You are on page 1of 156

‫مصطفى خلٌفة‬

‫القــوقعـة‬

‫(( يوميات متلصص ))‬

‫‪1‬‬
‫جلست وسوزان فً كافٌتيرٌا مطار أورلً ببارٌس ننتظر إقبلع الطابرة التً ستقلنً إلى بلدي بعد ؼٌاب دام‬
‫ست سنوات‪.‬‬
‫حتى ربع الساعة األخٌر هذا‪ ،‬لم تٌؤس سوزان من محاولة إقناعً بالبقاء فً فرنسا‪ ،‬أخذت تكرر على مسامعً‬
‫نفس الحجج التً سمعتها منذ شهور عندما أعلمتها بقراري النهابً بالعودة إلى الوطن والعمل هناك‪.‬‬
‫أنا ابن عابلة عربٌة تدٌن بالمسٌحٌة والمذهب الكاثولٌكً ‪ .‬نصؾ العابلة ٌعٌش فً بارٌس ‪ ،‬لذلك كانت األبواب‬
‫مفتوحة أمامً للدراسة فً هذا البلد ‪ ،‬دراستً كانت سهلة ومٌسرة وخاصة إننً كنت أجٌد الفرنسٌة حتى قبل‬
‫قدومً إلى بارٌس ‪ ،‬درست اإلخراج السٌنمابً وتفوقت فً دراستً ‪ .‬وها أنا أعود بعد تخرجً إلى بلدي‬
‫ومدٌنتً‪.‬‬
‫سوزان أٌضا ابنة عابلة عربٌة ‪ ،‬ولكن كل عابلتها كانت قد هاجرت وتعٌش فً فرنسا‪ ،‬أصبحنا صدٌقٌن حمٌمٌن‬
‫فً السنتٌن األخٌرتٌن من دراستً ‪ ،‬وكان ٌمكن أن نتزوج بمباركة العابلتٌن لوال إصراري على العودة إلى‬
‫الوطن‪ ،‬وإصرارها على البقاء فً فرنسا‪.‬‬
‫قلت لها حسماً آلخر نقاش فً الموضوع ونحن فً المطار‪:‬‬
‫‪ -‬سوزان ‪ ..‬أنا أحب بلدي ‪ ،‬مدٌنتي‪ .‬أحب شوارعها وزواٌاها‪ .‬هذه لٌست رومانسٌة فارؼة‪ ،‬إنه شعور أصٌل ‪،‬‬
‫أحفظ العبارات المحفورة على جدران البٌوت القدٌمة فً حٌنا‪ ،‬أعشقها‪ ،‬أحن إلٌها‪ .‬هذا أوالًال‪ ،‬أما ثانٌاً فهو أننً‬
‫أرٌد أن أكون مخرجاً متمٌزاً ‪ ،‬فً رأسً الكثٌر من المشارٌع والخطط‪ ،‬إن طموحً كبٌر‪ ،‬فً فرنسا سوؾ‬
‫أبقى ؼرٌبا ًال‪ ،‬أعمل كؤي الجًء عندهم ‪ٌ ،‬تفضلون علً ببعض الفتات ‪ ...‬ال‪ ...‬ال أرٌد ‪ .‬فً بلدي أنا صاحب‬
‫بقلٌل من الجهد أستطٌع أن أثبت وجودي ‪ ،‬هذا إذا نحّ ٌنا جانبا حاجة‬
‫ٍ‬ ‫حق… ولٌس ألحد مٌزة التفضل علًّ ‪،‬‬
‫الوطن لً وألمثالً‪.‬‬
‫لذلك قراري بالعودة نهابً‪ ،‬وكل محاولة إلقناعً عكس ذلك عبث‪.‬‬
‫ران صمت استمر بضع دقابق‪ .‬سمعنا النداء‪ .‬آن أوان صعود الطابرة‪ ،‬وقفنا‪ ،‬شربنا ما تبقى فً كإوسنا من بٌرة‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬نظرت إلٌها متؤثرا‪ ،‬لمحت مشروع دمعة فً عٌنٌها‪ ،‬ألقت بنفسها على صدري‪ ،‬قبلتها سرٌعا ًال‪ " .‬ال‬
‫أطٌق هكذا موقؾ "‬
‫قلت ‪ :‬أتمنى لك السعادة‪.‬‬
‫‪ -‬وأنا كذلك‪ ،‬أرجو أن تنتبه‪ ،‬حافظ على نفسك‪.‬‬
‫وصعدت الطابرة‪.‬‬

‫* ٌومٌات متلصص‪:‬‬

‫إن التلصص الذي مارسته لم ٌكن تلصصا ًال جنسٌا ًال ‪ -‬وان لم ٌخل األمر من ذلك‪.‬‬
‫هذه الٌومٌات كتبت معظمها فً السجن الصحراوي‪ ،‬وكلمة ( كتبت ) فً الجملة السابقة لٌست دقٌقة‪.‬‬

‫‪2‬‬
‫ففً السجن الصحراوي ال ٌوجد أقبلم وال أوراق للكتابة‪ .‬ف ي هذا السجن الضخم الذي ٌحتوي على سبع‬
‫صؾ‪ ،‬وعلى سبعة وثبلثٌن مهجعاًال‪ ،‬وعلى العدٌد من المهاجع الجدٌدة ؼٌر المرقمة‬
‫ساحات إضافة إلى الساحة ر‬
‫والؽرؾ والزنازٌن الفرنسٌة (السٌلول ) فً الساحة الخامسة ‪ ،‬والذي ضم بٌن جدرانه فً لحظة من اللحظات‬
‫أكثر من عشرة آالؾ سجٌن ‪ ،‬فً هذا السجن الذي كان ٌحتوي على أعلى نسبة لحملة الشهادات الجامعٌة فً هذا‬
‫البلد‪ ،‬لم ٌر السجناء ‪ -‬وبعضهم قضى أكثر من عشرٌن عاما ًال ‪ -‬أٌة ورقة أو قلم‪.‬‬
‫الكتابة الذهنٌة أسلوب طوّ ره اإلسبلمٌون ‪ " .‬أحدهم كان ٌحفظ فً ذهنه أكثر من عشرة آالؾ اسم‪ ،‬هم السجناء‬
‫الذٌن دخلوا السجن الصحراوي‪ ،‬مع أسماء عاببلتهم‪ ،‬مدنهم أو قراهم‪ ،‬تارٌخ اعتقالهم‪ ،‬أحكامهم‪ ،‬مصٌرهم‬
‫‪.".....‬‬
‫عندما قررت كتابة هذه الٌومٌات كنت قد استطعت بالتدرٌب تحوٌل الذهن إلى شرٌط تسجًل‪ ،‬سجلت علٌه كل‬
‫ما رأٌت‪ ،‬وبعض ما سمعت‪.‬‬
‫واآلن أفرغ "بعض" ما احتواه هذا الشرٌط‪.‬‬
‫‪ -‬هل أنا نفس ما كنته قبل ثبلثة عشر عاما ؟! ‪ ...‬نعم ‪ ...‬وال‪ .‬نعم صؽٌرة‪ ،‬وال كبٌرة‪.‬‬
‫نعم‪ ،‬ألننً أفرغ وأكتب "كتابة حقٌقٌة" بعضا ًال من هذه الٌومٌات‪.‬‬
‫‪ .‬هذ ا يحتاج إلى عملٌة بوح ‪ ،‬وللبوح شروط ‪ .‬الظرؾ‬ ‫وال‪ ..‬ألننً ال أستطٌع أن أكتب وأقول كل شًء‬
‫الموضوعً والطرؾ اآلخر‪.‬‬
‫‪ 20‬نيسان‬
‫وقفت على سلم الطابرة قلٌبلًال أتملى أبنٌة المطار‪ .‬أنظر إلى األضواء البعٌدة‪ ،‬أضواء مدٌنتً‪ .‬إنها لحظة رابعة‪.‬‬
‫نزلت‪ ،‬أخذت حقٌبتً وجواز السفر فً ٌدي‪ ،‬إحساس باالرتٌاح‪ ،‬إحساس من ٌعود إلى بٌته وزواٌاه المؤلوفة بعد‬
‫طول ؼٌاب‪.‬‬
‫طلب منً الموظؾ االنتظار‪ .‬قرأ جواز السفر‪ ،‬رجع إلى أوراق عنده‪ ،‬بعدها طلب منً االنتظار‪ ،‬فانتظرت‪.‬‬
‫اثنان من رجال األمن استلما جواز السفر وبلطؾ مبالػ فٌه طلبا منً مرافقتهما‪.‬‬
‫أنا وحقٌبتً – التً لم أرها بعد ذلك – ورحلة فً سٌارة األمن على طرٌق المطار الطوٌل‪ ،‬أرقب األضواء‬
‫على جانبً الطرٌق‪ ،‬أرقب أضواء مدٌنتً تقترب‪ ،‬ألتفت إلى رجل األمن الجالس إلى جواري‪ ،‬أساله‪:‬‬
‫‪ -‬خٌر إن شاء هللا ؟ ‪ ..‬لماذا هذه اإلجراءات ؟!‬
‫ٌصالب سبابته على شفتٌه‪ ،‬ال ٌنطق بؤي حرؾ‪ٌ ،‬طلب منً السكوت‪ ،‬فؤسكت!‬
‫رحلة من المطار إلى ذلك المبنى الكبٌب وسط العاصمة‪ .‬رحلة فً المكان‪.‬‬
‫ومنذ تلك اللحظة ولى ثبلثة عشر عاما ًال قادمة! رحلة فً الزمان‪.‬‬
‫"عرفت فٌما بعد أن أحدهم‪ ،‬وكان طالبا معنا فً بارٌس‪ ،‬قد كتب تقرٌرا رفعه إلى الجهة األمنٌة التً ٌرتبط بها‪،‬‬
‫ٌقول هذا التقرٌر إننً قد تفوهت بعبارات معادٌة للنظام القابم‪ ،‬وإننً تلفظت بعبارات جارحة بحق ربٌس‬
‫الدولة‪ ،‬وهذا الفعل ٌعتبر من اكبر الجرابم‪ٌ ،‬عادل فعل الخٌانة الوطنٌة إن لم ٌكن أقسى‪.‬‬
‫وهذا جرى قبل ثبلث سنوات على عودتً من بارٌس"‪.‬‬
‫‪3‬‬
‫ذلك التقرٌر قادنً إلى هذا المبنى الذي ٌتوسط العاصمة – قرٌبا ًال من بٌتنا هذا المبنى الذي أعرفه جٌداًال‪ ،‬فلطالما‬
‫مررت من أمامه‪ .‬كنت حٌنها مُثاراًال بالؽموض الذي ٌلفه‪ ،‬وبالحراسة الشدٌدة حوله‪.‬‬
‫‪ .‬فً آخر الممر‬ ‫رجبل األمن ٌخفرانً‪ ،‬اشتدت قبضاتهما على ساعديّ عندما ولجنا الباب إلى الممر الطوٌل‬
‫شاب‪ ،‬صاح عندما رآنا‪:‬‬
‫‪ -‬أهلٌن موسى ‪..‬شو ؟! أخضر وال أحمر؟‬
‫‪ -‬كلّو أخرى من بعض‪.‬‬
‫من الممر إلى ممر آخر‪ ،‬درج داخلً‪ ،‬ممر علوي‪ ،‬ؼرفة إلى الٌمٌن‪ ...‬قرع الباب‪ ...‬صوت من الداخل‪ :‬أدخل‪.‬‬
‫فتح مرافقً الباب بهدوء‪ ،‬ثم خبط األرض بقدمٌه بقوة‪:‬‬
‫‪ -‬احترامً سٌدي ‪ ..‬هذا مطلوب جبناه من المطار ‪ ..‬سٌدي‪.‬‬
‫انسلت إلى أنفً رابحة ممٌزة‪ ،‬ال ٌوجد مثٌلها إال فً مكاتب ضباط األمن‪ ،‬هً خلٌط روابح‪ ،‬العطور المختلفة‪،‬‬
‫السجابر الفاخرة‪ ،‬رابحة العرق اإلنسانً‪ ،‬رابحة األرجل‪.‬‬
‫كل ذلك ممزوج برابحة التعذيب‪ .‬العذاب اإلنسانً‪ .‬رابحة القسوة‪.‬‬
‫ما أن تصل الرابحة إلى أنؾ اإلنسان حتى ٌشعر بالرهبة والخوؾ‪ ،‬وقد شعرت به م ا رؼم اعتقادي أن التباسا ًال ما‬
‫وراء كل هذا‪.‬‬
‫التفت إلٌنا شخص عمبلق‪ ،‬أبٌض الشعر ذو وجه أحمر‪ ،‬لمحت عند قدمٌه شابا ًال مقرفصا ًال معصوب العٌنٌن‪ ،‬قال‬
‫العمبلق‪:‬‬
‫‪ -‬خذه لعند أبو رمزت‪.‬‬
‫جذبنً المرافقان‪ ،‬هذه المرة بعنؾ ظاهر ‪ .‬ممرات وأدراج‪ ،‬كم ٌبدو البناء صؽٌر اًال من الخارج‪ ،‬بٌنما هو بكل هذا‬
‫االتساع من الداخل‪ ،‬خبلل سٌرنا تصلنً أصوات صراخ إنسانً واستؽاثات‪ ،‬كلما تقدمنا أكثر تزداد هذه‬
‫األصوات ارتفاعا ًال ووضوحاًال‪ ،‬نزلنا – على ما أعتقد ‪ -‬إلى القبو‪ ،‬فتح أحد مرافقًّ الباب‪ ،‬رأٌت مصدر الصراخ‬
‫واالستؽاثة‪ ،‬فاجؤتنً صرخة ألم عالٌة إثر ضربة كابل على قدمً الشخص الممدد أرضا ًال والمحشور فً دوالب‬
‫سٌارة خارجً‪ ،‬رجبله مرتفعتان فً الهواء‪.‬‬
‫"أحسست أن شٌبً بٌن فخدي قد ارتجؾ"‪.‬‬
‫بٌنما كنت مذهوالًال من رإٌة الكابل األسود ٌرتفع ثم ٌهوي على قدمً الشاب المحشور فً دوالب السٌارة األسود‬
‫ثم ٌرتفع ناثراًال معه نقاط الدم ونتؾ اللحم اآلدمً ‪ ،‬جمّدنً صوت زاعق‪ .‬التفت مرؼما ًال إلى مصدره‪ ،‬فً زاوٌة‬
‫الؽرفة رجل محتقن الوجه‪ ،‬محمرّ ه‪ ،‬والزبد ٌرؼً على زاوٌتً فمه‪:‬‬
‫‪ -‬طمّش عٌونه ‪..‬وال حمار!!‬
‫قفز أحد مرافقًّ قفزتٌن‪ ،‬واحدة إلى األمام‪ ،‬وأخرى إلى الوراء‪ ،‬وإذ ا بشًء ٌوضع على عٌنًّ وٌُربط بمطاط‬
‫خلؾ رأسً‪ ،‬ولم أعد أرى شٌبا‪.‬‬
‫‪ -‬وقفوه على الحابط‪.‬‬
‫دفعة على ظهري‪ ،‬صفعة على رقبتً‪ٌ ،‬داي إلى الخلؾ‪ ،‬أسٌر مرؼما‪ٌ ،‬رتطم رأسً بالجدار‪ ،‬أقؾ‪.‬‬
‫‪4‬‬
‫‪ -‬إرفع ٌدٌك لفوق ‪..‬ولك كلب ‪...‬‬
‫أرفعُهما‪.‬‬
‫‪ -‬إرفع رجلك الٌمٌن ووقؾ على رجلك الٌسار ‪ٌ..‬ا ابن الشرموطة‪.‬‬
‫أرفع رجلً‪ ،‬أقؾ‪.‬‬
‫فً الخلؾ ٌستمر ما كان ٌجري‪ ،‬أسمع صوت الكابل‪ ،‬صوت ارتطامه بالقدمٌن‪ ،‬صوت الشاب المتؤلم‪ ،‬صوت‬
‫لهاث الجبلد‪ ،‬أكاد اسمع صوت نتؾ اللحم التً رأٌتها تتطاٌر قبل قلٌل‪ ..‬أصوات‪ ..‬أصوات‪.‬‬
‫عند األعمى الصوت هو السٌد‪.‬‬
‫الكرسً المرٌح فً مطار اورلً‪ ،‬سوزان ‪ ،‬مرطبات‪ ،‬بٌرة‪ ،‬المقعد الوثٌر فً الطابرة‪ ،‬المضٌفة التً تفٌض ًال‬
‫رقة‬
‫وجماالًال‪ ،‬العصٌر‪ ..‬الشاي !!‬
‫تتعب رجلً الٌسرى التً تحمل كامل جسدي‪ ".‬لو بدلت الٌمنى بالٌسرى‪ ،‬هل سٌنتبه الرجل ذو الوجه المحتقن؟!‬
‫وإذا انتبه ماذا سٌفعل ؟!" ‪.‬‬
‫تتخدر الٌسرى‪ ،‬لم أعد أستطيع االحتمال‪ ،‬أؼامر ‪..‬أبدل !!‪ ..‬لم ٌحصل شًء‪ ،‬لم ٌنتبه أحد‪ ،‬أشعر باالنتصار!‪..‬‬
‫"بعد سنٌن طوٌلة من السجن مستقببلًال‪ ،‬سؤكتشؾ أنه فً الصراع األبدي بٌن السجٌن والسجان‪ ،‬كل انتصارات‬
‫السجٌن ستكون من هذا العٌار!!"‪.‬‬
‫الزمن ثقٌل ‪ ..‬ثقٌل ‪ ..‬حالة من البلتصدٌق تنتابنً!! ما الذي ٌجري؟! ولم أنا هنا ؟! آالؾ األسبلة‪ ،‬أحاول أن‬
‫أستند بٌدي إلى الحابط‪ ،‬ألمسه برإوس أصابعً ‪ ....‬فجؤة ٌصٌح الشاب المحشور فً دوالب السٌارة الخارجً‬
‫األسود‪:‬‬
‫‪ -‬بس ٌا سٌدي ‪..‬بس‪ ،‬مشان هللا‪ ،‬ما عاد فٌنً أتحمل! رح أحكً كل شً‪.‬‬
‫بهدوء وبلهجة المنتصر‪ٌ ،‬قول الرجل ذو الوجه المحتقن‪:‬‬
‫‪ -‬بس إبراهٌم ‪ ..‬كافً‪ ،‬اتركه‪ ،‬طالعه من الدوالب وخذه لعند الرابد‪.‬‬
‫اسمعه ٌتكلم بالهاتؾ مع الرابد‪ .‬فكرت‪ :‬جاء اآلن دوري !!؟ ‪.‬‬
‫فعبلًال‪ ،‬سمعت صوت سماعة الهاتؾ تعاد إلى مكانها‪ ،‬ا‬
‫صح المحتقن‪:‬‬
‫‪ -‬ولك أٌوب ‪..‬أٌوب‪.‬‬
‫‪ -‬نعم سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬تعال شوؾ ه ذا الزبون‪.‬‬
‫أحس بؤٌوب خلفً ‪.‬‬
‫‪ -‬دخله عـ الدوالب ‪ٌ..‬ا هلل بسرعة‪.‬‬
‫شعرت بؤن أكثر من خمسة رجال قد جذبونً وأوقعونً أرضا ًال‪ " .‬الى اآلن‪ ،‬بعد أربعة عشر عاما ًال مضت على‬
‫تلك اللحظة‪ ،‬لم أستطع أن أفهم أو أتصور كٌؾ أن أٌوب قد حشرنً فً ذلك الدوالب الخارجً للسٌارة ‪ ،‬بحٌث‬
‫أصبحت رجبلي مشرعتين فً الهواء‪ ،‬ال أستطٌع الفكاك مهما حاولت‪ ،‬وال كٌؾ انتزع حذابً وجواربً !!"‪.‬‬
‫‪ -‬سٌدي ‪..‬كابل والّ خٌزرانة؟‬
‫‪5‬‬
‫‪ -‬خٌزرانه ‪ ..‬خٌزرانه‪ٌ ،‬ظهر األستاذ نعنوع!‬
‫سٌخ من النار لسع باطن قدمً‪ ،‬صرخت ‪ .‬قبل انتهاء الصرخة كانت الخٌزرانه قد لسعت مرة أخرى ‪ ..‬الضرب‬
‫متواصل‪ ،‬الصراخ متواصل‪ .‬رؼم ذلك سمعت صوت الرجل المحتقن‪:‬‬
‫‪ -‬أٌوب‪ ..‬بس استوى نادٌلً‪.‬‬
‫ال أعرؾ لماذا ٌضربونني! ال أعرؾ ماذا ٌريدون منً‪ ،‬تجرأت وصرخت‪:‬‬
‫‪ -‬لك ٌا أخً شو بترٌد منً؟‪.‬‬
‫‪ -‬كول خرى‪ ..‬وال َمنٌك‪.‬‬
‫هذا كان رد أٌوب الذي لم أر وجهه أبداًال‪ .‬وبدأت أعد الضربات وأنا أصرخ ألما ‪" .‬بعد ذلك بزمن طوٌل‪ ،‬أخبرنً‬
‫المتمرسون‪ :‬إن ع َّد الضربات أول عبلمات الضعؾ‪ ،‬و إن هذا ٌدل على أن المجاهد أو المناضل سٌنهار أمام‬
‫المحقق!!‪..‬وقتها قلت فً نفسً‪ :‬ولكننً لست مناضبلًال وال مجاهداًال‪ .‬و أخبرونً أن من األفضل فً هذه الحاالت‬
‫أن تكون لدٌك قدرة كبٌرة على التركٌز النفسً بحٌث تركز على مسؤلة محببة لك‪ ،‬وتحاول أن تنسى قدمٌك !!"‪.‬‬
‫عند الرقم أربعٌن أخطؤت العد‪ ،‬وبدأت أفقد إحساسً بجسدي‪ ،‬صراخً خفتت حدته‪ ،‬حالة من عدم التوازن و‬
‫الدوار‪ ،‬الؽمام – رؼم الطماشة – بدأ ٌطفو أمام عٌنً "هل بدأت أفقد وعًٌ ؟" ؼمام ‪..‬دوار ‪ ..‬مطار أورلً ‪..‬‬
‫العصٌر البٌرة ‪..‬الطابرة والمضٌفة اللطٌفة ‪...‬‬
‫إحساس مبهم بؤن كل شًء قد توقؾ‪ ..‬استعدت استٌعاب الموقؾ‪ ..‬نعم حتى الضرب توقؾ! خدر‪ ...‬خدر ‪..‬‬
‫دقابق قد تكون طوٌلة ‪ ...‬قد تكون قصٌرة ‪..‬لست أدري !! صحوت!‪.‬‬
‫صوت الرجل ذو الوجه المحتقن ثانٌة‪:‬‬
‫‪ -‬شو ٌا أٌوب ‪ ..‬صحً والّ أل؟‬
‫تحت!!‬
‫‪ -‬صحً ‪ ..‬سٌدي‪ ..‬صحً ‪ ،‬بس ‪ ..‬شخ و‬
‫‪ -‬العمى بـ عٌونه ‪..‬الظاهر إنو األستاذ كتٌر خروق!!‬
‫أحسست بلكزة فً خاصرتً‪ ،‬وصوت المحقق‪:‬‬
‫‪ -‬ولك شو ؟ ‪ ..‬مانك رجّ ال ؟! العمى بعٌونك ما بتستحً تشخ تحتك ؟! شو اسمك وال ؟‬
‫قلت له اسمً‪.‬‬
‫‪ -‬وال كلب ‪ ..‬شوؾ ‪ ،‬لسه ما بلشنا معك‪ ،‬صار فٌك هٌك‪ ،‬لسه ه ذا كله مزح وما بلشنا الجد‪ ،‬األفضل من البداٌة‬
‫ترٌح حالك وترٌحنا ‪ ...‬بدك تحكً ‪ٌ ...‬عنً بدك تحكً!! هون عندنا الكل بٌحكوا ‪ ...‬وبدك تحكً كل شً ‪ ..‬من‬
‫طق طق ‪..‬لـ السبلم علٌكم ! هاه ‪..‬؟ مستعد تحكً ؟‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي بحكً شو ما بترٌد ‪ ..‬بس قولولً شو بدي أحكً!‬
‫‪ -‬طٌب ‪..‬هات لنشوؾ ‪..‬شو أسماء أسرتك وال؟‬
‫بدأت أعد له أسماء أهلً‪ ،‬بدءاًال ًال من والدي ووالدتً‪ ،‬لكنه قاطعنً صارخا ًال مهتاجا ًال‪:‬‬
‫‪ -‬وال جحش ‪..‬عم تجدبها علً ؟ أنا بدي أسماء أهلك !! خراي علٌك وعلى أهلك‪ ،‬قل لً أسماء أسرتك بالتنظٌم‬
‫وال ‪ ...‬كرّ ‪.‬‬
‫‪6‬‬
‫‪ -‬أي تنظٌم ٌا سٌدي؟ أي تنظٌم؟‬
‫حال !!‬
‫حال !! بدو ٌعذبنا و ٌعذب ه‬
‫‪ٌ -‬ا أٌوب ‪ٌ ..‬بدو ه ـ التٌس عم ٌؽشم ه‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪..‬وحٌاة الرب‪..‬وحٌاة الرب ‪..‬ما بعرؾ عن شو عم تسؤلنً! أي تنظٌم هذا ٌللً عم تحكً عنه؟‬
‫صوت خطوات‪ .‬شعرت أنه اقترب منً‪ ،‬أنفاسه لفحت وجهً‪ ،‬وبهدوء شدٌد قال‪:‬‬
‫‪ -‬تنظٌم المناٌك أمثالك ‪ ..‬تنظٌم اإلخوان المسلمٌن ‪..‬شو ما بتعرؾ تنظٌمك ؟!‪.‬‬
‫"الحظت أن رابحة فمه كرٌهة جداًال"‪.‬‬
‫لم أدر‪ .‬هل علً أن أفرح ألن االلتباس بدا واضحا ًال جلٌا ًال ؟ ‪..‬أم ألعن حظً العاثر الذي أوقعنً فً هذا االلتباس‬
‫؟‪ ..‬أم ألعن الصدؾ التً قدرت أن أصل مباشرة إلى أبو رمزت ؟‪ ..‬لو أنهم فتشونً وأخذوا أؼراضً كما‬
‫ٌفعلون مع الجمٌع‪ ..‬لتبٌن ألحد ما من أكون وما هً جرٌمتً‪ ،‬ولكن أن أدخل فرع المخابرات فً اللحظة التً‬
‫كان ٌؤتً فٌها إلى الفرع ٌومٌا ًال مبات المعتقلٌن من اإلخوان المسلمٌن‪ ،‬وأن أُح َشر بٌنهم‪ ،‬وأن ٌعمل الضباط‬
‫والعناصر على مدار األربع وعشرٌن ساعة ٌومٌاًال‪ ،‬وأن تكون الفوضى داخل الفرع عارمة لهذه الدرجة‪ ،‬فمن‬
‫اسمً الذي ال ٌوحً بؤننً لست‬ ‫المستحٌل عندها أن أستطٌع إزالة وتوضٌح هذا االلتباس‪ .‬وفوق كل هذا‬
‫مسلما ًال‪.‬‬
‫ولكن رؼم ذلك‪ ،‬صرخت‪:‬‬
‫‪ -‬بس سٌدي أنا مسٌحً‪ ..‬أنا مسٌحً!!‬
‫‪ -‬شو وال !! عم تقول مسٌحً ؟! العمى بعٌونك وال ‪..‬لٌش ما حكٌت ؟! لٌش جاٌبٌنك لكان؟‪..‬أكٌد‪..‬أكٌد عامل‬
‫شؽلة كبٌرة!‪..‬مسٌحً؟!‬
‫‪ -‬أنتو ما سؤلتونً ٌا سٌدي ‪..‬ومو بس مسٌحً ‪ ..‬أنا رجل ملحد ‪..‬أنا ما بآمن باهلل !!‬
‫"الى اآلن لم أجد تفسٌراًال لفذلكتً هذه‪ ،‬فما الؽاٌة من إعبلن إلحادي أمام هذا المحقق ؟‪ ..‬ال أعرؾ !"‪.‬‬
‫‪ -‬وملحد كمان؟!‬
‫سؤلها بصوت علٌه مسحة من تفكٌر‪.‬‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪..‬نعم ‪ .‬وهللا العظٌم‪..‬وشوؾ جواز سفري‪.‬‬
‫سكت الرجل المحتقن لحظات بدت لً طوٌلة جداًال‪ .‬سمعت صوت أقدامه تبتعد‪ ،‬وبصوت واضح قال‪:‬‬
‫‪ -‬قال ملحد‪ ...‬قال !! إي‪ ..‬بس نحن دولة إسبلمٌة !!‪..‬أٌوب‪..‬كمل شؽلك!!‬
‫وعادت خٌزرانة أٌوب تواصل عملها‪.‬‬
‫" منذ اللحظات األولى الحتكاكً بهإالء‪ ،‬استخدمت كلمة _ ٌاأخً_ عند اإلجابة على سإال ما‪ ،‬لكن أٌوب‬
‫صفعنً قاببلًال‪:‬‬
‫_ وال كلب‪ ..‬أنا أخوك؟‪ ..‬أخوك بالخان‪.‬‬
‫تداركت األمر وخاطبته ب "ٌا أستاذ" وصفعة أخرى‪:‬‬
‫‪ -‬أستاذ؟‪ ..‬أستاذ ببٌت أهلك‪..‬بٌن فخاذ أمك‪.‬‬
‫منذ تلك اللحظات علمونً أن أقول‪ٌ " :‬اسٌدي"‪.‬‬
‫‪7‬‬
‫هذه الكلمة التستخدم هنا كما بٌن رجلٌن مهذبٌن‪ ،‬هذه الكلمة ُتنطق هنا وهً تحمل كل معانً الذ ّل والعبودٌة‪.‬‬
‫‪ 21‬نيسان‬
‫فتحت عٌنً ببطء‪ ،‬أكاد اختنق من نتانة الروابح المحٌطة بً‪ ،‬حولً ؼابة من األقدام واألرجل‪ ،‬ملقى على‬
‫األرض بٌن هذه األقدام المكتظة‪ ،‬رابحة األقدام القذرة‪ ،‬رابحة الدم‪ ،‬رابحة الجروح المتقٌحة‪ ،‬رابحة األرض‬
‫التً لم تنظؾ منذ زمن طوٌل ‪ ...‬األنفاس الثقٌلة ألناس ٌقفون متبلصقٌن "علمت بعد قلٌل من خبلل عملٌة التفقد‬
‫والعد‪ ،‬أننا كنا ستة وثمانين رجبلًال‪ ،‬عاٌنت سقؾ الؽرفة وقدرت أن مساحتها ال تزٌد عن خمسة وعشرٌن متراًال‬
‫مربعا‪."!!.‬‬
‫الحدٌث بٌن الناس ٌجري همساًال‪ ،‬األمر الذي ٌولد أزٌزاًال متواصبل ٌخٌم فوق الجمٌع ‪ .‬أردت الوقوؾ الستنشاق‬
‫بعض الهواء‪.‬آالم فظٌعة فً كامل الجسد‪ ،‬تحاملت‪ ،‬تجلدت‪ ،‬وعندما حاولت أن أقؾ على قدمً صرخت ألما ًال‪.‬‬
‫انتبه الناس من حولً‪ ،‬عدة أٌاد امتدت‪ ،‬أمسكت بً من تحت إبطً وأنهضتنً‪ ،‬وقفت مستندا إلى األٌادي‪ ،‬قال‬
‫شاب ٌقؾ إلى جانبً‪:‬‬
‫‪ -‬اصبر ٌا أخً‪ ..‬اصبر‪ ،‬إنها شدة وتزول!!‬
‫قال آخر‪:‬‬
‫‪ -‬من ٌكن مع هللا فإن هللا سٌكون معه‪..‬ال تٌؤس ٌا أخً‪.‬‬
‫والثالثة عشر‬ ‫مع الحركة خفت اآلالم قلٌبلًال‪ ،‬نظرت حولً‪ ،‬رجال‪ ..‬شباب‪ ..‬وٌوجد أطفال فً الثانٌة عشر‬
‫‪..‬كهول‪ ..‬شٌوخ!!‬
‫ّ‬
‫التفت إلى الرجل الذي حاول أن ٌشد من عزٌمتً قبل قلٌل‪ ،‬سؤلته ‪:‬‬
‫‪ -‬مٌن هدول الناس؟ ‪ ..‬لٌش نحن هون؟ لٌش الناس واقفٌن؟!‬
‫نظر الرجل إلًّ بحٌرة تقرب من الببلهة وكؤنه ٌقول‪ :‬كٌؾ ٌمكن شرح ما هو بدٌهً؟!! ورد بسإال‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ‪..‬ما بتعرؾ شو صاٌر بالبلد ؟!‬
‫"كنت‪ ،‬وأنا فً فرنسا‪ ،‬قد سمعت أنبا ًالء عن اضطرابات سٌاسٌة تحصل هنا‪ ،‬وأن هناك حزبا ًال ٌدعى اإلخوان‬
‫المسلمٌن ٌقوم ببعض حوادث العنؾ هنا وهناك ‪ .‬ولكني لم أعر هذه األنباء أٌة أهمٌة‪ ،‬وبقٌت مبهمة‪ ،‬فلم أعرؾ‬
‫التفاصٌل‪ ،‬ولم أكن ٌوما من هواة نشرات األخبار‪ ،‬أو العمل السٌاسً المنظم‪ ،‬رؼم أننً كنت فً المرحلة‬
‫الثانوٌة وما تبلها قرٌبا ًال من بعض الماركسٌٌن ومتؤثراًال بؤفكارهم‪ ،‬خاصة أفكار خالً الذي كان على ما ٌبدو ٌحتل‬
‫مركزاًال قٌادٌا ًال مهما ًال فً الحزب الشٌوعي"‪.‬‬
‫أجبته‪:‬‬
‫‪ -‬ال وهللا ‪ ..‬ما بعرؾ! ‪ ..‬لٌش شو صاٌر؟‬
‫‪ -‬لٌش مانك عاٌش بالبلد؟!‬
‫أجبته دفعة واحدة عن كل ما ٌمكن أن ٌسؤله ‪:‬‬
‫و أردت أن اقطع كل دابر أسبلته‪ ،‬ؾ‬
‫‪ -‬أل ‪ ..‬كنت عاٌش بفرنسا‪ ..‬والٌوم أنا جٌت‪ٌ ،‬عنً من‪" ..‬نظرت الى ساعتً" أربع عشرة ساعة بس‪.‬‬

‫‪8‬‬
‫‪ -‬العمى معك ساعة ؟!! ‪..‬خبٌها ٌا أخً خبٌها‪ ،‬شاٌؾ كل الناس هون‪ ،‬هدول كلهم من خٌرة المإمنٌن والمدافعٌن‬
‫عن اإلسبلم بها البلد‪ ،‬امتحان ٌا أخً امتحان‪ ،‬امتحان من هللا عز وجل‪.‬‬
‫قاطعته وقد بلػ بً اإلحساس بؽرابة وضعً وبالؽبن والضٌق حداًال كبٌراًال‪ ،‬قلت محت ّداًال‪:‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ..‬العمى أنا شو دخلنً؟! أنا مسٌحً مانً مسلم‪ ،‬وأنا ملحد مانً مإمن!!‬
‫" هذه هً المرة الثانٌة التً أعلن فٌها أننً ملحد ‪ -‬وكانت فذلكة أٌضا ‪ . -‬فً المرة األولى كلفتنً وجبة من‬
‫خٌزرانة أٌوب‪ ،‬بؤمر من أبو رمزت الذي ذبح المسلمٌن ألننا نعٌش فً دولة إسبلمٌة !!! أما فً المرة الثانٌة‬
‫فإنها ستكلفنً سنوات طوٌلة من العزلة المطلقة‪ ،‬ومعاملة كمعاملة الحشرات‪ ،‬ال بل أسوأ منها"‪.‬‬
‫رأٌت محدثً وكؤنه قفز إلى الخلؾ ‪ .‬ولكوننا محشورٌن‪ ،‬لم ٌتحرك منه إال جزإه العلوي فقط‪ ،‬وبشكل عفوي‬
‫قال‪:‬‬
‫‪ -‬أعوذ باهلل من الشٌطان الرجٌم ‪ - ..‬ثم بصوت أعلى ‪ٌ .. -‬ا شباب فً واحد نصرانً كافر !‪ ..‬فً عندنا واحد‬
‫جاسوس‪.‬‬
‫صُوّ بت نحوي مجموعة من العٌون‪ ،‬فً نفس الوقت الذي سمعت فٌه صوتا ًال آتٌا ًال من خلفً‪ ،‬صوتا ًال آمراًال‪:‬‬
‫ـ مٌن هذا ٌللً عم ٌرفع صوته ؟ ‪ ..‬سكوت ‪..‬سكوت ! ٌا هلل ‪ ..‬صار وقت التبدٌل‪.‬‬
‫لم استطع استٌعاب األمر !! فً الجزء األبعد من الؽرفة كانت هناك مجموعة من الناس المستلقٌن على األرض‪،‬‬
‫وقد اصطفوا بطرٌقة ؼرٌبة ولكن منتظمة‪" .‬كما لو كانوا مجموعة من لفابؾ التبػ قد اصطفت فً علبة" ‪ .‬وبٌن‬
‫المستلقٌن وبٌننا نحن الواقفٌن‪ ،‬توجد المجموعة الثالثة‪ ،‬مجموعة المقرفصٌن على األرض‪.‬‬
‫بعد كبلم الرجل الضخم ـ علمت أنه ربٌس المهجع ـ تحركت المجموعات الثبلث ‪ .‬خبلل لحظات كان النٌام‬
‫جمٌعا ًال قد وقفوا واحتلوا الركن الذي كنا فٌه تدرٌجٌا ًال‪ .‬نحن قرفصنا‪ .‬المجموعة الثالثة اتجهت الى مكان النوم‬
‫ـ ٌا هلل سٌّؾ‪ ..‬سٌّؾ‪ ،‬كل الناٌمٌن ٌسٌّفو‪.‬‬
‫"وتبٌن أن التسٌٌؾ هو النوم على الجنب"‪.‬‬
‫األول استلقى لصق الحابط على جنبه‪ ،‬ظهره إلى الحابط‪ ،‬الثانً استلقى أمامه واضعا ًال البطن على البطن‪ ،‬رأس‬
‫كل واحد منهما عند أقدام اآلخر‪.‬‬
‫الثالث سٌّؾ ووضع ظهره لصق الظهر الثانً‪ ،‬الرابع بطنه على بطن الثالث‪ ،‬ودابما ًال الرإوس عند األقدام‪.‬‬
‫تتابع المستلقون إلى أن وصل الصؾ إلى الحابط الثانً من الؽرفة والزال هناك ستة أو سبعة أشخاص لم ٌبق‬
‫لهم مكان‪ .‬هنا صاح ربٌس المهجع‪:‬‬
‫ـ ٌا هلل ‪ٌ..‬ا كبٌّس ‪ ..‬أجا شؽلك!‬
‫مستلق عند الحابط ‪ ،‬وبهدوء وضع‬
‫ٍ‬ ‫قام الرجل الضخم الثانً بهدوء ـ ٌبدو مصارعا ًال ـ ‪ .‬ذهب إلى أول رجل‬
‫قدمٌه بٌن الحابط وبٌن الرجل المستلقً‪ ،‬استند بظهره إلى الحابط‪ ،‬ثم أخذ ٌدفع المستلقً بباطن قدمٌه‪ ،‬دفع أكثر‪،‬‬
‫أنضؽط المستلقون قلٌبل‪ ،‬أصبح هناك مسافة تتسع لرجل آخر‪ ،‬نادى على واحد من المتبقٌن‪ٌ :‬ا هلل ‪ ..‬إنزل هون‪.‬‬

‫‪9‬‬
‫نزل الرجل مستلقٌا ًال على جنبه بٌن أقدام الكبٌّس والرجل األول‪ ،‬ثم بدأ الكبٌّس بالضؽط على الرجل الجدٌد‪ ،‬ومرة‬
‫أخرى حقق مسافة تتسع إلى آخر‪ٌ ..‬ا هلل ‪ ..‬إ نزل هون‪ ،‬ثم الضؽط من جدٌد ورجل جدٌد‪ ،‬فً النهاٌة تم استٌعاب‬
‫جمٌع الذٌن لم ٌبق لهم مكان سابقا‪ ،‬عاد الكبٌس إلى مكانه بنفس الهدوء‪ ،‬وهو ٌنفض ٌدٌه!‪.‬‬
‫راقبت المستلقٌن‪ ،‬بعضهم استؽرق فً النوم فوراًال!!‪.‬‬
‫ثبلثة أٌام قضٌتها فً تلك الؽرفة ‪" .‬سمعت أن بعضهم سابقا ًال والحقاًال‪ ،‬قضى فٌها شهوراًال عدٌدة‪ ،‬وفً بعض‬
‫الحاالت كان العدد ٌزٌد على عددنا"‪ .‬خبلل هذه األٌام تعرفت على الؽرفة جٌداًال‪.‬‬
‫بعد قلٌل من جلوسنا القرفصاء‪ ،‬أحسست أننً أرٌد قضاء حاجة‪ ،‬التفت إلى جاري وسؤلته‪:‬‬
‫ـ أٌن ٌقضً اإلنسان حاجته ؟‬
‫أشاح بوجهه عنً ولم ٌجب‪ ،‬سؤلت الجار اآلخر‪ ،‬أٌضا ًال لم ٌجب‪ .‬تذكرت أننً نصرانً‪ ،‬كافر‪ ،‬جاسوس‪ ،‬وستظل‬
‫تبلحقنً هذه التهم‪.‬‬
‫موقعً قرٌب من ربٌس المهجع‪ ،‬سؤلته فدلنً على المرحاض ‪" .‬إذن فً الؽرفة مرحاض!"‪ .‬اضررت لبلنتظار‬
‫أكثر من ساعة‪ .‬مرحاض واحد‪ ،‬حنفٌة ماء واحدة‪ ،‬وستة وثمانون شخصا ًال‪.‬‬
‫عدت إلى موقعً‪ .‬حركة ما فوق‪ ،‬نظرت ‪ .‬أنبوب الصرؾ الصحً‪ ،‬وٌبدو أنه للبناء كله‪ٌ ،‬قطع الؽرفة من أولها‬
‫إلى آخرها‪ .‬بٌن األنبوب وبٌن سقؾ الؽرفة حوالً النصؾ متر ‪ .‬فوق هذا األنبوب ٌنام اثنان من الفتٌة عمر كل‬
‫منهما حوالً خمسة عشر عاما ًال‪ ،‬احتضن الواحد منهما األنبوب بٌدٌه وصدره وتدلت األرجل إلى األسفل‪ ،‬بٌنما‬
‫الرأس مرتاح على صوت خرٌر الماء داخل األنبوب‪.‬‬
‫ـ بحٌاتً ما نمت أحلى من هـ النومة!!‬
‫قال أحدهما فً الٌوم الثانً‪.‬‬
‫‪ 22‬نيسان‬
‫استٌقظت!‬
‫بعد ثماني ساعات من القرفصة جاء دورنا فً االستلقاء ‪ .‬بعض المقرفصٌن ممن لهم خبرة نبهوا بعضهم إلى‬
‫ومهما كان السبب‬ ‫ضرورة الذهاب إلى المرحاض قبل االستلقاء‪ ،‬ألنك إذا استلقٌت وانتهى الكبٌس من عمله‪،‬‬
‫الذي قمت من االستلقاء من أجله فإن مكانك سٌذهب‪.‬‬
‫استلقٌت مضؽوطا ًال بظهر رجُ ل على ظهري‪ ،‬وبطن رجل آخر على بطنً‪" ،‬تذكرت صدٌقتً التً تحب‬
‫الوضعٌة الفرنسٌة !!"‪.‬‬
‫خلؾ رأسً قدمان‪ ،‬وأمامه قدمان‪ .‬كٌؾ ٌمكن لئلنسان أن ٌنام وهو ٌشم هذه الرابحة ؟!!‬
‫ورؼم ذلك نمت نوما ًال عمٌقا ًال ‪ ..‬واآلن استٌقظت‪ ..‬صحوت تماما ‪ ..‬كل شًء فً جسدي مضؽوط ‪..‬لكن الضؽط‬
‫على أسفل بطنً شدٌد وٌكاد ٌكون مإلما‪ٌ" .‬بدو أن لصٌقً األمامً قد امتؤلت مثانته‪ ،‬فتحجر عضوه‪ ،‬وطبٌعً‬
‫أن ٌنؽرز فً بطنً أنا"‪ .‬وفً ظل هكذا ظروؾ من المعٌب أن تفكر باحتمال آخر!!‬
‫حاولت زحزحته فلم أفلح‪ ،‬فمع كل حركة ٌنؽرز أكثر‪ ،‬سمعت شخٌره‪ ،‬فكرت أن أمد ٌدي على صعوبة ذلك‪،‬‬
‫ولكن خشٌت أن ٌستٌقظ لحظتها‪" .‬ماذا سٌقول إذا استٌقظ وعضوه فً ٌدي ؟!!"‪.‬‬
‫‪10‬‬
‫انسللت من وضعٌة االستلقاء بصعوبة‪ ،‬وذهبت إلى المرحاض‪.‬‬
‫أوان ٌسمونها‬
‫ٍ‬ ‫ثبلث لٌال‪ ..‬وثبلث مرات ٌفتح الباب فً الٌوم وٌؽلق‪ ،‬وفً كل مرة ٌفتح الباب‪ٌ ..‬دخل الطعام فً‬
‫قصعات‪ .‬صباحا ًال لكل واحد رؼٌؾ مرقد مع قطعة حبلوة‪ ،‬هذان الصنفان ٌوزعهما ربٌس المهجع‪ ،‬وخمس‬
‫قصعات من سابل أسود "تبٌن انه شاي" ‪ .‬وفً المساء كذلك‪ .‬تدور القصعة من شخص آلخر ‪ٌ ..‬رفعها‪ٌ ،‬رشؾ‬
‫ًال‬
‫ملٌبة بالبرؼل‪ ،‬مع قصعة رب البندورة تحتوي بعض‬ ‫منها‪ٌ ،‬ناولها لمن بجانبه ‪ .‬أما الظهر‪ ،‬فتكون القصعات‬
‫الخضار‪.‬‬
‫" لن أنسى أبدا الطرٌقة التً تخاطؾ بها الناس قطع اللحم فً المرة الوحٌدة التً جلبوا فٌها لحما ًال ‪ .‬فكرت‪ ،‬حتى‬
‫الوجبتين الصباحٌة والمسابٌة‪ ،‬لوال ربٌس المهجع لتحول المهجع إلى ؼابة"‪.‬‬

‫خبلل هذه الساعات التً بدت لً بطول دهر‪ ،‬كنت كمن ٌطفو فً الزمان والمكان‪ .‬رؼبة بدت لً كاعتقاد راسخ‬
‫بؤن كل هذا ماهو إال خطؤ سخٌؾ سٌنتهً بعد قلٌل‪.‬‬
‫حسً المهنً والفنً قابع فً زاوٌة بعٌدة ٌراقب والٌتدخل‪ ،‬هذا الحس الذي ٌبقى خارج حٌز األلم والقلق‪ٌ ،‬بقى‬
‫متٌقظا ًال ومحاٌداًال مهما كانت درجة آالمً النفسٌة أو الجسدٌة‪ ،‬هو ٌراقب وٌسجل‪.‬‬
‫أتذكر قوالًال ألحد أساتذتً المرموقٌن‪ :‬إن الحدث مهما كان صؽٌراًال‪ ،‬فإن المخرج الجٌد ٌستطٌع أن ٌصنع منه‬
‫فٌلما ًال جٌداًال‪ ،‬الحدث هو الهٌكل العظمً وعلى المخرج إكساإه باللحم والثٌاب‪.‬‬
‫هذا الحس التقط مشهد تخاطؾ قطع اللحم‪ ،‬وأحس المفارقة الصارخة بٌن مجموعة من األشٌاء المحٌطة التً‬
‫تدعو لئلقٌاء_ أو على األقل_ العزوؾ عن كل شًء‪ ،‬وبٌن الفعل المادي الممارس من قبل خاطفً قطع اللحم‪.‬‬
‫ما الذي ٌفقد هإالء الناس الحس باللٌاقة والذوق؟! وبالتالً بالكرامة والعزة البشرٌة‪ ،‬هل هو الصراع من أجل‬
‫البقاء؟‪ ..‬قد ٌكون‪.‬‬

‫ثبلثة أٌام بلٌالٌها‪ ،‬أكلت نصؾ رؼٌؾ مع قطعة حبلوة‪.‬‬


‫‪ 23‬نيسان‬
‫استٌقظت!‪.‬‬
‫كان االستلقاء الثانً " النوم على الببلط " أفضل قلٌبلًال‪ ،‬استٌقظت قبل انتهاء مدة الثماني ساعات‪ ،‬لم أشعر برؼبة‬
‫فً النهوض‪ .‬حلمت أنً قد شبعت نوما ًال ولكنً أتابع استرخا ًالء وترفا ًال‪.‬‬
‫"تمنٌت لو أنً أستطٌع المطمطة قلٌبلًال!‪ .‬تمنٌت فنجان قهوة وسٌجارة"‪.‬‬
‫مكانً قرٌب من ربٌس المهجع ‪ .‬أسمع حدٌثه والكبٌّس‪ ،‬فتح السجان طبلّقة الباب وهً النافذة الصؽٌرة فً أعلى‬
‫‪ .‬عاد ربس المهجع ‪.‬‬ ‫الباب‪ .‬قفز ربٌس المهجع‪ ،‬تبادل حدٌثا ًال مطوالًال مع السجان الذي فتح الطبلّقة‬
‫قال للكبٌّس همسا‪:‬‬
‫‪ -‬جاي دفعات كبٌرة من المحافظات ‪ ..‬وجماعتنا هدول ‪ ..‬الٌوم أو بكرة راح ٌترحلوا عـ السجن‬
‫الصحراوي‪.‬‬
‫‪11‬‬
‫ر ّد الكبٌّس متساببلًال باستؽراب‪:‬‬
‫‪ -‬العمى‪ ..‬شو راح ٌحطوا الناس كلها بالسجن !؟ ‪ ...‬إي ‪ ..‬ما ضل حدا برات السجن !!‪.‬‬
‫‪ -‬ولك سكوت ‪ ..‬اوعا حدا ٌسمعك ‪ ...‬ما دخلنا نحن ٌا عمًّ!!‪.‬‬
‫"ربٌس المهجع والكبٌّس مسجونان بجرم التهرٌب"‪.‬‬
‫عند المساء‪ ،‬وعندما انتقلت مجموعتنا من الوقوؾ إلى القرفصة‪ ،‬تعمدت أن أقرفص قرب ربٌس المهجع‪.‬‬
‫انتظرت حتى قبٌل وجبة الطعام الثالثة‪ ،‬وبوجه حاولت أن ٌكون بشوشا ًال‪ ،‬قلت له‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا أستاذ ‪ ..‬عفواًال ‪ ..‬ممكن احكً معك شؽلة ؟‪.‬‬
‫‪ -‬أستاذ ؟! ‪ ..‬من وٌن لوٌن ساوٌتنً أستاذ ؟ ‪ ..‬نعم شو بدك ؟! ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌد ‪ ..‬أكٌد فً ؼلط!‪.‬‬
‫‪ -‬وٌن الؽلط ؟‪ٌ ..‬ا أستاذ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا أخً أنا مانً مسلم ‪ ..‬حتى أكون إخوان مسلمٌن‪ ..‬أنا مسٌحً ولٌش حطونً هون‪ ،‬لٌش جابونً أصبلًال‪،‬‬
‫ما بعرؾ!! ‪.‬‬
‫‪ -‬لك ٌا أخً الطاسة ضاٌعة ‪ ..‬ما فً حدا لحدا ‪. !.‬؟‬
‫‪ -‬طٌب ممكن تقول لربٌس السجن ‪ ..‬لشً حدا مسإول هالحكً ؟‬
‫‪ -‬وٌن أنا بدي شوؾ مدٌر السجن ؟‪ ..‬خلص ‪ ..‬خلص‪ ..‬هلق بٌجً السجان وراح أنقل له هـ الحكً‪.‬‬
‫سمعت طقطقة القفل‪ ،‬وقؾ ربٌس المهجع‪ ،‬أمسكت ٌده‪:‬‬
‫‪ -‬أرجو أال تنسى أن تقول له‪.‬‬
‫هز رأسه‪ ،‬فُتح الباب‪ٌ" ،‬ا هلل ّ‬
‫دخلوا األكل"‪ .‬دخل األكل‪ .‬خاطب ربٌس المهجع السجان‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ...‬فً عنا واحد هون ‪ ..‬عم ٌقول ‪..‬‬
‫قاطعه السجان مسرعا ًال‪:‬‬
‫‪ -‬عم ٌقول ما عم ٌقول ! أنا ما بعرؾ شً ‪ ...‬هلق ببعتلك ربٌس النوبة ‪.‬‬
‫بعدما ٌقرب من نصؾ الساعة‪ ،‬طقطقة الباب مجددا‪ ،‬ظهر شخص وسٌم‪ ،‬وبلهجة جبلٌة ثقٌلة‪:‬‬
‫‪ -‬شو فً عندك ٌا ربٌس المهجع؟‬
‫جذبنً ربٌس المهجع من كتفً‪ ،‬وقفت‪ .‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬احكً له‪ ...‬احكً له‪ ،‬لسٌدنا أبو رامً!‬
‫متلعثما ًال‪ ..‬متؤتبا ًال ‪ ..‬شرحت له األمر‪ ،‬وبنفس اللهجة الجبلٌة ر ّد علً ‪:‬‬
‫‪ -‬طٌب أنا شو بدي ساوي لك ؟ ‪ ...‬مسٌحً ؟ ‪ ..‬إٌه وإذا مسٌحً !‪ ...‬بلكً عاونت األخوان المسلمٌن مثبلًال‬
‫‪ٌ ...‬عنً بلكً بعتهم سبلح مثبل ‪ ...‬إي هٌك بتكون أضرط منهم مثبل ‪...‬‬
‫ثم التفت إلى السجان‪ ،‬أمره ‪:‬‬
‫‪ -‬س ّكر ‪ ...‬وال س ّكر الباب ‪.‬‬
‫وقبل أن ٌؽلق السجان الباب‪ ،‬التفت أبو رامً إلى الناس فً المهجع‪ ،‬وبصوت عال قال ‪:‬‬
‫‪12‬‬
‫‪ -‬وال ‪ ..‬عرصات ‪ ...‬وال انتو مانكن إخوان مسلمٌن ‪ ...‬انتو إخوان شٌاطٌن ‪ ...‬فرجونا شطارتكم لشوؾ‬
‫‪ ....‬هاي عندكم واحد مسٌحً ‪ ...‬انشطوا معه ‪ ....‬اهدوه للدٌن الحنٌؾ ‪ ...‬بس شاطرٌن تقتلوا وتخربوا بـ‬
‫هالبلد !!‬
‫أؼلق الباب الحدٌدي بٌده بقوة‪ ،‬ومالبث أن فتحه فوراًال وعلى وجهه ابتسامة عرٌضة‪ ،‬تعلقت كل األنظار به‪،‬‬
‫تابع ٌقول ‪:‬‬
‫ؾ‬
‫‪ -‬وال كبلب ‪ ...‬عرصات ‪ ...‬إذا حسنتوا تساووه مسلم‪ ،‬ال تنسوا تنظموه باإلخوان المسلمٌن‪ ،‬مشان تصٌر‬
‫حبسته محرزة‪.‬‬
‫وأؼلق الباب بقوة‪.‬‬

‫االستلقاء الثالث‪:‬‬
‫لصٌقً الخلفً كان ذا مإخرة عرٌضة وكبٌرة ‪ ،‬ضاٌقنً وأراحنً‪ ،‬إنه أفضل من ذوي العظام الناتبة التً‬
‫تنؽرز فً جسدك ببل رحمة عند الكبس‪ .‬لصٌقً األمامً شاب فً العشرٌنات ال تبدو علٌه عبلبم التدٌن‪.‬‬
‫عاصانً النوم بعد حدٌث أبو رامً ‪ .‬كان هناك أمل كبٌر ٌعٌش داخلً بؤن أحد اًال ما سٌكتشؾ الخطؤ‪ ،‬وفوراًال‬
‫ٌُصار الى تصحٌح هذا الخطؤ‪ ،‬ولكن بعد هذا الحدٌث ‪ ...‬والطاسة ضاٌعة ‪ ...‬والترحٌل إلى السجن‬
‫الصحراوي !!‪ ...‬خالطنً الٌؤس والخوؾ من المصٌر المجهول‪.‬‬
‫ساعتان أو ثبلث‪ ...‬لست أدري ‪ ...‬وأخٌرا بدأت أهوم ‪ ،‬التعب ‪ ،‬اإلرهاق ‪ ،‬النوم ‪ ...‬ثم ‪ ...‬أصحو تدرٌجٌا ًال‪.‬‬
‫إحساس بالضٌق‪ .‬أقترب من الصحو أكثر‪ ،‬أشعر أن قدمًّ مكبل تان ‪ ،‬كانت قدماي قد تورمت ا من خٌزرانة‬
‫أٌوب‪ ،‬أصحو أكثر ‪ ...‬شعور بالدؾء والرطوبة ٌصعد من قدمً‪ ،‬قلٌل من األلم أٌضا ًال‪ ...‬حركة ما‪...‬‬
‫أنتفض‪ ...‬أصحو تماما ًال‪ ...‬أرفع رأسً وأنظر إلى قدمً العلوٌة‪:‬‬
‫لصٌقً األمامً‪ ،‬الشاب‪ٌ ،‬قبض على قدمً العلوٌة بكلتا ٌدٌه‪ ،‬وقد وضع أصبع قدمً الكبٌر فً فمه وأخذ‬
‫ٌمصه !! لكزته ‪ ...‬ثم لكزته‪ ،‬تراخت ٌد اه ‪ ،‬سحب رأسه! تابعت اللكز‪ ،‬استٌقظ الشاب تماماًال‪ ،‬نظر إلً‬
‫بؽضب واستنكار!!‪ .‬وبحدة قال ‪:‬‬
‫‪ -‬لٌش فٌقتنً؟ !‬
‫‪ -‬شو لٌش فٌقتك ؟ مانك شاٌؾ شو عم تساوي ؟‬
‫‪ٌ -‬لعن سماك!! قطعت علً أحلى منام !!‬
‫‪ -‬شوكنت شاٌؾ منام ؟‬
‫" حضرتك‬ ‫‪ -‬نعم ‪ ....‬كنا أنا ومٌسون ‪ ...‬وباللحظة ٌلً مسكتها ومسكتنً ‪ ...‬وبلشنا ‪ ...‬بـ "‬
‫فٌقتنً!!‬
‫‪ -‬ومٌن هً مٌسون ‪ ....‬دخلك ؟‬
‫‪ -‬مٌسون؟ ‪ ....‬مٌسون خطٌبتً‪.‬‬
‫‪ -‬عفواًال ال تواخذنً ‪ ...‬ارجع نام ‪ ..‬لكن ال تخربط بٌن إصبع رجلً وشفاٌؾ مٌسون ‪.‬‬
‫‪13‬‬
‫لم أستطع النوم بعدها ‪ ...‬أسبلة وأسبلة‪ ،‬أي عالم هذاالذي حشرت فٌه؟! هل هذه هً البداٌة؟ ولكن إلى أٌن؟‪.‬‬
‫هل إبمكان أي كاتب أو سٌنارست أو مخرج تخٌل هكذا عوالم؟! أسبلة تطارد أسبلة !! ‪...‬‬
‫} طوال ثبلثة عشر عاما ‪ ،‬لم أسمع مرة قرقعة المفتاح فً الٌاب الحدٌدي إال وأحسست أن قلبً ٌكاد ٌنخلع!!‬
‫لم أستطع االعتٌاد علٌها{‬
‫قرقع المفتاح فً ؼٌر وقته‪ ،‬قفز ربٌس المهجع فً اللحظة التً انفتح فٌها الباب‪ ،‬أبو رامً والى جانبه‬
‫شخص طوٌل فً الخمسٌنات ٌضع نظارات طبٌة بٌضاء‪ ،‬خلفهما حوالً العشرٌن عنصرا‪ ،‬قال ذو‬
‫النظارات‪:‬‬
‫‪ -‬وٌن ربٌس المهجع ؟‬
‫‪ -‬حاضر سٌدي !‬
‫‪ -‬بهدوء ونظام‪ ،‬طالعلً هدول كلهن لبره‪ ،‬اتنٌن اتنٌن‪ ،‬ما ٌبقى هون إال أنت والمهرب الثانً ‪...‬وٌن‬
‫المهرب التانً؟‬
‫‪ -‬حاضر سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬خلٌك هون أنت كمان‪ٌ ...‬ا هلل ‪.‬‬
‫وخرجنا ‪ ...‬اثنين ‪ ...‬اثنين ‪ ...‬وكان فجر ‪ 24‬نٌسان‪.‬‬
‫‪ 24‬نيسان‬
‫الٌدان مقٌدتان بالقٌد الحدٌدي إلى الخلؾ‪ ،‬كاحل القدم مربوط بجنزٌر حدٌدي إلى كاحل سجٌن آخر‪ ،‬نسٌر‬
‫بصعوبة‪ ،‬نتعثر‪ ،‬ممرات ‪ ...‬أدراج ‪ُ ....‬تسجّ ل أسماإنا ضمن لوابح‪.‬‬
‫ٌتركنا ذو النظا رات بضع دقابق واقفٌن و ٌذهب حامبلًال اللوابح االسمٌة‪ٌ ،‬عود‪ ،‬من المإكد انه ذو أهمٌة‪ ،‬لم‬
‫ال أشرح له األمر‪ٌ ،‬قترب منً‪ ،‬أعاجله‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي كلمة واحدة‪.‬‬
‫‪ -‬كول خرى ‪ .....‬وال‪.‬‬
‫وصفعة مدوٌة‪.‬‬
‫تنبثق آالؾ النجوم البراقة أمام عٌني‪ ،‬الفجر ربٌعي‪ ،‬أترنح‪ ....‬أسكت‪.‬‬
‫ٌسحبوننا إلى خارج البناء‪ ،‬أرى أربع سٌارات شحن ذات أقفاص معدنٌة‪ ،‬السجناء ٌسمون هذه السٌارات بـ "‬
‫سٌارات اللحمة "‪ .‬قد تكون سمٌت كذلك ألنها تشبه السٌارات التً ٌوزعون بها األؼنام المذبوحة من المسالخ‬
‫إلى الجزارٌن ‪ ،‬أو ألن السجناء ٌصطفون بداخلها كما تصؾ الذبابح داخل سٌارات اللحمة الحقٌقٌة‪.‬‬
‫‪،‬‬ ‫سلم معدنً ذو ثبلث عوارض‪ ،‬نصعد بصعوبة بسبب األرجل المقٌدة وعدم إمكانٌة االستعانة بالٌدٌن‬
‫ٌجلسوننا على أرضٌة السٌارة‪ ،‬تمتلىء السٌارة‪ٌ ،‬ؽلق الباب بقفل كبٌر‪ٌ ،‬جلس عنصران من األمن أمام الباب‬
‫من الخارج‪ .‬انتظار ‪ ....‬انتظار‪ ،‬ثم تنطلق السٌارات سوٌة‪.‬‬
‫ءنا‪ ،‬شٌبا ًال فشٌبا ًال تلوح أولى خٌوط الفجر‬ ‫نصبح خارج المدٌنة‪ ،‬تزداد سرعة السٌارات‪ ،‬نترك الظبلم ورا‬
‫الفضٌة‪.‬‬
‫‪14‬‬
‫} هل هً رحلة من الظبلم إلى النور ؟ ‪ ...‬آمل ذلك‪{ .‬‬
‫سمعت أحدهم ٌسؤل آخر‪:‬‬
‫‪ -‬قدٌش بدنا وقت حتى نوصل ؟‬
‫‪ -‬تٌسٌر هللا‪ ...‬شً أربع أو خمس ساعات‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا أخً‪ ...‬وهللا ما فٌنً أتحمل كل هالوقت !!‪ ...‬كنت ناٌم ‪ ..‬فٌقونً من النوم وفوراًال لبرّ ه‪ ...‬وهلق أنا كتٌر‬
‫محصور‪ ....‬شو بدي ساوي ؟!‪ ..‬مثانتً راح تطق !!‬
‫‪ -‬إذا مافٌك تصبر‪ ...‬أنا بفكلك سحاب البنطلون‪ ،‬وساوٌها هون بالسٌارة‪.‬‬
‫‪ -‬هٌك معقول ؟!!! قدام كل هالناس؟‬
‫‪ -‬إي ‪ ...‬إي ‪ ..‬مافٌها شً‪ ،‬والحمد هلل مافً نسوان بٌناتنا‪.‬‬
‫مرتفع متوجها بالحدٌث إلى الجمٌع‪:‬‬
‫ٍ‬ ‫ت‬
‫ثم وبصو ٍ‬
‫‪ٌ -‬ا شباب‪ٌ ...‬ا شباب اسمعونً‪.‬‬
‫توجهت إلٌه األنظار‪ ،‬شرح لهم األمر‪ ،‬بعضهم همهم‪ ،‬وبعضهم سكت‪ ،‬البعض وافق‪ ،‬فؤدار المتكلم ظهره إلى‬
‫المحصور‪ ،‬وبٌدٌه المقٌدتٌن خلفاًال‪ ،‬تلمس السحاب‪ ،‬ف ّكه‪ ،‬أخرجـ "ـه " له‪ ،‬وابتعد‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا هلل ‪ ...‬رٌّح حالك ٌا أخً ‪.‬‬
‫بعدها وحتى وصولنا السجن الصحراوي تكررت هذه العملٌة أربع مرات‪ ،‬خمسة رجال آخرون تقٌؤوا فوق بركة‬
‫البول‪" .‬القًء كله ذو لون واحد"‪.‬‬
‫أما جاري‪ ،‬المقٌدة رجلً إلى رجله‪ ،‬فٌبدو أ نه كان ٌعانً من تعفن األمعاء‪ ،‬لفنً بؽبللة من روابح بطنه !‬
‫فً الثامنة صباحا ًال وصلنا أمام السجن الصحراوي ‪ " .‬فً الطرٌق كنت أنظر كثٌرا إلى ساعتً‪ ،‬وأكثر من‬
‫شخص نصحنً أن أخبؤها‪ ،‬ولكن أٌن ؟‪ ...‬تركتها على معصمً"‪.‬‬

‫أمام السجن‪.‬‬
‫عشرات من عناصر الشرطة العسكرٌة‪ ،‬الباب صؽٌر‪ ،‬تصدم العٌن لوحة حجرٌة فوق الباب مخططة باألسود‬
‫النافر‪:‬‬
‫"ولكم فً الحٌاة قصاص ٌا أولً األلباب"‪.‬‬
‫فتح لنا رجال األمن أبواب السٌارات‪ ،‬هم أنفسهم اللذٌن كانوا ٌعاملوننا بفظاظة وقسوة‪ ،‬أنزلونا من السٌارات‬
‫برفق مشوب بالشفقة‪ ،‬حتى أن أحدهم قال ‪ " :‬هللا ٌفرج عنكم ! " ‪ .‬وفٌما بٌنهم ك ا نوا ٌتحدثون همسا ًال وبصوت‬
‫خافت‪ٌ ،‬تحاشون النظر إلى عناصر الشرطة العسكرٌة الذٌن اصطفوا حولنا بما ٌشبه الدابرة‪ ،‬الحظت أن لهم‬
‫منفرجتن قلٌبلًال‪ ،‬الصدر مشدود إلى الوراء‪ ،‬الٌد الٌسرى تتكىء على الخصر‪،‬‬
‫ا‬ ‫الساقن‬
‫ا‬ ‫جمٌعا ًال نفس الوقفة تقرٌبا‪،‬‬
‫الٌد الٌمنى تحمل إما عصا ًال ؼلٌظة أو كببلًال مجدوالًال من أشرطة الكهرباء أو ش ٌبا ًال مطاطٌا أسودَ ٌشبه الحزام ‪" .‬‬
‫عرفت فٌما بعد أنه قشاط مروحة محرك الدبابة " ‪ٌ .‬نظرون إلٌنا والى عناصر األمن نظرة فوقٌة تحمل استخفافا ًال‬
‫بعناصر األمن ووعٌداًال مبطنا لنا‪ .‬حركاتهم تدل على نفاذ الصبر من بطء إجراءات التسلٌم واالستبلم‪ٌ ،‬نقلون ثقل‬
‫‪15‬‬
‫جسدهم من رجل إلى رجل‪ٌ ،‬ه ز ون ٌدهم الٌمنى بما تحمل هزات تبرم وؼٌظ‪ ،‬لباسهم جمٌعا عسكري أنٌق‪،‬‬
‫أعلى رتبة بٌنهم مساعد أول‪ ،‬وهو الذي كان ٌوقع على لوابح استبلمنا ‪.‬‬
‫} قرأت فً مكان ما أن رجال إحدى القبابل اإلفرٌقٌة عندما التقوا باإلنسان األوربً األبٌض ألول مرة نظروا‬
‫إلى بعضهم البعض بدهشة‪ ،‬وتساءلوا‪ :‬هذا الرجل‪ ،‬لماذا قام بسلخ وجهه ؟! {‬
‫وتخٌلت أن عناصر الشرطة العسكرٌة ‪ ،‬هإالء الذٌن أراهم امامً ‪ ،‬ذوو وجوه مسلوخة‪ ،‬أٌة قوة سلخت هذه‬
‫الوجوه ؟ ‪ ...‬كٌؾ سلخت ؟‪ ...‬لماذا ؟‪ ...‬أٌن ؟‪ ...‬لست أدري لكن ما أراه أن الوجوه البدٌلة ال تشبه وجوه باقً‬
‫البشر‪ ،‬وجوه أهلنا وأصدقابنا !!‪ ...‬مسحة ؼٌر بشرٌة ‪ ...‬هً ؼٌر مربٌة‪ ،‬صحٌح‪ ،‬ولكنها قطعا ًال موجودة!‪.‬‬
‫‪ -‬هللا ٌعطًكم العافٌة ‪ ...‬خلص انتو تٌسروا‪ ،‬خلصت مهمتكم‪.‬‬
‫هكذا قال مساعد الشرطة العسكرٌة للرجل ذي النظارات‪ .‬كانوا قد فكوا قٌودنا‪ ،‬السجناء ؼرٌزٌا ًال التصقوا بعضهم‬
‫ببعض‪ .‬ذهب رجال األمن‪.‬‬
‫بدأت الدابرة تضٌق ‪ ....‬صمت مطبق!!‬
‫‪ٌ -‬ا هلل ‪ ...‬صفوهم تنٌن تنٌن ‪ ...‬دخلوهم‪.‬‬
‫وأدخلونا من هذا الباب الصؽٌر‪ ،‬وفوقنا منحوتة "ولكم فً القصاص حٌاة ٌا أولً األلباب" ‪ .‬اثنين اثنين‪ ،‬فً رتل‬
‫طوٌل داخل ساحة فً وسطها وعلى جنباتها بعض األشجار والورود الرٌفٌة‪ ،‬وهً محاطة من جمٌع الجهات‬
‫بؽرؾ تشرؾ علٌها‪ .‬وقؾ الرتل أمام مساعد آخر‪ ،‬جلس خلؾ طاولة أخرى‪ ،‬ولوابح اسمٌة أخرى ‪ ،‬أكثر من‬
‫م ا بة عنصر من عناصر الشرطة العسكرٌة ٌحومون حولنا‪ ،‬جمٌع السجناء ٌتحاشون النظر مباشرة إلى أي‬
‫عنصر‪ .‬رأسنا منخفض قلٌبل‪ ،‬أكتافنا متهدلة ‪ .‬وقفة فٌها خشوع ‪ ،‬وقفة تصاؼر وذل‪ ،‬كٌؾ اتفق جمٌع السجناء‬
‫على هذه الوضعٌة وكؤننا تدربنا علٌها سابقا؟! لست ادري‪.‬‬
‫ك ن كل واحد منا ٌحاول االختباء داخل ذاته !!!‬
‫أ‬
‫القؾ‪ ،‬وكما ٌفعل كل إنسان ٌحكه رأسه‪ ،‬مددت ٌدي عفوٌا ًال وحككت !! وسمعت صوتا ًال راعداًال‪:‬‬
‫حكنً رأسً من ا‬
‫راس كمان ‪!!...‬‬
‫ه‬ ‫‪ -‬ولك ٌا جماعة ‪ ...‬شوفوا الكلب شوفوا !! عم ٌحك‬
‫راس ؟!‬
‫ه‬ ‫‪ -‬شــــوووو ‪ ! ....‬عم ٌحك‬
‫وسحبتنً األٌدي خارج الرتل‪ ،‬تقاذفتنً صفعا ًال ولكماًال‪ ،‬لكمة تقذفنً‪ ،‬صفعة توقفنً‪ ،‬النار فً الرقبة والوجه ‪....‬‬
‫تمنٌت لو أبكً قلٌبلًال‪ ...‬طلبنً المساعد لتسجٌلً فلم ٌبق ؼٌري‪ ،‬سجلنً وأصبحت نزٌبلًال رسمٌا ًال فً هذا‬
‫السجن‪.‬‬
‫مرة أخرى قادونا‪ ،‬بٌن ؼرفتٌن باب حدٌدي صؽٌر‪ ،‬أصؽر من الباب األول‪ " ،‬لم األبواب تصؽر كلما تقدمنا‬
‫؟! " ومن هذا الباب ولجنا إلى ساحة كبٌرة‪ ،‬إنها الساحة األولى‪ ،‬ساحة مفروشة باإلسفلت‪ ،‬كل الطرقات‬
‫والساحات مفروشة باإلسفلت الخشن‪ٌ ،‬حٌط بالساحة أبنٌة من طابق واحد مكتوب علٌها أرقام متسلسلة ‪:‬‬
‫المهجع الثالث ‪ ،‬المهجع الرابع ‪ ...‬المهجع السابع‪.‬‬
‫} األبواب تصؽر ولكن فً الساحة األولى فتحت جهنم أوسع أبوابها‪ ،‬وكنا وقودها !! {‪.‬‬
‫بهدوء ودقة أوقفونا بعضنا إلى جانب بعض‪ٌ ،‬فصل بٌن الواحد واآلخر متران أو ثبلثة‪ ،‬صاح المساعد‪:‬‬
‫‪16‬‬
‫‪ -‬هلق ‪ ...‬كل واحد منكن ٌشلح كل تٌابه ‪ ....‬حط تٌابك على ٌمٌنك ‪ ....‬خلٌك بالسروال الداخلً فقط‪.‬‬
‫الحظت أننً الوحٌد الذي ٌلبس " سلٌب " بعد ان خلع الجمٌع ثٌابهم ووقفوا ٌنتظرون‪،‬‬
‫وانتابنً إحساس بالؽربة !‪..‬‬
‫كان صوت المساعد فً البداٌة هادباًال‪ ،‬ومع مرور الوقت أخذ ٌتصاعد شٌبا ًال فشٌباًال‪ ،‬حد ًالة وشدة‪ ،‬وكلما تصاعد‬
‫صوت المساعد كنت أحس أن التوتر والعصبٌة ٌزدادان فً حركات الشرطة‪ ...‬والخوؾ والهلع ٌزدادان فً‬
‫نفوس السجناء‪ٌ ،‬ؽضون أبصارهم وتتهدل أكتافهم أكثر فؤكثر!‪.‬‬
‫اقترب منً شرطٌان ٌحمبلن الكرابٌج‪ ،‬قال أحدهم‪:‬‬
‫‪ّ -‬‬
‫نزل الكٌلوت وال ‪...‬واعمل حركتٌن أمان!!‬
‫أنزلت الكٌلوت حتى الركبة‪ ،‬نظرت إلى الشرطٌٌن مستفهما ًال ‪...‬‬
‫‪ -‬اعمل حركتٌن أمان وال‪...‬‬
‫‪ -‬شلون ٌا سٌدي بدي اعمل‪ ..‬شلون حركتٌن األمان؟‬
‫‪ -‬قرفص وقوم مرتٌن وال‪ ...‬صحٌح انك جحش!‬
‫"حركات األمان ُتعمل خشٌة أن ٌكون السجناء قد خبؤوا شٌبا ًال ممنوعا ًال فً شرجهم!"‬
‫نظر أحد الشرطٌٌن الى اآلخر مبتسماًال‪ ،‬وبصوت خفٌض‪:‬‬
‫‪ -‬العمى ‪ ...‬شو تبعو صؽٌر!!‬
‫نظرت الٌـ"ـه"‪ ،‬إلى تبعً‪ ،‬نعم لقد كان صؽٌراًال جداًال !! حتى هو أحس بالذعر الشدٌد والهلع‪ ،‬فا ختبؤ داخل كٌسه‪،‬‬
‫أنا لم أستطع االختباء!‬
‫خلفً مهجع كبٌر كتب على بابه ‪ /‬المهجع ‪ ./ 6- 5‬تخرج من جانب الباب بالوعة "صرؾ صحً" على وجه‬
‫األرض‪ ،‬تسٌل فً هذه البالوعة مٌاه سوداء قذرة‪.‬‬
‫جمٌع النقود واألوراق‪ ،‬أي شًء معدنً‪ ،‬األحزمة‬ ‫انتهى التفتٌش ‪ .‬جرى بدقة محترفٌن‪ ،‬حتى ثناٌا الثٌاب‪،‬‬
‫وأربطة األحذٌة ‪ ...‬جمٌعها صودرت‪" ،‬أنا كنت حافٌا" ‪ .‬ورؼم كل هذه الدقة بالتفتٌش فإن ساعة ٌدي مرت ‪ ،‬لم‬
‫أتعمد إخفاءها‪ ،‬فقط لم ٌنتبه لها احد‪ ،‬وعندما صاح المساعد‪:‬‬
‫‪ -‬وال كبلب ‪ ...‬كل واحد ٌحمل تٌابه‪.‬‬
‫حملت ثٌابً ووضعتها على ٌدي الٌسرى‪ ،‬وفورا فككت الساعة ودسستها فً الجٌب الداخلً لسترتً‪ ،‬وشعور‬
‫آخر باالنتصار‪!.‬‬

‫البلديــــــــات ‪:‬‬
‫كلمة خاصة بالسجون هنا‪ ،‬هم جنود سجناء ‪ ...‬الفارون من الخدمة العسكرٌة‪ ،‬الجنود الذٌن ٌرتكبون جرابم‬
‫القتل‪ ،‬االؼتصاب‪ ،‬السرقة‪ ،‬مدمنو المخدرات‪ ...‬كل الجنود المجرم ين‪ ،‬حثالة الجٌش‪ٌ ،‬قضون فترة عقوبتهم فً‬
‫السجون العسكرٌة‪ ،‬فً مثل هذا السجن‪ ،‬مهمتهم التنظٌؾ وتوزٌع الطعام وؼٌره من األعمال‪ ...‬من هنا جاء اسم‬
‫البلدٌات‪ ،‬هإالء فً السجن الصحراوي لهم مهمات أخرى‪.‬‬
‫‪17‬‬
‫ارتفع كثٌراًال‪ ،‬البلدٌات ٌقفون فً‬ ‫جمعونا فً أحد أطراؾ الساحة‪ ،‬تكومنا ونحن نحمل ثٌابنا‪ ،‬صوت المساعد‬
‫ًال‬
‫ؼلٌظة مربوط بها حبل متدل ٌصل بٌن‬ ‫الطرؾ اآلخر من الساحة‪ .‬كثٌر من البلدٌات‪ ،‬البعض منهم ٌحمل عصا ًال‬
‫العص "الفلقة"‪ .‬صاح المساعد بصوت مشحون موجها ًال حدٌثه للسجناء ‪:‬‬
‫ا‬ ‫طرفٌها‪ ،‬حبل سمٌك ٌتدلى من‬
‫‪ -‬مٌن فٌكم ضابط ؟‪ ..‬الضباط تعو لهون‪.‬‬
‫خرج اثنان من بٌن السجناء‪ ،‬أحدهما فً منتصؾ العمر‪ ،‬اآلخر شاب‪.‬‬
‫‪ -‬شو رتبتك ؟‬
‫‪ -‬عمٌد‪.‬‬
‫‪ -‬عمٌد؟!!‪.‬‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬وأنت شو رتبتك؟‬
‫‪ -‬مبلزم أول‪.‬‬
‫‪ -‬هـممم‪.‬‬
‫التفت المساعد إلى السجناء‪ ،‬وبصوت أقوى‪:‬‬
‫‪ -‬مٌن فٌكم طبٌب ‪ ..‬أو مهندس أو محامً‪ٌ ..‬طلع لبره‪.‬‬
‫خرج من بٌننا أكثر من عشرة أشخاص‪.‬‬
‫‪ -‬وقفوا هون‪ ..‬ثم متوجها ًال للسجناء‪:‬‬
‫‪ -‬كل واحد معه شهادة جامعة ‪ٌ ...‬طلع لبرّ ات الصؾ‪.‬‬
‫خرج أكثر من ثبلثٌن شخصاًال‪ ،‬كنت أنا بٌنهم‪.‬‬
‫مشى المساعد مبتعداًال‪ ،‬وقؾ بجوار البالوعة‪ ،‬صاح بالشرطة‪:‬‬
‫‪ -‬جٌبولً سٌادة العمٌد!!‬
‫انقض أكثر من عشرة عناصر على العمٌد‪ ،‬وبلحظات كان أمام المساعد!!‬
‫‪ -‬كٌفك سٌادة العمٌد؟‬
‫‪ -‬الحمد هلل ‪ ...‬الذي ال ٌحمد على مكروه سواه‪.‬‬
‫‪ -‬شو سٌادة العمٌد ‪ ...‬مانك عطشان؟‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬شكراًال‪.‬‬
‫‪ -‬بس الزم نشربك‪ٌ ..‬عنً نحن عرب‪ ،‬والعرب مشهورٌن بالكرم‪ٌ ،‬عنً الزم نقدم لك ضٌافة‪ ...‬مو من شان‬
‫شً ‪ ...‬منشان واجبك!!‬
‫بعد لهجة االستهزاء والسخرٌة صمت االثنان قلٌبلًال‪ ،‬ثم انتفض المساعد‪ ،‬وقال بصوت زاعق‪:‬‬
‫‪ -‬شاٌؾ البالوعة ؟ ‪ ..‬انبطح واشرب منها حتى ترتوي ‪ٌ ...‬اهلل وال كلب!!‬
‫‪ -‬ال ‪ ...‬ما راح اشرب‪.‬‬
‫وكؤن مسا ًال كهربابٌا ًال أصاب المساعد‪ ،‬وباستؽراب صادق صرخ‪:‬‬
‫‪18‬‬
‫‪ -‬شـو ‪..‬شـو ‪...‬شـو ؟؟!!! ما بتشرب!!!‬
‫عندها التفت إلى عناصر الشرطة العسكرٌة وال زال وجهه ٌنطق بالدهشة‪:‬‬
‫‪ -‬شربوه ‪ ....‬شربوه على طرٌقتكن و ال كبلب‪ ....‬تحركوا لشوؾ‪.‬‬
‫عار إال من السروال الداخلً‪ ،‬حاؾٍ‪ ،‬وبلحظات قلٌلة اصطبػ جسده بالخطوط الحمراء والزرقاء‪ ،‬أكثر‬
‫العمٌد ٍ‬
‫من عشرة عناصر انقضوا علٌه‪ ،‬تناوشوه‪ ،‬عصً ؼلٌظة‪ ،‬كوابل مجدولة‪ ،‬أقشطة مراوح الدبابات ‪ ....‬كلها‬
‫تنهال علٌه من جمٌع الجهات‪ ،‬من أول لحظة بدأ العمٌد ٌقاوم‪ٌ ،‬ضرب بٌدٌه العنصر الذي ٌراه أمامه‪ ،‬أصاب‬
‫بعضهم بضربات ٌدٌه ‪ ....‬كان ٌلكم ‪ٌ ...‬صفع ‪ٌ ...‬حاول جاهداًال أن ٌمسك بواحد منهم‪ ،‬ولكنهم كانوا ٌضربونه‬
‫وبشدة على ٌدٌه اللتٌن ٌمدهما لئلمساك بهم‪ ...‬تزداد ضراوتهم‪ ،‬خٌوط الدم تسٌل من مختلؾ أنحاء جسده ‪....‬‬
‫لٌته أكثر بٌاضا ًال من سابر أنحاء جسده‪ ،‬خٌوط‬
‫تمزق السروال وانقطع المطاط‪ ،‬أضحى العمٌد عارٌا ًال تماماًال‪ ،‬إ ا‬
‫الدم أكثر وضوحا ًال علٌهما‪ ،‬خصٌتاه تتؤرجحان مع كل ضربة أو حركة‪ ،‬بعد قلٌل تدلت ٌداه الى جانبٌه وأخذتا‬
‫صوت هامسا ًال خلفً‪:‬‬
‫اًال‬ ‫تتؤرجحان أٌضاًال‪ ،‬سمعت‬
‫‪-‬تكسروا إٌدٌه !! ٌا لطٌؾ ‪ ...‬هالعمٌد ٌا رجال كتٌر ‪ٌ ..‬ا مجنون!!‬
‫لم ألتفت إلى مصدر الكبلم‪ .‬كنت مؤخوذاًال بما ٌجري أمامً‪ ،‬مع الضرب بدأ العناصر ٌحاولون أن ٌبطحوه‬
‫أرضاًال‪ ،‬العمٌد ٌقاوم‪ٌ ،‬ملص من بٌن أٌدٌهم‪ ...‬تساعده دماإه التً جعلت جسده لزجا ًال‪ .‬تكاثروا علٌه‪ ،‬كلما نجحوا‬
‫فً إحنابه قلٌبل ‪ٌ ...‬نتفض وٌتملص من قبضاتهم وبعد كل حركة تزداد ضراوة الضرب ‪...‬‬
‫رأٌت هراوة ؼلٌظة ترتفع من خلؾ العمٌد وتهوي بسرعة البرق !!‪ ..‬سمعت صوت ارتطامها برأس‬
‫صوت ال ٌشبه أي صوت آخر‪ !....‬حتى عناصر الشرطة العسكرٌة توقفوا عن الضرب‪ُ ،‬‬
‫شلوا لدى‬ ‫أ‬ ‫العمٌد‪!....‬‬
‫سماعهم الصوت لثوان‪....‬صاحب الهراوة تراجع خطوتٌن إلى الوراء ‪ ..‬جامدَ العٌنٌن ‪ !!...‬العمٌد دار بجذعه‬
‫ربع دورة وكؤنه ٌرٌد أن ٌلتفت الى الخلؾ لرإٌة ضاربه !! خط ا خطو ًالة واحدة‪ ،‬وعندما هم برفع رجله الثانٌة‬
‫‪ ....‬انهار متكوما ًال على اإلسفلت الخشن !!‬
‫الصمت صفحة بٌضاء صقٌلة تمتد فً فضاءات الساحة األولى ‪ ...‬شقها صوت المساعد القوي‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا هلل وال حمٌر ‪ ...‬اسحبوه وخلوه ٌشرب!!‬
‫سحب عناصر الشرطة العمٌد‪ ،‬واحد منهم التفت الى المساعد وقال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ..‬ه ذا ؼاٌب عن الوعً‪ ،‬شلون بدو ٌشرب؟!‬
‫‪ -‬حطوا رأسه بالبالوعة ‪ ..‬بٌصحى ‪ ..‬بعدٌن شربوه‪.‬‬
‫وضعوا رأس العمٌد بمٌاه البالوعة‪ ،‬ولكنه لم ٌصح‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ٌ ..‬مكن أعطاك عمره!‬
‫‪ -‬هللا ال ٌرحمه ‪ ...‬اسحبوه لنص الساحة وزتوه هونٌك‪.‬‬
‫من ٌدٌه جروه على ظهره‪ ،‬رأسه ٌتؤرجح‪ ،‬اختلطت الدماء بؤشٌاء بٌضاء وسوداء لزجة على وجهه!! مسار‬
‫من خطوط حمراء قاتمة تمتد على اإلسفلت الخشن من البالوعة الى منتصؾ الساحة حٌث تمددت جثة العمٌد‪.‬‬
‫صاح المساعد وقد توترت وبرزت حبال رقبته‪:‬‬
‫‪19‬‬
‫‪ -‬جٌبولً ‪ ..‬هالكرّ الحقٌر ‪ ...‬المبلزم لهون‪.‬‬
‫وبعد أن أصبح المبلزم أمامه‪:‬‬
‫‪ -‬شو ٌا حقٌر ؟ ‪ ..‬بدك تشرب وال أل؟‬
‫‪ -‬حاضر سٌدي ‪ ..‬حاضر ‪ ..‬بشرب‪.‬‬
‫انبطح المبلزم على اإلسفلت أمام البالوعة‪ ،‬ؼطس فكٌه فً مٌاه البالوعة‪ ،‬وضع المساعد حذاءه العسكري على‬
‫رأس المبلزم المنبطح وضؽطه إلى األسفل قاببلًال‪:‬‬
‫‪ -‬ما بٌكفً هٌك‪ .‬الزم تشرب وتبلع!!‬
‫ثم تابع المساعد موجها ًال حدٌثه للشرطة‪:‬‬
‫‪ -‬وهلق ‪ ..‬خدوا هالكلب عا التشرٌفة ‪ ...‬بدي ٌكون االستقبال تمام ‪!.‬‬
‫ألقً على ظهره‬ ‫المبلزم الذي شرب وبلع المٌاه القذرة بما فٌها من بصاق ومخاط وبول وقاذورات أخرى‪،‬‬
‫بسرعة مذهلة‪ ،‬ووضع اثنان من البلدٌات قدمٌه فً حبل الفلقة‪ ،‬لفوا الحبل على كاحلٌه ورفعوا القدمٌن إلى‬
‫أعلى‪.‬‬
‫القدمان مشرعتان فً الهواء‪ ،‬ثبلثة عناصر من الشرطة توزعوا أمام القدمٌن وحولهما بطرٌقة مدروسة بحٌث‬
‫كانت كرابٌجهم تهوي على القدمٌن بتناؼم عجٌب دون أن تعٌق إحدى الكرابٌج األخرى‪ ،‬ارتفع صراخ‬
‫المبلزم عالٌاًال‪ ،‬تلوى جسده ٌحاول خبلصاًال‪ ،‬ولكن دون جدوى‪.‬‬
‫استفز صرا ُخ المبلزم واستؽاثا ًالته العالٌة المساعد‪ ،‬مشى باتجاهه مسرعاًال‪ ،‬وكبلعب كرة قدم وجه مقدمة بوطه‬
‫إلى رأس المبلزم وقذؾ الكرة‪.‬‬
‫ًال‬
‫صرخة كالعواء‪ ...‬اس ُتفز المساعد أكثر فؤكثر‪ ،‬سحق فم المبلزم بؤسفل البوط‪،‬‬ ‫صرخ المبلزم صرخة حٌوانٌة‪،‬‬
‫عناصر الشرطة ٌواصلون عملهم على قدمً المبلزم‪ ،‬المساعد ٌواصل عمله سحقاًال‪ ،‬الرأس‪ ،‬الصدر‪،‬‬
‫البطن‪ ...‬رفسات على الخاصرة ‪ ...‬حركات هستٌرٌة للمساعد وهو ٌصرخ صراخا ًال بالكاد ٌفهم‪:‬‬
‫‪ -‬والك عرصات ‪ ...‬والك حقٌرٌن ‪ ....‬عم تشتؽلوا ضد الربٌس !!‪ ...‬والك سوّ اك زلمة ‪ ...‬سواك مبلزم‬
‫بالجٌش ‪ ...‬وبتشتؽل ضده ؟!!‪ ...‬والك ٌا عمبلء‪ٌ ...‬ا جواسٌس !‪ ..‬والك الربٌس خبلنا نشبع خبز‪...‬‬
‫عمبلء أمرٌكا‪ٌ ....‬ا عمبلء اسرابٌل ‪ٌ ...‬ا والد‬ ‫وهلق جاٌٌن أنتو ٌا كبلب تشتؽلوا ضده ؟!‪ٌ ...‬ا‬
‫الشرموطة ‪ ...‬هلق عم تترجوا ؟!!‪ ...‬بره كنتوا عاملٌن حالكن رجال ‪ٌ ...‬ا جبناء ‪ ...‬هلق عم تصرخ‬
‫والك حقٌر !!‪...‬‬
‫ًال‬
‫وشراسة‪ ،‬وصرخات‬ ‫على إٌقاع صرخات المساعد و "دبٌكه" فوق المبلزم‪ ،‬كانت ضربات الشرطة تزداد عنفا ًال‬
‫واستؽاثات المبلزم تخفت شٌبا ًال فشٌبا ًال‪.‬‬
‫بعد قلٌل تمدد المبلزم أول إلى جانب العمٌد !! ‪" .‬ال أدري حتى اآلن ماذا حل به ؟ هل مات أم ال ؟ ‪...‬هل كان‬
‫لدى إدارة السجن أوامر بقتل الضباط أثناء االستقبال أو التشرٌفة ؟"‪.‬‬
‫واآلن جاء دورنا‪ " .‬إجاك الموت ٌا تارك الصبلة !" عبارة سمعتها فٌما بعد من اإلسبلمٌٌن حتى مللتها‪ ،‬ولكن‬
‫فعبل جاء دورنا‪ ،‬حملة الشهادات الجامعٌة‪ ،‬لٌسانس ‪ ،‬بكالورٌوس ‪ ،‬دبلوم ‪ ،‬ماجستٌر ‪ ..‬دكتوراه ‪..‬‬
‫‪20‬‬
‫األطباء شربوا وبلعوا البالوعة‪ ،‬المهندسون شربوا وبلعوا البالوعة‪ ،‬المحامون ‪ ..‬أساتذة الجامعات ‪ ..‬وحتى‬
‫المخرج السٌنمابً ‪ ..‬شربت وبلعت البالوعة ‪ ..‬الطعم ‪ ..‬ال ٌمكن وصفه !! والؽرٌب انه وال واحد من بٌن كل‬
‫الشاربٌن تقٌؤ !!‪.‬‬
‫وأصبح بٌن هإالء جمٌعا ًال شٌبان مشتركان‪ ،‬الشهادة الجامعٌة‪ ،‬وشرب البالوعة !! ‪.‬‬
‫ثم أكثر من ثبلثٌن‪ ،‬كل فلقة ٌحملها اثنان من البلدٌات‪ ،‬أمامها ثبلثة عناصر وثبلث كرابٌج‪ ....‬والكثٌر‪..‬‬
‫الكثٌر‪ ..‬من القسوة‪ ،‬األلم‪ ،‬الصراخ‪.‬‬
‫األلم‪ ..‬الضعؾ‪ ..‬القهر‪ ..‬القسوة‪ ..‬الموت‪!! ..‬‬
‫‪ .‬عندما مشٌت فً الساحة األولى فوق‬ ‫قدماي متورمتان من آثار خٌزرانة أٌوب ‪ ،‬بالكاد أستطٌع المشً‬
‫اإلسفلت الخشن ‪ ،‬كنت كمن ٌمشً على المسامٌر ‪ ،‬رفع البلدٌات قدمً الى األعلى بالفلقة ‪ ،‬ثبلثة كرابٌج تلسع‬
‫قدمً المتورمتٌن ‪ ..‬موجة داخلٌة عارمة من األلم تتكوم وتتصاعد من البطن لتنفجر فً الصدر‪ ...‬ت نحبس‬
‫األنفاس عندما تهوي الكرابٌج ‪ ...‬الربتان تتشنجان ‪ ...‬تنؽلقان على الهواء المحبوس وتتوقفان عن العمل ‪...‬‬
‫ومع الموجة الثانٌة لؤللم وانفجاره فً الصدر ‪ٌ ...‬نفجر الهواء المحبوس فً الربتٌن عن صرخة مإلمة‪،‬‬
‫أحسها تخرج من قحؾ الرأس ‪ ...‬من العٌنٌن ‪ ...‬أصرخ ‪ ...‬وأصرخ والقدمان مسمرتان فً الهواء ‪ ...‬كل‬
‫محاوالتً لتحرٌكهما ‪ ...‬إلزاحتهما ‪ ...‬فاشلة !! تنفصبلن عنً ‪ ...‬مصدر لؤللم فقط ‪ ...‬سلك ٌصل بٌنهما‬
‫وبٌن أسفل البطن والصدر‪ ...‬موجات متبلطمة من األلم‪ ،‬تبدأ الموجة عندهما‪ ،‬تمتد وتتصاعد مرورا بؤسفل‬
‫البطن ‪ ...‬البطن ‪ ...‬الصدر ‪ ...‬ثم تتكسر عند الرأس‪ ،‬وصرخة ألم ورعب ومهانة ناثر ًالة الذهو َل وعدم الفهم‬
‫والتصدٌق‪ ،‬أكثر من ثبلثٌن صرخة متوازٌة‪ ...‬متشابكة‪ ،‬ألكثر من ثبلثٌن رجبلًال‪ ،‬تنتشر فً فضاء الساحة‬
‫األولى‪.‬‬
‫فً البداٌة استنجدت باهلل ـ وأنا الذي كنت طوال عمري أتباهى بإلحادي ـ ‪ ،‬ولكن هللا لم ٌستطع أن ٌفعل شٌبا‬
‫أمام جبروت الشرطة !!! فنقمت وتساءلت‪ :‬ولكن أٌن هللا‪ ،‬الساحة األولى أكبر دلٌل على عدم وجود كابن اسمه‬
‫هللا!!‬
‫أكثر من ثبلثٌن صرخة ألم ‪ ...‬قهر ‪ ...‬تخرج من أفواه أكثر من ثبلثٌن رجبلًال مثقفا ًال ‪ ..‬متعلما ًال !! أكثر من‬
‫ثبلثٌن رأساًال‪ ،‬كل منها ٌحوي الكثٌر من الطموح واألمل واألحبلم‪ ،‬الكل كان ٌصرخ ‪ ...‬عواء ثبلثٌن ذببا ًال ‪...‬‬
‫زبٌر أكثر من ثبلثٌن أسد اًال ‪ ...‬لن ٌكون أعلى من صراخ هإالء الرجال المتحضرٌن ‪ ...‬ولن ٌكون أكثر‬
‫وحشٌة ‪ ...‬وحٌوانٌة!!‬
‫ٌضٌع صراخً وسط هذه الؽابة من الصراخ وأصوات ارتطام الكرابٌج باألقدام ‪ ...‬وترتفع األمواج‪.‬‬
‫أستنجد بربٌس الدولة ‪ٌ ..‬شتد الضرب ‪ ..‬وأفهم منهم أن علً أال أدنس اسم فخامته بفمً القذر‪ .‬استنجد بنبٌهم‪:‬‬
‫‪ -‬من شان محمد!!!‬
‫لطمة على الرأس وصوت المساعد الراعد‪:‬‬
‫‪ -‬إي ‪ ..‬بدي نٌك أمك ‪ ...‬على أم محمد!!! لٌش فً حدا خرب بٌتنا ؼٌر محمد ؟!‬
‫رأيته ٌبتعد عنً ببطء‪ ..‬فصرخت‪:‬‬
‫‪21‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي دخٌلك ‪ ..‬دخٌل أختك‪ ..‬بس كلمة واحدة!!‬
‫موجات األلم تتصاعد أكثر فؤكثر ‪ ...‬تتبلطم أشد فؤشد ‪ ...‬المساعد ٌبتعد أبعد فؤبعد ‪ ...‬وأصرخ بؤعلى صوتً‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ...‬أنا مانً مسلم ‪ ...‬أنا مسٌحً ‪ ...‬أنا مسٌحً ‪ٌ ...‬ا سٌدي دخٌلك ‪ ...‬أبوس أٌدك ‪ ...‬أبوس‬
‫رجلك ‪ ...‬أنا مسٌحً!!‬
‫وببطء شدٌد ٌقؾ المساعد ‪ .‬لقد مٌّز صوتً ضمن كل هذه األصوات‪ ،‬سمعه‪ٌ ،‬عود ببطء أشد‪ٌ ،‬صل قربً‪،‬‬
‫ٌرفع ٌده الٌمنى لعناصر الشرطة بإشارة "كفى"‪.‬‬
‫} مصٌري اآلن كله مرتبط بكلمة من فم هذا المساعد الذي بالكاد ٌعرؾ القراءة‪{ .‬‬
‫ٌزرر عٌنٌه وٌسؤلنً‪:‬‬
‫‪-‬أنت مسٌحً وال ؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي نعم ‪ ...‬هللا ٌخلٌك وٌطول عمرك ‪..‬‬
‫‪ -‬مسٌحً‪ ...‬وصاٌر إخوان مسلمٌن؟!!‬
‫‪ -‬ال ‪..‬ال سٌدي ال ‪ ...‬أنا مانً إخوان مسلمٌن‪.‬‬
‫‪ -‬لكن لٌش جاٌبٌنك ؟ ‪ ..‬هٌك !! ‪ ..‬لوجه هللا !! ‪ٌ ...‬عنً تبلًّ ؟ ‪ ...‬آه ٌا كلب ‪..‬آه ‪ ،‬إذا كانوا هدول العرصات‬
‫ٌستحقوا الموت مرة واحدة‪ ،‬إنت الزم تموت مرتٌن!! ‪ٌ ...‬ا هلل شباب زٌدوا العٌار لهالكلب ‪ ...‬مسٌحً وصاٌر‬
‫إخوان مسلمٌن!!‬
‫مضى‪ ،‬والعناصر الثبلثة ٌزٌدون العٌار على القدمٌن وعنصر رابع تنهال كرباجه على فخدي العارٌتٌن‪.‬‬
‫تقلصات األلم تزداد‪ ،‬لحم الفخذٌن رقٌق وٌختلؾ عن لحم باطن القدمٌن‪ ،‬أختنق بصرخاتً أسكت لحظات‬
‫ألتنفس وأعب الهواء الذي سؤصرخه‪ ،‬ؼمامة حمراء تتؤرجح أمام عٌنً‪ ،‬حد األلم ال ٌطاق‪.‬‬
‫بعد أن خذلنً المساعد‪ ،‬أعود إلى هللا‪ ،‬لم ٌبق من مخلص ؼٌره‪ ،‬وساعات الضٌق وانعدام األمل ٌعود فٌها‬
‫اإلنسان إلى هللا‪ .‬عدت إلٌه‪ ،‬راجٌا ًال "سرا" أن ٌنجٌنً من األشرار‪ ،‬كنت فً ؼاٌة التهذٌب وأعمق درجات‬
‫األٌمان والخشوع‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا رب خلصنً ‪ ...‬أنت المخلص‪ ،‬نجنً من بٌن أٌدٌهم‪.‬‬
‫قلت هذا الكبلم دون أن انطقه‪ ،‬طاؾ بذهنً‪ ،‬ومنه خرج مسرعا ًال باتجاه السماء‪.‬‬
‫قواي تخور‪ ،‬قدرتً على الصراخ تخفت‪ٌ ،‬صبح األلم حاداًال كنصل الشفرة‪ ،‬أرى الكرابٌج ترتفع عالٌاًال‪،‬‬
‫فؤن حتما ًال سؤموت !! لم ٌبق أي طاقة لتحمل المزٌد من األلم !!‪..‬‬
‫أتوقعها‪ ،‬إذا نزلت هذه الكرابٌج على جسدي ا‬
‫الموت‪ ...‬أعود إلى هللا‪:‬‬
‫‪ٌ-‬ا رب دعنً أموت ‪ ...‬دعنً أموت ‪ ...‬خلصنً من هذا العذاب‪.‬‬
‫ٌصبح الموت أمنٌة!! أتمنى الموت صادقا ‪ ...‬حتى الموت ال أستطٌع الحصول علٌه!!‪.‬‬
‫الكرابٌج ترتفع وتهوي ‪ ...‬الؽمامة الحمراء‪ ،‬السماء وردٌة‪ٌ ،‬خؾ األلم‪ٌ ...‬خفت الصراخ ‪ ...‬موجة ضعٌفة من‬
‫الخدر والنمل تنزل من القدمٌن إلى باقً أنحاء الجسم!!‪.‬‬

