآن إال أن جتمعوه‪ ،‬وإين ألرى أن جتمع القرآن‪.‬‬ ‫ُ‬
‫قال أبو بكر‪ :‬قلت لعمر‪ :‬كيف أفعل شيئاً َل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟‬
‫فقال عمر‪ :‬هو وهللا خري‪ ،‬فلم يزل عمر يراجعين فيه حىت شرح هللا لذلك صدري‪ ،‬ورأيت الذي رأى عمر‪.‬‬
‫قال زيد بن اثبت‪ :‬وعمر عنده جالس ال يتكلم‪ ،‬فقال أبو بكر‪ :‬إنك رجل شاب عاقل‪ ،‬وال نتهمك‪ ،‬كنت تكتب‬
‫الوحي لرسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فَتَ تَ بَّع القرآن فامجعه‪ .‬فوهللا لو كلَّفين نقل جبل من اجلبال ما كان أثقل علي‬
‫مما أمرين به من مجع القرآن‪ .‬قلت‪ :‬كيف تفعالن شيئاً َل يفعله رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم؟‬
‫فقال أبو بكر‪ :‬هو وهللا خري‪ ،‬فلم أزل أراجعه حىت شرح هللا صدري للذي شرح هللا له صدر أيب بكر وعمر‪ ،‬فقمت‪،‬‬
‫فَتَ تَ بَّعت القرآن أمجعه من الرقاع واألكتاف والعسب وصدور الرجال حىت وجدت من سورة التوبة آيتني مع خزمية‬
‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬ ‫األنصاري َل أجدمها مع أحد غريه {لََق ْد جاء ُكم رس ٌ ِ‬
‫ول م ْن أَنْ ُفس ُك ْم َع ِز ٌيز َعلَْيه َما َعنت ُّْم َح ِر ٌ‬
‫يص َعلَْي ُك ْم} [التوبة‪:‬‬ ‫َ َ ْ َُ‬
‫‪ ،]128‬إىل آخرمها‪ .‬وكانت الصحف اليت مجع فيها القرآن عند أيب بكر حىت توفاه هللا‪ ،‬مث عند عمر حىت توفاه هللا‪،‬‬
‫مث عند حفصة بنت عمر»‪.‬‬

‫شروط كتابة اآلايت يف مصحف أيب بكر رضي هللا عنه‪:‬‬


‫‪ /3‬أن يشهد شاهدان على أن هذا املكتوب قد كتب‬ ‫‪ /1‬أن يكون موافقا للمحفوظ‪ /2 .‬موافقا للمكتوب‬
‫يف زمن النيب عليه الصالة والسالم‪.‬‬

‫مالمح هذا اجلمع‪:‬‬


‫مصحف و ٍ‬
‫احد‪.‬‬ ‫ٍ‬ ‫‪ - 1‬أن القصد منه مجع املكتوب املتفرق من القرآن يف‬
‫‪ - 2‬أن سبب اجلمع يستحر القتل ابلقراء يف املواطن‪ ،‬فيذهب كثري من القرآن‪ ،‬واجملموع لن يكون سوى ما ثبتت‬
‫قرآنيته‪.‬‬
‫يد رضي هللا عنه هو املسؤول عن هذا اجلمع‪ ،‬وهو من أعلم الصحابة ابلعرضة األخرية‪ ،‬فنأن يكون‬ ‫ويؤنس هبذا كون ز ٍ‬
‫القصد مجع القرآن الثابت‪ ،‬أقرب من أن يكون مجع كل ما قرئ بني يدي الرسول صلّى هللا عليه وسلّم؛ ألنه لو ُمجع‬
‫كل ما قرئ بني يديه لدخل ما تُِركت تالوته‪.‬‬
‫‪ - 3‬أن كثرياً من التفاصيل املتعلقة بطريقة كتابة املصحف‪ ،‬وما فيه من معلومات َل يرد فيها شيء‪ ،‬وما حيكيه العلماء‬
‫من بعض هذه التفاصيل‪ ،‬فإنه َل يثبت فيها نص صريح البتة؛ كمن حيكي أن يف ترتيب السور خالفاً‪.‬‬