‫‪22‬‬
‫الخدر ٌزداد ‪ ...‬موجة من االرتٌاح اللذٌذ تؽمرنً ‪ ...‬الكرابٌج ترتفع وتهوي ‪ ...‬األلم اللذٌذ ‪ ...‬أشعر بالجسد‬
‫المتوتر قد ارتخى ‪ ...‬ثم أؼٌب !!!!‪.‬‬

‫‪ 16‬تشرين الثاني‬
‫منذ الصباح ٌعم ضجٌج مكبرات الصوت ‪ .‬أرجاء السجن وما حوله تبث األناشٌد الوطنٌة واألناشٌد التً تمجد‬
‫فهو المفدى‪ ،‬القابد العظٌم‪،‬‬ ‫ربٌس الدولة وتسبػ علٌه صفات الحكمة والشجاعة وتصفه بؤوصاؾ عدٌدة‪،‬‬
‫ُلهم‪ ...‬تذكر أفضاله العمٌمة على جمٌع أبناء الشعب ‪ ،‬فلواله لما بزؼت الشمس ‪،‬وهو الذي ٌمنحنا‬
‫المعلم‪ ،‬الم ِ‬
‫الهواء لنتنفس ‪ ،‬والماء لنشرب ‪...‬‬
‫نحن السجناء جمٌعا ًال نقؾ فً الساحات فً صفوؾ منتظمة‪ ،‬وألول مرة منذ مجٌبً الى هنا سمحوا لنا‬
‫بالوقوؾ ضمن الساحة مفتوحً األعٌن‪.‬‬
‫أعطوا واحداًال من السجناء ورقة‪ ،‬ومما هو مكتوب علٌها ٌهتؾ‪ ...‬فنهتؾ وراءه‪ :‬بالروح‪...‬بالدم سنفدي ربٌسنا‬
‫الم حبوب والمعبود !‪.‬‬

‫قبل قلٌل انتهى االحتفال‪ .‬أعادونا الى المهجع‪.‬‬


‫أشعر اآلن ان صحتً أصبحت جٌدة‪ ،‬لقد مضى اآلن أكثر من ستة اشهر ونصؾ على اللحظة التً أعدت فٌها‬
‫فتح عٌنً على رأس حلٌق "على الصفر"‪ٌ ،‬نحنً الشخص ذو الراس الحلٌق فوقً وبٌده مزقة قماش مبللة‬
‫بالماء ٌحاول أن ٌمسح بها بعض جروح جسدي‪ ،‬الحظ صحوتً فابتسم لً‪ ،‬قال‪:‬‬
‫أخوي‬ ‫‪ -‬الحمد هلل انك صحٌت‪ ،‬أنا الدكتور زاهً ‪ ...‬ال تحكً وال تتحرك ‪ ..‬والحمد هلل على سبلمتك‪ٌ ،‬ا‬
‫انكتب لك عمر جدٌد‪ ،‬احمد هللا سبحانه وتعالى‪.‬‬
‫لم استطع ال الكبلم وال الحركة ‪ .‬لزم تنً ثبلثة أٌام أخرى بعد صحوتً األولى ألتكلم‪ ،‬وأكثر من شهر حتى‬
‫أستطٌع الحركة‪ .‬وطوال هذه الفترة الزمنً الدكتور زاهً بعناٌته الفابقة‪ ،‬وبلهجة المنطقة الشرقٌة المحببة كان‬
‫ٌشرح لً بما ٌشبه التقرٌر الطبً أن وضعً كان خطراًال لسببٌن‪ :‬األول أن أذٌة بالؽة قد أصابت إحدى الكلٌتٌن‬
‫وأننً بقٌت فترة البؤس بها أتبول دما ًال‪ .‬أما الثانً فهو أن مساحة الجلد المتهتك فً جسدي قد اقتربت من حد‬
‫الخطر‪ .‬وإن تفاوتت النسبة حسب المنطقة‪ .‬تهتك جلد ا لظهر بكامله تقرٌبا ‪ ،‬قسم من البطن ‪ ،‬الجهة األمامٌة‬
‫من الفخذٌن‪ ،‬القدمان من الجهتٌن العلوٌة والسفلٌة ‪ .‬أما جلد القدم الٌسرى فقد انكشط من الجهة العلوٌة وبانت‬
‫العظام‪.‬‬
‫أخبرنً زاهً إننً بقٌت ستة أٌام ؼاببا ًال عن الوعً ومعلقا ًال بٌن الحٌاة والموت‪ ،‬كان الملح هو المادة المعقمة‬
‫الوحٌدة المتوفرة‪ ،‬بالملح عالجنً الشٌخ زاهً‪ ،‬كما كان ٌحب أن ٌنادى متنازال عن لقب دكتور بكل طٌبة‬
‫خاطر وكان ٌشربنً الماء وقلٌبل من المربى المذاب والمخفؾ بالماء‪.‬‬

‫‪23‬‬
‫وكما شرح لً وضعً الصحً فإنه أخبرنً عن المعلومات التً وصلتهم من المهاجع األخرى والتً تقول إن‬
‫اًال‬
‫شخص‪ ،‬قتل منهم ثبلثة فً الساحة األولى أثناء االستقبال وهإالء لم ٌدخلوهم‬ ‫عدد أفراد دفعتنا كان ‪/ 91 /‬‬
‫إلى المهاجع‪ ،‬وخبلل فترة ؼٌابً عن الوعً مات عشرة آخرون متؤثرٌن بجروحهم وإصاباتهم البلٌؽة‪ ،‬واثنان‬
‫من الدفعة أصٌبا بشلل دابم نتٌجة أذى كبٌر بالعمود الفقري‪ ،‬واحد فقط أصبح أعمى بعد أن تلقى ضربة كرباج‬
‫فقؤت عٌنٌه‪ ،‬وبعد أن انتهى زاهً من سرد هذه المعلومات قال‪:‬‬
‫‪ -‬والحمد هلل على سبلمتك ‪ ..‬احمد هللا ٌا أخوي احمده‪ ..‬و رؼم أن الصبلة ممنوعة بس أنت تقدر تصلً‬
‫سراًال ركعتٌن لوجه هللا !‪.‬‬

‫الحالقة‬
‫بعد تسعة أٌام من صحوتً وقؾ ربٌس المهجع فً الصباح وقال مخاطبا ًال الناس فً المهجع‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا إخوان ‪ ..‬الٌوم دورنا بالحبلقة‪ ،‬اصبروا وصابرو‪ ،‬سٌعٌننا هللا ‪ ..‬احملوا المرضى وٌللً ما بٌحسن‬
‫ٌمشً على البطانٌات‪ ،‬كل بطانٌة ٌحملها أربعة فدابٌٌن ‪ ...‬وقدر ما فٌكم أسرعوا‪ ،‬السرعة أفضل‪ ..‬و هللا‬
‫ٌقوٌنا!‬
‫فتح الباب‪ ،‬وقؾ الجمٌع‪ ،‬حملنً أربعة أشخاص‪ ،‬قال لً أحدهم بحماس‪:‬‬
‫‪ -‬ال ْتخاؾْ ٌا أخً ال تخاؾ‪ ..‬راح نحمٌك بؤجسامنا‪.‬‬
‫صفان من الشرطة على جانبً الباب‪ ،‬بٌن الشرطً واآلخر حوالً المترٌن‪ ،‬كل شرطً ٌحمل كربا جا ًال‪ ،‬ما أن‬
‫ٌصل السجٌن إلى الباب حتى ٌبدأ الركض‪ ،‬تتلقاه كرابٌج الصؾ الٌمٌنً للشرطة من األمام‪ ،‬الكرابٌج الٌسارٌة‬
‫تطارده من الخلؾ‪ ،‬من ٌتعثر أو ٌقع ‪ ..‬قد ٌموت فهو ٌكون قد كسر التناؼم وإٌقاع الضرب‪ٌ ،‬قؾ الصؾ من‬
‫خلفه وتجتمع علٌه الكرابٌج جمٌعاًال‪ ،‬فإذا كان ذا بنٌة قوٌة واستطاع النهوض رؼم عشرات الكرابٌج المنهالة‬
‫علٌه‪ ..‬فقد نجا‪ .‬أماالضعٌؾ فستبقٌه الكرابٌج لصٌقا ًال باألرض إلى األبد‪.‬‬
‫حوالً الثبلثمابة سجٌن من مهجعناركضوا بسرعة‪ ،‬تلقوا الضربات السرٌعة والكاوٌة‪ ،‬اصطفوا فً الساحة‬
‫ووجوههم إلى الحابط وأعٌنهم مؽمضة‪ ،‬نحن المرضى وضعونا فً منتصؾ الساحة‪ ،‬الكثٌر من عناصر‬
‫الشرطة‪ ،‬الكثٌر من البلدٌات وفً أٌدٌهم أمواس الحبلقة للذقن وماكٌنات حبلقة الشعر على الصفر‪.‬‬
‫اللإم ‪....‬؟!!‬
‫كانت هذه هً التجربة األولى للحبلقة ‪ ،‬وسؤجربها فً القادم من األٌام كثٌر اًال‪ ،‬ولكن منذ المرة األولى ونتٌجة‬
‫أن عٌنٌه مؽمضتان!‬ ‫لوضعً كمرٌض مرمً فً وسط الساحة ٌستطٌع أن ٌراقب كل ما ٌجري فٌها رؼم‬
‫طرقت ذهنً تساإالت إنسانٌة كثٌرة‪:‬‬
‫البلدٌات سجناء مثلنا‪ ،‬مقهورون مثلنا‪ ،‬صحٌح إنهم مجرمون‪ ،‬قتلة ولصوص ولوطٌون‪ ،‬ولكنهم ٌعانون من‬
‫قهر السجن مثلما نعانً‪ ،‬وال تعنً لهم السٌاسة شٌبا‪ ...‬ولكن من أٌن تنبع هذه القسوة اللبٌمة والضرب المبرح‬
‫اللذان ٌكٌلهم ا البلدٌات للسجناء أثناء الحبلقة؟!‬
‫وكنت دابما أتساءل بذهول‪ :‬هل من المعقول أن ٌكون اإلنسان لبٌما ًال إلى هذه الدرجة ؟!! وهذا اللإم المجانً ؟!!‬
‫‪24‬‬
‫حبلقة الذقن عملٌة تشرٌح أو حراثة للوجه مصحوبة بالبصاق والشتابم‪ ،‬وكان بعضهم ٌتلذذ بافتعال السعال قبل‬
‫البصق على وجه السجٌن كً ٌكون البصاق مصحوبا بالمخاط !!! وتلتصق بصقة البلدٌات بالوجه ! وٌمنع‬
‫السجٌن من مسحها‪.‬‬
‫حبلقة الرأس ‪ ..‬مع كل سحبة ماكٌنة على الرأس‪ ،‬وبعد أن ٌنفض البلدٌات الشعر المحلوق‪ ،‬ضربة قوٌة‬
‫بالماكٌنة نفسها على المكان المحلوق وهو ٌصر على أسنانه وٌشتم‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا عرص ٌا ابن العرص ‪ ..‬منٌن جاٌب كل هالقمل؟!‬
‫‪ -‬ولك ٌا منٌك ‪ ...‬شو عامل راسك مزرعة قمل؟!‬
‫ومع كل ضربة ماكٌنة‪ ،‬إما أن ٌنفر الدم‪ ،‬أو تظهر كرة صؽٌرة فً الرأس مكان الضربة!!‪.‬‬
‫الكثٌر من السجناء عرؾ الكثٌر من البلدٌات ‪ ،‬هم من نفس قراهم وبلداتهم ومدنهم وأحٌابهم ‪ ،‬وتبقى نفس‬
‫األسبلة مطروحة‪ :‬ولكن لماذا؟ ‪ ..‬لماذا هو لبٌم بهذا القدر؟‪ ..‬ما هً دوافعه النفسٌة؟‪ ..‬هل القسوة و السادٌة‬
‫المتؤصلة أو العارضة ٌمكن أن تنتقل بالعدوى؟ أم هً روح القطٌع؟!‪.‬‬
‫" وددت لو تتاح لً فرصة محادثة احدهم "‪.‬‬
‫بعد أن انتهى أحد البلدٌات من حبلقتً بضربة قوٌة على رأسً الحلٌق‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اكلب ٌا ابن الكلب ‪ ..‬كسرتلً ضهري!! ‪ ..‬عامل حالك ما بتحسن توقؾ!!‪.‬‬
‫أدخلونا جمٌعا ًال إلى المهجع بٌن صفً الشرطة والكرابٌج تنهال أكثر ما تنهال على الرإوس الحلٌقة!! استلقٌت‬
‫فً الركن المخصص للمرضى‪ .‬إمارات السرور والفرح بادٌة على كل المساجٌن‪:‬‬
‫" هاهً حبلقة أخرى ‪ ..‬تمر بسبلم ‪ ..‬ال زلنا أحٌاء !! "‪.‬‬

‫المهجع‬
‫خبلل استلقابً أكثر من شهر فً هذا الركن أتٌح لً أن أعاٌن وأفهم الكثٌر من األشٌاء واألمور فً هذا المهجع‬
‫الكبٌر‪ٌ .‬بلػ طول المهجع ‪ / 15 /‬خمسة عشر متراًال‪ ،‬وعرضه حوالً ستة أمتار باب حدٌدي أسود‪ ،‬فً أعلى‬
‫ال ٌتجاوز عرض النافذة خمس ين‬ ‫الجدران نوافذ صؽٌرة مبلصقة للسقؾ و مسلحة بقضبان حدٌدٌة سمٌكة‪،‬‬
‫سنتمتراًال وطولها حوالً المتر‪ .‬أهم ما فً المهجع هو الفتحة السقفٌة‪ ،‬وهً فتحة فً منتصؾ السقؾ طولها‬
‫أربعة أمتار وعرضها متران‪ ،‬مسلحة أٌضا بقضبان حدٌدٌة متٌنة‪ ،‬هذه الفتحة وٌسمونها " الشراقة " تتٌح‬
‫للحارس المسلح ببندقٌة والذي ٌقؾ على سطح المهجع أن ٌراقب وٌعاٌن كل ما ٌجري داخل المهجع وعلى مدار‬
‫ساعات اللٌل والنهار‪ ،‬فوق كل مهجع فً السجن الصحراوي حارس مسلح من الشرطة العسكرٌة‪.‬‬
‫ت عشرة ساعة جلوس إجباري‪ ،‬كل‬
‫ت عشر ساعة نوم إجباري‪ ،‬اثن ا‬
‫ساعات الٌوم هنا جزءان الثالث لهما‪ ،‬اثن ا‬
‫سجٌن ٌملك ثبلث بطانٌات عسكرٌة فقط‪ٌ ،‬طوي واحدة وٌمدها على األرض فتصبح فراشا ًال وٌتؽطى باثنتٌن‪ ،‬من‬
‫ٌملك ألبسة زابدة عن الثٌاب التً ٌرتدٌها ٌطوٌها وٌجعلها وسادة أو ٌضع حذاءه كوسادة‪ ،‬ومن ٌكن مثلً ال ٌملك‬
‫ثٌابا ًال أو حذا ًالء فإنه ٌنام ببل وسادة‪.‬‬

‫‪25‬‬
‫وعلى كل سجٌن أن ٌتقٌد بالتعلٌمات‪ ،‬من السادسة مسا ًالء إلى السادسة صباحا ًال ٌجب أن ٌكون نابما ًال ال ٌتحرك‪ ،‬من‬
‫السادسة صباحا ًال إلى السادسة مسا ًالء ٌجب أن ٌطوي البطانٌات الثبلث وٌجلس علٌها ال ٌتحرك‪.‬‬
‫الذهاب إلى المرحاض ٌتم وفق نظام خاص‪ ،‬بحٌث أن الشرطً الحارس فً أي ساعة ٌخطر له أن ٌنظر داخل‬
‫المهجع ٌجب أال ٌرى أكثر من شخص واحد ٌمشً داخل المهجع‪ ،‬وربٌس المهجع وهو سجٌن أٌضا ًال ٌجب أن‬
‫ٌنظم كل هذا تحت طابلة المسإولٌة‪.‬‬
‫لدى أي خلل‪ /..‬إذا تحرك النابم حركة ؼٌر طبٌعٌة مثبلًال‪ ،‬إذا كان إثنان ٌتحدثان إلى بعضهما لٌبلًال‪ ،‬إذا كان هناك‬
‫ًال‬
‫بطرٌقة التعجب الحارس‪ٌ /‬صٌح الحارس بربٌس المهجع‪:‬‬ ‫أكثر من شخص ٌمشً‪ ،‬إذا كان جالسا ًال‬
‫‪ -‬ربٌس المهجع ‪ ....‬وال كرّ !!‬
‫‪ -‬نعم سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬عل ّم ‪...‬هالكلب‪.‬‬
‫وهكذا ٌكون قد تم تعلٌم السجٌن‪.‬‬
‫نوبة كل حارس ساعتان ‪ .‬وعدد الذٌن ٌتم تعلٌمهم تابع لمزاج كل حارس‪ ،‬وكل حارس ٌبلػ من ٌلٌه فً‬
‫الحراسة بعدد الذٌن علّمهم‪ ،‬وفً الصباح ٌكون المجموع عند الرقٌب الذي ٌحضر إلى الساحة وبصحبته عدد‬
‫كبٌر من عناصر الشرطة العسكرٌة والبلدٌات‪ ،‬وٌصٌح‪:‬‬
‫‪ -‬وال ‪ ...‬ربٌس المهجع ٌاحقٌر ‪ ...‬عندك تبلتة وتبلتٌن معلِّمٌن ‪ ....‬طالعهن لبره الشوؾ!‪.‬‬
‫وٌخرج الفدابٌون!‪ ..‬جزاء وعقوبة التعلٌم أصبحت عرفا ًال‪ :‬خمسمابة جلدة‪.‬‬

‫الطعام‬
‫ثبلث وجبات فً الٌوم‪ ،‬رؼٌفان من الخبز العسكري لكل سجٌن ‪ ،‬الطعام ٌؤتً فً أوان ببلستٌكٌة ‪ ،‬العشاء على‬
‫األؼلب شوربة عدس‪ ،‬الػداء برؼل ومرق البطاطا‪ ،‬البطاطا تطبخ مع رب البندورة بدون أن تؽسل أو تفرم ‪،‬‬
‫ولذلك دابما ًال هناك عدة سنتمترات من التراب الراقد فً أسفل جاط المرق ‪ ،‬الفطور لبنة أو زٌتون وأحٌانا ًال بٌض‬
‫مسلوق‪.‬‬
‫ٌجلب البلدٌات جاطات الطعام‪ٌ ،‬ضعونها أمام المهاجع وٌذهبون‪ ،‬أكثر من ستمابة رؼٌؾ خبز‪ ،‬حوالً العشر‬
‫جاطات ببلستٌك ملٌبة بالبرؼل ومثلها من المرقة‪ ،‬كلها تكوّ م أمام المهجع‪.‬‬
‫ثبلث مرات فً الٌوم ٌفتح الباب الحدٌدي األسود إلدخال الطعام ‪ ،‬وفً كل مرة ٌكون الفدابٌون واقفٌن خلؾ‬
‫الباب‪ ،‬ما أن ٌفتح حتى ٌصبحوا جمٌعا ًال وبلمح البصر عند الطعا م‪ ،‬وبسرعة البرق ٌحملونه ‪ ،‬فدابً واحد لكل‬
‫‪،‬‬ ‫جاط برؼل‪ ،‬جاط المرق ٌحمله اثنان ‪ ،‬الخبز ٌكومونه على البطانٌات وكل بطانٌة ٌحملها أربعة أشخاص‬
‫‪ٌ ،‬تفنن عناصر الشرطة‬ ‫طوال الوقت الذي ٌستؽرقه إدخال الطعام تكون كرابٌج الشرطة قد فعلت فعلها‬
‫وٌبتدعون أسالٌب جدٌدة‪:‬‬
‫أمام جاط شوربة العدس الؽالً‪ ،‬أمسك الرقٌب بالفدابً الذي هم بحمل الجاط‪ .‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬أترك الجاط على األرض ‪ ...‬وال شرموط!‬
‫‪26‬‬
‫ترك السجٌن الجاط ووقؾ‪.‬‬
‫‪ -‬وهلق ‪ ...‬ؼطس إٌدٌك بالشوربة لشوؾ!‬
‫وخرجت الٌدان من الشوربة مسلوختٌن‪ .‬وأجبره بعدها أن ٌحمل الجاط بٌدٌه المسلوختٌن إلى داخل المهجع‪.‬‬
‫كل بضعة أٌام ٌقتل واحد أو أكثر أثناء إدخال الطعام إلى المهاجع‪.‬‬

‫الفدائيون‬
‫ٌوجد هنا أناس من كل األعمار‪ ،‬رجال فً الثمانٌن من عمرهم‪ ،‬فتٌان لم ٌتجاوزوا الخامسة عشر‪ٌ ،‬وجد‬
‫مرضى‪ ،‬ضعفاء‪ ،‬ذوو عاهات سواء كانت فً األصل أو حدثت جراء التعذٌب‪.‬‬
‫الفدابٌون مجموعة من الشباب األقوٌاء ذوي األجساد المتٌنة‪ ،‬تطوعوا من تلقاء أنفسهم للقٌام بالمهام الخطرة التً‬
‫تحتاج إلى قوة تحمل أو سرعة‪ ،‬مثل إدخال الطعام إلى المهجع‪ ،‬أو إذا تم " تعلٌم " أحد المرضى أو الشٌوخ من‬
‫قبل الحراس‪ ،‬فإن أحد الفدابٌٌن ٌنوب عن هذا المرٌض فً تلقً الخمسمابة جلدة‪ ،‬ال ٌعرؾ أحد أي مهجع فً‬
‫السجن كان السباق إلى ابتداع هذه الفرقة الفدابٌة‪ ،‬ولكن فً لحظة ما تبٌن أن لدى كل مهجع فً السجن فرقة‬
‫فدابٌة‪ " ،‬اكتشفت الشرطة فً السنوات البلحقة هذا األمر‪ ،‬ففً أحد األٌام كان الحراس ٌتسلون بمراقبة أحد‬
‫المهاجع وتعلٌم السجناء‪ ،‬وأصبح عدد األشخاص الذٌن تم تعلٌمهم ٌفوق عدد أعضاء الفرقة الفدابٌة‪ ،‬وأصر‬
‫راًال اكتشؾ عناصر الشرطة آثار‬ ‫بعض الفدابًين على الخروج مرة ثانٌة لتلقً خمسمابة جلدة أخرى‪ ،‬وفو‬
‫الضرب والكدمات الحدٌثة على أرجلهم ولكنهم رؼم ذلك لم ٌفعلوا شٌبا حٌال األمر"‪.‬‬
‫سمعت أحد الفدابٌٌن ٌقول إلى زمٌله‪:‬‬
‫‪ -‬نحن مشروع شهادة‪.‬‬
‫وهم صادقون فً سعٌهم إلى االستشهاد‪ ،‬وقد أنقذت الفرق الفدابٌة حٌاة الكثٌر‪ ،‬وعملهم ٌتسم باإلخبلص‬
‫واالندفاع الشدٌدٌن النابعٌن عن إٌمان عمٌق‪.‬‬
‫اًال‬
‫جالس‪:‬‬ ‫فً مرة أخرى سمعت دعاء أحدهم بعد الصبلة التً أداها‬
‫ون‬ ‫‪ -‬اللهم انك قادر على كل شًء‪ ،‬باسمك الجلٌل هبنً الشهادة‪ ،‬وخذنً إلى جنتك حٌث النبًّ‬
‫والمإمنون األخٌار‪.‬‬
‫بعضهم كان ٌقوم بعمله بتواضع شدٌد وصمت‪ ،‬وعلى بعضهم اآلخر كنت أالحظ نبرة زهو وتشوؾ فً حدٌثه‪.‬‬

‫الح ّمام‬
‫نحن فً المهجع ستة مرضى ال نذهب إلى الحمام‪ ،‬أنا وزمٌلً فً الدفعة الذي بقً اًال‬
‫ؼاببعن الوعً طوال الفترة‬
‫التً كنت ال أستطٌع الحركة فٌها ‪ " ،‬وكان قد دخل إلى هذا المهجع من دفعتنا ثبلثة‪ ،‬واحد مات بعد ٌومٌن‪ ،‬أنا‬
‫" وأربعة‬ ‫صحوت بعد ستة أٌام‪ ،‬أما الثالث فقد بقً شهرٌن ٌتؤرجح بٌن الموت والحٌاة‪ ،‬صحا بعدها وشفً‬
‫مشلولون‪ ،‬اثنان منهم باألصل شلل أطفال ‪ ،‬الثالث أثناء االستقبال ‪ ،‬أما الرابع فقد شل نتٌجة التعذٌب بـ " المظلة‬
‫"‪.‬‬
‫‪27‬‬
‫الحمام إجباري للجمٌع إال الذٌن ال ٌستطٌعون الحركة‪ ،‬خاصة وقد كتب على بابه إن النظافة من اإلٌمان‪ ،‬ذهب‬
‫المهجع إلى الحمام مرتٌن خبلل فترة الشهر التً بقٌت فٌها ال أستطٌع الحركة‪ٌ ،‬خلعون كل ثٌابهم ٌبقون فقط‬
‫بالسراوٌل الداخلٌة‪.‬‬
‫بعد شفابً نسبٌا ًال وقدرتً على الحركة ذهبت مع المهجع إلى الحمّام!‪.‬‬
‫الكٌلوت الذي كنت ارتدٌه عند مجٌبً إما أنه تقطع أثناء االستقبال أو أنه ضاع‪ ،‬صحوت بعد ستة أٌام فوجدت‬
‫نفسً مرتدٌا ًال سرواالًال داخلٌا ًال ٌصل إلى الركبتٌن وثٌابً مكومة إلى جانبً‪ ،‬وبهذا السروال وقفت بالصؾ داخل‬
‫المهجع بانتظار الذهاب إلى الحمّام ‪ .‬الكل متوجس‪ ،‬الكل خابؾ‪ ،‬نقؾ خلؾ الباب األسود تحٌط بنا األدعٌة‬
‫واالبتهاالت إلى هللا‪ ،‬خلفً اثنان ٌتحادثان حول أبواب السجن‪ ،‬كلها حدٌدٌة وكلها سوداء‪ ،‬أحدهم ٌروي لآلخر‬
‫عن سجٌنة اسمها "ترفة" كانت قد قطعت عهد اًال على نفسها نتٌجة لكثرة االستفزازات التً كانت تشكلها األبواب‬
‫ًال‬
‫مؽلقة أبداًال‪.‬‬ ‫السوداء لها بؤنها بعد خروجها من السجن ستحضر نجاراًال ٌخلع لها كل أبواب بٌتها‪ ،‬هً ال ترٌد أبوابا ًال‬
‫فتح الباب ‪ ...‬خرجنا ركضاًال‪ ،‬اثنين اثنين‪ ،‬حولنا من الجانبٌن الشرطة ٌحملون الكرابٌج التً ترتفع عالٌا ًال وتهوي‬
‫على من تصادفه‪ ،‬الكل حفاة " كانت قدماي لما تشفى جٌدا بعد "‪ ،‬من الساحة السادسة عبرنا ثبلث ساحات‬
‫أخرى حتى وصلنا الحمام‪ ،‬بناء مستطٌل ٌحوي العدٌد من المقاصٌر‪ ،‬وهو من مخلفات الحقبة الفرنسٌة‪ ،‬أدخلونا‬
‫كل اثنٌن إلى مقصورة ببل باب‪ ،‬وزعوا الصابون العسكري ضربا ًال على الرأس‪ ،‬لكل واحدا لوح من الصابون ‪..‬‬
‫صٌاح ‪ ...‬شتابم ‪ ...‬تركٌز شدٌد فً هذا الصٌاح وهذه الشتابم حول موضوع أال نستؽل فرصة وجودنا فً‬
‫الحمام ونلوط بعضنا بعضا !!‪ ،‬وأنهم ٌعرفون أننا كلنا لوطٌون وأننا نفعل كذا وكذا ببعضنا‪.‬‬
‫الماء النازل من "الدوش" ٌؽلً‪ ،‬البخار ٌتصاعد‪ ،‬تعدٌل حرارة الماء ؼٌر ممكنة‪ ،‬بالكاد ده ّنا أجسادنا بالماء‪،‬‬
‫دقٌقة واحدة قد تزٌد أو تنقص بضع ثوان‪ ،‬نخرج بعدها تحت وقع الكرابٌج‪ ،‬الضرب على األجساد المبللة ذو‬
‫وقع مختلؾ‪ٌ ،‬لسع لسعاًال‪ ،‬نعود إلى المهجع ركضا ًال نحمل آثار الضرب فقط‪.‬‬
‫السجن وسٌتم تحوٌله إلى مهجع ٌوضع فٌه المعتقلون‬ ‫" سوؾ ٌلؽى الحمّام بعد فترة نتٌجة اكتظاظ‬
‫الشٌوعٌون ‪".‬‬
‫تابع الدكتور زاهً العناٌة بً وبالمرضى اآلخرٌن‪ ،‬جروحً كلها على وشك الشفاء عدا الجرح على وجه القدم‬
‫الٌسرى‪ ،‬و نتٌجة ألن عظام مشط القدم قد بانت بعد انكشاط الجلد عنها فقد خشً الدكتور زاهً من مضاعفات‬
‫أخرى‪ ،‬حضر مرة ومعه شخص آخر وعرؾ به على أنه طبٌب أخصابً جلدٌة‪ ،‬وقد أخبرنً هذا الطبٌب أن‬
‫بمهجعنا فقط ٌوجد ثبلثة وعشرون طبٌبا ًال من مختلؾ االختصاصات‪.‬‬
‫زمٌلً فً الدفعة قاوم الموت أكثر من شهرٌن‪ ،‬أخذت فً نهاٌتها صحته فً التحسن‪ ،‬أٌضا بفضل عناٌة وسهر‬
‫زاهً‪ ،‬ثم بدأ ٌصحو من ؼٌبوبته تدرٌجٌا ًال‪ ،‬وعندما أصبح إبمكانه تحرٌك رأسه ‪ ...‬نظر باتجاهً وفوجًء بً‬
‫تماما !! أصٌب بالدهشة الشدٌدة لثوان قلٌلة حتى أن زاهً الذي كان جانبه سؤله إذا كان قد رأى دٌناصوراًال؟!‬
‫ولكنه تململ ولم ٌجب‪.‬‬

‫‪28‬‬
‫خبلل الشهرٌن األولٌن كانت قد نشؤت بعض العبلقات بٌنً وبٌن بعض السجناء‪ ،‬فعبلقتً مع زاهً تعتبر جٌدة‪،‬‬
‫لقد جلسنا عدة مرات سوٌة نتحدث عن السجن والحرٌة‪ ،‬بثنً العدٌد من همومه الطبٌة والعابلٌة حتى‪ ،‬كشؾ لً‬
‫عن خشٌته من تفشً وباء ما داخل السجن‪ ،‬وأمام انعدام األدوٌة والوسابل الطبٌة ؾإ ن أي وباء سٌكون قاضٌاًال‪،‬‬
‫سؤلته مرة عن تارٌخ سجنه ومجٌبه إلى السجن الصحراوي‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬بعد المجزرة مباشرة!!‬
‫‪ -‬وأٌة مجزرة تعنً؟!‬
‫‪ -‬ولو ٌارجل !!! ‪ ...‬معقول ما سمعت بالمجزرة ٌا أخوي؟‬
‫‪ -‬ال وهللا ‪ ..‬ما سمعت ‪ ..‬أناما كنت بالبلد‪ ،‬كنت بفرنسا‪.‬‬
‫بعدها سرد علً تفاصٌل ما حدث‪ ،‬أو ما سمً بمجزرة السجن الصحراوي‪:‬‬
‫‪ -‬كان فً هذا السجن قرابة األلؾ سجٌن إسبلمً ‪ ،‬وفً ٌوم حزٌرانً قابظ‪ ،‬حطت طابرات الهلٌوكوبتر‬
‫محملة بالجنود الذٌن ٌقودهم شقٌق الربٌس‪ ،‬مدججٌن باألسلحة‪ ،‬نزلوا من الطابرات فً ساحات السجن‪،‬‬
‫دخلوا على السجناء فً مهاجعهم وبالرشاشات حصدوهم حصداًال! جمعوا قسما ًال منهم فً الساحات وقضوا‬
‫علٌهم جمٌعا ًال‪ .‬زاهً أتى إلى هذا السجن بعد المجزرة تماما ‪،‬كانت الدماء والشعر اآلدمً ونتؾ من اللحم‬
‫واألدمؽة ال زالت الصقة على جدران وأرضٌة المهجع الذي أدخلوه فٌه‪.‬‬
‫ٌتوقؾ زاهً قلٌبلعن السرد‪ٌ ،‬نظر عالٌا خبلل الشراقة نظرة ساهمة ‪ ...‬وٌتابع‪:‬‬
‫‪ -‬رحمهم هللا جمٌعا ‪ ...‬الجمٌع استشهد‪ ،‬كانوا أبطاالًال من الرواد األوابل‪ ،‬علٌهم رحمة هللا‪ ،‬تصور ٌا أخوي‬
‫‪ ...‬انه خبلل المجزرة هجم كم واحد من الشباب المسلم على العساكر المسلحٌن‪ ،‬واستطاعوا انتزاع بعض‬
‫األسلحة‪ ...‬هم ٌعرفون أنهم راح ٌموتون على كل حال‪ ...‬لٌش ما ٌقاومون ؟!‪ ..‬وظلوا ٌقاومون باألسلحة‬
‫هاي ‪ ...‬حتى استشهدوا أو نفذت ذخٌرتهم ‪ ...‬كبدوا العساكر خسابر كبٌرة ‪ ...‬علٌهم رحمة هللا ‪ ...‬الؽرٌب‬
‫انك ما سمعت بهذي المجزرة‪ٌ ..‬ا أخوي!!‪.‬‬
‫مسلم ‪ ،‬خاصة‬
‫ٍ‬ ‫وخبلل هذٌن الشهرٌن لم ٌسؤلنً أحد عن دٌنً‪ ،‬فلم ٌكن ٌخطر على بال أحدهم أن أكون ؼٌر‬
‫وأن اسمً ال ٌوحً بذلك‪ ،‬وبعد التجربة التً مررت بها فً مركز المخابرات لم أخبر أحداًال بذلك خاصة انه‬
‫سٌكون خارج السٌاق‪.‬‬

‫بعد ٌومٌن من دهشة زمٌلً فً الدفعة عندما رآنً‪ ،‬كان المهجع كله قد عرؾ أننً‪:‬‬
‫‪ -‬نصرانً‪ ،‬ملحد‪ ،‬وجاسوس!!‬
‫ًال‬
‫مقاطعة تامة من الجمٌع‪ ،‬لم ٌعد أحد منهم ٌحٌٌنً‪ ،‬إذا قلت ألحدهم صباح الخٌر‬ ‫ظهرت النتابج فوراًال‪ .‬قوطعت‬
‫أشاح بوجهه إلى الطرؾ اآلخر عكس تعالٌم نبٌهم التً تقول‪" :‬ردوا التحٌة بؤحسن منها"‪.‬‬
‫فً الٌوم الثالث للدهشة‪ ،‬تظاهر زاهً بؤنه ٌرٌد الكشؾ على قدمً‪ .‬قال لً وهو منهمك بفحصها‪:‬‬

‫‪29‬‬
‫‪ -‬أن تكون نصرانً‪ ...‬هذا مو مشكلة‪ ،‬انت من أهل الكتاب !‪ ..‬شؽلة أنك تكون جاسوس للنظام ‪ ....‬هاي‬
‫ماتخرط ال بالعقل وال بالمنطق ‪ ...‬أنت كنت راح تموت بالتعذٌب‪ ...‬وهذول الكبلب ما ٌقتلون جواسٌسهم‬
‫!!‪ ...‬بس قولً ‪ ...‬صحٌح انك أعلنت قدام كل الناس بفرع المخابرات انك ملحد ؟! ‪.‬‬
‫‪ -‬صحٌح ٌا دكتور‪ ...‬ولكنً قلتها تخلصا ًال من العذاب والسجن‪.‬‬
‫انتبه!! بهذا المهجع‬ ‫‪ -‬هذا مبرر ؼٌر كافً‪ ،‬لكننً أظن أنك رجل جٌد‪ ،‬لذلك أقول لك ‪ ...‬خلٌك حذر‪...‬‬
‫جماعة من المتشددٌن‪ٌ ...‬فكرون انه من واجبهم قتل الكفار "حٌثما وجدوا"‪ ،‬وأنت صار معروؾ للجمٌع‬
‫إنك كافر!!‪ ...‬وشؽله ثانٌه أرجو انه ما تحاول تحكً معً‪ ...‬فؤنا ال أستطٌع أن أكون شاذاًال عن الجماعة!‬
‫‪ -‬شكراًال ٌا دكتور‪ ...‬على كل شًء‪.‬‬
‫‪ -‬ال شكر على واجب‪.‬‬

‫مضى أسبوع دون حوادث تذكر‪ ،‬وذات ٌوم خرجت من المرحاض وأنا أعرج‪ ،‬أحاط بً فورا حوالً عشرة‬
‫أشخاص كلهم شباب فً بداٌة العشرٌنات من عمرهم‪ ...‬صرّ ت كلمات من بٌن أسنان أحدهم‪:‬‬
‫‪ -‬وقؾ ولك ‪ٌ ...‬ا نجس ‪ٌ ..‬ا كافر ‪ ...‬ه ذي هً نهاٌتك ٌا كلب‪.‬‬
‫تجمدت مكانً‪ ،‬ذهلت‪ ...‬ألجزاء من الثانٌة نظرت إلى العٌون المحدقة بً‪ ،‬فابض من الحقد والكراهٌة ٌنفجر‬
‫من هذه العٌون‪ ،‬العزم‪ ..‬اإلصرار‪.!..‬‬
‫تضٌق الدابرة حولً ‪ ...‬استسبلم كلً‪ ،‬بل شلل بالتفكٌر‪.‬‬
‫طوال الفترة الماضٌة لم أكؾ عن الخوؾ‪ ،‬الخوؾ من المخابرات‪ ،‬الخوؾ من الشرطة العسكرٌة‪ ،‬الخوؾ‬
‫لدى قرقعة المفتاح فً باب المهجع‪ ،‬الخوؾ من الضرب واأللم والموت ‪ ...‬أما اآلن ‪ ..‬إننً أرى الموت ٌحدق‬
‫اًال‪ ...‬قطعة خشب مجردة من‬ ‫بً من خبلل األعٌن المحٌطة بً ‪ !..‬هل خفت ؟ ‪ ...‬ال أدري‪ ،‬لقد كنت حجر‬
‫األحاسٌس والمشاعر‪ ،‬ال تفكٌر‪ ..‬ال رد فعل‪ ...‬جمود كلً‪ ...‬واستسبلم تام‪.!!...‬‬
‫صمت رصاصً ثقٌل ٌخٌم على الفسحة الصؽٌرة أمام المرحاض‪ ،‬وهً مكان ال ٌستطٌع الحارس على‬
‫السطح أن ٌراه من شراقة السقؾ‪ ،‬كان اقترابهم منً بطٌباًال‪ ،‬خطواتهم صؽٌرة جداًال نحو مركز الدابرة الذي هو‬
‫أنا‪ ،‬هل تعمدوا تعذٌبً عبر إطالة عمرخوفً وفزعً؟!‪ ..‬هل كانوا خابفٌن من ردود فعلً؟!‪ ..‬هل هم لم‬
‫ٌحزموا أمر موتً بعد؟!‪ ..‬لست أدري!‪.‬‬
‫فجؤة ُكسر الصمت‪ ...‬و ُكسر محٌط الدابرة البشري حولً‪ ،‬قفز شخص كبٌر السن وأحاطنً بٌدٌه‪ ،‬التفت إلى‬
‫المحٌطٌن بً وبصوت هادىء أجش قال‪:‬‬
‫‪ -‬من ٌعتدي على هذا الشخص فقد اعتدى علً!‪.‬‬
‫قالها بالفصحى‪ .‬بوؼت المهاجمون‪ ...‬توقفوا‪ ،‬قال أحدهم‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا شٌخ محمود ‪ٌ ...‬ا شٌخ محمود‪ ،‬نحن نحترمك ‪ ،‬لكن ‪ ...‬ما الك عبلقة بهذا األمر!‪ ..‬أنت شٌخ دٌن‪،‬‬
‫والزم تكون معنا فً القضاء على الكفر والكفار!‪.‬‬
‫‪ -‬ال‪ ...‬لست معكم! قال هللا تعالى‪" :‬ال تقتلوا النفس التً حرم هللا إال بالحق"‪.‬‬
‫‪30‬‬
‫‪ -‬لكن‪ ...‬هذا الشخص كافر ٌا شٌخ محمود!‪.‬‬
‫‪ -‬هللا وحده ٌعلم ما فً النفوس وسرابر القلوب‪.‬‬
‫‪ -‬لكنه نصرانً‪ ...‬وجاسوس!‬
‫‪ -‬وجادلهم بالتً هً أحسن‪ ،‬وال تؤخذوا الناس بالشبهات‪.‬‬
‫كل الناس بالمهجع ٌراقبون ما ٌحدث‪ ،‬ولكن لم ٌتجمع حولنا إال عدد قلٌل‪ ،‬خمنت أن أكثرهم من أنصار الشٌخ‬
‫محمود‪ ،‬فجؤة رأٌت الدكتور زاهً إلى جانبً‪ ،‬التفت إلٌه الشٌخ محمود وقال آمراًال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا زاهً ‪ ...‬خود هالشخص لمكانه‪.‬‬
‫سحبنً الدكتور زاهً أو جرنً من كتفً‪ ،‬انفتحت الدابرة حولنا دون أٌة ممانعة‪ ،‬أوصلنً إلى فراشً‬
‫وقال لً‪:‬‬
‫‪ -‬اجلس مكانك وال تحكً أٌة كلمة!‪.‬‬

‫مكان ربٌس المهجع إلى جانب الباب حٌث ٌكون جاهزاًال دوما ًال عند فتح الباب لمخاطبة الشرطة‪ ،‬وعلى الطرؾ‬
‫اآلخر من الباب وضعوا فراشً بدالًال من الشخص الذي كان ٌحتله ‪ٌ .‬بدوا أنهم رفضوا أن أكون بٌنهم‪ ،‬الباب‬
‫على ٌساري‪ ،‬الشخص الذي على ٌمٌنً وهو الجار الوحٌد لً أبعد فراشه عن فراشً أكثر من ربع متر رؼم‬
‫االكتظاظ واالزدحام‪ ،‬ولم ٌحتج أحد‪.‬‬
‫أضحت مقاطعتهم لً تامة‪ ،‬التهدٌد ال زال مسلطاًال‪ ،‬جلست على فراشً ساهما ًال أتحاشى النظر‬
‫إلى أي اتجاه محدد‪.‬‬
‫مع األٌام بدأت تنمو حولً قوقعة بجدارٌن‪:‬‬
‫ـ جدار صاؼه كرهم لً‪ .‬كنت أسبح فً بحر من الكراهٌة والحقد واالشمبزاز‪ ،‬وحاولت جاهداًال أال أؼرق فً‬
‫هذا البحر‪.‬‬
‫ـ والجدار الثانً صاؼه خوفً منهم!‬
‫وفتحت نافذة فً جدار القوقعة القاسً وبدأت أتلصص على المهجع من الداخل‪ ،‬وهو األمر الوحٌد‬
‫الذي استطعته‪.‬‬
‫‪ 31‬كانون األول‬
‫الٌوم عٌد رأس السنة‪ ،‬ترى أٌن تسهر سوزان الٌوم ؟! "لم أكن منتبها ًال الى مسؤلة التوارٌخ هذه‪ ،‬األٌام هنا كلها‬
‫متشابهة‪ ،‬ولكنً سمعت ربٌس المهجع ٌقول مبلحظة إلى بعض السجناء بؤن الٌوم هو رأس السنة المٌبلدٌة‬
‫وأن ؼداًال هو ٌوم الخمٌس ‪ ،‬ومن حسن الحظ أن هإالء الظالمٌن ٌسهرون وٌعربدون وٌفسقون فً هذا الٌوم‬
‫حتى الصباح‪ ،‬بعدها ٌنامون‪ ،‬ومعنى ذلك ان الهلٌوكوبتر لن تؤتً ؼداًال‪ ،‬ال محاكمات ‪ ...‬ال إعدامات"‪.‬‬
‫بعدها أصؽٌت لؤلصوات خارج المهجع‪ٌ ،‬بدو أن بعض عناصر الشرطة ٌحتفلون برأس السنة فً ؼرفهم‪،‬‬
‫"حفل فً الجحٌم" خطر بذهنً هذا العنوان‪ ،‬هل هو عنوان فٌلم ؟! عنوان رواٌة ؟‪ ...‬أو مسرحٌة ؟ ال ٌهم‪.‬‬
‫سوزان‪ ،‬خبلل الشهور الثمانٌة الماضٌة كان حنٌنً إلٌها ٌكاد ٌكون وحشٌا ًال!‪.‬‬
‫‪31‬‬
‫أهلً‪ ،‬أٌن هم اآلن؟ ماذا ٌفعلون؟ بماذا ٌفسرون ؼٌابً طوال هذه الفترة؟ ماذا فعلوا لٌعرفوا أٌن أنا ؟‪ ...‬وأٌن‬
‫ولماذا اختفٌت ؟‪ ...‬أبً وأمً ٌعٌشان هنا وكانا ٌنتظران وصولً‪ ...‬أنا لم أصل إلى البٌت‪ ،‬إذاًال أٌن أنا؟؟ ٌجب‬
‫أن ٌكون هذا تساإلهما الربٌسً!‪.‬‬
‫أبً ضابط متقاعد وله معارفه‪ ،‬وكذلك خالً فهو ٌملك بعض النفوذ‪ ،‬وبعض األقرباء اآلخرٌن‪ ،‬لماذا لم‬
‫ٌتحركوا حتى اآلن النتشالً من هذا الجحٌم؟‪ ...‬ولكن ما أدرانً!! قطعا إن جمٌعهم اآلن ٌتحركون وٌسعون‪.‬‬
‫هذه األفكار أشعرتنً ببعض األمل!‪.‬‬
‫أحتاج إلى شخص أحادثه عن كل هذه األمور ‪ ،‬أسؤله‪ ،‬أبثه همومً ‪ .‬أنظر حولً فتصدمنً الوجوه المؽلقة‪،‬‬
‫أكثر من نصؾ عام م رّ على مقاطعتهم لً‪ ،‬فقط بضع كلمات من ربٌس المهجع عند الضرورة‪ ،‬وبضع كلمات‬
‫من زاهً خلسة‪ .‬فمً مطبق ال ٌفتح إال أثناء إدخال الطعام ‪ .‬أحس أن لسانً قد بدأ ٌصدأ ‪ .‬هل ٌمكن لئلنسان‬
‫أن ٌنسى عادة الكبلم إذا لم ٌتكلم لفترة طوٌلة؟‪ٌ .‬جب أن أتكلم حتى لو مع نفسً ولٌقولوا أننً مجنون!!‪.‬‬
‫شًا ًال من أشٌابهم‪ ،‬أجسادَ هم ‪ .‬مر ًالة كنت ماشٌا ًال باتجاه المؽاسل فاصطدمت ٌدي بٌد واحد‬
‫ال أستطٌع أن ألمس ب‬
‫منهم كان عابداًال من المؽاسل‪ ،‬رجع و اؼتسل لٌتطهر ‪ .‬إذا استخدمت حنفٌة الماء ؾإ ن من ٌؤتً بعدي ٌؽسلها‬
‫بالصابون سبع مرات‪ ،‬ألننً ببساطة "نجس" ‪ .‬مر ًالة سمعت واحداًال ٌقول لآلخر بؤنه ال ٌكفً أن ٌؽسل الحنفٌة‬
‫بالصابون سبع مرات‪ ،‬إنما ٌجب أن ٌكون لدٌنا بعض التراب‪ ...‬ألن الرسول صلى هللا علٌه وسلم قال ‪:‬‬
‫"إذا ولػ كلب فً إناء ‪ ،‬فاؼسلوه سبع مرات إحداها بالتراب‪".‬‬
‫من ٌقوم بتوزٌع الطعام ٌضع الطعام لً أمام فراشً وٌتحاشى أن ٌلمس بطانٌتً أو ٌنظر إلً‪ ،‬كانوا ٌتكتمون‬
‫أمامً! ولكن رؼم ذلك استطعت أن أعرؾ الكثٌر عن حٌاتهم الداخلٌة ووسابل عٌشهم وأسالٌبهم‬
‫داخل السجن‪.‬‬

‫الصالة‬
‫هً " الموت "‪،‬‬ ‫الصبلة ممنوعة منعا ًال باتا ًال بؤوامر مدٌر السجن ‪ .‬عقوبة من ٌقبض علٌه متلبسا بجرم الصبلة‬
‫رؼم ذلك إؾنهم لم ٌكونوا ٌفوتون وال صبلة واحدة ‪ .‬صبلة الخوؾ‪ٌ ،‬وجد شًء من هذ ا فً اإلسبلم‪ ،‬ولكن هنا‬
‫‪.‬‬ ‫طوروها بحٌث أن اإلنسان ٌصلً وهو جالس فً مكانه أو فً أي وضعٌة أخرى‪ ،‬دون ركوع أو سجود‬
‫إدارة السجن عرفت هذا أٌضاًال‪ ،‬وٌتناقلون حدٌثا ًال لمدٌر السجن قاله أمام السجناء الشٌوعٌٌن‪ ،‬ودابما ًال حدٌث مدٌر‬
‫السجن أشبه ما ٌكون بالمحاضرات أو الخطب‪ ،‬خاطب الشٌوعٌٌن قاببلًال‪:‬‬
‫‪ -‬هإالء الكبلب ‪ ...‬اإلخوان المسلمون‪ ،‬البارحة فقط أمضٌت أكثر من نصؾ ساعة وأنا أشرح لهم وأفهمهم‬
‫أن القومٌة أهم من الدٌن‪ ،‬ولكن هل تتصورون أنهم الٌوم عادوا ٌصلون !!! عجٌب أمر هإالء الناس !!‬
‫لماذا ذهنهم مؽلق إلى هذه الدرجة ؟!‪.‬‬

‫االتصال‬

‫‪32‬‬
‫جمٌع المهاجع ملتصقة ببعضها‪ ،‬كل مهجع ملتصق بمهجعٌن آخرٌن من الٌمٌن والٌسار‪ ،‬وأحٌانا ًال من الخلؾ‬
‫أٌضاًال‪ ،‬وهذا األمر سهّل االتصال بٌن السجناء كثٌرا‪ ،‬وٌكون ذلك بالدق على الحابط حسب طرٌقة مورس‪ ،‬دقة‬
‫على الحابط ‪ ...‬دقتان ‪ ...‬دقة قوٌة ودقة ضعٌفة‪ ...‬نفس رموز البرقٌات التي ترسل وفق طرٌقة مورس‪.‬‬
‫كل ما ٌجري داخل السجن‪ ،‬الدفعات الجدٌدة‪ ،‬من مات‪ ،‬عدد الذٌن اعدموا وأسما إهم‪ ،‬األخبار خارج السجن‬
‫والتً ٌنقلها السجناء الذٌن جاإوا حدٌثاًال‪ ،‬كل هذه األشٌاء كانت تنتقل عبر المهاجع وفق رموز المورس‪ ،‬وفً‬
‫كل مهجع مجموعة مخصصة لتلقً وإرسال تلك الرموز‪ ،‬تقؾ خلفهم مجموعة الحفظة‪.‬‬
‫ت القرآن‬
‫سور وآٌا ِ‬
‫َ‬ ‫بدأ الحفظ منذ بداٌة "المحنة " كما ٌسمٌها اإلسبلمٌون‪ ،‬كان الشٌوخ الكبار ٌجلسون وٌتلون‬
‫على مجموعة من الشباب‪ ،‬وهإالء ٌظلون ٌكررونها حتى ٌحفظوها‪ ،‬وهكذا تولدت آلٌة الحفظ هذه‪ ،‬لم ٌبق أحد‬
‫فً المهجع إال وحفظ القرآن من أول حرؾ إلى آخر حرؾ‪ ،‬ومع كل دفعة جدٌدة كانت تبدأ دورة جدٌدة‪،‬‬
‫والحقا ًال تطور األمر باتجاه آخر‪ٌ ،‬تم انتقاء مجموعة من الشباب صؽار السن ٌحفظون إضافة الى القرآن‬
‫وأحادٌث النبً محمد ‪ ...‬ما ٌمكن تسمٌته بسجل السجن‪ ،‬أسماء كل من دخل هذا السجن من الحركات‬
‫اإلسبلمٌة‪ " .‬فً مهجعنا شاب لم ٌبلػ العشرٌن من عمره‪ٌ ،‬حفظ أكثر من ثبلثة آالؾ اسم‪ ،‬اسم السجٌن‪ ،‬اسم‬
‫بعضهم متخصص باإلعدامات والقتل‪ ،‬وهم‬ ‫مدٌنته أو بلدته ‪ ،‬قرٌته‪ ،‬تارٌخ دخوله السجن ‪ ...‬مصٌره!!‪".‬‬
‫وهذا سجل الشهداء ‪ .‬أٌضا ٌحفظون االسم‪ ،‬عنوان األهل‪،‬‬ ‫ٌسمون كل من ٌقتل أو ٌعدم فً السجن شهٌداًال‪،‬‬
‫تارٌخ اإلعدام أو القتل‪.‬‬
‫أعجبت بهذه الطرٌقة وأخذت أدرب نفسً علٌها‪ ،‬وبعد أن امتلكت القدرة الكافٌة قررت كتابة هذه الٌومٌات‪،‬‬
‫أكتب الجملة ذهنٌا‪ ،‬أكررها‪ ...‬أحفظها‪ ،‬أكتب الثانٌة‪ ...‬أحفظها‪ ،‬فً آخر الٌوم أكون قد كتبت وحفظت أهم‬
‫أحداث الٌوم‪ ،‬واكتشفت أنها طرٌقة جٌدة لشحذ الذهن وتمضٌة الوقت الطوٌل فً السجن‪ ،‬وفً صباح الٌوم‬
‫التالً أتلو كل ما حفظته البارحة‪.‬‬
‫عرفت الحقا أ ن ما حفظ حٌاتً هو أنهم لٌسوا مجموعة واحدة‪ ،‬فباإلضافة للمتشددٌن الذٌن حكموا علً‬
‫بالموت‪ٌ ،‬وجد التنظٌم السٌاسً وهو تنظٌم لم ٌحمل السبلح ولم ٌشارك بالعملٌات العسكرٌة‪ ،‬وهناك جماعة‬
‫التحرٌر اإلسبلمً وهم جماعة مسالمة ومنهم الشٌخ محمود وزاهً اللذان أنقذا حٌاتً‪ ،‬وكذلك جماعات‬
‫الصوفٌة وهً كثٌرة ومتشعبة‪ ...‬وؼٌرهم‪.‬‬
‫هذه المجموعات بقدر ما كانت تبدو متماثلة ومتشابهة‪ٌ ،‬ختلؾ بعضها عن بعضها اآلخر إلى درجة أن هذه‬
‫الخبلفات كانت تصل إلى حد التكفٌر‪ ،‬إلى حد االصطدام واالشتباك باألٌدي والضرب المبرح دون رحمة أو‬
‫شفقة‪.‬‬
‫هم قساة إلى درجة أن بعض أعضاء الجماعة المتشددة كانوا ٌروون كٌؾ أنهم أنهوا تدرٌبهم العسكري ببٌان‬
‫عملً قتلوا خبلله بعض "الزبالٌن" فً الصباح الباكر أثناء قٌام هإالء بتنظٌؾ الشوراع ‪ ،‬وكان هذا مجرد‬
‫تدرٌب أو "عمادة بالدم"‪ .‬هإالء أنفسهم ٌتحولون إلى كابنات فً منتهى الرقة و ٌبكون عندما ٌروي قادم جدٌد‬
‫‪ ،‬أو كٌؾ تم‬ ‫أن أجهزة المخابرات كانت تعذب طفبلًال صؽٌراًال أمام والده أو والدته إلجبارهم على االعتراؾ‬
‫اؼتصاب إحدى الفتٌات أمام والدها إلهانته وإذالله وإجباره على اإلدالء بما ٌملك من معلومات‪.‬‬
‫‪33‬‬
‫ًال‬
‫وخاصة لدى فرق الفدابٌٌن ‪ ،‬وقد رأٌت أناسا ًال منهم كانوا‬ ‫شجاعتهم أسطورٌة فً مواجهة التعذٌب والموت ‪،‬‬
‫ٌفرحون فرحا ًال حقٌقٌا ًال وهم ذاهبون لئلعدام ‪ .‬الأعتقد أن مثل هذه الشجاعة ٌمكن أن توجد فً مكان أخر أو لدى‬
‫مجموعة بشرٌة أخرى‪.‬‬
‫هناك الكثٌر من الجبن أٌضا ًال ‪ ،‬ولكن الجبن ال ٌلفت النظر بقدر الشجاعة ‪ .‬ففً ظل هذا الوضع ٌبدو الجبن‬
‫والخوؾ طبٌعًين والشجاعة استثنابٌة‪ .‬ولكن هنا عندما ٌكون الجبن مبالؽا ًال فٌه ٌعزى إلى قلة اإلٌمان باهلل‪.‬‬
‫" كسلحفا ًالة أحست بالخطر وانسحبت داخل قوقعتها ‪ ،‬أجلس داخل قوقعتً‪ ....‬أتلصص‪ ،‬أراقب‪ ،‬أسجل‪ ،‬وأنتظر‬
‫فرجا ًال"‪.‬‬
‫‪ 31‬أب‬
‫صٌفان وشتاء واحد مروا وأنا هنا وسط هذه الصحراء المترامٌة‪ ،‬هنا ال توجد فصول أربعة ‪ ،‬فقط فصبلن‪،‬‬
‫صٌؾ وشتاء‪ ،‬وال ندري أٌهما أشد قسوة من اآلخر‪ ،‬فً الصٌؾ ٌبدو الشتاء رحٌماًال‪ ،‬وأثناء الشتاء نحس‬
‫العكس‪.‬‬
‫نحن اآلن فً عز الصٌؾ‪ .‬الجو الهب‪ ،‬ال ٌوجد هواء لنتنفسه‪ ،‬الهواء ثقٌل جدا بحٌث نحتاج إلى جهد كبٌر‬
‫ٌقول إن‬ ‫عرقنا ٌسٌل سٌبلًال‪ ،‬سمعت بعضهم ممن ٌعرؾ المنطقة سابقا ًال‬
‫لشفطه إلى داخل الربتٌن‪ ،‬وهذا ٌجعل َ‬
‫درجة الحرارة قد تصل الخمسٌن أو حتى ستٌن درجة مبوٌة فً الخارج‪ ،‬وفً الظل داخل المهجع ال تقل عن‬
‫الخمسة وأربعٌن درجة مبوٌة‪ ،‬تؤفؾ أحدهم‪:‬‬
‫‪ -‬العمى ‪ ...‬شو نحن مسجونٌن بفرن !!‪.‬‬
‫بعض كبار السن قضوا اختناقا‪ ،‬ربٌس المهجع ٌدق الباب وٌخبر الشرطة بموت أحدهم‪ٌ ،‬فتحون الباب‪ ،‬وٌبدو‬
‫صوت الشرطً ساببلًال من شدة الحرارة‪:‬‬
‫‪ -‬وٌن هادا الفطسان ؟‪ٌ ...‬اهلل ‪ ...‬زتوه لبره‪.‬‬
‫ٌحتال ربٌس المهجع إلبقاء بعض أوانً الطعام الببلستٌكٌة داخل المهجع ومنذ الصباح الباكر وقبل استٌقاظ‬
‫الناس تقوم الخدمة الٌومٌة بملء األوانً بالماء‪ ،‬جمٌع السجناء بالسراوٌل الداخلٌة التً تؽطً " العورة " فقط‪،‬‬
‫من السرة إلى الركبة‪ٌ ،‬دخل أربعة سجناء إلى الفسحة الصؽٌرة أمام المراحٌض‪ٌ ،‬قوم أربعة من عناصر‬
‫الخدمة الٌومٌة "وهذه الخدمة منظمة دورٌا ًال من السجناء أنفسهم‪ ،‬أنا معفى من كل أنواع الخدمة !" بصب الماء‬
‫على رإوس وأجساد األربعة‪ ،‬وٌخرج هإالء سرٌعا ًال والماء ٌقطر منهم‪ٌ ،‬دخل أربعة ؼٌرهم ‪ ...‬وهكذا‪.‬‬
‫ستة بطانٌات مبللة بالماء‪ ،‬كل بطانٌة ٌمسكها اثنان من الخدمة‪ٌ ،‬قفون على مسافات متساوٌة داخل المهجع‪،‬‬
‫ٌهزون البطانٌات جاعلٌها كمراوح لتحرٌك الهواء وترطٌب الجو‪ ،‬هذا هو الٌوم الصٌفً العادي‪.‬‬
‫أم ا الٌوم الشتابً فهو ٌوم منكمش‪ ،‬ثٌاب الجمٌع قد تهرأت وال ٌمكن أن تقً من البرد الصحراوي الحاد الذي‬
‫ٌنخر العظام وٌجمد المفاصل‪ ،‬ثبلثة بطانٌات تعاقبت علٌها األٌام واستخدمها قبلً مبات السجناء‪ ،‬ألبس بذلتً‬
‫البارٌسٌة األنٌقة‪ ،‬السترة والبنطال وكان الشرطة قد صادروا "الكرافات"‪ ،‬سترة البذلة ال زالت بحالة جٌدة‪ ،‬أما‬
‫البنطال فقد اهترأ عند الركبتٌن وفً المإخرة‪ ،‬السحاب قد خرب وتقطعت األزرار‪ ،‬ألبسه لٌبلًال نهاراًال وعلى‬
‫مدار األٌام‪ ،‬وقد َنسلت بعض الخٌوط من البطانٌة وجدلتها وجعلتها حزاما أثبت فٌه البنطال بدالًال من األزرار‬
‫‪34‬‬
‫والسحاب‪" ،‬شاه دت ؼٌري ٌفعل هذا ففعلت"‪ .‬هنا ال ٌوجد خٌطان أو إبر خٌاطة‪ ،‬أصبح لدي سرواالن‬
‫داخلٌان‪ ،‬أحد القادمٌن الجدد إلى المهجع كان أهله أؼنٌاء جدا‪ ،‬وقد استطاعوا زٌارته أثناء وجوده فً فرع‬
‫المخابرات بعد أن دفعوا ما ٌوازي ثروة صؽٌرة كرشوة إلى الضابط المسإول‪ ،‬وهناك من نصحهم بؤن ٌؤخذوا‬
‫البنهم الكثٌر من الثٌاب‪" .‬جلب معه أكثر من م ا بة ؼٌار داخلً‪ ،‬كان نصٌبً منها سرواالًال داخلٌاًال‪ ،‬أعطانً إٌاه‬
‫ربٌس المهجع‪:‬‬
‫‪ -‬خود هذا ‪ ....‬مشان ٌكون عندك بدل!‬
‫البرد الصحراوي أقسى من أي برد آخر‪ ،‬عشت أٌام اًال باردة جدا فً فرنسا كانت الحرارة تصل الى تحت‬
‫الصفر ‪ ،‬ولكن ذلك البرد ٌبدو برداًال مهذباًال‪ ،‬بٌنما البرد هنا وقح صفٌق!‬
‫أما مشكلة القمل ؾتكون أصعب فً الٌوم الشتابً‪ ،‬فبل حل للقمل المنتشر بكثافة فً جمٌع المهاجع إال أن تجلس‬
‫وتخلع كل ثٌابك وتبدأ بالتفتٌش عنه فً ثناٌا الثٌاب‪ ،‬الجمٌع هنا ٌفعل ذلك وفعلت مثلهم بعد أن هرش جلدي‪،‬‬
‫اظفري‬ ‫ولكننً لم استطع أن أخرج الصوت الذي ٌخرجونه من بٌن أسنانهم "تسه" كلما فقسوا قملة بٌن‬
‫اإلبهامٌن!!‬
‫أمسك القملة‬ ‫إون تفلٌتها بحثا عن القمل‪ ،‬وأنا أٌضا ًال‬ ‫كل ٌوم بعد وجبة اإلفطار ٌخلع الجمٌع ثٌابهم وٌبد‬
‫وأهرسها بٌن األظفرٌن‪ ،‬كان وجود القمل بهذه الكثافة محٌراًال‪ ،‬تساءل أحدهم بؽضب‪:‬‬
‫‪ -‬العمى منٌن عم ٌجً كل هالقمل ؟!‪ ..‬كل ٌوم ننظؾ ثٌابنا منه‪ ،‬كل ٌوم نتوضؤ خمس مرات‪ ،‬على األؼلب‬
‫نؽسل كل ٌوم جسمنا بالماء البارد والصابون‪ ،‬نؽسل ثٌابنا‪ ،‬نؽسل بطانٌاتنا‪ ،‬وبالٌوم الثانً نشوؾ القمل‬
‫أكثر ‪ ...‬وأكثر !!‪ ..‬العمى‪ ...‬فً حدا عم ٌرش المهاجع بالقمل؟!!‬
‫‪ 10‬أيلول‬
‫ألول مرة ٌدور فً المهجع نقاش خارج عما هو موجود فً القرآن أو السنة النبوٌة ‪ ،‬نقاش طوٌل شارك فٌه‬
‫أكثر من عشرة أشخاص بٌنهم اثنان من المشلولٌن‪ " ،‬كل النقاشات‪ ،‬الحوارات‪ ،‬حتى الشجارات ‪ ...‬تتم‬
‫بصوت منخفض خشٌة أن تسمع الشرطة"‪ .‬وكان موضوع الحوار هو الحضارة اإلسبلمٌة والحضارة الؽربٌة‪،‬‬
‫بدأ هذا النقاش طبٌب دارس فً أوربا بمبلحظة سرٌعة أبداها حول الحرٌة ومُثل الدٌمقراطٌة الؽربٌة‪ ،‬استمر‬
‫النقاش طوٌبل وانتهى بقول أحد المشلولٌن‪:‬‬
‫‪ -‬تقول الحضارة الؽربٌة !‪ ...‬انظر ٌا أخً حولك‪ ،‬أنا مشلول بالكرسً األلمانً‪ ،‬وهذا محمد علً مشلول‬
‫أٌضا برصاصة استقرت بعموده الفقري مصنوعة فً روسٌا‪ ،‬هذا السجن بنته فرنسا‪ ،‬القٌود التً كبلوا بها‬
‫اًال‬
‫مسدس بلجٌكٌا‪ ،‬الضباط الذٌن ٌشرفون‬ ‫ٌديّ مكتوب علٌها "صنع فً أسبانٌا"‪ ،‬الضابط الذي اعتقلنً ٌحمل‬
‫على التحقٌق والتعذٌب تدربوا فً أمرٌكا وبرٌطانٌا وروسٌا ‪ ...‬هذه منتجات الحضارة الؽربٌة‪ ،‬وإذا‬
‫أضفت إلى كل هذا الكثٌر من الفسق والفجور واالنحبلل األخبلقً تكون الحضارة الؽربٌة مجسدة أمامك‪.‬‬
‫بصوت تعب وبلهجة من ٌود إنهاء نقاش ال طابل تحته‪ ،‬لكنه ال ٌرٌد التسلٌم بحجج الخصم‪ ،‬رد الطبٌب‪:‬‬
‫‪ -‬إن فً هذا الكثٌر من التجنً واالجتزاء‪ ،‬أنا ال أقول أن نقلد الؽرب أو نؤخذ سلبٌاتهم‪ ،‬فً الؽرب أٌضا ًال‬
‫العلوم والطب وتطور الزراعة والصناعة ‪ ...‬وفوق كل هذا وأهم من كل شًء ‪ ...‬هو أن لدٌهم إنسانا ًال حراًال‬
‫‪35‬‬
‫ومحترماًال‪ ،‬إذا أردنا أن نتقدم علٌنا أن نتعلم منهم الكثٌر وخاصة احترام اإلنسان واحترام حرٌته‪ ،‬وهذا لٌس‬
‫عٌبا ًال‪.‬‬
‫‪ 25‬كانون األول‬

‫جافانً النوم‪ .‬الساعة السادسة مددت البطانٌة كالعادة وتمددت ‪ .‬الواحدة بعد منتصؾ اللٌل مللت االضطجاع‬
‫بعد أن آلمتنً أجنابً‪ ،‬جلست ولففت نفسً بالبطانٌات‪ ،‬خمس دقابق وصوت الحارس من خبلل الشراقة‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا ربٌس المهجع ‪ٌ ..‬ا حمار‪.‬‬
‫‪ -‬نعم سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬علملً هالتٌس القاعد جنبك‪.‬‬
‫‪ -‬حاضر سٌدي‪.‬‬
‫لقد علمنً‪ .‬تمددت فورا‪ ،‬ؼداًال صباحا ًال سٌكون فطوري خمسمابة جلدة بقشاط مروحة الدبابة على قدمً! إن‬
‫قدمً التً أصٌبت شفٌت تماما مع ندب طوٌل ولكنها كانت تإلمنً دابما ًال فً أٌام البرد فؤل ّفها أكثر من ؼٌرها‪،‬‬
‫كنت احلم بزوج من الجوارب الصوفٌة! احد أحبلمً الصؽٌرة ‪ .‬ماذا سٌكون مصٌر هذه القدم المسكٌنة عندما‬
‫تتلقى خمسمابة جلدة؟ لم أستطع النوم حتى الصباح ‪ .‬وعندما فتح الباب وصاح الشرطً بربٌس المهجع لٌخرج‬
‫األشخاص الذٌن تم تعلٌمهم‪ ،‬قفزت واقفاًال‪ ،‬ولكن ربٌس المهجع وبسرعة قال‪:‬‬
‫‪ -‬مكانك‪ ،‬ال تتحرك‪ ،‬واحد من الشباب طلع بدال منك‪.‬‬
‫ذهلت‪ ،‬واحد من الفدابٌٌن‪ ،‬واحد من المتشددٌن الذٌن حاولوا قتلً ألننً كافر ٌفدٌنً اآلن بنفسه وٌتلقى عنً‬
‫خمسمابة جلدة!!‬
‫منذ سنة ونصؾ تقرٌبا لم أنطق وال كلمة‪ ،‬جلست مكانً وأنا أنظر إلى ربٌس المهجع بذهول‪ ،‬خرجت كلمتان‬
‫من فمً ال إرادٌا ًال‪:‬‬
‫‪ -‬لكن ‪ ...‬لٌش ؟‬
‫لم ٌجب ربٌس المهجع بشًء‪ ،‬أشار بٌده لً أن اسكت‪ ،‬إشارة فٌها الكثٌر من االحتقار و االشمبزاز!!‪.‬‬
‫عاد األشخاص الذٌن جلدوا‪ ،‬بعد وجبة الجلد ٌعودون ركضا على اإلسفلت الخشن وهم حفاة‪ ،‬أكثر من واحد‬
‫منهم رمقنً بطرؾ عٌنه بنظرة ازدراء وحقد!!‬
‫إذاًال لماذا؟؟‬
‫"لزمني زمن طوٌل حتى استطعت التوصل إلى تخمٌن‪:‬‬
‫بما أننً جاسوس إؾنهم كانوا حرٌصٌن جداًال أال أحتك بعناصر الشرطة كً ال أمارس جاسوسٌتً !!‪".‬‬
‫فً الٌوم نفسه كان دور مهجعنا بالتنفس ‪.‬‬

‫التنفس‬

‫‪36‬‬
‫فً السجون األخرى التنفس هو حٌز زمنً ٌخرج فٌه السجٌن من مهجعه إلى ساحة ه واإها نقً‪ ،‬بها بعض‬
‫المبلعب فٌترٌض‪ ،‬معرضة للشمس فٌتشمس‪ٌ ...‬ؤخذ حاجته من الهواء والشمس والحركة‪.‬‬
‫متلو بعضهم خلؾ بعض ‪ ،‬تفتح الشرطة‬
‫هنا ‪ ...‬قبل التنفس ٌكون السجناء فً المهجع قد انتظموا فً طابور ٍ‬
‫الباب‪ٌ ،‬خرج الطابور بخطوات بطٌبة‪ ،‬الرإوس منكسة إلى األسفل‪ ،‬العٌون مؽمضة‪ ،‬كل سجٌن ٌمسك بثٌاب‬
‫الذي أمامه‪ ،‬عناصر الشرطة والبلدٌات ٌحٌطون بالساحة وٌنتشرون بها بكثافة‪ٌ ،‬سٌر الطابور سٌراًال بطٌبا ًال أو‬
‫سرٌعا ًال حسب مزاج وإرادة الرقٌب‪.‬‬

‫االثنٌن والخمٌس ٌومان مختلفان عن بقٌة أٌام األسبوع هنا ‪ .‬فً هذٌن الٌومٌن تتم اإلعدامات‪ ،‬لذلك عندما‬
‫نخرج للتنفس فً هذٌن الٌومٌن تكون كمٌة التعذٌب والضرب أكثر من ؼٌرهما من األٌام‪ ،‬وفً التنفس ٌكون‬
‫الضرب ؼالبا ًال على الرأس‪:‬‬
‫‪ -‬وال كلب‪ ...‬لٌش عم ترفع راسك؟!‬
‫وٌهوي الكرباج على الرأس‪.‬‬
‫‪ -‬ولك ابن الشرموطة !!‪ ..‬لٌش عم تفتح عٌونك من تحت لتحت ؟!!‬
‫وٌهوي الكرباج على الرأس‪.‬‬
‫فً الصٌؾ ٌكون التعذٌب أقل ‪ .‬حرارة الشمس التً تثقب رإوسنا تجعل عناصر الشرطة فً حالة تكاسل‬
‫وعدم مٌل للحركة‪ ،‬فً الشتاء ٌشت ّد التعذٌب‪.‬‬
‫أحٌانا ًال وبٌنما الطابور ٌدور ٌتجمع بعض عناصر الشرطة حول الرقباء‪ ،‬تدور بٌنهم أحادٌث ال نسمعها‪ٌ ،‬صبح‬
‫مزاجهم فجؤة أمٌل للتسلً بنا‪ٌ ،‬صرخ الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ ...‬أنت أنت ٌا طوٌل‪ ...‬أطول واحد بالصؾ‪ ،‬تعال هون‪...‬‬
‫ٌركض أ حد البلدٌات وٌجر أطول واحد بٌننا‪ ،‬طوله أكثر من مترٌن‪ ،‬الرقٌب جالس على كتلة إسمنتٌة أشبه‬
‫بالكرسً‪ٌ ،‬ضع رجبلًال على رجل‪ٌ ،‬شد صدره ٌرجع رأسه إلى الوراء واألعلى‪ٌ ،‬قول‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر ‪ ..‬أنت بنً آدم وال زرافة؟‬
‫ٌضحك المتجمعون حوله بصخب‪ٌ ،‬تابع الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬وهلق ‪ ...‬اركض حول الساحة خمس دورات وطالع صوت متل صوت الزرافة ‪ٌ ...‬اهلل بسرعة‪.‬‬
‫ٌركض السجٌن وٌصدر أصواتاًال‪ ،‬ال أحد ٌعرؾ كٌؾ هو صوت الزرافة‪ ،‬أعتقد حتى وال الرقٌب نفسه‪ٌ ،‬دور‬
‫السجٌن خمس مرات‪ٌ ،‬توقؾ‪ٌ ،‬قول الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر ‪ ...‬هلق بدك تنهق متل الحمار!‬
‫ٌنهق السجٌن الطوٌل‪ .‬تضحك الشرطة‪.‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ ...‬هلق بدك تعوي متل الكلب!‬
‫ٌعوي السجٌن الطوٌل‪ .‬تضحك الشرطة‪ٌ .‬ضحك الرقٌب وهو ٌهتز‪ٌ ،‬قول‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ ...‬إي ‪ ...‬إي ‪ ...‬هاي ناجحة وكوٌسه ‪ ...‬أنت متل الكلب فعبل‪.‬‬
‫‪37‬‬
‫ثم ٌلتفت إلى رتل السجناء الذي ٌسٌر منكس الرإوس ومؽمض العٌنٌن‪ٌ ،‬صٌح‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ ...‬أنت أنت‪ ...‬أقصر واحد بالصؾ ‪ ،‬تعال هون‪.‬‬
‫ٌركض أحد البلدٌات‪ٌ ،‬جر أقصر واحد بالرتل‪ .‬شاب صؽٌر ال ٌتجاوز الخامسة عشر‪ ،‬طوله أكثر قلٌبل من‬
‫المتر والنصؾ‪ٌ ،‬قؾ أمام الرقٌب الذي ٌضحك وٌقول‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ٌ ...‬ا ْز ِم ّ‬
‫ك ‪ ...‬وقؾ قدام هالكلب الطوٌل‪.‬‬
‫ٌقؾ السجٌن القصٌر أمام السجٌن الطوٌل‪ٌ ،‬صرخ الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر ‪ٌ ...‬ا طوٌل ‪ ...‬هلق بدك تعوي وتعض هالكلب ٌللً قدامك وبدك تشٌل قطعة من كتفه ‪ ،‬وإذا‬
‫ما شلت هـ القطعة ‪ ...‬ألؾ كرباج‪.‬‬
‫ٌعوي الطوٌل ثبلث أو أربع مرات متواصلة‪ٌ ،‬تقدم من القصٌر وٌنحنً مطبقا بفكٌه على كتؾ القصٌر الذي‬
‫ٌصرخ ألم اًال وٌتملص من العضة‪.‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ٌ ...‬ا طوٌل‪ ...‬وٌن قطعة اللحم ؟ ٌا شرطة ‪ ...‬ناولوه‪.‬‬
‫ٌنهال رجال الشرطة بكرابٌجهم ضربا ًال على الطوٌل‪ٌ ،‬سقط على ركبتٌه‪ٌ ،‬تساوى بالطول مع القصٌر وهو‬
‫ث ‪ٌ ...‬ترنح ‪ٌ ...‬صرخ الرقٌب‪:‬‬
‫جا ٍ‬
‫‪ -‬بس ‪ " ...‬تتوقؾ الشرطة عن الضرب " ‪ ...‬وال حقٌر ‪ ...‬طوٌل ‪ ...‬قوم وقؾ‪.‬‬
‫ٌقؾ الطوٌل‪.‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر‪ ...‬قصٌر‪ ...‬وقؾ وراءه‪.‬‬
‫ٌرجع القصٌر إلى خلؾ الطوٌل‪.‬‬
‫‪ -‬وهلق ‪ ...‬انتوا االثنٌن اشلحوا تٌابكم‪.‬‬
‫ٌخلع االثنان ثٌابهما وٌبقٌان بالسراوٌل‪.‬‬
‫‪ -‬وال حقٌر قصٌر‪ ...‬نزل سرواله‪.‬‬
‫ٌنزل القصٌر سروال الطوٌل الى حد الركبتٌن‪.‬‬
‫‪ -‬ونزل سروالك كمان‪.‬‬
‫ٌنزل القصٌر سرواله أٌضا‪.‬‬
‫‪ -‬وهلق ‪ ...‬قرب نٌكه ‪ ...‬اعمل فٌه متل ما بتعملوا ببعضكم كل لٌلة ٌا مناٌك ‪ٌ ...‬ا هللا قرب نٌكه‪.‬‬
‫ٌتلكؤ القصٌر‪ ،‬تشتد إ لٌتا الطوٌل وتتشنج‪ٌ ،‬شٌر الرقٌب إلى أحد عناصر الشرطة‪ٌ ،‬قترب هذا وٌهوي بالكرباج‬
‫على ظهر القصٌر ‪ٌ ...‬لتصق القصٌر بالطوٌل من الخلؾ‪ٌ ،‬هتز الطوٌل‪ ،‬عضو القصٌر المتدلً بالكاد ٌصل‬
‫فوق ركبتً الطوٌل‪ٌ ،‬ضحك الرقٌب وباقً عناصر الشرطة‪.‬‬
‫الرتل ٌسٌر ‪ .‬الرإوس منكسة ‪ ،‬العٌون مؽمضة ‪ ،‬رؼم ذلك‪ ،‬الكل ٌرى‪ ،‬الكل ٌسمع ‪ ....‬وترتفع بٌادر الحقد‬
‫والذل‪.‬‬
‫ٌطلب الرقٌب تبدٌل المواقع‪ٌ ،‬صبح الطوٌل خلؾ القصٌر‪ ،‬عضوه المرتخً والمنكمش فً منصؾ ظهر‬
‫القصٌر‪ٌ ...‬ستمر الضحك ‪...‬‬
‫‪38‬‬
‫الرتل ٌسٌر‪ ،‬الرإوس منكسة‪ ،‬العٌون مؽمضة‪.‬‬

‫تنفس آخر‪ٌ ،‬وم آخر‪ ،‬رقٌب آخر‪ ،‬شرطة آخرون‪ ،‬بلدٌات آخرون‪ ،‬السجناء أنفسهم‪ ،‬زادوا قلٌبل‪ ،‬نقصوا قلٌبل‪.‬‬

‫ٌجلس الرقٌب على الكتلة االسمنتٌة ذاتها‪ٌ ،‬ضع رجبلًال على رجل‪ٌ ،‬صٌح وهو ٌنظر إلى الرتل الذي ٌسٌر‬
‫برإوس منكسة وعٌون مؽمضة‪:‬‬
‫‪ -‬جٌبوا لً هـ البؽل ‪ ...‬السمٌن‪.‬‬
‫ٌؤتون برجل أربعٌنً بدٌن‪ٌ ،‬عرؾ الرقٌب منه اسمه واسم مدٌنته‪ ،‬كم أمضى فً السجن ‪ ...‬وتفاصٌل أخرى‪،‬‬
‫ثم ٌسؤله‪:‬‬
‫‪ -‬أنت متزوج والّ أعزب؟‬
‫‪ -‬متزوج سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬أنت بتعرؾ شو عم تساوي زوجتك هلق ‪ ...‬وال ‪ ...‬أنا بقلك‪ ،‬أكٌد عم تشرمط‪ ،‬أنت صار لك ثبلث سنٌن‬
‫فً السجن ‪ ....‬وهً كل ٌوم مع واحد جدٌد‪.‬‬
‫السجٌن ساكت‪ ،‬منكس الرأس مؽمض العٌنٌن‪ٌ ،‬تابع الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬لٌش ساكت ؟! ‪ ...‬احكً ‪ ...‬وإال خجبلن تقول قدام الشباب انك متجوز واحدة شرموطة ؟!‪ ...‬شو‬
‫العرصات كمان بٌخجلوا؟!‬

‫تمضً األٌام‪ٌ ،‬تبدل الرقباء‪ ،‬لكن األسالٌب تبقى نفسها ‪ ...‬الزوجة الشرموطة‪ ،‬إذا لم ٌكن السجٌن متزوجا‬
‫تصبح ‪ ...‬األخت الشرموطة‪ ،‬أو حتى األم الشرموطة‪ ،‬البنت الشرموطة إذا كان للسجٌن بنات‪.‬‬
‫" كنت أتساءل ‪ :‬هل هً تسلٌة فقط أم أنها نهج ؟! ‪ ...‬الدافع للتركٌز على هذا الموضوع هل هو عقد الجنس‬
‫والكبت الشرقٌة لدى الرقباء ٌفرؼونها من خبلل السلطة التً ٌملكونها على السجناء؟! ‪ ...‬أم ه و نهج مدروس‬
‫الؽاٌة منه تحطٌم اإلنسان وإذالله من خبلل المرأة باعتبارها أعلى قٌم الشرؾ لدى المسلمٌن سواء كانت‬
‫أخت أو أم اًال أو أٌة قرٌبة أخرى ؟!‪ ...‬وشرؾ المرأة لدى الشرقٌٌن بالعام هو أن ال تمارس الجنس‬
‫زوجة أو اًال‬
‫خارج نطاق الزوجٌة‪ ،‬وأي سلوك لها فً هذا االتجاه قد ٌدمر العابلة بالكامل وٌلحق بها العار‪".‬‬
‫لم ٌكن ممكنا ًال معرفة أسماء الشرطة أو الرقباء‪ ،‬ولكن السجناء أطلقوا علٌهم أسماء من عندهم ‪ .‬وهذه األسماء‬
‫كانت تعتمد إما على عبلمة فارقة تمٌز هذا العنصر‪ ،‬من مثل‪ :‬األحول‪ ،‬أو "األربع شقؾ" وكان هذا الرقٌب‬
‫ٌهتز وٌتخلع فً مشٌته بحٌث ٌبدو إن قطع جسده تتحرك كل منها باتجاه ‪ .‬أو أن تستند التسمٌة على لباس ما‪،‬‬
‫مثل الرقٌب "أبو شحاطة" وهذا كان دابما ٌؤتً منتعبلًال الشحاطة‪ ،‬وعلى األؼلب تستند التسمٌة على عبارة‬
‫ٌرددها الرقٌب دابما ًال ‪ .‬فكان هناك الرقٌب "وال حقٌر"‪ ،‬والرقٌب "ابن الشرموطة"‪ ،‬والرقٌب "ٌا كرّ "‬
‫‪ ...‬إلى آخره‪.‬‬
‫ٌسؤل السجٌن صدٌقه العابد من العقوبة‪:‬‬
‫‪39‬‬
‫‪ -‬مٌن الٌوم فً الساحة؟‬
‫‪ -‬ابن الشرموطة‪.‬‬
‫ٌقصد الرقٌب الذي ٌظل ٌكرر عبارة‪ :‬ابن الشرموطة‪.‬‬
‫‪ 22‬شباط‬

‫فً الصباح الباكر وقبل إدخال الطعام‪ ،‬فتح الشرطة باب المهجع ودخلوا بطرٌقة وكؤن م ا بة ثور هابج قد دخل‬
‫هذا المكان‪ ،‬الصٌاح‪ ،‬الضرب بالكرابٌج‪ ،‬الشتم‪ ،‬وبٌن شتٌمة ولسعة كرباج ٌصرخون‪:‬‬
‫‪ -‬وجهك عـ الحٌط ‪ ..‬وجهك عـ الحٌط ‪..‬‬
‫أدري ما افعل‪..‬‬ ‫منذ دخول أول شرطً بهذه الطرٌقة قفز السجناء وأداروا وجههم إلى الحابط‪ ،‬وقفت ال‬
‫صحوت على الكرباج ٌهوي على خدي وٌلتؾ على رقبتً من الخلؾ والشرطً ٌصٌح‪:‬‬
‫‪ -‬وجهك عـ الحٌط !‬
‫أدرت وجهً‪ ،‬تخشبت وسٌخ األلم ٌمتد من وجهً إلى رقبتً‪ ،‬بعدما ما ٌقرب الخمس دقابق خٌم الصمت‪ ،‬ثم‬
‫صوت احد الشرطة ٌصٌح بصوت عال‪:‬‬
‫‪ -‬انتبــــه ‪ ..‬مكانك تهٌؤ‪.‬‬
‫خبط جمٌع عناصر الشرطة أقدامهم باألرض‪ ،‬وقدم الصؾ بصوت اعلى‪:‬‬
‫‪ -‬المهجع جاهز سٌدي المقدم‪.‬‬
‫انه مدٌر السجن‪ .‬أخد ٌتمشى من أول المهجع إلى آخره بٌن صفٌن من عناصر الشرطة الواقفٌن وقفة استعداد‬
‫عسكرٌة‪.‬‬
‫‪ .‬رأٌته‪،‬‬ ‫ركبنً الفضول وبسلوك عفوي أكثر من أن ٌكون مقصوداًال‪ ،‬نظرت بزاوٌة عٌنً خلسة إلى المقدم‬
‫شاب ثبلثٌنً أشقر الشعر‪ ،‬مشٌته فٌها الكثٌر من التوتر‪ ،‬وكذلك كبلمه‪ٌ ،‬تكلم وكؤنه ٌحادث نفسه بعبارات لم‬
‫أستطع فهمها أو الربط بٌنها‪:‬‬
‫‪ -‬أنا‪ ..‬أنا أتهدد!! ‪ ..‬سؤحولها إلى جهنم ‪ ...‬شعرة واحدة ٌروح ألؾ مجرم مقابلها ‪..‬‬
‫ثم صاح بصوت شدٌد االحتقان‪:‬‬
‫‪ -‬وال كبلب‪ ..‬مجرمٌن‪ ..‬انتو لسا ما بتعرفونً منٌح ‪ ..‬وهللا الدبحكن دبح الؽنم‪.‬‬
‫بعدها صاح بمجموعة من الشرطة واقفة بٌنه وبٌن السجناء‪:‬‬
‫‪ -‬زٌحوا هٌك وال‪..‬‬
‫صوت طلقات مسدس متتابعة‪ ،‬انكمشت على نفسً لدى سماعها وخبؤت رأسً أمام صدري‪ ،‬وبسرعة فابقة‬
‫خرج المقدم ٌسحب وراءه رتبلًال من عناصر الشرطة وأؼلق الباب‪.‬‬
‫‪ .‬ركض األطباء‬ ‫أربعة عشر قتٌبلًال بؤربع عشرة طلقة هً كل ماٌحوٌها مخزن مسدس المقدم على ما ٌبدو‬
‫وبٌنهم زاهً إلى زاوٌة المهجع حٌث القتلى‪ ،‬فحصوهم جمٌعاًال‪ ،‬الكل ماتوا فوراًال‪ ،‬ومكان دخول الرصاصة‬
‫واحد لدى الجمٌع فً الرأس من الخلؾ‪ ،‬سحبوهم إلى وسط المهجع‪ ،‬تجمعت بركة من الدماء الطازجة وجلس‬
‫‪40‬‬
‫البعض حولها ٌبكون‪ ،‬األؼلبٌة جامدة مذهولة‪ ،‬األطباء فً حالة حٌرة الٌعرفون ما ٌفعلون‪ ،‬وق ؾ واحد من‬
‫فرقة الفدابٌٌن‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬الحول والقوة اال باهلل ‪ ...‬ا ّنا هلل وإ ّنا الٌه راجعون‪ ،‬علٌهم رحمة هللا‪ ،‬هم السابقون ونحن البلحقون‪ ،‬اللهم‬
‫اسكنهم فسٌح جنانك‪ ،‬اللهم هإالء شهداء فً سبٌل إعبلء كلمتك‪ ،‬كلمة الحق‪ ،‬فارحمهم أنت الرحٌم الؽفور‪.‬‬
‫سكت قلٌبلًال ‪ ..‬ثم أردؾ موجها ًال حدٌثه للجمٌع‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اهلل ٌا إخوان ‪ ..‬خلٌنا نقوم بواجبنا‪.‬‬
‫انتظروا حتى توقؾ نزٌؾ الجثث‪ ،‬نقلوها ووضعوها قرب الباب أمامً وأمام ربٌس المهجع‪ ،‬بٌن القتلى الشٌخ‬
‫محمود الذي أنقذ حٌاتً‪ ،‬صلٌت علٌه سراًال‪ ،‬حزنت على الجمٌع فوجوههم أصبحت مؤلوفة لً‪ ،‬وكان حزنً‬
‫كبٌراًال على الشٌخ محمود‪.‬‬
‫نظفوا األرض من الدماء‪ ،‬كل البطانٌات الملوثة بالدماء نظفوها‪ ،‬دار نقاش بٌن مجموعتٌن عند ربٌس المهجع‪،‬‬
‫مجموعة تقول إ نه ٌجب ان نؤخذ جمٌع مبلبسهم‪ ،‬ألن الحً أفضل من المٌت‪ ،‬وجماعة تعارض ذلك وترى أن‬
‫هذا معٌب‪ .‬أخٌرا انتصر الرأي القابل بؤن األحٌاء الباقين بحاجة إلى المبلبس‪ ،‬وتكفلت مجموعة خلع المبلبس‬
‫وتنظٌفها‪ ،‬خرجت الجثث لٌبلًال من المهجع وهً عارٌة ال تلبس إال السروال الداخلً فقط‪.‬‬
‫" بعد ثبلث سنوات سٌروي احد القادمٌن الجدد أن السبب فً هذه المجزرة هوان التنظٌم المسلح قد أرسل‬
‫تهدٌداًال بالقتل للمقدم إذا لم ٌحسن من معاملة السجناء اإلسبلمٌٌن‪ ،‬وجد المقدم هذا التهدٌد تحت ماسحة زجاج‬
‫سٌارته وهو ذاهب إلى الدوام صباحا ًال ‪ ،‬فقام بقتل هإالء وسرب الخبر لٌسمع به التنظٌم مصحوبا ًال بتهدٌد‬
‫معاكس‪:‬‬
‫‪ -‬مقابل ورقة مكتوبة قتلت أربعة عشر واحداًال! إذا مست شعرة من رأسً أو رأس شخص ٌخصنً سٌكون‬
‫المقابل م ا بة‪ ،‬إذا حصل أذى أو مات احد من أقربابً فإننً لن أبقً على أحد اًال‬
‫حً!!‪".‬‬
‫ولم ٌرد بعدها أي تهدٌد‪.‬‬

‫مهجعنا قرٌب من الباب الخلفً من السجن‪ ،‬من هذا الباب ٌؤتً الطعام‪ ،‬تصؾ الشاحنة الروسٌة خلفا ًال وٌقوم‬
‫البلدٌات بإنزال قدور الطعام الكبٌرة‪ ،‬ومن هذا الباب وفً نفس السٌارة تنقل الجثث ٌومٌا ًال بعٌد منتصؾ اللٌل‪،‬‬
‫من خبلل سماعنا الرتطام الجثث فً أرضٌة السٌارة كنا نعرؾ عدد الذٌن ماتوا فً هذا الٌوم‪ ،‬وفً ٌوم زٌارة‬
‫المقدم أحصى الساهرون ثبلثة وعشر ين خبطة جثة‪ ،‬وعن طرٌق مجموعة المورس ذهابا ًال وإٌابا تم معرفة‬
‫الجمٌع وحفظت هذه المعلومات فً األذهان‪.‬‬
‫‪ 24‬آذار‬
‫نسٌر‪..‬ندور‪.‬‬
‫أمشً فً الرتل الدابر حول الساحة‪ ،‬منكس الرأس‪ ،‬مؽمض العٌنٌن‪ ،‬ممسكا ًال مطاط بٌجاما من ٌتقدمنً‪ٌ ،‬جرنً‬
‫خلفه‪ .‬الرجل الذي خلفً ٌمسك مطاط بٌجامتً وٌشدنً إلى الخلؾ‪ ،‬نسٌر‪..‬ندور‪ .‬أتساءل أحٌانا ًال‪:‬‬
‫أي كابن أنا؟! هل أنا إنسان؟! حٌوان؟! شًء؟!‪.‬‬
‫‪41‬‬
‫كان لً صدٌق من بلدي ٌدرس فً فرنسا‪ٌ ،‬صله من أهله بداٌة كل شهر مبلػ من المال ٌكفٌه حتى كفاٌة‬
‫الشهر‪ .‬هذا الصدٌق بدالًال من أن ٌبرمج مصروفه وٌقسمه على ثبلثٌن ٌوما ًال كان ٌدعونً إلى سهرة واحدة فخم‬
‫أو مطعم مشهور‪.‬‬
‫هذه السهرة كانت تكلفه حوالً نصؾ مصروفه‪ ،‬لذلك كان فً األٌام العشرة األخٌرة من الشهر ٌستدٌن منً‬
‫ومن األصدقاء حتى ٌؤكل‪.‬سؤلته مر ًالة‪:‬‬
‫‪ -‬لماذا تصرؾ كل هذه النقود على سهرة واحدة والٌبقى معك فً الثلث األخٌر من الشهر فلس واحد؟‬
‫أجاب‪:‬‬
‫‪ -‬إننً فً هذه السهرة التً أقٌمها مرة فً الشهر أشعر أننً إنسان! إن هإالء الذٌن ٌعملون فً هكذا فنادق أو‬
‫مطاعم مدربون جٌداًال كً ٌشعروك بؤنك إنسان " كبلمهم‪..‬طرٌقة خدمتهم لك‪..‬هٌبتهم" كل هذه األشٌاء تجعلك‬
‫تحس بؤنك إنسان محترم‪ ،‬أنا ٌاصدٌقً فً جوع حقٌقً كً أشعر ٌحترمنً اآلخرون‪ ،‬الٌهم أن أجوع بضعة‬
‫أٌام كل شهر‪ ،‬لكن الشعور بؤننً إنسان ٌكفٌنً لمدة شهر‪.‬‬
‫لقد راقبت هذا الصدٌق فً كل المرات التً دعانً فٌها إلى السهرة عند استبلمه النقود المرسلة من أهله‪ ،‬وفً‬
‫كل مرة كنت أشاهد إنسانا ًال معتزاًال بنفسه‪ ،‬واثقاًال‪ٌ ،‬مشً إلى جانبً فً خٌبلء‪.‬‬
‫راقبته كذلك فً المرات الثبلث التً كان مجبراًال فٌها على مراجعة سفارتنا فً بارٌس‪ ،‬وفً كل مرة كان‬
‫ٌستعطفنً وٌرجونً بحرارة أن أرافقه‪ ،‬رؼم أنه كان ٌحاول تؤجٌل الذهاب بؤعذار وحجج واهٌة حتى اللحظة‬
‫األخٌرة‪.‬‬
‫ٌصل السفارة وقد تؽٌر‪ٌ ،‬دخل متردداًال‪ٌ ،‬لقً نظرة خاطفة إلى الوراء (عله ٌرٌد التؤكد من وجودي)‪ ،‬أقرأ فً‬
‫نظرته هذه معانً الخوؾ والقلق‪ ..‬وطلب الؽوث‪.‬‬
‫ٌخرج مكفهراًال‪..‬صامتا ًال‪ ..‬مسرعا ًال‪ٌ..‬شٌر لً بٌده أن أمشً بسرعة‪ ،‬أمشً إلى جانبه صامتا ًال‪.‬‬
‫فً المرة األولى والثانً اكتفى بؤن ٌبصق بصوت مدوّ حالما ابتعدنا عن السفارة‪.‬‬
‫فً المرة الثالثة‪ ،‬تكلم‪:‬‬
‫‪-‬الكبلب‪ٌ ..‬رٌدون أن ٌجعلوا منً جاسوسا ًال!‪ ..‬جاسوسا ًال! وعلى من؟! ٌرٌدون منً أن أتجسس على ٌوسؾ!!‬
‫هددونً باالعتقال والترحٌل‪ ..‬قالوا إن لدٌهم خمس زنازٌن فً مبنى السفارة‪ ،‬كبلب‪..‬تفو‪..‬تفو!‪.‬‬

‫نسٌر‪..‬ندور حول الساحة‪.‬‬


‫إؼماض العٌنٌن ٌجعل مبات الصور تتقافز فً الذهن‪.‬‬
‫فً بداٌات حٌاتً أولعت بالمطالعة كثٌراًال‪ ،‬صار اسمً فً البٌت "فؤر الكتب"‪ .‬التهمت كل ماوقع تحت ٌدي من‬
‫قصص ورواٌات‪ ،‬كنت وقتها عندما أؼمض عٌنًّ أحس أن هناك آالؾ األحرؾ والكلمات تتقافز فً الذهن‪..‬‬
‫تتصادم‪ ..‬ترتطم بجدران الرأس‪ ..‬تقع أرضا ًال لٌقفز ؼٌرها‪ .‬أجلس ملتفا ًال برطوبة قبو منزلنا الظلٌل‪ -‬والذي كنت‬
‫‪42‬‬
‫قد نظفته ورتبتع وجعلت منه مكانً المفضل بعٌداًال عن األهل وضجٌجهم‪ -‬تعبا ًال من القراءة‪ ،‬مؽمض العٌنٌن‪،‬‬
‫أمارس لعبة األحرؾ والكلمات المتقافزة "ٌحرقنً الحنٌن إلىجلسة صؽٌرة فً ذلك الركن"‪.‬‬
‫فً المراهقة والشباب األول‪ ،‬أصبت بلوثة السٌنما‪ ،‬أخرج من صالة ألدخل أخرى‪ ،‬كنت أشاهد أحٌانا ًال ثبلثة‬
‫أفبلم فً ٌوم واحد‪ ،‬أصبح اسمً "فؤر السٌنما"‪ ،‬عرفت كل صاالت العاصمة جٌداًال‪ ،‬كنت أحفظ عن ظهر قلب‬
‫برامج الصاالت لؤلسابٌع المقبلة‪.‬‬
‫نسٌر‪..‬ندور‪ ..‬تحت لسع الكرابٌج‪ ،‬منكسً الرإوس‪ ،‬عٌوننا مؽمضة‪ٌ ،‬مسك أحدنا ذٌل اآلخر‪ ..‬وندور‪.‬‬
‫فؤر كتب‪ ،‬فؤر سٌنما‪ ،‬اآلن‪ ..‬أحس أننً بؽل‪.‬‬
‫فً الكثٌر من األرٌاؾ وقبل انتشار محركات ضخ المٌاه من اآلبار‪ ،‬كانم انتشال المٌاه من هذه اآلبار بواسطة‬
‫قوة محركة هً البؽال (فً بعض الببلد ٌسمونها "الدوالب" وٌسمونها فً أخرى "الؽرّ اؾ")‪ٌ .‬ربطون البؽل إلى‬
‫عمودٍ‪ٌ ،‬ؽطون عٌنٌه " لآلن لم أعرؾ لماذا ٌؽطون عٌنًّ البؽل" وٌظل ٌدور‪ٌ..‬سٌر‪ ..‬وٌدور حول الببر من‬
‫الصباح إلى المساء‪ ،‬هذا الدوران العبثً بالنسبة للبؽل!‪ ..‬ونظل ندور!‪.‬‬
‫فٌلم ؼربً ٌصور حٌاة راهبة فً الخامسة والعشرٌن من عمرها‪ ،‬كان أهلها قد نذروها لحٌاة الرهبنة‪ .‬فتاة ذات‬
‫نفس نقٌة‪ ،‬قانعة بحٌاة الرهبنة ومستمتعة بها‪ ،‬طاهرة كالثلج‪ ،‬تعٌش فً دٌر ٌقع فً جزٌرة نابٌة‪ .‬تدور أحداث‬
‫الفٌلم وٌهاجم القراصنة هذه الجزٌرة‪ ،‬هذه الراهبة البتول تقع بٌن أٌدي قرصان مجرم فاسق‪ٌ ،‬لقٌها أرضا ًال‬
‫وٌؽتصبها‪.‬‬
‫مشهد‪ٌ :‬قؾ القرصان بجسده الضخم وٌبتعد مهمهما ًال‪ ..‬لراهبة ملقاة أرضا ًال‪..‬مكشوفة الساقٌن‪ -..‬تقترب الكامٌرا‪-‬‬
‫خٌوط من دم العذرٌة تسٌل على الفخذٌن‪ ..‬هً ؼاببة عن الوعً‪.‬‬

‫ًال‬
‫ركلة‪..‬أو كرباجاًال‪ ،‬رؼم ذلك‬ ‫ًال‬
‫صفعة أو‬ ‫نسٌر‪..‬وندور حول الساحة‪ ،‬مشدودي األعصاب‪ ،‬نتوقع فً كل لحظة‬

‫ننسى أحٌاناًال‪ ،‬تؤخذنا األفكار فً جمٌع االتجاهات‪ ،‬نحلم بٌوم النسمع فٌه كلمة "تنفس"‪ٍ ،‬‬
‫ٌوم النسٌر والندور فٌه‪،‬‬
‫تحضر الذكرٌات‪ ..‬تتؽلب على كل الشد العصبً وتحضر‪ ،‬تداعبنً وجوه األهل واألصدقاء‪ ،‬المرأة بشكل‬
‫خاص‪ ،‬أمً‪ ..‬أختً‪ ..‬سوزان‪ ،‬تحضر كل نساء"ي"‪ ،‬وأحٌانا ًال قد ترسم ذكرى ما ظ َّل ابتسامة على شفاهً‪.‬‬

‫نسٌر‪..‬ندور‪.‬‬

‫فً اللؽة العربٌة "االستنثار"‪ :‬هو إخراج المخاط عن طرٌق فوهات األنؾ الخارجٌة‪ ،‬أما " ّ‬
‫التنخم" فهو استحبلب‬
‫المخاط إلى داخل الفم‪.‬‬
‫فٌما نحن نسٌر‪..‬ندور‪ ،‬امتدت ٌد ؼلٌظة‪ ،‬أمسكتنً من ساعدي وجرتنً خارج الرتل‪ ،‬أؼلقت عٌنًّ جٌداًال ونكست‬
‫رأسً حتى التصق بصدري‪ .‬بقً ممسكا ًال بساعدي‪ ،‬الٌد األخرى أمسكت فكً السفلً ورفعت رأسً إلى األعلى‬
‫بعنؾ‪ ،‬ف ّح صوته ممزوجا ًال بحقد رهٌب‪:‬‬
‫‪ -‬ارفع رأسك‪ ..‬وال كلب‪ ،‬افتح تمك‪..‬لشوؾ‪.‬‬
‫‪43‬‬
‫فتحت فمً‪ ،‬طلب منً أن أفتحه أكثر‪ ،‬ففتحته‪ّ .‬‬
‫تنخم بقوة‪ ،‬تنخم ثبلث مرات‪ ،‬ودون أن أستطٌع رإٌته أحسست‬
‫أن فمه قد امتبلًال بالمخاط المستحلب‪ ..‬شعرت برأسه ٌقترب منً و‪..‬بصق كل ماٌحتوٌه فمه إلى‪ ..‬داخل فمً‪.‬‬
‫برد فعل ؼرٌزي حاول فمً التخلص من محتوٌاته‪ ،‬تملكتنً حاجة الإرادٌة باإلقٌاء‪ ،‬لكنه كان أسرع منً‬
‫وأسرع من فمً‪ ،‬أؼلق فمً بٌد وامتدت ٌده األخرى بسرعة البرق إلى جهازي التناسلً‪ ،‬أمسك خصٌتًّ‬
‫وضؽط علٌهما بشدة‪ ..‬مودة األلم الهابلة التً صعدت من خصٌتًّ إلى األعلى كادت أن تفقدنً الوعً‪ ،‬انقطع‬
‫تنفسً لثانٌتٌن أو ثبلث‪ ،‬كانت كافٌة ألن أبتلع مخاطه وبصاقه كً أتنفس‪ ،‬ظل ٌضؽط خصٌتًّ حتى تؤكد أننً‬
‫قد ابتلعت كل شًء‪.‬‬
‫تابعت السٌر‪ ..‬تابعت الدوران‪ ،‬مؽمض العٌنٌن‪ ،‬منكس الرأس‪.‬‬
‫ألم الخصٌتٌن المهروستٌن ٌخفت شٌبا ًال فشٌباًال‪ ،‬اإلحساس بؤننً قد امتبلت بالقذارة ٌتصاعد شٌبا ًال فشٌبا ًال‪.‬‬
‫تفٌق الراهبة من ؼٌبوبتها ٌملإها اإلحساس بقذارة جوفها‪ ..‬تنتهً إلى الجنون‪ ..‬كانت تزداد إحساسا ًال بالقذارة‬
‫كلما اؼتسلت‪.‬‬
‫ًال‬
‫هابلة من المٌاه ولكن اإلحساس بؤن‬ ‫ت‬
‫عدنا إلى المهجع‪ ،‬حاولت اإلقٌاء بشتى السبل‪ ،‬لم أنجح‪ ،‬شربت كمٌا ٍ‬
‫جوفً ممتلا بالقذارة ٌزداد‪.‬‬
‫ًال‬
‫هابلة من الماء والعرق والنبٌذ والوٌسكً‪ ،‬شتى المشروبات الباردة‬ ‫ت‬
‫"سؤخرج من السجن وأشرب كمٌا ٍ‬
‫والساخنة‪ ،‬لكن لن أستطٌع التخلص من اإلحساس بؤن مخاط ذلك الشرطً ملتصق بمعدتً‪ ..‬ببلعومً‪ ..‬وهو‬
‫ٌؤبى الخروج"‪.‬‬
‫‪ 30‬آذار‬
‫صح ما توقعه الدكتور زاهً ‪.‬‬
‫حوالً سنتٌن مضتا على وجودي هنا ‪ .‬معزول ومجبور على الجلوس فً مكانً ال أؼادره إال إلى التنفس أو‬
‫المرحاض‪ ،‬ال أستطٌع النظر إلى أي واحد بشكل مباشر رؼم أننً ال أعتقد أن الجمٌع راؼب بقتلً "أو كان‬
‫أن الجمٌع ٌقاطعنً وال‬ ‫راؼبا ًال"‪ ،‬ولكننً ال أستطٌع أن أمٌز بٌن من ٌرؼب أو ال ٌرؼب‪ ،‬والمهم فً هذا‬
‫ٌرؼب بوجودي بٌنهم هنا‪ " ،‬وأنا أٌضا ال أرؼب بوجودي هنا "‪ ،‬طوال هذه الفترة كنت أتوق إلى من أحادثه ‪،‬‬
‫أن أجرب قدرتً على الكبلم من جدٌد‪ ،‬لكن قوة الكراهٌة كانت تلصقنً بالبطانٌة وتلصق البطانٌة باألرض‪.‬‬
‫اآلن بعد أن صحت توقعات الدكتور زاهً أصبحت اجلس فً مكانً بإرادتً‪ ،‬ال أرٌد االحتكاك بؤحد‪ ،‬ال أرٌد‬
‫محادثة احد‪.‬‬
‫إنه التهاب السحاٌا‪ .‬وتحول األمر إلى وباء بسرعة مذهلة ‪ ،‬بدأ األمر منذ شهر تقرٌباًال‪ ،‬أوالًال شخص واحد‪ ،‬ثم‬
‫آخر ‪ ..‬ثم آخر‪ ،‬اجتمع األطباء السجناء‪ ،‬تدارسوا األمر‪ ،‬وعندما وصلوا إلى قرار موحد كان العدد قد جاوز‬
‫عشرة مصابٌن ‪ .‬االتصال الداخلً بٌن المهاجع "المورس" اخبر واستفهم‪ ،‬تبٌن ان الحالة عامة فً كل‬
‫المهاجع‪.‬‬
‫عندما وصل عدد المصابٌن إلى عشرٌن "مات منهم اثنان وفقد البصر اثنان وال ٌزال الباقون ٌتؤرجحون"‪،‬‬
‫طلب األطباء أن ٌجري نقاش عام فً المهجع‪ ،‬تكلموا وشرحوا األمر بدقة وواقعٌة‪ ،‬ثم طلبوا من ربٌس‬
‫‪44‬‬
‫المهجع أن ٌدق الباب وٌطلب المساعد وٌضعه فً صورة األمر‪ ،‬رفض ربٌس المهجع هذا الطلب وقال إن‬
‫ؾن كل الناس فً هذا المهجع‪،‬‬
‫هذا مستحٌل‪ ،‬رد علٌه احد األطباء بؤنه خبلل أٌام قلٌلة وإذا لم ٌتوافر الدواء إ‬
‫اًال‬ ‫وعلى األؼلب فً السجن كله سٌصابون ‪ .‬واإلصابة فً ظل هذه األوضاع الصحٌة وانعدام الدواء انعدام‬
‫كلٌا ًال ُ ‪ٌ ،‬عنً حتما ًال إما الموت أو ما ٌشبه الموت‪ ،‬وطالما أننا سنموت فً كل األحوال فلنطلب المساعد ونضعه‬
‫فً صورة األمر ولو كانت نسبة األمل واحداًال على ملٌون‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا دكتور ‪ٌ ..‬ا دكتور عندك شك إنه هدول ٌرٌدون موتنا؟ وأنت تتوقع من ٌللً ٌرٌد قتلك انه ٌعالجك؟‬
‫إنه هدول عنده م ذرة‬ ‫نحن هون من سنوات ‪ ..‬شفت شً طبٌب عالج مرٌض بهالسجن؟ أنت تتصور‬
‫ن ٌخافوا هللا؟ خلٌنا نموت تحت رحمة هللا ‪ ..‬وال نطلب الرحمة من‬
‫واحدة من الرحمة أو اإلنسانٌة؟ أو ا إ ه‬
‫هدول الوحوش‪ ،‬والموت حق على كل مسلم ومسلمة‪ ،‬والموت بهذا الظرؾ رحمة من هللا‪.‬‬
‫كنت اسمع كل النقاش هلعا ًال‪" .‬ربٌس المهجع من أكثر الرجال الذٌن شاهدتهم فً حٌاتً قوة شخصٌة‪ ،‬وهو‬
‫ضابط فً الجٌش‪ ،‬قوي‪ ،‬صارم‪ ،‬رزٌن"‪.‬‬
‫لم ٌستسلم األطباء‪ ،‬توجه احدهم إلى ربٌس المهجع قاببلًال‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬الموت حق‪ ،‬كلنا راح نموت بؤجلنا‪ ،‬لكن الدٌن ٌؤمرنا بؤال نرمً بؤنفسنا إلى التهلكة‪ ،‬وطلبك‬
‫المساعد قد ٌساعد على إنقاذ الكثٌر من أرواح المسلمٌن وهذا واجب علٌك وعلٌنا‪.‬‬
‫وفً عبارة القصد منها اإلحراج أردؾ الطبٌب‪:‬‬
‫‪ -‬إذا كنت أنت ال تستطٌع أن تطلب المساعد‪ ،‬اترك واحداًال منا ٌطلبه بدالًال عنك‪.‬‬
‫انتفض ربٌس المهجع ‪" ،‬واضح انه اس ُتفز"‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬طٌب ٌا جماعة أعطونً مهلة ساعتٌن حتى أفكر بشً طرٌقة‪.‬‬
‫انفض االجتماع‪ ،‬وأعطى األطباء مجموعة من النصابح الطبٌة للجمٌع ‪ .‬سارعت أنا إلى سترة بذلتً فنزع ت‬
‫أحد جٌوبها الداخلٌة‪ ،‬نسلت خٌطا ًال من البطانٌة‪ ،‬صنعت كمامة وضعتها على فمً وانفً‪ ،‬نظر الجمٌع إلًّ‬
‫باحتقار‪ ،‬ولكن خبلل ٌومٌن كان لدى الجمٌع كمامات‪.‬‬
‫بعد حوالً ربع الساعة وقؾ ربٌس المهجع بحركة مفاجبة‪ ،‬نظرت إلٌه‪ ،‬كانت عٌناه محتقنتين باللون األحمر‪،‬‬
‫واضح انه أدرك حجم اإلهانة التً وجهها إلٌه الطبٌب ‪ ،‬وقؾ أمام الباب بعزم ‪ ،‬وبجماع ٌده طرق ه طرقات‬
‫قوٌة‪.‬‬
‫سؤل صوت الرقٌب المناوب من الساحة‪:‬‬
‫‪ -‬شو بدك وال حقٌر؟‬
‫‪ -‬بدي المساعد ‪ ..‬األمر ضروري جداًال‪.‬‬
‫‪ -‬شو ‪ !..‬شو‪ !..‬شو‪ !..‬المساعد دفعة وحدة ؟! وال حقٌر‪ ..‬شو بدك من المساعد؟ ‪.‬‬
‫اؼتاظ ربٌس المهجع ‪ ،‬وبدأ ٌتمتم‪:‬‬
‫‪ -‬العمى ‪ ..‬شو أنا عم اطلب ربٌس الجمهورٌة ؟!‪ ..‬هوي شقفة مساعد ال راح وال أجا ‪ ..‬هللا ٌلعن هـ الزمان‬
‫‪.‬‬
‫‪45‬‬
‫بعدها صاح بصوت عال ‪:‬‬
‫‪ -‬األمر خطٌر جداًال ‪ ..‬جداًال ‪ ،‬والزم ٌجً المساعد هلق ‪ ،‬لمصلحتكم مولمصلحتنا ‪.‬‬
‫بعد ربع ساعة فتح الباب وطلب المساعد إخراج الجحش ربٌس المهجع ‪ ،‬شرح له ربٌس المهجع أبعاد‬
‫المرض كما سمعها من األطباء ‪ ،‬وختم حدٌثه بقوله ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ..‬العدوى بهادا المرض شدٌدة جداًال ‪ ،‬ممكن الشرطة ٌنعدوا من المساجٌن ‪ ،‬ممكن – السمح هللا‬
‫– سٌادتكم تنعدوا ‪ ،‬نحن واجبنا نخبركن ‪ ،‬وإذا حبٌتوا تسمعوا أكثر بنادي الدكتور سمٌر ‪.‬‬
‫أن العدوى ممكن أن تنتقل إلى‬ ‫نادوا الدكتور سمٌر وشرح للمساعد بالتفصٌل مإٌداًال كبلم ربٌس المهجع‬
‫الشرطة ‪.‬‬
‫أؼلقوا الباب بعد إدخال الدكتور سمٌر وربٌس المهجع دون عقوبة! وبعد ربع ساعة أعادوا فتحه‪ ،‬وقؾ‬
‫المساعد وجمٌع الشرطة خارج المهجع ودخل ضابط برتبة مبلزم ثان‪ ،‬طبٌب السجن العسكري‪ ،‬عرفنا وقتها‬
‫أن فً السجن طبٌبا َ!!‪.‬‬
‫وقؾ عند الباب إلى جانبً‪ ،‬طلب من الجمٌع الجلوس فً أماكنهم وفتح عٌونهم‪ " ،‬لم نعتد هكذا لهجة !" بعدها‬
‫طلب من جمٌع األطباء الوقوؾ ‪ ،‬بانت دهشة حاول إخفا َءها عندما رأى عدد األطباء ‪ ،‬سؤلهم عن أسباب‬
‫تشخٌصهم فعددوا له األسباب‪ ،‬دخل إلى زاوٌة المرضى وألقى علٌهم نظرة سرٌعة‪ ،‬ثم قفل راجعا ًال إلى الباب‪،‬‬
‫توقؾ والتفت‪ ،‬أشار إلى اثنٌن من األطباء الشباب طالبا ًال منهم المجا إلٌه‪ ،‬وعندما جاإوا سؤلهما دون أن‬
‫ٌستدٌر‪:‬‬
‫‪ -‬عرفتونً؟‬
‫‪ -‬نعم‪.‬‬
‫‪ -‬هم م م‪..‬‬
‫خرج الطبٌب وأؼلق الشرطة الباب‪ ،‬اقترب بضعة أشخاص من الطبٌبٌن‪ ،‬قال أحدهما‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الطبٌب زمٌل دراستنا وتخرجنا مع بعضنا‪ ،‬هو من الساحل من طابفة الربٌس وعشٌرته‪ ،‬بعد التخرج‬
‫ما عاد شفناه‪ ،‬راح على ضٌعته‪.‬‬
‫بعد أ قل من أربع وعشرٌن ساعة عاد الطبٌب مرة أخرى‪ ،‬معه المساعد والشرطة والبلدٌات‪ ،‬نادى الدكتور‬
‫سمٌر قال له‪:‬‬
‫‪ -‬أنت بدك تعالج كل المرضى فً السجن هادا هو الدواء البلزم‪ ،‬فً عندنا كمٌات كبٌرة منه‪ ،‬راح ٌكون‬
‫معك رقٌب وعناصر من الشرطة‪ ،‬الزم ٌشوفوا كل حبة دواء تستهلك‪ ،‬كل "سٌرنػ" تستخدمه الزم تسلم ه‬
‫للشرطة‪ ،‬كل علبة كرتون ‪ ..‬أنت مستعد؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم مستعد‪.‬‬
‫وبدأ الدكتور سمٌر جوالته على المهاجع‪ ،‬الشرطة ترافقه‪ ،‬البلدٌات ٌحملون علب الدواء‪ ،‬كرتونة كبٌرة لكل ما‬
‫هو مستهلك‪ٌ ،‬خرج صباحا ًال لٌعود مسا ًالء تعبا ًال منهكاًال‪ ،‬ورؼم ذلك استمر المصابون باالزدٌاد‪ ،‬لكن حاالت الموت‬
‫انحسرت وتضاءلت اليوم انضم إلى المصابٌن بالمرض أول طبٌب‪ ،‬الدكتور زاهً ‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫‪ 1‬أيار‬
‫مات زاهً ‪.‬‬
‫لٌس ألننً أدٌن بحٌاتً له مرتٌن‪ ،‬مرة لعناٌته الطبٌة بً عندما كنت مشرفا ًال على الموت بعد االستقبال‪ ،‬ومرة‬
‫عندما أوعز للشٌخ محمود بانتشالً من بٌن أٌدي المتشددٌن‪.‬‬
‫لكن ألننً أحببت هذا الرجل الذي لم ٌفقد ابتسامته فً أحلك الظروؾ‪ ،‬لهجته لهجة المنطقة الشرقٌة المحببة‪،‬‬
‫تراه موجوداًال فً كل مكان ٌمكن فٌه أن ٌقدم فٌه ٌد المساعدة‪ ،‬سع َة أفق وسع َة ثقافة نادرتٌن فً هذا المكان‪،‬‬
‫كنت أحس أ نه موجود فً الموقع الخطؤ حٌث ٌسود التعصب والتشدد وضٌق األفق والضحالة الثقافٌة‪.‬‬
‫حزن أنسانً حذري المضاعؾ‪ ،‬أخرجنً من قوقعتً فور‬
‫ٍ‬ ‫شعرت بحزن عمٌق لم أشعر به طوال حٌاتً‪،‬‬
‫سماع الخبر‪ ،‬نسٌت حذري منهم وحذري من المرض‪.‬‬
‫ٌده إلى جبٌنً وأجهشت بالبكاء بصوت‬ ‫مشٌت كالمسرنم إلى حٌث ٌرقد زاهً‪ ،‬ركعت إلى جانبه ورفعت‬
‫عال‪ ،‬بكٌت بكا ًالء مرٌراًال‪ ،‬هل تفجر حزنً على زاهً هكذا؟ أم هو تفجر بسٌط للقهر المتراكم منذ عودتً‬
‫إلى بلدي؟!‪.‬‬
‫بموته أحسست أننً قد فقدت آخر سند لً هناك‪ ،‬أصبحت عارٌاًال‪ ،‬زاهً هو الوحٌد الذي أستطٌع النظر إلى‬
‫خفًّ بٌنً وبٌنه‪ ،‬وطالما قرأت فً‬ ‫ًال‬
‫خفٌة‪ ،‬كنت اشعر أن هناك تفاهم اًال اًال‬ ‫عٌنه مباشرة‪ ،‬وؼالبا ًال كنا نختلس النظرات‬
‫عٌنه أنه لن ٌتخلى عنً‪.‬‬
‫زاهً ‪ ..‬كان إنسانا ًال ‪ ..‬إنسانا ًال كبٌراًال‪.‬‬
‫بكٌت وبكٌت‪.‬‬
‫لكزنً أحدهم بقدمه‪ ،‬رفعت رأسً ومن خبلل الدموع رأٌت "أحدهم"‪ ،‬صر على أسنانه وقال‪:‬‬
‫‪ -‬قوم والك ‪ ..‬ال تنجس الشهداء‪.‬‬
‫قمت‪ ،‬رجعت إلى مكانً‪ ،‬دخلت قوقعتً‪ ،‬مسحت دموعً من الخارج‪ ،‬تركتها تسٌل إلى الداخل‪.‬‬
‫‪ 3‬أيار ‪.‬‬
‫ٌجب أن ال أجن‪ .‬كان هذا قراري منذ البداٌة‪ ،‬رؼم ذلك كنت أحس أحٌانا أننً على حافة الجنون‪ ،‬عندها كنت‬
‫أؼنً‪ ..‬لكن بصمت‪ ،‬أؼنً بذهنً ودابما ًال أؼان فرنسٌة‪ ،‬لم أؼن أٌة أؼنٌة عربٌة‪.‬‬
‫أجلس طوال الٌوم فً مكان واحد‪ ،‬أؼادره باتجاه المؽاسل‬ ‫ال أفتح فمً مطلقاًال‪ ،‬ال أتلفظ بؤي حرؾ‪،‬‬
‫والمراحٌض أربع أو خمس مرات فً الٌوم‪ ،‬أتحرك فقط فً الٌوم الذي ٌكون لدٌنا فٌه تنفس‪.‬‬
‫اجلس ‪ ..‬أفكر وأفكر‪" .‬فكرت مرة‪ :‬هل ٌمكن إلنسان ما أن ٌوقؾ التفكٌر؟!"‪.‬‬
‫استعرضت الماضً عشرات المرات‪ ،‬أدق التفاصٌل‪ ،‬تفاصٌل كان ال ٌمكن أن أتذكرها ولو عشت عشر‬
‫حٌوات خارج هذا المكان‪ ،‬أستعٌد كل ما هو سعٌد ومبهج‪ ،‬كل ما هو جمٌل فً الخارج‪.‬‬

‫‪47‬‬
‫أنا اآلن فً الثبلثٌن من عمري‪ ،‬كنت قد تركت الدراسة بعد نٌلً الثانوٌة تحت إؼراءات العمل التجاري‬
‫والثراء السرٌع مع صدٌق لً‪ ،‬أربع سنوات من العمل التجاري الفاشل‪ ،‬تحمل األهل مسإولٌة تسوٌة‬
‫األوضاع‪ ،‬بعدها إلى فرنسا والدراسة هناك‪ ،‬ست سنوات فً فرنسا‪ ،‬واآلن هنا‪.‬‬
‫استعرض الماضً و أحلم بالمستقبل‪ ،‬تحول األمر إلى عادة‪ ،‬أحبلم الٌقظة‪ ،‬استمتع بها استمتاعا ًال كبٌراًال‪،‬‬
‫أرسمها‪ ،‬أصحح‪،‬‬ ‫أصبحت مدمن أحبلم ٌقظة‪ ،‬أبنً الحلم شٌبا ًال فشٌباًال‪ ،‬أضع التفاصٌل الصؽٌرة والدقٌقة‪،‬‬
‫أؼوص ساعات طوٌلة‪ ،‬جالسا ًال أو مستلقٌاًال‪ ،‬أؼٌب عن هذا الواقع ألعٌش واقعا ًال جمٌبلًال كل ما فٌه حلو وسهل‬
‫ومٌسر‪ ،‬وفً كل حلم ٌقظة تكون المرأة حاضرة دوماًال‪ ،‬تشتعل خبلٌا الجسد‪ ،‬كل النساء اللواتً مررت بهن أو‬
‫مررن بً‪ ،‬أخلط الماضً بالمستقبل‪ ،‬أكثر اللحظات حمٌمٌة أستعٌدها‪ ،‬أعٌد تركٌبها‪ ،‬أبتدع مشاهد جدٌدة أتقلب‬
‫وٌجفونً النوم ‪ ،‬أ نتظر حتى آخر اللٌل واذهب إلى المرحاض لبلستمناء‪ ،‬هو الحل الوحٌد لكً أستطٌع النوم ‪.‬‬
‫لحظتها لو سؤلنً احدهم أن ألخص السجن بكلمة واحدة لقلت‪:‬‬
‫‪ -‬إن السجن هو المرأة!‪ .‬ؼٌابها الحارق‪.‬‬
‫أنظر حولً متلصصاًال‪ ،‬كٌؾ ٌحل هإالء هذه المسؤلة‪ ،‬وبعضهم لم ٌر فً حٌاته كاحل امرأة ؼٌر أمه ؟ بماذا‬
‫ٌفكرون ؟ ماهً أحبلمهم ؟ بعضهم مراهقون بكل جموح وتوثب خٌاالت المراهقة‪ .‬كانت احتبلمات النوم لدٌهم‬
‫ؼزٌرة ‪ ،‬عرفت هذا من خبلل تلصصً اللٌلً الدابم ‪ٌ ،‬كون الواحد منهم نابما ًال ‪ ،‬فجؤ ًالة ٌختلج أو ٌصدر صوتا ًال‬
‫خافتا ًال‪ ،‬بعدها ٌستٌقظ‪ ،‬أؼلبهم ٌقول‪ :‬أعوذ باهلل من الشٌطان الرجٌم‪ ،‬ثم ٌقوم لبلؼتسال‪ ،‬ألن لدٌهم تعالٌ َم مشدد ًالة‬
‫بشؤن النظافة‪ ،‬فهو ال ٌستطٌع أن ٌؤكل أو ٌشرب أو ٌصلً إن لم ٌكن طاهراًال نظٌفا ًال تماماًال‪ ،‬والقذؾ بؤي طرٌقة‬
‫كانت سوا ًالء باالتصال الجسدي أو باالحتبلم‪ٌ ،‬وجب ؼسل الجسد كامبلًال‪.‬‬
‫أنا شبه متؤكد أن كل ما ٌقوله عناصر الشرطة أو ٌشٌعونه بؤنهم ٌمارسون الشذوذ الجنسً هو محض افتراء‬
‫أو كذب‪ ،‬حتى على المستوى الواقعً هذا مستحٌل‪.‬‬
‫أعود ألحبلمً أتقلب ‪ ..‬ال أعرؾ كم ٌطول هذا‪ ،‬أسمع حركة استٌقاظ الناس فً المهجع ‪ ..‬ألح على النوم فبل‬
‫ٌؤتً ‪ ..‬أسمع صوت طابرة الهلٌوكوبتر‪.‬‬

‫طابرة الهلٌوكوبتر‪.‬‬
‫عندما نسمع صوت الهلٌوكوبتر ٌرتجؾ أو ٌتوتر كل من فً السجن‪ ،‬حتى الشرطة والبلدٌات ٌتوترون‪،‬‬
‫البعض ٌسمٌها طابرة الموت‪ ،‬أو مبلك الموت الهابط من السماء‪ ،‬أحد السجناء قال إن عزرابٌل ٌجلس فً‬
‫المقعد األمامً للطابرة الًالن هإالء متعاقدون معه‪.‬‬
‫السجن ٌبعد عن العاصمة عدة مبات من الكٌلومترات‪ ،‬لذلك فهٌبة المحكمة المٌدانٌة تؤتً بالطابرة على األؼلب‬
‫مرتٌن فً األسبوع‪ ،‬االثنٌن والخمٌس ‪ ،‬وهٌبة المحكمة هذه قد تكون ثبلثة ضباط وقد تكون ضابطا ًال واحداًال‪،‬‬
‫ٌعطون إدارة السجن بعد أن ٌدخلوا الؽرفة المخصصة لهم البحتٌن اسمٌتٌن‪:‬‬
‫البلبحة األولى ‪ :‬تضم أسماء الذٌن سٌحاكمون فً هذا الٌوم‪ ،‬تؤخذ الشرطة هذه البلبحة وتدور على كل‬
‫المهاجع منادٌة على األسماء‪ ،‬ثم ٌبدأ التجمٌع من آخر مهجع فً الساحة السابعة مع الصٌاح والشتم والكرابٌج‪،‬‬
‫‪48‬‬
‫الرإوس المنكسة واألعٌن المؽمضة‪ٌ ،‬سوقونهم سوقا ًال إلى الساحة صفر حٌث ٌُجلسو نهم على األرض أٌدٌهم‬
‫فوق رإوسهم ورإوسهم بٌن ركبهم‪.‬‬
‫ٌدخل إلى ؼرفة المحكمة أول اسم نادوا علٌه بصفعة قوٌة على الرقبة عند باب الؽرفة‪ٌ ،‬سؤله الضابط‪:‬‬
‫‪ -‬أنت فبلن ابن فبلن؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬طالعوه لبره‪.‬‬
‫وهكذا تكون قد انتهت محاكمته‪ ،‬ثم ٌدخل الثانً والثالث ‪ ..‬وهكذا خبلل ساعتٌن أو ثبلثة قد تتم محاكمة أكثر‬
‫من مبة شخص‪ ،‬أحٌانا ًال تتعطل إجراءات المحاكمة‪ ،‬فالضابط ٌسؤل السجٌن‪:‬‬
‫‪ -‬أنت فبلن ابن فبلن؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي‪.‬‬
‫‪ -‬والك ابن الكلب ‪ ..‬أنت شاركت بتفجٌر المجمع االستهبلكً؟‬
‫‪ -‬ال وهللا ٌا سٌدي ‪ ..‬أنا مالً عبلقة بؤي شً‪.‬‬
‫‪ -‬وال كلب ‪ ..‬عم تنكر كمان !! ‪ٌ ..‬ا شرطة‪.‬‬
‫ٌدخل عناصر الشرطة إلى الؽرفة‪.‬‬
‫‪ -‬حطوه بالدوالب حتى ٌعترؾ‪.‬‬
‫تبدأ حفلة التعذٌب أمام ؼرفة المحكمة‪ٌ ،‬بدأ الضرب والصراخ األمر الذي ٌشوش على هٌبة المحكمة‪ٌ ،‬توقؾ‬
‫العمل‪ ،‬تشرب هٌبة المحكمة القهوة العربٌة‪ ،‬بعد قلٌل ٌهدأ كل شًء وٌدخل الشرطة والسجٌن معهم ٌترنح‪:‬‬
‫راس ؟!‬
‫ه‬ ‫‪ -‬شو ‪ ..‬لساتوا مٌبس‬
‫‪ -‬ال سٌدي ‪ ..‬اعترؾ بكل شي‪.‬‬
‫‪ -‬إعدام ‪ ..‬طالعوه لبرّ ه‪.‬‬
‫أؼلب السجناء ال‬ ‫أ ؼلب السجناء ال تستؽرق محاكمة أي منهم لدى المحكمة المٌدانٌة أكثر من دقٌقة واحدة‪،‬‬
‫ٌرون القاضً "الضابط"‪ ،‬أؼلب السجناء ال ٌعرفون األحكام التً صدرت بحقهم وقررت مصٌرهم‪.‬‬
‫هذه المحكمة ذات نوعٌن من الصبلحٌات‪ ،‬فهً تملك الحق فً أن تصدر أحكام اًال باإلعدام وتنفذه ا بالقدر الذي‬
‫تشاء‪ ،‬وتسجن من تشاء المدة التً تشاء‪ .‬لكنها التملك الحق فً إخبلء سبٌل أي بريء "معروؾ هنا أن‬
‫المهجعٌن األول والثانً ٌسمٌان حتى لدى الشرطة بـ مهجع البراءة‪ ،‬المحكمة ذاتها وخبلل عدة سنوات كانت‬
‫قد أصدرت أحكاما بالبراءة على سجناء هم فً الحقٌقة أطفال أعمارهم بٌن ‪ / 15 – 11 /‬عاما ًال قبض علٌهم‬
‫خطؤ ولكنهم بقوا فً السجن ولم ٌطلق سراح أي منهم‪ ،‬وقد قضى سجناء مهجع البراءة فً السجن مدداًال‬
‫تتراوح بٌن ‪ / 15 – 10 /‬سنة‪ ،‬هإالء األطفال خرجوا من السجن الحقا ًال رجاالًال"‪.‬‬
‫البلبحة الثانٌة‪:‬‬
‫البلبحة االسمٌة الثانٌة هً البحة الذٌن سٌنفذ فٌهم حكم اإلعدام شنقا ًال فً الٌوم نفسه‪ ،‬أٌضا ٌدور الشرطة بهذه‬
‫البلبحة على جمٌع المهاجع طالبٌن من األشخاص المدرجة أسماإهم فً البلبحة االستعداد‪.‬‬
‫‪49‬‬
‫أن ابلؽوهم ‪ ،‬قام هإالء األشخاص‬ ‫الٌوم هناك أربعة أشخاص من مهجعنا سٌتم تنفٌذ حكم االعدام بهم‪ ،‬بعد‬
‫األربعة بالذهاب الى المؽاسل‪ ،‬تطهروا‪ ،‬توضإوا‪ ،‬صلّى كل واحد منهم صبلة عادٌة‪ ،‬أي صبلة علنٌة مكشوفة‬
‫للجمٌع فٌها سجود وركوع‪ ،‬صبل ًالة ال خوؾ فٌها‪" ،‬وهل بعد الموت خوؾ؟!" بعدها طافوا المهجع ودعوا‬
‫ًال‬
‫مصافحة وتقبٌبلًال‪:‬‬ ‫الجمٌع‬
‫‪ -‬سامحونا ٌا جماعة‪ ...‬نرجوا أن تؽفروا لنا أخطاءنا‪ ،‬ادعوا لنا عند هللا ان ٌؤخذنا بواسع رحمته وأن ٌحسن‬
‫ختامنا‪.‬‬
‫األشخاص األربعة أعرفهم جٌداًال‪ ،‬هم كلهم شباب فً مثل سنً أو أكبر‪" ،‬النسبة الؽالبة من الذٌن أعدموا هم من‬
‫الشباب‪ ،‬وقلة منهم تكون قد تجاوزت األربعٌن"‪.‬‬
‫الهدوء‪ ،‬ابتسامة خفٌفة‪ ،‬أراقبهم جٌداًال‪ ،‬أتلصص‪ ،‬هل هدوإهم حقٌقً أم مصطنع ؟ أرقب الٌدٌن ‪ ،‬زواٌا‬
‫الشفتٌن‪ ،‬العٌون‪ ،‬ال ألمح شٌبا ٌدل على الخوؾ أو الهلع‪.‬‬
‫ٌودعون وٌصافحون الجمٌع عداي‪ٌ ،‬قفون الى جانب ربٌس المهجع ‪ٌ ،‬خلعون كل الثٌاب التً ال زالت بحالة‬
‫جٌدة وتصلح الستخدامها من قبل األحٌاء من بعدهم ‪ٌ ،‬لبسون بدالًال منها ثٌابا مهتربة ال تصلح لشًء‪ٌ ،‬سلمون‬
‫الثٌاب الجٌدة الى ربٌس المهجع لتوزع بمعرفته‪ٌ ،‬قفون خلؾ الباب الذي ال ٌلبث أن ٌفتح ‪ ...‬وٌخرجون‪.‬‬
‫اإلعدام ٌتم قبالة مهجعنا‪ ،‬وقد رأٌنا المشانق عدة مرات أثناء خروجنا أو دخولنا من التنفس‪ ،‬وهناك ٌتم تجمٌع‬
‫الذٌن سٌتم تنفٌذ حكم اإلعدام بهم‪.‬‬
‫بٌن الفٌنة واألخرى نسمع صوت التكبٌر ٌنطلق من حناجر عدة أشخاص معاًال‪ٌ ،‬بدو أنها الدفعة التً ٌؤتً‬
‫دورها بالتنفٌذ‪:‬‬
‫‪ -‬هللا أكبر ‪ ...‬هللا أكب‪.‬‬
‫خبلل الفترة الماضٌة كلها كان شعر جسدي ٌقؾ منتصبا ًال كلما سمعت هذا الصوت ٌنطلق قبالة مهجعنا ‪.‬‬
‫فً اللٌل ٌطابق الساهرون بٌن العدد الذي ورد عبر االتصال "المورس" وبٌن عدد ارتطامات الجثث على‬
‫ارضٌة السٌارة‪.‬‬
‫‪ -‬صحٌح ‪ ...‬خمسة وأربعون شهٌداًال‪.‬‬
‫فً الٌومٌن التالٌٌن ٌنهمك الحفظة بحفظ اسمائهم وعناوٌنهم‪.‬‬
‫‪ 15‬تموز‬
‫اآلن أصبح هناك من أحادثه‪.‬‬
‫فً لحظة كان فٌها الحارس على السطح قرٌبا ًال من الشراقة ‪ ،‬وقؾ أحد السجناء وسط المهجع ‪ ،‬وضع ٌده على‬
‫خده كمن ٌمسك بسماعة هاتؾ‪ ،‬صاح‪:‬‬
‫‪ -‬الو ‪ ...‬الو ‪ ...‬أعطونً القابد‪.‬‬
‫"القابد هو لقب شقٌق ربٌس الدولة‪ ،‬وٌقود واحدة من أقوى وحدات الجٌش‪ ،‬وٌعتبر خلٌفة للربٌس" ‪.‬‬

‫‪50‬‬
‫سكت الجمٌع ‪ ،‬عٌونهم موزعة بٌن الحارس والسجٌن الذي استمر ٌطلب القابد‪ ،‬و أحٌانا ٌطلبه باسمه األول ‪،‬‬
‫ثوان قلٌلة وهجم علٌه أربعة أشخاص سحبوه من وسط المهجع وقد كموا فمه الى حٌث المؽاسل وهو المكان‬
‫الذي ال ٌستطٌع أن ٌراه الحارس فٌه ‪ ،‬عاد واح ٌد منهم وقال لربٌس المهجع مبتسما ًال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬بدو ان األخ فقس !‬
‫‪ -‬ال حول وال قوة إال باهلل‪ ،‬اللهم ثبت عقولنا‪ ،‬العقل زٌنة اإلنسان !‪.‬‬
‫جنونه كان لطٌفا‪ ،‬ال أذى‪ ،‬ال هٌاج‪ ،‬فقط ٌرٌد أن ٌكلم القابد‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا ترٌد من القابد؟‬
‫‪ -‬هناك موعد بٌنً وبٌنه ‪ ،‬لم ٌؤت ‪ ...‬لقد أخلؾ الموعد !‪.‬‬
‫ًال‬
‫وحساسٌة‪:‬‬ ‫تخاله طبٌعٌاًال‪ ،‬أكثر جمله وأحادٌثه مترابطة‪ ،‬ولكنه خرق النظام العام للمهجع فً أكثر األمور أهمٌة‬
‫لم ٌعد ٌصلً ‪ ،‬لم ٌعد ٌؽتسل ‪ ،‬وبعد عدة أٌام من جنونه فاجؤ الجمٌع وفاجؤنً ‪ ،‬جلس قبالتً على فراشً ‪،‬‬
‫حٌانً قاببل ‪:‬‬
‫‪ -‬السبلم علٌكم ‪ ...‬انت شو اسمك؟‬
‫ارت َّج كٌانً كله‪ ،‬لم استطع أن أرد تحٌته ‪ .‬فقط كنت انظر الٌه‪ ،‬إلى عٌنٌه الباسمتٌن مباشرة‪ ،‬منذ أكثر من‬
‫سنتٌن لم أنظر فً عٌنً انسان بهذا القرب‪ ،‬أحسست بالدؾء‪.‬‬
‫سكت جمٌع من فً المهجع‪ ،‬شًء ؼٌر مؤلوؾ ٌحدث امامهم !‪ ،‬جمٌع العٌون منصبة على فراشً وعلى‬
‫الكابنٌن الجالسٌن علٌه‪ ،‬دهشة من نوع خاص تكسو جمٌع الوجوه‪ٌ ،‬بدو أن الجمٌع كان قد نسٌنً‪ ،‬ففً ؼمرة‬
‫األحداث وضمن شبلل الموت المتدفق سكنت مشاعر العداء المتؤججة نحوي ‪ ،‬أو باألحرى ؼطاها الرماد‪،‬‬
‫بقٌت مثل الجمر تحت الرماد‪.‬‬
‫لقد تعودوا على وجودي الى جانب الباب ولم ٌعد هذا الوجود ٌطرح اسبلة علٌهم‪ ،‬لون الباب أسود بشع‪ ،‬فً‬
‫البداٌة ٌستفز لون الباب الجمٌع‪ ،‬ولكن مع توالً األٌام ٌؤلفونه ثم ٌنسو نه‪ ،‬وكذلك وجودي الى جانبه‪.‬‬
‫واآلن ٌوسؾ "مجنون القابد كما اصبح اسمه"‪ٌ ،‬عٌد تذكٌرهم بكل شًء‪ ،‬دهشوا‪ ،‬تفحصوا وجهً‪ ،‬كنت مهمبلًال‬
‫واآلن بفضل مجنون القابد أعود الى دابرة األضواء!‪.‬‬

‫العجزة فً المهجع كثر‪ ،‬المشلولون والمجانٌٌن‪ ،‬ثبلثة عمٌان‪ ،‬أخرس واحد‪.‬‬


‫أمٌز حالة بٌن المجانٌن إ ضافة الى ٌوسؾ هً حالة دكتور الجٌولوجٌا ـ ال أعرؾ هل هو جنون أم شًء آخر‬
‫؟ ـ رجل فً الخمسٌن من عمره‪ ،‬ذهب الى امرٌكا لدراسة الجٌولوجٌا‪ ،‬نجح فً دراسته وحاز على الدكتوراه‬
‫بدرجة امتٌاز‪ ،‬عاد الى البلد وبعد عودته ببضع سنوات تسلم ادارة واحدة من أهم المإسسات العلمٌة‪ ،‬كان مٌاال‬
‫الى التدٌن‪ٌ ،‬إدي فرابض الدٌن بؤوقاتها‪ٌ ،‬صوم وٌصلً‪ ،‬ذهب الى مكة للحج ‪ ،‬وإبان احتدام الصراع بٌن‬
‫اإلسبلمٌٌن والسلطة كانت هذه الصفات تهمة بحد ذاتها‪ ،‬عند فجر أحد األٌام سحبه رجال المخابرات من وسط‬
‫عابلته‪ ،‬وماذا جرى بعد ذلك ال ٌعرؾ أحد‪.‬‬

‫‪51‬‬
‫ٌجلس دكتور الجٌولوجٌا على األرض متربعا ًال ووجهه الى الحابط ثم ٌؽطً نفسه كامبلًال بالبطانٌة‪ ،‬لٌبلًال ونهاراًال ‪،‬‬
‫ت ‪ ...‬لم ٌلفظ حرفا ًال ‪ ...‬لم ٌفتح عٌنا ًال‪.‬‬
‫صٌفا ًال وشتاءًال‪ ،‬حاول كثٌرون أن ٌسؤلوه‪ٌ ،‬حادثوه‪ ،‬سنوا ٍ‬
‫ٌرفع أحدهم بطانٌته من األمام قلٌبلًال وٌضع له الطعام فً حجره‪ٌ ،‬ؤكل وهو مؽطى بالبطانٌة‪ٌ ،‬ذهب الى‬
‫المرحاض وهو مؽطى بالبطانٌة‪ ،‬كل بضعة أٌام ٌقوده اثنان من تحت إبطٌه ـ وهو مطٌع جداًال ـ الى المؽاسل‪،‬‬
‫ٌخلعون ثٌابه‪ٌ ،‬ؽسلون جسده‪ٌ ،‬عٌدونه وهو مؽطى‪ ،‬مكان دكتور الجٌولوجٌا قبالتً تمام اًال‪.‬‬
‫************‬
‫إدارة السجن‬ ‫نحن اآلن جابعون ‪ ...‬وجابعون بشدة‪ ،‬منذ ثبلثة أشهر هبطت كمٌات الطعام التً تقدمها لنا‬
‫هبوطا ًال حاداًال‪.‬‬
‫كان لكل سجٌن ٌومٌا ًال رؼٌفان من الخبز العسكري ‪ ،‬اآلن رؼٌؾ واحد لكل أربعة سجناء ‪ ،‬حصتً الٌومٌة‬
‫ربع رؼٌؾ لثبلث وجبات ‪ ،‬الٌوم فطوري كان ثبلث حبات زٌتون هً كامل حصتً ‪ ،‬ملعقة صؽٌرة من‬
‫المربى على العشاء ‪ ،‬إذا كان األفطاربٌضا ًال فلكل ثبلثة سجناء بٌضة مسلوقة ‪" ،‬نصح األطباء الجمٌع بعدم‬
‫رمً قشر البٌض‪ٌ ،‬سحقونه وٌؤكلونه للتعوٌض عن الكلس"‪.‬‬
‫بعد ثبلثة أشهر من الجوع‪ ،‬الهزال و اصفرار الوجوه باد على الجمٌع‪ ،‬قلّت حركة الجمٌع‪ ،‬من كان ٌقوم‬
‫بالرٌاضة سراًال أقلع عنها‪.‬‬
‫الشرطة تراقب ‪ ...‬وتواصل عملها كالمعتاد‪.‬‬
‫جلس ٌوسؾ قبالتً على الفراش‪ ،‬فً ٌده الٌمنى قطعة خبز صؽٌرة فوقها قلٌل من مربى المشمش‪ ،‬ناولنً‬
‫إٌاها‪:‬‬
‫‪ -‬خود ‪ ...‬هاي الك‪.‬‬
‫‪ -‬شكراًال ٌا ٌوسؾ‪ ...‬هادا عشاك والزم تاكله‪.‬‬
‫‪ -‬ال أنا شبعان ‪ ...‬وإنت زلمه بدك تتجوز بكره‪ ،‬الزم تاكل عسل‪ ،‬قال الدكتور إن العسل مفٌد‪.‬‬
‫ثم تابع الحدٌث دون أن ٌتٌح لً فرصة الكبلم‪:‬‬
‫‪ -‬هلق انت شو بتتمنى؟‬
‫‪ -‬اتمنى أن أطلع من هون‪.‬‬
‫‪ -‬شوؾ ‪ ...‬هون كوٌس ‪ ...‬انت تعرؾ انه عندي فرس اصٌلة لونها احمر‪ ،‬وعندي تٌاب كلها بٌضا‪ ،‬ابٌض‬
‫بؤبٌض ‪ ...‬استنى شً كم ٌوم بتشوؾ أخوك ٌوسؾ البس أبٌض بؤبٌض ‪ ...‬وراكب عالفرس الحمرا‪،‬‬
‫وواقؾ بنصّ موسكو ‪ ..‬بالساحة الحمراء‪...‬‬
‫سكت قلٌبل ثم أردؾ بصوت أحد قلٌبل ‪:‬‬
‫‪ -‬وهللا ‪ ...‬وهللا بدنا ندك اسوار موسكو !‪..‬بدنا نمسح الكفر والكفار! ‪.‬‬
‫‪ 15‬أيلول‬

‫‪52‬‬
‫أنا جابع‪ ،‬أكثر من خمسة شهور مرت على بداٌة الجوع‪ ،‬ؼرٌزة البقاء‪ ،‬بدأت تحدث بعض المشاجرات بٌن‬
‫ًال‬
‫مهابة‪ ،‬تطرح هنا تساإالت‬ ‫السجناء بسبب توزٌع الطعام‪ ،‬عهدوا بهذا األمر الى أكثر األشخاص احتراما ًال و‬
‫كثٌرة حول سبب نقص الطعام‪:‬‬
‫‪ -‬هم ٌرٌدوننا أن نموت جوعا ًال!‪.‬‬
‫‪ -‬قد ٌكون لدى السلطة النٌة ب إ خبلء سبٌلنا‪ ،‬لكنها ال ترٌدنا أن نكون أقوٌاء فً الخارج‪ٌ ،‬جب ان نكون‬
‫مرضى كً ال نستطٌع القٌام بشًء خارجا ًال‪.‬‬
‫الكثٌر من التخمٌنات ‪ ،‬الكثٌر من التحلٌبلت‪ ،‬ولكن الشرطة كانت تراقب‪.‬‬
‫فتح الٌوم عناصر الشرطة الباب وطلبوا إدخال الطعام‪ ،‬ركض الفدابٌون وقاموا بإدخال كمٌات الطعام الهزٌلة‪،‬‬
‫وألول مرة لم ٌكن هناك ضرب وكرابٌج‪ ،‬برز بعدها المساعد ووقؾ على باب المهجع‪ ،‬بٌده بطٌخة حمراء‬
‫ثبلث كٌلو ؼرام‪ ،‬صاح بربٌس المهجع‪:‬‬
‫تزن حوالً ة‬
‫‪ -‬تعال لهون‪.‬‬
‫ذهب ربٌس المهجع الٌه مسرعا ًال‪.‬‬
‫‪ -‬خود هالبطٌخة‪ ،‬حصة المهجع!‪.‬‬
‫سكت قلٌبل وبعد ان تناول ربٌس المهجع البطٌخة‪ ،‬قال المساعد‪:‬‬
‫‪ -‬بدي شوؾ ‪ ...‬كٌؾ بدك توزع هالبطٌخة على المساجٌن!‪.‬‬
‫ثم امارات التحدي واالستفزاز‪،‬‬ ‫تردد ربٌس المهجع قلٌبل‪ ،‬فً البداٌة ظهرت على وجهه عبلبم الحٌرة‬
‫"أصبحت أعرفه جٌدا بحكم قربً منه"‪ ،‬أطرق برأسه قلٌبلًال ثم التفت الى داخل المهجع وصاح بصوت عال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا مرضانٌن ‪ ...‬هاي البطٌخة الكم‪.‬‬
‫وناولها الى أحد السجناء‪.‬‬
‫نظر الٌه المساعد لثانٌتٌن بتمعن شدٌد‪ ،‬رجع خطوتٌن الى الوراء وصفق الباب بوجه ربٌس المهجع بقوة‪.‬‬
‫جلس جمٌع السجناء‪ ،‬شعور الفخر ٌؽمر الجمٌع‪ ،‬حتى أنا‪ ،‬لقد هزم ربٌسُ المهجع المساعد‪ٌ ،‬كفً انه أؼاظه‪.‬‬
‫فٌما الجمٌع منهمكون بالحدث حانت منً التفاتة الى الٌسار و إذا بً ارىالساحة تلوح امامً‪ ،‬ساحة اإلعدام ‪...‬‬
‫ثقب ؼٌر منتظم أكبر قلٌبلًال من حجم جوزة ‪ ،‬هذا‬
‫الساحة السادسة‪ ،‬هناك الى جانب ‪ ،‬كشؾ الباب‪ ،‬فجؤة وجدت اًال‬
‫الثقب حدث اآلن! نظرت حولً فوجدت كتلة اسمنتٌة على طرؾ فراشً‪ ،‬حملتها وسددت الثقب بها فركبت‬
‫تماما وس ّدته‪ ،‬الثقب على مستوى رأسً وأنا جالس‪.‬‬
‫أنها باألساس متشققة‬ ‫عندما صفق المساعد الباب ومن قوة الضربة سقطت هذه الكتلة االسمنتٌة والتً ٌبدو‬
‫وأحدثت هذا الثقب‪.‬‬
‫اآلن استطٌع أن أرى كل ما ٌدور فً الساحة متى أشاء ذلك‪ ،‬استطٌع ان أتلصص على الخارج كما أتلصص‬
‫من ثقب قوقعتً على الداخل‪.‬‬

‫‪53‬‬
‫ٌوسؾ "مجنون القابد" انقطع عن زٌارتً‪ ،‬أو لم ٌعودوا ٌسمحوا له بزٌارتً‪ ،‬انتبهوا لً مجدداًال بعد زٌاراته‪،‬‬
‫إذا‬ ‫مجموعة من األشخاص أخذت على عاتقها أمر الحٌلولة بٌنه وبٌن زٌارتً‪ٌ ،‬راقبونه وهم جالسون حتى‬
‫رأوه متجها نحوي ناداه أحدهم أو وقؾ فً طرٌقه ٌمازحه‪:‬‬
‫‪ -‬شو ٌوسؾ ‪ ...‬ما بدك تخبر القابد؟‬
‫‪ -‬أي ‪ ..‬بدي خبرو ‪ ...‬بس تلفونً مقطوع‪.‬‬
‫‪ -‬تعال لهون ‪ ...‬أنا عندي تلفون‪.‬‬
‫ٌؤخذه الى مكانه‪ٌ ،‬حادثه الى أن ٌنسى ٌوسؾ أنه كان قادما ًال لعندي‪.‬‬
‫} الجوع ٌقرص معدتً‪{.‬‬
‫‪ 20‬أيلول‬

‫ثبلثة أٌام بعد اكتشاؾ الثقب‪ ،‬ثبلثة أٌام لم استطع أن أنظر من خبلله‪ ،‬قلبً ٌنبض بشدة كلما فكرت فً األمر‪.‬‬
‫وأن أفكر كٌؾ أتؽلب على خوفً من الشرطة‪ ،‬واألهم خوفً من السجناء‪ ،‬ماذا سٌفعل السجناء إذا‬
‫طوال الٌوم ا‬
‫رأونً وأنا انظر عبر الثقب؟!‪.‬‬
‫هبط علً الوحً عندما نظرت أمامً‪ ،‬الى دكتور الجٌولوجٌا‪ ،‬لماذا ال أفعل مثله ؟!! أدٌر وجهً قبالة الحابط‬
‫وأؼطً نفسً بالبطانٌة‪ ،‬بحٌث تؽطً البطانٌة الثقب أٌضاًال‪ ،‬وهكذا أنظر بحرٌة دون أن ٌبلحظ أحد‪ ،‬وهذا‬
‫ٌخلصنً فً الوقت نفسه من النظرات العدابٌة التً ازدادت مإخراًال‪.‬‬
‫ولكن ٌجب أن أجرب التؽطٌة لمدة ٌومٌن أو ثبلثة قبل أن أؼامر وأفتح الثقب وأنظر من خبلله‪.‬‬
‫القمل ٌهرش جسدي‪ ،‬لم استطع االعتٌاد علٌه والتعاٌش معه بعد‪.‬‬
‫}الجوع ٌشتد وٌتراكم‪{ .‬‬
‫‪ 30‬أيلول‬

‫نجحت فً أن أجعلهم ٌعتادون على رإٌتً مؽطى بالبطانٌة‪ ،‬منذ ٌومٌن مرّ أحد السجناء من خلفً وأنا مؽطى‪،‬‬
‫سمعته ٌقول لربٌس المهجع‪:‬‬
‫‪ -‬شو ٌا أبو محمد ؟‪ ..‬كنا بواحد صرنا باثنٌن ‪ ..‬شو القصة ؟ ‪ ...‬كمان االستاذ أجّ ر الطابق الفوقانً ؟! ‪.‬‬
‫‪ -‬خلٌها على هللا‪ ...‬اللهم نسؤلك حسن الختام‪.‬‬
‫لم أ ستطع ان أنظر من خبلل الثقب وال مرة‪ ،‬ألن الشرطة كانت فً حالة هٌاج شدٌد‪ ،‬فقد كانت تمر فترات‬
‫نشعر فٌها أ ن قبضة رجال الشرطة قد تراخت قلٌبل‪ ،‬وفجؤة تعود هذه القبضة لتصبح من حدٌد ونار‪ ،‬عندها‬
‫اًال‬
‫احداث هامة تدور فً الخارج‪ ،‬وأن السلطة قد منٌت بخسابر جسٌمة وأن وضعها‬ ‫ٌخمن البعض هنا أن هناك‬
‫حرج وقد تكون آٌلة للسقوط‪ ،‬ونتٌجة لعجزها عن مواجهة ما ٌدور فً الخارج فانها تحاول ن تعوض هنا‬
‫وتنتقم من المساجٌن المساكٌن الذٌن ال حول لهم وال قوة ‪.‬‬

‫‪54‬‬
‫‪ 6‬تشرين األول‬

‫الًوم كان ملٌبا ًال‪.‬‬


‫منذ الصباح تعج الساحة باألصوات والضرب والصٌاح والصراخ ‪ .‬فتح باب مهجعنا وخرج الفدابٌون إلدخال‬
‫الطعام تحت ضرب الكرابٌج والعصً‪ ،‬أحد الفدابٌٌن تلقى ضربة عص ا سقط على إثرها ارضا ًال وكانت هذه‬
‫آخر سقطة له‪ ،‬بقً فً الخارج وحٌداًال بٌن أٌدي عناصر الشرطة‪ ،‬وبعد قلٌل صاح الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬وال كبلب ‪ ...‬تعوا دخلوه‪.‬‬
‫عاد الى المهجع محموالًال بدال من أن ٌكون حامبلًال‪.‬‬
‫تلقفه األطباء فً المهجع‪ ،‬بعد أكثر من ساعة لفظ أنفاسه وأسلم الروح بعد ان أوصى صدٌقه بصوت متهدج‪:‬‬
‫‪ -‬سلم على ابوي ‪ ...‬إذا هللا فرج عنك ‪ ...‬احكٌلوا عنً ‪ ...‬وقل له ٌرفع رأسه بابنه ‪...‬‬
‫واحد من األطباء أتى الى عند ربٌس المهجع والحزن باد علٌه‪:‬‬
‫‪ -‬البفٌة بحٌاتك ٌا أبو محمد ‪ٌ...‬وم جدٌد وشهٌد جدٌد‪ ...‬هللا ٌرحمه ما خلوا محل بجسمه اال وضاربٌنه‬
‫‪...‬عدة إصابات ‪ ...‬حتى الخصٌتٌن مهروسات هرس‪.‬‬
‫‪ -‬علٌه رحمة هللا‪ ،‬خلً الشباب ٌجهزوه مشان ندق الباب ونطالعه‪.‬‬
‫انؽمس المهجع بتجهٌز الشهٌد‪ ،‬الحدٌث عن الشهٌد‪ ،‬مآثره‪ ،‬وصٌته األخٌرة‪ ،‬ثم صلوا علٌه سرا وأحضروه‬
‫قرب الباب‪ ،‬وضعوه فً الفسحة الفاصلة بٌنً وبٌن أبو محمد ربٌس المهجع‪ ،‬علق واحد‪:‬‬
‫‪ -‬العمى شو هالحالة ؟! عم نموت واحد ورا واحد متل الخرفان !!‪.‬‬
‫لم ٌرد عٌه أحد‪.‬‬
‫وقؾ أبومحمد ودق الباب بجماع ٌده‪ ،‬وجاء الصوت من الخارج‪:‬‬
‫‪ -‬شو بدك ٌا ابن الشرموطة ؟‪ ...‬لٌش عم تدق الباب ؟‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ...‬فً عنا واحد شهٌد !!! ‪ ...‬عفوا عفوا ‪...‬‬
‫واحد مٌت‪.‬‬
‫نسً أبو محمد حذره من كثرة ترداد كلمة شهٌد فً المهجع‪ ،‬انتبه واستدرك ولكن هذا االستدراك جاء متؤخراًال‪.‬‬
‫فتحت الطاقة الصؽٌرة فً الباب الحدٌدي وظهر رأس الرقٌب‪ ،‬وبمنتهى الهدوء توجه بالسإال الى أبو محمد‬
‫الذي كان واقفا ًال‪:‬‬
‫‪ -‬مٌن ٌللً قال شهٌد ‪ٌ ...‬ا ربٌس المهجع ؟‪.‬‬
‫‪ -‬أنا سٌدي‪.‬‬
‫أؼلق الرقٌب الطاقة وصاح بالشرطة أن ٌفتحوا الباب‪.‬‬
‫فً الثوانً القلٌلة التً استؽرقها فتح الباب‪ ،‬التفت أبو محمد الى الناس وقال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا شباب سامحونً ‪ ...‬إدعوا لً ‪ ...‬وٌللً ٌضل طٌب منكم خلٌه ٌروح لعند والدي وٌحكٌلهم كٌؾ مات‬
‫أبوهم!‬
‫‪55‬‬
‫فُتح الباب‪ .‬جمهرة من الشرطة أمام ه تنظرالى الداخل‪ ،‬جمهرة من المساجٌن وفً المقدمة أبو محمد ٌنظرون‬
‫إلى الخارج‪ ،‬صاح الرقٌب‪:‬‬
‫‪ -‬وال ابن الشرموطة ‪ ...‬اطلع لبره‪.‬‬
‫قذؾ أبو محمد نفسه بٌنهم‪ ،‬صاح الرقٌب بالشرطة أن ٌؽلقوا الباب‪ ،‬كل السجناء واقؾ ون إال العجزة ودكتور‬
‫الجٌولوجٌا‪ ،‬جلست أنا اٌضا وؼطٌت نفسً بالبطانٌة‪ ،‬وبسرعة وبهدوء نزعت الكتلة االسمنتٌة قلٌبلًال‪ ...‬قلٌبلًال‪.‬‬
‫لم أكن أعً أو أدرك ما أفعل‪ ،‬فالشرطة أمام مهجعنا تماما ًال والثقب كبٌر ٌمكن ألي شرطً أن ٌبلحظه‪ ،‬ولكنً‬
‫فتحت الثقب ونظرت‪.‬‬
‫أبو محمد كان ضابطا ًال سابقاًال‪ ،‬وكان رجبلًال حقٌقٌا ًال‪ .‬منذ فترة وعندما حدثت بعض المشاحنات فً المهجع بسبب‬
‫توزٌع الطعام القلٌل أصبلًال‪ ،‬أحس انه قد مُسَّ من قبل شخص ما‪ ،‬بقً على أثرها سبعة أٌام لم ٌتناول خبللها‬
‫وال ذرة طعام‪ ،‬سبعة أٌام بدون طعام بعد أشهر من الجوع‪.‬‬
‫اتى لعنده مجموعة من كبار المشاٌخ والناس األكثر احتراما ًال فً المهجع ٌطٌبون خاطره وٌعتذرون نٌابة عن‬
‫كل الناس‪ ،‬ورجا ًالء خالصا ًال ان ٌنسى كل شًء‪ ،‬وانهم لن ٌذهبوا من عنده قبل ان ٌؤكل‪ ،‬وكان مما قاله ابو محمد‬
‫رداًال علٌهم‪:‬‬
‫‪ -‬ابو محمد ال ٌمكن ان ٌسمح لـ" لقمة أكل " ان تذله ‪ ...‬واذا كان هناك من تصرؾ او سٌتصرؾ بدناءة‪،‬‬
‫فهذا الشخص لن ٌكون ابو محمد‪ ،‬الموت وال الذل‪.‬‬
‫أنه انتزعها من أحد‬ ‫بعد ان فتحت الثقب كان اول من رأٌت هو ابو محمد‪ ،‬بٌده عصا ؼلٌظة من المإكد‬
‫عناصر الشرطة بعد أ ن فاجؤهم بطرٌقة خروجه‪ٌ ،‬ضرب بها ذات الٌمٌن وذات الشمال‪ ،‬تحٌط به دابرة من‬
‫عناصر الشرطة والبلدٌات‪ ،‬ثم رأٌت واحداًال من الشرطة ممدداًال على األرض‪.‬‬
‫تضٌق الدابرة حوله وتنهال علٌه بعض الضربات من الجانبٌن ومن الخلؾ‪ٌ ،‬تؤلم ٌلتفت وٌهجم‪ ،‬تتسع الدابرة‪،‬‬
‫أال‬ ‫معركة حقٌقٌة ولكنها ؼٌر متكافبة عددٌاًال‪ ،‬من طرؾ رجل ٌعرؾ انه سٌموت فً كل األحوال‪ ،‬وقرر‬
‫ٌموت موتا ًال سهبلًال ورخٌصاًال‪ ،‬ومن الطرؾ االخر مجموعة كبٌرة من األشخاص اعتادوا ان ٌكون قتلهم‬
‫لآلخرٌن سهبلًال‪.‬‬
‫والكثرة ؼلبت الشجاعة‪ .‬سقط أبو محمد ارضا ًال بعد زمن قدرته بحوالً ربع الساعة‪ ،‬حضر اثناءها المساعد‬
‫والطبٌب ومدٌر السجن‪ ،‬على األرض اربعة اشخاص ممددٌن‪ ،‬ثبلثة من الشرطة بٌنهم الرقٌب " ابن‬
‫الشرموطة "‪ ،‬لقد رأٌت كٌؾ تقصد ابو محمد أن ٌهاجمه هو رؼم أنه كان بعٌداًال عنه‪ ،‬وكٌؾ نزلت عصا ابو‬
‫محمد على رأسه‪.‬‬
‫قد م‬ ‫فحص الطبٌب الجمٌع‪ ،‬أسعفوا أحد العناصر بسرعة‪ ،‬الرقٌب والعنصر اآلخر ماتا‪ ،‬ابو محمد مات‪،‬‬
‫الطبٌب هذا الشرح لمدٌر السجن الذي التفت الى المساعد طالبا ًال منه أن ٌجمع كل م ن فً السجن من عناصر‬
‫الشرطة والبلدٌات وأ ن ٌقؾ جمٌع الحراس المسلحٌن الموجودٌن على االسطحة فوق مهاجع الساحة السادسة‪.‬‬
‫عرفت ان المشهد لما ٌنته بعد‪ ،‬أؼلقت الثقب جٌداًال وأزحت البطانٌة‪.‬‬

‫‪56‬‬
‫( من االشٌاء التً ال ٌمكن أن أنساها ابداًال‪ ،‬شجاعة العمٌد فً الساحة االولى وشجاعة ابو محمد فً الساحة‬
‫السادسة‪ ،‬وفكرت كما ٌفكر الجمٌع هنا‪ ،‬تساءلت ‪ :‬كٌؾ ٌحدث‪ ،‬او لماذا ٌحدث‪ ،‬ان ٌوجد هكذا ضباط فً‬
‫السجن‪ٌُ ،‬قتلون فٌه والكل ٌعرؾ اننا فً حالة حرب؟‬
‫ولكن فوراًال قمعت هذا التفكٌر‪ ،‬محوته من ذهنً ) ‪.‬‬
‫أن تجابه بكل قوة‪ ،‬بمنتهى القسوة‬ ‫اعتبر المقدم مدٌر السجن أن ما حدث كان تمرداًال وسابقة خطٌرة ٌجب‬
‫والعنؾ كً تكون درسا ًال للجمٌع‪.‬‬
‫أكثر من هذا العدد بكثٌر من عناصر الشرطة‬ ‫حوالً الثبلثمابة سجٌن‪ٌ ،‬حٌط بهم على محٌط الساحة‬
‫والبلدٌات‪ ،‬عشرات الحراس المسلحٌن على األسطحة‪.‬‬
‫‪ -‬ال تتركوا أحداًال فً المهجع‪.‬‬
‫جمعونا وسط الساحة‪ ،‬فً آخر الصؾ قرٌبا ًال من المهجع وضعوا العجزة‪ ،‬القى مدٌر السجن محاضرة نصفها‬
‫شتابم‪ ،‬والنصؾ اآلخر تهدٌد ووعٌد‪ ،‬وقد نفذ تهدٌده‪ ،‬قال للمساعد‪:‬‬
‫‪ -‬مابدي حدا ٌفوت على المهجع وهو ماشً‪ ،‬السلٌم منهم الزم ٌفوت زحؾ على بطنه‪.‬‬
‫"بعض السجناء سٌسمً هذا الٌوم الحقا ًال بـ ‪ٌ /‬وم التنكٌل ‪ /‬وبعضهم اآلخر سٌسمٌه ‪ٌ /‬وم أبو محمد‪. ."/‬‬
‫استمر التنكٌل من قبٌل الظهر إلى ما بعد حلول الظبلم‪ ،‬وكان أكثر ما ٌإلم مشهد المشلولٌن وهم ٌُضربون‪،‬‬
‫ٌحاولون الحركة‪ٌ ،‬حاولون تفادي الضرب ‪ ..‬وٌظلون مكانهم‪0.‬‬
‫دخلنا زحفا ًال وجرجر ًالة‪ ،‬من لم ٌستطع ان ٌجرجر نفسه أوؼٌره‪ ،‬تكفل البلدٌات بـ " قذفه" داخل المهجع‪ ،‬اخذنا‬
‫نضمد جراحنا‪ ،‬نؽسلها‪ ،‬نبحث عن مزقة قماش نلؾ بها جرحا ًال ما‪.‬‬
‫الجوع ٌعضنا‪ ،‬رؼم ذلك نمنا‪.‬‬
‫‪ 7‬تشرين اول‬

‫فً الصباح الجمٌع ٌنظر الى الجمٌع‪ ،‬كل من لدٌه القدرة ٌحاول أن ٌطمبن على جاره‪ ،‬الحصٌلة ثبلثة قتلى‬
‫ماتوا لٌبلًال‪ ،‬جراحً خفٌفة وال تشكل أي خطر‪.‬‬
‫أتى المساعد ومعه الشرطة‪ ،‬كل من ٌستطٌع الوقوؾ وقؾ‪" ،‬اكتشفت أن ابو حسٌن وهو الشخص الذي ٌوزع‬
‫الطعام وٌرضً الجمٌع كان قد نقل فراشه لٌبلًال الى مكان ابو محمد"‪.‬‬
‫تقدم المساعد خطوتٌن‪ ،‬شمل المهجع بنظرته‪ ،‬ابتسامة على زاوٌة الفم‪ ،‬نظر إلى ابو حسٌن‪ ،‬نظر إلًّ ‪ ،‬أشار‬
‫إلًّ قاببلًال‪:‬‬
‫‪ -‬إنت بتصٌر ربٌس مهجع‪.‬‬
‫سكت ولم اجب‪ ،‬سكت المساعد وتراجع ٌرٌد االنصراؾ‪ ،‬تحرك ابو حسٌن مصطنعا ًال الخوؾ‪ ،‬رفع ٌده عالٌا ًال‬
‫ّ‬
‫وقال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي اسمحلً بكلمة‪.‬‬
‫‪ -‬قول وال‪ ..‬كرّ ‪.‬‬
‫‪57‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي هادا ٌللً عٌنتوا ربٌس مهجع ‪ٌ ..‬ا سٌدي‪ ،‬مجنون!‪.‬‬
‫التفت المساعد إلًّ ‪ ،‬سؤلنً‪:‬‬
‫‪ -‬انت مجنون ‪ ..‬وال؟‬
‫لم إجب‪ .‬لم أعرؾ بماذا أجٌب‪ .‬قال المساعد‪:‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ..‬أصبح انت بدك تصٌر ربٌس مهجع‪.‬‬
‫‪ -‬متل ما بدك سٌدي ‪ ..‬بس فً عندنا ثبلثة مٌتٌن‪.‬‬
‫‪ -‬مٌتٌن؟‪ ..‬وال شهداء؟‬
‫‪ -‬مٌتٌن سٌدي‪ ..‬مٌتٌن‪.‬‬
‫‪ -‬قول نفقوا‪ ..‬وال جحش‪.‬‬
‫‪ -‬نفقوا سٌدي‪ ..‬نفقوا‪.‬‬
‫‪ٌ -‬اهلل ‪ ..‬طالعوهم لبره‪.‬‬
‫وأؼلق الباب‪ .‬أصبح ابو حسٌن ربٌس مهجع‪ ،‬اقترب منً بهدوء وقال‪:‬‬
‫‪ -‬انا بعرؾ إنك مانك جاسوس ‪ ..‬وساوٌتك مجنون ألنه للضرورة أحكام‪.‬‬
‫" هاهو واحد اخر منهم ٌشعرنً باألمان الى جانبه "‪.‬‬
‫‪ 24‬شباط‬
‫البرد ٌجمدنا‪ ،‬الجوع ٌضنٌنا‪.‬‬
‫أكثر من عشرة اشهر مرت ونحن جابعون‪ ،‬ربع رؼٌؾ أقسمه ثبلثة أقسام‪ ،‬وأقاوم‪ ،‬أقاوم الرؼبة بالتهامه كله‬
‫دفعة واحدة‪ ،‬عشرة شهور لم ٌصل فٌها أحد السجناء الى الشعور بالشبع‪ ،‬الهزال بدا شدٌداًال على الجمٌع‪،‬‬
‫الوجوه مصفرة وآثار سوء التؽذٌة جلٌة واضحة‪.‬‬
‫فً البداٌة تعامل الجمٌع مع المسؤلة بؤنفة وعزة نفس‪ ،‬شً با ًال فشًبا ًال ومع استمرار الوضع بدأت التصرفات‬
‫الؽرٌزٌة تطل برأسها‪ ،‬فالسجن أساسا ًال هو عالم االشٌاء الصؽٌرة‪ ،‬عالم الصؽابر‪ ،‬اثنان من اساتذة الجامعة‪،‬‬
‫شخصان محترمان جداًال‪ ،‬كبٌران فً السن ‪ٌ ..‬تشاجران‪ٌ ،‬تشاتمان‪ٌ ،‬نتهً األمر بالمقاطعة‪ ،‬والمسؤلة برمتها‬
‫تكون قد بدأت على الشكل التالً‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا اخً كم مرة قلت لك ال تلبس شحاطتً؟!‬
‫‪ -‬اٌه ‪ ...‬شو فٌها إذا لبسناها؟ ‪ ..‬رح ٌنقص من قٌمتها ٌعنً؟!‬
‫‪ -‬بٌنقص ما بٌنقص ‪ ...‬ال تلبسها وبس‪ ...‬صار مٌت مرة حكٌنا ‪ ...‬وإال انت ما بتفهم حكً؟!‬
‫‪ -‬انا ما بفهم!!‪ ...‬شو شاٌفنً حمار متل حضرتك؟!‬
‫‪ -‬أنا حمار ؟! ‪ ...‬اٌه إنت وأبوك وكل عٌلتك حمٌر ٌا أكبر حمار!!‪.‬‬
‫وقد ٌتطور األمر بٌن األستاذٌن إلى الضرب إذا لم ٌتدخل أحد بٌنهما‪.‬‬
‫ال ٌمر ٌوم دون مشاجرة أو أكثر موضوعها الوحٌد الطعام ‪.‬‬
‫‪ -‬لٌش اعطٌتنً قطعة خبز أصؽر من ؼٌري؟‬
‫‪58‬‬
‫‪ -‬لٌش تعطً لفبلن ملعقة لبنة كاملة وانا ٌا دوب نص ملعقة؟‬
‫‪ -‬ما بٌكفً إ نه حصتً ثبلثة حبات زٌتون وفوقها تكون صؽٌرة‪ ،‬حبات ؼٌري سمٌنة‪.‬‬

‫قبل شهر اجتمع االطباء مع ربٌس المهجع ابو حسٌن‪ ،‬شرح احدهم البو حسٌن ان استمرار الوضع الحالً‬
‫اسباب قوٌة من خبلل مبلحظاتهم وفحوصهم لبلعتقاد أن قسم اًال من السجناء قد‬
‫اًال‬ ‫ٌنذر بكارثة مرضٌة‪ ،‬وأن لدٌهم‬
‫أصٌب بالسل‪ ،‬وطلبوا منه إببلغ ادارة السجن باألمر‪ ،‬وبعد نقاش تقرر اعتماد خطة المرحوم ابو محمد‪.‬‬
‫أبلؽوا جمٌع المهاجع باألمر عن طرٌق "المورس" وتبٌن أن اإلصابات لدى الجمٌع‪ ،‬وبعد المطالبة حضر‬
‫المساعد ‪ ،‬شرح له ابو حسٌن الوضع وأردؾ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي األطباء متؤكدين إنه مرض السل‪ ..‬ومتل ما سٌادتكم تعرفوا هادا مرض معدي كتٌر ‪ ...‬ونحن‬
‫وانتو بمحل واحد‪ ،‬ومتل ما ممكن السجٌن ٌمرض‪ ،‬ممكن ال سمح هللا الشرطً كمان ٌنعدى‪.‬‬
‫‪ -‬ابتدأ العبلج ‪ ،‬تفاعل السلٌن ‪ ،‬األرشٌدٌن ‪...‬‬
‫************‬

‫أنا منذ أشهر مستمر بالمراقبة والتلصص عى ساحة السجن عبر الثقب‪ ،‬حفظت وجوه عناصر الشرطة كلهم‪،‬‬
‫شاهدت اإلعدامات ‪ ...‬ثمان مشانق ‪ ...‬كل اثنٌن وخمٌس‪ ،‬أسمع كبلم الشرطة بوضوح احٌاناًال‪ ،‬كان الناس هنا‬
‫ٌتساءلون‪ :‬لماذا لم نعد نسمع صٌحات هللا أكبر لدى تنفٌذ حكم األعدام ؟ ‪ .‬اآلن عرفت السر‪ ،‬بعد أن ٌخرج‬
‫المحكومون باإلعدام من المهجع ٌؽلق الشرطة الباب وٌقومون بلصق أفواه المحكومٌن ببلصق عرٌض‪ ،‬ك أن‬
‫صرخة هللا أكبر من المحكومٌن قبل اعدامهم تشكل تحدٌا ًال واستفزازاًال للمحكمة المٌدانٌة وادارة السجن‪ ،‬فمنعوها‬
‫بالبلصق‪.‬‬
‫المشانق ؼٌر ثابتة‪ ،‬ال تشبه المشانق العادٌة التً ٌصعد الٌها المحكوم باإلعدام ‪ .‬هذه المشانق هً التً تنزل‬
‫إلى المحكوم‪ ،‬البلدٌات األشداء ٌمٌلون المشنقة إلى أن ٌصل الحبل إلى رقبة المحكوم باإلعدام‪ٌ ،‬ثبتون الحبل‬
‫حول الرقبة جٌداًال ثم ٌسحبون المشنقة من الخلؾ‪ٌ ،‬رتفع المحكوم علٌه وتتدلى رجبله فً الهواء‪ ،‬بعد ان ٌلفظ‬
‫الروح ٌنزلونه الى االرض ‪ ...‬وتؤتً الدفعة الثانٌة ثم الثالثة ‪ ...‬أؼلب الذٌن شاهدت اعدامهم كانوا هادبٌن‪،‬‬
‫مصرت البول‬
‫ا‬ ‫شاهدت أٌضا ًال حاالت كثٌرة ظهر فٌها حب الحٌاة والضعؾ االنسانً‪ ،‬البعض كانت ترتخً لدٌه‬
‫والبراز‪ ،‬والشرطة فً هذه الحالة ٌنزعجون كثٌراًال‪ ،‬فالرابحة التطاق‪ٌ ،‬شتمون وٌضربون الشخص الذي عملها‬
‫!‪ .‬بعضهم اآلخر كانوا ٌبكون‪ٌ ،‬حاولون الكبلم والتضرع فٌمنعهم البلصق العرٌض‪ ،‬أحد المساجٌن من صؽار‬
‫السن استطاع أن ٌفلت من بٌن اٌدٌهم وٌركض فً الساحة السادسة‪ ،‬وهً ساحة كبٌرة جداًال ذات فرعٌن‪،‬‬
‫الهرب مستحٌل واضطر الشرطة والبلدٌات للركض وراءه لدقابق الى أن أمسكوه‪ ،‬اوقفوه تحت المشنقة فجلس‬
‫على االرض‪ ،‬رفعه اثنان من البلدٌات وأدخلوا رقبته فً الحبل‪ ،‬بعد قلٌل لعبط برجلٌه فً الهواء‪.‬‬
‫‪ 20‬آذار‬
‫‪59‬‬
‫عبلج مرضى السل مستمر‪ ،‬وجوالت الدكتور سمٌر الذي قام بالعبلج أٌضا ًال مستمرة‪ ،‬مرّ شهران كامبلن لكن‬
‫االصابات فً تزاٌد مستمر‪ ،‬وصل الرقم الى ألؾ وثبلثمابة إصابة فً السجن حسب ما قال الدكتور سمٌر‪،‬‬
‫الوفٌات قلٌلة جداًال‪.‬‬