‫املرحلة الثالثة‪ :‬يف عهد عثمان رضي هللا عنه‬


‫عن أنس بن مالك رضي هللا عنه حدثه‪« :‬أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان وكان يغازي أهل الشام يف فتح‬
‫أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختالفهم يف القراءة‪ ،‬فقال حذيفة لعثمان‪ :‬اي أمري املؤمنني؛ أدرك‬
‫هذه األمة قبل أن خيتلفوا يف الكتاب اختالف اليهود والنصارى‪ .‬فأرسل عثمان إىل حفصة أن أرسلي إلينا ابلصحف‬
‫ننسخها يف املصاحف مث نردها إليك‪ ،‬فأرسلت هبا حفصة إىل عثمان‪ ،‬فأمر زيد بن اثبت وعبد هللا بن الزبري وسعيد‬
‫بن العاص وعبد الرَحن بن احلارث بن هشام فنسخوها يف املصاحف‪ ،‬وقال عثمان للرهط القرشيني الثالثة‪ :‬إذا‬
‫اختلفتم أنتم وزيد بن اثبت يف شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإمنا نزل بلساهنم‪ ،‬ففعلوا‪ .‬حىت إذا نسخوا‬
‫الصحف يف املصاحف رد عثمان الصحف إىل حفصة‪ ،‬فأرسل إىل كل أفق مبصحف مما نسخوا‪ ،‬وأمر مبا سواه من‬
‫القرآن يف كل صحيفة أو مصحف أن حيرق»‪ .‬صحيح البخاري برقم (‪.)4988‬‬
‫مهم للغاية‪ ،‬فهذا القرآن الذي قرأ به رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وُكتب يف عهده‪ ،‬وكانت عليه‬
‫إن هذا اإللزام أمر ٌّ‬
‫العرضة األخرية‪ ،‬ومجعه أبو بكر رضي هللا عنه يف مصحف‪ ،‬مثَّ نسخت منه اللجنة اليت اختارها عثمان رضي هللا عنه‪،‬‬
‫وما عداه فهو مما تُرك يف العرضة األخرية‪ ،‬وَل يُقرأ به‪ ،‬ومن ذلك عدد ال أبس به من اآلايت اليت حكى الصحابة أهنا‬
‫احد من الصحابة‬‫كانت مما يقرأ يف عهد النيب صلّى هللا عليه وسلّم وبقيت حىت اإللزام هبذا اجلمع؛ ألنه ليس كل و ٍ‬
‫ُ‬
‫بلغه ما تُرك من النازل على رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وال زال حيفظه ويقرأ به‪ .‬لكن ملا أمجع الصحابة على هذا‬
‫املصحف‪ ،‬عُلِم أنه هو الذي ثبت يف العرضة األخرية فحسب‪ ،‬وما عداه مما قد تنقله كتب اآلاثر يكون مما تُرك ال‬
‫حمالة‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬
‫وهذا اإللزام سيكون حامساً قاطعاً للخالف؛ التفاق املصدر‪ ،‬فلو خرج شامي وعراقي مرة أخرى‪ ،‬وأثبت كل واحد‬
‫منهما قراءته مبا بعث به عثمان رضي هللا عنه‪ ،‬فإن احلال هنا إىل أن الصادر عن املدينة مما اتفق عليه الصحابة أنه‬
‫قرآن هبذا االختالف الثابت فيه‪ .‬أما قبل ذلك فلم يكن هلم مرجع معني‪ ،‬فكلٌّ ينسب القراءة إىل من قرأ عليه من‬
‫الصحابة‪ ،‬وهم يقرؤون ابلثابت واملرتوك لعدم علمهم برتكه‪.‬‬
‫يتضح خالف عمل عثمان عن عمل أيب بكر رضي هللا عنهما‪.‬‬ ‫وهبذا ِّ‬

‫السور‪:‬‬
‫أمساء ُّ‬
‫املقصود من التسمية متييز املسمى عمن يشاهبه‬
‫ويظهر أن تسمية السور كان قدمياً ج ّداً‪ ،‬حيث كان مع بداايت النُّزول‪ ،‬فالتسمية كانت مكية املنشأ؛ ألن الصحابة‬
‫املكيني قد رووا أحاديث كثرية فيها أمساء للسور‪ ،‬ومن ذلك حديث جعفر الطيار رضي هللا عنه مع النجاشي ملك‬
‫احلبشة‪ ،‬حيث قرأ عليه سورة مرمي‪.‬‬