‫كان الجمٌع هنا ٌعزي معالجة التهاب السحاٌا ومرض السل الى فضل طبٌب السجن‪ ،‬الجمٌع ٌشٌد بانسانٌته‬
‫وذلك حتى عشرٌن ٌوما ًال خلت‪ ،‬حٌث وردت رسالة "مورس" مإلفة من بضع كلمات‪:‬‬
‫" طبٌب السجن قتل اثنٌن من زمبلء دفعته‪" .‬‬
‫الرسالة واردة من المهجع السابع‪ ،‬بعد ثبلثة أٌام وردت رسالة اخرى‪:‬‬
‫" طبٌب السجن قتل ثبلثة من زمبلء دفعته‪" .‬‬
‫الرسالة واردة من المهجع الرابع والعشرٌن‪.‬‬
‫أبو حسٌن‪ ،‬وهو شخص دٌنامٌكً جداًال باالضافة الى انه ذكً‪ ،‬احس بالخطر‪ ،‬فدعا الطبٌبن زمبلء دفعة طبٌب‬
‫طبٌب‬ ‫السجن لعنده‪ ،‬تحدث واٌاهما مطوال‪ ،‬سؤلهما عن أشٌاء كثٌرة‪ ،‬كانت لدٌه خشٌة كبٌرة من أن ٌقوم‬
‫السجن بقتل كافة زمبلء دفعته ومنهم هذان الطبٌبان‪ ،‬استخدم أبو حسٌن كل لباقته ودهابه كٌبل ٌدخل الخوؾ‬
‫الى قلبٌهما‪ ،‬وفً الوقت نفسه كان ال ٌرٌد أن ٌكذب علٌهما ‪ .‬الحدٌث كان طوٌبل جداًال‪ ،‬وأهم ما فٌه قول أبو‬
‫حسٌن لهما‪:‬‬
‫‪ -‬أنا ال أرٌد أن أهون المسؤلة وأكذب علٌكما‪ٌ ،‬بدو أن زمٌلكما قد بدأ هناك ومن المحتمل أن ٌنتهً هنا‪- ،‬‬
‫وأرجوا من هللا أن ٌكون ظنً خاطبا ًال ‪ -‬ولكن قد ٌكون دوركما قادما ًال ‪ -‬ال سمح هللا ‪ ، -‬واآلن هل استطٌع‬
‫أنا أو ؼٌري أن نفعل شٌباًال؟‪.‬‬
‫سكت الطبٌبان قلٌبلًال ثم تناوبا على الحدٌث بعد ذلك‪:‬‬
‫‪ -‬لٌس بٌدك أو بٌدنا ٌا أبو حسٌن إال أن نقول‪ :‬حسبنا هللا ونعم الوكٌل‪ ،‬وستؤتً ساعة نقؾ فٌها جمٌعا بٌن‬
‫ٌدي هللا‪ ،‬و ٌا وٌله من تلك الساعة‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن قوال لً لماذا ٌفعل هذا؟ هل هو ٌنتقم؟ وممن؟‪.‬‬
‫‪ -‬وهللا ٌا أبو حسٌن ال نعرؾ الكثٌر عنه‪ ،‬ما نعرفه وٌعرفه جمٌع زمبلبنا أنه أتى الى الجامعة وكان فقٌرا‬
‫جداًال‪ ،‬كان رٌفٌا بسٌطا وخجوال‪ ،‬قد ٌكون زمبل إه أبناء المدٌنة قد تعاملوا معه بفوقٌة‪ ،‬وبعضُ منهم عامله‬
‫باحتقار‪ ،‬عرؾ الجمٌع أنه من عشٌرة الربٌس وهو لم ٌكن ٌخفً هذا‪ ،‬كان ٌدرس الطب على نفقة الدولة‪،‬‬
‫قٌل إ نه كان ٌعمل مخبرا لدى الجهات األمنٌة‪ ،‬كل أبناء المدٌنة تجنبوه‪ ،‬والقصة التً لها بعض المعنى فً‬
‫هذا المضوع هو حبه لزمٌلة من زمٌبلتنا من بنات المدٌنة‪ ،‬بقً حتى السنة الثالثة فً الجامعة ٌحبها‬
‫بصمت ‪ ،‬ال ٌجر إ على االقتراب منها أو مصارحتها‪ ،‬فً السنة الثالثة انتهز فرصة انفراده بها بؤحد‬
‫المخابر‪ ،‬أمسك ٌدها وصارحها بحبه‪ ،‬قال إنه ٌعبدها ‪ ...‬وإنه‪ ....‬وإنه‪.‬‬
‫الفتاة وهً من عابلة مدٌنٌة محافظة عرفت بالؽنى والقوة‪ ،‬كانت ردة فعلها عنٌفة جد اًال‪ ،‬وقد تكون هً السبب‬
‫فً كل ما ٌحدث ‪ ،‬صدته ابحتقار واشمبزاز‪ ،‬اشتكت الى عمادة الكلٌة‪ ،‬ثم أخبرت أهلها بما حدث‪.‬‬
‫‪60‬‬
‫عوقب من قبل الجامعة‪ ،‬ولكن ردة فعل األهل كانت أعنؾ‪ ،‬ثبلثة من أخوة الطالبة ظلوا ٌتجولون فً أرجاء‬
‫الكلٌة بصحبة أختهم مدة ثبلثة أٌام‪ ،‬وكان واضحا للجمٌع أنهم ٌخفون أسلحة تحت ثٌابهم‪ ،‬كانوا ٌبحثون عنه‬
‫وبنٌّتهم قتله‪ ،‬هكذا قالت الطالبة فٌما بعد‪ ،‬لكنه لم ٌكن موجوداًال‪ ،‬لقد اختفى ولم ٌعد ٌحضر الى الكلٌة‪.‬‬
‫بعد أسبوع حضرالى الكلٌة وكؤن شٌبا لم ٌكن‪ .‬إخوة الطالبة انسحبوا‪ .‬عقوبة اإلدارة ألؽٌت‪.‬‬
‫عؾعنه أهلً‪.‬‬ ‫‪ -‬راح جاب قراٌبه المخابرات‪ّ ،‬‬
‫ودخل وساطات‪ ،‬باس األٌادي حتى ا‬
‫هكذا راحت الطالبة تشرح األمر لآلخرٌن‪.‬‬
‫اًال‬
‫طالب أو طالبٌن من منطقته‪ ،‬الكل كان ٌعامله بعدها باحتقار ‪ ،‬وبعض‬ ‫تابع دراسته منزوٌا ًال الٌختلط مع أحد إال‬
‫زمبلئنا الطبلب كانوا أحٌانا ًال ٌسلقونه بتعلٌقاتهم البلذعة‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ‪ ...‬اقسم باهلل ٌا اخً ابو حسٌن ‪ ،‬نحن هذه المجموعة لم نكن ننتبه لهذه االمور ال من قرٌب وال من‬
‫بعٌد ‪ ،‬كنا فً صؾ واحد أكثر من خمسة وعشرٌن شابا ًال مإمناًال باهلل نحضر بعد الدوام دروسا دٌنٌة فً‬
‫المسجد‪ ،‬ولهذا السبب نحن هنا االن ‪ ،‬كم من االخوة قبض علٌه وكم منهم نجا ‪ ،‬لست أدري ‪ ...‬كان هللا فً‬
‫عون الجمٌع‪.‬‬
‫‪ -‬هم م ‪ ...‬قلت لنفسً إنه قد ٌكون فً االمر امرأة ‪ .‬إن هذا الشخص ٌشعر بالعار‪ ،‬ولكن هل اذا قتل شهود‬
‫عاره‪ٌ ،‬محً هذا العار ؟‪ ...‬ؼبً ‪...‬‬
‫ولكنً إعتقد أن هذا السبب على قوته الٌكفً! أعتقد ان هناك سببا ًال َ‬
‫اخر ال ٌعرفه احد!‬
‫الٌوم فً ‪ 20‬آذار‪ ،‬قبل عٌد الربٌع بٌوم واحد‪ ،‬كان موعد هذٌن الطبٌبٌن مع زمٌلهما‪.‬‬
‫أخرج عناصر الشرطة الطبٌبٌن و أؼلقوا الباب‪ ،‬أسرعت الى بطانٌتً والثقب‪ ،‬راٌت الطبٌبٌن ٌسوقهما عناصر‬
‫الشرطة إلى أمام طبٌب السجن الذي ٌقؾ على مبعدة أربعة او خمسة أمتار من المهجع‪ٌ .‬قؾ الطبٌب عاقداًال ٌدٌه‬
‫على صدره وهو ٌبتسم‪ .‬رحب بهما‪ :‬أهبلًال وسهبلًال‪ ،‬ثم التفت الى عناصر الشرطة وأمرهما‪:‬‬
‫‪ -‬روحوا خلوكم جانب البلدٌات‪.‬‬
‫فً وسط الساحة سبع من البلدٌات العمالقة ‪ .‬وقؾ عناصر الشرطة بالقرب منهم‪ ،‬اسمع الحدٌث بصعوبة ‪ ،‬قال‬
‫طبٌب السجن‪:‬‬
‫‪ -‬اٌه ‪ ...‬هلق عم تقولوا لحالكم ‪ :‬سبحان مؽٌر االحوال ‪ ...‬طٌب وانا كمان بقول هٌك ‪ ...‬بدي اطلب منكم‬
‫طلب‪ ،‬مٌن منكم بدو ٌجوزنً اختوه ؟ ‪.‬‬
‫لم ٌجب الطبٌبان بشًء‪ ،‬رأساهما منكسان قلٌبلًال‪ ،‬تابع طبٌب السجن‪:‬‬
‫‪ -‬لٌش ساكتٌن؟! ‪ ...‬شو ٌا عدنان ‪ ...‬أنا عم أخطب اختك على سنة هللا ورسوله‪ ،‬الزواج عٌب شً؟‪.‬‬
‫‪ -‬بس انا ما عندي اخت‪ ،‬والحمد هلل‪.‬‬
‫هنا قال طبٌب السجن لعدنان شٌبا ًال ًال لم اسمعه‪ .‬سادت فترة صمت ثم التفت الى الطبٌب اآلخر‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ...‬وأنت ٌا زمٌل سلٌم كمان ما عندك أخت؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ...‬عندي أخت‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب خطبنً اٌاها على سنة هللا ورسوله‪.‬‬
‫‪61‬‬
‫‪ -‬الزواج قسمة ونصٌب‪ ،‬ونحن هلق بوضع ما بٌسمح بنقاش هٌك أمور‪ ،‬وأوالًال وأخٌراًال أنا مانً ولً أمرها‪.‬‬
‫‪ -‬هذا أسلوب تهرب ‪...‬‬
‫اقترب منه وبصوت أقوى‪:‬‬
‫‪ -‬وإال شاٌؾ انه نحن مو قد المقام‪ ،‬انتو ناس أؼنٌاء وأكابر‪ ،‬نحن فبلحٌن‪ ،‬مو هٌك؟‬
‫اقترب منه ولوح بٌده أمام وجهه وبصوت حاد صاح وهو ٌصر على أسنانه‪:‬‬
‫‪ -‬ولك شوؾ ‪ ...‬افتح عٌونك وطلع لهون‪ ،‬شاٌؾ هذا البوط‪ ،‬بوطً أحسن منك ومن أختك وأهلك و كل‬
‫عشٌرتك وطاٌفتك ‪ ...‬وال كلب‪.‬‬
‫ثم التفت الى حٌث البلدٌات وصاح‪:‬‬
‫‪ -‬بلدٌات‪ ...‬تعوا لهون والك‪ ...‬خذوهم عـ نص الساحة‪.‬‬
‫سحب البلدٌات الطبٌبٌن‪ .‬ومشى وراءهم وهو ٌصٌح‪:‬‬
‫‪ -‬هدول ناس أكابر ‪ٌ ...‬عنً فوق ‪ ...‬فوق‪ ،‬وهلق نحن بدنا نطالعهم كمان لفوق أكثر وأكثر ‪ٌ ...‬اهلل لشوؾ‪.‬‬
‫ت‪ ،‬من‬ ‫فً منتصؾ الساحة كنت أرى وال أسمع‪ ،‬استلقى عدنان على ظهره وأمسك به سبعة من البلدٌا‬
‫الرجلٌن‪ ،‬الٌدٌن‪ ،‬الخاصرتٌن‪ ،‬ومن تحت الرأ س‪ .‬إنها عقوبة المظلة ‪ .‬والمظلة عقوبة تعنً واحد اًال من ثبلثة‬
‫أشٌاء‪ :‬إما كسور مختلفة فً سابر أنحاء الجسم وعلى األؼلب فً الحوض‪ ،‬وإما شلل دابم عندما ٌكون الكسر‬
‫فً العمود الفقري‪ ،‬أو الموت وهو االحتمال الثالث خاصة عندما ٌسبق الرأس الجسم فً النزول‪ ،‬وؼالبا هذا‬
‫ٌحدث عندما ٌكون عنصر البلدٌات الممسك بالرأس أقل قوة من اآلخرٌن‪.‬‬
‫رفع البلدٌات عدنان‪ ،‬وجهه الى السماء‪ ،‬ظهره مواز لؤلرض االسفلتٌة‪ ،‬أرجحوه قلٌبلًال ثم بصوت عال‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اهلل ‪ ..‬واحد ‪ ...‬اثنٌن ‪...‬ثبلثة‪.‬‬
‫وقذفوه الى األعلى‪ ،‬ثم خبطة قوٌة على األرض‪ ،‬لم ٌتحرك عدنان بعد أن صرخ صرخة ألم رهٌبة‪.‬‬
‫بتجاه باب مهجعنا‪ ،‬عبّ نفسا‬
‫انتظر طبٌب السجن قلٌبل‪ ،‬أشعل لفافة تبػ وظهره لعدنان واآلخرٌن‪ ،‬كان ٌنظر ا‬
‫من اللفافة وزفره‪ ،‬التفت وأشار للبلدٌات الذٌن تقدموا ورفعوا عدنان مرة أخرى و ‪ ...‬واحد ‪ ...‬اثنٌن ‪...‬‬
‫ثبلثة‪ ،‬هذه المرة لم تصدر أٌة صرخة‪.‬‬
‫أشار لسلٌم اشارة وهو ٌتكلم كبلماًال لم أسمعه‪ ،‬اقترب سلٌم وانحنى فوق عدنان‪ ،‬وقؾ وقال كبلما ًال لطبٌب السجن‬
‫الذي انتفض وصفعه على وجهه صفعة سمعت صوتها وأنا جالس داخل المهجع ‪ ...‬وبدأ ٌصرخ وٌشٌر بٌدٌه‪.‬‬
‫تكرر نفس األمر مع سلٌم‪.‬‬
‫تركوهما وسط الساحة فً حالة استلقاء أبدي‪ .‬ؼادر طبٌبُ السجن‪ٌ ،‬حٌط به موكبه‪ ،‬الساح َة‪.‬‬
‫مجموع ما قتله طبٌب السجن من زمبلء دفعته أربعة عشر طبٌبا ًال‪.‬‬
‫إذا كان بعض هإالء األطباء أو أحدهم ٌعرؾ األسباب التً دفعت زمٌلهم إلى قتلهم فإنه أخذ السر معه الى‬
‫القبر‪ ،‬ألن القاتل لن ٌتكلم‪ .‬وظل األمر داخل السجن فً إطار التكهنات ‪ ...‬فبل أحد ٌعرؾ السر الحقٌقً‪.‬‬
‫‪ 6‬ايار‬

‫‪62‬‬
‫الدكتور سمٌر ومن خبلل جوالته الطوٌلة داخل السجن استطاع أن ٌحقق بعض األمور التً لم ٌحققها ؼٌره‪،‬‬
‫عرؾ تقسٌمات السجن وتوزع ساحاته ومهاجعه‪ ،‬أصبح لدٌه كم هابل من المعلومات عن نزالء كل مهجع‪،‬‬
‫ٌنقل األخبار بٌن المهاجع‪ ،‬فقد ٌكون هناك مجموعة من اإلخوة من عابلة واحدة اعتقلوا سوٌة ولم ٌعد أحدهم‬
‫ٌعرؾ عن اآلخر شٌباًال‪ٌ ،‬قوم هو بالسإال عنهم وتطمٌن بعضهم ان االخرٌن موجودون فً المهجع كذا وكذا‪.‬‬
‫أهم أمر حققه انه نال امتٌاز التكلم مع الشرطة وهو مفتوح العٌنٌن‪ ،‬فنتٌجة لبلحتكاك الدابم تعود الشرطة ان‬
‫ٌبدأهم هو بالحدٌث وهذا ؼٌر ممكن لآلخرٌن‪.‬‬

‫االثنٌن الماضً جاءت الهلٌوكوبتر‪ ،‬دخلت هٌبة المحكمة المٌدانٌة الى الؽرفة المخصصة لها‪ ،‬سلمت البلبحتٌن‬
‫إلى إدارة السجن‪ ،‬البحة الذٌن سٌحاكمون والبحة اإلعدام‪.‬‬
‫جلست أمام الثقب مؽطى بالبطانٌة أتلصص على الشرطة وعملٌة االعدا م التً أصبحت روتٌنٌة بالنسبة ل ي‪،‬‬
‫كالعادة حضر السجناء الذٌن سٌتم تنفٌذ حكم اإلعدام بهم‪ ،‬تمت كل االجراءات المعتادة‪ ،‬جهزت المشانق‪،‬‬
‫إال انزال المشنقة والحبل‪،‬‬ ‫البلدٌات جاهزون‪ ،‬وضعوا اول مجموعة ثمانٌة اشخاص تحت المشانق‪ ،‬لم ٌبق‬
‫عندها صاح احد الذٌن لم ٌلصق فمهم بعد وكان الشرطً واقفا ًال امامه والبلصق بٌده‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اسٌدي ‪ ...‬دخٌلك‪ ،‬نحن لسه ما تحاكمنا‪.‬‬
‫انهال علٌه الشرطة بالضرب والشتابم‪ ،‬فبل ٌجوز له ان ٌبدأهم الكبلم‪ ،‬ولكن صٌحته وصلت الى المساعد الواقؾ‬
‫عند آخر مشنقة‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬اتركوه ‪ ...‬اتركوه‪.‬‬
‫ثم اقترب من السجٌن وسؤله‪:‬‬
‫‪ -‬شو عم تقول ‪ ..‬وال؟‬
‫‪ٌ -‬اسٌدي نحن مانا محكمومٌن‪ ،‬لسه ما رحنا عـ المحكمة‪.‬‬
‫‪ -‬شو ها الحكً !!‪.‬‬
‫الرقباء‬ ‫التفت المساعد إلى الرقٌب المسإول‪ .‬طلب منه البلبحة ‪ .‬تبٌن ان هناك خطؤ ادارٌا ًال بسٌطاًال‪ ،‬لقد اخطؤ‬
‫فؤخذوا السجناء الذٌن من المفترض أن ٌعدموا الى المحكمة‪ ،‬وجلبوا االشخاص الذٌن من المفترض أن ٌذهبوا‬
‫الى المحكمة لٌتم إعدامهم‪.‬‬
‫كل السجناء الذٌن جلبوا امام المشانق ٌعرفون انهم هنا بطرٌق الخطؤ‪ ،‬ولكن لم ٌتجرأ إال شخص واحد ع لى‬
‫تنبٌه الشرطة على هذا الخطؤ‪.‬‬
‫وبّخ المساعد الرقٌب وتم اصبلح الخطؤ‪.‬‬
‫بعد شهر تقرٌبا ًال من مقتل الطبٌبن عادل وسلٌم‪ ،‬عاد الدكتور سمٌر من جولته العبلجٌة‪ ،‬دخل المهجع‪ ،‬السبلم‬
‫علٌكم‪ ،‬وقؾ قلٌبلًال ثم جلس عند ابو حسٌن‪ ،‬بعد االحادٌث المعتادة قال ابو حسٌن‪:‬‬
‫‪ -‬شو دكتور ؟‪ ...‬انا شاٌؾ انه عندك حكً‪.‬‬
‫‪ -‬اٌه وهللا ٌاابو حسٌن ‪ ...‬بدي نصٌحتك‪.‬‬
‫‪63‬‬
‫شرح الدكتور البو حسٌن ان ال نتابج ملموسة لكل العمل الذي ٌقوم به‪ ،‬ومع كل ٌوم جدٌد ٌتفاقم وضع مرضى‬
‫السل اكثر فؤكثر‪ " ،‬أنا كمن ٌحرث الماء"‪ ،‬و أن الدواء وحده الٌكفً‪ ،‬فالؽذاء الذي ٌتناوله المرٌض شًء‬
‫اساسً‪ ،‬و‪:‬‬
‫‪ -‬متل مانك شاٌؾ ٌاابو حسٌن ‪ ...‬الناس جوعانه‪ ،‬واذا ما تحسن االكل بالسجن‪ ،‬مستحٌل حدا ٌطٌب من‬
‫ت اكتر‪ ،‬وعدد المرضى بدو ٌزٌد‪ .‬وانه ٌفكر جدٌا ًال بؤن ٌطلب اعفاءه‬
‫هالمرض‪ ،‬بالعكس المرض بدو ٌشد‬
‫من هذا العمل‪.‬‬
‫امتد النقاش طوٌبلًال‪ ،‬شارك فٌه اخرون‪ ،‬اخٌراًال ختم ابو حسٌن النقاش مذكراًال الدكتور سمٌر بواجبه امام هللا‬
‫وواجبه االنسانً طالبا ًال منه أن ٌجعل من ٌؤسه منطلقا ًال لتحسٌن الشروط‪ ،‬عندها سؤله الدكتور‪:‬‬
‫‪ -‬وكٌؾ بدي اعمل ؟‬
‫‪ -‬اطلب طبٌب السجن‪ ،‬اشرح له األمر‪ ،‬وطالبه بتحسٌن الطعام‪.‬‬
‫‪ -‬طبٌب السجن ؟! هذا ‪ ...‬الجبلد!‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬هذا الجبلد‪ ،‬انت اعمل اللً علٌك واترك الباقً على هللا‪.‬‬
‫فً صباح الٌوم التالً ‪ ،‬كالمعتاد فتح الشرطة والبلدٌات الباب وهم محملون باالدوٌة ‪ ،‬لم ٌخرج الدكتور وقال‬
‫للرقٌب ‪:‬‬
‫‪ -‬قبل الجولة ‪ ...‬الزم شوؾ طبٌب السجن ‪ ...‬ضروري ‪.‬‬
‫بعد قلٌل حضر طبٌب السجن ‪ ،‬شرح له الدكتور سمٌر األمر بلؽة االطباء ‪ ،‬و أنهى حدٌثه إلى نتٌجة ان ال‬
‫جدوى من العبلج كله اذا بقٌت الشروط الؽذابٌة كما هً علٌه االن ‪ ،‬رد طبٌب السجن ‪:‬‬
‫‪ -‬اترك لً موضوع الطعام شً ٌومٌن‪ ..‬ثبلثة ‪ ،‬وروح انت تابع العبلج مثل العادة ‪.‬‬
‫الزابد أخو الناقص !‪.‬‬
‫بتل من الخبز والبٌض المسلوق‪ ،‬أدخل‬
‫بعد أسبوع من هذه المحادثة فتح الشرطة الباب الدخال الفطور‪ ،‬واذا ٍ‬
‫الفدابٌون الطعام‪ ،‬وزعوه‪ ،‬نصٌب الشخص الواحد سبعة ارؼفة مع خمس بٌضات مسلوقات ‪ ...‬من سٌؤكل كل‬
‫هذا ؟‪.‬‬
‫نبه االطباء الى ضرورة االعتدال باألكل‪ ،‬النه بعد كل هذا الجوع الٌجوز للبطن ان ٌمتلا كثٌراًال‪.‬‬
‫وانؤ أٌضا‬ ‫استمر الجوع عاما ًال كامبلًال تقرٌباًال‪ ،‬اسماه السجناء " سنة الجوع "‪ ،‬وهً سنة ؼٌرت الناس كثٌراًال‪،‬‬
‫تؽٌرت‪ ،‬وهذا التؽٌٌر أحسه جلٌا ًال من الداخل‪ ،‬بعد مضً األسابٌع األولى من سنة الجوع‪ ،‬أصبح األمر عادٌاًال‪،‬‬
‫أن تكون جابعا ًال أمر طبٌعً لم ٌعد ٌستلزم الكثٌر من التفكٌر‪ ،‬ولكن مع تناقص وزن الجسد كلن ٌتامى داخلً‬
‫إحساس عمٌق بالصفاء والنقاء‪.‬‬
‫اذكر أننً فً بواكٌر المراهقة أخذ إحساسً بالجسد اإلنسانً عموما ًال وجسدي خصوصا ًال ٌكبر شٌبا ًال فشٌباًال‪ ،‬ومن‬
‫همسات رفاق المدرسة والشارع تعلمت كٌؾ أصل إلى انفجار اللذة الذي ٌعصؾ بالجسد كامبلًال‪.‬‬
‫دخلت الحمام فً منزلنا وقمت بتطبٌق ما تعلمته من رفاقً ‪ ،‬كدت أصاب باإلؼماء لذ ًالة وخوفا ًال ودهشة‪ ،‬ولكن‬
‫بعد مضً دقابق قلٌلة تلبسنً إحساس باإلثم‪ ،‬إحساس بالتلوث‪ ،‬فقدت طهارتً ونقابً الى األبد‪.‬‬
‫‪64‬‬
‫أن هذا‬ ‫منذ ذلك الحٌن الزمنً هذا اإلحساس كظلً‪ ،‬إلى أن مررت بسنة الجوع والتً خبللها كنت اشعر‬
‫التلوث‪ ..‬هذا الدنس قد بدأٌزول تدرٌجٌاًال‪ ،‬واننً اعود الى بساطة وبراءة الطفولة‪.‬‬
‫" اكثر ما امضنً واحرقنً هو عد م قدرتً على مشاركة أي انسان بما احسه واشعره‪ ،‬كان شعوري بعودة‬
‫النقاء فرحا ًال رافق عذابات الجوع "‪.‬‬
‫حتى أحبلمً تؽٌرت‪ ،‬أحبلم الٌقظة والتً كانت قبل سنة الجوع منصبة كلها تقرٌبا ًال على المرأة‪ ،‬تؽٌرت‬
‫وانصبت بمعظمها خبلل هذه السنة على الطعام‪ ،‬الطبخات التً كنت احبها‪ ،‬ابتكرت بعض الطبخات‪ ،‬احلم‬
‫بوجبة ملٌبة باللحوم والدسم ‪ ...‬وإذا كنت استطٌع معالجة الحاجات التً تخلفها احبلم الٌقظة الجنسٌة‪ ،‬فاننً لم‬
‫استطع معالجة الحاجات التً خلفتها أحبلم الٌقظة الطعامٌة!‪.‬‬
‫اصبح الدكتور سمٌر بطبلًال على مستوى السجن ه‬
‫كل ‪ ،‬ولكنه بتواضع اصٌل قال البو حسٌن‪:‬‬
‫‪ -‬الفضل كله الك ٌا أبو حسٌن‪.‬‬
‫الٌوم اجروا لً فحصاًال‪ ،‬فتؤكد خلوي من مرض السل‪.‬‬
‫‪ 14‬تموز‬
‫خبلل الفترة الماضٌة تمت السٌطرة على مرض السل بنجاح البؤس به ‪ ،‬الوفٌات بسببه توقفت ‪ٌ ،‬قدر الدكتور‬
‫سمٌر ان هناك حوالً الفً شخص ٌعالجون من هذا المرض ‪ ،‬أصبح هناك طبٌب اخر ٌساعده فً جوالته ‪.‬‬
‫الطعام أصبح مشكلة كبٌرة ‪ ،‬فً األٌام األولى من وفرة الطعام أخذ السجناء ٌحاولون تخزٌن ماٌمكن تخزٌنه‬
‫خوفا ًال من العودة الى اٌام الجوع ‪ ،‬ولكن تدفق الطعام استمر بمعدل ٌزٌد عن حاجة او قدرة االنسان على االكل‬
‫بضعفٌن او ثبلثة اضعاؾ ‪ ،‬لم ٌبق فراغ فً المهجع الذي هو مكتظ اصبلًال اال وخزن فٌه السجناء الخبز الٌابس‬
‫‪ ،‬حتى اصبحت الحركة صعبة داخل المهجع ‪ ،‬ثم استحالت ‪.‬‬
‫" فً هذا السجن الٌوجد قمامة ‪ ،‬ممنوع منعا ًال باتا ًال اخراج أي قمامة من أي مهجع " ‪.‬‬
‫اشتكى السجناء البو حسٌن ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا ابو حسٌن ‪ ...‬القً لنا حل ‪ ،‬شوؾ المساعد بلكً ٌاخدوا من عندنا بس الخبز الٌابس‪.‬‬
‫ابو حسٌن طلب من الدكتور سمٌر ان ٌتحدث بالموضوع مع المساعد فقال سمٌر له فً نفس الٌوم ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اسٌدي ‪ ...‬صار فً عندنا خبز ٌابس كتٌر ‪ ...‬بلكً سٌادتك تسمح للسجناء ٌطالعوه برات المهجع ‪ ،‬النه‬
‫زابد عن حاجتنا ‪ ...‬وممكن ؼٌرنا ٌستفٌد منه ‪ ...‬اذا فً حولكم اؼنام ‪ ...‬هذا ممكن ٌصٌر علؾ جٌد‬
‫لبلؼنام ‪.‬‬
‫جاء رد المساعد حاسما ًال ‪:‬‬
‫‪ -‬شو دكتور !!‪ ...‬شاٌفك صرت عم تتمدمد اكتر من البلزم !‪ ..‬شو شاٌفنا رعٌان ؼنم !؟ بعدٌن نظام السجن‬
‫واضح وصرٌح ‪ :‬ممنوع ٌطلع من المهاجع وال ذرة زبالة ‪ .‬هذا اوالًال ‪ ،‬اما ثانٌا ًال ‪ :‬انتو ٌللً طلبتوا نزٌد‬
‫االكل ‪ ...‬زدناه ‪ ،‬وهلق كل شً موجود فً المهجع الزم تاكلوه ‪.‬‬
‫احتدم النقاش فً المهجع ‪ .‬المكان ضاق‪ ،‬الخبز الٌابس جلب معه قطعان اًال جرارة من النمل والصراصٌر‬
‫والجرذان‪.‬‬
‫‪65‬‬
‫كان السإال كٌؾ نسطٌع التخلص من كل هذا الخبز ؟‪ ...‬وجاء الحل من عند ابو حسٌن‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اشباب ‪ ...‬خلونا نختصر‪ ،‬انا برأي ما فً ؼٌر حل واحد‪ ،‬ننقع هذا الخبز بالماء وعلى دفعات‪ ،‬بعدٌن‬
‫نمرسه حتى ٌصٌر سابل بعدٌن نصرفه عن طرٌق المراحٌض‪.‬‬
‫وقامت قٌامة المهجع ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا حرام ‪ ...‬هذا كفر ‪ ...‬نعمة هللا نلقٌها بالمرحاض !!‪.‬‬
‫‪ -‬هذا ما بٌجوز من هللا ‪ٌ ...‬اما احلى سنة الجوع !!‪.‬‬
‫‪ -‬اٌه وهللا صحٌح ‪ ...‬اٌه ٌكون طول سنة الجوع عشر سنٌن احسن من انه الواحد ٌكب الخبز بجورة‬
‫المرحاض !!‪.‬‬
‫‪ٌ -‬الطٌؾ ‪ٌ ...‬الطٌؾ وٌن وصلنا !!‪.‬‬
‫خبلل السنوات الماضٌة وحتى قبل سنة الجوع كنت أالحظ االحترام الكبٌر الذي ٌعاملون الخبز فٌه‪ ،‬كان‬
‫واحدهم حرٌصا ًال جداًال على أال ٌوقع اٌة قطعة خبز على االرض‪ ،‬وإذا صدؾ وأن رأى قطعة خبز مرمٌة على‬
‫االرض إؾنه ٌرفعها باحترام ‪ٌ ،‬نفضها ثم ٌقبلها ثم ٌضعها على جبٌنه‪ ،‬اما ان ٌؤكلها او ٌضعها فً مكان عال ٍ‬
‫‪ ،‬فللخبز عندهم مكانة القداسة ‪ ،‬واآلن ٌتجرأ ابو حسٌن وٌقترح ان ٌرموا الخبز فً المرحاض ‪ ،‬وهاج الناس‬
‫هٌاجا ًال شدٌداًال‪.‬‬
‫" للحقٌقة فان الحل الذي اقترحه ابو حسٌن كان قد ورد الى ذهنً وانا استمع الى نقاشاتهم‪ ،‬وبعد ان رأٌت‬
‫الهٌاج الذي عم المهجع‪ ،‬قلت الحمد هلل انً ممنوع من الكبلم‪ ،‬فلو اننً كنت الذي قدم هذا االقتراح لقتلونً‬
‫حتما ًال "‪.‬‬
‫قابل ابو حسٌن هٌاجهم بهدوء شدٌد ‪ ،‬جلس مكانه ‪ ،‬لم ٌجادل ‪ ،‬لم ٌتكلم وتركهم ٌوم اًال اخر‪.‬‬
‫كل ٌوم ٌعنً حوالً أ لؾ رؼٌؾ خبز زٌادة ‪ ،‬صار الجمٌع ٌمشً بٌن تبلل من الخبز ‪ ،‬الوصول الى المؽاسل‬
‫او المرحاض أضحى صعبا ًال جداًال ‪ ،‬وأ عٌد فتح النقاش فً الٌوم التالً فلم ٌشارك فٌه ابو حسٌن ‪ ،‬فً الوقت‬
‫الذي كان الجمٌع ٌنتظرون رأٌه ومساهمته ‪ ،‬ضاق الناس ذرعا ًال بسكوته فتوجه الٌه احدهم بالكبلم ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬اٌه ابو حسٌن ‪ ...‬شاٌفك ساكت ‪ ،‬ما الك رأي بالموضوع وانت ربٌس المهجع ؟‪.‬‬
‫‪ -‬طبعا ًال الً رأي ! لكن قبل كل شً الزم احكً شوي مع المشاٌخ ‪ٌ ،‬ارٌت الشٌخ فبلن ‪ ...‬والشٌخ فبلن ‪...‬‬
‫ٌتفضلوا لعندي شوي‪.‬‬
‫عدد اسماء خمسة مشاٌخ كانوا فً الحقٌقة ٌمثلون االتجاهات والتحزبات الموجودة فً المهجع ‪ ،‬وكنت قد‬
‫اصبحت أعرفها جٌداًال من خبلل تلصصً الدابم ‪ ،‬كل واحد منهم هو االكثر علما ًال واحتراما ًال فً جماعته ‪.‬‬
‫تكلم ابو حسٌن مطوالًال ‪ ،‬بدأ حدٌثه بسرد مجموعة من اٌات القرآن واحادٌث النبً محمد ‪ ،‬ثم وصؾ الواقع‬
‫والمخاطر ‪ ...‬أنهى حدٌثه قاببلًال ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ...‬كلنا نعرؾ أن هذا نعمة من عند هللا ٌجب احترامها ‪ ،‬لكن ٌجب ان ال ننسى ان االنسان اهم ‪،‬‬
‫االنسان مخلوق على صورة هللا ولذلك هو اعلى قٌمة من أي شًء آخر على وجه البسٌطة ‪ ،‬ولقد كرمنا‬
‫بنً آدم ‪ ...‬ثم الم ٌعلمنا دٌننا ان " الضرورات تبٌح المحظورات ؟ " ‪.‬‬
‫‪66‬‬
‫كان منطقه مفحما ًال ‪ ،‬ان هذا الرجل ثعلب ‪ ،‬ذو شخصٌة قٌادٌة هابلة ‪ ،‬سكت قلٌبلًال وعاد ٌتكلم ‪:‬‬
‫‪ -‬واخٌراًال ٌا أفاضل ‪ ...‬شو بنحسن نساوي ؟‪ ...‬مثل ما بقول المثل‪ :‬كعكة بخمسة !! هذي النعمة ‪ ،‬اما‬
‫أو إنه نصرفها عن‬ ‫أو بناكلها كلها ‪ ،‬وهذا كمان مستحٌل ‪،‬‬ ‫نطالعها لبرات المهجع ‪ ،‬وهذا مستحٌل ‪،‬‬
‫طرٌق المرحاض ‪ ،‬وال تنسوا إنه المرحاض هو المنفذ الوحٌد النا هون على هـ االرض ‪.‬‬
‫سؤله احد المشاٌخ ‪:‬‬
‫‪ -‬اٌه طٌب ‪ ...‬شو المطلوب منا نحن ٌا ابو حسٌن ؟‪.‬‬
‫‪ -‬فتوى‪ ...‬انتو مشاٌخ هذا المهجع ‪ ،‬هلق تجتمعوا وبطالعوا فتوى ‪ ،‬موبس لهذا المهجع ‪ ،‬فتوى لكل المهاجع‬
‫‪.‬‬
‫وصدرت فتوى بؤؼلبٌة اربعة ضد واحد ‪ ،‬عممت الفتوى على السجن بكامله ‪ ،‬نظم مهجعنا طرٌقة التخلص‬
‫ون شخصا ًال دورٌا ًال مهمتهم الوحٌدة ‪ :‬نقع الخبز ‪ ،‬مرسه ‪ ،‬تصرٌفه فً‬ ‫من األكل الزابد ‪ ،‬كل ٌوم عشر‬
‫المرحاض ‪ ،‬هو وكل المواد األخرى ‪ ،‬الرز والبرؼل والبطاطا والبٌض ‪.‬‬
‫حدثت أزمة من نوع أخر ولكنها اخؾ‪ ،‬أصبح على الشخص أن ٌنتظر مدة طوٌلة حتى ٌؤتً دوره فً الدخول‬
‫إلى المرحاض لقضاء الحاجة !‪.‬‬
‫‪ 29‬أيلول‬
‫عاد ٌوسؾ " مجنون القابد " لزٌارتً ‪ ،‬لقد تحسن وضعً فً المهجع قلٌبلًال منذ شهر تقرٌبا ًال ‪ ،‬خؾت ممانعتهم‬
‫له عن زٌارتً ‪.‬‬
‫أنٌن رجل ٌتؤلم بشدة ‪ .‬انه‬ ‫استٌقظت فً الصباح الباكر قبل موعد االستٌقاظ العادي بساعة او ساعتٌن على‬
‫ألماًال‪ٌ ،‬حاول جاهداًال أن ٌكتم أ ّنات ألمه‪ ،‬نظرت‬ ‫جاري فً الفراش‪ ،‬كان ٌضع ٌده على بطنه وهو ٌتلوى‬
‫األولى التً تلتقً فٌها أعٌننا ‪،‬‬ ‫حولً‪ ...‬أنا الوحٌد الذي أستٌقظ على أنٌنه ‪ ،‬نظر الً مباشرة ‪ ،‬هً المرة‬
‫ُّ‬
‫تلفت حولً‬ ‫نظرته تحتوي على نداء استؽاثة لرجل ٌتؤلم بشدة ‪ ،‬رؼبتً بمساعدته شدٌدة ‪ ،‬ولكن كٌؾ ؟!‪...‬‬
‫حابراًال‪ ،‬ورؼم انه كان قد ترك مسافة أكثر من خمسة وعشرٌن سنتمتراًال بٌن فراشً وفراشه إال انه ك ا ن قرٌبا ًال‬
‫أشاح بوجهه الً‬ ‫جداًال‪ ،‬هممت أن أسؤله عما به وماذا ٌرٌد‪ ،‬لكن لم أعرؾ كٌؾ افعل ذلك !‪ ،‬وبنفس الوقت‬
‫الطرؾ األخر ‪ ،‬دقابق كانت طوٌلة ‪ ...‬استٌقظ العدٌد من السجناء ‪ ،‬اقتربوا منه ‪ ،‬طلب منهم أن ٌؤتوه بطبٌب ‪،‬‬
‫حضر أحد األطباء استفسر منه وسؤله وهو ٌفحصه عما به‪:‬‬
‫‪ -‬مؽص ‪ ...‬مؽص شدٌد ٌادكتور ‪ ...‬مصارٌنً عم تتقطع‪ ،‬ألم ما بٌنطاق ‪ ...‬راح موت ٌا دكتور!!‪.‬‬
‫خبلل ساعة اجتمع ثبلثة من االطباء عند ابو حسٌن ربٌس المهجع ‪:‬‬
‫‪ -‬التهاب حاد بالزابدة الدودٌة‪ ،‬ال نعرؾ الزمن الذي ٌمكن أن تنفجر فٌه‪ ،‬إذا لم ٌتم إسعافه سرٌعا ًال واجراء‬
‫عملٌة جراحٌة الستبصال الزابدة فهً حتما ًال ستنفجر وسٌموت المرٌض‪.‬‬
‫نظر ابو حسٌن الى األطباء‪ ،‬التفت الى المرٌض ‪ ...‬تساءل وكؤنه ٌحادث نفسه ‪:‬‬
‫‪ -‬اٌه ‪ ...‬والحل ؟ ‪ ...‬الزم نبلقً حل ‪ ...‬أظن ما فً ؼٌر حل واحد ‪ ...‬منشان شٌل خطٌته من رقبتً ! ‪...‬‬
‫ندق الباب ونطلب طبٌب السجن‪ ،‬هذا كل شًء اقدر اساوٌه ‪ ...‬بس ٌاهل ترى رح ٌردوا علٌنا ؟‪ ...‬ولك‬
‫‪67‬‬
‫خلٌنا ندق الباب وٌللً بدو ٌصٌر ٌصٌر !!‪ ...‬هً موتة وحدة !‪ ...‬و أكتر من القرد ما مسخ هللا !‪ ...‬شو‬
‫رأٌكم بهالحكً؟‪.‬‬
‫‪ -‬متل ما بدك ٌا ابو حسٌن‪.‬‬
‫دق ابو حسٌن الباب‪ ،‬الشرطة والبلدٌات فً الساحة ٌوزعون طعام االفطار‪ ،‬جاء صوت الرقٌب " ابو شحاطة‬
‫"‪:‬‬
‫‪ -‬مٌن هـ الكلب ٌللً عم ٌدق الباب ؟‪.‬‬
‫أخبره أبو حسٌن برقم المهجع‪ ،‬وان الدكتور سمٌر ٌرٌد طبٌب السجن ألمر هام‪.‬‬
‫فوجا الدكتور سمٌر بذلك لكنه وقؾ إلى جانب ابو حسٌن بانتظار طبٌب السجن‪ ،‬قال أبو حسٌن لسمٌر‪:‬‬
‫‪ -‬وهللا ٌا دكتور ‪ ...‬كٌؾ طلع اسمك معً مابعرؾ !!‪ٌ ...‬جوز إلهام من هللا‪ ،‬وانت صاروا ٌعرفوك وٌجوز‬
‫ٌسمعوا منك‪.‬‬
‫أسماها مستعصٌة‪،‬‬ ‫كان مرض السل فً اواخره وال زال الدكتور سمٌر ٌتابع عبلج عشرات الحاالت التً‬
‫ولذلك فهو على احتكاك دابم مع الشرطة‪.‬‬
‫استؽرق مجا الطبٌب اكثر من ساعة ألن الوقت الزال مبكراًال‪ ،‬جاري ٌعتصر من األلم وٌحاول كبح أ ّناته‪ ،‬فتح‬
‫الباب وظهر أ مامه الطبٌب والمساعد وبعض الشرطة‪ ،‬سؤل الطبٌب الدكتور سمٌر عن سبب استدعابه‪ ،‬شرح‬
‫له سمٌر األمر‪ ،‬لكن طبٌب السجن لم ٌتكلم ابداًال‪ ،‬أدار ظهره ومشى‪ ،‬المساعد رمق سمٌر بنظرة طوٌلة وقال‪:‬‬
‫‪ -‬مشان زابدة دودٌة عملتوا كل هـ الضجة ؟!‪ ...‬صحٌح هـ الكلب معه زابدة بس انت معك ناقصة‪ ،‬و أنا من‬
‫زمان حاسس إنك ما تنعطى وجه ‪ ...‬طال ع لبره‪.‬‬
‫خرج الدكتور سمٌر الى خارج المهجع ‪ ،‬وخاطب المساعد أبو حسٌن‪:‬‬
‫‪ -‬مٌن دق الباب ‪ ...‬وال خرى؟‬
‫‪ -‬انا ٌا سٌدي دقٌت الباب‪.‬‬
‫‪ -‬طبلع لبره كمان ٌا كلب ‪ٌ ...‬ا ابن الكبلب‪.‬‬
‫خرج ابو حسٌن اٌضا ًال واؼلق الباب‪ ،‬نصؾ ساعة كنا نسمع صراخهما‪ ،‬ومع مجا الهلٌوكوبتر توقؾ الضرب‬
‫وادخلوهما المهجع‪.‬‬
‫‪ -‬مشان هللا ٌادكتور ال تواخذنً !‪ ...‬انا سببتلك هـ العقوبة‪ ،‬انا ٌللً ورطتك‪.‬‬
‫ضحك الدكتور سمٌر وهو ٌحجل فً مشٌته‪ ،‬ربت على كتؾ ابو حسٌن‪:‬‬
‫‪ -‬بسٌطة ابو حسٌن بسٌطة ‪ ...‬هنن كم كرباج !‪ ...‬راح سجلن دٌن علٌك واستوفٌهن انشاء هللا بره ‪ٌ ...‬عنً‬
‫قدام ام حسٌن‪ ،‬المهم هلق شو بدنا نساوي بالمرٌض؟‪.‬‬
‫طرح هذا السإال على مستوى المهجع كله‪ ،‬كثرت االقتراحات‪ ،‬كثرت التعلٌقات والتساإالت‪:‬‬
‫‪ -‬العمى ‪ ...‬بدي افهم !‪ ...‬لٌش عالجونا من السل‪ ،‬وما بعالجونا من الزابدة الدودٌة؟‪.‬‬

‫‪68‬‬
‫أما السل‬ ‫‪ٌ -‬ا اخً ‪ ...‬الزم نفهمها منٌح ‪ ...‬الزابدة شخص واحد‪ٌ ،‬عنً فراطة‪ ،‬اذا مات ما بتفرق معهم‪،‬‬
‫جماعً ‪ٌ ،‬عنً جملة‪ ،‬اذا ماتوا كل الناس هون هذا مو من مصلحة هـ الحكومة بنت الكلب النه نحن مثل‬
‫الرهابن عندها‪ ،‬تضؽط على الناس ٌللً بره بهالرهابن‪.‬‬
‫‪ -‬لم ٌدم النقاش والحوار اكثر من عشردقابق‪ ،‬تقدم خبللها طبٌب كهل اشٌب الشعر وسٌم القسمات‪ ،‬عٌناه‬
‫صؽٌرتان براقتان‪ ،‬جلس على فراش ابو حسٌن‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬تعرؾ ٌا ابو حسٌن انً طبٌب جرّ اح‪ ،‬انا بحسن هلق ساوي عملٌة جراحٌة للمرٌض بستؤصل الزابدة‬
‫فٌها‪ ،‬لكن ٌلزمنً بعض االشٌاء‪ ،‬وكما ن الزم المرٌض ٌقول قدام الناس كلها إن العملٌة على مسإولٌته‬
‫هو‪.‬‬
‫دون أن ٌجٌب ابو حسٌن أمسك ٌد الطبٌب وسحبه إلى عند المرٌض‪ ،‬انتقبل من ٌساري الى ٌمٌنً‪ ،‬جلسا الى‬
‫جانبه‪ ،‬قال أبو حسٌن للطبٌب‪:‬‬
‫‪ -‬احكً له‪ ،‬شو بدك منه‪.‬‬
‫‪ -‬شوؾ ٌا اخً‪ ،‬راح كون صرٌح معك‪ ،‬انت معك التهاب حاد بالزابدة الدودٌة‪ ،‬وخبلل فترة بسٌطة اذا ما‬
‫ساوٌنا عملٌة جراحٌة راح تنفجر وتموت‪ ،‬فً عندنا فرصة نساوٌلك عملٌة جراحٌة‪ ،‬لكن بهذي الظروؾ‬
‫خلٌنا نقول إنه نسبة النجاح أقل من خمسٌن بالمٌة‪ ،‬وهلق انت بدك تختار قدام الناس كلها بٌن الموت‬
‫المإكد‪ ،‬وبٌن الموت المحتمل‪.‬‬
‫ى امام الناس كل مسإولٌة عن الطبٌب‪.‬‬
‫واختار المرٌض الموت المحتمل‪ ،‬نؾ‬
‫ابلػ الطبٌب ابو حسٌن بمستلزمات العملٌة‪:‬‬
‫‪ٌ -‬وجد قماش نظٌؾ‪ٌ ،‬وجد كحول‪ٌ ،‬وجد ملح‪ٌ ،‬وجد بعض حبوب المضاد الحٌوي التً استطاع الدكتور‬
‫سمٌر أ ن ٌؽافل الشرطة عنها‪ٌ ،‬وجد ابر خٌاطة‪ٌ ،‬وجد خٌطان‪ٌ ،‬وجد نار‪ ،‬لكن ما نحتاجه هو بعض‬
‫االشٌاء المعدنٌة لنحولها الى مشارط !!‪.‬‬
‫مع ظهور كل هذه االشٌاء تبٌن أننً كنت ؼافبلًال وأن تلصصً لم ٌر إال ما ٌظهر على السطح‪.‬‬
‫التلٌٌس الداخلً للمهجع كان ذا اسمنت خشن والجمٌع ٌدرمون اظافرهم بهذا االسمنت – ال مقصات أظافر فً‬
‫السجن – االسمنت ٌستخدم كمبرد‪ ،‬وعلى هذا االسمنت تم صنع وابتكار العدٌد من األشٌاء‪ ،‬فمن قطع عظم‬
‫صؽٌرة تم صنع إبر الخٌاطة‪ٌ ،‬مسك احدهم العظم وٌبدأ بحكه على الجدار ‪ٌ ...‬وم ‪ٌ ...‬وم ين‪ ..‬اٌام‪ ،‬إلى أن‬
‫ٌؤخذ شكل االبرة‪ ،‬وبواسطة مسمار ٌكون قد تم برده اٌضا ًال على الحابط‪ٌ ،‬قوم الشخص وبصبر عجاببً بفتح‬
‫ثقب االبرة ‪ " ،‬المسمار هنا ٌعتبر ثروة ‪ ،‬وتبٌن ان هناك عشرات المسامٌر فً المهجع " ‪ ،‬الخٌطان امرها‬
‫سهل ‪ٌ ،‬نسلون قطعة قماش ‪ ،‬بصبر وهدوء ٌؽزلون الخٌطان الرفٌعة من جدٌد وحسب الطلب ‪.‬‬
‫أن اتساءل عن‬ ‫وقتها انتبهت إلى ان معظم الثٌاب التً ٌلبسونها قد اهترأت ‪ " ،‬كٌؾ لم ٌخطر على بالً‬
‫الوسٌلة التً ٌرقعون بها ثٌابهم ؟!" ‪ ،‬علما ًال أن بنطالً كان قد اهترأ عند الركبتٌن والورك و أضحى بؤمس‬
‫الحاجة الى ترقٌع ‪.‬‬

‫‪69‬‬
‫الكحول ‪ :‬بعض االطباء – او باالتفاق بٌنهم جمٌعا ًال – قاموا بتخمٌر المربى فً بعض المرطبانات الببلستكٌة "‬
‫كٌؾ حصلوا علٌها ؟؟!" وتحول السابل الى كحول ‪ ،‬قد تكون نسبته قلٌلة لكنه كحول ‪.‬‬
‫عمم ابو حسٌن االمر على المهجع ‪:‬‬
‫‪ -‬كل من لدٌه قطعة معدنٌة مهما كان نوعها او شكلها لٌؤت بها ‪.‬‬
‫وظهرت المعادن ‪ ،‬مسامٌر ‪ ،‬قطعة نقدٌة من فبة اللٌرة علٌها صورة ربٌس الدولة ‪ ،‬اربع علب سردٌن فارؼة‬
‫! اسبلك معدنٌة‪ ،‬خاتم ذهبً " خاتم زواج " ‪.‬‬
‫مددت ٌدي الى جٌب سترتً الداخلً ‪ ،‬تحسست الساعة ‪ ،‬أمسكت بها‪ٌ ،‬جب ان اعطٌها لهم ‪ ...‬ولكن لمن؟‪...‬‬
‫هل سٌقبلونها ؟ ‪ ...‬أ م انهم سٌقذفون بها على وجهً باعتبارها نجسة من شخص نجس ؟ ! ساعتً مفٌدة جداًال‬
‫أدوات حادة ‪ ،‬وكذلك‬ ‫لهذا االمر ‪ ،‬فـ " الكستك " المعدنً مإلؾ من قطع معدنٌة رقٌقة ٌسهل تحوٌلها الى‬
‫ؼطاإها الخلفً ‪ ،‬وحتى زجاجها اذا لزم االمر‪ ،‬وطال ترددي دقابق طوٌلة ‪ ،‬عدة اشخاص كانوا قد انتشروا‬
‫وبٌد كل منهم قطعة معدنٌة ما ٌبردها حسب توجٌهات الطبٌب ‪ ،‬تم فرش بطانٌة امام المؽاسل حٌث ال ٌستطٌع‬
‫الحارس على السطح ان ٌرى شٌبا ًال ‪ ،‬واستلقى المرٌض وهو ٌتؤوه على هذه البطانٌة ‪ ،‬الطبٌب الجراح ٌتناقش‬
‫مع مجموعة من االطباء وسط المهجع ‪.‬‬
‫حزمت امري ‪ ،‬سؤؼافلهم واضع الساعة فً مكان ٌستطٌعون فٌه ان ٌجدوها بسهولة ‪ ،‬ولكن الن ٌسؤلوا عن‬
‫صاحب هذه الساعة ؟ ‪ ،‬هل أستطٌع أن اجٌبهم أبنها لً ؟ ‪ ...‬ال أعتقد ‪.‬‬
‫لو ان ٌوسؾ " مجنون القابد " ٌزورنً فً هذه اللحظة ألعطٌتها له ‪.‬‬
‫لٌكن ما ٌكون ‪ ،‬وقفت ومشٌت باتجاه الطبٌب الجراح ‪ ،‬دون اٌة كلمة مددت ٌدي بالساعة الٌه ‪.‬‬
‫بوؼت الجمٌع ‪ ،‬سكتوا ‪ ،‬نظر الجراح فً عٌنً مباشرة ‪ ،‬عٌناه عسلٌتان دافبتان دهشتان قلٌبلًال ‪ ،‬وببطء مد ٌده‬
‫وتناول الساعة منً ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬شكراًال ‪.‬‬
‫ثم التفت الى االطباء وهو ٌقلب الساعة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬هلق صار فٌنا نبدأ ‪ ،‬هـ الساعة راح تساعدنا كثٌر ‪.‬‬
‫عدت الى مكانً وجلست ‪ ،‬قلٌ ٌل من النشوة ‪ ،‬قلٌ ٌل من الرضى ‪ ،‬استرجع وقع كلمة " شكراًال " بعد كل هذه‬
‫السنوات " احدهم " ٌشكرنً ‪ٌ ،‬خاطبنً مباشرة وهو ٌنظر فً عٌنً مباشرة ‪ ،‬ال ٌشٌح بنظره قرفا ًال واشمبزازاًال‬
‫وحقداًال ‪.‬‬
‫وزع الطبٌب قطع الساعة و " الكستك " على بعض السجناء الذٌن انهمكوا فً عملٌة البرد والشحذ ‪ ،‬فجؤة‬
‫قرقع المفتاح فً الباب ‪ ،‬أذٌع ت اسماء تسعة اشخاص من مهجعنا ‪ ،‬ثبلثة اعدام وستة محاكمة ‪ ،‬توقفت‬
‫التحضٌرات إلجراء العملٌة اكثر من ساعة ‪ ،‬توضؤ خبللها المحكمون باالعدام ‪ ،‬صلوا ‪ ،‬ودعوا الناس ‪،‬‬
‫خلعوا الثٌاب الجٌدة وارتدوا ثٌابا ًال بالٌة ‪ ،‬فتح الباب ‪ ...‬خرجوا ‪.‬‬
‫‪ -‬اللهم احسن ختامنا ‪ ،‬علٌهم رحمة هللا ‪ ،‬خلونا نتابع الشؽل ٌا شباب ألنه المرٌض ما عاد ممكن ٌتحمل‬
‫اكثر من هٌك ‪.‬‬
‫‪70‬‬
‫توجه الطبٌب الجراح بهذه الكلمات الى بعض االطباء والى الشباب الذٌن كانوا ٌقومون باالستعدادات ‪ ،‬انتهى‬
‫تجهٌز المشارط ‪ ،‬توجه الطبٌب ومعه بعض الشباب الى حٌث ٌستلقً المرٌض متؤلما ًال امام المؽاسل ‪.‬‬
‫تملكنً الفضول ‪ ،‬ارٌد ان ارى اجراء العملٌة الجراحٌة ‪ ،‬وقلت ان من حقً ان ارى ‪ ،‬تمشٌت متمهبلًال الى‬
‫الداخل ‪ ،‬دخلت الى المرحاض ‪ ،‬حوالً عشرة اشخاص منهمكون بالتحضٌر ‪ ،‬خرجت من المرحاض‬
‫وانزوٌت جانبا ًال ‪ ،‬لم ٌنتبه إلًّ احد ‪ ،‬اخذت أراقب ‪.‬‬
‫أنهم كانوا ٌجمعون الدهن المتجمد على سطح الطعام ‪ٌ ،‬نقونه من‬ ‫كٌس ببلستٌكً مملوء بالدهن ‪ٌ ،‬بدو‬
‫الشوابب وٌضعونه فً الكٌس ‪ ،‬مؤلوا احدى علب السردٌن بالدهن وؼرزوا فٌه قطعة قماش بعد ان فتلوها‬
‫جٌداًال ‪ ،‬اخرج احدهم علبة كبرٌت واشعل الفتٌل ‪ " ،‬من اٌن الكبرٌت ؟!" ‪ ،‬اشتعلت النار مدخنة ‪ ،‬وضعوا فوق‬
‫النار علبة سردٌن اخرى مملوءة بالماء وبه " المشارط " ‪ ،‬كانوا ٌنفخون على الدخان المتصاعد من الدهن‬
‫وٌحاولون توزٌعه قدر االمكان كً ال ٌصعد الى السطح وٌشمه الحارس ‪ ،‬بعد قلٌل ؼلت المٌاه فتعقمت ادوات‬
‫الجراحة ‪.‬‬
‫فً هذه االثناء كان الطبٌب قد ؼسل بطن المرٌض بالماء والصابون ‪ ،‬ثم احضر ملحا ًال رطبا ًال فرك به نفس‬
‫المكان ‪ ،‬ؼسل ٌدٌه جٌداًال واصر على اراتداء الكمامة قبل اجراء العملٌة ‪ ،‬تؽٌرت نبرة صوته وبدأ باصدار‬
‫االوامر ‪:‬‬
‫‪ -‬ما فً عنا مخدر ‪ ...‬لذلك بدك تتحمل االلم وال تتحرك ابداًال ‪.‬‬
‫‪ -‬تعالوا انتو االربعة ‪ ،‬امسكوه بقوة ‪ ،‬كل واحد من طرؾ ‪.‬‬
‫اخرج الطبٌب المشارط من علبة السردٌن وبدأ بتجرٌبها واحداًال بعد االخر ‪ ،‬اختار المشرط المصنوع من‬
‫ؼطاء ساعتً ‪ ،‬جربه على اظفر ابهامه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اهلل ٌا اخً ‪ ،‬توكلنا على هللا ‪ٌ ،‬ا شباب ثبتوه منٌح وال تخلوه ٌتحرك ابداًال ‪.‬‬
‫وضع المشرط على بطن المرٌض " بسم هللا الرحمن الرحٌم "‪ ،‬وحز جرحا ًال بطول عشرة سنتٌمترات تقرٌبا ًال‪.‬‬
‫‪ -‬آخ ٌا امً ‪.‬‬
‫صاح المرٌض ولكنه لم ٌتحرك ‪.‬‬
‫انتهت العملٌة ‪ ،‬كان الطبٌب ٌعمل بسرعة فابقة ‪ ،‬وبعد خٌاطة الجرح مسحه ونظفه ‪ ،‬فتح عدة حبات من‬
‫المضاد الحٌوي وافرغ المسحوق فوق الجرح ‪ ،‬ثم قطعة قماش نظٌفة وربطه جٌداًال ‪.‬‬
‫‪ -‬انشاء هللا معافى ٌا اخً ‪ٌ ،‬ا شباب احملوه على فرشته ‪.‬‬
‫عدت الى فراشً فوجدت بنطال بٌجاما وقطعتً قماش فوقهما ابرة عظمٌة وخٌطان ‪ ،‬امسكت بهذه االشٌاء‬
‫نظرت حولً ولكن لم ٌكن هناك احد ٌلحظنً ‪ ،‬من وضع هذه االؼراض ؟ البنطال عرفته كان الحد الذٌن‬
‫أعدموا الٌوم ‪ ،‬لكن من وضعه على فراشً ؟ ‪.‬‬
‫بعد قلٌل أدركت االمر ‪ ،‬لقد اعطونً هذه االشٌاء ‪ ،‬هل هً مكافؤة ؟ هل ٌعنً هذا اننً لم اعد جاسوسا ًال كافراًال‬
‫؟! التفت الى ابو حسٌن ‪ ،‬رفعت االشٌاء بٌدي أمام وجهه وقبل ان أنطق بحرؾ قال بحدة شعرت انها مفتعلة ‪:‬‬
‫‪ -‬الك ‪ ...‬هدول الك ‪ ...‬ماداموا على فرشتك ٌعنً الك ‪.‬‬
‫‪71‬‬
‫من ٌومها احسست ان وضعً قد تحسن قلٌبلًال ‪ ،‬رقعت بنطالً من الخلؾ ومن األمام ‪ ،‬أصبحت البس بنطال‬
‫البٌجاما عندما اؼسل بنطالً ‪ ،‬اصبح ٌوسؾ "مجنون القابد" ٌزورنً مجدداًال دون ممانعات ‪.‬‬
‫اآلن وبعد مرور شهر على اجراء العملٌة فان الرجل تعافى وأصبح ٌمشً بشكل طبٌعً ‪.‬‬
‫" لكنه سٌعدم بعد حوالً السنة شنقا ًال "‪.‬‬
‫‪ 1‬كانون الثاني‬
‫البارحة كان عٌد رأس السنة ‪ ،‬اؼلب الناس خارج هذا المكان ٌحتفلون بهذه المناسبة حتى الصباح ‪ ،‬أما هنا‬
‫فؤعتقد أنً الوحٌد الذي ٌعنً له هذا الٌوم شٌبا ًال ‪ .‬منذ بداٌة المساء نام الجمٌع ‪ ،‬البرد جارح ‪ ،‬لبست بنطال‬
‫البٌجاما وفوقه بنطالً والسترة ‪ ،‬تؽطٌت بالبطانٌات لكن ال جدوى ‪ ،‬قداماي مثلجتان ‪ ،‬انفً ‪ ...‬اذنً ‪ ...‬لففت‬
‫نفسً جٌداًال وؼطٌت رأسً‪ ،‬هذا البرد الصحراوي اللعٌن ‪ ...‬برد كنصل الشفرة ‪.‬‬
‫أحبلمً ‪ ،‬رتبت سهرة لرأس سنة ما ‪ ،‬تعبت قلٌبلًال فً اختٌار المكان‬ ‫حاولت الهرب منه الى‬
‫واألشخاص ‪ ،‬انا نجم السهرة ببل منازع ‪ ،‬المابدة ملٌبة باألطعمة واألشربة ‪ ،‬الموسٌقا ‪ ،‬الرقص ‪ ...‬جو المرح‬
‫والنكات‪ ،‬الثلج ٌتساقط فً الخارج‪ ،‬أقؾ خلؾ زجاج النافذة‪ ،‬أرقب اشجار الصنوبروقد تكللت باللون األبٌض‪،‬‬
‫الدؾء داخل المنزل ٌحٌطنً ‪ ...‬أحس بالترؾ‪ ،‬وبنفس الوقت بالتعب‪ ،‬سرٌروثٌروأؼطٌة ناعمة اللمس !!‪.‬‬
‫مستحٌل ‪ ...‬ؼٌر ممكن فً ظل هذا البرد ان تحلم بالدؾء!‪ .‬أزحت الؽطاء قلٌبلًال‪ ،‬حككت ٌدي ببعضهما‪ ،‬نفخت‬
‫علٌهما‪ ،‬فركت قدمً بقوة ع ّل الدماء تسري فٌهما ! ‪.‬‬
‫اًال‬
‫اصوات فً الساحة أمام مهجعنا ‪ ،‬تؽطٌت بالبطانٌة ونظرت من الثقب ‪ ،‬الساحة‬ ‫عند منتصؾ اللٌل سمعت‬
‫مضاءة كالعادة ‪ ،‬كل ساحات واسطح ومهاجع وسور السجن تبقى مضاءة لٌبلًال نهاراًال ‪ ،‬هناك فً الساحة جمهرة‬
‫كبٌرة من الشرطة ٌصدرون ضجة كبٌرة ‪ ،‬ضحك ‪ ..‬صٌاح ‪ ..‬شتابم ‪ ..‬امعنت النظر جٌداًال ‪ ،‬المساعد فً‬
‫وسط الساحة تحٌط به مجموعة من الرقباء ‪.‬‬
‫احسست بحركة داخل المهجع ‪ ،‬نظرت من تحت البطانٌة كان الجمٌع قد استٌقظ ‪ ،‬البعض ٌبسمل وٌحوقل ‪،‬‬
‫البعض ٌردد عبارات مثل ‪ٌ :‬الطٌؾ ‪ٌ ..‬استار ‪ ..‬اللهم مرر هذه اللٌلة على خٌر !!‪.‬‬
‫عدت للنظر الى الساحة‪ ،‬كان المساعد وشلته قد اقتربوا قلٌبلًال من مهجعنا الذي ٌعتبر من أكبر المهاجع فً هذه‬
‫الساحة ‪ ،‬طلب من الشرطة فتح الباب وإخراج السجناء الى الساحة‪ .‬وخرجنا ‪.‬‬
‫خرجنا حفاة عراة ‪ ،‬حتى السروال الداخلً أمرونا ان نخلعه ‪ ،‬صفونا أرتاالًال وأمروا أن ٌبتعد الواحد عن االخر‬
‫خطوتٌن ‪ ..‬وأن ال نستؽل عرٌنا لنلوط بعضنا !‪.‬‬
‫" وردت رسالة قبل بضعة اٌام عن طرٌق المورس من الساحة الثانٌة تقول إن الرقٌب ( ٌا منٌك ) قد اجبر‬
‫سجٌنا ًال ان ٌلوط أخاه !!"‪.‬‬
‫[ لماذا تركز الشرطة على هذه المسؤلة كثٌراًال ؟!] ‪.‬‬
‫الشرطة والرقباء والمساعد جمٌعا ًال ٌرتدون المعاطؾ العسكرٌة وقد لفوا رإوسهم باللفحات الصوفٌة ‪ ،‬المساعد‬
‫جٌا وذهابا ًال أمام الصؾ ‪ ،‬الشرطة ٌضبطون االصطفاؾ ‪ :‬وقؾ باستعداد وال ‪ ...‬نزل راسك ‪..‬‬
‫ًالة‬ ‫ٌتمشى‬
‫الرٌح شمالٌة خفٌفة ولكنها قارسة ‪ ،‬اعتقد ان درجة الحرارة تحت الصفر ببضع درجات ‪.‬‬
‫‪72‬‬
‫بللونا بالمٌاه من الرأس وحتى اخمص القدمٌن ‪ ،‬امرونا اال نتحرك ‪ ،‬عناصر الشرطة ٌمشون حولنا وخبلل‬
‫صفوفنا وباٌدهم الكرابٌج والعصً ‪.‬‬
‫بدأ المساعد خطبة طوٌلة ‪ ،‬وقفته والكثٌر من عباراته وجمله وحركاته هً تقلٌد وتكرار لحركات واقوال مدٌر‬
‫السجن ‪ ،‬ثبلثة ارباع الخطبة شتابم مقذعة ‪ ،‬وقد بدأها بتحمٌل السجناء مسإولٌة بقابه بالسجن بٌنما العالم كله‬
‫ٌحتفل ‪ ،‬ولوال اننا موجودون هنا حالٌا ًال لكان هو اٌضا ًال ٌحتفل ‪ ،‬الضباط ذهبوا لٌحتفلوا وتركوا كل المسإولٌة‬
‫على عاتقه‪ " .‬رجل ذو اهمٌة تارٌخٌة !" ‪.‬‬
‫انهى خطبته وؼادر الساحة وقد شد صدره الى الخلؾ ‪ ،‬دون أن ٌعطً اٌة تعلٌمات بشؤننا ‪.‬‬
‫صوت اصطكاك االسنان مسموع بشكل واضح الجمٌع ٌرتجؾ برداًال ‪ ،‬انا بالكاد أتماسك ألبقى واقفا ًال ‪.‬‬
‫أظن أن هناك سإاالًال طاؾ بؤذهان الجمٌع ‪.‬‬
‫‪ -‬ما نهاٌة كل هذا ؟‪ ...‬ماذا سٌفعلون بنا ؟‪ ...‬هل هً مقدمة لمجزرة جدٌدة ؟‪ ...‬هل سنعود ثانٌة الى‬
‫مهجعـ"نا" ؟!‪.‬‬
‫ال كلمة ‪ ،‬ال صراخ ‪ ،‬ال شتٌمة ‪ ،‬صمت مطبق ال ٌخدشه اال صوت خطوات الشرطة وهً تتمشى حولنا ‪،‬‬
‫حتى اٌدٌهم التً ٌحملون بها الكرابٌج والعصً دسوها فً جٌوبهم وبرزت العصً وتدلت الكرابٌج من هذه‬
‫الجٌوب ‪.‬‬
‫الجسد ‪ ...‬الخدر ٌزداد وٌنتشر ‪ ،‬االلم ٌتعمم وٌتعمق ‪ ،‬االسنان تصطك ‪ ،‬من اللسان وحتى المستقٌم ارتجاؾ‬
‫الكؾن ‪ ،‬القدم ا ن ‪ ،‬كل هذا لٌس من الجسد‪ .‬تتساقط الدموع برداًال وبكا ًالء فتتجمد على‬
‫االذنن ‪ ،‬ا‬
‫ا‬ ‫واحد ‪ ،‬االنؾ ‪،‬‬
‫سسقط ارضا ًال ؟‪.‬‬
‫الخدٌن وزواٌا الفم المرتجؾ ‪ ،‬والسإال ‪ :‬متى أ‬
‫ٌسقط أ حدهم قبلً ‪ٌ ،‬وقؾ جمٌع عناصر الشرطة عن الحركة لدى سقوطه ‪ ،‬تخرج االٌدي من الجٌوب ‪،‬‬
‫وٌنطلق بضعة عناصر ‪ٌ ،‬جرون السجٌن الذي سقط الى امام الصؾ حٌث ٌتجمع الرقباء ‪ٌ ،‬قول احد الرقباء‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اهلل ‪ ...‬د ّفوه ‪.‬‬
‫تنهال الكرابٌج على جمٌع أنحاء جسده المتخشب ‪ٌ ،‬حاول الوقوؾ ولكن وقع الكرابٌج ٌمنعه ‪ٌ ،‬سقط آخر ‪...‬‬
‫ٌجر الى حٌث التدفبة ‪ ،‬وآخر ‪ ...‬وآخر‪.‬‬

‫أجالد نفسً خوفا ًال من السقوط ‪ٌ ،‬حدث انفصال تام بٌن العقل والجسد ‪ ،‬عقلً صاؾٍ تماما ًال و ٍ‬
‫واع كل ما ٌجري‬
‫حولً ‪ ،‬أما جسدي فٌنفصل عنً شٌبا ًال فشٌبا ًال خدراًال وتجمداًال ‪ ،‬تختلط الد م وع مع المخاط السابل من األنؾ واجد‬
‫صعوبة بالتنفس ‪ ،‬ال أجرإ على رفع ٌدي إلى أنفً ‪ ...‬حتى لو استجابت ٌدي !‪.‬‬
‫وسقطت ‪ ...‬سقطت دون ان افقد الوعً وجرونً الى امام الصؾ ‪.‬‬
‫لقد جربت وعاٌنت الكثٌر من صنوؾ االلم الجسدي ‪ ...‬لكن أن تساط فً البرد و أنت مبلل ‪ ...‬أمر ال ٌمكن‬
‫وصفه ‪.‬‬
‫مع بزوغ ضوء الفجر وسقوط آخر شخص وتدفبته من قبل الشرطة انتهت الحفلة‪ .‬دخلنا المهجع ركضا ًال على‬
‫اٌقاع الكرابٌج ‪ ،‬ركضنا بخفة ورشاقة وكنت أظن أننً لن استطٌع النهوض عن االرض ‪ ،‬لكن ما أن سمعت‬

‫‪73‬‬
‫األمر بالدخول ورأٌت الكرابٌج تهوي حتى قفزت ‪ " ،‬لطالما تساءلت بٌنً وبٌن نفسً عن منبع هذه القوة !‪...‬‬
‫المقاومة ؟"‪.‬‬
‫هذه المرة رأٌت فرحا ًال حقٌقٌا ًال على وجوه الناس بخبلصهم من مجهول كانوا ٌخشون وقوعه فً دواخلهم كثٌراًال‬
‫‪ ،‬وخلؾ هذا الفرح تراكمت طبقة جدٌدة من حقد اسود تزداد سماكتها بازدٌاد االلم والذل ‪.‬‬
‫‪ 5‬حزيران‬
‫ؾا ًال ًال واحداًال وأذنٌن اثنٌن حتى ٌسمع أكثر مما ٌتكلم ‪ ،‬أما أنا فقد كنت طوال هذه‬
‫قٌل قدٌما ًال إن هللا خلق لبلنسان م‬
‫السنوات ببل فم وبعشرات اآلذان ‪.‬‬
‫كبلم ‪ ...‬كبلم ‪ ...‬كبلم ‪ ...‬بٌادر وأهرامات مكدسة من الكبلم ‪ ،‬انقل إ اًال‬
‫ذن الى زاوٌة المهجع البعٌدة ألسمع بم‬
‫أحرك عٌنً ‪ ،‬فقط‬ ‫ٌتحدثون ‪ ،‬االذن االخرى انقلها الى حابط المورس ‪ ،‬ماذا ٌرد رسابل من المهاجع ‪ ،‬ال‬
‫اذنً ‪ ،‬األذن الثالثة تنتقل الى حٌث حلقة حفظ القرآن ‪ " ،‬لقد حفظت الكثٌر جداًال من القرآن !"‪ ،‬واألذن الرابعة‬
‫‪ ...‬الخامسة ‪.‬‬
‫فمً مقفل ‪ ،‬أحن الى الكبلم ‪ ،‬أشتاق الى ان أسمع صوتً أنا ‪ ،‬حتى عندما ٌجلس ٌوسؾ عندي ال أتكلم ‪ ،‬ألنه‬
‫ببساطة ال ٌتٌح لً المجال حتى اسؤله شٌبا ًال ‪ ،‬ما ان ٌجلس حتى ٌبدأ الكبلم ‪ ،‬احٌانا ًال تكون الجمل مترابطة ‪،‬‬
‫احٌانا ًال مجرد تخارٌؾ ‪ ،‬لكن ال فواصل وال توقفات ‪ ،‬وعلى االؼلب ٌنهض مؽادراًال وهو ٌتابع الحدٌث ‪.‬‬
‫كبلم ‪ ...‬كبلم ‪ ...‬كبلم ‪ ...‬الجمٌع ٌتكلم والجمٌع ٌسمع ‪ ،‬وألن الكبلم دابما ًال ٌكون همسا ًال ا أو بصوت خافت ؾإن‬
‫شٌا ال هو باألزٌز وال هو بالطنٌن ‪ ،‬ال بالفحٌح وال بالهسٌس ‪ ...‬هو شًء‬
‫ٍ‬ ‫مجموع هذه الهمسات ٌتحول الى‬
‫من كل هذا ‪ٌ ،‬دخل االذنٌن ومنه الى الرأس الذي ٌتحول آخر الٌوم الى ما ٌشبه الطاسة الفارؼة ‪ ،‬شًء ما‬
‫كالطبل ‪ ،‬أ نقر على رأسً بؤصابعً فؤسمع الرنٌن ‪ ،‬حتى بعد ان ٌنام الجمٌع وتسكت االصوات كلها تبقى هذه‬
‫الضجة المكتومة تحوم داخل االذن وتقرع جدران الرأس‪.‬‬
‫احلم احد احبلمً الصؽٌرة ‪ ،‬وقد صؽرت كل احبلمً ‪:‬‬
‫‪ -‬أحلم ‪ ...‬أ ن اعٌش ولو لٌوم واحد فقط فً زنزانة انفرادٌة ‪ ،‬فً صمت مطبق ‪ ،‬ال ضجٌج ‪ ،‬ال نظرات‬
‫عداء ‪ ،‬ال نظرات احتقار ‪ ،‬وأنام خبلله نوما ًال عمٌقا ًال ‪.‬‬
‫‪ -‬احلم ‪ ...‬أن أستحم ولو لمرة واحدة فقط فً حمام السوق ‪ ،‬محاطا ًال بالبخار والمٌاه الساخنة المتدفقة ‪،‬‬
‫والمكٌس والمدلك ‪.‬‬
‫‪ -‬أحلم ‪ ...‬أن اقؾ على الرصٌؾ امام محل للفبلفل ‪ ،‬آكل سندوٌشة واشرب العٌران ‪.‬‬
‫شخص عاطل متبطل ٍ ‪ ،‬ال ٌقصد مكانا ًال محدداًال ‪ ،‬وؼٌر‬
‫ٍ‬ ‫سٌر‬
‫‪ -‬احلم ‪ ...‬أن اسٌر فً شارع هادىء ظلٌل ‪َ ،‬‬
‫محدد بزمن معٌن ‪.‬‬
‫‪ -‬احلم ‪ ...‬بؤمً وهً توقظنً صباحا ًال ‪ ،‬وأان ارفض دالالًال أن استٌقظ مؽطٌا ًال رأسً باللحاؾ ‪.‬‬
‫‪ -‬احلم ‪ ...‬بشخص ‪ ...‬أي شخص ‪ٌ ،‬قول لً صباح الخٌر ‪.‬‬
‫كبلم ‪ ...‬كبلم‪ ...‬كبلم‪ ، ...‬منذ عشرة اٌام كل الكبلم ٌدور حول موضوع واحد هو الزٌارة !‪.‬‬

‫‪74‬‬
‫منذ عشرة اٌام قرب اثنان من السجناء فً المهجع رأسٌهما من الجدارالذي ترد منه الرسابل عادة ‪ٌ ،‬سمعان‬
‫النقرات وٌبلؽانها ألربعة اشخاص خلفهما ‪:‬‬
‫‪ -‬فاء – ٌاء " فً " ‪ ،‬ا‪ -‬ل – م – ه – ج – ع " المهجع " ‪ ،‬وهكذا الى ان اكتملت الرسالة – البرقٌة ‪: -‬‬
‫" فً المهجع الواحد والعشرٌن أحد االخوة أتته زٌارة ‪ ،‬وقد حضر كل اهله !" ‪.‬‬
‫فً البداٌة كان الذهول سٌد الموقؾ ‪ ،‬بعد ان أذٌعت الرسالة على الجمٌع ساد الصمت ‪ ،‬البعض ٌنظر الى‬
‫أ ُجبروا على نسٌانه ‪،‬‬ ‫البعض ‪ ،‬اعقبتها نظرات ساهمة ‪ ،‬تذكر الجمٌع ماكانوا قد نسوه لمعظم الوقت ‪ ،‬او‬
‫قاموس حٌاتهم اصبح ٌحتوي على عشرات المفردات فقط ‪ ،‬تبدأ بالمرحاض والحنفٌة والطهارة والنجاسة ‪،‬‬
‫وتنتهً عند الكرباج واالسماء المحلٌة للشرطة ‪ ،‬اما الصبلة والقرآن ‪ ،‬على ما فٌهما من ؼنىًال لؽوي ‪ ،‬ؾ‬
‫ٌصبح‬
‫تردادهما آلٌا ًال ال ٌستدعً اشؽال الفكر ‪.‬‬
‫تذكر الجمٌع أن هناك حٌا ًالة اخرى خارج هذا المكان ‪ ،‬وخارج هذا القاموس اللؽوي الضبٌل ‪ ،‬وانها هً‬
‫االصل ‪ ،‬وما هم فٌه طارىء عابر ‪.‬‬
‫ٌذهب الخٌال الى حٌث األهل واالحبة ‪ ،‬تحضر المرأة بقوة مهٌمنة ‪ ،‬المرأة الزوجة ‪ ،‬المرأة االم ‪ ...‬االخت‬
‫‪ ...‬االبنة ‪ ،‬وٌسود وجوم رمادي حامض ‪ ،‬تثور التساإالت الممضة والحارقة عن المصابر ؟!‪.‬‬
‫الزمن فً السجن زمنان ‪ٌ ،‬ستتبعهما احساسان متناقضان ‪ ،‬الزمن الراهن ‪ ...‬ثقٌل بطًء ‪ ،‬والزمن الماضً‬
‫‪ ،‬ما مضى من اٌام وشهور وسنٌن السجن ‪ ...‬زمن خفٌؾ سرٌع ‪ ،‬تنتبه فجؤة وتسؤل نفسك ‪:‬‬
‫‪ -‬ماذا ؟ ! ‪ ...‬اصبح لً فً السجن خمس سنوات ‪ ،‬سبع ‪ ،‬عشر ؟! الحقٌقة لم اشعر بهذا الزمن ‪ٌ ،‬االهً‬
‫كٌؾ مضت هذه السنون بسرعة البرق !!‪.‬‬
‫تفكر ‪ ،‬وتعرؾ ان هذا االحساس ناتج عن انه فً زحمة التفاصٌل الٌومٌة قلما ٌتاح لك الوقت لتعد االٌام‬
‫والسنوات ‪ ،‬وهذا كالجلد بالكرباج ‪ ،‬اذا بدأت عد الضربات حتما ًال سوؾ تضعؾ ‪ ،‬وكذلك اذا بدأت عد االٌام‬
‫وتسجٌلها خطا ًال وراء خط على الحابط ‪ ،‬حتما ًال سوؾ تضعؾ ‪ ،‬او ‪ ...‬تجن !‪.‬‬
‫كسر ابو حسٌن الصمت بعد دقابق قلٌلة ‪ ،‬نادى احد جماعة المورس وطلب منه االتصال مع المهجع الواحد‬
‫والعشرٌن واالستفسار عن الزٌارة ‪ ،‬كٌؾ اتت ‪ ،‬هل فتحت الزٌارات للجمٌع ‪ ،‬ام هً بالواسطة ‪ ،‬ام الرشوة‬
‫‪ ...‬كٌؾ تعامل الشرطة مع االمر ‪ ،‬هل احضر االهل اؼراضا ًال ‪ ...‬الخ؟ ‪.‬‬
‫وجاء الجواب ‪ ،‬ال ٌعرفون شٌبا ًال عن آلٌة الزٌارة ‪ ،‬هناك الكثٌر من االؼراض ‪ ،‬البسة واطعمة ونقود ‪ ،‬السجٌن‬
‫ذهب الى الزٌارة وعاد دون ان ٌضربه احد ‪.‬‬
‫بعد ثبلثة اٌام ألقى مدٌر السجن خطابا ًال ‪ ،‬تحدث فٌه عن انسانٌته ورحمته وان قلبه ٌنفطر ألما ًال عندما ٌرى ابناء‬
‫وطنه فً هذه الحالة !! وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬كل من تؤتٌه زٌارة منكم علٌه ان ٌطلب من أهله إخبار كل من ٌعرفون من اهالً السجناء االخرٌن لكً‬
‫ٌسعوا الى زٌارته وبنفس الطرٌقة ‪.‬‬
‫لكن ماهً الطرٌقة ؟‪ ...‬لم ٌعرؾ احد ‪ ،‬ولم ٌجرإ على السإال احد ‪ ،‬وكانت المرة االولى التً ٌخاطبنا فٌها‬
‫وعًوننا مفتوحة ورإوسنا لٌست منكسة الى االسفل ‪.‬‬
‫‪75‬‬
‫الٌوم اتت زٌارة لشخص من مهجعنا ‪ ،‬ابو عبدهللا ‪ ،‬نادوه باسمه الثبلثً ‪ ،‬وهنا قلما ٌعرؾ االسم الثبلثً‬
‫لشخص ما ‪ ،‬فالكل ٌنادون بعضهم بـ " ابو " ‪ ،‬ابو حسٌن ‪ ،‬ابو عبدهللا ‪ ،‬ابو علً ‪ ،‬ابو احمد ‪...‬‬
‫طلب الشرطة من ابو عبدهللا ان ٌلبس ثٌابا ًال جٌدة ‪ ،‬وتبارى الجمٌع إللباس ابو عبدهللا افضل ثٌاب فً المهجع ‪،‬‬
‫ذهب ابو عبدهللا وعاد بعد اكثر من نصؾ ساعة ‪ ،‬عاد الهثا ًال مخضوضا ًال ٌتصبب عرقا ًال ‪ ،‬وقؾ بمنتصؾ‬
‫المهجع ٌتلفت وٌنظر الى الجمٌع ‪ ،‬ولكن ٌبدو كمن ال ٌرى احداًال ‪ ،‬باب المهجع الٌزال مفتوحا ًال والبلدٌات‬
‫ٌدخلون االؼراض بجاطات ببلستٌك ‪ ،‬بعد ان اؼلق الشرطة الباب قال شخص الخر ‪:‬‬
‫‪ -‬ماشاء هللا ‪ ...‬ما شاء هللا ‪ ،‬خمسة وثمانون جاطا ًال !!‪.‬‬
‫ابو عبدهللا ٌتلقى التهانً من الجمٌع وهو الزال واقفا ًال كالمؤخوذ ‪:‬‬
‫‪ -‬مبروك ابو عبدهللا ‪ ...‬مبروك الزٌارة ‪.‬‬
‫‪ -‬هللا ٌبارك فٌكم ‪ ...‬عقبال عندكم ‪.‬‬
‫‪ -‬مبروك ابو عبدهللا ‪ ...‬كٌؾ االهل ؟‪.‬‬
‫‪ -‬الحمدهلل بخٌر ‪ٌ ...‬سلمون على الجمٌع ‪.‬‬
‫قطع ابو عبدهللا سلسلة " المبروك " والتفت فجؤة الى ابو حسٌن ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬كٌلو ذهب ‪ ...‬كٌلو ذهب ٌاابو حسٌن !! ‪ ...‬هللا وكٌلك كٌلو ذهب ‪.‬‬
‫فوجا ابو حسٌن ‪ ،‬نظر الى ابو عبدهللا بتمعن ‪ ،‬وزن االمور قلٌبلًال ‪ ،‬ثم سؤل ‪:‬‬
‫‪ -‬خٌر ابو عبدهللا ‪ ...‬خٌر ‪ ،‬شو قصة هـ الكٌلو ذهب ؟‪.‬‬
‫‪ -‬الزٌارة ٌا ابو حسٌن الزٌارة ‪ ...‬كل زٌارة بكٌلو ذهب ‪.‬‬
‫فارتفعت عدة اصوات متسائلة الى جانب صوت ابو حسٌن ‪:‬‬
‫‪ -‬شو !!‪ ...‬كٌلو ذهب كل زٌارة ؟‬
‫‪ -‬نعم كٌلو ذهب ‪ ،‬سؤلت اهلً قالوا لً ‪ ،‬الزم امك تروح لعند ام مدٌر السجن تؤخذ معها كٌلو ذهب ‪ ،‬وام‬
‫مدٌر السجن تعطً ورقة زٌارة !!‪.‬‬
‫اراد ابو حسٌن ان ٌهون على ابو عبدهللا ‪:‬‬
‫شفت اهلك وشافوك وتطمنوا علٌك ‪ ،‬اٌه هـ الشؽلة‬ ‫‪ -‬ولو ابو عبدهللا ‪ ...‬كٌلو ذهب فداك ‪ ...‬المهم انو‬
‫بتساوي اموال الدنٌا كلها ‪ ،‬هللا ٌلعن الذهب وابو الذهب‪ ...‬المال وسخ اٌدٌن بروح وبٌجً ‪ ،‬المهم انت‬
‫وصحتك واهلك ‪ ،‬الذهب مو مهم المهم البنً ادم اللً بجٌب الذهب ‪.‬‬
‫‪ -‬اٌه وهللا صحٌح ‪ ...‬اٌه وهللا صحٌح ٌاابو حسٌن !‪.‬‬
‫ٌومها انا دخت ‪ ...‬سكرت ‪ ...‬حتى ان عٌنً قد ؼامتا ‪ ...‬تشوشتا ‪.!...‬‬
‫البلدٌات كانوا ٌنقلون الجاطات حتى باب المهجع ‪ٌ ،‬خرج الفدابٌون وٌؤخذون الجاطات منهم ‪ ...‬دون أي‬
‫ضرب !‪ٌ ...‬فرؼونها داخل المهجع وٌسلمو نها للبلدٌات ‪ ...‬الكثٌر من االلبسة ‪ ،‬خاصة المبلبس الداخلٌة‬
‫الصٌفٌة والشتوٌة ‪ ،‬كؤن هناك من أسرّ بؤذان االهل عن حاجاتنا ‪ ،‬والكثٌر ‪ ...‬الكثٌر من الخضار والفواكه‬
‫التً ٌمكن ان تإكل نٌبة ‪.‬‬
‫‪76‬‬
‫ما اسكرنً ‪ ...‬كان الخٌار ‪ ...‬الخٌار بلونه االخضر ‪ ،‬انسابت روابحه وعطوره الى انفً ‪ ،‬ثبلثة جاطات من‬
‫اخضر ‪ ،‬الى جانبه تل صؽٌر احمر من‬
‫َ‬ ‫الخٌار أفرؼوها وسط المهجع ؼٌر بعٌد عنً مشكلة تبلًال صؽٌراًال‬
‫البندورة ‪ ،‬رابحة الخٌار مؤلت المهجع ‪ ،‬الجمٌع كان فرحا ًال ‪ ،‬ابو عبدهللا كان مذهوالًال من اثر الزٌارة ‪ ،‬ودون ان‬
‫افكر او اعً بما اقوم به مشٌت وجلست الى جانب تل الخٌار االخضر ‪ ،‬انحنٌت وشممت بعمق ‪ ،‬انها رابحة‬
‫الطبٌعة ‪ ...‬انها رابحة الحٌاة ‪ ،‬اخضراره هو اخضرار الحٌاة ذاتها ‪ ،‬امسكت واحدة وادنٌتها من انفً وتنشقتها‬
‫بعمق ‪ ،‬اؼمضت عٌونً واعتقد ان مبلمحً كلها كانت تبتسم ‪.‬‬
‫كان كل هذا اشبه بزلزال ‪ ،‬ارتج كٌانه كله ‪ ،‬فتحت عٌنً واذ بؽابة من العٌون تحدق بً ‪ ...‬لم اعبؤ ‪ ،‬القٌت‬
‫الخٌارة على كومة الخٌار ‪ ،‬مشٌت الى فراشً ‪ ،‬تمددت ‪ ،‬ؼطٌت رأسً ‪ ...‬وبكٌت بصمت ‪.‬‬
‫بقٌت عدة ساعات تحت البطانٌة ‪ ،‬ال ارٌد ان ارى احداًال ‪ ،‬ال ارٌد ان ارى شٌبا ًال ‪ ،‬البكاء اراحنً قلٌبلًال ‪ ...‬ولم‬
‫البث طوٌبلًال حتى نمت ‪ ،‬استٌقظت عصراًال رفعت البطانٌة وجلست ‪ ،‬كان امام فراشً مجموعة متنوعة من‬
‫االؼراض ‪ " ...‬نصؾ خٌارة ‪ ،‬نصؾ حبة بندورة ‪ ،‬رؼٌؾ خبز مدنً ‪ ،‬قطعة بقبلوة فاخرة ‪ ،‬بعض انصاؾ‬
‫حبات الفاكهة ‪ ،‬ولكن االهم كان االلبسة ‪ ...‬بٌجاما رٌاضٌة ‪ ،‬ؼٌار داخلً شتوي من الصوؾ ‪ ،‬ؼٌار داخلً‬
‫صٌفً ‪ ،‬جوارب صوفٌة ‪ ...‬ثم شحاطة !"‪.‬‬
‫طوال كل هذه السنوات ومنذ ان اخذوا حذابً بمركز المخابرات لم انتعل بقدمً شٌبا ًال ‪ ،‬وقد تشكل ت على كامل‬
‫قدمً من االسفل طبقة سمٌكة من اللحم المٌت المتقرن المتشقق ‪ ...‬واالن ها هً شحاطة !‪.‬‬
‫نظرت حولً ‪ ،‬واضح ان حصتً مساوٌة لحصة أي سجٌن اخر منهم ‪ ،‬الاكثر وال اقل ‪.‬‬
‫( هم جمٌعا ًال ٌكرهون ني ‪ ،‬هم جمٌعا ًال ٌحتقرو ننً ‪ ،‬بعضهم ٌرٌد قتلً ‪ ...‬كل هذا صحٌح ‪ ،‬ولكن فً االمور‬
‫الحٌاتٌة ‪ ...‬كانوا عادلٌن معً ) ‪.‬‬
‫اخذت االؼراض ‪ ،‬رتبتها كوسادة ‪ ...‬اكلت ‪ ،‬ولكن لم اشؤ ان اكل نصؾ الخٌارة ‪.‬‬
‫‪ 6‬حزيران‬
‫البارحة كان ٌوما ًال حافبلًال ‪ ،‬لم استطع النوم اال فً ساعة متؤخرة واستٌقظت كالعادة صباحا ًال ‪ ،‬فاجؤنً وجود‬
‫قطعتٌن من الخٌار " نصفٌن " الى جانب النصؾ الخاص بً ‪ ،‬ثبلثة انصاؾ ‪ ...‬واستنجت ان هناك شخصٌن قد‬
‫تنازال عن حصتهما من الخٌار لً !!‪ ...‬ظنا اننً احب الخٌار !‪ ...‬لم ٌعرفا ان الخٌار برابحته ‪ ...‬لونه ‪ ...‬قد‬
‫استحضر الحٌاة بكل ثقلها الى نفس كانت قد نسٌت الحٌاة !‪.‬‬
‫اثنان منـ "هم" ٌتعاطفان معً ! ‪ ...‬ولكن ال ٌجرإان على اظهار هذا التعاطؾ !‪.‬‬
‫داخلً قلٌل من الراحة واالطمبنان ‪ ،‬نظرت حولً ‪ ،‬هل أستطٌع تمٌٌزهما ؟ ‪.‬‬
‫كل الوجوه مؽلقة ‪ ،‬كل العٌون كابٌة ‪.‬‬
‫‪ 8‬اذار‬
‫ة المهاجع ‪ ،‬إذاعة السجن تصدح منذ‬ ‫كالعادة أخرجونا الٌوم الى الساحة ‪ ،‬أوقفونا أمام مهجعنا ‪ ،‬وهكذا بقً‬
‫الصباح باألؼانً التً تمجد ربٌس الدولة وتتؽنى بحكمته وشجاعته وبطوالته ‪ ،‬اعطوا ورقة مكتوبة الى احد‬

‫‪77‬‬
‫السجناء بها بعض الشعارات والهتافات ٌصرخ بها ونردد نحن ورا ءه ‪ :‬سنفدي الربٌس بالروح والدم ‪ٌ ،‬سقط‬
‫االخوان المسلمون عمبلء االمبرٌالٌة ‪...‬‬
‫لم ٌكن السجناء ٌرون أي ؼضاضة بالهتاؾ ضد انفسهم ‪ ،‬او على االقل لم تبدر منهم اٌة اشارة او ممانعة تدل‬
‫على ذلك ‪ ،‬كانوا يهتفون باصوات عالٌة جداًال ال ٌستشؾ منها أي شًء من هذا ‪.‬‬
‫هذه االحتفاالت تجري كل عام مرتٌن او ثبلث مرات ‪ ،‬واحتفاالت هذا العام تختلؾ عن ؼٌرها فً ان السجناء‬
‫الٌوم كانوا ال ٌنفكون ٌحكون وٌهرشون اجسادهم ‪ :‬انه الجرب ‪ .‬بٌن تصفٌق وتصفٌق ‪ ،‬بٌن هتاؾ واخر ‪ٌ ،‬مد‬
‫السجٌن ٌده لٌحك جسده ‪.‬‬
‫بدأ الجرب منذ خمسة اشهر تقرٌبا ًال ‪ ،‬وكنت قد نجوت من التهاب السحاٌا ومن السل اال اننً كنت من اوابل‬
‫المصابٌن بالجرب ‪ ،‬الذي سرعان ما عم وانتشر لٌشمل السجن كله ‪ ،‬والؽرٌب فً االمر ان االختبلط بٌن‬
‫المهاجع ممنوع منعا ًال باتا ًال ‪ ،‬فكٌؾ ٌمكن ان ٌنتشر وبا ٌء ما ٌبدأ فً احد المهاجع لٌعم السجن كله !!‪.‬‬
‫واالؼرب من هذا ان مستوى النظافة هنا ٌعتبر جٌداًال ‪ ،‬فالمساجٌن عموما ًال ٌهتمون بالنظافة كثٌراًال ‪ ،‬خاصة نظافة‬
‫الجسد والثٌاب النها شرط دٌنً للطهارة والصبلة ‪ ،‬فكٌؾ ٌمكن الشٌاء مثل القمل والجرب ان تنتشر بهذه‬
‫الكثافة ؟!‪.‬‬
‫بدأالجرب فجؤة عند بضعة اشخاص وانا منهم ‪ ،‬ظهر اول ما ظهر بٌن االصابع ثم امتد الى ثنٌات الجسم‬
‫االخرى ‪ ،‬كان عذابا ًال مضنٌا ًال كالنار عندما تسري فً الجسد ‪ ،‬كل ٌوم ٌمر ٌزداد عدد المصابٌن ‪ ،‬وواضح منذ‬
‫البداٌة ان اٌة عملٌة وقاٌة ال جدوى منها ‪ ،‬مهما كانت االحتٌاطات المتخذة من قبل الشخص السلٌم فهً عبث ال‬
‫طابل تحته ‪.‬‬
‫له‬ ‫منذ الٌوم االول حدد الدكتور ؼسان االمر ‪ ،‬هذا الدكتور وهو زمٌل البورد االمرٌكً لبلمراض الجلدٌة ‪،‬‬
‫مإلفات كثٌرة وٌعتبر عالما ًال فً اخصاصه على المستوى العالمً ‪ ،‬شخص محترم هنا كثٌراًال ‪ ،‬ال ٌتدخل فً أي‬
‫مسؤلة ال تعنٌه ‪ٌ ،‬ترفع كثٌراًال عن الصؽابر‪ ،‬وهو المرجع االخٌر فً الطب لكل االطباء الذٌن فً المهجع ‪.‬‬
‫فحص الحاالت االولى للمرض ‪ ،‬قام بهدوء من مكانه واتجه لعند ابو حسٌن ‪ ،‬وقؾ بٌن فراشً وفراش ابو‬
‫حسٌن ‪ ،‬القى التحٌة ‪:‬‬
‫‪ -‬السبلم علٌكم ٌا ابو حسٌن ‪.‬‬
‫قفز ابو حسٌن احتراما ًال وهو ٌرد التحٌة ‪:‬‬
‫‪ -‬وعلٌكم السبلم ورحمة هللا وبركاته ‪ ،‬اهبلًال وسهبلًال ‪ ...‬اهلٌن دكتور ‪ ...‬تفضل ‪ ...‬تفضل ‪ ...‬استرٌح ‪.‬‬
‫جلس الدكتور ؼسان ‪ ،‬وبمنتهى الهدوء بلػ االمر البو حسٌن ‪ ،‬ختم حدٌثه قاببلًال ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا الجرب سرٌع العدوى ‪ ،‬خبلل اٌام راح نكون كلنا جربانٌن اذا ما عالجناه ‪ ،‬والعبلج بسٌط ‪ ،‬اخً‬
‫ابو حسٌن ‪ ...‬خذ اجراءاتك ‪ ...‬بس انا خلٌنً بعٌد عن هـ الساقط طبٌب السجن !‪ ،‬مانً طاٌق احكً‬
‫معه وال كلمة ‪ ...‬مفهوم ؟‪.‬‬
‫اومؤ ابو حسٌن برأسه موافقا ًال ‪ ،‬عندها قام الدكتور فوراًال الى فراشه الذي ال ٌؽادره ابداًال ‪ ،‬فهو لم ٌشاهد جالسا ًال‬
‫عند احد ‪ ،‬وهذه هً المرة االولى التً ٌقوم فٌها بالجلوس على فراش سجٌن اخر وكان ذلك للضرورة ‪.‬‬
‫‪78‬‬
‫فٌما هو ٌؽادرالتفت نحوي ‪ ،‬سار خطوتٌن ثم توقؾ ‪ ،‬اتجه نحوي ‪ ،‬جلس على فراشً وهو ٌقول ‪:‬‬
‫‪ -‬السبلم علٌكم ‪ٌ ...‬ا اخً ‪.‬‬
‫ال ادري كٌؾ اجبته مبهوتا ًال وبصوت انا نفسً لم اسمعه ‪:‬‬
‫‪ -‬وعلٌكم السبلم ورحمة هللا وبركاته ‪.‬‬
‫‪ -‬ممكن ‪ٌ ...‬ا اخً من بعد فضلك‪ ...‬تمد اٌدٌك حتى افحصهم ‪.‬‬
‫بحركة الٌة مددت كفًّ الى االمام ‪ ،‬امسك بهما ‪ ،‬باعد بٌن االصابع ثم التفت الى ابو حسٌن وقال كانه ٌتابع‬
‫حدٌثا ًال انقطع ‪:‬‬
‫‪ -‬شاٌؾ ابو حسٌن‪ ..‬وهاي االخ جارك كمان مصاب !‪ ،‬وانا ماشً شفته عم ٌحك وعرفت انه مصاب ‪.‬‬
‫‪ -‬ال حول وال قوة اال باهلل ‪ ...‬اللهم اع ّنا على تحمل كل هذه المحن ‪ ،‬اللهم ال تعطنا حمبلًال خفٌفا ًال ولكن‬
‫اعطنا ظهراًال قوٌا ًال ‪ٌ ،‬ارب انت السمٌع المجٌب ‪.‬‬
‫بعد ان انهى ابو حسٌن الدعاء قال الدكتور ‪ :‬آمٌن ‪ ،‬ثم التفت الًّ ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا اخً حاول اال تحك ‪ ...‬مهما حكك جسمك حاول ال تحك ‪ ،‬وحتى ٌفرجها هللا وٌتؤمن الدواء حاول انك‬
‫تؽسل اٌدٌك دابما ًال بالماء والصابون ‪ ،‬وارجو لك من هللا الشفاء ‪ ،‬وال تخاؾ هذا المرض مزعج بس مانو‬
‫خطٌر ‪.‬‬
‫وذهب ‪.‬‬
‫( ٌاهللا ‪ ...‬ما هذه العذوبة ؟‪ ...‬ما هذه الرقة ؟‪ ...‬ما هذه االنسانٌة ؟‪ ...‬هل هو ال ٌعرؾ من انا ؟‪ ...‬اذا كان‬
‫كذلك ‪ ،‬فهذا ٌثبت انه انسان كبٌر !‪ ...‬اما اذا كان ٌعرؾ من انا ‪ ...‬فهذا ٌثبت انه انسان كبٌر ‪ ...‬كبٌر ‪...‬‬
‫والٌخشى احداًال ) ‪.‬‬
‫مرت االٌام ‪ ،‬ثم االسابٌع ‪ ،‬وابو حسٌن ٌحاول مع ادارة السجن وطبٌب السجن ان ٌإمنوا لنا العبلج ولكن‬
‫دون جدوى ‪ ،‬وآخر مرة قدم فٌها الطبٌب قام بزجر ابو حسٌن وتهدٌده ‪:‬‬
‫‪ -‬العمى بعٌونك ‪ ...‬صرعتنا ‪ ،‬اٌه هو جرب ! ‪ ...‬شوٌة حكة وٌنتهً االمر ‪ ،‬اٌه والك ‪ ...‬قاعدٌن ال‬
‫شؽلة وال عملة ‪ ...‬اكل ومرعى وقلة صنعة ‪ ،‬خلٌهم ٌتسلوا بالحك ‪ ...‬احسن ما ٌملوا !‪.‬‬
‫وذهب ‪.‬‬
‫كانت قد مرة اربعة اشهر على بداٌة المرض ‪ ،‬وظل ابو حسٌن ٌحاول ‪.‬‬
‫" اما انا فقد شفٌت بعد حوالً الشهر من بداٌة مرضً ‪ ،‬كٌؾ ؟ ‪ ...‬ال اعرؾ ‪ ،‬كنت الحالة الوحٌدة التً‬
‫شفٌت ‪ ،‬فقط اتبعت ما قاله الدكتور ؼسان ‪ ،‬كنت كل نصؾ ساعة اقوم الى المؽاسل اؼسل كل االجزاء‬
‫المصابة بالماء والصابون جٌداًال ‪ ،‬ثم اصبحت اعمد الى كشط الصابون الرطب اللٌن واضعه على اماكن‬
‫االصابة وأتركه الى الٌوم الثانً ‪ ،‬لم أحك جسمً أبداًال ‪ ،‬حتى عندما أنام أحضر سروالً النظٌؾ وأضع كل‬
‫ٌد فً طرؾ من السروال ‪ ،‬و أظل الفه متعاكسا ًال إلى ان ٌصبح السروال كالقٌد ‪ ،‬وبذلك أتؤكد اننً ال أحك‬
‫‪ .‬واؼتنمتها فرصة بعد ان تؤكدت من الشفاء‬ ‫حتى و أنا نابم ‪ .‬وكما ظهر المرض علًّ فجؤة اختفى فجؤة‬
‫لمحادثة الدكتور ؼسان ‪ ،‬ذهبت الٌه وابلؽته اننً شفٌت ‪ ،‬اكتفى بهز رأسه !‪.‬‬
‫‪79‬‬
‫تطور مرض الجرب كثٌراًال ‪ ،‬سمعت حدٌثا ًال للدكتور ؼسان مع مجموعة من االطباء بحضور ابو حسٌن‬
‫وكان حدٌثه موجها ًال لبلطباء ‪ ،‬فاحتوى على العدٌد من التعابٌر الطبٌة والبلتٌنٌة التً لم افهمها ‪ ،‬وبعد ان‬
‫عدد انواع الجرب خلص الى نتٌجة انه ال ٌوجد عبر تارٌخ الطب ان سجلت حاالت كالحاالت التً ٌرونها‬
‫هنا ‪ ،‬وذكر ان اقسى انواع الجرب هو ان ٌكون لدى المرٌض حوالً ‪ /300 /‬بثرة ‪ ،‬بٌنما هنا سجل حاالت‬
‫احتوت على اكثر من ‪ /3000/‬بثرة تؽطً كامل الجسم ‪ ،‬وان هذا هو احد االسباب التً ادت الى ح دوث‬
‫وفٌات بالجرب ‪ ،‬ونبه الى حالة خطرة وهً انتشار المرض داخل االلٌتٌن وعلى فوهة الشرج ‪ ،‬وانه نتٌجة‬
‫للحك القاسً فً تللك المنطقة والذي ادى الى حدوث جروح عدٌدة بعدد البثرات الموجودة حول فتحة‬
‫الشرج ‪ ،‬ونتٌجة لتقارب هذه البثرات فان الجروح قد الصقتها ببعضها بعد تخثر الدم مما ادى الى انسداد‬
‫الشرج ‪ ...‬ومن ثم الى الوفاة الستحالة طرح الفضبلت من الجسم ‪ ،‬وتمنى لو ان هناك امكانٌة لحضور احد‬
‫معاهد البحث الطبً المتطورة لمراقبة ومعاٌنة هذه الحاالت الشاذة ‪.‬‬
‫طلب الدكتور ؼسان من ابو حسٌن تشكٌل فرقة تمرٌض مهمتها ربط المرضى الذٌن ٌنتشر الجرب لدٌهم فً‬
‫الشرج من اٌدٌهم لمنعهم من حك انفسهم ‪ ،‬ثم طلب منه معاودة جهوده مع ادارة السجن ‪.‬‬
‫منذ خمسة اٌام وفً الصباح كان أبو حسٌن مستؽرقا ًال بالتفكٌر ‪ ،‬فجؤة انتفض وذهب الى الدكتور ؼسان ‪،‬‬
‫تحدث معه قلٌبلًال والدكتور ٌهز برأسه ‪ ،‬بعدها جال أبو حسٌن فً المهجع كله وهو ٌردد ‪:‬‬
‫‪ -‬شباب ‪ ...‬كل شخص اتته زٌارة مدعو لبلجتماع عندي ‪ ،‬كل اربعة ‪ ...‬خمسة ٌجوا سوا ‪.‬‬
‫كان هناك حوالً ثبلثٌن شخص من مهجعنا قد اتتهم زٌارات ‪ ،‬ولمعرفة االهل ان هذه الزٌارة قد تكوت‬
‫استثنابٌة وٌتٌمة فانهم كانوا ٌحاولون تزوٌد سجٌنهم بما قد ٌحتاجه ولزمن مستقبلً طوٌل ‪ ،‬خاصة لجهة‬
‫االلبسة والنقود ‪ ،‬وتبٌن لً أن اهالً المساجٌن االسبلمٌٌن عموما ًال هم من الفبة المٌسورة فً المجتمع ‪ ،‬ولهذا‬
‫فان أقل مبلػ أعطً لسجٌن كان مبتً الؾ لٌرة ‪ ،‬والبعض أكثر من ذلك بكثٌر‪ ،‬ولذلك اصبح فً مهجعنا‬
‫مبلٌٌن اللٌرات وال مجال لشراء أي شًء ‪ ،‬وقد استمرت الزٌارات حوالً الستة اشهر ‪ "،‬كان بعض‬
‫الحفظة ٌحصون وٌحفظون عدد الزٌارات لكً ٌعرفوا كم كٌلو ذهب اصبح لدى مدٌر السجن ‪ ،‬وفً‬
‫اإلحصاء االخٌر بعد توقؾ الزٌارات كان العدد قد وصل الى ستمابة وخمسة وستٌن كٌلو اًال‬
‫ذهب "‪.‬‬
‫وقد توقفت الزٌارات نتٌجة النتقال مدٌر السجن وحلول ناببه محله فً اإلدارة ‪ ،‬ولم ٌكن توقؾ الزٌارات هو‬
‫النتٌجة الوحٌدة النتقال مدٌر السجن بل كان هناك نتٌجة أخرى ‪ ،‬اذ وردت برقٌة مورس من المهاجع األولى‬
‫تقول ‪:‬‬
‫" لقد جمع مدٌر السجن الجدٌد جمٌع عناصر ورقباء الشرطة العاملٌن داخل السجن وابلؽهم انه اعتباراًال من‬
‫هذا الٌوم ال ٌحق للعنصر العادي – الجندي أن ٌقوم بقتل أي سجٌن اذا لم ٌكن أحد الرقباء موجودا فً‬
‫الساحة ‪ ،‬التعذٌب ‪ ،‬الضرب ‪ ،‬السحل ‪...‬كل هذا لٌس مشكلة‪ ،‬لكن الموت ال ٌجوز إال بحضور أحد الرقباء‬
‫"‬
‫اعتبر الجمٌع عندها ان المدٌر الجدٌد أفضل وأكثر انسانٌة من المدٌر القدٌم ‪.‬‬

‫‪80‬‬
‫أتت أول مجموعة من خمسة أشخاص لعند أبو حسٌن ‪ ،‬بعد التحٌة والسبلم والمجامبلت وكؤنهم ٌزورونه فً‬
‫بٌته دعاهم للجلوس وبادرهم فورا بفتح الموضوع دون مقدمات فٌما الجمٌع ٌهرشون وٌحكون ‪:‬‬
‫‪ -‬بدنا منكم ٌا شباب ‪ ..‬تبرعات فً سبٌل هللا ‪.‬‬
‫سكت الخمسة قلٌبل ‪ ،‬ثم قال أحدهم ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا أبو حسٌن ‪ ...‬أرواحنا وأموالنا فً سبٌل هللا ‪ ،‬بس أشرح ‪ ،‬قول أوال شو بدك تعمل باألموال ‪ ،‬المبلػ‬
‫المطلوب ‪ ...‬موالزم نعرؾ ؟!‪.‬‬
‫‪ -‬طبعا الزم تعرفوا ‪ ...‬لكن ما بدها ذكاء كثٌر ‪ ،‬هللا خلق األموال وأعطانا إٌاها منشان نصرفها ونشتري‬
‫بها ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب شو بدك تشتري ؟‪.‬‬
‫‪ -‬بدي اشتري طبٌب ‪ ...‬دكتور ‪.‬‬
‫‪ -‬دكتور‪...‬؟!!‬
‫وضحك الجمٌع ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم دكتور ‪ ...‬بدي اشتري طبٌب السجن ‪ !..‬ما فً ؼٌر هذا الطرٌق ‪ ...‬وبسبلمة فهمكم بهذه الدولة‬
‫ومن فوق لتحت كل واحد له سعر ‪ ،‬وما بظن ان هذا الدكتور ؼٌر شكل ‪ ،‬كلهم عم ٌلهطوا ‪ ،‬ونحن خلٌنا‬
‫نملً جٌب هـ الدكتور منشان ٌجٌب لنا دواء للجرب ‪ ،‬ونخلّص أمــة محمد من هذه البلوة ‪.‬‬
‫وافقه الجمٌع وتتالت االجتماعات وأصبح بحوزة أبو حسٌن ٌ‬
‫مبلػ محترم‪ ،‬عندها طلب من الرقٌب عندما فتح‬
‫الباب مجًء الطبٌب ألمر هام !‪.‬‬
‫كان الطبٌب حانقا عندما فتح الباب ‪ ،‬وصاح بوجه أبو حسٌن ‪:‬‬
‫‪ -‬اذا كنت طالبنً منشان الجرب ‪ ...‬بدي كسّر عظامك ٌا كلب ‪ ،‬صار ألؾ مرة قلت لك ما عندنا دواء‬
‫جرب ‪ ،‬هات لشوؾ ‪ ...‬شو بدك ؟‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ...‬منشان هللا ‪ ...‬بس طول بالك واسمعنً شوي ‪ٌ ...‬ا سٌدي متل ما بتعرؾ نحن بالفترة‬
‫الماضٌة اجتنا زٌارات وصار فً عندنا مصاري كتٌر ‪ ...‬ومثل ما أنت شاٌؾ ‪ ...‬نحن هون المصاري‬
‫ما تلزمنا ألنه ممنوع نشتري أي شًء ‪.‬‬
‫بلتقاط الطعم فالتفت الى الشرطة الذٌن كانوا‬
‫كان هذا هو الطعم الذي ألقاه أبو حسٌن للطبٌب ‪ ،‬وبدأ الطبٌب ا‬
‫ٌحٌطون به وأمرهم باالبتعاد ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬اٌه طٌب ‪ ...‬وأنا شو عبلقتً بكل هـ العبلك ‪ ...‬اذا كان عندكم مصاري أو ما عندكم ‪ ...‬شو ممكن‬
‫أعملك ؟!‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ...‬اخدمنا هالخدمه لوجه هللا ‪ ...‬انت رجل كلك انسانٌة ‪ ،‬وساعدتنا كثٌر لوجه هللا ‪ ...‬هذه‬
‫المرة كمان ساعدنا ‪ ...‬اشتري لنا الدواء على حسابنا ‪ ...‬حتى لو كان من السوق السودا ‪ ...‬ومعلٌش اذا‬
‫كان الدواء ؼالً ‪ ،‬نحن مستعدٌن نشترٌه بضعفٌن أو حتى ثبلثة ‪ ...‬خدمة لوجه هللا ٌا سٌدي ‪.‬‬
‫وتحولت لهجة الطبٌب فورا من الحنق والؽضب الى اللٌن الثعلبً ‪:‬‬
‫‪81‬‬
‫‪ -‬لكن ‪ ...‬انت تعرؾ أن هذا الدوا ؼالً كتٌر ؟‬
‫‪ -‬معلٌش ٌا سٌدي ‪ ...‬مهما كان ؼالً الثمن ‪ ،‬بس ٌكون كافً لكل هـ الناس ‪ ،‬ألن الكل جربانٌن ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ...‬تعال لهون شوي ‪.‬‬
‫أخرج الطبٌب أبو حسٌن الى خارج المهجع ‪ ،‬تكلما بصوت خافت ‪ ،‬وتمت الصفقة ‪.‬‬
‫بعد ٌومٌن أتى الدواء بالصنادٌق الكرتونٌة ‪ ،‬ومنذ ثبلثة أٌام وجمٌع الناس سواء كانوا مصابٌن أم ال وأنا‬
‫منهم بدأوا العبلج بـ البنزوات " بناء على تعلٌمات الدكتور ؼسان المشددة ‪ ،‬وتحت رقابته الصارمة " ‪.‬‬
‫تم تهٌبة خمس مقاصٌر بالبطانٌات ٌدخل الواحد خلفها وٌبدأ بفرك كل جسمه بـ البنزوات ‪.‬‬
‫خبلل هذه الفترة القصٌرة بدأت تظهر النتابج االٌجابٌة ‪.‬‬
‫تم اببلغ المهاجع األخرى ‪ ،‬والجمٌع أتم الصفقة مع الطبٌب الذي أصبح ملٌونٌرا‪ ،‬وعلق أحد األشخاص ‪:‬‬
‫‪ -‬اذا سؤلوا طبٌب السجن شً مرة ‪ ،‬كٌؾ صرت ملٌونٌر ‪ ،‬الزم ٌقول ‪ :‬الجرب حولنً من شخص جربان‬
‫الى ملٌونٌر ‪.‬‬
‫‪ -‬بس ٌا أخً الحظ ان الفساد فً بعض األحٌان ٌكون مفٌد وكوٌس ‪.‬‬
‫‪ 23‬تموز‬
‫رؼم مرور كل هذه السنوات بقٌت قابعا فً قوقعتً أتلصص على الداخل والخارج ‪ ،‬داخل المهجع وخارجه‬
‫‪ ،‬ولكن مع مرور األٌام قل أهتمامً بكثٌر من األشٌاء نتٌجة لمعرفتً التامة بها ‪.‬‬
‫ت وسوراًال طوٌلة منه ‪ ،‬حفظت الصلوات كلها حتى‬
‫حفظت القرآن جٌدا ولطالما رددت بشكل عفوي آٌا ٍ‬
‫الطاربة منها كصبلة الخوؾ ‪ ،‬صبلة الجنازة ‪ ،‬وصبلة التراوٌح ‪ ...‬استمعت الى خبلفات الجماعات‬
‫المختلفة حول األحكام الشرعٌة ‪ ،‬آلٌة تفكٌرهم ‪ ،‬ردود أفعالهم ‪ ،‬طموحاتهم ‪ ...‬آمالهم ‪ ...‬لكل هذا لم أعد‬
‫أركز ذهنً كثٌرا عندما أنظر من خبلل فتحة القوقعة ‪.‬‬
‫كذلك عندما أطل بنظري من خبلل الثقب الى خارج المهجع ‪ ،‬مرأى تنفس المهاجع األخرى ‪ ...‬العقوبات‬
‫‪ ...‬التعذٌب ‪ ...‬كله أضحى عادٌا ‪ٌ ...‬ومٌا ‪.‬‬
‫لكن كنت أداوم ٌومٌا على النظر خبلل الثقب انتظارا وتوقعا لما هو ؼٌر مؤلوؾ ‪ ...‬لشًء جدٌد ‪ ،‬وكان‬
‫على األؼلب ٌوجد شًء جدٌد ‪ ،‬فالتعذٌب وان كان ذا نمط معمم والكل قد تدرب علٌه فً مدرسة واحدة ‪،‬‬
‫اال انه ٌبقى هناك شًء له عبلقة بالذات ‪ ،‬ذات كل فرد ‪ ،‬فكل رقٌب ‪ ...‬كل شرطً ٌضفً من ذاته شٌبا‬
‫بداع ‪ " ،‬مسحة ابداعٌة‬ ‫خاصا على العمل المتشابه ‪ ،‬فٌخلق شٌبا جدٌدا نستطٌع ان نضٌفه الى خانة اإل‬
‫بالتعذٌب !! " ‪.‬‬
‫منذ أكثر من سنة وخبلل تنفس أحد المهاجع ‪ ،‬كان أحد الرقباء واقفا فً ظل الحابط ‪ ،‬مرت فؤرة من أمامه‬
‫فهرسها ببوطه العسكري ‪ ،‬معست الفؤرة وماتت ‪ ،‬أخرج الرقٌب من جٌبه مندٌبل ورقٌا وأمسكها بواسطة‬
‫الم ندٌل من ذٌلها ‪ ،‬اقترب من صفوؾ المساجٌن التً تدور حول الساحة ‪ ،‬أمسك بؤحد السجناء ال على‬
‫التعٌٌن وأجبره على ابتبلع الفؤرة ‪ ،‬ابتلع السجٌن الفؤرة ‪.‬‬

‫‪82‬‬
‫منذ ذلك الٌوم صرؾ الرقباء وعناصر الشرطة جزءا مهما من وقتهم الصطٌاد الفبران والصراصٌر‬
‫والسحالً وإجبار السجناء على ابتبلعها ‪ ،‬كلهم قاموا بهذا العمل ولكن ابتكاره " ابداعه " عابد ألول رقٌب‬
‫قام بهذا العمل ‪.‬‬

‫حتى اإلعدمات ‪ ،‬رؼم أننً أدمنت مراقبتها اال أنها لم تعد تحمل نفس الشحنة من التوجس والرهبة ‪.‬‬
‫ٌقاد المحكوم علٌهم باالعدام الى أمام المشانق ‪ٌ ،‬قٌدون بعد أن ٌتم تثبٌت البلصق العرٌض على أفواههم ‪،‬‬
‫كل دفعة ثمانٌة أشخاص ‪ ،‬ترتفع المشانق ‪ ،‬تنحنً الرقاب ‪ ،‬ارتخاء الجسد ‪ ،‬انزال الدفعة األولى ‪ ،‬صعود‬
‫الدفعة الثانٌة ‪...‬‬
‫كنت أراقب الجمٌع ‪ ،‬شرطة وبلدٌات ومعدومٌن ‪ ،‬تطورت مراقبتً من مراقبة األفعال الى الوجوه ‪،‬‬
‫االنفعاالت ‪ ،‬ردود الفعل ‪ ...‬ما ٌرتسم على الوجه من خوؾ ‪ ،‬هلع ‪ ،‬حقد ‪ ،‬تشؾ ‪ ،‬سرور ‪ ،‬استمتاع ‪ ،‬لذة‬
‫‪...‬‬
‫"الوحش" ‪...‬‬
‫الجمٌع ابتداء من رفاقه البلدٌات الى جمٌع عناصر الشرطة حتى المساعد كانوا ٌنادونه الوحش ‪ ،‬شاب فً‬
‫الخامسة والعشرٌن تقرٌبا ‪ ،‬قد ال ٌتجاوز طوله الم ا بة والستٌن سنتمترا ولكن عرض أكتافه قد ٌتجاوز الم ا بة‬
‫والعشرٌن سنتمترا ‪ ،‬سماكته قد تبلػ الستٌن أو سبعٌن سنتمترا ‪ ،‬من األمام والخلؾ ٌبدو كمربع ‪ ،‬من‬
‫الجانب ٌبدو كصندوق ‪ ،‬مفتول العضبلت ‪ ،‬شاهدته فً احدى المرات ٌرفع سجٌنا بٌد واحدة الى ما فوق‬
‫رأسه ‪ ،‬قوي جدا ‪ ،‬ال ٌؽٌب أبدا عن أٌة اعدامات ‪ ،‬وٌلعب دورا فعاال فٌها ‪ ،‬جمٌع عناصر الشرطة ٌعتمدون‬
‫علٌه ‪.‬‬
‫فً أحدى حفبلت األعدام وبعد أن أنزلو الدفعة األولى وضعوا الحبال فً رقاب الدفعة الثانٌة ورفعوها الى‬
‫األعلى ‪ ،‬سبعة معدومٌن من ثمانٌة ارتخت أجسادهم ‪ ،‬وبقً الثامن ٌصارع ‪ ،‬كان ٌؤبى أن ٌموت ‪ ،‬جسده‬
‫متدل وٌلعبط ‪ ،‬انتظر الجمٌع دقابق ولكن روحه كانت عنٌدة ‪ ،‬أبت أن تخرج ‪ٌ ،‬حرك رجلٌه ٌحاول أن‬
‫ٌرتفع بجسده الى األعلى ‪ ،‬وطال اإلنتظار ‪ ،‬احساس باإلختناق وضٌق التنفس ٌنتاب الجمٌع ‪ ،‬المساعد‬
‫تلمس رقبته بٌده الٌمنى وفركها ‪ ،‬الجسد المعلق فً الهواء ٌصارع ‪ ،‬أخذت ألهث تحت البطانٌة ‪ ...‬وصاح‬
‫المساعد ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا وحش خلصنا من هـ الشؽلة !‪ ..‬خلٌه ٌرتاح ‪.‬‬
‫تقدم الوحش ‪ ،‬وقؾ تحته وأمسك برجلٌه وأخذ ٌشده الى األسفل ‪ ،‬كان السجٌن المعلق – كالعادة – ٌلبس‬
‫ثٌابا رثة ‪ ..‬أسماالًال ‪ ،‬ولذلك عندما شده الى االسفل انشدت الثٌاب واصبح السجٌن عارٌا ًال بجزبه السفلً ‪ ،‬تابع‬
‫الوحش الشد ‪ٌ ،‬شد ‪ ...‬وٌشد ‪ ...‬ونجح اخٌراًال ‪ ،‬مات السجٌن ‪ ،‬لكن فور موته ٌبدو ان مصرته الشرجٌة قد‬
‫ارتخت نهابٌا ًال فؤفرغ كل ما فً امعابه فوق الوحش الذي ال زال ٌشد ‪ ،‬وكانت كمٌة الفضبلت كبٌرة وسابلة‬
‫‪ ...‬ؼطت الوحش ‪ ،‬رأسه ‪ ،‬وجهه ‪ ،‬صدره ‪ ... ،‬رجع الوحش الى الخلؾ واخذ ٌنظر الى الجمٌع ‪ ،‬قهقه‬
‫المساعد وكان اول من استوعب االمر ‪ ،‬قال وهو ٌضحك ‪:‬‬
‫‪83‬‬
‫‪ -‬كان اسمك الوحش ‪ ...‬بس هلق صار اسمك الوحش ابو خرٌه !‪.‬‬
‫ضحك الجمٌع كثٌراًال ‪ ،‬حتى انا ضحكت بصوت مسموع ‪.‬‬
‫من ٌومها اصبح للوحش اسمان ‪ ،‬رفاقه الذٌن ٌخشونه وٌخافون بطشه ٌنادونه الوحش ومن ال ٌخشاه‬
‫والجنود والرقباء ٌنادونه بـ " ابو خرٌه " ‪.‬‬
‫الجنود والرقباء اؼلبهم من المجندٌن الذٌن ٌإدون الخدمة العسكرٌة ومدتها سنتان ونصؾ ‪ ،‬االؼلبٌة الساحقة‬
‫منهم هم من ابناء الجبال والساحل ‪ ،‬لهجتهم ثقٌلة وتصرفاتهم ؼلٌظة وجلفة ‪ ،‬وٌستحٌل ان ٌوجد بٌنهم واحد‬
‫من ابناء المدن الكبٌرة والربٌسٌة ‪ ،‬وكونهم مجندٌن فانهم ٌتؽٌرون بشكل دوري ‪ ،‬فً السنة الواحدة ٌتم‬
‫تخرٌج دورتٌن من مدارس الشرطة العسكرٌة ‪ ،‬لهذا فكل ستة اشهر تؤتً د ورة جدٌدة وٌتم تسرٌح دورة‬
‫قدٌمة ‪.‬‬
‫منذ اربعة اشهر اتت اخر دورة ‪ ،‬كانوا ثبلثة عشر عنصراًال ‪ ،‬ثبلثة رقباء وعشرة جنود ‪ ،‬عندما دخلوا‬
‫ساحتنا هبط قلبً بٌن قدمًّ ‪ ،‬ففً المقدمة كان ٌسٌر اخً االصؽر سامر بلباس الشرطة العسكرٌة ‪ ،‬عنما‬
‫اقتربوا اكثر تبٌنت انه شخص ٌشبه اخً كثٌراًال ‪ ،‬اسمٌته فً سري " سامر" بٌنما السجناء االخرون سموه "‬
‫االعوج " النه كان ٌمٌل برأسه دوما ًال الى جهة الٌمٌن ‪.‬‬
‫فً البداٌة ال تطلب االدارة من العناصر الجدد القٌام بؤي عمل على صعٌد التعذٌب او االعدامات ‪ٌ ،‬تركونهم‬
‫حوالً الشهر فقط ٌحضرون وٌشاهدون ما ٌجري وهم وقوؾ ‪ ،‬ودابما ًال ٌكون الجدد متهٌبٌن من االمساك‬
‫بالكرباج او العصً ‪ ،‬وحتى بعد مضً الشهر وعندما ٌبدإون بمشاركتهم تكون ضرباتهم حفٌفة ومرتبكة ‪.‬‬
‫فً االعدامات ٌوقفونهم على مبعدة من المشانق‪ ،‬ما ان تبدأ عملٌة الشنق حتى ٌكونوا قد اقتربوا من بعضهم‬
‫اكثر ‪ ،‬اصفرت وجوههم ‪ ،‬البعض ٌرتجؾ وٌػض النظر والبعض االخر ٌصاب بتقلصات فً المعدة مما‬
‫ٌجعله ٌتقٌؤ ‪.‬‬
‫المساعد والعناصر القدماء ٌرون كل ذلك فٌتعاملون معه وكؤنهم لم ٌروا شٌبا ًال ‪ ،‬مع حفلة االعدام الثانٌة‬
‫والثالثة ‪ٌ ...‬سترخون ‪ٌ ،‬تجرإون ‪ٌ ،‬صبحون طبٌعٌٌن كباقً زمبلبهم ‪.‬‬
‫الرقٌب سامر " االعوج " وكنت اراقبه دابما َ ‪ ،‬عندما حضر اول حفلة اعدام تقٌؤ بشدة حتى خلت انه‬
‫سٌخرج امعاءه ‪ ،‬جلس على االرض وقد ؼطى عٌنٌه بٌدٌه الى نهاٌة االعدامات ‪ ،‬ساعده اثنان من زمبلبه‬
‫على النهوض وقاداه من تحت ابطٌه الى خارج الساحة ‪.‬‬
‫اخر حفلة اعدام حضرها كان نشٌطا ًال جداَ ‪ ،‬بٌده عصا طوله ا اكثر من متر ‪ٌ ،‬مازح زمبلبه وعلى وجهه‬
‫ابتسامة دابمة ‪ ،‬عند االنتهاء من اخر وجبة اعدام وقؾ امام احد المشنوقٌن واخذ ٌإرجحه ‪ ،‬وضع العصا‬
‫على االرض آخذاًال وضعٌة المبلكم جاعبلًال من الجثة المعلقة كٌس رمل ‪ ،‬اخذ ٌوجه لها اللكمات ‪ ،‬صاح على‬
‫الوحش ‪:‬‬
‫‪ -‬وحش وال وحش ‪ ...‬تعال هون ‪.‬‬
‫ركض الوحش لعنده ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪.‬‬
‫‪84‬‬
‫‪ -‬شوؾ هـ الكلب ‪ ...‬صار له ربع ساعة معلق من رقبته ولسا ما مات ‪ ،‬شده من رجلٌه ‪ ...‬خلٌه ٌرتاح ‪.‬‬
‫ضحك العناصر والبلدٌات الذٌن سمعوا هذا الحدٌث متذكرٌن ما حصل للوحش ‪ ،‬اما الوحش فقد وجم قلٌبلًال‬
‫وهو ٌنظر الى سامر ‪.‬‬
‫‪ 24‬شباط‬
‫هذا الشتاء كان بارداًال جداًال ‪ ،‬نزلت امطار ؼزٌرة قلما تنزل فً الصحراء ‪ ،‬وخفؾ حدة البرد توفر بعض‬
‫االلبسة وخاصة الجوارب الصوفٌة ‪.‬‬
‫مضى هذا الشتاء كما مضت الشتاءات االخرى قبله ‪ ،‬عشر ة شتاءات وانا جالس فً نفس المكان ‪ ،‬ضمن‬
‫نفس الجدران ‪ ،‬الى جانبً الباب االسود ذاته ‪ ،‬تؽٌرت كثٌر من الوجوه حولً ‪،‬الفرقة الفدابٌة التً كانت‬
‫تقوم بادخال الطعام والتطوع للذهاب لتلقً العقوبات بدالًال عن المرضى وكبار السن ‪ ،‬والتً كانت موجودة‬
‫لحظة قدومً الى المهجع ‪ ،‬لم ٌبق منها احد ‪ ،‬اما شنقا ًال او قتبلًال او مرضا ًال ‪ ،‬ذهبوا ‪ ...‬ؼابوا جمٌعا ًال ‪ ،‬ابو‬
‫حسٌن ربٌس المهجع الحالً اصبح حاجباه ابٌضين ولم ٌكن بهما اٌة شعرة بٌضاء‪ ،‬رؼم اننً ارى الجمٌع‬
‫ٌومٌا ًال ولكنً باسترجاع صورهم قبل عشر سنوات ‪ ،‬استطٌع ان المح اثار الزمن واثار المعاناة على‬
‫وجوههم ‪ ،‬ترى كٌؾ اصبح وجهً ؟!‪.‬‬
‫لو كسرة من مرآة ‪.‬‬
‫ال نعرؾ شٌبا ًال مطلقا ًال عما ٌجري فً عالم ما هو خارج هذا المهجع ‪ ،‬حتى القادم ين الجدد لم ٌكونوا ٌؤتون‬
‫وهإالء على‬ ‫من الحٌاة مباشرة ‪ ،‬اؼلبهم ٌكون قد امضى سنتٌن او ثبلثة او اربعة فً مراكز المخابرات‪،‬‬
‫االؼلب من قٌادات التنظٌمات ‪ٌ ،‬بقو نهم فً فروع المخابرات لضرورات التحقٌق ‪ ،‬رؼم ذلك فان المساجٌن‬
‫ٌظلون اٌاما ًال عدٌدة ٌسؤلونهم عن الجدٌد من االخبار ‪ ،‬فاالخبار قبل سنتٌن او اربعة تعتبر جدٌدة وطازجة‬
‫قٌاسا ًال باخبار ما قبل عشر سنوات ‪.‬‬

‫من هإالء القادمٌن الجدد " ابو القعقاع " واحد من أمراء الجماعة المتشددة ‪ ،‬وكان كما فهمت بطبلًال من‬
‫ابطال العملٌات العسكرٌة التً قام بها التنظٌم ضد السلطات الحكومٌة ‪ ،‬وانه كان المخطط والمنفذ لمجموعة‬
‫من االعمال الجرٌبة التً القت الرعب فً صفوؾ رجال االمن والمخابرات ‪.‬‬
‫لكن بعد ذلك سرى همس خافت داخل المهجع بٌن اشخاص من التنظٌمات االخرى تقول ‪ :‬انه كان جبانا ًال‬
‫جداًال فً التحقٌق وان تعاونه مع المخابرات واعترافاته امامهم ادت الى القاء القبض على كامل اللواء الذي‬
‫كان ٌقوده وعدده اربعمابة مقاتل ‪ ،‬وقد اعدموا جمٌعا ًال ‪ ،‬وان هإالء المقاتلٌن كانوا ناقمٌن جداًال علٌه ‪ ،‬وع ّدوه‬
‫خابنا ًال واقسم وا ٌمٌنا ًال جماعٌا ًال " ان أي واحد منهم سٌخرج من السجن فان اول عمل ٌجب ان ٌقوم به هو‬
‫تصفٌة ابو القعقاع " ‪.‬‬
‫ولكن لم ٌخرج أي واحد منهم ‪.‬‬
‫بمجا ابو القعقاع فقد المهجع هدوءه وسبلمه الداخلً ‪.‬‬

‫‪85‬‬
‫كان اول ما فعله ابو القعقاع هو تعرفه على اعضاء التنظٌم ‪ ،‬وهإالء كانوا قد اصبحوا اقلٌة فً المهجع‬
‫نتٌجة النزٌؾ المستمر بٌن صفوفهم ‪ ،‬وهم بالكاد ٌعدون اربعٌن شخصا ًال ‪ ،‬لم ٌكن ٌعرؾ فً البداٌة أٌا ًال منهم‬
‫‪ ،‬فلم ٌسبق ان كان تحت امرته واحد من الموجودٌن هنا ‪ ،‬بعد ان تعرؾ علٌهم زارهم واحداًال واحداًال ‪ ،‬خبلل‬
‫ٌومٌن كان ٌنتقل من فراش الى فراش ‪ ،‬بعد ذلك اخذ ٌعقد اجتماعات ‪ ،‬فً اول اجتماع الول مجموعة الحظ‬
‫انهم متحفظون تجاهه ‪ ،‬ودون ان ٌساله احد ‪ ،‬بدأ برواٌة طرٌقة اعتقاله والتحقٌق معه واكثر حدٌثه كان‬
‫بالعربٌة الفصحى ‪:‬‬
‫" ‪ ...‬وهٌك استمر تبادل اطبلق النار بٌننا وبٌنهم اربع ساعات ‪ ،‬كنا نحن فً الطابق الرابع وكانوا قد احتلوا‬
‫جمٌع االسطحة والشوارع المحٌطة ببناٌتنا ‪ ،‬بدأت ذخٌرتنا تنفذ ‪ ،‬وكان معً ثبلثة اخوة علٌهم رحمة هللا‪،‬‬
‫الفاتحة على روحهم ٌا اخوانً – وقرأ جمٌع الحاضرٌن الفاتحة ومسحوا وجوههم ‪ ، -‬كل واحد من الشباب‬
‫استلم شباك من شبابٌك البٌت ‪ ،‬انا استلمت الباب ‪ ،‬منعت اٌا ًال من المجرمٌن الصعود و النزول على الدرج ‪،‬‬
‫لكن بعد اربع ساعات استخدموا ضدنا الـ ‪ -‬ار‪ ،‬بً ‪ ،‬جً ‪ ، -‬ادخلوا القذٌفة من احد الشبابٌك ‪ ،‬انا انقذفت‬
‫على الدرج ولم اصب ‪ ،‬اما الشباب الثبلثة ‪ -‬صمت قصٌر ‪ -‬اللهم اجعل مثواهم الجنة ‪ -‬آمٌن ‪ -‬عندها‬
‫قررت االنسحاب من الحركة رؼم الحصار ‪ ،‬حملت معً خمسة مخازن ونزلت على الدرج ‪ ،‬كل عسكري‬
‫كان قدامً بعثته الى جهنم ‪ ،‬صرت بالشارع ‪ ،‬ركضت وانا ارش الطلقات ٌمٌنا ًال وشماالًال حتى اصبت ‪ ،‬واحد‬
‫كلب كان بزاوٌة الشارع وجه لً صلٌة رصاص ‪ ،‬اصبت بثبلث طلقات ‪ ،‬واحدة فً الفخذ باللحم ما صابت‬
‫العظم ‪ ،‬واحدة مسحت راسً مسحا ًال فوق االذن ‪ -‬هاي محلها ‪ -‬واراهم خطا ًال طوالنٌا ًال فوق االذن خال ٌا ًال من‬
‫الشعر‪ ،‬الثالثة اصابت صدري فوق الربة الٌمنى وخرجت من ظهري ‪ -‬خلع قمٌصه وبان مكان دخول‬
‫الطلقة ‪ ،‬حفرة صؽٌرة ‪ ،‬ومكان خروجها ‪ ،‬حفرة كبٌرة ‪ ، -‬وقعت على االرض وطارت البارودة من ٌدي ‪،‬‬
‫مدٌت ٌدي لكً اسحب قنبلة ٌدوٌة ‪ ...‬ما لحقت ‪ ،‬كانوا صاروا فوقً والسبطانات موجهة الى رأسً ‪.‬‬
‫مباشرة اخذونً الى فرع المخابرات ‪ ،‬لم ٌضمدوا جروحً ‪ ،‬ابتد إوا التحقٌق فوراًال ‪ ،‬رفضت االجابة على‬
‫أي سإال اذا لم ٌتم اسعافً الى المشفى ‪ ،‬قال لً ضابط التحقٌق وهو ٌبتسم ‪:‬‬
‫‪ -‬تكرم شواربك وذقنك ‪ ...‬هلق راح نسعفك !‪.‬‬
‫احضروا حببلًال رفٌعا ًال ومتٌنا ًال ضموه فً مسلّة كبٌرة وا دخلوا المسلّة فً مكان دخول الطلقة واخرجوها من‬
‫مكان خروجها والحبل وراءها‪ ،‬سحبوا الحبل وعقدوه عقدة متٌنة ثم رفعونً وعلقونً بواسطة الحبل ‪ ،‬أخذ‬
‫الحبل ٌحز اللحم وأحسست اننً سؤشنق ‪ ،‬ؼبت عن الوعً عدة مرات وهم ٌرشقونً بالماء ألصحو ‪ ،‬كانوا‬
‫ٌرٌدون معلومات سرٌعة ‪ ،‬رؼم ذلك رفضت أن أعطٌهم حتى اسمً ‪ ،‬كانت اآلالم فوق طاقة البشر ‪ ،‬وٌبدو‬
‫أن عظم الكتؾ قد أوقؾ الحبل‪ ،‬أصبح ثقل جسمً كله علٌه ‪ ،‬بدأ ٌنزاح من مكانه ‪ ،‬ولحد اآلن فإن وضع‬
‫كتفً وٌدي ؼٌر طبٌعً ‪.‬‬
‫لم ٌدم األمر طوٌبل ألنهم فً هذه الفترة كانوا قد فتشوا الشقة ووجدوا جمٌع وثابقنا وسجبلتنا ‪ ،‬لطالما كنت‬
‫أحذر المسإو ل المالً ـ رحمه هللا وسامحه ـ أال ٌحتفظ بؤٌة وثٌقة ‪ ،‬لكنهم وجدوا سجبل كان قد دون فٌه‬

‫‪86‬‬
‫أسماء جمٌع اإلخوة ومصارٌفهم ‪ ،‬أجور الشقق التً ٌسكنونها وعقود االٌجار الخاصة بكل شقة ‪ ...‬من‬
‫خبلل هذا السجل وفً اللٌل كانوا قد اعتقلوا الجمٌع ‪" .‬‬
‫كان ٌتكلم بطرٌقة سردٌة عادٌة ‪ ،‬ال تحمل أٌة نبرة للدفاع وكؤنه ؼٌر متهم البتة ‪ ،‬وسرعان ما تجاوز‬
‫موضوع االعتقال وتوابعه وابتدأ حدٌثا دٌنٌا متٌنا عن اإلٌمان وقوته والجهاد وضرورته ‪ ،‬معانً االستشهاد‬
‫‪ ،‬الدار اآلخرة ‪ ،‬الجنة ومحتوٌاتها ‪ ،‬ولم ٌنقض هذا الٌوم اال وكان قد أصبح زعٌما ال ٌناقش ‪ ،‬والتفت‬
‫الجماعة المتشددة حوله بقوة ‪.‬‬
‫خبلل العشرة أٌام التالٌة بدأ بالمجموعات األخرى ‪ ،‬خاصة المجموعة التً ٌنتمً الٌها الشٌخ محمود‬
‫والدكتور زاهً ‪ ،‬وهً مجموعة نقٌض للمتشددٌن ‪ ،‬ال تإمن بالعنؾ والكفاح المسلح ‪ ،‬تمٌل الى الوسابل‬
‫السلمٌة ‪.‬‬
‫هاجمها بشدة مسفها آراءها ودعا كبارهم الى سجال ونقاش علنً " ألن من واجبه هداٌتهم الى الطرٌق‬
‫القوٌم " وكان رد فعلهم عنٌفا ومترفعا ‪ ،‬رفضوا أي حوار معه " نحن لسنا بحاجة الى شخص مثلك ‪ ،‬باع‬
‫نفسه للمخابرات حتى ٌهدٌنا ‪ ".‬كذلك كان رد الجماعات الصوفٌة الذٌن اتهمهم بؤنهم عبارة عن دراوٌش‬
‫وجهلة " وأصحاب بدع فً االسبلم ‪ " .‬وأنهم قد أهملوا ركن الجهاد فً االسبلم ‪.‬‬
‫عشرة أٌام تقرٌبا قسمت المهجع الى معسكرٌن ‪ ،‬أبو القعقاع وجماعته من طرؾ وباقً المهجع من طرؾ‬
‫آخر ‪ ،‬واستطاع أبو القعقاع ببراعة أن ٌكسب عداء الجمٌع ‪ ،‬خاصة أنه استمر فً احراجهم وتحدٌهم بعد‬
‫رفضهم الدخول فً سجال معه حول جوهر الدٌن االسبلمً وتعالٌمه ‪.‬‬
‫نعتهم بالجبن وطالب أن تكون الصبلة علنٌة حتى أمام ادارة السجن ‪ ،‬فقوبلت دعوته هذه باالستهزاء من‬
‫الجمٌع ‪ ،‬حتى أن بعض أفراد مجموعته نصحوه بالتخلً عنها ‪ ،‬دعا بعد ذلك الى أن تكون الفرقة الفدابٌة‬
‫مإلفة من جمٌع التنظٌمات وأن ال تكون طوعٌة ‪ ،‬ألن الجهاد فرض عٌن على كل مسلم ‪ ،‬وقبل الجمٌع هذا‬
‫األمر‪ ،‬لكن جماعته والذٌن هم فً الحقٌقة كانوا دابما قوام الفرقة الفدابٌة رفضو ه ألنه سٌفقدهم مكانة وتمٌزا‬
‫طالما تمتعوا بها طوال السنوات السابقة " نحن نقوم بهذا العمل لوجه هللا ‪ ،‬وأجرنا عنده ‪ ،‬وال ٌمكن اجبار‬
‫أحد على هذا " ‪.‬‬
‫فشل أبو القعقاع فً كل شًء ونجح فً كسب عداء الجمٌع ‪ ،‬كان قد مضى على وجوده فً المهجع خمسة‬
‫عشر ٌوما عندما اعتقد أنه قبض على المسؤلة التً سٌحرج بها الجمٌع ‪ ،‬ال أدري من من مجموعته أخبره‬
‫بموضوعً ‪ ،‬عندها جابه الجمٌع ‪:‬‬
‫" ‪ ...‬كٌؾ تقولون عن أنفسكم أنكم مسلمون وتسمحون لجاسوس كافر أن ٌعٌش بٌنكم ؟ مع أن هللا سبحانه‬
‫وتعالى قال ‪ :‬واقتلوهم حٌثما ثقفتموهم ؟ ! " ‪.‬‬
‫وطالب الجمٌع بمحاكمتً وانزال حد هللا بً ‪ ،‬وحد الكفر والشرك باهلل هو القتل ‪.‬‬
‫أصبحت حٌاتً معلقة على رد فعل المجموعات االخرى ‪ ،‬وقد كانت كلها حٌادٌة ‪ ،‬فاألمر ال ٌعنٌها وهً‬
‫بؽنى عن تفجٌر مشكلة ؼٌر معروفة النتابج مع أبو القعقاع وجماعته ‪.‬‬

‫‪87‬‬
‫لكن مجموعة المرحوم الشٌخ محمود كان لها رأي آخر ‪ ،‬ووقؾ أبو حسٌن كالجبل ال ٌتزحزح وأعلن وهو‬
‫فً منتصؾ المهجع ـ وكان الموضوع قد خرج من اطار الهمس الى النقاش العلنً وبؤصوات مرتفعة ـ قال‬
‫أبو حسٌن موجها كبلمه الى أبو القعقاع ‪:‬‬
‫‪ -‬أوال من أنت حتى تحاسب وتحاكم البشر ؟! ان هذا الرجل " وأشار بٌده الً ّ " مضى على وجوده بٌننا‬
‫سنوات طوٌلة ولم نر منه شًء سٌبا ‪ ،‬وهو رجل مسكٌن حتى انه ال ٌتكلم ‪ ،‬وال أحد ٌعرؾ ما بقلبه ‪،‬‬
‫فبؤي حق تحاسبه وتحاكمه وترٌد قتله ؟‪ ،‬اعلم ٌا أبو القعقاع أن له ربا ٌحاسبه وٌحاسبك وٌحاسبنا جمٌعا‬
‫‪ ،‬ولٌس أنت ‪.‬‬
‫ثانٌا أعلم ٌا أبو القعقاع أن الشٌخ محمود رحمه هللا قد منع اٌذاء هذا الرجل ‪ ،‬وأنه أجاره وحماه ‪ ،‬ونحن‬
‫ال ٌمكن أن نسمح ألحد أن ٌإذي شخصا كان الشٌخ محمود قد أجاره ‪.‬‬
‫ثالثا لٌعلم الجمٌع وأنت أولهم أن أٌة محاولة للمساس بهذا الشخص ستقابل من جهتنا بؤعنؾ الردود ‪.‬‬
‫بٌنما كان أبو حسٌن ٌتكلم نهض أبو القعقاع ووقؾ قبالته ‪ ،‬ودارت معركة كبلمٌة بٌن االثنٌن ‪.‬‬
‫رد أبو القعقاع ردا قوٌا ‪ ،‬استند فٌه الى مجموعة من اآلٌات القرآنٌة وأحادٌث الرسول وحوادث من‬
‫التارٌخ االسبلمً ‪ ،‬كان من فً المهجع ٌهزون رإوسهم داللة الموافقة ‪ ،‬وخلت انه سٌنجح فً اقناع‬
‫الجمٌع ‪ ،‬لكن أبو حسٌن التقط الحدٌث وبدأ ٌرد علٌه وقد ارتفع صوته ‪.‬‬
‫جاء اٌضا بمجموعة من اآلٌات القرآنٌة واألحادٌث والسٌرة النبوٌة تدحض وتناقض جمٌع ما استشهد به‬
‫أبو القعقاع ‪ ،‬اٌضا كان جمٌع من فً المهجع حتى بعض من مجموعة أبو القعقاع ٌهزون رإوسهم داللة‬
‫الموافقة واالقتناع ‪ ،‬كان رد أبو حسٌن مفحما ‪ ،‬ولم ٌشؤ أبو القعقاع ان ٌنهزم فؤنبرى ٌرد ‪ ...‬وأبو حسٌن‬
‫ٌرد ‪ ،‬وكان كبلهما مقنعا للجمٌع ‪.‬‬
‫ارتفعت األصوات كثٌرا ‪ ،‬وفً ؼمرة النقاش برز الشرطً فوق الشراقة ‪ ،‬صاح ‪:‬‬
‫‪ -‬شو هالصوت ٌا ربٌس المهجع ٌا جحش ؟‬
‫علّم الشرطً الشخصٌن الواقفٌن ‪ ،‬أبو حسٌن وأبو القعقاع ‪ ،‬ومن السطح اخبر الرقٌب الموجود فً الساحة ‪،‬‬
‫فؤخرجوهما وخمسمابة جلدة لكل منهما ‪.‬‬
‫منذ لحظة خروجهما الى حٌن عودتهما ران الصمت على المهجع ‪ ،‬لكن ما ان اؼلق الشرطة الباب حتى‬
‫عادا الى المعركة الكبلمٌة ‪ ،‬وبدأها ابو حسٌن قاببلًال ‪:‬‬
‫‪ -‬خاؾ ربك ٌا رجل ‪ ...‬انت السبب بالعقوبة ‪ ،‬انت مبسوط هلق ؟ ‪.‬‬
‫واستؤنفا المعركة الكبلمٌة ‪ ،‬وبعد اكثر من ساعة قال ابو حسٌن ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا حكٌنا وما فً عندنا ؼٌره ‪ ...‬وكل واحد ٌقعد على فرشته ومو ناقصنا زعماء هون ‪.‬‬
‫‪ -‬ما فً حدا بدو ٌعمل زعٌم ‪ ...‬وامر هللا بدنا نطٌعه ونطبقه ‪ ،‬سواء رضٌتم ام ال ‪.‬‬
‫توتر جو المهجع كثٌراًال ‪ ،‬فكرت انه ٌجب ان اتدخل ‪ ،‬ان اخرج من القوقعة ‪ ،‬ولكن كٌؾ ؟‪ ...‬اقؾ واحكً‬
‫لهم حكاٌتً ؟ ‪ ...‬افند كل التهم التً وجهت لً ؟ ‪ ...‬ان اكون مسٌحٌا ًال هذه لٌست تهمة ‪ ،‬الن تعالٌم االسبلم‬
‫الحقٌقٌة تؤمرهم بحسن معاملة المسٌحٌن ‪ ،‬ان اكون جاسوسا ًال !‪ ...‬اظن ان هذه التهمة قد سقطت بالتقادم ‪ ،‬فلو‬
‫‪88‬‬
‫كنت جاسوسا ًال لما انتظرت اكثر من عشر سنوات حتى امارس جاسوسٌتً ‪ ،‬ولكن تهمة الكفر وااللحاد كٌؾ‬
‫سؤدافع عنها ؟‪ ...‬صحٌح ان كل من سمعنً اقول اننً ملحد قد مات ‪ ،‬ولكن اذا سؤلونً فً سٌاق دفاعً هل‬
‫استطٌع ان اقول لهم اننً مإمن ؟!‪ ..‬ال اعتقد ذلك ‪ ،‬ولم اتوصل الى قرار ‪.‬‬
‫بقً الجو مشحونا ًال بالتوتر ‪ ،‬وبدا ان مجموعة ابو القعقاع بصدد عمل ما ‪ ،‬فاحترست ‪ ،‬لكن مجموعة ابو‬
‫حسٌن اتخذت مجموعة من االجراءات ‪ ،‬طوال النهار كان ثبلثة منهم ٌجلسون على فراش ابو حسٌن على‬
‫ٌساري ‪ ،‬ثبلثة اخرون ٌجلسون على فراش جاري الٌمٌنً ‪ ،‬فً اللٌل ٌقوم واحد منهم بنقل فراشه فٌنام‬
‫امامً عند قدمً فً الممر ‪ ،‬وهكذا اكون محاطا ًال بهم ‪ ،‬عندما اقوم الذهب الى المؽاسل كنت االحظ ان اثنٌن‬
‫من المجموعة ٌقومان وبشكل عفوي ٌرافقانً وكؤنهما ذاهبان الى المؽاسل عرضا ًال ‪.‬‬
‫اذن هم ٌحرسونً ‪.‬‬
‫بقً الوضع هكذا ثبلثة اٌام ‪ ،‬فً الٌوم الرابع افتعل بضعة اشخاص من المتشددٌن امام المؽاسل ذرٌعة على‬
‫إه تسٌل من انفه ‪،‬‬ ‫واحد من الذٌن ٌقومون بحراستً واشتبكوا معه باالٌدي ‪ ،‬خبلل ثوان قلٌلة كانت دما‬
‫وكان اكثر من مبتً شخص قد وقفوا واشتبكوا مع بعضهم البعض ‪ ،‬ولم ٌعد من الممكن معرفة من ٌضرب‬
‫من ‪ ،‬او من الذي ٌحاول فض المعركة التً استمرت دقابق قلٌلة سالت خبللها دماء كثٌرة ‪ ،‬ولم ٌكن‬
‫باالمكان اخفاء هكذا ضجة ‪.‬‬
‫كنت واقفا ًال الى جانب الباب ‪ ،‬لم ٌشترك ابو حسٌن وال ابو القعقاع ‪ ...‬الشباب الصؽار فقط ‪ ،‬وعندما فتح‬
‫عناصر الشرطة الباب ‪ ،‬توقفت المعركة الٌا ًال ‪.‬‬
‫حاول ابو حسٌن االدعاء ان بعض الشباب كانوا ٌلعبون !! صرخ الرقٌب بوجهه شاتما ًال إٌاه ‪ " ...‬نحن‬
‫جاٌبنكم مشان تلعبوا ‪ ..‬مــــا " وامر بخروج الجمٌع الى الساحة ‪ ،‬فخرجوا ‪ ...‬وكلما راى الرقٌب شخصا ًال‬
‫علٌه اثار دماء ٌلتفت الى ابو حسٌن وٌقول ‪:‬‬
‫‪ -‬رٌاضة ‪ٌ ...‬ا عرص مو ‪ ..‬قلت لً رٌاضة !‪.‬‬
‫عوقب المهجع بؤكمله عقابا ًال شدٌداًال ‪ ،‬وقد ضربنً احد العناصر بالكبل الرباعً على ندبة قدمً مما آلمٌنً‬
‫كثٌراًال ‪ ،‬ادخلونا واؼلقوا الباب مع التهدٌد والشتابم ‪.‬‬
‫كنت قد نسٌت عادة الكبلم ‪ ،‬لكن لحظتها اعتقدت اننً اذا لم اتكلم فسوؾ اختنق ‪ ،‬شحنت نفسً بؤقوال ابً‬
‫وخالً لً منذ الصؽر عن ضرورة ان اكون رجبلًال ٌتحمل المسإولٌة ‪.‬‬
‫مشٌت الى منتصؾ المهجع ووقفت ‪ ،‬من اآل الم بالكاد كنت اقؾ ‪ ،‬عندما رأونً ادٌر نظري الشمل جمٌع‬
‫من فً المهجع ‪ ،‬سكتوا ‪ ،‬اثنان من حراسً نهضا فوراًال ووقفا الى جانبً ‪ ،‬اشرت لهما ان ٌعودا الى مكانهما‬
‫‪ ،‬تلكآ ‪ ،‬لكنهما عادا ‪.‬‬
‫لم اكن خطٌبا ًال فً ٌوم من االٌام ‪ ،‬ولم اقؾ ابداًال التكلم امام مبات العٌون المحدقة بً ‪ ،‬كذلك لم ادع الشجاعة‬
‫ٌوما ًال ‪ ،‬بل على العكس فان هذه التجربة فً االعتقال والسجن اظهرت لً على االقل اننً اقرب الى الجبن ‪،‬‬
‫لكنه االلم والقهر والعذاب ‪ ،‬الصوم االجباري عن الكبلم ‪ ،‬توجهت بنظري وٌدي الى ابو القعقاع وصرخت‬
‫بصوت قوي " انا نفسً استنكرته " قلت ‪:‬‬
‫‪89‬‬
‫‪ٌ -‬ا ابو القعقاع ‪ ...‬ترٌد ان تقتلنً ؟‪ ...‬تفضل هذا انا‪ ،‬عارٌا ًال امامك " لم ادر لماذا كنت اخاطبهم بالفصحى‬
‫" ‪ ...‬تفضل ‪ ،‬ولكن قبل ان تقتلنً اجب على اسبلتً ‪ ،‬هل ترٌد ان تقتلنً بصفتك وكٌبلًال عن هللا فً‬
‫االرض ؟‪ ...‬هل تستطٌع ان تثبت انك وكٌله ؟‪ ...‬واذا اثٌت ذلك ‪ ...‬هل تستطٌع ان تثبت لً ولؤلخرٌن‬
‫انه اصدر لك امراًال بقتلً ؟‪ ...‬ال اعتقد ذلك ‪ ،‬واجزم انك لست وكٌل هللا ‪.‬‬
‫ٌا ابو القعقاع انت ترٌد قتلً الرضاء شهوة القتل لدٌك ‪ ،‬وارجو ان اكون مخطبا ًال فً ذلك ‪ ،‬ارجو ان ال‬
‫تكون شخصا ًال حاقداًال موتوراًال ‪ ،‬ارجو ان ال تكون كالعقرب ان لم تجد من تلسعه فهً تلسع نفسها ‪ ...‬ولكن‬
‫اقول ‪ ،‬واشهد جمٌع الناس هنا ‪ ،‬اذا كان قتلً ٌحل المشكلة فتفضل ‪ ،‬ارسل واحداًال من جماعتك لقتلً وانا‬
‫اسامحكم بدمً ‪.‬‬
‫سكت قلٌبل ‪ ،‬ثم التفت الى مجموع الناس ‪ ،‬وبصوت أقل حدة قلت ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا جماعة ‪ ....‬أكثر من عشر سنوات حكمتم علًّ بالسكوت ‪ ،‬لقد سمعتكم كثٌرا ‪ ،‬واآلن اسمعونً لدقابق‬
‫فقط ‪...‬‬
‫قلت لهم من أنا ‪ ،‬وكٌؾ أتٌت الى هنا ‪ ،‬دافعت عن نفسً ضد التهم الثبلث ‪ ،‬وعندما وصلت الى تهمة‬
‫االلحاد ‪ ،‬عدت لمخاطبة أبو القعقاع ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا أبو القعقاع ‪ ...‬انما مسؤلة اإلٌمان أو عدم اإلٌمان مسؤلة شخصٌة بحت ‪ ،‬وعلٌك أنت وجمٌع الناس‬
‫أمثالك أن ٌفهموا ذلك ‪ ،‬اإلٌمان هو عبلقة خاصة بٌن كل شخص وخالقه ‪ ،‬وأنت تعرؾ أنه لٌس صعبا‬
‫علًّ أو على ؼٌري أن ٌقول ‪ :‬أشهد أن ال إله إال هللا وأشهد أن محمدا رسول هللا ‪ ،‬ولكن لو قلت أنا ذلك‬
‫لقلت أنت وأمثالك أنه كان ملحدا وأسلم خوفا ‪ ،‬ال ‪ ...‬أنا لست خابفا منك ‪ ،‬ولن أكون منافقا أو كاذبا ‪،‬‬
‫واذا قلت لك فقط اننً مسٌحً ومتمسك بدٌنً ‪ ،‬فلن تسطٌع أن تفعل شٌبا حٌال ذلك ‪ ،‬ألن دٌنك ٌؤمرك‬
‫أن تحسن معاملة المسٌحٌٌن‪ ،‬لكن حتى هذا لن أقوله ‪ ...‬لببل تقول انه خابؾ ‪ ...‬أبو القعقاع ‪ :‬اسمعنً‬
‫جٌدا ‪ ...‬أنا لست خابفا منك ‪ ...‬أنت لست ربً ألقدم لك كشؾ حساب ‪ ...‬واذا كنت مقتنعا بقتلً فهٌا ‪...‬‬
‫قم وال تخؾ ‪.‬‬
‫سكت عندها ‪ ،‬بقٌت واقفا أبادل أبوالقعقاع النظرات ‪ ،‬جاهدت أال ترؾّ عٌونً ‪ ،‬ومن خلفً أمسكت بً ٌد‬
‫أبو حسٌن وقادتنً الى فراشً ‪.‬‬
‫‪ -‬خلص بقا ‪ ...‬اسكت ‪ ...‬ال تتحداه أكثر من هٌك ‪ ...‬أظن أن المشكلة انحلت ‪ ،‬هللا ٌعطٌك العافٌة ‪ ،‬بس‬
‫هلق اسكت ‪.‬‬
‫وفعبل كما قال أبو حسٌن انحلت المشكلة ‪ ،‬وبعد ٌومٌن انحلت نهابٌا ‪ ،‬فقد كان أحد الخمٌسات وخرج فٌه أبو‬
‫القعقاع الى اإلعدام ‪.‬‬
‫أقام له المهجع صبلة الجنازة ‪ ،‬ترحموا علٌه ‪ ،‬أما أبو حسٌن فقد علق موجها الحدٌث لً ‪:‬‬
‫‪ -‬هللا ٌرحمه ‪ ...‬وال ٌجوز على المٌت إال الرحمة ‪ ،‬واذكروا حسنات موتاكم ‪ ،‬لكن ٌا أخً كلها عشرٌن‬
‫ٌوم قضاها هون ‪ ...‬كؤنه اعصار دخل هـ المهجع ‪ ...‬هللا ٌرحمه !! قلب المهجع فوقانً تحتانً ! ‪ .‬هللا‬
‫ٌرحمه ‪ٌ ...‬ا هللا بتعٌش كثٌر ‪ ...‬بتشوؾ كثٌر ‪.‬‬
‫‪90‬‬
‫" قلت فً سري ‪ ...‬لو أن أبو القعقاع آتى من‬ ‫تحسنت عبلقتً مع أبو حسٌن وأخذنا نتبادل األحادٌث‬
‫زمان طوٌل ! " كان أبو حسٌن ٌسؤلنً عن فرنسا ‪ ،‬والحٌاة فً فرنسا ‪ ،‬وعلى األخص عن نساء فرنسا ‪،‬‬
‫وكنت أتكلم ‪ ...‬وأتكلم ‪ ...‬أؼوص بالتفاصٌل ‪ ،‬عندي جوع كبٌر للكبلم ‪ ،‬ألتفت الٌه وأمازحه قلٌبل ‪:‬‬
‫‪ -‬شو ٌا أبو حسٌن ؟ ‪ ...‬شاٌفك عم تسؤل عن النسوان كثٌر ‪ ،‬مانك خاٌؾ تسمعك أم حسٌن ؟ ! ‪.‬‬
‫‪ -‬لك ٌا أخً ‪ ...‬أم حسٌن على عٌنً وراسً ‪ ،‬بس هلق بتكون كبرت وصارت ختٌارة ‪ ،‬واذا هللا فرّ ج‬
‫عنا ‪ ...‬ان شاء هللا راح اتجوز واحدة فرنساوٌة ‪ ...‬باهلل علٌك قل لً ‪ ...‬بفرنسا فً مسلمات ؟‪.‬‬
‫‪ -‬اي طبعا فً مسلمات ‪.‬‬
‫‪ -‬الحمد هلل ‪ ...‬الحمد هلل " ٌضحك " هلق أمنت مستقبلً ‪.‬‬
‫باإلضافة الى أبو حسٌن هناك أربعة أطباء فقط كسروا الحاجز المضروب حولً ‪ ،‬و األطباء األربعة من‬
‫خرٌجً الدول األوربٌة ‪ ،‬أحدهم خرٌج فرنسا ‪ ،‬بدأ ٌجلس عندي ‪ ،‬ومن ثانً جلسة اقترح علًّ أن ٌكون‬
‫حدٌثنا باللؽة الفرنسٌة ‪.‬‬
‫اكتشفت انه قد عاش حٌاته طوال وعرضا ‪ ،‬وانه لم ٌكن ٌتبع التعالٌم الدٌنٌة إال فً شهر رمضان ‪ ،‬ففٌه كان‬
‫ٌصوم وٌصلً فقط وما عدا ذلك فبل عبلقة له ال بالسٌاسة وال بالتنظٌمات وال بؽٌرها ‪.‬‬
‫قلت له بالفرنسٌة مستفسرا ‪:‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ...‬اذا كان األمر كذلك ‪ ،‬فلماذا اعتقلوك ؟‬
‫‪ -‬اذا كنت أنت تستطٌع اإلجابة على هذا السإال ‪ ...‬فؤنا استطٌع !‪.‬‬
‫أبو حسٌن ٌضٌق ذرعا باألحادٌث الفرنسٌة ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬اهلل شباب ‪ ...‬خلصونا ‪ٌ ...‬كفً تعوجوا لسانكم ‪ ...‬احكوا عربً حتى نفهم علٌكم ‪.‬‬
‫كانت األحادٌث بالفرنسٌة تسكرنً ‪ ...‬تدوخنً ‪ ،‬فعلت فً داخلً أكثر مما فعلت رإٌة الخٌار ألول مرة ‪.‬‬
‫نتبادل الذكرٌات عن أمكنة زرناها ونعرفها كبلنا ‪ ،‬أصبحت عبلقتنا الثنابٌة عبلقة حمٌمٌة لحظٌة ‪.‬‬
‫فً احدى المرات وأنا أتلذذ وأنتشً بالتؤكٌد على مخارج الحروؾ الفرنسٌة ‪ ،‬نظر الًّ وباؼتنً بالسإال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا أخً ‪ ...‬مادام أنت هٌك ‪ٌ ...‬عنً عاقل !‪ ...‬لٌش كنت تؽطً حالك بالبطانٌة مثل هذا المجنون دكتور‬
‫الجٌولوجٌا ؟‪.‬‬
‫سكت قلٌبل ‪ ...‬ثم أخبرته بسري الكبٌر ‪ ،‬سر الثقب !!‪.‬‬
‫أخبرته به بالفرنسٌة ‪ ،‬لكنه أجاب باللؽة العربٌة بعد أن اتسعت عٌناه وتدلت شفته السفلى ‪:‬‬
‫‪ -‬العماااااا ش ‪...‬ونحن كنا نقول عنك أهبل !! ‪.‬‬
‫انتباه الجمٌع ‪ ،‬ثم‬ ‫سؤل ان كان ٌستطٌع أن ٌنظر من خبلله ‪ ،‬أعلمته أن هذا مستحٌل اآلن ألنه سٌلفت‬
‫عرض بعد قلٌل أن نخبر أبو حسٌن فوافقته ‪.‬‬
‫كانت ردة فعل أبو حسٌن شبٌهة بردة فعل الدكتور نسٌم ‪ ،‬ارتسمت على وجهه امارات الدهشة ‪ ،‬واستخدم‬
‫نفس الكلمة ‪:‬‬

‫‪91‬‬
‫‪ -‬العماااااش ‪ ...‬وهللا تارٌك مو قلٌل !‪ٌ ...‬ا ما تحت السواهً دواهً !‪ ...‬ولك طلع صحٌح انك جاسوس‬
‫‪ ...‬بس جاسوس عـ الشرطة مو للشرطة!‪.‬‬
‫بعد ٌومٌن أبلؽنا أبو حسٌن أنه قرر اعبلم جمٌع الناس فً المهجع باألمر ‪ ،‬حتى ٌمكن استخدامه بحرٌة ‪،‬‬
‫وألن كل الناس هنا مؤمونون ‪ ،‬وهكذا تم ‪.‬‬
‫باستثناء أبو حسٌن واألطباء " وعلى رأسهم الدكتور نسٌم " إؾن الجمٌع بقً متحفظا تجاهً ‪.‬‬
‫علمت انهم ناقشوا األمر فٌما بٌنهم ‪ ،‬وخرجوا بنتٌجة ‪:‬ان كبلمً بخصوص دفع تهمة االلحاد ملتبس وؼٌر‬
‫مقنع ‪ ،‬واننً لو كنت مإمنا بحق سواء بالدٌن المسٌحً أو االسبلم لما ترددت فً اعبلن ذلك " فالدٌن ٌجب‬
‫أن ٌكون جهرا " ‪.‬‬
‫لكن بالمقابل لم ٌبق هناك أي تهدٌد لحٌاتً ‪ ،‬وهكذا فقد حصلت على أول حق من حقوقً األساسٌة إكنسان "‬
‫حق الحٌاة " ‪ ،‬حصلت علٌه من السندان " الجماعة األسبلمٌة " ولكن لم أحصل علٌه من المطرقة " الشرطة‬
‫"فبل زال أي رقٌب فً الساحة ٌستطٌع وبضربة عصا أن ٌرسلنً الى الحٌاة األخرى ‪.‬‬
‫‪ 6‬تشرين األول‬
‫األشهر القلٌلة الماضٌة مضت بسرعة ‪ ،‬الدكتور نسٌم وهو كالنسٌم فعبل مؤل علً ّ ساعات ٌوم السجن‬
‫الطوٌلة ‪ ،‬كنا ال نكاد نفترق ‪ ،‬وبعد فترة من تعارفنا اتفق مع جاري وتبادال األمكنة ‪ ،‬نستٌقظ صباحا ودون‬
‫ان نتحرك من تحت البطانٌة نستؤنؾ حدٌثا لم ٌكتمل البارحة ‪ ،‬نؤكل سوٌة ‪ ،‬نتحادث ‪ ،‬قمنا بتصنٌع أحجار‬
‫شطرنج من العجٌن ‪ ،‬استؽرق صنعه ا أكثر من عشرٌن ٌوما ‪ ،‬وكان شطرنجا جمٌبل ‪ ،‬فنسٌم بجوهره فنان‬
‫وشاعر ‪ ،‬مرهؾ االحساس ‪ٌ ،‬تلمس الجمال فً مواطنه ‪ ،‬كانت امنٌة حٌاته ان ٌدرس الفن التشكٌلً‪ ،‬لكن‬
‫ضؽط األهل اجبره على دراسة الطب ‪ ،‬ورؼم ذلك فانه ترك الطب لمدة عام كامل عندما كان فً السنة‬
‫به لٌجبره على العودة لدراسة الطب ‪ ،‬رؼم ذلك‬
‫الرابعة واشترك مع فنان آخر فً محترؾ ببارٌس ‪ ،‬وعاد أ و‬
‫لم ٌنقطع عن الرسم ابدا ‪.‬‬
‫كنا نكشط األجزاء المحروقة من الخبز ونجمعها ومنها اللون األسود ‪ ،‬نضع قلٌبل من مرقة رب البندورة ‪،‬‬
‫نتركها عدة أٌام لتتكثؾ وتجؾ ومنها اللون االحمر ‪ ،‬من لب الخبز العسكري نصنع العجٌن ‪ ،‬ومن هذا‬
‫العجٌن الممزوج بهذه األلوان كوّ ن نسٌم أحجار شطرنج كل من رآها شهق ‪ ،‬ثم أخذ ٌصٌػ أشكاالًال فنٌة‬
‫مبتكرة آٌة فً الجمال والذوق ‪.‬‬
‫نتحدث بالفرنسٌة ‪ ،‬نتحدث بالعربٌة ‪ ،‬نلعب الشطرنج ‪ ،‬نراقب الساحة من خبلل الثقب ‪ ،‬وبعد أن ننهً كل‬
‫ذلك ‪ ،‬واذا بقً القلٌل من الوقت فان نسٌم ٌتناول قطعة من العجٌن وٌبدأ بتشكٌلها ‪ ،‬وفً كل األشكال التً‬
‫صاؼها تلمس المرأة والحنٌن الٌها " عاش نسٌم قصة حب كبٌرة ال زالت تحفر فً وجدانه ‪ ،‬وعند حدٌثه‬
‫عنها اعتبرها معنى حٌاته ‪ ،‬واٌضا احدى أكبر خٌباته فً الحٌاة ‪ ،‬وأولى هذه الخٌبات دراسة الطب تحت‬
‫ضؽط األهل والمجتمع "‪.‬‬
‫مرة ودون مقدمات سؤلته فجؤة ‪:‬‬
‫‪ -‬اآلن ‪ ..‬هل تواظب على الصبلة ؟‬
‫‪92‬‬
‫ببساطة شدٌدة قال ‪:‬‬
‫‪ -‬منذ انا أصبحت بٌن هإالء ‪ ..‬لم أعد أصلً ‪.‬‬
‫‪ -‬ولكن ما الذي قذؾ بك الى هنا بٌنهم ؟‬
‫‪ -‬انه أخً ‪ ..‬أخً الذي لم أكن اطٌقه أو ٌطٌقنً ‪ ،‬شخص متزمت وضٌق األفق ‪ ،‬وحتى قبل أن أذهب‬
‫وؼالب ما ٌكون السبب محاولته التدخل فً‬
‫أ‬ ‫للدراسة فً فرنسا كان صٌاحنا الٌومً ٌصل الى الشارع ‪،‬‬
‫لباس أمً واخواتً البنات ‪ٌ ،‬رٌد ان ٌفرض علٌهن لباسا اسبلمٌا أسود ‪ ،‬وكن ٌعارضن ذلك وأقؾ الى‬
‫جانبهن ‪.‬‬
‫فً ؼالب األحٌان كنت وإٌاه نتضارب باالٌدي ‪ ،‬كان فاشبل على المستوى الدراسً ‪.‬‬
‫ذهبت الى فرنسا ‪ ،‬بقٌت هناك ثمانً سنوات ‪ ،‬كان خبللها قد انتسب الى هإالء "وأشار بٌده الى الجماعة‬
‫وللخبلص من هذا المؤزق‬ ‫المتشددة" ‪ ،‬أصبح مطلوباًال بشدة من قبل األمن الذي اعتقل والدي ووالدتً‪،‬‬
‫وإلبعاد أنظار األمن داخل المدٌنة ‪ ،‬قال والدي لؤلمن إنه قد هرب الى فرنسا عند أخٌه ‪ ،‬ودون أن أدري‬
‫اًال‬
‫مطلوب ‪ ،‬أ نهٌت دراستً وعدت الى بلدي ‪ ،‬استقبلنً رجال األمن فً المطار ٌرٌدون منً أخً‬ ‫أصبحت‬
‫الذي لم أره منذ ثمانً سنوات‪.‬‬
‫وها أنا أمامك فً هذا السجن‪.‬‬
‫كنت ونسٌم نتناوب المراقبة من خبلل الثقب دون بطانٌة ‪ ،‬لم ٌتجاوز عدد الذٌن نظروا من الثقب عن‬
‫الخمسة ‪ٌ ،‬بدو ان الجمٌع الزال ٌعتبر فراشً نجسا ًال ‪ ،‬فللمراقبة من الثقب ٌجب على الواحد أن ٌجلس على‬
‫فراشً ‪.‬‬
‫كنا‪ ،‬نسٌم وأنا‪ ،‬اللذان ٌراقبان دابما‪ ،‬نبلػ ما نشاهده ألبو حسٌن وهو بدوره ٌبلؽه للجمٌع ‪.‬‬
‫عادت العبلقة بٌن المتشددٌن وباقً المهجع لتصبح ودٌة ‪ ،‬خاصة ان المتشددٌن بالعام شباب صؽار السن‬
‫أقرب الى الطٌبة والسذاجة ‪ ،‬شرط أال ٌظهر بٌنهم ابو القعقاع أو صعصعة أو ابو قتادة !‪.‬‬
‫َبقُوا هُم األكثر عطاء وتضحٌة ‪.‬‬
‫فً واح ٍد من أٌام االثنٌن تركت الثقب كامؤل لنسٌم كً ٌراقب اإلعد امات ‪ ،‬التصق بالثقب ولم ٌعد ٌتكلم أو‬
‫ٌتحرك ‪ ،‬كان نسٌم ٌكرر كلمة "العمش" كثٌرا فً احادٌثه ‪.‬‬
‫بعد ساعتتن من التصاقه بالثقب ‪ ،‬قفز الى الوراء اًال‬
‫واقؾ‪ ..‬نظر الًّ وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬العمش ‪ ..‬العمش ‪..‬‬
‫نظر الى أبو حسٌن ‪ :‬العم‪..‬اا‪..‬ش‬
‫نظر الى المجموع ‪ :‬العمش ‪ ..‬العمش ‪..‬‬
‫ثم وبصوت خافت بعد أن اقترب منً ‪:‬‬
‫‪ -‬العمش ‪ ..‬ولك شو هاد ؟! ولك ‪ ...‬شلون كنت عم تتحمل هٌك مناظر ؟!‪ ..‬العمش ولك شوؾ ‪ ...‬شوؾ‬
‫!‪ ...‬شو هذا ٌللً عم ٌصٌر ؟!‬

‫‪93‬‬
‫نظرت عبر الثقب ‪ ،‬كانت ثمانً جثث متدلٌة عن الحبال ‪ ،‬والعدٌد من الجثث على األرض ‪ ،‬هذه الجثث‬
‫الثمان ٌبو انها آخر وجبة ‪ ،‬الوحش "عنصر البلدٌات" ٌقؾ أمام الجثة الثانٌة من الٌسار وهً جث ة رجل‬
‫بدٌن ‪ٌ ،‬مسك الوحش بٌده عصا ؼلٌظة ٌنهال بها ضربا على الجثة ‪ ،‬الشرطة ٌراقبونه ضاحكٌن ‪ ،‬ومع كل‬
‫ضربة عصا على الجثة ٌصرخ بصوت عال ‪:‬‬
‫عاش الربٌس المفدى ‪ ..‬بالروح بالدم نفدٌك ٌا ربٌس ‪ " ...‬وضربة بالعصا على الجثة " ‪ ...‬ولك ٌا كلب‬ ‫‪-‬‬
‫بتشتؽل ضدد الربٌس ‪ ..‬وضربة بالعصا ‪ ...‬لك ٌا منٌك ‪ ...‬ربٌسنا أحسن ربٌس ‪ ...‬ضربة بالعصا ‪ ...‬حٌدو ٌا‬
‫مناٌك حٌدو ‪ ..‬ضربة بالعصا‪ ...‬الربٌس قبل هللا نعبد ه ‪ ...‬ضربة بالعصا ‪ ...‬وٌختل االٌقاع ‪ ..‬ضربات عدٌدة‬
‫بالعصا " اتساءل‪ :‬هل انتهت ذخٌرة الوحش الكبلمٌة التً كان قد حفظها لكثرة تردادها فً الرادٌو والتلفزٌون‬
‫وفً الشوارع اثناء المسٌرات التً تنظمها الدولة ؟ ! ٌبدو ان االمر كذلك ألن الوحش بدأ ٌلجؤ الى ذخٌرته‬
‫الكبلمٌة الشخصٌة ! الذخٌرة الكبلمٌة التً لمها من الشوارع " ‪.‬‬
‫ٌتوقؾ قلٌبل عن الضرب ‪ ،‬ثم ضربة قوٌة على الرأس اسمع من خبللها رنٌن العظام ‪ ...‬ولك ٌا كلب ‪ ...‬انتو‬
‫فٌكن عالربٌس ؟‪ ...‬ضربة عصا ‪ ...‬ولك الربٌس أقوى واحد بالدنٌا ‪ ...‬ضربة ‪ ...‬ولك الربٌس بدو ٌنٌك امهاتكم‬
‫‪ ...‬ضربة ‪ ...‬ولك الربٌس عندو أطول اٌر بالدنٌا كلها ‪ ...‬ضربة ‪ ...‬ولك بدو ٌنٌكم وٌنٌك اختكم واحد واحد ‪...‬‬
‫ضربة بالعصا ‪ٌ ...‬توقؾ الوحش قلٌبل وهو ٌلهث ‪ ،‬بعدها وبحركات هستٌرٌة ٌضع احد طرفًّ العصا بٌن الٌتً‬
‫الجثة وٌدفع بها الى األمام ‪ ،‬تتحرك الجثة كلها الى االمام ‪ٌ ،‬ستمر الوحش بالضؽط ‪ ،‬الطرؾ الثانً للعصا بٌن‬
‫ٌدٌه االثنتٌن ٌركزه فً موضع قضٌبه وٌبدأ بدفع العصا بٌن الٌتً الجثة رهزا ‪ ،‬ومع كل هزة الى االمام ‪...‬‬
‫ٌصٌح ‪:‬‬
‫‪ -‬بالروح بالدم ‪ ..‬نفدٌك ٌاربٌس ‪.‬‬
‫تبقى العصا بٌن االلٌتٌن ‪ ،‬الجثة دابمة التؤرجح ‪ ،‬الشرطة ٌضحكون ‪ٌ ...‬تقدم الرقٌب " األعوج " وهو ٌقهقه ‪،‬‬
‫ٌمسك الجثة من األمام وٌثبتها جٌدا للوحش ‪ ،‬الوحش ٌتابع ضؽط العصى بٌن االلٌتٌن وٌهتؾ ‪:‬‬
‫‪ -‬بالروح ‪ ...‬بالدم ‪ ..‬نفدٌك ٌاربٌس ‪.‬‬
‫األعوج ٌضؽط من األمام ‪ ،‬الوحش ٌضؽط بالعصا من الخلؾ ‪ ،‬وفً لحظة ٌفلت رأس الجثة من الحبل "ٌبو‬
‫المشهد من بعٌد وكؤن الجثة حركت رأسها بحركة بارعة لتتخلص من الحبل" ‪ ،‬تسقط الجثة على وجهها‬
‫أرضا ‪ ،‬تفلت العصا من ٌد الوحش وتظل مؽروزة منتصبة بٌن الٌتً الجثة ‪ٌ ،‬قفز الوحش ع الٌا ًال وٌصٌح‬
‫بشعار طالما سمعه ٌردد كثٌرا فً الرادٌوا و التلفزٌون ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬سقط االستعمار ‪ ...‬تسقط االمبرٌالٌة ‪.‬‬
‫ٌرد علٌه الرقٌب األعوج ‪:‬‬
‫‪ -‬تسقط ‪ ...‬تسقط ‪ ..‬تسقط ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬عٌش الربٌس المفدى ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬عٌش ‪ٌ ...‬عٌش ‪ٌ ...‬عٌش ‪.‬‬
‫وتبقى العصا مؽروزة بٌن الٌتً الجثة تتؤرجح ‪.‬‬
‫‪94‬‬
‫‪ -‬الى األبد ‪ ...‬الى األبد ‪ٌ ...‬عٌش الربٌس ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬عٌش ‪ٌ ...‬عٌش ‪ٌ ...‬عٌش ‪.‬‬
‫ومع كل كلمة "ٌعٌش" تتؤرجح العصا ذات الٌمٌن وذات الٌسار ‪.‬‬
‫‪20‬كانون أول ‪:‬‬
‫خبلل الشهور الماضٌة توطدت عبلقتً كثٌراًال مع نسٌم ‪ ،‬وهو كان فرحا ًال بً أٌضا ًال ‪ ،‬لم ٌكن نسٌم مثل هإالء ‪،‬‬
‫عقله منفتح ومتحرر و ال ٌهتم باألمور السٌاسٌة ولم ٌسبق له أن فكر حتى باإلنتساب إلى أي من التنظٌمات‬
‫الدٌنٌة‪ ،‬كان وهو فً الحٌاة خارج السجن ٌإدي الفرابض الدٌنٌة بالمناسبات‪.‬‬
‫كر فٌه أٌضا ًال‪ .‬قال ‪:‬‬
‫مرة قال لً شٌبا ًال كنت أؾ‬
‫‪ -‬كٌؾ مرت كل هـ السنٌن وأنا وأنت فً محل واحد ولم نتعرؾ على بعض ؟! بعدٌن نتعرؾ على بعض‬
‫و نصٌر كؤننا توأم !!‪ ..‬فعبلًال أنت توأم روحً‪.‬‬
‫كنت أحس اإلحساس نفسه‪.‬‬
‫************‬
‫‪ ،‬رؼم أن القادمٌن الجدد إلى هذا‬ ‫الزالت ورشات البناء فً السجن الصحراوي تقوم بإشادة مهاجع جدٌدة‬
‫السجن قد تناقصوا بشكل كبٌر فً السنوات الثبلثة األخٌرة ‪.‬‬
‫(( من هو أول سجٌن فً التارٌخ ؟ من الذي اخترع السجن ؟ ‪ ..‬كٌؾ كان شكل السجٌن األول ؟‪ ..‬هل هناك‬
‫سجٌن واحد فً كل العالم ‪ ..‬فً كل األزمان ‪ ..‬فً كل السجون ‪ ..‬قضى فً السجن عاما ًال واحداًال أو أكثر ‪ ..‬ثم‬
‫عندما ٌخرج ‪ٌ ..‬كون هو ‪ ..‬هو ؟ !‬
‫أي عبقري هذا الذي أوجد فكرة السجن !!‪ ..‬هل هو اإلله ؟‪ٌ ..‬جب أن ٌكون كذلك ‪ ..‬ألن فٌها من اإلعجاز ما‬
‫هو فوق قدرات العقل البشري !!‪..‬‬
‫لكن لماذا ترك هللا الشٌطان طلٌقا ًال بعد العصٌان ولم ٌسجنه إذا كان هللا ٌعرؾ ما هو السجن ؟!‪ ..‬أنا واثق أن‬
‫الشٌطان كان سًسجد مرؼما ًال بعد قضاء عدة شهور ال بل عدة أسابٌع ‪ ،‬لٌس أمام آدم فقط إنما أمام حواء!‪....‬‬
‫هل ٌمكن أن ٌكون هللا قد أخطؤ عندما طلب من إبلٌس أن ٌسجد أمام آدم ؟! لماذا لم ٌطلب منه أن ٌسجد أمام‬
‫حواء !؟‪..‬‬
‫هل كان إبلٌس سٌرفض السجود أمام حواء ؟‬
‫ولكن ماذا لو سجد إبلٌس أمام آدم نفسه ؟‬
‫هل كان سٌصبح إبلٌس ناببا ًال هلل ؟! ‪....‬أو شرٌكا ًال له ؟!‬
‫" لو لم أكن سجٌنا ًال كٌؾ كان لمثل هذه األفكار المضحكة أن تنبت ؟! " )) ‪.‬‬
‫ًال‬
‫سوٌة أو على‬ ‫تنشؤ فً السجن مهاجع جدٌدة ‪" .‬متى كانت كل المهاجع فً هذا السجن فارؼة ؟" ٌدخلها الناس‬
‫دفعات متتابعة‪ .‬بضعة أٌام وٌكتمل نصاب المهجع ‪ .‬بضع عشرات ‪ ،‬م ا بة ‪ ..‬مبتان ‪ ...‬ثبلث أو ٌزٌد ! الجمٌع‬
‫ٌنظر إلى الجمٌع‪ .‬الوجوه متشابهة‪ .‬ال ٌعرؾ أح ٌد أحداًال‪ٌ .‬بدأ التعارؾ بعد دقابق ‪ ..‬وٌستمر سنوات ‪.‬‬

‫‪95‬‬
‫مع التعارؾ ٌبدأ الفرز‪ٌ .‬بدأ اإللتفاؾ و التبلقً ‪ .‬فً البداٌة تنشؤ التجمعات على األرضٌة السٌاسٌة التنظٌمٌة و‬
‫التً كانت سببا ًال فً دخولهم السجن ‪ ،‬أبناء الحزب الواحد ‪ ..‬التنظٌم الواحد ‪ٌ ،‬لتقون ‪ ..‬سوا ًالء كانوا ٌعرفون‬
‫بعضهم سابقا ًال أم ال ‪ٌ ..‬تعارفون ‪ٌ ،‬شكلون مجموعة واحدة ‪ ،‬وحٌاة اجتماعٌة مشتركة ‪ ،‬لهم اجتماع ا تهم‬
‫وأسرارهم‪ ،‬أؼلبها إن لم ٌكن كلها ‪ ..‬وهم ‪ ،‬كل ما فً األمر أنهم ٌتساندون !‪ٌ .‬تكا بعضهم على بعض‪ ،‬الروح‬
‫الجماعٌة تشكل لهم وهما ًال بالقوة ‪ ..‬وبالتالً الحماٌة‪ ،‬أن تكون محمٌا ًال بالجماعة ٌعطً الشعور باألمان‪.‬‬
‫تبدأ الحالة شدٌدة متوترة‪ ،‬تصل إلى حد التعصب وعداوة اآلخرٌن‪ ،‬مع األٌام ‪ ..‬تبدأ بالتراخً‪ ،‬خاصة إذا كان‬
‫المهجع كله ذا لون تنظٌمً واحد ‪.‬‬
‫فً الدروس التً ٌتلقاها ضباط األمن ‪ ..‬وبعد الدرس األول الذي ٌقول ‪:‬‬
‫" أول درس فً المخابرات ‪ ..‬هو أن ال تثق برجل المخابرات "‪.‬‬
‫تؤتً دروس عدٌدة ‪ ،‬قد تكون صاببة وقد تكون خاطبة ‪ .‬و فً النص الذي ٌحتوي على كٌفٌة التعامل مع‬
‫التنظٌمات المعادٌة ‪ ..‬هناك درس ٌبقى صاببا ًال على الدوام ‪:‬‬
‫ًال‬
‫سوٌة "‪.‬‬ ‫" إذا أردت ألفراد تنظٌم ما أن ٌؤكلوا بعضهم بعضا ًال ‪ ..‬اسجنهم‬
‫‪،‬‬ ‫اإلحباط‪ ،‬التباعد ‪ ،‬النفور ‪ ،‬الكراهٌة ‪ ،‬النٌل من هٌبة القٌادات ‪ ..‬وتبدأ الوشابج التنظٌمٌة بالتراخً والتفكك‬
‫ومعها ٌبدأ التطلع إلى المحٌط خارج إطار التنظٌم الواحد‪.‬‬
‫تمر األٌام ‪ ،‬األسابٌع‪ ،‬الشهور‪ ،‬السنوات !‪.‬‬
‫تنشؤ عبلقات جدٌدة على أرضٌة جدٌدة ‪ " :‬الجؽرافٌة "‪ .‬أبناء المنطقة الواحدة‪ ،‬القرٌة‪ ،‬البلدة‪ ،‬المدٌنة‪ ،‬أو حتى‬
‫‪ ..‬المنطقة األوسع‪ ،‬المنطقة الشمالٌة‪ ،‬المنطقة الشرقٌة‪ ،‬المنطقة الساحلٌة ‪.‬‬
‫ٌستعٌدون فٌما بٌنهم الذكرٌات‪ٌ .‬تذكرون األماكن األلٌفة بحنٌن بالػ ‪ ،‬الطرقات ‪ ..‬السهول ‪ ..‬الودٌان ‪ ..‬الجبال‬
‫المشهورة ‪ ،‬وٌوما ًال بعد ٌوم تكبر‬ ‫‪ ..‬الشوارع والحدابق والساحات ‪ٌ .‬تذكرون بعض األحداث العامة و‬
‫التقاطعات‪ ،‬وتكبر معرفتهم بعضهم ببعض‪.‬‬
‫مع ازدٌاد المعرفة‪ ،‬وبؤسبلة برٌبة فً الظاهر ٌُنبش ما كان محسوبا ًال أنه من المنسٌات‪ .‬فلكل شخص أو عابلة‬
‫أو عشٌرة إٌجابٌاتها ‪ ..‬ولها كذلك ما تخجل منه وتحاول نسٌانه ‪ ..‬أو جعل اآلخرٌن ٌنسونه ‪.‬‬
‫لكنه السجن و له قوانٌنه الخاصة‪ ...‬البسٌطة‪ ...‬الصرٌحة‪ ...‬الوقحة !‬
‫وٌسؤل أحدهم ابن مدٌنته الذي تعرؾ علٌه سإاأل قد ٌكون مازحا ًال ‪ ....‬قد ٌكون برٌبا ًال ‪ ....‬قد ٌكون ! ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت من بٌت البٌك الذٌن ٌسكنون فً المحل الفبلنً ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬أنا من بٌت البٌك هإالء ‪.‬‬
‫‪ ،‬صحٌح أن رتبة البكوٌة و األمبلك و األراضً ‪..‬‬ ‫‪ -‬آ ‪ .....‬آ عفواًال ‪ ..‬ال تواخذنً ‪ ..‬بس أنا سمعت حكاٌة‬
‫صارت عندكم ألنه ستك "جدتك" الكبٌرة كانت صدٌقة للوالً العثمانً ؟؟‬
‫‪.‬‬ ‫‪ -‬أل ‪ ...‬أبداًال مو صحٌح‬
‫ٌنتهً الحدٌث و ٌنكمش شًء ما داخل نفس سلٌل آل البٌك ‪ ..‬ونفور !‬
‫ٌسؤل آخرٌ آخراًال ‪:‬‬
‫‪96‬‬
‫‪ -‬أنت من قرٌة الحٌدرٌة بس أنت من بٌت مٌن ؟‬
‫‪ -‬أنا من بٌت البٌطار ‪.‬‬
‫‪ .‬قل لً ‪ ..‬سمعنا من كام سنة ‪ ...‬أن امرأة من بٌت البٌطار قتلت زوجها باالشتراك مع‬ ‫‪ -‬آ ‪ ...‬البٌطار‬
‫عشٌقها ‪ ..‬بتقربك شً هــ المرأة ؟‬
‫‪ٌ ،‬عنً تهمة وبس !‬ ‫‪ -‬المرأة خالتً ‪ ..‬بس القصة مو صحٌحة‬
‫ٌنتهً الحدٌث و ٌنكمش شًء ما داخل نفس سلٌل آل البٌطار ‪ .....‬ونفور !‬
‫وتتعدد األسبلة ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت ابن فبلن الذي سرق صندوق البلدٌة ؟‬
‫‪ -‬أنت أبن فبلنة التً ‪.......‬‬
‫وتنتهً األحادٌث‪ ،‬وتنكمش أشٌاء كثٌرة داخل النفوس ‪ ...‬ونفور !‬
‫تمر األٌام‪ ،‬األسابٌع‪ ،‬الشهور‪ ،‬السنوات !‪.‬‬
‫تنشؤ عبلقات جدٌدة على أرضٌة جدٌدة ‪ .‬المٌول ‪ ،‬الهواٌات ‪ ،‬المهن ‪ ،‬المهتمٌن باألدب ‪ ،‬الفنانٌن ‪ ،‬المعلمٌن ‪،‬‬
‫األطباء ‪.....‬‬
‫تمر األٌام‪ ،‬األسابٌع‪ ،‬الشهور‪ ،‬السنوات !‪.‬‬
‫تنشؤ عبلقات جدٌدة على أرضٌة جدٌدة ‪ :‬الذوق‪ ،‬اللباقة األجتماعٌة !‪.‬‬
‫ٌنفر منه وٌبتعد عن زمٌله فً التنظٌم أو المهنة أو المنطقة ‪ ..‬ألنه ٌخرج أصوات من فمه عندما ٌؤكل ‪ ..‬وهذا‬
‫قلة ذوق ‪.‬‬
‫ٌنفر منه وٌبتعد عنه ألنه عندما ٌطوي بطانٌاته فإنه ٌطوٌها بعنؾ مثٌراًال الؽبار على جاره ‪..‬وهذا قلة ذوق ‪.‬‬
‫ٌنفر منه وٌبتعد عنه ‪ ..‬ألنهما عندما ٌتحادثان ال ٌترك مسافة كافٌة بٌن الرأسٌن !‪ٌ ..‬قترب منه كثٌراًال وٌتكلم ‪..‬‬
‫ٌجبره أن ٌشم رابحة فمه الكرٌهة !‪ ..‬وهذا قلة ذوق ‪.‬‬
‫‪ ،‬فهم من مشارب ومنابت‬ ‫مبات المشاكل التً ٌثٌرها التعاٌش القسري بٌن أناس لم ٌختاروا بعضهم بعضا ًال‬
‫مختلفة ‪ ..‬تربٌات مختلفة ‪ ..‬سوٌات حضارٌة مختلفة ‪.‬‬
‫تكون السنوات قد مرت‪ .‬سنة تجثم على صدر التً قبلها ‪.‬‬
‫تنشؤ عبلقات جدٌدة على أرضٌة جدٌدة ‪ ،‬وٌبتعد الناس أكثر فؤكثر عن كل ما له طابع جماعً ‪ ،‬رماد السنوات‬
‫المنطفبة ٌؽطً شٌبا ًال فشٌبا ًال طزاجة الذكرٌات عن الخارج ‪ٌ .‬بتعد هذا الخارج ‪ ،‬وٌنؽمس الشخص فً تفاصٌل‬
‫الحٌاة الٌومٌة للسجن‪ ،‬تكبر المساحة التً تحتلها هذه التفاصٌل فً نفس السجٌن ‪ ،‬على حساب الخارج الذي‬
‫ٌبدو قصٌا ًال بعٌد المنال ! ‪ ..‬وأكثر ما ٌبتعد هو السٌاسة ‪ ،‬انعكاساتها كناظم لقطٌع من البشر‪ .‬تعود الذات الفردٌة‬
‫لتنمو على حساب الذات الجماعٌة أو روح القطٌع ‪ .‬وقد ٌصل األمر إلى حد القطٌعة أو العداء ‪ ..‬مع التارٌخ‬
‫الذي ساهم هو بصنعه !‪ ..‬خطوة أخرى وٌصل إلى جل ٍد ساديٍّ للذات !!‪ٌ ...‬قول بمرارة تقطر مع الكلمات ‪:‬‬
‫‪ .‬أي ؼباء ‪ ..‬أي وهم ‪ ..‬أوصبلنا إلى‬ ‫‪ -‬لقد كان السجن ضرورٌا ًال لنا لنكتشؾ الكذبة الكبٌرة التً كنا نعٌشها‬
‫هنا ؟!‪..‬‬
‫‪97‬‬
‫وتنشؤ عبلقات جدٌدة على أرضٌة جدٌدة ‪ .‬والصداقات الثنابٌة هً المرحلة ما قبل األخٌرة ‪ ،‬و تبدأ كحاالت‬
‫معزولة منذ البداٌة و وال تتحول إلى ظاهرة إال فً المراحل المتقدمة ‪ ،‬وحتى فً هذه المراحل قد ال تكون‬
‫عامة مطلقة ولكنها تقترب من األؼلبٌة‪.‬‬
‫المتشابهان ‪ .....‬المتناقضان ‪ ...‬التشابه و التناقض ‪ ،‬على ما فٌهما من تباعد فً كل شًء ‪ ،‬إال أنهما ٌشكبلن‬
‫األرضٌة المناسبة أو التربة المناسبة لنشوء العبلقات الصداقٌة الثنابٌة ! ‪.‬‬
‫بعد مسٌرة السنوات الطوال‪ ،‬ومن خبلل التجربة و الخطؤ‪ ،‬من خبلل االحتكاك المستمر والدابم على مدار أربع‬
‫وعشرٌن ساعة كل ٌوم‪ ،‬ثبلثمابة وخمس وستون ٌوما ًال كل عام ‪ٌ ..‬كتشؾ االثنان أنهما متشابهان فً بعض‬
‫األشٌاء ‪ ..‬فً الكثٌر من األشٌاء ‪ ..‬فً كل األشٌاء !‪.‬‬
‫ٌنجذبان إلى بعضهما البعض‪ .‬وتبدأ عبلقة صداقة بٌن اثنٌن ‪.‬‬
‫بعد مسٌرة السنوات الطوال‪ ،‬ومن خبلل التجربة و الخطؤ ‪ ،‬من خبلل االحتكاك المستمر والدابم وعلى مدار‬
‫أربع وعشرٌن ساعة كل ٌوم و ثبلثمابة وخمس وستين ٌوما ًال كل عام و ٌكتشؾ اثنان أنهما متناقضان ‪ ..‬فً‬
‫بعض األشٌاء ‪ ..‬فً الكثٌر من األشٌاء ‪ ..‬فً كل األشٌاء ‪.‬‬
‫‪،‬‬ ‫وكما المؽنطٌس ٌنجذب سالبه إلى موجبه ‪ٌ ..‬نجذبان إلى بعضهما البعض ‪ ..‬وتبدأ عبلقة صداقة بٌن اثنٌن‬
‫وهذه الصداقة تبدأ متوازنة متكافبة‪ ،‬لكل منهما نفس الحقوق وعلٌه نفس الواجبات‪ ،‬ومع توالً األٌام ٌبدأ الخلل‬
‫بٌن كفتً المٌزان‪ ،‬بنفس قدر ارتفاع األولى تنخفض الثانٌة ‪ ،‬طرؾ ٌبدأ باكتساب القوة و اظهارها ‪ ،‬والطرؾ‬
‫اآلخر ٌعتمد أكثر فؤكثر وفً كل األمور على صدٌقه القوي ‪ ،‬لٌصبح هو الطرؾ األكثر لٌونة ورقة!‪ ..‬تستمر‬
‫العبلقة بٌن االثنٌن وفق هذه المعادلة طوٌبلًال ‪ ،‬القوي والضعٌؾ ‪ ،‬القوي الذي ٌرعى الضعٌؾ وٌبسط حماٌته‬
‫علٌه وهو فً ؼاٌة االستمتاع بهذا الدور ‪ ،‬والضعٌؾ الذي ٌلوذ تحت جناحه ورعاٌته وهو فً ؼاٌة االستمتاع‬
‫بهذا الدور !‪.‬‬
‫أقبع فً قوقعتً طوال هذه السنوات أحاول أن أرقب وأفسر وأسجل كل ما ٌحدث أمامً ضمن هذا التجمع‬
‫اإلنسانً‪ ،‬رصدت الكثٌر من األمور وفسرتها وسجلتها ‪.‬‬
‫هذه الثنابٌات منذ بداٌة تشكلها أثارت اهتمامً ‪ ،‬راقبتها ‪ ..‬تحوالتها وتطوراتها ‪ ،‬وفسرتها فً سٌاق الحاجات‬
‫اإلنسانٌة لئلجتماع و التواصل ‪ ..‬إلى أن نشؤت الحالة الثنابٌة بٌني وبٌن نسٌم بفضل المرحوم أبو القعقاع ‪.‬‬
‫فً بداٌة العبلقة كنت مؤخوذاًال بؤمر واحد فقط ‪ ..‬أن ٌكون لدي من أحادثه !‪.‬‬
‫كان طبٌعٌا ًال أن أندفع وبقوة نحو هذا الشخص الذي ارتضى بعد أكثر من عشر سنوات من القطٌعة التامة أن‬
‫ٌحادثنً وٌجلس على فراشً ‪ ..‬ثم ٌدعونً للجلوس على فراشه !‪ ..‬عاودنً الشعور بؤنً إنسان ذو كٌان‬
‫ٌحترمه البعض‪ٌ ،‬حترم شخصه وٌحترم عقله ورأٌه ‪ ،‬وكان هذا ٌمكن أن ٌتحقق مع أي شخص هنا ٌرفض‬
‫مقاطعتً وٌملك عقبلًال منفتحا ًال ولو بحدوده الدنٌا‪.‬‬
‫لكن نسٌم أكثر من ذلك بكثٌر‪ .‬نسٌم أكبر من كل أحبلمً وامنٌاتً بشخص ٌنتشلنً مما أنا فٌه‪ ،‬بساطته ورقته‬
‫جعبلنً أراه أمامً ساطعا ًال نقٌا ًال كسطوع صؾحة بٌضاء تحت أنوار قوٌة ‪ ،‬دخل إلى روحً خبلل أٌام قلٌلة ‪،‬‬
‫هصرها ‪ ..‬سحنها ‪ ..‬عجنها بروحه وجسده ‪ ..‬اتحد بها !!‪ ...‬و‬
‫‪98‬‬
‫ذعرت ‪ ..‬ذعرت ‪ ..‬ذعرت !!‪.‬‬
‫من أنا ؟ ! ‪ ..‬هل أنا ‪ ..‬أنا ؟! ‪ ..‬و‬
‫إلى أٌن ؟؟ ‪.‬‬
‫فً بلدي وفً فرنسا عرفت الكثٌر من النساء ‪ ،‬بعضهن عابرات ‪ ..‬قد ال أتذكر مبلمحهن اآلن ‪ ،‬والبعض األقل‬
‫حفرن فً الوجدان أثبلما ًال ال تمحى ‪! ....‬‬
‫أن كانت لً أي‬ ‫كنت فً هذه العبلقات طبٌعٌا ًال جداًال ‪ ،‬كؤي إنسان عادي ‪ ،‬ولم ٌحدث أبداًال خبلل كل الماضً‬
‫ممارسات ؼٌر طبٌعٌة أو شاذة‪ ،‬ولم ألحظ على نفسً أٌة مٌول لممارسات جنسٌة ؼٌر الممارسات العادٌة بٌن‬
‫الرجل و المرأة‪ ،‬كما لم ألحظ أبداًال أٌة مٌول مثلٌة نحو الجنس المشابه ‪ ،‬ال بل على العكس كنت أنفر منها نفسٌا ًال‬
‫‪ ،‬لم‬ ‫حتى فً فترة المراهقة التً ٌحدث فٌها أن ٌداعب المراهقون بعضهم مداعبات شتى ذات طابع جنسً‬
‫أتعرض أنا – وقد ٌكون بحكم بعض ظروفً الموضوعٌة – إلى أٌة تجارب من هذا النوع ‪.‬‬
‫ولكن اآلن ‪ ..‬اآلن ماذا ٌجري لً ؟!‬
‫وماذا ٌمكن أن تكون نهاٌة هذا األمر ؟‬
‫ما أشعر به اتجاه نسٌم من عواطؾ ملتهبة لم أشعر به أبداًال حٌال أٌة امرأة عرفتها فً حٌاتً !‪.‬‬
‫ًال‬
‫سوٌة‪ ،‬نتحادث ‪ ..‬نلعب ‪ ..‬نؤكل‪ ،‬طوال ساعات االستٌقاظ‪ٌ ،‬نام إلى جانبً ونتابع أحادٌثنا بصوت خافت‬ ‫نجلس‬
‫ونحن مستلقٌان‪ .‬نحن‪ ،‬االثنين‪ ،‬مع بعضنا البعض طوال الٌوم ‪ ..‬ورؼم ذلك أظل مشتاقا ًال إلٌه وبشدة!‪.‬‬
‫ٌؽادرنً أوقات قلٌلة‪ ،‬كؤن ٌذهب إلى المرحاض أو ٌذهب لبلؼتسال ‪ ..‬فتبقى عٌونً معلقة على باب المؽاسل‬
‫الحجري إلى أن ٌعود‪ ،‬ومن هناك ٌبادلنً االبتسام ‪ ..‬فؤرتاح ‪.‬‬
‫ال أدري شٌبا ًال عن مشاعره ‪ ،‬عواطفه‪ ،‬تفكٌره فً هذا الموضوع‪ ،‬لكن اندفاعه نحوي فً هذه العبلقة الحمٌمٌة‬
‫وترداده الدابم لعبارة أنً " توأم روحه " كلها أمور تنبا بؤنه إما أنه ٌعٌش نفس حالتً ‪ ..‬أو أنه بمنتهى‬
‫البراءة ‪.‬‬
‫كفتا المٌزان فً عبلقتنا فً األساس متفاوتة‪ ،‬هو رقٌق جداًال‪ ،‬وحتى على صعٌد الشكل تقاسٌمه ناعمة بها شًء‬
‫من األنوثة‪ .‬وأنا متجهم ‪ ..‬ذو شعر كث وتقاسٌم حادة قاسٌة‪ .‬ومع تطور العبلقة بٌننا ازددت قوة ورجولة بٌنما‬
‫شابت حركاته بعض النعومة و اللٌونة ‪ ..‬وأحٌانا ًال الدلع ‪.‬‬
‫أعٌش اآلن صراعا ًال نفسٌا ًال رهٌبا ًال بٌن عقلً ومحاكماته القاسٌة ‪ ،‬وبٌن عواطفً ومٌولً الطاربة التً أحسها‬
‫أحٌانا ًال أنها ال تستجٌب ألوامر العقل ونواهٌه و روادعه ‪.‬‬
‫هل أناقش األمر معه بصراحة ؟‪ ..‬ولكن لم ؟‪ ..‬ما هً الفابدة ؟ ألن ٌكون هذا سببا ًال فً تحطٌم عبلقة الصداقة‬
‫الرابعة هذه ؟!‬
‫المبلمسات بٌننا‪ٌ .‬حدث أحٌانا ًال ونحن فً حمى الحدٌث أو اللعب أن أمسك ٌده فؤشعر براحة ومتعة ؼرٌبتٌن!!‬
‫أبقى ممسكا ًال بها أكثر مما ٌستوجبه الموقؾ !! ‪.‬‬