‫وثبت عن النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬تسمية بعض السور‪ ،‬ومن أمثلته‪ :‬قول رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪« :‬اقرؤوا‬
‫سورة البقرة‪ ،‬فإن أخذها بركة‪ ،‬وتركها حسرة‪ ،‬وال يستطيعها البطلة» رواه مسلم‪.‬‬
‫وثبت عن الصحابة رضي هللا عنهم تسمية بعض السور ومن أمثلته‪ :‬عن سعيد بن جبري قال‪« :‬قلت البن عباس‬
‫رضي هللا عنهما‪ :‬سورة احلشر‪ .‬قال‪ :‬قل‪ :‬سورة بين النضري»‪.‬‬

‫وثبت كذلك تسمية بعض السور عن من دون الصحابة‪ ،‬وغالب تسمياهتم أتيت حكاية لبداية السورة؛ كقوهلم‪ :‬سورة‬
‫(أرأيت)‪ ،‬سورة (َل يكن)‪ ،‬وهكذا‪.‬‬
‫وحيث إنه َل يرد النهي عن تسمية السور أبمساء ُّ‬
‫تدل عليها‪ ،‬وعلى هذا مضى السلف واخللف‪ ،‬فقد توسعوا يف أمساء‬
‫السور حىت صارت السورة تسمى حبكاية أوهلا‪ ،‬وتعددت األمساء للسورة الواحدة‪.‬‬

‫ومما ينبغي أن يعلم أن تسمية السورة هلا عالقة بشيء مذكور يف السورة؛ إما موضوعها كسورة (التوبة)؛ لورود توبة هللا‬
‫على النيب صلى هللا عليه وسلم وعلى الثالثة الذين خلفوا‪ ،‬أو تسمى بلفظ ورد فيها كسورة (التوبة) مسيت (براءة)؛‬
‫لورود اللفظ فيها‪.‬‬

‫أو تسمى حبكاية أوهلا كامال مثل‪ :‬سورة (قل هو هللا أحد)‪ ،‬أو يشتق هلا اسم من مطلعها‪ ،‬كسورة (الزلزلة)‪.‬‬

‫فائدة‪ :‬بعض السور تتعدد أمساؤها وهذا يدل على أن كل اسم فيها حيمل من الصفة ما ال حيمله االسم اآلخر‪ ،‬وهذا‬
‫هو سبب تعدد املسميات للشيء الواحد‪ ،‬وهللا أعلم‪.‬‬

‫أمثلة‪............ - ............ - ............ - ............. - ........... :‬‬

‫ومن جوانب التدبر‪ :‬معرفة العالقة بني اسم السورة وموضوعاهتا‪ ،‬لكن جيب احلذر من التكلف‪.‬‬

‫عدد آي السور‬
‫اك َسْب ًعا ِم َن الْ َمثَ ِاين‬
‫{ولََق ْد آتَ ْي نَ َ‬
‫ميكن القول أبن هذا النوع من أنواع علوم القرآن قد أشار إليه القرآن‪ ،‬يف قوله تعاىل‪َ :‬‬
‫َوالْ ُق ْرآ َن الْ َع ِظ َيم} [احلجر‪ ،]87 :‬فقد أخرج البخاري بسنده عن أيب سعيد بن املعلى رضي هللا عنه قال‪ :‬قال رسول‬
‫هللا صلى هللا عليه وسلم‪ :‬أال أعلمك أعظم سورة يف القرآن قبل أن أخرج من املسجد‪ ،‬فذهب النيب صلّى هللا عليه‬
‫ِ‬ ‫فذكرته‪ ،‬فقال‪ِ ِ ْ :‬‬
‫ني} هي السبع املثاين والقرآن العظيم الذي أوتيته»‪.‬‬ ‫{احلَ ْم ُد ََّّلل َر ِّ‬
‫ب الْ َعالَم َ‬ ‫وسلّم ليخرج من املسجد‪َّ ،‬‬
‫سبع‪.‬‬
‫فقوله‪ :‬هي السبع؛ ألن آايهتا ٌ‬
‫وقوله‪ :‬املثاين؛ ألهنا تُ َّثىن (أي‪ :‬تكرر) يف كل ركعة‪.‬‬
‫ويف السنة النبوية ما رواه مسلم عن أيب الدرداء رضي هللا عنه أن النيب صلّى هللا عليه وسلّم قال‪« :‬من حفظ عشر‬
‫آايت من أول سورة الكهف عصم من الدجال»‪.‬‬
‫عن أيب هريرة رضي هللا عنه عن النيب صلّى هللا عليه وسلّم قال‪« :‬إن سورة من القرآن ثالثني آية شفعت لرجل حىت‬
‫غفر له‪ ،‬وهي تبارك الذي بيده امللك»‪.‬‬