‫‪99‬‬
‫ألتفت إلى المهجع مجدداًال‪ .‬أرقب وأفسر هذه العبلقات الثنابٌة المنتشرة ‪ ،‬ولكن بعٌون جدٌدة ‪ ..‬عٌون فاحصة‬
‫تحاول أن تثقب الجدار الخارجً السمٌك لكل واحدة من هذه العبلقات ‪ ..‬ثم تسبر ما تحت القشرة هذه !‪ ..‬لم‬
‫أتوصل إلى أٌة معلومة أو نتٌجة مفٌدة فً هذا الشؤن‪ .‬كل العبلقات ظاهرها بريء ‪.‬‬
‫وخفت ‪ ..‬خفت كثٌراًال ‪.‬‬
‫ُ‬
‫هل ٌمكن أن تكون مفاعٌل السجن وتؤثٌراته قد ؼٌرا بنٌتً النفسٌة بحٌث ٌجعبلنً اسٌر فً هذا االتجاه ؟ لكن‬
‫عقلً ٌرفض ذلك رفضا ًال باتا ًال ‪.‬‬
‫وخوفً الشدٌد ‪ ..‬هل ٌمكن أن ٌكون داللة صحة إذا كانت مشاعري وعواطفً داللة مرض ؟!‬
‫ولكن ‪ ..‬هل هذا كله وهم ؟ أال ٌمكن أنً اعطً الموضوع حجما ًال أكبر من حجمه الحقٌقً ؟ لماذا ال أدع‬
‫األمور تسٌر سٌراًال طبٌعٌا ًال ؟ ‪ ..‬ولٌكن ما ٌكون ‪.‬‬
‫هذا الدمار الكامل و الشامل لئلنسان ‪ ،‬هذا الموت الٌومً المعمم ‪ ..‬أال ٌدفع إلى الجنون ‪ ..‬أو إلى أكثر‬
‫التصرفات والسلوكٌات جنونا ًال وؼرابة ؟!‬
‫تتجمع فً حلقً بصقة كبٌرة ‪ ..‬إلى أٌن أقذفها ؟ ‪ ..‬بوجه من ؟‪.‬‬
‫‪ 24‬شباط‬
‫مإخراًال انتبهت إلى أمر آخر ‪ ،‬بدالًال من أن تساهم عبلقتً مع نسٌم فً إخراجً من قوقعتً ‪ ،‬قمت أنا بإدخاله‬
‫إلى القوقعة‪.‬‬
‫بقً المهجع على موقفه منً‪ ،‬وهو المقاطعة‪ .‬صحٌح أنها لم تعد مقاطعة عدابٌة خطرة‪ ،‬لكنها أصبحت مقاطعة‬
‫‪ ،‬بعض‬ ‫سلبٌة بادرة‪ ،‬وشٌبا ًال فشٌبا ًال ومع اقتصار عبلقتً على نسٌم فقط انسحب موقؾ المقاطعة علٌه أٌضا ًال‬
‫المتزمتٌن اتهمنً بؤننً أفسدت نسٌم فً دٌنه ‪ ،‬وؼٌر بعٌد أن نسٌم قد أصبح ملحداًال أٌضا ًال ‪ ،‬ودللوا على ذلك‬
‫بانقطاع نسٌم عنهم وقضابه كل الوقت عندي ٌتحدث معً بلؽة الكفار ‪ ..‬ونتلهى بالشطرنج بدالًال من ذكر هللا ‪،‬‬
‫وعندما نبهت نسٌم إلى هذا األمر قال ‪:‬‬
‫‪ -‬مع ألؾ جهنم‪ ،‬من قبل ما ٌرفضونً هم‪ ،‬أنا من الداخل كنت رافضهم ‪.‬‬
‫واستفاض بالحدٌث وتبٌن لً أنه ال ٌحبهم ‪ ،‬وفً بعض األحٌان عبر عن اشمبزازه منهم ‪ ،‬ووصؾ بعض‬
‫تصرفاتهم بالتخلؾ و الجهل وأحٌانا ًال بالوضاعة ‪.‬‬
‫صادق‪ ،‬اًال‬
‫طٌب إلى أبعد الحدود " ال ٌمكن أن ٌعرؾ الكره‪،‬‬ ‫اًال‬ ‫وصاؾًال‪ ،‬اًال‬
‫فنان‬ ‫ٌا‬ ‫كنت أعتقد أن إنسانا ًال مثل نسٌم‪ " ،‬اًال‬
‫شفاؾ‬
‫ولكن من أحادٌثه عنهم كنت ألمس أحٌانا ًال بعض شذرات كراهٌة مترسبة فً أعماقه‪ .‬صارحته بمبلحظتً ‪ ..‬لم‬
‫ٌنؾ أو ٌدافع‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرؾ ‪ ..‬اإلنسان ال ٌنتبه على حاله ‪ ..‬ممكن ٌكون أساس هذه الكراهٌة أخوي ‪ٌ ..‬عنً " زمٌلهم " !‬
‫نسٌم دابم اإلندهاش ٌرى أمراًال أو حدثا ًال ٌتكرر أمامه مبات المرات لكنه فً كل مرة ٌبدي نفس القدر من الدهشة‬
‫و االستؽراب‪ ،‬وإذا كان أمراًال ٌرفضه ٌبدي نفس القدر من االحتجاج و االستنكار ‪.‬‬
‫أهم ما ٌمٌزه هو ذكاإه ورقته‪ ،‬هذه الرقة البلمتناهٌة‪ ،‬والرهافة االرستقراطٌة ‪.‬‬
‫اآلن مضى على نسٌم ثبلثة أٌام ال ٌؤكل رؼم كل محاوالتً إلجباره على األكل ‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫************‬
‫فً مهجعنا عابلتان‪ ،‬العابلة األولى تتؤلؾ من أربعة أخوة‪ ،‬أما العابلة الثانٌة فهً تتؤلؾ من أب وثبلثة أبناء ‪.‬‬
‫عند بداٌة األحداث بٌن الحركة الدٌنٌة و السلطة ‪ ،‬وبدء حمبلت االعتقال الواسعة‪ ،‬استطاع األبناء الثبلثة وهم‬
‫جمٌعا ًال منظمون‪ ،‬استطاعوا الفرار و التواري عن األنظار‪ ،‬وعند مداهمة المنزل وجد رجال األمن والد الفارٌن‬
‫وحٌداًال‪ ،‬اقتادوه معهم إلى فرع المخابرات ‪ ،‬وهناك ظل اآلب أكثر من شهرٌن رهن التحقٌق ‪ٌ ،‬رٌدون منه أن‬
‫ٌدلهم على مكان تواجد أوالده ‪ ،‬وهو حقٌقة لم ٌكن ٌعرؾ ! وبعد شهرٌن أرسلوه إلى العاصمة وهناك أٌضا ًال‬
‫حققوا معه لكن دون جدوى‪ ،‬أخٌراًال سبم الضابط منه وقال له إنهم سٌبقونه فً السجن رهٌنة إلى أن ٌسلم أوالده‬
‫أنفسهم لؤلمن ‪.‬‬
‫بقً األب إلى جانب الكثٌرٌن من أمثاله و الذٌن كان السجناء ٌطلقون علٌهم على سبٌل المزاح اسم " تنظٌم‬
‫الرهابن " أو " حزب الرهابن " ‪.‬‬
‫‪ ،‬عندما ضاقت‬ ‫بقً األب عدة شهور فً العاصمة ‪ .‬بعدها تم ترحٌله مع اآلخرٌن إلى السجن الصحراوي‬
‫سجون وفروع المخابرات فً العاصمة ‪.‬‬
‫بعد ثبلثة أعوام من بدء اعتقال األب‪ ،‬أصبح جمٌع أبنابه فً السجن الصحراوي‪ ،‬تم اعتقالهم واحداًال إثر األخر‪،‬‬
‫وفً النهاٌة ومن خبلل رسابل المورس عرفوا مواقع بعضهم ‪ ،‬ورؼم اعتقال اإلخوة الثبلث ة لم ٌتم اطبلق‬
‫سراح األب ‪.‬‬
‫بعد ثبلثة أعوام أخرى جاء دور قضٌتهم لتنظر فٌها المحكمة المٌدانٌة ‪ .‬كان هناك أكثر من خمسٌن شخصا ًال‬
‫سٌحاكمون فً ذلك الٌوم ‪.‬‬
‫صفا ًال رباعٌا ًال جالسون على األرض ‪ ،‬وكل واحد منهم علٌه أن ٌشبك ٌدٌه فوق رأسه ورأسه بٌن ركبتٌه و‬
‫األعٌن مؽمضة‪.‬‬
‫المحكمة تنادٌهم باألسماء‪ ،‬من ٌذاع اسمه ٌقفز وٌصٌح حاضر ‪ ،‬وفً أقل من ثانٌة ٌجب أن ٌكون أمام هٌبة‬
‫المحكمة ‪ ..‬وفً أقل من دقٌقة أو دقٌقتٌن تتم محاكمته !! ‪ ..‬وفً أقل من ثانٌة أخرى علٌه أن ٌعود إلى مكانه‬
‫وجلسته !‪.‬‬
‫فً هذا الجو‪ ،‬ورؼم كل شًء رأى األب و األخوة بعضهم ووصلت سبلماتهم لبعضهم عن طرٌق التسلسل‪ ،‬ثم‬
‫نودي علٌهم فرداًال فرداًال ‪.‬‬
‫بعد أن انتهت محاكمتهم ٌبدوا أن أحد الضباط قد الحظ وانتبه أن الكنٌة واحدة لؤلربعة ‪ ،‬فطلبت هٌبة المحكمة‬
‫ئ‪.‬‬
‫من الشرطة ادخال األب و أبنا ه‬
‫كانت هٌبة المحكمة المإلفة من ثبلثة ضباط فً حالة استرخاء ومعهم مدٌر السجن قد توزعوا فً أرجاء‬
‫الؽرفة حول المدفؤة المتوهجة‪ ،‬جو الؽرفة حار نسبٌا ًال‪ٌ ،‬شربون القهوة وٌدخنون وٌتبادلون النكات‪ ،‬وفً اللحظة‬
‫التً دخل فٌها األربعة إلى الؽرفة كان مدٌر السجن ٌروي لهم نكته ‪ ،‬فوقؾ األربعة عند باب الؽرفة المؽلق‬
‫وقفة تصاؼر ‪ ،‬لم ٌعرهم أي من الحاضرٌن اهتماما ًال ‪ ،‬ضحكوا بشدة ‪ ..‬تبادلوا التعلٌقات ‪ ..‬بعد بضع دقابق‬
‫التفت أحد الضباط وأمعن النظر باألشخاص األربعة ‪ ،‬كان جو المرح الزال سابداًال ‪ ،‬توجه بالحدٌث لؤلب ‪..‬‬
‫‪101‬‬
‫م واحدة ‪ ..‬أنتوا بتقربوا بعضكم شً ؟‬ ‫‪ -‬شو ٌا حجً ‪ ..‬أنتوا كنٌتك‬
‫‪ -‬نعم ٌا سٌدي نعم ‪ ..‬هدول أوالدي وأنا أبوهم ‪.‬‬
‫استلم دفة الحدٌث ضابط أخر ‪..‬‬
‫‪ -‬قول لً ٌا حجً ‪ ..‬فً عندك أوالد ؼٌر هدول ؟‬
‫‪ -‬ال و هللا ٌا سٌدي ‪ ..‬هدول هنن كل أوالدي ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬عنً العابلة كلها مجرمٌن وعمبلء ‪.‬‬
‫ى قد حالنا ‪ ..‬وحسبنا هللا ونعم الوكٌل ‪.‬‬ ‫‪ -‬ال و هللا ٌا سٌدي ‪ ..‬نحن ناس عل‬
‫تدخل مدٌر السجن ‪ ،‬فسؤل األب ‪..‬‬
‫‪ -‬قدٌش عمرك أنت ‪ ..‬وال ؟‬
‫‪ -‬و هللا بالضبط ما بعرؾ ٌا سٌدي ‪ ..‬بس ٌمكن صار فوق السبعٌن ‪.‬‬
‫‪ -‬فوق السبعٌن !‪ ..‬وباقً عندك حٌل وعندك قوة تضرب وتقتل ؟‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ .....‬هللا وكٌلك ال قتلنا وال ضربنا ‪ ...‬بس النار مرت من جنبنا قامت حرقتنا نحن كمان ‪.‬‬
‫‪ -‬و هللا مانك سهل ٌا ختٌار النحس ‪ ...‬قدٌش صار لك بالحبس ‪ ..‬و ال ؟‬
‫‪ -‬و هللا ٌا سٌدي ‪ ....‬صار ٌمكن ‪ ....‬ست سبع سنٌن ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ..‬بهـ السنٌن ‪ ...‬ما عم تشتاق لمرتك ؟‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ...‬االنسان بعمري ‪ ..‬وبعد كل هالشً ‪ ..‬ما ٌطلب ؼٌر حسن الختام ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب هاي فهمناها ‪ ..‬بس ؼٌر شً ‪ ..‬ؼٌر شً ‪ ..‬ما بتحس انو ناقصك شً شؽلة ؟‬
‫‪ -‬أي و هللا ٌا سٌدي ‪ ..‬أنا صرت زلمة كبٌر ‪ ...‬وحركتً صعبة كتٌر ‪ ...‬لو تحطوا لً أوالدي معً‬
‫ٌخدمونً ‪ ..‬بتكونوا فضلتوا على راسً ‪.‬‬
‫وقتها أمر مدٌر السجن أن ٌنقل أوالده إلى مهجعه ‪.‬‬
‫عاد عضو المحكمة بعد ذلك لتوجٌه الحدٌث ‪ ..‬خاطب األب ‪:‬‬
‫‪ -‬شوؾ ٌا حجً ‪ ...‬شو تتوقع ٌكون حكمكم ؟‬
‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ..‬رحمة هللا واسعة ‪ ،‬و انتوا دابما ًال بتحكموا بالعدل !!‬
‫‪ -‬طٌب اسمعنً ‪ ..‬انتوا اربعة أشخاص عابلة واحدة ‪ ....‬ونحن حكمنا على ثبلثة منكم باإلعدام ‪ ...‬وهلق‬
‫‪ ..‬أنت بدك تختار مٌن الزم ٌنعدم ومٌن الواحد ٌاللً الزم ٌعٌش ‪.‬‬
‫‪ -‬هللا ٌطول عمرك ٌا سٌدي ‪ ..‬و ٌطول عمر أوالدك ‪ ..‬إذا كان الموضوع هٌك فـــ الزم اسعد ٌعٌش ‪،‬‬
‫ونحن الثبلثة ٌدبرها هللا !‪.‬‬
‫‪ -‬ومٌن أسعد ؟‬
‫‪ -‬هذا هوي أسعد ‪ ..‬مخدومك وٌبوس اٌدك ٌا سٌدي ‪.‬‬
‫‪ -‬لٌش اخترت أسعد ٌا حجً ؟‬

‫‪102‬‬
‫تجوزٌن من زمان وخلفوا أوالد ‪ ،‬و من خلؾ ما‬ ‫‪ٌ -‬ا سٌدي أنا زلمة كبٌر أكلت عمري ‪ ،‬وسعد وسعٌد م‬
‫مات ‪ ،‬أما أسعد بعدو صؽٌر ومانو متجوز و بعدو بزهرة شبابو ‪ ..‬و الزهرة حرام تنقطؾ ‪ ..‬مو هٌك ٌا‬
‫سٌدي ؟‬
‫‪ -‬أي حجً أي ‪ ...‬هٌك ‪ٌ ...‬ا شرطً ‪ٌ ...‬ا شرطً ‪ ...‬تعال رجع هالجماعة وحطهم بمهجع واحد ‪.‬‬
‫عاد جمٌع أفراد العابلة إلى مهجعنا ‪ ،‬هذه القصة ‪ ..‬هذا الحوار سمعته خبلل سنتٌن عشرات المرات ‪ ،‬ولكن‬
‫منذ خمسة أٌام – وكان أحد أٌام الخمٌس – وردت البحة اإلعدامات وبدأ الشرطً بقراءتها ‪ ،‬كان اسماء الذٌن‬
‫سٌعدمون من مهجعنا هم ( سعد وسعٌد وأسعد ) ‪ ،‬عندها ثار األب ‪.‬‬
‫أسعد كان نابما ًال عند قراءة االسماء ‪ ،‬قام سعد وسعٌد عن فراشٌهما ‪ ،‬توجها إلى فراش أسعد ‪ ،‬أٌقظاه ‪ ،‬كانا‬
‫ٌنادٌانه باسمه ‪ ،‬عندما ٌنادٌه سعد ٌسكت سعٌد ثم ٌنادٌه سعٌد فٌسكت سعد ‪:‬‬
‫‪ -‬أسعد ‪ٌ ..‬ا خاي ‪ ..‬أسعد ‪ ..‬فٌق ‪ ..‬قوم ‪ٌ ..‬ا خاي قوم ‪ ..‬أسعد ‪ ..‬قوم ‪ ..‬أمر هللا وما منوا مهرب ‪ٌ ..‬ا‬
‫أسعد ‪ٌ ..‬ا خاي ‪.‬‬
‫استٌقظ أسعد ‪ ،‬ونظر إلى أخوٌه على جانبً فراشه ‪ ،‬اعتدل جالسا ًال وهو ٌنظر إلٌهما نظرة ملإها االستفهام ‪،‬‬
‫وسؤلهما ‪:‬‬
‫‪ -‬شو ؟ ‪ ..‬شو فً ٌا خاي ؟ ‪ ..‬شو صار ؟‬
‫‪ -‬ما فً شً ‪ .....‬بس قوم ‪ ....‬فٌق ‪ ....‬الزم نقوم نتؽسل ونتوضا ونصلً ‪ ،‬بعدٌن الزم نودع ناس ‪.‬‬
‫تجمدت قسمات أسعد للحظات ‪ ،‬ثم نظر إلى أخوٌه وسؤل ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا كمان معكم ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬انت كمان معنا !‬
‫‪ -‬ال حول وال قوة إال باهلل ‪ ..‬حسبنا هللا ونعم الوكٌل ‪ ...‬توكلنا على هللا ‪.‬‬
‫قام الثبلثة باتجاه المؽاسل التً كانت قد افرؼت وتركت لهم فقط ‪.‬‬
‫قفز األب السبعٌنً إلى الممر بٌن طرفً المهجع وهو ٌلوح بٌدٌه تلوٌحات عدم فهم وعدم تصدٌق !! مشى إلى‬
‫منتصؾ المهجع ‪ ،‬وقؾ تحت الشراقة التً ٌطل منها الحارس عادة و نظر إلى األعلى ‪ ..‬إلى السماء ‪،‬‬
‫وبصوت راعش ولكن قوي ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا رب ‪ٌ ..‬ا رب العالمٌن ‪ ،‬أنا قضٌت عمري كلو صاٌم مصلً وعم أعبدك ‪ٌ ،‬ا رب أنا ما بدي أكفر ‪..‬‬
‫حاشا هلل واستؽفر هللا العظٌم ‪ ..‬بس بدي اسؤل سإال واحد ‪ :‬لٌش هٌك ؟ ‪"..‬وبصوت عالً أقرب إلى الصراخ‬
‫وهو ٌلتفت إلى الناس" ‪ ..‬ولك لٌش هٌك ؟؟ ٌا رب العالمٌن ‪ ..‬لٌش هٌك ؟؟ أنت القوي ‪ ..‬انت الجبار ! ‪..‬‬
‫لٌش عم تترك هــ الظالمٌن ٌفظعوا فٌنا ‪ ..‬لٌش ؟ ‪ ..‬شو بدك تقول ؟ بدك تقول إن هللا ٌمهل وال ٌهمل ؟ ‪..‬‬
‫طٌب هــ الكبلم مٌن بدو ٌرجِّ ع من أوالدي ؟ ‪ٌ ..‬ا هللا ‪ ...‬أنت ترضى أنو أسعد ابن الخمس وعشرٌن سنة‬
‫ٌنعدم على أٌدي هــ الظبلّم ؟! قلً ‪ ..‬جاوبنً ‪ ..‬لٌس ساكت ‪ ..‬أنت ‪ ..‬انت ‪ ..‬استؽفر هللا العظٌم استؽفر هللا‬
‫العظٌم ‪ٌ ...‬ا رب ‪ ...‬لو كان عندك ثبلثة أوالد وراح ٌروحوا عـ اإلعدام بلحظة واحدة ‪ ..‬شو كنت تعمل ؟ ‪..‬‬
‫هاه ؟ ‪ ..‬طٌب جاوبنً على ها السإال الصؽٌر بس ‪ ..‬انت ‪ ..‬رب العالمٌن ‪ ..‬معنا نحن و إال مع هـ الظالمٌن‬
‫‪103‬‬
‫؟! لحد اآلن كل شً ٌقول ‪ ...‬أنك معهم ‪ ..‬مع الظالمٌن !! ‪ ...‬استؽفر هللا ‪ ...‬استؽفر هللا ‪ٌ ..‬ا رب ‪ ..‬بعزتك‬
‫وجبللك ‪ ..‬بس اسعد ‪ ،‬بس رجِّ ع لً أسعد ‪ ،‬ال تخلٌه ٌموت ‪ ..‬أنا ما عم قلك الثبلثة ‪ ،‬بدي أسعد بس ‪ ..‬وانت‬
‫قادر على كل شً !‪.‬‬
‫السكون و الوجوم ٌخٌمان على المهجع ‪ ،‬أبو سعد سكت أٌضا ًال ‪ ،‬جلس على األرض ووضع رأسه بٌن ٌدٌه ‪،‬‬
‫بعد قلٌل رجع اإلخوة الثبلثة ‪ ،‬صلوا أخر صبلة لهم وبد إوا بتودٌع الناس ‪ ،‬أبو سعد لم ٌتحرك من مكانه‬
‫والزال رأسه بٌن ٌدٌه ‪ ،‬انتهى اإلخوة من وداع الناس ‪ ،‬جاإوا ووقفوا أمام األب الذي الزال مطرقا ًال ‪ ،‬جلسوا‬
‫حوله ‪ ..‬سؤله سعد ‪:‬‬
‫‪ -‬أبً ‪ٌ ...‬ا أبً ‪ ....‬ما بدك تودعنا ؟ ‪ .....‬أبً هللا ٌخلٌك ال تحرق قلبنا ب آخر عمرنا ‪ ...‬ابوس أٌدك ٌا بو‬
‫‪....‬‬
‫رفع األب رأسه ‪ ،‬شملهم بنظرة ذاهلة حارقة ‪ ،‬رفع ٌدٌه باتجاههم ‪ ،‬التقط أوالده الٌدٌن وأخذوا بتقبٌلهما ‪...‬‬
‫ارتفع‬ ‫وأجهش األربعة ببكا ٍء فجابعً ‪ ،‬عم البكاء المهجع كله ‪ ...‬أخذ الرجال جمٌعا ًال ٌنشجون وٌشهقون ‪...‬‬
‫صوت نشٌج الرجال الجماعً عالٌا ًال ‪ ،‬وقؾ أبو حسٌن فً منتصؾ المهجع ‪ ،‬وبكبلم تقطعه شهقات البكاء‬
‫المتتالٌة أخذ ٌرجو الجمٌع أن ٌخفضوا اصواتهم ‪:‬‬
‫ي ‪ّ ...‬‬
‫وطوا الصوت ٌا شباب ‪ ..‬من شان هللا ٌا‬ ‫‪ -‬من شان هللا ٌا اخوان ‪ ...‬هلق ‪ ....‬نكون بشً بنصٌر بش‬
‫شباب ‪.‬‬
‫ئ وحاول أن ٌلؾ الثبلثة بٌدٌه ‪ ،‬القى األبناء أنفسهم فً حضن األب ‪ ،‬تجمع ت‬
‫سحب األب ٌدٌه من أٌدي ابنا ه‬
‫الرإوس الثبلثة على صدره ‪ ،‬وضع األب ٌدٌه على رإوسهم وقد أؼمض الجمٌع عٌونهم والزالت دموعهم‬
‫تسٌل ولكن بصمت ‪.‬‬
‫مرة اخرى بدا المهجع ٌهدأ ‪ ،‬مسحنا دموعنا جمٌعا ًال ونحن شاخصون بؤبصارنا اتجاه األب وأوالده ‪ ،‬رفع االب‬
‫رأسه قلٌبلًال ‪ ،‬مسح بٌدٌه على الرإوس الحلٌقة ‪ ...‬حول عٌنٌه إلى الناس المحدقٌن به وبصوت هادئ ولكنه‬
‫قوي بدأ الكبلم كمن ٌخاطب نفسه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫هذا أمر هللا ‪ :‬أمر هللا ما منه مهرب ‪ ..‬إنا هلل وإنا الٌه راجعون ‪ ..‬معلٌش ‪ ..‬ال تخافوا ‪ٌ ..‬ا ابنً ال‬ ‫‪-‬‬
‫تخافوا ‪ ..‬خلٌكم سباع ‪ ..‬قلبً وقلب أمكم معاكم ‪ ..‬هللا ٌرضى علٌكم دنٌا آخرة‪ ..‬رضا هللا ورضاي معكم ‪..‬‬
‫هذا الموت كاس ‪ ..‬نعم كاس ‪ ..‬كل الناس بدها تشرب منه ‪...‬‬
‫سكت قلٌبل التفت إلى الناس واستؤنؾ حدٌثه ‪:‬‬
‫‪ -‬ولك بس لٌش ؟‪ ..‬لٌش اوالدي أنا ‪ ..‬لٌش ؟ ‪ٌ..‬ا جماعة ‪ٌ ..‬ا ناس هدول أوالدي ‪ ..‬ما عندي ؼٌرهم ‪ ..‬آخ ‪..‬‬
‫آخ ‪ ..‬هللا وكٌلكم ما عندي ؼٌرهم ‪ ..‬آخ ٌا أسعد ‪ ..‬آخ ‪ ..‬ولك ٌا جماعة ٌا ناس ‪ ..‬لك حدا منك م شاؾ هٌك‬
‫شوفة ‪ ..‬أوالدي كلهم قدامً راح ٌتعلقوا عـ المشانق !!‪ ..‬ولك شً حدا ٌخبرنً ‪ ..‬احكوا ٌا ناس ‪ ..‬لٌش ‪..‬‬
‫لٌش أنا وأوالدي ‪ ..‬شو عملت من الذنوب تحت قبة هللا حتى ٌجازٌنً هٌك جزاء ؟!‪ ..‬آه ٌا ابنً آه ‪ٌ ..‬ا رٌتنً‬
‫متت من زمان وال شفت هٌك شوفه !‪ٌ ..‬ارٌت متت وال عشت هٌك ٌوم !! ‪ ..‬آخ ‪ٌ ..‬ا ربً آخ ‪ ..‬لٌش ‪ ..‬لٌش‬
‫‪ ..‬لٌش ‪ ..‬؟؟‪.‬‬
‫‪104‬‬
‫تقدم ثبلثة من كبار السن إلى حٌث جلست العابلة فً منتصؾ المهجع ‪ ،‬أمسكوا باألب من تحت ابطٌه‬
‫وأنهضوه ‪ ،‬تنا وبوا على الحدٌث معه ٌقو ون عزٌمته ‪ٌ ،‬ذكرونه بضرورة اإلٌمان بحكمة هللا أمام أشد‬
‫المصابب هوال ‪ ،‬سحبوه بهدوء إلى فراشه ‪.‬‬
‫فً اللحظة التً جلس بها على الفراش قرقع مفتاح الباب ‪ ..‬انتفض األب واقفا ‪ ،‬أمسكه الرجال وثبتوه مكانه‬
‫ٌرجونه الهدوء ‪ ،‬لدى فنح الباب وقؾ جمٌع الناس فً المهجع ‪ ،‬سار األخوة الثبلث باتجاه الخروج وعناصر‬
‫الشرطة ٌصرخون طالبٌن منهم اإلسراع ‪ ..‬لكن عند وصولهم إلى الباب توقفوا والتفتوا ‪ ،‬توقفت نظراتهم‬
‫لثانٌتٌن أو ثبلث على والدهم‪ ،‬ثم خرجوا وأؼلق الباب وراءهم !‪.‬‬
‫أفلت األب نفسه من قبضة الرجال وركض برشاقة شاب عشرٌنً ٌداه ممدودتان إلى األمام اتجاه الباب ‪..‬‬
‫وهو ٌلهث ‪:‬‬
‫‪ -‬أوالدي ‪ٌ ..‬ا جماعة أوالدي ‪ ..‬ولك ٌا أسعد ‪ ..‬رجاع ‪ ..‬رجاع !!‪ ..‬ولك أكٌد فً ؼلط ‪ ..‬ولك ٌا أبنً رجاع‬
‫‪ ..‬خلٌنً أنا روح محلك !!‪.‬‬
‫اعترضه أبو حسٌن محتضنا اٌاه ‪ ،‬لؾ ٌدٌه علٌه بقوة ‪ ،‬وتعاون مع الرجال اآلخرٌن إلعادته إلى مكانه برفق‬
‫‪ ..‬اجلسوه وجلسوا حوله ٌواسونه وهو شاخص بؤنظاره إلى الباب ‪.‬‬
‫الثبلث ونسٌم ملتصق بالثقب ٌراقب ‪ٌ ،‬نشج ‪ٌ ،‬مسح دموعه التً لم تتوقؾ !‪.‬‬
‫ة‬ ‫منذ أن خرج األخوة‬
‫نهض األب من جدٌد ‪ ،‬حاول البعض منعه لكن أبو حسٌن أشار لهم بٌده أن ٌتركوه وأوعز إلى اثنٌن من‬
‫الشباب أن ٌقفوا قرب الباب تحسبا ‪ ..‬وعندما ابتعد األب عن المجموعة قال أبو حسٌن ‪:‬‬
‫‪ -‬اتركوه ‪ ..‬اتركوه ٌا جماعة ‪ ،‬قلبه محروق ‪ ..‬هللا ٌعٌنه وٌصبره ‪ ..‬اتركوه ٌعمل شو مابده ‪ ،‬بس ال تخلوه‬
‫ٌقرب على الباب ‪ ،‬مصٌبته كبٌرة وبدها جبال حتى تتحملها !‪ ..‬ال حول وال قوة إال باهلل ‪.‬‬
‫أخذ األب ٌسٌر سٌرا سرٌعا وسط المهجع ‪ ،‬من أوله إلى آخره ‪ٌ ،‬تمتم كبلما ؼٌر مفهوم ‪ ،‬ي إشر بٌدٌه فً‬
‫جمٌع االتجاهات ‪ ،‬وعندما ٌصل بمشٌته أمام فراشً كان ٌتلكؤ قلٌبل ‪ٌ ..‬نظر إلى نسٌم الملتصق بالثقب ‪ ،‬ثم‬
‫ٌعاود المشً ‪.‬‬
‫أبو حسٌن جلس إلى جانب نسٌم ٌسؤله عما ٌجري عند المشانق ‪ ،‬نسٌم ال ٌجٌب ‪ ،‬نظر أبو حسٌن إلًّ وكنت‬
‫جالسا خلؾ نسٌم كؤنه ٌطلب منً أن أتدخل ‪ ،‬وضعت ٌدي على كتؾ نسٌم وطلبت منه أن ٌتراجع قلٌبل لٌتٌح‬
‫ألبو حسٌن أن ٌنظر من الثقب ‪ ،‬لكن نسٌم لم ٌتزحزح وأزاح ٌدي عن كتفه بعصبٌة !‪ ..‬كانت ٌده ترتجؾ‪ ،‬فً‬
‫هذه اللحظة وقؾ األب أمام فراشً‪ ،‬نظر إلًّ ثم جثا على ركبتٌه أمامً‪ ،‬قال متضرعا ‪:‬‬
‫‪ -‬خلونً شوفهم ‪ ..‬من شان هللا ‪ ..‬من شان محمد ‪ٌ ..‬ا ناس خلونً شوؾ أوالدي ‪ ..‬خلونً ودعهم ‪.‬‬
‫أمسكه أبو حسٌن من ٌده ‪ ،‬انهضه ‪ ،‬ماشاه وسط المهجع طالبا منه أن ٌوكل أمره إلى هللا ‪:‬‬
‫‪ -‬أبكً ‪ ..‬أبكً ٌا حجً ابكً ‪ ..‬وكل هللا ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا أبو حسٌن ‪ٌ ..‬ا ابو حسٌن ‪ ..‬شو بدي أبكً ؟‪ ..‬دموع ؟‪ ..‬وإال دم ؟‪.‬‬
‫ى ‪ ..‬هللا اخذ ‪.‬‬ ‫‪ -‬هللا ٌصبرك ‪ ..‬وٌصبرنا ‪ ،‬إن هلل وإن إلٌه لراجعون‪ ..‬هللا أعط‬

‫‪105‬‬
‫بقً أبو حسٌن ٌسٌر مع األب أكثر من ساعة ‪ ،‬الجمٌع ٌسمعون الحدٌث ‪ ،‬شٌبا فشٌبا بدأ األب ٌتماسك أكثر‪،‬‬
‫إلى اللحظة التً أدار فٌها نسٌم رأسه ونظر إلى الداخل وقد استند بظهره إلى الحابط‪ ،‬بدا متهالكا ونظرته‬
‫زابؽة ال تعبر عن شًء ‪ ،‬عنها عرؾ الجمٌع أن األمر قد انتهى ‪.‬‬
‫أسرعت بؤؼبلق الثقب أمام نظرات األب الذي توقؾ عن المشً وهو ٌنظر إلى نسٌم نظرة هلع ‪ ،‬ثم وضع ٌده‬
‫وصاح بصوت حارق ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا ولداه ‪!!..‬‬
‫انهار أرضا بٌن ٌدي ابو حسٌن ‪ ،‬تعاون بعض الشباب لنقله إلى الفراش ‪.‬‬
‫بعد قلٌل دار أبو حسٌن على الجمٌع فً المهجع عارضا ًال علٌهم أداء صبلة الجنازة جماعٌا وعلنٌا !!‪.‬‬
‫كانت هذه الفكرة فً وقت آخر ستبدو ضربا من الجنون ‪،‬وكانت ستلقى معارضة شدٌدة من الكثٌر ‪ ،‬لكن فً‬
‫هذه اللحظة أٌدها ووافق علٌها الجمٌع دون استثناء ‪.‬‬
‫ألول مرة منذ وجودي هنا الذي مضى علٌه أكثر من أحد عشر عاما ‪ ،‬انتظم أكثر من ثبلثمابة شخص فً‬
‫المهجع وصلوا عبلنٌة صبلة واحدة !!‪.‬‬
‫وقفت معهم فً الصؾ األخٌر إلى جانب نسٌم وأبو حسٌن الذي نظر إلًّ متعجبا مستؽربا !‪ ..‬و" صلٌت " ‪.‬‬
‫عاد الجمٌع إلى أماكنهم ‪ٌ ،‬تمتمون باألدعٌة ‪ ،‬الشعور بالحزن طاغ ‪ ،‬لكن بعد هذه الصبلة الجماعٌة والعلنٌة‬
‫خالط الحزن قلٌل من الرضا عن الذات ‪ ..‬شعور ؼٌر مربً باألنصار ‪. !..‬‬
‫جلس نسٌم على فراشه بعد الصبلة ‪ ،‬ومنذ تلك اللحظة وحتى اآلن ‪ ،‬لم ٌتكلم أبدا ‪ ..‬ولم ٌؤكل البتة !‪.‬‬
‫‪ 1‬آب‬
‫الٌوم قلعت ضرسٌن من أضراس العقل ‪ ،‬تخلصت من أسو أ األشٌاء التً ٌمكن أن ٌتعرض لها السجٌن هنا‬
‫" آالم األسنان " ‪.‬‬
‫إن أبً بعقلٌته العسكرٌة الصارمة اكسبنا بعض العادات ‪ ،‬فً البداٌة تكون قسراًال ‪ ،‬ولكن مع األٌام تصبح عادة‬
‫ال نستطٌع التخلً عنها ‪ ،‬من هذه العادات تنظٌؾ األسنان بالفرشاة ثبلث مرات ٌومٌا ًال‪ ،‬وقد أدمنت هذه العادة‬
‫إلى درجة أنه كان ٌستحٌل علً النوم مهما كنت تعبا ًال إذا لم أنظؾ أسنانً بالفرش ا ة قبل النوم ‪ ،‬و اآلن مضى‬
‫سنوات طوٌلة لم أر فٌها أٌة فرشاة ‪ ،‬وألنه حال الجمٌع هنا فمن الطبٌعً أن تتخرب األسنان وتبدأ المعاناة ‪،‬‬
‫فآالم األسنان هً األسوء بٌن كل ما تعرضنا له ‪ ،‬أسوء من التعذٌب و الموت و اإلعدام فهذه كلها آنٌة ‪..‬‬
‫لحظٌة ‪ ،‬أم ألم األسنان فٌبقى مبلزما ًال اإلنسان فً اللٌل و النهار ٌمنعه من النوم وال ٌتركه ٌهدأ لحظة واحدة ‪.‬‬
‫رؼم أن أطباء األسنان من السجناء قد تدخلوا ‪ ،‬ومع نمو الحاجة طوروا آلٌاتهم ووسابلهم ‪ ،‬لكنهم لم ٌكونوا‬
‫ٌملكون إال عبلجا ًال واحداًال وهو القلع !‪.‬‬
‫معروؾ كم هو مإلم قلع األسنان عند الطبٌب رؼم التخدٌر ورؼم األدوات التً ٌملكها الطبٌب ٌبقى القلع‬
‫مإلما ًال ومكروها ًال ‪ ،‬أما هنا فبل تخدٌر ‪ ..‬وال وسابل قلع مطلقا ًال !‪.‬‬
‫كل ما قام به أطباء األسنان هو أنهم جدلوا خٌطا ًال متٌنا ًال من الخٌوط التركٌبٌة الرفٌعة ( الناٌلون ) و الشًء‬
‫الثانً الذي ٌقومون به هو تحدٌد السن او الضرس المخرب الواجب قلعه ‪.‬‬
‫‪106‬‬
‫فً المهجع مجموعة تسمى ( تحببا ًال ) مجموعة البراعم ‪ ،‬وهً مإلفة من ثمانٌة أشخاص أو ثمانٌة عمالقة ‪..‬‬
‫أجساد ضخمة ‪ ،‬طوال القامة ‪ ،‬عضبلت مفتولة ‪ ،‬وهم ٌشكلون مجموعة طعام واحدة وبالطبع ٌنالون حصة‬
‫مضاعفة من الطعام ‪.‬‬
‫بعد أن ٌحدد الطبٌب الضرس الواجب قلعه ٌؤتً دور مجموعة البراعم ‪ٌ ،‬ربط أحدهم الضرس الخرب بالخٌط‬
‫المتٌن بٌنما برعم آخر ٌثبت رأس المرٌض بكلتا ٌدٌه ‪ ،‬فٌجذب األول الخٌط بقوة ‪ ،‬ونادراًال ما احتاج األمر إلى‬
‫أكثر من شدة واحدة لٌخرج الضرس معلقا ًال بطرؾ الخٌط ‪ ،‬أنا لم أخلع أضراسً بهذه الطرٌقة ‪.‬‬
‫تحسن موضوع الطبابة فً السجن الصحراوي منذ عدة شهور ‪ ،‬فلقد دار المساعد على مهاجع السجن وأخبر‬
‫الجمٌع أن من ٌرٌد أن ٌقلع سنا ًال أو ضرسا ًال فبإمكانه فعل ذلك عند طبٌب األسنان التابع للسجن ‪ ،‬كذلك المرضى‬
‫باألمراض العادٌة ٌستطٌعون أن ٌراجعوا طبٌب السجن لشراء األدوٌة التً ٌحتاجون ‪.‬‬
‫بطًا ًال ‪ ،‬وكان هذا طبٌعٌا ًال فلقد قل عدد القادمٌن الجدد إلى‬
‫هذا التحسن بدأ من سنتٌن أو ثبلث ‪ ،‬وكان تدر يجٌا ًال ب‬
‫السجن ‪ ،‬فبعد أن كانت الدفعات تعد بالمبات اسبوعٌا ًال أخذت تعد بالعشرات ‪ ،‬ثم قلت أكثر ‪ ..‬فؤكثر ‪ ،‬تباعد‬
‫مرات مجًء الهٌلوكوبتر وبالتالً المحاكمات و اإلعدامات ‪ ،‬خؾ التوتر و الشحن فً نفوس عناصر الشرطة‬
‫‪ ،‬قلت الحاالت التً ٌكون فٌها الضرب للضرب و القتل للقتل ‪ ،‬أصبح للقتل او الضرب سبب على الؽالب‬
‫كالصبلة مثبلًال ‪ ،‬أو أن ٌرى السجٌن فاتحا ًال عٌنٌه اثناء التنفس ‪.‬‬
‫الثبلث‬
‫ة‬ ‫أما نسٌم فقد ساء وضعه كثٌراًال ‪ ،‬بقً صابما ًال عن الطعام و الكبلم مدة خمسة أٌام كاملة بعد إعدام اإلخوة‬
‫‪ ،‬حٌنها تعاونا أنا وأبو حسٌن على إقناعه بؤن ٌتناول قلٌبل من الطعام ‪ ،‬رؼم ذلك دخل فً حالة من االكتباب‬
‫الحاد ‪ ،‬عزوؾ عن الكبلم ‪ ،‬لم ٌعد يلعب الشطرنج ‪ ،‬وتوقؾ عن األعمال الفنٌة التً كان ٌشكلها من العجٌن ‪.‬‬
‫اًال‬
‫جالس إلى جانبً وهو ملتزم الصمت ‪ ،‬التفت إلً ببطء وقال بالفرنسٌة ‪:‬‬ ‫بعد حوالً عشرة اٌام كان‬
‫‪ -‬أٌن ٌدفنون جثث الذٌن ٌعدمون أو ٌقتلون ؟‬
‫‪ -‬ال أعرؾ ‪ ..‬وال أعتقد أن أحداًال من السجناء ٌعرؾ !‪.‬‬
‫‪ -‬حسب رأٌك ‪ ...‬هل تكون جثث سعٌد وسعد و أسعد قد تحللت ؟‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا أخً ‪ٌ ..‬ا نسٌم ‪ ..‬دعك من هذه األفكار السوداء ‪.‬‬
‫‪ -‬من المإكد أن الشرطة تحفر حفرة كبٌرة ثم تفرغ فٌها كل هذه الجثث وتهٌل علٌها التراب ‪.‬‬
‫‪ -‬نسٌم ارجوك ‪ ..‬أرجوك ٌكفً كبلما ًال بهذا الموضوع ‪.‬‬
‫‪ -‬الشك أن الدٌدان تنهش اآلن لحم األخوة الثبلثة ‪ ..‬دٌدان فً العٌنٌن ‪ ..‬دٌدان فً البطن ‪ ..‬دٌدان فً الفم‬
‫‪ ..‬الدٌدان تخرج من فتحتً األنؾ ‪ ..‬دٌدان ‪ ..‬دٌدان ‪.‬‬
‫‪ -‬نسٌم ‪ٌ ..‬كفً ‪ ..‬قلت لك ٌكفً ‪.‬‬
‫بعدها صمت وؼرق فً أفكاره ‪ ،‬با ءت كل محاوالتً إلخراجه من صمته بالفشل ‪ٌ ،‬ظل صامتا ًال أٌاما ًال عدٌدة ‪،‬‬
‫وعندما ٌتكلم ٌبدأ بطرح األسبلة الكبٌرة ‪:‬‬
‫ما هً الحٌاة ؟ ‪.‬‬ ‫‪-‬‬

‫‪107‬‬
‫‪ -‬ما هً الؽاٌة من هذه الحٌاة ؟ ‪ ..‬هل من المعقول أن تكون الحٌاة ببل هدؾ ؟‪ ..‬هل من المعقول أن هذه‬
‫الحٌاة من صنع هللا ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬ماذا ٌستفٌد هللا من خلق شخص مثل أسعد ؟‪ ..‬أتى به إلى هذه الحٌاة ‪ ،‬تعذب كثٌراًال ثم أعدم ‪ ..‬مات وهو‬
‫الٌزال فً أول حٌاته !! ‪ ...‬حتى أنه لم ٌؤخذ الوقت الكافً لٌثبت إن كان رجبلًال صالحا ًال أم طالحا ًال ؟!‪.‬‬
‫الؽرٌب أن كل تساإالته وأحادٌثه حول هذا الموضوع كانت باللؽة الفرنسٌة !‪ ،‬كان احساسً اقرب إلى‬
‫الفجٌعة ‪ ،‬هو ٌؽوص فً كآبته ومتاهاته وأنا أؼوص أكثر فؤكثر فً الحزن و األلم علٌه ‪.‬‬
‫بقً على هذا المنوال حوالً الشهرٌن ‪ ،‬وذات صباح ‪ ،‬فتح عناصر الشرطة باب المهجع ‪ ،‬قبل أن ٌتموا فتحه‬
‫كالعادة قفز نسٌم كنابض مضؽوط تم افبلته ‪ ،‬بؤقل من ثانٌة اصبح خارج المهجع بعد أن رفس الباب بقدمه‬
‫مكمبلًال فتحه !‪.‬‬
‫فوجىء عناصر الشرطة و البلدٌات ألول وهلة ‪ ،‬ولم ٌتخلصوا من وقع المفاجؤة األولى حتى فاجؤهم ثانٌة‬
‫بالهجوم علٌهم ‪..‬‬
‫ي ٌتحرك وٌصرخ صراخا ًال وحشٌا ًال كجمل هابج ‪،‬‬
‫الباب مفتوح ونحن نراقب ما ٌحدث بالساحة ‪ ،‬كان نس م‬
‫عاصر الشرطة و البلدٌات أقل من عشرة ‪ ..‬وذهلت ‪ ..‬ما هذه القوة الهرقلٌة التً أظهرها نسٌم ؟‪ ..‬أٌن تعلم‬
‫هذه الحركات القتالٌة ؟!‪ٌ ..‬هاجم أحدهم ‪ٌ ،‬قفز أمامه عالٌا ًال ثم ٌهوي بسٌؾ كفه على رقبته أو على أنفه فٌلقٌه‬
‫أرضا ًال !!‪ ..‬عنصران من الشرطة وواحد من البلدٌات ألقاهم أرضا ًال خبلل أقل من دقٌقة !! البعض من عناصر‬
‫الشرطة و البلدٌات ابتعدوا مسرعٌن ‪ ..‬فروا ‪ ..‬البعض اآلخر هجم على نسٌم لئلمساك به ‪ ،‬عبل الصٌاح و‬
‫الصراخ فً الساحة ‪ ،‬أطل الحراس الموجودون على األسطحة ‪ ،‬سرعان ما أشرعوا البنادق ولقموها أخذٌن‬
‫وضعٌة الرامً ‪ ،‬وجهوا بنادقهم اتجاه نسٌم ‪ ..‬وهبط قلبً بٌن قدمً ‪ ..‬هل سٌطلقون النار علٌه ؟‪ ..‬لكنه ملتحم‬
‫مع الشرطة ‪.‬‬
‫أحد الرقباء هجم علٌه من الخلؾ وأمسكه من رقبته محاوالًال إٌقاعه على األرض لتثبٌته ‪ ،‬تشجع باقً العناصر‬
‫فهجموا علٌه ‪ ،‬لكن نسٌم أخذ ٌدور حول نفسه بسرعة والرقٌب معلق برقبته من الخلؾ ‪ ،‬دار عدة دورات‬
‫تزداد سرعتها مع كل دورة ‪ ..‬ارتفعت قدما الرقٌب عن األرض وأخذ ٌدور مع دوران جسم نسٌم ‪ ،‬توقؾ‬
‫نسٌم فجؤة وجذب الرقٌب فؤلقاه أرضا ًال !! ‪.‬‬
‫فتح باب الساحة الحدٌدٌة األسود وأخذ عناصر الشرطة ٌتدفقون ‪ ،‬العشرات منهم أحاطوا بنسٌم لدرجة أننا لم‬
‫نعد نستطٌع أن نراه ‪ ،‬مع هدوء حركتهم تؤكدنا أنهم قد تمكنوا منه ‪.‬‬
‫صاح احد الرقباء ‪:‬‬
‫‪ -‬امسكوه ‪ ..‬ال تضربوه ‪ ..‬مدٌر السجن جاي لهون ‪.‬‬
‫حضر مدٌر السجن ٌحٌط به المساعد وعدد من الرقباء و الشرطة ‪ ،‬أربعٌنً طوٌل القامة ‪ ،‬بمشٌة هادبة تقدم‬
‫حٌث نسٌم ملقى على األرض ‪.‬‬
‫باب مهجعنا الزال مفتوحا ًال ‪ ،‬نراقب ما ٌحدث دون أن نلتفت برإوسنا ‪ ،‬طلب مدٌر السجن إحضار نسٌم أمامه‬
‫‪ ،‬انفض جمع الشرطة من حول نسٌم واوقفه على قدمٌه عنصران ‪ ،‬وفجاة انتفض وأفلت نفسه من قبضتٌهما‬
‫‪108‬‬
‫وهو ٌصرخ بكبلم ؼٌر مفهوم متقدما ًال اتجاه مدٌر السجن ‪ ،‬خطوة أو خطوت ين وهجمت علٌه مجموعة من‬
‫الشرطة أحاطوا به جٌداًال وثبتوه ‪.‬‬
‫تحادث مدٌر السجن مع المساعد و الرقباء بكبلم لم نسمعه ‪ ،‬أحد الرقباء أشار إلى مدٌر السجن اتجاه مهجعنا‬
‫فتقدم المدٌر من الباب معه المساعد وبعض الرقباء ‪ ،‬طلب أبو حسٌن و تكلم معه ‪ ،‬طلب طبٌبا ًال من المهجع‬
‫وسؤله ‪ ،‬تشاور قلًالًال مع طبٌب السجن ‪ ،‬عاد وطلب طبٌب المهجع ساببلًال إٌاه عن الدواء الذي ٌرٌده ‪ ،‬ثم ذهب‬
‫بعد أن أمر بإعادة نسٌم إلى المهجع دون إزعاج ‪.‬‬
‫كان تصرؾ مدٌر السجن أقرب إلى التفهم و الود‪ ،‬أقرب إلى تصرؾ الراعً ‪ ،‬هذا األمر المستؽرب ‪ ..‬أطلق‬
‫تكهنات وتحلٌبلت وتؤوٌبلت لم تنته ‪.‬‬
‫ًال‬
‫جٌبة وذهابا ًال وعلى دفعات ‪،‬‬ ‫بعد إؼبلق الباب بقً نسٌم لمدة ساعتٌن تقرٌبا ًال ٌمشً مشٌا ًال سرٌعا ًال وسط المهجع‬
‫كل دفعة ما ٌقارب الخمسة دقابق ‪ٌ ،‬قؾ بعدها وٌبدأ الدبكة وهو ٌؽنً ‪:‬‬
‫بًّ بًّ الؽربة الوطن حنونا‬ ‫على دلعونا على دلعونا‬
‫ٌعاود المشً السرٌع بعدها ‪ ..‬لم ٌكن ٌنظر إلى أي شخص وال إلى أي مكان ! فً المشً أو الدبكة ‪ٌ ،‬نظر إلى‬
‫نقطة محددة أمامه ال ٌحول بصره عنها !‪.‬‬
‫بعد هاتٌن الساعتٌن فتحت النافذة الصؽٌرة فً الباب ( الطبلقة ) ‪ ،‬نودي على ربٌس المهجع ‪ ،‬بحذر شدٌد‬
‫أعطى الرقٌب ثبلث علب دواء ألبو حسٌن قاببلًال ‪:‬‬
‫‪ -‬هدول ‪ ..‬دواء المجنون !‪.‬‬
‫كان نسٌم لحظتها قبالة الباب تماما ًال ‪ ،‬سمع العبارة التً قالها الرقٌب ‪ ،‬انتفض وانطلق كالسهم اتجاه الباب ‪،‬‬
‫شاهده الرقٌب فً انطبلقته فتراجع إلى الوراء عفوٌا ًال رؼم الباب المؽلق ‪ ..‬وصل نسٌم إلى الباب ‪ ..‬أخرج ٌده‬
‫من الطبلقة ٌحاول االمساك بالرقٌب وهو ٌصرخ ‪:‬‬
‫‪ -‬المجنون ؟!‪ ..‬انت المجنون ولك كلب !‪ ...‬أبوك المجنون ‪ ....‬امك المجنونة ‪ ...‬ولك ٌا حٌوان ‪ ....‬كلكم‬
‫مجانٌن ‪.‬‬
‫من الخارج سمعت صوت الرقٌب ٌصرخ بالجندي ‪:‬‬
‫‪ -‬س ّكر ‪ ..‬س ّكر ‪ ..‬العمى ‪ ..‬ناقصنا مجانٌن ؟!‪.‬‬
‫ألول مرة منذ ما ٌقارب االثنً عشر عاما ًال أرى الشرطة خابفٌن ‪ ،‬فروا من أمام نسٌم فً الساحة ‪ ،‬رأٌتهم‬
‫مذعورٌن !‪ ،‬ألول مرة أراهم ٌتلقون الشتابم وال ٌطلقونها !‪ٌ ..‬تلقونها وال ٌردون !‪ ..‬وتساءلت ‪:‬‬
‫( هل تحتاج هذه القوة الطاؼٌة التً تمثلها الشرطة إلى الجنون ‪ .....‬إلى مواجهة مجنونة ‪ ....‬حتى تقؾ عند‬
‫حدها ؟ ! ) ‪.‬‬
‫رفض نسٌم تناول الدواء من الطبٌب ‪ ،‬وتشاور هذا مع أبو حسٌن بعد أن شرح له أن أي مرٌض بهذه الحالة‬
‫ئه‬ ‫ٌرفض تناول الدواء وٌجب إجباره على ابتبلع الحبوب ‪ ،‬وطلب منه االستعانة بمجموعة البراعم إلعطا‬
‫الدواء بالقوة ‪ ،‬فالمرٌض فً هكذا حاالت ٌمتلك قوة هابلة ؼٌر طبٌعٌة وٌحتاج إلى أربعة أو خمسة أشخاص‬
‫حتى ٌستطٌعوا إمساكه وإجباره على ابتبلع الحبوب !‪.‬‬
‫‪109‬‬
‫قبل الظهر تناول الدواء ‪ ،‬نام على إثرها نوما ًال عمٌقا ًال ‪ ،‬استٌقظ بعد منتصؾ اللٌل وكنت اراقبه ‪ ،‬ابتسم لً‬
‫ابتسامة واهنة دون أن ٌتحرك من مكانه ‪ ،‬قال لً ‪:‬‬
‫‪ -‬كٌفك ‪ ...‬كٌؾ أحوالك ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬أنا ممتاز ‪ ..‬انت كٌؾ أحوالك ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬ماشً الحال ‪ ..‬بس نعسان ‪ ..‬بدي نام ‪.‬‬
‫نام بعدها إلى الصباح وعندما استٌقظ تصرؾ تصرفا ًال طبٌعٌا ًال كما لو أنه لم ٌمر بؤٌة مشكلة أو ماشابه ‪ ،‬كان‬
‫هذا رأي الجمٌع ‪ ...‬أما أنا فقد الحظت الكثٌر من التؽٌرات الطفٌفة و التً هً بنفس الوقت لها دالالتها‬
‫العمٌقة ‪ ،‬هذه المبلحظات تكونت بمرور األٌام و األسابٌع التً تلت ‪ ،‬أصبح هناك ابتسامة دابمة معلقة على‬
‫شفتٌه ‪ ،‬هً ابتسامة مزٌفة أو أنها ممزوجة بحزن دفٌن فً أعماق النفس ‪ ،‬فقد نسٌم القدرة على الدهشة التً‬
‫كانت من أهم سمات شخصٌته ‪ ،‬لم ٌعد ٌسخط على ما ٌعجبه واستمر بإضرابه عن العمل فً العجٌن ‪.‬‬
‫أن ال أنسى أبداًال‬ ‫أوكل لً الطبٌب بصفتً صدٌقه وجاره أمر إعطا ئه الدواء بانتظام ‪ ،‬مشدداًال على أنه ٌجب‬
‫مواعٌده ‪ ،‬ألن أي انقطاع عن تناوله سٌإدي حتما ًال إلى عودة حالة الهٌاج الشدٌد والعدوانٌة !‪.‬‬
‫بقٌت عبلقتنا الثنابٌة بنفس الحمٌمٌة ‪ ،‬استؤنفنا حٌاتنا الٌومٌة المشتركة كالسابق ‪ ،‬ومرت األٌام لكنه لم ٌتطرق‬
‫الثبلث لم ٌعد إلى ذكره أبداًال ‪.‬‬
‫ة‬ ‫بحدٌثه وال مرة إلى ما حدث ‪ ،‬حتى موضوع إعدام اإلخوة‬
‫مشاعري الداخلٌة اتجاهه هً هً لم تتؽٌر ‪ ،‬لكن احساسً ٌقول ‪:‬‬
‫شًا ًال ما داخل نسٌم ‪ ...‬قد مات " ‪.‬‬
‫" ان هناك ب‬
‫وكنت حزٌنا ًال جداًال لموت هذا الشًء ‪.‬‬
‫‪ 25‬أيلول‬
‫الؽبار ٌمؤل األجواء ‪.‬‬
‫بعد ستة أشهر أو سبعة سؤتم عامً الثانً عشر فً السجن ‪ ،‬لقد عدت إلى عد األٌام والشهور وهذا فً عرؾ‬
‫السجناء داللة سوء ‪ ،‬لكن أال ٌحق لً أن أتسؤل إلى متى ؟‪.‬‬
‫البعض هنا سبقونً بسنوات ‪ ..‬وال زالوا ! اذا كان األطفال الذٌن حكمتهم المحكمة المٌدانٌة بالبراءة ‪ ..‬ال‬
‫زالوا ٌقٌمون فً مهجع ٌسمٌه عناصر الشرطة مهجع البراءة ‪ ،‬فهل ٌؤمل شخص مثلً ‪ ..‬منسًّ ‪ ،‬مهمل ‪ ،‬ال‬
‫ٌعرؾ حتى لماذا هو هنا ‪ ..‬أن ٌخرج من هذا الجحٌم ؟ ‪ ..‬هل الطرٌق إلى هذا السجن ذو اتجاه واحد فقط ؟‬
‫هل العبارة التً ٌكررها السجناء وأكاد أسمعها ٌومٌا بؤن " الداخل مفقود والخارج مولود " صحٌحة ؟ لم أر‬
‫أي شخص دخل هذا السجن ٌخرج منه ! ‪.‬‬
‫فمتى ‪ ..‬متى ٌحٌن موعد الخبلص ؟‪ ..‬لست أدري ‪ ،‬ومعها ‪ ..‬إما العجز الكامل واالستسبلم لؤلقدار أو ‪..‬‬
‫االنتحار والخبلص من هذا العذاب الٌومً الذي ٌبدو ببل نهاٌة ‪.‬‬
‫وتجٌش نفسً بالؽضب ‪.‬‬
‫************‬

‫‪110‬‬
‫العجاج ‪ ،‬أو كما ٌسمٌه البعض " الطوز " ‪ٌ ..‬ثورهنا فً هذه الصحراء مرتٌن أو ثبلث مرات كل عام ‪ ،‬وفً‬
‫سنوات القحط قد ٌزٌد عن ذلك مرتٌن أو ثبلثة ‪ ،‬تثور العواصؾ الرملٌة فتمؤل األجواء بالؽبار وٌستمر ذلك‬
‫ٌوم اًال أو ٌوم ين أو ثبلثة ‪ ،‬سواء استمر هبوب الرٌح أم توقؾ فإن الؽبار ٌبقى معلقا فً الهواء‪ ،‬نتنفس الؽبار ‪،‬‬
‫األنؾ ‪ ..‬الفم ‪ ..‬العٌنان ‪ ..‬تمتلًء كلها بالؽبار ‪ ،‬ننام والؽبار ما زال معلقا فوقنا وحولنا وداخلنا ‪ ،‬نستٌقظ فنجد‬
‫ان كل فتحات االنسان الموجودة فً الرأس قد امتؤلت ٌالتراب المسحوق الناعم‪ ،‬مٌاهنا ؼبار ‪ ..‬طعامنا ؼبار ‪.‬‬
‫منذ صباح أول البارحة ابتدأ هبوب الرٌاح واشتدت عند الظهٌرة ‪ ،‬اصبحت الرٌاح زوابع ‪ ،‬هذه الزوابع قذفت‬
‫من الشراقة التً فً السقؾ باالضافة إلى الؽبار ‪ ،‬مزق من أكٌاس ببلستٌكٌة والكثٌر من القش والعٌدان الجافة‬
‫الخفٌفة الوزن ‪ ..‬أشواك ‪ ..‬شتى النباتات الصحراوٌة الٌابسة ‪.‬‬
‫كل من لدٌه قطعة ثٌاب زابدة حاول لؾ رأسه بها ‪ ،‬الكثٌر من األشخاص لم ٌعد ٌظهر من وجوهم سوى‬
‫العٌنان ‪.‬‬
‫فجؤة قذفت الرٌح على القضبان الحدٌدٌة للشراقة صفحة كاملة من جرٌدة ‪ ..‬علقت هذه الصفحة بٌن القضبان‬
‫!‪.‬‬
‫أنظار جمٌع من فً المهجع تعلقت بهذه الجرٌدة العالقة بٌن القضبان فً السقؾ ‪ ،‬تهزها الرٌح وٌسمع الجمٌع‬
‫صوت خشخشتها ‪.‬‬
‫سمعت البعض ٌدعون وٌبتهلون إلى هللا ان ٌسقط الجرٌدة داخل المهجع وأال ٌجعلها تطٌر بعٌدا !‪.‬‬
‫فً األجواء الطبٌعٌة كنا نرى الحارس كل بضعة دقابق ‪ ،‬إما ان ٌطل ناظرا من الشراقة ‪ ،‬أو ٌمر من جانبها‬
‫فنراه أو نرى ظله ‪ ،‬حتى عندما ٌكون بعٌدا عن الشراقة فإننا نسمع وقع خطواته وهو ٌمشً على سطح‬
‫المهجع جٌبة وذهابا ‪،‬اآلن ال أثر للحارس ‪ٌ ،‬بدو أنه ٌلوذ بؤحد زواٌا السطح متقٌا الرٌاح والؽبار ‪.‬‬
‫كما تمنى الجمٌع تمنٌت أنا أٌضا أن تسقط الجرٌدة داخل المهجع ‪ ،‬منذ أن أصبحت فً بلدي لم أر حرفا واحدا‬
‫مطبوعا !‪ ،‬الجمٌع مثلً ‪ ..‬شوق حقٌقً لرإٌة األحرؾ المتبلصقة ‪ ،‬الكلمات المطبوعة!‪.‬‬
‫هذه جرٌدة ‪ ،‬وفً الجرٌدة أخبار ‪ ،‬ونحن منذ أكثر سنتٌن‪ ،‬تارٌخ قدوم آخر نزٌل إلى المهجع ‪ ،‬لم نسمع شٌبا‬
‫عما ٌدور خارج هذه الجدران األربعة ‪.‬‬
‫سمعت نسٌم ٌقول ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ارب ‪ٌ ..‬ارب ‪ ..‬ولك ٌاهلل انزلً ‪.‬‬
‫كان ٌخاطب الجرٌدة ‪ ،‬نظرت الٌه ‪ ،‬أنظاره معلقة بالجرٌدة عالٌا ‪.‬‬
‫الكثٌر من الناس وقؾ منتصبا ‪ ،‬الكثٌر أزاحوا عن وجوههم األقمشة التً تلثموا بها ‪ ،‬من لم ٌقؾ اعتدل فً‬
‫جلسته ‪ ،‬بعض من وقؾ مشى بشكل عفوي إلى تحت الشراقة ‪ ،‬الرأس مرفوع واألعٌن معلقة ‪ ..‬األنظار تتابع‬
‫تراقص الجرٌدة بٌن القضبان !‪.‬‬
‫واحد من الواقفٌن تحت الشراقة ‪ ،‬وهو من الفرقة الفدابٌة ‪ ،‬نظر إلى الناس وقال بصوت مسموع للجمٌع ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا شباب ‪ ..‬هرم ؟‪.‬‬
‫على أثر سإاله هذا قفز العدٌد وهم ٌقولون ‪:‬‬
‫‪111‬‬
‫‪ -‬هرم ‪ ..‬هرم ‪ ..‬هرم ! ‪.‬‬
‫لم تستؽرق عملٌة بناء الهرم البشري وانزال الجرٌدة أكثر من عشر ثوان تقرٌبا ‪ ،‬لكنها ثوان مرعبة ‪ ..‬خانقة‬
‫وحابسة لؤلنفاس !‪.‬‬
‫كان من الممكن أن تكلؾ العدٌد حٌاتهم ‪ ،‬لكنها مرت بسبلم ‪.‬‬
‫وأصبح لدٌنا جرٌدة !‪.‬‬
‫خاطب أبو حسٌن الفدابً الذي أنزل الجرٌدة وبلهجة سرٌعة ‪:‬‬
‫‪ -‬بسرعة ‪ ..‬بسرعة ‪ ..‬عـ المراحٌض ‪ ،‬اطوٌها ‪ ،‬خلً واحد ٌقرأها وٌحكٌنا شو فٌها أخبار ‪.‬‬
‫وركض الفدابً إلى المرحاض حامبل الجرٌدة ‪.‬‬
‫الفرحة عمت الجمٌع ‪ ،‬فرحت حقٌقٌة ‪ ،‬الكثٌر تصافحوا وتعانقوا مهنبٌن بعضهم بعض‪ ..‬إنه انتصار آخر !‪.‬‬
‫ا َ‬
‫لتفت نسٌم إلً بعد أن عانقنً ‪ ..‬قال ‪:‬‬
‫اقرأ " ؟ ‪.‬‬ ‫‪ -‬أنت تعرؾ أن أول كلمة نزلت من القرآن الكرٌم هً كلمة "‬
‫‪ -‬أعرؾ ‪ ....‬و أنت تعرؾ أن اإلنجٌل ٌبدأ بـــ " فً البدء كانت الكلمة " ؟‪.‬‬
‫‪ -‬أعرؾ ‪ ..‬بس ٌا مخرج السٌنما شو ٌق ول لك هذا الحدث ؟‬
‫‪ -‬ترٌد أحكً كبلم كبٌر ‪ ..‬مثل األفبلم و الرواٌات ؟ الحدث بٌقول ‪ :‬إن اإلنسان مستعد أن ٌضحً بحٌاته‬
‫فً سبٌل المعرفة ‪.‬‬
‫‪ -‬صح ‪ ..‬شاطر ‪.‬‬
‫وضحكنا كما لم نفعل منذ شهور ‪.‬‬
‫محتوٌات الجرٌد ة جاءت مخٌبة لآلمال قلٌبلًال ‪ ،‬الوجه األول من الصفحة هو صفة اإلعبلنات الرسمٌة ‪ ،‬و‬
‫الوجه الثانً هو الصفحة الرٌاضٌة و بها أخبار الدوري العام لكرة القدم !‪ .‬وهذه الصفحة أثارت زوبعة من‬
‫النقاشات لم تنته حتى اآلن ‪ ،‬فبما أن المهجع ٌضم اناسا ًال من جمٌع المحافظات ‪ ،‬ولذلك على ضوء األخبار‬
‫الرٌاضٌة الواردة فً الجرٌدة سرعان ما تكتلت جماهٌر كل نا ٍد من النوادي و أخذت تفاخر بمنجزات وتارٌخ‬
‫انتصارات النادي الذي تشجعه ‪.‬‬
‫حتى اإلعبلنات الرسمٌة أخذ الناس ٌقرإونها بعناٌة شدٌدة ‪ ..‬النهم إلى القراءة !‪ ،‬عٌن أبو حسٌن شخصا ًال لٌنظم‬
‫قراءة الجرٌدة بالدور من قبل الجمٌع ‪ ،‬أصبح للجرٌدة مسإول " اسماه البعض مازحٌن بــ وزٌر اإلعبلم " ‪،‬‬
‫وهو الذي ٌنظم دور قراءتها ‪ٌ ،‬نقلها من شخص آلخر وهو الذي ٌحدد الزمن لكل شخص ‪.‬‬
‫الرٌح هدأت تماما ًال الٌوم ‪ ،‬لكن الؽبار الزال معلقا ًال بالجو ‪ ،‬حتى داخل المهجع الؽبار ٌمؤل كل الفراؼات ‪.‬‬

‫************‬

‫‪112‬‬
‫فً الصباح أعاد الشرطة للمهجع شخصا ًال كان قد عوقب منذ شهر ‪ ،‬ضبطوه فً ساحة التنفس وعٌونه مفتوحة‬
‫‪ ،‬بعد أن جلدوه ونكلوا به أمامنا فٌما نحن ندور حول الساحة ‪ ،‬أمر المساعد بوضعه بالزنزانة اإلنفرادٌة فً‬
‫الساحة الخامسة ‪.‬‬
‫بعد أن دخل وما أن اطمؤن إلى أن الشرطة أؼلقوا الباب وذهبوا تنفس الصعداء ‪ ،‬أخذ ٌضحك ‪ ،‬جلس على‬
‫األرض ‪ ..‬وروى للجمٌع رحلة الشهر التً قضاها فً الساحة الخامسة ‪ ،‬بدأ حدٌثه بالقول ‪:‬‬
‫إنً راجع على بٌتً ‪ٌ ..‬ا اللــه ‪ ..‬قدٌش‬ ‫‪ -‬و هللا ٌا شباب اشتقت لكم ‪ ...‬وقت دخلت المهجع حسٌت‬
‫المهجع حلو !‪ٌ ..‬ا شباب جنة ‪ ..‬جنة ‪ ..‬نحن عاٌشٌن هون بالجنة ‪...‬‬
‫طفق ٌروي ‪ ..‬وٌحكً ٌروي ‪ ..‬وٌحكً !‪.‬‬
‫المرحاض داخل الزنزانة اإلنفرادٌة و حتى ٌؤمن أذى الجرذان أضطر أن ٌسد فتحة المرحاض بالخبز بعد أن‬
‫اًال‬
‫جرذان بحجم الخروؾ الصؽٌر !‬ ‫عجنه وجعل منه سدادة ‪ ،‬أقسم أن هناك‬
‫ثبلث مرات فً الٌوم حفلة تعذٌب أشبه ما تكون باالستقبال فً أول قدوم السجٌن إلى السجن ‪.‬‬
‫ٌوضع الطعام فً صحن قذر على بعد عشرة أمتار من باب الزنزانة ‪ٌ ،‬فتحون الباب ‪ٌ ...‬جب أن ٌخرج‬
‫أربع كما تسٌر الكبلب ‪ ..‬وأن ٌظل ٌنبح فً الذهاب ‪ ،‬وفً اإلٌاب بعد أن ٌحمل الصحن ‪..‬‬
‫ٍ‬ ‫السجٌن سابراًال على‬
‫خبلل كل هذا تكون الكرابٌج قد أكلت قطعا ًال من لحم ظهره !!‪.‬‬
‫النوم على االسمنت ‪ ..‬ال بطانٌات وال أؼطٌة وال أي شًء ‪.‬‬
‫كان ٌروي وٌضحك ‪ ..‬وجهه مشرق من الضحك ! ‪ (( ..‬ما الذي ٌضحكه ؟!)) ‪.‬‬
‫************‬

‫الؽبار ال زال معلقا ًال ‪.‬‬


‫رموش الناس أصبحت بٌضاء ‪ ،‬الشرطة متوترون لكن الرقابة ضعفت ‪ ،‬ضعفت من األعلى " الشراقة " ‪،‬‬
‫وضعفت من األسفل من األرض ‪.‬‬
‫سمعت حدٌثا ًال منذ ساعتٌن أثار اهتمامً والزلت أفكر فٌه ‪.‬‬
‫لدٌنا فً المهجع أربعة من البدو ‪ ،‬هم أمٌون ال ٌعرفون القراءة أو الكتابة ‪ ،‬مهنتهم الربٌسٌة رعً األؼنام و‬
‫الجمال ‪ ،‬عاشوا طوال حٌاتهم فً هذه الصحراء المترامٌة ٌتنقلون فً أرجابها من مكان آلخر طلبا ًال للمرعى و‬
‫الماء ‪ ،‬قبض علٌهم واعتقلوا وجًء بهم إلى السجن الصحراوي بتهمة مساعدة بعض المطلوبٌن على الفرار‬
‫إلى دولة مجاورة ‪ ،‬وعندما ٌسؤلون هنا عن ذلك ٌعبسون قلٌبلًال وٌجٌب كبٌرهم المدعو " شنٌور " ‪:‬‬
‫ام " أتوا " جماعة علٌنا ‪ ..‬و على عادة العرب‬ ‫‪ -‬و هللا ٌا أخوي ‪ ..‬تهمة باطلة ‪ ..‬نحن بدو بدٌرة هللا ‪ ..‬ج‬
‫‪ ..‬رحبنا بهم ‪ ،‬ضٌفناهم من المٌسور ‪ ،‬بعدٌن ٌا خوي سؤلونا عــ الدرب ‪ ..‬دلٌناهم ‪ ،‬هاي فٌها شًء ٌا خوي‬
‫؟! وبعدٌن ٌقولون لنا ‪ ..‬انتو عمبلء ‪ ..‬و انتو جواسٌس ! عجٌبة و هللا ٌا خوي ! عجٌبة ‪.‬‬

‫‪113‬‬
‫وحٌاة‬ ‫الٌوم بعد أن سرد شنٌور هذه القصة للمرة األلؾ تشعب الحدٌث كثٌراًال وكان كله منصبا ًال على البدو‬
‫الدكان ‪،‬‬ ‫البدو ‪ ،‬سؤله أحد أبناء المدٌنة من الذٌن لم ٌعرفوا فً حٌاتهم كلها سوى ثبلثة أمكنة " البٌت ‪،‬‬
‫الجامع " عما إذا كان صحٌحاًال ما ٌقال عن الكرم البدوي ‪ ،‬وعن أسبابه ومسبباته ‪ ،‬وختم سإاله قاببلًال بتعجب ‪:‬‬
‫‪ -‬وكٌؾ ٌا أخ شنٌور ‪ ..‬إذا اجاك ضٌؾ وما كان عندك ؼٌر ؼنمة وحدة ‪ ،‬صحٌح أنك تذبحها وتطبخها‬
‫لتقدمها له ؟‪ ..‬ولٌش هذا الشًء ؟ اٌه ‪ ..‬عمره وانشاء هللا ما بٌاكل ! ‪ ..‬انشاء هللا ٌؤكل سم ‪.‬‬
‫‪ -‬له ‪ ..‬له ‪ ..‬له ‪ٌ ..‬ا خوي ما ٌصٌر تحجً هٌج " تتكلم هكذا " ‪.‬‬
‫مضى شنٌور فً مداخلة طوٌلة ٌشرح وٌعلل وٌفسر ‪ ،‬كنت أنصت إلٌه قسراًال ألنه جالس بالقرب من فراشً ‪،‬‬
‫لكنه بعد قلٌل شد اهتمامً بفكرة !‪.‬‬
‫قال شٌنور ما معناه ‪:‬‬
‫‪ -‬أن للكرم البدوي أسباب اًال عدٌدة ‪ ،‬عدد عدة أسباب ‪ ،‬لكنه قال إن أهم االسباب هً أن البدوي ٌحب ضٌفه‬
‫‪ٌ ..‬عشقه !‪ ..‬وهذا بسبب أن البدوي ٌبقى أٌاما ًال وأسابٌعا ًال وشهوراًال ٌعٌش فً هذه البراري بٌن الكثبان الرملٌة و‬
‫األتربة و الؽبار فً وحدة مطلقة ‪ ،‬زوجته وأوالده ٌعتبرهم أقل شؤنا ًال من أن ٌجري حدٌث اًال معهم ‪ .‬لذلك وفً‬
‫حاالت كثٌرة نرى البدوي ٌحادث أؼنامه أو جماله !‪ٌ ..‬كون فً المرعى ال ٌسمعه أحد ‪ ،‬وألنه ٌحب أؼنامه‬
‫ة إلى األؼنام المشاؼبة ‪ ،‬و‬ ‫فإنه ٌجرى حدٌثا ًال معها ‪ ،‬وال بؤس أن تتخلل هذه الحدٌث بعض الشتابم الموجه‬
‫البدوي عندما ٌصل إلى درجة أن ٌجري حدٌثا ًال مع الؽنم ‪ٌ ..‬كون هذا دلٌبلًال إلى أن حاجته إلى األنس ‪ ،‬إلى‬
‫المإانسة ‪ ..‬إلى االجتماع مع أي انسان ‪ ،‬قد بلؽت مداها األقصى ‪ ،‬فً هذا الوقت إذا حضر الضٌؾ فسٌجد‬
‫ضل ما عنده من كل شًء‬‫حتما ًال شخصا ًال متلهفا ًال ٌؽدق علٌه الكثٌر الكثٌر من آٌات الترحٌب و المحبة ‪ٌ ،‬قدم له أؾ‬
‫‪ ..‬وهذا من حٌث ال ٌدري مكافؤة له على مجٌبه ‪ ،‬وإؼرا ًالء له للبقاء أطول مدة ممكنة ‪.‬‬
‫" ٌبدوا أن العزلة تعلم الحكمة ‪ ،‬هذا البدوي فٌلسوؾ حكٌم !‪ ..‬شكراًال لك ٌا شٌنور ‪ ،‬لقد أزلت من نفسً قلقا ًال‬
‫مبهما ًال كان ٌقض مضجعً ‪ ..‬قد كانت عزلتً فً المهجع أسو أ من عزلة أي بدوي فً الصحراء ‪ ،‬وفجؤة‬
‫اصبح نسٌم ضٌفً ‪ ،‬مع نسٌم جاء األنس و المإانسة ‪ ،‬فطبٌعً جداًال حسب شرح شٌنور أن تكون عواطفً‬
‫جٌاشة تجاهه " ‪.‬‬
‫التفت إلى نسٌم بابتسامة ود وحب ‪ ،‬أجابنً بابتسامة – مع االستمرار بتناول الدواء ٌصبح وضعه أقرب إلى‬
‫الطبٌعً – قلت له ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا راٌح اؼسل وجهً من آثار الؽبار ‪.‬‬
‫اكتفى بهز رأسه ‪.‬‬
‫‪ 17‬أيار ‪.‬‬
‫ال أدري كم كان الوقت ‪ ،‬أعتقد أنه بعد منتصؾ اللٌل ‪ ،‬نسٌم نابم إلى جانبً ‪ ،‬الدواء الذي ٌتناوله ٌجعله ٌنام‬
‫بعمق ‪ ،‬لم أكن قد نمت بعد ‪.‬‬

‫‪114‬‬
‫سمعت حركة فً الساحة ‪ ،‬جلست ‪ ،‬نوٌت أن أنظر من الثقب ألرى ما ٌفعلون ‪ ،‬قبل أن أمد ٌدي لفتح الثقب‬
‫عال ‪ ..‬لم أفهم ماذا ٌقول ‪ ،‬عاد لتكرار صراخه ‪ ،‬إنه ٌقول اسم اًال ثبلثٌا ًال ‪،‬‬
‫سمعت أحد الشرطة ٌصرخ بصوت ٍ‬
‫أنصت أكثر ‪ٌ ..‬صرخ ‪:‬‬
‫ه هذا االسم ؟‪.‬‬ ‫‪ٌ -‬ا مهاجع الساحة السادسة ‪ ..‬مٌن عند‬
‫وقال االسم الثبلثً مرة ثالثة ‪.‬‬
‫إنه اسمً !!‪.‬‬
‫ألجزاء من الثانٌة كنت أتساءل من هو صاحب هذا االسم ؟‪ ..‬وقعه لٌس ؼرٌبا ًال علً ‪ ..‬كؤننً سمعت هذا االسم‬
‫ٌوما ًال ما !! ‪ ..‬إنه اسمً ‪.‬‬
‫ما الذي ٌجري ؟ ما هذا ؟ ‪ ..‬لماذا ٌنادون اسمً ؟ أصابنً شًء أقرب إلى الببلهة ‪ ،‬اتلفت حولً مستؽربا ًال‬
‫متساببلًال ! ‪.‬‬
‫صاح أبو حسٌن وكان مستٌقظا ًال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا شباب ‪ ..‬فً حدا عندنا بهـ االسم ؟‪.‬‬
‫رفعت سبابتً عالٌا ًال كما ٌفعل التبلمٌذ الصؽار ‪ ،‬رفعتها فً وجه أبو حسٌن دون أن أنطق حرفا ًال ‪.‬‬
‫وعاد الشرطً ٌصرخ باالسم مرة أخرى ‪.‬‬
‫انتقلت ببلهتً إلى أبو حسٌن ‪ ،‬فؽر فمه ‪ ،‬عٌناه متسعتان دهشة ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا االسم اسمك ؟‪.‬‬
‫هززت رأسً مومبا ًال باإلٌجاب ‪.‬‬
‫وبسرعة رمى أبو حسٌن جسده الثقٌل اتجاه الباب ‪ ،‬بدأ ٌدقه بسرعة وقوة وهو ٌصرخ ‪:‬‬
‫‪. /8‬‬ ‫‪ -‬هون ٌا سٌدي ‪ ..‬هون ‪ ..‬هذا االسم فً المهجع الجدٌد رقم ‪/‬‬
‫هدأ كل شًء‪ .‬فجؤة ‪ ،‬لم ٌعد ٌصرخ أحد ‪.‬‬
‫بعد دقٌقة أو أكثر فتح الباب ‪ ،‬وقؾ الرقٌب ومعه شرطٌان ‪ ،‬توجه إلى أبو حسٌن ساببلًال ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا اإلسم عندك ‪ٌ ..‬ا ربٌس المهجع ؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪ ..‬هذا هو ‪.‬‬
‫و أشار باصبعه اتجاهً ‪ ،‬اقترب الرقٌب منً ‪ ،‬نظر بعٌنً ؼاضبا ًال ‪ ،‬سؤل ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا اسمك ؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪.‬‬
‫رفع ٌده عالٌا ًال وبكل قوته هوى بباطن ٌده على خدي األٌمن ‪ ،‬دار جسدي كله ربع دوره ‪ ،‬بسرعة البرق ألحقها‬
‫بقؾٌده اعادتنً إلى الوضع الطبٌعً ‪ ،‬عادت النجوم لتتراقص أمام عٌناي ‪ ،‬قال‬
‫بلطمة على خدي األٌسر ا‬
‫ؼاضبا ًال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا جحش ‪ٌ ....‬ا ابن الكلب ‪ ....‬صار لنا ساعتٌن ندور علٌك ونصرخ ‪ ..‬لٌش ما عم تجاوب ٌا شرموط‬
‫‪ ..‬؟‬
‫‪115‬‬
‫سكت ‪.‬‬
‫مد ٌده ‪ ،‬وبقوة سحبنً من صدري لٌقذؾ بً خارج المهجع ‪ ،‬وأؼلق الباب ‪.‬‬

‫أُؼلق باب المهجع فً وجهً إلى األبد ‪.‬‬

‫ضربا ًال ‪ ..‬ركضا ًال ‪ ،‬الرقٌب وعنصرا الشرطة من الخلؾ ‪ٌ ،‬سوقونً أمامهم ‪ ،‬من الساحة السادسة ‪ ،‬إلى الساحة‬
‫صفر !‪ .‬ومنها إلى الباب الحدٌدي الصؽٌر ‪ ،‬أصبحت أمام السجن ‪ ،‬حانت منً التفاتة صؽٌرة ‪ ،‬الزالت‬
‫المنحوتة الحجرٌة فً مكانها ‪:‬‬
‫" ولكم فً الحٌاة قصاص ٌا أولً األلباب "‬
‫منذ أكثر من اثنتي عشرة عاما ًال قرأت هذه المنحوته‪ ،‬ودخلت‪ .‬اآلن اقرأ هذه المنحوته وأخرج ‪ ،‬إلى أٌن ؟ ‪..‬‬
‫لست أدري !!‪.‬‬
‫ثبلثة رجال فً اللباس المدنً تقدموا منً ‪ ،‬أحدهم طوٌل جداًال ‪ٌ ،‬زٌدنً بما ٌقارب النصؾ متر ‪ ،‬تقدم منً‬
‫وفتح ورقة كانت مطوٌة فً ٌده وسؤل ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت فبلن ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪.‬‬
‫‪ -‬ابن فبلن وفبلنة ؟‬
‫‪ -‬نعم ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت كذا ‪ ...‬كذا ‪ ..‬نعم – أنت ‪..‬؟ ‪ ..‬نعم ‪.‬‬
‫التفت إلى رفٌقٌه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬هات الكلبشة ‪.‬‬
‫ناوله أحدهم الكلبشة ‪ ،‬الكلبشة االسبانٌة ‪.‬‬
‫مددت ٌدي إلى األمام ‪ ،‬البسهما الكلبشة ‪ ،‬طقطقة ناعمة ‪ ،‬أصبحت ٌداي مقٌدتٌن إلى األمام ‪ ،‬ثم وقع بعض‬
‫األوراق وسحبنً إلى مسافة خمسٌن متراًال ‪.‬‬
‫سٌارة تكسً " بٌجو فرنسٌة " ‪ ،‬السابق ٌجلس خلؾ المقود ‪ ،‬جلس الطوٌل إلى جانبه ‪ ،‬جلست بٌن االثنٌن‬
‫اآلخرٌن فً المقعد الخلفً ‪ ،‬انطلقت السٌارة فً عتمة اللٌل ‪ ،‬أنوارها تشق الظبلم شقا ًال ‪.‬‬
‫لم ٌتكلموا بشًء ‪ ،‬لم ٌضربونً أو ٌزعجونً ابداًال ‪ ،‬تعاملوا وكؤنً ؼٌر موجود معهم ‪ ،‬بعد قلٌل من انطبلقة‬
‫إنه سٌنام حوالً‬ ‫السٌارة سؤل الطوٌل عن الساعة فؤجابوه أنها الثانٌة و النصؾ بعد منتصؾ اللٌل ‪ ،‬قال‬
‫الساعة ‪.‬‬
‫بعد ساعة نام الجمٌع عداي و السابق الذي ٌنظر إلً بمرآة السٌارة على فترات متباعدة ‪ ،‬أؼمضت عٌونً‬
‫ألوهمه أننً نابم ‪ ،‬وتساءلت ‪:‬‬

‫‪116‬‬
‫‪ٌ -‬ا هل ترى ‪ ..‬إلى أٌن ؟ قلبت األمر من جمٌع الوجوه ‪ ،‬خرجت بنتٌجة انه مهما كان المكان الذي‬
‫سٌؤخذونً إلٌه فإنه حتما ًال سٌكون أفضل ‪.‬‬
‫ارتحت قلٌبلًال‪ ،‬فكرت بنسٌم ‪ ..‬ماذا سٌقول ‪ ،‬و ماذا سٌفعل عندما ٌستٌقظ صباحا ًال فبل ٌجدنً إلى جانبه ؟!‪..‬‬
‫اشتقت إلٌه ‪.‬‬
‫استرخٌت قلٌبلًال وكان ٌمكن أن أؼفوا ولكن فجؤة ترنحت السٌارة ‪ ،‬السابق أخذ ٌصٌح ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا لطٌؾ ‪ٌ ..‬ا ستار ‪ٌ ..‬ا لطٌؾ ‪.‬‬
‫استٌقظ الجمٌع وصرخوا ‪ ،‬لقد انفجر اإلطار الخلفً للسٌارة ‪ ،‬استطاع السابق بمهارة فابقة أن ٌسٌطر علٌها‬
‫بعد أن خرجت عن الطرٌق وتوؼلت فً رمال الصحراء ‪.‬‬
‫وصلنا العاصمة قبٌل الظهر ‪ ،‬استؽرق اصبلح اإلطار عدة ساعات ‪ ،‬فقد كنا فً الصحراء وأقرب نقطة إلٌنا‬
‫تبعد عشرات الكٌلومترات ‪.‬‬

‫شًا ًال فً الشوارع التً كنا نسٌر فٌها !‪ ..‬مدٌنتً التً ولدت فٌها وترعرعت وكنت‬
‫هذه مدٌنتً ‪ ..‬لم أعرؾ ب‬
‫أحسب نفسً ضلٌعا ًال فً معرفتها ‪ ،‬لم أعرؾ فً أي شارع نحن وال إلى أٌن نتجه !‪ ..‬لقد تؽٌرت إلى درجة‬
‫ٌصعب على من ؼاب عنها هذه المدة أن ٌعرفها ‪ ،‬إلى أن وصلنا إلى الساحة المركزٌة للمدٌنة ‪ ،‬ها أنا أعود‬
‫إلى مدٌنتً التً أعرفها ‪ ،‬هذه النوافٌر ‪ ..‬هً ‪ ..‬هً ‪ ..‬عندما كنت طفبلًال كان ٌطٌب لً أن أقؾ تحت رذاذها‬
‫المتطاٌر ‪ ..‬فؤشعر باإلنتعاش ‪ ،‬ومن هذه الساحة عرفت أن السٌارة تتجه نحو مركز المخابرات الذي حللت فٌه‬
‫لدى عودتً ‪.‬‬
‫خٌزران أٌوب التً تبدو لً اآلن كلعب األطفال أمام ما شاهدت‬
‫ة‬ ‫ترى هل مازال أبو رمزت و أٌوب هناك ؟ ‪..‬‬
‫وذقت ‪ ..‬هناك !‪.‬‬
‫السٌارة تتوقؾ عند اشارات المرور ‪ ،‬انظر إلى الناس ‪ ،‬اتفحص وجوههم ‪ ،‬ما هذه البلمباالة ‪ ..‬ترى كم واحداًال‬
‫منهم ٌعرؾ ماذا جرى وٌجري فً السجن الصحراوي ؟ ‪ ..‬ترى كم واحداًال منهم ٌهتم ؟ أهذا هو الشعب الذي‬
‫ٌتكلم عنه السٌاسٌون كثٌراًال ؟ ‪ٌ ..‬تؽنون به ‪ٌ ..‬مجدونه ‪ ..‬يإلهونه ! ‪ ...‬ولكن هل من المعقول أن هذا الشعب‬
‫العظٌم ال ٌعرؾ ماذا ٌجري فً بلده ؟! إذا لم ٌكن ٌعرؾ فتلك مصٌبة ‪ ،‬و إذا كان ٌعرؾ ولم ٌفعل شٌبا ًال لتؽًير‬
‫ذلك فالمصٌبة أعظم ‪ ،‬استنتجت أن هذا الشعب إما أن ٌكون مخدراًال ‪ ..‬أو أبل َه ! ‪ ...‬شعب من البلهاء ‪ ،‬هل‬
‫ٌعرؾ أحد من هذه الجموع ‪ ..‬هذا البقال ‪ ..‬هذه الفتاة التً تسٌر سعٌدة مبتسمة وهً تتؤبط حبٌبها ‪ ..‬من هو‬
‫نسٌم ؟ ‪ ...‬نسٌم الذي ٌقبع اآلن فً السجن الصحراوي ٌنتظر من ٌناوله دواءه ‪ ،‬نسٌم الذي جن ألنه لم ٌستطٌع‬
‫أن ٌتصالح مع هذا الواقع ‪.‬‬
‫انتبهت لنفسً ‪ ،‬مالً أفكر ؼاضبا ًال هكذا ! هل أصبحت سٌاسٌا ًال ؟ ‪ ...‬ابتسمت رؼما ًال عنً ‪ ،‬هل أتوقع أن ٌخرج‬
‫هذا الشعب فً مظاهرات عارمة للمطالبة بإطبلق سراحً من السجن ؟ ‪ ..‬من أنا ؟ ! ‪.‬‬
‫ٌا إلهً ما أكثر الناس ‪ ،‬أحدق فً الوجوه ‪ ،‬بٌتنا قرٌب من المكان الذي تتجه إلٌه السٌارة ‪ ،‬قد ٌحالفنً الحظ‬
‫فؤحظً بمشاهدة أمً أو أبً أو أحد أخوتً ‪ ،‬ال بل ٌكفً أي وجه أعرفه ‪.‬‬
‫‪117‬‬
‫انحرفت السٌارة عن الطرٌق الذي كنت أتوقعه و الذي ٌإدي إلى ذلك المبنى الكبٌب القرٌب من بٌتنا ‪ ،‬سارت‬
‫بإتجاه الجنوب الؽربً مخترقة المدٌنة من الشمال إلى الجنوب ‪ ،‬مررنا بمعالم كثٌرة أعرفها ‪ ،‬أحن إلٌها ‪ ،‬ها‬
‫هً الجامعة و الطبلب و الطالبات داخلٌن خارجٌن ‪ ،‬ال أذكر من حٌاتً إال أننً كنت طالبا ًال واآلن أمشً‬
‫سرٌعا ًال فً العقد الخامس من عمري ! ‪.‬‬
‫مبنىًال ضخم ‪ ،‬حراسات مشددة ‪ ،‬الدخول صعب ومعقد حتى على سٌارات األمن ‪ ،‬انتظرنا أكثر من عشر‬
‫دقابق ‪ ،‬اتصاالت واستفسارات ‪ ،‬سمحوا للسٌارة بتجاوز الحاجز ‪ ،‬دخلنا وأصبحنا أمام البناء ‪ ،‬أنزلونً أمام‬
‫باب زجاجً عرٌض ‪ ،‬الببلط ٌلمع ‪ ،‬كل شًء ٌوحً بالنظافة و النظام ‪ ،‬ذهب الطوٌل حامبلًال معه األوراق ‪،‬‬
‫دخل أول ؼرفة إلى الٌسار ‪ ،‬لم ٌطلب منً أحد أن أؼمض عٌنً أو أنكس رأسً ‪ ،‬لكن رأسً نصؾ منكس‬
‫بحكم العادة ‪ ،‬عاد الطوٌل وقال لبلثنٌن اللذٌن معً بعد ان ناولهما األوراق ‪:‬‬
‫‪ -‬نزلوه عــ السجن ‪.‬‬
‫مباشرة قبالة المكان الذي كنا نقؾ فٌه ‪ ،‬نزلنا األدراج ‪ ..‬أدراج ‪ ..‬ثم نلؾ ثم أدراج ‪ ..‬باب عبارة عن قضبان‬
‫حدٌدٌة ‪ ،‬قفل ضخم ‪ٌ ،‬دقون الباب ‪ٌ ،‬حضر سجان سمٌن ٌحمل بٌده كدسة من المفاتٌح ‪ٌ ،‬عطوه األوراق ‪،‬‬
‫ٌفتح الباب ٌدفعونً إلى الداخل ‪ٌ ،‬ؽلق الباب ‪ٌ ،‬نصرؾ االثنان ‪ ..‬ثم ‪:‬‬
‫‪ -‬انتظر هون ‪ ..‬ال تتحرك ‪.‬‬
‫ٌذهب حامبلًال األوراق إلى ؼرفة فً صدر رواق طوٌل ‪ٌ ،‬ظهر على باب الؽرفة التً دخل إلٌها ‪ٌ ،‬نادٌنً ‪،‬‬
‫أذهب إلٌه ‪ٌ ،‬دخلنً الؽرفة فؤرى رجبلًال أشٌب وراء طاولة ٌنظر إلً ‪ٌ ،‬طلب منً أن أخرج من جٌوبً جمٌع‬
‫أؼراضً ‪.‬‬
‫‪ -‬ما عندي شًء ‪.‬‬
‫‪ -‬ابداًال ‪ ..‬أبداًال ؟ ما عندك مصاري ؟ ‪ ..‬ما عندك أؼراض ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬ما عندي شًء ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ..‬ما عندك هوٌة ؟ ‪ ..‬جواز سفر ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬ال ال ما عندي شًء ‪ ،‬جواز سفري وهوٌتً أخذوها منً فً السجن الصحراوي ‪.‬‬
‫‪ -‬ما رجعوها إلك ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬ال ما رجعوها سٌدي ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ..‬جسمك نظٌؾ ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬نظٌؾ سٌدي ‪ ..‬نظٌؾ ‪ ،‬البارحة تحممت ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬عنً ‪ ..‬ما عندك قمل ؟‬
‫‪ -‬قمل ؟ ‪ ..‬فً عندي قمل كثٌر ‪ ..‬سٌدي ‪.‬‬
‫‪ -‬وبتقول انك نظٌؾ !!‪.‬‬
‫‪ -‬التفت إلى السجان ‪ ،‬طلب منه أن ٌؤخذنً إلى الحمام وبعد أن أنتهً من الحمام أن ٌضعنً فً المنفردة‬
‫رقم ‪ ، /17/‬ثم قال لً ‪:‬‬
‫‪118‬‬
‫‪ -‬الحمام ساخن ‪ ،‬فوت عــ الحمام ‪ ..‬أول مرة اؼسل كل ثٌابك بشكل جٌد ‪ ،‬بعد ؼسٌل الثٌاب تحمم أنت ‪..‬‬
‫بــ تظل تتحمم وتؽسل الثٌاب حتى تحس أنه ما ظل عندك وال قملة ‪ ،‬أحسن ما تملً السجن هون قمل ‪.‬‬
‫‪ -‬حاضر سٌدي ‪.‬‬
‫أخذنً السجان ‪ ،‬أدخلنً الحمام الملًء بالبخار ‪ ،‬قبل أن ٌؽلق الباب علً قال ‪:‬‬
‫‪ -‬أعمل مثل ما قال لك المساعد ‪ ،‬بس تخلص دق الباب ‪ ..‬مفهوم ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪.‬‬
‫الحمام كان ممتعا ًال ‪ ،‬انتهٌت‪ ،‬دققت الباب‪ ،‬لملمت ثٌابً التً ؼسلتها جٌداًال ‪ ،‬لم أستطع أن أعصرها بقوة ألنها‬
‫مهتربة ‪ ،‬فتح السجان الباب ور آنً أحاول أن ألبس الثٌاب المؽسولة ‪ ،‬أمرنً أن أمشً قبل أن ألبس ‪ ..‬قلت له‬
‫ال ٌجوز ‪ ،‬صرخ ‪:‬‬
‫‪ -‬اطلع وال ‪ ..‬شو مانك رجّ ال ؟ ‪ ..‬بعدٌن على شو خاٌؾ ؟ !‪ ..‬على هــ الطٌز متل طٌز القرد !!‪.‬‬
‫سترت عورتً من األمام بثٌابً المبللة ‪ ،‬مشٌت خلؾ السجان ‪ ،‬وصلنا بابا ًال علٌه رقم ‪ /17 /‬ففتحه ‪ ،‬دفعنً ‪،‬‬
‫وأؼلق الباب ورابً ‪.‬‬
‫ها أنا لوحدي ‪ ..‬فً زنزانة مطلٌة باللون األخضر الفاتح ‪ ،‬البطانٌات على األرض ‪ ،‬الزنزانة واسعة قد تبلػ‬
‫أكثر من ثبلثة أمتار مربعة ‪ ،‬فً سقفها فتحتان اكتشفت أنهما للتهوٌة ‪ ،‬واحدة لسحب الهواء الفاسد و اآلخرى‬
‫لضخ الهواء الخارجً ‪.‬‬
‫نشرت ثٌابً المبللة على األرض ‪ ،‬جلست على البطانٌات ‪ ..‬تؽطٌت بواحدة ‪ ،‬الجو هنا حار ‪ ،‬بعد قلٌل تمددت‬
‫وؼفوت ‪.‬‬
‫استٌقظت على الصوت المرعب ‪ ،‬صوت قرقعة المفتاح الحدٌدي فً الباب الحدٌدي ‪ ،‬صرٌر الحدٌد بالحدٌد ‪،‬‬
‫جلست وأحكمت لؾ البطانٌة حول وسطً ‪ ،‬انفتح الباب وظهر رجبلن ‪ ،‬أحدهما كهل و األخر شاب ومعهما‬
‫سجل ‪ ،‬سؤلنً عن اسمً وعمري ‪ ،‬مكان والدتً ‪ ،‬كل المعلومات الخاصة المتعلقة بً سجلها ‪ ،‬أؼلق السجل‬
‫وسؤلنً عن سبب نومً عارٌا ًال ‪ ،‬أجبته بؤن الثٌاب الوحٌدة التً أملكها مؽسولة ‪ ..‬وهً لم تجؾ بعد ‪ ،‬التفت‬
‫إلى الشاب وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬روح عــ المهجع ‪ ،‬قول لهم أنه فً واحد سجٌن ما عنده ثٌاب ‪.‬‬
‫‪ -‬حاضر ‪.‬‬
‫أؼلق الباب ‪ ،‬بعد ربع ساعة عاد الشاب حامبلًال صرة من الثٌاب ‪ ،‬بٌجاما رٌاضٌة ‪ ،‬ؼٌار داخلً ‪ ..‬سلٌب‬
‫ُ‬
‫ظهرت بمظهر جدٌد ‪.‬‬ ‫ولٌس سرواالًال شرعٌا ًال ٌصل حد الركبة ‪ ،‬جمٌعها جدٌدة ‪..‬‬
‫‪ 20‬آيار ‪.‬‬
‫ثبلثة أٌام منذ أن ؼادرت السجن الصحراوي ومجٌبً إلى هنا لم أر خبللها أحداًال ؼٌر السجانٌن ‪ ،‬ثبلث مرات‬
‫فً الٌوم ٌفتحون الباب إلدخال الطعام ‪ ،‬وبعد ساعة تقرٌبا ًال من ادخال الطعام ٌفتحونه ثانٌة إلخراج الصحون و‬
‫للخروج للمرحاض و المؽاسل – ٌسمون المرحاض هنا " الخط " لم أستطع أن أعرؾ سبب هذه التسمٌة!‪.‬‬
‫الطعام هنا أفضل من هناك ‪ٌ ،‬صل إلى السجٌن القلٌل من قطع اللحم ‪ ،‬و الطعام أكثر نظافة ‪ ..‬وتنوعا ًال ‪.‬‬
‫‪119‬‬
‫أنتظر بقلق ٌزداد كلما مر ٌوم دون أن أعرؾ سبب نقلً إلى هنا ‪ ،‬المعاملة هنا جٌدة نسبٌا ًال ‪ ..‬باستثناء بعض‬
‫الصفعات على الوجه و الرقبة أثناء الخروج إلى المرحاض أو العودة منه ‪ ،‬لم أتعرض إلى أي تعذٌب جسدي‬
‫مباشر ‪ ،‬لكن أصوات التعذٌب التً تصل جلٌة واضحة إلى جمٌع المنفردات تؽدو مع الوقت أكثر استفزازاًال‬
‫ومدعاة للتوتر و الخوؾ ‪ ،‬كل ٌوم من الثامنة و النصؾ صباحا ًال تبدأ صرخات األلم و التوسل ‪ ،‬وتنتهً عند‬
‫الثانٌة والنصؾ ‪ ،‬لتعاود االسطوانة عزفها من السادسة مسا ًالء وحتى ساعة متؤخرة من اللٌل ‪.‬‬
‫أحاول تجاهلها ‪ ..‬نسٌانها أو التؽاضً عنها ‪ ..‬ال أفلح ‪.‬‬
‫‪ 21‬أيار ‪.‬‬

‫الٌوم مسا ًالء فتحوا باب زنزانتً وطلب العنصر خروجً ‪ ،‬خرجت ‪ ،‬أمسكنً من ٌدي وقادنً إلى باب األدراج‬
‫ذي القضبان المعدنٌة ‪ ،‬فتح الباب ‪ ،‬سلمنً إلى عنصر آخر كان واقفا ًال أمام الباب ‪ ،‬قادنً هذا اآلخر صعوداًال ‪،‬‬
‫وصلنا إلى الببلط الملمع ‪ ،‬سحبنً خبلل الممر الٌمٌنً إلى آخر ؼرفة ‪ ،‬أدخلنً فٌها ‪ ،‬خرج وأؼلق الباب دون‬
‫أن ٌنطق حرفا ًال ‪ ،‬لٌس فً الؽرفة إال طاولة وكرسً واحد فقط ‪.‬‬
‫دخل رجل فً األربعٌن وبٌده كدسة أوراق بٌضاء وقلم حبر ناشؾ ‪ ،‬سؤلنً إن كنت أنا ‪ ..‬أنا ‪ ،‬أجبت نعم أنا ‪،‬‬
‫وضع األوراق و القلم على الطاولة ‪ ،‬أمرنً أن أجلس ‪ ،‬جلست على الكر سي خلؾ الطاولة ‪" .‬هذه هً المرة‬
‫األولى التً أجلس فٌها على كرسً منذ ‪ /12 /‬سنة"‪ .‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه أوراق ‪ ..‬هذا قلم ‪ ،‬نرٌد منك تكتب تارٌخ حٌاتك من والدتك وحتى اآلن ‪ ،‬مفهوم ؟‪.‬‬
‫‪ -‬نعم مفهوم ‪.‬‬
‫خرج ‪ ،‬وبدأت أكتب ‪ ..‬استذكر وأكتب ‪ ،‬أفكر ماذا ٌرٌدون بالضبط ؟‪ ..‬ال أعرؾ وأكتب ‪ ،‬ساعة ‪ ..‬ساعت ان‬
‫وأكتب ‪ ،‬فتح الباب خبللها مرتٌن وعندما ٌرون انهماكً فً الكتابة ٌخرجون دون أن ٌقولوا شٌبا ًال ‪ ، ..‬أكتب ‪،‬‬
‫القلم ‪ ..‬الورقة ‪ ..‬افتقدتهما سنوات طوٌلة ‪ ،‬كانا أمراًال عادٌا ًال ‪ ،‬بدٌهٌا ًال وفً متناول الٌد دابما ًال ‪ ،‬وعندما تفقدهما ‪..‬‬
‫تفكر طوٌبلًال ‪ :‬كم أنفقت البشرٌة من زمن وجهد حتى استطاعت اختراع وإٌجاد الورق ؟ كم لزمها ‪ ..‬حتى‬
‫اخترعت القلم الذي نكتب به بسهولة ؟ كم هما عزٌزان ‪ ..‬اثٌران إلى قلبً ‪ ،‬واكتب ‪ ..‬أؼوص فً التفاصٌل‬
‫الصؽٌرة ‪ ،‬استذكر المدارس التً درست فً صفوفها ‪ ،‬أهلً ‪ ..‬أصدقابً ‪ ،‬أصبحت هذه الكتابة متعة لً ‪ ،‬ال‬
‫أرٌد مفارقة الورقة و القلم ‪.‬‬
‫ٌدخل الرجل الذي قادنً ‪ٌ ..‬حدق بً ‪ٌ ،‬قول ‪:‬‬
‫‪ -‬لو كنت عم تكتب تارٌخ العالم كنت خلصت هلق ‪ ..‬العمى لٌش لهلق ؟ !‬
‫‪ -‬أعطٌنً كم دقٌقة ‪ ..‬أكون خالص ‪.‬‬
‫بعد دقابق اسلمه األوراق و القلم ‪ٌ ..‬قول لً ‪:‬‬
‫‪ -‬خلٌك هون ‪.‬‬

‫‪120‬‬
‫وٌذهب ‪ ،‬عاد بعد أقل من ساعة بقلٌل مع شخص ذي هٌبة ‪ ،‬األوراق التً كتبتها بٌد الشخص ذي الهٌبة ‪،‬‬
‫حدق هذا فًّ قلٌبلًال وقال ‪:‬‬
‫‪ .‬هاي أوراق جدٌدة وهذا قلم‪ .‬أكتب لنا ‪ ..‬المفٌد و المختصر ‪.‬‬ ‫‪ -‬كل شًء كتبته ‪ ..‬اسمه‪ :‬أكل خرى‬
‫رموا بالقلم و األوراق على الطاولة وذهبوا ‪.‬‬
‫بدأت أكتب من جدٌد ولكن بنفس المتعة ‪ ،‬أعدت ما كنت قد كتبته سابقا ًال ‪ ،‬لٌس لدي جدٌد ‪ ،‬لقد كنت صادقا ًال فً‬
‫كل ما كتبت ‪ ،‬طلبوا تارٌخ حٌاتً وقد كتبته لهم فً بضع صفحات ‪ ،‬و كل ما كتبت كان صحٌحا ًال فلٌس لدي‬
‫شًء أخفٌه أو أخاؾ من قوله‪ ،‬ولكن لماذا ٌطلبون منً كتابة ما كنت قد كتبته سابقا ًال ؟ ‪ ..‬لست أدري ‪.‬‬
‫ومن جدٌد أخذوا ما كتبت ‪ ،‬عاد الرجل األول بعد أقل من ساعة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا هللا ‪ ..‬أمشً ‪.‬‬
‫بنفس الطرٌقة عدنا ‪ ،‬ودخلت إلى زنزانتً ‪.‬‬
‫‪ 22‬أيار ‪.‬‬

‫الٌوم مسا ًالء فتح باب زنزانتً ‪ ،‬طلب العنصر خروجً ‪ ،‬خرجت ‪ ..‬ممرات ‪ ..‬ادراج ‪ ..‬أبواب حدٌدٌة ‪ ،‬ممر‬
‫إلى الٌمٌن ملمع الببلط ‪ ..‬أول ؼرفة إلى الٌسار ‪.‬‬
‫رجل ٌضع نظارات طبٌة ‪ٌ ،‬جلس وراء مكتب أسود ‪ ،‬أمام المكتب كرسً ببلستٌكً ‪ ،‬رفع رأسه ‪ ،‬خلع‬
‫النظارات الطبٌة ‪ ،‬أشار لً أن اجلس فجلست على الكرسً ‪ ،‬وبعد قلٌل وضع النظارات ‪ ،‬أمسك القلم ‪ٌ ،‬سال‬
‫‪ ،‬أجٌب ‪ٌ ،‬سجل دون أن ٌنظر الًّ ‪:‬‬
‫إك هنا ‪،‬‬ ‫‪ -‬اسمك ‪ ،‬اسم أبوك ‪ ،‬اسم أمك ‪ ،‬أخوتك الذكور ‪ ،‬أخواتك البنات ‪ ،‬أعمامك ‪ ،‬أخوالك ‪ ،‬اصدقا‬
‫أصدقاإك فً فرنسا ‪ ،‬اسماإهم الثبلثٌة جمٌعا ًال ‪ ،‬انتماءاتهم الحزبٌة وعند هذا السإال قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرؾ ‪.‬‬
‫لم ٌجادل ‪ ،‬لم ٌكذبنً ‪ ،‬كتب على الورقة التً أمامه ‪ ..‬ال ٌعرؾ ‪.‬‬
‫ثم سؤلنً الكثٌر من االسبلة ‪ ،‬كلها سٌاسٌة ‪ ..‬عن األحزاب التً انتمٌت إلٌها ‪ ،‬وأخٌراًال قال لً ‪:‬‬
‫‪ -‬هل لدٌك أقوال أخرى ؟‬
‫‪ -‬ال ‪.‬‬
‫‪ -‬خلٌك هون ‪.‬‬
‫لملم أوراقه وذهب ‪ ،‬بعد حوالً الساعة أتى عنصر أعادنً إلى زنزانتً ‪ ،‬جلست ‪.‬‬
‫طوال الوقت أسمع صراخ امرأة ‪ ..‬إنهم ٌعذبونها !‪.‬‬
‫‪ 23‬أيار ‪.‬‬

‫فً آخر اللٌل ‪ ،‬أعادونً إلى الزنزانة محطما ‪.‬‬


‫‪121‬‬
‫فً أول اللٌل فتحوا باب زنزانتً وأمرونً أن أخرج ‪ ،‬خرجت كالعادة ‪ ،‬لم ٌكن هناك أدراج ‪ ،‬أخذونً إلى‬
‫آخر ؼرفة فً صؾ الزنازٌن ‪ ،‬وضع السجان الطماشة على عٌنًّ ودفعنً إلى داخل الؽرفة !‪.‬‬
‫سؤلت نفسً ‪ :‬هل انتهى شهر العسل ؟‪.‬‬
‫أوقفتنً أٌدي السجان ‪ ،‬جاءنً صوت من أمامً ‪:‬‬
‫‪ -‬نحن عاملناك معاملة راقٌة ‪ ..‬ألنه أهلك جماعة طٌبٌن ‪ ،‬بس أنت ما فٌك ذوق ‪ ،‬كل هـ العبلك والحكً‬
‫الفارغ ‪ ..‬ما ٌنفع ‪ ،‬كلمتٌن ورد ؼطاهن ‪ٌ :‬ا إما تقول لً إلى أي تنظٌم تنتمً ‪ٌ ..‬ا إما خلٌك تشوؾ نجوم‬
‫الضهر ‪ ..‬ها شو قلت ‪ ..‬؟‪.‬‬
‫األخوان‬ ‫ة‬ ‫‪ٌ -‬ا سٌدي ‪ ..‬أنا ما انتمٌت ألي تنظٌم ‪ ..‬بس أنا رحت عـ السجن الصحراوي بتهم‬
‫المسلمٌن ‪.‬‬
‫‪ -‬شو اخوان ‪ ..‬شو خرى !‪ ..‬شلون مسٌحً وأخوان مسلمٌن ؟‪ ..‬هذا كان خطؤ ‪ ،‬وهلق الزم نصحح الخطؤ ‪،‬‬
‫ألي تنظٌم أنت منتسب ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬أنا ما انتسبت ألي تنظٌم ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬بدو انك جحش ‪ ..‬ما تفهم ! ‪ ..‬أي ‪ ..‬أي واحد ٌحكً مثل الحكً ٌاللً أنت حاكٌه الزم ٌكون عنده تنظٌم‬
‫!‪.‬‬
‫ثم سمعته ٌخاطب آخرٌن فً الؽرفة ‪:‬‬
‫‪ -‬خذوه على بساط الرٌح وبس ٌقرر ٌعترؾ ‪ ..‬هاتوه لهون !‪.‬‬
‫سحبونً بعنؾ ‪ ،‬رؼم كل شًء فقد ارتحت قلٌبل ألننً عرفت أن أهلً قد أصبحوا ورابً ‪ ،‬القونً على لوح‬
‫خشبً ‪ ،‬ربطونً من جمٌع أنحاء جسمً ‪ ،‬رفعوا الجزء السفلً من اللوح الخشبً عالٌا ‪ ..‬ثبتوه ‪.‬‬
‫بدأ الضرب ‪ ..‬وبدأ الصراخ ‪.‬‬
‫كنت أتؤلم بشدة ‪ ،‬لكننً لم أكن خابفا وال هلعا ‪ ،‬أنا اآلن " صاحب خبرة وتجربة " ‪ ،‬لقد رأٌت وسمعت الكثٌر‬
‫من الحاالت أمامً ‪ ..‬ومنها تعلمت وحفظت ‪.‬‬
‫كما لرجال األمن دروسهم وقواعدهم ‪ ،‬إؾن للسجناء أٌضا قواعدهم ووصاٌاهم ‪ ،‬وهنا كان أهم وصٌتٌن ‪:‬‬
‫األولى ‪ :‬مهما تؤلمت من التعذٌب فبل تعترؾ بشًء لكً تتخلص من األلم ‪ ،‬ألن األعتراؾ مهما كان صؽٌر اًال‬
‫سٌجعلهم ٌعرفون أنك قد ضعفت ‪ ،‬لذلك فان كمٌة التعذٌب ستزٌد النتزاع المزٌد من االعترافات بدالًال من أن‬
‫تنتهً ‪.‬‬
‫الثانٌة ‪ :‬اذا طلبوا منك أن تتعاون معهم وتصبح مخبر اًال لدٌهم مقابل أن ٌطلقوا سراحك ‪ ،‬فبل تقبل مطلقا ‪ ،‬ألنك‬
‫إن قبلت تكون قد تورطت ورطة تدوم مدى الحٌاة ‪ ،‬وهم دابما ٌكذبون !‪.‬‬
‫كنت أتؤلم ‪ ..‬لكن لم أعد الضربات ‪ ،‬فكرت بؤمور شتى ‪ ،‬أهلً ‪ ..‬نسٌم ‪ ..‬كل هذا وأنا أصرخ‬
‫بصوت عال !‪.‬‬
‫بعد فترة أحسست أن قدمًّ قد تخدرتا ‪ ،‬احساسً باأللم خؾ كثٌرا ‪ ..‬وؼدا األمر مٌكانٌكٌا ‪ٌ ،‬ضربون ‪ ،‬أتؤلم‬
‫قلٌبل ‪ ،‬أصرخ عالٌا ‪.‬‬
‫‪122‬‬
‫انتهت لعبة عد األصابع لصالحً !‪ ..‬إما انهم تعبوا ‪ ،‬أو ملوا ‪ ،‬أو اقتنعوا أننً ال أنتمً ألي تنظٌم ‪.‬‬
‫تركونً بناء على أوامر "الصوت الذي كان فً الؽرفة" ‪:‬‬
‫‪ -‬اتركوه ‪ ..‬اتركوه ‪ ،‬خذوه عـ الزنزانة ‪ ،‬العمى ما أٌبس رأسه ‪ ..‬مثل رأس الجحش !‪.‬‬
‫أمشً بصعوبة ‪ ،‬محطم اًال بدنٌا ‪ ..‬لكن بمعنوٌات جد مرتفعة ‪ ،‬أعادونً إلى زنزانتً ‪.‬‬
‫لم ألبث أن نمت ‪.‬‬
‫‪ 24‬أيار‬
‫الٌوم صباحا ًال فتحوا باب زنزانتً ‪ ،‬أخرجونً ‪ ،‬طمشونً فوراًال ‪ ،‬ومن خبلل السٌر عرفت أننً اصعد‬
‫األدراج و السبللم ‪ ،‬قادونً ال أدري بؤي اتجاه ‪ ،‬دق العنصر أحد األبواب ‪ ..‬أدخل ‪ ،‬دخل ‪ ،‬خبطة قدم ‪..‬‬
‫احترامً سٌدي ‪.‬‬
‫قال صوت أجش ثخٌن ‪:‬‬
‫‪ -‬ارفع الطماشة عن عٌونه ‪ ..‬وروح أنت ‪.‬‬
‫ب فخم وأنٌق‪ ،‬اآلخران‬
‫رفع العنصر الطماشة ‪ ،‬ثبلثة رجال فً منتصؾ العمر ‪ ..‬أحدهم ٌجلس خلؾ مكت ٍ‬
‫ٌجلسان إلى جانبً المكتب ‪ ،‬جمٌعهم صامتون ‪ ،‬ستة عٌون تحدق فًّ مباشرة ‪ٌ ،‬فحصونً من قمة رأسً إلى‬
‫أخمص قدمً ‪ ،‬ستة عٌون قاسٌة ‪ ..‬ثاقبة ‪ ..‬أحسست أننً أتعرى من الداخل ‪ ،‬ستة عٌون ٌسٌل منها مزٌج من‬
‫الدهاء و الذكاء ‪ ..‬مزٌج من القسوة و السطوة ‪ ..‬مزٌج من الترفع و العنجهٌة ‪ ..‬عٌون رأت عشرات اآلالؾ من‬
‫أمثالً ‪ ..‬عٌون قد شبعت من كل شًء !‪ ..‬عٌون ضجرة ملولة ‪.‬‬
‫فوراًال قدرت أن هإالء الرجال الثبلثة هم أهم من قابلتهم من المسإولٌن و المحققٌن حتى اآلن ‪ ،‬وأن مصٌري كله‬
‫سٌتقرر فً هذه الجلسة ‪ ،‬قررت أن أكون جرٌبا ًال ‪ ..‬أن ادافع عن نفسً بقوة ‪ ،‬أن أستفٌد من كل ما سمعته وما‬
‫مر بً ‪ ،‬سؤواجههم ‪ ،‬لذلك وقبل أن ٌتفوه وا بؤي كلمة بادرتهم بالسإال مستجمعا ًال كل شجاعتً ‪:‬‬
‫‪/12‬‬ ‫‪ -‬إذا ممكن تسمحوا لً بسإال ‪ ..‬أنا لٌش هون ؟ ‪ ..‬ما هً جرٌمتً حتى أبقى فً السجن أكثر من ‪/‬‬
‫سنة ؟ ‪ ..‬شو عملت ؟‪ ..‬ممكن واحد منكم ٌجاوبونً على هذا السإال ؟ ‪.‬‬
‫قال الرجل الجالس خلؾ المكتب ‪ ،‬هو نفس الصوت األجش ‪:‬‬
‫‪ -‬أوالًال أخرس ‪ ،‬ثانٌا ًال أنت هون اتجاوب على األسبلة مو تطرح أسبلة ‪ ،‬ثالثا ًال رؼم هٌك ‪ ..‬راح نقول لك‬
‫لٌش أنت هون وما هً جرٌمتك ‪ٌ ..‬ا مجرم ‪.‬‬
‫سكت قلٌبلًال ثم أردؾ ‪:‬‬
‫‪ -‬اسحب هـ الكرسً ‪ ..‬أجلس ‪.‬‬
‫سحبت الكرسً وجلست ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت مخرج سٌنمابً ‪ ..‬وال ؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪.‬‬
‫‪ -‬أنت عم تقول أنك ما انتسبت الي تنظٌم سٌاسً معارض للدولة ‪ ..‬أنا راح صدقك ‪ ،‬لكن إذا ظهر عكس‬
‫هذا الكبلم ‪ ..‬أنا بإٌدي راح أعدمك ‪ ..‬مفهوم ؟‬
‫‪123‬‬
‫‪ -‬نعم سٌدي ‪.‬‬
‫‪ -‬طٌب ‪ ..‬أنا راح أقرأ لك مجموعة أسماء و أي اسم تعرؾ ه قول ‪ ..‬مفهوم ؟‬
‫‪ -‬نعم سٌدي‬
‫قرأ ثبلثة أسماء ال أعرفهم ‪ ،‬قرأ االسم الرابع ‪ ،‬االسم الثبلثً لصدٌقً أنطوان ‪ ،‬عندها رفعت ٌدي مسرعا ًال ‪،‬‬
‫وكؤنً أرٌد أن اثبت مصداقٌتً ‪ ..‬صرخت ‪:‬‬
‫‪ -‬هذا ٌا سٌدي ‪ ..‬أنطوان ‪ ..‬هو صدٌقً بفرنسا ‪.‬‬
‫‪ -‬هاه ‪ ..‬وصلنا لشًء مفٌد ‪ ..‬أنت تعرؾ أن هذا أنطوان من أخطر الناس ؟ ‪ ..‬هو شٌوعً معارض‬
‫للنظام ‪ٌ ،‬عنً مو مثل خالك ‪ ،‬رؼم أن خالك شٌوعً ‪ ..‬خالك رجل كثٌر وطنً ومخلص ‪ ،‬ونحن نحترمه‬
‫كثٌر ‪ ،‬بس أنطوان ‪ ..‬أنطوان عمٌل !‪ ..‬أنطوان ضد الوطن !‪ ..‬وأكٌد هو حرضك حتى تحكً ضد الوطن ‪..‬‬
‫مو هٌك ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬أل ‪ ..‬أل سٌدي ‪ ،‬أنطوان ما كان ٌحكً معً بالسٌاسة ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن ‪ ..‬أنت من وٌن جاٌب هذا الحكً المكتوب بالتقرٌر ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬أي حكً ‪ ..‬وأي تقرٌر ؟‪.‬‬
‫‪ -‬مشان ما وجع راسك ‪ ..‬وتوجع راسنا راح أقرأ لك التقرٌر ‪ ،‬وبعدٌن تجاوبنً ‪ ،‬اتفقنا ؟‬
‫‪ -‬طٌب ‪.‬‬
‫فتح اضبارة أمامه ‪ ،‬تفحص عدة أوراق ‪ ،‬سحب ورقة منها ‪ ،‬نظر إلٌها ملٌا ًال وطفق ٌقرأ ‪.‬‬
‫" بتارٌخ كذا ‪ ..‬وكذا ‪ ..‬دعٌت إلى سهرة مع صدٌقتً الفرنسٌة ‪ ،‬السهرة كانت فً بٌت المدعو أنطوان ‪ ،‬وكان‬
‫حاضراًال فً السهرة ‪ ،‬فبلن وفبلن وفبلن ‪ ..‬ك ّل منهم بصحبة صدٌقته ‪..‬‬
‫توقؾ عن القراءة قلٌبلًال قاببلًال ‪:‬‬
‫‪ -‬شو بدنا بكل هـ العبلك ‪ ..‬وٌن الفقرة الخاصة فٌك ‪ ..‬وٌن ها ‪ ..‬هذه الفقرة ‪..‬‬
‫‪ .........‬عند نهاٌة النقاش بقً هناك شخص لم ٌشارك فً الحدٌث لم أعرؾ رأٌه ‪ ،‬وهو المدعو فبلن الفبلنً‬
‫‪ ،‬وهو طالب من العاصمة ٌدرس اإلخراج السٌنمابً هنا فً فرنسا ‪ ،‬وقد أمضى فترة النقاش ٌنظر إلٌنا‬
‫مبتسما ًال ‪ ،‬وأحٌانا ًال ٌحادث صدٌقته ‪.‬‬
‫توجهت إلٌه بالسإال عن رأٌه عما دار من حدٌث‪ ،‬ولكً أدعه ٌطمبن تابعت تهجمً على السلطة السٌاسٌة‪.‬‬
‫ضحك وقال كبلما ًال جارحا ًال بحق الرفٌق األمٌن العام ربٌس الجمهورٌة المفدى ‪ ،‬وأنا أآلن سؤورد كبلمه كما‬
‫ورد على لسانه مضطراًال رؼم أننً محر ٌج جداًال ‪ ،‬وأربؤ بقلمً أن ٌخط هكذا عبارات !‪ ..‬وسٌادتكم تعلمون‬
‫أننً على استعداد ألن أقطع لسانً وال أدعه ٌتلفظ بهكذا عبارات مقذعة بحق اإلنسان الذي نجله ونحترمه ‪..‬‬
‫ال بل نعبده ‪ ..‬السٌد الربٌس حماه هللا ونصره ‪ ،‬ولتكن أرواحنا فدا ًالء له ‪.‬‬
‫علم بكل‬
‫ولكن تسجٌلً لهذه العبارات إنما الهدؾ منه أن تكون الجهات األمنٌة الساهرة على أمن الوطن على ٍ‬
‫شًء ‪ ،‬وأن تكون فً صورة الموضوع ‪ ،‬قال المدعو فبلن رداًال على تساإلً ‪ ..‬و بالحرؾ الواحد ‪:‬‬

‫‪124‬‬
‫‪ -‬أنا بالحقٌقة ال استسٌػ وال أحب النقاشات السٌاسٌة ‪ ،‬وكرجل ٌهوى وٌعمل فً مجال الفن السٌنمابً‬
‫فإننً أهتم بالصوت و الصورة ‪ ،‬ال تهمنً السٌاسٌات االقتصادٌة أو السٌاسٌة ‪ ،‬ال أستطٌع أن أحكم على‬
‫النظام أو على السلطة من خبللها ‪ ،‬أنا أحكم من خبلل الصوت و الصورة ‪.‬‬
‫إذا كانت الرسالة تعرؾ من عنوانها ‪ ،‬فإن عنوان هذا النظام هو الربٌس ‪ ..‬فماذا ٌقول الصوت ؟‪ ..‬إن صوت‬
‫هذا الربٌس مثل صوت التٌس ‪ ..‬و التٌس كما تعرفون هو من أنتن الحٌوانات وأعندها ‪ ،‬و أنا ال أحب النتانة و‬
‫ال العناد ‪.‬‬
‫أما الصورة فتقول ‪ ،‬إن رأسه مثل رأس البؽل ‪ ،‬وأنا أكره البؽال كثٌراًال ‪ ..‬لسبب بسٌط هو أنها لٌست أصٌلة ‪،‬‬
‫لو كان حماراًال ألحببته ‪ ،‬ألنه فً هذه الحالة ٌنتمً إلى سبللة الحمٌر األصٌلة و العرٌقة ‪.‬‬
‫لهذٌن السببٌن ٌا أخً ‪ ،‬فإننً ال أحب هذا الربٌس وال أحب هذا النظام ‪.‬‬
‫وقد ضحك جمٌع الحاضرٌن فً الجلسة ‪ ..‬هذا هو رأي ‪. " ..‬‬
‫عند هذه العبارة توقؾ الصوت األجش عن القراءة ‪ ،‬نظر إلًّ بعمق وحقد وهو ٌطوي األوراق الموجودة‬
‫أمامه ‪ ،‬ثم قال بلهجة استهزاء ‪:‬‬
‫‪ -‬نحن قلنا لك عن سبب وجودك هون ‪ ..‬عن جرٌمتك ‪ ،‬وانت الزم هلق تقول لنا ألي تنظٌم أنت منتسب‬
‫‪ ..‬هذا الكبلم الوارد بالتقرٌر كبلمك وإال أل ؟ ‪ ..‬احكً ‪.‬‬
‫فٌما كان ٌقرأ التقرٌر كان عقلً ٌعمل بسرعة مذهلة ‪ ،‬كل حواسً كانت مستنفرة ‪ ،‬كنت اسمع بنصؾ عقلً و‬
‫النصؾ اآلخر كان ٌفكر ‪ ،‬حاولت تذكر السهرة فلم أفلح !‪ ..‬التقطت التارٌخ المذكور فً التقرٌر ‪ ،‬أكثر من ثبلث‬
‫سنوات قبل عودتً إلى بلدي ‪ٌ ،‬ضاؾ إلٌها أكثر من إثنتي عشر عاما ًال قضٌتها فً السجن !‪ ..‬كٌؾ لً أن أتذكر‬
‫سهرة من مبات السهرات التً كنا نقٌمها ؟‪ ..‬حتى أشخاص السهرة لم أتذكر منهم سوى صدٌقً أنطوان !‪..‬‬
‫وهذا كنت معه ٌومٌا ًال تقرٌبا ًال ‪ ،‬لم أتذكر ‪ ..‬لم أتذكر ‪.‬‬
‫أما كبلمً الوارد فً التقرٌر فهو ٌندرج فً عداد النكات ‪ ،‬وكانت هناك آالؾ النكات ‪ ،‬قسم كبٌر منها ٌتناول‬
‫رجال السٌاسة و الربٌس شخصٌا ًال ‪ ،‬وال تخلو سهرة من سهراتنا كطبلب من عشرات النكات ‪ ،‬فلماذا هذه النكتة‬
‫بالذات – على فرض أنً قلتها – ٌكون ثمنها باهظا ًال إلى هذه الدرجة ؟!‬
‫أجبت على السإال الذي وجهه لً ‪..‬‬
‫‪ -‬هذا التقرٌر الذي قرأته و عمره أكثر من خمسة عشر عاما ًال ‪ ،‬ال أذكر أنً حكٌت هٌك كبلم ‪ ،‬وعلى‬
‫فرض أنً حكٌته ‪ ..‬هذه نكتة ال أكثر و ال أقل ‪ ،‬وأنت تعرؾ أنه فً مبات النكات من هذه الشاكلة ‪.‬‬
‫‪ -‬حتى لو كانت نكتة ‪ ..‬هذه النكتة عقوبتها من سنة إلى ثبلث سنوات ‪.‬‬
‫‪ /12‬سنة فً السجن !‪.‬‬ ‫‪ -‬بس أنا صار لً ‪/‬‬
‫‪ /12‬سنة انساهم ‪ ،‬هدول نتٌجة خطؤ نحن ؼٌر مسإولٌن عنه ‪ ،‬حسابك ٌبدأ من هذه اللحظة ‪ ،‬وهلق‬ ‫‪ -‬ال‪/‬‬
‫احكً لنا عن تنظٌمك ‪ ..‬وألي تنظٌم تنتمً ‪.‬‬
‫‪ -‬أنا منتسب إلى تنظٌم ‪ ..‬اإلخوان المسلمٌن !‪.‬‬

‫‪125‬‬
‫انفجروا بالضحك ‪ ..‬ومد الصوت األجش ٌده لٌكبس زر الجرس ‪ ،‬ظهر العنصر على الباب فوراًال ‪ ،‬خاطبه وال‬
‫زالت أثار الضحك بادٌة علٌه ‪:‬‬
‫‪ -‬رجعه عــ الزنزانة ‪ ..‬وقول لمدٌر السجن ‪ ..‬ال تزعجوه ‪.‬‬
‫‪ -‬حاضر سٌدي ‪.‬‬
‫ٌبدوا أنهم كانوا قد درسوا القضٌة واتخذوا قراراًال‪ ،‬وكل الدالبل تشٌر إلى أن هذا القرار لصالحً ‪.‬‬
‫ولكن مادور خالً فً كل هذا ؟ ‪ ..‬لست أدري ‪.‬‬

‫‪ 10‬حزيران ‪.‬‬
‫أكثر من نصؾ شهر لم ٌحدث خبللها شًء ‪ ،‬أصوات التعذٌب أنهكت أعصابً ‪ ،‬أن تتعذب أنت أهون من أن‬
‫تسمع أصوات الصراخ اإلنسانً لٌبلًال نهاراًال ‪ ،‬أحاول أن أتلهى بقراءة األسماء الموجودة على حٌطان الزنزانة ‪،‬‬
‫جمٌعها مكتوبة بواسطة شًء معدنً ‪ ..‬مسمار مثبلًال ‪ ،‬محفورة بالطبلء األخضر الفاتح ‪ ،‬الكثٌر من األشعار ‪،‬‬
‫أسماء ذكور و إناث ‪ ،‬بعضهم ٌكتب اسم مدٌنته أو حزبه السٌاسً ‪ ،‬أحدهم كان ٌخط خطوطا ًال متوازٌة إلى‬
‫ثبلث وثبلثٌن خطا ًال ‪.‬‬
‫جانب اسمه ‪ٌ ..‬بدو أن كل خط ٌمثل ٌوما ًال ‪ ،‬عددتها‪ :‬ة‬

‫‪ 21‬حزيران ‪.‬‬
‫أخرجنً السجان وهو ٌطلب منً أن أحمل كل أشٌابً ‪ ،‬صعدنا إلى فوق دون طماشة ودون قٌود ‪ ،‬أدخلنً‬
‫بالمراسٌم المعتادة إلى ؼرفة " الصوت األجش " الذي بادر بؤن طلب منً الجلوس ‪.‬‬
‫تكلم معً أكثر من عشر دقابق ‪ ،‬أفهمنً أنهم كانوا ٌنو ون إطبلق سراحً ‪ ،‬و أنهم ٌحترمون خالً الذي‬
‫ٌتدخل لصالحً كثٌراًال ألنه إنسان جٌد ‪ ،‬إال أن هناك جهات أمنٌة أخرى اعترضت على ذلك وطالبت بتسلٌمً‬
‫ين لتسلٌمً إلٌهم ‪.‬‬
‫إلٌها و أنهم مضطرون آسؾ‬
‫بعد ذلك بقً حوالً عشر دقابق اخرى ٌحاول أن ٌفهمنً أمراًال ولكن مداورة ‪ ،‬وتبٌن لً أنه ال ٌرٌد أن‬
‫ٌخوض فٌه صراحة لذلك لجؤ إلى التلمٌح و اللؾ و الدوران ‪ ،‬كل ما استطعت فهمه هو ‪..‬‬
‫أننً ٌجب أال أدلً بمعلومات لدى الجهة األمنٌة األخرى زٌادة عما أدلٌته به هنا مهما استعملوا معً من‬
‫وسابل ‪ ،‬وأننً ٌجب أال أنكر الجمٌل الذي أسدوه لً هنا بعدم ضؽطهم علًّ النتزاع المعلومات – وهذا كرمى‬
‫لخالً – وذلك ألننً إذا أدلٌت بمعلومات جدٌدة سوؾ تظهر الجهة األمنٌة األخرى بمظهر الطرؾ األقدر و‬
‫األكثر نجاحا ًال ‪ ،‬وأننً عندها سوؾ أصم " الصوت األجش " وجماعته بوصمة الفشل ‪.‬‬
‫خاصة أننً إذا تقٌدت بهذه التعلٌمات فإن ذلك سٌكون لصالحً ‪ ،‬وسٌصب فً النهاٌة لصالح قرار إطبلق‬
‫سراحً ‪.‬‬
‫ختم حدٌثه قاببلًال ‪:‬‬

‫‪126‬‬
‫" ٌسلم علٌك ‪ ،‬وخلٌك رجّ ال ‪..‬‬ ‫‪ -‬أتمنى لك التوفٌق ‪ ،‬إذا أطلقوا سراحك سلّم على خالك ‪ ،‬قل له العمٌد "‬
‫ال تخاؾ ‪ ..‬مع السبلمة ‪.‬‬
‫بعدها سلمونً إلى الجهة األمنٌة األخرى و‪...‬عناصر أمن ‪ ،‬سٌارة ‪ ،‬قٌود ‪ ...‬ننطلق على األوتوستراد باتجاه‬
‫الشرق ‪.‬‬
‫‪ 24‬حزيران ‪.‬‬
‫عند الجهة األمنٌة األخرى ‪.‬‬
‫ثبلثة أٌام تساوي ثبلث سنوات فً السجن الصحراوي ‪.‬‬
‫كان الضابط بإنتظاري على باب ؼرفته ‪ ،‬الؽضب ٌقطر منه ‪ ،‬لم ٌلتفت إلى تحٌة العناصر له ‪ ،‬فقط سؤلنً إن‬
‫كنت أنا أنا ‪ ،‬أجبت نعم ‪ ..‬ومع الــ نعم فاجؤنً بلكمة على أنفً القتنً على صدر العنصر الذي ٌقؾ خلفً ‪،‬‬
‫سندنً هذا العنصر ‪ ،‬عدت ألقؾ معتدالًال ‪ ،‬أمسكنً الضابط من صدري وشدنً إلى داخل الؽرفة وهو ٌصفعنً‬
‫بالٌد األخرى ‪ ،‬فً وسط الؽرفة أمسكنً من رقبتً ‪ ..‬من تفاحة آدم وأخذ ٌضؽط علٌها ‪ ،‬أحسست باإلختناق ‪،‬‬
‫قال لً وهو ٌصّر على اسنانه ‪:‬‬
‫‪ -‬أركع وال كلب ‪ ..‬أركع وال عرص ‪.‬‬
‫ركعت على ركبتً أفلت رقبتً وذهب إلى خلؾ المكتب ‪ ،‬أمسك ورقة واقترب منً ‪ ،‬أخذ ٌقرأ فقرات منها ‪..‬‬
‫مع كل فقرة ٌضربنً باسفل حذابه على وجهً ‪..‬‬
‫‪-‬الصوت و الصورة ‪ " ..‬رفسة على الخد " ‪ ..‬الرسالة تظهر من عنوانها " رفسة فوق الخد قلٌبلًال " ‪ ..‬صوت‬
‫التٌس " ببوز حذابٌه ضربة على جنبً ألقتنً أرضا ًال " ‪ ..‬وٌتابع القراءة و الضرب !‪.‬‬
‫ألقانً أرضا ًال ‪ ،‬سحق فمً بحذابه ثم وضعه على رقبتً وضؽطه ‪ ،‬عجننً برجلٌه ‪ ..‬وفهمت منه أن ما قلته‬
‫بحق " السٌد الربٌس " ٌكفً بحد ذاته لشنقً من خصٌتًّ !‪.‬‬
‫صرخ وهو ٌكاد ٌختنق بصراخه على أحد العناصر ‪ ،‬وأعطاه التعلٌمات ‪.‬‬
‫ثبلثة اٌام لن أنساها ما حٌٌت ‪ ،‬الجلد ‪ ،‬الضرب ‪ ،‬فً الدوالب ‪ ،‬علً بساط الرٌح ‪ ،‬التعذٌب بالكهرباء ‪ٌ ..‬ثبت‬
‫المبلقط على األجزاء الحساسة من جسدي وٌشؽل الجهاز ‪ٌ ..‬بدأ جسدي رقصته الكهربابٌة ‪ ،‬أحس أننً سؤلفظ‬
‫أنفاسً ‪ ،‬أعجز عن التنفس ‪ ،‬تكاد الربتان أن تنفجرا ‪ ..‬الطماشة على عٌنً ‪ ..‬ال أعرؾ متى ٌشؽل الجهاز‬
‫ومتى ٌوقفه ‪ ،‬وأرقص ‪ ..‬أرقص تشنجا ًال وألما ًال ‪.‬‬
‫األمر بشبْحً لم أفهم ماذا ٌعنً ذلك ‪ ،‬لكن عندما ربطوا ٌديّ‬
‫َ‬ ‫فً الٌوم الثالث جاء دور الشبح ‪ ..‬عندما سمعت‬
‫ع اًال‬
‫الً وجسدي كله مرفوع عن األرض أكثر من نصؾ متر تذكرت صلب المسٌح ‪ ،‬دون أن أعً صرخت ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا ٌسوع ‪ٌ ..‬ا محمد ‪ٌ ..‬ا هللا ‪.‬‬
‫بعدما ٌقارب النصؾ ساعة أحسست أننً قد استنفذت كل طاقتً على التحمل ‪ ..‬أحسست بضعؾ هابل ‪.‬‬
‫سؤعترؾ بما ٌرٌدون منً أن أعترؾ به ‪ ،‬ولٌكن اإلعدام ! اإلعدام سوؾ ٌكون أرحم ! ‪ ..‬ولكن من أٌن أخترع‬
‫لهم تنظٌما ًال معادٌا ًال ؼٌر اإلخوان المسلمٌن ‪ ..‬وبعد ذلك أنتسب إلٌه ؟ ‪.‬‬

‫‪127‬‬
‫تذكرت المهجع ‪ ،‬مبات الرواٌات عن الذٌن ضعفوا واعترفوا بؤعمال لم ٌقترفوها ! ‪ ..‬اعترفوا بجرابم لم ٌسمعوا‬
‫بها إال من فم المحقق الذي ٌتهمهم بارتكابها !‪ ..‬ماذا كانت نتٌجة اعترافاتهم ؟ ‪ ..‬البعض تم إعدامه ‪ ،‬اآلخرون‬
‫ٌتعفنون فً السجن ‪ ..‬الكثٌر منهم مات أو فً طرٌقه إلى الموت !‪ ..‬قوٌت عزٌمتً ‪ ،‬أنا لم أعد كما كنت قبل‬
‫اثنً عشر عاما ًال ‪ ،‬لقد صلبتنً التجربة ‪ ،‬أخذت اقنع نفسً أننً رجل ‪ ..‬ورجل شجاع ‪ ..‬رجل شجاع قادر على‬
‫التحمل !‪ ..‬وتحملت ‪.‬‬
‫‪ 2‬حزيران‬
‫هل اكتفوا باألٌام الثبلثة من التعذٌب ؟‪ ..‬البارحة و الٌوم لم ٌفتحوا باب زنزانتً إال من أجل الطعام و المرحاض‬
‫‪ ،‬الطعام ثبلث مرات فً الٌوم ‪ ،‬المرحاض ثبلث مرات فً الٌوم بعٌد الطعام مباشرة ‪.‬‬
‫لملمت نفسً قلٌبلًال ‪ ،‬أترقب متوجسا ًال ‪ ،‬هل سٌعاودون الكرة ؟‪ ..‬ومتى ؟ قررت أن استرخً و اضمد جراحً !‬
‫ٌداي خدرتان من أثر الشبح ! ‪ ..‬استعملهما بصعوبة ‪ ،‬أحاول أن أجري لهما بعض التمارٌن الرٌاضٌة ‪ ،‬أجد‬
‫صعوبة فً تنظٌؾ نفسً بعد انتهابً من قضاء حاجتً ‪.‬‬
‫أرٌد أمً ‪ ...‬آه ٌــــا أمً ‪.‬‬
‫‪ 22‬آب ‪:‬‬
‫رجل ذو هٌبة ارستوقراطٌة ال تتناسب أبداًال مع اللهجة الجبلٌة الثقٌلة و البدابٌة التً كلمنً بها وأفهمنً أن أٌامً‬
‫لدٌهم قد انتهت و أن هناك جهة أمنٌة ثالثة طلبت تسلٌمً إلٌها ‪ ،‬و أننً أستطٌع تجنب الذهاب إلى هذه الجهة‬
‫األمنٌة الثالثة وأننً أستطٌع الخروج من السجن إذا كنت متفهما ًال ومرنا ًال وعلى استعداد ألن أخدم وطنً خدمة‬
‫حقٌقٌة ‪ ،‬وانه اآلن سٌرسلنً إلى المساعد أحمد لكً نتفاهم على التفاصٌل ‪.‬‬
‫رن الجرس وحضر المساعد أحمد الذي قادنً إلى ؼرفته ‪.‬‬
‫المساعد أحمد ‪ ،‬نظرته لزجة ‪ ..‬ابتسامته لزجة ‪ ..‬كلم ا ته لزجة ‪! ..‬‬
‫وضع ٌدٌه على ٌدي أثناء الحدٌث ‪ ،‬كانت تنضح عرقا ًال ولزوج ًالة ‪ ،‬هو كابن لزج ‪ ..‬كان ٌمكن أن ٌكون بزاقة!‪.‬‬
‫عرض علً وبطرٌقة لزجة ‪ ،‬كرٌهة جداًال وتدعو لئلقٌاء ‪ ،‬أن ٌطلقوا سراحً وٌعٌدونً إلى بارٌس ‪ ،‬هناك‬
‫أنخرط فً صفوؾ المعارضة مسلحا ًال بتارٌخً "سجنً الطوٌل" وأن أخدم وطنً من خبلل التقارٌر التً ارفعها‬
‫للجهات األمنٌة المسإولة كاشفا ًال لهم عن أعداء الوطن ‪ ..‬من أبناء الوطن ‪.‬‬
‫رفضت ‪ ،‬متعلبلًال ‪ ..‬مداوراًال ‪ ..‬لبقا ًال ‪ ،‬رفضت ‪ ،‬ثم حاول ‪ ..‬فر ؾ‬
‫ضت ‪ ،‬كرر المحاولة بالترؼٌب و الترهٌب ‪..‬‬
‫فرفضت – مستذكراًال الدروس ‪. -‬‬
‫ٌحاول أن ٌكسب رضى رإسابه بنجاحه فً مهمته ‪ٌ ،‬حاول أن ٌبنً مجداًال ذاتٌا ًال ‪ ..‬حاول وحاول ‪.‬‬
‫لزوجته ‪ ..‬نعومته ‪ ،‬تدعو للؽثٌان !! وبقٌت أرفض ‪ ،‬أوصلته للٌؤس ‪ ،‬فكشر عن أنٌابه ‪ ،‬ؼابت النعومة لتظهر‬
‫الهمجٌة و الشراسة ‪.‬‬
‫لم أبه ‪ ..‬لٌكن ما ٌكون ‪ ،‬ولن ٌكون أكثر مما كان !‪.‬‬
‫وقؾ ؼاضبا ًال ‪ ،‬صفعنً بلإم ‪ ،‬وبلهجة تقطر فشبلًال وإحباطا ًال ‪ ،‬قال ‪:‬‬

‫‪128‬‬
‫‪ -‬إنت واحد جحش ما بتعرؾ مصلحتك ‪ ،‬راح تتعفن بالسجن ‪ ،‬راح نسلمك للجماعة ‪ ..‬وهدول إن شاء هللا‬
‫راح ٌنٌكوا أمك ‪ٌ ..‬ا كلب ٌا حقٌر ‪.‬‬
‫وسلمونً للجهة األمنٌة الثالثة ‪.‬‬
‫عناصر أمن ‪ ،‬سٌارة ‪ ،‬قٌود ‪ ،‬تنطلق السٌارة شماالًال ‪ ،‬نصل إلى الشارع الذي ٌنار بؤضوا ٍء برتقالٌة محمرة ‪،‬‬
‫وزنزانة جدٌدة مقايٌسها تختلؾ عن سابقاتها !‪.‬‬
‫‪ 23‬آب ‪.‬‬
‫متر عرضا ًال ‪ ،‬متر طوالًال ‪ ..‬هذه هً الزنزانة الجدٌدة ‪ ،‬على ارتفاع متر تقرٌبا ًال عن األرض ٌوجد ببلطة مصممة‬
‫ككرسً تصل بٌن حابطٌن طولها متر وعرضها نصؾ متر ‪ ،‬الجلوس و النوم علٌها ‪ ،‬فً الزنزانة بطانٌة‬
‫مهتربة واحدة فقط ‪ ،‬حظً جٌد فالوقت صٌؾ ‪ ،‬نافذة مشبكة بالقضبان و الشبك الحدٌدي ين تؤخذ نصؾ الجدار‬
‫الخارجً وتطل على حدٌقة مركز المخابرات ‪ ،‬أتنفس هواء طبٌعٌا ًال ‪.‬‬
‫‪ 1‬ايلول ‪.‬‬
‫أنا هنا منذ عشرة أٌام تقرٌبا ًال ‪ ،‬الثبلثة أٌام األولى لم ٌسؤلونً شٌبا ًال ‪ ،‬الطعام وجبة واحدة فقط توزع ظهراًال بعد‬
‫اإلنتهاء من التحقٌق الذي ٌجري قرٌبا ًال من زنزانتً ‪ ،‬بعد الظهر وحتى حلول الظبلم هً الفترة الوحٌدة التً ال‬
‫أسمع فٌها الصراخ و البكاء ‪ ..‬و الشتابم ‪ ،‬وما عدا ذلك فالتحقٌقات مستمرة وعلى مدار األربع و العشرٌن ساعة‬
‫‪ ،‬هذا الفرع مشهور بٌن السجناء بقسوته ‪.‬‬
‫فً الٌوم الرابع فتح السجان باب زنزانتً صباحا ًال ‪ٌ ،‬قؾ إلى جانبه شخص أخر ‪ ،‬سؤلنً عن اسمً فؤجبته ‪ ..‬قال‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬شوؾ ‪ ..‬المعلم طلبك ‪ ،‬وانت أكٌد سمعت بالمعلم ‪ ،‬راح أعطٌك نصٌحة لوجه هللا ‪ :‬شو ما سؤلك احكً‬
‫بصدق وصراحة ‪ ،‬ال تكون عنٌد وتعمل نفسك بطل ‪ ..‬بهذا المحل ما فً أبطال !‪ ..‬كل الناس بتعرؾ‬
‫المعلم ‪ ،‬ومنشان تكون بالصورة ‪ ..‬مرة من المرات كان المعلم عم ٌحقق مع واحد أخرس ‪ ..‬أجبر‬
‫األخرس أنو ٌحكً !‪ ..‬األخرس حكى ‪ ..‬فٌا أخً ‪ ،‬هللا ٌرضى علٌك ‪ ..‬منشان مصلحتك ال تخبً شًء‬
‫‪ ..‬احكً كل شًء ‪ ..‬اسلم لك !‪.‬‬
‫وأخذونً إلى عند المعلم ‪.‬‬
‫فً ؼرفة اإلنتظار ذات األثاث الفخم أمام ؼرفة " المعلم " أوقفونً أكثر من ربع ساعة ‪ ،‬حركاتهم ‪ ..‬تراكضهم‬
‫‪ ..‬الحدٌث بصوت خافت ‪ ..‬كلها أمور تدخل الخوؾ و الفزع إلى قلب الشخص الذي ٌنتظر ‪.‬‬
‫أوقفنً " المعلم " أمام مكتبه دون أن ٌكترث بً أٌضا ًال أكثر من ربع ساعة ‪ ،‬كان ٌتصرؾ وكؤنه ال ٌرانً ‪،‬‬
‫مشؽول بقراءة بعض األوراق و الملفات والرد على الهواتؾ ‪.‬‬
‫بعد ذلك تفرغ لً كلٌا ًال ‪ ..‬ولمدة أربعة أٌام !! ‪.‬‬

‫‪129‬‬
‫منذ الصباح إلى ما بعد الظهر كتبت تارٌخ حٌاتً ثبلث مرات ‪ ،‬وكل مرة بعد انتهابً من الكتابة ٌؤخذه منً‬
‫وٌعطٌه إلى أحد الضباط الصؽار الذي ٌعود بعد أقل من نصؾ ساعة و هو ٌهز رأسه سلبا ًال ‪ ،‬فٌطلب منً إعادة‬
‫الكتابة مرة اخرى ‪.‬‬
‫ؼرفة المكتب عبارة عن قاعة فسٌحة مإثثة بشكل باذخ ‪ ،‬لم اشاهد فً حٌاتً أثاثا ًال بمثل هذه الفخامة و األناقة‪،‬‬
‫أجلسنً إلى طاولة لبلجتماعات فً ركن الؽرفة حولها أربعة وعشرون كرسٌا ًال‪.‬‬
‫خبلل وجودي فً ؼرفته وبٌنما أكتب تارٌخ حٌاتً‪ ،‬أجرى التحقٌق مع ثبلثة أشخاص ‪ ،‬كان ٌعذبهم أمامً ‪،‬‬
‫احاول أن اركز انتباهً على ما أكتب ‪ ..‬وسط ضربات السٌاط والصراخ االنسانً ‪ ،‬وٌنتهً األمر فً كل مرة‬
‫باعتراؾ المعتقل ‪ٌ ،‬ؤمر " المعلم " باٌقاؾ التعذٌب وٌطلب من أحد العناصر ضبط أقواله واعترافاته ‪.‬‬
‫كل ما فً الؽرفة متسق ومتناسق ‪ ،‬عداي و المعتقل ين اآلخر ين بالثٌاب الرثة و المتجعدة ‪ ،‬وكذلك الدوالب‬
‫األسود وأدوات التعذٌب األخرى ‪.‬‬
‫بعد الظهر لم ٌبق فً الؽرفة ؼٌري من المعتقلٌن ‪ ،‬خرج " المعلم " من وراء مكتبه ‪ ،‬جلس قربً ‪ ،‬نظر إلً ‪،‬‬
‫قال ‪:‬‬
‫‪ -‬شوؾ ‪ ..‬كلمتٌن نظاؾ ‪ ..‬أحسن من جرٌدة وسخة ‪.‬‬
‫بدأ من حٌث انتهً األخرون ‪ ،‬خٌرنً بٌن شٌبٌن ‪:‬‬
‫‪ -‬إما العذاب والعودة إلى السجن الصحراوي حٌث سؤلقى اإلعدام ‪ ،‬أو ‪..‬‬
‫‪ -‬اإلعتراؾ و العودة إلى فرنسا و العمل بٌن صفوؾ المعارضة كمخبر ‪.‬‬
‫لم أختر ‪ ،‬لكن نفٌت أي عبلقة لً مع أي تنظٌم ‪ ،‬ورفضت العودة إلى فرنسا ‪.‬‬
‫جمٌع الوسابل التً لدٌه جربها ‪ ،‬البعض منها كنت قد عرفته فً األماكن األخرى ‪ ،‬لكن هنا زادوا علٌها‬
‫باستخدام الكرسً األلمانً الذي أحسست أنه قد كسر ظهري ‪ ،‬علقونً كفروج ‪ ،‬شبحونً على السلم ‪......‬‬
‫وآخر شًء هددنً باستعماله فً آخر ٌوم ‪ ..‬أو أخر دقٌقة من االٌام األربعة التً استؽرقها التعذٌب ‪ ..‬أنه‬
‫سٌدخل قنٌنة كازوز فً شرجً ‪ ..‬وبعد أن أحضروا له القنٌنة رن الهاتؾ ‪ ،‬تكلم على الهاتؾ بؽضب ‪ ،‬خرج‬
‫بعدها من الؽرفة – قبل أن ٌنفذ تهدٌده – بعد أن أمر بإعا دتً إلى الزنزانة واٌقاؾ التعذٌب ‪.‬‬
‫أربعة أٌام لم أكل ‪ ،‬لم أنم وال دقٌقة واحدة ‪ٌ ،‬تركون ني بعد الظهر ثبلث أو أربع ساعات فً الزنزانة ‪ٌ ،‬داي‬
‫مقٌدتان ‪ ،‬مربوطتان بجنزٌر معدنً ‪ ،‬الجنزٌر معلق إلى حلقة بالسقؾ ‪ٌ ،‬شدونه بحٌث بالكاد أقؾ على رإوس‬
‫أصابع القدمٌن ‪ ،‬كنت احس بالراحة عندما ٌفكون ٌدي وٌؤخذونني إلى الدوالب أو بساط الرٌح أو الكهرباء ‪..‬‬
‫كل وسابل التعذٌب اسهل من التعلٌق هذا ‪.‬‬
‫بقٌت صامداًال ‪ ،‬لم اضعؾ مطلقا ًال هذه المرة ‪ ،‬كنت دابما ًال أقول لنفسً إنها ساعات ألم مإقتة ستزول ‪ ...‬أتلهً‬
‫بؤفكار أخرى ‪ ،‬قد ٌكون تركٌزي على أحبلم الٌقظة خبلل السنوات الماضٌة و السهولة التً صرت استحضر‬
‫فٌها أي مادة لتكون حلما ًال‪ ..‬قد ساعدنً ! اكتشفت نفسً ‪ ،‬وسررت لما اكتشفت ‪ ،‬قلت فً سري برنة تحمل‬
‫بعض التباهً ‪:‬‬
‫‪ -‬هذه معمودٌة صٌرورتً رجبلًال ٌحترم نفسه ‪.‬‬
‫‪130‬‬
‫مضى اآلن أربعة أٌام على إنتهاء التعذٌب ‪ ،‬شبعت نوما ًال ‪ ،‬رؼم أننً أنام وانا جالس ‪.‬‬
‫لكن وجبة واحدة من الطعام ال تكفً ‪.‬‬
‫‪ 2‬كاون األول ‪.‬‬
‫الساعة اآلن الواحدة و النصؾ بعد منتصؾ اللٌل ‪ ،‬ألول مرة منذ عودتً إلى بلدي من فرنسا أشعر أن النظافة‬
‫تحٌط بً من كل جانب ‪ ،‬تؽمرنً ‪ ،‬فراشً نظٌؾ ‪ ،‬شرشؾ أبٌض نظٌؾ ‪ ،‬بطانٌات نظٌفة ‪ ،‬بٌجاما جدٌدة ‪،‬‬
‫ؼٌار داخلً جدٌد ناصع البٌاض ‪ ،‬حولً عشرة اشخاص نظٌفٌن فً كل شًء ‪.‬‬
‫فً األٌام األخٌرة من وجودي فً الزنزانة التً مساحتها متر مربع واحد وتحتوي على بطانٌة مهتربة واحدة‬
‫فقط ونافذتها مفتوحة على الحدٌقة ‪ ،‬كنت أعانً األمرٌن من البرد فً اللٌل ‪ ،‬لذلك أخذت أسهر طوال اللٌل‬
‫وكلما شعرت بالبرد أتحرك وأقوم ببعض التمارٌن الرٌاضٌة قدر ما تتٌحه المساحة ‪ ،‬عند الصباح ألتؾ بالبطانٌة‬
‫و أنام فً وضعٌة الجلوس ‪.‬‬
‫أٌقظتنً قرقعة المفتاح الحدٌدي فً الباب الحدٌدي ‪ ،‬السجان الذي بت أعرفه ومعه شخصان ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬قوم بسرعة ‪ ..‬هات كل أؼراضك ٌا هللا ‪.‬‬
‫خرجت فوراًال ‪ ،‬ال أؼراض لدي سوى بعض مزق الثٌاب ‪ ،‬لم تتؤخر اإلجراءات كثٌراًال ‪ ،‬بعد قلٌل اصبحنا خارج‬
‫الفرع ‪ ،‬سٌارة مٌكرو باص محركها ٌدور تقؾ على باب الفرع ‪ ،‬قٌدوا ٌدي وأمرونً أن أصعد إلٌها ‪ ،‬السابق‬
‫وأربعة عناصر ‪ ..‬وأنا ‪.‬‬
‫قال كبٌرهم ‪:‬‬
‫‪ -‬توكل على هللا ‪ ..‬عــ السجن الجبلً ‪.‬‬
‫انطلق المٌكرو باص باتجاه الؽرب أو الشمال الؽربً صعوداًال ‪ ،‬خبلل أقل من ساعة وصلنا ‪.‬‬
‫بٌن الجبال ‪ ،‬فً مكان منعزل ‪ ،‬بناء حدٌث ضخم ‪ٌ ،‬تؤلؾ من أربعة طوابق ‪ ،‬مبات النوافذ ‪ ..‬إنه السجن الجبلً‬
‫‪.‬‬
‫نزلنا ‪ ،‬اجراءات التسلٌم و االستبلم ‪ ،‬ادخلونً لعند مدٌر السجن ‪ ،‬سؤلنً أسبلة كثٌرة وعندما عرؾ أننً‬
‫مسٌحً نادى أحد رقباء الشرطة العسكرٌة ‪ ،‬طلب منه أن ٌؤخذنً إلى جناح الشٌوعٌٌن ‪.‬‬
‫بٌنما كان الشرطً منهمكا ًال بفتح باب الجناح كنت أنظر مشدوها ًال إلى السجناء الذٌن ٌتمشون فً ممر الجناح ‪،‬‬
‫منهم‬ ‫ٌسٌرون ‪ٌ ..‬تحدثون ‪ٌ ..‬ضحكون ‪ ..‬صوتهم مرتفع ‪ ،‬عٌونهم مفتوحة ‪ ،‬كل هذا و الشرطً قرٌب‬
‫‪ ،‬وقؾ ثبلثة أو أربعة سجناء قبالة الباب ٌنظرون إلً ‪ ،‬أدخلنً الشرطً وأؼلق الباب ‪ ،‬بصوت خافت قلت لهم‬
‫‪:‬‬
‫‪ -‬السبلم علٌكم ‪.‬‬
‫‪ -‬وعلٌكم السبلم ‪ ،‬أهبلًال رفٌق ‪ ،‬هل أنت رفٌق ؟‪.‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬لست رفٌقا ًال ‪.‬‬
‫‪ -‬أهبلًال بك مهما كنت ‪ ..‬تفضل ‪ ..‬تفضل ‪.‬‬

‫‪131‬‬
‫أدخلونً أول مهجع ‪ ،‬وقالوا لً قبل أن تجلس هل أنت بحاجة للدخول إلى الحمام ‪ ،‬أجبتهم نعم ‪ ،‬أدخلونً الحمام‬
‫‪ ،‬صابون معطر ‪ ،‬ؼٌار جدٌد ‪ ،‬بٌجاما جدٌدة ‪.‬‬
‫خرجت ‪ ،‬جلست ‪ ،‬حكٌت لهم حكاٌتً ‪ ..‬رداًال على أسبلتهم ‪ ،‬تجمعت حولً حلقة من الناس ٌستمعون ‪.‬‬
‫أحضر أحدهم صٌنٌة كبٌرة علٌها بٌض مقلً ‪ ،‬بندورة ‪ ،‬جبن ‪ ،‬زٌت وزعتر ‪....‬‬
‫ٌا إلهً كما فً البٌت !‪ ...‬هل هذا سجن ؟‪ ..‬سؤلتهم هذا السإال ‪ ،‬ضحكوا وأجابوا ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم سجن ‪ ،‬لكنه سجن خمس نجوم ‪.‬‬
‫طلب منً أحدهم أن أكل وبعد ذلك أكمل حكاٌتً ‪ ..‬وكنت جابعا ًال كذبب ‪.‬‬
‫أكلت أكبلًال حقٌقٌا ًال ‪ ..‬شربت شاٌا ًال حقٌقٌا ًال ‪ ،‬مع كؤس الشاي أعطانً أحدهم سٌجارة ‪ ..‬سؤلنً ‪:‬‬
‫‪ -‬هل تدخن ؟‬
‫‪ -‬نعم كنت أدخن ‪ ..‬ولكن منذ اثنً عشر عام وسبعة أشهر واثنً عشر ٌوما ًال لم ادخن سٌجارة ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬بدو أنك نسٌت أن تحسب الساعات و الدقابق و الثوانً ‪.‬‬
‫وانقسم الناس حولً إلى قسمٌن ‪ ،‬قسم ٌطلب منً أن أؼتنم الفرصة وأترك التدخٌن نهابٌا ًال ‪ ،‬وقسم ٌقول أن ال‬
‫ضٌر من بضع سجابر بعد كل هذه المدة ‪.‬‬
‫تناولت اللفافة واشعلتها ‪ ،‬عببت نفسٌن منها ‪ ،‬دخت ! ‪ ..‬سعلت ‪ ،‬تابعت تدخٌنها ‪ ،‬واستمرت الجلسة منذ الصباح‬
‫وحتى آخر اللٌل ‪.‬‬
‫ٌسؤلون ‪ٌ ،‬ستفسرون ‪ٌ ،‬علقون تعلٌقات ضاحكة ‪ ،‬وروٌت لهم كل شًء‪ " .‬فرؼت " ‪ ،‬وشعرت بارتٌاح فابق ‪..‬‬
‫عبرت عنه قاببلًال لهم ‪:‬‬
‫‪ -‬هل هذه هً الجنة ؟‪.‬‬
‫‪ 31‬كانون األول ‪.‬‬
‫الٌوم رأس السنة ‪ ،‬االستعدادات على قدم وساق ‪ ،‬الجمٌع منهمك بالتحضٌر لبلحتفال براس السنة ‪ ،‬الشرابط‬
‫الملونة و البالونات ‪ ،‬الرسوم و التلوٌنات ‪ ،‬اللحوم و المآكل الطٌبة ‪ ،‬و ‪ ...‬المشروبات ‪ ،‬لدٌهم نبٌذ وعرق وكلها‬
‫تصنٌع محلً !‪.‬‬
‫أعٌش بٌن هإالء الناس منذ شهر تقرٌبا ًال ‪ ،‬أكثرهم عرؾ صدٌقً أنطوان عندما ذكرته عرضا ًال فً سٌاق الحدٌث‬
‫‪ ،‬بعضهم قال إن أنطوان صدٌقه ‪ ،‬كلهم عرفوا خالً ‪ ،‬وكلهم ٌحملون رأٌا ًال سلبٌا ًال فٌه ألنه ٌتعاون مع هذا النظام ‪،‬‬
‫لكن الذي فاجؤنً أن خالً أصبح وزٌراًال فً الوزارة الحالٌة !‪..‬وقد صاح الشخص الذي كنت اتحادث معه ‪:‬‬
‫‪ -‬هل فبلن خالك ؟‬
‫‪ -‬نعم خالً ‪.‬‬
‫‪ -‬لكن كٌؾ ال ٌسعى إلخراجك من السجن وقد اصبح وزٌراًال ؟!‪.‬‬
‫ٌقولون عنه أنه انتهازي ‪ ،‬وأنه قد باع نفسه للشٌطان هو وكل حزبه ‪ ،‬وان حزبه ٌتحمل المسإولٌة عن سجنً‬
‫وسجن اآلخرٌن وعن كل ما ٌجري داخل البلد من قتل وتدمٌر وقمع بنفس درجة مشاركتهم بالحكم ‪.‬‬
‫خالً وزٌر ؟‪ ..‬خبرٌ أصابنً بالدوار !‪.‬‬
‫‪132‬‬
‫‪ 6‬كانون الثاني ‪.‬‬
‫رؼم عدم وجود نساء فإن حفلة راس السنة كانت حلوة بكل المعاٌٌر ‪ ،‬لدٌهم الكثٌر من النبٌذ و العرق وبعض‬
‫المشروبات الكحولٌة التً ال اسم لها ‪ ،‬وكلها من صنعهم هنا ‪ ..‬من العنب و الفواكه و المربى كانوا ٌصنعون‬
‫هذه المشروبات ‪ ..‬شربنا ‪ ،‬أكلنا ‪ ،‬ؼنٌنا ورقصنا ‪ ..‬حتى الصباح ‪ ،‬الجمٌع كانوا فرحٌن شاركوا بكل جوارحهم‬
‫‪....‬‬
‫كنت أجلس فً احدى زواٌا المهجع أحتسً المشروبات وأراقب ‪ ،‬أراقب أفعالهم وفرحهم وضحكهم ‪ ،‬احاول أن‬
‫اتلصص على دواخلهم !‪ ..‬وأتساءل ‪ :‬هل ٌمكن أن ٌكون هذا الفرح حقٌقٌا ًال ؟‪ ..‬أال ٌحمل كل منهم بٌن دفتً‬
‫لمرأة موجودة معه‬ ‫صدره إمرأة ما ‪ ،‬زوجة ‪ ..‬خطٌبة ‪ ..‬حبٌبة ؟ أال ٌتمنى فً هذه اللحظة أن تكون هذه ا‬
‫ٌراقصها ‪ٌ ..‬عانقها ؟‪ ..‬أال ٌشكل هذا الؽٌاب الجارح لهذه المرأة ‪ ..‬مرارة وألم اًال ؟‪ ..‬إذن من أٌن ٌنبع كل هذا‬
‫الفرح المتطاٌر فً أجواء السهرة؟‬
‫كان كل شًء ٌوحً بالبساطة و المحبة ‪ ،‬لكن لم أستطٌع أن أكون صافٌا ًال ‪ ،‬جبال من الحزن و الكآبة تجثم على‬
‫صدري ‪ ،‬حاولت أن اشارك بكل كٌانً ‪ ،‬لكن هناك شٌبا ًال فً داخلً ٌرفض الفرح ‪ٌ ..‬رفض ألنه ال ٌستطٌع ‪ ،‬ال‬
‫عال وصل ٍد من الحزن المتراكم طوال هذه السنوات ‪.‬‬
‫ٌستطٌع أن ٌقفز فوق جدار ٍ‬
‫هناك ‪ ..‬فً السجن الصحراوي ‪ ،‬فً اللٌالً الموحشة الكبٌبة ‪ ،‬اللٌالً التً تبدو ببل نهاٌة ‪ ،‬عندما تترسخ‬
‫القناعات بؤن ال خروج من هنا !‪ ..‬عندما ٌتساوى الموت و الحٌاة !‪ ..‬وفً لحظات ٌصبح الموت أمنٌة !‪....‬‬
‫لم ٌكن ألكثر أحبلمً وردٌة آنذاك أن تبلػ مطامحه الوضع الذي أنا فٌه اآلن !‪ ..‬لم أكن استطٌع أن أصل إلى‬
‫قناعة حقٌقٌة – رؼم كل أحبلم الٌقظة – أننً قد أكون فً ٌوم ما وسط جو من الفرح كسهرة رأس السنة التً‬
‫عشتها هنا فً هذا السجن الجبلً !‪ ..‬رؼم ذلك لم استطع الفرح ‪ ،‬لم استطع أن أضحك ضحكة واحدة من القلب‬
‫!‪ ..‬هل مات الفرح داخلً فً زحمة الموت تلك ؟‪ ..‬هل سؤبقى هكذا ‪ ..‬ولماذا ؟‪ ..‬هل سؤحمل بٌادر العذاب‬
‫والموت جاثمة على قلبً دابما ًال لتخنق كل ما هو جمٌل بالحٌاة ؟!‪ ..‬لست أدري ‪.‬‬
‫‪ 2‬آذار ‪.‬‬
‫وأخٌراًال بدأت جهود خالً – على ما ٌبدو – تإتً ثمارها ‪.‬‬
‫من بٌن االشٌاء األولى التً قمت بها فً أول ٌوم لدى قدومً إلى السجن الجبلً هً ان نظرت إلى نفسً‬
‫بالمرآة ‪ ..‬وأحسست بالخوؾ ‪ ،‬صلع فً مقدمة الراس ‪ ،‬الشعر وقد طال كثٌراًال خبلل وجودي بالفرع أصبح مٌاالًال‬
‫إلى اللون األبٌض ‪ ،‬الشاربان متهدالن وقد أبٌّضّ أكثر من نصفهما ‪ ،‬العٌنان ؼابرتان تحٌط بهما هالتان‬
‫ًال‬
‫عمٌقة على الجبٌن وحول العٌنٌن ! ‪ ..‬أبعدت‬ ‫سوداوان ‪ ،‬األلم و القهر و الخوؾ و الذل ‪ ..‬قد حفرت أخادٌدَ‬
‫المرآة بسرعة ‪.‬‬
‫الٌوم فً العاشرة صباحا ًال حضر شرطً إلى باب الجناح ٌحمل بٌده ورقة ‪ ،‬صاح اسمً وقال ألبو وجٌه ربٌس‬
‫الجناح ‪:‬‬
‫‪ -‬بلػ هذا ‪ ..‬عندو زٌارة ‪.‬‬

‫‪133‬‬
‫انشؽل أكثر من عشرة اشخاص بمسالة تجهٌزي وإعدادي للزٌارة ‪ ،‬حبلقة الذقن ‪ ،‬تشذٌب الشاربٌن ‪ ،‬البنطال و‬
‫القمٌص ‪ ،‬الحذاء " سؤلونً عن نمرة حذابً واتونً بحذاء نمرته ‪ /42/‬بنا ًالء على طلبً ‪ ،‬لكنه كان صؽٌراًال ‪ ،‬ولم‬
‫تدخل قدمً إال فً حذاء نمرته ‪ /44/‬لقد كبرت قدمً نمرتٌن !"‬
‫وكانت هذه هً المرة األولى التً ألبس فٌها حذا ًالء منذ حوالً ‪ /13 /‬عاما ًال ‪ ،‬مثلما كانت المرة األولى التً أرى‬
‫فٌها مرآة طوال نفس المدة ‪.‬‬
‫بعد أن ألبسونً كما ٌلبسون العرٌس ‪ ،‬رشونً بالعطور ‪ ،‬كنت متوتراًال ‪ٌ ،‬داي ترتجفان ‪ ،‬دخنت سٌجارة إلى‬
‫حٌن مجًء السجان ألخذي إلى الزٌارة ‪.‬‬
‫مشٌت إلى جانب السجان متوجسا ًال مرتبكا ًال ‪ ،‬كدت أقع مرتٌن بعد أن تعثرت بالحذاء الذي ألبسه " ما أصعب‬
‫المشً بالحذاء " وصلنا إلى ؼرفة بابها مفتوح ٌجلس فٌها رجل كهل ابٌض الشعر وأمرأة شابة تحمل على‬
‫صدرها طفبلًال رضٌعا ًال ‪ ،‬وضع السجان ٌده على ظهري بلطؾ ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬تفضل ‪ ..‬ادخل ‪.‬‬
‫دخلت ‪ ..‬واحتاج األمر إلى عدة ثوان من التحدٌق حتى استطعت تبٌن مبلمح أخً األكبر !‪ ..‬هو أٌضا ًال لم‬
‫ٌعرفنً ألول وهلة " مضى تسعة عشر عاما ًال منذ أن رأٌته أخر مرة " ‪.‬‬
‫صرخت اسمه وأنا أتقدم نحوه ‪ ..‬احتضننً واجهشنا بالبكاء ‪.‬‬
‫تعانقنا ونحن نبكً أكثر من دقٌقة ‪ ،‬رأسً على كتؾ أخً ‪ ،‬ابكً لوعة ‪ ..‬اشتٌاقا ًال ‪ ،‬ألما ًال وفرحا ًال ‪ ..‬أبكً ارتٌاحا ًال ‪،‬‬
‫هنا بر األمان ‪.‬‬
‫ابتعد أخً قلًالًال ‪ ،‬مسح دموعه وناولنً مندٌبلًال ورقٌا ًال ألمسح دموعً ‪ ،‬التفت إلى حٌث المرأة الشابة ‪ ،‬كانت قد‬
‫وضعت رضٌعها على كرسً وجلست على آخر ‪ ،‬تبكً وتنشج ‪ ،‬تبكً بحرقة شدٌدة وقد ؼطت وجهها وعٌنٌها‬
‫بٌدٌها ‪ ،‬نظرت إلى أخً مستفهما ًال ‪ ،‬وبحركة من راسً سؤلته عنها ‪ ،‬من تكون ؟‪.‬‬
‫ووسط عٌنٌه الدامعتٌن الح شبح ابتسامة خفٌفة ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬ما عرفتها ؟ ‪ ..‬أكٌد ما راح تعرفها ‪ٌ ..‬ا أخً هذه بنتً ‪ ..‬بنتً لٌنا ‪.‬‬
‫التفت إلٌها وكانت قد رفعت رأسها ‪ ،‬احمرار البكاء ٌحٌط ببإبإٌها األخضرٌن ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا لٌنا ‪ ..‬قومً سلمً على عمك ‪.‬‬
‫ألقت لٌنا نفسها بؤحضانً ‪ ،‬اعتصرتنً واعتصرتها ونحن نلؾ حول نفسٌنا ‪ ،‬أحسست بدوار قوي ‪ ،‬كنت ببل‬
‫وزن أطوؾ فً الفضاء الرحب ‪ ..‬ال أرى شٌبا ًال ‪ ،‬ال أدري كٌؾ جلست على أحد المقاعد ‪ ،‬لٌنا تجلس فً‬
‫حجري كما كانت تفعل وهً صؽٌرة ‪ ،‬تمسح دموعً ‪ ،‬تقبلنً وتقبلنً وهً تهمس ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا عمو ‪ٌ ..‬ا عمو ‪ ..‬شو عاملٌن فٌك ‪ٌ ..‬ا عمو ‪ ..‬آخ ٌا عمو ‪ ..‬آخ ‪ ..‬وهللا العظٌم أنا اشتقت لك كثٌر‬
‫‪ ...‬شلون هٌك ‪ ...‬شلون ؟!‪..‬‬
‫لٌنا ‪ ..‬بإبإ الروح ‪.‬‬
‫عندما ولدت لٌنا ‪ ،‬أنا الذي اخترت لها هذا االسم ‪ ،‬ومنذ أن اصبح عمرها ستنين كانت ال تفارقنً " لٌنا حبٌبة‬
‫عمها ‪ ..‬هكذا كان الجمٌع ٌقول"‪ .‬تنام معً فً السرٌر ‪ ،‬حتى لو تؤخرت فً المجًء إلى البٌت ونامت هً قبلً‬
‫‪134‬‬
‫‪ ،‬كنت استٌقظ صباحا ًال ألجدها نابمة إلى جانبً ‪ ،‬تسٌقظ عدة مرات فً اللٌل ‪ ،‬تتفقدنً ‪ ،‬وعندما أعود وسوا ًالء‬
‫أكنت صاحٌا ًال أم نابما ًال تندس إلى جانبً ‪.‬‬
‫عندما ذهبت إلى فرنسا كان عمرها أكثر قلٌبلًال من خمس سنوات ‪ ،‬وهاهً اآلن أمرأة كاملة ‪ ،‬وأم أٌضا ًال ‪.‬‬
‫أمسك أخً كتؾ لٌنا وهزها قاببلًال وهو ٌضحك ‪:‬‬
‫‪ -‬قومً انزلً من حضن عمك ‪ ..‬كسرتً رجلٌه ‪ ..‬شو ظانة حالك صؽٌرة لسى !‬
‫جلست لٌنا إلى جانبً مبقٌة ٌدي بٌن ٌدٌها ‪ ،‬تعصر لٌنا ٌدي وتقبلها بٌنما أخً ٌحاول أن ٌطمبننً ‪ ..‬وأن خالً‬
‫ٌبذل جهوداًال جبارة إلخرا ج ي من السجن وأنهم ورابً ولم ٌتركونً أبداًال ‪ ،‬وأفهمنً أن خروجً من السجن‬
‫مرتبط بموافقة ربٌس الجمهورٌة !!‪ ..‬وأنه منذ أكثر من عشر سنوات جرت العادة أن أي مسإول فً أجهزة‬
‫األمن ٌستطٌع أن ٌسجن من ٌشاء ‪ ،‬لكن خروج أي سجٌن ٌجب أن تتم بموافقة ربٌس الدولة الذي ٌحتفظ‬
‫بسجبلت اسمٌة لكل السجناء السٌاسٌن !‪.‬‬
‫سؤلته عن صحة أمً وابً ‪ ،‬فقال إنهما بخٌر ‪.‬‬
‫انتهت الزٌارة ولٌنا متعلقة بٌدي ‪ ..‬تعصرها وتقبلها ‪.‬‬

‫عدت إلى الجناح ‪ ،‬إلى المهجع ‪ ..‬استقبلنً أبو وجٌه مبتسما ًال ‪ ،‬و ‪ ..‬الحمد هلل على السبلمة ‪ ،‬مبروك الزٌارة ‪.‬‬
‫ٌتكلمون معً ‪ ،‬أجٌب ‪ ...‬وأنا فً حالة انعدام وزن ‪ ،‬فً خفة الرٌشة كنت !‪.‬‬
‫الحظوا حالً ‪ ،‬جلب لً أحدهم كؤسا ًال من العرق ‪ ..‬شربته دفعة واحدة ‪ ،‬ضحك ‪ ،‬جلب لً كؤسا ًال أخر ‪ ..‬شربته‬
‫على دفعات ‪ ،‬سؤلت أبو وجٌه ماذا أفعل بالنقود التً أعطانٌها أخً ‪ ،‬قال‪:‬‬
‫‪ -‬إذا شبت ضعها فً الصندوق ‪ ،‬هنا ال ٌحتفظ أحد بنقوده وكل شًء مشترك ‪ " ،‬نقودهم مشتركة وتوضع‬
‫فً صندوق واحد ‪ ،‬طعامهم مشترك ‪ ،‬لباسهم مشترك " ‪ ،‬عشرة آالؾ لٌرة وضعتها فً الصندوق ‪ ،‬قال‬
‫الشخص الذي أخذ النقود إننً شخص ؼنً ‪ ،‬ألن الناس هنا كلهم فقراء ‪ ،‬وأكبر مبلػ ٌستلمه السجٌن من‬
‫ألؾلٌرة ‪ ،‬قلت إن فً السجن الصحراوي اشخاصاًال أعط اه م أهلهم نصؾ ملٌون لٌرة ‪ ،‬اطلق‬
‫أهله هو ا‬
‫هذا الشخص صفرة تعجب من بٌن شفتٌه ‪.‬‬
‫تممدت على فراشً ‪ ،‬ؼطٌت رأسً بالبطانٌات ‪ ..‬نمت ‪.‬‬
‫( حصٌلة ألحادٌث طوٌلة وممتدة على فترة طوٌلة ‪ ،‬عرفت هنا من الشباب "كما ٌحبون أن ٌسموا أنفسهم" أن‬
‫السبب الربٌس للتحقٌق معً لدى جهات أمنٌة متعددة هو الصراع الشرس بٌن هذه األجهزة ‪ ،‬وقد شرحوا لً مع‬
‫استخدام الكثٌر من التعابٌر السٌاسٌة ماٌسمونه "جوهر النظام السٌاسً فً البلد" وآلٌة عمل األجهزة ‪ ،‬هذه‬
‫األجهزة التً جعلها ربٌس الدولة تتنافس على شٌبٌن أساسٌن ‪ :‬أوالًال اثبات والبها المطلق له ‪ ،‬وثانٌا ًال الحصول‬
‫على أكبر قدر ممكن من المكاسب و االمتٌازات ‪.‬‬
‫ولكون خالً وزٌراًال شٌوعٌا ًال ‪ ،‬وبما أنه المتدخل الطبلق سراحً فقد انعكس موقؾ األجهزة األمنٌة المختلفة ‪،‬‬
‫سلبا ًال أو اٌجابا ًال ‪ ،‬من الشٌوعٌٌن علًّ ‪ ،‬فبعض األجهزة تكره الشٌوعٌٌن كرها ًال مطلقا ًال وال تمٌز بٌن شٌوعً مو ٍ‬
‫ال‬
‫للنظام وآخر معا ٍد ‪ ،‬بٌنما األجهزة األخرى تكرههم بدرجة أقل ) ‪.‬‬
‫‪135‬‬
‫‪ 6‬أيار ‪.‬‬
‫أعادونً إلى فرع المخابرات الذي أتٌت إلٌه عندما عدت من السجن الصحراوي ‪.‬‬
‫ي آخر مرة قال لً أنهم ٌمكن أن ٌعٌدونً إلى الفرع‬
‫زارنً أخً وابنته لٌنا ثبلث مرات فً السجن الجبلً ‪ ،‬وؾ‬
‫تمهٌداًال إلطبلق سراحً ‪ ،‬وأنه ٌجب أن أكون مرنا ًال ومتعاونا ًال ‪ ..‬و ‪:‬‬
‫‪ -‬الٌد التً ال تسطٌع عضها ‪ ..‬بوسها ‪ ..‬وادعً علٌها بالكسر !‪.‬‬
‫صباحا ًال حضر السجان ‪ ،‬نادى اسمً ‪ ،‬طلب منً أن أجهز نفسً ‪.‬‬
‫أعطانً زمبلبً السجناء خمسة آالؾ لٌرة ‪ ،‬الكثٌر من الثٌاب ‪ ،‬بعض األطعمة ‪ ،‬ودعنً أبو وجٌه بالقببلت ‪:‬‬
‫‪ -‬خلٌك رجّ ال ‪ ،‬ال تخاؾ من شًء أبداًال ‪ ،‬نتمنى لك التوفٌق و ‪ ...‬الحرٌة ‪.‬‬
‫فً الفرع درج ‪ ..‬ثم درج ‪ ..‬الباب ذو القضبان الحدٌدٌة ‪ ،‬قرقعة الحدٌد الدابر فً الحدٌد ‪ ،‬ومن جدٌد زنزانة‬
‫جدٌدة ‪ ،‬اسماء جدٌدة محفورة على الجدران ذات اللون األخضر الفاتح ‪.‬‬
‫ٌومان من الوحدة ‪ ..‬مع أصوات التعذٌب ‪ ،‬الصراخ المعبر عن األلم اإلنسانً ‪ ،‬رجال ونساء وأطفال حتى ! ‪..‬‬
‫ومحاولة تجاهل كل ذلك ‪ ،‬توبٌخ الذات ألنها تحاول التجاهل ! ‪ ..‬التجاهل هو دعوة للببلدة و التحجر ‪.‬‬
‫مسا ًالء ٌفتح السجان الباب ‪:‬‬
‫‪ -‬قوم ‪ ..‬ربٌس الفرع طالبك ‪.‬‬
‫القً التحٌة على ربٌس الفرع الذي سبق أن قابلته منذ شهور ‪:‬‬
‫‪ -‬مساء الخٌر ‪.‬‬
‫‪ -‬أهبلًال وسهبلًال ‪ ،‬تفضل ‪ ..‬اجلس ‪.‬‬
‫أجلس بهدوء ‪.‬‬
‫تبدأ محاضرة فٌها الكثٌر مما ٌقال فً الرادٌو و التلفزٌون عن الدور التقدمً الذي ٌلعبه السٌد القابد ربٌس‬
‫الجمهورٌة ضد الرجعٌة و االستعمار ‪ ،‬وعن أفضاله على الناس وحكمته وشجاعته وبراعته ‪ ..‬و ‪ ..‬أخٌراًال ‪:‬‬
‫‪ -‬نحن قررنا نخلً سبٌلك ‪ ،‬ألنك انسان وطنً ‪ ،‬وألن خالك قدم خدمات كبٌرة للوطن ‪ ..‬و ‪ ..‬و ‪ ...‬بس‬
‫نرٌد منك مسؤلتٌن روتٌنٌتٌن !‪ ..‬نرٌد منك أن توقع على تعهد بعدم العمل فً السٌاسٌة ‪ ،‬وأٌضا ًال نرٌد‬
‫منك أن تكتب برقٌة شكر للسٌد الربٌس حفظه هللا ‪.‬‬
‫‪ -‬برقٌة شكر ؟!‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬برقٌة تشكر فٌها السٌد الربٌس ‪.‬‬
‫‪ -‬برقٌة شكر ؟! ‪ ..‬ولكن على أي شًء أشكره ؟ ‪.‬‬
‫نظر إلًّ متعجبا ًال ‪ ،‬وباستؽراب صادق قال ‪:‬‬
‫‪ -‬تشكره ألنه شملك برعاٌته ورحمته واخلى سبٌلك ‪.‬‬
‫مرة أخرى ركبنً العناد البؽلً الذي أصبح نهجا ًال لً أواجههم به كلما طلبوا منً شًء ‪.‬‬
‫بؤكثر ما ٌمكن من اللطؾ ‪ ،‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬أنا أسؾ سٌادة العمٌد ‪ ،‬ال استطٌع أن أوقع ال على التعهد السٌاسً وال على برقٌة الشكر ‪.‬‬
‫‪136‬‬
‫ذهل العمٌد عندما سمع كلماتً !‪ ..‬سكت قلٌبلًال وبطرٌقة خبٌر أخفى كل ذهوله واندهاشه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت تعرؾ أننا نكرنمك كرمى لخالك ‪ ،‬لذلك أرجوا أن تلٌن رأسك قلٌبلًال ‪ٌ ،‬باسة الراس راح تضرك ‪،‬‬
‫ولٌكن بعلمك أن آالؾ السجناء كتبوا برقٌات شكر للسٌد الربٌس بالدم ‪ ،‬ولم ٌتم إخبلء سبٌلهم ‪ ..‬فــ ‪..‬‬
‫خلٌك عاقل ووقع أحسن لك ‪.‬‬
‫فعبلًال كنت أعرؾ أن المبات من السجناء كانوا ٌطلبون من إدارات السجون محاقن طبٌة ٌسحبون الدم من‬
‫عروقهم بها لٌستعملوه كحبر ٌكتبون به برقٌات شكر أو استرحام لربٌس الجمهورٌة راجٌن اطبلق سراحهم من‬
‫السجن ‪ ،‬وعندما كانت ادارات السجون ال تعطٌهم المحاقن فإنهم كانوا ٌجرحون أصابعهم ومن الدم النازؾ‬
‫ٌكتبون برقٌات الشكر واالسترحام ‪.‬‬
‫لكن كنت قد قررت ‪ " :‬ال مزٌد من الذل ‪ ،‬ولٌكن السجن أو الموت " ‪.‬‬
‫‪،‬‬ ‫و الحقٌقة أن معاشرتً الطوٌلة للسجناء فً السجن الصحراوي و السجن الجبلً علمتنً الكثٌر من األشٌاء‬
‫وأهم ما تعلمته منهم هو معنى وأهمٌة الكرامة والرجولة ‪ ،‬وهما شٌبان شخصٌان ال عبلقة لهما بتنظٌم أو نظام‪.‬‬
‫إن التوقٌع على برقٌة الشكر كشرط إلخبلء السبٌل هً االختبار النهابً لهذه األجهزة لتإكد لهم أن هذا السجٌن‬
‫قد تجرع الذل حتى النهاٌة وتحول إلى كابن ال ٌمكن أن ٌقؾ بوجههم ٌوما ًال ما‪ ،‬وهو على استعداد لتنفٌذ كل ما‬
‫ٌطلبونه منه‪ ،‬طالما هو على استعداد ألن ٌشكر كبٌرهم على كل ما عاناه على ٌدٌه وأٌدي من هم أصؽر شؤنا ًال‬
‫منه ‪.‬‬
‫رفضت بقوة ان أوقع ‪.‬‬
‫" لن اشكر من سجننً كل هذه السنوات الطوٌلة ‪ ،‬لن أشكر من سرق عمري وشبابً ‪ ..‬لن أشكر من ضٌع‬
‫أجمل سنوات عمري ‪" ..‬‬
‫كنت أردد هذه العبارات و الجمل بٌنً وبٌن نفسً ‪ ،‬أشحذ فٌها عزٌمتً وأقوي إرادتً ‪ ،‬كنت خابفا ًال من نفسً ‪..‬‬
‫خابفا ًال من ضعفً ‪ ..‬ظللت أردد هذه الكلمات القوٌة ألبعد عنً الضعؾ ‪.‬‬
‫بعد أن ٌبس منً ربٌس الفرع أمر بإعادتً إلى الزنزانة ‪ ،‬أعادونً بخشونة ظاهرة ‪.‬‬
‫بعد نصؾ ساعة من عودتً إلى الزنزانة دخل علًّ مدٌر السجن ‪ ،‬وهو شخص مسن على أبواب التقاعد ‪،‬‬
‫طٌب القلب كثٌراًال ‪ٌ ،‬حاول مساعدة السجناء خفٌة وقدر المتاح ‪.‬‬
‫بلهجة أبوٌة وبنواٌا صادقة حاول اقناعً أن أوقع ‪ ،‬شرح لً عواقب عدم التوقٌع وأسهب فً ذلك ‪ ،‬وأورد اشٌاء‬
‫كثٌرة ‪ ،‬منها ‪:‬‬
‫‪ -‬إن من ٌرفض التوقٌع عادة هم القٌادات و الزعماء و المعارضون بشدة للسلطة القابمة ‪ ،‬لذلك فإن عدم‬
‫توقٌعً سٌعتبر دلٌبلًال على أننً من هإالء ‪ ،‬وٌنسؾ كل أقوالً السابقة بؤننً لم أعمل فً السٌاسة ‪..‬‬
‫ظل ٌحاول خاتما ًال حدٌثه بالعبارة التً قالها لً أخً ‪:‬‬
‫‪ -‬الٌد التً ال تستطٌع عضها ‪ ..‬بوسها ‪ ..‬وادعو علٌه بالكسر‪.‬‬
‫وبقٌت مصراًال على موقفً ‪.‬‬