‫وكانوا يعتمدون على عدد اآلي يف حساب بعض أمورهم املتعلقة ابلصالة‪ ،‬ومن ذلك ما أورده مسلم بسنده عن أيب‬
‫سعيد اخلدري رضي هللا عنه‪« :‬أن النيب صلّى هللا عليه وسلّم كان يقرأ يف صالة الظهر يف الركعتني األوليني يف كل‬
‫ركعة قدر ثالثني آية‪ ،‬ويف األخريني قدر مخس عشرة آية‪ ،‬أو قال نصف ذلك‪ ،‬ويف العصر يف الركعتني األوليني يف كل‬
‫ركعة قدر قراءة مخس عشرة آية‪ ،‬ويف األخريني قدر نصف ذلك»‪.‬‬
‫وهذه اآلاثر تدل على أن هلذا العلم أصالً يف سنة النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬

‫نسب إليها ُّ‬


‫العد‪:‬‬ ‫األمصار اليت يُ ُ‬
‫‪ - 1‬العد املدين األول‪.‬‬
‫‪ - 2‬العد املدين األخري‪.‬‬
‫‪ - 3‬العد املكي‪.‬‬
‫‪ - 4‬العد الكويف‪.‬‬
‫‪ -5‬العد البصري‪.‬‬
‫‪ - 6‬العد الشامي‪.‬‬

‫االختالف يف ِّ‬
‫عد اآلي‪:‬‬
‫ألحد أن خيرتع موقِفاً جيعله‬
‫إن األصل يف هذا العلم النقل‪ ،‬بل هو توقيف من الرسول صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬وال ميكن ٍ‬ ‫َّ‬
‫رأس آية‪.‬‬
‫فإن قلت‪ :‬أال يوجد اختالف بني العلماء يف ع ِّد اآلي؟‪.‬‬
‫فاجلواب‪ :‬نعم‪ .‬ولكن هذا االختالف هو يف موضع رأس اآلية‪ ،‬وليس يف زايدةِ آية أو نقصها‪ ،‬فجملة ما نزل به القرآن‬
‫مقبول؛ ألنه ال أثر له يف أصل القرآن‪ ،‬وإمنا‬ ‫حمتمل ٌ‬ ‫هني‪ ،‬واخلالف فيه ٌ‬ ‫َل يقع فيه خالف‪ .‬وإذا كان األمر كذلك فهو ِّ ٌ‬
‫سيقع أثره يف بعض املعلومات املتعلقة به‪ ،‬ومنها‪:‬‬
‫أوالً‪ :‬أن الوقف على رأس اآلية سنة عند بعض العلماء‪ ،‬ومعرفة مكانه يعني على تطبيق هذه السنة‪ ،‬وابختالف الع ِّد‬
‫خيتلف موطن الوقف على رأس اآلية‪.‬‬
‫إن الوقف على رأس اآلية ولو كان ما بعدها متعلقاً هبا من جهة املعىن‬ ‫اثنياً‪ :‬أن هلا تعلُّقاً ببالغة القرآن‪ ،‬حيث َّ‬
‫فإن من يقف على رؤوس اآلي اليت تتعلق مبا بعدها‪ ،‬فإنه‬ ‫مقص ٌد من مقاصد املتكلِّم‪ ،‬وإال فما فائدة رأس اآلية‪ ،‬لذا َّ‬
‫يستجلب ذهنك للتفكري والتدبر يف هذه اجلملة‪.‬‬
‫السالَ ِس ُل‬‫ف يَ ْعلَ ُمو َن *إِ ِذ األَ ْغالَ ُل ِيف أ َْعنَاقِ ِه ْم َو َّ‬
‫اب َوِمبَا أ َْر َس ْلنَا بِِه ُر ُسلَنَا فَ َس ْو َ‬‫مثال ‪ :‬قوله تعاىل‪{ :‬الَّ ِذين َك َّذبوا ِابلْ ِكتَ ِ‬
‫َ ُ‬
‫ضلُّوا َعنَّا بَ ْل ََلْ نَ ُك ْن‬ ‫*من د ِ ِ‬ ‫ِ‬ ‫احل ِمي ِم ُمثَّ ِيف النَّا ِر يسجرو َن ُ ِ‬ ‫يُ ْس َحبُو َن ِ‬
‫ون ا ََّّلل قَالُوا َ‬ ‫يل َهلُْم أَيْ َن َما ُكْن تُ ْم تُ ْش ِرُكو َن ْ ُ‬ ‫*مثَّ ق َ‬ ‫ُ ْ َُ‬ ‫*يف َْ‬
‫احلَِّق َوِمبَا ُكْن تُ ْم متََْر ُحو َن} [غافر‪:‬‬ ‫ين * َذلِ ُك ْم ِمبَا ُكْن تُ ْم تَ ْفَر ُحو َن ِيف األ َْر ِ‬
‫ض بِغَ ِْري ْ‬ ‫ض ُّل َّ ِ‬
‫اَّللُ الْ َكاف ِر َ‬
‫كي ِ‬ ‫ِ‬ ‫ِ‬
‫نَ ْدعُوا م ْن قَ ْب ُل َشْي ئًا َك َذل َ ُ‬
‫‪.]75 - 70‬‬