‫‪137‬‬
‫بعد ذهاب مدٌر السجن فكرت طوٌبلًال ‪ ،‬ضحكت ‪ ..‬لو كنت فً السجن الصحراوي الستطاعوا أن ٌجعلونً أوقع‬
‫على آالؾ البرقٌات ‪ ،‬ال بل إنهم ٌستطٌعون أن ٌجعلونً أقبل حذاء أصؽر شرطً !‪.‬‬
‫الشعور بالحماٌة ‪.‬‬
‫معرفتً أن أهلً عامة وخالً على وجه الخصوص ٌتابعونني خطوة بخطوة ولّد لدي احساس اًال بؤننً محمً ‪،‬‬
‫وٌمكن أن ٌكون هو األساس الفعلً لموقفً الرافض للتوقٌع !‪ ..‬ولكن ‪..‬‬
‫أال ٌوجد شًء نابع من الذات ؟ ‪.‬‬
‫‪ 3‬تموز ‪.‬‬
‫التاسعة وسبع وثبلثون دقٌقة صباحا ًال‪ ،‬أقؾ على الرصٌؾ المبلل بالمٌاه أمام الفرع بعد أن أؼلقوا الباب خلفً ‪.‬‬
‫واخٌراًال ‪ ..‬أنا حرّ ! ‪.‬‬
‫ثبلثة عشر عاما ًال وثبلثة اشهر وثبلثة عشر ٌوما ًال ‪ ..‬مضت على وصول الطابرة ‪ ،‬التً كنت على متنها ‪ ،‬إلى‬
‫مطار عاصمة الوطن ‪.‬‬
‫دوار فً الرأس ‪ ،‬طنٌن فً االذنٌن ‪ ،‬زوؼان فً العٌنٌن ‪.‬‬
‫عشرات السٌارات الصفراء تنطلق أمامً مسرعة وفً االتجاهٌن ‪ ،‬مبات الناس ٌهرولون بسرعة فً كافة‬
‫االتجاهات ‪.‬‬
‫سمعت من ٌنادي خلفً ‪ ،‬التفت ‪ ،‬رأٌت حارس الفرع ٌشٌر لً بٌده ٌؤمرنً أن أبتعد من أمام الفرع ‪ " ،‬تساءلت‬
‫‪ :‬هل هً آخر أوامرهم لً ؟ " ‪.‬‬
‫ابتعدت أكثر من مبة متر ‪ ،‬وقفت على الرصٌؾ ‪ ،‬وقفت أمامً سٌارة أجرة صفراء ‪ ،‬سؤلنً السابق إن كنت‬
‫ًال‬
‫مسرعة ‪ ،‬الهواء ٌضرب وجهً ‪ ..‬أؼمضت عٌنً ‪ ،‬سمعت صوت‬ ‫أرٌد الصعود ‪ ..‬صعدت ‪ ،‬انطلقت السٌارة‬
‫السابق ‪:‬‬
‫‪ -‬لوٌن راٌح ‪ ..‬استاذ ؟‬
‫‪ -‬إلى أي مكان !‬
‫سكت السابق قلٌبلًال ‪ ،‬نظر إلً فً المرآة متفحصا ًال ‪ ..‬عاد للسإال ‪:‬‬
‫‪ -‬ألي مكان ‪ ..‬تحب تروح استاذ ؟‪.‬‬
‫لم أكن راؼبا ًال بالحدٌث مع أي كان ‪ ،‬اردت اسكاته قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬أرٌد أن تؤخذنً مشوار ‪ ..‬دورة فً كل األحٌاء القدٌمة ‪.‬‬

‫************‬
‫بعد خروجً من عند ربٌس الفرع وبعد محاولة مدٌر السجن معً ألوقع ‪ ،‬أهملونً تماما ًال أكثر من شهر ونصؾ‬
‫‪ ،‬فً االٌام األولى من هذه الفترة كنت فرحا ًال ومزهواًال وراضٌا ًال عن نفسً تماما ًال ‪ ،‬لكن مع استمرار االهمال بدأ‬
‫االحساس بالضٌق و الملل ٌنتابنً ‪ٌ ،‬ومٌا ًال كنت اسمع أصوات التعذٌب و الصراخ ‪ ،‬وفً ٌوم من األٌام سمعت‬
‫صراخ ول ٍد صؽٌر ٌتعذب ‪ ،‬فكرت أن أطرق الباب ألطلب منهم مقابلة ربٌس الفرع !‪.‬‬
‫‪138‬‬
‫حتى الكلمات التً ٌجب أن أقولها له كانت جاهزة ‪:‬‬
‫‪ -‬سٌدي العمٌد ‪ ..‬لقد فكرت طوٌبلًال ‪ ،‬وأنا على استعداد للتوقٌع على أي ورقة ترٌد !‪.‬‬
‫فركت جبٌنً وأنا أسٌر خطوتٌن إلى األمام ومثلهما إلى الخلؾ ‪ ،‬جلست ‪ ،‬وضعت رأسً بٌن ٌدي ‪ ،‬فكرت ‪،‬‬
‫ضربت راسً بالحابط ‪ ،‬بكٌت ‪ ..‬بكٌت ‪ ،‬تمددت ونمت ‪.‬‬

‫فً ‪ 23‬حزٌران حوالً العاشرة صباحا ًال فتح السجان الباب وقال لً أن أجهز نفسً للزٌارة ‪.‬‬
‫أخً لوحده دون لٌنا ‪ٌ ،‬جلس إلى جانب العمٌد ‪ ،‬قام العمٌد وقال أنه سٌتركنا لوحدنا لكً نؤخذ حرٌتنا بالكبلم ‪،‬‬
‫قال ذلك بمنتهى التهذٌب و اللباقة ‪.‬‬
‫بدأ أخً الحدٌث ‪ ،‬حوالً الساعة أو أقل قلٌبلًال ‪ ،‬ساق الكثٌر من األمثال ‪ ،‬وضؽط علًّ بشدة ٌدعونً إلى التوقٌع‬
‫‪ ،‬تكلم ‪ ..‬وتكلم ‪ ،‬أنا مطرق براسً أستمع إلٌه ‪ ،‬استمع إلٌه وأزداد ابتعاداًال عنه ! هل هذا أخً الكبٌر الذي كان‬
‫ٌوما ًال ما مثاالًال وقدوة لً ؟!‪.‬‬
‫دون أن أرفع راسً قلت له أننً لن أوقع على أي شًء ‪،‬اننً اذا كنت عببا ًال علٌه فارجو أال ٌكلؾ نفسه زٌارتً‬
‫ثانٌة ‪ ..‬ثم ‪ ..‬اندفعت كتلة من الؽضب و الحنق إلى حلقً فصحت بوجهه ‪ ..‬إنه إذا أراد ثانٌة أن ٌزورنً‬
‫لٌسمعنً هكذا كبلم ‪ ..‬هكذا نصابح ‪ ..‬فؤرجو منه بشدة أال ٌزورنً ‪ ،‬ألننً اشعر بالقرؾ اتجاهه !‪.‬‬
‫اتسعت عٌناه دهشة ‪ ..‬فؽر فمه ‪ ،‬سكت مطرقا ًال ‪..‬‬
‫أنقذ العمٌد الموقؾ بدخوله ‪ ،‬واستوعب الموقؾ حاالًال ‪ ..‬التفت إلى أخً وقال بهدوء ‪:‬‬
‫‪ -‬سلم لً على خالك ‪ ..‬مو قلت لك أن رأسه ٌابس ‪.‬‬
‫شكر أخً العمٌد وخرج ‪.‬‬
‫عشرة أٌام أخرى من اإلهمال ‪ ،‬عشرة اٌام من العذاب النفسً المضنً ‪ ..‬هل خسرت أخً ؟ ‪ ..‬هل أنا عبارة‬
‫مدع فارغ صؽٌر؟‪ ..‬هل أرٌد أن البس نفسً ثوب المناضل الصلب ؟‪ ..‬ألن ٌكون هذا الثوب فضفاضا ًال‬
‫عن ٍ‬
‫علًّ كثٌراًال ؟‪ ..‬ألٌس المنطق الذي ٌتكلم فٌه أخً هو السابد إن لم ٌكن هو الصحٌح ؟‪ ..‬أتقلب على جمر النفس ‪،‬‬
‫و ‪ ..‬أحترق !‪.‬‬
‫فً ‪ 1‬تموز الساعة الحادٌة عشر صباحا ًال ادخلونً إلى ؼرفة العمٌد ألجده واقفا ًال باحترام بٌنما أخً وشخص أخر‬
‫كهل ‪ ،‬أبٌض الشعر ‪ ،‬جالسان !‪ ..‬عرفت فٌما بعد أن هذا الكهل هو خالً ‪.‬‬
‫استؤذن العمٌد بؤدب جم أن ٌخرج من الؽرفة بعد أن طلب لنا ثبلثة فناجٌن قهوة ‪.‬‬
‫بعد التحٌات و القببلت بدأ خالً محاضرة طوٌلة انتهت بالتؤنٌب و التوبٌخ ‪ ،‬ثم أصدر لً أمراًال حازما ًال بالتوقٌع‬
‫على الورقة التً مدها لً ‪.‬‬
‫بهدوء شدٌد رفضت ‪.‬‬
‫قام عن كرسٌه ألول مرة ‪ " ،‬فكرت ‪ ..‬كم ٌبدو كبٌراًال فً السن !" اقترب منً حانقا ًال ‪ ،‬توقؾ ‪ ،‬التفت إلى أخً‬
‫بسرعة وسؤله أن كان ٌستطٌع التوقٌع على الورقة بدالًال منً ‪ ،‬أومؤ أخً برأسه موافقا ًال ‪ ..‬ثم وقع ‪ ،‬صرّ خالً‬
‫على اسنانه ‪ ،‬وقال لً ‪:‬‬
‫‪139‬‬
‫‪ٌ -‬ا وٌلك ‪ ..‬إذا حكٌت أي كلمة !‪.‬‬
‫حضر العمٌد‪ .‬ناوله خالً الورقة‪ .‬رن العمٌد الجرس بعد أن وضع الورقة فً درج المكتب ‪ .‬أمرهم أن ٌعٌدونً‬
‫إلى الزنزانة‪ .‬بعد ٌومٌن وفً الساعة التاسعة وسبع وثبلثين دقٌقة كنت أقؾ على الرصٌؾ المبلل أمام مبنى‬
‫الفرع‪ ..‬حرّ اًال!‬
‫************‬

‫دارت بً السٌارة زهاء ساعة‪ ،‬تجاهلت السابق تماما ًال ‪ ،‬كنت فً حالة انعدام تفكٌر ‪ ،‬صحوت بعدها ‪ ..‬وسؤلت‬
‫نفسً ‪ :‬إلى أٌن ‪ ..‬إلى أٌن ؟‪.‬‬
‫شعرت برؼبة جارحة للنوم ! ‪ ..‬أرٌد أن أنام ‪ ،‬أرٌد أن أنام !‪.‬‬
‫أعطٌت السابق عنوان بٌتنا ‪ .‬نزلت من السٌارة بعد أن أعطٌته نصؾ ما أملك من النقود ‪ .‬مشٌت على الرصٌؾ ‪.‬‬
‫كنت أنظر إلى الرصٌؾ وأخشى فً كل لحظة أن ٌنخسؾ و أؼوص فً حفرة ال نهاٌة لها ‪.‬‬
‫صعدت الدرج‪ ،‬ضؽطت الجرس ‪ ..‬من سٌفتح الباب ؟‪ ..‬أمً‪ ،‬أبً ؟ ‪.‬‬
‫لم ٌفتح لً أحد ! أٌن أبً؟ ‪ ..‬أٌن أمً؟‪..‬‬
‫جلست على الدرج‪ ،‬بقٌت جالسا ًال ثبلث ساعات تقرٌبا ًال‪ ،‬مرت بً العدٌدات من جاراتنا صعوداًال أو نزوالًال ‪ٌ ،‬نظرن‬
‫إلً باستؽراب وتوجس‪ ،‬لم أعرؾ أٌة واحدة منهن ‪ .‬حضر شاب أنٌق ٌلبس نظارات طبٌة ‪ ،‬نظر إلً باستؽراب‬
‫ثم تجاوزنً‪ ،‬فتح باب بٌتنا ‪ ..‬ودخل !‪.‬‬
‫وقفت ‪ ..‬نادٌت علٌه‪ ،‬التفت إلً دون أن ٌستدٌر ناظراًال بطرؾ عٌنه‪.‬‬
‫‪ -‬نعم ‪ ..‬شو بترٌد؟‬
‫‪ -‬من أنت ‪ ..‬لوٌن داخل؟‪.‬‬
‫************‬

‫تعارفنا‪ .‬انه زوج لٌنا ابنة أخً ‪ .‬رحب بً ترحٌبا ًال شدٌداًال ‪ ،‬قال إنه سٌجهز الحمام بسرعة ‪ ،‬وإنه ٌجب أن أؼٌر‬
‫ثٌابً‪ .‬سؤلنً إن كنت جابعا ًال‪ ،‬طلبت منه فنجان قهوة ببل سكر‪ٌ .‬دور سإال فً حلقً‪ ..‬أخشى كثٌراًال أن أطرحه ‪.‬‬
‫أنهٌت شرب القهوة‪ ..‬اعتدلت فً جلستً‪ ،‬وسؤلته ‪:‬‬
‫ـ أٌن أبً و أمً؟‬
‫فوجا‪ ...‬نظر إلً بدهشة ممزوجة بالشفقة‪ ،‬بدأ ٌتمتم‪:‬‬
‫‪ -‬ال أعرؾ‪ ..‬أنا ولٌنا‪ ،‬وقت معرفتً بلٌنا ‪ ..‬لم ٌكونا موجودٌن‪ .‬رحم هما هللا ‪ ..‬ما تعرفت ال على الوالد‬
‫وال على الوالدة ‪ ..‬و ‪ ..‬و‪..‬‬
‫ما كنت أخشاه‪ ..‬حاصل‪ .‬آه ٌا أمً وٌا أبً ‪ ،‬هل قلتما أو قال أحدكما إنه ٌتمنى أن ٌرانً قبل أن ٌموت؟ ‪ ..‬هل‬
‫تسبب سجنً وؼٌابً بتعجٌل موتكما؟‪ ..‬أدفع نصؾ حٌاتً مقابل أن أضع رأسً لمدة خمس دقابق على صدر‬
‫أمً‪.‬‬
‫‪140‬‬
‫أنور زوج لٌنا ٌقؾ أمامً مرتبكا ًال‪ٌ ،‬راقبنً‪ ،‬سؤلته إن كان ٌعرؾ مكان الدفن‪ ،‬أومؤ برأسه أن نعم‪.‬‬
‫كتب ورقة وضعها على الطاولة ‪ .‬انطلقنا نحو المقبرة‪ ،‬وصلنا‪ ،‬اسم أبً وأمً واضحان على الحجر‪ ،‬رسم أنور‬
‫إشارة الصلٌب على صدره‪...‬‬
‫وقفت قلٌبلًال أتمعن الكتابة وال أفهم شٌبا ًال ‪ ،‬احتضنت الحجارة الباردة وأرحت رأسً علٌها ‪ ،‬أؼمضت عٌنً ‪...‬‬
‫اًال‬
‫واجب ما اتجاه الموت‬ ‫شعرت براحة كبٌرة‪ ...‬أوشكت أن أنام‪ ،‬تذكرت أنور فوقفت‪ .‬فً داخلً شعور بؤن علً‬
‫ٌجب القٌام به‪ ،‬اتجهت نحو القبلة‪ ...‬القبر بٌنً وبٌن مكة‪ ،‬فتحت كفً باتجاه السماء وقرأت الفاتحة ‪ ،‬ثم وبشكل‬
‫آلً‪ ...‬صلٌت صبلة الجنازة!‪.‬‬
‫‪ 6‬تشرين أول‬
‫بعد أسبوع من خروجً من السجن دعانً أخً أبو لٌنا إلى عشاء فً مطعم خارج المدٌنة ‪ ،‬كان المطعم جمٌبلًال‬
‫وهادبا ًال ال ٌسمع فٌه إال صوت الموسٌقى الناعمة وصوت خرٌر النهر المنحدر من الهضاب الؽربٌة ‪.‬‬
‫على العشاء حدثنً عن أمً و أبً و قال إ ن ابً قد رتب قبل وفاته وضعً المالً بحٌث ٌكون بٌت العابلة الذي‬
‫تسكن فٌه حالٌا ًال لٌنا مع زوجها ملكا ًال لً ‪ ،‬وأنشؤ باسمً شراكة بعمل تجاري مع أحد األقارب وأن األرباح من‬
‫ٌومها تحفظ لً مما شكل ثروة صؽٌرة ‪ ،‬وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬من هذه الناحٌة ال تحمل هم ‪ ،‬وضعك المادي مرتب و الحمد هلل ‪.‬‬
‫بعدها سؤلنً إن كنت ارٌد السكن لوحدي بحٌث تخرج لٌنا وزوجها من بٌتً ‪ ،‬فرفضت رفضا ًال قاطعا ًال ‪ ،‬أحسست‬
‫أن لهجة الرفض الحازمة قد أشعرت أخً باالرتٌاح ‪.‬‬
‫مع إنتهاء كؤس العرق الثانٌة اصبح الجو أكثر استرخا ًالء وحمٌمٌة ‪ ،‬استرجعنا بعض الذكرٌات العابلٌة ‪ ..‬وفج أة‬
‫اعتدل فً جلسته وتطرق إلى الموضوع الذي كنت أخشى أن ٌفتحه أو ٌلمح إلٌه ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬راح كون صرٌح معك ‪ ..‬حول الكبلم الذي قلته لً بالفرع أثناء الزٌارة ‪ٌ ،‬ا أخً ‪ ..‬فً البداٌة أحسست‬
‫بجرح عمٌق ‪ ،‬لكن بعد عدة ساعات أحسست بالفرح ‪ ،‬بالفخر ‪ ،‬ألنك رجل ‪ ..‬وبطل ‪..‬‬
‫رفعت ٌدي واسكته ‪.‬‬

‫خبلل هذه الشهور الثبلثة كان أكثر ما ٌضاٌقنً هو معاملة األخرٌن لً بصفتً بطبلًال !!‪.‬‬

‫" الفابض الربٌسً فً السجن هو الوقت ‪ ،‬هذا الفابض ٌتٌح للسجٌن أن ٌؽوص فً شٌبٌن ‪ ،‬الماضً ‪..‬‬
‫والمستقبل ‪ ،‬وقد ٌكون السبب فً ذلك هو محاوالت السجٌن الحثٌثة للهرب من الحاضر و نسٌانه نسٌانا ًال تاما ًال ‪.‬‬
‫والؽوص فً هذٌن الشٌبٌن قد ٌحوالن اإلنسان إما إلى ‪ .....‬إنسان حكٌم هادئ ‪ ،‬أو إلى شخص نرجسً عاشق‬
‫لذاته ومنكفا ال ٌتعاطى مع اآلخرٌن إال فً الحدود الدنٌا ‪ ،‬أو إلى ‪ .....‬مجنون !‪.‬‬
‫منذ أن وعٌت هذه المعادلة حاولت جاهدأ أن أتحول إلى ذلك اإلنسان الهادئ ‪ ،‬وال أدري إلى أٌة درجة نجحت ‪.‬‬
‫من هنا رفضت أن أتاجر بسجنً ‪ ،‬رفضت أن أكون بطبلًال عندما أراد اآلخرون عند خروجً من السجن أن‬
‫ٌعتبرونً وٌعاملونً كبطل ‪ ،‬أنا أعرؾ امكانٌاتً جٌداًال ‪ ..‬ببساطة ‪ ...‬أنا إنسان ‪.‬‬
‫‪141‬‬
‫أنا خواؾ ورعدٌد وجبان ‪ ..‬إلى درجة أننً قد أتبول فً ثٌابً من الخوؾ ‪.‬‬
‫أنا شجاع وصلب وعنٌد ‪ ..‬إلى درجة أننً أصمد أمام اقسى اسالٌب التعذٌب ‪.‬‬
‫ال ٌمكن أن ٌكون بطبلًال‬ ‫لكن ‪ ..‬وبكل األحوال لست بطبلًال ‪ ،‬فسلوكً هذا الطرٌق لم ٌكن بخٌاري ‪ ،‬و البطل‬
‫لسلوكه طرٌقا ًال باإلكراه ‪.‬‬
‫بذلت جه وداًال مضنٌة مع لٌنا وزوجها ‪ ،‬حتى استطعت أن أقنع لٌنا أننً لست أسطورة ‪ ،‬وبالتالً أن تتعامل معً‬
‫بمنتهى البساطة ‪ ،‬وأن أقنع أنور أن ال حاجة لكل هذا التهٌب و اإلجبلل فً التعامل معً ‪ ،‬ال حاجة ألن ٌقؾ‬
‫احتراما ًال كلما دخلت أو خرجت من الؽرفة ‪ " ،‬عمري ٌزٌد عمر أنور بحوالً العشر سنوات " ‪.‬‬
‫************‬

‫منذ الساعة التاسعة وسبع وثبلثين دقٌقة من الثالث من تموز الحظت شٌبا ًال لم أعهده فً المدٌنة سابقا ًال ‪.‬‬
‫الؽبار ‪ ..‬الؽبار ٌؽطً كل شًء فً المدٌنة ‪ ،‬الطرقات ‪ ،‬الشوارع ‪ ،‬الجدران ‪ ،‬كلها مؽطاة بطبقة رقٌقة من‬
‫الؽبار األصفر الناعم ‪ ،‬أوراق االشجار الخضراء ‪ ..‬التً كنت أعرفها سابقا ًال زاهٌة المعة بخضرتها ‪ ..‬مؽطاة‬
‫بهذه الطبقة الرقٌقة من الؽبار ‪.‬‬
‫حتى وجوه الناس السابرٌن فً الشوارع و المتسكعٌن فً الساحات و على االرصفة ‪ ..‬مؽطاة بهذه الطبقة‬
‫الؽبارٌة الصفراء ‪.‬‬
‫ٌؽسلون وجوههم ‪ٌ ،‬جففونها ‪ ،‬لكن الؽبار ال ٌزول ‪ٌ ،‬بدو ملتصقا ًال بالوجوه أو أنه من تكوٌنها ! ‪ ..‬وٌبدو هذا‬
‫الؽبار واضحا ًال عند االبتسام ‪ ،‬فاالبتسامات على ندرتها – هذه الندرة التً تقترب من العدم حتى أننً شككت أن‬
‫الناس فً مدٌنتً قد نسوا فعل االبتسام – تترافق مع هذا الؽبار‪ ،‬فإذا حاول شخص ما االبتسام ‪ ،‬تبدو هذه‬
‫االبتسامة شابهه ‪ ..‬وٌبدو هذا الشخص وكؤنه قد كبر فً السن عشرات السنٌن ‪ ،‬وأهم عرض من أعراض‬
‫اإلبتسام هو ظهور طبقة الؽبار الملتصق بالوجه ظهوراًال واضحا ًال ‪ ..‬حٌنها تظهر حبٌبات الؽبار هذه مجسمة‬
‫واضحة ‪.‬‬
‫خشٌت أن أسؤل أحداًال عن أمر الؽبار هذا ‪.‬‬
‫************‬

‫بعد خمسة عشر ٌوما ًال من خروجً فكرت بالقٌام بواجبً األول ‪ ،‬زٌارة أهل نسٌم ‪ ،‬ومحاولة تطمٌنهم عنه ‪.‬‬
‫ضجة خروجً من السجن خفت قلٌبلًال ‪ ،‬انخفض معدل الزوار كثٌراًال ‪ ،‬الزوار من األهل و األقارب ‪ٌ ،‬ؤتون ‪..‬‬
‫ٌتلفظون بعبارات التهنبة التقلٌدٌة ‪ ،‬الكثٌر من عبارات التبجٌل ‪ ،‬وأكثر من كل شًء ‪ ..‬النصابح ‪:‬‬
‫‪ -‬الحمد هلل على سبلمتك ‪.‬‬
‫‪ -‬نحن نفتخر بك ‪.‬‬
‫‪ -‬ال تنظر إلى الخلؾ ‪ ..‬المستقبل ال زال أمامك ‪.‬‬
‫‪ -‬أصلحك هللا ‪ ..‬ضروري تعمل بالسٌاسٌة ؟‪ٌ ..‬ا أخً العٌن ال تقاوم المخرز !‪.‬‬
‫‪142‬‬
‫اسمع أنا كل هذا وأرسم ابتسامة بلهاء على وجهً ‪.‬‬
‫صدٌقان أو ثبلثة من أٌام الصبا و الشباب ‪ ،‬أرسلوا لً خبراًال فً منتهى السرٌة و الخفاء ‪:‬‬
‫‪ -‬نحن نود زٌارتك ‪ ..‬لكننا نخاؾ نتابج هذه الزٌارة ‪ ،‬فعذراًال !‪.‬‬
‫واحترمت جبنهم كثٌراًال‪.‬‬
‫أخبرت لٌنا وأنور عن سفري إلى مدٌنة نسٌم الساحلٌة‪ ،‬رتب أنور جمٌع االجراءات ورافقنً حتى انطبلق‬
‫د ومرافق الباص‬ ‫البولمان باتجاه الشمال‪ .‬ألول مرة منذ سنوات طوٌلة أحس أننً انسان ‪ ،‬جاري فً المقع‬
‫ٌعامبلنً كإنسان‪ ،‬عندما ٌخاطبانً ٌخاطبانً بلقب استاذ!‪.‬‬
‫أرجعت المقعد إلى الخلؾ‪ ،‬أؼمضت عٌونً‪ ،‬صددت كل محاوالت جاري بفتح حدٌث معً‪ ،‬استرجعت ذكرٌات‬
‫نسٌم ‪ٌ ..‬ا هل ترى ماذا ٌفعل اآلن؟‪..‬‬
‫فً كل مكان من هذا العالم ٌمكن أن تنشؤ عبلقات حمٌمٌة بٌن شخصٌن ‪ ،‬لكن أن تنشؤ عبلقة حمٌمٌة بٌن‬
‫شخصٌن فً السجن‪ ،‬حتما ًال سٌكون لها معنى آخر‪ ،‬مذاق آخر ‪ ..‬نكهة أخرى‪.‬‬
‫أٌام كثٌرة ‪ ،‬ولٌال طوٌلة ‪ ..‬طوٌلة نقضٌها فً الحدٌث ‪ ،‬أعرؾ كل شًء عن عابلة نسٌم ‪ ،‬األب ‪ ،‬األم ‪ ،‬األخوة‬
‫‪ ،‬األخوات ‪ ..‬عاداتهم ‪ ،‬تقالٌدهم ‪ ،‬تفاصٌل عابلٌة دقٌقة ال ٌمكن الحدٌث عنها إال ‪ ..‬بٌن سجٌنٌن !‬
‫بعد فترة من هذه األحادٌث ٌصبح لكل من طرفً العبلقة السجنٌة هذه حٌاتان عابلٌتان ‪ ،‬الحٌاة التً عشتها فً‬
‫عابلتً الحقٌقٌة ‪ ،‬والحٌاة التً عشتها متقمصا ًال ‪ ،‬حالما ًال ‪ ،‬فً عابلة نسٌم ! ‪.‬‬
‫استرجع التفاصٌل الطازجة بٌنما الباص ٌجتاز مسرعا ًال مناظر آخاذة وساحرة من الخضرة و المٌاه ‪.‬‬
‫الم ا بة كٌلو متر األخٌرة اسرنً فٌها جمال الطبٌعة إلى درجة أننً لم استطع أن أفكر إال بما أرى ‪ ،‬إلى الٌسار‬
‫البحر الرابق بزرقته المتدرجة ‪ ،‬والى الٌمٌن الجبال الشاهقة الخضراء ‪.‬‬
‫ٌتلوى الطرٌق ‪ٌ ،‬قترب من البحر حتى ٌدانٌه ‪ ،‬أرقب تكسر الموٌجات الصؽٌرة على الشاطا ‪ ،‬أرى السابحٌن‬
‫و السابحات ٌحتضنون البحر و ٌحتضنهم ‪ ،‬وٌبتعد إلى درجة ٌؽٌب فٌها البحر عن أعٌننا فؤنظر ٌمٌنا ًال إلى بساتٌن‬
‫البرتقال و اللٌمون و الزٌتون ‪ ..‬هذا االخضرار الندي ‪.‬‬
‫وٌصل الباص إلى المدٌنة ‪ ،‬مدٌنة نظٌفة ‪ ،‬أنزل واستقل تكسٌا ًال ‪ ،‬أعطٌه العنوان الذي أعرفه كما أعرؾ عنوان‬
‫بٌت أهلً ‪ ،‬أصل ‪ ،‬أنزل ‪ ،‬ودون عناء أقؾ أمام بٌت أهل نسٌم واضؽط الجرس ‪.‬‬
‫بٌن رنٌن الجرس وخروجً من البٌت مطروداًال مهانا ًال حوالً الثبلث ساعات ‪.‬‬
‫فتح الباب ووقفت طفلة صؽٌرة فً العاشرة من عمرها ‪ ،‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبا عمو ‪ ،‬هذا بٌت أهل الدكتور نسٌم ؟‬
‫لم تجب ‪ ،‬ركضت إلى الداخل ‪ ،‬سمعتها تقول ‪:‬‬
‫‪ -‬ماما ‪ ..‬ماما ‪ ،‬فً واحد عم ٌسؤل عن الدكتور نسٌم ‪.‬‬
‫ثوان قلٌلة خرجت بعدها أخت نسٌم فً ثٌابها المنزلٌة وقد وضعت بسرعة ؼطا ًالء على رأسها ‪ ،‬عٌونها مثقلة‬
‫بنظرات الدهشة و االستفسار ‪ ،‬وقد عرفتها فوراًال ‪ ،‬ابتسمت وقلت لها ‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبا ‪ ..‬أكٌد أنت سمٌرة ؟‬
‫‪143‬‬
‫جمدت فً مكانها مواجهتً قلٌبلًال مرتبكة وقد سمرت عٌنٌها علًّ ‪ ..‬سحبت نفسا ًال عمٌقا ًال وقالت ‪:‬‬
‫‪ -‬نعم ٌا أخً ‪ ..‬نعم ! أنا سمٌرة ‪ ،‬بس حضرتك مٌن ؟ ‪ ..‬كٌؾ بتعرفنً ؟‪.‬‬
‫‪ -‬أنا صدٌق نسٌم ‪ ،‬وجبت أزور أهله واطمنهم علٌه ‪.‬‬
‫‪ -‬أهبلًال وسهبلًال ‪ٌ ..‬ا أهبلًال وسهبلًال ‪ ..‬صحٌح ؟ ‪ٌ ..‬عنً نسٌم حً ؟ ‪ ..‬نسٌم عاٌش ؟‪..‬‬
‫مع العشرات من التساإالت و الترحٌبات ووسط دموع ؼزٌرة ‪ ..‬أخذت سمٌرة تدور حول نفسها ‪ ..‬ال تعرؾ‬
‫ماذا تفعل ‪ ،‬طفلتها إلى جانبها ‪ ،‬تسؤلنً عدة أسبلة دون أن تنتظر جوابا ًال ‪ ،‬ثم تتبعها ‪ٌ ..‬ا أهبلًال وسهبلًال ‪ ،‬مسحت‬
‫دموعها عدت مرات بؽطاء الراس ‪ ،‬وأخٌراًال انتبهت ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫‪ -‬عفواًال ‪ ..‬عفواًال ‪ ،‬تفضل ‪ ..‬تفضل ‪.‬‬
‫أدخلتنً إلى ؼرفة الضٌوؾ ‪ ،‬جلست ‪ ،‬ذهبت هً قلٌبلًال ثم عادت ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫‪ -‬اتصلت مع زوجً ‪ ..‬زوجً فً الجمارك ‪ ،‬لم أجده ‪ ،‬تركت له خبراًال ‪.‬‬
‫سكتت قلٌبلًال ‪ ..‬ثم وبحرقة ‪:‬‬
‫‪ -‬من شان هللا ٌا أخً ‪ ..‬طمنً عن نسٌم ‪ ،‬أكٌد نسٌم عاٌش ؟ ‪ ..‬و وٌنو ؟‬
‫شرحت لها ‪ ..‬تكلمت وتكلمت ‪ ،‬روٌت لها العدٌد من قصصهم وحكاٌاهم العابلٌة و التً ال ٌعرفها إال أفراد‬
‫العابلة ‪ ،‬فصدقتنً ‪ ،‬سؤلتها عن والد ووالدة نسٌم ‪ ..‬عندها ازداد بكاإها وتحول إلى نشٌج ‪ ،‬وفهمت من خبلل‬
‫الدموع و النحٌب ‪ ،‬أنهما قد توفٌا ‪ ،‬توفٌا بحسرة الولدٌن ‪.‬‬
‫األول وهو المنخرط بصفوؾ المعارضة االسبلمٌة انقطعت أخباره نهابٌا ًال وتضاربت اآلراء بٌن أنه قتل فً‬
‫إحدى العملٌات وبٌن أنه معتقل‪ ،‬أما نسٌم فقد انتظرت العابلة فً الٌوم المحدد لعودته متهً ًالة‬
‫ئ لبلحتفال بهذه العودة‬
‫رؼم ؼصة الولد األول‪.‬‬
‫لكن العابد لم ٌعد‪ ،‬وطال االنتظار‪ ،‬بدأ األب رحلة مار اثونٌة عبثٌة بٌن إدارة المطار وشركة الطٌران والسفارة‬
‫الفرنسٌة‪.‬‬
‫القنصل الفرنسً أكد بعد شهر من االنتظار على أن نسٌم قد ؼادر األراضً الفرنسٌة متوجها ًال إلى ببلده ‪ ،‬لكن‬
‫شركة الطٌران الوطنٌة وادارة المطار لم ٌقدما إال إجابات ؼامضة ال تنفً وال تإكد ‪.‬‬
‫ست سنوات بقً األب مواظبا ًال على السفر إلى العاصمة ‪ ،‬فً كل مرة ٌبقى ثبلثة أو أربعة أٌام ٌتنقل خبللها بٌن‬
‫السفارة الفرنسٌة و الشركة الوطنٌة للطٌران و المطار الدولً ‪ ،‬لكن دون فابدة ‪.‬‬
‫عرفه موظفوا القنصلٌة الفرنسٌة ‪ ،‬وكان الجواب واحداًال فً كل مرة ‪ .‬الشركة الوطنٌة للطٌران كان جوابها‬
‫واحداًال فً كل مرة ‪ :‬رفضت رفضا ًال قاطعا ًال إطبلعه على قابمة المسافرٌن فً الرحلة التً كان من المفترض أ ن‬
‫ٌكون نسٌم ضمنها ‪ .‬إدارة األمن فً المطار الدولً ردوه عدة مرات رداًال لطٌفا ًال ‪ ،‬ثم أخذوا ٌعاملونه بخشونة ‪،‬‬
‫بعدها هددوه باالعتقال ‪ ،‬وفً رحلة آب من السنة السادسة صفعه أحد عناصر األمن فً المطار صفعتٌن على‬
‫وجهه ‪.‬‬
‫خرج األب وهو ٌبكً ألول مرة فً حٌاته ‪ ،‬قالت سمٌرة ‪:‬‬

‫‪144‬‬
‫‪ -‬و هللا ٌا استاذ ‪ ..‬لم نشاهده أبداًال وهو ٌبكً ‪ ،‬حتى أمً قالت بعد أن رووا لها الحادثة أنها لم تشاهده ٌبكً‬
‫أو ٌضعؾ وال مرة فً حٌاتهما المشتركة الطوٌلة ‪.‬‬
‫اصٌب األب بجلطة دماؼٌة لم تقض علٌه ولكنها ألصقته بفراشه مدة أربع سنوات مشلوالًال عاجزاًال عن الحركة و‬
‫الكبلم ‪.‬‬
‫نسٌت األم كل شًء ‪ ،‬حتى أوالدها ‪ ،‬كرست نفسها لخدمة الرجل الذي رافقته هذه الحٌاة ‪ ،‬كانت ال تخرج من‬
‫ؼرفته إال لقضاء حاجة أو لشؤن خاص به ‪.‬‬
‫دام هذا الحال أربع سنوات توفً األب بعدها ‪ ،‬وبعد شهرٌن لحقته األم ‪.‬‬
‫البنات تزوجن ‪ ،‬سمٌرة وزوجها الكمركجً ٌسكنان بٌت العابلة ‪.‬‬
‫أعطٌتها رقم هاتفً ‪ ،‬سجلت رقم هاتفها ‪.‬‬
‫ران صمت استمر أكثر من دقٌقة ‪ ،‬شعرت بعطش فطلبت من الطفلة أن تؤتٌنً بكؤس ماء ‪ ،‬مقرراًال الرحٌل بعد‬
‫شرب الماء ‪ ،‬فٌما أنا أشرب فتح باب البٌت وسمعت خطوات الرجل ‪ ،‬هبت سمٌرة واقفة وخرجت مسرعة ‪.‬‬
‫سمعت همسا ًال فً البداٌة ‪ ،‬ثم صوت نقاش حاد ‪ ،‬صوت الرجل الذي ما ٌنفك ٌرتفع بٌنما سمٌرة تحاول جاهدة‬
‫خفض صوتها والطلب إلٌه أن ٌخفض صوته ‪ ،‬رؼم ذلك سمعت أؼلب ما دار بٌنهما ‪ ..‬بصوت خشن ‪:‬‬
‫‪ -‬ولك ‪ ..‬كٌؾ تدخلٌه على بٌتً و أنا ؼاٌب ‪ ،‬أنا ناقصنً مجرمٌن وخرٌجٌن سجون ! ‪.‬‬
‫‪ٌ -‬ا ابن عمً ‪ٌ ..‬ا ابن عمً ‪ ،‬هللا ٌخلٌك وٌطول عمرك ‪ ..‬هذا ما نو مجرم ‪ ،‬هذا من عند نسٌم ‪ ،‬صدٌق‬
‫نسٌم ‪ ،‬هو فاعل خٌر ‪ ..‬هللا ٌخلٌك طوّ ل بالك ‪.‬‬
‫ودخل زوج سمٌرة بلباس الجمارك ‪ ،‬طوٌل القامة ‪ ،‬اشقر ‪ ،‬مكفهر المبلمح ‪ ،‬وببرود وجفاء شدٌدٌن قال ‪:‬‬
‫‪ -‬مرحبا‪.‬‬
‫هببت واقفا ًال وأنا أقول ‪:‬‬
‫‪ -‬أهبلًال وسهبلًال ‪.‬‬
‫بإشارة من ٌده طلب منً الجلوس بٌنما بقً هو واقفا ًال ‪ ،‬بادرنً بؤول سإال ‪:‬‬
‫‪ -‬كٌؾ تسمح لنفسك أن تدخل إلى بٌت رجل فً ؼٌابه ؟‬
‫لم ٌتنظر الجواب ‪ ،‬تبع هذا السإال سٌل من األسبلة التً لم ٌكن ٌرٌد لها جوابا ًال ‪ ،‬وأنقذت سمٌرة الموقؾ‬
‫بدخولها الؽرفة ‪ ،‬تحول إلٌها آمراًال إٌاها بالخروج ‪ ،‬أبت الخروج ممسكة ٌده ‪ ..‬ومتضرعة ‪:‬‬
‫‪ -‬من شان هللا ‪ ..‬ابوس اٌدك ‪ ..‬ابوس رجلك ‪ ،‬هذا صدٌق نسٌم ونواٌاه كلها خٌر ‪..‬‬
‫سحب ٌده بعنؾ وهو ٌصرخ ‪:‬‬
‫‪ -‬خٌر ! ‪ ..‬عم تقولً خٌر !‪ ..‬بتعرفً لو عرفــــ "وا " ‪ ..‬انه هٌك ناس عم ٌزورونً ‪ ..‬وقتها راح‬
‫ٌنخرب بٌتً ‪ ..‬وبروح لعند أخوك الدكتور !‪ ..‬وإال هذا المجرم الثانً ‪ ..‬قولً لً ‪ ..‬عندها شو بصٌر‬
‫فٌكً ‪ ..‬و باألوالد ؟‪ ..‬أه احكً ‪.‬‬
‫ثم التفت إلًّ ‪ ..‬وبصوت أهدأ قلٌبلًال ‪:‬‬

‫‪145‬‬
‫‪ -‬شوؾ ‪ ..‬أنا الزم خبر األمن ‪ ،‬بس من شان خاطر نسٌم ‪ ..‬راح خلٌك تروح ‪ ..‬بس وٌنك !‪ ..‬ترى ال‬
‫شفتنً وال شفتك ‪ ..‬وٌا وٌلك إذا هوبت صوب بٌتنا مرة ثانٌة ‪ ..‬فهمان هــ الحكً ؟‪.‬‬
‫خرجت ال ألوي على شًء ‪ ،‬اتصبب عرقا ًال وأصواته تبلحقنً ‪.‬‬
‫رمٌت نفسً فً أول سٌارة رأٌتها وقلت للسابق أن ٌؤخذنً إلى البحر ‪ ،‬لكن السابق توقؾ وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬لكن ‪ ..‬هذا هو البحر ‪ ..‬قدامك ٌا استاذ !‪.‬‬
‫‪ -‬خذنً إلى بحر ؼٌر هذا البحر ‪ٌ ..‬عنً خارج المدٌنة ‪.‬‬
‫فً مطعم بحري ال أذكر منه شٌبا ًال ‪ ،‬جلست و أكلت ‪ ،‬ال أعرؾ ماذا وكٌؾ أكلت ‪،‬ال أعرؾ كم بقٌت جالسا ًال ‪.‬‬
‫فً الٌوم الثانً استٌقظت من نومً عند عودة لٌنا بعد الظهر ‪ ،‬مع القهوة أخبرتنً أن أمراة اسمها سمٌرة‬
‫اتصلت هاتفٌا ًال وسؤلت عنً وأنها تعتذر بشدة عما حدث ‪.‬‬
‫استرجعت أحداث الٌوم السابق محاوالًال أن استوعب ما حدث ‪.‬‬
‫حاولت أن أنسى ‪.‬‬
‫‪ 13‬تشرين الثاني ‪.‬‬
‫اتركونً بسبلم فؤنا ال أرٌد منكم شٌبا ًال ‪.‬‬
‫استٌقظ صباحا ًال دون موعد محدد ‪ٌ ،‬كون البيت فارؼا ًال ‪ ،‬أنور ولٌنا فً عملهما ‪ ،‬البنت الصؽٌرة فً الحضانة ‪،‬‬
‫أبقى قلٌبلًال فً السرٌر ثم أنهض ‪ ،‬أرتدي ثٌابً كلها " منذ أن خرجت من السجن و أنا أنام عارٌا ًال " ‪ ،‬أتوجه إلى‬
‫باب الؽرفة المقفل ‪ ،‬افتحه ‪ ،‬أضع " ركوة " قهوة ثقٌلة على الؽاز وأذهب إلى المؽسلة ‪.‬‬
‫ساعة أو ساعتين وأحٌانا ًال أكثر أجلس على " الكنبة " اشرب القهوة ببل سكر وأدخن ‪ ،‬أدخل إلى المرحاض " أنا‬
‫حرٌص جداًال أن اقضً حاجتً اثناء ؼٌاب لٌنا عن البٌت ‪ ،‬وأعتقد أن المسؤلة هنا معقدة قلٌبلًال ‪ ،‬فبنفس الدرجة‬
‫التً تضاٌقنً عملٌة اعتباري اسطورة من قبل لٌنا ‪ ،‬إال أنها ترضً بعض العوالم الجوانٌة فً نفسً ‪ ،‬أي بما‬
‫اننً بطل واسطورة كبٌرة فً نظرها فإننً – مع ضٌقً من ذلك – أحاول باكثر من وسٌلة أن أوكد ذلك ‪،‬‬
‫ومنها عدم دخولً المرحاض فً حضورها ‪ ،‬فاالسطورة التً فً ذهنها أو البطل ذاك ‪ٌ ،‬جب أن ٌكون منزها ًال‬
‫عن كل ما هو كرٌه ‪ ،‬وهو أرفع من هذه الحاجات اإلنسانٌة الوضٌعة ‪ ..‬لذلك ومنذ أن عشت معها فً بٌت واحد‬
‫‪ ،‬لم ترنً قط أدخل المرحاض ‪. " ....‬‬
‫أرتدي مبلبسً ‪ ،‬أخرج ‪ ،‬أسٌر على ؼٌر هدى ‪ ،‬ال أحد ٌعرفنً ‪ ،‬ال أعرؾ أحد اًال ‪ ،‬أسٌر ‪ ....‬و أسٌر ‪ ،‬ال أفكر‬
‫بشًء محدد ‪ ،‬قد اشتري قطعة شوكوالته فاخرة ‪ ،‬انا أحب الشوكوالته ولدي الكثٌر من النقود ‪ ،‬آكلها ‪ ..‬أدخن و‬
‫أنا أمشً ‪ ،‬فً الكثٌر من الحاالت أجلس فً حدٌقة صؽٌرة قرٌبة من بٌتنا ‪.‬‬
‫أشتري بعض الحاجات التً أشعر أنها قد توفر بعض المال على لٌنا و زوجها ‪ ،‬فوضعً المادي أفضل منهما‬
‫بكثٌر ‪ ،‬أنا ملٌونٌر تقرٌبا ًال ‪.‬‬
‫************‬

‫مسؤلتان أرعبتانً ‪.‬‬


‫‪146‬‬
‫اتركونً بسبلم فؤنا ال أرٌد منكم شٌبا ًال ‪.‬‬
‫منذ فترة حضر خالً الوزٌر – وهو ٌتردد لعندنا بشكل دوري – وبعد الكثٌر من األحادٌث المعتادة ‪ ،‬التفت إلًّ‬
‫فجؤة وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬أما آن األوان ‪ ..‬تفكر بمستقبلك ؟‪.‬‬
‫وجمدت !!‪.‬‬
‫المستقبل ؟!‪ ..‬وهل إلنسان فً مثل سنً ووضعً مستقبل ؟!‪.‬‬
‫خالً مثل أؼلب رفاقه‪ ،‬آراإه قاطعة حاسمة وال تقبل النقاش‪ٌ ،‬تكلم دابما ًال بلهجة العارؾ بكل شًء‪ ،‬وٌتخذ هٌبة‬
‫من ٌمتلك الحقٌقة دابما ًال ‪ ..‬ولوحده!‪.‬‬
‫لذلك قال كبلمه هذا بلهجة اآلمر‪ ،‬وتطرق إلى المسؤلتٌن المرعبتٌن بالنسبة لً ‪ :‬العمل ‪ ..‬و الزواج !‪.‬‬
‫أٌد جمٌع الحاضرٌن الفكرة‪ ،‬انتفخت أوداج خالً ‪ ،‬ابتسم ‪ ،‬التفت إلى بعض نساء العابلة وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬أمر العمل ‪ ،‬اتركوه لً ‪ ..‬أما الزواج فهو مهمة هــ الصباٌا ‪ٌ ،‬ا هللا ‪ ....‬شوفونً شطارتكن ‪ ....‬ونقوا‬
‫شً عروس تكون حلوة ومناسبة لهذا العرٌس الملٌونٌر ‪.‬‬
‫ارتفعت صٌحات النساء وزقزقاتهن وفوراًال بدأن أحادٌث جانبٌة عن مواصفات العروس المطلوبة ‪.‬‬
‫ذهب خالً وانهمك الجمٌع فً ترتبات الخطبة و الزواج ‪ ،‬وانا صامت ! لم ٌسالنً أحد رأًٌ ‪ ،‬وبقٌت صامتا ًال ‪.‬‬
‫هاتان المسؤلتان أتعبتانً لفترة طوٌلة ‪.‬‬
‫بعد مضً حوالً االسبوعٌن طلبنً على الهاتؾ موظؾ كبٌر فً اإلذاعة و التلفزٌون ‪ ،‬عرفنً على نفسه‬
‫وطلب منً الحضور إلى مكتبه لمناقشة سٌنارٌو مسلسل تلفزٌونً وقال ‪:‬‬
‫‪ -‬إذا عجبك السٌنارٌو‪ ،‬فوراًال نوقع العقد لتخرجه‪ ،‬وال تسؤل عن اإلمكانٌات المادٌة فهً متوفرة و الحمد هلل‬
‫‪.‬‬
‫احتجت إلى الكثٌر من اللباقة لكً أعتذر بلطؾ ‪ ،‬لكنه واصل ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا أخً ال ترفض ‪ ،‬تفضل لعندي إلى المكتب و أنا واثق أنك ستقتنع ‪ٌ ،‬عنً‪..‬ال تواخذنً‪..‬أنت صحٌح‬
‫مخرج لكنك اسم ؼٌر معروؾ‪ ،‬وأنا العتبارات أظنك تعرفها‪ ،‬أقدم لك فرصة العمر على طبق من ذهب‬
‫‪.‬‬
‫ورفضت ‪.‬‬
‫نتٌجة الرفض كانت توبٌخا ًال شدٌداًال من خالً عند المساء ‪ ،‬وأمرنً أن أوافق على العرض ‪ ،‬لكنً رفضت ‪ ،‬قال‬
‫بؽضب ‪:‬‬
‫‪ -‬انت واحد حمار ‪.‬‬
‫بقٌت مسؤلة الزواج‪ ،‬ال ٌمر ٌوم دون أن تتصل أو تحضر إحدى نساء العابلة ‪ ،‬أؼلبهن ٌبدأن الحدٌث بجملة‬
‫واحدة ‪:‬‬
‫‪ -‬أما شو لقٌت لك عروس ‪ ..‬لقطة ‪ ..‬لقطة ‪ ،‬واذا مشً الحال ‪ ..‬راح ٌكون بٌتك بالجنة ‪.‬‬
‫وتبدأ عرض مزاٌا هذه العروس التً قد تكون قرٌبتها أو جارتها ‪ ،‬واحداهن رشحت لً أختها ‪.‬‬
‫‪147‬‬
‫كنت أحتاج إلى صبر أٌوب ‪ ،‬خاصة والحدٌث ٌجري مع النساء ‪ ،‬فؤنت تسطٌع بسهولة أن تجعل أٌة إمرأة تٌدأ‬
‫الكبلم ‪ ،‬لكن من العسٌر جدا أن تجعلها تسكت ‪.‬‬

‫اتركونً بسبلم فؤنا ال أرٌد منكم شٌبا ‪.‬‬

‫منذ أن خرجت من السجن أحسست أن هناك هوة ال ٌمكن ردمها أو جسرها بٌنً وبٌن اآلخرٌن ‪ ،‬حتى أقرب‬
‫الناس إلً ‪ ،‬اخوتً أو لٌنا‪ ،‬أحك عواطفً ومشاعري فبل أشعر تجاههم بشًء ‪ ،‬الحٌادٌة فً المشاعر ‪ ،‬ال شًء‬
‫ٌشدنً ‪ ،‬ال شًء ٌثٌر اهتمامً ‪.‬‬
‫لكل انسان لؽة تواصل خاصة به ٌستخدمها بإقامة العبلقات المتفاوتة فً القرب أو البعد عن الناس ‪ ،‬هذه اللؽة ‪..‬‬
‫لؽتً الخاصة بالتواصل مع الناس ‪ ،‬مفقودة ‪ ..‬مٌتة ‪ ،‬واألكثر من ذلك لٌست لدي الرؼبة بالمطلق فً إٌجاد لؽة‬
‫تواصل جدٌدة ‪ ...‬أو احٌاء القدٌمة ‪.‬‬
‫دابما أشعر أن لهم عالمهم ‪ ..‬ولً عالمً ‪ ،‬أو لٌس لديّ عالم أبدا ‪ ،‬لكن قطعا ال أنتمً لعالمهم ‪.‬‬
‫أرتعب من فكرة االضطرار إلى مخالطة الناس بحكم العمل أو أي شًء آخر ‪ ،‬أرٌد االبتعاد عنهم أكثر‬
‫ما ٌمكن !! ‪ ..‬االنزواء !‪.‬‬
‫أرٌد أن أكون منسٌا ومهمبل منهم ‪.‬‬
‫الزواج ؟ ‪ٌ ....‬ا الهً ‪.‬‬
‫أن تؤتً إنسانة ما تشاركنً فراشً وطعامً ومرحاضً وروابحً !!‪..‬‬
‫إن مجرد التفكٌر بهذا المضوع ٌتعبنً وٌصٌبنً بالدوار ‪.‬‬
‫اتركونً بسبلم فؤنا ال أرٌد منكم شٌبا !‪.‬‬
‫وفً لحظة ؼضب طلبت من لٌنا أن تبلػ الجمٌع هاتفٌا اننً ال أرٌد من أحد أن ٌكلمنً فً موضوع الزواج بعد‬
‫الٌوم أبدا ‪.‬‬
‫كانت النتٌجة أن قال لً خالً ‪:‬‬
‫‪ -‬أنت واحد بؽل ‪.‬‬
‫أما النساء اللواتً كن ٌسعٌن لتزوٌجً فقد اعتبرن الموضوع ماسا بكرامتهن وانطلقت السنتهن تنهشنً ‪..‬‬
‫‪ -‬ال تعمل خٌر ‪ ،‬شر ما ٌجٌك ‪..‬‬
‫‪ -‬على شو شاٌؾ حاله !! ‪ٌ .‬عنً كل واحد ٌدخل شً ٌومٌن عـ السجن ٌصٌر ٌعنطز حاله هٌك !‬
‫‪ -‬رضٌنا بالهم ‪ ،‬لكن الهم ما رضً فٌنا ‪..‬‬
‫‪ٌ -‬عنً ختٌار " مكحكح " واصلع ‪ ..‬مثل القرد ‪ٌ ،‬عنً ألنه عندو قرشٌن ما عاد حدا ٌعجبه !‪ ..‬صحٌح‬
‫مثل ما ٌقول المثل ‪ٌ :‬ا آخذ القرد على ماله ‪ ،‬بٌروح المال وٌظل القرد على حاله ‪.‬‬
‫كل هذ وأكثر ‪ ..‬ولكن رب ضارة نافعة ‪ ،‬فقد تحولت العبلقات إلى ما ٌشبه القطٌعة ‪.‬‬
‫وأخٌرا ‪ ..‬تركونً بسبلم ‪.‬‬
‫‪148‬‬
‫‪ 25‬كانون األول‬
‫الٌوم عٌد المٌبلد ‪ ،‬وهو ٌتوافق مع العٌد الثانً لمٌبلد ابنة لٌنا ‪.‬‬
‫حقا أننً قد عشت عمرا طوٌبل !! ‪ ..‬وقد ٌكون أكثر من البلزم ‪ ،‬ال زلت أذكر حماسً الشدٌد عند ما كنا نحضر‬
‫لبلحتفال بؤعٌاد مٌبلد لٌنا نفسها ‪ ،‬األول ‪ ..‬الثانً ‪ ..‬الثالث ‪ ..‬وحتى الخامس ‪.‬‬
‫اآلن أرقب " ومن مسافة " التحضٌرات الحماسٌة ألجواء عٌد المٌبلد ‪ ،‬ولبلحتفال بعٌد مٌبلد ابنة لٌنا ‪.‬‬
‫************‬

‫طوال الشهور الماضٌة حٌاتً محصورة بمجموعة من األفعال القلٌلة ‪ ،‬وعلى األؼلب ٌشكل قسم منها السبب أو‬
‫العلة للقسم الثانً ‪:‬‬
‫أنام ‪ ،‬آكل ‪ ،‬أشرب ‪ ...‬و‪ ...‬استٌقظ ‪ ،‬أتؽوط ‪ ،‬أتبول ‪..‬‬
‫أتجول هابما على وجهً فً الشوارع والطرقات والحدابق ‪ ،‬حولً الكثٌر من الناس ‪ ،‬لكنً ال ألحظ الوجوه ‪،‬‬
‫أحس الناس كتلة هبلمٌة ‪ ،‬أو كتلة أثٌرٌة ‪ ..‬جزء اًال من الهواء المحٌط بً ‪ ،‬ال ألحظ شً با ًال أو وجها ًال ‪ ...‬فاالنسان‬
‫عادة ال ٌرى الهواء المحٌط به ‪.‬‬
‫اشترٌت جهاز تلفزٌون جدٌداًال وضعته فً ؼرفتً ‪ ،‬ال اشاهد إال األفبلم األجنبٌة والمسلسبلت ‪ ،‬ال أتابع األخبار‬
‫مطلقا ‪ ،‬ال أفوت أٌة مباراة كرة قدم سواء كانت محلٌة أم أجنبٌة ‪.‬‬
‫أنور زوج لٌنا ٌعمل مبرمجا للكمبٌوتر ‪ ،‬أؼرانً بتعلمه وهو ال ٌنفك ٌردد عبارة ‪ " :‬فً هذا الزمن من ال‬
‫ٌعرؾ الكمبٌوتر ٌعتبر أمٌا " ‪ ،‬تعلمت واشترٌت جهازا حدٌثا ذا نوعٌة جٌدة ‪ ،‬لم استخدمه إال أللعاب الورق‬
‫" الشدة " وخاصة لعبة تسمى " العنكبوت " ‪.‬‬
‫منقطع كلٌا عن كل ما ٌدور فً هذا العالم ‪ ،‬حاولت لٌنا عدة مرات أن تعٌد صلتً بالناس ‪ ..‬بالمحٌط ‪ ،‬أحٌانا‬
‫كنت أحب أن أساٌرها وأجاملها ‪ ،‬لكنً رفضت بعناد تؽٌٌر أسلوب حٌاتً ‪.‬‬
‫فً حضور الناس أحس بالوحشة والؽربة ‪ ،‬أشعر أن هناك عببا ثقٌبل ملقى على كاهلً !‪ ..‬وال ٌزول هذا‬
‫االحساس إال عندما أعود إلى ؼرفتً ‪ ،‬استلقً على سرٌري وأحدق بالسقؾ ‪ ،‬أبقى ساعات ‪ ..‬ساعات طوٌلة‬
‫على هذه الشاكلة ‪ ..‬ودون أن أفكر بشًء !‪.‬‬
‫أنور ولٌنا ٌتحركان اآلن بحماس شدٌد ‪ٌ ،‬زٌنان شجرة المٌبلد ‪ ،‬بحضران الشموع ‪ٌ ..‬رتبان المابدة ‪ ،‬هناك عدد‬
‫من المدعوٌٌن ‪ ،‬أفكر كٌؾ سؤتملص من هذه الحفلة الصاخبة !‪ ..‬فً داخلً حزن أسود ‪.‬‬
‫لم أخبر أحدا بما حدث لنسٌم !‪.‬‬
‫************‬

‫منذ عشرة أٌام رن الهاتؾ فً البٌت ‪ ،‬عادة ال أرد أنا على الهاتؾ ‪ ،‬لٌس هناك من ٌتصل بً ‪ ،‬ظللت مستلقٌا‬
‫على سرٌري ‪ ،‬نادت لٌنا ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا عمو ‪ ..‬التلفون الك !‪.‬‬
‫‪149‬‬
‫ألول وهلة جفلت ‪ ،‬ذهبت إلى حٌث التلفون ‪ ،‬لٌنا تمسك السماعة ‪ ،‬سؤلتها ‪:‬‬
‫‪ -‬مٌن ؟ ‪.‬‬
‫‪ -‬واحد اسمه الدكتور هشام ‪.‬‬
‫أخذت السماعة وتكلمت ‪ ،‬ذكرنً بنفسه ‪ ،‬تذكرته جٌدا ‪ .‬أحد األطباء اللذٌن كانوا معً فً السجن الصحراوي ‪،‬‬
‫اًال‬
‫موقؾجٌدا منً ‪ ،‬كان من األصدقاء المقربٌن لنسٌم ‪.‬‬ ‫وهو من أوابل الذٌن اتخذوا‬
‫فوجبت ‪ ،‬سؤلته من أٌن ٌتكلم ‪ ،‬أعلمنً أنه ونسٌم قد خرجا من السجن ‪ ،‬وأن نسٌم أعطاه رقم الهاتؾ هذا طالبا‬
‫منه االتصال بً ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫‪ -‬نسٌم ٌحٌٌك ‪ٌ ..‬رجو منك الحضور إلى هنا ‪.‬‬
‫أجبت أننً سؤكون عندهم ؼدا ‪ ،‬أعلمنً بلباقة أنه ال ٌجب أن أذهب لعند نسٌم فً البٌت ‪ ،‬رتبنا موعدا فً عصر‬
‫الٌوم الثانً فً مقهى بحري قرٌب من بٌت أهل نسٌم ‪.‬‬
‫المقهى شبه فارغ ‪ ،‬ا خترنا طاولة على الحافة تتكسر تحتها األمواج الصؽٌرة ‪ ،‬جلسنا نسترق النظر إلى بعضنا ‪،‬‬
‫شعرهما ال زال قصٌرا ‪ ،‬مضى أكثر من نصؾ ساعة على لقابنا ولم تلتق نظراتً بنظرات نسٌم !‪..‬لماذا ال‬
‫ٌنظر إلًّ مباشرة ؟ عندما التقٌنا حضنا بعضنا بعنؾ ‪ ،‬نحن الثبلثة حضّنا بعضنا وبدأنا نبكً ‪ ،‬بكٌنا أكثر من‬
‫خمس دقابق " ال أعرؾ سبب البكاء ‪،‬الفرح باللقاء ‪ ..‬أم أن كبلًال منا ٌبكً على نفسه ؟ " ‪.‬‬
‫بعدها بدأت البسمات المتبادلة ‪ ،‬نسٌم لم ٌبتسم أبدا ‪ ،‬زابػ النظرات ‪ ،‬ال ٌتكلم ‪.‬‬
‫شربنا أنا ونسٌم البٌرة ‪ ،‬شرب هشام عصٌرا ‪ ،‬هشام هو الذي ٌتكلم ‪ ،‬شرح لنا مخططاته للمستقبل ‪ ،‬هدفه واحد‬
‫وبسٌط ‪ ،‬قال ‪:‬‬
‫األرضٌة‪.‬‬ ‫‪ -‬أخرجونً من هذا البلد ‪ ..‬وأنا على استعداد للعمل "زباالًال" فً أي مكان آخر على ظهر الكرة‬
‫" هشام طبٌب جراح تجمٌل ‪ ،‬وٌعتبر متمٌزا فً اختصاصه !"‪.‬‬
‫نسٌم صامت ٌحدق بنظره إلى نقطة فً عمق البحر ‪.‬‬
‫سؤلت هشام كٌؾ تم خروجهما من السجن ‪.‬‬
‫إون األسماء ‪ ،‬خرج جمٌع من تلٌت‬ ‫فجؤة ودون سابق انذار ‪ ،‬فتح عناصر الشرطة الباب لٌبل وأخذوا ٌقر‬
‫أسماإهم ‪ ،‬عندما تفحصوا بعضهم تبٌن أنه ٌمكن تصنٌفهم فً ثبلث فبات ‪ :‬المشلولون ‪ ،‬المصابون بؤمراض‬
‫عضال وٌتوقع موتهم قرٌبا ًال ‪ ،‬الرهابن ‪..‬‬
‫فٌما بعد انضم إلٌهم قسم من نزالء مهجع البر اءة ‪ ،‬الذٌن ؼدوا شبابا ًال فً العشرٌنات من عمرهم بعد أن قضوا‬
‫أكثر من عشر سنوات فً السجن ‪ .‬نقلوا الجمٌع بالحافبلت إلى العاصمة ‪.‬‬
‫قبل ذلك كانت السلطة قد سربت أخباراًال شتى عن نٌة الربٌس باصدار عفو عام عن السجناء ‪ ،‬لم ٌصدق أحد‬
‫سوا ًالء داخل السجون أو فً خارجها هذه اإلشاعات ‪ ،‬لكنهم تعلقوا باألمل ‪.‬‬
‫بضعة أٌام فً العاصمة ‪ ،‬أي فً سجون العاصمة ‪ ،‬حاولوا تحسٌن مظهر السجناء قلٌبلًال ‪ ،‬اشتروا لهم ألبسة‬
‫جدٌدة ‪ ،‬أعطوا كل سجٌن مبلػ مبتً لٌرة كمصروؾ جٌب وثمن بطاقة السفر لكل واحد إلى بلدته أو مدٌنته ‪.‬‬

‫‪150‬‬
‫فً الٌوم المقرر لخروجهم من السجن وضعوهم فً حافبلت أخذتهم إلى أكبر و أهم ساحة فً المدٌنة ‪ ،‬أوكلوا‬
‫األمر إلى أحد كبار ضباط األمن الذي فهم األمر حرفٌا ًال ‪:‬‬
‫‪ -‬تؤخذهم إلى الساحة ‪ ،‬تضع الباصات حول الساحة ‪ ،‬تنزل الجمٌع إلى الساحة ‪ ،‬المطلوب مظاهرة تؤٌٌد‬
‫للسٌد الربٌس ‪.‬‬
‫عند التنفٌذ أشار علٌه البعض أن هناك عشرات المشلولٌن وهوالء ال ٌستطٌعون السٌر فً مظاهرة !‪.‬‬
‫لكن الضابط أصر ‪ ،‬لقد قال له رإساإه كلمة ‪ :‬الجمٌع ‪.‬‬
‫فً الوقت المحدد النطبلقة مسٌرة تؤٌٌد السٌد ربٌس الجمهورٌة ‪ ،‬كان ال ٌزال ما ٌقارب األربعمبة سجٌن‬
‫ٌحاولون إنزال ما ٌقارب الم ئتً مشلول !‪ ..‬أنزلوهم ‪ ،‬أجلسوهم فً صفوؾ نظامٌة على االسفلت الدابري‬
‫العرٌض ‪ ،‬وقؾ أمامهم المصابون باألمراض العضال ‪ ،‬مرضى السرطان ‪ ،‬مرضى القلب و الشراٌٌن ‪،‬‬
‫مرضى السل ‪ .....‬وكذلك الشٌوخ وكبار السن ‪ ،‬فً مقدمة الجمٌع أفراد مهجع البراءة ‪ ،‬وهم األكثر شبابا ًال و‬
‫معهم البعض من تنظٌم الرهابن ‪ ،‬أمام الجمٌع الفتة ضخمة مكتوبة باللون األحمر الدموي وبخط جمٌل ‪ ،‬معنونة‬
‫‪:‬‬
‫" مباٌعة مكتوبة بالدم "‬
‫ن ه أن ٌفدوه بدمابهم وأرواحهم ‪ ،‬وأنهم كلهم‬ ‫ٌباٌع فٌها المتظاهرون السٌد ربٌس الجمهورٌة وٌعاهدو‬
‫جنود لدٌه !‪.‬‬
‫************‬

‫األمواج ال زالت تتكسر تحتنا تماما ًال ‪ٌ ،‬صل إلٌنا بعض الرذاذ أحٌانا ًال ‪ ،‬نسٌم ساكت ٌدخن بشراهة ‪ ،‬الدكتور هشام‬
‫ٌمسك بدفة الحدٌث ‪ ،‬بدأ ٌتحدث عن مخططاته للمستقبل ‪:‬‬
‫‪ -‬أهم شًء هو أن أخرج من هذا البلد اللعٌن ‪ٌ ،‬ومان أو ثبلثة وتكون أموري قد ترتبت ‪.‬‬
‫لدٌه أ ٌخ ٌعمل بحاراًال على إحدى السفن التجارٌة السوٌدٌة ‪ ،‬هذا األخ كان موجود صدفة عند خروج هشام من‬
‫السجن ‪ ،‬ابلؽه هشام برؼبته الحارقة لمؽادرة البلد فرتب له عمبلًال على السفٌنة التً ٌعمل بها ‪ ،‬العمل هو مساعد‬
‫طباخ السفٌنة ‪ ،‬مساعد الــ " شٌؾ كوك " ‪.‬‬
‫الدكتور هشام ٌكاد ٌطٌر فرحا ًال بهذه الوظٌفة ‪ ،‬هذه الفرصة للهرب ‪.‬‬
‫نسٌم ساكت ‪ ،‬أنا قلق ‪.‬‬
‫قلق رؼم أننً لم أحس بالفرحة المتوقعة لدى رإٌتً نسٌم مرة أخرى ‪ ،‬أحسست أنه إنسان عادي ‪ ،‬ال بل إنسان‬
‫مرٌض ‪ ،‬واؼتنمت فرصة انشؽاله بالتحدٌق الدابم إلى نقطة محددة فً البحر السؤل هشام خفٌة وباإلشارة فٌما‬
‫إذا كان نسٌم ٌتناول دواءه بانتظام ؟‬
‫هشام قلب لً شفته السفلى دون اكتراث ‪ ،‬ال ٌعرؾ !‬

‫‪151‬‬
‫أحسست أن مجًبً إلى هنا ببل معنى ‪ ،‬ماذا أفعل هنا ؟‪ ..‬بدأ الملل ٌنتابنً ‪ ،‬تخٌلت نفسً مستقلٌا ًال على سرٌري‬
‫فً البٌت أدخن ‪ ،‬مجرد التخٌل أراحنً ‪ ،‬فؤنا بالعام لم أعد أحب التفكٌر ‪ ،‬إن مجرد إشؽال فكري و ذهنً بؤي‬
‫قضٌة مهما كانت صؽٌرة تتعبنً ‪ ،‬أحس عندها أن رأسً قد انتفخ والصداع ٌطرق الصدؼٌن ‪.‬‬
‫قررت أن أعود إلى بٌتً ‪ ،‬ولكن كٌؾ لً أن أنسحب ‪ ،‬لحد اآلن ‪ -‬ورؼم أن نسٌم قد بكى كما بكٌت عندما‬
‫تعانقنا‪ -‬لم ٌتفوه بجملة واحدة مفٌدة ‪ ،‬فكرت أن أشده للمشاركة بهذا الحدٌث ‪ ،‬قلت ‪:‬‬
‫‪ -‬شو ٌا نسٌم ‪ ..‬هذا الدكتور هشام ٌخطط للهرب من هذا البلد ‪ ،‬ماذا تخطط أنت للمستقبل ؟‪.‬‬
‫صمت قلٌبلًال ‪ ،‬التفت إلًّ ‪ ،‬ألول مرة تلتقً عٌنانا ‪ ،‬عٌناه حمراوان ‪ ،‬بحدة وتشنج واضحٌن قال ‪:‬‬
‫‪ -‬بدي أشكل عصابة ‪ ..‬عصابة مجرمٌن ‪.‬‬
‫ضحك هشام ‪ ،‬وبعفوٌة سؤله مازحا ًال ‪:‬‬
‫‪ -‬لٌش العصابة ؟‪ ..‬بدك تسرق البنوك ؟‪.‬‬
‫‪ -‬ال ‪ ..‬ما بدي أسرق ‪ ،‬أنا ما بسرق ‪ ....‬نسٌم ما نه حرامً !‪ ..‬بس فً واحد كمركجً سرق منً بٌتً‬
‫واختً ‪ ..‬اؼتصب بٌت أهلً ‪ ،‬وكل ٌوم ٌؽتصب أختً سمٌرة !‪ ..‬وهلق ٌرٌد طردي من البٌت !‪ ..‬راح‬
‫أقتل هذا الكمركجً ‪ ..‬وكل كمركجً بهــ البلد ‪ ....‬راح أقتل كل الكبلب المجرمٌن ‪ ....‬راح اقتل ٌللً‬
‫عم ٌؽتصبوا كل ٌوم أمً وأمك ‪ ....‬أختً و أختك ‪ ...‬بٌتً وبٌتك ‪.‬‬
‫جمد هشام وسكت ‪.‬‬
‫التفت نسٌم بعدها إلى نقطته التً ٌحدق فٌها ‪ ..‬فً عمق البحر ‪ ،‬وران صمت عمٌق على جلستنا ‪.‬‬
‫أرى من خبلل سلوك نسٌم نذر عاصفة قوٌة ‪ ،‬عاصفة هوجاء تنذر باإلنفجار ‪ ،‬وٌبدوا أن هشام أٌضا ًال أحس‬
‫بالخطر ‪ ،‬تبادلت وإٌاه النظرات خفٌة ‪ ،‬عبلبم الحٌرة ‪ ..‬االرتباك علٌنا نحن االثنٌن ‪.‬‬
‫أحسست بتعب شدٌد ‪ ،‬بانتفاخ فً الرأس وصداع ‪ ،‬حزمت أمري وقررت االنسحاب و السفر ‪ ،‬السفر إلى البٌت‬
‫حٌث السبلم و الهدوء و البلتفكٌر ‪.‬‬
‫المقهى البحري الذي نجلس فٌه قرٌب من بٌت أهل نسٌم ‪ ،‬وفٌما أنا ؼارق فً أفكاري احاول اؼتنام أول فرصة‬
‫مناسبة لكً أعتذر وأنسحب ‪ ،‬هب نسٌم واقفا ًال ‪ ،‬التفت إلٌنا وطلب منا أن ننتظره هنا ‪ ،‬وأنه لن ٌؽٌب أكثر من‬
‫خمس دقابق ‪ ،‬فوجدتها فرصة مناسبة ألقول إننا كلنا ٌجب أن نذهب ‪ ،‬وأنه ٌتعٌن علًّ السفر بعد قلٌل الرتباطً‬
‫باشٌاء هامة فً العاصمة ‪.‬‬
‫وقفت ووقؾ هشام ‪ ،‬سكت نسٌم قلٌبلًال ‪ ..‬نظر إلًّ بعمق مصوبا ًال نظرة من عٌنٌه الحمراوٌن لم استطع تفسٌرها ‪،‬‬
‫بعدها طلب منا أن نمشً معه قلٌبلًال صوب البٌت ألن هناك شٌبا ًال ٌجب أن ٌعط ٌني إٌاه ‪ ،‬استفسرت منه عن هذا‬
‫الشًء ‪ ،‬قال إنه هدٌة منه لً ‪.‬‬
‫دقٌقة أو أكثر وصلنا أمام البناء المإلؾ من ستة طوبق و الذي خرجت منه ذلٌبلًال مطروداًال قبل بضعة أشهر ‪.‬‬
‫إنه ٌجب أن ٌتابع وضع نسٌم‬ ‫وقفت مع هشام على الرصٌؾ المقابل للبناء ننتظر عودة نسٌم ‪ ،‬قلت لهشام‬
‫الصحً ألنه – على ما أعتقد – على أبواب نوبة جدٌدة ‪ ،‬وأن علٌه أن ٌتحا دث مع أخته وصهره وٌضعهم فً‬
‫صورة الوضع الصحً ‪ ،‬لوح هشام بٌده وقال ‪:‬‬
‫‪152‬‬
‫‪ -‬صهر نسٌم واحد كر !‪ ..‬الحكً معه خسارة ‪ ،‬بعدٌن ‪ٌ ...‬وم أو ٌومٌن راح قول لهذا الوطن العزٌز‬
‫باي ‪ ..‬باي ‪.‬‬
‫لم ٌتم هشام كبلمه ‪ ،‬سمعنا صرخة من سطح البناٌة ‪ ،‬رأٌنا نسٌم ٌلوح بٌده وٌنادي اسمً ‪ ...‬وبؤعلى صوته‬
‫فهمنا منه ما معناه أنه سٌقدم موته هدٌة لً !!! ‪.‬‬
‫وقفز ‪.‬‬
‫على الرصٌؾ ‪ ..‬أمام مدخل البناٌة ‪ ،‬تحول نسٌم إلى كتلة من الدماء و اللحم المهروس و العظام المحطمة ‪.‬‬
‫أمام جمع كبٌر من المارة ‪ ،‬وأمام أعٌننا ‪ ..‬قفز نسٌم من سطح الطابق السادس ‪ ..‬إلى الرصٌؾ أمام البناٌة ‪.‬‬
‫و ‪ .....‬مات نسٌم ‪.‬‬
‫سحبنً هشام من ٌدي ‪ ،‬سرنا ‪ ..‬لم أكن أفكر بشًء !‪ .‬لم أكن حزٌنا ًال ‪ ...‬ال أحس بؤٌة مشاعر ‪ ..‬سلبٌة كانت أم‬
‫إٌجابٌة !! ‪.‬‬
‫وضعنً هشام فً أول بولمان ذاهب إلى العاصمة ‪ ،‬أوصانً أال أخبر أحد اًال أننا كنا مع نسٌم قٌل انتحاره ‪ ،‬ألن‬
‫هذا سٌعرضنا للتحقٌق والسإال و الجواب ‪.‬‬
‫وصلت البٌت فً الواحدة بعد منتصؾ اللٌل ‪ ،‬لم أخلع ثٌابً كعادتً حٌن أدخل ‪ ،‬أحضرت لترعرق من المطبخ‬
‫وجلست فً ؼرفتً أشرب وأدخن ‪.‬‬
‫استٌقظت لٌنا ‪ ،‬وقفت بثٌاب النوم قبالتً تتفرس فً وجهً ‪ ،‬قالت ‪:‬‬
‫‪ -‬شو القصة ‪ ..‬عمو ؟ ‪ ..‬وٌن كنت ؟ ولٌش هلق عم تشرب عرق ؟ ‪...‬‬
‫لم تكمل لٌنا سٌل أسبلتها ‪ ،‬حضر أنور زوجها ‪ ،‬استٌقظ هو أٌضا ًال ‪ ...‬قال ‪:‬‬
‫‪ٌ -‬ا سبلم !‪ ..‬العم ٌشرب العرق مثل العادة ‪ ،‬لكنه الٌوم متؤخر عن موعده هاتً كاس لــ نشاركه ‪.‬‬
‫شرب معً كؤسا ًال من العرق ‪ ،‬شربت لٌنا كؤسا ًال صؽٌراًال ‪ ،‬استؤذن أنور وذهب لٌنام ‪ ،‬بقٌت لٌنا جالسة قبالتً تنظر‬
‫إلًّ بقلق ‪ ،‬صببت الكؤس الثالثة عندما الحظت أن لٌنا تهم بالكبلم ‪ ،‬رفعت ٌدي ‪ ..‬أسكتها وطلبت منها أن تذهب‬
‫للنوم ‪ ،‬رفضت و أفهمتنً أنها لن تذهب قبل أن تعرؾ ماذا أرٌد ‪ .. ،‬لماذا أدفن نفسً فً الحٌاة هكذا ؟‪ ..‬لماذا‬
‫أشرب هذه الكمٌات الهابلة من العرق و التبػ ٌومٌا ًال وكؤننً أسعى لئلنتحار ؟ ‪ ...‬لماذا ‪ ....‬ولماذا ؟‪.‬‬
‫أفرؼت الكؤس الثالثة دفعة واحدة ‪ ،‬بدأ العرق ٌطفو فً رأسً ‪ ،‬نظرت إلى لٌنا وتساءلت ‪ :‬ماذا ترٌد هذه الصبٌة‬
‫الجمٌلة التً تدعونً بــ " عمو الحبٌب " ؟ ‪ .‬أعرؾ أنها تحترمنً وتحبنً كثٌراًال ‪ ..‬رؼم هذا لم ٌكن لدي أٌة‬
‫رؼبة بالكبلم !‪ ..‬سكت طوٌبلًال بٌنما هً تنتظر كبلمً ‪ ...‬ال أدري كٌؾ بدات الكبلم ‪ ،‬وال ماذا قلت ‪ ،‬لقد تكلمت‬
‫كثٌراًال ‪ ...‬اسمعً ٌا لٌنا ‪ ،‬كنت أتمنى لو كانت أمً على قٌد الحٌاة لكنت أرحت نفسً فً حضنها ووضعت‬
‫رأسً على صدرها وبكٌت ‪ ...‬بكٌت فقط ‪ ،‬البكاء لدي حاجة ‪ ...‬وحاجة قوٌة ‪.‬‬
‫الٌوم ٌا لٌنا انتحر صدٌقً وتوأم روحً !!‪..‬أنتحر أمامً و اهدانً موته "هل ٌمكن أن ٌكون الموت هدٌة ؟ " ‪.‬‬
‫لم أبكِ ‪ ...‬لم أحزن ‪.‬‬

‫‪153‬‬
‫ٌا لٌنا ‪ :‬أنا أإمن بقول ٌقول إن اإلنسان ال ٌموت دفعة واحدة ‪ ،‬كلما مات له قرٌب أو صدٌق أو واحد من‬
‫معارفه ‪ ...‬فإن الجزء الذي كان ٌحتله هذا الصدٌق أو القرٌب ‪ٌ ...‬موت فً نفس هذا اإلنسان !‪ ..‬ومع االٌام‬
‫وتتابع سلسلة الموت ‪ ...‬تكثر األجزاء التً تموت داخلنا ‪ ...‬تكبر المساحة التً ٌحتلها الموت ‪...‬‬
‫ننً‬ ‫و أنا ٌا لٌنا ‪ ...‬أحمل مقبرة كبٌرة داخلً ‪ ،‬تفتح هذه القبور أبوابها لٌبلًال ‪ٌ ...‬نظر إلًّ نزالإها ‪ٌ ..‬حادثو‬
‫وٌعاتبونني ‪.‬‬
‫أشرب العرق ٌومٌا ًال ٌا لٌنا ‪ ...‬لكً أنام !‪.‬‬
‫أمسكت لٌنا ٌدي وطفقت تبكً ‪ ،‬آخر ما سمعته منها هو رجاإها أن تحل محل أمً ‪ ،‬وأن أضع رأسً على‬
‫صدرها وأبكً !‪..‬‬
‫وقفت على قدمً و أنا أكاد أفقد التوازن ‪ ،‬أمسكت ٌدها وسحبتها إلى ؼرفتها ‪ ،‬دفعتها إلى الداخل وأؼلقت الباب‬
‫‪.‬‬
‫عدت إلى ؼرفتً واقفلت الباب بالمفتاح ‪ ..‬ال أذكر متى نمت ! ‪.‬‬
‫‪ 3‬تموز‬
‫ها قد مضى عام كامل على لحظة خروجً من السجن !‪.‬‬
‫ٌنام اإلنسان فبل ٌعود ٌشعر بشًء مما ٌدور حوله ‪ ،‬تدخل حواسه جمٌعا ًال فً حالة سبات ‪.‬‬
‫ٌستٌقظ اإلنسان فتسٌقظ حواسه جمٌعا ًال وٌصبح مدركا ًال لما حوله ‪.‬‬
‫لكن بٌن النوم و الٌقظة هناك لحظة ‪ ،‬ثانٌة أو أقل أو أكثر ‪ ،‬هذه اللحظة ال هً نوم وال هً ٌقظة ‪ ،‬لحظة‬
‫التحول بٌن الحالتٌن أو اإلنتقال من حالة إلى أخرى ‪.‬‬
‫هذه اللحظة التً تمثل نصؾ وعً ‪ ..‬أو نصؾ احساس ‪ ..‬نصؾ إدراك ‪.‬‬
‫ضمن هذه اللحظة ‪ ،‬ضمن المسافة الزمنٌة التً تستؽرقها " لحظة " ‪ ..‬الزلت أرى نفسً " نصؾ رإٌة " ‪،‬‬
‫أحس " نصؾ احساس " ‪ ..‬أننً فً السجن الصحراوي !!‪.‬‬
‫مضى عام كامل والزلت أرى نفسً عند استٌقاظً فً السجن الصحراوي ‪.‬‬
‫هل ٌمكن القول أننً خرجت من السجن قوالًال وفعبلًال ؟‪.‬‬
‫ال أعتقد ذلك !‪.‬‬
‫ٌومٌا ًال ‪ ..‬أمارس نفس األفعال اآللٌة و الضرورٌة الستمرار الحٌاة ‪ ،‬أكل وأشرب وأنام ‪ ..‬و‪..‬‬
‫هل سؤحمل سجنً معً إلى القبر ؟‪.‬‬
‫فً السجن الصحراوي ‪ ..‬شكل خوفً المزدوج قوقعتً التً لبدت فٌها محتمٌا ًال الخطر !‪ ...‬هنا – وٌسمٌه‬
‫السجناء عالم الحرٌة – خوؾٌ من نوع أخر ‪ ،‬وقرؾ ‪ ..‬ضجر ‪ ،‬اشمبزاز ‪ ،‬كلها شكلت قوقعة اضافٌة أكثر‬
‫سماكة ومتانة وقتامة !! ‪ ...‬الن األمل بشًء أفضل كان موجوداًال فً القوقعة األولى !‪.‬‬
‫فً القوقعة الثانٌة ال شًء ؼٌر ‪ ....‬البلشًء !‪.‬‬

‫‪154‬‬
‫ٌشرب اإلنسان الخمر ‪ ،‬الكؤس األولى قد ال تفعل شٌبا ًال ‪ٌ ،‬ستمر بالشرب إلى أن ٌصل إلى حالة السكر ‪ ،‬وهً‬
‫الحالة التً ٌنفصم فٌها عقل اإلنسان ‪ ..‬للسكران عقبلن ‪،‬عقل سكران ‪ :‬لٌكن اسمه البلعقل ‪ ،‬لكنه لٌس نفٌا ًال للعقل‬
‫‪ ،‬لٌس عدما ًال ‪ ،‬هو نقٌض العقل ‪ ،‬البلعقل شًء مادي موجود !‪ ...‬كوجود العقل ذاته ‪.‬‬
‫البلعقل هو الذي ٌتحكم بؤفعال السكران وحركته وٌدفعه الرتكاب األخطاء ‪.‬‬
‫واع ‪ ،‬لكن لٌست لدٌه سلطة فً تلك اللحظة على هذا الشخص ‪ ،‬هو‬
‫و العقل الثانً للسكران هو عقل صاح ‪ٍ ،‬‬
‫ٌرى وٌراقب وٌسجل ‪ ...‬دون أن ٌستطٌع التدخل ‪.‬‬
‫منذ عام وأنا أعٌش الحالة هذه !‪ ..‬أعرؾ ان انزوابً وانكفابً ‪ ...‬عزوفً وكرهً للتعامل مع الناس حالة ؼٌر‬
‫صحٌة ‪ ،‬لكن ‪ ...‬ال الرؼبة و ال اإلرادة موجودتان للتؽٌٌر ‪ ...‬بل على العكس ‪ ،‬أحس رعبا ًال قاصما ًال للظهر عندما‬
‫ٌومض فً ذهنً خاطر أن أعود للعٌش كبقٌة الناس !‪ٌ " ...‬ا إلهً كم العٌش مثلهم ‪ ،‬متعب وسخٌؾ ! " ‪.‬‬
‫************‬

‫بعد وفاة نسٌم بؤكثر من شهر اتصل بً صهره " الكمركجً " هاتفٌا ًال ‪ ،‬اعتذر ‪ ...‬أخبرنً بحادث انتحار نسٌم‬
‫"إنهم ال ٌعلمون أننً كنت حاضراًال " ودعانً إلى حضور األربعٌن ‪ ،‬ال أعلم الحٌثٌات التً دفعتهم لدعوتً ‪،‬‬
‫ذهبت فً الموعد المحدد ‪ ،‬ذهبنا جمٌعا ًال إلى المقبرة ‪ ،‬رأٌت بعض الوجوه التً أعرفها من السجن ‪ ،‬عدت فً‬
‫النهاٌة إلى أحد الفنادق المطلة على البحر مقرراًال قضاء اللٌلة فٌه ‪.‬‬
‫مسا ًالء ذهبت إلى أحد المطاعم ‪ ،‬تناولت العشاء وشربت ‪ ،‬شربت كثٌراًال ‪ ،‬بالكاد استطعت الوصول إلى ؼرفتً‬
‫بحدود الساعة الواحدة بعد منتصؾ اللٌل ‪.‬‬
‫استلقٌت على السرٌر بكامل ثٌابً ‪ ،‬احدق خبلل الظبلم إلى نقطة ضوء آتٌة من الخارج ومطبوعة على سقؾ‬
‫الؽرفة ‪ ،‬و ‪ ...‬حضر نسٌم !!‪...‬‬
‫انتصب قبالتً عند طرؾ السرٌر ‪ ،‬لم ٌتكلم ‪ ،‬لم ٌتحرك ‪ ...‬فقط ٌنظر إلًّ نفس النظرة التً رأٌتها فً أعماق‬
‫عٌنٌه قبٌل انتحاره بدقابق ‪ ،‬عندها فهمت النظرة ‪ ،‬عتاب قاتل ‪ ...‬وعبارة ‪:‬‬
‫لم تركتنً ‪ ....‬لم تركتنً !‪.‬‬
‫وكؤنً كنت اسمع المسٌح لحظة موته ٌصرخ ‪ ...‬بعتب ‪ ...‬احتجاج ‪ ....‬حٌرة ‪ ....‬وبالكثٌر من الحب ‪:‬‬
‫إٌلً ‪ ..‬إٌلً ‪ ...‬لم شبقتنً ؟‪.‬‬
‫انفجر الحزن داخلً كبركان حبٌس ‪ ،‬اعتدلت ‪ ،‬ذهب نسٌم وهو ال ٌزال ٌنظر نفس النظرة ‪.‬‬
‫إلى حد الهوس ‪ ،‬أن أحمل باقة ورد وأذهب إلى المقبرة ‪ ،‬أحتضن حجارة نسٌم‬ ‫سٌطرت علًّ فكرة واحدة‬
‫و أبكً ‪ ...‬أبكً حتى الثمالة ‪.‬‬
‫الورد لنسٌم ‪ ...‬و البكاء لً ‪.‬‬
‫خرجت إلى الشارع أبحث عن محل للورود فً الساعة الثانٌة بعد منتصؾ اللٌل ؟‪ ...‬ال أحد فً جمٌع الشوارع‬
‫التً لبتها بحثا ًال عن الورود!‪.‬‬

‫‪155‬‬
‫ها قد مضى عام كامل على لحظة خروجً من السجن ‪.‬‬

‫كانت لحظة بحثً عن الورود الفورة العاطفٌة الوحٌدة التً أشعرتنً أننً كبقٌة البشر !‪ ...‬لكنها همدت عندما‬
‫ظللت أبحث عن الورد حتى الصباح‪.‬‬
‫ورأٌت أنه من األنانٌة بمكان أن أذهب دون ورود‪ ...‬ألبكً فقط ‪ .‬من األنانٌة أن ألبً حاجتً دون حاجة نسٌم ‪.‬‬
‫نسٌم ٌرٌدنً أنا فقط‪ ...‬وأمامً فقط‪ٌ ...‬رٌد أن ٌرد اعتباره‪ .‬وأنا أرٌد أن أبكً ألفرغ بعض السواد الممتلا فً‬
‫القلب‪.‬‬

‫وعاد السواد لٌطمس كل شًء‪.‬‬


‫************‬
‫قضٌت هناك داخل قوقعتً فً السجن الصحراوي آالؾ اللٌالً استحضر وأستحلب المبات من أحبلم الٌقظة ‪،‬‬
‫كنت أمنً النفس أنه إذا قٌض لً أن أخرج من جهنم هذه ‪ ،‬سوؾ أعٌش حٌاتً طوالًال وعرضا ًال وسؤحقق كل هذه‬
‫األحبلم التً راودتنً هناك‪.‬‬
‫اآلن‪ ...‬ها قد مضى عام كامل‪ ...‬ال رؼبة لدي فً عمل شًء مطلقا ًال‪.‬‬
‫أرى أن كل ما ٌحٌط بً هو فقط‪ :‬الوضاعة و الخسة ‪ ....‬والؽثاثة !!‪.‬‬
‫وتزداد سماكة وقتامة قوقعتً الثانٌة التً أجلس فٌها اآلن ‪ ...‬ال ٌتملكنً أي فضول للتلصص على أي كان !‪.‬‬
‫‪ ،‬أؼلق ثقوبها الحول نظري بالكامل‬ ‫‪ ،‬ال أرٌد أن أنظر إلى الخارج‬ ‫أحاول أن أؼلق أصؽر ثقب فٌها‬
‫إلى الداخل‪.‬‬
‫إلًّ أنا‪ ..‬إلى ذاتً!‪..‬‬
‫وأتلصص‪.‬‬

‫‪156‬‬

You might also like