‫فضائل السور‪:‬‬
‫أقل من السور اليت َل يرد فيها فضائل‪.‬‬
‫السور اليت ورد فيها فضائل ُّ‬
‫أن َ‬ ‫املالحظ َّ‬
‫وهذا املبحث توقيفي‪ ،‬وال يصلح فيه االجتهاد؛ إذ ال ميكن ألحد أن خيرتع حديثا ليبني فضل آية أو سورة من القرآن‪.‬‬
‫وقد اشتهر ابلكذب يف هذا الباب نوح بن أيب مرمي املعروف بنوح اجلامع (ت‪173‬ه )‪ ،‬حيث قال‪ :‬إين رأيت الناس‬
‫قد أعرضوا عن القرآن واشتغلوا بفقه أيب حنيفة ومغازي ابن إسحاق فوضعت هذا احلديث حسبة‪.‬‬
‫وكذلك ميسرة بن عبد ربه‪ ،‬قال ابن مهدي‪« :‬قلت مليسرة بن عبد ربه‪ :‬من أين جئت هبذه األحاديث (من قرأ كذا‬
‫فله كذا)؟‪ .‬قال‪ :‬وضعتها أر ِّغب الناس فيها»‪.‬‬

‫فضائل السور املشروعة‪ ،‬إما أن تكون ببيان الفضل‪ ،‬أو ختصيصها ابلقراءة يف صلوات وأحوال معينة‪ ،‬أو يكون ممن‬
‫ترتب هلا أثر حسي أو معنوي مثل سورة الفاحتة‪.‬‬
‫ترتيب السور‪:‬‬
‫َل يقع خالف بني األمة يف أن ترتيب اآلايت كان بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬إذ كان يقرؤه على الصحابة‬
‫خالف يف ترتيب آية من اآلايت‪.‬‬
‫َ‬ ‫ليل هنار‪ ،‬وَل يُسمع من أحدهم أنه‬
‫أما مسألة ترتيب السور فقد وقع فيها خالف؛ هل كان بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلّم أم ابجتهاد من‬
‫الصحابة؟ وبعض العلماء جيعل اخلالف على ثالثة أقوال‪:‬‬
‫األول‪ :‬أنه بتوقيف من النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫الثاين‪ :‬أن الرتتيب ابجتهاد الصحابة‪.‬‬
‫الثالث‪ :‬من يرى أن بعضه توقيفي وبعضه اجتهادي‪.‬‬
‫يرتجح وهللا أعلم القول األول ألموٍر؛ منها‪:‬‬
‫والذي َّ‬
‫‪ /1‬أنه قد ثبت يف أحاديث عديدة ذكر سور القرآن املتوالية حسب ترتيب املصحف‪( .‬اقرؤوا الزهراوين‪ :‬البقرة وسورة‬
‫آل عمران)‪.‬‬
‫‪ /2‬ورد عن ابن مسعود رضي هللا عنه‪ ،‬قال‪« :‬بين إسرائيل (اإلسراء) والكهف ومرمي وطه واألنبياء هن من العتاق‬
‫األول‪ ،‬وهن من تالدي»‪.‬‬
‫بقي؛ إذ يبعد أن يرتب الرسول صلّى هللا‬ ‫ووجه الداللة منهما‪ :‬أن فيما ثبت من ترتيب بعض السور داللة على ما َ‬
‫عليه وسلّم بعضها ويرتك بعضاً بال سبب واضح‪.‬‬
‫‪ /3‬عن عبد هللا بن أوس بن حذيفة الثقفي عن جده أوس قال‪ :‬وكان رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم أيتينا فيحدثنا‬
‫بعد العشاء اآلخرة ‪ ...‬فاحتبس عنا ليلة عن الوقت الذي كان أيتينا فيه‪ ،‬مث أاتان ‪ ...‬فقال رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫علي ِحزيب من القرآن فأحببت أن ال أخرج حىت أقرأه‪ ،‬أو قال أقضيه»‪ .‬قال‪« :‬فلما أصبحنا سألنا‬ ‫وسلّم‪« :‬إنه طرأ َّ‬
‫أصحاب رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم عن أحزاب القرآن كيف حتزبونه فقالوا‪ :‬ثالث‪ ،‬ومخس‪ ،‬وسبع‪ ،‬وتسع‪،‬‬
‫وإحدى عشرة‪ ،‬وثالث عشرة وحزب املفصل»‪.‬‬
‫‪ /4‬أن تقسيم سور القرآن إىل طوال ومئني ومثاين واملفصل اثبت عند الصحابة ابلنقل عن رسول هللا صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم‪ ،‬واآلاثر يف ذلك كثرية‪ ،‬ومنها ما رواه اإلمام أَحد بسنده عن واثلة بن األسقع رضي هللا عنه أن النيب صلّى هللا‬
‫عليه وسلّم قال‪« :‬أعطيت مكان التوراة السبع وأعطيت مكان الزبور املئني وأعطيت مكان اإلجنيل املثاين وفضلت‬
‫ابملفصل»‪.‬‬
‫فإذا كان هذا التقسيم اجلملي موجوداً معروفاً بينهم‪ ،‬منقوالً عن النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪ ،‬فما املانع من أن يكون ما‬
‫فيه من السور مرتباً كذلك بفعل النيب صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫‪َ /5‬ج ْع ُل احلواميم والطواسني والءً خبالف املسبحات‪ ،‬واملبدوءات ب (أَل) حيث َل جتعل متتالية‪.‬‬
‫‪ /6‬عدم ترتيبه على النُّزول‪ ،‬حبيث يقدم املكي على املدين؛ يدل على وجود ترتيب آخر‪ ،‬وهو الرتتيب التوقيفي من‬
‫النيب صلى هللا عليه وسلم‪.‬‬

‫وأما ماورد من حديث حذيفة رضي هللا عنه قال أن النيب صلّى هللا عليه وسلّم قرأ البقرة مث النساء مث آل عمران‪ ،‬ال‬
‫مير آبية ختويف إال وقف عندها»‪ .‬فإنه يدل على جواز القراءة يف الصالة على خالف ترتيب املصحف‪.‬‬
‫وإذا كان القائلون أبن الرتتيب اجتهادي ال خيالفون يف أن شيئاً منه كان مرتباً حسب ترتيب النيب صلّى هللا عليه‬
‫وسلّم‪ ،‬فإنه ميكن أن يُستدل ابتفاقهم على وجود الرتتيب يف بعض السور أبنه أصل ٌّ‬
‫دال على ترتيب البقية‪ ،‬وأنه من‬
‫عند رسول هللا صلّى هللا عليه وسلّم‪.‬‬
‫والذي يظهر من أمر القرآن أن األصل فيه النقل يف كل أموره‪ ،‬يف ترتيب سوره وآايته وأمساء سوره وآايته وفضائل سوره‬
‫وآايته‪ ،‬ليس ألحد يف هذه األمور اجتهاد‪ ،‬وإمنا ظهر االجتهاد فيما بعد فيما يتعلق برمسه‪ ،‬وضبطه‪ ،‬وزخرفته ووضع‬
‫أمساء سوره‪ ،‬وترقيم آايته‪ ،‬ووضع رموز وقوفه إىل غري ذلك مما أدخله العلماء‪ ،‬وتُلقي ابلقبول‪.‬‬

You might also like